Prescription for Living
بقلم
روحيّة ربّاني
Ruhiyyih Rabbani
8/8/1910 – 19/1/2000
ترجمة
حبيب الله إحسان
First edition February 1950
Second revised edition Rúhíyyih Rabbání, 1978
تمّت هذه التّرجمة بموافقة وإذن المركز البهائيّ العالميّ مالك حق النّشر والطّبع
إلى
مي بولز ماكسويل
إلى أمّي، حبيبة روحي
الّتي منحتني نعمة الحياة
بل ما هو أفضل بكثير
أودّ أن أشكر أصدقائي الدّكتور ستانوود كوب من شيفي شيز، ميريلاند والسّيّد ديفيد هوفمان والسّيّدة هوفمان من أكسفورد، بريطانيا، على ما قدّموه لي من مساعدة قيّمة، فلولا مشورتهم وتشجيعهم لما رأى هذا الكتاب النّور.
قرأتُ هذا الكتاب قبل عدّة سنوات وكنت شديد الإعجاب بما تضمّنه من مواضيع تتناول بطريقة موضوعيّة سبل السّلوك في دروب الحياة ونصائح ودّيّة نابعة من القيم والآداب الإنسانيّة والبهائيّة، زاخرة بالخبرة والتّجربة الّتي استقتها كاتبةُ كتاب “وصفة للحياة”، السّيّدة ماري مكسويل / روحيّة خانم (ربّاني)، من خلال مرافقتها سنواتٍ طويلةً لزوجها شوقي أفندي. فقد عاشت مع ولي أمرنا المحبوب لمدّة عشرين سنة شاركته خلالها أحزانه وأفراحه وتشرّبت من حكمته وآرائه وأفكاره. وشهدت مراحل تطوّر الأمر الإلهي في عهده الّذي صادف بداية عصر التّكوين. كما نمت خبراتها في شؤون البشر من خلال سفراتها العديدة في أنحاء العالم. كلّ ذلك لم يثنها عن الكتابة بأسلوب يتجنّب الضّغط أو التّوجيه الصّارم. وقد ترك نقاشها في الكتاب لمشاكل وأوضاع العالم في حينها أكبر الأثر في نفسي حيث بيّنت الحلول المناسبة لها وخاصّة ما يتعلّق منها بالشّباب، فخاطبتْ فيهم روح الانسان واستحثّت فكرهم وإدراكهم فيما ينتظرهم من فرص وتحدّيات خلال ولوجهم دروب الحياة والتّفكير في السّلوكيّات المتعدّدة المتعلّقة بها.
كتابها ينمّ عن خبرة واسعة وفهم دقيق لمشاكل البشر والعالم اكتسبتها من مجالات متعدّدة أخرى ومنها مركزها المميّز كأيادي لأمر الله، ورحلاتها ومقابلاتها لأناسٍ من مختلف الثّقافات والأجناس ممّا أفاء عليها دروسًا وعِبَر ومكّنها من توجيه النّصح والإرشاد.
سافرت أمة البهاء إلى 185 دولة وإقليمًا مستقلًا وجزرًا رئيسيّة، وقد زارت الكثير من هذه الدّول في غير مرّة؛ فقد تشرّفت الهند بزيارتها حوالي تسع مرّات. وأثناء تلك الرّحلات دأب مندوبو وسائل الإعلام على التّواصل معها؛ فعقدت مئات المقابلات في الصّحف اليوميّة والرّاديو والتّلفزيون في أكبر عواصم العالم وفي عشرات المدن الصّغيرة والكبيرة الّتي زارتها. كما أنّها كانت تُتقن التّكلّم باللّغات الفرنسيّة والألمانيّة والفارسيّة. وعندما سئلت عن مصدر قوّة بلاغتها وفصاحتها في إدارة تلك المقابلات، أجابت بأنّه بعد ارتباطها بحضرة ولي أمر الله اقترح عليها حضرة عبدالبهاء أن تحفظ المناجاة الجميلة التّالية من أدعية حضرته والّتي تبدأ بقوله المبارك “إلهي وموئلي عند لهفي وملجأي ومهربي عند اضطرابي” وتنتهي بالبيان المبارك التّالي: “وأنطقني بثنائك بين بريّتك حتّى يرتفع ضجيجي في المحافل العليا وينحدر من فمي ذكرك انحدار السّيول من الأتلال“. كما يمكن أن تعود طلاقة لسانها بالفصاحة والبلاغة أيضًا إلى نصيحة حضرة عبدالبهاء لوالدتها السّيّدة مي ماكسويل والّذي أشار إليها “بأن تتوجّه بقلبها إليه وتدعو الله ومن ثم تتحدّث” وقد عملت روحيّة خانم بهذه النّصيحة بكلّ إخلاص.
كان تشجيع شوقي أفندي لها، السّبب الرّئيسي لتأليف روحيّة خانم كتابَ “وصفة للحياة”. فغالبًا ما كانت تقول بأنّها تشعر بالحزن والأسى للرجال في مُقتَبَل أعمارهم الّذين يعودون من دمار الحرب العالميّة الثّانية وهم يائسون ومضطربون ومصابون بخيبة الأمل إلى عالمٍ قد تغيّر ولم يعد مألوفًا لهم. فكانت ترغب بإلقاء بعض الضّوء والتّوجيه لإنارة دروب الطّريق الّذي قد يقودهم إلى الأمل والمستقبل الّذي ينشدون. كما ذكرت بأنّ السّيّد ديفيد هوفمان قد شجّعها على التّأليف والكتابه عندما أسّس شركة للطباعة والنّشر بعنوان “جورج رونالد” وأبدى استعداده لطباعة ونشر كتبها. وبعد طباعة كتابها “وصفة للحياة” فى عام 1950 أهدت النّسخة الأولى منه إلى حضرة ولي أمر الله الّذي قرأه وأثنى عليه. تُرجم هذا الكتاب إلى ستّ لغات. وحيث إنّ اللّغة العربيّة هي لغة أساسيّة في الثّقافة البهائيّة، ورغبة منّي في عدم حرمان قُرّائها من مضامين هذا الكتاب الرّائع، فقد قمت بترجمته عن الإنجليزيّة مستعينًا بنسخته الفارسيّة الّتي وافقت عليها الكاتبة في حينه.
كانت وفاة روحيّة خانم في التّاسع عشر من شهر كانون الثّاني/يناير من عام 2000 ميلاديّة، وبصعودها طويت صفحة هامّة من التّاريخ البهائي. دفنت رفاتها في حيفا في حديقة صغيرة مقابل منزل حضرة عبدالبهاء، وهو المنزل الّذي سكنت فيه لمدة ثلاثة وستّين عامًا. ولا شكّ أنّ الوقت لم يحن بعد لفهم القيمة الحقيقيّة لخدماتها للعالم البهائي. وقد أشار بيت العدل الاعظم إلى خدماتها التّاريخيّة بالكلمات التّالية: “إنّ أتباع حضرة بهاءالله سيتذكّرون خلال القرون القادمة، دومًا وبكلّ إعجاب وتقدير، نوعيّة الخدمات الّتي أدّتها بكلّ قدرة واقتدار وما فعلته من أجل حفظ وحماية وتبليغ وترويج أمر الله”.
كان شعار روحيّة خانم، كما ورد ذكره في كتاب “تقدير وعرفان لأمة البهاء روحيّة خانم”: “إنّك تعيش مرّة واحدة، فلِمَ لا تستمتع اذّا بحياة مشرّفة”.
أدين بالشّكر والامتنان لكلّ من ساهم في إخراج هذا الكتاب إلى حيّز الوجود، وأخصّ بالشّكر هيئة المراجعة العربيّة والسّيّدة منوّر دلشاد ووترز الّذين كان لهم دور في مراجعة الكتاب ووضع الملاحظات الهامّة على مضامينه. كما أخصّ بالشّكر العميق زوجتي الحبيبة ليلى أردكاني وعائلتي العزيزة لتحمّلهم وصبرهم خلال قيامي بهذه التّرجمة.
أتمنّى أن يكون هذا الكتاب معينًا لكلّ من يقرؤه في مواجهة تحدّيات العصر ويكون بمثابة وصفة روحانيّة لمسيرة حياته.
حبيب الله إحسان
إنّ الأفكار المطروحة في هذه الصّفحات كالقشّ المنبثّ في الهواء، على أمل أن يرى فيها الآخرون الاتّجاه الّذي تحرّكها الرّياح نحوه. إنّها لا تدّعي الشّمول، أو حتّى البدء في الإجابة الكاملة عن الأسئلة الهائلة الّتي تثيرها. فالكاتب يقدّمها بسبب قناعته الرّاسخة بأنّه على الرّغم من اليأس الواضح الّذي تسبّبه حالتنا الرّاهنة على هذا الكوكب- كوننا نتشارك في مشاكل سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة على شأن أكثر جسامة وأوسع نطاقًا من أيّ نوع عانته البشريّة حتّى اليوم في سياق التّاريخ المكتوب – وعلى الرّغم من الآفاق القاتمة المحيطة بنا، يمكننا، بل ينبغي لنا كأفراد، أن نبذل أقصى ما في وسعنا لنصرف عنّا أيّ كوارث تُنذر باجتياحنا أو نحدّ منها على أقلّ تقدير.
وليس من المعقول أن تكون هناك وسيلة تمكّننا من فعل ما نقوم به من أمور؛ في التّغلّب على المسافات كما نفعل بفضل طائراتنا وأقمارنا الصّناعيّة وصواريخنا، واختصار الوقت بما لدينا من وسائل الإذاعة والرّادار والتّلفزيون وحُزم اللّيزر وغيرها من اكتشافات العلم الحديث، وجعل وسائل الرّاحة والرّفاهية متاحة لكلّ إنسان، نظريًّا على الأقل، للاستمتاع من خلال كفاءة آلة الإنتاج الضّخمة، وحتّى تحطيم نواة الذّرّة لإطلاق قواها المبهرة في العمار أو الدّمار، بينما لا وسيلةَ حتّى الآن لجعل البشر كائنات مستنيرة صالحة وسعيدة.
هل كان هناك في أيّ زمان عالم أكثر مأساويّة من عالمنا اليوم؟ أين نرى سلامًا أو عدلًا، وأين تلك العطايا الّتي نتوق إليها ونسعى وراءها أكثر من كلّ النّعم، ألا وهي راحة البال وبهجة القلب؟. لدينا
المتعة، ودوّامة جنونيّة من أسباب اللّهو والتّسلية، لدينا كلّ شيء، كلّ شيء ليشغل وقتنا وليمنعنا من التّفكير في تلك الخواطر الّتي تقف فعليًّا وباستمرار على عتبة وعي كلّ إنسان: بأنّنا حقًّا وبكلّ مرارة تعساء، وأنّنا نحوم حول حافّة الهلاك ولا نجد أيّ مستقبلٍ واعد.
ولكنني على يقين بأنّ هناك مستقبلًا مشرقًا. بل أكثر من ذلك، هناك نمط عملي يتّسم بالكمال تُنسج من خلاله حياة سعيدة للأفراد وحياة سعيدة لعالم متّحد. فالأدوات الوحيدة الّتي علينا التّعامل معها هي أنفسنا. نحن الّذين أوجدنا جميع المشاكل الّتي تواجهنا في الوقت الحاضر، ونحن الّذين أوصلنا شؤون البشر كافّة إلى مثل هذه الفوضى الرّهيبة. نحن الّذين قاتلنا في القرن العشرين في حربيْن عالميّتيْن مدمّرتيْن على شأنٍ يصعب تصديقه، فضلًا عن عدد لا يحصى من الحروب الصّغيرة الشّنيعة الّتي لا طائل منها في كلّ قارّة من أركان المعمورة. وبالتّالي، علينا، نحن البشر، أن نكون من يعالج هذا الوضع المتأزّم. لأنّه لن تقوم أيّ قوّة خارجيّة بإصلاح الحال نيابة عنّا، بل وليس بمقدورها أن تفعل ذلك.
علينا أن نسأل أنفسنا ما الّذي كان ينقصنا حتّى آل بنا الحال إلى ما نحن عليه؟ كيف فشلنا؟ هل بإمكاننا حقًا، كلّ واحد منّا، ونحن على ضآلتنا الّتي لا يُعتَدُّ بها كأفراد، مقارنةً بالكائنات الحيّة الضّخمة صعبة الانقياد الّتي تعيش على هذا الكوكب، هل بإمكاننا أن نفعل شيئًا من شأنه التّأثير على مسار الأحداث المستقبليّة؟ الجواب نعم، يمكننا. إذ إنّ أرقى شيء في الوجود هو الإنسان. ففيه تكمن كلّ قوى الخير والشّرّ، وكلّ قوى البناء والهدم. إنّه حقًا مفتاح الجنّة ومفتاح الجحيم أيضًا، إذ بالطّريقة الّتي يوجّه بها قواه وقدراته تتشكّل الأحداث. وحتّى ندرك حقيقة ذلك، ما علينا سوى مقارنة ما قدّمه مفكّرون من أمثال تولستوي في أوروبا وإبراهام لينكولن في أمريكا لبلديهما وللعالم بما فعله دكتاتور متعصّب مثل أدولف هتلر، كم هو الفارق الّذي بمقدور رجل واحد فقط أن يُحدثه في تاريخ العالم.
مهما كانت حدّة الأزمة المحيطة بشؤوننا الإنسانيّة واضحة، إلّا أنّه باستطاعتنا أن نجد طريقنا عبر العاصفة ونخرج منها إلى الجانب الآخر طاهرين وجنسًا بشريًّا أفضل. ولكن إلى متى يجب أن يستمرّ عذابنا، متى سنمكّن الحاضر من أن يطرح من رحمِه حِمْل المستقبل، وما مدى سرعة وصول منافع هذا المستقبل إلى كافّة البشر – هذه القضايا نحن من سيقرّر بشأنها أنتَ وأنا وكلّ فرد في العائلة الإنسانيّة.
إنّ التّطوّر الّذي رافق تقدّمنا من إنسان شبيه بالقردة، ناتئ الجبهة، أخرق، غامض التّفكير، لن يتوقّف فجأة ويتركنا حيث نحن. إذ سيكون ذلك انحرافًا عن كلّ ما نعرفه من قوانين الطّبيعة. فما سيحدث هو عكس ذلك، فالتّطوّر سيستمرّ في نقلنا إلى الأمام، ربّما إلى ذرىً من التّقدّم في الطّبيعة البشريّة لم نكن نحلم بها. إلّا أنّ مدى السّرعة أو البطء في تقدّمنا يعتمد علينا كأفراد فقط وبشكل كامل.
كُتبت هذه الصّفحات لتعرض ما يقوله عنوانها فقط، “وصفةٌ للحياة”. عندما يكون شخص مريضًا فإنّه يتناول الدّواء. ونحن الأفراد، الّذين نشكّل عناصر محيطٍ إنسانيٍّ مريض جدًّا ، نعيش في بيئة غير صحّيّة بتاتًا، هي المجتمع. هناك قوانين لما يمكن أن نسمّيه “عادات النّظافة الدّاخليّة”، والّتي إذا ما عملنا بموجبها، ستساعدنا كأفراد في استعادة صحّتنا الأخلاقيّة والرّوحانيّة، ومن خلال تغييرنا بصفتنا مكوّنات المجتمع، ستمكِّن حياتنا المشتركة من أن تكون أكثر سعادة وأفضل في كلِّ مناحيها. هذه القوانين هي ما سأتناوله بإيجاز في هذا الكتاب.
إنّ كلّ شيء قد نما اليوم بشكل كبير، ويحدث على نطاق هائل على شأنٍ يملؤنا شعورًا بالعجز. إنّ مدِّ الأحداث يجرفنا بسرعة على شأن يجعل من بذل جهدٍ شخصيٍّ كبير لتفحُّص النّتيجة مضيعة للطاقة غير مجدية. أعتقد أنّ معظم النّاس في جميع أنحاء العالم ينظرون بقلق شديد إلى الأنماط الحاليّة للسلوك المجتمعي. بعد الحرب العالميّة الأخيرة، كان البشر يأملون ويحلمون ببروز حقبة جديدة من التّعاون الدّولي من بين رماد المعاناة والموت الباعث على الأسى. تمّ التّرحيب بالأمم المتحدة – تقدّم هائل على عصبة الأمم الّتي وُجدت قبل الحرب والّتي فشلت فشلًا ذريعًا في منع حرب عالميّة أخرى – بصفتها الحامي الجديدة لسلام دائم. وبدلًا من ذلك، نرى تكتّل قوىً جديدة وسوء فهم جديد يبرزان بين عشيّة وضحاها ليظهرا في عناوين الأخبار. فالإنسان العادي يجد نفسه في صدامٍ مع جاره، سواء كان يعتبره صديقًا أو عدوًّا. كلّنا مُزدحمون قرب بعضنا البعض في هذا العالم الّذي قلّصه العلم إلى مجرّد حيّ! نحن نعلم أنّنا يجب أن نكون جيرانًا صالحين اليوم، حتّى مع أعداء الأمس، إن لم يكن من أجل أيّ دافع أسمى، فمن أجل الحفاظ على وجودنا. لكن يبدو أنّنا لا نستطيع أن نكون كذلك، إذ لا تزال أسوار الكراهية وسوء الفهم ترتفع بيننا إلى مستوى أعلى، ساعة إثر ساعة. فإلى أين سنتوجّه؟
جزء من الجواب هو في النّظر إلى داخل أنفسنا. إنّ ذلك أبعد ما يكون عن كونه الإجابة الكاملة، هذا ما أعرفه، لكنّه ضروري، وشرط أساسيّ ومطلق لأيّ استقرار مستقبلي في العالم. علينا أن نتعلّم كيف نكون كائنات إنسانيّة، واستعادة فنّ العيش الّذي نفقده بوتيرة ثابتة منذ مائة سنة أو نحو ذلك. في الوقت الحاضر، يمكننا القول اليوم إلى حدٍّ ما، ونحن ننظر إلى عالمنا بكلّ تجرّد وموضوعيّة، بأنّ ما يسكنه هم حيوانات ثم كائنات غريبة غير منسجمة مع بعضها تدعى “البشر”. ذلك لأنّنا نحن، الّذين نهدّد جنسنا بالدّمار(وربما معظم الأجناس الأخرى من الكائنات أيضًا) بألمعيّة عقولنا واستهتارنا أخلاقيًّا، لا نعيش بالتّأكيد في مستوى تطلّعاتنا. لسنا ما يجب أن يكون عليه جنسنا، فنحن البشر “ملوك الخليقة”. إلّا أنّنا في الوقت الحاليّ، ويا للأسف، عبارة عن مخلوقات بائسة، مريعة، ولا تَوَافُقَ بيننا. علينا أن نبحث ونتحرّى كيف أصبحنا هكذا، ونعيد ضبط طاقاتنا في القناة الصّحيحة قبل فوات الأوان.
البشر اليوم غير راضين بتاتًا عن أسلوب حياتهم وعن العالم الّذي يعيشون فيه. فمهما كان محيطهم الاجتماعي، وبغض النّظر عن عملهم ودخلهم ووسائلهم التّرفيهيّة، فإنّ الشّكاوى تُسمع من جميع الجهات. إذا لم يلوموا الوضع الاقتصاديّ، فإنّهم يلومون الوضع السّياسيّ. إذا لم تكن الكنيسة كبش الفداء، فستكون هناك فئة معيّنة تتحمّل العبء الأكبر من اللّوم على الوضع المؤسف الّذي تجد الإنسانيّة نفسها فيه. يبدو أنّه لا يخطر ببالنا أبدًا أنّ جُلّ المشكلة ربّما قد يكون أقرب بكثير إلى البيت – وربّما، في الواقع، نحن المشكلة؟
نحن أغنى جيل عاش على الإطلاق. إذ لم يسبق أن وقف إنسان على وجه الأرض ونظر إلى السّماء وملَكَ ما نملكه اليوم. فالبحار، والهواء، وتركيب المادّة ذاتها، هي في قبضتنا، ونزداد تحكّمًا فيها مع مرور كلّ يوم. نحن نرتاد ميدان السّماء الزّرقاء، ونملأ الأثير بلحن غير مرئي، ونسبر غور قلب الذّرّة. نسخّر الضّوء نفسه لمصلحة مسيرتنا. ومع ذلك، نحن بؤساء لا نشعر بالرّضى ولا بالسّعادة. يبدو أن هناك سرطانًا في صدورنا يتغذّى على ثمرة نبوغنا ويحرمنا من راحة البال والاستقرار العاطفيّ والقوّة اللّازمة للحياة في انسجام واتّحاد، سواء كان ذلك في دخيلة نفوسنا المعقّدة أو مع أقراننا من البشر.
لقد أنشأنا حضارة عظيمة- الحضارة الغربيّة – الّتي تنتشر سريعًا لتصل إلى أبعد بقاع العالم، ومع ذلك فإنّ هذا الهيكل الهائل، مع كلّ التّقدّم الّذي يجسّده، وجميع فوائده، وكافّة مرافقه، يُنذر بتدميرنا. في الوقت الحاضر يُلقي بظلال فرانكنشتاين علينا. إنّه مخلوقنا، ومع ذلك، قد يجعل منّا مخلوقًا له ويقوم بتدميرنا وتدمير نفسه. هل لأنّ هذه الحضارة العظيمة بلا روح، تمامًا مثل الوحش الّذي صنعه فرانكنشتاين؟ هل السّبب هو أنّنا نسينا، ونحن نستنفذ الكثير من أفكارنا وجهودنا لتكون لنا السّيطرة على المادّة وسبر غور القوانين الّتي تحكمها وتوجيه قواها، أنّه قد يكون لنا نحن البشر أيضًا مجموعة من القوانين الّتي تحكم تطوّرنا وقد أهملنا محاولة فهم طبيعتنا الحقيقيّة وعلاقتنا بالكون الّذي وجدنا أنفسنا فيه، والّذي نحن منشغلون جدًّا في الانهماك في استغلاله؟
هناك اختلال أساسيّ في مكان ما. فنحن الّذين لدينا كلّ شيء، لا نملك شيئًا. ليس لدينا إحساس بالأمن الدّاخليّ الّذي عرفه أجدادنا ولا القناعة الرّوحانيّة الّتي تمتّع بها سكّان ما يسمّى “العصور المظلمة”. لم يمرّ وقت على العالم كان النّاس فيه يعبّرون عن أفكار أكثر جمالًا، ولديهم مخططات أكثر روعة، ممّا لدينا اليوم. ولكن لم يكن هناك أيضًا وقت أُعتبرت فيه الحياة رخيصة جدًّا، عندما كان كلّ البشر معرّضين لخطر أكبر كالموت المروّع أو كالوجود في عالم من الجور والبؤس وعدم الأمان، وعندما بدت كلّ المعايير جوفاء وعقيمة.
لقد أصبح عالمنا الجميل جحيمًا، وإذا كنّا لا نعرف هذا الواقع، فلأنّنا لا نريد ذلك. نحن نخدع أنفسنا. عندما يمكن القضاء على مائتي ألف مدنيّ في ومضة تعمي البصر بقنبلة ذرّيّة واحدة أُسقطت على مدينتهم. عندما تصبح البلدات الآهلة بالسّكّان بين عشيّة وضحاها أنقاضًا يتصاعد منها الدّخّان. عندما يكون بمقدور إمرأة حامل أن تقود طائرة مقاتلة. عندما تُعتبر فتاة في السّابعة عشر بطلة حرب عصابات لقتلها مائة وخمسين من الأعداء، وصبيّ في العاشرة يُمنح ميدالية رفيعة لأنشطته في القنص والتّخريب. عندما يمكن احتجاز رجال ونساء من هنا وهناك وهم أبرياء تمامًا كرهائن، أو حتّى يُقتلون عشوائيًّا، عندما يحدث كلّ هذا يكون الوقت قد حان لأن نسأل أنفسنا ما إذا كان ما نعيشه اليوم يمكن وصفه بحياة متمدّنة، وإلى أين تقودنا.
تبدو الطّبيعة في وضع جيّد إلى حدٍّ كبير، إذا ما قورنت بنا. حتّى في حالات الصّقيع والمطر والثّلج، حتّى تحت أشعة الشّمس المداريّة الحارقة، حتّى في الأدغال الّتي تنفث الأبخرة، نجد أنّ هناك توازنًا وغايةً يتناقضان بوضوح مع طريقة حياتنا المتمدّنة المضطربة المشتّتة والمُقلقة. في اللّيل، يتراءى لنا منظر خارج عن المألوف بشكل لا يصدّق إذ كيف يمكن لهذه النّجوم المتألّقة أن تُلقي بضيائها وهي في غاية السّكون والهدوء على أرضٍ تتدمّر فيها آلاف الأرواح والمنازل في مكان ما من العالم حيث تدور رحى حرب مريرة صغيرة أو تستعر حرب أهليّة ضارية. ونتساءل كيف يمكن للطيور أن تُغرّد وتصدح على الأشجار، بعد هدير المدافع، ودويّ صافرات الإنذار مباشرة. يبدو أنّنا نعيش في كابوس مرعب يجب أن يتوقّف ولنجد الكلّ وهو يعيش في سلام وتوافق مع الإيقاع المنتظم العظيم للطبيعة. تدور أرضنا وهي تسير في طريقها اللّامتناهي مرتبطة بشبكات من النّظام الكونيّ بكلّ توافق، وكلّ شيء يحكمه القانون ويندمج في وحدة واحدة كاملة هائلة. ومع ذلك فإنّنا نشاهد، في عالم البشر، الفوضى والشّقاق والتّناقضات الشّاسعة. ثروة لا حصر لها يُساء استخدامها ومُبدّدة. قوّة لامحدودة يساء استعمالها. تنظيم هائل ولكنّه يعمل على التّدمير وفرض القوّة.
لكن يبدو أنّه لا يخطر ببالنا على الاطلاق أنّ المرض بداخلنا ولا يأتينا من الخارج. الجنس البشريّ بكامله يعلّق الآمال على ظهور علاج يحوز على البراءة ومُصَرَّح استعمالُه. فأحدهم يعتقد أن العلاج هو الدّيمقراطيّة، وآخر مقتنع بأنّه الشّيوعيّة، وثالث يؤمن بأنّ الاشتراكيّة القوميّة وحدها هي القادرة على حلّ المشكلة. تصرّ مجموعة على أنّ كلّ ما نحتاج إليه هو تعديل الاقتصاد، وتؤكّد أخرى على الجانب الاجتماعيّ، بينما تركّز ثالثة على الجانب التّعليميّ، وما إلى ذلك. وعلى الرّغم من أنّ جميع الدّول المتحاربة في الحرب العالميّة الأولى والحرب العالميّة الثّانية، تقريبًا، كانت متديّنة بشكل أو بآخر، وكلّ منها يدعو إلهه طلبًا للقوّة والنّصر، إلّا أنّ الدّين لم يمنع هذه الحروب، ولم يكن قادرًا، في أشكاله الموجودة، على فعل أكثر من دعم النّفوس المؤمنة لمواجهة مصيرهم باستسلام واستكانة .
جنبًا إلى جنب مع أكثر المفاهيم المثاليّة انتشارًا، من قبيل أنّ جميع البشر إخوة وعليهم أن يتعاونوا لبناء نظام للتعاون الدّوليّ، فإنّنا نرى المجتمع البشريّ على النّطاق العالميّ في أسوأ حالة له منذ أيّ وقت مضى. وما هو أكثر مدعاة للتنبّه للخطر تسلُّلُ بعض القسوة إلى قلوب البشر، نوع من السُّخريّة المريرة القديمة الموجودة على الرّغم من مشاعرنا الدّافئة بالشّفقة، والتّعاطف والسّخاء. هل تعتقد غالبيّة النّاس في العالم اليوم أنّ السّلام الدّائم ممكن. وأنّ “الحياة والحرّيّة والسّعي وراء السّعادة” يمكن أن تكون ماءً زلالًا للجميع. وأنّ شعوب العالم يمكن أن تتوقّف عن كراهية بعضها البعض. وأنّ الإنسانيّة يمكنها بل ويجب أن تصبح متديّنة إلى أبعد حدود؟ هل يبذلون جهدًا للعمل على تحقيق مثل هذه الأمور؟ لا شكّ أنّ الجواب لا، فليس لديهم أيّ شعور بالقناعة بمثل هذه الأشياء، وليست لديهم أيّ نيّة لبذل الجهد في محاولة تحقيقها. الجنس البشريّ لا يزال يسعى من أجل الرّقم “واحد”. وهذا الرّقم واحد الّذي هو الفرد والّذي يسعى خلف مصالحه الشّخصيّة، ما هو؟ من الواضح لنا ما هو تكوينه البيولوجيّ، ومن الواضح جدًّا ما الّذي يعمل على تكوينه نفسيًّا أيضًا. ولكنّها ليست بالأمور المستعصية، إلّا أنّها في الوقت نفسه هي ما يؤمل أن نراه في الإنسان. فالشّيء الّذي يجعل منه إنسانًا، هو جوهر الأمر. فما الّذي يجعل منه إنسانًا، وما الّذي يجب عليه عمله بخصوص ذلك؟ هناك اختلال كبير في عالم اليوم. النّاس لا يعيشون وفقًا للقوانين الّتي تحكم إنسانيّتهم. إنّهم مرضى في داخلهم، مشوّهون، مصابون روحانيًّا بسوء التّغذية، وغير متطوّرين إنسانيًّا. والنّتيجة، بطبيعة الحال، هي الفوضى. فحيثما يجب أن تكون هناك أسطح ناعمة، إذا جاز التّعبير، هناك أسطح خشنة. وما ينبغي أن يكون مستقيمًا هو ملتوٍ. ما ينبغي أن يكون هادئًا نجده يغلي ثَوَرانًا. كلّ شيء يسير ضدّنا، كلّ شيء مخالف، كلّ الأمور متشابكة مشوّشة، لأنّنا لسنا أسياد أنفسنا. بل في الحقيقة نحن أقلّ من ذلك، نحن غرباء تمامًا عن حقيقة أنفسنا.
إنّ أبسط إنسان متحضّر يعرف أنّ هناك قوانين تستخدم لحمل الطّائرة عبر الأجواء، وأنّ الأمراض تنتشر عن طريق الجراثيم الحيّة الّتي يمكن أن تنتقل من شخص لآخر، وأنّ البث الإذاعيّ ليس معجزة بل مجرّد مزج ذكي للحقائق. وقد عرِفَت نسبة كبيرة من البشر الفيتامينات، وتقدّر مزايا النّظافة، ويمكنها تشغيل أجهزة معقّدة إذا تمّ تدريبها على القيام بذلك. ومع ذلك، كم من النّاس يعرفون أيّ شيء عن أنفسهم كبشر؟ كم منهم سعداء – ليسوا مستمتعين باللّهو والتّسلية والتّرفيه أو يشغلهم شاغل، ولكنّهم سعداء في أعماق أنفسهم؟ نحن نعرف أنّ الأداة الحادّة تجرح، والنّار تحرق، والسّقوط من أعلى يحطّم، ومع ذلك مصابون بالكدمات والرّضوض في داخلنا من رأسنا إلى أخمص قدمينا، ونستمرّ في الحياة دون أن نعرف كيف سبّبنا الأذى لأنفسنا، وكم هي القدرات الكامنة فينا الآخذة في الضّمور بسبب عدم استخدامها، وما هي الأعضاء الخفيّة الّتي تعطّلت مدى الحياة. نرى الإنسانيّة تندفع من دواء شامل إلى دواء شامل آخر. فبعد الحرب العظمى الأخيرة، في أربعينيّات وخمسينيّات القرن العشرين، حمل تأسيس الأمم المتحدة وفعاليّات الحلفاء الأمل لعالم مُنهك يسعى إلى تحقيق السّلام. لكن معاهدة إثر معاهدة وحربًا بعد حرب لم تجد حلًّا لمشاكلنا. وكأمواج البحر الّتي تتكسّر على الشّاطئ، فقد فشل مؤتمر دولي بعد الآخر، أو نجح جزئيًّا فقط. إلّا أنّ مشاكل العالم لا تزال بلا حلّ. العبارات السّياسيّة والوعود والشّعارات المتلاحقة ترتدّ علينا من مختلف الأقمار الصّناعيّة لتحتلّ عناوين الصّحف يومًا بعد يوم في جميع أنحاء العالم. ونحن نقرأها بقلق، مدركين تمامًا أنّه لم يتمّ إيجاد حلٍّ سلميٍّ للحالة البائسة الّتي وجد المجتمع البشري نفسه في خضمّها الآن.
تركّز الأمم كما الأفراد أعينها نحو الوصول إلى براءة اختراع لعلاج شامل. فلدى الصّين براءة لاختراعها السّياسيّ وفيه شفاء لكافّة العلل، ومستعدّة لعرضه لمن يريد – وكذلك روسيا، والدّول الدّيموقراطيّة الغربيّة، وكذلك دول عدم الانحياز. وبغضّ النّظر عن شكل الزّجاجة أو الاسم الموجود على الملصق، فإنّ الدّواء الّذي تحتويه غالبًا ما يكون بنفس النّكهة وينتهي بعبارة: أنظر إليّ، اتبعني، كن مثلي … وإلّا. لدى الفرد من البشر مقوٍّ أيضًا يحبّه الجميع: فإذا كان بإمكان الفرد الحصول على الوظيفة الّتي يريدها، وبناء البيت الّذي يريده، وتأسيس العمل الّذي يرغبه، والزّواج من تلك الفتاة، والاستقرار في ذلك المكان، فستكون الحياة جديرة بالعيش. لكلٍّ من الأقليّات علاج محبّب شافٍ لكلّ الأمور أيضًا: الاعتراف بهم، الاستقلال، انتصار حزب معيّن أو فلسفة معيّنة. “للاحتياجات” البشريّة ألف جانب، ولكن في كثير من الأحيان عندما تُلبّى هذه الاحتياجات، يبقى الوضع الاقتصاديّ أو الاجتماعيّ أو السّياسيّ سيّئًا كما كان سابقًا، أو تَحلّ بعض البلايا الجديدة محلّ القديم منها – صفٌ لا نهاية له، لا نهاية له من المقوّيّات والعلاجات الّتي تعالج كلّ شيء. لكنّ المشكلة الأثقل من كلّ ذلك هي الحُزمة الشّخصيّة الصّغيرة الّتي يحملها كلّ واحد منّا في نفسه، الّتي يساء فهمها والتّعامل معها، ومعالجتها، ولا يُسبر غورها، ومع ذلك فهي مصدر كلّ علاقاتنا الحميمة ومعظم أمراضنا الوطنيّة والدّوليّة.
إذا كان بمقدور مراقب ذكي نزيه أن يزور كوكبنا، فربّما يصاب بالصّدمة في الحال، وأكثر ما سيصدمه هو النّشاط المحموم الجاري على هذه الأرض. فالأفراد والجماعات مندفعون بوتيرة سريعة لم يسبق لها مثيل، ليس فقط جسديًّا، من خلال الالآت الميكانيكيّة، ولكن عقليًّا وعاطفيًّا أيضًا. يكاد يكون من السّليم القول إنّه لا يوجد شعب متحضّر مرتاح في هذا العالم. يبدو الأمر كما لو أنّ هناك قوّة طاردة لا مركزيّة هائلة تعمل، قوّة تبعدنا عن أنفسنا. النّشاط، اللّهو، يَسِمان إيقاع حياتنا. نحن نشعّ طاقاتنا إلى الخارج، ويبدو أنّ قليلًا منها يعمل بشكل بنّاء، بمعنى إيجاد مجتمع مستقرّ وسعيد يعيش في سلام. أحد الأمثلة على هذا التّسريب العنيف لطاقاتنا إلى الخارج هو أن كلّ شخص تقريبًا، دون استثناء، يلقي باللّائمة باستمرار على المجموعات أو الأمم أو الطّبقات أو الأعراق الأخرى وينتقدها. أمّا النّقد الذاتيّ فيكاد لا يُسمع بتاتًا، وإذا ما سُمع، فمن المرجح أن يكون مجرّد أمر شكليّ مهذّب وليس عن قناعة راسخة. لا توجد اليوم دول كبيرة قويّة من النّاحية الأخلاقيّة بما يكفي لتقف وتقول: “هذا خطئي إلى حدٍّ كبير. لو بذلتُ المزيد من الاهتمام من أجل مصلحة العموم، لو فعلتُ أكثر لأدلّ على طريقِ تعاونٍ بين الدّول لا يتّسم بالأنانيّة، لو أنشأتُ نمط حياة داخليّة أفضل، لربّما تبعه آخرون. ولربّما لم ندخل غمار هذه الحروب المدمّرة، ولم نهدر الكثير من السّنوات الثّمينة في اتفاقيّات واهنة، ومماحكات عقيمة، وتبادل للاتهامات لا نهاية له. وربّما نكون أقرب إلى منع الإبادة الجماعيّة كوسيلة لتسوية خلافاتنا.” ينطبق الأمر نفسه على المجموعات. فرأس المال لا يتلمّس ضميره ولا يعترف بأوجه قصوره. وكذلك الأمر بالنّسبة للعمل. وللأبيض والأسود، وهذا الفصيل السّياسيّ وذاك. كلّ شيء يحدث دون استثناء، هو نتيجة خطأ الطّرف الآخر. وما ينعكس عن الهيئات الكبيرة هو السّائد بين الأفراد بامتياز. فنحن لا نتحكّم في أنفسنا، ولم نتحكّم في أنفسنا – لأنّنا، أساسًا، لا نعرف أنفسنا.
إنّ الجدليّة الّتي تتعرّض لها هذه الصّفحات هو أنّه ما لم يبدأ النّاس في محاولة معرفة طبيعتهم الأساسيّة، وتكريس جزء من طاقاتهم داخليًّا، في استكشاف الذّات، وفي رعاية شخصيّاتهم الذّاتيّة، وتعلّم كيفيّة السّيطرة عليها فلا يمكن أن يحدث أيّ تغيير دائم نحو الأفضل في المجتمع الإنسانيّ. لدينا برنامج رائع للمجتمع، ولكن على الرّغم من كلّ ما نفعله، فإنّ البناء لن يصمد. إنّه يتداعى باستمرار، في مكانٍ واحدٍ أوّلًا، ثم في مكانٍ ثانٍ، لأنّ الطّوب المستعمل في البناء لا يمكنه تحمّل الوزن. نحن نمثّل طوب البناء هذا.
نحن نشبه، إلى حدٍّ ما، إنسانًا يودّ أن يكون رياضيًّا أولمبيًّا في نفس الوقت الّذي يشرب فيه الكحول، ويدخّن، ويسهر حتّى ساعات متأخّرة ولا يتدرّب أبدًا. كما أنّنا أيضًا غريبو الأطوار وطفوليّون في تصرّفاتنا لأنّنا نصرّ على القول إنّ سبب عدم تأهّلنا لنكون أبطالًا أولمبيّين أنّ الزّميل الآخر لا يمنحنا فرصة، وليس لأنّنا نعيش حياة مُبَدَّدَة مبعثرة.
هناك برامج ضخمة ومريحة للغاية للتأمّل فيها. ضمان اجتماعيّ. طريقة حياة ديمقراطيّة لأشخاص مضطهدين في فترة ما ومستعبدين. بنك دوليّ. مجمّع للأغذية – كلمات لطيفة تحتضن بكلّ راحة الملايين من النّاس في حملة واحدة! ولكن هل هي كافية لإصلاح الحياة الدّاخليّة لما يقرب من أربعة مليارات شخص! … إنّها ليست مجرّد ضربٍ من الخيال فحسب، بل سيكون من الغباء إضاعة الوقت حتّى في التّفكير فيها. ولكنّنا نعود هنا، مرّة أخرى، إلى الفرد. لا يُكتب التّاريخ بثلاثة أو أربعة أرقام ولكن عادةً برقم منفرد. وسواء كنّا نتمتّع بمعرفة ذلك أم لا، تبقى الحقيقة أنّ شخصًا واحدًا، أو بضعة أشخاص، يمكنه أن يحفّز أعدادًا غفيرة من الجماهير. ليس من الضّروريّ محاولة تغيير الملايين بين عشيّة وضحاها. يكفي الآلاف بل حتّى المئات. والسّبب في ذلك هو قابليّة الإنسان غير العاديّة على التّعلّم. الحياة برمّتها قابلة للتكيّف، والتّطويع، وهي مُبدِعة، لكنّ الإنسان هو الكائن الأكثر حساسيّة وتقبّلًا في الوجود. فهو لا يستجيب فقط للمحفّزات القويّة، مثل نقله فجأة من البرّيّة وإدخاله في حضارة عصر الآلة في المدينة، لكنه يستجيب ايضًا للقوى الرّقيقة. فهو يبدي اللّطف والدّماثة
والآلفة. ورغم أنّ أحدهم قد يكون، إذا كان شخصًا ناضجًا، أفضل من المثال العامّ البغيض للجنس البشري بقليل. إلّا أنّ هذه القوى الرّقيقة قد لا تملك القدرة على تغييره، ولكنّه يدرجها إلى حدّ ما في شخصيّته.
قد يكون هناك بعض الشّكّ في أنّه لو أمكن، على سبيل المثال، عزل مجموعة من الأطفال الأمريكيّين وتنشئتهم تنشئة منعزلة لوحدهم، فبمقدور الشّخص الّذي يقوم على تدريبهم أن يُدخل في عقولهم بأنّهم نوع متفوّق من السّحالي الورديّة، أو أن لا يتحدّثوا سوى اليونانيّة الكلاسيكيّة، وأن يتناولوا الطّعام بأقدامهم، وغير ذلك من التّرّهات. وإذا لم يسمع الأفراد الّذين أنتجتهم هذه العمليّة السّخيفة أو يروا أيّ إنسان آخر قط، فإنّهم بلا شكّ سيتحدّثون اللّغة اليونانيّة الكلاسيكيّة بطلاقة وسيستخدمون أقدامهم بمهارة فائقة! النّقطة هنا هي أنّه على الرّغم من أنّ العالم لا يمكن إصلاحه بين عشيّة وضحاها، إلّا أنّه إذا تقدّمت مجموعة شجاعة من الأفراد للقيام بتعلّم كيفيّة العيش وفقًا لإمكاناتها البشريّة، الّتي لا تنضب تقريبًا، فإنّ بمقدورهم، دون شكّ، أن يقدّموا نموذجًا رئيسيًّا يسهُل على الآخرين اتّباعه. يمكن كسب نصف المعركة لأيّ طريقة جديدة لفعل الأشياء في إثبات أنّه يمكن القيام بها، وبأنّها ليست مجرّد نظريّة، بل طريقة مطوَّرة.
لقد ظهرت قوّة الفرد في تنشيط عقول العامّة مرارًا وتكرارًا عبر التّاريخ البشريّ. لماذا نشكُّ إذًا في إمكانيّة حفنة من النّاس المستنيرين والمخلصين حقًا في عالمنا هذا، ممّن يمتلكون المفهوم الصّحيح الملائم لاحتياجات هذا الوقت، أن يقوموا بدور رياديّ لإحداث إصلاح عالميّ؟ يجب ألّا يُساء الفهم: فالأفكار المطروحة هنا لا ترفض بأيّ شكل من الأشكال الجهود الخارجة عن الاحصاء الضّروريّة والجديرة بالثّناء الّتي تبذلها الحكومات والمجتمعات والطّوائف والأفراد، والّتي تسعى جاهدة لتقديم خطط عظيمة لإصلاح الأمم وحلّ المشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة والوطنيّة. ولكن يجب أن تؤخذ كمقترحات لحدّافة (عجلة توازن) لهذه العجلة الأكبر لحياة مشتركة. كتحرّك نحو عمل جاذب نحو المركز لموازنةِ نشاط الطّرد المركزيّ المريع الّذي يعمل في المجال الأخلاقيّ للمجتمع الإنسانيّ. وكدراسة بحثيّة، مهما بلغت عدم كفايتها، لبعض الاحتياجات الدّاخليّة للإنسان. وكاقتراح لمنهج للنظافة الرّوحانيّة، إذا صحّ التّعبير.
هناك تقريبًا مفهومان لطبيعة الإنسان يُعتقد بهما اليوم. الأوّل، هو أنّه حيوان متفوّق بسبب تطوّره العقليّ غير العاديّ، والثّاني، أنّه مخلوق مختلف عن كلّ المخلوقات الأخرى في أنّه يمتلك شخصيّة تعرف كيف تنجو من الموت.
أخذًا بالسّجلّات التّاريخيّة، فإنّ الإنسان لم يؤمن دائمًا بوجود شيء ما أعظم منه فحسب، بل كان يعتقد دائمًا أنّه بشكل ما قريب من ذلك الشّيء الأعظم المعنويّ. في الواقع، كان الدّين ظاهرة تاريخيّة تتكرّر باستمرار. كان لكلّ جنس من البشر في كلّ بقعة من العالم على الدّوام، دين من نوع ما. إنّ الغريزة الدّينيّة، في الواقع، وُجدت في كافّة الأعراق. وعندما يرجع المرء إلى التّاريخ المكتوب، يتّضح له كيف نشأت هذه الأديان. يقوم إنسان من بين أقرانه ويعلن أنّ لديه رسالة شخصيّة مباشرة لهم من “الله”. ليس هذا ما يحدث فقط. إذ تترسّخ تعاليمه، وتنتشر كالنّار في الهشيم، وتُصلح المجتمع، وتلغي المعتقدات القديمة، وتُنشأ المعابد، وتُدخل قوانين جديدة، وتؤسّس لثقافات جديدة. تتشارك جميع الأديان الحيّة في العالم في هذه النّقاط المشتركة. بل وعلاوة على ذلك، فإنّ لديها العقيدة الأساسيّة نفسها: إله واحد، خُلق الإنسان على صورته ومثاله، وضرورة اتّباع القاعدة الذّهبيّة ومجموعة من الأحكام والقوانين.
سيتمّ التّطرّق إلى موضوع الدّين لاحقًا. النّقطة الأساسيّة هنا هي أنّ الإنسان، من خلال ما يكمن في نفسه، وبواسطة مؤسّسي الأديان العظيمة، ومَن أتى من بعدهم من مصلحين ومربّين، اعتقد وما زال يؤمن، دون استثناء تقريبًا، وحتّى في بؤر المادّيّة والإلحاد، أنّ حضارته الحاليّة قد أثمرت، وأنّه فريد ومختلف عن الكائنات الحيّة الأخرى، وأنّ أحد جوانب هذا التّفرّد هو أنّه سيبقى حيًّا بعد موته في شكل نفس أو روح. إذا صدّق الإنسان هذا في الماضي، عندما بدت المادّة كتلة صلبة جامدة للغاية وكانت فكرة الرّوح تخطر في الذّهن كشيء سريع الزّوال، فكم من هذا سيُصدّق في هذا اليوم، عندما اتّضح بسرعة أنّ المادّة تتكوّن من حفنة من الذّرّات متناهية الصّغر، من مادّة كهربائيّة غريبة تفتقر للجوهر تقريبًا عند مقارنتها بالمعايير السّابقة. إذا كان هناك أيّ شيء يقنع النّاس بإمكانيّة وجود الرّوح، فسيكون طبيعة عالمنا الرّائع مع مجرّاته الّتي لا تعدّ ولا تحصى والّذي كشفه العلم لنا للمرّة الأولى. مثل هذه الآليّة الرّائعة، الّتي تحكمها القوانين إلى حدٍّ كبير، والّتي تمّ ترتيبها وتنظيمها بشكل جميل، والّتي هي متعدّدة الأشكال للغاية، لا يمكن أن توجد بمحض الصّدفة، تمامًا كما أنّ ساعة سويسريّة كاملة الصّنع لا يمكن أن تكون حادثًا. لا بدّ من وجود صانع لها، وهذا ما يؤكِّد بقوّة ما كان يخبرنا به الأنبياء بوضوح تامٍّ وبأكثر الكلمات سهولة للفهم، ومنذ فجر الزّمان، فقد كان الموضوع دائمًا نفسه، “أنت طفل الله. هو الّذي سيربّيك. وسوف تعود إليه”.
إذا قبلنا بحقيقة كوننا كتلة مجهولة بسبب وجود عامل “x” في معادلتنا والّذي هو غير موجود في معادلة أيّ كائن حي آخر، ألن نستنتج عندئذٍ أنّ جزءًا كبيرًا من المعضلة في عالمنا في الوقت الحاضر– عالم، رغم أنّه مشرق جدًّا بالوعد بحياة رغيدة للجنس البشريّ بأكمله – ناتج عن جهلنا الكامل لماهيّة العامل “x”، وأنّه أيضًا قد يكون له، مثل كلّ شيء آخر في الكون، قوانين تحكمه، ونحن جاهلون بتلك القوانين، ونقوم بخرقها طوال الوقت؟
الإنسان كائن رائع. فمهما كان السّديم بديعًا، ومهما كان زجاج الكريستال نقيًّا، ونواة الذّرّة مذهلة، فهي لا تقارن بجمال الإنسان نفسه وروعته. التّركيب المنظّم لجسمه، تعقيد شبكة عقله، سلسلة مشاعره الواسعة المتناغمة، تجعله بالفعل ملك الطّبيعة. لديه قدرة تكاد تكون غير محدودة على الإنجاز. فرغم أنّ الطّائرة النّفّاثة الأسرع من الصّوت قد تكون معجزة من إبداع الإنسان، إلّا أنّها ليست بنصف روعة ذلك الطّيّار، الّذي يرفعها من مدرج المطار، ويقودها خلال طبقة الغلاف الجوّيّ العليا (السّتراتوسفير) ويهبط بها بأمان على الجانب الآخر من العالم. يبدو أنّ الجنس البشريّ يمتلك إمكانات غير محدودة تقريبًا. يمكن أن يُنتج كائنًا يتطلّع للشهادة، يذهب بهدوء وسعادة وحتّى بامتنان إلى حتفه ويموت مقتنعًا بحصول اشياء أفضل له، من الصّعب تصديقها. كما يمكن للجنس البشريّ أن يُنتج وحشًا، تُجبر وحشيّته أي ذئب أو نمر يحترم نفسه، بالرّغم من أذيّته وساديّته وفرحه البربريّ في إحداث الدّمار، أن يغدو خجِلًا أمام إنجازه. وأن يُخرج من نسله بيتهوفن وشكسبير وداروين ورامبرانت، أو حتّى، وياللأسف، نيرون أو هتلر. وهو يُنتج عددًا لا يحصى من الأبطال والبطلات بالإضافة إلى نثار قليل من المجرمين. ونحن البشر فقط، يمكننا أن نستنبط أو نمتلك قدرات هائلة، قوى فائقة. يمكننا أيضًا، أخذًا بما تمّ إنجازه بالفعل، أن نفترض بأمان أنّه لا يوجد شيء على الإطلاق لا يستطيع البشر تحقيقه إذا لم يكتفوا بمجرّد إعداد أنفسهم، بل سعوا إلى معرفة القوانين الّتي تمكّنهم من ذلك.
إذا ما ركّزنا عقولنا بشكل تحليلي على المشاكل الّتي نُبتَلى بها اليوم، فما الّذي نراه؟ بروز بعض الشّرور الّتي يُنظر إليها بإيجابيّة بروزًا حادًّا. وبعض التّصرّفات الجيّدة الّتي أصبحت سلبيّة بشكل واضح تقريبًا. علينا أن نضع في اعتبارنا دائمًا أنّنا نهتمّ بمشكلة الفرد، وليس الحكومات والحركات الاجتماعيّة، فنرى أنّ الكراهية والبُغض أقوى بكثير اليوم من الحبّ والتّعاطف. وأنّ التّحيّز والتّعصّب أقوى من التّسامح والتّفاهم. وسنرى أنّ اللّامبالاة بمعاناة الآخرين، والأنانيّة، والكذب، وخيانة الأمانة البسيطة، والعلاقات الجنسيّة غير الشّرعيّة، وشرب الكحول، وتعاطي المخدّرات، والجريمة، والطّلاق، كلّها في ازدياد. كلّ هذه الشّرور أصبحت إيجابيّة عاديّة. هناك أمور أقل أهمّيّة من قبيل السّفاهة المتزايدة، وفقدان الأمل، وتسلّل عدم الإيمان في فائدة وجدارة محاولة فعل الخير بينما هناك الكثير من النّاس الّذين لا يبذلون أيّ جهد للقيام بذلك، والشّعور بأنّ النّضال الفرديّ لا جدوى منه، وأنّه من الأسهل الاستسلام والانجراف مع التّيّار. أمّا تحت عنوان الأعمال الجيّدة الّتي انقلبت إلى سلبيّة، فيمكننا أن نضمّ إليها جميع تلك المواقف والجهود الّتي يتمّ تجزئتها إلى فئات. مثل الطّائفيّة والجماعات الأخرى الّتي تعمل من أجل إصلاح داخليّ حصريّ بحت. وأغلبيّات تسعى إلى تحسين ظروفها الخاصّة على حساب الأقلّيّات أو إغفال مصالحها. وفي بذل الجهد لتحسين مجموعة عرقيّة واحدة من المجتمع بغضّ النّظر عن الأضرار الّتي تلحق بالجماعات الأخرى.
تساعد الحكومات الإنسان من خلال الإصلاحات والبرامج الجديدة. الطّبّ يرفع بسرعة عبء المرض الثّقيل عن الإنسان. وعلم النّفس يمكّنه من فهمٍ أفضل لتشغيل عقله وبالتّالي التّغلّب على العديد من المشاكل الصّعبة الّتي تواجهه حتّى اليوم. بالرّغم من ذلك فهو لا يشعر بالحرّيّة أو السّعادة أو الاطمئنان في داخله. فما الفائدة من إنجازه لكلّ هذا التّقدّم وكلّ هذا التّحسين في حياته، وكلّ هذا الإصلاح، إذا لم يكن قلبه مستنيرًا ومطمئنًّا؟
يحتاج الإنسان إلى أن يُستقطَب ويوجّه نحو هدف ثابت. بوصَلتُه موجّهة في الوقت الحاضر إلى نقاط دائمة التّغيّر. وعندما يصل أحدهم إلى النّقطة الّتي قاده إليها مساره، يجد أنّها ليست المكان الّذي ظنّ أنّه سيصل إليه. فيزول الرّضا والسّعادة اللّتيْن كان يتوقعهما. وكذلك لم يعد النّجاح، ولا الثّروة، ولا الزّواج، ولا الأطفال أمورًا تجلب للشخص العاديّ ما ظنّ أنّها ستجلبه ألا وهو ذلك الشّعور العالي والثّابت من الرّضا. يكدح الإنسان لسنوات، وغالبًا ما يستمرّ كفاحه على مدى الحياة، للوصول إلى نقطة مميّزة معيّنة. وعندما يبلغ مراده يجد أن لا طائل منها، ويكون غير راضٍ بتاتًا. ولكن بدلًا من الاعتراف بأنّ “المشكلة لا بدّ أن تكون في مكان ما بداخلي”، فمن المرجّح أن يضع اللّوم على الطّريق، معتقدًا أنّه لا بدّ وأن فاتته تحويلة ما. نحن نفكّر دائمًا بأنّ ما نريده فقط هو الّذي ليس في متناولنا. ونادرًا، إن لم يكن أبدًا، ما نفتح الباب المؤدّي إلى داخل أنفسنا لنرى ما هو حقًا في متناول أيدينا، وما يلزم القيام به من ترتيب وتنظيف، وما هي الأدوات الرّائعة المتوفّرة لدينا لمساعدتنا في الحصول على بعض الرّضا العميق من الحياة.
هناك أشخاص في الشّرق تمكّنوا من رفع يد في الهواء لمدّة عشرين أو ثلاثين سنة أو نحو ذلك حتّى تيبّست ولم يعد بالإمكان خفضها. ورجل آخر عَبَر شلّالات نياجارا على حبل مشدود. يمكن لبعض النّاس موازنة الطّاولات والكراسي وبعض الأشياء الأخرى على أطراف أنوفهم. هناك جرّاحون يُجرون أدقّ العمليّات على أنسجة المخّ والعيون والقلب والأعصاب. الفيزيائيّون، علماء الرّياضيّات، يُنجزون أعمالًا عقليّة فذّة تبدو شبه مستحيلة. فكيف يقوم النّاس بمثل هذه الأشياء الرّائعة أو المعقّدة؟ من خلال قوّة الإرادة والتّدريب والجهد. فالإنسان القابل للتعلّم يمكنه أن يفعل أيّ شيء تقريبًا. فالمؤَرَّقون يتعلّمون النّوم. السّكارى ومدمنو المخدّرات يُشفَوْن. المتلعثمون يتحدّثون بوضوح – كيف يفعلون ذلك؟ من خلال المثابرة والصّبر والتّدريب. لا شيء يستحيل إنجازه تقريبًا. فهل من المستحيل إذًا أن يكون الجنس البشريّ سعيدًا؟ وأن يتعلّم السّيطرة على نفسه؟ لا يمكن أن يكون ذلك مستحيلًا. كلّ الكائنات في الطّبيعة، رغم تنشئتها القاسية لأطفالها فإنّها تولّد نوعًا من السّلام والفرح. كلّ شيء في العالم له مكان يناسبه بطريقة ما، وفي موضع ما. ولا بدّ أن يكون لكلّ إنسان، بالتّأكيد، مكان خاصّ به يناسب أحواله بحيث يمكنه أيضًا أن ينمو فيه ويذوق نصيبه من السّعادة. لكنّه لا يستطيع أبدًا أن يتكيّف مع ظروف الحياة الّتي يعيش فيها ما لم يتكيّف مع نفسه، ويتعلّم القوانين الّتي تحكم حياته الدّاخليّة.
ليس هذا بالمكان المناسب لمحاولة إثبات الآراء الّتي ستَرِد تاليًا أو الدّلالات عليها بمقتطفات طويلة. إذ إنّها مؤكّدة بصفتها حقائق بديهيّة تستند إليها بعض الاستنتاجات، تصدر عنها بعض التّوصيات.
الإنسان له طبيعة مزدوجة لا يمتلكها أيّ مخلوق آخر. الازدواجيّة فيه ناجمة عن حقيقة أنّ لديه جسدًا وروحًا لا تفنى. إنّ امتلاك هذا الجانب الرّوحانيّ البحت هو خاصيّة مميّزة، في الواقع، السّمة الرّئيسيّة الّتي تميّز الإنسان عن جميع الحيوانات الأخرى. فعند بداية تكوّن الجنين، تصبح هذه الموهبة الفريدة من الإنسانيّة، الّتي ستكون منذ تلك اللّحظة فصاعدًا السّمة الأبديّة لكلّ إنسان، جزءًا لا يتجزّأ من طبيعته. إنّ جسمه جسم حيوان، مع كلّ ما يصاحب ذلك من الرّغبات والكثير من غرائزه. وهو يعيش مرّة واحدة، مثل أيّ شكل آخر من أشكال الحياة على هذا الكوكب. يولد، ينمو، يموت، يتحلّل ويعرف الجوع والعاطفة والخوف والحب والغضب والفرح … إلخ، بطريقته الخاصّة، ولكن مثل أيّ حيوان آخر. أمّا روح الإنسان فهي موهبة من الله، حقيقة غير مادّيّة متعلّقة بجسمه من خلال وظائف عقله، يمتلك شخصيّته الفرديّة، والإدراك والشّعور، وبعض المَلَكَات العقليّة العليا، وما يمكن أن نسمّيه بالقوى الرّوحانيّة، الغريبة عن الحيوان. تتجلّى روحه في الوجود مع بداية تكوّن جسمه، وبعبارة أخرى، في لحظة الحمل (انعقاد النّطفة). وطالما بقيت الحياة في الجسم، فإنّ الرّوح تبقى معه، وتتفاعل مع إمكاناته، وتستفيد من تجارب حياة فانية. وعندما يموت الجسم فإنّ الرّوح لا تموت، بل يتمّ إطلاقها فحسب وتستمرّ في العيش إلى الأبد كما هي عليه ذاتها الفرديّة، فشخصيّة ماري أو هاري، تُدرك نفسها والآخرين.
الرّوح هي الفارس، والجسم هو الفرس. وما لم يكن الفارس ماهرًا ويستطيع السّيطرة على جواده والتّنقّل معه وكأنّهما شيء واحد، فإمّا أن يتعارك معه باستمرار أو سيهرب به الجواد بعيدًا. معظمنا نتشبّث بكلّ ما أوتينا من قوّة بنفوسنا الهاربة هذه الأيّام. نحن لا نعرف شيئًا عن الخيول، نحن مشغولون فقط بعدم السّقوط، وإنْ أمكن بجعل الآخرين لا يلاحظون المأزق الّذي نحن فيه، وهو أنّنا لسنا فرسانًا مدرّبين على الإطلاق. نحن بحاجة إلى دورة جيّدة وشديدة في الفروسيّة!
دعونا نتفحّص أنفسنا قليلًا من النّاحيتين: فالجسم له احتياجاته، ومن المنطق، في الجانب الآخر، أن تكون للروح أيضًا احتياجاتها. الجسم هو آلة واعية، فهو يهتمّ في المقام الأوّل، مثل جميع الحيوانات، بأن يؤمّن لنفسه الضّروريّات والرّاحة والرّفاهيّة الّتي يتوق إليها، وفي تحقيق الحثّ البيولوجي الكبير للطبيعة، أي للتكاثر، لئلا يتلاشى النّوع البشريّ. وفي الوقت نفسه، فإنّ جسم الإنسان، وبسبب تكوينه الفريد، والنّقطة الدّقيقة الّتي وصل إليها تطوّره من خلال التّفاعل بين جسمه العنصريّ وغيره من المَلَكَات العليا للعقل والرّوح، قد تحرّر من قيد الطّبيعة وهو أمر لا يعرفه الحيوان. يعيش الإنسان كثيرًا حسب أهوائه. إلّا أنّ الحيوانات تعيش كما يجب أن تعيش. يستمتع الإنسان في أدائه لوظائفه الجسمانيّة (ويسيء استعمالها) كما لا يستطيع أيّ حيوان. فالجنس، على سبيل المثال، أصبح للبشر شيئًا مختلفًا تمامًا عمّا هو عليه بالنّسبة للحيوانات. إذ يمكن أن يكون مرتبطًا بأكثر المشاعر سموًّا كعدم الأنانيّة، والرّقّة المتناهية، وأروع عواطف الحبّ والتّضحية، أو يمكن أن يتدهور إلى انحراف، وإيذاء جسديّ، وانغماس في الشّهوات، غير معروفة لأيّ حيوان متوحّش. لقد أصبح الأكل فنًّا، شكلًا من أشكال المتعة، نقطة تجمّع اجتماعي: من خلاله يصيب بعض النّاس أنفسهم بالأمراض. بينما يعزّز آخرون صحّتهم بواسطته. وبعبارة أخرى، حتّى إنّ نصفنا الحيواني يتمتّع بحرّيّة في التّصرّف غير مألوفة لأيّ كائن حيّ آخر.
ما هي متطلّبات النّصف الآخر منّا – النّصف الّذي سيدوم إلى الأبد؟ إنّ الجسم يعرف مساره ، فهو يعلم أنّ عليه أن ينمو جيّدًا إن أمكن ليكون قويًّا وأنيقًا، وأن يحقّق رغباته، وأنّه سيعود في النّهاية إلى التّراب. معظمنا، ولقلّة وعينا بحقيقة أنفسنا، وإيلائنا القليلَ جدًّا من الاهتمام بحاجاتنا الدّاخليّة، لا نتوقّف أبدًا عن السّؤال عمّا إذا كانت الرّوح تحصل على ما تحتاجه، هل هي في صحّة جيّدة؟ وهل لديها نظرة مستقبليّة مُفعمة بالأمل؟ هذه الحالة المستمرّة من الجوع الدّاخليّ والإهمال هي الّتي تَحُول دون أن يكون النّاس سعداء حقًّا. ولهذا السّبب نرى أناسًا، من وجهة النّظر المادّيّة، يملكون كلّ شيء – الصّحّة والثّروة والرّفاهية والعائلة – وهم يتسابقون بشكل محموم من وسيلة لهْوٍ إلى أخرى، لا يهدأون أبدًا، ولا يشعرون بالرّضا أبدًا، يمرّون عبر الحياة راكضين، بل إنّهم يهربون من ذلك الشّعور الدّاخليّ العميق بعدم الرّضا- كروح جائعة، غير سعيدة. وإذا صادف أن توقّف أحدهم في أيّ وقت للتفكير في هذا الجزء الأساسيّ من نفسه، هذا الجزء الّذي هو نفسه، فلن يكون صبورًا معها. وسوف ينظر إليها باستياء ويقول لها: “نعم، أعلم، ولكن إذا استمعت إليك، فلن أحصل على أيّ انطلاقة في الحياة أبدًا!”
لا ريب أنّها طريقة حمقاء وغير ناضجة تلك الّتي نتعامل بها مع مشكلة أنفسنا. كلّ شيء آخر متناغم في قيامه بأعماله، يدور بسلاسة في إطارٍ من القوانين المفهومة. لِمَ لا نستطيع إذًا، ونحن أعلى وأسمى شكل من أشكال الحياة، إيجاد الانسجام بين الجسم والرّوح؟ ولِمَ لا نكون قادرين على تلبية احتياجات كلّ منهما، مستمدّين السّعادة من قيامنا بذلك، والأهمّ من كلّ هذا، الحصول على راحة البال؟
إنّ وعينا، وعقلنا، وقدرتنا على الحبّ، هي أرقى المَلَكات الّتي بحوزتنا. دعونا نقول إنّها تشبه المرآة. فإذا ما وُجّهت المرآة إلى الأسفل نحو الأرض، فإنّها ستعكس الأرض المظلمة، وإذا قُمت بتوجيهها نحو الشّمس، فستمتلئ بنور يعمي الأبصار لدرجة أنّ الأشعة الصّادرة عنها قد تشعل النّار في أيّ شيء ذي طبيعة قابلة للاحتراق تُسلّط عليه. أو دعنا نقول إنّ هذه المَلَكات هي البوصلة الّتي نملكها لتوجيه مسارنا. فنحو ماذا سنوجّهها؟ نحو قيمٍ ثابتةٍ، ساميةٍ لا تتغيّر أبدًا، أو نجمٍ قطبيٍّ روحانيّ؟ أم نتّبع كلّ نزوة. هدفٌ واحدٌ مؤقّت في البداية وبعده هدف آخر، سيّارة جديدة في هذا العام، وفي العام المقبل منزل صيفيّ، وهلمّ جرا؟
يجب علينا، قبل محاولة التّفكير في طرق العناية المناسبة بدخيلة ذواتنا، أن نسأل أنفسنا ما هي غاية أرواحنا. لم يسبق لأحد أبدًا أن أجاب عن هذا السّؤال باستثناء الأنبياء، وقد أخبرونا أنّ الله خلقنا لنعرفه ونسلك السّبيل الّذي حدّده لنا، وأن نحبّه ونشاركه خلوده. لا يمكننا فهم المضامين الكاملة لما يقتضيه هذا الخلود ونحن لا نزال في هذا العالم، ليس بأكثر ممّا يستطيع فهمه طفل في رحم أمّه ممّا ينتظره في اليوم الّذي يُخرج فيه رأسَه الصّغير إلى حياة جديدة. الله هو الخالق. لقد أبدع الخليقة بشكل أنّها، وخلال عمليّة طويلة رائعة سخيّة، ستُنتج ثمرة، وهذه الثّمرة هي نحن. في هذا العالم، وحتّى نحن، كما الطّفل في الرّحم أيضًا، نستعدّ للمرحلة المقبلة. أوّلًا، نتّخذ شكلًا في زنزانتنا المؤقّتة(هذه الأرض)، ونقوم، مثل الطّفل في الرّحم، بتطوير طريقتين للحياة، إحداهما هي الّتي نستخدمها، والأخرى هي الّتي تبدو وكأنّها تكاد تكون غير ضروريّة لاحتياجاتنا الجسمانيّة. فكما أنّ طفلًا محصورًا في كيس أسود مغلق، مليء بالسّائل، متقوقعًا في داخل كرة مرصوصة، ستبدو من الحماقة أن تنمو له عينان حيث لا ضوء هناك، ورئتان حيث لا هواء، أو قدمان أو يدان حيث لا سبيل لاستخدامهما، ولسان وأذُنان حيث لا كلام ولا سمع. ولكنّنا نعرف أنّه إذا ما تشوّهت قدم الجنين في الرّحم، فسيغدو مشلولًا. إذا لم تنمُ عيناه، فإنّه لن يستطيع الرّؤية أبدًا، وهلمّ جرّا. كلّ شيء، إذا ما كان بمقدوره التّفكير فيه سيبدو بالنّسبة له عديم الجدوى وغير ضروريّ على الإطلاق، بينما هو الأساس الكامل لحياته المستقبليّة. كذلك الحال، إلى حدٍّ كبير، مع أرواحنا في هذا العالم. فهي هنا، في المرحلة الأولى من رحلتها، لتطوير قدرات معيّنة. فإذا لم تنجح، فستعوزها الأساسيّات عندما تولد، وبعبارة أخرى، في اليوم الّذي ستفارق فيه أجسامنا وتبدأ حياة جديدة أبديّة.
