ترويج السلام العالمي
ترويج السلام العالمي

ترويج السلام العالمي

تمهيد

لم يسبق في تاريخ أديان العالم العظمى أن تقابل أهل الغرب وجهًا لوجه مع أيّ من شخصيّاتها ورموزها الرّئيسيّة في صدر الدّعوة، باستثناء ما حدث في بداية التّاريخ المسيحيّ، عندما تقابل السّيّد المسيح مع أحد قادة الرّومان بوصفه مذنبًا عهد به أحبار اليهود إلى هذا القائد للتّخلّص منه، أو عندما جال القدّيسان بطرس وبولس بكلّ حكمة وحذر في ولايات وجزر الإمبراطوريّة الرّومانيّة الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسّط سنينًا طويلة لم يكونا خلالها محلّ ترحيب حكّامها أو شعوبها، بل انتهى الأمر إلى حبسهما وإعدامهما في روما في ظروف محزنة تناقلتها روايات متضاربة.

إلاّ أنّ الإرادة الإلهيّة قدّرت لشعوب كثيرة في أوروبّا وأمريكا – إبّان ما يدعوه البهائيّون بعصر البطولة في العقود الأولى من تاريخ دينهم – أن تحظى بلقاء عبد البهاء عبّاس، الابن الأرشد لحضرة بهاء الله صاحب الرّسالة البهائيّة والّذي عيّنه مركزًا لعهده وميثاقه، ومبيِّن تعاليمه وأحكامه والمَثَل الأعلى لأتباعه. لقد التقى حضرته ببعضٍ من أوائل البهائيّين من أهل الغرب الّذين قدموا إلى فلسطين لزيارته وهو لا يزال سجين الإمبراطوريّة العثمانيّة خلال العقد الأخير من سنوات حبسه الأربعين، ثمّ تلا ذلك ذهابه بنفسه لزيارتهم في ديارهم عبر رحلاته التّاريخيّة الّتي بدأت عام 1910 واستغرقت زهاء ثلاثة أعوام كان فيها محطّ التّرحيب والاحترام والتّبجيل من قِبَل السّاسة والفلاسفة والعلماء وقادة الفكر والزّعماء الدّينيّين والنّبلاء والعامّة والخاصّة من كافّة الطّبقات.

ولد عبّاس أفندي، الّذي لقّب نفسه فيما بـعد بـعبد البهاء، بمدينة طهران عاصمة إيران، لأسرة نبيلة واسعة الثّراء. كان مولده يوم 23 مايو/ أيّار من عام 1844، وهو نفس اليوم الّذي شهد بداية ظهور الدّين البهائيّ عندما أعلن السّيّد علي محمّد الملقّب بـ الباب بعثته للتّمهيد لظهور الميرزا حسين علي النّوري الملقّب بـ بهاء الله. وفيما خلا بضع سنين من طفولته الأولى لم يُكتب لعبد البهاء الرّاحة أو الاستقرار طيلة ما تلا من سنوات عمره، فلم يكد يشتدّ عوده في موطنه إيران حتّى وجد والده وقد زُجّ به في السّجن في ظروف انتقاميّة وحشيّة مع عدد ممّن آمنوا بدعوة حضرة الباب، وفقدت عائلته الموسرة كلّ ضياعها وأملاكها بالاستيلاء والنّهب بين عشيّة وضحاها، وقبل أن يكمل ربيعه التّاسع، شارك والده وباقي أسرته رحلة نفي شاقّة من إيران إلى بغداد في شتاء أواسط آسيا القارس، لتبدأ فترة من النّفي في العراق وبعدها إلى تركيّا مدّتها خمس عشرة سنة حيث أعلن خلالها حضرة بهاء الله أنّه هو الّذي بشّر حضرة الباب بظهوره، ثمّ شرع في صياغة تعاليمه ومبادئ دعوته. تبعت سنوات النّفي القاسية هذه أعوامٌ أطول من السّجن وتقييد الإقامة مدى الحياة لحضرة بهاء الله وأسرته والمقرّبين من أتباعه في حصن مدينة عكّاء وضواحيها بفلسطين. ولكنّ قسوة تلك الحقبة الطّويلة من النّفي والحبس لم تمنع حضرته من إرساء دعائم دينه واجتذاب الآلاف لدعوته في إيران وعديد من ممالك الشّرق الأوسط، ولم تعوقه حالته كمنفيٍّ ومسجون عن إبلاغ رسالته كتابةً بكلّ جلال ووضوح إلى أكثر معاصريه، من ملوك العالم ورؤسائه الدّينيّين والدّنيويّين، قوّةً ونفوذًا. وعندما توفّي حضرة بهاء الله في 29 مايو/ أيّار من عام 1892 بعكّاء، كان قد عهد إلى حضرة عبد البهاء، الّذي أهّلته شخصيّته الفريدة لكي يصبح منذ سنوات شبابه الأولى محلّ ثقة والده وممثّله الشّخصيّ ومنظِّم مقابلاته، بتولّي أمور الدّين من بعده بصفته مركزًا لعهده وميثاقه ومبيّنًا لتعاليمه والمَثَل الأعلى للبهائيّين.

لقد تولّى عبد البهاء مهمّته هذه خلال الأعوام السّتّة عشر الأولى من ولايته وهو مسجون مقيَّد الحرّيّة مثل والده، إلى أن شاءت العناية الإلهيّة أن يُطلَق سراحه هو وغيره من سجناء الرّأي والضّمير في الدّولة العثمانيّة على يد حركة تركيّا الفتاة عام 1908، ليعقد حضرة عبد البهاء عزمه على الفور للقيام بتلك الرّحلات. وتطالعنا مقدّمة مجموعة قيّمة أخرى من خطب عبد البهاء بأنّه قد قام بهذه الرّحلات لكي يحقّق ثلاثة أهداف أساسيّة؛ أوّلها: أن يشدّ من عزم أحبّائه ويساعدهم على إنجاز مشروعاتهم، وثانيها: أن يسهم بنصيبه في شرح حقائق الدّين البهائيّ إلى الجموع المتعطّشة، وثالثها أن يحذّر قادة العالم المتحضّر من اقتراب اندلاع نيران الحرب العالميّة الأولى.[1]

ويصف لنا شوقي أفندي ربّاني – حفيد عبد البهاء ووليّ أمر الدّين البهائيّ من بعده – حالة جدّه حضرة عبد البهاء عندما أخذ على عاتقه مهمّة إيصال رسالة حضرة بهاء الله إلى أهل الغرب وجهًا لوجه، ويلخّص أهمّ ما خاطب به جماهير مستمعيه ومريديه خلال أسفاره هذه بقوله: كانت صحّة حضرة عبد البهاء قد تدهورت في ذلك الحين لعظم ما قاسى من الشّدائد والضّغوط طيلة حياة محزنة معظمها في السّجن والمنفى والّتي تسبّبت له في عدّة أمراض. وكان آنذاك على أبواب السّبعين، إلاّ أنّه ما كاد يتحرّر من أسر أربعين سنة… حتّى نهض في شجاعة سامية وثقة وعزم ليكرّس ما بقي لديه من قوّة في مغرب حياته للقيام بخدمة مجيدة لا شبيه لمجدها في تاريخ القرن البهائيّ الأوّل… ولا ينبغي أن يغيب عن الأذهان أنّ حضرة عبد البهاء دخل السّجن، كما صرّح بذلك، يافعًا وغادره شيخًا، وهو لم يقف في حياته أمام اجتماع عامّ يستمع إليه، ولم يدرُس في مدرسة كما أنّه لم يختلط بالأوساط الغربيّة حتّى يعرف عادات الغرب ولغة الغرب. ومع كلّ ذلك قام لا ليعلن من المنبر والمنصّة في عواصم أوروبّا المهمّة وفي أمّهات مدن أمريكا الشّماليّة الحقائق المميّزة المودعة في دين والده (بهاء الله) فحسب، بل ليوضّح أيضًا الأصول الإلهيّة لمن سبق والده من مظاهر أمر الله، ويبيّن الصّلة الّتي تربطهم بذلك الدّين[2]… وفي تلك السّفرات وأمام جماهير كبيرة فاقت الألف نفس في بعض الأحيان ومثّلت النّاس من مختلف الأجناس والأديان والطّبقات، شرح حضرة عبد البهاء لأوّل مرّة في عهده ببساطة مشرقة وإقناع وقوّة المبادئ الأساسيّة المميّزة لدين والده، وهي المبادئ الّتي تؤلّف مع الشّريعة والأحكام النّازلة في الكتاب الأقدس صلب أحدث ظهور إلهيّ للجنس البشريّ. وكان من أبرز العناصر الجوهريّة للنّظام الإلهيّ الّذي أعلنه لقادة الرّأي العامّ وإلى الجماهير على السّواء في أثناء سفراته التّبليغيّة، التّحرّي عن الحقيقة تحرّيًا مستقلاًّ دون تقيّد بالخرافات ولا بالتّقاليد، ووحدة الجنس البشريّ قطب مبادئ الدّين وأساس معتقداته والوحدة الكامنة وراء جميع الأديان، والتّبرّؤ من كلّ ألوان التّعصّب الجنسيّ والدّينيّ والطّبقيّ والقوميّ، والوئام الّذي يجب أن يسود بين الدّين والعلم، والمساواة بين الرّجل والمرأة فهما الجناحان اللّذان يعلو بهما طائر الجنس البشريّ، ووجوب التّعليم الإجباريّ، والاتّفاق على لغة عالميّة إضافيّة، والقضاء على الغنى الفاحش والفقر المدقع، وتأسيس محكمة عالميّة لفضّ النّزاع بين الأمم، والسّموّ بالعمل الّذي يقوم به صاحبه بروح الخدمة إلى منزلة العبادة، وتمجيد العدل على أنّه المبدأ المسيطر على المجتمع الإنسانيّ، والثّناء على الدّين كحصن لحماية كلّ الشّعوب والأمم، وإقرار السّلام الدّائم العامّ كأسمى هدف للبشريّة. وقد عزّز عرض هذه الحقائق الحيويّة الّتي وصفها بـروح العصر بتحذيرات جسيمة مكرّرة باندلاع نار داهمة تلتهم أوروبّا إن لم ينجح السّياسيّون في تلافيها، كما تنبّأ أثناء سفراته بالتّطوّرات الجوهريّة الّتي سوف تحدث في تلك القارّة، ونبّه على الانحلال الّذي لا بدّ أن يسري في القوّة السّياسيّة، وأشار إلى القلاقل الّتي سوف تداهم تركيّا، وتنبّأ باضطهاد اليهود في أوروبّا، وأكّد تأكيدًا قاطعًا بأنّ عَلَم اتّحاد الجنس البشريّ سوف يخفق وخيمة السّلام العالميّ سوف ترتفع فيصبح العالم عالمًا آخر.[3]

ولإعطاء القارئ فكرة عن الرّقعة الجغرافيّة الشّاسعة الّتي شملتها أسفار شخصيّة أنهكتها ستّ وستّون سنة من ظروف لاإنسانيّة كانت كافية لأن تقعده بقيّة حياته إن لم تقضِ عليها، وباستخدام وسائل مواصلات غير مريحة لم يكن يتوفّر سواها للمسافر في مطلع القرن العشرين، نعود إلى وصف شوقي أفندي إذ يقول أنّ حضرة عبد البهاء قد أبحر (من حيفا) إلى مصر… في عصر يوم من أيّام سبتمبر/ أيلول عام 1910م… وأقام في بور سعيد قرابة الشّهر، ومنها أبحر قاصدًا أوروبّا إلاّ أنّه وجد أنّ حالته الصّحّيّة تقتضي عودته. فعاد إلى الإسكندريّة وأجّل رحلته. فأقام بالرّملة من ضواحي الإسكندريّة وزار بعد ذلك الزّيتون والقاهرة، وفي 11 أغسطس/ آب من السّنة التّالية أبحر مع أربعة أشخاص على ظهر الباخرة كورسيكا إلى مارسيليا، وتقدّم من بعد استراحة قصيرة في ثونون-لي-بان (على ضفاف بحيرة جنيف) إلى لندن فبلغها في 4 سبتمبر/ أيلول عام 1911م. وبعد زيارة دامت قرابة الشّهر ذهب إلى باريس حيث قضى تسعة أسابيع، ثمّ عاد إلى مصر في ديسمبر/ كانون الأوّل عام 1911م. فأقام بالرّملة مرّة أخرى حيث قضى الشّتاء، وقام برحلته الثّانية إلى الغرب على الباخرة سدريك في 25 مارس/ آذار عام 1912م مبحرًا إلى نيويورك مباشرة عن طريق نابولي فبلغها في 11 أبريل/ نيسان. وفي أمريكا قام برحلة طويلة دامت ثمانية أشهر انتقل فيها من الشّاطئ إلى الشّاطئ وزار خلالها واشنطن وشيكاغو وكليفلاند وبتسبرغ ومونت كلير وبوسطن وروشستر وبروكلين وفانوود وملفورد وفيلادلفيا وإنجلوود الغربيّة وجرسي سيتي وكمبردج ومدفورد وموريس تاون ودبلن وعكّاء الخضراء ومونترِيال ومالدن وبفالو وكينوشا ومينيابوليس وسانت بول وأوماها ولنكولن ودنفر وينابيع جلنوود وسولت ليك سيتي وسان فرانسيسكو وأوكلاند وبالو آلتو وبركلي وباسادينا ولوس أنجلس وسكرامنتو وسنسناتي وبالتيمور وأخيرًا في 5 ديسمبر/ كانون الأوّل أبحر على ظهر الباخرة سلتك من نيويورك إلى ليفربول، ولمّا نزل إلى البرّ هناك تقدّم بالقطار إلى لندن. وبعد ذلك زار أكسفورد وإدنبرا وبريستول ومن ثمّ عاد إلى لندن. وسافر إلى باريس في 21 يناير/ كانون الثّاني عام 1913م وفي 30 مارس/ آذار سافر إلى شتوتغارت (بألمانيا) ومن هناك تقدّم في 9 أبريل/ نيسان إلى بودابست (بالمجر)، وزار فيينا (عاصمة النمسا) بعد تسعة أيّام ورجع إلى شتوتغارت في 25 أبريل/ نيسان ثمّ عاد إلى باريس في أوّل مايو/ أيّار حيث مكث إلى 12 يونيو/ حزيران وأبحر في اليوم التّالي على ظهر الباخرة هيمالايا الّتي اتّجهت من مرسيليا إلى مصر، فبلغت بور سعيد بعد أربعة أيّام أخرى. فزار الإسماعيليّة وأبو قير زيارات قصيرة وأقام في الرّملة (بالإسكندرية) إقامة طويلة ثمّ عاد إلى حيفا منتهيًا من سفراته التّاريخيّة في 5 ديسمبر/ كانون الأوّل عام 1913م[4]

ونظرًا لأنّ حضرة عبد البهاء قد توسّم في جماعة البهائيّين في أمريكا الشّماليّة إدراكًا عميقًا لواجباتهم بأن تقترن أقوالهم بالأفعال، واستعدادًا جادًّا لأن يقوموا بإيصال هذا المَدَد الإلهيّ فيما يلي من أعوام إلى المستعدّين من بني البشر، ليس فقط في بلادهم بل في كلّ مكان من العالم يستطيعون الوصول إليه، معتمدًا أيضًا على التّقدّم الرّائع الّذي أنجزته جامعة أتباعه المنظّمة في الولايات المتّحدة وكندا، وتقبُّل الجمهور الأمريكي الملحوظ لرسالته[5] بفضل ما جاءهم به من مبادئ، فقد اختصّ تلك القارّة بما لم يختصّ به غيرها من الأقاليم الّتي زارها، سواء بالنّسبة لطول الأسفار أو كمِّ الفعاليّات الّتي صاحبتها ونوعها.

ويزيدنا تنويرًا وصف شوقي أفندي الموجز لفعاليّات هذا القسم الطّويل من أسفار حضرة عبد البهاء عبر المحيط الأطلسيّ إلى ‘العالم الجديد’ إذ يقول: فلقد تضمّنت زيارته (لأمريكا الشّماليّة) سفرة تزيد على الخمسة آلاف ميل… انتقلت به من شاطئ الأطلسيّ إلى شاطئ المحيط الهادي وبالعكس، وقيل فيها من الخطب والأحاديث ما لو جمعت لملأت ما لا يقلّ عن ثلاثة مجلّدات. فهي زيارة خليقة بأن تشير إلى أوج تلك الرّحلات تبرّرها تمام التّبرير تلك النّتائج البعيدة المدى الّتي علم أنّ جهوده ستنتجها… أمّا صفة الأعمال الّتي قام بها في هذه الزّيارة فقد بيّنت مقدار ما علّقه عليها من أهمّيّة؛ فقد وضع بيده حجر الزّاوية لمشرق الأذكار على شاطئ بحيرة متشيغان قرب شيكاغو… بحضور ممثّلي البهائيّين المجتمعين من كلا المشرق والمغرب، وأكّد تأكيدًا فاعلاً لموادّ الميثاق الّذي أبرمه حضرة بهاء الله بعد قراءة سورة الغصن المترجمة حديثًا، وذلك في اجتماع عامّ عقده أتباعه في نيويورك فسمّوها من بعد ذلك بـ مدينة الميثاق، كما احتفل احتفالاً مؤثّرًا يميّز رحلته الخاصّة من إنْجلوود بكاليفورنيا إلى قبر ثورنتون تشيس أوّل مؤمن أمريكيّ بل أوّل من اعتنق دين بهاء الله في العالم الغربيّ، كما أولم وليمة رمزيّة لعدد كبير من مريديه المجتمعين في الهواء الطّلق في بقعة خضراء في يوم من أيّام يونيو/ حزيران في وست إنجلوود في ولاية نيوجرسي وبارك قاعة الاستماع المكشوفة في عكّاء الخضراء في ولاية ماين على ضفاف نهر بيسكاتاكوا، حيث اجتمع كثير من أتباعه، وهي القاعة الّتي تطوّرت فيما بعد فأصبحت أولى المدارس البهائيّة الصّيفيّة الّتي أقيمت في نصف الكرة الغربيّ… وأخيرًا وليس آخرًا، قام بعمل مثاليّ فعقد قران اثنين من أتباعه مختلفي العنصر أحدهما من البيض وثانيهما من الزّنوج… وقد مهّدت هذه المهمّات الطّريق لبناء بيت عبادتهم المركزيّ وقوّتْهم على اجتياز الامتحانات الّتي كان عليهم أن يعانوها قريبًا، ووطّدت وحدتهم وباركت بواكير ذلك النّظام الإداريّ الّذي كان عليهم أن يبتدئوه قريبًا وأن يحموه ويدافعوا عنه. ولا يقلّ عن ذلك روعة ما قام به حضرة عبد البهاء من فعاليّات عامّة أثناء اتّصاله بجمهور النّاس ومخالطتهم، خلال سفرته عبر القارّة. و… يكفينا أن نقول إنّه ألقى في مدينة نيويورك وحدها من الخطابات العامّة وزار من الأماكن ما لا يقلّ عن خمسة وخمسين مكانًا مختلفًا زيارة رسميّة. [6]

أمّا تنوُّع جمهور من فازوا بلقاء حضرة عبد البهاء في هذه الزّيارة فقد كان أمرًا آخرَ فريدًا في سجلاّت تاريخ نشر الرّسالات الإلهيّة بين بني البشر، إذ يسجّل حضرة شوقي أفندي عمّن كُتب لهم أن يلتقوا بشخص عبد البهاء أنّه قد فاز بمحضره الحيويّ وامتاز بالاستماع إلى رسالة والده (بهاء الله) من شفتيه جمعيّات السّلام والمجامع المسيحيّة واليهوديّة والكلّيّات والجامعات وهيئات البِرّ والإحسان وأعضاء الهيئات الخلقيّة ومراكز حركة الفكر الجديد والجماعات الميتافيزيقيّة (الرّوحيّة) ونوادي السّيّدات والجمعيّات العلميّة ومجامع الإسبرانتو والثّيوصوفيّون والمسيحيّون المورمون والاّأدريّون والمعاهد المنشأة لتقدّم الشّعوب الملوّنة وممثّلو الجاليات السّوريّة والأرمنيّة واليونانيّة والصّينيّة واليابانيّة، ولم تكن الصّحافة في تعليقاتها ونشرها لتقارير محاضراته بحال من الأحوال بطيئة في تقدير سعة أفقه أو طبيعة ندائه… (كما) فاز بمحضره الوزراء والسّفراء ورجال الكونغرس، والأحبار المبرزون ورجال الكنيسة وغيرهم من ذوي المكانة.[7]

وقد يتساءل الإنسان كيف تسنّى لمن شارف السّبعين من العمر، بعد أن أنهكه التّعرّض لشرور ومظالم تنوء بها الجبال، أن ينجز كلّ ما عزم القيام به في القارّة الأمريكيّة في ظرف الشّهور الثّمانية الّتي قضاها بين ظهراني أهاليها. وقد نجد بعضًا من الإجابة عن هذا التّساؤل في وصف شوقي أفندي للمنحى الّذي انتهجه عبد البهاء خلال أسفاره الغربيّة، وإنكاره على نفسه الرّاحة، والالتزام ببرنامج حياة يوميّ لا يقدر من في ريعان شبابه أن يتّبعه، إذ يقول شوقي أفندي أنّ عبد البهاء كان أيّامها غير مكترث للمناظر الخلاّبة والملاهي الّتي تجذب انتباه السّائحين عادة والّتي تاق مرافقوه إلى رؤيتها، غير مهتمّ براحته أو صحّته، باذلاً كلّ ذرّة من قوّته من الفجر إلى ساعة متأخّرة من اللّيل يومًا بعد يوم…[8]

ولدى التّمعّن في هذا السّجلّ الزّاخر بما ألقاه حضرة عبد البهاء من خطب وأحاديث في أسفاره الأمريكيّة هذه، سيدرك القارئ سرَّ انجذاب جماهير مستمعيه بل وانبهارهم لما في أقواله من رؤية ثاقبة وحجّة بالغة وغزارة في العلم والمعرفة واستقراء صحيح لماضي العالم وحاضره ومستقبله وفهم سليم لمشاكل البشريّة وأسقامها وصدق في الحلول العمليّة الّتي طرحها لشفائها من تلك الأسقام، بل سيندهش أيضًا من تحدّيه لجهابذة العلم في أمريكا، وعلى مسمع من طلاّبهم ومريديهم في معاهدهم وجامعاتهم، بدحض نظريّاتهم وإثبات بطلان مفاهيمهم عن مسائل عويصة مثل الألوهيّة والغيبيّات وأصل النّوع الإنسانيّ، مخفِّفًا لوقْع الحقيقة عليهم بمزج حججه الدّامغة بالدّعابة بأن يقارن بين استنتاجهم لعدم وجود خالق لهذا الكون بعد صرفهم سنواتٍ عديدةً في البحث والاستقصاء، وبين توصّل حيوان كالبقرة إلى نفس هذه النّتيجة بالسّليقة دون أدنى عناء.

أمّا ما لم ينقله هذا السّجلّ إلى القارئ الّذي لم يحظَ بلقاء حضرة عبد البهاء، فهو وصف تلك الجاذبيّة الطّاغية الّتي كانت تنبعث من هيكله الجليل المهيب الرّقيق الأخّاذ في آن واحد. فقد كتب معلّق على رحلات عبد البهاء لأمريكا قائلاً: حينما زار حضرة عبد البهاء هذه البلاد لأوّل مرّة عام 1912م وجد جمهورًا كبيرًا محبًّا ينتظرونه ليحيّوه بأشخاصهم وليتسلّموا من شفتيه رسالته في المحبّة والرّوحانيّة… ومن وراء الكلمات المنطوقة كان هناك شيء من شخصيّته لا يمكن وصفه، وكان هذا الشّيء يؤثّر تأثيرًا عميقًا في كلّ من فاز بمحضره، فرأسه الّذي يشبه القبّة، ولحيته الأبويّة، وعيناه اللّتان كانتا تبدوان وكأنّهما تنظران إلى ما وراء الزّمن والحسّ، وصوته الواضح النّفّاذ رغم انخفاضه وتواضعه الخالص، ومحبتّه الغلاّبة، وفوق كلّ شيء ذلك الإحساس بالقوّة يخالطها اللّطف الّذي زوّد كيانه كلّه بجلال نادر نابع من الغبطة الرّوحيّة الّذي نأى به عن النّاس من ناحية وقرّبه من ناحية أخرى إلى أوضع النّفوس، كلّ ذلك وكثير ممّا لا يمكن تعريفه خلق عند العديدين من أصدقائه ذكريات لا يمكن أن تُمحى، ذكريات نفيسة لا يمكن أن توصف بوصف.[9]

أمّا أسلوبه ومسلكه وتوجّهه في كلّ ما قام به من أعمال، فهو ما يجدر بالقارئ أن يتعرّف عليه ممّا كتبه لنا شوقي أفندي، إذ يقول إنّ حضرة عبد البهاء كان خلال تلك الأسفار مصرًّا على رفض أيّة هديّة أو تقدمة تتعلّق بنفقات رحلاته، ثابتًا في رعايته للمريض والمحزون والبائس، راسخًا لا يقبل المساومة في دفاعه عن الأجناس المظلومة والطّبقات المحرومة، مباركًا كالمطر في سخائه للفقير… عجيبًا في صراحته حين يبيّن لليهود من المنبر والمنصّة صحّة نبوّة السّيّد المسيح، وحين يوضّح في الكنائس المسيحيّة والمعابد اليهوديّة أصل الإسلام الإلهيّ، وحين يقيم الدّليل للمادّيّين والملحدين والاّأدرييّن على صدق الظّهور الإلهيّ وضرورة الدّين، جليًّا ناصعًا في بيانه حين يمجّد حضرة بهاء الله في كلّ الأحوال وفي معابد الملل المختلفة والنّحل المتباينة… فائقًا لا قرين له في محبّته ورأفته الفطريّة الأصيلة الحارّة للحبيب والغريب، للمؤمن وغير المؤمن، للغنيّ والفقير، للرّفيع والوضيع، لكلّ من لقيه لقاءً خاصًّا أو لقاءً عابرًا سواء أكان ذلك على ظهر السّفينة أم أثناء سيره في الطّرقات أم في الميادين العامّة والمتنزّهات أم في الاحتفالات أم في الولائم أم في الأكواخ أم في القصور أم في اجتماعات أتباعه أم في مجامع المثقّفين.[10]

ومع أنّ شوقي أفندي لم تُكتَب له مرافقة حضرة عبد البهاء في تلك الأسفار، إلاّ أنّ شدّة تعلّقه بجدّه العظيم ومحبّته له وقربه منه جعله يعطينا تخيّلاً رقيقًا، في كلماته التّالية، لما قد كان يعتلج في صدر جدّه وهو ينتقل من مكان إلى آخر وقد أصبح محطّ كلّ هذا التّبجيل والاحترام في أعلى محافل عالم الغرب المتحضّر بعد أن صَرَف جلّ سِنِيّ عمره منفيًّا ومسجونًا في أكثر زوايا ممالك الإمبراطوريّة العثمانيّة المحتضرة عزلة وتخلُّفًا تحت أقسى صنوف الظّلم والجفاء:

وبعد، فمن يدري ما هي الأفكار الّتي امتلأ بها خاطر حضرة عبد البهاء وقد وجد نفسه محورًا تدور حوله مثل هذه المناظر الخالدة؟ من يدري ما هي الأفكار الّتي تدافع لها عقله… حين كان يسمع صيحات الله أبهى وترانيم الشّكر والحمد تعلن قدومه إلى الاجتماعات العديدة البارعة الّتي نظّمها أحبّاؤه وأتباعه المخلصون في كثير من مدن أمريكا؟ ومن يدري ما هي الذّكريات الّتي طافت بذاكرته وهو يقف أمام شلاّلات نياغارا الصّاخبة ويشمّ الهواء الطّلق من أرض قصيّة، أو وهو يتأمّل غابات ينابيع جلنوود الخضراء وريفها أثناء راحة قصيرة كان في أشدّ الحاجة إليها… أو وهو يمشي وحيدًا في المساء بجوار خليج هدسن المهيب على (رصيف) ريفر سايد درايف…؟ لا شكّ أنّ ذكريات أحزانه وفقره والمصير المسلّط على رأسه في أعوامه الأولى، ذكريات أمّه الّتي باعت أزرارها الذّهبيّة لتطعمه وتطعم أخاه وأخته، أمّه الّتي اضطرّت في أحلك السّاعات إلى أن تضع في راحة يده حفنة من الدّقيق الجاف ليتبلّغ بها فيسدّ رمقه، ذكريات طفولته حين تعقّبته الصّعاليك في شوارع طهران وهزئت به، ذكريات الغرفة الرّطبة الكئيبة الّتي سكنها في ثكنات عكّاء وكانت من قبل مشرحة للموتى، وذكريات حبسه في زنزانة تلك المدينة…[11]

لقد ودّع حضرة عبد البهاء شاطئ أمريكا صباح الخامس من شهر ديسمبر/ كانون الأوّل عام 1912، بعد أن استودع أهلها بل والبشريّة كلّها، خلال تلك الزّيارة، ميراثًا عظيمًا سيظلّ لقرون طويلة عونًا لها على تحقيق السّلام المنشود لعالم أثخنته الحروب وطحنته المعارك وفرّقته الكراهية والتّعصب والبغضاء.

أمّا البهائيّون في أمريكا، وهم الّذين استودعهم أمانة أشدّ إلحاحًا ألا وهي مهمّة تجسيد تعاليم حضرة بهاء الله في حياتهم ومشاركة باقي البشر في نوال الجوهرة الثّمينة المودعة في صدورهم. فكان يوم وداعهم له صعبًا مستصعبًا، بعد أن ألِفوا معشره الفريد واعتادوا لقاءه واستماعه واستشارته في العامّ والخاصّ من الأمور طوال شهور ثمانية لا تُعوّض. ويحكي لنا مؤرخ رحلات عبد البهاء[12] مشهد هذا الفراق، واصفًا حال من صعدوا مع حضرة عبد البهاء إلى السّفينة لوداعه قبل إبحارها عندما حان وقت الفراق، فيقول:

… انصرف الأحبّاء من محضر المبارك الأنور الأعلى إلى خارج السّفينة بعد أن صافحوا حضرته فردًا فردًا ولمسوا ذيل عباءته ملتمسين التّأييد. واصطفّوا على الشّاطئ أمام المركب وقد ارتفع منهم الآه والأنين وأنظارهم متوجّهة إلى طلعةٍ كالقمر. وعندما تحرّكت الباخرة ظهر من أولئك الأحبّاء هيجان واضطراب آخر، وكان حزنهم وحنينهم يحرق الأرواح، وانجذابهم وشوقهم يذيب القلوب، وأعناقهم خاضعة إجلالاً وتعظيمًا، وأياديهم مرتفعة تهليلاً وتكبيرًا. وعلى مدى البصر كان فوج المشتاقين يبدو من بعيد كالموج، ولسان المبارك ينطق بظهور قدرة وقوّة الاسم الأعظم قائلاً: أن انظروا كيف أثار اقتدار أمر الله هيجانًا في القلوب، وأيّ انقلاب أحدثه في النّفوس، وكيف جاء عون الجمال الأبهى وعنايته تترى، وكيف أشرقت أنوار النّصرة من الأفق الأعلى. هذا ما وُعِدْنا به من تأييدات الملكوت الإلهيّ وتوفيقات جبروت الغيب الأبهى كما وعَدَنا به الجمال المبارك بصريح العبارة قوله الأحلى ‘ونراكم من أفقي الأبهى وننصر من قام على نصرة أمري بجنود من الملأ الأعلى وقبيل من الملائكة المقرّبين’[13][14].

 

[1]      مقدّمة كتاب خطب عبد البهاء في أوروبّا وأمريكا ,الّذي طبع بمعرفة المحفل الرّوحانيّ المركزيّ للبهائيّين بشمال شرق إفريقيا – ص(هـ).

[2]      كتاب القرن البديع، ص 339341 (من منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل  نيسان 1986).

[3]     المصدر السّابق، ص 342343.

[4]     المصدر السّابق، ص 341342.

[5]     المصدر السّابق، ص 350.

[6]     المصدر السّابق، ص 350352.

[7]     المصدر السّابق، ص 352.

[8]     المصدر السّابق، ص 343.

[9]     المصدر السّابق، ص 353.

[10]    المصدر السّابق، ص 343344.

[11]    المصدر السّابق، ص 356357.

[12]     طيب الذّكر محمود الزّرقاني، في مؤلّفه بدائع الآثار، وهو لم يترجم بعد إلى اللّغة العربية.

[13]     الكتاب الأقدس، الفقرة 53.

[14]     بدائع الآثار، ص 415416.

 

توضيح

تشتمل هذه المجموعة، من خطب حضرة عبد البهاء الّتي تُقدَّم للمرّة الأولى لقرّائنا الأعزّاء باللّغة العربيّة، على معظم الأحاديث الّتي ألقاها حضرته على مسامع جمهور العطشى من المستفسرين وجماعة المؤمنين في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وكندا خلال زيارته التّاريخيّة لقارّة أمريكا الشّماليّة، أي من اليوم الحادي عشر من أبريل/ نيسان عام 1912 إلى الخامس من ديسمبر/ كانون الأوّل من العام نفسه. وهي مجموعة تمّ تدوينها عن ترجمتها الفوريّة إلى الإنجليزيّة. وقد قام السّيّد هوارد ماكنت، بتكليف من حضرة عبد البهاء، بتجميعها ووضعها في مجلّدين نُشرا في عاميّ 1922 و1925 بعنوان أوصى به حضرته شخصيًّا وهو
The Promulgation of Universal Peace. ثم جُمع المجلّدان بعد ذلك في مجلّد واحد ونُشر في طبعات تالية في الأعوام 1939، 1943، 1982، 2007، وآخرها الطّبعة الّتي صدرت عام 2012 احتفالاً بالذّكرى المئويّة لهذه الزّيارة التّاريخيّة، وهي الطّبعة الّتي اعتمدت في هذه التّرجمة.

ومع أنّ معظم هذه الخطب لم يسبق أن تُرجمت إلى العربيّة من قبل، فإنّ بعضها سبق أن نُشر بالعربيّة مترجمًا عن الفارسيّة كما وردت في مذكّرات الكتبة الإيرانيّين الّذين رافقوا حضرة عبد البهاء في أسفاره للغرب ودوّنوها فور إلقائها، ثمّ نشرت على دفعات في أعداد مجلّة نجمة الغرب[1] الّتي اعتادت أن تصدرها الجامعة البهائيّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة خلال العقود الثّلاث الأولى من القرن العشرين. ثمّ جُمعت بعد ذلك وطُبعت في طهران بإيران عام 1942 باللّغة الفارسيّة في ثلاثة مجلّدات ضمّت ما أُلقي منها في أوروبّا وأمريكا معًا، وهو المصدر الّذي أُخذت عنه معظم الخطب الّتي ترجمت ووضعت في الكتاب الّذي نُشر في السّتّينيّات من القرن الماضي بعنوان خطب عبد البهاء في أوروبّا وأمريكا. وهنا وجدنا أنفسنا أمام خيارين بشأن تناول الخطب الّتي تكرّرت في مصدرين؛ فهل نعتمد ترجمة الخطب الّتي وردت في الكتاب المنشور سابقًا نقلاً عن أصلها باللّغة الفارسيّة؟ أم نقوم بترجمتها ثانية عن ترجمتها الفوريّة باللّغة الإنكليزيّة رغم وجود بعض الاختلاف غير الجوهريّ الّذي لا مناص منه بين النّقل المباشر الأصليّ والتّرجمة الفوريّة له؟ فآثرنا الخيار الثّاني، أي التّرجمة عن النّصّ الإنجليزيّ، حرصًا على تماثل المصدر وتجانس المحتوى، فضلاً عن تسهيل التّراجم المستقبليّة لمراجع وموادّ بهائيّة قد تحتوي على اقتباسات إنجليزيّة من هذا الكتاب.

إنّ ما يجدر ذكره أيضًا أنّ ما تضمّنته صفحات هذا الكتاب لا يشمل كلّ ما ألقاه حضرة عبد البهاء من خطب وأحاديث خلال زيارته لقارّة أمريكا الشّماليّة، لأنّ بعض ما أُلقي كان في مناسبات خاصّة غاب عنها كتبة الاختزال الغربيّون الّذين كان وجودهم مقتصرًا على المناسبات العامّة في العادة. ومن حسن حظ القارئ العربيّ أنّ عددًا من هذه الخطب الغائبة سيجده في كتاب خطب عبد البهاء في أوروبّا وأمريكا المشار إليه آنفًا.

وسيجد القارئ، في معرض مطالعته لهذه الخطب، أنّ حضرة عبد البهاء أورد بعض النّصوص من الكتابات المقدّسة بما تعنيه وتهدف إليه وليس بنصّها الأصليّ، فرأينا الإبقاء عليها كما رُويت عن حضرته.

ونظرًا للأهمّيّة الرّوحيّة والتّاريخيّة لمقدّمة الطّبعة الإنجليزيّة الأولى لكتابنا هذا، وهي الّتي كُتبت بتكليف من حضرة عبد البهاء نفسه وقام حضرته بتصويبها وأوصى بوضعها في صدر الكتاب مع مقابلها الفارسيّ، فقد تمّت ترجمتها أيضًا ووضعت في صدر الطّبعة العربيّة هذه، وكذلك التّمهيد الّذي كتب خصّيصًا لهذه الطّبعة.

وأخيرًا نشارك من سبقونا في القيام بمثل هذه المهمّة الجسيمة رأيهم في أنّ أسلوب عبد البهاء كما هو ظاهر من آثاره الّتي دوَّنها بنفسه، أسلوب فريد في نوعه يتميّز ببساطة وسهولة في اللّفظ، ممّا يجعله سهلاً ممتنعًا وكلّ ما يلاحظه القارئ من تقصير إنّما هو تقصير المترجم أو النّاقل وليس تقصير صاحب الكلمة الّذي شهدت له ولبلاغته أساطين عصره بأنّه صاحب بيان ساحر ولسان فصيح بليغ.[2] لذا، نستميح القارئ عذرًا في أيّ تقصير، فنحن أمام ترجمة عربيّة لترجمة إنجليزيّة فوريّة لما نطق به حضرة عبد البهاء بالفارسيّة.

فريق التّرجمة العربيّة

[1]      كانت هذه المجلة تصدر باللّغتين الفارسيّة والإنجليزيّة، بعنوان نجم باخترو Star of the West

[2]      مقدّمة كتاب خطب عبد البهاء في أوروبّا وأمريكا، الّذي طبع بعناية المحفل الرّوحانيّ المركزيّ للبهائيّين بشمال شرق إفريقيا – ص(ز).

 

مقدّمة الإصدار الأوّل للكتاب بالّلغة الإنجليزيّة عام 1922

قبل أن يضرب زلزال الحرب العالميّة قارّات الأرض ويقلب محيطاتها بسنتين، قام حضرة عبد البهاء بزيارة للولايات المتّحدة الأمريكيّة معلنًا بشارة السّلام العالميّ ووَحدة العالم الإنسانيّ. واستعرض في إعلانه هذا أحوال الأمم وظروفها الاجتماعيّة والدّينيّة والسّياسيّة، وتنبّأ بكلّ وضوح بالاقتتال والتّشاحن الوشيك للنّزعة العسكريّة السّائدة، داعيًا البشريّة إلى راية الهداية الإلهيّة الّتي رفعها ظهور حضرة بهاء الله وتعاليمه في عصر العصور الّذي نحياه الآن. لقد غطّت زيارته الّتي امتدّت من شهر أبريل/ نيسان حتّى ديسمبر/ كانون الأوّل عام 1912 أسفارًا عبرت القارّة ذهابًا وإيابًا، وهي زيارة استلزمت بذل مجهود غير عاديّ وطاقة تستعصي على التّصديق من جانب من شارف السّبعين من عمر قضاه بأكمله تقريبًا منفيًّا ومسجونًا في سبيل أمر الله.

ويمثِّل هذا الكنزُ الثّمينُ من أقواله مجموعةً من الخطب غير الرّسميّة وأحاديث ارتجاليّة أُلقيت باللّغتين الفارسيّة والعربيّة، قام بترجمتها الفوريّة عدد ممّن يجيدون التّحدُّث بعدّة لغات كانوا في صحبته…

لقد قال غداة وصوله إلى مدينة نيويورك جئت إلى أمريكا لأشرح المبادئ الأساسيّة لرسالة حضرة بهاء الله وتعاليمه. وبعدها يكون من واجب البهائيّين في هذه الدّيار أن يُعطوا هذه المبادئ جلوةً وقبولاً في أذهان النّاس وقلوبهم وتطبيقًا لها في حياتهم. لذا فإنّ القارئ سيتبيّن أنّ كلمات حضرة عبد البهاء تتّسم ببساطة واضحة شاملة وخاصّيّة عمليّة، وتتميّز بخلـوّها من الشّطحات الميتافيزيقيّة أو الافتراضات الفلسفيّة، أو مجرّد البلاغة الخطابيّة الجوفاء، عاكسة دائمًا الجمال النّقيّ الصّافي للكلمة الإلهيّة – ذلك الأساس الأوّليّ الجوهريّ الأبديّ الّذي يرتكز عليه العلم والدّين وكافّة أوجه التّقدّم الإنسانيّ.

في معرض أسفاره بالولايات المتّحدة قوبل حضرة عبد البهاء بحفاوة تغمرها روح المحبّة والإجلال في كلّ مكان كان يحلّ فيه. ففَتَحت له دورُ العبادة والكنائسُ من كلّ المذاهب، ومعابدُ اليهود وجمعيّات السّلام والمؤسّسات الدّينيّة والتّعليميّة والكلّيّات ونوادي النّسوة والمجموعات الميتافيزيقيّة ومراكز الفكر الحديث، فتحت له أبوابَها ومنابرَها ومنصّاتِها عن طيب خاطر ودون أيّ تحفـّظ على رسالته الّتي يحملها. حضر مؤتمرات للسّلام في بحيرة موهونك، وزار المنتدى المفتوح في غرين إيكر (عكّاء الخضراء) الواقعة على ضفاف نهر بيسكاتاكوا، وخاطب جموعًا غفيرة في جامعتي كولومبيا وستانفورد، وتحدّث أمام جمعيّات علميّة، وهيئات اشتراكيّة، وجماعات تتمحور حول الأخلاقيّات، ومنظّمات خيريّة إنسانيّة، وحضر حفلات استقبال وولائم في قصور الأثرياء، وزار الفقراء والعامّة في مساكنهم المتواضعة، وحمل مصباح الأمل والاستبشار إلى نفوس بائسة يائسة في إرساليّة الفقراء، – وبالاختصار، لقد أعلن ما حمله من رسالة وتعاليم على عموم الملأ ولكلّ فئات البشر مقدرةً ومكانةً، بدافعٍ طاهرٍ وصادق جعل الكلّ يستمع إليه بكلّ سرور دونما أيّ تعصّب أو عداء. كما أنّ مسعاه الحميد في سبيل أمر الله وخدماته المفعمة بمحبّة الجنس البشريّ كانت كلّها بغير مقابل مادّيّ أو ثمن، ذلك لأنّ حضرة عبد البهاء لم يكن يقبل أبدًا أيّ مقابل مادّيّ – وهي سابقة غير عاديّة بمعنى الكلمة وخروج كامل على أساليب التّربّح وجمع المال الّتي يلجأ إليها غيره من الزّائرين القادمين من بلاد الشّرق. بل على العكس من ذلك، دأب على التّبرّع بسخاء للكنائس والهيئات الدّينيّة المحتاجة، ولطالما دعم الجمعيّات والرّابطات الّتي تُكرّس نفسها للمبادئ والمُثل العموميّة بهبات وتبرّعات سخيّة. وها هو ذات ليلة يقف في مدخل إرساليّة للفقراء ويوزّع قطع نقدٍ فضّيّة على صفّ طويل من الفقراء والبائسين بلغت قيمتها مائتي دولار، متحدّثًا إليهم بكلمات مشجّعة ترفع من معنويّاتهم وهم يمرّون من أمامه واحدًا تلو الآخر. لقد رفض حضرة عبد البهاء في كلّ الظّروف والمناسبات قبول أيّ مبلغ من المال سواء لشخصه أو للأمر الّذي يمثّله. وعندما بلغ نبأُ اعتزامه زيارةَ هذه البلاد مسامعَ البهائيّين فيها، جمعوا مبلغًا قدره ثمانية عشر ألف دولار كمساهمة منهم في نفقات رحلته. وقد تمّ إعلام حضرة عبد البهاء بهذا العمل وحُوّل له جزء من ذلك المبلغ. فأرسل حضرته لهم برقيّة جوابيّة يخبرهم فيها بأنّه لا يمكنه قبول أيّ من هذه الأموال الّتي جمعها أحبّاؤه، وأعاد المبلغ طالبًا منهم أن ينفقوا ما جمعوه على الفقراء.

وبالاختصار، كانت زيارة حضرة عبد البهاء لأمريكا فريدة وموسومة بسمات رسالته القدسيّة السّامية، وتعكس تجرّدًا في الهدف وطهارة في النّيّة لا تخطئهما العين. وكنّا نرى فلاسفة وعلماء ولاأدريّين ومادّيّين وأساتذة جامعات وأعضاء في السّلك الدّبلوماسيّ والحكوميّ يأتون إلى محضره وجميعهم في غاية الإنصات والاهتمام بما يقوله، طارحين بكلّ إخلاص أسئلتهم عمّا يقدّمه من مبادئ سامية ومُثُل كاملة عن الرّسالة البهائيّة، وتطبيق تلك المُثل والمبادئ في تنوير الجنس البشريّ وترقيته وتوحيده. ووسمت نبرةُ الاحترام والتّبجيل أسلوبَ كافّة مقالات الصّحف اليوميّة وما نشرته عنه في كلّ مكان ومناسبة، بما ينمّ عن إدراك وشعور تلقائيّ بمقصده السّاميّ وفضل تعاليمه الجليّ الواضح على العالم.

ولا يكون إدراكنا كاملاً لمهمّة ومكانة هذا البشير المنير لليوم الجديد دون استعراض مشهد سلسلة الأحداث الدّينيّة الّتي تمتدّ من الفترة الّتي عاصرت على وجه التّقريب مولد الاستقلال الأمريكيّ عام 1776 حتّى وقت لقائنا بحضرة عبد البهاء في هذه الدّيار. وهو مشهد له أهمّيّة خاصّة أيضًا إذا ما علمنا أنّ حضرة بهاء الله، عندما خاطب ملوك العالم ورؤساءه بالألواح الّتي بعث بها إليهم عام 1868 وفي الكتاب الأقدس أيضًا، خاطب حكّام أمريكا ورؤساء الجمهور فيها متفضّلاً: يا معشر الأمراء… اجبروا الكسير بأيادي العدل وكسّروا الصّحيح الظّالم بسياط أوامر ربّكم الآمر الحكيم.[1] ويكفينا الآن موجز مختصر جدًّا لعرض هذا التّسلسل الرّوحانيّ والمنظومة التّاريخيّة الّتي يجسّدُ شخصُ حضرة عبد البهاء تتويجَها وتحقُّقَها.

لقد انعكست بوادر إشراق شمس الحقيقة – كلمة الله الّتي سطعت من سماء المشيّة الرّبّانيّة على أفق العالم الإنسانيّ في هذا الدّور المنير – على مرآتيْ القداسة الصّافيتين: الشّيخ أحمد الأحسائي والسّيّد كاظم الرّشتي. وكما يكون نجم الصّبح سابقًا لمجيء نيّر النّهار الأعظم، نهض هذان الرّوحان المنيران، الواحد تلو الآخر، في إقليم فارس قرب نهاية القرن الثّامن عشر، نافذَيْن في ظلام اللّيل الحالك، ومعلنَيْن عن بهاء المظهر الّذي يوشك على الظّهور. وبانتهاء تلك المهمّة، انطفأ مصباحا وجودهما الجسديّ عامي 1826 و 1844 على التّوالي.

وفي اليوم الثّالث والعشرين من شهر مايو/ أيّار من عام 1844، أضاء العالمَ بغتةً حضرةُ الباب، السّيّد علي محمّد، بإعلانه في مدينة شيراز بإيران بأنّ يوم الله قد صار وشيكًا. وارتفع صوت ذلك الرّسول الملكوتيّ الصّبيح بندائه الإلهيّ زهاء ستٍّ من السّنين، بوصفه بشيرًا وممهّدًا، إلى أن توقّف لسانه وقلمه عن بيانه النّورانيّ الوضّاح عام 1850 بتجرّعه كأس الشّهادة المجيد.

وبعدها استنارت سماء الأديان بالنّور السّاطع، حضرة بهاء الله، وهو الكلمة الإلهيّة اللاّئحة وشمس الحقيقة الواضحة الّتي أفاضت على عالم البشريّة طوال أربعين سنة إلى أن توارت عن دنيانا عام 1892. وطوال تلك السّنين الأربعين تعرّضت تلك الكينونة البهيّة لسلسلة متتابعة من النّفي والسّجن والظّلم والاضطهاد على يد حكّام دنيويّين، إلى أن صعدت، بعد ما عانته من مصاعب جمّة وآلام لا حدّ لها، مبتعدة عن تلك الظّروف والأحوال المزرية من طغيان في الدّين والسّياسة قاصدة مقامها في العالم الأسمى.

غير أنّ المعادلة الخاصّة بالمقصد الإلهيّ لم تكن قد اكتملت بعد. فمجيء حضرة بهاء الله كان تحقيقًا لوعود تنبّأت بها الكتب المقدّسة عند المسيحيّين والمسلمين والزّرادشتيّين والهندوس والبوذيّين وغيرهم. ووجدت تلك الأنظمة الدّينيّة بعقائدها وعباداتها – وهي الأنظمة الّتي كانت منفصلة عن بعضها البعض كالأنهار المحصورة في مجاريها وغير القادرة على الامتزاج معًا في مجرى واحد – وجدت وحدتها وامتزاجها المقـدّر المرسوم في بحر بيان حضرة بهاء الله الذي لا ينضب. كما أنّ أسمى وأينع ثمار الظّهور الإلهيّ، بل ومجد النبوّة والمآل الجامع لتحقّق كافّة الرّسالات السّماويّة، لم يكن سوى خلاصة الدّورات وجوهرها، الموسوم بـ سرّ الله – ذلك العبد الكامل الّذي وَجدت في شخصه كلٌ من المشيئة الرّبّانيّة والإرادة البشريّة تمام امتزاجهما وتلاحمهما. إذ إنّ تلك الشّخصيّة القدسيّة كان مقدّرًا لها أن تَظهر في يوم الله العظيم، يوم الإشراق العميم، ذلك اليوم الّذي فيه يُعلـَنُ مجد الرّبّ ويراهُ كلُّ بَشَرٍ جميعًا[2]

لقد صارت أممُ الأرض وشعوبُها، في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، على درجة كبيرة من التّقارب والتّرابط، وغدت متشابكة معتمدة على بعضها البعض فيما يتعلّق بضروريّات الحياة ومتطلّباتها، حتّى إنّ مشاكل وسياسات أيّ حكومة بعينها أصبحت تؤثّر اليوم على أحوال كافّة الحكومات الأخرى. فصار العالم أسرة إنسانيّة واحدة ممتدّة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا في مصالحها، والمسؤوليّات فيه غدت مشتركة متبادَلة، والمشاكل عامّة شاملة. لذلك كانت الكلمة الإلهيّة الّتي جاء بها حضرة بهاء الله عموميّة وشاملة في مبادئها وعلاجًا لأحوال البشر – وهي أحوال، رغم كونها نتاجًا مباشرًا لإرادة البشر ومن صُنْعِهم، إلاّ أنّ الرّؤية النّافذة الشّاملة قد تنبّأت بها وجاءت على ألسن النّبيّين كما هو مذكور في كافّة الكتابات المقدّسة. فقبلت الانضواء تحت ذلك اللّواءِ المرفوعِ، لواء الاتّحاد والائتلاف، جموعٌ غفيرةٌ من الأنفس المستنيرة في ربوع الشّرق واتّبعته. ومع أنّهم كانوا متعادين ومختلفين في مشاربهم وعقائدهم وعلومهم الدّينيّة، إلاّ أنّهم، بفضل التّأثير النّافذ لروح الكلمة الرّبّانيّة الّتي صارت ماثلة في شخص حضرة بهاء الله، قد بلغوا ذلك المقام المبارك المحمود في سماء الملكوت – مقام الوحدة والمحبّة.

ومن أجل تقوية وحماية هذه الوحدة والمحبّة وازديادهما، عيّن حضرة بهاء الله خلفًا له يتوجّه إليه الكلّ من أجل النّصح والاستنارة من بعده، إذ عيّن ابنه الأرشد الغصن الأعظم عبد البهاء، وذلك في كتاب عهده الّذي سطره بخطّ يده المباركة، مركزًا لعهده وميثاقه – مركزًا يرى فيه البهائيّون في كلّ العالم سلطةً مستمَدّةً من العبوديّة المحضة لعتبة الكلمة الإلهيّة اللاّئحة. وهذا هو جوهر كيانه وكينونته ولقبه – عبد البهاء.

وتتجلّى الحكمة البالغة من هذا الاختيار في نواحٍ عدّة. فهي تتّضح بشكل خاصّ عندما نتذكّر أنّ حضرة عبد البهاء كان منذ صباه ملازمًا لحضرة بهاء الله ولم يكن يفارقه أبدًا. لقد ولد في طهران ليلة الثّالث والعشرين من شهر مايو/ أيّار عام 1844، وهي نفس اللّيلة الّتي أعلن حضرة الباب فيها دعوته، أي أنّ مولده كان بشيرًا على دلالةِ وأهمّيّةِ كلٍّ من حياته وشخصه في العمليّات الإلهيّة وتحقُّق الوعود لهذا الدّور المنير. وعندما كان صبيًّا في الثّامنة من عمره كان من بين ذلك النّفر المنفيّ القليل الّذي عَبَرَ حدود إيران إلى العراق، مشاركًا محنهم ومعاناتهم بثبات بطوليٍّ، ثمّ تعرّض مع الباقين لحبس متعاقب في مختلف المدن إلى أن أُودِعوا حصنَ سجن مدينة عكّاء ببرّ الشّام في اليوم الواحد والثّلاثين من أغسطس/ آب عام 1868. كان سجلّ حياة حضرة عبد البهاء، طوال هذا الامتثال الوفيّ الطّويل لحضرة بهاء الله والإخلاص لأمر الله، طاهرًا ناصعًا بديعًا بسموّه ووضّاحًا بجمال قدسه. وعندما انتهى عهد السّلطان عبد الحميد الاستبداديّ الظّالم، فُتحت أبواب عكّاء على مصاريعها، وانطلق منها حضرة عبد البهاء حرًّا في ذكرى مرور أربعين سنة على دخوله ذلك المكان الخرب الّذي يعجز اللّسان عن وصفه. كان ذلك في اليوم الواحد والثّلاثين من أغسطس/ آب عام 1908. وبعد سنتين على إطلاق سراحه من ذلك الاستشهاد الحيّ الّذي عاناه طوال ستٍّ وخمسين سنة، زار أوروبّا عام 1911 وهو في السّابعة والسّتّين من عمره، ثمّ عاد منها إلى مصر الّتي أبحر منها عام 1912 قاصدًا أمريكا كما مرّ ذكره.

لدينا حتّى الآن من الشّواهد على القوى والتّأثيرات الغيبيّة المحيطة بحياة حضرة عبد البهاء ما يكفي لترك انطباع قويّ وقناعة لدى أيّ نفس متدبّرة بأنّنا أمام شخصيّة فريدة جليلة، وطلعة تُسخِّر العالم عهد إليها بمهام رفعة البشرية وتوحيدها وتحقيق أمنها وأمانها. وبغير الالتفات إلى جمال شمس الحقيقة اللاّمع هذا يكون ظلام آفاق العالم دامسًا حقًّا. فضجيج العالم الإنسانيّ يعلو وهو يغرق أكثر فأكثر باندفاع متزايد في طوفان المادّيّة، معلنًا عن حاجته الملحّة للعون ولهفته إلى العلاج – إلى روح حياة جديدة خلاّقة وإلى نهضةٍ وتحوُّلٍ شامل، وإلى قوّة وعلاج يأتيان مباشرة من عند الله. وها هو حضرة عبد البهاء، سفير الصّلح العموميّ ووحدة العالم الإنسانيّ، ينادي في هذا الوقت بالذّات بنداء الصّلاح والفلاح لأمم الأرض، بكلمات ملكوتيّة تعزّزها قوّة دافعة محرّكة روحانيّة، مفعمة بنفثات روح القدس الطّاهرة…

إنّ مقام عبوديّة عبد البهاء في الأمر الإلهيّ هو مقام شامل جامع بالنّسبة للعالم كلّه ويتخطّى حدود العِرق والطّائفيّة والمذهب والقوميّة، مقام فائق في سموّه، كامل في تواضعه – خادم خُدّام الله. فكم هي متميّزة حقًّا وبالغة في أهمّيّتها تلك الزّيارة الّتي قام بها لشواطئ عالم الغرب، وكم هي واعدة ومحمّلة بالمعاني والآمال تلك الكلمات الّتي خاطب بها مدنيّة الغرب المادّيّة الّتي تتّسم بأعلى درجات التّنظيم، وكم هي خلاّقة وفاعلة رسالة السّلام ووحدة العالم الإنسانيّ الّتي أتى بها، تلك الرّسالة الّتي تربط ما بين الشّرق والغرب في تآزر روحانيّ، وتحقّق الامتزاج والوفاق بين ما نسمّيه بالعالم القديم والعالم الجديد في ظلّ الشّرائع الخيّرة الرّحيمة الّتي جاءتنا من الملكوت السّماويّ.

وامتثالاً لتكليف مباشر من حضرة عبد البهاء، قام تابعٌ خاضعٌ لنوره وعاشقٌ مخلصٌ لجماله بتحرير هذه المقدّمة، داعيًا أن ينير البهاءُ الإلهيُّ هذا القلبَ ويوفّق هذا القلمَ على تحقيق ما يريده حضرتُه من هذه المهمّة الكبرى.

هوارد ماكنت

[1]      الكتاب الأقدس، الفقرة 88.

[2]     الكتاب المقدّس، إشعياء، 405.

 

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في نيويورك وبروكلين (1) 11 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد إدوارد كيني وحرمه
780 شارع وست إند، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوبر هاريس

كيف حالكم؟ أهلاً بكم! مرحبًا بكم!

بعد وصولي اليوم، ورغم كوني مرهقًا من السّفر، لم يكن بوسعي أن أقاوم فكرة لقائكم هذه لأنّني كنتُ في أشدّ الشّوق والاشتياق لرؤيتكم. وما إن التقيت بكم الآن حتّى زال عنّي كلّ تعب لأنّ لقاءكم سبب سرور روحانيّ.

كنت في مصر ولم أكن بصحّة جيّدة، ولكنّني رغبت أن آتي إليكم في أمريكا. قال لي أحبّائي ‘إنّ هذه رحلة طويلة، والبحر شاسع، يجدر بك البقاء هنا.’ ولكن، كلّما زاد نصحهم وإلحاحهم ازداد شوقي للقيام بهذه الرّحلة، وها أنا ذا قد أتيت الآن إلى أمريكا للقاء أحبّاء الله. وستُثبت هذه الرّحلة الطّويلة عظيم محبّتي لكم. كان هناك الكثير من المتاعب والمشقّات ولكن بمجرّد التّفكير بلقائكم زالت جميعها وطواها النّسيان.

إنّني مسرور جدًّا بمدينة نيويورك، فمدخل مينائها وأرصفته ومبانيها وطرقها الفسيحة جميعها فخمة وجميلة. إنّها مدينة بديعة بمعنى الكلمة. وبمثل ما تقدّمت نيويورك في المدنيَّة المادّيّة، آمل أن تترقّى روحيًّا أيضًا في ظلِّ الملكوت الرّبّانيّ والميثاق الإلهيّ حتّى يصير الأحبّاء هنا سببًا في استنارة أمريكا، وتصبح هذه المدينة مدينة للمحبّة، وتنتشر نفحات الله من هذه البقعة إلى بقاع الأرض كلّها. لقد جئت من أجل هذا، وأدعو الله أن تكونوا مظاهر محبّة حضرة بهاء الله، ويصبح كلّ واحد منكم سراجًا وهّاجًا يشعّ على كلّ الأمم والشّعوب من مشكاة أنوار أفضال الجمال المبارك. هذه هي غاية آمالي.

لقد كانت رحلة طويلة جدًا، وكلّما توغَّلنا في عُباب البحر بدا لنا اتّساعُه أكثر وأكثر. كان الطّقس جميلاً ورائعًا طوال الرّحلة، فلم تصادفنا عاصفة، ولم يكن للبحر نهاية.

إنّني مسرور جدًّا بلقائكم جميعًا هنا اليوم. والحمد لله أنّ وجوهكم مشرقة بمحبّة حضرة بهاء الله، فمشاهدتها سببٌ في سعادة روحيّة عظيمة. وقد تمّ التّرتيب للقائكم كلّ يوم في بيوت الأحبّاء.

كان النّاس في الشّرق يسألونني: ‘لماذا تبادر إلى هذه الرّحلة الطّويلة، فلن يتحمّل جسمُك مشاقَّ رحلة كهذه؟’ ولكن بمقدور جسدي أن يتحمّل كلّ شيء عندما يكون ذلك ضروريًّا، فقد تحمَّل سجن أربعين سنة، وبوسعه أن يتحمّل شديدَ المحن.

سأراكم مرّة أخرى. أتوجّه بتحيّتي إلى كلّ واحد منكم شخصيًّا آملاً أن تكونوا جميعًا سعداء، وأن نلتقي مرّة بعد مرّة.

(2) 12 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد هوارد ماكنت
وحرمه 935 إيسترن بارك واي، بروكلين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

هذه أسعد زيارة لي! لقد طويتُ البحر قادمًا من أرض المشرق لنيل فرحة لقاء أحبّاء الله. وعلى الرّغم من كوني متعبًا بعد سفري الطّويل، فإنّ أنوار الرّوح المشرقة من وجوهكم تجلب لي الرّاحة والرّضاء. والإحساسات الملكوتيّة متوهّجة في هذا اللّقاء، فهذا البيت بيت روحانيّ، إنّه بيت الرّوح. فلا وجود للاختلاف هنا، بل كلُّ المحبّة والاتّحاد. وعندما تلتقي الأرواح بهذه الكيفيّة تهبط عليها المواهب الرّبّانيّة. إنّ الغرض من خلق الإنسان هو نيل أسمى الفضائل الإنسانيّة بواسطة هطول المواهب الملكوتيّة. فالمقصود إذًا من خلق الإنسان هو الاتّحاد والوفاق، وليس التّباعد والاختلاف. فلو كانت الذّرّات الّتي يتشكّل منها عالم الجماد محرومة من الانجذاب لبعضها البعض، لما تسنّى للأرض أبدًا أن تتكوَّن، ولا للكون أن يُخلق. ولأنّها منجذبة لبعضها البعض، صار ممكنًا لقوّة الحياة أن تظهر، ولكائنات عالم الإمكان أن توجد. وإذا ما فُقد هذا الانجذاب أو التّجاذب بين الذّرّات يتوقّف تجلّي قوّة الحياة، ويكون عندها الموت والعدم.

كذا الحال على هذا المنوال في عالم الرّوح. فعالم الرّوح هو ملكوت الانجذاب والتّآلف الكامل، وهو ملكوت الرّوح الرّبّانيّة الواحدة – أي ملكوت الله. وعلى هذا فإنّ الانجذاب والمحبّة اللاّئحَيْن في هذا الجمع، والإحساسات الرّبّانيّة الّتي نشهدها هنا، ليست من هذا العالم بل من عالم الملكوت. وإذا تباعدت الأرواح واستولت عليها الأنانيّة فإنّ المواهب الإلهيّة لا تتنزّل، وأنوار الملأ الأعلى لا تنعكس منها، حتّى لو التقت الأجسام. فالمرآة الّتي تتوارى عن الشّمس لا يمكنها أن تعكس إشراقها. الحمد لله! إنّ غرض هذا الجمع هو المحبّة والاتّحاد.

لقد جاء أنبياء الله من أجل إقامة وحدة الملكوت وترسيخها في قلوب البشر، فأعلنوا جميعًا بشارات العطايا الرّحمانيّة للعالم الإنسانيّ. وجاءوا كلّهم برسالة المحبّة الرّبّانيّة ذاتها إلى البشر. فحضرة يسوع المسيح فدى بحياته على الصّليب من أجل وحدة الجنس البشريّ. وبالمثل ضحّى كلّ من آمن بحضرته بالحياة وبالعزّ والممتلكات والعائلة وبكلّ شيء لعلّ عالم الإنسان يتحرّر من سعير الشّحناء والبغضاء وجحيم النّزاع والجدال. وأسَّس دعوته على وحدة الإنسانيّة، ولم يُقبل إليه إلاّ القليل. لم يكن هؤلاء من ملوك عصره وحكّامه، ولم يكونوا من الأغنياء أو ذوي الشّأن، بل كان بعضهم من صيّادي السّمك، وكان معظمهم أمّيّين ليس لهم من علوم الدّنيا نصيب. بل إنّ واحدًا من أعظمهم، وهو بطرس، لم يكن يعرف كيف يتذكّر أيّام الأسبوع. وكانوا جميعًا أقلّ النّاس شأنًا في نظر العالم. ولكنّ قلوبهم كانت صافية ومنجذبة بأنوار الرّوح القدس الظّاهرة في المسيح. وبهذا النّفر القليل غزا المسيح عالم الشّرق والغرب. لقد ثار عليه الملوك والمملوك، وقام الفلاسفة وأعلم العلماء بمهاجمة دعوته وتكفيرها، إلاّ أنّهم قُهِروا جميعًا ودُحِروا وخَرُست ألسنتهم وأُطفئ نورهم وغارَ كيدهم ولم يبق لهم الآن من أثر، وصاروا عدمًا، بينما أصبح ملكوته مظفـّرًا باقيًا.

لقد علا كوكب دعوته اللاّمع في قطب الزّوال، بينما حجب الظّلام أعداءه وأحاط بهم من كلّ الجهات، وأصبح اسمه المبارك الآن، الّذي لم يكن يحبّه ويعشقه إلاّ نفر قليل من الحواريّين – محلّ تقديس ملوك العالم وأممه. فقدرته خالدة، وسلطانه باقٍ إلى الأبد، بينما رجع معارضوه إلى التّراب، ولا يذكر لهم اسم ولا رسم. أمّا جيشه الصّغير من الحواريّين، فقد أصبح جحافل بالملايين، وصارت جندُ السّموات والملأ الأعلى كتائبَه، وكلمةُ الله سيفَه، وقدرةُ الله نصرَه.

كان المسيح على علم بأنّ هذا سيحصل، فرضي بالمعاناة. كانت الذّلّـة له عزّة، وإكليله من الشّوك تاجًا ملكوتيًّا. وحالما وضعوه وضغطوه على رأسه المبارك وبصقوا على وجهه الصّبيح، أرسوا بذلك قواعد مملكته الخالدة. فها هو ما زال يحكم إلى اليوم، أمّا هم فقد ذهبوا وذهبت أسماؤهم هباء. هو حيّ خالد مجيد، أمّا هم فقد صاروا عدمًا. هم سَعَوْا للقضاء عليه، لكنّهم قَضَوْا على أنفسهم وأجّجوا لهيب ناره بأرياح اعتراضهم.

إنّه بتضحيته بنفسه، وبتعاليمه المباركة دخلنا في ملكوته. كان تعليمه الأساسيّ وحدة الجنس البشريّ ونيل أرفع الفضائل الإنسانيّة بالمحبّة. لقد جاء لتأسيس ملكوت السّلام والحياة الأبديّة. هل يمكنكم أن تجدوا في كلامه أيّ مبرّر للشّحناء والبغضاء؟ كان الغرض من حياته ومجد مماته تخليص البشر من أوزار النّزاع والقتال وإراقة الدّماء. وتفتخر أمم العالم العظمى بأنّ قوانينها وحضارتها قد أُسّست على دين المسيح، فلماذا إذًا يحارب بعضُهم بعضًا؟ لا يمكن أن نرفع لواء ملكوت المسيح بتقويضه وعصيانه، فرايات جنده لا يمكن أن تتقدّم جيوش الشّيطان. انظروا إلى صورة إيطاليا المؤسفة وهي تشنّ الحرب على طرابلس. فإذا قلتم عنها إنّها أمّة همجيّة وليست مسيحيّة لتمّ إنكار ذلك بكلّ شدّة. ولكن هل كان السّيّد المسيح ليقبل ما يفعلونه في طرابلس؟ وهل في إزهاق أرواح البشر طاعة لناموسه وتعاليمه؟ في أيّ موضع أمر حضرة المسيح بذلك؟ وفي أيّ موقف ارتضى هذا؟ لقد قُتل حضرته على يد أعدائه، بيد أنّه لم يَقتُل أحدًا، وإنّما أحبّ من وضعوه على الصّليب ودعا من أجلهم. لذلك فإنّ هذه الحروب والأعمال الوحشيّة، وهذا الحزن والكرب وإراقة الدّماء ليست من المسيح في شيء بل من المسيخ. فتلك هي جيوش الموت وجنود الشّيطان لا جنود ملأ الرّحمن.

لا يقلُّ عن هذا مرارةً ذلك الصّراع المُحتدِم بين الطّوائف والنّحل. لقد كان المسيح مركز الاتّحاد والمحبّة الرّبّانيّة. فعندما يعمّ الاختلاف بدل الاتّحاد، وأينما تحلّ الكراهية والخصومة محلّ المحبّة والألفة الرّوحانيّة، يسود حكم المسيخ بدل المسيح. فمَنْ منهم يا تُرى على حقّ في هذه الشّحناء والبغضاء بين الطّوائف؟ وهل أمرهم السّيّد المسيح بمحبّة أم بكراهية بعضهم بعضًا؟ فحضرته حتّى مبغضيه قد أحبّهم، ودعا بالرّحمة لقاتليه حين صلبه. فلا يكون الإنسان مسيحيًّا إذًا بمجرّد أن يحمل اسم السّيّد المسيح ويقول ‘أنا من حكومة مسيحيّة’، فلكي يكون المرء مسيحيًّا حقًّا عليه أن يكون خادمًا لأمره وملكوته، ومنضويًا تحت راية سلامه ومحبّته لكلّ البشر، مضحّيًا بذاته ومطيعًا لأمره، وحيـًّا بنفثات الرّوح القدس، ومرآة تعكس بهاء لاهوت المسيح، وشجرة مثمرة في حياض رياضه، وينعش العالم بماء تعاليمه الواهب للحياة – أي يقتدي بحضرته في جميع الأمور، ويكون مفعمًا بروح محبّته.

الحمد لله! إنّ نور الاتّحاد والمحبّة يسطع من هذه الوجوه، وهذه الإحساسات الرّوحانيّة هي ثمار الملكوت الحقيقيّة. لقد أعلن كلّ من حضرة الباب وحضرة بهاء الله منذ أكثر من ستّين سنة بشارات الصّلح العموميّ، واستشهد الباب في سبيل أمر الله، وتحمّل حضرة بهاء الله آلام السّجن والنّفي أربعين سنة حتّى يتأسّس ملكوت المحبّة في الشّرق والغرب، فأتاح لنا أن نلتقي هنا بالمحبّة والاتّحاد. وبتحمُّله معاناة الحبس، ها نحن اليوم أحرار في المناداة بوحدة العالم الإنسانيّ الّتي وقَفَ حياته من أجلها بكلّ إخلاص زمنًا طويلاً. لقد قـُيـّد بالسّلاسل والأغلال في سجون مظلمة، وكان بلا طعام، ورفاق سجنه من اللّصوص والقتلة، وكان هدفًا لكلّ أذيَّة وبليَّة، إلاّ أنّه في معرض كلّ هذا لم يكفّ أبدًا عن المناداة بحقيقة كلمة الله المباركة، وبوحدة الجنس البشريّ. لقد جمعتنا اليوم هنا قوّة كلمته العليا – أنتم من أمريكا وأنا من إيران – بكلّ محبّة واتّحاد روحيّ. فهل كان هذا ممكنًا في ما خلا من القرون؟ فإذا كان هذا ممكنًا اليوم بعد خمسين سنة من التّضحية وتبليغ رسالته، فما الّذي ينتظرنا في ما سيأتي من قرون بديعة؟

لهذا كلّه، لتكُنْ وجوهُكم أكثرَ إشراقًا بالأمل والعزم الملكوتيّ على خدمة أمر الله، ونشر أطيب النّفحات من روض الوحدة الإلهيّة، وإيقاظ الإحساسات الرّوحانيّة في أفئدة البشر، وإيقاد روح الإنسانيّة ثانية بنار الرّحمن، لتعكس مجد الملكوت على ظلمة عالم النّاسوت. وعندما تفوزون بهذه الإحساسات الملكوتيّة سيكون بإمكانكم إيقاظها وخلقها في نفوس الآخرين. فلا يمكننا أن نُغدق المال على الفقراء ما لم نحُزْه. ومن أين للفقير أن ينفق على الفقير؟ وأنّى للنفس المحرومة من العطايا الملكوتيّة أن تنمّي القابليّة لنيل تلك العطايا في غيرها من النّفوس؟

زيِّنوا نفوسكم بكمالات الفضائل الإلهيّة. وكلّي أمل في أن تحيوا وتنتعشوا بنفثات الرّوح القدس. عندئذ تصبحون حقًّا ملائكة السّماء الّتي وعد المسيح بظهورها في هذا اليوم المبارك لتجني ثمار كرْم الله. هذا هو أملي، وهذا هو دعائي من أجلكم.

 

(3) 12 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمرسم الآنسة فيليبس،
39 غرب الشّارع السّابع والسّتّين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه جون جراندي

أحيّيكم تحيّة المحبّة والاتّحاد.

إنّ شئون هذا العالم لا تساوي شيئًا أمام السّرور والحبور بلقاء أحبّاء الله. وقد جئت إلى هنا لأحظى بهذا السّرور وهذه النّعمة، مع أنّني مجهد ومتعب من رحلتي الطّويلة عَبر البحار. أشعر بسعادة غامرة في هذه اللّيلة وأنا أنظر إلى وجوه هذا الملأ الرّبّانيّ. ولا شكّ أنّ اجتماعكم هنا شاهد على أنّكم ثابتون على أمر الله، وأنّكم تدعمون وتساعدون في بناء ملكوت الله. لذا، فإنّ ذروة سعادتي أن أنظر إلى وجوهكم فأدرك بأنّكم اجتمعتم هنا بقوّة وقدرة الجمال المبارك، حضرة بهاء الله. وها أنتم في هذا الجمع ترفعون لواءه وتساندون أمره. لذا أشاهد فيكم غرسة شجرة مباركة طيّبة سوف تؤتي أُكُلَها السّماويّ رزقًا لعالم الإنسان.

فبقلوب متأجّجة بمحبّة الله، وأرواح منتعشة بالمنّ السّماويّ، انطلقوا كما انطلق الحواريّون قبل ألف وتسعمائة سنة لتُحيوا قلوب العباد بنداء البشارات، بوجوه نوراء منقطعين عمّا سوى الله. ولأجل هذا، اجعلوا طراز حياتكم مطابقًا لأوّل تعاليم الحقّ السّماويّة ألا وهو المحبّة، واعلموا أنّ خدمة عالم الإنسان هي خدمة لله. اجعلوا المحبّة ونور الملكوت يشعّان منكم على شأن كلّ من يراكم سيستنير من انعكاساتها. كونوا نجومًا ساطعة درهرهة في أوجها العالي.

هل تعرفون قدر هذه الأيّام الّتي تعيشونها؟ هذا هو قرن الجمال المبارك، وهذا هو عصر نور جماله، وهذا هو يوم تحقّق وعود كلّ الأنبياء. هذه هي أيّام بذر البذور وأيّام غرس الأشجار. فالفيوضات الإلهيّة تنزل تباعًا، وكلّ من يغرس اليوم بذرةً سيرى جزاءه في ثمار وحصاد ملكوت الله. وإذا ما غُرست البذرة في أوانها في أفئدة أحبّاء الله، سيرويها غيث الرّحمة الإلهيّة وتُدفّئها شمس المحبّة الرّبّانيّة وستكون ثمارُها وأزهارُها إئتلافَ البشر، وظهور كمال العدل والإنصاف، وتجلّي الفضائل الملكوتيّة في نفوس العباد. فكلّ من يبذر بذرةً كهذه ويغرس شجرةً كهذه، وفقًا لتعاليم حضرة بهاء الله، سيرى هذا الحصاد الرّبّانيّ بكلّ كمال وينال رضاء الرّحمن.

إنّ عموم أهل العالم اليوم منهمكون بشؤونات أنفسهم، ومنشغلون بالأمور الفانية، يحترقون بنار مشتهيات النّفس والهوى. فالنّفس أمّارة والعداوة والبغضاء منتشرة. وما الشّغل الشّاغل للأمم والشّعوب إلاّ تحصيل المنافع والمكاسب الدّنيويّة. ولا يُسمع منهم إلاّ صليل السّيوف وجعجعة الصّفوف. ولكنّ أحبّاء الجمال المبارك لا فكر لهم غير الأفكار الملكوتيّة ومحبّة الله. لذا عليكم ألاّ تتوانَوْا عن تسخير قواكم في نشر نفحات المحبّة الرّبّانيّة، وأن تكون حياتكم على نحو يعرفكم النّاس بها، ويروْن فيكم مثالاً على تجلّيها. عليكم أن تعاملوا الجميع بالمحبّة واللّطف حتّى تظلّ هذه البذرة الطّيّبة الّتي ائتمنتم على غرسها تنمو وتؤتي أشهى الثّمار. وبفضل محبّة الله ورحمته ستحقّقون كلّ هذا إذا ما كانت قلوبكم عامرة بالمحبّة.

إنّ أبواب الملكوت مُشرعة وأنوار شمس الحقيقة ساطعة وغمام الرّحمة الرّبّانيّة تُمطر عليكم بأثمن الدّرر ونسائم ربيع إلهيّ جديد تنشر عبيرها الفوّاح من عالم الغيب. فاعرفوا إذًا قدْر هذه الأيّام.

فانهضوا لتحقيق هذه الفرصة الملكوتيّة. اجهدوا بكلّ ما أوتيت أرواحكم وأعمالكم وأقوالكم من قوّة للمشاركة في نشر هذه البشارات، ونزول هذه الموهبة الرّحمانيّة. إنّكم تعبير عن أعمالكم وأفعالكم الّتي أنتم تمثّلون حقيقتها. فإذا ما عملتم بمقتضى مبادئ الجمال المبارك وتعاليمه، صار العالم الرّحمانيّ والملكوت الأزليّ من نصيبكم – سعادة أبديّة ومحبّة وحياة سرمديّة. فالمواهب الإلهيّة دافقة، وأمام كلّ واحد منكم الفرصة لأن يصبح سدرةً محمّلةً بموفور الثّمار. هذا لهو ربيع حضرة بهاء الله، وفيه تكتسي رياض قلوب العباد بالوفْر من خضرة النّموّ الرّوحانيّ ونضرته. اعرفوا قدر هذه الأيّام العابرة واللّيالي الزّائلة. اجهدوا للفوز بمقام المحبّة الخالصة نحو بعضكم البعض، فبغياب المحبّة تزداد العداوة، وبإظهار المحبّة تتعزّز المحبّة وتزول العداوة.

لاحظوا أنّني – وأنا في هذا السّنّ المتقدّم، والجسم المُثقل بالأسقام – قد طويت المحيط الشّاسع لأشاهد طلعتكم البهيّة. وأملي أن تصيروا بفضل حياة الرّوح نفسًا واحدة، وسدرة واحدة تزدان بها روضة الملكوت. أملي أن تصبح كنوز الفضل الإلهيّ اللاّمتناهي من نصيبكم في الدّنيا والآخرة، ودعائي أن يتنوّر الملأ الأعلى بأنواركم السّاطعة وضّاءة للأبد في سموات المجد الأبديّ.

(4) 13 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد ألكساندر مورتن وحرمه،
141 شرق الشّارع الواحد والعشرين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

الحمد لله على هذا الجمع المنير! فالوجوه مشرقة بنور الله، والقلوب منجذبة إلى الملكوت الأبهى. وأبتهل إلى الله أن يزداد هذا الإشراق يومًا بعد يوم، ويزداد قربكم من الله يومًا بعد يوم، وتنالوا نصيبًا أكبر من فيوضات الرّوح القدس يومًا بعد يوم، حتّى تحيطكم المواهب السّماويّة.

إنّ عالم الرّوح يحاكي عالم المادّة، فهما نظيران متماثلان تمامًا، وكلّ ما نراه في عالم الوجود هو انعكاس ظاهريّ لعالم الملكوت. فعندما ننظر إلى العالم الظّاهريّ نلاحظ أنّه منقسم إلى فصول أربعة، أحدها فصل الرّبيع ثمّ فصل الصّيف وفصل الخريف، ثمّ يعقب هذه الفصول الثّلاثة فصل الشّتاء. وعندما يحلّ موسم الرّبيع في عالم الوجود يتجدّد شباب العالم كلّه ويحظى بحياة جديدة. فيهبّ النّسيم المنعش للرّوح من كلّ صوب، ويعمّ الفيض المحيي للأرواح، وتهطل من غمام الفضل أمطار رحمته، وتسطع الشّمس على كلّ الأشياء. فنرى بوادر الخضرة والنّضارة تحيط بنا يومًا بعد يوم، وتتعطّر المشامّ من أريج الأزهار والرّياحين والورود، وتكتسي الأشجار بالأوراق والأزهار، وبعد الأزهار تأتي الثّمار. ثمّ يحلّ فصل الخريف والشّتاء بعد الرّبيع والصّيف، فتذبل الأزهار ولا يعود لها وجود، وتصفرّ الأوراق، وتحلّ فترة الموات. ثمّ يعقب ذلك ربيع آخر، فيتجدّد الرّبيع الماضي، ومرّة أخرى تسري في أوصال كلّ شيء حياة جديدة.

إنّ ظهور المظاهر الإلهيّة بمثابة فصل الرّبيع الإلهيّ. فعندما ظهر السّيّد المسيح في هذا العالم كان ذلك بمثابة نعمة الرّبيع، فتنزّلت الفيوضات، وأحاطت الإشراقات الرّحمانيّة بكلّ الأشياء، ووجد عالم الإنسان حياة جديدة، حتّى إنّ عالم الطّبيعة كان له نصيب منها. لقد ارتفع لواء الكمالات الرّبّانيّة، وتربّت النّفوس في مدرسة الملكوت على شأن نالت كافّة درجات الوجود الإنسانيّ حياة وضياء. ثمّ انقطعت تلك النّفحات الملكوتيّة شيئًا فشيئًا، وحلّ بالعالم فصل الشّتاء، فتلاشى جمال الرّبيع، وغارت الفضائل والكمالات، وخفتت الأنوار وزال الانتعاش، فغلب العالم التّرابيّ بمادّيّاته كلّ شيء، وضاعت الرّوحانيّات من الحياة، وصار عالم الإمكان كجسد بغير روح، ولم يبق للرّبيع أيّ أثر.

فجاء حضرة بهاء الله إلى هذا العالم، وأعاد ذلك الرّبيع. فهبّت نفس تلك النّفحات، وصارت حرارة الشّمس نفسها تمنح الحياة، وأمطر السّحاب نفسه بمائه، وصرنا نشاهد عالم الوجود بأعيننا يترقّى ويتقدّم. وهكذا وجد عالم الإنسان حياة جديدة.

أملي أن تصبحوا جميعًا مثل تلك الأشجار الخضرة النّضرة حتّى تنتعشوا على الدّوام بنسائم الرّبيع الإلهيّ والفيض الملكوتيّ وحرارة شمس الحقيقة، فتتفتّح فيكم الأزهار وتحملون الأثمار. فلا تكونوا شجرًا بلا ثمر. فالأشجار غير المثمرة لا تأتي بثمر أو زهر. وأرجو أن تكونوا جميعًا أحبّاء للفردوس الأبهى، مشرقين بغاية النّضارة والجمال الرّوحانيّ. إنّني أبتهل إلى الله من أجلكم ملتمسًا منه العون والتّأييد.

(5) 14 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بكنيسة الصّعود،
تقاطع الطّريق الخامس والشّارع العاشر، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه أحمد سهراب وهوارد ماكنت

في معرض درسه الإنجيليّ قرأ الدّكتور المبجّل صباح اليوم عبارة وردت في رسالة بولس الرّسول إلى أهل كورنثوس تقول ‘إنّكم لترون من وراء زجاجات ملوّنة وسيأتي يوم تواجهون فيه النّور وجهًا لوجه.’

كان نور الحقيقة في السّابق يُرى خافتًا من وراء زجاجات ملوّنة، أمّا اليوم فإنّ الإشراقات الإلهيّة سوف تتجلّى من خلال المرايا الصّافية للأفئدة والأرواح المنيرة. فنور الحقيقة هو التّعاليم السّماويّة والمبادئ الإلهيّة والأخلاق الرّحمانيّة والمدنيّة الرّوحانيّة. ومنذ أن وصلتُ إلى هذه الدّيار وجدت أنّ المدنيّة المادّيّة قد ترقّت بدرجة كبيرة، وأنّ التّجارة بلغت شأوًا عظيمًا في الازدهار، ووصلت الفنون والزّراعة وسائر مجالات الرّقيّ المادّيّ أسمى مراحل الكمال. في حين أنّ المدنيّة الرّوحانيّة قد أهمل شأنها. إنّ المدنيّة المادّيّة بمثابة المصباح والمدنيّة الرّوحانيّة نور ذلك المصباح. فإذا ما اقترنت المدنيّتان، المادّيّة والرّوحانيّة، أصبح لدينا النّور والمصباح معًا، وفي ذلك يكون الكمال. ذلك لأنّ المدنيّة المادّيّة مثل جسم لطيف جميل والمدنيّة الرّوحانيّة روح حياة ذلك الجسم. فإذا ما ظهرت هذه الرّوح البديعة في ذلك الجسم الجميل، يغدو الجسم وسيلة لنشر الكمالات الإنسانيّة وترقِّيها.

لقد جاء السّيّد المسيح ليعلّم أهل العالم هذه المدنيّة السّماويّة لا المدنيّة المادّيّة. ونفخ في جسم العالم نفثات الرّوح القدس، وأسّس مدنيّة نورانيّة. ومن جملة مبادئ المدنيّة الإلهيّة الّتي جاء لينادي بها الصّلح الأعظم بين بني البشر. ومن جملة ما نادى به من مبادئ المدنيّة الرّوحانيّة وحدة العالم الإنسانيّ. ومن جملة ما جاء به من أسس المدنيّة السّماويّة فضائل العالم الإنسانيّ. ومن جملة ما أعلنه من مبادئ المدنيّة الملكوتيّة تحسين أخلاق بني البشر وترقّيها.

إنّ العالم الإنسانيّ اليوم محتاج إلى الوحدة العالميّة وإلى الصّلح العموميّ. وإرساء قواعد هذه الأسس الجوهريّة العظيمة يحتاج إلى قوّة دافعة. ومن الواضح أنّ وحدة العالم الإنسانيّ والصّلح العموميّ لا يمكن تحقيقهما بالوسائل المادّيّة، ولا يمكن تأسيسهما بالقوّة السّياسيّة لأنّ المصالح السّياسيّة للأمم متباينة، وسياسات الشّعوب متفاوتة ومتضاربة. كما لا يمكن إرساء قواعدها بواسطة القوّة العنصريّة أو القوّة الوطنيّة لأنّ هذه القوى قوى بشريّة من صفاتها الضّعف والأنانيّة، ونفس اختلاف الأجناس والعصبيّة الوطنيّة مانع دون الاتّحاد والاتّفاق. فيثبُت إذًا أنّ ترويج وحدة العالم الإنسانيّ، الّتي هي جوهر تعاليم جميع المظاهر المقدّسة، ممتنع بغير القوّة الرّوحانيّة وبغير نفثات الرّوح القدس. أمّا سائر القوى فهي ضعيفة لا تستطيع تحقيق ذلك.

إنّ الإنسان بحاجة إلى جناحين: أحدهما القوّة المادّيّة والمدنيّة الجسمانيّة، والآخر القوّة الرّوحانيّة والمدنيّة الإلهيّة. ويستحيل الطّيران بجناح واحد، فوجود الجناحين أمر أساسيّ. لذا، فمهما ارتقت المدنيّة الجسمانيّة فإنّها لن تبلغ مرحلة الكمال من دون عون المدنيّة الرّوحانيّة.

لقد جاء جميع الأنبياء من أجل ترويج الفيوضات الإلهيّة وتأسيس المدنيّة الرّوحانيّة وتعليم الأخلاق الرّحمانيّة. إذًا يجب علينا أن نجهد بكلّ قوانا حتّى تنتصر القوى الرّوحانيّة لأنّ القوى المادّيّة قد غلبت على البشر وأصبح عالم الإنسان غارقًا في بحر من المادّيّات، وصارت أنوار شمس الحقيقة تُشاهد خافتة مكفهرّة من وراء زجاجات معتمة، ولم تعد قوّة الألطاف الإلهيّة النّافذة ظاهرة بتمامها.

في إيران كانت هناك اختلافات شديدة بين الأديان والمذاهب المختلفة. فظهر حضرة بهاء الله في تلك البلاد وأرسى قواعد المدنيّة الرّوحانيّة. وألّف بين طوائف مختلفة، وروّج وحدة العالم الإنسانيّ، ورفع راية الصّلح الأكبر، وكتب بهذا الصّدد رسائل لكافّة ملوك الدّول ورؤسائها. وقبل ستّين سنة أبلغ رسالته الإلهيّة إلى رؤساء العالم السّياسيّين وقادته الرّوحيّين، ولهذا أخذت المدنيّة الرّوحانيّة ترتقي في الشّرق، وبدأت الوحدة الإنسانيّة والصّلح بين الأمم يأخذان طريقهما إلى التّحقّق بالتّدريج. وإنّي أجد الآن حركة قويّة من أجل الصّلح العموميّ نابعة من أمريكا. وآمل أن تُنْصَب راية وحدة العالم الإنسانيّ بأقصى ما يمكن من عزم وثبات ليلتئم الشّرق والغرب معًا التئآمًا تامًّا ويرتبطا ارتباطًا كاملاً وتتّحد قلوب الشّرق والغرب وينجذب بعضها إلى بعض ويظهر الاتّحاد الحقيقيّ للعيان ويسطع نور الهداية، وتتراءى التّجلّيات الإلهيّة يومًا فيومًا لينال العالم الإنسانيّ راحة كاملة وتتجلّى سعادة البشر الأبديّة وتصبح قلوب البشر كالمرآة فتسطع فيها أنوار شمس الحقيقة. ولهذا فرجائي منكم أن تجهدوا حتّى يشرق نور الحقيقة وتظهر السّعادة الأبديّة للعالم الإنسانيّ.

وإنّي لأدعو الله من أجلكم حتّى تنالوا هذه السّعادة الأبديّة. فعندما جئت هذه المدينة سررت كثيرًا حين وجدت أهلها مستعدّين حقًّا للمواهب الإلهيّة، ولديهم قابليّة للمدنيّة السّماويّة. ولهذا فإنّني أدعو لكم بالفوز بجميع الفيوضات الرّحمانيّة وأقول:

يا ربّيَ القدير ويا إلهي الرّؤوف، إنّ عبدك هذا قد هرع إلى أقاليم الغرب من أقصى بلاد الشّرق لعلّ نفحات عنايتك تعطّر مشامّ هذه النّفوس ويهبّ نسيم حديقة الهداية على هذه الممالك وتستعدّ النّفوس لقبول ألطافك وتستبشر القلوب ببشاراتك وتشاهد الأعين نور الحقيقة وتسمع الآذان نداء الملكوت. إلهي أنر القلوب واجعلها يا ربّي الرّؤوف غبطة حدائق الورد والرّياحين. يا محبوبي الفريد هبّ نفحات عطائك وأشرق أنوار الإحسان حتّى تصبح القلوب طاهرة نقيّة وتنال نصيبًا من تأييداتك. فهذا الجمع ساعٍ في طريقك وباحث عن أسرارك وناظر إلى وجهك وآمِلٌ التّخلّق بخصالك. ربِّ أسبغ ألطافك وأنزل كنوزك اللاّمتناهية لينال هؤلاء الضّعفاء القوّة والقدرة. إنّك أنت العطوف وإنّك أنت الكريم العليم القدير.

(6) 14 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في لقاء رابطة مراكز الفكر المتقدّم،
بقاعة كارنيغي، غرب الشّارع الخامس والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه ماونتفورت ميلز وهوارد ماكنت

لقد أتيتُ من بلاد بعيدة لأحضر اجتماعات هذا البلد ومجالسه. ففي كلّ مجلس أجد أُناسًا مجتمعين يحبّ بعضُهم بعضًا، لهذا أنا في غاية السّرور. إنّ رابطة الاتّحاد تتجلّى اليوم في هذا الجمع، حيث جمعت قدرة الله بالإيمان والاتّفاق والوفاق أولئك المشاركين في تعزيز رقيِّ عالم الإنسان. وأرجو أن يصير الجنس البشريّ بأسره متّحدًا بأواصر الألفة والمحبّة على نفس المنوال. فالاتّحاد هو مظهر قدرة المحبّة الإلهيّة، ومرآة الحقيقة الرّبّانيّة، وهو مُشرق ولائح في هذا اليوم بيُمن العطاء النّورانيّ للإنسانيّة.

إن القوّة الإلهيّة متجلّية في كلّ أرجاء الكون بصور وأشكال لا تتناهى. فعالم الخلق، أو عالم الإنسان، يمكن تشبيهه بالكرة الأرضيّة نفسها والقوّة الإلهيّة بالشّمس. وهذه الشّمس مشرقة على كلّ الكائنات. فالإرادة الإلهيّة نراها متجلّية في انعكاسات الشّمس اللاّمتناهية. تأمّلوا كيف أنّ لجميع الكائنات نصيب من عطاء شمس واحدة، وأنّ التّفاوت فيما بينها لا يعدو في أقصاه تفاوتًا في الدّرجة، ذلك لأنّ التّجلّي هو نفس التّجلّي، وهو تجلّي النّور الواحد اللاّئح من الشّمس. وما هذا إلاّ تعبير عن وحدة العالم الإنسانيّ. وبالمِثْل يمكن تشبيه الهيئة الاجتماعيّة أو الوحدة الاجتماعيّة لعالم الإنسان بالبحر، وكلّ عضوٍ وكلّ فرد فيه كموجة من أمواج ذلك البحر.

فالأشياء تعكس نور الشّمس تبعًا لاستعدادها وقابليّتها، ولذلك فإنّ التّفاوت هو بكلّ بساطة تفاوت في الاستعداد والقابليّة. فقابليّة الصّخر لتلقّي النّور محدودة في مداها؛ وقد يكون هناك كائن آخر كالمرآة فتتجلّى فيه الشّمس تجلّيًا كاملاً، إلاّ أنّ النّور الّذي يشرق على كليهما واحد.

إن أهمّ الأمور صقل مرايا القلوب حتّى تتلقّى النّور الإلهيّ وتستنير به. وقد يكون قلب من القلوب حائزًا على قابليّة المرآة الصّافية، وآخر قد يكون مظلمًا تغشاه غبرة الدّنيا وذَفَرها. ومع أنّ الشّمس المشرقة عليهما معًا واحدة، إلاّ أنّكم تشاهدونها بتمامها وبهائها وقوّتها في المرآة الصّافية النّقيّة المنزّهة، وترون المرآة كاشفة لجلال الشّمس وتجلّيها، بينما ليست هناك في المرآة الصّدئة المغبرّة قابليّة لعكس أنوارها، رغم أنّه فيما يختصّ بالشّمس فهي ذاتها المشرقة على الاثنتين معًا، ولا ينتقص هذا الإشراق أو يأخذ منها شيئًا. فواجبنا إذًا هو أن نسعى لصقل مرايا قلوبنا لكي نصبح عاكسين لذلك النّور، ومتلقّين للفيوضات الرّبّانيّة، عسى أن تتجلّى في قلوبنا بكمالها.

هذا هو المقصود من وحدة العالم الإنسانيّ، أي عندما تبلغ الهيئة الاجتماعيّة البشريّة مقام الاتّحاد الكامل، فإنّ إشراق شمس الأزليّة سيتجلّى بكامل نوره وحرارته. وبناء على ذلك يجب أن لا نفرّق بين أيّ من أعضاء الأسرة الإنسانيّة، أو أن نعدّ نفسًا من النّفوس عقيمة أو محرومة. فواجبنا يكمن في تربية النّفوس كي تسطع عليها شمس الفيوضات الإلهيّة، وهذا متيسِّر بفضل قوّة وحدة الجنس البشريّ. فكلّما زاد تبادل المحبّة بين البشر وازدادت قوّة الاتّحاد، عظم هذا الانعكاس والتّجلّي، إذ إنّ المحبّة هي أعظم العطايا الإلهيّة. والمحبّة هي منبع جميع الفيوضات الرّبّانيّة، وما لم تستولِ المحبّة على القلب، لا يمكن لأيّ موهبة إلهيّة أخرى أن تتجلّى منه.

لقد كافح جميع الأنبياء من أجل أن تتجلّى المحبّة في قلوب البشر. فسعى يسوع المسيح جاهدًا في خلق المحبّة في القلوب وعانى المصاعب والمحن عسى أن يصبح قلب الإنسان منبعًا للمحبّة. ولذلك، فإنّ علينا أن نجهد بكلّ قلوبنا وأرواحنا حتّى تتملّكنا هذه المحبّة بحيث ترتبط الإنسانيّة جمعاء، سواء في الشّرق أو في الغرب، برباط هذا الحبّ الإلهيّ. فنحن أمواج بحر واحد، وخُلقنا بفضلٍ إلهيّ واحد، ومستفيضون من مركز واحد. ومع أنّ كلّ ضياء في الأرض مقبول، إلاّ أنّ مركز الإشراق هو الشّمس، فعلينا أن نوجّه نظرنا إلى هذه الشّمس. والله سبحانه وتعالى هو المركز الأعظم، فكلّما ازدَدْنا توجُّهًا نحو هذا المركز النّورانيّ ازدادت قابليّاتنا واستعداداتنا.

سادت في الشّرق خلافات كبيرة بين الأجناس والشّعوب، وكان يبغض بعضُهم بعضًا، فانعدم بذلك التّواصل فيما بينهم. كانت الطّوائف المتعدّدة والمختلفة في شحناء وعلى غير وفاق، والأجناس المتباينة في حرب دائمة ونزاع. لقد ظهر حضرة بهاء الله من أفق الشّرق قبل ستّين سنةً، فكان سببًا في إحلال المحبّة والاتّحاد بين تلك الشّعوب المتخاصمة، فوحّدهم برباط المحبّة، وبذلك تبدّل سابق بغضهم وعداوتهم بالمحبّة والإئتلاف. وكان ذلك العالم الشّرقيّ عالمًا ظـلـمانيًّا فصار عالمًا نورانيًّا. وبفضله حلّ ربيع جديد، ذلك لأنّ شمس الحقيقة أشرقت عليهم من جديد. وتفتّحت مختلف أزهار المعاني في براري ومروج قلوب البشر، وأينعت بطيّب الثّمرات من ملكوت الله.

لقد جئت إلى هنا من أجل هذا الغرض: وهو أن يتأسّس، بيُمن مساعيكم وبفضل أخلاقكم الرّحمانيّة وبخالص جهودكم، رباط كامل للاتّحاد والمحبّة بين الشّرق والغرب، لكي تهبط الفيوضات الإلهيّة على الكلّ، ويعتبر الجميع أنفسهم أجزاء شجرة واحدة – شجرة العائلة الإنسانيّة العظيمة. فالبشر هم بمثابة أغصان وأوراق وأزهار وثمار تلك الشّجرة.

إنّ المواهب الإلهيّة لا حصر لها ولا حدود، والسّنوحات اللاّمتناهية قد أحاطت الوجود، فعلينا أن نحذو حذو مواهب الله وسنوحاته. وكما أن كلّ موهبة منها تحيط بالجميع وتشملهم، كموهبة الحياة مثلاً، كذلك علينا أن نتواصل ونمتزج معًا حتّى يصير كلّ جزء منا حاكيًا عن الكلّ.

إليكم مثالاً: فنحن نغرس بذرة، فتظهر منها شجرة كاملة تامّة، ومن كلّ بذرة من بذور هذه الشّجرة يمكن أن تولد شجرة أخرى. فالجزء هنا يحكي عن الكلّ، ذلك لأنّ هذه البذرة كانت جزءًا من الشّجرة، ولكن بداخل هذه البذرة كانت تكمن الشّجرة بكاملها. وبنفس الكيفيّة يمكن لكلّ واحد منّا أن يكون حاكيًا أو ممثّلاً لكلّ مواهب الحياة الإنسانيّة. هذه هي وحدة العالم الإنسانيّ، وهذا هو العطاء الإلهيّ، وهذه هي سعادة بني الإنسان، وهذا هو تجلّي الفضل الرّبّانيّ.

(7) 15 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل ماونتفورت ميلز،
327 شارع وست إند، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

قبل بضعة أيّام وصلتُ إلى نيويورك قادمًا من الإسكندريّة مباشرة. وفي رحلة سابقة سافرت إلى أوروبّا وزرت فيها باريس ولندن. فباريس مدينة في غاية الجمال في مظهرها، وشواهد المدنيّة المادّيّة فيها في غاية العظمة، ولكنّ مدنيّتها الرّوحانيّة متخلّفة إلى أبعد الحدود. إذ وجدت أهلها منغمسين وغارقين في بحر المادّيّات، وكلّ أحاديثهم ومناقشاتهم محصورة في الشّواهد والظّواهر الطّبيعيّة والمادّيّة، دونما أيّ ذكر لله سبحانه وتعالى. لقد عجِبْتُ لذلك كثيرًا، حيث تبيّن أنّ معظم علمائها وأساتذتها ومثقّفيها مادّيّون. وقلت لهم: ‘إنّني شديد الدّهشة والعجب أنّ أناسًا بهذه المنزلة من العلم والمعرفة يظلّون أسرى للطّبيعة، عاجزين عن إدراك الحقيقة الّتي تدلّ على ذاتها بذاتها.’

إنّ عالم النّاسوت خاضع بالكلّيّة لحكم وسيطرة قانون الطّبيعة. فالعدد الهائل من الشّموس والتّوابع والأجرام السّماويّة السّابحة في هذا الفضاء اللاّمتناهي جميعًا أسيرة للطّبيعة ولا يمكنها التّجاوز قيد شعرة عن النّواميس الثّابتة المتحكِّمة في الكون المادّيّ. فالشّمس بضخامتها والمحيط باتّساعه عاجزان عن خرق هذه النّواميس الكونيّة. وكلّ المخلوقات الحادثة، مثل النّباتات في مملكتها، وحتّى الحيوانات بذكائها، هي جميعًا تابعة للطّبيعة وأسيرة لها، وتحيا كلّها في إطار قانون الطّبيعة. فالطّبيعة هي الحاكمة على الكلّ فيما عدا الإنسان، إذ إنّ الإنسان ليس أسيرًا للطبيعة، لأنّه رغم كونه كائنًا ترابيًّا بمقتضى قانون الطّبيعة، إلاّ أنّه يبحر بالسّفن عبر المحيط، ويحلِّق في الهواء بالطّائرات، ويغوص في الأعماق بالغوّاصات، فهو إذًا قد تغلّب على قانون الطّبيعة وأخضع ناموسها لرغباته. فهو على سبيل المثال يحبس تلك الطّاقة الطّبيعيّة اللاّمحدودة المسمّاة بالكهرباء – وهي قوّة مادّيّة بوسعها أن تشطر الجبال – يحبسها في مصباح متوهّج، ويأمرها بأن تعطيه نورًا. ويلتقط الصّوت البشريّ ويحصره في الفونوغراف من أجل الانتفاع والتّسلية. كما أنّه، طبقًا لقدرة الإنسان الطّبيعيّة، لا يمكنه التّخابر إلاّ لمسافة قصيرة، بيد أنّه بالتّغلُّب على قيود الطّبيعة يمكنه أن يقهر الفضاء باثـًّا الرّسائل الهاتفيّة لآلاف الأميال. لقد كانت جميع العلوم والفنون والاكتشافات من أسرار الطّبيعة، وكان من المتعيّن على هذه الأسرار أن تبقى مستورة ومكنونة بمقتضى قانون الطّبيعة، ولكنّ الإنسان عمد إلى كسر ذلك القانون وحرَّر نفسه من هذا التّحكُّم وأتى بتلك الأسرار إلى حيّز الشّهود. فهو إذًا حاكم هذه الطّبيعة وقائدها. والإنسان حائز على الذّكاء، أمّا الطّبيعة فمحرومة منه. وللإنسان إرادة لا تملكها الطّبيعة. كما أنّ للإنسان ذاكرة بينما الطّبيعة مفتقدة لها، وللإنسان ملكة العقل والطّبيعة محرومة منها. والإنسان حائز على موهبة الإدراك بينما الطّبيعة عاجزة عنه. ومن هذا يثبت ويتّضح أنّ الإنسان أشرف من الطّبيعة.

إذا نحن سلّمنا بالافتراض القائل بأنّ الإنسان ما هو إلاّ جزء من الطّبيعة، عندئذ يجابهنا إقرار غير منطقيّ، لأنّ هذا يماثل الادّعاء بأنّ الجزء بمقدوره أن يحوز على صفات غائبة عن الكلّ. فالإنسان الّذي هو جزء من الطّبيعة حائز على الإدراك والذّكاء والذّاكرة، والتّفكير الواعي والشّعور، بينما الطّبيعة نفسها محرومة من ذلك تمامًا. فكيف يجوز للجزء أن يحوز صفات أو مواهب ليست موجودة في الكلّ؟ والحقيقة إنّ الله قد وهب الإنسان قدرات معيّنة خارقة للطّبيعة. فكيف يُعدّ الإنسان أسيرًا للطبيعة؟ أليس هو حاكم الطّبيعة ومطوِّعها لاحتياجاته يومًا بعد يوم؟ أليس هو ربّ الطّبيعة وسيّدها؟ وهل يمكننا القول بأنّ الطّبيعة عمياء لا تفقه شيئًا، أو أنّ الطّبيعة مسلوبة الإرادة خامدة الهمّة، ثمّ نحطّ من مقام الإنسان فنضعه في مرتبة الطّبيعة وحدوداتها؟ فكيف يمكننا الإجابة عن هذا السّؤال؟ وكيف يبرهن المادّيّون والفلاسفة اللاّدينيّون على صحّة هذا الافتراض أو يؤيّدونه؟ فنفس هؤلاء الفلاسفة في واقع الأمر يـُخضعون نواميس الطّبيعة لإرادتهم ويسخِّرونها لأغراضهم. فالحجّة كاملة الآن على أنّ في الإنسان قوّة تتخطّى حدود الطّبيعة، وأنّ هذه القوّة هي موهبة إلهيّة.

أجد النّاس في نيويورك حائزين على القابليّات والاستعدادات الرّوحيّة أكثر من غيرهم. وهم ليسوا أسارى سيطرة الطّبيعة، بل إنّهم خارجون عن قيود هذا الأسر وتبعاته. ولهذا فإنّني في غاية السّرور، وأرجو أن تشرق فضائل العالم الإنسانيّ بإذن الله على هذه الدّيار المأهولة بالكثير من البشر – قارّة الغرب الشّاسعة هذه، وأن تشتعل القلوب من قوّة وحدة العالم الإنسانيّ ومن محبّة الله، وأن ينشر الصّلح العالميّ ألويته من هنا ساريًا في كلّ الأصقاع والبلدان.

هذا هو أملي.

(8) 16 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بفندق أنسونيا موجّهة إلى أحبّاء نيوجيرسي
تقاطع طريق برودواي والشّارع الثّالث والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه أحمد سهراب

لقد اجتمعت هنا نفوس من الشّرق والغرب بقوّة الرّوح القدس. واجتماع كهذا يستحيل ائتلافه بالوسائط المادّيّة. فلم يسبق أن تحقّق اجتماع من هذا النّوع في نيويورك؛ فنحن نرى اليوم أناسّا قدموا من أقصى بقاع الأرض، مؤتلفين مع أهل أمريكا بغاية المحبّة والتّآلف الرّوحيّ. ولا يمكن لهذا أن يتسنّى إلاّ بقوّة إلهيّة. لقد ظهر السّيّد المسيح في هذا العالم قبل ألف وتسعمائة سنة من أجل خلق أواصر الألفة وروابط المحبّة بين مختلف الأمم والأقوام. فوثّق عرى التّماسك بين روما بعلومها واليونان بمدنيّتها المجيدة. كما حقّق الوئام بين مملكة آشور وسلطنة مصر. لقد كان التّأليف فيما بين تلك الأمم وإيجاد الاتّحاد والمحبّة والوفاق فيما بينها مستحيلاً، إلاّ أنّ المسيح حقّق هذه الحالة بين بنى البشر بقوّة إلهيّة.

تواجهنا اليوم صعوبة أعظم بكثير عندما نسعى لتحقيق الاتّحاد بين الشّرق والغرب. ولكنّ حضرة بهاء الله قد جمع الشّرق والغرب معًا بالقوّة الملكوتيّة. وسنتبيّن قريبًا أنهّما قد ارتبطا بالقوّة الإلهيّة. وستقضي وحدة العالم الإنسانيّ على راية الغزو، وستجتمع كلّ ملل الأرض في كنف حفظها، ولن يكون هناك وجود لأيّة أمّة تحدّها حدود منفصلة محدّدة كدولة إيران مثلاً. وستُعرف الولايات المتّحدة فقط كإسم، وستندمج دول مثل ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وتركيّا وجزيرة العرب – أي مختلف هذه الأمم – مع بعضها البعض في اتّحاد. وعندما يُسأل أيّ إنسان في المستقبل ‘لأيّ أمّة تنتمي’، سيكون جوابه ‘إلى الجنس البشريّ. فأنا أحيا في ظلّ حضرة بهاء الله، وأنا خادمه، وأنتمي إلى جيش الصّلح الأكبر’. فلن يقول أيّ من أهل المستقبل ‘أنا إنجليزيّ، أو أنا فرنسيّ، أو أنا إيرانيّ’، لأنّ الكلّ سيكون مواطنًا في وطن عالميّ: تلك الأسرة الواحدة، والوطن الواحد، وعالم الإنسانيّة الواحد، وعندئذ تزول هذه الحروب والضّغائن والمشاحنات.

لقد ظهر حضرة بهاء الله في بلد كان بؤرة التّعصّب، بلدٍ ضمّ العديد من الطّوائف والأديان والمذاهب والنّحل حيث تجمّعت بينها كلّ ضغائن القرون الغابرة. وكانوا يتربّصون لقتل بعضهم البعض معتبرين أنّ قتل من يختلف عنهم في العقيدة من أعمال العبادة. فأوجد حضرة بهاء الله بين تلك الطّوائف المختلفة اتّحادًا واتّفاقًا بحيث أصبحوا الآن في منتهى المحبّة والوداد.

واليوم يتوق البهائيّون في الشّرق إلى لقياكم وجهًا لوجه ومنتهى آمالهم وأمانيهم أن يأتي يوم يضمّهم معكم محفل واحد. فتأمّلوا جيّدًا في تلك القوّة الّتي حقّقت هذا التّحوّل البديع.

إنّ جسم عالم الإنسان اليومَ سقيم ودواؤه وشفاؤه في وحدة العالم الإنسانيّ، وحياته في الصّلح الأعظم، ونوره وانتعاشه في المحبّة، وسروره في اكتساب الكمالات الرّوحانيّة. أملي ورجائي أن نجد في مواهب الجمال المبارك وأفضاله حياة جديدة، وأن نكتسب قوّة جديدة، وننال فيوضات غيبيّة جديدة على شأن يقوم أساس الصّلح الأعظم الإلهيّ المقصد على قواعد من اتّحاد عالم البشر مع الله. وأملي أن تنتشر محبّة الله من هذه المدينة، ومن لُقيانا هذا إلى سائر البلاد من حولنا. بل أن تصبح أمريكا مركز إشعاع النّورانيّة الرّوحانيّة فيتلقّى العالم كلّه هذه البركة السّماويّة! لأنّ أمريكا قد طوّرت لديها قدرات وإمكانات أعظم وأبدع من سائر الأمم. ومع أنّ شعبها في حقيقة الأمر قد حقّق مدنيّة مادّيّة مدهشة، إلاّ أنّني آمل أن تحلّ في هذا الجسم العظيم قوّة روحيّة، وأن تتأسّس مدنيّة روحيّة مماثلة. عسى أن يصبح أهل هذا البلد كملائكة السّماء بوجوه متوجّهة إلى الله دومًا. وأن يصبحوا جميعًا خادمين لله المقتدر القدير، وأن ينطلقوا من هذه الإنجازات المادّيّة إلى أوجٍ يشعّ أنوارًا ملكوتيّة من هذه البقعة على كافّة شعوب العالم.

لقد نزلت أورشليم الإلهيّة من السّماء، وظهرت عروس صهيون، وعلا صوت الملكوت. وأملي أن تنالوا استعدادًا عظيمًا وانجذابًا في هذا الملكوت الغالب القادر – مظهرين قوى جديدة وإنجازات بديعة. فالله نصيركم ومعينكم، ونفثات الرّوح القدس معزّيكم، وملائكة السّموات تحيطكم. هذه أمنيتي لكم، وتأكّدوا بأنّ هذه الفيوضات تغمركم.

(9) 17 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بفندق أنسونيا،
تقاطع طريق برودواي والشّارع الثّالث والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

إبّان زيارتي للندن وباريس في العام الماضي كانت لي محادثات شتّى مع فلاسفة أوروبّا المادّيّين. إنّ كلّ استنتاجاتهم مبنيّة على أنّ تحصيل العلوم المتعلّقة بالكائنات والظّواهر الطّبيعيّة يتأتّى عن طريق قاعدة ثابتة لا تتغيّر – وهي قاعدة رياضيّة دقيقة في عملها من خلال الحواس. فهذه العين مثلاً ترى مقعدًا فلا شكّ إذًا في وجوده. والعين أيضًا تجول في السّماء فتبصر الشّمس؛ أرى زهورًا على هذه المنضدة وأشمّ أريجها، أو أسمع أصواتًا تأتي من الخارج، وهكذا. ويقولون إنّ هذه قاعدة رياضيّة ثابتة للإدراك والاستنباط لا يعتريها شكّ مهما كان؛ فنظرًا لأنّ الكون خاضع لإحساساتنا فالدّليل بديهي إذًا على أنّ إدراكنا له يجب أن يكون عبر الحواس. وفحوى هذا هو أنّ المادّيّين يعلنون بأنّ ميزان المعرفة الإنسانيّة ومعياره هو الإدراك الحسّيّ. أمّا ميزان المعرفة لدى اليونان والرّومان فكان العقل – أي أنّ كلّ ما يمكن برهنته وقبوله بواسطة العقل هو الحقيقة بالضّرورة. وهناك معيار أو ميزان ثالث وهو ما يراه علماء اللاّهوت، ومفاده أنّ النّصوص المنقولة من الكتب المقدّسة أو التّصريحات والتّفسيرات النّبويّة تشكِّل أساس المعرفة عند البشر. وهناك أيضًا ميزان رابع يتمسّك به المتديّنون والمهتمّون بالغيبيّات، فهم يرون أنّ منبع ومسار كلّ تبصّر بشريّ للغيب هو الإلهام. والخلاصة إذًا أنّ هذه الموازين الأربعة طبقًا لما ينادي به النّاس هي أوّلاً الميزان الحسّيّ، والثّاني الميزان العقليّ، والثّالث الميزان النّقليّ والرّابع ميزان الإلهام.

قلت لهؤلاء الفلاسفة والعلماء المادّيّين في أوروبّا أنّ ميزان الإدراك الحسّيّ لا يُعوَّل عليه. فإليك مثلاً المرآة وما ينعكس فيها من صور، فهذه الصّور ليس لها وجود مادّيّ فعليّ. بيد أنّك إن لم تكن قد رأيت مرآة من قبل فإنّك ستجزم حتمًا بأنّ تلك الصّور حقيقة واقعة. وكذلك ترى العين سرابًا في الصّحراء على هيئة بحيرة ماء ولكنّه وهمٌ صرف. كما أنّنا لو وقفنا على سطح سفينة يبدو لنا الشّاطئ متحرّكًا في حين أنّنا على علم بأنّ الأرض ثابتة ولكنّنا نحن الّذين نتحرّك. أيضًا كان الاعتقاد السّائد هو ثبات الأرض ودوران الشّمس حولها، ولكن على الرّغم من أنّ ما يتراءى لنا هو ذلك، فإنّ الحقيقة المعروفة الآن هي العكس تمامًا. والشّعلة الدّوّارة تراها العين حلقة من النّار بينما نعلم أنّها ليست سوى نقطة ضوء واحدة، كما أنّنا نرى الظّل يتحرّك على الثّرى والحال إنّه يخلو من أيّ وجود مادّيّ أو عنصريّ. والمؤثّرات الجوّيّة في الصّحاري على وجه الخصوص تُحدث صورًا خادعة للبصر. ولقد رأيت ذات مرّة سرابًا بدت فيه قافلة بأكملها وكأنّها تسافر صاعدة نحو السّماء. وفي الدّائرة القطبيّة الشّماليّة تتجلّى ظواهر خادعة أخرى تحيّر بصر الإنسان، فتلمع في بعض الأحيان ثلاث أو أربع شموس في آن واحد يسمّيها العلماء شموسًا زائفة، بيد أنّنا نعلم أنّ النّجم الشّمسيّ العظيم هو نجم واحد مفرد دائمًا أبدًا. وخلاصة القول إنّ الحواس دائمًا ما تنخدع، ولا يتسنّى لنا أن نفرّق بين ما هو حقيقيّ وما هو زائف.

أمّا عن الميزان الثّاني – ميزان العقل – فهو أيضًا ميزان لا يُعوَّل عليه ولا يمكن الرّكون إليه. فعالم البشر هذا خضمٌّ من الآراء المختلفة المتباينة. فإذا كان العقل ميزانًا ومعيارًا كاملاً للمعرفة فلماذا تتضارب الآراء، ولماذا يختلف الفلاسفة فيما بينهم اختلافًا تامًّا؟ إنّ هذا برهان واضح على أنّ العقل البشريّ لا يُعوّل عليه بوصفه ميزانًا منزّهًا عن الخطأ. فأعظم اكتشافات القرون الماضية واجتهاداتها، على سبيل المثال، لا تلبث أن تُنقض وتُرفض من قِـبَـل حكماء الحاضر. فها هم الرّياضيّون والفلكيّون وعلماء الكيمياء لايكفُّون عن دحض استنباطات القدماء ورفضها؛ فلا شيء قطعيّ أو باتّ؛ بل كلّ شيء دائب التّغيير لأنّ العقل البشريّ يطرق مسالك جديدة من البحث، ويتوصّل إلى الجديد من الاستنتاجات كلّ يوم. وبالمثل فإنّ كثيرًا ممّا ينادي به العقل اليوم ويقبل بوصفه حقيقيًّا سوف ينبذ ويبطل مستقبلاً. وسيبقى الحال على هذا المنوال دائمًا أبدًا.

عندما نبحث في الميزان الثّالث – ميزان النّقل الّذي يتمسّك به اللاّهوتيّون منهجًا ومعيارًا للمعرفة، نجد أنّ هذا المصدر هو الآخر لا يُعتمد أو يُعوَّل عليه، ذلك لأنّ المنقول هو محصّلة وتدوين لفهم كتب القبل وتفسيرها. فبأيّ وسيلة تُرى قد تمّ التّوصّل إلى ذلك الفهم أو ذاك التّفسير؟ وجواب ذلك أنّه قد تمَّ بإعمال العقل البشريّ، إذ عندما نقرأ كتاب الله فإنّ مَلَكة الفهم الّتي نتوصّل بفضلها إلى الاستنتاجات هي العقل. والعقل هو الفكر، فإذا لم نملك عقلاً كاملاً فكيف يتسنّى لنا فهم ما تعنيه الكلمة الإلهيّة؟ فالعقل البشريّ بطبيعته محدود وقاصر في استنتاجاته كما أوضحنا. فهو لا يحيط بالحقيقة الكلّيّة وبالكلمة الجامعة. وبما أنّ أصل المنقول وتفسيره هو العقل البشريّ، وبما أنّ العقل البشريّ قاصر، فكيف نعتمد على استنتاجاته من أجل الوصول إلى المعرفة الحقيقيّة؟

الميزان الرّابع الّذي ذكرته لكم اليوم هو الإلهام الّذي يقال إنّ الوصول إلى حقيقة المعرفة ممكن من خلاله. ولكن تُرى ما هو الإلهام؟ إنّه عبارة عن خطورات قلبيّة. فإذا ما تساءلنا أيضًا عن ماهيّة الوساوس الشّيطانيّة الّتي تصيب البشر لوجدناها أيضًا خطورات قلبيّة. فكيف يمكننا إذًا أن نفرِّق بين هذه وتلك؟ أي أنّ السّؤال هو كيف نتبيَّن ما إذا كنّا نتّبع إلهامًا إلهيًّا أو وسواسًا شيطانيًّا. وباختصار، فالمسألة هنا هي أنّ تلك الموازين الأربعة هي الموازين أو طرق المعرفة المتاحة ولا شيء سواها في عالم الكائنات والظّواهر الطّبيعيّة، وجميعها قاصرة ولا يُعوّل عليها. فما الّذي يبقى إذًا؟ وكيف نصل إلى حقيقة المعرفة؟ والجواب إنّ هذا ممكن بنفثات وإلهامات الرّوح القدس الّتي هي النّور والمعرفة بعينها، وبواسطتها يستيقظ العقل البشريّ ويقوى في استنباط الحقيقة والوصول إلى المعرفة الكاملة. وهذا برهان قاطع على أنّ كافة الموازين المتاحة للبشر قاصرة في حين أنّ ميزان المعرفة الالهيّ منزّه عن الخطأ. فلا يصحُّ للمرء أن يقول ‘أنا أعلم لإنّني أُدرك بحواسي’ أو ‘أنا أعلم لأنّني برهنت على صحّته بقوّة عقلي’ أو أن يقول ‘أنا أعلم لأنّه مطابق للمنقول وموافق لتفسير الكتاب الإلهيّ’ أو ‘أنا أعلم لأنّني أُلهمت به’، ذلك لأنّ كلّ موازين الفهم البشريّ ناقصة ومختلّة.

(10) 17 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل إدوارد ب. كيني وحرمه،
780 طريق وست إند، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه جون جراندي

مذكور في الكتب المقدّسة أنّه عندما تشرق شمس الحقيقة فإنّها ستظهر في الشّرق وسيسطع نورها في الغرب. ولقد أشرقت بالفعل في الشّرق وأخذت علاماتها تظهر في الغرب، ولسوف تنتشر أنوارها في الغرب سريعًا وفي كلّ الأرجاء. لقد أشرقت شمس الحقيقة من إيران وأصبح سطوعها الآن واضحًا جليًّا هنا في أمريكا. وهذا أعظم برهان على ظهورها في أفق العالم كما هو مذكور في الكتب السّماويّة المقدّسة. الحمد لله! فإنّ كلّ ما وَعَدت به الكتب السّماويّة قد تحقّق.

