قبسات من حياة حضرة عبد البهاء
قبسات من حياة حضرة عبد البهاء

قبسات من حياة حضرة عبد البهاء

مقدمة

أطفالنا وشبابنا هم ذُخرنا، نريدهم أن يتربّوا ويترعرعوا روحانيين أقوياء وسعداء. فمنهم سيكون الإداريّ والمبلِّغ والعالِم والمسؤول. من المهم أن يبدأ الواحد منهم حياته في رضوان التعاليم الروحانية والأخلاقية لحضرة بهاء الله ونفحات سيرة حياة حضرة عبد البهاء وحياة الأبطال وخدّام الأمر المبارك المخلصين التي يتناغم فيها سموّ الأقوال والأفعال، حتى تُشرق في فِطرتهم الخيّرة فضيلة محبة الله ومحبة الناس من كل الأجناس، ثم الغيرة والشهامة وغيرها من الفضائل الإلهية.

أضع في متناول الجميع مجموعة مختارة من القصص عن مآثر حضرة عبد البهاء التي تمنحنا لُمَحاً مختلفة الجوانب عن شخصية حضرته وأعماله حتى نستلهم منها كباراً وصغاراً أسلوباً لحياتنا اليومية يقرّبنا من سموّ ما نصبو إليه، ويَهَب حياتنا قيمة، ويُنير لشبابنا وأطفالنا وللجميع دربهم في رحلة حياتهم الطويلة، ويغرس فيهم الفضائل الإنسانية بأجلى صورها، ويطوّر لديهم وعند أقرانهم تلك المواهب الإلهية المكنونة بأفضل معانيها.

آمل من الوالديْن ومعلِّمي الأطفال أن تلقَى هذه الدرر الثمينة اهتمامهم في التشجيع على قراءتها -ويُفضَّل يومياً– حتى تترسّخ في أذهانهم أبعادها ومراميها لما فيها من دروس وحِكَم وعِبَر تستحق التأمّل والتفكّر، ثم نضع في مخيلتنا ومخيّلتهم ما يجب تقديمه من خدمات تتطلب إبداء المشاعر الفورية حتى نُقرن المعرفة والقول بالعمل. من المهم جداً أن ننمّي لدى أطفالنا وشبابنا الشعور بأحاسيس الآخرين، وهي القاعدة الذهبية التي توفّر للإنسان الشعور بالأمان، ذلك بأن عليهم أن يقدّموا ما يأملون أن يُقَدِّمه لهم غيرهم وقت الحاجة، وهذا ما سيمدّهم بالمتعة والسعادة.

رأيت طفلاً يستأذن والدته في الخروج لمساعدة رجل عجوز يحمل مشترياته الثقيلة ويسير نحو بيته، ابتسَمَتِ الأمُّ ملءَ قلبها فرحاً، أسرع الطفل مسروراً، وكان له ما أراد من الخدمة متعةً وبهجةً، وللعائلة ثمار ما غرست سعادةً وهناءً. لقد أتى ذلك بالتعلّم والمثابرة والقدوة والممارسة. 

في كل قصة درْس لا بل دروس، وفي كل كلمة وحركة مغزى ومعنى جدير بأن نفهمه وندرك أبعاده حتى تتفاعل بداخلنا تلك المشاعر الإنسانية التي ستتحوّل تلقائياً إلى عمل فوري يمدّنا بالسعادة الحقيقية لتستمر عجلة الخدمة في الدوران دون توقف حتى نرى أنفسنا على درب التطور الروحاني المنشود.

جميل بنا بعد قراءة القصة أن نطرح الأسئلة التالية:

لماذا قام حضرة عبد البهاء بهذا العمل؟

ما الفضائل التي تعلمناها منها؟

لو كان حضرة عبد البهاء موجوداً معنا، ماذا كان سيفعل لو علم بحاجة: جيراننا، أصدقائنا، وغيرهم من الفقراء والعُجّز المحتاجين؟

 

كانت مناشدته لنا دائماً:

اتبعوا خطواتي…

كونوا مثلي…

مقتطفات وتعليق

كثيرة هي الأشياء التي نرغب في فعلها فنراها بالعين، أما الصواب منها فلا نراه إلا بالقلب. ولذلك دعانا حضرة بهاء الله بقوله الأحلى:

 

يا ابن الروح،

“في أول القول املك قلباً جيداً حسناً منيراً لتملك ملكاً دائماً باقياً أزلاً قديماً.”(1)

 

يا ابن الوجود،

“فؤادك منزلي قدّسه لنزولي، وروحك منظري طهّرها لظهوري.”(2)

 

وأوصانا أن نبتهل إليه قائلين:

“قلباً طاهراً فاخلق فيّ يا إلهي…”(3)

فبطهارة القلب يكون حبّنا لله منقطعين تماماً عما سواه ويكون حبنا للناس خالصاً لوجه الله. 

فكيف ننظّف هذا القلب يومياً ونحرص على نقائه؟!

هذا ما يجب أن نفكّر فيه بكل اهتمام.

خُلق الإنسان ليعكس نور الله ويضئ العالم بأقواله وأفعاله وحياته.

فإذا ما توجّهنا إلى الله حقاً سنجد نوره في كل مكان.

(حضرة عبد البهاء مترجماً)

 

وامتحان المؤمن يكمن في معاشرته الناس من كل الأجناس

“عاشروا مع الأديان كلها بالرَّوْحِ والرَّيْحان”

(حضرة بهاء الله)

 

ففي المعاشرة ممارسة لجميع الفضائل وصقل لها وهذا من فضل الله علينا.

1. "الكلمات المكنونة" العربية، ص 4، (طبعة حزيران 1995م).
2. "الكلمات المكنونة" العربية، ص 27، (طبعة حزيران 1995م).
3. "أدعية حضرت محبوب"، ص 57.

هو الله

إلهِي إلهِي هَؤُلاءِ الأَطْفَالُ فُرُوعُ شَجَرَةِ الحَيَاةِ وطُيُورُ حَدِيقَةِ النَّجَاةِ، لآلِئُ صَدَفِ بَحْرِ رَحْمَتِكَ وَأَوْرَادُ رَوْضَةِ هِدَايَتِكَ. رَبَّنَا إِنَّا نُسَبُِّّح بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لكَ ونَتَضَرَّعُ إِلَى مَلَكُوتِ رَحْمَانِيَّتِكَ أنْ تَجْعَلَنَا سُرُجَ الُهُدَى وَنُجُومَ أفُقِ العِزَّةِ الأَبَدِيَّةِ بَيْنَ الوَرَى وعَلِّمْنَا مِنْ لَدُنْكَ عِلْماً يَا بَهَاءَ الأَبْهَى.  ع ع

 

يجب النَّظرُ إلى عاقِبةِ كلِّ أمرٍ من بدايته، وأن ينْكَبَّ الأطفالُ على علومٍ وفنونٍ تؤدّي إلى منفعة الإنسان ورُقِيِّه وإعْلاء مَقامِهِ…(4)

4. "لوح مقصود" في "مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله"، ص 149، (طبعة آذار 1980).

مقام حضرة عبد البهاء

مربوع القامة أبيض الشعر واللحية وكثيفها، في عينيه زرقة السماء واتساعها، وفي مشيته تحرّك الجبال ورسوّها، وفي حركاته صورة العظمة وجلالها. كل هذا لا تلحظه أول ما تتكحل عيناك برؤية حضرة عبد البهاء فحسب، بل يسبقه ذلك الفيض الدافق من المحبة والعطف والحنان والرأفة والمودّة بروح جاذبة محيية.

نعم، إنه سرّ الله. وهو لقب أسبغه عليه حضرة بهاء الله، ويشير – كما وضّحه حضرة شوقي أفندي- إلى كيفية اختلاط الخصائص المتباينة وانسجامها انسجاماً كاملاً في شخص حضرة عبد البهاء، وهي خصائص الطبيعة الإنسانية والمعرفة الإلهية الغيبية. عيّنه حضرة بهاء الله في وصيته المباركة مركز عهده وميثاقه ومبيّن آيات الله من بعده وأكّد على أنه:

مَن توجّه إليه فقد توجّه إلى الله فمن أعرض عنه فقد أعرض عن جمالي وكفر ببرهاني وكان من المسرفين.(5)

وكان هذا التعيين تعييناً إلهي المصدر:

… أنت تعلم يا إلهي إني ما أريده إلا بما أردته، وما اخترته إلا بما اصطفيته، فانصره بجنود أرضك وسمائك، وانصرْ يا إلهي مَن نَصَرَه واختَرْ مَن اختاره وأيِّدْ مَن أقبل إليه…(6)

بهذا التعيين يكون حضرة بهاء الله قد حفظ دين الله من عَبَثِ العابثين وحمى أتباعه من الفُرقة والتشيّع، وأرسى قواعد وحدة العالم الإنساني، وأبقى نور الله مشرقاً لا يغيب. وعليه: 

 فهنيئاً لمن استظلّ في ظلّه وكان من الراقدين…

إنه لوديعة الله بينكم وأمانته فيكم وظهوره عليكم وطلوعه بين عباده لمقرّبين…

إن الذين هم مَنَعوا أنفسهم عن ظل الغصن أولئك تاهوا في العراء وأحرقتهم حرارة الهوى وكانوا من الهالكين…(7)

وغنيٌّ عن القول عما ينتظر البشرية من مِحَنٍ وآلام عندما ارتفع صوت حضرة بهاء الله منذراً بقوله:

يا أهل العالم، اعلموا أن مصيبة خفية تتبعكم وقصاصاً شديداً ينتظركم. لا تظنوا أن ما ارتكبتموه غاب عن عيني.(8)

يا قوم، إن لكم ميعاد يوم إن لم ترجعوا إلى الله تحلّ بكم النقمة ويأخذكم العذاب من كل الجهات إن عذاب ربكم لشديد.(9)

اسمعوا قولي وارجعوا إلى الله وتوبوا إليه لعل بفضله يرحمكم ويغسل خطاياكم ويغفر لكم…(10)

فالملجأ الوحيد لأهل البهاء هو الميثاق طاعة وانقياداً ومركزه تمثُّلاً واقتداءً، ذلك لأنه:

إنا جعلناك حرزاً للعالمين وحفظاً لمن في السموات والأرضين وحصناً لمن آمن بالله الفرد الخبير. تقرّبوا إليه وذوقوا منه أثمار الحكمة والعلم من لدُن عزيز عليم ومن لم يذُقْ منه يكُنْ محروماً عن نعمة الله ولو يُرزق بكل ما على الأرض…(11)

ويدعو حضرة بهاء الله بحق حضرة عبد البهاء قائلاً:

… ونسأله بأن يسقي بك الأرض وما عليها لتنبت منها كلأ الحكمة والبيان وسنبلات العلم والعرفان. إنه وليُّ مَن والاه ومعين مَن ناجاه لا إله إلا هو العزيز الحميد.(12)

ومع ذلك، فإن مقام حضرة عبد البهاء، كما وضّحه حضرة شوقي أفندي، يختلف اختلافاً جوهرياً عن المقام الذي يتبوّأه صاحب الظهور البهائي والمبشّر به، ولم يكن مجرّد شخص أُلقيت على عاتقه مسؤولية تنفيذ سلطات مُنِحَتْ له. إنه يدور في مَدارٍ خاص ينفرد به وحده، وهذا شأنٌ لا مثيل له في التاريخ الروحي للبشرية. فحضرة عبدالبهاء هو مركز العهد والميثاق ومحوره، ذلك الميثاق المحيط بكل شيء وأسمى ما صاغته يد حضرة بهاء الله، وهو المرآة الصافية لنوره، والمَثَل الأعلى لتعاليمه، ومبيّن كلمته المعصوم، والجامع لكل الكمالات الإنسانية المتمثلة فيه كل الفضائل البهائية، والغصن الأعظم المنشعب من الأصل القديم، وغصن الأمر الذي استحكمه الله في أرض المشيئة، والذي طاف حوله الأسماء، مصدر وحدة العالم الإنساني وراية الصلح الأعظم، والقمر الذي يدور في الفَلَكِ الرئيسي لهذا الدور الأقدس.

… طوبى لقلمكم ومدادكم ولورق فاز بذكركم. نسأل الله أن يُدْخِل بكم عباده في لُجّة بحر أحديته، ويسقيهم بذكرك كوثر الحيوان، وببيانك رحيق العرفان، ويمدّك بجنود العلم والحكمة بحيث يفتح بك مدائن الآفاق والقلوب. لا إله إلا هو العزيز المحبوب. يا بصري عليك بهائي وبحر عنايتي وشمس فضلي وسماء رحمتي، نسأل الله أن ينوّر العالم بعلمك وحكمتك ويقدّر لك ما يفرح به قلبك ويقرّ عينك إنه على كل شيء قدير. والبهاء والرحمة والثناء عليكم وعلى من يطوف حولكم.(13)

دخل حضرة عبد البهاء السجن طفلاً وخرج منه شيخاً. لم يذهب إلى المدرسة إلا قليلاً، ولم يتتلمذْ على يد معلّم، ولم يختلط بأهل الغرب حتى يعرف عاداتهم وتقاليدهم وأسلوب تفكيرهم، ومع هذا فقد سافر إلى عواصم في أوروبا وأمريكا، وزار مدناً كبيرة وتكلم بين أتباع الديانات والمذاهب والطوائف المختلفة، واستمع إليه الآلاف من العظماء والمفكّرين والفلاسفة والعلماء ورجال الدين والسياسة والصحافة والاقتصاد. تكلم في مسائل دينية وفلسفية وعلمية أذهلت أصحاب العقول، كما شرح الحقائق المميزة للدين البهائي وبيّن أن الحقائق الدينية إنما هي نسبية وليست مطلقة وتأتي حسب استعداد البشر وقابلياتهم. 

قام بأسفاره بكل حيوية ونشاط بالرغم من كبر سنّه وفاءً للواجب الذي فرضه على نفسه أن يكون خادماً لله وللجنس البشري. لم ينشد الراحة يوماً، ولم يكترثْ بهجمات أقطاب الأديان المتعصبين، فتكلم عن أحقيّة عيسى عليه السلام أمام اليهود، وأحقية محمد صلى الله عليه وسلم أمام المسيحيين، وأحقية رسل الله أمام الطبيعيين وعن لزوم الدين وضرورته لنظم العالم وتنظيم شؤونه.

قد يكون هناك الكثير من القصص عن حياة حضرة عبد البهاء لم تُنشر بعد، وبقيت على شكل مذكرات لدى أحفاد من عاصروا حضرته وكتبوا عنه، أو أنها لا تزال في ذاكرتهم يتناقلها أجيالهم شفاهة. إنها أمانة في عنق كل من يختزنها أن يضعها في سطور بكل أمانة ليفيد منها أصحاب العقول والقلوب.

 

5. "سورة الغصن"، العهد الأوفى، ص 11، (الطبعة 1980).
6. العهد الأوفى، ص 14، (الطبعة 1980).
7. "سورة الغصن" في كتاب "الأيام التسعة" (الفارسي)، ص 362، 363.
8. "الكشف عن المدنية الإلهية"، ص 65.
9. "الكشف عن المدنية الإلهية"، ص 65.
10. "الكشف عن المدنية الإلهية"، ص 29.
11. "سورة الغصن".
12. "العهد الأوفى"، ص 13، (الطبعة 1980).
13. "العهد الأوفى"، ص 15، (الطبعة 1980).

1 ميلاد مبارك

كان يوماً مشمساً دافئاً في شهر أيار والحديقة تعجّ بالورود والزهور، والنسيم العليل يداعبها بلطف فينقل أريجها الفوّاح إلى كل مكان، والعصافير تغرّد فرحة مَزْهُوّة على أغصان أشجارها الباسقة، والطيور تهبط على أطراف بركة جميلة لتروي عطشها بمائها الصافي بكل اطمئنان. إنه جو الأمان والسلام الذي يتمتع به كل زائر لذلك المنزل.
في ركن من أركان هذه الحديقة بيت كبير وبداخله زائرون يجلسون على الكراسي المريحة وهم يتناولون شراب الليمون وقطعة من الحلوى، وفي المطبخ يقوم الخدم والطباخون بإعداد الطعام الشهيّ. في هذا المنزل اعتاد الزائرون أن يلقَوْا من أهله كل ترحيب دائماً.
اقترب النهار من نهايته، وأخذت العصافير تعود إلى أعشاشها، وانتهى أهل البيت من أعمالهم اليومية ثم جلسوا وقرأوا المناجاة شكراً لله على نعمائه بأن كل شيء سار على ما يرام… ولكن…
في منتصف الليل حدث ما كان شيئاً مميّزاً، وكان أفضل خبر سارّ يتلقونه. لقد وُلد صبي في ذلك البيت السعيد وأنار البيت بقدومه. أمه نواب (آسية خانم) ووالده حضرة بهاء الله، ففرحة الجميع غامرة، والطفل سليم وبصحة جيدة. أعطوه اسم جدّه عباس ولكن حضرة بهاء الله أعطاه فيما بعد لقباً جديداً خاصاً به، ولم يعطه لأحد سواه فلقّبه بـ ِ”المولى”، وقد عرفه الأحباء وغيرهم في العالم باسم عبد البهاء وبلقب “المولى”.
كانت ليلة ميلاده مباركة أيضاً لأن حضرة الباب أعلن دعوته للملا حسين البشروئي في تلك الليلة أي في الثاني والعشرين من شهر أيار عام 1844م. كبر الطفل وترعرع في حضن والديه في جو من الحب والرعاية الفائقين، وبذلك نشأت بين المولى وحضرة بهاء الله علاقة خفية أسمى بكثير من علاقة الأب بابنه.

2 أيام الضيق

شبّ الطفل عباس (عبد البهاء) وترعرع في منزل والده السعيد تدفّئه والدته بعطفها وحنانها ويرعاه والده بتوجيهاته ونصائحه. وعندما بلغ السادسة من عمره ذهب إلى المدرسة، فكان أحد الخدم يأخذه من البيت ويعيده إليه بعد انتهاء الدراسة يومياً. عرفه الناس والأطفال من حوله على أنه “بابيّ”، وكان الذين يؤمنون برسالة حضرة الباب يسمونهم “بابيون”، ولأن والده (حضرة بهاء الله) يُعتبر من البابيين البارزين فقد وضعوه في سجن “سياه چال” بتهمة كاذبة. فبقيت الوالدة (آسية خانم) مع ابنها الطفل عباس وابنتها الأصغر بهية وأخيهما الأصغر مهدي في بيتها الصغير خائفة مرعوبة على مصير زوجها في السجن وعلى أطفالها. كان الناس يحبونهم جداً ويريدون أن يساعدوهم إلا أنهم خافوا من اتهامهم بأنهم بابيون أيضاً. لم يكن لدى الوالدة ما تأكله وتطعم به أطفالها، ولذلك أرسلت عباس يوماً إلى عمته لتقرضها بعض المال حتى تشتري به ما يسدّ جوعهم.
مرّت الساعات ولم يرجع الطفل. نامت أخته جائعة وبدأت الأم تقلق على مصير طفلها، ذلك لأن الغوغائيين في الخارج بدأوا يقبضون على كل بابي، وكانوا يعدمونه أو يضعونه في السجن.
وصل الطفل الصغير إلى بيت عمّته يطلب نقوداً، فأعطته بعض المال في عُقْدة من القماش ووضعت العقدة بيده وأوصته أن يعود مسرعاً إلى البيت. في الطريق شاهده بعض الصبية فتَبِعوه وأخذوا يصيحون: ‘بابي! بابي!‘ ثم لحقوا به. أخذ يسير بخطىً أسرع ثم بدأ يركض إلى أن دخل طريقاً ضيقاً مظلماً وموحلاً قذراً. اقترب الأطفال أكثر وأكثر وكادوا يمسكون به، فهرب ثانية ودخل ممراً ضيقاً أدّى به إلى منزل اختبأ فيه إلى أن حلّ الظلام. وقف الأطفال مكانهم دون حراك وشعروا بالخوف من الاقتراب أكثر في العتمة. استراح الطفل قليلاً ثم خرج مسرعاً، إلا أن الصبية رأوه ولحقوا به ثانية وجعلوا يرمونه بالحجارة إلى أن وصل بيته منهك القوى وهو يتنفّس بصعوبة. لم يستطع الكلام بل رفع يده وناول أمه عقدة القماش وارتمى على الأرض وغطّ في نوم عميق.

3 الطفل الشجاع

لم يرضَ الطفل عبد البهاء على نفسه أن يهرب دائماً أمام الصبية الذين يحاولون أن يعتدوا عليه ويركضوا خلفه. ففي أحد الأيام، وبينما كان يسير في الشارع في طريقه إلى بيته عائداً من السوق، التفتَ حوله ووجد مجموعة من الأولاد يركضون متّجهين نحوه، ثم أخذوا يرمونه بالحجارة ويصرخون كعادتهم “بابي! بابي!”
مع أن المولى كان طفلاً صغيراً إلا أنه كان جريئاً، فقد تركهم يقتربون منه ثم وقف فجأة واستدار نحوهم. رآه الصبية ووقفوا مندهشين. نظر إليهم بكل جرأة ثم ركض نحوهم، فما كان منهم إلا أن فرّوا هاربين، وبعد ذلك لم يجرؤ أحد أن يناديه “بابي” أو يرميه بالحجارة.

4 الوليمة

كان لحضرة بهاء الله قطيع من الغنم. تعتني به مجموعة من الرعاة. اعتاد الرعاة أن يسوقوا الغنم إلى السهول والوديان وسفوح الجبال الخضراء لتأكل العشب، وهناك كان يتجمع رعاة آخرون مع أغنامهم وأبقارهم فيجلسون ويتقاسمون طعامهم معاً أثناء النهار ويضحكون ويمرحون.
اعتاد الرعاة أن ينظِّموا احتفالاً كبيراً في كل سنة، وفيه يشوُون اللحم ويطبخون ويأكلون ويرقصون. في إحدى السنين أراد حضرة عبد البهاء، وهو طفل في السابعة من عمره، أن يشاهد الرعاة وهم يحتفلون بأيام الربيع، فأخذه خادم العائلة المخلص “رحيم” إلى مكان الإحتفال، وهو المكلّف أيضاً بالإشراف على الرعاة. فمَشَيَا عبر الأراضي الجميلة المليئة بالأشجار والزهور، ثم صعدا إلى أن وصلا إلى رأس الجبل. وقف حضرته مندهشاً عندما شاهد أمامه منظراً جميلاً؛ أرضاً واسعة خضراء وألوف الأغنام والأبقار والماعز ترعى العشب، وعدّة مواقد من الحطب هنا وهناك تشتعل فيها النار وتفوح منها رائحة الطعام وشواء اللحم. رأى كثيراً من الأطفال يقفزون ويلعبون معاً، والرعاة يلبسون الثياب المزركشة. فرح حضرته كثيراً وأسرع ليشارك الرعاة احتفالهم. كانوا يُغنّون ويرقصون حول مواقد النار إلى أن انتهوا من طهي الطعام، ثم جلسوا على الأرض ليأكلوا، فتقدّم حضرته وشاركهم في كل شيء مما جعله في غاية الفرح والسرور.
والآن، حان وقت الرجوع. اقترب منه رعاة أغنام والده وتجمّعوا حوله لوداعه. وقف حضرة عبد البهاء ينظر إليهم وينظرون إليه، فاقترب منه رحيم وقال له: إنهم يتوقّعون منك هدية لأن والدك حضرة بهاء الله اعتاد أن يمنحهم هدية في كل مرة يزورهم. تحيّر حضرته، ماذا سيفعل؟ هو لم يكن يعلم بذلك، ولم يكن معه شيء يقدمه. فكّر قليلاً وقال: سأعطي كل واحد منكم بعضاً من هذه الأغنام. قفز الرعاة فرحاً بما سمعوه، ولما علم حضرة بهاء الله بما حدث سُرَّ أيضاً وضحك وتفضل قائلاً: “يجب أن نعيّن شخصاً يحمي المولى(14) من نفسه، ربما يتبرع بنفسه للآخرين في يوم من الأيام.”

14. لقب منحه حضرة بهاء الله لحضرة عبد البهاء منذ طفولته.

5 زيارة السجن

خيّم السكون على شوارع الحي في طهران إلاّ من وقْعِ أقدام بعض المارّة يسيرون مسرعين بمنتهى الحذر خائفين مرعوبين. فالأمن أصبح مفقوداً في الشوارع بعد حادثة محاولة اغتيال شاه إيران من قِبل شاب بابي متهوّر رأى أن ينتقم لإعدام سيده حضرة الباب من فرط محبّته له. كان رجال الأمن وغيرهم من الغوغائيين يعتقلون أي بابيّ فيقتلوه أو يسجنوه.
في الشارع يسير رجل يمسك بيد طفل يبلغ من العمر سبع سنوات، يسيران بسرعة ولا يلتفتان يميناً أو يساراً، ولا يريدان أن يُلفتا الأنظار إليهما. الطفل هو حضرة عبد البهاء والرجل هو الخادم المخلص في البيت المبارك في طهران واسمه “اسفنديار”.
كانت الحكومة الإيرانية قد اتهمت حضرة بهاء الله بأنه المسؤول عن حادثة محاولة اغتيال الشاه، فأخذوه ووضعوه في سجن مظلم تحت الأرض مع بعض الأحباء يدعى سجن “سياه چال” ومعناه الحفرة السوداء. قيّدوهم جميعاً بالسلاسل الثقيلة ووضعوها حول أعناقهم أيضاً وأوثقوا أقدام حضرته بكرة حديدية كبيرة. أما في الخارج فقد هجم اللصوص على بيته المبارك ونهبوا كل ما فيه. منذ ذلك الوقت لم يترك اسفنديار العائلة المباركة وبقي معها ليخدمها ويدفع الدَّيْن المستحق عليها لأصحاب الدكاكين المجاورة. كان الوضع خطيراً للغاية على حياة كل بابيّ، وكانت آسية خانم -والدة حضرة عبد البهاء-تنصح اسفنديار دائماً أن يكون حَذِراً حتى لا يأخذوه ويقتلوه، ومن الأفضل له أن يذهب ويختبئ ريثما تهدأ الأمور، إلا أنه كان يرفض ويصرّ على البقاء مع العائلة المباركة حتى يحميها.
مرّت أيامٌ اشتاق فيها الطفل عبد البهاء إلى والده كثيراً وأراد أن يراه في السجن، فرجا والدته أن تسمح له بالذهاب مع اسفنديار، وبعد إلحاح وافقت.
أمسك اسفنديار بيد الطفل كما قلنا وسارا في الشارع مسرعيْن بكل حذر متوجّهيْن نحو سجن “سياه چال”. كان السجن قريباً من قصر الشاه، وكانت أصوات الأحباء من داخل السجن تصل إلى أسماع الشاه وهم يرتّلون الأشعار والدعاء في الليل والنهار منجذبين بأرواحهم وسعداء لأنهم جالسون مع محبوبهم، وكل واحد منهم يتمنى أن يفديه بروحه. أليس غريباً أن يكون قصرٌ جميلٌ بالقرب من سجنٍ رهيب؟!
اقتربا من باب السجن، فتحه الحارس ثم دخلا. حمل اسفنديار الطفل على ظهره ومشى نحو باب آخر فُتِح له ليجد نفسه أمام درجات وسط الظلام الحالك. نزل درجتين فقط، وعندها سمع فجأة صوت حضرة بهاء الله يدوّي من بعيد قائلاً: ‘أَبعِدْه من هنا، لا تقترب ولو خطوة واحدة.’
كان المكان عبارة عن حفرة مظلمة مليئة بالقاذورات والحشرات والروائح المُنْتنة، وتحوي من المجرمين واللصوص العدد الكبير، فكيف سيدخلها طفل رقيق القلب مثل حضرة عبد البهاء ويرى والده في تلك الحالة وهو الذي يحبه حباً كبيراً!
رجع اسفنديار بالطفل ووقف بالساحة ينتظر. ولم يمضِ وقت طويل حتى خرج حضرة بهاء الله إلى ساحة السجن في فسحته اليومية. نظر الطفل بكلّ لهفة فرأى والده مقيّداً مع الأحباء بسلاسل ثقيلة، وشاهد ظهره المنحني من ثقلها وقد تركت آثارها على رقبته وبدا عليه الإعياء، لم يستطع الطفل أن يتحمل هذا المنظر الرهيب، ثم ما لبث أن وقع مغشيّاً عليه. حمله اسفنديار بكل لطف وعاد به إلى المنزل حيث كانت والدته وأخته ( الورقة المباركة العليا) والغصن الأطهر ( ميرزا مهدي ) في انتظاره قلقين.
بعد أربعة أشهر تقريباً أُطلق سراح حضرة بهاء الله لثبوت براءته، إلا أن السلطات الإيرانية قررت نفيه إلى خارج موطنه إيران، فاختار حضرته أن يذهب إلى بغداد في العراق. أمروه أن يغادر سريعاً وهو في حالته الصحية السيئة جداً. قطع الطريق عبر جبال إيران المليئة بالثلوج في برد الشتاء القارس على الدواب حتى وصل بغداد مع عائلته وبعض الأحباء بكل مشقّة وعناء. وهناك دخل السرور إلى قلب حضرة عبد البهاء لأنه تمكّن من أن يعيش مع والده الذي يحبه كثيراً ويودّ ألا يفارقه.
لم يَنْسَ حضرة عبد البهاء اسفنديار أبداً، وكثيراً ما كان يتكلم عن إخلاصه وشجاعته. وذات مرّة أخبر الأحباء عنه قائلاً:
“كان مثال الحب، يشع وجهه نوراً. وكلما أتذكّر اسفندمار تنهمر الدموع من عينيّ مع أنه مضى على وفاته خمسون عاماً.”

6 البُعادُ المؤلم

تنعَم الطفل عبد البهاء بقرب والده بعد وصولهم إلى بغداد منفيين من إيران، وكان لا يفارقه أبداً لأن الحب الذي كان يجمعهما لا يمكن وصفه، ولم تمرّ إلا سنتان حتى وجد حضرة بهاء الله نفسه مضطراً إلى الاعتكاف بعيداً عن الأحباء والناس وعن عائلته أيضاً (وهي الخلوة التي اعتاد الرسل في السابق أن يعتكفوا فيها ولا شك أن فيها حكمة إلهية). فذهب حضرة بهاء الله إلى جبال السليمانية بعيداً عن بغداد ليعيش وحيداً في حياة كلها تَقشُّف وانقطاع. شعر المولى، وكان عمره آنذاك أحد عشر عاماً تقريباً، بالحزن والأسى لفراق والده، وكثيراً ما كان يبكي من شدة اشتياقه له، ولم يجد لنفسه ملاذاً إلا أن يقرأ الكتب من آثار حضرة الباب ثم تلاوة الدعاء والمناجاة، وكان لا يتوانى في تقديم المساعدة اللازمة لعائلته التي عاشت في قلق شديد لعدم علمها بمكان إقامة حضرة بهاء الله.
بعد سنتين من الخلوة والاعتكاف قرر حضرة بهاء الله العودة، وهكذا رجع إلى عائلته وبيته وبين الأحباء. تفاجأت العائلة بقدومه وسُرَّتْ كثيرا.ً رأوه بملابسه الخشنة وشعر رأسه الطويل ولحيته الكثّة ولون بشرة وجهه المائل إلى اللون البُنِّيّ من تأثير الشمس والهواء في تلك المنطقة القاسية الوعرة. نظر المولى إلى والده ثم ارتمى على أقدامه باكياً من شدة فرحه، وبادله الوالد نظرته الحنون والدموع تنهمر من عينيه.
ساد الفرح والسرور في البيت المبارك، وما أن سمع الأحباء والناس بالخبر حتى بدأوا يتوافدون معبِّرين عن فرحتهم بلقاء محبوبهم والتمتّع بمحضره الأنور، وأخذ الناس والأصحاب والأصدقاء يزورونه بعد ذلك كعادتهم وهم يسألونه ويستفسرون منه عن مسائل دينية صعبة، وأخذ المولى على عاتقه مسؤولية مساعدة والده في تنظيم استقبال الزائرين والمستفسرين والباحثين عن الحقائق الدينية.

7 بائع القش

في بغداد وقف طفل في زاوية أحد شوارعه يحتمي بالظل من أشعة الشمس المحرقة وعلى وجهه علامات الفقر والحرمان. اتكأ على الحائط وأغمض عينيه من شدة التعب فغلبه النعاس. كان يحمل على ظهره حزمة كبيرة من قش الزعرور وقد مشى بها طوال الليل حتى وصل إلى السوق من أجل أن يبيعها.
تنمو نبتة الزعرور في الصحراء على شكل كومة قش مليئة بالأشواك، وليس من السهل اقتلاعها من الأرض. يستعملها الخباز في فُرنه، والناس لإشعال حطبهم، والبدوي يضعها حول خيمته من الخارج ويرشها بالماء لتعطيه هواءً رطباً أيام الحرّ الشديد في الصحراء. هي رخيصة الثمن، ولذلك يبقى بائعوها فقراء.
أخذ حضرة عبد البهاء يسير في الشارع ببغداد في يوم كان شديد الحرارة، كان في السادسة عشر من عمره. تابع سيره إلى خارج المدينة حتى وصل إلى منطقة صحراوية، مشى فوق الرمال عدة ساعات في وقت كان الناس في بيوتهم يستريحون ويتّقون حرارة الشمس. فلماذا كان حضرته يمشي في ذلك الوقت، وإلى أين؟
نعم، كان حضرته مدعوّاً لبيت أحد بائعي القش الفقراء وليس من عادته أن يرفض الدعوة، فمشى فوق الرمال بحرارتها اللاذعة مسافة خمسة عشر كيلومتراً تقريباً إلى أن وصل إلى كوخ صغير فدخله. استقبله مضيفه والفرحة تعلو وجهه وتغمر قلبه. أعدت الزوجة كعكة خاصة لحضرته ووضعتها في الفرن، ومن شدة فرحها وانجذابها لشخصيته وحديثه الجميل نسيتها فاحترقت. لم يأبَه حضرته بذلك بل أصرّ أن يأكل منها وأبدى إعجابه بطعمها اللذيذ وشكرها كثيراً لأنه يعلم بأنها عُجِنت بالحب وعملت الزوجة كل ما في وُسعها من أجل راحته والترحيب به.
لم يكن حضرته ينظر إلى الشخص غنياً كان أم فقيراً، هل يسكن قصراً فخماً أم كوخاً صغيراً، بل كان ما يهمه فيه طهارة قلبه وصفاء نيّته. لقد استمتع بزيارته أيّما استمتاع لأنه كان يعلم بنقاء قلب الزوجين المضيفين الفقيريْن. وفي نهاية الزيارة ودّعهما بحرارة ورجع إلى منزله قاطعاً الطريق نفسها ماشياً على قدميه. لقد تحمل كل هذه المشاق من أجل أن يُدخل السرور إلى قلب هذين الفقيريْن.

8 حديقة الرضوان في بغداد

أقام حضرة بهاء الله في بغداد مدة عشر سنوات اتصل خلالها بمختلف طبقات الناس وأجناسهم وحاز على احترامهم وتقديرهم، وكثير منهم آمن بالأمر المبارك مما جعل السّلطات العثمانية أن تخشى من تعاظم نفوذ حضرته فصدر الأمر بنفي حضرة بهاء الله وعائلته من بغداد إلى العاصمة استنانبول حتى يكون هناك تحت سيطرة الحكومة. ولما شاع الخبر بين الناس أخذوا يتوافدون على منزله المبارك كل يوم لوداعه، وعندما أصبحت جموع المودعين كبيرة بحيث كان من الصعب أن يسعهم البيت المبارك، قام شخص مرموق يحب حضرته ويحترمه كثيراً اسمه نجيب باشا وقدّم حديقته الواسعة على الضفة الأخرى من نهر دجله ليستعملها حضرة بهاء الله في استقبال مودّعيه.
وهكذا ركب حضرته والمولى وبعض المؤمنين في قارب ينقلهم إلى الحديقة وسط آهات المودعين وبكائهم لفراقه. أخذ المركب يبتعد وأصوات رُكّابه تخف بالتدريج إلى أن ساد الهدوء إلا من صوت رَشَقات الماء التي كانت تضرب جانبي القارب. وما أن وصلوا الشاطئ حتى ترجّل حضرته ودخل الحديقة الجميلة الواسعة التي كانت تحفّ بها الأشجار. كان ذلك في عصر اليوم الثاني والعشرين من شهر إبريل/نيسان 1863م، وعلى الفور نصب الأحباء في وسطها خيمة لحضرة بهاء الله وخياماً أخرى لإقامتهم. كانت الرياح شديدة في ذلك اليوم مما اضطر الأحباء أن يبقوا ممسكين بحبال خيمة حضرته ليلاً نهاراً خوفاً من اقتلاعها، وكانوا يتبادلون أدوارهم في ذلك إلى أن هدأت الرياح مما منحهم امتياز بقائهم بقرب طلعة ذي الجلال بكل سرور وانشراح.
كان الفصل ربيعياً والحديقة مليئة بالورود والأزهار، والجو عابق بروائحها العطرة. اعتاد الأحباء في كل يوم أن يقطفوا الورود ويضعوها في وسط الخيمة المباركة على شكل كومة، ثم يجلسون حولها بمحضر حضرته. وفي نهاية اليوم كان حضرته يوزع الورود على الزائرين القادمين من بغداد عند عودتهم. عاشوا تلك الأيام وكأنهم في الجنة حقاً، ولذلك سماها الأحباء فيما بعد بـ”حديقة الرضوان”.
بقي حضرته في هذه الحديقة أثني عشر يوماً وهو يُنزل الآيات والألواح المباركة والأحباء يتلونها فيما بينهم ويرقصون طرباً وهم ثَمِلون من شدة انجذابهم بمعانيها وكلماتها، ويبقون كذلك حتى ساعة متأخرة من الليل. في اليوم التاسع لحقت به عائلته المباركة وفي اليوم الثاني عشر غادر حضرة بهاء الله وعائلته المباركة وبعض الأحباء متوجهين إلى مكان نفْيِهِم الجديد مدينة استانبول.
عندما كان حضرة بهاء الله في الحديقة أخبر عائلته والأحباء بشيء خاص جداً. فقبل عدة سنوات أعلن حضرة الباب دعوته وأخبر الناس بأنه جاء ليبشرهم بمجيء مظهر إلهي يأتي من بعده في وقت قريب حتى يصنع السلام والمحبة والوئام والوحدة بين البشر. ففي هذه الحديقة أعلن حضرته بأنه هو الذي أخبر عنه حضرة الباب والذي تنتظر قدومه جميع الأمم والأديان.

9 الموقف الحازم

بسبب كثرة إقبال الناس على حضرة بهاء الله وإعجابهم بشخصيته ومبادئه أينما سكن وفي أي مكان نفوه إليه، ثم إيمان البعض منهم، خشيت السلطات العثمانية من تعاظم نفوذه. فاستقر رأيها أن أفضل مكان لنفيه هو مدينة عكاء بقصد التخلص منه نهائياً لما عُرف عن هذه المدينة بأنها أكثر مدن الدنيا قذارة وأنتنها ماءً وأردئها هواءً، ولا يرسلون إليها إلا المجرمين الذين يرغبون في التخلص منهم.
وهكذا بدأت رحلة حضرة بهاء الله وعائلته وبعض المؤمنين من مدينة أدرنه. كان السفر شاقاً ومتعِباًَ إلى أن وصلوا مدينة عكاء، ثم وضعوهم في ثكنات عسكرية مهجورة في ظروف قاسية للغاية، وقضت الأوامر أن يعاملوهم معاملة السجناء. ما إن وصلوا حتى جاءهم حاكم المدينة لمعاينة السجناء وإعطائهم تعليماته القاسية. استقبله المولى مع الأحباء بكل لطف، إلا أن الحاكم أخذ يخاطبهم بكل غِلْظة وقسوة لأنهم بنظره مجرمون، ووصل به الأمر إلى أن هدّدهم بقطع مؤونة الخبز عنهم إذا فرّ أحدهم من السجن، ولما أنهى حديثه أمرهم بالرجوع إلى غرفهم. لم يستطع أحد الأحباء تحمُّل قسوة الحاكم في كلامه وأن يبقى صامتاً، فما كان منه أن ردّ على الحاكم بكلمات بمثل قسوته من شدّة غيْظه، الأمر الذي دفع حضرة عبد البهاء أن يعنّفه ويصفعه على وجهه بقوة أمام الحاكم وأمره بالرجوع إلى الغرفة فوراً.
بفعلته تلك لم يمنع حضرته حدوث شيء خطير لهم جميعاً فيما بعد فحسب، بل فتح عيون الحاكم إلى وجود قائد حقيقي بين السجناء قادر على إدارة الأمور بكل حزم وعدل بما لديه من مكانة وصلاحية، وأن ذلك العمل الطائش كان خروجاً عن مبادئ حضرة بهاء الله.
بهذا العمل تغيّر موقف الحاكم تجاه حضرة عبد البهاء، وأدرك بأن حضرته وعائلته من خلفية نبيلة وليسوا مجرمين كما اعتقد بناءً على ما أشيع عنهم في ذلك الوقت. فأخذ الحاكم بالتدريج يعامل السجناء بأسلوب أكثر إنسانية، ووافق أخيراً أن يستبدل حصتهم من الخبز بمبلغ من المال، وسمح لمجموعة من السجناء بالخروج إلى الأسواق في عكاء لشراء حاجياتهم.
* * *
“الحق أقول إن اللسانَ قد خُلِقَ لذِكْرِ الخيْرِ فلا تُدَنِّسوه بالقوْلِ السَّيئْ…”(15)
“… كلمةٌ هي بمثابة النارِ وأُخْرى بمَثابة النُّور، وأَثَرُ كلتيهما ظاهر في العالم…”(16)

15. كتاب عهدي"، في "مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله"، ص 198، (الطبعة 1980).
16. لوح مقصود" في "مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله"، ص 153، (الطبعة 1980).

10 بيت السعادة

مضى على حضرة بهاء الله عدة سنوات داخل السجن في عكاء في ظروف قاسية للغاية. وذات يوم ذكر حضرته بأن عينه لم ترَ شجرة أو عشباً أخضر طيلة تسعة أعوام مع أنه كان يحب الريف ويعشقه.
تأثر جداً حضرة عبد البهاء مما سمع وقال في نفسه: أدركت أنه يشتاق للريف كثيراً، ومع أن حضرته كان سجيناً في عكاء، إلا أنني على يقين من نجاحي في تحقيق رغبته إذا حاولتُ.
أخذ حضرة عبد البهاء في الدعاء مرات ومرات واضعاً ثقته بالله عزّ وجلّ. مرّت الأيام إلى أن علم أن شخصاً يسكن في عكاء ويملك منزلاً جميلاً في الريف خارج المدينة يدعى “المزرعة” تحيط به الأشجار والزهور وتجري المياه في حديقته وهو غير مسكون.
لم يكن صاحب المنزل ودوداً مع البهائيين في ذلك الوقت، ومع ذلك ذهب حضرته لمقابلته. سأله لماذا لا يسكن في منزله الذي يقع في تلك المنطقة الجميلة، فأجابه بأنه رجل عاجز ومريض ولا يستطيع مغادرة المدينة، ولو ذهب للإقامة هناك سيبقى وحيداً منقطعاً عن أصدقائه. فما كان من حضرته إلا أن عرض عليه استئجار المنزل ما دام لا يستطيع السكن فيه.
تفاجأ صاحب المنزل بما سمعه، ذلك لأن حضرة عبد البهاء يطلب استئجاره وهو يعرف بأنه غير مسموح لحضرته بمغادرة المدينة. أخيراً وافق الرجل وقبض بدل الإيجار الذي طلبه، وعلى الفور أرسل حضرته عاملاً لإجراء الإصلاحات الضرورية في الداخل والخارج لأن المنزل كان مهجوراً تماماً منذ مدة طويلة.
وبعد أيام أراد حضرة عبد البهاء أن يذهب ليتفقد سير العمل ويرى ما تمّ فيه من الإصلاحات. توجه نحو البوابة الكبرى لمدينة عكاء. كان على جانبيها حراس وظيفتهم أن يمنعوا السجناء من الخروج، إلا أنهم في هذه المرة لم يمنعوا حضرته أو يعترضوا طريقه وظل سائراً إلى أن وصل المنزل واطمأن على سير العمل فيه. وفي اليوم التالي ذهب ولم يعترضه أحد أيضاً، وهكذا كان الحال في كل مرة إلى أن انتهى العمل في المنزل والحديقة وأصبح جاهزاً للسكن وكان يسمى قصر المزرعة.
توجّه المولى إلى حضرة بهاء الله وأخبره بأن المنزل أصبح جاهزاً لإقامته فيه، وأن عربة تنتظره لتقلّه إلى هناك. ردّ حضرته بأنه سجين ولا يجوز له مغادرة السجن. ولكن حضرة عبد البهاء لجأ إلى محاولة أخرى؛ هناك أحد العلماء المسلمين الذي يكنّ لحضرة بهاء الله حباً كبيراً مع أنه كان في السابق من أعدائه. توجه إليه حضرته وطلب مساعدته في إقناع والده بمغادرة المدينة والإقامة في قصر “المزرعة”. توجه العالِم إلى حضرة بهاء الله وركع على ركبتيه أمامه ورجاه بالمغادرة، وأنه لن ينتصب واقفاً إلا عندما يسمع موافقته. ضحك حضرته ووافق أخيراً.
وبينما كان حضرة بهاء الله يتقدم من سور المدينة إلى البوابة الكبرى مغادراً تلك المدينة القذرة الموحشة، لم يعترض طريقه أحد من الحراس. وكم كانت فرحة حضرة عبد البهاء عندما رأى والده بعد طول عناء يجلس في قصر “المزرعة” وهو ينظر بعيداً إلى الحقول الخضراء والأشجار الباسقة والجبال المكسوة بالعشب الأخضر والأزهار التي كانت تداعبها نسمات الهواء النقيّة، ويستمتع بالحديقة الجميلة وأشجار البرتقال المحيطة بها.
أقام حضرة بهاء الله في هذا المنزل سنتين وعُرف بأنه “بيت السعادة”.

11 التاجر الغنيّ

آمن بالدين البهائي تاجر إيراني عاش في مصر. وكم كان توّاقاً للتشرّف بزيارة حضرة بهاء الله في عكاء، ولذلك كتب رسالة يطلب الإذن في التشرف بالزيارة، فأجابه حضرة بهاء الله بأنه مُرَحَّبٌ به شريطة أن يقوم بتسديد ما عليه من ديون للتجار الذين يتعامل معهم، ذلك بأن ما جمعه من ثروته كان بسبب عدم تسديده الديون أولاً بأول.
قضى التاجر خمس سنوات وهو يسعى جاهداً في تسديد ما عليه من ديون إلى أن أصبح في النهاية لا يملك سوى ثمن تذكرة السفر بالباخرة إلى حيفا وبعض النقود الكافية لعائلته طيلة فترة غيابه.
علم حضرة بهاء الله بموعد وصول التاجر فأرسل شخصاً ليقابله في ميناء حيفا ويساعده في الانتقال إلى عكاء بالعربة بعد ذلك. توقع الشخص المُرسَل أن يرى أمامه تاجراً غنياً بثياب فاخرة ويحمل الحقائب الثمينة. تفحّص بنظره جميع الركاب فرآهم عاديين ولم يلاحظ بينهم أحداً يدل على أنه تاجر، فظن أن التاجر لم يحضر ولذلك قرر الرجوع إلى عكاء ليخبر حضرة بهاء الله بذلك.
كان الجمال المبارك يعلم بأن التاجر قد وصل، فأرسل في هذه المرة حضرة عبد البهاء. كان التاجر يجلس على مقعد في رصيف الميناء ينتظر، وهو غارق في تفكيره فيما آلت إليه حالُهُ كتاجر وعلى وجهه إمارات الحزن والتحسُّر؛ كيف كان وكيف أصبح الآن! لقد انتظر خمس سنوات ليرى حضرة بهاء الله، وصرف كل ما يملك من أجل أن يسدّد ديونه كلها، والمعطف الخفيف الذي يلبسه لا يقيه قَسوةَ البرد الذي يشعر به، حتى الشال الصغير الذي اعتاد أن يضعه على كتفيه قد سقط في الماء أثناء مَشْيِهِ على لوح الخشب الممدود إلى القارب، وفوق ذلك كله لا يوجد الآن من يستقبله ويدلّه على الطريق.
وبينما هو غارق في حزنه وتفكيره وحسرته، إذا بحضرة عبد البهاء يصل، وبفراسته عرف حضرته أن الشخص الذي يجلس على المقعد البعيد وحيداً هو الزائر الذي ينتظره. تقدم نحوه وحيّاه بلطف ثم أخذ يشرح له ما حدث سبباً لهذا التأخير. ارتاح التاجر عندما رأى المولى، إلا أن حالة الحزن التي كانت تنتابه لم يستطع التخلُّص منها، ولا يريد أن يقابل حضرة بهاء الله في حال كهذه، بل يريد أن يلقاه وهو سعيد مسرور بهذا اللقاء الذي انتظره طويلاً. أخذ التاجر يقول في نفسه: إن الشيء الوحيد الذي يمكنه أن ينقلني مما أنا فيه هو استغراقي في الدعاء وتلاوة المناجاة.
نظر حضرة عبد البهاء إلى وجه التاجر وعينيه وأدرك ما كان يفكر فيه، فجلس على المقعد بجانب التاجر الحزين ولفّه بمعطفه ليدفّئه وَبَدَءَا معاً في تلاوة المناجاة حتى الصباح. عندها شعر التاجر بالسعادة الحقيقية وأن قلبه قد امتلأ وَلَهاً وحباً لمقابلة حضرة بهاء الله، فاصطحبه حضرته إلى عكاء وفاز بمحضر الجمال الأبهى وقضى عدّة أيام غمرته بسعادة لا متناهية.

12 قصة نعّوم

اعتاد الفقراء كل يوم جمعة أن يأتوا إلى منزل حضرة عبد البهاء ويتجمّعوا في الحديقة، ثم يخرج حضرته ويتكلم معهم مقدِّماً لهم النصائح وكلمات المواساة بكل عطف وحنان، ثم يسأل عن صحتهم ويحمل أطفالهم بين ذراعيْه ويقبّلهم ويعطيهم بعض النقود، وكثيراً ما كانت يداه تصابان بالخدوش من كثرة ما يحمل من الأطفال ويربّت على ظهور الفقراء. كان يتجاوز عددهم المائة في بعض الأيام، ومن بينهم عجوز فقيرة عرجاء اسمها نعّوم ليس لها عائلة تعتني بها، وكانت طاعنة في السنّ لا تستطيع العمل حتى تُعيل نفسها، فكان حضرته يعطف عليها ويعطيها من النقود ما يكفيها لشراء ما يلزمها من طعام ولباس وغيره.
وذات يوم جاء رجل إلى حضرة عبد البهاء ليخبره بأن نعّوم تعاني من مرض الحصبة، ويخاف الجميع أن يقرَبوها خوفاً من العدوى، وهي بحاجة ماسة إلى الخدمة. فما العمل؟
على الفور استأجر حضرته لها غرفة وأعطاها سريره الخاص وخصص لها امرأة تخدمها ودفع لها أجرها، واستمر يرسل لها الطعام كل يوم مطمئناً على صحتها وراحتها ونظافتها، وبقيت بعد ذلك طيلة حياتها تحت رعايته ودفء عنايته إلى أن وافاها الأجل المحتوم.

13 الرجل المريض

في الشارع المؤدي إلى منزل حضرة عبد البهاء في عكاء كان يسكن رجل وقد أصيب يوماً بمرض السُّل وأصبح جسمه نحيلاً ضعيفاً. كان الجميع يخافون الاقتراب منه خوفاً من العدوى لدرجة أن عائلته وأقاربه وأصدقاءه تركوه وابتعدوا عنه. كان يأتيهً أحد الجيران أحياناً ويضع صحن الطعام خارج الباب ثم يرجع، ويقوم الرجل المريض ويستجمع كل قواه ليزحف نحو الباب ويأخذ طعامه بكل عناء ثم يعود إلى فراشه ويرتمي عليه متهالِكاً وقد خارت قُواه من شدة التعب، وبعد أن يستريح يتناول طعامه.
بينما كانت شقيقة حضرة عبد البهاء “الورقة المباركة العليا” تنظر من شباك غرفتها، إذْ بها تلاحظ ما كان يحدث لهذا المريض، فبادرت إلى إخبار حضرته الذي توجّه على الفور إلى منزل المريض وقلبه يتفطّر حزناً عليه، ولم يتبادر إلى ذهنه خطر العدوى أبداً. جلس بجانبه على السرير وحادَثَه عدة ساعات يخفف عنه وحدته، ثم ساعده في تناول طعامه وأنعش روحه ببعض القصص.
لم يكن في تلك الأيام دواء شافٍ لمرض السُّل الذي يصيب الرئتين، فأخذ الرجل يضعف أكثر وأكثر، وبقيت عائلته وأصدقاؤه بعيدين عنه، وظل حضرة عبد البهاء يزوره يومياً – يطعمه ويرعاه إلى آخر يوم من حياته، حتى أنه عندما فارق الحياة كان حضرته يجلس بجانبه على السرير.

14 أمس... تعشَّيْنا

اعتادت عائلة حضرة عبد البهاء أن تجتمع يومياً عند المساء في عكاء لتناول طعام العشاء. فالطعام كان يُوضع على الطاولة المستديرة بغاية البساطة ثم يجلس الجميع حولها بكل سرور حامدين شاكرين، ولكن… في كثير من الأحيان كان يأتي إلى حضرته خبر بأن فلاناً أو عائلة ما ليس لديها ما تأكل وتُطعِم أطفالها في تلك الليلة. عندما يسمعون ذلك، ودون سؤال أو جواب، ينهض الجميع عن الطاولة ويتعاونون في جمع الطعام بأكمله ووضعه في سلة لتجد طريقها إلى ذلك الشخص أو العائلة. وما أن يتم هذا العمل حتى ترتسم على شفتي حضرته ابتسامة الرضا والسرور قائلاً: ‘لا يهمنا أبداً ما دمنا تعشّينا يوم أمس وسنتعشّى غداً.’

15 شُجَيرةُ الله

كلما تكلم حضرة عبد البهاء عن الحياة بعد الموت كانت كلماته تبعث الراحة والطمأنينة في النفوس مهما كانت فداحة المصاب.
في مدينة عكاء، عانت سيدة مرارة فقدان طفلتها الصغيرة وغرقت في حزن عميق، إلا أن حضرته واساها بكلمات خفف عنها الكثير لأنها فهمت معنى الموت. حدث أن روت لنا السيدة قصتها قائلة:
“أصيبت طفلتي بمرض طال أمده واشتدّ عليها رغم العلاج. كنت أجلس بجانبها أدعو الله وأناجيه أن يشملها بعنايته ويشفيها وأن يقوّيني في محنتي هذه.
وذات يوم زارني حضرة عبد البهاء يحمل معه وردتين. قدم واحدة لي والأخرى لطفلتي. مرّ بيده على رأسها بكل رفق وحنان ثم أمسك يدَها وغمرها بنظراته الحانية والتفت إليّ وقال: ‘عليكِ بالصبر الجميل.’
شعرت أنا وطفلتي بالراحة في تلك اللحظة، إلا أنه ما أن حلّ المساء حتى ساءت حالتها كثيراً إلى أن فارقت الحياة. كانت بالنسبة لي صدمة قوية توجهتُ بعدها لحضرته، وأنا حزينة جداً وفاقدة السيطرة على نفسي تقريباً، وسألته مرتجفةً: ‘لماذا توفيت طفلتي؟’
استقبلني بابتسامته الحانية كعادته وهدّأني وقال: “اسمعيني جيداً وسوف أخبرك بشئ؛ هناك حديقة جميلة اسمها “حديقة الله” جميع الناس في هذا العالم هم أشجارها التي تنمو بداخلها وتكبر وتعطي الثمار ثم تهرم وتموت ويقتلعها البستاني، أما البستاني الذي يعتني بها فهو الله سبحانه وتعالى. وعندما يرى البستاني أن إحدى الشجيرات الصغيرة موجودة في مكان ضيق لا تستطيع فيه النمو بشكل طبيعي، يذهب ليجهّز لها مكاناً أوسع في حديقة أخرى أكثر جمالاً وروعة وملاءمة، ثم يعود ويأخذها ويضعها هناك، فتنمو وتكبر بكل راحة وسعادة. فالأشجار من حولها التي اعتادت أن تراها ستتعجب وتسأل: لماذا اقتلعها البستاني من مكانها؟ وتبقى تسأل وتسأل دون جواب لأن البستاني الإلهي هو وحده الذي يعرف السبب. أنتِ الآن حزينة تبكين. فلو رأيت جمال وروعة المكان الذي وُضعت فيه طفلتك بيد الرب الرحيم لَمَا حزِنْتِ لحظة. إنها الآن حرّة طليقة تطير في كل مكان وتغرّد بأناشيد السماء بألحان السعادة والهناء، ولو شاهدت تلك الحديقة لن تقنعي بالبقاء في هذا العالم، فأنتِ الآن شجرة كبيرة تحمل أثماراً يانعة يجب أن ينتفع منها الناس، وعليك أن تعرفي جيداً دورك في هذه الحياة وتؤدّيه بكل حب وأمانة “.