للحصول على تلميح عن المَلَكات الّتي من المفترض أن نطوّرها هنا، ليس فقط من أجل الرّضا الآني بل من أجل الاستمتاع الدّائم، فإنّ علينا فقط أن نسأل أنفسنا ما هي تلك الميّزات، السّمات الرّئيسيّة في الإنسان الّتي لا تظهر في الحيوان. الإنسان قادر على إظهار نوع من الحبّ لزملائه، ولمبدأ معيّن، وللجمال، وللمعرفة، وفوق كلّ شيء، لخالقه، حبٍّ غير معروف على الإطلاق لدى الحيوان. لذلك فالحبّ هو واحد من مَلَكات روحه الّتي لا تقدّر بثمن. يجب عليه تطوير تلك المَلَكة من خلال استعمالها هنا. فالإنسان لديه القدرة على الفهم العميق وعلى المعرفة. وعليه أن ينمّي قواه الذّهنيّة هنا ليتمكّن من اكتساب فهم يتعاظم باستمرار لمعنى الحياة ومجرياتها، وتدابير الخليقة في كلٍّ من هذا العالم وما وراءه. ولديه القدرة أيضًا للإحساس بطيفٍ واسعٍ من المشاعر الرّقيقة كالتّعاطف والشّفقة والكرم مع الآخرين والتّسامح والعفو. ولا بدّ له من ممارسة هذه القدرات الإنسانيّة الرّائعة في هذا العالم لكي تصبح قويّة لاستخدامها في المستقبل أيضًا. هو قادر كذلك على التّضحية بالنّفس والتّحمّل في سبيل الواجب، أو الحبّ، أو الاستقامة. وهذه أيضًا يجب تعزيزها من خلال استخدامها في هذه الحياة الأوّليّة. هناك خاصّيّة لا توصف من الألق تمتلكها بعض الشّخصيّات. يبدو أنّهم يتمتّعون بفرح وثقة واطمئنان حيال معنى وجودهم ووجود ذلك الواحد الأحد الّذي خلقهم، ممّا ميّزهم وجعلهم مثار حسد الآخرين وإعجابهم في آنٍ معًا. هذا الفرح الطّبيعيّ والثّقة هي من مَلَكات الرّوح. ويمكن رعايتها هنا. بل هذا ما يجب أن يحدث. إحدى قوى الإنسان الأخرى الّتي لا تُقدّر بثمن هي الإيمان، القدرة على الاعتقاد: إنّ إيمان القلب هذا، على عكس القناعة العقلانيّة البحتة للعقل المبنيّة على أساس المنطق والبحث، هي الّتي ستؤثّر، إلى جانب قوّة الحبّ، تأثيرًا كبيرًا على نموّه. ولا بدّ من رعاية هذه القدرة هنا.
إنّ الموعظة القديمة “اعرف نفسك” هي حجر الزّاوية للحياة. إذا كنّا مشاركين مع الله في خلوده كما نحن فعلًا، لأنّنا نمتلك قدرة على التّطوّر تكاد تكون لا نهائيّة، فالعالم الحقيقيّ والعجائب الحقيقيّة كلّها تكمن في ذواتنا. عندما نقرأ لغة شكسبير، وعندما نتتبّع استنتاجات فيزيائيّ ما وبراهينه، وعندما نرى طائرة عملاقة تهدر ممعنة نحو وجهتها، نقول يا لها من إنجازات رائعة! ونادرًا ما نتوقّف لندرك بأن كلّ هذه الأشياء نمت في منبت بذرة روح شخص ما، وأنّنا نمتلك داخليًّا مخزونًا ضخمًا من الطّاقة في انتظار استثماره وتوجيهه ليجري في قنوات إبداع جديدة.
ليس بمقدور الحيوان أن يخطئ، فهو يمضي في طريقه كما تمليه عليه غرائزه. إنّه ليس حرًّا في أيّ لحظة من حياته، وليس أكثر حرّيّة من شجرة أو قطعة حجر. لكنّنا، كبشر، أحرار نسبيًّا، ليس لدينا مطلق الحرّيّة، لأنّنا نمتلك قوّة الاختيار. قد تعمل بيئتنا على تعديل اختيارنا، ولكنّنا أحرار، ضمن نطاق معيّن، في تحديد تصرّفاتنا. هذا هو المجد الكامل للإنسان. إنّه عطيّة روحه. لن يكون هناك أيّ امتياز للإنسان في ما يمتلكه إذا لم يكن لديه الخيار فيه. سيكون مجرّد شيء آخر يتطوّر بالإكراه. لم يشأ الله أن يخلق إنسانًا آليًّا يؤمن به ويحبّه مُكرهًا. بل أراد سبحانه وتعالى أن يكون محبوبًا لنفسه، بالاختيار، لأنّ هذا هو الفرح الّذي يمنحه الحبّ، لذلك أعطى الله لمخلوقه، الإنسان، إرادة خاصّة به ليتمكّن من تعديل شخصيّته، وتنميق روحه، والاستمتاع بثمار كفاحه، والتّنعّم بأشعّة شمس محبّة الله ومحبّة الله له. إرادتنا هي المقود الّذي به يمكننا توجيه بوصلتنا نحو السّموّ الحقيقيّ، أو نحو أيّ نزوة عابرة. يمكننا أن نأخذ مرآة روحنا العظيمة هذه ونوجّهها نحو الأعلى حتّى تلتقط الانبعاثات الّتي تطلقها القوّة الدّافعة للكون (الله) باستمرار، أو يمكننا أن نوجّهها نحو الأسفل إلى ما يُعتبر عالمًا مظلمًا لنا، أي نحو أجسامنا. إذا وجّهناها نحو الأعلى، نغدو لطفاء وكرماء، وسادة أنفسنا، يملؤنا سلام، وثقة، وسعادة، وقوّة لفعل الخير، ولنكون بنّائين وهذا ما يميّزنا كبشر. إذا وجّهناها نحو الأسفل، نصبح أسوأ من أكثر الوحوش شراسة. فتصبح كراهيتنا، الّتي تشحذها عبقريّتنا، أمرًا مروّعًا ولن يعرف انحطاطنا حدودًا. فشراهتنا وشهواتنا وقيامنا بالذّبح بدم بارد يثير الدّهشة والذّهول حتّى في أنفسنا.
عندما نوجّه مرآتنا نحو الأسفل، سنصبح، بطبيعة الحال، تعساء مستائين، لأنّ الكيان الّذي هو نحن، بشخصيّتنا وروحنا الواعية قد أسيئت معاملته، إذ إنّه قد لُقّن أن يفعل أمورًا تتعارض مع طبيعته الإنسانيّة الحقيقيّة. يشبه ذلك إلى حدٍّ كبير حالة ذلك الشّخص الّذي يريد أن يكون بطلًا أولمبيًّا. هو مستاء طوال الوقت لأنّه ليس في عداد الأبطال، لكنّه يقوم باستمرار بفعل ما يحرمه من أن يصبح ذلك البطل.
كلّ هذا الكلام رائع جدًّا من النّاحية النّظريّة، لكن السّؤال الّذي يطرح نفسه هو: ما الّذي يمكن عمله فعلًا؟ بافتراض أنّ الأمر هكذا، ما الّذي يمكننا القيام به لنسلك المسار الصّحيح؟ لماذا نفعل أيّ شيء في هذا العالم؟ (ما عدا، بطبيعة الحال، ما نحن مضطرّون لفعله، مثل الأكل والنّوم وكسب لقمة العيش، وما إلى ذلك). نحن نفعل الأشياء لأنّنا نريد ذلك. نخرج للرقص بدلًا من قراءة كتاب لأنّنا نفضّل القيام بذلك. نحن نأكل أو نشرب ما أخبرنا الطّبيب بأنّه بمثابة الموت البطيء لنا لأنّنا نفضّل أن نحصل على هذه المتعة حتّى لو كانت سببًا في موتنا في النّهاية! لا يمكن لأحد أن يجبر شخصًا آخر على النّظر في دخيلة حالته والقيام بشيء حيالها إذا لم تكن لديه الرّغبة في القيام بذلك، وحتّى لو كانت لديه الرّغبة ولكن تنقصه القدرة على التّحمّل والسّيطرة على نفسه، فلن يستطيع أيّ شخص على وجه الأرض أن يفعل ذلك بالنّيابة عنه. إنّه عمل إراديّ بحت. إنّه يتمّ بينك وبين نفسك. وحتّى الشّخص الّذي يحبك أكثر من أيّ شيء في العالم، وقد يكون على استعداد للموت من أجلك، فإنّه لا يمكنه القيام بذلك نيابة عنك.
من بين جميع المهام غير المستحبّة الّتي يجب القيام بها في هذه الحياة، ربّما يكون أبغضها هو الجلوس مع نفسك، وخلع عدسات إجلالك لذاتك وتخيّلاتك الصّغيرة الحمقاء، وإلقاء نظرة جيّدة على شخصيّتك الذّاتيّة. إنّه لفي غاية الرّوعة أن تكون لدينا تخيّلات، ومن الأروع أن نهرب إلى ساحة النّسيان، ومن المريح أكثر أن نجد عذرًا لنقول: “حسنًا، ليس لديّ وقت لذلك اليوم”، أو، “قد يزعجني هذا الأمر، ولا يمكنني تحمّل الانزعاج في الوقت الحاليّ.” لكنّ المشكلة لا تزال موجودة معنا، في داخلنا. كان من الأفضل السّعي للقيام بشيء حيالها. قد يؤلمنا خلع السّنّ بشدّة في البداية، ولكنّ الألم سيزول بمجرّد أن يخرج ذلك السّنّ. وعلاوة على ذلك، سيحدث شيء أكثر روعة: إذ سيبدأ بالتّلاشي والاختفاء ذلك الشّعور بالتّعب وتلك الشّكوى المستمرّة وعدم الارتياح والنّزاع الدّاخليّ في اللّاوعي. لن نكون مضطرّين لنتهرّب من بصائر ضمائرنا باستمرار لأنّنا سنكون قد استمعنا لأوّل مرّة لما كانت تحاول إخبارنا به. سيكون لدينا إحساس بالقوّة لأنّ عملًا شجاعًا يجلب تدفّقًا من الوعي بقوّتنا.
ولكن هناك شيءٌ أكثر عمقًا، وأكثر تشجيعًا، للمساعدة في دعم هذه المحاولات الأوّليّة للتعرّف على نفوسنا الحقيقيّة، وهو أمر يضمن النّجاح. هذا الشّيء هو خاصّيّة من خاصّيّات المادّة، لو جاز لنا هذا التّعبير. لنفترض شيئًا ما – خليّة، أو بذرة، بدأت بحبّة واحدة، ثمّ تضاعفت لتصبح اثنتين. الخطوة التّالية ليست ثلاثة، بل ضعف الاثنتين، وهي بالطّبع أربعة. والأربعة لا تضيف اثنين لنفسها، بل تصبح على الفور ثمانية، الثّمانية تصبح ستّة عشر، السّتّة عشر تصبح اثنتين وثلاثين، اثنتين وثلاثين ستصبح أربعًا وستّين، وأربعًا وستّين تصبح مائة وثمانية وعشرين. بعد سبع مراحل انتقاليّة تنتقل من عدد واحد إلى مائة وثمانية وعشرين لأنّ عمليّة الحياة تتقدّم بطريقة المتتالية الهندسيّة وليس بالإضافة البسيطة. إذا كانت مجرّد تقدّم عن طريق الجمع، فبعد سبع انتقالات، سيكون لديك ثماني وحدات فقط بدلًا من مائة وثمانية وعشرين. وبعبارة أخرى، فإنّ كلّ خطوة تُخطى إلى الأمام ليست عمليّة تسلّق شاقّة بطيئة بل تنطوي على دفعة هائلة، وتضاعف مذهل للطاقة وللقدرة. قد لا يكون من السّهل القيام بهذه الخطوات، لكنّ الفوائد المكتسبة بعد كلّ خطوة منها غنيّة للغاية بحيث تستحقّ أيّ كمٍّ من المجهود نبذله من جانبنا.
إنّ أيّ نوع من النّموّ هو معجزة. فكون بذرة على غاية من الضّآلة تتطوّر بسرعة لتصبح شجرة ضخمة، بسبب انبعاثات سحابة من الغاز المشتعل على بعد ملايين الأميال. وأنّ بويضة واحدة تكاد لا تُرى، تظهر بعد تسعة أشهر، على شكل إنسان قادر على الرّؤية، والسّمع، والتّنفّس، والحركة، ولديه إمكانيّة التّفكير- لهو دلالة على طبيعة القوى الكامنة في الحياة. الرّوح تتمتّع بنفس القدر من الحياة والحيويّة والقدرة على الاستجابة على نحو رائع كما هو الحال مع البذرة أو البويضة إذا ما تعرّضت للقوى الّتي تعزّز من نموها.
يقتضي ضمنًا على الدّوام أنّ القوانين لا تحكم العالم المادّيّ فحسب، بل عالم الرّوح أيضًا، فما هي متطلّبات النّموّ الرّوحانيّ إذًا؟ الشّرط الأساسيّ هو الدّخول في ضوء الشّمس. ما هو ضوء الشّمس هذا؟ إنّه محبّة الله. إذا شبّهنا الله بالشّمس، فإنّ الأشعّة الّتي تسطع منه هي محبّته. تنمو الحياة في الضّوء، وتحوّل الضّوء إلى طاقة، وتبني نفسها بقوّة هذا الضّوء. حبّ الله هو النّور الّذي تحتاجه الرّوح. في هذا الحبّ، تنطلق الرّوح وتنمو وتأخذ شكلها وكمالها التّامّ. ويبدو أنّ كلمتي “لماذا ولِمَ” كانتا حواجز أبديّة لمعرفتنا بالأشياء. فنحن لا نعرف سبب وجود الله، ولا نعرف لماذا الكون كما هو عليه. نحن لا نعرف حتّى ما هو الله في جوهر ذاته، ولا ما هي حقيقة المادّة، ولا حتّى من نحن. لكنّنا نعرف شيئًا عن كلمة “كيف”: كيف وصلنا إلى هنا؟ دراسة علم التّطوّر، بدأت تكشف لنا ذلك. وكيف نتصرّف في هذا العالم بحيث نستخلص أقصى ما نستطيع من منافعه، فإنّ العلم يعلّمنا بخصوص ذلك بسرعة أيضًا. وكذلك فإنّ كيفيّة الكشف عن دخيلة ذاتنا هي معرفة مفتوحة أمامنا. فالأوراق تبسط أيديها الخضراء الصّغيرة لتتلقّى أقصى قدر من الضّوء عند الحاجة إليه. والحيوانات تنتقل من الظّلّ إلى الشّمس لتتلقّى الخيرات الّتي تمنحها. ورغم تفوّقنا الكبير على النّباتات والحيوانات، يبدو أنّنا نفتقر إلى غريزة إحداهما والإحساس البديهيّ للأخرى. نحن لا ندخل في ضوء الشّمس الرّوحانيّ. بل على العكس من ذلك، نُسدل السّتائر، سواء كانت بالانغماس في الشّهوات الحسّيّة، أو بسبب عدم الإيمان أو لمجرّد العناد المحض، وبذلك تموت أرواحنا البائسة جوعًا.
بعض الأشياء موجودة في هذا العالم بسبب غياب أشياء أخرى. على سبيل المثال، الظّلّ موجود لأنّ الضّوء غير موجود. البرد موجود لأنّ الحرارة غائبة. يحدث الموت لأنّ الحياة قد توقّفت. توجد الكراهية لأنّ الحبّ قد انحسر وحلّت الكراهية محلّه. إذا كان النّاس (كما هم عليه بوضوح) مشوّشين، بائسين، غير راضين، فذلك لأنّهم قد نأوا بأنفسهم عن القوّة الّتي وحدها يمكن أن تجلب لهم اليقين والفرح والرّضا، وهي قوّة الحبّ الّتي يغدقها عليهم خالقهم دون انقطاع والّتي ينأون بأنفسهم عنها باستمرار.
إنّ تعديل دخيلة حياة الفرد يعتمد على الإيفاء بمتطلّبات أساسيّة. عليه أن يتعلّم أن يحبّ الله. عليه أن يتعلّم أن يؤمن بالله ويثق به وأن يؤمن بروحه أيضًا. عليه أن يتعلّم الدّعاء والصّلاة. عليه أن يتعلّم العيش بشكل مختلف. لماذا يجب عليه القيام بهذه الأشياء؟ ليس لأنّ أحدًا يطلب منه ذلك، ليس لأن أحدًا حذّره من نار جهنّم إذا لم يقم بذلك، ولا حتّى لأنّه يعتقد أنّها أشياء جيّدة بحدّ ذاتها. يجب عليه أن يفعل هذه الأشياء لأنّه مقتنع بأنّها تستند إلى قوانين عظيمة وسليمة كما هو قانون الجاذبيّة أو المبادئ الّتي تحكم نشاط الذّرّات والنّجوم.
لِمَ علينا أن نحبّ الله؟ كثيرًا ما نقول إنّ النّبتة تحبّ الشّمس. ما نعنيه هو أنّ كلّ خليّة خضراء صغيرة في النّبات تنشغل ببناء الطّاقة في نفسها عندما توضع في ضوء الشّمس. وبعبارة أخرى، إنّها تستجيب لما يقدّم لها الخير الأعظم. وهكذا نستجيب نحن أيضًا في أعماقنا لضوء شمس محبّة الله، إن أزلنا حجباتنا وسمحنا لضيائها أن يغمرنا. إلّا أنّ استجابتنا بإمكانها، بل لا بدّ لها، أن تكون واعية وعقلانيّة. لا يوجد حبّ في هذا العالم، مهما كان عظيمًا، خالٍ من الأنانيّة بالكلّيّة. حتّى حبّ الأم لطفلها، مهما كان متفانيًا، فإنّه لا يتّسم بالتّجرّد والانقطاع الكامل. وجود واحد فقط يحبّنا دون التّفكير في فائدة مرجوّة، إنّه خالقنا.
لِمَ يجب أن تكون الأمور على هذه الشّاكلة؟ لسببين: أوّلًا، لأنّه، مثل الشّمس الّتي من طبيعتها الإشعاع، فإنّ من طبيعة الله الحبّ. والثّاني، لأنّه، مثل الشّمس أيضًا، فالله لا يريد منّا شيئًا، وسبحانه وتعالى في غنى تامٍ عنّا. فإذا ما استمرّت الحياة على هذا الكوكب أو توقّفت عن الوجود فلن يكون لذلك أيّ تأثير في الشّمس مطلقًا. ولن يكون له أيّ تأثير على خالقنا سواء كنّا نُحبّه أم لا، إذ إنّه لا يعتمد على حبّنا على الإطلاق، بينما نعتمد نحن على حبّه. لنتأمّل في ما تُبيّنه لنا أعلى درجات الحبّ الّتي نعرفها وأكثرها تجرّدًا. حبُّ أُمٍّ لطفلها بكلّ ما فيه. أُمٌّ تملؤها الرّغبة في رعاية نشأته، وحمايته من الأذى، وتشاهده وهو ينمو قويًّا، وتساعده لكي يغدو سعيدًا ومحقِقًّا لكلّ إمكاناته. ورغم كون هذا الحبّ الإنسانيّ ناقصًا، إلّا أنّه يمثّل أسمى وأفضل ما نعرفه. إنّ محبّة الله لنا هي من الطّبيعة نفسها، فهو يتمنّى لنا كلّ الخير، ومستعدٌ دائمًا للمساعدة، فهي لا تتّسم إلّا بالكمال ولا يشوبها أيّ أثر مهما كان ضئيلًا من المصلحة الذّاتيّة. ليتنا كنّا فقط قادرين على إدراك أنّنا، بالمعنى المجازيّ، ننغمر بشكل مستمر في ضياء الخير الوهّاج، الّذي يجعل أشعّة محبّة الله القويّة اللّطيفة تنساب من فوقنا ليلًا ونهارًا، وأنّ كلّ ما نحتاج أن نقوم به هو إزالة العازل الّذي أنشأناه حولنا والسّماح لهذا الضّوء الأسمى بالتّغلغل فينا وتغذية نفوسنا! هل يمكننا عدم الاستجابة لمثل هذه القوّة؟ هل من المعقول أن نكون أقل إحساسًا من النّبة الّتي تتوق لأشعّة الشّمس، وأقلّ قُدرة على محبّة ذلك الوجود الّذي يحبّنا أكثر من محبّة الجرو أو الفرخ اللّذيْن يحبّان أمّهما؟
ما هو الإيمان؟ ليس هناك ما هو أكثر أهمّيّة للنجاح في الحياة من الإيمان، ومع ذلك فهو شيء محيّر إذا ما أراد المرء تعريفه بالكلمات. وقد يكون الأفضل لفهمه من خلال نتائجه. الإيمان أو الاعتقاد، قوّة هائلة تستند أحيانًا على المعرفة الواعية، وفي أحيان أخرى على قناعة حَدْسيّة عميقة. ويستند الاعتقاد على أحد هذه الأشياء أو غيره. قد يَعرف عالِمٌ، على سبيل المثال، حقائق معيّنة سبق وأن تمّ إثباتها بوضوح وإسهاب. إلّا أنّه يعتقد أنّ وراءها ثمّة حقيقة أو قانون أو دالّة أخرى لم يتمّ تعريفها أو إثباتها من قبل. هذا الاعتقاد الموجود لديه هو الّذي يمكّنه من المضي قُدمًا وجَعْل غير المعروف معروفًا. اقتناعه الرّاسخ هذا هو القوّة الّتي تدفعه إلى الأمام نحو الاكتشاف الجديد. ومن ناحية أخرى، هناك قناعة حَدْسيّة تمتلك أيضًا سلطة هائلة: رجل لم يسبق له أن قام بعمل معيّنٍ من قبل أبدًا، ولم يسمع على الإطلاق بأنّ مثل هذا العمل قد تمّ إنجازه من قِبَل أيّ شخص آخر. في الواقع، ربّما لم يحدث ذلك من قبل فعلًا، ومع ذلك يشعر بالثّقة ويؤمن من كلّ قلبه أنّ بإمكانه القيام به، وينجح في ذلك. لم تكن لديه معرفة أو خبرة لإرشاده، لديه فقط إيمان بإمكانيّة حدوث الشّيء، إلّا أنّ ذلك الإيمان كان قويًّا جدًّا بحيث قاده نحو الإنجاز. في اللّحظة الّتي تؤمن أو تعتقد أنّ بإمكانك القيام بشيء ما، يبدو أنّ الطّاقة تتدفّق داخلك. وفي اللّحظة الّتي تعتقد أنّك لا تستطيع القيام به، فقد خسرت أكثر من نصف المعركة، وستبدو وكأنّ القوّة اللّازمة للقيام بذلك قد استنفذت.
يُدرك أطبّاء العلاج النّفسيّ قوّة الإيمان بالشّيء، وإحدى وظائفهم الأساسيّة كمعالجين هو غرس الاعتقاد في عقل المريض بأنّه يستطيع القيام بشيء معين. يعتمد العلاج التّلقينيّ في الغالب على المبدأ نفسه: يتمّ شحن كامل وجود المريض بالاعتقاد بأنّ تصرّفًا معيّنًا سيشفيه، وفي كثير من الأحيان، وعلى ما يبدو، يحدث الشّفاء وكأنّه معجزة. من الواضح أنّ الإيمان هو قوّة تخمُّر جبّارة. هذا “الاعتقاد”، القويّ في حدّ ذاته، لا يزال محدود القوّة. لكن لنفترض أنّك ربطت الإيمان بمصدر للقوّة لا ينضب؟ لنفترض أنّ لديك صديقًا يمكنه فعل أيّ شيء، وكانت موارده كبيرة جدًّا، وكان هذا الصّديق مستعدًّا لتفويضك ومنحك، في بعض المناسبات، حقّ الاستفادة من قواه ؟ عندئذ، ورغم أنّك لا تزال مجرّد وسيط، إلّا أنّ قوّة هائلة ستكون تحت تصرّفك.
كلّنا لدينا هذا الصّديق. إنّه الله عزّ وجلّ، وسيمنحنا حرّيّة استخدام قدراته (إلى حدّ معقول، بطبيعة الحال)، إذا كنّا نؤمن به وبقدراته. هذا هو المقصود في الكتاب المقدس عندما يقول: “لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ، وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ”. (متّى 20:17). هذه ليست مجرّد أفكار مبهمة وجميلة، فهي تستند إلى قوانين روحانيّة عظيمة. الإيمان هو مغناطيس، يجذب القوّة، تمامًا مثلما يلتقط البلّور أو الزّجاج النّظيف ضوء الشّمس. عندما نسعى للتواصل مع الله داخليًّا، ونؤمن بقوّته اللّامحدودة، ونعتقد أنّه ليس قادرًا فقط على مساعدتنا بل إنّه سيساعدنا، فإنّنا نقوم بفعلٍ عضويّ. نحن نضع خطّ أنابيب يمكن أن تتدفّق من خلاله القوّة والشّفاء والإلهام وأيّ شيء آخر إلى داخلنا. إنّه كالمعادلة: لا جهد + لا وسائل = لا نتائج. إنّها نفس طريقة العيش القديمة إن كانت روحانيّة أو جسمانيّة. إذا أردنا شيئًا ما، الماء أو ضوء الشّمس أو الهواء، فيجب أن نضع أنفسنا في وضع يمكّننا من الحصول عليها. إذا كنّا نريد مساعدة من الله، فلا يسعنا أن نؤمن بأنّه يستطيع مساعدتنا فحسب، بل إنّه سيساعدنا فعلًا – وأنّ مساعدتنا، في الحقيقة، هي من طبيعته.
ما الغرض من الدّعاء؟
إنّه لأمر استثنائيّ أن تقوم قلّة من النّاس بالدّعاء. ربّما هناك أناس طيّبون جدًّا، حتّى إنّهم متديّنون جدًّا، ولكنّهم لا يقومون بالدّعاء. فهم لا يرون سببًا للدّعاء، وغالبًا ما يشعرون بأنّه أمر مصطَنع إذا ما حاولوا ذلك! ورغم إيمانهم بالله، إلّا أنّهم لا يسألونه شيئًا. وهم مقتنعون، إمّا بأنّه يعرف احتياجاتهم ويزوّدهم بها تلقائيًّا، أو أنّه ليس من الضّروريّ أن يطلبوا منه شيئًا. ما عليك سوى أن تسعى للحصول على الشّيء وتأخذه بنفسك. ولماذا يجب أن يكون الأمر كذلك؟ بادئ ذي بدء، ما الّذي يدعو الله للاستجابة لكلّ رغباتنا الدّاخليّة بانتظام رغم أنّنا نرفض التّواصل معه؟ لماذا يجب أن نتلقّى شيئًا دون بذل أيّ جهد من جانبنا على الإطلاق؟ نحن لسنا بحجارة، نحن كائنات حيّة. ولسنا كائنات حيّة فحسب، بل نحن الأكثر تطوّرًا على هذه الأرض. تحصل المادّة الحيّة على كلّ شيء من خلال عمليّة نشاط وإدراك، وليس كالماء الّذي يصب في كوب، ولكن مثل اليد الّتي تمتدّ وتمسك بما تريده، مثل النّبات الّذي تقوم جذوره الصّغيرة النّشطة بالتّغلغل في التّربة وتمتصّ الرّطوبة والغذاء. نحن قادرون على الوصول وأخذ ما نريد لأنفسنا، إلّا أنّ هناك الكثير من الأشياء البعيدة عن متناولنا ومع ذلك نرغب في الحصول عليها، والّتي يمكن الحصول عليها بقليل من المساعدة. يجب أن لا نكون متعالين جدًّا أو حمقى جدًّا عن طلب هذه المساعدة. ليس لدينا أيّ سبب للافتراض بأنّ جميع متطلّباتنا الرّوحانيّة سيتمّ تقديمها لنا مجّانًا بشكل منتظم وحتّى دون أن نطلبها!
هناك سببٌ آخر لضرورة الدّعاء، أكثر أهمّيّة من مجرّد أنّه يمكّننا من طلب ما نريد. مرآة روحنا هذه، رغم أننا وجّهناها إلى الأعلى بدلًا من الأسفل، تغدو مغبرّة وضبابيّة بسبب شؤون الحياة. والدّعاء ينظّفها. قد تبدو هذه الفكرة في البداية غريبة جدًّا، ولكن إذا فكّرت في الأمر، فهذا ليس بغريب على الإطلاق. ماذا نفعل في الواقع عندما ندعو؟ نفكّر في شخص أعظم من أنفسنا. أبينا، أنيسنا، إلهنا، الجوهر اللّامتناهي، مصدر كلّ شيء – يمكن أن تدعوه بما تريد – ما يهمّ هو حقيقته وعمله، وليس الاسم. نحن ندرك أنّ هذا الوجود العظيم، أصل كلّ شيء يمتلك كلّ القوّة فهو الّذي خلقنا وخلق الكون، بكلّ مجرّاته اللّامحدودة. إنّنا نتذكّر أنّه يحبّنا. نتذكّر أنّه يستطيع مساعدتنا إذا شاء وأراد. سواء كان دعاؤنا لطلب المساعدة، أو من أجل منّة أو معروف، أو لمجرّد أن نقول كم هي رائعة طرقه، أو أن نشكره على شيء ما، فذلك يركّز انتباهنا على نجم القطب الثّابت، اللّامتناهي، الّذي يجب أن نحدّد مسارنا وفقه. فالدّعاء يعيد توجُّهنا إليه، إذا كانت بوصلتنا تتأرجح. فهو يذكّرنا بما ينتظرنا، ويركّز انتباهنا، ولو للحظة واحدة، على القيم الأبديّة بدلًا من تلك المتقلّبة باستمرار للحياة اليوميّة.
الدّعاء يزيل، حتمًا، غبار هذه الحياة اليوميّة. فحتّى لو قلت كلمتين فقط، “يا الله”، وفكّرت فيما تنطوي عليه هاتان الكلمتان، فليس بمقدورك أن تبقى كما لو أنّك حبيس مشاكلك، أو تائهًا وسط صخب مشاغلك وكثرتها أو منغمسًا في مسرّاتك أو أحزانك. عادة ما يردّد الإنسان حين الدّعاء كلامًا أكثر بكثير من “يا الله”! على سبيل المثال، إذا وقع شخصان في حبّ بعضهما البعض بصدق، فإنّ حبّهما يكون شيئًا جميلًا، يحلّق بهما فوق نفسيهما، ويجلب لهما سعادة لم يشعرا بها من قبل، ويبدو أنّه يفتح لهما الباب على عالمٍ أفضل، عالمٍ أكثر نبلًا ممّا كانا يعلمان بوجوده في أيّ وقت مضى. إلّا أنّهما يشعران، تدريجيًّا، بأنّ حبّهما قد أصبح أقلّ جمالًا، وأخذا يكتشفان أخطاء بعضهما البعض، ولربّما يستمعان إلى همسات الآخرين وانتقاداتهم. يصبح حبّهما ملطّخًا بكمٍّ من التّفاهات الصّغيرة المزعجة. إذا لم يعترفا بهذه الحقيقة، وإذا لم يبذلا جهدًا لئلّا يخسرا الشّيء الكبير بسبب تراكم العديد من الأشياء غير الأساسيّة، فقد يجدان حبّهما وقد انمحى تمامًا. بل الأسوأ من ذلك، قد يعتقدان أنّه لم يوجد بينهما أيّ حبّ أبدًا.
يبدو أنّ طبيعة الحياة في هذا العالم المادّيّ بحدّ ذاتها تجرّ إلى الارتباك والتّعقيد ما لم يكن المرء حذرًا، ولم يقم بإعادة فرز القيم الكبيرة باستمرار وفصلها عن القيم الصّغيرة. والأمر نفسه ينطبق على علاقتنا بالله. فالمرآة الصّافية لقلوبنا أي أرواحنا – لأنّ ما نسمّيه “القلب”، وهو مقرّ كلّ شعور لطيف دافئ وجميل، يجب أن يكون له مرادف هو “الرّوح” – تصبح مغطّاة بغبار الحياة. وتتراكم عليها تفاصيل لا نهاية لها. أفكار صغيرة، أعمال صغيرة، مشاعر قليلة، مخاوف صغيرة – إلى أن يتوقّف انعكاس الشّمس في المرآة، وإلى أن ننسى أحيانًا أنّه كانت هناك مرآة أو شمس في أيّ وقت مضى. إنّ الدّعاء يمسح غبار الحياة هذا من على تلك المرآة الدّاخليّة، وعندما يسطع نور الحقيقة، ونور القيم الأبديّة الحقيقيّة، في المرآة، سنرى طريقنا أكثر وضوحًا. كلّ التّشوّش الّذي نحن فيه يصبح في المنظور الصّحيح وسنميّز، مرّة أخرى، بين ما هو ضروريّ وما هو غير ضروريّ. بل يمكننا أيضًا الاستفادة من الموارد اللّامتناهية الّتي يضعها “أنيس قلوبنا” تحت تصرّفنا، ونستمد قوّةً وثقةً جديدتين للاستمرار في أداء مهامّ الحياة.
إذا نظر النّاس إلى حياتهم الدّاخليّة على أنّها خاضعة للقوانين، فلن يكونوا في حالة من التّشوّش والارتباك كما هم عليه في الوقت الحاضر، ولن يجدوا سرّ الدّعاء فقط ليفقدوه ثانية، كما هو الحال في كثير من الأحيان. عندما يتعرّض الأفراد أثناء الحروب، أو في أوقات الضّيق الشّخصيّ الشّديد، لضغوط رهيبة يولّدها الخطر أو المعاناة الذّهنيّة أو الجسديّة الحادّة، يقوم كثير منهم بالدّعاء رغم أنّهم لم يقوموا به من قبل أو لم يمارسوه منذ الطّفولة. وهم لا يقومون بالدّعاء فحسب بل يكتشفون أنّهم يحصلون على المساعدة المطلوبة أيضًا. إذ إنّهم، وفي حالة من اليأس، دون أن يعرفوا ماهيّة الطّرف الآخر من القشّة الّتي يتعلّقون بها في شدّتهم، يحاولون التّخابر من خلال الدّعاء مع وجود يعرفونه، ولكنّهم ربّما لم يخاطبوه شخصيًّا أبدًا، وجود سمعوا عنه، وجود يدعى “الله”. ولفرط ارتياحهم، وغالبًا لدهشتهم، يكتشفون أنّه، استجابة لصرختهم اليائسة، “أغثنا!”، قد حصلوا على المساعدة. لكنّهم على الأرجح لا يدركون أنّه خلال حياتهم بأسرها، وبحكم طبيعة وجودهم ووجود الله، كان العون والمدد في متناول اليد على الدّوام، إلّا أنّهم لم يطلبوه. العديد من هؤلاء النّاس، حالما يُزاح عنهم ضغط الأحداث، سيتوقّفون عن الدّعاء، ما لم يجدوا أنفسهم في المستقبل وقد دفعت بهم الأحداث نحو الحدّ الأقصى من الضّغط مرّة أخرى. فعند توقّفهم فإمّا أنّهم سيديرون مرآتهم نحو الأسفل ويطفئون نورها، أو ينسون ضرورة المحافظة على صقلها فيتوقّف الضّوء عن الانعكاس فيها. لا يقومون بذلك، في أغلب الأحيان، عن عمد، ولكن فقط لأنّ الأمر برمّته كان غامضًا بالنّسبة لهم وأحداث الحياة اليوميّة تستمرّ بالضّغط بإلحاح وشدّة. وقوّة الطّرد المركزيّ الهائلة تعمل بشدّة في حياتنا المتحضّرة، المندفعة، المليئة بالمنعطفات والمشاكل، لتلقي بهم مرّة أخرى – إذا لم يبذلوا جهدًا لمنعها – بعيدًا عن مركز القوّة الجديدة الّتي اكتشفوها، أو اعادوا اكتشافها.
إذا فكّرنا في الأمر، سنجد أنّنا أنانيّون جدًّا وغير مهذّبين إطلاقًا في دعائنا. كلّ دعائنا تقريبًا هو دعاءُ “أعطني”: “أريد هذا، وأريد ذاك”، و”أبعد هذا عنّي، وقم بذلك من أجلي”. قلّما نقول، “شكرًا لك”، ونادرًا أكثر ما نُعرب عن ثنائنا وتمجيدنا للجمال الموجود في العالم، المياه الرّقراقة والسّماء الصّافية، والنّجوم، والغابات، وبهجة الحياة. ولكوننا أصحّاء ولسنا مشوّهين، ولإطعامنا وحمايتنا ولعدم شعورنا بالجوع والبرد. ومن أجل محبّتنا للآخرين ومحبّتهم لنا. كم منّا شكر الله أبدًا على كلّ هذه الأمور؟ ومع ذلك، ينبغي لنا أن نمجّد ونشكر الله ليس لأنّه من اللّياقة القيام بذلك فحسب، ولكن لأنّ ذلك يؤكّد في أذهاننا كلّ ما يجب أن نكون ممتنّين من أجله ويُخرجنا من مزاجنا القادح الجشع، حيث لا نفعل شيئًا آخر سوى التّذمّر وحسد الآخرين ممّن لديهم أكثر.
على أولئك الّذين بيننا ولا يعرفون كيف يقومون بالدّعاء أو الّذين يؤدّونه بطريقة خاطئة، أن يتدرّبوا على كيفيّة القيام به. إنّ مجرّد التّمتمة ببعض العبارات بذهن شارد وتدعوه دعاءً، لن تؤدّي على الأرجح إلى أيّ نتيجة على الإطلاق – ولماذا ستكون مثمرة؟ هناك قوّة من الخمول الدّاخليّ يجب التّغلّب عليها عند القيام بأيّ شيء. أكان الجهد للوقوف على ساقيك قبل أن تمشي، أو جمع أفكارك قبل التّفكير، أو الدّفع بقوّة قبل أن تجعل شيئًا يتحرّك. عندما تدعو، فإنّ عليك أن تضيف شيئًا إلى هذا الدّعاء. بعض الصّدق، بعض الشّعور، بعض الإلحاح والإصرار، من أجل “ضبط وموالفة موجة إرسالك” مع محطّة القوّة العليا الّتي تحاول التقاطها. إنّها موجودة طوال الوقت، لكنّك تحتاج إلى الجهد للوصول إليها. إذا كان لديك الإيمان الكافي بوجودها سيكون الجهد ضئيلًا لأنّ ثقتك بحدّ ذاتها هي المغناطيس، والمستقبل المضبوط التّلقائيّ. ولكن إذا كنت لا تؤمن بوجودها، فسيكون عليك أن تتعلّم. خطوة بخطوة. جرّب، تمامًا كالأسلوب الّذي يتّبعه المرء عند تعلّم أيّ فنٍّ جديد. استمرّ في القيام بذلك حتّى تبدأ في الحصول على استجابة. ستفتح ممرًّا يقودك إلى الله عبر شكوكك، ومشاكلك، وعدم يقينك. لا بدّ لذلك من أن ينجح لأنّه يفي بالقوانين الّتي تحكم روحك. يجب ضبط وموالفة الرّوح بوعي وديناميكيّة، مع خالقها للحفاظ على الصّحّة الرّوحانيّة. ماذا يعني العيش بشكل مختلف؟
كلّ شيء يخضع لنظام في هذا العالم. كلّ شيء يتطوّر ضمن علاقة محدّدة مع الأجزاء المكوِّنة له. من الذّرّات إلى السّديم هناك توازن ونظام وترتيب في الأشياء الّتي هي جوهر وجودها. تسير الأمور بسلاسة عندما لا يختلّ توازنها الأساسيّ. تعتمد الصّحّة في الكائنات الحيّة على أن يكون كلّ جزء مكوٍّن لها في علاقة صحيحة بكلّ جزء آخر. قم بخلخلة هذا التّوازن، أوجد جزءًا أقلّ في أحدها أو أكثر في الآخر، فتكون النّتيجة مرضًا أو اختلالًا. خذ كروموسومًا واحدًا “x” من النّواة وضع كروموسوم “y” فتحصل على ذكر بدلًا من أنثى. كلّ شيء يتغيّر، ويتغيّر مجرى الحياة بأسره: المشاعر والمهنة والعادات والوظائف الجسديّة والصّوت والشّخصيّة، كلّها ستثور بفعل ذلك الفارق الصّغير. لذا فالتّوازن ضروريّ للغاية في الحياة، سواء كان تشريحيًّا أو بيولوجيًّا أو روحانيًّا.
إنّ معرفتنا بما يحتاجه الجسم وكيفيّة التّعامل معه قد حقّقت طفرة واسعة في القرنين التّاسع عشر والعشرين، بأكثر ممّا حصل في مئات القرون الماضية. فخلال العقود القليلة الأخيرة، أدّت معرفتنا بعمل العقل البشريّ إلى تطوير علم الطّبّ النّفسيّ. لقد بدأنا نفهم لماذا نفعل الأشياء وكيف يعمل العقل. والنّاس المتحضّرون اليوم ليسوا بحاجة إلى أن يقال لهم إنّ سوء الصّرف الصّحيّ، والحشرات الطّفيليّة، وإمدادات المياه الملوّثة، والاكتظاظ الشّديد ونقص التّغذية تؤدّي إلى المرض. إنّهم على دراية جيّدة بالأمر. وبدأنا أيضًا، وبالتّدريج، نفكّر في طرق لتحسين المجتمع من خلال التّعامل مع النّاس بطريقة مختلفة، وفقًا للأساليب الّتي يمليها علم النّفس: إصلاحات السّجون، ومعالجة المهنيّين، ومحاكم الأحداث، وإعادة التّأهيل السّريع لنفسيّات ضحايا الحرب، كلّ هذه تُظهر رغبتنا في تحسين عالمنا وفقًا لقواعد أساسيّة معيّنة جُرّبت وأثبتت نجاعتها، والّتي تُدعى قواعد للصحّة، وقواعد للتفكير.
نحن بحاجة إلى معرفة المزيد عن القواعد الرّوحانيّة لكيفيّة العيش، وما هو جيّد لنموّنا الدّاخلي، وما يجب علينا القيام به ليس للحصول على أجسام وعقول صحّيّة سليمة فحسب، ولكن على أرواح تتمتّع بالصّحّة أيضًا.
نحن نعلم أنّه لا شيء يمكنه الاستمرار في البقاء على أساس غير سليم، أكان نظريّة خاصّة بالرّياضيّات أو هيكلًا من طوب وطين. فأيّ شيء، إمّا أن يكون دقيقًا وصحيحًا ومطابقًا للحقيقة أو أن يكون غير صحيح، ولا يمكنه تقديم الدّعم والفائدة لأيّ شيء كان. فإمّا أن يكون هيكل وأساسات المنزل سليمة قويّة بما يكفي لدعمه، وإلّا سينهار. وينطبق الشّيء نفسه على شخصيّاتنا، والمكوّن الأساسيّ الأوّل الّذي تتطلّبه هو المصداقيّة. الكذب والخداع والنّفاق، كلّها أمور فاسدة ومعتلّة لأنّها غير صادقة وستفشل أمام أيّ تحرٍّ واستقصاء، في حين أنّ الحقيقة صلبة وستنجح أمام أيّ اختبار. الطّبيعة قائمة على أساس الحقيقة، ولا يمكن خداعها. فهي تقبل فقط ما هو ملائم، وما يجب أن يكون في مكانه، وما يحافظ على التّوازن. أمّا الأكاذيب والبدائل فيتم التّخلّص منها. لكنّ الإنسان، كونه حرًّا نسبيًّا، فلديه امتياز خاصّ في الاختيار. إذ يمكنه أن يقرّر فيما إذا سيكون كاذبًا أم صادقًا، لكن حياته، إذا ما نسجها بالأكاذيب، فستكون حياة منحرفة ومرتبكة لا شبع فيها. وإذا استمرّ في استخدام الأمور الزّائفة بدلًا من القيم الجيّدة الثّابتة والصّادقة، فإنّ نسيج شخصيّته سيكون مليئًا بالبدائل ونقاط الضّعف.
إنّ الكذب لا يخدع الآخرين فحسب بل يخدع الكاذب نفسه تدريجيًّا. هذا الإحساس الذّكيّ الّذي يملكه كلّ حيوان، بما فيهم نحن، والّذي يميّز الحيوان بواسطته بين ما هو أصيل وحقيقي وما هو زائف، يصبح ضعيفًا جرّاء سوء الاستخدام ويؤول أخيرًا الى الضّمور. لا يمكننا أن نكذب ونبقى على ما نحن عليه، لأنّنا بالكذب نُدخل الزّيف إلى نمطنا. وبذلك نُدخل شيئًا ميّتًا في تركيبتنا الحيّة. وجود الأشياء الميّتة في الأجسام الحيّة أمر خطير، فهي تفسدها. وبالمثل، تنخر الأكاذيب ببطء في الألياف الأخلاقيّة وتقضي عليها. إنّ الخطوة بين قول ما هو غير صحيح وبين فعل ما هو غير صحيح ليست كبيرة. وبعبارة أخرى، سيكون بمثابة مصادرة شيء لا يخصّك. وإذا سمحت لقيمك يومًا أن تختلط على هذا الشّأن لدرجة لم يعد يهمّك بعدها ما إذا كان ما تقوله قائمًا على حقيقة أم لا، فيمكن لهذه القيم، وبسهولة، أن تصبح أكثر اختلاطًا حتّى يغدو الخطّ الفاصل بين ما هو “لي” وما هو “لك” غير مرئيّ! الصّدق هو الصّخرة الّتي يجب بناء الشّخصيّة عليها، عندها لا يمكن لأيّ عاصفة، مهما بلغت شدّتها، أن تهدم البناء. هذا الكون الضّخم المفعم بالحركة والنّشاط، النّابض المتوسّع والمتطوّر، حقيقيّ، وكلّ قيمه حقيقيّة، ولا مكان فيه لأيّ شيء زائف، فكيف يمكن أن تكون حياة الإنسان سليمة ومعافاة إذا كانت مليئة بالثّغرات – فالكذب ثغرة، إذ إنّه غياب للشيء الواقعيّ، الفعل. الحقيقة.
لا شيء يؤدّي إلى الكذب سوى الكسل أو الغرور أو الجشع أو الجُبْن. عندما يقول النّاس، “من الألطف أن لا نقول الحقيقة”، إنّهم فقط يقدّمون العذر لأنفسهم أو يخدعونها، وعلى المدى الطّويل، من الألطف دائمًا قول الحقيقة، لأنّه عندئذ يمكن للإنسان أن يعرف أين يقف وماذا عليه أن يفعل. الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة العامة هو الطّبيب، الّذي لا نتوقّع أن يُخبر مريضه، متوخّيًا الصّدق، بمعلومة قد تكون من القوّة بحيث تؤدّي لقتله فورًا أو لمنع شفائه. كذبة صغيرة، بهتان باستهتار، يمكن أن يكون مصدر الكثير من سوء الفهم والأذى. إنّه يدمّر الثّقة – لأنّه إذا كذب عليك إنسان مرّة واحدة، فماذا يضمن لك أنّه لن يكرّر فعلته مرّة ثانية، أو دائمًا؟ وإذا كذب على شخص واحد، ألن يكذب على شخص آخر؟ فما الّذي لديه كي يمكّنك من وضع ثقتك فيه؟
يجب أن تضاف الأمانة إلى الصّدق، فهي مكوّن أساسيّ آخر لشخصيّة سليمة، وليس من الضّرورة أن يتماشى الاثنان معًا. فهناك كاذبون صادقون في هذا العالم وكذلك لصوص أمناء. فالأمانة لا تقتصر على عدم سرقة أموال الآخرين، بل تقتضي كذلك عدم سرقة أشياء غير ملموسة: إذا عاشرت زوجة صديق لك، لا يمكنك ابدًا أن تقول عن نفسك بأنّك رجل أمين. فأنت تسلب منه شيئًا قد يقدّره أكثر من المال أو حتّى من الحياة، وإذا كنت لا تسلبه الحبّ فإنّك على الأقلّ تسلبه شرفه. هناك في عالم اليوم نطاق رماديّ واسع يمكن أن نُطْلق عليه منطقة شبه عدم الأمانة، فهي منطقةُ خليط واسع من اللّونين الأبيض والأسود. فهي ليست أمانة – أو بيضاء، كما أنّها ليست سرقة – أو سوداء- وما فيها يحمل عناوين اﻟﺮﺷاوى أو امتيازات عن غير استحقاق أو البقشيش أو ﻓﻲ المصطلح العامّ “وضع أشياء في طريقك”. إنّ درجة الفساد الدّاخلة تحت هذه العناوين ستتطلب كتابًا بحجم كبير. سواء أكان شراءَك الضّمان للوصول إلى مركز ما، أو ضمان معروف غير مشروع، أو تأكيد إجراء لصفقة تجاريّة معيّنة تعود بالفائدة على مكتبك عن طريق الرّشوة، أو تقديم هديّة تزلّفًا لشخص قد يفيدك أو لتضعه تحت التزام لتقديم خدمة ما لك، أو إطعام راحة يد شخص ما قام بمساعدتك كتذكير له بأنّ المزيد من الإطعام سيكون متاحًا في مقابل مزيد من المساعدة (إطعم اليد تستحي العين)، وبعبارة أخرى، هو البقشيش بالمعنى الكبير للكلمة، وهو لا يزال في باب عدم الأمانة لأنّها تضمن حصولك على شيء قد يكون تسعة رجال من أصل عشرة لهم الحقّ فيه أكثر منك. وحتّى لو كنت أنت العاشر وستحصل فعليًّا على ما هو من حقّك، فإنك باستخدام أساليب كهذه تقوم بتشجيع الممارسات الّتي هي في الأساس غير أمينة. قد يكون هذا التّصرّف جيّدًا لحسابك المصرفيّ، ولكن لا يمكن أن يكون جيّدًا لمسلكك وأخلاقك. وقد تحصل أثناء الحياة على المزيد من متاع هذا العالم، ولكن لا يمكنك بأيّ حال أن تخرج منها بمزيد من الاحترام لنزاهتك. وبما أنّه “لا يمكنك أن تأخذها معك” – المال أو البضاعة – عندما تغادر هذا العالم فمن الأفضل أن تستثمر ليس فيما يمكنك أن تأخذه معك فحسب، بل فيما سيصاحبك إلى الأبد – ذلك هو سلوكك وأخلاقك. الاستقامة. قد تكون صادقًا تمامًا، وقد تكون أكثر إنسان أمانةً في العالم، ومع ذلك لا تملك الاستقامة. فالإنسان المستقيم يملك شيئًا رائعًا محبّبًا، شيئًا يُعتمد عليه، شيئًا تودّ بشكل غريزيّ أن يكون هناك المزيد منه في هذا العالم. ذلك هو الإنسان الملتزم بكلمته، والّذي يمكن أن تضع ثقتك فيه، ولا يقوم بأيّ عمل دنيء يشوبه المكر والخداع، مهما يكن عِظم الإغراء.
هناك سمة بشريّة أخرى لا تقدّر بثمن، نادرًا ما نجدها في العالم في الوقت الحاضر، ألا وهي الموثوقيّة أو المصداقيّة. إنّه لمن المدهش معرفة قلّة عدد الأشخاص الّذين ينفّذون ما يعدون بفعله أو يوفون بالتزاماتهم، وأن يكونوا، في هذا الشّأن، حريصين ويبذلون أقصى الجهد للإيفاء بالتزاماتهم، الاجتماعيّة أو غيرها. الموثوقيّة لا تنطوي على القوّة فحسب، بل إنّها تولّد القوّة. أنت ترعى طاقاتك وأوقاتك وأفكارك وتوجّهها في قناة. وتركّز على نقطة ثابتة – سواء كان موعدًا لخطوبة أو وصولًا لهدف، كتعلّم اللّغة الفرنسيّة – وتتابع طريقك لتصل إلى الغاية المحدّدة. فهذا يولّد لديك حسًّا بالإنجاز والثّقة بالنّفس واحترام الذّات: “أنا لم أقل فقط بأنّني سأفعل ذلك، بل فعلته وفقًا لجدول زمنيّ بشكل كامل وشامل”. والمكافأة الدّاخليّة الّتي يحصل عليها الفرد هي الإحساس بالقوّة والرّضا. والمكافأة الظّاهريّة الّتي يتلقّاها ليست فقط احترامًا وإعجابًا إضافيّين من قبل زملائه، بل امتنانًا وتدفّقٌا أقوى للحياة في اتّجاهه. فإذا وضع لنفسه هدفًا لتعلّم اللّغة الفرنسيّة وتعَلَّمَها، فقد تعزّزت مواهبه، وزادت قدرته على التّعلّم، وتوسّعت مداركه. إذا أثبت موثوقيتّه في علاقاته التّجاريّة، فقد استثمر في أصول رأسماليّة تفوق قيمتها أيّ تقدير. إذا كان قد أظهر في علاقاته الشّخصيّة إحساسًا بالمسؤوليّة والدّقّة في الالتزام بالمواعيد وأنّه يمكن الاعتماد عليه، فقد جعل لنفسه رصيدًا اجتماعيًّا بين أصدقائه ومعارفه وبنى برجًا من القوّة في عائلته.
كلّ هذه متطلّبات أصيلة وراسخة للشخصيّة. لكن قد يُطلق عليهم لقب “الفضائل الباردة”. فمع أنّها أساسيّة إلّا أنّها غير كافية لتشكيل إنسان نبيل. إذ يجب إضافة “الفضائل الدّافئة” إليها. أوّلها هو اللّطف. إذا شبّهنا الصّفات الأخرى بالنّور، فاللّطف هو المطر الّذي يُنعش، والّذي يُعطي الحياة كما تفعل الشّمس، ويُنظّف ويمنح البرَكَة أثناء هطوله. نموذج إنساننا هذا حتّى الآن هو نموذج الإنسان الصّادق الأمين المستقيم والموثوق. قد يكون أيضًا قاسيًا، باردًا، لا يكترث بمعاناة الآخرين، بائسًا، فظًّا، ذا روح انتقاديّة. كأنّه تمثال من الرّخام، كامل لكنه يفتقر إلى الحيويّة. يجب أن يتدفّق الدّفء إذًا في قلبه وعروقه، ويعود اللّون إلى جلده، وتنبض شرايينه، وتتحرّك أطرافه. اللّطف هو المطلوب.
إنّ مجرّد ذكر كلمة لطف محبّبة لدى آذاننا. فهي تنطوي على الكثير من الخير والطّيبة، وتخفّف الكثير من الأعباء، وتنير مساحة كبيرة من ظلمة الحياة. إنّها تحتوي على الكثير من الأشياء الدّافئة النّبيلة: مرّة تكون مظهرًا للشفقة، ومرّة للتعاطف، مرّة للحب ، وأخرى للعدالة، ويمكنها أن تتدفّق من ينابيع عديدة في أرواحنا. أحيانًا نكون لطفاء لأنّنا سعداء، وأحيانًا لأنّ قلوبنا جريحة، وأحيانًا لأنّنا نعتقد أنّ ذلك من واجبنا، وأحيانًا أخرى لأنّنا ننظر إلى اللّطف على أنّه أعظم امتيازاتنا. يُظهر اللّطف نفسه بألف طريقة. من اللّطف في هذه المرّة، ألّا نفعل شيئًا، كأن لا نسخر من غباء شخص آخر، أو من حماقة مراهق، أو من شيء سخيف قام أو تفوّه به طفل، أو غضّ النّظر عن تشوّه شخص أقلّ حظًّا منّا. وفي تلك المرّة كان من اللّطف أن نُشيد، وأن نشجّع، وأن نتصرّف بشهامة. أحيانًا من خلال ابتسامة، أو كلمة، أو لمسة وأحيانًا يمكننا إظهار اللّطف من خلال القيام بعمل ما. ولكن يمكننا أن نكون على يقين من شيء واحد، وهو أنّ كلّ مقدار نبديه في هذا العالم من ذلك اللّطف مهما كان ضئيلًا، وبغضّ النّظر عن حجم الفوائد الّتي يمنحها، فإنّه يعود علينا بخيرات أكثر ممّا قد يجلبه أيّ شيء آخر. لطفنا يطلق فينا إنزيمات روحانيّة (المصطلح مأخوذ من علماء الأحياء) تساعد على هضم موادّنا الصّلبة. أنانيّتنا وجشعنا وتحاملنا ومعيقاتنا، كلّها تتأثّر بشكل مباشر باللّطف الّذي نظهره للآخرين.
إلى اللّطف يجب أن تضاف تلك المشاعر الرّقيقة الّتي هي من بين السّمات المميّزة للجنس البشريّ: التّعاطف، والشّفقة، والتّفهّم، والمغفرة، والكرم. كلّنا نُخطئ، سواء كانت أخطاءً كبيرة أو صغيرة، لأنّنا لسنا كاملين. فالخطأ يقتضي ضمنًا الحاجة إلى العقاب. وللتنازل عن هذا العقاب، أو للتخفيف منه، هناك حاجة إلى المغفرة. هذا هو السّبب في أنّ المغفرة منصوص عليها عمليًّا في الدّعاء الإلهيّ حيث نقول: “واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، كما نحن نغفر أيضًا لمن أخطأ وأساء الينا” (لوقا 11:4). إذا كنّا نرجو مغفرة من الله، الأب الإلهيّ، فلنعمل على إظهار حقيقة ذلك الرّجاء من خلال غفران الآخرين الّذين أخطأوا بحقّنا أو آذونا بشكل شخصيّ. كلمة الغفران بحدّ ذاتها تفيد ضمنًا فعل الرّحمة. فلنكن رحماء تجاه بعضنا البعض لكي يكون الله رحيمًا بنا. فعندما يرى بأنّنا نتحلّى بالمودّة والصّبر في تعاملنا مع بعضنا البعض، سيُسعد أرواحنا ويكافئنا بصبره علينا والتّغاضي عن إخفاقاتنا وهفواتنا.
إنّ الخطوة الأولى في مساعدة الآخرين هي في فهم محنهم ودوافعهم وصعوباتهم وضعفهم. عدم التّسامح وعدم التّحمّل لن يحلّا أيّة مشكلة. علينا أن نستمع إلى الأعراض، مثل الطّبيب الحكيم، من أجل تشخيص المرض. ومع ذلك، كم هو قليل، على نحوٍ لافت للنظر، ذلك الفهم الّذي يظهر في تعامل النّاس مع بعضهم البعض في هذه الأيّام. يبدو الأمر وكأنّ وباء قساوة القلب (ناهيك عن صلابة العقل) قد انتشر. والأمم تكاد لا تبذل أيّ جهد تقريبًا لإدراك حقيقة مشكلات بعضها البعض، وكذلك الأمر بالنّسبة للطبقات والأعراق. فهم منهمكون تمامًا في كيل القدح والذّمّ لبعضهم البعض بحيث لا يتريّثون برهة للاستماع إلى قصص الطّرف المقابل. ويصدق الشّيء نفسه إلى حدّ كبير على الأفراد. فبدلًا من مقاربة الآخر بعقول متفتّحة، تكون لدينا خطّة جاهزة مُسبقًا دُبّرت بالكامل بهدف التّحكّم به، أو نتحيّز ضدّ وجهة نظره لدرجة نرفض معها سماع كلمة ممّا يقوله.
يمكن أن نرى مثل هذا الموقف العقليّ السّخيف في جميع علاقاتنا: الآباء مع الأبناء، والأبناء مع الآباء، وأصحاب العمل مع الموظّفين وبالعكس، والفقراء مع الأغنياء، والأغنياء مع الفقراء، وهكذا إلى ما لا نهاية. إنّه عكس مقاربة النّهج العلميّ للحياة تمامًا. لا يمكن للعالِم أن يكون متحيّزًا، فبوجود التّحيّز قد ينحرف عن المسار، ويخطئ الهدف، ويبدّد وقته الثّمين في متابعة وَهْم. يجب أن يكون لديه عقل منفتح بشكل دائم، وأن يكون مهتمًّا بالحقائق الواقعيّة للمشكلة المعروضة أمامه وإيجاد حلّ لها. فلماذا لا نحاول أن نتقارب من بعضنا البعض ضمن نفس إطار العقل المستنير، الوجدانيّ، والمتفهّم؟ عندئذٍ يمكننا الوصول إلى جوهر المسألة، وتقديم بعض المساعدة الحقيقيّة لبعضنا البعض. يبدو أنّ بعض النّاس لا يملكون الشّفقة أو التّعاطف (المقصود هم الأشخاص العاديّون وليس المجرمون). ويفتخرون بقدرتهم على الاستغناء عمّا يعتبرونه علامات الضّعف هذه. إنّهم يتّخذون موقفهم بناءً على أنّ ما حدث هو خطأ الشّخص نفسه، فإذا كان يعاني من ذلك فهو يدفع ثمن خطيئته أو حماقته أو غبائه لا غير. إنّهم مصابون بذلك المرض البشع ألا وهو النّزاهة الشّخصيّة. كلّنا نصادف مثل هذه الكائنات غير القابلة للتغيير. أحيانًا يكونون ملحدين، وفي أوقات أخرى شديدي التّديّن. لكّنهم تعساء للغاية لأنّهم وضعوا عقولهم في حالة من التّطوّر المأسور. إذا لم يؤمنوا بإظهار التّعاطف أو الشّفقة تجاه الآخرين، فهذا يعني بالطّبع أنّهم يشعرون بالقدرة على الاستغناء عن مثل هذه المظاهر من جانبهم، ولا أحد يستطيع تحمّل مجابهة مثل هذا الخطر. إذ لا يمكن لأحد أن يضمن أنّه لن يغرق، بطريقة ما وفي يوم ما، إلى عمق كافٍ يستحقّ معه الشّفقة، أو يعاني من ضربة تحتاج إلى بلسم التّعاطف الإنسانيّ. في اللّحظة الّتي يتخيّل فيها شخص أنّه لن يحتاج إلى هذا أو ذاك، ففي هذه اللّحظة بالذّات سيكون حقًّا بحاجة إلى كليهما لأنّه قد أغلق الباب المؤدّي إلى تطوّره الشّخصيّ. وإذا لم يكن لديه حتّى الخيال الكافي لإدراك أنّ شيئًا ما قد يصيبه، وأنّه قد يسقط فجأة من عليائه المهلهل، فهو في الواقع في موقف محفوف بالمخاطر لأنّه توقّف عن أخذ الحيطة والحذر من الخطر. فالخطر والحياة يسيران جنبًا إلى جنب، الخطر الدّاخليّ والخطر الخارجيّ كلاهما معًا. إذا لم نتقدّم، فنحن على الأرجح نتقهقر. فالشّخص الّذي يرضى عن نفسه يشعر بأنّه قد حقّق كلّ التّقدّم الّذي يحتاج إليه، وبالتّالي فهو على وشك الانزلاق إلى الخلف أو قد بدأ بذلك فعلًا. والانزلاق الخلفيّ يؤدّي إلى التّحطّم، والتّحطّم يحتاج إلى الشّفقة والتّعاطف لمساعدة الرّوح الجريحة للقيام بالمحاولة من جديد.
الكرم سمة بشريّة أخرى مرغوب فيها. الغريب أنّ الفقراء، عمومًا، أكثر سخاءً من الأغنياء أو المقتدرين ماليًّا. فامتلاكهم للقليل يجعلهم يدركون تمامًا ماذا تعني القلّة، وكونهم عانوا الكثير، يجعلهم يشعرون بسهولة أكثر بمعاناة الآخرين ويعطون من القليل الّذي لديهم لتخفيف العبء. للعطاء إحساس جميل للغاية، خاصّة إذا قمت بصقله. أحيانًا يولّد ذلك الانطباع بأنّ الشّيء الملموس الّذي قدّمته لمساعدة شخص أو إسعاده قد تمّ استبداله بشعور غير ملموس يبعث فيك السّرور والرّضا أكثر بكثير من الشّيء الّذي أعطيته، نوع من استنارة الرّوح والسّموّ بها. وكما يقال إنّ الطّبيعة تمقت الفراغ، وتملأ المساحات الفارغة بسرعة، فإنّ ما قدّمته لآخرين – إذا كان هديّة حقيقيّة وليس حالة من “سأقوم بحكّ ظهرك والآن حُكّ لي ظهري!” – سيتمّ تعويضه عليك من خلال شعور من الارتياح والرّضا أو في تلطيف وتحسين طبيعتك وجوهرك.
هناك أسلوبان آخران للتعبير الإنسانيّ يجب إيلاؤهما اهتمامًا خاصًّا عند الأخذ بعين الاعتبار ما هي العناصر الضّروريّة لشخصيّة سليمة. أحدهما هو الكياسة، والآخر هو الاستخدام السّليم لألسنتنا. لقد قيل سابقًا إنّ الأخلاق هي تلك الملاطفات الصّغيرة في الحياة. كلّ شيء في العالم يصبح أفضل بعد تلقّيه لمسات أخيرة محدّدة. فالجواهر تقطّع أوّلًا ثم تُصقل. والأثاث يُنعّم ثم يُدهن ويُلمّع. والملابس تُفصّل وتُخاط، ولكنّها أيضًا تُدرز على نحو مرتّب وتزخرف. والمنزل يُبنى، وبعد ذلك يتمّ دهان الأجزاء الخشبيّة. الكياسة هي ما يعادل في شخصيّاتنا هذه اللّمسات الأخيرة. فهي تجمّل وتجعل تواصلنا مع الآخرين أكثر سلاسة وأكثر متعة. لا أحد منّا، يحبّ أن يشعر بالحوافّ القاسية على الأشياء، أو أن يرى أداة متقنة الصّنع وتفتقر إلى تلك اللّمسات الّتي من شأنها أن تجعل منها أداة كاملة الصّنع. وينطبق الشّيء نفسه على الأفراد. فشخص طيب لطيف ومهذّب، قد يكون في الوقت نفسه وقحًا ومستهترًا في أمور صغيرة، وأخرقًا. نحن نشعر على الدّوام أنّه لو قام ذلك الشّخص بمجرّد تنعيم تلك الحواف الخشنة الّتي تضغط على أعصابنا وتزعجنا في سلوكه، لو خطا خطوة أبعد بقليل في تطوّره، وقام بالقليل من أجل تليين ثنايا شخصيّته، لغدا إنسانًا أروع.
هناك ميل غريب للغاية في هذه الأيّام، بين الشّباب بشكل خاصّ، إلى الاعتقاد بأنّ
أكون فظًّا
بل ووقحًا
مع قليل من البذاءة
إنّما يدلّ على الذّكاء والحنكة، ومع ذلك، لن يدرك هؤلاء الشّباب أنفسهم بأنّهم أذكياء أو محنّكين إذا مسحوا أصابعهم الملوّثة بالزّيت بملابسهم بعد أن تناولوا بها طعام الغداء، أو تركوا شعرهم كثًّا قذِرًا، وكتلة تفوح منها رائحة منتنة وتعجّ بساكنيها الزّواحف، أو بصقوا على السّجّاد في مرسمهم. إنّ مجرّد الإشارة إلى هذه الأشياء يثير الاشمئزاز في نفوسنا – ومجرّد ذكرها أمر فظيع – ومع ذلك أقبل أن أروي قصصًا مشبوهة، وأن أكون فظّة غير مؤدّبة ومستهترة. من الغريب أن نفكّر أنّه في تلك الأيام الّتي كان النّاس فيها، وحتّى طبقة النّبلاء، يأكلون بأيديهم، وقليلًا ما يستحمّون، ونادرًا ما ينظّفون فراءهم وثيابهم المخمليّة الفاخرة، ويتعاملون مع كلّ أنواع الآفات، إلّا أنّهم امتلكوا الشّجاعة، والكياسة، والمراعاة للمسنّين، والعجزة، والضّعفاء، وهي صفات نادرًا ما نراها اليوم في نسلهم الّذين يتباهون بالتّقدّم الّذي حقّقته الحضارة!
قد يكون من المفيد كتابة قائمة ببعض سلوكيّاتنا الشّائعة تجاه بعضنا البعض والّتي لا تجعل الحياة أقلّ جمالًا للآخرين ونحن أقلّ شعبيّة ممّا يجب أن نكون عليه فحسب، ولكنّها تشير أيضًا إلى وجود نقص واضح في إنسانيّة سلوكنا. فعلى سبيل المثال، هل أنت مطيل في الكلام، من الّذين يشعرون بأنّ عليهم تولّي كلّ الكلام بالفعل؟ إذا كنت كذلك، هل تدرك أنّ ذلك علامة على شخصيّة متبلّدة؟ أنت لا تتقدّم، أنت فقط كمن يسير في الماء. إذا كنت تقدّر نفسك ووجهات نظرك الخاصّة عاليًا لدرجة أنّك تشعر بأنّ عليك أن تسهب في الموضوع باستمرار، فأنت إذًا لا تتلقّى شيئًا من الآخرين، وتوقّفت عن حبّ الاستطلاع والتّعلّم، وعن البقاء متيقّظًا ومتنبّهًا، وأصبحت ذلك الكائن البشريّ المُرهق تمامًا – الّذي تأصّل فيه الملل! قد تكون لطيفًا حقًّا. امنح نفسك فرصة وتوقّف عن إثارة الآخرين بجعل نفسك المحور.
هل أنت واحد من كبار السّنّ الّذين يشخرون دلالة الازدراء ونفاد الصّبر مع كلّ رأي يعبّر عنه شاب، ويعتقدون أنّه من الاستحالة لأيّ شيء دون الثّلاثين أن يقدّم مساهمة فكريّة كبيرة إمّا للمجتمع أو لعقلك؟ ألم يصدف أن كنت شابًّا في يوم ما؟ ومنذ متى كان العمر مرادفًا للحكمة؟ تواضع قليلًا. تذكّر أنّ معظم رجال الدّولة والسّياسيّين الّذين أساءوا إدارة العالم كانوا قد تجاوزوا الثّلاثين عامًا بكثير.
هل أنت واحد من أولئك الشّباب الأذكياء الّذين يؤمنون أنّ أيّ شخص يزيد عمره عن ثلاثين عامًا – في الواقع أكثر من خمسة وعشرين – هو حَفْريّة (آثار) قديمة ولا يستحقّ الاستماع إليه؟ وبأنّ مشاعرك، وأحدث وجهات نظرك واهتماماتك، هي المعيار الحقيقي للتقدّم، وأنّ كلّ شيء آخر هو مظهر من مظاهر الشّيخوخة؟ ليكن لديك قليل من الإحساس. ففي غضون بضع سنوات، ستكون بهذا العمر أيضًا. هل تعتقد أنّه عندئذٍ سوف يتركك ذكاؤك بالكامل ويجب عليك أن تتقاعد من المجتمع كحطام عديم الفائدة، أم أنّك تتوقّع أن يستمرّ ذكاؤك العظيم الحاليّ في الازدياد بشكل طبيعيّ لبعض الوقت في المستقبل؟ لا تكن متغطرسًا. إذا كانت لديك فضائل الشّباب – كالجرأة، والنّشاط، وحدّة الذّكاء، وعقل أكثر انفتاحًا، وروح أكثر تفاعلًا، فإنّ للعمر أيضًا فضائله – من الخبرة، والثّبات، والتّسامح، والصّبر والحذر. العالم يحتاج إلى كليهما ولا يزال هناك الكثير لنتعلّمه. لا تحاول تعليم جدّتك، أحيانًا، كيف تأكل البيض!