يوم الأحد الماضي، وفي قاعة كارنيغي، ردّدت الشّخصيّة المحترمة، الّتي قدّمت عبد البهاء لجموع الحاضرين، عبارة أنّه ‘طبقًا لما جاء في الأحاديث سوف تظهر الشّياطين من أرض المشرق، إلاّ أنّنا بدل ذلك نرى الآن ملائكة تظهر من هناك’. عندما قيلت هذه العبارة لم يكن الرّدّ عليها ممكنًا، ولكنّنا سنتحدّث بشأنها اليوم. كانت الأنوار الرّوحانيّة العظيمة تظهر دائمًا من الشّرق؛ فظهر الجمال المبارك، حضرة بهاء الله، من الشّرق. كما أشرق السّيّد المسيح من أفق الشّرق، وكذلك حضرة موسى وهارون ويوسف وأنبياء بني إسرائيل من أمثال إرميا وحزقيال وإِشعياء وغيرهم – حيث ظهروا جميعًا من الشّرق. وكذلك الأمر أشرقت أنوار حضرة محمّد وحضرة الباب من الشّرق أيضًا. لقد غمر أفقَ الشّرق سطوع تلك الأنوار العظيمة، ولم تسطع أنوار ظهورهم على الغرب إلاّ من جهة الشّرق. وأنتم تعيشون اليوم – بحمد الله – في فجر دورة تسطع فيها شمس الحقيقة ثانية من الشّرق منيرة
كلّ الأقطار.

لقد أصبح العالم عالمًا جديدًا، وظلام اللّيل الّذي كان يغشى البشريّة أخذ يتبدّد، وطلع صبح يوم جديد. وما لبثت الإحساسات الرّبّانيّة والقابليّات السّماويّة أن أخذت تتكشّف وتتربّى في نفوس البشر بفضل تربية شمس الحقيقة. إلاّ أنّ قابليّات الأرواح متباينة وأحوالها متغايرة. فمثلاً تأتي بعض المعادن من المناطق الصّخريّة في الأرض، وجميعها تعتبر معادن، وكلّها تشكّلت بفعل شمس واحدة، ولكنّ بعضها يبقى كما هو صخرة صمّاء، بينما يحوز الآخر على قابليّة الجواهر أو الأحجار الكريمة اللاّمعة. كما أنّ الزّنابق والرّياحين تنبتُ في إحدى بقاع الأرض، ويطلع الشّوك والحسك من بقاع أخرى. ومع أنّ لكلٍّ من البقعتين نصيبًا من فيض إشراق الشّمس، إلاّ أنّ قابليّة تلقّيهما لهذا الإشراق لا تكون واحدة. ولهذا فإنّه من اللاّزم أن ننمِّي قابليّاتنا وإحساساتنا الملكوتيّة لكي تسطع منّا المواهب الرّحمانيّة لشمس الحقيقة، المقَدَّرة لهذا العصر والزّمان الّذي نحياه، كسطوع النّور من خالص البلّور.

إنّ مواهب الجمال المبارك غير محدودة، وعلينا أن نجهد كي تزداد قدراتنا يومًا بعد يوم، وأن نقوّي ونُنمّي قابليّاتنا لنيل هذه المواهب، فنصبح كالمرايا المصقولة. وكلّما ازدادت المرآة صقلاً وصفاء ازداد انعكاس أنوار شمس الحقيقة منها لمعانًا وإشراقًا. كونوا مثل الحديقة الغنّاء الّتي تنبت منها ورود الجنان وأزهارها من مختلف الأنواع وتزداد عبقًا وجمالاً. وأملي أن تصير قلوبكم كالتّربة المستعدّة المحروثة الممهَّدة بكلّ عناية، لتنزل عليها أمطار مواهب الجمال المبارك الرّبّانيّة، وتهبّ عليها نسائم هذا الرّبيع الإلهيّ بنسمة الحياة، عندئذ يزدهر رضوان قلوبكم بأزهار ريحان بهيج تعطّر مشام البستانيّ السّماويّ. وتعكس أفئدتَكم طلعات شمس الحقيقة بمختلف أطيافها لتبهج عينَ المربّي الإلهيّ الّذي ربّاها وغذّاها. كونوا يومًا فيومًا أشدّ انجذابًا حتّى يفيض منكم نور محبّة الله على كلّ من يصادفكم. كونوا كروح واحدة ونفس واحدة وأوراق شجرة واحدة وأزهار حديقة واحدة وأمواج بحر واحد.

بما أنّ التّفاوت في القابليّات له وجود في نفوس البشر، وبما أنّ هناك تفاوتًا في قُدُراتهم، فستختلف شخصيّاتهم كلّ منها عن الأخرى، إلاّ أنّ هذا الاختلاف في حقيقة الأمر يكون علّةً للاتّحاد وليس سببًا في الشّحناء والبغضاء. فإذا كانت أزهار إحدى الحدائق كلّها من لون واحد، فإنّ أثرها يكون مملاًّ للنّظر، أمّا إذا تنوّعت ألوانها تكون في غاية البهجة والرّوعة. فتبايُنُ ما تزدان به الحديقة من ألوانٍ وانعكاساتٍ يمنحها جمالاً ورونقًا. وعلى ذلك فإنّنا – رغم اختلاف شخصيّاتنا وأفكارنا ومشاربنا – علينا أن نجهد كأزهار الحديقة الرّبّانيّة الواحدة كي نعيش معًا في وئام. وعلى الرّغم من أنّ كلّ نفس لها أريجها ولونها المميّز، إلاّ أنّها جميعًا تعكس النّور نفسه، وتنفح أريجها في ذلك النّسيم الواحد الّذي يسري في البستان، وجميعها ينمو ويتربّى في تناسق ووفاق كامليْن. كونوا كأمواج بحر واحد، وأشجار غابة واحدة تنمو بكلّ محبّة ووفاق واتّحاد.

فإذا بلغتم هذا القدر من المحبّة والاتّحاد، سيسبغ الجمال المبارك عليكم أفضال ملكوت الرّوح بغير حدود، ويهديكم ويحميكم ويحفظكم في ظلّ كلمته، ويضاعف من سعادتكم في الدّنيا، ويؤيّدكم في كلّ المشقّات والمحن. فأملي إذًا أن يزداد إشراقكم يومًا فيومًا في أفق الملكوت، وتنجذبون دومًا إلى الملكوت الأبهى، وتنالون مواهب الجمال المبارك أكثر وأكثر. وإنّي مسرور لرؤية دلائل المحبّة فيما بينكم. سأذهب إلى شيكاغو، وعندما أعود آمل أن تصبح هذه المحبّة بغير حدود. عندئذ يكون ذلك مصدر سرور أبديّ لي وللأحبّاء في الشّرق.

(11) 18 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل مارشال إيميري وحرمه
273 غرب الشّارع التّاسع عشر، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته الآنسة ديكسون

أودّ اللـّيلة أن أروي لكم بعضًا من تاريخ الرّسالة البهائيّة:

ينتسب الجمال المبارك، بهاء الله، إلى نبلاء بلاد فارس. كان منذ نعومة أظفاره مميّزًا بين أقاربه ومعارفه. فكانوا يقولون عنه إنّ لدى هذا الطّفل قوّة استثنائيّة. وكان يفوق مَن هم في عمره بمراحل، ويتفوّق على مَنْ حوله في حكمته وفطنته والإلمام بما هو جديد في العلم والمعرفة. وصار كلّ من يراه يندهش من نُضجه المبكر. وما أكثر ما قيل إنّ هذا الطّفل لن يعيش طويلاً ذلك لأنّ هناك اعتقادًا شائعًا بأنّ ذوي النّضج المبكر من الأطفال لا يعيشون حتّى الرّشد. لم يدخل الجمال المبارك أيّ مدرسة في صباه، إذ لم يكن راغبًا في تلقّي العلم من أحد. وهذه حقيقة دامغة تناقلها الإيرانيّون من أهل طهران. ومع ذلك فقد كان قادرًا على حلّ كلّ المشاكل المستعصية لكلّ من كانوا يقصدونه. ولم يكن يخلو أيّ مجلس أو محفل علميّ أو مناظرة دينيّة من شخصه، وصار حُجّةً في تفسير المسائل المعقّدة المبهمة الّتي كانت تُطرح في تلك المجالس.

على الرّغم من أنّ حضرة بهاء الله كانت له صلة بالحكومة إلاّ أنّه لم يسعَ لِتَبَوُّءِ أيّ وظيفة أو منصب سياسيّ إلى أن توفّي والده. وأثار ذلك دهشة النّاس وحديثها، فعادة ما كانوا يقولون: ‘كيف لا يسعى شاب على هذا القدر من الفطنة ورجاحة العقل إلى المناصب المجزية في حال أنّ كلّ منصب متاح له؟’ هذه حقيقة تاريخيّة مشهود لها بين أهل فارس.

كان حضرة بهاء الله بالغ الكرم يعطي الفقراء بكلّ سخاء. لم يرجع مَنْ قَصَده خائبًا، وكانت أبواب بيته مفتوحة أمام الجميع، ودائمًا ما كان يستقبل الكثير من الضّيوف. فصار هذا الكرم اللاّمحدود مثارًا للكثير من الدّهشة والحيرة، ذلك لأنّه لم يكن يسعى في ذلك لأيّ منصب أو صيت. وفي معرِض حديثهم عن هذا، كان أصدقاؤه يقولون إنّه سيصبح فقيرًا مُعْوِزًا لأنّ مصاريفه باتت كثيرة وثروته أخذت تتضاءل شيئًا فشيئًا. وكانوا يتساءلون فيما بينهم ‘لماذا لا يفكّر في مصالحه الخاصّة؟’ إلاّ أنّ بعض الحكماء منهم كانوا يصرِّحون: ‘لا بدّ أنّ هذه الشّخصيّة على اتّصال بعالم آخر، وفي نفسه شيء عظيم لا نراه الآن، وسيأتي يوم ينكشف فيه ذلك الشّيء’. كان الجمال المبارك في الحقيقة ملجأً لكلّ ضعيف، وملاذًا لكلّ مستجير، وعطوفًا على كلّ مُعْوِز، وطيّبًا وحنونًا على الكلّ.

لقد اشتهر حضرة بهاء الله بهذه المناقب والصّفات قبل ظهور حضرة الباب، ثمّ أعلن حضرته صدق رسالة حضرة الباب وروّج تعاليمه. أمّا حضرة الباب فقد أعلن أنّ ظهورًا أعظم سيكون تاليًا له وسمّى ذلك الموعود بـ مَنْ يُظهره الله، مصرّحًا أنّه بعد تسع سنوات ستتجلّى حقيقة رسالته وتتّضح. ففي آثاره يتفضّل حضرة الباب بقوله إنّه في سنة التّسع سيُعرف الموعود المنتظر؛ وفي سنة التّسع كلَّ خير تُدرِكون، وفي سنة التّسع ستترقّون بين عشيّة وضحاها. كانت هناك مراسلات خاصّة بين كلّ من حضرة بهاء الله وحضرة الباب. وكتب حضرة الباب رسالة ضمّنها ثلاثمائة وستّين مشتقًّا من لفظ بهاء. ثمّ استـُشهد حضرته في تبريز؛ كما نُفي حضرة بهاء الله إلى العراق عام 1852م، وهناك في بغداد أعلن عن نفسه. ذلك لأنّ الحكومة الإيرانيّة رأت أنّه طالما بقي حضرته في إيران سيبقى أمن البلاد في اضطراب، ولذلك أُبعد عن موطنه توقّعًا بأن تهدأ فيها الأوضاع. إلاّ أنّ نفيه أحدث أثرًا عكسيًّا؛ فاندلع اضطراب جديد في إيران، وطبّق صيت عظمته الآفاق، وانتشر نفوذه في أرجاء البلاد. وقد جرى إعلان ظهوره ورسالته في بغداد، حيث جمع أحبّاءه هناك وحدّثهم عن الله.

ذات يوم هجر حضرة بهاء الله المدينة وتوجّه لوحده إلى جبال كردستان معتكفًا ومتّخذًا من كهوفها مسكنًا له. وانقضت سنتان لم يعرف فيهما أحبّاؤه وأهله بمكانه، قضى بعض الوقت منهما في مدينة السّليمانيّة.

على الرّغم من أنّ حضرة بهاء الله كان وحيدًا فريدًا غريبًا في عزلته، فإنّ الخبر قد ذاع في كلّ كردستان عن وجود شخصيّة عظيمة متبحِّرة في العلوم أوتيت جاذبيّة عجيبة. وسرعان ما انجذب إقليم كردستان بمحبّته. لقد عاش حضرة بهاء الله في تلك الآونة بكلّ فاقة، وكان يرتدي كساء الفقراء والمساكين، ويقتات بغذاء المساكين والوضعاء، إلاّ أنّ هالة من الجلال كانت تحيط بشخصه كالشّمس في رابعة النّهار، وكان يُقابَل في كلّ مكان ببالغ التّبجيل وخالص المحبّة.

بعد سنتين رجع حضرة بهاء الله إلى بغداد، وعندما زاره في بيته مَنْ عرفهم من المريدين في السّليمانيّة ووجدوه على ما اعتاد عليه من بحبوحة العيش واليسر، أبدوا دهشتهم من أن يكون هكذا حالُ من اعتزل الدّنيا في كردستان وعاش بغاية التّقشف والزّهد.

كان اعتقاد حكومة إيران أنّ إقصاء الجمال المبارك عن بلاد فارس سيكون قاضيًا على دعوته في تلك الدّيار. ولكن تبيَّن لهؤلاء الحكًام الآن أنّ دعوته انتشرت بأسرع ممّا كان، وتعاظمت هيبته وجلاله، ونالت تعاليمه المباركة رواجًا أكبر. وإزاء ذلك استغلّ رؤساء إيران نفوذهم في نفي حضرة بهاء الله عن بغداد. فكان أن استدعته السّلطات التّركيّة للإقامة في الآستانة (إسطنبول). ولكنّ حضرته – إبّان إقامته فيها – تجاهل كلّ قيد، وخاصّة عداء وزراء الدّولة ورجال الدّين له. فعاود الممثّلون الرّسميّون لإيران استغلال نفوذهم في التّأثير على السّلطات التّركيّة، فنجحوا في حملها على نفي حضرة بهاء الله من الآستانة إلى أدرنة، وكان غرضهم في ذلك أن يكون حضرته بعيدًا بأقصى ما يمكن عن بلاد فارس، فيصبح تواصله مع تلك الدّيار أشدّ صعوبة. ورغم ذلك ظلّت دعوته تنتشر وتتقوّى.

أخيرًا، تداولوا فيما بينهم وقالوا: ‘لقد أبعدناه من مكان إلى آخر، وفي كلّ مرّة نفيناه فيها كان أمره يزداد انتشارًا، ودعوته تزداد قوّةً، وسراجه يشتد ضياءً يومًا بعد يوم، ذلك لأنّنا نفيناه إلى مدن كبيرة وأماكن عامرة، لهذا سنرسله الآن سجينًا إلى مستعمرة للقصاص حتّى يدرك الجميع أنّه من عداد القتلة واللّصوص والمجرمين، ولن يمضي وقتٌ طويل حتّى يهلك هو وأتباعه’. فكان أن نفاه سلطان تركيّا إلى سجن عكّاء ببرّ الشّام.

بعد أن وصل حضرة بهاء الله إلى عكّاء تمكّن بقدرة إلهيّة أن يرفع لواء دينه. أمّا نوره الّذي كان في البدء نجمًا فقد صار الآن شمسًا ساطعة، وانتشر سناء أمره المبارك من الشّرق إلى الغرب. ومن داخل جدران السّجن سطر ألواحًا مباركة إلى كلّ حكّام الأمم وملوكها، يدعوهم إلى إصلاح ذات بينهم وإلى الصّلح العموميّ. بعض هؤلاء الملوك استقبل كلماته بازدراء واحتقار، ومن بين هؤلاء كان سلطان آل عثمان. أمّا نابليون الثّالث إمبراطور فرنسا فلم يبعث بأيّ رد، فخاطبه حضرة بهاء الله بلوح آخر جاء فيه: لقد وجّهت لك لوحًا قبل هذا داعيًا إيّاك إلى أمر الله، ولكنّك كنت من الغافلين، وادّعيت أنّك نصير المظلومين، ولكن اتّضح الآن أنّك لست كذلك، ولا أنت شفوقٌ بشعبك المبتلى بالمعاناة والقهر، فأعمالك تخالف أحوالك، وستذهب عنك عزّتك لا محالة، وعمّا قريب سوف يمحو الله ملكك بسبب غرورك وستخرج فرنسا من يدك وستبتلى بهزيمة نكراء وسيكون هناك بكاء وعويل وستنتحب النّساء على ثكل أبنائهنّ. هذا وقد نشر هذا الإنذار الّذي وجـّهه حضرة بهاء الله إلى نابليون الثّالث وذاع أمره.

إقرأوا وتفكّروا: كيف يوجّه سجين وحيد فريد لا معين له ولا نصير، غريب عن الدّيار، حبيس حصن عكّاء، رسالاتٍ كهذه إلى إمبراطور فرنسا وسلطان تركيّا؟ وتمعّنوا كيف رفع بهاء الله لواء أمره وهو في السّجن. ارجعوا إلى التّاريخ؛ إنّه أمر لا نظير له. لم يحدث شيء مثل ذلك من قبل ولا من بعد – سجين ومنفيّ يعمل على تقدّم أمره، ويـَنشُرُ تعاليمه على ملأ الأشهاد على شأن جعله في النّهاية من القوّة ما مكّنه من أن يقهر نفس ذاك المليك الّذي حكم عليه بالنّفي.

انتشر أمره أكثر فأكثر. لقد حبس الجمال المبارك خمسًا وعشرين سنة، كان خلالها هدفًا لإهانات النّاس وذمّهم، واضطُهِد واستُهزِئ به وقُيد بالسّلاسل والأغلال ونُهبت أملاكه وصودرت ممتلكاته في إيران، ونـُفي في البداية من إيران إلى بغداد، ثمّ إلى الآستانة، فأدرنة، ومن الرّوميلّي أخيرًا إلى حصن عكّاء.

كان حضرة بهاء الله في سنوات حياته مفعمًا بالحيويّة والنّشاط وقواه بغير حدود. نادرًا ما كان يهنأ بليلة من نوم مريح. تحمّل كلّ هذه المشاق، وعانى كلّ هذه المحن والمصائب كي يتجلّى في عالم الوجود مظهرٌ للتفاني والخدمة، وحتّى يصير الصّلح الأعظم حقيقة واقعة، ويظهر من النّفوس ما يحكي عن ملائكة السّماء، وتجرى المعجزات الملكوتيّة بين البشر، ويقوى ويكتمل إيمان البشر، ويترقّى العقل – الّذي هو أثمن وأغلى موهبة من الله للبشر – ويصل إلى كامل حِجاه في هيكل الجسد الإنسانيّ، ويصير الإنسان صورة ومثالاً للخالق عزّ وجلّ، مصداقًا لما جاء في الكتاب المقدّس لنعملنّ إنسانًا على صورتنا ومثالنا.

وخلاصة القول، لقد تحمّل الجمال المبارك كلّ هذه المحن والمصائب لكي تصير قلوبنا مشتعلة منيرة، وأرواحنا مجيدة، وتتبدّل سيّئاتنا بالحسنات، وينقلب جهلنا علمًا، وتبلغ الإنسانيّة ثمارها الحقّة، وننال النّعم السّماويّة، ونسلك سبيل الملكوت بينما نحن من عابري السّبيل هنا في عالم النّاسوت، وننال من كنوز الحياة الأبديّة رغم ضعفنا وافتقارنا. من أجل هذا كلّه تحمّل حضرة بهاء الله كلّ تلك الرّزايا والمحن.

فلتكن ثقتكم جميعًا بالله. فالأنوار السّبحانيّة ساطعة، والألواح المباركة منشورة، والتّعاليم المباركة ذائعة في أرجاء الشّرق والغرب. وعمّا قريب سترون الكلمات الإلهيّة وقد شيّدت وحدة العالم الإنسانيّ، وتشاهدون بسط لواء الصّلح الأكبر، وتبصرون ظهور الجامعة الإنسانيّة العظيمة.

(12) 19 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بقاعة إيرل هول بجامعة كولومبيا بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

لو تمعّـنّـا بنظر ثاقب في عالم الوجود لوجدنا أنّ كلّ الكائنات يمكن تصنيفها إلى مراتب أربعة: الأولى هي الجماد – أي المادّة أو الشّيء الّذي يتّخذ أشكالاً عديدة من التّركيب. الثّانية هي النّبات – الحائز على خواص الجماد علاوة على قوّة التّكاثر أو النّمو، وهذا ما ينُمُّ عن مرتبة أرقى وأكثر تميّزًا عن الجماد. والثّالثة هي الحيوان – الحائز على خواص الجماد والنّبات مضافًا إليها قوّة الإدراك الحسّيّ. ويأتي الإنسان في المرتبة الرّابعة – وهو أرقى كائنات عالم الإمكان تميّزًا، فهو المُجَسِّد لخواص الجماد والنّبات والحيوان معًا مضافًا إليها موهبة مثاليّة غائبة تمامًا عن الممالك الأدنى، ألا وهي قوّة التّقصّي العقليّ في أسرار الظّواهر الخارجيّة. ونتاج هذه الموهبة العقليّة هو العلم، وهو ما يميّز الإنسان على وجه الخصوص. فهذه القوّة العلميّة تتفحّص وتدرك الكائنات والنّواميس المحيطة بها. فهي الكاشفة لما خفي وغمض من أسرار عالم المادّة وهي المميِّزة للإنسان دون سواه. فأنبل وأشرف إنجازات الإنسان إذًا هي المعارف والإنجازات العلميّة.

يمكن تشبيه العلم بمرآة تنعكس عليها أسرار الظّواهر الخارجيّة. فهو يأتي بخبايا الماضي ويخرجها إلى حيّز المشاهدة، ويربط الماضي بالحاضر، فتتبلور استنتاجات فلاسفة القرون الغابرة وتعاليم الأنبياء وحكمة السّابقين من الحكماء، وتُعاد صياغتها في قالَب التّقدّم العلميّ ليومنا الحاضر. العلم كاشف لما مضى، ومن استنباطه للماضي والحاضر نتوصّل إلى الاستنتاجات المتعلّقة بالمستقبل. والعلم سلطان الطّبيعة وأسرارها، وهو القوّة الّتي بها يكتشف الإنسان قوانين الخليقة. فكلّ المخلوقات أسيرة للطّبيعة وخاضعة لنواميسها، ولا يمكنها أن تتجاوز سلطة هذه النّواميس قيد شعرة. فالمجرّات الفلكيّة والأجرام السّماويّة اللاّمتناهية هي توابعٌ مطيعة للطّبيعة. والأرض بما فيها من آلاف مؤلّفة من الكائنات، أي كلّ ما في عوالم الجماد والنّبات والحيوان، عبيدٌ لسطوتها. بيد أنّ الإنسان باستخدامه قواه العلميّة والفكريّة بمقدوره أن يخرج من هذه الحالة، ويتناول الطّبيعة بالتّعديل والتّبديل والهيمنة طبقًا لرغباته واحتياجه. فالعلم، إذا شئنا التّعبير، هو محطِّم قوانين الطّبيعة.

تفكّروا مثلاً، فالإنسان، طبقًا لقانون الطّبيعة، يكون مجبرًا على العيش على سطح الأرض. بيد أنّه، بالتّغلب على هذا القانون والقيد، يشقّ عباب البحار بالسّفن، ويصعد إلى أوج السّماء بالطّائرات، ويغوص في أعماق البحار بالغوّاصات، وهذا ضدّ حكم الطّبيعة وخرق لهيمنتها وسلطانها. ومن الطّبيعي أن تبقى قوانين الطّبيعة وأنظمتها، وأسرار الكون وغوامضه، بل وابتكارات الإنسان واكتشافاته، وكذلك كافّة تحصيلاتنا العلميّة مستورة ومجهولة. بيد أنّ الإنسان بذكائه العقليّ يتحرّى عنها ويخرجها من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود، ويكشف عنها ويفسّرها. فالكهرباء مثلاً هي واحدة من أسرار الطّبيعة، وبحكم الطّبيعة يجب أن تبقى هذه القوّة وهذه الطّاقة كامنة مستورة، ولكنّ الإنسان بعلمه يخرق قوانين الطّبيعة، ويمسك بزمام هذه الطّاقة بل ويحبسها من أجل منفعته.

الخلاصة، إنّ الإنسان بامتلاكه هذه الموهبة الممتازة – موهبة الاستقصاء العلميّ – هو أنبل المخلوقات، وهو سيّد الطّبيعة، هو الّذي ينتزع سيف الطّبيعة من يدها ويضرب به على رأسها. واللّيل طبقًا لناموس الطّبيعة فترة ظلام وقتام، غير أنّ الإنسان بتسخيره لقوّة الكهرباء، وبإشهاره لهذا السّيف الكهربيّ يقهر الظّلام ويبدّد القَتَام. فالإنسان يسمو إذًا فوق الطّبيعة ويجعلها تأتمر بأمره. والإنسان مخلوق ذو إحساس، أمّا الطّبيعة ففاقدة للإحساس. وللإنسان ذاكرة وعقل، والطّبيعة محرومة منهما. إذًا فهو أنبل منها. وهو حائز لقوى ليست لدى الطّبيعة. وقد يقول قائل إنّ هذه القوى من الطّبيعة نفسها وأنّ الإنسان جزء من الطّبيعة. ونحن نجيب على ذلك بالقول إنّه إذا كانت الطّبيعة هي الكلّ والإنسان جزء من ذلك الكلّ، فكيف يتسنّى للجزء أن يمتلك من الصّفات والكمالات ما يغيب عن الكلّ؟ من المحتّم قطعًا أن يكون الجزء حائزًا على نفس الصّفات والخواص كما هو الحال في الكلّ. فالشّعر مثلاً جزء من تركيب الإنسان، ولا يمكنه أن يحتوي على عناصر لا توجد في سائر أجزاء البدن، لأنّه في جميع الحالات تكون العناصر المكوِّنة للجسد واحدة. فيتّضح إذًا أنّ الإنسان، رغم كونه جزءًا من الطّبيعة بالجسد، فهو يمتلك بالرّوح قوّة تفوق الطّبيعة. ذلك لإنّه لو كان بكلّ بساطة جزءًا من الطّبيعة ومقيّدًا بقوانين المادّة، لما امتلك سوى الأشياء الّتي تتضمّنها الطّبيعة. فلقد وهب الله الإنسان واختصّه بقوّة مميّزة – وهي مـَلكة إعمال الفكر في أسرار الخليقة، وتحصيل المعارف والعلوم السّامية – حيث تكون الاستنارة العلميّة أعظم مناقبها.

إنّ هذه الموهبة هي أعظم القوى الممدوحة عند الإنسان، فبإعمالها واستخدامها يتحقّق صلاح الجنس البشريّ، ويصبح ترقّي الفضائل الإنسانيّة ممكنًا، وتتجلّى الرّوح الرّبّانيّة وتتكشّف الأسرار الإلهيّة. ولهذا فإنّني في غاية السّرور بزيارتي لهذه الجامعة. والحمد لله إنّ هذا البلد زاخر بالكثير من معاهد العلم هذه، وفيها تتاح الفرص لنيل العلوم والفنون والآداب بسهولة ويسر.

حيث إنّ العلوم المادّيّة والطّبيعيّة تُدرّس هنا وتتطوّر دائمًا نحو آفاق أوسع من الاكتشاف والتّحصيل، فإنّني آمل أن يحذو حذوَها التّطوّرُ والتّرقّي الرّوحيّ ويمضيان جنبًا إلى جنب مع هذه المزايا الظّاهريّة، وأن يسطع نور الرّوح – الّذي هو السّراج المعنويّ والرّبّانيّ للفلسفة الحقيقيّة – بمجده على هذه الهيئة، تمامًا كما يستضيء من هم في جنبات وأروقة صرح العلم العظيم هذا بنور المعارف المادّيّة. وأعظم مبادئ الفلسفة الرّبّانيّة هو وحدة العالم الإنسانيّ، أي وحدة الجنس البشريّ، تلك الرّابطة الّتي تربط الشّرق بالغرب، وصلة المحبّة الّتي تؤلّف بين أفئدة البشر.

لهذا فإنّه من واجبنا أن نبذل قصارى جهدنا ونستجمع كلّ طاقاتنا حتّى تتأسّس أواصر الاتّحاد والوفاق بين بني البشر. لقد عانينا من إراقة الدّماء والنّزاع آلاف السّنين. كفانا ذلك، كفانا ذلك. آن الأوان لكي نأتلف معًا في محبّة ووفاق. ولآلاف السّنين جرّبنا السّيف وآلات الحرب، فليحاول الجنس البشريّ أن يعيش في سلام ولو لفترة من الزّمان على الأقل. راجعوا التّاريخ وتأمّلوا؛ كم من وحشيّة، وكم من إراقة للدّماء ومعارك شهدها العالم. وجميعها كانت إمّا حروبًا دينيّة أو حروبًا سياسيّة أو ثمة تصادم في مصالح البشر ومنافعهم. ولم ينعم عالم البشريّة أبدًا بنعمة الصّلح العموميّ، وطفقت وسائل الحرب وأدواتها تزداد كمًّا وإتقانًا عامًا بعد عام. تدبّروا في حروب القرون الماضية، فلم يُقتل فيها سوى عشرة أو خمسة عشر أو عشرين ألفًا على أكثر تقدير، أمّا اليوم فإنّه من الممكن قتل مائة ألف نفس في يوم واحد. وكانت الحروب قديما تُشنّ بالسّيف، أمّا اليوم فبالمدافع. في السّابق كانت سفن الحرب تُبحر بالشّراع، واليوم نراها سفنًا مدرّعة مخيفة. تأمّلوا في تكديس آلات الحرب وتطويرها. لقد خلقنا الله كلّنا بشرًا، وجعل كلّ بلاد العالم أجزاء في كرة أرضيّة واحدة، وكلّنا عباده. هو عطوف وعادل مع الكلّ، فلماذا نقسو ونظلم بعضنا بعضًا؟ هو يرزقنا جميعًا، فلماذا يحرم كلّ منا الآخر؟ هو يحمي الكلّ ويحفظهم، فلماذا يقتل الإنسان أخاه الإنسان؟ فلو كانت هذه الحرب وهذا الاقتتال من أجل الدّين، فمن الواضح أنّها تتنافى مع روح وجوهر جميع الأديان لأنّ كافة المظاهر الإلهيّة نادت بوحدانيّة الله، وبوحدة الجنس البشريّ. ومن تعاليمهم أنّ البشر يجب أن يتحابَّوا ويساعد بعضهم البعض حتّى يتمكّنوا من التّرقّي. فإذا ما كان هذا المفهوم الدّينيّ صحيحًا، يكون مبدؤه الجوهريّ هو وحدة الجنس البشريّ. كما أنّ أساس حقيقة المظاهر الإلهيّة هو السّلام. هذا هو أساس كلّ دين وكلّ عدل، والغرض الإلهيّ هو أن يحيا البشر في اتّحاد ووفاق ووئام ويحبّوا بعضهم بعضًا. تدبّروا في فضائل العالم الإنسانيّ وأدرِكوا أنّ وحدة الجنس البشريّ هي أسُّ أساس هذه الفضائل جميعها. اقرأوا الإنجيل وسائر الكتب المقدّسة، فستجدون أنّ مبادئها الأساسيّة واحدة لا إختلاف فيها. فالاتّحاد إذًا هو حقيقة الدّين الجوهريّة، وإذا ما فهمناه من هذا المنظور، نجده شاملاً لكافّة فضائل العالم الإنسانيّ. والحمد لله فإنّ هذه الحقيقة قد انتشرت، والأعين تفتّحت، وأصبحت الآذان صاغية. فيجب علينا إذًا أن نجهد لكي نروّج دين الله الّذي أسَّسه كلّ الأنبياء والمرسلين ونعمل به. وما دين الله إلاّ خالص المحبّة وكامل الاتّحاد.

(13) 19 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بإرساليّة باوري 227 شارع باوري، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

إنّني في غاية السّعادة في هذه اللّيلة لأنّني أتيت هنا للقاء أحبّائي. أعتبركم أقربائي ورفاقي، وأنا رفيقكم.

عليكم أن تكونوا ممتنِّين لله سبحانه وتعالى كونكم فقراء، إذ إنّ يسوع المسيح تفضّل قائلاً: طوبى للفقراء ولم يتفضّل أبدًا طوبى للأغنياء. كما تفضّل حضرته أيضًا بأنّ الملكوت للفقراء وأنّ دخول الجمل في ثقب الإبرة أسهل من دخول الغنيّ في ملكوت السّموات. لهذا يجب أن تكونوا شاكرين لله لأنّه رغم كونكم معوِزين في هذه الحياة الدّنيا، إلاّ أنّ الكنوز الإلهيّة في متناولكم. ومع أنّكم فقراء في عالم النّاسوت، إلاّ أنّكم أعزّة في الملكوت. ولقد كان حضرة المسيح نفسه فقيرًا ولم يكن من فئة الأغنياء، وكان يصرف أوقاته في الخلاء ويتنقل ما بين الفقراء، وكان يقتات على كلأ الحقل. ولم يكن لديه مكان يضع عليه رأسه، وكان بلا مأوى. كان يعيش في العراء تحت رحمة القيظ والبرد والصّقيع وقسوة الجوّ بكلّ أنواعها. مع كلّ ذلك آثر هذا على الثّراء. فلو كان الثّراء مجدًا، لاختاره نبيّ الله موسى، ولصار المسيح ثريًّا. ولمّا ظهر يسوع المسيح، كان أوّل من آمن به هم الفقراء لا الأغنياء. فأنتم إذًا حواريّو يسوع المسيح، وأنتم رفاقه لأنّه كان فقيرًا لا غنيًّا في الظّاهر. وسعادة هذه الدّنيا لا تعتمد على الثّراء. وعندما تتأمّلون حال الأثرياء تجدون العديد منهم عرضة للأخطار ومبتلون بالمصاعب، وفي لحظات احتضارهم الأخيرة تنتظرهم هناك الحسرة على فراقهم المحتوم عمّا تعلّقت به قلوبهم كلّ التّعلّق. لقد جاءوا إلى هذا العالم عراة وعليهم أن يتركوه عراة. عليهم أن يتركوا كلّ ما جمعوه ويرحل الواحد منهم أعزلاً وحيدًا. وغالبًا ما تمتلئ نفوسهم بالأسى والحسرة عند حلول الأجل، بل والأدهى من هذا كلّه أنّ أملهم في رحمة الله أقلّ عمّا نحن عليه. فالحمد لله إنّ أملنا هو في رحمة الله، ولا شكّ أنّ الرّحمة الإلهيّة مغدَقة على الفقير. فهذا هو ما تفضّل به يسوع المسيح، وهذا أيضًا ما تفضّل به حضرة بهاء الله. وعندما كان حضرته في بغداد، كان ما يزال يمتلك ثروة كبيرة. فترك كلّ هذا وخرج من المدينة وحيدًا صارفًا سنتين بين الفقراء. لقد كانوا رفاقه، فكان يأكل معهم وينام معهم ويفتخر بأنّه واحد منهم. واختار لنفسه لقب الفقير ليكون من بين ألقابه، وغالبًا ما كان يشير إلى نفسه في كتاباته بالدّرويش، ومعناها الفقير باللّغة الفارسيّة، وكان فخورًا جدًّا بهذا اللّقب. وأوصى الكلّ بأنّنا يجب أن نكون خادمين للفقراء، ومعينين لهم، ومتذكّرين لمحنهم ومآسيهم، ومعاشرين لهم، عسى أن نرث بذلك ملكوت السّموات. كما أنّ الله لم يقل إنّ هناك منازل معدّة لنا إذا ما نحن صرفنا أوقاتنا في معاشرة الأغنياء، ولكنّه قال إنّ هناك منازل كثيرة أعدّت لمن يخدمون الفقراء، ذلك لأنّ الفقراء أعزّاء على الله جدًّا وقد اختصّوا بنعم الله وآلائه. أمّا الأغنياء فإنّهم في الغالب غافلون، غير عابئين، غارقون في أمور الدّنيا، متّكلون على أسبابهم، في حين أنّ الفقراء متوكّلون على الله، وكلّ اعتمادهم عليه سبحانه وتعالى لا على أنفسهم. فالفقراء إذًا هم الأقرب إلى عتبة الله وعرشه.

لقد كان المسيح فقيرًا. وذات ليلة، بينما كان في العراء، بدأ المطر بالهطول، ولم يكن له من مكان يلوذ به، فرفع عينيه إلى السّماء وقال: يا أبتاه، لطيور السّماء جعلت أعشاشًا، وللغنم حظائرَ، وللوحوش عرائنَ، وللسمك مخابئَ، ولكنّك لم توفّر لي ملجأً، فليس لي مكان أضع عليه رأسي. فراشي من أديم الأرض البارد، والنّجوم مصابيح ليلي، وطعامي كلأ الحقل. ومع هذا فمن هو أغنى منّي على وجه البسيطة؟ لأنّك لم تعط البركة الكبرى للأغنياء والأكابر وإنّما أعطيتها لي، ذلك لأنّك أوكلتَ الفقراء بي، ومنحتني هذه البركة، فهم لي، وأنا إذًا أغنى إنسان على الأرض.

إذًا، فيا رفاقي، أنتم تقتدون بيسوع المسيح، وحياتكم تُماثل حياته، وتوجّهكم مثل توجّهه، وتشبهونه أكثر ممّا يشبهه الأغنياء. فلنشكر الله إذًا على أنّنا نلنا الثّروة الحقّة، وفي الختام أرجو منكم أن تقبلوا عبد البهاء خادمًا لكم.

(في نهاية هذا اللّقاء وقف حضرة عبد البهاء أمام مدخل قاعة الإرساليّة، مصافحًا أيدي ما يقرب من أربعمائة أو خمسمائة نفس واضعًا في كف كلّ واحد منهم قطعة نقود فضّيّة.)

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في واشنطن العاصمة (1) 20 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في مؤتمر اتّحاد الشّرق والغرب،
بقاعة المكتبة العامّة في واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنني اللّيلة في غاية السّرور للوقوف أمام جمع كهذا. فأنا من الشّرق وقد جئت إلى الغرب للقاء أهله. الحمد لله! إنّني أرى في وجوه المجتمعين هنا نور الله، وأعتبر هذا دليلاً على إمكانيّة توحيد الشّرق والغرب، وتأسيس رابطة مثاليّة بين إيران وأمريكا – وهي إحدى أهداف مؤتمركم هذا. وبالنّسبة للإيرانيّين، ليست هناك حكومة مهيّأة للمساهمة في تنمية مواردهم الطّبيعيّة والمساعدة في احتياجاتهم القوميّة في تحالفٍ متبادل أفضل من حكومة الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وبالنّسبة للأمريكيّين ليس هناك منفذٌ وسوق صناعيّ أفضل من الأرض التّجاريّة البكر في إيران. ولا تزال الثّروة المعدنيّة في إيران كامنة لم تُمَسّ. وأملي أن يكون للدّيمقراطيّة الأمريكيّة العظيمة دور فعّال في تنمية هذه الموارد الدّفينة، وأن يتأسّس رباط أخوّة ووحدة مثاليّتيْن بين الجمهوريّة الأمريكيّة وحكومة إيران. ونرجو أن تستحكم أواصر هذا الرّباط بكلّ إتقان، أكان مادّيًّا أم روحيًّا، وأن تجد حضارة أمريكا المادّيّة تحقُّقًا وتأسيسًا كاملاً في إيران، وأن تجد حضارة إيران الرّوحيّة قبولاً واستجابة في أمريكا.

بمقدور بعض الكائنات أن تحيا منعزلة وحيدة. فالشّجرة مثلاً بوسعها العيش دون مساعدة أو تعاون باقي الأشجار. وبعض الحيوانات تعيش منعزلة وتحيا حياة منفصلة بعيدًا عن جنسها. ولكنّ هذا مستحيل بالنّسبة للإنسان، فالتّعاون والتّرابط ضروريّان لحياته وكيانه. وفي التّرابط والتّلاقي نجد السّعادة والرّقيّ فرديًّا وجماعيًّا.

فمثلاً لو كان هناك تواصل وتعاون بين قريتين، فذلك يضمن التّقدّم لكلّ منهما. وبنفس الكيفيّة إذا تحقّق التّواصل بين مدينتين فإنّ كلتيهما تنتفعان وتتقدّمان. وإذا ما تمّ التّوصُّل إلى قاعدة من التّفاهم المشترك بين دولتين، فإنّ مصالحهما الفرديّة والمشتركة ستصيبُ رقيًّا عظيمًا. وبناء على ذلك فإنّني أشاهد في وحدة هذا الجمع المنير حلقة وصل بين الشّرق والغرب. وهذه الوحدة هي وسيلة وأداة للتّعاون بين مختلف بلدان الشّرق والغرب. من الواضح إذًا أنّ ما يتحقّق من نتائج على قاعدة الاتّفاق والائتلاف هذه لا حصر لها ولا حدَّ، ومن المؤكّد أن يكون هناك حصاد وفير من النّتائج العظيمة لكلّ من إيران وأمريكا. فسوف تتأسّس حضارة مادّيّة راقية في إيران وتنفتح الأبواب على مصاريعها للتّجارة الأمريكيّة.

فوق هذا وذاك، ستربط ما بين هذين الشّعبيْن المتباعديْن وتمزجهما محبّة فائقة وينبوع من المودّة، ذلك لأنّ حضرة بهاء الله قد أعلن للعالم عن تضامن الأمم والوحدة الإنسانيّة، إذ خاطب بني البشر قاطبة بقوله كلّكم أوراق شجرة واحدة وقطرات بحر واحد. ووضّح حضرته بأنّ عالم الإنسانيّة عبارة عن وحدة متكاملة – أي أسرة واحدة. فالمأمول إذًا أن ترتبط الأمَّتان الأمريكيّة والإيرانيّة وتتَّحدان في محبّة متبادلة، وأن يصبحا جنسًا واحدًا حائزًا على نفس الاستعدادات، وأن تتوطّـد روابط الائتلاف والوفاق هذه.

لقد أمضى حضرة بهاء الله أربعين سنة من حياته في الحبس والنّفي حتّى يرفع لواء وحدة عالم الإنسان. وتحمّل في هذا السّبيل كلّ هذه المشقّات والصّعاب. كان حضرته تحت حكم عبد الحميد، وأنا أيضًا كنت في سجن عبد الحميد إلى أن رفعتْ لجنة الاتّحاد والتّرقّي علم الحرّيّة ورُفِعت بذلك عنـّي الأغلال. لقد أبدت لي تلك اللّجنة عطفًا ومحبّة فائقيْن، فغدوتُ حرًّا طليقًا، وأصبحت قادرًا على المجئ إلى هذه الدّيار. ولولا إجراءات تلك اللّجنة لما كنت معكم هنا هذه اللّيلة. وبناء على ذلك عليكم جميعًا التماس العون والتّأييد في حقّ تلك اللّجنة الّتي بواسطتها أُعلنت حرّيّة الدّيار التّركيّة.

الخلاصة، إنّني طَوَيتُ هذه المسافة الطّويلة، وعبَرتُ المحيط الأطلسيّ إلى هذه القارّة الغربيّة، تحدوني الرّغبة والأمل في أن تتأسّس أقوى روابط الاتّحاد بين أمريكا وإيران. وأعلم أنّ هذه أيضًا رغبتكم ومقصدكم، وأنا متأكّد من تعاونكم. فعلينا إذًا أن نبتهل إلى العتبة الإلهيّة أن تتمكّن من أفئدة البشر محبّة عظيمةٌ فتوحِّد أمم العالم، وأن ندعو أن ترتفع راية الصّلح العالميّ وتتحقّق وحدة العالم الإنسانيّ. كلّ هذا ممكن ومتاح من خلال مساعيكم. أدعو أن تكون الأمّة الأمريكيّة الدّيمقراطيّة هذه أوّل أمّة تؤسّس قواعد الوفاق العالميّ، وأن تكون أوّل أمّة تعلن عموميّة الجنس البشريّ، وأوّل أمّة ترفع لواء الصّلح الأعظم، وأن تنتشر وتسري من خلال هذه الأمّة الدّيمقراطيّة تلك المقاصد والمؤسّسات الخيريّة في كلّ أرجاء العالم. فهذه بالفعل أمّة عظيمة ومحترمة، فقد بلغت الحرّيّة هنا أسمى درجاتها، ومقاصد أهل هذه الأمّة ممدوحة للغاية، وهم جديرون حقًّا بأن يكونوا أوّل من يرفع خيمة الصّلح الأعظم ويعلن عن وحدة الجنس البشريّ. سأبتهل إلى الله لأجلكم سائلاً لكم العون والتّوفيق.

(2) 21 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في ستوديو هول،
1219 طريق كونيكتيكت، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

جئت هنا قاصدًا زيارتكم، وتمنّيت رؤيتكم بغاية الشّوق. ولإدراكي أنّ مجيئكم لزيارتي سيكون بغاية المشقّة، وأنّ قليلاً منكم يستطيع السّفر، قرّرتُ أن آتي إليكم حتّى نحظى جميعًا ببهجة اللّقاء. الحمد لله! أنا هنا أنظر وجوهكم – هذه الوجوه المشرقة بجمال السّريرة، والقلوب المنجذبة للملكوت الأبهى، والأرواح المستبشرة ببشارات الله، ولهذا فإنّني أشعر بأعظم ما يمكن من السّعادة. ولا شكّ أنّها سعادة متبادَلة، لأنّ القلوب متّصلة ببعضها البعض ومفعمة بذات الاهتزاز، وشعلة المحبّة ونورها منعكسان على الكلّ، وتملأ الإحساسات الرّوحانيّة والأشواق القلبيّة كلّ فؤاد. وإذا ما رفعنا في كلّ لحظة مائة ألف شكر إلى العتبة الإلهيّة على هذه المحبّة الّتي مزجت الشّرق بالغرب، لقصّرنا في التّعبير عن امتناننا بصورة كافية. وإذا ما سعت كلّ قوى الأرض في الإتيان بهذه المحبّة بين الشّرق والغرب لما استطاعت، وإذا ما رغبت في تأسيس هذه الوحدة لكان ذلك مستحيلاً. ولكنّ حضرة بهاء الله حقّق كليهما بقوّة الرّوح القدس، ورابطة الوحدة هذه المتحقّقة من خلال المحبّة دائمة أبديّة. فهي ستستمرّ دائمًا أبدًا، وستزداد قوّتها يومًا بعد يوم، وعمّا قريب ستأسر العالم، وستجمع في آخر الأمر قلوب كلّ أمم الأرض بقبضتها المحكمة، فيصير عالم النّاسوت مظهر أنوار اللاّهوت، وتحيط الفيوضات الرّبّانيّة بالجميع، وسيُشاهد تقدّم وتطوّر استثنائيّان من منظور كلّ من المدنيّة المادّيّة والرّوحيّة. وفي هذا الدّور سيحدث تطوّر في الحضارة ليس له نظير في تاريخ العالم. لقد كان العالم الإنسانيّ في ما مضى يمرّ بمرحلة الطّفولة، وهو يقترب الآن من مرحلة الرّشد. وكما هو الحال مع الكائن البشريّ الفرد، فبدخوله فترة الرّشد يبلغ أكمل درجات قوّته الجسمانيّة ونضوج قواه الذّهنيّة، حتّى إنّه يُشاهَد في سنة واحدة من فترة النّضج والاكتمال هذه قدرٌ لا سابق له من التّطوّر، كذلك الحال مع العالم الإنسانيّ في دور الاكتمال والبلوغ هذا فإنّه سوف يحقّق رقيًّا بالغًا، وستتجلّى بدرجات من الكمال غير متناهية قوّةُ الإنجاز الّتي تحكي عن حقيقة كلّ فرد بشريّ على أنّه مخزن للمواهب الّتي تأتينا من الله – ذلك الرّوح الشّامل السّاري في كلّ الأشياء – ومن بينها موهبة القوّة الذّهنيّة المدركة.

فاشكروا الله إذًا أنّكم جئتم إلى حيّز الوجود في هذا القرن المنير الّذي فيه تتجلّى المواهب الإلهيّة من كلّ حدب وصوب، وفيه فتحت لكم أبواب الملكوت، وارتفع النّداء الإلهيّ، وأضحت فضائل العالم الإنسانيّ في طور التّجلّي والظّهور. لقد جاء اليوم الّذي فيه تتبدّد كلّ ظلمة، وتسطع شمس الحقيقة متوهّجة. يمكن تشبيه أوان العالم هذا بالاعتدال الرّبيعيّ في دورة الفصول السّنويّة، لأنّ هذا هو حقًّا فصل الرّبيع الإلهيّ. وهناك وعد في الكتب المقدّسة بأنّ الرّبيع الإلهيّ سيتجلّى وتنزل أورشليم المقدّسة من السّماء ويقفز جبل صهيون فرحًا ويرقص وتنغمس الأرض المقدّسة في بحر من التّجلّي الرّبّانيّ.

في زمن الاعتدال الرّبيعيّ في العالم المادّيّ تُشاهد قوّة نابضة عجيبة وطفرة حيويّة جديدة في كلّ أرجاء مملكة النّبات، وتنتعش مملكتا الحيوان والإنسان وتمضيان قُدُمًا بزَخَم جديد. ويُبعث العالم كلّه ويولد ولادة ثانية، وتهبّ النّسائم العليلة عبقة عطرة، وتتفتّح الأزهار وتورق الأشجار، ويصير الجوّ دافئًا ومنعشًا، وما أحلى وأطيب ما تكون عليه الجبال والحقول والمروج. وعلى هذا المنوال فإنّ الفيض الرّوحانيّ والرّبيع الرّبّانيّ يُحيي عالم الإنسان بروح وحياة جديدتيْن، وتتجلّى وتظهر كلّ الفضائل المودَعة الكامنة في أفئدة البشر من تلك الحقيقة الإلهيّة كتفتُّح الأزهار والرّياحين في رياض الله. فهو يوم سرور وأوان حبور وزمن نموّ روحانيّ. ألتمس من الله أن تنطبع عليكم هذه المدنيّة الرّبّانيّة الرّوحانيّة بكامل بصمتها وتأثيرها، وأن تصبحوا كالأغراس النّامية، وأن تُنْبِت سدراتُ أفئدتكم أوراقًا جديدة وأزهارًا بهيجة، وأن يأتي منها أكمل الثّمرات، كي ينشط العالم الإنسانيّ – الّذي نما وارتقى في المدنيّة المادّيّة – في الإتيان بالكمالات الرّوحانيّة، وكما كشفت العقول الإنسانيّة عن أسرار المادّة وجاءت بأسرار الطّبيعة من عالم الغيب، تتبحـّر العقول وتتعمّق النّفوس في الحقائق الإلهيّة وتتجلّى الحقائق الملكوتيّة في أفئدة العباد. عندئذ يصير العالم جنّة الأبهى، ويُرفع علم الصّلح الأعظم عاليًا، وتلوح وحدة العالم الإنسانيّ بكلّ جمالها وبهائها وعظمتها. وأحبّ الآن أن أتلو الدّعاء لكم في محضركم، فاجعلوا أفئدتكم متنبِّهة ومتوجّهة إلى الملكوت الأبهى.

(وهنا تلى حضرة عبد البهاء مناجاة باللّغة الفارسيّة)

أملي أن يُستجاب قريبًا هذا الدّعاء الّذي تضرّعت به إلى الملكوت الأبهى، وأن تتجلّى نتائجه وتأثيراته في أفئدتكم وحياتكم.

(3) 21 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بكنيسة الخلاص،
تقاطع شارع 13 وشارع لام، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ تعاليم هذه الكنيسة وعقيدتها، كما عبّر عنها كاهنها المبجّل بكلّ اقتدار، ممدوحة حقًّا ومنزّهة وجديرة بكلّ ثناء وتمجيد، لأنّ هذه المبادئ تعارض التّعصّبات الدّينيّة الّتي تأصّلت جذورها اليوم. من الواضح أنّ التّعصّبات النّاجمة عن التّمسّك بالطّقوس الدّينيّة، وتقليد معتقدات الأسلاف قد أعاقت تقدّم البشريّة لآلاف السّنين. فكم من حروب ومعارك نشبت، وكم من تحزّب وخلاف وبغضاء جلبها هذا اللّون من التّعصّب! ولكن بما أنّ هذا القرن هو – لله الحمد – قرن تجلّي الحقيقة، فإنّ أفكار البشر متوجّهة لخير الإنسانيّة ووحدتها. ويومًا بعد يوم يتبدّد سراب التّقاليد، ويزداد بحر الحقيقة تموّجًا. كلّ الأمم القائمة كان لها في الأصل أساس إلهيّ من الحقّ أو الحقيقة قُصد منه أن يُفضي إلى وحدة الجنس البشريّ ووفاقه، إلاّ أنّ نور تلك الحقيقة أخذ يخبو ويخفت شيئًا فشيئًا، وحلّ محلّه ظلام الأوهام والتّقاليد، مكبِّلاً العالم الإنسانيّ بسلاسل الجهل وأصفاده. فنشبت العداوة بين البشر، وطغت حتّى تناحرت كلّ أمّة مع الأخرى بكلّ عنفٍ وبغضاء، وصارت الحرب تراثًا دينيًّا وسياسيًّا لبني البشر.

الآن، يكفينا هذا! علينا أن نتحرّى الحقيقة، وأن نضع هذه الأوهام جانبًا. من المحقّق الثّابت أنّ كلّ البشر من صنع الله، وكلّ عبادٌ له وتحت حفظه وحمايته، والكلّ متلقٍّ لفيوضاته. والله رؤوف بعباده، وكلّ ما هنالك أنّ البعض جاهلون يجب تعليمهم حتّى يتوقّد ذهنهم، والبعض قُصَّر مثل الأطفال من الواجب مساعدتهم وإعانتهم حتّى يبلغوا الرّشد، والبعض عليلون مرضى يتحتّم شفاؤهم. بيد أنّه لا يصحّ أن تُجرَّب الأدوية الزّائفة على المريض المتألّم، أو أن يُقيّد الطّفل ويعاق نموّه، أو أن يُكبّل الجاهل باللّوم والانتقاد. بل علينا أن نبحث عن العلاج الحقيقيّ السّليم.

لقد ظهر جميع أنبياء الله في العالم، بمن فيهم يسوع المسيح، من أجل تربية البشر، والبلوغ بالنّفوس القاصرة إلى مرحلة الرّشد، وتحويل الجاهلين من بني البشر إلى عارفين، مؤسّسين بذلك المحبّة والاتّحاد بالتّربية والتّعليم الرّبّانيّ. لم يأت الأنبياء لإيجاد الخلاف والعداء. فالله أراد كلّ خير لعباده؛ ومن يريد الشّرَّ لعباد الله فإنّه يعادي الله ويعصي أوامره ويخرج عن منهاجه ويسلك سبيل الشّيطان ويقتفي خطواته. إذ إنّ الحبّ والرّحمة من خصال الله، أمّا الكراهية والبغضاء فمن صفات الشّيطان. فمن كان رؤوفًا ورحيمًا بإخوانه من بني الإنسان فهو مظهرٌ للصّفة الإلهيّة، ومن كان مبغضًا ومعاديًا لبني جنسه كان شيطانيًّا. فالله سبحانه وتعالى هو المحبّة الصّرفة، كما أعلن يسوع المسيح تمامًا، أمّا الشّيطان فهو الكراهية المحضة. وحيثما تشاهدون المحبّة فاعلموا أنّ هناك مظهرًا لرحمة الله، وحيثما تجدون الكراهية والعداوة اعلموا بأنّها سمات الشّيطان وصفاته. لقد ظهر الأنبياء في هذا العالم من أجل أن تصبح النّفوس حاكية عن صفات الرّحمن، ومن أجل أن تتربّى وتترقّى، وتنال المحبّة والمودّة، وتؤسِّس الصّلح والوفاق.

إنّ الحيوان في عالم الوجود أسير للطبيعة، وعليه تكون تصرّفاته طبقًا لمتطلّبات الطّبيعة واحتياجاتها. فليس لديه اهتمام أو وعي بالخير والشّرّ، فهو بكلّ بساطة يتّبع غرائزه وأهواءه الفطريّة. لقد جاء أنبياء الله لهداية الانسان إلى سواء السّبيل حتّى لا يتّبع نزواته الغريزيّة بل يتحكّم في تصرّفاته بنور تعاليمهم والاقتداء بهم. إذ إنّه طبقًا لتعاليمهم، على الإنسان أن يعمل ما هو ممدوح بميزان العقل والفكر، حتّى لو كان ذلك معارضًا لأهوائه البشريّة الفطريّة، وأن يمتنع عن فعل ما لا يليق من منظور نفس هذا الميزان حتّى لو كان موافقًا لنزواته وأهوائه الغريزيّة. فعلى الإنسان إذًا أن يتّبع خصائل الرّحمن ويظهرها في حياته.

إنّ أفراد المجتمع غير الكاملين، وذوي النّفوس الضّعيفة من بني البشر هم الّذين يتّبعون نزعتهم الفطريّة. فحياتهم وتصرّفاتهم تكون بمقتضى أهوائهم الغريزيّة؛ فهم أسرى النّزعات الجسديّة، وليسوا على اتّصال أو وفاق مع الفضائل الرّوحيّة. للإنسان مظهران: مظهر جسمانيّ خاضع للطّبيعة، وآخر رحمانيّ أو ربانيّ متّصل بالله. فإذا ما تغلّبت نزعته الجسمانيّة أو الغريزيّة على طبيعته الملكوتيّة الرّحمانيّة غدا من أحطّ الكائنات الحيوانيّة، أمّا إذا انتصر جانبه الرّبّانيّ الرّوحيّ على البشريّ الغريزيّ، فيكون ملاكًا بكلّ تأكيد. والأنبياء يأتون إلى العالم لهداية البشريّة وتربيتها، حتّى تختفي الطّبيعة الحيوانيّة في الإنسان وتستيقظ قواه الرّحمانيّة. والمظهر الرّبّانيّ أو الطّبيعة الرّوحانيّة يتأتّى من نفثات الرّوح القدس. والولادة الثّانية الّتي تحدّث عنها المسيح تعني ظهور هذه الطّبيعة الملكوتيّة في الإنسان. وهذا هو المقصود بالتّعميد من الرّوح القدس، فمن تعمّد بالرّوح القدس يكون مظهر الرّحمة الإلهيّة الحقّة لبني البشر. ومن ثمّ يصير إنسانًا عادلاً وشفوقًا بكلّ البشر – إنسانًا لا يضمر التّعصّب أو السّوء لأحد، ولا ينفر من أيّ أمّة أو شعب.

إنّ أسس الأديان الإلهيّة واحدة. وإذا ما تفحّصناها سنجد فيها الكثير من قواعد الوفاق والاتّفاق، أمّا إذا نظرنا إلى التّقاليد والطّقوس والعقائد الموروثة، لوجدنا فيها نقاط اختلاف وانقسام نظرًا لتباينها واختلافها، بينما تبقى المنابع والأصول واحدة لا تتغيّر. بمعنى أنّ الأسس تُفضي بنا إلى الاتّحاد، أمّا التّقاليد فهي سبب الفرقة والتّشرذم. فكلّ من يفتقر إلى محبّة الإنسانيّة أو يبدي الكراهية والتّعصّب نحو أيّ فئة من البشر يكون مخالفًا لأساس عقيدته ومنبعها، ويصبح متمسّكًا بالرّسوم والتّقاليد. لقد أعلن السّيّد المسيح أن الشّمس تشرق على العاصي وعلى البارّ، والمطر ينزل على العادل والظّالم – أي على الإنسانيّة كلّها على حد سواء. وكان المسيح رحمة إلهيّة أشرقت على سائر البشر، وواسطة لنزول الموهبة الرّبّانيّة – والموهبة الرّبّانيّة تسمو فوق كلّ شيء، ولا يحدّها حدّ، فهي شاملة للعموم.

قرأ لنا القسّ المبجّل من الإنجيل ما يلي: إنّ لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأمّا متى جاء ذاك روح الحقّ فهو سيرشدكم إلى جميع الحقّ. وها قد بزغ فجر ذلك العصر الّذي تسنّى فيه لروح الحقّ أن يُظهـِر هذه الحقائق للبشريّة وينادي بنفس تلك الكلمة المباركة، ويرسي قواعد المسيحيّة الحقّة، ويخلّص الأمم والشّعوب من عبوديّة الرّسوم والتّقاليد. فيزول سبب الخلاف والتّعصّب والعداوة، وتتأسّس قواعد المحبّة والألفة. إذًا فاجهدوا جميعكم قلبًا وروحًا لكي تختفي العداوة تمامًا، وتزول الشّحناء والبغضاء من العالم الإنسانيّ بالكلّيّة. عليكم بأن تُصغوا إلى نصيحة روح الحقّ هذا، وعليكم أن تحذوا حذو المسيح وتسيروا على خطاه. اقرأوا الأناجيل؛ كان السّيّد المسيح عين الرّحمة، وكان عين المحبّة. بل لقد صلّى من أجل جلاّديه – أولئك الّذين صلبوه – قائلاً: يا أبتاه اغفر لهم لأنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون، ذلك لأنّهم لو علموا ما كانوا يفعلون لَما فعلوه. انظروا كم كان يسوع المسيح حنونًا، حتّى إنّه صلّى من أجل ظالميه وهو على الصّليب. فعلينا أن نحذو حذوه، وأن نقتدي بأنبياء الله، وأن نتّبع السّيّد المسيح. علينا أن نحرّر أنفسنا من كلّ هذه التّقاليد الّتي هي سبب ظلمة العالم.

دعوني أسألكم: هل خلقنا الله من أجل المحبّة أم من أجل العداوة؟ وهل خلقنا من أجل السّلام أم الخصام؟ من المؤكّد أنّه خلقنا من أجل المحبّة، فعلينا إذًا أن نحيا طبقًا لمشيئته. فلا تصغوا أبدًا لكلّ ما ينمّ عن التّعصّب، لأنّ المنفعة الذّاتيّة تحضّ الإنسان على التّعصّب. فأولئك أناس لا يفكّرون إلاّ في رغباتهم وأهوائهم. يعيشون ويتحرّكون في الظّلام. انظروا كم من أمم مختلفة ونحل دينيّة متباينة كانت قائمةً عندما ظهر المسيح. ولقد سادت بينها العداوة والشّحناء – من رومان ويونان وآشوريّين ومصريّين، وجميعهم كانوا أممًا متحاربة متباغضة، فوحّدهم السّيّد المسيح بنفثات الرّوح القدس، وألّف بينهم بدرجة لم يبق فيها أيّ أثر للنّزاع، وصاروا متّحدين تحت لوائه، وعاشوا بكلّ سلام بفضل تعاليمه. فأيّهما أفضل وأجدر بالثّناء؟ أن نحذو حذو السّيّد المسيح أو أن نُظهر الغريزة الشّيطانيّة؟ فلنجتهد بكلّ ما في وسعنا لنوحّد الشّرق والغرب حتّى تترقّى أمم العالم ويحيا الكلّ بمقتضى أساس أديان الله الأوحد. فأسس الأديان الإلهيّة هي حقيقة واحدة لا تنقسم ولا تتعدّد، ذلك لأنّها الشّيء نفسه. وعندما نجد أنّها واحدة بالبحث والتّحرّي نخرج بأساس لوحدة العالم الإنسانيّ. سأتوجّه بالدّعاء من أجلكم طالبًا لكم التّوفيق والتّأييد.

(4) 22 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه،
1700 الشّارع الثّامن عشر، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

انظروا كم هو عميم فضل حضرة بهاء الله علينا، وكم هو عظيم نفوذ كلمته المباركة! من أيّ البقاع في أقصى العالم جمعنا معًا في هذه الدّار لنلتقي على هذه المائدة السّماويّة، إذ إنّ المحبّة قد أعدّت احتفالاً وأمرت عبد البهاء أن يجعل منه احتفالاً باسمه. فيا لها من وحدة بين القلوب، ويا له من وفاق أسّسه حضرة بهاء الله لربط الشّرق بالغرب! وكيف أحاط فضله الكلّ، وتهيّأت سنوحاته للكلّ!

عندما غزا المسلمون بلاد الفرس، حدث أن ذهب رئيس كهنة الزّرادشتيّين ليحتسي الخمر. والخمر محرّم في شريعة الإسلام، ومن يشربه تجب معاقبته بواحدة وثمانين جلدة. ولهذا ألقى المسلمون القبض على رئيس الكهنة ونفّذوا فيه حكم الجلد. كان الفرس في ذلك الوقت يعدّون العرب من أدنى الشّعوب ويحتقرونهم، ونادرًا ما كانوا يعتبرونهم بشرًا. ولأنّ محمّدًا كان عربيًّا فقد كان الفرس ينظرون إليه نظرة ازدراء. ولكن عندما رأى رئيس الكهنة في حضرة محمّد علائم قوّة هيمنت على هذا القوم البغيض بالنّسبة إليهم، صاح قائلاً ‘أيّها المحمّد العربيّ، ماذا صنعت؟ ماذا صنعت حتّى تجعل قومك يلقون القبض على رئيس كهنة الزّرادشتيّين لارتكابه عملاً غير مشروع في دينك؟’ وكانت تلك الحادثة سببًا في التّغلّب على التّعصّب الّذي كان يدفع الزّرادشتيّ لتجنّب المسلم، لأنّ الكاهن رأى في ما جرى له هيمنة عظيمة من حضرة محمّد على قومه.

أمامنا اليوم في هذا الجمع دليل على أنّ حضرة بهاء الله قد مارس نفوذًا روحيًّا عجيبًا في كلّ أرجاء العالم بواسطة قوّة المحبّة الإلهيّة. فقد جعل النّاس من أقاصي أرجاء إيران والشّرق تأتي إلى هذه المائدة لتلتقي بأهل الغرب بغاية المحبّة والوداد والاتّحاد والوفاق. فانظروا كيف أتت قوّة حضرة بهاء الله بالشّرق والغرب معًا. وها هو عبد البهاء واقف يخدمكم. فليس هنا من عصا أو ضرب، ولا من سوط أو سيف، بل تحقّق ذلك بقوّة المحبّة الإلهيّة.

إنّنا في هذا العالم نحكم على أيّ دعوة أو حركة من خلال تقدُّمها ورقيّها. فبعض الحركات تظهر لفترة قصيرة تبدي فيها نشاطًا وفعاليّة ثمّ تختفي. وغيرها يُظهر قدرًا أكبر من التّطوّر والنّفوذ، ولكنّه قبل بلوغ طور النّضج يذبل ويتحلّل ويطويه النّسيان. فأيّ من هذيْن النّوعين ليس تقدّميًّا ولا باقيًا.

يبقى هناك نوع آخر من الحركات أو الدّعوات الّتي تكون صغيرة جدًّا غير ملحوظة في بدايتها فتسير قُدُمًا وتنمو وتتطوّر بثقةٍ وثبات، ثمّ تتوسّع في مداها وتزداد شيئًا فشيئًا إلى أن تأخذ أبعادًا عالميّة. فالحركة البهائيّة من هذا النّوع. فمثلاً عندما نُفي حضرة بهاء الله من إيران ومعه عبد البهاء وباقي أسرته، قطعوا الطّريق الطّويل من طهران إلى بغداد مارّين بكثير من المدن والقرى، ولم يقابلوا طوال تلك الرّحلة وتلك المسافة مؤمنًا واحدًا بالدّعوة الّتي نُفوا من أجلها. ففي ذلك الوقت لم يكن يُعرَف عنها في أيّ بقعة من بقاع العالم سوى النّذر اليسير، حتّى أنّ بغداد ذاتها لم يكن فيها سوى مؤمن واحد كان قد آمن على يد حضرة بهاء الله نفسه في إيران. وبعد ذلك ظهر اثنان أو ثلاثة آخرون. تلاحظون إذًا أنّ دعوة حضرة بهاء الله كانت في البداية مجهولة تقريبًا، ولكن بالنّظر إلى كونها حركة إلهيّة فقد نشأت وتطوّرت بقوّة روحيّة لا تقاوَم إلى أن غدت في هذا اليوم من الاتّساع بحيث أنّكم إذا سافرتم الآن – شرقًا أو غربًا – وبأيّ بلد حللتم فسوف تلتقون بالمحافل والمؤسّسات البهائيّة. وهذا دليل على أنّ البهائيّين ينشرون بركات الوحدة والرّقيّ المستمرّ في كلّ أرجاء العالم مسترشدين بالهداية الإلهيّة والمقصد الرّبّانيّ، بينما لا تحظى أيّ من الحركات الأخرى – وهي ليست سوى حركات وقتيّة في أنشطتها وإنجازاتها – بأيّ أهمّيّة عموميّة فعليّة.

(5) 23 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة الّتي ألقيت في جامعة هاوارد، بواشنطن العاصمة

مأخوذة عن التّرجمة الإنجليزيّة لأمين بناني

إنّني اليوم في منتهى السّرور لأنّني أرى هنا جمعًا من عباد الله من السّود والبيض جالسين معًا. ليس لدى الله بيض وسود، وكلّ الألوان عنده لون واحد هو لون العبوديّة الإلهيّة، وليس للرّائحة واللّون شأن لديه بل الأهمّيّة للقلب. فإذا كان القلب طاهرًا فلن يشكّل اللّون الأبيض أو الأسود أو أيّ لونٍ آخر أيّ فرق. فالله لا ينظر إلى الألوان بل إلى القلوب. فمن كان ذا قلب طاهر كان أفضل، ومن تفوّق في خُلُقه كان مَرْضِيًّا أكثر، ومن ازداد توجُّهًا إلى الملكوت الأبهى كان في ترقٍّ أسمى.

ليس للألوان في عالم الوجود شأن أو اعتبار، ففي عالم الجماد تلاحظون أنّ الألوان ليست سبب الاختلاف، وتباينها في عالم النّبات ليس سببًا للاختلاف بل علّة لجمال الحديقة. لأنّ الاقتصار على لون واحد لا جمال فيه، أمّا حين ترى ألوانًا مختلفة فهناك يكون جمال وبهاء.

وعالم البشريّة أيضًا مثل الحديقة، والنّوع الإنسانيّ كالأزهار المختلفة في ألوانها. فاختلاف الألوان إذًا يشكّل زينة. هناك في عالم الحيوان أيضًا ألوان؛ فالحمام نراه ألوانًا وألوانًا ومع هذا فإنّه في منتهى الألفة لا ينظر بعضه إلى لون الآخر، بل إلى النّوع. فكم من حمامات بيض تطير مع حمامات سود، وكذلك سائر الطّيور والحيوانات المختلفة في الألوان، فإنّها لا تنظر أبدًا إلى اللّون بل إلى النّوع.

إذًا لاحظوا الآن أنّ الحيوانات مع أنّها لا تملك عقلاً ولا إدراكًا إلاّ أنّها لا تجعل اختلاف الألوان سببًا في الخصام، فلماذا يتخاصم الإنسان العاقل؟ إنّ هذا لا يليق به أبدًا خاصّة وأنّ البيض والسّود من سلالة آدم ومن عائلة واحدة وكانوا في الأصل واحدًا وفي اللّون واحدًا. فقد كان لآدم وحوّاء لون واحد، وترجع سلالة جميع البشر إليهما. إذًا فالأصل واحد، وهذه الألوان ظهرت فيما بعد بسبب اختلاف المناخ والأصقاع ولا اعتبار لها مطلقًا. لذا، فإنّني اليوم في غاية السّرور لاجتماع البيض والسّود معًا في هذا الحفل، وأملي أن يصل هذا الاجتماع وهذه الألفة إلى حدّ لا يبقى فيه أيّ فرق بينهم، ويكون الجميع معًا في منتهى الألفة والمحبّة.

ولكنّني أودّ أن أذكر أمرًا يدعو إلى امتنان السّود للبيض ويحبّب البيض بالسّود؛ فلو ذهبتم إلى إفريقيا وشاهدتم السّود الإفريقيّين عند ذاك تعرفون مدى التّقدّم الّذي حقّقتموه. والحمد لله أنتم الآن مثل البيض لم تبقَ بينكم فروق كبيرة. إلاّ أنّ السّود الإفريقيّين يعامَلون كالخدم. إنّ أوّل إعلان دعا لتحرير السّود كان من البيض الأمريكيّين. فكم حاربوا وكم ضحّوا حتّى حرّروا السّود! ثمّ انتشر ذلك إلى جهات أخرى. لقد كان السّود الإفريقيّون في منتهى العبوديّة ولكنّ تحريركم هذا صار سببًا في حرّيّتهم أيضًا، يعني أنّ الدّول الأوروبّيّة اقتدت بالأمريكيّين وأصبح إعلان التّحرير هذا عموميًّا. ومن أجلكم بذل البيض الأمريكيّون مثل هذه الهمّة. ولو لم يكن هذا الجهد لما أُعلن التّحرير العموميّ.

لذلك، يجب أن تكونوا ممتنّين جدًّا للبيض الأمريكيّين، ويجب على البيض أن يكونوا محبّين جدًّا لكم حتّى ترتقوا في كافّة المراتب الإنسانيّة. ابذلوا الجهد معًا حتّى ترتقوا رقيًّا فائقًا وتمتزجوا ببعضكم امتزاجًا تامًّا. وخلاصة القول عليكم أن تكونوا شاكرين جدًّا للبيض لأنّهم كانوا وراء تحرّركم في أمريكا، فلو لم يكن لكم هذا لما تحرّر باقي السّود أيضًا. والآن – كلّكم والحمد لله أحرار تعيشون بمنتهى الاطمئنان، وأدعو لكم كي ترتقوا في حسن الأخلاق والأطوار إلى درجة تزول فيها تسمية الأبيض أو الأسود، ويُسمّى كلّ واحد بـ الإنسان، تمامًا كما يسمّى سرب الحمام حمامًا ولا يقال الحمام الأسود أو الحمام الأبيض. وكذلك الحال مع سائر الطّيور.

أتمنّى أن تبلغوا شأوًا رفيعًا كهذا، وهذا لا يمكن تحقيقه إلاّ بالمحبّة. فاسعوا إلى إيجاد المحبّة بينكم، ولن تحصل هذه المحبّة بينكم إلاّ إذا كنتم ممتنّين للبيض، وكان البيض محبّين لكم ويبذلون الجهد لترقيتكم ويسعون لعزّتكم. سيكون هذا سببًا للمحبّة وزوال الاختلاف بين البيض والسّود زوالاً تامًّا؛ بل وتزول أيضًا تلك الخلافات بين الأعراق والقوميّات.

إنّي في غاية السّرور برؤيتكم، وأحمد الله على أنّ هذا الحفل قد جمع البيض مع السّود، ومعًا يلتقون بكمال المحبّة والألفة. وأرجو أن يعمّ هذا النّموذج من الألفة والمحبّة حتّى لا يبقى لقب بين البشر غير الإنسان وهذا اللّقب هو كمال العالم الإنسانيّ وسبب العزّة الأبديّة وسبب السّعادة البشريّة. لهذا فإنّي أدعو من أجلكم كي تكونوا في منتهى الألفة والمحبّة مع بعضكم البعض، وأن تجهدوا وتسعوا من أجل راحة بعضكم بعضًا.

(6) 23 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه،
1700 بالشّارع الثّامن عشر، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

في هذا اليوم بقيت أتحدّث منذ الفجر حتّى الآن، ولكن من فرط المحبّة والمودّة ورغبتي في أن أكون معكم، جئت هنا لأتكلّم مرّة أخرى باختصار. في الأيّام القليلة الماضية وقع حادث رهيب في العالم، حادث محزن لكلّ قلب ومؤلم لكلّ روح. وأقصد بهذا كارثة التَّيْتانيك الّتي غرق فيها الكثيرون من إخواننا من بني البشر، وبسببه انتقلت عدّة نفوس جميلة إلى ما بعد هذه الحياة الدّنيويّة. ورغم أنّ حادثًا كهذا مؤسف بمعنى الكلمة، إلاّ أنّ علينا أن ندرك أن كلّ ما يحدث راجع إلى حكمة ما، ولا شيء يحدث بغير سبب. فهناك سرّ ما، بيد أنّه مهما كان السّبب أو السّرّ، فقد كانت واقعة حزينة أدمعت كثيرًا من العيون وأفجعت الكثير من النّفوس. وقد تأثّرتُ أنا شخصيًّا بدرجة بالغة من هذه الكارثة. فبعض المفقودين كانوا قد ركبوا معنا على السّفينة سِدْرِكْ بدايةً حتّى ميناء نابولي ثمّ أبحروا على السّفينة الأخرى، وكلّما أفكّر في تلك النّفوس أحزن حقًّا. غير أنّه عندما أتدبّر هذه الكارثة من زاوية أخرى، يعزّيني إدراك أنّ عوالم الله ليس لها نهاية، وأنّه رغم حرمانهم من هذا الوجود الدّنيويّ، فإنّ لديهم فرصًا أخرى في الحياة الأخرى، تمامًا كما قال السّيّد المسيح: في بيت أبي منازل كثيرة. فقد نـُقلوا ممّا هو زائل إلى ما هو أزليّ، وفارقوا الحياة الدّنيا ودخلوا أبواب عالم الأرواح. وبتركهم للنّعم والخيرات التّرابيّة، صار لهم الآن نصيب من فرح وسرور أبقى دوامًا وأكثر حقيقة، إذ إنّهم سرعوا إلى ملكوت الله. ورحمة الله لا نهاية لها، وعلينا أن نتذكّر تلك الأرواح الرّاحلة في دعواتنا وابتهالاتنا لكي يتقرّبوا أكثر فأكثر من عين معين الرّحمة.

إنّ هذه الأطوار الّتي تمرّ بها الرّوح الإنسانيّة يمكن تشبيهها برحم الأمّ الّذي يولد منه الطّفل إلى عالم الدّنيا الوسيع. ففي بداية ولادته يجد الرّضيع صعوبة شديدة في التّعوّد على حياته الجديدة. فهو يبكي كما لو كان غير راغب في مفارقة ملاذه الضّيق ظنـًّا منه أنّ الحياة مقصورة على ذلك الحيّز المحدود – حيّز الرّحم. فهو يرفض مغادرة منزله ومقرّه هذا، بيد أنّ الطّبيعة تُخرجه قسرًا إلى هذا العالم. وبدخوله في أطواره الدّنيويّة الجديدة، يجد نفسه قد خرج من الظّلمة إلى دائرة النّور، وانتقل من أوساط قاتمة محدودة إلى محيط فسيح بهيج. كان غذاؤه في السّابق من دم الأمّ، أمّا الآن فيتوفّر له ما يتمتّع به من لذائذ الطّعام. وأصبحت حياته الجديدة مملوءة بالسّناء والجمال، وها هو ينظر بكلّ دهشة وابتهاج إلى الجبال والمروج والحقول الخضراء والأنهار والعيون، ويتطلّع إلى نجوم السّماء البديعة، ويتنسّم الهواء المنعش، وبذلك يحمد الله على عتقه من حبس نشأته الأولى وبلوغه الحرّيّة في عالم جديد. يوضّح هذا المثال علاقة العالم الفاني، بالعالم الباقي – أي انتقال الرّوح الإنسانيّ من ظلام الدّنيا الفانية وحيرتها إلى نور الملكوت الباقي وحقيقته. إذ إنّ تقبّـل الموت يكون عسيرًا على الإنسان في البداية، أمّا بعد وصوله إلى هذا الطّور الجديد تصير روحه شكورة، لأنّها أُعتقت من قيود المحدود لتحظى بحريّة اللاّمحدود، وتحرَّرت من عالم الحزن والأسى والمحن لتحيا في عالم حبور وسرور لانهائيّ، وتخلّـت عمّا هو عرضيّ ومادّيّ لتنال فرصًا تبلغ فيها ما هو مثاليّ وروحانيّ. لذا فإنّ أرواح أولئك الّذين رحلوا عن هذا العالم في كارثة التَّيْتانيك، بعد أن أكملوا رحلة حياتهم الفانية، قد سرعت نحو عالم أسمى من هذا العالم وحلّقت بعيدًا عن أحوال الظّلام والقَتَام هذه قاصدة ملكوت الأنوار. هذه هي الاعتبارات الوحيدة الّتي يمكن أن تعزّي وتُسلّي أولئك الّذين بقوا من بعدهم.

فضلاً عن ذلك فإنّ لمثل هذه الأحداث أسبابًا ودواعٍ أعمق من ذلك. فهدفها وغرضها هو تلقين الإنسان دروسًا معيّنة. فنحن نعيش في عصر الاعتماد على الوسائل المادّيّة. يظنّ النّاس أنّ ضخامة السّفينة وقوّتها وكمال آليّاتها أو مهارة ملاّحها سوف تضمن لهم السّلامة، لكنّ هذه الكوارث أحيانًا ما تحدث حتّى يدرك النّاس أنّ الله هو الحافظ الحقيقيّ. فإذا شاءت الإرادة الإلهيّة أن تحفظ الإنسان، فسفينة صغيرة قد تنجو عندئذ من التّحطـّم، بينما قد لا تسلم من الأخطار الماثلة في البحار أعظم وأكمل السّفن الّتي يُعهد بها إلى أفضل الملاّحين وأمهرهم. فالمراد هو أن يتوجّه أهل العالم إلى الله، الحافظ الأوحد، وأن تتوكّل نفوس البشر على حفظه، وأن تدرك أنّه هو مصدر أمنها وأمانها الحقيقيّ. فهذه الأمور تحدث إذًا لكي يزداد إيمان الإنسان ويقوى. لذا، بينما نحن نشعر بالحزن والأسى، علينا أن نتضرّع إلى الله أن يوجّه قلوبنا إلى الملكوت، وأن ندعو لتلك النّفوس الرّاحلة موقنين برحمة الله الواسعة، حتّى يحظوا، رغم حرمانهم من هذه الحياة الدّنيا، بوجود جديد في المنازل العُليا عند الآب السّماويّ.

لا يجدر بأيّ منكم أن يتصوّر أنّ ما أقوله يعني أنّ الإنسان لا يحتاج أن يكون متمكّنًا متنبِّهًا ودقيقًا في ما يقوم به. فلقد حبا الله الإنسان بالذّكاء لكي يحمي نفسه ويحفظها. لذا على الإنسان أن يوفـّر لنفسه ويحيطها بكلّ ما تستطيع المهارات العلميّة أن تبتكره. وعليه أن يكون متأنّيًا متدبِّرًا وشاملاً في مقاصده، فيبني أفضل سفينة ويأتي بأمهر ربّان، ولكنّه بالإضافة إلى ذلك عليه أن يعتمد على الله وأن يعتبر أنّ الله هو الحافظ الأوحد. فإذا ما حفظ الله إنسانًا، لا يلحق بأمنه وأمانه أيّ ضرر، أمّا إذا لم تكن مشيّة الله هي صونه وحفظه، فلا أمان أو حماية مهما بلغت التّدابير والاحتياطات.

(7) 23 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في جمعيّة بيثيل الأدبيّة، بالكنيسة الأسقفيّة المنهجيّة
الإفريقيّة بالعاصمة، شارع ميم، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

بينما أقف هنا اللّيلة وأمعن النّظر في هذا الجمع، أراه يذكّرني تمامًا بباقة جميلة من زهور البنفسج تكوّنت من ألوان مختلفة، الدّاكن منها والفاتح. وهذا برهان ودلالة على أنّ حكومة الولايات المتّحدة الأمريكيّة حكومة عادلة حرّة، إذ إنّني أرى البيض والسّود جالسين معًا بغاية الوئام والاتّفاق، وأشاهد القلوب متّحدة. فهذه الحكومة العادلة قد جعلت مثل هذا اللّقاء ممكنًا. فعليكم أن تحمدوا الله دومًا على أنّكم تحظون بالأمن والحماية من حكومة ترعى رقيّكم وتقدّمكم وتحكم بالعدل والمساواة الخالصة نحو الجميع، وكأنّها ربّ أسرة واحدة، فليس هناك بركة أعظم من هذه البركة في عالم البشر. وسأحدّثكم اللّيلة عن بعض المسائل العلميّة.

إنّ المناقب والفضائل الإنسانيّة عديدة، ولكنّ العلم أشرفها جميعًا. والامتياز الّذي يحظى به الإنسان عن رتبة الحيوان راجع إلى هذه المنقبة العظمى. فهي موهبة من الله، ولكنّها ليست مادّيّة بل هي موهبة إلهيّة. فالعلم هو سطوع شمس الحقيقة، وهو قوّة استقصاءٍ واستكشافٍ لحقائق هذا الكون، وهو الواسطة الّتي يعرف بها الإنسان سبيله إلى الله. وجميع قوى الإنسان وصفاته هي بشريّة وموروثة من حيث المنشأ والأصل – فهي نتاج التّفاعلات الطّبيعيّة – ما عدا العقل، الّذي هو قوّة خارقة للطّبيعة. ومن خلال التّحرّي الفكريّ والعقلانيّ يصير العلم كاشفًا لكلّ الأشياء. فالعلم هو الّذي يصل الحاضر بالماضي، ويكشف عمّا مضى من تاريخ الأمم والوقائع، وينعم على إنسان اليوم الحاضر بخلاصة كافّة المعارف والإنجازات البشريّة الّتي تحقّقت عبر العصور. كما أنّه بإعمال الفكر والقيام بالاستنتاجات المنطقيّة العقليّة يتسنّى لهذه القوّة الإنسانيّة الخارقة أن تنفذ إلى أسرار المستقبل وتتوقّع ما سيأتي به من أحداث.

العلم أوّل فيض من الله للإنسان. فبينما تحوز كافّة المخلوقات إمكانيّة الكمال المادّيّ، فإنّ قوّة التّحرّي والبحث الفكريّ والتّحصيل العلميّ هي منقبة عليا اختـصّ الله بها الإنسان وحده، وتبقى سائر الموجودات والكائنات محرومة من هذه المَلَكة وهذا الفلاح. لقد خلق الله في الإنسان أو أودع فيه هذا العشق لمعرفة الحقيقة. إنّ تقدم أيّ أمّة من الأمم ورقيّها منوطان بمستوى ودرجة إنجازاتها العلميّة. فبهذه الوسيلة تزداد عظمتها دومًا، ويتحقّق رخاء شعبها ورفاهه يومًا بعد يوم.

إنّ جميع المواهب إلهيّة في أصلها، إلاّ أنّ أيًّا منها لا يُقارَن بقوّة التّحرّي والبحث الفكريّ، الّتي هي عطيّة أزليّة تؤتي ثمارًا لا تزول لذّتها، ويتناول الإنسان دائمًا وأبدًا من تلك الثّمار. كما أنّ جميع المواهب الأخرى مؤقّتة، أمّا موهبة العقل فهي ملك أبديّ لا يزول. بل إنّ ما لدى الملوك من سلطة ونفوذ له حدود وانتهاء أيضًا، أمّا سلطنة العقل فهي سلطنة وهيمنة يستحيل سلبها أو القضاء عليها. فهي بالاختصار موهبة أزليّة وعطيّة ربانيّة، وهي المنحة الكبرى من الله للإنسان. فعليكم إذًا أن تبذلوا الجهد الجهيد في تحصيل العلوم والفنون. وكلّما عظـُم إنجازكم علا معياركم في المقصد الرّبّانيّ. فذو العلم قد وُهِب الإدراك والبصيرة، بينما الجاهل الغافل عن ذلك التّرقّي هو أعمى. والعقل الباحث متوقّد حيّ، أمّا العقل البليد الخامل فهو أصمّ ميّت، وصاحب العلم عنوان الإنسانيّة ومَثَلها الحيّ، لأنّه بفضل الاستنتاج الاستقصائي والبحث العلميّ يصبح عالِمًا بكلّ ما يتعلّق بالإنسانيّة وأحوالها وأطوارها وحوادثها. فهو يدرس أحوال الهيئة الاجتماعيّة البشريّة، ويتفهّم معضلاتها الاجتماعيّة، وينسج لُحْمة المدنيّة وسَداها. ويمكن تشبيه العلم في واقع الحال بمرآة تتجلّى وتنعكس فيها أشكال وصور من الكائنات لا نهاية لها. فالعلم هو أسّ أساس كلّ رقيّ أكان رقيًّا فرديًّا أم قوميًّا. ومن دون هذا الأساس من التّحرّي يكون التّرقّي والتّقدّم أمرًا مستحيلاً. فاطلبوا العلم والمعرفة إذًا بكلّ همّة، واسْعَوْا إلى بلوغ أقصى ما بإمكان تلك الموهبة البديعة تحقيقه.

لقد ذكرنا أنّ العلم أو موهبة الاكتشاف العلميّ خارقة للطّبيعة، وأنّ كلّ النّعم الإلهيّة الأخرى داخلة في حيِّز الطّبيعة. ولكن ما هو الدّليل على ذلك؟ نقول إنّ كلّ المخلوقات أسيرة للطّبيعة فيما عدا الإنسان. فالنّجوم والشّموس السّابحة في الفضاء اللاّمتناهي، وكلّ أشكال الحياة والوجود التّرابيّ – جمادًا كان أم نباتًا أم حيوانًا – تخضع جميعها لسطوة ناموس الطّبيعة وحكمها. أمّا الإنسان فهو يهيمن على الطّبيعة بواسطة المعرفة والمقدرة العلميّة، ويسخّر قوانينها تحت أمره. والإنسان طبقًا للحدودات الطّبيعيّة مخلوق من الأرض، ومجبور على العيش على أديمها، بيد أنّه باستخدامه العلميّ للقوانين المادّيّة يحلق في السّماء، ويمخر عباب البحار، ويغوص في أعماقها. وقد كانت نتائج اختراعاته واكتشافاته، الّتي اعتدنا رؤيتها في حياتنا اليوميّة – من أسرار الطّبيعة في يوم من الأيّام. فمثلاً، أخرج الإنسان القوّة الكهربيّة من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود، وطوّع تلك الواسطة الطّبيعيّة المستورة وحبسها وجعلها خادمة لأغراضه ورغباته. والأمثلة المشابهة عديدة، ولكنّنا لن نسهب فيها. فالإنسان، إذا جاز التّعبير، نزع سيف الطّبيعة من يدها واستخدمه سلاحًا لنفسه ليهيمن به على الطّبيعة نفسها. والطّبيعة محرومة من تاج القدرات والصّفات البشريّة. فللإنسان ذكاء وتدبّر واعٍ، أمّا الطّبيعة فليس لها نصيب من هذا. وهذا مبدأ مسلَّم به لدى الفلاسفة. والإنسان حائز على الإرادة والذّاكرة، أمّا الطّبيعة فليس لها هذه أو تلك. والإنسان يُخرج الأسرارَ المكنونة في الطّبيعة، والحال إنّ الطّبيعة غير مدركة لحقائقها المستورة. كما أنّ الإنسان في ترقٍّ وتقدّمٍ دائميْن، أمّا الطّبيعة فساكنة وعاجزة عن التّقدّم أو حتّى التّخلّف. والإنسان حائز على أسمى المناقب، ومنها الذّكاء، والإرادة، والإيمان، والاعتراف بالله والإقرار به – بينما الطّبيعة محرومة من هذه جميعًا. إنّ القدرات المثاليّة عند الإنسان بما فيها قدرة التّحصيل العلميّ، هي خارج نطاق فهم الطّبيعة وإدراكها. فهي قدرات يتميّز بها الإنسان ويختلف عن سائر أشكال الحياة. وتلك القدرات هي عطيّة الكمال الإلهيّ، والتّاج المزيّن للرّأس الإنسانيّ. على الرّغم من هذه الموهبة، ألا وهي تلك القدرة الخارقة للطّبيعة، فإنّ أكثر ما يثير الدّهشة والحيرة هو أنّ الفلاسفة المادّيّين لا يزالون يعتبرون أنفسهم جزءًا من الطّبيعة وأسراء لها مع أنّ حقيقة الأمر هي أن الله أنعم على الإنسان بمناقب وقدرات وخصال سامية قد حُرمت منها الطّبيعة تمامًا، وهي مواهب يكون الإنسان بفضلها راقيًا ومتميّزًا ومهيمنًا. ويجب أن نشكر الله على هذه المواهب والقدرات الّتي منحنا إيّاها، وهذا التّاج الّذي وضعه فوق رؤوسنا.

فكيف نستفيد من هذه العطايا، وكيف نتصرّف جيّدًا في تلك المواهب؟ إنّ هذا يتحقّق بتوجيه مساعينا نحو توحيد الجنس البشريّ. فالواجب علينا هو أن نستخدم هذه القدرات لتأسيس وحدة العالم الإنسانيّ، وأن نُظهر الامتنان بهذه المناقب من خلال تحقيق وحدة الجنسين الأبيض والأسود، وأن نكرّس هذه الفطنة الرّبّانيّة للحضّ على التّآلف والوفاق بين كافّة أغصان شجرة الأسرة الإنسانيّة، حتّى تتماسك أيادي الشّرق والغرب، ويصير الكلّ أحبابًا في حفظ الله وصونه. عندها تصبح البشريّة أمّة واحدة وعرقًا واحدًا وسلالة واحدة – تمامًا مثل أمواج بحر واحد. فرغم أنّ تلك الأمواج قد تختلف في هيئتها وشكلها، إلاّ أنّها تظلّ أمواج بحر واحد. والأزهار قد تكون متنوّعة في ألوانها، غير أنّها تبقى جميعها أزهار بستان واحد. والأشجار تتباين وتختلف، ولكنّها تنمو في مرج واحد، وتتغذّى جميعها وتحيا بفضل فيض واحد، وتنمو وتترقّى بحرارة وضياء شمس واحدة، وجميعها ينتعش ويبتهج من ذات النّسيم لكي يأتي بمختلف الثّمار. وما هذا الاختلاف إلاّ من مقتضيات حكمة الخلق والإيجاد. فلو حملت كلّ الأشجار نوعًا واحدًا من الثّمر لما بقيت له أيّ حلاوة. ففي تباينها اللاّنهائيّ يجد الإنسان متعة، وبغير ذلك لا يجد سوى الرّتابة.

الآن وأنا أنظر وجوهَكم، أتذكّر أشجارًا مختلفة اللّون والهيئة ولكنّها جميعًا محمّلة بأشهى الثّمار وألذّها، ولها جميعها شذى مبهج للحواس والسّرائر. وما نورانيّة هذا اللّقاء وروحانيّته إلاّ من فضل الله. وها هي قلوبنا مهتزّة بشكره. والحمد لله أنّكم تعيشون في قارّة الغرب العظيمة، تتمتّعون بكامل الحريّة والأمن والسّلام في ظلّ هذه الحكومة العادلة. فليس هناك ما يدعو لأيّ بؤس أو شقاء أينما كنتم، فكلّ وسائل السّعادة والهناء تشملكم، ذلك لأنّه ليس في هذا العالم البشريّ نعمة أعظم من نعمة الحرّيّة. وهي حقيقة قد لا تعرفونها، ولكنّني أنا الّذي كنت مسجونًا أربعين سنة أعرفها جيّدًا. إنّني أعرف قدر نعمة الحرّيّة. أمّا أنتم فكنتم ولا زلتم تعيشون بكامل الحرّيّة، ولا تخشون بأس أحد. فهل من نعمة أعظم من هذا؟ الحرّيّة! الاستقلال! الأمان! تلك هي أعظم المواهب الإلهيّة. فاحمدوا الله إذًا. وسأتلو الآن الدّعاء من أجلكم.

(8) 24 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في حفل استقبال الأطفال، ستوديو هول،
1219 طريق كونيكتيكت، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

يا له من لقاء بديع! فهؤلاء أطفال الملكوت. لقد كان النّشيد الّذي استمعنا إليه للتّوّ جميلاً في لحنه وكلماته. إنّ فنّ الموسيقى إلهيّ ومؤثّر، وهو غذاء للنّفس والرّوح. فبقوّة الموسيقى وسحرها تسمو روح الإنسان. وللموسيقى أثر ووقْع بديع في قلوب الأطفال، لأنّ قلوبهم صافية نقيّة ممّا يجعل للألحان تأثيرًا عظيمًا عليهم. فالمواهب الكامنة، الّتي تنعم بها قلوب هؤلاء الأطفال، سوف تجد لها تعبيرًا بواسطة الموسيقى. فاجهدوا إذًا كي تجعلوهم مهرة وتعلّموهم الغناء بإتقان وتأثير. إنّه يتعيّن على كلّ طفل أن يعرف قدرًا من الموسيقى، لأنّه بغير معرفة هذا الفنّ لا يمكن الاستمتاع السّليم بألحان الآلة والصّوت. ومن الضّروريّ بالمثل أن تقوم المدارس بتعليم الموسيقى حتّى تنتعش أرواح التّلاميذ، وتنشرح صدورهم، وتشرق حياتهم بهجةً وسرورًا.

اليوم يجتمع أطفال نورانيّون وروحانيّون في هذا اللّقاء. هم أطفال الملكوت، وملكوت السّموات هو لنفوس كهذه، لأنّهم قريبون من الله، ولهم قلوب نقيّة، ووجوه روحانيّة. إنّ تأثير التّعاليم الرّبّانيّة ظاهر في صفاء قلوبهم التّامّ. ولهذا خاطب السّيّد المسيح العالم بقوله إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوت السّموات– أي يجب أن يصير النّاس طاهري القلب لكي يعرفوا الله. فالتّعاليم الإلهيّة لها أثر عظيم. يا لها من نفوس روحانيّة! ويا لها من نفوس خضلة ريّانة! فقلوب كافّة الأطفال من أشدّ القلوب صفاء، فهي مرايا لم يمسسها أيّ غبار. غير أنّ هذا النّقاء والصّفاء قد تأتّى جرّاء الضّعف والبراءة وليس بسبب أيّ قوّة أو امتحان. فبما أنّ هذه هي أولى مراحل طفولتهم، فقلوبهم وعقولهم لم تتغبّـر بغبار العالم، وليس بوسعهم أن يُظهروا قدْرًا كبيرًا من الفطنة والذّكاء، ولا يملكون أيّ نفاق أو خداع. وكلّ هذا راجع لضعف الطّفل، بينما الإنسان البالغ يتطهّر بفعل قوّته، ويصير بسيطًا بقوّة الفطنة والذّكاء، ويصير مخلصًا برجاحة عقله وفهمه لا بمحض ضعفه ووهنه. وعندما يبلغ درجة الكمال ينال هذه الخصال، ويصبح قلبه نقيًّا، وروحه مستنيرة، ونفسه حسّاسة رقيقة – وكلّ هذا بواسطة قوّته. وهذا هو الفرق ما بين الإنسان الكامل والطّفل، فلدى كلّ منهما ميّزتا البساطة والإخلاص الأساسيَّتان – فهما في الطّفل جرّاء ضعفه، وفي الإنسان البالغ بفضل قوّته.

إنّني أدعو من أجل هؤلاء الأطفال وألتمس التّأييد والعون لهم من الملكوت الأبهى حتّى يتربّى كلّ منهم في كنف حفظ الله، ويصبح كلّ منهم كشمعة موقدة في عالم الإنسان ونبتة نضرة تترعرع في روضة الأبهى؛ لعلّهم ينشأون ويتعلّمون على شأن يهبون الحياة لعالم الإنسان وينالون البصيرة ويهبون السّمع لأهل العالم ويبذرون بذور الحياة الأبديّة ويصبحون من المقبولين لدى العتبة الإلهيّة، ويمتازون بالفضائل والكمالات والصّفات الّتي تجعل أمّهاتهم وآباءهم وأهلهم شاكرين لله وراضين مستبشرين. فهذا هو أملي ورجائي.

إنّ نصيحتي لكم: ربّوا هؤلاء الأطفال في ظلّ الوصايا الإلهيّة واغرسوا في قلوبهم محبّة الله منذ نعومة أظفارهم حتّى تتجلّى مخافة الله في حياتهم، ويعتمدون على مواهبه وعطاياه. علّموهم أن يتحرّروا من نقائص البشر ويكتسبوا الكمالات الإلهيّة الكامنة في فؤاد الإنسان. فحياة الإنسان نافعة إن هو نال الكمالات الإنسانيّة، أمّا إذا أصبح مركز نقائص عالم البشر، فالموت خير من الحياة، والعدم أفضل من الوجود. فاجهدوا إذًا حتّى يتعلّم ويتربّى هؤلاء الأطفال تربية سليمة ويبلغ كلّ منهم الكمال في عالم البشر. اعرفوا قدر هؤلاء الأطفال، فهم جميعًا أبنائي.

(9) 24 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه،
1700 بالشّارع الثّامن عشر، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

أرحّب بكم في وقت الأصيل هذا أجمل ترحيب! إنّني في غاية السّرور لرؤيتكم، وأدعو الله أن يكون لقاؤكم بي زاخرًا بالنّتائج، أي لا يكون مثل اللّقاءات المعتادة. فأولئك الّذين يعقدون اللّقاءات الّتي تتقابل فيها جماعات النّاس عادة ما يكون لديهم مصالح يريدون تعزيزها. ولكن والحمد لله ليست لي أيّ مصالح شخصيّة، فأنا مهتمّ بالملكوت، وهذا غرضٌ مجرّدٌ ومنزّه. ولأنّني أكنُّ لكم خالص المحبّة، فلقد طويت هذه المسافة الشّاسعة لألتقي بكم وأحيّيكم. وآمل أن تُفضي هذه اللّقاءات إلى نتائج عظيمة. وليست هناك نتيجة أعظم من محبّة الله، وليست هناك نتيجة أعظم من روابط الخدمة في الملكوت الإلهيّ ونيل رضاء الله. ولذا فإنّ أمنيتي هي أن تتّجه قلوبكم إلى ملكوت الله، وأن تكون مقاصدكم خالصة مخلصة وغاياتكم متّجهة إلى فعل الخير غير ملتفتين إلى مصلحتكم الشّخصيّة؛ بل تنحصر مقاصدكم جميعها في خير الإنسانيّة، وتسعون للتّضحية بأنفسكم في سبيل الإخلاص للجنس البشريّ. وكما ضحّى يسوع المسيح بحياته، عسى أنّكم بالمثل تبذلون النّفس على عتبة الفداء لإصلاح العالم، وكما عانى حضرة بهاء الله من شديد المحن والبلايا لما يقرُبُ من خمسين سنة من أجلكم، عسى أن تكونوا مستعدّين لمواجهة الصّعاب وتحمّل البلايا من أجل عموم البشر، ولعلّكم تقبلون هذه المحن والبلايا بكلّ رضاء وسرور، لأنّ كلّ ليل يعقبه نهار، ولكلّ نهار ليل يعقبه، ولكلّ ربيع خريف، ولكلّ خريف ربيعه. ومجيء مظهر أمر الله هو فصل الرّبيع الرّوحانيّ. فظهور السّيّد المسيح مثلاً كان ربيعًا ربّانيًّا، ولذلك أحدث حشرًا ونشرًا عظيمين في عالم البشر. فقد طلعت شمس الحقيقة، وهطلت أمطار غمام الرّحمة، وسرت نسائم العناية، وصار العالم عالمًا جديدًا، واستنارت البشريّة بباهر الأنوار، وتربّت النّفوس، وترقّت العقول، وشُحذت الأفهام، وبلغ عالم الإنسان نضرة حياة جديدة، تمامًا كما هو الحال عند قدوم الرّبيع. ثمّ تلا ذلك الرّبيع خريف الموت والذّبول شيئًا فشيئًا. فأهملت تعاليم المسيح، وتوقّفت الفيوضات العيسويّة، واختفت الأخلاق الرّبّانيّة، وآل النّهار إلى ليل، وصار النّاس غافلين متهاونين، ووهنت العقول إلى أن بلغ الحال محنة طغت فيها العلوم المادّيّة، وأمست علوم الملكوت مهجورة، وغابت الأسرار الرّبّانيّة، ومحيت آثار فيوضات المسيح بالكلّيّة. وصارت الأمم أسيرة الخرافات والتّقليد الأعمى، ونشب الخلاف والنّزاع إلى أن آل الحال إلى النّزال والقتال وسفك الدّماء. وتمزّقت الأكباد من شدّة العنف والقسوة، وظهرت الملل المختلفة والنّحل والعقائد المتباينة، وهوى العالم بأسره في وهدة الظّلام.

في وقت كهذا أشرق بهاء الله من أفق إيران، فأصلح وجدَّد أصول وحقائق تعاليم المسيح، وتحمّل عظيم الرّزايا، وعانى في سبيل ذلك أشدّ البلايا.

الحمد لله، فقد تجدّد نداء تعاليم الحقّ، وطلع صبح الحقيقة مرّة أخرى، وطفق الإشراق يزداد يومًا بعد يوم، والنّور يلمع بكلّ بهاء في كبد السّماء. ومن سحاب الرّحمة يهطل السّيل المدرار، وشمس الحقيقة ساطعة في مقامها الأبديّ. ونتمنّى مجدّدًا أن ينصُب فصل الرّبيع هذا خيمته، وأن تظهر هذه العطايا اللاّمحدودة بيننا من جديد. وهذا ممكن بواسطة جهدكم وإخلاصكم. فإذا نهضتم في أمر الله بقوّة ربّانيّة، وموهبة سماويّة، وإخلاص ملكوتيّ، وقلب رحيم، وعزم مكين، فمن المؤكّد أنّ عالم الإنسانيّة سيتنوَّر بالكلّيّة، وتصير أخلاق البشر رحمانيّة، وتُرسى قواعد الصّلح الأعظم، وتصبح وحدة مملكة الإنسان حقيقة واقعة. هذا هو الفوز العظيم الّذي أتمنّاه لكم، وأدعو وأبتهل إلى العتبة الإلهيّة ملتمسًا من أجلكم وأقول:

يا ربّي الرّحمن والمقتدر على الإمكان والآب الرّؤوف المنّان، هؤلاء عباد اجتمعوا متوجّهين إليك متضرّعين إلى عتبتك آملين فيوضاتك اللاّمتناهية من حياض الإيقان، ولا غاية لهم إلاّ رضاؤك ولا مقصد غير خدمة العالم الإنسانيّ.

أي ربّ أنر هذا الجمع واجعل القلوب رحمانيّة، وأَفِضْ بفيوضات الرّوح القدس وهبهم قوّة سماويّة، وأَنِلْهم أفكارًا ملكوتيّة وزد في خلوصهم حتّى يتوجهوا إلى ملكوتك بكلّ خضوع وخشوع، وينشغلوا بخدمة العالم الإنسانيّ، ويصير كلّ منهم شمعة منيرة ونجمًا بازغًا ولونًا بهيجًا وعطرًا عابقًا في الملكوت الإلهيّ.

أيّها الآب الرّؤوف، أفض علينا بركاتك ولا تنظر إلى عيوبنا، واحفظنا في كنف حفظك ولا تذكر خطايانا، واشفنا برحمتك، فنحن ضعفاء وأنت القويّ، ونحن فقراء وأنت الغنيّ، ونحن مرضاء وأنت الشّافي، ونحن سائلون وأنت الكريم.

أي ربّ هب لنا من عنايتك. إنّك أنت القويّ، وإنّك أنت المعطي، وإنّك أنت الفضّال.

(10) 24 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّدة أندرو دايار،
1937 بالشّارع الثّالث عشر، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ لقاءً كهذا يبدو كعِقد جميل من جواهر ثمينة – اللّؤلؤ والياقوت والألماس والزّفير، وهو مصدر للسّرور والحبور. فكلّ ما يؤدّي إلى وحدة العالم الإنسانيّ مقبول ومحمود، وكلّ ما يسبّب الشّحناء والفرقة محزن ومؤسف. فتدبّروا إذًا أهمّيّة الاتّحاد والاتّفاق.

سأحدّثكم في هذا المساء عن مسألة الوجود والعدم، الحياة والموت. فالوجود تعبير عن التّركيب والامتزاج ونتيجة لهما. أمّا العدم فهو تعبير عن الانقسام والتّحلّل ونتيجة لهما. وإذا ما تفحَّصنا في أشكال الوجود في العالم المادّيّ، لوجدنا أنّ كلّ الكائنات حادثة بفعل التّركيب. فالعناصر المادّيّة قد تجمّعت معًا في تنوّع لا حصر له وأشكال لا تتناهى. فكلّ كائن من الكائنات ما هو إلاّ شيء مركّب، وكلّ شيء بمثابة تعبير عن تجاذب للعناصر المركِّبة له. إذ نجد أنّ الكيان البشريّ على ما هو عليه من تعقيد ما هو إلاّ تجميع لتراكيب من الخلايا؛ والشّجرة عبارة عن مجموعة من الخلايا النّباتيّة؛ وكذلك الحيوان فهو تركيب وتجميع لذرّات أو وحدات خلويّة، وقس على ذلك. فالوجود إذًا أو التّعبير عن الكينونة هو التّركيب، والعدم هو التّحلّل والانقسام والتّفكّك. فمثلاً إذا ما تجمّعت بعض العناصر معًا بترتيب معيّن، ينتج عن ذلك وجود كيان بشريّ، وعندما تتفرّق نفس تلك العناصر وتتشتّت، يفضي ذلك إلى موت هذا الكيان البشريّ وعدمه. فنخلص من ذلك إلى أنّ الحياة ناتجة عن التّركيب، أمّا الموت فهو تعبير عن التّفكّك والانحلال.

مثل ذلك نراه في عالم العقول والأرواح: فالألفة الّتي هي تعبير عن التّركيب، تجلب الحياة، بينما الخلاف – الّذي هو تعبير عن التّحلّل – يعادل الموت. ومن دون تماسك وترابط العناصر الفرديّة الّتي تتكوّن منها الهيئة الاجتماعيّة يكون التّحلّل والتّفسّخ لا محالة، ومعهما يأتي انعدام الحياة. فالحيوانات المفترسة لا يجمعها إخاء أو تآلف. خذوا النّسور والنّمور مثلاً فإنّها تحيا منفردة، أمّا إذا نظرنا إلى الحيوانات الأليفة فنجدها تعيش معًا في انسجام تامّ. فالأغنام بأبيضها وأسودها تتعاشر في وئام وانسجام، والطّيور من مختلف الأنواع والألوان ترفرف وتتغذّى معًا دونما أن نشاهد بينها أيّ شائبة من عداوة أو خلاف. ولهذا فإنّه من الحكمة واللاّئق في عالم الإنسان أن يبدي جميع أفراد البشر لبعضهم البعض كامل الاتّحاد والألفة. وأتمنّى أن يكون السّود بمثابة الياقوت والزّفير في العقد النّاظم لجواهر الأجناس، وأن يكون البيض كالألماس واللّؤلؤ المنضود في ذلك العقد. عندئذ يتبدّى جمال الإنسانيّة مؤتلفًا من اتّحادهم واندماجهم. فما أبهى مشهد الوحدة الحقيقيّة بين البشر! وكم هو باعث على السّلام والاطمئنان والسّعادة أن تتّحد الأجناس والأمم معًا في إخاء ووفاق! فقد بعث الله أنبياءه في هذا العالم من أجل هذه المهمّة – مهمّة تحقيق الوحدة والوفاق، لكي تجتمع الأغنام بعد طول تباعد وفرقة. فعندما تتفرّق الأغنام تكون عرضة للخطر، أمّا إذا عاشت في قطيع واحد تحت حماية راعيها وصونه، فإنّها تكون في مأمن من هجوم كلّ عدوّ كاسر.

عندما تتَّحد العناصر العرقيّة المختلفة الّتي تتكوّن منها الأمّة الأمريكيّة مع بعضها البعض في تآخ ووفاق حقيقيّ، تسطع أنوار وحدة الإنسانيّة، ويشرق صبح السّناء والهناء الأبديّ، وتشملها الرّوح الإلهيّ، ويهبط عليها الفضل الرّبّانيّ. وفي ظل إمرة الله وتربيته، وهو الرّاعي الحقيقيّ، يفوز الكلّ بالحفظ والحماية. فيقودهم في مروج السّعادة والرّزق الوفير، ويبلغون الغاية الحقيقيّة من الوجود. هذه هي بركة الاتّحاد ومنفعته، وهذه هي ثمرة المحبّة، وهذه هي علامة الصّلح الأعظم، وهذا هو نجم وحدة العالم الإنسانيّ. فانظروا كم سيكون ذلك الحال مباركًا. وإنّي أدعو لكم بالتّأييد وألتمس لكم العون الإلهيّ.

(11) 25 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في وفد الجمعيّة الثيوصوفيّة، بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه،
1700 بالشّارع الثّامن عشر، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ أعظم قوّة في عالم الوجود الإنسانيّ ورتبته هي الرّوح – ذلك النَّفَس الرّحمانيّ الّذي ينفخ الحياة في كافّة الموجودات ويسري في جنباتها. والرّوح تظهر في كافّة المخلوقات بدرجات متفاوتة أو على هيئة ممالك مختلفة. فهي في مملكة النّبات تلك الرّوح المعزِّزة للنّماء أو قوّة النّمو، فهي روح النّماء والتّطوّر في النّباتات والأشجار وكائنات عالم الأزهار. والرّوح في هذه الدّرجة من التّجلّي لا تعي القوى الّتي تتّصف بها مملكة الحيوان. والمنقبة المميّزة أو الإضافيّة لدى الحيوان هي الإدراك الحسّيّ، فهو يرى ويسمع ويشمّ، ويتذوّق ويشعر، بيد أنّ الحيوان بدوره عاجز عن التّخيّل أو التّدبّر الواعي الّذي يميّز ويفرّق مملكة الإنسان. فالحيوان لا يستخدم هذه القوّة والموهبة البشريّة المميّزة ولا يدركها. فليس بوسع الحيوان أن يستخلص نتائجَ من عالم الشّهود تتعلّق بعالم الغيب، في حال أنّ العقل البشريّ يتوصّل إلى معرفة المجهول وغير المنظور بواسطة ما يستنتجه ممّا هو منظور ومعروف. فعلى سبيل المثال، توصّل كريستوفر كولومبس، من المعرفة المبنيّة على الحقائق المعروفة الثّابتة، إلى استنتاجات أوصلته بدقّة عبر المحيط الشّاسع إلى القارّة الأمريكيّة المجهولة. فهذه القدرة على الإنجاز تفوق نطاق الإدراك عند الحيوان. فهي إذًا عبارة عن خاصّيّة مميّزة لروح الإنسان ومملكته. فالرّوح الحيوانيّ عاجز عن اختراق واكتشاف أسرار الأشياء، ذلك لأنّ الحيوان أسير الحواس، ولا يقوده أيّ قدر من التّربية مثلاً إلى فهم حقيقة أنّ الشّمس ثابتة والأرض تدور حولها. وبنفس الكيفيّة يكون للرّوح البشريّة هي الأخرى حدودها. فهي قاصرة عن فهم حقائق الملكوت الّتي تسمو فوق مقام الإنسان، ذلك لأنّ الرّوح البشريّة أسيرة لقوى الحياة الّتي تعمل في حيّز وجودها، ولا تستطيع أن تتخطّى حدود هذا الحيّز.

بيد أنّ هناك روحًا أخرى يمكن أن نسمّيها الرّوح الملكوتيّة، وهي الّتي تحدّث عنها يسوع المسيح عندما قال إنّ على الإنسان أن يولد من جذوتها ويتعمّد بنارها الحيّة. وتعتبر النّفوس المحرومة من تلك الرّوح في عداد الأموات، حتّى لو كانت حائزة على الرّوح البشريّة. وقد حكم يسوع المسيح عليها حكم الموت إذ لا نصيب لها من الرّوح الملكوتيّة. فقد تفضّل قائلاً: دع الموتى يدفنون موتاهم، كما يصرّح في موضع آخر المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الرّوح هو روح. ويقصد بذلك أنّ النّفوس وإن كانت حيّة في مملكة الإنسان إلاّ أنّها تكون ميّتة إذا ما حُرمت من نفس هذه الرّوح الملكوتيّة المُحيِية. فهي نفوس لا نصيب لها من الحياة اللاّهوتيّة المختصّ بها الملكوت العلويّ، بينما النّفوس الّتي لها نصيب من قوّة الرّوح الملكوتيّة هي حيّة بمعنى الكلمة.

فهذه الرّوح المحيية تنبعث صدوريًّا من شمس الحقيقة، من حقيقة الألوهيّة، ولا تنبعث انبعاثًا ظهوريًّا. فهي كأشعّة الشّمس، فالأشعّة تنبعث من الشّمس، ولا يعني هذا أنّ الشّمس قد أصبحت قابلة للانقسام، أو أنّ جزءًا منها انطلق إلى الفضاء. فالنّبات الّذي أقف بجانبه مثلاً قد نشأ عن البذرة، فهو إذًا ظهور البذرة وتكشّفها. فالبذرة كما ترون قد تكشّفت ظهوريًّا، وكانت النّتيجة هي هذا النّبات. وكلّ ورقة من النّبات هي جزء من البذرة. أمّا حقيقة الألوهيّة فهي لا تقبل الانقسام، ولايمكن لأيّ كائن بشريّ أن يكون جزءًا منها كما يكثر الادّعاء. لا بل إنّ الحقائق المنفردة للنّوع الإنسانيّ عندما تولد ولادة روحانيّة هي انبعاثات صادرة عن حقيقة الألوهيّة، مثلما يكون لهب الشّمس وحرارتها وضوؤها إشراقات من الشّمس ولا تكون جزءًا من ذاتها. فالرّوح قد انبعثت إذًا من حقيقة الألوهيّة، وتبدّت إشراقاتها للعيان في كينونات وحقائق بشريّة. فهذا الشّعاع وتلك الحرارة هما دائمان باقيان لا انقطاع لإشراقهما. فطالما بقيت الشّمس كان هناك الحرارة والنّور، وبما أنّ الأبديّة من خواص الألوهيّة، فسيظلّ هذا الانبعاث إلى الأبد دونما أيّ انقطاع لتدفّقه. وكلّما ازداد ترقّي عالم الإنسانيّة كلّما ازداد إشراق الإلوهيّة أو انبعاثاتها تجلّيًا وظهورًا، تمامًا مثل الأحجار الّتي إذا ما تمّ صقلها وصفاؤها كما هو الحاصل مع المرآة، ستعكس بدرجة أكبر بهاء الشّمس وإشراقها.

إنّ بعثة الأنبياء، وإنزال الكتب المقدّسة، وظهور المربّين السّماويّين، ومقصد الفلسفة الإلهيّة، تتمحور جميعها حول تربية الحقائق الإنسانيّة وتهذيبها حتّى تصبح صافية نقيّة كالمرايا، فتعكس نور شمس الحقيقة ومحبّتها. ولهذا فإنّ أملي – إن كنتم في الشّرق أم في الغرب – أن تجهدوا بالقلب والرّوح حتّى يزداد عالم الإنسانيّة عظمة وروحانيّة وتقديسًا يومًا فيومًا، وأن تتجلّى أنوار شمس الحقيقة بتمامها في أفئدة البشر تجلّي الشّمس في المرآة، وهو ما يليق بعالم الإنسان. هذا هو تطوّر الإنسانيّة الحقيقيّ ورقيّها، وهذا هو الفضل الأسمى. وبغير ذلك ليس للإنسان كمال بمجرّد تقدّمه في الأمور المادّيّة. وغاية ما هنالك، أنّ الجانب الجسمانيّ في الإنسان، أي أحواله الطّبيعيّة أو المادّيّة، قد تستقرّ وتتحسّن، ولكنّه سيبقى محرومًا من الموهبة الرّوحانيّة أو العطيّة الرّبّانيّة، ويكون عندئذ جسدًا بلا روح، ومصباحًا بغير ضياء، وعينًا دون رؤية، وأذنًا لا تسمع صوتًا، وعقلاً بغير إدراك، وفهمًا تغيب عنه العقلانيّة.

للإنسان قوّتان، ولرقيّه جانبان. فالقوّة الأولى متّصلة بعالم المادّة، ويكون الإنسان بواسطتها قادرًا على التّقدّم المادّيّ. والقوّة الثّانية روحانيّة، وبتقدّمها تستيقظ طبيعته الوجدانيّة الكامنة. وكلتا القوّتين بمثابة الجناحين اللّذيْن يجب أن يترقّيا معًا لأنّ الطّيران بأحدهما محال. الحمد لله، فإنّ الرّقيّ المادّيّ بات واضحًا في العالم، بيد أنّ هناك حاجة إلى رقيّ روحانيّ يوازيه. فعلينا أن نجهد دومًا، دون كلل أو ملل، لتحقيق رقيّ الطّبيعة الرّوحانيّة في الإنسان، وأن نسعى بعزم لا يلين للرّقيّ بالإنسانيّة نحو رفعة وسموّ مقامها الحقيقيّ المنشود. ذلك لأنّ جسد الإنسان حادث، ولا أهمّيّة له، وأوان تحلّله قادم لا محالة. أمّا روح الإنسان فهي جوهريّة، وبناء على ذلك فهي خالدة. وهي عطاء ربّانيّ، وهي إشراق شمس الحقيقة، فلها بالتّالي أهمّيّة تفوق أهمّيّة الجسد العنصريّ.

إنّي أدعو الله من أجلكم. لقد جئتم لزيارتي وأنا في غاية الامتنان. وسأدعو لكم بالتّأييد والتّوفيق من الله الكريم الوهّاب حتّى توفَّقوا في خدمة العالم الإنسانيّ.

(12) 25 أبريل/ نيسان 1912

رسالة إلى أنصار لغة الإسبرانتو في منزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه
1700 الشّارع الثّامن عشر، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ أعظم ما يحتاجه العالم الإنسانيّ اليوم هو الحدّ من استمرار سوء الفهم والتّفاهم القائم بين الأمم. وهذا من الممكن تحقيقه بواسطة وحدة اللّغة. وما لم تتحقّق وحدة اللّغات لا يمكن للصّلح الأعظم ووحدة العالم الإنسانيّ أن يتأسّسا ويستحكما بفاعليّة، ذلك لأنّ دور اللّغة هو التّعبير عن أسرار الأفئدة البشريّة وسرائرها. فالقلب بمثابة صندوق مفتاحه اللّغة، ولا يسعنا فتح الصّندوق ومعاينة ما يحويه من جواهر إلاّ باستخدام المفتاح. إذًا، فإنّ مسألة إيجاد لغة عالميّة مساعِدة لها أهمّيّتها القصوى. فباللّغة العالميّة يتسنّى نشر التّربية والتّعليم في العالم، وبها يتيسّر التّوصّل إلى دلائل الماضي وتاريخه. كما أنّ انتشار الحقائق المعلومة عن عالم الإنسان متوقّف على اللّغة. ولا يمكن شرح التّعاليم الإلهيّة إلاّ بتلك الواسطة. وطالما بقي تباين الألسنة وعدم فهم اللّغات الأخرى، فلا يمكن تحقيق هذه المقاصد النّبيلة. ولذا فإنّ أفضل خدمة لعالم الإنسان هي تأسيس وسيلة التّواصل العالميّة المساعِدة هذه، فتصير سبب أمن رابطة بني البشر وأمانهم، وتنتشر من خلالها العلوم والفنون بين الأمم، وتبرهن على كونها واسطة تَقَدُّم ورقيّ كافّة الأجناس والأعراق. فعلينا أن نجهد بكلّ ما في وسعنا من قوّة لإيجاد هذه اللّغة العالميّة المساعِدة ونشرها في أرجاء العالم. وأملي أن يتمّ ذلك بفضل الألطاف الإلهيّة، وأن يُنتخب عقلاء القوم من مختلف دول العالم، فيعقدون مؤتمرًا دوليًّا يكون هدفه الرّئيس ترويج هذه الواسطة العالميّة للتّخاطب.