16 المَلِكُ الحَكيم

تعرّض أحد الأحباء لحادث اضطُّر على أثره أن يلازم الفراش مدة طويلة. زاره حضرة عبد البهاء مخففاً عنه آلامه وشعوره بالإحباط وقصّ عليه القصة التالية:
‘أراد ملك أن يختار من بين محبّيهِ المخلصين رجلاً يرغب في إعطائه منصباً رفيعاً. فكّر في نفسه متفحّصاً كلَّ رجالاته إلى أن وقع اختيارُه أخيراً على أحبِّهم إليه. إلا أنه بدل أن يضعه في ذلك المنصب أمر بوضعه في السجن.
‘صُدم الرجل لما حصل وغرق في حزن عميق. أخذ يفكّر في نفسه: هو يحب الملك والملك يحبه وكان يتوقع منه أن يكافئه ببعض عطاياه نتيجة مواقفه المخلصة. فماذا حصل؟. بعد فترة أمر الملك بإخراجه من غرفته في السجن ثم جلده بالعصا بكل قسوة. ازداد تعجُّب الرجل وأخذ يفكّر ويفكر مندهشاً في سبب كل ذلك ولكنه لم يخلُص إلى نتيجة. وبعد أن شُفي من جراحه نتيجة الجلد القاسي، وجد نفسه يتلقى أمراً من الملك بشنقه.
‘اصطحبوه إلى غرفة الإعدام ووضعوا الحبل حول رقبته ثم رفعوه في الهواء. أخذ يترنح، وقبل أن يُسْلم الروح أُمِر الجلاّد بإنزاله، ثم أرجعوه إلى غرفته في حالة سيئة. وعندما استردّ صحته بعد أيام قاسية أخبروه بأن الملك قد أصدر أمراً بإطلاق سراحه. ما إن خرج من السجن حتى أسرع إلى الملك يسأله عن سبب ما وقع له مبدياً لمليكه حبه الكبير ومجدّداً وفاءه وإخلاصه رغم ما حصل له. فأجابه الملك قائلاً:
“أريد أن أجعلك رئيساً للوزراء، فما مررتَ به من تجارب ومعاناة، وما أصابك من آلام جعلَ منك رجلاً كفؤاً ولائقاً بهذا المنصب الرفيع. أردتك أن تعيش العذاب لتشعر بعذاب الآخرين، وأن تعيش الظلم لتستمع إلى صوت المظلومين. وحتى لو اضطرّك الأمر إلى معاقبة الآخرين سوف تدرك مدى تأثير العقاب عليهم. فمن حبي إياك أردتك أن تكون أقرب ما يمكن إلى الكمال.”

17 الأفغاني

عاش في عكاء رجل جاء من أفغانستان وكان الناس يدعونه بالأفغاني، لم يكن سعيداً في حياته. كان فقير الحال ويسكن في المسجد الجامع، وكان يكره حضرة عبد البهاء والبهائيين دون أي سبب، وكثيراً ما كان يقف في المسجد ويطلب من الناس ضرورة الابتعاد عن حضرة عبد البهاء وعدم معاشرته، إلا أن حضرته كان يبادل عداءه هذا بالحب والعطف في كل الأوقات والأحوال.

من شدة فقر الأفغاني لم تكن لديه ملابس صوفية تقيه شر البرد في الشتاء، أو طعام في بعض الأحيان ليأكله، وكثيراً ما يبقى جائعاً فيرسل له حضرته الطعام والملابس الصوفية. كان الأفغاني يقبلها، ولكنه لم يتفوّه يوماً بكلمة شكر أو تقدير.

وذات يوم مرض الأفغاني ولَزِم الفراش، ولما علم حضرة عبد البهاء بحالته صمم أن يزوره مصطحباً معه الطبيب لمعالجته. رفع المريض يده ليمكّن الطبيب من قياس ضغط الدم لديه، وباليد الأخرى غطّى وجهه حتى لا تقع عيناه على حضرة عبد البهاء. ومع كل ذلك ظل حضرته على معاملته الطيبة معه بكل حب وعطف واهتمام. 

مرّت السنوات وحضرته يرسل له الطعام والنقود والدواء واللباس اللازم، والأفغاني مستمر في توجيه التهم السيئة واختلاقها ضد حضرته كلما التقى بالناس… إلى أن جاء يوم سُمِع فيه طَرْقٌ على باب غرفة حضرة عبد البهاء، وإذا بالطارق هو الأفغاني واقفاً بكل احترام وندم وأخذ يبكي وارتمى على الأرض قرب أقدام حضرته باكياً بحرقة معبّراً عن أَلَمه وعذاب ضميره وقال: ‘سامحني يا سيدي، لقد أسأت إليك طيلة عشرين سنة، وأنت لم تمنحني سوى المحبة الخالصة والعطف والمعاملة الطيبة، والآن أدركت مدى خطئي، فأرجوك سامحني.’

نظر إليه حضرته مبتسماً بعينيه المليئتين حباً وعطفاً وطلب منه أن ينهض ويقف، ووجّه له كلمات أراحت نفسه. وهكذا رجع الأفغاني طيّب الخاطر. ومنذ ذلك الحين أصبح هذا العدو صديقاً مخلصاًً لحضرة عبد البهاء.

* * *

إِلهِي إِلهِي، إِنِّي أَُكِبُّ بِوَجْهِي عَلَى تُرَابِ الذُّلِّ وَالانْكِسَارِ وَأَدْعُوكَ بِكُلِّ تَضَرُّعٍ وَابْتِهَالٍ أَنْ تَغْفِرَ لِكُلِّ مَنْ آذَانِي وُتَعْفُوَ عَنْ كُلِّ مَنْ أَرَادَنِي بِسُوءٍ وَأَهَانَنِي، وَتُبَدِّلَ سَيِّئَاتِ كُلِّ مَنْ ظَلَمَنِي بِالحَسَنَاتِ وَتَرْزُقَهُمْ مِنَ الخَيْرَاتِ وَتُقَدِّّرَ لَهُمْ كُلَّ المَسَرَّاتِ وَتُنْقِذَهُمْ مِنَ الحَسَرَاتِ وَتُقَدِّّرَ لَهُمْ كُلَّ رَاحَةٍ وَرَخَاءٍ وَتَخْتَصَّهُمْ بِالعَطَاءِ وَالسَّرَّاءِ. إِنَّكَ أَنْتَ المُقْتَدِرُ العَزِيزُ المُهَيْمِنُ القَيُّومُ. ع ع(17)

17. "العهد الأوفى"، ص 33، (الطبعة 1980).

18 نَدَمُ الشيخ محمود

عُرف عن الشيخ محمود في عكاء بأنه كان يكره البهائيين، بينما غيره من الناس في البلدة بدأوا يدركون يوماً بعد يوم مدى خطئهم في موقفهم المعادي للأحباء ولحضرة عبد البهاء، حتى أنهم كانوا يمدحونهم في كثير من المناسبات، إلا أن الشيخ محمود بقي على حِقده وسواد قلبه. وذات يوم صادف أن كان الشيخ بين جَمْعٍ من الناس الذين أخذوا يتكلمون عن فضائل وحسنات حضرة عبد البهاء وإنسانيته. لم يستطع الشيخ تحمُّل المزيد من الكلام فقاطعهم قائلاً بكل غضب: ‘سوف أُريكم من هو عبد البهاء.’ وغادر مسرعاً.
وفي فَوْرة غضبه توجّه نحو المسجد الذي اعتاد حضرته أن يكون فيه في ذلك الوقت، وتقدّم منه ووضع يديه على كتفيه بكل قسوة وعنف. نظر إليه حضرته بكل عظمة وجلال وذكّره بقول الرسول الكريم: “أكرموا الضيف ولو كان كافراً”. انكمش الشيخ على نفسه وأرخى قبضته واستدار خجِلاً حيث مرّ أمام مخيلته شريط حقده وكراهيته ووضعه المشين أمام هذا اللطف والمحبة، فشعر بتأنيب الضمير ثم وقف ساكناً مطأطئاً رأسه إلى الأرض واستدار تاركاً المسجد مسرعاً إلى بيته وأغلق الباب عليه واختلى بنفسه. بقي في منزله عدة أيام لم يرَ فيها الراحة إلا عندما فتح الباب ثانية وخرج مسرعاً إلى بيت حضرة عبد البهاء يدقُّ بابه ويدخل ويجثو على ركبتيه طالباً الصفح عما بدر منه قائلاً: ‘أي باب غير بابك أطرقه آملاً عطفك وصفحك وعنايتك!’
أعلن الشيخ محمود إيمانه فيما بعد وكان بهائياً مخلصاً.

19 الأبُ الروحاني

في حيفا كان يقيم رجل تركي مع زوجته وأولاده الأربعة.كان يعمل موظفاً براتب ضئيل ويعيش حياة بسيطة للغاية. إلا أن الأيام خبّأت له ما لم يكن في حسبانه. لقد فقد وظيفته فيما بعد، وسعى في وظيفة أخرى ولم يفلح، حتى أن العائلة أصبحت في فقر شديد. فما كان من الرجل إلا أن ذهب إلى حضرة عبد البهاء يطلب المساعدة. لم يتردد حضرته أبداً كعادته وقام بما يتوجّب عليه. وذات يوم مرض الرجل، ولما سمع حضرته بذلك ذهب لزيارته ومعه الطبيب الذي فحصه وأوصى له بالعلاج اللازم. لم يغادره حضرته إلا بعد أن أمّن له الدواء اللازم وكل ما من شأنه توفير الراحة والأمان للعائلة. مرّت الأيام ولكن حالة الرجل الصحية أخذت في تدهور مستمر إلى أن شعر بقُرْب منيّته، فأرسل يطلب حضرة عبد البهاء أن يزوره في بيته. سارع حضرته إلى بيت المريض وأخذ يواسيه بكلماته الحانية، ثم بدأ الرجل يتكلم مبدياً شكره وامتنانه لحضرته وطلب إحضار أولاده الأربعة أمامه وقال لهم:

‘هذا هو والدكم من بعدي وهو الذي سيعتني بكم بعد أن أفارق الحياة.’

وفي صباح أحد الأيام جاء الأطفال الأربعة إلى البيت المبارك وقالوا: ‘نريد والدنا.’ عرفهم حضرته وهو في داخل غرفته من صوتهم. دخلوا إليه وبكوا على فراق والدهم. واساهم حضرته وقدّم لهم الشراب والحلوى وأمسك بيدهم ورجع بهم إلى بيتهم ليجد أن والدهم لم يفارق الحياة بل كان مغمى عليه، إلا أنه توفي في صباح اليوم التالي.

رتّب المولى كل شيء من أجل جنازته ودفنه، وقدّم الطعام عن روح الفقيد، وأمّن للعائلة الملابس اللازمة مع تذاكر السفر إلى تركيا. حقا كان قلبه العطوف الرؤوم مثل هذا الكون اتساعاً.

20 ثِمارُ المعروف

قرر حاكم مدينة عكاء أن يؤذي البهائيين الذين يعيشون في المدينة في مصدر رزقهم. فأصدر أمره إلى الجنود أن يذهبوا في صباح اليوم التالي إلى السوق ليغلقوا أبواب دكاكين جميع التجار البهائيين بعد أن يفتحها أصحابها ويُحضِروا له المفاتيح.

في مساء اليوم قبله أرسل حضرة عبد البهاء تعليماته لجميع الأحباء ألا يفتحوا دكاكينهم في اليوم التالي دون ذكر السبب لهم. جاء الجنود صباحاً ليجدوا الدكاكين مغلقة، فانتظروا دون جدوى، ثم رجعوا إلى الحاكم وأخبروه بما شاهدوا. أمرهم أن يرجعوا مرة أخرى وينتظروا أكثر، عادوا إليه أيضاً ليقولوا بأن الدكاكين لا تزال مغلقة ولم تفتح أبداً. فاغتاظ الحاكم كثيراً لأنه فشل في خطته.

مرّت الأيام وإذا بالحاكم يستلم أمراً من السلطات بضرورة حضوره إلى دمشق برفقة العسكر. دبّ الرعب في قلبه وذهب إلى منزله ليُعد العدة لرحلةٍ لا يعرف مصيرها.

سمع حضرة عبد البهاء بالخبر فما كان منه إلا أن توجّه إلى منزل الحاكم ليعرض عليه خدماته ومساعدته. شعر الحاكم بحَرَجٍ شديد وتوجّه لحضرته بالشكر والإمتنان مبدياً قلقه على عائلته بعد مغادرته، وأنه يريد من حضرته أن يساعدها في اللحاق به إلى دمشق. فأكّد له حضرته بأن عائلته ستصل إليه بكل أمان. وهكذا غادر الحاكم مطمئناً، وأخذ المولى يُعدّ الترتيبات اللازمة لسفر العائلة، فأمر بتجهيز العربة والخيول وما يلزم للرحلة وعيّن مرافقاً للعائلة، وسار الجميع إلى أن وصلوا دمشق. سُرّ الحاكم كثيراً عندما رأى عائلته تصل إليه بكل أمان، وتعبيراً عن امتنانه عرض على المرافق أجراً مالياً ولكنه لم يقبله. ثم طلب منه أن يعتبره هدية، إلا أن المرافق أجابه بأن تعليمات مولاي لي ألاّ آخذ أجراً أو هدية ولا أستطيع إلا إطاعته.

فما كان من الحاكم إلا أن حرّر رسالة إلى المولى يقول فيها: ‘يا عبد البهاء، أستحلِفُك بالله أن تسامحني. لم أفهمك ولم أعرفك حقاً، ولذلك سبّبتُ لك الكثير من الأذى والمتاعب، ومع كل ذلك أنت اليوم تكافئني بهذا العمل الرائع!’

* * *

“إن المنتسبين إلى هذا المظلوم يجب أن يكونوا عند العطاء كالسحاب المدرار، وفي كبح جماح النفس الأمّارة شعلة ملتهبةً…”(18)

18. "لوح الدنيا" في "مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله"، ص 111، (الطبعة 1980).

21 المسافر العزيز

عندما كان حضرة بهاء الله وعائلته داخل السجن في عكاء، لم يكن في البداية مسموحاً للأحباء في الخارج بزيارته، فكانوا يأتون مشياً على الأقدام مدة أشهر طويلة من أماكن بعيدة مثل إيران والهند وغيرها على أمل اللقاء بمحبوبهم، إلا أن الحرّاس كانوا يمنعونهم من الدخول، وأكثر من ذلك كانوا يضعونهم في السجن لمدة أيام ثم يتركونهم ليعودوا إلى بلدانهم دون التشرف برؤية محبوبهم. كانت عكاء في ذلك الوقت مدينة محصّنة بسور عالٍ له بوّابتان فقط لدخول الناس وخروجهم منهما ويحرسهما جنودٌ قساة.
في مساء أحد الأيام، وبينما كان المولى وبعض الأحباء يتمشّون على السطح، إذا بحضرته يشاهد عربة آتية من بعيد، فالتفت إلى الأحباء وقال: ‘إن شخصية هامة ومقدسة آتية في تلك العربة ’. نظر الجميع بعيداً ودققوا النظر ولم يشاهدوا إلا غباراً يتصاعد على طول الشاطئ، ثم أضاف: ‘والآن يجب أن نذهب إلى البوابة.’ تعجّب الجميع خاصة وأن أحداً من السجناء لا يمكنه أن يدخل أو يخرج من بوابة عكاء. إلا أن حضرته توجّه إلى الحرّاس وأخبرهم بأن شخصاً مهمّاً آتٍ في العربة وأن عليهم أن يسمحوا له بالدخول. لم يصدق الأحباء عيونهم عندما رأوا أحد الحراس يحضر كرسياً للمولى ليجلس عليه بانتظار وصول الضيف العزيز. وصلت العربة وترجّل منها رجل مهيب توجه نحو البوابة ودخلها بكل هدوء، ثم اصطحبه حضرته بكل إجلال واحترام لمحضر حضرة بهاء الله.
كان المسافر العزيز أحد الأقارب المقرّبين لحضرة الباب وقد قطع الطريق قادماً من الهند لزيارة حضرة بهاء الله، وهو من القداسة بحيث شعر حضرة عبد البهاء بوجوده في العربة من بعيد.

22 صائدة السمك

اختار حضرة عبد البهاء أن يسافر يوماً من عكاء إلى حيفا بطريق الشاطئ ، وهي طريق تسلكها العربات التي تجرّها الخيول. فتوجّه إلى عربة كبيرة لنقل الركاب ووجد فيها ركاباً فقراء مع أمتعتهم المكدّسة فصعد وجلس. تعجّب الحوذي(سائق العربة) وقال لحضرته متسائلاً: ‘لا بدّ أن سعادتك في حاجة إلى عربة خاصة لتقلّك إلى حيفا.’ فأجابه حضرته: ‘لا، لا أريد عربة خاصة.’ كان الحوذي يعلم بأن شخصاً مهماً كحضرة عبد البهاء يجب أن يركب في عربة توفّر له الراحة والهدوء أكثر من هذه العربة.

صعد الحوذي إلى عربته وبدأت الخيول تجري بسرعة على الطريق الرملي المحاذي للشاطئ والجو جميل والأمواج تضرب سنابك الخيول طول الطريق. 

وصلت العربة إلى حيفا ونزل الركاب جميعهم وبقي حضرته، فإذا بامرأة، يبدو عليها الفقر والبؤس من ثيابها الرثّة وتعابير وجهها الحزين، تتقدم من حضرة عبد البهاء نحو العربة شاكية باكية بنظرات حزينة لتخبره بأنها لم تصْطَدْ أية سمكة طول النهار، وليس من شيء تأخذه معها إلى البيت لتطعم أطفالها الجياع. كانت المرأة صائدة سمك تعيش على ما تصطاده كل يوم.

نظر إليها حضرته بابتسامته التي تحكي ما في الدنيا من عطف وحنان، ومدّ يده وأعطاها من النقود ما يكفي لشراء الطعام لأطفالها، والتفت إلى الحوذي الذي كان يرقُب ما يجري من صورة إنسانية تأخذ بالإلباب وتفضل: ‘أترى الآن لماذا عليّ أن أركب عربة عامة وليست خاصة، فكيف لي بذلك وكثير من الناس يعانون الفقر والجوع والمرض!’

23 الثياب الممزَّقة

كتب أحد الزائرين إلى الأرض الأقدس ما شاهده في أحد الأيام:

‘كنا مجموعة من الزائرين نقيم في منزل الضيافة في عكاء عندما سمعنا ذات يوم ضجة وجَلَبة في الخارج وأصواتاً من الناس أخذت تعلو وتقترب وصرنا وكأننا نسمع طنين النحل. فتحنا الشباك لنستطلع الخبر، فرأينا من الناس المتجمعين مَنْ كانت ثيابهم ممزقة تكاد لا تستر أجسادهم. نزلنا إلى الشارع لنرى ماذا يحدث. كانت مجموعة لا يمكنك إلا أن تقف وتدقق في ما آلت إليه أحوالهم من قسوة عيشهم وما يعانونه. فوجدنا بينهم الأعمى والأعرج ومن يحمل عكازه، ومنهم العجوز الطاعن في السن والضعيف الذي لا يقوى على الحركة والنحيل المتهالك الجالس على الأرض ثم النساء اللواتي يُخفين حزنهن وألمهن تحت الحجاب، ولو كشفته لقرأت في وجوههن الشيء الكثير، بعضهن يحملن أطفالهن الضعفاء، والكل شاحب لونه مائل إلى الإصفرار. كان أمامنا حوالي المائة عدا الأطفال، وهم من جميع الأجناس التي يمكنك أن تقابلها في شوارع عكاء.

بعضهم وقف مستنداً إلى الحائط وآخرون لم تقوَ أرجلهم على حملهم فافترشوا الأرض، والكل ينتظر شيئاً. وما هي إلا برهة حتى فُتح باب منزل مجاور وخرج منه رجل وقور مربوع القامة منتصباً قوياً يلبس ثوباً فضفاضاً فاتح اللون نظيفاً، ويضع عمامة بيضاء يبلغ من العمر حوالي الستين، يتدلّى شعره الرمادي اللامع على كتفيه. طلع علينا بوجهه البشوش وجبينه العريض وأنفه المعكوف كالنسر، وشاربه ولحيته الأشيبيْن وعينيْه الرماديتيْن المائلتيْن إلى الزُّرْقة. كان مظهره يحكي عن البساطة في الحياة، أما حركاته ومشيته فلا ترى فيها إلا العظمة والجلال.

‘إنه حضرة عبد البهاء الذي أخذ يمرّ بين هذا الجمع من الناس إلى أن توقف في زاوية ضيقة من الشارع وأشار إليهم أن يأتوه. تراكضوا واقتربوا كثيراً لدرجة طلب منهم أن يرجعوا إلى الوراء قليلاً حتى يستطيع أن يسير بينهم. رأيناه يتجول ويمسك بيد كل واحد منهم ويضع فيها قطعة من النقود. كان يعرفهم جميعاً واعتاد أن يرعاهم بعنايته الفائقة، فكان يمسح بيده المباركة على وجوههم ويربّت على أكتافهم وعلى رؤوسهم، ويقف مع بعضهم ليسألهم عن أحوالهم، ويتوقّف عند النساء ويربّت على أطفالهن. رأينا بعضهن هممن بتقبيل يديه شكراً وامتناناً، وعلى شفتيه كلمات التمتمة مُرَحِّباً بقوله: مرحباً مرحباً.

‘وما يأخذ بالألباب، فإن منظراً كهذا يتكرر في أي يوم في شوارع عكاء.’

25 أيام الشتاء

كان حضرة عبد البهاء يعلم بأيام البرد القاسية في الشتاء، وأن في عكاء الكثير من الفقراء المُعْدَمين الذين لا يملكون من الثياب ما يقيهم شرَّ البرد. ففي بداية فصل الشتاء، إذا مشيت في أحد شوارع عكاء وشاهدت تجمعاً كبيراً من الفقراء على باب إحدى الحوانيت لتأكّدت بأن بداخله حضرة عبد البهاء يختار لكل واحد منهم لباساً مناسباً ويطلب منه أن يلبسه حتى يتأكد من قياسه، ثم يربّت على كتفه ويقول له: مع السلامة أنت الآن في أمان من البرد. إنهم فقراء عكاء الذين يبلغ عددهم الستمائة فقير اعتادوا أن يتجمعوا في بداية فصل الشتاء من كل عام ليأخذوا نصيبهم من الثياب الدافئة من أبيهم الحنون. 

أما في أيام العيد، فقد اعتاد حضرته أن يزور الفقراء في بيوتهم، يحادثهم ويطمئن على صحتهم وراحتهم ويقدّم لهم هدية العيد، ثم يسأل عن الغائبين منهم بالإسم، فيترك لهم هديتهم.

لم يكن ليهتم بمن يأتي ويسأل فقط، بل بكل فقير يعاني بكل صمت دون أن يطلب. فهؤلاء العمال بأجورهم الضئيلة، كانوا مع أطفالهم في حرمان أيضاً، فاعتاد أن يرسل إليهم الخبز والطعام بشكل سري وكأن يده اليسري لا تعلم ما تقدمه اليمنى. 

لذلك، أحبّه الناس –جميع الناس– كما أحبهم من كل قلبه، الفقير منهم والغني، الكبير والصغير وحتى الأطفال والرضّع منهم كانوا يشعرون بعطفه وحنانه. فإذا ما سمع عن مريض، مسلما كان أم مسيحياً ومهما كان دينه، كان يزوره بنفسه أو يرسل مَنْ يطمئن على صحته، فلو احتاج طبيباً أرسله إليه وأمّن له الدواء، وإذا علم أن سطح منزل أحد الفقراء يرشح ماءً أو أن الشباك عنده مكسور أرسل مَنْ يُصلحه، ثم كان يتأكد بنفسه من إنجاز العمل. وكل صاحب مشكلة كان يتوجه إليه طالبا نصحه ومشورته.  

قد يظن البعض أن حضرة عبد البهاء كان غنياً. نعم، كان والده من الأغنياء في إيران، إلا أن الحكومة الإيرانية جرّدته من جميع ممتلكاته واستولت على أمواله لأنه أعلن دعوته بأنه يحمل رسالة جديدة من عند الله من شأنها أن تمحو العداوة والبغضاء بين الناس ليعيش العالم في سلام واطمئنان. عارضوه ونفوه وسجنوه مع أفراد عائلته مدة خمسين سنة تقريباً في غاية القسوة والحرمان، فكان حضرة عبد البهاء ينفق القليل القليل على نفسه وعائلته ويتبرع بالباقي للفقراء والمحتاجين لأنه يشعر بشعورهم.

26 الغِنَى الحقيقي

كانت ثياب حضرة عبد البهاء من أرخص أنواع القطن، إلا أنه كان غنياً بأصدقائه وأحبائه. فالألوف منهم بل ومئات الألوف يتمنون لو يفدونه بأرواحهم. كان الكثير منهم يهدونه الألبسة الثمينة، فكان يلبسها مرة واحدة احتراماً وتقديراً لرغبتهم ثم يتبرع بها للمحتاجين. 

ذات يوم اضطرت زوجته منيره خانم أن تغيب عن المنزل فترة طويلة، وخوفاً على حضرته من أن يبقى بلا قفطان، لأنه قد يتبرع بما يلبسه لأحد المحتاجين، أعدت له واحداً تركته عند ابنتها وأوصتها ألا تبوح به لأبيها. فرحت الإبنة واحتفظت بالسرِّ إلى أن جاء يوم بادرها حضرته بسؤاله: هل عندي قفطان آخر؟

لم تستطع الإبنة أن تخفي الأمر بعد ذلك، فاضطرت أن تخبره بما فكّرت به والدتها. نظر إليها وقال: ‘كيف أكون سعيداً بقفطانين وأعلم أن غيري لا يملك حتى واحداً!’ ولم يشعر حضرته بارتياح إلا عندما تبرع بالقفطان الجديد لأحد المحتاجين. 

لم يسمح لعائلته أبداً أن تعيش في ترف. كان طعامه طيلة اليوم وجبة واحدة مكونة من الخبز والجبن والزيتون، أما غرفته فكانت صغيرة خالية من الأثاث إلا من فرشة على الأرض اعتاد أن ينام عليها. ظن أحد الأحباء يوماً أن رجلاً بهذا السن ليس من السهل عليه أن ينام على الأرض، فأهداه سريراً مع فراشه الوثير، فاحتفظ به في زاوية الغرفة ونادراً ما كان ينام عليه. نعم، فكيف سيرتاح وغيره لا مأوى له! كان ينام على الأرض ويتغطّى بعباءته.

حياته كانت نموذج البساطة وروحه من الرِّفْعة عظيمة، لم ينشد في دنياه عظمة، ولم يتطلع يوماً إلى جاه، بل كان خادماً بكل ما في الكلمة من معنى. كان يكفيه أن ينام ثلاث ساعات أو أربع، وباقي يومه كان يقضيه في خدمة من كانوا يعانون جسدياً ومعنوياً وروحياً بكل ما فيه من طاقة وجهد. كان يحمل أينما ذهب كلمات كنتَ تقرؤها على يديه وفي عينيه وشفتيه وفي كل أركانه: ‘أنا خادم الله.

27 طفولة حضرة عبد البهاء

تُحَدِّثُنا شقيقة حضرة عبد البهاء -الورقة المباركة العليا- عن طفولة حضرته فتقول:

‘ولد عباس أفندي بطهران في 22 مايو/أيار سنة 1844م في منتصف الليلة التي تلت إعلان دعوة حضرة الباب، وكان يكبرني بثلاث سنوات. سارت حياتنا عادية إلى أن جرت محاولة اغتيال الشاه في آب سنة 1852م حيث كان عمر حضرته ثماني سنوات. عانينا الكثير من المصاعب خاصة بعد أن أخذوا والدي إلى سجن سياه چال

أخذ الغوغائيون من الناس يبحثون عن كل بابيّ ليسجنوه أو يقتلوه. جاؤوا إلى بيتنا وكسروا الباب ونهبوا كل ما فيه، فشعرت والدتي حينها بالخطر الشديد مما اضطرها إلى أخذنا أنا وأخَوَيّ عباس أفندي وميرزا مهدي (الغصن الأطهر) إلى بيت أختها من والدها (وكان زوجها موظفاً حكومياً)، إلا أنها رجعت بنا ثانية إلى البيت حتى تُبْعِد الخطر عن أقربائها. 

‘دخلنا المنزل وجمعنا ما تبقى به من قطع صغيرة تركوها ووضعناها في غرفة واحدة عشنا فيها. في كل يوم كنا نسمع ضجيج الأهالي وأصوات الغوغائيين فرحين بأنهم ألقوا القبض على بابيّ وبدأوا بتعذيبه ثم يقومون بعد ذلك بقتله. تصوَّروا وضْع والدتي في ذلك الوقت؛ قلقها على حياة والدي حضرة بهاء الله في السجن خوفاً من إعدامه في كل لحظة، وخوفها علينا من الغوغائيين، ثم فقدان الطعام في البيت ولا نملك نقوداً نشتري بها شيئاً. فكانت كل يوم تأخذني معها إلى بيت عمتها لتستطلع أخبار والدي وتترك أخويّ في المنزل لوحدهما. كنا نقضي النهار بأكمله هناك على أمل أن نسمع خبراً عن والدي ثم نعود أدراجنا إلى بيتنا في المساء. 

‘وذات يوم رجعنا إلى البيت متأخرين فوجدنا عباس أفندي محاطاً بعدد من الصبية وقد أخذوا يضايقونه. كان يقف في وسطهم منتصباً كالسهم، ولم يستطع أحدهم الاقتراب منه أو لمسه. وبعد ذلك قررتْ والدتي ألا تذهب وتتركه في البيت خاصة وأنه طفل شجاع لا يهاب شيئاً واعتاد أن يخرج للشارع في انتظار أن يعرف شيئاً عن والده، ذلك بأنه بالرغم من صغر سنِّه كانت تغمره العواطف الجياشة. فأصبحت والدتي تأخذه معها وتتركني مع أخي الأصغر في المنزل، وكنت أقضي نهاري مرعوبة قلقة. 

‘مرّت علينا أربعة شهور ونحن على هذا الحال إلى أن تحققت السلطات من براءة والدي حضرة بهاء الله وأطلقوا سراحه من السجن شريطة أن يغادر إيران فاختار مدينة بغداد في العراق.’

28 النَّخْوَةُ

تُحدّثنا الورقة المباركة العليا عن بداية وصول حضرة بهاء الله وعائلته المباركة وبعض الأحباء إلى مدينة السجن عكاء، وعن دور حضرة عبد البهاء في تلك الظروف القاسية آنذاك، فتقول: 

‘وصلنا ميناء حيفا بعد رحلة طويلة وشاقة بالبحر. كان الجميع مرضى والطعام الذي كان يُقدّم لنا في السفينة رديئاً جداً لا يؤكل. وصلنا الميناء ونحن نعاني حالة شديدة من الإرهاق والمرض والجوع والعطش ( بعد تلك الرحلة ظلت صحتى معتلّة ). وضعونا في سجن بحيفا لمدة يوم كامل وحالتنا يُرْثَى لها، والرجال مصفّدون بالسلاسل. في اليوم التالي وضعونا في قوارب صغيرة لتوصلنا إلى عكاء – مدينة السجن. كان البحر هائجاً والقوارب تعلو وتهبط مع الأمواج فأُصِبْنا جميعاً بدوار البحر.

‘اعتادت الحكومة العثمانية آنذاك أن ترسل إلى مدينة عكاء المجرمين الخطرين من جميع أنحاء امبراطوريتها وذلك بقصد التخلص منهم بوفاتهم في نهاية الأمر. فماؤها ملوث وهواؤها موبوء وردئ جداً ويقولون أنه لو طار طير في سمائها لهوى على الأرض ميتاً.

‘لم يكن في عكاء ميناء ترسو فيه السفن وينزل الركاب على رصيفه، بل كانت القوارب ترسو بعيداً عن الشاطئ وينزل منها الركاب ليتابعوا سيرهم إلى الشاطئ وسط الماء. وصَلَت القوارب بعيداً عن شاطئ عكاء، وأصدر الحاكم أمره بأن تُحمل النساء على أكتاف الرجال. وهنا أبدى حضرة عبد البهاء اعتراضه الشديد على هذا الإجراء، فكان حضرته أول من نزل من القارب وأسرع نحو الشاطئ وأحضر معه كرسيّاً نقل به جميع النساء بمساعدة الأحباء، ومن هناك نقلوا الجميع إلى ثكنات عسكرية مهجورة خصّصوها لسَجْننا. 

‘لا أستطيع إيجاد كلمات تصف قذارة ذلك المكان. دخلنا الغرفة التي سنقيم فيها فغطست أرجلنا في الوحل حتى الكاحل، واخترقت أنوفنا الروائح الكريهة المنتنة وروائح الجنود في ذلك الجو شديد الحرارة والرطوبة. أخذْتُ أترنّح ووقعتُ مغْشيّاً عليّ، إلا أن الذين كانوا حولي أمسكوني قبل أن أقع على الأرض، ومدّدوني على سجادة صغيرة وضعوها فوق الطين. طلبنا ماءً للشرب، فقال الجنود إنهم ممنوعون من تقديم الماء والطعام لنا، وهناك خارج الغرفة مستنقع من الماء الآسن الفاسد، وهو بقايا ما يستعمله العمال في تنظيف أدواتهم وأوانيهم وملابسهم، هو الماء الوحيد المُتاح لنا استعماله. أحضروا لي قليلاً منه ووضعوه على شفتيّ فابتلعت منه القليل بشكل لا إرادي، إلا أن معدتي لَفَظَتْه وأُغْميَ عليّ ثانية. كان من المقرّر أن يقيم حضرة بهاء الله وعائلته في الطابق العلوي، وأخيراً استعضت بعض قواي الكافية لأن أصعد الدرجات إلى أعلى. 

‘في تلك الأثناء رجع حضرة عبد البهاء إلى القارب لمساعدة باقي الأحباء في النزول والوصول إلى الشاطئ، ثم نقلوا الجميع إلى الثكنة وأجلسوهم جميعاً على الأرض. كانوا نساءً وأطفالاً ورجالاً يعانون الأمرّيْن من شدة الجوع والعطش، فرجا حضرة عبد البهاء الجنود أن يسمحوا له بالمغادرة وشراء الطعام والماء إلا أنهم رفضوا قائلين: إياك أن تضع قدمك خارج هذه الغرفة، ولو فعلت قتلناك، هذه هي الأوامر. ثم اقترح عليهم أن يذهب أحد غيره برفقة الجنود، فرفضوا أيضاً.

‘من بين النساء كُنَّ مرضعات جفّ حليبهن تماماً من الجوع والعطش، فأخذ الأطفال يبكون ويصرُخون، وكنتُ أرى الأمهات شبه فاقدي الوعي جالسات على الأرض وسط الطين والروائح الكريهة الخانقة. في وضع صعب للغاية كهذا كنتُ أرى حضرة عبد البهاء يتجول بين الجميع يواسيهم ويخفف عنهم بكلمات التشجيع والأمل بانفراج المحنة، وفي الوقت نفسه كان يتوجّه نحو الجنود ويطلب منهم ألا يكونوا قساة القلب تجاه النساء والأطفال على الأقل إلى أن أفلح في منتصف الليل في إقناعهم أن يرسلوا رسالة إلى الحاكم يشرحون فيها حالة السجناء المؤلمة، فكان ردّ الحاكم أن أرسَلَ لنا قليلاً من الماء وبعض الأرز المطبوخ. قدّمنا الماء للأطفال أما الأرز فكانت رائحته لا تُطاق.

كان حضرة بهاء الله في ذلك الوقت يعاني من المرض الشديد، فأخذنا نفكّر في ما يناسبه من طعام. وبينما كان الأحباء يتفقّدون أمتعتهم إذا بهم يعثرون بينها على قطع من الخبز الجاف والسكر، فأعددنا منها طبقاً وقدّمناه لحضرته. رفض تناول ولو لقمة واحدة وتفضل:آمركم أن تطعموا به الأطفال.” فكان له ما أراد.’

29 الطبيب المُخْلِص

تابعت الورقة المباركة العليا حديثها عن الأيام الأولى من سجنهم في عكاء بقولها:

‘… أمام الوضع المؤلم الذي كان الأحباء فيه يعانون من المرض والجوع والعطش، ظل حضرة عبد البهاء يرسل الرسالة بعد الأخرى للحاكم يرجوه فيها باسم النساء والأطفال أن يسمح له بالخروج من السجن لشراء ما يلزم فقط. تعاطف الحاكم أخيراً وأرسل لنا بعض الماء والخبز المخصص للسجناء. كان الخبز أسوأ من الأرز الذي أرسل سابقاً وكأنه معجون بالتراب. بقي حضرته في محاولاته إلى أن نجح في الحصول على موافقة الحاكم بإرسال أحد الأحباء برفقة أربعة من الجنود لشراء الطعام من السوق وقتما نريد، واشترط الحاكم على حضرته ألا يغادر الثكنات، وحتى الأطفال أيضاً مهما كانت الظروف الموجبة ما عدا الشخص المكلّف بشراء ما يلزمهم من السوق، وإذا كان حضرة عبد البهاء غير قادر على تقديم تعهد بذلك فلن يسمح لأحد بالمغادرة، وحتى الشخص المسموح له بشراء الحاجات، عليه ألا يكلّم أحداً وهو سائر في طريقه، وإن فعل ضربوه بسيوفهم. 

‘بالرغم من هذا الإنفراج البسيط، ظل الطعام الذي نشتريه رديئاً وقليلاً بسبب قلة ما لدينا من نقود، فاقترح الجمال المبارك على الحاكم أن يعطينا نقوداً بدل حصتنا من مخصصات السجناء. وافق الحاكم على ذلك وصار يسلّم مخصصات عائلتي لحضرة بهاء الله ومخصصات الباقي لحضرة عبد البهاء لشراء ما يلزم. فكان الجمال المبارك يقدم ما يخصّ عائلته للأحباء ويكتفي بالخبز فقط، وكان يتفضل: اعطوني الخبز والماء بعد أن يأخذ الجميع كفايتهم.

‘ظل الوضع المعيشيّ سيّئاً للغاية؛ صيف حار رطب وخانق، أرض طينية مليئة بالحشرات والقوارض يجلس الكل عليها، لا ماء للاستحمام إلا القليل منه للشرب ثم لغسل الوجه. في جوّ كهذا تفشّى المرض بين الجميع فأصيبوا بالدزنتاريا والحمى والتيفوئيد عدا والدتي وحضرة عبد البهاء وثلاثة من الأحباء. ونحن في هذه الحالة المؤلمة لم يسمحوا لنا بإحضار الطبيب ولا بشراء أي نوع من الدواء. كان حضرة عبد البهاء يحتفظ في حقيبته بحبوب الكينا والبزموت، فأخذ يستعملها في مداواة المرضى إلى أن شُفُوا تماما إلا من أربعة فارقوا الحياة.

‘مضى على وجودنا شهران ونحن على هذه الحالة المُزرية من المرض؛ سبعون نفراً من النساء والأطفال والرجال يقيمون في غرفة واحدة وفي جو من الحرارة الشديدة الخانقة ويشربون الماء الملوث ويأكلون الطعام الردئ ولا يستنشقون إلا الروائح الكريهة المنبعثة من مخلّفات الإسهال وغيره. لم يعرف حضرة عبد البهاء الراحة، فكان يخدم الجميع، يغسل وينظّف ويُطعم ويعطي الدواء ويطمَئِنّ على صحة كل واحد طيلة الشهرين إلى أن تعافى الجميع، إلا أن حضرته وقع فريسة المرض أخيراً بعد أن أصيب بالإعياء الشديد وتَبِعَتْه والدتي والأحباء الثلاثة الأصحاء. عانى من الدزنتاريا على شأن أصبح في وضع خطير، وعندما علم أحد الموظفين بوضعه سارع إلى الحاكم يرجوه أن يسمح للطبيب بزيارة حضرته. وهكذا حصل على العناية الطبية اللازمة وشُفِيَ. انجذب الطبيب المعالِج بشخصية حضرته ونمت بينهما، على مرّ الأيام، صداقة قوية لدرجة أبدى رغبته الشديدة في خدمة حضرة عبد البهاء بأي شكل من الأشكال. ولما علم الطبيب بأن البهائيين القادمين من أماكن بعيدة، بقصد زيارة محبوبهم، ممنوعون من دخول السجن والتشرف بطلعته النوراء، أبدى استعداده لحمل الألواح والرسائل، التي كان يحررها حضرة بهاء الله ويخاطب بها الأحباء في إيران وغيرها، أن يحملها في طريقه إلى خارج السجن وتسليمها للأحباء القادمين لحملها معهم في طريق عودتهم إلى موطنهم.’

30 غِذاءُ الروح

قامت ميّ بولز(ماكسويل) بزيارة مبكرة إلى مدينة السجن عكاء، وتعلمت هناك درساً بأن الطعام المادّي الذي يتناوله الإنسان ليس بالأهمية البالغة قياساً بالغذاء الروحاني، ذلك لأن الأول مؤقت يزول بعد فترة قصيرة أما الثاني فإنه هو حياة الروح ويدوم إلى الأبد. 

سمعت ميّ حضرة عبد البهاء وهو يسرد قصة الناسك التالية:

‘بينما كان حضرة بهاء الله مسافراً مع بعض الأحباء، مرّ في طريقه ببلدة عَلِمَ من أهلها أن هناك ناسكاً يسكن وحيداً في كهف ليس ببعيد وهو رجل تقي وورع. سمع الناسك بأن سيدنا ومولانا حضرة بهاء الله سيمرّ بهذا الطريق، ولذلك أخذ يرْقُبُها بكل شغف بانتظار قدومه. وعندما وصل حضرته جاء الناسك وركع وقبَّل غبار قدميه وقال له: يا سيدي، إنني رجل فقير أقيم في كهف قريب من هنا، وسوف أعتبر نفسي أسعد إنسان في الوجود لو تكرّمت وزرتني في كهفي ولو للحظات وباركْتَهُ بحضورك. أجابه حضرة بهاء الله بكل لطف ومحبة بأنه سوف يأتي ليس للحظات بل لثلاثة أيام، وأمر الأحباء أن ينصبوا خيامهم وينتظروه.

‘طارالناسك الفقير فرحاً وغِبْطةً عندما جلس مع حضرته في الكهف وهو أمام مولاه البهي يكلِّمه ويعلّمه. بقي صامتاً تماماً احتراماً وخشوعاًً، وما أن حلّ المساء حتى تذكّر الناسك أنه لا يملك شيئاً يقدّمه لضيفه العزيز إلا قطعة من اللحم المجفف والخبز الأسمر والماء الذي يجلبه من نبع قريب. ودون وعْيٍ منه ارتمى على أقدام سيده مبيّناً له ما يشعر به من حَرَجٍ شديد. نظر إليه حضرة بهاء الله مبتسماً وأراحه بكلماته حين طلب منه أن يُعِدَّ اللحم والخبز والماء ليتناولا معاً طعام العشاء. وهكذا شاركه سيد العالم طعامه المتواضع وكأنه وليمة فاخرة. ظل هذا طعامهم الوحيد طيلة الأيام الثلاثة وكان بالنسبة للناسك ألذّ ما ذاقه في حياته، وبالنسبة لحضرة بهاء الله كما تفضل: لم يُستَقْبَل بضيافة ومحبة أعظم من ذلك. وعندما انتهى المولى من سرد القصة وضّح بأن ما حدث يُظهِر كيف أن جميع الناس، من أغناهم إلى أبسطهم، لا غنى لهم عن محبة الله حتى يشعروا بالسعادة الحقيقية مهما استمتعوا بأطايب الطعام وألذِّه.’

31 فِداءُ الغصن الأطهر

وتسترسل الورقة المباركة العليا بقولها:

مضى على حضرة بهاء الله وعائلته والأحباء سنتان وهم في السجن في عكاء في جو رهيب من الصعب جداً تحمّله. كان حضرته يمضي وقته في غرفته منشغلاً بتنزيل الألواح والآيات التي غالباً ما كان يدوِّنها ابنه الأصغر ميرزا مهدي والملقب بالغصن الأطهر لأنه كان سريع الكتابة، ثم يقوم حضرة عبد البهاء باستنساخها وإرسالها للأحباء في الخارج بواسطة صديقه الطبيب. 

في مساء أحد الأيام في أواخر السنتين، حضر الغصن الأطهر إلى غرفة الجمال المبارك كعادته لتدوين الألواح المباركة مع أنه كان يشعر بتوعُّك في صحته مثل باقي أفراد العائلة، فنصحه والده أن يذهب للراحة في تلك الليلة. ورغبة منه في استنشاق الهواء النقي بعض الشيء صعد السلّم الخشبي الموجود في الغرفة التي يُقيم فيها، والمؤدي إلى فتحة في السقف، وأخذ يتمشّى وينظر إلى السماء وهو يقرأ المناجاة. وبينما هو كذلك في حالة من الانجذاب إذا به يختلّ توازنه ويسقط من الفتحة على أرض الغرفة. لم يكن في الغرفة أحد. وعلى أثر صراخه هرع أحد الأحباء ليجده مرتمياً وينزف دماً من فمه. سمع حضرة بهاء الله الصراخ ودخل الغرفة ليجد ابنه العزيز في تلك الحالة. نظر إليه متأمّلاً ثم رجع إلى غرفته وتفضل: ‘لقد رحل مهدي.

حُمِل الغصن الأطهر ووُضع على فرشة على الأرض ثم عاد الجمال المبارك وجلس بجانبه إلى أن حضر الطبيب. فحصه بدقة وأفاد بأن لا أمل في شفائه وغادر. خيّم الحزن الشديد على الجميع وأخذ الكل يدعو له بالشفاء. اقترب منه الجمال المبارك وسأله: ‘ماذا تتمنّى يا مهدي، أتريد أن تعيش أم أنك الآن تفضل الموت؟ أخبِرْني بأفضل أمنياتك.’ أجابه الغصن الأطهر : ‘لا يهمني أن أعيش، بل إن غاية ما أتمناه أن يتمكن الأحباء من رؤية سيدهم ومحبوبهم، فإذا حقّقتَ لي هذه الأمنية حققتَ كل ما أطلبه في هذا العالم.’ فأجابه حضرته: ‘لك ما تريد.’ كان يقف بالقرب منهم أحد الجنود المكلفين بالحراسة فشاهد ما جرى وتأثّر كثيراً.

بعد ثلاثين ساعة من سقوط الغصن الأطهر صَعِدت روحه الطاهرة إلى الملكوت الأبهى، ولم يكن مسموحاً للسجناء بمغادرة جدران السجن حتى لو كان السبب دفن موتاهم، وحتى لو سُلِّم هذا الجثمان الطاهر إلى شخص يقوم بدفنه في الخارج، فكيف سيطمئن الجميع بأنه دُفن بالشكل اللائق؟! بل إن ثمن الكفن أيضاً لم يكن متوفراً. بقي الجميع في حيرة من أمرهم، وعرضوا الموضوع على الجمال المبارك، فما كان منه إلا أن قدّم سجادته لبيعها والتصرّف بثمنها، وهي السجادة التي كان يرتاح في الجلوس عليها. تردد الجميع في تقبّل الفكرة، إلا أنها بيعت نتيجة إصرار حضرته، وأُعدّ الكفن ولُفّ به الجثمان الطاهر وحمله الحرّاس إلى الخارج للدفن، ولم يعرف الجميع أين دفن في ذلك الوقت.(19)

من الطبيعي أن تغرق والدتي في بحر من الحزن الشديد على فقدان نجلها الصغير، ولكن حضرة بهاء الله واساها بعبارات نقلتها من حالة الحزن والكآبة إلى الراحة والاطمئنان فتفضل: ‘لقد افتداه الله بفتح أبواب السجن أمام أحبائه، فافرحي بأن لك ولداً عزيزاً على الله على شأنٍ افتداه لأمره العزيز.’

ارتاحت والدتي بهذه الكلمات كثيراً وقبّلت يدي حضرته شاكرة حامدة، ولم تذرف بعدها الدموع.

ما أن مرّت فترة قصيرة حتى أبدى حضرة بهاء الله رغبته في مقابلة الحاكم، وكان قبل ذلك يرفض مقابلة أي من المسؤولين. حمل هذه الرغبة ذلك الجندي الذي شهِد حادثة وفاة الغصن الأطهر وتأثر بها كثيراً. صدرت الموافقة وذهب حضرته وقابل الحاكم في مقرّه أمام الموظفين الرسميين، وخاطب الجميع شارحاً لهم مدى صعوبة افتراق أحبائه عنه في الخارج، وما يشعرون به من ألم وحرمان، وذكّرهم بحادثة وفاة ولده العزيز. كانت لهجته من القوة والهيمنة والعظمة بحيث لم يجد الحاكم بُدّاً من منح حضرته ما يريد… وهكذا فتحت أبواب السجن.

على أثر هذا القرار انتقل حضرة بهاء الله إلى منزل يعرف بـِبيت عبّود مكوّن من ثلاث غرف شريطة ألاّ يغادره أبداً. أما باقي الأحباء فقد نقلوهم للإقامة في خان المدينة. 

وبذلك استطاع الأحباء الزائرون أن يتشرفوا بمحضره الأنور في هذا المنزل الذي أقام فيه مدة سبع سنوات ولم يغادره.

19. دفنت رفاة الغصن الأطهر بدايةً في مقبرة النبي صالح بعكاء، وبعد خمسين سنة نقلت لتستقرّ على سفح جبل الكرمل في مرقد خاص به قرب المقام الأعلى.

32 زواج حضرة عبد البهاء

لزواج حضرة عبد البهاء قصة طريفة ترويها لنا شقيقته الورقة المباركة العليا:

‘بعد خروجنا من الثكنة العسكرية وإقامتنا في بيت عبود بدأنا أنا ووالدتي نفكر في زواج حضرة عبد البهاء، فأخذنا نبحث عن فتاة مناسبة له دون أن يعلم. أخيراً وقع اختيارنا على فتاة جميلة تسكن في سوريا، وحتى نضع حضرته في موقف لا يستطيع فيه الرفض، دَعَوْنَا الفتاة لزيارتنا في عكاء. وبعد أيام حضرت مع أخيها وأقامت في منزل أحد أعمامي.

‘أخذنا نهيّئ ظروف الزواج وحضرته لا يعلم شيئاً حتى ذلك الحين، إلا أن بعض الأحباء تناقلوا الخبر بأن المولى سيتزوج قريباً، ولذلك كانت الفرحة بادية على وجوههم، خاصة وأن حُلْمَهم سيتحقق في إنجاب مَن سيخلُفُ حضرته في إدارة شؤون الأمر الإلهي. وهل يخفى على حضرته شيء من هذا القبيل؟! لقد شعر بأن شيئاً ما يُحاكُ في الخفاء وأنه يتعلق بزواجه. سأل أهل بيته: ‘ماذا يحدث، لماذا يبتسم الكل في وجهي، هل تُعِدّون لزواجي؟. فإذا كان هذا مرادكم فغضّوا النظر عن الموضوع.’

‘كان رفضه نابعاً من عطفه على مَنْ ستشاركه مِحَنَهُ وآلامَهُ، ولذلك طلب منا عدم مفاتحته بالموضوع نهائياً، الأمر الذي اضطرنا أن نخبره بما فعلنا من أجله وسألناه: ماذا سنفعل بالفتاة التي أحضرناها من سوريا وهي الآن في حيفا؟ أجاب حضرته: ‘سأسعى في تزويجها بنفسي.’ وبالفعل اختار لها زوجاً مناسباً وتم عقد قرانهما وعاشا سعيديْن.

‘ولنرجع إلى الوراء قليلاً في زمن حضرة الباب لنرى ما كان له ارتباط بقصتنا هذه. ففي إحدى المناسبات زار حضرةُ الباب أحدَ البابيين المخلصين في منزله، وفي سياق الحديث أخبره الرجل بأن سعادته بقدوم حضرته لا توصف وأنه متزوج منذ عشر سنوات ولم يرزق بطفل حتى الآن وهذا ما يحزنه، فطلب من حضرته أن يدعو له من أجل مولود، فوعده خيراً.

‘وما أن مرّت تسعة شهور حتى كان للزوجين مولودة أسمياها فاطمة. كبُرت وترعرعت في ظل والديها، وكعادة أهل إيران فقد خُطبت لإبن عمها منذ ولادتها ولم ترَه إلى أن كبُرت وأصبحت يافعة. كان خطيبها يحلم بيوم زفافه منها، إلى أن جاء الوقت المناسب وجهّز بيته وأتمّ جميع ترتيبات الزفاف. وفي اليوم المحدد توجه العريس إلى منزل عروسه لعقد القران. وما أن وصل حتى حدث شيء غريب تماماً. لقد رفض العريس رؤية عروسه وحتى فكرة الزواج منها. سألوه عن السبب فقال : لا أعرف، كل ما أعرفه أنني لا أستطيع رؤيتها. لم يأبه الأهل بكلام العريس وسارعوا إلى إتمام إجراءات الزواج وعَقْد القران وبذلك انتقلت فاطمة إلى بيت الزوجية، ولكنها عاشت بعيدة عن زوجها بالكلية، ومن الطبيعي أن تغرق في أحزانها على ما أصابها، وتمرّ الأيام عليها ثقيلة كئيبة، وإذا بفاطمة تُفجع بموت زوجها المفاجئ ولم يمضِ على زواجهما سوى ستة أشهر. 

‘غرقت فاطمة في حزن وكآبة شديديْن، وقررت في نفسها ألاّ تتزوج ثانية. وذات يوم توجهت إلى والديها ورجتهما أن يرسلاها إلى الأرض الأقدس لتُمضي بقية حياتها خادمة في البيت المبارك في حيفا. وبسبب حالتها النفسية وافق الوالدان واستطاعا أن يحصلا على الإذن بالتشرف بالزيارة، فأتت العائلة إلى حيفا ثم عكاء.

‘شعرنا جميعاً على مرّ الأيام بارتياح تجاه هذه الفتاة وتمنيناها زوجة لحضرة عبد البهاء. ومرّت ستة أشهر عندما طلب الجمال المبارك حضرة عبد البهاء إلى غرفته وفاتحه بموضوع الزواج وسأله: هل تمانع في الزواج من هذه الفتاة؟ أدرك حضرته أنه لم يكن مجرد سؤال بل هو دعوة للزواج ممّن أختارها له، فما كان من المولى إلا أن أذعن لرغبة والده ووافق.

‘بموافقته تنازل عن كل رغباته أمام رغبة والده والعائلة، ومن المؤكد أنه مال بقلبه لتلك الفتاة. عمّ السرور قلوب الجميع وأخذتْنا الفرحة بعيداً عن التفكير بما بعد الزواج. لم تكن في المنزل غرفة مناسبة نخصّصها لحضرته، ولا نريد أن نخسره إذا أقام بعيداً عنا لأن وجوده معنا ضروري لسعادتنا.

‘كان صاحب بيتنا يقطن في منزله الملاصق لنا، أخبرناه بالمشكلة وأخذ يفكر معنا في كيفية حلها إلى أن وافق أخيراً على ضمّ غرفة من منزله إلى بيتنا. وهكذا أزيلت جميع العقبات.

‘كانت حفلة الزفاف بسيطة للغاية إذ أعدّ حضرة عبد البهاء جميع الترتيبات اللازمة. وتخبرنا حَرَم حضرته (منيره خانم) في وقت لاحق قائلة: كان المدعوون للزفاف قليلين: آسية خانم، بهيه خانم، ثم زوجة عبود (صاحب المنزل) وبناتها الثلاثة – عرضَتْ عليّ إحداهن أن تصفِّف شعري فرفضتُ وفضلتُ أن يبقى بجديلتين. خاطبني حضرة بهاء الله بصوته الحنون: يامنيره، يا ورقتي، اخترتُ قَدَرَكِ أن تكوني زوجة لغصني الأعظم، إنها عناية الله وفضله عليكِ ليس أعظم منها موهبة في الأرض والسماء. اخترتُكِ من بين الكثيرات. فيا منيره، كوني أهلاً له وأهلاً لكَرَمنا نحوكِ.