هل لديك ميل إلى الازدراء والاستخفاف بما لا تملكه؟ إذا كان لديك هذا الميل، فهو علامة على الشّعور بالنّقص. إذا كنت تعتقد أنّ الأشخاص المهذّبين إنّما هم “يتباهون” والأشخاص الّذين يرتدون ملابس أنيقة “متعلّقون” بهذه الدّنيا والنّاس الّذين يراعون مشاعر الآخرين إنّما يسعون إلى “تحبيب” أنفسهم بالتّملّق، فأنت غالبًا لست مهذّبًا، أنت ممّن يرتدون الملابس الأنيقة ويتّصفون باللّامبالاة والحسد. فلماذا لا تتغيّر؟ لا شيء يمنعك من امتلاك هذه الصّفات الإنسانيّة اللّطيفة الّتي تُضفي الألق والسّحر والدّفء إلى الشّخصيّة وتحبّبها للآخرين. عندما ترى شيئًا جيّدًا في شخص آخر اجعله ملائمًا لنفسك، فإنّ هذه الأشياء غير الملموسة الجميلة في الحياة متوفّرة للجميع مجّانًا. اشتغل على نفسك، خذها في جولة خارجيّة. الطّبيعة هي المعوِّض العظيم، تعلّم منها، وإذا كنت تعاني من نقص أو عجز في بعض النّواحي، تغلّب عليه. إذا كان لديك منزل سيّء أو بيئة متدنّية، ازرع فيهما من مواهبك الخاصّة، مهما كانت هذه المواهب– ولا شكّ أنّ لديك البعض منها – واقلب الأمور إلى نقيضها بأن تجعل من عجزك الأصليّ رافدًا للتغيير. إذا كنت قبيحًا أو تنقصك الوجاهة والجمال، فاستبدل ذلك بكونك لطيفًا أو ذكيًّا أو طيّب الخُلق أو متعاطفًا أو كريمًا. إذا كنت مشوَّهًا، انسَ ذلك. دع خصائصك الأخرى تتألّق ببراعة بحيث تجعل من تشوّهك مجرّد تمّيز – بل أكثر من ذلك، مدعاةً للإعجاب. كان أحد أروع النّاس الّذين عرفتهم على الإطلاق أحدبًا ضئيل الجسم. لم يكن ظهره وكتفاه مشوّهين فقط بل كان له وجه شخص أحدب أيضًا. لقد كان مرحًا جدًّا وجذّابًا وذكيًّا بحيث أَحبّه الجميع. والدّليل على ذلك هو زوجته العاديّة طويلة القامة، وابناه الجميلان حقًا، وكذلك حقيقة أنّه لاحقًا، عندما كبر هذان الطّفلان وكان هو أرملًا في الخمسين من عمره، تزوّج من امرأة أخرى كانت أيضًا جميلة جدًّا. إنّ هذا الرّجل قد رعى وهذّب كلّ ما لديه من مواهب العقل والرّوح الأخرى إلى الدّرجة القصوى على شأن أنّ جسده المشوّه، بالرّغم من كونه عائقًا، قد بدا جزءًا محبّبًا فيه. لا يمكن للمرء أن يتخيّل هذا الإنسان أو يرغب أن يكون بأيّ صورة أخرى غير الصّورة الّتي كان عليها.
الوجوه العابسة! هل تحبّ النّاس العبوسين؟ أو العدائيّين؟ أو الغاضبين؟ على الأرجح لا، إذًا لا تقضِ حياتك وأنت تبتلي إخوانك البشر بهذا النّوع من التّعبير على وجهك. عادة ما يظهر النّاس على هذا النّحو لأنّهم مرضى أو ساخطون أو منزعجون. حسنًا، هناك علاج لتعبيرات الوجه هذه. إذا كنت مريضًا، حاول الاعتناء بنفسك والتّغلّب على المرض – لكن في الوقت نفسه، فإنّ الجهد الإضافيّ الصّغير جدًّا المطلوب منك القيام به لإزالة هذا المظهر المرفوض اجتماعيًّا عن وجهك لن يضرّ بك بل قد يعود عليك بالنّفع والفائدة. فمن خلال محاولاتك لأن تبدو أكثر مرحًا قليلًا، قد تصبح أكثر مرحًا قليلًا بالفعل. تذكّر أنّ ما نـأخذه من الحياة، عادة، هو ما نضعه فيها. فباستثناء تلك النّفوس النّادرة الّتي تحبّك لنفسك وليس لما تبدو عليه، لن تجد نظرات تعاطف موجّهة نحو وجه غير محبّب. وبالنّسبة للاستياء وعدم الرّضا، فإنّ أفضل علاج لذلك هو الامتنان، والطّريقة الّتي تشعر بها بالامتنان تتمثّل في التّفكير في الأشخاص الأقلّ منك حظًّا- وهناك الكثير منهم. أمّا علاج النّظرة الغاضبة فأصعب. لأنّك عندما تكون غاضبًا، عادة ما تكون هائجًا كالمجنون تمامًا وغير قابل لإِعمال المنطق، ولكن يمكنك أن تجرّب الضّحك على نفسك، وإذا كنت منصفًا بطبيعتك، فسوف تدرك أنّه من غير العدل أن تصبذ جامَ غضبك، من خلال نظرة عينيك المحمرّتين، على أولئك الّذين ليسوا مسؤولين أبدًا عمّا حصل. نحن نعيش اليوم في عالم متسارع وقلِق ومُتعَب. وعندما تسقط أعيننا على وجه هادئ أو مبتسم، فإنّه يولّد شعورًا بالسّكينة، مهما كان من ضآلته. حاول أن تقوم بدورك في رفع مستوى وتيرة حياتك وحياة الآخرين من خلال مواجهة العالم بتعبير إنسانيّ لائق على محيّاك.
لديَّ في نفسي مثالٌ جيّدٌ للغاية عن الرّعونة، تلك الوقاحة السّافرة الّتي نحن جميعًا معرّضون للوقوع في حبائلها مذنبين بطريقة أو بأخرى. فأثناء إحدى رحلاتي في إحدى المناطق البعيدة، وجدت رجلًا متأنّقًا يرتدي ملابس مبهرجة تنمّ عن ذوق سقيم يلعب لعبة الدّاما تحت شجرة مع أصدقائه. لم يهدأ لي بال إلى أن وجدت شخصًا لإقناعه بالوقوف في ضوء الشّمس لألتقط له صورة. في البداية رفض، لكن بعد محاولات إقناع متكرّرة، نهض أخيرًا بصورة طبيعيّة جدًّا، والتقطتُ له الصّورة وغادرت مع الغنيمة الثّمينة. عندما نظرت إلى ما حدث في وقت لاحق – بفرح – فكّرت فجأة بأنّني كم كنت متغطرسة ووقحة بشكل لا يطاق! ما الّذي كنت سأفعله لو اقترب مني شخص غريب تمامًا وأنا جالسة مع بعض الأصدقاء في بلدي، بهدوء وخصوصيّة نلعب لعبة ما ( ليس في حديقة حيوان أو في عرض للدعاية والإعلان!) وألحّ عليّ بإصرار بأن أنهض وانتقل إلى منطقة مشمسة لتُلتقط صورتي؟ ربّما كنت سأتّصل بالشّرطة! ومع ذلك، كنت – مثل الآلاف من السّيّاح الآخرين – معتقدة تمامًا بأنّ لديّ كامل الحقّ في القيام بمثل هذا الشّيء لشخص آخر لمجرّد أنّني كنت بعيدة عن بلدي وكان هو من جنس آخر! لقد صُدمت عندما حلّلت ردّة فعله وردّة فعلي المتوقّعة في ظروف مماثلة، ووصلتُ إلى نتيجة أنّ الجنس الأبيض، ولا سيّما الأنجلو- ساكسوني منه، هو أقلّ الأجناس تهذيبًا في العالم بأسره.
الكثير منّا سيُحسنون عملًا إن هم تفكّروا جيّدًا بكلمة “الصّقل”. إنّها تعني تلك اللّمسة الأخيرة الّتي تضعنا دون شكّ في فئة مختلفة عن القردة. تعتبر زيارة بيت القردة تجربة مفيدة للغاية: حيث يجلس هناك أبناء عمومتنا البعيدة من ناحية التّركيب البنيويّ صفًّا صفًّا، يقضون الوقت في الحكّ، وتفحّص أعضاء جسمهم، ونكش أنوفهم، والتقاط الحشرات السّاكنة في جلودهم، وفي أغلب الأحيان، الصّراخ . أمّا رفاقهم ضخام الجثّة، وهم “إنسان الغاب في بورنيو” (قردة أورانج-أوتان)، والشّمبانزي والغوريلّا، فهم يتصرّفون بمزيد من الكرامة والوقار. يؤسفني أن أقول إنّ لدى الجنس البشريّ ميل إلى أن يكون أكثر شبهًا بالنّسناس من القرد حين يتعلّق الأمر بحسن السّلوك. النّقطة المهمّة هي أنّ ما يميّزنا عن باقي الحيوانات ليس عقولنا وحضارتنا وأسلوب حياتنا فحسب، بل هناك أيضًا لمسة أخيرة ناعمة وجميلة يجب أن تُضاف، تُلخّص في كلمة “تهذيب” وتظهر بشكل مناسب حين استعمالها للجنسين بقولنا: “إنّه جنتلمان( سيّد مهذّب)”، أو “إنّها ليدي (سيّدة راقية)”. ويمكن تعلّم الدّرس الأوّل فيها من القردة: انظر إلى ما يفعلون وما لا يفعلون. أحد الأشياء المُبْكرة الّتي تُعلّمها الأمّ لطفلها هي: “عندما تكون بحضور أشخاص آخرين حافظ على يديك بعيدًا عن فتحات جسمك”. راقب السّيّد غيبون (نوع من القردة) ذي الوجه الأبيض أو السّيّدة بابوون (نوع من القردة) وهم ينشلون الأشياء ويخطفونها بعنف. النّقطة الأخلاقيّة: لا تنشل، لا تخطف. استمع إليهم – ترتفع أصواتهم تدريجيًّا إلى درجات عالية. النّقطة الأخلاقيّة: لا تصرخ وتزعق على النّاس.
قد يبدو الأمر مُبتذلًا بأن نذكر هذه الأشياء، وقد نعتقد أنّنا لسنا بحاجة إلى إطلاق مثل هذه الملاحظات المُهينة علينا، لكنّني لا أعتقد أنّ الأمر كذلك. نحن جميعًا بحاجة فعلًا إلى قليل من التّفكير فيها. إذ يتمّ القيام بالكثير من عمليّات الخطف والصّراخ والتّدافع والخدش والنّتش من قبل معظم البالغين الّذين عليهم أن يكونوا أعقل وأكثر حكمة من القيام بذلك، وإذا لم يكونوا أعقل، فعليهم، احترامًا لأنفسهم، أن يتعلموا. في الماضي كان التّهذيب يُعتبر امتيازًا للطبقة المترفة، ولا شكّ في أنّه إذا كان لديك وقت أكثر أو عدد أكبر من الخدم أو المساعدين، ومنزل أجمل تعيش فيه، فستجد أنّ التّهذيب في مثل هذه الظّروف أسهل. إلّا أنّ التّهذيب لا يعتمد على المال أو الوضع الاجتماعي. في كثير من الأحيان، وفي أسوأ مناطق مدننا الضّخمة وفي أفقر المنازل، يجد المرء تهذيبًا وكياسة. بل في واقع الأمر، من تجربتي أجد أنّ التّهذيب الحقيقيّ – بمعنى اللّطف وكرم الضّيافة وحسن السّلوك – هو في كثير من الأحيان سمة مميِّزة للأميّين والأشخاص البدائيّين والقرويّين في جميع أنحاء العالم.
ألسنة البشر أسلحة قويّة للغاية. فقد بُنيت أمم ودُمّرت أخرى بفعل الألسنة، لأنّ الكلام هو أحد أعظم إنجازات الإنسان. ومع ذلك، فهو كسيفٍ ذي حدّين، يمكنه أن يقطع في الاتّجاهين. يجب أن نراعي الحرص والحذر في طريقة استخدامنا لمثل هذا السّلاح العظيم في سبيل الخير أو الشّرّ. في كثير من الأحيان، ودون أن يفكّر النّاس بأنّهم يقومون بأفعال قاسية ضارة، يقومون بتقطيع حياة الآخرين إلى شرائح من خلال القيل والقال والنّميمة والانتقاد. قد نحفظ أيدينا من السّرقة، أو نحمي عقولنا من الكذب، لكنّنا نادرًا ما نحفظ ألسنتنا عن الاستغابة. وكذلك الأمر بين الأمم، فإنّ الكلمات الّتي تُطلق دون تفكير أو تقال على عجل، قد تُغرقها في الحروب، وبالمثل فإنّ كلمات الأفراد، الّتي تُنطق أيضًا بحماقة، قد تُدمّر دون أدنى أساس من الحقيقة، سمعة شخص، أو تهدم صداقة أو تعطّل زواجًا، أو تسبّب شرخًا في أسرة، أو تدمّر مهنة رجل ما بالكامل. يبدو، غالبًا، أن أكثر النّاس فضيلة وبراءة هم الأكثر من تجلدهم هذه العادة الأثيمة من الغيبة والافتراء. لا يمكن أن نكون قد مُنحنا عطيّة الكلام الرّائعة الّتي نملكها لتكون سببًا في تدمير وحشيّ، ولا أن تكون عقولنا قد صُمّمت كأدوات للجريمة والفساد، أو قلوبنا كمولِّدات للكراهية والجشع.
نحن كأفراد لسنا ظاهرة منعزلة، فحياتنا تعتمد على العلاقات مع الأفراد الآخرين. والكمال لا يمكن تحقيقه بشكل فرديّ مستقل. ونظرًا لأنّنا نوع اجتماعيّ بطبيعته – مثل النّحل والنّمل والحيوانات الّتي تتنقّل في قطعان – فلا يمكن لأيّ واحد منّا تطوير شخصيّته كوحدة منعزلة. إنّ الكاهن أو الصّوفيّ أو النّاسك الّذي يُمضي حياته بلا كلل في البحث عن طريق شخصيّ بحت للخلاص، أو في تحسين ذاته (الأنا) وإيصالها إلى النّضج والرّشد، سواء بالتّخلّي عن متعلّقات هذا العالم، أو بالتّكفير عن الذّنب والمعاناة عن طريق إيذاء الذّات، لا شكّ أنّه يسير في المسار الخاطئ في هذا العالم العصريّ. إنّه يحاول السّباحة ضد تيّار الحياة، لأنّ تطوّر الأفراد التّابعين لأيّ جنس اجتماعيّ يأتي من خلال التّفاعل والتّعاون والمنافسة والتّحفيز والاستفادة من وجود القدوة والمثال. وبالتّالي، يكمن جزء كبير من طريقنا نحو الكمال الشّخصيّ على حياة أولئك الّذين نتواصل معهم. إنّ الطّريقة الّتي نعاملهم بها والأسلوب الّذي نتفاعل به معهم يؤثّر في شخصيّتنا ويساعد على تشكيلها للأفضل أو للأسوأ.
العالم ينمو بالتّكاثر. الخلايا تنقسم وتتكاثر، وأخرى تتّحد ويحصل التّناسُل. فالإنسان، وكلّ أشكال الحياة الأخرى، يتكاثر لينتج أفرادًا من جنسه. وبالتّالي فإنّ العلاقات الأساسيّة في الحياة البشريّة هي في الأسرة. الصّداقة شيء عظيم كما هي في الواقع، لكنّها ليست الأساس للمجتمع البشريّ. التّزاوج هو الأساس. الرّجل والمرأة هما الوحدة الأساسيّة الّتي يدور حولها الأطفال والأقارب والمعارف المتّسعة. لذلك فإنّ أحد أهمّ أساسيّات حياة كلّ فرد هي مقاربته لموضوع الجنس. لقد أدرك النّاس دائمًا أهمّيّته، لكنّه لم يصل أبدًا إلى هذه الأبعاد في نظر العموم كما هو في الوقت الحالي. فالعالم المتحضّر يتخبّط في أمور الوعي الجنسيّ وإباحة الجنس والمطبوعات الجنسيّة والمنشّطات. ومع كلّ هذا التّركيز المفرط عليه، لا يبدو أنّه قد عُثر على حلّ للمشاكل الّتي يثيرها. بل على العكس من ذلك فهي تتضاعف بمعدّل عالٍ إلى درجة أنّ التّكهّنات الحاليّة تشير إلى أنّ نصف الزّيجات في الولايات المتحدة قد تفشل في المستقبل القريب. وكما عبّر عن ذلك أحد المؤلّفين بقوله: “التّثقيف في سباق مع الفوضى”. معدّلات الطّلاق تقفز عاليًا. الإصابة بالأمراض التّناسليّة في ازدياد مطّرد على الرّغم من العلاجات الرّائعة المتاحة. معدّل المواليد لكثير من الدّول العظمى في تدنٍّ. الانحراف الأخلاقيّ يتنامى، والأسوأ من ذلك كله، أنّ الفسق والاتصال الجنسيّ غير الشّرعيّ يتغلغلان في الفئات العمريّة الأصغر سنًّا. وفي الواقع، لم تعد ممارسة البغاء في المجتمع الغربيّ لمن هم في التّاسعة من العمر مستترة في الوقت الحاضر، ممّا يمسّ أعماقًا جديدة من التّدهور الأخلاقيّ السّحيق من خلال زيادة نشر الموادّ الإباحيّة عن الأطفال، وهو انعكاس لعقليّة بلغت من الفساد مبلغًا يجعل الرّعب يدبّ في أوصال أيّ شخص عاديّ. من الواضح أنّ هناك شيئًا خاطئًا تمامًا، خاطئًا تمامًا في المجتمع بشكل عامّ وفي مواقف الأفراد الّذين يؤلّفونه. لا بدّ أنّنا نسير بعكس القوانين الرّوحانيّة الأساسيّة، وضدّ التّوجيهات الأخلاقيّة المتأصّلة الضّروريّة لتطوّرنا، لأنّه إذا ما كنّا نسير معها، فإنّ الشّرور المذكورة أعلاه كانت ستتراجع بدل أن تستفحل.
يمكن القول إنّ هناك ثلاثة أنواع من الزّواج تقريبًا تمارس في العالم: الشّكل السّائد إلى حدّ بعيد – لا نجده في آسيا وأفريقيا فحسب ولكن في جميع أنحاء جزر المحيط الهادئ والمجتمعات القبليّة في نصف الكرة الغربيّ – حيث لا يُعتبر الزّواج متطلَّبًا اجتماعيًّا ضروريًّا يجب إنجازه تجاه المجتمع فحسب، ولكن باعتباره فعليًّا واجبًا وشأنًا عائليًّا يقرّره الوالدان أساسًا. يتعلّق النّوع الثّاني بشكل أو بآخر بالسّلوك الأوروبيّ، وفيه أنّ الزّواج علاقة أساسيّة ضروريّة لأداء المجتمع لأعماله على نحو مناسب، وأنّه ينبغي قبوله فلسفيًّا وترتيبه بشكل يحقّق أفضل فائدة لجميع المعنيّين وألّا نتوقّع منه الكثير في موضوع الرّومانسيّة – كون الرّومانسيّة شيئًا يمكن أن يجده المرء في أيّ مكان آخر إذا لزم. المقاربة الثّالثة للزواج هي ما يمكن للمرء أن يسمّيه النّهج الأمريكي المتّسم بالمغالاة. إنّه فردي للغاية، مثاليّ ورومانسيّ لأقصى الحدود ويقوم على ما يُعرف باسم الحبّ. فقد تمّ توجيه النّاس ليتوقّعوا بأنّ الحصول على منتهى السّعادة لا يتمّ من خلال الزّواج فقط، ولكن إذا لم يتحقّق ذلك، فيمكن فكّ رباط الزّوجيّة والمضيّ في تجربة شركاء جدد دون حدود. فإذا لم يشبعوا رغباتهم رومنسيًّا، فإنّ العلاقة تكون قد فشلت تمامًا في هدفها ويجب أن تُطرح جانبًا.
هذه بالطّبع إطلاقات عامّة وينبغي أن تؤخذ على هذا النّحو. هناك استثناءات في كلّ مكان، وكلّ زواج يمثل حالة بحدّ ذاته. ولكن تظلّ الحقيقة أنّه، بشكل عامّ، هناك ثلاثة مواقف تجاه الزّواج: ذلك الّذي يجسّده المجتمع الشّرقيّ، الّذي ليس لديه توقّعات عالية في عثور المرء على الحبّ المثاليّ أو أيّ نوع آخر من العلاقة المثاليّة في زواجه، والّذي ينظر إليه على أنّه ممارسة أساسيّة للحياة، حيث يُمكّنه ذلك من أن يديم اسمه، ويُسهم بنصيبه من الذّرّيّة للمجتمع. وذلك الّذي لدى الأوروبيّ (بسبب عدم وجود مصطلح أفضل)، والّذي لديه بالمثل بعض الأوهام حول ما هي حالات السّعادة المثاليّة الّتي قد يصل إليها الزّوجان من خلال الزّواج، ولديه حرّيّة أكبر في اختياره، ولكنّه مع ذلك تقليديّ في مثل هذه الأمور للغاية، كما أنّه يحترم الحياة الأسريّة كمؤسّسة احترامًا كبيرًا، إلّا أنّه لا يمانع البحث عن مُتعته في أيّ مكان آخر. ثمّ ذلك الخاصّ بالأميركيّ، الّذي يتوقّع الكثير من العائد من الزّواج مقابل بذل جهد ضئيل جدًّا من جانبه، ويتعامل معه بشكل فرديّ للغاية مع تجاهل كبير للنصح من قبل كبار السّنّ من عائلته، ويندفع خارجًا منه بسرعة كبيرة.
من غير المرجّح أن تُظهر دراسة استقصائيّة عن السّعادة الزّوجيّة أرقامًا أعلى في الولايات المتحدة عمّا في تايلاند مثلًا. في الواقع، قد نُفاجأ بوجود مزيد من السّعادة والوئام الحقيقيّ في جماعات تُعتبر في أمريكا الشّماليّة وأوروبا شعوبًا “متأخّرة”، لكن مع ذلك غالبًا ما يكون لديها سلوكٌ أكثر واقعيّة بشأن موضوع الزّواج. ولكن على أيّ حال، مع أشخاص يفتقرون إلى النّضج وغير أصحّاء، من المرجّح لعلاقة حميمة مثل الزّواج ألّا تجلب السّعادة في أيّ مكان. لنأخذ مثالين متطرّفين: رجل من الشّرق الأوسط لا يتوقّع، بشكل عامّ، إلّا القليل من رباط له إمكانيّات عظيمة جدًّا لإثراء الحياة وتوفير بهجة بالغة. وأمريكيّ، من ناحية أخرى، يتوقّع الكثير من ذلك الرّباط، لأنّه، في المقام الأوّل، يركّز على القيم الخاطئة.
الغالبيّة العظمى من الجنس البشريّ تنظر إلى الزّواج على أنّه علاقة مصمَّمة لتُنتج الأطفال. الأمريكيّون يميلون للنظر إليه كعلاقة مصمَّمة لتُحْدِث الإشباع الجنسيّ. كلّما واجه البشر بسرعة أكبر، حقيقة أنّ وجهة النّظر الأولى تستند إلى الحقيقة وقوانين الطّبيعة، وأنّ الأخيرة تؤكّد بشكل مُفْرِط على تفصيل ثانوي بحت، كلّما سيُصبحون أكثر سعادة.
ربّما لا يمكن أن نجد موضوعًا أفضل للإشارة إلى بعض الحقائق الأساسيّة فيه، أكثر من الموضوع المتعلّق بالزّواج. إنّ العالم الّذي نعيش فيه، والحواسّ الّتي نمتلكها، والمَلَكات الأعلى من الاستحسان والتّقدير الّتي طوّرناها، مثل الاستمتاع جماليًّا بالصّوت واللّون والشّكل والمُعبّر عنها بالموسيقى والفنّ، كلّها أمور جيّدة ليس لدينا الحقّ في الاستمتاع بها فحسب، بل لدينا، كما يمكن للمرء أن يقول، التزام بأن نبتهج بها لأنّها جزء من حقوق مولدنا، وهبها الله لنا. فالاعتقاد بأنّ عدم الاهتمام بما أفاضه علينا “قرن الخصب” (Horn of Plenty يمثّل معنى الإنتاج الكثير) بغزارة متناهية من أجل مسرّتنا، يعتبر تنزيهًا أو نوعًا من الورع أو دليلًا على الانقطاع، وكذلك الاعتقاد بأنّه عن طريق رفضنا للملذّات المشروعة الّتي تقدّمها لنا الحياة فإنّنا نتّبع طريق الخلاص، ما هو إلّا العيش في ظلّ سوء فهم كبير. إنّ حواسّنا كلّها أبواب يمكنها أن تقودنا ليس إلى تعبير أكمل عن الحياة فحسب، ولكن إلى فهم أفضل لها وإلى حالة أسمى من تطوّر دخيلتنا. ولكنّها مثل أيّ شيء آخر يجب أن نحافظ عليها في مكانها الصّحيح، لتقوم بوظائفها المناسبة.
وحيث إنّ الانسان لديه حسّ قويّ للتذوّق والشّمّ، وأذن مرهفة للموسيقى، وعين تبتهج بالنّظر إلى التّناسق والألوان. ولأنّ عواطفه تُستشعر بعمق، ولأنّ عقله يمكن أن يسلك سبل الأدب والعلوم بفهم وسرور، فذلك لا يعني أنّه غارق في مشتهياته أو أنّه شخص ماديّ بكلّ ما في الكلمة من معنى، بل على العكس من ذلك فإنّ ذلك يُبيّن أنّه قد طوّر مَلَكَاته الّتي وهبه الله إيّاها بشكل صحيح. لكن في اللّحظة الّتي يصبح فيها جشِعًا، في اللّحظة الّتي يعيش فيها فقط من أجل إرضاء بعض حواسّه أو كلّها، سواء كانت جماليّة أو جنسيّة أو حتّى فكريّة، فإنّه بذلك يُسيء استغلال مواهبه ويُعيق تطوّر روحه. فهو لم يعد يتمتّع فقط بما يمكن أن يقدّمه له هذا العالم من خلال حواسّه، بل أصبح عبدًا لها بدلًا من أن يكون سيّدها. ويبدو الأمر تقريبًا كما لو أنّ لوحة مفاتيح البيانو قد أجبرت العازف على أن يعزف ما تريده، بدلًا من أن يسيطر الموسيقيّ على الآلة ويعزف عليها مؤلّفاته بطريقته وأسلوبه. وكما أنّ الزّهد غير طبيعيّ وباطل أساسًا من حيث المبدأ، فإنّ الإباحيّة باطلة بنفس القدر أيضًا بل وأكثر ضررًا بالطّبيعة البشريّة، ومهما يكون الإحجام سيّئًا، فإنّ آثار الإفراط في الاستمتاع بأيّ شيء أسوأ.
إنّه المثال القديم للفارس والحصان. إنّه لشعور رائع تُحسّ به حين تمتطي صهوة حيوان ذي همّة عالية يركض خببًا بشكل جيّد. وإنّه لخطير جدًّا أن تمتطي ظهر حيوان آخر لا سيطرة لك عليه. من بين كلّ الأشياء الكثيرة الّتي يبدو أنّ النّاس قد فقدوا السّيطرة عليها اليوم، لا شيء أكثر بروزًا من افتقارهم الكامل للسيطرة على حياتهم الجنسيّة. يبدو أنّهم يعتقدون أنّ إشباع غرائزهم الجنسيّة العارمة هو حقّهم المطلق، وطريقهم الوحيد إلى السّعادة، وأكبر متعة تقدّمها لهم الحياة. ففي الحضارة الغربيّة هناك ميل لوضع الجنس في دائرة الضّوء: الأدب الخفيف، مع الإنتاج المتزايد لقصص الحبّ السّاقطة، الّتي كانت لفترة طويلة تغذّي باستمرار ثلاثة أجيال على الأقلّ من القرّاء الإناث بشكل رئيسيّ، قد تمّ تعزيزها الآن بمدّ من السُّخام تفيض بها الرّفوف الورقيّة لمحلّات الكتب والمتاجر ومداخل المطارات والصّيدليّات وردهات الفنادق، وبالمنشورات الّتي كانت منذ فترة ليست ببعيدة تُعتبر موادًا إباحيّة محظورة. صناعة السّينما اليوم تُنتج أفلامًا – يتمّ الإعلان عنها على لوحات إعلانيّة وفي صور فوتوغرافيّة – لا تترك عمليًّا أيّ شيء للخيال وتزوّد الأطفال من كلّ الأعمار بمعرفة موسوعيّة تقريبًا، ليس حول موضوع الممارسات الجنسيّة الطّبيعيّة فحسب، بل والشّاذّة أيضًا، بما في ذلك المثليّة الجنسيّة والسُّحاقيّة. الموسيقى والفنّ والأزياء والمكياج والإعلان – بما في ذلك الاستخدام المقنّع والخطير للتقنيّات الخفيّة الّتي تؤثّر على العقل الباطنيّ مباشرة – كلّها تعمل كمراوح تؤجّج برياحها الهائلة اشتعال نار الرّغبة الجنسيّة. في ظلّ مثل هذه الظّروف الّتي تسود المجتمع، لا يمكن للزواج كعلاقة إنسانيّة إلّا أنّ يتدهور بسرعة. يبدو أنّ الشّعار هو، “لقد ولدتَ لتبحث عن إشباع رغباتك من الجنس، هذه هي حرّيّتك الأساسيّة، فقم بذلك”، ويبدو أنّ النّاس، دون شكّ، يقبلون هذه النّصيحة المدمِّرة. والنّتيجة هي المرض والانحراف والطّلاق على نطاق متزايد باستمرار.
من غير المعقول القول بأنّ الإنسان يجب أن يتّبع “غرائزه” كما يفعل الحيوان، وأنّ هذا سيؤدّي إلى حياة سليمة. البشر ليسوا حيوانات، وغرائزهم بعيدة تمامًا عن تلك الّتي تدفع الحيوان وتسيّره، والّتي يُعتبر اتّباعها ليس أمرًا بغيضًا فحسب، بل من الخطورة بمكان محاولة ذلك. الحيوانات تكبحها غرائزها كما أنّها هي الّتي تدفعها للتعبير عنها. أمّا المخلوقات البشريّة فليسوا كذلك. فمَلَكَاتهم في الإرادة الحرّة، والفكر المجرّد، وازدياد الانفعال العاطفيّ بتفاعله مع العقل، أنتج قوى هائلة في داخلهم لا بُدّ من ضبطها وتوجيهها بحيث لا يُسمح لها بالانفلات بشكل مسعور كما نراها تفعل اليوم.
إنّ أسمى زينة لروح الإنسان هي قدرته على الحبّ. فالحبّ ليس أقوى قوّة تماسك في المجتمع فحسب، بل هو سبب الإندماج الدّائم الوحيد، القوّة الوحيدة الممكنة الّتي بمقدورها إيجاد الوحدة بين النّاس، وعن طريق هذه الوحدة ينوجد النّظام ويتوفّر الجو الّذي يمكن أن تعمل فيه الحياة بأعلى وأفضل درجاتها. يمكن للتعبير الخاطئ عن الجنس أن يحطّ من شأن الطّبيعة الحقيقيّة للإنسان. إنّ الفعل الّذي لا يُعتبر خطيئة عند الحيوان، بل استجابة بريئة عفويّة لحثّ الطّبيعة له على التّكاثر لإنتاج الأجناس، يصبح لدى الإنسان خطيئة. لماذا؟ لأنّها أدنى منه، إنّها تحطّ من روحه لما دون مستوى الحيوان. ولأنّ الإنسان، على النّقيض من الحيوان، ليس مدركًا تمامًا لأفعاله فحسب ولكنّه مسؤول عنها. فعند بحث البشر عن سبل منحرفة أو منحلّة أو غير شرعيّة أو لاأخلاقيّة للتعبير عن الجنس، فإنّهم يعون تمامًا ما يختارونه، ويعرفون، رغم أنّ ذلك قد لا يكون واضحًا أحيانًا، أنّ الإشباع الشّهوانيّ البحت الّذي يمارسونه قد يضحّون في مقابله بمجموعة من القيم الأكثر سموًّا وروعة.
إذا وجدنا حيوانات من أجناس مختلفة تتزاوج، رغم عدم وجود نسل لها، فسوف نُصدم وينتابنا الرّعب من هذا الدّليل على الإباحيّة الشّاذّة للدعارة عند الحيوانات. ومع ذلك، فإنّ البشر أسوأ ألف مرّة في إشباع رغباتهم الجنسيّة الّتي يغالون في التّركيز عليها – دون أن نرى سببًا يدعوهم للخزي أو الانزعاج! النّاس، بطبيعة الحال، ليسوا سعداء، فالزّيجات قد أصبحت، بالطّبع، غير مُرضية وتتفكك أشتاتًا، لأنّه عندما يتمّ تجاهل كلّ من الجسم والرّوح تمامًا في مسألة مهمّة كالجنس – الجسم بمعنى أنّه يطوّر شهيّة واستباحة غريبة حتّى عن الحيوان، والرّوح بمعنى أنّه يتمّ إبعاده تمامًا عن المساهمة بأيّ شيء في الحياة الجنسيّة للفرد، أو جني أيّ شيء منها – فكيف يمكن أن تكون الزّيجات سعيدة؟ وإذا كان الزّواج، الّذي يُعتبر حجر الزّاوية في المجتمع، متأرجحًا ولا يحقّق الغاية منه، فكيف يمكن للعلاقات الأخرى النّاشئة عنه، مثل علاقات الوالدين بالأطفال والأخوة بالأخوات والأقارب والمعارف، أن تكون مُرضية وتُسهم بنصيبها الصّحيح في إثراء الحياة بأكملها؟
هذا يقودنا إلى جوهر الموضوع، موضوع الحبّ. فقد عبّر الدّكتور ألكسيس كاريل، رجل الطّبّ الشّهير والعامل في مجال الأبحاث، الحائز على جائزة نوبل، باختصار عن الأهمّيّة الكبرى للحبّ في علاقاتنا:
“لم نفهم بعد تمامًا أنّ الحبّ ضرورة وليس ترفًا. إنّه المكوّن الوحيد القادر على تماسك الزّوج والزّوجة والأطفال معًا. والاسمنت الوحيد القوّي بما يكفي لتوحيد الفقير والغني،ّ القويّ والضّعيف، صاحب العمل والموظّف في أمّة واحدة. وإذا لم يتوفّر الحبّ في داخل المنزل، فلن نجده في أيّ مكان آخر. الحبّ ضروريّ مثل الذّكاء أو إفراز الغدّة الدّرقيّة أو العصارة المعديّة، ولن تكون العلاقات الإنسانيّة مُرضية أبدًا ما لم يكن مُلهِمها الحبّ. ربّما يكون الأمر الأخلاقيّ، “أحبّوا بعضكم بعضًا”، قانونًا أساسيًّا للطبيعة، قانونًا متصلّبًا كالقانون الأول للديناميكا الحراريّة. “[1]
تفضّل حضرة عبدالبهاء، معرّبًا عن الفكرة نفسها بشكل صريح وقاطع:
” المحبّة هي سبب ظهور الحقّ في العالم الإمكانيّ. المحبّة هي الرّوابط الضّروريّة المنبعثة من حقائق الأشياء بإيجاد إلهيّ. المحبّة هي وسيلة السّعادة الكبرى في العالم الرّوحانيّ والجسمانيّ. المحبّة هي نور يُهتدى به في الغياهب الظّلمانيّ. المحبّة هي الرّابطة بين الحقّ والخلق في العالم الوجدانيّ. المحبّة هي سبب التّرقّي لكلّ إنسان نورانيّ. المحبّة هي النّاموس الأعظم في هذا الكور العظيم الإلهيّ. المحبّة هي النّظام الوحيد بين الجواهر الفرديّة بالتّركيب والتّدبير في التّحقّق المادّيّ. المحبّة هي القوّة الكلّيّة المغناطيسيّة بين هذه السّيّارات والنّجوم السّاطعة في الأوج العالي. المحبّة هي سبب انكشافات الأسرار المودعة في الكون بفكر ثاقب غير متناهٍ. المحبّة هي روح الحياة لجسم الكون المتباهي. المحبّة هي سبب تمدّن الأمم في هذا الحياة الفاني. المحبّة هي الشّرف العالي لكلّ شعب متعالي”[2].
لماذا يجب أن يكون الحبّ بهذا السّموّ؟ لأنّ الله الّذي خلقنا هو إله من طبيعته المحبّة. غمرت طبيعته كلّ الخليقة. القوّة الّتي تربط الذّرّات، وخطوط الانجذاب غير المرئيّة الّتي تحافظ على دوران المجرّات في مكانها، والتّماسك في المادّة، ووجوه الزّهور الباشّة، المنفتحة للتلقيح لإيجاد حياة جديدة على الأرض، والطّيور الّتي تغازل وتبني أعشاشها، والظّبي مع إناثه وصغاره، والرّجل مع الزّوجة والطّفل، كلّها انعكاسات لهذه الخاصّيّة الأساسيّة للخالق ألا وهي المحبّة.
عندما نجمع الحبّ مع الجنس في وضعهما الصّحيح، وهو الزّواج، سيكون لدينا ينبوع دائم من السّعادة والقوّة الّتي نستمدّ منها. يمكن للجنس أن يقوّي الحبّ، ويمكن للحبّ أن يتسامى مع الجنس في شراكة روحانيّة، هي سعادة للروح وللجسد معًا.
يجب النّظر إلى الزّواج من زاوية علاقته الصّحيحة بالفرد وبالمجتمع ككلّ. لن تحصل أبدًا على الاستفادة القصوى من أيّ شيء إلّا إذا فهمت وظيفته الصّحيحة. يجب التّطلّع، في المقام الأوّل، إلى ما بمقدور الزّواج أن يوفّره من رفقة تستمرّ مدى الحياة. من المحتمل أن يبقى شريك حياتك معك لمدّة تتعدّى كلّ من تربطك بهم علاقات حميمة أخرى. من المُرجّح جدًّا أن يموت والداك قبلك، وسوف يكبر أطفالك ويؤسّسون حياتهم الخاصّة بهم، وسيكون لإخوانك وأخواتك وأصدقائك علاقات حميمة خاصّة بهم في الحياة والّتي ستحتلّ، بالضّرورة، المقام الأوّل بالنّسبة لهم. ولكن قرينك وشريك حياتك، زوجتك أو زوجك، قد يكون معك دائمًا. ستتشاركان الأفراح والأحزان، وسيكون المنزل، والأبناء، والدّخل، وإلى حدّ كبير، مصالحكما واهتماماتكما ملكًا مشتركًا بينكم. لذلك، قبل أن تتزوّج، عليك أن تُدرك بأنّ عليك أن تُفكّر مليًّا فيما إذا كان بإمكانكما أنتما الاثنان أن تمرّا بكلّ ذلك معًا بشكل مُرض.
لا تتوقّع الكثير من الزّواج، ولا القليل جدًّا أيضًا. فليس بمقدور الماء أن يرتفع عن مستواه. واتّحادكما لا يمكنه أن يُنتج أكثر ممّا تساهمان به كلاكما. فإذا كنت مليئًا بالعيوب، كأن تكون غير متسامح، ونافذ الصّبر، متطلّبًا، ديكتاتورًا، وشكّاكًا، سريع الانفعال، ومحبًّا لنفسك، فلا تتخيّل أنّ هذه الخصائص ستجعل زواجك سعيدًا، أو أنّ بتغيير شريك حياتك سيكون رباطكما الجديد أكثر نجاحًا! الزّواج، مثله مثل جميع علاقاتنا الأخرى في الحياة، هي عمليّة تعمل، من بين أمور أخرى، على شحذ الحواف الحادّة الموجودة فينا. غالبًا ما يكون الشّحذ مؤلمًا، والتّكيّف مع شخصيّة شخص آخر أمرًا صعبًا في البداية، ولهذا السّبب هناك حاجة للحبّ هنا أكثر منه في أيّ علاقة أخرى. الحبّ، كونه قوّة إلهيّة في الأساس، يربط. إنّه يقفز مثل شرارة عبر الفجوات بين أفكار النّاس والرّغبات المتضاربة، وربما بين أمزجة شاسعة الاختلاف. إنّه يشفي الجروح الّتي يسبّبها بعضُنا لبعض سواء عن غير قصد أو في لحظات الغضب أو الغيرة أو المشاحنة. محفّز قويّ آخر يضاف لتأثير الحبّ في الزّواج تدريجيًّا هو: الاعتياد والتّعوّد. فالمنزل المشترك والعشرة اليوميّة، يُنتجان إطارًا مشتركًا، ويبدأ الاعتياد، وهو أحد أقوى القوى في الحياة، في ربط الزّوج والزّوجة ببعضهما البعض. إنّه بمثابة عامل استقرار رائع. إذا سُمح للحبّ بالفشل، قد يكون الاعتياد بحدّ ذاته قويًّا بما يكفي للحفاظ على الاتّحاد.
هناك أمران أساسيّان عظيمان في معادلة الزّواج: الأوّل هو العفّة، والثّاني هو الأطفال. العفّة – واحدة من أندر الجواهر الأخلاقيّة النّفيسة في العالم اليوم – وتعني الحفاظ على قواك الجنسيّة الشّخصيّة، حميمة للغاية بطبيعتها، وقادرة على إغداق الكثير من البهجة والجمال على حياتك، لتبرز في تعبيرها الصّحيح الّذي هو مع شريك حياتك، مع قرينك، ذلك الشّخص الّذي سيشاركك المنزل والأطفال وجميع أعباء الحياة السّعيدة والحزينة. هذا ويتمّ تعزيز النّزاهة والطّهارة الرّوحانيّة للزواج، والنّاحية الإنسانيّة الأساسيّة منه، ألف مرّة عن طريق الالتزام بالعفّة من جانب الرّجال والنّساء على السّواء قبل ارتباطهما. كما أنّ فرص الطّرفيْن في زواج ناجح ستكون أكبر بكثير لأنّهما، عندئذ، سيتشاركان معًا، في كلّ منحىً من مناحي الحياة الجديدة الّتي بدءاها. فلا مكان للمقارنات، ولن يتمّ التّركيز بشدّة على تنمية شهوات مفرطة لدى أحد الجانبين ممّا قد يفسد حياتهما، وفوق كلّ ذلك، سوف يضعان الجنس في مكانه الصّحيح، حيث بدلًا من سحق طبيعة الفرد العاطفيّة، (كما هو الحال في الوقت الحاضر لدرجة واضحة)، سوف يؤدّي الجنس وظيفته الطّبيعيّة في تكامل الحياة والمساهمة في سويّتها وعافيتها.
بعكس الاحتجاجات الشّعبيّة الصّاخبة اليوم بأن تقييد الرّغبة الجنسيّة يضرّ بالصّحّة وينتهك الحرّيّة المجيدة والمشروعة للفرد في مثل هذه الأمور، يخبرنا الدّكتور كاريل:
“العفّة هي الوضع الأمثل لما قبل الزّواج. وهي تتطلّب التّرويض الأخلاقيّ المُبْكر. إنّها أعلى تعبير للانضباط الذّاتيّ. إنّ ضبط النّفس الطّوعيّ في ممارسة الجنس أثناء مرحلة الشّباب، يعزّز نوعيّة الحياة، أكثر من أيّ جهد أخلاقيّ وبدنيّ آخر.”[3]
المُلازم المنطقيّ للعفّة هو الزّواج والزّواج المبكر، إن أمكن.
الهدف من الزّواج هو إنجاب الأطفال، ولكن هذه الحقيقة خفتت بسرعة في عالمنا الحديث، خاصّة في الحياة النّاشطة للمدن الكبيرة. لقد انجرفنا بعيدًا عن الأرض الطّاهرة الصّالحة الّتي أنجبتنا، وغدونا تائهين في غياهب حضارتنا المادّيّة، بحيث أنكرنا على أنفسنا على نحو متزايد، أكثر البهجات والبركات بدائيّةً والّتي يملكها كلّ حيوان.
من طبيعتنا أن يكون لدينا أطفال. فإنجاب الأطفال ليس أمرًا جيّدًا لنا من النّاحية الجسديّة وضروريًّا للمجتمع فحسب، بل هو بركة روحانيّة لنا أيضًا. أن تأتي بحياة جديدة إلى الوجود، حياة مثل حياتك، تنبثق منك، وتعتمد عليك، يستدعي فيضًا كاملًا من المشاعر الجديدة تنبع من قلب الإنسان. ميّت هو حقًّا قلب الإنسان الّذي لا تتسارع نبضاته عند لمسه يد طفله! فوجوده ينتزع منّا بعض الأنانيّة الّتي ننوء تحت ثقل أعبائها على الدّوام. إنّه يجلب اهتمامًا جديدًا وجادًّا بالحياة، وحسًّا جديدًا بالمسؤوليّة. يدعو الإنسان لمزيد من التّفكير في نفسه وفي شرفه. إنّه يدعو إلى نوع جديد من الحبّ، وهو الحبّ الّذي بحكم الحاجة يجب أن يُعطي، ويتحلّى بالصّبر وإنكار الذّات. وفي الواقع، إنّ إنجاب طفل يمكن وينبغي أن يكون تطهيرًا ذاتيًّا للوالدين. ويضيف نكهة إلى الحياة. إنّها مهمّة تتطلّب أمورًا كثيرة لأنّ هذا الإنسان الجديد يجب أن تتوفّر له المحبّة والإعالة والمساعدة اللّازمة، والتّدريب، والتّعليم. وهو ما يجعل علاقة الأمّ والأب أشدّ ارتباطًا، ويجدّد ربيع حبّهما، ويُنبت الأوراق الخضراء على شجرة الزّواج. فوق هذا كلّه، فهو يزيل الكثير من الفراغ الّذي غالبًا ما تجلبه الشّيخوخة. قد يجد الشّباب الحياة مليئة بما يكفي دون وجود الأطفال، ويشعر الأشخاص في منتصف العمر بأنّهم قادرون على الاستغناء عنهم في أوج موجة تعبيرهم عن الذّات، ولكن بالنّسبة للمسنّين الّذين ليس لديهم أطفال، فالحياة موحشة لا تستحقّ الاهتمام وتخلو من الحبّ بشكل خاصّ.
هناك سبب أخير لإنجاب الأطفال وهو أعمق بكثير. يمكننا أن نشبّه الحياة برحلة بالطّائرة. رحلة تحلّق فيها مادّة لا حياة فيها لتنتقل إلى مادّة حيّة، الحياة طوّرت الإنسان، والإنسان وحده هو الّذي يرجع إلى الله. تحلّق الرّحلة بنا إلى أجواء عالية لا يمكننا حتّى الآن إدراك كنهها ما دُمنا في هذا العالم. وبعد الموت تستمرّ كينونة الفرد، أي روح الإنسان، في الحياة، وتواصل تقدّمها وتطوّرها. يجب ألّا نكسر هذه السّلسلة عن عمد – ما لم يكن هناك سبب وجيه للغاية لفعل ذلك – أو نمنع أرواحًا أخرى من المجيء إلى حيّز الوجود ليحلّقوا، هم أيضًا، في طريقهم قُدُمًا نحو العلياء.
[1] الدكتور ألكسيس كاريل ، دكتوراه في الطب ، من The Reader’s Digest ، بليسانتفيل ، يوليو 1939.
[2] منتخباتي أز مكاتيب حضرت عبدالبهاء الجلد الأوّل ص 24 – 25 وحضرة عبدالبهاء هو إبن حضرة بهاء الله، مؤسّس الدين البهائيّ وسيأتي الكتاب على ذكره في فصول لاحقة.
[3] الدكتور ألكسيس كاريل ، دكتوراه في الطب ، من The Reader’s Digest ، بليسانتفيل ، يوليو 1939.
هناك أمران رئيسيّان مؤكّدان قطعًا يحدثان للبشر في هذا العالم: أحدهما ولادتهم والآخر موتهم. الأوّل هو عيشهم، والآخر هو ما يحدث عندما يتوقّف هذا العيش. كمٌّ هائل من طاقاتهم وأفكارهم يكرّسونه للحياة والمعيشة، ومع ذلك فإنّ هذا التّغيير الهائل، هذا التّحوّل الجائح – ألا وهو الموت – لا يحظى إلّا بالقليل من التّأمّل والتّفكير.
الموت يلازمنا دائمًا، ومع ذلك لا نكاد نفكّر فيه مطلقًا إلّا إذا فُرض على انتباهنا. الموت كامنٌ في الحياة. الاثنان شريكان. يجب أن يذكّرنا الخفقان في شراييننا، المليء بالحيويّة والقوّة، أنّ هذا الإيقاع السّريع قد يتوقّف فجأة. الانتقال سهل جدًّا، لكنّ الانفصال كاملٌ تمامًا ولا رجعة فيه.
لو فكّر النّاس أكثر قليلًا في ماهيّة الموت، وغايته، وطبيعة التّغيير الّذي يُحْدثه، فلن يعيشوا حياتهم بشكل مختلف فحسب، بل بتوجّه أكثر وعيًا نحوها أيضًا، وبقدر أكبر من الرّزانة والاطمئنان عمّا يقومون به الآن. يجب أن يُنظر إلى الحياة دائمًا من منظور الموت. فَصْلُ أحدهما عن الآخر يُنتج خللًا كبيرًا. الحياة عبارة عن طريق يؤدّي إلى بوّابة، هذه البوّابة هي الموت. الحياة هي حياة زرع وإزهار. أمّا جمع الحصاد فيتمّ فيما وراء أبواب الموت. الحياة بكلّ جماليّاتها وثرائها وتجاربها المتنوّعة ليست سوى عالم الرّحم للروح. والموت هو الحياة الحقيقيّة الّتي نولد فيها.
يجب علينا أن نجد مكاننا المناسب في هذا الكون. فغالبيّتنا في الوقت الحاضر، بعضنا بدرجة أكثر أو أقلّ من البعض الآخر، جاهلون بالمخطّط الكبير الّذي لا نشكّل جزءًا منه فحسب، بل نحن في قلبه تمامًا. كلّ هذا البحر المحرّك للجوهر، هذا الدّفق لعمليّة شاسعة من التّطوّر، يتّجه نحو هدف واحد: وجود الإنسان، ذروة الخليقة وأوجها. كلّ ما يفعله الإنسان، كلّ تجربة يخوضها، عالمه كلّه، عقليًّا وجسمانيًّا، موجود لغرض واحد ألا وهو، إطلاقه في رحلة أبديّة إلى وجهة تفوق بكثير أعزّ أحلامه. يوم إقلاع طائرته في رحلتها هو يوم وفاته. الأرض، وورشة العمل، والأشياء المألوفة، وعمليّة تحضير الطّائرة للرحلة يتركها كلّها خلفه في لحظة واحدة. تتحرّك الطّائرة في أجواء جديدة، الوسط الّذي صُمّمت من أجله. هل هي صالحة للطيران؟ هل لديها الأدوات المناسبة للملاحة في الفضاء على مَتْنِها؟ كيف يمكننا أن نولي مثل هذا الاهتمام الضّئيل لمسألة على هذا القدر من الأهمّيّة المصيريّة؟
إنّ أحد أكبر أسباب الارتباك في العالم – ارتباك يبدأ في أذهان الأفراد ويبرز في جميع أشكال المجتمع الإنسانيّ – هو أنّ البشر، في معظمهم، يعتبرون أنفسهم وجودًا تصادفيًّا لا جزءًا من خطّة. إنّهم يتجاهلون الآثار الضّخمة، الصّارخة تقريبًا لأمر هو: طالما أنّ كلّ ذرّة منفردة من ذرّات الخليقة، مهما بلغت ضآلتها، مشمولة ضمن نمط وخطّة ما، وهي مناسبة لمكانها الخاصّ بها وتؤدّي وظائفها بطريقتها الخاصّة، فكذلك البشر أيضًا، لا بدّ وأن يكون وجودهم وفقًا لنمطٍ وخطّة وأن يكون لهم مكانهم المناسب ومهامّهم المناسبة. كما أشرنا سابقًا، يمكن تشبيه ذلك المكان وتلك الوظيفة بالطّفل في رحم أمّه حيث ينمو فيه كلّ ما يحتاجه لحياته القادمة – الحياة الّتي يمنحها الموت (بمعنى آخر الحياة الّتي توهب بعد الموت والانتهاء من العيش في الرّحم). قبل حوالي ألفي سنة، كتب الرّوائي الإغريقي القديم إيسوبAesop ، في إحدى حكاياته الرّمزيّة عن الجُندب والنّمل، جعل هذا المفهوم واضحًا تمامًا. عمِل النّمل بجدٍّ طوال الصّيف وفي الشّتاء أكلوا ما خزّنوه من طعام. بينما عاش الجُندب حياة اللّهو والعبث في كلّ يوم دون أن يفكّر في المستقبل، وعندما جاء الشّتاء كانت النّتيجة أن تضوّر جوعًا.
الموت يأتي بغتةً. ونادرًا ما يُخبرنا عن السّاعة الّتي علينا القيام فيها برحلة بمثل هذا القدر من الأهمّيّة، وكثيرًا ما يجدنا غير مستعدّين ومتردّدين جدًّا للذهاب. كم كنّا سنمضي أوقاتنا بشكل مختلف لو كنّا أكثر وعيًا، وعيًا حقيقيًّا، بحقيقة أنّ الأيّام الّتي نُمضيها على هذه الأرض ليست مجرّد أيّام لا تتكرّر أبدًا فحسب، بل إنّها تمثّل فرصة ذات طبيعة لا تقدّر بثمن. وأنّ هناك أشياء يجب أن نحصل عليها هنا ولا يمكن القيام بها بشكل صحيح إلّا مرّة واحدة فقط، وهذه هي المرّة الواحدة، في هذه الحياة، في هذا العالم. المسألة ليست في أن تكون مهووسًا بالتّفكير في الموت باستمرار، سواء باعتباره كارثة لا بدّ أن تُحِيْق بنا حتمًا أو أن تعتبره الشّيء الوحيد الحائز على الأهمّيّة فتستبعد كلّ شيء آخر. يجب أن نكون واعين بفطنة لحقيقة أنّ الحياة تسير باتّجاه واحد، وأنّها سريعة ولها غاية وهدف. وأنّنا نُسارع عبر الأيّام والسّنوات إلى وجهة ننطلق عند الوصول إليها في رحلة إلى حياة جديدة. لدينا تذكرة عبور (سواء أحببنا أم لا)، وبينما نحن على الطّريق، يجب أن نحافظ على فطنتنا وأن نُعدّ ما نحتاج إليه لتلك الرّحلة المستقبليّة، لأنّه لا يمكننا إبقاء الطّائرة منتظرة، كما أنّنا لا نستطيع العودة أيضًا من أجل أيّ شيء نسيناه!
بعيدًا عن التّفكير فيها برعب، فإنّ فكرة الموت يجب أن تكون فكرة سارّة للإنسان. إذا لم تكن كذلك فالسّبب الرّئيسيّ هو أنّه ليس على علاقة وثيقة مع فطرته الحقيقيّة. فهو لا يُدرك أنّ روحه هي نفسه الحقيقيّة. يخلط بين الجسم والرّوح وبين العقل والإدراك. يعرف أنّ الجسم يتحوّل إلى تراب، ومن المؤكّد أنّه لا يعرف شيئًا أبدًا عن دخيلة نفسه، حتّى إنّه لم يبذل مطلقًا أيّ جهد ليعرف ذلك، فهو ينظر إلى الموت بخوف وريبة. إنّ إدراكه بأنّ الموت هو سهمه النّهائيّ في الحياة، يدفعه لبذل قصارى جهده لاعتصار قدر ما يستطيع من هذا العالم. فينغمس في الحياة بحماس محموم وتبرّم وجشع، إذ تستحوذ عليه طوال الوقت فكرةٌ تكمن في حافّة وعيه بأنّ النّهاية أمامه، نهاية فيها الفناء، وإذا لم يكن الفناء، فهو إذًا شيء غامض، وغريب، ومختلف وغير جذّاب. لو كان بإمكان أحدهم إقناعه بأنّه، بعد أن يتوقّف قلبه عن الخفقان، سيكون في كامل وعيه، تمامًا كما يحدث عندما يذهب من غرفة إلى غرفة أخرى في منزله ويغلق الباب خلفه. وبأنّ الحياة التّالية بعد القبر هي حياة غير مادّيّة، وستكون القشور المادّيّة قد تساقطت. وبأنّ كلّ ما جمعه في داخله هو ما سوف يمتلكه حينئذٍ وعليه أن يعمل بما لديه. وبأنّ الحصيلة قد تثبّتت عند حصول الموت وأنّ المجموع العامّ يكون قد سُجّل ولا يوجد مزيدٌ من الإضافة أو الطّرح يمكن أن يقوم به – إذا أمكن إقناعه بذلك، فإنّ الإنسان سيعيش أيّامه بشكل مختلف، وعينه على المستقبل، لا يخشى الموت، ولكنّ الخوف سيظلّ ممّا سيكشفه له عن نفسه.
في ظلّ الظّروف العاديّة، يحبّ الأشخاص الّذين يأخذون الزّواج بشكل جِدّيّ القيام ببعض الاستعداد له. فيودّ الرّجل أن يكون قادرًا على الأقلّ على تقديم منزل من نوع ما لعروسه، وأن يكون قادرًا على إعالة وضمان الحدّ الأدنى من الرّاحة لها. وبالمثل، ترغب المرأة في أن تكون ملابسها وبيّاضاتها ولوازم تأثيث منزلها، جاهزة قبل أن تتزوّج. فإذا ما طلبتَ منهما فجأة أن يتزوّجا في التّوِّ واللّحظة، فمن المرجّح جدًّا أن لا يكونا مستعدّين تمامًا للقيام بذلك، أو سيظلّ لديهما عدد من الأشياء يجب أن يهتمّا بها أوّلًا. ومع ذلك، فإنّ الموت يتطلّب منّا، بشكل دائم تقريبًا، اتّخاذ خطوة أصعب من الزّواج بكثير دون أن يمهلنا حتّى لحظة. إذًا بمعرفتنا ذلك، يتحتّم علينا أن نقوم باستعداداتنا مسبقًا وقبل حلول الوقت.
الشّيء الوحيد الّذي نأخذه معنا من هذا العالم هو ما نحن عليه، وهذا هو واقع وجودنا بالفعل، إنّه الحقيقة. إنّه حقيقيّ تمامًا كالعناصر الّتي تدخل في معادلة كيميائيّة. إذا كانت المكوّنات متوفّرة، فهي موجودة وبذلك تتحقّق المعادلة وإذا فُقد شيء منها فهو مفقود ولن تتحقّق. أمّا في هذا العالم، فنحن ننزلق عبر الحياة داخليًّا وخارجيًّا واضعين العديد من الأقنعة، ومتعلّقين بالكثير من الأشياء الزّائفة. فقصيرو القامة ينتعلون أحذية ذات كعب عال، بينما ينتعل أصحاب القامات الطّويلة أحذية منخفضة الكعب. هناك ملابس تُخفي العاهات أو تُغطّي النّقائص. وبالمثل، تحلّ العبارات المهذّبة والمظاهر والتّمجيد محلّ الحقيقة وتلمّع الافتقار والنّقص القابع في داخلنا. نحن نخدع بعضنا البعض وغالبًا ما نخدع أنفسنا. نحبّ أقنعتنا، لكنّ الموت يجرّدنا من نقاط ضعفنا هذه. كتفخيم أصدقائنا، وتملّق الأغبياء، والإجلال والاحترام الّذي نحظى به من خلال المظهر وليس الجدارة – سيكون حالنا تمامًا كحال شخص جُرّد من ملابسه، وتساقطت كلّ نقاط الضّعف هذه بعيدًا عنّا. فنمضي من هذا العالم كما نحن عليه حقيقة وندخل في حياة جديدة. أليس منطقيًّا إذًا أنّ علينا التّدقيق في ماهيّتنا الفعليّة وأن نقوم بعمل الشّيء الّذي فيه صلاحها قبل أن نتّخذ هذه الخطوة الّتي لا رجعة عنها؟
من المستحيل أن تنقل إلى ذهن إنسان انطباعًا عن شيء لم يره من قبل، مختلف تمامًا عن كلّ ما يعرفه. لهذا السّبب لم يخبرنا الأنبياء أبدًا بأيّ شيء ملموس عن الحياة الأخرى. كيف يمكنهم ذلك؟ كلّ ما لدينا هنا، نعرفه من خلال ما تُخبرنا به حواسّنا. كيف يمكنك أن تصف عالمًا، لا توجد فيه محفّزات خارجيّة للتأثير عليه ولا توجد حواسّ جسديّة يمكنها تلقّي هذه المحفّزات، لأناس كانت تجاربهم الوحيدة حتّى الآن تصلهم من خلال هذه الوسائل؟ لكنّ، حضرات الأنبياء، أكّدوا لنا أشياء معيّنة بعبارات مؤكَّدة ومن خلال استخدام اللّغة الوحيدة الّتي يمكنها أن تنقل أيّ معنى إلى عقل الجنس البشري – لغة الرّموز والأمثال والاستعارات. لقد قاموا برسم صور لنا، بدائيّة للغاية في بادىء الأمر لتلبية متطلّبات عقول بسيطة، تتحدّث عن الجحيم والجنّة والنّار والتّعذيب، ثمّ البكاء والنّحيب من جهة، والحدائق والخمر والعذارى الحِسان والأجنحة والهالات الذّهبيّة والجواهر من جهة أخرى. لم يكن هذا ضروريًّا للتأكيد على الفرق بين المكانين للناس فحسب، بل كان أيضًا أسلوبًا ذكيًّا جدًّا من النّاحية النّفسيّة لنقل المعنى لهم، فالنّاس لا يحبّون النّار أو العذاب أو التّعاسة من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنّهم يستحسنون بشدّة فكرة الاستقرار في محيط جميل، ويُحبّون الإجلال والتّكريم، الطّيران بأجنحتهم من قصر إلى قصر، حيث كلّ شيء يتميّز بالفخامة. مهما كانت الاستعارات الّتي استخدمها الأنبياء، فإنّ الرّسالة الّتي نقلوها كانت هي نفسها دائمًا: حين تدخل ملكوت الله، فإمّا أن تكافأ أو تعاقب. افعل ما يجب عليك فعله في هذه الحياة فتكون الطّيبات لك. تجاهل الأحكام الّتي يجب أن تضبط سلوكك كإنسان، فيتمّ حرمانك.
لقد أخذ الكثيرون منّا مثل هذا التّعليم مجرّد موعظة. لم نسأل أنفسنا ما إذا كان ما يعنيه الأنبياء، من وراء الاستعارات القديمة الّتي صيغت بلغة عتيقة غير مألوفة لآذاننا، ربّما لم يكن مستندًا إلى قوانين غير قابلة للتغيير وشاملة مثل تلك الّتي تحكم عالم المادة؟. المكافأة والمجازاة يُعتبران عمودين يدعمان الحياة الجسمانيّة والأخلاقيّة. في العالم المادّيّ، هو الفرق بين الحصول على ما نريد، ويكون بإطاعة القانون. والحرمان، بعصيان القانون. إذا تلقّى النّبات العناصر الّتي يتطلّبها كالشّمس، والمطر، والتّربة المناسبة، فإنّه ينمو ويُزهر. ففي امتثاله لمتطلّبات وجوده حصل على “مكافأة” من الصّحّة والنّموّ. أمّا إذا لم يحصل على احتياجاته، فإنّه يتضوّر جوعًا ويذوي، أو حتّى يموت. إنّه “الجزاء” أو الحرمان، وهذا ليس بدافع الحقد أو الكراهية، بل لأنّ النّظام الطّبيعيّ قد انتُهك.
في حياتنا، ينطبق الشّيء نفسه على أجسادنا، ولكن الاختلافات والآثار المترتّبة في أذهاننا تأخذ مفهومًا مختلفًا. فالحيوانات، بما في ذلك الإنسان، لها من الحذق والدّهاء ما يكفي لتكون واعية للقانون ولمعرفة أنّها ستعاني عند انتهاكه أو تفلح إن اتّبعته. فمن المرجّح جدًّا، أنّه عندما يهاجم كلب الصّيد ظربانًا، فيرشّ عليه الأخير روائحه بغزارة وتصل رائحته الكريهة إلى عنان السّماء، أن تنتابه فكرة سوداء، “يا للعنة، لماذا لم أتركه وشأنه؟ – كنت أعرف أنّ ذلك قد يحدث! والحصان المُتعب الّذي يؤلمه سرجه، يضع رأسه على ذراع صاحبه، يعلم أنّ بإمكان صاحبه مساعدته. مثل هذه الأفعال هي إدراك لحقيقة أنّ طاعة المبادئ تجلب الأمان والرّاحة والرّضا وأنّ العصيان يؤدّي إلى فقدان الرّاحة أو المصيبة.
مع ذلك، يتشارك البشر والحيوانات، حتّى بوعي أعلى بما تفعله المكافاة والمجازاة. فالقطّة الموجودة أسفل الطّاولة تعرف أنّها ستُضرب إذا قفزت فوقها لأنّ الطّاولة منطقة محظورة عليها. والكلب يعرف أنّه إذا جلس وتوسّل بلطافة فسيحصل على القليل من اللّحم. والطّفل يعرف أنّه إذا عصى سيُعاقب، وإذا أطاع سيُكافَأ.
هناك نوعان منفصلان من الصّواب والخطأ، مجالان مختلفان من المكافاة والمجازاة. أحدهما لا إراديّ بمعنى أنّ النّار، مثلًا، تحرقنا لأنّ من طبيعتها الإحراق. الطّعام يغذّينا لأنّ من طبيعتنا الحصول على الغذاء، وما إلى ذلك. والآخر هو طوعيّ أو مفروض رغم الإرادة من قبل سلطة أعلى. إذا أتخمنا أنفسنا بكثرة الطّعام ثمّ أُصبنا بعد ذلك بالمرض، نقول، “إنّه خطئي، ما كان عليّ أن أتناول الكثير من الطّعام”. إنّنا ندرك ما سنعانيه نتيجة تجاوزنا الحدود وخرقنا للقانون. عندها لا محالة من أن يُمنى كلّ شيء بالإخفاق. لكن إذا قطع شخص عمدًا إشارة ضوئيّة حمراء، فإنّه يخرق بذلك قانونًا إجباريًّا تفرضه السّلطات المدنيّة على جميع المواطنين. قد يتمّ القبض على رجل ويمثُل أمام المحكمة بتهمة ارتكاب نوعين من مخالفة القانون. أحدهما، لأنّه في حالة سكر، وهو نتيجة لاإراديّة للإفراط في تناول الكحول، والثّاني، انتهاك متعمّد للوائح التّشريعيّة لأنّه قطع بمركبته إشارة ضوئيّة حمراء. في الحالة الأولى، على جسمه أن يكافح لتصحيح الخطأ الّذي ارتكبه، مع أنّ أحدهما كان تجاهلًا أحمق لقوانين الطّبيعة والآخر انتهاكًا متعمّدًا لمن هم في سلطة المرور، إلّا أنّه سيُعتبر في الحالتين مسؤولًا عن أفعاله وسيحاسبه القانون ويعاقبه وفقًا لكلّ جُرم.
عند الموت نجد أنفسنا في وضع مشابه تمامًا. فقد تَثَبَّتَ وضعنا كما هو عليه. نحن الآن في المكيال وسيتمّ الجرد تلقائيًّا. فإذا كنّا قد تجاهلنا القوانين الرّوحانيّة المهيمنة الّتي تحكم تقدُّم أرواحنا، فسوف نجد أنّنا قد خسرنا أشياء في أنفسنا، أُصبنا باختلالات مثل تلك الّتي يُحدثها سوء التّغذية في الجسم العنصريّ. وإذا قمنا بخرق القوانين الّتي وضعتها السّلطة العليا عمدًا – وهو الله في هذه الحالة -، فلا بدّ أن ندفع الثّمن. هذا هو المفهوم الكلّيّ للجنّة والنّار. الجنّة ليست مكانًا، إنّها حالة. وينطبق الشّيء نفسه على الجحيم. كم مرّة دعونا السّعادة “بالجنّة” في حياتنا اليوميّة وكم نقول، ونحن في أعماق الحزن أو العذاب، أنّنا في “الجحيم”. كلاهما بداخلنا. نحن لا نذهب إليهما عندما نموت، بل نأخذهما معنا.
إذا أخذنا بالاعتبار أنّ ساعة واحدة من المتعة تمرّ بسرعة، بينما دقيقة المعاناة تبدو وكأنّها تستغرق دهورًا، فعلينا إذًا أن لا نغفل في أيّام حياتنا عن أمور سوف تباغتنا يوم موتنا.
هذا العالم هو عالم عمل ونموّ وتفاعل. تمامًا كما تنمو أجسادنا وتنشغل، فكذلك أرواحنا أيضًا تتفاعل مع كلّ ما نقوم به فهي حسّاسة وتتلقّى التّأثيرات وتحفّزنا طوال الوقت وتنمو وتتطوّر. عند الموت، ينتهي ارتباط الرّوح بكلٍّ من الجسم والعالم المادّيّ. لقد ولّت أيّام تفاعلها. لم يعد بإمكانها أن تقوم بما كانت تقوم به في هذا العالم بينما كانت آخذة في التّطوّر. لقد تمّ قطعها عن كلّ أداتها وبيئتها. هي القادرة فقط على الوجود. ومع ذلك، فإنّ حالة الوجود هذه هي تقوية بدرجة كبيرة لما عرفناه على أنّه أنفسنا في الحياة. ربّما بمقدور المرء أن يشبّه الفرق بفيلم صور متحرّكة: نحن نلتقط الصّورة في هذا العالم. يحافظ الفيلم على وجهات النّظر والألوان والموضوعات كلّها. لا خيار لدينا على جزء منها (من الواضح أنّ رجلًا يعيش في سويسرا ليس بمقدوره أن يصوّر الصّحراء الكبرى)، لكن لدينا الخيار الكامل على جزء آخر، حيث يمكن اختيار زوايا اللّقطات ووقت التّصوير خلال اليوم ومواضيعنا المباشرة. هذا هو ما نفعله خلال حياتنا اليوميّة. نصنع الفيلم، فيلم قصير، صورة صغيرة تلو الأخرى، لكن هذا هو نحن. تُسجَّل المشاهد بلا توقف بضربة خاطفة من الأصبع. وقبل أن يكون لدينا وقت للاستمتاع بمشهد أو تجربة منها أو تقديرها أو تقييمها بشكل صحيح تكون قد سُجّلت نجد أنفسنا منشغلين بالمشهد التّالي. وعندما نموت، يتمّ عرض الفيلم. وهنا يحدث تكبير هائل للمشاهد. أشياء لم ندرك أبدًا أنّنا نلتقطها تظهر على الشّاشة: في الزّاوية قد يظهر مكبّ نفايات القرية، لم نكن نريده في المشهد ولكنّه هناك! وقد نكتشف فجأة في منظر لحقل من الزّهور فراشات تحوم وتحلّق هنا وهناك، إنّها لمسة غير متوقّعة من الجمال وسبب مزيد من البهجة غير متوقّعة لنا. وغنيٌّ عن القول إنّ وضع قمامة القرية على هذا النّحو عادة سيّئة، تصرّف مؤذٍ، وفيه بعض الانتهاك المتعمّد للقانون، والفراشات هي عمل خير من اللّطف والإيثار، بعض اللّمسات سعيدة الحظ الّتي بادرنا بإضافتها على شخصيّتنا، وربّما دون أن نُدرك على الإطلاق كم ستبدو جميلة عند عرضها على الشّاشة.