(13) 25 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه
1700 الشّارع الثّامن عشر، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ تعاليم الله هي أعظم المواهب الإلهيّة في عالم الوجود. أمّا باقي المواهب الإلهيّة فهي محدودة من حيث فوائدها ومجالها. فالوجود الإنسانيّ نفسه موهبة ربّانيّة، ولكنّه محاط بالقيود والحدود. والبصر والسّمع من المواهب الإلهيّة، إلاّ أنّ كليهما محدودان. وكذلك الحال مع سائر المواهب، فإطار عملها محدود ومقيَّد، بينما يبقى نطاق التّعاليم الإلهيّة بغير حدود. وتمضي القرون والأعصار وتبقى فاعليّة التّعاليم الإلهيّة كروح الحياة الّتي تحرِّك عالم الوجود. وبغيرها يكون عالم البشر على شاكلة مملكة الحيوان. فما هو الفرق بين الحيوان والإنسان؟ الفرق هو هذا: إنّ الحيوان عاجز عن فهم التّعاليم الإلهيّة بينما الإنسان جدير بها ولديه استعداد للفهم والإدراك. وموهبة الفهم والإدراك هذه غائبة عن مملكة الحيوان، ولهذا يكون التّقدّم فيها محدودًا، وأقصى تطوّر ممكن في تلك المملكة هو النّموّ الجسمانيّ. فالجسم الحيوانيّ يكون صغيرًا في البداية وغير متطوّر، فيتطوّر ويكبر، لكنّ نطاق نموّه الذّهنيّ يبقى محدودًا. وبناء على هذا تكون التّعاليم الإلهيّة هي المواهب الّتي اختصّ بها الإنسان دون سواه.

مع أنّ التّعاليم الإلهيّة هي الحقّ والحقيقة، إلاّ أنّه بمرور الزّمان تغلِّفها وتحجبها السّحب الكثيفة. هذه السّحب هي التّقاليد والأوهام، وليست هي الجوهريّات. عندئذٍ تطلع شمس الحقيقة، أي الكلمة الإلهيّة، مرّة أخرى مشرقة من جديد ببهاء قوّتها وتبدّد ما حلّ من ظلام.

لقد كانت الحقائق الإلهيّة للكلمة الرّبّانيّة المنيرة محتجبة بسُحُب الوهم والباطل مدّة طويلة إلى أن ظهر حضرة بهاء الله في أفق الإنسانيّة، فبدّد الظّلام وقشع الغمام وأظهر أسس التّعاليم الإلهيّة من جديد.

أوّل تعاليم حضرة بهاء الله هو الواجب المفروض على الكلّ بأن يتحرّوا الحقيقة. فما الّذي يعنيه تحرّي الحقيقة؟ إنّه يعني أن ينسى الإنسان كلّ ما يُقال ويُسمع، ويتقصّى الحقيقة بنفسه، لأنّه لا يدري ما إذا كان ما يسمعه مطابقًا للحقيقة أم لا. وأينما وجد الحقيقة عليه أن يتمسّك بها، معرضًا ومبتعدًا عمّا سواها، ذلك لأنّ خارج دائرة الحقيقة لا يوجد سوى الأوهام والخيال. فمثلاً كان اليهود في أيّام يسوع المسيح يتوقّعون ظهور المسيح المنتظر، وكانوا يبتهلون ويتضرّعون إلى الله ليل نهار كي يظهر الموعود. فلماذا رفضوه عندما ظهر؟ لقد أنكروه تمامًا ورفضوا الإيمان به. فما من أذى واضطهاد إلاّ وأنزلوه به. شتموه وأمطروه باللّعنات، ووضعوا تاجًا من الشّوك على رأسه، وساقوه في الطّرقات بكلّ احتقار وسخرية، ثمّ صلبوه في النّهاية. فلماذا فعلوا ذلك؟ لأنّهم لم يتحرّوا حقيقة حضرة المسيح أو أحقّيّته، وبذلك عجزوا عن إدراك أنّه هو مسيح الله المنتظر. أمّا لو أنّهم تحرّوا أمره بكلّ إخلاص، فمن المحتّم أنّهم كانوا سيؤمنون به ويوقّرونه وينحنون أمامه بكلّ خضوع وخشوع، ولعدّوا ظهوره أعظم موهبة للجنس البشريّ، ولكانوا قد قبلوه مخلِّصًا حقيقيًّا للإنسان؛ ولكن، بكلّ أسف، احتجبوا وتمسّكوا بتقاليد عقائد الأسلاف والأقاويل، ولم يتحرّوا حقيقة المسيح. كانوا غرقى في بحر الخرافات، فحُرموا بذلك من مشاهدة تلك الموهبة المجيدة؛ واحتجبوا عن نفحات أو نفثات الرّوح القدس، وعانوا أشدّ مذلّة وهوان.

إنّ الحقيقة واحدة، ومع ذلك هناك اليوم في العالم العديد من العقائد الدّينيّة والفِرق والنّحل والآراء المتضاربة المتباينة. فلماذا هذه الاختلافات؟ لأنّهم لم يتحرّوا ويتفحّصوا الوحدة الأساسيّة، الّتي هي واحدة لا تتغيّر. فإن هم سعوا إلى الحقيقة بعينها سيتّفقون ويتّحدون لأنّ الحقيقة لا تقبل الانقسام أو التّعدّد. فيتّضح إذًا أنّ لا شيء أعظم أهمّيّة لبني البشر من تحرّي الحقيقة.

ثاني تعاليم حضرة بهاء الله وحدة العالم الإنسانيّ. فكلّ كائن بشريّ هو من عباد الله، والكلّ قد خلقوا وتربـّوا بقدرة الله وفضله، والكلّ قد نعموا بمواهب شمس الحقيقة الإلهيّة ذاتها، والكلّ قد نهلوا من معين الفضل الإلهيّ اللاّمتناهي، والجميع في نظر الله وبفرط محبّته متساوون في العبوديّة، وهو حنون رؤوف بالجميع. فلا يستكبرنّ، إذًا، أحد على أحد، أو يتفاخر عليه ويتعالى، أو ينظر إلى غيره باستهزاء واحتقار؛ ولا يَحرِم أحد أخاه الإنسان أو يظلمه. يجب اعتبار الكلّ مغمورين في بحر رحمة الله. وعلينا أن نعاشر مع كلّ البشر بغاية اللّطف والحنوّ، وأن نحبّ الكلّ من صميم الفؤاد. فالبعض جهلاء يجب تربيتهم وتعليمهم، وفرد آخر نراه مريضًا يتوجّب شفاؤه، وثالث كصبيّ يجب إعانته إلى أن يبلغ الرّشد. فلا يصحّ أن ننبذ من كان مريضًا، أو نتحاشاه، أو نستهزئ به أو نلعنه، وإنّما علينا أن نرعاه بكلّ عطف ورقّة. فلا يصحّ أن نعامل الرّضيع بالتّهكّم لأنّه مجرّد رضيع. فمسئوليّتنا هي أن نربِّيه ونعلّمه وننشّئه، لكي يتقدّم نحو البلوغ.

ثالث تعاليم أو مبادئ حضرة بهاء الله هو التّوافق التّامّ بين الدّين والعلم. فكلّ دين لا يطابق العلم الثّابت هو خرافة. ويجب أن يكون الدّين معقولاً، لأنّه إذا لم يكن موافقًا للعقل فهو خرافة ولا أساس له. مثله مثل السّراب الّذي يخدع الإنسان ويوهمه بأنّه جسم من ماء. ولقد وهب الله الإنسان نعمة العقل حتّى يدرك ما هو حقّ. فإذا ما أصرّينا على أنّ هذه المسألة أو تلك ليس من الضّروريّ أن تُعقل أو تمحّص طبقًا لما هو ثابت من منهجيّات العقل المنطقيّة، فما الفائدة إذًا من نعمة العقل الّذي وهبه الله للإنسان؟ فالعين هي العضو الحسّيّ الّذي نبصر به عالم الكائنات الظّاهريّة، والسّمع هو الحاسّة الّتي نميِّز بها الأصوات، وبحاسّة الذّوق نتعرّف على ماهيّات الأشياء من مرّ وحلو، وتعرّفنا حاسّة الشّمّ بالرّوائح فنميّزها، وتكشف لنا حاسّة اللّمس خواص المادّة وبها نتقن اتّصالنا بالعالم الظّاهريّ. إلاّ أنّ دائرة الإدراك ومجاله بواسطة الحواس الخمس تبقى محدودة للغاية. أمّا مَلَكة العقل عند الإنسان فهي غير محدودة في مجال عملها. فالعين قد تشاهد تفاصيل الأشياء لمسافة ميل مثلاً، أمّا العقل فبمقدوره أن يدرك أقاصي الشّرق والغرب. والأذن قد تميّز ما بين مختلف النّبرات على مسافة ألف قدم، أمّا عقل الإنسان فبوسعه أن يكتشف ترتيبات الأجرام السّماويّة وهي تجري في مداراتها. ويتوصّل العقل إلى الاكتشافات الجيولوجيّة في أعماق الطّبقات، ويحدّد مراحل تكوين أسفل طبقات الأرض. وبعقل الإنسان كانت هناك كلّ العلوم والفنون وسائر الاختراعات والمهن والصّنائع وما يظهر منها. يتّضح إذًا أنّ العقل يحتلّ مقام الذّروة من بين أعضاء الإنسان. وبناءً على ذلك فإذا لم يتّفق أيّ اعتقاد أو مبدأ أو عقيدة دينيّة مع العقل وقوّة المنطق فهو بالتّأكيد خرافة.

سأتحدّث في وقت آخر عن مزيد من المبادئ الواردة في تعاليم حضرة بهاء الله.

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في شيكاغو، وِيلـْمِت، وإيفانستون (1) 30 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في الاجتماع العامّ الختاميّ لمؤتمر وكلاء وحدة المعبد البهائيّ
بقاعة دريل بالمعبد الماسونيّ، بشيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ تشييد دور العبادة هو أحد أصول الكتب المقدّسة، بمعنى أنّه يتعيّن بناء صرح أو معبد تجد البشريّة فيه مكانًا للاجتماع، ويكون عاملاً مساعدًا في إيجاد الوحدة والألفة فيما بينها. أمّا المعبد الحقيقيّ فهو كلمة الله نفسها، لأنّ على البشريّة كافّة أن تتوجّه إليها، وهي مركز الاتّحاد لكافّة البشر. فهي المركز الجامع، وعلّة ائتلاف الأفئدة وتواصلها، وعلامة تضامن الجنس البشريّ، ومنبع الحياة الأبديّة. والمعابد هي رمز للقوّة الإلهيّة الجامعة، حتّى يتذكّر النّاس، عندما يجتمعون في بيت الله، أنّ الشّريعة أنزلت لهم، وأنّ الشّريعة جاءت لتوحيدهم. ويعلمون أنّه، تمامًا كما أنّ هذا المعبد قد شُيّد لتوحيد العالم، فإنّ النّاموس الّذي سبق بناء المعبد وكان سببًا في وجوده قد خرج من الكلمة الإلهيّة اللاّئحة. لقد خاطب يسوع المسيح بطرس قائلاً أنت الصّخرة وعليك أبني كنيستي. وكان هذا البيان دالاًّ على درجة إيمان بطرس، ومعناه: إنّ إيمانك يا بطرس هو حقًّا سبب الاتّحاد وهو فحوى رسالة الوحدة الموجّهة للأمم، وسيكون رابطة للوئام بين قلوب البشر، وأساس وحدة العالم الإنسانيّ. وبالاختصار، فإنّ الغرض الأصليّ من المعابد ودور العبادة هو الوحدة ليس إلاّ – فهي أماكن للاجتماع يلتقي فيها مختلف الشّعوب ومختلف الأجناس والأنفس من مختلف القابليّات لكي تتجلّى بينهم المحبّة والألفة. ولهذا أمر حضرة بهاء الله ببناء مكان للعبادة لكافّة أهل الأديان في العالم، حتّى تلتقي جميع الأديان والأجناس والنّحل معًا في ظلّه الشّامل، ويرتفع نداء وحدة الجنس البشريّ من رحاب قدسه – نداء يقول بأنّ البشر عبيد لله، وأنّ الكلّ منغمس في بحر رحمته. هذا هو مشرق الأذكار. إنّ عالم الوجود يمكن تشبيهه بهذا المعبد وبدار العبادة هذا. فكما أنّ العالم الخارجيّ محلّ لالتقاء كافّة الأجناس والألوان ومختلف العقائد والملل والأحوال – أي بمثل ما هم منغمسون في بحر العنايات الرّبّانيّة الواحد – فكذلك بوسع الكلّ أن يلتقوا تحت قبّة مشرق الأذكار، ويعبدوا الله الواحد بروحِ حقيقةٍ واحدة؛ فلقد ولّت عصور الظّلام، وأتى قرن الأنوار، وتبدّدت التّعصّبات الجاهليّة، وأشرق نور الاتّحاد. وسرعان ما ستختفي الاختلافات الواقعة بين الأمم والشّعوب، وتستحكم أسس الأديان الإلهيّة، الّتي هي ليست سوى وحدة الجنس البشريّ وتضامنه. لقد ظلّت البشريّة آلافًا من السّنين في حرب ونزال، فيكفيها صراعًا. فليتعايش الجنس البشريّ، ولو لفترة من الوقت على الأقلّ، في إخاء وسلام. لقد سادت العداوة والبغضاء، فليجرّب العالم المحبّة ولو لفترة. لقد رفضت الأمم بعضها البعض آلافًا من السّنين، وكلٌّ تعتبر الأخرى كافرة وذليلة، فيكفي ما حدث. علينا الآن أن ندرك أنّنا عبيد إله واحد، وأنّنا متوجّهون إلى أب رحيم واحد، ونعيش بمقتضى ناموس إلهيّ واحد، ونسعى إلى حقيقة واحدة، ويحدونا أمل واحد. وبذلك نحيا بأقصى ما يمكن من صداقة ومحبّة، وفي مقابل ذلك تحيطنا المواهب الإلهيّة، وينصلح العالم الإنسانيّ، ويحظى الجنس البشريّ بحياة جديدة، ويسطع النّور الأبديّ، وتتجلّى الأخلاق الملكوتيّة.

عندئذ تحكم السّياسة الإلهيّة العالم، لأنّ السّياسة الإلهيّة هي وحدة الإنسانيّة. والله عادل ورؤوف بالكلّ، ويعتبرنا جميعًا عباده، ولا يستثني أحدًا، وأحكامه سليمة صحيحة. ومهما بدت سياسة البشر وتدابيرها كاملة، فهي ناقصة. وإذا لم نلتمس النّصح الإلهيّ، أو رفضنا اتِّباع أوامره، فإنّ هذا يعني ضمنا أنّنا نحن العالمون والحكماء، وأنّ الله جاهل، وأنّنا من ذوي الحجى، أمّا هو فعلى غير ذلك – لا سمح الله، ونستغفره من هذا الظّنّ! فمهما ارتقى فكر البشر لا يخرج عن كونه قطرة واحدة، والإحاطة الإلهيّة هي البحر. فهل يجمل بنا القول إنّ القطرة قد حازت أو أعطيت من الصّفات ما حُرِم منه البحر؟ وهل يليق بنا الظّنّ أنّ سياسة وتدابير هذه الذّرّة المسمّاة بالنّفس البشريّة أعظم حكمةً ممّن أحاط علمه العالمين؟ ليس هناك بالقطع جهل أشدّ من ذلك. وبالاختصار، إنّ البعض أطفال علينا أن نربيّهم بغاية المحبّة ونجعلهم حكماء، والبعض الآخر مرضى وسقماء، وعلينا علاجهم برفق حتّى يتعافوا. وآخرون لهم صفات غير حميدة علينا أن نأخذ بيدهم نحو نبراس الخـُلـُق القويم. وما عدا ذلك فكلّنا عباد الله الواحد، وفي كنف وحماية آب سماويّ واحد.

هذه هي القواعد والقوانين الإلهيّة، وتلك هي أسس معبده، مشرق الأذكار. بناء ظاهره رمز لباطنه. عسى أن تأخذ النّاس منه عبرة وعظة.

أدعو لكم أن تتنوّر قلوبكم بنور محبّة الله، وأن تترقّى عقولكم يومًا فيومًا، وأن تتَّقد أرواحكم بنار بشاراته ونورها، حتّى تستحكم هذه الأسس الإلهيّة في أنحاء العالم الإنسانيّ. وأوّل هذه المبادئ والأسس هو اتّحاد البشريّة والمحبّة والألفة بين النّاس. وثانيها هو الصّلح الأعظم. والحمد لله على أنّ هذه الدّيمقراطيّة الأمريكيّة تُبدي مقدرة وتُظهر استعدادًا لتكون حاملة لواء الصّلح الأعظم. وأدعو الله أن يصير جندها حماة لوحدة الإنسانيّة، وأن يصبحوا خدّامًا للعتبة الإلهيّة ناشرين الرّسالة الّتي تجلب رضاء الله.

يا ربّي الرّؤوف، هذا الجمع متوجّه إليك، وهذه القلوب مشرقة بمحبّتك، وهذه العقول والأرواح منشرحة بنبأ بشاراتك. أي ربّ، اجعل هذه الدّيمقراطيّة الأمريكيّة ماجدة في معارج اللاّهوت كما هي توّاقة إلى مدارج النّاسوت، وانصر هذه الحكومة العادلة. وأيِّدْ هذه الأمّة الموقّرة على رفع لواء وحدة الإنسانيّة وترويج الصّلح الأعظم، كي تصير بذلك أكثر مجدًا وجدارة بالثّناء بين أمم الأرض كلّها. أي ربّ، إنّ هذه الأمّة الأمريكيّة أهل لمواهبك، ومستحقّة لرحمتك، عزّزها وقرّبها إليك بجودك وعطائك.

(2) 30 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة ببناية هال، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

عندما نتفحّص عالم الخليقة نجد أنّ كافّة الكائنات الحيّة يمكن تقسيمها إلى مظهرين للوجود. المظهر الأوّل أنّها تمتلك أجسامًا تتكوّن من عنصر مادّيّ يشترك فيه الكلّ – نباتًا كان أو حيوانًا أو إنسانًا. وهذه هي نقطة اتّفاقها أو كما يقول الفلاسفة نقطة التقائها. والمظهر الثّاني أنّها تتباين وتختلف عن بعضها البعض في الرّتبة والوظيفة – بمعنى أنّ كلاًّ منها متميّز في مملكته الخاصّة به. وهذه هي نقطة امتيازها وتميّزها. فالنّبات والحيوان مثلاً متشابهان في أنّ جسديهما يتركّبان من نفس العناصر المادّيّة، إلاّ أنّهما يختلفان اختلافًا شاسعًا من حيث المملكة والقدرة. والإنسان مشابه للحيوان في تركيبه الجسمانيّ، لكنّه فيما عدا ذلك منفصل عنه وأسمى منه بقدر لا حدّ له.

بداخل مملكة الإنسان ذاتها هناك نقاط التقاء، أي هناك خصائص يشترك فيها الجنس البشريّ كلّه، وبالمثل هناك نقاط تمايز تفصل عرقًا عن عرق، وفردًا عن فرد. فإذا تغلّبت نقاط الالتقاء، الّتي هي الخصائص المشتركة للبشريّة، على نقاط التّمايز المخصوصة، عندئذ نضمن الوحدة. أمّا إذا تغلّبت نقاط الاختلاف على نقاط الاتّفاق فعندئذ ينتج الشّقاق والضّعف. وأحد أهمّ الأمور المؤثّرة في وحدة الجنس البشريّ وتضامنه هي الألفة والمساواة بين الجنسين الأبيض والأسود. فهناك نقاط التقاء بين هذين الجنسين كما هناك نقاط تمايز تستحقّ اعتبارًا عادلاً ومتبادلاً من الطّرفين. فنقاط الالتقاء عديدة، لأنّ كلا الجنسين، فيما يختصّ بمجال الوجود المادّيّ أو الجسمانيّ، متماثلان في التّركيب ويعيشان بمقتضى قانون نموّ وتطوّر جسمانيّ واحد. كما أنّ كليهما يعيشان ويتحرّكان في مجال الحواس، وكليهما حائزان على الذّكاء الإنسانيّ، وهناك العديد من الصّفات المشتركة. ففي هذه الدّيار، أي الولايات المتّحدة الأمريكيّة، تُعتبر الوطنيّة عاملاً مشتركًا بين الجنسين إذ لدى الجميع حقوق مواطنة متساوية، ويتكلّمون لغة واحدة، وينعمون بمدنيّة واحدة، ويتّبعون مبادئ ديانة واحدة. فالعديد من نقاط المشاركة والاتّفاق هي في الحقيقة متوفّرة فيما بين الجنسين؛ بينما تبقى نقطة التّمايز الوحيدة هي مسألة اللّون. فهل يليق أن يُسمح لأقلّ نقاط الاختلاف هذه شأنًا أن تفصل ما بينكم كأجناس أو أفراد؟ فأنتم متّحدون ومتساوون في الجسم المادّيّ، وأطوار النّموّ، وموهبة الحواس، والذّكاء، والوطنيّة، واللّغة، والمواطنة، والمدنيّة والدّين. وتبقى نقطة اختلاف وحيدة، هي اللّون العرقيّ. فالله لا يرضى بالتّفرقة بين الأجناس بسبب هذا التّمايز – كما يجب ألاّ يقبل أيّ إنسان عاقل أو لبيب أن يقرّ بذلك.

لكنّ التّغلّب على التّعصّبات البشريّة يحتاج إلى قوّة عليا، قوّة لا يقف دونها شيء في عالم البشر، قوّة تغطّي على تأثير سائر القوى الفاعلة في الشّؤون البشريّة. هذه القوّة القاهرة هي محبّة الله. أملي ودعائي أن تحطّم تلك القوّة العليا هذا التّعصّب المبني على نقطة الاختلاف الوحيدة هذه بينكم، وأن توحّدكم جميعًا في حِماها الجليل دائمًا وأبدًا. لقد نادى حضرة بهاء الله بوحدة العالم الإنسانيّ، وجاء بما يجعل مختلف الأمم وشتّى النّحل تتّحد، وأعلن أنّ اختلاف العرق واللّون مَثَله مَثَل جمال الأزهار المتنوّعة في البستان. فإذا ما دخلتم بستانًا ترون الأزهار الصّفراء والبيضاء والزّرقاء والحمراء في رونق وبهاء – وكلّ منها مشرق بذاته، ويضفي من بهجته على الآخرين على الرّغم من اختلافه عنهم. والاختلاف العرقيّ في مملكة الإنسان مماثل لهذا. فإذا كانت كلّ أزهار البستان من لون واحد، سيكون أثر ذلك رتيبًا ومملاًّ للنّاظرين.

لهذا تفضّل حضرة بهاء الله بأنّ مختلف أعراق البشر تضفي على الكلّ توليفة من تناسق الألوان وجمالها. فليتعاشر الكلّ إذًا في كنف هذه الحديقة الإنسانيّة العظيمة، تمامًا كما تنمو الأزهار وتنسجم جنبًا إلى جنب دونما أيّ تباعد أو اختلاف.

(3) 30 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في المؤتمر السّنويّ الرّابع للرّابطة القوميّة
للنّهوض بالملوّنين بقاعة هاندل، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

طبقًا لما جاء في أسفار العهد القديم (التّوراة)، قال الله تعالى: لنعملنّ إنسانًا على صورتنا ومثالنا، ويدلّ هذا على أنّ الإنسان على صورة الله ومثاله – بمعنى أنّ الكمالات الإلهيّة والفضائل الرّبّانيّة منعكسة أو متجلّية في الحقيقة الإنسانيّة. فكما أنّ نور الشّمس وإشراقها، حينما يسطع على مرآة مصقولة، يتجلّى بتمامه وبهائه، كذلك تنعكس صفات الألوهيّة ونعوتها من أعماق القلب البشريّ الصّافي. وهذا برهان على أنّ الإنسان أشرف مخلوقات الله.

كلّ مملكة من ممالك الخليقة حائزة على نصيبها الضّروريّ من الصّفات والقوى. فالجماد يمتلك المناقب الذّاتيّة لمملكته في رُتَب الوجود. والنّبات حائز على صفات الجماد مضافًا إليها قوّة النّمو. والحيوان مختصّ بصفات كلّ من رتبتي الجماد والنّبات مضافًا إليها القوّة الحاسّة. أمّا مملكة الإنسان فهي مفعمة بكمالات كلّ الممالك الّتي تدنوها بالإضافة إلى القوى الّتي يختصّ بها الإنسان دون ما عداه من الكائنات. فالإنسان إذًا أسمى من كلّ ما يدنوه من مخلوقات، وهو أنبل وأشرف كائنات الخليقة. والإنسان هو العالَم الأصغر؛ وهو الكون اللاّمتناهي – أي العالَم الأكبر. إنّ أسرار العالم الأكبر أو الكون تكون ظاهرة ولها تعبير في العالم الأدنى – أي العالم الأصغر. وقد نقول إنّ الشّجرة هي العالم الأكبر، وأنّ البذرة من حيث علاقتها بالشّجرة هي العالم الأصغر، بيد أنّ الشّجرة بتمامها كامنة ومختبئة من حيث الاستعداد في تلك البذرة الضّئيلة. وعندما تُـبذر البذرة وتُزرع تظهر الشّجرة. وبالمثل فإنّ العالم الأكبر أو الكون كامن وموجود بشكل مصغـّر في عالم الإنسان الأدنى أو عالمه الأصغر. وهذا دليل على شمول وكمال الفضائل الكامنة في النّوع الإنسانيّ، ولهذا يقال إنّ الإنسان قد خُلق على صورة الله ومثاله.

لنتبيّن الآن بتحديد أدقّ كيف يكون الإنسان على صورة الله ومثاله، وما هو الميزان أو المعيار الّذي نقيس به ذلك ونحدّده. إنّ ميزاننا هذا ليس سوى مقدار تجلّي الفضائل الإلهيّة من كلّ إنسان. فكلّ من يتحلّى بالصّفات الرّبّانيّة، ويظهر بالأخلاق والكمالات الملكوتيّة، ويكون عنوانًا للخصال المثاليّة الحميدة، فهو فعلاً على صورة الله ومثاله. أمّا إذا كان إنسان ما حائزًا على الثّروة، فهل نستطيع أن نطلق عليه أنّه على صورة الله ومثاله؟ أو هل تكون شهرة الإنسان وسمعته معيارًا لقربه من الله؟ أو هل يمكننا أن نستخدم اللّون العنصريّ ميزانًا، ونقول إنّ الشّخص المنتمي إلى لون معيّن – أبيضَ كان، أم أسودَ، أسمرًا، أو أصفرَ، أو أحمرَ – هو الصّورة الصّادقة لما عليه خالقه؟ علينا أن نستنتج أن اللّون ليس معيار حكمنا وميزانه، وأنّه لا أهمّيّة له، لأنّ اللّون أمر عارض في الطّبيعة، أمّا روح الإنسان وفطنته فهما جوهريّتان، أي تجلّي الفضائل الرّبّانيّة، وسنوحات الله الرّحمانيّة، والحياة الأبديّة، والتّعمّد بالرّوح القدس. فليكن معلومًا إذًا أنّ اللّون والعرق ليسا بذات أهمّيّة. فكلّ من هو على صورة الله ومثاله، وكلّ من كان مظهرًا للفيوضات الإلهيّة مقبول لدى العتبة الإلهيّة، سواء كان لونه أبيضَ أو أسودَ، أو أسمرَ إذ لا أهمّيّة لذلك. فالإنسان لا يكون إنسانًا بسبب صفاته الجسمانيّة، وإنّما معيار الحكم والتّقييم الإلهيّ هو فطنته وروحه.

ليكن هذا إذًا هو المعيار والتّقييم الوحيد، لأنّ هذه هي صورة الله ومثاله. فقد يكون قلب الإنسان طاهرًا ناصعًا مع أنّ لون بشرته أسود. أو يكون قلبه مغبرًّا آثمًا مع أنّ لونه العرقيّ أبيض. فحالة القلب وطهارته هي في غاية الأهمّيّة، والقلب المستنير بنور الله هو الأقرب إلى الله والأعزّ لديه، وبما أنّ الله قد اختصّ الإنسان بنعمة تشبيهه بصورة الله، فيكون هذا بحقّ أسمى وأكمل درجات المنال، ويكون منزلةً ربانيّة لا يفقدها الإنسان لمجرّد أن يصادف عرقه من هذا اللّون أو ذاك.

(4) 1 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بمناسبة تدشين أرض مشرق الأذكار،
ويلميت، بولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ القوّة الّتي جمعتكم اليوم هنا، رغم البرد والجوّ العاصف، هي حقًّا عظيمة ورائعة. إنّها القوّة الإلهيّة، الفضل الرّبّانيّ الّذي أتى به حضرة بهاء الله هو الّذي جذبكم معًا. فنحمد الله على أنّه بفضل محبّته الآسرة للقلوب اجتمعت النّفوس وتآلفت بهذه الطّريقة.

سوف تُبنى آلاف مشارق الأذكار لكافّة المؤمنين بالأديان في الشّرق والغرب، ولكنّ هذا، كونه أوّل ما بني منها في الغرب، له أهمّيّة عظيمة. وفي المستقبل سيُبنى العديد منها هنا وفي أماكان أخرى – في آسيا وأوروبّا، وحتّى في إفريقيا، ونيوزيلاندا وأستراليا – لكنّ هذا الصّرح الّذي سيشيّد في شيكاغو له مكانته الخاصّة وله من الأهمّيّة ما لمشرق الأذكار في عشق آباد، في القوقاز الرّوسيّة، وهو أوّل ما شيّد هناك. أمّا في إيران فهناك العديد، بعضها منازل استخدمت لهذا الغرض، وبعضها دور موقوفة بالكامل للأمر المبارك، وبنيت في بعض الأماكن أبنية مؤقّتة. فهناك مشارق أذكار في كافّة مدن إيران، ولكنّ الأعظم هو الّذي بني في عشق آباد. فهو حائز على أهمّيّة فائقة لأنّه كان أوّل مشرق أذكار يشيّد. وقد اتّفق كافّة الأحبّاء البهائيّين على بنائه وساهموا فيه بأقصى ما لديهم من عون وجهد. وأوقف الأفنان ماله، وبذل كلّ ما لديه من أجل تشييده. بهذا الجهد المتضافر العظيم ارتفع صرح جميل. وبالرّغم من تبرّعات أحبّاء إيران لذلك البناء، فإنّهم قد دعموا الصّندوق هنا في شيكاغو أيضًا. لقد اكتمل بناء مشرق أذكار عشق آباد تقريبًا، وهو يقع في مكان مركزيّ تقود إليه تسعة مداخل وتسع حدائق، وتسع نافورات مائيّة – فكلّ هندسته وبنائه مطابق لمبدأ الرّقم تسعة وتقسيماته. وهو كباقة من الزّهور جميلة. فتخيّلوا صرحًا رفيعًا مهيبًا تلتفّ حوله حدائق ذات أزهار متنوّعة، تقطعها تسعة ممرّات، وتتوسّطها تسع نافورات وأحواض ماء. هذا هو حال تصميمه الفريد الجميل. وهم الآن يبنون مستشفى، ومدرسة للأيتام، ودارًا للعجزة، ودارًا للضّيافة، ومستوصفًا كبيرًا. وسيكون روضة من الرّياض عندما يكتمل تمامًا بإذن الله.

آمل أن يكون مشرق أذكار شيكاغو مماثلاً لذلك. فاجهدوا أن تكون الأرض مستديرة الشّكل. وإن كان بالإمكان، عدّلوا من موضع قطع الأراضي وقايضوها لكي تجعلوا الأبعاد والحدود دائريّة. فلا يصح أن يكون مشرق الأذكار على هيئة مثلث، بل يجب أن يكون على شكل دائرة.

(5) 2 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بفندق بلازا، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ المشورة في غاية الأهمّيّة في هذا الأمر المبارك، ولكنّ المقصود منها هو المداولة الرّوحانيّة، وليس مجرد التّعبير عن الآراء الشّخصيّة. كنتُ في فرنسا حاضرًا إحدى جلسات مجلس الشّيوخ، ولكنّ هذه المناسبة لم تترك عندي أثرًا طيّبًا. فقد كان الواجب على النّظام البرلمانيّ أن يجعل نصب عينيه الوصول إلى نور الحقيقة في المسائل المطروحة، وليس تهيئة ساحة قتال للمعارضة والتّشبّث بالرّأي. فالعداء والمعارضة هما من الأمور المؤسفة، ودائمًا ما يفسدان الحقيقة. لقد غلب على تلك الجلسة البرلمانيّة الشّجار والاعتراض الّذي لا يُجدي، وكانت النّتيجة في معظمها فوضى وبلبلة، بل بلغ الحال في نقطة معيّنة أن حدث عراك بين اثنين من الأعضاء. فلم تكن تلك مشورة بل مهزلة.

لقد سُقت هذا المثال للتّأكيد على أنّ المشورة يجب أن يكون الهدف منها تحرّي الحقيقة. ومن يودُّ التّعبير عن رأي ما عليه أن لا يعرضه وكأنّه رأيٌ سديدٌ صائبٌ، بل عليه أن يطرحه مساهمة منه في الوصول إلى إجماع على رأي، ذلك لأنّ نور الحقيقة يظهر عند تصادم الآراء، كما يظهر الشّرر من احتكاك الصّلب بالصّوّان. على المرء أن يزن آراءه بكلّ هدوء وسكون واتّزان، وقبل أن يعبِّر عن وجهة نظره، عليه أوّلاً أن يتدبّر الآراء الّتي قدّمها الآخرون. فإذا وجد أنّ رأيًا سبق إبداؤه كان أكثر صوابًا واعتبارًا، عليه أن يقبله على الفور بدل التّمسّك عمدًا برأيه. بهذه الطّريقة الممتازة فإنّه يسعى للوصول إلى الاتّحاد والحقيقة. إنّ الاعتراض والانقسام أمران مؤسفان، ويكون من الأفضل في هذه الحالة الاستعانة برأي شخص حكيم راجح، وإلاّ فإن الشّجار واللّغط النّاجميْن عن طرح آراء متباينة ومتنافرة سيخلقان وضعًا يلزم معه وجود هيئة قضائيّة تفصل في المسألة. وقد يحدث أن يكون رأي الأغلبيّة أو إجماعهم غير صائب – فقد يُجمع ألف نفس على رأي وهو خاطئ، بينما قد يكون شخص واحد راجح العقل على صواب. فالمشورة الحقّة هي إذًا مداولة روحانيّة في جوٍّ من المحبّة. يجب أن يحبّ الأعضاء بعضهم بعضًا بروح الألفة حتّى تظهر نتائج طيّبة، فالمحبّة والألفة هما الأساس.

إنّ أبرز مثال على المشورة الرّوحانيّة في التّاريخ هو لقاء حواريّي يسوع المسيح على الجبل بعد صعوده. فقد دار بينهم حديث قالوا فيه: ‘لقد صلب يسوع المسيح ولم يعد لنا لقاء أو تواصل معه بجسده العنصريّ، فعلينا إذًا أن نكون مخلصين وأوفياء له، وأن نحمل له الجميل والعرفان على إحيائه إيّانا بعد موتنا، ومنحنا الحكمة والحياة الأبديّة، فماذا نحن فاعلون لنكون مخلصين له؟’ لهذا الهدف عقدوا مجلسهم. قال أحدهم ‘لا بدّ أن ننقطع عن قيود العالم وأغلاله، وإلاّ فلن نكون مخلصين.’ وردّ الآخرون: ‘فليكن هذا.’ وقال آخر ‘إمّا أن نتزوّج ونخلص لزوجاتنا وأطفالنا، أو أن نخدم الرّبّ ونحن متحرّرون من هذه القيود. فلا يمكننا أن ننشغل برعاية عائلاتنا والإنفاق عليها ثمّ نبشّر في الوقت نفسه في البرّيّة بقدوم الملكوت. ولهذا فعلى غير المتزوّجين منّا أن يبقوا بغير زواج، وعلى المتزوّجين تزويد أسرهم بوسائل العيش والرّاحة ثمّ ينطلقون بعد ذلك لنشر رسالة البشارة.’ لم تكن هناك أصوات معارضة، بل وافق الكلّ قائلين: ‘هذا هو عين الصّواب’. وقال حواريٌّ ثالث: ‘لكي نقوم بأعمال لائقة في الملكوت علينا أن نزداد في التّضحية بذواتنا. فمنذ الآن علينا بترك الرّخاء وراحة الجسد، وقبول كلّ صعوبة، فننسى أنفسنا ونبلّغ أمر الله’. فوجد ذلك قبولاً واستحسانًا لدى الآخرين جميعًا. وأخيرًا قال حواريٌّ رابع: ‘ما زال هناك أمر آخر يتعلّق بإيماننا واتّحادنا. فلأجل يسوع سوف نُـضرب ونُـسجن ونُـنفى، وقد يقتلوننا. فعلينا الآن أن نرحّب بهذه التّجربة وعلينا أن ندرك ونعقد العزم على أنّه لو ضُربنا ونُـفينا ولُـعنّا وبصقوا علينا واقتادونا إلى الإعدام، نقبل كلّ هذا بكلّ سرور، مظهرين المحبّة لمن أبغضونا وآذونا.’ فردّ باقي الحواريّين عليه: ‘سنفعل ذلك بالتّأكيد – نحن موافقون وهذا هو عين الصّواب.’ وبعدها هبطوا من قمّة الجبل، وانطلق كلّ واحد منهم إلى وجهة مختلفة عازمًا على القيام بمهمّته الإلهيّة.

لقد كانت تلك مشورة حقيقيّة، وكانت أيضًا مشورة روحانيّة، ولم تكن مجرّد التّصريح بالآراء الشّخصيّة في مجابهة أو مناظرة برلمانيّة.

(6) 2 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في وفد اتّحاد نوادي المرأة
بفندق لاسال، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ إحدى وظائف الشّمس إحياء الحقائق الكامنة في ممالك الوجود وإظهارها. فبضياء وحرارة هذا النّيّر المركزيّ العظيم، يستيقظ كلّ ما هو كامن في الثّرى ويـَخرج إلى حيـّز الشّهود. والثّمر الكامن في الشّجر يطلع على الأغصان استجابة لقوّة الشّمس، ويحيا ويتحرّك الإنسان وسائر الكائنات الأخرى ويأخذ الكلّ نصيبهم من الحياة تحت أشعّتها الباعثة على النّـماء، وتذخر الطّبيعة بما لا حصر له من أشكال النّماء بواسطة فيض هذه الشّمس المتغلغل في كافّة الكائنات – وبهذا يمكننا أن نقول إنّ إحدى وظائف الشّمس هي إظهار الأسرار والغايات الإيجاديّة المكنونة في عالم الإمكان.

الشّمس الظّاهرة هي دلالة أو رمز على الشّمس المثاليّة الغيبيّة – أي شمس الحقيقة الرّبّانيّة وكلمة الله. وبما أنّ هذا القرن هو قرن الأنوار، فيكون هذا برهانًا على أنّ شمس الحقيقة، أي الكلمة الإلهيّة، قد أظهرت نفسها لكافّة البشر. وقدرة النّساء أو مقدرتهنّ كانت من بين الإمكانات الكامنة في عالم الإنسان. وأصبحت قدرة المرأة، بفضل الأشعّة السّاطعة للنّور الإلهيّ، متيقّظة وظاهرة في هذا العصر بدرجة أنّ مساواة الرّجل والمرأة صارت حقيقة واقعة. ففي الأزمان الغابرة عانت المرأة من الظّلم والكبت. وكان هذا هو الحال في آسيا وإفريقيا
على وجه الخصوص. ففي بعض أنحاء آسيا لم تكن النّساء معدودات من البشر، وكان ينظر إليهنّ كمخلوقات دانية عديمة الشّأن، خاضعات ومذعنات للرّجال. وهناك طائفة تدعى النّصيريّة طالما اعتقدت أنّ النّساء كنّ تجسيدًا لروح الشّر أو الشّيطان، بينما الرّجال فقط هم تجلّي الرّحمن. وأخيرًا أشرق قرن الأنوار هذا، وأضاءت الحقائق، وكُشفت الأسرار الّتي طال غيابها عن أعين البشر. ومن بين هذه الحقائق الّتي كُشفت، ذلك المبدأ العظيم المنادي بمساواة الرّجل والمرأة، وهو الّذي يلقى الآن قبولاً في جميع أنحاء العالم – في أمريكا وأوروبّا وفي الشّرق أيضًا.

يسجّـل التّاريخ ظهور نساء في العالم كانت كلّ واحدة منهنّ آية في الهدى والرّشاد، ونبراسًا في القدرة والإنجاز. بعضهنّ كنّ شاعرات شهيرات، والبعض الآخر فلاسفة وعلماء، وأخريات كنّ مثالاً للشّجاعة في ساحات القتال. وكانت من بينهنّ من تسمّى قرّة العين، وهي امرأة بهائيّة شاعرة أفحمت علماء إيران من الرّجال بذكائها وحماسها. وعندما كانت تدخل مجلسًا من المجالس، كان الجميع يلتزمون الصّمت بمن في ذلك العلماء منهم. وكانت قرّة العين متبحّرة في الفلسفة والعلوم بدرجة أنّ من يجلسون في محضرها كانوا دائمًا يعتبرونها في المقدِّمة ويسألون رأيها أوّلاً. كانت شجاعتها بلا نظير، وواجهت أعداءها بكلّ شجاعة إلى أن قتلوها. وقفت في وجه ملك مستبدٍّ، هو شاه إيران الّذي يملك سلطة الحكم بإعدام أيٍّ من رعاياه، ولم يكن يمرّ عليه يوم واحد لا يحكم فيه بإعدام أحد. لقد صمدت هذه المرأة بمفردها ولوحدها أمام ذلك الطّاغية حتّى الرّمق الأخير، وفي النّهاية ضحّت بحياتها في سبيل إيمانها.

تدبّروا الآن في الأسرار الّتي كُشف النّقاب عنها خلال الخمسين سنة الماضية؛ فجميعها راجع إلى إشراق شمس الحقيقة هذه الّتي تجلّت في هذا العصر وهذا الدّور بكلّ رونق وسناء. على الإنسان في يومنا هذا أن يتحرّى الحقيقة بكلّ نزاهة دون أيّ تعصّب حتّى يبلغ المعرفة الحقّة والاستنتاج السّليم. فما السّبب إذًا في عدم المساواة بين الرّجل والمرأة؟ فكلاهما بشر، وكلّ منهما مكمّل للآخر في القوى والوظائف. وأقصى ما هنالك هو حقيقة أنّ المرأة قد حُرمت من الفرص الّتي طالما تنعّـم بها الرّجل، خاصّة نعمة التّربية والتّعليم. ولكنّ هذا أيضًا لا يكون دائمًا عيبًا وقصورًا. فهل نعتبره قصورًا وضعفًا في فطرة المرأة مثلاً أنّها ليست ضليعة في علم الخطط العسكريّة، أو أنّها لا تستطيع أن تنطلق إلى ميدان القتال وتحارب وتقتل، أو أنّها ليست قادرة على استعمال سلاح قاتل؟ لا، بل ألا يكون ذلك مديحًا بالمرأة إذا قلنا إنّها أقلّ من الرّجل في قساوة القلب والفظاظة؟ فالمرأة الّتي يطلب منها أن تحمل السّلاح وتقتل أخوانها في الخليقة ستقول: ‘لا أستطيع ذلك’ – هل يمكننا أن نعتبر ذلك عيبًا أو نقصًا في استحقاقها لأن تكون ندًّا للرّجل؟ بيد أنّ الحقيقة الّتي يجب أن نعلمها هي أنّ المرأة إذا ما تعلّمت وتدرّبت على فنون النّزال والقتال ستصير حتمًا ندًّا للرّجل حتّى في هذا الفعل. ولكن لا سمح الله بذلك! وأدعو الله ألاّ تنال المرأة مثل تلك الكفاءة، وألاّ تمسك أبدًا بأسلحة القتال، لأنّ إهلاك البشريّة ليس عملاً مجيدًا. أمّا أمور أخرى مثل تكوين أسرة، وتوفير الهناء والرّاحة لقلوب العباد فهي حقًّا من أمجاد البشريّة. وليس الفخر لرجل يستطيع قتل بني جنسه، بل الفخر لمن يقدر أن يحبّهم.

عندما نفكّر في ممالك الوجود الأدنى من مملكة الإنسان، لا نجد أيّ تمييز أو اعتبار بين الذّكر والأنثى سواء بأفضليّة أو بنقصان. فالذّكورة والأنوثة موجودتان بين ما لا حصر له من كائنات كلّ من مملكتي النّبات والحيوان، ولكن ليس هناك أيّ تمييز من أيّ نوع كان فيما يختصّ بأهمّيّة أحد الجنسين أو دوره في معادلة الحياة. وإذا ما بحثنا بغير تحيّز، لوجدنا أنواعًا تكون فيها الأنثى أجدر من الذّكر أو أفضل منه. فمثلاً هناك أشجار كشجر التّين يكون فيها الذّكر بغير ثمر بينما تكون الشّجرة الأنثى مثمرة. وذكر النّخيل ليس ذا قيمة بينما النّخلة الأنثى تُثمر بوفرة. وبما أنّنا لا نجد هناك أيّ علّة للتّمييز أو التّفوّق بمقتضى حكمة الخليقة في الممالك الأدنى، فهل يليق أو يجمل بالإنسان أن يبتدع هذا التّمييز فيما يختصّ بنوعه؟ فالذّكر في مملكة الحيوان لا يتفاخر بأنّه ذكر يتفوّق على الأنثى، بل إنّ المساواة موجودة ومسلّم بها. فلماذا ينكر الإنسان، الّذي هو مخلوق أسمى وأشدّ ذكاء، على نفسه ويحرمها من هذه المساواة الّتي ينعم بها الحيوان؟ وأكبر دليل ومرشد له فيما يتعلّق بالغرض من وجوده وخلقته هو التّأمل في أحوال وأمثلة الممالك الّتي تدنوه، وهي ممالك تكون فيها المساواة بين الجنسين مسألة جوهريّة.

فالحقيقة إنّ كافّة الجنس البشريّ هم خلق وعباد لإله واحد، وكلّهم بنظره بشر. وكلمة إنسان كلمة جامعة تنطبق على كافّة البشر. والقول المذكور في الكتاب المقدّس لنعملنّ إنسانًا على صورتنا ومثالنا لا يعني أنّ المرأة لم تخلق كذلك. فصورة الله ومثاله تنطبق عليها أيضًا. وهناك في اللّغتين العربيّة والفارسيّة كلمتان متميّزتان عن بعضهما تترجم كلتاهما إلى الإنجليزيّة بلفظ واحد هو  man. والكلمة الأولى، أي كلمة إنسان، تعني الرّجل والمرأة معًا، والكلمة الثّانية، وهي كلمة رجل، يقصد بها التّمييز بين الرّجل كذكر والمرأة كأنثى. والكلمة الأولى وضميرها جامعة ومجرّدة عن التّذكير والتّأنيث، أمّا الكلمة الثّانية فهي تطلق على الذّكر دون الأنثى. ونفس هذه القاعدة موجودة أيضًا في اللّغة العبريّة.

إنّ التّسليم بتمييز لم يقصده الباري عزّ وجلّ في خليقته والتّقيّد به ما هو إلاّ ضرب من الجهل والوهم. فالحقيقة الّتي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار هي أنّ المرأة، الّتي عانت في الماضي من صنوف الحرمان، يجب أن تتاح لها الآن فرص مساوية لما يتمتّع به الرّجل في مجال التّربية والتّعليم، وألاّ يكون هناك أيّ تمييز في تربيتهما. وما لم تتأسّس حقيقة المساواة بين الرّجل والمرأة وتتحقّق بتمامها، سيكون مستحيلاً بلوغ البشريّة ذروة رقيّها الاجتماعيّ. حتّى لو سلّمنا بأنّ المرأة تقلّ عن الرّجل في بعض درجات المقدرة أو الإنجاز، فإنّ مثل ذلك التّمييز أو غيره سيظلّ سببًا للخلاف والاضطراب. يبقى العلاج الوحيد هنا هو التّربية وإتاحة الفرص؛ لأنّ المساواة تعني التّساوي في المؤهلات. وبالاختصار فإنّ الادّعاء بتفوّق الرّجل سيظلّ محبِطًا لطموح المرأة، لأنّه كالقول بأنّ نيلها المساواة أمر مستحيل خِلْقِيًا؛ وهو ما سيعوق تطلّعها إلى الرّقيّ، ويبعث اليأس والإحباط في نفسها شيئًا فشيئًا. وعلى النّقيض من ذلك، إذا ما نحن أعلنّا أنّ مقدرتها مساوية لما عند الرّجل بل وأفضل منه، فإنّه سيمنحها أملاً وطموحًا، وتتزايد قابليّاتها للرّقيّ دومًا. فلا يصحّ أن يقال لها أو أن تُلَقَّن بأنّها أضعف وأقلّ من الرّجل قدرة وكفاءة. فلو قلنا مثلاً لأحد التّلاميذ بأنّ ذكاءه أقلّ ممّا لدى أقرانه، سيمثّل ذلك القول إعاقة وعقبة شديدة لتقدّمه. بل يجب أن ينال التّشجيع والدّافع بأن نقول له: ‘لديك استعداد عظيم، وإذا ما اجتهدتَ ستنال أعلى الدّرجات.’

أملي أن يرتفع لواء المساواة في جميع أرجاء القارّات الخمس حيث لم يتمّ الاعتراف بها وتحقيقها كاملةً حتّى الآن. لقد تقدّمت المرأة في عالم الغرب المستنير هذا بخطى أوسع بكثير من نساء الشّرق. وليكن معلومًا أيضًا أنّه ما لم يعترف كلّ من الرّجل والمرأة بالمساواة ويحقّقانها معًا فإنّ التّقدّم الاجتماعيّ والسّياسيّ سيكون مستحيلاً سواء هنا أو في أيّ مكان آخر. ذلك لأنّ عالم البشر يتكوّن من جزأيْن أو عضويْن، أحدهما المرأة والآخر هو الرّجل. وما لم يتساوَ هذان العضوان في المقدرة فلا يمكن تأسيس وحدة العالم الإنسانيّ، ولن تتحقّق سعادة الجنس البشريّ وهناؤه. ولسوف تتحقّق هذه المساواة بإذن الله.

(7) 2 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في حفل الاستقبال الّذي نظّمته السّيّدات
البهائيّات بفندق لاسال، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

عندما ننظر إلى ممالك الوجود الّتي تدنو مملكة الإنسان، نجد ثلاثة أشكال أو مراتب من الوجود تنتظر التّربية والتّرقّي. فوظيفة البستانيّ مثلاً أن يحرث التّربة الّتي هي من مملكة الجماد ويغرس فيها شجرة تبلغ برعايته وتربيته كمال النّماء. فإذا ما كانت شجرة برّيّة غير مثمرة، يمكن جعلها مثمرة بالتّطعيم، وإذا كانت صغيرة لا تسرّ النّاظـرَيـْن، تصير دوحة باسقة جميلة خضلة نضرة بيمن تربية ذلك البستانيّ، بينما نجد أنّ الشّجرة المحرومة من رعايته تتخلّف يومًا بعد يوم، وتعطي حنظلاً مُرًّا كأشجار الغاب، أو قد تجدب تلك الشّجرة تمامًا وتحرم من الإثمار. وعلى نفس المنوال نجد أنّ الحيوانات الّتي نالت التّربية في مجالها المحدود تتقدّم وتتحسّن بغير شكّ، وتصير أكثر جمالاً في هيئتها وتزداد ذكاء. فمثلاً، كم صار الجواد العربيّ عليه من الذّكاء والإدراك بفضل التّدريب، بل كم صار هادئ الطّبع ومهذّبًا بالتّربية. أمّا فيما يختصّ بعالم الإنسان: فهو محتاج للهداية والتّربية بدرجة أكبر من المخلوقات الّتي تدنوه في الرّتبة. تأمّلوا الفرق الشّاسع بين سكّان إفريقيا وسكّان أمريكا. فالنّاس هنا أصابت قدرًا من المدنيّة والرّقيّ، بينما هناك لا يزالون في حالة من الوحشيّة شديدة. فما السّبب في وحشيّتهم وما هي علّة تمدّنكم؟ من الواضح أنّ هذا الفرق راجع إلى وجود التّربية أو عدمها. فتأمّلوا إذًا في تأثير التّربية في مملكة الإنسان. إنّها تجعل الجاهل حكيمًا، والطّاغية رحيمًا، والأعمى بصيرًا، والأصمّ مصغيًا، بل تجعل البليد ذكيـًّا. فما أعظم هذا الفرق، وما أوسع تلك الهُوّة الّتي تفصل بين الإنسان المتعلّم والّذي حرم من التّربية والتّعليم. هذا هو التّأثير عندما يكون المعلّم مجرّد معلّم عاديّ.

لكن – والحمد لله – إنّ معلّمكم ومدرّسكم هو حضرة بهاء الله. وهو مربّي الشّرق والغرب، وهو المعلّم المرسَل من عالم الألوهيّة والرّوحانيّة، وهو شمس الحقيقة، وكلمة الله. ونور تربيته ساطع سطوع الشّمس. انظروا ما صنعه، وكيف كان سببًا في رقيّ الإنسانيّة بأسرها، بدرجة أنّني وأنا الإيرانيّ، جئت إلى هذا اللّقاء الّذي اجتمعتْ فيه نفوس مبجّلة بالقارّة الأمريكيّة، وأقف بينكم هنا أحدّثكم بالمحبّة البالغة. فهذا قد تمّ بيمن تربية بهاء الله الّتي بإمكانها أن توحّد هذه القلوب – بل هي قد وحّدتها بالفعل، وأنارت العالم بتلك الكيفيّة. بل إنّها نفخت في البشر روحًا ربّانيّة وأحيت قلوب العباد أيضًا.

فالحمد لله إذًا على أنّكم جُمِعتم معًا في ظلّ تربية مَنْ هو شمس الحقيقة، ومَن هو ساطع بالأنوار الباهرة على كلّ البشر، ومانح الجميع حياة أبديّة.

الحمد لله ألفَ مرّة!

(8) 2 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بفندق بلازا، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته مرضيّة موسّ

وجدنا المدينة صباح اليوم يُغلِّفها الضّباب والرّذاذ. ولكن ما أجمل المدينة حينما تتألّق بنور الشّمس. وتمامًا كما يُخفي هذا الضّباب والغمام الشّمس الظّاهريّة، فإنّ أوهام البشر من شأنها أن تحجب شمس الحقيقة أيضًا. تأمّلوا الإشراق الباهر لهذا النّجم الشّمسيّ العظيم، مركز منظومتنا الكوكبيّة: كم هو بديع مشهده، وكم ينير سناؤه الأبصارَ إلى أن يحجبه السّحاب والضّباب عن العيون. كذلك تصبح شمس الحقيقة مستورة ومحجوبة بفعل الخرافات والأوهام الّتي تنسجها عقول البشر. وعندما تشرق الشّمس، بصرف النّظر عن أيّ مطلَع من الأفق تظهر – أكان من الشّمال الشّرقيّ أم من الشّرق أم من الجنوب الشّرقيّ – فإنّها تبدّد الغيوم وتقشع الضّباب، فنحظى برؤية صافية لبهائها وهي تعلو نحو كبد السّماء. كذلك قُدِّر للأمم أن تتوجّه إلى مشارق شمس الحقيقة، ودُعيت كلّ أمّة إلى مشرق محدّد لاحت منه أنوار الدّيانة، ولكن بمرور الزّمان غدا محلُّ الإشراق نفسه محطـًّا للعبادة والتّوجـّه بدلاً من شمس الحقيقة ذاتها، وهي الشّمس الّتي كانت دائمًا وأبدًا شمسًا واحدة مستقرّة في أفلاك المشيئة الرّبّانيّة. بسبب هذا برزت الاختلافات وجعلت السّحاب والقتام يعود مرّة أخرى ليحجب سناء شمس الحقيقة ونيّرها. وعندما تتبدّد حُلكة ظلام الوهم والتّعصّب، يشاهِدُ الكلُّ هذه الشّمس على حقيقتها من منظار واحد. وعندئذ تصير الأمم أمّة واحدة بفضل إشراقها.

بما أنّ سحب الأوهام البشريّة وأبخرتها هذه تخفي ضوء الشّمس الرّوحانيّة، فعلينا أن نبذل ما وَسِعَنا من جهد في تبديدها. عسى أن نتّحد في هذا ونستنير من أجل القيام به، ذلك لأنّ الشّمس واحدة ويشمل العمومَ نورُها وفضلُها. وكما أنّ سكّان المعمورة قاطبة متلقّون لفضل هذه الشّمس الظّاهريّة الواحدة دون تفضيل أحدهم على الآخر، كذلك الأمر بالمثل، تُـمنح جميع النّفوس المواهب الإلهيّة الفائضة عن كلمة الله دون تفضيل أو تمييز؛ فالكلّ مستظلّ بظلـّها ومستفيض من إشراقها العميم. إلاّ أنّ تناحر البشر وخلافاتهم الدّينيّة تعقّد بساطة الأمر الإلهيّ وتعكّر صفاءه وجماله، وبذلك يؤول الحال لأن يغشى سحاب الأوهام نور الحقيقة وينتج الخلاف والشّقاق. فاستخدِموا إذًا ما أوتيتم من فطنة وعقل لكي تقشعوا هذه السّحب الكثيفة عن أفق أفئدة العباد، ويتمسّك الجميع بالحقيقة الواحدة لجميع الأنبياء. فمن المؤكّد أنّه إذا ما استخدمت النّفوس الإنسانيّة عقلها وذكاءها في المسائل الإلهيّة، فإنّ القوّة الرّبّانيّة ستزيل عنهم حتمًا كلّ مشقـّة وعناء، وتتجلّى الحقائق الأبديّة كشعاع واحد، وحقيقة واحدة، ومحبّة واحدة، وإله واحد، وسلام عامّ وشامل.

(9) 2 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في فندق بلازا، شيكاغو، بولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته هنرييتا واجنر

عندما نتفحّص بكلّ دقّة في ممالك الوجود، ونلاحظ ما يحيط بنا من ظواهر هذا الكون، نكتشف النّظام والكمال المطلق في الخليقة. فالصّخور الصّمّاء بانجذابها وتماسكها، والنّباتات والخضروات بما لها من قوّة نامية، والحيوانات بما لديها من فطرة غريزيّة، والإنسان بعقله الواعي المدرك، والأجرام السّماويّة وهي تسبح منقادة لمداراتها في الفضاء اللاّمتناهي، نجدها جميعها خاضعة لناموس عامّ في غاية الإتقان والكمال. ولهذا قال أحد الحكماء من الفلاسفة ‘ليس في الامكان أبدع ممّا كان’. يدّعي المادّيّون والملحدون أنّ هذا النّظام والتّناسق يرجع إلى الطّبيعة وقواها، وأنّ التّركيب والتّحليل اللّذين يشكّلان قوام الحياة والوجود هما من مقتضيات الطّبيعة؛ وأنّ الإنسان نفسه من مقتضيات الطّبيعة، وأنّ الطّبيعة تسيطر على الخليقة وتتحكّم بها، وأنّ كلّ الممكنات أسيرة للطّبيعة. ولكن دعونا نتدبّر هذه الأقوال. فبما أنّنا نجد أنّ كلّ الكائنات خاضعة لنظام دقيق، وتحت سيطرة ناموس عامّ، فالسّؤال هنا هو: هل يرجع هذا للطّبيعة أم للحكم الرّبّانيّ الغالب؟ فالمادّيّون يعتقدون أنّ من مقتضيات الطّبيعة أن ينزل المطر، وأنّه ما لم ينزل المطر لن تخضرّ الأرض. ويسوقون حجـّةً أنّه إذا ما جلبت الأمطار السّيول، وفاضت الشّمس بالحرارة والضّياء، وكان لدى الأرض قابليّة واستعداد، فإنّ الإنبات حادث لا محالة، فحياة النّبات إذًا هي من إحدى خصائص قوى الطّبيعة هذه وآية من آياتها، تمامًا كما يكون الاحتراق من الخصائص الطّبيعيّة للنّار، فيحدث الاحتراق بفعل النّار، ولا يتصوّر نار بغير احتراق.

للرّدّ على هذه الأقوال نقول إنّه يمكننا أن نستنتج من هذه الافتراضات الّتي يسوقها المادّيّون أنّ الطّبيعة هي الحاكمة والمهيمنة على الوجود، وأنّ كلّ الفضائل والكمالات من مقتضيات الطّبيعة ومحصّلتها. ويقتضي ذلك ألاّ يكون الإنسان سوى جزءٍ أو عضوٍ في ذلك الكلّ الّذي تتكوّن منه الطّبيعة.

غير أنّ الإنسان يملك كمالات معيّنة قد حرمت الطّبيعة منها. فهو يُظهر الإرادة، بينما الطّبيعة فاقدة لهذه الإرادة. فإضفاء النّور مثلاً هو من اللّوازم الذّاتيّة للشّمس، وإضفاء الشّمس للنّور جبريّ وليس اختياريّ، فلا يمكنها أن تفعل أيّ شيء سوى أن تفيض بنورها. كما أنّ من اللّوازم الذّاتيّة للظّاهرة الكهربائيّة هو أن تتجلّى على هيئة شرر وومضات في ظروف معيّنة، ولكنّها لا تنير باختيارها. والرّطوبة أيضًا هي من اللّوازم الذّاتيّة للماء أو خصائصه، ولا يمكن للماء أن ينفكّ عن تلك الخاصّيّة بإرادته. فكافّة الخواص الفطريّة لازمة وجبريّة، وليست اختياريّة. والثّابت فلسفيًّا هنا هو أنّ الطّبيعة محرومة من الإرادة والإدراك الذّاتيّ. ونحن نتّفق في هذا القول والمبدأ مع المادّيّين. ولكنّ المسألة الّتي تعطينا مادّة للتّفكير هي ما يلي: كيف يتسنّى للإنسان الّذي هو جزء من هذا النّظم العامّ، أن يمتلك من الصّفات ما خلت منه الطّبيعة؟ فهل يعقل أن تكون لقطرة الماء صفات يكون البحر محرومًا منها تمامًا؟ فالقطرة هي الجزء والبحر هو الكلّ. وهل نجد ظاهرة من احتراق أو إشراق ممّا لا يبديها النّيّر الأعظم – أي هذه الشّمس؟ وهل يجوز لحجر أن يكون حائزًا لخواص ذاتيّة تكون مملكة الجماد بأسرها محرومة منها؟ فعلى سبيل المثال، هل يمكن للأظافر – الّتي هي جزء من جسم الإنسان – أن تحظى بخواص خلويّة يكون الدّماغ محرومًا منها؟

الإنسان ذكيّ – ذكيّ غرائزيًّا وذكيّ إدراكيًّا؛ أمّا الطّبيعة فليست كذلك. والإنسان تعضّده ذاكرته، أمّا الطّبيعة فمحرومة من الذّاكرة. والإنسان هو الكاشف لأسرار الطّبيعة، ولكنّ الطّبيعة لا تدرك تلك الأسرار. إذًا بات واضحًا أنّ الإنسان مزدوج في هيئته: فبوصفه حيوانًا هو خاضع للطّبيعة، أمّا من حيث هو مخلوق روحانيّ أو واع، فهو يتفوّق على عالم الوجود المادّيّ. ولأنّ قواه الرّوحيّة أسمى وأرفع، فهو يحوز من المناقب ممّا لا يوجد في جوهر الطّبيعة، ولهذا فإنّ مناقبه تتغلّب على أحوال الطّبيعة. وهذه الكمالات أو القوى المثاليّة عند الإنسان تتفوّق على الطّبيعة أو تحيط بها، وتدرك القوانين والظّواهر الطّبيعيّة، وتغوص في أسرار المجهول والغيب لتخرجها إلى حيّز المعلوم والمشهود. وكلّ الفنون والعلوم الموجودة الآن كانت يومًا من أسرار الطّبيعة المكنونة. وبفضل تسيّده وتحكّمه في الطّبيعة أخرجها الإنسان من حيّز الغيب إلى عَرَصَة الشّهود، والحال إنّه وفقًا لمقتضيات الطّبيعة، كان يجب أن تبقى هذه الأسرار كامنة ومكنونة. فالكهرباء، طبقًا لمقتضيات الطّبيعة، كان من الواجب أن تظلّ قوّة مخفيّة غامضة، ولكنّ فكر الإنسان الثّاقب اكتشفها، وخرج بها من كنف الأسرار، وجعلها خادمة الإنسان المطيعة. ومع هذا فالإنسان بجسده العنصريّ، وبوظائف ذلك الجسد، هو أسير للطّبيعة. فلا يمكنه مثلاً أن يمضي في حياته دون الخلود إلى النّوم، فالنّوم من مقتضيات الطّبيعة. وهو مجبر على تناول الطّعام والشّراب، وهو ما تمليه عليه الطّبيعة وتستلزمه. بيد أنّ الإنسان بكينونته الرّوحانيّة وذكائه يتسيّد الطّبيعة ويتحكّم بها، وهي الحاكمة على كيانه الجسمانيّ. وعلى الرّغم من هذه الحقائق نجد هناك من يسوق آراء ووجهات نظرٍ مُعارضةٍ مادّيّة في توجُّهها، تحطُّ من مقام الإنسان تمامًا إلى درجة الخضوع التّامّ لنواميس الطّبيعة. وهذا مماثل للقول بأنّ الدّرجة النّسبيّة تفوق الدّرجة القصوى، أو أنّ النّاقص يشتمل على الكامل، أو أنّ التّلميذ يتفوّق على معلّمه – وهي جميعًا غير منطقيّة ومستحيلة. وعندما يكون جليًّا لائحًا بكلّ وضوح أنّ ذكاء الإنسان ومَلَكته البنّاءة وقدرته على التّفرّس والاكتشاف تفوق ما عند الطّبيعة، فكيف يتسنّى لنا القول بأنّه مملوك للطّبيعة وأسير لها؟ فهذا قول يعني ضمنًا أنّ الإنسان محروم من المواهب الإلهيّة، أو أنّه يتدنـّى إلى مرتبة الحيوان، أو أنّ ذكاءه الفذّ الفائق عاطل ومتوقّف، أو أنّه يرى نفسه حيوانًا دون أن يميّزه شيء عن مملكة الحيوان.

حدث ذات مرّة أنّي كنت أناقش فيلسوفًا شهيرًا من فلاسفة المدرسة المادّيّة بمدينة الإسكندريّة. كان مصرًّا تمامًا على الرّأي بأنّ الإنسان وسائر ممالك الوجود هي كلّها تحت حكم الطّبيعة، وأنّ الإنسان مجرّد حيوان اجتماعيّ ليس إلاّ، بل وحتّى حيوان في معظمه. فلمّا غلبت عليه الحجّة، فاجأني بقوله: ‘لا أرى فرقًا بيني وبين الحمار، ولستُ على استعداد للإقرار بحيازتي على امتيازات لا أستطيع أن أفهمها.’ فأجبته: ‘لا، بل أعتبرك مختلفًا ومتميّزا تمامًا، فأنا أسمّيك إنسانًا، أمّا الحمار فحيوان. وأستطيع أن أتبيَّن أنّك على درجة عالية من الذّكاء، بينما الحمار ليس كذلك. وأنا أعلم أنّك متبحّرٌ في الفلسفة، كما أعرف أنّ الحمار بليد فيها تمامًا، ولذا فإنّني لست مستعدًّا لقبول رأيك هذا.’

انظروا إلى هذه السّيّدة الجالسة بجانبي وهي تكتب في كرّاستها الصّغيرة. قد يبدو هذا أمرًا تافهًا وعاديًّا، ولكنّكم بإعمال فكركم الثّاقب، ستدركون أنّ ما كُتِب يقتضي وجود كاتبة له ويثبت ذلك. فهذه الكلمات لم تكتب نفسها، وهذه الحروف لم تتجمّع لتكوّن جُملاً مفيدة بإرادتها الذّاتيّة. من الثّابت إذًا أنّه لا بدّ أن يكون هناك كاتب.

تأمّلوا الآن في هذا الكون اللاّمتناهي. هل من الممكن أن يكون قد خلق بغير خالق؟ أو أن يكون الخالق الّذي أوجد هذا الكمّ الهائل غير المتناهي من العوالم محرومًا من الذّكاء؟ وهل يكون مقبولاً أنّ الخالق لا يدرك ما يظهر في الخليقة؟ إنّ الإنسان، وهو مخلوق، لديه إرادة وفضائل معيّنة. فهل يجوز أن يكون خالقه محرومًا منها؟ فهذا اعتقاد ورأي لا يقبله طفل. من الواضح تمامًا أنّ الإنسان لم يخلق نفسه، بل لا يمكنه ذلك. فكيف يقوى الإنسان مع ضعفه على أن يخلق وجودًا هائلاً كهذا؟ فخالق الإنسان إذًا يجب أن يكون أكمل وأقوى من الإنسان نفسه. فلو كانت علّة خلق الإنسان في مستوى الإنسان نفسه، يكون الإنسان عندها قادرًا على الخَلق، بينما نعلم جيّدًا أنّنا غير قادرين أن نخلق حتّى صِنوٍ لنا. فخالق الإنسان يجب إذًا أن يكون حائزًا على ذكاء وقوى فائقة في كافّة المسائل الّتي يتطلّبها الوجود ويعنيها. فنحن ضعفاء؛ وهو القويّ، ذلك لأنّه إن لم يكن قويًّا، لما تسنّى له أن يخلقنا. ونحن جهلاء؛ وهو الحكيم. ونحن فقراء؛ وهو الغنيّ، ولولا ذلك لكان عاجزًا عن خلقنا.

من بين البراهين الدّالة على وجود قوّة إلهيّة هو هذا: إنّ الأشياء تُعرف غالبًا من أضدادها. فلولا الظّلام لما أحسسنا بالنّور. ولولا الموت لما عرفنا الحياة. ولولا وجود الجهل، لما كان العلم حقيقة واقعة. فمن الضّروريّ وجود كلّ من هذه الأضداد حتّى يصبح ما يقابلها حقيقة. فاللّيل والنّهار يجب أن يتعاقبا حتّى يمكن تمييز أحدهما عن الآخر. ونفس وجود اللّيل هو دليل وبرهان على النّهار الّذي يعقبه، والنّهار نفسه دليل على ليل قادم. وما لم يكن اللّيل حقيقة لا يتحقّق النّهار. ولولا الموت لا تكون هناك حياة. أي أنّ الأشياء تعرف بأضدادها.

فضُعفنا إذًا دليل على أنّ هناك قوّة، وجهلنا برهان على كينونة العلم، واحتياجنا دليل على وجود المَدَد والثّراء، إذ لولا الثّراء لما كان هذا الاحتياج؛ ولولا العلم لما عُرف الجهل؛ ولولا القدرة لما كان العجز. وبكلمات أخرى فإنّ الطّلب والمدد هو القاعدة، وأنّ كافة الفضائل والمناقب لها بكلّ تأكيد مركزٌ ومصدر. وهذا المصدر هو الله تعالى، ومنه تأتينا كلّ هذه المواهب.

(10) 3 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بفندق بلازا، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته مرضيّة موسّ

كنت في بلاد الشّرق، والمسافة من بلاد الشّرق إلى هذا الجزء من العالم طويلة. فالسّفر شاقٌّ خاصّة بالنّسبة لي نظرًا لعلل جسمي الّتي تفاقمت جرّاء أربعين سنة في الحبس. فقواي الجسمانيّة واهنة، وما يعينني هو قوّة الإرادة. فتبيّنوا من هذا كم كان جهدي كبيرًا، وكم كان عزمي شديدًا لأنجز هذه الرّحلة بإرادة الله. وأدعو الله أن يجعلها سببًا لاستنارة عظيمة في بلاد الغرب.

إنّ نشر رسالة السّلام لا بدّ أن يكون متيسّرًا في عالم الغرب هذا لتميُّزِه بجوّه المنعش وقابليّاته للمعرفة ومُثُله العالية. فالنّاس هنا ليسوا متأثّرين كثيرًا بالتّقاليد والتّعصّبات، وعليهم أن يتوصّلوا إلى الحقيقة بواسطة إدراكهم لما هو حقيقيّ وما هو غير حقيقيّ. عليهم أن يكونوا سبّاقين في بذل الجهد لتأسيس وحدة الجنس البشريّ. فأيّ مهمّة أعظم من هذه؟ إذ ليس هناك من خدمة أعظم في ملكوت الله، كما أنّه في نظر الأنبياء، بمن فيهم السّيّد المسيح، ليس هناك من عمل أجدر منها بالإجلال.

مع ذلك، لا زالت الحروب سائدة حتّى وقتنا الحاضر. فقد دبّ الحسد ونشبت الكراهية بين الأمم. ولكن بما أنّني أجد الأمّة الأمريكيّة على قدرة عظيمة للعمل، وهذه الحكومة من أعدل حكومات الغرب، ومؤسّساتها تفوق غيرها، فأملي ورجائي أن يرتفع علم الوفاق العالميّ بادئ ذي بدء فوق هذه القارّة، وتخفق راية الصّلح الأعظم هنا، وأن يتّحد شعب أمريكا وحكومتها في جهودهم لكي يشرق هذا النّور من هذه البقعة وينتشر منها إلى كلّ الأصقاع، لأنّ هذا من أعظم مواهب الله. ولكي تتقدّم أمريكا لنيل هذه الفرصة، ألتمس منكم أن تبذلوا الجهد وتتلوا الدّعاء بالقلب والرّوح، مكرِّسين كلّ طاقاتكم لهذه الغاية: وهي أن يرتفع لواء السّلام العالميّ هنا، وتصبح هذه الدّيمقراطيّة سببًا لإيقاف الحروب في سائر البلاد الأخرى.

انظروا إلى ما يحدث في طرابلس: فالبشر يقطّعون بعضَهم أشلاءً، والقصف المدفعيّ يأتي من البحر، والهجوم من البرّ، وإسقاط الدّيناميت من كبد السّماء. والجيوش المتناحرة هناك كلّ منها متعطّش لدم الآخر. ولا يستوعب العقل كيف يمكنهم أن يفعلوا هذا. فلديهم آباء وأمهات وأطفال؛ إنّهم بشر. فماذا عن زوجاتهم وعائلاتهم؟ فكّروا في لوعتهم ومعاناتهم. ما أظلم هذا وما أفظعه! على البشر أن يمنعوا هذه الوحشيّة ويحظروها. وعلى أولئك الملوك والحكّام والرّؤساء أن يجهدوا لخير رعاياهم بدلاً من إهلاكهم. أي أنّ على هؤلاء الرّعاة أن يجمعوا خرافهم ويريحونهم، ويقدّموا لهم الطّعام بدلاً من قتلهم وذبحهم.

أبتهل إلى الملكوت الإلهيّ متوسّلاً أن تصبحوا أداة فاعلة في تأسيس الصّلح الأعظم في هذه الدّيار، وأن تعمل هذه الحكومة وهذه الأمّة على نشره إلى العالم بأكمله.

(11) 3 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بفندق بلازا، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته مرضيّة موسّ

طبقًا لقول الفلاسفة، فإنّ اختلاف الدّرجات بين بني البشر من أدناها إلى أعلاها راجع للتّربية. وما يقدّمه هؤلاء الفلاسفة من براهين هو أنّ مدنيّة أوروبّا وأمريكا هي دليل على التّربية ومحصّلتها، بينما الشّعوب نصف المتحضّرة والبربريّة في إفريقيا شاهدة بأحوالها على أنّها قد حرمت من مزايا التّربية. فالتّربية تجعل الجاهل حكيمًا، والطّاغية عادلاً، وتروّج الهناء، وتشحذ العقل، وتنمّي الإرادة، وتجعل أشجار الإنسانيّة غير المثمرة مثمرة. وطبقًا لهذا القول يكون البعض في العالم الإنسانيّ قد بلغوا درجات عالية، بينما يتخبّط الآخرون في وهدة اليأس. إلاّ أنّ أقصى ما يتمنّاه الإنسان متاح لكلّ عضو في الجنس البشريّ، بما في ذلك إمكانيّة بلوغ مقام الأنبياء. وهذه هي أقوال الفلاسفة وحججهم.

إنّ أنبياء الله هم المعلّمون الأُوَل الّذين ينعمون على الإنسان بالتّربية العموميّة الشّاملة ويرتقون به من أسفل دركات الوحشيّة إلى أعلى ذرى التّرقّي الرّوحيّ. والفلاسفة أيضًا معلّمون فيما يتعلّق بالتّعليم الذّهنيّ. وهم، على أكثر تقدير، قد أفلحوا فقط في تربية أنفسهم وتربية نفر قليل ممّن حولهم، وتحسين أخلاقهم، وتمدين أنفسهم إن جاز التّعبير؛ إلاّ أنّهم عجزوا عن تحقيق التّربية العموميّة، وأخفقوا في تحقيق تقدّم أيّ أمّة من الأمم وانتقالها من الوحشيّة إلى المدنيّة.

من الواضح أنّ التّربية، رغم كونها تُحَسِّن أخلاق البشر وتمنح مزايا المدنيّة وترفع الإنسان من الحضيض الأدنى إلى الأوج الأعلى، إلاّ أنّ هناك فارقًا في الاستعداد الموروث أو الفطريّ عند الأفراد. فعشرة أطفال من نفس العمر، ونفس النَّسَب، دارسون في نفس المدرسة، آكلون من نفس الطّعام، وخاضعون لنفس البيئة من كلّ النّواحي، ومتساوون ومشتركون في نفس المصالح، سيُظهرون قدرًا مختلفًا ومتباينًا من القابليّة والتّرقّي؛ فبعضهم سيصبح في غاية النّجابة والتّقدّم، والبعض سيظهرون كفاءة متوسّطة، والآخرون سيظهرون قدرة محدودة عاجزة. قد يصبح أحدهم أستاذًا متبحِّرًا، بينما قد يبرهن طفل آخر نال نفس المنهج التّعليميّ على أنّه ضئيل الذّكاء قليل الفهم. ورغم كون الفرص متساوية للكلّ من جميع النّواحي، إلاّ أنّ النّتائج والعواقب تتفاوت على سلّم التّرقّي من أعلى درجاته إلى أدناها. فمن الواضح إذًا أنّ البشر يختلفون في استعدادهم الفطريّ وموهبتهم الذّهنيّة الموروثة. ومع ذلك، رغم تفاوت الاستعداد، فكلّ عضو في النّوع الإنسانيّ قابل للتّربية.

كان يسوع المسيح مربّيًا للإنسانيّة، وكانت تعاليمه تدعو إلى محبّة الآخرين، وكان فيضه شاملاً للعموم. وربّى النّاس وعلّمهم بقوّة الرّوح القدس لا بالوسائل البشريّة، ذلك لأنّ قوّة البشر محدودة، بينما القوّة الرّبّانيّة غير محدودة وغير متناهية. تشهد على هذا أعمال المسيح وما أحدثه من تأثير. لقد كتب الطّبيب والفيلسوف الإغريقيّ جالينوس، الّذي عاش في القرن الثّاني الميلاديّ، بحثًا في ترقّي الأمم. لم يكن مسيحيًّا، ولكنّه شهد بأنّ العقائد الدّينيّة تُحدث أثرًا غير عاديّ في مسائل التّمدّن. وقال ما معناه ‘إنّ هناك شعبًا ما يعيش بين ظهرانينا، أتباع يسوع النّاصريّ، الّذي قتل في أورشليم، وهؤلاء النّاس متشرّبون فعلاً بمبادئ أخلاقيّة يغبطهم عليها الفلاسفة. فهم يؤمنون بالله ويخشونه، ويترجّون أفضاله؛ ولهذا فهم يتجنّبون كلّ ما هو غير لائق من الأعمال والتّصرّفات، ويميلون إلى السّلوك والأخلاق الحميدة، ويجهدون ليل نهار كي تكون أعمالهم مستحسنة، وأن يبذلوا الخير للبشر؛ ولهذا فكلّ واحد منهم فيلسوف بالفعل، لأنّ هؤلاء النّاس قد بلغوا جوهر الفلسفة وفحواها، ولديهم أخلاق حميدة، حتّى لو كانوا أمّيّين جهلة.’

القصد من هذا بيان أنّ المظاهر الإلهيّة المقدّسة، أي الأنبياء الرّبّانيّين، هم المعلّمون الأُوَل للجنس البشريّ. فهم المربّون الكلّيّون، والمبادئ الأساسيّة الّتي أرسوها هي بواعث ترقّي الأمم وأسبابها. بيد أنّ ما يتسلّل فيما بعد من طقوس وتقاليد لا يؤدّي لذلك التّقدّم. بل هي على العكس من ذلك هادمة لأسس الإنسانيّة الّتي أرساها المربّون الملكوتيّون. إنّها سحب تحجب شمس الحقيقة. فإذا ما تدبّرتم في تعاليم السّيّد المسيح الجوهريّة، ستتبيّنون أنّها كانت سببًا في نورانيّة هذا العالم. وليس بمقدور أحد أن يشكِّك في حقيقتها، فهي مصدر الحياة ذاتها وسبب سعادة بني الإنسان. فالتّقاليد والأوهام الّتي ظهرت فيما بعد وحجبت هذا النّور لم تَطَلْ أبدًا حقيقة السّيّد المسيح. فمثلاً، قال المسيح ضع سيفك في غمده بمعنى أنّ الحرب ممنوعة ومحرّمة، ولكن انظروا إلى الحروب المسيحيّة الّتي نشبت فيما بعد. فلم تترك العداوة المسيحيّة ومحاكمها التّفتيشيّة أحدًا لم تصل إليه حتّى العلماء؛ فمَنْ أعلن عن دوران الأرض زُجَّ به في السّجن، ومَن أعلن عن وجود نظام فلكيّ جديد عُذِّب تعذيب الزّنادقة؛ وصار الباحثون والعلماء هدفًا لبُغض أعمى، كما أُعدم الكثيرون منهم وعُذّبوا. فكيف تتطابق هذه الأفعال مع تعاليم يسوع المسيح، وأيّ صلة لها بقدوته الحسنة؟ ذلك لأنّ المسيح نادى: أحبّوا أعداءكم… وصلّوا لأجل الّذين يسيئون إليكم… لكي تكونوا أبناء أبيكم الّذي في السّموات. فهو يشرق شمسه على الأشرار والصّالحين، ويُمطر على الأبرار والظّالمين.– كيف تتماشى الكراهية والعداوة والاضطهاد مع السّيّد المسيح وتعاليمه؟

هناك إذًا حاجة للعودة لأسّ الأساس، فالمبادئ الجوهريّة الّتي جاء بها الأنبياء سليمة وصحيحة، أمّا التّقاليد والأوهام الدّخيلة فإنّها تختلف اختلافًا شاسعًا عن التّعاليم والوصايا الأصليّة. ولقد نادى حضرة بهاء الله من جديد بجوهر تعاليم كافّة الأنبياء، وأعاد بنيانها، طارحًا البدع جانبًا ومخلّصًا الدّين من شوائب تفاسير البشر. وأنزل كتابًا اسمه الكلمات المكنونة، وقد جاء في مقدّمة هذا الكتاب أنّه أخذ جواهر ما نُزِّل على النّبيّين من قبل، وأقمصه قميص الاختصار من أجل تربية أهل العالم وهدايتهم. فاقرأوه لتعرفوا منه أسس الدّين الحقّة، وتتدبّروا في الهداية الّتي جاءتنا على يد رسل الله. فهي نور على نور.

لا يجمل بنا أن نبحث عن الحقيقة في أعمال الأمم أو في تصرّفاتها، بل علينا أن نبحث عن الحقيقة في أصلها الرّبّانيّ، وندعو البشر إلى الوحدة الماثلة في الحقيقة نفسها.

(12) 4 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في المجمع الثيوصوفي،
بقاعة جامعة نورث ويسترن، إيفانستون، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته مرضيـّة موسّ

إنّني في غاية السّرور بحضوري هذا المجلس. الحمد لله! أرى أمامي وجوه أولئك الّذين وُهبوا القدرة والاستعداد للمعرفة، ولديهم الرّغبة في تحرّي الحقيقة. وهذا مثار فرحي العظيم.

طبقًا للفلسفة الرّبّانيّة، هناك حالتان مهمّتان كلّيّتان في عالم الظّواهر المادّيّة: إحداهما تتعلّق بالحياة، والأخرى بالممات؛ أولاهما مختصّة بالوجود، والأخرى بالعدم؛ إحداهما تتجلّى في التّركيب، والأخرى تظهر بالتّحلّل. البعض يعرّفون الوجود بأنّه تعبير عن الحقيقة أو الكينونة، والعدم هو انعدام الوجود في تخيُّلٍ منهم بأنّ الموت فناء. وهذه فكرة خاطئة، إذ إنّ الفناء التّامّ مستحيل. وأقصى ما هنالك، إنّ التّركيب دائمًا ما يخضع للتفكّك أو التّحلّل – بمعنى أنّ الوجود يقتضي تجمّع عناصر مادّيّة فتصبح شكلاً أو جسدًا، والعدم هو مجرد تفكّك هذه التّجمّعات. وهذا هو قانون الخليقة بما فيه من أشكال غير متناهية وتنوّع لا نهاية له في الهيئة. والكائن المركّب المسمّى بالإنسان قد تركّب من عناصر معيّنة. وهذا التّجمّع المركّب للعناصر على هيئة جسم آدميّ هو إذًا خاضع للتّحلُّل، الّذي نسمّيه الموت، إلاّ أنّه بعد التّحلّل تبقى العناصر نفسها كما هي دون تغيير. فالفناء التّامّ إذًا يكون أمرًا مستحيلاً، ولا يؤول الوجود أبدًا إلى العدم، وإلاّ يكون هذا الرّأي مساويًا للقول بأنّ النّور من الممكن أن يصير ظلامًا، وهو أمر واضح البطلان والاستحالة. فكما أنّه من المحال على الوجود أن يصير عدمًا، فلا فناء إذًا للإنسان؛ إذ هو على العكس من ذلك خالدٌ وحيّ إلى الأبد. والبرهان العقليّ على هذا هو أنّ ذرّات العناصر المادّيّة يمكن تحوّلها من شكل وجوديّ إلى آخر، ومن رتبة ومملكة إلى أخرى، سواء أكانت أدنى أو أعلى. فمثلاً، بمقدور ذرّة من التّربة أو من غبار الأرض أن تمرّ عبر ممالك الوجود منتقلة من مملكة الجماد إلى مملكة الإنسان عن طريق الاندماج المتعاقب في أجساد كائنات من تلك الممالك. فهي تارة على هيئة الجماد أو الحجر، ثمّ تمتصّها مملكة النّبات وتصير جزءًا من جذع شجرة وأليافها، ثمّ تعاد الكرّة مرّة أخرى بأن يلتهمها الحيوان ويهضمها، وبعد برهة نجدها في جسم الإنسان. وفي جميع مراتب هذا التّجوال بين الممالك، والانتقال من ظاهرة حياتيّة إلى أخرى، تحتفظ بوجودها الذّرّيّ ولا يصيبها الفناء أو يؤول بها الحال إلى التّلاشي والزّوال أبدًا.

فالعدم إذًا تعبير يطلق على تغيّر الهيئة، ولكنّه تغيّر لا يصحّ اعتباره فناء على الإطلاق، لأنّ عناصر التّكوين تظلّ حاضرة وموجودة وسليمة دائمًا وأبدًا كما رأينا في رحلة الذّرّة عبر الممالك المتتابعة؛ فليس هناك موت إذًا، وتبقى الحياة أبديّة مستمرّة. أو بتعبير آخر، عندما دخلت هذه الذّرّة في تركيب الشّجرة، ماتت عن مملكة الجماد، وعندما التهمها الحيوان، ماتت عن مملكة النّبات، وهكذا حتّى انتقلت أو تحوّلت إلى مملكة الإنسان؛ ولكنّها في انتقالها خضعت للتّحوّل لا للفناء. فالموت إذًا هو ما ينطبق على التّحول أو الانتقال من رتبة أو حالة إلى أخرى. ففي عالم الجماد كانت على هيئة روح وجوديّة، وفي عالم الحياة النّباتيّة وكائناتها ظهرت على هيئة روح نباتيّة، ومن هناك بلغت الرّوح الحيوانيّة، إلى أن قصدت الرّوح الإنسانيّة في نهاية المطاف. فهذه درجات وتحوّلات وليست محوًا وزوالاً، وفي هذا دليل عقليّ على أنّ الإنسان خالد وباق. فالموت إذًا مجرّد تعبير نسبيّ يعني التّحويل والتّغيير، كأن نقول مثلاً إنّ هذا النّور الماثل أمامي، بظهوره مرّة أخرى في مصباح كهربائيّ آخر، قد مات في المصباح الأوّل وهو حيُّ في المصباح الثّانيّ. إنّ قولنا هذا لا يعني الموت الحقيقيّ، فكمالات الجماد تنتقل إلى النّبات، ومن ثمّ إلى الحيوان، لتبلغ الخواص دومًا الدّرجة المثلى في سلّم التّحوّل إلى الأرقى. ونجد في كلّ مملكة نفس الخواص متجلّية بكيفيّة أكمل، ممّا يثبت أنّ الكينونة قد تحوّلت من شكلٍ وعالمِ وجودٍ أدنى إلى ما يعلوه. فالعدم إذًا يكون نسبيًّا، أمّا الفناء المطلق فهو أمر مستحيل. إنّ هذه الوردة الّتي أمسكها بيدي سوف تتحلّل ويفسد نسقها، إلاّ أنّ عناصر تركيبها تبقى دون تغيير، ولن يعتري سلامة عناصرها أيّ شيء. فالعناصر هذه لن تفنى بل ستتحوّل فقط من حالة إلى أخرى.

الإنسان يخشى الموت بسبب جهله، ولكنّ الموت الّذي يجفل منه ما هو إلاّ وهم لا حقيقة له على الإطلاق؛ فهو مجرّد وهم من أوهام البشر.

لقد نفخ فضل الله وعنايته في عالم الوجود حياةً وكينونةً. وليس في الوجود تغيّر أو تحوّل، فالوجود هو الوجود دائمًا وأبدًا، ولا يؤول إلى العدم إطلاقًا. والموضوع لا يعدو تسلسلاً متدرِّجًا، والدّرجة الأدنى تعدّ عدمًا بالنّسبة للأعلى. فهذا التّراب الّذي تطأه أقدامنا هو عدم بالمقارنة إلى كينونتنا البشريّة. وعندما يتحلّل جسد الإنسان إلى تراب يمكننا أن نقول إنّه قد صار عدمًا، فترابه إذًا، بالمقارنة بأطوار الكائن البشريّ أثناء حياته يكون عدمًا، بيد أنّ التّراب في مجاله ورتبته ليس عدمًا، إذ إنّ له وجود جماديّ. فالمحقّق الثّابت إذًا أنّ العدم المطلق محال، وهو لا يخرج عن كونه أمرًا نسبيًّا.

المراد من هذا إنّ عطيّة الله الباقية الممنوحة للإنسان لا يعتريها العطب أبدًا. وبما أنّ الله أنعم على العالم الظّـاهريّ بالوجود، فمن المستحيل على هذا العالم أن يصير عدمًا، فهو عين الصّنع الرّبّانيّ، وهو عالم البدء والنّشأة، وهو عالم حقيقيّ وليس عالمًا افتراضيًّا، وما يهبط عليه من النّعم مستمرّ ودائم. فالإنسان الّذي هو أسمى مخلوقات العالم الحادث – قد اختُصّ إذًا بتلك العطيّة الدّائمة الّتي يفيض بها الكرَم الإلهيّ بغير انقطاع. فأشعّة الشّمس مثلاً مستمرّة، وتنبعث منها الحرارة بغير توقّف، ولا يُتَصوّر لها انقطاع. وعلى نفس المنوال فإنّ عطاء الله هو الآخر ينزل على عالم البشر دومًا دون انقطاع إلى الأبد. فلو قلنا إنّ عطيّة الوجود تتوقّف أو تتعطّل، فهذا مساو للقول بأنّ الشّمس يمكنها البقاء مع توقّف إشراقها. فهل هذا جائز؟ فإشراقات الوجود إذًا دائمة ومستمرّة.

إنّ لمفهوم الفناء يدٌ في انحطاط الإنسان، وهو علّة ذلّته ودنوّه، ومنشأُ خوفه وتعاسته. وهو مفضٍ إلى تشتُّت الفكر الإنسانيّ ووهنه، بينما مفهوم الوجود والاستمراريّة قد سما بالإنسان إلى المُثُل العليا، وأرسى قواعد التّقدّم البشريّ، وحفَزَ رقيّ الفضائل الملكوتيّة؛ فعلى الإنسان إذًا أن يتخلّى عن أفكار العدم والموت، الّتي هي خيال محض، وأن يرى نفسه حيًّا دائمًا، خالدًا في المقصد الرّبّانيّ من وجوده. وعليه أن يُعرِض عن الأفكار الّتي تتدنّى بالرّوح الإنسانيّ، حتّى يعلو ويسمو يومًا فيومًا وساعة بعد ساعة نحو المفهوم الرّوحيّ المتعلّق بدوام الحقيقة الإنسانيّة. أمّا إذا انشغل بأفكار الفناء والعدم، سيصبح عاجزًا بالكلّيّة، وسيقلّ تطلّعه إلى التّقدّم بسبب وَهَنِ الإرادة، ويتوقّف اكتسابه للفضائل الإنسانيّة.

فلتشكروا الله أنّه حباكم بنعمة الحياة والوجود في عالم الإنسان. واجهدوا بهمّة لنيل الفضائل الّتي تليق برتبتكم ومقامكم. كونوا أنوار العالم الّتي لا تُحجَب ولا تغيب في آفاق الظّلام. واصعدوا إلى أوجِ وجودٍ لا تحجبه سحب الخوف والتّوجُّس من العدم. وعندما يحرم الإنسان من البصيرة، فإنّه يجهل هذه الأسرار الجوهريّة. وعلى الرّغم من أنّ شبكيّة العين الظّاهريّة حسّاسة ورقيقة، إلاّ أنّها قد تقف عائقا للبصيرة الّتي لها قدرة على الإدراك دون سواها. والمواهب الإلهيّة الّتي تتجلّى في كلّ الحياة الظّاهريّة تكون في بعض الأحيان مختفية من جرّاء تدخّل حجبات الرّؤية العضويّة والعقليّة الّتي تجعل الإنسان أعمى وعاجزًا من النّاحية الرّوحيّة، بيد أنّه عندما تُزال هذه الأغشية، وتُشَقّ تلك الحجبات، عندئذ تلوح آيات الله الباهرات، ويشاهِد الإنسانُ النّورَ الأزليّ يملأ العالم، والمواهب الإلهيّة بأجمعها لائحة في كلّ حين، ووعود الملكوت باقية دائمًا وأبدًا، والنّعم الإلهيّة سابغة على الجميع. ولكن إذا ما ظلّت بصيرة روح الإنسان الواعية محتجبة ومظلمة، سيفضي به الحال إلى إنكار هذه الآيات الباهرات، ويبقى محرومًا من تجلّيات العناية الرّبّانيّة هذه. فعلينا إذًا أن نجهد بالوجدان والرّوح حتّى ينقشع حجاب البصيرة، فنرى بها تجلّيات الآيات الرّبّانيّة، وندرك الأفضال الإلهيّة الغيبيّة، وندرك أنّ النّعم المادّيّة مقارنةً بالمواهب الرّوحيّة ما هي إلاّ هباء. فالنّعم الرّوحيّة الرّبّانيّة أعظم. وعلى الرّغم من أنّنا نعمنا عندما كنّا في مملكة الجماد ببعض المواهب والقوى، إلاّ أنّها مواهب وقدرات لا تقارن بما نلناه من نِعَمِ في مملكة الإنسان. وعندما كنّا في رحم الأم تلقّينا مواهبَ ونِعَمًا ربانيّة، إلاّ أنّها كانت كالعدم مقارنةً بالقوى والأفضال الّتي أُسبِغت علينا بعد ولادتنا إلى هذا العالم البشريّ. وعلى نفس المنوال، إذا ما ولدنا من رحم هذا المحيط النّاسوتيّ الحادث إلى رحبة الحياة والبصيرة الرّوحيّة وسموّها، سوف ندرك أنّ هذا الوجود المادّيّ ونعمه لا تساوي شيئًا بالمقارنة.

إنّ الفيوضات الرّبّانيّة في عالم الرّوح لا تتناهى، لأنّه عالم منزّه عن الانفصال والتّحلّل الّذي يميّز عالم الوجود النّاسوتيّ. فالوجود الرّوحانيّ خلود محض وكمال صرف، وكيان لا يعتريه أيّ تغيير أو تبديل. فعلينا إذًا أن نشكر الله أنّه قد قدّر لنا كلاًّ من النّعم المادّيّة والمواهب الرّوحيّة. فقد وهبنا عطايا مادّيّة وأفضالاً روحيّة، إذ أنعم علينا ببصر ظاهريّ لنرى به ضوء الشّمس، وبصيرة باطنيّة لندرك بها المجد الرّبّانيّ. كما خصّ الأذن الظّاهريّة للتّمتـّع بالأنغام، والسّمع الوجدانيّ لنصغي به إلى نداء خالقنا. وعلينا أن نجهد بمجامع قلوبنا وأرواحنا وعقولنا لأن نـُظهِر الكمالات والفضائل الكامنة في حقائق العالم التّرابيّ ونرقى بها، لأنّ الحقيقة الإنسانيّة كالبذرة، فإذا ما غرسنا البذرة تنبت منها دوحة باسقة، وتتجلّى في الدّوحة صفات البذرة، فتنبت وتورق وتزهر وتثمر. وكلّها مناقب كانت مكنونة وكامنة في البذرة، ثمّ ظهرت في الوجود بنعمة وفضل الفلاحة والعناية. وبالمثل، فإنّ الله الرّحمن، خالقنا، قد أودع في الحقائق الإنسانيّة فضائلَ كامنة ممكنة. وبالتّربية والتّهذيب تظهر هذه الفضائل الّتي أودعها الرّبّ الحنون جليّة في حقيقة الإنسان، تمامًا مثل تفتّق الشّجرة من البذرة النّابتة. وسأتلو الآن دعاء من أجلكم:

يا ربّي الرّؤوف، هؤلاء عبادك الّذين اجتمعوا في هذا المحفل، متوجّهين إلى ملكوتك وسائلين فيضك ونعماءك. أي ربّ، أظهر آيات وحدانيّتك المودعة في حقائق الحياة، واكشف الفضائل الّتي أودعتها وسترتها في هذه الحقائق الإنسانيّة.

أي ربّ، نحن غراسٌ وفيضك هو الغيث؛ فأنعش هذه الغراس ونمِّها بموهبتك. ونحن عبادك، خلّصنا من قيود الحياة المادّيّة. ونحن جهلاء اجعلنا حكماء، وأموات اجعلنا أحياء، ومادّيّون امنحنا روحًا، ومحرومون آنسنا بأسرارك، ومُعْوِزون أغننا وأنعم علينا من خزائنك الّتي لا تتناهى. أي ربّ أنلنا الحياة، وهب لنا بصرًا، وامنحنا سمعًا، وعلّمنا أسرار الحياة، حتّى تتجلّى أسرار ملكوتك علينا في عالم الوجود هذا، ونعترف بوحدانيتك. منك العطاء، ولك النّعماء.

إنّك أنت القدير، إنّك أنت القويّ، إنّك أنت المعطي، وإنّك أنت الفضّال.

(13) 5 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في لقاء مع الأطفال،
بفندق بلازا، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته مرضيّة موسّ

أنتم الأطفال الّذين قال عنهم السّيّد المسيح لمثل هؤلاء ملكوت الله، وطبقًا لكلمات حضرة بهاء الله أنتم في الحقيقة مصابيح عالم الإنسانيّة وشموعه، لأنّ قلوبكم في غاية الطّهارة وأرواحكم في غاية الرّقّة. فأنتم قرب النّبع ولم تتلوّثوا بعد. أنتم حملان الرّاعي السّماويّ، وأنتم كالمرايا الصّافية تعكسون نورًا خالصًا. أملي أن يربّيكم أباؤكم وأمّهاتكم تربية روحانيّة، ويوفّروا لكم تربية أخلاقيّة شاملة. عسى أن تترقّوا فيصبح كلّ واحد منكم متشرّبًا بجميع فضائل العالم الإنسانيّ، وأن تتقدّموا في كافّة المراتب المادّيّة والرّوحيّة، وأن تصبحوا متبحّرين في العلوم، وتنالوا درجة في الفنون والصّنائع، وتثبتوا أنّكم أعضاء نافعين في المجتمع البشريّ، وتساعدوا في تقدّم المدنيّة الإنسانيّة. وأرجو أن تكونوا سببًا في ظهور المواهب الإلهيّة – ويكون كلّ واحد منكم نجمًا درّيًّا يسطع بنور وحدة البشريّة في آفاق الشّرق والغرب. وأن تكونوا مخلصين لمحبّة الجنس البشريّ واتّحاده، وأن تجد الحقيقة المودعة في فؤاد الإنسان تجلّيها الرّبّانيّ بفضل جهودكم. وأدعو لكم ملتمسًا العناية والتّأييد الإلهيّ.

كلّكم أبنائي، أبنائي الرّوحانيّون. وأبناء الرّوح أعزّ من أبناء الجسد، إذ إنّ أبناء الجسد قد يُعرِضون عن الرّوح الإلهي، ولكنّكم أبناء بالرّوح، لذا فأنتم أكثر معزّة. أرجو لكم التّقدّم في كلّ درجات الرّقيّ، وأن يؤيّدكم الله ويحيطكم بلحاظ أنوار وجهه، وتبلغون أَشُدَّكُم تحت رعايته وحمايته. فأنتم مباركون.

(ثمّ خاطب عبد البهاء الأحبّاء قائلاً)

إنّني ذاهب، ولكن عليكم أن تنهضوا لخدمة كلمة الله. عليكم بطهارة القلب وخلوص النّيّة حتّى تستفيضوا من الفيوضات الإلهيّة. لاحظوا أنّه بالرّغم من سطوع الشّمس على جميع الأشياء بدرجة واحدة، إلاّ أنّ انعكاسها في المرآة الصّافية أشدّ لمعانًا، على خلاف الحال في انعكاسها على الصّخرة السّوداء. وهذا الإشراق والحرارة الشّديدان هما بفعل الصّفاء البلوريّ للزّجاج. وما لم يتوفّر الصّفاء والنّقاء فلن تظهر هذه التّأثيرات. وإذا هطل المطر على الأرض الصّخريّة المالحة فلن يكون له تأثير، أمّا إذا نزل على أرض طيّبة طاهرة، فإنّها ستصبح خضلة نضرة وتؤتى ثمارها.

هذا يوم تأخذ فيه القلوب الطّاهرة نصيبًا من الفيوضات الأبديّة وتتنوَّر النّفوس الزّكيّة من التّجلّيات الأزليّة. الحمد لله! إنّكم مؤمنون بالله، ومطمئنّون بكلمات الله، ومتوجّهون إلى ملكوت الله، وسمعتم النّداء الإلهيّ، واهتزّت قلوبكم بنسائم جنّة الأبهى. فمقاصدكم حميدة، ومرادكم رضاء الله، وأملكم خدمة ملكوت الرّحمن. فانهضوا إذًا بعزم مكين، وكونوا في كمال الاتّحاد. فلا يغضب أحدكم من أحدٍ أبدًا. ولتكن عيونكم ناظرة إلى ملكوت الحقّ لا إلى عالم الخلق. أحبّوا الخلائق لوجه الله لا من أجل أنفسهم. فإذا ما أحببتم الخلائق لوجه الله فلن تغضبوا ولن يَعيل صبرُكم. البشريّة ليست كاملة، فهناك قصور في كلّ كائن بشريّ، وستحزنون دومًا إذا ما نظرتم إلى النّاس أنفسهم. أمّا إذا توجّهتم إلى الله، فسوف تحبوّنهم وتترفّقون بهم، لأنّ عالم الله هو عالم الكمال والرّحمة التّامّة. فلا تنظروا إذًا إلى عيوب أحد، بل انظروا بعين المغفرة. فالعين النّاقصة ترى العيوب، أمّا العين السّاترة فتنظر إلى خالق النّفوس. وهو الّذي خلقهم وربّاهم ورزقهم وأنعم عليهم بالاستعداد والحياة، والبصر والسّمع، فهم إذًا آيات عظمته. عليكم بالمحبّة والشّفقة نحو الجميع، راعوا الفقير، واحموا الضّعيف، وابرئوا العليل، وعلـّموا الجاهل وربّوه.

رجائي أن تكون وحدة الأحبّاء في شيكاغو واتّفاقهم سببًا لاتّحاد الأحبّاء في كافّة أنحاء أمريكا، وأن يكون لكلّ النّاس نصيبٌ من محبّتهم وعطفهم. عسى أن يكونوا مثالاً يحتذي به البشر. عندئذ تحيط تأييداتُ الملكوت الأبهى وعناياتُ شمس الحقيقة كلَّ الآفاق.

(14) 5 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بكنيسة أبرشيّة بلايموث،
935 شرق الشّارع الخمسين، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته مرضيّة موسّ

أرفع أيادي الشّكر إلى الله على نعمة وجودي في محفل يذكُرُ الباري عزّ وجلّ، محفل ليس لأعضائه فكر أو قصد سوى رضائه والتّحرّي عن الحقيقة بإنصاف. وأحمد الله على لقائي بهذه الأرواح الإنسانيّة المتحرّرة من قيود التّقاليد والتّعصّب، العازمة على البحث العقلانيّ، وقبول ما يتبيّن أنّه حقيقة.

إنّ مركز الضّياء في مجموعتنا الشّمسيّة هو الشّمس ذاتها. وبمشيئة الله وإرادته فإنّ هذا النّيّر المركزيّ هو المصدر الوحيد للوجود ولترقّي كافّة الأشياء الحادثة. فعندما نتأمّل في كائنات الممالك المادّيّة نجد أنّ نمّوها وتربيتها يعتمدان على حرارة الشّمس وضيائها. وبغير هذا التّدفّق الواهب للحياة لا يكون هناك نموّ لشجر أو نبات، ولا يكون هناك أيّ وجود حيوانيّ أو إنسانيّ؛ بل لن يظهر في الحقيقة أيّ شكل من أشكال الحياة المُحدَثة على الغبراء. بيد أنّنا لو تفكّرنا بعمق لأدركنا أنّ الواهب الأعظم للحياة هو الله؛ فما الشّمس إلاّ واسطة لمشيئته تعالى وغايته. فلولا هذه الموهبة الّتي هي الشّمس لبقي العالم في ظلام. فكلّ نور يضيء مجموعة كواكبنا يصدر أو ينبعث من مركزها الشّمسيّ.

كذلك لا بدّ أن يكون في عالم الرّوح – حيث الإدراك والمثاليّة – مركزٌ للإنوار، وذلك المركز هو الشّمس الرّبّانيّة السّرمديّة المشرقة دائمًا – أي كلمة الله. فأنوارها هي أنوار الحقيقة السّاطعة على البشريّة، منيرة لعالم الفكر والأخلاق، سابغةً نِعم الملكوت الرّبّانيّ على الإنسان. وهذه الأنوار هي علّة تربية النّفوس ومصدر لاستنارة القلوب، وهي الّتي تحمل بإشراقها السّاطع بشارات الملكوت الإلهيّ. وبالاختصار، فإنّ عالم الأخلاق والفضائل وعالم تجدّد الأرواح يعتمدان في ترقّيهما الوجوديّ على مركز الضّياء الملكوتيّ هذا، فهو يفيض بأنوار الدّيانة ويمنح الحياة الرّوحانيّة، ويُسبغ على البشريّة من الفضائل الجوهريّة، وينعم عليها بالسّنايا السّرمديّة. فشمس الحقيقة – أي مركز الإشراقات هذا – هو النّبيّ أو المظهر الإلهيّ. فتمامًا كما تسطع الشّمس الظّاهرة على عالم النّاسوت مانحة الحياة والنّماء، تضفي الشّمس الرّوحانيّة أو الرّسوليّة أيضًا ضياءها على عالم الفكر والعقل الإنسانيّ، وما لم تُشرق على أفق الوجود الإنسانيّ تبقى مملكة الإنسان مظلمة خامدة.

إنّ شمس الحقيقة شمس واحدة، غير أنّ لها مشارق مختلفة، تمامًا كما الشّمس الظّاهرة هي شمس واحدة رغم أنّها تظهر من نقاط مختلفة في الأفق. ففي فصل الصّيف تشرق أنوار شمس عالم النّاسوت من شمال خطّ الاعتدال، وتطلع في الرّبيع والخريف من منتصفه، وتظهر في الشّتاء من أقصى نقطة في جنوب رحلتها البروجيّة. وتتفاوت هذه المطالع أو المشارق تفاوتًا كبيرًا، ولكن تبقى الشّمسُ ذاتَ الشّمس دائمًا وأبدًا – أكانت هي النّيِّر الظّاهريّ أو الرّوحانيّ. ومن يركّزون أنظارهم على شمس الحقيقة يظلّون متلقّين للضّياء من أيّ نقطة أشرقت، أمّا أولئك المكبّلون بعبادة المشارق فهم محرومون إذا ما لاحت لهم من مقام مختلف فوق الأفق الرّوحانيّ.

فضلاً عن هذا، فكما أنّ للدّورة الشّمسيّة فصول أربعة، يكون لدورة شمس الحقيقة فتراتها المتميّزة المتتابعة. وتأتي كلّ منهما بفصلها الاعتداليّ أو بموسمها الرّبيعيّ. فعندما تعود شمس الحقيقة من جديد لإحياء عالم البشر، تهبط العناية الرّبّانيّة من أفق الفضل والعطاء،
فتهتزّ مملكة الأفكار والمُثُل وتنعم بحياة جديدة، وتترقّى العقول وتتنوّر الآمال وتصير المقاصد روحانيّة، وتلوح فضائل العالم الإنسانيّ بقوّة نماء متجدّدة، وتتجلّى صورة الله ومثاله في الإنسان. فهو فصل ربيع العالم المعنويّ. ثمّ يأتي الصّيف بعد الرّبيع بكماله وثماره الرّوحيّة، ويليه الخريف برياحه العقيمة الّتي تبعث بالبرودة في النّفوس؛ وتبدو الشّمس وكأنّها ذاهبة، إلى أن ترخي عباءة الشّتاء سدولها، ولا يبقى سوى بصيص من إشراق الشّمس الرّبّانيّة. وكما يصير سطح الغبراء مظلمًا كئيبًا، والأرض هامدة، والأشجار خالية عارية، ولا يبقى شيء من جمال أو طراوة ليبدّد وحشة الظّلمة والشّقاء، كذلك يشهد شتاء دورة الرّوح موت النّماء الرّبّانيّ وزواله، وانطفاء النّور والمحبّة الإلهيّين. بيد أنّ الدّورة تعود من جديد ويأتي ربيع جديد. وفيه يرجع الرّبيع الماضي، وينتعش العالم ويتنوّر وينال الرّوحانيّة؛ ويجدّد الدّين وينصلح، وتتوجّه الأفئدة إلى الله، ويصغي النّاس إلى النّصائح الإلهيّة، وينعم على الإنسان بحياة جديدة. لقد ضعف عالم الدّين وتقدّمت عليه المادّيّات منذ زمن طويل، ووهنت قوى الحياة الرّوحيّة، وتدنّت الأخلاق، وتلاشت الطّمأنينة والسّلام من النّفوس، وتسيَّدت الصّفات الشّيطانيّة على القلوب، وخيّمت الشّحناء والبغضاء على البشريّة، وانتصر سفك الدّماء والعنف. لقد انصرف النّاس عن الله، وبدت شمس الحقيقة وكأنّها غابت بالكلّيّة؛ وصار حرمان الفرد من الفضائل السّماويّة حقيقة واقعة، بذلك خيّم فصل الشّتاء على البشر. ولكنّ ربيعًا جديدًا قد بزغ الآن بفضل الله، وأشرقت الأنوار الرّبّانيّة، وعادت ولاحت شمس الحقيقة المشرقة، وانتعش عالم الأفكار وملكوت الأفئدة، ونُفخت روح جديدة في جسد العالم، وأصبح التّرقّي الدّائم واضحًا جليًّا.

أرجو أن تضيء أنوار شمس الحقيقة كلّ العالم فلا يبقى هناك نزال وحرب، ومعارك وسفك دماء. ويصبح التّعصّب والتّحزّب الدّينيّ طيّ النّسيان، وتدخل البشريّة جمعاء في رباط من الألفة، وتتعاشر النّفوس بكمال الائتلاف، وترفع أمم الأرض في النّهاية علم الحقيقة، وتدخل أديان العالم في هيكل الوحدة الإلهيّ، حيث إنّ أساس الأديان الإلهيّة ما هو إلاّ حقيقة واحدة. والحقيقة لا تقبل التّجزُّء؛ ولا تعرف التّعدّد. كما أنّ كافة المظاهر الإلهيّة القدسيّة قد نادوا بنفس الحقيقة وروّجوا لها. ودعوا النّاس إلى الحقيقة ذاتها، فالحقيقة واحدة. بيد أنّ سحب التّقاليد وغيومها قد حجبت شمس الحقيقة. علينا أن نتخلّى عن هذه التّقاليد، ونبدّد هذه السّحب والغيوم ونحرّر الشّمس من ظلام الوهم. عندئذ تسطع شمس الحقيقة بأشدّ إشراق، ويتَّحد أهل العالم، وتصبح الأديان واحدة، ويصلح الحال بين الملل والطّوائف، وتلتقي كافّة القوميّات في الاعتراف بأبوّة سماويّة واحدة، وتجتمع كافّة طبقات البشر تحت خباء واحد، مستظلّين براية واحدة.

ما لم تتأسّس المدنيّة السّماويّة لن تكون هناك نتيجة ترجى من المدنيّة المادّيّة تمامًا كما تشاهدونه الآن. انظروا كم من مصائب حلّت بالبشر. تأمّلوا في الحروب الّتي تقُضُّ مضجع العالم. انظروا العداوة والبغضاء. فوجود هذه الحروب والأهوال دليل وبرهان على أنّ المدنيّة السّماويّة لم تتأسّس بعد. أمّا إذا انتشرت المدنيّة الملكوتيّة بين الأمم، فسينقشع غبار الاختلاف هذا، وتتبدّد هذه الغيوم، وتسطع شمس الحقيقة على بني الإنسان بأعظم مجد وإشراق.

اللّهمّ يا واهب العطاء، إنّ هؤلاء الجمع متوجّهون إليك، شاخصة أبصارُهم إلى ملكوتك وفضلك، توّاقون إلى رؤية أنوار وجهك. أي ربّ، بارك هذه الأمّة وأيّد حكومتها واكشف سناءك لهذا الشّعب، وهبه حياة أبديّة. أي ربّ، نَوّر الوجوه وأنر القلوب واشرح الصّدور وتوّج الرّؤوس بإكليل موهبتك وأصعدهم إلى هوائك الصّافي حتّى يبلغوا أوج سنائك. وأعنهم على أن ينال هذا العالم فيض إشراق وصالك في كلّ آن. أي ربّ احفظ هذا الجمع ووقّر هذه الأمّة واجعلهم سباقين في كلّ الدّرجات، ليكونوا أئمة في عالم الإنسان وقدوتك بين الأنام ومظاهر فضلك، ممتلئين بإلهام كلمتك، إنّك أنت القويّ، إنّك أنت المقتدر، إنّك أنت المعطي، وإنّك أنت العليم.

(15) 5 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بكنيسة كلّ النّفوس، بمركز لينكولن،
شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته مرضيّة موسّ

لقد تأسّست الأديان الإلهيّة من أجل توحيد البشريّة وإرساء قواعد الصّلح العموميّ. وكلّ حركة تجلب السّلام والوئام إلى المجتمع الإنسانيّ هي حقًّا حركة إلهيّة، وكلّ إصلاح يكون علّة جمع النّاس تحت خباء واحد، إنّما تحرّكه في حقيقة الأمر دوافع سماويّة. في كلّ أوان وكلّ عصر في العالم كان الدّين عاملاً على جمع قلوب البشر معًا، وتوحيد ما كان مختلفًا من المذاهب. فعنصر السّلام في الدّين هو الّذي يؤلِّف بين قلوب بني البشر ويمهِّد الطّريق إلى الوحدة، أمّا الحرب فدائمًا ما كانت سببًا للشّقاق والخلاف والنّزاع.

انظروا كيف وحّد يسوع المسيح ما بين أمم وملل وطوائف العصور الأولى المتفرّقة. فمن الواضح أنّ أصول الأديان ترمي إلى الوحدة والائتلاف، ومرادها هو الصّلح العموميّ الدّائم. وفي الأيّام الّتي سبقت مجيء يسوع المسيح وحّدت كلمة الله طوائفَ متضادّة وعناصرَ متنافرة من المجتمع الإنسانيّ، ومن بعد مجيئه كان هذا المقصد العالميُّ مرامَ المعلّمين الإلهيّين الّذين روّجوا جوهر أساس النّاموس الإلهيّ. ففي إيران، تمكّن حضرة بهاء الله من توحيد أناس ذوي أفكار وعقائد ومذاهب متنوّعة. فأهل تلك الدّيار هم من المسيحيّين والمسلمين واليهود والزّرادشتيّين، ومن فرق ونحل متشعّبة، أضف إليها أعراقًا متباينة كالسّاميّة، والعربيّة، والفارسيّة، والتّركيّة، وغيرها؛ إلاّ أنّ حضرة بهاء الله، وبفضل قوّة الدّين وفاعليته، وحّد هؤلاء الأقوام المختلفة وجعلهم يتعاشرون معًا بكامل الوئام، وصار هذ الاتّحاد والاتّفاق متجلّيًا بينهم حتّى إنّهم أصبحوا يعدّون شعبًا واحدًا ونوعًا واحدًا.

يكمن سبب هذا التّآلف والوحدة في أنّ للشّريعة الرّبّانيّة جانبيْن أو وظيفتين متميّزتين: الأوّل هو الجوهريّ أو الأساسيّ، والثّاني هو المادّيّ أو العرضيّ. فأوّل جانب للدّين المنزل من عند الله هو ذلك الّذي يتعلّق بترقية الأخلاق والتّقدّم الرّوحيّ للبشر، وإيقاظ القابليّات الكامنة في الانسان، ونزول الفيوضات الإلهيّة. وهذه الأحكام ثابتة، وجوهريّة، ودائمة. أمّا الجانب الثّانيّ للدّين الإلهيّ فهو متعلّق بالأحوال المادّيّة، وقوانين المعاملات البشريّة، والنّظام الاجتماعيّ. وهذه عرضة للتّبديل والتّحويل بحسب الزّمان والمكان والظّروف. فالأحكام الجوهريّة للدّين كانت هي نفسها في زمن إبراهيم وكذلك في أيّام موسى ودورة عيسى، في حين أنّ الشّرائع العرضيّة أو المادّيّة كانت تُنسخ أو تُبدّل طبقًا لمقتضيات ومتطلّبات كلّ عصر تالٍ. فمثلاً، كان في شريعة موسى عشرة أحكام مختلفة بالقتل قد نزلت بحسب احتياج النّاس واستعدادهم، أمّا في زمن المسيح فقد نـُسخت وتبدّلت طبقًا لأحوال البشر الّتي تغيّرت وترقّت.

إنّ الهدف الرّئيس من الأديان الإلهيّة هو تأسيس الصّلح والاتّحاد بين البشر. وحيث إنّ حقيقتها واحدة؛ لذا فإنّ ما تنجزه وتحقّقه واحد وعموميّ – سواء تمّ عن طريق الجوهريّ من الأحكام الإلهيّة أو المادّيّ منها. فليس هناك سوى نور واحد للشّمس الظّاهريّة، ولا يوجد سوى بحر واحد، وغيث واحد، وهواء واحد. وبالمثل فإنّه لا يوجد سوى حقيقة إلهيّة واحدة في العالم الرّوحيّ، وهذه الحقيقة هي بمثابة القاعدة المحوريّة المتّصفة بحبّ الخير الّتي تهدف إلى تحقيق السّلام والوئام بين مختلف الأمم والشّعوب المتناحرة. انظروا كيف كانت الإمبراطوريّة الرّومانيّة والأمّة الإغريقيّة في حرب وعداوة وكراهية عند ظهور السّيّد المسيح، وكم كانت عداوة مصر مع آشور، ولو أنّها كانت قد خفتت في شدّتها إلاّ أنّ نارها كانت لا تزال مشتعلة بين العناصر المتناحرة لهاتيْن الأمّتين القديمتين الآخذتين في الأفول. بيد أنّ تعاليم يسوع المسيح أثبتت أنّها الرّابطة الّتي وحّدتهم؛ فتوقّفت الحرب، وتبدّدت الشّحناء والبغضاء، وتعاشرت تلك الشّعوب المتحاربة في محبّة وإخاء. فالنّزاع والحرب هما الهادمان لبنيان البشريّة، بينما السّلام والوئام هما البانيان والضّامنان لخير الإنسانيّة. فإذا افترضنا مثلاً أنّ أمّتين عاشتا في سلام عدّة قرون، ثمّ أعلنتا الحرب على بعضهما البعض، فأيّ خراب وخسران سيحلّ بهما في غضون سنة واحدة من النّزاع والاقتتال – ولن يكون هذا سوى هدم كلّ ما بني في قرون السّلام. وكم سيكون احتياجهم شديدًا للسّلام برخائه ونمائه بدلاً من الحرب الّتي تنسف وتخرّب أساس كلّ إنجاز بشريّ.

يمكن تشبيه الهيئة الاجتماعيّة بجسم الإنسان؛ فطالما كانت مختلف أعضاء وأجزاء ذلك الجسم متآلفة ومتعاونة بكلّ وئام، حصلنا على أكمل صورة للحياة. وعندما يغيب التّآلف والانسجام عن هذه الأعضاء، نحصل على عكس ذلك. فهذا بالنّسبة للجسم البشريّ هو المرض، والانحلال، والوفاة. كذلك الأمر في الهيئة الاجتماعيّة البشريّة يكون النّزاع والخلاف والقتال مدمّرًا على الدّوام، ومميتًا لا محالة. فكافّة الكائنات إنّما يعتمد وجودها على السّلام والتّآلف، ذلك لأنّ كلّ كائن مادّيّ حادث هو تركيب لعناصر محدّدة. وطالما كان هناك تجاذب وتماسك بين هذه العناصر المركّبة، فإنّ القوّة والحياة تتجلّيان؛ أمّا إذا نشب النّزاع والتّنافر بينها، فالتّحلّل واقعٌ. وهذا برهان على أنّ السّلام والتّفاهم الّذي أراده الله لأبنائه هما المنجّيان للمجتمع البشريّ، بينما يكون الحرب والشّجار – وهما المخالفان لأوامره – سببي الهلاك والدّمار. ولهذا فقد بعث الله أنبياءه لينادوا برسالة الخير والسّلام والحياة لعالم الإنسان.

بما أنّ جوهر حقيقة الأديان واحد وأنّ اختلافها وتعدّدها الظّاهريّ راجع إلى التّمسّك بالرّسوم والتّقاليد الّتي طرأت عليها، يكون من الواضح وجوب التّخلّي عن أسباب هذا الخلاف والتّباعد لكي يتسنّى لحقيقة الدّين الأساسيّة أن توحِّد بني البشر بالتّنوير والإصلاح. فكلّ من يتمسّك بالحقيقة الواحدة سيكون على وفاق واتّحاد. عندئذ تصبح الأديان داعية جميع النّاس إلى وحدة العالم الإنسانيّ وإلى العدل العموميّ، وتصير منادية بالمساواة في الحقوق وتحضّ البشر على الفضيلة والإيمان برحمة الله. فأسّ أساس الأديان واحد؛ ولا يوجد أيّ اختلاف جوهريّ فيما بينها. وبناء على ذلك لو اتّبعنا أحكام الأديان الجوهريّة والأساسيّة، لأشرقت علينا أنوار السّلم والاتّحاد وانمحت فوارق المذاهب والأحزاب.