فلو استطعت أن أصف مشاعري في تلك اللحظات من فرح غامر لأصبح مجلد مثنوي سبعين مجلداً، وتمنيت ألا تنقضي تلك الساعة. والتفَتَ حضرة بهاء الله إلى المولى وقال له: ‘عُدْ باكراً هذا المساء لأنك ستُزَفُّ إلى عروسك هذا اليوم.’ وتلا حضرة بهاء الله الدعاء وكنا وقتها في نشوة روحانية لا توصف بكلمات البَشَر.(20) 

وتتابع الورقة المباركة العليا حديثها قائلة:

‘اشتركتُ مع والدتي في خياطة ثوب الزفاف من القماش الأبيض. وفي الساعة التاسعة مساءً ذهبتُ مع والدتي إلى محضر حضرة بهاء الله لنيل بركاته، ومن هناك توجهنا إلى غرفة الزفاف وانتظرنا قدوم المولى الذي حضر في الساعة العاشرة يرافقه الضيوف. تلت منيره خانم (العروس) لوحاً مباركاً بقلم حضرة بهاء الله، ولم يكن هناك من موسيقى ولا من فرقة تعزف ولا حتى من الحلويات في شئ أو من علائم الزينة، بل قُدّم للحاضرين الشاي فقط، لأن الذي خيّم على الجميع جوّ المحبة والعظمة في تلك البساطة المهيبة مما أبهج الجميع وغرقوا في بحر من السرور والسعادة التي لا توصف وسهروا حتى ساعة متأخرة من الليل.

وتصف منيره خانم مشاعرها في ذلك الحين قائلة:

غادر الضيوف وأصبحت أنا زوجة لمحبوبي. كم كان رائعاً في جماله، لقد عشقته وأدركت عظمته وشكرت الله على عطيته. قضينا معاً خمسين عاماً لم نفترق فيها سوى في رحلاته إلى مصر وأوروپا وأمريكا. رُزقنا بأولاد مات منهم خمسة بسبب رداءة الجو المسموم في عكاء، وهذا هو السبب المادي الظاهر، أما السبب الروحاني الخفي فلم تكن إرادة الله أن يترك المولى ولداً ذكراً بعده. بقي من بناتي أربعة على قيد الحياة.

وفي سردٍ عن جانب من حياتها تضيف منيرة خانم قولها: ( كتاب الليدي بلومفيلد 84–90)

‘… كنت دائماً وأنا طفلة شغوفة بالتفكير في حياة الرسل والأنبياء: السيد المسيح والرسول عليه الصلاة والسلام وآخرين، وأتحَسَّر لو خُلقتُ في زمانهم لأراهم.

‘ذات يوم سافر والدي إلى بغداد وعلمتُ بأنه سيزور حضرة بهاء الله. كان عمري وقتها تسع سنوات أدركت في حينها أن والديّ اعتنقا ديانة جديدة مقدسة. أخذتُ أتأمل ماذا ستكون عليه تلك الديانة! ومن الطبيعي أن تبقى معي الشكوك تجاهها وتخوّفي من مدى نفوذها وأهميتها بما لمَسْتُه عند والديّ العزيزيْن من تحوّل في حياتهما بفضل تأثيرها.

‘وذات ليلة رأيت في منامي حلماً لا زلت أذكره وأحمل المشاعر نفسها كلما سردته. حلمت بأنني أحمل أشياء كثيرة بيديّ وأمشي وأنا أجرّ قدميّ وسط الرمال في صحراء ممتدة لا نهاية لها. بقيتُ كذلك حتى نَفِدت قواي ولم أعد قادرة أن أخطو خطوة واحدة بذلك الحمل الثقيل، فجلستُ منهوكة القُوى. وأنا كذلك إذْ بي أجد فجأة أمامي نهريْن بينهما جسر ممدود، قمتُ ومشيْتُ عليه. وقفت ثم اتكأت على جانب الجسر ونظرت فرأيت رجلاً قدّيساً طاعناً في السن يقترب مني وسألني: ماذا تريدين؟ إلى أين أنتِ ذاهبة؟ فأجبته بكل لهفة: أتوق للذهاب إلى مدن الله المقدسة، إلى البيت المبارك، الحب، البهاء. فأجابني: أتذهبين إلى تلك الأماكن البعيدة وأنت تحملين ما تحملين من معوّقات الدنيا! تخلّصي منها يا ابنتي أولاً، وبعد ذلك ستُمْنَحِين القوة لتحقيق رغبتكِ. 

‘تخلّصْتُ في الحال من كل ما أحمل ثم نظر القدّيس إليّ وأمسك بيدي وأخذني إلى النهر الأول ثم الثاني، وبعد ذلك وجدت نفسي فجأة أطير بلا أدنى جهد فوق منطقة جميلة ساحرة بمنتهى السعادة والنّشْوة وكأنني أُحَلِّّق في الجنة. وصلتُ في طيراني إلى مدينة رأيتها تشع بأنوار المجد والعظمة وعلى جدرانها قرأت كلمات كانت مكتوبة بالعربية بحروف برّاقة:

حُبّ، بهاء البيت المبارك

البيت المبارك حب، بهاء

بهاء، البيت المبارك ، حب

‘وهناك في المدينة شاهدت معبداً كبيراً يجتمع فيه كل القِدّيسين ورسل الله وأنبياؤه، وكان لي الشرف أن أَمْثُلَ أمامهم: المسيح، موسى، عيسى وكل الرسل الذين أعرفهم عليهم صلوات الله، وفي ركن من أركان المعبد كان يجلس الرسول محمد عليه السلام. مدّ يده وأعطاني عقداً من الألماس البرّاق فتناولته بنيّة إعطائه لوالدتي، وعندما حاولتُ الطيران ثانية أفقتُ من منامي.

‘بدا لي أن ذلك الحلم الذهبي قد جاءني ليجيبني عن رغباتي الشديدة وابتهالاتي في هذا الوقت. رجعت بذاكرتي إلى الوراء عندما كنت فتاة في أصفهان. علمت حينها من المؤرخ النبيل، أن الجمال المبارك مسجون في قلعة في عكاء خلف جدران حديدية لا يمكنه الخروج منها، فانفطر قلبي عندما فكّرتُ بحضرته الذي يعشق البحار والتلال والسهول والحدائق والزهور والهواء الطلق، وهو الآن في تلك الظروف القاسية! أغلقتُ على نفسي باب الغرفة وأخذتُ في البكاء بكل حرقة.

‘مرّت الأيام وجاء اليوم الذي لن أنساه عندما وصل شخص يدعى الشيخ سلمان إلى إصفهان ليخبرني بدعوة حضرة بهاء الله للتشرف بمحضره الأنور في عكاء. كنت في فرح كبير لا يوصف لأن أيام حياتي طالت حتى أرى مولاي وسيدي، ومع أن الرحلة سوف تكون محفوفة بالصعاب والمعاناة التي لا يمكن وصفها والمخاطر التي يصعب التكهُّن بها، فلا شيء من هذا يمكن أن يُقارَن بابتهاجي ونشوة فرحي في أن أبدأ رحلة حجّي ومعراجي. وهكذا وجّهت وجهي نحو محضر القداسة والألطاف.

‘انطلقت مع أخي والشيخ سلمان مغادرين إصفهان إلى عكاء. كان من الضروري توخي الحذر وإخفاء المكان الذي سأتوجّه إليه، وكان محظوراً علينا أن نتّصل بأحد على الإطلاق لأن ميرزا حسن وميرزا حسين، وهما من أبناء عمومتي، اعتادا أن يقدّما المساعدة اللازمة للبابيين في محنتهم وبمنتهى السّريّة خوف أن يُعرفا بأنهما بابيّيْن، وكانا أول من يُرسِل المساعدات المادية للمنفيين في عكاء والأحباء المحتاجين في الموصل بالعراق، وكان فخرهما بالنتيجة أن تجرعا كأس الشهادة في سبيل محبوبهما عام 1878م ولقّبهما حضرة بهاء الله بـِسلطان الشهداء ومحبوب الشهداء.

وحتى أصف رحلتي فإنني بحاجة إلى صفحات تملأ كتاباً. فمن إصفهان توجهنا إلى شيراز، لا يمكن وصف مشاعري وأنا أدخل هذه المدينة المقدسة، مسقط رأس حضرة الباب ومطلع نور الله. بدا لي أن الهواء ملئ بتراتيل الملائكة وبالنغمات والألحان الجميلة المبشّرة بالفرح والسرور وكأنني أسمعها، فأصغيت إليها بكل بهجة وسرور. نزلتُ ضيفة في منزل أحد الأفنان وقابلتُ حينها حَرَمَ حضرة الباب خديجه بَگُمْ وكانت مكسورة الفؤاد باستشهاد حضرته، ومع حزنها الشديد فقد قابلتني بكل ترحاب وجعلتني أزور الغرفة التي ولد فيها حضرته، ولدى مغادرتي شيراز حمّلتني بأمنيتين لأنقلهما إلى حضرة بهاء الله:

  • أن يكون هناك ارتباط بالزواج بين عائلتَيْ الأغصان والأفنان.
  • حصولها على إذن بالتشرف بزيارة الأرض الأقدس.

‘فالأولى حصلت بزواج ضيائية خانم (ابنة حضرة عبد البهاء) من ميرزا هادي أحد الأفنان وكانت ثمرته حضرة شوقي أفندي، وزواج طوبا خانم ( ابنة حضرة عبد البهاء) من ميرزا محسن من الأفنان أيضاً، أما بخصوص الأمنية الثانية فقد مُنِحت الإذن من حضرة بهاء الله لزيارة الأرض الأقدس إلا أن ظروفاً صعبة عصفت بشيراز منعتها من تحقيق حلمها ثم مرضت وصعدت روحها الطاهرة لتلتحق بقرينها المحبوب، حضرة الأعلى.

‘واصلنا رحلتنا، والحزن يملأ قلبينا أنا وأخي خوفاً من ألا نراها ثانية في هذا العالم، إلى أن وصلنا الإسكندرية ومنها ركبنا الباخرة إلى عكاء، وبينما نحن نقترب من الساحل تلقينا خبراً يقول: لا تنزلوا البرّ حتى يأتي مَن يصطحبكم. انتظرنا طويلاً ولم يأتِ أحد حتى فكرنا بأن الباخرة سترجع بنا، وأخيراً شاهدنا زورقاً قادماً نحونا وسمعنا واحداً ينادي: شيخ سلمان! شيخ سلمان! طرنا من الفرح وركبنا الزورق ثم أخذنا ننشد ونغني إلى أن وصلنا مدينة عكاء، وعِشت فيها في فردوس حقيقي.’

20. من كتاب ''The Chosen Highway'' لليدي بلومفيلد، ص 88–89.

33 إيصال الأمانة

أصدرت الحكومة العثمانية أمراً بإبعاد أحد الباشاوات، ويدعى عبد الله الضلعي، من صنعاء(في اليمن) إلى مدينة عكاء ليعيش وحيداً مع خادمه فقط. نفّذ الأمر وجاء إلى عكاء، ولكنه لم يجد له مكاناً يسكن فيه إلا في غرفة صغيرة في المسجد الجامع هناك حيث أقام فيها وعاش حياة بسيطة مع خادمه. 

ومع اختلاط الباشا بالناس ومعاشرته لهم تعرَف إلى حضرة عبد البهاء وعلم عن مآثره وصفاته وأعماله الإنسانية الشيء الكثير. حدث بعد مدة أن أُصيب الباشا بمرض عضال أقعده الفراش مدة طويلة، ولما اشتد عليه المرض وشعر بقرب أجله أرسل في طلب المولى ليزوره، وأثناء الزيارة توجّه الباشا إلى حضرته قائلاً: ‘يا عباس أفندي! إن لديّ سرّاً أخفيته عن كل الناس وأريد أن أبوح به إليك آملاً في مساعدتك. إن في حوزتي حقيبة وضعتُ فيها ذهباً تُقَدّر قيمته بسبعين ألف قرش (ما يعادل700 جنيه فلسطيني)، وبعد وفاتي أريد إيصال هذه الحقيبة إلى ابنتي في صنعاء والتي لا أعرف مكانها، وزوجها قاسٍ جداً ويسئ معاملتها ولا أريده أن يعرف شيئاً عن هذه الحقيبة، فأنت الوحيد الذي أثق به في إيصال هذه الأمانة وتنفيذ وصيتي. ولكن أرجوك أن تأخذ من الذهب ما قيمته (500) قرش لدفع مصاريف جنازتي مع الدفن.

وافق المولى على طلب الباشا، إلا أنه امتنع عن استلام الحقيبة بما فيها من أموال بطريقة سرية كما رغب الباشا، فاستأذنه حضرته وخرج من عنده ثم عاد فوراً ومعه شاهدان، وبحضورهما استلم المبلغ وحرر وصلاً بذلك ووقّعه باعتباره سنداً على نفسه بالأمانة، ووعد الباشا أن يبذل جهده في تنفيذ وصيته والعثور على ابنته وتسليمها ما يخصّها بيدها.

مات الباشا مطمئن البال، وبعد مراسيم الدفن طلب حضرة عبد البهاء أن يأتي شاهد من المحكمة ليحصي الذهب ويتأكّد من مطابقته لما جاء في وصل الأمانة. أتمّ الشاهد عمله وحرر إيصالاً بمحتويات الحقيبة ثم سلّمها للمولى ثانية لتنفيذ ما جاء في وصية الباشا. ولكن… هناك معاش شهرين للمتوفى عند الحكومة، فسعى حضرته بكل مشقة وقبضَ المبلغ فيما بعد وأضافه إلى الأمانة، وكذلك هناك بعض المُتَعَلَّقات في المنزل من أثاث وغيره. خصّ حضرته الإبنة ببعضٍ من تلك المتعلقات وأعطى الباقي للخادم. وكان حضرته قد رتّب ما يلزم للجنازة والدفن ودَفَعَ تكاليف ذلك من جيبه الخاص رغبة منه في أن يبقى الذهب كاملاً، وعندما دفعت الحكومة كل هذه التكاليف لم يستردها حضرته لجيبه بل أضافها إلى الذهب في الحقيبة. بعد ذلك شرع في التدابير الآمنة لإيصال الأمانة إلى صاحبتها.

كان السفر في تلك الأيام محفوفاً بالصعاب والمخاطر، فما بالك إذا كان المسافر يحمل ذهباً!

اختار المولى رجلاً بسيطاً من بين الأحباء، يعيش عيشة الدراويش ويتحرّق شوقاً لخدمة مولاه في مهمات صعبة وخطيرة، وعَهِد إليه في إيصال الحقيبة إلى الابنة وتسليمها باليد مع متعلقات منزل والدها.

زوّد حضرته الدرويش بكل ما يلزمه من مصاريف السفر وتعليماته وإرشاداته في كيفية العثور على الإبنة. وهكذا، بدأ الدرويش رحلته الطويلة متخطِّياً كل الصعاب والأخطار بالحكمة والصبر والتعقّل دون أن يلفت إليه الأنظار، واستطاع أن يعثر على الابنة في صنعاء وأن يسلّمها الأمانة كاملة ودون علم زوجها، وأن يرجع إلى عكاء بعد رحلة دامت خمسة أشهر.

قابل الدرويش المولى وبشّره بإتمام مأموريته بسلام وأمان مقدِّماً له شهادة من المحكمة الشرعية في صنعاء باليمن ومضبطة من مجلس إدارة المدينة وبلديتها بوصول ذلك المبلغ إلى وارثه الشرعي ووصلاً موثّقاً مُوَقَّعاً من الإبنة نفسها. وبذلك أنهى المولى مهمته بكل دقة وإخلاص.

34 السجادة الحريرية

قَدِمَ إلى حيفا أحد الزائرين الأحباء يحمل معه هدية لحضرة عبد البهاء، وهي سجادة مصنوعة من الخيوط الحريرية بلونها الفضي والذهبي، ومزيّنة بنقوش جميلة تمثّل ورود الحديقة وزهورها. قدمها الزائر لحضرته ورجاه أن توضع في مكان مناسب بحيث تطؤها أقدامه المباركة في الدخول والخروج.

عندما شاهد حضرته تلك السجادة الثمينة موضوعة على الأرض تفضَّلَ بأنها سجادةٌ هي أثمن من أن تطأها الأقدام، ولها مكانها في موضع آخر. وبعد عدة أيام سافر المولى مع الزائرين إلى عكاء بالقطار، ومن المحطة هناك ركب أتاناً أبيض اللون مسافة قصيرة حتى وصل إلى قصر البهجة حيث المرقد المبارك لحضرة بهاء الله، ثم ترجّل ومشى نحو الروضة المباركة والأحباء يمشون خلفه وهم يرتّلون الأشعار الأمرية بغاية الفرح والسرور.

خفتت أصواتهم عندما وصلوا، ثم ساد صَمْتٌ قَطَعه صوتٌ بلحنٍ جميل يرتفع بالمناجاة. بعد ذلك تقدم حضرة عبد البهاء وبيده السجادة الحريرية، رفعها بكل احترام ووضعها على الرمس المطهّر بكل وقار وإجلال.

35 مُعَلِّمُ المدرسة

من بين أصدقاء حضرة عبد البهاء رجل مسيحي يعمل معلماً في مدرسة بحيفا ويقيم مع عائلته المكوّنة من زوجته وبنتيه. كانوا سعداء في حياتهم رغم صعوبتها، فهم فقراء وراتبه في المدرسة لايكفيه. مرضت الزوجة يوماً مرضاً شديداً، وأخذت حالتها الصحية تتدهور إلى أن توفّيت، وبذلك فَقَدَ الأب مَنْ كان يعتني ببنتَيْه، حتى أنه لم يستطع إرسالهما إلى المدرسة بعد ذلك بسبب ضيق حالته المادية. 

صادَف أن جاءت لزيارة حيفا سيدة بهائية من أمريكا، وبعد أن انتهت من زيارتها أبدت رغبتها في التبرع بمبلغ لحضرة عبد البهاء شخصياً أو لبعض مشاريع الأمر المبارك. شكرها حضرته، إلا أنه عرض عليها أن تتبرع بالمبلغ لذلك المعلم حتى يستطيع إرسال ابنتيْه إلى المدرسة. فوافقت وبذلك تمكنت الفتاتان من الدراسة.

كان أغلب الناس في ذلك الوقت يعتقدون أنه ليس من الضروري تعليم البنات، إلا أن حضرته يعلم تماماً أن تعليم البنات أمر هامّ للغاية، فإذا كُنّ متعلمات يصبِحْنَ قادرات على تعليم أطفالهنَّ وتدريسهم ومساعدتهم وتوعيتهم بمحبة الله ومحبة الناس والعيش حياة طيبة سعيدة.

36 اللُّصوص

توجهت مجموعة من الأحباء من إيران لزيارة حضرة عبد البهاء في حيفا، وأثناء طريقهم توقفوا في تركيا لأخذ قسط من الراحة ونزلوا ضيوفاً عند الأحباء. وعندما همّوا بالمغادرة ومواصلة رحلتهم الطويلة، حمّلهم الأحباء بعض النقود الفضية لتقديمها هدية لحضرة عبد البهاء.
استمرت رحلتهم ثلاثة أشهر كانت صعبة وبطيئة، إلى أن وصلوا مدينة عكاء وأخذوا يسيرون في شوارعها، وبينما هم كذلك إذا ببعض اللصوص يوقفونهم ويهدّدونهم وبدأوا يفتحون حقائبهم ويأخذون ما فيها من أمتعة وملابس وهدايا إلى أن وصلوا إلى الحقيبة التي تحتوي على النقود الفضية، فأخبرهم الأحباء بأنها تخصّ مولانا حضرة عبد البهاء. وما أن سمعوا باسمه حتى شعروا بالخجل والحياء. هم يعرفونه جيداً، فهو الذي كان يساعدهم عندما كانوا فقراء يلسعهم البرد وينهش معدتهم الجوع. طأطأوا رؤوسهم خجلاً وقالوا للأحباء: ما دامت هذه نقوده فخذوها، ولا يمكن أن ننسى كم كان يواسينا ويُطعمنا ويكسونا ويؤمّن لنا المأوى.

37 طلقات نار في الظلام

مرّ على مدينة حيفا وقت عاش أهلها في رعب وقلق واضطراب من كثرة المشاكل بين الناس. وفي أحد الأيام أخذ رجل مسلّح يسير في الشارع ويطلق النار هنا وهناك دون تحديد. كثيرٌ مِثْلَه يفعلون هذا، ولم يستطع رجال الأمن مَنْعَهم لأنهم رجالٌ خطِرون جداً والأحوال صعبة للغاية.

من الطبيعي أن يقلق الأحباء على حضرة عبد البهاء وعلى سلامته وهو الذي اعتاد أن يخرج في الليل لوحده يتفقّد أحوال الفقراء ويقدّم لهم المساعدة اللازمة.

ذات يوم بعد منتصف الليل، بينما كان حضرته عائداً من زيارته لهم، مشى خلفه أحد الأحباء ليطمئن على سلامته، وفجأة سَمع طَلْقاً ناريّاً في أحد الشوارع المظلمة القريبة منه، ثم تبِعَه إطلاق نارٍآخر فأسرع البهائي نحو حضرته لحمايته، وفي تلك الأثناء لمعت طلقة ثالثة استطاع على ضوئها أن يرى البهائي رجليْن يهربان، إلاّ أن حضرة المولى ظلّ يمشي بهدوء وسكينة ولم يتباطأ في مشيته أو يتوقف أو حتى يلتفت ليرى ماذا يحدث، ولم يظهر عليه الخوف أبداًً. كان في قبله يقرأ المناجاة ويثق بأن الله سبحانه وتعالى حافِظُه. ولن يسمح لأحد، حتى لو كان يحمل سلاحاً، أن يَثْنيه عن زيارة الناس الذين يحتاجون مساعدتَه ولو كان في خطرٍ عظيم.

38 الحُوذِيُّ اسفنديار

كان اسفنديار يخدم في البيت المبارك في حيفا ويعتني بعربة حضرة عبد البهاء والحصانيْن اللذيْن يجرّانها، فيحرص كل الحرص أن تكون العربة نظيفة على الدوام والحصانيْن نظيفيْن ناعميْن كالحرير. كان هذا الخادم الأمين مخلصاً طيّب القلب، وهو غير الخادم الذي كان يعتني بحضرة عبد البهاء حينما كان طفلاً في إيران ويحمل نفس الاسم. 

دُعِيَ حضرة عبد البهاء يوماً إلى احتفال من المقرر أن يضمّ شخصيات رسمية في حيفا. وكعادة اسفنديار، جهّز العربة لتقلّ حضرته إلى ذلك الاحتفال الهام. وبينما كان ينتظر في باحة البيت المبارك، إذْ به يرى سيارة فخمة سوداء تقف أمام البيت. شعر اسفنديار وكأن قلبه قد هبط من مكانه، وأخذ يتساءل مستغرباً: إنها سيارة حكومية ولا شكّ أنها أتت لتُقِلَّ حضرته، فهل يا تُرى استغنى المولى عن خدماتي؟! أخذه التفكير بعيداً وشعر بشيء من الحزن الخفي. ولكن، ما هي إلا لحظات حتى رأى أحد الأحباء مُهَرْوِلاً نحوه ليخبره بأن حضرة عبد البهاء بانتظاره ليُُقِلّه إلى مكان الاحتفال.

طار اسفنديار فرحاً وقاد العربة على الفور إلى البوابة الأمامية حيث تنتظر السيارة. صَعِد حضرته إلى العربة دون أن يلتفت إلى السيارة أبداً وكأنها غير موجودة، ثم انطلق اسفنديار بعربته في شوارع حيفا سعيداً فخوراً.

وصل المولى إلى منزل حاكم حيفا حيث وُضِعت الكراسي في الحديقة، وكان بعض الشخصيات الرسمية المهمة جالسين بانتظار حضرته ليصل بالسيارة. وكم كانت دهشتهم عندما شاهدوه يدخل الحديقة من بوابة جانبية وهو يسير بكل هدوء ووقار.

كان الاحتفال على شرف حضرة عبد البهاء لأنه بذل جهداً إنسانياً كبيراً في زراعة أراضٍ واسعة بالقمح والذرة أثناء الحرب العالمية الأولى وتوزيعها على الفقراء والجياع مما خفف على الناس من ويلات الحرب وآلامها. ولأجل هذا العمل النبيل أرادت الحكومة البريطانية أن تكرِّمه في هذا الاحتفال بمَنْحِه لقب فارس وأن تسلِّمه الميدالية المناسبة. 

عندما انتهى الاحتفال توجّه حضرته إلى العربة لتُقِلّه إلى منزله، ونظر إلى اسفنديار وتفضل قائلاً: ‘يمكنهم الآن أن يعودوا بسياراتهم الفارهة.’

39 حديقة الرضوان خارج عكاء

مكان جميل هادئ اشتراه حضرة عبد البهاء وجعل منه حديقة جميلة ليجد فيها حضرة بهاء الله الراحة والهدوء. يمر بجانبها جدول ماء، وفيها شجرة توت كبيرة تحيط ساقَها الضخم مقاعدُ للجلوس عليها. تنتشر في أنحاء الحديقة أشجار ونباتات كبيرة وصغيرة من مختلف الأنواع والأشكال والألوان والروائح العطرية الرائعة التي يحملها النسيم إلى كل مكان بذلك الأريج المنعش الذي يندُرُ أن تجده في مكان آخر. 

لقد صممها المولى وزرعها بمنتهى التناسق والجمال، واختار بنفسه أنواع الأشجار والنباتات، وأغلبها كان يجلبها الأحباء الزائرون الحجاج من إيران بناءً على طلب حضرته في رحلتهم الطويلة الشاقة مشياً على الأقدام رغم ما فيها من مخاطر النهب والسلب وقسوة الطقس الردئ. كانوا يحملونها وكأنهم يحملون كنزاً ثميناً حتى يزرعونها في حديقة محبوبهم، وغالباً ما كان الماء المتوفر معهم لشربهم يستعملونه في إرواء النباتات. وما أطفى على الحديقة مزيداً من الجمال والشذى شجيرات الورد باللون الأبيض التي جلبوها من قصر حضرة بهاء الله الريفيّ بإيران، وهي المفضّلة لدى حضرته، بساقها البني وأوراقها البرّاقة وأريجها الأخاذ.  

عاشت جميع الأشتال التي أحضرها الزائرون معهم إلى الأرض الأقدس ونمت وترعرعت بالماء والهواء النقي. ومن الجدير بالذكر أن الأحباء في كاليفورنيا وأوروپا ساهموا أيضاً بنصيبهم في إرسال بعض النباتات المختلفة، وبذلك تعدُّ الحديقة نموذجاً لاتحاد الشرق والغرب في تناغم وجمال رائعيْن رمزاً لاتحاد عائلة الجنس البشري في وحدة أخوية تنمحي فيها التعصبات الدينية والعرقية والقومية عن وجه البسيطة.  فالألوان والأشكال والروائح العطرية المختلفة قد اتّحدت لتشكّل منظراً رائعاً في الجمال ورائحة مسكيّة زكيّة تعطّر مشامً الناظرين والزائرين والساكنين.

40 الحديقة الجميلة

أسس المولى حديقة جميلة حول مرقد حضرة بهاء الله في عكاء، واعتاد أن ينقل إليها، من حديقة الرضوان خارج عكاء، حوالي مائة أصيص من الزهور مرتين في السنة يساعده في ذلك الأحباء المقيمون في عكاء والزائرون. فكانوا يحملون الأصص على أكتافهم ويسيرون بها وهم يرتّلون الآشعار الأمرية والمناجاة مسرورين جداً بما يعملون.

في ذلك الوقت كان حضرة عبد البهاء متقدماً في السن، ومع هذا كان يعمل في الحديقة ويقوم بما يلزمها من عمل شاق وصعب. كان يقف عدة ساعات يرفع الماء من البئر بواسطة مضخة يدوية، وعندما كان يشعر بالتعب الشديد يسند ظهره إلى الحائط ويستريح قليلاً، ثم يعاود الضخ ثانية … وهكذا، وعندما ينتهي من ضخ المياه كنا نراه يجلس من شدّة الإنهاك غيرَ قادر على المشي إلا عندما يَفْرُك الأحباء له رجليه لتسري الدماء في عروقهما، وبعد ذلك يبدأ مع الأحباء في نقل الماء بالجِرار لسقاية الزهور في قصر البهجة حول الروضة المباركة. كان الأمر يقتضي منهم أحيانا ستين مرة ذهاباً وإياباً لتأمين الماء اللازم. وأخيراً أصيب حضرته بالحُمّى.

رجاه الأحباء ألا يُتعِب نفسه بهذا العمل الشاق وأن يترك لهم نقل الماء، وبعد إلحاح منهم وافق بعد تردد حتى يُدخل الفرحة إلى قلوبهم، مع أنه شعر بضيق في نفسه بهذا القرار لأنه يريد دائماً أن يفعل شيئاً خاصاً لحضرة بهاء الله. كان يعشق العمل في هذه الحديقة، وبهذا العشق جعل منها حديقة جميلة للغاية.

مرّ أسبوعان على قراره ولم يستطع الانتظار أكثر، فدعا الأحباء وأخبرهم بأنه احترم رغبتهم ووافق على اقتراحهم وبناءً عليه لم يعمل في الحديقة طيلة هذه المدة، والآن يرجوهم أن يسمحوا له بالعودة إلى العمل فيها. 

شعر الأحباء بالحرج الشديد لأنهم أدركوا أنه لم يكن مرتاحاً عندما وافق على اقتراحهم، وكانوا يظنون أنهم ساعدوه في رغبتهم تلك، إلا أنهم سلبوه الشعور بالسعادة. وهكذا رجعوا جميعاً إلى ذلك العمل الشاق المُبْهج الذي أدخل السرور والسعادة إلى قلوب الجميع.

41 الخادم الصامت

يُعتَبَرُ ميرزا أبو الفضائل من العلماء البهائيين البارزين. أرسله حضرة عبد البهاء إلى أمريكا في بداية القرن الماضي من أجل مساعدة الأحباء هناك في التعمّق بتعاليم حضرة بهاء الله وقيامه على تبليغ الأمر المبارك أيضاً.

وبعد أن أدّى مهمّته بكل تفانٍ وإخلاص ،رجع أبو الفضائل من رحلته وتشرّف بزيارة حضرة عبد البهاء في عكاء. وصادف أن كان في الغرفة أحباء من أمريكا جاؤوا للتشرّف بزيارة حضرته والحج إلى الأماكن المقدسة في حيفا وعكاء. أخذ الأحباء في مدح أبو الفضائل على المساعدة التي قدّمها لأحباء أمريكا، وعلى نشاطه وقدرته في تبليغ أمر الله للكثيرين هناك، وفي دفاعه عن الدين ضد أعدائه. إذ في رحلته تلك جعل الأحباء جامعة قوية، وصاروا الآن متحمّسين للتضحية بوقتهم وراحتهم وأموالهم في سبيل خدمة الأمر وتبليغه، وكثير منهم هاجروا إلى أماكن بعيدة في قارة إفريقيا وآسيا وأستراليا لهذا الغرض النبيل.

وبينما كان الأحباء ينطقون بعبارات المديح تلك أخذ أبو الفضائل يتململ في مكانه وشعر بضيق وحَرَجٍ شديديْن حتى أنه لم يستطع تمالُكَ نفسه فانفجر بالبكاء. تعجب الأحباء كثيراً لأنهم لا يفهمون أبو الفضائل، وظنوا أنهم لم يعطوه حقّه من المديح على ما فعل في أمريكا فاحتاروا في أمرهم. ساد صمت وسكون كسره حضرة عبد البهاء حينما وضّح بأن مدحهم له قد آلمه كثيراً، لأنه يعتبر نفسه لا شيء في الأمر المبارك، ويعتقد في قرارة نفسه أنه لا يعمل شيئاً مهما كان يمكن أن يستحق عليه المديح، ذلك لأن البهائي الذي يقدّم خدماته للأمر المبارك إنما يقوم بها بقوّة حضرة بهاء الله وتأييده، وأي نجاح يحرزه بعد ذلك فإنه راجع لفضل حضرته وعناياته.

* * *

“الحكيم العارف والعالِم البصير هما بَصَران لهيكل العالم…”(21)

“كلمة هي بمثابة الربيع تخضرُّ بها أغراس بستان المعرفة وتنتعش، وكلمة أخرى كالسموم.”(2)

“… على الحكيم العارف أن يتكلم بكمال المداراة كي يفوز الكل بحلاوة البيان بما ينبغي للإنسان. يا حبيبي، إن الكلمة الإلهية هي سلطان الكلمات ونفوذها لا يُحْصَى.” (3)

21. "لوح مقصود" في "مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله"، ص 151، (الطبعة 1980).
(2 و3) المصدر السابق ص 153–154


42 الإيثار

بعد سنتين وشهرين وخمسة أيام فُتح باب السجن في عكاء أمام حضرة بهاء الله والأحباء، فنقلوا الأحباء ليقيموا في خان المدينة، وهو مكان لا يصلح للسكن بتاتاً، وخصصوا غرفة منه لحضرة عبد البهاء. كانت جميع الغرف قذرة جداً ورطبة تعجّ بالحشرات ومن الصعب الإقامة فيها دون إجراء الإصلاحات الضرورية، وكيف يصلحونها ولا يملكون من النقود شيئاً!

اضطرّ حضرة عبد البهاء إلى بيع سجادة كانت قد أُهدِيت له في بغداد، وبثمنها ابتدأ العمل في إصلاح غرف الأحباء وأبقى غرفته إلى النهاية. نَفِدَت جميع النقود وبقيت غرفته على حالها. جدرانها رطبة وسقفها تكثر فيه الفتحات التي يرشح منها الماء، وأرضها ترابية رطبة تكثر فيها الحشرات.

وضع حضرته سجادة صغيرة على الأرض ونام عليها ثم غطّى نفسه بجاعد من جلد الغنم. كانت الغرفة مليئة بالبراغيث، وما أن غطّ في النوم من شدّة التعب حتى أفاق على قرص البراغيث وظل مستيقظاً. أخذ يفكّر في خطّة تتيح له النوم بعض الشيء ولو قليلاً، فما كان منه إلا أن قَلَب الجاعد على الوجه الآخر وبذلك تحتاج البراغيث إلى بعض الوقت حتى تهتدي إلى جسمه، وهكذا كلما أحس بالقرص كان يقلب الجاعد حتى يطلُع الفجر. وعلى هذا الحال كان يقضي ليله الذي يجب أن يتّقي فيه شرّ البراغيث حتى ينام ويستريح ، إذ كان يضطرّ إلى قلب الجاعد من ثماني إلى عشر مرات في كلِّ ليلة.  

43 الأبُ العطوف

كان يوم الجمعة مختلفاً عن باقي أيام الأسبوع في حياة حضرة عبد البهاء، وقد وصفه لنا أحد الحاجّين إلى الأرض الأقدس بكلماته:

نظرت إلى الحديقة من الشباك فوجدت ما بين 200-300 رجل وامرأة وطفل متجمّعين في باحة منزل حضرة عبد البهاء. منهم الأعمى والمقعد والأكتع والمريض والضعيف والنحيل. إنها مجموعة ليس من السهل أن تجدها متجمّعة هكذا في أي بقعة من العالم. رأيت رجلا يلفّ جسمه بخرقة بالية ممزقة تكثر فيها الرُّقع، وامرأة عجوزاً تستر جسمها بثوب من الخيش المهترئ، وأطفالاً بثياب ممزقة تغطي قسماً بسيطاً من أجسامهم النحيلة. 

رأيت مع حضرة عبد البهاء في الباحة مجموعة من الأحباء وقد طلبوا من الفقراء أن يصطفّوا صفّيْن، وبعد ذلك شاهدت حضرته يمشي بينهم ويعطي كل واحد قطعة من النقود. كان يقف ويتكلم معهم بغاية اللطف والمحبة وبعبارات الإطراء والتشجيع، ويطمئن على صحتهم ويربّت على ظهورهم ويمسك بيدهم ويسأل عن الغائبين منهم ويرسل لهم حصتهم من النقود ثم يطلب من الجميع الإنصراف. ومَنْ يجدْه منهم قادراً على العمل، كان يقترح عليه نوعاً من العمل يسدّ حاجته دون أن يعطيه شيئاً، بل كان يلومه على كسله وعدم بحثه عن عمل يناسبه. 

وذات يوم جمعة، بعد أن فَرِغ من واجبه هذا، توجّه حضرته إلى أحد الزائرين الأحباء بقوله:

‘هؤلاء هم أصدقائي… أصدقائي حقاً، مع أن بينهم أعداء لي ويظنون أني لا أعرفهم. فهم في الظاهر يتودّدون لي، ولا أكِنُّ لهم في قلبي إلا المحبة والعطف، لأن الإنسان عليه أن يحبّ أعداءَه مهما فعلوا وأن يُحْسِنَ إليهم مهما كان الأمر. 

وبعد ذلك شرح لنا وضع الناس في عكاء قائلاً: لا يوجد في عكاء سوى نوعين من العمل على وجه العموم؛ إما أن يعمل الإنسان في صيد السمك، وبحر عكاء هائج في هذه الأيام، أو أن يعمل عتّالاً يحمل البضائع على ظهره، وهو عمل لا يتحمله إلا الشخص القوي.

وفي باقي أيام الأسبوع كنا نرى حضرته يتجول في شوارع المدينة صباحاً، ويقترب من الضعيف والمريض يواسيه بكلماته الحانية ويضع في يده قطعة من النقود. فأينما وُجد حضرة عبد البهاء كان مصدر السعادة وإشاعة الفرح والسرور في قلوب الجميع.

44 نور المحبة

في زيارتها للأرض الأقدس أدركت مي ماكسويل أن كل كلمة وكل حركة لحضرة عبد البهاء لها معناها ومغزاها.

دُعِيَ الأحباء الزائرون يوماً للاجتماع بحضرة عبد البهاء تحت أشجار السّدر على جبل الكرمل بحيفا، وهو المكان الذي اعتاد حضرته أن يجلس فيه مع والده حضرة بهاء الله.

تقول السيدة ماكسويل إنه في صبيحة ذلك اليوم (الأحد) استيقظ الجميع فرحين جداً لأنهم سيتشرّفون بلقاء حضرة عبد البهاء. كنتُ في ذلك الصباح لا أزال أرقد في الفراش أُعاني من وعكة صحية عندما رأيت حضرته يدخل غرفتي في وقت مُبْكِر قبل موعد الاجتماع مقترباً مني. نظر إليّ متفحصاً أحوالي، ثم لمس جبيني بيده المباركة، وأمسك بيدي ليعدّ نبضات قلبي.  بعد ذلك التفت إلى مَنْ حوله من الأحباء وتفضل قائلاً: ‘سوف لا يكون اليوم اجتماع على جبل الكرمل، لا نستطيع أن نذهب ونترك واحدة من أحباء الله تعاني المرض والوحدة، فهل يمكن لأحدنا أن يشعر بالسعادة ما لم يكن جميع الأحباء سعداء؟

يا لَلدهشة والعجب! اجتماع هام في تلك البقعة المباركة يجب أن يُلغى لأن أحد الأحباء مريض ولا يستطيع الحضور! إنه أمر ما اعتاد عليه الإنسان في تفكيره وعمله، وهو على خلاف ما تجري عليه أمور الحياة المادية، إنه أمر أعلى وأجلُّ في الأهمية من أي شيء آخر لدرجة هزّ كياننا استغراباً…ثم أعجاباً وتقديراً. 

لقد فتحت كلماته البابَ واسعاً نحو عالم ملكوت الله، ومنحتنا رؤيةً لذلك العالم الواسع اللامحدود الذي لا يُرى فيه سوى شريعة الحب والوفاء. رأينا حضرته في ذلك الوقت، كما في كل وقت، يسمو فوق كل اعتبار بمحبته ولطفه وعنايته وعطفه على كل فرد مهما كان. حقاً، عندما نتذكّر ثانية ذلك الوقت الثمين الذي قضيناه بمحضره الأنور، ندرك تماماً بأن الهدف من زيارتنا للأرض الأقدس هو أن نتعلم -ولأول مرة في الحياة- ما هي المحبة، وأن نشاهد نورها في كل وجه، ونشعر بحرارتها في كل قلب، وأن نشتعل بذلك اللهب السماوي الآتي من شمس الحقيقة. إنه المحبة… المحبة… جوهر كل الوجود. 

45 العائلة السعيدة

لدى زيارتها للأرض الأقدس كتبت أمة الله كورين ترو ما شاهدته في البيت المبارك لحضرة عبد البهاء في حيفا:

استيقظتُ في الصباح الباكر وذهبتُ إلى الغرفة التي يجلس فيها المولى مع عائلته كل يوم بين الساعة السادسة والسابعة صباحاً. شاهدت امرأة إيرانية تجلس على الأرض وبجانبها السماور يغلي فيه الماء حيث اعتادت أن تُعِدّ الشاي للجميع في كل صباح. تفرّستُ في وجهها الذي يشعّ روحانية بكل بساطة وخضوع، وعلمتُ بأن لهذه المرأة البهائية قصتها المثيرة: 

كان زوجها قد سُجن مع أخويه في إيران لأنهم بهائيون. انقطعت أخبارهم مدة طويلة إلى أن جاء يوم سمعت فيه أمُّهم جلجلةً وضجّة كبيرة في الشارع فخرجت لتستطلع الخبر، وإذا بها ترى ثلاثة رؤوس آدميّة وقد فُصِلت عن أجسادها موضوعة على قطع من الخشب ويجرّها في الشارع بعض الغوغائيين وهم يصيحون فرحين. وعندما اقتربوا من منزلها فتحوا الباب ورموا بالرؤوس داخل المنزل. عرفت الوالدة أنهم رؤوس أولادها الثلاثة، فقامت بكل هدوء وغسلتها بالماء ثم فتحت الباب وألقت بالرؤوس خارجاً في الشارع وقالت: ‘ما وهًبْتُه لله لن أسترده.’

تلك المرأة الجالسة على الأرض كانت متزوجة من أحد هؤلاء الإخوة الشهداء، ولم يمض على زواجها إلا سنة واحدة، كما أنها فقدت جميع أقاربها في موجة اضطهاد البهائيين في ذلك الوقت بإيران. ولذك طلب منها حضرة عبد البهاء أن تأتي وتعيش في منزله المبارك، فاعتادت منذ ذلك الوقت أن تُعدّ الشاي كل يوم وتقدّمه للجميع. 

أي بيت مبارك رائع هو ذلك المكان! إنه يضم أكثر من أربعين نفراً يعيشون في بيت واحد. فمنهم الأسود والأبيض والعربي والإيراني والبورمي والإيطالي والروسي والآن الإنكليزي والأمريكي. لا تسمع فيه ما يدل على إصدار الأوامر، أو من الكلمات الجارحة ولو عفواً بطريق الخطأ. الكل يتحرك وكأنه يمشي على رؤوس أصابع رجليه، وعندما يريد أحدهم أن يدخل غرفتك كان يخلع حذاءه ويقف بالباب إلى أن تأذن له بالدخول والجلوس. لم نرَ اليهودي والمسلم والمسيحي والهندوسي والزردشتي معاً إلا في منزل حضرة عبد البهاء يجتمعون معاً على مائدة المحبة، ذلك لأنهم مخلوقات إله واحد يعيشون في غاية المودة والانسجام في ظل شجرة المحبة والأُخُوّة الإنسانية. 

46 الخادم موسى

كان هناك رجل في حيفا يكنُّ العداء لحضرة عبد البهاء، فكلما رآه في الشارع يسارع إلى الجهة الأخرى حتى يتجنّبه، وذات يوم اقترب من حضرته وقال له: ‘إذاً أنت اسمك خادم الله!’ ‘نعم’، أجابه المولى، ‘هذا هو اسمي.’ ‘جيد’، أجاب الرجل، ‘وأنا اسمي موسى.’ ‘جيد يا موسى،’ أجابه المولى، ‘قابلني صباح غد في الساعة السابعة في هذه الزاوية وسنذهب معاً لنفعل ما كان يفعله موسى عليه السلام، فما رأيك؟’

وافق الرجل وغادر. وفي الصباح حضر في الموعد المحدد واصطحبه المولى إلى الأماكن التي اعتاد حضرته أن يتفقدها كل يوم في خدمة الفقراء والمحتاجين ومساعدتهم والتكلم إليهم بعبارات التشجيع وإعطائهم النصائح لتحسين معيشتهم. وفي الساعة السادسة مساء رجعا إلى المكان الذي انطلقا منه وقد شعر الرجل بالتّعب الشديد، وقبل أن يغادر التفت إليه حضرته وقال: ‘تذكّر يا موسى، سأقابلك غداً هنا في هذا المكان في السابعة صباحاً.’

جاء الرجل في صباح اليوم التالي واصطحبه حضرته إلى جولة أخرى من الخدمة طوال النهار، ورجعا في السادسة مساءً والرجل منهك تماماً من شدة التعب. نظر إليه حضرته وقال بنبرة شديدة وصارمة: ‘تذكّر يا موسى أنني سأقابلك غداً صباحاً في الموعد نفسه وفي هذا المكان.’

التقيا للمرة الثالثة في الصباح، وكالعادة قاما بما اعتاد أن يفعله حضرته يومياً، وعندما رجعا في المساء كلن الرجل في منتهى الإرهاق، وقبل أن يغادر التفت إليه حضرته وقال: ‘لا تنس موعدنا غداً.’ نظر الرجل إلى حضرته وقال: ‘يا عبد البهاء، غداً صباحاً سوف لا أكون موسى ولن أكونه بعد اليوم.’

47 لماذا المعاناة !؟

في بداية عام 1904 قامت إيثيل روزنبرغ بزيارتها الثانية إلى الأرض الأقدس، وكان حضرة عبد البهاء وعائلته في ذلك الوقت لا يزالون بحكم السجناء ويقيمون في منزل داخل أسوار مدينة عكاء. نزلت إيثيل ضيفةً هناك لمدة ثمانية أشهر وكتبت تقول: ‘إنه لَفضلٌ وامتيازٌ أن تكون على مائدة حضرة عبد البهاء في بيته البسيط وحول حضرته يجلس المسيحيون والمسلمون واليهود وغيرهم من مختلف الطبقات وهم يتكلمون بغاية المحبة ويتنسّمون معاً عطر الأُخُوَّة الإنسانية، وهذا ما لن أنساه حقاً.’

وخلال زيارتها تلك نَشِط أعداء أمر الله في مساعيهم المستمرة للإيقاع بالمولى والأحباء وإيذائهم بشتى الوسائل والطرق الخسيسة، مما جعلها في حزن وقلق دفعها أن تتوجه إلى حضرته بسؤال طالما فكّرت فيه وحيّرها: ‘لماذا يجب على الإنسان المثالي أن يعاني في هذه الحياة بمثل هذه المعاناة؟’

أجابها حضرته: ‘كيف لهم (يعني رسل الله) أن يبلّغوا رسالاتهم إذا لم يعانوا كل أنواع المآسي التي يمكن أن يتعرض لها الناس في حياتهم؟’

48 اتبعوا خطواتي

كتبت أمة الله لوا غتسنغر في مذكّراتها عن زيارتها للأرض الأقدس أنه ذات يوم بينما كانت تسير على شاطئ البحر مع بعض الأحباء بصحبة حضرة عبد البهاء في عكاء، لاحظت آثار أقدام حضرته على رمال الشاطئ البيضاء الناعمة. اقتربت منه أكثر وأخذت تمشي واضعة أقدامها على أثر أقدامه تماماً. كانت مسرورة جداً لما تفعله، وفجأة قال لها حضرته بنبرة جدّية ودون أن يلتفت إليها: ‘ماذا تفعلين؟’ أجابته بكل فرح: ‘أنا أتبع خطواتك.’ صَمَت حضرته قليلاً وهو مستمر في سيره ثم سأل بنبرة أكثر قوة: ‘ماذا تفعلين يا لِوا؟’ فأجابت: ‘أنا أتبع خطواتك يا مولاي.’

لم يُجِبْ حضرته بل أخذ يسير بخطوات أوسع، وبعد مسافة قصيرة بدأت لِوا تشعر بالبرد والقشعريرة ثم بالتعب الشديد عندما أدركت أنها لا تستطيع تتبّع خطوات مَنْ هو سرّ الله وهي تلك الإنسانة الضعيفة. 

وهي على هذا الحال إذا بها تشعر بألم فجائي في كاحل رجلها، نظرت فرأت أن عقرباً قد لسعها، فصرخت عالياً. لم يلتفت حضرته إليها وتابع سيره ولم يخفف من خطواته الواسعة. استمرّت لِوا في تتبُّع خطوات حضرته وهي تمشي بصعوبة بالغة، ثم أخذ كاحلها ينتفخ ويتورم بسرعة، واشتد عليها الألم، إلا أنها تمالكت نفسها وواصلت السير. وعندما وصل الألم إلى حدّ لا يطاق، وقف حضرته ورجع إليها. لمس رأسها بيده المباركة بكل ما فيه من عطف، ثم نظر إليها بعيونه الحانية وقال: ‘هذا هو ما يعنيه أن تتبعي خطواتي. كوني قوية’ كانت عيناها تلمع بالدموع من شدّة الألم، لقد فَهِمت الدرس تماماً. ثم استدار حضرته وتابع سيره ولِوا خلفه تسير على خطاه بأقصى ما فيها من قوة استجمعتها بعد كلماته وهي تعرج. أخذ الألم يخفّ بالتدريج وغلب عليها سرورها الذي لا يوصف في تتبع خطوات مولاها المحبوب ناسية كل آلامها.

49 درس في تلاوة المناجاة

كان حضرة عبد البهاء في جَمْعٍ من الأحباء عندما نادى على أحدهم، وقد لاحظ عليه الحماس والغيرة، وبادره بقوله: ‘لو جئتني غداً عند الفجر لعلّمتك كيف تقرأ الدعاء والمناجاة.’ سُرَّ الحبيب لهذه العناية وغادر متلهّفاً طلوع فجر اليوم التالي.

استيقظ الحبيب في الساعة الرابعة فجراً وجهّز نفسه ثم سار في الشارع إلى أن وصل في الساعة السادسة حتى يتلقى درسه. فأي بهجة وسرور سيكون عليه في هذه الفرصة الفريدة!

دخل الضيف المنزل فوجد حضرته جالساً على الأرض قرب سريره يقرأ المناجاة، فما كان منه إلا أن جلس في مقابِلِهِ كما يجلس حضرته. وحيث إن المولى كان مستغرقاً في دعائه بغاية الهدوء وكأنه ليس في هذا العالم، أخذ الضيف يدعو ويقرأ المناجاة بصمت من أجل أحبائه ثم عائلته وكل من يخطر بباله. قرأ جميع الأدعية التي يحفظها غيباً وكرّرها مرتين وثلاثاً، ولا يزال السكون سائداً وحضرته مستمر في الدعاء. تحرّك الضيف قليلاً وعدّل من جلسته على الأرض، ثم أخذ يتلفّت حوله وبدأ يسرح في تفكيره؛ أخذ يفكر بتغريد العصافير التي كان يسمعها في الخارج، نظر من الشباك وشاهد خيوط الفجر تطلع وهي تبدد الظلام. مرّت ساعة ثم ساعتان والضيف ساكن بلا حِراك وكأنه قد فقد الحسّ بجسمه. أخذ يجول بنظره على الحائط أمامه؛ هناك شق كبير فيه تتبّعه بنظراته، مدّ يده ولمس الحائط بإصبعه تعبيراً عن عدم ارتياحه. وبينما هو يجول بنظره وقعت عيناه على حضرته. نظر إليه بتمعُّن فأسرته حالة الانجذاب الكلي الذي كان يغرق فيه، ثم شعر فجأة أن عليه أن يبدأ الدعاء كما فعل حضرته. لا مكان في حالة كهذه للرغبات الشخصية ولا للتفكير بالذات، ولا وجود للحزن أو الخلاف والنزاع، بل والأمور المادية من حول حضرته قد تلاشت تماماً، كان حضرته واعياً لشيء واحد لا غير: ‘رغبة شديدة وحارّة في التقرب إلى الله.’ 

أغلق الضيف عينيه مرة أخرى، وبكل تصميم وضع العالم جانباً وانقطع عن الدنيا وما فيها، وأخذ يدعو بقلبه بكل شَغَف وسرور وحماس. شعر بالمحوية الصرفة والاستسلام التام ثم بالأمان والاطمئنان يَعْمْران قلبَه وروحَه. لقد علّمه حضرة عبد البهاء كيف يتوجه بالدعاء. 

بعد ذلك نهض حضرته من مكانه واقترب من ضيفه، وبعيونه الثاقبة نظر إليه وتفضل: ‘عندما تقرأ المناجاة فإنك لا تفكّر بجسدك الفاني ولا بالطيور في الخارج ولا بالشقوق في الحائط.’ وبلهجة حادّة أضاف: ‘عندما تريد الدعاء عليك أن تدرك أنك جالس أمام رب العظمة والكبرياء وواضع نفسك بين يديه.’

50 تَحَرَّري من قيود السجن

أخبرتنا إحدى بنات حضرة عبد البهاء بأنه مرّ على المولى وقت في أواخر أيام سجنه في حيفا كان ممنوعاً من مغادرة المدينة بالكلية حتى من زيارة مرقد والده في عكاء، وصرّح حضرته بأن ذلك كان أقسى عليه من السجن نفسه. وتضيف قائلة:

ذات يوم تجمّعنا معاً وكنا تسعة، أنا وأمي وعمتي الخانم وأخواتي الثلاثة واثنتان إيرانيتان وواحدة إنكليزية، وأردنا أن نُحْيي ذكرى صعود حضرة بهاء الله بزيارة مرقده المبارك، مررنا أمام باب غرفة المولى الذي كان مفتوحاً، وإذا به يخرج ويسألنا: ‘إلى أين أنتن ذاهبات؟’ قلنا: ‘إلى الروضة المباركة لنُحيي ذكرى صعود الجمال المبارك حضرة بهاء الله.’ فأجاب: ‘نعم نعم آمل في دعائكُنّ لي.’

لا يمكن وصف مشاعرنا في الألم عندما رأينا المولى يرجع إلى غرفته الصغيرة بينما نحن ذاهبات لإحياء الذكرى بتلاوة الألواح المباركة ثم الأشعار. يا للرزية العظمى! أيكون المولى محروماً من زيارة مرقد والده، وفي ذكرى صعوده؟!

قررنا جميعاً أن نقرأ الدعاء في المرقد المبارك طيلة الليل بهدف إطلاق سراح المولى المحبوب، وسرعان ما استجيب لدعائنا وأتى اليوم الذي تحرر فيه من قيود السجن.

فقبل يوم من سقوط السلطان عبد الحميد، كنا نجلس على مائدة الغداء في حالة من الاضطراب شديدة. فالجوّ مشحون بالأخطار المحدقة بحضرة المولى وبِتْنا في حالة من الترقُّب رهيبة. وبينما نحن كذلك إذا بجندي نلحظه يمرّ قرب النافذة ويحمل معه رسالة من الحاكم إلى المولى يدعوه فيها إلى الحضور إلى مقرّه. وكنا نعلم بأن لجنة التحقيق الأخيرة مع حضرته، التي جلبت معها الرعب والقلق وعبّأت النفوس ضد حضرته بالحقد والكراهية، قد غادرت إلى مقرّ السلطنة لتُقدِّم تقريرها الأسود بحق المولى. 

نهض حضرته والتفت إلينا وهو يغادر قائلاً: ‘لا تكتئبوا يا أعزائي ولا تحزنوا،’ وابتسم بكل هدوء ابتسامة المحبة التي ملأت قلوبنا بالأمان حتى في تلك الساعة الرهيبة. ‘لا تكتئبوا، سأرجع إليكم.’

مرّت الساعات بطيئة جداً ونحن في حالة من القلق لا توصف، كان شبح مصير المولى يخيفنا لأننا سمعنا من هنا وهناك بأن اللجنة أوصت بنفي حضرته إلى مكان بعيد في أحسن الحالات. انتظرنا وانتظرنا، وأخيراً ذهب ميرزا محسن (زوج ابنة المولى) ليستطلع الخبر، وطال انتظارنا وأخذنا نسترجع كلمات حضرته: ‘لا تكتئبوا، سأرجع إليكم.’ فاستبشرنا خيراً.

كم كانت فرحتنا عظيمة عندما رأينا المولى يرجع، ولكنه لم يخبرنا بشيء بل رأيناه يدخل غرفته ثم سمعناه يتلو المناجاة وظل كذلك طول الليل، وفي الفجر استدعانا جميعاً ليقول لنا: ‘جهّزوا الشاي ثم اخرجوا إلى حيفا وأعلنوا بأن كل شيء قد تغيّر وكل شيء على ما يُرام.’ فقد أزيل ذلك العبء الذي جثم على صدورنا، فالسلطان عبد الحميد قد سقط ووصلت الأخبار إلى عكاء بأن جمعية تركيا الفتاة قد استولت على زمام الحكم، وصدر القرار بإطلاق سراح جميع السجناء الدينيين والسياسيين. أُطلقت المدافع من قلعة عكاء احتفالاً، ولما سمعها حضرته علّق قائلاً: ‘إنها مدافع الله.’

وهكذا أصبح المولى حراً طليقاً.

51 رحلة حضرة عبد البهاء إلى أمريكا

بعد نَفْي ٍ وسجنٍ داما اثنين وأربعين عاماً تحرر حضرة عبد البهاء، وبذلك استطاع الطائر السماوي أن يفرد جناحيه ويحلّق بكل حرية.