لم يعد بإمكاننا أخذ هذه اللّقطات مرّة أخرى. فالوقت والمكان والنّاس، ذهبوا جميعًا. ربّما سيكون فيلمنا سببًا في سرورنا، وعندها سنكافأ على كلّ جهد صبور بذلناه فيه. ربّما سنجده متواضعًا ومملًّا ونتمنّى لو تمكّنّا من إدخال تحسينات عليه. ربّما سنكتشف بعض مشاهد الرّعب الّتي تمّ تقديمها هناك، كمشهد قتل أو عمل وحشيّ أو ارتكاب فُحش يطاردنا. ونحن نُعاقَب على الدّوام بظهور هذه المشاهد في الفيلم. ماذا عسانا أن نفعل؟ فالكاميرا وجسمنا وحياتنا وموضوعنا، كلّها قد ولّت.
جميع التّشبيهات في أحسن أحوالها غير كافية. ولكن النّقطة المهمّة هي أنّه في الحياة بعد الموت لا توجد لدينا سلطة على ما قد حصل. لقد ثُبّتت أعمالنا فينا. وإذا ما وُجد احتمال لتغيير الصّورة فلا بدّ من يد أخرى عُليا لتقوم بذلك. إذا بدأ إنسان في هذه الحياة على نحو خاطئ، وعرف أخطاءه، وبدأ في تصحيحها، فإنّه لا يزال بإمكانه أن يأخذ معه سجلًّا جيّدًا عند رحيله. إذ بإمكانه أن يتصرّف، بإمكانه أن يتغيّر، بإمكانه أن يزيل الشّرّ عن طريق عمل الخير طالما هو على قيد الحياة وما زال سيّد مصيره. والحياة ليّنة العريكة وسريعة التّقبّل على نحو رائع، الجسم يُلْئمُ جميع الجروح عدا تلك الّتي لا أمل في شفائها. الشّجرة تُنبت غصنًا جديدًا بدل الغصن الّذي فقدته في العاصفة. ولكن عندما تنتهي فترة حياة الإنسان في هذا العالم، فإنّ فرصته لتحسين وضعه تكون قد ولّت، مرّة وإلى الأبد. أيّ تغييرات مستقبليّة يجب أن تعتمد على أمرين: هل يريد أن يتغيّر، وهل ستوافق يد الحقّ العليا على التّدخّل وإجراء التّغييرات لصالحه؟
إنّ الرّغبة في التّغيير هي التّوبة، وعدم الرّضا عن نفسك، والرّغبة والتّوق لتلقّي المساعدة. عندما تموت بعض النّفوس، تبقى على ما هي عليه من الصّرامة، والانغلاق على نفسها بشدّة كما لو أنّها ما زالت حيّة. وبما أنّ الموهبة والتّميُّز اللّذيْن منحهما الله للإنسان في المقام الأوّل هما قوّة الاختيار والقليل من الإرادة الحرّة، فلا يمكن لأحد أن يناضل من أجل فتح حبّة الجوز هذه ذات القشرة الصّلبة بالقوّة. يمكن إخضاعها لقوى مؤهّلة لمساعدتها على فتح نفسها المنغلقة، مثل محبّة الّذين يحبّونها ودفء دعائهم، ولكن ليس بالقوّة. لقد منح الله لكلّ منّا هبة الوعي الذّاتيّ كحقّ لنا اكتسبناه بالولادة لا يقدّر بثمن. لا أحد يستطيع حقًّا امتلاكنا، لا أحد يستطيع أن يكسر قفل أرواحنا الدّاخليّ، لذلك على الشّخص الّذي يغادر هذه الحياة بسوداويّة وفقر داخليّ، حاملًا ثِقَل العقاب على ظهره، أن يكون واعيًا لسوء أعماله، وراغبًا في التّغيير قبل أن يتمكّن من تلقّي أيّ عون من الله. وحتّى عندئذ، قد تكون العمليّة طويلة وشاقّة وسيكون كلّ ما يحصل عليه الإنسان خلالها هو من باب الفضل الإلهيّ. إذا لم يقم بالزّرع في هذا العالم، فلن ينتظره أيّ حصاد فيه. سوف يأكل ما يأكله الفقراء. من يدري كم سيكون ندمه شديدًا لإهماله في ضمان محصول لنفسه عندما كانت الفرصة متاحة له؟
في الواقع، من الغباء ألّا نفكّر قليلًا في الموت، فمجيئه قطعيّ، وقد يأتي إلينا في أيّ وقت، وسيكون حصوله بمثابة تغيير هائل بالنّسبة لنا، ويمكن أن يجلب لنا فرحًا وثوابًا لانهائيّين أو الكثير من النّدم والقصاص على أعمال قمنا بها. إذا بدت لك هذه الصّورة قاسية، فاسأل نفسك كيف سيكون وضع روح إنسان كان يمارس سلطته بوعي، وكان مسؤولًا عن فظائع تُرتكب في معسكرات الاعتقال؟
إذا كنّا نود الاعتراض على الله لأنّه خلق العالم كما أراد، فهذه مسألة أخرى. لكن لا بدّ للإنسان أن يكون أحمقًا وصلفًا بالفعل لينتقد نظامًا وُضع بهذه البراعة والذّكاء والدّقّة المتناهية، كما هو عليه نظام الكون، الشّامل لكلّ حياة، بما فيها حياته هو. الشّيء الأكثر حكمة بالنّسبة لنا هو أن نكرّس قدرًا معيّنًا من الفكر الوقّاد والتّأمّل في أنفسنا وطرق معيشتنا وتطلّعاتنا المستقبليّة.
حياتنا الجسمانيّة مُخطّط لها، من البداية إلى النّهاية بشكل أو بآخر. علينا أن نخطّط لما ستكون عليه شخصيّاتنا ونفكّر في النّتائج الّتي نتوقّع الحصول عليها من هذه الخطط، نتائج ستبقى معنا أبد الدّهر.
نحن نعيش في عالم زاخر بالقوّة. ففي كلّ مكان نتوجّه إليه، وفي أيّ مجال من مجالات البحث، سواء أكان ذلك مجال النّجوم، أو الذّرّات، أو علم الأحياء، أو الكيمياء، أو العلوم الاجتماعيّة والاقتصاديّة، نرى نفس الخصائص ظاهرة مشهودة: طاقة ونشاط عارم، يُنتجان القوّة والقدرة، وفي الحياة التّكاثر، النّموّ والتّطوّر.
لقد تغيّر مفهوم المادّة برُمّته من خلال الأبحاث الأخيرة. الشّحنات الكهربائيّة متناهية الصّغر والمتذبذبة بعنف والّتي تبدو لبناتِ البناء لكلّ شيء، تتحرّك في مداراتها الدّقيقة بسرعات تُدوِّخُ الرّأس. حتّى المجرّات الأخرى لا تتوقّف عن الحركة، فهي تدور بلا نهاية في دروبها العظيمة. يبدو أن القليل يصبح وافرًا، والبسيط يقوم بعمل الكثير. سواء كان ذلك شعاع نجم، يسافر ملايين السّنين الضّوئيّة للوصول إلينا، حاملًا، مع كلّ ضعفه، القليل من الطّاقة ورسالة واضحة عن طبيعة الكتلة المتوهّجة الّتي بعثته. أو كان تلك الأعجوبة الّتي لا نهاية لها والّتي نجدها في بعض الجينات البسيطة والّتي تَنقل إلينا ملايين السّنين من التّطوّر، والتّحوّل من نواة لتصبح شتلة ثمّ شجرة بلّوط، أو لتُنتج فتاةً حسناء ورجلًا، إنّ مظاهر القوّة والنّشاط موجودة هناك دائمًا. القليل جدًّا يصبح وافرًا، ويقوم بفعلِ الكثير. فها هو صبيّ صغير من كورسيكا يكبر ليقلب أوروبا رأسًا على عقب، وليكون مسؤولًا عن مقتل الآلاف، وليكتب اسمه بحروف كبيرة وخطّ عريض على صفحات التّاريخ. ينظر أحد العلماء من خلال مجهره، فيلتقط عدوًّا لكافّة أبناء جنسه – لقد اكتشف عُصيّة التّيفوس أو ميكروب الملاريا. لن يموت مئات الملايين من البشر بسبب اكتشافه.
نظرًا لأنّ من طبيعة المادّة أن تكون نشطة (كلّ ذرّة في أيّ كتلة صخريّة هي نشطة)، لذلك فمن الطّبيعيّ أن تكون طبيعة الكائنات الحيّة نشطة. في الواقع، عندما تتوقّف عن ممارسة نشاطها، تقع ضمن فئة أخرى تسمّى “الموت”. الحيوانات نشطة دونما وعي منها. فإذا كانت لا تقوم بالصّيد أو التّزاوج أو رعاية صغارها، فإنّها غالبًا ما تكون مشغولة باللّعب أو بتنظيف وبناء منازلها أو برعاية نفسها. بل حتّى إنّ البعض يذهب إلى أبعد من ذلك، فهي تكدح بنمط ثابت: النّمل يأخذ النّمل البقريّ[1] الضّعيف الأخضر إلى المراعي لترعى، ثمّ يحلبها ويعيدها إلى بيوتها مرّة أخرى. يجمع الحبوب، ويستعبد أنواعًا أخرى من النّمل للمساعدة في أعماله، ويهاجم ويخوض معركة مع أعدائه. إنّه يعمل بشكل منهجيّ وجادّ رغم عدم وعيه بهذه الأعمال.
ولكن لا يوجد حيوان يعمل كما الإنسان. إنّه لمن مفاخر الانسان الفريدة أن وُجّهت فيه هذه الخاصّيّة المشتركة لنشاط المادّة نحو قناة العمل العظيمة. لقد سخّر كلّ قدرة لديه للعمل. سخّر سمعه في إنتاج الموسيقى والالآت الموسيقيّة. واستطاعت يداه أن تُمسك الأشياء وتبني من أوّل كوخ صنع من أغصان الشّجر إلى ناطحات سحاب يزيد ارتفاعها عن 100 طابق، من عجلتين على محور إلى طائرات نفّاثة أسرع من الصّوت، من سكّين حجريّ في العصور السّابقة المظلمة للإنسان إلى مشرط جرّاح حديث. كما أنّ قوّته في الكلام والتّعبير، دفعته من الكلام إلى الكتابة ومن الكتابة إلى الطّباعة حتّى غمر العالم باللّغات والكتب. عيناه، اللّتان هما نوافذ عقله، قدّمتا له الفنّ بكلّ ما يحتويه الشّكل واللّون من ثراء. لقد وفّرتا له الأدوات الّتي تجعل منه سيّد بيئته بنحو متزايد. فأدوات المسّاح ومعدّات الفيزيائيّ ما هي إلّا مجرّد أيادٍ لعينيه وأدوات لعقله.
ربّما لا يوجد مخلوق حيّ لا يهدأ أبدًا بطبيعته مثل الإنسان. فلا بدّ أن يفعل شيئًا. إنّه لا يستطيع أن يهدأ لساعات كالزّواحف تحت أشعّة الشّمس أو كالدّبّ في سُباته. حتّى الهمجيّ الأكثر فقرًا، مهما بدا لنا خاملًا في عاداته وقليل الطّموح. إلّا أنّه لا يزال يفعل شيئًا ما، وما فتئ يبتكر شيئًا، ولا زال يفكّر.
أن يكون الإنسان نشيطًا فذلك عاديّ وطبيعيّ. فعندما ترى الأم أنّ طفلها البالغ من العمر خمس سنوات خامل وهادئ، فإنّها تعرف أنّه لا بدّ من مرض قد أصابه. ورغم أنّ حركتنا وقفزنا لأعلى وأسفل يقل مع تقدّمنا في السّنّ، فإنّنا لا نتوقّف عن نشاطنا إلى أن تحلّ بنا الشّيخوخة. إذا توقّفنا فعلًا، فلا بدّ أن نكون مصابين بمرض ما، بدنيًّا أو عقليًّا أو روحانيًّا. نادرًا، بل من النّادر جدًّا أن ينصح الطّبّ أو الطّبّ النّفسيّ شخصًا ما بأن لا يفعل شيئًا. يقولون إنّك بحاجة إلى “تغيير”، بمعنى آخر، أن تفعل شيئًا مختلفًا عمّا تفعله عادة. في الواقع تمّ تعريف الرّاحة بذكاء على أنّها تغيير لما نقوم به من عمل.
هذه القدرة الرّائعة الّتي لدينا للعمل والإنتاج، هي ينبوع صحّتنا، وإلى حدّ كبير، هي سعادتنا في الحياة. لا شيء يمكن أن ينقل إلينا شعورًا قويًّا بالرّضا في هذا العالم كما يفعله شيء أنجزناه. إنّ عملًا أُنجز بشكل جيّد، سواء كان صنع فطيرة أو كتابة كتاب أو بناء جسر، يمكن أن يمنحنا قدرًا من الرّضا والارتياح، وشعورًا من البهجة والإنجاز لا يمكن لشيء آخر أن يحدثه على الغالب. حتّى في الحزن، حتّى في حالة المرض أو الفقر أو الخطر، فإنّ إنجاز عمل ما بصورة جيّدة يعطينا ربحًا ومردودًا. تمّ إعادة تأهيل مهجّري الحرب، والمحطَّمين نفسيًّا، والأطفال المتخلّفين، وإفساح المجال أمامهم للخروج من بؤسهم أو إحساسهم المحتّم بعدم الفائدة بفضل انخراطهم في العمل. لماذا؟ لأنّ العمل ضروريّ لنا، فهو يُدخِل جوهر وجودنا في مجراه، فكما أنّ الدّم يؤدّي الكثير من الخدمات الضّروريّة لصحّة أجسامنا، مثل التّخلّص من الملوِّثات، وإعادة تزويد نفسه بالأكسجين في الرّئتين، وجلب الغذاء للأنسجة، كذلك يبدو أنّ العمل يُضفي نغمة على آلتنا بأكملها، فينعشنا، ويبعث دفْقًا جديدًا من الطّاقة. ومع ذلك، يبدو أنّ العمل، وهو في الوقت نفسه واجبنا وامتياز لنا ويبدو، مثل كلّ شيء آخر تقريبًا في حياتنا اليوميّة، خارجًا عما يُراد له، وبعيدًا عن أن يكون إضافة جيّدة إلى محصّلة معيشتنا، يُنظر إليه على أنّه عبء وشرّ لا بدّ منه، أو في أحسن الأحوال وسيلة لتحقيق غاية. نحن نتّبع مقاربات كثيرة خاطئة لجزء أساسيّ للغاية من حياتنا. فغالبًا ما نعتبر العمل وسيلة للحصول على المال، والمال بدوره يُعتبر وسيلة تُريحنا من ضرورة العمل. إنّنا نسعى وراء العمل على أمل الوصول إلى الرّاحة والرّفاهيّة والاستمتاع – وهو ليس أملًا سيّئًا إذا تمّ الإبقاء عليه ضمن الحدود – ولكنّه يحطّ من شأن العمل إذا سُمح بالافراط فيه. يعمل معظم النّاس لإنهاء المهمّة، وهم على عجلة لإنجازها وكفّ أيديهم عنه. إمّا لأنّهم لا يهتمّون بالطّريقة الّتي يُؤدّى بها طالما يتمّ الانتهاء منه (دون التّعرّض للعقاب)، أو يقومون بالعمل بشكل جيّد من أجل الحصول على راتب أو ترقية أعلى. قليل من النّاس يعملون من أجل العمل نفسه، وما زال عدد أقلّ من النّاس يُنهون ما بين أيديهم من عمل بأفضل إتقان ممكن بسبب رغبتهم الوصول به إلى الكمال والحصول على الرّضا من انتهائه على الشّاكلة الّتي يأملونها.
من الجيّد أن ترغب في العمل، أن تُفْرغَ طاقتك في شيء، وأن تحصل على الحافز الّذي يتأتّى من النّشاط. إنّه يمنحك مكافأته الخاصّة في الشّعور بروعة الإنجاز. ولكن لا يزال العمل هو الأفضل، والسّعي لتحقيق الكمال فيه. هناك الكثير من المهامّ الشّاقة الّتي يتعيّن القيام بها في هذا العالم، مهامٌ تكسر الظّهر مثل يوم غسيل الأُسرة، وتعزيق البطاطا، وتزويد السّفن بالفحم، وكنس الشّوارع. أشياء مملّة، كالعمل المستمرّ في إعداد وجبات الطّعام ثمّ غسل الأدوات المستعملة بعد ذلك، أو القيام مرارًا وتكرارًا بالمهامّ الميكانيكيّة نفسها في خطّ للتجميع. وإذا كانت طبيعة المهنة خالية من الإثارة، ويبدو أنهّا لا تُتعب الجسد دون فائدة، فهي ستُتعب الرّوح ذاتها برتابتها، فإنّ هناك طريقة لجعل مثل هذه “الأعمال الرّتيبة”، مثل هذا الكدح يأتي بمردوده من الرّضا. ألا وهو القيام بهذه المهمّة بإتقان. إذا أتممت مهمّة بنصف ما لديك من إتقان – بشكل جيّد بما يكفي لإبعادها من طريقك وليس أكثر – فلن تستمدّ أدنى متعة من ذلك، ولكن إذا قرّرت أنّ هناك طريقة صحيحة وأخرى خاطئة لفعل كلّ شيء، وأنّك ستفعل هذا الشّيء المُرهق من الغسل أو العزق، أو أيًّا كان، كما لم يتمّ القيام به من قبل وليس بالامكان القيام به بأفضل ممّا فعلت – أو تُخفق في المحاولة – فستحصل على حماسة النّجاح كمكافأة لك، مهما كانت المهمّة الّتي تقوم بها متواضعة. إذا اقتربت من العمل وأنت تقول، “إذًا لا بدّ من غسْلِك، أليس كذلك؟ سوف أغسلك جيّدًا!” أو، “إذًا أنت تريد أن توضع على المِنْشر، أليس كذلك؟ حسنًا، سوف أنشرك، فقط دعني أمسك بك!” فمن المرجّح أن تفقد شعورك بالملل أو التّمرّد بعد إحساسك بالرّضى عند رؤية مدى نجاحك في ذلك.
أحد الأمراض المتزايدة والواضحة في عالمنا الحديث هو أنّ قوّة التّركيز قد أصبحت ضعيفة للغاية. فالنّاس إمّا أنّهم لا يستطيعون أو لا يولون الانتباه الدّقيق لما يفعلونه. لهذا تداعياته الفظيعة طوال الحياة. انتباه النّاس مشتّت بشكل خطير، ويمكن للمرء مقارنته تقريبًا بالإضاءة غير المباشرة: حيث يوجد الكثير من الضّوء الضّعيف ولا يمكن رؤية أيّ شيء بوضوح. وهذا لا يؤدّي إلى القيام بعمل سيّئ فحسب، بل إلى العديد من الحوادث على الطّرق وفي المصنع وفي المنزل أيضًا. كما أنّه يؤدّي إلى قدر كبير من سوء الفهم والحُنق. يفعل النّاس شيئًا ما ويفكّرون في شيء آخر، أو حتّى إنّهم لا يفكّرون. كم مرّة في الأسبوع حصل أن قلت لشخص ما، “لكنّني أخبرتك …” وكانت الإجابة “لا ، لم تفعل”. هل لاحظت عدد المرّات الّتي تتحدّث فيها إلى النّاس وتستطيع أن ترى أنّهم إمّا أنّهم لا يستمعون أو، إذا كانوا يسمعون بآذانهم، فهم بالتّأكيد لا يستوعبون بأذهانهم ما تقوله؟
اعتمد بقاء الأنواع على القدرة على تركيز الانتباه، أي تركيز ما يسمى بيولوجيًّا بالمستشعرات – الأعضاء والأعصاب المرتبطة بالسّمع، والرّؤية، والتّذوّق، والشّمّ، والشّعور – على ما يحدث في تلك اللّحظة لتكون بالتّالي أكثر قدرة على التّعامل معه، إمّا من أجل حماية النّفس أو الاستفادة من فرصة ثمينة. فلو ازددنا تركيزًا لحظة بلحظة على ما نفعله فلن يتحسّن العمل ونوعيّة الإنتاج فحسب، بل سيزداد شعورنا بالرّضى بشكل ملحوظ أيضًا. نحن لم نُخْلَق لتندفع الخبرات من خلالنا كدفق الماء الهائل، ولكنّنا مُصَمَّمون على استيعاب وهضم ما يأتي في طريقنا وهذا هو ما يمكننا القيام به، إلى حدّ كبير، من خلال تعلّم كيفيّة حصر انتباهنا وتركيز عقولنا. وقد تمّ تجسيد ذلك من النّاحية الفلسفيّة، منذ آلاف السّنين في [2]Bhagavad Gita:
“الأمس ليس سوى حلم
وغدًا ليس سوى تبصرةٍ وتخيُّل
ولكن أن نعيش يومنا جيّدًا
يجعل كلَّ أمسٍ حلم سعادة
وكلَّ غدٍ تبصرةَ أمل.
لذا اهتمّوا جيّدًا بيومكم الحاضر. ”
يحتاج جهاز الاستقبال لدينا إلى التّحسين والاستفادة منه. ولكن هناك جانب آخر لطبيعة الإنسان لا يقلّ أهمّيّة، رغم اختلافه تمامًا. البشر بطبيعتهم كالمشعاع. لقد خُلقنا لنعطي. وإذا شعرنا أنفسنا أشبه بالإسفنج منه بالمشعاع فنحن إذًا في حالة سلبيّة غير صحّيّة. عندما تُفْرِغُ شيئًا ما من نفسك في مهمّتك، مهما بدت تلك المهمّة مزعجة، فإنّك تشعر بالرّضا. لأنّه، على الأقلّ، إذا كان عليك القيام بذلك، فقد قمت به بشكل جيّد. هذا الباعث الدّاخليّ للتّعبير، للعطاء، لا يفيد صحّتك العقليّة فقط، بل هو إضافة جيّدة لحياتك ككلّ. ستكون بيئتك أفضل من ذلك بكثير لأنّك قد أنجزت المهمّة بأقرب ما يمكن من الكمال. وإذا كان هذا منزلك، فسيكون أنظف وأكثر ترتيبًا. سوف يستمتع أولئك الّذين يشاركونك به أكثر بسبب هذا الشّيء الإضافيّ الّذي أدخلته في عملك ممّا يجعل هنالك فرقًا بين كونك قد انتهيت منه كيفما كان وبين أن تكون قد أتممته كما ينبغي. إذا كانت هذه هي مهنتك أو وظيفتك، فإنّ مدراءك أو أولئك الّذين سيستفيدون من كيفيّة أدائك لعملك سيسارعون إلى إدراك وتقدير الفرق.
إذا كان كلّ ما نملكه في الحياة لا يؤدّي إلى نتيجة معيّنة، فلا طائل منه إذًا، إلّا إذا جَعَلَنا ذلك أكثر سعادة وأكثر رضًا، أو ساعدنا على تطوير إمكاناتنا إلى درجة أكمل، لتتناسب مع نمط حياتنا بشكل أكثر انسجامًا ونفعًا. يبحث كافّة البشر تقريبًا عمّا ليس لديهم. فهم يريدون وظيفة مختلفة، أو دخلًا أعلى، أو جهازًا جديدًا يوفّر مستوى حياة أكثر ترفًا. ونادرًا ما يشعرون بالرّضى والقناعة بعد حصولهم عليه. تُقذف الدّمية إلى الأعلى والأسفل عدّة مرّات ثمّ سرعان ما تُهمَل وتُهجر طمعًا في شيء آخر جديد يشتهونه. لا يُعزى ذلك فقط إلى الافتقار للانسجام في شخصيّاتنا من خلال شكل من أشكال الجوع الرّوحيّ وسوء المعاملة، ولكنّه يعود أيضًا إلى الطّريقة الّتي نعمل بها. فنحن ليس لدينا احترام للذّات. نحن لا نريد أن نُدخل أيّ شيء من ذواتنا فيما نقوم به. نحن لا نستمتع بعمليّة الإنتاج. لدينا مرض فظيع يمكن وصفه بأنّه “حبّ التّملّك، أعطني”. نريد أن نأخذ في كلّ وقت، ولكن نادرًا ما نريد أن نُعطي. والنّتيجة هي أنّنا نعاني من التّسمّم التّلقائيّ، فقد تخثّرت شخصيّتنا بسبب توقّف دورتها. علينا أن نُطلق طاقاتنا كجدول الماء ونأخذ، بالنّتيجة، قوّةً جديدة كتسلسل منطقيّ لعمليّة العيش. العضلات، إذا تمرّنت، لا تَضْعُف. بل على العكس من ذلك كلّما زاد استخدامك لها، زادت قوّتها. وهذا امتثال للإيقاع المناسب للحياة. النّضال، وهو إنتاج للطاقة، يولّد القوّة والصّلابة. كلّما قُمت بعمل أكثر، سيكون بمقدورك أن تعمل أكثر.
لا شكّ في أنّ أحد الأسباب الّتي تجعل النّاس في هذه الأيّام يشعرون بالقليل من الفخر أو السّعادة الشّخصيّة فيما يعملون، يعود لوجود الآلة. فشيء يصوغه الإنسان بيديه، مهما كان متواضعًا مثل المكنسة أو الحصيرة أو الكرسي أو القِدر، يكتسب رونقًا معيّنًا، إذ يُدخِل فيه تلقائيًّا شيئًا من نفسه، من شخصيّته لأنّ يديه هما اللّتان صنعتاه، عادة ما يكون ذلك من أجل استخدامه الشّخصيّ أو لعائلته أو قريته. إنّ الضّغط على مفتاح آلة رائعة ورؤيتها وهي تصبغ قطعة ما، أو تُدير آلافًا من أرجل الكراسي على مخرطة كهربائيّة، لا يشجّعك على وضع شيء من قلبك فيه. كلّ هذا غير شخصي بالكلّيّة، فهو يجعل دورك في هذه السّلسلة الّتي لا نهاية لها من الإنتاج الآليّ يبدو صغيرًا للغاية بل عديم الفائدة تقريبًا. لقد اضطررنا إلى دفع ثمن معيّن للتحرّر الجديد الّذي منحتنا إيّاه الآلات، وكان لا بدّ لنا في الوقت نفسه، ولجعل عبء الإنسان العاديّ أخفّ بكثير، التّضحية بنسبة مئويّة من احترام الذّات والرّضا الّذي ناله أجدادنا من العمل بأيديهم.
من أجل استعادة هذا الوضع والاستمتاع بالعمل – وهو في حدِّ ذاته أحد أعظم مصادر السّعادة في هذا العالم – سيتعيّن علينا أن نعدّل تفكيرنا مع خطوط مختلفة. فالعمل ضرورة ليس من النّاحية الماليّة فحسب ولكن من النّاحية النّفسيّة أيضًا. نحن جنس من العمّال، مثلنا في ذلك مثل النّحل أو النّمل، ولن نحافظ على صحّتنا أبدًا ما لم نعمل – مهما كان نوع هذا العمل، أكان التّنقيب عن الفحم أو علم الفلك أو قيادة فرقة موسيقيّة، إنّه أمر جيّد وضروريّ بالنّسبة لنا. إذا أدركنا هذه الحقيقة، فسوف نتعامل مع مهامّ الحياة بروح أكثر شغفًا واستعدادًا. إذا نمّينا في أنفسنا الإعجاب والتّوْق للوصول إلى الكمال سنجد أنّ عملنا سيمنحنا عائدًا من الرّضا أعلى بكثير.
ولكن كلّ هذا لا يكفي، وليس جيّدًا بما فيه الكفاية. فلا يزال الأمر يتعلّق بالمقاربة الفرديّة البحتة للحياة: “سأفعل هذا، وبهذه الطّريقة، لأنّ هذا يرضيني”. تمامًا مثلما أنّ حياة العُزلة الّتي يعيشها الأعزب ليست هي الطّريق الحقيقيّ إلى السّعادة والكمال الرّوحانيّ – اللّذين يمكن العثور عليهما فقط في العلاقات المتبادلة، والعيش كبشر في مجتمع من نوعنا – وكذلك العمل فإذا تمّ النّظر إليه على أنّه وظيفة رجل واحد، بغضّ النّظر عن الآخرين، فلن يكون مُرضيًا أبدًا. يجب اعتبار العمل كهديّة، هديّتك الشّخصيّة للعالم بأسره. “خذ هذا منّي مع تحيّاتي. إنّه عملي، وأنا فخور به للغاية.” إنّها مساهمتك في تحسين حياة الجميع، بمن فيهم أنت شخصيًّا. بمعنى آخر، إنّها الخدمة الّتي تقدّمها لهم. قد تحصل على المال مقابل ذلك، مال قليل جدًّا أو كثير جدًّا. قد تكون المهمّة متواضعة، مثل جامع قمامة المدينة، أو مهمّة خطيرة، مثل تفكيك الألغام، ولكن ما لم تقم بذلك بكلّ فخر، وأنت مدرك بأنّ هذه هي مساهمتك للمجتمع، وأنّك تقوم بمهمّتك بشكل جيّد، وأنّك لست يعسوبًا في القفير، ولكنّك تسعى لكسب لُقمة عيشك، بكلّ أمانة وبمجهودك الفرديّ، فلن يكون بمقدورك الحصول على الشّعور بالرّضا لقيامك به.
لا تدع شخصيتك تقف مثل الماء الرّاكد في مجرى، لا يولّد سوى الوحل والجراثيم. إعرف بأنّ هناك في داخلك ينابيع تتغذّى من مصادر إمداد لا تعرفها وغير محدودة. من المفترض بك أن تتدفّق كجدول ماء، وتعطي من خيرك – الّذي تملّكته بطريقة أو بأخرى، وبكميّات كبيرة أو صغيرة – للآخرين، فتساهم بنصيبك في حياة العالم. لا تعمل بل اخدم.
في إحدى الامسيات وفي وسيلة نقل عموميّة في شارع من شوارع بروكسل تلقّيت درسًا رائعًا لا يُنسى أبدًا حول كيفيّة أداء العمل. صعدتُ التّرام من المنطقة التّجاريّة عائدة إلى منزلي في ضواحي المدينة. مكثتُ فيه لمدّة لا تتجاوز خمس عشرة أو عشرين دقيقة وكان ذلك قبل العديد والعديد من السّنوات، لكن قاطع التّذاكر (الكُمساري) علّمني خلالها أمورًا عن كيفيّة أداء العمل فاقت ما تعلّمته من أيّ إنسان آخر. بدا وكأنه يشعر بأنّه يمتلك الحافلة، فعندما يدخل راكب فيها فكأنّه قد دخل منزله، وكأنّ كلّ راكب فيها هو ضمن مسؤوليّته، وأنّه كان مُضيفهم. كان يقوم بكلّ هذا دون وعيّ منه. لقد وضع، بطريقة ما، كلّ كيانه في عمله. واجبات الكمساري في وسيلة النّقل العامّة محدّدة تمامًا في طبيعتها. عليه بيع التّذاكر وإعادة باقي النّقود وضمان عدم الاحتيال على الشّركة. وبالإضافة إلى ذلك، كان عليه، في بروكسل تلك الأيام، أن يُتعِس حياة الجميع من خلال نفخه في بوق نحاسيّ صغير مروّع كإشارة للسائق للتحرّك إلى المحطّة التّالية. لكن هذا الرّجل – ربّما لم يكن على علم أبدًا بأنّ كلّ ما كان مطلوبًا منه هو أن يتعامل مع تلك النّقود المتّسخة وأن ينفخ في بوقه – كان يساعد كبار السّنّ من الرّجال والنّساء وكذلك الأطفال في خروجهم ودخولهم العربة. يسلّمهم حاجيّاتهم، يحمل الطّفل حتّى تنزل الأم . كان يسير في العربة، كأنّه في غرفة استقبال منزله، فيُجلس شخصًا متعبًا ليرتاح أو يدعو آخرين لافساح المجال لجلوس إمرأة. يُجيب عن ما يُطرح عليه من أسئلة بشغف، وبأدب أكيد. يُخبر الرّكّاب عن الوصول إلى وجهتهم إذا ما طلبوا منه ذلك. كان يبتسم، وينظر إليك وكأنّه يقول، “إذن أنت هنا! تُرى ما الّذي يمكنني فعله من أجلك؟”. لقد كان الأمر بمثابة معجزة. لا يسعني إلّا أن أتساءل كيف سيكون هذا العالم إذا قام جميع النّاس بوظائفهم بهذه الطّريقة. بدلًا من أن تكون فظًّا أو مستاءً أو غير مبال. بدلًا من أن يكون موقفي، “هذه هي الطّريقة الّتي أكسب بها رزقي، لا علاقة لها إطلاقًا بي أنا، أنا هنا لأقطع التّذاكر وأعطي الإشارات وهذا هو كلّ ما أنوي فعله”. بدلًا من أن يكون متبلِّد المشاعر مع كلّ إنسان من حوله (كما هو حال معظمنا طوال اليوم)، فقد كان متفهّمًا ودمثًا ومحبًّا للمساعدة. والأمر الأكثر أهمّيّة، وأنا متأكّدة من ذلك، أنّه كان سعيدًا. فبوضعه كلّ ما لديه في مثل هذه الوظيفة غير الواعدة، حصل على عائد غنيّ من الرّضا والقناعة، كان مرسومًا على وجهه، وهو وجه عاديّ، متعب ولكن مع تعبير عن سعادة منيرة تقريبًا. لقد وجد سرّ العمل، وهو الخدمة – التّعويذة الذّهبيّة الّتي تحوّل الكدح إلى متعة والإرهاق إلى رضا والملل إلى إثارة. هل يمكن لأحد أن يقول إنّ جهود هذا الإنسان ضاعت سُدى، أو أنّه أحمق؟ كنت أحد ركّاب ذلك الرّجل، لكنني لن أنساه أبدًا ما حييت. شخص واحد يمكنه فعل الكثير. إنّه أمر يستحقّ التّأمّل فيه. كيف سيصبح العالم لو جرّبناه جميعًا! أن نعطي هو أن نتلقّى. إنّها عمليّة غامضة، ولكن كلّما زاد إنفاقك من أجمل وأحسن عناصر شخصيّتك، كلّما بدا وكأنّها تنمو وتتضاعف أكثر بداخلك.
[1] -النمل البقري: نوع دقيق من النمل يعيش مع النمل ويؤدّي نفس مهمة الأبقار عند الإنسان (النسخة الفارسية من وصفة للحياة ص 61 )
[2] تم وضع جيتا في إطار حواري جرى بين الأمير Pandava Arjuna ودليله وقائد عرباته كريشنا وتُعتبر من أشهر الكتابات المقدسة لدى الهندوس.
الماء يحفر لنفسه مجرى بالتّدريج. ومع تدفّقه وجريانه أكثر تتعمّق القناة وتتّسع. يُعدّ إخراج النّهر عن مساره إلى مسار جديد مهمّة كبيرة، لكنّ الإنسان تمكّن من القيام بذلك بنجاح مرارًا وتكرارًا. العادات هي قنوات في أسلوب حياتنا، وقد تكون هذه القنوات حسنة أو سيّئة. ربّما نكون قد سمحنا لشخصيّاتنا وبإهمالنا أن تسلك كلّ خطّ تكون مقاومته أقلّ – كما يفعل الماء – فتُثقلنا بالكثير من العادات السّيّئة، أو ربمّا نكون قد دفعنا شخصيّاتنا إلى طرق جيّدة. أيًّا كان الأمر، فإنّ مجرّد كون البشر، مثلهم في ذلك مثل أيّ شكل آخر من أشكال الحياة، يشكّلون العادات بشكل مكثّف، لهي مصدر قوّة عظيمة لنا.
لقد شكّل المجتمع نفسُه عادات سيّئة للغاية. إنّه مليء بالتّعصّبات: في بعض البلدان، مثل الولايات المتّحدة وجنوب إفريقيا، التّعصّب العرقيّ قويّ للغاية. في بلدان أخرى، مثل الهند وإنجلترا، يسود التّعصّب الطّبقيّ. كما يسود التّعصّب الدّينيّ في بلدان غيرها، مثل شبه الجزيرة العربيّة وبعض البلدان الكاثوليكيّة في أمريكا الجنوبيّة. وكلّ دولة، تقريبًا، لديها شكل من أشكال التّعصّب الوطنيّ. فهذه، إلى جانب العديد من العادات الاجتماعيّة السّيّئة للغاية – أو يمكن للمرء أن يسمّيها بشكل أصحّ العادات اللّااجتماعيّة – هي الّتي تُبقي الإنسانيّة في مستوى متدنٍّ من التّطوّر. يجب التّغلّب عليها من خلال مهاجمتها، سواء كأفراد أو على نطاق واسع كمجموعات، من خلال برامج تعليميّة، والدّعاية والاعلان، وترويج الأفكار الّتي تنوّر العقول، والتّشريعات، وهلمّ جرّا.
ومع ذلك، فإنّ أحد أعظم مصادر القوّة الّتي نمتلكها هي حقيقة كوننا مخلوقات مجبولة بالعادات. هذه العادات، روحيّة كانت أم جسمانيّة، هي ذات فائدة لنا. ويمكنها أن تكون أدوات قويّة ننحت بها صورة أكثر جدارة لأنفسنا. وقدرتنا على فعل الشّيء نفسه مرارًا وتكرارًا، حتّى يصبح طبيعتنا الثّانية هي عماد قوّتنا وأحد أهمّ العوامل في تقدّمنا. هذا، بالإضافة إلى قدرتنا الفطريّة الرّائعة على التّكيّف كجنس، يعطينا مرونة وقوّة لا يمتلكهما أيّ شكل آخر من أشكال الحياة. لن نبالغ إذا قلنا بأنّه لا يوجد شيء لا يمكن للبشر فعله، ولا من شيء لا يمكن أن يصبحوا عليه، عظيم للغاية هو إبداعهم، وكذلك قدرتهم على صب مواهبهم في قنوات جديدة، ومواءمة أنفسهم بشكل دائم مع مواقف جديدة. فالنّوع الإنسانيّ وحده هو الّذي يعيش في براري المناطق القطبيّة الجليديّة، وفي السّهول الجرداء وصحاري المناطق القاحلة، وأعماق الغابات الاستوائيّة. عادة ما يصبح أكثر إنسان بدائيّة متحضّرًا من خلال تغيير البيئة بعد جيل واحد، وإن لم يكن فبعد جيلين. ويمكن للطفل الّذي تربّى عاريًا في قرية أفريقيّة أن يتخرّج من جامعة أكسفورد ويتكلّم بلكنة أكسفورديّة وكلّ ما يرافقها من تشذيب. وسينسى غالبًا بأنّه كان يُدعى ب “الهمجيّ” إن لم يذكّره النّاس من حوله بذلك. ماذا حصل له؟ إنّه الأروع من بين كافّة الأمور، فقد أفرغت الرّوح البشريّة نفسها في قالب جديد وهذا الشّكل الجديد له عادات جديدة.
أسهل وقت، بطبيعة الحال، لشروع النّاس في تشكيل العادات هو في مرحلة الطّفولة. فالينبوع، الّذي لم يحدُث أن تدفّق أبدًا في أيّ مكان، ما إن يخرج فوق الأرض لأوّل مرة، يكون مستعدًا للتدفّق في أيّ اتّجاه مفتوح أمامه تقريبًا. وإذا تمّ توجيه طفل طبيعيّ إلى عادات حميدة على الفور، كالصّدق والشّجاعة والاستقامة والأمانة والأدب والعطف واللّطف والاجتهاد وما إلى ذلك، فسوف ينطلق بإطار عمل قويّ ورائع، وستضاف إليه عناصر الحياة المساعدة الأخرى كالعمل والتّعليم والهوايات والعلاقات الإنسانيّة الّتي يختارها. وإذا كانت بداية هذا الطّفل سيّئة، بأن يكون قد ترعرع في جوّ فاسد منحلّ تسوده الجريمة أو الخطيئة أو التّنافر أو الكذب أو التّعصّب أو الكراهية أو الجهل، فسيبدأ حياته، بطبيعة الحال، غير سويٍّ بسبب العادات السّيّئة. إذ ستحفر شخصيّته الكثير من القنوات الخاطئة للتعبير عن ذاتها. ومع ذلك، كثيرًا ما نرى أنبل النّفوس يخرجون من مستنقع بيئة طفولة رهيبة. فعندما كانت جميع الأبواب مُشْرعة لتشكيل عادات شرّيرة، كانت لروح ذلك الشّخص ردّة فعل مغايرة، ميّزت بين ما هو صالح وقويم وما هو قذر ومهين، فولجت إلى أنماط من العادات تتعارض تمامًا مع بيئتها. والعكس، في كثير من الأحيان، صحيح. كشخص ولد في بيئة فيها كلّ مزايا البيئة الجيّدة والقدوة الحسنة والفرصة المتاحة لإصلاح الذّات، نجده وقد انحدر نحو الحضيض. هذه الاستثناءات لأنماط السّلوك المعتادة ترجع، مع ذلك، إلى عنصر آخر في حياتنا هو الإرادة الحرّة، وهي القوّة الّتي تمكّننا من اختيار متعمّد، مسار سلوك صحيح أو خاطئ .
إنّها قويّة كقوّة العادة نفسها، فهي متعلّقة بمحور وهذا المحور هو قوّة الإرادة. الإرادة هي المحرّك الّذي يولد مع كلّ إنسان، جاهز بين يديه، ليتمّ ربطه بألف مهمّة، وتلك هي إرادته، فالانسان يمكنه أن يرغب في فعل شيء ما وبإمكان هذه الرّغبة أن تكون قويّة بما يكفي لتحمله عبر الأرض والهواء والنّار والماء. فمن خلال قوّة الإرادة يمكن تغيير العادات. وبمقدور هذه العادات الجديدة أن تتأصّل في نمط حياتك، بغضّ النّظر عن عمرك، من خلال قوّة الإرادة. كم عدد المرّات الّتي نسمع فيها عبارات تافهة، مثل، “يجب على المريض أن يرغب في الشّفاء”. ومع ذلك فهذا صحيح، على الإرادة أن تصبّ الرّغبة في الحياة وطاقة الحياة في قناة الصّحّة. علماء النّفس يعلمون أنّه يمكن القضاء على أنماط وبناء أنماط جديدة في عقولنا وحياتنا على السّواء، من خلال الإرادة.
اختر عادة جديدة، إذا وجدت أنّك في حاجة إليها، وصمّم بأنّ لديك قدرة شديدة على التّكيّف، وأنّ لديك قوّة دافعة رائعة في داخلك – داخل روحك – والّتي سوف تُلقي بثقلها على الموازين، وأنّ وراء تلك القوّة، هناك قوّة أعظم بكثير، القوّة الخلّاقة للكون، ألا وهي قوّة الله، الّتي تسعى لمساعدتك على تحسين نفسك وتقدّمك وتفتح براعم إمكانيّاتك الأسمى وبلوغها مرحلة الإزهار الكامل، ادفع بشخصيّتك في هذه القناة الجديدة. قد تكون الجهود الأولى صعبة، إذ لا بدّ من التّغلّب على قوّة السّكون والخمول. عليك أن تجبر نفسك على الحركة، عليك أن تصهر قالبًا جديدًا في نفسك. كلّ خطوة للأمام تجلب معها زيادة هائلة في القوّة فتغدو المهمّة أسهل وأسهل إلى أن تصبح عادة وتستمرّ في عملها تلقائيًّا. أو إذا وجدت عادة سيّئة في نفسك، فابدأ في إزالتها. ربّما تكون أسهل طريقة للقيام بذلك هي التّفكير في ما ترغبه بدلًا من تلك العادة. إذا قرّرت التّخلّص من لعب الورق كلّ ليلة في الأسبوع، أو فقدان أموالك الّتي تجنيها بصعوبة في المراهنة على الخيول، قم بتسهيل ذلك من خلال اكتساب عادة أخرى بدلًا منها، كعادة قراءة الكتب الّتي تستحقّ القراءة، أو اللّعب مع أطفالك وتعليمهم بعض العادات المفيدة، أو تخصيص بعضٍ من وقتك أو أموالك لأشخاص يعانون من صراع مرير في بيئة صعبة. قبل كلّ شيء اكتسب عادات تمكّنك من معرفة نفسك بشكل أفضل، والتّمتّع بحياتك بشكل أكثر عمقًا وصدقًا، والتّقرّب أكثر من ذاك الّذي أوجدك ويحبّك بشكل لا يمكن لأيّ إنسان أن يكون قد أحبّك يومًا أو سيحبّك مثله أبدًا.
عادة واحدة يحتاجها جميع سكان العالم المتحضّر تقريبًا هي عادة القوّة والتّحمّل. فأهل المدن، مع كلّ ما يتمتّعون به من حنكة وثقافة إلّا أنّهم يميلون إلى الضّعف أكثر بكثير من الأشخاص الّذين يعملون في أماكن أقرب إلى الطّبيعة. ليس بالضّرورة أن يكون ذلك ضعفًا جسديًّا، ولكنّه ضعف في الإرادة. فهم يعيشون حياة “اللّهُم نجِّنا”. إنّهم متعطّشون، لدرجة مروّعة، للهو والتّسلية، لشيء ينسيهم أنفسهم وما يمرّون به، لعلاج لأرواحهم العليلة. والمدينة هي مكان النّسيان. حيث تتنافس كلٌّ من البيئة المصطنعة، ووتيرة النّشاط العالية، وشبكة اللّهو والتّرفيه، للوصول إلى أعلى الدّرجات في سلّم شهيّة النّاس للسلوان، وكلّ هذه تجعل سكان المدن أكثر بُعدًا عن حقيقة أنفسهم من أولئك الّذين يعيشون حياة أكثر هدوءًا بالقرب من الطّبيعة.
لا تزال الحياة، رغم كلّ نشاطها المبهج وقوّتها وحيويّتها، قاسية لعدّة اعتبارات. فالحزن والمرض والموت والمآسي تلامس في مرحلة معيّنة كلّ فرد فيها، مليونيرًا كان أم متسوّلًا. إذا كنت لا تملك إحساسًا عميقًا، سواء بالفرح أو بعذاب الرّوح، فأنت لست إنسانًا تمامًا، لأنّ الشّعور هو العلامة المميّزة لكلّ شيء حيّ. وإذا لم تتمكّن، عندما تقسو عليك الحياة، أو عندما تُوجّه إليك فجأة ضربة موجعة، من الوقوف في النّار وتحترق، وتنال نصيبك من الألم فتتحمّله كرجل بدلًا من الهروب منه، فأنت لست ضعيفًا فحسب، ولكنّك تفتقد أيضًا واحدة من أروع الأشياء الّتي تقدّمها لك الحياة – الانضباط الرّوحيّ.
لذلك يجب على النّاس أن يختاروا لأنفسهم ليس العادات الجيّدة والعادات الصّحّيّة فحسب، بل أيضًا عادة التّزوّد بالقوّة والشّجاعة ينهلونها من البئر الدّاخليّة لأرواحهم للتصدّي لمحن الحياة وتحمّلها. كم هو مفجع أنّه، في كثير من الأحيان، في أوقات الحرب، عندما يصل الضّغط أحيانًا على كيان الإنسان إلى أقصى درجاته، يكتشف ملايين الرّجال والنّساء في أنفسهم أعماقًا لم يعرفوا بوجودها مطلقًا. عندما ينال منهم الإعياء ويُنهكهم القلق والاضطراب إلى أبعد الحدود، يكتشفون أنّه لا يزال بإمكانهم المضيّ قُدُمًا. وعندما يصيبهم الهلع في حالات الخطر الشّديد، ويشهدون الموت يحيط بهم من كلّ جانب، يكتشفون أنّ شخصيّاتهم الصّغيرة، غير المعتادة مطلقًا على مثل هذا الرّعب والإجهاد، تتمالك نفسها وتواصل تقدّمها بثبات وشجاعة لم يحلموا بوجودها فيهم أبدًا. هذا أحد الأشياء الجيّدة القليلة الّتي تمنحنا إيّاها الحرب. إنّها تُبرز قدرتنا على التّحمّل، وتجعلنا نقف منتصبين على أقدامنا ونقول: “أنا أستطيع وسأتحمّل.” هذه البطولة الوليدة، مهما كانت مبهمة في وقت السّلم، إلّا أنّها مجد الرّوح البشريّة وعظمتها. ليست الأجسام هي الّتي تقف صامدة في زمن الحرب: إنّها الأرواح. يشكّل النّاس، يوميًّا ودون وعي منهم، عادة أن يكونوا أبطالًا. فأيّ عالم رائع يمكن بناؤه في المستقبل إذا ما تمّ نقل هذه الخصال إلى أوقات السّلم، وأن تغدو الكرامة والقوّة، وليدتا الخطر والمعاناة، عادًة وجزءًا من مقاربتنا الدّائمة لمشاكل الحياة.
الحياة عبارة عن نموّ مستمر، جهاد متواصل لابقاء رأس المرء فوق التّيّار. وبغض النّظر عمّا يمكن أن تكون عليه من سهولة أو ترف، فلا بدّ أن تجلب في أعقابها المشقّة والكفاح. هل قابلت يومًا شخصًا لا يعاني أو لم يكن يعاني من بعض المشاكل خلال حياته؟ قلب مجروح، زواج لم يحالفه الحظّ، طفولة بائسة، مرض، فقر، خيانة. واقعة موت أو خيبة أمل مريرة – إحدى هذه المشاكل أو الكثير منها سيكون، بطريقة ما وفي وقت ما، من نصيبنا. إنّها جزء من عمليّة الحياة.
ومع ذلك، لا ينظر الإنسان المتحضّر إلى هذه البلايا والمِحن باستياء شديد فحسب، وبعيدًا عن السّعي لفهمها، أو التّساؤل بينه وبين نفسه عمّا إذا كان لها مكان ودور شرعي في حياته، بل يُمضي معظم وقته ساعيًا في ابتكار علاج لها في محاولة الهروب من تأثيرها، إمّا من خلال اتّخاذ موقف عقلانيّ مدروس بعناية، أو محاولة نسيان وجودها من خلال وسائل اللّهو والنّشاط المحموم.
يبحث بعض النّاس عن الهروب من خلال العقائد الدّينيّة الّتي تنكر وجود المعاناة والشّرّ. ويذهب البعض الآخر إلى طقوس ثقافة بدنيّة أو عقليّة واتّباع حِمية غذائيّة أو التّنفّس العميق ومزاولة التّمارين، أو عن طريق التّسامي بشعورهم بالحزن والبؤس بتخيّل وجود شعور آخر ذي طابع أكثر إمتاعًا، يحاولون الهروب من الثّقل الكامل لأيّ عبء وضعته الحياة عليهم. تزدهر عمليّة الهروب في عالم اليوم على نطاق واسع. يبدو أنّ النّاس قد فقدوا الشّجاعة لمواجهة مشاكل الحياة كما هي حقًّا والوقوف في مواجهة مصيرهم. إنّهم يفتقرون للقدرة الأخلاقيّة على التّحمّل، فنجد أنّ هناك حماسًا للطرق المختصرة، والطّرق السّهلة للنجاح ولتحقيق النّصر الرّخيص وللنسيان. حيث ينغمس الأفراد في مثل هذه الممارسات، وكما يبدو حتّى الدّول أيضًا تقع في مسار سياسة حكوماتها.
خذ، مثلًا، انتشار ظاهرة اتّباع أبراج الحظّ. حيث نجد رجالًا ممّن لديهم باعٌ وخبرة جيّدة في عالم الأعمال يتابعون بانتظام أبراج حظّهم، وغالبًا ما يسترشدون بدرجة لا تصدّق بمخطّطات يرسمها لهم منجّمون محترفون يفترض بهم تقديم المشورة لهم بشأن مجريات الأحداث المستقبليّة رغم أنّه لا يوجد عالِم أو طالب في التّاريخ المعاصر يجرؤ أبدًا على الجزم في مثل هذه المجالات. يمارس من يبصّرون في البلّورات السّحريّة وقُرّاء الكفّ والعرّافون والرّوحانيّون وقارئو الحظّ والصّوفيّون في الشّرق أعمالًا مزدهرة في قلب الحضارة الغربيّة – وهي مفارقة غريبة للغاية! قال القدّيس بولس: “وَلكِنْ لَمَّا صِرْتُ رَجُلًا أَبْطَلْتُ مَا لِلطِّفْلِ”. قد يفكّر المرء أنّه في عصر محرّك الدّيزل والطّائرات والطّاقة النّوويّة والمجهر الإلكترونيّ والتّلفزيون والأقمار الصّناعيّة والاكتشافات الفضائيّة وهبوط الإنسان على سطح القمر وما إلى ذلك، أنّ الجنس البشري يعتبر بحقٍ أنّه وصل إلى مرحلة البلوغ، وترك طفولته الطّويلة وراءه ودخل أخيرًا مرحلة رجولته. مع ذلك، نجلس في أكثر مدننا المتطوّرة آليًّا، محاولين تسهيل طريقنا عبر الحياة عن طريق البربرة والهُراء، واللّوائح، ومن خلال الغشية والرّؤى. ما هي مشكلتنا؟ لماذا نحن – الأثرياء وملوك الخليقة – غير منسجمين مع العيش، خائفين للغاية من مشاكله، متلهّفين كالأطفال الّذين يُهَدْهَدون للرضا عن النّفس، منتظرين لمن يتنبّأ لنا بشيء لطيف لكي نهدأ بأمن زائف؟
لا ضررَ جوهريًّا في أشخاصٍ يرغبون في أن يكونوا حمقى وطائشين بعض الشّيء، أو حتّى يؤمنون قليلًا بالخرافات ويصدّقون الأمور بلهفة طفوليّة، وذلك عند تنجيم بختهم أو إطلاعهم على أبراجهم الفلكيّة. وما هو ضارّ للغاية هنا هو الحالة الذّهنيّة الّتي تدفعهم إلى وضع الكثير من الثّقة في مثل هذه الأمور، ويحتاجون إليها كسياج ضدّ الواقع، لتعليق آمالهم على أمور، هي في أفضل الأحوال، واهية وتكهّنات غير منطقيّة.
بعد تلك السّلسلة الكاملة من التّبصير ومعرفة البخت يأتي العلاج. لو تمكّن الإنسان من التّأمّل والتّنفّس والأكل وتدريب نفسه للوصول إلى الحياة المثاليّة، لكان جزء كبير من سكّان العالم الآن في تلك الحالة الرّائعة! مرّة أخرى، لا يوجد شرّ في التّأمّل، أو في اتّباع نظام غذائيّ، أو في ممارسة الرّياضة، أو في التّنفّس بعمق. بل على العكس، يمكنها أن تكون، عند فهمها واستخدامها بشكل صحيح، ممتازة للصّحّة. ولكن ما الّذي يدفع النّاس للخوْض في مثل هذه الأمور بحماس دينيّ، ليصبحوا متعصّبين في أمورهم المحبّبة، وللاعتقاد بأنّ المعاناة ليست للبشر ويجب إزالتها؟ نرى هذا الموقف بشكل مذهل أكثر في المجال الاجتماعيّ لحياة الإنسان عندما يتعلّق بإلغاء العقوبة القصوى، عقوبة الإعدام من ناحية، واستحداث القتل الرّحيم من ناحية أخرى – بل ذهب إلى أبعد من ذلك، ففي ألمانيا تبنّت الدّولة سياسة في ظلّ هتلر تعطيها الحقّ في قتل عديمي الفائدة والمسنّين وذوي الإعاقة الدّائمة والمعتوهين والمجرمين. كلّ هذه الممارسات، بدءًا من فتح أوراق اللّعب (الشّدّة) للتنبّؤ بالمستقبل، إلى إرسال المجنون وغير المرغوب فيه إلى غرفة الموت، هي أعراض لنزعة عميقة في الفكر الإنسانيّ ترتبط بالمفهوم الكلّي لمعنى الحياة والغرض منها.
باستثناء قلّة قليلة من المتطرّفين، يقرّ معظم النّاس في كلّ مكان بأنّ الألم والحزن والبؤس أمور موجودة بالفعل. هناك نوعان من المواقف تجاهها. يقرّ أحدهما بضرورتها كمساعد للحياة، وأنّها تفي بغرض لا يمكن لأيّ شكل من أشكال الخبرة أن يحلّ محلّها. والآخر، بأنّها ليست ضروريّة ويمكن الاستغناء عنها بالكامل تقريبًا. لماذا يجب أن تكون هذه الآفات المفسدة للسعادة جزءًا من نصيبنا في هذا العالم؟ هل لها دور تلعبه في تشكيل شخصيّاتنا؟ كيف ينبغي أن يكون موقفنا تجاهها؟
هناك نوعان من المآسي في هذه الحياة. واحد ضروريّ، والآخر غير ضروريّ. أو دعونا نقول إنّ أحدهما هو جزء من قَدَرنا، أُعطي لنا عن قصدٍ من أجل مصلحتنا، والآخر عرضيّ طارئ تسبّبه مجموعة من الظّروف. يوجَّه الطّفل من قبل والديه، ويتمّ تعليمه بأنّ عليه القيام بأشياء معيّنة، وألّا يقوم بأشياء أخرى، ويعاقب على ارتكاب أيّ أخطاء، وتُعيَّن له مهامّ صعبة لتعليمه ومنحه القوّة. يتمّ التّخطيط لكلّ ذلك من قبل المسؤولين عن تطوّره وتقدّمه. ولكن إذا انزلق الطّفل وسقط إلى أسفل الدّرج، وإذا أحرق يده على الموقد أو لدغه ثعبان، فهذا ليس خطأ الوالدين أو خطأ الطّفل. إنّها أحد تقلّبات المعيشة الّتي ربّما كان من الممكن تجنّبها ويجب درأها إن أمكن.
الحياة مليئة بالمخاطر. إذا لم تنظر في كلا الاتّجاهين، فقد تُدهس أثناء عبورك الشّارع. يجب أن تُبقي فطنتك في متناولك، وعلى مسؤولي المدينة ابتكار الوسائل للتحكّم في حركة المرور. بهذا الوعي، سيكون هناك دائمًا إمكانيّة للقضاء على المعاناة في هذا العالم، ومن الصّواب والمناسب أن يبذل النّاس كلّ ما في وسعهم لمحاربة وإزالة المعاناة غير الضّروريّة والأمور الّتي تسبّب الفواجع والمآسي والأمراض. فالطّبّ يحارب ببسالة ضد المرض والعاهة، وكلاهما ناشران للحزن على نطاق واسع. المصلحون الاجتماعيّون يكافحون الفقر والجريمة، مصادر البؤس والتّعاسة الّتي لا توصف. والمشرّعون يبتكرون طرقًا لجعل حياة النّاس أكثر أمانًا وسعادة. يجب الاستمرار في هذه الحملة على الدّوام وعلى النّاس أن يستاءوا دائمًا من البلايا الّتي تُساق نحوهم دون داعٍ ويسعَوْن جاهدين لإزالتها.
لكن النّوع الثّاني من المعاناة، وهو الصّنف الّذي يطهّرنا، ويرقّق سيف روحنا المشرق في أتون المحن فلا يمكن ولا ينبغي العمل على إزالته. يجب أن ندرك أنّ أشياءً عظيمة تتولّد تحت الضّغط. فالماس يتشكّل في الصّخور المنصهرة. وغالبًا ما تسقي الدّموع أجمل أزهار الرّوح الإنسانيّة. الكفاح يعطي القوّة، والتّحمّل يولّد قدرة أكبر على الجَلَد. يجب ألّا نهرب من أوجاع قلوبنا في الحياة. يجب أن نمرّ من خلالها، مهما بلغ توقّد نيرانها ونخرج من أتونها مع شخصيّة أقوى، واعتماد أعمق على أنفسنا وعلى الخالق، الّذي مثله في ذلك مثل الأب الصّالح، يؤدّبنا من حبّه لنا ولأنّه يعلم ماذا يمكن أن يصنع منّا، وأنّ الألم يستحقّ الجائزة الّتي يمكن أن نفوز بها. نحن نعيش في عالم تديره القوى. فهناك قوى عظيمة تلعب دورها فيه – الشّمس والرّياح والمطر واللّيل والنّهار – إنّها أشياء هائلة تؤدّي دورًا عظيمًا في الطّبيعة. الكهرباء والجاذبيّة، هما قوّتان جبّارتان تُشكّلان الأرض بكلّ جمالها وحياتها ونموّها. نحن البشر معرّضون أيضًا لقوى عظيمة أيضًا. الحبّ، الكراهية، العاطفة، الخوف، الحزن، الألم – قوى تؤثّر فينا وتحفّزنا، تطوّر من صفاتنا وتمنحنا اللّون والشّخصيّة الفرديّة. ما الّذي يدعونا لتجنّب ومحو بعض العوامل الّتي تُبرز أفضل ما فينا، وتليّن من تصلُّبنا، وتعلّمنا أن نقدّر السّعادة في قيمتها الحقيقيّة؟ هل يمكن لإنسان لم يعرف الجوع في حياته أن يفهم ما تعنيه قطعة الخبز، وأن يستمتع بكلّ ما فيها من لذة، كإنسان عانى من الجوع؟ إذا كان علينا أن نمرّ بالحياة منكرين وجود الألم والمعاناة، أو رافضين أن نجرّب حدّتهما لأنّنا ندثّر أنفسنا بمواقف فكريّة حمقاء أو بمخدّرات نفسيّة أو جسمانيّة، فسننمو لنكون جنسًا يفتقر إلى العمق، وإلى الحساسيّة، وخالٍ من النّسيج الأخلاقيّ المتين. ولسوف تُصبح نِصال أرواحنا ثالمة.
ليس مُتَوَقَّعًا منّا أن نحبّ المعاناة والمحن. ولا ينبغي لنا أن نفكّر في الأمر بحماقة، كما يفعل بعض الزّاهدين، كأنّها فضيلة بحدّ ذاتها تتمّ رعايتها وتعزيزها من خلال الإيذاء الذّاتيّ والتّعذيب. بل علينا، عندما تكون الكأس بين شفاهنا وليس لدينا خيار سوى شربها، أن نشربها بقوّة وشجاعة، لعلمنا بأنّها قد تؤلمنا ولكنّها ستقوّينا، وقد تجرحنا لكنّها ستشفينا في النّهاية. فمن دون طرفي نقيض، لن يكون هناك تبايُن واختلاف وتصبح الحياة أحاديّة اللّون مملّة، كيوم رمادي لا ينتهي، يوم هو دون شكّ بلا ظلال، إلّا أنّه محروم دائمًا من بهاء ضوء الشّمس.
كلّ مكوّن للحياة له ما يعوّض عنه من مكافأة مرتبطة به: يمكن للجمال أن يمنح الفرح، ويمكن للحبّ أن يعطي السّعادة، ويمكن للمعرفة أن تمنح راحة البال، ويمكن للألم أن يعطي القوّة، كما يمكن للحزن أن يعزّز طبيعة الإنسان ككلّ. يمكننا القيام بهذه الأشياء. ولكن يجب أن نحاول الخروج من كلّ تجربة في الحياة بأفضل ما يمكن أن تقدّمه لنا.
يجب علينا أيضًا أن نقبل حقيقة أنّ هناك بعض الأشياء في هذه الحياة لن نتمكن من فهمها هنا وفي هذا الوقت. إنّها أمور غامضة إمّا لأنّها عميقة للغاية، أو لأنّنا محرومون من إمكانيّة فهمها في هذا العالم. أحد هذه الأمور هو أين يقع التّوازن بين الإرادة الحرّة والقَدَر. وأمر آخر هو لماذا يعاني الأبرياء بسبب أفعال المذنبين. وما هي طبيعة الحياة بعد الموت بالضّبط. لا نعرف ماهيّة مكان وحالة وأحاسيس وشخصيّة ذلك الإنسان الّذي وضعناه في القبر للتوّ. لماذا على الأطفال، المحرومين من والديهم أو يعانون هجرانهم، أن يقاسوا من آلام الجوع للحبّ وفي كثير من الأحيان ذلك البؤس والشّقاء الّذي تسبّبه لهم العمالة القاسية واللّامبالية، لا نعرف. لماذا يجب ترويع ملايين الأطفال بمشاهدة مناظر مرعبة، يعجز الرّجال البالغون عن تحمّلها، في حروب لم يكن لهم أدنى مسؤوليّة عنها، لا نعرف. كم كان بإمكاننا أن نحسّن من حياتنا، وكم من المعارك الدّاخليّة كان بإمكاننا الفوز فيها ولكنّنا خسرناها، فقد كنّا نملك القوّة ولكننا لم نستعملها بشكل كامل، أو لم يكن اختيارنا صحيحًا، لا نعرف.
ولكن من خلال كلّ من الاستنتاج المنطقيّ والتّجربة فقد مُنحنا إمكانيّة فهم أشياء معينة. الله، مع كلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنىً، لا يمكن أن يكون ظالمًا كما لا يمكنه أن يكون مجرّدًا من المحبّة. لا شيء يمكن أن يكون أكثر ظلمًا أو قسوة من تكليف إنسان بمهمّة مستحيلة، أن يُطلب منه شيء يفوق قدرته على القيام بها. المحن الّتي تواجهنا في الحياة هي لاختبار قوّتنا وتدريبها والوصول بها نحو الكمال. لم نكلَّف بمهامّ لا يمكننا إنجازها، فالله لا يستبدّ بنا. بل على العكس من ذلك، فهو يرفع الحاجز قليلًا إلى أعلى لأنّه يعلم أنّنا على استعداد الآن للقيام بتلك القفزة إذا حاولنا، والأكثر من ذلك، أنّه سيساعدنا. صديق روح الإنسان ذاك موجود ويريدنا أن نفوز ونصبح أقوياء ونستحقّ الإرث الّذي أعدّه لنا. لذلك فهو مستعدّ لمدّ يد العون إذا ما دعوناه. إذا مددنا يدنا نحو يده وطلبنا مساعدته، فسوف يمسك بها بقوّة وإحكام.
بعد أن فكّرنا في بعض أساسيّات الحياة الصّحيحة، وصلنا إلى الأمور الجوهريّة الّتي تقوم عليها الحياة نفسها، حياتنا كبشر والّتي من دونها لن يكون لهذه الحياة أيّ معنى، أو توجّه، أو هدف. ورغم تعقيدها وتشابكها في كلّ شيء، سواء أكان في شكل مادّة أو غياهب المعاني أو تنوّع المفاهيم، إلّا أنّه يمكن اختزالها إلى مبادئ أساسيّة بسيطة. كثيرًا ما نفقد الإحساس بالغابة لأنّنا منشغلون عنها بعدِّ الأشجار. ونفقد الإحساس بالخطّة في دراستنا للتفاصيل. هناك متضادّات كبيرة، وأطراف قصيّة في الحياة، ومع ذلك فإنّ هذه المتضادّات والأطراف القصيّة ترتبط معًا دائمًا بسلاسة، وتعمل سويًّا، وتنتج، في الواقع، حالة التّوازن الّتي تجعل الكون بهذا النّظم والكمال. على سبيل المثال، تقع الشّمس على بعد 93 مليون ميل عنّا، وهي كرة ساطعة من الغازات المشتعلة الّتي لا يمكن لأيّ حياة أن تعيش فيها أو بالقرب منها، ومع ذلك ها نحن هنا، بعيدين جدًّا عن الشّمس، نعيش ونترعرع على كرة تدور بحجم رأس الدّبوس من الكون بفضلها. ما الّذي يوفّق بيننا وبين ما ليس بالامكان تحمّله من مسافة قريبة قد تقضي علينا تمامًا؟ ما الّذي يوحّدنا معها ويمكّننا من الاستفادة من قدراتها والتّفاعل معها؟ هناك وسيط ينقل إلينا القدر المناسب فقط من قوّة الشّمس لجعل الحياة ممكنة على هذا الكوكب. هذا الوسيط هو أشعة الشّمس الّتي تجلب معها الضّوء والحرارة. نحن لا نذهب إلى الشّمس ولا تأتي هي إلينا، لكن من خلال هذا الوسيط المناسب نحصل على كلّ ما نحتاجه من خير الشّمس.
إنّ ما أوجد هذا النّظام الشّاسع من المجرّات الّذي نعيش فيه يجب أن يكون شيئًا هو في علاقته بنا يشبه إلى حدٍّ بعيد الشّمس في علاقتها بنا، شيئًا أوجدنا، ولم يكن بإمكاننا أبدًا، بسبب طبيعتنا، أن نتّصل به مباشرة، ولكنّنا نستمدّ منه كلّ دوافعنا. هذا الشّيء يدعوه البشر “الله”.