الآن دعونا نتفكّر في مختلف شعوب العالم: إنّ كافّة الأمم – من أمريكيّين، وبريطانيّين وفرنسيّين، وألمان، وأتراك، وفرس، وعرب – هم جميعًا أبناء آدم ذاته، وأعضاء الأسرة الإنسانيّة نفسها. فلماذا ينشب النّزاع بينهم؟ وأديم الأرض وطن واحد، وقد أُعطي هذا الوطن للجميع، فلم يضع الله هذه الحدود والقيود العرقيّة. فلماذا تصبح حدودٌ وهميّةٌ لم يأت بها الله أصلاً علّةً للنّزاع؟ فالله خالق الكلّ ورازقهم، وهو حافظ الكلّ، والكلّ مستغرق في بحر رحمته. وليس هناك نفس واحدة محرومة. وبما أنّ لدينا إله وخالق محبّ، فلماذا نحارب بعضنا البعض؟ وطالما كان نوره ساطعًا على الكلّ، فلماذا نلقي بأنفسنا في الظّلام؟ وحيث إنّ مائدته ممتدّة لكافّة أبنائه، فلماذا نحرم بعضنا البعض من مددها؟ وإذا كان إشراقه يسطع على الجميع، فلماذا نسعى للحياة في الظّلام؟ لا ريب أنّ العلّة الوحيدة هي الجهل، وأنّ النّتيجة هي الخسران. إنّ النّزاع يحرم البشريّة من العطايا الرّبّانيّة الدّائمة؛ فعلينا إذًا أن ننسى جميع العلل الوهميّة المسبّبة للاختلاف ونسعى نحو الأسس الحقيقيّة للأديان الإلهيّة، حتّى نتآلف بكمال المحبّة والوفاق، ونعدّ الجنس البشريّ أسرة واحدة؛ ونعتبر أديم الأرض وطنًا واحدًا، ونرى كافّة الأجناس كجنس بشريّ واحد. فلنحيا في حفظ الله، ونحظى بالسّعادة الأبديّة في هذه الدّنيا، وبالحياة الأبديّة في الآخرة.

يا ربّي الرّؤوف، قد خلقت البشر كافّة من تراب واحد، وقدّرت للكلّ أن ينتسبوا لأسرة واحدة. وفي محضرك المقدّس كلّهم عبادك، وكلّ البشر مستظلّون بقبابك، والكلّ مجتمعون على مائدة أفضالك، والكلّ مستنيرون بنور عنايتك.

أي ربّ، أنت الرّؤوف بالكلّ، وأنت الرّازق للكلّ، ومأوى الكلّ، ومحيي الكلّ. قد اختصصتهم يا إلهي بالمواهب والقدرات، والكلّ منغمسون في بحر رحمتك.

يا ربّي الرّؤوف، اجمع الكلّ على الاتّحاد، وألّف بين الأديان، ووحّد الأمم، حتّى يرَوْا بعضَهم أسرة واحد، وينظروا الأرض كلّها وطنًا واحدًا، ويعيشوا معًا في وئام تامّ.

أي ربّ، ارفع راية وحدة العالم الإنسانيّ

أي ربّ، أرسِ أساس الصّلح الأعظم

وألّف يا إلهي بين القلوب

يا أبانا الرّحيم وإلهنا! اشرح صدورنا بنفحات محبّتك، وأنر أبصارنا بنور هدايتك، وشنف آذاننا بألحان كلمتك، واحفظنا في كنف عنايتك.

إنّك أنت المقتدر القدير، إنّك أنت الغفور، وإنّك أنت ستّار عيوب النّاس أجمعين.

خطبتان ألقاهما حضرة عبد البهاء في كليفلاند (1) 6 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بقاعة إقليدس، كليفلاند، ولاية أوهايو

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

هذه أمسية في غاية البهجة، وفي حدّ ذاتها دليل على إمكانيّة توحيد الشّرق والغرب – حيث يقف رجل شرقيّ أمام محفل من أفاضل أهل الغرب. فالشّرق والغرب، أي أهل الشّرق وأهل الغرب، سيتّحدان. وإذا ما بحثنا في التّاريخ فلن نجد سجلاًّ يحكي عن مناسبة من هذا القبيل سافر فيها شخص من أقصى الشّرق إلى أقصى الغرب ليخاطب اجتماعًا ذا طابع عالميّ. فهذه معجزة من معجزات القرن العشرين تبرهن على أنّ ما يبدو مستحيلاً قد يصبح حقيقيًّا وممكنًا في مملكة البشر. والحمد لله! إنّ عصور الظّلام قد ولّت وحلّ عصر النّور أخيرًا، وأشرقت شمس الحقيقة بأشدّ إشراق، وتجلّت وتجدّدت حقائق الأشياء، وكُشفت أسرار الغيب، ووسمت الاختراعات والاكتشافات العظيمة هذه الحقبة بوصفها عصرًا في غاية الإبداع.

بفضل براعة الإنسان واختراعاته أصبح من الممكن طيّ المحيطات الشّاسعة، والطّيران في الهواء، والسّفر في أعماق البحار. وبوسع أهل الشّرق أن يخابروا أهل الغرب في أيّ لحظة. وتَطوي القطارات السّريعة القارّات. كما حُـفظ صوت الإنسان لتُعاد إذاعته، وبمقدور النّاس الآن أن يتهاتفوا عبر المسافات الطّويلة من أيّ بقعة كانت. إنّها بعض من آيات هذا القرن المجيد. ولقد حدث هذا التّقدّم العظيم في عالم المادّة وظهرت العلامات والآيات الباهرات وكشفت الحقائق والأسرار المكنونة، فيتعيّن على الإنسان الآن أن يبذل ما في وسعه ويوجّه عظيم جهده نحو النّواحي الرّوحيّة. فقد بلغت المدنيّة المادّيّة درجة عالية من التّرقّي، ولكنّ العالم الآن في حاجة إلى مدنيّة روحيّة. فالمدنيّة المادّيّة وحدها لن تكون كافية؛ إذ ليس بإمكانها أن تستجيب لظروف العصر الحاضر وتفي بمتطلّباته؛ فالمنافع الّتي تتأتّى منها مقصورة على عالم المادّة. أمّا روح الإنسان فلا تحدّها حدود، ذلك لأنّ هذه الرّوح بحدّ ذاتها في حالة دائمة من التّقدّم والتّرقّي. وإذا ما تأسّست المدنيّة الإلهيّة فستترقّى روح الإنسان، وستزيد كلُّ قابليّة تمّت تنميتها من تأثير الإنسان وفاعليّته، وتصبح اكتشافات الحقائق ممكنة أكثر فأكثر، ويلوح تأثير الهداية الرّبّانيّة ونفوذها على نحو متزايد. كلّ هذا من شأنه أن يُفضي إلى ظهور مدنيّة إلهيّة. هذا هو المقصود في الإنجيل من نزول أورشليم الجديدة. فأورشليم السّماويّة ليست سوى المدنيّة الإلهيّة، وهي الآن مهيّأة، ولسوف تأتي وتتحقّق لا محالة، وتصير وحدة الجنس البشريّ حقيقة بادية للعيان. عندئذ يلتئم شمل البشريّة ككيان واحد، وتتوحّد مختلف الأديان، وتـُعدّ كلّ الأعراق عرقًا واحدًا، ويرتبط أهل الشّرق والغرب، وتنتشر راية السّلام العالميّ، وينعم العالم بالسّلام في نهاية المطاف، وتترسّخ حقوق الإنسان وتتحقّق المساواة بين البشر، وتوضع القدرات البشريّة على محكّ التّجربة والاختبار، وتبلغ البشريّة من الرّقيّ درجة تكون فيها المساواة حقيقة واقعة.

ولسوف تنعم كلّ شعوب العالم بنفس المنافع، ويكون للفقير نصيب من راحة العيش. فكما يكون الأثرياء محاطين بالتّرف في قصورهم، كذلك سوف يحظى الفقراء على الأقلّ بمأواهم المريح البهيج؛ وكما ينعم الأغنياء بما لذّ وطاب من الطّعام، سيحصل المعوزون على ضروريّاتهم ولن يعيشوا في فقر بعد ذلك. وبالاختصار، سيحدث تعديل في النّظام الاقتصاديّ، وتحتضن الأبوّة الرّحمانيّة النّفوس والأرواح، وتسطع شمس الحقيقة الرّبّانيّة، ويكون لكلّ مخلوق في الوجود قدر مقدور.

تدبّروا؛ ما الّذي تقدّمه لنا مدنيّة اليوم المادّيّة؟ ألم ينتج عنها آلات حرب ودمار؟ لقد كان السّيف هو سلاح الحرب في قديم الزّمان، أمّا الآن فهو البندقيّة الآليّة. وكانت سفن الحرب قبل قرن من الزّمان مراكبَ شراعيّة، أمّا الآن فلدينا السّفن المدرّعة. وهكذا تضاعفت آلات ووسائل الدّمار البشريّ بشكل هائل في زمن المدنيّة المادّيّة هذا. أمّا إذا ما تهيّأت المدنيّة المادّيّة جنبًا إلى جنب مع المدنيّة الإلهيّة، وإذا ما اتّحد من لديه النّزاهة الخُـلُقيّة والفطنة الفكريّة مع من له قدرة روحيّة من أجل صلاح البشريّة، يكون ذلك ضامنًا لسعادة الجنس البشريّ وتقدّمه. وعندئذ تتقارب كلّ أمم العالم وتتآخى، وتأتلف كافّة الأديان في دين واحد، ذلك لأنّ الحقيقة الإلهيّة الكامنة فيها جميعًا واحدة. فقد نادى إبراهيم بتلك الحقيقة، وروّج لها يسوع المسيح، كما أنّ جميع الأنبياء الّذين ظهروا في العالم أرسوا قواعد تعاليمهم عليها. ولذلك فإنّ أهل العالم لديهم هذا الأساس الحقيقيّ الثّابت للسّلام والوئام، وسوف تزول وتتلاشى الحروب الّتي دارت رحاها آلاف السّنين.

لقد انهمكت البشريّة في الحرب والصّراع قرونًا ودورات؛ فتارة كان الدّين ذريعة لهذه الحرب، وتارة أخرى هي النّعرة الوطنيّة، أو التّعصّب العرقيّ، أو السّياسة القوميّة، أو الفتوحات الإقليميّة أو التّوسع التّجاريّ. وخلاصة القول إنّ الإنسانيّة لم تكن أبدًا في سلام طوال ما عرفناه من التّاريخ. فكم من دماء أريقت، وكم من آباء ناحوا لفقد الأبناء، وكم من أبناء بكوا آباءهم، وكم من أمّهات ثكلن فلذات أكبادهنّ. كان البشر وقود ساحة الوغى وهدفها، وكان القتال والنّزال هما سمة التّاريخ والوزر الّذي حمله. واتّصف النّاس بالوحشيّة أكثر من الحيوانات نفسها. فالأسد والنّمر والدّب والذّئب حيوانات متوحّشة بسبب احتياجاتها، وما لم تكن مفترسة ومتوحّشة وقاسية لماتت جوعًا. فالأسد لا يستطيع أن يعيش على الحشائش، فأنيابه مجهّزة لأكل اللّحوم دون سواها. وينطبق هذا الأمر أيضًا على سائر الوحوش. فالوحشيّة لديها هي غريزة فطريّة وهي وسيلتها للعيش؛ أمّا وحشيّة الإنسان فهي من الأنانيّة والطّمع والظّلم، وليس لها ضرورة فطريّة. فالإنسان يقتل ألفًا من بني جنسه دونما أيّ ضرورة ليصبح بعدها بطلاً تُمجّده الأجيال عبر القرون. وتُمحى مدينة عظيمة في يوم واحد على يد قائد عسكريّ. فما أجهل البشر وما أشدّ تناقضهم! فإذا ما قتل شخصٌ شخصًا آخر وصمناه بالقاتل المجرم وحكمنا عليه بالإعدام، أمّا إذا ما قتل مائة ألف نفس، فهو ذو عبقريّة عسكريّة، وشخصيّة عظيمة، وهو النّابليون المعبود لدى أمّته. وأيضًا إذا ما سرق أحد دولارًا فهو لصّ يسجن، أمّا إذا اغتصب وسلب بلدًا مسالمًا عن طريق الغزو العسكريّ، فإنّه يتوّج بطلاً. فما أجهل البشر! فالشّراسة والوحشيّة ليست من خصال مملكة الإنسان، وما يليق بالإنسان مَنـحُ الحياة لا سلبها. وما يجدر به أن يكون علّة الخير للبشر، ولكن طالما كان افتخار الإنسان بالوحشيّة الحيوانيّة فهو دليل على أنّ المدنيّة الإلهيّة لم تتحقّق بعد في المجتمع الإنسانيّ. لا شكّ أنّ المدنيّة المادّيّة قد أحرزت تقدّمًا، ولكن بما أنّها لم تكن مصحوبة بالمدنيّة الإلهيّة، فقد تنامى فيها الشّرّ والأذى. في غابر الزّمان كان إذا ما امتدّ قتال أمّتين اثني عشر شهرًا، لم يكن يهلك جرّاء ذلك أكثر من عشرين ألف نفس، أمّا الآن فقد تضاعفت آلات الهلاك وصارت متقنة بدرجة أنّ مائة ألف نفس قد تهلك في يوم واحد. فقد هلك مليون من البشر إبّان الشّهور الثّلاثة الّتي دارت فيها رحى الحرب الرّوسيّة اليابانيّة. وهذا أمر لم يكن على البال في القرون الغابرة. والسّبب في ذلك غياب المدنيّة الإلهيّة.

إنّ هذه الأمّة الأمريكيّة المحترمة تبدي سمات العظمة والجدارة. وأملي أن تناصر هذه الحكومة العادلة قضيّة السّلام، لكي تنتهي الحروب في كلّ أرجاء المعمورة، وترتفع رايات الوحدة والمصالحة القوميّة. هذا هو أعظم فوز للعالم الإنسانيّ. فهذه الأمّة الأمريكيّة مؤهّلة ومهيّأة لإنجاز ما سوف تتزيّن به صفحات التّاريخ، ولأن تصبح غبطة للعالم، ومحلاًّ لثناء الشّرق والغرب بسبب انتصار ديموقراطيّتها. وأدعو الله أن يتحقّق هذا، وألتمس من الله العناية لأجلكم جميعًا.

(2) 6 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بمصحـّة الدّكتور سوينجل، كليفلاند، ولاية أوهايو

نقلاً عمّا دوّنه سايجِل بروكس

إنّها مدينة جميلة، والطّقس بديع والمناظر خلاّبة. وكلّ مدن أمريكا تبدو كبيرة وجميلة، وعلامات الرّفاهية والثّراء بادية على النّاس. إنّ القارّة الأمريكيّة تُظهر دلائل وعلامات رقيّ بالغ، ومستقبلها واعد بدرجة كبيرة، فتأثيرها وتنويرها بعيدا المدى، وستكون هذه القارّة رائدة لكافّة الأمم روحيًّا. من هنا ارتفع لواء الحرّيّة وعلم التّحرّر، إلاّ أنّ رخاء وتقدّم أيّ مدينة وسعادة أيّ أمّة وعظمتها منوط جميعها بالإصغاء إلى نداء الله وطاعته. فيلزم أن يسطع عليها نور الحقيقة وتتأسّس فيها المدنيّة الإلهيّة، وعندئذ يفيض إشراق الملكوت، وتعمّ التّأثيرات السّماويّة. والمدنيّة المادّيّة كالجسد، أمّا المدنيّة الإلهيّة فهي بمثابة الرّوح لذلك الجسد. وجسم بلا روح هو جسد ميّت، وشجرٌ بلا ثمر عديم الفائدة. ولقد صرّح يسوع المسيح بأنّ لدى بعض النّاس استعدادًا روحيًّا، إذ ليس الكلّ غارقًا في بحر المادّيّة. فهم توّاقون إلى الرّوح الرّبّانيّة، ومتوجّهون إلى الله، ومشتاقون للملكوت. رجائي أن ينال هذا الحضور المحترم الرّقيّ المادّيّ والرّوحيّ معًا. وكما حقّقوا تقدّمًا رائعًا على سلّم الرّقيّ المادّيّ، يمضون بنفس القدر في تقدّمهم الرّوحيّ، إلى أن يصير البدن لطيفًا وجميلاً بثراء الاستعداد والكفاءة الرّوحانيّة.

الحمد لله إنّ شمس الحقيقة قد أشرقت، ويسطع تألّقها في كلّ الآفاق. وآيات الله باهرات، وتعاليم الرّسل الإلهيّة منتشرة. فعسى أن تتوجّه القلوب إلى ملكوت الله، فتستنير بمشاهدة الأنوار الإلهيّة، حتّى تنال كلّ الكائنات نصيبًا من المواهب الإلهيّة، وتتجدّد روح الحياة بنعم الله القدير، ويرتبط الشّرق والغرب معًا، ويتجلّى الاتّحاد والاتّفاق في جميع الأصقاع، ويصير أهل العالم كأسرة واحدة وينالون الفضل الأبديّ، وتُفتح أبواب الملكوت من كلّ صوب، ويُسمع الثّناء على الاسم الأبهى من كلّ أرجاء المعمورة.

خطبة ألقاها حضرة عبد البهاء في بيتسبرج 7 مايو/ أيّار 1912

خطبة ألقاها حضرة عبدالبهاء بفندق سكينلي،
بيتسبرج، ولاية بنسلفانيا

نقلاً عمّا دوّنته سوزان بتي

لقد جئتُ من بلاد الشّرق لزيارة بلدكم. من المؤكّد أنّ هذه القارّة جديرة بالثّناء من كافّة النّواحي، وعلائم الازدهار بادية في كلّ مكان. فالنّاس هنا يُبدون اللّطافة والكياسة، كما أنّ شواهد تقدّم المدنيّة لا حصر لها. سأقدّم لكم عرضًا موجزًا للمبادئ الأساسيّة لتعاليم حضرة بهاء الله حتّى تكونوا على علم بطبيعة الحركة البهائيّة وأهمّيّتها.

منذ ما يقرب السّتّين سنة، كانت العداوة والنّزاع متفشّيين بدرجة كبيرة بين مختلف الأقوام والطّوائف الدّينيّة في بلاد فارس، كما سادت الحرب والنّزاعات جميع أرجاء العالم بصفة عامّة. في ذلك الوقت ظهر حضرة بهاء الله من بلاد فارس، وشرع يكرّس حياته من أجل النّهوض بالنّفوس وتربيتها. فوحّد ما بين مختلف الملل والنّحل، وأزال التّعصّبات الدّينيّة والعرقيّة والقوميّة والسّياسيّة، وأسَّس رابطة متينة من الاتّحاد والاتّفاق بين مختلف مشارب النّاس وطبقاتهم. كانت العداوة القائمة بين النّاس في ذلك الوقت على درجة من القسوة والحِدّة بدرجة أنّ مجرّد المعاشرة العاديّة كانت أمرًا لا يمكن التّفكير فيه. فلم يكونوا يلتقون معًا أو يتشاورون مع بعضهم البعض على الإطلاق. فتحقّقت بفضل نفوذ تعاليم حضرة بهاء الله أبدع النّتائج. إذ أزال حضرته التّعصّبات والكراهيّة من قلوب النّاس، وخلق تحوّلاً في سلوكهم تجاه الآخرين بلغ من شأنه أن ساد في إيران اليوم وفاق كامل بين من كانوا قبل ذلك من عقائد متزمّتة وملل مختلفة، وطبقات متباينة. لم يكن هذا عملاً سهلاً، فقد عانى حضرة بهاء الله من شديد المحن وعظيم الشّدائد، وبالغ الاضطهاد. فسُجن وعذّب، ثمّ نفي أخيرًا من وطنه. وتحمّل كلّ مشقّة وبليّة بغاية الرّضا. بل إنّه، إبّان نفيه المتتابع من بلد لآخر وإلى وقت صعوده من هذا العالم، تمكّن من ترويج تعاليمه حتّى وهو في السّجن. وأينما أرسله ظالموه كان يرفع لواء وحدة العالم الإنسانيّ، ويروِّج مبادئ وحدة البشريّة. وإليكم بعض هذه المبادئ:

أوّلاً: يجب على جميع البشر أن يتحرّوا الحقيقة. فإذا ما تمّ ذلك اتّفق الجميع واتّحدوا، إذ إنّ الحقّ أو الحقيقة لا تتعدّد؛ ولا تقبل الانقسام. إنّ الحقيقة الّتي تقوم عليها مختلف الأديان واحدة؛ لذلك فإنّ حقيقة الأديان واحدة.

كلّ دين من الأديان الإلهيّة يشتمل على شِقّين من الأحكام. أوّلهما يختصّ بالقابليّات الرّوحيّة والتّرقّي في المبادئ الأخلاقيّة وإيقاظ وعي الإنسان. وهي جوهريّة أو أساسيّة، وهي واحدة متماثلة في جميع الأديان، ودائمة أزليّة – فالحقيقة لا تخضع للتّبديل والتّغيير. ولقد نادى حضرة إبراهيم بهذه الحقيقة، وروّجها حضرة موسى، وأسَّسها يسوع المسيح في عالم البشر. وكان كلّ أنبياء الله ورسله أدوات وقنوات لنفس هذه الحقيقة الجوهريّة السّرمديّة.

الشّقّ الثّاني من أحكام الأديان الإلهيّة ما يتعلّق بأمور البشر المادّيّة. وهي الشّرائع المادّيّة أو العارضة الّتي تخضع للتّبديل في كلّ ظهور إلهيّ طبقًا لمقتضيات الزّمان وظروف البشريّة وتفاوت استعدادها. ففي أيّام موسى على سبيل المثال شرّع عشرة أحكام بالقتل، وكانت هذه الأحكام وفقًا لمقتضيات ذلك اليوم والزّمان. كذلك شرّع موسى أحكامًا أخرى تتضمّن عقوبات صارمة – مثل العين بالعين، والسّنّ بالسّنّ. وكان بتر اليد هو عقوبة السّرقة. وكانت هذه الأحكام والعقوبات توافق حال بني إسرائيل في ذلك الزّمان، عندما كانوا يعيشون في البرّيّة والقفار في ظلّ ظروف كانت الشّدّة فيها لازمة ومبرّرة. ولكن في زمان يسوع المسيح أصبح ذلك النّوع من التّشريع غير ملائم؛ ولذلك قام السّيّد المسيح بنسخ واستبدال الأحكام الموسويّة.

خلاصة القول، إنّ كلّ دين من الأديان الإلهيّة يشتمل على أحكام جوهريّة ثابتة لا تخضع للتّغيير، وأخرى مادّيّة تتغيّر طبقًا لمقتضيات الزّمان. بيد أنّ أهل العالم هجروا التّعاليم الإلهيّة واتّبعوا أشباه الحقيقة، وبما أنّ هذه التّأويلات والخرافات البشريّة من شأنها أن تتفاوت، فقد نشبت الخلافات والتّعصّبات العمياء وساد النّزاع والقتال. بينما كان من الممكن أن يتّحد الكلّ ويتّفقوا بفضل تحرّي الحقيقة أو تَبَيُّنِ أساس الحقيقة الكامن في كلّ من عقائدهم وعقائد غيرهم، ذلك لأنّ هذه الحقيقة واحدة لا تتعدّد ولا تتجزّأ.

ثاني مبادئ أو تعاليم حضرة بهاء الله هو إعلان وحدة العالم الإنسانيّ – بمعنى أنّ الكلّ عباد لله وينتمون إلى عائلة واحدة؛ وأنّ الله خلق الكلّ، ولهذا فإنّ عطاياه تعمّ الجميع وعنايته وتربيته ومَدَدَه وعطفه محيط بالنّاس كافّة.

هذه هي السّياسة الرّبّانيّة، ويستحيل على الإنسان أن يرسي قواعد نظم وسياسة أحسن ممّا وضعه الله. فعلينا إذًا أن نعرف مقصد الرّبّ الجليل ونساند مراده. فبما أنّ الله شفوق بالكلّ ومحبّ للكلّ، فلماذا نكون غير ذلك؟ وإذا كان العالم الإنسانيّ أسرة واحدة، فلماذا ينهمك أعضاء الأسرة الواحدة بالبغضاء والشّحناء؟ فعلينا إذًا أن ننظر إلى البشريّة بعين المساواة ونتبنّى نفس الموقف من المحبّة. وأشرف القوم خادمهم، والأقرب إلى عتبة الله هم أقلّ عباده شأنًا. ويعتمد شرف الإنسان وعزّه على خدمته لبني جنسه لا على إظهار العداء والكراهية لهم.

ثالث مبادئ أو تعاليم حضرة بهاء الله هو توافق الدّين والعلم. فأيّ معتقد دينيّ لا يطابق الدّليل والاستقصاء العلميّ هو خرافة، لأنّ العلم الصّحيح هو عقل وحقيقة، كما أنّ الدّين في جوهره حقيقة وعقلانيّة محضة، فعلى الدّين والعلم إذًا أن يتطابقا. والتّعليم الدّينيّ الّذي يخالف العلم والعقل هو بدعة من صنع البشر ووهم لا يستحقّ القبول، لأنّ نقيض المعرفة وضدّها هو الخرافة الوليدة عن جهل الإنسان. فلو قلنا إنّ الدّين يعارض العلم، نكون مفتقرين إلى معرفة العلم الحقيقيّ أو الدّين الحقيقيّ، إذ إنّ كلاهما قائم على افتراضات العقل واستنتاجاته، ولا بدّ لهما أن ينجحا باختباره.

رابع مبادئ أو تعاليم حضرة بهاء الله هو تعديل مستويات البشر الاقتصاديّة وتحقيق التّوازن فيما بينها، وهذا متعلّق بمسألة المعيشة. فمن الواضح أنّ الفقير في ظلّ أنظمة وأحوال الحُكم الحاليّة عرضة لأشدّ حالات العوز واليأس، بينما يعيش البعض الأوفر حظًّا في ترف وبحبوحة تتجاوز احتياجاتهم الفعليّة بقدر كبير. وهذا الغـُبن في الرّزق والمنفعة أحد المشاكل العميقة والحيويّة في المجتمع الإنسانيّ. من الواضح أنّ هناك حاجة إلى تحقيق التّوازن والتّوزيع اللّذين يحصل بمقتضاهما الجميع على راحة العيش ومنافعه. والعلاج هنا يجب أن يكون بتعديل الأحوال عن طريق سنّ القوانين. كما أنّ على الأغنياء أيضًا أن يكونوا رحماء بالفقراء، فيتبرّعون من مالهم طواعية دونما ضغط أو إجبار لسدّ حاجة الفقراء. بتأسيس هذا المبدأ في الحياة الدّينيّة للبشر سوف تتحقّق للعالم راحته.

خامس مبادئ أو تعاليم حضرة بهاء الله هو نبذ التّعصّبات الدّينيّة والعرقيّة والقوميّة والسّياسيّة الهادمة لأسس المجتمع الإنسانيّ. فكلّ البشر هم مخلوقات الله الواحد وعباده، وأديم الغبراء وطن واحد، والبشريّة أسرة وعائلة واحدة. أمّا التّخصيص والتّحديد فمن صنع البشر. فلماذا يكون هناك شقاق ونزاع بين البشر؟ يجب على الكلّ أن يتّحدوا ويتعاونوا في خدمة العالم الإنسانيّ.

سادس مبادئ أو تعاليم حضرة بهاء الله مختصّ بمساواة الرّجل والمرأة. فقد أعلن حضرته أنّ الله سبحانه وتعالى ليس لديه تمييز بين ذكر وأنثى؛ فمن كان قلبه أطهر وأعماله وخدمته لأمر الله أعظم وأنبل هو الأكثر قبولاً لدى العتبة الإلهيّة – ذكرًا كان أم أنثى. فالجنسان في مملكتيْ النّبات والحيوان نجدهما بكامل المساواة دون أيّ تمييز أو تحيّز. فالحيوان مذعن بالمساواة بين الجنسين رغم أنّه يقلّ عن الإنسان ذكاءً وعقلاً. فكيف بالإنسان الّذي أوتي نعمة الإحساس بالعدل وحساسيّة الضّمير أن يقبل بأنّ يُعتبر أحد أعضاء الأسرة الإنسانيّة تابعًا له أو أقلّ منه شأنًا. فهذا التّمييز لا ينمّ عن ذكاء أو ضمير حيّ؛ ولهذا أنزل حضرة بهاء الله المبدأ الدّينيّ المنادي بأنّ المرأة يجب أن تُمنح فرصة التّعليم على قدم المساواة مع الرّجل، وأن يُعطى لها ما للرّجل من حقوق بتمامها. أي أنّه يجب ألاّ يكون هناك أيّ اختلاف في تربية الرّجل عن تربية المرأة لكي تتطوّر وتنمو لدى معشر النّساء قدرة وأهمّيّة مساوية للرّجل في المعادلة الاجتماعيّة والاقتصاديّة. وعندها يبلغ العالم الوحدة والوفاق. لقد عانت البشريّة في العصور الماضية من التّخلُّف وعدم الأهليّة والكفاءة لأنّها لم تكن كاملة، وخَرِب العالم بالحروب وويلاتها؛ وسيكون تعليم المرأة بمثابة خطوة عظيمة نحو منع الحروب وإنهائها، ذلك لأنّ المرأة سوف تستخدم كلّ ما لديها من نفوذ في مقاومة الحرب. فالمرأة هي الّتي تربّي الطّفل وتعلّمه إلى أن يبلغ أشدّه. فستأبى أن تضحّي بأبنائها في ميادين القتال. بل ستكون في الحقيقة أعظم عامل في تأسيس السّلام العامّ وفضّ نزاعات العالم. وستقضي المرأة بكلّ تأكيد على الحروب بين البشر. وبما أنّ المجتمع الإنسانيّ يتكوّن من عنصرين، الذّكر والأنثى، وكلّ منهما يُكمِل الآخر، فلن يكون هناك ما يضمن سعادة البشريّة واستقرارها ما لم يكتمل كلاهما. ولهذا وجب أن تتساوى مكانة كلّ من الرّجل والمرأة ووضعهما.

من بين تعاليم حضرة بهاء الله ومبادئه الأخرى التّوصية بتعليم كافّة أفراد المجتع. فلا ينبغي أن يُمنع أيّ فرد أو يُحرم من التّربية الفكريّة، على الرّغم من أنّ لكلّ نفس نصيب بحسب قدرته. ويجب ألاّ يُترك أحد في دركات الجهل، فالجهل نقيصة في عالم الإنسان. ويجب أن يُمنح البشر معرفة بالعلم والفلسفة – أي بالقدر الّذي يعتبر ضروريًّا. فلا يمكن أن يكون الكلّ علماء وفلاسفة، وإنّما يجب تعليم كلّ واحد طبقًا لاحتياجاته واستعداداته.

ومن تعاليم حضرة بهاء الله أيضًا أنّ العالم الإنسانيّ محتاج لنفثات الرّوح القدس، لأنّ بالبعث الرّوحيّ والإحياء تتحقّق الوحدة الحقيقيّة مع الله والإنسان. فالصّلح الأعظم لا تضمنه قوّة وجهود عرقيّة؛ ولا يؤسّسه إخلاص وتضحية قوميّة؛ ذلك لأنّ الأمم تتنوّع تنوعًّا كبيرًا، وللقوميّات المحليّة حدودها. وعلاوة على هذا فمن الثّابت أنّ القوّة السّياسيّة والمقدرة الدّبلوماسيّة لا تؤدّيان إلى اتّفاق عموميّ، إذ إنّ مصالح الحكومات متفاوتة وأنانيّة. كما لن يكون الوفاق والوئام الدّوليّ نتاجًا لوجهات نظر بشريّة تتركّز حوله، ذلك لأنّ وجهات النّظر خاطئة ومتنوّعة في جوهرها. فالسّلام العموميّ يستحيل تحقّقه بالوسائط البشريّة والمادّيّة، بل يجب أن يكون بالقوّة الرّوحيّة. فهناك حاجة إلى قوّة دافعة عالميّة تحقّق وحدة البشريّة وتقوّض أسس الحرب والنّزاع. ولا شيء بمقدوره أن يحقّق ذلك سوى القوّة الإلهيّة، فهو عمل سيتحقّق إذًا بنفثات الرّوح القدس.

مهما بلغ تقدّم العالم المادّيّ فإنّه لن يحقّق سعادة البشر، فليس هناك ما يضمن تلك السّعادة سوى ارتباط المدنيّتين المادّيّة والرّوحيّة وتواؤمهما. وعندئذ لن تساند المدنيّة المادّيّة قوى الشّرّ بأيّ عمل من شأنه تقويض وحدة البشريّة، ذلك لأنّ الخير والشّرّ يتقدّمان معًا في المدنيّة المادّيّة، وبنفس الوتيرة. فانظروا مثلاً إلى التّقدّم المادّيّ للإنسان في العقد الأخير. لقد تأسّست المدارس والكلّيّات والمستشفيات والمؤسّسات الخيريّة والأكاديميّات العلميّة وصوامع الفلسفة، إلاّ أنّ الزّيادة في ابتكار وإنتاج وسائل وأسلحة الدّمار البشريّ قد واكبت شواهد الرّقيّ هذه بنفس القدر. كان سلاح الحرب في سابق الأيّام هو السّيف، أمّا اليوم فهو البندقيّة الآليّة. لقد تحارب القدماء بالرّماح والخناجر، أمّا اليوم فبالقذائف والقنابل. فالسّفن المدرّعة تُبنى، وتُخترع قذائف الطّوربيد، ويظهر سلاح جديد كلّ بضعة أيّام.

كلّ هذا نتاج المدنيّة المادّيّة. وعليه، بالرّغم من أنّ المدنيّة المادّيّة تعزّز المقاصد الحياتيّة الحميدة، إلاّ أنّها تخدم أغراضًا سيّئة في الوقت نفسه. ولكنّ المدنيّة الإلهيّة خير محض لأنّها تنمّي الأخلاق. انظروا كيف ساهم أنبياء الله في ترقية أخلاق البشر؛ فقد دعا يسوع المسيح الجميع إلى الصّلح الأعظم من خلال التّحلّي بالأخلاق الحميدة. فإذا ما اجتمعت المبادئ والأسس الأخلاقيّة الموجودة في المدنيّة الإلهيّة مع التّقدّم المادّيّ للبشريّة، فلا شكّ أنّ سعادة عالم الإنسان سوف تتحقّق وتُعلن بشارات السّلام على الأرض من كلّ حدب وصوب. عندئذ يحقّق الجنس البشريّ تقدّمًا استثنائيًّا، وتتّسع دائرة الإدراك البشريّ بما يفوق الحدّ، ويظهر العجيب من الاختراعات، وتتجلّى الرّوح الإلهيّة، ويتعاشر جميع النّاس بالرّوْح والرّيحان، ويُنعَم على أبناء الملكوت بالحياة الأبديّة. عندئذ تنفذ القوّة الإلهيّة، وتتغلغل نفثات الرّوح القدس في حقائق جميع الأشياء. فيجب إذًا أن تتقدّم كلّ من المدنيّة المادّيّة والمدنيّة الإلهيّة الرّحمانيّة جنبًا إلى جنب حتّى تتحقّق أعلى تطلّعات الإنسانيّة وأمانيها.

هذه نبذة من تعاليم ومبادئ حضرة بهاء الله قدّمتها لكم بإيجاز لكي تكونوا على علم بأهمّيّتها ومقاصدها وتجدوا فيها حافزًا لكم للمعرفة والعمل. أسأل الله أن يعين هذه الأمّة المزدهرة والمتقدّمة ويفيض ببركاته على هذه الحكومة العادلة وعلى قارّة الغرب البديعة هذه.

 

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في نيويورك ومونت كلير، وجيرسي سيتي (1) 11 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 227 طريق ريفرسايد درايف، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه جون جراندي

ثلاثة أسابيع فقط كنّا فيها بعيدين عن الأصدقاء في نيويورك، ولكنّ الشّوق لرؤيتكم كان شديدًا على شأن بدت شهورًا ثلاثة. ولم ننعم براحةٍ ليلاً أو نهارًا منذ أن فارقناكم – فكان إمّا سفرًا أو تجوالاً أو حديثًا – بيد أنّ كلّ شيء تمّ على ما يرام، وكنّا في غاية السّرور. الحمد لله! في كلّ مكان، وفي كلّ وقت كانت هناك حركة، وحركة، وحركة!

إنّ الأحبّاء في أمريكا طيّبون للغاية. فكلّ الّذين قابلناهم هنا يتّسمون باللّطف والطّيبة، وهم مؤدّبون ودودون، وإن كانوا محبّين للاستطلاع بعض الشّيء. وأقلّيّة صغيرة منهم يبدو عليها التّعصّب، ولكن حتّى هؤلاء القلّة لديهم محاسنهم. ولدى الشّعب الأمريكيّ شغف حقيقيّ للتّقدّم، ولا يرضون بالسّكون، بل هم أكثر نشاطًا وتقدّمًا. وعندما ترون شجرة تنمو وتترعرع كونوا متفائلين بما سيأتي منها، فهي ستزهر وتثمر في نهاية الأمر. أمّا عندما ترون حطبًا يابسًا أو أعجازًا فلا أمل في أيّ ثمر.

إنّ ما وُجِّه إلينا من أسئلة كان مناسبًا وفي الصّميم، ولم تؤخذ إجاباتنا ذريعة للنّزاع والجدال. تقابلنا مع علماء ومثقّفين وقدّمنا لهم ما استراحوا له من شرح وتفصيل. وأعرب الوجهاء برضائهم وسرورهم لإجاباتنا عن استفساراتهم. وبالاختصار، كان من الصّعب إيجاد شخص لم يكن راضيًا من بين جمهور النّاس الّذين التقينا بهم، وكلّ ما هنالك أنّ بعض العقلانيّين جنحوا إلى نقاش عقيم. في شيكاغو قابلنا اثنين من رجال الدّين – ألقيتُ خطبة في كنيسة أحدهما، وتناولنا العشاء مع الشّخص الآخر، وقد أظهر كلاهما غاية المحبّة. وبالمثل لم يقم أيّ ممّن قابلناهم بالاعتراض، ولم يخرج أيّ منهم من لقائنا مُحبَطًا.

قابلنا البارحة في واشنطن جمعًا مهمًّا من النّاس. فقد أتى أحد البارزين من السّاسة بصحبة قاض في المحكمة العليا. وكان من بين الحضور عدد من سيّدات السّلك الدّبلوماسيّ. وبعد حديثنا، أشار ذلك السّياسيّ إلى النّقطة الّتي بيّنا فيها أنّ قواعد كلّ الأديان من الأزل كانت هي السّلام والمحبّة والوفاق – وهي مبادئ تفضي إلى التّآلف والاتّحاد. فقال: ‘ولكنّ يسوع’ – على حدّ قوله – ‘كان سبب الخلاف والنّزاع، ولم يكن عاملاً على تحقيق الوحدة’. وأردف قائلاً: ‘ولهذا فلا أقبل مقولاتكم وشروحكم بأنّ الدّين كان سببًا لصلاح العالم’. وبعد أن زدناه شرحًا، قال: ‘إنّ ما قلته الآن قد يجعلني أغيّر رأيي وأتّفق معك.’ أمّا القاضي فقد ظلّ صامتًا طوال الوقت. ولأنّنا خشينا أن يكون لدى القاضي أيّ شعور بعدم الرّضا، سألناه عمّا إذا كان أيّ ممّا عرضناه مخالفًا لرأيه. فأجاب ‘لا، على الإطلاق، كلّ شيء على ما يرام، كلّ شيء على ما يرام!’ إنّها المقولة الشّهيرة عند أهل الغرب – ‘كلّ شيء على ما يرام، كلّ شيء على ما يرام!’

كان حاضرًا في هذا اللّقاء أيضًا عدد من مسؤولي الحكومة، وأعضاء في مجلس الشّيوخ بالولايات المتّحدة، ولفيف من السّلك الدّبلوماسيّ الأجنبيّ، وضبّاط من الجيش والبحريّة، وغيرهم من عِلْية القوم. لقد عانت أمة الله، أي مضيفتنا، كثيرًا من المشقّة في الإعداد والاستضافة ولكنّها كانت دائبة الحركة والنّشاط في الخدمة، داعية الأكابر والوجهاء إلى اللّقاءات. تحدّثنا للكلّ من منطلق وجهات نظرهم وكانت النّتائج مرضية للغاية؛ وكنّا نعمل ليل نهار، ولذا لم يبق سوى وقت قصير جدًّا للمقابلات الشّخصيّة والخاصّة.

في واشنطن أيضًا عقدنا لقاء للسّود والبيض، وكان الحضور كبيرًا جدًّا، وغالبيّتهم من السّود. وفي لقائنا الثّاني كان الحضور عكس ذلك، أمّا في اللّقاء الثّالث فكان من الصّعب علينا أن نحكم أيّ من العرقين كان غالبًا. كانت هذه اللّقاءات درسًا عمليًّا عظيمًا في وحدة الألوان والأعراق في التّعاليم البهائيّة.

كان بعض ما قلناه هو: إنّ الرّجل الأسود يجب أن يظلّ ممتنًّا على الدّوام للرّجل الأبيض، لأنّه أبدى شجاعة عظيمة وتضحية من أجل الجنس الأسود. فلقد حارب من أجل قضيّتهم طيلة سنوات أربع، متحمّلاً أشدّ المشقّة، ومضحّيًا بروحه وعائلته وثروته، كلّ ذلك من أجل أخيه الأسود إلى أن انتهت الحرب العظمى بإعلان التّحرير. وبهذا الجهد والإنجاز كان التّأثير والمنفعة للجنس الأسود في جميع أنحاء المعمورة. وما لم يتحقّق ذلك، لبقي الرّجل الأسود في إفريقيا مكبّلاً بأصفاد العبوديّة. ولهذا فعلى بني جنسه في كلّ مكان أن يكون ممتنًّـا، إذ ليس هناك شاهدٌ على الإنسانيّة والإقدام الشّجاع أعظم مما أظهره الرّجل الأبيض. وإذا ما نسي السّود في الولايات المتّحدة هذه التّضحية والنّخوة والرّجولة من جانب البيض، فلن يكون هناك نكران للجميل أشدّ أو أجدر باللّوم من ذلك. وإذا ما تمعنوا في أحوال وظروف السّود البائسة في إفريقيا في الوقت الحاضر، لاتّضح لهم الفرق، وتجلّت حقيقة أنّ العرق الأسود في أمريكا يتمتّع بمزايا أكبر بالمقارنة. فالرّخاء والمدنيّة الّتي يعيشونها هنا مردّهما مجهود الرّجل الأبيض وتضحيته. وهي تضحية إن لم تُبذل لبقَوْا في أسر العبوديّة وأصفادها، ولما خرجوا أبدًا من البداوة. فأظهِروا امتنانَكم للرّجل الأبيض على الدّوام. فبالنّتيجة، ستنتهي جميع الخلافات، وستكسبون كامل مودّته.

لا فرق عند الله بين أبيض وأسود. فإذا ما كان القلبان طاهريْن صار كلاهما مقبولاً لدى الحقّ. والله لا يحابي النّاس بسبب لونهم أو عرقهم، فجميع الألوان مقبولة عنده، بِيضًا كانوا أم سُودًا أو صُفرًا. وبما أنّ الجميع قد خلقوا على صورة الله، فعلينا أن ندرك أنّ الكلّ حائز على القابليّات الإلهيّة. وإذا ما قصدتم بستانًا ووجدتم أزهاره من شكل وجنس ولون واحد، لكان أثره مملاًّ للنّاظرين. فالبستان يزداد جمالاً عندما تكون أزهاره متعدّدة الألوان ومتنوّعة الأشكال؛ فالتّنوّع يضفي بهجة وزينة. وفي سرب من الحمام يكون بعضهم أبيضَ وبعضهم الآخر أسودَ وأحمرَ وأزرقَ؛ ولكنّهم لا يرون تمييزًا فيما بينهم، فكلّهم حمام مهما كان لونهم.

هذا التّنوّع في الأشكال والألوان الظّاهر في كلّ الممالك إنّما حصل بمقتضى حكمة الخَلق وله مقصد ربّانيّ. ومع ذلك، فكون المخلوقات متشابهة أو مختلفة لا ينبغي أن يكون علّةً للنّزاع والعراك بينها. بل لماذا يجد الإنسان على الخصوص سببًا للاختلاف في لون بني جنسه أو عرقهم؟ فلن يقبل أيّ عقل مثقّف أو مستنير وجود هذا التّفضيل والاختلاف، أو أن يكون لهما ما يسوّغهما. ولهذا وجب على البيض أن يكونوا منصفين ورحماء بالسّود، وعلى السّود بدورهم أن يظهروا قدرًا مساويًا من العرفان والامتنان. عندئذ يصير العالم بستانًا واحدًا عظيمًا من إنسانيّة مُزْهِرة، متنوّعة متعدّدة الألوان، إنسانيّة لا تتباهى إلاّ بالفضائل والأفضال الرّوحيّة.

(2) 12 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في كنيسة الموحّدين بمونتكلير، ولاية نيوجيرسي

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

في هذا الجمع الموقّر أريد أن أتكلّم في موضوع الوحدانيّة الإلهيّة أي وحدانيّة الله.

من الواضح أنّ الكائن الحادث لا يستطيع إدراك الحقيقة القديمة ولا فهمها. فالعجز الصّرف لا يمكنه إدراك القدرة المطلقة. فحينما نمعن النّظر في عالم الخلق، نرى أنّ تفاوت المراتب مانع يحول دون إدراك الدّاني لما يعلوه. مثال ذلك عالم الجماد؛ فمهما ارتقى لن يدرك أبدًا ماهيّة عالم النّبات. وعالم النّبات مهما نشأ ونما لن يكون له خبر ولا علم بعالم الحيوان. ومهما كان نموّ الشّجرة كاملاً، فهي عاجزة عن تخيّل حواس البصر والسّمع والشّمّ والذّوق واللّمس لأنّها خارجة عن حدودها. ورغم أنّ الشّجرة حائزة على خاصّيّة الوجود في عالم الخلق، فليس لها علم بمملكة الحيوان الّتي تعلوها في الرّتبة. وبالمثل فإنّ عالم الحيوان مهما ارتقى فلا فكرة له عن عالم الإنسان، ولا علم له بالعقل والرّوح. لأنّ تفاوت المراتب مانع لهذا الإدراك. إذًا فكلّ رتبة دانية لا تستطيع إدراك ما فوقها مع أنّ الجميع موجود في عالم الخلق نفسه – أكان منها الجماد أم النّبات أم الحيوان. فالرّتبة هي المانعة والمقيِّدة. فمثلاً، ونحن في رتبة الوجود الإنسانيّ، لنا أن نقول إنّنا ندرك حقيقة نوع من النّباتات ونفهم صفاته وثماره، في حين أنّ النّبات لا يكون له أيّ علم أو إدراك بنا. ومهما ترقّت هذه الوردة نحو الكمال في دائرتها، فلا يمكنها أبدًا أن تملك سمعًا وبصرًا. وما دام تفاوت المراتب يحول دون الإدراك في عالم الإمكان، إذًا فكيف تستطيع الحقيقة الإنسانيّة المخلوقة والحادثة أن تدرك حقيقة الألوهيّة القديمة؟ إنّ هذا غير ممكن، لأنّ حقيقة الألوهيّة مقدّسة عن أن يدركها مخلوق حادث، أي الإنسان.

فضلاً عن هذا فإنّ كلّ ما يتصوّره الإنسان إنّما هو محاط محدود، والإنسان بالنّسبة له يكون محيطًا غير محدود. فهل يجوز أن نجعل حقيقة الألوهيّة محاطة محدودة والمخلوق البشريّ محيطًا غير محدود؟ لا، بل العكس صحيح، فالإنسان محاط وحقيقة الألوهيّة محيطة. إذًا كلّ ما يدركه الإنسان هو بالضّرورة محدود ومحاط. ولأنّ حقيقة الألوهيّة تسمو عن تصوّر الإنسان، لهذا يبعث الله مظاهرَ تحكي عن الحقيقة الإلهيّة، ويهبها تجلّيات ملكوتيّة لتكون واسطة بين الخلق والحقّ. والمظاهر المقدّسة الّتي هي الأنبياء إنّما هم بمثابة مرايا استفاضت أنوارَها من شمس الحقيقة، لكنّ الشّمس لم تنزل من علوّها ولم تدخل في المرآة، وغاية ما في الأمر إنّ المرآة قد بلغت منتهى الصّفاء والنّقاء إلى أن بلغت أقصى درجات قابليّة الاستفاضة، فتجلّت فيها شمس الحقيقة بأتمّ تجلّيها وبهائها. فالمرايا من العالم الأرضيّ، وحقيقة الألوهيّة في سماء الرّفعة. ومهما لمعت أنوارها وتجلّت حرارتها في تلك المرايا، ومهما استفاضت منها تلك المرايا وصارت حاكية عنها، تظلّ الشّمس باقية في سموّ مقامها، ولا تنزل أو تدخل فيها، لأنّها مقدّسة ومنزّهة عن ذلك.

لقد تجلّت شمس الألوهيّة والحقيقة وظهرت في مرايا متعدّدة، ومهما تعدّدت المرايا فالشّمس واحدة والفيوضات الإلهيّة واحدة وحقيقة الدّين الإلهيّ واحدة. لاحظوا كيف انعكس النّور الواحد نفسه على مختلف مرايا تجلّيها. بعض النّاس عاشق للشّمس فيرى تجلّياتها في كلّ مرآة غير مقيّد بالمرايا نفسها أو متعلّق بها، بل تعلّقه بالشّمس نفسها، وهو يعشق الشّمس في أيّ مرآة تجلّت. أمّا الّذين يعشقون المرآة ويتعلّقون بها فإنّهم يُحرَمون من مشاهدة نور الشّمس عندما يظهر من مرآة أخرى. فمثلاً، ظهرت شمس الحقيقة من المرآة الموسويّة، فآمن بها وقبلها مَنْ صَفَتْ قلوبهم. وعندما أشرقت نفس الشّمس من المرآة المسيحيّة، لم يدرك اليهود، الّذين لم يكونوا عاشقين للشّمس وكانوا مقيّدين بعشقهم للمرآة الموسويّة – لم يدركوا أنوار وأشراقات شمس الحقيقة الظّاهرة من يسوع المسيح، فحُرموا من فيوضاتها. في حين أنّ شمس الحقيقة، كلمة الله، كانت على أشدّ إشراقها في الواسطة العيسويّة البديعة بأبدع وأكمل صورة، وكانت أنوارها أظهر وأبين، بيد أنّ اليهود لا يزالون حتّى الآن متمسّكين بالمرآة الموسويّة، وبذلك أضحوا محرومين من مشاهدة أنوار الأزليّة في السّيّد المسيح.

خلاصة القول إنّ الشّمس شمس واحدة والنّور نور واحد يشرق على جميع الكائنات على السّواء ولكلّ كائن نصيب منها، غير أنّ المرآة الصّافية تحكي بصورة أكمل وأتمّ عمّا نالته من فضل. إذًا علينا نحن أن نعشق نور الشّمس من أيّ مرآة يظهر، وأن لا نكون متعصّبين لأنّ التّعصّب يحول دون إدراك الحقيقة. وحيث إنّ الإشراق واحد لذا يجب أن تستفيض الحقائق الإنسانيّة من النّور الواحد مدركين فيه تلك القوّة الجامعة الّتي تضمّهم جميعًا في ضيائها.

بما أنّ هذا القرن قرن نورانيّ، فأملي أن تنير شمس الحقيقة جميع البشر، وأن تجعل العيون بصيرة والآذان مصغية والنّفوس منتعشة ومتآلفة بغاية المودّة مستفيضة من نور واحد. عسى أن يمحو الله هذا الاقتتال والنّزاع الّذي دام آلاف السّنين، وأن تنتهي هذه المذابح ويتوقّف هذا الجور والقمع وتزول هذه الشّحناء، وأن يشرق نور المحبّة على القلوب، وتلتئم حياة البشر وتتواصل حتّى نجد جميعًا التّوافق والاطمئنان في ظلّ خيمة واحدة، ونمضي قدمًا بعزم ثابت وراية الصّلح الأعظم خفّاقة فوق رؤوسنا.

يا إلهنا الرّؤوف ويا كريم ويا رحيم، نحن عبيد عتبتك، قد اجتمعنا في ظلّ وحدانيّتك، وشمس رحمتك مشرقة على الكلّ وسحاب عنايتك يمطر على الكلّ وألطافك شاملة الكلّ وفضلك رازق للكلّ وحمايتك تظلّل على الكلّ وأنظار مكرمتك تشمل الكلّ. ربّنا هبنا أفضالك الّتي لا تتناهى وأشعل نور هدايتك وأنر العيون وامنح القلوب سرورًا أزليًّا وأسبغ على النّاس كافّة روحًا جديدة وهبهم حياة أبديّة وافتح أبواب العرفان ليسطع نور الإيمان، واجمع الكلّ في ظلّ عنايتك واجعلهم متّفقين متآلفين حتّى يصبحوا كأشعّة شمس واحدة وأمواج بحر واحد وأثمار شجرة واحدة، يشربون من عين واحدة ويهتزّون بنسيم واحد ويقتبسون أنوارًا واحدة. إنّك أنت المعطي الرؤوف القدير.

(3) 12 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في اجتماع منتدى السّلام العالميّ،
بكنيسة الميثوديست الأسقفيّة، غرب الشّارع 104، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

عندما نستعرض أحداث التّاريخ منذ فجره إلى يومنا هذا، نجد أنّ النّزاع والاقتتال قد خيّما على حياة العالم الإنسانيّ. فالحروب، سواء أكانت دينيّة أم عرقيّة أم سياسيّة، نشبت نتيجة جهل النّاس وسوء فهمهم وافتقارهم إلى التّربية والتّعليم. وسنتناول أوّلاً النّزاع والخلاف الدّينيّ.

من الواضح أنّ أنبياء الله قد جاؤوا إلى العالم من أجل الألفة والاتّحاد بين العباد، لأنّهم كانوا رعاةً لا ذئابًا. والرّاعي يأتي من أجل جمع الخراف لا لتفريقها بخلق النّزاع. فكلّ راعٍ إلهيّ عمل على جمع الأغنام الّتي تفرّقت فيما مضى. من بين هؤلاء الرّعاة موسى عليه السّلام. ففي زمان كانت فيه أسباط إسرائيل تائهة مشتّتة، لمّ شعثهم وألّف بينهم وعلّمهم ورفعهم إلى درجات أعلى من الاستعداد والتّطوّر، إلى أن أخرجهم من قَفْر التّهذيب إلى الأرض المقدّسة حيث الملك والتّمكّن. فتبدّلت ذلّتهم بالعزّة وفقرهم بالغنى ورذائل أخلاقهم بالفضائل، حتّى سموا إلى درجة تحقّق فيها مجد سلطنة سليمان، وبلغ صيت عزّتهم الشّرق والغرب. إذًا أصبح واضحًا أنّ موسى كان راعيًا ربّانيًّا، لأنّه جمع أسباط إسرائيل المتفرّقة وألَّف بينها فصارت أمّة عظيمة ذات قوّة وبأس.

عندما أشرق نجم يسوع المسيح، أعلن أنّه قد أتى ليجمع أسباط موسى أي أغنامه المتفرّقة. ولم يكن راعيًا لأغنام إسرائيل فحسب، بل وضمّ إليها أغنام الكلدان ومصر وسوريا وآشور وفينيقيا أيضًا. وقد كانت هذه الأقوام في منتهى العداء، متعطّشين لسفك دماء بعضهم البعض بشراسة الحيوانات المفترسة. ولكنّ يسوع المسيح جمع هذه الأقوام وألَّف بينها ووحّدها في ظلّ رسالته، وخلق بينهم رابطة من المحبّة نبذوا فيها كلّ عداء واقتتال. إذًا اتّضح أنّ التّعاليم الإلهيّة تهدف إلى خلق روابط الوحدة في العالم الإنسانيّ، وإرساء قواعد المحبّة والألفة بين بني البشر. فدين الله ليس سبب النّزاع والجدال، فإن صار الدّين مصدرًا للعداوة والنّزاع فعدمه أفضل من وجوده. ذلك لأنّ الدّين يجب أن يكون سبب حياة الهيئة الاجتماعيّة، فإن صار الدّين سببًا في ممات البشر فلا شكّ أنّ عدمه يكون نعمة ومنفعة للإنسان. فعلينا إذًا أن نسعى اليوم إلى التّعاليم الإلهيّة، لأنّها بمثابة العلاج لأحوال عالم البشر المعاصرة. والغرض من العلاج أن يعالج ويشفي، أمّا إذا أصبح العلاج سببًا لأسقام أكثر سوءًا، فلا شكّ أنّ عدمه أو تركه أفضل وأولى.

كذلك حينما كانت قبائل بادية العرب وسكّانها البدو مشتّتين قاطنين الصّحاري في حالة دائمة من الفوضى والنّزاع وسفك الدّماء، حيث لم تنجُ قبيلة من خطر هجوم القبيلة الأخرى والتّنكيل بها – في مثل ذلك الوقت العصيب ظهر حضرة محمّد، فجمع تلك القبائل المتوحّشة، وألَّف بينها ووحّدها وأحلّ الوفاق على شأن لم يبقَ بينهم خصومة وقتال، وبلغوا في وقت قصير درجة من الرّقيّ تأسّست فيها الخلافة الكبرى وامتدّت غربا إلى إسبانيا وبلاد الأندلس.

من هذه الحقائق والبراهين يمكننا أن نخلُص إلى أنّ ظهور الدّين الإلهيّ غرضه السّلام وليس الحرب وإراقة الدّماء. وبما أنّ جميع الأديان السّماويّة ترتكز على حقيقة واحدة هي المحبّة والوحدة، فإنّ الحروب والنّزاعات الّتي اصطبغ بها تاريخ الأديان كانت راجعة إلى التّقاليد والأوهام الّتي نشأت فيما بعد. فالدّين الإلهيّ هو الحقيقة، والحقيقة واحدة. لذا فإنّ أسس دين الله إذًا واحدة في حقيقتها ولا خلاف أو اختلاف فيها. فالاختلاف ينشأ من التّقاليد العمياء، والتّعصّب والتّشبّث بما ظهر فيها من رسوم وتقاليد فيما بعد. ولمّا كانت التّقاليد نفسها متباينة، لذا صارت سببًا في الاختلاف والجدال، فلو ترك أتباع أديان العالم أسباب المصاعب هذه واتّبعوا أساس الدّين لاتّفقوا وزال كلّ نزاع وجدال لأنّ الدّين والحقيقة شيء واحد لا يقبل التّعدّد.

هناك حروب أخرى تسبّبها الاختلافات العرقيّة الّتي هي وهمٌ محض لأنّ النّوع البشريّ نوع واحد وجنس واحد وسلالة واحدة، وجميع أفراده يعيشون على كرة أرضيّة واحدة، ولم يكن في أصل الخلقة الإلهيّة أيّ اختلاف أو تمييز عرقيّ مثل فرنسيّ أو إنجليزيّ أو أمريكيّ أو ألمانيّ أو إيطاليّ أو إسبانيّ، فالجميع ينتمون لأسرة واحدة. وهذه الحدود والفروق مصطنعة من وضع البشر، وليست طبيعيّة أصيلة. فجميع البشر ثمار شجرة واحدة وأزهار حديقة واحدة وأمواج بحر واحد. وليس في عالم الحيوان مثل هذا التّمييز والتّفرقة. فأغنام الشّرق ترعى مع أغنام الغرب بسلام، ولن تبدو أغنام الشّرق مندهشة كأنّ لسان حالها يقول ‘إنّها أغنام من الغرب لا تنتمي إلى وطننا’، وإنّما تأتلف وتنعم بنفس المرعى دون أدنى شائبة لنزاع وطنيّ أو عنصريّ. وكذلك حال الطّيور الّتي تأتي من بلاد مختلفة فهي تختلط بكلّ وفاق وتآلف. هكذا نجد هذه الفضائل في عالم الحيوان، فهل يليق بالإنسان أن يحرم نفسه منها وهو العاقل ذو القوّة المدركة المفكّرة، وهو مظهر المواهب الإلهيّة؟ فهل لهذه الأفكار العنصريّة أن تتفشّى وتطغى على الوحدة المقصودة بالخليقة؟ فيقول أحدهم إنّني ألمانيّ ويقول الثّاني إنّني فرنسيّ ويقول الآخر إنّني إنكليزيّ ويتحاربون بسبب تفضيل وتمييز وهمي خلقه الإنسان. لا والله! فهذه الأرض عبارة عن منزل لأسرة واحدة، وهي وطن للبشريّة جمعاء. لهذا يجب على الجنس البشريّ أن يصرف النّظر عن الفروقات والحدود المصطنعة الّتي تُفضي إلى الشّحناء والبغضاء. لقد جئنا من الشّرق، ونرى هذه القارّة ولله الحمد في منتهى العمران، وهواءها في منتهى البداعة والنّقاء، والنّاس في غاية الودّ والأدب، والحكومة عادلة منصفة. فهل يجوز لنا أن نضمر لكم أيّ أفكار أو مشاعر سوى المحبّة؟ وهل نقول إنّ هذا ليس وطننا ولهذا فكلّ ما فيه غير مرغوب فيه؟ فلو قلنا هذا يكون دليلاً على جهل مطبق لا يليق بالإنسان أن ينصاع له. إنّ للإنسان قدرة على تحرّي الحقيقة، والحقيقة هي أنّ البشر كلّهم نوع واحد متساوون في أصل الخلقة الإلهيّة. لذا علينا أن نتخلّى عن الأفضليّات الزّائفة الخاصّة بالأعراق والأوطان الّتي هي علّة الحروب وأسبابها.

لاحظوا ماذا يحدث في طرابلس؛ كم من ضعفاء يقتلون، وكم من دماء المساكين تراق من كلا الجانبين: أطفال باتوا دون آباء، وآباء ينتحبون على موت أبنائهم، وأمّهات يولولْنَ لفقدان فلذات أكبادهنّ. فما هي الثّمرة الّتي تُجنى في النّهاية من كلّ هذا؟ لا شيء بالمرّة. فهل لهذا أيّ مبرّر إذًا؟ إنّ الحيوانات الأليفة لا تبدي الكراهية والوحشيّة لبعضها البعض؛ فتلك من صفات الوحوش المفترسة. ففي قطيع من ألف شاة لا تجد بينهم أيّ سفكٍ للدّماء، وسلالات من الطّير لا عِدَّ لها تعيش أسرابًا في سلام. أمّا الذّئاب والأسود والنّمور فهي حيوانات مفترسة لأنّ الافتراس وسيلتها الطّبيعيّة والضّروريّة من أجل الحصول على الطّعام. أمّا الإنسان فليس محتاجًا لتلك الشّراسة لأنّه يحصل على الطّعام بوسائل أخرى. فيتّضح إذًا أنّ القتال والعنف وسفك الدّماء في عالم الإنسان راجع كلّه إلى طمع الإنسان وكراهيّته وأنانيّته. فنرى ملوك الأمم وحكّامها ينعمون بالرّاحة في قصورهم بينما هم يدفعون عامّة النّاس إلى ساحات القتال – يقدّمونهم طعامًا وهدفًا للمدافع، وفي كلّ يوم يبتكرون آلة جديدة لتدمير بنيان البشريّة بالكامل. هم قساة لا رحمة في قلوبهم نحو بني جنسهم. فماذا يعوّض الأمّهات في معاناتهنّ ولوعتهنّ وهنّ اللّواتي ربّين أطفالهنّ بكمال المحبّة؟ فكم من ليالٍ سهرنها، وكم من أيّامٍ عانين فيها المشاقّ وضحّين بكلّ محبّة من أجل تربيتهم إلى أن أوصلنهم إلى البلوغ. ومع ذلك فإنّ وحشيّة هؤلاء الحكّام المتحاربين تجعل الألوف من ضحاياهم تتمزّق إربًا إربًا في يوم واحد. فأيّ انحطاط وجهالة هذه، بل إنّ هذا أدهى من الوحوش المفترسة ذاتها. فالذّئب يفترس في اليوم حملاً واحدًا، أمّا الطّاغية المتعطّش فيتسبّب في هلاك مائة ألف نفس في معركة واحدة ويفتخر بمهارته قائلاً: ‘أنا القائد الأعلى، وأنا الّذي أحرزت هذا النّصر المبين.’ لاحظوا مدى جهل الجنس البشريّ وتناقضه؛ فلو قتل إنسان شخصًا آخر، مهما كان السّبب، عدّوه قاتلاً وعاقبوه بالحبس أو الإعدام، أمّا الطّاغية السّفاح الّذي يتسبّب في قتل مائة ألف شخص فيمجّدونه على أنّه بطل فاتح أو صاحب عبقريّة حربيّة فذّة. ولو سرق إنسان مبلغًا زهيدًا من المال يعدّونه لصًّا ويزجّون به في السّجن، أمّا القائد الحربيّ الّذي يغير على مملكة بكاملها وينهبها فإنّهم ينادون به بطلاً ويشيدون ببأسه وبسالته. فما أعظم دنوّ الإنسان وجهله!

في إيران، وقبيل منتصف القرن التّاسع عشر، كانت العداوة والشّحناء والبغضاء بين القبائل والأقوام والمذاهب والأديان المختلفة في أوجها، وكذلك الحال في سائر ممالك الشّرق. فأتباع الأديان المختلفة في بغض وتعصّب، والمذاهب في عداء، والأجناس في كره متبادل، والقبائل في حرب وقتال دائم. وهكذا ساد العداء والنّزاع كلّ الأصقاع. فالنّاس متنافرون، وكلّ منهم يرتاب ويشكّ في الآخر. ومن يقتل عددًا من أبناء جنسه تتفاخر النّاس ببطولته وقوّته، ومن الممدوح بين أهل الأديان أن يُنهوا حياة من يخالفهم في العقيدة. في وقتٍ كهذا ظهر حضرة بهاء الله وأعلن دعوته، وأسّس وحدة العالم الإنسانيّ، ونادى بأنّ الجميع عباد لله الودود الرّحيم الّذي خلقهم وربّاهم ورزقهم؛ فلماذا إذًا يعامل النّاس بعضهم بعضًا بالظّلم والقسوة، مظهرين ما لا يرضي الله؟ وما دام الله يحبّنا جميعًا فلمَ العداوة والبغضاء بيننا؟ ولو لم يكن الله محبًّا للجميع لَما خلقنا جميعًا وربّانا ورزقنا. فالرّأفة هي السّياسة الإلهيّة. فهل يجمُل بنا أن نعتبر السّياسة البشريّة أسمى من الحكمة والسّياسة الإلهيّة؟ إنّ هذا غير ممكن أبدًا. إذًا علينا أن نتّبع السّياسة الإلهيّة، ونتعامل مع بعضنا البعض بغاية المحبّة والرّأفة.

لقد نادى حضرة بهاء الله بالصّلح الأعظم وفضّ المنازعات بين الدّول، وصرّح بهذه المبادئ في عديد ألواحه الّتي شاعت وذاعت في الشّرق، وكتب إلى كافّة الملوك والحكام يحثّهم وينصحهم وينذرهم بشأن تحقيق الصّلح، مظهرًا ببراهين دامغة أنّ سعادة وعزّة البشريّة لا تتحقّق إلاّ بنزع السّلاح وفضّ المنازعات. كان هذا قبل خمسين سنة تقريبًا. ولأنّه روّج لقضيّة السّلام العالميّ والوفاق الدّوليّ، فقد قام ملوك الشّرق على مخالفته لأنّهم وجدوا أنّ إنذاراته وتعاليمه منافية لمصالحهم ومنافعهم الشّخصيّة. فاضطهدوه بكلّ قسوة، وأذاقوه كلّ أنواع الأذى، وحبسوه، وضربوه بالعصا على أخمص قدميه، ونفوه إلى بلاد بعيدة، ثمّ حبسوه أخيرًا في قلعة حصينة، وقاموا على مناهضة أتباعه. ومن أجل رفعه راية السّلام وتأسيسه في العالم، أريقت دماء عشرين ألف بهائيّ، ودُمّرت بيوتهم، وأسرت أطفالهم، ونهبت أملاكهم. أمّا تلك النّفوس فلم تهن لهم عزيمة ولم يتزعزع ثباتهم وإخلاصهم. وإلى يومنا هذا لا يزال البهائيّون يعانون الاضطهاد، وفي وقت قريب قتل نفر منهم، لأنّهم حيثما وُجدوا يبذلون أقصى الجهد من أجل تأسيس دعائم السّلام في العالم. هم لا يروّجون المبادئ قولاً، بل قائمون على تطبيقها عمليًّا.

في إيران اليوم، وبفضل تعاليم حضرة بهاء الله، تجد نفوسًا من مختلف العقائد والمذاهب يتعايشون معًا بكلّ سلام ووئام. فعداوات الأمس وبغضاؤه قد زالت من بينهم، وصاروا يُظهِرون خالص المحبّة لجميع بني البشر. ذلك لأنّهم يعرفون ويدركون أنّهم جميعًا مخلوقات وعباد إله واحد، وهذا راجع في الدّرجة الأولى للتّعاليم الإلهيّة. غاية ما في الأمر أنّ الجاهل تجب تربيته والمريض تجب معالجته، ومن هم لا يزالون كالأطفال في مضمار التّرقّي يجب إعانتهم للوصول إلى سنّ النّضج والبلوغ. فلا يجوز أن نجافي أحدًا كونه جاهلاً، ولا أن ننبذ القاصر، أو نعرض عن المريض، وإنّما نعطي العلاج لكلّ محتاج إلى أن يتّحد الكلّ ويأتلفوا في كنف العناية الإلهيّة. من هذا يتضح إذًا أنّ أسّ أساس الأديان الإلهيّة هو الألفة والمحبّة. ولو صار الدّين الإلهيّ سببًا للجفاء بين البشر لأصبح دينًا هدّامًا وليس دينًا إلهيًّا، ذلك لأنّ الدّين ينضوي على الاتّحاد والألفة والوفاق لا على الشّقاق. إلاّ أنّ مجرّد المعرفة بالمبادئ لا يكفي. فكلّنا يعرف أنّ العدل خير، لكن تلزمه قوّة الإرادة والعمل لإجرائه وإحقاقه. فمثلاً قد نرى الخير في بناء كنيسة، ولكنّ مجرّد التّفكير في أنّه أمر حسن لن يساعد على تشييدها. فيجب إيجاد الطّريقة والوسيلة؛ إذ علينا أن نعزم على البناء وبعدها نشرع في العمل. وجميعنا يدرك أنّ السّلام العالميّ أمر حسن وأنّه يؤدّي إلى خير البشريّة وفَخار الإنسان، ولكنّ الإرادة والعمل لازمان لتحقيقه. فالعمل أمر جوهريّ. وحيث إنّ هذا القرن هو قرن الأنوار، والاستعداد للعمل موجود لدى الجنس البشريّ، فلا بدّ أن تنتشر المبادئ البهائيّة بين النّاس إلى أن تبلغ مرحلة العمل والتّنفيذ. وهذا أمرٌ مؤكّد، والزّمان والظّروف مواتية للعمل في الوقت الحاضر. فجميع البشر يدركون أنّ الحرب فعلاً هادمة لبنيان البشريّة، وهو أمر واضح يقرّ ويعترف به كلّ بلد في العالم.

أجد أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة دولة بالغة التّقدّم، وحكومتها عادلة، والنّاس على حالة من الاستعداد، ومبدأ المساواة قد تحقّق بدرجة عالية. وحيث إنّ راية السّلام العالميّ يجب أن تُرفع، فإنّني آمل أن تُرفع فوق هذه القارّة، لأنّ هذه الأمّة أكثر استحقاقًا، ولديها مقدرة أعظم على القيام بهذه الخطوة الأوّليّة. وإذا ما حاولت دول أخرى القيام بهذا، فقد يساء فهم دوافعها. فإذا ما نادت بريطانيا العظمى مثلاً بالسّلام العالميّ، قد يقال إنّ ذلك لضمان سلامة مستعمراتها. وإذا ما رفعت فرنسا راية السّلام، فقد تصرّح دول أخرى بأنّ هناك مخططًا دبلوماسيًّا يكمن وراء هذا العمل؛ كما أنّ روسيا قد تُتّهم بأنّها تُضمر مخطّطات قوميّة إذا ما بادرت بهذه الخطوة، وهكذا بالنّسبة لباقي الحكومات الأوروبيّة والشّرقيّة. ولكنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة لا يمكن أن تُتّهم بمثل هذه المنافع الأنانيّة. فليس لحكومتكم مستعمرات، بالمعنى الدّقيق للكلمة، لكي تحميها. كما أنّكم لا تسعون إلى مدّ رقعة ممالككم، وليس لديكم حاجة إلى توسّع جغرافيّ. ولذا فإنّه إذا ما اتّخذت أمريكا الخطوة الأولى نحو تحقيق السّلام العالميّ، فمن المؤكّد أن يُعزَى هذا إلى نكرانٍ للذّات وحبٍّ لخير العموم. وعندئذ يقول العالم ‘ليس هناك من دافع وراء عمل الولايات المتّحدة هذا سوى حبّ الخير للآخرين وخدمة الإنسانيّة.’ وبناء على ذلك، فإنّ أملي أن تنهضوا كأوّل بشير للسّلام وترفعوا لواءه، لأنّه لواء سيُنشر لا محالة. فارفعوه عاليًا لأنّكم أكثر الأمم أهليّة له واستحقاقًا. وسائر الدّول تنتظر نداءكم، وتتوقّع هذه الدّعوة لرفع راية الصّلح. فالعالم بأسره منهك ويائس جرّاء عبء الحرب الثّقيل وضررها البالغ الّذي يتعذّر إصلاحه. فالضّرائب تُجبى لتعويض نزيف الحرب، وفي كلّ سنة تزداد الأعباء، والنّاس طفح بهم الكيل. فأوروبّا الآن ساحة قتال معبّأة بالذّخيرة الحربيّة وجاهزة للاشتعال، وشرارة واحدة كافية لإشعال العالم بأسره. فاتّخذوا من السّبل ما يمنعها قبل أن تحدث مثل هذه المضاعفات والأحداث الكارثيّة المفاجئة العنيفة.

إنّ أسس جميع الدّيانات السّماويّة قائمة على السّلام والوفاق، إلاّ أنّ سوء الفهم والجهل قد نشئا. فإذا زال سوء الفهم والجهل هذا فسترون أنّ جميع المؤسّسات الدّينيّة ستعمل من أجل السّلام وترويج وحدة العالم الإنسانيّ. ذلك لأنّ أساس كلّ الأديان هو الحقيقة، والحقيقة لا تقبل التّعدّد والانقسام. لقد أرسى حضرة موسى قواعدها، ورفع السّيّد المسيح فسطاطها، ولمع نورها السّاطع من كافّة الأديان، ونادى حضرة بهاء الله بهذه الحقيقة الواحدة وروّج قضيّة الصّلح العموميّ ولم يجد الرّاحة آنًا واحدًا في سجنه حتّى أوقد هذا السّراج في الشّرق. لقد أصبحت جميع النّفوس الّتي قبلت تعاليمه، والحمد لله، محبّة للسّلام وصانعة له، مستعدّة لأن تنفق أرواحها وأموالها في سبيله. فليُرفع الآن هذا اللّواء في الغرب، وعندها سوف يستجيب الكثيرون لهذا النّداء. لقد أصبحت أمريكا مضرب المثل في اكتشافاتها وابتكاراتها ومهارتها في الفنون، واشتهرت بعدل الحكومة وعظائم الأعمال، فلعلّها الآن يعلو صيتها كمنادية للصّلح العموميّ والسّاعية من أجله. فليكن هذا العمل رسالتها ومهمّتها، حتّى يمتدّ زخمه المبارك إلى سائر البلاد. وإنّي أدعو الله في حقّكم جميعًا أن تُوفّقوا في تقديم هذه الخدمة إلى عالم الإنسان.

(4) 13 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بحفل استقبال جمعيّة السّلام النّيويوركيّة،
بفندق أستور، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

رغم شعوري باعتلال الصّحّة في هذا الأصيل، إلاّ أنّني جئتكم من فرط اهتمامي بهذا اللّقاء واشتياقي لرؤية محيّاكم. إنّ عبارات المشاعر الطّيّبة وروح الضّيافة الّتي أبداها من سبقوني من الخطباء باعثة على عظيم امتناني، وأنا شاكر على إحساساتكم القلبيّة، إذ إنّها دليل على أنّ رغبتكم العظيمة هي تأسيس السّلام العالميّ. فأنتم محبّون لوحدة الإنسانيّة، وطالبون لرضاء الله، وباحثون في أصول الأديان الإلهيّة.

ليس هناك اليوم للإنسان شرف أعظم من خدمة قضيّة الصّلح الأعظم. فالسّلام نور بينما الحرب ظلمة. والسّلام حياة بينما الحرب ممات. والسّلام هداية، والحرب ضلال. والسّلام صرح إلهيّ، والحرب عمل شيطانيّ. والسّلام نورانيّة العالم الإنسانيّ، والحرب هادمة للأسس الإنسانيّة. وعندما نتدبّر النّتائج الحاصلة في عالم الوجود، نجد أنّ السّلام والألفة عاملان على الرّفعة والإصلاح، بينما الحرب والنّزاع هما علّتان للخراب والشّتات. وكلّ الأشياء الحادثة هي مظاهر لتجاذب الموادّ العنصريّة وتماسكها، في حين أنّ العدم هو غياب تجاذبها وائتلافها. فنرى أنّ مختلف العناصر تتّحد بكلّ انسجام في تركيبها، وأنّ التّحلّل والعدم ينتجان عندما تتنافر هذه العناصر وتتباعد. وتشترك كلّ الأشياء في هذه الخاصّيّة وتخضع لقانونها، إذ إنّ الأساس الإيجاديّ في كافّة مدارجه وممالكه ما هو إلاّ تعبير عن المحبّة أو ناتج عنها. انظروا إلى اضطراب وهيجان عالم الإنسان اليوم بسبب الحرب. فالسّلام صحّة وبناء، أمّا الحرب فهي سقم وانحلال. وعندما يرتفع عَلَم الحقيقة يصير السّلام سببًا لخير عالم الإنسان ورقيّه. لقد كانت الحرب في كلّ الدّورات والعصور عاملاً من عوامل الاختلال والإزعاج، في حين أنّ السّلام والأخوّة جالبان للأمان وراعيان للمصالح الإنسانيّة. وهذا التّباين تفصح عنه أحوال عالم اليوم بالأخصّ، لأنّ الحرب في القرون الغابرة لم تبلغ درجة الوحشيّة والدّمار الّتي تتميّز بها الآن. فإذا ما تحاربت أمّتان في قديم الزّمان، كان عشرة آلاف أو عشرون ألفًا يسقطون ضحيّة ذلك، أمّا في هذا القرن فإنّ هلاك مائة ألف شخص في يوم واحد هو أمر ممكن جدًّا، فقد بلغ إتقان علم الإبادة والقتل وكفاءة ما يُستعمل من وسائل وآلات حدًّا جعل بالإمكان محو أمّة بأسرها في وقت قصير. فمقارنة الحاضر إذًا بأساليب وتبعات الحروب القديمة شيء غير وارد.

هناك قاعدة جوهريّة وهي أنّ كافّة الكائنات الحادثة تبلغ ذروةً ودرجةً معيّنة في اكتمالها، يتحقّق على إثرها نظام وحالة جديدة. وبما أنّ علم الحرب وأدواتها قد بلغا درجة الاكتمال والإتقان، فمن المأمول أن يكون تحوّل العالم الإنسانيّ قد اقترب، وأنّ طاقات الإنسان وابداعاته سوف تُسخّر في القرون القادمة لترويج مصالح السّلام والإخاء. ولذا فإنّي أدعو الله أن يؤيّد ويقوّي هذه الجمعيّة المحترمة المبجّلة المعنيّة بتأسيس السّلام العالميّ في مقاصدها المخلصة. فعندئذ ستعجّل في مجيء أوان رفع لواء الوفاق العموميّ، والمناداة بالخير العالميّ وتحقّقه، كيما يتبدّد الظّلام الّذي بات يغلّف العالم.

لقد عاش حضرة بهاء الله في بلاد فارس قبل ستّين سنة، وظهر حضرة الباب هناك قبل سبعين سنة، وكرّس هذان النّفسان المباركان حياتهما لتأسيس السّلام العالميّ والمحبّة بين البشر، وجاهدا بالقلب والرّوح لتأسيس التّعاليم الّتي يتسنّى لمختلف الشّعوب أن تتآلف بمقتضاها، وبها تنتهي كلّ شحناء وعداوة وبغضاء. وفي خطابه لجميع البشر، صرّح حضرة بهاء الله بأنّ آدم، أبا البشر، يمكن تشبيهه بسدرة الخليقة الّتي تنتمون إليها أوراقًا وبراعمَ. وبما أنّ أصلكم واحد، فعليكم الآن أن تتّحدوا وتتّفقوا، وعليكم أن تتعاشروا بالرَّوْح والرّيحان. وحَكَم على التّعصّبات – دينيّة كانت أم عرقيّة أم قوميّة أم سياسيّة – بأنّها هادمة لبنيان الهيئة الاجتماعيّة. كما تفضّل بأنّ على الإنسان أن يقرّ بوحدة البشر، لأنّهم ينتمون جميعًا في الأصل إلى أسرة واحدة، وكلّهم عباد إله واحد. ولذا فعلى الجنس البشريّ أن يحافظ على الألفة والمحبّة، منتهجًا سنن الله، معرضًا عن الوساوس الشّيطانيّة، إذ إنّ المواهب الإلهيّة تؤدّي إلى الوحدة والوفاق، بينما لا تحضّ الدّوافع الشّيطانيّة إلاّ على الكراهية والحرب.

تمكّنت هذه الشّخصيّة الفريدة بهذه المبادئ من تأسيس رباط الوحدة بين ملل بلاد فارس المختلفة وأناسها المتباعدين. وارتبط أولئك الّذين اتّبعوا تعاليم حضرته بروابط المحبّة بغضّ النّظر من أيّ حزب أو فريق كانوا، وما زالوا حتّى اليوم يتعاونون ويعيشون معًا في سلام ووفاق. فهم إخوة وأخوات حقيقيّون. وهم لا يلقون بالاً لأيّ فروق طبقيّة بينهم، ويسودهم تمام الوفاق. وباتت رابطة الانجذاب هذه تقوى يومًا بعد يوم، وأصبح إخاؤهم الرّوحيّ دائم التّطوّر. لقد عانى حضرة بهاء الله وتحمّل كلّ محنة ومشقّة من أجل ضمان تقدّم العالم الإنسانيّ وتحقيق هذه المبادئ. وتجرّع الباب كأس الشّهادة، وضحّى ما يزيد على عشرين ألف رجل وامرأة بحياتهم من أجل إيمانهم، وسجن حضرة بهاء الله وتعرّض لشديد الاضطهادات. وأخيرًا نفي من بلاد فارس إلى بلاد ما بين النّهرين (العراق)، ثمّ من بغداد أُرسل إلى القسطنطينيّة وأدرنة، ومن هناك إلى سجن عكّاء ببرّ الشّام. وكان يجاهد إبّان كلّ هذه المحن ليل نهار لإعلان وحدة العالم الإنسانيّ وترويج رسالة الصّلح العموميّ. وخاطب من سجن عكّاء ملوك الأرض وحكّامها برسائل مسهبة، يدعوهم فيها إلى الوفاق العالميّ، وصرّح بكلّ جلاء أنّ راية الصّلح الأعظم سترتفع حتمًا في هذا العالم.

لقد حان أوان تحقيق ذلك. فقوى الأرض لا تستطيع الوقوف في وجه النّعم والآلاء الّتي قدّرها الله لهذا القرن العظيم المجيد، فهي من حاجات العصر ومتطلّباته. وبوسع الإنسان أن يقف في سبيل أيّ شيء عدا ما أراده الله وكتبه للعصر ومتطلّباته. والآن – ولله الحمد – يوجد عاشقون للسّلام في كافّة بلاد العالم، كما أنّ هذه المبادئ منتشرة بين البشر، خاصّة في هذه الدّولة. والحمد لله إنّ هذا الفكر هو السّائد، والنّفوس ناهضة على الدّوام كحماة لوحدة الإنسانيّة، جاهدة في دعم وتأسيس السّلام العالميّ. ولا مِرية أنّ هذه الدّيمقراطيّة العظيمة ستكون قادرة على تحقيقه، وأنّ لواء الاتّفاق العالميّ سيُنشر هنا، ومن ثَمّ سينتشر طولاً وعرضًا بين كافّة أمم العالم. وأشكر الله أنّي وجدتكم مُشبَعين بهذه الأحاسيس والتّطلّعات السّامية، وأملي هو أن تصبحوا واسطة نشر هذا الضّياء بين كافّة البشر، وأن تسطع بذلك شمس الحقيقة على الشّرق والغرب، وتنقشع السّحب القاتمة، وتبدِّد حرارة الأشعّة الإلهيّة هذا الضّباب. ولسوف تترقّى حقيقة الإنسان وتتجلّى على صورة الله خالقه، وتسمو أفكار البشر إلى أوجٍ تبدو منه انجازات الماضي كملعبة الصّبيان، ذلك لأنّ أفكار الماضي وعقائده، وتعصبات العرق والدّين، دائمًا ما حطّت من التّطوّر البشريّ وهدمته. وغاية رجائي أن تؤدّي هذه الأفكار السّامية في هذا القرن إلى خير الإنسانيّة. فليكن هذا القرن شمس القرون الماضية، ولتكن إشراقاته أبديّة، حتّى يُمجّد النّاس القرن العشرين في الأزمنة القادمة، فيقولون إنّ القرن العشرين كان قرن الأنوار، وأنّ القرن العشرين كان قرن الحياة، وأن القرن العشرين كان قرن السّلام العالميّ، وأن القرن العشرين كان قرن المواهب الإلهيّة، وأن القرن العشرين ترك بصمات ستبقى إلى الأبد.

(5) 19 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بكنيسة الأبوّة الإلهيّة،
غرب حديقة سنترال بارك، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

تتعدّد الأديان إلاّ أنّ حقيقتها واحدة، وتتعدّد الأيّام ولكنّ الشّمس واحدة، وتتعدّد الينابيع إلاّ أنّ أصلها واحد، وتتعدّد الأغصان ولكنّ الشّجرة واحدة.

إنّ أصل الأديان الإلهيّة هو الحقيقة، وإذا لم تكن هناك حقيقة لما كانت هناك أديان. ولقد بشّر حضرة إبراهيم بالحقيقة، وروّج حضرة موسى الحقيقة، وأسّس حضرة المسيح الحقيقة، وكان حضرة محمّد رسولاً للحقيقة، وكان حضرة الباب مدخلاً للحقيقة، وكان حضرة بهاء الله بهاء الحقيقة. فالحقيقة واحدة لا تتعدّد ولا تتجزّأ. والحقيقة هي كالشّمس الّتي تشرق من مشارق مختلفة، وهي كالنّور الّذي أضاء في عدّة مصابيح.

فإذا ما تقصّى أهل الأديان حقيقتها وبحثوا عن جوهر الحقيقة الكامن في أصولها، لاتّفقوا ولما وجدوا أيّ اختلاف بين دين وآخر. ولكن طالما باتت الأديان غريقة التّقاليد المتزمّتة، مُعرِضة عن الأسس الأصليّة، وبما أنّ التّقاليد تتباين تباينًا شاسعًا، لذا فإنّ الأديان تتخالف وتتعادى تبعًا لذلك. يمكن تشبيه هذه التّقاليد بالغيوم الّتي تحجب الشّروق، وتبقى الحقيقة بمثابة الشّمس. فإذا ما انقشعت الغيوم تسطع شمس الحقيقة على الكلّ ولا يبقى هناك اختلاف في الرّؤية. وعندئذ تتّفق الأديان، لأنّها واحدة في أصلها. فالموضوع واحد، أمّا الاستنباطات فهي عديدة.

الأديان الإلهيّة تشبه تتابع فصول السّنة. فعندما تصبح الأرض هامدة خامدة ولا يبقى فيها أثر من ربيع بفعل الصّقيع والبرد، يظهر الرّبيع مرّة أخرى ويكسو كلّ شيء بحُلّة جديدة من الحياة. فتصبح المروج خضلة نضرة، وتزدان الأشجار بحلّة خضراء وتطلع منها الثّمار. ثمّ يعود الشّتاء ثانية، وتزول كلّ علامات الرّبيع. هذه هي دورة الفصول الّتي لا تتوقّف – ربيع ثمّ شتاء، ثمّ رجعة الرّبيع. غير أنّه بالرّغم من تغيّر التّواريخ وتوالي السّنين، تكون عودة كلّ ربيع بمثابة عودة الرّبيع الّذي ولّى، فهذا الرّبيع هو تجدّد الرّبيع السّابق. وفصل الرّبيع هو فصل الرّبيع بعينه، بصرف النّظر عن ميعاد مجيئه ووتيرة قدومه. والأنبياء الرّبّانيّون هم كمجيء الرّبيع، إذ يجدّد كلّ منهم تعاليم النّبيّ الّذي سبقه ويحييها. وتمامًا كما تكون كلّ فصول الرّبيع واحدة في جوهرها من حيث تجدّد الحياة وأمطار الرّبيع ورونقه، كذلك يكون جوهر رسالة كافّة الأنبياء وإنجازهم واحدًا لا يتغيّر. والآن غابت عن نظر أهل الأديان حقيقة فصل الرّبيع الرّوحانيّ الجوهريّة وتشبثوا بالرّسوم والتّقاليد الموروثة، فتسبّب هذا في الاختلاف والتّناحر والتّشاجر فيما بينهم. فعلينا إذًا أن ننبذ هذه التّقاليد ونبحث عن أصل التّعاليم الإلهيّة، وبما أنّ الأصل هو حقيقة واحدة، فعلى أهل الأديان المختلفة أن يتّفقوا فيه لكي تتحقّق المحبّة والوحدة بين كافّة النّاس والمذاهب.

لقد ظهر حضرة بهاء الله في وقت كانت فيه بلاد الشّرق ممزّقة بفعل الصّراع الدّينيّ، فأسّس تعاليمَ صارت واسطة توحيد مختلف الأقوام المتباعدة، وروّج لمبادئ أزالت علّة تباعدهم. وحتّى اليوم، هناك في إيران من كانوا دومًا في صراع فاتّحدوا. فالمسيحيّون والمسلمون والزّرادشتيّون واليهود – أصحاب كلّ ملّة ونحلة ممّن اتّبعوا تعاليم حضرة بهاء الله – قد بلغوا كامل التّآخي والوفاق الرّوحيّ، وولّت خلافات ومنازعات الأمس بغير رجعة. وما يلي بعض من مبادئ تعاليم حضرة بهاء الله:

أوّلاً: يجب الإقرار بوحدة العالم الإنسانيّ وتحقيقها. فكلّ البشر عباد لله، وهو الخالق للكلّ، والرّازق والحافظ؛ وهو محب للكلّ. وبما أنّه عادل ورحيم، فلماذا يظلم بعضنا بعضًا؟ وبما أنّ الله نفخ فينا روح الحياة، فلماذا نكون علّة الممات؟ وبما أنّه واسانا، فكيف نكون سبب الشّقاء والمعاناة؟ وهل بمقدور البشريّة أن توجد خطّة وسياسة أفضل وأرقى من خطّة الله وسياسته؟ فمن المؤكّد أنّه مهما كان الإنسان قادرًا على الإتيان بخطّة، والتّرتيب لهدف وغاية، فإنّ جهوده قاصرة مقارنةً بالخطّة والمراد الإلهيّين؛ ذلك لأنّ سياسة الله كاملة. فعلينا إذًا أن نتّبع مشيئة الله وخطّته. وكما هو رؤوف بالكلّ علينا أن نكون كذلك، ومن المؤكّد أنّ هذا سيكون مقبولاً عند الله.

ثانيًا: وجوب تحرّي الحقّ أو الحقيقة، إذ إنّ الحقيقة واحدة، وعندما نتحرّى عنها سوف نجد جميعًا المحبّة والاتّحاد. فإذا ما كان هناك جهلاء فيجب تعليمهم، ومرضى فيجب شفاؤهم، وقاصرون فيلزم الأخذ بيدهم حتّى البلوغ. فهل يجمل بنا أن نرفض الجهلاء ونعترض عليهم أو المرضى أو القاصرين بسبب عجزهم؟ أليس من الأفضل أن نكون رحماء ورفقاء ونقدّم وسيلة العلاج؟ فعلينا إذًا مهما كانت الظّروف ألاّ نتصرّف بغير اللّطف والتّواضع.

ثالثًا: توافق الدّين مع العلم. فالمبادئ الأساسيّة للأنبياء هي علميّة، ولكنّ الرّسوم والتّقاليد الّتي ظهرت هي الّتي تتعارض مع العلم. فإذا لم يتوافق الدّين مع العلم يكون وهمًا وجهلاً. فقد حبا الله الإنسان بالعقل لكي يدرك الحقيقة. وأُسُس الأديان معقولة، وحبانا الله بنعمة العقل لكي نفهمها. فإذا ما كانت تلك الأسس تعارض العلم والعقل، فكيف يمكن الإيمان بها والعمل بمقتضاها؟

رابعًا: يجب أن يكون الدّين سببًا للمحبّة والاتّحاد بين بني البشر، لأنّه إذا ما صار الدّين علّة للبغضاء والنّزاع، فعدمه أفضل. فعندما ظهر حضرة موسى كانت أسباط بني إسرائيل في حالة من الانقسام وكانوا أسرى مملوكين للفراعنة. فجمع حضرة موسى شملهم، وألّف القانون الإلهيّ بينهم، فصاروا شعبًا واحدًا متّحدين متضافرين، ثمّ تحرّروا بعد ذلك من ربقة العبوديّة، وجيء بهم إلى أرض الميعاد، وترقّوا في كلّ الدّرجات، وطوّروا العلوم والفنون، وتقدّموا في الأمور المادّيّة، وازدادوا في المدنيّة الإلهيّة أو الرّوحيّة إلى أن بلغت أمّتهم أوجها في عهد سليمان. فمن الواضح إذًا أنّ الدّين هو سبب الوحدة والألفة والتّقدّم بين بني البشر. فوظيفة الرّاعي هي جمع الأغنام لا تشتيتها. ثمّ ظهر حضرة المسيح، فوحّد مختلف العقائد المتخالفة والشّعوب المتناحرة في زمانه. فجمع بين اليونان والرّومان، وألّف بين المصريّين والآشوريّين والكلدانيّين والفنيقيّين. لقد أسّس حضرة المسيح الاتّحاد والوفاق بين شعوب تلك الأمم المتعادية المتحاربة. ويتّضح من هذا أيضًا أنّ غرض الدّين هو السّلام والوفاق. كذلك ظهر حضرة محمّد في زمن كانت فيه أقوام وقبائل شبه الجزيرة العربيّة منقسمة وفي حالة من التّقاتل الدّائم. فكانوا يقتلون بعضهم البعض، وينهبون ويأسرون النّساء والأطفال. فوحّد حضرة محمّد هذه القبائل الشّرسة وأرسى بينها قواعد الألفة، بدرجة أنّها تخلّت تمامًا عن الاقتتال فيما بينها، وانصرفت إلى بناء المجتمعات. وكانت النّتيجة أن تحرّرت القبائل العربيّة من نيّر الفرس وسيطرة الرّومان، وأسّست دولةً مستقلّةً ذات سيادة وصلت إلى شأو بالغ السّموّ من المدنيّة، وترقّت في العلوم والفنون، وبسطت رقعة الحكم الإسلاميّ إلى أقصى الغرب حتّى إسبانيا والأندلس، وطبّق صيتها جميع أنحاء العالم. لذلك، ثبت مرّة أخرى أنّ المقصود من دين الله أن يكون سببًا للتّقدّم والتّضامن، لا للعداوة والتّشتّت. فإذا ما صار الدّين علّة الكراهية والنّزاع، يكون عدمه أفضل، إذ إنّ هدفه هو الوحدة وأسسه واحدة.

عندما ظهر حضرة بهاء الله في إيران، كانت أقوام وقبائل تلك الدّيار منقسمة بشديد الشّحناء والبغضاء. ولم يكونوا يجتمعون على شيء سوى الحرب، وكانوا لا يأكلون من نفس الطّعام أو يشربون من نفس الماء، وكانت المعاشرة والتّواصل بينهم مستحيلاً، فأرسى حضرة بهاء الله قواعد وحدة العالم الإنسانيّ بين هذه الأقوام وألّف بين قلوبهم بأواصر محبّة جعلتهم جميعًا في كمال الاتّحاد، وأعاد إرساء أسس النّبوّة، وأصلح المبادئ الّتي أرساها من سبقه من رسل الله وجدّدها. والمأمول الآن هو أن يتّحد الشّرق والغرب بفضل سيرة حياته وتعاليمه، بحيث لا تبقى هناك شائبة من عداوة أو نزاع أو خلاف.

(6) 19 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بكنيسة الأخوّة، تقاطع طريقي برجين وفيرفيو،
بمدينة جيرسي سيتي، ولاية نيوجيرسي

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

بما أنّ اسم هذه الكنيسة هو كنيسة الأخوّة، فأودّ أن أتكلّم عن أخوّة الجنس البشريّ.

إنّ الجنس البشريّ قائم على أخوّة كاملة، لأنّ الكلّ عباد إله واحد وينتمون إلى أسرة واحدة في كنف العناية الرّبّانيّة. ورباط الأخوّة موجود في الإنسانيّة لأنّ جميع البشر هم كائنات تتّصف بالذّكاء خُلقت في مملكة ذات رقيّ وتطوّر مطّرد. وهناك قابليّة للأخوّة في البشريّة لأنّ البشر جميعًا يقطنون هذه الكرة الأرضيّة في ظلّ سماء واحدة. والأخوّة موجودة في الجنس البشريّ بالمولد لأنّ الكلّ هم عناصر مجتمع بشريّ واحد خاضع لضرورة الوفاق والتّعاون. والأخوّة مقصودة في الإنسانيّة لأنّ النّاس جميعًا كأمواج بحر واحد وأوراق وأثمار شجرة واحدة. وهذه أخّوة جسمانيّة تضمن السّعادة المادّيّة في العالم الإنسانيّ. وكلّما قويت الأخوّة كلّما ازداد تقدّم بني البشر واتّسع نطاق التّرقّي المادّيّ.

أمّا الأخوّة الحقيقيّة فهي الأخوّة الرّوحانيّة، لأنّ الأخوة الجسمانيّة عرضة للفراق. فحروب عالم الوجود الظّاهريّ تفرّق ما بين البشر، أمّا في عالم الأخوّة الرّوحانيّة الأبديّ فليس هناك من فراق. ذلك لأنّ التّرابط المادّيّ أو الجسمانيّ يقوم على منافع دنيويّة، أمّا الإخاء الرّبّانيّ فوجوده راجع إلى نفحات الرّوح القدس. ويمكن تشبيه الأخوّة الرّوحانيّة بالنّور بينما نفوس البشر كالمصابيح. فالمصابيح المتوهّجة هنا كثيرة، إلاّ أنّ النّور المنبعث عنها نور واحد.

في وقت مرّ على بلاد الشّرق كانت فيه حتّى الأخوّة الجسمانيّة معدومة، ظهر حضرة بهاء الله. فبدأ أوّلاً بإرساء قواعد الأخوّة الجسمانيّة ثمّ تبعها بتأسيس الأخوّة الرّوحانيّة، ونفث في بلاد الشّرق روحًا تآلفت بفضلها مختلف الشّعوب والقبائل المتحاربة في اتّحاد واحد. وصارت مواهبهم واستعداداتهم واحدة، وغاياتهم واحدة، وآمالهم واحدة على شأن جعلهم يضحّون بأرواحهم من أجل بعضهم البعض، معرضين عن الجاه والثّروة والرّاحة. وصارت عرى أخوّتهم لا انفصام لها. فهذا إخاء روحانيّ أبديّ، وهذه أخوّة ملكوتيّة ربّانيّة، هي الّتي تتحدّى الانفصام. فالمدنيّة النّاسوتيّة تترقّى بواسطة التّرابط الجسمانيّ لبني البشر، والتّقدّم الّذي تلاحظونه الآن في العالم الظّاهريّ مبنيّ أساسًا على الأخوّة في المصالح المادّيّة. ولو لم يكن هناك هذا التّرابط الجسمانيّ والذّهنيّ لما تقدّمت المدنيّة. والآن، والحمد لله، فإنّ التّرابط الرّوحانيّ الّذي لا تنفصم عراه قد صار واضحًا ولائحًا، ولذلك من المؤكّد أنّ المدنيّة الرّبّانيّة قد تحقّقت، وأنّ العالم سيتقدّم ويترقّى روحيًّا. وفي هذا القرن المنير ستبلغ المعارف الرّبّانيّة والمناقب الرّحمانيّة والفضائل الرّوحيّة أسمى درجات ترقّيها. وقد لاحت الشّواهد على ذلك في إيران؛ فترقّت النّفوس بدرجة عزفت فيها عن الحياة والمال من أجل بعضها البعض. وتطوّرت مفاهيمهم الرّوحانيّة؛ وحَيَت مداركهم؛ واستيقظت أرواحهم؛ وتجلت المحبّة الخالصة. ولهذا فإنّ أملي هو أن توحّد الأخوّة الرّوحانيّة كلاًّ من الشّرق والغرب، وتحقّق المحو الكامل للاقتتال بين بني البشر، وأن تربط الأسرة البشريّة معًا فرادى وجماعات، وتصبح سببًا لرقيّ العقول، وإنارة القلوب، وتجعل المواهب الرّبّانيّة تحيط بنا من كلّ صوب. وأن تشعل القابليّات الرّوحانيّة القلوب برسالة البشارات، وأن تصبح الأخوّة الرّوحانيّة سببًا لميلاد وحياة جديدتين، لأنّ خلاّقيّتها نابعة من نفثات الرّوح القدس، وهي مشيّدة بقوّة من الله. ومن المؤكّد أنّ ما تشيّده قوّة الرّوح القدس الإلهيّة هو دائم في فاعليّته وباقٍ في تأثيره.

فالأخوّة المادّيّة ليس من شأنها أن تمنع الحروب أو تزيلها، ولا تبدّد الخلافات بين البشر. أمّا التّآخي الرّوحانيّ فيحطّم أسّ أساس الحرب، ويمحو الخلافات تمامًا، ويروّج لوحدة الإنسانيّة، ويحيي بني البشر من جديد، ويجعل الأفئدة متوجّهة إلى ملكوت الله، ويعمّد النّفوس بالرّوح القدس. ويصبح العالم المادّيّ بفعل هذه الأخوة الرّبّانيّة متألّقًا بالأنوار الإلهيّة، وتكتسب مرآة المادّيّة نورها من الملكوت، وتُرسى قواعد العدل في العالم بدرجة لا يبقى معها أيّ شائبة من ظلام أو كراهية أو عداء. وتدخل البشريّة في سرادق الطّمأنينة، وتتحقّق نبوءة كلّ رسل الله، أي سيقفز جبل صهيون ويرقص فرحًا، وتبتهج أورشليم، وتشتعل نار السّدرة الموسويّة، ويلمع النّور العيسويّ، ويصير العالم عالمًا آخر، وتُشحن البشريّة بقوّة جديدة. هذا هو أعظم عطيّة ربّانيّة، وهذا هو إشراق ملكوت الله، وهذا هو يوم الاستنارة، وهذا هو القرن الرّحمانيّ. فعلينا أن نعرف قدر هذه الأمور وأن نجهد حتّى تتحقّق في هذا اليوم أقصى آمال الأنبياء، وتتحقّق كلّ البشارات. ثقوا في فضل الله، ولا تلتفتوا إلى قدراتكم، فالموهبة الرّبّانيّة قادرة على أن تقلب القطرة بحرًا، وتجعل البذرة الضّئيلة سدرة باسقة. والمواهب الرّبّانيّة هي في الحقيقة كالبحر، ونحن حيتان ذلك البحر. ولا يجمل بالحيتان أن تقصر النّظر على نفسها، بل عليها أن تشاهد البحر باتّساعه وروعته. فللكلّ نصيب من الزّاد والغذاء في هذا البحر، وتكون الفيوضات الإلهيّة بالتّالي محيطة بالكلّ، والمحبّة السّرمديّة مشرقة على الكلّ.

لقد طـُرح سؤال: هل سيكون التّقدّم الرّوحانيّ للعالم مساويًا ومتمشّيًا مع التّقدّم المادّيّ في المستقبل؟ إنّ أقصى ما يمكن أن يصله الكائن الحيّ من ترقٍّ لا يعرف ولا يتحقّق عند بدء نشأته أو ولادته. ويستلزم التّرقّي والنّمّو درجات أو مراحل متدرّجة. فالتّرقّي الرّوحانيّ يمكن تشبيهه مثلاً بضوء الفجر المبْكِر. فرغم كون ضوء الفجر خافتًا شاحبًا، فإنّ الحكيم الّذي يرى قدوم الشّروق في بدايته يستطيع أن يتنبّأ بصعود الشّمس في كمال بهائها وإشراقها، ويعلم يقينًا أنّ هذه هي بداية ظهورها وأنّها ستتجلّى فيما بعد بكامل قدرتها ونفوذها. كما أنّه إذا ما تناول على سبيل المثال بذرة ووجدها تنبت، فسيعلم بالتّأكيد أنّها ستصير في النّهاية شجرة. والآن هو بداية تجلّي القوّة الرّوحانيّة، ومن المؤكّد أنّ قدرتها على الحياة والنّماء سوف تتعاظم أكثر وأكثر. ولذا فإنّ القرن العشرين هذا هو الفجر أو هو بداية النّورانيّة الرّوحانيّة، ومن الواضح أنّها ستزداد يومًا بعد يوم، وستصل إلى درجة تغلب فيها الإشراقات الرّوحانيّة على الجسمانيّة، حتّى تتغلّب القابليّات الرّبّانيّة على الذّكاء المادّيّ، ويـُبدِّد النّور الملكوتيّ الظّلمة التّرابيّة ويكشفها، ويُبْرِئ الدّواء الإلهيّ كلّ الأسقام، ويهطل غيث غمام الرّحمة، وتسطع شمس الحقيقة، وتكتسي الأرض ببساطها السّندسيّ الجميل. ومن بين نتائج تجلّي القوّة الرّوحانيّة هو أنّ عالم البشر سوف يتواءم مع نظم اجتماعيّ جديد، ويتجلّى العدل الإلهيّ في كلّ الشّؤون الإنسانيّة، وتتحقّق المساواة البشريّة تحقّقًا عموميًّا. وسينال الفقراء العطاء الأوفى، كما يبلغ الأغنياء سعادة أبديّة. ذلك لأنّه على الرّغم من أنّ الأغنياء في هذا الزّمان ينعمون بعظيم الرّخاء والرّاحة، إلاّ أنّهم مع ذلك محرومون من السّعادة الأبديّة، فالسّعادة الأبديّة متوقّفة على العطاء، بينما الفقراء في كلّ مكان هم في أشدّ حالات العوز. وبيمن ظهور المساواة الرّبّانيّة الكبرى سيكافأ فقراء العالم وينالون العون الكامل، وسيكون هناك تعديل في أحوال البشر الاقتصاديّة، فلا يكون هناك في مقبل الأيّام من هم في غاية الثّراء ومن هم في فقر مدقع. وسينعم الاثرياء بحُظوة هذا الحال الاقتصاديّ الجديد وكذلك الفقراء، ذلك لأنّه بمقتضى قوانين وقيود معينة سوف لا يكون بمقدورهم تكديس الكثير بما يثقل عليهم مهمّة إدارتها، بينما سيُرفعُ عن كاهل الفقير عبء العَوَز والبؤس. وسينعم الغنيّ بقصره، ويكون للفقير كوخه المريح.

جوهر الموضوع هو أنّ العدل الإلهيّ سيتجلّى في شؤون الإنسانيّة وأحوالها، وسيجد جميع البشر الرّاحة والمتعة في الحياة. ولا يقصد بهذا أن يكون الكلّ متساوين، إذ إنّ التّفاوت في الرّتبة والكفاءة هو من خصائص الطّبيعة. فلا مناصَ من أن يكون هناك أغنياء، وأيضًا من يحتاجون مصدرًا للرّزق، ولكن سيكون هناك في المجتمع ككلّ مساواة وتعديل للقيم والمنافع. فلن يكون هناك في المستقبل ثراء فاحش ولا فقر مدقع، بل سيكون هناك توازن في المنافع، ويتحقّق من الظّروف ما سيوفّر لكلّ من الغنيّ والفقير راحة ورضاء. وسيكون هذا نتيجة مباركة ودائمة للقرن العشرين المجيد، وهي نتيجة سوف تتحقّق تحقّقًا عموميًّا. وتكمن أهمّيّتها في أنّ بشارات السّعادة الكبرى المنزّلة في وعود الكتب المقدّسة ستتحقّق. فانتظروا هذا التّحقّق.

(7) 20 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في اجتماع نصيرات حقوق المرأة الانتخابيّة، بمعبد متروبوليتان،
الكائن بتقاطع الطّريق السّابع والشّارع الرّابع عشر، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

تواجه البشريّة اليوم مسائل هي في منتهى الأهمّيّة، مسائل اختُـصّ بها هذا القرن النّورانيّ لم يكن لها مجرّد ذكر فيما مضى من القرون. وبما أنّ هذا القرن قرن الأنوار، قرن الإنسانيّة، قرن المواهب الإلهيّة، فقد طرحت هذه المسائل لتكوين رأي عامّ بشأنها، وتجرى مداولات في جميع بلدان العالم بحثًا عن حلّ لها.

إحدى هذه المسائل تتعلّق بحقوق المرأة ومساواتها بالرّجل. فقد كان هناك إجماع في القرون الغابرة على أنّ المرأة والرّجل غير متساوييْن – بمعنى أنّ المرأة كانت تعتبر أدنى من الرّجل، حتّى في خِلْقَتها وتركيبها الجسمانيّ، وكانت تعدّ أدنى منه خاصّة في الذّكاء، وسادت هذه الفكرة في كلّ مكان بدرجة لم يكن مسموحًا لها أن تدخل مضمار الشّؤون الهامّة. بل جنح الرّجل في بعض البلاد إلى حدّ الاعتقاد بأنّ المرأة تنتمي إلى عالم أدنى من عالم البشر، وأخذ يروّج لهذا الاعتقاد. إلاّ أنّه في هذا القرن، الّذي هو قرن الأنوار وقرن إظهار الأسرار، يبرهن الله – بما يريح الإنسانيّة – على أنّ هذا كلّه جهل وزيف. فعلى العكس من ذلك، من المحقّق الثّابت أنّ نوعي الرّجل والمرأة بوصفهما عنصرين تتركّب منهما البشريّة هما متساويان، ولا يسمح بأيّ تفاوت في الحكم عليهما، ذلك لأنّ كليهما بشر. لقد نجمت أحوال القرون الماضية عن غياب الفرص المتاحة للمرأة. فأُنكر عليها حقّ التّعليم ومزيّته وتُركت المرأة على حالها المتردّي. فكان من المستحيل عليها بطبيعة الحال أن تترقّى، ولم تترقَّ فعلاً. وحقيقة الأمر إنّ الله هو الخالق لكلّ البشر، وليس لدى الله أيّ مفاضلة لذكر أو لأنثى، والمقبول عند الله هو مَنْ كان قلبه طاهرًا، رجلاً كان أم امرأة. فلا يسأل الله أحدًا ‘هل أنتِ امرأة’ أو‘هل أنتَ رجل؟’ بل يحكم على أعمال الإنسان. فإذا كانت مقبولة لدى عتبة ذي الجلال، يكون الرّجل والمرأة مقدّران ومكافآن على حدّ سواء.

كما إنّ تعليم المرأة ألزم وأهمّ من تعليم الرّجل، ذلك لأنّ المرأة هي مربّية الطّفل منذ نعومة أظفاره، فإذا ما كانت هي نفسها معيبة وغير كاملة، يصير الطّفل بالضّرورة معيبًا أيضًا؛ فنقص المرأة إذًا يجلب حالة من النّقص لجميع البشر، ذلك لأنّ الأمّ هي الّتي تربّي الطّفل وترعى نموّه وترشده. وهذه ليست وظيفة الأب. فإذا ما كان المربّي غير كفء، يكون المتعلّم بالتّالي مفتقدًا للكفاءة، وهذا أمر واضح لا جدال فيه. فهل يكون التّلميذ نجيبًا وملمًّا بالعلوم إذا كان المعلّم أميًّا وجاهلاً؟ فالأمّهات هنّ المربّيات الأُوَل لبني البشر؛ فإن عانين من أيّ نقص، فوا أسفًا على حال البشريّة ومآلها.

من الثّابت المحقّق أيضًا تاريخيًّا أنّه عندما لم تساهم النّساء في أمور البشر، لم تبلغ النّتائج حدّ الاكتمال والكمال. ومن جهة أخرى، فإنّ كلّ إنجاز هامّ في العالم الإنسانيّ كان يبلغ شأوًا عظيمًا إذا ما كانت المرأة مشاركة فيه. وهذا أمر محقّق تاريخيًّا لا يقبل النّقض، حتّى في تاريخ الأديان. فقد كان لدى يسوع المسيح اثنا عشر حواريًّا، وكان له أيضًا من بين أتباعه امرأة تدعى مريم المجدليّة. فصار يهوذا الإسخريوطيّ خائنًا ومرائيًا، وبعد الصّلب أصبح الحواريّون الباقون الأحد عشر في تردّد واضطراب. والمحقّق من رواية الأناجيل أنّ الّذي واساهم وأعاد ترسيخ إيمانهم هي مريم المجدليّة.

إنّ العالم الإنسانيّ يتكوّن من عنصرين هما الذّكر والأنثى، وكلّ منهما مكمّل للآخر. ويترتّب على ذلك أنّه إذا كان أحدهما معيبًا، سيكون الآخر بالضّرورة ناقصًا، ويكون الكمال بعيد المنال. فلجسم الإنسان يد يمنى ويد يسرى، وهما متساويتان وظيفيًّا في الخدمة والتّحكم. فإذا ما أصابت إحداهما إعاقة، فستمتدّ الإعاقة بطبيعة الحال إلى الأخرى بما لهذا من تأثير على تكامل الكلّ؛ ذلك لأنّ الإنجاز لا يكون سليمًا ما لم تكن الاثنتان كاملتين. فإذا قلنا إنّ إحدى اليدين قاصرة أثبتنا عجز الأخرى ونقص قدرتها؛ فليس هناك كمال في الأداء لدى الأبتر. وتمامًا كما أنّ الأداء البدنيّ يكون كاملاً باليدين معًا، كذلك الحال مع الرّجل والمرأة – عنصرَيْ البدن الاجتماعيّ – فعلى كليهما أن يكونا كاملين. وليس طبيعيًّا أن يظلّ أحدهما غير متطوّر؛ ولن تتحقّق سعادة العالم الإنسانيّ ما لم يكن كلّ منهما كاملاً.

إنّ أهمّ المسائل الملحّة في يومنا هذا هي السّلام العالميّ وفضّ النّزاعات بين الدّول. والسّلام العموميّ يستحيل تحقيقه دون موافقة عموميّة. فالأبناء تربّيهم النّساء، وتتكبّد الأمّ مشقّة وعناء تربية الابن، وتتحمّل عناء الإنجاب والتّربية. ولهذا يكون من الصّعب المستصعب لدى الأمّهات أن يَبعثن إلى ساحة الحرب بأولئك الّذين أغدقن عليهم هذا القدر البالغ من المحبّة والحنان. تأمّلوا حال ابن ربّته أمّ متفانية وعلـّمته طوال عشرين سنة. فكم من ليال سهرتها وأيّام قضتها في مشقّة وقلق! ولكونها أخذت بيده عبر المحن والمتاعب إلى أن بلغ أشدّه، فكم يكون من المؤلم عليها أن تضحّي به في أتون المعارك. وبناء على هذا فإنّ الأمهات لن يوافقن على الحرب أو يرضين بها. لذا فإنّه عندما تساهم النّساء مساهمة كاملة ومتساوية في شؤون العالم، ويدخلن بكلّ ثقة واقتدار ميدان التّشريع والسّياسة الفسيح، سوف تتوقّف الحروب؛ لأنّ النّساء سيكنّ عقبة ومانعًا لها. وهذا صدق لا مِرية فيه.

قد احتجّ البعض بأنّ المرأة ليست على درجة مكافئة لما عند الرّجل من مقدرة، وأنّها ناقصة في خِلقتها. إنّ هذا وهم محض. فتفاوت الاستعداد بين الرّجل والمرأة راجع بالكلّيّة إلى الفرصة المتاحة والتّعليم. فقد حرمت النّساء حتّى يومنا هذا من حقّ وميزة التّرقّي على قدم المساواة. فإذا ما منحت فرصة مساوية، فلا شكّ أنّها ستكون ندًّا للرّجل. وفي التّاريخ أدلّة على ذلك: فقد برزت شهيرات النّساء في العصور الماضية في شئون الأمم وتفوّقن على الرّجال بأعمالهنّ. ومن بينهنّ زنوبيا، ملكة الشّرق، الّتي كانت عاصمتها تدمر. فأطلال تلك المدينة شاهدة حتّى اليوم على عظمتها وقدرتها وهيمنتها، فهناك يجد السّائح آثار قصور وحصون على أعلى قدر من القوّة والمتانة شيّدتها تلك المرأة البارزة في القرن الثّالث الميلاديّ. كانت زنوبيا زوجة الحاكم العامّ لأثينا، وبعد وفاة زوجها تولّت مقاليد الحكم وحكمت ولايتها بكلّ كفاءة. ثمّ غزت سوريا وأخضعت مصر وأسّست مملكة في غاية الرّوعة بحصافتها وحنكتها بأمور السّياسة. لقد بعثت الإمبراطوريّة الرّومانيّة عليها بجيش عرمرم، وعندما بلغ ذلك الجيش المدجّج بعظيم العتاد سوريا، طلعت زنوبيا بنفسها في ساحة القتال على رأس قوّاتها. وكان في يوم المعركة أن تزيّنت بحلل الملوك، ووضعت على رأسها تاجًا، وانطلقت متيمّنة سيفها لتواجه جحافل الغزاة. وبإقدامها وتخطيطها العسكريّ إستؤصلت شأفة جيش الرّومان وتشتّت تمامًا حتّى إنّهم عجزوا عن تنظيم أنفسهم عند التّقهقر. فعقدت الحكومة في روما مجلسًا للتّشاور، حيث قالوا: ‘مهما كان القائد الّذي سنرسله قديرًا فلن نقدر على هزيمتها؛ فعلى الإمبراطور أوريليان نفسه أن يذهب على رأس الفيالق الرّومانيّة الّتي سنبعث بها إلى زنوبيا.’ فزحف أوريليان على سوريا بمائتي ألف جنديّ. وكان جيش زنوبيا يقلّ عددًا عنه بكثير. حاصرها الرّومان في تدمر سنتين دون جدوى. ثمّ تمكّن أوريليان في النّهاية من قطع خطّ المؤن عن المدينة فأُجبرت هي وشعبها على الاستسلام بفعل المجاعة. فهي لم تهزم بالقتال. وهكذا أخذها أوريليان أسيرة إلى روما. ويوم دخوله إلى المدينة قام بتنظيم موكب النّصر – فكانت الأفيال في المقدّمة، ثمّ تلتها الأسود، فالنّمور، فالطّيور، ثمّ القردة – وجاءت زنوبيا بعد القردة. كانت تضع التّاج على رأسها، وسلسلة من الذّهب حول عنقها. وبكلّ كبرياء ملكيّ وتجاهُل تامٍّ للمذلّة، كانت تتلفّت يمنة ويسرة وتقول: ‘إنّني فخورة حقًّا كوني امرأة، وكوني وقفت في وجه الإمبراطوريّة الرّومانيّة.’ (كانت رقعة الإمبراطوريّة الرّومانيّة في ذلك الزّمان تغطّي نصف ما هو معروف من الأرض.) ‘وهذه السّلاسل الّتي تطوّق عنقي ليست علامة على الذّلّة بل على العزّة. فهي رمز لقوّتي لا لهزيمتي.’

من بين شهيرات التّاريخ أيضًا كاثرين الأولى زوجة بطرس الأكبر، وكانت وقتها تركيّا وروسيا في قتال. كان محمّد باشا، قائد القوّات التّركيّة، قد هزم بطرس، وعلى وشك الاستيلاء على مدينة سانت بطرسبرج، وكان الرّوس في وضع حرج للغاية. فقالت كاثرين زوجة بطرس: ‘سأتدبّر هذا الأمر.’ فعقدت لقاء مع محمّد باشا، وفاوضته على معاهدة صلح وأقنعته بالتّراجع. فأنقذت بذلك زوجها وأمّتها، وكان إنجازًا عظيمًا. وبعد ذلك تُوِّجت إمبراطورة على روسيا وحكمت البلاد بكلّ حنكة حتّى مماتها.

كما إنّ اكتشاف أمريكا على يد كولومبوس كان إبّان حكم الملكة إيزابيلاّ الإسبانيّة، وهذا العمل الرّائع يرجع لفطنتها وعونها بدرجة كبيرة. مجمل القول إنّ هناك نساء شهيرات ظهرن على مسرح تاريخ العالم، ولا حاجة إلى ذكر المزيد منهنّ.

من بين البهائيّين اليوم في إيران العديد من النّساء اللاّئي يغبطهنّ الرّجال، وهنّ حائزات على كافّة فضائل الإنسانيّة ومناقبها. فهنّ بليغات، وشاعرات، ومتبحّرات في العلم، ويجسّدن جوهر التّواضع. وكنّ في المقدرة وحدّة النّظر السّياسيّة قادرات على التّعامل مع النّوّاب من الرّجال والتّفوق عليهم. ولقد كرّسن حياتهنّ وضحّين بالنّفس والنّفيس مستشهدات من أجل البشريّة، وستبقى شواهد مجدهنّ إلى أبد الآبدين. وسجلاّت تاريخ إيران منوّرة بحياتهنّ وسيرتهنّ.

الغرض من هذا باختصار هو: إذا ما تعلّمت المرأة وأُعطِيَت حقوقها كاملة، فستنال القدرة على القيام بأروع الأعمال، وتثبت أنّها ندٌّ للرّجل. فهي عضد الرّجل ومكمّلته ورفيقته. وكلاهما بشر، وكلاهما حائز على استعدادات الفطنة ومجسِّد للفضائل الإنسانيّة، وهما شريكان ونظيران في كافّة القدرات والوظائف الإنسانيّة. ففي وقتنا الحاضر لا نجد أنّ المرأة تبدي مواهبها الفطريّة في مجال العمل والنّشاط الإنسانيّ، وذلك بسبب نقص التّعليم وانعدام الفرص أمامها. ولا شكّ أنّ التّعليم سيحقّق لها المساواة مع الرّجل. انظروا إلى مملكة الحيوان، حيث لا يشاهد أيّ تمييز بين الذّكر والأنثى، فكلاهما متساويان في القدرات والامتيازات. كما أنّه لا يشاهد أيّ تفرقة بين طيور السّماء، فقدراتهم متساوية، ويتعايشون بكمال الاتّحاد والاعتراف المتبادل بالحقوق. أفلا ننعم بنفس المساواة؟ فغياب هذه المساواة لا يليق ببني البشر.