انطلق حضرته عام 1910م إلى مصر مودّعاً الأرض الأقدس دون أن يُعلِم أحداً برحلته. ففي مساء ذلك اليوم اجتمع الأحباء، كعادتهم في كل يوم، ليستمتعوا بأحاديثه ونصائحه ويتنعّموا ببركاته. انتظروا كثيراً إلى أن جاء زوج ابنته ليخبرهم بأن المولى غادر إلى مصر بالباخرة. كان ذلك في شهر سبتمبر/أيلول حيث بقي هناك حتى شهر أغسطس/آب من عام 1911م توجه بعدها إلى أوروبا في رحلته التاريخية وعاد في شهر ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، وبقي في مصر حتى ربيع عام 1912م.

في 25 مارس/آذار عام 1912م غادر حضرة عبد البهاء رملة الإسكندرية على متن الباخرة سيدركالتابعة لخطوط النجمة البيضاء متوجهاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية. كان بصُحبته ستة من الأحباء هم: شوقي أفندي الذي يبلغ من العمر 15 عاماً والسيد أسد الله والدكتور فريد وميرزا منير وآقا خسرو والكاتب ميرزا محمود الزرقاني.

أرسل الأحباء الأمريكيون لحضرته آلاف الدولارات للصرف على رحلته، ورجوه أن ينتقل في إيطاليا إلى الباخرة الجديدة العملاقة تايتانيك. قَبِل المبلغ بكل لطف وحوّله للأعمال الخيرية وتابع رحلته على الباخرة سيدرك. يحدّثنا الكاتب محمود عن جانب من الرحلة الميمونة:

‘علِمْنا ونحن في طريقنا أن فريقاً من الأطباء سوف يفحصون الركاب عندما نصل إلى مدينة نابولي في إيطاليا ليتأكدوا من خلوّ عيونهم من أي التهاب. كان الدكتور فريد قد وجد التهاباً في عينيْ آقا خسرو. وصلنا الميناء، وبعد الفحص قرر الأطباء بأن عيون شوقي أفندي وآقا خسرو وميرزا منير مصابة بالتهاب ولا يمكنهم مواصلة رحلتهم إلى أمريكا. أخذ حضرة عبد البهاء في بذل مساعيه المضنية بلا جدوى، فقد أصرّت السلطات على إنزال الثلاثة من الباخرة وقالوا حتى لو تابعوا رحلتهم فإن السلطات الأمريكية في نيويورك سوف تُرجعهم. تحركت الباخرة وعيون المولى وشوقي أفندي تتبادل نظرات الحسرة والألم. وبينما كانت تعبر ممر مضيق طارق في الثالث من نيسان 1912م نظر المولى إلى الأفق البعيد وتفضل قائلاً:

لم يسبق لأحد أن سافر من إيران إلى أمريكا بمثل هذه الرحلة، فبعضهم سافر لمنافع شخصية أو لسبب تافه، إنها الرحلة الأولى من نوعها في غايتها ومقاصدها من الشرق إلى الغرب، وكلي ثقة بالتأييد الإلهي. بهذا أَفْتَحُ أبواب نصر الله والفَتْح في كل الجهات، واليوم تروْن قوى الأرض مهزومة وتباشير المجد والنصر تلوح حول خدام الجمال المبارك حضرة بهاء الله. كل المقاصد يجب أن توضع جانباً أمام هذا المقصد الأسمى، فالصعاب في هذا السبيل راحة وهناء، والمهانة شرف وعزة، وفداء الروح عناية وبركة…

لم ينشد حضرته في رحلته مجداً شخصياً، بل نَشْرَ رسالة إلهية يحملها… جاء لوضع أسس مبادئ حضرة بهاء الله، وهذا ما سيغدو واجب البهائيين… جاء لِيَهَبَ الأحباء قوة ومِنْعَة، ومنْحِهِم المَثَل والمعنى كون الفرد بهائياً… جاء لتعميقهم بمفهوم العهد والميثاق وتوحيد صفوفهم… ولِنَثْرِ البذور حتى تنبت وتعطي ثمارها الطيّبة اليانعة للملايين. 

‘في التاسعة من مساء يوم الأربعاء 11 إبريل/نيسان 1912م ألقت الباخرة سيدرك مراسيها مقابل ميناء نيويورك على أن تدخله صبيحة اليوم التالي. تحركت الباخرة في اليوم التالي نحو الميناء واقتربت من تمثال الحرية. رفع حضرة عبد البهاء يده وقال للصحفيين الذين صعدوا إلى الباخرة:

هناك يرتفع رمز الحرية عالياً، فبعد سجن دام أربعين عاماً يمكنني أن أُخبركم بأن السجن ليس مكاناً بل حالة يعيشها الإنسان، وما لم نقبل بتقلبات الزمان الرهيبة لن نحقق أهدافنا أو نصل إلى مبتغانا، وعندما يتحرر المرء من سجن نفسه وهواه تكون هناك الحرية الحقّة.

‘استقبله في الميناء عدد من الأحباء، ثم انتقل حضرته إلى فندق أنسونيا لينزل في الجناح الذي خُصّص له، وهو عبارة عن غرفتيْ نوم وأخرى صغيرة لالتقاط الصُّوَر ثم المطبخ والحمام.

في يوميْ الأربعاء والخميس في 11، 12 من شهر إبريل/ نيسان تحدثت مختلف الصحف المحلية عن هذا الحدث الكبير وجاءت في بعضها العناوين العريضة التالية:

 

New York City Sun:

رسول البهائيين هنا

وذكر الصحفي بأنه من المحتمل وجود (20) مليون بهائي في العالم، وأن هذا الدين ينتشر بسرعة.

 

New York City Evening Mail:

بعد خمسين عاماً من السجن زعيم البهائية هنا. الفيلسوف الإيراني يؤيد حق المرأة في التصويت وسوف يتكلم عن السلام.

 

New York Evening World:

عبد البهاء عباس هنا ليبشّر بالمحبة والأخُوَّة

 

:New York City Evening World

الداعية الإيراني من أجل السلام العالمي ها هو هنا… خيلي خوش آمديد.

 

لم ينقطع سيل الزائرين لرؤية حضرة عبد البهاء، من بينهم سكرتير جمعية نيويورك للسلام الذي كان أول المرحّبين بحضرته قائلاً: ‘كل أعضاء الجمعية يلمسون الحقيقة والإلهامات التي تكلمتَ بها.’

في يوم الأربعاء 17 إبريل/نيسان جاء عدد من القسيسين يطلبون من حضرة المولى أن يتكلم في كنائسهم، فاعتذر لهم بكل لطف لأنه من المقرر أن يغادر إلى واشنطن قريباً وعليه القيام ببعض الواجبات الهامة جداً قبل مغادرته. وكما ذكر الكاتب محمود بأن اهتمام حضرته كان منصبّاً على موضوع التفرقة العنصريةالتي تعدّ أكبر تحدٍّ للمجتمع الأمريكي، فكتب محمود يقول:

‘هناك العداء بين البيض والملوّنين في أمريكا حتى أن البيض يمنعون السود من حضور اجتماعاتهم وأية فعاليات مهما كانت. فحضّ المولى جميع الأحباء أن يتعاشروا بكل سرور بالمحبة والأُخُوّة. وعليه، عُقد اجتماع ناجح في منزل السيد كينيضمّ أحباءً وآخرين من مختلف الأجناس – بيضاً وملوّنين. قام فيه حضرته على خدمة الجميع، وقدّم لهم الطعام الذي أعدّه بنفسه. كان عشاءً رائعاً تكلم فيه حضرته في مواضيع هامة وقال: كونوا أمواج بحر واحد وأشجار أجمة واحدة تنمو في غاية المحبة والاتفاق والاتحاد.

‘في جامعة كولومبيا في نيويورك خاطب الطلاب قائلاً : إن الحاجة الماسة لهذا البلد تكمن في الفلسفة الروحانية، فلسفة لغة التخاطب مع الله. كل واحد منكم يسعى إلى الحقائق العلمية، إلا أننا يجب أن نبحث عن الحقائق العلمية للروح أيضاً. فالفلسفة الطبيعية إنما هي كالجسد الجميل والفلسفة الروحانية هي روحه، فإذا ما اتّحد الجسد مع تلك الروح سنحظى بمجتمع إنساني سامٍ. كل ما منَحَنا الله في هذا العالم له أَجَلُه؛ جسمنا، ملايين الدولارات، بيوتنا، سياراتنا، أما نعمة الله الروحانية فدائمة لا تزول. عظمة هذا العالم فانية وعظمة العالم الروحاني أبدية. اقرأوا التاريخ وادرسوه. لم يبق شيء. فممالك الأرض ذهبت ومملكة السماء باقية لن تزول.

في جامعة هوارد بواشنطن أدلى حضرته بالبيان التالي:

هنا وفي كل مكان يجتمع فيه البيض والملوّنون يصبح عبد البهاء فيه أسعد إنسان.

‘قدّمه عميد الجامعة على أنه رسول السلام وسفير المحبة وبشير الازدهار، وأعلن حضرته بكل مشاعره بأنّ تحقُّقَ الوحدة بين الملوّنين والبيض إنما هو تثبيتٌ لدعائم السلام العالمي.

‘ومن جامعة هوارد ركب حضرته متوجّهاً إلى السفارة الإيرانية حيث أَعدَّ له علي قلي خان حفل استقبال. صعد حضرته بعد الحفل إلى الطابق العلوي ليأخذ قسطاً من الراحة ثم إفساح المجال للمقابلات الخاصة. فقابل الأدميرال بيري  –  أول من ذهب إلى القطب الشمالي – وتحدث إليه، ثم مع ألكساندر غراهام بِلْ.

‘وذات مساء زار المولى السيد بِلْ في منزله، وكان حضرته في ذلك اليوم سعيداً جداً ويتكلم بصوت عالٍ طغى على صوت السيارات في الخارج ورفع يديه عالياً وتفضل قائلاً:

يا بهاء الأبهى كم أنت رحمن رحيم. في أي بلاء قضيت أيامك. أية رزايا تحمّلتها ولكن أي أساس متين أرسيته وأي راية خفّاقة رفعتها!

‘جمع ألكساندر بِلْ أصدقاءه وزملاءه العلماء في منزله لمقابلة حضرته. تكلم إليهم وأجاب عن أسئلتهم في العلم وأمور أخرى حتى منتصف الليل، وبعد تناول الطعام متأخّرين قدّم بِلْ زوجته التي كانت خرساء وصماء، وأن كل مجهودات بِلْ كانت منصبّة على تطوير آلة للسمع فتوصّل إلى اخترع الهاتف. أشار حضرته إلى أن جميع الاختراعات الطبية والعلمية جاءت بهذا الأسلوب. بقي حضرته ضيفاً على بِلْ وزوجته في ذلك اليوم.

‘في 25 إبريل/نيسان 1912م قابل حضرته وفداً كبيراً من جمعية الثيوصوفيين في منزل السيدة پارسون في الساعة العاشرة والنصف صباحاً، ثم جاء وفد آخر عن لغة الاسبرانتو وخاطبهم بقوله: 

ما القلب إلا كصندوق مفتاحه اللغة.

‘ثم تدفق الزائرون بعد الظهر إلى المنزل مما دعا حضرته أن يقول للسيدة پارسون مازحاً: من الصعب أن تستضيفي رجلاً مثلي، فكلُّ ضيفٍ زائروه معروفون ومحدودون، أما أنا فإنّكِ مضطرة إلى استقبال الجميع طيلة اليوم.

في المساء أقام ضياء باشا حفل استقبال كبير لحضرته في السفارة التركية حيث وُضعت باقات الزهور الكبيرة على طاولة توسطت القاعة وجلس على رأسها حضرته ومضيفه. شوهد ضياء باشا وهو ينظر إلى المولى بعينين دامعتين أحياناً، وقال في كلمته ترحيباً بحضرته: عانيتم سعادتكم كثيراً وتحمّلتم المتاعب الجمّة في سبيل نشر الفضائل والأخلاق الإنسانية…. إن عبد البهاء لا نظير له في عصرنا الحاضر… وعندما انتهت مراسيم الحفل نهض ضياء باشا لوداع حضرته ومشى معه إلى باب السيارة في الشارع. 

‘بعد أن رجع حضرته إلى منزل پارسون زاره رئيس الولايات المتحدة الأسبق تيودور روزفلت، وفي اليوم التالي زاره سكرتير وزارة المالية، وبعد يومين زاره أحد قضاة المحكمة العليا ثم القائم بأعمال السفارة السويسرية وبعض أقارب رئيس الولايات المتحدة ثم أعضاء من الكونغرس الأمريكي. 

‘يوم الأربعاء في 19 يونيو/حزيران 1912م في نيويورك نزل حضرته ضيفاً على السيدة جولييت ثومپسون. وبينما كانت على وشك الانتهاء من رسم صورة لحضرته، وهو جالس أمامها ولوا غتسنغر جالسة على أريكة بالقرب من جولييت، أخبرتنا جولييت بعد ذلك بما حدث:

‘كان حضرته يجلس دون حِراك بكل أمان واطمئنان وعيناه مغمضتان، وفجأة فتح عينيه ورأيناهما تلمعان كالبرق وشعرنا عندها بقوة عجيبة تهز أركان الغرفة التي أصبحت وكأنها سفينة في مهبّ الريح. كان وجهه يشع ضياءً ويكشف عن العظمة والمجد ثم العزّة والجبروت. التفت إلى لوا غتسنغر وقال لها: ‘عيّنتُكِ الآن يا لِوا معلنةً للميثاق. أنا هو الميثاق الذي وضعه حضرة بهاء الله، وليس بمقدور أحد أن يدحض هذا القول. هذا هو عهد الجمال المبارك وستجدونه في الكتاب الأقدس، فاذهبي واعلني للجميع إنه ميثاق الله بينكم.” ’ فصاحت لوا: ولكن يا سيدي اجعلني أُولَدُ من جديد حتى أقوم بهذه المهمّة المباركة.

‘نزلَتْ لِوا إلى الطابق الأسفل حيث ينتظر الأحباء حتى تعلن الميثاق، وتَبِعها حضرته ليتكلم إليهم. كان حضرته يحمل ترجمة لسورة الغصن التي نُزِّلت بقلم حضرة بهاء الله وأمر بقراءتها كاملة. أَنْصتَ الكل إلى كلمات الحق التي وردت في اللوح قائلةً:

… من توجّه إليه فقد توجّه إلى الله فمن أعرض عنه فقد أعرض عن جمالي وكفر ببرهاني وكان من المسرفين… 

وهكذا لقّب حضرة عبد البهاء نيويورك بـ مدينة الميثاق.’

في شهر يوليو/تموز طلب حضرته من لِوا غتسنغر أن تذهب إلى كاليفورنيا لتعلن الميثاق هناك. عزّ عليها ان تفارقه فأخّرت ذهابها ثم فكّرت بوسيلة قد تمنعها من الذهاب حتى لا تُحرم من محضره الأنور. مشت على عشبة سامة أثناء الاحتفال بالضيافة التسع عشرية، ولما علم المولى بالخبر سارع إلى إرسال بعض الفاكهة لها حتى تتناولها مما عجّل في شفائها ثم طلب منها ثانية أن تذهب … فذهبت.

52 ثِقي بالله

شعرت والدة جولييت ثومپسون بحزن شديد عندما علمت أن خطيبة ابنها لا ترغب في علاقة صداقة مع عائلة خطيبها، ومع الأيام تحوّل الحزن إلى شيء من المعاناة والكآبة للأم. ومن جهة أخرى كانت الوالدة تعارض ابنتها جولييت في خدماتها للأمر المبارك. كان حضرة عبد البهاء في ذلك الوقت في أمريكا، ولماعلم بموضوعها وموقفها من ابنتها جولييت وجّه لها الدعوة لزيارته. 

حملت الوالدة همومها وذهبت للمولى. كان حضرته مُجْهَداً من شدة التعب ومستلقياً على سريره لأنه قابل المئات من الناس في ذلك اليوم، ومع ذلك قابلها بحرارة وأخذ يكلمها بكلمات أدخلت الراحة إلى نفسها وقلبها حيث قال: ‘… لقد سمعت بأنكِ حزينة، وأنا الآن أريد أن أُريحك. توكّلي على الله وثِقي بعفوه ورحمته فهو الرؤوف العطوف ولن ينساكِ. فإذا جافاكِ الآخرون فماذا يهمك ما دام الله رؤوف بكِ، فعندما يكون الله معك لن يهمك ماذا يفعل الناس بك.’

وفي اليوم التالي سُمِعت الوالدة تقول: ‘وجدت نفسي وقد ذَهَبَتْ عني كل أحزاني.’ وهذا ما كان بنظرها معجزة.

“أصل العزّة هو قناعة العبد بما رُزِقَ به والاكتفاء بما قُدِّرَ له.”(22)

22. "كلمات الحكمة" في "مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله"، ص 133، (الطبعة 1980).

53 دعاء الصباح

لاحظت إحدى الزائرات للأرض الأقدس بأن دعاء الشكر لا يُتلى قبل الطعام، الأمر الذي دفعها أن تتوجه إلى حضرة عبد البهاء سائلة عن السبب فأجابها بقوله: ‘إن قلبي في شكر دائم للمولى القدير، إن أولئك الذين اعتادوا تلاوة دعاء الشكر إنما هم يردّدون الكلمات بأفواههم، أما قلوبهم فإنها بعيدة عن كونها شاكرة.’

وقد سبق لثورنتون تشيس (أول مؤمن بهائي في أمريكا) أن لاحظ أن حضرة عبد البهاء اعتاد أن يكون آخر من يبدأ في تناول غداءه مع ضيوفه، وقد أشار حضرته بأن الطعام يجب أن نبدأه بعبارة بسم الله البهي الأبهى.

ويُحكى عن لوا غتسنغر أنها عندما كانت في زيارتها للأرض الأقدس وفي منزل حضرة عبد البهاء، جاءت مستعجلة ذات صباح لتناول الإفطار، فجلست دون أن تتلو الدعاء في الصباح كالمعتاد. نظر إليها حضرته في القاعة بنظراته الثاقبة وتفضل قائلاً: ‘لوا! لا تأكلي الطعام المادّي في الصباح قبل الطعام الروحاني.’

54 نور الكلمة

كان حضرة عبدالبهاء في جمع من الأحباء في مدينة نيويورك عام 1912 عندما شاهدوه يحمل كتاب الكلمات المكنونة ويخطو بخطواته ذهاباً وإياباً غارقاً في تفكيره وعلى وجهه إمارات الجِدّ والحزم، ثم رأوه يتوقف فجأةً ويرفع الكتاب عالياً ويقول بصوته الجهوري:

‘مَنْ لم يعِشْ حياته مصداقاً لهذه الكلمات فإنه ليس مني.’

55 الوردة الثمينة

كم تاقت ماريا وتمنّت لو تأتيها يوماً وردة من حضرة عبد البهاء، ولذلك حاولت مع الزائرين إلى مدينة عكاء أن تطلب منهم إحضار وردة معهم إذا كان باستطاعتهم. كان بداخلها شعور قوي بأنها ستحظى بها بطريقة ما إذا رغب المولى.

عندما قَدِم حضرة عبد البهاء إلى شيكاغو وسمعت ماريا بالخبر فرحت كثيراً وتوجّهت إلى فندق بلازا حيث ينزل حضرته مصطحبة معها أحد أولادها، فصادف وصولها في اليوم الأول من وصوله. في تلك الساعة كان حضرته خارج الفندق فانتظرته، وبقيت كذلك إلى أن حلّ المساء حين عاد وصعد إلى غرفته بالمصعد، وما إن فتح بابه حتى وجد ماريا أمامه. أخذت تنظر إليه بكل لهفة وابتهاج. رحّب بها بكل لطف ومحبة ثم طلب منها أن تَتْبعه وتحرَّكَ نحو غرفته. إلا أن ماريا ظلّت واقفة مترددة، وقف حضرته والتفت إليها وقال: ‘تعالي! تعالي!’ عندها هرعت إليه مسرعة ودخلت غرفة استقباله وجلست، بينما دخل حضرته غرفته الخاصة. مرّت لحظات قضتها ماريا على أحرّ من الجمر توّاقةً أن تعرف ماذا ينتظرها، وبينما هي غارقة في تفكيرها إذا بالمولى يخرج من غرفته وبيده باقةُ ورْدٍ جميلة تناول منها واحدة وقدّمها لها بيده المباركة. 

56 إن قلباً قد جُرِح...

ذات يوم، عندما كان حضرة عبد البهاء في لندن، نُظِّم لقاء خاصٌّ لبعض الشخصيات المرموقة بحضرته. وُضع البرنامج وحُدِّدت المواعيد بدقة واقتربت ساعة حضور الجميع. بذل جميع القائمين على الاجتماع جهدهم أن تسير الأمور كما هو مخطط لها تماماً… ولكن المولى علّمنا أن نكون معتدلين في كل شيء باذلين أقصى الجهد في التخطيط والتنظيم والتنفيذ وألاّ نغفل الاهتمام بمشاعر الآخرين دون المساس بها بأدنى اغبرار. 

وصلت الشخصيات المحددة في البرنامج، وبدأ حضرته ينشغل في الحديث معهم. وفي هذه الأثناء صادف أن وصلت سيدة أخذت تسأل عن حضرة عبد البهاء وهي قادمة من مكان بعيد وجاءت خصيصاً لكي تراه. أخبرها المسؤولون أن حضرته مشغول جداً ولا يستطيع مقابلتها. وقفت في مكانها حزينة ثم استدارت وأخذت تنزل الدرجات بخطوات متثاقلة، وكم كانت دهشتها كبيرة عندما رأت أمامها فجأة رجلاً أرسله لها حضرته ليخبرها بأنه يريد أن يراها. فعادت فَرِحةً وصعدت الدرج مسرعة لتسمع صوت حضرته من بعيد يقول: ‘إن قلباً قد جُرح، هلُمّوا وائتوني به سريعاً.’

57 العبد المطيع

عندما كان حضرة عبد البهاء في زيارته لأمريكا سافر شاب ذات يوم ويدعى فْرِد مورْتِنْسن من ولاية كليفلاند، في الوسط الغربي للقارة، إلى ولاية مين في الجزء الشرقي منها وذلك بهدف رؤية المولى. وبعد عدة سنوات كتب قصته واصفاً ما حدث معه: 

‘نشأ فْرِد مورتنسن في منطقة قاسية خشنة وسط جماعة كانت حياتها عبارة عن سَطْوٍ ونهب وتخريب للممتلكات الخاصة والعامة، وفي إحدى المرات هرب من السجن بينما كان ينتظر المحاكمة وبقي متشرّداً أربع سنوات. وذات مرة حاول أن يمنع رجل الأمن من اعتقال رجل في الشارع، وبينما هو كذلك فاجأه بعض رجال الشرطة السّرّيّين وحاولوا اعتقاله لولا أنه هرب وقفز عن جدار ارتفاعه اثنا عشر متراً فكُسرت ساقه. كل ذلك جعله يتصل بمحامٍ اسمه ألبرت هول. كان المحامي بهائياً ساعده كثيراً في الدفاع عنه إلى أن تمكّن فْرِدْ من نيل حريته أخيراً. لم ينقطع اتّصال المحامي به وأخذ يقدّم له النصائح في كيفية تحسين أسلوب حياته، وتكلَّمَ معه عن الأمر المبارك. وجد فْرِد في البداية أن الأمر مربِك ومحيّر، إلا أنه بصبر صديقه البهائي ومثابرته انجذب إلى الأمر الإلهي وتغيّرت حياته بالكلية وكما قال: لقد ولدت من جديد بكلمات الله.

عندما قدِم حضرة عبد البهاء إلى أمريكا عام 1912م شعر فْرِدْ بأن الروح القدس تدعوه إلى أن يقوم برحلة لرؤية حضرته. كان وقتها عاملاً في إحدى المطابع، وأن عليه أن يحضر مؤتمراً لعمال المطابع في كليفلاند. حضر جانباً منه وشعر بالإرهاق من تلك الاجتماعات فقرر المغادرة مهما كلّفه الأمر. كتب يقول: ‘في الليلة التي سبقت مغادرتي رأيت في منامي حلماً بأنني ضيف على حضرة عبد البهاء، وأجلس على طاولة كبيرة وحولها أناس كثيرون…

كانت إمكاناتي المالية ضعيفة جداً، لذا لم يكن أمامي خيار في الذهاب إلى غرين إيكر في ولاية مين إلا بالسفر المجاني، وأن أكون عالة على غيري. ركبتُ القطار إلى بافلو/ نيويورك، ومن هناك انطلقت في منتصف الليل إلى بوسطن لأصلها في التاسعة صباحاً، ومن هناك كان عليّ أن أركب القطار في عدة محطات لأصل إلى مين، وكم كنتُ سعيداً حينما تمكّنت من التسلق إلى سطح القطار المتوجّه إلى بروتسماوث ونيوهمبشَيَر، ثم تابعت سفري بالقارب ومرة أخرى بالسيارة إلى أن وصلت باب الجنة. كان قلبي يخفق سريعاً لشدة فرحي، إذ لامَسَتْ قَدَماي الأرضَ التي ستشهد لقائي بمحبوبي، وها أنا غارق في هيامي ولكنني مرهق وثيابي متسخة تماماً وتعلوها الغبار، وفوق كل ذلك فأنا سعيد جداً.’

كان وصول فْرِدْ متأخراً، فوجد نفسه بين العديد من الذين أَتَوْا لرؤية المولى. وكم كان تعجُّبه بالغاً عندما أخبروه في اليوم التالي بأنّ المولى يريد رؤية السيد فْرِدْ مورتنسن. لم يكن مهيّأً أبداً لا في لباسه ولا في نشاطه، إذ توقع أن يتمكّن من مقابلة حضرته في وقت متأخر. 

سجّل فْرِد ما حصل بعد ذلك: ‘رحّب بي حضرته بابتسامته المشرقة وصافحني وأمرني بالجلوس ثم اقترب وجلس بجانبي. كانت أولى كلماته لي: ‘أهلاً وسهلاً ويا مرحباً، هل أنت سعيد؟’ وكررها ثلاث مرات، ثم استفسر عن أمور أخرى إلى أن قال: ‘هل كانت رحلتك ممتعة؟’ من بين جميع الأسئلة كنت أتمنى ألاّ يُطرَحَ عليّ هذا السؤال. طأْطأْتُ رأسي ونظرتُ إلى الأرض ولم أُجب. عاد وسألني نفس السؤال. رفعتُ رأسي ونظرتُ إلى عينيه البرّاقتين كالجوهرة المتلألئة وكأنهما كانتا تنظران إلى أعماق نفسي، فأدركتُ عندها أنه يعرف ما سأخبره به. فأجبته: ‘لم آتِ كما أتى الناس هنا لرؤية حضرتك.’سألني: ‘كيف أتيت؟’

أجبته: ‘كنت أركب القطار أو أتسلق على سطحه أحياناً.’

ثم تفضّل: ‘اشرح لي كيف؟’

عندها نظرت إلى عينيْ حضرته ولاحظت أنهما تغيّرتا، وبدا لي أن شعاعاً عجيباً لمع منهما. كان شعاع الحب الحقيقي الذي ملَكَ على كل أركاني فشعرت عندها بالقوة والحيوية والسعادة الكبرى. شرحت لحضرته كيف قرّرت المجئ بأي وسيلة وأنا لا أملك أجرة السفر، وكيف ركبت القطارات، فما كان منه إلا أن اقترب مني وقبّل وجنتيّ ثم مدّ يده وأعطاني مزيداً من الفاكهة ورأيته يحضنني ويقبّل ثيابي المتّسخة ويشمّها وقد أصبحت صلبة جامدة نتيجة ما صادفْتُهُ في طريقي وأنا مصمم على التشرف بطلعته البهية.

وعندما عزم المولى على مغادرة غرين إيكر جاء فْرِدْ ليصافح حضرته مودّعاً، وكم كانت دهشته عظيمة عندما دعاه المولى إلى سيارته ليركب معه. فتمتّع فْرِدْ ببركات حضرته مدة أسبوع أثناء إقامة المولى في مالدين وماساتشوستس. فكتب يقول: ‘لا شك أن أحداثاً كهذه قد نُقِشت في قلبي عميقاً، فأنا أعشق كل لحظة منها. إن كلمات محبوبي حضرة بهاء الله هي طعامي وشرابي وحياتي، ليس لي من هدف في حياتي سوى المضيّ في خدمته، وأن يُقدِّر لي المولى أن أكون العبد المطيع الثابت على عهده وميثاقه.’

58 السرور الحقيقي

كما تعلمون فإن حضرة عبد البهاء كان في بداية الأمر مسجونا مع والده وعائلته داخل السجن في عكاء ثم بعد ذلك داخل أسوار المدينة، ومع ذلك لم يغِب عنه شعوره بالسعادة والسرور. أخبرنا يوماً بما يلي:

‘لم يكن لي أي حزن في سجني ولا في مصائبي على الإطلاق، ذلك لأن السجن هو حديقتي الغنّاء، وقصري المنيف، وعرشي السلطاني بين الإمكان. هو الذي منحني تاج الفخر بين العالمين.’

وفي مناسبة أخرى كتب يقول :

‘كل واحد يمكنه أن يشعر بالسعادة عندما يكون مستريحاً، مطمئناً، ناجحاً، مسروراً، وفي صحة جيدة. أما أن يكون الفرد سعيداً وقانعاً وقت الضيق والشّدَّة وفي المصائب وتوالي الأمراض، فإنه دليل قاطع على سمو ّروحه ونُبلها.’

جميل جداً أن نُدرك أن تقلّبات الحياة بمرارتها ومنغّصاتها لم تغيّر حضرته في شيء. فإصابته بمرض السُّل في السابعة من عمره، وابتلاؤه بالفقر والنفي وبُعده عن والده ثم سجنه وموت أولاده، كل ذلك عاناه وأكثر منه، فظل متفائلاً مبتهجاً مسروراً في جميع مراحل حياته. فاجتاز كل المصائب والمُلِمّات بكل نُبل وعظمة مترفّعاً عن الأمور المادية والشؤون الدنيوية.  

* * *

“ليس لثروة العالم وفاء، وكل ما يدركه الفناء وقابل للتغيير ما كان مستحِقّاً للاعتناء به ولن يكون إلا على قَدْرٍ معلوم…”(23)

* * *

إلهِي إلهِي، احْفَظْ عِبَادَكَ الأُمَنَاءَ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ وَالهَوَى وَاُحْرُسْهُمْ بِعَيْنِ رِعَايَتِكَ مِنَ الُحِقْدِ وَالُحَسَدِ والبَغْضَاءِ وَأَدْخِلْهُمْ فِي حِصْنِ كَلاءَتِكَ الحَصِينِ مِنْ سِهَامِ الشُّبُهَاتِ وَاجْعَلْهُمْ مَظَاهِرَ آياتِكَ البَيِّنَاتِ وَنَوِّرْ وُجُوهَهُمْ بِشُعَاعٍ سَاطِعٍ مِنْ أُفُقِ تَوْحِيدِكَ، وَاشْرَحْ صُدُورَهُمْ بِآيَاتٍ نَازِلَةٍ مِنْ مَلَكُوتِ تَفْرِيدِكَ وَاشْدُدْ أُزُورَهُمْ بِقُوَّةٍ نَافِذَةٍ مِنْ جَبَرُوتِ تَجْرِيدِكَ. إِنَّكَ أَنْتَ الفَضَّّالُ الحَافِظُ القَوِيُّ العَزِيْزُ.(24)

23. "كتاب عهدي" في "مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله"، ص 197، (مترجم عن الفارسية).
24. حضرة عبد البهاء في "الأيام التسعة" منشورات دار النشر البهائية في البرازيل، طبعة سنة 1987، ص 247–248.

59 الدموع الغالية

عَهِدَ حضرة بهاء الله إلى حضرة عبد البهاء بعمل عظيم وصعب جداً لثقته وإيمانه بأنه سوف لن يتردد ويتوانى في إنجازه. كان ذلك العمل هو امتلاك أرض على سفح جبل الكرمل بحيفا وبناء مقام عليها لائق برُفات حضرة الأعلى وفي بقعة أشار إليها حضرته مواجهةٍ للبحر الأبيض المتوسّط، ثم العمل على جلب الرفات الطاهر لحضرته من مخبئه في إيران حتى يُوارى في تلك البقعة المباركة في مكانه الدائم بكل جلال ووقار. كانت المشكلة الرئيسية التي واجهت حضرته هي شراء قطعة الأرض من مالكها. يبدو لنا أن الأمر سهل، إلا أنه لم يكن كذلك أبداً. فعندما كان صاحب الأرض يقبل بالسعر الذي يدفعه له المولى كان يأتي في اليوم التالي ويَعْدِلُ عن رأيه. لماذا؟ لأن أعداء الأمر من ناقضي العهد والميثاق كانوا يقنعونه بعدم بيع أرضه. فيعود حضرته ويرفع السعر ويقبل به المالك ليعود ثانية ويقرر عدم بيع أرضه نتيجة استمرار مساعي الناقضين طبعاً. واستمر الحال على هذا المنوال مدة جعلت حضرة عبد البهاء في غاية الاضطراب. ومما قاله حضرته: ‘غرقتُ ذات ليلة في أحزاني وأمضيتُ الليل بالدعاء من آثار حضرة الأعلى بكل تضرع وابتهال طالباً عون القوى الغيبية في إزالة هذه العوائق. شعرتُ بعد ذلك بالسكينة تدخل إلى قلبي ثم نمت. وما أن أشرَقَتْ شمس الصباح حتى سمعت طَرْقاً على الباب. كان الطارق صاحب الأرض وقد جاءني معتذراً وطالباً مني أن أشتري أرضه.’

وهكذا تمّ شراء الأرض بالدموع المجبولة بالفرح والسرور، وبعد ذلك وضع المولى مخططاً لبناء تسع غرف بحيث تحيط بمرقد حضرة الأعلى، إلا أن حضرته تمكّن من بناء ست غرف فقط في أحلك الظروف التي مرّ بها وأخطرها وأقساها. وفي عدة مناسبات سُمع حضرته يقول:

‘ليس من حجر في هذا البناء ولا من حصاة في هذه الطريق إلا ووُضعتْ بثمن باهظٍ وما تمّتْ إلا بالدموع.’

60 بيت فرح الروح

تشرّف الدكتور جون إسلمنت(25) بزيارة حضرة عبد البهاء في حيفا. كان ذلك في شتاء عام 1919م حيث دامت زيارته شهرين ونصف. لاحظ الدكتور أن حضرته اعتاد أن يتحدث إلى الزائرين والأحباء خلال فترتي الغداء والعشاء ممتعاً إياهم بجوٍّ من البهجة بقصصه المنعشة للقلوب والمُسرّة للنفس بقصد تسليتهم والترفيه عنهم، إلى جانب أحاديثه الجادّة المفيدة في مختلف المواضيع الهامة، وكان حضرته يتفضل دائماً: ‘بيتي هو بيت الضحك والسرور.

حقاً كان كذلك. كان يُسرّه أن يجمع من حوله الناس من مختلف الأجناس والألوان والجنسيات والأديان في وحدة وأُخوّة صادقة في ضيافته. وفي إحدى المناسبات أخبرنا بقوله:

‘بيتي بيت السلام والطمأنينة، بيتي بيت البهجة والسرور، بيتي بيت الضحك والحبور. فمن أي باب دخلتموه ستخرجون منه بقلب مسرور.’

25. مؤلف كتاب "بهاء الله والعصر الجديد".

61 الصورة الفوتوغرافية

تُحدِّثنا الليدي بلومفيلد وتقول:

‘في الأيام الأولى لزيارة حضرة عبد البهاء إلى لندن كثُرت المحاولات لإلتقاط صُوَر فوتوغرافية لحضرته، فاعتاد المصورون والصحفيون التجمع عند الباب لينتهزوا أية فرصة لتحقيق رغبتهم في التقاط صورة. وفي إحدى المناسبات دفعني فضولي إلى أن أناقش أحدهم فسألته: هل تظن أن من اللياقة أن تصُرّ على التقاط صورة لضيف قادم من بلاد بعيدة ودون إذنه وإرادته؟ فأجابني: لا يا سيدتي ليس من اللائق ذلك، ولكن إذا احترمتُ أنا رغبته والتَقَطَ الآخرون صورة له فسيظن رئيسي في العمل أنني شخص غبي وفاشل. وعندما أخبرت المولى بذلك ضحك من أعماق قلبه. بعد ذلك التفت إلينا بابتسامته المشرقة ووافق على التقاط صورة له مع الأحباء حتى يُدخِل السرور إلى قلوبهم وقال:

‘أَن تصوّر شخصاً معناه التأكيد على شخصيته التي هي بمثابة المصباح وهذا غير مهم أبداً، أما النور المشرق من هذا المصباح فإنه هو المغزى الحقيقي من الصورة .’ وبعد أن شاهد الصُّوَر التي التُقِطَت له وَضَعَ توقيعَه على إحداها بأن كتب اسمه (خادم الله البهي الأبهى) على الجزء الأبيض من ردائه الظاهر في الصورة وقال: ‘هذا هو إسمي وهو تاجي.’

بينما كنتُ أقود سيارتي عائدة إلى المنزل وبمَعيّة حضرة عبد البهاء ومعي صديقتي غروبر’ سألَتْ صديقتي حضرتَه: ‘هل تشتاق يا مولاي إلى الرجوع إلى حيفا والالتحاق بعائلتك العزيزة؟’

ابتسم حضرته وقال: ‘أريدكما أن تعرفا بأنكما مثل بناتي تماماً وأحبكما مثلهن.’ فامتلأ قلبانا فرحاً وقلنا في أنفسنا: كيف علينا أن نخدم حتى نصبح على الأقل لائقين بهذا الشرف الكبير!

62 ملكوت الله

سأل أحد الزائرين يوماً حضرة عبد البهاء: هل يمكن لهذا العالم التعيس البائس أن يحظى يوماً بالسعادة؟

فأجابه حضرته: ‘منذ حوالي ألفي سنة علّم السيد المسيح أتباعه أن يدعوا في صلواتهم قائلين: ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما هي في السماء كذلك على الأرض. فكّروا قليلاً؛ هل يمكن له أن يأمر أتباعه بالصلاة والدعاء من أجل شيء لا يمكن تحقيقه؟ إنها نبوءة إلهية محقَّقة. أما متى يأتي ذلك الملكوت، ومتى ستكون مشيئته على الأرض كما هي في السماء، فذلك يعتمد على كل واحد منكم وكيف سيقوم على الخدمة ليل نهار بشكل مكثّف. فبما في قلوبكم من تَوْقٍ وحرارةٍ وانجذاب قوموا وانهضوا وأنيروا غيركم من الخادمين المنتظرين حتى تصبحوا معاً أشعة واحدة متّحدة، ذلك لأن العاملين وحدهم هم كالنملة وإذا ما اتحدوا أصبحوا نسوراً، ومن يعمل لوحده يكن كقطرة الماء، وإذا ما اتحدت القطرات ستشكل نهراً دافقاً يحمل معه ماء الحياة الصافي إلى الصحارى والقفار في العالم، ولن تقف دونه قوة، ولن يشعر الأصحاب بالحزن واليأس والإحباط. فكونوا متحدين، كونوا متحدين، والخطر كل الخطر أن تبقى قطرة الماء منعزلة لأنها حتماً ستجفّ وتَذْروها الرياح.’

63 نكران الذات

من بين الخادمين المخلصين في الأرض الأقدس شخص يدعى (فوجيتا) وهو أمريكي من أصل ياباني. نرى وجهه دوماً يشع سروراً ومحبة، وكانت ابتسامته انعكاساً لروحه الشفافة. أما قصة إيمانه فهي قصة طريفة. 

كان فوجيتا يدرس الطب في إحدى جامعات كليفلاند بأوهايو، وعندما قدِم حضرة عبد البهاء إلى كليفلاند، في نطاق زيارته لأمريكا، تشرف فوجيتا بأول مقابلة له مع حضرته، ومنذ ذلك الوقت أصبح شخصاً آخر. ترك دراسته في الجامعة وكل شيء في حياته من أجل أن يتبع المولى أينما توجّه من شدة انجذابه له وللأمر المبارك. فتَبِعَه من كليفلاند إلى شيكاغو ثم كاليفورنيا وبعدها إلى نيويورك لينتهي به المطاف في حيفا ويمضي فيها خمسين سنة في خدمة حضرة عبد البهاء وولي أمر الله شوقي أفندي. كان يعتني بالحدائق على جبل الكرمل فيزيدها روعة وجمالاً. ولما كبُر وأصبح غير قادر على مثل ذلك العمل الشاق عُيِّن لاستقبال الضيوف والزائرين لبيت حضرة عبد البهاء، وهم الذين لن ينسوه أو ينسوا استقباله لهم بابتسامته المشرقة بغاية الأدب والاحترام، واعتاد أن يحيّيهم مودعاً وملوِّحاً بيديه بكل حرارة ومحبة واشتياق لرؤيتهم ثانية. 

64 أول بهائي في أمريكا

أخبرنا حضرة عبد البهاء بأن ثورنتون تشيس هو أول شخص آمن بالدين البهائي في أمريكا الشمالية. كان ذلك عام 1894 أي بعد صعود حضرة بهاء الله بسنتين.

كم كان تشيس يتوق لزيارة حضرة عبد البهاء والتمتّع برؤيته والاستماع إلى كلماته. وأخيراً استجاب الله لدعائه وحظِيَ بالتشرف بالزيارة عام 1907 في عكاء. كانت الظروف في ذلك الوقت صعبة للغاية؛ فالأهالي يُظهرون العداء لحضرة عبد البهاء والبهائيين ويسبّبون لهم المشاكل والمتاعب، ولذلك لم تَدُمْ زيارته سوى أربعة أيام نصحه حضرته بعدها بالرجوع إلى بلده مما أغرقه بحزن شديد حتى إنه لم يستطع أن يتمالك نفسه فانفجر بالبكاء، إلا أن قلبه امتلأ سروراً عندما أخبره المولى أنهما سيتقابلا ثانية. 

بعد خمس سنوات وردت رسالة تفيد بأن حضرة عبد البهاء قادم إلى أمريكا مما جعل تشيس يطير فرحاً لأنه سيتمكن من مقابلة حضرته ثانية. وبينما كان حضرته في رحلته الطويلة إذا بثورنتون تشيس يصاب بمرض شديد أقعده الفراش. اشتد عليه المرض رغم العلاج المتواصل، وبقي الأمر كذلك إلى أن وافته المنية قبل أن يصل حضرة عبد البهاء. 

ما إن وصل حضرته وسمع بالخبر المؤلم حتى توجّه في رحلة خاصة لزيارة قبره، فاستقلّ القطار ثم الترام إلى أن وصل المقبرة الجميلة التي كانت تحيط بها الأشجار العالية وتنتشر فيها الأزهار من مختلف الأنواع. اقترب حضرته من القبر واتّكأ على شجرة قريبة ونظر إليه ووقف صامتاً. طلب بعض الزهور، حملها بيده المباركة ووضعها على القبر بغاية المحبة والوقار، ثم تلا المناجاة من أجل روح تشيس في رحلتها إلى عوالم الله الروحانية، ثم تفضل قائلاً:

‘سوف يحظى هذا القبر بتبجيل الناس واحترامهم، وعلى أحباء الله أن يزوروه ويضعوا الزهور بالنيابة عني…’

ثم ركع حضرته وقبّل قبر هذا المؤمن العزيز. وهكذا كان لقاؤهما الثاني بهذه الطريقة. 

65 المراسِلَةُ الصحفية

“كاتي” مراسِلة صحفية تعمل لصالح إحدى الصحف الأمريكية، وعندما سمعت عن حضرة عبد البهاء رغبت في مقابلته، فتوجهت إلى الفندق الذي ينزل فيه في نيويورك. دخلت من الباب الأمامي ثم صعدت إلى الطابق الأخير. قرعت الباب وفُتح لها على الفور ثم دخلت الغرفة لتجدها ملأى بالحاضرين فجلست معهم تنتظر. وما هي إلا لحظات حتى دخل حضرة عبد البهاء وحيّا الجميع بوجهه المنير ثم أخذ يكلِّم كل واحد منهم بالدور، وتحدّث معهم مبدياً اهتمامه بالشؤون الإنسانية. فهذا الرجل العجوز وذاك الشاب في مقتبل عمره كلهم قد حظوا باهتمامه الكبير إلى أن وصل حضرته إلى “كاتي” التي ربَّتَ على كتفها بكل رفق وحنان.
تكلمت “كاتي” مع حضرته طويلاً، وسأَلَتْه في مواضيع كثيرة أشبعت ما كان يَعْتَمِلُ في نفسها ثم التفت إليها وقال:
‘إذا أطعنا الله بقلب نقيّ وكنا رُحَماء ولُطَفاء ستغمرنا السعادة دائماً.’
وطلب منها أن تفكر بعمق فيما قاله، وأن تكون أمينة صادقة فيما تكتب عن زيارتها هذه، ثم التفت إلى الجميع وأخبرهم بأن عليه أن يغادر لمقابلة بعض الفقراء في البلدة مبدياً أسفه على تركهم، ودعا “كاتي” لمرافقته.
غادر حضرته الفندق ممسكاً بيدها واستقلاّ سيارة كانت بانتظاره. وصل حضرته إلى مكان اسمه “أبرشية باوري الدينية” حيث تجمّع هناك ما يقارب الأربعمائة فقير ينتظرون. معظمهم بلا مأوى، وغالباً ما اعتادوا النوم على مقاعد في المتنزهات أو على أرصفة الشوارع وتحت الجسور.
يعرف حضرة عبد البهاء تماماً كيف يشعر الفقير، لم ينسَ عندما كان طفلاً في الثامنة من عمره حينما وُضع والده في سجن “سياه چال”، وعانى مع والدته وأخته وأخيه مرارة الجوع والبرد. لم يكن لديهم آنذاك من النقود ما يشترون به شيئاً يسدّون فيه جوعهم، ولما استطاعت والدته أن تحصل على شيء من الطحين، تناول بقبضة يده بعضاً منه والتهمه.
نظر إلى الفقراء بعينين ملؤهما المحبة والرفق والحنان فشعروا أنهم أمام والدهم العطوف، اقترب منهم وتفضل قائلاً: ‘أنا مسرور جداً في هذه الليلة لأني معكم، وأتيت لأقابل أحبائي… أرجوكم أن تقبلوا عبد البهاء خادماً لكم.’ ثم أعطى كل واحد منهم مبلغاً كافياً لأن يجد له مكاناً دافئاً ينام فيه ليلته.
وفي مقالة “كاتي” التي كتبتها عن حضرة عبد البهاء فيما بعد ذكرت بأن آخر منظر لحضرته، والذي لا يمكن أن تنساه، منظره وهو واقف على رأس خط طويل من الفقراء يمد يده لكل واحد منهم ليعطيه قطعة من النقود الفضية ويبثّه كلماته الدافئة التي تبعث في نفسه الطمأنينة وتحيطه بالراحة والبركات.

 

66 خادمة الفندق

بعد أن انتهى حضرة عبد البهاء من زيارته لكنيسة باوري في نيويورك ولقائه بالفقراء الذين أعطاهم نقوداً فضية، لاحظ أن في كيسه لا تزال بعض النقود الفضية. عندما عاد إلى الفندق صادف أن رأى أمامه المشرفة التي تعتني بغرفته. هو يعلم بأنها لا تتقاضى أجراً يتناسب وعملها الشاقّ، تقدّم منها وطلب أن ترفع طرف مريولها ففعلت، وكم كانت دهشتها عندما رأت حضرته وهو يفرغ كيس نقوده في المريول، وعندما أخبرها الناس كيف أن حضرته قد تبرع بماله للفقراء في الأبرشية، تمنّت لو كانت قادرة أن تتبرع مثله. 

عندما علمت المشرفة أن حضرته سيغادر في اليوم التالي، هرعت إلى باب غرفته لوداعه. طرقت الباب ودخلت حزينة بعينيْن دامعتيْن. كانت الغرفة تعُجُّ بالمودّعين، فمشت دون أن تلتفت إليهم واقتربت من حضرته وقالت بصوت خافت خجول: ‘أردت أن أودّعك يا سيدي وأشكرك على روحك الطيبة. لم أكن أتوقع منك مثل هذه الطِّيبة واللّطف، أرجو ألاّ تنساني في دعائك.’ ثم أجهشت بالبكاء وغطّت رأسها بمريولها وغادرت الغرفة مسرعة.

67 المقابلة الحميمة

عندما كان حضرة عبد البهاء في سان فرانسيسكو، رتّبت له مضيفته مقابلة مع حاكم بيركلي وَدَعَتْ إليها عدداً من الجامعيين والشخصيات المرموقة أيضاً.

اقترب موعد المغادرة إلى مقرّ الحاكم، ولاحظت المضيفة أن المولى لا يزال جالساً في غرفته. صعدت إلى الطابق العلوي لتذكّر حضرته بأن الوقت قد حان للتحرُّك، فالتفت إليها وقال مبتسماً: ‘حالاً، حالاً.’

رجعت ونزلت الدرج ولكن بشيء من القلق لأنها لم تلحظ عند حضرته ما يدل على أنه يحضّر نفسه للمغادرة. مرّت الدقائق ولم تشاهد حضرته يغادر الغرفة، فصعدت ثانية لتذكّره بالموعد وأن السيارة بالباب تنتظره، ولكنها لم تجد أمامها إلا الابتسامة نفسها وقوله: ‘حالاً، حالاً.’ رجعت وهي في قلق شديد خوفاً من عدم وصولهم إلى مقرّ الحاكم في الموعد المحدد. وبينما هي كذلك إذا بجرس الباب يدقّ، وما هي إلا لحظات حتى شوهد حضرته يخرج من غرفته وينزل الدرج متجهاً نحو الباب. وعندما فتح الباب ظهر خلفه رجل أشعث الشعر وثيابه متسخة يعلوها الغبار. تقدّم منه حضرته وعانقه بحرارة وكأنه صديق حميم ينتظره وقد افتقده منذ مدة.

لقد قرأ الرجل عن حضرة عبد البهاء في الصحف وشعر بشيء يجذبه إليه لمقابلته، وحيث إنه لا يملك أجرة السفر بالسيارة، فقد قطع المسافة التي تُقَدَّر بخمسة وعشرين كيلومتراً ماشياً إلى أن وصل سان فرانسيسكو. فلو غادر حضرته قبل ذلك لما تمكّن من رؤيته، إلا أنه أصرّ على البقاء ليرحّب بضيفه ويقدّم له الشاي وبعض الشطائر، وبعدها استطاع المولى أن يقول لضيفه الرجل: ‘والآن عليّ أن أُغادر، وعندما تنتهي من طعامك اصعد وانتظرني في غرفتي في الطابق العلوي إلى أن أعود ولنا معاً حديث طويل.’

* * *

“يا ابن العرش، سمعُكَ سمعي فاسمعْ به، وبصَرُك بصري فابْصِرْ به لتشهد في سرِّك لي تقديساً علِيّاً لأشهدَ لك في نفسي مقاماً رفيعاً.”(26)

26. "الكلمات المكنونة" العربية، ص 21، (الطبعة 1995).

68 الحياة الحقيقية

عندما كان حضرة عبد البهاء راكباً في الباخرة سيلْتِك اقتربت منه امرأة رغبت في أن تبوح له بمشكلة تقلقها كثيراً وهي خوفها الشديد من الموت. استمع إليها بكل أناة ثم حدّثها قائلاً: ‘إذن، قومي بعمل يحميكِ من الموت، ويوماً بعد يوم ستشعرين بأنك على قيد الحياة، وهذا ما يجلب لكِ حياة أبدية طبقاً لما جاء في أقوال المسيح بأن الذين يدخلون ملكوت الله لن يموتوا، إذن فادخلي ملكوت السماء وعندها لن تخافي الموت أبداً.’

ثم نقلها حضرته إلى الحديث عن شيء آخر ولكنه متصل بالموضوع وله مغزاه، فجعلها تبادله الحديث عن المحيط الأطلسي الذي يعبرونه، وأنه كان هادئاً فترة من الوقت ولكنه لن يبقى كذلك وسرعان ما تتلاطم فيه الأمواج ثم أنهى حديثه بقوله: ‘على المرء أن يركب سفينة الله، لأن الحياة عبارة عن بحر هائج، وسيغرق في أعماقه جميع من على الأرض إلا الذين يركبون سفينة الله، فهم وحدهم سينجون.

69 الوردة السوداء

تكلم حضرة عبد البهاء في أمريكا إلى مختلف الناس من مسيحيين ومسلمين ويهود وغيرهم، أغنياء وفقراء، متعلمين ومثقفين ورجال أعمال وغير ذلك من مختلف الطبقات.
وذات يوم توجّه حضرته نحو مكان الاجتماع ماشياً. لاحظ الصبية المتجمعون في الشارع رجلاً يلبس قفطاناً ويضع عمامة بيضاء على رأسه وهو منظر غريب عليهم، فمشَوْا خلفه يتتبعون خطواته وينظرون إليه بتعجّب، ولكن بعضهم خرج عن أصول الأدب وأخذوا يرمونه بقطع صغيرة من الخشب.
رأت إحدى البهائيات هذا المنظر وأسرعت إلى الصبية تشرح لهم مكانة حضرة عبد البهاء وأنه رجل مقدّس ولطيف وهو قادم من بلاد مقدسة، وأنه الآن في طريقه إلى اجتماع هام. هدأ الصبية ولكنهم من قبيل الفضول طلبوا أن يرافقوه لمكان الاجتماع ليرَوْا ماذا سيفعل، فأخبرتهم السيدة بأن ذلك غير ممكن، أما إذا حضروا لمنزلها يوم الأحد التالي فستنظّم لهم مقابلة مع حضرته.
لم تتوقع السيدة مجئ هؤلاء الصبية الصغار في الموعد المحدد، فتفاجأت حينما رأت أن حوالي ثلاثين صبيّاً قد حضروا. مظهرهم في ثيابهم كان يدل على فقرهم ، إلا أنهم حرصوا أن يكونوا نظيفين مؤدبين وأذكياء.
تجمّع الصبية في الغرفة التي كان ينتظرهم فيها حضرة عبد البهاء. صافحهم واحداً واحداً وربّت على أكتافهم مرحبّاً بهم بالضحك والابتسامة بكل سرور ومحبة. نظر حضرته فلاحظ أن صبياً كان يقف وحيداً في زاوية الغرفة. لم يخطر ببال الصبي أن حضرته سيرحب به، ولذلك آثر أن يقف بعيداً. نظر إليه حضرته بابتسامته الحانية المعروفة ثم أشار بإصبعه وقال: ‘هناك وردة سوداء.’ سمع الصبي هذه العبارة فأدخلت إلى قلبه سروراً بالغاً، وانفرجت أسارير وجهه وبانت عليه ابتسامة الراحة والاطمئنان، ذلك لأن الجميع اعتادوا أن ينادونه بأقبح الأسماء والصفات، ولم ينادِهِ أحد في حياته بِـ”الوردة السوداء”.
فتح حضرة عبد البهاء صندوق الشوكولاته الذي أحضره معه، وأخذ يتنقل بينهم ويعطي كل واحد ملء يده من الحلوى، وتناول قطعة ووضعها على خدّ الصبيّ الأسود ونظر إليهم جميعاً دون أن يتفوّه بكلمة، ولكنهم أدركوا بذكائهم ماذا كان يعني بقوله. كان يقول لهم في نظراته أن أخاهم الأسود ليس جميلاً مثل الوردة فحسب، بل طيّب المذاق وحلوٌ مثل حبة الشوكولاته.

70 البنطال الممزّق

في الصباح الباكر من أحد الأيام، أخذ حضرة عبد البهاء يمشي ذهاباً وإياباً في الباحة الخارجية للفندق يُملي على سكرتيره بعض الرسائل. كان المكان خالياً من الناس تماماً والسكون مخيم إلا من وَقْعِ أقدام مُتشرِّدٍ لوحظ أنه كان يمشي ببطء في الشارع متّجهاً نحو حضرته.

لفت نظر حضرته أن ثياب القادم ممزقة ومتّسخة، وخاصة بنطاله الذي تكثُرُ فيه الثقوب والرقع ويكاد لا يغطّي ساقيه أو يقيه شرّ البرد.

ابتسم حضرته في وجه الرجل العجوز ورفع يده محيياً إيّاه، فارتسمت على وجه العجوز الشاحب المرهق ابتسامة باهتة. نظر حضرته إلى البنطال الممزق وقال في نفسه لا بدّ أن أفعل شيئاً. فتوجّه إلى مظلّة قريبة ووقف تحتها ثم خلع بنطاله الذي كان يرتديه تحت القفطان وأعطاه للرجل وقال له: ‘الله معك، بأمان الله.’ ثم التفت إلى سكرتيره واستمرّ في أملاء رسائله كأن شيئاً لم يكن.