ربّما ليس هناك موضوع يكون تفكير النّاس فيه مشوّشًا ومختلطًا أكثر من تفكيرهم بموضوع الله. يقول البعض إنّه غير موجود على الإطلاق، ممّا يلغي على الفور التّفسير الوحيد المعقول لوجودنا ووجود الكون، إذ كيف يمكن للأثر أن يُظهر إمكانات غير موجودة في الأصل؟ كيف يمكننا، نحن المخلوقات المفكّرة الواعية بذاتها والمُحبّة والمخطّطة، أن نكون نتاجًا لقوّة ما هي في حدّ ذاتها أقلّ شأنًا حتّى من أشكال المادّة الجامدة؟ لا شيء ينمو على الإطلاق لتحقيق وعدٍ أزيد ممّا كان محجوبًا في جينات وبروتوبلازم بذرته الأصليّة. لماذا يجب على كلّ قانون ثابت للحياة أن يسقط عندما نصل إلى أكبر فكرة على الاطلاق –ألا وهي كيف وُجِدْنا، نحن البشر المفكّرون، في هذا الكون وكيف وصل الكون نفسه إلى ما هو عليه؟ أيًّا كان من أوجد كلّ شيء، أو كان المصدر الّذي تتدفّق منه كلّ الأشياء باستمرار، فلا يجب أن يكون لديه الوعي الذّاتيّ بوجوده كما هو حال الإنسان فحسب، بل أكثر وعيًا منه أيضًا. وإلّا فما كان للإنسان وجود هنا على الإطلاق.
إذا ما قبلنا أنّه يجب أن يكون هناك إله واحد وأنّنا نتاج خططه، فدعونا نسأل أنفسنا إذًا: ما هي طبيعة هذا الإله؟ بعض النّاس يقولون إنّه موجود فينا، “في كلّ شيء”. ذلك يشبه إلى حدّ كبير القول بأنّنا موجودون في الشّمس والشّمس موجودة فينا. يجادلون أيضًا بالقول إنّ الله موجود “في كلّ مكان”. إذا ما حاولنا فهم عبارة “في كلّ مكان” من خلال إعمال المنطق الفطن، فهي تعني أنّ ليس له مكان. فالأشياء كلّها محدّدة في هذا الكون، وليست ضبابيّة. إذا سألت عالِمًا فيزيائيًّا أو فلكيًّا عن مكان وجود ذرّة أو نجمٍ ما، فلن يقول “في كلّ مكان”، بل سيُخبرك على الأقلّ عن آخر مكان وُجِدَ فيه ذلك النّجم، أو أين سيكون بعد ذلك، أو ربّما إلى أقرب ما يمكنه التّوصُّل إليه من موقعه الفعليّ. ولكن ليس “في كلّ مكان”. إذا زعمنا أن الله هو “كلّ شيء”، فهذا غير منطقيّ أيضًا، لأنّه علميًّا ليس من شيء اسمه “كلّ شيء”: هناك مادّة، بأشكال مختلفة، وفي أماكن مختلفة. أقرب ما يمكن أن تصل إليه عبارة “كلّ شيء” في الوقت الحالي هو الكهرباء. لكنّ الله لا يمكن أن يكون كهرباء، لأنّ الكهرباء شيء نعرف كنهه، شيء ندرسه وتحت سيطرتنا. لا بدّ أن يكون الشّيء الّذي خلقنا عظيمًا مثلنا يضاف إليه كمّ هائل من العظمة مكّنته من خلقنا. لا بدّ لأيّ شيء نعرفه أن يكون أقلّ شأنًا منّا، وإلّا سنعجز عن الإحاطة به عقليًّا وفهمه. فمن الواضح أنّ أيّ شيء دون مرتبتنا لا يمكن أن يكون خالقنا. لذلك فإنّ الله ليس كهرباء، وبما أنّ هذا هو أقرب ما توصّلنا إليه لِـ “كلّ شيء”، فلا يمكننا القول إنّ الله إمّا أنّه “في كلّ مكان” أو أنّه “كلّ شيء”. المشكلة أعظم من ذلك بكثير، وأكثر جمالًا وسموًّا.
إذا سلّمنا بأنّ تفكير الملحد ضحل للغاية بحيث لا يستوعب هذا النّوع من الكون الّذي كشفه العلماء أمام ناظرينا، وإذا قلنا إنّ المؤمنين بالكون وخالقه لا يملكون العلم والمنطق في مفاهيمهم، فلا بدّ أن نتوجّه إلى ما يُعرف بالكشف الدّينيّ المنزّل في تعريفه لله. الشّرك قد ولّى. فأنت لا تحتاج إلى عشرات الآلهة لتبرير نظامٍ مثل هذا الكون. فإله واحد فقط، واحد قدير سيكون كافٍ تمامًا، خالق عظيم، فعّال، أوّلي، يعمل باستمرار. لقد أخبر جميع الأنبياء البشر عن إله واحد. صوّره لنا السّيّد المسيح على أنّه أبوه، العظيم والمحبّ، أبو البشر جميعًا. حضرة موسى، وقبله حضرة إبراهيم، علّمانا عن الإله الواحد القويّ الجبّار. بشّر به حضرة محمّد بلهجة فيها الثّناء والرّهبة والمهابة. لا شكّ أنّ الدّين هو القوّة الرّوحانيّة والأخلاقيّة الفريدة والأعظم في حياة البشر. يمكن للمرء، في أيّ فترة من التّاريخ، أن ينظر إلى خريطة العالم ويرى أنهّا مقسمة إلى مناطق تمتدّ إلى أبعد بكثير وأكثر أهمّيّة من تلك الّتي رسمتها الحدود الجغرافيّة أو السّياسيّة. هذه المناطق الّتي تخطّت دائمًا القارّات والحدود الوطنيّة، كانت دينيّة. لا نحتاج إلى مثال أفضل من عالم اليوم الّذي، رغم أنّه قد رُسم على الخريطة في حدود وطنيّة وقُسِّم إلى معسكرات سياسيّة مختلفة، إلّا أنّه وُضع في نمط أوسع للأديان الرّئيسيّة في العالم.
كلّ دين عالمي يحمل العلامة الفارقة نفسها: رجل واحد – وليس مؤسّسة، أو هيئة، أو رئيسًا منتخبًا – رجل واحد وحيد فقط، يظهر في أفق عصر يُعلن إدّعاءً صاعقًا بأنّه هو لسان الله الغيب الأحد. يا لهذه الجرأة الهائلة! لكن لا يمكننا إنكار حقيقة أنّ رجالًا مثل يسوع وموسى وإبراهيم وزرادشت وبوذا ومحمّد وكريشنا قد غيّروا مجرى حياة البشر بأكملها خلال الأربع آلاف سنة الماضية. الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنّ هناك عددًا قليلًا جدًّا من الرّجال في هذه الفئة وأنّ هذه القِلّة، قام كلٌّ منهم فيها وبدرجات متفاوتة، وفي فترات مختلفة من التّاريخ، بإعادة تشكيل الحياة على هذا الكوكب. ورغم أنّ الدّين قد يبدو لأعيننا الحزينة المحبَطة مخيّبًا للآمال في هذه الآونة، بسبب فشله، تظلّ الحقيقة هي أنّ إبراهيم رفع راية حرب شعارها “الله الغيب الأحد” وأنّ ذرّيّته أصبحت أمّتين توحيديّتين عظيمتين – العرب واليهود – الّذين أثّروا على مسار مصائرنا لآلاف السّنين. وأنّ الضّوء الّذي ألقاه كريشنا على شبه القارّة الهنديّة قد أنارها وقادها نحو الحضارة. وأنّ موسى جعل من عِرق العبيد أحد أعظم الأمم الموهوبة الّتي شهدها العالم. وأنّ بوذا شكّل تاريخًا أفضل لملايين لا تعدّ ولا تحصى من الآسيويّين. وأنّ زرادشت علّم وأصلح شعبًا جاهلًا وضيعًا وجعل منه أمّة عظيمة. وأنّ السّيّد المسيح غيّر مجرى العالم الغربيّ بأكمله. وأنّ حضرة محمّد روّض أمّة من عبدة الأصنام الهمجيّين وأنشأ منهم مجموعة من الدّول أوجدت الحضارة العربيّة العظيمة، والّتي بدورها روّجت للنهضة الأوروبيّة.
لا يمكننا أن نتعامى عن هذه الحقائق. ليس لدينا هنا دخّان يشير إلى وجود النّار فقط، بل هناك حريق هائل تُجبَر على تمييزه العيون الكليلة العليلة. الدّين قوّة رائعة. ليس بفلسفة – حيث تؤمن بذلك الأمم الّتي تطلق على نفسها اسم السّقراطيّين واللّاويّين – بل دين. معظم الأشخاص الأذكياء من غير المتشدّدين أو غير المتعصّبين يعترفون بحقيقة أنّ الأديان الأخرى غير أديانهم قد جلبت الخير والشّفاء للعالم. فمهما بلغ من تشبّث المسيحي المستنير بعقائد كنيسته، فإذا كان باحثًا في التّاريخ والطّبيعة البشريّة لا يسعه إلّا أن يعترف بأنّ الإسلام قد قدّم للشرقيّ تمامًا بقدر ما قدّمته المسيحيّة للغربيّ. ولا يمكنه إلّا أن يرى بأنّ المسلم الّذي يصلّي خمس مرّات في اليوم، ويعتقد أنّ المحبّة فضيلة، ولا يعرف عمليًّا أيّ تعصّب عنصريّ، هو إنسان جدير بالاحترام، ويعيش وفقًا لأنوار الدّين الّذي يقدّم له الشّيء الكثير كما تفعل المسيحيّة للإنجليزيّ أو الإيطاليّ أو الأمريكيّ. ولا يمكن أن يكون أعمى عن رؤية الخير والصّلاح الّذي غُرس في النّفوس من خلال تعاليم اليهوديّة أو البوذيّة أو الزّرادشتيّة أو الهندوسيّة.
إذا كان الدّين يحتلّ، كما هو الحال بكلّ وضوح، مثل هذه المكانة القويّة والفريدة من نوعها في حياة البشر، فعلينا أن نسأل أنفسنا ما هدفه، وما موقعه، وما الّذي يمكن أن يقدّمه لنا. يجب أن يقوم الدّين على أساس الحقيقة، وأن يكون مظهرًا لقانون عظيم يلعب دورًا في تطوّر البشريّة. إذ لا شيء سوى الحقيقة، شيء سليم قويم، نافع ومفيد ومتين، يمكنه أن يُنتج مثل هذه الآثار الهائلة في حياة البشر، ويغطّي مثل هذه الفترات الطّويلة في التّاريخ.
يتحرّك الكون بإيقاع ومدارات ودورات. ما الّذي يعنيه ذلك؟ إنّه يعني أنّ التّاريخ يعيد نفسه. ربّما لم يكن كوكبنا أوّل كوكب ينفصل عن شمس ما. وقد لا يكون الأخير. فعلى مرّ الدّهور والعصور تحوّل من هيكل ملتهب إلى بارد وبيئة ترابيّة ازدهرت فيها الحياة. وسيستمر الكوكب في التّغيير إلى أن يتوقّف عن الظّهور في شكله الحاليّ. إنّه ليس العالم الأوّل ولا الأخير. وشمسنا أيضًا ما هي إلّا واحدة من العديد من الشّموس. كما أنّ المجرّة الّتي نسكنها هي مجرّة بين مجرّات أخرى. الأزمنة الّتي تستغرقها التّغييرات النّجميّة ذات أمدٍ طويل للغاية بحيث لا يمكننا حتّى الآن أن نرى بداية أو نهاية لها. لكنّنا نعلم أنّه لا بدّ وأن يكون حتّى للشمس، وحتّى للمجرّة، دورات وكذلك مدارات وأنّ أشكالها قد تغيّرت وستستمرّ في التّغيّر، وأنّه من المحتمل جدًّا أن يكون هناك لهذه العمالقة الكونيّة، عمليّة تاريخ مشابهة تمامًا تُكرّر نفسها.
يسود إيقاع مماثل على كوكبنا هذا. تدور عجلة الزّمن وتأخذنا بشكل دوريّ إلى ربيع جديد كلّ ثلاثمائة وخمسة وستّين يومًا، وإلى فجر جديد كلّ أربع وعشرين ساعة. نحن أنفسنا نتكوّن ونولد ونعيش ونموت. وهكذا تستمرّ دورات الحياة بانتظام كما هو الحال مع عقارب السّاعة. أليس من المعقول إذًا الاعتقاد بأنّ ظاهرة الدّين، بعيدًا عن كونها متقطّعة ومُقدّرة أو كيفما اتُّفق، تتّبع المبادئ نفسها مثل بقيّة المادّة والحياة وهي جزء من خطّة الكون، طبيعيّة ومنتظمة، مثلها تمامًا كالولادة والموت والرّبيع والشّتاء واللّيل والنّهار؟
قصّة حياة جميع أديان العالم هي نفسها: يخرج رجل من وسط قوم متأخّرين، صعبي المراس، بائسين ومن الرّتبة والمنزلة نفسها. ويعلن بأنّ لديه معرفة من رتبة أعلى وأسمى. ويدّعي أنّه مُوحى إليه من الله. ينادي بالإصلاح. ويضع مبادئ أو قوانين جديدة. ينبّه البشر لمغبّة سلوكهم سبل الشّرّ ويدعوهم للتغيير واتّباع الحقيقة الّتي أتى بها والعيش بموجبها. فإذا أطاعوه ستنالهم البركة، وإذا عصوا أمره فسيكون ذلك خطأهم وسيكون نصيبهم التّعاسة والبؤس. لقد تميّز كلّ أولئك النّاطقين بلسان الله بعلوِّ أخلاقهم، وتفانيهم وتكريسهم لرسالتهم، وتضحيتهم بذواتهم وبطولاتهم، وقبل كلّ شيء، بالتّأثير غير العاديّ الّذي مارسوه في تشكيل مجرى التّاريخ والتّأثير في الملايين والملايين من الأرواح. ألا نرى هنا دليلًا على دورة إيقاعيّة أخرى تكرّر نفسها، دورة نبويّة؟ فما هي الآليّة الّتي تسيّر مثل هذه العمليّة؟
كما تمّ التّسليم به سابقًا، فإنّ الله قد خلقنا لهدف معيّن، بأنّنا يمكن أن نتطوّر لنصبح أرواحًا ذكيّة وسليمة نترقّى بها بعد الموت إلى الأبد. فمن دون الشّمس، لن يكون لنا نحن أو أيّ شكل آخر من أشكال الحياة وجود على هذا الكوكب. لكنّها لا تحتكّ بنا بشكل مباشر أبدًا، فأشعّتها كافية. إنّها تحفّز الحياة. يمكن استخدام المفهوم نفسه لتوضيح علاقتنا الرّوحيّة بالله. فهو سبحانه وتعالى، لم يأتِنا بشيء في هذا العالم بشكل مباشر، ولكنه علّمنا من خلال واسطته – الرّسول – منذ أن وُجدْنا كبشر على هذه الأرض. قال السّيّد المسيح منذ زمن بعيد: “ليس أحد يأتي إلى الآب إلّا بي” (إنجيل يوحنا 6:14). لا يبدو أنّ لهذه الكلمات معنى واضحًا في عصر العلم هذا، ولكن إذا أُعيدت صياغته لتصبح: “لا أحد يأتي إلى الشّمس إلّا من خلال أشعّتها” فسيبدو ذلك أكثر وضوحًا لنا، وسيزداد وضوحًا إذا قلنا “لا أحد يأتي إلى الله إلّا من خلال واسطته.”
النّاس اليوم، حتّى الشّعوب الغربيّة الّذين هم الأكثر تحضّرًا، والّذين يَتوقع المرء منهم موقفًا أكثر ذكاءً، متأخّرون للغاية في تفكيرهم الدّينيّ. فهم يعيشون وسط أرض العجائب الّتي أوجدها التّطوّر العلميّ الحديث، ويجري إبلاغهم في كلّ يوم تقريبًا عن اكتشاف جديد أُنجز في المختبر أو على طاولة العمليات أو في الفضاء، ومع ذلك يتشبّثون بمفاهيم عن الله وطرقه ونفوذه وسلطانه، هي الأكثر تعصّبًا وقِدمًا ولا منطقيّة. وهم إمّا أن يكونوا على هذه الشّاكلة، أو ينضمّون إلى صفوف المستهزئين من المثقّفين المتطرّفين أو الملحدين، الّذين لا يبذلون أيّ جهد تقريبًا للتفكير بذكاء أو بحرّيّة في هذه القوّة الهائلة المؤثّرة في العالم بتاريخه الدّينيّ.
خذ موقف أولئك الّذين هم إمّا متشكّكون أو ملحدون. وهم يعتقدون أنّ اتّخاذ إله شخصيّ لا يتوافق مع طبيعة الكون. لماذا؟ هل هم عُمي أم أنّهم مولعون بالجدال من أجل الجدال؟ مع كلّ ذلك الثّراء في أشكال المادّة، والحيويّة غير العاديّة للحياة، وبراعة الوحش والطّير والسّمكة والكائن الحيّ الدّقيق، ناهيك عن براعة البشر وإبداعهم!، والاحتمالات اللّانهائيّة الّتي تنفتح أمامنا المتعلّقة بتشكيل الجزيئات، واللّحم والدّم، والمعادن والتّذبذبات، وحتّى العقول والشّخصيّات في أشكال جديدة مناسبة لخدمة أغراضنا وتلبية رغباتنا وطموحاتنا، فمع وجود كلّ هذه الأشياء العظيمة والبسيطة الّتي تنفتح أمامنا، فمن الّذي سيقول بأنّه لا مكان أو إمكانيّة لوجود إله يتمتّع بذكاء مثل ذكائنا ويهتمّ بنا كما نهتمّ نحن بأنفسنا؟ مع وجود عجائب كثيرة كهذه أمام ناظرينا، فبأيّ حقٍّ ينكر هؤلاء الأشخاص، ذوي الفكر المحدود، أعظم أعجوبة على الاطلاق والّتي يؤكّد وجودها العديد من الأمور، عن طريق التّدليل والاستنباط المنطقيّ؟
خذ من ناحية أخرى الموقف المسيحيّ الأرثوذكسيّ من موضوع الله والدّين بأكمله. إنّ جوهر العقيدة المسيحيّة كما يتمّ تدريسها في الكنائس هو أنّ الخلاص لا يتحقّق إلّا من خلال السّيّد المسيح وحده، وأنّه شخصيّة فريدة من نوعها في تاريخ العالم، ولم يكن ولن يكون له شبيه أبدًا إلى أن يأتي مرّة أخرى. كلّ توجّه منطقيّ ومستقلّ لعقولنا في القرن العشرين، الّتي تمّ تعليمها لفهم طبيعة الكون الّذي نعيش فيه، يجب أن ينفر من مثل هذا المفهوم ضيّق الأفق. نحن نعلم أنّ الإنسان عاش على مدى ملايين السّنين على هذا الكوكب كشكل من أشكال الحياة واعٍ بذاته ومفكّر. فهل علينا أن نعتقد بأنّ هذا الإنسان لم ينل الخلاص حتّى العام الأوّل للميلاد؟ ما مصير كافّة الارواح الّتي فارقت هذا العالم قبل ميلاد السّيّد المسيح؟ وما حال الآخرين الّذين لم يقبلوه منذ ظهوره؟ ما الإشكاليّة مع الله، فبينما هو تعالى يستطيع الإتيان بمعجزات عديدة أخرى، عشرات ومئات بل حتّى ملايين المرّات، لم يتمكّن سوى من خلق ابن واحد وسبيل واحد للوصول إليه، وحدث هذا في وقت مُقدّر من التّاريخ كألفي سنة مضت؟ لماذا لم يفعل ذلك في البداية حتّى نتمكّن جميعًا، خلال كلّ هذه الآلاف من السّنين، من الحصول على فرصة للخلاص. أو إذا كان قد فعل ذلك في الوقت المناسب تمامًا، فلماذا لم يتحوّل العالم كله إلى المسيحيّة بعد ألفي سنة تقريبًا، ليس هذا فحسب، بل إنّ أولئك الّذين أعلنوا الإيمان به فعلًا يعيشون على النّقيض تمامًا من تعاليمه؟ قد نسأل أنفسنا إذا كنّا والحالة هذه من الفوضى بعد 2000 سنة من ظهور المسيح، فماذا سيكون عليه وضعنا في العام 3000 أو 6000 ميلادي، إذا كان يجب علينا الاعتماد فقط على إرث المسيحيّة؟
هذا الشّكل الصّدئ من التّفكير الدّينيّ لا يقتصر على الغربيّين والمسيحيّين فقط. فما زال اليهود لغاية الآن يصلّون من أجل مجيء مخلّصهم بعد انقضاء أربعة آلاف عام على الرّغم من حقيقة أنّ أتباع كلّ الدّيانات الرّئيسيّة الأخرى في العالم، باستثناء الزّرادشتيّة والبوذيّة والهندوسيّة (الّتي ظهرت جميعها قبل المسيحيّة)، يعتقدون أنّه قد أتى وأنّ اسمه كان يسوع النّاصري. إنّ المسلمين لا يغيّرون دينهم أبدًا تقريبًا إلى المسيحيّة لأنّ حضرة الرّسول سبق وعلّمهم أنّ السّيّد المسيح كان نبيّ الله وأنّ عليهم أن يُحبّوه ويُحترموه. عندما يخبرهم نبيهم بذلك، فإنّهم بطبيعة الحال لن يميلوا إلى الاستماع بصبر إلى عظات رجال الدّين المسيحيّين الّذين يخبرونهم بأنّه يجب أن يتخلّوا عن حضرة محمّد الّذي يشهّرون به، وينعتونه بالدّجّال، ويطلبون منهم أن “يأتوا إلى يسوع”. لكن هذا لا يعني أنّ المسلمين ليبراليّون أو منفتحون. فهم متعصّبون مثل المسيحيّين تمامًا، إلّا أنّهم، وبدلًا من الادّعاء بأنّ حضرة محمّد شخصيّة فريدة في التّاريخ الدّينيّ وأنّهم يقبلون جميع الأنبياء الّذين سبقوه، فهم يقولون إنّه “خاتم الأنبياء” ولن يأتي أحد من بعده حتّى يوم القيامة! ونحن نعلم جميعًا أنّ نسبة كبيرة من أفراد المؤمنين في جميع الأديان يؤمنون بكتابهم المقدّس حرفيًّا. وبالتّالي فإنّ المسيحيّين يعتقدون بحدوث أمور كفتح القبور وقيام الأجساد الميّتة منها – حتّى الّتي بُعثِرت منها بانفجار قنبلة ذريّة مباشرة – وعودتها إلى الحياة من جديد. وكذلك الحال بالنّسبة للمسلمين. اليهود الأرثوذكس ينتظرون بلهفة ملكًا دنيويًّا سيحكمهم ويعيد الثّروات المادّيّة لسلالتهم. تتطلّب هذه الحرفيّة، كنتيجة منطقيّة لها، أن نعتقد أيضًا أنّ حوّاء كانت ضلعًا لآدم وأنّ الله خلق العالم في ستّة أيّام، ثمّ استراح في يوم السّبت!
لا يمكننا أن نُدين النّاس لتمسّكهم بدينهم، بل في واقع الأمر، وفي ضوء أحداث التّاريخ وإدراكنا ما للدين من قوّة وتأثير في الخير والصّلاح، وفي الحضارة والثّقافة، لا يسعنا، بوصفنا مدقّقين لقصّة حياة البشر بكلّ تجرُّد، إلّا أن نعترف بالدّور الّذي لعبه ، وأن نتمنّى له أن يستمرّ إلى الأبد ملهمًا إيّانا وعاملًا على سموّنا فوق أنفسنا. إذ إنّ هذا هو ما يفعله تمامًا، إنّه يسمو بالإنسان. ومهما يكن من أمر، لا يعني هذا أنّنا يجب ألّا نفكّر بالدّين، وألّا نحاول فهمه بشكل منطقي يتناسب مع الكون كما هو عليه في هذا الزّمان.
عندما لم تكن لدينا أيّ فكرة عمّا إذا كانت السّماوات عبارة عن وعاء موضوع فوق الأرض أم لا، وما إذا كانت الأرض قرصًا مسطّحًا محاطًا بمحيط، أو مربّعًا يدعم السّماء على ظهور أربعة أفيال، كان بإمكاننا عندئذ أن نقبل سفر التّكوين حرفيًّا بسهولة. ولكن بمجرّد أن أصبح معروفًا أنّ كوكبنا كان في زمان بعيد كرة من نار انطلقت من الشّمس، وأنّ هناك أذيالًا ضامرة مخفيّة داخل تشريح أجسادنا، وُضع سفر التّكوين جانبًا. ومع ذلك، لا يتردّد المعلّمون الدّينيّون في الطّلب من أتباعهم من على منابر الكنائس والمساجد، أن يؤمنوا بأنّ السّيّد المسيح سار على الماء كما لو كانت أرضًا، وأنّ جسده قام من القبر وصعد، وأنّ حضرة محمّد، عرج إلى السّماء السّابعة وعاد منها مرّة أخرى في ليلة واحدة وهو راكب على دابّة البُراق. مع ذلك فالمأساة لا تكمن في الطّلب من النّاس قبول هذه الأشياء على أنّها أحداث وقعت حرفيًّا، ولكنّهم يعلّقون عظمة رجال مثل السّيّد يسوع وحضرة محمّد على مثل هذه الأفعال الّتي تميّز ساحرًا أكثر منه مخلِّصًا للعالم.
لا يحتاج الفكر المتجرّد إلّا أن يقرأ عن حياة السّيّد المسيح أو النّبيّ العربيّ حتّى يُعجب بهما ويحبّهما ويقدّرهما حقّ قدرهما. فقد بذل كلّ منهما ما بوسعه لنشر التّعاليم الّتي آمن وبشّر بها. فأحدهما كان مآله الصّلب وهو في أوج نكران الذّات والصّبر والشّجاعة والمغفرة لأعدائه. وعانى الآخر من عداوة اتّفقت عليها عشيرته، وأُجبر على الهجرة من بلده الأصليّ، والقتال ضد القبائل البدائيّة للدفاع عن الرّسالة الجديدة، والسّعي ليلًا ونهارًا حتّى ساعته الأخيرة من أجل خير أولئك الّذين جاء لتخليصهم من الوثنيّة. إنّ المثال الّذي أعطاه السّيّد المسيح، وتعاليمه وروحه، قد شكّل مجرى التّاريخ الغربيّ على مدى ألفي عام. وينطبق الشّيء نفسه على ما فعله حضرة محمّد للشرق الأدنى والأقصى. إنّ الثّمار الرّائعة الّتي جلبتها رسالتهما للبشريّة ضمن مجالات نفوذهما لهي أصدق دليل على نبوّتهما. من شأن دراسة غير متحيّزة لحياة أيٍّ من مؤسِّسي الدّيانات العالميّة الأخرى أن تُظهر نمطًا مماثلًا من السّلوك والتّعاليم.
إنّ المعجزات، سواء حدثت أم لا، يجب أن توضع جانبًا بالكامل كأداة للتأكّد من صحّة الدّين. هناك العديد من الأشياء الّتي لم نفهمها حتّى الآن، وقد نعجز عن فهمها تمامًا في هذا العالم بسبب ضيق عقولنا. والمعجزات تنتمي إلى هذه الفئة من الأشياء. إلّا أنّ بإمكان عقولنا تمييز وتقدير نتائج الأشياء وثمارها بوضوح. فالمثل الّذي أظهره كلّ من السّيّد المسيح وحضرة محمّد وما جاءا به من تعاليم، يبرّر تسمية ملايين من النّاس أنفسهم بأسميهما واتّباع مبادئهما. فمن خلال حبّهم واحترامهم لهما وإيمانهم بهما، تمّ انتزاعهم من ضيق وبؤس عيشهم، ليصبحوا متحضّرين ومتنوّرين وأممًا عظيمة. قدّم حضرة عبدالبهاء ذات مرّة صورة توضيحيّة دقيقة لهذا الموضوع من خلال سرد قصّة رجل مريض، كانت معاناته ومرضه شديدين إلى درجة اليأس من الشّفاء، فاستدعى طبيبًا لمعاينته. استفسر منه عمّا إذا كان طبيبًا ماهرًا فطمأنه الطّبيب بأنّه كان كذلك، وأنّه أحد العباقرة في الواقع، ثم طار وحلّق بزهو داخل الغرفة وهو يؤكّد على براعته! ورغم أنّ هذه كانت، دون شك، تجربة مثيرة للاهتمام جدًّا للمريض، قال حضرة عبدالبهاء، إلّا أنّها لم تحسّن من حالته. إذ كان يحتاج للدواء، وليس للمعجزات! ولو كانت مساهمة الأنبياء للبشريّة تكمن فقط في كسر قوانين الطّبيعة لكان من النّادر أن يكون تأثيرهم كما هو عليه في الحقيقة. وبقدر ما كنّا سنُبهت ونعجب بهم وبخفّة يدهم الرّوحانيّة في إيصال ما يوحون به للنفس، إلّا أنّهم كانوا سيتركوننا كما وجدونا.
لكن الحمد لله لم يكن هذا هو الحال. لقد جلب لنا كلّ منهما هديّتين لا تقدّران بثمن. الأولى مثالهما، والأخرى تعاليمهما. لقد تدفّقت درجة من الرّحمة والحب والنّبل والتّفاني والشّجاعة والإيمان من “أشعّة” الشّمس الإلهيّة هذه بحيث سمت بالبشر فوق أنفسهم وجعلت منهم بحقّ خلقًا جديدًا. لإثبات هذا علينا أن ننسى سقوط المَنّ والسّلوى كالطّوب في الصّحراء، وننسى أنّ السّيّد المسيح حوّل الماء إلى نبيذ ليزيد من بهجة حفل زفاف، أو رحلة حضرة محمّد اللّيليّة إلى السّماء، ولنقرأ في الصّفحات الواقعيّة للتاريخ كيف كان اليهود في مصر وكيف أصبحوا في فلسطين. لنقرأ عن مدّ المسيحيّة الّذي اجتاح ظلمة أوروبّا الوثنيّة وجعلها تُحفة العالم. ولنقرأ عن العرب غير المتمدّنين الّذين كانوا يدفنون بناتهم الأطفال وهنّ أحياء ويعبدون ثلاثمائة وستين صنمًا وُضعوا في مبنىً واحد، ولننظر فيما فعل الإسلام لكلٍّ من الشّرق والغرب. هذه هي المعجزات الحقيقيّة الّتي، من خلال التّعصّب والحسد، حجبها المتعصّبون ضيّقو التّفكير في كلّ دين، بحيث لم يعد المخطّط العظيم للأشياء واضحًا، وبينما نحن المتنوّرين حقًا في هذا القرن العشرين، الّذي تميّز بالعلم والتّحرّر، إمّا أنّنا نتجنّب الدّين تمامًا باعتباره غير منطقيّ نهائيًّا، أو نقسّم شخصيّاتنا إلى نصفين واضحين وغير متوافقين. نصف متديّن يؤمن بجميع أنواع الخرافات والتّعصّبات والعقائد غير المعقولة وغير العلميّة، ونصف علميّ ينهل من العجائب الجديدة في كلّ يوم.
عندما يدور شيء دورته الكاملة، وكنت ترغب في الحصول على النّتيجة والتّأثير ذاته مرّة أخرى، فعليك تكرار العمليّة نفسها. نور يوم واحد لا يكفي لشهر. نوره يكفي لمرّة واحدة فقط – من شروق الشّمس إلى غروبها – ولا فائدة تُرجى من نور الأمس لزهور الغد. بمعنى آخر، بمجرّد استهلاك وحدة من الطّاقة، وأردت مزيدًا من الطّاقة، فلا بدّ أن يكون لديك وحدة أخرى. الاعتدال الرّبيعيّ الماضي أعطى فقط نتائج النّموّ والحصاد لعام واحد – وذلك لن يكفي عامين، وهلمّ جرا. فأينما نظرنا في عالم الطّبيعة نرى المبدأ نفسه قائمًا. شيء معيّن يؤدّي مهمّة معيّنة، يُعطي نتائج معيّنة. إذا كنت تريد المزيد، فلا بدّ أن تكرّر العمليّة بأكملها.
دعونا نصدّق ما تثبته دراسة متجرّدة للتاريخ وأنّ ما تخبرنا به عقولنا هو أمر منطقيّ. لهذا العالم أوقات ربيع روحانيّ وكذلك أوقات ربيع ماديّ. في فترة الاعتدال الرّوحانيّ يظهر نبيّ أو أنبياء (على سبيل المثال السّيّد المسيح ويوحنّا المعمدان) مسلّحين بدليليْن على مصداقيّتهم الرّوحانيّة – المثال والتّعاليم. فهم يظهرون في هياكل جسمانيّة، كبشر، لأنّها بالتّأكيد الطّريقة الأكثر طبيعيّة وملاءمة للتواصل معنا وجعلنا نشعر أنّ ما قد جاؤا لفعله وقوله هو من أجلنا كبشر، وليس شيئًا غريبًا وغير طبيعيّ دخيل على حياتنا. فهم يشاركوننا في مزايا الجسد وعيوبه. ومع ذلك فهم يشاركون الله، في شيء لا نعرفه، وهو كماله. فبينما لدينا القدرة، أثناء بذلنا الجهد وأثناء تطوّرنا، لنعكس أنوار الكمال الإلهيّ في أرواحنا، كما يعكس الزّجاج أشعّة الشّمس، إلّا أنّ الأنبياء هم الأشعّة المنبعثة من الشّمس. نحن نتلقّى النّور بمقادير متفاوتة. إلّا أنّهم هم النّور نفسه. ولهذا السّبب كان السّيّد يسوع، الّذي لم يكن جسمانيًّا سوى نجّار بسيط من النّاصرة، قادرًا، مع ذلك، على تشكيل نصف العالم. وأصدر موسى، المتلعثم، الهارب من غضب فرعون، قوانين لا نزال نتّبعها يوميًّا في جميع أنحاء العالم. كما استطاع حضرة محمّد، التّاجر وراعي الجمال، بناء الحضارة الإسلاميّة.
إنّ تكوين عقول وأرواح هؤلاء الرّجال ليس شيئًا عاديًّا. إنّهم ظاهرة من ظواهر الطّبيعة، ومربّون للجنس البشري أتوا لإرشادنا إلى الغاية من وجودنا، وكيف ينبغي لنا أن نعيش ونهذّب سلوكنا، وما هي الأهداف الّتي علينا أن نسعى إلى تحقيقها، وإلى أين نتوقّع الذّهاب بعد أن نموت. لا بدّ أنّه كان هناك أنبياء دائمًا. فطالما كان هناك بشر، منذ انطلاق شرارة الرّوح فيهم، المجرّدة عن النّاحية الحيوانيّة، كان لا بدّ من وجود مرشدين يدلّونهم إلى السّلوك في دروب الحياة الإنسانيّة. وسيكون هناك أنبياء دائمًا لهذا السّبب نفسه. نحن مخلوقات الله، خيرة خلقه. لديه خطط لنا، كانت وستستمرّ في التّكشّف على مرّ القرون. إنّه يتواصل معنا ويوجّهنا من خلال واسطة هي عبارة عن جزءٍ من مخطّطه للأمور. هذه الواسطة هي النّبيّ.
إنّ حدود وقيود الدّين هي من صُنْعِنا نحن لا غير. فنظرًا لكوننا ضيّقي الأفق بطبيعتنا، ولكنّنا متحمّسون، فقد تشدّدنا دومًا في دياناتنا وضيّقنا الخناق عليها. فما كان واسعًا في رؤيته وسديدًا ورحبًا وجميلًا، ضيّقناه وحجّمناه على قدْر عقولنا. وحرصًا منّا على إبقاء النّور الثّمين والمحبوب الّذي جلبه لنا نبيّنا سليمًا، فإنّنا لم نكتفِ بوضع زجاجة شفّافة تحيط به لحمايته من التّيّارات، بل قمنا بزركشته، وصبغه، وبناء جدران حوله، وإدخال حركات الشّعوذة في احتفالاتنا الّتي تُقام تكريمًا له، إلى أن أصبح ضوؤه في النّهاية خافتًا بحيث لم يعد بالإمكان تمييزه ولم يتبقَّ لنا منه سوى ما أضيف إليه من حشو وزوائد.
معظم العقول تهوى تعقيد الأمور. فقد صعّب علماء الأديان العقيدة الدّينيّة الأصليّة لكلّ نبيّ وعقّدوها إلى حدّ أنّه صار من غير المرجّح أن يتعرّف النّبيّ نفسه على دينه إذا ما عاد إلى أتباعه مرّة أخرى. ينبغي أن لا تُزعجنا أو تُثبط عمليّة التّآكل والهدم هذه من عزيمتنا. إنّها جزء من الحياة، جزء من إيقاع الدّورات. نحن نعلم جميعًا كم تكون الطّبيعة ناضرة في فصل الرّبيع، وكم هي جميلة ورقيقة ونابضة بالطّاقة والحياة. الصّيف يأتي بالنّضوج، الّذي له سحره الخاص، ثم يأتي حصاد الخريف عندما يتمّ جمع الفاكهة والبذور. يعقبه الشّتاء حاملًا الموت والكآبة والبرد. يبدأ الانحلال، وعندما يبدو أن كلّ شيء قد أصبح متحلّلًا وفاسدًا وكئيبًا لأقصى درجة ممكنة، تأتي معجزة الرّبيع من جديد. الطّبيعة مليئة بالتّناقضات والظّواهر المتطرّفة. اللّيل والنّهار، الحياة والموت، المطر والجفاف، الصّيف والشّتاء. ربما لن نقدّر أحدهما من دون الآخر أبدًا. يحدث الشّيء نفسه في الدّورة الرّوحانيّة. وهذا الرّبيع الرّوحانيّ الّذي تنمو وتتبرعم وتتفتّح فيه أزهار الأرواح والّذي يجلبه المظهر الإلهيّ إلى حياة البشر، ينتقل إلى الصّيف والخريف، فيعطي ثماره وينحدر بعد ذلك ويدخل في الشّتاء. ثمّ يأتي ربيع آخر وتغيير آخر، حيث تبدأ دورة جديدة.
كان العالم في القرن التّاسع عشر جاهزًا لفصل الرّبيع. إذا نظرنا إلى الخريطة الدّينيّة للقارّات، نرى أنّ المسيحيّة قد أغدقت عليها بقسط كبير من نعمها ومواهبها. وذلك قبل فترة طويلة من انقسام الكنيسة إلى فريقين وانقسام الحركة البروتستانتيّة نفسها مرارًا وتكرارًا إلى طوائف. وقبل فترة طويلة أيضًا من فقدان الأمم المسيحيّة للوحدة الّتي تحقّقت تحت رعاية الإمبراطوريّة الرّومانيّة المقدّسة، نجد أنّ الفتنة والاضطهاد الدّينيّ والطّائفيّة، قد تنامت مع مرور السّنين، ونخرت المادّيّة بالفعل النّسيج الأخلاقيّ للغرب بشدّة.
أمّا الدّيانة اليهوديّة، فقد غرقت في سبات عميق امتدّ قرونًا، واستغرقت ببؤس في أحلام العظمة، وتشبّثت بتعصّب بماضٍ بعيد، محتقر ومنبوذ، وتعرّض شعبها للذلّ في كلّ ركن من أركان المعمورة.
أخذت حيويّة الإسلام بالانحسار بسرعة، فباتت فرقها تتضاعف، وتتشوّه معتقداتها الأصليّة، ومثل عقائد الأديان الأخرى الّتي تكاد تكون غير المعروفة، استُهلكت قوّتها الدّافعة الّتي حملتها إلى أبواب فيينّا وإلى داخل فرنسا.
في أقاصي قارّة آسيا، كانت كلُّ من البوذيّة والهندوسيّة، اللّتيْن غدتا الآن قديمتين وضعيفتين، في شبه سبات على شكل فلسفات سلبيّة ومعتقدات قديمة. وأصبحت الزّرادشتيّة، ضيّقة الأفق ومتعصّبة، والّتي شغلت نفسها بطقوس وعقائد، فخورة بطول مدّتها، ولكنّها مجرّدة من رؤية جديدة أو حماس متّقد.
ازدهر نشاط رجال الدّين في كلّ مكان. وكان أهل العالم، بقلوبهم الّتي فقدت النّور ومعظمهم يعاني من البؤس والفاقة، قانعين بتقديم خدمة بسيطة لله، وإطاعة الأحكام الّتي لا تعدّ ولا تحصى أو استنكارها (حسبما تتطلّبه الحالة)، أحكام تمّ التّأكيد لهم بأنّ اتّباعها سيؤمّن لهم منزلة سعيدة مريحة في العالم الآخر. كانت الإنسانيّة عبارة عن كتلة كبيرة غير مختمرة تعوزها الحيويّة، حيث أصبحت مهتمّة أكثر فأكثر بكيانها المادّيّ بينما كان اهتمامها بخيرها وصلاحها الرّوحانيّ في تناقص مستمرّ مع مرور الأعوام. كانت كلّ علامات الانحدار الرّوحانيّ والخمود الأخلاقيّ تتّضح بشكل متزايد في جميع أنحاء العالم.
في منتصف القرن التّاسع عشر تقريبًا، بدأ نسيم ضعيف في بعث النّشاط في حياة العالم: نادرًا ما كان محسوسًا في البداية، ثمّ أصبح ملحوظًا أكثر فأكثر بالتّدريج. اكتشافات حديثة، ومقاربة جديدة لحياة الجماهير باتت واضحة. أخذت قوّة البخار مكانتها. والوجه المادّيّ للعالم أخذ يتشكّل بالكامل من جديد. التّلغراف اللّاسلكي، الكهرباء، التّخدير، خدمة الكوابل، خدمة القطارات، وكلّ التّقنيّات الجديدة شكّلت معًا زخمًا وجلبت في أعقابها ما نسمّيه الحضارة الحديثة المبنيّة على العلوم وقوّة الآلة. وللمرّة الأولى خلال كلّ ملايين السّنين الّتي وُجد فيها، رأى الإنسان – الإنسان الّذي يمثّل الجموع الغفيرة – فُرجةً في أفقه المظلم. إمكانيّة للعيش برفاهيّة، وبالتّالي مستوىً أعلى من التّعليم والمعيشة، يلوح كحقيقة واقعة أمامه. ألغيت العبوديّة. ليست العبوديّة الجسديّة فحسب، بل العبوديّة الرّهيبة المتمثّلة في الحاجة والفقر وبدأت تتعرّض للهجوم من قبل المشرّعين. حدث، بشكل مباغت تقريبًا، تغيير مماثل في عالم الفكر، فقد بدأ النّاس يشعرون وبشكل مباغت تقريبًا بالحاجة إلى إصلاحٍ واسع النّطاق: بدأت الأمور تختمر بانتظام. كان الاقتصاد فاسدًا ويحتاج إلى إصلاح والطّبقات الدّنيا تُعامل بشكل غير منصف وهي الّتي تستحقّ تعاملًا أفضل بكثير من قبل المجتمع، وكان لا بدّ من أن ينتشر التّعليم انتشارًا واسعًا، وأن تُمحى الأمّيّة. وأن تتغيّر المناهج الدّراسيّة. واعتُبرت السّجون والأنظمة الجزائيّة مختلّة وظالمة. وانشغل الإصلاحيون في مائة مجال. استولت مفاهيم جديدة تمامًا على مخيّلة البشر: طالبت النّساء بحقّ التّصويت بدعوى المساواة في الحقوق مع الرّجال. بدأ أصحاب الرّؤى بالتّحدّث بجرأة عن “برلمان قويّ وفعّال، واتّحاد فيدراليّ للعالم”. وأحرزت الدّعم والتّأييد فكرةُ وجود لغة عالميّة صالحة للتداول، جديدة وسهلة التّعلّم. تقدّم العلم والمعرفة فجأة بخطوات واسعة إلى الأمام: ففي خلال مائة عام، دُشّنت أمور معرفيّة جديدة أخرى، وكُشف النّقاب عن المزيد من الحقائق الجديدة حول الطّبيعة والمادّة، وظهر المزيد من الاختراعات، ونُفّذت إصلاحات بعيدة المدى تعدّت في حجمها ما تمّ إنجازه منذ أن بدأ التّاريخ المكتوب قبل حوالي أربعة أو خمسة آلاف سنة.
فما الّذي حدث؟
لقد ظهر مظهر إلهيّ جديد.
رغم أنّ أهمّ ميّزة لدينا كبشر هي عقولنا، إلّا أنّنا نادرًا ما نستخدمها للتفكير بعمق. نمرّ مرورًا سطحيًّا على الحياة وبسرعة ملحوظة، تمامًا مثل حشرات الماء طويلة الأرجل الّتي تجدّف للسير على سطح البركة بمرح وسرور، ولا يبدو حتّى إنّها تبلّل أقدامها أبدًا. وهكذا نحن، نقبل الكثير من أفكارنا مصنوعةً جاهزةً، يقدّمها لنا أجدادنا أو أصدقاؤنا أو مدرّسونا أو رجال ديننا. إذا ما تمّ تحدّينا لنهجر فكرًا قديمًا أو نحاول التّفكير في فكرة جديدة لمعرفة ما إذا كانت تناسب أغراض الحياة وحقائقها بشكل أفضل من تلك القديمة، نبدو في غالبيّتنا كسالى أو في منتهى اللّامبالاة. إنّ ذكاءنا، في الواقع، يطالبنا، بل يوجب علينا، احترام وجهات نظر من هم أكثر خبرة، وأكثر نضجًا، وأكثر حكمة، وأكثر دراية ممّا نحن عليه. ولكن هناك فرقًا بين هذا وبين تقليد أعمى وغبي. لا بدّ أن يكون للإنسان شيء من أجل نفسه. إذا كان والده موحّدًا أو كاثوليكيًّا أو يهوديًّا أو مسلمًا، فهو غير مجبر على أن يصبح كذلك فقط لأنّه ورث عنه الإيمان مع اسمه الأخير ومع المزرعة والأبقار. وبالمثل، فإنّ على الأفراد ممارسة امتيازهم الّذي منحه الله لهم، في كلّ مجال هامّ من مجالات الحياة، للتفكير والاختيار لأنفسهم، وإلّا، فإنّ القيم الّتي يملكونها في الحياة لا تكون قيمهم الخاصّة بهم. فإذا كان الشّخص ديموقراطيًّا أو كاثوليكيًّا أو ماسونيًّا أو طبيب أسنان، فقط لأنّ والده كان ديموقراطيًّا أو كاثوليكيًّا أو ماسونيًّا أو طبيب أسنان من قبله، فما الفائدة الّتي يرتجيها من هذه الأشياء في تطوير شخصيّته؟ إنّها مثل الجبائر بدلًا من العظام، تدعم من الخارج، بدلًا من أن تكون جزءًا من هيكلها العظميّ. قد يكون كلّ ما يمثّله والد الشّخص رائعًا، وقد يكون أيضًا أفضل ما يناسب الإبن بالفعل – لكن يجب عليه التّفكير فيه وأن يختاره هو لنفسه بمحض إرادته. وقد يكون العكس صحيحًا أيضًا، فقد يكون كلّ ما كان يمثّله والده أسوأ شيء ممكن بالنّسبة له ويكون سببًا في دماره إذا اتّبع المسار نفسه. فالتّقليد الأعمى لآخرين ليس غير لازم وعقيم ودال على الكسالة فحسب، ولكن قد يؤدّي إلى حدوث أخطاء شخصيّة كبيرة في حياة المرء، وعلى نطاق أوسع، ويفضي إلى مآسٍ تاريخيّة تؤثّر في حياة أعداد كبيرة من النّاس.
لو تحلّى اليهود في أيّام السّيّد المسيح بالنّزاهة وانفتاح العقل، لما قاموا بصلبه. ربّما ما كان الجميع سيقبلونه أو يقبلوا تعاليمه، أو ما كانوا حتّى سيعتقدون إنّه كان يعلّم النّاس شيئًا يستحقّ الاستماع إليه، لكنّهم، على أقلّ تقدير، كانوا سيتركونه حيًّا. ولكن بدلًا من ذلك، اتّبعوا قادتهم بكلّ عمىً وغباء، أولئك القادة الّذين كان التّعصّب قد أعمى عيونهم وانغمسوا في عقائدهم التّقليديّة الموروثة من الرّأس إلى القدم. وكانت النّتيجة أن تحوّل نهر المسيحيّة عن مجراه الطّبيعي وبدلًا من أن يروي حياة الشّعب المختار أوّلًا، وهم الّذين جاء إليهم يسوع بصفته مسيحهم الموعود، فقد تجنّبهم تمامًا وألقى بمياهه الواهبة للحياة في بلاد بعيدة.
إنّ عقول البشر في وقتنا الحاضر ضيّقة الأفق (رغم أنّه يمكن بلا شكّ توسيع أفقها وتعميقها بشكل رائع في المستقبل من خلال التّربية السّليمة)، ولكوننا جنسًا قويّ الإرادة، فإنّنا نتمسّك بمفاهيمنا التّافهة المحبوكة مسبقًا بإصرار شديد. لقد تطلّب الأمر قدرًا هائلًا من العمل الجادّ لنُدخل إلى رؤوسنا أنّ هذه الأرض كرويّة وأنّها انفصلت عن الشّمس، وأنّها بردت وتصلّبت، وأنّ الحياة ظهرت عليها، ولاحقًا، خلال مرحلة تطوّرها، ظهرنا. وربّما كان السّبب الوحيد وراء قبولنا لهذه الأفكار الجديدة هو أنّه شُرِع بوضعها في مناهج الكتب المدرسيّة وتعليمها في المدارس والكلّيّات. إلّا أنّه لا يزال هناك أُناس يتشبّثون بعناد بتفسير حرفيّ لمفهوم الخلق كما ورد في سفر التّكوين ويفضّلون أن يموتوا وهم على هذا الاعتقاد على أن يغيّروا آراءهم. رغم أنّ جدّي الأكبر كان متعلّمًا ورجلًا مثقفًا، إلّا أنّه منع أيّ شخص من مناقشة موضوع التّلغراف اللّاسلكي في منزله لأنّه قال إنّ ذلك مستحيل بكلّ ما في الكلمة من معنىً، وأنّه لن يستمع إلى مثل هذا الهراء.
من بين أكثر الأفكار الموروثة الّتي نعتزّ بها هي المفاهيم الّتي لدينا عن الأنبياء. خذ على سبيل المثال بعض الأفكار الّتي لدينا عن السّيّد المسيح (والّتي كانت لدينا منذ مئات السّنين). فعادة ما يُصَوَّر على أنّه شاب رشيق ذو شعر أشقر وبعيون زرقاء. لقد صوّر ليبدو لنا نحيلًا أو زاهدًا. إلّا أنّه نظرًا لكونه طفلًا خرج من بيئة عاملة، وأنّه عمل كنجّار، وقام بمعظم أسفاره سيرًا على الأقدام، وعاش تحت شمس فلسطين الحارقة، وانحدر من أصل يهوديّ، فالاحتمال الأكبر أنّه كان ذا بُنية قويّة وعضلات مفتولة وشعر داكن وعينيْن داكنتيْن، وبشرة سمراء بُنّيّة. فهل كان لكلّ ذلك أيّة أهمّيّة؟ هل له أيّ علاقة على الإطلاق بالمثال الّذي قدّمه أو بتعاليمه؟ لو أعطيناه شكلًا جسمانيًّا مختلفًا، فهل سيكون أكثر روعة ورسالته أقلّ عظمة؟ ولكن كيف تمسّكنا نحن بإصرار عبر العصور بشكل السّيّد المسيح كما صوّره الرّسّامون الغربيّون، مستخدمين عِرْقهم الخاصّ كمصدر إلهام وخيالهم الخاصّ لإضافة اللّون! لكن هناك أكثر من ذلك. فالسّيّد المسيح لم يتزوّج أبدًا. من هذه الحقيقة الواحدة ومن خلال تعاليمه العامّة الّتي وصلت إلينا حول العيش حياة صالحة، على الرّغم من تشرذمها، قمنا بإنشاء أنظمة استثنائيّة وباستنتاجات غير عاديّة. قام البعض بتلقين النّاس بأنّ مرتبة العزوبيّة هي أعلى من مرتبة الزّواج. وأنّ العلاقة بين الجنسين مُخزية، وأنّها شرٌّ لا بُدّ منه. وأنّ الأطفال “يولدون في الخطيئة وتحمل بهم أمهاتهم في الخطيئة”. وأنّ إحدى علامات قداسة السّيّد المسيح العظيمة هي أنّه لم يتّخذ له زوجة أبدًا! كم هو غريب أن جعل الله هذا الكون كلّه معتمدًا على تجاذب الأضداد – من الشّحنات الموجبة والسّالبة للكهرباء لحدوث التّعادل في الذّرات، إلى الذّكور والإناث لتكاثر نوع الانسان – وأنّ يكون هذا المبدأ، الّذي هو السَّدَاة واللُّحمة للمسألة، أصبح شرًّا ومهانة وخطيئة! من نحن لنفكّر بأنّ الخالق غير عادل ومتقلّب لدرجة أنّه يخلق كلّ شيء، من الذّرّات إلى الإنسان، على نمط نجس في فطرته وصُلبه؟ أيّ حقّ لدى أيّ إنسان في أن ينظر إلى وجه طفل حديث الولادة في يومه الأوّل، ليعلن، وعينا الطّفل الصّغيرتان ما زالتا لا تبصران، وعقله غير قادر على الاستيعاب، بأنّ ما يولد في الخطيئة، سيبقى في الخطيئة؟
أليس طبيعيًّا ومنطقيًّا أكثر الاعتقاد بأنّ هذا التّجاذب الرّائع للأضداد الّذي نراه هو الأساس الفعليّ للحياة، وأنّه ليس سوى درس واحد واسع وهادف كبير يعلّمنا أنّ تجاذب الأضداد الأسمى يكمن في إنجذاب روح الإنسان إلى الله، المخلوق إلى الخالق؟ وأنّ تلك الخصائص المغناطيسيّة في المادّة، وفي الجنس بالفطرة، يمكن أن تغدو حبًّا لدى الإنسان، ومن خلاله، وبكلّ أشكاله، يمكننا أن نتطهّر ونسمو؟ ألن نكون أقرب إلى المعنى الحقيقيّ للحياة، ونحن نراه يتكشّف أمامنا في كلّ شيء يتعلّق بنا وبأنفسنا، إذا اعتقدنا أنّ السيّد المسيح لم يتزوّج أبدًا لأنّه لم يكن لديه وقت لذلك، ولا مكان يؤوي فيه عروسًا؟ لأنّه كان يعرف ما الّذي ينتظره. وما يجب عليه القيام به قبل صلبه المحتوم من قِبَل كهنة شعبه القُساة المتعصّبين؟ بأيّ حقّ يقول النّاس إنّ السّيّد اليسوع النّابض بالحيويّة والمحبّة والعطاء والشّجاعة، كما ورد عنه في الأناجيل، نظر إلى الزّواج على أنّه دون مستواه وأنّه خطيئة وشرّ لا بدّ منه تمّ إعفاؤه منه؟ إذا كنّا نريد أن نفهم السّيّد المسيح، يجب أن نقرأ ما جاء به من تعاليم ونرى الآثار الّتي تركتها رسالته في الثّقافة والحضارة. ونزيل الحجب الّتي أحاطه بها أصحاب العقول البسيطة، وإن كانت مخلصة، في السّنوات الألفين هذه.
وينطبق الشّيء نفسه على حضرة محمّد. فعلى الرّغم من ظهوره في تاريخ لاحق، ورغم أنّ تعاليمه قد كُتبت على الفور (على عكس تعاليم السّيّد المسيح) وبالتّالي يمكن اعتبار أنّ النّصوص الّتي جاء بها هي كلماته الأصليّة وليست أقوالًا وردت عنه، إلّا أنّ أتباعه أفسدوا وأساؤا فهم الكثير من تعاليمه. لقد نَفَر المسيحيّون المتمسّكون بمفهوم مشوّه وصارخ عن الجنس، كما تمّ الإشارة إليه أعلاه، من الإسلام بسبب عاملَيْن وردا في حياة النّبيّ العربيّ – تعدّد زوجاته وحروبه.
قبل أن نحلّل هاتين النّقطتين، ينبغي قول كلمة عن الجانب العامّ للدين. إذا كان النّبيّ طبيبًا إلهيًّا يجلب الشّفاء للإنسانيّة، فمن المنطقيّ أن يكون المطلوب منه هو أن يشفي المريض من علله الّتي يعاني منها في الوقت الحالي وليس وصف دواء لعلاج بعض الأمراض الّتي كان يعاني منها جدّه الأكبر. من المنطقي أكثر بكثير الاعتقاد بأنّ ما كان اليهود في حاجة إليه في العام الأوّل بعد الميلاد – وبعدهم اليونانيّون والرّومان، لأنّ هؤلاء الثّلاثة كانوا هم أوّل من تلقّوا رسالة السّيّد المسيح – كان مختلفًا تمامًا عمّا يحتاجه العرب بعد حوالي 600 عام. اليهود، وعلى الرّغم من نشأتهم الدّينيّة الجيّدة، كانوا غارقين بالفساد، يعتقدون بالخرافات ومادّيّين ومتعصّبين. كان الرّومان والإغريق، أحدهما في مدٍّ كاملٍ للسلطة، والآخر قد تعدّى ذروته وشرع في الغوص سريعًا نحو الحضيض، على الرّغم من أنّ الشّعبين كانا من المشركين المتحضّرين- بل الأكثر تحضّرًا في العالم الغربي. احتاجت هذه الأعراق للإصلاح الفرديّ بامتياز. لم تكن هناك، حتّى ذلك الوقت، دول بالمعنى الحالي للكلمة. كانت هناك إمبراطوريّات وجماعات ذات سلطة ارتفعت وسقطت وكافحت من أجل السّيادة. لقد أعطى السّيّد المسيح لهذه الشّعوب ما تحتاج إليه تمامًا: عقيدة الخلاص الفرديّ. البشر عامّة والأفراد، كانوا بحاجة لعلاج الفساد الكامن في أرواحهم. لم تكن هناك تعاليم يمكنها مواءمة تهذيب الأخلاق أكثر من تلك الّتي قدّمها حضرة المسيح. إنّ التّظاهر بأنّ حضرته كان مسالمًا جاء لإحلال السّلام في العالم، يُثبت، من خلال أحداث الألفي عام الماضية، زيف رسالته. لم يكن هذا ادّعاؤه على الإطلاق. بل على العكس من ذلك، فقد قال بنفسه: “لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا.”( إنجيل متّى 34:10) . كما أنّه لم يسعَ، مثل حضرة محمّد، لإقامة دولة كنسيّة أو دينيّة، فقد صرّح بكلّ وضوح: “أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ” (انجيل متّى 21:22)، وبالتّالي، فَصَل، بكلمة واحدة، سلطة الدّولة، الّتي تدير شؤون النّاس، عن شؤون الفرد الّذي يُفترض أن يدير شؤونه الشّخصيّة في ضوء التّعاليم الإلهيّة.
أمّا الحال مع الأعراب فقد كان مختلفًا. فقد ظهر حضرة محمّد في وسط جنس همجيّ من عبدة الأوثان المعتمدين على التّجارة. في حين كان المثقّفون الرّومان واليونان، المتشكّكون الظّرفاء، مولَعين في تقديرهم لآلهتهم، حتّى الطّبقات الدّنيا كانت تعبد تلك الآلهة لدرجة أكبر لأنّها كانت موجودة كمؤسّسة وليس بدافع أيّ قناعة عميقة بشأن فعاليّتهم، وفي حين أنّ اليهود كانوا متعصّبين بشدّة ولا يزالون متمسّكين بالدّيانة التّوحيديّة لموسى، كان العرب يسودهم الجهل والخرافات والحميّة في عبادة الأوثان. كانوا معزولين في البرّيّة. وتتركّز ثرواتهم في جِمالهم، وتَمْر النّخيل، وينابيع المياه الثّمينة المتناثرة، والتّوابل والبخور وقطعان الماشية. وفي الوقت الّذي ولد فيه الرّسول محمّد، كانوا شعبًا همجيًّا بدائيًّا. يمكن للمرء أن يفهم طبائعهم المتوحّشة بشكل أفضل من خلال عمل واحد – والّذي كان مجرّد ظاهرة منفردة – حدث خلال قتال دار بين أتباع حضرة محمّد وبعض رجال القبائل. إذ هرعت إحدى النّساء، بعد انتهاء المعركة، إلى الأمام وباستمتاع كبير، انتزعت كبد عدوّ مسلم، والّذي كان جسده لا يزال دافئًا، وغرزت أسنانها فيه! يصف البروفيسور حتّي (فيليب حتّي) العرب في تلك الفترة بشكل مناسب للغاية عندما يقول، “كان مزاج القتال حالة مزمنة في عقولهم”. عندما ندرك أنّ هذا العِرق الوحشيّ، الّذي كان في حالة حرب دائمة، والّذي لم يعرف وحدة تتجاوز وحدة القبيلة، وكان منغمسًا باستمرار في نزاعات دمويّة، قاس على الأعداء، وقاس على الحيوانات (اعتادوا أن يربطوا البعير بقبر صاحبه ويتركوه حتّى يموت عطشًا)، إنّ مثل هؤلاء القوم، الّذين كانت متعتهم الرّئيسيّة في مدنهم وقراهم هي لعب القمار بلا توقّف، وتناول الشّراب بكثرة، والانغماس في الفجور بحيث أصبح البغاء عمليًّا مهنة شريفة، نراهم وقد تحوّلوا بالكلّيّة، خلال فترة حياة إنسان واحد، ليصبحوا أمّة عظيمة موحَّدة، ومُحيت عاداتهم العدائيّة السّابقة من القتال كتفًا إلى كتف، وحَرّم شرب الخمر ولعب القمار، ورفع من شأن المرأة إلى مستوى عال بشكل لا يصدّق، وأصبح بإمكانها حيازة الممتلكات باسمها، ونقلها إلى ورثتها، وتحسّن وضع العبيد بشكل غير محدود، أمّا الأعداء السّابقون، فبمجرّد إعلان إيمانهم، كان يتمّ قبولهم في مجتمع الإسلام دون اتّهامهم بأيّ إساءات قاموا بها قبل إيمانهم، وسمح لهم بالارتقاء إلى أعلى المراكز فورًا. عندما نأخذ هذه الأمور بعين الاعتبار، لا بدّ لنا أن نتوقّف لنفكّر قليلًا ونسأل أنفسنا عن ماهيّة ذلك الإنسان الّذي أحدث مثل هذا التّحوّل المُعجز للغاية في حياة أبناء وطنه خلال فترة أربعة عقود تقريبًا.
بمجرّد أن أصبح لدى حضرة محمّد القوّة الكافية، قام أوّلًا، وبيدٍ من حديد، بالقضاء على عبادة الأصنام. عند التّفكير في الإسلام، يجب أن نتذكّر أنّ المريض، وبكلمات أخرى جمهور النّاس، كان “مريضًا” مختلفًا عن أيّام السّيّد المسيح، أو حضرة موسى في هذه المسألة، وكان يعاني من مرض مختلف، وبالتّالي فقد تطلّبت حالته علاجًا مختلفًا، فقدّم له حضرة محمّد هذا العلاج. لم يكن هناك شيء سوى استخدام القوّة، الّتي تتّسم بالعدالة والحكمة، كما اعتاد حضرة محمّد على استخدامها دائمًا، لتؤدّي إلى تهذيب أهل الجزيرة العربيّة. قال حضرة موسى، “العين بالعين والسّنّ بالسّنّ والنّفس بالنّفس”. ما زلنا نعتقد أنّ هذا هو أساس العدالة. فقوانيننا الخاصّة بالعقوبات تستلزم في معظم الأحيان حياةً مقابل حياة. نحن نذهب إلى الحرب ليس دائمًا بدافع من الجشع أو الكراهية – قامت أمّة مسيحيّة أحيانًا ضد أمّة مسيحيّة أخرى لاعتقادها بأنّ دوافعها لها ما يبررها. كانت الأمم المسيحيّة، في زهرة إيمانها، عندما قامت بالحملات الصّليبيّة الطّويلة وأُدينت لارتكابها سلوكًا غاية في الوحشيّة والهمجيّة. ومع ذلك، فقد اعترضنا على حضرة محمّد لمدّة ألف وثلاثمائة عام لأنّه قضى على الوثنيّة بالسّيف ونشر حضارة عظيمة ومتسامحة بالسّيف!
انتقادنا الثّاني والكبير لحضرة محمّد هو أنّه كان لديه الكثير من الزّوجات. لنضع جانبًا ما نحن عليه من تحيُّز طبيعي فرض على عقولنا، من خلال الفكر الممتدّ على مدى العمر بأنّ هناك شيئًا عن الجنس خاطئ وقذر، ولنتفحّص التّهمة الموجّهة ضدّ حضرته. في المقام الأوّل، فقد مارس اليهود تعدّد الزّوجات: لا توجد جملة واحدة في الأناجيل ضدّ ذلك. حرّم السّيّد المسيح الطّلاق ولكنّه لم يقل أيّ شيء يمكننا أن نقتبسه أو نأتي بنصّه بتاتًا عن تعدّد الزّوجات. وقد مارس، في الواقع، المسيحيّون الأوائل تعدّد الزّوجات، وهو أمر ما كان ليحدث لو كان هناك أيّ بيانات صدرت عن السّيّد المسيح ضده. فأيًّا كانت المعتقدات الّتي أُدخلت إلى الكنيسة فيما يتعلّق بهذا الموضوع فقد قام رعاتها الأوائل بادخالها فيها. لذلك نرى أنّ الدّيانتين التّوحيديّتين العظيمتين اللّتيْن كانتا موجودتين في زمن حضرة محمّد، وهما اليهوديّة والمسيحيّة، لم تتبنّيا مبدأ الزّوجة الواحدة. بل على العكس من ذلك، لم تكن هناك فكرة تربط الشّرّ باتّخاذ أكثر من زوجة واحدة. كما أنّ حضرة محمّد ظهر أيضًا بين أمّة تتّبع تعدّد الزّوجات، أمّة عُرفت بأنّ لرجالها عددًا كبيرًا من الزّوجات. فقام حضرته بخفض هذا العدد في أحكام القرآن إلى أربع. كان هذا، في حدّ ذاته، خطوة هائلة إلى الأمام، وحماية كبيرة لحقوق النّساء، اللّواتي أُعتبرن، قبل ظهور حضرته، مجرّد متاع في أعين العرب.
قد نميل إلى القول بأنّ حضرة محمّد، ربّما بسبب تنقّله المستمرّ تقريبًا مع القوافل المختلفة الّتي كانت تغادر مكّة للتجارة مع البلدان المجاورة، لم يتزوّج مطلقًا إلى أن بلغ سنّ السّادسة والعشرين من عمره، وقد اشتهر بأنّه كان عفيفًا تمامًا إلى حين زواجه. من هي تلك الّتي تزوّجها عندما كان في السّادسة والعشرين؟ لو كان هو ذاك الرّجل الماجن الّذي صوّره معظم المعلّقين المسيحيّين، لما اختار أن تكون زوجته امرأة تبلغ من العمر اثنين وأربعين عامًا، والّتي كانت قد ترمّلت مرّتين، وكانت بدينة – رغم جمالها – وفي منتصف عمرها. في الواقع، إنّ اثنين وأربعين عامًا من العمر بالنّسبة للشعوب الشّرقيّة، يعني سنًّا أكبر بكثير ممّا يعنيه بالنّسبة للعقول الغربيّة. عاش حضرته مع هذه المرأة وحده، بإخلاص تامّ لها، محبًّا إيّاها بكلّ تفان وعمق، طوال ثلاثة وعشرين عامًا إلى حين وفاتها.
لذلك نرى أنّه لم توجد إمرأة في حياة حضرة محمّد إلى أن بلغ سن الحادية والخمسين، باستثناء أرملة متقدّمة في السّنّ نسبيًّا. وبرغم أنّه تزوّج من اثنتي عشرة إمرأة أخرى، إلَا أنّ اثنتين أو ثلاثة منهنّ فقط كنّ من العذارى. أمّا الباقيات فقد كنّ أرامل، وبعضهنّ في منتصف العمر، وكان لدى معظمهنّ أطفال. عندما ندرك أنّه كان بإمكان حضرته، خلال تلك السّنوات التّسع، أن يختار، عمليًّا، من جميلات الجزيرة العربيّة – ألف عذراء لو أراد ذلك – نرى مدى الإساءة الّتي أُلحقت باسمه في الكتابات الغربيّة وبين الشّعوب الغربيّة. أقلّ ما يمكن قوله هو أنّ هذه ليست أدلّة على الشّهوة الجنسيّة. في الواقع، عندما نستعرض هذه العلاقات الشّخصيّة لحضرة محمّد، نرى بوضوح شديد أنّ الدّوافع وراء زيجاته كانت الشّهامة والشّفقة وما يمكن أن أسمّيه الحنكة في رعاية شؤون الدّولة.
كثيرة هي تصوّراتنا الخاطئة عن حضرة محمّد. فهو لم ينجُ من أتباعه الّذين كانوا يقومون باسمه بأفعال تثير غضبه، تمامًا مثلما قمنا نحن باسم السّيّد المسيح بالعديد من الانتهاكات وأدخلنا الكثير من التّشويه إلى تعاليمه. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أنّه في حين أنّ حضرة محمّد قد حدّد في أحكامه بدقة عدد الزّوجات الّذي يمكن للرجل اتّخاذه بأربعة في وقت واحد، فقد تباهى العديد من أتباعه بحريمه الّذين وصل تعدادهنّ إلى المئات من الجميلات. ورغم أنّه غرس بنفسه احترام أتباع السّيّد المسيح وحضرة موسى في نفوس المسلمين، ممّا سمح لهم اتّخاذ زوجات لهم من بينهم، كما فعل هو بنفسه، وذكر بشكل قاطع في القرآن الكريم أنّ السّيّد المسيح وحضرة موسى كانا “من رسل الله” ومن “الأنبياء أولي العزم”، جالبيْن للحقيقة ويجب تكريمهما ومحبّتهما، إلّا أنّ المسلمين المتعصّبين، وجدوا أنّ ذبحهم “الكافرين” فضيلة وكانوا يعودون إلى منازلهم ليغيّروا كلّ ملابسهم إذا ما لامست يهوديًّا أو مسيحيًّا.