 

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في كامبردج وبوسطن (1) 22 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة الّتي ألقيت في هيكل تريمونت
في مؤتمر كنائس الموحّدين بوسطن، ولاية ماساتشوستس

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

إنّ الخلق والإيجاد تعبير عن الحركة. فالحركة حياة، والشّيء المتحرّك هو شيء حيّ، بينما يكون الخامل الّذي لا يتحرّك ميّتًا. فجميع أشكال الخليقة في تقدّم، كلّ في رتبته أو مملكة وجوده في ظلّ حافز من قوّة الحياة أو روحها. والطّاقة الكونيّة هي أيضًا في حركة. ولا شيء يبقى ساكنًا، أكان في عالم النّاسوت، الّذي هو عالم المخلوقات المادّيّة، أو في عالم الغيبيّات، الّذي هو عالم العقل والوعي.

الدّين هو التّعبير الظّاهريّ للحقيقة الرّبّانيّة، فمن الواجب إذًا أن يكون الدّين حيًّا نبّـاضًا متحرّكًا وفي تقدّم دائم. فإذا كان ساكنًا وغير تقدّمي، يضحي محرومًا من الحياة الرّبّانيّة، ويصير ميّتًا. والشّرائع الإلهيّة هي في نشاط دائب وفي حالة من التّطوّر. ولهذا على الوحي الدّينيّ أن يكون متطوّرًا ودائمًا، فكلّ الأشياء تخضع للتّعديل. وهذا القرن قرن حياة وتجديد، فقد أخضعت العلوم والفنون والصّناعة والابتكار للتّجديد والتّطوير، وأعيدت صياغة وتنظيم القوانين والأخلاقيّات، ودبّت حياة جديدة في عالم الفكر، وأضحت علوم العصور الغابرة وفلسفات الماضي عديمة النّفع لعالم اليوم. ومتطلّبات الحاضر يلزمها حلولاً جديدة، لأنّ مشاكل عالم اليوم لم يسبقها مثيل. وصارت الأفكار والتّوجّهات القديمة تبلى وتتقادم في تسارع شديد. فلا يمكن للقوانين العتيقة ونظم المعاملات البالية أن تفي بمتطلّبات الأحوال الجديدة المعاصرة، لأنّه من الجليّ الواضح أنّ هذا القرن قرن حياة جديدة، قرن كشف الحقيقة، ولذا فهو أعظم القرون كلّها. انظروا كيف أنّ ترقّيات العلوم في خمسين سنة قد فاقت وغطّت على معارف وإنجازات كلّ العصور الماضية مجتمعة. فهل بمقدور منطوق ونظريّات قدامى علماء الفلك أن تشرح ما هو المعروف الآن عن الشّموس والأنظمة الكونيّة؟ وهل بوسع قناع الغموض الّذي اكتنف القرون الوسطى أن يستجيب للرّؤية الصّافية والفهم الّذي يميّز عالم اليوم؟ وهل يلبّي فساد حكومات الماضي صيحة الحرّيّة الّتي علت من أوداج البشريّة في هذا الدّور النّورانيّ؟ من الثّابت أنّه لا تتأتّى الآن أيّ نتائج حيويّة هامّة من عادات ومناهج ووجهات نظر عتيقة. بالنّظر إلى هذه الحقائق، هل للتّقاليد العمياء للرّسوم الموروثة والاجتهادات اللاّهوتيّة أن تستمرّ في أن ترشد وتحكم الحياة الدّينيّة والتّرقّي الرّوحيّ للبشريّة في يومنا الحاضر؟ وهل للإنسان الّذي أُوتِيَ نعمة العقل أن يظلّ مقلِّدًا ومتمسّكًا دون تفكير بتلك الطّقوس والاعتقادات والعقائد الموروثة الّتي لا تصمد أمام التّحليل العقلانيّ في هذا القرن الّذي هو قرن الحقيقة اللاّئحة؟ لا شكّ أنّ هذا لن يُرضي رجال العلم، ذلك لأنّهم إن وجدوا حجّة أو استنتاجًا ممّا يناقض موازين الإثبات الّتي صارت متعارفًا عليها اليوم، أو يخلو من سند حقيقيّ، سيرفضون ما كان يعدُّ حجّة وحقيقة فيما مضى من الزّمان، ويضربون صفحًا عنها ويمضون قدمًا إلى الأمام على أسس جديدة.

لقد بُعث الأنبياء الرّبّانيّون بالأديان وأحكموا قواعدها، ووضعوا شرائعَ ومبادئَ سماويّةً من أجل هداية بني البشر، وعلـّموا معرفة الله وروّجوا لها، وتمّموا مكارم الأخلاق وشدّدوا على أسمى درجات الفضيلة في العالم الإنسانيّ. ثمّ كان أن غشت الغشاوة على هذه التّعاليم السّماويّة وأصول الحقيقة تدريجيًّا من جرّاء تفاسير البشر وطقوس وتقاليد المعتقدات الموروثة. فالحقائق الجوهريّة الّتي اجتهد الأنبياء من أجل ترسيخها في أفئدة العباد وعقولهم، وعانوا بصدد ذلك من الشّدائد وقاسوا من ويلات الاضطهاد، قد أوشكت الآن على الزّوال. وقد قُـتل البعض من هؤلاء الرّسل الإلهيّين، وسجن البعض الآخر، وجميعهم سخر منهم النّاس ونبذوهم في معرض مناداتهم بالحقيقة الرّبّانيّة. وبعد فترة من رحيلهم عن هذا العالم ضاعت الحقيقة الجوهريّة لتعاليمهم، واتّبع النّاس التّقاليد المتعصّبة بدلاً عنها.

بما أنّ التّأويلات البشريّة والتّقاليد العمياء تختلف عن بعضها البعض اختلافًا كبيرًا شاسعًا، فقد نشب النّزاع والخلاف الدّينيّ بين البشر، وأطفيء نور الدّين الحقّ، وانفصمت عرى وحدة عالم الإنسانيّة. بينما الواقع هو أنّ أنبياء الله نطقوا بروح الاتّحاد والاتّفاق، وكانوا مؤسّسين ربانيّين للحقيقة الإلهيّة. فإذا ما تخلّت ملل العالم عن التّقاليد، وتقصّت الحقائق الكامنة في كلمة الله المنزلة، لاتّفقت فيما بينها وائتلفت، ذلك لأنّ الحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد.

لكنّ الملل والأديان غارقة جميعها في تقاليد التّعصّب الأعمى. فهذا يهوديّ لأنّ أباه كان يهوديًّا، والمسلم يقتفي تمامًا أثر آبائه وأجداده في العقائد والطّقوس، والبوذيّ أمين على ما ورثه كبوذيّ. بمعنى أنّهم يؤمنون بالمعتقد الدّينيّ إيمانًا أعمى دونما أيّ استقصاء، ممّا يجعل الوحدة والوفاق أمرًا مستحيلاً. فيتّضح إذًا أنّ هذه الحالة لا يمكن علاجها دون أن يتطرّق الإصلاح إلى الدّين. أو بتعبير آخر، يجب تجديد الحقيقة الجوهريّة للأديان الإلهيّة وإصلاحها وإعلانها على البشر من جديد.

لقد نما كلّ دين من بذرة الحقيقة فصار شجرة أخرجت أوراقها وأغصانها وأزهارها وأثمارها. وبعد فترة من الزّمان آل بها المآل إلى العطب، فذبلت أوراقها وأزهارها وذوت، وصارت شجرة جدباء بلا ثمر. فليس من المعقول أن يتمسّك الإنسان بالشّجرة القديمة، مدّعيًا أنّ قوى الحياة لا تزال فيها باقية، أو أنّ ثمرها ليس له نظير، أو أنّ وجودها أبديّ. بل يجب أن تبذر بذرة الحقيقة مرّة أخرى في أفئدة العباد لتنبت منها شجرة جديدة، وينتعش هذا العالم من الثّمار الرّبّانيّة الجديدة. بهذه الوسيلة تأتي الأمم والشّعوب، الّتي هي الآن مختلفة في عقائدها، تحت خيمة الاتّحاد، وتتخلّى عن التّقاليد، وتتحقّق أخوّة عموميّة على أساس من هذه الحقيقة الواحدة. ويتوقّف القتال والنّزاع من بين البشر، ويأتلف الكلّ معًا عبادًا لله الواحد، لأنّ الكلّ مستظلّ في ظلّ شجرة عنايته ورحمته. والله رؤوف بالكلّ، وهو واهب العطاء للكلّ على حدّ سواء، بل كما صرّح يسوع المسيح بأنّ الله يمطر على الأبرار والظّالمين– بمعنى أنّ رحمة الله شاملة. فكافّة البشر تحت حفظ حبّه وعطفه، وهو الّذي هدى الكلّ إلى سبيل الرّشاد والارتقاء. والتّرقّي نوعان: مادّيّ وروحيّ. فالتّرقّي المادّيّ يأتي عن طريق الملاحظة والتّدقيق في الوجود المحيط بنا، وهو ما يُشكّل أصل الحضارة وأساسها. أمّا التّرقّي الرّوحيّ فيأتي من نفثات الرّوح القدس، وهو استيقاظ النّفس البشريّة الواعية لتدرك الحقيقة الرّبّانيّة. وكما أنّ التّرقّي المادّيّ يضمن سعادة العالم الإنسانيّ، فإنّ التّرقّي الرّوحيّ يكفل سعادة الرّوح وخلودها الأبديّ. لقد وضع أنبياء الله شرائع المدنيّة الإلهيّة، وكانوا أساسًا ومنبعًا لكلّ معرفة، وأحكموا أيضًا بنيان مبادئ الأخوّة الإنسانيّة. والأخوّة لها أصناف شتّى – منها الأخوّة الأسريّة، والأخوّة العرقيّة، والأخوّة القوميّة، والأخوّة في الدّوافع الأخلاقيّة. ولكنّ أنواع روابط الأخوّة هذه ما هي إلاّ أمور وقتيّة عابرة إذا ما نظرنا إليها من حيث الوفاق والتّآلف. فهي لا تضمن الوفاق، وعادة ما تُحدث الشّقاق والتّباعد. وهي لا تمنع القتال والنّزاع بل بالعكس، فهي بواعث أنانيّة، وأسباب حصريّة وعلّـة خصبة للعداوة والبغضاء بين البشر. أمّا الأخوّة الرّوحانيّة الموقدة والمتحقّقة من نفثات الرّوح القدس فهي الأخوّة الّتي توحّد الأمم وتزيل أسباب القتال والنّزاع وتحوّل الجنس البشريّ إلى أسرة عظيمة وترسي قواعد وحدة العالم الإنسانيّ. وهي الأخوّة الّتي تنشر روح الوفاق في العالم وتضمن السّلام العامّ. فعلينا إذًا أن نتقصّى أصل هذه الأخوَّة الملكوتيّة وأن نتخلـّى عن كافّة التّقاليد وأن نروّج حقيقة التّعاليم الإلهيّة. فبمقتضى هذه المبادئ والأعمال، وبعون الرّوح القدس تتحقّق كلّ من السّعادة المادّيّة والرّوحيّة في آن معًا. وما لم تتّحد كافّة الأمم والشّعوب بروابط الرّوح القدس في ذلك الإخاء الحقيقيّ، وما لم تُمحَ التّعصّبات الّتي تفرِّق بين أهل الوطن الواحد، وتلك الّتي تباعد ما بين مختلف الأوطان لتختفي جميعها في حقيقة هذه الأخوّة الرّوحيّة، فلن يبلغ الإنسان التّرقّي الحقيقيّ والرّخاء والسّعادة الدّائمة. إنّ هذا القرن قرن مواطنة عالميّة جديدة. فقد تقدّمت العلوم، وتطوّرت الصّناعة، وأُصلحت السّياسات، وارتفع النّداء بالحرّيّة، واستيقظ العدل والإنصاف. فهذا القرن هو قرن الحركة، وهو قرن الدّافع والإنجاز الإلهيّ، وقرن التّعاضد والخدمة المتفانية بين بني الإنسان، وهو قرن السّلام العامّ والحقيقة الملكوتيّة.

(2) 23 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد فرانسيس بريد وحرمه
367 شارع هارفارد، كامبردج، ولاية ماساتشوستس

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

إنّ المعارف العلميّة هي أسمى تحصيل واكتساب في الوجود البشريّ، لأنّ العلم هو مكتشف الحقائق. والعلم نوعان: مادّيّ وروحانيّ. فالعلم المادّيّ هو البحث في حقيقة الظّواهر الطّبيعيّة، أمّا العلم الإلهيّ فهو اكتشاف وإدراك الحقائق الرّوحيّة. وعلى عالم الإنسان أن يكون حائزًا على كلا العِلْمين. فللطّير جناحان، ولا يستطيع الطّيران بجناح واحد. والعلم المادّيّ والعلم الرّوحانيّ هما بمثابة جناحيّ الرّقي والتّحصيل البشريّ. وكلاهما ضروريّ – فأحدهما مختصّ بالطّبيعة والآخر متعلّق بالغيبيّات، أحدهما مادّيّ، والآخر إلهيّ. وما نعنيه بالعلم الإلهيّ هو اكتشاف الأسرار الإلهيّة ومعرفة الحقائق الرّوحيّة والحكمة الرّبّانيّة ودلالات الأديان السّماويّة وأصل الشّريعة.

هذا اليوم هو الثّالث والعشرون من مايو/ أيّار، ذكرى إعلان دعوة حضرة الباب. وهو يوم مبارك، ويوم فجر الظّهور، إذ إنّ ظهور حضرة الباب كان بزوغ فجر الصّبح الصّادق، بينما ظهور الجمال المبارك، حضرة بهاء الله، هو إشراق الشّمس. لذا فهو يوم مبارك، وهو استهلال الموهبة الملكوتيّة، وبداية الإشراق الإلهيّ. في هذا اليوم من عام 1844 بُعث حضرة الباب مبشّرًا وداعيًا إلى ملكوت الله، ناطقًا ببشارات مجيء حضرة بهاء الله، فواجه بذلك معارضة الأمّة الإيرانيّة كلّها. لقد آمن به بعض الإيرانيّين، فعانوا من أجل هذا أشدّ المحن وأقسى البلايا. تحمّلوا الامتحانات بقوّة عجيبة وبطولة عالية؛ زُجّ بالآلاف في السّجون، وأُنزل بهم العقاب، واضطهدوا، واستشهدوا. ونُهبت بيوتهم وخُرّبت، وصودرت أملاكهم. ضحّوا بحياتهم بكلّ رضا، وظلّوا ثابتين على إيمانهم حتّى النّهاية. هذه النّفوس البديعة هي مصابيح النّور الإلهيّ، وأنجم القداسة اللاّمعة بكلّ بهاء من أفق المشيئة الإلهيّة الأبديّ.

أمّا حضرة الباب فقد تعرّض لاضطهاد مرير في مدينة شيراز، وهي المدينة الّتي شهدت أوّل إعلان عن دعوته ورسالته. وقد ابتُلي ذلك الإقليم بالمجاعة فترة من الزّمن، وانتقل حضرة الباب إلى مدينة إصفهان، وهناك قام عليه العلماء بعداء شديد. فقُبض عليه وأُرسل إلى مدينة تبريز، ومن هناك نُقل إلى قلعة ماه كو، ثمّ سُجن أخيرًا في قلعة جهريق الحصينة. وبعدها أُحضر إلى مدينة تبريز حيث استشهد.

هذه مجرّد نبذة عن تاريخ حضرة الباب الّذي تحمّل كلّ اضطهاد وعانى كلّ محنة وبلاء بعزم لا يلين. وكلّما سعى أعداؤه لإطفاء تلك الشّعلة كلّما ازداد لهيبها، وانتشر أمره وقوي يومًا بعد يوم. وعندما كان لا يزال حرًّا قادرًا على مقابلة النّاس، كان يبشّر بمجيء حضرة بهاء الله باستمرار. ولقد أشار إلى حضرة بهاء الله في كلّ كتبه وألواحه وأعلن بشارة ظهوره، متنبّئًا بظهوره في سنة التّسع، إذ تفضّل قائلاً وفي سنة التّسع أنتم كلّ خير تدركون وفي سنة التّسع أنتم بلقاء من وعدتكم به تُرزقون. وأشار إلى الجمال المبارك، حضرة بهاء الله، بلقب من يظهره الله. وبالاختصار، لقد ضحّت تلك النّفس المباركة بحياتها في سبيل حضرة بهاء الله، كما هو ثابت في روايات التّاريخ وسجلاّته. وفي أوّل كتبه المسمّى بأحسن القصص، يتفضّل بقوله: يا بقيّة الله، قد فديت بكلّي لك، ورضيت السّبَّ في سبيلك، وما تمنّيت إلاّ القتل في محبّتك، وكفى بالله العليّ معتصمًا قديمًا.

انظروا كيف تحمّل حضرة الباب هذه المحن والبلايا؛ وكيف بذل حياته في سبيل أمر الله؛ وكيف كان منجذبًا لمحبّة الجمال المبارك، حضرة بهاء الله؛ وكيف نادى ببشارات ظهوره. فعلينا أن نقتدي بمثله الرّحمانيّ ونضحّي بالنّفس ونشتعل بنار محبّة الله وننال نصيبًا من موهبة الله وفضله، لأنّ حضرة الباب أوصانا بالنّهوض لخدمة أمر الله، وأن نكون منقطعين تمامًا عمّا سوى الله في هذا اليوم، يوم الجمال المبارك، حضرة بهاء الله، وأن نكون منجذبين بالكلّيّة لمحبّة حضرة بهاء الله، وأن نكون محبّين للبشريّة جمعاء من أجل خاطره، وأن نكون طيّبين ورحماء بالكلّ من أجله، وأن نشيّد بنيان وحدة العالم الإنسانيّ. فهذا اليوم إذًا – يوم الثّالث والعشرين من مايو/ أيّار – هو الذّكرى السّنويّة لحدث مبارك.

(3) 25 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة ببناية هانتينجتون، بوسطن، ولاية ماساتشوستس

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

إنّي راحل عن مدينتكم، ولكنّـني تارك قلبي معكم، فستبقى روحي هنا ولن أنساكم. وأدعو لكم بالتّوفيق من الملكوت الأبهى، وأدعو الله أن تزداد أحاسيسكم الرّوحانيّة دومًا حتّى تزدادوا إشراقًا يومًا بعد يوم، وتتقرّبوا من الله إلى أن تصبحوا سببًا في تنوير العالم الإنسانيّ، وتحيط بكم تأييدات الملكوت. وهذا هو رجائي ودعائي.

إنّ هذا القرن المنير بنظر المؤرّخين يحاكي مائة قرن من القرون الخالية. بل عندما نقارنه بكلّ ما سبق من الإنجازات البشريّة في الماضي، يتبيّن أنّ الاكتشافات والتّقدّم العلميّ والمدنيّة المادّيّة لقرننا الحاضر تعادل، بل إنّها تفوق بدرجة كبيرة تقدّم ونتائج مائة قرن من قرون الماضي. فطبع الكتب وإنتاج المؤلّفات الأدبيّة شاهد وحده على أنّ نتاج الفكر البشريّ في هذا القرن كان أعظم من كلّ القرون الخالية مجتمعة وأشدّ منها تنويرًا. فمن الواضح إذًا أنّ لهذا القرن أهمّيّة بالغة. تدبّروا في معجزات الإنجاز الّتي امتاز بها حتّى الآن: من اكتشافات في مختلف مجالات الأبحاث الإنسانيّة، إلى اختراعات ومعارف علميّة، وإصلاحات وتنظيمات للمعاملات وضعت لمصلحة الجنس البشريّ، وإلى اكتشاف أسرار الطّبيعة، وقوى كانت مجهولة أُخرجت إلى حيّز الشّهود والمكاشفة وجرى تطويعها – إنّه عالم عجيب حقًّا من الظّواهر والظّروف الجديدة الّتي كانت مجهولة للإنسان حتّى وقتنا هذا وأصبحت متاحة لاستخداماته وعرضة للمزيد من استقصائه. فبمقدور الشّرق والغرب التّخاطب في التّوّ واللّحظة. وبوسع الإنسان أن يحلّق في السّماء أو ينطلق في أعماق البحار. وربطت قوّة البخار ما بين القارّات، فالقطارات تعبر الصّحارَى وتخترق حواجز الجبال، ولا تضلّ البواخر طريقها عبر محيطات لم يبحر فيها أحد من قبل. وتزداد الاكتشافات يومًا بعد يوم. فيا لهذا القرن من قرن عجيب! إنّه قرن الإصلاح العموميّ، فقد باتت قوانين الحكومات المدنيّة والفيدراليّة قيد التّغيير والتّحويل، وصارت العلوم والفنون تصاغ من جديد، وتحوّلت الأفكار، وتبدّلت وتقوّت أسس المجتمع الإنسانيّ. فصارت علوم الماضي غير نافعة لعالم اليوم، وأُبطلت القواعد البطليموسيّة في الفَلَك، وأُبطل معها ما لا حصر له من القواعد والنّظريّات والشّروحات العلميّة والفلسفيّة بعد أن صار مسلّمًا ببطلانها وعدم جدواها. كما أنّه لا يمكن أن يفي ما سبق من أنماط سلوكيّة ومبادئ باحتياجات العالم الحديث. وصارت أفكار ونظريّات العصور الخوالي عديمة الجدوى في هذا الزّمان. وباتت عروش وحكومات تتقوّض وتتهاوى. وصارت كلّ أحوال الماضي ومتطلّباته غير ملائمة وغير كافية للوقت الحاضر، ومن ثمّ أخضعت لإصلاح جذريّ. ومن هذا يتّضح إذًا أنّ التّعاليم الدّينيّة المزيّفة والمقلّدة ورسوم العقائد البالية والتّقاليد الموروثة المخالفة لأصول الحقيقة الإلهيّة، يجب أن تزول هي الأخرى وأن يطالها الإصلاح. لا بل يجب التّخلّي عنها والإقرار بما استجدّ من ظروف وأحوال. كما يجب أن تخضع أخلاق البشر للتّغيير. ويجب اللّجوء إلى وسائل علاج وحلول جديدة لمشاكل البشر. كما يتعيّن على أفكار البشر نفسها أن تتغيّر هي الأخرى وينالها الإصلاح الشّامل. فتمامًا كما تكون أفكار وفرضيّات العصور الغابرة عقيمة في يومنا هذا، كذلك تكون الطّقوس والرّسوم الّتي هي من بدع البشر بالية عقيمة فيما يتعلّق بأمور الدّين. بل إنّ من الثّابت أنّها هي السّبب في العداء وهي علّة الصّراع في عالم الإنسان؛ فالحرب وسفك الدّماء ينجمان عنها، كما أنّها لا تعترف أبدًا بوحدة الجنس البشريّ. فيتعيّن علينا إذًا في هذا القرن المنير أن نتقصّى جوهر الدّين الإلهيّ، ونبحث عن الحقائق الماثلة في وحدة العالم الإنسانيّ، ونكتشف منبع التّآلف والوفاق الّذي سيوحّد الجنس البشريّ برباط من المحبّة الإلهيّة. فهذا الاتّحاد هو النّور السّرمديّ، وهو الرّوحانيّة الإلهيّة، والإشراق الإلهيّ، وهو النّعمة الملكوتيّة. وعلينا أن نبحث عن الأصل الإلهيّ لهذه العطايا الرّحمانيّة وأن نتشبّث بها، إذ إنّنا لو بقينا مكبَّلين ومقيَّدين ببدَع البشر وطقوسهم لانْحطّ عالم البشر يومًا بعد يوم، وتزايد القتال والنّزال شيئا فشيئًا، وتكالبت قوى الشّيطان على تدمير الجنس البشريّ.

إذا ما تجلّت المحبّة والوفاق في أسرة واحدة، فإنّ تلك الأسرة ستترقّى، وتصبح مستنيرة روحانيّة، أمّا إذا غلبت عليها العداوة والبغضاء فإنّ دمارها وتشتّتها حادثان لا محالة. وهذا يصدق أيضًا وبنفس الكيفيّة على أيّ مدينة. فإذا ما أظهر أهل تلك المدينة روح وفاق وإخاء، فإنّها ستتقدّم حثيثًا وتزدهر أحوالها الإنسانيّة أكثر فأكثر، بينما لو تسلّلت إليها العداوة والصّراع فإنّ أمورها ستنحطّ ويتشتّت أهلها. وعلى نفس المنوال، يتقدّم ويترقّى أهل الأمّة نحو المدنيّة والاستنارة بواسطة المحبّة والوفاق، كما أنّهم يتشتّتون بالحرب والنّزال. وهذا الأمر يصدق أيضًا في النّهاية على البشريّة نفسها ككلّ، فعندما تتحقّق المحبّة وتربط الرّوابط الرّوحيّة المثلى ما بين أفئدة البشر، سيسمو الجنس البشريّ بأسره، ويتقدّم العالم دومًا في الرّوحانيّة والإشراق، وتزداد سعادة البشريّة واطمئنانها بغير حدود. فتُقتلع جذور التّقاتل والتّناحر، وينتهي النّزاع والخلاف، ويوحِّد أممَ العالم وشعوبَها سلامٌ عموميّ. فيتعايش جميع بني البشر كعائلة واحدة، ويمتزجون امتزاج موج بحر واحد، ويسطعون كنجوم سماء واحدة، ويظهرون كثمار شجرة واحدة. هذه هي سعادة البشريّة وهناؤها، وهذه هي نورانيّة الإنسان والمجد الأبديّ والحياة السّرمديّة، وهذا هو العطاء الرّبّانيّ. أتمنّى لكم هذا المقام، وأدعو الله أن يحقّق شعبُ أمريكا هذه الغاية العظمى كي يتأكّد فضل هذه الدّيمقراطيّة، وتُمجَّد أسماؤُهم إلى الأبد. وأن تؤازرهم التّأييدات الإلهيّة في كلّ الأمور، وتُبجِّل ذكراهم في جنبات الشّرق والغرب، وأن يصبحوا خدّامًا للرّبّ المتعال، مقرّبين وأعزّاء لديه في وحدانيّة الملكوت السّماويّ.

لقد تحمّل حضرة بهاء الله المحن والمشقّات طيلة ستّين سنة، ولم يبق من اضطهاد أو شدائد ومعاناة إلاّ ونزلت به على أيدي أعدائه وظالميه. وانقضت أيّام حياته جميعها في شدّة وبلاء – فهو تارة في السّجن، وتارة أخرى في النّفي، وأحيانًا تحت السّلاسل والأغلال. فرضي بكلّ هذه المحن وتحمّلها من أجل أن يتّحد العالم، داعيًا أن يدرك العالم الإنسانيّ نور الله، وتصبح وحدة الجنس البشريّ حقيقة واقعة، وأن ينتهي النّزاع والقتال، وينعم الكلّ بالسّلام والطّمأنينة. من غياهب السّجن رفع راية التّضامن والتّكافل بين البشر، مناديًا بالسّلام العامّ، مخاطبًا ملوك الأمم وحكّامها، داعيًا إيّاهم إلى الوحدة العالميّة وناصحًا لهم بتسوية خصوماتهم. وكانت حياته دوّامة من الاضطهاد والمصاعب، إلاّ أنّ الكوارث وأشدّ المحن والقلاقل لم تمنعه من إنجاز مهمّته وإتمام رسالته. بل على العكس تعاظمت قدرته وشاع وذاع نفوذه وتأثيره إلى أن لمعت أنوار بهائه في جنبات الشّرق، وتوطّـدت المحبّة والاتّحاد، ووجدت الأديان المختلفة نقطة تواصل وتصالُح.

فلنجتهد نحن أيضًا على درب المحبّة والعبوديّة هذا، مضحّين بالنّفس والنّفيس، صارفين أيّامنا في التّفاني، مكرّسين كلّ جهودنا للأمر الإلهيّ، كي يرتفع لواء الدّيانة بإذن الله بين ظهراني عالم البشر، وتتحقّق وحدة العالم الإنسانيّ.

وإنّي لأشاهد في قلوبكم انطباعَ عظيم المحبّة وأروعها. لقد أظهر لي الأمريكيّون لطفًا دائمًا، وأنا أكنّ لهم عميق المحبّة الرّوحانيّة، ومسرور لأحاسيسكم القلبيّة، وسأدعو لكم طالبًا العون الإلهيّ، ثمّ أقول لكم وداعًا.

إلهي إلهي، هؤلاء عباد متوجّهون إليك، مبتهلون إلى ملكوت رحمانيّتك، منجذبون بقدسيّتك، مشتعلون بنار محبّتك، طالبون تأييدات ملكوتك البديع، وآملون البلوغ إلى جبروتك الجليل. إنّهم مشتاقون لنزول موهبتك، وراجون نورانيّة شمس الحقيقة. أي ربّ، اجعلهم سُرُجًا وهّاجة، وآياتٍ رحمانيّة، وأشجارًا مثمرة، ونجومًا لامعة، حتّى يقوموا على خدمتك، ويرتبطوا بأواصر محبّتك، مشتاقين إلى أنوار فضلك. أي ربّ، اجعلهم آيات الهدى، ورايات ملكوتك الأبديّ، وأمواج بحر رحمانيّتك، ومرايا نور إجلالك.

إنّك أنت الكريم، إنّك أنت الرّحيم، وإنّك أنت العزيز المحبوب.

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في نيويورك وفان وود (1) 26 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بكنيسة ماونت موريس للمعمدانيّين،
تقاطع الطّريق الخامس والشّارع 126، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

بينما كنت أدخل الكنيسة هذا المساء، سمعت إنشادًا يصدح اجعلني يا ربّ أكثر قربًا منك. إنّ التّقرّب إلى الله هو أعظم ما يمكن بلوغه في العالم الإنسانيّ، وكلّ مجد وشرف ونعمة وبهاء أبديّ يأتي للإنسان إنّما هي بفضل التّقرّب إلى الله. وقد تاق جميع الأنبياء والرّسل ودعوا وصلّوا من أجل التّقرّب إلى الخالق. فكم من ليالٍ سهروا تضرّعًا من أجل هذا المقام، وكم من أيّام قضوها ابتهالاً لنيل هذا المنال، ساعين دومًا للتّقرّب إليه. إلاّ أنّ الحصول على ذلك ليس بالأمر اليسير. ففي وقت ظهور حضرة المسيح كان جميع البشر يسعون إلى التّقرّب إلى الله، ولكن لم يفز بهذا المقام في ذلك الوقت إلاّ نفر قليل – أي الحواريّون. فقد أيّد الله تلك النّفوس المباركة بالتّقرّب إليه بفضل محبّتهم له. لأنّ التّقرّب إلى الله مشروط باكتساب معرفة الله وبالانقطاع عمّا سوى الله وبفداء النّفس والتّضحية بالمال والشّؤون الدّنيويّة. ويمكن تحقّقه بالتّعميد بالماء والنّار الّذي نزل في الأناجيل. والمقصود بهذا الماء ماء الحياة أي المعرفة، والمقصود بالنّار نار محبّة الله، والمقصود من كلّ ذلك هو أنّ الإنسان يجب أن يتعمّد بماء الحياة وبالرّوح القدس وبنار محبّة الملكوت، وما لم يفز بهذه المقامات الثّلاثة لن يكون التّقرّب إلى الله ممكنًا. بهذه الكيفيّة نال البهائيّون في إيران نعمة التّقرّب؛ فبذلوا أرواحهم من أجل هذا المقام، وضحّوا بعزّتهم وراحتهم وممتلكاتهم، وسرعوا بمنتهى السّرور إلى مشهد الفداء، فسفكت دماؤهم ونُكّل بأجسادهم وقُطعت إرْبًا إرْبًا ونُهبت بيوتهم وأسرت أطفالهم وقد قبلوا جميع هذه البلايا بالابتهاج والرّضا. بمثل هذه التّضحيات يتحقّق التّقرّب إلى الله. ولتعلموا أنّ التّقرّب إلى الله لا يُحدّ بالزّمان والمكان. إنّه يتمّ بصفاء القلب ويتحقّق بانشراح الرّوح ببشارات الملكوت. لاحظوا كيف أنّ المرآة الصّافية المصقولة جيّدًا تعكس أشعّة الشّمس مهما كانت بعيدة عنها، فحالما تكون المرآة صافية لطيفة تتجلّى فيها أشعّة الشّمس. وبالمثل حينما تكون قلوب العباد صافية مجرّدة فإنّها تزداد تقرّبًا إلى الله وتظهر فيها شمس الحقيقة. وهو نور يشعل القلوب بنار محبّة الله، ويفتح في جنباتها أبواب المعرفة، ويكشف لها الرّموز والأسرار الإلهيّة، وبذلك يمكن تحقّق الكشفيّات الرّوحانيّة. لقد فاز جميع الأنبياء بالتّقرّب إلى الله بواسطة الانقطاع. ونحن إذًا علينا أن نسير على خُطى تلك النّفوس المقدّسة ونعرض عن رغباتنا وأهوائنا، وأن نتطهّر من أدران العالم البشريّ حتّى تصبح القلوب مثل المرايا في صفائها وتشرق منها أنوار الهداية الكبرى.

يتفضّل حضرة بهاء الله في الكلمات المكنونة بأنّ الله يلهم عباده وبأنّهم محلّ ظهوره، إذ يتفضّل: فؤادك منزلي قدّسه لنزولي وروحك منظري طهّرها لظهوري. فنفهم إذًا أنّ التّقرّب إلى الله يتمّ بالتّوجّه إلى الله، وبالدّخول في ملكوت الله، وبخدمة العالم الإنسانيّ. والتّقرّب إلى الله يتحقّق بالاتّحاد مع البشر، وباللّطف والمحبّة مع الجميع. ويتحقّق بتحرّي الحقيقة، ونيل الفضائل، وبخدمة الصّلح العموميّ، وبالتّنزيه والتّقديس. وخلاصة القول، فإنّ التّقرّب إلى الله يتطلّب التّضحية بالنّفس والانقطاع والتّخلّي عن كلّ شيء من أجله. فالتّقرّب إلى الله يعني أن تكون على صورته ومثاله.

لاحظوا كيف أنّ الشّمس تشرق على جميع الكائنات، إلاّ أنّ بهاءها وأنوارها لا تسطع قويّة إلاّ من الصّفحة الطّاهرة المصقولة، أمّا النّفس المظلمة فلا نصيب لها من تجلّي إشراق الحقيقة البديع. وأرض النّفس الّتي تخفق في الانتفاع بذلك النّور تعجز عن الإتيان بأيّ محصول. والعين العمياء لا تشاهد أشعّة الشّمس، في حين أنّ النّفوس الطّاهرة ذات البصر السّليم الكامل هي وحدها الّتي تتلقّاها. والأشجار الخضراء الحيّة يمكنها أن تنتفع من نعمة الشّمس، أمّا الجذور الميّتة والأغصان اليابسة فإنّها تتحلّل بفعلها. إذًا على الإنسان أن يسعى في تنمية قدرته وتطوير استعداده وقابليّته. وما لم يكن لدى الإنسان استعداد وقابليّة لتلقّي الفيوضات الإلهيّة لا يقدر أن يستضيء من نورها وينتفع بها. ولو أمطرت سحب الرّحمة الإلهيّة ألف سنة على أرض قاحلة فإنّها لا تثمر شيئًا. إذًا يجب أن نجعل تربة قلوبنا جاهزة خصبة بحرثها وتنظيفها حتّى يمطر عليها مطر الرّحمة الإلهيّة وتنبت منها الورود والرّياحين. ويجب أن تكون عيوننا مبصرة حتّى نشاهد أنوار الشّمس. كما يجب أن نطهّر المشامّ حتّى نستنشق رائحة الرّوضة الرّبّانيّة. وأن نعدّ المسامع حتّى نسمع نداء الملكوت الأسمى. أمّا إذا كانت الآذان صمّاء فلن تسمع أيّة نغمة مهما كانت جميلة، ولن يبلغها نداء الملأ الأعلى. والمشامّ المزكوم لا يشمّ أريج الرّياحين. إذًا يجب السّعي دائمًا وأبدًا لنيل القابليّة والاستعداد. وما لم يحصل ذلك فلن تنفذ إلينا النّعم والفيوضات الإلهيّة. لقد تفضّل المسيح في الإنجيل بأمثولة قال فيها بأنّ كلماته كالبذور الّتي يبذرها الزّارع، فبعضها يقع على الصّخر، وبعضها يقع على أرض جدباء، وبعضها يقع بين الأشواك والحشائش فتخنقه، ولكنّ البعض الآخر يسقط على أراضي قلوب مستعدّة قابلة طيّبة. فالبذر الّذي وقع في الأرض الجدباء لا ينبت بأيّ وجه من الوجوه. والبذرة الّتي تقع على صخرة سوف تنمو لوقت قصير ثمّ تجفّ بعده بسبب جذورها السّطحيّة، كما يقضي الشّوك والحشائش تمامًا على البعض الآخر. أمّا تلك البذرة الّتي تقع على الأرض الطّيّبة فإنّها تنتج الثّمار والحصاد.

بالمثل فإنّ كلماتي لكم في هذه اللّيلة قد لا تؤثّر في بعض القلوب، وقد يتأثّر بها البعض وسرعان ما ينساها، وبعضكم قد يخفق حتّى في السّمع والفهم جرّاءَ أوهامه وتخيّلاته. أمّا النّفوس المباركة المنتبهة إلى ما أقوله من وصايا ونصائح، السّامعة بأذن القبول، الّتي تسمح لكلماتي أن تنفذ جيّدًا في القلوب، فإنّها ترتقي يومًا بعد يوم نحو النّضج والاكتمال، بل وتترقّى نحو الملأ الأعلى. لاحظوا هذا المثل كيف يجعل البلوغ منوطًا بالقابليّة والاستعداد. فما لم تحصل اللّياقة والاستعداد لن يصل نداء الملكوت إلى السّمع، ولن يُشاهَد نور شمس الحقيقة، وسيذهب أريج روض المعاني أدراج الرّياح. إذًا علينا أن نبذل الجهد حتّى نحصل على الاستعداد واللّياقة والاستحقاق، حتّى نسمع نداء بشارات الملكوت، ونحيا بنفثات الرّوح القدس، ونرفع علم وحدة العالم الإنسانيّ ونحقّق الأخوّة الرّوحانيّة بين البشر، ونفوز بالحياة الأبديّة الباقية في كنف صون الفضل الإلهيّ.

يا إلهي الغفور إنّ هؤلاء العباد متوجّهون إلى ملكوتك آملين فضلك وموهبتك. فيا إلهي اجعل قلوبهم طيّبة طاهرة حتّى تكون قابلة لحبّك وطهّر الأرواح حتّى تتجلّى فيها أنوار شمس الحقيقة وطهّر الأبصار حتّى تشاهد أنوارك وطهّر الآذان وقدّسها حتّى تسمع نداء ملكوتك. يا إلهي نحن ضعفاء وأنت القدير ونحن فقراء وأنت الغنيّ ونحن القاصدون وأنت المقصود. إلهي ارحمنا واعفُ عنّا وأنعم علينا بالقابليّة والاستعداد حتّى نستحقّ ألطافك وننجذب إلى ملكوتك ونرتوي من ماء الحياة ونشتعل بنار محبّتك ونحيا بنفثات الرّوح القدس في هذا القرن النّورانيّ. إلهي إلهي تلطّف على هذا الجمع بعين عنايتك واحفظ الجميع وصُنْهُمْ في حفظك وحمايتك وأنزل البركة السّماويّة على هذه النّفوس واجعلهم مستغرقين في بحور رحمتك وأحيهم بنفثات الرّوح القدس. إلهي أيّد هذه الحكومة العادلة ووفّقها، فهذا الإقليم هو في ظلّ حمايتك وهذه الملّة أرقّاؤك. إلهي فابذل عنايتك وامنحنا فضلك وموهبتك وعزّز هذه الملّة المحترمة واقبلها في ملكوتك. إنّك أنت المقتدر وإنّك أنت القدير وإنّك أنت الرّحمن وإنّك أنت المنعم العطوف وإنّك أنت عظيم الإحسان.

(2) 28 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بحفل الاستقبال الّذي عقد بمعبد متروبوليتان
تقاطع الطّريق السّابع بالشّارع الرّابع عشر، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

إنّ أبوّة الله وعطفه وإحسانه بادية للجميع، فهو يسبغ من رحمته بكلّ سعة وسخاء على خلقه، ولا يقطع فضله إذا ما أخطأت نفس. وكلّ الموجودات شواهد لائحة على أبوّته ورحمته ومواهبه السّماويّة. والأخوّة الإنسانيّة بالمثل واضحة ظاهرة كالشّمس لأنّ الجميع عباد لإله واحد، منتسبون إلى جنس واحد، قاطنون في صقع واحد، ومستظلّون بقباب هذه السّماء المرفوعة، ومنغمسون في بحر الرّحمة الإلهيّة. كما أنّ الأخوّة والتّآزر البشريّ متحقّقان لأنّ التّعاضد والتّعاون هما المبدآن الجوهريّان اللّذان يقوم عليهما خير البشريّة. هذه هي الرّابطة المادّيّة لعالم البشر. ولكن هناك أخوّة أخرى – ألا وهي الأخوّة الرّوحانيّة – وهي أعلى وأقدس وأسمى ممّا عداها من أخوّة، إذ هي أخوّة ملكوتيّة منبعثة من نفثات الرّوح القدس ومن إشراق الفضائل الرّحمانيّة، وأساسها هو الاستعدادات الرّوحانيّة، وتتحقّق هذه الأخوّة على يد المظاهر القدسيّة لساحة الأحديّة.

لقد اجتهدت المظاهر الإلهيّة منذ زمان آدم لتوحيد الإنسانيّة حتّى يُعدّ الجميع نفسًا واحدة. وكما أنّ وظيفة الرّاعي ومراده هو أن يجمع خرافه لا أن يشتّتها، فقد كان أنبياء الله وما زالوا رعاة الإنسانيّة. فحقّقوا رابطةَ محبّةٍ واتّحادٍ بين البشر، وجعلوا الشّعوب المشتّتة أمّة واحدة، وخلقوا من القبائل الرّحّل مملكة عظيمة، وأرسوا قواعد وحدانيّة الله ودعوا الكلّ إلى السّلام العامّ. فجميع هذه النّفوس القدسيّة، أي المظاهر الإلهيّة، ما هي إلاّ نفس واحدة. وهم خدموا إلهًا واحدًا، وروّجوا نفس الحقيقة، وأسّسوا نفس الأنظمة، وسطعوا بنور واحد. ولكنّ ظهوراتهم كانت متتابعة ومرتبطة ببعضها البعض، فقد أنبأ كلّ سلف منهم عن الخلف وامتدحه، وأرسى كلّ منهم قواعد الحقيقة. ونادوا النّاس ودعوهم إلى المحبّة، وجعلوا عالم النّاسوت مرآة لعالم اللاّهوت. ولذا فإنّ كلّ ما أسّسوه من أديان إلهيّة هي واحدة في أصلها، كما أنّ تعاليمهم وحججهم وبراهينهم واحدة، وهم وإن كانوا مختلفين اسمًا أو رسمًا، إلاّ أنّهم في الحقيقة متّفقون ومتّحدون في الجوهر. ومجيء هذه المظاهر المقدّسة هو بمثابة مجيء فصل الرّبيع للعالم. وعلى الرّغم من أنّ فصل الرّبيع في هذا العام يطلق عليه اسم آخر مختلف عن ربيع العام الماضي تبعًا لاختلاف التّقويم، إلاّ أنّه يمثِّل ربيع العام الماضي في حيويّته وإنعاشه، ذلك لأنّ كلّ ربيع هو أوان خلق جديد، وآثاره وفضائله وكمالاته وقواه المحيية للأرواح هي ذاتها الخاصّة بالفصول الرّبيعيّة السّابقة رغم تعدّد الأسماء واختلافها. فنحن مثلاً في عام 1912، والعام الماضي كان عام 1911 وهكذا، ولكن لا يوجد في الحقيقة الجوهريّة أيّ اختلاف. فالشّمس واحدة، ولكنّ المشارق تتعدّد وتتغيّر. والمحيط جسم واحد من الماء، ولكن لمختلف أجزائه أسماء معيّنة – كالمحيط الأطلسيّ، والهادىء، والمتوسّط، والقطب الجنوبيّ، وهلمّ جرّا. فإذا ما نظرنا إلى الأسماء فهناك التّمييز والتّباين، أمّا عن حقيقة الماء والمحيط نفسه، فهي واحدة.

بالمثل، فالأديان السّماويّة الّتي أتت بها المظاهر المقدّسة الإلهيّة واحدة في حقيقتها ولو أنّها تختلف بالاسم والرّسم. وعلى الإنسان أن يكون عاشقًا للنّور من أيّ مشرق ظهر، ومحبًّا للورد في أيّ تربة نبت، وباحثًا عن الحقيقة من أيّ مصدر أتت. فالتّعلّق بالمصباح ليس هو حبَّ النّور، والتّعلّق بالتّربة لا يليق، بل ما يجدر هو التّمتّع بالورد الّذي ينمو من هذه التّربة. والتّمسّك بالشّجرة لا طائل منه، ولكنّ تناول الثّمر هو المفيد. والثّمر الشّهيّ خليق بالتّذوّق من أيّ شجر طلع ومن أيّ مكان أتى، وكلمة الحقّ يجب الإذعان لها من أيّ لسان خرجت، والحقائق الثّابتة يجب القبول بها في أيّ كتاب سطرت. وإذا ما أضمرنا التّعصّب، كان ذلك علّة الحرمان والجهل. وينشأ الصّراع بين الأديان والأمم والأجناس من سوء الفهم. وإذا ما تفحّصنا في الأديان لكي نتبيّن المبادئ القائمة عليها، لوجدنا أنّها متّفقة، ذلك لأنّ حقيقة الأديان الجوهريّة واحدة لا تتعدّد. وبهذه الكيفيّة يصل أهل أديان العالم إلى نقطة اتّحادهم وائتلافهم، ويتبيّن لهم حقيقة أنّ غرض الدّين هو نيل الخصال الحميدة، وتحسين الأخلاق، والتّرقّي الرّوحيّ للبشر، وهو أيضًا عين الحياة والفضائل الرّبّانيّة. لقد كان جميع الأنبياء مروّجين لهذه المبادئ، ولم يكن أيّ منهم مروّجًا للمفاسد أو الرّذيلة أو الشّرور. وجميعهم دعوا البشر إلى كلّ خير ومعروف، وجمعوا النّاس على محبّة الله، ودعوهم إلى أديان تنادي بوحدة الإنسانيّة، وحضّوهم على الألفة والوداد. فإذا ما ذكرنا مثلاً حضرة إبراهيم أو حضرة موسى، فنحن لا نقصد بذلك تلك الحدود الّتي تدل عليها الأسماء وإنّما نعني الفضائل الّتي تجسّدها تلك الأسماء. وعندما نقول حضرة إبراهيم، نعني بهذا الاسم مظهر الهداية الرّبّانيّة ومركز الفضائل الإنسانيّة ومنبع العطايا الرّبّانيّة للبشر ومشرق الإلهام والكمالات الإلهيّة. وهي كمالات ومواهب غير قاصرة على أسماء أو حدود. وعندما نجد هذه الفضائل والمناقب والصّفات في أيّ شخصيّة، نتعرّف على نفس الحقيقة مشرقة من تلك الذّات، ونركع اعترافًا بالكمالات الإبراهيميّة. وبالمثل نقرُّ بالجمال الموسويّ ونعشقه. ولقد كانت بعض النّفوس عاشقة لاسم حضرة إبراهيم، أي عاشقة للمصباح بدلاً من النّور، وعندما لمع نفس النّور من مصباح آخر، كان تعلُّقُهم بالمصباح السّابق بدرجة لم يعترفوا بظهوره وضيائه اللاّحق. ولهذا حرم من كانوا متعلّقين ومتشبّثين باسم حضرة إبراهيم عندما ظهرت الفضائل الإبراهيميّة في شخص حضرة موسى. وكذلك كان اليهود أيضًا مؤمنين بحضرة موسى ومنتظرين مجيء السّيّد المسيح. فلاحت الفضائل والكمالات الموسويّة في شخص يسوع المسيح بكلّ إشراق، إلاّ أنّ اليهود كانوا متمسّكين باسم حضرة موسى، ولم يكونوا عاشقين للفضائل أو للكمالات المتجلّية فيه. ولكنّهم لو كانوا قد عشقوا هذه الفضائل وسعوا وراء تلك الكمالات، لكانوا قد آمنوا بيسوع المسيح بكلّ تأكيد عندما أضاءت نفس الفضائل والكمالات في شخصه. فإذا ما كنّا محبّين للنّور، لعشقناه في أيّ مصباح أضاء، أمّا إذا أحببنا المصباح نفسه، ثمّ انتقل النّور إلى مصباح آخر، فلن نقبله أو نسلّم به. فعلينا إذًا أن نتّبع الفضائل المتجلّية في رسل الله ونعشقها – سواء كانت في حضرة إبراهيم أو حضرة موسى أو يسوع المسيح أو غيرهم من الأنبياء – لا أن نتّبع المصباح ونعشقه. كما يجب علينا أن نعترف بالشّمس بصرف النّظر عن المشرق الّذي تطلع منه، أكان مَشرقًا موسويًّا، أو إبراهيميًّا، أو من أيّ مطلع أشرقت منه مهما كان، لأنّنا محبّون لنور الشّمس لا لمشارقها، ونحن عاشقون للضّياء لا للمصابيح أو الشّموع، ونحن قاصدون الماء من أيّ صخر تدفّق، ونحن محتاجون للثّمار من أيّ بستان أينعت، ونشتاق المطر من أيّ سحاب همى. ولا يصح أن نكبِّل أنفسنا بالأصفاد. فإذا ما ألقينا بهذه الأصفاد جانبًا فإنّنا نتّفق، إذ إنّ الكلّ طالبون للحقيقة. لقد تسبّب تزييف وتقليد جوهر الدّين الحقّ في إفساد عقائد البشر، وغابت أصوله عن الأعين. وتسبّب تباين هذه التّقاليد في خلق البغضاء والشّحناء، والحرب وسفك الدّماء. والآن قد طلع فجر القرن العشرين الباهر اللاّمع، وأنوار الفضل الرّبّانيّ تشعّ على العموم، وتسطع شمس الحقيقة بأشدِّ إشراق. فهذا حقًّا هو القرن الّذي يجب فيه أن نتخلّى عن هذه التّقاليد، ونترك هذه الأوهام، وأن نعبد الله وحده. علينا أن ننظر إلى حقائق النّبيّين وتعاليمهم حتّى يسود الوفاق فيما بيننا.

الحمد لله! إنّ أوان فصل الرّبيع الرّبّانيّ قد حان. فهذا القرن حقًّا هو موسم الرّبيع، إذ بيُمنه أصبح عالم العقول ومملكة الأرواح خضلة نضرة، وعادت الحياة إلى مملكة الوجود بأسْرها. فمن ناحية تشرق أنوار الحقيقة، ومن ناحية أخرى يهطل غمام الرّحمة الإلهيّة بخالص الفضل السّماويّ. وظهر التّقدّم المادّيّ الرّائع جليًّا للعيان، كما تحقّقت الاكتشافات الرّوحيّة العظيمة. فهو قرن يمكن أن يقال عنه بحقّ إنّه معجزة القرون، لأنّه مفعم بتجلّيات الإعجاز. لقد آن أوان اتّحاد الجنس البشريّ بأكمله، وهو أوان يكون فيه ولاء كافّة الأعراق لوطن واحد، وتصير فيه كلّ الأديان دينًا واحدًا، ويذهب التّحيّز العرقيّ والدّينيّ بغير رجعة. وهو يوم ترفع فيه وحدانيّة البشريّة لواءها، ويفيض السّلام العالميّ على العالم بنوره كالصّبح الصّادق. لذا فإنّنا نبتهل إلى الله، سائلين أن يبدِّد هذه السّحب القاتمة، ويستأصل هذه التّقاليد، كي يصبح الشّرق والغرب مضيئيْن بنور المحبّة والاتّحاد، وتتعانق أمم الأرض، وتنير الأخوّة الرّوحانيّة المُثلى في العالم كالشّمس البهيّة في السّماوات العلى. هذا هو أملنا ورجاؤنا ومرادنا. وندعو الله أن نبلغه بفضله ومنّـه علينا. وأنا مسرور لحضوري هذا اللّقاء المفعم بإشراق السّرائر، الزّاخر بالفطنة والإدراك والشّوق لتحرّي الحقيقة. فهذه اللّقاءات هي مجد العالم البشريّ. وإنّي ألتمس لكم البركة الإلهيّة.

(3) 29 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد إدوارد كيني وحرمه،
780 طريق وست إند، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

إنّ المظاهر الإلهيّة هم المحطِّمون لأصنام التّقاليد بفضل تعاليمهم، المستأصلون لشأفة الخطأ، والهادمون للعقائد الدّينيّة الزّائفة، وداعو البشريّة من جديد إلى أصل وحدانيّة الله. كما أنّهم جميعًا أعلنوا وحدة العالم الإنسانيّ. فكان جوهر تعليم حضرة موسى هو شريعة السّيناء، أي الوصايا العشر. ثمّ جدّدها السّيّد المسيح وجاءنا بأوامر الله الواحد الأحد، وبمبادئ العمل الإنسانيّ. أمّا حضرة محمّد، فمع أنّ نطاق دعوته كان أوسع، إلاّ أنّ القصد من تعاليمه كان أيضًا رقيّ البشريّة وتوحيدها في ظلّ عرفان الله الأحد. واتّسعت الدّائرة أيضًا بقدر كبير في رسالة حضرة الباب، بيد أنّ التّعليم الجوهريّ كان هو بعينه. وتزيد كتب حضرة بهاء الله على أكثر من مائة مجلّد، وكلّ كتاب منها برهان لائح وكاف للبشريّة، وينطق كلّ منها بوحدانيّة الله ووحدة الجنس البشريّ الأساسيّة ومحبّة الله وإلغاء الحرب ورفع الرّاية الإلهيّة الدّاعية إلى السّلام. كما يرسّخ كلّ منها قواعد الأخلاق الإلهيّة، ويجسِّد الأفضال الرّبّانيّة – وفي كلّ كلمة منها صحيفة من المعاني. ذلك لأنّ الكلمة الإلهيّة هي الحكمة الكلّيّة، والمعرفة الخالصة، والحقيقة السّرمديّة.

انظروا إلى العبارة الّتي جاءت في الأصحاح الأوّل من إنجيل يوحنّا: في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. إنّها عبارة وجيزة ولكنّها زاخرة بأعظم المعاني، وتطبيقاتها غير محدودة، وليس بمقدور كتب أو كلمات أن تحتويها أو تعبّر عنها. لم يفسّرها علماء اللاّهوت حتّى الآن، وإنّما قصروها على يسوع بوصفه الكلمة صار جسدًا، أي انفصال يسوع عن الله، الآب، ونزوله إلى الأرض. وهكذا، بدأ تعليم الفصل الأقنومي للذّات الإلهيّة.

إنّ للوحدانيّة الجوهريّة للآب والإبن والرّوح القدس معان شتّى، وهي تمثّل أساس العقيدة المسيحيّة. ولكنّنا سنعطي اليوم مجرّد نبذة توضيحيّة. فلماذا كان يسوع هو الكلمة؟

إنّ جميع الكائنات الحادثة في عالم الخلق هي بمثابة الأحرف. وكما أنّ الأحرف في حدّ ذاتها خالية من المعنى ولا تعبّر عن أيّ فكر أو دلالة – مثل أ، ب، إلخ، كذلك جميع الكائنات الظّاهريّة أيضًا ليس لها معنى ذاتيّ مستقلّ. أمّا الكلمة فتتكوّن من أحرف ولها معنى ومغزى مستقلّ، لذلك، وكما أبلغ حضرة المسيح المعنى الكامل للحقيقة الإلهيّة وجسّد الدّلالة المستقلة، كان هو الكلمة. وكان بمثابة مقام الحقيقة بالمقارنة بمقام المجاز. وكذلك، ليس هناك معان ذاتيّة لأوراق أيّ كتاب، ولكنّ ما تنقله تلك الأوراق من أفكار يجعلنا نتأمّل في الحقيقة. وحقيقة يسوع كانت هي المعنى التّامّ، أي مقام المسيح الحائز عليه والّذي رمزت إليه الكتب المقدّسة بالكلمة.

عبارة والكلمة كان عند الله لا تعني أنّ مقام المسيح كان يكمن في جسد عيسى وإنّما هو كمال الفضائل الرّبّانيّة المتجلّية فيه. ولهذا مكتوب أنّ الكلمة الله، فهذا لا يعني انفصالاً عن الله، تمامًا كما لا يمكن فصل أشعّة الشّمس عن الشّمس. فحقيقة حضرة المسيح كانت تجسيد الفضائل الرّبّانيّة والصّفات الإلهيّة. إذ إنّه لا توجد ازدواجيّة في الألوهيّة، وكلّ الصّفات والأسماء والضّمائر واحدة في ساحة التّقديس هذه، فليس هناك أيّ تعدّد أو انقسام. والقصد من هذا الشّرح هو بيان أنّ لكلمات الله دلالات لا عِدَّ لها وأسرارًا للمعاني لا حصر لها – ولكلّ منها ألف معنى وأكثر.

ألواح حضرة بهاء الله كثيرة، وما تتضمّنه من مبادئ وتعاليم لها طابعها العموميّ، وتتناول كلّ مسألة من المسائل. وقد أنزل حضرته شروحًا علميّة تتناول جميع مجالات الاستقصاء والتّحرّي البشريّ – مثل علم الفلك، وعلم الأحياء، وعلم الطّبّ، وغيرها. وفي كتاب الإيقان أعطى حضرته توضيحات لمعاني الإنجيل وكتب سماويّة أخرى. وحرّر ألواحًا مسهبة في المدنيّة، وفي علم الاجتماع وأصول الحكم. وأُخِذت كلّ مسألة بعين الاعتبار. وألواحه فريدة في جمالها وعمقها، حتّى إنّ أعداءه أقرّوا بعظمة حضرة بهاء الله قائلين إنّه كان معجزة البشريّة. هكذا كان اعترافهم، رغم أنّهم لم يؤمنوا بحضرته. وكان محلّ مديحِ مَنْ أنكروا دعوته من مسيحيّين ويهود وزرادشتيّين ومسلمين. وغالبًا ما كانوا يقولون ‘إنّه فريد لا نظير له’. وكتب شاعر مسيحيّ في بلاد الشّرق قائلاً ‘لا تؤمنوا به كرسول من عند الله، إلاّ أنّ عظمة معجزاته كعظمة الشّمس’. وقد ذكر ميرزا أبو الفضل أشعارًا كثيرة من هذا القبيل، وهناك العديد غيرها. وأقرّ أعداؤه بأنّه كان معجزة البشريّة وأنّه كان يسير على درب فريد من دروب المعرفةوأنّه كان شخصيّة ليس لها نظير. وتعاليم حضرة بهاء الله عالميّة وعموميّة وهي معيار ونبراس للعمل الإنسانيّ. فهي ليست مجرّد أمور نظريّة مقصود بها أن تبقى بين طيّات الكتب، بل هي أصول للعمل. والعمل تتبعه نتائج، أمّا النّظريّة المجرّدة فلا تأتي بأيّ ثمر. فما فائدة كتاب في الطّبّ إذا لم تتناوله يد من على رفّ المكتبة؟ فحيثما يتجلّى النّشاط والعمل، تؤتي تعاليم الله أكُلها.

إنّ أعظم وأعمّ مبدأين من مبادئ حضرة بهاء الله هما وحدانيّة الله ووحدة الجنس البشريّ. هذه هي عروة الاتّحاد بين البهائيّين في جميع أنحاء العالم. بها يصبحون متّحدين فيما بينهم، ومن ثمّ يوحّدون الآخرين. فلا يمكن لكم أن تُوحِّدوا ما لم تتوحّدوا. لقد قال السّيّد المسيح أنتم ملح الأرض، فإذا فسد الملح فبماذا يُملَّح؟ وهذا يبرهن على أنّه كانت هناك خلافات بين أتباعه وأنّهم كانوا يفتقرون إلى الوحدة. من هنا جاء أمره بوحدة العمل.

أفلا يجمُلُ بنا الآن بالمثل أن نرتبط برباط الوحدة الخالصة، وأن نكون عطوفين ومحبّين لبعضنا البعض، مضحّين بكلّ ممتلكاتنا وجاهنا، بل وحتّى بحياتنا من أجل بعضنا البعض. عندئذ يثبت أنّنا قد عملنا بمقتضى التّعاليم الإلهيّة، وأنّنا كنّا مؤمنين صادقين بوحدانيّة الله وبوحدة العالم الإنسانيّ.

(4) 30 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بمحفل الثيوصوفيّين
تقاطع طريق برودواي والشّارع التّاسع والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

إنّني في غاية السّرور ممّا أراه هنا من مشاعر الودّ والتّرحيب وشواهد الأحاسيس الرّوحانيّة. وأنا سعيد جدًّا في هذه اللّيلة لملاحظة أنّ أهدافنا وغاياتنا متشابهة، وأنّ آمالنا وتطلّعاتنا واحدة. وهذا انعكاس ودليل على وحدة العالم الإنسانيّ وبرهان على التّصميم على تحقيق الصّلح الأعظم. فنحن إذًا متّحدون في الإرادة والهدف. ولا يوجد في عالم الوجود ما هو أعظم من هاتين المسألتين. فوحدة العالم الإنسانيّ تضمن للإنسان إجلاله، والسّلام العالميّ يكفل للبشريّة كلّها خيرها وسعادتها، وليس أمام النّفس البشريّة ما هو أعظم من هذين الدّافعين والغايتين. وبما أنّنا متّفقون عليهما، فمن المأمول بالدّرجة الأولى أن تتأكّد الوحدة والوفاق ما بين البهائيّين والثّيوصوفيّين. فمقاصدهم واحدة، وتطلّعاتهم واحدة، وأحاسيسهم الرّوحانيّة مشتركة. واهتمامهم منحصر في ملكوت الله، ويقتسمون هذا الفضل على حدّ سواء.

العالم الإنسانيّ اليوم في حاجة إلى قوّة عظمى يحقّق بها هذه المبادئ والمقاصد المجيدة. إنّ قضيّة السّلام أمر جدّ عظيم، فهو أمر إلهيّ، ولكنّ كلّ قوى العالم تقف ضدّه وتعارضه؛ فالحكومات مثلاً تعتبر أنّ التّوجّه العسكريّ خطوة نحو التّقدّم البشريّ، وأنّ الانقسام بين النّاس والأمم هو علـّة الحميّة الوطنيّة والافتخار القوميّ، وأنّه إذا ما هجمت أمّة على أخرى وهزمتها ونالت الثّروة والأرض والفَخار، فإنّ هذا القتال والاحتلال وإراقة الدّماء والقسوة يكون سبب تقدّم ورخاء تلك الدّولة المنتصرة. إنّ هذا خطأ باتّ. قارنوا أمم العالم بأفراد الأسرة، فالأسرة هي أمّة مصغّرة، وبمجرّد توسيع دائرة الدّار، نحصل على الأمّة، وبتوسيع دائرة الأمّة نحصل على البشريّة جمعاء. والظّروف الّتي تحيط بالأسرة تحيط أيضًا بالأمّة، والوقائع الّتي تحدث داخل الأسرة هي أيضًا نفس الأحداث الّتي تجري في حياة الأمّة. فهل يزداد تقدّم الأسرة وترقّيها إذا ما دبّت الخلافات بين أفرادها؛ كلّ في عراك، ناهبون بعضهم البعض، حاسدون ومنتقمون لكلّ أذيّة، ساعون وراء المكسب الّذي تمليه الأنانيّة؟ لا والله، فإنّ هذا يكون علّة لمحو التّقدّم والرّقيّ. وهذا هو الشّيء نفسه في الأسرة العظمى – أسرة الأمم، فما الأمم إلاّ لفيف من الأسر. وعلى هذا فإنّه، وكما يهدم التّناحر والشّقاق الأسرة ويحول دون تقدّمها، كذلك تنهدم الأمم ويُعاق ترقّيها.

جميع الكتب السّماويّة وأنبياء الله والحكماء والفلاسفة متّفقون على أنّ القتال هادمٌ لرقيّ البشر، وأنّ الصّلح بانٍ له. وهم متّفقون أيضًا على أنّ الحرب والنّزاع يضربان أسّ أساس البشريّة. فهناك حاجة إذًا إلى قوّة تمنع الحرب، وتنادي بوحدة الإنسانيّة وتؤسّسها.

إلاّ أنّ مجرّد العلم بالحاجة إلى هذه القوّة لا يكفي. فمعرفة أنّ الثّراء مرغوب فيه ليس تحقّقًا للثّراء. وإقرارنا بأنّ تحصيل العلم ممدوح لا يكسبنا معرفة علميّة. والتّسليم بأنّ الشّرف امتياز لا يجعل الإنسان شريفًا. والإلمام بأحوال البشر وما يلزم لعلاجها لا يكون سببًا في تحسينها. والإقرار بفائدة الصّحّة لا يمثّل الصّحّة. وإنّما يلزمنا طبيب حاذق لعلاج أحوال البشر الحاليّة. وكما يلزمنا طبيب للحصول على دراية كاملة بعلم الأمراض والتّشخيص والمداواة والعلاج، فإنّ طبيب هذا العالم يجب أن يكون حكيمًا حاذقًا ومتمكّنًا قبل أن يحصل الشّفاء. ولكنّ علمه المجرّد لا يُعتبر شفاء، إذ يتحتّم تطبيقه وتناول العلاج.

إنّ بلوغ أيّ هدف منوط بالمعرفة والإرادة والعمل. وما لم تتوفّر هذه الشّروط الثّلاثة فلا تنفيذ أو إنجاز. فلبناء منزل يجب أوّلاً أن نتعرّف على طبيعة الأرض، وأن نصمّم المنزل بكيفيّة ملائمة لها، وثانيًا يلزمنا الحصول على الوسائل أو الأموال اللاّزمة للبناء، وثالثًا أن نشرع فعلاً في بنائه. لذلك يلزمنا قوّة لتنفيذ وإجراء ما هو معروف ومُسلَّم به أنّه العلاج لأحوال الإنسانيّة – وأعني بذلك توحيد الجنس البشريّ. وعلاوة على ذلك فمن الواضح أنّ هذا لا يمكن تحقيقه بالوسائط والوسائل المادّيّة، ذلك لأنّ تحقيق هذه الوحدة غير ممكن بالقوّة العرقيّة، فالأعراق مختلفة ومتباينة في ميولها. كما أنّ تحقيقها غير ممكن بالقوّة الوطنيّة، لأنّ القوميّات لا تتماثل. كما لا يمكن تنفيذها بالقوّة السّياسيّة طالما أنّ سياسات الحكومات والأمم متغايرة. والقصد هو أنّ أيّ مجهود نحو الوحدة إذا ما تمّ بأيّ من هذه الوسائط المادّيّة، فمن شأنه أن يفيد طرفًا ويؤذي الآخر بسبب المصالح غير المتكافئة والشّخصيّة. وقد يعتقد البعض أنّ هذا الدّرياق الأعظم موجود في الإصرار المتشدّد على التّقاليد والتّفاسير، وهذا من شأنه أيضًا أن يكون بلا أساس أو نتيجة. فيكون من الثّابت إذًا أنّه ليست هناك واسطة لشفاء العالم من علّة الحروب والنّزاع والخلاف سوى واسطة مثاليّة، وقوّة روحانيّة، ومواهب ربّانيّة، ونفثات الرّوح القدس. وفيما عدا ذلك ليس من أمر آخر جائز أو من الممكن تصوّره. أمّا من خلال الوسائل الرّوحانيّة والقدرة الإلهيّة فيكون الشّفاء ممكنًا وعمليًّا.

تأمّلوا التّاريخ؛ ما الّذي حقّق الاتّحاد للأمم والأخلاقيّات للشّعوب والمنافع للبشريّة؟ فإذا ما فكّرنا في ذلك لوجدنا أنّ إرساء قواعد الأديان الإلهيّة كان أعظم وسيلة لتحقيق وحدة الإنسانيّة، وأنّ أساس الحقيقة الإلهيّة الكامن في الدّين هو الّذي أحدث ذلك، وليست تقاليد ورسوم الأديان الموروثة. فالتّقاليد متضاربة ولطالما كانت علّة للنّزاع والعداوة والحسد والحرب. أمّا الأديان الإلهيّة فهي نقاط التقاء جامعة تتقابل فيها مختلف الآراء، وتأتلف وتتّحد. وهي تحقّق وحدة الأوطان والأعراق والسّياسات. فحضرة المسيح على سبيل المثال قد وحّد شعوبًا مختلفة، وجلب السّلام لشعوب متحاربة، وأسّس وحدة الجنس البشريّ. فقد كان الغزاة الفاتحون من يونان ورومان، والمتعصّبون من المصريّين والآشوريّين – كانوا جميعًا في حالة من التّناحر والعداوة والاقتتال، بيد أنّ حضرة المسيح ألـّف بين هذه الشّعوب المتخالفة وأزال أسس الخلاف – ليس عن طريق قوّة عرقيّة أو قوميّة أوسياسيّة، وإنّما بالقوّة الإلهيّة، قوّة الرّوح القدس. ولم يكن ذلك ممكنًا بأيّة كيفيّة أخرى. وكلّ ما قامت به الشّعوب والأمم خلاف ذلك يبقى مجرّد روايات ذكرها التّاريخ دون أن تكون مقرونة بأيّ عمل أو إنجاز.

بما أنّ هذه الغاية العظمى تتوقّف على القوّة والفيوضات الإلهيّة، فمن أين للعالم الحصول على تلك القوّة؟ إنّ الله أزليّ أبديّ، وليس إلهًا جديدًا. وسلطانه قديم وليس حادثًا، ولا يرجع وجوده إلى مجرّد خمسة أو ستّة آلاف سنة. فهذا الكون اللاّمتناهي أبديّ، وسلطان الله وقدرته وأسماؤه وصفاته أبديّة قديمة. وأسماؤه تفترض وجود الخليقة وتعني ضمنًا وجود الله وإرادته. فنقول إنّ الله خالق. فاسم الخالق هذا يتجلّى عندما نعني به وجود الخلق. كما نقول إنّ الله هو الرّزّاق، وهو اسم يفترض وجود المرزوق ويثبت وجوده. والله هو المُحبّ، وهو اسم يثبت وجود المحبوب. والله، بنفس الكيفيّة، هو الرّحمة، والله هو العدل، والله هو الحياة، إلى آخره. فبما أنّ الله هو الخالق، الأزل، القديم، فقد كانت هناك دائمًا وأبدًا مخلوقات ورعيّة أحياء يرزقون. ولا مِرية في أنّ سلطان الله أزليّ، والسّلطنة تستلزم وجود رعيّة ووزراء وأمناء، وآخرين مستظلّين بهذه السّلطنة. فهل يكون هناك ملك بغير مملكة أو رعايا أو جيش؟ فإذا ما تصوّرنا وجود زمان لم يكن فيه مخلوقات ولا عباد ولا رعيّة للحضرة الإلهيّة، نكون بذلك قد خلعنا الله عن عرشه، وقصدنا أنّه كان هناك زمان لم يكن لله فيه وجود. وكأنّما قد نُصِّب حديثًا وأنّ هناك من البشر من أسبغ عليه هذه الألقاب، في حين أنّ السّلطنة الإلهيّة قديمة أبديّة، وأنّ الله منذ الأزل هو المحبّة والعدل والقدرة والخالق والرّازق والعليم والوهّاب.

بما أنّ ذات الألوهيّة أزليّة، فإنّ الصّفات الإلهيّة تكون ملازمة لها في وجودها وأبديّتها. ويترتّب على ذلك أن تكون المواهب الإلهيّة لا بداية لها ولا نهاية. وبما أنّ الله غير محدود، فإنّ صنع الله غير محدود، وفيوضات الله أيضًا غير محدودة. وبما أنّ ألوهيّته أبديّة، فإنّ ربوبيّته وكمالاته أيضًا أبديّة. وبما أنّ عطايا الرّوح القدس أبديّة، فلا يمكننا القول مطلقًا بأنّ مواهب الله تتوقّف، وإلاّ توقّف هو أيضًا. وإذا ما فكّرنا في الشّمس ثمّ حاولنا أن نتخيّل انقطاع لهيب الشّمس وحرارتها، فإنّنا نكون بذلك قد افترضنا انعدام الشّمس، ذلك لأنّ انفصال الشّمس عن أشعّتها وحرارتها أمر لا يقبله العقل. وبناء على ذلك فإنّنا لو حَدَّدْنا المواهب الإلهيّة بحدود وقيود، نكون قد حدّدنا الصّفات الإلهيّة، وحدّدنا الله نفسه.

فلنثقْ إذًا في فضل الله وموهبته، ولننتعش بالنّسائم الرّبّانيّة، ولْنستَنِرْ ونسمو بالبشارات الملكوتيّة. لقد عامل الله الإنسان دائمًا وأبدًا بالرّحمة والشّفقة. والّذي أنعم بالرّوح الإلهيّة فيما سلف من الزّمان هو جدُّ قادرٍ ومقتدرٍ أن يمنح المواهب ذاتها في كلّ وقت وحين. وبناء على هذا علينا بالأمل والرّجاء. فالله الّذي مَنَّ على العالم في السّابق سيمُنُّ عليهم الآن أيضًا وفي قادم الأيّام. والله الّذي نفث على عباده من نفثات الرّوح القدس سينفث عليهم الآن وفي المستقبل. فلا انقطاع لفضله وعطائه. والرّوح الرّبّانيّة نافذة من الأزل إلى الأبد، لأنّها عطيّة من الله، وعطيّة الله أبديّة. فهل يمكنكم تصوّر حدّ للقدرة الرّبّانيّة في حقائق الذّرّات، أو انقطاع الموهبة الرّبّانيّة في الكائنات الحيّة؟ وهل يمكنكم تصوّر انعدام القدرة المتجلّية الآن في هذا الزّجاج وتماسك ذرّاته؟ أو أنّ الطّاقة الّتي يتكوّن منها ماء البحر تتوقّف عن الانبعاث، ويختفي البحر؟ أو أنّ المطر سينزل اليوم ثمّ لن ينهمر أبدًا بعد ذلك؟ أو أنّ إشراق الشّمس سيتوقّف، فلا يبقى هناك ضوء أو حرارة؟

عندما نشاهد العطايا الإلهيّة مستمرّة في عالم الجماد، أفلا نتوقّعها وندركها بدرجة أكبر بكثير في ملكوت الرّوح الإلهيّ؟ وألا يكون إشراق أنوار الله وعطيّة الحياة الأبديّة على روح الإنسان أعظم بكثير؟ فكما يكون جسم هذا الكون المادّيّ مُستدامًا وسليمًا، كذلك تكون مواهب وعطايا الرّوح الرّبّانيّة أبديّة دائمة.

الحمد لله أنّه أنعم عليّ بحضور هذا المحفل المبجّل المنتعش بالأحاسيس الرّوحانيّة والانجذاب الملكوتيّ – فالحضور باحثون عن الحقيقة، وغاية رجائهم تأسيس السّلام العالميّ، وأسمى مراميهم خدمة العالم الإنسانيّ.

عندما نتأمّل في عالم الكائنات الحادثة، نجد أنّ كلّ ذرّة من ذرّات المادّة تتحرّك في مختلف درجات وممالك الحياة العضويّة. فانظروا مثلاً إلى المادّة الأثيريّة الّتي تتحرّك وتنفذ في كلّ الحقائق المادّيّة، فعندما يكون هناك تموّج أو اهتزاز في المادّة الأثيريّة تتأثّر العين بتموّجاتها وترى ما هو معروف بالنّور.

عطايا الله تتحرّك وتدور على نفس المنوال في كلّ المخلوقات. وهذا الفيض الإلهيّ غير المحدود ليس له ابتداء ولن يكون له انتهاء، فهو يتحرّك ويدور ويكون له تأثير حيثما تتطوّر القابليّة لتلقِّيه. ولكلّ رتبةٍ قابليّتُها الخاصّة. وعلى ذلك فلنأمل في أن تنتعش الإنسانيّة بفضل الله وموهبته من هذه الرّوح المحيية الّتي نُفخت في كلّ الموجودات، وبمواهبها يصبح عالم الإنسان عالمًا ربّانيًّا، ويصير هذا العالم التّرابيّ مرآة لعالم اللاّهوت، وتنكشف فضائل عالم الإنسان وكمالاته، وتنعكس صورة الله ومثاله من هذا الهيكل الإنسانيّ.

إنّني في غاية الامتنان لرئيس هذه الجمعيّة، وأعبّر له عن فائق التّحيّة والاحترام. وأملي أن يشملكم التّأييد لنيل رضاء الله. ولقد أسعدني كثيرًا ما لدى الحاضرين هنا من أحاسيس روحانيّة، وألتمس من الله العون والتّوفيق للجميع.

(5) 31 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بقاعة البلديّة، بمدينة فانوود، ولاية نيوجيرسي

نقلاً عن الملاحظات الفارسيّة

يخضع العالم المادّيّ إلى التّغيير والتّبديل، أمّا أمر الملكوت الإلهيّ فهو أبديّ، وبناء عليه يكون هو الأهمّ. ولكن، واحسرتاه، لقد باتت قوّة الملكوت تضعف يومًا فيومًا في قلوب البشر، ونالت القوى المادّيّة الهيمنة. فطفقت الدّلائل الرّبّانيّة تخفت في القلوب شيئًا فشيئًا والأمارات البشريّة تزداد قوّة. وبلغ الحال إلى درجة صار فيها المادّيّون في تقدّم وهجوم، بينما قوى اللاّهوت باتت في وَهَن وأُفول، وغلب اللاّدين على الدّين. ويكمن السّبب في حالة الفوضى هذه في الاختلافات بين الأديان، ويرجع إلى العداوة والبغضاء السّائدة بين المذاهب والطّوائف. لقد استفاد المادّيّون من هذا الخلاف النّاشئ بين أصحاب الأديان وما برحوا يهاجمونهم، قاصدين اقتلاع الشّجرة الّتي غرستها يد الله. وتطرّق الضّعف والهزيمة إلى أوساط الأديان من جرّاء التّطاحن والنّزاع فيما بينها. وإذا ما اختلف قائد عسكريّ مع جيشه في تنفيذ الخطط الحربيّة، فإنّه سيُهزم على يد الأعداء لا محالة. وأصحاب الأديان اليوم في خلاف وتسودهم العداوة والتّقاتل والتّنابذ، ويرفضون المعاشرة، بل ويستبيحون دم بعضهم البعض إذا لزم الأمر. فاقرأوا التّاريخ والسّجلات لتعرفوا كم من وقائع مفجعة حدثت باسم الدّين. فمثلاً بُعث أنبياء اليهود للتّبشير بمجيء حضرة المسيح، ولكنّ التّلمود وخرافاته، بكلّ أسف، قد حجب حضرته بالكلّيّة حتّى إنّهم صلبوا المسيح الّذي وُعدوا به. فلو أنّهم نبذوا التّقاليد التّلموديّة، وتحرّوا حقيقة الدّين الموسويّ، لصاروا مؤمنين بحضرة المسيح. ولكنّ التّمسّك الأعمى برسوم وتقاليد عقائد الأسلاف حرمهم من موهبة الظّهور المسيحيّ، فلم ينتعشوا من هطول غيث الرّحمة، ولم يستنيروا من أشعّة شمس الحقيقة.

فالتّقليد هادم لأساس الدّين، وهو يطفيء روحانيّة عالم الإنسان، ويبدّل النّور الملكوتيّ بالظّلمة، ويحرم الإنسان من معرفة الله. والتّقليد هو السّبب في انتصار المادّيّة والكفر بالدّين، وهو إنكار للألوهيّة ولناموس الوحي والتّنزيل، ورفض للنّبوّة وإنكار لملكوت الله. وعندما يُخضِع المادّيّون هذه التّقاليد للتّحليل العقلانيّ المنطقيّ، يكتشفون أنّها مجرّد أوهام وخرافات، فيُنكرون الدّين. مثلاً، هناك لدى اليهود آراء عن الطّهارة والنّجاسة في الدّين، ولكنّكم عندما تُخضِعون هذه الآراء للتّمحيص العلميّ تجدونها بغير أساس.

فهل يستحيل علينا أن نتلقّى العطايا الرّبّانيّة غير المتناهية؟ وهل يستحيل اكتساب فضائل عالم الرّوح لأنّنا لا نعيش في زمن حضرة موسى أو في زمن أنبياء بني إسرائيل أو في عصر حضرة المسيح؟ فتلك كانت دورات روحانيّة. وهل من غير الممكن أن نترقّى روحانيًّا بسبب بُعدنا عن تلك الدّورات وعيشنا في عصر مادّيّ؟ إنّ إله موسى وعيسى قادر أن يغدق على شعبه اليوم بنفس العطايا، بل بعطايا أعظم منها. فمثلاً قد أغدق الله على عباده في العصور الماضية بنعمة العقل والحجى والإدراك، فهل يمكننا القول بأنّه غير قادر على منح عطاياه في هذا القرن؟ وهل يكون عدلاً وإنصافًا أن يرسل الله حضرة موسى لهداية الأمم السّابقة ثمّ يهمل الّذين يعيشون الآن تمامًا؟ وهل يمكن أن يُحرم هذا الزّمن الحاضر من المواهب الرّبّانيّة بينما تحظى العصور الماضية الّتي سادها الطّغيان والوحشيّة بنصيب لا ينضب منها؟ لقد فتح ذات الإله الرّحيم – الّذي أنعم على البشريّة بآلائه فيما مضى من الزّمان – أبواب ملكوته أمامنا من جديد. فأشعّة شمس الحقيقة ساطعة، ونفثات الرّوح القدس محيية. وما زال ذلك الرّبّ العليم يعيننا ويؤيّدنا، وينوّر قلوبنا، وينعش نفوسنا، ويعطّر مشامّنا بالنّفحات القدسيّة. فالحكمة الإلهيّة والعناية الرّبّانيّة أحاطت بالجميع، ومُدَّت المائدة السّماويّة أمامنا. فعلينا إذًا أن نأخذ نصيبًا موفورًا من هذا الفضل العميم.

إنّ وظيفة الرّاعي جمع ما تشتّت من أغنامه. فلو شتّت الرّاعي القطيع المتآلف فلا يمكن أن يكون راعيًا. وبما أنّ الأنبياء أنجزوا مهمّتهم تجاه هذه المسألة، فهم رعاة حقيقيّون. فعندما ظهر حضرة موسى كان بنو إسرائيل أشتاتًا. وزادت العداوة والشّحناء فيما بينهم من تفرّقهم. فجمع حضرته هذا القطيع المُشتَّت ووحَّده بقوّة إلهيّة، وأودع في أصداف قلوبهم لؤلؤ المحبّة، وخلّصهم من الأسر وخرج بهم من مصر إلى الأرض المقدّسة، فحقّقوا تقدّمًا رائعًا في العلوم والفنون، وربطتهم أواصر القوّة الاجتماعيّة والقوميّة. وكان تقدّمهم في الفضائل الإنسانيّة سريعًا وبديعًا بدرجة أنّهم صعدوا إلى أوج السّلطنة السّليمانيّة. فهل يمكن أن يقال بأنّ حضرة موسى لم يكن راعيًا حقًّا، أو أنّه لم يجمع هذا القوم المشتّت؟

كان حضرة المسيح راعيًا حقيقيًّا. ففي زمن ظهوره، كان اليونان والرّومان والآشوريّون والمصريّون بمثابة بضع قطعان مُشتَّتة، فنفخ المسيح فيهم من روح الاتّحاد وألّف بينهم.

من المحقّق إذًا أنّ أنبياء الله جاؤا لتوحيد بني الإنسان لا لتفريقهم، ولتأسيس قانون المحبّة لا العداوة. وعلينا بالتّالي أن نلقي جانبًا بكلّ تعصّب – أكان دينيًّا أم عرقيًّا أم سياسيًّا أم قوميًّا، وأن نصير سببًا لتوحيد الجنس البشريّ. فاجهدوا ما وسعكم من أجل السّلام العامّ، واسعوا إلى ما هو سبب المحبّة، واهدموا ركيزة الخلاف، حتّى يصبح هذا العالم النّاسوتيّ لاهوتيًّا، ويصير عالم المادّة عالم الملكوت، وتبلغ الإنسانيّة عالم الكمال.

(6) 2 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بكنيسة الصّعود،
تقاطع الطّريق الخامس بالشّارع العاشر، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

باصطلاح الكتب المقدّسة تُسمّى الكنيسة بيت العهد، لأنّ الكنيسة هي مكان يجتمع فيه النّاس من مختلف الأفكار والمشارب، ومن مختلف الأعراق والأمم – يجتمعون معًا في ميثاق أخوّة دائمة. ففي هيكل الرّبّ وبيت الله على الإنسان أن يكون خاضعًا لله. وعليه أن يبرم ميثاقًا مع ربّه يتعهّد فيه أن يطيع أوامره ويتّحد مع أخيه الإنسان دون اعتبار لتباين الأعراق أو اختلاف القوميّات. عليه ألاّ ينظر إلى تفاوت المذاهب والعقائد، أو أن يأخذ في الحسبان اختلاف مستويات التّفكير؛ بل عليه أن يكون ناظرًا إلى الجميع على أنّهم جنس بشريّ ويدرك أنّ على الجميع أن يكونوا متّحدين ومتّفقين. عليه أن يعتبر الكلّ بمثابة أسرة واحدة، وعرق واحد، وفي وطن واحد. وعليه أن يرى الكلّ عبادًا لإله واحد، ساكنين في كنف رحمته. والمغزى من هذا هو أنّ الكنيسة هي مركز جامع. فالهياكل هي رموز لحقيقة الله وألوهيّته – وهي المركز الجامع للجنس البشريّ. انظروا كيف يُشاهَد ويمثَّل كلّ جنس وشعب داخل المعبد – وجميعهم في محضر الرّبّ، متعاهدون على عهد المحبّة والألفة، وجميعهم متضرّعون بنفس النّغمة والدّعاء والابتهال إلى الله. فيتضح إذًا أنّ الكنيسة مركز جامع للبشريّة، ولهذا كانت هناك كنائس وهياكل في كلّ الدّيانات الإلهيّة. أمّا المراكز الجامعة الحقيقيّة فهي المظاهر الإلهيّة الّذين تقوم الكنيسة منهم مقام الرّمز والتّعبير. بمعنى أنّ المظهر الإلهيّ هو الهيكل الرّبّانيّ الحقّ والمركز الجامع الّذي ليست الكنيسة الظّاهريّة سوى رمز له.

تذكّروا قول يسوع المسيح في الإنجيل، إذ قال مخاطبًا بطرس: أنت الصّـخرة وعليك أبني كنيستي. يتضح إذًا أنّ كنيسة الله هي الشّريعة الإلهيّة وأنّ المبنى الفعليّ ليس سوى رمز لها. ذلك لأنّ الشّريعة الإلهيّة هي مركز جامع يوحّد مختلف الشّعوب والأوطان والألسن والآراء، ويجد الكلّ ملاذًا في حماها وينجذبون لها. فمثلاً كان حضرة موسى والشّريعة الموسويّة هما المركز الموحِّد لأغنام بني إسرائيل المشتَّتَة. فوحّد تلك القطعان التّائهة وجاء بهم تحت حكم شريعة إلهيّة، وربّاهم ووحّدهم، وجعلهم متّفقين، وأصعدهم إلى درجة سامية من الرّقيّ. وفي وقت كانوا فيه أذلاّء فصاروا أعزّاء، وجهلاء فصاروا عالمين، وفي قيود الأسر فمنحوا الحرّيّة. فهم بالاختصار قد اتّحدوا، وارتقوا يومًا بعد يوم حتّى بلغوا أسمى درجات التّقدّم في ذلك العصر. وبهذا نكون قد برهنّا على أن المظهر الإلهيّ والشّريعة الرّبّانيّة يحقّقان الوحدة.

من البديهيّ أنّ البشريّة في تباين واختلاف. فالمشارب البشريّة مختلفة، والأفكار والأوطان والأعراق والألسن متعدّدة. والحاجة واضحة إلى مركز جامع تتوازن بواسطته هذه الاختلافات ويتّحد به أهل العالم. فانظروا كيف أنّه لا شيء سوى قوّة روحانيّة يمكن لها أن تحقّق هذا الاتّحاد، ذلك لأنّ الأحوال المادّيّة والتّوجّهات الفكريّة تتفاوت تفاوتًا كبيرًا بدرجة يستحيل معها الاتّفاق والاتّحاد بالوسائط الظّاهريّة. إلاّ أنّه من الجائز لها جميعًا أن تتّحد بواسطة روح واحدة، تمامًا كما يتلقّى الكلّ النّور من شمس واحدة. فيمكننا إذًا بعون المركز الجامع الإلهيّ، الّذي هو شريعة الله وحقيقة المظهر الإلهيّ، أن نتغلّب على هذه الظّروف إلى أن تنتهي بالكلّيّة وتترقّى الأجناس وتتقدّم.

انظروا إلى زمان حضرة المسيح، فقد كثرت فيه الشّعوب والأعراق والحكومات، وتعدّدت الأديان والمذاهب والفرق، غير أنّه عندما ظهر حضرته، أثبَتت الحقيقة المسيحيّة أنّها هي المركز الجامع الّذي وحّدهم تحت خيمة الوفاق نفسها. فّكروا في هذا: هل كان بمقدور يسوع المسيح أن يوحّد هذه العناصر المتنافرة أو يأتي بمثل هذه النّتائج بواسطة السّلطة السّياسيّة؟ أو هل كانت تلك الوحدة والاتّفاق ممكنتيْن بالقوى المادّيّة؟ والثّابت هو عكس ذلك. بل إنّ هذه الشّعوب المختلفة قد جُمعت بواسطة القدرة الرّبّانيّة، وبواسطة نفحات الرّوح القدس. لقد امتزجوا وانتعشوا من جرّاء نفخ حياة جديدة، وتغلّبت روحانيّة حضرة المسيح على مصاعبهم ممّا أزال خلافاتهم بالكلّيّة. وبهذه الكيفيّة اتّحدت تلك الشّعوب المتخالفة وأصبحوا ملتحمين برباط من المحبّة من شأنه وحده أن يوحّد القلوب. من هذا يتّضح أنّ المظاهر الإلهيّة، المنادين الرّبّانيّين، هم المراكز الإلهيّة الجامعة. فهؤلاء الرّسل الملكوتيّون هم رعاة البشريّة الحقيقيّون، إذ إنّهم يوحّدون الأغنام المُشتَّتة عندما يظهرون في العالم. ودائمًا ما ظهر المركز الجامع من بلاد الشّرق، إذ كان كلّ من حضرة إبراهيم وموسى ويسوع المسيح ومحمّد مراكزَ جامعة في يومهم وزمانهم، وجميعهم بعثوا في الشّرق. وحضرة بهاء الله اليوم هو المركز الجامع لوحدة جميع بني البشر، وطلع بهاء نوره أيضًا من الشّرق، فأسّس وحدة العالم الإنسانيّ في بلاد فارس، وأقام الوئام والوفاق بين مختلف أصحاب العقائد والمذاهب والفرق والنّحل الدّينيّة بتحريرهم من أصفاد التّقاليد والأوهام الماضية، وتوجيههم نحو جوهر الأديان الإلهيّة. ومن هذا الجوهر يشعّ نور الرّوحانيّة، الّذي هو الاتّحاد، ومحبّة الله، وعرفان الله، والأخلاق الحميدة، وفضائل العالم الإنسانيّ. وجدَّد حضرة بهاء الله هذه المبادئ، تمامًا كما ينعش مجيء الرّبيع الأرض ويهب حياة جديدة لكلّ الكائنات الحادثة. ذلك لأنّ نضارة الرّبيع السّابق قد ذهبت، وحيويّته انقطعت، ولم تعد النّسائم المحيية تهبّ بشذاها، وحلَّ الشّتاء وموسم الظّلام. فجاء حضرة بهاء الله لتجديد حياة العالم بهذا الرّبيع الجديد الإلهيّ الّذي ضرب خيمته في بلاد الشّرق بكلّ هيمنة ومجد فأنعش عالم الشّرق. ولا شكّ أنّ عالم الغرب إذا ما تخلّى عن عقائد الماضي، وضرب صفحًا عن التّقاليد والأوهام الخاوية، وتحرّى حقيقة الأديان الإلهيّة، وحذا حذو يسوع المسيح وتصرّف بمقتضى التّعاليم الإلهيّة وصار متّحدًا مع الشّرق، فسينال بذلك سعادة وهناء أبديّيْن.

لقد بلغت الحضارة المادّيّة في الغرب أعلى نقطة من التّقدّم، ولكنّ المدنيّة الإلهيّة تأسّست في بلاد الشّرق. فعلى الشّرق أن يكتسب مدنيّة مادّيّة من الغرب، وعلى الغرب أن يتلقّى حضارة روحانيّة من الشّرق. ومن شأن هذا أن يحقّق رباطًا مشتركًا. وعندما يتلاقيان يطلع العالم الإنسانيّ بهيئة مجيدة، ويحرز تقدّمًا مدهشًا. وهذا واضح محقّق، ولا حاجة إلى دليل. فدرجة رقيّ المدنيّة المادّيّة في بلاد الغرب أمر لا ينكر، كما لا يخفق أحد في الإقرار بحضارة بلاد الشّرق الرّوحانيّة، ذلك لأنّ كلّ الأصول الإلهيّة لرفعة البشر قد ظهرت في الشّرق. وهذا أيضًا واضح محقّق. فعليكم إذًا أن تساعدوا الشّرق لكي ينال التّقدّم المادّيّ، وعلى الشّرق هو الآخر أن يروّج مبادئ الحضارة الرّوحانيّة في عالم الغرب. وبهذا الاختلاط والاتّحاد يبلغ الجنس البشريّ أعلى رتبة من الرّخاء والرّقيّ. فالمدنيّة المادّيّة وحدها ليست كافية أو مثمرة. لقد وُجـِدَت السّعادة الحسّيّة النّاتجة عن الظّروف المادّيّة لتكون من نصيب الحيوان. انظروا الحيوان كيف أنّه يبلغ أكمل درجات النّعيم الجسمانيّ. فالطّير يسكن أعلى الأغصان ويبني عشّه هناك بمنتهى الجمال والمهارة، وكلّ حبوب المروج هي ثروته ورزقه؛ وكلّ المياة السّائغة في ينابيع الجبال وأنهار السّهول مجعولة من أجل متعته وهنائه. فذلك في الحقيقة هو أوج السّعادة المادّيّة، في حين أنّ المخلوق البشريّ عاجز عن نوالها. فهذا فخار مملكة الحيوان. أمّا فخر مملكة الإنسان فهو بلوغ السّعادة الرّوحيّة في العالم الإنسانيّ، ونيل عرفان الله ومحبّته. والشّرف الّذي خُصّص للإنسان هو اكتساب الفضائل السّامية الّتي تليق بعالم البشر. هذا هو عين السّعادة والحبور. وإذا ما اجتمعت السّعادة المادّيّة بالهناء الرّوحانيّ تكون نورًا على نوركما يقول العرب. ندعو الله أن يوحّد الشّرق والغرب حتّى يتبادلا هاتين المدنيّتين وينعما بها معًا. وأنا متأكّد أنّ هذا سيتحقّق، لأنّ هذا القرن قرن نورانيّ، وهذا العصر عصر هطول الرّحمة الإلهيّة بناءً على الحاجة الماسّة لهذا القرن الجديد – ألا وهي اتّحاد الشّرق والغرب. وهو ما سيتحقّق بكلّ تأكيد.[1]

سؤال: ما هي مكانة المرأة في بلاد الشّرق؟

الجواب: كانت مكانة المرأة في الأيّام الخوالي مؤسفة للغاية، لأنّ اعتقاد أهل الشّرق آنذاك أنّ من الأفضل للمرأة أن تبقى جاهلة، وعدّوا الأفضل لها ألاّ تتعلّم القراءة أو الكتابة حتّى لا تطّلع على أحداث العالم. واعتُبرت المرأة مخلوقة لإنجاب الأطفال وتولّـي واجبات المنزل. فإذا ما سعت نحو العلم عدّوه أمرًا منافيًا للفضيلة، وبناءً عليه جُعلت النّساء سجينات المنزل. بل لم يكن للمنازل نوافذ تُفتَح على العالم الخارجيّ. فحطّم حضرة بهاء الله هذه الأفكار ونادى بمساواة الرّجل والمرأة. وجعل المرأة محترمة، بأن أمر أن تتلقّى كافّة النّساء تربية وتعليمًا، وألاّ يبقى هناك فرق في تربية الجنسين، وأنّ الرّجال والنّساء لهم نفس الحقوق. فليس لدى الله تمييز بسبب الجنس. ومَن كانت أفكاره نزيهة وتربيته أعلى وتحصيلاته العلميّة أكبر وأعماله الخيريّة أكثر، رجلاً كان أو امرأة، أبيضَ كان أو ملوّنًا، فهو أهل لكامل الحقوق ومحلّ لكلّ ثناء، وليس هناك تمييز من أيّ نوع كان. وبالتّالي فقد تطرّق التّغيير إلى مكانة النّساء في الشّرق. فهنّ اليوم يذهبن إلى المدارس والمعاهد، ويتلقّيْن نفس المناهج التّعليميّة، وصرن يومًا بعد يوم لا غِنى عنهنّ للرّجال، وأصبحن مساويات لهم. هذا هو الوضع الرّاهن للمرأة في إيران.

سؤال: ما هي علاقتكم بمؤسّس دينكم؟ هل أنت خليفته كما هو الحال مع البابا في روما؟

الجواب: أنا خادم حضرة بهاء الله، الّذي هو المؤسّس، وفي ذلك فخري واعتزازي، وليس عندي شرف أعظم من هذا، وأملي أن أوفّق في خدمتي لبهاءُ الله. وهذا هو مقامي.

سؤال: أليس حقيقة أنّ السّلام العموميّ لا يمكن تحقيقه ما لم تكن هناك ديمقراطيّة سياسيّة في جميع بلدان العالم؟

الجواب: من الواضح تمامًا أنّه لن تكون هناك في المستقبل مركزيّة في دول العالم، أكانت تلك الدّول دستوريّة في حكومتها، جمهوريّة أو ديمقراطيّة في نظامها. ويمكن أن نأخذ الولايات المتّحدة كمثال لحكومة المستقبل – بمعنى أنّ كلّ دولة سوف تكون مستقلّة بنفسها، ولكن سيكون هناك اتّحاد فيدراليّ يحمي مصالح مختلف الدّول المستقلّة. وقد لا يكون الاتّحاد نظامًا جمهوريًّا أو ديمقراطيًّا. فما هو لازم للوقت الحاضر هو التّخلّي عن المركزيّة الّتي تروِّج الاستبداد. وسيكون هذا سببًا لتحقيق السّلام العالميّ. وهناك حقيقة أخرى على نفس القدر من الأهمّيّة في تحقيق السّلام العالميّ، وهي حقّ النّساء الانتخابيّ. بمعنى أنّه عندما تتحقّق المساواة الكاملة بين الرّجال والنّساء، يمكن تحقيق السّلام لسبب بسيط هو أنّ معشر النّساء عمومًا لن يحبّذن الحرب. فلن تقبل النّساء السّماح بالزّجّ بالأبناء الّذين ربّينهم بكلّ حنان في ساحة القتال. وعندما يكون لهنّ رأي يُسمع، سيعارضن أيّ ذريعة للحرب والقتال. وهناك عامل آخر سوف يحقّق السّلام العالميّ وهو ربط بلاد الشّرق ببلاد الغرب معًا.

سؤال: ما هو اعتقادكم بشأن تناسخ الأرواح؟

الجواب: لمسألة التّناسخ جانبان، أحدهما ما يعتقد به الهندوس، وحتّى هذا الجانب ينقسم إلى قسمين: التّناسخ والتّقمّص. فبمقتضى إحدى العقائد تذهب الرّوح ثمّ تعود في تناسخات معيّنة، ولذا يقال إنّ المريض عليل بسبب تصرّفات له في تناسخ سابق، وأنّ هذا المرض قصاص وعقاب. أمّا مدرسة الفكر الهندوسيّة الأخرى فتعتقد أنّ الإنسان تارة يظهر على هيئة حيوان – كأن يكون حمارًا مثلاً – ويكون هذا قصاصًا لتصرّفات سابقة. أشير بذلك إلى عقائد تلك الدّيار، ومعتقدات مدارس الفكر فيها. وهناك أيضًا مفهوم رمزيّ للحلول، وهو الحلول المتعلّق بالمهامّ الرّسوليّة، فقد تحدّث يسوع المسيح عن يوحنّا المعمدان معلنًا أنّه كان بمثابة إيليّا. بيد أنّ يوحنّا المعمدان عندما سئل إيليّا أنت؟ أجاب بالنّفي. وهاتان مقولتان متضاربتان في الظّاهر، إلاّ أنّهما في الحقيقة لا تتعارضان. فالنّور نور واحد. والنّور الّذي أضاء هذا المصباح ليلة أمس هو نفسه الّذي ينيره اللّيلة. ولا يعني ذلك أنّ أشعّة الضّوء قد عادت بنفسها ثانية، بل الّذي عاد هو فضائل الإنارة. فالنّور الّذي تجلّى خلال الزّجاجة يتجلّى الآن مرّة أخرى، بحيث يمكننا القول بأنّ نور اللّيلة هو نور البارحة وقد أعيد ضياؤه، وهذا ما يتعلّق بمناقبه وصفاته لا بتشخّصه السّابق. هذا هو اعتقادنا في التّناسخ. فنحن نؤمن بما آمن به يسوع المسيح وسائر الأنبياء. فمثلاً يتفضّل حضرة الباب بقوله أنا رجعة كلّ النّبيّين وهذه دلالة على وحدة المناقب الرّسوليّة، وحدة القوى، وحدة الفيض، وحدة الإشراق، وحدة التّجلّي، ووحدة التّنزيل.

سؤال: ما موقف دينكم من الأسرة؟

الجواب: إنّ الأسرة، كونها وِحدة بشريّة طبقًا لتعاليم حضرة بهاء الله، يجب أن تتربّى وفقًا لأصول التّقديس والتّنزيه، وأن تتلقّن كلّ المناقب والفضائل. يجب الالتفات دائمًا وأبدًا إلى سلامة الرّباط الأسريّ وتماسكه، وألاّ يحدث تعدٍّ على حقوق أيّ فردٍ في الأسرة. فحقوق الابن والأب والأمّ، لا يصحّ التّعدّي على أيّ منها، كما لا يصحّ أن يكون أيّ منها استبداديًّا. وتمامًا كما يكون للابن التزامات معيّنة تجاه أبيه، فإنّ الأب أيضًا عليه واجبات معيّنة تجاه ابنه. ولكلّ من الأمّ والأخت وسائر أعضاء الأسرة امتيازاتهم المعيّنة. ويجب المحافظة على كلّ هذه الحقوق والامتيازات، بيد أنّ وحدة الأسرة يجب أن تصان. فالأذى الّذي يلحق بأحدهم يعدّ أذيّةً للكلّ، وراحةُ أيّ منهم راحةٌ للكلّ، وفخر أحدهم فخرٌ للكلّ.

سؤال: ماعلاقة التّعاليم البهائيّة بالدّيانة الزّرادشتيّة القديمة؟

الجواب: للأديان الإلهيّة أساس واحد، ولكنّ العقائد الّتي تظهر فيما بعد تختلف. ولكلّ من الأديان الإلهيّة جانبان. أوّلهما جوهريّ، وهو يتعلّق بالأخلاقيّات وترقية فضائل العالم الإنسانيّ، وهذا الجانب واحد فيها جميعًا. فهو أساسيّ وواحد، ولا اختلاف أو تفاوت فيه. ذلك لأنّه فيما يتعلّق بالحضّ على التّحلـّي بمكارم الأخلاق وترقية الفضائل الإنسانيّة، ليس هناك أيّ فرق كان بين تعاليم حضرة زرادشت، وحضرة يسوع، وحضرة بهاء الله. فهم في هذا متّفقون، وهم واحد. أمّا الجانب الثّاني للأديان الإلهيّة فليس جوهريًّا، وهو يتعلّق باحتياجات البشر، ويخضع للتّغيير في كلّ دورة طبقًا لمقتضيات الزّمان. فمثلاً كان الطّلاق في زمان حضرة موسى موافقًا للاحتياجات والظّروف، ولهذا شرّعه حضرة موسى. ولكن في زمن حضرة المسيح، كثر الطّلاق وصار علّة للفساد، ولأنّه كان غير ملائم لذلك الزّمان، جَعَل حضرته الطّلاق محرّمًا، وكذلك غيّر بعض الأحكام الأخرى. تلك هي احتياجات وظروف متعلّقة بإدارة شؤون المجتمع، ولذا فإنّها تخضع للتّغيير طبقًا لمقتضيات الزّمان. لقد عاش حضرة موسى في الصّحراء. ولمّا لم تكن هناك سجون تأديبيّة، ولم يكن هناك أيّ وسيلة لإعادة التّأهيل في الصّحراء والقفار، كانت الأحكام الإلهيّة هي العين بالعين والسّنّ بالسّنّ. فهل يمكن أن يُطبّق ذلك الآن؟ فإذا فقأ أحد عين آخر، فهل أنتم على استعداد لكي تفقأوا عين المعتدي؟ وهل إذا ما كسرت سنّ أحد أو قطعت أذنه، فهل ستطالبون بتشويه مماثل فيمن اعتدى عليه؟ لن يكون هذا ملائمًا لأحوال البشريّة في الوقت الحاضر. وإذا ما سرق رجل، فهل تُقطع يده؟ لقد كان هذا العقاب عادلاً وصحيحًا في شريعة موسى، وكان ممكن التّطبيق في الصّحراء، حيث لم يكن هناك سجون أو مؤسّسات إصلاحيّة مثلما أصبح متوفّرًا في أنظمة الحكم التّالية الّتي كانت أكثر رقيًّا. واليوم لديكم حكومة وتنظيم، ونظام للشّرطة، وقاضٍ ومحاكمة على يد محلّفين. والعقاب والقصاص اليوم مختلف. لذلك فإنّ الأمور غير الجوهريّة الّتي تتعلّق بأمور المجتمع التّفصيليّة تتغيّر طبقًا لمقتضيات الزّمان والظّروف، بيد أنّ الأصل الجوهريّ لتعاليم حضرة موسى، وحضرة زرادشت، وحضرة المسيح، وحضرة بهاء الله هو واحد ومتماثل، ولا يوجد هنالك فرق على الإطلاق.

سؤال: هل كلمة السّلام أعظم من كلمة المحبّة؟

الجواب: كلاّ! فالمحبّة أعظم من السّلام، لأنّ السّلام مبنيّ على المحبّة. والمحبّة هي النّقطة الّتي يتّجه إليها السّلام، كما أنّ السّلام ينتج عن المحبّة. وإذا لم تتحقّق المحبّة، لا يكون للسّلام وجود. ولكن هناك ما يسمّى بالسّلام الخالي من المحبّة. أمّا المحبّة الّتي تأتينا من الله فهي المحبّة الأساسيّة، وهي غاية كلّ إنجاز إنسانيّ، وهي إشراق الملكوت، ونور البشر.

سؤال: هلاّ تفضّلتم بذكر مبادئ دينكم؟

الجواب: أوّلاً، تحرّي الحقيقة. فعلى الإنسان أن يتخلّى عن التّقليد ويبتغي الحقيقة. فالمعتقدات الدّينيّة المعاصرة تتباين بسبب تشبّثها بالعقائد الموروثة. إذًا يكون لازمًا أن نترك التّقاليد ونبحث عن حقائق الأديان الجوهريّة.

ثانيًا، وحدة البشريّة. فكلّ المخلوقات الإنسانيّة هم عباد الله والكلّ منغمسون في بحر رحمته، وخالق الكلّ هو إله واحد، والرّازق والمعطي والحافظ للكلّ هو أيضًا إله واحد. وهو رؤوف بالكلّ، فلماذا لا نكون رؤوفين؟ والكلّ يحيا في ظلّ محبّته، فلماذا يكره بعضنا بعضًا؟ وغاية ما هنالك أنّ بعض النّاس جهلاء يجب تعليمهم، وبعضهم كالأطفال يجب تربيتهم وتعليمهم حتّى يبلغوا الرّشد، والبعض مرضى معتلّون جسمانيًّا وعقليًّا وروحيًّا يجب علاجهم وشفاؤهم. إلاّ أنّ الكلّ هم عباد الله.

ثالثًا، يجب أن يكون الدّين مؤدّيًا إلى محبّة الجميع، وسببًا للتّآخي والاتّحاد والضّياء. فإذا ما صار الدّين علّة للعداوة وسفك الدّماء والكراهية، فعدمه خير من وجوده، وفناؤه خير من بقائه. والدّين والعلم متطابقان ومتّفقان، فإذا ما خرجت مسألة من مسائل الدّين عن قواعد العقل ولم تتّفق مع العلم فهي وهم لا يستحقّ التّصديق.

رابعًا، المساواة بين الرّجال والنّساء. فهم متساوون في جميع المراتب. ويجب أن يتمّ تعديل القوانين الاقتصاديّة لمعيشة الإنسان حتّى يعيش البشر كلّهم في سعادة غامرة وفقًا لمرتبة كلّ منهم.

خامسًا، الأخوّة الرّوحانيّة. فعلى البشر قاطبة أن يبلغوا الإخاء الرّوحانيّ، أي الأخوّة في الرّوح القدس – ذلك لأنّ الأخوّة الوطنيّة والعرقيّة والسّياسيّة كلّها لا طائل منها، فنتائجها ضئيلة؛ أمّا الأخوّة الرّبّانيّة، الّتي هي الإخاء الرّوحانيّ، فهي سبب الاتّحاد والوداد بين البشر. وبما أنّ المدنيّة المادّيّة قد قطعت شوطًا واسعًا، فعلينا الآن أن نروّج للمدنيّة الرّوحانيّة. وما لم تتوافق المدنيّتان، لن يعرف البشر سعادة حقيقيّة. فلا يمكن للإنسان أن يبلغ أوج مكانته بالرّقيّ الذّهنيّ وقوّة العقل وحدهما – أي بتعبير آخر، لايمكن للإنسان بواسطة العقل وحده أن يحرز التّقدّم الّذي يحدثه الدّين. فقد حاول فلاسفة الماضي عبثًا أن يحيوا العالم الإنسانيّ بواسطة الملكة العقليّة. وكان أقصى ما وَسِعَهم هو تربية أنفسهم وعدد محدود من أتباعهم، ولقد اعترفوا بأنفسهم بالفشل. فعلى عالم البشريّة إذًا أن يُؤَيَّد بنفثات الرّوح القدس حتّى ينال التّربية العموميّة. وبفضل سريان القوّة الإلهيّة تحيا الأمم والشّعوب، وتغدو السّعادة العموميّة ممكنة.

تلك كانت بعض مبادئ البهائيّين.

سؤال: من سيكون أكثر عونًا لهذا الدّين الجديد، النّساء أم الرّجال؟ ومَنْ سيكون الأقدر؟

الجواب: كان الرّجال أكثر عونًا للدّين البهائيّ في بلاد فارس، ولكن ربّما يكون السّبق للنّساء في الغرب. ففي الغرب من الواضح أنّ للنّساء تفوّقًا في الدّين، أمّا في الشّرق فإنّ الرّجال يتفوّقون على النّساء في ذلك.

سؤال: كيف سيكون عليه الغذاء في حال الوحدة بين البشر؟

الجواب: كلّما تقدّمت البشريّة، سيقلّ استخدام اللّحوم شيئًا فشيئًا، لأنّ أسنان الإنسان ليست مهيّأة لأكل اللّحوم. فمثلاً لدى الأسد أنياب مهيّأة لأكل اللّحوم، وإذا لم تتوفّر اللّحوم مات الأسد جوعًا لأنّه لا يستطيع الرّعي، فأسنانه مختلفة الشّكل، وجهازه الهضميّ من النّوع الّذي لا يستطيع تقبّل التّغذية إلاّ باللّحوم. كما أنّ للنّسر منقارًا معقوفًا شقّه السّفليّ أقصر من العلويّ. وهو بهذا لا يستطيع التقاط الحبّ، ولا يمكنه أن يقتات على الحشائش. فالنّسر إذًا مضطرّ لتناول اللّحوم. وللمواشي أسنان مهيّأة لأكل الحشائش، الّذي هو علفها. في حين أنّ أسنان الإنسان، أي الطّواحن، مهيّأة لطحن الحبوب. أمّا الأسنان الأماميّة، أي القواطع، فهي للفاكهة وما شابهها. فيكون من الجليّ الواضح إذًا، بالنّظر لأدوات المضغ عند الإنسان، أنّ غذاءه معنيّ بالحبوب لا اللّحوم. وعندما يتقدّم الجنس البشريّ بدرجة أكمل، سيتوقّف أكل اللّحوم تدريجيًّا.

[1]        هنا انتهت هذه الخطبة المباركة، وهي ثاني خطبة تحظى بها تلك الكنيسة، كما لاحظ المؤرّخ محمود زرقاني في سجّله اليوميّ لرحلات حضرة عبد البهاء (بدائع الآثار)، وقال المؤرّخ إنّه بعد انتهاء عبد البهاء من خطبته عرض راعي الكنيسة الدّكتور جرانت أنّ لدى بعض الحضور أسئلة يرغبون السّماح بطرحها، فأجيب لهم ذلك الطّلب، فكتب من رغب منهم سؤالاً على ورقة رفعت من خلال أحد السّعاة. ثمّ كانت الأسئلة تنقل إلى حضرة عبد البهاء، من خلال مترجم، فيعطي الإجابة للسّائلين.

الجواب: من الواضح تمامًا أنّه لن تكون هناك في المستقبل مركزيّة في دول العالم، أكانت تلك الدّول دستوريّة في حكومتها، جمهوريّة أو ديمقراطيّة في نظامها. ويمكن أن نأخذ الولايات المتّحدة كمثال لحكومة المستقبل – بمعنى أنّ كلّ دولة سوف تكون مستقلّة بنفسها، ولكن سيكون هناك اتّحاد فيدراليّ يحمي مصالح مختلف الدّول المستقلّة. وقد لا يكون الاتّحاد نظامًا جمهوريًّا أو ديمقراطيًّا. فما هو لازم للوقت الحاضر هو التّخلّي عن المركزيّة الّتي تروِّج الاستبداد. وسيكون هذا سببًا لتحقيق السّلام العالميّ. وهناك حقيقة أخرى على نفس القدر من الأهمّيّة في تحقيق السّلام العالميّ، وهي حقّ النّساء الانتخابيّ. بمعنى أنّه عندما تتحقّق المساواة الكاملة بين الرّجال والنّساء، يمكن تحقيق السّلام لسبب بسيط هو أنّ معشر النّساء عمومًا لن يحبّذن الحرب. فلن تقبل النّساء السّماح بالزّجّ بالأبناء الّذين ربّينهم بكلّ حنان في ساحة القتال. وعندما يكون لهنّ رأي يُسمع، سيعارضن أيّ ذريعة للحرب والقتال. وهناك عامل آخر سوف يحقّق السّلام العالميّ وهو ربط بلاد الشّرق ببلاد الغرب معًا.

سؤال: ما هو اعتقادكم بشأن تناسخ الأرواح؟

الجواب: لمسألة التّناسخ جانبان، أحدهما ما يعتقد به الهندوس، وحتّى هذا الجانب ينقسم إلى قسمين: التّناسخ والتّقمّص. فبمقتضى إحدى العقائد تذهب الرّوح ثمّ تعود في تناسخات معيّنة، ولذا يقال إنّ المريض عليل بسبب تصرّفات له في تناسخ سابق، وأنّ هذا المرض قصاص وعقاب. أمّا مدرسة الفكر الهندوسيّة الأخرى فتعتقد أنّ الإنسان تارة يظهر على هيئة حيوان – كأن يكون حمارًا مثلاً – ويكون هذا قصاصًا لتصرّفات سابقة. أشير بذلك إلى عقائد تلك الدّيار، ومعتقدات مدارس الفكر فيها. وهناك أيضًا مفهوم رمزيّ للحلول، وهو الحلول المتعلّق بالمهامّ الرّسوليّة، فقد تحدّث يسوع المسيح عن يوحنّا المعمدان معلنًا أنّه كان بمثابة إيليّا. بيد أنّ يوحنّا المعمدان عندما سئل إيليّا أنت؟ أجاب بالنّفي. وهاتان مقولتان متضاربتان في الظّاهر، إلاّ أنّهما في الحقيقة لا تتعارضان. فالنّور نور واحد. والنّور الّذي أضاء هذا المصباح ليلة أمس هو نفسه الّذي ينيره اللّيلة. ولا يعني ذلك أنّ أشعّة الضّوء قد عادت بنفسها ثانية، بل الّذي عاد هو فضائل الإنارة. فالنّور الّذي تجلّى خلال الزّجاجة يتجلّى الآن مرّة أخرى، بحيث يمكننا القول بأنّ نور اللّيلة هو نور البارحة وقد أعيد ضياؤه، وهذا ما يتعلّق بمناقبه وصفاته لا بتشخّصه السّابق. هذا هو اعتقادنا في التّناسخ. فنحن نؤمن بما آمن به يسوع المسيح وسائر الأنبياء. فمثلاً يتفضّل حضرة الباب بقوله أنا رجعة كلّ النّبيّين وهذه دلالة على وحدة المناقب الرّسوليّة، وحدة القوى، وحدة الفيض، وحدة الإشراق، وحدة التّجلّي، ووحدة التّنزيل.

سؤال: ما موقف دينكم من الأسرة؟

الجواب: إنّ الأسرة، كونها وِحدة بشريّة طبقًا لتعاليم حضرة بهاء الله، يجب أن تتربّى وفقًا لأصول التّقديس والتّنزيه، وأن تتلقّن كلّ المناقب والفضائل. يجب الالتفات دائمًا وأبدًا إلى سلامة الرّباط الأسريّ وتماسكه، وألاّ يحدث تعدٍّ على حقوق أيّ فردٍ في الأسرة. فحقوق الابن والأب والأمّ، لا يصحّ التّعدّي على أيّ منها، كما لا يصحّ أن يكون أيّ منها استبداديًّا. وتمامًا كما يكون للابن التزامات معيّنة تجاه أبيه، فإنّ الأب أيضًا عليه واجبات معيّنة تجاه ابنه. ولكلّ من الأمّ والأخت وسائر أعضاء الأسرة امتيازاتهم المعيّنة. ويجب المحافظة على كلّ هذه الحقوق والامتيازات، بيد أنّ وحدة الأسرة يجب أن تصان. فالأذى الّذي يلحق بأحدهم يعدّ أذيّةً للكلّ، وراحةُ أيّ منهم راحةٌ للكلّ، وفخر أحدهم فخرٌ للكلّ.

سؤال: ماعلاقة التّعاليم البهائيّة بالدّيانة الزّرادشتيّة القديمة؟

الجواب: للأديان الإلهيّة أساس واحد، ولكنّ العقائد الّتي تظهر فيما بعد تختلف. ولكلّ من الأديان الإلهيّة جانبان. أوّلهما جوهريّ، وهو يتعلّق بالأخلاقيّات وترقية فضائل العالم الإنسانيّ، وهذا الجانب واحد فيها جميعًا. فهو أساسيّ وواحد، ولا اختلاف أو تفاوت فيه. ذلك لأنّه فيما يتعلّق بالحضّ على التّحلـّي بمكارم الأخلاق وترقية الفضائل الإنسانيّة، ليس هناك أيّ فرق كان بين تعاليم حضرة زرادشت، وحضرة يسوع، وحضرة بهاء الله. فهم في هذا متّفقون، وهم واحد. أمّا الجانب الثّاني للأديان الإلهيّة فليس جوهريًّا، وهو يتعلّق باحتياجات البشر، ويخضع للتّغيير في كلّ دورة طبقًا لمقتضيات الزّمان. فمثلاً كان الطّلاق في زمان حضرة موسى موافقًا للاحتياجات والظّروف، ولهذا شرّعه حضرة موسى. ولكن في زمن حضرة المسيح، كثر الطّلاق وصار علّة للفساد، ولأنّه كان غير ملائم لذلك الزّمان، جَعَل حضرته الطّلاق محرّمًا، وكذلك غيّر بعض الأحكام الأخرى. تلك هي احتياجات وظروف متعلّقة بإدارة شؤون المجتمع، ولذا فإنّها تخضع للتّغيير طبقًا لمقتضيات الزّمان. لقد عاش حضرة موسى في الصّحراء. ولمّا لم تكن هناك سجون تأديبيّة، ولم يكن هناك أيّ وسيلة لإعادة التّأهيل في الصّحراء والقفار، كانت الأحكام الإلهيّة هي العين بالعين والسّنّ بالسّنّ. فهل يمكن أن يُطبّق ذلك الآن؟ فإذا فقأ أحد عين آخر، فهل أنتم على استعداد لكي تفقأوا عين المعتدي؟ وهل إذا ما كسرت سنّ أحد أو قطعت أذنه، فهل ستطالبون بتشويه مماثل فيمن اعتدى عليه؟ لن يكون هذا ملائمًا لأحوال البشريّة في الوقت الحاضر. وإذا ما سرق رجل، فهل تُقطع يده؟ لقد كان هذا العقاب عادلاً وصحيحًا في شريعة موسى، وكان ممكن التّطبيق في الصّحراء، حيث لم يكن هناك سجون أو مؤسّسات إصلاحيّة مثلما أصبح متوفّرًا في أنظمة الحكم التّالية الّتي كانت أكثر رقيًّا. واليوم لديكم حكومة وتنظيم، ونظام للشّرطة، وقاضٍ ومحاكمة على يد محلّفين. والعقاب والقصاص اليوم مختلف. لذلك فإنّ الأمور غير الجوهريّة الّتي تتعلّق بأمور المجتمع التّفصيليّة تتغيّر طبقًا لمقتضيات الزّمان والظّروف، بيد أنّ الأصل الجوهريّ لتعاليم حضرة موسى، وحضرة زرادشت، وحضرة المسيح، وحضرة بهاء الله هو واحد ومتماثل، ولا يوجد هنالك فرق على الإطلاق.

سؤال: هل كلمة السّلام أعظم من كلمة المحبّة؟

الجواب: كلاّ! فالمحبّة أعظم من السّلام، لأنّ السّلام مبنيّ على المحبّة. والمحبّة هي النّقطة الّتي يتّجه إليها السّلام، كما أنّ السّلام ينتج عن المحبّة. وإذا لم تتحقّق المحبّة، لا يكون للسّلام وجود. ولكن هناك ما يسمّى بالسّلام الخالي من المحبّة. أمّا المحبّة الّتي تأتينا من الله فهي المحبّة الأساسيّة، وهي غاية كلّ إنجاز إنسانيّ، وهي إشراق الملكوت، ونور البشر.

سؤال: هلاّ تفضّلتم بذكر مبادئ دينكم؟

الجواب: أوّلاً، تحرّي الحقيقة. فعلى الإنسان أن يتخلّى عن التّقليد ويبتغي الحقيقة. فالمعتقدات الدّينيّة المعاصرة تتباين بسبب تشبّثها بالعقائد الموروثة. إذًا يكون لازمًا أن نترك التّقاليد ونبحث عن حقائق الأديان الجوهريّة.

ثانيًا، وحدة البشريّة. فكلّ المخلوقات الإنسانيّة هم عباد الله والكلّ منغمسون في بحر رحمته، وخالق الكلّ هو إله واحد، والرّازق والمعطي والحافظ للكلّ هو أيضًا إله واحد. وهو رؤوف بالكلّ، فلماذا لا نكون رؤوفين؟ والكلّ يحيا في ظلّ محبّته، فلماذا يكره بعضنا بعضًا؟ وغاية ما هنالك أنّ بعض النّاس جهلاء يجب تعليمهم، وبعضهم كالأطفال يجب تربيتهم وتعليمهم حتّى يبلغوا الرّشد، والبعض مرضى معتلّون جسمانيًّا وعقليًّا وروحيًّا يجب علاجهم وشفاؤهم. إلاّ أنّ الكلّ هم عباد الله.