71 القلبُ الكبير

شرحت لنا أمة الله غلوريا فيضي عن الحب الكبير الذي يملأ قلب حضرة عبد البهاء فقالت: 

‘عندما ينجذب قلب المؤمن إلى الله بواسطة مظهره الإلهي يكون قد أقام علاقة حب حميمة مع خالقه، وكلما قَوِيَ هذا الرِّباط المقدّس كَبُر هذا الحب وفاض من قلب المؤمن على جميع مخلوقات الله دون استثناء. وقد أعطانا المولى مرة مثالاً، فحدّثنا عن رسالة وصلت إلى حبيب من محبوبته في مكان بعيد وكانت متّسخة مجعّدة. لم يهتمّ الحبيب أبداً إلى شكلها ولا إلى حالتها عندما وصلت، بل نظر إلى كلماتها التي كانت عنده أثمن ما في الوجود لأنها صادرة عن محبوبته.

‘وبالمثل فإن بإمكاننا، بل وعلينا أن نحبّ كل إنسان في الوجود بغض النظر عمّن يكون أو ماذا يكون لأنه يعدّ رسالة من الله وفيه نفحة من نفحاته.’

72 العطاء الكبير

أخذ الأحباء في أمريكا يدّخرون المال ليتبرعوا به لبناء مشرق الأذكار في شيكاغو، فابتكر الأطفال والشباب والرجال والنساء طرقاً ووسائل لتوفير المال اللازم للبدء في البناء. من بين الأحباء امرأة عجوز مؤمنة مخلصة تُدعى نيتي. كانت فقيرة جداً لا تملك ما يمكن أن تتبرع به، وتتمنى من كل قلبها أن تقدّم شيئاً يساعد في بناء هذا المعبد العظيم.

لقد اشترى الأحباء الأرض التي سيقام عليها مشرق الأذكار في مكان جميل قرب بحيرة كبيرة. ودُعي الجميع في أحد الأيام إلى ذلك المكان لتلاوة الدعاء والابتهال طلباً للتأييد، ومن المقرر أن يحضر حضرة عبد البهاء ليباركه.

علمت نيتي بالخبر وأرادت الذهاب ولكنها شعرت بالحزن لأنها لا تملك ما يمكن أن تقدّمه. دعت من كل قلبها بكل حرقة وقرأت المناجاة وأخذت تفكر فيما يجب أن تفعله لأنها لا تريد أن تحرم نفسها من هذه البَرَكة. 

تذكّرت أن جارها يبني غرفة إضافية في منزله، وهناك بعض الحجارة غير الصالحة للبناء ملقاة جانباً، فماذا لو طلبت منه حجراً تأخذه معها وهذا كل ما يمكنها تقديمه؟ توجهت إلى جارها وطلبت منه حجراً. ‘نعم، يمكنك أخذ ما تريدين من تلك الحجارة المهملة’ قال الجار. فرحت نيتي كثيراً واختارت حجراً كبيراً. كان بالطبع ثقيلاً لا تستطيع حمله ولا نقله وحدها. فرجعت إلى بيتها لتجد فيه عربة أطفال قديمة كانت قد احتفظت بها. أخذتها ووضعت فيها الحجر بكل جهد بمساعدة جارها. والآن كيف ستسافر إلى مكان الاجتماع في موقع البناء بهذا الحجر وفي الموعد المحدد! استعانت بأحد الأحباء الذي أبدى استعداده لمرافقتها في السفر ومساعدتها. فأخذت تجرّ العربة تارة وتركب الحافلة تارة أخرى في رحلة طويلة ركبت خلالها في ثلاث حافلات. لم يكن بالطبع سائقو الحافلات مسرورين من وجود عربة تحمل حجراً في حافلاتهم.

نزلت نيتي وصديقها من آخر حافلة وأخذا يجرّان العربة فوق الطريق الحجري الوعر بكل صعوبة، إلا أن العربة تكسّرت إلى قطع وسقط الحجر على الأرض. نظرت إليه بحزن شديد وأدركت أنها لن تلحق الاجتماع في موعده. جلست مكتئبة وأخذت في الدعاء. رآها صبية مارّة وعرفوا قصّتها، فما كان منهم إلا أن أحضروا عربة وساعدوها في وضع الحجر فيها وواصلت سيرها إلى أن وصلت المكان متأخرة بعض الشيء، ووجدت أن الأحباء كانوا يتلون المناجاة.

عندما شاهد حضرة عبد البهاء ذلك الحجر ابتسم وتفضل قائلاً: ‘نعم، هذا هو حجر الأساس في مشرق الأذكار.’

 تقدم حضرته وأمسك بالحجر وبمساعدة الأحباء نقلوه إلى حفرة أُعدت في مكان البناء، وبيده المباركة وضعه حضرته في الحفرة واطمأن بأنه استقرّ في مكانه بالشكل المناسب. 

من الطبيعي أن البنّائين لا يرغبون في مثل هذا الحجر لاستعماله في البناء، إلا أن حضرة عبد البهاء اختاره لأن نيتي قدّمته بروح الحب والعشق بكل تضحية. وبفضل جهود الأحباء وتضحياتهم المخلصة ارتفع البناء عالياً في تلك البقعة الجميلة على شاطئ البحيرة في شيكاغو، ويدخله الناس من جميع الأجناس والأديان للدعاء فيه بكل حرية وهدوء. إنه مشرق الأذكار الذي يرتفع فيه ذكر الله من كل دين ومذهب وجنس. 

73 أَعِنِّي يا إِلهي

في زيارة حضرة عبد البهاء إلى أمريكا عام 1912م هيأ الدكتور علي قلي خان(27) نفسه للتشرف بمحضره الأنور. فبدأ يفكّر في ما يمكن أن يسأله لحضرته عند وصوله، وبعد طول تفكير خرج بسؤال واحد هو إظهار شَغَفه الشديد في معرفة مناجاة يمكنه أن يقرأه من أعماق قلبه عندما يجابه لحظة حرجة تستدعيه أن يتخذ قراراً دبلوماسياً سريعاً بصفته ممثل بلاده إيران رسمياً في واشنطن، وعندما كان يتعرّض لموقف كهذا كان يجتهد بأقصى ما لديه من حكمة في أن يقرر المناسب، إلا أن حكمته محدودة، ولذلك فإنه يتطلع بكل شغف أن يرشده حضرة عبد البهاء إلى مناجاة تلهمه مزيداً من الحكمة.

أتى يوم وصول حضرته، وذهب الدكتور خان مع بعض الأحباء في واشنطن لاستقباله في المحطة. كان اللقاء حاراً والتحيات عميقة من القلب، وقلب قلي خان لا يزال متلهفاً لطرح سؤاله. حظي قلي خان بشرف مشاركة حضرته في السيارة، وعندما وصلوا نصف الطريق تقريباً التفت حضرته إلى قلي خان، ودون مقدّمات، وأخبره بالقصة التالية:

‘عندما كنا في بغداد وغادرها حضرة بهاء الله معتكفاً في جبال السليمانية مدة سنتين، لم يكن أحد منا يعلم مكان وجوده، فكنا مضطربين جداً ومنكسري القلب خشية ألا نراه أبداً. في ذلك الوقت كنت صبياً صغيراً وأصبحت معاناتي بفقدانه المفاجئ على شأن يصعب تحمُّله لأنني أعشقه كثيراً، خاصة وأن غيابه قد طال. فبلغتُ حالةً من الحزن الشديد بحيث وجدتُ نفسي أتوجّه بقلب محترق وناديت بأعلى صوتي وكنتُ أرفع يديّ وأنزلهما طالباً النجدة متوسلاً العون قائلاً: يا إله المستغاث يا إله المستغاث. وبقيت على هذا الحال طوال الليل.

‘وما إن طلع الفجر حتى سمعناً طَرْقاً على الباب هرعنا إليه متلهفين. كان الطارق رجلاً جاء ليخبرنا بأن رجلاً غريباً يدخل باب المدينة وقد أرسلني ليطلب من عائلته أن يرسلوا له لباساً وبعض الماء حتى يتمكّن من الاستحمام. فعرفت حينها أن والدي قد رجع.’

أدرك الدكتور خان، دون أن يسأل أن ابتهاله للحق وقت الشدة هو ‘يا إله المستغاث.’

(رواها علي قلي خان لوالدة كاتبة المرجع جاكلين مهرابي في غرين إيكر عام 1933م)

27. منحته الحكومة الإيرانية لقب نبيل الدولة ثم عُيّن قائماً بالشؤون الإيرانية في واشنطن.

74 أنا... ! من أكون؟

في أوائل عام 1901 وحتى عام 1905 أرسل حضرة عبد البهاء ميرزا أبوالفضائل إلى الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تبليغ أمر الله، وطلب من الدكتور علي قلي خان أن يكون مترجماً له في أحاديثه. كانت رحلتهما ناجحة جداً في وقت كَثُرَ فيه المبشّرون الهندوس والزردشتيون والبوذيون ونشطوا في التبشير هناك ولاقوا من الناس ترحيباً حاراً، وكذلك الأمر كان بالنسبة للمبلِّغَيْن البهائييْن. إلا أن قصة طريفة حدثت لميرزا ابوالفضائل في إحدى المدن في الوسط الغربي من أمريكا:

استؤجِرت دار الأوبرا المحلية في المدينة لتتسع لأفواج الراغبين في الاستماع لكلمات ميرزا أبوالفضائل، وعندما حان وقت الاجتماع، تدفق الناس نحو القاعة حتى بلغ عددهم أَلْفاً تقريباً، وقف أبوالفضائل أمام هذا الحشد الكبير وحدّق في وجوه الحاضرين الذين ينتظرون سماعه بكل لهفة، إلا أنه تسمّر في مكانه ولم يتفوه بكلمة. لقد أخذه الزُّهُوُّ في نفسه ومرّ في مخيلته آنذاك شريط سريع تصوَّر فيه نفسَه وهو يخاطبها: ‘أرى أنني موفّق جداً في هذه الرحلة ، وأنا أبلي بلاءً حسناً يدعوني إلى الافتخار، وعندما أعود إلى عكاء سيكون المولى مسروراً جداً مني، فأنا أقوم بعمل جيد حقاً.’

بعد ذلك شعر بأن أبواب التفكير أمامه قد أُغلقت بالكلية وانتابته حالة غريبة: لا يعرف مَن هو، ولماذا يقف على هذه المنصّة؟ لا يرى أمامه سوى أناساً ينظرون إليه ولا يعرف ماذا يقول لهم.

أدرك على الفور ماذا حدث له. لقد أطلق العنان لنفسه الأمّارة فجعلته يعتقد بأنه هو نفسه وراء كل نجاح أحرزه، وأن كلماته هي التي دخلت قلوب الناس وأنه هو… وهو… وهو الذي يجب أن يفتخر بنفسه. أفاق من ذلك الكابوس فجأة وشعر بالخجل الشديد وتوجّه لحضرة بهاء الله طالباً الصفح ومتوسلاً أن يملأ قلبه بنوره حتى يستطيع أن يحرّك لسانه وشفتيه مرة أخرى بكلمات الحق. وفوراً أتاه الجواب، ومضى في حديثه بكل قوة وتأييد. 

سأل أبو الفضائل الدكتور خان في وقت لاحق عن المدة التي بقي فيها واقفاً معقود اللسان، وأنه كان من العار عليه أن يقف مثل ذلك الموقف. فأجابه: ‘لم تكن سوى لحظات بسيطة، وكان الجميع منجذبين ومستمتعين بحديثك، حتى أن الاستراحة قد أُلغيت بسبب اندماج الجميع وانسجامهم بما كانوا يسمعونه.’

ومما يشار إليه بأن حضرة عبد البهاء كان لعدة سنوات يمتدح ميرزا أبو الفضائل على أنه من النفوس النادرة التي لم تستعمل كلمة أنا أو إني.

(رواها الدكتور علي قلي خان في مدينة نيويورك عام 1934م)

75 ماذا يحدث للروح حقاً؟

خلال مرافقة الدكتور قُلي خان لميرزا أبو الفضائل في رحلته إلى أمريكا، أخذ يُثْني على خدماته ومجهوداته وأنه كان يجيب عن أسئلته بكل طلاقة وحكمة، إلا أن سؤالاً واحداً بقي عالقاً في ذهن الدكتور، فتوجّه إليه يسأله قائلاً: ‘ماذا يحدث للروح بعد صعوده من هذا العالم؟’؛ نظر إليه ميرزا أبو الفضائل متأمّلاً وأخذ يحدّثه في موضوع آخر.

وبعد عدة أيام، وبينما هما يقتربان من واشنطن العاصمة، عاد الدكتور خان وكرر السؤال: أرجوك أخبرني ماذا يحدث للروح بعد مفارقة الجسد؟ تأمّل ميرزا أبوالفضائل بالدكتور خان مرة أخرى وغيّر مجرى الحديث أيضاً.

وصلا واشنطن وأمضيا الفترة المقررة، وقبل مغادرة أبو الفضائل إلى عكاء بيوم واحد، عاد الدكتور خان وسأله للمرة الثالثة، ولكنه لم يحظ من ميرزا أبو الفضائل سوى بابتسامة وهزّةِ رأس ثم استدار وابتعد عنه.

وبعد سنتين أو ثلاث، بينما كان الدكتور خان يجلس يوماً على مقعد في شاطئ البحر وهو ينظر في الأفق البعيد أمامه، شاهد سفينة مغادرة وقد بدأ جسمها يغيب تدريجياً في الأفق ثم بعد ذلك أشرعتها إلى أن غابت بالكلية. أخذ يفكّر بهذا المنظر ملياً، ولا بدّ أن يكون له مغزى ومعنى، فهذا هو ما يحدث للروح عند مفارقة الحياة. لقد غاب المركب عن الأنظار إلا أن ركّابه لا يزالون يمخرون البحر نفسه.

وعندما قابل الدكتور خان ميرزا أبو الفضائل في وقت لاحق في عكاء أخبره بما استنتجه ثم سأله: لماذا رفضت إجابتي في المرة الأولى؟ أجابه بكل حب : لو كنت يا صديقي العزيز قادراً على استيعاب الموضوع من جوابي آنذاك لما أَلْجأْتُك إلى السؤال مرة أخرى.

(رواها علي قلي خان نفسه في نيويورك عام 1934م)

76 قَدَحُ الشاي في باريس

في بدايات الأمر المبارك آمنت لُولِي ماثيوس في وقت كان حضرة عبد البهاء لا يزال مسجوناً في عكاء. أصبحت لُولي شعلة من نار في عشقها وإخلاصها، وعلمت بأن المولى قد أعرب عن أمانيه في أن ينمو الأمر المبارك سريعاً في باريس. وعلى ذلك تدبّرت أمورَها بشكل سريع وهاجرت من نيويورك إلى باريس. وفور وصولها لم تضيّع الوقت، فأخذت تُعِدُّ الترتيبات اللازمة لإنجاح مهمتها. سارعت إلى استئجار شقة فخمة ثم ابتاعت طقماً من الفناجين والصحون الفاخرة الخاصة بالشاي وما يلزم من لوازم فضية قيِّمة، وبعد أن اطمأنت إلى أن كل شيء أصبح جاهزاً لاستقبال الناس، أخذت في إرسال الدعوات لمشاركتها في حفلة بسيطة في بيتها بقصد التعارف، وكلها عزم وتصميم على تبليغ أمر الله في كل مناسبة وبكل ما لديها من مقدرة وموهبة.

مرّ على لُولي أسابيع وهي تدعو وتستقبل وتقدم الشاي وتودّع بكل حرارة على أمل تكرار زيارتهم لها ولكن دون جدوى. كان الضيوف يأتون ويتحدثون ويستمعون إليها قليلاً ويمتدحون كعكتها الشهية وشايَها اللذيذ ثم يغادرون شاكرين كرمها.

أخذت لُولي تفكّر وتفكر وهي تدعو وتواصل دعاءها حتى يلهمها الجمال الأبهى الحل والحكمة. مرّت الأيام، وذات يوم بعد الظهر سمعت طرقاً على الباب، فتحته لترى رجلاً بلباس شرقي يحيّيها بحرارة ويعرّف نفسه أنه مرسَل من قبل حضرة عبد البهاء. استقبلته بكل حرارة ولطف واستبشرت خيراً وقدّمت له الشاي، ولكن ما أن مدّ يده لتناول الكوب حتى رأت كُمّ ردائه وهو يرتد إلى الخلف كاشفاً عن ندوب جروح عميقة على معصميه. صاحت لُولي: ‘يا إلهي! ما هذا؟ لا شك أنك متألم!’ ابتسم الرجل وقال: ‘إنها آثار القيود والسلاسل التي وُضعت في يديّ أيام كنت في السجن مع مولاي.’ فأجابت لولي: ‘يا إلهي كم عانيتَ!’ نظر إليها الرجل بعينيْن مليئتيْن استغراباً وقال: ‘معاناة! أية معاناة! كانت أوقاتاً قضيتها في السجن مع مولاي مفعمة بالمسرّة والابتهاج وزاخرة بالألطاف والبركات.’

تركها الرجل وغادر، وجلست لُولٍي تفكر وتتأمل فيما شاهدَتْه وسمعَتْه. شعرت بحزن وحسرة، ونظرت إلى معدّات الشاي الفاخرة وأخذت تفكّر. أدركت أن هناك الشيء الكثير الذي يجب أن تتعلمه ولا تعلم عنه إلا القليل، فسارعت إلى الكتابة لحضرة عبد البهاء تخبره بما حدث لها، وأنها عازمة على الرجوع إلى نيويورك للدراسة وأنها بحاجة إلى تعلُّم الشيءَ الكثير.

وصلت رسالتها ولكنها وُضعت مع رسائل أخرى على طاولة المولى الصغيرة، وقبل أن تُفتح كانت لُولي قد تسلّمت لوحاً من حضرة عبد البهاء يبدي فيه سروره بأنها قررت العودة إلى نيويورك لمباشرة دراستها، إلا أن عليها ألا تيأس أو تتراخى لأن الوقت آتٍ عندما تصبح أسداً يزأر مدوِّياً برسالة حضرة بهاء الله.

وبالفعل أتى ذلك اليوم وكانت فيه لُولي ماثيوس ذلك الأسد.

(روتها لولي نفسها في بلدة تيميريتي عام 1946م)

77 الساعة الثمينة

في عصر السفن البخارية مثل سفينة موريتانيا وفرانكونيا حيث كانتا تقومان برحلات حول العالم، ذهبت لُولي ماثيوس في عدة رحلات فيها بقصد الاتصال بالعالم الخارجي وتبليغ الأمر المبارك والتبشير بمجئ حضرة بهاء الله، وفي كل رحلة كان ربّان السفينة يتعاون معها إلى أقصى حدٍّ ممكن. ففي إحدى الرحلات، وبينما كانت الباخرة تقترب من ميناء مانيلا بالفلبين، جاءها ربّان الباخرة منزعجاً ليخبرها بأن توقّفهم في مانيلا سيكون لمدة ساعة واحدة فقط نظراً لتأخُّرهم في الطريق لأسباب اضطرارية. لقد خططت لُولي على أساس أن تبقى السفينة في الميناء يوماً أو يومين كما جرت العادة وأعدت برنامجها التبليغي على هذا الأساس. لم تجد أمامها سوى أن تلجأ إلى الدعاء طالبة الهداية فيما يمكن أن تفعله في تلك الساعة الثمينة. فهل باستطاعتها الوصول إلى بعض النفوس العطشى في هذه المدينة!؟

ما أن رسَت السفينة حتى نزلت لُولي بسرعة. نظرت فوجدت أمامها حانوتاً لبيع الكتب فهرعت إليه، دخلته وتأملته ثم طلبت من المسؤول الإذن بوضع بعض الكتب البهائية على الرفوف، إلا أنه اعتذر بحجة عدم وجود متّسع لأي كتاب ديني غريب. شعرت لولي بالإحباط، فالوقت يمرّ بسرعة وهذه هي الفرصة الوحيدة أمامها. توجهت إلى المسؤول الأعلى منه ورجته أن يدعها تضع بعض النشرات الخفيفة عن الدين البهائي بين الكتب هنا وهناك إذا لم يكن متسع لكتب جديدة. وبعد تردد قَبِل عرضها لِمَا لمسه منها من حماس واهتمام، فوضعت النشرات بين الكتب بسرعة وهي تتمتم بالدعاء شاكرة ثم عادت إلى السفينة.

وتمضي لُولي برحلتها إلى أن عادت إلى نيويورك. وبعد عدة أشهر تتلقى رسالة من مانيلا تفيد بأن رجلاً عثر على تلك النشرات في المكتبة فوجدها قيّمة مما دعاه إلى توزيعها على أصدقائه المهتمين، ويسألها في رسالته من أين يمكنه الحصول على المزيد منها. أرسلت له لُولي ما تستطيع من النشرات بكل لهفة وسرور وآمن بعد ذلك الكثير من الناس بالأمر المبارك، ولكن لسوء الحظ سرعان ما نشبت الحرب في تلك البلاد وعانى الأحباء ويلاتها وتبعثروا في شتى الأنحاء، وخشيت لُولي أن تفقدهم، وكم كان سرورها عظيماً عندما علمت أنهم استطاعوا أن يتصلوا ببعضهم البعض بعد أن حلّ السلام، ونشطوا في التبليغ وأخذ الأمرالمبارك ينتشر بسرعة والجامعة البهائية في مانيلا تنمو وتكبر، ويرجع ذلك إلى ما أُلهِمت به لولي في تلك الساعة الثمينة بفضل دعائها وتوجُّهها المخلص.

(روتها لولي ماثيوس في بلدة تيميريتي عام 1946م)

78 جَذْوة الأمل

أول من لبّى النداء للهجرة إلى أمريكا الجنوبية سيدة مؤمنة مضحية تدعى إليزابيث تشيني ذات الوجه المشرق أملاً وتصميماً وإرادة. بدأت رحلتها بلا تردد لأن في ذهنها فقط بذر بذور مبادئ حضرة بهاء الله. إلا أنها منذ بداية رحلتها لم تفارقها الصعوبات والعقبات في كل خطوة كانت تخطوها حتى تراءى لها أن كل ما يمكن أن يحدث في هذا العالم قد حدث لها. 

فما إن همّت بالسفر حتى داهمها مرض مفاجئ قضت على أثره أياماً في العلاج حتى شعرت بأن ميزانيتها تكاد تنفد. تمالكت نفسها قبل أن تشفى تماماً وبدأت رحلتها لتتكالب عليها المتاعب الحقيقية. فكثيراً ما كانت الرحلات تتأخر عن مواعيدها أو كانت تُلغى بالكلية، الأمر الذي كان يستنزف منها الكثير من النقود، ومع كل ذلك مضت في رحلتها بكل تصميم وشجاعة إلى أن وصلت إلى المرحلة الأخيرة من رحلتها وهي سعيدة. عليها الآن أن تعبر نهراً بمركب يوصلها إلى وُجهتها. صعدت المركب وقد تحسنت صحتها وشعرت بارتياح لأنها استطاعت أن تتغلب على كل الصعاب وهي الآن متوجهة بكل أمان إلى مبتغاها. سار المركب بكل هدوء إلى أن حلّ الظلام وهي في غرفتها مستلقية على السرير تفكرّ فيما يمكن أن تفعله من برامج ونشاطات حالما تضع رجلها في المدينة. بقيت كذلك حتى منتصف الليل. وفجأة سمعت صوتاً مدوّياً تَبِعه اهتزاز عنيف في المركب. لقد ارتطم بصخرة كبيرة قاسية وتحطّم جانبه وبدأت المياه تتسرّب إلى داخله بسرعة كبيرة وأخذ يغرق. وجدت لُولي نفسها فجأة غارقة حتى وسطها في الماء، فأسرعت وصعدت إلى سطح المركب ولم تجد أمامها سوى أن تقفز في مياه النهر. كان الظلام حالكاً ولا ضوء للقمر يُذكر ولا نجوم ظاهرة والماء بارد. سبحت قليلاً وأخذت في الدعاء بقلبها وبشفتيها المرتجفتين واستطاعت أن تصل إلى قطعة خشب عائمة التقطت طرفها بكل جهد، وسرعان ما اكتشفت أن في الطرف الآخر سيدة تمسك بها أيضاً. بدأت تتكلم معها وسط الظلام. وهناك حيث مياه النهر الموحلة التي تلسع خدّيها ببردها وقذارتها أخذ المركب يغرق وسط صيحات الناس الغرقى معه. في ذلك الوضع تذكّرت لُولي الهدف الذي أتت من أجله. أخذت تدعو بصوت عالٍ وتتكلم مع رفيقتها في الجانب الآخر، فكان ذلك أول اتصال لها مع الناس بالكلمة الإلهية. 

وصلت إليزابيث أخيراً إلى هدفها في مكان هجرتها. ثم أخذت ترسل الرسائل إلى مختلف شرائح المجتمع من قادة سياسيين إلى مراسلين صحفيين وغيرهم تعرّفهم فيها بالأمر المبارك، وهي سعيدة بما حققت وآملة أن تكون تلك الرسائل عاملاً مساعداً في فتح الأبواب أمامها للتبليغ. ولكن… ما هي إلا أيام حتى اشتعلت في البلاد ثورة قلبت نظام الحكم، وأصبح الذين استلموا رسائلها إما في السجون أو في المنفى ومن نجى منهم اختفى عن الأنظار. بدأت اتصالاتها بعامة الناس ولكنها لم تُقابَل إلا باللامبالاة وهَزِّ الأكتاف استهجاناً أو بالابتسامات الجوفاء أو الأفواه المغلقة دون أي تعليق. شعرت بأن الأبواب قد سُدّت أمامها وفي كل الاتجاهات. إنه التحدي الكبير. هي توقن بأن حضرة بهاء الله لن يتركها بل هو الآن يمتحن إرادتها ويقوّيها. لجأت إلى الدعاء والدعاء … ثم الدعاء ابتهالاً بكل حرقة. ولكنها تؤمن بأن الدعاء لا ينفع إذا لم يرافقه العمل. خرجت تسير في الطرقات وهي تواصل دعاءها بقلبها آملة في الهداية. مشت بخطوات بطيئة هادئة وبداخلها شعور بأنها ستُلهم بشيء ما. واصلت سيرها ولم تتوصل في ذهنها إلى ما يمكن فِعْله، إلى أن وجدت نفسها خارج المدينة في شارع عريض تحفّ به الأشجار وحوله الحدائق والبيوت الجميلة. هناك أبطأت في سيرها وأرهفت سمعها شاعرة بأن الوقت قد حان لحدوث شيء ما. أخيراً وجدت نفسها متسمّرة في مكانها وكأن صوتاً خفياً يقول لها لا داعي لمزيد من الخطوات. 

وقفت هادئة تماماً ونظرت حولها، رأت بجانبها سياجاً عالياً لفت نظرها بداخله رجل كان راكعاً أمام كومة من الزهور. وقفت تتأمله، شعرت بأنه يعرف أنها تراقبه. رأته يقف منتصباً وينفض الغبار عن ركبتيه ويسير نحوها. حيّاها بلطف، وبلغتها الإسبانية الركيكة رأت نفسها بلا إرادة منساقة لأن تخبره باسم أحد الأشخاص الذين أرسلت إليهم رسائلها. أظهر الرجل استغرابه الشديد، إلا أن إليزابيث واصلت حديثها وأخبرته بسبب مجيئها إلى تلك البلاد وبلّغته رسالة حضرة بهاء الله. استمع إليها الرجل بكل اهتمام ثم انحنى وغادر. ظلت واقفة منتظرة شيئاً ما سيحدث، فكانت لحظات غمرتها بمشاعر الأمل والارتياح. أفاقت من حلمها الجميل على صوت البوابة تُفتح ويشير إليها الرجل بالدخول. سارت في ممر طويل إلى أن وصلت المنزل فدخلته لتجد رجلاً تبدو عليه المهابة والوقار. نعم، إنه أحد الذين أرسلت إليهم رسائلها، وهو الآن سعيد جداً بوجودها لأنه ينتظرها منذ مدة. 

كانت تلك اللحظات نقطة التحول في حياة إليزابيث في تلك البلاد، وأصبحت الطريق أمامها الآن ممهدة. مضت في خدماتها لتحرز الانتصارات تلو الأخرى في تبيلغ الرسالة الإلهية لأنها أيقنت بأن حضرة بهاء الله معها دوماً ولن يتركها ما دامت متوجهة إليه بكل قلبها وروحها.

(روتها إليزابيث تشيني نفسها في مؤتمر الوكلاء المركزي الذي عقد بمشرق الأذكار في ويلمت عام 1944م)

79 الخدمة المُنزّهة

كثيرة هي القصص التي يمكن أن تُروَى عن خادمة أمر الله المخلصة غريس روبارتس أوبر التي كرّست حياتها لخدمة مولاها المحبوب. والقصة التالية هي التي وضعتها في بداية الطريق. 

بلّغتها الرسالة لوا غتسنغر فأدركت حقيقة حضرة بهاء الله وآمنت به.

تمرّ الأيام وإذا بلوا غتسنغر تأتي إليها لتخبرها بأن حضرة عبد البهاء سوف يرجع إلى نيويورك ومنها سيتابع إلى شيكاغو، وأن حضرته قد طلب منها (أي لوا) أن تذهب إلى شيكاغو لتجهّز مكاناً لإقامته فسألتها: ‘هل ترغبين يا غريس في مرافقتي وإعداد الترتيبات اللازمة؟’ ‘بالطبع نعم.’ أجابت غريس. وهكذا ذهبتا معاً من لوس أنجلوس ووجدتا شقة مناسبة جهّزتاها بكل ما يلزم. وصل حضرة عبد البهاء وأقام فيها. ولما اقترب يوم رجوعه إلى نيويورك أخذت غريس تفكر ذات صباح: ماذا يعني لها أن ترجع إلى نمط حياتها الجامد وتترك هذه الحياة المشرقة وهي تقوم على خدمة المولى مع لِوا؟ فتوجهت إلى حضرته ورجته أن يقبل خدمتها مع لِوا في إعداد ما يلزم لراحته في نيويورك مثلما كان لها هذا الشرف في شيكاغو. نظر إليها حضرته متفحّصاً وقال: ‘غريس! هل أنتِ متأكّدة من أنكِ راغبة في خدمتي؟’ فأجابته بكل حماس: ‘نعم بالتأكيد وأتوق إلى ذلك أكثر من أي شيء آخر.’ لم يجبها حضرته ومشى مبتعداً. 

وفي الصباح التالي تكرر المشهد، وكذلك في الصباح الذي تلاه حيث كانت غريس تعلم بأنه آخر صباح قبل مغادرة حضرته، فذهبت إليه للمرة الثالثة وعرضت رغبتها الأكيدة. وهنا بانت على وجه حضرته علائم الجِدّيّة وقال: ‘هل أنتِ متأكدة تماماً من أنكِ راغبة في خدمتي؟’ جفلت غريس من جِدِّية حضرته ولم تتردد أبداً وقالت: ‘نعم أنا جدُّ متأكدة. وهنا أومأ برأسه إشعاراً بالموافقة وقال: ‘حسن جداً، اذهبي وأعدّي نفسكِ وسوف نتقابل في نيويورك.’

أعدّت غريس نفسها وطارت بأجنحة الفرح إلى نيويورك وكانت لِوا قد سبقتها إلى هناك، فقامتا معاً بإعداد ما يلزم لراحة حضرته. ولدى وصوله هرع الكثير من الأحباء لاستقباله بينما بقيت لِوا وغريس في المنزل للترحيب به. فُتح الباب ودخل حضرته وحيّا لِوا بحرارة ونظر إلى غريس وكأنه لا يعرفها ثم استدار ومشى. راعها غريس ما حدث. ألم يعرفني حضرته؟ هل نسيني؟ هل أسأتُ الفهم وأتيت إلى هنا خطأً، أم أنني قمت بعملٍ مّا أغضبه وهو الآن يعاقبني؟!

بقي حضرته على موقفه هذا عدة أيام وكأنه لا يعرفها، وبدا لها أن واجبها يقتضي منها العمل فقط. وعندما كانت تخلد إلى الراحة ولو قليلاً أثناء النهار كانت لِوا تكلّفها بعمل جديد أكثر صعوبة، ويستمر عملها اليومي على هذا المنوال حتى منتصف الليل، تطبخ وتغسل وتنظّف ثم تنهض في الخامسة صباحاً لتبدأ عملها من جديد. عملت بمقدارِ ما لم تعمله طيلة حياتها، إلا أن حضرته كان يتجاهلها بالكلية، ولو صادف أن قابلته كان يُمسِك بردائه جانباً ويتجاوزها متجاهلاً وجودها.

أخيراً … حان الوقت لتصوير فيلم لحضرته مع الأحباء في منزل هوارد ماكْنَتْ في بروكلين وهذا ما أبهج غريس لأنها على الأقل سوف تظهر في الفيلم مع حضرته، ولكن…

قبل مغادرة الجميع بساعة حسب الجدول المعدّ، جاءتها لِوا لتخبرها بأن حضرته يتوقع وصول ضيفتيْن هذا الصباح وأن على غريس أن تبقى في المنزل للترحيب بهما. 

توجّه الجميع نحو السيارات ووقفت غريس على أعلى الدرج متسمرة في مكانها ترقُبُ المنظر بكل تحسّر إلى أن غابت السيارات عن الأنظار.

دخلت المنزل بخُطى متثاقلة لتجده خاوياً. جلست على الكرسي مكتئبة، وشعرت بثقل الوحدة والعُزلة. لم يكن من طبعها الاستسلام للحزن، نظرت حولها فوجدت سلّة باقة الورد الأبيض التي أتت لحضرته في الصباح، واعتادت غريس أن تُنَسِّق الورد يومياً وتضعه في غرفة حضرته، وتلك هي اللحظات المشرقة خلال أيام عملها. تناولت السلّة وصعدت بها إلى الغرفة في الطابق الثالث لتقوم بترتيب الورود، ولكنها رأت الباب مغلقاً على غير عادته. مدّت يدها لتفتحه فوجدته موصداً بالمفتاح. إنه القشَّة التي قصمت ظهرها. خارت قُواها ولم تستطع رجلاها أن تحملها فسقطت على الأرض وتناثر الورد حولها وأخذت تجهش بالبكاء. سالت الدموع على خدّيها بغزارة وظلت كذلك إلى أن شعرت بالراحة بعض الشيء وجفّت دموعها ونظرت فلاحظت أن الورود آخذة في الذبول. تمالكت نفسها ونهضت بصعوبة وأخذت تجمع ما تناثر من الورود ثم نزلت إلى الطابق السفلي.

لم تصل الضيفتان كما كان متوقَّعاً، ومرّت الساعات دون أن تحسّ بها. الوقت الآن بعد الظهر. شعرت بالجوع فنزلت إلى المطبخ لتأكل شيئاً. في ذلك المنزل لم يكن أمام العشرات من الضيوف ليأكلوا سوى بيضة واحدة لكل منهم وقطعة من الخبز الذي كان يُعِدّه لحضرة عبد البهاء رجل إيراني رجا حضرته أن يأتي لهذه الغاية، فأعدّت لنفسها بيضة مسلوقة ووضعت قطعة الخبز في طبق. تناولت البيضة وبدأت في تقشيرها، لم تكن مسلوقة جيداً فانسكبت على يديها وتناثر جزءٌ منها على وجهها. قامت وغسلت وجهها ثم عادت لتجد أمامها قطعة الخبز فقط. قضمت منها أول لقمة ثم الثانية ووجدت نفسها في تفكير نقلها إلى حالة من السرور والابتهاح. إنها الآن تأكل خبز الحياة، هذا الخبز الذي باركه المولى نفسه، فأخذت تأكله قضمة قضمة ليزيدها سروراً وانشراحا أنساها كل شيء وراحت تتمتم بالدعاء شكراً وامتناناً.

عاد الجميع في المساء، وسارعت لِوا إلى غريس تبلغها بشيء نقلها إلى عوالم الروح حقاً إذ قالت لها: ‘إن المولى طلب مني أن أخبركِ بأنه يعرف أنكِ بكيتِ.’ عندها أدركت غريس أن ما مرّت به من تجارب، ولو كانت مريرة بالنسبة إليها إلا أنها كانت ضرورية، وما دام الأمر كذلك فعليها أن تفكّر بالأسباب التي جعلتها تستحقها. فذهبت واختلت بنفسها في دعاء وابتهال أن ينوّر الله بصيرتها ويهبها الحكمة والتخلّي عن ذاتها حتى تدرك الأسباب، وبينما هي كذلك إذا بها تسمع صوتاً خافتاً يقول: ‘هل كنتِ سعيدة في تنظيف دَلْوِ القمامة بمقدار سعادتك في ترتيب الورود؟’.هنا أدركت غريس أن روح الخدمة الحقيقية هي التي ترقى بصاحبها إلى مقام يجد فيه نفسه سعيداً مستمتعاً في جميع الأحوال بغض النظر عن شكل الخدمة ومكانها ووقتها. وبينما هي كذلك إذا بالباب يُفتح ويدخل منه حضرة عبد البهاء مادّاً ذراعيه بوجهه المشرق قائلاً: ‘يا مرحباً، أهلاً وسهلاً بكِ في ملكوت الله.’ ثم عانقها بحرارة وبقي يظللها بعنايته قريباً منها.

(روتها غريس روبارتس أوبر في غرين أيكر عام 1933، وهي عمة أيادي أمر الله جون روبارتس)

80 قصة مدرسة غْرِينْ إيكَرْ

إن في امتلاك مدرسة غرين إيكر وقفاً أمرياً قصة طريفة:

في وصفنا له يمكن القول بأنه مكان جميل حقاً يضم المروج الخضراء الممتدة، وفي وسطها فندق واسع كبير وحوله أبنية رائعة، وعند مدخله مطعم لتقديم الشاي ينساب بجانبه نهر بسكاتاكيو ( أي نهر النور) وعليه بناء يدعى بيت الضيافة، وكل ذلك يقع على جانب الطريق الخارجي السريع. 

تمتلك هذا العقار الآنسة سارة ج. فارمر، وقد سبق لها أن حضرت معرض شيكاغوعام 1893م، وفيه – كما نعلم– ذُكر عن الدين البهائي لأول مرة في مؤتمر الأديان آنذاك. ومنذ ذلك الوقت وجّهت ساره اهتمامها نحو موضوع المقارنة بين الأديان وقررت إنشاء مدرسة صيفية في هذا الممتلك الذي أصبح فيما بعد وقفاً بهائياً اسمه (Green Acre). ففي عام 1904م قدّم فيه المبلّغ اللامع ميرزا أبو الفضائل محاضراته التبليغية بدعوة من سارة. إلا أن صعوبات ومشاكل جمة اعترضت طريق امتلاكه.

بعد سنوات عدة من استماع سارة للمحاضرات في المدرسة من مختلف المتحدّثين الدينيين وغيرهم الذين دعتهم إلى مدرستها، أدركت أن ما يتوق إليه العالم وما يحتاجه الناس حقاً إنما هو دين عالمي واحد وأن الدين البهائي هو الكفيل الوحيد بحل جميع الإشكالات التي تعاني منها البشرية، فآمنت به وكرّست كل طاقاتها لخدمته. 

سارت الأمور في حياتها على ما يُرام إلى أن جاء وقت أعلنت فيه بأنها كتبت وصية توصي بكامل هذا العقار للجامعة البهائية بعد موتها، الأمر الذي أغضب عائلتها وأوقعها في مشاكل متلاحقة. اهتاج أفراد العائلة وعارضوها بشدة لأنها غيّرت ما كان في صالحهم، ولما أصرّت على موقفها لجأوا إلى أسلوب لا إنساني. فأشاعوا بأنها مخبولة العقل ومجنونة وفاقدة الأهلية في تقرير ما تريد واستطاعوا بعد ذلك أخذها ووضعها في مصحة عقلية. 

عندما سمع الأحباء بالخبر صعقوا لما حدث لتلك المرأة العظيمة الرائعة، وحزنوا لما آلت إليه أحوالها. ولكن… وقعت الواقعة والأمر لا يحتمل السكوت ولا بد من عمل شيء ما. 

حاول الأحباء إقناع المصحة بحقيقة الأمر وأنها سليمة عقلياً ومن الضروري إخراجها لتعيش حياتها الطبيعية، إلا أن إدارة المصحة رفضت بحجة أن هذا من حق عائلتها فقط. لجأ الأحباء إلى طلب فحصها وكتابة تقرير بحالتها، إلا أن هذا لم ينفع أيضاً. وأخيراً، في ساعة من اليأس قام ثلاثة من الأحباء بتدبير وسيلة لإنقاذها.  ففي ساعات الفجر تسلقوا سور المصحة العالي بسلّم طويل وبسلّم آخر صعدوا إلى شباك غرفة سارة التي كانت على علم بهذا التدبير وتنتظرهم بفارغ الصبر. فاصطحبوها وخرجوا بهدوء.

كان الأحباء في تلك الأثناء ينتظرونهم في منزل غريس، ولما دخلت سارة مع منقذيها الثلاثة عند الفجر استقبلوها بكل حفاوة وسرور وارتياح.

من الطبيعي أن يُحدِث هذا الموضوع جَلَبة وضجة كبيرة بين أفراد عائلتها مما دفعهم إلى تقديم شكواهم للمحكمة ضد البهائيين، وبذلك أخذت القضية بُعدها القانوني وكان هذا لصالح الأحباء. وكّلت العائلة محامياً قديراً لم يخسر قضية في مزاولته مهنته ومثّل البهائيين محام عادي. وكانت النتيجة أن خسرت العائلة قضيتها.

وبذلك استطاع البهائيون أن يحرّروا وينقذوا أختهم الحبيبة سارة فارمر ويربحوا غرين إيكر.

(روتها غريس أوبر في غرين إيكر في صيف عام 1933م)

في شهر أغسطس/آب عام 1912 زار حضرة عبد البهاء غرين إيكر لمدة أسبوع انشغل خلاله ليل نهار في المحادثات والمناقشات مع الأفراد الذين أتوا للتشرف بمحضره حول مواضيع تخص الفضائل الإنسانية، كما تكلم مع مجموعات كبيرة في مواضيع تهمهم. وفي نهاية الأسبوع في 23 منه قال حضرته وهو يغادر: ‘لقد انتهينا من عملنا. بذرنا البذور. كثير من النفوس أقبلت وسوف تتغير.’ وفي طريقه عرج على منزل سارة فارمر في الساعة العاشرة صباحاً ليودعها. حزنت جداً لفراق حضرته ثم دمعت عيناها وارتمت على قدميه.

(من كتاب 239 يوماً، ص 125، 130)

81 اللِّقاء

سمع السيد هوارد كولبي عن الأمر المبارك لأول مرة من السيد كليرنس مور، ولكنه بقي متشككاً ومتردداً أن يضع إيمانه في تلك الرسالة الرائعة، ذلك لأنه تنقّل في إيمانه إلى معتقدات وأفكار مختلفة في مسيرة حياته ووجد في النهاية أن الدين إنما هو خدّاع للإنسان. ونتيجة لبحثه الطويل استقر به المطاف إلى أن اصبح قسيساً موحّديّاً (الإيمان بإله واحد وليس بالأقانيم الثلاثة)، وعندما قابل هوارد السيد كليرنس أول مرة لم يكن بداخله سعيداً ولا قانعاً في ظل أي عقيدة، ولذلك لم يعلّق أي آمال على الدين البهائي الجديد لأنه يعلم تماماً أنه سوف يتركه لاحقاً مثل غيره إن هو آمن به. 

أمضيا ساعات وساعات في النقاش، إلا أن هوارد ظل يلازمه اليأس في إمكانية توصُّله إلى الحقيقة، ولذلك بقي على موقفه من الشك والريبة ولم يزد عن قوله لكليرنس: ‘إنها رسالة رائعة، وهي حلم جميل، إنها جيدة لأنكم تمكّنتم أن تحلموا بها، أما أنا شخصياً فقد حلمت كثيراً وكنت كلما أفقت من حُلمي أشعر بالمرارة، فلم يعُدْ بمقدوري أن أحلم ثانية وأفيق.’ كان من العسير عليه أن يفكر بالموضوع وأن يخطو خطوة ولو صغيرة.

وجاء فصل الربيع عندما قَدِم حضرة عبد البهاء إلى أمريكا ووصل مدينة نيويورك. أسرع إليه كليرنس قائلاً: ‘يا هوارد، عليك أن تقابل حضرة عبد البهاء، وأنا متأكد أننا سنكون معاً سعداء.’ رفض هوارد قائلاً: ‘ما الفائدة من ذلك، سنذهب ونضيع بين زحمة الناس وسيكون حضرته مشغولاً مع مستمعيه، وما يمكنني أن أحظى به هو نظرة إلى ردائه من بعيد. أما لو استطعت أن أُقابله منفرداً وجهاً لوجه وتقاربنا بالقلب وكنا وحدنا فقط دون أن يزعجنا أحد، عندها يمكنني أن أذهب.’ هز كليرنس رأسه وقال: ‘لا أحد يقابل حضرة عبد البهاء في معزل عن الناس لأن كل أحاديثه تُسَجّل من قبل سكرتيره وبوجود أحبائه الذين يرافقوه.’

وبالرغم من هذا الموقف السلبي ثابر كليرنس، مستعيناً بالسيد مونتفورت مِلْز، على إقناع هوارد. أخيراً نجحا في إقناعه واصطحابه إلى فندق أنسونيا حيث ينزل المولى المحبوب.

كان الوضع كما تصوّره هوارد، فغرفة الجلوس كانت مزدحمة تماماً ومن الصعب حتى أن تجد مكاناً تقف فيه، والجوّ مشحون بأحاديث الناس المتبادلة. تأمل هوارد الوضع وندم على السماح لنفسه بالمجئ إلى هذا الجمع الصاخب الذي لا يُرتَجى منه شيئاً وأدرك سخف تفكيره وقراره، فهل يمكنه اكتشاف الحقيقة أخيراً في جوّ كهذا؟ فاستدار ومشى نحو النافذة ونظر إلى الأسفل وأخذ يتأمل المارّة في الشارع. وبينما هو كذلك إذا به يسمع باباً يُفتَح، فالتفت ليجد بالباب رجلاً إيرانياً عليه المهابة والوقار يركّز نظره عليه ثم يومئ بيده ويدعوه للدخول. تردد هوارد ونظر حوله لعل الرجل يومئ لغيره! إلا أن حضرته كرر دعوته له بالذات ولا مجال للخطأ هنا، فتحرك هوارد ودخل الغرفة. 

كانت غرفة نوم حضرته، وحالما دخلها هوارد انسحب منها كل الموجودين وخرجوا من باب آخر. الآن هما وحدهما في الغرفة واقفيْن. تبادلا النظرات، وبابتسامته المشرقه مدّ حضرته ذراعيه. فما كان من هوارد إلا أن هرع إليه وتعانقا بحرارة وسمع حضرته يهمس في أذنه قائلاً: ‘يا بنيّ! يا بُنيّ العزيز.’ ثم أشار حضرته إلى كرسي جلس عليه هوارد وجلس حضرته بجانبه. ساد الجو سكون تام كان فيه حضرته ينظر إليه ويمدّ يده ويربّت على ركبة هوارد بكل محبة ولهفة.

قال هوارد في وقت لاحق: ‘وصلتُ حينها إلى كل ما أبحثُ عنه في حياتي بل وأكثر من ذلك، لقد وجدتُ أمامي لأول مرة من يمتلك حقاً جوهرة لا تُقَدّر بثمن وشعرت بشيء يموج من حولي ويغرقني في بحر السلام والطمأنينة الأبدية، وهذا ما ظللت أحلم به في حياتي.’

في ذلك الاجتماع الطويل الصامت توجّه قلب هوارد إلى حضرة بهاء الله بإيمان راسخ ليعيش حياته في حلم جميل لا يريد أن يفيق منه أبد الدهر.

(رواها هوارد نفسه لعائلته عام 1912م وكتبته ابنته)

82 أُنشودة الشهادة

كتبت جولييت ثومبسون تقول:
جاءت السيدة كيسبير (Kasebier) لِتُري حضرة عبد البهاء صوراً فوتوغرافية التقَطَتْها له عندما شاهَدَتْهُ لأول مرة. توجّهتُ (أي جولييت) للمولى وقلت له: ‘ترغب هذه السيدة ( مشيرة إلى سيدة في الصورة) في أن تقيم بقربك يا سيدي.’ فضحك وقال: ‘لا أظن أنها ترغب في الإقامة بقربي لأنها تودّ أن تعيش حياة مريحة.’
ثم قال بشكل جِدِّي: ‘لأن يعيش الفرد بقربي عليه أن يتبنى أهدافي ومقاصدي. هل تذكرين ذلك الشاب الثري الذي أراد أن يعيش بقرب المسيح، وعندما علم ماذا سيكلّفه ذلك من ثمن، وهو أن يتخلّى عن كل ما يملك ثم يحمل صليبه ويتبعه؟’ تابع حديثه ضاحكاً وقال: ‘لقد فرّ هارباً.’ ثم أضاف: ‘كان مع حضرة الباب في سجنه اثنان من أتباعه؛ مؤمن راسخ قال له يوم استشهاد حضرته: ‘أريد يا سيدي أن أموت معك.’ وكاتب وحيه الذي قال: ‘ماذا عليّ أن أفعل؟… يقول ماذا أفعل!!’ ثم هز حضرته برأسه مضيفاً: ‘لقد سأل ماذا تريدني أن أفعل!! فالأول ضحى بحياته مع حضرة الباب، بل وكان رأسه على صدر سيده واختلط الجسدان معاً، بينما الثاني مات في السجن. ففكّري بالفرق بين المقامين.’ ثم تابع حديثه بعد لحظة وأخبرنا بقصة ميرزا عبد الله من شيراز قائلاً:
‘تشرف ميرزا عبد الله بمحضر حضرة بهاء الله مرة واحدة، وبعد ذلك ما طاق البعاد عنه فتَبِعَهُ إلى طهران ليصلها في الأيام الدامية وحضرة بهاء الله في سجن “سياه چال” مكبّلاً مع أحد عشر من أتباعه بسلسلة ثقيلة واحدة تتخللها حلقات حديدية تطوّق عنق كل منهم ومثبتة بمسمار. كان الجلاّد في كل يوم ينادي على أحدهم باسمه ليواجه الموت في ساحة الإعدام، فكانت أسعد لحظات الشهيد عندما يأتي الجلاد ويحرره من الطوق بإزالة المسمار ويسوقه إلى مقر استشهاده.
‘وصل ميرزا عبد الله إلى بوابة طهران وسأل الحرّاس عن مكان حضرة بهاء الله فأجابوه بأنهم على استعداد أن يأخذوه إلى حيث حضرته. فساقوه وكبّلوه بالسلسلة نفسها مع محبوب قلبه. وهكذا وجد محبوبه مرة ثانية. وذات يوم جاء الجلاد واقترب من عبد الله ونزع المسمار من طوق عنقه، فما كان منه إلا أن قفز مبتهجاً وقبّل قدمي الجمال المبارك ثم…’ وهنا تغيرت ملامح حضرته فجأة كأن روح الشهادة قد ملكت على أركانه فانتصب برأسه وأخذ يطقطق بأصبعيه ويربّت على الأرض بقدمه في إيقاع جميل وأخذ حضرته ينشد:
“هــــــا قــــد عُــــــــدْتُ إلــــيــــك
أتـــيـــتُـــك مـــن شـــيـــراز
وبـــيـــدي كـــأسُ الـــحـــب
هـــذا هـــو جـــنـــون الـــعـــشـــق”
‘بهذه الروح سار عبد الله إلى مكان استشهاده يرقص طرباً، وبعده استشهد المئات. جاء والداه لحضرة بهاء الله يحمدون الله على أن وَلَدَهم قد وهب حياته في سبيله.’ ثم استرخى المولى على الكرسي في جلسته. أما انا فما طفِقت دموعي تنساب على خدّيّ… رأيت على وجه حضرته ابتسامة الرِّضا والتقدير، وسمعته يهمس مردداً تلك الأنشودة، أنشودة الشهادة، بروح ترقص طرباً.

83 حياة البهائي

كتبت أنيس ريداوت مقالاً مهماً في المجلة البهائية جاء فيه: 

‘إنه لشرف عظيم لي أن أكون بمحضر حضرة عبد البهاء في نيويورك في أيامه الأخيرة من رحلته إلى أمريكا. كان في ذهني يدور سؤال طالما تُقْتُ إلى طرحه على حضرته، إلا أنني تردّدت كثيراً من خشيتي أن يكون الجواب أنَّ عليّ أن أُعاشر الناس وأتحدّث إليهم في أي مكان. وفي آخر لحظات بقائي هناك في اليوم الأخير من زيارة حضرته، قلت في نفسي إنه من الجُبْن أن أبقى مترددة هكذا، وعندما دخلتُ محضره الأنور بادَرَنا بسؤاله: ‘هل لديكم أسئلة؟’ وعلى الفور نهضت وطرحت السؤال التالي: ‘ما أفضل الطرق لتبليغ رسالة حضرة بهاء الله؟’ تغيّرت ملامح حضرته، وكانت إجابته بنبرة جدّية وبصوت عالٍ قائلاً:

‘أول شيء يلزمكِ هو اكتساب التعطُّش للروحانية، ثم أن تحيَيْ الحياة البهائية، الحياة البهائية، الحياة البهائية. وفي سبيل اكتساب الروحانية عليكِ بالتأمل في الحياة الآخرة. اقرأي الكلمات المقدّسة، واقرأي الكتاب المقدّس والكتب المقدسة الأخرى وخاصة آثار حضرة بهاء الله، وامنحي وقتاً أطول للدعاء والتأمل، عندها ستدركين هذا التعطُّش العظيم، وبعد ذلك فقط تبدئين في حياتكِ البهائية. 

‘وحتى تعيشي تلك الحياة يجب أن تكوني الألطف من بين النساء وأكثرهنَّ عطفاً ومودّة. كوني الأكثر نزاهة وطهارة، عليكِ أن تكوني صادقة ً بكل أمانة وأن تعيشي حياة أخلاقية مستقيمة. 

‘زوري جيرانك عندما يمرضون أو يعانون من مشكلة، قدّمي لهم خدماتِك واشعريهم بأنك تتوقين إلى تقديمها لهم بكل محبة.

‘أطعمي الفقراء وأشركيهم بما عندكِ قانعة بما كتبه الله لكِ، وأخلصي في رعايتك للذين ائتمنك الله عليهم ولا تترددي في ذلك أقل من آن. أظهِري في أسلوب حياتِك أن هناك شيئاً مختلفاً حتى أن كل من يشاهدك سوف يتساءل: ما الذي أفتَقِدُه وموجود عند تلك المرأة؟

‘أظهري للعالم أنه بالرغم مما يعتريكِ من نوائب الدهر من فقرٍ ومرضٍ ومعاناة، فإن هناك شيئاً ما يَهَبُكِ الراحة والقوة والأمان، وأنكِ سعيدة بذلك هادئة قانعة مطمئنة.

وبعد ذلك سيرغبون في امتلاك ما تملكين، وعندما تبلّغيهم بحقيقة ما تملكين سوف لا يحتاج الأمر بعد ذلك إلى مزيد من التبليغ.’

84 التكرار

من الملاحَظ أن حضرة عبد البهاء كثيراً ما كان يكرّر في حديثه بعض النقاط التي يرغب في التركيز عليها وجلْبِ انتباه المستمعين إلى أهميتها. وفي مساء أحد الأيام تقدمت منه سيدة وعبّرت له عن شكرها وتقديرها واستمتاعها بحديثه وكلماته في تلك الأمسية، إلا أنها شَكَتْ من أن حضرته كثيراً ما يكرر بعض الأفكار. ابتسم حضرته وأجابها بكل لطف: ‘هلاّ ذكرتِ لي ما كرّرْتُه!’ وقفت السيدة صامتة ولم تسعفها ذاكرتها أن تتذكّر شيئاً.

85 شعاع المحبة

في كثير من الأحيان يمكن للمرء أن يشعر بالمحبة والعظمة تخترق أحاسيسه بلا إرادة، وقصتنا هذه عن رجل بسيط كان يعمل في منجم للفحم في كاليفورنيا. لقد سمع بوجود رجل له من القداسة ما يتمنى كل واحد أن يراه، فتوجّه ماشياً على قدميه ليقطع الأميال العديدة حتى وصل إلى المكان الذي فيه سيلتقي بحضرة عبد البهاء. جلس في القاعة مع المستمعين من جميع الطبقات، وأخذ حضرته يتكلم في مواضيع روحانية والمترجم يقوم بترجمتها إلى الإنكليزية.

كان الموضوع شيقاً بحيث كان يشعر بضيق شديد عندما يقطع المترجم حضرته من أجل الترجمة، ولما فَقَدَ صبره مال على الرجل الجالس بجانبه وقال: ‘لماذا يترجم هذا الرجل ما يقوله المولى؟’ وضّح له الرجل بأن المولى يتكلم بالفارسية ومن الضروري أن يُُتَرجم حديثه إلى الإنكليزية. التفت الرجل إليه غاضباً وقال: ‘وهل يحتاج المولى إلى ترجمة؟ فكل واحد بإمكانه أن يفهمه دون وسيط.’