إنّ مرض العقول الصّغيرة قد اتّخذ مجراه الطّبيعي بينهم عبر العصور! لماذا لا يخطر ببالنا، إلّا نادرًا، أنّ رجالًا يملكون مثل هذه القوّة لفعل الخير، مثل هذا العقل البارع للنظر في المشاكل والاحتياجات الإنسانيّة، مثل هذه الشّخصيّات الجاذبة القادرة على إعادة تشكيل حياة أولئك الّذين يعترفون بعظمتهم الحقيقيّة، كما فعل السّيّد المسيح أو حضرة محمّد أو حضرة موسى، لا بد وأنّ يكونوا شخصيّات ساحرة للغاية، آسرة تمامًا، أشخاصًا لا بدّ أنّنا كنا سنشعر في حضورهم بأنّ آفاقنا تتوسّع، وتقديرنا لأنفسنا يتسامى، وقدرتنا على الإنجاز تزداد وتتنامى، وعلى العيش حياة أكثر حيويّة من أي وقت مضى؟ لماذا يجب أن ننظر إليهم كأنّهم عمالقة مذهلون، شيء تمّ إقصاؤه بعيدًا عن دائرة حياتنا الصّغيرة، وجودات يجب أن تحظى بإعجابنا عن بعد، ولا يوجد ما هو مشترك بيننا؟ أو كأشخاص ذوي شخصيات أحاديّة، مثل المفهوم السّائد عن السّيّد المسيح على أنّه اللّطيف دائمًا، المحبّ، الغفور، شافي الأمراض – أو عن حضرة محمّد على أنّه المحارب، رجل المعارك الّذي يقود كتائبه إلى القتال؟ من المؤكّد أنّ هذه المقاربة العقليّة الّتي نتّبعها تجاه هذه الشّخصيّات النّبويّة هي أحد الأسباب الّتي تجعلنا لا نستمدّ المزيد من الخير والصّلاح من تعاليمهم.
إذا كانوا أرواحًا إلهيّة فريدة في أجساد بشريّة، إذا كانوا قد جاؤوا إلينا بالفعل مع بشائر ورسائل وأوامر من الله نفسه لتوجيه حياتنا، لجعل عالمنا مكانًا أفضل وأكثر سعادة للعيش فيه، فعلينا إذًا أن نسعى لمعرفة كلّ ما نستطيع عنهم وعن شخصيّاتهم، لعلّنا بمعرفتنا الحقيقيّة لما هم عليه، يمكننا أن نتوصّل إلى معرفة أنفسنا أيضًا ومعرفة قيم الحياة بشكل أفضل.
كلّ طفل مسيحي مطّلع على قصص الكتاب المقدس الّتي ترسم ببساطة، صورة حيّة وجميلة عن رأفة السّيّد المسيح الإنسانيّة الدّافئة، عن تعاطفه السّريع مع أولئك الّذين عانوا أو تعرّضوا لسوء المعاملة. وعن صداقته الحميمة الأصيلة الوقورة مع أصحابه الّذين تنقّلوا وعلّموا معه. عن استقامته الصّارمة في طرد الصّيارفة[1]. عن الطّريقة الّتي ازدرى فيها أقاربه بالجسد عندما أشار إلى تلاميذه كإخوته الحقيقيّين. بقيت صوره حيّة وحقيقيّة في مخيّلتنا وهو يصلّي، وحيدًا وبقلب مثقل، في جثسيماني[2] في ليلة الخيانة. وهو يعاني من الآلام الشّديدة والإهانات الّتي انهالت عليه خلال الأيّام الأخيرة من حياته. كم ناله من الحزن والمرارة عندما أنكره بطرس الحبيب، “صخرته” الّتي كان سيبني عليها كنيسته، ثلاث مرّات. يا لها من عزلة ووحشة كبيرة، من وجهة النّظر البشريّة، مرّ بها حضرته عندما عُلّق على صليبه بين اثنين من اللّصوص – من المؤكّد أنّ هذين الصّليبين الآخرين كان يجب أن يعلّق عليهما اثنان من أتباعه المخلصين الّذين غمرهم حبّه ورفعهم إلى جانبه في ساعته الأخيرة !
لكنّ الصّور، حيّة كما هي عليه، مجزأة، ولا يمكننا، بعد انقضاء عشرين قرنًا، أن نتأكّد من أنّ السّيّد المسيح الّذي نعتقد أنّنا نعرفه هو نفس الرّجل الحقيقي الّذي عاش حينها بالفعل.
وينطبق الشّيء نفسه على حضرة محمّد، فرغم توفّر تفاصيل أكثر عن حياته – وهو شخصيّة تاريخيّة، بمعنى الشّخصيّة الموثّقة تاريخيًّا – أكثر بكثير من يسوع، ومع ذلك، فقد مضى وقت طويل على وفاته، ونُقل الكثير من الصّحيح وغير الصّحيح عنه من قِبَل أتباعه (المنقسمين إلى طوائف متناحرة) وأعدائه، بحيث أصبحت الخطوط العريضة لطبائعه وشخصيّته غامضة وغير واضحة إلى حدّ ما.
أين نتوجّه إذًا، لنعرف كيف تبدو هذه الظّاهرة الغريبة، هذه الأشعّة القادمة من الشّمس، هذا النّبيّ المرسل من قبل إله غير مرئيّ، هذا الهيكل المخلوق من لحم ودم الّذي يشبهنا كثيرًا ولكنّه على نقيضنا تمامًا؟ نحتاج إلى تأكيد حيّ وإلى مثال حيّ، شيء قريب منّا في وقت معيّن، شيء يرقى فوق الشّكوك. فهل بالإمكان إيجاده؟
[1] “وَدَخَلَ يَسُوعُ إِلَى هَيْكَلِ اللهِ وَأَخْرَجَ جَمِيعَ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ”… (مت 21: 12-19) …
[2] Garden of Gethsemane هي حديقة على جبل الزيتون في القدس حيث يعتقد أن المسيح قد صلى هناك في الليل قبيل اعتقاله
في منتصف القرن التّاسع عشر، حين كان رجال الدّين الاتقياء في كلّ من الشّرق والغرب يخامرهم شعور بأنّ موعد ظهور نبيّ جديد قد اقترب. وكونه رجلًا خُلق من لحم ودم فقد دخل العالم دون أن يصاحبه نفخ الأبواق بأكثر ممّا صاحب من سبقه من الانبياء. صحيح أنّ البعض قد بشّر بأنّه سيكون هناك “مجيء” قريب، كما ألمح رجل ذو نظرة ثاقبة وحكمة بالغة إلى “مجتمع المنتظرين” الّذي شكّله، بأنّه من المتوقّع ظهور أمور عظيمة من “شيراز” و”طهران”، لكن العالم وبلاد فارس، المعروفة الآن بإيران، – الّتي شهدت ولادته – لم يتأثّرا لأنّ ابنًا قد وُلد في عائلة التّاجر المحترم سيّد ميرزا محمّد رضا في منزل هادئ في شيراز. وعندما كان الابن صبيًّا صغيرًا مات أبوه فأخذه خال له مع والدته الأرملة ليكونا في رعايته. وكبر الصّبيّ ليصبح شابًّا مهذّبًا كثير التّأمّل وحسّاسًا، وحذا حذو أسلافه في مهنتهم فأصبح تاجرًا، وامتلك في وقتٍ ما متجرًا في بوشهر على الخليج العربي. تزوّج من ابنة عمّه وهو في الثّانية والعشرين من عمره، ونظرًا لتوافق طبائعهما وأذواقهما فقد كانا مخلصين جدًّا لبعضهما البعض وفي منتهى السّعادة. وُلد لهما ابن واحد توفّي عندما كان عمره سنة واحدة. كان اسم هذا الشّاب هو سيّد علي محمّد، وسيّد هو لقبٌ يسبق اسم جميع المنحدرين من سلالة النّبي محمّد المعترف بهم، ويحقّ لحامله امتياز ارتداء العمامة الخضراء كعلامة على نسبه البارز.
لم يتميّز سيّد علي محمّد بأيّ شيء خاصّ باستثناء تواضعه وتقواه، إلى أن بلغ سنّ الخامسة والعشرين. عندما كان طفلًا، أذهل معلّمه بفطنته الّتي أبداها في استيعاب مواضيع تفوق إلى حدٍّ بعيد مدى استيعاب عقل الطّفل، وفيما بدا أنّه يعرف بالفطرة الإجابات عن أسئلة تُشغل فكر البالغين. وقد علّق معلّمه على هذا الأمر، بل وحتّى إنّه أبلغ خاله باستحالة قيامه بتعليم طفل لديه مثل تلك القدرة الكبيرة على استيعاب العديد من النّقاط المجرّدة الّتي يعجز هو نفسه عن تفسيرها، وأنّه كان، في واقع الأمر، يتعلّم من هذا الطّفل لا أن يتعلّم الطّفل منه. ولكن كان هناك الكثير من الأطفال العباقرة في هذا العالم الّذين لم يصبحوا أنبياء أبدًا.
لكي نقدّر ونفهم تمامًا ظاهرة هذا الشّاب الشّيرازي، لا بدّ للمرء أن يفهم شيئًا عن الفكر الفارسيّ المعاصر في تلك الحقبة من التّاريخ. كانت هناك مجموعة كبيرة وذات سلطة من العلماء الباحثين الّذين تمّ تعليمهم أنّ جميع علامات الأزمنة، وحالة العالم بشكل عامّ، والتّواريخ الّتي يُعتقد أنّها نبوئيّة في طبيعتها، تُشير إلى حقيقة أنّ دفقًا من القوّة الرّوحانيّة في العالم أصبح وشيكًا، وأنّ عليهم إعداد أنفسهم لتلقّيها والتّأكّد من عدم فشلهم في التّعرّف على الشّخص الّذي سيكون بمثابة القناة الّتي ستجري من خلالها تلك القوّة. كان أفراد تلك الطّائفة يُعرفون باسم الشّيخيّين نسبة إلى اسم مؤسّسها الشّيخ أحمد الاحسائي.
في مايو/أيار 1844، كان سيّد علي محمّد، بعد عودته إلى مسقط رأسه من بوشهر، يعيش بهدوء في منزله. كان آنذاك في الخامسة والعشرين من العمر. كان نحيفًا، متوسّط القامة، ذا أنف دقيق معقوف وعينين بنّيّتيْن واسعتين وحاجبين محدّدين جيّدًا، وشعر بُنيّ داكن، ولحية وشارب. كان ذا طبيعة روحانيّة تأمّليّة، ومعروفًا ومحترمًا لحكمته وإخلاصه واستقامة سلوكه وشخصيّته اللّطيفة والنّبيلة. لم تكن حياته صعبة بأيّ شكل من الأشكال. فقد كانت عائلته موسِرة وذات مكانة مرموقة. وكان أفرادها، شأنهم في ذلك شأن سائر الشّيرازيّين، ظرفاء، حاضري البديهة، يحبّون الشّعر والطّبيعة بأزهارها وأنهارها وأكثر جوانب الحياة بهجة للروح. عاش التّاجر الشّاب في منزل متواضع رائق. تطلّ غرفه على الفناء الدّاخليّ الصّغير لمنزله حيث نمت أشجار البرتقال حول نافورة تحيط بها أوانٍ من الزّهور العطرة. وأرضيّات غرفه مغطّاة بسجّاد بلاده الأصيل الجميل. استُخدمت في منزله المصابيح وثريّات الكريستال. وزُيّنت جدرانه وسقوفه بأرابيسك الجصّ بكلّ ذوق ووفرة. كان هو نفسه يرتدي أردية من أرقى أنواع التّفتا والحرير، غالبًا ما كانت ذات لون أخضر جميل مبطّنة بالقطن المرسوم يدويًّا على نحو متقن والّذي امتاز بدرجة عالية من الجودة في بلاد فارس. سارت أمور حياته على خير ما يرام. كان لديه أمّ مخلصة، وزوجة شابّة محبّة وخلوقة، وخال كان يعتبره بمثابة ابن له.
ذات مساء كان يسير خارج سور المدينة. ما إن اقترب وقت غروب الشّمس حتّى رأى مسافرًا مُتعَبًا يقترب من بوّابة المدينة. توجّه نحو هذا الشّخص الغريب، وحيّاه بكلّ مودّة (ممّا أثار دهشة الرّجل كثيرًا) ودعاه ليذهب معه إلى منزله ويرتاح من عناء رحلته. تبعه المسافر – الّذي منعه أدبه الجمّ ودهشته الفائقة من رفض دعوته – إلى منزله. قدّم سيّد علي محمّد الشّاي لضيفه والّذي أعدّه بيديه كتعبير عن تقديره واحترامه. وحين تحجّج ضيفه بأنّ شقيقه وابن أخيه كانا ينتظرانه في أحد المساجد في المدينة وأنّ عليه الإسراع لينضمّ إليهما، قال بشكل قاطع: “لا بدّ وأن تكون قد علّقت ساعة عودتك على مشيئةالله ورغبته…” كانت كلماته مليئة بالبهاء والحزم بحيث وضعت حدًّا لأيّ اعتراض من جانب الضّيف، الّذي أذعن، وهو في حيرة وانجذاب، لرغبات مضيفه الّذي لم تكن قد وقعت عيناه عليه من قبل.
عند سؤاله عن نفسه، بدأ المسافر (ويدعى ملا حسين)، وهو شاب ذو مكانة دينيّة يزيد عمره عامين فقط عن عمر سيّد علي محمد، بالتّحدّث بانطلاق مع صديقه الجديد. كان ذهنه، في الواقع، مشوّشًا فكان سعيدًا لرؤية مضيفه وهو متشوّق للاستماع إليه بكلّ مودّة. كان الضّيف من فرقة الشّيخيّة. لم يكن قد مضى وقت طويل على وفاة معلّمه الّذي كان قد أبلغه أنّ وفاته ستكون مقدّمة لظهور ذلك الشّخص الّذي ينتظره الجميع بفارغ الصّبر، والّذي سيستضيء العالم بنوره. منذ ذلك الحين، قضى ملّا حسين أسابيع في الخلوة والعبادة، مبتهلًا إلى الله أن يرشده إلى مصدر هذا النّور الجديد في العالم. وبدافع من رغبة داخليّة لا تقاوم، سافر في رحلة طويلة امتدّت من كربلاء في العراق إلى شيراز في جنوب بلاد فارس.
أبدى سيّد علي محمّد اهتمامًا عظيمًا بقصّة ضيفه واستفسر منه مطوَّلًا عن أيّة علامات يتوقّع أن يجدها في هذا “الموعود” ممّا قد يمكّنه من التّعرّف عليه. كانت الشّمس آنذاك قد مضى على غروبها بعض الوقت. جلس الشّابّان على الأرض، كما كانت العادة، مواجهًا كلّ منهما الآخر، واسغرقا في حديثهما. كان الملّا حسين، في حقيقة الأمر، هو الرّئيس الفعليّ للشيخيّة في ذلك الوقت حيث كان رجل الدّين المحترف والعالِم المتعمّق، وكان شخصيّة بارزة للغاية بين الشّيخيّين على شأن أكّد له الكثيرون منهم بأنّه إذا أعلن أنّه هو الموعود الّذي كانوا ينتظرونه فهم على استعداد لقبوله، لكن كونه رجلًا يسعى جاهدًا لمعرفة الحقيقة بشغف، مشتعلًا بالاعتقاد بأنّ السّاعة قد أزفت وأنّ ظهور الرّسول أصبح في متناول اليد، لم يفكّر في مكانته أو سلطته الشّخصيّة وانهمك كليًّا وبكلّ تفانٍ وإخلاص في البحث عن ضالّته المنشودة.
مع الاطمئنان الّذي تولّد لديه نتيجة القناعة واليقين، عرض الملّا بدقّة ما تلقّنه أتباع الشّيخيّة من أمور يتوقّعونها في الموعود الّذي كانوا يبحثون عنه: فهو سيكون من العترة النّبويّة (هكذا كانت الأعراف). عمره بين العشرين والثّلاثين عامًا. متوسّط القامة. لا يشرب الدّخان. خالٍ من العيوب والعاهات الجسمانيّة وسيكون صاحب علم وحكمة لدنّيّة. قام الملّا بعرض موضوعه هذا بكلّ حماس.
نظر إليه التّاجر الشّيرازيّ الشّاب بعيون جميلة تدلّ على عمق في التّفكير وقال بهدوء: “أنظر ألا ترى هذه العلامات كلّها في شخصي!” ثمّ شرع في تعداد العلامات وتطبيقها على نفسه، واحدة تلو الأخرى، وإثبات أنّ جميعها تنطبق عليه تمامًا.
كان الملّا حسين متعبًا. فقد قطع دربًا طويلًا سيرًا على الأقدام. كانت أفكاره مشغولة باستمرار بإيمانه الواثق بأنّ عليه، بل يمكنه، إيجاد النّور الجديد في وسطهم. هذا الإعلان الجريء، الّذي برز أمامه فجأة وبشكل غير متوقّع من قبل شخص غريب تمامًا، لم يصبه بالحيرة من أمره فحسب، بل كاد يهيّجه. سارع إلى إبلاغ مضيفه الشّاب، الّذي تحّدث بكلمات عظيمة كهذه وبكثير من الثّقة الهادئة، بأنّ الشّخص الّذي كان ينتظره هو وزملاؤه الشّيخيّين سيكون رجلًا ليس فوق قداسته قداسة، وأنّ رسالته ستكون رسالة ذات قوّة فائقة ويمتلك علمًا بديهيًّا عظيمًا. ما إن خرجت هذه الكلمات من بين شفتيه، والّتي قالها بشيء من التّوبيخ اللّطيف، حتّى شعر الملّا حسين بالنّدم الشّديد. دخل قلبه خوف شديد: ماذا لو كان هذا الشّابّ في الواقع، وبمعجزة ما، هو الّذي كان يبحث عنه؟ ولرغبته الصّادقة في معرفة الحقيقة، واستبعاده لأيّ مشاعر أخرى، تعهّد في قرارة نفسه بأن يلجأ إلى الاعتدال في لهجته إذا واصل مضيفه متابعة هذا الموضوع. وبالفعل، تدافعت إلى ذهنه كافّة الأدلة الّتي كانت كفيلة بإثبات صحّة ادّعاءات الشّخص الّذي كان يبحث عنه. كان قد أعدّ رسالة تتناول العديد من الموضوعات (الدّينيّة) الإشكاليّة الّتي حيّرته لفترة طويلة، وأنّ لا بدّ للموعود أن يجيب عنها كلّها. كما أنّ رئيسه كان قد أخبره أنّه عندما يظهر الشّخص الّذي ينتظرونه، فإنّه سيكشف، دون أن يُطلب منه، تفسيرًا لأحدى سور القرآن الّتي تحكي قصة يوسف وإخوته القديمة الواردة في الكتاب المقدس.
لكنّ سيّد علي محمّد لم يُظهر أيّ ميل لإيقاف الحديث عن هذا الموضوع. بل على العكس من ذلك، فقد حضّ الملّا حسين على أن يُنعم النّظر ويرى ما إذا كانت كلّ العلامات الّتي يعرفها ويتوقّعها في الشّخص الّذي يسعى إليه يشاهدها فيه حقًا. وهكذا تشجّع الضّيف، الّذي ازداد تقديرًا لمضيفه من أيّ وقت مضى، فأخرج الرّسالة الّتي كان قد أعدّها وقدّمها لمضيفه، راجيًا منه أن ينظر إليها بعين اللّطف. لمحات قليلة إلى الرّسالة كانت كافية لسيّد علي محمّد للكشف عن جوهرها، وبادر على الفور بتوضيح المواضيع الّتي تمّ التّطرّق إليها وتفسير معاني بعض التّعاليم والأقوال بطريقة رائعة للغاية ممّا أدهش ملّا حسين وأبهجه. ثمّ أخبر سيّد علي محمّد ضيفه أنّه ليس لمخلوقات الله أن تضع معاييرها النّاقصة لتحكم بها على حقائقه، بل لله أن يمتحن إخلاصهم. وأنّه لو لم يكن ضيفه، لكان موقفه خطيرًا حقًّا، لكن رحمة الله شملته. وأنّ ملل الأرض قد خُلقت لتعرف خالقها وتحبّه، فليسرعوا إذًا إلى هذه العتبة ويتلقّوا الفضل الإلهي. وليفعلوا كما فعل ملّا حسين، الّذي نهض بقلب مخلص ليجد الحقيقة، وعلى كافّة البشر أن ينهضوا بمثل هذا الثّبات والاستقامة في طلب الحقيقة!
ماذا حدث لتاجر شيراز؟ أين ذلك الشّاب الخلوق، الوديع الّذي بلغ في تواضعه أن يعتبر نفسه لا يستحقّ تجاوز عتبة المزار الدّاخليّ عند زيارة قبر أحد الأئمّة؟ أين هو ذاك الشّاب عميق التّفكير الورع، شديد التّديّن، الهادئ الّذي لا يعرف التّطفّل؟ لقد دخل قُدْسَ نبوّته. وتمكّنت النّار من الحديد فصهرته. لقد أزهرت فجأة، تلك الرّوح الدّاخليّة الّتي حملها ذلك الشّاب الفارسيّ في صدره بسلام كلّ هذه السّنوات. لم يكن ذلك إزهارًا عاديًّا. لقد اندفع العالم داخلًا في الرّبيع وستهطل أمطار الرّبيع الآن وستشرق أشعّة شمس الاعتدال الرّبيعيّ. الآن، بطلوع أنوار الفجر الأولى، ستُصقل عقول البشر ويهتزّ العالم مع هبوب نسيم حياة جديدة. لماذا حدث هذا بغتة؟ ماذا الّذي جرى؟ لم يحدث شيء غير طبيعيّ. هناك “نقاط” في هذا الكون. هناك نقطة تشرق الشّمس عندها فجأة من وراء الأفق بعد ظهور النّور تدريجيًّا، ويصبح اليوم مشرقًا في غضون دقائق. لم يعد سيّد علي محمّد يتحدّث من نفسه الآن. لقد تمّ فتح الباب وسيتوجّه من الآن فصاعدًا إلى البشر بكلمات تحمل إليهم تعليمات خالقهم. لا بدّ لنا أن نتعلّم. نحن في حاجة إلى ذلك. لقد استُنْفِذت بواعث الماضي المُحرّكة. فالبواعث والدّوافع المجيدة الّتي منحها حضرة إبراهيم، وحضرة موسى، والسّيّد المسيح، وحضرة محمّد وأنبياء آخرون من قبلهم، كلّ بدوره لحياتنا، قد أنهت دورتها. هذا هو نفس الصّوت الأبديّ الّذي يدعو أبناء البشر مرّة أخرى. إلّا أنّ شفاه المتكلّم اختلفت.
منذ زمن بعيد مشى يسوع النّاصريّ على ضفاف بحيرة. فجأة، دعا اثنين من الصّيّادين الأقوياء اللّذيْن كانا يعملان على شباكهما قائلًا: “هَلُمَّ وَرَائِي، فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيْ نَاسٍ”. (متّى ٤:١٩) . كان بيانًا استثنائيًّا كثير الغرابة أن يقول رجل لرجل آخر هذا الكلام من دون مقدّمات! لكنّ بطرس وأخاه استجابا لذلك، فقد كانت عيون قلبيهما مفتوحة بلا شكّ، وأصبح بطرس التّلميذ الرّئيسيّ، حواريّ السّيّد المسيح الحبيب، الصّخرة الّتي بنى عليها كنيسته. كانت عينا قلب ملّا حسين مفتوحتيْن بالمثل على وسعيهما. نظر إلى مضيفه بإدراك جديد. فرحة جيّاشة أخذت تضرب بقوّة واستمرار في صدره. تناول سيّد علي محمّد قلمه المصنوع من القصب ومجموعة من الأوراق النّاعمة الرّقيقة. وقال لقد حان الوقت الآن لكتابة تفسير سورة يوسف، ثمّ وضع يده على ركبته وبسرعة ودون توقّف أو تعثّر كتب الفصل الأوّل من تفسيره بأكمله، وبينما هو يملأ الصّفحات بخطّه الجميل كان يرتّل الكلمات الّتي كان يكتبها بصوت عالٍ ووفق الألحان الشّائعة بين الأمم النّاطقة بالعربيّة والفارسيّة. إلّا أنّ ذلك لم يكن مجرّد ترتيل عاديّ. سمع ملّا حسين بفرح ودهشة كلمات أوضحت الكثير من المعاني الخفيّة، كلمات استنكر فيها شرور الملوك، كلمات تحدّت ما يسمّى بقادة البشر، كلمات دعت القلوب إلى عوالم جديدة من الحكمة والفهم.
هكذا وبكلّ هدوء ودون لفت للأنظار، بزغت ديانة عالميّة جديدة من أفق القرن التّاسع عشر. لا بدّ أنّ حبًّا بلا حدود وبهجة وقوّة وحماسًا كانت قد غمرت قلب ذاك النّبيّ الشّاب. فالدّم يتدفّق في عروق أيّ شاب في الخامسة والعشرين من عمره، بحيويّة وقوّة وحرارة، وها هو الآن، وقد تجاوز لتوّه عتبة الرّجولة الكاملة، وها هي بلاده في أمسّ الحاجة إلى المساعدة والإصلاح ، فاسدة تمامًا، تؤمن بالخرافات إلى أبعد حدود، وفي غاية التّأخّر – ومن خلفها عالم واسع يحتاج أيضًا إلى التّنوير: فكان لا بدّ من أن يقدّم لهم رسالة كهذه! لم يكن هناك أيّ جانب من حياة البشر تقريبًا ليس بحاجة إلى لمسة شافية. كان المجتمع مريضًا، وجسده متعفّنًا بفعل التّقرُّحات. ولكنّ العلاج كان في يد حضرته. ألن يستمع البشر؟ ألن يكونوا توّاقين للمشاركة من أجل خيرهم وصلاحهم؟ ألن يندفعوا إلى اعتناق الحقيقة الّتي جلبت لهم حياة روحانيّة جديدة؟ كانت هناك مجموعة كاملة جاهزة من النّفوس المستعدّة المتفانية يؤمنون بحتميّة ظهوره وينتظرونه في كلّ يوم، وهنا كان يقف أمامه أوّل من آمن به، هذا الشّاب الرّوحانيّ النّبيل بعيون تتلألأ كالنّجوم، متفقّه في أصول الدّين، جدير بالثّقة، يشتعل حماسًا! لا شكّ أنّ العالم، العالم الّذي أرسله الله لخدمته، مطروح تحت قدميه ومستعدّ للخضوع له؟
كانت بلاد فارس في الواقع غارقة في مستنقع فسادها الأخلاقيّ، ونسيج مجتمعها بالكامل مغزولًا ومحبوكًا بالخوف والخداع والرّشوة. يحكمها سلاطين فاسقون جشعون والعديد من ذرّياتهم الذّكور. لم يكن بالإمكان الحصول على أيّ شيء، أيّ شيء على الإطلاق، من دون هدايا بالمقابل. حتّى الوزراء حصلوا على مناصبهم بفضل هدايا كبيرة وقيّمة قدّمت لعاهلهم. كانت الرّشاوى تُقدّم على طول السّلسلة من المسؤولين الأدنى إلى المسؤولين الأعلى رتبة. فلا يمكن تحقيق شيء واحد في أيّ منحى من مناحي الحياة دون البقشيش، أو منح الامتيازات، أو أيّ شكل آخر من أشكال الرّشوة. كان النّاس في غاية التّعصّب لدينهم، حتّى إنّ العلماء والمعلّمين كانوا يعتبرون أنّهم قد تدنّسوا إذا ما لمست أيديهم الإنجيل، وقد ذهب بعض المتعصّبين إلى أبعد من ذلك إذ كانوا يلتقطون الكتاب المقدّس بملاقط لئلّا يلمسوه، وقد يعودون إلى منازلهم للاستحمام وتغيير الملابس الّتي تلوّثت بملامستها لمسيحيّ ملعون أو كلب يعود ليهوديّ. أمّا النّساء فقد أُعتبرن في درجة أدنى، حتّى إنّ بعض رجال الدّين ادّعوا بأنهنّ لا يمتلكن أرواحًا على الإطلاق. لقد تمّ الإبقاء عليهنّ أمّيّات بشكل متعمّد. فحصان أصيل أو بساط جيّد له اعتبار وقيمة أكبر ويعتزّ به مالكه أكثر منهنّ. كان النّاس قساة بطبيعتهم ومتعصّبين. كانت الحكومة في الواقع دولة يحكمها الدّين. وقد تحكّم رجال الدّين تحكّمًا فوقيًّا بحياة جماهير النّاس، وساد إذعان مقرون بالذّلّ والخنوع في السّلوك والشّخصيّة الفارسيّة، وأصبح النّفاق سمة وطنيّة عميقة الجذور. غرقت أرض خشايار الأوّل الفاتح (Xerxes the Conqueror)، مسقط رأس حافظ والرّومي وسعدي – الشّعراء الّذين لا يمكن أن نجد نُظَراءَهم في الانجليزيّة إلّا في أسماء مثل شيللي(Shelley) وكيتس(Keats) وميلتون وغيرهم من المنشدين الخالدين – لتصبح أمّة صغيرة من المتعصّبين المقيتين. فلم تكن هناك بقعة أو شعب على وجه البسيطة أكثر احتياجًا إلى الإصلاح الشّامل من هذا الوطن ومن أبناء بلد سيّد علي محمّد! فانطلق، مدفوعًا بالأمل والثّقة، وبقلب محبّ وفكر راسخ، هيّأ نفسه لمهمّة الإصلاح الجبّارة.
عندما تصعد العصارة النّباتيّة إلى أعالي الشّجرة في فصل الرّبيع تتفجّر الأشجار كلّها بالبراعم، كذلك كان الحال في تلك الأيّام في شيراز. انضمّ ملّا حسين، الّذي أقسم على عدم الكشف لأيّ شخص عن الاجتماع الّذي جرى مع زعيمه الجديد، إلى أخيه وأصدقائه، وقد أدهش الجميع بسلوكه الدّال على الرّاحة والرّضا. وهو الّذي كان كالمجنون في إظهار رغبته في العثور على الموعود، ها هو الآن يتحرّك بينهم بكلّ هدوء، يدرّسهم ويعلّمهم وهو رابط الجأش. فدخلت الشّكوك إلى أذهان بعض رفاقه إذ لا يمكن لأيّ شيء أن يُحدث مثل هذا التّغيير إلّا عثوره على ضالّته المنشودة. وعندما سألوه أجابهم أنّ لكلّ إنسان أن يجد الحقيقة بنفسه. وهكذا سعى الكثيرون منهم، وقد حيّرتهم وحفّزتهم إجابته هذه، من خلال الصّلاة والتّأمّل، إلى فتح الباب الّذي بدا أنّ رفيقهم قد مرّ عبره بالفعل. في تلك الأثناء، كان سيّد علي محمّد يحضر تجمّعاتهم أحيانًا، ويتحرّك بينهم دون أيّ إشارة أو علامة تميّزه باستثناء شخصيّته الجليلة وفكره النّبيل. لم تبد منه أيّ إشارة تقدير لملّا حسين. إذ كان قد تمّ ترتيب ذلك مسبقًا فيما بينهما، قبل أن يفترقا في تلك اللّيلة الّتي لا تُنسى عندما أعلن عن نفسه لأوّل أتباعه. لقد أخبره أنّه “الباب” الّذي سيقود البشر إلى حقيقة أكبر لم تأت بعد، وأنّه يجب، في البداية، أن يؤمن به ثمانية عشر شخصًا من تلقاء أنفسهم دون أيّ توجيه خارجيّ. كان الملّا حسين هو الأوّل وسيتبعه آخرون في الأيّام القادمة. في غضون ذلك، التقى بملّا حسين في منزله ليلًا في أحيان كثيرة، ولقّنه خلالها تعاليمه، وكتب المزيد من الفصول في تفسيره لسورة يوسف.
تُقرأ تلك الأسابيع الأولى من الظّهور الإلهيّ الجديد وكأنّها حكاية خرافيّة. فواحدٌ تلو الآخر، بعضهم من خلال ومضة من الفهم والإدراك، والبعض الآخر في أعماق دعائهم وصلواتهم، وآخرون في رُؤاهم، اكتمل عدد التّلاميذ السّبعة عشر اللّازمين لإتمام مجموعة التّسعة عشر – حيث كان حضرة الباب نفسه أوّلهم- آمنوا بحضرته وقبلوه هاديًا ومرشدًا مرسلًا من عند الله، وانضمّوا إلى المجموعة المتنامية الّتي اجتمعت في منزله. واحد منهم فقط – وهي المرأة الوحيدة الّتي انضمّت إلى هذه المجموعة الّتي أطلق عليها “الباب” لقب “حروف حي”، هي الّتي لم تحظَ بمحضره أبدًا. كانت قد آمنت به برؤاها وأقرت بأحقيّة رسالته بعد أن قرأت بعض آياته.
لسنا معنيّين هنا بتاريخ السّنوات السّتّ اللّاحقة. نحن مهتمّون برسم صورة أصليّة من المصدر مباشرة لنبيٍّ حديث، قريبة جدًّا منّا في الزّمن، وتمّ الحفاظ على أصالتها تمامًا في كلّ تفصيلاتها، حتّى إنّ شخصيّتها لم تتعرّض للتخمين، ولم تنسج من حكايات شعبيّة، ولم تزيّن بالخرافات، ولم يرسمها فنّانون طيّبو النّيّة ولكن من قبل عديمي البصيرة. اللّوحة الأصليّة لملامحه موجودة، أصيلة وتمّ الحفاظ عليها بشكل جيّد. قصّة حياته، الّتي كتبها المعاصرون، موجودة أيضًا، والعديد من كتاباته الأصليّة باقية في الحفظ والصّون.
أَرسل سبعة عشر من هؤلاء التّلاميذ الأوائل إلى إيران والأراضي المجاورة لتبليغ رسالته. كان الأخير منهم شابًّا في الثّانية والعشرين من عمره، يُدعى القدّوس، أخذه سيّد علي محمّد معه إلى الحجاز، حيث ذهب للحجّ إلى مكّة. كان قد خطّط للذهاب إلى الأماكن المقدّسة في الإسلام، وتقديم الاحترام لقبر النّبيّ محمّد الّذي انحدر من نسله وتعريف بعض قادة الدّين الإسلاميّ هناك بتعاليمه ورسالته. في رحلة العودة، كان سيلتقي بأتباعه المخلصين وتلاميذه في مكان كان قد اتُّفق عليه مسبقًا لوضع خطّة المستقبل. حيث سيقوم بتبليغ أمره ويجدّد شيخوخة بلاد فارس الرّاكدة، وسيقوم دينه الإلهيّ بنقل رسالة الإصلاح إلى أراضٍ أخرى. هذه كانت خطّته.
لكن أعلى شخصيّة دينيّة في الحجاز لم يكن لديه أدنى اهتمام بالأخبار الّتي قدّمها له القدّوس عن حضرة الباب وتعاليمه. لم يكن لديه وقت للشباب الصّغار ورسالاتهم الجديدة المستوحاة من الله. لقد كان رجلًا بارزًا ومشغولًا للغاية. كما أنّ الظّروف حالت دون اللّقاء الّذي كان يترقّبه حضرة الباب بأتباعه. فعاد إلى شيراز، وبدل أن تقابله إشادة حماسيّة من أهالي مدينته، واعتراف بعظمة تعاليمه، وترحيب من أتباعه، وجد نفسه، عند مشارف مدينته الأصليّة، يُستقبل بأذرع القانون المفتوحة وترافقه ثلّة من الجنود إلى محضر الحاكم. وهناك استُجوِب أمام الحاكم وكافّة كبار المسؤولين في البلدة، وتمّت إهانته لجرأته المتمادية في نشر وتبليغ شيء جديد واكتساب الأتباع، ولإثارة اهتمام النّاس بأفكاره المضلِّلة. ولُطم على وجهه لطمة شديدة بحيث أوقعت عمامته الّتي أخذت تتدحرج على الأرض. ثمّ تمّ الإفراج عنه بسبب المكانة والهيبة اللّتيْن تمتّعت بهما عائلته، إلّا أنّه وُضع في رعاية خاله الّذي كان بمثابة أبٍ له، وأبقاه الأخير في منزله سجينًا محتجزًا.
لقد مرّ ما يربو على عام واحد فقط منذ تلك اللّيلة السّعيدة عندما أعلن للملّا حسين بفرح وطمأنينة، طبيعة المهمّة الّتي عهد الله بها إليه. أثارت رسالته، الّتي نثر تلاميذه المخلصون بذورها لتنتشر مع الرّيح، ضجّة في بلاد فارس. بدأت شخصيّات ذات مكانة وطنيّة، وزعماء من أعلى الرّتب الدّينيّة، باعتناق أمره بشكل علني. إلّا أنّ شخصيّات سياسيّة ودينيّة ذات ثقل كبير قامت ضدّه أيضًا، أمّا أهم هذه الشّخصيّات وأكثرها شراسة، فكان رئيس وزراء الشّاه نفسه.
في النّهاية نجح هؤلاء الأعداء في إخراجه من بلدته. جاء الأمر بأنّ عليه أن يغادر شيراز. كان ظلّ المآسي يخيّم عليه بالفعل – تمامًا كما خيّم قبل نحو ألفي عام على نبيّ الجليل الشّاب، عندما بدأ كهنة شعبه ينظرون إليه بعيون ماكرة. ودّع حضرة الباب زوجته ووالدته، وهو يعلم بأنّه كان الوداع الأخير الدّائم. أمّا بالنّسبة للسيّدة الأصغر عمرًا، رفيقة أيّامه الأكثر سعادة، الّتي آمنت بتعاليمه ودعوته من كلّ قلبها، فقد أفضى إليها بعلمه أنّه لن تكون له سوى نهاية واحدة – الموت. ولكنّه، عطفًا على والدته، حجب عنها عبء هذه المعلومة الثّقيل حول معرفة ما ستأتي به الأيّام.
غادر حضرته إلى أصفهان، أصفهان المشمسة بحدائقها وقبب مساجدها الزّرقاء، المقرّ الدّينيّ الكبير لبلاد فارس. هناك، من خلال تأثير حاكم المدينة بشكل أساسيّ والّذي أصبح صديقًا لحضرة الباب أوّلًا ثمّ من زمرة أتباعه، تمتّع لفترة قصيرة بشهرة واسعة وسمعة جيّدة. فجلس رجال القانون عند قدميه وقبّل رجال الدّين البارزون في البلاد من ذوي اللّحى الرّماديّة يديه. اهتاج النّاس طالبين بركته، حتّى إنّهم شربوا الماء الّذي استحمّ به، معتقدين أنّ ملامسته لهذا الماء قد وهبته قدرات علاجيّة. كان الشّاه سيمنحه مقابلة في العاصمة. ولبضعة أسابيع قصيرة، بدا أنّ تطلّعاته وآماله لأرض موطنه قريبة التّحقّق. فلم يكن النّاس، على كلّ حال، عُمياء تمامًا عن الحقيقة الّتي كانوا في أمسِّ الحاجة إليها. لا بدّ أنّهم كانوا سيسمعون، وسيَقْبلون، وسيهتدون.
لكنّ رئيس الوزراء شعر بالرّعب من هذا الشّاب الّذي كانت تعاليمه تنتشر كالنّار في الهشيم، والّذي آمن به العديد من الرّجال البارزين إيمانًا راسخًا – وليس أقلّهم ذلك العالم ذو العقل الرّاجح الّذي أرسله جلالة الملك من بلاطه الخاص، نيابة عنه، للتحقّق من ادّعاءات حضرة الباب، والّذي، بعد بضع لقاءات وجيزة، بات مقتنعًا كليًّا بحقيقة هذه الادّعاءات وقام بنفسه على نشرها في جميع أنحاء البلاد. من يعلم ما سيحدث لو أنّ عدوى جراثيم هذا الدّين الجديد أصابت الشّاه؟ أوّل شيء، حسب اعتقاد رئيس الوزراء، أنّ ذلك اليوم سيكون يوم حساب عسير له إذ سيُحاسَب فيه على طغيانه الفادح، الّذي تركه صاحب الجلالة، ذو العقل الضّعيف، حرًّا في ممارسته في جميع أنحاء البلاد. يجب ألّا يأتي حضرة الباب إلى العاصمة، مهما حدث، ويجب ألّا يلتقي بالشّاه وجهًا لوجه مطلقًا. تدفّقت الرّسائل على أصفهان. بدأ رجال الدّين المتملّقون المتزلّفون، وقد انتبهوا بسرعة لاتّجاه هبوب الرّياح، في إدانة حضرة الباب من على منابر المساجد باعتباره عدوًّا للعموم، ورجلًا مجنونًا، ومنشقًّا عن ديانة الإسلام الحقيقيّة. وتفاقمت خطورة الوضع بحيث قام الحاكم بإخفاء حضرته في منزله، وأشاع بين العامّة بأنّ حضرته قد غادر المدينة. لكنّ درع هذا الصّديق الصّالح سرعان ما زال، فقد مات فجأة. وأرسل خَلَفَه حضرة الباب، حسب زعمه، إلى طهران تحت الحراسة، لكن في أثناء الطّريق استُلم أمر من رئيس الوزراء بأنّه: يجب حجز الأسير في قلعة ماه كو القصيّة، في أبعد مكان عن العاصمة يمكن تواجده، على الحدود التّركيّة الرّوسيّة الإيرانيّة، في جبال آذربيجان المقفرة الموحشة.
لماذا علينا أن نفترض أنّ إنسانًا لمجرّد أنّه حائز على منزلة فريدة ومقام النّبوّة، لذلك ليست لديه مشاعر إنسانيّة كباقي البشر، لا أعرف. على العكس من ذلك، فكونه أكثر حساسيّة، وكونه بلغ مرتبة عالية من الكمال بحيث لا يشاركه فيها الآخرون، ولكونه ذا روح تحيط باحتياجات العصر ومتطلّبات الإنسانيّة وأسرار القلوب، فلا بد ّأن يكون قابلًا للحزن العميق والفرح الشّديد أكثر منّا بكثير.
حُبس سيّد علي محمّد في ماه كو يرافقه شخص واحد فقط من تلاميذه. كانت القلعة، المحفورة جزئيًّا في الصّخر الصّلد لجانب من الجبل، كئيبة وباردة وحصينة ومحاطة بمناظر الطّبيعة البريّة الجرداء، وتطلّ على قرية ماه كو البائسة الّتي سمّيت باسمها. خلال الأشهر الأولى من سجنه هناك، حرمه سجّانوه، الّذين كانوا قد حُذّروا منه كعدوٍّ يدعو للفتنة ضدّ كلٍّ من الدّولة والإسلام، حتّى من وجود مصباح في غرفته ليلًا، في حين كان البرد القارس في فصل الشّتاء يجمّد الماء في جرّته.
ولّت ليالي شيراز العطرة الدّافئة، ذلك الموطن الجميل الّذي قضى فيه شبابه. اختفت وجوه أفراد عائلته وأقاربه المُحبّة الودودة. لم يعد له من تلك الأشياء نصيب. لقد انتهت الأحلام الّتي كان يأمل فيها لقاء الشّاه وجهًا لوجه، وقيامه بهداية أبناء وطنه بالطّريقة الصّحيحة بنفسه، وإرشادهم إلى طريق الإصلاح الجديد الّذي أرسله الله ليمهّده لهم. حسنًا، كان يعلم أنّه لن تكون هناك عودة عمّا شرع فيه وأنّ طريقه، كما كان طريق السّيّد المسيح من قبله، سيؤدّي به إلى الصّليب وحده. ومع ذلك، فحتّى الأرض القاحلة عندما يهلّ عليها فصل الرّبيع وهو يخطو فوقها برشاقة ورقّة في درب الشّمس فسيضفي عليها بعض الاخضرار، مهما بدا ذلك متواضعًا. وهكذا شعر القرويّون القساة في ماه كو بتأثير لطيف يشعّ عليهم بدفء من السّجين القابع خلف جدران القلعة. شعر الضّابط المسؤول عن القلعة الحدوديّة، الّذي لم يرَ أيّ شرّ أو تمرّد يصدر عن الشّاب النّبيل الّذي صُوّر له كتهديد لكلّ شيء ولكلّ شخص مهمّ في البلاد، فشعر بالقلق والاضطراب حيال القسوة الّتي عومل بها، وبلغ من اضطرابه أنّه سارع إلى سجينه، بعد أن أمضى فترة من أقسى حالات الحبس والحرمان، وبعد أن شاهد الضّابط أكثر من رؤيا غير عاديّة، ليطلب مغفرته ويقوم بتحسين وإصلاح وضعه، وهكذا سُمح للسجين بالتّجوال، ولم يتمّ إبعاد الحجّاج القادمين من كافّة أنحاء البلاد وقد تقرّحت أقدامهم وتعبت أبدانهم، وتمكّنوا أخيرًا من الوصول إلى بوّابات ماه كو لرؤية قائدهم الشّاب، بل سُمح لهم بحرّيّة الدّخول إلى محضره. أمّا أهل القرية أنفسهم، وهم من الأكراد القُساة الّذين ينتمون إلى طائفة مسلمة تختلف عن بقيّة الإيرانيّين، الّذين كانوا يكرهونهم ويبغضون دينهم أيضًا، فقد تعلّقوا بسيّد علي محمّد تعلّقًا شديدًا، فكانوا يمرّون وهم في طريق العمل بأسفل القلعة ليحظوا بلمحة من وجه حضرته ويسألوه البركة في عملهم اليوميّ. بل حتّى إنّهم تعوّدوا، حينما ينشب نزاع بينهم، أن يتوجّهوا إلى مكان تحت نافذته ويحلّفون بعضهم بعضًا باسمه لقول الحقيقة.
إنّ النّور الّذي اعتقد رئيس الوزراء بثقة أنّه قد أطفأه فعليًّا، بدأ يضيء متألّقًا من السّجن نفسه. انشغل مبعوثو حضرة الباب، كانشغال النّحل في الحقول، بتلقيح قلوب أبناء وطنهم في أرجاء إيران. بدأ بعض هؤلاء المبعوثين في مواجهة الموت كردّ نهائي للاستبداد والتّعصّب الدّينيّ أمام الأفكار الجديدة الّتي تهدّد سلطتهم. بدأ رداء الدّين الجديد يصطبغ بهذا اللّون الّذي سيميّزه في التّاريخ إلى الأبد – اللّون الأحمر. كلّ دين، بلا استثناء، تلطّخ بالدّماء نتيجة تضحيات شهدائه، أولئك الّذين أحبّوه أكثر ممّا أحبّوا الحياة. لكن لم يتمّ صبغ أيّ دين، دون استثناء، باللّون الأحمر بشكل كامل مثل دين نبيّ شيراز.
وأخيرًا، وصل الملّا حسين إلى بوّابة سجن حضرته. لقد خدم سيّده جيّدًا حقًّا! كان قد سافر، معظم الأحيان سيرًا على قدميه، خلال فترة امتدّت ثلاث سنوات ونصف، وطوى مسافة أربعة آلاف ميل، ناشرًا الرّسالة الجديدة في بلاد فارس من حدودها الشّرقيّة إلى حدودها الغربيّة. والآن، مرّة أخرى، أصبح بإمكانه الجلوس، عند قدمي حضرة الباب، وسماع صوته الشّجيّ، وتلقّي تعليماته الجديدة. كان من الضّروريّ أن تكون تلك التّعليمات كاملة وناضجة، لأنّ حضرة الباب قد رأى أمامه وقرأ بوضوح أنّ وقته الباقي لاستكمال مهمّته كان قصيرًا حقًّا. فقام بتجميع قواه الرّوحانيّة والعقليّة، وخلال الأشهر الصّعبة من الأسر (تسعة أشهر في مجملها) الّتي قضاها في ماه كو، أملى كتاب أحكامه بالكامل بالإضافة إلى العديد من الرّسائل والتّواقيع المهمّة الأخرى على كاتب وحيه، ذلك الرّفيق الوحيد الّذي سمح له بمرافقته في السّجن والنّفي. ودّع ملّا حسين زعيمه المحبوب وداعه الأخير وشرع في تنفيذ تعليماته ونقل رسائله إلى عصبة أتباعه المتزايدين، رسائل ألهمتهم بعمق وأجّجت شعلة إخلاصهم لدرجة أنّها بعثت في كيان هذا الدّين قوّة فاقت بكثير ما كانت لديه حتّى الآن، وعجّلت، عبر انتشاره السّريع، بلوغ ذروة مقدّراته.
بأمر من رئيس الوزراء، تمّ نقل حضرة الباب نفسه إلى قلعة أخرى، تقع بالقرب من قرية جهريق Chihríq (على مسافة خمسة وسبعين ميلًا أو نحو ذلك من ماه كو)، وذلك بعد أن اكتشف مع مرور الوقت أنّ سحر شخصيّة سجينه قد ليّنت صلابة تعليماته، وبدلًا من تلقّي الإهانة وسوء المعاملة، أصبح موضع تبجيل ومودّة عميقين في جميع أنحاء المقاطعة. كرّرت جهريق قصّة ماه كو، ولكن على نطاق أوسع بكثير، لأنّ حضرة الباب حُبس، في البداية، بصرامة وتعرّض لقسوة المعاملة وتشويه السّمعة بين سكّان القرية، إلّا أنّ شخصيّته ألانت قلوب الجميع وسرعان ما أصبح موضع الحبّ والاحترام، وعاد مرّة أخرى ليكون حَكَمًا في المنازعات، وأصبح مرّة أخرى المغناطيس الّذي يجذب الكثير من المخلصين، والكثير من الباحثين، نحو الأراضي الصّخريّة الّتي أحاطت بسجنه، فجاءوا متلهّفين مشتعلين إلى محضره. كما لم يبعدهم الحرّاس هنا أكثر ممّا كان الحال في ماه كو، لأنّهم أصبحوا مرّة أخرى من المعجبين المتحمّسين لحضرته. ومأمور القلعة الّذي أصبح الآن مسؤولًا عن سجنه الصّارم، والّذي لم يكن سوى صهر الشّاه نفسه، ورغم التّعليمات المؤكَّدة الّتي تلقّاها، لم يمنع أيّ شخص من الوصول إلى حضرة الباب، بعد أن تعلّق بحضرته تعلّقًا شديدًا. بل على العكس من ذلك، فقد سُمح لتجمّعات كبيرة من الحجّاج والباحثين والسّكّان المحليّين بالتّجمّع، والاستماع وهم مفتونين لأحاديثه مع العامّة. وبالمثل، أصبح سجّانوه من المخلصين له، وكان الأكثر احتمالًا أن يتغاضوا بسرور عن هروبه لو أبدى حضرته أدنى نيّة من هذا القبيل.
اتّضح له الآن مدى سطوة أعدائه. عرف أنّ رئيس الوزراء والتّسلسل الهرميّ الدّينيّ في إيران هم أعداؤه اليقظين الحاقدين. وعرف أنّه مهما كانت الآمال الّتي كانت تنبض في قلبه قبل أربع سنوات مشرقة، عندما شعر لأوّل مرّة بقوّة المدّ النّبويّ الكامل يتدفّق منه إلى تلاميذه الجدد، وعندما حوّل وجهه بترقّب وأمل شطر مكّة للانخراط في المرحلة الأولى من مهمّة حياته، إلّا أنّها لن تتحقّق من خلال جلب أيّ غلبة أو سيادة له خلال حياته. إذ لن يقوم، رغم كلّ شيء، على نشر بشارة أمره المبارك الّتي أبلغها لتلاميذه بنفسه. ولن يُسمح له بشفاء الأمراض الّتي تنخر في وطنه الأصليّ. وخلال أيّام حياته، لم تكن تصل إلى مسامعه أيّ أصداء للانتصار. ولكن قد يسأل المرء فيما إذا كان حضرته قد توقّع القدر الكامل للهزيمة الظّاهريّة، والّتي كانت ستلحق بأمره تحت بصره.
آسيا القاسية! فأمواج قلب آسيا المتحجّر قد حملت البؤس ليس لمرّة واحدة بل ألف مرّة، وليس فقط إلى بيوت شعوبها، بل إلى شعوب بلاد أجنبيّة أيضًا. لقد سلبت آسيا سرير سلطنتها من أكثر من ملك، وقامت بذرِّ محاصيلها في طريق هبوب رياح الكراهية. لم يكن من الممكن التّسامح مع حضرة الباب، وبحسب نهجها الممعن في القِدَم فإنّ الشّخص الّذي لا يتمّ التّسامح معه يجب أن يُقتل. نهض الإيرانيّون مزمعين على إبادة البابيّين – كما أصبح يسمّى أتباعه الآن. لكن هؤلاء البابيّين وهم من أبناء الإسلام، الّذين علّمتهم تقاليدهم بأنّ قيامهم بالدّفاع عن دينهم بالسّيف (لئلا يفنى الدّين من على وجه الأرض) ليس خطيئة بل عملًا أكثر منطقيّة من قيامهم بالدّفاع عن أنفسهم، لم يكونوا ليتنازلوا دون معارضة واحتجاج. فتجمّعوا معًا في بعض المراكز الّتي كانت أعدادهم فيها كبيرة. لكنّهم لم يهاجموا، ولم يستفزّوا، بل رفضوا فقط، كرجال شرفاء، أن ينكروا العقيدة الجديدة الّتي آمنوا بها. لقد هوجموا بشراسة فقاتلوا ببسالة للدّفاع عن أنفسهم. لكنّ كفاح أصبع ضدّ جسم كامل هو، منذ البداية، معركة خاسرة. ورغم جهادهم البطوليّ في زَنْجَان ونَيْريز وفي (قلعة) الشّيخ طَبَرْسي، فقد تمّ إخماده في النّهاية بعد حصار دام شهرًا وبعد معاناة من الجوع الشّديد، ففي بعض الحالات اقتاتوا على جلود أحذيتهم وعظام خيولهم مختلطة مع ما تبقّى من كلّ ذي لون أخضر داخل جدران القلعة. في الواقع، لو توقّف الأمر على قوّة السّلاح وحدها لما استسلموا، ولكن بسبب خديعة الّذين وعدوهم وعدًا جادًّا مكتوبًا على صفحات القرآن، بأنّهم إذا استسلموا فلن يُقتلوا. ومع ذلك، لم يمضِ وقت طويل على خروجهم بحسن نيّة من معاقلهم، وإلقاء أسلحتهم، حتّى هجم عليهم الجنود ورجال الدّين والأهالي، وذُبحوا على مرأى من عموم النّاس بطريقة همجيّة وحشيّة مرعبة.
ولم يكن أولئك الّذين دافعوا عن أنفسهم بالسّيف هم وحدهم الّذين يعانون. ففي العاصمة، وفي البلدات الرّئيسيّة، والعديد من القرى الصّغيرة، ذُبح البابيّون كالنّعاج وهم الّذين كانت جريمتهم الوحيدة رفض إنكار دينهم الجديد، والّذين لم يُظهروا أيّ مقاومة على الإطلاق. كانوا يُنقعون بالزّيت ثمّ يُحرقون أحياء. كما كان يتمّ تقسيمهم بين أصحاب المهن المختلفة في المدينة كالجزّارين والبنّائين وصانعي الأحذية والخبّازين، فكان أصحاب كلّ مهنة منهم يتلقّون غنيمتهم الخاصّة بهم ويتنافسون مع الآخرين في ابتكار أساليب تعذيب شرّيرة بهدف قتل ضحاياهم ببطء. لقد تمّ تشويههم بكلّ طريقة يمكن تصوّرها، فجمهور المتفرّجين كان في قمّة التّعطّش للدماء، فكثيرًا ما قُتل شهيد مسكين بالسّكاكين أوّلًا، ثم عُلّق جسده الميّت، وأُشعلت في جثّته النّيران، وحتّى إنّ العظام كانت تُستخرج لاحقًا من مدفنها لتُنتهَك حرمتُها مرّة أخرى. كما كانت الشّجيرات تُحنى إلى الأسفل، وتربط كلُّ ساق من ساقي الضّحيّة بشجيرة، ثم تُترك الشّجيرات لتعود إلى مكانها مرّة أخرى، فينقسم الرّجل إلى قسمين وسط الفرحة الهمجيّة للحشود المستهترة. لم يكن مشهدًا غير مألوف رؤية بعض المتفرّجين، وهم في نشوة مشاهدة أبشع أنواع التّعصّب، أن يشربوا من دماء ضحاياهم المكروهين. كم من مرّة، وجدت النّساء – الأمّهات أو البنات أو الزّوجات – رأسًا أو جذعًا لعزيز لهنّ تعيده إليهنّ عصبة من الغوغاء وهم يضحكون ويقهقهون كتذكار لإبداعهم. لقد أصبح ردّ إحداهنّ خالدًا: وهي تُمسك برأس ابنها الحبيب، الّذي رموه في منزلها وتُلقي به مرّة أخرى للحشد وهي تصرخ، “أنا لا أسترجع ما وهبته لله!”. استُخدمت الرّؤوس المقطوعة ككرات قدم أو لتزيين الرّماح. وعُرضت الجثث في الأسواق لعدّة أيّام ليتمّ الشّماتة بها وإهانتها وتدنيسها- وفي الواقع، إنّ بلاد فارس قد قدّمت بين عامي 1844 و 1853، مشهدًا استثنائيًّا كاملًا للقسوة الآسيويّة الّتي تروّع العالم المتحضّر.
وقعت أسوأ هذه المذابح الوحشيّة أثناء وجود حضرة الباب في جهريق. كانت الأيام واللّيالي السّوداء من نصيبه تحلّ، عندما يأتي الرّسل إليه، واحدًا تلو الآخر، جالبين معهم أخبار الأحداث الّتي تسحق الفؤاد والّتي لم تكن فقط عن أولئك الّذين أحبّهم شخصيًّا وعلّمهم بنفسه، والّذين كانوا من أقرب النّاس إليه وقاموا بعمل الكثير من أجله – من قبيل ملّا حسين والقدّوس وغيرهم من تلاميذه الأوائل، بما في ذلك خاله الّذي كان بمثابة أب له – بل، وعن أفراد أتباعه، حتّى النّساء وحتّى الأطفال، نعم ، وحتّى الرّضّع.
لقد عانى معظم البشر من الحزن بشكل أو بآخر. فالكثير من النّاس في عالمنا الحالي يعرفون من خلال التّجربة الشّخصيّة ما هي فظائع الحرب والثّورة وأعمال الشّغب – الموت غير المتوقّع والمفاجئ والمدمّر. إنّ المعاناة الّتي لا معنى لها، والخسارة المريرة الّتي لا تعوّض، قد غرست أنيابها بعمق في جيل بعد جيل في هذا القرن. ومثل هذه الأشياء ليست غريبة عنّا نحن أيضًا، بل إنّنا نحزن على حدوث كوارث إضافيّة لا لزوم لحدوثها. فكيف كانت إذًا مشاعر حضرة الباب، وهو الوجود الأكثر منّا إحساسًا، والأعظم منّا بكثير ممّا لدينا؟ لا شكّ أنّ التّخلّي عن البيت والأسرة والحبّ والرّاحة والأصدقاء والاحترام والأمان، في منفى مرير، يشكّل عبئًا كبيرًا على أيّ شخص ليتحمّله. أن ترى رسالتك، ذاك العلاج العظيم الآتي من السّماء، قد خُطفت من يدك الشّافية وتحطّمت على الأرض، هو أمر تصعب مشاهدته حقًّا لأيّ إنسان فَطِن. وأن ترى بصيص الأمل الخافت يتلاشى، وأن تعرف أنّ طريقك يؤدّي حتمًا إلى القبر وأنت في ذروة الحياة، وعقلك يعمل في أفضل حالاته وكلّ قواك الخلّاقة تتجمّع من خلاله، ليس فقط مع الأفكار العبقريّة بل مع أفكار النّبوّة، ورغم أنّ من الصّعوبة بمكان مواجهة تحقّق أشياء كهذه، إلّا أنّ إنسانًا ذا مبدأ يتعذّر تغييره يستطيع أن يحمل نفسه على قبوله. لكن أن تعرف أنّ الشّيء الّذي أحببته أكثر من أيّ شيء آخر، والّذي ضحّيت بكلّ شيء لأجله، أُهدر بأقسى الطّرق وأكثرها وحشيّة وقسوة، وجلب مشهدًا من الرّعب تلو الآخر إلى غرفة السّجن الوحيدة الّتي تعيش فيها، وأن تسمع أنّ صديقًا تلو الآخر من ذوي القلوب المخلصة والموثوق بها، قد تمّ التّخلّص منه، تاركًا أمرك المحبوب، دينك المولود حديثًا، هديّتك الثّمينة للحياة وتطوّر الجنس البشريّ، ملقىً عند أقدام أعدائه دون مدافع أو نصير، فإنّ ذلك سيكون، بالتّأكيد، كثيرًا جدًّا حتّى لمن كان له قلب عظيم مثل قلب يسوع المسيح أو حضرة محمّد أو حضرة موسى. لدينا كلّ الأسباب للاعتقاد بأنّ ذلك قد فطر فؤاد حضرة الباب فلم يستطع أن يأكل أو ينام ولم يكن لحزنه أيّ حدود.
سارَعَ حضرته لتقديم أفضل ما يمكن أن يقدّمه للعالم خلال ست سنوات، أمّا العالم فقد أهال عليه دون تردّد ما يمكنه أن يعطيه إيّاه خلال تلك الفترة القصيرة نفسها. لم يكن هناك شيء آخر يمكن لأبناء وطنه أن يفعلوه، سوى قتله، وقد سارعوا إلى فعله.
سبق وأن اقتيد حضرته مرّة من جهريق إلى تبريز. تمّ استدعاؤه إلى هناك واستجوب بحضور وليّ العهد وأبرز الشّخصيّات الدّينيّة في المدينة. لكنّ قضاته المفعمين بالخُيلاء والازدراء كان قد تمّ توجيههم في تلك المقابلة: تصرّف حضرة الباب تصرّف الملوك، مجلّلًا بالكرامة والهيمنة، قدّم ردودًا رائعة وجريئة، ممّا أسكت جمع مبغضيه وحسّاده وأخجلهم. فضّ حضرته ذلك الاجتماع على نحو قطعيّ وذلك بأن غادره بعد أن قال ما أراد! كانت المواجهات معه تسير في طريق مؤكّدَة للتحوّل لصالحه. لا يمكن لأيّ إنسان لديه ذرّة من الإنصاف أن يُدينه بجدّيّة بعد سماعه. مثل بونتيوس بيلاطس (Pontius Pilate)، الّذي، بعد أن استمع للسيّد المسيح، شعر بأنّه مضطر لغسل يديه من الأعمال القذرة الّتي كان علماء الدّين اليهود يقومون بها، قام عدد قليل جدًّا من أصحاب الضّمائر الحيّة في بلاد فارس بمجرّد سماعهم ورؤيتهم لحضرة الباب بالتّمرّد الثّابت على أيّ مخطّطات تهدف لإلحاق الأذى بحضرته. لذلك لم يكن هناك استجواب هذه المرّة. وهكذا وفي حَرّ يوم من أيّام شهر تمّوز/يوليو، أُقتيد السّجين، عاري الرّأس، بعد أن حُرم من العمامة الخضراء والحزام اللّذيْن كانا شعار نسبه العالي إلى حضرة محمّد، بطريقة مخزية من باب إلى آخر لمنازل كبار المجتهدين الّذين تطلّبت مذكرة إعدام حضرته الحصول على توقيعاتهم. لم يعترض أحد (يا لأصداء ما جرى للسيّد المسيح في القدس!) على هذه الجريمة المدبّرة. على العكس من ذلك، كان خدم المنازل يلاقون حضرة الباب والمسؤول عن مرافقته عند البوّابة، ويسلّمونه الأوراق اللّازمة الّتي تُظهر موافقة أسيادهم على حكم الإعدام، ويقولون: “لا حاجة لإحضاره إلى الدّاخل، فهو شخص تمّت إدانته قبل وقت طويل.” لم تخرج صرخة من قلب لتعلن أنّ الظّلم هنا كان في أبشع أشكاله وأحلكها، باستثناء قائد فرقة رماة كُلّفت فرقته، والّتي كانت تتألّف من مسيحيّين أرمن، بإعدام حضرة الباب رميًا بالرّصاص. أبلغ هذا الضّابط، سام خان، الّذي تأثّر كثيرًا بمظهر وحسن سلوك حضرة الباب، حضرته بأنّه لا يرغب في سفك دمه لأنّه يخشى غضب الله، فأجابه حضرة الباب بكلّ هدوء بأنّ عليه أن يؤدّي واجبه هذا دون خوف من النّتائج.
ثمّ أقتيد حضرة الباب إلى ساحة ثكنة تبريز. كان يرافقه أحد أتباعه، وهو شابٌّ رفيع النّسب من مواليد تلك المدينة كان قد أصرّ بعناد وشغف، على الرّغم من مناشدات ومناقشات أسرته وأصدقائه، على السّماح له بالاستشهاد مع سيّده المحبوب. وقف الآلاف من المشاهدين، الّذين تجمّعوا على الأسطح والشّوارع وفي الأماكن المفتوحة، ليشاهدوا بكلّ لهفة المشهد الّذي كان يجري في ضوء الظّهيرة السّاطع. توسّل التّلميذ الشّابّ أن يوضع جسده ليكون درعًا واقيًا لسيّده، وهكذا ربط جسدا الشّابّين ببعضهما وعلّقا على الحائط، بحيث استراح رأس الشّابّ على صدر المظهر الإلهيّ. أطلقت فرقة من 750 جنديًّا رصاص بنادقهم عليهما، ولكن صراخ عشرة آلاف مشاهد للإعدام ارتفع عاليًّا. فقد اختفى حضرة الباب ورفيقه. وبعد البحث وُجد حضرته وهو جالس بهدوء في إحدى غرف الثّكنة وهو يحادث كاتب وحيه. قال لهم بأنّه قد انتهى الآن من إملاء تعليماته وبذلك يمكنهم السّير في مخططهم. إلّا أنّ الضّابط المسؤول عن فرقة الإعدام، سام خان، استقال من منصبه رافضًا إعطاء الأمر بإطلاق الرّصاص مرّة أخرى وطلب من فرقته أن تغادر المكان. أُحضرت فرقة أخرى من الجنود لتحلّ محلّ فرقة سام خان. وفي هذه المرّة قُتل حضرة الباب ورفيقه حيث اخترقت نيران سبعمائة وخمسين بندقيّة جسديهما. لم يتبقَّ سوى خليط من العظام واللّحم المثقوب، إلّا أنّ وجه حضرة الباب، بقي سالمًا دون تشوّه بأعجوبة. وقبل لحظات من إعدامه وبينما هو يحدّق في الجمهور الهائل بهدوء وحزن توجّه حضرة الباب بالحديث إليهم قائلًا:
“أيّها الجيل الملتوي لو آمنتم بي لأصبح كلّ واحد منكم مثل هذا الشّابّ الّذي هو في درجة أعلى منكم يُضحّي بنفسه في سبيلي. وسيأتي اليوم الّذي سوف تعترفون بي وفي ذلك اليوم لا أكون معكم.”
تمّ تنفيذ الإعدام بنجاح في 9 تموز/ يوليو عام 1850 حين كان حضرة الباب في الواحدة والثّلاثين من عمره المبارك. نقل جسداهما في تلك اللّيلة إلى حافّة خندق المدينة لتقوم الوحوش البريّة بالتهامهما، لكن الأحبّاء المخلصين نجحوا في إنقاذ الرُّفات المقدّس، واللّذيْن، تمّ نقلهما من مخبأ إلى مخبأ، لمدة ستّين عامًا، إلى أن وصلا أخيرًا إلى فلسطين بأمان ووُضعا في مرقد لائق على جبل الكرمل في حيفا، حيث يرقدان حتّى يومنا هذا.
كم بدا وقع المسار المحموم في تلك السّنوات السّتّ وما تلاها من شهرين سريعًا ومُذهلًا ومخيّبًا إلى حدّ ما والّتي قاد خلالها سيّد علي محمّد عبثًا حملات ضربت أجنحته فيها على أعمدة الفساد والتّعصّب والكراهية والانتقام المتعطّشة للدّماء. منذ ذلك اليوم الّذي فتح فيه فمه ليقول بكلّ جرأة “لقد جئتكم برسالة شافية، وبدائع المعاني، وتعاليم وأحكام جديدة ومفيدة. أنا لا أتحدّث من نفسي، لكن إلهكم أرسلني إليكم لأرشدكم إلى طريق التّقدّم والسّعادة …” وحتّى تلك اللّحظة الّتي وُضع فيها كتلة مضرّجة بالدّماء، على ضفّة خندق تبريز، لم يتلقّ أيّ نتيجة لما قام به سوى الكراهية المريرة والاضطهاد. ومع ذلك، فإنّ المفاهيم الّتي جلبها، كانت كالرّيح الّتي تعزف على قيثارة، فتنساب بعيدًا وتنتشر ألحانها في أرجاء العالم وتثير أفكار البشر. داست الأرجل تعاليم حضرته، وكذلك فعلت به وبأتباعه بكلّ شراسة بالضّراوة نفسها الّتي استُقبلت بها تعاليم السّيّد المسيح، ومُحيت آثاره في ظاهر الأمر. لكنّه كان ربيعًا مفعمًا بالرّموز، عضويًّا، مرتبطًا بقوانين الكون، كان ربيعًا روحانيًّا. يمكن إبادة الأشياء المادّيّة، لكن أرواحها تبقى لتنتشر مع الأثير. إنّ إرادة الحرّيّة، أو إرادة العبادة، أو إرادة التّعبير عن الذّات، أو إرادة الاكتشاف- هي قوىً، متأصّلة في طبيعة الإنسان ذاتها ولا يمكن أبدًا أن تُخمد بالسّيف أو بالقوانين. فمن عصر إلى عصر، ومن قلب إلى قلب، ومن عقل إلى عقل، تنطلق الشّرارة. إنّ ما جلبه حضرة الباب للعالم لا يمكن تغييره، مهما بلغ عنف الرّفض الّذي جابهه. فقد تحوّل تِرس عجلة التّقدّم إلى وضع زادها سرعةً في حياتنا على هذا الكوكب. لقد فتح حضرته البوّابات أمام فيضان التّاريخ لتصبّ في حقبة جديدة من التّطوّر. لم يعد هناك من عودة. فموجة الإصلاح العالميّ قد تدفّقت مع التّعاليم والقدوة الّتي قدّمها سيّد علي محمّد من شيراز منذ أكثر من مائة عام، إلى أكثر الأمم تخلّفًا في العالم في ذلك الوقت، وفي زمن لم تكن فيه المفاهيم الّتي نشرها موجودة حتّى في عالم الغرب المستنير.