ثالثًا، يجب أن يكون الدّين مؤدّيًا إلى محبّة الجميع، وسببًا للتّآخي والاتّحاد والضّياء. فإذا ما صار الدّين علّة للعداوة وسفك الدّماء والكراهية، فعدمه خير من وجوده، وفناؤه خير من بقائه. والدّين والعلم متطابقان ومتّفقان، فإذا ما خرجت مسألة من مسائل الدّين عن قواعد العقل ولم تتّفق مع العلم فهي وهم لا يستحقّ التّصديق.

رابعًا، المساواة بين الرّجال والنّساء. فهم متساوون في جميع المراتب. ويجب أن يتمّ تعديل القوانين الاقتصاديّة لمعيشة الإنسان حتّى يعيش البشر كلّهم في سعادة غامرة وفقًا لمرتبة كلّ منهم.

خامسًا، الأخوّة الرّوحانيّة. فعلى البشر قاطبة أن يبلغوا الإخاء الرّوحانيّ، أي الأخوّة في الرّوح القدس – ذلك لأنّ الأخوّة الوطنيّة والعرقيّة والسّياسيّة كلّها لا طائل منها، فنتائجها ضئيلة؛ أمّا الأخوّة الرّبّانيّة، الّتي هي الإخاء الرّوحانيّ، فهي سبب الاتّحاد والوداد بين البشر. وبما أنّ المدنيّة المادّيّة قد قطعت شوطًا واسعًا، فعلينا الآن أن نروّج للمدنيّة الرّوحانيّة. وما لم تتوافق المدنيّتان، لن يعرف البشر سعادة حقيقيّة. فلا يمكن للإنسان أن يبلغ أوج مكانته بالرّقيّ الذّهنيّ وقوّة العقل وحدهما – أي بتعبير آخر، لايمكن للإنسان بواسطة العقل وحده أن يحرز التّقدّم الّذي يحدثه الدّين. فقد حاول فلاسفة الماضي عبثًا أن يحيوا العالم الإنسانيّ بواسطة الملكة العقليّة. وكان أقصى ما وَسِعَهم هو تربية أنفسهم وعدد محدود من أتباعهم، ولقد اعترفوا بأنفسهم بالفشل. فعلى عالم البشريّة إذًا أن يُؤَيَّد بنفثات الرّوح القدس حتّى ينال التّربية العموميّة. وبفضل سريان القوّة الإلهيّة تحيا الأمم والشّعوب، وتغدو السّعادة العموميّة ممكنة.

تلك كانت بعض مبادئ البهائيّين.

سؤال: من سيكون أكثر عونًا لهذا الدّين الجديد، النّساء أم الرّجال؟ ومَنْ سيكون الأقدر؟

الجواب: كان الرّجال أكثر عونًا للدّين البهائيّ في بلاد فارس، ولكن ربّما يكون السّبق للنّساء في الغرب. ففي الغرب من الواضح أنّ للنّساء تفوّقًا في الدّين، أمّا في الشّرق فإنّ الرّجال يتفوّقون على النّساء في ذلك.

سؤال: كيف سيكون عليه الغذاء في حال الوحدة بين البشر؟

الجواب: كلّما تقدّمت البشريّة، سيقلّ استخدام اللّحوم شيئًا فشيئًا، لأنّ أسنان الإنسان ليست مهيّأة لأكل اللّحوم. فمثلاً لدى الأسد أنياب مهيّأة لأكل اللّحوم، وإذا لم تتوفّر اللّحوم مات الأسد جوعًا لأنّه لا يستطيع الرّعي، فأسنانه مختلفة الشّكل، وجهازه الهضميّ من النّوع الّذي لا يستطيع تقبّل التّغذية إلاّ باللّحوم. كما أنّ للنّسر منقارًا معقوفًا شقّه السّفليّ أقصر من العلويّ. وهو بهذا لا يستطيع التقاط الحبّ، ولا يمكنه أن يقتات على الحشائش. فالنّسر إذًا مضطرّ لتناول اللّحوم. وللمواشي أسنان مهيّأة لأكل الحشائش، الّذي هو علفها. في حين أنّ أسنان الإنسان، أي الطّواحن، مهيّأة لطحن الحبوب. أمّا الأسنان الأماميّة، أي القواطع، فهي للفاكهة وما شابهها. فيكون من الجليّ الواضح إذًا، بالنّظر لأدوات المضغ عند الإنسان، أنّ غذاءه معنيّ بالحبوب لا اللّحوم. وعندما يتقدّم الجنس البشريّ بدرجة أكمل، سيتوقّف أكل اللّحوم تدريجيًّا.

(7) 8 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه جون جرندي

إنّ الهيئة الاجتماعيّة اليوم في أشدّ الحاجة إلى طبيب، فهي أشبه بجسم إنسان ابتُلي بأمراض عضال. والطّبيب يشخِّص العّلة ويصف الدّواء. بيد أنّه لا يصف الدّواء قبل أن يشخّص الدّاء. والعلّة الّتي أصابت الهيئة الاجتماعيّة هي الافتقار إلى المحبّة وغياب الإيثار. فليس هناك محبّة حقيقيّة في أفئدة البشر، وقد بلغت بهم الحالة حدًّا إذا لم تستيقظ أحاسيسهم بقوّة ما حتّى يحدث الاتّحاد والمحبّة والائتلاف فيما بينهم، فلا شفاء يرتُجى بين البشر ولا وفاق. فالمحبّة والوحدة هما ما تحتاجهما الهيئة الاجتماعيّة في عصرنا الحاضر، ومن دونهما لا يمكن أن نصيب تقدّمًا أو نبلغ ازدهارًا. فعلى أحبّاء الله إذًا أن يتمسّكوا بالقوّة الّتي من شأنها أن تخلق هذه المحبّة وهذا الاتّحاد في أفئدة بني الإنسان. فالعلم لا يمكنه شفاء الهيئة الاجتماعيّة من أسقامها، وليس بوسعه أن يوجِد الوئام والتّآخي في قلوب البشر، كما لا يمكن للتّحالفات القوميّة أو العرقيّة أن تفي بالعلاج. فالعلاج يجب أن يتأتّى فقط من المواهب الرّبّانيّة والعطايا الرّوحانيّة الّتي أنزلها الله في هذا اليوم لهذا الغرض. وهذا من متطلّبات زماننا الحاضر، وها قد جاءنا التّرياق الرّبّانيّ، فالتّعاليم الرّوحانيّة لدين الله هي الّتي بمقدورها دون سواها أن تخلق هذه المحبّة والوحدة والوفاق في قلوب البشر.

فلتتمسّكوا إذًا بهذه الوسائط الملكوتيّة الّتي منحها الله لنا لكي تستحكم بفضل محبّة الله هذه الرّابطة في الأرواح، ويتحقّق هذا التّعلّق القلبيّ، ويشعّ نور حقيقة الاتّحاد منكم على الكون بأسره. وما لم نتشبّث بهذه الوسائط والوسائل الرّبّانيّة، فلا نتيجة تُرجى. فلنبتهل إلى الله أن ينعش أرواحنا كي نرى تنزُّل عطاياه، وينير بصائرنا لنشاهد هدايته العظمى، ويشنِّف آذاننا حتّى نتمتّع بالنّغمات السّماويّة للكلمة الملكوتيّة. هذا هو أعظم آمالنا، وهذا هو أسمى مقاصدنا.

خطبتان ألقاهما حضرة عبد البهاء في فيلادلفيا (1) 9 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بكنيسة الموحّدين
تقاطع الشّارع الخامس عشر بطريق جيرارد بمدينة فيلادلفيا، ولاية بنسلفانيا

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

لقد جئتُ من الشّرق، من ممالك بعيدة طلع فيها دائمًا نور السّماء، ومن أصقاع ظهرت فيها المظاهر المقدّسة وتجلّت منها نورانيّة الله وقدرته على البشريّة. إنّ مرادي ومقصودي من زيارتي هذه أن تتأسّس عرى الوحدة والوفاق بين الشّرق والغرب، وتحيط محبّة الله بكلّ الأمم وتنير النّورانيّة الإلهيّة كلا الإقليمين، وتُحيي جسد العالم بأسره فيوضاتُ الرّوح القدس. لهذا أتضرّع إلى العتبة الإلهيّة أن يجعل الشّرق والغرب إقليمًا واحدًا، وأن تتّحد مختلف الشّعوب والأديان، وتمتزج الأرواح امتزاج أمواج بحر واحد، ويصبح الجميع أشجارًا وأورادًا وأزهارًا تزدان بها حديقة واحدة.

إنّ حقيقة الألوهيّة وحدانيّة محضة ومقدّسة ومنزّهة عن إدراك البشر، لأنّ إدراك الكائنات محدود بينما حقيقة الألوهيّة غير محدودة. فكيف يستطيع المحدود أن يحيط بغير المحدود؟ ونحن فقر محض وحقيقة الألوهيّة غنى صرف، فكيف يحيط الفقر البحت بالغنى المطلق؟ ونحن عجز صرف وحقيقة الألوهيّة قدرة محضة، فأنّى للعجز الصّرف أن يدرك القدرة المحضة؟ إنّ الكائنات الحادثة الّتي هي أسيرة الحدود خاضعة دومًا للتّبدُّل والتّغيير في أحوالها. فكيف تستطيع هذه الكائنات الحادثة أن تتصوّر الحقيقة الملكوتيّة الأزليّة الباقية؟ فمن المؤكّد أنّ هذا ضرب من المحال، لأنّنا حينما نتمعّن في عالم الخلق نشاهد أنّ تفاوت المراتب مانع للإدراك، وكلّ رتبة دانية لا تستطيع إدراك ما فوقها – أكان ذلك مرتبة أو مملكة. فالجماد مهما ارتقى فإنّه لن يدرك عالم النّبات، والنّبات مهما نما وترعرع لن يدرك حقيقة مملكة الحيوان، أي أنّه لا يمكنه تخيّل حياة تنعم بقوى الحواس. كما أنّ الحيوان قد يبلغ درجة مدهشة من الذّكاء، إلاّ أنّه لا ينال أبدًا أيًّا من قوى العقل والتّدبّر الواعي المقصورة على الإنسان. إذًا اتّضح أنّ تفاوت المراتب يظلّ دائمًا وأبدًا مانعًا من إدراك الدّرجة السّفلى للدّرجة الأعلى، أو معرفة الأدنى للأسمى. إنّ هذه الزّهرة على ما هي عليه من جمال ونضرة ولطافة وعطر، ورغم بلوغها درجة الكمال في عالمها، إلاّ أنّها لا تدرك حقيقة الإنسان ولا يمكنها أن تنال السّمع والبصر، فهي تحيا إذًا دون أيّ معرفة بعالم الإنسان، مع أنّ كلاًّ من الزّهرة والإنسان مخلوقات حادثة. إذ إنّ الفرق بينهما هو في تفاوت المراتب، والمانع للإدراك هو أنّ الرّتبة الدّانية محدودة بحدود عالمها.

فما دام الأمر كذلك، فكيف تستطيع الحقيقة البشريّة المحدودة إدراك الخالق الأبديّ الّذي لا يُرى؟ وكيف يستطيع الإنسان إدراك الرّبّ العليم المحيط؟ لا شكّ أنّه لن يستطيع ذلك لأنّ كلّ ما يقع ضمن إدراك عقل الإنسان إنّما هو الفهم البشريّ المحدود، بينما يكون الملكوت الإلهيّ غير محدود ولا نهاية له. ومع أنّ الحقيقة الإلهيّة مقدّسة ومنزّهة عن أفهام مخلوقاتها، إلاّ أنّها قد أسبغت نعمها على جميع ممالك عالم الخلق، ودلائل تجلّياتها الرّوحيّة مشهودة في كافّة ممالك عالم الوجود. كما أنّ الأنوار الإلهيّة تضيء عالم البشر، مثلما تشعّ إشراقات الشّمس بكلّ بهاء على الخلق المادّيّ. وشمس الحقيقة شمس واحدة، وفيضها واحد وحرارتها واحدة ونورها واحد، وهي ساطعة على جميع الكائنات. لكنّ الاستعداد لفهم الحقيقة يتفاوت مع اختلاف ممالك الموجودات، فتستفيض كلّ مملكة من نور شمس الأزل بقدر استعدادها. فالحجر الأسود لديه نصيب من شعاع هذه الشّمس الظّاهرة، وكذلك الحال مع الأشجار والحيوانات فلها أيضًا نصيب. فقد تربّت جميعها بيُمن ذلك الفيض الواحد. ولكنّ النّفوس الكاملة من البشر – والمقصود هنا الفرد الكامل – هي مثل المرايا الّتي تنعكس فيها شمس الحقيقة، فتتجلّى فيها كمالات الشّمس وهيئتها ونورها، وتظهر منها حرارة الشّمس وضياؤها بتمامها، ذلك لأنّ نفسًا نقيّة كهذه تحكي عن الشّمس بكلّ كمال.

إنّ هذه المرايا هي رسل الله الّتي تحكي عن حقيقة الألوهيّة. فتمامًا كما تعكس المرآة ضوء الشّمس السّماويّة وقرصها، كذلك تظهر صورة شمس الحقيقة وإشراقها وتتجلّى في مرآة المظاهر الإلهيّة. وهذا ما قصده السّيّد المسيح بقوله الآب في الابن والمراد هو أنّ حقيقة شمس الأزل منعكسة ببهائها في شخص المسيح. ولا يعني ذلك أنّ شمس الحقيقة قد تنزّلت من عليائها في الملكوت أو أنّ جوهر كينونتها قد دخلت أو استقرّت في هذه المرآة، لأنّه ليس لحقيقة الألوهيّة دخول وخروج، أو ذهاب وإياب. وهي مقدّسة ومنزّهة عن الأشياء كلّها، وهي في مركز التّقديس دائمًا أبدًا. فليس لتلك الحقيقة الأزليّة تغيير أو تبديل، ذلك لأنّ التّغيير والتّبديل والانتقال من حال إلى حال هي كلّها من خصائص الحقائق الحادثة.

في الوقت الّذي اشتدّ فيه الخلاف والنّزاع والخصام بين الأمم وكانت العداوة والبغضاء تفرّق ما بين المذاهب والنّحل، والخلافات بين الأجناس المختلفة قائمة على أشدّها – في هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله من أفق الشّرق وأعلن وحدانيّة الله ووحدة العالم الإنسانيّ، وأنّ جميع البشر عبيد إله واحد وجميعهم نالوا الوجود من فيض الخالق الأحد. وأنّ الله رؤوف بالجميع وهو يرعى ويربّي الكلّ ويحفظهم، وهو رازق الجميع ويشمل بمحبّته ورحمته كلّ الأجناس والشّعوب. فما دام الله رؤوفًا بالكلّ فلماذا نكون نحن ظالمين وغير رؤوفين؟ وما دام الله رؤومًا ورحيمًا بالكلّ فلماذا نبدي نحن العداوة والبغضاء؟ لا شكّ أنّ السّياسة الإلهيّة أكمل من خطط النّاس وأفكارهم، لأنّ الإنسان مهما كان حكيمًا راجح العقل، فليس من الممكن أبدًا أن يبلغ سياسة أعظم من السّياسة الإلهيّة. إذًا يجب علينا أن نتّبع السّياسة الإلهيّة فنحبّ جميع الخلق ونكون منصفين ورؤوفين بالجميع. علينا أن نعتبر الجميع أوراقًا وأغصانًا وأثمارًا لشجرة واحدة وأبناءً لأسرة واحدة لأنّ الجميع من سلالة آدم. نحن أمواج بحر واحد وأعشاب مرج واحد، وأنجم سماء واحدة، ونأوي إلى كنف الحافظ الرّبّانيّ الكلّيّ. فلو كان هناك عليل يتحتّم معالجته، أو جاهل فيلزم تعليمه أو نائم فيجب إيقاظه أو خامد فيجب إحياؤه. وتلك كانت مبادئ تعاليم حضرة بهاء الله.

بإعلانه وحدة الجنس البشريّ علّم حضرة بهاء الله بأنّ الرّجال والنّساء عند الله سواء، وليس بينهم تمايز بأيّ وجه من الوجوه، والفرق الوحيد الحاصل بينهم الآن راجع إلى غياب التّربية والتّعليم. فإذا ما أتيحت للنّساء فرصة مساوية في التّعليم فلن يبقى أيّ فرق ويزول وهم النّقصان. إنّ للعالم الإنسانيّ جناحَيْن، إن جاز التّعبير، أحدهما الأنثى والآخر الذّكر. فلو كان أحدهما ضعيفًا لن يتمكّن الجناح الآخر من الطّيران مهما كان قويًّا كاملاً. ولعالم البشريّة يدان فإذا بقيت يد عاجزة تتعطّل اليد الأخرى السّليمة عن أداء وظائفها. لقد خلق الله جميع البشر ووهب الجنسين كمالات وإدراكًا، ووهبهما حواسًّا وأعضاء جسمانيّة دون تمييز أو تفضيل راجعٍ إلى تفوّق ما. فلماذا إذًا تُعدّ المرأة أدنى من الرّجل؟ إنّ هذا يتنافى وعدالة الله وخطّته للبشريّة. لقد خلق الله الجميع متساوين، وليس لديه اعتبار للجنس، وكلّ من كان قلبه أطهر وعمله أحسن فهو مقبول لدى الله سواء كان ذكرًا أم أنثى. وكم من نساء ذكرهنّ التّاريخ كنّ فخراَ للبشر – مثل مريم أمّ المسيح الّتي كانت مجدًا لبني البشر. وكذلك مريم المجدليّة وآسية بنت فرعون وسارة زوجة إبراهيم وأمثالهنّ كثيرات ممّن صرن فخر النّوع الإنسانيّ بامتيازهنّ. وفي هذا العصر هناك من بين البهائيّين نساء تفوّقْنَ على الرّجال بدرجة كبيرة – نساء حكيمات موهوبات مثقّفات، هادفات إلى الرّقيّ وعلى أقصى درجة من العقل والحجى، وبمثابة النّور للرّجال. فهنّ متفوّقات على الرّجال في الشّجاعة، وعندما يتحدّثن في الجمع ينصت إليهنّ الرّجال بغاية الاحترام. ثمّ إنّ تعليم النّساء أكثر أهمّيّة من تعليم الرّجال لأنّهنّ أمّهات الجنس البشريّ، والأمّهات هنّ من يربّين الأطفال، والأمّهات هنّ المعلّمات الأُوَل للأطفال. لهذا يجب تعليمهنّ بكلّ اقتدار حتّى يستطعن تربية الأولاد والبنات معًا. وهناك الكثير من النّصوص في بيانات حضرة بهاء الله بهذا الصّدد.

كما دعا حضرة بهاء الله إلى تطبيق منهج تربويّ ودراسيّ مُوحّد للرّجال والنّساء. فعلى البنات والأبناء أن يتّبعوا منهجًا دراسيًّا واحدًا وبذلك تُروَّج وحدة الجنسين. وحينما يحصل كافّة البشر على نفس الفرصة من التّعليم وتتحقّق مساواة الرّجال والنّساء ينهدم بنيان الحروب بالكلّيّة. ولا يمكن أن تنتهي الحروب إلاّ بعد تحقّق تلك المساواة، ذلك لأنّ جميع الاختلافات والتّمييز تُفضي إلى الجدال والنّزاع، بينما المساواة في الحقوق بين الذّكور والإناث تؤدّي إلى منع الحروب. فالنّساء لا يرضين بالحروب، ولن ترضى الأمّهات أبدًا بإرسال أبنائهنّ إلى ميدان القتال لتسفك دماؤهم بعد أن يمضين عشرين سنة في تربيتهم منذ الصّغر بكلّ مشقّةٍ ومحبّة وتفانٍ، مهما كانت الذّريعة الّتي يُدْعَوْن للدّفاع عنها. ولهذا فحينما تنال النّساء مساواة في الحقوق فلا شكّ أنّ الحرب سوف تزول تمامًا من بين البشر.

كذلك روّج حضرة بهاء الله لوحدة أساس الأديان، وعلّم أنّ الحقيقة واحدة لا تتعدّد، وأنّها عماد كلّ التّعاليم الإلهيّة، وأنّ أسس الأديان الإلهيّة إذًا واحدة. لقد نشأت بعض الرّسوم والتّقاليد شيئًا فشيئًا. وبما أنّ هذه الرّسوم والتّقاليد متباينة فمن شأنها أن تسبّب الاختلافات بين أهل الأديان. فإذا ما طرحنا هذه التّقاليد جانبًا وقصدنا الحقيقة الجوهريّة الّتي يرتكز عليها ما نؤمن به، لتوصّلنا إلى قاعدة واحدة للوفاق، ذلك لأنّ الحقيقة واحدة لا تتعدّد.

من جملة التّعاليم الّتي أعلنها حضرة بهاء الله هو توافق الدّين والعلم، وأنّ الدّين يجب أن تثبت صحّته بميزان العقل، وأن يتّفق مع الحقائق والبراهين العلميّة، لكيّ يصدّق العلم الدّين ويصدّق الدّين العلم. وكلاهما يرتبطان ببعضهما ارتباطًا لا انفكاك له في ظلّ الحقيقة. وإذا ما تبيّن أنّ مقولات الدّين وتعاليمه غير معقولة ومخالفة للعلم تكون ناجمة عن الوهم والخيال. فقد ظهرت أعداد لا تحصى من مثل هذه المعتقدات والأفكار في العصور الماضية. لاحظوا أوهام الرّومان واليونان والمصريّين وأساطيرهم وجميعها كانت مخالفة للدّين والعلم واتّضح الآن وتجلّى أنّها كانت أوهامًا، إلاّ أنّها في زمانها كانت عقائد تمسّكوا بها أشدّ التّمسّك. فأحد أصنام المصريّين القدماء مثلاً كان معجزة محقّقة بالنّسبة لهؤلاء القوم، في حين كان في الحقيقة قطعة من صخر. وبما أنّ العلم لا يمكن أن يقبل بإعجاز أيّ قطعة من الصّخر من حيث مصدرها وطبيعتها، لذلك يكون الاعتقاد بها وهمًا، وهو ما أصبح واضحًا الآن. إذًا يجب علينا نحن أن نتخلّى عن هذه المعتقدات الموهومة ونتحرّى الحقيقة. فكلّ ما نراه مطابقًا للحقيقة وموافقًا للعقل يجب قبوله، وكلّ ما لا يصدّقه العلم ولا يقبله العقل فهو ليس بحقيقة بل تقاليد يجب نبذها. وحينما يتمّ هذا يزول الاختلاف بين المعتقدات، ويصير الكلّ أسرة واحدة وشعبًا واحدًا، ونشاهد نفس القابليّة لتلقّي الفضل الإلهيّ والتّربية الرّبّانيّة بين البشر.

يا إلهي الغفور إنّك أنت الملاذ لعبادك وإنّك أنت المطّلع على الأسرار وإنّك أنت الخبير. نحن عجزاء وأنت المقتدر القدير، ونحن خطاة وأنت غافر الذّنوب الرّحمن الرّحيم. يا إلهنا لا تنظر إلى خطيئاتنا بل عاملنا بفضلك وموهبتك. ذنوبنا كثيرة ولكنّ بحر رحمتك لا محدود، وعجزنا شديد ولكنّ علائم تأييدك وتوفيقك ظاهرة. فأيّدنا وقوّنا على ما يليق بعتبتك، ونوّر قلوبنا وهبنا عيونًا بصيرة وآذانًا سميعة وأحيِ الموتى واشفِ المرضى وأغنِ الفقراء وامنح الخائفين الأمن والأمان، واقبلنا في ملكوتك ونوّرنا بنور هدايتك. إنّك أنت المقتدر القدير وإنّك أنت الكريم الرّحمن وإنّك أنت الرّؤوف.

(2) 9 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بمعبد المعمدانيّين، تقاطع شارعي برود وبيركس،
بمدينة فيلادلفيا، ولاية بنسلفانيا

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

إنّني مسرور جدًّا بحضوري في هذه اللّيلة. حقًّا إنّ هذا جمع روحانيّ، وأجد نفحات الملكوت السّماويّ سارية بينكم – وهي الإخلاص لله، والنّيّة الخالصة، والمحبّة الرّوحانيّة. فبشرى لكم!

منذ أن خُلق آدم حتّى يومنا هذا كان في العالم الإنسانيّ سبيلان أحدهما سبيل الطّبيعة أو السّبيل المادّيّ، والآخر سبيل الدّين أو النّهج الرّوحيّ. فسبيل الطّبيعة طريق حيوانيّ لأنّ الحيوان يتحرّك حسب مقتضيات الطّبيعة ويعيش بمقتضى غرائزه ورغباته وله الحرّيّة في إشباع دوافعه وشهواته أيًّا كانت. بيد أنّه أسير للطّبيعة ولا يستطيع أبدًا أن يتجاوز قيد شعرة عن النّهج الّذي رسمته الطّبيعة، وليس له أيّ نصيب من الإحساسات الرّوحانيّة، وهو جاهل بالدّين الإلهيّ، وليس له اطّلاع على الملكوت الإلهيّ، ولا يملك أيّ قوّة عاقلة أو إدراك واعٍ، إنّما هو أسير لحواسه ومحروم ممّا هو خارج عنها. فهو يتصرّف بمقتضى ما تراه عينه وتسمعه أذنه وتستنشقه شامّته وتذوقه ذائقته وتلمسه حاسته اللاّمسة، وهذه الحواس مقبولة وكافية عند الحيوان. إلاّ أنّ ما هو خارج عن مجال الحواس، أي عالم المعقولات الّذي من خلاله يقودنا السّبيل الواعي إلى الملكوت الإلهيّ، أي عالم الإحساسات الرّوحيّة والدّين الإلهيّ – فلا يكون للحيوان أيّ اطّلاع عليها بالمرّة، لأنّه مهما ارتقى في الرّتبة فإنّه يبقى أسيرًا للطّبيعة.

من أغرب الأمور الّتي نشاهدها افتخار المادّيّين في هذا الزّمان بحواسهم الجسمانيّة وبأنّهم أسرى هذه الحواس. فهم يقولون إنّه ليس هناك ما هو أهلٌ للقبول والتّصديق سوى ما هو محسوس أو ملموس. وهم بقولهم هذا يكونون أسرى للطّبيعة ولا اطّلاع لهم على العالم الرّوحانيّ، ولا علم لهم بالملكوت الإلهيّ، ولا خبر لهم بالفيوضات الرّحمانيّة. فإن كان هذا هو الكمال إذًا فالحيوان قد وصل إلى أعظم درجات الكمال. ذلك لأنّه لا يعلم شيئًا عن الملكوت والرّوحانيّات ومعزول عن بواطن العقلانيّة الواعية. والحيوان لا شكّ أنّه يشارك المادّيّين في إنكارهم وجود ما يتعدّى الحواس. فلو أقررنا بأنّ كوننا محدودين بمجال الحسّيّات هو الكمال، يكون الحيوان بغير شكّ أكثر كمالاً من الإنسان، ذلك لأنّه محروم تمامًا مما يتعدّى الحسّيّات، ولا علم له أبدًا بالملكوت الإلهيّ وآثاره، بينما الإنسان قد أودع الله فيه قوّة غير متناهية وبها يتسيّد على عالم الطّبيعة.

لاحظوا كيف أنّ جميع أشكال الخليقة وكائناتها الأخرى هي أسيرة للطّبيعة. فهذه الشّمس، ذلك المركز الهائل لنظامنا الشّمسيّ، وهذه النّجوم والكواكب الضّخمة، وهذه الجبال الشّاهقة، بل وهذه الكرة الأرضيّة نفسها بكلّ ما فيها من ممالك الحياة الأدنى من مرتبة الإنسان، هي جميعها أسيرة للطّبيعة عدا الإنسان الّذي لا يمكن لأيّ مخلوق سواه أن يخرج عن إطاعة قانون الطّبيعة ولو بأقلّ درجة. فهذه الشّمس ببهائها وعظمتها على ما يفصلها عنّا بملايين الأميال تبقى حبيسة مدارها المرسوم داخل المجرّات وأسيرة حكم الطّبيعة الكونيّ. أمّا الإنسان فإنّه حاكم على الطّبيعة. فهو بمقتضى قانون الطّبيعة وحدودها يتعيّن عليه ألاّ يتجاوز سطح الأرض، ولكن لاحظوا كيف يكسر هذا الحكم ويحلّق فوق الجبال بالطّائرات، ويسير على سطح البحار بالبواخر، ويغوص في أعماقها بالغوّاصات. والإنسان يسخّر الطّبيعة؛ فمثلاً يسخّر هذه القوّة الكهربائيّة العاتية ويحبسها داخل زجاجة صغيرة من أجل حاجته ومنفعته، ويتخابر من الشّرق إلى الغرب عبر الأسلاك، وبمقدوره أن يحفظ صوته ويسجّله في الفونوغراف. ورغم أنّه يسكن الأرض فإنّه ينفذ إلى أسرار أفلاك لا يمكن تصوّر بُعدها، ويكشف الحقائق الكامنة بباطن الأرض، ويكشف الكنوز الدّفينة فيها، وينفذ إلى أسرار وغياهب عالم الخليقة، ويكشف النّقاب عن حقائق كان من الواجب طبقًا لنواميس الطّبيعة الأبيّة أن تبقى مكنونة غامضة منيعة. فبفضل قوّة معنويّة مثاليّة يمتلكها، يأتي الإنسان بهذه الحقائق من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود، وهذا مخالف لقانون الطّبيعة.

إذًا اتّضح أنّ الإنسان حاكم على عالم الطّبيعة. فالطّبيعة راكدة جامدة، والإنسان في تطوّر وارتقاء. والطّبيعة لا شعور لها، بينما الإنسان مُنح الشّعور والإحساس. والطّبيعة لا إرادة لها، أمّا الإنسان فيملك إرادة قويّة. والطّبيعة عاجزة عن كشف الأسرار أو الحقائق، بينما الإنسان مؤهّل تمامًا لذلك. والطّبيعة لا علم لها بالعالم الإلهيّ، أمّا الإنسان فهو على اتّصال بفيوضات ذلك العالم. والطّبيعة لا علم لها بالله، بينما الإنسان عارف بالله. والإنسان يكتسب الفضائل الإلهيّة لكنّ الطّبيعة محرومة منها، وبإمكان الإنسان أن يبتعد عن الرّذائل، أمّا الطّبيعة فهي محرومة من أيّة قدرة على كبح جماح غرائزها. من ذلك كلّه يتّضح أنّ الإنسان أشرف وأسمى من المادّة، وأنّ لديه قوّة معنويّة فوق عالم الطّبيعة. فالإنسان لديه شعور وإرادة وذاكرة وعقل وخصال وكمالات ربّانيّة، بينما الطّبيعة محرومة ومسلوبة منها تمامًا. فالإنسان إذًا هو أسمى وأشرف من الطّبيعة بفضل القوّة المثاليّة الملكوتيّة الكامنة المتجلّية فيه.

سبحان الله! كم هو عجيب أن يمتلك الإنسان مثل هذه القوى المثاليّة ونراه يهبط إلى ما هو أدنى ويرضى بما هو أحطّ من مكانته الحقيقيّة. لقد خلق الله في الإنسان روحًا واعية جعلت منه أبدع الكائنات قاطبة، وبنكرانه لهذه الكمالات يهبط بنفسه إلى درك المادّة، ويعدّها سيدّة الوجود وينكر كلّ ما هو خارج عن عالمها. فهل يعدّ هذا كمالاً؟ إنّ هذا برمّته لا يخرج عن كونه أمرًا حيوانيًّا، ذلك لأنّ الحيوان لا يعي أكثر من هذا. فلو أخذنا بهذا المنظور يكون الحيوان في الحقيقة أعظم فيلسوف لأنّه جاهل تمامًا بملكوت الله، وغير حائز على القابليّات الرّوحانيّة ولا علم له بالعالم السّماويّ. وهذا شرح موجز لسبيل الطّبيعة.

أمّا السّبيل الثّاني فهو طريق الدّين ومنهاج الملكوت، وهو طريق يقتضي اكتساب الخصال الحميدة والنّورانيّة السّماويّة والقيام بالأعمال الصّالحة في العالم الإنسانيّ. فطريق الدّيانة هذا هو سبب تقدّم العالم ورقيّه، وهو سبب نورانيّة النّوع الإنسانيّ وتربيته وتهذيب أخلاقه، وهو المغناطيس الّذي يجذب محبّة الله لأنّه يهبنا عرفان الله. وهو سبيل المظاهر الإلهيّة المقدّسة، لأنّهم في الحقيقة أسّ أساس دين الوحدة الإلهيّ. وهو سبيل ثابت لا تحويل فيه ولا تبديل. وهو سبب إصلاح البشريّة واكتساب الفضائل السّماويّة ونورانيّة العالم الإنسانيّ.

لكن وا أسفاه، لقد غرق العالم الإنسانيّ تمامًا في بحر التّقاليد والأوهام رغم أنّ حقيقة الأديان الإلهيّة واحدة لا تتغيّر. فقد حجبت الأوهام تلك الحقيقة الجوهريّة، وأظلم العالم، وخبت نورانيّة الدّين، وصارت تلك الظّلمة سببًا للاختلافات والمشاحنات لأنّ التّقاليد عديدة ومتباينة، فنشب النّزاع بين الأديان، في حين أنّ الدّين الإلهيّ جاء من أجل وحدة بني البشر. والدّين الحقّ هو سبب المحبّة والاتّفاق بين البشر، وعلّة اكتساب الفضائل. ولكنّ النّاس تشبّثوا بالزّيف والتّقليد، وغفلوا عن الحقيقة الجامعة، ولهذا حرموا من نورانيّة الدّيانة وتشبّثوا بالأوهام الّتي ورثوها عن الآباء والأجداد. وبلغ الحال بهم إلى درجة انطمست عندها نورانيّة الحقيقة الإلهيّة وخيّم فيها ظلام التّقاليد والأوهام، وصار كلّ ما هو سبب للحياة علّة للممات، وكلّ ما كان برهانًا للعرفان صار دليلاً للجهل، وكلّ ما هو وسيلة علوّ المعدن الإنسانيّ ورقيّه صار علّة دنوّه. لذا ضاق عالم الدّين وغشته الظّلمة شيئًا فشيئًا، وتوسّع عالم المادّيّات وازدهر، والسّبب هو أنّ أصحاب الدّين قد تمسّكوا بالتّقليد والزّيف، وأهملوا تلك الحقيقة القدسيّة الماثلة في الدّين وتجاهلوها. وحينما تغرب الشّمس تطلع الخفافيش لأنّها طيور اللّيل، وحينما تغرب نورانيّة الدّين يخرج المادّيّون لأنّهم خفافيش الظّلام، وعندما يخفت نور الدّين يكون ذلك أوان نشاطهم؛ فهم ينشدون الظّلمات حينما تَظْلَمّ الدّنيا ويخيّم عليها ركام الغمام.

لقد طلع حضرة بهاء الله من أفق الشّرق كالشّمس المشرقة وأتى لهذا العالم مُظهرًا حقيقة الدّين الإلهيّ ومبدّدًا ظلمة التّقاليد ومرسيًا أساس تعاليم جديدة ومُجدّدًا لحياة العالم.

فأوّل تعاليم حضرة بهاء الله هو تحرّي الحقيقة، وبمقتضاه يتحتّم على الإنسان أن يتحرّى الحقيقة بنفسه، وأن يترك التّقاليد ويتخلّى عن الرّسوم الموروثة. وبما أنّ ملل العالم تتّبع التّقاليد والرّسوم بدل الحقيقة، وحيث إنّ التّقاليد متباينة ومتعدّدة فإنّ اختلاف المعتقدات ولّد النّزاع والقتال. وما دامت هذه التّقاليد باقية فإنّ وحدة العالم الإنسانيّ مستحيلة. إذًا يجب علينا تحرّي الحقيقة حتّى تتبدّد بنورها الغيوم والظّلمات. والحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد والانقسام. وإذا ما قامت جميع الملل على تحرّي الحقيقة فلا شكّ أنّها ستتّحد وتتّفق. وكم من نفوس ومذاهب في إيران قد تحرّت الحقيقة على هدي حضرة بهاء الله وتعاليمه فاتّحدت واتّفقت في نهاية الأمر، والآن تعيش هذه الجماعة في منتهى الألفة والمحبّة في ما بينها وليس بين أفرادها أيّ أثر للشّحناء والبغضاء.

كان اليهود يترقّبون ظهور السّيّد المسيح ويتمنّونه من صميم قلوبهم وأرواحهم، ولكنّهم لمّا كانوا غرقى التّقاليد لم يؤمنوا بيسوع المسيح عند ظهوره. وفي النّهاية قاموا ضدّه وتمادوا بأفعالهم إلى حدّ تعذيبه وإراقة دمه. فلو تحرّوا الحقيقة لآمنوا بمسيحهم الموعود. فهذه التّقاليد العمياء والتّعصّبات الموروثة كانت دومًا هي سبب المرارة والكراهية، فملأت العالم ظلمانيّة وشراسة. علينا إذًا أن نتحرّى الحقيقة الجوهريّة حتّى ننجو من هذه الحال ونبلغ سبيل الملكوت بوجوه نوراء.

ثاني تعاليم حضرة بهاء الله هو وحدة العالم الإنسانيّ؛ فجميع البشر عباد لله وجميعهم أعضاء أسرة إنسانيّة واحدة. فقد خلق الله الجميع، والكلّ أبناؤه الّذين ينشئهم ويربّيهم ويرزقهم جميعًا. وهو رؤوف بالكلّ، فلماذا نكون ظالمين قساة؟ هذه هي السّياسة الإلهيّة الّتي سطعت أنوارها على جميع الخلق. فشمسه تشرق على الجميع بغير حساب، ويمطر سحاب مكرمته على الجميع بغير تفرقة أو محاباة، ويهبّ نسيم عنايته على الأرض كلّها. إذًا يتّضح أنّ عالم الإنسان قاطبة في ظلّ رحمة الله وصونه. وغاية ما في الأمر أنّ بعضهم ناقص يجب إكماله، وجاهل تجب تربيته، ومريض تجب معالجته، ونيام يجب إيقاظهم. كما لا يجمُل بنا أن نبكت الطّفل أو ننهره لمجرّد كونه غير بالغ؛ بل يجب تربيته بكلّ صبر وأناة، ويجب أن لا نهمل المرضى بسبب اعتلالهم؛ وإنّما علينا إظهار الرّحمة والشّفقة بهم وإبراؤهم. فبالاختصار يجب أن تزول من بين أهل الأديان تلك الأوضاع القديمة المتّصفة بالعداء والتّعصّب والكراهية، وأن تتأسّس فيما بينهم أحوال جديدة من المحبّة والوفاق والأخوّة الرّوحانيّة.

ثالث تعاليم حضرة بهاء الله هو أنّ الدّين يجب أن يكون سبب الألفة وأن يكون سبب الاتّحاد وسبب التّقرّب إلى الله. فإن أصبح الدّين سبب العداوة والشّحناء فمن الواضح أنّ غيابه أفضل من وجوده وعدم التّديّن أحسن من هذا التّديّن. فالمشيّة الإلهيّة تقضي بأن يكون الدّين سبب المحبّة والألفة، ورابطة تجمع عموم البشر وتوحّدهم، لأنّ الدّين رسالة سلام ومودّة للإنسان من ربّه.

رابع تعاليم حضرة بهاء الله هو اتّفاق الدّين والعلم. فالله سبحانه وتعالى قد وهب الإنسان عقلاً وإدراكًا، وبهما يتعيّن عليه أن يحقّق في حقائق المسائل والفرضيّات. فإن كانت العقائد والآراء الدّينيّة مخالفة لموازين العلم تغدو مجرّد خرافات وأوهام. لأنّ ما يناقض العلم هو الجهل، وما يولّده الجهل هو الخرافة. لهذا لا بدّ أن يكون هناك توافق بين صحيح الدّين وصحيح العلم. فلو كانت هناك مسألة تخالف العقل فلن يطمئن إليها الإنسان أو يؤمن بها، ولن ينجم عن ذلك إلاّ الشّكّ والتّردّد.

من تعاليم حضرة بهاء الله أيضًا أنّ التّعصّب – دينيًّا كان أم عرقيًّا أو وطنيًّا أو سياسيًّا – فهو هادم لبنيان الرّقيّ الإنسانيّ. التّعصّب من أيّ نوع هو مدمّر لسعادة الإنسان وخيره. ما لم تُمحَ التّعصّبات لا يمكن أن يترقّى العالم الإنسانيّ؛ ومع ذلك نشاهد التّحزّبات العرقيّة والمذهبيّة والقوميّة في كلّ مكان. لقد مرّت آلاف السّنين والعالم الإنسانيّ لم يذق فيها طعم الرّاحة والهناء من جرّاء هذه التّعصّبات. ما دام التّعصّب باقيًا فالحرب باقية والبغضاء باقية والعداوة باقية. فإن أردنا السّلام وجب أن نزيل هذه العقبة، وإلاّ فمن المستحيل أن نجد الرّاحة والاطمئنان.

سادس مبدأ من مبادئ الهداية والإرشاد الّتي جاء بها حضرة بهاء الله هو تعديل أسباب المعيشة. أي أنّه أتى بضوابط تضمن رفاهية عموم شعوب البشر. فكما أنّ الغنيّ ينعم برغد العيش محاطًا بالرّفاهية والكماليّات، كذلك يجب أن يكون للفقير مسكن وأن يتوفّر له القوت ووسائل الرّاحة الّتي تفي بحاجته. فأمر تعديل المعيشة هذا مهمّ جدًّا لأنّه يضمن استقرار عالم الإنسان، وبغيره لا يمكن أن تتحقّق السّعادة والرّفاهية.

سابع تعاليم حضرة بهاء الله هو وجوب إقرار وتبنّي معيار يكفل المساواة في حقوق الإنسان. فجميع البشر عند الله سواء؛ فلا امتياز ولا أفضليّة لإنسان على آخر في كنف عدل الله وإنصافه.

ثامن تعاليم حضرة بهاء الله هو أنّ التّعليم ضرورة إلزاميّة، وأنّ كافّة الأصول والقوانين التّربويّة والتّعليميّة يجب أن تكون منسجمة ومتوافقة في جميع أنحاء العالم؛ أي أنّه يجب وضع منهاج تربويّ تعليميّ عالميّ تكون فيه أسس الأخلاق واحدة.

تاسع تعاليم حضرة بهاء الله هو تبنّي لغة عالميّة واحدة تُدرّس في جميع المدارس والمعاهد. فتقوم لجنة تعيّنها الهيئات الأكاديميّة الدّوليّة باختيار لغة مناسبة لتكون واسطة التّخاطب العالميّ. ويتحتّم على الجميع أن يتعلّمها لأنّها من أعظم العوامل المؤدّية إلى اتّحاد بني البشر.

عاشر تعاليم حضرة بهاء الله يقضي بالتّشديد على مساواة الرّجال والنّساء وتحقيقها. فليس وجود الجنسيْن مقتصرًا على البشر، بل هناك في عالميّ النّبات والحيوان ذكور وإناث ولكن دون امتياز أو تفضيل. فهناك المساواة التّامّة بين الذّكور والإناث في عالم النّبات. وكذلك الأمر في عالم الحيوان، والجميع في ظلّ صون وحماية إله واحد. فهل يجوز للإنسان، الّذي هو أشرف المخلوقات، أن يتمسّك ويصرّ على تمييز كهذا؟ إنّ عدم تقدّم المرأة وتأهيلها راجع إلى افتقارها للتّعليم وتكافؤ الفرص. فإذا ما حصلت على هذه المساواة، فلا شكّ أنّها ستصبح ندّا للرّجل في القدرة والكفاءة. وعندما يتعاون النّساء والرّجال ويتقدّمون معًا على قدم المساواة، عندئذ تتحقّق سعادة العالم الإنسانيّ، لأنّ كليهما مكمّل ومعين للآخر.

إنّ العالم الإنسانيّ ليس بمقدوره أن يترقّى بمحض قواه المادّيّة وإنجازاته العقليّة فحسب، بل يحتاج إلى نفثات الرّوح القدس بشكل جوهريّ. ويجب أن يحظى الإنسان بتأييد الأب السّماويّ حتّى يصل إلى النّضج. فجسم الإنسان بحاجة إلى القوى المادّيّة والعقليّة، إلاّ أنّ روحه تتطلّب نفثات الرّوح القدس وتأييدها، ومن دونها يبقى العالم الإنسانيّ مظلمًا كما تفضّل السّيّد المسيح: دع الموتى يدفنون موتاهم، وكما قال أيضًا: المولود من الجسد جسد هو والمولود من الرّوح هو روح. من بيان السّيّد المسيح هذا يتّضح إذًا أنّ الرّوح البشريّة ما لم تقوّيها وتحصّنها الرّوح القدس تعتبر ميّتة وتبقى محتاجة لأن تحييها تلك القوّة الإلهيّة. ومن دون ذلك لا يستطيع الإنسان أن يبلغ تقدّمًا كاملاً شاملاً حتّى لو بلغ درجة عالية من الرّقيّ المادّيّ.

 

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في نيويورك وبروكلين (1) 11 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة في الاجتماع المفتوح للّجنة البهائيّة،
بمنزل السيّد إدوارد كيني وحرمه، 780 طريق وست إند، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

أملي أن تكون اجتماعات المحفل البهائيّ في نيويورك كلقاءات الملأ الأعلى. فعندما تجتمعون، عليكم أن تعكسوا أنوار ملكوت السّماوات. ولتكن قلوبكم كالمرايا الّتي يسطع منها إشراق شمس الحقيقة. وليكن كلّ صدر كمحطّة للبرق – حيث يكون أحد قطبيّ السّلك متّصلاً بالرّوح والقطب الآخر مثبّتًا في الملأ الأعلى، كي يهبط الإلهام عليكم من الملكوت الأبهى ويجري التّشاور في مسائل الحقيقة. عندئذ تتطابق الآراء والحقائق، ويكون هناك تقدّم يومًا بعد يوم، وتزداد اللّقاءات إشراقًا وروحانيّة. ونيل هذا الأمر منوط بالوحدة والاتّفاق. وكلّما ازداد كمال المحبّة والاتّفاق كلّما ازداد نزول تأييدات الجمال المبارك وعونه. فليكن هذا اجتماعًا ربّانيًّا، ولتتنزّل عليكم المواهب اللاّمتناهية. فاجهدوا جميعًا بقلوبكم بل وبما أوتيتم من قوّة الحياة حتّى تزداد الوحدة والمحبّة دومًا. وفي مداولاتكم سدّدوا أنظاركم إلى الحقيقة دونما تشبّثٍ بالآراء. فلا يصرّ أحدكم على رأيه هو أو يتشبّث به، وإنّما يجب على كلّ واحد منكم أن يتحرّى الحقيقة بغاية المحبّة والألفة. وعليكم أن تتشاوروا في كلّ الأمور، وعندما يعرض أحدكم وجهة نظر وتجدونها عين الحقيقة، فعلى الكلّ أن يقبلها. عندئذ تتقوّى وحدتكم الرّوحانيّة، وتتعاظم استنارة كلّ واحد منكم، ويزداد سروركم وحبوركم، وتتقرّبون أكثر فأكثر إلى ملكوت الله.

(2) 11 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

لقد رجعنا للتّوّ من زيارة لفيلادلفيا، قضينا فيها ليلتين، وتحدّثنا هناك في كنيستين كبيرتين، ولم يكن الطّقس طيّبًا، فأثّر ذلك في صحّتي. والقصد من هذا التّجوال هنا وهناك واحد – وهو نشر نور الحقيقة في هذا العالم الظّلمانيّ. والسّفر صعب بالنّظر إلى سنّي. وأحيانًا تكون مصاعبه شديدة، ولكنّني، من فرط محبّتي لأحبّاء الله ولرغبتي في أن أفدي نفسي في سبيل الله، أتحمّلها بكلّ سرور. والغاية هو حصول المراد – ألا وهو المحبّة والاتّحاد بين العباد. لأنّ العالم قد أظلم من الشّقاق والأنانيّة، والقلوب قد غفلت، والأرواح حرمت من الله ومواهبه السّماويّة. وصار الإنسان غريقًا في شؤون هذا العالم. وباتت مقاصده وأغراضه ومنجزاته زائلة، والحال إنّ الله يريد للإنسان إنجازات باقية. ولم يبقَ في قلب الإنسان ذكرٌ لله. وتخلّى عن نصيبه وميراثه من الرّوحانيّة الرّبّانيّة. فكأنّه يركب عربة يجرّها جوادا الشّهوة والهوى، فانتزع هذان الجوادان اللّجام من يده واندفعا جامحيْن يركضان في البرّيّة بجنون. وهذا هو سبب الانحطاط في عالم البشر، وعلّـة التّردّي والانهماك في الملذّات والشّهوات الحيوانيّة. فبدلاً من التّرقّي الرّبّانيّ نجد عبوديّةً للحسّيّات وتدنِّيًا في اكتساب فضائل النّفس الملكوتيّة. وبالولاء لعالم الجسد الفاني تنحطّ الأحاسيس الإنسانيّة إلى المستوى الحيوانيّ.

فما هي النّزعات الحيوانيّة؟ هي أن يأكل الحيوان ويشرب ويرتع ويهجع. وكلّ أفكار الحيوانات وعقولها محصورة في ذلك. فهم أسارى قيود هذه الرّغبات. والإنسان يصبح حبيسًا وعبدًا لها إذا لم تعلُ غاية آماله عن منفعته في عالم الحسّيّات هذا. انظروا كم هو عسير على الإنسان نوال الملذّات والسّعادة في هذا العالم الفاني، وكم هو يسير على الحيوان بالمقارنة. انظروا إلى الحقول والزّهور والسّهول والجداول والغابات والجبال. فالمواشي وطيور السّماء والأسماك لا تتعب ولا تخضع لمشاق، ولا تبذر ولا تكترث بالحصاد، ولا تقلق على تجارة أو سياسة، أي لا يعتريها قلق أو حيرة من أيّ نوع كان. فكلّ الحقول والحشائش ومروج الفواكه والحبوب، وكلّ منحدرات الجبال وجداول الماء الرّقراق، هي ملك لها. وهي لا تكدح من أجل عيشها وهنائها لأنّ كلّ شيء متوفّر وقد وضع في متناولها. فإذا ما اقتصرت حياة الإنسان على هذه النّظرة الجسمانيّة المادّيّة، فحياة الحيوان أفضل وأيسر وأكثر راحة وهناء بمائة مرّة. والحيوان أكثر عزّةً وهدوءًا وثقةً إذ إنّ كلّ ساعة عنده خالية من الهمّ والغمّ، أمّا الإنسان فهو يركض بكلّ قلق وشراهة من الصّباح إلى المساء، يمخر في البحار، ويغوص تحتها بالغوّاصات، ويحلّق عاليًا بالطّائرات، وينقّب في أسفل طبقات الأرض للحصول على قوته – وكلّ ذلك بغاية العسر والقلق والاضطراب. فلذا يكون الحيوان من هذا المنظور أكثر عزّةً وهدوءًا وتملّكًا وثقة. انظروا إلى الطّيور في الغابات والأدغال: كيف تبني أعشاشها عاليًا على الأيك المتمايل، وتصنعها بغاية المهارة والجمال – فهي تتأرجح وتتمرجح في نسيم الصّباح، تشرب الماء الرّائق السّائغ، وتتمتع بأجمل المناظر وهي تحلّق هنا وهناك فوق الرّؤوس، تغرّد بكلّ سرور وحبور، وكلّ هذا بلا تعب، ودون ما قلق أو عناء وهاجس. فإذا ما انحصرت حياة الإنسان في العالم العنصريّ الجسمانيّ للمتعة، لوجدنا أنّ القُبّرة أعزّ وأروع من كلّ البشر قاطبة، لأنّ رزقها مهيّأ وأحوالها تامّة وإنجازها كامل وموافق للطّبيعة.

بيد أنّ حياة الإنسان ليست محدودة، إذ إنّها حياة ربّانيّة سرمديّة، وليست معيشة عابرة حسّيّة. فلقد قـُدّر للإنسان وتهيّأ له وجودٌ وعيشٌ روحانيّ في خطّة الخلق الرّبّانيّ. والمقصود من حياته هو أن تكون حياة متعة روحانيّة لا ينالها الحيوان أبدًا. وهذه المتعة منوطة باكتساب الفضائل السّماويّة. كما أنّ رفعة الإنسان هي في بلوغه عرفان الله، وهناؤه هو في نيل العطايا الرّحمانيّة الّتي تتنزّل عليه من فيض الفضل الإلهيّ. وسعادة الإنسان هي في نفحات محبّة الله. وهذا هو أسمى ذروة الفوز في عالم الإنسان. فكم هو أفضل بكثير من شؤون الحيوان وأحوال مملكته الّتي لا رجاء فيها.

انظروا إذًا، ما أحطّ الطّبيعة الّتي تظهر في الإنسان إذا تدنّى إلى مصافّ الحيوان، على الرّغم من النّعم الّتي أسبغها الله عليه، وانشغل كلّيّة بالاحتياجات المادّيّة وتعلّق بهذا العالم الفاني، ظنًّا منه أنّ أقصى سعادته تكمن في كسب الثّروة في هذه الحياة الدّنيا. فيا لها من طبيعة عشوائيّة ومنحطّة. لقد خلق الله الإنسان لكي يصير ورقاء ملكوتيّة، وشمعة سماويّة، ويكون له نصيب من الحياة الأبديّة. وخلقه حتّى يحيى من نفحات الرّوح القدس ويصير نور العالم. فما أشدّ انحطاط الرّوح الّتي تجد متعتها في هذه الظّلمات، منشغلة بذاتها، أسيرة النّفس والهوى، تتمرّغ في طين العالم المادّيّ! وما أشدّ انحطاط مثل هذه الطّبيعة وما أجهلها وأعماها! وما أبهى مقام الإنسان الّذي نال نصيبًا من المنّ السّماويّ وشيّد صرح مقامه الأبديّ في عالم الملكوت!

لقد جاءت المظاهر الإلهيّة إلى هذا العالم من أجل تحرير الإنسان وعتقه من سلاسل عالم الطّبيعة وأغلالها. وعلى الرّغم من أنّهم كانوا يمشون على التّراب، إلاّ أنّهم كانوا يعيشون في الملكوت. ولم يكترثوا بالرّزق المادّيّ أو بمباهج هذا العالم. وبينما كانت أجسامهم عرضة لبلاء لا يمكن تصوّره، إلاّ أنّ أرواحهم كانت دائمًا تحلّق في أسمى ممالك النّشوة والحبور. وكان الغرض من مجيئهم وتعاليمهم ومعاناتهم هو عتق الإنسان من نفسه. فهل لنا إذًا أن نقتفي خطواتهم ونهرب من هذا القفص الجسمانيّ، أم نظلّ أسارى تَحَكُّمه واستبداده؟ وهل يجمل بنا أن نلهث وراء سراب سعادة زائلة وهميّة، أم نتوجّه إلى سدرة الحياة وننعم بثمارها الأبديّة؟

لقد جئت إلى هذه الدّيار في أواخر سنيِّ عمري متحمّلاً صعاب اعتلال الصّحّة والطّقس، وذلك من فرط محبّتي لأحبّاء الله. وأملي أن يجدوا العون كي يصيروا خادمين للملكوت السّماويّ وأرقاءً لخدمة المشيئة الرّبّانيّة. فهذه العبوديّة هي نفس الحرّيّة، وهذه التّضحية هي المجد والشّرف، وهذا العمل هو عين الثّواب، وهذا الاحتياج هو عين الموهبة. فالخدمة النّاشئة عن محبّة الجنس البشريّ هي اتّحاد مع الله. ومن يقوم على الخدمة يكون قد دخل بالفعل في الملكوت وتهيّأ له الجلوس عن يمين ربّه.

(3) 11 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إمّا ميليك

على الإنسان أن يكون عالي الهمّة، وأن يسعى ليكون سماويًّا وروحانيًّا كي يتلمّس الطّريق إلى العتبة الإلهيّة ويصبح مقبولاً عند الله. أن يكون المرء قريبًا من الله هو المجد الأبديّ، وأن يكون مفعمًا بفضائل العالم الإنسانيّ هي السّلطنة الأبديّة. وأن يكون منزّهًا ومقدّسًا تمامًا عن كلّ شائبة وغبرة هي البركة اللاّنهائيّة.

انظروا عالم الإنسان، ولاحظوا كم من أمم جاءت ثمّ زالت. وكانت تلك الأمم من كلّ الأفكار والمآرب. وبعضها لم تكن سوى أسيرة للنّفس والهوى، غارقة في شهوات الغريزة الدّانية. وقد حازت المال والمتاع والجاه. فماذا كان المآل؟ الزّوال الصّرف والنّسيان البحت. فكّروا في هذا، والتفتوا إليه بعين الاعتبار، فلم يبقَ لهم من أثر ولا ثمر ولا حاصل ولا طائل، فذهبت ريحهم – وصاروا هباءً منسيًّا.

كما أنّ هناك نفوسًا قد ظهرت في هذا العالم، نفوسًا طاهرة خالصة، حصرت كلّ اهتمامها في الله، راجية الثّواب الإلهيّ، متقرّبة من العتبة الرّبّانيّة، ونالت رضاء الله. وكانت تلك النّفوس أنوارًا للهدى ونجومًا للملأ الأعلى. فتدبّروا أمر تلك النّفوس السّاطعة كالنّجوم في أفق القدس إلى أبد الآبدين.

ليس القصد من هذا أن يتخلّى المرء عن الكدح وطلب العيش، بل على النّقيض من ذلك. فإنّ الرّهبنة والرّياضات الشّاقّة غير مسموح بهما في أمر حضرة بهاء الله. إنّ نور الهداية ساطع لامع في هذا الأمر العظيم. بل إنّ حضرة بهاء الله صرّح بأنّ الاشتغال والعمل هما عين العبادة. فعلى جميع النّفوس أن تكسب بعرق الجبين والكدّ، ساعية في الوقت نفسه لتخفيف عبء الآخرين، مجتهدة لأن تكون مصدر راحة للنّاس، وميسِّرة لهم أسباب العيش. وهذا في حدّ ذاته عبادة لله. وقد شجّع حضرة بهاء الله بذلك على العمل وحثّ على الخدمة. ولكن لا يجمل بالقلب أن يكون متعلقًا بكلّيّته بهذه الأمور، أو أن تنشغل الرّوح بها تمام الانشغال. وإذا ما كان البال مشغولاً، فعلى القلب أن يكون منجذبًا إلى ملكوت الله، حتّى يتسنّى له نيل الفضائل الإنسانيّة من كلّ صوب وحدب.

لقد نبذنا سبيل الله، وتركنا الاهتمام بالملكوت الرّبّانيّ، ولم نقطع القلب عن التّعلّقات الدّنيويّة، بل تلوّثنا بخصال غير ممدوحة لدى الله، واستغرقنا تمامًا في الشّؤون والنّزعات المادّيّة بحيث لم يكن لنا نصيب من الفضائل الإنسانيّة.

يلزمنا قليل من التّدبّر وقليل من الموعظة حتّى ندرك الهدف من خلقنا. فما أعظم الاستعداد السّماويّ الّذي أودعه الله في نفوسنا! وما أجلَّ القدرة الّتي وهبها الله لأرواحنا! فقد وُهبنا القدرة على اكتشاف حقائق الأشياء. وما علينا إلاّ أن ننكر ذواتنا، ونملك أرواحًا طاهرة، ونوايا خالصة، وأن نجهد قلبًا وروحًا ما دُمنا في هذا العالم حتّى نبلغ مجدًا سرمديًّا.

لقد جئت من أجل تقديم الموعظة وإعلان تعاليم حضرة بهاء الله. وأملي أن تؤثّر مشيئته وهدايته في أرواحكم ونفوسكم وأفئدتكم، فتجعلها طاهرة مقدّسة منزّهة منيرة، وتجعل منكم سرج الاستنارة الملكوتيّة للعالم، فهذا هو رجائي، وهذا هو أملي بعون الله.

(4) 12 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دونته ماري ماكنت

أرحّب بكم جميعًا غاية التّرحيب. هل عرفتم كم عليكم أن تشكروا الله على نعمائه؟ إنّكم لو شكرتموه ألف مرّة مع كلّ نَفَس تتنفّسونه لا يكون هذا كافيًا، ذلك لأنّ الله خلقكم وسوّاكم، وحفظكم من كلّ بليّة، وهيّأ لكم كلّ نعمة وموهبة. انظروا كم هو أب حنون. فهو يسبغ نعمته قبل أن تطلبوها. فنحن لم نكن في عالم الوجود، ولكن بمجرّد ولادتنا وجدنا كلّ شيء مهيئًا لحاجتنا وراحتنا دون أن نطلبه. وأعطانا أبًا شفوقًا وأمًّا حنونة، وقدّر لنا ينبوعَيْن من حليب صافٍ، وهواءً نقيًّا وماءً عذبًا ونسيمًا عليلاً وشمسًا تسطع فوق رؤوسنا. وبالاختصار، لقد أمدّنا الله بكلّ احتياجاتنا المعيشيّة على الرّغم من أنّنا لم نطلب أيًّا من هذه النّعم البالغة. وهيّأ لنا بمحض الرّحمة والفضل هذه المائدة الكبرى. وهي رحمة تسبق الرّجاء. وهناك رحمة أخرى تتأتّى بعد السّؤال والابتهال. أمّا هو فقد وهبنا كلتا الرّحمتين – الرّحمة الّتي تسبق الرّجاء وتلك الّتي تتأتّى بعد الابتهال. ولقد أوجدنا الله في هذا القرن المنير، وهو قرن تاقت إليه وانتظرته كلّ النّفوس القدسيّة في القرون الأولى. فهو قرن مبارك، وهو يوم مبارك. لقد اتّفق المؤرّخون على أنّ هذا القرن يعادل مائة قرن ممّا سبقه. وهذا صحيح من كلّ النّواحي. فهذا هو قرن العلوم والاختراعات والاكتشافات والقوانين الشّاملة. وهذا هو قرن كشف الأسرار الإلهيّة. وهذا هو قرن إشراق شمس الحقيقة. فلتتقدّموا بالشّكر والتّسبيح لله أنّكم ولدتم في هذا العصر. وفضلاً عن هذا فقد أصغيتم لنداء حضرة بهاء الله وتعطّرت مشامّكم بنفحات الفردوس الأبهى ونلتم لُمَع النّور من أفق الشّرق. كنتم نيامًا فاستيقظتم وانتبهت مسامعكم واستنارت قلوبكم ونلتم محبّة الله وبَلَغتم عرفان الله. هذه هي أعظم المواهب الإلهيّة، وهذه هي نفثة الرّوح القدس، وهذا يشمل الإيمان والإيقان. كما أنّ الحياة الأبديّة هذه هي الولادة الثّانية، وهي التّعمّد من الرّوح القدس. ولقد قدّر الله هذا المقام لكم أجمعين. وأعدّ لكم هذا. فعليكم أن تعرفوا قدر هذه العطيّة، وأن تصرفوا أوقاتكم في ذكر الحقّ وحمده. وعليكم أن تحيوا بغاية السّعادة. وإذا ما صادفتكم متاعب أو تقلّبات في الحياة، أو حدث أن اكتأبت قلوبكم بسبب الصّحّة أو الرّزق أو العمل، فلا تجعلوا هذه الأشياء تؤثّر فيكم. إذ لا يصحّ أن تكون علّة للحزن، لأنّ حضرة بهاء الله جاءكم بالسّعادة الرّبّانيّة، وأعدّ لكم مائدة سماويّة، وقدّر لكم عطاءً أبديًّا، وأسبغ عليكم مجدًا سرمديًّا. فلا بُدّ أن تجعلكم هذه البشارات تحلّقون في فضاء السّرور إلى أبد الآبدين. واشكروا الله في كلّ حين حتّى تحيطكم التّأييدات الإلهيّة أجمعين.

(5) 15 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

لقد جعلتكم تنتظرون وقتًا، ولكنّني كنت متعبًا فخلدت إلى النّوم. وفي منامي كنت أتحدّث معكم وكأنّني أتكلّم بأعلى صوتي، فاستيقظت على أثر صوتي، وأفقت على كلمة كانت تتردّد على شفتيّ، وهي كلمة الامتياز. ولهذا فسأحدّثكم هذا الصّباح عن الامتياز.

عندما ننظر في عالم الوجود ندرك أنّ كافّة الأشياء المادّيّة حائزة على رابطة مشتركة، بيد أنّ هناك، من جهة أخرى، نقاط تمايز معينّة فيما بينها. فمثلاً لدى كلّ الأشياء التّرابيّة روابط جسميّة مشتركة. فالجمادات والنّباتات والحيوانات لديها أجسام عنصريّة مشتركة فيما بينها. وبنفس الكيفيّة لها مكان في رتبة الخليقة. وهذه هي الرّابطة المشتركة أو نقطة التّماس فيما بينها. وجميعها تمرّ بعمليّة تركيب وتحليل؛ وهذا هو ناموس الطّبيعة الّذي يخضع له الكلّ. وهو ناموس حاكم على سائر الخليقة، وهو بمثابة همزة وصل بين المخلوقات. بيد أنّ هناك في الوقت نفسه ثمّة خصائص معيّنة تتمايز بها تلك الأشياء عن بعضها البعض. فمثلاً هناك نقاط تمايز واضحة جليّة بين الجماد والنّبات، والنّبات والحيوان، والحيوان والإنسان. كما أنّ هناك أوجه تمايز بين أنواع كلّ مملكة وسلالاتها. فعندما نتفحّص مملكة الجماد، لا نشاهد نقاط تشابه بين الأشياء وحسب، وإنّما نرى أيضًا نقاط تمايز واختلاف. فبعضها أجسام ثابتة، وبعضها قاسٍ وجامد، وبعضها لديه خاصيّة التّمدّد والتّقلّص، وبعضها سائل، وبعضها غازيّ، ولبعضها ثِقَل، أمّا بعضها الآخر مثل النّار والكهرباء فلا ثقل له. فهناك إذًا نقاط تمايز عديدة بين هذه الأنواع المختلفة من العناصر.

كما أنّنا نلاحظ تمايزًا في مملكة النّبات بين مختلف أنواعها وسلالاتها. فلكلّ منها شكله ولونه ورائحته. ويسري هذا النّاموس أيضًا على مملكة الحيوان، إذ يلاحظ فيها العديد من أوجه التّمايز في الشّكل واللّون والوظيفة. ونفس الشّيء موجود في مملكة الإنسان، فمن حيث اللّون هناك البِيض والسّود وهناك الصّفر والحُمر. أمّا من حيث الملامح فهناك فرق وتمايز شاسع بين مختلف الأعراق. فللآسيويّين والإفريقيّين والأمريكيّين ملامح مختلفة، وأهل الشّمال عن أهل الجنوب مختلفون تمامًا في الشّكل والملامح. كما أنّه من النّاحية الاقتصاديّة هناك قدر كبير من التّفاوت في الحالة المعيشيّة. فالبعض فقراء وآخرون أغنياء، والبعض حكماء، وآخرون جهلاء، والبعض صبورون وهادئون، وآخرون قليلو الصّبر وقلقون، والبعض ميّالون إلى العدل والإنصاف، وغيرهم جانح إلى الظّلم والاعتساف، والبعض وُدَعاء وآخرون متعجرفون. فبالاختصار هناك نقاط تمايز كثيرة بين البشر.

أنا أريد لكم الامتياز. فالبهائيّ يجب أن يكون متميِّزًا عن سائر النّاس. ولكنّ هذا التّميُّز يجب ألاّ يكون معتمدًا على المال أو الجاه – أي أن يكون البهائيّون أثرياء أكثر من باقي النّاس. فأنا لا أريد لكم تميُّزًا ماليًّا، وما أرجوه لكم هو تميُّزٌ غير عاديّ، فهو ليس تميُّزًا علميًّا أو تجاريًّا أو صناعيًّا. فما أريده لكم هو التّميُّز الرّوحانيّ، بمعنى أنّ عليكم أن تشتهروا وتمتازوا في الأخلاق وأن تتميّزوا عن سائر النّاس في محبّة الله. عليكم أن تكونوا ممتازين بحبّكم للإنسانيّة، وبالاتّحاد والوفاق، وبالمحبّة والإنصاف. وبالاختصار عليكم أن تكونوا ممتازين في كافّة فضائل العالم الإنسانيّ – أي ممتازين بالوفاء والصّفاء، بالإنصاف والإخلاص، بالثّبات والاستقامة، بالأعمال الخيريّة وخدمة عالم البشر، بالمحبّة لكلّ إنسان، بالاتّحاد والوفاق مع كافّة النّاس، وبإزالة التّعصّبات وترويج السّلام العالميّ. وفي النّهاية يجب أن تكونوا ممتازين بالاستنارة الملكوتيّة، وبنيل الفضائل الرّبّانيّة. وهذا هو الامتياز الّذي أرجوه لكم. ويجب أن يكون هذا هو نقطة التّميّز لديكم.

(6) 16 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بكنيسة الموحّدين الرّابعة
طريق بيفيرلي، ضاحية فلاتبوش، حيّ بروكلين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

هذه كنيسة الموحّدين، وبلسان العرب يجمل بنا أن نُسمّي هذا اليوم يوم الاتّحاد.[1] ولهذا أرى مناسبًا أن أحدّثكم عن الاتّحاد.

تُرى ما هو الاتّحاد الحقيقيّ؟ عندما نتأمّل عالم الإنسان نجد فيه مختلف التّعبيرات الجماعيّة عن الوحدة الماثلة فيه. فعلى سبيل المثال، يتميّز الإنسان عن الحيوان برتبته أو مملكته. وهذا التّميّز الشّامل يسري على كلّ السّلالة الآدميّة ويشكّل عائلة واحدة عظمى أو ما يمكن أن نسمّيه بالأسرة الإنسانيّة، الّتي يمكن اعتبارها الوحدة الأساسيّة أو العضويّة للجنس البشريّ. وعلاوة على ذلك هناك تمايز بين مختلف سلالات الجنس البشريّ بحسب الأعراق، فكلّ سلالة منها تشكّل وحدة عرقيّة قائمة بذاتها. وهناك أيضًا وحدة اللّغة بين أولئك الّذين يستخدمون نفس اللّغة كوسيلة للتّخاطب؛ وهناك كذلك الوحدة القوميّة حيثما تعيش شعوب مختلفة تحت شكل واحد من أشكال الحكم مثل القوميّة الفرنسيّة والألمانيّة والبريطانيّة، وما إلى ذلك. وكذلك الوحدة السّياسيّة الّتي تحمي الحقوق المدنيّة لأحزاب أو فئات الحكومة الواحدة. بيد أنّ كافّة ضروب الوحدة هذه وهميّة ولا أساس لها حقيقيًّا، ذلك لأنّه لا ينشأ عنها أيّة نتيجة حقيقيّة. فالغرض من الوحدة الحقيقيّة هو الحصول على نتائج حقيقيّة ربّانيّة. فبينما لا يتأتّى من صنوف الوحدة المحدودة الّتي أشرنا إليها سوى نتائج محدودة، تأتي الوحدة التّامّة بنتيجة غير محدودة. فإذا نظرنا مثلاً إلى النّتائج الحاصلة عن الوحدتين العرقيّة أو القوميّة، وهما وحدتان محدودتان، نجدها في أفضل الأحوال نتائجَ محدودة. شأنهما في ذلك شأن الأسرة الّتي تعيش منعزلة بمفردها، فلا يأتينا منها أيّ نتائج لامحدودة أو عموميّة.

أمّا الوحدة المحقِّقة للنّتائج اللاّمحدودة فهي في المقام الأوّل وحدة للجنس البشريّ تعترف بأنّ الجميع مستظلّون بالظّلّ الظّليل لجلال ذي الجلال، وتقرّ بأنّ الجميع عباد لله الواحد؛ حيث إنّ الجميع يتنسّمون من هواء واحد، ويعيشون على أديم واحد، ويسعون تحت سماء واحدة، ويستشرقون من شمس واحدة، ويحتمون بحمى الله الواحد. وهذه هي الوحدة العظمى، ونتائجها دائمة إذا ما التزمت بها البشريّة. بيد أنّ الإنسان طالما أخلّ بهذه الوحدة حتّى يومنا هذا، متمسّكًا بأنواع الوحدة المحدودة كالوحدة المذهبيّة أو العرقيّة أو الوطنيّة أو وحدة المنافع الخاصّة. ولهذا لم يتأتَّ عن أيّ منها أيّ نتائج عظيمة. ومع ذلك، فمن المؤكّد أنّ نور الله ونعمه شاملة، وأنّ العقول قد ترقّت والأذهان تفتّحت، والعلوم والفنون انتشرت، وأنّ هناك قابليّة لإعلان وحدة البشر الحقيقيّة المطلقة وترويجها، وهي الوحدة الّتي ستثمر نتائج مذهلة. فهي الّتي ستوفِّق ما بين الأديان، وتجعل الأمم المتحاربة متحابّة، وتجعل الملوك الأعداء أصدقاء، وتجلب السّلام والسّعادة لعالم الإنسان. وهي الوحدة الّتي ستربط الشّرق بالغرب، وتزيل أسباب الحرب إلى الأبد، وترفع راية الصّلح الأعظم. أمّا تلك الصّنوف المختلفة من الوحدة المحدودة هذه فما هي إذًا إلاّ بوادرُ تلك الوحدة العظمى الّتي سوف تجعل الأسرة الإنسانيّة كلّها أسرة واحدة بفضل إيجادها الانجذابات الوجدانيّة في نفوس البشر.

هناك وحدة أخرى هي الوحدة الرّوحانيّة المنبعثة من نفثات الرّوح القدس. وهي وحدة أعظم من وحدة الجنس البشريّ. ذلك لأنّ الاتّحاد أو التّعاضد البشريّ يمكن تشبيهه بالجسد، في حين أنّ الوحدة المنبعثة من نفثات الرّوح القدس هي الرّوح الّتي تُحيي ذلك الجسد. هذه هي الوحدة المثاليّة. فهي تخلق حالة في البشر تجعل الفرد يقدّم التّضحيات من أجل الآخرين، ويكون أقصى أمانيه أن يتخلّى عن الحياة ومتاعها لخيرهم. هذه هي الوحدة الّتي نشأت بين حواريّي يسوع المسيح وربطت ما بين الأنبياء والنّفوس المقدّسة فيما مضى. وهي الوحدة النّافذة بين البهائيّين بتأثير الرّوح الإلهيّ، حيث يضحّي كلّ واحد منهم بحياته لأجل غيره، ويجهد بكلّ إخلاص أن ينال رضاءه. وهذه هي الوحدة الّتي جعلت عشرين ألف نفس في إيران يضحّون بحياتهم بكلّ محبّة وإخلاص من أجلها. وهي الّتي جعلت حضرة الباب هدفًا لآلاف السّهام، وجعلت حضرة بهاء الله يتحمّل النّفي والحبس أربعين سنة. وهذه الوحدة هي عين الرّوح لجسد العالم. ويستحيل على جسد العالم أن يحيا بغير قوّة الإحياء المنبعثة منها. ولقد روّج يسوع المسيح – روحي له الفداء – لهذه الوحدة بين البشر. وصارت كلّ نفس آمنت بيسوع المسيح حيّة من جديد ومنتعشة من هذه الرّوح، وبلغت أوج المجد السّرمديّ، ونالت الحياة الأبديّة، ومرّت بالولادة الثّانية، وبلغت أوج الفلاح.

كما أنّ هناك وحدة أخرى هي الوحدة في كلمة الله – أي وحدة المظاهر الإلهيّة: إبراهيم وموسى ويسوع المسيح ومحمّد والباب وبهاء الله. وهي وحدة ربّانيّة ملكوتيّة نورانيّة رحمانيّة – وهي الحقيقة الواحدة المتجلّية في مظاهرها المتعاقبة. فعلى سبيل المثال، تكون الشّمس ذاتها واحدة لكنّ مشارقها تبقى متعدّدة. فهي تشرق في فصل الصّيف من أقصى نقطة في شمال المدار الشّمسيّ، وتظهر في الشّتاء من أقصى مطلع لها في الأفق الجنوبيّ. وفي كلّ شهر فيما بين هذين الفصلين تبزغ من موضع فلكيّ محدّد. وعلى الرّغم من اختلاف تلك المطالع، فالشّمس هي نفس الشّمس الّتي طلعت منها جميعًا. وهذه دلالة على حقيقة النّبوّة الّتي نرمز لها هنا بالشّمس، بينما تكون المظاهر المقدّسة بمثابة مختلف المطالع أو المواضع الفلكيّة الّتي طلعت عن أفقها تلك الشّمس.

كما أنّ هناك أيضًا الوحدانيّة الإلهيّة أو الذّات الإلهيّة، الّتي هي مقدّسة عن كلّ إدراكات البشر. فهي لا تُدرَك ولا تُعقَل لأنّها حقيقة لامحدودة ولا يمكن أن تصبح محدودة. فعقول البشر لا يمكنها أن تحيط بالحقيقة الإلهيّة، لأنّ كافّة أفكارها وإدراكاتها محدودة وكلّها تصوّرات ذهنيّة لا تعبّر أبدًا عن حقيقة الذّات الإلهيّة الّتي هي وحدها تدرك كنه ذاتها. فمثلاً إذا ما كوّنا مفهومًا عن الذّات الإلهيّة بأنّها ذات حيّة قديرة قيّومة سرمديّة، فليس هذا سوى مجرّد مفهوم بمستوى إدراك العقل البشريّ وليس تلك الحقيقة الواضحة اللاّئحة الّتي تسمو عن أن يدركها أو يحيط بها عقل الإنسان. ولدينا نحن معشر البشر كيان ظاهريّ منظور، ولكن حتّى ما نعلمه عن ذلك الكيان ما هو إلاّ نتاج أذهاننا وأفهامنا المحدودة. أمّا حقيقة الألوهيّة فهي منزّهة عن ذلك المستوى البشريّ من المعرفة والإدراك. إذ إنّ الحقيقة الرّبّانيّة كانت ولا تزال مخفيّة مستورة عن أفهامنا وهي في علوّ تقديسها وتنزيهها. وعلى الرّغم من سموّها وعلوّها بما يفوق إدراكنا، نجد أنّ أنوارها ومواهبها وآثارها وفضائلها ظاهرة ومشهودة في حقائق الأنبياء، تمامًا كما تكون الشّمس ساطعة في مرايا مختلفة. فهذه الحقائق المقدّسة هي بمثابة المرايا العاكسة، وحقيقة الألوهيّة هي بمقام الشّمس الّتي – وإن كانت تنعكس من تلك المرايا وتلمع فيها بفضائلها وكمالاتها – لا تتنزّل عن سموّ مقام جلالها وبهائها لتحلّ في تلك المرايا، وإنّما تظل باقية في جبروت تقديسها. وكلّ ما هنالك هو أنّ أنوارها تصير لائحة واضحة في مراياها أو مظاهرها. وعليه، فإنّ موهبتها المتجلّية من هؤلاء المظاهر هي موهبة واحدة، في حين أنّ من يتلقّون تلك الموهبة كثيرون. هذا هو التّوحيد، وهذه هي الوحدانيّة – أي وحدانيّة الذّات الإلهيّة المنزّهة عن الصّعود والنّزول والحلول والإدراك والتّخيّل – وتلك هي الوحدة الرّبّانيّة الّتي يكون الأنبياء بمثابة مراياها، وبواسطتهم تتجلّى لنا أنوارها، ومنهم تتلألأ فضائلها. غير أنّ شمس الحقيقة هذه لا تتنزّل أبدًا من علوّ وسموّ مقامها. وهذه هي الوحدة والوحدانيّة، وهذه هي القدسيّة، وهذا هو التّمجيد الّذي نسبّح به الله ونعبده.

إلهي إلهي، هؤلاء عباد عتبتك الرّحمانيّة وإماء باب وحدانيّتك. قد اجتمعوا في هذا المعبد متوجّهين إلى وجهك الجليل، متشبّثين بذيل رداء فردانيّتك، ملتمسين رضاءك والعروج إلى ملكوتك، مستفيضين من شمس الحقيقة في هذا القرن المجيد، توّاقين إلى رضائك في عظائم الأمور. أي ربّ، أنر أبصارهم بمشاهدة آياتك وغَنائك وشنّف آذانهم بالإصغاء إلى كلمتك واملأ قلوبهم بمحبّتك وأبهج أرواحهم بلقائك وأسبغ عليهم نعماءك في أرضك وسمائك واجعلهم آيات توحيدك بين عبادك حتّى تتجلّى منهم حقائق التّفريد، ويصير الكلّ متّحدين في أمرك وملكوتك. إنّك أنت الكريم، إنّك أنت العظيم الرّحمن، وإنّك أنت الرّؤوف الرّحيم.

(ثمّ خاطب حضرته أطفال صفوف يوم الأحد قائلا)ً:

إنّني مسرور لرؤية هؤلاء الأطفال النّجباء اللّوامع. وبإذن الله يحقّقون جميعهم آمال ورجاء آبائهم وأمّهاتهم.

الحمد لله إذ أرى أمامي هؤلاء الأطفال ذوي الطّلعة الجميلة – أطفال الملكوت. فقلوبهم طاهرة ووجوههم مشرقة. وعمّا قريب سيكونون أبناء وبنات الملكوت. والشّكر لله أنّهم ساعون في نيل الفضائل وسيصيرون سببًا لبلوغ امتيازات الإنسانيّة. فهذه هي رسالة الوحدانيّة في ملكوت الله. والحمد لله أنّ لهم معلّمين حنونين ومحترمين يربّونهم ويعلّمونهم أحسن تعليم، ويرجون لهم التّوفيق حتّى ينتعشوا بإذن الله كالأغراس الغضّة في بستان الله من أمطار سحائب الرّحمة، فينمون ويترعرعون ويأتون في نهاية المطاف بثمار هي غاية في الكمال واللّطافة.

أبتهل إلى الله لكي يتربّى هؤلاء الأطفال في كنف حفظه، ويتغذّوا من عطائه وفضله، حتّى يتفتّح الكلّ كالأزهار الجميلة ويعبق شذاهم في روضة الأمل والرّجاء الإنسانيّ.

أي ربّ، علّم هؤلاء الأطفال وربِّهمْ. فهؤلاء الأطفال أغراس روضك، وأزهار مرجك، وأوراد حديقتك. فأنزل عليهم أمطار موهبتك، واجعل شمس الحقيقة تسطع عليهم بمحبّتك. وأنعشهم بنسيمك حتّى يتربّوا وينموا ويترقّوا ويظهروا بغاية الجمال. إنّك أنت المعطي، إنّك أنت الرّحيم.

 

[1]        (قالها حضرته باللّغة العربيّة).

 

(7) 16 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد هوارد ماكنت وحرمه،
935 إيسترن باركواي، حيّ بروكلين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

إنّ هذا لجمعٌ بديع، فهو لقاء لإماء الرّحمن وأحبّاء الله. وكلّما حدثت اجتماعات كهذه في هذا العالم كانت النّتائج عظيمة للغاية. فهي تُحدِث أثرًا عظيمًا في عالم الأفئدة والعقول. فمن الطّبيعيّ حيثما يضاء سراج في اللّيل أن ينجذب النّاس إليه ويتجمّعوا حوله. عندما ترون جمعًا كهذا تدركون أنّ ثمّة ضوء ينير الظّلام. هناك مصابيح ذات ضوء محدود، ومصابيح أخرى لا حدود لضوئها. هناك سُرُجٌ تضيء أماكن صغيرة وهناك سُرُجٌ تنير الآفاق. وحيثما أوقد سراج الهداية الرّبّانيّة ألقى ضياءه في أرجاء الشّرق والغرب. الحمد لله أنّه أوقد في هذا البلد، وما لبث نوره يزداد بهاءً وإشراقه اتساعًا يومًا بعد يوم. هذه الحقيقة ليست معروفة الآن، بيد أنّ شواهدها ستزداد وضوحًا وجلاء فيما بعد. تفكّروا في أيّام المسيح كيف أضاء نور الهداية اثني عشر قلبًا. وكم كان ذلك يبدو محدودًا، ولكن كم صار مداه شاسعًا بعد ذلك وأضاء الدّنيا! أنتم لستم جمهرة كبيرة من النّاس، ولكن بما أنّ سراج الهداية قد أُوقد في قلوبكم، فلسوف تكون آثاره مدهشة في قادم السّنين. من الواضح اللاّئح أنّ العالم سيتنوّر بهذا النّور، فعليكم إذًا أن تشكروا الله لأنّ سراج الهداية العظمى قد أُوقد، لله الحمد، في أفئدتكم بفضله وموهبته، وأنّه قد دعاكم إلى ملكوته، وأوصل نداء الملأ الأعلى إلى مسامعكم، وفُتحت على وجوهكم أبواب السّماء، وسطعت عليكم شمس الحقيقة، وأفاض عليكم من غمام الرّحمة، وهبّت نسائم العناية على نفوسكم. ومع أنّ العطاء عظيم والفضل عميم إلاّ أنّ القابليّة والاستعداد لازمان. فمن دون القابليّة والاستعداد لا يتجلّى الفضل الإلهيّ ولا يلوح. فمهما أمطر السّحاب وسطعت الشّمس وهبّ النّسيم فلن تعطي التّربة القاحلة نماء. أمّا الأرض الطّاهرة الخالية من الشّوك والحسك فهي تتلقّى وتعطي أُكُلَها بفيض أمطار غمام الرّحمة. كما أنّه مهما سطعت الشّمس فلن يكون لها أثر في الصّخرة الصّمّاء، أمّا في المرآة المصقولة الصّافية فإنّ أنوارها تكون لامعة. فعلينا إذًا أن نطّور استعدادنا لكي تتجلّى فينا آيات رحمة الله. وعلينا أن نسعى لتنقية تربة الفؤاد من الزّؤان ونطهّرها من أشواك الأفكار العقيمة، حتّى يفيض علينا من غمام الرّحمة. إنّ أبواب الله مفتوحة، لكن علينا أن نكون مستعدّين ومستحقّـين للدّخول. وبحر العناية الرّبّانيّة متلاطم، ولكن علينا أن نكون قادرين على السّباحة. والمواهب الرّبّانيّة تتنزّل من سماء العناية، ولكنّ الاستعداد لنيلها ضروريّ. ونبع الجود الإلهيّ دافقة، ولكن علينا أن نكون عطاشى لمعين الحياة. فما لم يكن هناك ظمأ فلن يروي الماء السّائغ، وما لم تَجُع الأرواح فلن تشبعها لذائذ مائدة السّماء، وما لم تتفتّح أعين البصيرة لن تُشاهَدَ أنوارُ الشّمس، وما لم تتطهّر المشام لن يُستنشَقَ أريجُ الرّوضة الإلهيّة، وما لم يمتلئ القلب بالاشتياق لن تظهر العطايا الرّبّانيّة، وما لم تصدح نغمات اللّحن المليح لن تنجذب آذان السّامعين. فعلينا إذًا أن نجهد ليلاً ونهارًا في تطهير الأفئدة من كلّ الأدران، وتنزيه النّفوس عن كلّ العلائق، والتّحرّر من شحناء عالم البشر. عندئذ تتجلّى المواهب الرّبّانيّة بكمالها وجلالها. أمّا إذا لم نجهد لكي نتطهّر من نقائص الطّبيعة البشريّة ورذائلها، فلن يكون لنا نصيب من مواهب الله. فكأنّما سطعت الشّمس بتمام بهائها ولكن لا انعكاس لها من قلوب سوداء كالصّخرة الصّمّاء. فإذا كان هناك بحر موّاج من سلسبيل صافٍ ولم نكن عطشى، فأيّ فائدة نجنيها؟ وإذا ما أوقدت شمعة ولا نملك عيونًا، فأيّ متعة لنا في ذلك؟ وإذا ما ارتفعت أبدع النّغمات إلى السّماوات وحرمنا من السّمع، فأيّ استمتاع نجده؟

علينا إذًا أن نسعى دائمًا ونلتمس ونتوسّل ونتضرّع إلى ملكوت الله كي يهبنا كامل القابليّة حتّى تنكشف لنا العطايا الرّبّانيّة وتتجلّى فينا. إذا ما بلغنا هذه النّعم الملكوتيّة علينا أن نتقدّم بالشّكر لعتبة الفردانيّة. عندئذ نبتهج في الله ونلهج بالثّناء والحمد أنّنا قد نعمنا بهذه العطايا في هذا القرن البديع والعصر المجيد وفي كنف الملكوت الإلهيّ. لهذا فإنّني أنصح نفسي أوّلاً ثمّ ألتمس منكم أن تعرفوا قدر هذه المنحة العظمى، وتدركوا هذه الهداية الكبرى، وتتلقّوا هذه الفضائل الرّبّانيّة. عليكم أن تسعَوْا ليلاً ونهارًا لتصبحوا جديرين بحظّ وفير من هذه الآلاء وتبلغوا كامل القابليّة لكسبها. والحمد لله أنّ قلوبكم منيرة، ووجوهكم متوجّهة إلى ملكوت الله. وأملي أن يتحقّق الوصول إلى جميع هذه المراتب، وأن يبلغ هؤلاء الأحبّاء مقامًا يكون مثالاً وحافزًا لكلّ الأحبّاء في العالم، وأن تنتشر محبّة الله من هنا إلى كلّ صوب وحدب، وأن تنبعث معرفة الله من هذه البقعة، وأن تصبح القوى الرّوحانيّة فعّالة هنا، وأن تسطع أنوار الملكوت، وأن تتواجد هنا النّفوس النّجيبة حتّى ينشغلوا بكلّ القوى في خدمة الله، مروّجين لوحدة العالم الإنسانيّ وقضيّة الصّلح الأعظم، وأن تكون هذه النّفوس شموعًا مضيئة وأشجارًا مثمرة ولآلئَ أصداف العناية ونجوم السّماء. هذا هو دعائي لله، وهذا هو رجائي من الجمال الأبهى: أن يغمركم جميعًا في بحر فضله.

ثمّ تفضّل فيما بعد بالرّدّ على سؤال عن الأرقام:

إنّ هذه الاعتقادات في أرقام تجلب الحظّ وأخرى تجلب النّحس ما هي إلاّ محض خيال. أمّا الخرافة المتعلّقة بالرّقم ثلاثة عشر (13) فيرجع مصدرها إلى حقيقة أنّ يسوع المسيح كان محاطًا باثني عشر حواريًّا وكان يهوذا الإسخريوطيّ هو العضو الثّالث عشر في لقائهم. وهذا هو أصل هذه الخرافة، بيد أنّها خيال محض. فعلى الرّغم من أنّ يهوذا كان حواريًّا في الظّاهر، إلاّ أنّه لم يكن كذلك في حقيقة الأمر. إنّ الرّقم اثنا عشر (12) هو الرّقم الأصليّ للدّلالة والتّمام. فقد كان ليعقوب اثنا عشر ابنًا انحدر منهم الأسباط الاثنا عشر، وكذلك كان حواريّو المسيح اثني عشر، وأئمّة الإسلام اثني عشر أيضًا. كما أنّ علامات أبراج الفلك اثنا عشر، وأشهر السّنة اثنا عشر، وما إلى ذلك.

بظهور حضرة بهاء الله فُـسّرت أسرار الكتب المقدّسة. ولم تكن تلك الأسرار مفهومة قبل ظهوره، فكشف حضرته هذه الأسرار وفضّ ختمها. ولقد كانت رغبتي أن آتي هنا اليوم لحضور هذا اللّقاء.

(8) 16 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالكنيسة التّجمعيّة المركزيّة
شارع هانكوك، حيّ بروكلين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

هذا معبدٌ طيّب وجمع طيّب، لأنّ هذا، بحمد الله، دار عبادة يتاح فيه لكلّ رأي وجدانيّ مُتَنَفَّـسٌ حرٌّ. ويمكن هنا لكلّ دين وكلّ تطلّع إيمانيّ أن يُعلَن عنه جهارًا ويُعبَّرَ عنه بحرّيّة. وتمامًا مثلما تكون هناك ضرورة للفكر الحرّ في عالم السّياسة، كذلك يجب أن يكون هناك في عالم الدّين حقٌ بالاعتقاد الفرديّ الحرّ. انظروا كم هو شاسع ذلك الفرق بين الدّيمقراطيّة الحديثة وأشكال الاستبداد القديمة. ففي ظلّ حكومة أوتوقراطيّة مستبدّة لا تكون آراء النّاس حرّة، ويعاق الرّقيّ، بينما في الدّيمقراطيّة، نظرًا لأنّ الفكر والتّعبير غير مقيّدين، نلاحظ عظيم التّقدّم. ونفس الشّيء يصدق أيضًا في عالم الدّين. فعندما تسود حرّيّة الضّمير وتحرّر الفكر والحقّ في التّعبير – بمعنى أن يكون بوسع كلّ إنسان أن يعبّر عن معتقداته طبقًا لما يراه هو مثاليًّا – عندئذ فلا محالة من الرّقيّ والنّماء. لذا فإنّ هذه الكنيسة مباركة لأنّ منبرها مفتوح لكافّة الأديان، ومسموح بشرح مُثُلها ومبادئها بكلّ صراحة وحرّيّة. ولهذا فإنّي أكنّ عظيم الامتنان للدّكتور القسّ الموقّر؛ وأراه حقًّا خادمًا لوحدة الإنسانيّة.

كانت المظاهر المقدّسة، الّذين هم مصادر أو مؤسّسي هذه الأنظمة الدّينيّة المتعدّدة، متّحدين ومتّفقين في هدفهم وتعاليمهم. فلقد كان إبراهيم وموسى وزرادشت وبوذا ويسوع ومحمّد والباب وبهاء الله روحًا وحقيقةً واحدةً. كما أنّ كلّ نبيّ منهم قد حقّق وعد من سبقه، وأخبر كلّ سلف عن كلّ خلف. انظروا كيف تنبّأ حضرة إبراهيم بمجيء حضرة موسى، وكيف كان حضرة موسى تجسيدًا لوعد حضرة إبراهيم. وقد تنبّأ حضرة موسى بالدّورة المسيحيّة، بينما أكمل حضرة المسيح شريعة حضرة موسى. فيكون من الواضح إذًا أنّ المظاهر المقدّسة الّذين أسّسوا الأنظمة الدّينيّة متّحدون ومتّفقون، ولا فرق أبدًا في رسالتهم وتعاليمهم؛ فالكلّ عاكسون للحقيقة، والكلّ مروجون لدين الله. والدّين الرّبّانيّ هو الحقيقة، والحقيقة لا تتعدّد، إذ إنّها حقيقة واحدة. لذلك فإنّ أسس الأنظمة الدّينيّة واحدة لأنّها نابعة جميعها من الحقيقة الّتي لا تقبل الانقسام، بيد أنّ أتباع هذه الأنظمة قد اختلفوا؛ فنشب بينهم الخلاف والنّزاع والاقتتال، ذلك لأنّهم نبذوا الأصل وتمسكوا بما هو تقليد ووهم. وبما أنّ التّقاليد تختلف، فقد نتج عنها العداوة والبغضاء. مثلاً أرسى يسوع المسيح – روحي له الفداء – قواعد الحقيقة الأزليّة، بيد أنّ العديد من الطّوائف والفرق ظهرت في المسيحيّة من بعد رحيله. فيا تُرى ماذا كان سبب ذلك؟ لا شكّ أنّها قد نشأت من تقاليد متزمّتة، إذ إنّ الأسس الّتي جاء بها حضرة المسيح كانت عين الحقيقة، وهي الّتي لا يوجد فيها اختلاف. فعندما ظهرت التّقاليد نشأت الطّوائف والنّحل.

إذا ما تحرّى المسيحيّون من كافّة الطّوائف والفرق عن الحقيقة، فستوحِّدهم الأصول الّتي جاء بها حضرة المسيح ولن تبقى هناك أيّ عداوة أو كراهية، لأنّهم يصبحون جميعًا في ظلّ هَدي الحقيقة ذاتها. والحال على نفس المنوال في المضمار الأوسع، أي إذا ما أعرضت كلّ النّظم الدّينيّة القائمة عن تقاليد الأسلاف وتقصّت الحقيقة، باحثة عن المعاني الحقيقيّة للكتب المقدّسة، لاتـّحدت واتّفقت على نفس الأساس – أي على الحقيقة بعينها. طالما أنّ تلك النّظم تتّبع عقائدَ أو تقاليدَ زائفة بدلاً من الحقيقة، فإنّ العداوة والخلاف يبقيان ويتزايدان. ودعوني أوضّح ذلك. لقد أعلن حضرة موسى وأنبياء بني إسرائيل عن قدوم حضرة المسيح، بيد أنهم عبّروا عن ذلك بلغة الرّموز. فلمّا ظهر السّيّد المسيح رفضه اليهود، رغم أنّهم كانوا يتوقّعون ظهوره وكانوا يصيحون ويبكون في معابدهم وهياكلهم قائلين: ‘ربّنا، عجّل بمجيء المسيح!’ فلماذا أنكروه عندما أعلن عن نفسه؟ لأنّهم اتّبعوا رسوم الأسلاف وتأويلاتهم، وأغمضوا أعينهم عن حقيقة حضرة المسيح، ولم يدركوا الرّموز الباطنيّة للكتاب المقدّس. فجاهروا باعتراضاتهم قائلين: ‘نحن ننتظر المسيح، إلاّ أنّ مجيئه مشروط بتحقّقات ومنطوقات نبويّة بذاتها، ومن بين علامات ظهوره تلك الّتي تقول بأنّه سيأتي من مكان غير معلوم، بينما هذا الّذي يدّعي مقام المسيح قد أتى من النّاصرة ونحن نعرف بلده ونعرف أمّه.

‘ثاني العلامات أو الشّروط لمجيء المسيح أنّ عصاه من حديد، أمّا هذا المسيح فلا يملك حتّى عصا من خشب.

‘ثالثها، أنّه يجلس على عرش داود، بينما هذا المسيح الملك في فقر مدقع ولا يملك حتّى حصيرة.

‘رابعها، هو أنّه يفتح الشّرق والغرب، وهذا الشّخص لم يفتح حتّى قرية واحدة، فكيف يكون هو المسيح؟

‘خامسها، هو أنّه يروّج شريعة الكتاب المقدّس، بينما هذا الشّخص لم يخفق في ترويج الكتاب المقدّس فحسب، بل لقد كسر شريعة السّبت.

‘سادسها، أنّ المسيح يلمّ شمل اليهود الّذين شُتِّتوا في فلسطين ويعيد لهم الفخر والمجد، ولكنّ هذا الشّخص قد حطّ من شأن اليهود بدلاً من إعلاء مقامهم.

‘سابعها، من المفروض إبّان سلطنته أنّه حتّى الحيوانات تنعم بالبركات والرّاحة، إذ إنّه، طبقًا لنصوص النّبوءات، سيؤسّس السّلام على نطاق عامّ بدرجة أن يعيش النّسر والسّلوى معًا، والأسد والأيل يرعيان في نفس المرج، ويرقد الذّئب والحمل معًا في ذات المرعى. أمّا في عالم البشر فستنتهي الحرب بالكلّيّة، وتنقلب الرّماح إلى مناجل والسّيوف سككًا. ولكنّنا نرى الآن في يوم هذا المسيح المزعوم سطوة للظّلم، حتّى إنّه هو نفسه قد صار ضحيّة. فكيف يكون هو المسيح الموعود؟’

هكذا تكلّموا عنه بهذه الكلمات المخزية.

الآن، وبما أنّ اليهود كانوا غرقى في بحر تقاليد الأسلاف، فلم يكن بمقدورهم أن يفهموا معاني هذه النّبوءات. فكلّ ما نطق به الأنبياء قد تحقّق، ولكنّ اليهود لتمسّكهم الشّديد بالتّأويلات الموروثة فإنّهم لم يفهموا المعاني الباطنيّة للكتاب المقدّس، ولذا فقد أنكروا يسوع، الّذي هو المسيح. ولم يكن المقصود بالكلمات النّبويّة هو معناها الظّاهريّ أو الحرفيّ، وإنّما الدّلالة الرّمزيّة الباطنيّة. فمثلاً، صرّح الأنبياء بأنّ حضرة المسيح يأتي من مكان غير معلوم، ولم يكن القصد من هذا هو مكان ميلاد جسد يسوع العنصريّ، وإنّما كانت الإشارة إلى حقيقة المسيح، بمعنى أنّ حقيقة المسيح تظهر من ملكوت الغيب، لأنّ الحقيقة الرّبّانيّة للمسيح مقدّسة ومنزّهة عن المكان.

أمّا عن سيفه الّذي هو من حديد، فهذه كناية عن لسانه الّذي يفصل الحقّ عن الباطل، وبهذا السّيف العظيم الكرّار يفتح ممالك القلوب. فلم يكن فاتحًا بالقوّة المادّيّة لقضيب الحديد، وإنّما فتح الشّرق والغرب بسيف بيانه.

لقد جلس حضرته على عرش داود، ولكنّ سلطانه لم يكن كسلطان نابليون أو كملك الفرعون الزّائل. فكانت مملكة المسيح أبديّة سرمديّة في سماء المشيئة الإلهيّة.

كان المقصود بترويجه شريعة التّوراة هو حقيقة الشّرع الموسويّ. فشريعة الطّور هي أصل حقيقة المسيحيّة، وقد روّجها حضرة المسيح وأعطاها تعبيرًا روحانيًّا أكثر سموًّا.

لقد فتح حضرة المسيح الشّرق والغرب وأخضعهما، ولكنّ فتحه تمّ بواسطة نفثات الرّوح القدس الّتي أزالت كافّة الحدود وسطعت من كلّ الآفاق.

بمقتضى النّبوءة، يشرب الذّئب والحمل معًا في زمان المسيح من نبع واحد. وتحققت هذه النّبوءة في حضرة المسيح، فالنّبع المشار إليه هو الإنجيل الّذي تدفّق منه ماء الحياة. أمّا الذّئب والحمل فهما الأقوام المتخاصمة المتناحرة المُكنّى عنها بهذين الحيوانين. فقد كان اجتماع هذه الأقوام وتعاشرها مستحيلاً، ولكن بإيمانهم بيسوع المسيح صار من كانوا في السّابق ذئابًا وحملانًا متّحدين بواسطة كلمات الإنجيل.

المغزى هو أنّ كلّ ما قصَدَتْه النّبوءات من معانٍ قد تحقّق، ولكن بما أنّ اليهود كانوا أسرى تقاليد الأسلاف ولم يفهموا حقيقة معاني هذه الكلمات فقد أنكروا حضرة المسيح، لا بل بلغ بهم التّمادي أنّهم صلبوه. فانظروا كم يكون التّقليد مضرًّا. لقد كانت هذه تأويلات انتقلت من الآباء والأسلاف، ولأنّ اليهود قد تمسّكوا بها، فقد كان الحرمان من نصيبهم.

يتبين إذًا أنّ الواجب علينا أن نتخلّى عن مثل هذه التّقاليد والاعتقادات حتّى لا نقع في نفس الخطأ. علينا أن نتحرّى الحقيقة، وأن نطرح الأفكار الأنانيّة جانبًا ونُخرج القيل والقال من عقولنا. اليهود يعدّون حضرة المسيح عدوًّا لحضرة موسى، بينما على النّقيض من ذلك، فقد روّج حضرة المسيح كلمة حضرة موسى وأذاع وأشاع اسم حضرة موسى في بلاد الشّرق والغرب وروّج التّعاليم الموسويّة. فلولا حضرة المسيح لما سمعتم أنتم باسم حضرة موسى. وما لم يكن مقام المسيح قد تجلّى في شخص يسوع المسيح لما صار العهد القديم فى متناول أيدينا.

فالحقيقة هي أنّ حضرة المسيح أكمل الشّريعة الموسويّة، وساند حضرة موسى بكلّ الوسائل، بيد أنّ اليهود، وقد أعمتهم التّقاليد والتّعصّبات، اعتبروا حضرته عدوًّا لموسى.

من بين الأنظمة الدّينيّة العظيمة في العالم الإسلام. ويؤمن به اليوم ثلاثمائة مليون نفس[1]. ولقد سادت العداوة والشّقاق بين المسلمين والمسيحيّين لأكثر من ألف سنة بسبب سوء الفهم والغفلة الرّوحانيّة. فإذا ما نُبذت التّعصّبات والتّقاليد لما بقيت هناك أيّ عداوة بينهم، ولزيّن مئات الملايين من هؤلاء المتديّنين المتناحرين عالم الإنسانيّة باتّحادهم.

أودُّ الآن أن أُلفت اهتمامكم إلى نقطة هي في غاية الأهمّيّة. فكلّ المسلمين يعتبرون القرآن كلام الله. في هذا الكتاب القدسيّ نصوص صريحة غير منقولة عن مصدر آخر تنصّ على أنّ حضرة المسيح هو كلمة الله، وأنّه روح الله، وأنّه جاء إلى هذا العالم بنفخة محيية من الرّوح القدس، وأنّ السّيّدة مريم أمّ حضرته كانت امرأة مباركة طاهرة. ولقد خصّص القرآن سورة كاملة لسيرة حضرة عيسى، وهي تسجّل أنّ حضرته في صباه كان يعبد الله في هيكل أورشليم، وأنّ الله أنزل عليه المنّ من السّماء قوتًا له، وأنّه تكلّم في المهد فور ولادته. والخلاصة إنّ في القرآن مديحًا وثناء لحضرة المسيح لا تجدونه في الإنجيل. فالإنجيل لا يسجّل أنّ عيسى الطّفل قد تكلّم عند ولادته، أو أنّ الله أنزل عليه من السّماء رزقًا، ولكنّ القرآن يذكر مرارًا وتكرارًا أنّ الله أنزل عليه المنّ من السّماء يومًا بعد يوم قوتًا له. وعلاوة على ذلك، فمن الثّابت بغير شكّ أنّ محمّدًا لمّا أعلن مهمّته ورسالته كان أوّل اعتراض له على أتباعه هو ‘لماذا لم تؤمنوا بعيسى المسيح؟ ولماذا لم تقبلوا الإنجيل؟ ولماذا لم تؤمنوا بحضرة موسى؟ ولماذا لم تتبعوا تعاليم العهد القديم؟ ولماذا لم تدركوا نبأ أنبياء بني إسرائيل؟ ولماذا لم تؤمنوا بحواريّي حضرة المسيح؟ إنّ أوّل واجب عليكم أيّها الأعراب هو أن تقبلوا كلّ هذا وتؤمنوا به. عليكم أن تعدّوا حضرة موسى نبيًّا، وأن تقبلوا يسوع المسيح بصفته كلمة الله. وعليكم أن تدركوا أنّ التّوراة والإنجيل كلام الله، وأن تؤمنوا بأنّ يسوع المسيح قد جاء من الرّوح القدس’. فكان جواب قومه هو ‘يا محمّد، سنؤمن على الرّغم من أنّ آباءنا وأسلافنا لم يكونوا مؤمنين، ونحن نفخر بهم. فقل لنا ماذا سيكون مصيرهم؟’ فأجابهم محمّد قائلاً ‘أشهد بأنّهم مستقرّون في قاع الجحيم إذ كفروا بحضرة موسى والسّيّد المسيح، ولم يقبلوا التّوراة والإنجيل، ومع أنّهم أسلافي، إلاّ أنّهم يائسون في الجحيم.’ – هذا ما جاء صراحة في القرآن، وهو ليس رواية أو كلامًا منقولاً وإنّما من القرآن نفسه المتداول بين النّاس. فمن الواضح إذًا أنّ الجهل وسوء الفهم تسبّبا في كثير من القتال والنّزال بين المسيحيّين والمسلمين. ولو تحرّى كلّ منهم الحقيقة الّتي تقوم عليها معتقداتهم الدّينيّة، لكانت النّتيجة هي الاتّحاد والاتّفاق، ولا زال التّناحر والمرارة بغير رجعة، ولوجد عالم البشر سلامًا وصفاءً. اعلموا أنّ هناك مائتين وخمسين مليونًا من المسيحيّين[2]، وثلاثمائة مليونٍ من المسلمين. فكم من الدّماء سالت في حروبهم، وكم من أمم أبيدت، وكم من أطفال يُتِّموا، وكم من آباء وأمهات ثَكِلوا الأبناء وفقدوا الأعزّاء! لقد كان كلّ ذلك بسبب التّعصّب وسوء الفهم وتقليد معتقدات الأسلاف دون ما تحرّ للحقيقة. فلو فُهِمت الكتب المقدّسة فهمًا صحيحًا لما بقي أيّ أثر لهذا الخلاف والبؤس، بل لسادت المحبّة والألفة بدلاً عن ذلك. وهذا يصدق أيضًا مع سائر الأديان. فالأحوال الّتي ذكرتُها تنطبق أيضًا على الكلّ على حدٍ سواء. فالغرض الجوهريّ لدين الله هو تأسيس الوحدة بين البشر. لقد كان المظاهر الإلهيّة هم المؤسّسون لوسائط الأخوّة والمحبّة. فهم لم يأتوا لخلق الاختلاف والنّزاع والكراهية في العالم. ودين الله هو سبب للمحبّة، أمّا إذا جُعِل الدّين منبعًا للعداوة وسفك الدّماء فعدمه بكلّ تأكيد خير من وجوده، لأنّه سيصير في تلك الحالة شيطانيًّا مؤذيًا وعقبة كأداء أمام عالم البشر.

لقد كانت مختلف الشّعوب والأمم في بلاد الشّرق في حالة من العداوة والاقتتال، مُظهرين أقصى العداوة والبغضاء لبعضهم البعض، وخيّم الظّلام على عالم الإنسان. في ذلك الوقت ظهر حضرة بهاء الله. فأزال كافّة التّقاليد والتّعصّبات الّتي سبّبت التّباعد وسوء الفهم، وأرسى أساس دين الله الواحد. فلمّا تحقّق ذلك توحّد المسلمون والمسيحيّون واليهود والزّرادشتيّون والبوذيّون في إخاء ومحبّة حقيقيّتين، وصارت النّفوس الّتي اتّبعت حضرة بهاء الله من كلّ ملّة كأسرة واحدة تعيش في وئام ووفاق، مستعدّة لأن تضحّي بحياتها من أجل بعضها البعض. فالمسلم يبذل حياته من أجل المسيحيّ، والمسيحيّ من أجل اليهوديّ، وجميعهم من أجل الزّرادشتيّ. وهم يتعايشون في محبّة وإخاء واتّحاد. لقد بلغوا حالة الولادة الثّانية في روح الله وصاروا أحياء منتعشين من نفثات الرّوح القدس. والحمد لله أن أتى هذا النّور من الشّرق، فلن يبقى في نهاية المطاف أيّ بغضاء وعداوة في بلاد الشّرق، وسيتَّحد الجميع بقوّة حضرة بهاء الله. لقد رفع حضرته لواء الوحدة البشريّة هذا من السّجن. وفي الوقت الّذي كان فيه حضرته منفيًّا على يد ملكين، وبينما كان منبوذًا من الأعداء من كافّة الملل، وطيلة أيّام حبسه المديد، كتب إلى ملوك وحكّام العالم بأسلوب في غاية الفصاحة يُدينهم بشدّة ويدعوهم إلى راية الوحدة والعدالة الرّبّانيّة. كما حثّهم على السّلام والوفاق العامّ، ملقيًا عليهم مسؤوليّة تأسيس مجلس تحكيم دوليّ – بمعنى أن يتمّ اختيار وكلاء من كافّة أمم وحكومات العالم لتشكيل مجمع للأمم يكون بمثابة محكمة عدل عموميّة لتسوية النّزاعات الدّوليّة. فخاطب حضرته فيكتوريا ملكة بريطانيا العظمى، وقيصر روسيا، وإمبراطور ألمانيا، ونابليون الثّالث ملك فرنسا وغيرهم، ودعاهم إلى الاتّحاد والسّلام العالميّ. لقد تسنّى لحضرته ترويج هذه المثل في بلاد الشّرق بقوّة ملكوتيّة. فلم يقوَ الملوك على مقاومته. لقد سعوا لإطفاء نوره إلاّ أنّهم لم يفلحوا إلاّ في ازدياد شدّته وضيائه. وبينما كان مسجونًا وقف حضرته في وجه شاه إيران وسلطان تركيّا وروّج تعاليمه إلى أن أحكم إرساء راية الحقّ ووحدانيّة البشريّة. كنت مسجونًا مع حضرته لأربعين سنة إلى أن أطاح الشّباب الأتراك من لجنة الاتّحاد والتّرقّي بالحكم المستبدّ لعبد الحميد، وخلعوه عن العرش وأعلنوا الحرّيّة. فحرّرتني هذه اللّجنة من الطّغيان والظّلم، ولولا ذلك لبقيت في السّجن حتّى نهاية حياتي. والمقصود هو أنّ حضرة بهاء الله كان قادرًا من سجنه على أن يعلن عن أسس السّلام ويرسي قواعده على الرّغم من أنّ أعداءه وظالميه كانوا ملكيْن مستبديْن. لقد أَعدم ناصر الدّين شاه ملك إيران عشرين ألفًا من البهائيّين، كانوا شهداء ضحّوا بغاية التّجرّد وكامل الرّضاء بحياتهم في سرور من أجل عقيدتهم. فلم يقوَ هذان الملكان العاتيان الطّاغيان على مسجون واحد، بينما رفع ذلك المسجون علم الإنسانيّة وجمع أهل بلاد الشّرق في وفاق واتّحاد. وليس في الشّرق اليوم من هم في خصام وعداوة سوى أولئك الّذين لم يؤمنوا بحضرة بهاء الله. أمّا أهل الأمم الّذين اعترفوا بحضرته رايةً للهداية الرّبّانيّة فهم ينعمون بحالة من الألفة والمحبّة الحقّة. ولو حضرتم اجتماعًا لهم في الشّرق لما تبيّنتم بينهم المسيحيّ من المسلم، ولما عرفتم من كان يهوديًّا أو زرادشتيًّا أو بوذيًّا، ذلك لأنّهم تآخوا بشكل كامل وسُوّيت اختلافاتهم الدّينيّة. وهم يتعاشرون بكلّ محبّة ورَوْح وريحان كما لو كانوا ينحدرون من أسرة واحدة، وكما لو كانوا شعبًا واحدًا.

[1]        طبقًا لإحصائيّات عام 1912م.

 

[2]        بحسب إحصائيّات ذلك التّاريخ أيضًا.

 

(9) 17 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دونته إمّا ميليك

علينا جميعًا أن نزور المرضى. فعندما يكونون في حزن ومعاناة، يغدو مجيء صديق لزيارتهم عونًا ومنفعة حقيقيّة لهم. فالفرح علاج عظيم للمريض. ولقد جرت العادة في الشّرق أن يزور النّاس المريض كثيرًا ويقابلونه شخصيًّا. ويبدي أهل الشّرق غاية اللّطف والمودّة للمريض والمكروب. ولهذا العمل أثر أعظم من العلاج نفسه. فعليكم دائمًا أن تظهروا هذا الشّعور بالمحبّة والمودّة عندما تزورون عليلاً أو مصابًا.

يمكن تشبيه عالم الإنسانيّة بالإنسان الفرد؛ فلهذا العالم أمراضه وعلله. ولا بدّ أن يُشخَّص المرضُ على يد طبيب حاذق. وأنبياء الله هم الأطبّاء الحقيقيّون، فهم يصفون الدّواء طبقًا لأحوال البشر السّائدة في أيّ عصر أو زمان يظهرون. إنّهم يعرفون الأمراض، ويتبيّنون أسباب العلل الدّفينة ويصفون الدّواء اللاّزم. وكلّ من يتداوى بذلك الدّرياق يبلغ الصّحّة الأبديّة. ففي زمان يسوع المسيح، على سبيل المثال، كان عالم البشر مبتليًا بمختلف العلل، وكان يسوع المسيح هو الطّبيب الحقّ فأتى وشخّص الأعراض ووصف الدّواء الحقيقيّ. فيا تُرى ماذا كان ذلك الدّواء؟ لم يكن الدّواء سوى تعاليمه المنزلة والمناسبة تمامًا لعصره. وبعد ذلك طرأت على جسم الهيئة الاجتماعيّة أمراض وأسقام جديدة، وصار العالم معتلاًّ، وظهر المزيد من الأمراض العضال، لاسيّما في شبه الجزيرة العربيّة. فأرسل الله حضرة محمّد هناك. فجاء ووصف علاجًا يلائم الأحوال بحيث أصبح العرب أصحّاء وأقوياء ومعافين في ذلك الزّمان.

في عصرنا الحاضر أصيب عالم البشر أيضًا بأمراض شديدة وأسقام بالغة تنذر بفنائه، ولذا ظهر حضرة بهاء الله. وهو الطّبيب الحقيقيّ الّذي جاء بالدّرياق والشّفاء الرّبّانيّ لعالم الإنسان. إذ جاء بتعاليم لكلّ العلل – كالكلمات المكنونة والإشراقات والطّرازات والتّجلّيات والكلمات الفردوسيّة والبشارات وغيرها. وهذه الكلمات والتّعاليم المقدّسة هي العلاج للهيئة الاجتماعيّة، وهي الوصفة الرّبّانيّة والعلاج الصّحيح للأسقام الّتي ألمّت بالعالم. فعلينا إذًا أن نقبل هذا الدّواء الشّافي ويكون لنا منه نصيب لكي نضمن الشّفاء التّامّ. وكلّ نفس تحيا طبقًا لتعاليم حضرة بهاء الله تصير خالية من العلل والأسقام المتفشّية في كلّ أرجاء العالم البشريّ، وإلاّ ابتليت باعتلالات الأنانيّة، وبالأسقام الفكريّة والأمراض الرّوحانيّة، والنّواقص والشّرور، ولا يكون لها نصيب من العطايا الرّبّانيّة الباعثة للحياة.

إنّ حضرة بهاء الله هو الطّبيب الحقّ، إذ شخّص أحوال البشريّة ووصف العلاج اللاّزم. والمبادئ الجوهريّة لوسائل علاجه النّاجعة هي معرفة الله ومحبّة الله والانقطاع عمّا سوى الله والتّوجّه بإخلاص إلى ملكوت الله، والإيمان التّامّ، والثّبات والوفاء، والشّفقة مع كلّ الخلائق، واكتساب الفضائل الرّبّانيّة المعنيّة بعالم الإنسان. هذه هي المبادئ الأساسيّة للتّقدم والمدنيّة والسّلام العالميّ ووحدة بني الإنسان. وتلك هي أساسيّات تعاليم حضرة بهاء الله وسرّ الصّحّة الأبديّة وعلاج الإنسان وشفاؤه.

أملي هو أن تمدّوا يد العون لشفاء جسم العالم السّقيم بواسطة هذه التّعاليم حتّى ينير ذلك الضّياء الأبديّ كافّة أمم البشريّة.

(10) 18 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إمّا ميليك

إنّ العالم الإنسانيّ مهما ترقّى في الحضارة المادّيّة فإنّه يبقى محتاجًا للتّرقّي الرّوحانيّ المذكور في الإنجيل. ذلك لأنّ كمالات العالم المادّيّ محدودة بينما الكمالات الإلهيّة غير محدودة. وبما أنّ الكمالات المادّيّة محدودة، فإنّ احتياج الإنسان إلى الكمالات الإلهيّة غير محدود.

فطوال تاريخ البشريّة نلاحظ أنّه رغم وصول الكمالات المادّيّة إلى الذّروة في عديد من العصور، إلاّ أنّها كانت محدودة، بينما الكمالات الرّبّانيّة كانت دومًا لامتناهية وبغير حدود. فالمحدود يظلّ دائمًا أبدًا في حاجة إلى غير المحدود. ويجب أن تكون المادّيّات مرتبطة بالرّوحانيّات. يمكن تشبيه المادّيّات بالجسد، أمّا الكمالات الإلهيّة فهي نفثات الرّوح القدس بعينها. وبغير الرّوح يعجز الجسد عن تحقيق أيّ تقدّم حقيقيّ. فهو محتاج إلى الرّوح حتّى لو كان في أسمى حالات الجمال والامتياز. فزجاجة المصباح تبقى محتاجة إلى النّور مهما كانت مصقولة ورقيقة. ومن دون النّور لا يعطي السّراج أو الشّمع ضوءًا. وبغير الرّوح يكون الجسد بلا ثمر. إنّ معلّم العلوم المادّيّة محدود بمادّته. والفلاسفة الّذين ادّعوا أنّهم المربّون للجنس البشريّ لم يكن بمقدورهم أكثر من تربية أنفسهم، وإذا هم تمكّنوا من تربية الآخرين لم يكن ذلك إلاّ على قدر مقدور. لقد عجزوا عن منح تربية عامّة. فالتّربية العامّة تتأتّى للبشريّة بفضل قوّة الرّوح القدس.

ومثال ذلك السّيّد المسيح الّذي ربّى البشريّة وطوّرها بشكل شامل. فقد نجّى أممًا وشعوبًا من أسر الخرافات والوثنيّة. ودعا الكلّ إلى عرفان وحدانيّة الله. فبعد أن كانوا ظلمانيّين صاروا نورانيّين، وبعد أن كانوا جسمانيّين صاروا روحانيّين، وبعد أن كانوا أرضيّين أصبحوا سماويّين. فقد أنار عالم الأخلاق. وما كان هذا الرّقيّ الشّامل ليحدث أبدًا بقوّة الفلسفة، فهو يتأتّى فقط من خلال تأثير الرّوح القدس النّافذ في كلّ الأشياء. ولذلك مهما كان تقدّم عالم الإنسان كبيرًا، فإنّه يبقى عاجزًا عن بلوغ الذّروة العليا ما لم تدبّ فيه الحياة بتربية الرّوح القدس وفيوضاتها الرّبّانيّة، فهذه هي الّتي تضمن رقيّ البشر ورخاءهم.

لذا أوصيكم بأن تكرّسوا اهتمامكم لرقيّكم الرّوحيّ. وكما اجتهدتم في الأمور المادّيّة وبلغتم فيها شأوًا رفيعًا من التّقدّم الدّنيويّ، أن تصبحوا بالمثل متمكّنين حاذقين في المعرفة الإلهيّة. عسى أن تنتعش فيكم الإحساسات الرّبّانيّة وتتنامى، ويتعاظم إخلاصكم للملكوت السّماويّ، وتصبحوا المستفيضين من دفقات الرّوح القدس، وتتلقّوا العون في عالم الفضائل، وتنالوا القوّة المعنويّة، حتّى تتجلّى فيكم رفعة العالم الإنسانيّ، وتبلغوا السّعادة الكلّيّة، وتنالوا الحياة الأبديّة، وتحصلوا على المجد السّرمديّ، وتولدوا ولادة ثانية، وتصبحوا مظاهر الألطاف الرّبّانيّة.

(11) 20 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

إنّني على وشك مغادرة المدينة لبضعة أيّام من أجل الرّاحة في مونتكلير. وعندما أعود أودّ أن أعدّ وليمة اتّحاد كبيرة. ولم يـُعثر على مكان لها بعد، ولكنّها يجب أن تكون في الهواء الطّلق تحت الأشجار وفي مكان ما بعيدًا عن صخب المدينة – أشبه بالحدائق الفارسيّة، وسيكون الطّعام إيرانيًّا. وعندما يُهيّأ المكان سيتمّ إعلام الجميع، فنحظى بلقاء عامّ ترتبط فيه الأفئدة وتمتزج الأرواح ويُرسى أساس جديد للاتّحاد. وسيأتي جميع الأحبّاء، وسيحلّون ضيوفًا عليّ. وسوف يكونون بمثابة أعضاء جسم واحد، وتكون روح الحياة المتجلّية في ذلك الجسم روحًا واحدة، ويكون أساس هيكل الوحدة تلك أساسًا واحدًا، ويصبح كلّ واحد بمثابة لبنة في ذلك الأساس المتين المترابط، ويكون كلّ فرد كورقة أو زهرة أو ثمرة على شجرة واحدة. ولقد رغبتُ في هذه الوليمة والّلقاء الرّوحانيّ من أجل الألفة والاتّحاد.