86 أولاد حضرة عبد البهاء الروحانيون

أخذ الأحباء يتهامسون فرحين لأن حضرة عبد البهاء سيأتي إلى مدينة شيكاغو ويلتقي بالأطفال في اجتماع خاص بهم. كان بعض الأطفال يسكنون في مكانٍ بعيدٍ خارج شيكاغو، لذا فإن عليهم أن يستيقظوا باكراً في الساعة الخامسة صباحاً ليتمكنوا من الوصول في الوقت المحدد.

وصل الجميع وجلس الأطفال في الغرفة على شكل دائرة وجلس الكبار خلفهم. دخل حضرة عبد البهاء ووقف الأطفال احتراماً لتحيته وأنشدوا أنشودة كانوا قد تدرّبوا عليها بعنوان: ‘صوته ينادينا الآن بكل لطف.’ وحالما انتهى الأطفال أخذ حضرته يكلّم كل واحد منهم ويسأله عن اسمه ويربّت على شعره ويمسك بيده ويقبّل الصغار منهم.

كان بين الجمع طفلة صغيرة ما كان منها إلا أن أسرعت نحو حضرته ورمت بنفسها على يديه. عانقها بكل محبة وحنان. ولما تركها وقفت تنظر إليه ثم انفجرت ضاحكة بصوت عالٍ من شدة فرحتها حتى أن الجميع أخذوا يضحكون أيضاً. فالتفت إليهم حضرته وتفضل:

‘أنتم جميعاً أولادي، أنتم أولادي الروحانيون، وأحبائي الأعزاء على قلبي.’

ثم تقدّم حضرته نحو طاولة عليها بعض الزهور الجميلة وأخذ يوزع منها على الأطفال، وأعطى كل طفل مغلّفاً فيه بعض بتلات الورد ذات الرائحة العطرة، وبعد ذلك دعاهم إلى الخارج ليلتقطوا الصور التذكارية معه.

87 الحارس العجوز

كان الجوّ في ذلك اليوم حاراً جداً والناس في بيوتهم يستريحون عندما أبدى حضرة عبد البهاء رغبته في زيارة المتحف التاريخي للطبيعة في مدينة نيويورك. تعجّب الأحباء كثيراً ولم يدركوا مغزى هذه الزيارة في مثل ذلك اليوم الحارّ.

مشوا معه على الأقدام من شارع إلى شارع في المدينة. لم تكن هناك أشجار أو مظلات تَقيهم حرارة الشمس المحرقة إلى أن وصلوا موقع المتحف. عندها شعر حضرته بالتعب فجلس على حافة حجر ليستريح. 

حاولت جولييت، وهي إحدى الأحباء، أن تجد باباً قريباً يدخلون فيه إلى المتحف بدل السير طويلاً إلى الباب الرئيسي، فوجدت الحارس المسؤول عن الساحات الخارجية. كان رجلاً عجوزاً ينمّ وجهه عن الطيبة واللطف. سألته جولييت عن باب قريب للمتحف فأجابها بأن جميع الأبواب مغلقة، إلا أنه يسمح لهم بالمشي على الحشيش في طرق مختصرة نحو الباب الرئيسي. دخل الجميع المتحف وشاهد حضرته معروضات الغرفة الأولى، ثم انتقل إلى الغرفة الثانية واكتفى دون أن يكمل باقي الغرف، مُبدياً رغبته في الخروج إلى الحديقة. جلس حضرته على الحشيش تحت شجرة والتفّ الأحباء حوله واقفين وهم توّاقون أن يعرفوا ماذا ينوي المولى أن يفعله بعد ذلك.

ظهر الحارس العجوز ثانية واقترب من أحد الأحباء وسأله هامساً: ‘هل هو تعِب؟’ موجهاً نظره إلى حضرة عبد البهاء، ‘مَنْ هو هذا الرجل؟ يبدو أنه رجل عظيم، أشعر برغبة شديدة في التكلم معه.’

اصطحبت جولييت الحارس إلى حضرة عبد البهاء الذي نظر إليه بعينيه البرّاقتيْن المليئتيْن باللطف والمحبة وقال له: ‘تعال واجلس بجانبي.’ فأجابه الحارس بأنه لا يُسمح له بالجلوس على الحشيش. وهنا وقف حضرته واقترب منه وأخذ يحادثه. استفسر الحارس مندهشاً: ‘إنك لم تشاهد جميع أقسام المتحف، ولم تصعد إلى الطابق الثالث لترى أشياء أخرى وبعض الحيوانات والطيور المحنّطة.’ تبسّم حضرته وقال: ‘تعبتُ من السفر والنظر إلى موجودات هذا العالم، أريد أن أنتقل إلى العالم الآخر.’ وبابتسامة عريضة أضاف: ‘فما رأيك؟’ أجابه الحارس بأنه هو شخصياً لا يريد أن يترك هذا العالم. فأخبره حضرته بألا يقلق لأن هذا العالم بمثابة غرفة في بيت كبير، والانتقال إلى العالم الآخر مثل الصعود إلى الطابق العلوي الواسع من البيت، ومن هناك سيرى أشياء جميلة لم يكن يراها داخل الغرفة. فكّر الحارس قليلاً وهزّ رأسه إعجاباً بما سمعه ثم قال : ‘نعم لقد فهمت الآن.’ وبدا على وجهه الارتياح.

عندما رجع الجميع إلى منازلهم فكّرت جولييت في ذلك الرجل الطيّب ورغبت في دعوته إلى أحد الاجتماعات البهائية. توجّهت إلى المتحف بعد أسبوع لتدعوه، إلا أنها لم تشاهده في الساحات الخارجية، فتّشت عنه ولم تجده بل وجدت شاباً يحرس المكان. سأَلَتْهُ عن الحارس العجوز فأجابها بأنه لا يعرف عنه شيئاً.

ذُهلت جولييت لما سمعت ورأت وما حدث خلال أسبوع فقط. ذهبت بتفكيرها إلى الاستنتاج بأن الحارس قد توفي، وهذا هو السبب في إلحاح حضرة عبد البهاء في المجئ إلى المتحف في ذلك اليوم الحارّ. لم تكن زيارته لرؤية الحيوانات المحنّطة، ولا لمشاهدة المعروضات الأخرى من مختلف أنحاء العالم، بل كانت لمقابلة ذلك الرجل الذي اقتربت منيَّته ليخبره بأنه لا داعي للقلق والخوف من الموت حتى يصعد من هذا العالم بكل راحة مستبشراً بالعالم الآخر.

88 شريعة الحب

أخبرنا جناب فاضل بالقصة التالية أثناء مؤتمر الوكلاء السنوي عام 1923م في شيكاغو:

‘ذهبت سيدة إلى حضرة عبد البهاء، وقد آمنت بالأمر المبارك، لتطلب منه أن يحدد لها مهمّة خاصة تؤديها. فأجابها حضرته: انشري شريعة الحب، عيشي طبقاً لقانون الحب وكوني مشاركة متعاونة. فأجابته: إنه شيء مطلوب من جميع البهائيين وأنا أطلب شيئاً خاصاً.

‘أجابها: حسن جداً، تعالي صباح غدٍ وسأعيّن لكِ مهمة خاصّة.

‘غمرتها السعادة في ذلك اليوم وطول الليل بانتظار ما ستسمعه في اليوم التالي. جاءت في الصباح فرحة متحمّسة. قال لها حضرته: سأعهد بابني إليكِ حتى تقومي بتربيته ورعايته جسدياً وفكرياً وروحياً. سُرّت كثيراً لهذه الثقة. ولكنها بدأت تفكر وتقول لنفسها متعجبة: ليس لحضرته ولد، فماذا يعني بقوله هذا!؟ وبينما هي غارقة في حيرتها سمعت صوت حضرته يضيف: ‘هل تعرفين ابني هذا؟ هناك في بلدتك رجل يُعَدُّ أسوأ عدوٍّ لكِ وقد توفي وترك ابناً ليس له من يعتني به، وأريدكِ أن تعتني به وهذه هي مهمّتُكِ الخاصة.

‘غَرِقت المرأة في مشاعر متضاربة لا يمكن وصفها، ثم شعرت بمزيد من النشوة والفرح وكأنها ولدت من جديد روحانياً. دَمِعت عيناها وقالت: عرفت الآن يا مولاي ماذا يعني أن يكون الإنسان بهائياً.

* * *

” … واحصروا فكركم في تقديم الخدمة لكل إنسان ولا تلقوا بالاً إلى الإعراض ولا الإنكار ولا الاستكبار ولا تأبهوا للظلم ولا العدوان…”(28)

28. "خطب عبد البهاء في أوروپا وأمريكا، ص 21،. (الطبعة 1998)

89 ادرس الآثار المباركة

بعد أن آمن بالأمر المبارك أرسل شخص رسالة إلى حضرة عبد البهاء يطلب فيها نصيحته ماذا عليه أن يفعل، فأخبره بأن عليه أن يدرس التعاليم والآثار المباركة. وبعد سنوات عدة كتب للمولى يقول: ‘طيلة السنوات الثماني عشرة الماضية عكفت على دراسة الآثار المباركة عدة ساعات كل يوم، فماذا عليّ الآن أن أفعله؟’ كتب إليه حضرته: ‘ادرس التعاليم والآثار المباركة.’
كان ذلك الشخص أحد الأحباء في شرقي الهند حيث النداء الإلهي يتردد صداه في أنحاء عدة من البلاد والأحباء منهمكون بالتبليغ ونشر الكلمة الإلهية بكل نشاط وهمّة.

90 ابذر البذور

في وقت مبكر من تاريخ الأمر المبارك أرسل حضرة عبد البهاء أحدَ المؤمنين المتحمّسين إلى الهند لنشر رسالة حضرة بهاء الله وبذر بذورها هناك. أطاع الرجل الأمر بكل سرور وبدأ خدماته الجليلة بكل إخلاص وبما فيه من همة ونشاط.

بعد سنتين رجع الرجل إلى حضرة عبد البهاء وقد شعر بالإحباط واليأس وعرض بأنه بَذَر البذور وقدّم رسالة حضرة بهاء الله في طول البلاد وعرضها إلا أنه لا من مجيب، وتمنّى لو أن واحداً على الأقل قد أعلن إيمانه، فماذا عليه أن يفعل الآن؟ أجابه حضرته بشكل جدّي قائلاً: ‘أرسلتك لبذر البذور لا لتسجيل المؤمنين، فارجع وداوم على ما ذهبتَ من أجله.’

91 طاعة وثقة

كل ما يفعله أو يقوله حضرة عبد البهاء يلقِّننا درساً جديداً، إلا أنه حذّرنا بقوله:

‘قوموا على تنفيذ ما أطلبه منكم في أوّل الأمر لأن فيه الخير لكم. أما إذا وَجَدْتُكُم وقد وقعتم في حبائل التردد، عَمَدْتُ إلى التخفيف من مطلبي، وأبقى كذلك إلى أن أشعر بأن ما أطلبه هو ضمن طاقاتكم وقدراتكم الذاتية. أما مطلبي الأول فمن المؤكّد أنه لم يكن فوق طاقتكم لو وضعتم ثقتكم بالتأييدات الغيبية وقمتم على تنفيذه.’

إنه أمر ومبدأ هام كرره وشدد عليه حضرة شوقي أفندي وبيت العدل الأعظم في رسائله مرات ومرات: ‘لا تنظروا إلى ضعفكم بل إلى قدرة الحق وسلطانه.’

92 مُنَى الصغيرة

وقفت الطفلة منى في مكانها مذهولة وقد بَهَرَها مظهر حضرة عبد البهاء. نظرت إليه طويلاً؛ لباسه ناصع البياض وعمامته الجميلة وعيناه الزرقاوان البرّاقتان. بادلها حضرته بنظرته الحانية ثم ابتسم وانحنى ورفعها بين ذراعيه وقبّل وجنتيها. شعرت منى بالدفء والأمان وبالحبّ الأبوي بين ذراعي حضرته.

سألها حضرة عبد البهاء: ‘هل أنت فرنسية أم إنكليزية؟’ لم تجب الطفلة وشعرت بالخجل الشديد، وانكمشت على نفسها وضحكت ضحكة أخفتها بيديها. ابتسم حضرته ثانية وقال لها : ‘إذا سألكِ الناس هل أنت فرنسية أم إنكليزية فقولي ‘أنا بهائية.’

93 المنزل الجميل

في الساعة الرابعة من بعد ظهر أحد الأيام أخذت العربة التي تُقِلُُّ حضرة عبد البهاء وبعض الأحباء تسير في شوارع باريس. سارت العربة على وَقْعِ حوافر الخيول في شوارع عريضة بُنيت على جوانبها بيوت فخمة يسكنها الأغنياء. تجاوزتها العربة إلى شوارع ضيقة حتى وصلت إلى مكان أُعِدّّ لحضرته كي يجتمع ببعض الأطفال في المنطقة الفقيرة من باريس.
نظّم هذا الاجتماع اثنان من البهائيين في بيتهما المتواضع هناك: رجل وزوجته. كانا فقيريْن، ولكنهما كثيراً ما كانا يضحّيان بوجبة غدائهما من أجل أن يشتريا بثمنها طعاماً للفقراء.
في شارع ضّيق قرب المنزل توقفت العربة وترجّل حضرته والأحباء ثم أخذوا يسيرون باقي الطريق عبر الأزقّة الضيّقة. شاهدوا الثياب البالية المنشورة على الحبال، واللُّحُفَ والألبسة المتدلية من النوافذ تحت أشعة الشمس، وسمعوا النساء والرجال داخل الأكواخ يتشاجرون ويصرخون. في نهاية الزقاق كوخ صغير خشبي قد بناه الزوجان من قطع الخشب والمسامير التي تبرّع بها البهائيون المحليون.
دخل حضرته الكوخ ولاحظ رسم الإسم الأعظم معلقاً على الحائط، وعلى الأرض تجلس مجموعة من الأطفال وهم ينشدون. كانت أعمارهم مختلفة؛ أصغرهم سنّاً طفل صغير وأكبرهم في الخامسة عشر من عمره. ثيابهم بسيطة وليست على مقاسهم ولكنها نظيفة. كان بينهم مزعجون ولكنهم ظلّوا هادئين عندما دخل حضرة عبد البهاء.
نظر إليهم بابتسامته المشرقة وتفضل قائلاً: ‘إنني مسرور جداً برؤيتكم وأن أكون معكم هنا، أحبّكم كثيراً. دخلتُ كثيراً من البيوت الجميلة، ولكن هذا البيت بالنسبة لي أجملها لأن روح محبة حضرة بهاء الله موجودة هنا.’ والتفت إلى الزوجين قائلاً: ‘إن ما تقومان به لهو عمل عظيم من أجل محبة الله، لم يحظَ الملوك ولا الملكات بما حظيتما فأنتما تعملان في الملكوت الأبهى، كم أنا مسرور منكما وأحبّكما كثيراً.’ ثم أخذ يتلو المناجاة وهو رافع يديه إلى السماء.
عندما انتهى حضرته تجمّع الأطفال حوله وأمسكوا بيديه فرحين مسرورين وأخذوا يتدافعون نحوه وهو يخرج من الكوخ محاولين الاقترابَ منه ولَمْسَ ردائِه أو يديه.
أخذ حضرته يسير راجعاً عبر الأزقّة الضيقة والناس من كل نافذة وباب يرمقونه وينظرون إليه متسائلين متعجّبين، مَنْ يكون هذا الرجل؟ إلى أن وصل العربة. هرع رجل بثيابه الممزقة إلى باب العربة ليفتحه لحضرته احتراماً، وتجمّع عدد لا بأس به من الناس وتعالت أصواتهم وبدأوا بالشجار فيما بينهم لدرجة جعلت رجال الأمن يتدخلون في مساعدة الأحباء على الوصول إلى العربة بأمان.

94 لماذا أنا هنا!

من بين الذين زاروا حضرة عبد البهاء في فندق بباريس رجل فقير أسود البشرة جاء لرؤية حضرته. لم يكن الرجل بهائياً ولكنه أحبَّ المولى كثيراً. دخل الفندق وأبدى رغبته في مقابلة حضرته، إلا أن إدارة الفندق أخبرته بأن التعليمات لا تسمح بدخول أناس فقراء مثله خاصة وأنه أسود البشرة، لأن ذلك لا يتناسب ومستوى الفندق. نظر الرجل حوله ودمعت عيناه حزناً ثم استدار ورجع مغلوباً على أمره.
عندما علم المولى بما حدث بالتفصيل استدعى إليه المسؤول في الفندق وأخبره بأن عليه أن يجد له صديقه الذي لم يستقبله وأعاده مكسور الخاطر، وأن حضرته حزين جداً لعدم السماح له بالدخول ونيل مراده، وأردف قائلاً: ‘لم آت إلى هنا لأشاهد الفنادق الفخمة ولا محتوياتها الفاخرة، بل جئت لأقابل أصدقائي الفقراء والمحرومين لأساعدهم وأواسيهم، وما أتيت لباريس كي أعمل طِبْقاً لعاداتها وتقاليدها، بل لأرفع راية حضرة بهاء الله وأطبّق قانونه الإلهي الرحيم.’

95 الدواء الشافي

في قارة أوروپا زار حضرة عبد البهاء ألمانيا والنمسا وهنغاريا. كان ذلك في فصل الشتاء حيث يكون الطقس بارداً تتساقط فيه الثلوج. لم يعْتَدْ حضرته على مثل هذا الطقس، ولذلك أصيب بوعكة صحية جعلته بالكاد يستطيع التكلّم، فنصحه الطبيب بالخلود إلى الراحة وعدم الخروج من المنزل، وأن يقلّل من الكلام قدر المستطاع إلى أن تتحسّن صحته. 

فكيف العمل ومن المقرر أن يتحدث إلى مجموعة من الأحباء وقد بدأوا يتوافدون إلى مكان الاجتماع؟. انتظم الحاضرون في مقاعدهم مسرورين مبتهجين بلقاء محبوبهم. وبينما هم كذلك إذا بشخص يخرج ليخبرهم بأن حضرة عبد البهاء يعاني من وعكة صحية أقعدته عن الحضور بناء على نصيحة الطبيب، وأن شخصاً آخر سينوب عنه في الحديث. من الطبيعي أن يشعروا بالحزن الشديد. 

كان يدرك حضرته مدى حزن الأحباء في عدم حضوره، وعندما اقترح أحد الأحباء عليه أن يلبس الثياب الدافئة ويستقلّ سيارة لحضور الاجتماع ويحافظ على جسمه دافئاً. وافق على الفور دون تردد ثم غادر بسرعة. 

كم كانت دهشة الجميع وسرورهم كبيراً عندما رأوا حضرته يدخل قاعة الاجتماع. جلس وأخذ يتكلم إليهم بصوت خافت، ولكنه أخذ يقوى عندما تطرق في حديثه عن حضرة بهاء الله حتى شعر الجميع بأن صوته كان يدوّي في أنحاء القاعة. 

وما أن انتهى المولى من حديثه حتى أسرع بمغادرة المكان، وبينما كان يسير بين الأحباء إذا به يسمع صوت بكاء. التفت فرأى سيدة تبكي لأنها لم تستطع أن تكون قريبة منه بسبب تزاحم الناس من حوله بعد أن انتهى من حديثه. توجّه نحوها على الفور ووقف معها برهة يكلّمها بعبارات أدخلت السرور إلى قلبها.

وفي اليوم التالي سأله أحد الأحباء عن صحته فأجاب: ‘أشعر بتحسّن في هذا اليوم والحمد لله، فالذهاب إلى الاجتماع يوم أمس كان أفضل دواء.’

96 إكليل الزهور

اختار حضرة عبد البهاء أن يسافر بالقطار إلى مكان بعيد من المقرر أن يُعقد فيه اجتماع، فحضر الأحباء إلى غرفته لمرافقته. كانت الحقائب جاهزة وموعد انطلاق القطار يقترب وحضرته جالس يكتب بعض الرسائل بكل هدوء. انتظر الأحباء طويلاً وبدؤوا يقلقون خوفاً من أن يفوتهم القطار، فتقدّم أحدهم من حضرته وقال: ‘لقد حان يا مولاي موعد مغادرتنا إلى المحطة.’ ابتسم حضرته وتفضل قائلاً: ‘هناك ما هو أهم من القطارات.’

لم يدرك الأحباء ما كان يعنيه، وتحيّروا في أمرهم ماذا يفعلون والوقت يمضي بسرعة. وبينما هم كذلك إذا برجل يُهرْوِل مسرعاً ويتّجه نحو المنزل وهو يبحث عن حضرة عبد البهاء. 

كان الرجل من أتباع زرادشت ويحمل في يده إكليلاً من الزهور. لقد سمع عن حضرته وأتى مسرعاً لرؤيته. انحنى الرجل ووضع الأكليل حول رقبة حضرة عبد البهاء ثم عطّر الجميع بعطر الورد.

تعجّب الأحباء من سلوك هذا الرجل، وأكثر إعجابهم كان في معرفة حضرته بقدومه. فكان انتظاره له أهم من كل شيء. 

رحّب حضرته بالرجل بكل حرارة وتكلم معه بضع دقائق، ثم استأذنه بالخروج وغادر إلى المحطة وركب القطار في الموعد المناسب.

97 عِلْمٌ لَدُنِّيّ

لم يَتَسَنَّ لحضرة عبد البهاء دخول المدارس ليتلقى علومه الابتدائية، حتى لم تكن أمامه فرصة لمعاشرة طلاب العلم في الصفوف العليا أو الجامعات، أكان في مرحلة الشباب أم الكهولة، ولم يقرأ الكتب العالمية المشهورة، ذلك لأنه قُدِّر له أن يمضي خمسين سنة من حياته منفيّاً وسجيناً مع والده حضرة بهاء الله منذ طفولته إلى أن بلغ من العمر خمسةً وستين عاماً. ومع ذلك، عندما سافر إلى أوروپا وأمريكا، تكلم مع أرباب العلم والمعرفة والفلسفة ورجال الدين، كما خاطب القادة العظام ومختلف طبقات المجتمع. فهل خبراته الماضية لم تكن بالمستوى الذي أهَّلته لما هو عليه من علم ومعرفة؟ بالعكس، كان على دراية واطّلاع بكل شيء بإيحاء إلهي. فكل موضوع كان يُعرَض عليه كان يعالجه في أكمل وجه. كان تفوّقه يبدو واضحاً لكل مَن حوله، وكان قديراً في الإجابة عن أي سؤال، وحلِّ كل معضلة مهما تعقّدت، إلا أنه في الوقت نفسه لم يُشْعِر الآخرين أنه يفوقهم معرفةً، بل كان على الدوام متواضعاً ودوداً يحترم آراء الآخرين مهما كانت. 

كان حضرته دمث الخلق لطيف المعشر دافئ اللسان مع كل من يقابله، لأنه يرى في كل إنسان وجه الله.

ذات يوم زاره قسيس رغب في الحصول على معلومات من حضرته تفيده في كتابة موضوع سينشره في إحدى المجلات. لم يكن الضيف مهتماً بالدين البهائي ولا حتى بشخصية المولى. رحّب به حضرته ثم أخذ القسيس يتكلم عن نفسه مسترسلاً في حديثه مدة ليست بالقصيرة، ثم طرح أسئلة بسيطة تفيده في موضوعه، وكان حضرته يجيبه بمنتهى الاختصار وأحيانا بكلمتي: نعم أو لا. كان اهتمام حضرته منصبّاً على السائل نفسه أكثر من أسئلته، ولذلك لم يُزعجه جو المقابلة، بل ظل يبدي له كل الاهتمام اللازم.

ظلّ حضرته مسترخياً تماماً في جلسته، وراحة يديه مفتوحتين في حِجره كما اعتاد أن يفعل، وكان ينظر إلى ضيفه معبّراً له عن محبّته الخالصة بوجهه النوراني وقلبه الرؤوم بشكل يصعب وصفه. وبينما كان القسيس يتكلم ويتكلم أخذ الحاضرون في الغرفة يتململون ضجراً، وبدأوا يتساءلون فيما بينهم: لماذا لا يضع حضرته حدّاً لهذه المقابلة، وهو يدرك أن الكلام مع هذا الرجل عديم الجدوى، وأن مقابلته تلك لم يكن القصد منها سوى جَنْيِِهِ بعض النقود من نشره الموضوع؟ إلا أن حضرته بقي مُصغياً إليه مشجعاً إياه على الإفصاح عمّا يريد بكل حرية. أخيراً توقف القسيس عن الكلام وسط ذهول الحاضرين وصمتهم، وساد جو من الهدوء التام قَطَعَه صوت حضرة عبد البهاء الرنّان وهو يخاطب القسيس ومُتَرْجِمُه يترجم. تكلم حضرته عن قداسة السيد المسيح، وترَفُّعه عن شؤون الدنيا، وعن محبته للجميع حتى لأعدائه، وعن أهمية دور القسيس ‘الذي دُعِيتَ أنت يا بُنَيَّ العزيز لأَدائه،’ وعن الحاجة إلى رجال دين يتصفون بصفات الله وفضائله حتى يجذبوا قلوب الناس إلى الحياة السماوية، وتكلم حضرته عن تأسيس ملكوت الله على الأرض الذي بشّر به السيد المسيح وطالَبَنَا أن نصلي من أجل تحقيقه، والذي أتى حضرة بهاء الله لتأسيسه تحقيقاً لوعد الله على لسان المسيح.

نفذت تلك الكلمات إلى أعماق قلب القسيس ونقلته إلى عوالم أخرى. بُهِت الجميع لما حصل. إذ بعد خمس دقائق تغيرت ملامح القسيس وبدا عليه التواضع والخشوع ثم ارتمى على أقدام حضرته طالباً الصفح على ما بدر منه. 

نهض حضرة عبد البهاء وعانق القسيس ثم أمسك بيده وسار معه إلى باب الغرفة مودّعاً. توقف هناك ونظر إلى باقة ورد أحضرها لحضرته أحد الأحباء في الصباح، وبابتسامته المشرقة وعينيه البرّاقتين تقدّم نحو باقة الورد وهو يضحك بصوت عالًٍ وضمّ الباقة الكبيرة بين ذراعيه ووضعها بين ذراعي القسيس الذي رأينا وجهه الممتلئ خشوعاً وامتناناً لحضرته وهو ينظر إليه من خلف باقة الورد بشعره الرمادي، ثم غادر بالخضوع والاحترام والتواضع على غير ما دخل بالكلية، وأشرق وجهه بالبِشر والنور والسعادة.

98 هل أنتِ راضية؟

تشرفت إحدى المؤمنات من أمريكا بزيارة عكاء حينما كان حضرة عبد البهاء مسجوناً داخل أسوارها. شعرت بعد الزيارة، وهي ترجع إلى موطنها، بأن حياتها قد تغيّرت وأصبحت خلقاً جديداً.
وخلال زيارة حضرته إلى أمريكا نظّمت هذه السيدة حفلة دعت إليها عشرين من أصدقائها من الطبقة المثقفة المرموقة بقصد تعريفهم بحضرة عبد البهاء، وعملت كل ما في وسعها أن تكون الحفلة ناجحة لأنها دعت إليها رجالَ علمٍ وفنانين وأطباء بالإضافة إلى رجال لا يدخل الدين في اهتمامهم أبداً، بل وحتى بعضهم لا يؤمنون بوجود الله ولا يرغبون في البحث في هذا الموضوع.
من شدة حرص السيدة على نجاح الحفلة وتحقيق أهدافها ظلّت في قلق واضطراب، وكانت تفكّر في نفسها كيف سيدير حضرته النقاش وبماذا سيتحدّث أمام هذه التشكيلة من الناس؟. اقتربت من حضرته واقترحت عليه أن يتكلم في موضوع الحياة بعد الموت تاركة الأمر لاختياره.
جلس المدعوون على مائدة العشاء، ودار حديث عام عادي أثناء الطعام لم يحاول حضرته تغيير مجراه. فما كان من المضيفة إلا أن وقفت وطلبت من حضرته أن يكلّمهم في مسائل روحانية. توجه الجميع بأنظارهم نحو حضرته. نظر في وجوههم وبادرهم بقوله: ‘هل لي أن أخبركم بقصة؟’ فسرد عليهم قصة عن أهل الشرق ونوادرهم. سرّ الجميع وضحكوا من أعماق قلوبهم.
بذلك عمل حضرته على كسر الجليد وشعر الجميع بأنهم قريبون من بعضهم البعض، وأخذ بعضهم يسردون القصة تلو الأخرى في جو من الضحك والسرور. أخبرهم حضرته بأن الضحك هو استرخاءٌ روحي وهو لازم ومفيدٌ جدّاً للنفس والروح. وانتقل في حديثه بالمدعوين تدريجياً إلى أن أخبرهم عن أيام سجنه، وذكر لهم بأنه ومَنْ معه كانوا في ظروف قاسية للغاية يصعب وصفها، ومع ذلك كان الواحد منهم في نهاية كل يوم يسرد عليهم ما حدث له من مواقف مؤلمة والكل كان يغرق في الضحك حتى تدمع العيون. فالسعادة لا تتعلق بالمكان ولا بالحالة المادية. ثم انتقل في حديثه إلى مسائل روحانية حول تعاليم حضرة بهاء الله. كان الجميع ينصتون بكل اهتمام وتقدير لكل كلمة يقولها، لأنها كانت تدخل قلوبهم بشكل أقوى فيما لو قدّم حديثاً ومحاضرة طويلة عن الدين.
غادر الجميع مسرورين منتعشين، ثم تحرك المولى ليغادر إلى فندقه. تقدم من مضيفته وابتسم وسألها بكل تواضع: ‘هل أنتِ راضية؟’

99 المدخِّن

أدمن رجل على التدخين منذ شبابه إلى أن أصبح كهلاً. أضطر مرة أن يتوقف عن التدخين فترة على أثر عملية جراحية أُجريت له، وهو الآن بحاجة إلى عملية جراحية أخرى وعليه أن يتوقف عن التدخين أيضاً. شعر بضيق شديد مع أنه كان يفتخر بنفسه بأن لديه الإرادة الكافية لأن يترك الدخان، وكثيراً ما تركه عدة أشهر ثم رجع إليه بمحض اختياره، أما في هذه المرة فإنه يشعر بضعف الإرادة بالكلية ولا يستطيع ترك الدخان إلا يوماً أو يومين فقط وهذا غير كاف لعمليته الجراحية. 

كان الرجل يعلم بأن حضرة عبد البهاء كثيراً ما نصح البهائيين بعدم التدخين وتركه، وكثير منهم لا يدخّنون بناء على نصيحته، لذلك فإن له طريقته الخاصة في المساعدة، ولا شك أنه سيساعدني ويخبرني كيف يمكن أن أتخلص من هذه العادة الضارة. 

في بداية مقابلته مع حضرته بدا، وهو يخبره بقصته، وكأنه طفل يعترف بذنبه أمام والده، وكان صوته يخفت عند نهاية كل جملة ثم يصمت ويستعيد قوته ويتابع كلامه. ظل حضرته صامتاً ينظر إليه بكل عطف مراعياً مشاعره ومقدّراً ما سيعانيه. أنهى الرجل كلامه طالباً المساعدة والنصح في كيفية التخلص مما هو فيه ثم صَمَت. شعر بالراحة والاطمئنان وهو ينظر إلى وجه حضرته البشوش الذي بادره بسؤاله بكل هدوء: ‘كم سيجارة تدخّن يومياً؟’ وبعد أن أخبره التفت إليه حضرته وقال: ‘لا أعتقد أن بضع سجائر سوف تضرّ بصحتك، فبعض الرجال في الشرق يدخّنون طوال اليوم باستمرار وتفوح من شعرهم ولحاهم وملابسهم رائحة الدخان التي تتحول إلى روائح كريهة منبوذة مع مرور الوقت، أما أنت فلستَ مثلهم في التدخين منذ سنوات، فلا أعتقد أن تدخينك القليل يجب أن يسبب لك كل هذا الإزعاج.’

كان حضرته يتكلم بكل هدوء والابتسامة لم تفارق شفتيه بعينين تشعّان محبة وأُبوّة مقدّراً مشاعر الرجل من أعماق قلبه، وقد تحوّل جوّ الاقتضاب والقلق الذي سيطر على ضيفه إلى شيء آخر بالكلية سما به فوق كل أحاسيسه. 

لم يملك الرجل إلا أن ظلّ صامتاً غارقاً في تعجّبه وإعجابه. فعبد البهاء لم يعطه محاضرة حول مضارّ التدخين وأثره على صحته، ولم يطلب منه ضرورة تحلّيه بالإرادة للتغلب على رغباته، بل مَنَحَه الحريّة في التفكير بكل هذا في نفسه. جعله يفكّر في كل ما يمكن أن يُقال في تلك الحالة من نصائح وعليه أن يختار، وهو نفسه الذي يتحمل تَبِعات قراره. شعر براحة تامة وذهب عنه القلق وصَفَا ذهنه وأخذ يفكّر بعمق. 

أمسك سيجارة وأشعلها وأتبعها بأخرى ولم يشعر بالذنب لأنه كان متحرراً من أي ضغط.

ولكن… ويا للعجب، فبعد يومين فقط فَقَد الرجل رغبته في التدخين بالكلية وأقلع عنه تماماً مدة سبع سنوات.

100 مأدُبةُ المحبة

كل ما يفعله المولى له معناه ومغزاه. ففي إحدى المناسبات السعيدة في واشنطن عام 1912م أظهر حضرته ما يمكن للعدل والمحبة أن يفعلا.

 حدث أن رتّب القائم بأعمال السفارة الإيرانية في المدينة مأدبة غداء على شرف حضرة عبد البهاء، وأعدّ المضيف وزوجته قائمة بالمدعوّين من الوسط السياسي وبعض الأحباء. 

وصادف في ذلك اليوم أن دعا حضرة عبد البهاء السيد لويس غريغوري لزيارته، وهو موظف حكومي خلوق.

عندما علم السيد غريغوري بموعد الغداء الرسمي تعجّب في نفسه من تحديد موعد زيارته الذي يتضارب مع تلك المناسبة خاصة وأنه لم يكن مدعوّاً إليها، ومع ذلك حضر. أما حضرة المولى فقد تعمّد إطالة حديثه مع المدعوين حتى يصل ضيفه. أُعلن أخيراً بأن الغداء جاهز وأن على حضرات الضيوف أن يتوجهوا إلى مقاعدهم حول المائدة.

نهض حضرته ومشى وتبِعه المدعوون، أما السيد غريغوري فقد تردد قليلاً وبقي واقفاً في مكانه؛ فهل عليه أن يغادر القاعة حالاً أم ينتظر حضرة عبد البهاء حتى ينتهي من تناول الطعام! 

جلس المدعوون كلٌ في مقعده المخصص له، وفجأة نهض ضيف الشرف (المولى) ونظر حوله وسأل باللغة الإنكليزية: ‘أين صديقي السيد غريغوري، وكررها مرتين، يجب أن يتناول الغداء معي.’ لم يكن اسمه مذكوراً في القائمة، ولهذا السبب بقي واقفاً في الخلف. وما كان من القائم بالأعمال إلا أن أسرع نحو غريغوري ليصطحبه بينما كان حضرته يعدّ له مكاناً للجلوس إلى يمينه على المائدة متجاهلاً جميع البروتوكولات والمراسيم الرسمية. وبعد أن جلس غريغوري على مقعده بدأ الجميع في تناول الطعام. 

سار كل شيء بكل سرور وبساطة وكأن شيئاً لم يحدث في مناسبة رسمية كهذه وفي تلك العاصمة السياسية التي تسيّرها المراسيم والبروتوكولات بكل دقة وقد أسَرَ حضرتُه الجميعَ بكلماته التي تحدّث فيها عن وحدة الجنس البشري. 

آمن لويس غريغوري بالأمر المبارك فيما بعد، وخدم بكل إخلاص وتشرّف بمقام أيادي أمر الله، فكان أول زنجي ينال هذا الشرف.

101 ضيف بلا دعوة

سيدتان تقيمان في ضواحي لندن أبدتا رغبتهما في مقابلة حضرة عبد البهاء، فوُجِّهتْ لهما الدعوة مع جمع من الضيوف لتناول الطعام مع حضرته. استغرقت رحلتهما إلى لندن طيلة النهار تقريباً وليس أمامهما إلا ساعات قليلة للرجوع بالقطار في اليوم نفسه.

جلس الجميع مع حضرته يستمتعون بحديثه المنعش للروح، وما أن مضى نصف ساعة حتى دخل رجل غريب وقطع عليهم الحديث. جلس بكل هدوء وأشعل سيجارة دون أن يطلب إذناً، ثم بدأ بالكلام. أخذ يتكلم ويتكلم دون أن يعطي لحضرته فرصة للتكلم. كان مراسلاً صحفياً لإحدى الجرائد الإخبارية، ولم يكن مدعوّاً، وكان تصرُّفه بلا شك خارجاً عن اللباقة واللياقة. 

صُدِمت السيدتان من سلوكه غير اللائق، وشعرتا بضيق شديد ظهر على وجهيهما لأنه أفسد عليهما وقتهما الثمين بمحضر حضرة عبد البهاء، وتمنّتا من أعماق قلبيهما أن يغادر فوراً. وقبل أن يشعر الضيف أنه غير مرغوب فيه، وقف حضرة عبد البهاء فجأة وأشار إلى الصحفي أن يتبعه إلى خارج الغرفة، واصطحبه إلى غرفته الخاصة. سُرّت السيدتان لذلك، ولكن … فقدتا حضرته.

وبعد فترة قصيرة سمعتا صوت حضرته من داخل غرفته يتكلم مع الصحفي بغاية اللطف والمحبة وهو يقول له واقفاً قرب الباب ‘مع السلامة’. سُرّت السيدتان كثيراً عندما رأتا المولى يدخل غرفة الضيوف. وما كان منهما إلاّ أن صاحتا فرحتين: ‘مولانا العزيز…!’ نظر إليهما حضرته وعلى وجهه بعض التأثُّر وتفضل قائلاً: ‘لقد وضعتما الرجل في جوّ حرج غير مريح، فأخذتُهُ بعيداً حتى يشعر بشيء من الراحة وهيّأْتُ له جو السرور.’

“… فصاحب الأدب صاحب مقام عظيم.”(29)

29. حضرة بهاء الله في "الحياة البهائية"، ص 55.

102 الرجل المتشرّد

فوق مقعد طويل على ضفة نهر التايمز بلندن كان ينام رجل متشرد لا مأوى له مع أنه كان يعيش في السابق حياة مريحة وسعيدة. فهو متعلّم ووالده قسيس في كنيسة، إلا أنه مرّ بظروف صعبة جداً جعلته فقيراً يعاني من الوحدة والبؤس لدرجة كان يتمنى الموت في كل لحظة.

استيقظ الرجل من نومه مرتجفاً من شدة البرد والجوع الذي أخذ يعتصر معدته. تمالك نفسه ونهض ثم سار في الشارع. أخذ ينظر إلى الحوانيت عن يمينه ويرى فيها ما تشتهيه نفسه، ولكن هيهات، من أين له بالنقود! سار ثم توقف عند حانوت يبيع الجرائد فلفت نظره وجه شخص جليل يظهر في إحدى الجرائد. نظر إليه بتفحّص وأحسّ بشئ غريب يسرى في عروقه، فكلما أراد أن ينتقل إلى جريدة أخرى يجد نفسه مشدوداً إلى صورة الشخص الجليل. إنها صورة حضرة عبد البهاء وبدا له كأنه ينظر إليه ويدرك مدى بؤسه وشقائه. 

كانت الجريدة تحمل مقالاً يتكلم عن حضرته بالتفصيل، وأنه مقيم في منزل بلندن عنوانه كذا… وكذا… ومعنى ذلك أن المنزل يبعد عنه حوالي خمسين كيلومتراً. شعر بقوّة غريبة تشدّه نحوه، وبدأ يسير لا إرادياً نحو المنزل. مشى يومه الكامل حتى وصله، ثم طرق الباب ففتحته سيدة رحّبت به ودَعَتْه للدخول ثم قدّمت له الطعام. وبعد أن استراح أخذ يخبرها عن حياته التعيسة، وكيف أنه رأى صورة شخص في الجريدة وأنه يقيم في هذا المنزل وقد بدا له أنه يتكلم إليه ويدعوه لمقابلته. توسل إليها الرجل قائلاً: ‘أرجوك أن تخبريني هل هو هنا، وهل سيراني؟ هل سيراني أنا؟’

‘طبعاً سيراك.’ أجابت السيدة. وفي تلك اللحظة فُتح الباب ودخل حضرة عبد البهاء ومشى نحو الرجل مادّاً له ذراعيه وتفضل قائلاً: ‘أهلاً وسهلاً، أنا مسرور بقدومك، اجلس واسترح.’

جلس الرجل وهو يهزّ رأسه ويرتعش. أخذ حضرته يداعب خصلات شعره المعقدة بيده، وتفضل قائلاً بابتسامته المعروفة: ‘كن سعيداً، كن سعيداً، فلا تحزن لأنك فقير الحال، يمكنك أن تكون غنياً جداً في ملكوت الله.’

أمضى حضرته مع الرجل وقتاً طويلاً وهو يتحدّث إليه شارحاً له عما يجب أن يفعل في الحياة حتى تكون لحياته معنى وقيمة. أدرك الرجل بعد ذلك أنه يضيّع أيام حياته الثمينة بنفسه. فقرر ألا يستجدي من أحد كخطوة أولى، ثم عليه أن يبحث عن عمل في مزرعة لأنه يحب هذا النوع من العمل، وعندما يوفّر شيئاً من المال سوف يزرع البنفسج لحسابه الخاص ويبيعه في السوق.

وهكذا غادر الرجل والسعادة والأمل يملآن قلبه وروحه لأنه شعر أن قيمته في الحياة كإنسان تكمن في العمل والخدمة والعطاء.

103 أجنحة الفرح

إنه لأمر يضَعُك في سعادة داخلية غامرة وإلهامات للروح بليغة عندما تقرأ كلمات حضرة عبد البهاء في أي موضوع وتغوص في معانيها الروحانية اللامتناهية، وهذا ما ينير حياتنا في الأمثلة التالية من كلماته:

إن الفرح يزوّدنا بالأجنحة! إذ في أوقات الفرح نصبح أعظم قوةً وأحدَّ ذهناً وأوضح تفهُّماً. نبدو عندها أفضل قدرة على التكيُّف بتقلّبات الحياة فنخلق بذلك لأنفسنا جوّاً يفيد الجميع ويستمتعون به. أما عندما يتملّكُنا الحزن تضعف قوانا بل ونفقدها أحياناً وتخبو قدرة استيعابنا وتتلاشى مقدرتنا على التفكير. سنفقد السيطرة على كل ما هو واقعي في الحياة، وستفشل بصائرنا في اكتشاف الأسرار المقدسة ونصبح كائنات بشرية ميتة.

لا تحزنوا ولا تكتئبوا.

لم يكن حضرة عبد البهاء يرغب أن يرى أحداً مجروح الخاطر، أو أن يكون نفسُهُ سبباً في حزن أحد. ليس بمقدور أي إنسان أن يحوز على جائزة أفضل من شعوره بالسعادة نتيجة إسعاده الآخرين.

لا تنسوا أبداً أن أعظم صورة للحياة وأفضلها مواساة قلب محزون أو خاطر مكسور.

… اعلموا أن تبليغ أمر الله يمكن تحقيقه فقط بالأعمال الطيبة والفضائل الروحانية والنطق الواضح والسعادة التي تشعُّ من وجه من يقوم على نشر تعاليم الحق ونفحاته.

ابذلوا كل جهدكم في أن يعرف الأطفال بأن البهائي هو الجامع لجميع كمالات العالم الإنساني، وأن عليه أن يكون شمعاً مضيئاً في الظلام حتى يستحق أن يُطلَق عليه اسم ‘بهائي’ لا شمعاً مطفأً يزيد الظلام حُلْكَةً.

ستنحطّ الأخلاق في المستقبل إلى درجة كبيرة، لذا فمن الضروري أن يتربّى الأطفال ويترعرعوا في حضن البهائية حتى يجدوا فيها السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة، وإلاّ فإنهم سيجدون أنفسهم وسط دوّامة المتاعب والأحزان لتتقاذفهم من كل الجهات. فالسعادة الإنسانية الحقّة لا تتأتّى إلا بالسلوك الروحاني.

إن السعادة الروحانية هي الركيزة الحقيقية التي تقوم عليها حياة الإنسان، لأن الحياة وُجِدت من أجل السعادة لا من أجل التعاسة، للفرح لا للحزن.  فالسعادة هي الحياة بينما التعاسة هي الممات، السعادة الروحانية هي الحياة الأبدية وهي النور الذي لا يعقُبُه ظلام… إن هذه البركات العظيمة والمِنحة الكُبرى لا تُعطَى للإنسان إلا بالهداية الإلهية…، وما تلك السعادة إلا محبة الله.

لا شيء يجلب السعادة للإنسان سوى المحبة.

104 كونوا سُعَداء

عندما كان حضرة عبد البهاء في لندن شاهد العديد من الفقراء، وتذكر فقراء حيفا وعكاء. لقد حزن كثيراً عندما رأى الأغنياء في لندن يُنفقون الأموال الطائلة في شراء هدايا عيد الميلاد بينما الكثير من الفقراء حولهم لا يملكون حتى الخبز ليأكلوه، وتساءل في نفسه متعجباً كيف يكون الأمر هكذا في بلاد متحضّرة غنية في الغرب. 

في ليلة ذكرى عيد الميلاد نصب جيش الخلاص في لندن (وهو جمعية خيرية إنسانية) خيمةً كبيرةً دَعَا إليها حوالي ألف فقير لتناول عشاء ليلة الميلاد. علم حضرة عبد البهاء بالموعد فتوجّه إلى الخيمة لمواساة الفقراء والتكلم إليهم. وبينما هم يتناولون الطعام أخذ يخاطبهم قائلاً:

‘جميع أنبياء الله ورسله كانوا فقراء، وأنتم تعلمون أن موسى عليه السلام كان راعياً للغنم. فالفقراء دائماً هم متواضعون وُدَعَاءُ وقلوبهم رقيقة… كان السيد المسيح لا يملك من الدنيا شيئاً، وحضرة بهاء الله أخذوا منه كل ما يملك وسجنوه أربعين عاماً قضاها في الفقر والحرمان ثم الجوع أحياناً… كونوا سعداء دائماً، ضعوا ثقتكم بالله واطمئنوا ولن ينساكم. إياكم أن تحزنوا أبداً.’

مع أنهم كانوا جياعاً، إلا أن بعضهم توقفوا عن الأكل ليستمعوا إلى حضرته بكل اهتمام. نادراً ما كان يتكلم معهم أحد في مثل هذه المحبة والاهتمام والتفهّم لحالهم.

وقبل مغادرة حضرته قدّم للمشرفين على الخيمة بعض المال الكافي لتقديم وجبة لهم في ذكرى ميلاد العام التالي، وعندما سمع الحاضرون بذلك وقفوا عن مقاعدهم ولوّحوا في الهواء بما في أيديهم من شُوَك وسكاكين تحية لحضرته وعرفاناً بالجميل.  

105 الأشجار المثمرة

كان المطر ينهمر بغزارة، والريح تعصف بالشجر، والناس يتراكضون في الشارع، منهم من احتمى بمظلة كان يمسك بها بصعوبة، ومنهم من رفع معطفه فوق رأسه ليخفف عنه وقع المطر. في ذلك اليوم كان حضرة عبد البهاء يقطع طريقه إلى اجتماع في إحدى الجمعيات الخيرية ضمّ حوالي ستين من الأمهات وأكثر من مائة من أطفالهن الذين يعانون مرارة الفقر الشديد والحرمان. 

دخل حضرته الغرفة وأخذ يمشي بين الأمهات والأطفال بوجهه الذي يشع سروراً وسعادة، وبابتسامته المشرقة تفضل قائلاً: ‘كم أنا مسرور جداً لأن أكون معكنَّ وألتقي بكنَّ، لقد بارككنّ الله بهؤلاء الأطفال، إنهم صغار وسوف يكبرون ليصبحوا أشجاراً مثمرة.’

وقف حضرته أمام إحدى الأمهات التي تحمل طفلها الصغير الذي يبدو عليه الهُزال، وأخذ يداعب شعر الطفل ثم وجهه ويتكلم مع أمه بكل رقة ومحبة. فما كان منها إلا أن مدّت يدها النحيلة فأمسك بها حضرته ووضع فيها قطعة من النقود ثم أغلقها.

تكلم حضرته مع كل طفل بالمحبة والاهتمام، لا فرق بين صغيرهم وكبيرهم، وأعطى كلاً منهم قطعة من النقود الفضية. لم يسمع منهم بكاءً كعادة الأطفال، لأنهم شعروا بدفء المحبة والحنان.

وفي نهاية زيارته تفضل قائلاً:

‘عندما أكون في جمع من الفقراء أرى نفسي في سعادة غامرة. فلقائي بهم يجلب إلى قلبي سروراً بالغاً… إن فقرهم هذا يقرّبهم إلى الله أكثر وأكثر.’

106 باقَةُ القَرَنْفُل

في زيارة حضرة عبد البهاء إلى شيكاغو عام 1912 تشرّف الصبيّ ليروي إيواس بمقابلة المولى هناك، إذ توجه ذات يوم إلى حيث ينزل حضرته في فندق بلازا وقرر أن يحمل معه باقة ورد، فاختار باقة كبيرة من القرنفل الأبيض الذي يحبه. مشى الصبي مع والده فرحيْن بلقاء محبوبهما. ومع اقترابهما من الفندق التفت الصبي إلى والده وقال: ‘لقد غيّرت رأيي وقررت ألا أُقدّم الباقة للمولى.’ ارتبك الوالد لهذا القرار وسأل ابنه : لماذا والمولى يحب الزهور؟ فأجابه الصبي الصغير: أنا آت للمولى وأحمل له قلبي ولا أريده أن يفكّر بأنني أريد منه هدية، فهو يعلم ما في القلوب وهذا كل ما أملكه لأقدّمه له. 

تابعا سيرهما إلى أن وصلا. صعدا الدرج وقدم الوالد باقة الزهور للمولى. سُرَّ بها حضرته كثيراً، فرائحتها الفواحة ومنظرها الجميل جعلاه يدفن وجهه في وسطها ليتمتع برائحتها العطرة وهذا ما اعتاد عليه حضرته عندما يزور الحدائق ويتجول بين أزهارها وورودها. 

جلس الصبي ليروي عند أقدام حضرته (معلمه الكبير) مشدوهاً تماماً بسحر عينيه وحركاته المعبِّرة أثناء حديثه إلى جمع من الزائرين. ولما انتهى الحديث أخذ المولى يصافح كل واحد بيده ويعطيه قرنفلة بيضاء أثناء مغادرته. ظل الصبي واقفاً خلف حضرته ولاحظ أن بعض القرنفل لا يزال في يد مولاه فتمنى مع نفسه أن يستدير المولى ويصافحه قبل أن يغادر الجميع، وفجأة رأى حضرتَه يستدير وينظر إليه ويتناول وردة حمراء كان يعلقها في معطفه ثم يقدمها له ويصافحه. عندها أدرك ليروي إيواس أن المولى قد أحسّ بإحساسه وعرف بأنه هو الذي أحضر باقة القرنفل.

وتمرّ السّنون ويكبر الصبي ويكبر معه إيمانه المخلص المِعطاء. وفي عام 1951م عيّنه حضرة شوقي أفندي يداً لأمر الله.

107 السفينة القَوِيّة

ذات يوم أُحضِرت فتاة إلى محضر حضرة عبد البهاء وقد غلب عليها الجزع والاكتئاب. كلّمته والدموع تنهمر من عينيها وهي تسرد مصائبها المتلاحقة قائلة بأن أخاها يقبع في السجن منذ ثلاث سنوات ظُلماً، وعليه أن يقضي أربع سنوات أخرى. ووالداها مكتئب غارق في حزنه العميق. زوج اختها وهو المعيل الوحيد لهم قد توفي. وقالت بأنه كلما فوّّضَتْ أمرها إلى الله لاحظت أن متاعبها كانت تزداد. تنهّدت، ثم هدأت قليلاً وتابعت قولها بشئ من الحيرة: … مع أن والدتي تقرأ الترانيم المقدسة باستمرار ولا تستحق أن يتخلّى عنها الله. أنا نفسي كنت أقرأ الترنيم الحادي والتسعين والثالث والعشرين في كل ليلة قبل أن أنام، ولا أقطع الصلاة.
نظر إليها حضرة عبد البهاء بعينيْن مليئتيْن عطفاً وأُبُوّةً وجعل يهدّئها ويُطَمْئِنَ قلبَها بعباراته الدافئة قائلاً:
‘أن تقرأي الترانيم ليس معناه الدعاء، لأن تلاوة الدعاء تعني الوثوق بالله والقبول والرضا بكل ما يقدِّره لكِ. لا تحزني بل كوني راضيةً شاكرةً صابرةً وستتغيّر الأمور بعد ذلك. اتركي عائلتك في ظل رحمة الله واطمئنّي بعد ذلك. اقبلي إرادته قلباً وروحاً وأحبّيها وستشعرين بالقوة. فالسفن القوية لا يهزمها البحر الهائج لأنها بطبيعتها تستطيع أن تركب الأمواج، بينما السفينة الضعيفة تتحطم وتغرق. فكوني إذن سفينة قوية.’

108 كوني سعيدة

كانت السيدة (س) من المؤمنين الأوائل الذين زاروا عكاء. فهي من طبقة اجتماعية ثرية وتقليدية تعيش في نيويورك. كانت في السابق مسيحية مخلصة متمسّكة بالتقاليد، ومع ذلك لم تشعر يوماً بالراحة والسعادة والرضا مما سبب لها شيئاً من الكآبة والحزن… وفي إحدى سفراتها سمعت عن حضرة عبد البهاء ثم آمنت بالأمر المبارك بكل شغف وبعدها توجّهت إلى مدينة السجن عكاء لزيارته ورؤيته. نزلت ضيفة مع باقي الزائرين الذين كانوا يتشرفون بمحضر المولى كل يوم، ولاحظت أن أشياء كثيرة قد فتَنَتْها خاصة مما رأته في المولى نفسه. إذ لاحظت أن حضرته كان دوماً يحيّيها شخصياً بعبارة ‘كوني سعيدة’ بخلاف باقي الزائرين. فكّرت في هذه العبارة كثيراً بشيء من القلق على نفسها. لم تشعر بالجرأة أن تسأل حضرته لماذا يخاطبها وحدها بهذه العبارة، فطلبت من أحد الأحباء أن يسأله. 

وبوجهه البشوش المنير أجاب: ‘أنا أطلب منكِ أن تكوني سعيدة لأنه من المُحال علينا أن نُدرك الحياة الروحانية دون أن نكون راضين سعداء في أعماق نفوسنا.’

بعد ذلك ذهب عنها خجلُها من حضرته مما دفعها أن تسأله: ‘أخبرني ما هي الحياة الروحانية؟ كنت أسمع بها منذ أن وُلِدْتُ ولم يستطع أحد أن يشرح لي كيف تكون!’

نظر إليها المولى مرة أخرى بابتسامته الرائعة وقال بلطف: ‘هي اتّصاف المرء بصفات الله، وعندها فقط سوف يدرك الحياة الروحانية.’

كلمات كانت قليلة ولكنها كافية شافية. صفات الله !؟ لا بد أنها فضائل من قبيل المحبة واللطف والعدل والكرم… مرّ عليها يوم بليله ونهاره وعقلها مشغول بهذا اللغز السماوي، إلا أنها كانت غارقة في نشوة السعادة. لم يُشْغِلْ فكرها أبداً واجبُها اليومي في المنزل إلى أن جاء المساء وجاء وقت الحساب. عندها تذكّرت أنها لم تعمل شيئاً. 

وبتفكيرها العميق وتأملاتها اليومية بدأت تتفهم المعنى المطلوب فأيقنت أنه إذا أغرقَتْ نفسها كلياً بالفضائل الإلهية فإنها ستتحوّل معها إلى أفعال بالضرورة، وستُضَاءُ حياتُها كلها ليلاً نهاراً بذلك النور الإلهي. ومنذ تلك اللحظة لم تنسَ تلك المنحة الإلهية – ‘اتصفي بصفات الله.’ بذلك أدركت ما هي الحياة الروحانية.  

109 الشاعر جبران خليل جبران

روت القصة التالية حميدة خان عن والدها علي قلي خان الذي سمعها من حضرة عبد البهاء نفسه.

في إحدى زياراته إلى نيويورك أقام المولى في منزل جولييت ثومبسون في الوقت الذي كان الشاعر اللبناني جبران خليل جبران ينزل ضيفاً عند أحد أصدقائه في منزل قريب من منزلها. 