بحلول عام 1853، كان الاضطهاد الشّامل للبابيّين في البلاد قد دمّر الحركة الجديدة تقريبًا. فقد قُتل جميع قادتها الأوائل وشخصيّاتها البارزة. كما فضّل جميع أتباعها الأكثر شجاعة الموت على إنكار عقيدتهم. لم يتبقَّ سوى عدد قليل منهم نسبيًّا، وكان هؤلاء القلّة عبارة عن ثلّة مرعوبة ومسحوقة متفرّقة وبلا قيادة. لكنّ العمليّات العضويّة لا يمكن أن تُخنق. فهي تتغذّى، على ما يبدو، على ينابيع القوّة الكونيّة، وعندما تُقطع في مكان ما تتفجّر في مكان آخر. فوقت تبرعم الحياة الرّوحانيّة لهذه الأرض وإزهارها قد جاء مرّة أخرى لتأخذ دورتها الكاملة ولسوف تكمل دورتها رغم كلّ العقبات. والعاصفة الهوجاء الّتي زعزعت هذه العمليّة الرّوحانيّة الجديدة قد ساعدت فقط في إسقاط الزّهور الأولى، ولكنّ الجذور كانت تنمو في الظّلام، وقد أخفت قواها الكامنة للحصول على نتاج أكبر من النّشاط والعزم. سيكون هناك اثنان من الأنبياء لا نبيًّا واحدًا. كما هو الحال مع بعض أبصال الزّهور البريّة الّتي تنمو في أراضٍ بورٍ فما أن تذوي وتذبل زهرتها الأولى حتّى تُنبِت، فيما يشبه المعجزة، زهرة ثانية على الفور. هكذا خرج من رحم القرن التّاسع عشر دين عالميّ عظيم واحد أسّسه مربّيان عالميّان عظيمان، كانا معاصرين لبعضهما، لكنّ الثّاني كان أكبر سنًا من الأوّل بسنتين، وقد تبع أحدهما الآخر بفاصل زمني مدّته تسع سنوات فقط بين استشهاد الأوّل وظهور الرّسالة الإلهيّة للآخر. أمّا الثّاني فكان ميرزا حسين علي، المعروف على نحو أكثر شيوعًا من خلال لقبه بهاءالله.
لسنا في معرض التّركيز الكبير هنا على التّعاليم الّتي جاء بها هذان المربّيان للعالم، ولا على النُّهج الّتي دعيا إليها، وتاريخ حياتهما أو دينهما، بل سيكون تركيزنا على شخصيّتيهما. ستتاح لنا الفرصة وللمرّة الأولى، ليس فقط للتساؤل عمّا كان عليه شكل المظهر الإلهيّ وكيف كان يتصرّف، وما هي أذواقه، وسماته، وعاداته فحسب، ولكن أن نُشبع رغبتنا في معرفة هذه الأمور بكلّ دقّة. إنّ الحياة تجربة حيّة متوهّجة. فمهما كانت محبّتنا للأفكار التّجريديّة كبيرة ووجدنا متعة بالغة في المفاهيم المبهمة والمثل العليا، إلّا أنّ العيش هو التّواصل، هو تأثير شيء ما في شيء آخر. ولا شكّ أنّ هذا هو أحد الأسباب وراء فقدان أديان العالم كاليهوديّة والهندوسيّة والبوذيّة والزّرادشتيّة والمسيحيّة والإسلام إلى حدٍّ كبير تأثيرها في حياة أتباعها اليوميّة. ليس لأنّ شرائعها الّتي كانت مناسبة تمامًا في وقت ما لاحتياجات العصر أصبحت في معظمها عتيقة الآن فحسب، بل لأنّ اللّمسة الواقعيّة الّتي يضفيها الحسّ بالفهم العميق لمؤسّسيها قد غابت عنّا في معظم الأحيان. إنّ الأنبياء هم من لحم ودم وتلك هي ميّزتهم. إنّهم بشر مثلنا ويمكنهم بالتّالي الدّخول في حياتنا والتّحدّث إلينا بلغتنا. ومن ناحية أخرى، هم أعلى شأنًا منّا، وإلّا فلن يكونوا تلك الجسور الّتي تصل بين كينوناتنا الصّغيرة المحدودة والوجود اللّامتناهي الّذي خلقنا. وعندما تبدأ الضّبابيّة تحيط بشخصيّاتهم، وعندما نفكّر فيهم على أنّهم أبطال عظماء مجرّدون، مثل الشّخصيّات الّتي تُشَاهَد في المنام، فمهما كنّا لا نزال نكنّ لهم المحبّة والتّكريم ونسعى لاقتفاء آثارهم، إلّا أنّهم فقدوا الكثير من الفاعليّة الّتي كانوا يمتلكونها للتأثير في حياتنا وسلوكنا اليومي. شمس الرّبيع الماضي لن تُنبت أزهار هذا الرّبيع. المطلوب هو أن يأتي الاعتدال الرّبيعيّ. علينا الاقتراب مرّة أخرى للحصول على دفعة جديدة من الضّوء والدّفء. وهكذا، فنحن لا نحتاج فقط إلى شرائع جديدة من وقت لآخر، بل نحتاج إلى معرفة المظهر الإلهيّ من جديد، لنرى بأمّ أعيننا طبيعة الإنسان الّذي هو عليه، ولنحصل على التّأثير الكامل لشخصيّته على شخصيّاتنا وحياتنا.
نتساءل بحزن وتوق، في بعض الأحيان، هل كان يسوع حقًّا كما تمثّله قصص الإنجيل تلك – في منتهى الكمال، صبور للغاية، حكيم جدًّا، شجاع رابط الجأش؟ لقد توفّي منذ ألفي عام … فهل يمكن أن يكون في ما ذُكر مبالغة وتضخيم للحقيقة؟ وهل كان محمّد هكذا حقًّا؟ – رائعًا بلا حدود وشجاعًا جدًّا وعلى أتمّ الاستعداد، ليلًا ونهارًا، ليهب كلّ كيانه لما يحتاجه البشر، إلى أن وضع رأسه ليرتاح لآخر مرة وهو كبير في السّنّ؟ لقد انقضت ألف وثلاثمائة سنة. ربّما أصبحت الصّورة أكثر بريقًا مع مرور الوقت ولم تعد تمثل رجلًا حقيقيًّا بل شخصيّة شبه أسطوريّة؟
غبار العصور يتراكم حتمًا على كلّ شيء. لقد تساقط على شخصيّات الأنبياء وأخفى بعض ملامحهم. “فَنَحْنُ الآنَ نَرَى انعِكَاسًا بَاهِتًا فِي مِرآةٍ، لَكِنْ عِنْدَمَا يَأتِي الكَامِلُ، سَنَرَى وَجْهًا لِوَجْهٍ. الآنَ مَعْرِفَتِي جُزئِيَّةٌ، لَكِنْ حِينَئِذٍ سَأُعرفُ كَمَا يَعْرِفُنِي اللهُ” (كورنثوس 13:12) ما نحتاجه في العالم اليوم ليس فقط دافعًا روحانيًّا جديدًا ولكننا بحاجة، مرّة أخرى، إلى معرفة أنّه من الممكن حقًّا وجود إنسان كامل، شخص يُظهر فضائل العقل والرّوح لتجدّد فينا الرّغبة في الكفاح مع أنفسنا، لكي نصبح بشرًا حقيقيّين وليس مجرّد أنصاف وحوش.
لدينا أمثلة قريبة معاصرة ويمكننا مشاهدتها من مسافة قريبة في كلٍّ من حضرة الباب وحضرة بهاءالله. دائمًا ما نتوقّع من الآخرين أكثر ممّا نتوقّع من أنفسنا. نتوقّع منهم أن يقوموا بواجبهم بشكل أفضل ممّا نحن مهيّئون للقيام به. لا يمكن للمراقب الأكثر تشكّكًا أن يشكو من أيّ تضارب في الخطوط العريضة الرّئيسيّة لشخصيّات السّيّد المسيح أو حضرة محمّد (آخر مؤسّسين للديانات التّاريخيّة قبل القرن التّاسع عشر). فالسّيّد اليسوع لم يخذل أحدًا أبدًا في توقّعاتهم منه. لا يمكن لأكثر منتقديه قسوة أن ينكر أنّه لم يعش حسب تعاليمه فحسب، بل مات أخيرًا من أجل ذلك بطريقة في غاية النّبل والتّأثير. الأمر نفسه ينطبق على حضرة محمد. كان مستقيمًا ثابتًا على مبدئه حتّى النّهاية. حافظ على قوّة وزخم مثله العليا وقيادته حتّى النّفس الأخير. لكن من دون معرفة أيّ شيء موثَّق جدًّا عن حياتهما، يمكن المجادلة بأنّهما لم يكونا بأيّ حال من الأحوال مختلفين أو متفوّقين بطبيعتهما عن غيرهما من البشر، بل ربما كانا، فقط، مصلحين عظيمين شجاعين، وأنّه كانت لديهما أيضًا ذات العيوب الكثيرة الّتي نمتلكها جميعًا.
لدينا في حضرة الباب وحضرة بهاءالله، مثالين عن مظهرين إلهيّين، تفاصيل حياتهما حقيقة تاريخيّة معاصرة لا يرقى إليها الشّكّ. فما الّذي نراه في حياتهما ويظهر أمامنا كميّزات بارزة؟ أولًا، ثبات واستقامة عظيمة. إنّ هذه الثّقة بالنّفس الّتي نُعجب بها كثيرًا في إنسان يبدو دائمًا أنّه ملمٌ بما يريده فكره، ولا يقف حائرًا أبدًا أمام أيّ موقف، ولا يُناقض نفسه مطلقًا، هي عين صفاتهما لدرجة هائلة. فمن بداية إلى نهاية دورة ولايتهما النّبويّة، لم يُظهرا أيّ تردّد أو تقلّب أبدًا ولم يتحوّلا عن المسار الّذي وضعاه لأنفسهما. يمكن للمرء أن يرى أنّ بوصلتهما الدّاخليّة كانت مثبّتة بإحكام على الحقيقة الإلهيّة وقد سارا على هديها دون أيّ انحراف على الإطلاق. ثانيًا، إنّ طيبتهما، المتولّدة من الحبّ الإلهيّ، ذلك النّوع من الطّيبة الّتي نحلم بها، والّتي لا تشوبها أيّ شائبة من المصلحة الذّاتيّة ولا تعرف حدودًا، ولكنّها تتدفّق مثل أشعّة الشّمس الكاملة وقت الظّهيرة، كانت أمرًا حقيقيًّا، يشهد بذلك الصّديق والعدو على السّواء. ضحّى الكثير من أصدقائهما بحياتهم بسبب إيمانهم بذلك، مؤمنين أنّ مثل هذه النّعمة كانت أكثر حلاوة من الحياة نفسها، في حين أنّ أعداءهما، كالخفافيش الّتي تتحسّس من الضّوء، إزدادوا عنفًا وشراسة جرّاء ذلك. ثالثًا، معرفتهما. ليس فقط تلك المعرفة العميقة الّتي يمتلكها دماغ مستنير ومبدع يحيط بالحقيقة ويسبر غور المشاكل بالبصيرة والمنطق، بل المعرفة الغريبة والتّلقائيّة والشّاملة الّتي لا بدّ وأن تكون، منطقيًّا، مصاحبة لعقل يستمدّ مياهه من الينبوع الكونيّ العظيم، روح الخالق. لقد كانت لديهما المَلَكَة، الّتي أظهراها مرارًا وتكرارًا، ليس في النّظر في الأفكار فحسب، بل في قلوب أولئك الّذين كانا يرغبان في مساعدتهم أيضًا. مثل الجرّاح الّذي يُخرج من عمق الشّقّ الجراحيّ في أعضائنا شيئًا مريضًا لم نكن نعرف حتّى بوجوده لدينا، وهكذا فقد جسّ هذان المظهران الإلهيّان شخصيّات الآخرين وقاما بشفائها أو كشفها أو استنكار أفعالها، كلّ حسب حالته. وأخيرًا، فإنّ الشّجرة تُعرف بثمارها. إنّ تعاليم حضرة الباب وحضرة بهاءالله – المتوافقة بشكل كامل مع متطلّبات عالمنا المعاصر – هي أعظم دليل على صدق كلّ سجاياهما النّبويّة الحقيقيّة.
كما أنّه لا يوجد شيئان متشابهان تمامًا في الكون، فإنّ الأنبياء أيضًا يختلفون عن بعضهم البعض. ومع أنّ لديهم شخصيّاتهم الخاصّة وتَميُّزِهم، إلّا أنّهم يشتركون في سمات واحدة ندعوها الصّفات الإلهيّة، تمامًا كما يمكن للون الماس أن يكون ورديًّا أو أزرقَ أو أبيضَ نقيًّا، ولكنها جميعًا تعود للجوهر نفسه الّذي لا يقدّر بثمن. في دراسة شخصيّة حضرة الباب يجد المرء سمة مميّزة في سحره الآسر الّذي ينفذ إلى القلب ويسكن فيه. عقله كان، حقًّا، يتوقّد ذكاءً وعمقًا وتبحّرًا في الأمور الرّوحانيّة. كان يمتلك شجاعة فائقة، ورباطة جأش عظيمة، ووقارًا جليلًا هادئًا، وهي لا شكّ سمات ساحرة حقًّا لشابّ في مثل صغر سنّ حضرته. كان لطيفًا جدًّا، ولكن ذا عزم لا يتزعزع؛ جوهر العدل وعدم التّحيّز؛ دقيقًا في ما يتعلّق بمأكله وملبسه؛ ذا ذوق رفيع في كلّ ما يرغب فيه؛ صاحب خطّ بديع؛ حليمًا رؤومًا مع رفاقه، كما كان شديدًا صلبًا في التّمسّك بعقائده في مواجهة أعدائه. وعلاوة على ذلك كلّه فقد نُسجت كلّ هذه الصّفات معًا بفعل تلك الجاذبيّة السّحريّة الّتي ميّزته إلى أبعد حدّ. كان نحيل الجسم ممشوق الهيكل وذا بشرة فاتحة ومظهر مميّز؛ يديه رقيقتين ناعمتين، وعينيه بُنّيتين؛ وله لحية داكنة؛ يضع عمامة خضراء تدلّ على سلالته النّبويّة الممتدّة من حضرة محمّد، وغالبًا ما كان يرتدي أردية خضراء تحكي عن نسبه الشّهير. كما كان سليل عائلة ذات سمعة طيّبة مثقّفة وتعمل بالتّجارة. هذه هي الصّورة الّتي نراها له، وصلتنا سواء من صورته الشّخصيّة ومن خلال معاصريه الّذين وصفوه في كتاباتهم، وكذلك من الآثار الّتي نمتلكها من ممتلكاته الشّخصيّة بما فيها العديد من أرديته الجميلة البسيطة.
اشتهر بإنصافه والتزامه بمبادئه: في إحدى المرّات دفع لرجل يتعامل معه مبلغًا يتجاوز القيمة السّوقيّة لشيء طلب منه بيعه له. استفسر الرّجل من حضرة الباب عن سبب تلقّيه أكثر ممّا يستحقّ فأجابه بأنّه قد أتيحت له فرصة بيعه بهذا السّعر الأعلى ولكنّه لم يفعل ذلك، ولم يشعر أنّه ينبغي حرمان موكّله من الحصول على السّعر الأعلى. احتجّ الرّجل على ذلك دون جدوى، فقد أصرّ حضرة الباب على أنّ هذا هو الصّواب. مثال آخر على إحساسه القويّ بالعدالة ظهر عندما اشترى له أحد التّلاميذ شيئًا بسعر باهظ، فأصرّ حضرته على أن يُعاد هذا الشّيء على الفور وأن يُستردّ المال إذ إنّه لن يسمح لنفسه أن يكون مخدوعًا أو أن يكون سببًا في تشجيع الآخرين على الغشّ.
خلف كلّ لطفه هذا ومودّته كان هناك عزم لا يُفلّ. ففي تبريز، استُدعي حضرته للمثول في محضر وليّ العهد وحاكم المقاطعة وأعلى الشّخصيّات الدّينيّة في المدينة ومجتهديها، ورغم أنّه كان يعلم بأنّ حياته على المحكّ، إلّا أنّه مشى وحيدًا بينهم، وهو سجينهم الّذي قامت ضدّه قوى الدّولة، ثمّ جلس بهدوء في المكان الشّاغر المخصّص لابن الشّاه الأكبر، رئيس ذلك المجلس. وبلغ من هيمنة وقوّة شخصيّته أنّ أحدًا لم يحتجّ على ذلك! وعندما سُئل عن الشّخصيّة الّتي يدّعيها لنفسه، أجاب بهدوء وجرأة أنّه هو الموعود الّذي كانوا ينتظرونه ويدعون الله لمدّة ألْف سنة لظهوره. وبعد أن قال له أحد رجال الدّين الغاضبين من ذوي اللّحى البيضاء أنّه ليس سوى صبيّ شيرازيّ غير ناضج، وأنّه أحد أتباع الشّيطان، أجاب حضرة الباب بهدوء بأنّه قد عنى كلّ كلمة قالها أمامهم ويؤكّد عليها. وبعد أن أجاب عن بعض الأسئلة الإضافيّة، قام حضرته بفضّ اجتماعهم بأن نهض وغادر المجلس. أدّى هذا السّلوك، بعد أن عاد كبار شخصيّات المدينة إلى وعيهم بما يكفي لفهم جسامة ما حصل، إلى تعرّض حضرة الباب للضرب على قدميه على يد كبير قضاة المحكمة الدّينيّة بنفسه، بعد فشله في إيجاد من كان مستعدًّا لضرب حضرته.
تكرّر هذا المشهد من الشّجاعة الأخلاقيّة والفطريّة الّتي لا تتزعزع على مدار ستّ سنوات من ولاية حضرته. عندما أرسل حاكم شيراز، بعد عودته من مكّة، حرسًا من الخيّالة للبحث عن حضرته وإحضاره إلى قصره، وجد ضابط الحرس شابًّا لطيفًا وسيمًا يقترب منه على ظهر حصان وهو يبتسم وبادره بالقول: “لقد أرسلك الحاكم لاعتقالي. ها أنا ذا. افعل بي ما يحلو لك … ”
في اللّيلة الّتي سبقت استشهاده، شهد من كانوا حول حضرة الباب، بمن فيهم بعض البابيّين الّذين رافقوه وأمرهم بعدم الإفصاح عن إيمانهم في اليوم التّالي، حيث أراد لهم البقاء على قيد الحياة كشهود وليقوموا على خدمة أمره، بأنّهم لم يروا حضرته بمثل هذه السّعادة والبهجة من قبل. في الواقع إنّ موقفه من الموت الّذي كان ينتظره والطّريقة النّبيلة الّتي تصرّف بها، أقلقت ضمائر العديد من الضّبّاط من حوله وضعضعت قناعتهم، بما في ذلك قائد الفرقة الّتي اختيرت لإعدامه.
ما هذه إلّا صور موجزة عابرة عن حياة حضرة الباب، ولكنّها مثل الجوانب المتلألئة للجوهرة، فإنّها تُبرز النّور والنّار اللّذيْن يشيران إلى قيمة ودرجة نقاء الجوهرة نفسها. كلّ إنسان تقريبًا يحقّق، في لحظة ما من حياته، لمسة من العظمة، وتشمله، ولو لفترة وجيزة، دائرة ضوء من النُّبل. لكنّنا نرى شيئًا مختلفًا تمامًا في حضرة بهاءالله وحضرة الباب، فقد كانت سيرة حياتهما عظيمة باستمرار. فما كان بالنّسبة لنا هو الاستثناء، كان لهما القاعدة الّتي لم يكن لها استثناء. فالضَّعَةُ لم تمسّ أبدًا حتّى ذيل ردائيهما، ورغم أنّ حياتهما الاجتماعيّة الخارجيّة بأسرها قد تبدو فشلًا ذريعًا من البداية إلى النّهاية، من حيث إنّهما حظيا بالمركز والمال والدّعة والعائلة والأصدقاء والأمان، وخسرا جميعها – إلّا أنّ حياتهما الدّاخليّة، الّتي تبني الخصال والمزايا وتشكّل الشّخصيّة، كانت نجاحًا متواصلًا، لم تفسدها حتّى ولو هفوة واحدة ولم تنتقص من الكمال المهيب الّذي ميّزها.
كان حضرة بهاءالله نوعًا مختلفًا تمامًا من الرّجال عن حضرة الباب وذلك في جانبه البشريّ الظّاهريّ. ولد في عام 1817، في عائلة رجلٍ مسؤول في الدّولة، يشغل منصبًا رفيع المستوى، كحاكم للعاصمة طهران. كان لوالده، مثلما كان لمعظم الفُرس في تلك الفترة، عدد من الزّوجات والأبناء. وبالتّالي كان لدى حضرة بهاءالله إخوة وأخوات من والدته، بالإضافة إلى العديد من الإخوة غير الأشقّاء والأخوات غير الشّقيقات، وكان بعضهم أكبر منه سنًّا والبعض الآخر أصغر. كانت عائلته من العائلات العريقة وتنتمي إلى طبقة النّبلاء في مقاطعة نور وتعود أصولها إلى سلالة سابقة من ملوك الفُرس. لقد كانوا من الأثرياء الرّاقين المثقّفين جدًّا، يتنقّلون في دوائر البلاط الملكيّ ويحظون بالتّقدير والاحترام الشّديد. كان حضرته رجلًا ذا قامة معتدلة، يميّزه منذ الوهلة الأولى وجهٌ يدلّ على شخصيّة وإرادة قويّتين. لديه حاجبان أسودان يعلوان عينيْن سوداوين نافذتين رائعتين وأنف صحيح جميل التّكوين وفم مكتنز. كما كانت لديه لحية سوداء غزيرة الشّعر وشارب وضفائر سوداء طويلة مجعّدة، تتهادى بغزارة على كتفيه كعادة الرّجال في تلك الأيّام. بدا عليه، في سنّ مبْكرة من شبابه توجُّهٌ للإيثار، وتعاطفٌ مع الفقراء والبؤساء، وهو أمر نادر في شخص من بلده وطبقته. عاش حياة هادئة ومنزوية نسبيًّا إلى أن سمع تعاليم حضرة الباب، فانشغل بخدماته الإنسانيّة واهتمامه بعائلته، وكان مثار العديد من التّعليقات بسبب التّباين الواضح في ميوله مقارنة مع ميول الشّباب الآخرين في بيئته، الّذين كانوا يطمحون للشهرة والمناصب الرّفيعة والثّروة. اعتبره والده، الّذي كان رجلًا ذا بصيرة واستطاع في وقت مبْكر من شباب حضرة بهاءالله أن يميّز في شخصيّته مواهب وسمات كانت تفوق المستوى العاديّ بكثير، اعتبره طفلًا ذا مستقبل فريد من نوعه وتركه ليتطوّر بطريقته الخاصّة.
كان حضرة بهاءالله قد بلغ سنّ السّابعة والعشرين، متزوجًّا وابنه الأرشد لا يتجاوز بضعة أشهر فقط، عندما جاء ملّا حسين إلى طهران ونقل إليه الأخبار السّارّة بأنّ شخصًا من سلالة حضرة محمّد قد ظهر مع رسالة إلهيّة جديدة موحى إليه بها من الله. قَبِل حضرة بهاءالله تعاليم حضرة الباب على الفور. ومثلما يحصل التّفاعل الفوريّ والتّرسّب عند إضافة عنصر كيميائيّ إلى محلول ما، فقد أصبحت حياته منذ ذلك اليوم مرتبطة ارتباطًا تامًّا لا رجعة فيه بالدّين الجديد وتدفّقت في قناة جديدة. قام على الفور ليدافع عن هذا الدّين وينشر نفحاته. هذا وقد مكّنه مركز والده، الّذي شملت دائرة معارفه وأصدقائه كبار المسؤولين والشّخصيّات البارزة في البلاد، من التّواصل مع أعلى طبقات المجتمع في بلاد فارس. في البداية، لاحظ النّاس باهتمام بسيط وتندّر فقط، نشاطاته المتحمّسة لمصلحة الحركة الّتي اعتنقها والّتي كانت تشقّ طريقها بجهد كبير، لكن بينما تابع حضرة الباب مسيرته المفجعة والسّريعة كتساقط الشُّهب، بدأ دفاع حضرة بهاءالله الجريء والعلنيّ في إحداث صدع أخذ يتوسّع باستمرار بينه وبين الدّوائر الّتي تحرّك فيها.
لا توجد علاقة في التّاريخ بين شخصيّتين معاصرتين بارزتين أكثر إثارة للفضول من تلك الّتي كانت قائمة بين حضرة الباب وحضرة بهاءالله. فمنذ اليوم الّذي قبل فيه الأخير دعوة الأوّل مباشرة، كان هناك تبادل مستمرّ للرسائل والمراسلات بينهما. لم يلتقِ، هذا الثّنائي الأكثر تفرّدًا على الإطلاق – المظهر الإلهيّ الّذي كان وذاك الّذي كان مقدّرًا له أن يكون. إلّا أنّ حضرة الباب، وحتّى قبل أن يَجري اتّصال مباشر بينهما، كان يُظهر احترامًا وأهمّيّة كبيرين لحضرة بهاءالله. عندما غادر الملّا حسين شيراز أشار إليه حضرة الباب بوضوح أنّه سيجد في العاصمة “سرًّا”، وعندما تلقّى حضرته تقرير ملّا حسين بخصوص اعتناق حضرة بهاءالله دينه، غادر على الفور في رحلة حجّه الطّويلة والخطيرة إلى مكة مطمئنًّا مستريحَ البال.
عادةً ما يقرأ اثنان من العشّاق ما يجري في قلب كلٍّ منهما للآخر دون اللّجوء للكلمات. من يدري ما هي موجات التّفكير والمشاعر الّتي مرّت بين هذين الشّمسين الرّوحانيّين؟ وما هي الرّوابط العميقة الّتي تشكّلت حول هذا النّجم المزدوج الغريب الّذي أنار مسار الجنس البشريّ منذ منتصف القرن الماضي؟ لا شكّ أنّ حضرة بهاءالله كان أعظم مصدرٍ للاطمئنان والعزاء في حياة حضرة الباب. ففي سنوات السّجن المظلمة في ماه كو وجهريق، وعندما بدأت المعارك تستعر في أشدّ ضراوتها ضدّ أتباعه، كان حضرة بهاءالله هو الّذي تحرّك بهدوء وسكينة بين البابيّين ملهِمًا إيّاهم وموجّهًا ومواسيًا لهم ومؤجّجًا شُعلةَ إيمانهم وحماستهم. وعند قدميه جلس أعاظم تلاميذ حضرة الباب، مدركين جيّدًا أنّ هذا الرّجل كان أكثر من مجرّد تلميذ مثلهم، وكانوا يعلمون تمام العلم بأنّ مولاهم قد أولاه من الإجلال والتّقدير ما لا يشير إلّا إلى استنتاج واحد، وهو أنّ حضرة بهاءالله كان، وإن لم يكشف ذلك بعد، ذلك “السّرّ”، وفي الوقت نفسه، ثمرة الدّين البابيّ.
دارت تعاليم حضرة الباب بكاملها حول محور واحد: على أنّه هو الباب. ولكن مهما كانت مكانته الرّوحانيّة عظيمة، ومهما بلغت قوّة ونفوذ رسالته من الشّدّة، فقد ظلّت مجرّد أفق ستطلع منه حتمًا أعظم شمس روحانيّة شهدها العالم لغاية الآن. أشار حضرة الباب، مرارًا وتكرارًا، في تلميحات خفيّة، من خلال الفعل والكلمة المكتوبة، إلى حضرة بهاءالله. ليس بمقدورنا أن نعرف كم تنبّأ، حضرة بهاءالله بنفسه عما قُدّر له في ذلك الوقت. لكن من خلال دراسة بيانات حضرته، وما سُجّل عن تلك الأوقات، نشعر أنّ موجات الإلهام الإلهيّ بدأت تنزل بهدوء على وعي حضرته بدرجة تتزايد باستمرار خلال السّنوات الّتي سبقت مباشرة استشهاد حضرة الباب وتلك الّتي تلته.
عندما كان مصير الحركة البابيّة في أحلك أوقاته، حينما أُعدم حضرة الباب – كان آخر عمل قام به هو إرسال حافظة أقلامه وأختامه، الّتي كانت رمزًا لإبداعه وسلطته الدّينيّة، إلى حضرة بهاءالله- عندما انهارت مقاومة أتباعه أمام قوّة السّلاح السّاحقة الّتي رُفعت في وجوههم، وهلك غالبيّتهم، ألمّت مأساة كبيرة أخيرة بالحركة. إذ قامت حفنة من الشّباب غير المسؤول، وقد أضلّهم الحزن الشّديد والإحساس بالظّلم والجور لرؤية ما تعرّض له دينهم الّذي كاد أن يُجتثّ من جذوره من سفك للدماء والتّمزّق، قامت بمحاولة اغتيال الشّاه. تلا ذلك موجة من الفوضى. ففي حين لم يُعْطِ البابيّون، حتّى تلك الحظة، أيّ مبرّر شرعيّ يُبيح لأعدائهم حملتهم الوحشيّة الظّالمة، فقد عرّضوا أنفسهم الآن لأخطر تهمة ممكنة بأنّهم طغمة فوضويّة تنوي الإطاحة بالسّلطة. لا فائدة من الإقرار بأنّ هؤلاء الثّلاثة، شبه الحمقى، الّذين لم يلعبوا أبدًا أيّ دور في شؤون الدّين، قد ارتكبوا مثل هذا الهجوم الإجراميّ على مسؤوليّتهم الشّخصيّة فقط، ولا فائدة من الطّلب، حسب القوانين المرعيّة، بشيء أقلّ بكثير من العدالة، وهو أن تتمّ معاقبة المسؤولين عمّا حدث. كان باب الهمجيّة مفتوحًا على مصراعيه فاصطبغت شوارع العاصمة بلون دماء البابيّين الأحمر. عمليًّا، كان قد تمّ قتل كافّة القياديّين البارزين في دورة حضرة الباب، لذا عندما انشحنت السّماء ببرق الغضب الملكيّ والحكوميّ، لم يبقَ سوى شجرة طويلة واحدة تقف منتصبة – حضرة بهاءالله. تمّ اعتقاله على الفور، رغم أنّه في الوقت الّذي جرت فيه المحاولة (والّتي فشلت تمامًا، إذ أثبت القتلة حماقتهم عن طريق حشو بنادقهم بالخردق!) كان حضرته يحلّ ضيفًا على رئيس الوزراء نفسه في منزله الرّيفيّ؛ ورغم أنّه كان من غير الممكن وجود ذرّة شك في براءته من هذه الفعلة الشّنعاء. انقضّوا عليه بلهفة باعتباره الرّجل الوحيد المتبقّي، الحائز على ما يكفي من المكانة العالية كبابيّ وكفرد، لأن يكون كبش فداء مقبول أمام الغضب العامّ والطّمع الخاصّ لدى العديد من المسؤولين الّذين سيكونون قادرين الآن على مصادرة ونهب ممتلكاته.
تعرّض حضرة بهاءالله وحضرة الباب كلاهما للفلقة في مناسبات مختلفة. وصُفع حضرة الباب على وجهه ووُجّهت له إهانات قاسية مرارًا وتكرارًا، وسُجن مدّة خمس سنوات ثمّ أُطلق عليه الرّصاص في نهاية المطاف. تلقّى حضرة بهاءالله نصيبًا متواضعًا من سوء المعاملة خلال مواقف نُصرته المتعدّدة لزملائه البابيّين. ولكن رسخت قدماه الآن بحزم على ذلك الطّريق القديم، “طريق الآلام”[1] ((Via dolorosa. اقتيد حضرته وهو حافي القدمين وعاري الرّأس وقد جُرّد من ملابسه الخارجيّة عدّة مرّات، وتحت أشعّة شمس منتصف شهر أغسطس/ تمّوز الّتي لا ترحم، من ضواحي طهران، حيث جرت محاولة قتل الشّاه، إلى سجن العاصمة الكبير، وسط صيحات الجمهور الفاسد السّاخرة وإساءاته، الّذي رشقه بالحجارة والقاذورات مع كلّ قدم من الطّريق. عندها كانت اللّحظة الّتي فُتح فيها قلبه العظيم، ذلك القلب الّذي كان مقدّرًا أن يتدفّق منه مثل هذا الكمّ الفريد من الحبّ على جميع البشر، وأطلق منه نَفَسًا من جوهره النّفيس: ناشدت امرأة عجوز الجنود الّذين كانوا يرافقون حضرته ليتوقّفوا لحظة كي تلحق بالرّكب حتّى تتمكّن هي الأخرى من قذف حجرها على المرتدّ الخسيس الّذي كانوا يقودونه عبر الشّوارع. فقال حضرة بهاءالله: “لا تخيّبوا أمل هذه المرأة، ولا تحرموها ممّا تعتبره عملًا صالحًا في نظر الله “، وخضع بصبر للضربة الإضافيّة من أجل أن يُسعد عجوزًا ذات قلب أعمى.
لقد كان حضرة بهاءالله رجلًا في مقتبل العمر يتمتّع بصحّة جيّدة عندما دخل “الحفرة السّوداء” (سياه تشال) في طهران، وهي زنزانة تحت الأرض كانت تستخدم سابقًا كخزّان ماء لحمّام عموميّ. وعندما خرج، بعد أربعة أشهر، كان ظلًّا هزيلًا لما كان عليه، وظلّت آثار النّدوب الّتي تركها طوق الحديد الثّقيل الّذي كان حول عنقه والسّلاسل الّتي رُبط بها رسغاه وقدماه ظاهرة عليه لآخر أيّام حياته، وقد أُنهكت صحّته، ولكن لم تُنهك روحه. لأنّه في ذلك الظّلام الدّائم والرّائحة النّتنة لتلك الزّنزانة المزدحمة تحت الأرض، عندما جلس حضرته وقدماه في القاذورات وظهره مُثقل بالسّلاسل، وعندما كانت تُزال الأغلال في كلّ يوم عن أحد أصحابه البابيّين في الزّنزانة ويُساق إلى الخارج ليعدم، إذا بالنّور في داخل روحه يبدأ بالاشعاع. لقد أدرك أنّ رداء النّبوّة قد أُلقي الآن على كاهله في هذه اللّحظات الرّائعة من السّعادة والقوّة والإدراك، وأنّ الزّخم العظيم للحقيقة، الّتي وهبها حضرة الباب للحياة الحديثة، كان عليه، وعليه وحده، أن يحملها قُدمًا ويؤسّسها بقوّة في العالم.
وبعد مدّة ليست بالقصيرة، ونتيجة التّدخّل المستمرّ للسفير الرّوسيّ ذلك الصّديق الّذي كان معجبًا بحضرته، والجهود المتواصلة الّتي بذلها مختلف أفراد عائلته الأثرياء، الّذين ضحّوا بالكثير ممّا يملكونه لأجله، تمّ أخيرًا إطلاق سراح حضرته. لقد خرج معتلّ الصّحّة، محنيّ الظّهر، هرمًا، ليجد أنّ جميع ممتلكاته قد نُهبت أو صُودرت أو أحرقت، وزوجته مُعدمة وأطفاله الثّلاثة الصّغار في ضيق وعَوَز، فالإثنان الأكبر سنًّا – صبيّ شجاع في التّاسعة من العمر وأخته في السّابعة – حزينان وخائفان بسبب سوء المعاملة والقلق اللّذيْن مرّا بهما. وبعد خروجه من السّجن تمّ نفيه على الفور من وطنه الأصليّ، لكن تُركت له الحرّيّة في اختيار بلد منفاه فاختار حضرته بغداد، الّتي كانت في ذلك الوقت، ضمن إقليم العراق العثمانيّ في الإمبراطوريّة التّركيّة. خلال شهر كانون الثّاني / يناير، شقّ حضرة بهاءالله، ترافقه زوجته وولداه الكبيران وشقيق له وعدد من الأقارب والمسؤولين بما فيهم ممثّل عن السّفارة الرّوسيّة، طريقهم عبر الشّعاب الجبليّة الواقعة في غرب بلاد فارس، وسط العواصف الشّتويّة والثّلوج. لكنّه احتفظ بسرّ قلبه لنفسه، ذلك السّرّ الّذي انكشف له حديثًا في أقسى ساعات معاناته في “الحفرة السّوداء”.
لقد كان من الصّعب على أيّ نبيّ دائمًا ومنذ الأزل، أن يجد مكانًا يُريح فيه رأسه. فليس هناك ما هو حياديّ إذا تعلّق الأمر بالحقيقة. فهي متفجّرة. وتثير أشدّ العداء وبالغ الكراهية والنّفور ممّا لا يتوقّف أبدًا. وبما أنّ الحقيقة الدّينيّة، الّتي تمّ الكشف عنها مؤخّرًا، تعارض تمامًا كليشيهات العصر المتهالكة على الدّوام، وتتحدّى باستمرار النّظام السّائد للأشياء، فهي تواجه المعارضة والاضطهاد على الدّوام. لم يكن حضرة الباب استثناءً لهذه القاعدة، كما لم يكن حضرة بهاءالله استثناءً لها أيضًا. فلم يكد يستقرّ به المقام في بغداد حتّى وصل أخوه غير الشّقيق، وهو بابيّ مثله، ليدخل في مسرح الأحداث. كان ميرزا يحيى هذا، في العشرين من عمره تقريبًا ومن صغار إخوته، فكان عمليًّا في رعاية حضرة بهاءالله وتولّى تربيته بنفسه. كان رجلًا لديه العديد من الصّفات الشّخصيّة الجيّدة، لكنّ شخصيّته نفسها كانت ضعيفة. فإذا كان حضرة بهاءالله كالأسد في شجاعته وقوّته، فإنّ أخاه كان بالتّأكيد يشبه الفأر في خوفه. لقد كان هيّابًا، مدلّلًا ومتغطرسًا إلى حدّ ما. فمنذ أن تقاتل قابيل وهابيل – وهو حدث وقع منذ زمن بعيد وكان من القوّة بحيث إنّ صدى أسمائهما وصراعهما فقط هو الّذي تكرّر عبر قرون الزّمان ووصل إلينا – كانت هناك مشكلة دائمة بين الإخوة، وكانت جذور المشكلة، في أكثر الأحيان، تغذّيها الغيرة. احتلّ ميرزا يحيى مركزًا رفيعًا جدًّا بين أتباع حضرة الباب. وأساء فهم هذا الامتياز والشّرف معتقدًا أنّ ذلك يعني أنّه لن يكون هناك أيّ شخص سيُشغل، بعد وفاة حضرة الباب، منصبًا أعلى منه مكانة ومقامًا، وليس على الأقلّ أخاه الأكبر حضرة بهاءالله.
خلال الأيّام الّتي تعرّض فيها أصحابه البابيّون، في طهران وفي أماكن أخرى، لأقسى أنواع التّعذيب؛ وعندما كان حضرة بهاءالله نفسه يقبع معتلًّا ومثقلًا بسلاسل حديديّة في زنزانة مظلمة تحت الأرض مليئة بالهوام؛ وعندما اضطرّت زوجته، الّتي أُجبرت على البقاء وحيدة في بيتها، وابتعد عنها أصدقاؤها وأقاربها الخائفون وتجاهلها خصومها، واضطرّت، في بعض الأحيان، لإطعام أطفالها الطّحين المخلوط بالماء؛ وعندما رُجم ابنه الصّغير حضرة عبدالبهاء بالحجارة وأسيئت معاملته من قِبل أولاد الشّوارع المؤذين كلما غامر لأداء مهمّة تفوق كثيرًا حدود عمره؛ خلال هذه الأوقات، وبينما كان أصحابه المؤمنون وأقرب أقربائه يتعرّضون لمثل هذه المصاعب والاضطهاد، كان ميرزا يحيى يتجوّل متخفّيًا عبر الجبال، بعيدًا عن المكان الّذي احتدمت فيه المعركة وهو في رعب مميت خوفًا على حياته.
ومع ذلك ، فقد كانت مكانة يحيى أزل عالية لدرجة أنّ العديد من البابيّين تطلّعوا إليه برجاء، في تلك السّاعة حالكة السّواد، من أجل الإلهام والاطمئنان. وهناك، في مدينة بغداد القديمة، بدأت تتكشّف الدّراما الحقيقيّة لحياة حضرة بهاءالله. فعرف حضرته مَنْ يكون. واهتزّت كلّ ذرّة من كيانه مع هذه القوّة الجديدة الّتي نزلت على روحه وهو يرقد في تلك “الحفرة السّوداء” مكبّلًا بالسّلاسل والأغلال. لكنّه لم يشعر بعد بذلك الدّافع للكشف عن نفسه جهارًا أمام الآخرين، ومع ذلك فإنّ هذا التّعاظم الجديد للقوّة الرّوحانيّة والمعرفة أخذت تنطلق كالشّرر من فكره وتشعّ من حضوره. لقد كان حضرته دومًا يمثّل برجًا للقوّة يجلب معه الطّمأنينة والثّقة والهداية كلما دخل اجتماعات أصحابه البابيّين. أُضيف الآن إلى هذه السّجايا زهرة الاشراق والسّناء النّبويّ، تلك المحبّة والبصيرة والحكمة والهيمنة نفسها الّتي دفعت بملايين وملايين البشر ولمئات القرون لاتّباع رجل واحد يُدْعَوْنَ باسمه، أكان كريشنا أو بوذا أو السّيّد المسيح أو حضرة موسى أو حضرة محمّد.
مضت البقيّة الباقية من أتباع الدّيانة البابيّة المحطّمين في طريقها إلى بغداد على أمل العثور في ميرزا يحيى على بعض صفات القيادة والعزاء. إلّا أنّ الرّجل كان يفتقر تمامًا إلى الصّفات اللّازمة لتلبية احتياجاتهم فتحوّلوا عنه، ومعظمهم يشعر بخيبة أمل مريرة، إلّا أنّهم وجدوا في الأخ الأكبر، قوّة الشّخصيّة والإيمان الرّاسخ ممّا بعث فيهم الحيويّة من جديد. فإذا كانوا قد اعتقدوا بأنّه رائع من قبل، عندما دخل قلعتهم في الشّيخ طبرسي ممتطيًا صهوة حصانه (حيث كان البابيّون محاصرين من قِبَل فرقة من الجيش الفارسي لمدّة سبعة أشهر)، ورأسه مرفوعة بكلّ شهامة ورجولة، وعيناه السّوداوان البرّاقتان وبنظرته الوقّادة الّتي لا تعرف الخوف، وبمظهره المتحضّر وعباراته النّصوح الملهِمة؛ وإذا كانوا قد أجلّوه واحترموه عندما ترأّس أهمّ تجمّع أقيم لأتباع حضرة الباب على الإطلاق، وتمكّن بمهارة، ودون ضجّة، من إدارة ذلك الاجتماع برمّته من البداية إلى النّهاية، من استئجار للموقع، وافتتاحٍ لتحرّرٍ أكثر جرأة من عادات الإسلام وشرائعه السّابقة، إلى الإجراءات الخاصّة بسلامة البابيّين عندما هاجمهم أهالي القرية المجاورة بأكملهم؛ وإذا كانوا قد تعجّبوا من شجاعته عندما غادر بهدوء، بعد محاولة اغتيال الشّاه، منزل رئيس الوزراء الّذي وفّر له الحماية، ولم يُصغِ لنصيحة ذلك الصّديق القويّ، ودخل بين فكّي الخطر بأن تابع سيره نحو المنطقة المجاورة حيث معسكر الشّاه وجيشه وحيث وقع الاعتداء على حياته، بدلًا من البحث عن مكان آمن يختبئ فيه أو الفرار من البلاد؛ وإذا كانوا قد أحبّوه بسبب تمسّكه الجسور الّذي لا يتزعزع بدينهم خلال أحلك أيّامه وحتّى عندما كانت حياته مهدّدة بخطر جسيم – فما الّذي، يا تُرى، شعروا به الآن، في وقت بلغ فيه احتياجهم أشدّه وخيبة أملهم منتهاها؟ بدأ الحماس الّذي تتّسم به شخصيّته بالجريان في عروقهم. واهتزّ دين حضرة الباب، الّذي كاد أن يُمحى، فتنفّس وقد دبّت فيه الحياة من جديد.
لكنّ حضرة بهاءالله رأى أمامه سحابة رعديّة هائلة. لم تكن غطرسة أخيه محصّنة ضدّ هذه الوخزات. فبينما عاش جبانًا وخائفًا أكثر من أيّ وقت مضى، حياة منعزلة متخفّيًا كتاجر، اضطُرّ إلى مشاهدة البابيّين، بالإضافة إلى العديد من الأصدقاء والمعارف الجدد، وهم يحومون حول منزل حضرة بهاءالله كما يحوم النّحل حول العسل. كان هناك أيضًا عنصر آخر أكثر كارثيّة في ما يحصل، كان هذا العنصر رجلًا ذا شخصيّة شرّيرة، شديد الطّموح مرير الحسد، يكره حضرة بهاءالله، ويبدو أنّ ميرزا يحيى خضع لسيطرته تمامًا. فرض الرّجل عليه صفات الوحشيّة والنّفاق الّتي لم تكن متأصّلة في طبيعته بعد أن تمكّن من الوصول بسهولة إلى ذهنه من خلال النّفخ في قِربة غروره وتصوير حضرة بهاءالله له كعدوّ وغريم، وبأنّه يسعى لينتزع منه الشّرف والمجد اللّذيْن كانا من حقّه، نظرًا للمركز الّذي وهبه إيّاه حضرة الباب. ولمّا شاهد حضرة بهاءالله كلّ هذا، وبعد أن سبق وأن جرّب بالفعل عبث محاولة تحرير عقل أخيه من هذه الشّكوك السّامّة، سعى إلى تجنّب العاصفة الوشيكة بالانسحاب الكامل من ذلك الوضع. فغادر حضرته بغداد سرًّا، مرتديًا زيّ الدّارويش، حاملًا كشكوله الأسود في يده، قاصدًا جبال كردستان الّتي تبعد حوالي ثلاثمائة ميل، في فيافي السّليمانيّة فوصلها سيرًا على الأقدام.
لو نظر حضرة الباب إلى أسفل الوادي من نافذة سجنه في ماه كو وشاهد بعين بصيرته بلاد فارس وقد انتشرت مدنها العظيمة أمامه، دون أن يتمكّن من الوصول إليها، وتفكّر في ما حصل وما يحصل وما سيحصل، وفي حماقة البشر، وعمى وجحود وضلال قلب الإنسان – فماذا سيكون إذًا جوهر تأمّل حضرة بهاءالله بينما كان يتطلّع شرقًا نحو بغداد، وهو يفكّر في الأخ الّذي كان قد أغدق عليه الكثير من الحبّ والّذي كان هو نفسه مسؤولًا إلى حدّ كبير عن رفعه إلى هذه المكانة الرّفيعة، من خلال البيانات الّتي كان يقدّمها عنه لحضرة الباب؟ ما الّذي لا بدّ وأنّه كان يفكّر فيه وهو يحدّق في البرّيّة نحو الشّرق من مسكنه الحجريّ المهجور الّذي عاش فيه فريدًا وحيدًا تمامًا، ويتذكّر بلاد فارس، ذلك الوطن الّذي أحبّه، وكلّ أولئك الرّفاق الّذين قُتلوا بقسوة، والقلّة الّتي بقيت، مرهقة مرعوبة وقد استحوذ عليها اليأس عمليًّا، والّتي كانت لا تزال تناضل على أمل شيء واحد فقط – الوفاء بوعد حضرة الباب لها بأنّ واحدًا أعظم منه سيظهر من بعده؟
لا شكّ أنّ تعامي البشر وغرور الحياة قد صعقا حضرته بقوّة وعنف، وأنّ ما كان يفكّر فيه حضرة يسوع، وجد صدىً له في قلبه عندما صرخ “يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا! “.
لمدّة عامين كان حضرته خلالهما مفقودًا بالنّسبة لعائلته وأصدقائه، كان يعيش حياة بسيطة وبدائيّة، ويعدّ طعامه بنفسه، وكان معروفًا لأولئك الفلاحين القلائل فقط الّذين كانوا يمرّون بمسكنه لرعي أغنامهم أو جمع حصادهم باسم الدّرويش محمّد. إلّا أنّ بعض الأهالي المحلّيّين تعرّفوا عليه تدريجيًّا وأحبّوه. وابتدأ خبر وجود رجل مقدّس يعيش في عزلة في البرّيّة بالانتشار، وأدّى إلى قيام أحد الشّخصيّات الدّينيّة البارزة في السّليمانيّة بزيارته للتعرّف على حضرته. كانت مطالبات هذا الرّجل المُلحّة هي الّتي أقنعت حضرته أن ينقل مكان إقامته إلى تلك البلدة (السّليمانيّة)، حيث أقام في غرفة في إحدى الحَوزات العلميّة الدّينيّة. إنّ النّور شيء جيّد للبشر ولا يمكن إخفاؤه، وحتّى في برّيّة هذه المرتفعات، جذبت أنوار فكر حضرة بهاءالله وروحه أولئك الّذين التقى بهم، سواء عن طريق الصّدفة أو بشكل متقطّع، وجعلهم يسعون إليه ويحبّونه ويتعلّقون بالكلمات الّتي تخرج من بين شفتيه.
إذا كان للمرء أن يشير إلى أيّ وقت في حياة حضرة بهاءالله، من اليوم الّذي قبل فيه رسالة حضرة الباب إلى اللّيلة الّتي صعد فيها، تمتّع خلاله بقدر بسيط من راحة البال والتّحرّر من الاعتناء بالشّواغل اليوميّة أو من الخطر اليوميّ تقريبًا أو من أزمة من نوع ما، فإنّ ذلك سيكون إلى فترة إقامته في كردستان. ففي تلك الفترة، قام بتثقيف من التفّوا حوله بحكمة المظهر الإلهيّ، ولكن تحت ستار أحد الباحثين العاديّين، وكتب واحدة من أشهر أشعاره بناء على طلبهم، بالإضافة إلى العديد من الأدعية والمناجاة. لكنّ شائعة خافتة تدحرجت من التّلال إلى بغداد عن وجود رجل حكيم يعيش في السّليمانيّة. شعرت عائلته على الفور بأنّهم قد عثروا أخيرًا على حضرته فأرسلوا على عجل رسولًا ليلتمس منه العودة، ويشرح له الوضع في بغداد.
لكن يبدو أنّ السّحابة الرّعديّة لم تختفِ من أفق حياته. بل تكثّفت وازدادت سوادًا واتّساعًا. كان يأمل (ربّما كان ضدّ هذا الأمل – من يدري؟) أن يعمل اعتكافه على تحسين الأوضاع. وأن تُشفى جراح الكبرياء عندما تزول المهيّجات، فيهدأ حسد أخيه المستعر، ويعود الوضع لطبيعته. لكنّ الغرور والحسد وجدا في ميرزا يحيى أخطر حلفائهما كلّها ألا وهو الحمق. فحرصًا منه على ترسيخ مركزه، الّذي كان يحفّزه عليه دائمًا مستشاره الشّرّير، أخذ يرتكب جريمة تلو الأخرى ويراكم العار فوق العار على أمر حضرة الباب الّذي كانت مكانته قد سبق وأن تدنّت في نظر أعدائه. وأقلّ ما كان يمكن قوله هو أنّ ميرزا يحيى كشف تمامًا عجزه الكامل عن تولّي قيادة الحركة البابيّة.
عندما عاد حضرة بهاءالله إلى بغداد استجابة لالتماسات حضرة عبدالبهاء والعائلة الملحّة الّذين اكتشفوا أخيرًا مكان إقامته، لم تعد هناك إمكانيّة ولا ضرورة لتجنّب تولّيه القيادة. فقام حضرته فورًا، بيديه الواثقتين، بالإمساك بزمام شؤون الدّين، بهدوء وتواضع لم يسبق لهما مثيل أبدًا. ورغم أنّ حضرته لم يُعلن بعد بشكل علنيّ أنّه توأم حضرة الباب، ذلك النّجم العملاق الآخر، في تلك الكوكبة الرّائعة، إلّا أنّ نوره كان يزداد إشراقًا. بدأ سيل من آثاره الكتابيّة يتدفّق من يراعه المبارك، على شكل هدايات وتأمّلات ولطائف الجواهر من الحِكَم الأخلاقيّة، والأدعية، والتّفاسير، والرّسائل – كتابات لم تتوقّف قط حتّى نهاية حياته. وكما تمتّع حضرة الباب بفترة قصيرة واحدة من الشّهرة والحياة الهانئة أثناء وجوده في أصفهان، فقد تمتّع حضرة بهاءالله الآن بفترة لا مثيل لها من احترام العموم وتقديرهم دامت حوالي سبع سنوات. أصبح قادة بغداد، الدّينيّون والحكوميّون، من أصدقائه ومعجبيه: جلس أمراء من وطنه الأصليّ بإعجاب عند قدمي مواطنهم الشّهير البارز والمنفيّ. ومن كردستان، أتى أولئك الّذين عرفوه فقط باسم “الدّرويش محمّد”، ليبحثوا بشغف وتوق عن صديقهم. عرفه الفقراء جيّدًا، فقد سار في دروبهم. وعيونه الّتي تُدرك معنى الألم والّتي بدت وكأنّها تخترق الرّوح ذاتها، ألقت عليهم نظرة شاملة فشعروا بحبّه – وأحاطتهم أمطار المحبّة الإلهيّة الّتي يلهث قلب كلّ إنسان لنيلها. كان سخاؤه، الّذي كان يغدقه بلا مقابل، هو الأقلّ من بين آلائه الّتي كان يمنحها للمحتاجين والمساكين.
معظمنا يعرف معنى الشّخصيّة، وكيف يمكن لعقل نبّاض أو لمَثَلٍ ساطع أو لشخصيّة قدّيسة أن تُحفّزنا. كيف يحب الجندي بطلًا ما! كيف يمكن لإنسان يُنظر إليه بفوقيّة ويُهان بسبب عرقه أو طبقته أن يتحمّس بامتنان للمسة مساواة إنسانيّة يمنحه إيّاها شخص مُنصف غير متحيّز! كم هو حلو مذاق العدالة للفقراء والمظلومين!
ماذا كان حضرة بهاءالله إذًا في نظر من عرفوه؟ كان بالتّأكيد بطلًا في وجه كلّ مجابهة مع أعداء دينه. لقد زرع الانصاف في أعماق مجتمعنا الفاسد بأن جعله حجر الزّاوية في تسيير جميع التّعاملات الإنسانيّة. فكتب حضرته “أحبّ الأشياء عندي الإنصاف… وأنتَ توفّق بذلك إن تشاهد الأشياء بعينك لا بعين العباد وتعرفها بمعرفتك لا بمعرفة أحدٍ في البلاد”. لقد تجاوزت طيبته كلّ ما نعرفه عن القداسة لأنّها كانت متأصّلة فيه كما النّور في النّار. كان البشر كافّة، في نظره، في حوزة مسؤوليّته الّتي أوكلها الله إليه، وهي أن يترك فيها تأثيره المفيد. في بغداد، حازت شخصيّته مكانتها الكاملة في أعين النّاس، ومدّت الشّجرة النّبويّة ظلالها العظيمة، وهي على أُهبة الاستعداد لتشمل كلّ العالم وتغذّيه بثمارها اليانعة.
بلغ الآن من العمر ستّة وأربعين عامًا. ولا حاجة لسؤال البابيّين عمّن كان قائدهم! فالمثال والتّعاليم وكلّ عمل قام به حضرة بهاءالله، أعلن بأنّه خليفة حضرة الباب الموعود. دبَّ الحماس مرّة أخرى في عروق الدّين المقهور. أدرك أعداؤه السّياسيّون والدّينيّون، وقد دبّ فيهم الرّعب، أنّ ما ظنوا أنّه قد تمّ التّخلّص منه نهائيًّا، كان لا يزال آخذًا في الازدهار، والأسوأ من ذلك، أنّه كان يستمدّ قوّة جديدة أعظم من ذي قبل من الرّجل الّذي تركوه ينسلّ من بين أصابعهم، معتقدين أنّ قضيّته قضيّة خاسرة وأنّ هذا النّفي سيقضي عليه. فرضت بلاد فارس ضغوطًا قويّة لا تُحتمل على تركيا، فدُعي حضرة بهاءالله بأمر من السّلطان، أن يترُك بغداد ويتوجّه إلى القسطنطينيّة.
إنّ حضرة الباب، المسجون في مكان منعزل، منذ اليوم الّذي عاد فيه إلى مسقط رأسه من مكّة المكرّمة إلى اليوم الّذي أُعدم فيه علنًا في تبريز، مُنع من الاختلاط بمجموعة أتباعه، وأُبقي عليه سجينًا، ومع ذلك ففي خلفيّة الأحداث، كان قد أضفى على حياتهم تأثيرًا جاذبًا وخارقًا للغاية، بحيث إنّ ما يزيد عن عشرة آلاف شخص قدّموا أرواحهم في سبيله وسبيل تعاليمه. ماذا كان، إذًا، تأثير شخصيّة حضرة بهاءالله على الآلاف من الأشخاص الّذين اتّصلوا به عن قرب أو بشكل غير مباشر أثناء إقامته في بغداد؟ عندما جاء يوم الرّحيل واستحوذ تحقّق الانفصال الوشيك على عقول مرافقيه، عارضوا هذا المصير بمرارة، وهدّد الكثير منهم بالانتحار إذا لم يُسمح لهم بمرافقة حضرته. لقد بكوا ولم يكن هناك من شيء يهدّؤهم، ولم يتمكّن أحد إلّا حضرة بهاءالله نفسه من أن يتدبّر أمرهم ونجح بعد حين، بنصائحه النّابعة من المحبّة وكلماته الّتي تحمل السّلوى والطّمأنينة، في تهدئتهم. بكت المدينة نفسها بصوت عالٍ وحضرته يتنقّل للمرّة الأخيرة في شوارعها. فبينما حدّق الآلاف، بلا مبالاة أو بفضول أو ازدراء أو كراهية، على حضرة الباب الشّابّ وهو يقف أمام فرقة إطلاق النّار في تبريز، احتشد الآن جمع آخر يضمّ الآلاف، في مدينة بعيدة، محدّقين في خليفته، ولكن بمشاعر مختلفة تمامًا. فقد حرّك القلوب إعجاب صادق واحترام وإجلال، وفي معظم الأحيان أثّرت مشاعر عميقة في الأفئدة ففاضت عيون العديد بالدّموع وهم يتبعون تلك الشّخصيّة العظيمة النّبيلة النّورانيّة. فالفقراء على وجه الخصوص، الّذين احتموا في ظلّ رحمته لسنوات عديدة وعرفوا فيه ملجأهم الوحيد، شعروا بمصيبة رحيله وبكوا حرمانهم الوشيك. بعد أن أمضى اثني عشر يومًا في حديقة في المدينة على الشّاطئ البعيد لنهر دجلة، حيث كانت الخيام قد نُصبت وكانت هناك مساحة تكفي لحضور العديد من أصدقائه وأتباعه لتقديم الوداع الأخير له، غادر حضرته غربًا مع عائلته وعدد قليل من أتباعه، في قافلة ضمّت حوالي سبعين شخصًا.
شعر حضرته، أثناء إقامته في هذه الحديقة، أنّه مدفوع، لأوّل مرّة ، للإشارة صراحةً عمّا كان يعرفه في نفسه لمدّة عشر سنوات – بأنّه هو وهو وحده الّذي تنبّأ به حضرة الباب ووعد به أتباعه؛ الّذي سيأتي من بعده؛ والّذي هو أعظم منه، ولكن من ذات الجوهر الإلهي. كان من أكثر العديدين فرحًا بهذا التّأكيد الصّريح لما كانوا يعرفونه بالفعل في أعماق قلوبهم، ابنه الأكبر، حضرة عبدالبهاء، الّذي أصبح الآن شابًّا وسيمًا يبلغ من العمر تسعة عشر عامًا، وأكبر مصدر للدعم والرّاحة لكلٍّ من والده ووالدته وعائلته.
ألقى جلال ومهابة فترة الإقامة في بغداد آخر توهّج ورديّ له على المسافرين أثناء تقدّمهم نحو شواطئ البحر الأسود البعيدة في طريقهم إلى القسطنطينيّة. على طول المسار بالكامل، ووفقًا لتعليمات مكتوبة من حاكم بغداد – وهو من كبار المعجبين بحضرة بهاءالله – استقبلهم مسؤولون ودودون ومضيافون وأظهروا لهم كلّ علائم الاحترام والتّقدير. لكن هذه كانت النّهاية. فقد أضمرت بلاد فارس في قلبها كراهية سامّة لهذا الدّين الجديد الّذي أنجبته، كراهية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأديان. امتدّت ذراع انتقامها الطّويلة حتّى إلى خارج حدودها. لقد حثّت حليفتها، تركيّا، على المشاركة في مخطّطاتها للقضاء على هذا الدّين. لم يكن حضرة بهاءالله قد أمضى أربعة أشهر في القسطنطينيّة بعد، قبل أن تُعطي مخطّطات حكومة وطنه الأمّ ثمارها. فجأة، ودون أيّ مبرّر أو سابق إنذار، أصدر سلطان تركيّا أمره لحضرة بهاءالله بالتّوجّه فورًا ودون إبطاء إلى أدرنة، الّتي كانت بمثابة سيبيريا السّياسيّة للإمبراطوريّة التّركيّة.
من الخطأ الافتراض أنّ الخصائص الوحيدة لرجل مرسل من الله هي القداسة المستسلمة، والاستعداد اللّامتناهي لقبول كلّ أشكال الظّلم دون أدنى احتجاج، والانحناء أمام الطّغيان دون حتّى توجيه الاتّهام في وجهه. فقد طَرد السّيّد المسيح الصّرّافين بالسّوط من المعبد في عنف مبرّر. وأذاب حضرة موسى بغضب العجل الذّهبي. وكسّر حضرة محمّد بيديه الأصنام في الكعبة. وكتب حضرة بهاءالله رسالة إلى السّلطان نفسه أخبره، وبعبارات لا لُبس فيها، عن مكانته هو ووزرائه في عيني نبيّ الله. لم يعد اللّوح، على حدّ علمنا، موجودًا، إلّا أنّ وجه رئيس الوزراء غدا شاحبًا عندما قرأه. وأعلن حضرة بهاءالله نفسه فيما بعد بأنّ أيّ فعل يقوم به السّلطان ضدّه بعد تلقّيه تلك الرّسالة سيكون مفهومًا ومعذورًا، إلّا أنّ تصرّفه بنفيهم إلى أدرنة، عندما لم يكونوا قد ارتكبوا أبدًا أدنى خطأ أو إساءة للحكومة العثمانيّة، فهو أمر لا يُغتفر.
هنا نرى جانبًا جديدًا من سمات حضرة بهاءالله. فحضرته لم يكن، من وجهة نظرٍ إنسانيّةٍ بحتة، شيئًا لا خبرة له ولا كيان، ذلك الّذي يتعامل معه الحاكم التّركيّ. فمنذ باكورة طفولته، تنقّل حضرته بين الوزراء ورجال البلاط وكبار المسؤولين في بلاد فارس. لقد كان، من ناحية النّشأة والثّقافة، رجل هذا العالم. فقد فهم المؤامرة جيّدًا، وتلك القسوة غير الضّروريّة والغاشمة وراء مرسوم السّلطان هذا. لقد شعر بشدّة بظلمه المرير وفي الواقع قسوته، إذ كان يعني أنّه يجب على النّساء والأطفال في فصل شتاء قارس غير معتاد، وفي عربات تجرّها الثّيران وعلى البغال، عبور المناطق المحاطة بالثّلوج، معرّضين أنفسهم للعواصف السّائدة الّتي كانت تهبّ بكامل قوّتها وعنفوانها. لقد كان المنفيّون فقراء، ويفتقرون إلى ملابس كافية وغير مؤهّلين تمامًا لقسوة هذه الرّحلة. إنّه لمن دواعي ارتياحنا أن نعرف أنّه عندما كان هذا النّبيّ الّذي عاش في القرن التّاسع عشر – نبيّنا، معاصر أجدادنا وأجداد أجدادنا – بلا نصير ولا ظهير، ووجد نفسه ورأسه في فم الأسد، لم يَخَفْ بل انتهز الفرصة ليخبر الأسد، بعبارات لاذعة، بما في فكره عنه. ما إن قرأ الصّدر الأعظم تلك الرّسالة، حتّى أكّد أنّه “كأنّي به ملك الملوك يصدر أوامره إلى أصغر ولاته ويرشده إلى المسلك القويم”. من الواضح أنّ حضرة بهاءالله عبّر عن مشاعره بجلاء في لغة مفهومة تمامًا.
هذا الطّغيان الدّنيويّ الكاسح والمتغطرس كان أقلّ مشكلات حضرة بهاءالله. فكونه لم يتوقّع سوى الأسر والحرمان والاضطهاد، وأنّ أصدقاء أيّام بغداد المحبّين قد ولّوا وأصبح حضرته الآن هدف الإدانة الرّسميّة، كلّ هذا كان أبعد ما يكون عن كونه عبأه الأكبر. فقد كان بلاؤه هو ميرزا يحيى.
منذ طفولة ميرزا يحيى، كان حضرة بهاءالله يحبّه ويرعاه. ولا شكّ أنّ حزنه كان عظيمًا وهو يشاهد التّدهور الحاصل في شخصيّته. وكان غضبه من فعله المُخجل أعظم، عندما عاد من السّليمانيّة ليكتشف عِظم هذا التّدهور بكامله. فقد أهان ميرزا يحيى ذكرى حضرة الباب بطريقة لا يمكن لأيّ إنسان قويم الخُلق أن يتحمّلها، والأسوأ من ذلك، أنّه كان المحرّض المباشر على قتل عدد من تلاميذ حضرة الباب الأوائل، من بينهم أحد أقارب حضرته، ولا شكّ أنّه كان يعتقد أنّه إذا اختفت كلّ الرّؤوس العالية، فسوف يبقى رأسه أعلى من الجميع على نحو لا يجارى! حفاظًا على وحدة الدّين، الخارج من مثل هذه الفترة من النّار والسّيف، وربّما على أمل أن يكون الإصلاح في اللّحظة الأخيرة ممكنًا، كان حضرة بهاءالله لا يزال يتسامح معه ويسعى إلى تقديم النّصح والإرشاد له. كما سعى أيضًا بإلحاح لفصله عن ذلك العبقريّ الشّرّير، الصّديق الخسيس الّذي كان يغذّي غروره باستمرار ويعبث بمخيّلته برؤى رائعة إذا ما استطاع إزاحة حضرة بهاءالله عن طريقه. ذهبت كلّ هذه الجهود أدراج الرّياح. إذ لحق كلٌّ من ميرزا يحيى وأتباعه المنفيّين إلى القسطنطينيّة، خلافًا لرغبات حضرة بهاءالله الّتي عبّر عنها بوضوح، وتمّ نفيهم معهم أيضًا إلى أدرنه. وهناك ارتُكبت الجريمة الأخيرة وحصل الفصل الأكبر.
حاول ميرزا يحيى قتل حضرة بهاءالله ثلاث مرّات. وكاد في المرّة الثّالثة أن ينجح في مسعاه، لأنّ أخاه شرب فعلًا من الكأس المسموم الّتي قدّمها له فألقى به ذلك على أبواب الموت بضعة أسابيع. وقد رافقته آثار تلك المحاولة حتّى نهاية حياته، في ارتجاف يده والإضرار بصحّته.
لا يمكن لأيّ إنسان يحترم نفسه إلّا أن يتأثّر بشدّة من أفعالٍ تجلب له الخِزي يقوم بها أقرباؤه. كم شعر حضرة بهاءالله بالمرارة، مع ثقل أعباء دِينه العالميّ الجديد الواقع على كاهله، وهو المنفيّ والمضطَهَد، النّاجي من الكثير من الأحزان، والكثير من الصّدمات، والكثير من التّغييرات العنيفة في المقدّرات، من هذه الضّربة القاسية، الّتي سُدّدت إلى حضرته بعدما مرّ بأكثر من عشرين عامًا من الاضطراب والخطر المستمرّين؟ ومنذ ذلك الحين انفصل الأَخَوان، أطلق أتباع حضرة بهاءالله، إظهارًا منهم لهويّتهم الكاملة المرتبطة بمقام حضرته ودعوته، اسم البهائيّين على أنفسهم.
تكرّرت الآن قصّة أسر حضرة الباب القديمة في قصّة حضرة بهاءالله، لأنّه أينما ذهب حضرته، وبغضّ النّظر عن مدى خِسّة الإدانات الّتي سبقته، والّتي دعمتها الجهات الرّسميّة، كانت حلاوة شخصيّته، ونفوذ أفكاره، ونبله، ومحبّته، وسخاؤه، وروعة تعاليمه، تُذيب كلّ شكّ بسرعة وتُكسبه محبّة المسؤولين والسّكّان على حدّ سواء. وبإعادة لما حدث من تقدّم لحضرة الباب من أصفهان إلى ماه كو ومن ماه كو إلى جهريق، حيث حدث كلّ نفي جديد في أعقاب ظهور إقبال جديد لحضرته، فكذلك كان الحال مع حضرة بهاءالله فقد أُرسل أوّلًا من بغداد إلى القسطنطينيّة، بعد أن وصل صيت شهرته بعد مدّة وجيزة إلى خارج البلاد، ومن هناك إلى أدرنه. وبعد خمس سنوات، عندما ترسّخت مكانته مرّة أخرى في موطنه الجديد، وأثار من جديد غضب وحسد أعدائه في طهران وزملائهم في القسطنطينيّة، تمّ نفيه في نهاية المطاف إلى عكّاء.