كلّ ما يؤدّي إلى الوحدة هو رحمانيّ ومنبعث من عين الفضل الإلهيّ، وكلّ شأن عموميّ هو ربانيّ. بينما يكون كلّ ما هو علة الانشقاق والتّباعد شيطانيًّا لأنّه نابع من الأغراض النّفسيّة. انظروا في الخليقة، كم هو واضح بكلّ جلاء أنّ سبب الوجود هو الوحدة والتّماسك، وعلّة العدم هو التّباعد والشّقاق. فالعناصر تجتمع معًا في تآلف بواسطة قوّة الخلق الإلهيّ، ويكون الحاصل من ذلك التّآلف كائنًا مركبًا. فمن اتّحاد مجموعة معيّنة من هذه العناصر جاء الإنسان إلى الوجود، كما نتج عن تركيبات مختلفة أخرى وجود النّباتات والحيوانات. وعلى ذلك يكون تجاذب العناصر الجماديّة هذا هو علّة الحياة والوجود. فمن امتزاجها إذًا أصبح ما نراه بين البشر من انجذاب ومحبّة وألفة أمرًا ممكنًا. وما لم تكن تلك العناصر قد جُمعت معًا بانجذاب من أجل إيجاد الجسد البشريّ، لما تسنّى لتلك القوى الواعية الرّاقية أن تتجلّى في ذلك الجسد. أمّا عندما تنفصل تلك العناصر، ويندحر تجاذبها وتماسكها فالموت وتحلّل الجسم المركّب منها حادث لا محالة. وعليه، فإنّ الانجذاب والاتّحاد حتّى بين تلك العناصر المادّيّة يعني الحياة في جسم الإنسان، بينما يعني تنافرها وتباعدها الموت والهلاك. وفي سائر أرجاء الوجود وكلّ ممالك الخليقة نجد هذا النّاموس مكتوبًا: المحبّة والتّجاذب هما سبب الحياة، والخلاف والتّنافر هما علّة الهلاك.

انظروا إلى أجسام كلّ الكائنات الطّبيعيّة، تجدوا أنّ عناصر معيّنة تجمّعت وائتلفت في تجاذب كيميائيّ. فالشّجرة والإنسان والسّمكة كلّها ناجمة عن هذا التّجاذب والتّماسك اللّذين جمعا هذه العناصر معًا، فتكّون منها تركيب أو كيان مركّب. فالحاصل من تجميع ذرّيّ معيّن يكون، على سبيل المثال، مرآة أو منضدة أو ساعة، ذلك لأنّ هناك قوّة جاذبة استقطبت هذه الذّرّات وربطتها ببعضها البعض. وعندما تُسلب هذه القوّة الجاذبة يحدث الانحلال والتّفكّك، فلا تبقى مرآة ولا منضدة ولا ساعة – لا أثر ولا وجود. فامتزاج الذّرّات إذًا يعطي حقيقة ما، بينما يكون تشتّتها أو تفرّقها مساويًا للعدم.

تمعّنوا في قانون الانجذاب الّذي يجمع بين الحيوانات الأليفة. فهي تظهر الألفة وتحيا في أسراب وقطعان، ويتجلّى بينها حبّ المعاشرة. فنجد بين الطّيور دلائل على إخاء ومحبّة غريزيّتين. أمّا الحيوانات المفترسة والطّيور الجوارح فهي ليست سوى النّقيض للحيوانات الأليفة. فالأغنام والأبقار والخيول ترعى معًا في انسجام ووفاق، أمّا الحيوانات المفترسة فلا تشاهد أبدًا في حالة من المحبّة والألفة، ويحيى كلّ منها منعزلاً ومنفردًا أو مع رفيق واحد. وعندما يرى كلّ منها الآخر تظهر غاية الشّراسة. فالكلاب تهجم على الكلاب، وكذلك فإنّ الذّئاب والنّمور والأسود تكشّر عن أنيابها وتتقاتل حتّى الموت. وشراسة هذه الحيوانات غريزيّة. وهناك حكمة خَلْقيّة لذلك. والجوارح مثل النّسور والصّقور تعيش هي أيضًا حياة منفردة وتبني أعشاشها بتباعد عن بعضها البعض، بينما يطير الحمام في أسراب ويبني عشّه على نفس الأغصان. وإذا ما تقابل نسر مع آخر تقع معركة طاحنة. أمّا لقاء حمامتين فهو لقاء سلام. فيكون من الواضح إذًا أنّ هذه الخصال الحميدة وكذلك عكسها موجود بين كائنات المملكة الأدنى.

لا يُبدي السّواد الأعظم من البشريّة محبّة وإخاء حقيقيّين. فصفوة الخلق هم الّذين يتعايشون في محبّة واتّحاد. وهم أفضل عند الله لأنّ الفضائل الإلهيّة ظاهرة فيهم بالفعل. ويُشاهد أعظم محبّة واتّحاد في المظاهر الإلهيّة. فالاتّحاد بينهم لا تنفصم عراه، وهو اتّحاد لا يتغيّر، أبديّ سرمديّ. وكلّ مظهر منهم معبّرٌ عن كلّ المظاهر وممثّلٌ لهم. فإذا أنكرنا مظهرًا من مظاهر الله فإنّنا بذلك ننكرهم جميعًا، وإلحاق الأذى بأحدهم هو إلحاق الأذى بالكلّ. وكلّ منهم يثني على الآخرين ويجلّهم في كلّ مرتبة من مراتب الوجود. وكلّ منهم يساند تعاضد البشريّة ويروّج لوحدة القلوب الإنسانيّة. ويأتي في الرّتبة التّالية للمظاهر الإلهيّة أولئك المؤمنون الّذين يتّصفون بالاتّفاق والوداد والمحبّة. ولقد بلغ الأحبّاء في إيران مثل هذه الأخوّة والمحبّة حتّى أصبحت في واقع الأمر عائقًا في تدبير أمورهم المادّيّة. فكلّ من ذهب منهم إلى دار من دور الأحبّاء عدّ نفسه صاحب تلك الدّار، إن صحّ التّعبير. فليس هناك ازدواجيّة في المصالح والمودّة، وإنّما تشارك تامّ. ولا يتردّد الحبيب الزّائر في أن يفتح صندوق المؤونة ويأخذ من الزّاد ما يكفيه، بل إنّهم يرتدون ملابس بعضهم البعض عند الضّرورة. فمن كان في حاجة إلى قبّعة أو معطف يأخذه ويرتديه. بل إنّ صاحب الرّداء يكون شاكرًا وممتنًا لاختفائه. فعندما يعود إلى الدّار قد يقال له ‘إنّ فلانًا كان هنا وأخذ معطفك’، فيردّ ‘الحمد لله، إنّني ممنون له، الحمد لله، أنا شاكر لأنّني مُنحت هذه الفرصة لأظهر له محبّتي.’ ولقد بلغت هذه الدّرجة من المودّة والألفة حدًّا أنّ حضرة بهاء الله أمر بألاّ يأخذ أحد ما لغيره إلاّ إذا وُهب له. والقصد هو إيضاح إلى أيّ درجة عمّت الوحدة والمحبّة بين الأحبّاء البهائيّين في الشّرق.

آمل أن تتجلّى وتتّضح نفس هذه الدّرجة والشّدّة من المحبّة هنا، وأن تسري الرّوح الإلهيّة في قلوبكم بدرجة يُعتبَر فيها كلّ واحد من أحبّاء الله وكأنّه ممثّل لهم جميعًا، وأن يكون كلّ واحد منهم سببًا للاتّحاد ومركزًا للوفاق، وأن يرتبط البشر قاطبة بألفة ومحبّة حقيقيّتين.

خطبتان ألقاهما حضرة عبد البهاء في مونتكلير ووست إنجلوود بولاية نيوجيرسي (1) 23 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بمونتكلير، ولاية نيوجيرسي

نقلاً عمّا دوّنه فرانك أوزبورن

بدأ حضرة عبد البهاء حديثه مخاطبًا البهائيّين الحاضرين بقوله: أنتم مبتسمون دائمًا! فردّ السّيّد أوزبورن قائلاً: بالتّأكيد، يجب أن تعكس وجوهنا سعادتنا في هذا المحضر. فعاود حضرة عبد البهاء حديثه قائلاً:

أجل، هذا يوم بهاء الله، عصر الجمال المبارك، دورة الاسم الأعظم. فإذا لم تبتسموا الآن، فأيّ زمان تنتظرون؟ وأيّ سعادة أعظم من هذه تتوقّعون؟ فهذا هو ربيع الظّهور. لقد هطلت أمطار الرّبيع من غمام الرّحمة الإلهيّة، وعبق الأريج من نسيم الرّوح القدس المحيي للأرواح. ومن الحقل والمرج تعبق نفحة الشّكر كالبخور الشّذيّ الصّاعد إلى عرش الله، وصار العالم عالمًا جديدًا، وحيت النّفوس وتجدّدت الأرواح وانتعشت. فهذا هو حقًّا وقت الفرح والسّرور.

(ثمّ خاطب حضرة عبد البهاء من كانوا يتوافدون على مكان اللّقاء قائلاً):

مرحبًا مرحبًا! أهلا بكم!

(هنا بدأت أجراس الكنيسة تدقّ)

لم أشعر بصحّة جيدة هذا الصّباح، وإلاّ كنت قد ذهبتُ إلى الكنيسة. فنحن نسمع نداء العالم الرّوحانيّ في كلّ مكان، ونرى عمل الله في كلّ شيء. فأجراس الكنائس تجلجل في ذكرى يسوع المسيح على الرّغم من مضيّ أكثر من تسعة عشر قرنًا على زمان حياته على الأرض. وليس هذا إلاّ بفضل قوّة الرّوح، إذ لا يمكن لأيّ قوّة مادّيّة أن تحقق ذلك. بيد أنّ من عميت أبصارهم من النّاس ينكرون السّيّد المسيح، ويسعون لتخليد أسمائهم بالأعمال الدّنيويّة. يرغب كلّ واحد منهم أن يذكره النّاس، ولكن قد لا يدوم ذكر المرء أكثر من تسع سنوات بسبب إنجازاته الدّنيويّة والمادّيّة، بينما تدوم ذكرى السّيّد المسيح ومجده رغم مرور ألف وتسعمائة سنة. فاسم حضرته أبديّ ومجده سرمديّ. فعلى الإنسان إذًا أن يصغي بسمع الاهتمام إلى نداء العالم الرّوحانيّ، ساعيًا قبل كلّ شيء إلى ملكوت الله وكمالاته. هذه هي الحياة الأبديّة وهذه هي الذّكرى الدّائمة.

ما أعظم الفرق بين مجد السّيّد المسيح ومجد أيّ فاتح دنيويّ! ولقد روى المؤرّخون أنّ نابليون بونابارت الأوّل تسلّل خلسة في جنح اللّيل خارجًا من مصر عائدًا إلى فرنسا. ذلك لأنّه أثناء حملته على فلسطين اندلعت ثورة وواجه الحكم في بلده قلاقل شديدة. إذ منع الثّوريون العبادة في الكنائس، وفرّ القساوسة ذعرًا. وأصبحت فرنسا دولة إلحاديّة، وعمّت الفوضى. لقد أقلعت سفينته ذات ليلة أضاءها نور القمر، وكان نابليون يذرع سطح السّفينة جيئة وذهابًا، بينما كان ضبّاطه جالسين معًا يتحادثون. فتكلّم أحدهم عن أوجه الشّبه بين بونابارت والسّيّد المسيح. توقّف نابليون وردّ عليهم بتجهّم قائلاً: أحسبتم أنّني عائد إلى فرنسا كي أؤسّس دينًا؟

لقد أسّس يسوع المسيح دين الله بواسطة المحبّة، وكان سلطانه أبديًا. أمّا نابليون فقد أطاح بالحكومات من خلال القتال وسفك الدّماء. ثمّ زال حكمه، وأُقصي هو الآخر عن العرش. فبينما كان بونابارت هادمًا لحياة البشر، كان حضرة المسيح مخلّصًا. وبينما سيطر بونابارت على أجساد الرّجال، كان حضرة المسيح فاتحًا لأفئدة البشر. ومع أنّه لم يكن أيّ من أنبياء الله من مشاهير الرّجال، إلاّ أنّهم كانوا بغير نظير أو مثيل من حيث قوّتهم الرّوحانيّة. فالمحبّة هي السّلطنة الدّائمة، والمحبّة هي القوّة الإلهيّة، وبها أطيح بالملوك عن عروشهم وكُسرت شوكتهم. وأيّ دليل على ذلك أعظم ممّا حقّقه حضرة بهاء الله؟ فقد ظهر حضرته في المشرق ثمّ تعرّض للنّفي، وزجّ به في سجن عكّاء بفلسطين. وقام في وجهه ملكان قويّان مستبدّان. إلاّ أنّه كتب إبّان نفيه وسجنه ألواحًا ذات هيمنة إلى ملوك العالم وحكّامه، معلنًا سلطنته الرّوحانيّة، ومؤسّسًا لدين الله، وناشرًا رايات ملكوت أمر الله. لقد أرسل أحد هذه الألواح إلى نابليون الثّالث امبراطور فرنسا، فتسلّمه بازدراء ونبذه وراء ظهره. فخاطبه حضرة بهاء الله بلوح ثان، جاء فيه لَوْ كُنْتَ صاحِبَ الكَلِمَةِ ما نَبَذْتَ كِتابَ اللهِ وَرآءَ ظَهْرِكَ إِذْ أُرْسِلَ إِلَيْكَ… إِنّا بلَوْناكَ بِهِ ما وَجَدْناكَ عَلَى ما ادَّعَيْتَ قُمْ وَتَدارَكْ ما فاتَ عَنْك. سَوْفَ تَفْنَى الدّنْيا وَما عِنْدَكَ وَيَبْقى المُلْكُ للهِ… بِما فَعَلْتَ تَخْتَلِفُ الأُمُورُ فِي مَمْلَكَتِكَ وَتَخْرُجُ المُلْكُ مِنْ كَفِّكَ جَزاءَ عَمَلِكَ إِذًا تَجِدُ نَفْسَكَ فِي خُسْرانٍ مُبِينٍ… أَعِزُّكَ غَرَّكَ… سَوْفَ يَزُولُ إِلاّ بِأَنْ تَتَمَسَّكَ بِهذَا الحَبْلِ المَتِينِ، قَدْ نَرَى الذِّلَّةَ تَسْعَى عَنْ وَرَائِكَ…ولقد حدث ذلك تمامًا كما صرّح به حضرة بهاء الله، إذ خُلع نابليون الثّالث عن العرش وأُبعد عن وطنه وزالت إمبراطوريّته وأصبحت عدمًا بينما بقيت ودامت هيمنة وسلطنة حضرة بهاء الله، ذلك المسجون، بفضل تأييدات الله. وهذا أمر واضح كالشّمس في رابعة النّهار إلاّ لمن حرموا من بصيرة الرّوح. فإذا ما أصبنا بالزّكام لن نستطيع أن نشمّ طيب الشّذى العابق من روضة الملكوت الإلهيّ.

بالاختصار، إنّ أمم العالم صارت متّحدة في ظلّ سلطنة الملكوت الإلهيّ وبات الشّرق والغرب يتعانقان اليوم هنا في محبّة ووداد. هذه ليست وحدة تجاريّة أو سياسيّة، بل هي وحدة بواسطة محبّة الله. لقد طوينا المحيط من أجل نشر تلك المحبّة في أمريكا، وإعلان نداء الملكوت، وإرساء القواعد الرّوحانيّة للسّلام العالميّ. ولسوف يُستحكم بنيان السّلطنة الإلهيّة حتّى ولو قام النّاس في وجه الملكوت، إذ هو ملكوت أبديّ وسلطنة ربّانيّة. لقد نعت النّاس حضرة المسيح في أيّامه بالشّيطان، بعلزبوب، ولكن انصتوا الآن إلى تلك الأجراس الّتي تدقّ من أجله! فلم يكن شيطانًا وإنّما كان كلمة الله. لقد سخروا منه، وداروا به في المدينة على ظهر حمار، وتوّجوه بإكليل من الشّوك، وبصقوا على وجهه المبارك ثمّ صلبوه. ولكنّه اليوم مع الله وفي الله لأنّه كان الكلمة ولم يكن شيطانًا. لم يكن أحد في إيران من خمسين سنة مضت يلمس الإنجيل بيده، فجاءهم حضرة بهاء الله وسألهم: ‘لماذا؟’ فكان جوابهم: ‘ليس هذا كلام الله.’ فردّ عليهم: ‘عليكم أن تقرأوه وتفهموا معانيه، لا أن تكونوا كمثل الّذين يردّدون كلماته وحسب.’ والآن فإنّ البهائيّين في كافّة أرجاء الشّرق يقرأون الكتاب المقدّس ويفهمون تعاليمه الرّوحانيّة. لقد نشر حضرة بهاء الله دعوة المسيح وفكّ ختم كتاب المسيحيّين واليهود وأزال الحواجز الّتي خلقها التّمسّك بالأسماء وأثبت أنّ كلّ الأنبياء الإلهيّين تكلّموا بحقيقة واحدة، وأنّ من ينكر نبيًّا منهم ينكر غيره من الأنبياء، إذ إنّهم جميعًا في اتّحاد كامل مع الله.

لقد تقوّل علينا بعض المسيحيّين في لندن بأنّنا منكرون للمسيح. ولكنّنا نقول إنّ حضرة المسيح هو كلمة الله. ولقد التقينا هنا معًا في هذا الصّباح من أجل ذكراه، وجمعتنا الأجراس في محبّة واتّحاد. وهذا البيت هو بمثابة معبد لله. فأهلاً بالجميع! أهلاً ومرحبًا![1]

سؤال: ‘كيف نتبيّن حقيقة أو خطأ تفاسير معيّنة للكتاب المقدّس، كما يحدث، على سبيل المثال، من أنصار فلسفة النّقد العالي وغيرهم من دعاة الفلسفات المسيحيّة الرّائجة في يومنا هذا؟

حضرة عبد البهاء: إنّ سؤالك محيّر وهو أيضًا سؤال مهمّ. والإجابة الكاملة عنه تتطلّب وقتًا طويلاً، ولكنّني سأجيب عنه بإيجاز. إنّ المفسّر الحقيقيّ الوحيد لكتاب الله هو الرّوح القدس، إذ إنّه ليس هناك عقلان بشريّان متماثلان، ولا يتّفق شخصان على مفهوم واحد، ولا ينطق اثنان بنفس الحديث. بمعنى أنّه لا يمكن أن تكون هناك حقيقة أو اتّفاق من منطق التّفسير البشريّ العاديّ.

سؤال: هل توافقون على الفلسفة الجديدة القائمة على أنّ العقل متحكّم في المادّة؟

حضرة عبد البهاء: إنّ الفلسفة ترقِّي العقول والأفهام. أمّا حضرة المسيح وكلمة الله فهما من وحي الرّوح الإلهيّ. فمثلاً يقول أفلاطون: ‘الاستنتاج العقليّ هو كذا وكذا’ بينما يقول حضرة المسيح: اقتدوا بالرّوح الإلهيّ.

سؤال: هل نسمح للأطفال بأن يقرؤا مؤلّفات دعاة النّقد العالي؟

حضرة عبد البهاء: في البداية عليهم أن يتعلّموا حقيقة الدّين كأساس. فمثلاً، في الكنيسة الكاثوليكيّة يتعلّم الطّفل أنّه عن طريق تصرّفات معيّنة للقسّيس يتحوّل خبز وخمر المناولة إلى جسد حضرة المسيح ودمه. وهذا لا يقبله العقل، فعلينا أن نعلّم الطّفل أنّ هذا التّحوّل يرمز إلى حقيقة أنّ حضرة المسيح هو الخبز الإلهيّ الّذي يهب من يتناوله حياة أبديّة. ولقد حفظ اليهود التّوراة عن ظهر قلب، ولكنّهم أخفقوا في فهم معانيه. أمّا لو فهموا الدّلالات الرّوحانيّة للنّصوص الإلهيّة لكانوا أوّل من آمن بحضرة المسيح. وأنتم من بين أوائل المؤمنين في هذا البلد، فأنتم أبناء الملكوت. ولقد علّمكم حضرة بهاء الله حقيقة الدّين. هناك الكثير من الأحبّاء البهائيّين في إيران ممّن لا نعرفهم، إلا أنّنا عرفناكم هنا في أمريكا. فتوجّهوا إلى شمس الحقيقة، فدائمًا ما كانت تلك الشّمس تشرق من جهة الشّرق. تلمّسوا جوابًا لأسئلتكم من القلب وكونوا كالأطفال الصّغار. وما لم تُعدّ التّربة وتُهيّأ فالزّراعة لا تجديها نفعًا.

[1]        وهنا شرع الحاضرون في إلقاء الأسئلة على حضرة عبد البهاء وأخذ يجيب عنها.

 

(2) 29 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بضيافة الاتّحاد، بالهواء الطّلق،
بمدينة وست إنجلوود بولاية نيوجيرسي

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

إنّ هذا اللّقاء لقاء بهيج، فقد أتيتم إلى هنا بنيّة خالصة، ومقصد الحاضرين هنا جميعًا هو نيل الفضائل الإلهيّة ودافعهم هو الانجذاب للملكوت الرّبّانيّ. وبما أنّ مرام الكلّ هو الاتّحاد والاتّفاق فمن المؤكّد أن يحصل من هذا اللّقاء نتائج عظيمة وسيكون سببًا لجذب موهبة جديدة، لأنّنا متوجّهون إلى الملكوت الأبهى، ملتمسون العطايا الرّبّانيّة اللاّمتناهية. إنّ هذا اليوم يوم جديد، وهذه السّاعة ساعة جديدة فيها اجتمعنا. ولا شكّ أنّ شمس الحقيقة سوف تغمرنا بكامل إشراقها، وأنّ ظلام الاختلافات سيتبدّد، وستحدث محبّة ووحدة عظيمتين، وستشملنا النّعم الإلهيّة، وسيكون طريق الملكوت ممهّدًا، وستصبح هذه النّفوس متوقّدة كالشّموع، ومشرقة بنور الهداية السّامية. وليس لمثل هذه اللّقاءات شبيه ولا نظير في عالم البشر الّذي يلتفُّ النّاس فيه لمآرب مادّيّة أو لترويج مصالح دنيويّة، ذلك لأنّ هذا اللّقاء نموذج لذلك التّرابط الرّوحانيّ الكامل في عالم الوجود الأبديّ.

اللّقاءات البهائيّة الحقّة هي مرايا الملكوت الّتي تنعكس عليها صور الملأ الأعلى، وتتجلّى فيها أنوار الهداية الكبرى. فهي تنطق بنداء الملكوت السّماويّ، ويتردّد منها صدى نداء الملائكة لكلّ أذن صاغية. وأثر مثل هذه اللّقاءات دائم على مرّ العصور. فلهذا اللّقاء اسم ومغزى يدومان إلى الأبد، فلسوف تعقد مئات الآلاف من اللّقاءات تخليدًا لهذه المناسبة، وستعاد فيها نفس الكلمات الّتي أحدّثكم بها اليوم لعصور قادمة. فابتهجوا إذًا لأنّكم استظللتم في ظلّ العناية الرّبّانيّة وافرحوا واستبشروا لأنّ المواهب الرّبّانيّة من نصيبكم وأنّ الرّوح القدس ينفث الحياة فيكم.

افرحوا، لأنّ المائدة السّماويّة قد أعدّت لكم!

افرحوا، لأنّ ملائكة السّماء تعينكم وتؤيّدكم!

افرحوا لأنّ لحاظ الجمال المبارك، بهاء الله، متوجّهة إليكم!

افرحوا لأنّ بهاء الله هو حاميكم!

افرحوا لأنّ المجد الأبديّ قد قُدِّر لكم!

افرحوا لأنّ الحياة الأبديّة في انتظاركم!

كم تاق الكثير من النّفوس المباركة لهذا القرن النّورانيّ، وانحصرت أقصى آمالهم وأمانيهم في سرور وحبور يوم واحد كهذا. وكم من ليال قضوها في سهاد وحسرة حتّى الصّباح شوقًا لهذا العصر، وتوقًا إلى بلوغ ولو ساعة واحدة من هذا الزّمان. لقد شملكم الله بفضله في هذا القرن واختصّكم لنيل بركاته. فعليكم إذًا أن تحمدوا الله وتشكروه بالرّوح والفؤاد امتنانًا منكم لهذا الفوز العظيم ولنوال هذا الفيض العميم – لأنّ أبوابًا كهذه فُتِحت على وجوهكم، وفيضًا كهذا ينزل من غمام الرّحمة، وأنّ هذه النّسمات المنعشة الهابّة من الفردوس الأبهى تـُحيي نفوسكم. عليكم أن تكونوا قلبًا واحدًا وروحًا واحدًا وإحساسًا واحدًا، كي تكونوا أمواج بحر واحد، وأنجم سماء واحدة، وثمارًا تزيّن شجرة واحدة، وأوراد روضة واحدة، حتّى يستحكم بنيان هيكل وحدة الإنسانيّة بواسطتكم في عالم البشر، فأنتم من دعيتم لإعلاء قضيّة الوحدة والاتّحاد بين أمم الأرض.

لكن عليكم أوّلاً أن تكونوا متّحدين ومتّفقين فيما بينكم وأن تكونوا في غاية الشّفقة والمحبّة لبعضكم البعض، ويكون كلّ منكم مستعدًّا للتّضحية بحياته في سبيل سعادة الآخر. عليكم أن تكونوا مستعدّين للبذل من مالكم من أجل الآخر. فعلى الأغنياء منكم أن يُظهروا العطف على الفقراء، وعلى الموسرين أن يراعوا المساكين. فالأحبّاء في إيران يهبون حياتهم لبعضهم البعض، ويجهدون لإعانة الآخرين وترويج مصالحهم وخيرهم. وهم يحيون بكمال الاتّحاد والاتّفاق. فعليكم أن تكونوا بكامل الاتّفاق والاتّحاد مثل الأحبّاء الإيرانيّين، وذلك إلى الدّرجة الّتي تضحّون فيها بأرواحكم. وليكن منتهى آمالكم منح السّعادة لبعضكم البعض. وعلى كلّ واحد أن يكون خادمًا للآخرين، مهتمًّا براحتهم ورخائهم. وعلى المرء أن ينسى نفسه بالكلّيّة في سبيل ربّه وألاّ يلتفت إلى رضائه وإنّما يسعى في رضاء الآخرين. وألاّ يطلب شهرة أو نعمة لنفسه بل يسعى لهذه النّعم والبركات من أجل إخوانه وأخواته. ورجائي هو أن تكونوا على هذا المنوال، وأن تنالوا الموهبة العظمى، وأن تتّصفوا بالصّفات الرّوحانيّة بالدّرجة الّتي تنسون معها أنفسكم تمامًا وتهبون ذواتكم بالقلب والرّوح قربانًا للجمال المبارك. وألاّ تكون لكم إرادة أو رغبة شخصيّة وإنّما تبغون كلّ ما تبغونه من أجل أحبّاء الله، وتحيون معًا بكامل المحبّة والألفة. عسى أن تحيطكم مواهب حضرة بهاء الله من كلّ حدب وصوب. فهذه هي الموهبة الكبرى وهذه هي المنحة العظمى. وهذه هي العطايا الرّبّانيّة اللاّمتناهية.

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في نيويورك (1) 1 يوليو/ تمّوز 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

هل هناك عند الله ما هو أفضل من التّفكير بشأن الفقراء؟ فالفقراء محبوبون من أبينا السّماويّ. وعندما جاء حضرة المسيح إلى العالم كان من آمن به واتّبعه هم الفقراء والبسطاء، ممّا يُظهِر أنّ الفقراء كانوا قريبين من الله. وعندما يؤمن أحد الأغنياء ويتّبع المظهر الإلهيّ فذلك برهان على أنّ ثروته ليست عقبة تمنعه من بلوغ سبيل الخلاص. وبعد مروره بامتحانات وتجارب يتبيّن ما إذا كانت ممتلكاته مانعًا لحياته الدّينيّة. ولكنّ الفقراء قد اختصّهم الله بحُبّه. فحياتهم مملوءة بالصّعاب، ومحنهم لا تتوقّف، وآمالهم منحصرة في الله وحده. ولهذا عليكم أن تعينوا الفقراء بأكثر ما يمكن حتّى لو كان ذلك بتضحية منكم. وليس لدى الله عمل أعظم من إعانة الفقراء. فالأحوال الرّوحانيّة لا تعتمد على حيازة الثّروات الدّنيويّة أو الافتقار إليها، بل عندما يكون الإنسان معوزًا من حيث المادّة تكون الأفكار الرّوحانيّة ممكنة بدرجة أكبر. فالفقر دافع للتّقرّب إلى الله. وعلى كلّ واحد منكم أن يولي اهتمامًا كبيرًا بالفقير، وأن يمدّ له يد العون. وعليكم أن تتضافروا معًا في محاولة لمساعدتهم والحيلولة دون ازدياد فاقتهم. وأعظم وسيلة للحيلولة دون ذلك هي أن تُسنّ قوانين المجتمع وتُصاغ بما لا يسمح لقلّة من النّاس أن تكون أصحاب ملايين والغالبيّة من المعوزين. ومن بين تعاليم حضرة بهاء الله تعديل وسائل المعيشة في المجتمع الإنسانيّ. وبمقتضى ذلك التّعديل لا يكون هناك تطرّف في أحوال البشر فيما يتعلّق بالثّروة والقوت. إذ يحتاج المجتمع إلى المصرفيّ والفلاح والتّاجر والعامل، تمامًا مثلما يلزم أن يتألّف الجيش من قائد وضبّاط وعساكر. فلا يمكن أن يكون الجميع قوّادًا أو أن يكونوا كلّهم ضبّاطًا أو عساكر. وعلى كلّ منهم أن تكون لديه الكفاءة ويكون مؤهّلاً من حيث موقعه في نسيج المجتمع – كلّ في وظيفته ووفقًا لمقدرته، ولكن يجب أن يتمّ كلّ ذلك بتكافؤٍ في الفرص للجميع.

حدث قديمًا أن خطرت لِليكورغوس ملك إسبرطة الّذي عاش قبل أيّام حضرة المسيح بزمان طويل فكرة المساواة المطلقة في الحكم، فسنّ قوانينَ قسّم بمقتضاها أهل إسبرطة إلى طبقات معيّنة، وجعل لكلّ طبقة منها حقوقها ووظيفتها الخاصّة بها. كان أولاها الفلاّحون والمزارعون، وثانيها أهل الصّناعة والتّجارة، وثالثها القادة أو النّبلاء. وطبقا لقوانين لليكورغوس لم يكن مطلوبًا من الطّبقة الأخيرة أن تشتغل بأيّ عمل أو مهنة، بل كان منوطًا بها الدّفاع عن البلاد في حالة الحرب والغزو. ثمّ قسّم إسبرطة إلى تسعة آلاف قسم أو منطقة متساوية، وعيّن لها تسعة آلاف قائد أو نبيل يحميها، وبهذه الكيفيّة كان فلاّحو كلّ منطقة مطمئنّين من حيث الحماية، بيد أنّه كان على كلّ واحد منهم أن يدفع ضريبة لإعانة نبيل منطقته. فلم يكن على الفلاحين والتّجّار أن يدافعوا عن البلاد. وكان النّبلاء يتلقّون الضّرائب لقاء عملهم. ولكي يجعل لليكورغوس ذلك القانون أبديًّا، جمع التّسعة آلاف نبيل وأخبرهم بأنّه ذاهب في رحلة طويلة، وأنّه يرغب في أن يبقى نظام الحكم ذلك ساريًا لحين عودته. وأقسموا اليمين على حماية قانونه والمحافظة عليه. ثمّ غادر مملكته إلى منفى طوعيّ ولم يعد بعد ذلك أبدًا. ولم يحدث في التّاريخ أن قام أحد بتضحية كهذه لتحقيق المساواة بين إخوانه من بني البشر. ولكن لم يمض سوى بضع سنين إلاّ وانهار نظام الحكم الّذي أسّسه، على الرّغم من أنّه كان قد أحكمه على ذلك الأساس العادل الحكيم.

إنّ اختلاف القدرة بين أفراد البشر أمر أساسيّ. فيستحيل على الكلّ أن يكونوا متماثلين، أو أن يكونوا جميعًا متساوين، أو أن يكونوا جميعًا حكماء. ولكنّ حضرة بهاء الله قد جاء بمبادئ وأحكام من شأنها أن تحقّق التّعديل في قدرات البشر المتفاوتة. وتفضّل حضرته أنّ كلّ ما يمكن إنجازه في الحكومة البشريّة سوف يتحقّق في ظلّ هذه المبادئ. وعندما تنفّذ الأحكام الّتي أتى بها حضرة بهاء الله سوف لا يكون هناك مجال لوجود أصحاب الملايين في المجتمع، أو ذوي الفقر المدقع على الجانب الآخر. وسيتحقّق هذا التّقارب وينظّم عن طريق تعديل الدّرجات المتفاوتة من القدرات البشريّة. والقاعدة الأساسيّة للمجتمع هي الزّراعة وفلاحة التّربة. فعلى الجميع أن يكونوا منتجين. وكلّ فرد في المجتمع تتساوى قدرته الإنتاجيّة مع احتياجاته يعفى من الضّرائب، أمّا من يزيد دخله عن حاجته، فعليه أن يدفع ضريبة بالمعدّل الّذي يتحقّق معه التّعديل. بمعنى أنّه يتمّ إحداث موازنة ومواءمة بين قدرة الإنسان على الإنتاج وبين احتياجاته عن طريق النّظام الضّريبيّ. فإذا ما زاد إنتاجه عن حاجته دفع ضريبة، وإذا ما فاقت حاجاتُه إنتاجه تلقـّى مبلغًا يكفي للمواءمة أو التّعديل. ففرض الضّرائب سيكون إذًا بالتّناسب مع القدرة والإنتاج، ولن يكون هناك فقراء في المجتمع.

كما أنّ حضرة بهاء الله أوصى الأغنياء بأن يعطوا من مالهم طواعية للفقراء. كما نصّ في الكتاب الأقدس أيضًا ما يفيد أنّ على من تملّك مبلغًا معيّنًا من المال أن يدفع الخـُمـْس لله فاطر الأرض والسّماء.

(2) 1 يوليو/ تمـّوز 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

أريد أن يسطع بين الأحبّاء في أمريكا نور جديد حتّى يصيروا خلقًا جديدًا، ويتأسّس بنيان جديد ويتحقّق وئام تامّ، فالأساس الّذي أتى به حضرة بهاء الله هو المحبّة. وعندما تسافرون إلى غرين إيكر (عكّاء الخضراء) فلتكن محبّتكم لبعضكم البعض بغير حدود، وليؤْثِر كلّ منكم أخاه على نفسه. ويجب أن يكون انجذاب النّاس إليكم بالدّرجة الّتي يهتفون بها ‘يا لها من سعادة تلك الّتي تغمركم!’ ويرون في وجوهكم نضرة الملكوت، وعندها سيلتفتون إليكم ويبحثون عن سبب سعادتكم بانبهار. عليكم أن تبلّغوا الرّسالة الإلهيّة قولاً وعملاً، لا بالأقوال وحدها. فيلزم الكلمة أن تكون مصحوبة بالعمل. عليكم أن تحبّوا أصدقاءكم أكثر ممّا تحبّون أنفسكم، بل عليكم أن تكونوا مستعدّين للتّضحية بأنفسكم. فلم يتجلّ أمر حضرة بهاء الله بعد في هذه الدّيار. أريد أن يكون كلّ واحد منكم مستعدًّا للتّضحية بكلّ شيء من أجل الآخر، حتّى لو كان ذلك هو الحياة بعينها، وعندئذ أوقن أنّ أمر حضرة بهاء الله قد تأسّس. وسأدعو لكم حتّى تصيروا سبب انتشار الأنوار الإلهيّة، ولكي يشير كلّ شخص إليكم بالبنان قائلاً ‘لماذا يكون أولئك النّاس بتلك السّعادة؟’ فأنا أريدكم أن تكونوا سعداء في غرين إيكر، وأن تضحكوا وتبتسموا وتبتهجوا حتّى يسعد الآخرون منكم. نعم، سأدعو لكم.

(3) 5 يوليو/ تمّوز 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

سؤال: لقد ذكرتم أنّنا نحيا في كـَوْر، وأنّ أوّل مظهر إلهيّ فيه هو آدم، وأنّ المظهر الكلـّيّ لهذا الكـَوْر هو حضرة بهاء الله. فهل يعني هذا أنّ هناك أكوارًا أخرى سابقة على هذا الكور ولكن لم يبقَ من ذكرها أثر – أي هل كان هناك في الماضي أكوار غايتها العظمى هي إكساب الإنسان روحانيّة إلهيّة المصدر، تمامًا كما هو الغرض من الخلق في كورنا هذا؟

إنّ السّلطنة الإلهيّة هي سلطنة قديمة وليست حادثة.

إذا ما تخيّلنا أنّ لعالم الوجود هذا بداية، عندئذ يمكننا أن نقول إنّ السّلطنة الإلهيّة حادثة، بمعنى أنّه قد مرّ عليها حين من الدّهر لم تكن فيه موجودة. فمن المستحيل أن يكون هناك ملك يحكم بغير مملكة. إذ لا يمكن أن يكون مثل ذلك الملك بغير بلد، أو بغير رعيّة، أو بغير جيش أو بغير حكومة، وإلاّ لما كان ملكًا. فلا بدّ أن تتوفّر لدى كلّ ملك من الملوك كافّة مقتضيات السّلطنة ولوازمها هذه. وعندما تتوفّر تلك المقتضيات تصدق عليه صفة السّلطنة، وإلاّ تصبح سلطنته معيبة ناقصة. وإن انعدمت تلك الشّروط انعدمت السّلطنة.

فإذا ما اعترفنا أنّ لعالم الخلق هذا بداية، نكون بذلك قد اعترفنا بأنّ سلطنة الله حادثة – أي أنّنا نقرّ بوجود زمان كانت فيه حقيقة الألوهيّة محرومة من الملك (أي مقهورة). والحال هو أنّ الأسماء والصّفات الإلهيّة من متطلّبات وجود هذا العالم. فأسماء وصفات مثل القدير، والحيّ، والرّازق، والخالق تتطلّب وتقتضي جميعها وجود الخليقة. فإذا لم تكن هناك خليقة صار لفظ الخالق خاليًا من أيّ معنى. وإذا لم يكن هناك من يُرزق، فكيف نتصوّر وجود الرّازق. وإذا لم تكن هناك حياة فإنّ صفة مثل صفة الحيّ تستعصي على الفهم. وبناء على ذلك تقتضي كافّة الأسماء والصّفات الإلهيّة وجود أشياء أو مخلوقات أُسبِغت عليها تلك الأسماء والصّفات وتجلّت وظهرت فيها. فإذا كان هناك زمان لم يكن فيه للمخلوقات أيّ وجود، زمان لم يكن هناك فيه من يـُرزق، فإنّ ذلك يعني ضمنًا وجود وقت لم يكن فيه ذلك المربّي، الحيّ القيوم، موجودًا، وبالتّالي تصبح صفات الله وكمالاته عارية عن أيّ معنى ودلالة. فبناء على ذلك لا تعترف ولا تقبل مستلزمات الصّفات الإلهيّة ومقتضياتها أيّ توقف أو انقطاع في وجودها، ذلك لأنّ أسماء الله كانت ولا زالت موجودة بالفعل من الأزل إلى الأبد، ولم تكن أبدًا في طور الكمون. فلأنّها هي الّتي تهب الحياة يقال لها محيية، ولأنّها تـَرزُق يقال لها واهبة ورازقة، ولأنّها تـَخلـُق يقال لها خالقة، ولأنّها تـُربِّي وتـُهيمن فيستدعي ذلك أن ينطبق عليها اسم الرّبوبيّة. بمعنى أنّ الأسماء الإلهيّة تشرق من أفق الصّفات الرّبّانيّة الأزليّة. فيكون من الثّابت إذًا أنّ الأسماء والصّفات الإلهيّة تقتضي في البدء وجودًا للكائنات أو الخليقة.

فكيف يُعقل إذًا أن يكون هناك زمان لم تكن فيه هذه السّلطنة موجودة. كما أنّ هذه السّلطنة الإلهيّة لا يمكن أن يقاس عمرها بستّة آلاف سنة. فهذا الكون الشّاسع غير المتناهي لم يكن نتيجة تلك الفترة المحدودة. وهذا المعمل والمصنع الهائل لم يكن إنتاجه محصورًا في ستّة آلاف دورة دارتها الأرض حول الشّمس. وأقلّ تدبّر عقليّ كفيل بأن يقنع الإنسان أنّ هذا الحساب والمنطوق صبيانيّ، خاصّة وأنّه قد ثبت علميًّا أنّ الكرة الأرضيّة كانت موطنًا للإنسان قبل فترة طويلة من ذلك التّقدير المحدود.

أمّا ما سجّله الكتاب المقدّس بشأن دخول آدم للجنّة، وأكله من الشّجرة، وطرده بفعل غواية الشّيطان له: فإنّ هذه جميعًا رموز يكمن فيها بديع المعاني الإلهيّة الّتي لا تحسب بالسّنين أو بالتّواريخ والقياسات الزّمنيّة. وعلى نفس المنوال تكون مقولة أنّ الله قد خلق السّماء والأرض في ستّة أيّام هي الأخرى رمزيّة. ولن نستطرد في شرح هذه المسألة اليوم، فكلّ نصوص الكتب المقدّسة رمزيّة تقتضي تفسيرًا معتمدًا.

عندما يُلقي الإنسان بنظرة حتّى ولو كانت عابرة على مسألة خلق الكون، يتبيّن له أنّ الكون سحيق في القِدَم. فلقد حدث ذات مرّة أن أجال أحد فلاسفة إيران بصره في السّماء وتاه فيها تحيّرًا، ثمّ قال: ‘لقد وضعت كتابًا ضمّنتُه سبعين دليلاً عن حداثة ظهور هذا الكون، ولكنّني مازلت أراه موغلاً في القِدَم.’

يتفضّل حضرة بهاء الله بقوله ليس للكون بداية ولا نهاية. وبهذا البيان البسيط يكون قد طرح نظريّات العلماء والفلاسفة الماديّين وآراءهم المسهبة جانبًا – إذ إنّه قطع بأنّه لا بداية ولا نهاية. وبينما يطرح علماء اللاّهوت والفقهاء استنباطاتهم بأنّ خلق الكون يرجع إلى ستّة آلاف سنة، يخرج عليهم العلماء بحقائق دامغة قائلين: ‘كلاّ، تثبت هذه الأدلّة أنّ عمر الكون عشرة أو عشرون أو خمسون ألف سنة’ وما إلى ذلك. فهناك ما لا حصر له من الآراء والحجج بين مؤيّد ومعارض. أمّا حضرة بهاء الله فيطرح هذه المجادلات جانبًا بكلمة واحدة وقول واحد، هو: ليس للسّلطنة الإلهيّة بداية أو نهاية. وبهذا التّصريح وما له من أدلّة دامغة أرسى قاعدة للتّوافق بين من يفكّرون في هذه المسألة – مسألة السّلطنة الإلهيّة، وأتى بوئام وسلام يضع حدًّا لهذا السّجال الدّائر من تحاور وجدال.

بالاختصار، كانت هناك أكوار عديدة سابقة لهذا الكور الّذي نحيا فيه. وقد حقّقت تلك الأكوار ما كان مقصودًا منها واكتملت ثمّ انمحت آثارها. وكان المراد الرّبّانيّ والإيجاديّ فيها هو ارتقاء الإنسان وتطوّره، تمامًا كما هو المراد في هذا الكور. فدورة الوجود هي نفس الدّورة، ولكنّها دورة تعود مجدّدًا. ودائمًا ما جادت شجرة الحياة في غابر الزّمان بنفس ما تجود به الآن من ثمارها الملكوتيّة.

(4) 5 يوليو/ تمّوز 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه كلّ من إمّا ميليك وهوارد ماكنت

أهلاً ومرحبًا بكم جميعًا! في جميع الكتب المقدّسة الإلهيّة بشارات واضحة تشير إلى أنّه سيأتي يوم يظهر فيه موعود جميع الكتب ويتأسّس دورٌ نورانيّ ويرتفع علم الصّلح الأعظم والوئام وتعلن وحدة العالم الإنسانيّ ولا يبقى بين الأمم والأقوام عداوة وبغضاء وترتبط جميع القلوب ببعضها، وهذا مذكور في التّوراة وفي الإنجيل وفي القرآن وفي زند آفستا وفي كتب بوذا. والخلاصة إنّ جميع الكتب المقدّسة تتضمّن هذه البشارات. وهي تعلن أنّه بعد أن تحيط الظّلمة العالم يطلع النّور. لأنّه، وكما أنّ ظلام الّليل إذا اشتدّ كان ذلك بشيرًا بطلوع فجر يوم جديد، فبالمثل، كلّما أحاطت ظلمة الخمول وعدم الاكتراث بالعالم وطغت الغفلة على أهله وغلبت المادّيّات على الرّوحانيّات وأصبحت جميع الملل غرقى في عالم المادّة ونسيت الله – ففي زمان كهذا تطلع الشّمس الرّبّانيّة ويظهر ذلك الصّبح النّورانيّ.

انظروا كيف أنّ المادّيّات قد تغلّبت بصورة تامّة على روحانيّة النّفوس، فبدا كأنّ الإحساسات الرّوحانيّة قد تلاشت، والمدنيّة الإلهيّة تدهورت، ولم يبقَ لهداية الله وعرفانه من أثر. فترى الجميع غرقى في بحر المادّة. وإذا ذهبت جماعة إلى الكنائس والمعابد للعبادة فإنّما تفعله تقليدًا للآباء وليس بحثًا عن الحقيقة. لأنّه من الواضح أنّهم لم يجدوا الحقيقة وغير عاشقين لها. فهم متمسّكون بميراث من التّقاليد الّتي آلت إليهم عن الآباء والأجداد، فاعتادوا صرف بعض الوقت في المعابد قيامًا بتلك التّقاليد والطّقوس. والبرهان على ذلك هو أنّ ابن كلّ يهوديّ يصير يهوديًّا وليس مسيحيًّا، وابن كلّ مسيحيّ نجده مسيحيًّا، وابن كلّ مسلّم يغدو تابعًا للإسلام، كما يكون ابن كلّ زرادشتيّ زرادشتيًّا أيضًا… إلخ. إذًا فالإيمان والعقيدة الدّينيّة ليست إلاّ بقيّة باقية من التّقاليد العمياء الموروثة عن الآباء والأجداد. فلأنّ والد هذا كان يهوديًّا فاعتبر نفسه يهوديًّا، لا لأنّه تحرّى الحقيقة واقتنع بأنّ الدّين اليهوديّ حقّ – لا، بل لأنّه رأى أنّ أسلافه كانوا على ذلك المسلك فسار هو عليه أيضًا.

أقصد بذلك بيان أنّ ظلمة التّقاليد أحاطت بالعالم، وأنّ كلّ أمّة تمسّكت بطقوسها الدّينيّة التّقليديّة، فاختفى نور الحقيقة. ولو تحرّت هذه الأمم المختلفة عن الحقيقة لتوصّلت إليها حتمًا وأصبحت ملّة واحدة لأنّ الحقيقة واحدة. لكنّهم طالما ظلّوا متمسّكين بالتّقاليد المختلفة ومحرومين من الحقيقة سيستمرّ النّزاع والجدال وتسود العداوة والبغضاء. أمّا إذا تحرّوا الحقيقة فلن تبقى بينهم عداوة أو بغضاء، ويجدون أنفسهم في منتهى الوئام والانسجام.

حينما كانت ظلمة الضّلالة في الشّرق في أشدّ حلكتها وكان أهله غرقى التّقاليد لدرجة كانت معها الملل المختلفة متعطّشة لدماء بعضها، معتبرة الآخر نجسًا ورافضة التّعامل معه – في مثل هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله في الشّرق واستأصل جذور التّقاليد وأتى بفجر نور الحقيقة. وبفضله اتّحدت ملل مختلفة لأنّهم كانوا طالبين للحقيقة. وبما أنّهم تحرّوا حقيقة الدّين فقد وجدوا أنّ جميع البشر عبيد لله وكلّهم من سلالة آدم، وكلّهم من بيت واحد وأنّ أسس تعاليم جميع الأنبياء هي الحقيقة لهذا فإنّها واحدة. فالنّزاع والجدال بين الملل هما إذًا بسبب التّقاليد الدّينيّة وليس بسبب الحقيقة الّتي بُنيت عليها تعاليم الأنبياء. وبفضل حضرة بهاء الله بدأت تصل الملل والأقوام إلى فهم هذه الحقيقة واستيعابها. فاتّحدت القلوب وتآلفت الأرواح والتقى المسيحيّون واليهود والزّرادشتيّون والمسلمون والبوذيّون بكلّ ألفة بعد قرون من العداوة والبغضاء الشّديديْن، وهم جميعًا في غاية المحبّة والاتّحاد. وامتزجوا وترابطوا لأنّهم أدركوا الحقيقة.

إنّ أنبياء الله مرتبطون معًا برباط كامل من المحبّة، وكلّ واحد منهم بشّر بخلفه، وكلّ خلفٍ صدّق سلفه. كانوا جميعًا في منتهى الاتّحاد، ولكنّ أتباعهم في منتهى الاختلاف. فمثلاً بشّر حضرة موسى بظهور السّيّد المسيح وصدّق السّيّد المسيح نبوّة موسى. فليس هناك اختلاف إذًا بين موسى والمسيح بل هناك منتهى الارتباط في ما بينهما، في حين أنّنا نرى نزاعًا قائمًا بين اليهود والمسيحيّين. فإذا ما تحرّى اليهود والمسيحيّون حقيقة تعاليم أنبيائهم لتآلفوا وتعاشروا بمنتهى المحبّة والوداد، ذلك لأنّ الحقيقة واحدة لا ازدواج فيها أو تعدّد. فإذا ما صار تقصّي الحقيقة عامًّا وشاملاً لصدّقت جميع تلك الأمم المتباعدة كلّ الأنبياء الرّبّانيّين وأقرّت بكلّ الكتب المقدّسة، ولما بقي نزاع أو جدال واتّحد أهل العالم. عندها سنتعاشر مع بعضنا بحقيقة المحبّة، ونصبح كلّنا كالآباء والأبناء، والإخوان والأخوات متعايشين بمنتهى الألفة والمحبّة وبغاية السّرور. فهذا القرن قرن نورانيّ لا نسبة بينه وبين القرون السّالفة الّتي كانت عصور ظلم واعتساف. فالآن ارتقت العقول وازدادت الإدراكات، وصارت كلّ نفس تتحرّى الحقيقة. فليس هذا زمان نتعادى فيه ونشنّ الحرب على بعضنا بل إنّنا نحيا في زمان يجب أن ننعم فيه بالألفة الحقّة.

لقد أرسل حضرة بهاء الله ألواحًا إلى جميع ملوك العالم وأممه قبل خمسين سنة، في وقت لم يكن فيه ذكر عن السّلام العالميّ، منها خطابه إلى رئيس الجمهوريّة الأمريكيّة. في ألواحه تلك دعا الجميع إلى السّلام العالميّ ووحدة العالم الإنسانيّ ودعا البشر إلى جوهر تعاليم كلّ الأنبياء. إلاّ أنّ بعض ملوك أوروبّا استكبروا ومنهم نابليون الثّالث. فكتب له حضرة بهاء الله لوحًا ثانيًا نُشِر قبل ثلاثين سنة، وهذا مضمونه: يا نابليون، لقد غدوتَ مغرورًا وصرتَ متكبّرًا ونسيت الله. فهل تظنّ أنّ هذه العزّة ستبقى لك وأنّ هذه السّلطة تدوم لك. ولقد أرسلت إليك رسالة وكان عليك أن تتقبّلها بكمال المحبّة لكنّك استكبرت. لهذا فسوف يطيح الله بسلطنتك وتذهب مملكتك من يدك، وستجد الذّلّة تسعى عن وراءك، لأنّك لم تأتمر بما نُصحت مع أنّه كان سبب حياة العالم. وعمّا قريب سينزل بك العقاب الإلهيّ.

قد أُنزل هذا اللّوح عام 1869 وبعد سنة واحدة اجتُثّت السّلطنة النّابليونيّة من جذورها.

ومن جملتها لوح مفصّل جدًّا موجّه إلى شاه إيران وهو الآن مطبوع ومنتشر في جميع ممالك العالم، وقد أرسل في عام 1870. وفيه ينصح حضرة بهاء الله شاه إيران بأن يكون رؤوفًا بجميع رعيّته ويدعوه إلى إقامة العدل وينصحه ألاّ يفرّق بين الأديان، فيعامل المسيحيّ والمسلم واليهوديّ والزّرادشتيّ معاملة واحدة ويمحو الظّلم القائم في مملكته.

في ذلك الوقت، كان اليهود في إيران مضطهدين بدرجة كبيرة، فأوصاه حضرة بهاء الله بإجراء العدل في حقّهم، وأوضح أنّ جميع النّاس هم عباد لله، ويجب أن يكونوا متساوين في نظر الحكومة، كما حذّره أيضًا بقوله إذا لم تعدل ولم تُزِل هذه المظالم ولم تُطِع الله فإنّ بنيان سلطنتك سوف يزول، ولن يبقى لك أثرٌ ولا ذكرٌ، وعليك أن تجمع العلماء وتدعوني لأحضر، وعندئذ أقيم البراهين وأسوق الأدلّة على صدق قولي، وأثبت حجّتي وأجيب عن أيّ شيء آخر قد تسألونه، وأنا على استعداد لذلك. فإذا لم تلقِ بالاً إلى هذا اللّوح، فبمثل ما حدث للّذين زالوا وذهبت ممالكهم من الملوك، سيئول بك المآل أيضًا إلى الزّوال. فلم يهتمّ السّلطان برسالة الجمال المبارك ولم يردّ عليها، فقوّض الله بنيان سلطنته.

ممّن كتب إليهم حضرة بهاء الله السّلطان العثمانيّ (عبد العزيز) الّذي بعث إليه برسالة لامه فيها قائلاً: إنّك أرسلتني إلى هذا السّجن وسجنتني. أتظنّ أنّ السّجن يضرّني أو أنّ السّجن ذلّة لي؟ لا بل إنّ هذا السّجن عزّة لي لأنّه في سبيل الله. فلم أرتكب جرمًا، وإنّما وَرَدَت عليّ هذه البلايا والرّزايا في سبيل الله. ولهذا فإنّني في منتهى السّرور والابتهاج. ولكنّك أنت فانتظر العقاب الإلهيّ، فستلقى جزاءك وعن قريب سترى أنّ البلايا تهطل عليك هطول الأمطار وسوف تفنى. وقد حدث ذلك فعلاً.

وبمثل هذه العظمة أرسل حضرة بهاء الله رسائل شتّى إلى بقيّة ملوك وسلاطين العالم ودعاهم كافّة إلى المحبّة وإلى الإنصاف، وأوصاهم جميعًا بالصّلح العالميّ وبوحدة العالم الإنسانيّ حتّى يتّحد البشر ويتّفقوا، فلا تبقى هذه الحروب والمشاحنات وهذا القتال والجدال، وتنتهي العداوة والبغضاء، ويقوم الكلّ على عبوديّة الله الواحد الأحد.

خلاصة القول إنّ ملكين قاما على مقاومة حضرة بهاء الله أحدهما شاه إيران والآخر سلطان تركيّا، وحبسا حضرة بهاء الله في قلعة عكّاء، حتّى ينطفئ سراجه وينعدم أمره. ولكنّ حضرة بهاء الله وجّه من ذلك السّجن رسائلَ شديدة اللّهجة، وأعلن أنّ السّجن لم يقف عائقًا في سبيله، بل قال إنّ هذا السّجن سيكون سببًا في ارتفاع أمري، وإنّ هذا سيكون دافعًا لانتشار تعاليمي، ولن ينالني منه أذى لأنّني ضحَّيت بحياتي ودمي ومالي وضحّيت بجميع ما ملكته وليس في هذا السّجن أيّ خسران لي. ولقد تحقّق ما قاله تمامًا؛ فارتفعت رايته في السّجن وانتشرت رسالته في الشّرق والغرب حتّى وصل أمره إلى أمريكا. وينتشر الآن دين حضرة بهاء الله في كلّ أقطار العالم. فلو ذهبتم إلى آسيا لصادفتم البهائيّين حيثما سافرتم. ولو قصدتم إفريقيا وأوروبّا ستجدون أمر حضرة بهاء الله فيها. أمّا في أمريكا فهو في بداية نموّه وانتشاره.

لم يستطع هذان الملكان أبدًا أن يقاوماه، وإنّما جعل الله سبحانه وتعالى من حضرة بهاء الله واسطة محاهما بها محوًا تامًّا. وكنت أنا مسجونًا أيضًا، فرفع الله السّلاسل من عنقي ووضعها في عنق عبد الحميد. لقد حدث هذا فجأة، ليس في وقت طويل، بل في لحظة حينما قامت حركة تركيّا الفتّاة بإعلان الحرّيّة، فأطلقت جمعيّة الاتّحاد والتّرقّي سراحي، ورفعوا السّلاسل عن عنقي ووضعوها في عنق عبد الحميد، وفعلوا به نفس ما فعله بي. فانقلبت الآية، وهو الآن يمضي أيّامه في السّجن مثلما كنت أمضيها في سجن عكّاء، ولكنّ الفارق أنّني كنت مسرورًا في الحبس وكنتُ في منتهى الابتهاج لأنّني لم أكن مجرمًا بل حبسوني في سبيل الله. وكلّما كان يمرّ بخاطري أنّني مسجون في سبيل الله كان يغمرني بالغ السّرور. فعبد الحميد الآن يعاني جرّاء أعماله، وبسبب ما ارتكبه من ذنوب هو الآن في السّجن، وهذا قصاصه على ما فعل. في كلّ ساعة يموت ويحيا، وتتجدّد مذلّته. وهو في منتهى الحزن واليأس، أمّا أنا فإنّني في منتهى السّرور لأنّني – ولله الحمد – كنت مسجونًا في سبيل الله. فحياتي لم تذهب هدرًا بل صرفت في خدمة الله. وكلّ مَنْ رآني لم يتخيّل أنّني مسجون، لأنّهم يجدونني في منتهى السّرور وفي منتهى الشّكر وفي منتهى العافية، غير عابئِ بذاك السّجن على الإطلاق.

(5) 6 يوليو/ تمّوز 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إمّا ميليك

لقد طوى الإنسان في عالم الوجود مراتب متتالية حتّى وصل إلى العالم الإنسانيّ وفي كلّ مرتبة من مراتب ترقّيه نال استعدادًا للصّعود إلى المرتبة الّتي تعلوها. فعندما كان في عالم الجماد نال الاستعداد للارتقاء إلى مرتبة النّبات. وفي عالم النّبات مرّ بالاستعداد للارتقاء إلى عالم الحيوان، ومن عالم الحيوان انتقل إلى رتبة الإنسان أو عالمه. وطوال رحلة الارتقاء هذه كانت أصالته البشريّة كامنة فيه دائمًا أبدًا.

فالإنسان في بدء حياته كان على هيئة جنين في عالم الرّحم، وحصل فيه على الاستعداد والقابليّة المتعلّقة بحقيقة الوجود الإنسانيّ. وأنعم عليه، وهو في تلك الحالة المحدودة، بالقوى والقدرات الّتي يحتاج إليها في هذا العالم. فكان محتاجًا إلى العينين فحصل عليهما بشكل كامن في ذلك العالم. وكان محتاجًا أيضًا إلى أُذنين فحصل عليهما من باب التّأهّل والاستعداد لهذا الوجود الجديد. وفي عالم الرّحم وُهب كافّة القوى الّتي يحتاج إليها في هذا العالم حتّى إذا ما خرج إلى عالم الوجود الحقيقيّ لا يكون حائزًا على جميع الوظائف والقوى الّتي يحتاج إليها فحسب، وإنّما يجد في انتظاره أيضًا تهيئة لغذائه المادّيّ.

لذلك، يجب على الإنسان أن يهيّئ نفسه في هذا العالم للعالم الآخر. أي أنّ كلّ ما يحتاج إليه في عالم الملكوت يجب أن يحصل عليه في هذا العالم. فكما أنّه هيّأ نفسه في عالم الرّحم باكتسابه القوى الّتي يحتاجها في هذا العالم، فبالمثل، عليه أن يحصل في هذا العالم على القوى الأساسيّة اللاّزمة للملكوت الإلهيّ.

تُرى ما الّذي يفتقر إليه الإنسان في عالم الملكوت، ذلك العالم الّذي يتخطّى حياة هذا الوجود الزّائل وحدوده؟ إنّ العالم الآخر هو عالم التّقديس والنّورانيّة، فعلى الإنسان إذًا أن يحصل على هذه الصّفات الرّبّانيّة في هذا العالم. في ذلك العالم نحتاج إلى الرّوحانيّة والإيمان والإيقان ومعرفة الله ومحبّته وعليه أن يحصل عليها كلّها في هذا العالم حتّى يرى الإنسان بعد صعوده من عالم النّاسوت إلى عالم الملكوت أنّ جميع ما يحتاج إليه في تلك الحياة الأبديّة قد صار مهيّئًا له.

واضح أنّ ذلك العالم هو عالم الأنوار، ولذلك فما يحتاجه الإنسان هو النّورانيّة. وذلك العالم هو عالم المحبّة، فالمطلوب هو محبّة الله. وذلك العالم هو عالم الكمالات فما يجب تحصيله هو الفضائل والكمالات. وذلك العالم يحيا بنفثات الرّوح القدس وعلينا في هذا العالم إدراكها. وذلك العالم هو عالم الحياة الأبديّة ويلزم الحصول عليها أثناء وجودنا في هذه الحياة الفانية.

فبأيّ وسيلة يتسنّى للإنسان أن ينال هذه الأمور؟ وكيف له أن يحصل على هذه المواهب والقوى الرّحمانيّة؟ أوّلاً، بمعرفة الله، وثانيًا بمحبّة الله، وثالثًا بالإيمان، ورابعًا بالأعمال الخيريّة، وخامسًا بالتّضحية، وسادسًا بالانقطاع عن هذا العالم، وسابعًا بالعفّة والتّقديس. وما لم يحصل على هذه القوى ويبلغ هذه الضّروريّات فلا شكّ أنّه سيحرم من الحياة الأبديّة. أمّا إذا حاز معرفة الله، وصار مشتعلاً بنار محبّة الله، وشاهد آيات الملكوت الكبرى، وصار سببًا للمحبّة بين البشر، وكان في غاية العفّة والتّقديس، فلا شكّ أنّه ينال ولادة ثانية، ويتعمّد بالرّوح القدس، وينعم بالحياة الأبديّة.

أليس غريبًا أنّ يبقى الإنسان، الّذي خُلِق من أجل معرفة الله ومحبّته ومن أجل كمالات العالم الإنسانيّ ومن أجل الرّوحانيّة ومن أجل النّورانيّة السّماويّة والحياة الأبديّة، يبقى غافلاً عن كلّ ذلك وتاركًا له؟ لاحظوا كم يسعى الإنسان لمعرفة كلّ شيء ما عدا معرفة الله. فغاية مراده، مثلاً، أن يتوصّل إلى أسرار ما يوجد في أسفل طبقات الأرض، ويبذل الجهد ليلاً ونهارًا لفهم ما يقبع على عمق عشرة أمتار في جوف الأرض، وما يوجد في قلب الصّخر، وما يتاح له معرفته من التّنقيب عن الحفريّات القديمة تحت التّراب، وهو يسعى بكلّ تعب ومشقّة لكشف سرّ من أسرار التّراب. ولكنّه لا يعتني أبدًا بالاطّلاع على أسرار الملكوت، واجتياز براري عالم الخلد الرّحيبة، وعرفان الحقائق الرّبّانيّة، واكتشاف الأسرار الإلهيّة، وبلوغ معرفة الله، ومشاهدة إشراقات شمس الحقيقة، وإدراك تجلّيات الحياة الأبديّة. وهو لا يفكّر في هذه الأمور أو يعتني بها. فما أشدّ انجذابه إلى أسرار النّاسوت وما أبلغ حرمانه من أسرار الملكوت. بل إنّه غافل وغير منتبه تمامًا إلى الأسرار الرّبّانيّة. فما أعظم جهله وما أدعى ذلك إلى ذلّته. فمثله كمثل إنسان له أب حنون محبّ يهيّئ من أجله الكتب النّفيسة ليطَّلع على أسرار الخليقة ويهيّئ له كلّ وسائل الرّاحة والرّفاهية ولكنّ الابن يلعب بالحصى ويقضي وقته باللّهو، ضاربًا صفحًا عن جميع هذه المواهب الّتي هيّأها له والده. فما أشدّ جهل الإنسان وغفلته. فالأب يريد له العزّة الأبديّة بينما هو قانع بالعمى والحرمان، والأب بنى له قصرًا ملكوتيًّا ولكنّه مشغول باللّعب بالتّراب، والأب قد حاك له بدلة من الحرير وهو يفضّل أن يمشي عاريًا، والأب قد هيّأ له لذيذ الطّعام والفاكهة، ولكنّه يقتات على حشائش الحقول.

ولله الحمد! لقد سمعتم نداء الملكوت وفتحتم أعينكم وتوجّهتم إلى الله. فمقصودكم رضاء الله ومعرفة أسرار الأفئدة والقلوب وتحرّي الحقائق. لذا عليكم أن تجهدوا ليلاً ونهارًا حتّى توفّقوا إلى بلوغ أسرار الملكوت السّماويّ، وتطّلعوا على دلائل الألوهيّة، وتتيقّنوا أنّ لهذا العالم خالق وله مُحْيٍ وله رازق وله مدبّر – مدركين ذلك عن طريق الدّلائل والبراهين لا عن طريق العواطف، لا بل عن طريق الحجج الدّامغة والكشف الحقيقيّ – أي بالمشاهدة والمعاينة تمامًا كما تشاهدون الشّمس بعيونكم الظّاهريّة. وبذلك ترون الوجود الإلهيّ عيانًا وتتوصّلون إلى معرفة المظاهر المقدّسة الإلهيّة.

فعليكم الاطّلاع على تعاليم تلك المظاهر المقدّسة الإلهيّة بالدّلائل والبراهين. وعليكم أن تفكّوا ختم أسرار الملكوت الأعلى وتصبحوا قادرين على كشف الحقائق الكامنة في الأشياء. عندئذ تصبحون مظاهر الألطاف الإلهيّة وتكونون مؤمنين حقيقيّين، ثابتين وراسخين في أمر الله.

الحمد لله أن فتح حضرة بهاء الله أبواب معرفة الله، ووضع لكم جميعًا أساسًا ليطلّع به الإنسان على أسرار الملك والملكوت، وأمدّنا بأقصى التّأييدات في هذا اليوم. فهو معلّمنا وهو ناصحنا وهو عرّافنا وهو راعينا. وقد هيّأ لنا ألطافه وبذل لنا عناياته وقدّم لنا كلّ نصيحة وبيّن كلّ تعليم وهيّأ لنا أسباب العزّة الأبديّة وأعدّ لنا نفثات الرّوح القدس وفتح على وجوهنا أبواب الفردوس الأبهى، وأشرق علينا بأنوار شمس الحقيقة، وأمطر علينا من سحاب رحمته ووهبنا أمواج بحر ألطافه.

فجاء الرّبيع الرّوحانيّ وظهرت الفيوضات الّتي لا منتهى لها. فأيّة هبة أعظم من هذا؟ علينا أن نعرف قَدْر هذا العطاء الرّبّانيّ، وأن نعمل وفق تعاليم حضرة بهاء الله حتّى يحصل لنا كلّ خير ونكون أعزّاء مقبولين عند الله في الدّارين وننال النّعمة الأبديّة ونتذوّق لذّة محبّة الله وندرك حلاوة عرفان الله ونرى الموهبة السّماويّة ونشاهد قوّة الرّوح القدس.

هذه هي نصيحتي إليكم، وهذه هي وصيّتي لكم.

 

(6) 14 يوليو/ تمّوز 1912

الخطبة المباركة بكنيسة الاتّحاد لكلّ النّفوس،
تقاطع الطّريق الرّابع والشّارع العشرين، نيويورك

نقلاً عما دوّنه كلّ من جون جراندي وهوارد ماكنت

أريد أن أحدّثكم اليوم عن موضوع وحدة الإنسانيّة، لأنّ أهمّ إنجازات هذا القرن العظيم هي وحدة الجنس البشريّ. ومع أنّ هذه المسألة قد أوليت قدرًا من الأهميّة والاعتبار في القرون الماضية، إلاّ أنّها صارت الآن أبرز شأن وأهمّ مسألة في شؤون العالم الدّينيّة والسّياسيّة. وفي حين أنّ سجلاّت التّاريخ تطالعنا بقتال ونزال مستمرّ بين مختلف الأمم والشّعوب والملل طيلة ما مضى من الزّمان، لكن نجد الآن أنّ الأفئدة في قرن الأنوار هذا قد باتت – والحمد لله – متعلّـقة بالوفاق والألفة، وأنّ العقول قد أصبحت تفكّر في مسألة توحيد الجنس البشريّ. فهناك اليوم انبعاث وعي عامّ بما يدّل بجلاء على طلوع فجر وحدة عظمى.

وبما أنّ الطّريقة الصّحيحة للبحث في أيّ مسألة من المسائل هي الفحص الدّقيق للأساس الّذي بنيت عليه تلك المسألة، لذا يكون من الواجب علينا أن نرجع إلى الأساس الّذي يرتكز عليه تعاضد البشر – وهو أنّ الجميع هم ذرّيّة آدم، وأنّهم خلق الله الواحد وعباده، وأنّ الله هو الحافظ والرّازق، وأنّهم منغمسون جميعًا في بحر رحمة الله وفضله، وأنّه تعالى محبٌّ للجميع.

يشترك الجنس البشريّ عامّة في الحواس الذّهنيّة والأحاسيس الرّوحانيّة الّتي منحت له بالخِلقة. كما يخضع بأكمله لسائر مقتضيات الحياة البشريّة على حدّ سواء، ويشتغل بكسب أسباب العيش المادّيّ بنفس الكيفيّة. أضف إلى ذلك أنّه ومن منظور مختلف شئون الخليقة تقف المخلوقات الآدميّة على قدم المساواة مع بعضها البعض، وتخضع لنفس الاحتياجات، وتسعى إلى نيل المتعة والرّاحة في الأمور الدّنيويّة. فالأشياء الّتي تشترك فيها البشريّة هي كثيرة وواضحة. وهذه المشاركة المتساوية في الأمور المتعلّقة بالوجود الإنسانيّ من حيث الجسم والعقل والرّوح تمثّل أساسًا سليمًا ومقبولاً لمسألة توحيد الجنس البشريّ.

انظروا كم غلبت الشّحناء والبغضاء على هذه الأسرة الإنسانيّة الكبرى آلافًا من السّنين. فلطالما انهمك أعضاء تلك الأسرة في الاقتتال وسفك الدّماء. بل لم ينل عالم الإنسان أو يهنأ حتّى يومنا هذا بأيّ قسط من السّلام من جرّاء ظروف عداء ونزاع مستمرّ. وما التّاريخ إلاّ سجلّ متواتر متّصل لحروب نجمت عن أسباب دينيّة وطائفيّة وعرقيّة وقوميّة وسياسيّة بكيفيّة حرمت عالم البشر من كلّ راحة وهناء. ولا زال الجنس البشريّ منهمكًا في نزاع دائم لا همّ له إلاّ هدم أسباب الحياة وأساسها، ونهب ممتلكات بعضه البعض وسلب أراضيه وأوطانه، لاسيّما في عصور الوحشيّة والبربريّة الأولى حيث كانت شعوب وأجناس بأكملها تؤخذ أسيرة على يد غزاتها. وهل منّا من يقدر أن يقيس أو يقدّر الإفناء الرّهيب للحياة البشريّة الّذي جلبته تلك العداوة والنّزاع؟ أو هل منّا من بوسعه أن يحسب ما استنفد من قدرات وقوى بشريّة لشنّ الحروب وكم من تلك القدرات والقوى قد وضعت في خدمة الأغراض الّتي تتنافى مع الطّبائع والصّفات الإنسانيّة من قبيل العراك وسفك الدّماء؟ أمّا الآن ونحن في هذا القرن المنير فقد أصبح لزامًا علينا تحويل هذه الطّاقات واستغلالها في مآرب وأغراض تختلف عن ذلك، وعلينا أن نسلك منهجًا جديدًا تحدوه الألفة والاتّحاد، وأن نتوقّف عن تلقين علوم الحرب، وأن نكرّس أعظم ما لدينا من القوى البشريّة لتعلّـم فنون السّلام المباركة. فلقد صرنا الآن بعد هذه المحن والتّجارب الطّويلة على اقتناع بمضارّ الخلاف ونتائجه الشّيطانيّة، وعلينا الآن أن نلجأ بدلاً عن ذلك إلى الوسائل الّتي تمكّننا من أن نهنأ بمنافع الوفاق والائتلاف. وعندما نجد هذه الوسائل يلزمنا أن نضعها موضع التّجربة والاختبار.

لاحظوا مضارّ الخلاف والنّزاع في أيّة أسرة، ومن ثمّ فكّروا في النّعم والآلاء الّتي تنالها نفس تلك الأسرة عندما تسود الوحدة بين سائر أعضائها. فما أعظم المواهب والبركات الّتي تحلّ على الأسرة الإنسانيّة الكبرى إذا ما استتبّت فيها الوحدة والأخوّة. وبما أنّ منافع الوحدة قد وضحت في هذا القرن وتبيّنت البشريّة فيه أيضًا مضارّ النّزاع بكلّ وضوح وجلاء، فقد ظهرت في العالم وسائل وأسباب تكفل بلوغ وتحقيق الألفة بين البشر. لقد أعلن حضرة بهاء الله ضرورة إزالة العداء والخلاف من العالم الإنسانيّ وقدّم الوسيلة الّتي تكفل تحقيق ذلك، ولم يترك أيّ ذريعة أو إمكانيّة للنّزاع والاختلاف.

لقد نادى حضرة بهاء الله بادئ ذي بدء بوحدة الجنس البشريّ وجاء بتعاليم إلهيّة تتعامل مع أحوال البشر القائمة. وبما أنّ الاختلافات الدّينيّة تقف في مقدّمة مسبّبات الخلاف، فقد أتى حضرة بهاء الله للعالم بتعاليم كافية وافية تؤدّي إلى الألفة والوحدة في الدّين. ولطالما كان أتباع كلّ عقيدة دينيّة يتفاخرون في ما مضى من القرون بتفّوقهم وامتيازهم، مزدرين ومنتقصين من أحقّيّة كلّ ما عداها. فكانت كلّ طائفة تنادي بعقيدتها هي بوصفها نورًا وتدّعي بأنّ ما عداها من العقائد ظلام. بل إنّ أهل الأديان اعتبروا أنّ عالم البشر ينتمي إلى شجرتين، إحداهما شجرة إلهيّة رحمانيّة، والأخرى شجرة شيطانيّة. وعدّوا أنفسهم فروع وأوراق وأثمار الشّجرة الإلهيّة، أمّا الباقون ممّن يختلفون عنهم في العقيدة فقد اعتبروهم ثمار الشّجرة الشّيطانيّة. ولذلك فإنّ الفتنة والاقتتال وسفك الدّماء والنّزاع لا زالت دائرة بينهم. كما أصبح الدّين هو السّبب الأعظم للتّنافر بين البشر، ذلك لأنّ كلّ حزب عدّ عقيدة غيره من الأحزاب كفرًا واعتبرها محرومة من رحمة الله.

التّعاليم الّتي تميّزت بها رسالة حضرة بهاء الله موجّهة إلى البشريّة بأسرها، إذ تفضّل بقوله كلّكم أوراق شجرة واحدة. ولم يقل أنتم أوراق شجرتين، إحداهما رحمانيّة، والأخرى شيطانيّة. بل أعلن أنّ كلّ فرد في الأسرة الإنسانيّة ما هو إلاّ ورقة من أوراق شجرة آدم أو غصن من أغصانها، وأنّ الكلّ هم في كنف رحمة الله وعنايته، وأنّ الجميع هم أبناء الله، وهم الثّمار الّتي تطرحها شجرة المحبّة الإلهيّة، وأنّ الله رحيم ورؤوف بكلّ الأوراق والأغصان والثّمار المنتمية إلى تلك الشّجرة سواء بسواء. فليس هناك إذًا شجرة من الأشجار يقال إنّها شيطانيّة – ذلك لكون الشّيطان هو من نتاج عقول البشر ونزعاتهم الغريزيّة إلى الخطأ. فالله وحده هو الخالق وما عداه مخلوق بقدرته. فعلينا إذًا أن نحبّ جميع البشر بوصفهم كلّهم مخلوقات له، مدركين أنّ الكلّ ينمو على شجرة رحمانيّته، وأنّ الجميع عبادُ إرادته المهيمنة ومظاهرُ رضائه.

حتّى إذا ما وجدنا فرعًا أو ورقة غير سليمة على شجرة الإنسانيّة هذه أو وجدنا بها زهرًا غير مكتمل النّموّ، فهو مع ذلك ينتمي لهذه الشّجرة وليس لشجرة أخرى. وعليه فإنّ واجبنا أن نحمي هذه الشّجرة ونرعاها حتّى تبلغ اكتمالها. فإذا ما تفحصّنا بعض أثمارها ووجدناها غير ناضجة، علينا أن نجهد لنجعلها ناضجة. بمعنى أنّ هناك نفوسًا في عالم البشر جهلاء علينا أن نعلّمهم، وأنّ هناك آخرون ممّن ينمون على شجرة الإنسانيّة هذه هم ضعاف ومرضى يلزمنا أن نأخذ بيدهم نحو الصّحّة والمعافاة. وإذا ما كانوا صغارًا كالأطفال في الرّقيّ، علينا رعايتهم حتّى يبلغوا أشدّهم. فلا يجمُلُ بنا قطّ أن نزدريهم أو نتجنّبهم كالمنبوذين أو الّذين لا شأن لهم. بل علينا أن نعاملهم بكلّ إجلال واحترام ومودّة، لأنّ من خلقهم هو الله وليس الشّيطان. ولأنّهم ليسوا مظاهر لعنة الله بل هم آيات عنايته الرّبّانيّة. فقد أودع الخالق فيهم ملكات جسمانيّة وعقليّة وروحانيّة حتّى يسعوا لمعرفة إرادته ومشيّته والعمل بموجبها، ولذا فإنّهم لا يستحقّون غضبه ولعنته. وبالاختصار يجب أن ننظر إلى النّاس كافّة بعين المحبّة والشّفقة والاحترام، لأنّ كلّ ما نراه فيهم ليس إلاّ آيات الله وآثاره. كما أنّ جميعهم شواهد على قدرة الله. فكيف يجوز لنا أن نحقـّرهم أو نحطّ من شأنهم، أو نحكم بكفرهم أو نحول بينهم وبين التّقرّب إلى رحمة الله؟ فما هذا إلاّ جهل وظلم لا يرضى الله عنهما، لأنّ الجميع في نظره هم عباده وأرقـّاؤه.

كما أنّ هناك سببًا آخر للشّقاق والخلاف، وهو أنّ الدّين يُعطى للنّاس بما يخالف العلم. فدائمًا ما كان هناك نزاع وجدال بين أهل العلم وأتباع الأديان، بسبب أنّ أتباع الأديان يؤكّدون أنّ الدّين يفوق العلم في السّلطة والمرجعيّة ويعتبرون المقولة العلميّة منافية لتعاليم الدّين. لقد صرّح حضرة بهاء الله بأنّ الدّين مطابق تمامًا للعلم والعقل، وأنّه إذا ما كانت المفاهيم والعقائد الدّينيّة مخالفة للعقل فإنّها تكون ناجمة عن فهم الإنسان المحدود وليست من عند الله، فتكون بالتّالي غير جديرة بالتّصديق وغير أهل بالاهتمام، فلا القلب يطمئنّ إليها ولا الإيمان يرتكن عليها. فكيف للإنسان أن يؤمن بما يعلم أنّه منافٍ للعقل؟ فهل هذا جائز؟ أيقبل القلب ما ينكره العقل؟ فالعقل يأتي في مقدّمة قوى الإنسان، كما أنّ دين الله يتوافق معه. ولقد أزال حضرة بهاء الله صنوف هذا النّوع من الخلاف والنّزاع عن بين البشر، ووفّق ما بين الدّين والعلم بأن جاء بالتّعاليم الخالصة من الحقيقة الرّبّانيّة. وهذا الإنجاز مُختصٌ بحضرة بهاء الله في هذا اليوم.

هناك أيضًا سبب آخر للشّقاق والخلاف، ألا وهو ظهور المذاهب والفرق الدّينيّة. وقد تفضّل حضرة بهاء الله أنّ الله قد أرسل لنا دينه من أجل تحقيق الأخوّة بين بني البشر لا لإحداث النّزاع والخلاف فيما بينهم، ذلك لأنّ كلّ دين مبنيّ على محبّة البشريّة. فحضرة إبراهيم قد روّج هذا المبدأ، كما دعا حضرة موسى الكلّ إلى الإيمان به، وأرسى حضرة المسيح قواعده، وهدى حضرة محمّد البشريّة إلى لوائه. فهذه هي حقيقة الدّين. فإذا ما تخلّينا عن الأقاويل وتحرّينا حقيقة التّعاليم الإلهيّة ومغزاها الباطنيّ فإنّنا سنجد نفس الأساس الرّبّانيّ – أساس محبّة بني البشر. ومقصد حديثي أنّ المراد بالدّين هو أن يكون سببًا للاتّحاد والمحبّة والألفة، لا للشّحناء والعداوة والجفاء. لقد ترك الإنسان قواعد الدّين الإلهيّ واتبع التّقاليد العمياء. وتشبّثت كلّ أمّة بتقاليدها، ولأنّ التّقاليد تختلف، كانت النّتيجة هي النّزاع وسفك الدّماء وهدم بنيان البشريّة. أمّا الدّين الحقّ فهو مبنيّ على المحبّة والوفاق. فقد صرّح حضرة بهاء الله بأنّه إذا كان الدّين والعقيدة سببًا للعداوة والفتنة، يكون عدم التّديّن أحسن كثيرًا، ويُمسي غياب الدّين أفضل. لأنّ مرادنا أن يكون الدّين سبب الوداد والألفة، فإذا ما كان سببًا للعداوة والكراهية، فعدمه أفضل من وجوده. ولهذا فإنّ إزالة هذا الخلاف هو ممّا اختـُصّ به حضرة بهاء الله، ذلك لأنّ الدّين هو الدّواء الإلهيّ للعداء والخلاف بين البشر. أمّا إذا جعلنا الدّواء سببًا لحدوث الدّاء، فالأفضل لنا أن نبقى بغير دواء.

من المسبّبات الأخرى للنّزاع بين البشر التّعصّبات السّياسيّة والعرقيّة والقوميّة. لقد أزالها حضرة بهاء الله أيضًا إذ صرّح ببيانات معزّزة بأدلّة عقليّة من الكتب المقدّسة بأنّ عالم البشر جنس واحد، وأنّ أديم الأرض وطن واحد، وأنّ هذه الحواجز والحدود الوهميّة، عرقيّة كانت أم سياسيّة، لا صحّة لها ولا أساس. وأنّ شأن الإنسان ينحطّ إذا ما صار أسيرًا لأوهامه وافتراضاته. فالأرض أرض واحدة، يغلّفها هواء واحد. ولم يوجـِد الله أيّ فرق أو تفضيل بين أهلها من بني البشر، غير أنّ الإنسان هو الّذي أوجد جذور التّعصّب والكراهية والخلاف مع أخيه الإنسان عندما ظنّ أنّ القوميّات تتفاوت في مراتبها، وأنّ الأعراق تختلف في الحقوق والامتيازات.

كما أنّ اختلاف اللّغة كان أيضًا سببًا خصبًا للخلاف. ولأنّ وظيفة اللّغة هي إيصال الأفكار والنّوايا من شخص لآخر، فلا يكون مهمًّا إذًا أيّ لغة تلك الّتي يتكلّمها الإنسان أو يستخدمها. لقد حضّ حضرة بهاء الله منذ ستّين سنة على مسألة اللّغة الواحدة كأعظم وسيلة لتحقيق الاتّحاد، وأساس لتلاقي العالم. فكتب إلى ملوك وحكّام مختلف الأمم موصيًا إيّاهم بالاتّفاق على لغة واحدة وتبنّـيها من جانب كلّ الحكومات. وبتلك الكيفيّة يكون على كلّ أمّة أن تكتسب اللّغة العالميّة بالإضافة إلى لغتها القوميّة. فيصير العالم بفضل ذلك على اتّصال وثيق، ويعمّ التّشاور، وتزول الاختلافات النّاجمة عن تباين الألسنة.

لحضرة بهاء الله مبدأ آخر يتعّلق بالسّلام العامّ، وهو أنّ على الجنس البشريّ أن يعي ويدرك ضرر الحروب، وأن يلتقي الكلّ على إدراكٍ لفوائد السّلام ومنافعه، ويعرفوا أنّ السّلام رحمانيّ والاقتتال شيطانيّ. وأنّ على الإنسان أن يقتدي بالرّحمن ويبتعد عن وساوس الشّيطان، لكي تصبح نيّة العموم متّجهة إلى السّلام والمحبّة والاتّحاد، فتختفي شحناء الحرب والقتال.

كذلك فإنّ غياب المساواة بين الرّجل والمرأة هو أيضًا سبب لخلافات البشر. وقد أشار حضرة بهاء الله إلى هذه المسألة بوصفها عاملاً رئيسيًّا باعثًا على الخلاف والشّقاق، ذلك لأنّه طالما بقيت في العالم تفرقة في الحقوق والمكانة فيما بين الرّجل والمرأة، فلن تتحقّق الوحدة. وكما أنّه من المستحيل أن يكون في جسد الإنسان السّليم عضو تامّ وآخر ناقص، كذلك يستحيل في جسد المجتمع الإنسانيّ الأكبر أن تتحقّق الوحدة والانسجام إذا ما عددنا أحد أعضائه كاملاً والآخر ناقصًا. فالوفاق يتحقّق عندما تكون وظائف كلّ من هذين العضوين عاملة بتمامها. ولقد خلق الله الرّجل والمرأة متساويين من حيث القابليّات ولم يوجد بينهما أيّ فرق أو تمييز. غير أنّ المرأة لم تكن ندًّا للرّجل في مجال العمل الإنسانيّ نظرًا لغياب الفرص ونقص التّعليم. ولكنّه إذا ما أتيحت الفرص التّربويّة على قدم المساواة، يتكافأ هذان العضوان – أي الرّجل والمرأة – من حيث درجة تقدّمهما. فالله لم يقصد أن تكون هناك أيّة تفرقة بينهما بما يؤدّي إلى الاختلاف. فقد وهب الجميع قابليّات إنسانيّة، كما أنّ الكلّ مظاهر رحمته على حدّ سواء. وإذا ما قلنا بأنّ الرّجل والمرأة مختلفان من حيث المواهب الخِلـْقـِيّة يكون كلامنا هذا منافيًا للعدل الإلهيّ والقصد الرّبّانيّ، فكلاهما بشر. وإذا ما أوجد الله إنسانًا كاملاً وآخرَ ناقصًا يكون إلهًا غير عادل، في حين أنّ الله عادل، والجميع كاملون من حيث القصد الرّبّانيّ والموهبة الخـَلـْقـِيّة. وافتراض النّقص في المخلوق يقتضي ضمنًا نقصًا في الخالق عزّ وجلّ. إنّ النّفس الأكثر قبولاً لدى الله هي الّتي تتفوّق في نيل الكمالات والفضائل الرّبّانيّة.

إنّنا نتّأمل الخطّة الّتي رسمها الله من أجل التّوفيق بين أنظمة الأديان في العالم. فقد صرّح حضرة بهاء الله بأنّه إذا ما اختير حكيم واحد من كلّ نظام من الأنظمة الدّينيّة المختلفة، والتقى هؤلاء الممثّلون ساعين في تقصّي حقيقة الدّين الإلهيّ، فسيكونون قد أسّسوا هيئة من مختلف الأديان تحال إليها كلّ النّزاعات والاختلافات العقائديّة من أجل التّشاور والتّصالح. وعندئذ يتسنّى لمثل هذه القضايا أن توزن وتدرس بمنظار الحقيقة بصرف النّظر عن كافّة التّقاليد. وبتلك الوسيلة والكيفيّة تصبح مختلف المذاهب والطّوائف والأنظمة الدّينيّة شيئًا واحدًا.

لا تجعلوا الشّكّ يخامركم في إمكانيّة تحقيق ذلك، بل ولا تتعجّبوا. فقد تحقّق وجرى العمل به في إيران. إذ توحّد في تلك الدّولة مختلف أتباع الأديان في بحث عن الحقيقة واتّحدوا بكامل الأخوّة والمحبّة ولم تبق بينهم شائبة من الشّقاق أو الاختلاف، بل إنّ الوداد والاتّحاد يتجلّيان الآن بدلاً من ذلك. وهم يعيشون معًا بكلّ انسجام ووئام كأسرة واحدة، وزالت من بينهم العداوة والنّزاع، وأخذت المحبّة والوفاق بينهم مكان الكراهية والعداء. كما أنّ تلك النّفوس الّتي اتّبعت حضرة بهاء الله وبلغت هذا الشّأو من التّآلف والتّواصل هم من المسلمين واليهود والمسيحيّين والزّرادشتيّين والبوذيّين، ومنهم أيضًا النّسطوريّون والسّنّة والشّيعة وغيرهم من أهل الطّوائف. ولم يبق هناك أيّ خلاف بينهم. وهذا برهان على إمكانيّة خلق الوحدة بين أصحاب أديان العالم بالوسائط العمليّة. إذ بفضلها نـُبذت التّقاليد والتّعصّبات الّتي طالما باعدت بين البشر، وأحاطت بهم حقيقة الدّين في وحدة تامّة. وعندما تحيط الحقيقة بنفس الإنسان، تكون المحبّة أمرًا ممكنًا. إذ إنّ القصد الإلهيّ من الدّين هو المحبّة الخالصة والوفاق البحت. وقد أبدى أنبياء الله كامل المحبّة للجميع، وأعلن كلّ منهم بشارة من سيأتي من بعده، وأكّد كلّ خلف على تعاليم من سبقه من الأنبياء وكان محققًا لنبوءاته. ولم يكن هناك أيّ اختلاف أو تفاوت في جوهر تعاليمهم ورسالتهم. بل إنّ الخلاف نشب بين من غابت الحقيقة عن عينه وتشبّث بالتّقاليد من أتباعهم. فإذا ما طـُرحت التّقاليد جانبًا وأشرقت الحقيقة السّاطعة اللاّمعة في نفوس البشر، تغلّبت المحبّة والوحدة لا محالة. وبذلك تتخلّص البشريّة من النّزاع والحروب الّتي سادت آلافًا من السّنين، وتزول الخلافات ويسطع نور الاتّحاد. انظروا كم أوذي كلّ واحد من أنبياء الله، وتدبّروا كم عانوا من المحن والمشقّات. فقد تحمّل يسوع المسيح الأذى وقبل الشّهادة على الصّليب حتّى يدعو البشريّة إلى الاتّحاد والمحبّة. فأيّ تضحية أعظم من ذلك؟ لقد جاء بدين يحقّق المحبّة والألفة لهذا العالم، فهل يجمل بنا أن نستخدم ذلك الدّين لخلق الخلاف والقسوة والكراهية بين البشر؟

كما أنّ حضرة موسى قد أوذي أيضًا وطُرد إلى البرّيّة، وأقصي حضرة إبراهيم عن وطنه، والتجأ حضرة محمّد إلى الكهوف، وقُتل حضرة الباب، ونـُفي حضرة بهاء الله وسـُجن أربعين سنة. ومع ذلك، فقد قصدوا جميعًا نشر الألفة والمحبّة بين البشر، وتحمّلوا الصّعاب وعانوا من الاضطهاد بل ومن الموت من أجلنا حتّى نتعلّم أن نحبّ بعضنا البعض ونتّحد ونأتلف بدلاً من أن نكون على خلاف ونزاع. وكفانا هذه القرون المديدة الّتي جلبت للعالم تلك القلاقل والمصاعب من جرّاء النّزاع والبغضاء. فلنجرّب أن نعمل في هذا القرن المنير وفق إرادة الله حتّى نخرج من هذه الظّلمات إلى أنوار السّموات الباهرات، نابذين الانقسام ومرحّبين بوحدة الجنس البشريّ الّتي أرادتها المشيئة الإلهيّة. عسى أن يصبح هذا العالم التّرابيّ بإذن الله كمرآة سماويّة نشاهد فيها انطباع الآثار الرّبّانيّة، وتنعكس عليها الصّفات الحقّة لخلق جديد – صفات جاءتنا من جوهر المحبّة السّاطعة في قلوب البشر. لعلّ بيمن نور الله ومثاله المتجلّي فينا يتحقّق ويُشاهَد فعلاً أنّ الله قد خلق الإنسان على صورته ومثاله.

إلهي إلهي إنّي أبتهل إليك متضرّعًا إلى عتبتك راجيًا نزول بركاتك على هذه النّفوس آملاً أن تختصّهم بمواهبك وحقائقك.

ربّ اجمع القلوب وألّـف النّفوس وأنعش الأرواح بآيات تقديسك ووحدانيّتك. ربّ أنر هذه الوجوه بأنوار فردانيّتك واشدد أزور عبادك على خدمة ملكوتك.

أي ربّ يا رحمن، يا ربّ العفو والغفران! اغفر ذنوبنا واصفح عن عيوبنا، واجعلنا متوجّهين إلى ملكوت رحمانيّتك، متوسّلين إلى ملكوت قوّتك واقتدارك، وخاضعين لدى حرم تقديسك، وخاشعين عند تجلـّي بيّناتك.

أي ربّ! اجعلنا كأمواج البحر وأزهار الرّوض، متّحدين متّفقين بفيوضات محبّتك. ربّ اشرح الصّدور بآيات وحدانيّتك، واجعل جميع الخلق نجومًا ساطعة من أفق مجد واحد، وأثمارًا بديعة تنمو على شجرة الحياة.

إنّك أنت القويّ المقتدر المعطي الغفور، وإنّك أنت التّوّاب العليم الخالق الأحد.

(7) 15 يوليو/ تمّوز 1912

الخطبة المباركة بمنزل الدّكتور فلوريان كروغ وحرمه،
830 طريق المتنزّه، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

إنّني في غاية السّرور لرؤياكم، فقلوبكم مستنيرة بأنوار البهاء. وهذا اللّقاء هو في الحقيقة لقاء ربّانيّ ومحفلٌ ملكوتيّ في ظلّ موهبة الله، إذ لا قصد لنا سوى ثناء الله ولقائه. ولقد لاحظت أنّ المناجاة الّتي تلوتموها الآن هي مناجاة شكر وامتنان.

للشّكر أنواع عديدة. فهناك شكر لفظيّ مقصور على مجرّد النّطق بالعرفان. وليس لهذا أهميّة لأنّ اللّسان قد يلهج بالشّكر بينما يكون القلب غافلاً عن ذلك. وكثيرون ممّن يشكرون الله هم من هذا النّوع، حيث تكون أرواحهم وقلوبهم غير واعية بالشّكر. وهذا مجرّد عادة، تمامًا كما نجتمع وتأتينا هديّة فنقول شكرًا لكم ناطقين بالكلمات دون أيّ اهتمام بمغزاها. وقد ينطق الإنسان بالشّكر ألف مرّة بينما يبقى القلب جحودًا خاليًا من الامتنان. فالشّكر اللّفظيّ البحت لا يكون له إذًا أثر ولا نتيجة. أمّا الشّكر الحقيقيّ فهو امتنان أصيل نابع من القلب. وعندما يُظهِر الإنسان الاحساسات الوجدانيّة استجابة لنعم الله يَسْعَد القلب وتنتعش الرّوح. والاحساسات الرّوحانيّة هذه هي الطّريقة المثلى للشّكر.

هناك أيضًا العرفان، وهو ما يُعبَّر عنه بأعمال وتصرّفات يقوم بها الإنسان عندما يمتلئ قلبه بالامتنان. فمثلاً عندما يمنح الله الإنسان نعمة الهداية، لا بدّ عندئذ أن تظهر من الإنسان أعمال معيّنة امتنانًا لهذه المنحة الكبرى. فعلى الإنسان أن تظهر منه الأعمال الممدوحة الحسنة تعبيرًا عن امتنانه لنعم الله وآلائه. أي أنّه في مقابل هذه المواهب على الإنسان أن يأتي بصالح الأعمال، وأن يكون مضحّيًا بذاته، ومحبًّا لعباد الله، بل مضحّيًا بحياته من أجلهم، وأن يُظهر الشّفقة لكافّة الخلائق. وعليه أيضًا أن يكون منقطعًا عن الدّنيا ومنجذبًا إلى الملكوت الأبهى، مشرق المحيّا، طلق اللّسان، مصغي السّمع، ساعيًا ليل نهار لنيل رضاء الله. وأن يكون مراده مطابقًا لرضاء الله. وعليه أن يعي ويدرك مراد الله ويعمل بمقتضاه. ولا مِرية في أنّ مثل هذه الأعمال الممدوحة هي إظهار الامتنان لنعم الله.

انظروا كم يكون المرء ممتنًّا عندما يشفى من مرض، أو عندما يعامله أحد بشفقة، أو عندما يسدي إليه أحد معروفًا حتّى ولو كان بسيطًا. فإن نحن نسينا هذه الأفضال دلّ ذلك على عدم الامتنان. ويقال هنا إنّنا نلنا عطفًا ولكنّنا غير شكورين، فلم نُظهر تقديرًا لهذه المحبّة والجميل. والحال إنّنا غارقون جسدًا وروحًا في بحر الموهبة الإلهيّة. فقد أنعم علينا بالطّعام والشّراب وسائر ما يلزمنا وأحاطت بنا مواهبه من كلّ جانب. والزّاد الّذي يتلقّاه الإنسان هو نعمة. والبصر والسّمع وسائر حواسّه هي من بديع العطايا. وهذه النّعم لا تُحصى، ومهما عدّدناها تظلّ بغير نهاية. وكذلك الحال مع النّعم الرّوحانيّة فهي أيضًا بغير نهاية – كموهبة الرّوح والوعي والفكر والذّاكرة والإدراك والتّخيّل وسائر المواهب الأخرى. وبواسطة هذه المواهب نتلقّى الهداية من الله، وبفضلها ندخل ملكوته. لقد فتح البارئ أمامنا أبواب الخيرات ومنحنا المجد الأبديّ ودعانا إلى الملكوت السّماويّ وأثرانا بالمواهب الإلهيّة، وفي كلّ يوم يُسمعنا بشارات جديدة وكلّ ساعة تتنزّل علينا مواهب جديدة.

انظروا كيف أنّ النّاس نيام، وأنتم متيقّظون، وأنّهم أموات بينما أنتم أحياء بنفثات الرّوح القدس، وأنّهم عُمْيٌ في حين أنّكم قد نعمتم بالبصيرة. وهم محرومون من محبّة الله، أمّا قلوبكم فهي مليئة ومنوّرة بحبّه. فتفكّروا في هذه النّعم والآلاء.

لكي تُظهروا الشّكر والامتنان لهذا كلّه عليكم أن تعملوا بمقتضى تعاليم حضرة بهاء الله. عليكم بقراءة الألواح – اقرأوا الكلمات المكنونة، والإشراقات والبشارات، وسائر البيانات المباركة، واعملوا بمقتضاها. فهذا هو الشّكر الحقيقيّ، أي أن نعيش بمقتضى هذه البيانات. وهذا هو الامتنان الحقيقيّ وهذا هو الفضل الرّبّانيّ وهذا هو شكر الله وتمجيده.

أملي أن تنالوا جميعًا مقام الشّكر والعرفان، وأن تكونوا مدركين لهذه النّعم الإلهيّة ومتنبِّهين لها. وأملي أن أغادر نيويورك بقلب مبتهج؛ وإن قلبي يُسَرُّ عندما يحبّ أحبّاء الله بعضُهم بعضًا، وعندما يُظهرون رحمة الله على الخلائق أجمعين. فإذا ما رأيت هذا سأترككم والسّعادة تغمرني.

وعليكم التّحيّة والثّناء.

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في بوسطن (1) 23 يوليو/ تمّوز 1912

الخطبة المباركة بفندق فيكتوريا، بوسطن، ولاية ماساتشوسيتس

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

ليس للبهائيّين أن يشتركوا في الحركات السّياسيّة الّتي تفضي إلى القلاقل والفتن، بل عليهم الاهتمام بالحركات الّتي تؤدّي إلى سيادة القانون واستتباب النّظام. وليس للبهائيّين في إيران اليوم أيّ دور في الانقلابات الثّوريّة الّتي آلت في النّهاية إلى الفوضى والعصيان. ومع ذلك يمكن للبهائيّ أن يتولّى منصبًا سياسيًّا ويكون مهتمًّا بالأمور السّياسيّة السّليمة. فهناك من بين البهائيّين في إيران وزراء ومسؤولون حكوميّون ومحافظون عموميّون، وهناك الكثير منهم ممّن يتولّون مناصب حكوميّة، ولكن لا يصحّ أبدًا لأتباع حضرة بهاء الله في أيّ مكان في العالم أن يشتركوا في الحركات المثيرة للفتنة. فإذا كان هناك على سبيل المثال ثورة في أمريكا تسعى إلى الإتيان بحكومة لا تأخذ بالوسائل الدّيمقراطيّة، فعلى البهائيّين ألاّ يكون لهم أيّ صلة بها.

لقد جاء في الأمر البهائيّ من قوانين وشرائع وأحكام ما يتناول كافّة المسائل الاقتصاديّة والاجتماعيّة. وجوهر الرّوح البهائيّة هو أنّه لكي يتحقّق نظام اجتماعيّ وأحوال اقتصاديّة أفضل، يجب أن يكون هناك ولاء لقوانين الحكومة ومبادئها. وبمقتضى القوانين الّتي ستحكم العالم، يحقّ للاشتراكيّين أن يطالبوا بحقوق الإنسان ولكن دون اللّجوء إلى الجبر والعنف. فتقوم الحكومات بسنّ هذه القوانين، وتأتي بتشريعات وترتيبات اقتصاديّة عادلة بما يجعل البشريّة تتمتّع بقسط وافر من الرّخاء والسّعادة، ولكنّ ذلك كلّه يكون في ظلّ حماية القانون والنّظام. ففي غياب الإطار التّشريعيّ تسقط الحقوق والمطالب، ويتعذّر تحقيق رفاهية الشّعوب عامّة. ولكنّ أسلوب المطالب اليوم هو الإضراب واللّجوء إلى القوّة، وهذه أمور واضحة الخطأ وهي مدمّرة للقواعد الإنسانيّة. فالمطالب والامتيازات المشروعة يجب أن تتضمّنها الأحكام والقوانين.

بينما ينشغل آلاف النّاس بهذه المسائل، لدينا نحن البهائيّون غايات أكثر جوهريّة. فأصول الأمور الاقتصاديّة برمّتها هي إلهيّة في طبيعتها وترتبط بعالم القلوب والأرواح. وهذه الحقيقة مشروحة بالكامل في التّعاليم البهائيّة، وبغير دراية وعلم بمبادئها لا يتحقّق أيّ تحسن في الحالة الاقتصاديّة. فالبهائيّون هم الّذين سيحقّقون هذا التّحسين والإصلاح، ولكن ليس من خلال التّحريض على العصيان والجنوح إلى العنف، أي ليس بواسطة الحرب وإنّما بالرّفاهية. إذ من الواجب أن تتراحم القلوب، وأن تسود المحبّة بدرجة تجعل الغنيّ يمدّ يد العون طواعية للفقير ويتّخذ التّدابير اللاّزمة لتحقيق تلك الإصلاحات الاقتصاديّة بصورة دائمة. فإذا ما تمّ تحقيقها بهذه الكيفيّة تكون ممدوحة للغاية، لأنّها ستكون لوجه الله وفي سبيل خدمته. فسيكون الحال، على سبيل المثال، وكأنّ الأثرياء في إحدى المدن يقولون: ‘ليس عدلاً ولا أمرًا مشروعًا أن نمتلك ثروة طائلة بينما هناك فقر مدقع في مجتمعنا’ ثمّ يقوم هؤلاء الأثرياء بمنح الفقراء من ثروتهم طواعية، محتفظين لأنفسهم فقط ما يتيح لهم حياة هانئة.

فابذلوا الجهد إذًا لإيجاد المحبّة في القلوب لكي تصبح مشرقة منيرة. وعندما تسطع تلك المحبّة سنجدها تسري في سائر القلوب كما يغمر هذا النّور الكهربائيّ كلّ ما حوله. وعندما تتحقّق محبّة الله يتحقّق كلّ شيء آخر. هذا هو الأساس الحقيقيّ لكلّ المسائل الاقتصاديّة. تدبّروا وفكّروا في ذلك. اجتهدوا لكي تصبحوا سبب انجذاب الأرواح بدلاً من إجبار الأفهام والعقول. أظهروا للنّاس الاقتصاديّات الأصليّة والحقيقيّة. أظهروا لهم كيف تكون المحبّة، وكيف تكون الشّفقة، وكيف يكون الانقطاع الحقيقيّ والجود. وهذا هو أهمّ ما يجب عليكم عمله. إعملوا بمقتضى تعاليم حضرة بهاء الله. إنّ كلّ كتبه المباركة سوف تترجم. أمّا الآن فعليكم أن تحيوا طبقًا لكلماته، واجعلوا أعمالكم ترجمة حقيقيّة لمعانيها. إنّ الأمور الاقتصاديّة لن تعمل على جذب القلوب والأفئدة، بل محبّة الله دون سواها هي الّتي ستجذبها. نعم إنّ المسائل الاقتصاديّة هي من أكثر المسائل إثارة للاهتمام، بيد أنّ القوّة الّتي تحرّك قلوب النّاس وتحكمها وتجذبها هي محبّة الله.

(2) 24 يوليو/ تمّوز 1912

الخطبة المباركة في المجمع الثيوصوفي ببناية كنسينجتون،
تقاطع شارعيّ إكسيتر وبويلستون، بوسطن، ولاية ماساتشوسيتس

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

ليس هناك في عالم الوجود ما هو أهمّ من الرّوح وما هو جوهريّ مثل روح الإنسان، فالرّوح الإنسانيّ هي أشرف الكائنات. وروح الإنسان هي ملتقى الإنسان بالله، وروح الإنسان هي المحرّك لحياة البشر، وهي المركز الجامع لكافّة الفضائل الإنسانيّة. وروح الإنسان هي سبب استنارة هذا العالم. وإذا شبّهنا العالم بالجسد يكون الإنسان روح ذلك الجسد، ذلك لأنّ نور العالم هو الرّوح الإنسانيّ. فالإنسان هو حياة العالم، وحياة الإنسان هي الرّوح. وتعتمد سعادة العالم على الإنسان، وتتوقّف سعادة الإنسان على الرّوح. كما يمكن تشبيه العالم بزجاجة المصباح، بينما الإنسان هو النّور. ويمكن تشبيه الإنسان بالمصباح، والرّوح الإنسانيّ هي النّور المضيء في ذلك المصباح. ولذا سنتحدّث عن الرّوح.

ينقسم فلاسفة العالم إلى قسمين: المادّيّون الّذين ينكرون الرّوح وخلودها، والفلاسفة الرّبّانيّون، أي الحكماء الإلهيّون، أولئك المستنيرون الحقيقيّون الّذين يؤمنون بالرّوح ودوامها في الحياة الأخرى. ولقد علّم الفلاسفة القدماء أنّ الإنسان يتكوّن بكلّ بساطة من عناصر مادّيّة تكوّن هيكله الخلويّ، وأنّه عندما يتحلّل ذلك التّركيب تنعدم حياته. وحجّتهم على ذلك هي أنّ الإنسان مجرّد جسم، ومن ذلك التّركيب العنصريّ جاءت الأعضاء ووظائفها، والحواس والقوى والصّفات الّتي تميّز الإنسان، وأنّها جميعًا تتلاشى بالكلّيّة بزوال البدن. هذه هي بالاختصار مقولة كافّة المادّيّين.

أمّا الفلاسفة الرّبّانيّون فيعلنون أنّ روح الإنسان دائمة وأبديّة، وبالنّظر إلى اعتراض المادّيّين على ذلك، ساق هؤلاء الحكماء الّذين يؤمنون بالله أدلّة عقليّة لتأييد سلامة حجّتهم. ولأنّ الفلاسفة المادّيّين ينكرون كتب الله، فالإثبات النّقليّ ليس له حجيّة لديهم، ويكون الدّليل المادّيّ في تلك الحالة لازمًا. وللإجابة عليهم يقول أصحاب العلم الرّبّانيّ أنّ جميع الكائنات يمكن تصنيفها إلى مراتب أو ممالك تنقسم من حيث درجاتها إلى جماد ونبات وحيوان وإنسان، ولكلّ منها رتبته الوظيفيّة والإدراكيّة. وعندما نتدبّر أمر الجماد نجده كائنًا وحائزًا على قوّة التّجاذب أو التّركيب. أمّا النّبات فهو حائز على خواص الجماد مضافًا إليها القوّة النّامية أو خاصيّة النّموّ. وبذلك يكون من الواضح أنّ عالم النّبات أعلى مرتبة من الجماد. كذلك عالم الحيوان بدوره حائز على خواص كلّ من الجماد والنّبات بالإضافة إلى الحواس الخمس الّتي تفتقدها ممالك الخليقة الأدنى منه رتبة. كما أنّ قوّة الذّاكرة الّتي فطر عليها الحيوان لا وجود لها في الممالك الأدنى منه.

كما أنّ الحيوان أشرف من النّبات والجماد، كذلك يسمو الإنسان على الحيوان. ذلك لأنّ الحيوان محروم من الفضائل الوجدانيّة – بمعنى أنّه أسير لعالم الطّبيعة ولا دراية له بما هو في حيّز الطّبيعة ولا ما هو وراء الطّبيعة، فهو يفتقد إلى الإحساسات الرّوحيّة، ومحروم من الجذبات الوجدانيّة، وغافل عن العالم الإلهيّ، وعاجز عن الخروج على ناموس الطّبيعة. ولكنّ هذا مختلف بالنّسبة للإنسان، إذ إنّه حائز على الفيوضات الوجدانيّة، ولديه إدراك عقليّ وفضائل وكمالات، وله قدرة على كشف أسرار الكون. فكلّ الصّنائع والابتكارات والإمكانيّات الّتي تحيط بحياتنا اليوميّة كانت في يوم من الأيّام سرًّا من أسرار الطّبيعة المستورة، بيد أنّ حقيقة الإنسان نفذت إليها وأخضعتها لمصلحته. وطبقًا لناموس الطّبيعة كان من المتعيّن عليها أن تبقى كامنة مكنونة، غير أنّ الإنسان بتفوّقه على هذه النّواميس اكتشف هذه الأسرار وأخرجها من حيّز الغيب إلى عالم المعرفة والشّهود. فما أبدع روح الإنسان! وإحدى أسرار الظّواهر الطّبيعيّة هي الكهرباء. فاكتشف الإنسان هذه القوّة غير المتناهية وجعلها أسيرة مصالحه. وما أكثر ما اكتُشِف وأُظهِر من أسرار الطّبيعة! فبينما كان كولومبس في إسبانيا توصّل إلى اكتشاف أمريكا. كما توصّل الإنسان بدقّة إلى حقيقة أنّ الشّمس ثابتة بينما تدور الأرض في فلك الشّمس. وهذا خارج عن قدرة الحيوان. فالإنسان يفهم أنّ السّراب خدعة، وهو ما ليس بمقدور الحيوان. فلا يمكن للحيوان أن يدرك إلاّ عن طريق انطباعاته الحسّيّة، ولا يمكنه أن يفهم الحقائق العقليّة. كما أنّ الحيوان لا تصوّر له عن قوّة الفكر، ذلك لأنّها من الأمور العقليّة البحتة الّتي لا تقتصر على الحواس. فالحيوان يعجز عن إدراك كرويّة الأرض. وبالاختصار فإنّ الظّواهر العقليّة البحتة هي من قدرات الإنسان. وكلّ مخلوق أدنى من رتبة الإنسان يكون حبيس الطّبيعة ولا يستطيع الانحراف قيد شعرة عن نواميسها. أمّا الإنسان فهو ينتزع سيف السّلطنة من يد الطّبيعة ويهوي به على أمّ رأسها. فمن مقتضيات الطّبيعة مثلاً أن يسكن الإنسان على سطح الغبراء، بيد أنّ قوّة الرّوح الإنسانيّ تتغلّب على هذا القيد، فيحلّق في السّماء بالطّائرات، وهذا منافٍ لقانون الطّبيعة ومتطلّباتها. كما يمخر عباب البحر بسرعة فائقة، ويغوص تحت سطحه بالغوّاصات، ويحبس الصّوت البشريّ في الفونوغراف، ويتخابر من جهة الشّرق إلى جهة الغرب في غمضة عين. وهذه جميعها أشياء نعرف أنّها مخالفة لقيود ناموس الطّبيعة. فالإنسان سيّد الطّبيعة بينما الجماد والنّبات والحيوان لا يمكنهم سوى الخضوع لها. ولا يتحقّق ذلك إلاّ بقوّة الرّوح، ذلك لأنّ الرّوح هي الحقيقة.

بيد أنّ الإنسان والحيوان شريكان في القوى والحواس البدنيّة. بل إنّ الحيوان في الواقع غالبًا ما يتفوّق على الإنسان في الإدراك الحسّيّ. فمثلاً نجد أنّ رؤية بعض الحيوانات أشدّ حدّة بدرجة كبيرة، كما أنّ سمع بعضها الآخر مرهف للغاية. تدبّروا في حواس الكلب: كيف تفوق حواس الإنسان بكثير. ولكن على الرّغم من أنّ الحيوان يشترك مع الإنسان في كلّ الغرائز والحواس الجسمانيّة، إلاّ أنّ الإنسان قد وُهِب قوّة روحيّة حرم منها الحيوان. وهذا برهان على أنّ الإنسان يملك ما هو أعلى بكثير من مواهب الحيوان – أي أنّ هناك ملكة وفضيلة يتميّز بها عالم الإنسان قد حرمت منها ممالك الوجود الأدنى. وهي روح الإنسان. فكلّ هذه الإنجازات البشريّة المدهشة تعود إلى فاعليّة الرّوح الإنسانيّ وقدرتها على النّفاذ إلى حقائق الأشياء. وإذا ما حرم الإنسان من تلك الرّوح لما تحقق أيّ من إنجازاتها، وهذا أمر واضح كالشّمس فى رابعة النّهار.

كلّ كائن في الوجود المادّيّ محدود ومحصور في صورة أو شكل من الأشكال. بمعنى أن كلّ كائن مادّيّ له هيئة معيّنة ولا يمكنه أن يكون له هيئتان في آن واحد. فمثلاً قد يكون أحد الأشياء كرويًّا أو مثلّثًا أو مربّعًا، ولكن يستحيل عليه أن يكون في آن واحد على هيئتين من هذه الأشكال معًا. فإذا ما كان مثلّثًا وأراد أن يكون مربّعًا عليه أوّلاً أن يتخلّى عن هيئة التّثليث. فمن المستحيل تمامًا أن يكون على الصّورتين في الوقت نفسه. فيكون من الواضح إذًا أنّ حقيقة الكائنات المادّيّة لا تقبل التّعدّد الشّكليّ في آن واحد. إلاّ أنّه فيما يتعلّق بحقيقة الإنسان الرّوحيّة يمكن تصوّر وجود جميع الهيئات في آن واحد، في حين أنّه يتعيّن على الحقائق المادّيّة التّخلّي عن الهيئة الأولى لكي تتحقّق الهيئة الأخرى، وهذا هو قانون التّغيير والتّحوّل، والتّغيير والتّحوّل هما نذيران لحتميّة الفناء. ولولا هذا التّغيير في الهيئة لصارت الكائنات المادّيّة خالدة، ولكن بما أنّ الوجود الظّاهريّ خاضع للتّحويل فيكون مآله إلى الفناء. أمّا حقيقة الإنسان فهي حائزة على كلّ الفضائل، ولا يشترط أن يتخلّى الإنسان عن هيئة من أجل أن يحوز هيئة أخرى مثلما تفعل الأجسام المادّيّة البحتة. لذلك لا يوجد في الحقيقة الإنسانيّة أيّ تغيير أو تحويل، فهي حقيقة خالدة أبديّة. فقد يكون جسد الإنسان في أمريكا بينما تعمل روحه في الشّرق الأقصى، منهمكة بالاكتشاف والتّرتيب والتّخطيط. وبينما قد يكون مشغولاً بأمور الحكم أو صياغة الأحكام أو تشييد بناية في روسيا، قد يكون جسمه باقٍ في أمريكا. فما هي تلك القوّة الّتي مع كونها مودعة في جسد موجود بأمريكا، تكون عاملة في آن واحد في الشّرق، منشغلة بالتّدبير، أو التّدمير، أو التّعمير؟ إنّها روح الإنسان بغير شكّ.

أنتم أيضًا عندما ترغبون في التّفكير في أمر من الأمور أو التّدبُّر فيه، فإنّكم تشاورون شيئًا ما بداخلكم. فقد تقولون هل أفعل هذا الشّيء أو لا أفعله؟ وهل من الأفضل أن أقوم بهذه الرّحلة أم أن أصرف النّظر عنها؟ فمع من إذًا تتشاورون؟ ومن ذا الّذي بداخلكم فيعطي الجواب عن ذلك السّؤال؟ هنالك بالتّأكيد قوّة متميّزة، وذات عاقلة. فلو لم تكن متميّزة عن ذاتكم لما تشاورتم معها. وهي أعظم من ملكة الفكر. إنّها روحكم الّتي تعلّمكم وتنصحكم وتقرّر بشأن أموركم. فمن ذا الّذي يسأل؟ ومن ذا الّذي يجيب؟ لا مِريـة أنّها الرّوح، الّتي لا يعتريها تغيير ولا تحويل، ذلك لأنّها ليست تركيبًا عنصريًّا، وكلّ ما هو غير مركّب من العناصر يكون أبديًّا. فالتّغيير والتّحويل من خواص كلّ ما هو مركّـب. أمّا بالنّسبة للرّوح فلا تغيير ولا تحويل. والدّليل على ذلك هو أنّ الجسد قد تضعف أعضاؤه. وقد تقطع أوصاله أو يعجز عضو من أعضائه. بل قد يصاب الجسد كلّه بالشّلل، ومع ذلك يبقى العقل والرّوح دائمًا على حالهما. فيستمرّ العقل في التّدبير، ويبقى الفكر كاملاً، بينما تكون اليد كليلة، والقدم عاجزة، والحبل الشّوكيّ مشلولاً، بل قد لا تكون هناك حركة عضليّة على الإطلاق، ولكنّ الرّوح تبقى على حالها. اقطعوا أوصال إنسان سليم، فلا تنقطع أوصال روحه. ابتروا ساقه، تبقى روحه كما هي. وقد يصاب بالعرج ولكنّ روحه لا تتأثّر. فالرّوح دائما أبدًا هي الرّوح، ولن تروا لها تغييرًا أو تحويلاً، ولأنّه لا تغيير ولا تحويل فهي إذًا أبديّة دائمة.

فكّروا في حال الإنسان أثناء النّوم، فمن الواضح أنّ كافّة أعضائه وأوصاله تكون في حالة سكون ومتعطّلة عن العمل. فلا عينه ترى، ولا أذنه تسمع، ولا حركة ليد أو قدم، ومع هذا يرى في عالم الأحلام ويسمع ويتكلّم ويسير، بل قد يطير بطائرة. فيثبت إذًا أنّ الجسم ولو يكون فاقدًا للحياة، فالرّوح حيّة ودائمة. بل إنّ المدارك قد تكون أكثر حدّة عندما يكون الجسد نائمًا، والتّحليق قد يكون أعلى والسّمع قد يكون أكثر حدّة؛ فكلّ الوظائف تعمل بينما الجسم في سكون. وفي هذا برهان على أن هناك روح لدى الإنسان، ولا يؤثّر في هذه الرّوح ما إذا كان الجسد نائمًا أو عاجزًا تمامًا أو ميّتًا. فالرّوح لا يطالها عجز بفعل أيّ حالة من تلك الأحوال، ولا تفقد وجودها، ولا تحرم من كمالاتها. والبراهين على ذلك عديدة ولا حصر لها.

هذه جميعها دلائل عقليّة لا يمكن لأيّ امرئ أن يدحضها. وبما أنّنا أثبتنا أنّ هناك روح، وأنّ تلك الرّوح دائمة وباقية، فعلينا أن نجهد لنعرف المزيد عنها. وأملي أن تصبحوا عالمين بقواها، وسارعين في تزكيتها، وتقديسها وتنزيهها، وأن تجعلوها نور العالم السّاطع على الشّرق والغرب.

(3) 25 يوليو/ تمّوز 1912

الخطبة المباركة بفندق فيكتوريا، بوسطن، ولاية ماساتشوسيتس

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

إنّني في غاية السّرور وأنا أحيّيكم هنا اليوم. فهذه هي المرّة الثّانية الّتي تهبّ فيها نفحات الله على بوسطن. وأتوقّع حدوث نتائج من هذه الزّيارة وآمل أنّ مجيئي لن يكون بغير ثمر. وما أتوقّعه من نتائج هو الآتي: أن تتحرّر روح الفرد من النّفس والهوى وتتخلّص من قيد الإشارات الشّيطانيّة وأن تتطهّر مرايا القلوب من الاغبرار لكي تنعكس فيها شمس الحقيقة.

فللإنسان نوعان من الأحاسيس، أوّلهما الانفعالات الطّبيعيّة الّتي هي كالغبار على المرآة، ثمّ الإحساسات الرّوحانيّة الّتي هي الخصائل الرّحمانيّة الملكوتيّة.

هناك قوّة تطهّر المرآة من الغبار وتحوّل انعكاسها إلى لمعان وإشراق شديدين حتّى تتزكّى القلوب بفعل الإحساسات الرّوحانيّة وتتقدّس بفضل الفيوضات الملكوتيّة. ولكن ما هو ذلك الغبار الّذي يطمس المرآة؟ إنّه التّعلّق بالدّنيا، والطّمع، والحسد، وحبّ التّرف والرّفاهية، والغرور وحبّ الذّات؛ فهذا هو الغبار الّذي يحول دون انعكاس أشعّة شمس الحقيقة في المرآة. كما أنّ الانفعالات الطّبيعيّة مذمومة، لأنّها كالصّدأ الّذي يحرم القلب من الفيوضات الرّبّانيّة. أمّا الإخلاص، والإنصاف، والتّواضع، والانقطاع، وإظهار المحبّة لأحبّاء الله فمن شأنها أن تطهّر المرآة وتجعلها ساطعة بالأشعّة الفائضة من شمس الحقيقة.