كانت تربط الشاعر بحضرة عبد البهاء علاقات صداقة حميمة بدأت ونمت في لبنان في وقت سابق، وها هما يلتقيان ثانية. لقد صرّح جبران بأنه يؤمن بكل ما جاء به حضرة بهاء الله، إلا أنه لا يريد أن يعلن نفسه بهائياً لأن لديه رسالة في حياته يرغب في أن يؤدّيها للجنس البشري وتحمل طابعه الشخصي. ومع ذلك فقد عبّر عن رغبته في أن يقدّم شيئاً ما لحضرة عبد البهاء. وذات يوم توجّه إلى حضرته وسأله: ‘ماذا تريدني أن أفعل؟’

أظهر حضرته سروره قائلاً: ‘حسن، اكتب كتاباً.’ فكان أن ألّف كتابه الشهير بعنوان: المسيح ابن الإنسان…

110 قُصَاصَة الورق

كان جورج تاوزند في وقت من الأوقات كاهن كاثدرائية سانت پاتريك في دبلن بإيرلندا، والأرشيديكون في كاثدرائية كلونفورت، وقد أصبح بعد ذلك بهائياً مخلصاً نشطاً. كتب لنا ما يلي:

لقد علّم السيد المسيح أن أفضل إنجازات الإنسان ليس في عملٍ أو فكرٍ مميّز، بل في علاقته مع الله حتى يفيض قلبه وروحه وفكره بحب مولاه. هذا هو الهدف والمَثَل الأعلى وإحدى الوصايا العشر.

‘إن الروحانية هي الصفة المميزة لشخصية حضرة عبد البهاء، وكل ما هو ممدوح في حياته لا يُرجِعُه إلى فضيلة يتصف بها شخصياً بل إلى قدرة الله ومواهبه. كان هدفه الأوحد عبوديته لله، وكانت سعادته الحقّة تتجلى في التجرد من الشؤون الدنيوية والاغتناء بعشقه لله وحده، واضعاً حريته في عبوديته لخالقه، مع أن باستطاعة حضرته أن يُعلن في أواخر أيام عمره أنه كرّس كل طاقاته في مستهلّ حياته في تثبيت دعائم أمر الله. فبالنسبة له كان الله محور وجوده في هذا العالم وما بعده، لأن كلَّ ما في الوجود إنما يعكس فضل الله وقدرته.

كتب حضرة عبد البهاء يوماً يقول:

إن الأرواح كالمرايا، وفضل الله مثل الشمس. فكلما كانت المرآة صافية نظيفة ومقابلة للشمس انعكست فيها أنوارها ومجدها بأجلى ما يمكن، وعندها سوف لا يقيم الإنسان وزناً لتلك المرآة بل لقوة الشمس التي تعكسها وتعكس معها مجدَها.

وكتب أيضاً:

… بحبنا لله يتحول الحنظل إلى سكر، وكل موهبة تغدو في نظرنا ثمينة وقيّمة.

إن الإنسانية يزداد اهتمامها بمستوى الحياة المادية وهذا أمر مشروع، إلا أن حضرة عبد البهاء عاش الحياة بشقّيها المادي والروحاني، وهو يدرك تماماً أن حياة الإنسان الروحانية، إذا ما تطوّرت، تحسّنت لديه حياته المادية، فالحياة الظاهرية تعكس ما في جوهر الإنسان. إن حضرته يعرف تماماً بأننا ماضون في رحلة الروح نحو تقرّبها إلى الله، ويريد من الجميع أن يعوا هذه الحقيقة الهامة، وعندها سوف يهتمّون بتطوير قدراتهم الكامنة الحقيقية حتى تفيدهم في هذا العالم والعالم الآخر.

وفي باريس ضرب حضرة عبد البهاء مَثَلاً للسيدة ماري هانفورد وآخرين كانوا حاضرين، وكان يحمل بيده قصاصة ورق صغيرة فقال: ‘انظروا كم إن شيئاً صغيراً يمكنه أن يحجب عنا الرؤية. وهكذا فإن عملاً طائشاً أو كلمة سوء أو انتقاد في غير محلّه سوف يكون لبصيرتنا حجاباً وحاجزاً.

111 الذكاء الممدوح

في بوسطن بمقاطعة مدفورد جاءت امرأة بهائية قادمة من لندن لتتكلم عن شهداء الأمر الأوائل. من بين الحضور كان رجل يُدعى وليم راندل دعته السيدة مريان وليمز كونانت إلى منزلها. 

لم يسبق له أن سمع الكثير عن الدين البهائي ولكنه حضر باهتمام معتدل. وعندما انتهت السيدة من حديثها ومن عرض صور الشهداء تقدّم منها وصافحها شاكراً. نظرت إليه وقالت: يا سيد راندل، أنت الوحيد في هذه الغرفة الذي عاش في روح هذه الأمسية، ولا شك أنك تريد معرفة المزيد عن الدين البهائي، لذا سأرسل إليك شخصاً يخبرك بالمزيد.

تفاجأ السيد راندل من عرضها هذا فشكرها وغادر. في صباح أحد الأيام بعد عدة أسابيع تفاجأ راندل عندما فتح باب منزله ليرى أمامه رجلاً ينظر إليه بابتسامة لطيفة وينقل له تحيات السيدة البهائية. تأثر جداً من نظراته ولطفه ودعاه للجلوس، ثم أخذ الضيف واسمه هارلان أوبر يكلّمه عن الأمر المبارك. 

سبق وأن كانت للسيد راندل تجاربه العملية مع الأديان، فقد ولد كاثوليكياً ثم أصبح عضواً في الكنيسة الأسقفية وبعدها اعتنق الثيوصوفية(جماعة تؤمن بالكشف الصوفي مع التأمل الفلسفي)، ثم درس العلوم المسيحية وأفكار الحركات الجديدة والأديان السابقة، ولذلك لم يكن لديه أي اهتمام الآن في دراسة دين جديد، إلا أن السيد أوبر استمر في حديثه عن الدين البهائي بكل مثابرة، ومع مرور الأشهر داوم أوبر على التردد إلى منزل راندل لإعطائه المزيد من المعلومات وحثّه على الدراسة والتفكُّر.

عندما قدِم حضرة عبد البهاء إلى بوسطن عام 1912م، توجّه هارلان إلى تلميذه المتردد وقال له: ‘أعتقد بأن عليك أن تذهب وترى حضرة عبد البهاء…’ لم يكن راندل راغباً في الذهاب ،إلا أنه وافق في النهاية وقرر أن يسمع محاضرة حضرة عبد البهاء في بوسطن. وبعد أن استمع إليها أقرّ في نفسه بأن حضرته رجل عظيم جداً وهو في الحقيقة قدّيس. 

وبينما كان راندل يهمّ بالخروج سمع أحد سكرتيري المولى يسأل: هل هناك من يتكرم بشراء عصير الكريب فروت لحضرة عبد البهاء لأنه مغرم به ويرغب في شرب القليل منه بعد محاضرته؟ فما كان من راندل إلا أن أجاب تلقائياً: يسعدني أن أحضره له. فذهب وأحضر ست زجاجات من العصير المطلوب من متجر يقع في زاوية الطريق. حملها إلى الفندق الذي ينزل فيه حضرته ودخل المصعد إلى الطابق العلوي. تمنى في نفسه أن يعطيها لغيره حتى يوصلها لأنه لا يريد أن يُقْحِم نفسه في الدخول، وحالما خرج من المصعد وجد نفسه بين مجموعة من الأحباء فحيّاهم وأخذ يجاملهم ببعض الكلمات وإذا به يلمح أحد سكرتيري المولى. سارع إليه على الفور وأعطاه الزجاجات.

وما هي إلا لحظات حتى وجد السكرتير يعود إليه حاملاً كوباً من العصير ويقول له: بما أنك كنت لطيفاً جداً وصاحب الفضل في إحضار هذا الشراب فأنت الأوْلى، يا سيد راندل، أن تقدّم هذا الكوب بنفسك لحضرة عبد البهاء الجالس في غرفته. تردد ولم يقبل الفكرة في البداية، وفي الوقت نفسه لا يريد أن يظهر بمظهر الشخص غير اللبق والمهذب، لذا وافق ولكنه صمم أن يضع الكوب على أول طاولة قريبة من الباب داخل الغرفة ثم يغادر بسرعة. 

أزاح الستارة عن الباب ورأى الطاولة المناسبة فتقدم بعض الخطوات ووضع الكوب عليها، وبينما هو يخرج مسروراً بتنفيذ خطته كونه لم يزعج المولى الذي كان لوحده في الجانب البعيد من الغرفة ويبدو مغمض العينين نائماً، إذ بالمولى يفتح عينيه وينظر إليه ويقول: ‘اجلس.’ شعر بأنه محرج إذا رفض، فجلس على أريكة موضوعة في منتصف الغرفة، ورأي حضرته يستقيم في جلسته ويغمض عينيه ثانية. بقي وليم راندل على هذه الحال بضع دقائق وبدأ يشعر بالانزعاج ثم الغضب في داخله وتعجّب: ‘ماذا يعني أن أجلس في محضر هذا الرجل الكهل وهو غارق في نومه!’ فكّر أن ينهض ويغادر، ولكنه عدل عن فكرته لأن حضرته طلب منه أن يجلس ولا يريد أن يكون فظاً فبقي جالساً في مكانه. بدأت رجلاه تتخدّران بل وإن جسمه أيضاً وكل شيء فيه آخذ في التيبُّس، وهو الرجل الذي يعتدّ بنفسه أمام الناس بأنه صلب ومتماسك وقت الحاجة’ وهو الآن جالس بلا حراك لا حول له ولا قوة. وبينما كان الغضب والغيظ يعتملان في نفسه أكثر وأكثر سمع صوتاً من داخله يقول له: لقد درستَ في كتب الديانات العظيمة في العالم، فماذا فَعَلتْ بك تلك الكتب؟ وأين تأثيرها إذا كنت لا تستطيع الجلوس في محضر رجل كبير في السن مدة عشرين دقيقة بكل هدوء ورباطة جأش وأنت الذي اعتبرته قديساً!؟

وبينما كانت كل هذه الأفكار تدور في ذهنه وتتحدى روحه، فتح حضرة عبد البهاء عينيه وقال: ‘إن حِدّة الذكاء والفطنة ممدوحة، وعندما تصبح خادمةً للقلب تغدو عندها نافعة ومفيدة.’ ثم ابتسم حضرته وسمح لضيفه بالمغادرة. لم يكن حضرة عبد البهاء نائماً بل مغمض العينين مفكراً.  

لن ينسى السيد راندل كلمات حضرته التي كانت له نقطة التحوّل في حياته.

112 ما يُقَدِّرُهُ الله

أثناء زيارة حضرة عبد البهاء إلى باريس تلقّت إحدى البهائيات رسالة تقول:

‘يجب أن تحذّري حضرة عبد البهاء من خطورة زيارته لمدينة…’

كانت الرسالة من أحد الأحباء الذي تَوقَّع أن يزور حضرته تلك المدينة، ولما كانت السيدة تثق بمن أرسل الرسالة فقد تملّكها الخوف والقلق وتوجهت إلى حضرته تخبره بمضمون الرسالة وما فيها من خطورة على حياته. 

ابتسم حضرته وقال: ‘يا ابنتي العزيزة، ألم تدركي بعد أنني لم أكن يوماً في حياتي قطّ بعيداً عن الأخطار، وأن منتهى سروري أن أغادر هذا العالم لألتحق بوالدي؟’ أجابته السيدة وهي مضطربة: ‘يا مولاي، لا نريدك أن تغادر العالم بهذه الطريقة.’ فأجابها: ‘لا تقلقي، ليس لهؤلاء الأعداء سلطان على حياتي إلا ما يقدّره الله من عليائه. فلو أراد لي أن يُسفك دمي في سبيله فذاك يوم مجيد أتوق إليه.’

بهذه الكلمات منح حضرته الأحباء مفهوماً جديداً لمعنى الإيمان، وحلّت فيهم قوة جديدة من الإيمان والثقة بإرادة الله. 

ذات يوم والأحباء مجتمعون في الحديقة إذا برجل غريب يدخل بينهم ليوجِّه إِخطاراً شديد اللهجة بأن حياة حضرة عبد البهاء ليست وحدها في خطر، بل وحياتهم هم أيضاً. فانبرى له أحد الأحباء بكل هدوء قائلاً: ‘إن القوة التي ستحمي حضرة عبد البهاء ستحمي خدّامه أيضاً، ومهما قلت وهدّدت فلن تُدخِل الخوف إلى قلوبنا.’

ذُهِل الرجل لما سمع ثم غادر ولم يتفوه بكلمة.

113 إنه... موجود

قبل مغادرة حضرة عبد البهاء باريس بيومين، وبينما كان حضرته مجتمعاً في منزله مع الأحباء، إذْ بسيدة تدخل مسرعة وتجلس وهي تلهث من التعب وأخذت تقول: ‘يا إلهي، كم أنا سعيدة أن آتي في الوقت المناسب، أتيت من أمريكا في رحلة عاجلة، وسأقصّ عليكم تفاصيل ما حدث لي.’

‘ذات صباح بادرتني ابنتي الصغيرة بسؤال غريب قائلة: يا أمي، لو كان المسيح موجوداً الآن في هذا العالم فماذا ستفعلين؟ أجبتها بلا تردد: سأستقلّ أول قطار وأذهب إليه مسرعة يا عزيزتي. فردّت قائلة: إنه موجود… موجود حقاً يا أمي.

‘شعرتُ حينها برجفة وبشيء غريب ينسلّ داخل أركاني وجوارحي بينما كانت طفلتي تردد تلك الكلمات. توجهتُ إليها بكل مشاعري وقلت: ماذا تعنين يا عزيزتي، وكيف تعرفين أنه موجود؟ أجابتني بسرعة وحماس: هو أخبرني بنفسه، فهو طبعاً موجود في هذا العالم.

‘ذهلتُ لِمَا سمعتُ وأخذتُ أرتجف أكثر وأكثر وشعرت أن كل شيء بداخلي يتحرك. تساءلت في نفسي: هل هي رسالة سماوية جاءتني على لسان ابنتي؟ صلّيت ودعوت الله أن يزيل عني هذا اللَّبْس ويهديني في خطاي.

‘في اليوم التالي وقفتْ ابنتي لتسألني مرة أخرى، وبدا لها أنني لم أتفهّم ما قالته لي يوم أمس، ولذلك لم ترَ مني أي تجاوب: أمي العزيزة، لماذا لم تذهبي لرؤية المسيح، لقد أخبرني مرتين أنه موجود في هذا العالم. نظرتُ بكل حيرة وقلتُ: يا طفلتي الناعمة، إن أمّك لا تعلم أين يوجد، فكيف لها أن تذهب لرؤيته. أجابتني: لا بدّ من طريقة … كوني واثقة.

‘في مساء ذلك اليوم اصطحبتُ طفلتي في مشوار خارج المنزل ولاحظت أنها كانت في منتهى السرور والسعادة. وبينما كنا سائرتيْن إذا بها تتوقف فجأة ثم تصرخ: ها هو، ها هو، إنه هناك!

‘كانت ترقص فرحاً واندهاشاً بما رأت. أشارت إلى نافذة حانوت من بعيد وقد عُلِّقت بداخلها صحيفة ظهرتْ فيها صورة رجل جليل وقالت لي: ها هو. فذهبتُ وابْتَعْتُ الصحيفة ووجدتُ فيها هذا العنوان. وبعدها أسرعتُ وركبتُ أوّل سفينة متجهة إلى هنا في تلك الليلة. وها أنا أجلس اليوم في محضره المقدّس ومعكم.’

114 قطعة النقود

بينما كان حضرة عبد البهاء يجلس مع الأحباء في قرية قرب لندن، أخذ الأطفال يتجمعون حوله وعلى وجوههم الاستغراب. لم يَرَوْا في حياتهم رجلاً مثله يلبس القفطان الطويل ويضع العمامة البيضاء على رأسه، وكم شعروا بالراحة أمامه وهو يبتسم إليهم بعينيه البراقتين. 

تقدّم من حضرته أصغر الأطفال واقترب منه حتى لامس رداءه. مدّ حضرته ذراعه ورفعه وعانقه، واستمر يفعل ذلك مع جميع الأطفال، وكل طفل ينزل عن يديه كان يجد في يده قطعة من النقود قيمتها ستة بنسات. 

أسرع الأطفال إلى منازلهم ليخبروا والديهم بذلك الرجل المقدس. ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأت العائلات الفقيرة تتوافد على المنزل لرؤية حضرته. رحّب بهم وتحدّث إليهم وواساهم وأعطى كل واحد قطعة نقود بستة بنسات. 

في الساعة التاسعة من مساء ذلك اليوم جاء رجل فقير يحمل طفله على ذراعه ويسير بجانبه بقية أطفاله. سار في الحديقة متجهاً نحو المنزل، فأرادت صاحبته ألا تزعج حضرته برؤية المزيد من الناس في ذلك اليوم لأنها تعلم بأنه تعِب وبحاجة إلى الراحة، ورغبت أيضاً بألا يصرف حضرتُه المزيدَ من النقود. قابلت السيدةُ الرجلَ وأخبرته بأن حضرة عبد البهاء قد آوى إلى فراشه الآن ويشعر بالتعب الشديد ولا يستطيع مقابلة أحد وربما يقابله في وقت آخر. 

شعر الرجل بحزن شديد وخيبة أمل لأنه مشى مع أطفاله حوالي تسعة كيلومترات لرؤية حضرته ولا يستطيع في النهاية أن يراه! بالطبع كانت نيّة السيدة طيّبة ولم تقصد أن تؤذي مشاعر الرجل، ومن فرط حبها لحضرته تصرّفت على هذا النحو. إلا أن حضرته لا يريد من أحد أن يحجبه عن الناس خاصة مَنْ كان منهم يعاني قسوة الحياة وما يشعر به من حزن. فهو يحبّهم ويريد أن يساعدهم. 

سمع حضرة عبد البهاء، من داخل البيت، ما كان يدور بينهما من حديث، فخرج وتقدّم من الوالد الفقير وأطفاله ثم عانقهم وكلّمهم بكل لطف ومحبة وأعطاهم النقود مثل غيرهم. غادروا وهم سعداء مسرورون لأن قلوبهم قد امتلأت من محبة حضرته وأيديهم بالنقود. 

115 العلاج الروحاني

في خطبة قصيرة له في نيويورك تحدث حضرة عبد البهاء قائلاً:

لا شكّ تعلمون أن المرضى يتألمون ويتوجّعون، لذا فإنه من الواجب علينا أن نزورهم ونواسيهم ونخفف عنهم بكلمات المحبة والعطف والتشجيع. فزيارتنا لهم أكبر مساعدة في إدخال السعادة إلى قلوبهم، والسعادة هي الشافي الأكبر لأولئك الذين يعانون من المرض وآلامه. من عادة أهل الشرق أن يزوروا المرضى فُرادَى لمواساتهم والتعبير عن عواطفهم ومحبتهم للمريض، لأن ذلك له تأثير أعظم من الدواء نفسه. عليكم أنتم أيضاً أن تتحلّوا بروح المحبة والعواطف المؤثرة عندما تزورون المرضى والحزانى.

وفي مناسبة أخرى تفضل:

إن حضرة بهاء الله هو الطبيب الحقيقي، وهو الذي عرف أمراض البشرية في هذا العصر فوصف لها العلاج الشافي. إنّ أهم مبادئ علاجه هو معرفة الله معرفة حقيقية، ثم محبته وطاعته والانقطاع عن كل شيء آخر متوجهين نحو ملكوت الله بإيمان راسخ وعزيمة قوية، وإظهار اللطف والمحبة لجميع مخلوقاته، والتحلّي بالفضائل الإلهية التي وهبها الله للعالم الإنساني. هذه هي المبادئ الأساسية نحو الترقّي والتقدّم، ونحو الحضارة والسلام العام، ووحدة الجنس البشري، وهي جوهر تعاليم حضرة بهاء الله، وسرّ الصحة الأبدية والعلاج الشافي لأمراض الإنسان.

* * *

“كنْ في النعمة منفقاً وفي فَقْدِها شاكراً وفي الحقوق أميناً وفي الوجه طلْقاً وللفقراء كنزاً وللأغنياء ناصحاً وللمنادي مُجيباً وفي الوعدِ وفيّاً وفي الأمور مُنْصِفاً وفي الجَمْعِ صامتاً وفي القضاء عادلاً وللإنسان خاضعاً وفي الظُّلمة سِراجاً وللهَموم فرجاً وللظمآن بحراً وللمكروب ملجأً وللمظلوم ناصراً وعَضُداً وظهْراً وفي الأعمال مُتَّقِياً وللغريب وطناً وللمريض شفاءً وللمستجير حِصْناً وللضرير بَصَراً ولمن ضَلَّ صراطاً ولِوجْهِ الصدق جمالاً ولهيكل الأمانة طِرازاً ولبيت الأخلاق عرشاً ولجَسَدِ العالم روحاً ولجنود العدل رايةً ولأُفُقِ الخير نوراً وللأرض الطيبة رذاذاً ولبحرِ العلْمِ فُلْكاً ولسماء الكَرَمِ نجْماً ولرأس الحكمة إكليلاً ولجبين الدهرِ بياضاً ولشجر الخشوع ثمراً.”(30)

30. "منتخباتي از آثار حضرت بهاء الله"، ص 182.

116 مائدة سماوية

تكلم حضرة عبد البهاء إلى الأحباء في فيلادلفيا بأمريكا عن الضيافة التسع عشرية التي هي بمثابة أساس حياة الجامعة البهائية روحياً، وهي التي تقام في بداية كل شهر بهائي، مشدداً على هذه المناسبة الهامة بقوله: 

كل واحد منكم عليه أن يفكّر كيف يُدخل السرور إلى قلب الآخرين جميعاً، وعليه أيضاً أن يعتبر جميع الحاضرين أفضل وأعظم منه، وأنه أقل منهم جميعاً، وأن منزلتهم أعلى منه. فإذا وُفّقْتم وعشتم مع بعضكم البعض على هذا النحو ثِقوا تماماً بأن الضيافة ستغدو مائدة سماوية، وأن طعامها طعام إلهي، وأنا خادم ذلك الجمع. 

117 حفلة ذِكْرَى الميلاد

جولييت ثومبسون هي إحدى البهائيات المخلصات في أمريكا. قررت مع بعض الأحباء أن يحتفلوا بذكرى ميلاد حضرة عبد البهاء، فأعدّ بعضهم أطباق الكعك اللذيذة. كتبت جولييت تخبرنا بما حدث:

ركبنا في عدة سيارات إلى منطقة برونكس وكان حضرته في السيارة الأولى. وصلنا مكان الاحتفال في متنزّه قريب. ترجّل حضرته من سيارته ومشى نحو المتنزّه. شاهدنا صِبْية يتجمعون ويتقدّمون نحوه، وتجاسر اثنان أو ثلاثة منهم ورموه بالحجارة. من الطبيعي في تلك الحالة أن نسرع نحوه لنحميه، لكنه طلب منا ألا نقترب. اقترب الصبية أكثر وأخذوا يتكلمون بعبارات السخرية والاستهزاء حتى أنهم شدّوه من طرف ردائه. لم يتأثر حضرته من فِعل الصبية بل ظل يبتسم لهم بوجهه المنير، ولكنهم ظلوا على سلوكهم السئ. 

أخيراً التفت حضرته إلى الأحباء وقال لهم: ‘أعطوني الكعك.’

لم يذكر له أحدنا أننا أعددنا كعكاً، فأجاب بعضنا: ‘ولكن الكعك لحفلة عيد ميلادك يا مولانا.’ إلا أنه عاد وكرر: ‘أعطوني الكعك.’

تقدّم أحدنا وكشف الغطاء عن كعكة كبيرة مزينة بطبقة من القشطة المحلاّة وقدّمها لحضرته.

حالما شاهد الصبية قالب الكعك أخذوا يهدأون وركزوا أنظارهم عليه مذهولين. نظر حضرته إلى الكعك بكل سرور وتجمّع الصبية حوله بغاية الهدوء والسكون، ثم طلب سكيناً وقطع به القالب قطعاً بعدد الصبية، وقدّم لكل منهم قطعته التي أخذها بكل شوق وأكلها بلذّة وسرور، ثم غادر الصبية وهم في غاية الفرح والسعادة، وسعادة المولى كانت أكبر.

118 البساطة

كان زوج إميليا كولنز، وهو بهائي أمريكي مخلص، شخصاً اجتماعياً ناجحاً، فكان باستطاعته أن يشترك في أي حديث أو نقاش بكل سهولة وطلاقة لسان. إلا أنه حدث ما لم يكن يتوقعه. 

 فقبل أن يتوجّه إلى بيت حضرة عبد البهاء في أول زيارة له، لبس أحسن ثيابه ووضع ربطة عنقه بكل دقة واتقان، ولما اطمأن تماماً إلى حسن مظهره سأل زوجته: ‘كيف يجب أن نتصرّف عندما نصل إلى البيت المبارك؟’

كم كانت دهشته كبيرة عندما أجابته: ‘لا شيء يا عزيزي، لن تجد عند عائلة حضرة عبد البهاء سوى البساطة المتناهية ولن يكون مقبولاً لديهم إلا المحبة القلبية الخالصة.’

119 درس لن أنساه

بعد سنوات على صعود حضرة بهاء الله وحصول حضرة عبد البهاء على حريته في التنقّل خارج عكاء، بدأ الأحباء من جميع أنحاء العالم يفِدون إلى الأرض الأقدس لزيارة حضرته والأماكن المقدسة في حيفا وعكاء وخاصة منهم أحباء الغرب، ومن ضمنهم ماي بولز ماكسويل التي تشرفت بالزيارة عام 1899م وكتبت انطباعاتها في كلماتها التالية:

‘في الأرض الأقدس، حيث يهبُّ النسيم العليل فيحمل إلينا عَبَقَ الورد والزهور ورائحة زهر البرتقال، وجدتُ هناك حضرة عبد البهاء الذي ملأ روحي وقلبي بمحبته وحكمته ولطفه الذي لا يعرف الحدود.

‘في عكاء رأيت أن العائلة المباركة وقد أخلت غُرَفَها الخاصّة لتوفِّر الراحة للمسافرين الزائرين، وفي كل صباح اعتاد حضرة عبد البهاء أن يَطْمئِنَّ على صحة الزائرين وسعادتهم، وفي المساء يتمنّى لهم نوماً هادئاً وأحلاماً سعيدة. مرّت ثلاثة أيام لم نسمع فيها سوى ذكر الله. لم أَعِشْ حيات ي في أي مكان آخر بمثل تلك السعادة، ولم أسمع بمثله باعثاً على الفرح والسرور. كان حضرته لا يريد أن يسمع بكاءً أو يرى دموعاً تنهمر في بيته. وفي إحدى المناسبات رجا بعضَ الزائرين، الذين أخذوا في البكاء بما شعروا به من فرح روحي، أن يكفّوا عن البكاء إكراماً لخاطره. كان لا يبدأ حديثه ونصائحه إلا عندما يكون الجميع في حالة من النشوة الروحية والسرور.

‘أن تكون في محضر حضرة عبد البهاء فتلك هي الحياة الحقيقية. إنها السعادة والبركات، وهذا درس تعلّمناه وتعلّمنا أيضاً أن محضره نارٌ مطهِّرة. فزيارة الأرض الأقدس تعمل على تطهير الأرواح من كل سوء. لا شيء يمكنه أن يتحكم في أسلوب أقوالنا وأفعالنا سوى المحبة، وهذا ما شاهدْتُهُ في غرفتي ذات مساء مع اثنتين من السيدات، حيث أخذتُ أتكلّم عن أخطاء أحد الأحباء، وكنت أراها أخطاءً حقيقية، فأطلقتُ العنان لسواد قلبي في ذكر مساوئ ذلك الحبيب. وبينما كنّا كذلك في نشوة النفس الأمارة بالسوء، إذا بحضرة عبد البهاء يدخل عائداً من زيارته لفقير مريض. نادى فوراً على والدتي الروحانية لِوا والتي كانت تشاركنا الجلوس في الغرفة، وأخبرها بأنه أثناء غيابه أخذتْ إحدى خادمات أمر الله تتكلم بما لا يليق بحق أحد الأحباء، وقد أحزن قلبه أن يجد بين الأحباء مَنْ لا يحبّون بعضهم ويستغيبون الآخرين، وطلب من لِوا أن تتلو المناجاة.

‘بعد قليل توجّهنا جميعاً لتناول طعام العشاء، ولم يدرك قلبي القاسي بعدُ جسامةَ ما ارتكبتُه من ذنب إلا بعد أن وقَعَتْ عيناي على وجه حضرته. رأيت في عينيه عوالم لا حدود لها من العطف والمودّة والمحبة، وبتلك الطريقة المدهشة كلّمني بعينيه، ووجدت أمام تلك المرآة الصافية تجلس نفسي البائسة، فما كان مني إلا أن أجهشت بالبكاء. سمعني بل ورآني ولكنه لم يلتفت إليّ واستمرّ الجميع يتناولون الطعام، وأنا بقيت غارقة في دموعي لأرى من خلالها ذنوبي وخطاياي. التفتَ إليّ بعد ذلك وابتسم ثم نطق اسمي عدة مرات وكأنه يناديني لأقترب منه. 

‘في تلك اللحظة الجميلة غمر حضرته روحي بالسعادة، واستراح قلبي بشعلة الأمل التي لا تُطفأ، وأدركتُ تماماً بأنه كان يطهّرني من جريراتي وخطاياي.

 

120 المُبَلِّغُ الصَّغير

عندما كان حضرة عبد البهاء في شتوتغارت بألمانيا عام 1913م، وبينما هو مجتمع مع الأحباء هناك رجع بذاكرته إلى الوراء وتذكّر أيام طفولته وتفضل قائلاً:

‘كم هو جيد أن تكون مبلّغاً لأمر الله وأنت طفل. كنتُ مبلّغاً وعمري ثماني أو تسع سنوات، وأنا الآن أتذكر القصة التالية:

‘عرفتُ شخصاً كان على درجة عالية من العلم، وكان عليّ أن أُبلِّغه أمر حضرة بهاء الله. وذات يوم أحضره لي أخوه. جلستُ وأخذتُ أتكلم معه عن الدين وتعاليمه، وبعد أن انتهيت أخبرني بأنه غير مقتنع بكل ما قلته. لم أكن أتوقع منه هذا الجواب أبداً، فقلت له : إذا قدّمنا الماء لشخص عطشان فسيأخذه بكل لهفةٍ وسرور، أما أنت فلستَ عطشاناً، لأنك لو كنت كذلك لارتويتَ وأبديتَ سرورَك. فالإنسان العادي يرى الأشياء من حوله بعينه، فلو تكلمتَ له عن الشمس لقال لك إنها علامة طلوع النهار، أما الشخص الأعمى فلا يمكنه أن يقتنع بوجود الشمس لأنه لا يراها. فلو طلبتَ من شخص أن يستمع إلى قطعة موسيقية جميلة لاستمع إليها واستمتع، أما إذا عزفت أجمل الألحان أمام شخص أصمٍّ فلن يسمع أو يستمتع. والآن اذهب واحصل على آذان للسمع وعيون للبصر حتى أستطيع أن أتكلم معك.

‘ذهب الرجل وغاب مدة من الوقت ثم رأيته يعود ثانية. وجدته في هذه المرّة مستمعاً جيداً، فأدرك كل ما قلته له وآمن بالأمر المبارك بعد ذلك وأصبح بهائياً مخلصاً ثابتاً.

‘نعم، لقد حدث هذا في طفولتي المبكرة.’

121 المُبَلِّغُ النَّاجح

عندما كان حضرة عبد البهاء في مدينة دنفر بأمريكا عام 1914م، كتب للأحباء هناك موضحاً لهم كيف يجب أن يكون عليه المبلِّغ في تقديمه رسالة حضرة بهاء الله، فتفضل قائلاً:

‘على المبلِّغ أن تتوفر فيه أمور ثلاثة حتى ينجح في تبليغ أمر الله: مقدرة على معاشرة الناس والاختلاط بهم وكسب صداقتهم، وأفعال طيبة طاهرة، ولسان دافئ حلو لطيف. آمل أن يتحلّى كل واحد منكم بهذه المواهب والصفات.’

وفي مناسبة أخرى تكلم إلى الأحباء في نيويورك، الذين كانوا ينوون الذهاب إلى مدرسة غرين إيكر (Green Acre) في ولاية مين (Maine) لحضور مدرسة صيفية هناك، وتفضل قائلاً:

‘يجب أن تقدّموا الأمر المبارك لعامّة الناس من خلال أفعالكم. عليكم أن تحبوا أصدقاءكم أكثر من أنفسكم. نعم، كونوا مستعدّين أن تضحّوا بأنفسكم، فرسالة حضرة بهاء الله لا تزال غير معروفة في هذا البلد، أملي كبير أن تضحّوا بكل شيء من أجل الآخرين ولو لزم الأمر بحياتكم نفسها. عند ذلك أُدرك تماماً أن أمر حضرة بهاء الله قد ترسّخت أركانه وثبتت. أدعو لكم أن تكونوا مشاعل نور الله في الوجود حتى يشير إليكم كل واحد ويقول: لماذا هم سعداء؟ أريدكم أن تكونوا سعداء في غرين إيكر. اضحكوا وسُرُّوا حتى تُسْعِدوا غيركم.’

وفي مناسبة أخرى كتب يقول: ‘على المبلّغ أن يراعي الاحتياجات المادية والجسمانية للمستفسرين عن الأمر الإلهي.’

وهذا ما كان واضحاً في أحاديث حضرته وكلماته التي كان يُلقيها في المجتمعين، فلم يتكلم عن الله سبحانه وتعالى وتعاليم الحق لشخص جائع يحلم بالطعام. بل علينا أن نطعمه أولاً. 

لكل كلمة روح، لذا على المتكلم والمبيّن مراعاة ظروف الزمان والمكان في إلقاء تلك الكلمة. حيث إن لكل كلمة أثرها الموجود المشهود…(31)

31. "لوح مقصود" في "مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله"، ص 153، مترجم. (الطبعة 1980).

122 الربيع الإلهي

سُئل حضرة عبد البهاء مرة: ‘ماذا سأقول للمسيحي الذي يقول بأنه مقتنع بدينه وليس بحاجة إلى أن يؤمن بدين جديد؟’ فأجاب حضرته بكل وضوح: ‘دعه وشأنه إن لم يقتنع. ماذا سيفعل الناس لو أن ملكاً جديداً قد اعتلى العرش؟ بالطبع سيعترفون بالملك الجديد، ولو أنكروه لن يكونوا مواطنين صالحين ومخلصين للمملكة. وكأنك تقول: لا يلزمني ربيع آخر في هذه السنة، فربيع السنة الماضية كافٍ لي. إن الأمر ليس كما يتصورون، فالربيع الجديد آتٍ بالتأكيد ليملأ الأرض بالجمال والإشراق ولا تستطيع أية قوة أرضية أن تمنعه.’

123 قُوَّةُ التَّأييد

كان حضرة عبد البهاء، في حياته وأسلوب تعامله مع الناس، الدافعَ الأعظم للأحباء في بذل كل جهدهم حتى يكونوا أفضل وأفضل دائماً. فليسوا هم الذين ينظرون إلى سيئات الآخرين وأخطائهم بل عليهم أن ينظروا إلى نقائص أنفسهم ليتخلصوا منها من أجل نموّهم الروحاني. تفضل حضرته قائلاً: ‘لا تنظروا إلى ضعفكم بل إلى قوة الله التي أحاطت الأديان كلها.’ فهي نصيحته التي كررها عدة مرات: ‘لا تنظروا إلى ضعفكم بل توكلوا على تأييدات الروح القدس. إنها تجعل الضعيف قويّاً، والوضيع عظيماً، والطفل ناضجاً، والرضيع بالغاً، والصغير كبيراً.’ وأضاف قوله: ‘عليكم أن تثقوا بفضل الله وعنايته، لا تنظروا إلى قدراتكم لأن المواهب الإلهية تحيل القطرة إلى محيط، والبذرة إلى شجرة باسقة.’

كان حضرة عبد البهاء طبيباً نفسياً سامياً، فقد علّمنا ألا نلتفت إلى ضعفنا وخذلاننا، بل يجب أن نركّز اهتمامنا على إرادة الله ومشيئته التي سوف تؤيدنا في أعمالنا ومجهوداتنا بينما نحن نقدم الدواء الذي أتى به حضرة بهاء الله لشفاء العالم من عِلَلِهِ وأمراضه.

124 سِرُّ الدُّعاء

في رسالة بعث بها أحد الأحباء في أمريكا إلى حضرة عبد البهاء يسأله فيها عن أهمية الدعاء وهل هو ضروري. وقد جاء في الرسالة: 

‘لماذا ندعو إلى الله، وما حكمة ذلك ما دام الله قد خلقنا وقدّر لنا كل شيء ضمن مشيئته بأحسن نظام، ووضع كل شيء في مكانه بأفضل ترتيب؟ فهل يحتاج الإنسان بعد ذلك إلى بيان حاجاته طلباً لعون الله الذي يعرف مكنونات أنفسنا؟’ فكتب له حضرة عبد البهاء يقول:

‘اعلم أن الضعيف يلزمه أن يتوجّه إلى الله القوي القدير، وطالبُ الحاجة أن يطلبها من الوهاب العظيم. وحينما يتضرع الإنسان إلى ربه فإنه يتوجّه إليه بقلب منكسر متذلل محتاج ملتمس الفضل والإحسان من بحر رحمة ربه المتعال، هذا التضرع بحد ذاته يجلب النور إلى القلب فتتنور بصيرته وتنتعش روحه ويسمو بوجوده.

‘ولذلك فإنك عندما تتوجه إلى الله بدعائك المخلص وتقول: يا إلهي اسمك شفائي. تصوّر عندها مقدار ابتهاجك وسرور قلبك وانشراح نفسك بالنفحات الهابّة من حبّك لله، ومدى انجذاب عقلك إلى ملكوت الله! وبهذا الانجذاب تزداد قابلية الإنسان ويكبر استعداده. فكلما اتسع الإناء ازداد الماء، وكلما زاد العطش هطلت أمطار سحاب رحمة الله عذبةً حلوةَ المذاق. هذا هو سرّ الدعاء والابتهال وحكمة توسّلات الإنسان لنيل مراده.’

وفي مقام آخر يقول: ‘إن الله مجيب دعاء من يدعوه بحُرقة وإلحاح.’

* * *

 

إِلهِي إِلهِي، هَذَا طَيْرٌ كَلِيلُ الجَنَاحِ بَطِئُ الطَّيَرَانِ أَيِّدْهُ بِشَدِيدِ القُوَى حَتَّى يَطِيرَ إِلَى أًوْجِ الفَلاحِ وَالنَّجَاحِ، وَيُرَفْرِفَ بِكُلِّ سُرُورٍ وَانْشِرَاحٍ فِي هَذَا الفَضَاءِ، وَيَرْتَفِعَ هَدِيرُهُ فِي كُلِّ الأَرْجَاءِ بِاسْمِكَ الأَعْلَى، وَتَتَلَذَّذَ الآذَانُ مِنْ هَذَا النِّدَاءِ، وَتَقَرَّ الأَعْيُنُ بِمُشَاهَدَةِ آيَاتِ الهُدَى. رَبِّ إِنِّي فَرِيدٌ وَحِيدٌ حَقِيرٌ لَيْسَ لِي ظَهِيرٌ إِلاَّ أَنْتَ وَلاَ نَصِيرٌ إِلاّ أَنْتَ وَلاَ مُجِيرٌ إِلاَّ أَنْتَ. وَفِّّْقْنِي عَلَى خِدْمَتِكَ، وَأَيِّدْنِي بِجُنُودِ مَلاَئِكَتِكَ، وَانْصُرْنِي فِي إِعْلاَءِ كَلِمَتِكَ، وَانْطِقْنِي بِحِكْمَتِكَ بَيْنَ بَرِيَّتِكَ. إِنَّكَ مُعِينُ الضُّعَفَاءِ وَنَصِيرُ الصُّغَرَاءِ وَإِنَّكَ أَنْتَ المُقْتَدِرُ العًزِيزُ المُخْتَارُ.  ع ع(32)

32. مكاتيب عبد البهاء، الجزء الثالث، ص 52–53، (طبعة 1921).

125 الوجه الضَّحُوك

كان حضرة عبد البهاء يريد من الجميع أن يكونوا سعداء، ليس لأن عليهم أن يعيشوا حياة روحانية فحسب، بل لأنهم وهم سعداء يمكنهم أن يُدخِلوا السعادة إلى قلوب الآخرين. ولذلك أخبر إحدى بناته، وهي تغادر لمرافقة عمتها في إحدى سفراتها، بأن عليها أن تكون رفيقة تشع من وجهها البهجة والسرور.

كان حضرته يحب الضحك كثيراً، لأنه غالباً ما كان الضحك مصدر عزائه. لاحظه أحد الأحباء وهو يضحك من أعماق قلبه كيف كان يُمسك بطرف قفطانه بيده ويضمّه إلى جسمه من نشوة فرحه وسروره، وأقل نادرة (نكتة) كانت تحدث بيننا كان يبتسم لها.

عندما كان حضرته في رحلته بأمريكا زارته ماي ماكسويل وابنتها الصغيرة ماري، التي أصبحت زوجة حضرة شوقي أفندي فيما بعد وسمّاها روحيه خانم، وكانت معها جولييت ثومبسون، قضوا جميعاً وقتاً ممتعاً بمحضر حضرته، وفي نهاية الزيارة توجهت جولييت لحضرته وسألته: ‘هل أزعجناك، ألم يحِنْ وقت مغادرتنا؟’ فأجابها: ‘لا، بل ابقيْنَ، كنتنَّ مصدر راحة لي لأنكنَّ أدخلتنَّ السرور إلى قلبي بالضحك.’

وفي إحدى المناسبات بدا على وجهه الضحك وهو يفكر بإحدى النوادر وكأنه يهُمُّ في سردها، فرجاه الأحباء أن يسردها لهم فأجابهم: ‘لا، لا أقدر. فكلما هممت في سردها أغرق في الضحك، ولذلك لا أقدر.’

126 الضَّحِكُ يُزيلُ الألم

حظيت سيدتان بهائيتان بمقابلة حضرة عبد البهاء في نيويورك وهما مارغريت وإلاّ كوانت، فكتبت إحداهن عن تلك المناسبة قائلة: 

‘أخبر حضرتُه مارغريت بأنه قد دعا لوالديها اللذيْن توفيا قبل عدة أشهر. فاغرورقت عيناها بالدموع وسالت على خدّيها وكذلك أنا، فما كان من المترجم إلا أن التفت إلينا وهزّ رأسه وأخبرنا بصوت خافت بأن علينا ألا نبكي في محضر حضرته لأن ذلك سيجعله حزيناً. وبالفعل عندما رفعتُ رأسي لأراه وجدتُه حزيناً من أجلنا وليس حزيناً في نفسه. وبيدين حانيتيْن أحاطنا كما يحيط الطائر فراخه في العش بجناحيه وتفضل بالإنكليزية قائلاً: اضحكا… اضحكا.

‘لن أنسى في حياتي ذلك الصوت الرنان. كان قوياً ينبض بالحياة. رأيت في ذلك الصوت قوة السماء وهي تهزم كل القوى السلبية في الوجود. إن في طاعتنا لأمر حضرة بهاء الله سنجد سرور الحياة الأبدية. فالمولى المحبوب يدعونا إلى الضحك في وقت من الضيق كهذا!! إنه أمر يجب ألا يدعو إلى الاستغراب عندما يدرك الفرد بأن حضرته قد وجد في الموت رسول البهجة والسرور. 

127 تأثير كلمات حضرة عبد البهاء وأفعاله

كتب أحد الصحفيين عن حضرة عبد البهاء بأن حضرته قد شبّه الدين البهائي بالحديقة عندما قال: 

‘عند باب الحديقة ترى أناساً واقفين ينظرون إلى ما بداخلها وليس لهم اهتمام بدخولها، وآخرين دخلوا ووقفوا ونظروا دون أن يتفحصوا ما فيها، وغيرهم واقفين في محيطها يستنشقون عبير أزهارها ويستمتعون بجمالها الفتّان ثم يرجعون من الباب الذي دخلوه. ولكن هناك دائماً من يدخلها ويثْمُلُ بكل ما فيها من جمال ورائحة وروعة ويتمنى ألا يفارقها وأن يقضي حياته بداخلها. 

‘لقد فتح حضرة بهاء الله باب حديقة الله أمام الجميع ومهّد الطريق إليها أمام الراغبين في تتبّع خطواته نحوها. فلا أحد بالتأكيد بمقدوره أن يقدّر ذلك التأثير الكلي الذي أحدثته حياة حضرة عبد البهاء كمَثَلٍ أعلى لأَعْدادَ كبيرة من الناس، أصدقاءً كانوا أم أعداءً على السواء. 

التفت مرة حضرة بهاء الله إلى علي محمد ورقاء قائلاً : ‘انظر المولى عبد البهاء، كم هو تأثير كلماته وأفعاله عظيماً في الوجود، لاحظ وتمعّن كيف أنه جابَهَ كل الرزايا والمحن وثبت أمام عواصفها وأمواجها العاتية بكل ما في فطرته من صبر وتحمُّل ولطف وكرم وشفقة.’

فكم هم الذين يكنّون له كل الاحترام والتبجيل! 

كتبت جولييت ثومبسون، البهائية المخلصة تقول:

‘عندما يتمشى حضرته بين الناس بجمال طلعته الأخّاذ وقوته التي تتألق مضاءً وعزيمة، وعينيْه النفّاذتيْن إلى أعماق الطبيعة البشرية، تراه هديةً سماويةً أبديةً تسمُو فوق هذا العالم الترابي.

وقال الشاعر جبران خليل جبران واصفاً حضرته بقوله: ‘نظرت فشاهدت أمامي لأول مرة صورةً فيها من النُبْل ما يمكّنها أن تكون محطّ تجلي الروح القدس.’

ذهب مُلْحِدٌ يوماً ليستمع إلى كلمات المولى، ورآه مرة ثانية عندما زار حضرته في منزله، ولما سُئل المُلحد: ‘هل شاهدت عظمة حضرة عبد البهاء؟’ أجاب: ‘وهل يمكنك أن تلمس عظمة شلالات نياغارا؟’ كل من كان يلتقي بحضرة عبد البهاء كان يراه بحدود قدرته وقابليته. فنسمع امرأة أخرى تقول: ‘جمال كهذا، جمال في الطلعة والقوة إنما هو ساحر حقاً. لماذا؟ لأنه الرجل الكامل في هذا العالم.’

وقالت سيدة أخرى تحدثَتْ إليه كثيراً: ‘لا يمكنك أن تُخفي عنه شيئاً، فقد نظر إلى أعماق قلبي واكتشف ما فيه من أسرار.’

وامرأة أخرى غرقت في أحزانها وهي تمرّ في محنة قاسية كتبت تقول: ‘لقد خلّصني من كل أحزاني.’ وكاتب مسرحية مشهور أعلن، وهو خارج من غرفة حضرة عبد البهاء: ‘كنت في محضر الإله.’ وكتب موظفٌ حكومي مرموق في الولايات المتحدة بعد لقائه بالمولى وهو يتلمّس الكلمات المناسبة ليعبّر عن مشاعره فقال: ‘شعرت وكأنني في محضر نبيٍّ عظيم، لا بل في محضر المسيح، بل إنني شعرت وكأنني في محضر الأب السماوي.’

أما السفير التركي ضياء باشا، وهو مسلم ورع، فعندما أخبروه بظهور حضرة بهاء الله سَخِر من فكرة رسول جديد، إلا أنه عندما كان حضرة عبد البهاء في واشنطن قابله ضياء باشا في السفارة الإيرانية هناك بدعوة من علي قلي خان وزوجته، وفي وقت لاحق دعا ضياء باشا بعض الشخصيات إلى عشاء في السفارة التركية على شرف حضرة عبد البهاء، وأثناء العشاء نهض السفير وهو يقابل حضرته والدموع في عينيه واصفاً إياه بأنه ‘نور العصر، والذي جاء لينشر بيننا مجده وكماله.’

وفي مناسبة أخرى حاوَلَت امرأة سورية في بوسطن أن تخترقَ صفوف الناس المتجمهرين حول حضرته إلى أن وصلت إليه ثم ارتمت على أقدامه وقالت : ‘أعترف أن به رأيت وأدركت روح الله وروح المسيح نفسه.’

وامرأة سويسرية رأت صورة حضرة عبد البهاء لأول مرة، فحملتها بين يديها وهي تبكي وتقول: ‘يا إلهي، إنه وجه الرب الرؤوم الرحيم.’ ثم أجهشت بالبكاء. 

لم يكن حضرة عبد البهاء بالطبع رسول الله ولا هو الآب، لأنه لم يدّعِ يوماً بأنه كذلك. فمقامه فريد مميّز. هو سرّ الله، ولهذا يرى الناس فيه شيئاً غير عادي يصعب وصفه بكلمات. 

128 التواضع

لم يكن تواضع حضرة عبد البهاء نابعاً من ضعف أو استكانة. فعندما سأله أحد الأطفال لماذا تصبّ جميع أنهار العالم في المحيطات أجابه: ‘لأن المحيط أوطأ منهم كلهم وبذلك يمكنه أن يحظى بجميع ما في الأنهار.’
* * *
“وأما ما سألت عن الفِطْرة فاعلم بأن كل الناس قد خُلِقوا على فِطرة الله المهيمن القيُّوم، وقُدِّرَ لكل نفس مقادير الأمر على ما رقم في ألواح عزّ محفوظ، ولكن يظهر كل ذلك بإرادات أنفُسكم كما أنتم في أعمالكم تشهدون…”(33)

33. "منتخباتي از آثار حضرت بهاء الله"، ص 101.

129 الهدية الثمينة

كتب هوارد إيفز يقول:

‘في جميع فرصي المتعددة بلقائي بحضرة عبد البهاء والاستماع إليه أو التكلم معه كنت متأثّراً جداً على الدوام خاصة بأسلوب تبليغه الأمر المبارك… ما كان أبداً ليحاول أو يصرّ على نقطة محددة. كان يترك المخاطَب حراً طليقاً في تفكيره، ولم يُشعرْك يوماً بأي سلطة أو تسلّط، ولا كان في تواضعه مدّعياً. كان يبلّغ الرسالة وكأنه يقدّم هدية ثمينة إلى ملك. لم يقل لي يوماً ماذا عليّ أن أفعل، وكان يُثني على اقتراحاتي، ولم يوجّهني إلى ما عليّ أن أومن به. فقد جعل من الحقيقة والمحبة شيئاً ملكوتياً سامياً جميلاً تعشقه القلوب بلا إرادة. فأراني كيف يجب أن أكون عليه في حياتي من خلال صوته وحركاته ومشيته وابتسامته، وجعلني أدرك أن ثمار الأقوال والأفعال الطيبة لا تأتي إلا من النفوس الطيبة الطاهرة. 

130 عقد اللؤلؤ

كانت لحضرة عبد البهاء طريقة سهلة في تحويل أي نقاش إلى حديث مفيد له معنى، فكان يبدأ حديثه بإشارة بسيطة إلى شيء من الطبيعة؛ إلى الطقس، الطعام، الحجر، الشجر، الماء، الحديقة، الطيور أو بعض جوانب الخدمة الإنسانية، ومنها ينطلق إلى قصة رمزية تحمل معانٍ أخلاقيةً وتعطي درساً في الحكمة والبساطة مبيّناً فيها وحدة الحقيقة الروحية ويربطها دائماً بالحياة؛ حياة الفرد والعالم الإنساني على السواء. فكل كلمة منه كانت موجّهة نحو مساعدة الناس على العيش في نهج سليم. وما لم يتعرّض حضرته لأسئلة حول مسائل دينية، كان نادراً ما يتطرق إليها في حديثه. فكلماته كانت تخرج ببساطة وبكل وضوح كأنها عقد لؤلؤ ثمين.

“انشر نفحات ربّك في الأطراف ولا تَوَقَّفْ في أمره أقل من آن، سوف يأتي نُصْرة ربكَ الغفور الكريم…”(34)

34. "منتخباتي أز آثار حضرت بهاء الله"، ص 35.

131 أيام الحرب القاسية

كانت الفرحة لا توصف برجوع حضرة عبد البهاء سالماً إلى حيفا في شهر كانون الأول من عام 1913م عائداً من رحلته الميمونة إلى أمريكا التي قضى فيها مائتين وتسعة وثلاثين يوماً، فكان عليه بالطبع أن يقابل أفواج المهنئين من الأحباء وغيرهم، إلى جانب ذلك الواجب الأعظم؛ الرد على جميع الرسائل الواردة من جميع المناطق التي زارها يسأل فيها الأحباء نُصْحَه وإرشاده، وآخرون من مناطق أخرى يدعونه لزيارتهم أيضاً. فقام بكل ذلك بكل صبر وأناة، بذلك كان حظ عائلته في الاستمتاع بحضرته قليلاً في الأشهر التي أعقبت رجوعه. 

وما كاد يمضي على رجوعه ثمانية أشهر حتى نشبت الحرب العالمية الأولى، ولما اشتد أُوارها تعرضت مدينة حيفا لقصف شديد من قبل الحلفاء لأنها كانت مدينة تحت الحكم العثماني، الأمر الذي دفع أهالي المدينة إلى تركها من شدَّة رُعْبِهم إلى أماكن أخرى أكثر أماناً. أما الأحباء الذين يملكون محلات تجارية فقد كانت خسارتهم فادحة إذ استولت السلطات العثمانية على ما فيها من سكر وشاي ومواد تموينية ودون مقابل للاستفادة منها في إطعام جيوشها.

عاش الأحباء في حيفا ظروفاً قاسية وأياماً مرعبة، وخاصة الأطفال منهم الذين كانوا يسمعون في كل يوم قصص القتل الشنيعة، وأصبح الرعب لا يفارق عيونهم. في ذلك الوقت قرر المولى أن يقبل دعوة الشيخ صالح، شيخ قرية أبو سنان الدرزية، لاستضافة جميع الأحباء مع أطفالهم لأن القرية تُعدُّ آمنة وبعيدة عن قصف المدافع، وما بحوزة الأحباء من مواد تموينية محدودة ستكفيهم مع مراعاة أقصى درجات الاقتصاد بالإضافة إلى ما سيزوّدهم به حضرته من محصول الذرة التي كان يزرعها في أراضي العدسية في غور الأردن آنذاك للتخفيف من معاناة الناس في حيفا وعكاء وما حولهما. 

وضع الشيخ صالح بيته تحت تصرّف المولى وعائلته فلاقوا منه كل الترحيب والرعاية، بينما توزّع الأحباء على أهالي القرية الذين استقبلوهم بكل حب ووجدوا أنفسهم في غاية السعادة. 

كان طعامهم اليومي بسيطاً؛ العدس والفاصوليا الجافة وقليلاً من الزيتون والزيت وأحياناً حليب البقر أو الماعز ثم البيض. وبفضل الهواء النقي تمكّن الجميع من استعادة صحتهم. كانوا جميعاً حكماء في استهلاك الطعام، وقد حثّ حضرته الأحباء على زراعة الخضروات التي ساعدتهم، إلى جانب الذرة كما ذكرنا والتي خففت من أثر المجاعة في المنطقة بأكملها. 

كان المولى في ذلك الوقت يقضي كل وقته، ليس في مساعدة الأحباء وغيرهم في أبو سنان فقط، بل جميع الفقراء الذين كانوا ينتظرون قُوتَهم اليومي في حيفا وعكاء أيضاً، وحتى قبل نشوب الحرب كان هناك الجياع والفقراء المعْدَمون، وحيث إن جميع المؤن في الأسواق قد أُخذت للجيش التركي والألماني، فلم يبق للنساء والأطفال ما يأكلوه، ولم يجدوا أمامهم سوى المولى في سَعْيِه لسدِّ جوعهم.

أقام حضرته مستوصفاً طبياً في قرية أبو سنان وعيَّن لها طبياً اسمه حبيب الله خُدابَخْش، الذي كان يُجري بعض العمليات الجراحية البسيطة إلى جانب تثقيف الناس بالأمور الصحية الضرورية. أما الأطفال فلم يهمل حضرته أمر تعليمهم، فقد أسس لهم المدارس وعيّن لهم المعلمين الأحباء. وبالرغم من الصعوبات الشديدة التي واجهت الجميع فقد استمتع الأحباء بوقتهم في أبو سنان مع أن حضرته كان متنقِّلاً في إقامته بين حيفا وعكاء، وعندما كان يعود أحياناً إلى أبو سنان كانت عائلته المباركة تنظر إليه من شُرفة البيت وهو قادم، بينما الشيخ صالح وأولاده اعتادوا أن ينزلوا المنحدر إلى الأسفل ثم يسيروا في الشارع المرصوف بالحجارة ليستقبلوا حضرته قادماً بعربته، وعندما يترجل منها كانوا يقدّمون له أفضل ما لديهم من جواد ليركبه في صعوده الجبل ليجد الأحباء جميعاً وقد هرعوا لاستقباله.