إذا كانت أدرنه هي بمثابة سيبيريا للإمبراطوريّة التّركيّة، فإنّ مستعمرة القصاص “عكّاء” الّتي تقع في فلسطين على ساحل البحر الأبيض المتوسّط كانت بمثابة جزيرة الشّيطان لها. كانت المدينة المحصّنة قذرة تنتشر فيها الأمراض، وهي تجسّد أسوأ ما يمكن أن تفعله الحكومة العثمانيّة لأيّ أسير تحتجزه لديها.
أصبح الصّدع بين الأخوين حقيقة ثابتة، وبوجود الدّهاء المعتاد للعقل الشّرقيّ، فقد تقرّر أن يذهب ميرزا يحيى وعائلته إلى المنفى في قبرص، وأن يُسجن حضرة بهاءالله وأسرته وأتباعه في عكاء، وأن يتبادل كلّ جانب اثنين أو ثلاثة من أتباعهما. بعبارة أخرى، كان على أقوى مؤازري ميرزا يحيى، وهو أعظم أعداء حضرة بهاءالله، أن يُجبَر على مرافقة حضرته إلى “عكّاء” ليكون بمثابة جاسوس، يضمن عدم محبّة النّاس له وجعل حياة رفاقه بائسة. وبالمقابل كان يجب على عدد قليل من البهائيّين التّعساء أن يتوجّهوا إلى قبرص ويعيشوا في نفس البلدة مع الرّجل الّذي كان من المفترض أن يكون قاتل زعيمهم المحبوب.
على مدار أربعة وعشرين عامًا، عاش حضرة بهاءالله في مدينة السّجن عكّاء والمناطق المجاورة لها. وعلى الرّغم من أنّه كتب أعظم ما وهبه للمجتمع الإنسانيّ، كتاب تشريعه وأحكامه، في مدينة السّجن هذه، وعلى الرّغم من أنّه تابع هناك ما بدأه في أدرنه بإرسال ألواحه البارزة الفريدة من نوعها الّتي وجّهها لأعظم ملوك وحكّام العالم – السّلطان عبد العزيز، والملكة فيكتوريا، وناصر الدّين شاه، ونابليون الثّالث، والكسندر الثّاني إمبراطور روسيا، والبابا بيوس التّاسع وآخرين، ورغم أنّ تعاليمه استمرّت في التّدفّق عبر عقله وقلمه حتّى الأشهر الأخيرة من حياته، إلّا أنّنا نرى في حضرته تغييرًا ملحوظًا. كثيرة كانت الضّربات الّتي وجّهها جيل جاحد إلى هذا الهيكل النّبيل، شديدة ومستمرّة كانت كراهية أعدائه وجحودهم من جهة، وأقاربه من جهة أخرى. كان كأس الحزن والأسى هو الكأس الوحيد الّذي قُدّم له على مدار التّقلّبات والتّغيرات والفرص الّتي رافقت حياة طويلة فانية. في أولى سنوات احتجازه في عكّاء، سقط ابن حضرته المحبوب من على سطح الثّكنات الّتي سُجنت فيها عائلته ورفاقه جميعًا وتوفّي متأثرًّا بجراحه. كما حرّض عدوّه الشّخصيّ الحقود والّذي كان محسوبًا على جماعته، المسؤولين ضدّه بلا هوادة. تحمّل الإهانة من الأعداء الخارجيّين والأذى من بعض أحبّائه الحمقى المتعصّبين. تمّت مرّة أخرى ملاحقة أتباعه، من بقايا المؤمنين بحضرة الباب الّذين انتعشوا الآن وزاد عددهم، وقبض عليهم واستشهدوا على نطاق واسع في بلاد فارس البعيدة. وصلت إليه في عكّاء الآن أخبار معاناتهم، مثل ما كانت تصل إلى حضرة الباب في جهريق أخبار مقتل وتعذيب أحبّائه، وغصّت غرف سجنه أيضًا بأخبار مشاهد الأهوال الّتي وقعت بعيدًا في وطنه، كما كان الحال في غرفة حضرة الباب قبل ربع قرن من الزّمان.
عندما حلّت أيّامٌ أفضل، وبعد تسع سنوات طويلة من الحبس المشدّد داخل أسوار المدينة، والّتي لم يعبر حضرته خلالها عتبة بابه إلّا ما ندر، تراخت شدّة أسره الّذي استمرّ طويلًا، وأصبح الآن، مرّة أخرى، مثل حضرة الباب من قبله، موضع تبجيل السّكّان المحليّين ومحبّتهم، وسُمح له بنقل مقرّ إقامته إلى قصر في سهول عكّاء، حيث استقبلت خضرة المروج عينيه المتعبتين في النّهاية، إلّا أنّ ذلك أتى بعد فوات الأوان.
لقد ولّت ملامح الصّقر الّتي كانت تسم محيّا حضرة بهاءالله في السّنوات الأولى للحركة البابيّة، وهو من كان دائمًا في الطّليعة، وطاقته لا تعرف الحدود، يتنقّل من قرية إلى أخرى على ظهر حصانه، ورأس كلّ نشاط وعضُده. تلاشى الهيكل المألوف في أيّام بغداد، بردائه الفضفاض وقبّعته العالية المخروطيّة، حين كان يسير على ضفاف نهر دجلة، أو يتجوّل في الشّوارع، ويمنح شخصيًّا الكلمات والابتسامات والإحسان، أو يُبقي باب منزله مفتوحًا يوميًّا حيث كان دائمًا مركزًا لموكب من المعجبين والباحثين والعلماء. كان قد سبق وأن أظهر في أدرنه ميلًا للانسحاب أكثر من النّشاط العامّ والحياة الاجتماعيّة لأتباعه. إتّكل أكثر فأكثر على ذلك الغصن، الّذي كان راسخ الإيمان والإخلاص، والّذي انشعب من أصوله، ابنه الأكبر، حضرة عبدالبهاء. كان عبء الحزن الشّديد الّذي كسر قلب حضرة الباب يتراكم، مع مرور السّنين، على قلب حضرته أيضًا، حتّى إنّه في النّهاية، قبل وقت قصير من صعوده، أسرّ لأحد مرافقيه القدامى بأنّ كلّ ما يتمناه كان أن يذهب بعيدًا ويغلق على نفسه في غرفة مظلمة ليبكي حكاية بؤسه وشقائه! لا بدّ أنّ قلبه كان جريحًا حقًّا!
بالمعاناة يُنهك اللّحم والعظم، ويحترق القلب والدّماغ. إنّها طبيعة الإنسان. والمظهر الإلهيّ إنسان، مهما تكن طبيعة روحه – مختلفة تمامًا عن أرواحنا. ما عانى منه حضرة الباب لمدّة ستّ سنوات فقط، وعانى منه السّيّد المسيح لمدّة ثلاث سنوات، عانى منه حضرة بهاءالله، مثله مثل حضرة موسى وحضرة محمّد، حتّى نهاية عمره الطّويل.
لو كان بإمكان حضرة الباب في أيّامه الأخيرة أن يتذكّر كلّ ما فعله، وكيف كتب إلى الشّاه نفسه، موضّحًا ومفصّلًا رسالته الّتي تدعو للتقدّم والصّلاح، وكذلك إلى رئيس الوزراء، وإلى كافّة رجال الدّين الإسلاميّ في بلاد فارس؛ كيف سافر طوال الطّريق إلى مكّة وأبلغ بنفسه الحقائق الإلهيّة الجديدة لأعلى شخصيّة دينيّة في العالم الإسلامي؛ وكيف كان ينشر رسالته، من خلال المبدأ والقدوة، ولا يقدّم إلّا ما هو الأفضل والأكثر احتياجًا وعقلانيّة – وكيف فشل كلّ ذلك في تحقيق هدفه المباشر، فكانت مكافأة جهوده، الإهانات الشّائنة والاضطهاد البشع – لو كان بإمكانه تذكّر كلّ هذا فإنّ بمقدور حضرة بهاءالله أن يتذكّر حتّى ما هو أسوأ. كان يستطيع أن ينظر إلى الوراء، إلى المصير الّذي آل إليه رفيقه المحبوب، حضرة الباب، المبشّر به وزعيمه وتوأمه الرّوحيّ في الوقت نفسه. كان يمكن أن يتذكّر أمواج الدّم الّتي غمرت جميع زملائه البابيّين. وكان يستطيع أن يتذكّر جيّدًا ما قام به هو نفسه – من تضحية مستمرّة، ليس فقط بالمتاع الدّنيويّ مثل البيت، والوطن، والمركز، والثّروة، والأقارب، ولكن أيضًا بدخيلة نفسه الّتي كانت تذوب في نار البذل والعطاء في كلّ ساعة وكلّ يوم. وبالدّفق المتواصل من الحبّ الّذي كان يفيض منه دون تمييز على جميع النّاس. وبالحكمة والإنصاف والتّسامح والتّعاليم الشّافية الّتي وجّهها إلى مسامع أولئك الّذين، في ظلّ القوى الهائلة الّتي يسيطرون عليها، كانوا، في الواقع، في وضع يمكّنهم من تغيير مجرى حياة البشر ومصائر الكثير من النّاس والتّخلّص من الحروب. لقد كان حضرة بهاءالله هو أوّل من حثّ البشر على الاجتماع والتّشاور من أجل السّلام، وتشكيل هيئة دوليّة لتنظيم شؤون العالم، والحدّ من التّسلّح والتّخلّص منه تدريجيًّا، ورفع مستوى معيشة العمّال، ومنح المرأة المساواة مع الرّجل، واستخدام لغة عالميّة مساعدة للتخلّص من سوء الفهم وفقدان الثّقة بين الشّعوب، وإلغاء العبوديّة، وبدء إجراء الإصلاحات في كلّ منحى من مناحي الحياة البشريّة والتّعليم. صحيح أنّه لم يوضع أمام فرقة لإطلاق النّار، إلّا أنّ تعاليم حضرته انتشرت – الّتي تلازم وتحقّق تعاليم حضرة الباب – خلال أيّام حياته في بلدان الشّرق الأخرى. كان الدّين ينمو – لدرجة أنّ أستاذًا مشهورًا في جامعة كامبريدج، البروفسور إدوارد براون (E.G. Browne) كان لديه فضول كافٍ للمجيء إلى عكّاء لمقابلة حضرته وعاد حاملًا عنه انطباعًا جيّدًا! – لكن حضرته فقط كان يستطيع أن يلحظ، برؤيته العالميّة لمن هم بمثل مقامه، الفرق والتّفاوت بين الوضع القائم والوضع المطلوب.
البشر اليوم وفي كلّ مكان يتنهّدون ويشكون من حماقاتهم. فيا ليتهم فقط قاموا بهذا الفعل أو ذاك، ويا ليتهم جعلوا هذه المعاهدة أكثر إلزامًا، أو جعلوا هذا التّعويض أكثر تساهلًا، أو ناضلوا قبل ذلك بعشر سنوات من أجل قضيّة أخرى، أو اجتمعوا قبل فوات الأوان ولم يقاتلوا على الإطلاق، وقدّموا تنازلات أكبر أو أقلّ لجانب أو لآخر، ربّما لم نكن لنعاني بهذا الشّكل الرّهيب، ولما كنّا تسبّبنا في هذا الخراب الّذي لا معنى له ولا يمكن إصلاحه، ولما مزّقنا نسيج حياتنا، الصّالح منه والطّالح، شرّ مُمَزّق، تمامًا كما فعلنا منذ عام 1939! لكنّنا نعرف جيّدًا أنّ الأوان قد فات والأضرار قد حصلت. يجب أن نمضي الآن على طريق النّزاع والكوارث وخيبة الأمل الطّويلة – مهما طال الوقت، وحيثما تقودنا هذه الطّريق – لأنّنا كنّا أنانيّين للغاية، وكسولين جدًّا، جشعين لأبعد الحدود وعُمياء عن سلوك الطّريق القصير بينما كان لا يزال هناك متّسع من الوقت. عرف حضرة بهاءالله كلّ هذا جيّدًا. لقد توقّع ما سيحلّ بنا من كوارث – بعد أن فشلنا تمامًا في الاستجابة للحقيقة الشّافية الّتي جلبها لنا حضرته – وتنبّأ بها بدقّة ووضوح تجعلنا نُخفي رؤوسنا خزيًا وعارًا. لقد فعل كلّ ما يستطيع فعله من أجل الإنسانيّة، حتّى آخر قطرة من قوّته، وحتّى آخر يوم من حياته. لقد ضحّى بنفسه، مثل أولئك الّذين مضوا قبله، لجيل الأفاعي الّذي أحاط به، فتلقّى منهم أسوأ ما عندهم وقدّم لهم أفضل ما لديه. فإذا كان لديه أيّ ندم لمغادرة هذا العالم، فلابدّ لأنّه كان يعتقد أنّ قوى الخير والشّرّ الّتي احتدمت بشدّة حول دعوته ودعوة حضرة الباب، منذ نشأتها، ستواصل الآن كفاحها مع ابنه الحبيب، حضرة “عبدالبهاء”، الّذي تُرك بمفرده في وسط الدّوّامة.
في عام 1892 أغلق حضرة بهاءالله عينيه للمرّة الأخيرة. انتهت بذلك رحلة التّضحية والمحن الطّويلة. ما زال ذلك الوجه ذو السّمات القويّة الملكيّة، المزدانة بتجاعيد عميقة من الفكر والإحساس، مؤطّرًا بخُصل شعره الأسود الغزير منذ شبابه، إلّا أنّه أصبح جامدًا مع الموت، وتلك اليدان القويّتان الرّائعتان اللّتان صاغتا وكتبتا الكثير من الحقائق والعديد من الشّرائع والمبادئ النّبيلة توقّفتا عن الحركة. هذا القلب العظيم الّذي لم يكن بالإمكان سبر غوره، والّذي غمرت ألطافه البشر في جمال لا يوصف، أصبح الآن ساكنًا. حامت ألف صورة من الماضي فوق هذا الجسد الرّاقد. شخصيّته المهيبة، وهو يمتطي صهوة جواده، مرّت بالعديد من المشاهد… هناك في وسط البابيّين، رفاقه الأوائل، عندما التقوا للتشاور أو لمقاومة هجمات أعدائهم. وفي الطّريق إلى طهران، لمجابهة غضب الشّاه الجامح بعد محاولة اغتياله. وخارج بغداد، حين قطع بحر من الأصدقاء الصّائحين النّائحين طريقه، حتّى بدا أنّ على الجواد أن يسير على أجساد النّاس وأن يحلّق راكبه فوق رؤوسهم. وفي طريقه إلى القسطنطينيّة، وهو يعبر جبال الأناضول المكسّوة بحلّة الرّبيع متّوجهًا نحو البحر الأسود. كان لطفه الرّائع موجودًا في تلك الغرفة أيضًا يحوم حوله، اللّطف الّذي تميّز به عندما انحنى إلى أسفل ليستجيب لرغبة قلب سيّدة كبيرة السّنّ وقصيرة القامة جدًّا في محاولتها الوصول إلى خدّه المبارك لتقبيله. ولا بدَّ أنّ الحرمان قد لازمه أيضًا بعناد شديد. عندما كان يمتلك، في أيّام بغداد، لباسًا واحدًا فقط، فكان يغسله وينتظر حتّى يجفّ ليرتديه مجدّدًا. أو عندما كان يطبخ لنفسه – عندما كان يُعرف بالدّرويش محمّد – في كهف جبليّ رطب أو كوخ راع مهجور، كميّة صغيرة من مهلبيّة الأرز، ويقتات عليها مع قطع من جبن الحليب والخبز الجافّ. في الواقع، كان هناك الكثير ممّا يجب تذكّره عن حضرة بهاءالله بينما هو راقد للمرّة الأخيرة في غرفته. فهناك سرعة بديهته وسهولة تعامل حضرته مع النّاس دون أيّ تكلّف، والّتي تجلّت بشكل واضح في اليوم الّذي قام فيه قاتل مأجور بتوجيه مسدّس نحوه وهو يسير مع أحد إخوته في شارع مهجور في بغداد، فمنعته قوّة شخصيّة حضرة بهاءالله من الضّغط على الزّناد، فترك المسدّس ليسقط من يده، وعندها طلب حضرة بهاءالله من أخيه التقاط المسدّس و”مرافقة الرّجل المحترم” إلى منزله بعد أن بدا مذهولًا ومصابًا بالدّوّار ليجد طريقه بمفرده. وهناك روح الفكاهة، الّتي غالبًا ما كانت تبرز أثناء أحاديثه الجدّيّة، وفي استخدامه لبعض الكنايات أو العبارات البارعة، ولكن في كثير من الأحيان يتمّ التّعبير عنها بحرّيّة في دائرة عائلته عندما يضحك ويمزح معهم أثناء تناولهم الشّاي في الصّباح أو بعد الظّهر. تدفّق مجد وجلال مظهريّة حضرته على العالم طيلة أربعين عامًا، والآن غرُبت الشّمس. رغم بقاء رسالته وكتبه ومثاله إلّا أنّ عيون البشر لن تتمكّن من مشاهدة الوجه الّذي غمرهم بنور الله.
لكنّه ترك بين البشر ما يذكّرهم بنفسه. فقد عُهد إلى حضرة عبدالبهاء، الّذي كان يبلغ من العمر الآن ثمانٍ وأربعين عامًا، بالوصاية على دين حضرة بهاءالله. كلّ مناقب الأب وصفاته بدت متجسّدة في هذا الابن الرّائع. في الواقع، وكما نرى أحيانًا في الطّبيعة نفسها بأنّ انصهارًا غنيًّا وسخيًّا للكمال قد يبدو وكأّنه يتفوّق على أيّ شكل سابق من أشكال قوّتها، ففي القرن التّاسع عشر، بدا وكأنّ خزينة الله قد فُتحت أمام البشر لتقذف ثلاث جواهر رائعة لا مثيل لها تدحرجت خارجها، من خلال حضرة الباب وحضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء.
رغم أنّه كان ذا مكانة مختلفة، إلّا أنّ حضرة عبدالبهاء لم يدّعِ أبدًا ولو للحظة بأنّه أكثر من مجرّد إنسانٍ فانٍ، وأنكر بشدّة ادّعاءات بعض البهائيّين المتحمّسة الّتي لا أساس لها بأنّ له نصيب أيضًا في القوى المظهريّة الّتي تشارك بها حضرة الباب وحضرة بهاءالله، ومع ذلك، كانت فضائل حضرته فريدة لا مثيل لها ولا نظير. فمنذ الأيّام الّتي سُجن فيها والده في الحفرة السّوداء في طهران، ذهب وحيدًا، وهو مجرّد طفل، إلى الزّنزانة للاستفسار عن صحّته، أو، بالأحرى، لمعرفة ما إذا كان لا يزال حيًّا، أظهر حضرة عبدالبهاء تفانيًا وتكريسًا لدينه ورجولة ونُبلًا في الشّخصيّة جذبت ملاحظة وإعجاب جميع الّذين عرفوه، حتّى أعدائه. وعندما اعتكف حضرة بهاءالله لمدّة عامين (في جبال السّليمانيّة)، ظلّ مكان وجوده مجهولًا تمامًا، فتحمّل هذا الابن، وهو صبيّ يبلغ من العمر أحد عشر عامًا، الكثير من مسؤوليّات أسرته وفي الحقيقة مسؤوليّات جميع البابيّين القاطنين في بغداد آنذاك. نَمَت قدراته، سنة بعد سنة، بحيث أصبح حضرة بهاءالله، بعد عودته من مكان اعتكافه الّذي اختاره لنفسه، يعتمد بشكل متزايد عليه ويفوّضه بإنجاز المهامّ والمقابلات المهمّة. كان شابًّا وسيمًا للغاية ذا عينيْن زرقاويْن ولحية وشعر أسود متموّج. كان أطول من والده، وتمتّع بطبيعة ساحرة وجاذبة وعقل ذكيّ وطاقة لا تكلّ. مع ازدياد قدراته، أصبح أكثر فأكثر الحاجز الّذي يدرأ عن أبيه شؤون الدّنيا المزعجة، وغالبًا ما كانت مطالبها مرهقة وغير ودّيّة وملحة ولا تستحقّ الاهتمام دائمًا! وخلال سجن عكّاء، كان حضرة عبدالبهاء، في معظم الأحيان، يلتقي بالمسؤولين القائمين على شؤون النّاس ومقدّراتهم، ويوزّع بيديه بانتظام من نهر الكرم الّذي تدفّق من باب حضرة بهاءالله حتّى أصبح حضرة عبدالبهاء معروفًا بلقب “أبو الفقراء”. وهو الّذي لم يسترح أبدًا إلى أن فُتحت أبواب مدينة السّجن تلك وقاد والده الحبيب مرّة أخرى إلى مشاهد الخُضرة وصوت الماء وطراوة الهواء النّقيّ، وأسكنه لسنوات قليلة من حياته في منزل هادئ ومريح نسبيًّا.
كان الحبّ بين الاثنين الأكثر عمقًا وتأثيرًا. عاش الإبن من أجل أبيه ورسالته وأمره المبارك، ولتحقيق أقلّ أمانيه، والاهتمام بكلّ مصالحه. وأحبّ الأب الابن كما لم يكن ليحبّ حضرة بهاءالله أحدًا أبدًا. كان كلّ منهما يعرف عقل الآخر جيّدًا. قبل وقت طويل من وفاة والده، كان من الواضح للجميع أنّ حضرة عبدالبهاء سيخلفه. وبعد أن وافته المنيّة، هدأت الغُصّة الأولى والحزن بإعلان أنّ حضرة بهاءالله لم يعيّن حضرة “عبدالبهاء” في وصيّته لتولّي رئاسة دينه فحسب، بل إنّ الأخير أخذ يُنجز مهمّته بكلّ حكمة وشجاعة واقتدار أيضًا ممّا أثبت أنّه يستحقّ الاحترام في كلّ ما يتعلّق بمركزه الرّفيع.
تبدو حياة حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء مثل دوران العَجَلة، الّتي رغم أنّها تسير إلى الأمام إلّا أنّها تكرّر نفسها، فكانا متشابهين في خطّ حياتهما الأساسيّ – من توالي المدّ والجزر للاضطهاد والإجلال والتّبجيل، والإنهاك الهائل لجوهر وجودهما من خلال العطاء المستمرّ من نورهما وقوّتهما الدّاخليّة يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة لجميع المقبلين أغنياء كانوا أم فقراء، إلى الصّدع الدّاخليّ العميق بين الأخ وأخيه الّذي تكرّر في حياة حضرة عبدالبهاء بتشابه شديد في التّفاصيل، والمعاناة، والشّعور، بشكل يكاد لا يصدّق.
بدا للّذين لم يقابلوا حضرة بهاءالله شخصيًّا أبدًا، لكنّهم عرفوا ابنه، أنّه من المستحيل أن يكون حضرة بهاءالله في نظرهم أعظم من حضرة عبدالبهاء. فقد وجدوا في حضرته كلّ الحكمة الآنيّة المتدفقة بحرّيّة، والفهم الحدسيّ، وكلّ الحبّ والتّعاطف الشّامل، وقوى العقل الشّافية، وكافّة تفاصيل الحياة اليوميّة الّتي كانت في تفتّح كامل للخصائص الإنسانيّة النّبيلة – مع ذلك فهو لم يكن في عظمة والده. كان انعكاسًا لشخصيّة حضرة بهاءالله، ومتطبّعًا بطابع الصّفات الملكوتيّة، وفكره مرآة تعكس إلى حدّ الكمال تعاليم ذلك العقل الشّامل. لقد كان القمر الّذي عكس بعد غروب الشّمس، أشعّتها على البشر لجيل آخر.
إذا كان وصف الفضائل والقوى الّتي ميّزت شخصيّتي حضرة بهاءالله وحضرة الباب معرضًا للشكّ من ذوي العقول المُشكِّكة، وإذا رفضوها كقصّة آتية من الشّرق – أرض الحكايات والغموض الدّائم – لا يمكنهم أن يفعلوا الشّيء نفسه مع شخصيّة حضرة عبدالبهاء، لأنّه، على عكس سابقيْه، اللّذيْن نادرًا ما شاهدتهما العيون الغربيّة، لم يحرّك فقط مشاعر الغربيّين لأكثر من عشرين عامًا ولكنّه زار الغرب زيارة شاملة، حيث ذهب إلى سان فرانسيسكو خلال جولة طويلة في الولايات المتّحدة، كما قام بزيارة قصيرة إلى كندا، وأقام في كلّ من إنجلترا وفرنسا. وخطبه المدوّنة، الّتي ألقاها خلال الأشهر العديدة الّتي تجوّل فيها في أوروبّا وأمريكا الشّماليّة، والدّعاية الّتي تلقّاها في الصّحافة، ومذكّرات أحد مرافقيه، والعديد من الكتب والمذكّرات الّتي كتبها البهائيّون، وكذلك المرجعيّات عن حضرته من غير البهائيّين في أعمالهم الكتابيّة – جميعها تحمل الشّهادة نفسها: أنّ شخصيته كانت حقًّا مثاليّة لدرجة لم نر مثلها من قبل على الاطلاق.
من عام 1892 حتّى صعوده في عام 1921، كرّس حضرة عبدالبهاء نفسه لمهمّتين رئيسيّتين؛ كانت إحداهما نشر وتبيين وعرض تعاليم أبيه، والأخرى خدمة الإنسانيّة. سيكون من الصّعب القول ما إذا كان حضرته قد تحدّث أكثر أو فعل أكثر. كان يمتلك طاقة وحماسًا، وتفانيًا للواجب وتضحية بالنّفس أدهشت كلّ من عرفه. قام على خدمة إخوانه البشر، نهارًا وليلًا بكلّ ما في الكلمة من معنى، وحتّى الأسبوع الأخير من حياته – لا بل حتّى آخر يوم. فقام بتوزيع الصّدقات، وعاد المرضى وزار المحتاجين شخصيًّا، مستفسرًا عن أحوالهم، وقدّم لهم الدّواء، والنّصيحة، والمواساة، والمال، ولبّى كلّ متطلباتهم. تنقّل بين المتسوّلين في الشّوارع كما تنقّل بين نبلاء الإنجليز والشّرقيّين الّذين تواصلوا معه بنفس السّهولة الطّبيعيّة ونفس التّعاطف المحبّ والتّفاهم. كان لديه كلمة للعجوز المُسنّة الأمّيّة الثّرثارة الّتي أراد أن يخفّف عنها عبء ما يجثم على قلبها، وكلمة أخرى للرجل الّذي كان على وشك أن يصبح ملكًا. نظرت عيناه الزّرقاوان الممتلئتان بالحكمة واللّطف إلى الجميع على السّواء بذاك الاهتمام الشّديد والفهم العميق لاحتياجاتهم الدّاخليّة. لا توجد كلمة يمكن أن تصفه أفضل من الشّافي، لأنّه شفى العقول المسمومة والقلوب المريضة والأجسام العليلة. لقد وصل إلى حدّ الكمال فيما عبّر عنه بنفسه في كلمات جميلة: “إنّ سرّ ضبط النّفس هو نسيان الذّات”.
إنّ حياته الرّائعة ما هي إلّا مثال وقدوة، دعا البشر من خلالها إلى معيار أسمى وأصعب للوصول إليه من أيّ معيار آخر نراه في عالم اليوم، لأنّه كان في مستوى “كُن نبيلًا، كن طاهرًا في دوافعك، كن صادقًا أمينًا ومستقيمًا . ضحِّ بنفسك من أجل خير الآخرين. لا تهزأ بغيرك من البشر لئلّا يستهزأ الله بحماقتك وغرورك. كن محبًّا ومتسامحًا . لا تُحاكِم فتُحاكَم”. كان اللّقب الّذي اختاره لنفسه” خادم عباد الله”، وقد تمثّل ذلك في شخصيّة حضرته بكاملها وفي كلّ فعل قام به. يمكن القول بكلّ صدق إنّ هذا كان نمط حياته منذ أن كان عمره تسع سنوات، وهو النّمط الّذي نما فيه بقوّة أكبر وظهر على نحوٍ بارزٍ مع مرور السّنين.
إنّ مشهد آثارِ السّلاسل على جسد والده الحبيب، ورحلات النّفي الثّلاث الّتي عايشها حضرة عبدالبهاء، والكراهية الوحشيّة الّتي أظهرها أحد أعمامه، والفقر والبؤس الّذي عانى منه هو وأسرته، والمعاناة الشّخصيّة والاضطهاد الّذي كان من نصيبه مرارًا وتكرارًا، لم تُكدّره أو تغضبه أبدًا. بل كبر فقط مع مرور السّنين ليصبح أكثر نبلًا وأكثر تسامحًا وأكثر محبّة وأكثر إشراقًا وقوّة. لقد سار حقًّا على خطى والده وأضاف توهّجًا لامعًا نابعًا من نفسه للظاهرة الفريدة الّتي لا تقدّر بثمن لدين عالميّ جديد أسّسه إثنان من مظاهر أمر الله.
* * *
إنّ الهدف من هذه المشاهد الموجزة للغاية عن حياة حضرة الباب وحضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء وشخصيّاتهم هو هذا: إنّه بغضّ النّظر عن مدى الشّهرة واسعة النّطاق وأفكار الإنسان ومبادئه، وبغض النّظر عن مدى عظمة فكره وصحّة ما يُنادي به، فإنّها تبدأ وتنتهي بالكلمات ما لم تدخل في صُلب شخصيّته وتُصبح جزءًا لا يتجزّأ منها. كيف نميّز بين الفيلسوف والنّبيّ؟ الفيلسوف يتحدّث كثيرًا ويفعل، في أحسن الأحوال، القليل فقط ممّا ينادي به. أمّا النّبيّ فحديثه بالنّسبة إلى أفعاله، قليل جدًّا، لكنّه يعكس في قدوة لا خذلان فيها جوهر عقيدته ذاتها.
“يمكن تحقيق ذلك!” يا لها من صرخة دوّت على مرّ العصور، منذ أيّام الإنسان الأوّل الّذي أشعل النّار أمام أعين البشر المبهورين، إلى الوقت، الّذي ليس ببعيد، حين اندفعت طائرة تحرّكها الآلة من على الأرض لتحلّق بعيدًا في الهواء. العمل، وليس الكلمات، هو أساس حياتنا في هذا العالم. نحبّ أن نعيش في الأحلام، وأن نتخيّل هذا الشّيء وذاك، لكن في هذه الأثناء تمرّ حياتنا بسلسلة من الأفعال. ما لم يكن هناك شيء يمكن إثباته بشكل حقيقيّ، فلن يكون له فائدة كبيرة لنا في هذا العالم.
أظهر حضرة بهاءالله وحضرة الباب وحضرة عبدالبهاء من جديد أنّ الإنسان حقًّا كائن مجيد، فهو أسمى وأعلى من الحيوان بمراحل لا تحصى. وعندما يعيش وفقًا لقوانينه الخاصّة، والّتي هي في الأصل إلهيّة ومناسبة للشخصيّة الخالدة لطبيعته، يمكنه تحقيق إمكاناته والتّوسّع فيها ليصبح إنسانًا طبيعيًّا سليمًا سعيدًا ونبيلًا. هذا هو الهدف الكامل الكائن وراء العِبرة من حياتهم. هذه هي نواة رسالتهم.
قد نطرح السّؤال ونقول “نعم، لكنّ المظاهر الإلهيّة كانوا استثناءات. بينما نحن بشر مساكين، ما الّذي يمكننا أن نفعله؟” الكثير! لقد كانوا استثناءات في الدّرجة والمكانة، في المعيار الباطنيّ، إلّا أنّ أفعالهم كان يقلّدها الآخرون الّذين كانوا مجرّد نماذج عاديّة من لحم ودم مثلك ومثلي، ولكنّهم أرادوا أن يقتدوا بهم، وهم الّذين وجّهوا مرايا قلوبهم نحو القدوة الّتي قدّمتها المظاهر الإلهيّة مع توق وحماس صادق لاتّباعها. أظهرت حياة العديد من أتباعهم ثراءً استثنائيًّا في أنبل الصّفات الإنسانيّة. إنّ القصص في هذا المجال عديدة: من رجال أثرياء تركوا وراءهم، في لحظة وإلى الأبد، منازلهم وثرواتهم للسير قُدُمًا والانضمام إلى زملائهم في ميدان الاستشهاد، وقد جرّدوا أنفسهم من ثرائهم الدّنيويّ، من الجواهر والمال، وألقوا بها بازدراء على جانب الطّريق في حرصهم على الانضمام إلى أقرانهم الّذين هرعوا لمواجهة مصيرهم. وكذلك الّذين قدّموا ما تبقّى لديهم من نقود قليلة أو متعلّقات شخصيّة كهدايا إلى جلّاديهم. وأولئك الّذين أنشدوا- كما فعل الشّهداء المسيحيّون في ساحة المتصارعين في مدرّجات روما – أثناء سيرهم إلى ساحة الموت. والنّساء اللّواتي تنازلن عن المنازل والأطفال وأخيرًا الحياة نفسها، من أجل دينهنّ. أو، أغرب وأكثر الأشياء إثارة للعواطف على الإطلاق، أولئك الشّهداء الأطفال الّذين أكّدوا بجرأة على إيمانهم وواجهوا بشجاعة ودون خوف أو إحجام التّعذيب القاسي والموت.
تقف هذه المُثل العُليا الأصيلة ومن اقتدوا بها أمامنا كنماذج حياة تاريخيّة مشهود لها. لكن لم يُطلب منّا نحن التّضحية بدم الحياة وبكلّ المتعلّقات الدّنيويّة. في الواقع، قد لا يُطلب منّا ذلك أبدًا، في هذه الأوقات الأسهل والأقلّ تعصّبًا. إلّا أنّ هناك شيئًا مطلوبًا منّا. إذا كان بإمكان هؤلاء الرّجال والنّساء والأطفال العاديّين البسطاء في الشّرق المتأخّر، وهم ينتمون إلى شعب لم يتميّز بأيّ صفات استثنائيّة بأيّ شكل من الأشكال، أن يسموا إلى هذه المستويات النّبيلة، لماذا لا نستطيع إذًا أنت وأنا، كلٌّ في حدود قدراته، تلبية احتياجات هذه السّاعة الحرجة الّتي يمرّ بها العالم؟ جهودنا لن تكون الوحيدة. فنمط حياتهم وأعمالهم المجيدة حيّة وتعمل بيننا حاليًّا. البهائيّون موجودون الآن في أكثر من 233 دولة[1]وإقليم وجزيرة في العالم، ورسالة حضرة بهاءالله ذات الطّبيعة التّقدميّة واللّيبراليّة ليست منتشرة على نطاق واسع ومقبولة عالميًّا فحسب، بل إنّ تأثيرها على المتعصّبين من كلّ طائفة – وعلى معارضتهم الّتي لا مفرّ منها – يُلمس على نطاق أوسع. صحيح أنّه من النّادر أن يُطلب من البهائيّين الموت بسبب معتقداتهم هذه الأيّام، لكن ليس من النّادر أن يتعرّض البعض، سواء من الخلفيّة البيضاء أو السّوداء أو الآسيويّة أو الهنود الحمر، للتعذيب أو الضّرب أو سوء المعاملة أو الحكم عليهم بالإعدام، أو يُلقى بهم في السّجون مدى الحياة بسبب دينهم. لقد تعرّضوا في واقع الأمر، خلال السّنوات القليلة الماضية دون أيّ سبب آخر سوى معتقداتهم، للهجوم والقتل في بلاد فارس – الأرض الّتي لا يبدو أنّها تكلّ من اضطهادهم أبدًا.
[1] هذا الرقم يمثل عدد الدول في وقت طباعة هذا الكتاب ولمزيد من التفصيل اأنظر الملحق أ من هذا الكتاب
[1] طريق الآلام: طريق في القدس القديمة يعتقد بأن السيد المسيح قد سار فيه نحو المكان الّذي صلب فيه
إصلاح العالم لا يتمّ إلّا في إصلاح الفرد لنفسه. الأقوال المأثورة القديمة، “لا يمكن للمياه أن ترتفع عن مستواها”، “قوّة السّلسلة تكمن في حلقة الوصل الأضعف”، ليست سوى حقائق. إذا لم تعجبك الظّروف المحيطة بك، إذا أردت رؤية تغييرٍ في المجتمع، فابدأ بنفسك. هذا شيء متيسّر، موجود دائمًا تحت نظرك، وهو بحاجة إلى إصلاح شامل في تسع وتسعين بالمائة من الحالات! لأنّه من المنطقيّ أنّه إذا كنتَ أنت أفضل، فسيكون العالم أفضل. سيكون هناك ذهب أكثر وفرةً في مكوّنات البشريّة، لأنّ أحدها سيكون من عيار أعلى.
نعلم جميعًا أنّ الحياة كفاح، علينا أن نعمل من أجل المأكل، لكي نؤمّن حياة على أيّ درجة من سعة العيش، ونحظى بقدْر من الأمان ولو ضئيلًا. لكن معظم جهودنا تسلك خطوط الحياة الأسهل. نحن نعمل لكسب الرّزق، وندرس لتحسين عقولنا، سواء من أجل مُتعة المعرفة أو لكسب دخل أعلى في بعض المجالات المتخصّصة. لكن عندما يتعلّق الأمر ببذل أيّ جهد من أجل أنفسنا وذاتنا الحقيقيّة، يكون لدينا كمٌ وفير من الأعذار لعدم القيام بذلك. نحن كسالى وخاملون روحانيًّا. وبالتّالي نحن أيضًا مرضى ومضطربون روحانيًّا.
هناك مشكلتان أساسيّتان كبيرتان على هذا الكوكب اليوم. كلّ المشاكل الأخرى – الصّراع بين الأيديولوجيّات السّياسيّة والاقتصاديّة المختلفة، وسباق التّسلّح، والنّزاع والجدال المرير المتنامي بين “الأمم الغنيّة” و”الأمم الفقيرة”، وشراسة الحروب الدّاخليّة، والبطالة، والتّلوّث البيئيّ،.. إلخ. تتلاشى لتتحوّل إلى تفاصيل بسيطة نسبيًّا إذا ما قورنت بالقضايا الحقيقيّة، ألا وهي: الإنسان كفرد، والنّاس كمجتمع يسكنون الأرض. هناك حاجة لخطّين متوازيين من التّقدّم والإصلاح لجعل هذا العالم مكانًا رائعًا للعيش فيه: أحدهما في شخصيّة كلّ فرد، والآخر في القوانين الّتي تحكم والسّلوك الّذي يميّز جماهير الإنسانيّة، سواء أكانت مجموعات أو أممًا أو أعراقًا. في هذا المجال الأخير يتمّ بذل المزيد من الجهد، ربّما مرّة أخرى لأنّه أسهل ويتطلّب عملًا أقلّ من جانبنا، أقلّ من سابقه. فإنّ إثارة حماس الجميع للديمقراطيّة أو الشّيوعيّة أو الاشتراكيّة أو أيّ شكل آخر من أشكال الحكم والهتاف بصوت عالٍ للمطالبة بالضّمان الاجتماعيّ، وبمعاشات تقاعد الشّيخوخة، وبالتّجارة الحرّة، وبالأمم المتّحدة، وبلغة عالميّة، وبحقّ الاقتراع العامّ وما إلى ذلك، لا يتطلّب الكثير من الجهد الدّاخليّ من جانبنا. إذ إنّنا نوزّع العبء ونحمّله على الجميع. ولا يزال يترك لنا الحرّيّة الكاملة في التّمرّد، وضرب الأطفال والآخرين لأنّنا لا نرغب في التّحكّم بغضبنا، وأن نتحيّز، ونتصرّف بدناءة، ونكون منافقين، وأن نكون، بعبارة أخرى، نوعًا من القرود المتحضّرة في شكل إنسان يعوزه، وبشكل أساسيّ، الانسجام الدّاخليّ مع مجتمعه. لكن لا فائدة. فالعمل الخيّر الحقيقيّ يبدأ من المنزل. لأن “من المنزل”، تعني من “الدّاخل”. فالإصلاحات الكبيرة المطلوبة والقائمة في العالم اليوم سوف تفشل في النّهاية في تحقيق هدفها ما لم يبدأ الأفراد في إصلاح أنفسهم. بعد الحرب الأولى، أي الحرب العالميّة الأولى، اتُّخذت خطوات هائلة للتقدّم في كلّ جانب من جوانب الحياة المشتركة للإنسان وحصل الشّيء نفسه بعد الحرب العالميّة الثّانية. الكثير ممّا نزال نسعى إلى تأسيسه في الوقت الحاليّ، بدأ في ذلك الوقت، نحن نقوم فقط بتضخيم ما تصوّرته أرقى عقولنا في وقت مُبْكر سابق، ونجدّد تصميمنا على تنفيذه. لكنّ ذلك لم يمنع حدوث حرب 1939-1945. ولن يمنع حدوث كارثة أخرى أو أكثر في المستقبل – لا شيء سيمنع ذلك سوى إصلاح داخليّ يقوم به كلّ إنسان من نفسه، لنفسه، وبنفسه.
تفضّل حضرة بهاءالله فقال بإيجاز شديد: “ومن كان أقواله أزيد من أعماله، فاعلموا أنّ عدمه خير من وجوده وفناءه أحسن من بقائه”[1]. لقد حان الوقت لأن نتوقّف عن إخبار الشّخص الآخر بما يجب عليه عمله وأن نريه كيف نقوم بذلك بأنفسنا. لا يوجد شيء آخر يمكن أن ينقذنا من سطوة القوى المادّيّة الّتي يوفّرها العلم الآن، والّتي، إذا لم يراقبها الضّمير، ستكون خطرًا يؤدّي لتدمير عالمنا المتحضّر. لقد أدخلنا وحشًا إلى الحياة وهو ينظر إلينا بعيون مترصّدة ومُهدِّدة. إنّ عبقريّتنا، عبقريّتنا البشريّة العظيمة، الّتي لم تنيرها أيّ حياة روحانيّة، تندفع نحو الشّرّ وتدمير الذّات. لن تكون هناك قيود من القوّة بما يكفي للإبقاء على هذه العبقريّة في وضع مفيد ومنعها من الانطلاق بجنون، إلّا سلاسل صفاتنا المميّزة وأخلاقنا. إذا كان هناك أيّ أمل في أن يُنتج هذا العالم الثّمار الّتي وعدت بها براعمه، فلا بدّ أن يأتي هذا الأمل من الدّاخل. إذ إنّ كلّ القوى الحيوانيّة الفائقة في الإنسان هي قوى داخليّة. فإرادته، وخياله، وقدرته على العمل الإبداعيّ، وقدرته على الحبّ من دون أنانيّة، وبمثاليّة، وإيمانه بنفسه وفي الله غير المرئيّ الّذي يشعر به غريزيًّا، تقف وراءه وخلف الكون نفسه – ولا بدّ من تنمية هذه القوى الدّاخليّة وفهمها فهمًا كاملًا، وتوجيهها.
وكما هو مذكور في بداية هذه الصّفحات، فإنّ المهمّة ليست صعبة كما تبدو. ليس مطلوبًا من الجميع أن يَظْهَروا وقد نبتت لهم أجنحة ويحملون القيثارة وفوق رؤوسهم هالة بين عشيّة وضحاها. وحتّى إنّ نموذجًا صغيرًا وقويًّا من الجنس البشريّ يمكنه أن يبدأ بتنفيذ المهمّة ليحذو الآخرون حذوه. كما أنّ جوقة قويّة مدرّبة تدريبًا جيّدًا كافية لجذب اهتمام الجمهور. هناك حاجة إلى خميرة، خميرة لتكون نواةً تُخمّر هذه الكتلة الهامدة السّلبيّة وغير المختمرة أخلاقيًّا من جيلنا. بمجرّد أن تعمّ العبارة “بالإمكان تحقيق ذلك! انشغل بالعمل على نفسك، فهو ليس بالأمر الصّعب الّذي يبدو عليه وستشعر أنّك أفضل لاحقًا!” ستشرع بالفوز في معركتنا الأخلاقيّة الرّوحانيّة، وسوف يندفع المدّ في كلّ منحىً من مناحي حياة الإنسان، وسيصل إلى كلّ الإصلاحات العظيمة المطلوبة، وهي في معظمها، جاهزة للعمل عليها وفي متناول أيدينا في العالم اليوم، هذا المدّ الّذي يمكنه بمفرده تفعيلها بنجاح وضمان ديمومتها هو مدّ الشّخصيّة الإنسانيّة.
لدينا كلّ ما نحتاجه اليوم. المسرح جاهز. كلّ ما علينا فعله هو رفع السّتار والبدء في المسرحيّة.
لقد حلّ بيننا، في القرن الماضي، مظهران إلهيّان مستنيران مرسلان من مصدر وجودنا – سواء اخترنا أن نسمّيه “الأب السّماويّ” أو “الجوهر اللّامتناهي” فذلك لا يُحدث اختلافًا كبيرًا في الهداية والنّور والتّوجيه الّذي يُضفيه على كلّ البشر. إنّ جميع مفاهيم الإصلاح العالميّ الّتي نفتخر بها ونعجب بها بشدّة وننتظر بشوق شديد أن تُوضع موضع التّنفيذ قد أعلنها وأكّد عليها وأعاد صياغتها أو بيّنها، حسب الحالة كلّ من حضرة بهاءالله وحضرة الباب. منحانا أفضل الطّرق للقيام بالأمور، وأحكامًا وتشريعاتٍ حديثة لتأسيس مجتمعٍ عالميّ. إنّ إطار العمل موجود ويجري تنفيذه حاليًّا بنشاط من قبل أتباعهما وفقًا للخطط الّتي وضعها حضرة شوقي أفندي، وليّ أمر الدّين البهائيّ المتوفّى، إبن حفيدة حضرة بهاءالله، الحفيد الأرشد لحضرة عبدالبهاء، ومن قِبَل بيت العدل الأعظم وهي الهيئة الإداريّة العليا المنتخَبة للبهائيّين في العالم. إنّ الشّجرة الجبّارة للظهور الإلهيّ، والّتي سعت بلاد فارس، بمساعدة تركيّا لاحقًا وبحماس متّقد، لاقتلاعها من جذورها في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين، قد نمت بسرعة فائقة وسقتها أفضل مياه على الإطلاق، دماء الشّهداء، فنبتت فروعها وأوراقها وانتشرت في جميع أنحاء العالم.
ليس الغرض من هذا الكتاب طرح التّعاليم المتعدّدة الّتي قدّمها هذان المظهران الإلهيّان التّوأم في القرن التّاسع عشر لهداية المجتمع والإصلاح العامّ للعالم. تمّ، فقط، تناول القدوة الشّخصيّة الّتي قدّمها كلّ منهما، وما يمكن تسميته “وصفة للحياة” في أوسع جوانبها. نحن بحاجة ماسّة إلى مساعدة، مساعدة شخصيّة حميميّة. فقبل أن يحلّ السّلام العامّ خارجيًّا، في ميدان حياة البشر المشتركة العظيمة على هذا الكوكب، يجب أن يتحقّق قدر ما منه أوّلًا في داخلنا. كيف يمكننا فرض قوانين جديدة، ودعم سياسات دوليّة بعيدة المدى، والمضيّ قُدُمًا، متّحدين، نحو هدفنا المتمثّل في التّعاون والتّنسيق العالميّين، والخلاص من العوز والتّحرّر من الخوف، ما لم يركّز كلٌّ منّا بوصلته الخاصّة على شيء ثابت ليوجّهه ويستدلّ به لمعرفة ما هو المكان الحقيقيّ للإنسان في مخطّط الأحداث، ما هي إمكاناته، ما هو المطلوب منه؟ وليسأل كلّ واحد منّا نفسه، ما الّذي بمقدوري أنا القيام به بنفسي؟
وبينما تسأل نفسك ذلك السّؤال، ضع نصب عينيك حساب اليوم، الحساب الّذي يواجه العالم قاطبة في صيغة مضبوطة وبسيطة للغاية:
الدّائن: دين عالميّ جديد- بنّاء، مبرهن تاريخيًّا، متوفّر، جاهز للاستعمال.
المدين: سلاح عالميّ جديد- قوّة ذرّيّة، مدمّرة، مبرهنة تاريخيًّا، متوفّرة، جاهزة للاستعمال
مع كلّ النّتائج الّتي تستتبعها كلّ منها فالخيار متروك تمامًا لك
أنت
[1] مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله ص 135
ملخّص
“يؤمن أتباع حضرة بهاءالله بأنّ الظّهور الّذي أعلنه، هو إلهيّ في جوهره، شامل في نطاقه، واسع في تطلّعاته، علميّ في أسلوبه، إنسانيّ في مبادئه وديناميكيّ في تأثيره في قلوب البشر وعقولهم. إنّ مهمّة مؤسّس دينهم، كما يعتقدون، هي في الإعلان بأنّ الحقيقة الدّينيّة ليست مطلقة ولكنّها نسبيّة، وأنّ الظّهور الإلهيّ مستمرّ وتقدّميّ وأنّ مؤسّسي جميع الأديان السّابقة، على الرّغم من اختلافهم في الجانب غير الأساسيّ من تعاليمهم، إلّا أنّهم “ساكنون في رضوان واحد، وطائرون في هواء واحد، وجالسون على بساط واحد، وناطقون بكلام واحد وآمرون بأمر واحد”. إنّ أمره المبارك، الّذي يمثّله أتباعه بالفعل، يتميّز ويدور حول مبدأ الوحدة العضويّة للجنس البشريّ باعتباره يمثل اكتمال عمليّة التّطوّر البشريّ برُمّتها. ويؤكّدون أنّ هذه المرحلة الأخيرة من هذا التّطوّر الهائل ليست ضروريّة فحسب، بل حتميّة الوقوع، وأنّها تقترب تدريجيًّا، وأنّ لا شيء أقلّ من القوّة السّماويّة الّتي يمكن للرسالة الإلهيّة أن تدّعي أنّها قد مُنحت لها يمكن أن تنجح في تأسيسها.
يعترف الدّين البهائيّ بوحدانيّة الله ووحدة أنبيائه، ويدعم مبدأ البحث الحرّ عن الحقيقة، ويدين كافّة أشكال الخرافات والتّعصّب، ويعلّم أنّ الهدف الأساسيّ من الدّين هو ترويج الوفاق والوئام، وأنّه يجب أن يسير جنبًا إلى جنب مع العلم، وأنّه يشكّل الأساس الوحيد والنّهائيّ لمجتمع سلميّ منظّم وتقدّمي. وهو يرسّخ مبدأ تكافؤ الفرص والحقوق والامتيازات لكلا الجنسين، وينادي بالتّعليم الإلزاميّ، ويمحو الفقر المدقع والثّراء الفاحش، ويسمو بالعمل المؤدّى بروح الخدمة إلى رتبة العبادة، ويوصي باعتماد لغة عالميّة مساعدة، ويوفّر الوسائل اللّازمة لإقامة سلام عالميّ دائم وحمايته.”
[1] ويكيبيديا – الإحصاءات البهائية – مراجع أخرى (إضافة المترجِم)
كتب الكابتن فون جامون (Captain von Gamoen)، وهو ضابط نمساويّ، في رسالة إلى أصدقائه في موطنه، ما يلي: “اتبعني يا صديقي، وأنتم يا من تدّعون أنّكم تتحلّون بالأخلاق الأوروبيّة الرّفيعة، تعالوا معي لتشاهدوا البؤساء الّذين فقئت عيونهم ثم أُجبروا على أكل آذانهم المبتورة في مشهد التّعذيب ذاته دون ملح ولا توابل! والّذين انتزع الجلّادون أسنانهم وضروسهم بوحشيّة، والّذين لم ينلهم شيء كبير من الأذى سوى أن حطّمت المطارق جماجمهم العارية بكلّ بساطة. هلمّوا هلمّوا إلى حيث تُضاء الأسواق بالضّحايا البؤساء لأنّ النّاس شقّوا ثقوبًا عميقة في صدور الضّحايا وأكتافهم عن اليمين وعن الشّمال، ووضعوا في الجروح شموعًا مشتعلة. ولقد شاهدت بعضهم يُسحبون في السّوق مُصفّدين بالأغلال تتقدّمهم إحدى الفرق العسكريّة. وكانت الشّموع قد احترقت وتوغّلت حتّى أخذ شحم الجروح يدخّن كالمصباح إذا انطفأ حديثًا. وليس من النّادر أن تتفتّق عبقريّة أهل الشّرق عن ألوان جديدة من التّعذيب. من ذلك مثلًا أنّهم يسلخون قدمي البابيّ ويغمسون جروحه في الزّيت المغليّ، ويدقّون فيها حدوة حصان، ويُرغمونه على الجري. فلا تصدر عن الضّحيّة آهة ولا زفرة. بل تتحمّل حواسّه المفقودة ذلك العذاب في صمت مظلم. والآن عليه أن يجري. فلا يستطيع الجسم أن يتحمّل ما يتحمّله الرّوح فيسقط. ألا فارحموه واضربوه الضّربة القاضية، وخلّصوه من آلامه! ولكن لا! الجلّاد يهوي بالسّوط وكان عليّ أن أشاهد ذلك، وإذا بالضّحيّة المتحمّلة مائة ضعف من العذاب تركض من جديد، كلّ هذا مجرّد بداية للنهاية. أمّا النّهاية نفسها فهي أنّ الجلّادين يصلبون الأجساد المكويّة الممزقة رأسًا على عقب على جذوع الأشجار. عند ذلك تُتاح الفرصة لأيّ إيرانيّ يحبّ أن يجعل تلك الأجساد المعلّقة النّبيلة هدفًا لإظهار براعته في التّصويب على قدر ما يُحبّ ويشتهي وعلى مسافة معيّنة ليست بالقريبة جدًّا، ولقد رأيت أجسادًا مزّقتها مائة وخمسون رصاصة تقريبًا… حين قرأتُ ما كتبتُه مرّة أخرى تصوّرت أنّ الّذين يعيشون معكم في النّمسا، وطننا العزيز المحبوب، قد يُخامرهم الشّكّ في صحّة هذه الصّورة، وقد يرمونني بالتّهويل والمبالغة، ألا ليتني لم أُولد حتّى لا أرى هذه الصّورة. ولكنّني بحكم عملي كنتُ أُشاهد هذه الأهوال كثيرًا، أكثر ممّا ينبغي لسؤ الحظ. إنّني لا أغادر منزلي الآن حتّى لا أشاهد شناعات جديدة أخرى. بعد وفاتهم يتمّ تقطيع جثث البابيّين إلى نصفين وإمّا أن يُمَسْمَروا على بوّابة المدينة، أو يلقى بهم في البوادي كغذاء للكلاب وأبناء آوى. وهكذا تمتدّ العقوبة حتّى إلى أبعد من الحدود الّتي تحدّ هذا العالم القاسي، إذ إنّ المسلمين يعتقدون أنّ أولئك الّذين لا يتمّ دفنهم لن يكون لهم الحقّ في دخول الجنّة. وبما أنّ روحي كلّها تتمرّد على مثل هذا الخزي، وهذه الفظائع الّتي حدثت في الآونة الأخيرة، وفقًا لحكم الجميع، فإنّني حاليًّا، سوف لن يكون لي علاقة بمشاهد من مثل هذه الجرائم بعد الآن “.
(تمّ الإبلاغ عن هذا الوصف لاضطهادات عام 1852 في جريدة التّايمز، وأعيدت ترجمتها من قبل إدوارد براون). ويمكن الرجوع إلى تفاصيل أوفى عن هذه الحادثة والمقال في كتاب حضرة شوقي أفندي القرن البديع ص 91-92.
من بين العديد من الأشخاص المشهورين في العالم من الشّرق والغرب، الّذين قدّموا تقديرهم وإجلالهم علنًا لرسالة حضرة بهاءالله، مؤسّس الدّيانة البهائيّة، اخترت اثنين من أكثرهم تميّزًا واقتبستُ ما يلي من كلماتهما:
ليو تولستوي، أحد أبرز الفلاسفة في العالم:
“إنّ تعاليم البابيّة الّتي انبثقت عن الإسلام قد تطوّرت تدريجيًّا من خلال تعاليم حضرة بهاءالله ( مؤسّس الدّيانة البهائيّة ) وهي الآن تقدّم لنا أعلى وأنقى شكل من أشكال التّعاليم الدّينيّة”.
الملكة ماري، ملكة رومانيا: إحدى ملكات أوروبّا الشّهيرات:
في أحد الأيّام، أحضرت لي سيّدة كتابًا… رائعًا عن المحبّة والطّيبة وعن القوّة والجمال .. نظرت فيه فوجدت أنّ كلماته صادرة عن عبدالبهاء، رسول المحبّة والخير وعن والده (بهاءالله) المعلّم العظيم للتفاهم والنّوايا الحسنة العالميّة وصاحب ديانة تربط ما بين كلّ العقائد.
“كتاباتهم نداء عظيم للتوجُّه نحو السّلام، يتردّد وراء كلّ الحدود، ويسمو فوق كلّ نزاع حول الطّقوس والعقائد المتعسّفة. إنّه دين يربط كلّ العقائد…دين أساسه روح الله ويقوم على الحقيقة العظيمة الّتي لا تُقهر وهي أنّ “الله محبّة” ولا تعني شيئًا آخر…إنّه يعلّمنا بأنّ جميع الأحقاد والمكائد والظّنون والكلمات السّيّئة بل حتّى الوطنيّات العدوانيّة خارجة عن نطاق شريعة الله الواحدة الأساسيّة، وأنّ المعتقدات الخاصّة، ليست إلّا أشياء سطحيّة، على حين أنّ القلب النّابض بالمحبّة الإلهيّة لا يعرف له جنسًا ولا قبيلًا”.
” لا يمكن لأيّ إنسان أن يفشل في التّحسّن بفضل هذا الكتاب.
إن استرعى انتباهكم اسم حضرة بهاءالله أو اسم حضرة عبدالبهاء في يوم من الأيّام فلا تبعدوا آثارهما عنكم، بل فتّشوا عن كتبهما ودعوا كلماتهما ودروسهما المجيدة الحاملة للسلام الخالقة للمحبّة تهوي في سويداء قلوبكم كما هوت إلى أعماق قلبي…فتّشوا عنها وكونوا أسعد حالًا”.
فيما يلي خمسة أدعية تتعلّق بأربعة من أهم جوانب الحياة البشريّة: الله، نحن، الأطفال والموت. لقد وضعتها في الجزء الأخير من هذا الكتاب – رغم أنّها يجب أن تدرج في بدايته – لأنّ الكثير من النّاس يتحفّظون على الدّعاء هذه الأيّام. لو قمتَ بتصفّح الصّفحات الأولى من هذا الكتاب ورأيتَ هذه الأدعية، فربّما قلتَ، “آه، هذا هو نفس الشّيء القديم مرّة أخرى، ظننت أنّ كتاب “وصفة للحياة” سيحتوي على شيء جديد …” لكنت أغلقتَ الكتاب بهدوء وتركته. ولكن خطر لي، عندما قمت بمراجعة هذا الكتاب في عام 1977، أنّ النّاس الّذين قد يقرأونه حتّى النّهاية ربّما يودّون قراءة هذه الأدعية كنماذج من الأفكار المجيدة في نثر أدبيّ جميل، أو كغذاء للروح – من يعلم كيف سيبدو لك ذلك؟ يمكن أن يعني شيئًا ما مختلفًا لكلّ شخص، فيفعل شيئًا مختلفًا، ويكون لكلّ شخص الحرّيّة في جعله شيئًا خاصًّا به.
أوّل هذه الأدعية يحدّد بعبارات مهيبة وشبه علميّة وحدانيّة الله، الجوهر اللامتناهي، خالق كلّ شيء. الثّاني والثّالث هما طلب للهداية والمساعدة يوجهه كائن ضعيف ومحدود إلى مصدر قوّة لا حصر ولا حدّ لها. أمّا الرّابع فهو دعاء للطفل لما فيه خيره وسعادته.
الخامس هو صلاة من أجل الموتى، ومن المسلّم به أن تكون للوهلة الأولى صلاة غريبة وتُتلى بطريقة غريبة. لقد أدرجتها هنا بسبب تجربة مررتُ بها في حياتي الخاصّة، فلربّما يحتاجها شخص آخر ويجدها حبلًا قويًّا للتشبث به في دوّامة الحزن والصّدمة الّتي غالبًا ما تصاحب الموت. لقد أحببت والدتي وكنّا متّحدتين في القلب بأعظم ما يمكن لشخصين أن يتّحدا على الإطلاق. توفّيت إثر نوبة قلبيّة في أمريكا الجنوبيّة، وعندما وصلتني الأخبار وكنت على الجانب الآخر من العالم، قمت بتلاوة هذه الصّلاة للمرّة الأولى في حياتي. كنت وحدي في وجه معاناة البُعد والحزن المفاجئ. إنّ تكرار الأذكار البسيطة في نهاية هذه الصّلاة، تسع عشرة مرّة لكلّ ذكر منها، هو الّذي له ذلك التّأثير القويّ على الرّوح المضطربة. بالنّسبة لي، وبينما تابعت تكرار الأذكار، شعرت وكأنّ ماء باردًا انهمر على قلبي المحترق. أحسستُ بالرّاحة وأنّ القوّة قد عادت لتسري في أوصالي. كانت تلك واحدة من أعمق تجارب حياتي. ربّما يكون الحال كذلك، في وقت من الأوقات، لشخص يقرأ هذا الكتاب. ولهذا تمّ إدراج هذه الصّلاة هنا. إنّ مجرّد قراءتها ستكون تجربة فلسفيّة، أمّا أن يقرأها شخص في أعماق معاناته فتلك نعمة شافية.
دعاء شاهد على وحدانيّة الله وقدرته
“شَهِدَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ بِوَحْدانِيَّةِ نَفْسِهِ وَلِذاتِهِ بِفَرْدانِيَّةِ ذاتِهِ وَنَطَقَ بِلِسانِهِ فِي عَرْشِ بَقائِهِ وَعُلُوِّ كِبْرِيائِهِ بِأَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُو، لَمْ يَزَلْ كانَ مُوَحِّدَ ذاتِهِ بِذاتِهِ وَواصِفَ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ وَمُنْعِتَ كيْنُونَتِهِ بِكيْنُونَتِهِ وَإِنَّهُ هُو الْمُقْتَدِرُ الْعَزِيزُ الجَميلُ، وَهُو القاهِرُ فَوقَ عِبادِهِ وَالقائِمُ عَلَى خَلْقِهِ وَبِيَدِهِ الأَمْرُ وَالحَقُّ يُحْيِي بِآياتِهِ وَيُمِيْتُ بِقَهْرِهِ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَإِنَّهُ كانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا، وَإِنَّهُ لَهُوَ الْقاهِرُ الغالِبُ الَّذِيْ فِي قَبْضَتِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَفِي يَمِيْنِهِ جَبَرُوتُ الأَمْرِ وَإِنَّهُ كانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا، لَهُ النَّصْرُ وَالاِنْتِصارُ وَلَهُ القُوَّةُ وَالاقْتِدارُ وَلَهُ العِزَّةُ وَالاجْتِبارُ وَإِنَّهُ هُو العَزِيزُ المُقْتَدِرُ المُخْتارُ.”[1]
دعاءان لطلب التّأييد والعون
“مِنْ أَنْهارِ كافُورِ صَمَدِيَّتِكَ فَأَشْرِبْنِيْ يا إِلهِيْ، وَمِنْ أَثْمارِ شَجَرَةِ كَيْنُونَتِكَ فَأَطْعِمْنِيْ يا رَجائي، وَمِنْ زُلالِ عُيُونِ مَحَبَّتِكَ فَاسْقِنِي يا بَهآئِي، وَفِي ظِلِّ عُطُوفَةِ أَزَلِيَّتِكَ فَأَسْكِنِّيْ يا سَنائِي، وَفِي رِياضِ القُرْبِ بَيْنَ يَدَيْكَ سَيِّرْنِي يا مَحْبُوبِي، وَعَنْ يَمِينِ عَرْشِ رَحْمَتِكَ فَأَجْلِسْنِي يا مَقْصُودِيْ، وَمِنْ أَرْياحِ طِيْبِ بَهْجَتِكَ فَأَرْسِلْنِيْ يا مَطْلُوبِي، وَفِي عُلُوِّ جَنَّةِ هُوِيَّتِكَ فَأَدْخِلْنِيْ يا مَعْبُودِيْ، وَمِنْ نَغَماتِ وَرْقآءِ الأَحَدِيَّةِ فَأَسمِعْنِيْ يا مَشْهُودِيْ، وَبِرُوحِ القُوَّةِ وَالقُدْرَةِ فَأَحْيِنِي يا رازِقي، وَعَلَى رُوحِ مَحَبَّتِكَ فَاسْتَقِمْنِيْ يا ناصِرِيْ، وَعَلَى سَبِيْلِ مَرْضاتِكَ ثَبِّتْنِيْ يا خَالِقِي، وَفِي رِضْوانِ الخُلُودِ عِنْدَ طَلْعَتِكَ فَأَخْلِدْنِيْ يا راحِمِيْ، وَعَلَى كُرْسِيِّ عِزِّكَ مَكِّنِّيْ يا صاحِبِيْ، وَإِلى سَمآءِ عِنايَتِكَ عَرِّجْنِيْ يا باعِثي وَإِلى شَمْسِ هِدايَتِكَ فَاهْدِنِيْ يا جاذِبِيْ، وَعِنْدَ ظُهُوراتِ غَيْبِ أَحَدِيَّتِكَ فَأَحْضِرْنِيْ يا مَبْدَئِيْ وَمُنايَ، وَإِلى صِرْفِ كافُورِ الجَمالِ فِي مَنْ تُظْهِرَنَّهُ فَأَرْجِعْنِيْ يا إِلهِيْ، لأنَّكَ أَنْتَ المُقْتَدِرُ عَلَى ما تَشآءُ وَإِنَّكَ أَنْتَ المُتَعالِ العَزِيزُ الرَّفِيعُ.”[2]
“قَلْبًا طاهِرًا فَاخْلُقْ فِيَّ يا إِلهِيْ، سِرًّا ساكنًا جَدِّدْ فِيَّ يا مُنائِي، وَبِرُوحِ القُوَّةِ ثَبِّتْنِيْ عَلَى أَمْرِكَ يا مَحْبُوبِي، وَبِنُورِ العَظَمَةِ فَأَشْهِدْنِيْ عَلَى صِراطِكَ يا رَجائِي، وَبِسُلْطَانِ الرِّفْعَةِ إِلى سَمآءِ قُدْسِكَ عَرِّجْنِيْ يا أَوَّلِي، وَبِأَرْياحِ الصَّمَدِيَّةِ فَأَبْهِجْنِي يا آخِرِي، وَبِنَغَماتِ الأَزَلِيَّةِ فَاسْتَرِحْنِي يا مُؤْنِسِي، وَبِغَنآءِ طَلْعَتِكَ القَدِيمَةِ نَجِّنِي عَنْ دُونِكَ يا سَيِّدِيْ، وَبِظُهُورِ كيْنُونَتِكَ الدَّائِمَةِ بَشِّرْنِيْ يا ظاهِرُ فَوقَ ظاهِرِيْ وَالباطِنُ دُونَ باطِنِيْ.”[3]
دعاء للطفل
“.. وَيا إِلهِي إِنِّي حَبَّةٌ قَدْ زَرَعْتَهَا فِي أَرْضِ حُبِّكَ وَأَنْبَتْتَها بِيَدِ إِحْسَانِكَ، إِذًا تَطْلُبُ بِكيْنُونَتِهَا مَاءَ رَحْمَتِكَ وَكَوْثَرَ فَضْلِكَ، فَأَنْزِلْ عَلَيْهَا مِنْ سَمَاءِ عنَايَتِكَ ما يُرَبِّيهَا فِي ظِلِّكَ وَجِوارِكَ، وَإِنَّكَ أَنْتَ ساقِي قُلُوبِ العارِفِينَ مَاءَ الكَوْثَرِ وَالتَّسْنِيمِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.”[4]
صلاة الميّت
“يا إِلهِي هَذا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ الَّذِيْ آمَنَ بِكَ وَبِآياتِكَ وَتَوَجَّهَ إِلَيْكَ مُنْقَطِعًا عَنْ سِواكَ إِنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أَسْئَلُكَ يا غَفَّارَ الذُّنُوبِ وَسَتَّارَ العُيُوبِ بِأَنْ تَعْمَلَ بِهِ ما يَنْبَغِيْ لِسَمآءِ جُودِكَ وَبَحْرِ إِفْضالِكَ وَتُدخِلَهُ فِي جِوارِ رَحْمَتِكَ الكُبْرى الَّتِيْ سَبَقَتِ الأَرْضَ وَالسَّمآءَ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ الغَفُورُ الْكَرِيمُ.”
ثُمَّ يَشْرَعُ فِي التَّكْبِيْراتِ ستَّ مَرَّاتٍ اللَّهُ أَبْهی.
بعد كلّ تكبيرة يتلو أحد الأذكار التّالية تسع عشرة مرّة:
إِنَّا كُلٌّ لِلَّهِ عابِدُونَ
إِنَّا كُلٌّ لِلَّهِ ساجِدُونَ
إِنَّا كُلٌّ لِلَّهِ قانِتُونَ
إِنَّا كُلٌّ لِلَّهِ ذاكرُونَ
إِنَّا كُلٌّ لِلَّهِ شاكرُونَ
إِنَّا كُلٌّ لِلَّهِ صابِرُونَ
وفِي النِّساءِ يَقُولُ: هذِهِ أَمَتُكَ وَابْنَةُ أَمَتِكَ .. إِلى آخِرِه.[5]
[1] مناجاة – مجموعة أذكار وأدعية من آثار حضرة بهاء الله – رقم 57 – صفحة 64
[2] مناجاة – مجموعة أذكار وأدعية من آثار حضرة بهاء الله – رقم 165 – صفحة 173
[3] مناجاة – مجموعة أذكار وأدعية من آثار حضرة بهاء الله – رقم 155 – صفحة 166
[4] مناجاة – مجموعة أذكار وأدعية من آثار حضرة بهاء الله – رقم 106 – صفحة 121
[5] مناجاة – مجموعة أذكار وأدعية من آثار حضرة بهاء الله – رقم 167 – صفحة 174