كان حضرته يجلب معه أنباء العالم الخارجي التي يستطيع الحصول عليها، ويجلس في الديوان المخصص للضيوف، ويجتمع حوله الشيخ صالح وأولاده. وأول ما يقوم به زيارة النساء في جناحهن مستفسراً عن حالة كل واحدة وأطفالها. صادف أن وُجِد بعض الأحباء الزائرين الأمريكيين في تلك الأوقات الحرجة، إلا أنهم غادروا من حيفا إلى الإسكندرية في شهر كانون الثاني 1916م بناء على نصيحة حضرته. 

في جميع الاجتماعات كانت تتلى المناجاة ويشترك فيها الأحباء والدروز، ولمدة خمسة أشهر كانت الأخبار عن العالم الخارجي شبه مقطوعة، واعتاد متصرف عكاء والقائد العسكري وقاضي القضاة والمفتى فيها أن يزوروا المولى ويقضوا ليلة أو اثنتين ضيوفاً في أبو سنان ويتشاوروا مع حضرته في كيفية تأمين الطعام وتقديم الخدمات الضرورية للناس في تلك الأيام العصيبة، إلى جانب بحث الكثير من المشاكل. وكثيراً ما كان حضرته يجيب عن أسئلة الحاضرين، من ضمنها سؤال وجهه إليه أحد المسؤولين فأجابه:

‘لقد حاول السلطان عبد الحميد أن يبعث الرعب في قلبي، فأرسل يخبرني بأنه من الواجب أن أُسجَن مدى الحياة أو أن أُعدَم أو أُنفَى إلى مكان بعيد. فرددت على تهديداته برسالة قلت فيها: أرجو أن تؤكدوا لعبد الحميد بأنه لا يمكنه أن يسجنني فيما روحي طليقة، حتى وأنا في القبر لن أكون مسجوناً لأن روحي منزهة عن الحدود والمكان وعن هذا الجسد المادي وستبقى حرة طليقة. إن تهديدكم بإرسالي إلى فزّان بعيداً عن عائلتي وأحبائي لأكون بين المجرمين والشريرين لن يخيفني، لأن من بين هؤلاء أبناء الله الغفور الرحيم وسأدعوهم إلى مملكة الله وأدعوا لهم بالمغفرة وأن يعيشوا حياة هناء واطمئنان.’

132 العدوّ الصديق

القصة التالية رواها ميرزا جلال إصفهاني زوج ابنة حضرة عبد البهاء:

‘في الساعة السابعة من صباح أحد الأيام في بداية عام 1916م أرسلني حضرة عبد البهاء إلى سائق عربته المخلص وقال لي: أخبر اسفنديار أن يُحضِر العربة في ظرف نصف ساعة وكن أنت وخسرو مستعدَّيْن لمرافقتي. وفي الوقت المحدد ترك المولى منزله في حيفا متوجّهاً نحو الناصرة بالرغم من الإرهاق والتعب الشديد البادي على طلعته المباركة خاصة وأن صحته لم تكن على ما يُرام. فمدينة الناصرة هي مركز القائد الأعلى للقوات المسلحة جمال باشا ومسؤولين آخرين كبار، فرغم حالته الصحية إلا أن حضرته قرر أن يقابل جمال باشا هناك. وهكذا بدأ رحلته…

‘في الساعة الواحدة ظهراً وصلنا قرية مجدل. سألني حضرته: هل تعرف أحداً في هذه القرية؟ فأجبته: نعم يا مولاي، فمختار القرية شخص مسيحي وهو صديقي. فأخبرني حينها أن أذهب وأخبره بوصول حضرته وأنه يرغب في أخذ قسط من الراحة في منزله. ذهبتُ فوراً إلى منزل المختار واسمه خوري وأخبرته بوصول حضرة عبد البهاء وبرغبته المباركة. رحّب كثيراً وخرج مع وجهاء القرية لاستقبال حضرته. وصلوا إلى العربة ورحبوا بضيفهم الكبير وساعدوه وهو يترجل من العربة ثم توجّه الجميع إلى المضافة في منزل المختار. 

‘طلب المولى من خسرو أن يُعِدَّ الشاي ويحضّر لوجبة الغداء التي أحضرناها معنا من حيفا، بينما قدّم المضيف بعض العسل واللبن والزيتون والبيض. تناول حضرته قليلاً من العسل والحساء والزيتون ثم أخذ قيلولة لمدة ساعة واحدة استيقظ بعدها وغسل يديه ووجهه بالماء البارد ثم دخل المضافة. أخذ حضرته يشيد بحِكْمَة مضيفه والوُجَهاء، وقدّم لهم النصائح فيما يمكن أن يفعلوه حلاًّ للمشاكل والصعوبات التي خلقتها الحرب وما ينتج عنها بعد ذلك.

‘قام المضيف وشكر حضرته على نصائحه القيّمة وأنه شرف عظيم له ولمنزله المتواضع أن يشرّف فيه ثم قال: إن زيارتكم في هذه الظروف الصعبة وخاصة لهذا المنزل ستجلب العنايات الإلهية لسكان هذه القرية، ولكن لديّ مطلب واحد اسمح لي أن أذكره وأتمنى لو لبَّيْتَهُ لي. (لا شك أن حضرته مثال اللطف لكل مخلوقات الله، وكما تفضّل حضرة بهاء الله: اللطافة كسائي وقد خلعته على خدّامي الأصفياء.)،وأضاف مختار القرية: لي طفلة واحدة فقط في الرابعة عشر من عمرها مصابة بمرض السل منذ سنتين، وقد أجمع الأطباء على أن حالتها ميؤوس منها. لم يرزقنا المولى بغيرها، ولم يبق لنا نحن أبويها والأقارب سوى البكاء والدموع والآهات. فلو تكرمتَ حضرتك وشملتَها بدعائك بالشفاء سنشعر بأن المولى قد وهبها حياة جديدة، مثلما منحْتَنا أنت أملاً جديداً بنصائحك الحكيمة. نحن نشعر بأن دعاءك مستجاب، ونعلم بأن عناياتك تشمل جميع الناس حتى لو لم يستحقوها، وعندها اغرورقت عينا المختار بالدموع.

‘نهض حضرته على الفور من مقعده وقال: أين ابنتك الصغيرة؟ أجابه: في الغرفة المجاورة. انتقل حضرته إليها ليجد الفتاة مستلقية على فراش موضوع على الأرض وسط الغرفة وحولها أفراد الأسرة بعضهم يقوم بخدمتها والآخرون يبكون وينوحون. اقترب حضرته وجلس بجانب رأس الفتاه وأمسك يدها وقاس نبضها. وجد أن حرارتها مرتفعة جداً وكانت تسعل باستمرار ثم تبصق الدم. رآها هيكلاً عظمياً يكسوه الجلد، وكانت في حالة من الوَهَن الشديد. وضع يده المباركة على جبينها ثم التفت إلى ميرزا جلال وقال له: ائتني بقدح من الشاي. شرب منه حضرته قليلاً ثم قرأ الدعاء لمدة خمس دقائق، بعد ذلك أخذ يسقي الفتاة باقي الشاي في فمها بالملعقة قليلاً قليلاً ثم وضع يده على جبينها مرتين وقرأ الدعاء لمدة عشر دقائق تقريباً. وبعد ذلك نهض والتفت إلى الوالدين وقال بصوت عالٍ ملؤه القوة والهيمنة والثقة: ثِقوا بأن الله سوف يشفي ابنتكم تماماً، فلا تضطربوا ولا تقلقوا ولا تبكوا أو تنوحوا، إنها تحت عناية المولى القدير وستتمتع بتمام الصحة والعافية. ثم توجّه حضرته نحو المضافة وأمتع الحاضرين هناك بعبارات الحكمة والموعظة مدة نصف ساعة، وبعد ذلك استأذنهم بالانصراف وودّعهم جميعاً وسار نحو العربة في الخارج، ورأينا جميع سكان القرية من رجال ونساء وأطفال يهرعون ويتجمهرون حول العربة لوداعنا، وكانوا حتى آخر لحظة يرجون حضرته ألا ينساهم في دعائه وبركاته. ثم انطلقنا جميعاً.

‘في تلك الليلة تعرّقت الفتاة كثيراً وأخذت الحمى تخفّ بالتدريج، وكما أفاد والدها بعد ذلك فإنها قد تعافت بالكلية خلال شهرين، ثم تزوجت فيما بعد من شخص مسيحي يعمل موظفاً حكومياً ورُزقت بثلاثة أولاد أصحاء. ومنذ ذلك الوقت والوالد يروي قصة ابنته لمن يراهم في حيفا وعكاء والناصرة ويكررها عدة مرات منهياً قوله: رجعت لي ابنتي بفضل الله وحضرة عبد البهاء.

‘أصرّ حضرته على اسفنديار أن يتوجه بالعربة إلى بلدة الناصرة كما كان مقرراً. وصلناها في السابعة مساءً ونزلنا في الفندق الألماني. في اليوم التالي دُعِي حضرته إلى الغداء في منزل أحد وُجَهاء المدينة من عائلة الفاهوم. حضر الغداء جمال باشا ومائتان من القادة العسكريين حيث جلس حضرته على المائدة في الساعة الواحدة ظهراً وغادرها في الرابعة. كان حضرته يتكلم باللغة التركية في مواضيع فلسفية وعلمية وعرفانية سماوية حتى إن الجميع كثيراً ما كانوا يتوقفون عن الطعام للإصغاء له. تساءل الجميع: مَن يكون هذا الشيخ المُلِمُّ جيداً بكل هذه العلوم؟

‘كنا نراهم منجذبين بحديث المولى ويسعى الكل أن يكون قريباً منه حتى لا تفوته أي كلمة، أما جمال باشا الذي لم يعطِ أهمية كبيرة لحضرته في البداية، ويُعَدُّ العدوّ اللدود له بسبب الإشاعات المُغرِضة التي كان يتلقاها عنه، والآن بعد أن سمع حضرته يتكلم بكل حكمة في مواضيع علمية، أدرك مقامه وتغيّر بالكلية وأصبح في منتهى الكياسة والتهذيب. وعندما حان وقت المغادرة ونهض حضرته تقدّم جمال باشا وأمسك بيده بكل لطف لمساعدته وهو يترك الطاولة وسار معه إلى غرفة الضيافة وأجلسه واطمأن على راحته. 

‘استمر حضرته في حديثه وأجاب عن المزيد من أسئلتهم وألقى الضوء على كثير من المسائل. ولما حان الوقت نهض حضرته واستأذن في المغادرة. رافقه جمال باشا إلى خارج المنزل وحتى نهاية الدرجات، وكان يود الذهاب إلى أبعد من ذلك لولا أن المولى رجاه أن يرجع. هكذا، رأينا جمال باشا بهذا الإحترام الكبير لحضرته وهو الذي اعتاد ألا يقف عن مقعده احتراماً لأي إنسان. 

‘بقي حضرة عبد البهاء في الفندق الألماني في الناصرة في ذلك المساء في حالة من الإرهاق الشديد.  وفي الصباح التالي عاد حضرته إلى حيفا بعد أن أنجز مهمته في جعل ألدِّ أعدائه صديقاً له. 

133 صعود حضرة عبد البهاء

زار حضرةُ عبد البهاء طبيباً في حيفا يُدعى بي (Bey) وقد تلقى الطبيب برقية تفيد بأن أخاه قد توفي.

في معرِض حديث حضرته معه أخبره بقوله: ‘لا تحزن يا دكتور بي، فإن أخاك قد انتقل من هذا المكان إلى مكان آخر أعلى وأسمى.’ ثم مال على الطبيب وهمس في أذنه: ‘أنا سوف أرحل أيضاً، وأيامي أصبحت معدودة.’ ثم ربّت على كتفه وأضاف: ‘سيكون يوم رحيلي قريباً.’

كان هذا الحديث قبل شهر من صعوده المبارك، وبعد أسبوعين تحدث إلى بستانيّه المخلص في نبرة تشير إشارة واضحة إلى أنه يعلم باقتراب أجله فقال: ‘لقد تعبتُ تعباً لا يوصف وبلغ بي الحال مبلغه بحيث يجب أن أترك كل شيء وأنطلق، إنني أعجز عن المشي من شدّة الوهن.’ ومع شعوره بالضعف والوهن ظلّ كعادته يفيض على الجميع بفيض محبته واهتمامه. فعقد الاجتماعات في غرفته، وبارك زواج اثنين، وزاره حاكم حيفا، كما جاء رجال رسميون آخرون للتشاور معه طالبين نصحه.

تجمّع الأحباء على جبل الكرمل بانتظاره وسط مشاعر الحزن والقلق، وهم الذين اعتادوا أن يشرّفهم بحضوره، وعندما علم أنهم بانتظاره تفضّل قائلاً: ‘على الأحباء ألاّ يعلّقوا أهمية على غيابي الجسدي، فإنني معهم بالروح وسأبقى.’

سأل عن صحة كل الأحباء، وسُرّ كثيراً عندما علم أن الجميع بخير، فتفضل قائلاً: ‘حسن، حسن.’

في ليلة صعوده توجّه إلى شقيقته الورقة المباركة العليا بقوله: ‘لا تحزني! تُقْت لأن أنضمّ منذ زمن طويل إلى والدي الجمال المبارك –حضرة بهاء الله– وها هو الآن يستجيب لدعائي. كم أنا سعيد ومسرور ومرتاح، فلا تحزني.’

وفي الساعة الواحدة والربع من فجر يوم الإثنين في الثامن والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1921م نهض ومضى إلى منضدة في غرفته وشرب قليلاً من الماء ثم عاد إلى فراشه. وبعد قليل طلب إلى إحدى ابنتيْه، اللتيْن سَهِرتَا عليه، أن تزيح الستائر الشبكية شاكياً من أنه يجد صعوبة في التنفُّس، ثم أُحضر له شيء من ماء الورد فشرب ثم استلقى مرّة أخرى. عرضوا عليه الطعام فأجابهم بكل وضوح: ‘أتريدون أن أتناول قليلاً من الطعام وأنا ذاهب؟!’ 

بعد دقيقة رفّت روحه الطاهرة إلى عوالم الله في ملكوته الأبهى بالسعادة والراحة والاطمئنان وهو في الثامنة والسبعين من عمره.

أُرسلت البرقيات إلى جميع أنحاء العالم البهائي معلنةً نبأ صعوده المبارك. صَعَق الحزن أتباع الإسم الأعظم في الشرق والغرب، وانهالت الرسائل والبرقيات على الأرض الأقدس من كل حدب وصَوْب حاملة إلى العائلة المباركة مشاعر الألم والحسرة، وعبارات المواساة والرثاء، وكلمات التمجيد والوفاء والإخلاص. وأوردت الجرائد الأجنبية المختلفة، بلغات متعددة، مقالات تحكي عن مآثر الفقيد العزيز الذي أدّى لقضية السلام العالمي خدمات جُلّى وللإخاء الإنساني دوراً مميزاً لا يمكن أن يُنسى.

شُيِّعت جنازة المولى المحبوب في الساعة التاسعة من صباح يوم الثلاثاء، وأخذ الناس يتوافدون زرافات ووحداناً إلى بيته المبارك، واكتظّت الشوارع بالناس من علّية القوم والوجوه والأعيان على اختلاف أديانهم وفي مقدّمتهم فخامة المندوب السامي في فلسطين السير هربرت صموئيل ورجال بطانته، ثم حاكم فينيقيا المستر سايمس وقناصل الدول والرؤساء الروحيون للطوائف الإسلامية والمسيحية واليهودية، وأحاطت عائلتُه المباركة والأحباءُ بالنعش الذي حُمل على الأعناق، وسار في موكب يحفّه الجلال والعظمة والوقار حسب الترتيب التالي:

ثلة من رجال الشرطة بقيادة ضابطها، ثم قناصل الدول فالكشافة الإسلامية والمسيحية تتقدّمهم موسيقاهم وأعلامهم، ثم مشايخ الطرق الإسلامية ينشدون الأناشيد المحزنة، فنعش حضرته المطهّر وخَلْفَه فخامة المندوب السامي وبطانته وحاكم المقاطعة والعائلة المباركة والأحباء، ثم جمهور من المُشَيِّعين لا يعد ولا يُحصى بلغوا العشرة آلاف تقريباً. 

كان الشارع الممتد حتى جبل الكرمل يبدو وكأنه جسماً بشرياً تموج فيه الخلائق من جميع أجناسها وطبقاتها بوجوهها الشاحبة لفرط الأسى والحزن، جاؤوا كلهم لأداء واجب التكريم وحق التعظيم لمن كان أباً للإنسانية جمعاء. سار الموكب بين بكاء البائسين والمُعْوِزين وفيض حنان اليتامى والأرامل من إيمانهم بأن نوراً جاء للوجود ثم غاب ومن حقِّهِ عليهم أن يودّعوه كما يليق. نعم سار الموكب مدة ساعة ونصف ليَبْلُغ في النهاية مقره قرب الرمس المطهّر لحضرة الباب على جبل الكرمل. وبجوار المدخل الشرقي للمقام الأعلى وُضع النّعش المطهّر على منضدة عادية. وقف الجميع صامتين تماماً وكأن على رؤوسهم الطير إلا من أصوات الزفرات وترديد الحسرات والآهات الصادرة من القلب وذرف الدموع. وما كان من أحدهم إلا أن ارتجل كلمة أثارت العواطف قال فيها: ‘انظروا يميناً وشمالاً، شرقاً وغرباً، وأصْدِقوني الخبر أي فراغ في النُّبْل والوجاهة قد حدث، وأي ركن من أركان السلام قد هُدِم، وأي لسان حرٍّ طلق فصيح قد سكت وصمت. أوَّاه، ليس للمصيبة قلب يصدع وعين تدمع فقد ترَكَتْكُم شباباً تبكون شيخَكم وشيوخاً تندبون فتاكم. تَبَّ المساكين أنّ الخيرَ فارقهم. تَبَّ الأيتام أنّ الأب الشفوق قد بَعُدَ عنهم…’

ثم تَبِعَه أديب آخر وقال:

‘… تشيّعون رفات الفقيد العظيم إلى مثواه الأخير إنما تَيَقَّنوا أن عبّاسكم سيدوم أبداً حياً بينكم روحياً بأعماله وأقواله وصفاته وفي جميع جوهريات حياته، نودّع عبّاسنا المادي وتغيب مادته عن أنظارنا ولكن عبّاسنا الحقيقي الروحي سوف لا يفارق عقولنا وأفكارنا وقلوبنا… أيها الراقد العظيم الكريم، أنت أحسنت إلينا وأرشَدْتَنا وعلّمتنا. عشتَ بيننا عظيماً بكل ما تعنيه كلمة العظمة وقد تفاخرنا بأعمالك وأقوالك. أنت رفعْتَ منزلة الشرق إلى أعالي ذروة المجد. قد أصلحتَ وهذّبتَ وأتممتَ السعي فنِلْت إكليل المجد…’

ثم تقدم مفتي حيفا وقال:

‘… لا أودُّ أن أبالغ في تأبين هذا الرجل العظيم فإن أياديه البيضاء في سبيل خدمة الإنسانية ومآثره الغرّاء في عمل البِرّ والإحسان لا يُنكرها إلا من طَمَس الله على قلبه… وأنت أيها الراحل الكريم، عشتَ عظيماً ومتَّ عظيماً، وما هذا المشهد الكبير والموكب المهيب إلا برهاناً ساطعاً على عظمتك حياً وميتاً. ولكن، مَن للفقير بعدك أيها الفقيد ومَنْ للجائع الملهوف، بل مَن للأرامل واليتامى بعد فَقْدِ رجل الإنسانية – رجل الخير والمعروف. 

وبعد عدة كلمات ألقيت من قبل أدباء وشخصيات مرموقة ومسؤولين حكوميين، تقدم فخامة المندوب السامي أمام التابوت ورفع قبعته حانياً هامته وحَذَا حَذْوَه رجال الدولة الآخرون وتوجّه الجميع نحو مرقد حضرة الباب ولحق به الجميع والكل متفجِّع على تلك الخسارة الفادحة. وهناك خُفِّض بحزن وإجلال ووُضع في مقره الأخير بجانب رفات حضرة الباب. 

طيلة الاسبوع الذي تلا الصعود المبارك والطعام كان يُقدّم يومياً في منزله المبارك للفقراء من حيفا الذين يتراوح عددهم بين الخمسين والمائة، كما وُزعت الحنطة على ألف فقير تقريباً في اليوم السابع. 

وفي يوم الجمعة 6 يناير/كانون الثاني 1922م، في ذكرى الأربعين أقيم احتفال مهيب تخليداً لذكراه دُعِي إليه حوالي ستمائة شخص من أهالي حيفا وعكاء وما جاورها في فلسطين وسوريا بما فيهم رجال الدولة وقناصل الدول والرؤساء الروحيون والوجوه والشخصيات الأدبية المرموقة، ومُدت موائد الطعام وأكل الجميع. وبعد أن فرغوا توجهوا إلى قاعة واسعة وجلسوا هناك يستمعون إلى الخطباء وأولهم كان الأديب اللامع السيد عبدالله أفندي مخلص فقال:

‘لقد غشينا هذه الدار التي كانت محجّ الفُضَلاء ومصدر الفضائل أكثر من مرة، فكنّا نجدها زاهية زاهرة تتعطّر أرجاؤها بما يتضوّع من أريج أزهارها، وتُغرّد أطيارُها على باسقات أشجارها، ويترقرق في وجوه أحيائها ماء الحياة ونضرة العيش… لقد عاصرنا الفقيد العزيز وعاشرناه عشرات من الأعوام دون أن يعتَوِرَنا السأَم أو يتولاّنا الملل… لقد خبِرناه وبلوناه كل هذه المدة فلم نرَ فيه إلا المُذِلَّ للدنيا بإدبارِه عنها، المُعِزَّ للآخرة بإقباله عليها. الحامل راية العلم، الناقل آيات التوحيد، الداعي لمعرفة الله، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، المؤيِّد لأركان السلام، الساعي لإقامة الوئام مقام الخصام…’

وقال حاكم فينيقيا في تأبين حضرته:

‘أعتقد أن لدى الكثيرين منا صورة واضحة للسير عبد البهاء عباس، لهامته الجليلة وهو يمشي مفكِّراً في شوارعنا، لمسلكه اللطيف الرقيق، لشفقته، لحبّه للأطفال والأزهار، لكَرَمه وعنايته بالفقراء المساكين، وقد بلغ من لطفه وبساطته أن كان المرء ينسى أنه بمحضر معلّم عظيم، وإن كتاباته وأحاديثه ما زالت عزاءً وإلهاماً لمئات الألوف من الناس في الشرق والغرب.’(35)

ومما قاله الكاتب الأديب يوسف أفندي الخطيب:

‘… أما فقيد فلسطين فقد عاش وسيعيش في نفوس الشرقيين والغربيين في العالم القديم والجديد. أجل سيُردِّدُ اسمَه على مرّ الليالي وكرّ الأيام ملايينُ من بني الإنسان لا فرق في ذلك بين عربي وعجمي، فإن كان ثمّةَ مَن يجحد فضل الفقيد ويُنكر مكانته ويتناسى جميله فليذكر أن عباس البهاء كان محبّاً ولوعاً ومجاهداً كبيراً لإحياء الجامعة الإنسانية العامة التي ترتكز وتعتمد عليها الجوامع الأهلية والقومية والجنسية واللغوية والدينية. فهو الذي أبلى بلاءً حسناً في ضرورة تحويل السجون إلى دُور للفنون، وساحات الحروب والأحزاب إلى ميادينَ للعمل والصواب…’

ومما قاله الكاتب الأديب أحمد أفندي الإمام:

‘صوتٌ لفظته طهران فردده العراق ودوّى في بلاد الروم وحنّت إليه فلسطين ففتحت له صدرها فنما وكبر وامتدّ صداه إلى مصر فجاز البحار إلى الغرب فالعالم الجديد. صوتٌ خرج ليدعو العالم إلى المحبة والاتحاد والسلام. صوتٌ لو لم يكن مصدرُه حُسْنَ النيّة لما انتشر في العالميْن وسرى فيهما سريان الكهرباء. وما الفضل في بثّ هذه التعاليم ونشرها بين العالميْن إلا لصاحب هذا البيت الشريف الذي يحتفل بتأبينه هذا الجمع الحزين…’

35. كتاب القرن البديع، ص 385، (الطبعة 1986).

134 إلى عالم النور

تقدّم الآن حضرة عبد البهاء في السن، فشعرُه الأبيض اللمّاع وعيناه الواسعتان الزرقاوان المائلتان إلى الرمادي برموشه السوداء، ووجهه الحنون الملئ شفقة ورحمة تراه ينظر إليك فتشعر بأنه يحبّك وحدك أكثر ممن في الوجود. هذا ما شعر به الحبيب جون، ولا شك أنه شعورُ كلِّ مَنْ يقابل حضرة عبد البهاء. 

وجون رجل كبير السن يقطن في أمريكا. في أحد الأيام، أثناء زيارة المولى إلى أمريكا، كان جون يركب مع حضرته في السيارة عائديْن من أحد الاجتماعات. وإذا بالمولى يميل برأسه على كتف جون ويغطّ في النوم. حرِص جون أن يبقى جامداً بلا حركة إلى أن توقفت السيارة ونزلا.

وبعد انتهاء رحلته الطويلة عاد المولى إلى حيفا، ومضت السنون. كم كان جون يتذكر تلك الأيام التي كان فيها بمحضر المولى ويتمنى أن تعود. وفي أحد الأيام تلقى رسالة من حضرة عبد البهاء يبدي فيها اشتياقه لرؤيته. فما كان من جون إلا أن سارع إلى حيفا وتشرف بالمحضر الأنور. وما هي إلا أيام قلائل حتى صعد حضرته إلى الملكوت الأسنى لتلحق روحه بوالده حضرة بهاء الله في عالم النور. 

أمسكت الورقة المباركة العليا بيد جون وقادته إلى كرسي في غرفة حضرته وأجلسته بجانبها وأخذت تقرأ المناجاة معه إلى أن طلع الفجر. وفي اليوم التالي شارك جون في حمل النعش المبارك على كتفه الأيمن الذي وضع حضرته رأسه عليه في أمريكا وصعد إلى حيث مرقد حضرة الباب ووُضع هناك. وهنا تذكّر جون ذلك الوقت عندما وضع حضرته رأسه على كتفه وغطّ في نوم عميق. 

بماذا أوصانا حضرة عبد البهاء؟

ترك لنا حضرة عبد البهاء وصيته التي كتبها بخط يده ووضح فيها كثيراً من الأمور الواجب اتّباعها والنصائح والإرشادات للبهائيين في العالم، وبيّن لنا رغبته القلبية في أن يطوّر الأحباء لديهم الفضائل الروحانية التي أودعها الله في كل واحد منا. ومما جاء في ألواح وصاياه المباركة: 

  • والحال إننا ممنوعون بالنصوص الإلهية عن الفساد ومأمورون بالصلح والصلاح ومجبورون على المصادقة والمحبة والمسالمة مع جميع الأقوام وأمم الآفاق وعلى إطاعة الحكومة ومحبة الخير لها.
  • إذا عاملكم سائر الملل والطوائف بالجفاء فعاملوهم بالوفاء، أو الظلم فبالعدل، وإن اجتنبوكم فاجتذبوهم، وإن أظهروا لكم العداوة فحققوا لهم المحبة، وإن أعطوكم السمّ فامنحوهم الشَّهْد، وإذا جرحوكم فكونوا مرهماً. هذه صفة المخلصين وسِمة الصادقين.
  • إن الواجب عليكم الخضوع لسلطان كل ذي تاج عادل، والخشوع للسدّة الملوكية من كل ملك كامل، وخدمة الملوك بمنتهى الصداقة والأمانة مطيعين محبّين للخير غير متداخلين في الشؤون السياسية إلا بإذن وإجازة منهم، لأن خيانة كل سلطان عادل هي خيانة الله. هذه هي نصيحة مني وفرْضٌ عليكم من عند الله فطوبى للعاملين.

(ألواح الوصايا لحضرة عبد البهاء)

هُوَ الله

أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ! أَيُّهَا المُخْلِصُونَ! إِنَّ عبد البهاء يُنَاجِي رَبَّهُ فِي جُنْحِ اللَّيَالِي وَيْدعُوهُ بِقَلْبٍ طَافِحٍ بالتَّضَرُّعِ والابْتِهَالِ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْكُم المَوَاهِبَ الإلهِيَّةَ والمَائِدَةَ السَّمَائِيَّةَ حَتّى تَسْتَبْشِرُوا بِفَضْلِهِ وَجُودِهِ وَفَيْضِ نُورِهِ وَتَسْتَضِيئُوا مِنْ شَمْسِ حَقِيقَتِهِ السَّاطِعَةِ الفَجْرِ عَلَى الشَّرْقِ وَالغَرْبِ. يَا أَحِبَّاءَ الله، الأمْرُ عَظِيمٌ عَظِيمٌ والفَوْزُ جَلِيلٌ جَلِيلٌ والقَرْنُ مَجِيدٌ مَجِيدٌ والأنْوَارُ أَحَاطَتِ الأقْطَارَ. قُومُوا بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ وَنِيَّةٍ رَحْمَانِيَّةٍ وَهِمَّةٍ مَلَكُوتِيَّةٍ وَأَخْلاقَ رَحْمَانِيَّةٍ وَعَزْمٍ شَدِيدٍ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى الرَّبِّ الفَرِيدِ. اسْعَوْا فِي خِدْمَةِ أَمْرِ الله وَانْطِقُوا بِثَنَاءِ الله وَانْشُرُوا نَفَحَاتِ الله وَتَخَلَّّقُوا بِأَخْلاقِ الله وَتَجَلَّلُوا بِحُلَلِ المَلائِكَةِ وَتَزَيَّنُوا بِفَضَائِلَ هِيَ زِينَةُ الحَقِيقَةِ الإنْسَانِيَّةِ. كُونُوا مَعَالِمَ الفَضْلِ وَشَعَائِرَ الكَمَالِ وَمَنَارَ العِلْمِ وَالعِرْفَانِ وَرَايَاتِ التَّوْحِيدِ وَآيَاتِ مَوْهِبَةِ الرَّبِّ المَجِيدِ. هَذَا ما تَتَنَوَّرُ بِهِ وُجُوهُكُمْ فِي المَلأِ الأَعْلَى وَتَنْشَرِحُ بِهِ صُدُورُكُمْ مِنْ أَلْطَافِ رَبِّ السَّمَوَاتِ العُلَى…  ع ع(36)

 

إن أعظم أساس لأمر الله هو الاجتناب والابتعاد عن الناقضين لأنهم يمحون أمر الله بالكلية ويسحقون شريعة الله وتذهب جميع المتاعب سدى.(37)

إِلَهِي إِلَهِي تَرَى عَبْدَكَ المَظْلُومَ بَيْنَ مَخَالِبَ سِبَاعٍ ضَارِيَةٍ وَذِئابٍ كَاسِرَةٍ وَوُحُوشٍ خَاسِرَةٍ…

وَإِنَّي أُشْهِدُكَ أَنَّنِي أَذُوقُ هَذِهِ الكَأْسَ فِي كُلِّ الأَيَّامِ بِمَا اكْتَسَبَتْ أَيْدي الَّذِينَ نَقَضُوا المِيثَاقَ وأَعْلَنُوا الشِّقَاقَ وَأَظْهَرُوا النِّفَاقَ وَأَظْهَرُوا فِي الأَرْضِ الفَسَادَ وَمَا رَاعُوا حُرْمَتَكَ بَيْنَ العِبَادِ. رَبِّ احْفَظْ حِصْنَ دِينِكَ المُبِينِ مِنْ هَؤُلاءِ النَّاكِثِينَ، وَاحْرُسْ حِمَاكَ الحَصِينَ مِنْ عُصْبَةِ المَارِقِينَ. إِنَّك أَنْتَ القَوِيُّ المُقْتَدِرُ العَزِيزُ المَتِينُ.”  ع ع(38)

36. "من مكاتيب عبد البهاء"، الجزء الأول، ص 136، (الطبعة 1982).
37. "العهد الأوفى"، ص 35، (الطبعة 1980).
38. "العهد الأوفى"، ص 25، (الطبعة 1980).

مناجاة اللقاء

“إِلهِي إِلهِي إِنِّي أَبْسُطُ إِلَيْكَ أَكُفَّ التًّضَرُّعِ والتَّبَتُّلِ والابْتِهَالِ وَأُعَفِّرُ وَجْهِي بِتُرَابِ عَتَبَةٍ تَقَدَّسَتْ عَنْ إِدْرَاكِ أَهْلِ الحَقَائِقِ وَالنُّعُوتِ مِنْ أُولِي الأَلْبَابِ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى عَبْدِكَ الخَاضِعِ الخَاشِعِ بِبَابِ أَحَدِيَّتِكَ بِلَحَظَاتِ أَعْيُنِ رَحْمَانِيَّتِكَ وَتَغْمُرَهُ فِي بِحَارِ رَحْمَةِ صَمَدَانِيَّتِكَ. أَيْ رَبِّ إِنَّه عَبْدُكَ البَائِسُ الفَقِيرُ وَرَقِيقُكَ السَّائِلُ المُتَضَرِّعُ الأَسِيرُ، مُبْتَهِلٌ إِلَيْكَ مُتَوَكِّلٌ عَلَيْكَ مُتَضَرِّعٌ بَيْنَ يَدَيْكَ يُنَادِيكَ وَيُنَاجِيكَ وَيَقُولُ: رَبِّ أَيِّدْنِي عَلَى خِدْمَةِ أَحِبَّائِكَ وَقَوِّنِي عَلَى عُبُودِيَّةِ حَضْرَةِ أَحَدِيَّتِكَ وَنَوِّرْ جَبِينِي بِأَنْوَارِ التَّعَبُّدِ فِي سَاحَةِ قُدْسِكَ وَالتَّبَتُّلِ إِلَى مَلَكُوتِ عَظَمَتِكَ، وَحَقِّقْنِي بِالفَنَاءِ فِي فِنَاءِ بَابِ أُلُوهِيَّتِكَ وَأَعِنِّي عَلَى المُوَاظَبَةِ عَلَى الانْعِدَامِ فِي رَحْبَةِ رُبُوبِيَّتِكَ. أَيْ رَبِّ اسْقِنِي كَأْسَ الفَنَاءِ وَأَلْبِسْنِي ثَوْبَ الفَنَاءِ واغْرِقْنِي فِي بَحْرِ الفَنَاءِ واجْعَلْنِي غُبَاراً فِي مَمَرِّ الأَحِبَّاءِ واجْعَلْنِي فِدَاءً للأَرْضِ الَّتِي وَطِئَتْهَا أَقْدَامُ الأَصْفِيَاءِ فِي سَبِيلِكَ يَا رَبَّ العِزَّةِ وَالعُلَى. إِنَّكَ أَنْتَ الكَرِيمُ المُتَعَالِ. هَذَا مَا يُنَادِيكَ بِهِ ذَلِكَ العَبْدُ فِي البُكُورِ والآصَالِ. أَيْ رَبِّ حَقِّقْ آمَالَه وَنَوِّرْ أَسْرَارَهُ وَاشْرَحْ صَدْرَهُ وأَوْقِدْ مِصْبَاحَهُ فِي خِدْمَةِ أَمْرِكَ وَعِبَادِكَ. إِنَّكَ أَنْتَ الكَرِيمُ الرَّحِيمُ الوَهَّابُ وإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الرَّؤُوفُ الرَّحْمَنُ.”  ع ع(39)

39. "الأيام التسعة" العربي، ص 239، (الطبعة 1987).

منارات على درب الهدى... للتفكّر

“يا ابن الوجود

حاسب نفسك في كل يوم من قبل أن تُحاسب لأن الموت يأتيك بغتة وتقوم على الحساب في نفسك.”(40)

حياة البهائي لها قيمتها الثمينة

إن أحد مفاسد المجتمع كما نراه اليوم هو الاهتمام البالغ بالترفيه والمتعة والتسلية والتعطّش إلى اللهو والتكريس المتعصب للألعاب الرياضية والابتعاد عن الجِدّ بل والنفور منه ونظرة الاستهزاء حيال العفة والقيم الشريفة. إن الابتعاد عن هذه الأمور وترك التصرفات العابثة الطائشة لا يعني بالضرورة أن يغدو الفرد البهائي عابساً مكتئباً، فالمرح والسعادة من ميزات الحياة البهائية الحقّة، أما العبث فغالباً ما يؤول إلى الملل والفراغ. فالسعادة الحقيقية هي جزء من الحياة المتّزنة التي نرى فيها ذلك التفكير الجِدّي والشفقة والعبودية لله. إذ هي من أهم المزايا التي تضفي على الحياة بريقاً لامعاً وتُغْنيها بالسعادة.(41)

الاعتدال أساس الحياة العفيفة

إن هذا التقديس والتنزيه بما يقتضيه من عفة وطهارة يستلزم الاعتدال في جميع المراتب والأحوال: في الملبس ثم الألفاظ والكلمات وممارسة المواهب الفنية والأدبية وكذا الأمر في الابتعاد عن المشتهيات النفسية وتَرْك العادات والأهواء السخيفة وأساليب اللّهو الرذيلة التي تحطّ من مقام الإنسان وتهوي به من أوج العزة إلى حضيض الذلة، كما يدعو بقوة إلى اجتناب المسكرات والأفيون وسائر العادات الضارة. فالتقديس والتنزيه يمنع المتاجرة بالفن والأدب… ويبرأ من كل ما ينافي الأحكام والشرائع الإلهية، ولا يتفق بأي وجه من الوجوه مع الأحوال السائدة وموازين الآداب غير المرضية لهذا العصر المنحطّ والمتّجه نحو الزوال. إنه يكشف عملياً ويُقيمُ الدليل القاطع على بطلان هذه الأفكار وانحطاط هذه الطرق ومفاسد تلك التجاوزات.(42)

 

ليس في التعاليم المباركة ما يمنع الرقص، ولكن الأحباء عليهم أن يتذكروا دائماً أن قانون حضرة بهاء الله هو الحياء والعفة… إن الرقص بحدّ ذاته ليس ضاراً، فالرقص الكلاسيكي وتعليم الرقص في المدارس أو المشاركة في الدراما والتمثيل السينمائي لا ضير منه، بل الضرر من الفساد الذي غالباً ما يحيطها في هذه الأيام، ونحن كبهائيين يتحتّم علينا الابتعاد عن الأجواء التي تلازم هذه الفنون لا الفنون نفسها.(43)

فُوِّض زمام الألبسة وترتيب اللحى وإصلاحها إلى اختيار العباد. ولكن إياكم يا قوم أن تجعلوا أنفسكم ملعب الجاهلين.(44)

العفة والتقديس أساس حياة الفرد

… إن للعفة ارتباطاً وثيقاً بالشباب البهائي. فهو الذي يستطيع أن يؤثر في حياة الجامعة البهائية من حيث العفة والطهارة والنشاط والفعالية بأفعاله وسلوكه وكذلك في تحديد قدراتها وإمكاناتها وخط سيرها في مستقبل الأيام. 

في العفة والتقديس يكمن أساس سلوك الفرد وميزان نهج حياته وجميع أطوار الأحباء في روابطهم الاجتماعية داخل الجامعة البهائية وخارجها. فيجب أن تكون هذه الصفة الأساسية طراز هيكل النفوس وعماد قوة الجهود في نشر النفحات المسكية الإلهية وتصريف الشؤون الروحانية حتى ينشغلوا بخدمة عتبة حضرة بهاء الله ويفتخروا بها. 

على أحباء الله المستظلين بهذا اللواء السبحاني أن يتحلوا بهذه الصفة المُرْضية (العفة والتقديس) في جميع الشؤون والأحوال: في السفر أو الحضر، في المجامع العامة والمحافل الخاصة، في المكاتب والمدارس العلمية والأدبية، فتظهر منهم بكمال الدقة في حركاتهم وسَكَناتهم اليومية وفي نشاطاتهم وفعالياتهم في المدارس الصيفية. كما يجب بذل العناية الفائقة في تحقيق هذا الأمر الدقيق في كل فرصة ومناسبة حتى يعمل على تقوية أسس حياة الجامعة البهائية واستحكامها. وأخيراً فإن هذه الحقيقة الشاخصة يجب أن تكون الصفة الملازمة للشباب في تكوين شخصيتهم فلا تنفَكّ عنهم في أدائهم لرسالتهم والقيام بمسؤولياتهم الجسام. فالشباب عنصر حيوي عظيم في الجامعة البهائية وعامل مؤثر فعّال في تقويم الشباب من بعدهم في بلدهم.(45)

النظافة

لاحظوا كيف أن النظافة أمر منصوص عليه في كتب الأنبياء المقدسة، وكم هي مقبولة ممدوحة لدى ساحة قدس الكبرياء. فالكتب المقدسة منعت تناول أي شيء قذر واستعمال كل ما هو غير نظيف. بعضه نُهي عنه نهياً قطعياً ومُنع منعاً كلياً واعتُبر مرتكبه مبغوضاً لدى حضرة الكبرياء ومردوداً في نظر الأولياء. كالأشياء المحرّمة تحريماً قطعياً واعتُبر ارتكابها من المعاصي ومن شدة قذارتها استُهجن ذكرها.

ومنهيات أخرى ضررها مؤجل غير فوري ويأتي بالتدريج، فهي مكروهة عند الله ومذمومة مدحورة ولم يأت نص على تحريمها بل إنها حتماً من مقتضيات التنزيه والتقديس والطهارة والنظافة وحفظ الصحة والحرية.

مثال ذلك شرب الدخان، فهو قذر وكريه الرائحة مكروه ومذموم وضرره التدريجي المؤجل مسّلم به عند عموم الأطباء الحاذقين. وثبت بالتجربة أن أحد مكوّناته المركبة سمّ قاتل. والمدخّن معرّض للعلل والأمراض المتنوعة، لذا نزل بأن تعاطيه مكروه صراحة… وبنظر الثابتين على الميثاق مذموم عقلاً ونقلاً، وتَرْكُه سبب راحة واطمئنان العموم وسبب طهارة ونظافة اليد والفم والشَّعر من التعفّن القذر ذي الرائحة الكريهة. ومن الطبيعي أن على الأحباء عند وصول هذا المقال لأيديهم ترك هذه العادة المضرة ولو بالتدريج وبأية وسيلة كانت. هذا أملي بهم.(46)

القدوة الحسنة

… إن حجر الأساس لحياة نفس تعيش في ظل الرحمن هو اتباع الفضائل الأخلاقية واكتساب أخلاق تنيرها مواهب صفات ممدوحة لدى الحق.

على البهائيين أن يتحلّوا بهذا الرداء المقدس فيفتحوا مدائن القلوب بسيف القدرة هذا. لقد ملّ الناس من الوعظ والإرشاد وجفّ معين صبرهم من الخُطَب والكلمات الرنّانة، ولا شيء غير الأفعال يمكن أن يخلّص العالم من آلام المخاض ويجذب قلوب أفراده. إنها القدوة الحسنة لا المواعظ، والفضائل القدسية لا التصريحات وقوانين الحكومة، وإن ما يجب التركيز على أهميته في العلاقات الاجتماعية والسياسية أن تكون الكلمة مرادفة للعمل والعمل ملازم للقول في جميع الأمور صغيرها وكبيرها بحيث يدعم كل منهما الآخر ويعزّزه. وعلى البهائيين أن يمتازوا عن غيرهم بهذه الأمور.(47)

الطاعة القلبية الخالصة حباً بالله

إن الواجب الذي يتحدى البهائيين في تنفيذه هو إطاعة الأحكام الإلهية في حياتهم الخاصة وجلب باقي أفراد البشرية إلى هذا النعيم بالتدريج.

عندما نتعمّق في مدى تأثير إطاعة الأحكام الإلهية على حياة الفرد، على الواحد منا أن يدرك أن الهدف من هذه الحياة تَهْيِئَة الروح للحياة الأخرى. لذا عليه أن يتعلم كيف يتحكّم بنزواته الحيوانية فيوجّهها بدل أن يكون عبداً لها. إن الحياة في هذا العالم سلسلة من التجارب والإنجازات، أعمال من التقصير والتقدم الروحاني الجديد، وأحيانا تبدو مراحل الحياة صعبة جداً ولكن الإنسان يستطيع أن يشاهد، المرة تلو الأخرى، أن النفس التي تنفّذ أحكام حضرة بهاء الله باستقامة وثبات، ومهما بدا ذلك صعباً، فهي حتماً تترقى وتنمو روحانياً بينما التي تساوم على الأحكام لأجل سعادتها الظاهرية فهي تسعى وراء وَهْم لا سبيل إلى تحقيقه وسعادة صعبة المنال. وفوق هذا كله تتقهقر روحانياً وغالباً ما تغرق في مشاكل عديدة.(48)

 

40. "الكلمات المكنونة" العربية، ص 16، (الطبعة 1995).
41. مقتطف لحضرة ولي أمر الله ورد في "العفة والتقديس"، ص 18.
42. مقتطف لحضرة ولي أمر الله ورد في "العفة والتقديس"، ص 13–14.
43. مقتطف لحضرة ولي أمر الله ورد في "العفة والتقديس"، ص 16.
44. "لوح البشارات" – البشارة السابعة – "مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله"، ص 40، (الطبعة 1980)
45. مقتطف لحضرة ولي أمر الله من "ظهور العدل الإلهي"، ورد في "العفة والتقديس"،
ص 25–26.
46. "مكاتيب حضرة عبد البهاء"، الجزء الأول (الطبعة 1982)، (مترجم عن الفارسية).
47. من رسالة لحضرة ولي أمر الله لأحباء بومبي في 8/12/1923 – وردت في "العفة والتقديس"، ص 29.
48. من رسالة لبيت العدل الأعظم إلى المحافل الروحانية المركزية مؤرخة 6/2/1973 – وردت في "العفة والتقديس"، ص 31.

تنويه

كانت مراجعي في كتابة هذه القصص الكتب التالية باللغة الإنكليزية:

 

Three Gifts of Love. Stories adapted by Jacqueline Mehrabi.

Publisher: Brilliant books.

 

Vignettes from the life of ‘Abdu`l-Bahá. Collected and Edited by Annamarie Honnold George Ronald – Oxford.

Publisher: George Ronald, 46 gh street, Kidlington, Oxford,  OX5 2DN.

 

The Master In ‘Akká, by Myron H. Phelps.

Publisher: Kalimat Press, Los Angeles, USA.

 

Stories of ‘Abdu`l-Bahá, as told by Muriel Ives Barrow  Newhall.

 

239 Days – ‘Abdu`l-Baha`s Journey in America, Allan L.  Ward

 

The Chosen Highway, Lady Blomfield.

كتاب عبد البهاء والبهائية لكاتبه سليم قبعين

 

فعمدت إلى ترجمتها بتصرّف مستلهماً الفكرة والموقف من الأصل في الكتاب، ثم قمت بصياغتها بلغة سهلة وأسلوب بسيط عملت كل جهدي أن يكون مشوِّقاً للقارئ العزيز، أما ما تفضّل به حضرة عبد البهاء فقد ترجمته مراعياً فيه دقة المعنى قدر الإمكان.

دليل المراجع

رقم القصّة الصفحة المصدر
4 الوليمة 4 Three Gifts of Love, no. 1
5 زيارة السجن 5 ibid., no. 2.
7 بائع القش 9 ibid, no. 3
10 بيت السعادة 13 ibid, no. 4
11 التاجر الغنيّ 15 ibid, no. 6
12 قصة نعّوم 17 ibid, no. 7
13 الرجل المريض 18 ibid, no. 9
14 أمس – تعشّيْنا 19 Stories of ‘Abdu‘l-Bahá, p. 3
15 شجيرة الله 19 ibid, p. 11–12
16 الملك الحكيم 21 ibid, p. 13
17 الأفغاني 22 Three Gifts of Love, no. 10
18 نَدَم الشيخ محمود 23 Vignettes from the life of
‘Abdu‘l-Bahá, no. 15, p. 50
19 الأب الروحاني 24 ibid, no. 37, p. 66
20 ثمار المعروف 25 ibid, no. 59, p. 85
22 حفيد حضرة عبد البهاء 28 Three Gifts of Love, no. 11
23 صائدة السمك 29 ibid, no. 13
24 الثياب الممزقة 30 The Master In ‘Akká, pp. 2–3
رقم القصّة الصفحة المصدر
25 أيام الشتاء 32 ibid, pp. 4–6
26 الغِنَى الحقيقي 33 ibid, pp. 7–10
27 طفولة حضرة عبد البهاء 34 ibid, pp. 14–19
28 النَّخْوة 36 ibid, pp. 75–81
29 الطبيب المخلص 38 ibid, pp. 81–6
30 غذاء الروح 41 Vignettes from the life of ‘Abdu‘l-Bahá, no. 33, p. 25
31 فداء الغصن الأطهر 42 The Master In ‘Akká, pp. 87-91
32 زواج حضرة عبد البهاء 44 ibid, pp. 110–18
33 إيصال الأمانة 51 The Chosen Highway, pp. 102–3
34 السجادة الحريرية 55 Three Gifts of Love, no. 36
35 معلِّم المدرسة 56 ibid, no. 37
36 اللّصوص 57 ibid, no. 38
37 طلقات نار في الظلام 58 ibid, no. 39
38 الحوذيُّ اسفنديار 59 ibid, no. 42
39 حديقة الرضوان – خارج عكاء 61 The Chosen Highway, pp. 96–7
40 الحديقة الجميلة 62 Three Gifts of Love, no. 44
41 الخادم الصامت 63 Vignettes from the life of ‘Abdu‘l-Bahá, no. 26, pp. 21
42 الإيثار 65 ibid, no. 46, p. 32
43 الأب العطوف 66 ibid, no. 53, p. 80
44 نور المحبة 67 ibid, no. 63, p. 87.
45 العائلة السعيدة 69 ibid, no. 73, p. 93. 
46 الخادم موسى 70 ibid, no. 45, p. 31 
47 لماذا المعاناة 71 ibid, no. 49, p. 34. 
رقم القصّة الصفحة المصدر
48 اتبعوا خطواتي 72 ibid, no. 126, p. 124ا
49 درس في تلاوة المناجاة 73 ibid, no. 27, p. 148. 
50 تحرري من قيود السجن 75 The Chosen Highway, pp. 144–5.
51 رحلة حضرة عبد البهاء إلى أمريكا 77 239 Days, Abdu`l-Baha`s Journey in America pp. 15–46, 92–3, 109 
52 ثِقي بالله 83 Vignettes from the life of
‘Abdu‘l-Bahá, no. 50, p. 35. 
53 دعاء الصباح 84 ibid, no. 29, p. 150. 
54 نور الكلمة 85 ibid, no. 13, p. 49
55 الوردة الثمينة 85 ibid, no. 21, p. 55.
56 إن قلباً قد جرح 86 ibid, no. 19, p. 54. 
57 العبد المطيع 87 ibid, no. 1, p. 40. 
58 السرور الحقيقي 89 ibid, no. 51, p. 165.
59 الدموع الغالية 91 ibid, no. 47, p. 33.
60 بيت فرح الروح 92 ibid, no. 61, p. 172.  
61 الصورة الفوتوغرافية 93 The Chosen Highway, pp. 164–5, 171. 
62 ملكوت الله 94 ibid, pp. 171-2.
64 أول بهائي في أمريكا 96 Three Gifts of Love, no. 15. 
65 المراسِلة الصحفية 97 ibid, no. 16. 
66 خادمة الفندق 99 ibid, no. 17. 
67 المقابلة الحميمة 100 Vignettes from the life of
‘Abdu‘l-Bahá, no. 22, p. 56. 
68 الحياة الحقيقية 101 ibid, no. 27, p. 59.  
69 الوردة السوداء 102 Three Gifts of Love, no. 18. 
70 البِنْطال الممزّق 103 ibid, no. 19.
رقم القصّة الصفحة المصدر
71 القلب الكبير 104 Vignettes from the life of
‘Abdu‘l-Bahá, no. 77, p. 96.   
72 العطاء الكبير 106 Three Gifts of Love, no. 20. 
73 أعِنّي يا إلهي 108 Stories of ‘Abdu‘l-Bahá, p. 5. 
74 أنا … مَنْ أكون 109 ibid, p. 6. 
75 ماذا يحدث للروح حقّاً 111 ibid, p. 7.  
76 قَدَح الشاي في باريس 113 ibid, p. 8.  
77 الساعة الثمينة 115 ibid, p. 9.
78 جذوة الأمل 116 ibid, pp. 10–11. 
79 الخدمة المنزّهة 119 ibid, p. 16.  
80 قصّة مدرسة غرين إيكر 123 ibid, p. 25.   
81 اللقاء 125 ibid, p. 31. 
82 أنشودة الشهادة 127 239 Days, ‘Abdu‘l-Bahá‘s Journey in America, pp. 97–100. 
83 حياة البهائي 129 Vignettes from the life of ‘Abdu‘l-Bahá, no. 95, p. 105. 
84 التكرار 130 Stories of ‘Abdu‘l-Bahá.  
85 شعاع المحبة 131 ibid, no.  
86 أولاد حضرة عبد البهاء الروحانيون 132 Three Gifts of Love, no. 21. 
87 الحارس العجوز 133 ibid, no. 22. 
88 شريعة الحبّ 135 Vignettes from the life of ‘Abdu‘l-Bahá, no. 96, p. 106. 
89 أدرس الآثار المباركة 136 Stories of ‘Abdu‘l-Bahá
90 ابذر البذور 137 Ibid.  
91 طاعةٌ وثِقة 137 Ibid.  
92 مُنى الصغيرة 138 Three Gifts of Love, no. 23. 
رقم القصّة الصفحة المصدر
93 المنزل الجميل 138 ibid, no. 26.  
94 لماذا أنا هنا! 141 Vignettes from the life of ‘Abdu‘l-Bahá, no. 101, p. 110 
95 الدواء الشافي 142 Three Gifts of Love, no. 
96 إكليل الزهور 143 ibid, no. 28.
97 عِلْمٌ لدُنّي 144 Stories of ‘Abdu‘l-Bahá, pp. 14–6. 
98 هل أنتِ راضية 146 ibid, pp. 16–7.  
99 المُدخّن 147 ibid, pp. 18–9. 
100 مأدبة المحبة 149 Vignettes from the life of
‘Abdu‘l-Bahá, no. 104, p. 111. 
101 ضيف بلا دعوة 150 Three Gifts of Love, no. 30. 
102 الرجل المتشرّد 151 ibid, no. 31.  
103 أجنحة الفرح 153 Vignettes from the life of
‘Abdu‘l-Bahá, no. 3, p. 128. 
104 كونوا سُعَداء 154 Three Gifts of Love, no. 32. 
105 الأشجار المثمرة 155 ibid, no. 33. 
106 باقة القرنفل 156 Vignettes from the life of
‘Abdu‘l-Bahá, no. 83, p. 98. 
107 السفينة القوية 158 ibid, no. 10, p. 132.  
108 كوني سعيدة 159 ibid, no. 11, p. 133. 
109 الشاعر جبران خليل حبران 161 Stories of ‘Abdu‘l-Bahá
110 قُصاصة الورق 162 Vignettes from the life of ‘Abdu‘l-Bahá, p. 134. 
111 الذكاء الممدوح 163 ibid, no. 12, p. 135. 
112 ما يُقدِّره الله 166 Stories of ‘Abdu‘l-Bahá, pp. 27–8. 
113 إنه … موجود 167 ibid, pp. 28-9                 
114 قطعة النقود 168 Three Gifts of Love, no. 34. 
115 العلاج الروحاني 169 Vignettes from the life of ‘Abdu‘l-Bahá, no. 6, p. 44. 
رقم القصّة الصفحة المصدر
116 مائدة سماوية 171 ibid, no. 24, p. 20.
117 حفلة ذكرى الميلاد 171 ibid, no. 7, p. 45. 
118 البساطة 172 ibid, no. 36, p. 27. 
119 درس لن أنساه 173 ibid, no. 33, p. 63 
120 المبلّغ الصغير 175 ibid, no. 117, p. 118.
121 المبلّغ الناجح 176 ibid, no. 114, p. 119.
122 الربيع الإلهي 177 ibid, no. 120, p. 120. 
123 قوّة التأييد 178 ibid, no. 121, p. 121. 
124 سِرُّ الدعاء 179 ibid, no. 25, p. 147.
125 الوجه الضَّحوك 180 ibid, no. 57, p. 168.                      
126 الضحك يزيل الألم 181 ibid, no. 62, p. 172.                          
127 تأثير كلمات حضرة عبد البهاء وأفعاله 182 ibid, p. 178. 
128 التّواضع 185 ibid, no. 23, p. 19. 
129 الهديّة الثّمينة 185 ibid, no. 25, p. 20. 
130 عقد الؤلؤ 186 ibid, no. 37, p. 27
131 أيام الحرب القاسية 187 The Chosen Highway, pp. 189–92. 
132 العدوُّ الصديق 190 ibid, pp. 202–5. 
133 صعود حضرة عبد البهاء 193 The Master In ‘Akká, p. 65.