أملي أن تلتفتوا إلى هذه المسألة فتبحثوا عن عيوبكم ولا تفكّروا في عيوب الآخرين. اجتهدوا بكلّ قواكم لأن تتحرّروا من النّقائص. فالنّفوس الغافلة دائمًا ما تبحث عن عيوب الآخرين. وكيف يكون المنافق عالمًا بعيوب الآخرين بينما هو كفيف عن عيوب نفسه؟ وهذا هو مقصود الكلمات الواردة في لوح الوديان السّبعة. فهي دليل يهدي السّلوك الإنسانيّ. ومادام المرء لم يهتدِ إلى عيوبه فلن يبلغ الكمال أبدًا. ولا شيء أنفع للإنسان من معرفة نقائصه. ويتفضل الجمال المبارك بقوله: أعجب ممّن لا يرى عيوب نفسه.

خطبتان ألقاهما حضرة عبد البهاء في دبلن (1) 5 أغسطس/ آب 1912

الخطبة المباركة بنُزل دبلن، مدينة دبلن، ولاية نيو هامبشاير

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

لقد تمسّك أهل المسيحيّة بالتّفاسير الحرفيّة لما جاء في الإنجيل بأنّ المسيح قد أتى من السّماء. وكذلك اليهود في وقت ظهوره تشبّثوا أيضًا بالتّوقّعات الظّاهريّة العينيّة لتحقّق النّبوءات. فقالوا ‘إنّ المسيح سوف يظهر من السّماء. وهذا الرّجل جاء من النّاصرة، ونحن عالمون ببيته، وعالمون بأبويه وأهله. فما جاء عن نزوله من السّماء ليس إلاّ أقاويل لا سبيل إلى إثبات صحّتها.’

يقرّر صريح الإنجيل أنّ يسوع جاء من السّماء رغم أنّه مولود جسديًّا من أُمّ. ومعنى ذلك أنّ حقيقة المسيح الرّبّانيّة كانت من السّماء إلاّ أنّ جسده كان مولودًا من مريم. فيكون إذًا قد أتى طبقًا لنبوءات الكتاب المقدّس، وأتى أيضًا طبقًا لقانون الطّبيعة – فحقيقته سماويّة وجسده ناسوتيّ. وكما جاء المسيح في السّابق، يجب أن يعود أيضًا هذه المرّة بنفس الكيفيّة. ولكنّ البعض اعترضوا قائلين: ‘لا بدّ لنا من دليل حرفيّ وحسّيّ على صحّـة ذلك.’

إنّ حقيقة المسيح كانت دائمًا في السّماء وستبقى كذلك. هذا ما يقصده نصّ الإنجيل. لأنّه بينما كان يسوع المسيح يمشي على الأرض قال: ابن الإنسان في السّماء. فيكون التّمسّك بالتّفسير الحرفيّ والتّحقّق الظّاهريّ لنصوص الكتب المقدّسة تقليدًا للرّسوم والعقائد الموروثة؛ ذلك لأنّنا عندما ندرك حقيقة المسيح تتّضح هذه النّصوص والعبارات وتغدو متوافقة تمامًا مع بعضها البعض. وما لم نفهم الحقيقة لا يمكننا إدراك معاني الكتب المقدّسة، ذلك لأنّ معانيها رمزيّة وروحيّة – كقيام إلعازر من الأموات، على سبيل المثال، فهو قيام له تفسير روحانيّ. ولكن علينا أوّلاً أن نثبت حقيقة أنّ قدرة الله لا حدود لها ولا قيود، وأنّ تحقيق أيّ شيء ممكن بواسطتها.

ثانيًا، علينا أن نفهم تفسير كلمات المسيح فيما يتعلّق بالأموات. إذ جاء أحد التّلاميذ إليه مستأذنًا أن يذهب ليدفن أباه، وكان ردّ المسيح عليه دع الموتى يدفنون موتاهم. وبهذا يكون المسيح قد اعتبر بعضًا ممّن كانوا لا يزالون على قيد الحياة أمواتًا – أي أنّه قال دع الأحياء الّذين هم في عداد الأموات، أي الأموات بالرّوح، يدفنون أباك. لقد كانوا أمواتًا لأنّهم لم يؤمنوا بالمسيح. ورغم كونهم أحياء بالجسد فإنّهم كانوا أمواتًا بالرّوح. وهذا أيضًا هو مراد المسيح من كلامه: المولود من الجسد جسد هو والمولود من الرّوح هو روح. إذ كان يعني بذلك أنّ أولئك الّذين ولدوا من الجسد دون سواه هم أموات من حيث الرّوح، بينما أولئك الّذين حيوا من نفثات الرّوح القدس كانوا أحياء وباقين إلى الأبد. هذه هي تفسيرات المسيح نفسه فتأمّلوا فيها، وعندئذ تتّضح لكم معاني الكتب المقدّسة كالشّمس في رابعة النّهار.

للكتب المقدّسة مصطلحاتها الخاصّة الّتي يجب علينا معرفتها وفهمها. فللأطباء مصطلحاتهم الخاصّة؛ وكذلك للمهندسين المعماريّين، وللفلاسفة تعبيراتهم المقصورة عليهم؛ وللشّعراء مقولاتهم، وللعلماء رموزهم. ونحن نقرأ في نصوص الكتاب المقدّس أنّ صهيون ترقص. وواضح أنّ لهذا تفسير آخر يخالف ظاهر الكلام، فمعنى ذلك أنّ أهل صهيون سوف يبتهجون. ولقد تذرّع اليهود – عندما قالوا أنّ يسوع لم يكن مسيحًا بل كان مسيخًا – بحجّة عدم تحقّق إحدى علامات مجيء المسيح، وهي رقص جبل صهيون، الّذي لم يكن قد تحقّق بعد. أمّا في حقيقة الأمر، فإنّ جبل صهيون لم يرقص وحده فحسب عندما ظهر المسيح بل رقصت لذلك فلسطين بأسرها وابتهجت. وقد جاء أيضًا في الكتاب المقدّس وكلّ شجر الحقل تصفّق بالأيادي. ولهذا معنى رمزيّ. فهناك مصطلحات وتعبيرات مألوفة في كلّ لغة لا يمكن أن تؤخذ بحذافيرها. فمثلاً من المعتاد في بلاد الشّرق أن يقول أحدهم ‘عندما دخل خليلي الدّار غنّت وتمايلت أبوابه وجدرانه.’ وكذلك يقولون في إيران ‘أدخل في الرّأس’ قاصدين أدخل في الموضوع، وذلك بحسب مصطلحات تلك البلاد وأعرافها. ولكلّ هذه الأقوال معان أخرى باطنيّة.

ما سألت عمّا إذا كانت وسائل العلاج والشّفاء الّتي تؤمن بها وتطبّقها طائفة كريستيان ساينس مقبولة، فاعلم بأنّ للرّوح نفوذًا، وللدّعاء أثرًا روحانيًّا. وبناء على ذلك فإنّنا ندعو قائلين ‘ربّ اشف هذا العليل!’، عسى أن يجيب الله دعاءنا. فهل يهمّ من الّذي يدعو؟ فالله يجيب دعاء كلّ عبد من عباده إذا كان الدّعاء ملحًّا، فرحمته واسعة بغير حدود. فهو يجيب دعاء عباده أجمعين، بل يجيب دعاء هذا النّبات. أو كأن النّبات يدعو قائلاً ‘أي ربّ، أنزل عليّ مطرًا!’، وهنا يجيب الله الدّعاء فينمو النّبات. ذلك لأنّ الله يجيب كلّ سائل، كما يلبّي الدّعاء الصّادر عن لسان الحال أيضًا. أوَلـَم يدْعُ كلّ منا لله قبل ولادته في هذا العالم بالقول: ‘ربّ هب لي أمًّا، وقدّر لي ينبوعين من حليب منير، وصفّ الهواء لمشامّي، وهب لي راحة وسكينة، وهيئ الزّاد لغذائي وحياتي؟’ أوَلــَم يلهج لسان حالنا طلبًا لهذه البركات الضّروريّة قبل أن نأتي إلى الحياة؟ بل ألم يحدث عندما أتينا إلى هذا العالم أن وجدنا أنّ دعاءنا قد استُجيب؟ ألم نجد لنا أمًّا وأبًا وطعامًا ونورًا ومأوى وسائر الضّروريّات والعنايات، على الرّغم من أنّنا لم نطلبها قولاً؟ فمن الطّبيعيّ إذًا أن يعطينا الله إذا ما نحن سألناه، ذلك لأنّ رحمته واسعة.

لكنّنا قد نطلب أشياء لا تريدها لنا الحكمة الإلهيّة، فلا يُستجاب لدعائنا. فحكمة الله قد لا تقرّ بما نريد. إذ قد ندعو الله قائلين ‘رب اجعلني ثريًّا’ ولكن إذا ما أجيب هذا الدّعاء لكلّ داع بغير استثناء، تتوقّف كلّ أمور البشر. فلن يبقى هناك من ينظّف الشّوارع، ولن يبقى من يفلح الأرض، ولن يبقى من يبني، أو من يسيّر القطارات. فالثّابت إذًا أنّه لن يكون في صالحنا أن تستجاب كلّ دعواتنا لأنّ ذلك قد يُحدث تدخّلاً في شؤون العالم، فتُكبَّل الطّاقات ويُعاق التّقدّم. أمّا إذا كان ما نرجوه متمشّيًا مع الحكمة الإلهيّة، فلا شكّ أنّ الله مجيب له.

إليكم مثالاً، فقد يطلب مريض اشتدّت علّته من الطّبيب أن يعطيه طعامًا، ويكون في ذلك الطّعام خطر أكيد على حياة المريض وحالته. وقد يتوسّل المريض أن يقدّم له الطّبيب لحمًا مشويًّا. ولكنّ الطّبيب حنون وحكيم، ويعلم أنّ في ذلك خطرًا على مريضه هذا، فيرفض السّماح به. ويكون الطّبيب هنا رحيمًا بينما المريض جاهلاً. وبفضل شفقة الطّبيب يتعافى المريض، وتـُنقذ حياته. ومع ذلك قد يضجّ المريض بالشّكوى من أنّ الطّبيب قاسٍ وغير حاذق إذ لم يلبّ له طلبه.

فالله رحيم، ومن باب رحمته يجيب دعاء كافّة عباده عندما تكون تلبيتها موافقة لحكمته البالغة.

(2) 6 أغسطس/ آب 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه، دبلن، ولاية نيوهامبشاير

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

ننعم اليوم بطقس معتدل، وبما أنّ عددًا كبيرًا ممّن لا نعرفهم حاضرون الآن فسنقوم بالإجابة عن أسئلتهم.

سؤال: أليس كلّ المسيحيّين بهائيّين؟ وهل هناك أيّ فرق؟

الجواب: عندما يعمل المسيحيّون بمقتضى تعاليم السّيّد المسيح يصدق عليهم لقب بهائييّن لأنّ أسس المسيحيّة ودين حضرة بهاء الله واحدة. بل إنّ أسس كافّة أنبياء الله والكتب المقدّسة واحدة. والاختلاف بينها هو اختلاف في المصطلحات ليس إلاّ. فكلّ ربيع مطابق للرّبيع الّذي سبقه. والفرق الوحيد بين الرّبيعين هو فرق تقويميّ، فنقول ربيع عام 1911 وربيع عام 1912، وهلمّ جرّا. فالفرق إذًا بين المسيحيّ والبهائيّ هو كالآتي: كان هناك ربيع سابق وهنا الآن ربيع آخر. ولا يوجد بينهما أيّ فرق آخر ذلك لأنّ الأصول واحدة. وكلّ من يعمل تمامًا بمقتضى تعاليم المسيح هو بهائيّ. والمراد هو المعنى الجوهريّ لكلمة مسيحيّ وليس مجرّد اللّفظ والكلمة. فالمقصود هو الشّمس نفسها لا المشارق، لأنّه بينما الشّمس شمس واحدة، فإنّ مشارقها متعدّدة. ولا يجمل بنا أن نعبد المشارق بل أن نعبد الشّمس. بمعنى أنّ علينا أن نعبد حقيقة الدّين لا أن نتمسّك تمسّكًا أعمى بالمصطلح اللّفظيّ لكلمة مسيحيّة. وشمس الحقيقة الإلهيّة هي ما يتعيّن علينا أن نعبده ونتوجّه إليه. وعلينا أن ننشد أريج الورد من أيّ شجر يُزهر، شرقيًّا كان أم غربيًّا. كونوا طالبين للنّور من أيّ مصباح أضاء ولا تكونوا من محبّي المصباح. فتارة سطع النّور من مصباح في الشّرق، والآن هو يسطع من مصباح في الغرب. فإذا جاء النّور من الشّمال أو الجنوب أو إذا سطع من أيّ جهة، اقتفوا النّور. ودعوني أوضح هذه المسألة أكثر: يقال أنّ شخصًا منح ذات مرّة قطعة من النّقود لخمسة من المتسوّلين. فقرّر هؤلاء أن ينفقوها على الطّعام. قال أحدهم، إذ تصادف أنّه كان إنجليزيًّا ‘فلنشترِ جريبس’، وقال المتسوّل التّركيّ ‘أريد أوزوم’، والعربيّ ‘أريد عنبًا’، واليونانيّ ‘أريد ستافيلي’، وأخيرًا قال المتسوّل الإيرانيّ من بينهم ‘أريد أنجور’. وإذ كانوا لا يعرف الواحد منهم لغة الآخر اختلفوا وتعاركوا. فمرّ بهم غريب تصادف أنّه يعرف لغاتهم الخمسة. فقال لهم: أعطوني قطعة النّقود لأشتري لكم ما تريدون. وعندما جاءهم بالعنب رضوا جميعًا. لقد أرادوا الشّيء نفسه ولكنّهم اختلفوا في المصطلح ليس إلاّ. وبالاختصار، عندما تسطع الحقيقة وسط الأديان تتّحد جميعها وتتّفق.

سؤال: هل يجد عبد البهاء أنّ النّاس في أمريكا لا يعيشون طبقًا للمسيحيّة ولا يطبّقون تعاليمها؟

الجواب: ما عنيناه هو أنّ المسيحيّة يجب أن تنفّذ بكاملها وأن يحيا النّاس طبقًا لتعاليمها. والإنسان يحتاج للعين وللأذن والذّراع والرّأس والقدم وغيرها من مختلف الأعضاء. وعندما يحوزها جميعًا وتكون عاملة بانسجام يكون جسمه كاملاً ومتوازنًا. ولهذا قال المسيح: فكونوا أنتم كاملين كما أنّ أباكم الّذي في السّموات هو كامل، قاصدًا بذلك أنّ الكمال شرط المسيحيّة، أي كونوا على صورة الله ومثاله. وهذا أمر ليس هيّنًا، فهو يستلزم حيازة كلّ الفضائل السّماويّة، ويتطلّب أن نصير متلقّين لكلّ الكمالات الإلهيّة. عندئذ نصبح على صورة الله ومثاله. إذ جاء في الكتاب المقدّس لنعملنّ إنسانًا على صورتنا ومثالنا. ولكنّ بلوغ ذلك من الصّعب المستصعب.

عندما ظهر المسيح ببديع نفثات الرّوح القدس، قال بنو إسرائيل ‘لسنا بحاجة إليه، ويمكننا الاستغناء عنه ونتّبع موسى؛ فلدينا كتاب به تعاليم الله؛ فأيّ احتياج لنا إذًا بهذا الرّجل؟’ فردّ عليهم المسيح قائلاً إنّ الكتاب وحده لا يكفيكم. فمن الجائز أن يمسك الإنسان بكتاب في الطّب ويقول ‘ليس لي حاجة بالأطبّاء؛ سأعمل بمقتضى هذا الكتاب، فكلّ الأسقام مذكورة فيه، وكلّ الأعراض مشروحة، وتشخيص كلّ علّة قد تمّ تفصيله، وبه وصفة لكلّ مرض، فلماذا إذًا أحتاج إلى طبيب؟’ وفي قوله هذا جهل مبين. فالطّبيب لازم لكي يصف العلاج. وبفضل مهارته تطبّق أصول الكتاب بكلّ دقّة وفاعليّة إلى أن يبرأ المريض. ولقد كان السّيّد المسيح طبيبًا روحانيًّا، جاء للعالم بالشّفاء والعلاج الرّوحانيّ. وحضرة بهاء الله هو أيضًا طبيب ربّانيّ، أتى بوصفات لإزالة الأسقام من بدن الهيئة الاجتماعيّة، وعالج أحوال البشر بقوّة روحانيّة.

إنّ مجرّد العلم إذًا لا يكفي لإنجاز بشريّ كامل. ذلك لأنّ تعاليم الكتب المقدّسة يلزمها قوّة سماويّة وقدرة ربّانيّة لإجرائها. ولا تُبنى الدّار بمجرّد مشاهدة خطّة البناء. إذ يلزم لذلك توفّر المال، كما أنّ الإرادة ضروريّة لبنائها، ويلزم استئجار بنّاءٍ لتشييدها. فلا يكفي أن يقول المرء ‘إنّ خطة بناء هذه الدّار والهدف منه جيّدان، ولهذا سأقيم فيها الآن’. لأنّ مجرّد القول بهذا لا يوجِد جدرانًا تحمي، أو سقفًا يداري، فلا بدّ من إتمام بناء الدّار فعلاً قبل أن نستطيع السّكن فيها.

بالاختصار فإنّ تعاليم الكتب المقدّسة تحتاج إلى قدرة إلهيّة لإتمام استحكامها في قلوب البشر. ففي إيران قام حضرة بهاء الله بتربية وتعليم النّفوس، وأسّس رابطة انتماء بين أقوام مختلفة، وألّف بين مختلف العقائد الدّينيّة لدرجة ضحّى فيها عشرون ألفًا من المخلصين بأرواحهم في ساحة الفداء بكامل الاتّحاد في سبيل أمر الله. فلم يبق بين تلك النّفوس المباركة أيّ خلاف من أيّ نوع كان – هناك المسيحيّون واليهود والمسلمون والزرادشتيّون، جميعهم مندمجون معًا في اتّحاد ووفاق بفضل تأثير قوّته السّماويّة، ولم يكن ذلك مجرّد لفظٍ أو قول بأنّ ‘الاتّحاد حسن والمحبّة ممدوحة’.

لم يكتفِ حضرة بهاء الله بالمناداة بهذه الوحدة والمحبّة، وإنّما حقّقها. وبوصفه طبيبًا سماويًّا لم يَصِف الدّواء لأسقام الخلاف والعداوة هذه فحسب وإنّما حقّق الشّفاء نفسه. وقد نقرأ في كتاب للطّب أنّ نوعًا معيّنًا من المرض يلزمه هذا وذاك من العلاج. فبينما قد يكون ذلك صحيحًا تمامًا، إلاّ أنّ العلاج لا يجدي ما لم تكن هناك إرادة وقوّة منفّذة لإجرائه. وكلّ ضابط في جيش الملك بوسعه أن يُصدر أمرًا، ولكن عندما ينطق الملك بذلك الأمر فإنّه ينفـّذ ويُجرى. فقد يقول هذا أو ذاك ‘اذهبوا وافتحوا ذلك البلد’، ولكن عندما يقول الملك ‘انطلقوا!’ فإنّ الجيش يتقدّم. فيكون من الواضح إذًا أنّ تأييد الرّوح القدس والنّفوذ الغالب للقوّة الملكوتيّة يلزمان لتحقيق المراد الرّبّانيّ في أفئدة العباد وفي أحوالهم. ولقد حقّق يسوع المسيح وحيدًا فريدًا أعزلاً ما لم تقدر عليه ملوك الأرض مجتمعة. ولو اجتمعت ممالك العالم وشعوبه معًا لإجرائه لباء سعيهم بالفشل.

من الثّابت والمحقّق إذًا أنّ تحقيق غرض التّعاليم الإلهيّة ومخطّطها لا بدّ له من مجهود يبذل، حتّى يتحقّق في يوم الأيّام العظيم هذا إصلاح العالم، وتحيا النّفوس، وتُخلق روح حياة جديدة، وتتنوّر القلوب، وتُعتق البشريّة من أسر الطّبيعة، وتنجو من وهدة المادّة، وتنال الرّوحانيّة والإشراق في انجذابها إلى الملكوت الإلهيّ. فهذا أمر ضروريّ ولازم. ولن يكفي مجرّد قراءة الكتب والنّصوص المقدّسة.

لقد حدث في بغداد منذ سنوات طويلة، أن رأيت ضابطًا يجلس على الأرض فارشًا أمامه لوحة كبيرة من الورق كان يغرس فيها دبابيسَ ذات رؤوس تحمل أعلامًا حمراء وبيضاء. فكان يغرزها تارة في اللّوحة ثمّ ينزعها تارة أخرى وهو مستغرق في التّفكير ليغرسها في أماكن أخرى. فجعلت أراقبه باهتمام وفضول برهة طويلة، ثمّ سألته: ‘ماذا تفعل؟’ فردّ عليّ قائلاً: ‘أفكّر في فعل شيء قد نسبه التّاريخ إلى نابليون الأوّل إبّان حربه على النّمسا. فقد روي عنه أنّ سكرتيره وجده ذات يومٍ جالسًا على الأرض كما أفعل أنا الآن، وكان يغرس دبابيسَ في لوحة من الورق فرشت أمامه. فاستفسر منه سكرتيره عمّا كان يقصده بذلك، فأجابه نابليون “أنا الآن على أرض المعركة أخطّط لنصري القادم. فها هي اللّوحة تُظْهِر أمامي أنّ إيطاليا والنّمسا قد انهزمتا، وفرنسا قد انتصرت.” ثمّ حدث في الحملة العظيمة الّتي تلت ذلك أن تحقّق كلّ شيء تمامًا كما ذكره نابليون. وقام جيشه بترجمة خطّته إلى نجاح كامل. وأنا الآن أفعل نفس الشّيء مثل نابليون، فأنا أخطّط لحملة غزو عسكريّ عظيمة.’ فقلت له: ‘أين جيشك؟ لقد كان لنابليون بالفعل جيش مجهّز بالعتاد عندما خطّط لانتصاره هذا. أمّا أنت فلا تملك أيّ جيش، وقوّاتك على الورق ليس إلاّ، ولا أنت تملك أيّ قوّة لغزو البلاد. عليك أوّلاً بتجهيز جيشك ثمّ اجلس بعدها على الأرض بدبابيسك.’ والخلاصة، يلزمنا جيش لتحقيق النّصر في العالم الرّوحانيّ، أمّا الخطط المجرّدة فلا تكفي، فالأفكار والمبادئ تعجز في غياب القوّة الإلهيّة الّتي تضعها موضع التّنفيذ.

فضلاً عن هذا وذاك، هناك حاجة إلى الحافز الّذي تحدثه بهجة البشارات في أفئدة العباد. إذ يقتضي وجود انجذاب روحيّ معيّن كي تمضي الأفئدة قـُدُمًا في أمر الله طواعية. علينا أن نكون منجذبين إلى الله، وأن تنفذ فينا نفثات الرّوح القدس. وما لم يتحقّق ذلك يستحيل استحكام التّعاليم الإلهيّة في نفوسنا، ذلك لأنّ القوّة المثاليّة لا غنى عنها. وأرى أنّ لدى الشّعب الأمريكيّ سرعة بديهة وحدّة ذكاء وفهمًا متميّزًا. وأفكارهم متحرّرة وليست مكبـّلة بنيّر استبداد من أيّ حكم. فعليهم أن يتحرّوا الحقيقة وألاّ ينشغلوا بالرّسوم والتّقاليد الموروثة. تدبّروا ما حقّقه المسيح. فقد جعل النّفوس تصل إلى مقام ضحّت فيه بأرواحها بكلّ رغبة وفرح. فيا لها من قوّة! لقد انجذبت آلاف من النّفوس إلى الله بغاية الفرح والسّرور بفضل إحساساتها الرّوحيّة، بدرجة أخذت منهم زمام أنفسهم، وانعدمت إرادتهم في سبيل الله. فإذا ما كان قد قيل لهم فقط إنّ التّضحية في سبيل الله حسنة وممدوحة، لما تحقّق ذلك أبدًا، ولما نهضوا للعمل. ولكنّ المسيح جذبهم، وأخذ زمام الأمر عن كفّهم، فانبروا بكلّ نشوة للتّضحية بأرواحهم.

كانت قرّة العين امرأة إيرانيّة لا شهرة لها ولا أهمّيّة – أي لم يكن يسمع عنها أحد، مثلها مثل سائر نساء إيران. ولكنّها عندما شاهدت حضرة بهاء الله تغيّرت تغيّرًا كليًّا مشهودًا، وأعطاها ذلك بصيرة نفذت إلى عالم آخر، وخرج زمام الإرادة عن كفّها من جراء هذا الانجذاب الملكوتيّ، وغُلبت على أمرها بدرجة توقّفت عندها إحساساتها المادّيّة، ممّا جعل زوجها وأبناءها وأسرتها يواجهون حضرة بهاء الله بمنتهى العداوة. وبلغ انجذابها إلى العتبة الرّبّانيّة إلى حدّ نبذت عنده كلّ شيء وخلا الخوف من قلبها فتوجّهت إلى سهل بدشت بكلّ شجاعة وجرأة، معلنة رسالة النّور الّتي أتتها على رؤوس الأشهاد. فوقفت الحكومة الإيرانيّة في وجهها، ولم تألُ جهدًا لإسكاتها، وسجنوها في منزل الحاكم ولكنّها لم تتوقّف عن الكلام. وأخيرًا أخذوها وقتلوها. وحتّى الرّمق الأخير كانت تتكلّم بفصاحة جيّاشة، وبذلك اشتهرت بانجذابها الكلّيّ في سبيل الله. ولو لم تكن قد رأت حضرة بهاء الله لما كان لمثل ذلك الأثر أن يحدث. فقد كانت تقرأ تعاليم الكتب الإلهيّة وتسمعها طوال حياتها، ولكنّ الفعل والاشتعال كانا غائبيْن. وجميع النّساء في إيران يرتدين الحجاب من الرّأس إلى القدم أمام العامّة، حتّى إنّ أيديهنّ لا تظهر. أي أنّ حجابهنّ صارم بدرجة لا توصف. ولكنّ قرّة العين ألقت بالحجاب جانبًا وانبرت بغير خوف أو وجل في جسارة الأسود، فأحدث تصرّفها هذا انقلابًا هائلاً في كلّ أرجاء بلاد الفرس. إنّ فرض الحجاب في الشّرق له من الشّدّة والإجبار ما يستعصي إزاءه على أهل الغرب تصوّر مقدار الهياج والامتعاض الّذي يحدثه ظهور امرأة سافرة. أمّا قرّة العين فقد فارقها كلّ تفكير في أمرها وجافت كلّ خوف ووجل من فرط انجذابها لله.

سؤال: هل تخرج النّساء البهائيّات سافرات في الشّرق؟

الجواب: يستحيل عليهنّ حتّى الآن أن يفعلن ذلك بوجه عامّ، ولكنّ الأحوال تقريبًا ليست على نفس الدّرجة الّتي كانت عليها في الماضي من التّـزمـّت والصّرامة. فالبهائيّون يلتقون رجالاً ونساء. وهذه هي بداية تحرير المرأة من عبوديّتها الّتي دامت قرونًا. وتبقى قرّة العين بغير جدال محرّرة لجميع النّساء في إيران.

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في غرين إيكر (1) 16 أغسطس/ آب 1912

الخطبة المباركة بغرين إيكر، مدينة إليوت، ولاية ماين

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

إنّ أيّ مسألة تعرض على جمهور من المستمعين المفكّرين يلزمها أن تكون مدعمة بالبراهين العقليّة والحجج المنطقيّة. والبراهين على أربعة أنواع: أوّلها بالإدراك الحسّيّ، وثانيها بواسطة الملكة العقليّة، وثالثها عن طريق الحجّيّة النّقليّة أو النَّصّيّة، ورابعها بواسطة الإلهام. بمعنى أنّ هناك أربعة موازين أو معايير حُكْميّة يتوصّل عقل الإنسان بمقتضاها إلى استنتاجاته. ولنبحث أوّلاً في ميزان الإدراك الحسّيّ، وهو معيار لا يزال فلاسفة العالم المادّيّون يتمسّكون به. فهم يرون أنّ كلّ ما تدركه الحواس يكون حقيقة واقعة بالضّرورة ولا يتطرّق إليها الشّكّ. إذ يقولون مثلاً: ‘إنّ ما تراه الآن هو مصباح، وبما أنّ حاسّة البصر مدركة له، فلا سبيل إلى الشّكّ في وجوده. وهذه أيضًا شجرة، تؤكّد لك حاسّتك البصريّة حقيقتها الّتي لا مِرية فيها. وذلك رجُل؛ ترى أنّه رَجُل، فهو إذًا موجود.’ وبالاختصار فإنّ كلّ ما تؤكّده الحواس يُفتَرض به أن يكون مؤكّدًا لا ريب فيه، مثل حاصل ضرب خمسة في خمسة، وهو الّذي لا يمكن أن يكون ستة وعشرين أو أقلّ من خمسة وعشرين. وعلى ذلك يعتبر هؤلاء الفلاسفة المادّيّون أنّ الميزان الحسّيّ هو أوّل الموازين وأبرزها.

إلاّ أنّ هذا البرهان والدّليل في نظر الفلاسفة الرّبّانيّين لا يعوّل عليه، لا بل هم يرون الميزان الحسّيّ باطلاً لكونه ميزانًا ناقصًا. فالبصر مثلاً مع أنّه أحد أهمّ الحواس، فهو معرّض للوقوع في العديد من الأخطاء والمغالطات. فالعين تشاهد السّراب ماء، كما تحسب الصّور المنعكسة على المرآة حقيقة والحال إنّها ليست سوى انعكاسات. ومن يسير فوق النّهر بزورق تتراءى له الأشياء الواقعة على الشّاطئ متحرّكة، بينما هو المتحرّك وهي الثّابتة. وتبدو الأرض للعين ثابتة والشّمس والنّجوم تدور من حولها، والحال إنّ الأجرام السّماويّة ثابتة، وإنّ الأرض هي الّتي تدور حول محورها. كما تبدو الشّموس الهائلة والكواكب والمجرّات الّتي تلمع في السّماء صغيرة، بل قد يصعب على بصر الإنسان المجرّد مشاهدتها، بينما هي في واقع الأمر أعظم من الأرض حجمًا إلى حدّ بعيد. والشّرارة الدّوّارة تبدو للعين وكأنّها دائرة من نار. وهناك أمثلة لا حصر لها من هذا القبيل تثبت خطأ الحواس وعدم دقّتها. ولذلك اعتبر الفلاسفة الرّبّانيّون هذا المعيار ناقصًا لا يعوّل عليه.

أمّا الميزان الثّاني فهو ميزان العقل. والعقل في نظر قدامى الفلاسفة على وجه الخصوص هو أهمّ واسطة للحكم على الأشياء. فكان إعمال الفكر لدى حكماء اليونان وروما وبلاد الفرس ومصر هو البرهان الحقّ. واعتبروا أنّ كلّ ما يخضع لملكة التّفكير يمكن إثبات صدقه أو بطلانه، وأنّه يتعيّن قبوله أو رفضه على ذلك الأساس. ولكنّ أهل البصيرة يرون هذا المعيار ناقصًا ولا يعوّل عليه أيضًا، ذلك لأنّ نفس هؤلاء الفلاسفة الّذين تمسّكوا بالفكر أو العقل معيارًا للحكم البشريّ هم الّذين اختلفوا فيما بينهم اختلافًا كبيرًا في كلّ مبحث من المباحث. فمقولات فلاسفة الإغريق نجدها تتعارض مع استنباطات حكماء الفرس. بل إنّ هناك بين أوساط فلاسفة الإغريق أنفسهم خلافًا دائمًا بشأن أيّ مسألة من المسائل. كما سادت أيضًا خلافات فكريّة كبيرة بين حكماء اليونان والرّومان. فلو كان ميزان العقل أو الفكر معيارًا لا يخطئ في حكمه على الأمور، لتوصَّل أولئك الّذين جرّبوه وعملوا به إلى النّتيجة نفسها. وبما أنّهم مختلفون ومتناقضون في تلك النّتائج، يكون هذا دليلاً على أنّ منهاج ومعيار الحكم هذا ناقص وقاصر.

أمّا الميزان أو المعيار الثّالث فهو النّقليّ أو التّقليديّ – بمعنى أنّ كلّ مقولة أو استنتاج يلزم دعمها بالمنقولات المدوّنة في كتب دينيّة معيّنة. ولكنّنا عندما ننظر إلى الكتب المقدّسة نفسها، أي كتب الله، يقودنا ذلك إلى التّساؤل: ‘تُرى من يفهم هذه الكتب؟ وبأيّ سلطة تفسيريّة يمكن فهمها؟’ لا بدّ أنّها سلطة العقل البشريّ، وإذا ما كان العقل أو الفكر نفسه عاجزًا عن تفسير بعض المسائل، أو أنّ أصحاب الفكر تضاربوا في تفسيرهم للمنقولات، فكيف يمكن التّعويل على هذا الميزان، ميزان النّقل، كوسيلة استنتاج صحيحة؟

أمّا الميزان الرّابع فهو ميزان الإلهام. وقد ادّعى الكثير من الفلاسفة في القرون الماضية تلقّيهم الاستنارة أو الإلهام، وكانوا يستهلّون مقالاتهم بإعلانهم أنّ ‘الموضوع التّالي قد أوحي إليّ’ أو ‘هكذا أتكلّم بإلهام’. وإلى تلك الطّبقة انتمى فلاسفة الفرقة المسمّاة بالطّبقة المستنيرة. والإلهامات هي خواطر أو أحاسيس تنتاب القلب الإنسانيّ. وقد تكون الخواطر القلبيّة في بعض الأحيان شيطانيّة، فكيف لنا أن نفرّق بين هذه وتلك؟ ومن أين نعلم أنّ هذه المقولة هي إلهامات وخواطر قلبيّة من تأييد رحمانيّ؟ أم أنّها وساوس شيطانيّة؟

فيكون من الثّابت إذًا أنّ موازين أو معايير الإدراك الأربعة الّتي يتوصّل العقل البشريّ بمقتضاها إلى الحكم على الأشياء هي موازين ومعايير خاطئة وغير دقيقة. فجميعها معرّضة للخطأ والزّلل في استنتاجاتها. ولكنّ البيان الّذي يعرض على العقل مصحوبًا ببراهين يمكن للحواس أن تشهد بصدقه، ويكون في الوقت نفسه مقبولا لدى ملكة العقل، ومطابقًا لحجة النّقل، ومؤيّدًا بخواطر القلب، يكون بيانًا يمكن الاعتداد به والتّعويل عليه بأنّه كامل في صوابه، إذ يكون قد تمّ إثباته وتجربته بكلّ موازين الإدراك ووُجد تامًّا وكاملاً. ولكن إذا ما أعملنا ميزانًا واحدًا فقط فهنالك احتمالات للخطأ. وهذا دليل واضح لائح.

لنتناول الآن مسألة المحبّة، الّتي اقترحها بعضكم، ونخضعها إلى موازين الإدراك الأربعة ومن ثمّ نَخْلُص إلى استنتاجاتنا بشأنها.

فنحن نقول إنّ المحبّة هي سبب وجود كلّ الكائنات وأنّ غياب المحبّة علّة الانحلال أو العدم وأنّ المحبّة هي موهبة إلهيّة وجدانيّة، وهي رباط الاتّحاد لكلّ ظواهر الوجود. فلنبحث عن برهان لذلك من خلال الإدراك الحسّيّ. فعندما نتمعّن في الكون نشاهد أنّ كافّة الكائنات المركّبة أو ظواهر الوجود مكوّنة في المقام الأوّل من عناصر منفردة قد ارتبطت بقوّة جاذبة. وبفضل هذه القوّة الجاذبة يتجلّى التّماسك بين ذرّات تلك العناصر التّكوينيّة. والكائن النّاتج عن ذلك التّماسك هو ظاهرة من ظواهر الأنواع الدّانية. أي أنّ قوّة التّماسك الظّاهرة في عالم الجماد هي في حقيقة الأمر محبّة أو انجذاب متجلّيان في رتبة دانية طبقًا لمقتضيات عالم الجماد. فلنخطو خطوة أعلى من ذلك نحو عالم النّبات حيث نجد أنّ قوّة أكبر من التّجاذب قد صارت ظاهرة بين العناصر التّركيبيّة الّتي تتشكّل منها الظّواهر الطّبيعيّة. وبفضل تلك الدّرجة من التّجاذب ينتج تركيب خلويّ بين هذه العناصر الّتي تشكّل جسم النّبات. فتكون هناك بالتّالي محبّة في رتبة عالم النّبات. فإذا ما انتقلنا إلى عالم الحيوان نجد القوّة الجاذبة الّتي تربط ما بين العناصر المنفردة كما هو الحال في الجماد، ونجد أيضًا ذلك التّركيب الخلويّ الحادث في النّبات، مضافًا إليهما قدرات الشّعور أو الأحاسيس. فنجد لدى الحيوانات قابليّة لنوع ما من التّآلف والمصاحبة وأنّها تمارس الانتقاء الفطريّ. فهذا التّجاذب العنصريّ والتّركيب الخلويّ والانجذاب الانتقائيّ هي المحبّة المتجلّية في رتبة عالم الحيوان.

نصل أخيرًا إلى عالم الإنسان. وبما أنّه هو العالم الأسمى، يكون نور المحبّة أكثر تألّقًا. فنجد في الإنسان قوّة التّجاذب بين العناصر الّتي يتألّف منها جسده المادّيّ، مضافًا إليها الانجذاب الّذي يوجِد التّركيب الخلويّ أو القوّة النّامية، ونجد كذلك الانجذاب المختصّ بحواس عالم الحيوان. بيد أنّنا، علاوة على سائر القوى الدّانية هذه، نجد في كيان الإنسان انجذاب القلب، وهي الإحساسات والألفة الّتي تربط ما بين البشر، وتمكّنهم من العيش والمعاشرة في مودّة وتكافل. فيتّضح إذًا أنّ الحاكم والمالك الأعظم في عالم الإنسان هو المحبّة. فإذا ما غابت المحبّة، انعدمت قوّة التّجاذب، وتلاشت ألفة الأفئدة البشريّة، بل واختفت الكائنات الإنسانيّة من الوجود.

هذا هو برهان تدركه الحواس، ويقبله العقل، ويوافق آثار وتعاليم الكتب المقدّسة، وتؤكد صحّته دوافع قلوب البشر ذاتها. وهو برهان يمكننا الاعتماد عليه اعتمادًا مطلقًا والإقرار بتمامه. ولكنّ هذه جميعًا ليست سوى درجات المحبّة الموجودة في عالم الطّبيعة أو العالم المادّيّ. وهي الدّرجات الّتي طالما كان تجلّيها موافقًا لمقتضيات الأحوال والمعايير الفطريّة.

أمّا المحبّة الحقيقيّة فهي المحبّة الّتي توجد بين الله وعباده – المحبّة الّتي تؤلِّف ما بين النّفوس المقدّسة. وهذه هي محبّة عالم الرّوح، لا محبّة الأجسام المادّيّة والكائنات الحيّة. انظروا ولاحظوا مثلاً كيف تهبط العنايات الإلهيّة تباعًا على البشريّة، وكيف تفيض الإشراقات الرّحمانيّة دومًا على العالم الإنسانيّ. ولا شكّ أنّ هذه المواهب، وهذه العطايا، وهذه الإشراقات نابعة من المحبّة. وما لم تكن المحبّة هي الدّافع الرّبّانيّ، لكان من المستحيل على الفؤاد أن ينال أو يتلقّى أيّ قسط منها. وما لم تكن هناك محبّة فلا يمكن أن تهبط البركة الرّبّانيّة على أيّ شيء أو كائن. وما لم تكن هناك محبّة لا يتسنى لمن يتلقّى الإشراق الإلهيّ أن يعكس ذلك الإشراق ويشعّه على غيره من الكائنات. وإذا كنّا ممّن أوتوا نعمة الفهم، ندرك أنّ المواهب الإلهيّة تتجلّى على الدّوام، تمامًا مثل أشعّة الشّمس الّتي تنبعث بغير انقطاع من مركزها. وعالم الخلق مستضيء ومنير بفضل إشراق الشّمس وسنائها. وعلى نفس المنوال فإنّ عالم القلوب والأرواح منوّر ومنتعش أيضًا بفضل الأشعّة السّاطعة من شمس الحقيقة وبيمن مواهب المحبّة الرّبّانيّة. وبها تـُبعث الحياة دائمًا وأبدًا في عالم الوجود وعالم القلوب والأرواح. فلولا محبّة الله لكانت القلوب خامدة والأرواح هامدة، ولحـُرمت حقيقة الإنسان من العطايا الأبديّة.

انظروا كم تتجلّى محبّة الله. فمن بين آيات محبّته المشهودة في العالم مطالع أمره ومظاهره. ويا لها من محبّة غير متناهية تلك الّتي تعكسها المظاهر الإلهيّة على العباد! فمن أجل هداية البشر نبذوا حياتهم طواعية وقبلوا الموت على الصّليب كي تُحيا أفئدة البشر. ومن أجل إعانة النّفوس على بلوغ أقصى درجات الرّقيّ عانوا أشدّ المحن والبلايا إبّان سِنِيِّ حياتهم المحدودة. ولو لم يكن لدى يسوع المسيح محبّة لعالم الإنسان لما قبل الصّليب. فقد صلب من أجل محبّته للبشر. لاحظوا قدر تلك المحبّة غير المتناهية. ومن دون محبّته للإنسانيّة لما بذل يوحنّا المعمدان حياته. وكان هذا هو حال جميع الأنبياء والأنفس المقدّسة. وما لم يُظهر حضرة الباب محبّة تجاه البشر لما عرّض صدره لألف رصاصة. وما لم يكن حضرة بهاء الله مشتعلا بمحبّة الإنسانيّة لما قبل سجن أربعين سنة بكلّ رضاء.

لاحظوا كم من النّادر أن تضحّي النّفوس البشريّة بملذّاتها وراحتها من أجل الآخرين، وكم هو بعيد الاحتمال أن يتبرّع إنسان بعينه أو يتحمّل أن تُقطع أوصاله من أجل إنسان آخر. بيد أنّ كلّ المظاهر الإلهيّة قاسوا وعانوا وبذلوا حياتهم ودماءهم، وضحّوا بكيانهم وراحتهم وكلّ ما كان لديهم من أجل البشر. فتدبّروا إذًا مقدار محبّتهم. فلولا محبّتهم لبني الإنسان لكانت المحبّة الرّوحانيّة مجرّد اسم ولفظ، ولولا إشراقهم لما استنارت أفئدة العباد. فما أشدّ محبّتهم وتأثيرها! إنّ هذه لآية من آيات محبّة الله، وشعاع من أشعّة شمس الحقيقة.

فلنلهج بالثّناء لله أن أشرق علينا بنور موهبته بفضل محبّته الأبديّة. لقد بذلت مظاهره المقدّسة حياتها حبًّا لنا. فتدبّروا إذًا ما تعنيه محبّة الله. فلولا محبّة الله لخمدت الأرواح كلّها. وليس المقصود هنا هو الموت الجسمانيّ، وإنّما المعنيّ هو تلك الحالة الّتي تكلّم عنها المسيح قائلاً: دع الموتى يدفنون موتاهم ذلك لأنّ المولود من جسد جسد هو والمولود من الرّوح هو روح. فلولا محبّة الله لما استنارت القلوب. ولولا محبّة الله لما فُتح طريق الملكوت. ولولا محبّة الله لما أنزلت الكتب المقدّسة. ولولا محبّة الله لما بُعث أنبياء الله لهذا العالم. فأساس كلّ هذه المواهب والعطايا هو محبّة الله. فلا قوّة في عالم البشر إذًا أعظم من محبّة الله. فمحبّة الله هي الّتي جمعتنا معًا هذه اللّيلة. ومحبّة الله هي الّتي تؤلّف ما بين أهل الشّرق والغرب. ومحبّة الله هي الّتي أحيت العالم. فلنشكر الله الآن أن كُشفت لنا هذه الموهبة العظمى وهذا الإشراق الأسنى.

ولْنأتِ إلى جانب آخر من موضوعنا: فهل تنحصر تأثيرات المحبّة وآثارها في هذا العالم فقط، أم أنّها تمتدّ أبعد وأبعد إلى وجود آخر؟ أي هل تطال آثارها وجودَنا هنا فقط، أم ستمتدّ إلى الحياة الأبديّة؟ عندما نتأمّل عالم الإنسان، نشاهد على الفور أنّه أرقى من كلّ العوالم الأخرى. ففي معرض التّفريق والتّمييز في الحياة في عالم الوجود هناك أربع مراتب أو عوالم: الجماد والنّبات والحيوان والإنسان. فعالم الجماد يمتلك خاصيّة نسمّيها التّماسك. كما يمتلك عالم النّبات خواص التّماسك مضافًا إليها قوّة النّماء أو قدرة التّكاثر. أمّا عالم الحيوان فهو حائز على خواص الجماد والنّبات مضافًا إليها القوى الحسّيّة. بيد أنّ الحيوان على الرّغم من كونه موهوبًا بالغرائز الحسّيّة، إلاّ أنّه محروم تمامًا من الإدراك، ولا خبر له إطلاقًا بعالم الوجدان والرّوح. فليس لدى الحيوان قدرة تمكّنه من التّوصّل إلى أيّ اكتشافات فيما وراء عالم الحواس وهو محروم من الأصالة الفكريّة. فالحيوان الكائن في أوروبّا مثلاً، لا يقدر أن يكتشف القارّة الأمريكيّة فهو لا يدرك سوى الكائنات الّتي تقع في نطاق حواسّه وغرائزه، دون أن يستطيع استنباط أيّ من العقلانيّات. والحيوان لا يمكنه أن يدرك كرويّة الأرض أو دورانها حول محورها. ولا يمكنه أن يفقه أنّ نجوم السّماء الّتي تبدو صغيرة هي في حقيقة الأمر عوالم هائلة أكبر من كوكب الأرض بكثير. ولا يستطيع الحيوان أن يستنتج وجود القوّة المفكّرة. فهو محروم من كلّ هذه القوى. فهذه القوى مختصّة إذًا بالإنسان، ويتّضح أيضًا أنّ هناك حقيقة في عالم الإنسان يفتقر إليها الحيوان. تُرى ما هي تلك الحقيقة؟ إنّها روح الإنسان الّتي يمتاز بها البشر عن سائر عوالم الخليقة. وعلى الرّغم من أنّ الإنسان حائز على كلّ فضائل العوالم الأدنى إلاّ أنّه قد اختُصّ بالإضافة إلى ذلك بالقوّة الرّوحانيّة، وهي نعمة الوجدان الملكوتيّة.

كلّ الكائنات المادّيّة خاضعة للطّبيعة، وكلّ المخلوقات أسيرة للطّبيعة، وليس بمقدور أيّ منها أن ينحرف قيد شعرة عن نواميس الطّبيعة. فهذه الأرض، وهذه الجبال الشّامخة، والحيوانات بقواها وغرائزها العجيبة لا يمكنها أن تتخطّى الحواجز الطّبيعيّة. فالأشياء كلّها أسيرة الطّبيعة عدا الإنسان. فالإنسان سيّد الطّبيعة، والمحطّم لنواميس الطّبيعة. وبالرّغم من كونه حيوانًا قد أهّلته الطّبيعة أن يحيا على سطح الأرض إلاّ أنّه يطير في الهواء مثل الطّيور، ويمخر البحار بالسّفن ويغوص تحت أمواجها بالغوّاصات. فالإنسان موهوب بقوّة ينفذ بها إلى نواميس الطّبيعة مكتشفًا أسرارها، ويأتي بها من عالم الغيب إلى حيّز الشّهود. فالكهرباء كانت في الماضي قوّة مكنونة من قوى الطّبيعة. وكان من المتعيَّن عليها أن تظلّ بمقتضى قوانين الطّبيعة سرًّا مستورًا، غير أنّ روح الإنسان كشفت عنها، وأتت بها من مخبئها جاعلة منها ظاهرة مرئيّة. فيتجلّى ويتّضح أنّ الإنسان قادر على كسر نواميس الطّبيعة. ولكن كيف يتحقّق له ذلك؟ إنّه بفضل روح أودعها الله فيه عند خلقه. وهذا برهان على أنّ روح الإنسان تميّزه وتفضّله عن سائر العوالم الأدنى. وهذه الرّوح هي الّتي تعنيها الآية الواردة في العهد القديم عندما تقول: وقال الله لنعملنّ إنسانًا على صورتنا ومثالنا، فروح الإنسان دون سواها هي الّتي تنفذ إلى الحقائق الإلهيّة وتنعم بالنّعم الرّبّانيّة.

من الواضح أنّ هذه القوّة العظيمة تتميّز وتختلف عن الجسد المادّيّ أو الهيكل العنصريّ الّتي نراها متجلّية فيه. لاحظوا وتبيّنوا كيف يتغيّر جسم الإنسان، ومع ذلك تبقى روحه دائمًا على حالها. فمثلاً قد يحدث أن يضعف الجسد أحيانًا، أو يقوى ويسمن، وتارة ما يهزل أو يفقد عضوًا من أعضائه، ولكن لا تأثير لذلك على الرّوح. فقد تعمى العين أو تـُبتـَر القدم، ولكن لا يلحق بالرّوح أيّ شائبة. وهذا برهان على أنّ روح الإنسان غير جسده. ولا يترتّب على عجز الجسد أو أيّ من أعضائه حدوث عجز للرّوح. ويترتّب على ذلك استنتاج سليم بأنّه إذا ما كان على الجسد أن يتعرّض بكامله لتغيير جذريّ فإنّ الرّوح تنجو من ذلك التّغيير، وأنّه إذا ما تلف جسد الإنسان وتلاشى تبقى الرّوح سليمة معافاة. ذلك لأنّ روح الإنسان أبديّة. وقد ينام الجسد حينًا، فلا تبصر العين ولا تسمع الأذن، وتتوقّف الأعضاء عن عملها، وتُصاب كلّ وظيفة من وظائفه بسبات أشبه بالموت، ولكنّ الرّوح على الرّغم من ذلك ترى وتسمع وتحلـّق في الفضاء. إذ إنّها حائزة على تلك القوى الّتي تعمل من دون واسطة الجسد. فالرّوح في عالم الفكر ترى بغير عين، وتسمع بغير أذن، وتسافر دون حركة قدم. وتمارس كلّ وظيفة من دون القوى الجسديّة. ويتّضح من هذا أنّ الرّوح تكون حيّة في المنام على الرّغم من موات الجسد. ويكون الجسد في عالم الرّؤيا خاملاً تمامًا، بيد أنّ الرّوح تبقى عاملة بكلّ نشاط وتظلّ حائزة على كلّ الإحساسات. ومن هذا نخلص إلى أنّ حياة الرّوح ليست مشروطة ولا متوقّفة على حياة الجسد. وكلّ ما هنالك أنّه يمكننا القول بأنّ الجسد ما هو إلاّ ثوب ترتديه الرّوح. فإذا ما تلف ذلك الثّوب لا يتأثّر المرتدي بل يكون في الحقيقة محفوظًا من ذلك التّلف.

علاوة على ذلك، فإنّ كلّ الكائنات عرضة للتّغيير من حالة إلى حالة، والتّطوّر الّذي يحدثه هذا التّحوّل يولّد نوعًا من الفناء. فمثلاً عندما يتحوّل الإنسان من عالمه إلى عالم الجماد، نقول إنّه قد مات، ذلك لأنّه ترك هيئة الإنسان الجسديّة واتّخذ حال المواد الجماديّة. ويسمّى هذا التّحول أو التّغيّر موتًا. ويترتّب على ذلك إذًا ألاّ يكون بإمكان أيّ كائن مخلوق أن يحوز على هيئتين في آن واحد. فإذا كان شيء أو جسم ما على هيئة التّثليث يستحيل عليه أن يحوز في الوقت ذاته صورة التّربيع. وإذا ما كان ذلك الشّيء كرويًّا لا يكون بوسعه أن يكون في نفس اللّحظة خماسيًّا أو سداسيًّا. فيتعيّن عليه لكي يتّخذ أيّ شكل أو هيئة أن يتخلّى عن سابق هيئته وصورته. فالصّورة المثلّثة يجب تركها لنيل الصّورة المربّعة، وعلى الهيئة المربّعة أن تتغيّر لكي تصير مخمّسة. وهذه التّغيّرات والتّحوّلات من حالة إلى أخرى هي بمثابة الموت. ولكنّ حقيقة الإنسان – الرّوح الإنسانيّ – حائزة في آن واحد على كافّة الصّور والأشكال وهي ليست محرومة من أيّ منها ولا يلزمها التّحوّل والتّغيّر من شكل لآخر. فإذا ما كانت الرّوح الإنسانيّة محرومة من أيّ أو كلّ هذه الأشكال، لقلنا إذًا إنّها تحوّلت من شكل إلى آخر، ويكون ذلك بمثابة الموت. لكنّ روح الإنسان بما أنّها حائزة على جميع الأشكال في آن واحد، فلا تحوّل لها ولا موت.

كذلك، وطبقًا للفلسفة الطّبيعيّة، من الحقائق المؤكّدة أنّ العناصر المنفردة أو البسيطة لا يمكن تحطيمها. وبما أنّ الطّبيعة لا تفنى يصبح كلّ عنصر بسيط من عناصرها دائمًا وباقيًا. ولا يصيب الموت والانعدام سوى المركَّبات أو المكوَّنات. بمعنى أنّ المركّبات تكون قابلة للتّحلّل والتّلف، وعندما يحلّ بها التّلف والتّحلّل يحدث الموت. فمثلاً لقد جُمعت وارتبطت بضع عناصر منفردة لتكـوّن هذه الزّهرة، وعندما يتفكّك ذلك التّرابط يتحلّل هذا التّركيب وتموت الزّهرة كواحدة من كائنات عالم النّبات. ولكنّ العناصر المنفردة الّتي تكونت منها هذه الزّهرة لا تخضع لعمليّة الموت والفناء، ذلك لأنّ كافّة العناصر الفرديّة دائمة باقية لا يعتريها الفناء. ولكونها مفردة وغير مركّبة فهي لا تفنى، وهي لا تتحلّل أو تتفكّك من حيث الذّرّات المكوّنة لها وإنّما تبقى واحدة منفردة بسيطة، ومن ثمّ تكون أبديّة ودائمة.

فإذا كانت المادّة الأوّليّة حائزة على الخلود، فأنّى للرّوح أو الحقيقة الإنسانيّة الّتي هي منزّهة تمامًا عن التّركيب والتّنضيد أن تفنى؟ لا، بل إنّ تلك الرّوح الّتي هي الكلّ في الكلّ، مفردة وليست مركّبة. ففناؤها إذًا غير ممكن. وروح الإنسان منزّهة عن صفات أيّ عنصر مادّيّ وخصائصه. فهي أعظم في خصائصها من الذّهب أو الفضّة أو الحديد الّتي هي جميعها عناصر مفردة لا تفنى. وبما أنّ تلك العناصر متحرّرة من الفناء ومختصّة بالبقاء، فبالأحرى أن تكون الرّوح الإنسانيّ متحرّرة وخالدة. فكيف لها أن تفنى؟ وهذه المسألة في غاية الأهمّيّة. وهناك من البراهين ما لا حصر له دعمًا لذلك. وآمل أن نتابع ذلك في وقت آخر.

قبل أن ننصرف، أود أن أتلو دعاء من أجل الآنسة فارمر، لأنّها هي بحقّ مَنْ أسّس هذه الرّابطة الّتي أوجدت هذه الألفة وهذا اللّقاء.

يا ربّي الحنون، أَحِطْ عبادك بلحظات عنايتك وأشعل قلوب هذا الجمع بنار محبّتك وأَنِرْ هذه الوجوه بضياء السّماء واشرح هذه الصّدور بنور هدايتك العظمى.

إلهي، قد غشت سحب الأوهام أفق أفئدة الأنام. أي ربّ، بدّد هذا الغمام حتّى تسطع أنوار شمس الحقيقة. أي ربّ، أنر أبصارنا حتّى نشاهد أنوارك. أي ربّ صفّ آذاننا حتّى نسمع نداء الملأ الأعلى. أي ربّ أنطق ألسنتنا حتّى ننشغل بذكرك. أي ربّ قدّس وطهّر القلوب حتّى يسطع فيها إشراق محبّتك.

يا ربّي الحنون، أنعم على من أسَّستْ هذه الرّابطة بالشّفاء العاجل بقدرتك وأفضالك. أي ربّ، إنّ هذه الأمة خادمة لك ومتوجّهة إلى ملكوتك وأسّست هذه المجامع حتّى تتبيّن الحقيقة ويسطع نورها.

أي ربّ، كن لها معينًا، أي ربّ كن بها رحيمًا، أي ربّ هبها شفاء عاجلاً، إنّك أنت الرّحمن، إنّك أنت الرّحيم، وإنّك أنت الكريم.

 

(2) 17 أغسطس/ آب 1912

الخطبة المباركة بغرين إيكر، مدينة إليوت، ولاية ماين

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

إنّ جمال الطّبيعة في هذا المكان بديع جدًا. ونأمل أن تحيط به هالة من جمال روحانيّ، فعندئذ يصير جماله كاملاً. وهناك أيضًا جوّ من الرّوحانيّة يتجلّى هنا خاصّة عند الغروب.

في مدن كنيويورك يكون النّاس غرقى في بحر المادّيّات وتكون إحساساتهم متوجّهة إلى القوى النّاسوتيّة وإدراكاتهم جسمانيّة محضة. كما تتغلّب القوى الحيوانيّة على أفعالهم وتنحصر جميع أفكارهم في الأمور المادّيّة، وهم منكبّون على الملذّات الدّنيويّة ليل نهار دونما أيّ تطلّعات لما هو أبعد من عَرَضِ الحياة الزّائل. كما أنّ ما يجري تحصيله في المدارس ومعاهد العلم من معرفة مبنيّ على المشاهدات المادّيّة دون سواها، فلا يوجد في وسائلهم واستنباطاتهم أيّ تحقّق لاهوتيّ – إذ إنّ استنتاجاتهم تنتمي كلّها إلى عالم المادّة. وليس لديهم أيّ اهتمام بالوقوف على الأسرار الرّبّانيّة أو إدراك الأسرار الملكوتيّة، فما يتعلّمونه يعتمد بالكلّيّة على الدّلائل الظّاهريّة الملموسة، وفيما عدا تلك الدّلائل لا يوجد لديهم أيّ قابليّات وجدانيّة، وليست لديهم فكرة عن عالم المعاني الرّوحيّة، وهم بعيدون كلّ البعد عن الله، ويعدّون ذلك مؤشِّرًا على التّوجّه العقلانيّ والاحتكام الفلسفيّ، مكتفين ومفتخرين بذلك.

إنّ هذا الامتياز المفترض هو في الحقيقة موجود لدى الحيوانات في أعلى درجاته. فالحيوانات ليس لديها خبر عن الله؛ فهم ينكرون الألوهيّة، إذا جاز التّعبير، ولا يفقهون شيئًا عن الملكوت وأسراره السّماويّة. وبما أنّهم ينكرون الملكوت، فهم يجهلون الرّوحانيّات تمامًا، ولا علم لهم بعالم ما وراء الطّبيعة. فإذا كان عدم معرفة الله وملكوته من الكمال والفضيلة، تكون الحيوانات قد بلغت أسمى درجات الامتياز والكفاءة. ويكون الحمار في هذه الحالة أعظم العلماء والبقرة أكثر الطّبيعيّين تبحّرًا، إذ إنّهما وصلا إلى ما هما عليه من علم بغير دخول المدارس وصرف سنين من الاجتهاد العلميّ في الكلّيّات، واثقين ضمنًا بالدّليل الحسّيّ ومعتمدين بالكلّيّة على الغرائز الفطريّة. فالبقرة، مثلاً، عاشقة لما هو منظور ومؤمنة بما هو ملموس، راضية وسعيدة عندما يكون المرعى وفيرًا، هانئة البال، ونصيرة مثاليّة لمذهب الفلسفة الرّاقية. وهذا هو حال الفلاسفة المادّيّين الّذين يتفاخرون بوقوفهم في مصافِّ البقر، متخيّلين أنّهم بلغوا الأوج الأعلى. فتفكّروا في مدى جهلهم وعماهم.

لا بل إنّ فضيلة الإنسان تكمن في قدرته على البحث في مُثُل الملكوت العليا ونيل المعرفة الّتي حُرم الحيوان منها لمحدوديّته. ومقام الإنسان هو أنّ لديه القدرة على نيل تلك المثل السّامية الّتي يتخلّق بها، وبها يتميّز بغير حدود وبكامل وعيه عن عوالم الوجود الّتي هي أدنى من عالمه.

إنّ مقام الإنسان جدّ عظيم، فالله قد خلق الإنسان على صورته ومثاله، وأودع فيه قوّة عظيمة بمقدورها أن تكشف أسرار الوجود. وبمقتضاها يكون الإنسان قادرًا على الوصول إلى أفضل الاستنتاجات بدل أن يبقى مقيّدًا ومحدودًا بحيّز الانطباعات الحسّيّة المجرّدة. ومع أنّه يشترك مع الحيوانات في امتلاكه الخاصّيّة الحسّيّة، إلاّ أنّه واضح التّميّز عنها بقوّته الواعية القادرة على النّفاذ إلى الحقائق المجرّدة. فالإنسان ينال الحكمة الرّبّانيّة، ويستقصي أسرار الخليقة، ويشهد جُلوة القدرة، وينال الولادة الثّانية – بمعنى أنّه يخرج من عالم النّاسوت كما خرج من رحم أمّه. وينال الإنسان أيضًا الحياة الأبديّة، ويتقرّب إلى الله، ويمتلئ قلبه بمحبّة الله. هذا هو أساس العالم الإنسانيّ، وهذه هي صورة الله ومثاله، وهذه هي حقيقة الإنسان؛ وبغير ذلك يكون حيوانًا. والحقيقة إنّ الله خلق الحيوان على صورة الإنسان ومثاله، ذلك لأنّه بينما يكون الإنسان بشرًا في الظّاهر، إلاّ أنّه بالفطرة حائز على نزعات الحيوان وميوله.

عليكم أن تجتهدوا حتّى تدركوا الأسرار الإلهيّة، وتنالوا المعرفة المثاليّة، وتبلغوا مقام المشاهدة، بحيث تستفيضون من شمس الحقيقة مباشرة، وتتلقّون قدرًا مقدورًا من فضل الله القديم.

(3) 17 أغسطس/ آب 1912

الخطبة المباركة بغرين إيكر، مدينة إليوت، ولاية ماين

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

ولو أنّ الجسد كان واهنًا وغير قادر على تحمّل مشاقّ عبور المحيط الأطلسيّ، إلاّ أنّ المحبّة أعانتنا فأتينا إلى هنا. ويتعيّن على الرّوح أحيانًا أن تساعد الجسد. ولا يمكننا في الحقيقة القيام بعظائم الأمور بالقوّة الجسمانيّة وحدها، بل على الرّوح أن تساند قوانا الجسديّة. فمثلاً قد يكون بمقدور جسد الإنسان أن يتحمّل عناء سجن يدوم عشر أو خمس عشرة سنة في ظروف مناخيّة معتدلة ونظام جسمانيّ مريح. ولكن إبّان سجننا في عكّاء لم تتوفّر لنا وسائل الرّاحة بل أحاطت بنا المتاعب والاضطهادات من كلّ لون، ومع تلك الظّروف المحبطة استطعنا تحمّل هذه المحن أربعين سنة. وكان الجوّ رديئًا، وحُرمنا من ضروريّات الحياة وأسباب الرّاحة، ولكنّنا تحمّلنا هذا السّجن الضّيّق أربعين سنة. فماذا كان السّبب؟ لقد كانت الرّوح على الدّوام مساندة للجسد ومحيية له. عشنا تلك الفترة الطّويلة العصيبة بكامل المحبّة والعبوديّة السّماويّة. فعلى الرّوح أن تعين الجسد في بعض ما يحيط بنا من ظروف وأحوال، ذلك لأنّ الجسم لا يمكنه وحده أن يتحمّل وطأة مصاعب شديدة كهذه.

الجسم البشريّ في حقيقة الأمر في غاية الضّعف، ولا يوجد من الأجسام العنصريّة ما يضاهيه في رقّته. فبعوضة واحدة تزعجه، وأقلّ قدر من السّمّ يهلكه، وإذا ما توقّف التّنفّس برهة يموت. فهل هناك أداة أضعف وأوهن من ذلك؟ وإذا ما اقتلعت عشبة من أصلها فقد تحيا ساعة، بينما إن حرم جسد الإنسان من قواه يموت بعد دقيقة واحدة. ولكن بقدر ما يكون جسم الإنسان ضعيفًا فإنّ روحه قويّة. فبمقدور روح الإنسان أن تتحكّم في ظواهر الطّبيعة، وهي أيضًا قوّة خارقة للطّبيعة تتفوّق على كافّة المخلوقات. وهي حائزة على حياة أبديّة لا يفنيها ولا يفسدها شيء. وإذا ما قامت كافّة ممالك الوجود ضدّ روح الإنسان الخالدة ساعية للقضاء عليها لاستطاعت تلك الرّوح الخالدة، وحيدة فريدة، أن تقاوم هجومها بكلّ جسارة وثبات وعزيمة، ذلك لأنّه من المحال إفناؤها، ولأنّها مسلّـحة كذلك بخصائص فطريّة سامية. ولهذا السّبب نقول إنّ بمقدور روح الإنسان أن تنفذ إلى حقائق الأشياء وتكتشفها، وأن تحلّ غوامض الممكنات وتكشف أسرارها. فبينما تتواجد الرّوح على الأرض فإنّها تكتشف النّجوم وتوابعها، وتتجوّل تحت الأرض مكتشفة المعادن في غياهب أعماقها وتفكّ أسرار العصور الجيولوجيّة. وبمقدورها أن تعبر غياهب الفضاء الكوكبيّ وترصد تحرّكات شموس تبعد عنها بمسافات لا يمكن تخيّلها. فما أروعها روح الإنسان تلك! إذ بوسعها أن تبلغ ملكوت الله وأن تنفذ إلى أسرار الملكوت الرّبّانيّ وتنال حياة أبديّة. وهي تستنير من أنوار الله وتعكسها على الكون كلّه. فما أبدع روح الإنسان وما أقواها، مع أنّ جسده ضعيف! وإذا ما تملّـكته الأحاسيس الرّوحيّة فليس لمخلوق عندئذٍ أن يضاهيه بطولة وجسارة؛ أمّا إذا ما سيطرت عليه القوى الجسمانيّة، فلا شيء يفوقه جبنًا وخوفًا، لأنّ الجسد ضعيف وعاجز. ولذلك كان القصد الإلهيّ هو أن تتفوّق الأحاسيس الرّوحيّة للإنسان وتسيطر على قواه الجسمانيّة ويكون بتلك الكيفيّة مؤهّلاً ليسود عالم البشر بنبله، ويمتاز بشجاعته وحريّته، موهوبًا بفضائل الحياة الأبديّة.

(4) 17 أغسطس/ آب 1912

 

الخطبة المباركة بغرين إيكر، مدينة إليوت، ولاية ماين

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

هل أنتم جميعًا بخير وسعادة؟ إنّ هذه البقعة مبهجة، والطّبيعة خلابة، وتحيط هالة من الرّوحانيّة بكلّ شيء. ولسوف تصبح غرين إيكر بإذن الله مركزًا عظيمًا في المستقبل، وسببًا لوحدة عالم الإنسان، وسببًا لتوحيد القلوب وترابط الشّرق والغرب. هذا هو أملي.

أودّ في هذه اللّيلة أن أتحدّث عن وحدة العالم الإنسانيّ. فهي واحدة من المسائل الهامّة في هذه الآونة إذ إنّه إذا ما تحقّقت وحدة العالم الإنسانيّ تستأصل كافّة الاختلافات الّتي تباعد ما بين بني البشر ويتوقّف النّزاع والقتال ويجد عالم الإنسانيّة راحة ويروَّج للصّلح العموميّ ويرتبط الشّرق والغرب برباط متين ويأوي النّاس كافّة تحت فسطاط واحد وتصير الأوطان وطنًا واحدًا؛ فتتّحد الأعراق والأديان ويعيش أهل العالم معًا في وفاق ووئام ويضمنون خيرهم وصلاحهم.

منذ فجر التّاريخ البشريّ وإلى وقتنا الحاضر تنابذت مختلف أديان العالم وتبادلت تكفير بعضها البعض. وعدّ كلّ دين أنّ ماعداه محروم من وجه الله، ولا نصيب له من رحمته، وأنّه محطّ غضب الله وقهره. ولهذا فقد تجنّب كلّ منها الآخر بكلّ قسوة، متبادلين العداوة والضّغينة. انظروا إلى سجلّ الحروب الدّينيّة، والمعارك بين الأمم، وسفك الدّماء والدّمار باسم الدّين. فقد دامت إحدى أكبر الحروب الدّينيّة، وهي الحروب الصّليبيّة، زهاء مائتي سنة. وفي تلك الحملات العاتية المتوالية كان الصّليبيّون من أهل الغرب يغزون عالم الشّرق، عازمين على استعادة المدينة المقدّسة من أيدي المسلمين. وصالت الجيوش تلو الجيوش الّتي حشدتها أوروبّا بكتائبها المتعصّبة في المشرق. وترأّس ملوك الأمم الأوروبيّة بأنفسهم هذه الحملات، مهلكة أهل الشّرق ومريقة لدمائهم. وبات كلّ من الشّرق والغرب، إبّان فترة المائتي سنة هذه، في حالة من العنف والاضطراب. فتارة كان النّجاح حليف الصّليبيّين، يقتلون ويسلبون ويأسرون المسلمين؛ وتارة أخرى كان النّصر من نصيب المسلمين، يريقون بدورهم الدّماء ويوقعون الموت والدّمار في صفوف الغزاة. وعلى هذا المنوال استمرّوا قرنين من الزّمان، متحاربين تارة بكلّ شراسة ومستكينين تارة أخرى من الوهن والضّعف، إلى أن انسحب المتديّنون الأوروبيّون من الشّرق، مخلّفين وراءهم رماد الخراب وقد وجدوا أممهم نفسها في حالة من الفَوَران والثَّوَران. فقتل مئات الآلاف من البشر وتبدّدت ثروات لا حصر لها في تلك الحرب الدّينيّة العقيمة. فكم من آباء بكوا فَقْدَ أبنائهم! وكم من أمّهات وزوجات تفجّعنَ على موت أحبائهنّ! بيد أنّ ذلك لم يكن سوى حرب واحدة من الحروب الّتي قيل عنها إنها حروب مقدّسة. فلاحظوا وتدبّروا.

كانت الحروب الدّينيّة عديدة! وسجّل تاريخ نزاع الدّعوة البروتستانتيّة وخلاف هذه الطّائفة من المسيحيّين مع المذهب الكاثوليكيّ سقوط تسعمائة ألف شهيد لها. فراجعوا التّاريخ وتأكدوا من ذلك. كم منهم عانوا السّجن! وكم كانت معاملة السّجناء غير رحيمة! وكلّ ذلك باسم الدّين. فلاحظوا وتصوّروا كم كانت عاقبة الحروب الأخرى بين أصحاب العقائد الدّينيّة ومذاهبها.

فمنذ بداية التّاريخ البشريّ إلى وقتنا هذا لم ينعم العالم الإنسانيّ بيوم واحد من السّكينة والرّاحة التّامّة من النّزاع والصّراع. ومعظم الحروب نجمت عن التّعصّب الدّينيّ، والتّزمّت والكراهية المذهبيّة. ولقد لعن أنصار الأديان بعضهم بعضًا وعدّ كلّ منهم الآخر محرومًا من رحمة الله وقابعًا في غياهب الظّلمات، وسليلاً للشّيطان. فعلى سبيل المثال، اعتبر المسيحيّون والمسلمون اليهود من الشّياطين وأعداء الله. ولذا لعنوهم واضطهدوهم. فقُتلت أعداد كبيرة من اليهود، وحُرقت ديارهم ونهبت، وسيق أطفالهم أسرى. كما أنّ اليهود بدورهم اعتبروا المسيحيّين كفّارًا والمسلمين أعداء لشريعة موسى وهادمين لها. ولذا فإنّهم يدعون إلى الثّأر والانتقام منهم ويلعنونهم إلى يومنا هذا.

انظروا كم من الأضرار والمحن والمصائب حلّت بالبشريّة منذ بداية التّاريخ. فما من مدينة أو بلد أو أمّة أو قوم إلاّ وقد تعرّضوا للهلاك والخراب من جرّاء الحرب. وكلّ دين من الأديان الإلهيّة ينسب نفسه إلى شجرة مباركة طيّبة هي شجرة الرّحمن، وينسب كافّة الدّيانات الأخرى إلى شجرة ملعونة هي شجرة الشّيطان، ولهذا فإنّهم ينهالون باللّعن والسّبّ على بعضهم البعض. وكلّ ذلك جليّ وواضح في سجلاّت التّاريخ وظلّ سائدًا إلى وقت ظهور حضرة بهاء الله.

عندما أشرق نور حضرة بهاء الله من بلاد الشّرق، أعلن بشارة وحدة العالم الإنسانيّ وخاطب البشر قاطبة بقوله: أنتم أثمار شجرة واحدة. فليس هناك شجرتان إحداهما شجرة الرّحمن والأخرى شجرة الشّيطان. كما تفضّل أيضًا بقوله: كلّكم أثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد. فهذا كان نداؤه، وهذا كان وعده بوحدة العالم الإنسانيّ. وحرّم اللّعن والسّباب تحريمًا قاطعًا مبيّنًا أنه ليس لأحد أن يسبّ أحدًا، ولا يليق بأحد أن ينسب الظّلمة لغيره، ولا يجمل بإنسان أن يعتبر إنسانًا آخرَ طالحًا، وإنّما كلّ البشر عبيد لإله واحد، وأنّ الله أبٌ للكلّ، وليس هناك استثناء واحد من هذه القاعدة. وليس هناك قوم شيطان، فالكلّ منسوب للرّحمن. وليست هناك ظلمة بل نور يحلّ بالجميع. والكلّ عباد لله، وعلى الإنسان أن يحبّ البشريّة من كلّ قلبه. بل عليه أن يعتبر البشريّة قد انغمست في فيض الرّحمة الرّبّانيّة.

لم يضع حضرة بهاء الله أيّ استثناء لهذه القاعدة. وقال إنّه قد يكون من بني البشر من هو جاهل يلزم تعليمه، ومريض يتوجّب علاجه، وقاصر يتعيّن إعانته على بلوغ الرّشد. وعدا ذلك فالبشريّة مغمورة بفيض الرّحمة الرّبّانيّة. والله هو أب للجميع، وهو الّذي يربّي ويرزق ويحبّ الكلّ، ذلك لأنّهم عباده وخلقه. ومن المؤكّد أنّ الخالق يحبّ مخلوقاته. فمن المستحيل أن ترى فنّانًا لا يحبّ ما تصنعه يداه. وهل صادفتم إنسانًا لا يرضى عن أفعاله الخاصّة؟ فهو يحبّها حتّى لو كانت أعمالاً رديئة. فما أغفل وأجهل القول بأنّ الله الّذي خلق الإنسان وربّاه وأطعمه وأحاطه بكلّ الآلاء والنّعم، وجعل الشّمس وسائر الموجودات لأجله، وأغدق عليه من عطفه وحنوّه، وبعد ذلك لا يحبّه. فما هذا إلاّ جهل مبين، فبغضّ النّظر عمّا يدين به الإنسان، حتّى لو كان ملحدًا أو مادّيًّا، فإنّ الله مع ذلك يرزقه وينعم عليه بعطفه ويشرق عليه بنوره. فكيف بنا إذًا أن نرى في الله منتقمًا وكارهًا؟ بل كيف يجمل بنا مجرّد التّفكير في ذلك، بينما نحن في حقيقة الأمر شهودٌ على حنوّ الله ورحمته بكلّ نفس؟ فنحن نرى مظاهر محبّة الله أينما توجّهنا. فما دام الله محبًّا، فماذا نحن فاعلون؟ ما علينا إلاّ أن نقتدي به. فكما يحبّ الله الجميع ويعطف على الجميع علينا حقًّا أن نحبّ كلّ نفس ونعطف عليها. علينا ألاّ نعتبر أحدًا طالحًا، أو مستحقًّا للبغض، أو نعدّ أحدًا عدوًّا. علينا أن نحبّ الكلّ، بل أن نعتبر كلّ واحد قريبًا لنا، ذلك لأنّ الجميع عباد لله الواحد، والكلّ في ظلّ هداية مربٍّ واحد. علينا أن نجهد ليلاً ونهارًا حتّى تزداد المحبّة والألفة، ويتقوّى رباط الوحدة هذا، ويسود السّرور والحبور أكثر وأكثر، لكي يستظلّ كافّة البشر باتّحاد وتضامن في ظلّ الله، ويتوجّه العباد إلى الله طلبًا للمَدَد، قاصدين منه الحياة الأبديّة، وبذلك ينالون التّأييد في ملكوت الله، ويحيون دائمًا أبدًا بيمن فضله وموهبته.

لقد تفضّل حضرة بهاء الله بكلّ جلاء في ألواحه إنّه إذا كان لكم عدوّ فلا تعدّوه عدوّا. لا تكتفوا بتحمّله والصّبر عليه، بل كنّوا له المحبّة. ينبغي أن تكون معاملتكم له كمعاملة الحبيب للمحبوب. لا تقولوا أبدًا إنّه عدوكم. لا تعدّوا أحدًا عدوًّا لكم؛ حتّى لو كان قاتلكم لا تنظروا إليه نظرة عدوّ. انظروا إليه بعين الصّداقة. حذار أن تعتبروه عدوّا ثمّ تكتفون بتحمّله والصّبر عليه، لأنّ ذلك لا يكون سوى خداعٍ ونفاقٍ. فإن اعتبرتم إنسانًا عدوًّا لكم وأحببتموه كان ذلك نفاقًا لا يليق بأيّ نفس من النّفوس. بل يجب أن تعتبروه صديقًا، وأن تحسنوا معاملته، فهذا هو الصّواب.

لنعد إلى موضوعنا. عندما نتأمّل في كائنات هذا الكون ومخلوقاته ندرك أنّ المحور الّذي تدور حوله الحياة هو المحبّة، بينما المحور الّذي يدور حوله الموت والهلاك هو العداوة والبغضاء. ولننظر في عالم الجماد، حيث نرى أنّه ما لم يكن هناك تجاذب بين الذّرّات يستحيل وجود المواد المركّبة. فكلّ كائن حادث يتركّب من عناصر وجزيئات خلويّة. وهذا صحيح ومحقّق علميًّا. فإذا لم يوجد التّجاذب بين العناصر والجزيئات الخلويّة لما كان تركيب ذلك
الحادث ممكنًا على الإطلاق. فالحجر مثلاً هو حادث وجد من تركيب عناصر جمعتها معًا رابطةٌ جاذبة، ومن خلال تماسك المكوّنات هذا تكوّن ذلك الشّيء الصّخريّ. وهذا الصّخر هو أدنى درجات الكائنات، ومع ذلك تتجلّى بداخله قوّة انجذاب لا يتسنّى للحجر من دونها أيّ وجود. وهذه القوّة الجاذبة في عالم الجماد هي المحبّة، وهي التّعبير الوحيد عن المحبّة الّذي يمكن للحجر أن يبديه.

الآن انظروا إلى ما يعلو ذلك مباشرة من مراحل الحياة، وهو عالم النّبات. فإنّنا نرى هنا أنّ النّبات نتاج للتّماسك بين مختلف العناصر، مثل الجماد تمامًا في مملكته، ولكن لدى النّبات فضلاً عن ذلك قوّة امتصاص الغذاء من التّربة، وهذه درجة أعلى من التّجاذب تميّز النّبات عن الجماد. وهذا تعبير عن المحبّة في عالم النّبات، وهو أعلى قدرة على التّعبير يحوزها النّبات. وبيمن قوّة التّجاذب هذه، أو القوّة النّامية، ينمو النّبات يومًا فيومًا. وبناء على ذلك تكون المحبّة في عالم النّبات أيضًا سببًا للحياة. وإذا ما حلَّ التّنافر بين العناصر بدلاً من التّجاذب يكون الحاصل هو الانحلال والهلاك والعدم. ذلك لأنّ النّبات يوجد بسبب وجود التّماسك بين العناصر وظهور الانجذاب الخلويّ. فإذا ما تبدّد هذا الانجذاب وتفكّكت المكوّنات، ينتهي وجود النّبات.

ثمّ نأتي إلى عالم الحيوان، وهو الّذي يعلو عالم النّبات في الرّتبة، وتتجلّى فيه قوّة المحبّة بقدر أكبر. فنور المحبّة أشدّ إشراقًا في عالم الحيوان، ذلك لأنّ قوّة الانجذاب الّتي تتماسك بها العناصر وتلتئم بها ذرّات الخلايا تتجلّى على هيئة مشاعر وإحساسات معيّنة تؤدّي إلى التّآلف والمعاشرة الغريزيّة. فالحيوان مشبع بالعاطفة والألفة المتجليتيْن بين المنتمين إلى نفس السّلالة.

وأخيرًا نصل إلى عالم الإنسان، وهنا نجد أنّ كافّة درجات التّعبير عن المحبّة لدى الجماد والنّبات والحيوان متوفّرة فيه مضافًا إليها ما هو لائح من الانجذابات الوجدانيّة. يعني أنّ الإنسان حائز على درجة انجذاب واعية وروحانيّة. وهنا تقدّم لا حدّ له. ذلك لأنّ الأحاسيس الرّوحانيّة في العالم الإنسانيّ تظهر للعيان، فتُبدي المحبّة أسمى درجاتها، وهذا هو سبب الحياة الإنسانيّة.

فالدّليل واضح على أنّه في كافّة الرّتب والممالك يكون الاتّحاد والاتّفاق والمحبّة والألفة علّة للحياة، بينما يكون الشّقاق والعداوة والتّباعد دائمًا أبدًا مُفضين إلى الموت والهلاك. فعلينا إذًا أن نجهد جسدًا وروحًا لكي يزداد الاتّحاد والاتّفاق يومًا فيومًا بين بني البشر، وتزداد المحبّة والألفة بهاءً وإشراقًا وجلوة. ولعلّكم تشاهدون في عالم الحيوان كيف تعيش الحيوانات المستأنسة معًا بغاية الألفة. انظروا كيف تجتمع أغنام القطيع الواحد بكلّ صحبة ووداد. شاهدوا أيضًا الحمام وسائر الطّيور الدّاجنة، فلا تحزّب بينها ولا تباعد من جرّاء مفاهيم وطنيّة، بل يحيون معًا بكلّ محبّة واتّحاد، طائرين، لاقطين الحَبَّ، متعاشرين. أمّا الوحوش – أي الحيوانات المفترسة كالذّئب والدّب والنّمر والضّبع – فهي لا تتآلف ولا تتعاشر بأيّ حال من الأحوال وإنّما تتقاتل. وهي تتعارك عند كلّ لقاء. فلا يُرى ثلاثة ذئاب أبدًا وهم يتعاشرون في سعادة، وإذا ما رأيتموهم معًا يكون ذلك بنيّة الافتراس. فهم كالأنانيّين الأفظاظ من البشر في تعاديهم وتنابذهم وتقاتلهم. والأفضل أن يتشبّه الإنسان بالحيوانات الأليفة بدلاً من الحيوانات المفترسة، لأنّ المحبّة مقبولة لدى الله، بينما العداوة والبغضاء ممقوتة. فلماذا نعمل بما لا يرضي الله؟ ولماذا نكون كالحيوانات المفترسة دائبين على سفك الدّماء والنّهب والإهلاك؟ ولأنّنا من سلالة أو أسرة إنسانيّة واحدة، فلماذا نعدّ الآخرين أشرارًا وأدنياء يستحقّون الموت والنّهب والغزو – أي لماذا نعتبرهم من أصحاب الظّلمات المستحقّين لكراهية الله وبغضه؟ ولماذا يبدي الإنسان مثل ذلك السّلوك وتلك التّصرّفات تجاه بني جلدته؟ فنحن نرى الله رؤوفًا بالجميع ومثلما يحبّنا يحبّ الآخرين، وكما يرزقنا يرزق الباقين. فهو يرعى الكلّ ويربّيهم بنفس القدر من الاهتمام والعناية.

إنّ الله عظيم، والله رؤوف، وهو لا ينظر إلى عيوب البشر، ولا يلتفت إلى ضعف النّاس. والإنسان مخلوق برحمته، وإلى هذه الرّحمة يدعو الله الجميع. فلماذا إذًا نزدري أو نكره مخلوقات الله لأنّ هذا يهوديّ أو ذلك بوذيّ أو زرادشتيّ وما إلى ذلك؟ إن هذا إلاّ جهل وغفلة، ذلك لأنّ وحدة البشر باعتبارهم عبادًا لله هي حقيقة مؤكّدة واقعة.

لقد أعلن حضرة بهاء الله بشارة وحدة العالم الإنسانيّ. ولذلك وجب علينا أن نُظهر مطلق المحبّة لبعضنا البعض. علينا أن نكون أودّاء لكافّة أهل العالم، وألاّ نعتبر أحدًا من أهل الشّيطان، بل نعرف ونعترف أنّ الكلّ عباد لله الأحد. وغاية ما هنالك هو أنّ البعض لا دراية لهم يجب إرشادهم وتربيتهم وتعليمهم محبّة إخوانهم في الخليقة وتشجيعهم على نيل الفضائل. والبعض جاهلون يجب تنويرهم. والبعض كالأطفال، غير ناضجين، يجب الأخذ بيدهم نحو البلوغ. والبعض مرضى قد اعتلّت حالتهم المعنويّة يجب علاجهم حتّى تصفو معنويّاتهم. بيد أنّه لا يجمل بالمريض أن يقابَل بالكراهية لمرضه، والطّفل لا يجب تحاشيه لكونه صغيرًا، والجاهل لا يصحّ احتقاره بسبب افتقاره إلى المعرفة. فجميعهم تجب رعايتهم وتربيتهم وتعليمهم وإعانتهم بكلّ محبّة. يجب أن نبذل كلّ ما هو ضروريّ لكي تستظلّ الإنسانيّة بظلّ الله بغاية الطّمأنينة، متنعّمين بالسّعادة في أقصى مراتبها.

(5) 17 أغسطس/ آب 1912

الخطبة المباركة بغرين إيكر، مدينة إليوت، ولاية ماين

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

إنّ عوالم الله في غاية الانسجام والتّوافق فيما بينها. وكلّ عالم من عوالم هذا الكون اللاّمتناهي هو، إن جاز التّعبير، مرآة تحكي عن تاريخ وماهيّة ما عداه من العوالم. وعلى نفس المنوال فإنّ الكون المادّيّ على توافق تامّ مع العالم الرّوحانيّ أو الملكوت الرّبّانيّ. وعالم المادّة هو تعبير ظاهريّ أو صورة طبق الأصل عن عالم الرّوح الباطنيّ. كما أنّ عالم العقول يتوافق مع عالم الأفئدة والقلوب.

إذا ما تأمّلنا في عالم النّاسوت، ندرك أنّ كلّ الكائنات الظّاهريّة تعتمد على الشّمس. وبغير الشّمس يكون عالم الخليقة في ظلام دامس خاليًا من أيّ حياة. فجميع الخلائق التّرابيّة، جمادًا كانت أو نباتًا أو حيوانًا أو إنسانًا، تعتمد على حرارة وضوء وإشراق المركز الشّمسيّ العظيم في نشوئها وترقّيها. فلولا حرارة الشّمس وضوؤها لما تشكّلت الصّخور والمعادن، ولما ظهرت الكائنات النّباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة في حيّز الوجود. ومن الجليّ الواضح إذًا أنّ الشّمس هي مصدر الحياة لكلّ المخلوقات التّرابيّة ولكلّ الكائنات الظّاهريّة.

في العالم الباطنيّ، أي عالم الملكوت، تكون شمس الحقيقة هي المربّي والمعلّم للعقول والنّفوس والأرواح. ولولا إشراق أشعّة شمس الحقيقة لحرمت النّفوس والأرواح من النّموّ والتّطور، بل لاستحالت عدمًا. ذلك لأنّه كما تكون الشّمس المادّيّة هي المربّي لكافّة أشكال الخلق الظّاهريّ بإشعاع ضوئها وحرارتها، كذلك يمنح إشعاع ضوء شمس الحقيقة وحرارتها نموًّا وتربية وترقية للعقول والنّفوس والأرواح في سعيها إلى مقام الكمال.

لقد كان حضرة المسيح شمسًا للحقيقة أشرقت من أفق المسيحيّة السّماويّ، مربّية وحامية ومؤيِّدة للعقول والنّفوس والأرواح إلى أن تناغمت مع الملكوت الرّبّانيّ واكتسبت القابليّة والاستعداد لنزول المواهب الإلهيّة غير المتناهية، ولولا ظهور مجد حضرته لبقيت جميعها في ظلام النّقائص والبعد عن الله. ولكن بما أنّ شمس الحقيقة أشرقت وغمرت عالم العقول والنّفوس والأرواح بضيائها، فقد أصبحت بدورها مشعّةً، إذ وهبها حضرة المسيح حياة أبديّة جديدة.

عندما تطلع الشّمس الظّاهرة من نقطة الاعتدال الرّبيعيّ في دائرة البروج، تحدث حركة حيويّة بديعة في جسد العالم التّرابيّ، فتهتزّ الأشجار الذّابلة بدبيب الحياة، وتصير التّربة السّوداء مخضرّة بنماء جديد، ويتفتّح اليانع العبق من الزّهور، وينتعش عالم التّراب، وتتدفّق طاقات حياة متجدّدة في عروق كلّ كائن حيّ، وتكسو سنادس الرّبيع الجديد المروج والسّهول والجبال والأودية بالبديع من مظاهر الحياة. فيحيا وينتعش كلّ ما كان ميّتًا مقفرًا، وكلّ ما كان ذابلاً وواهيًا وعاجزًا يعتريه التّحوُّل بفضل روحِ خلقٍ جديد. وعلى نفس المنوال عندما تنير شمس الحقيقة أفق العالم الباطنيّ، فإنّها تبعث النّماء والحياة والنّشاط بواسطة قوّة ربّانيّة بديعة. فترتدي سدرات الأفهام البشريّة أثوابًا جديدة خضراء، وتكتسي بالأوراق والبراعم، وتأتي بثمار روحانيّة محمّلة ببشارات الملكوت. عندئذ تطلع الأزهار العابقة ببواطن المعاني من تربة النّفوس البشريّة، ويفيق الكيان البشريّ بأكمله على حركة ربّانيّة جديدة. هذا هو نموّ وتقدّم العالم الباطنيّ بفعل نور الهداية الرّبّانيّة، وحرارة نار محبّة الله.

للشّمس الظّاهرة شروق وغروب، وللعالم التّرابيّ ليله ونهاره، وبعد كلّ غروبٍ شروقٌ وقدومُ فجرٍ جديد. كذلك لشمس الحقيقة شروقها وغروبها، ولعالم الرّوحانيّة نهارٌ وليلٌ، وبعد كلّ ذهاب يكون عودٌ وإشراقُ نورِ يومٍ جديد.

فضلاً عن هذا تتّصف حقيقة الألوهيّة بأسماء وصفات معيّنة، من بينها الخالق، والمحيي، والرّازق، والقيّوم، والمقتدر، والعلاّم، والمعطي. وهذه الأسماء والصّفات الإلهيّة أزليّة وليست حادثة. وهذه مسألة دقيقة تستدعي اهتمامًا كبيرًا. فوجودها محقّق ولازم بظهور الكائنات. فصفة الخالق، مثلاً، تستلزم وجود خلق، وصفة المحيي تقتضي الإحياء، والرّازق تفرض إعطاء الرّزق، وإلاّ كانت أسماء وصفات جوفاء مستحيلة. فالرّحمن دليل على وجود ما تسبغ عليه الرّحمة، فإذا لم تتجلَّ الرّحمة، لا تتحقّق تلك الصّفة الإلهيّة. كما أنّ اسم الرّبّ يبرهن على وجود رعيّة خاضعة للرّبوبيّة. واسم العليم يستوجب وجود ما يُعلم. فإذا لم يكن له وجود، صار اسم العليم بلا معنى ولا وظيفة. واسم الحكيم يستلزم وجود ما تحيط به الحكمة، فإذا لم تحط به الحكمة لا يكون ذلك الاسم معقولاً. فالأسماء والصّفات الإلهيّة يلزمها إذًا وجود الخلائق الّتي تشير إليها ضمنيًّا تلك الأسماء والصّفات. كما أنّ العكس صحيح، أي أنّ سلطنة الله تثبت وتتحقّق من جرّاء كون تلك الخلائق حقيقة واقعة وكائنة.

فتمعّنوا إذًا في حقيقة أنّ السّلطنة الإلهيّة ليست حادثة وإنّما دائمة وأبديّة، وأنّها تستلزم وجود كائن مخلوق. فالمَلَكيّة يلزمها مملكة وجيش وخزينة ورعايا وبلاط ووزراء. فكيف يكون هناك مليك بغير رعيّة ودولة وثروة؟ وإلاّ كان بوسع كلّ إنسان أن يدّعي المُلك، وإذا سألناه ‘أين جيشك؟’ يجيبنا ‘لا أحتاج جيشًا’، أو ‘أين بلدك؟’ فيقول ‘لا داعي لها، فأنا ملك بغير مملكة أو جيش أو رعيّة أو سلطنة.’ فهل يكون ذلك جائزًا؟

بناء على ذلك يكون من اللاّزم للسّلطنة الإلهيّة خَلْقٌ تَبْسُط عليه نفوذها. فلا بدّ من وجود دلائل على تلك السّلطنة. وإذا ما تصوّرنا أنّ هناك زمانًا انعدمت فيه الخليقة، ولم تكن فيه رعيّة أو خلائق في ظلّ الهيمنة والسّيطرة الإلهيّة، لاختفت الألوهيّة ذاتها، ولكان هناك انقطاع وتوقّف في الفضل الإلهيّ، تمامًا كما تختفي مَلَكيَّةُ أحد ملوك الأرض وعطاؤه إذا انعدمت مملكته. فالسّلطنة الإلهيّة أبديّة لا بداية لها ولا نهاية. وهذا واضح وضوح الشّمس في رابعة النّهار، حتّى لمن كان فهمه وإدراكه العقليّ محدودًا.

عندما ننظر إلى الشّمس الظّاهرة نجد أنّ حرارتها وضياءها دائمان، فلا انقطاع في الفيض الشّمسيّ. فإذا ما كانت الشّمس في زمن من الأزمان بغير ضوء أو حرارة لما كانت هي الشّمس. فكيف نتعرّف على الشّمس؟ طبعًا من حرارتها وإشراقها. فإذا ما عدمت أشعّتها وحرارتها فلا تعود شمسًا، وإنّما تمسي مجرّد جسم أو كرة مظلمة في السّماء. فلا بدّ لعطايا الشّمس أن تكون دائمة مستمرّة بغية أن تكون مؤهّلة لدورها كمركز شمسيّ للطّاقة والضّياء والجاذبيّة.

على المنوال نفسه تكون عطايا شمس الحقيقة الرّبّانيّة دائمة. فضوؤها أبديّ الإشراق، ومحبّتها أزليّة الإشعاع، وفضلها لا ينقطع أبدًا. فلا يمكن القول بأنّ القوّة والإشراق الإلهيّين كانا عرضة للانقطاع، أو الادّعاء بأنّ ألوهيّة الله القدير قد حانت نهايتها. فألوهيّة الله أبديّة، والعطايا الرّبّانيّة، بناء على ذلك، دائمة سواء كانت مخلوقة حادثة، أو روحانيّة مثاليّة. ولكنّ أتباع الأديان قسمان: بعضهم يعبدون الشّمس ذاتها، والآخرون يعبدون مطالع الشّمس من حيث تشرق. فاليهود مثلاً يعبدون المطلع الموسويّ، والزّرادشتيّون المطلع الزّرادشتيّ. وتوجّه الإبراهيميّون إلى مشرق شمس إبراهيم، فلمّا تحوّل إشراق شمس الحقيقة من المطلع الإبراهيميّ إلى الموسويّ أنكره المؤمنون بإبراهيم ذلك لأنّهم توجّهوا إلى المطلع لا إلى شمس الحقيقة نفسها. ولمّا تحوّلت شمس الحقيقة بعطائها الرّبّانيّ وبهائها وإشراقها الملكوتيّ إلى المشرق العيسويّ أنكر اليهود ظهورها في شخص حضرة المسيح لأنّهم لم يكونوا عابدين الشّمس بعينها وإنّما عشقوا إشراقها الموسويّ. ولو كانوا عبدة لشمس الحقيقة، لأقبلوا إلى حضرة المسيح بدلاً من إنكار أنّه المسيح المنتظر.

فما سبب هذا الحرمان يا تُرى؟ لأنّهم بكلّ بساطة كانوا يقلّدون الآباء والأسلاف من حيث الرّسوم العقائديّة بدلاً من الإقبال إلى شمس الألوهيّة. ولهذا حرم اليهود من الفضل الّذي بزغ من المشرق المسيحيّ. وبتمسّكهم بإصرار بالمطلع السّابق بقوا على هذا الحال من الحرمان. فتدبّروا حال أهل الأرض وأممها اليوم، ولاحظوا وجود نفس الولاء العنيد لعقائد الأسلاف. فمن كان أبوه زرادشتيًّا تجده زرادشتيًّا. ومن كان والده بوذيًّا يظل بوذيًّا. ويبقى ابن المسلم مسلمًا، وهلمّ جرّا. فما السّبب في ذلك؟ لأنّهم عبيد التّقليد المحض وأسراؤه. فلم يتحرّوا حقيقة الدّين ولم يتوصّلوا إلى أصوله ومراميه. فاليهوديّ مثلاً لم يستدلّ على أحقيّة موسى بتحرّي الحقيقة، وإنّما هو يهوديّ لأنّ أباه كان يهوديًّا، وهو مقلّد لرسوم آبائه وأسلافه وعقائدهم، فلا فكر ولا ذكر هنالك للحقيقة. ويبقى الحال على نفس المنوال مع أهل الأديان الأخرى. هذا هو الهدف من مقالنا، وهو أنّهم يعبدون مطالع الشّمس بدل شمس الحقيقة ذاتها.

إذا ما تخلّى اليهود في زمن يسوع المسيح عن التّقليد وتحرّوا الحقيقة لآمنوا به وقبلوه بكلّ تأكيد، ذلك لأنّ الإشراق العيسويّ كان أعظم من الإشراق الموسويّ بمراحل. فقد كانت شمس الحقيقة بمثابة شمس منتصف الصّيف في لمعانها وبهائها عندما ظهرت من المطلع المسيحيّ.

علينا إذًا أن نعتبر وندرك أنّ مجرّد تقليد الآباء والأسلاف لا ثمر له. بل علينا أن نسعى بأقصى جهدنا في التّحرّي والالتفات إلى شمس الحقيقة أيًّا كان مشرقها أو مطلعها. وهذه الشّمس الظّاهرة شمس واحدة. فإذا ما طلعت غدًا من جهة الغرب فهي نفس الشّمس، ولا يمكننا أن نقول ‘ليست هذه هي الشّمس لأنّها طلعت من الغرب’، ذلك لأنّ الشّرق والغرب ما هما إلاّ وجهتان أرضيّتان من نتاج التّصوّر البشريّ. أمّا من حيث الشّمس فلا شرق ولا غرب ودائمًا ما تشرق من موقعها في الأفلاك. كما أنّه لا شروق ولا غروب في مركز الدّائرة الشّمسيّة. فالشّروق والغروب ينتميان إذًا إلى الرّصد الأرضيّ لا إلى النّيّر نفسه. بل لا يكون اللّيل أمرًا معقولاً في الفلك الشّمسيّ. ولا يكون في مركز الإشراق ذلك سوى دوام الضّوء والإنارة. فشروقها وغروبها في هذه الحالة ليست سوى أمور ظاهريّة غير فعليّة، إذ يتعلّقان بمنظورنا الأرضيّ. ولو كان هناك انقطاع في نورها وحرارتها وبهائها لما أمكننا أن نعتبرها شمسًا. وإن فعلنا ذلك نكون كمن يعدّ الحجر الأسود ألماسًا، ولكان ذلك لغوًا. فإن كان المرء بخيلاً وأسميته كريمًا فلن يُحدِث فيه ذلك القول أيّ تغيير.

المراد من هذا أنّ الله قدير، ولكنّ عظمته لا يمكن أن يدركها الفهم البشريّ المحدود. فلا يمكننا أن نحدّ الله بأيّ حدود. والإنسان محدود ولكنّ عالم الألوهيّة ليس له حدود. ونسبة المحدوديّة إلى الله هي الجهل البشريّ بعينه. فالله هو القديم القدير، وصفاته غير متناهية، وهو الله لأنّ نوره وسلطانه بغير حدود. فإذا ما تسنّى حدُّه بحدود أفكار البشر لما كان هو الله. والغريب هو أنّه على الرّغم من هذه الحقائق الدّامغة، لا يزال الإنسان يبني حوائط المحدوديّة وسياجها حول الله، وحول ألوهيّة بهذه العزّة والإحاطة واللاّمحدوديّة انظروا إلى كائنات الخلق الإلهيّ الّتي لا تعدّ ولا تحصى، فهي بغير نهاية، والكون لا انتهاء له. وأنّى لبشر أن يدّعي معرفة مقدار ارتفاع الكون أو عمقه أو طوله. فهو لانهائيّ بمعنى الكلمة. فكيف إذًا ونحن بصدد سلطنة مقتدرة، وألوهيّة بديعة، أن نحدّها بحدود العقول والأفهام البشريّة الخاطئة، ولو كان ذلك من حيث المسمّيات والتّعبير؟ وهل يسعنا إذًا أن ندّعي أنّ الله قد أتى أمرًا في الماضي ولن يقدر على اتيانه مرّة أخرى؟ أو أنّ شمس إشراقه الّتي سطعت على العالم في السّابق قد غربت الآن بغير رجعة؟ أو أنّ رحمته وفضله وموهبته الّتي تنزّلت في يوم من الأيّام قد انعدمت في هذا الحين؟ فهل هذا جائز؟ كلاّ! فلا يمكننا أبدًا أن ندّعي أو نعتقد حقيقة بأنّ مظهره، تلك الطّلعة المحبوبة وشمس الحقيقة، لن يسطع نوره على العالم من جديد.

يا ربّي الرّؤوف! هؤلاء نفوس اجتمعوا في هذا المحفل متوجّهين إليك بالقلوب والأرواح، سائلين موهبتك الدّائمة، محتاجين رحمتك الواسعة.

أي ربّ، اكشف عن بصائرهم الحجبات وبدّد ظلام الجهل وأسبغ عليهم نور معرفتك وحكمتك ونوّر هذه القلوب المنيبة بإشراق شمس الحقيقة وافتح هذه الأبصار بمشاهدة أنوار سلطنتك وأبهج هذه الأرواح بعظيم بشاراتك وأفِدْ هذه النّفوس على ملكوتك الأعلى.

أي ربّ نحن ضعفاء قوّنا، وفقراء امددنا من كنز فيضك، وأموات أحينا بنفثات الرّوح القدس، ولا صبر لنا في الامتحانات والشّدائد فأنلنا نور وحدانيّتك.

أي ربّ اجعل هذا الجمع سببًا لرفع لواء وحدة العالم الإنسانيّ، وأيّد هذه النّفوس حتّى تصبح مروّجة للسّلام العالميّ.

أي ربّ إنّ النّاس قد احتجبوا وتشاحنوا، فأراقوا الدّماء وأهلكوا الحرث والنّسل، وعمّ العالمَ الحربُ والصّراعُ، وساد النّزاعُ وسفك الدّماء والتّوحّش في كلّ الأصقاع.

أي ربّ اهْدِ النّفوس حتّى تنصرف عن القتال والنّزال، وتبدي المحبّة والشّفقة لبعضها البعض، وتترابط وتتآخى وتخدم وحدة البشريّة واتّحادها.

أي ربّ قد أظلمت الآفاق من هذا الشّقاق. أنِرها يا إلهي، واجعل القلوب ساطعة بأنوار محبّتك، وأحْيِ الأرواح بيمن عطائك حتّى تُبصر كلّ نفس وتسير على هـَدْي تعاليمك. إنّك أنت القدير، إنّك أنت العليم، إنّك أنت البصير. ربّ ارحم الجميع.

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في بوسطن ومالدن (1) 25 أغسطس/ آب 1912

الخطبة المباركة بندوة الفكر الجديد بنادي ما وراء الطّبيعة (الميتافيزيقيا)
بمدينة بوسطن، ولاية ماساتشوسيتس

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

يا ربّي الرّؤوف! نتضرّع ونبتهل إلى عتبتك بكلّ خضوع وخشوع، راجين تأييداتك اللاّمتناهية وعونك اللاّمحدود. أي ربّ ابعث هذه النّفوس، وهبها حياة جديدة واحْيِ الأرواح وأطلِع القلوب وافتح الأبصار وشنّف الآذان. وهب لهم من كنزك القديم كينونةً وعزمًا جديديْن وأَعِنْهم من مقرّك القديم على بلوغ المزيد من التّأييد.

إلهي إنّ العالم محتاج إلى الإصلاح، فأسبغ عليه وجودًا جديدًا، وامنحه فكرًا متجدّدًا، واكشف له المعارف السّماويّة، وانفخ فيه روحًا جديدة، وأنله المراد الأقدس الأسمى.

إلهي، قد جعلت هذا القرن منيرًا، وفيه أظهرت إشراقك الرّحمانيّ، ومحيت ديجور الأوهام، وأضأْتَ نور الإيقان، أي ربّ اجعل هؤلاء العباد مقبولين لدى عتبتك، وأنزل سماء جديدة، وابسط أديمًا جديدًا، واجعل أورشليم جديدة تتنزّل من الأوج الأعلى، وهب للبشر فكرًا جديدًا وحياةً جديدةً، وامنح النّفوس فهمًا جديدًا، وأسبغ عليهم فضائل جديدة. إنّك أنت المقتدر القدير، وإنّك أنت المعطي الكريم.

من السّهل السّيطرة على أبدان النّاس، وبمقدور ملك أن يخضع رعيّته لحكمه وسطوته في بلد بأكمله. فقد سيطر الملوك والحكّام في القرون الغابرة على ملايين البشر بغير منازع، وبذلك تسنّى لهم تنفيذ ما أرادوه. فإذا ما شاؤوا الإنعام بالسّعادة والسّلام كان بها، وإذا ما عزموا على إلحاق الأذى والمعاناة فعلوه أيضًا. وإذا ما رغبوا في إرسال النّاس إلى ميدان القتال لم يكن هناك من يقاوم سلطانهم، وإذا ما قرّروا أن تحظى ممالكهم بهناء وصفاء الوقاية من شرّ القتال تَحقّق ذلك. والخلاصة إنّ الملوك والرّؤساء كان بمقدورهم السّيطرة على ملايين البشر ومارسوا تلك السّلطة بكلّ اعتساف وطغيان.

لبُّ الموضوع هو أنّه من أسهل الأمور بسط السّلطان والنّفوذ على الأبدان، أمّا التّأليف بين الأرواح برباط الصّفاء فهو من الصّعب المستصعب. فهذه مهمّة ليست في مقدور أحد، وإنّما تستلزم قدرة إلهيّة قدسيّة، أي يلزم لها نفوذ الإلهام، وقوّة الرّوح القدس. فقد كان بوسع حضرة المسيح مثلاً أن يأتي بالأرواح إلى دار الصّفاء تلك، وكان قادرًا على إرشاد القلوب إلى ذلك الملاذ. ومن يوم ظهوره إلى اليوم كان ولا يزال حضرة المسيح محييًا للأفئدة والأرواح، وأحدث ذلك الأثر المنعش في عالم الأفئدة والنّفوس؛ ولهذا كان ما يحدثه من إحياء دائمًا أبديـًّا.

في هذا القرن، قرن آخر الأزمنة، ظهر حضرة بهاء الله فأحيا الأرواح بدرجة أظهروا معها ما يفوق قوى البشر. فقد فدى الآلاف من أتباعه بأرواحهم، مردّدين نداء يا بهاء الأبهى وهم تحت السّيف ودماؤهم تسيل. وهذا إحياء لا يتأتّى إلاّ بنفوذ ملكوتيّ، وقوّة غيبيّة – هي قوّة الرّوح القدس الرّبّانيّة. وهو أمر يستحيل تحقيقه بقوّة بشريّة عاديّة مجرّدة. ومن هنا نتساءل: ‘كيف لهذا الإحياء أن يتحقّق؟’

هناك ثمّة وسائل معيّنة لتحقيقه، وبموجبها يحيا الجنس البشريّ ويُبعث بولادة جديدة. وتلك هي الولادة الثّانية المذكورة في الكتب السّماويّة. وهي تتأتّى من خلال التّعمّد بالرّوح القدس. ويتحقّق إحياء الرّوح الإنسانيّ أو بعثها من خلال عرفان محبّة الله. وهو يحدث بفاعليّة ماء الحياة. وهذه الحياة والانتعاش هي إعادة خلق عالم الكائنات الظّاهريّة. فبعد حلول فصل الرّبيع الرّوحانيّ، وهطول أمطار الاعتدال، وسطوع شمس الحقيقة، وهبوب نسائم الكمال، تـُمنح كافّة الكائنات حياة خلق جديد وتتشكّل بتكوين جديد. فتأمّلوا فصل الرّبيع المادّيّ. فعندما يحلّ الشّتاء تتعرّى الأشجار وتذبل الحقول والمروج، وتذوي الأزهار فتصبح أكوامًا من تراب، فلا نضارة تبقى في السّهول والهضاب والمروج، ولا يبدو هناك أيّ جمال، ولا تلوح خضرة، ويتردّى كلّ شيء برداء الموات. وأينما جلتم البصر تجدون علامة الموت والعطب. أمّا حينما يأتي الرّبيع، يهبط الغيث، وتغمر الشّمس بأنوارها المروج والسّهول، وترون الخلق مرتديًا حلّـة جديدة. فقد جعلت الأمطار السّهول خضلة نضرة. ودفع دفء النّسيم بالأشجار أن ترتدي أردية من الأوراق، وتفتّحت براعمها وأوشكت أن تأتي بفواكه جديدة طازجة شهيّة. ويبدو كلّ شيء قد أوتي تجدّدًا في الحياة، ويتراءى في كلّ مكان عزم وروح جديدين. ذلك لأنّ الرّبيع قد أحيا كافّة الكائنات وزيّن الأرض بما يريده لها من جمال.

كذا الحال مع فصل الرّبيع الرّوحانيّ عند قدومه. فعندما يظهر الأنبياء أو المظاهر الإلهيّة المقدّسة في العالم يطلع فجر دور منير وعصر رحمانيّ، ويتجدّد كلّ شيء، وتصلح الأفهام والأفئدة وكافّة القوى الإنسانيّة، وتشحذ الكمالات، وتـنشط العلوم والاكتشافات والأبحاث من جديد، وتدبّ الحياة في أوصال كلّ ما يتعلّق بفضائل العالم الإنسانيّ. انظروا إلى القرن الحاضر، قرن الأنوار، وقارنوه بما مضى من قرون. ويا له من بون شاسع بينهما! فكم ترقّت العقول، وكم تعمّقت الإدراكات، وكم ازدادت الاكتشافات، وكم من مشروعات عظيمة تحقّقت، وكم من حقائق لاحت، وكم من أسرار للخليقة أميط عنها اللّثام ونفذت إليها العقول. فتُرى ما السّبب في ذلك؟ إنّه بفعل تأثير فصل الرّبيع الرّوحانيّ الّذي نحياه الآن. فلا يمضي يوم إلاّ وينال العالم عطيّة جديدة. ولم يبق في هذا القرن المنير أيّ من تقاليد الماضي وعلومه وفنونه وقوانينه ونظمه. وأخضِعت الأصولُ السّياسيّة العتيقة للتّبديل والتّعديل، وهناك الآن نظم اجتماعيّة وسياسيّة جديدة في طور التّكوين. ومع ذلك هناك البعض من ذوي الأفكار المتجمّدة والنّفوس المحرومة من أنوار شمس الحقيقة ممّن يسعون إلى منع رقيّ النّاس فكريًّا. فهل يكون هذا ممكنًا؟

في ظلّ ما لا يمكن أن تخطئه العين ممّا نشاهده من إصلاح عموميّ، وبينما تتلقّى أحوال البشر المادّيّة الظّاهريّة مثل هذه الدّفعة، وتتّخذ حياة النّاس مظهرًا جديدًا، وتجد العلوم حافزًا مثيرًا والاختراعات والاكتشافات تزايدًا مُطّردًا، والقوانين المدنيّة تغييرًا، والأخلاقيات رفعة ورقيًّا – فهل يمكن للدّوافع والتّأثيرات الرّوحانيّة ألاّ يعتريها التّجديد والإصلاح؟ فمن الطّبيعيّ أن يظهر أيضًا الجديد من الأفكار والتّوجّهات الرّوحانيّة. وإذا لم تتجدّد الرّوحانيّات فما الفائدة الّتي ستجنى من الإصلاحات المادّيّة البحتة؟ فعلى سبيل المثال، قد يتحسّن جسد الإنسان بمعنى أن تتقوّى عظامه وعضلاته، وتتطوّر يده، وتزداد أطرافه وأعضاؤه الأخرى قدرةً، بينما إذا فشل عقله في الرّقيّ، فما الفائدة في ما تبقّى؟ فأهمّ عامل في التّرقّي البشريّ هو العقل. ولهذا يلزم التّرقّي والتّحسين في عالم العقول والأفهام. ولا بدّ أن يكون هناك إصلاح في عالم الرّوح الإنسانيّ، وإلاّ لا طائل من مجرّد تحسين الهيكل الجسمانيّ.

في هذا العام الجديد لا بدّ أن تأتي ثمار جديدة، لأنّ هذا هو المراد بالإصلاح الرّوحانيّ وهذا هو القصد منه. فتجدّد الأوراق لا ثمر من ورائه، كما لا ثمر من تجدّد اللّحاء أو الغصن. ولا يـُجنى من تجدّد الاخضرار شيءٌ. فإذا لم يكن هناك تجديد للثّمر من الشّجر فما فائدة تجدّد اللّحاء والبراعم والأغصان والجذوع؟ فشجرة بغير ثمر لا قيمة لها. وبالمثل ما فائدة إصلاح الأحوال الظّاهريّة ما لم يلازمها الإصلاح الرّوحانيّ؟ ذلك لأنّ الحقيقة الجوهريّة هي الرّوح، والأصل هو الرّوح، وحياة الإنسان تعزى إلى الرّوح؛ فسعادته وعزيمته وإشراقه ومجده كلّها راجعة إلى الرّوح، وإذا لم يلحق التّجديد والإصلاح بالرّوح فلا جدوى ولا طائل من وجود البشر.

فيتعيّن علينا بالتّالي أن نجهد بالحياة والفؤاد حتّى يشمل الإصلاح عالم المادّة والجسد، ويزداد الإدراك الإنسانيّ حدّة، ويتجلّى الإشراق الرّوحانيّ، ويتألّق نور الحقيقة. عندئذ يطلع نجم المحبّة ويستضيء العالم الإنسانيّ. والمقصود هو أنّ عالم الوجود يعتمد في تقدّمه على الإصلاح، وإلاّ سيكون حاله أشبه بالموات. تأمّلوا: إذا لم يأت ربيع جديد فكيف يكون أثر ذلك على كوكب الأرض؟ لا شكّ أنّه سيصير خرابًا وتنمحي منه الحياة. فالأرض محتاجة إلى قدوم الرّبيع في كلّ حَوْل، ومن الضّروريّ أن يأتيها الجديد من النّعم، فإذا ما غابت عنها تنمحي الحياة. وعلى نفس المنوال يحتاج عالم الرّوح إلى حياة جيدة، ويلزم لعالم العقول دافع ورقيّ جديد، ولعالم النّفوس موهبة جديدة، ولعالم الأخلاق إصلاح، ولعالم الإشراق الرّبّانيّ دوام العطايا الجديدة. ولولا هذا التّجديد لانمحت الحياة من العالم وانطفأت جذوتها. فما لم تتمّ تهوية هذه الغرفة ويجدّد هواؤها، تخمد الأنفاس بعد برهة. وإذا لم يهطل المطر، تفنى كلّ الكائنات الحيّة. وإذا لم يسطع نور جديد، تستولي على الأرض ظلمة الموت. وإذا لم يأت فصل ربيع جديد، تنمحي الحياة من هذا الكوكب.

بناء على ذلك يجب أن تكون الأفكار سامية، والمثل عالية حتّى يجد العالم الإنسانيّ عونًا في تحقيق الجديد من الإصلاح. وعندما يتطرّق الإصلاح إلى كافّة المراتب عندئذ يأتي يوم الله نفسه الّذي تحدّث عنه جميع الأنبياء. فذلك هو اليوم الّذي يتجدّد فيه العالم بأسره. لاحظوا هل تناسب شرائع العصور الماضية أحوال البشر في يومنا الحاضر؟ من الواضح أنّها لا تناسبها. فمثلاً سمحت قوانين القرون الغابرة بقيام أشكال حكم استبداديّة، فهل توافق تلك القوانين الاستبداديّة أحوال عالم اليوم؟ ومن أين لها حلّ المعضلات الّتي تحيق بالأمم المعاصرة؟ ونحن نتساءل بنفس الكيفيّة: هل تنفعنا اليوم أنماط الفكر العتيق، وخشونة الفنون والحرف، وقصور الإنجاز العلميّ؟ وهل تفي الأساليب الزّراعيّة القديمة بحاجات القرن العشرين؟ فقد كانت المواصلات في العصور الماضية مقصورة على دواب الحمل، فكيف لها أن تفي اليوم باحتياجات البشر؟ وإذا لم تكن وسائل المواصلات قد طالتها يد التّحديث لماتت الملايين الّتي تكتظّ بها الأرض الآن جوعًا. فمن دون السّكك الحديديّة والسّفن البخاريّة السّريعة لكان حال عالم اليوم أشبه بالعدم. وكيف لمدن عظيمة مثل نيويورك ولندن أن تقيم أوَدَها إن هي اعتمدت على وسائل المواصلات القديمة؟ وهذا ينطبق بعينه على الأمور الأخرى الّتي تمّ إصلاحها بما يناسب مقتضيات الحاضر. فهي أيضًا ما لم تكن قد أصلحت، لما استطاع الإنسان أن يجد غذاءه وقوته.

إذا ما كان لهذه المناحي المادّيّة مثل ذلك الاحتياج إلى الإصلاح، فكم هي الحاجة إليه أعظم بالنّسبة إلى عالم الرّوح الإنسانيّ، وعالم الفكر الإنسانيّ والإدراك والفضائل والمواهب! أيجوز أن يظلّ هذا الاحتياج متوقّفًا، بينما العالم لا يفتأ أن يتقدّم في سائر الأحوال والمجالات الأخرى؟ إنّ هذا لأمرٌ محال.

فعلينا إذًا أن نبتهل ونتضرّع إلى الله، ونجهد بأقصى ما في وسعنا حتّى ينال عالم الوجود الإنسانيّ طفرة هائلة بكلّ درجاته ومراتبه، وتتحقّق السّعادة الإنسانيّة الكاملة، ويحدث الانتعاش وتُبعث الحياة في كافّة النّفوس بفضل عطاء الرّحمة الإلهيّة غير المحدود.

(2) 26 أغسطس/ آب 1912

الخطبة المباركة ببناية ساحة فرانكلين، بمدينة بوسطن،
ولاية ماساتشوسيتس

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

من بين تعاليم حضرة بهاء الله مبدأ مساواة الرّجل والمرأة. فقد تفضّل حضرة بهاء الله بأنّ كليهما ينتميان إلى الجنس البشريّ وأنّهما متساويان عند الله، لأنّ كلاًّ منهما يكمـل الآخر في خطّة الخلق الرّبّانيّة. الفرق الوحيد بينهما في نظر الله هو في طهارة واستقامة أعمالهما وتصرّفاتهما، ذلك لأنّ المفضّل عند الله هو الأقرب إلى صورة الخالق ومثاله من حيث الرّوحانيّة. ففي كافّة ممالك الكائنات الحيّة هناك اختلاف في الوظيفة وفقًا للجنس، ولكن ليس هناك أيّ تفضيل أو تمييز لصالح أيّ من الذّكر أو الأنثى. اختلاف الجنس موجود في عالم الحيوان، ولكنّ الحقوق تتساوى بغير تفضيل. على نفس المنوال يظهر الجنس في رتبة النّبات أو مملكته، ولكنّ التّساوي في الوظيفة والحقوق واضح. وبما أنّ التّمييز والتّفضيل على أساس الجنس لا يشاهد في تلك الممالك ذات الإدراك الأدنى، فهل يكون من اللاّئق بالنّسبة لمقام الإنسان السّامي وجود مثل ذلك التّمييز والمفاضلة، في حين ليس هناك من اختلاف في ناموس الخلق؟

في غابر الأزمان والقرون الوسطى أُخضعت المرأة تمامًا للرّجل. كان السّبب في افتراض تدنّيها هو افتقادها للتّعليم. فكانت حياة المرأة وأفكارها محصورة في نطاق المنزل. هناك شواهد على ذلك حتّى في رسائل بولس الرّسول. في القرون الّتي تلت اتّسع مجال حياة المرأة وتنامت فـُرَصُها. وتفتّح ذهنُها وترقّى، واستيقظت إدراكاتها وتعمّقت. وكان السّؤال الّذي أُثير من حولها هو: لماذا تُتْرَك المرأة لتتخلّف ذهنيًّا؟ فالعلم ممدوح سواء استقصاه عقل الرّجل أو المرأة. وهكذا، تقدّمت المرأة شيئًا فشيئًا مبرهنة أكثر فأكثر على تساوي قدراتها مع الرّجل، سواء في البحث العلميّ أو الكفاءة السّياسيّة، أو أيّ مجال آخر من مجالات النّشاط الإنسانيّ. والاستنتاج الواضح هو أنّ المرأة غـُلِبت على أمرها بفعل افتقارها للتّعليم ووسائل الرّقيّ الذّهنيّ. فإذا ما مُنحت نفس الفرص التّعليميّة أو المنهج الدّراسيّ لتكوّنت لديها نفس الكفاءة والقدرات.

هناك من يصرّحون بأنّ المرأة ليست مؤهّلة أو مزوّدة فطريًّا بنفس قدرات الرّجل، بمعنى أنّها أقلّ من الرّجل ذكاء وأضعف منه إرادة وتفتقر إلى شجاعته. ولهذه النّظريّة ما يناقضها تمامًا في التّاريخ والحقائق المسجّلة. فقد ظهرت في الدّنيا نساء كنّ على فائق المقدرة والتّصميم، وكنّ أندادًا للرّجال في الفطنة، ومساويات لهم في الشّجاعة. فقد كانت زنوبيا زوجة الحاكم العامّ لأثينا، ولمّا مات زوجها أظهرت أعلى درجات المقدرة في إدارة الشّئون العامّة، مثلها في ذلك مثل الملكة الرّوسيّة كاثرين، فعيّنتها حكومة الرّومان خلفًا لزوجها. ثمّ حدث بعد ذلك أن فتحت زنوبيا بلاد الشّام، وقادت غزوة ناجحة إلى مصر وأسّست سلطنة ما زال التّاريخ يذكرها حتّى اليوم. فبعثت عليها روما بجيش تحت إمرة قادة بارزين. وعندما التقى الجيشان في ساحة الوغى ظهرت زنوبيا في ثياب بهيجة، ووضعت تاج مملكتها على رأسها، ومضت على رأس جيشها، ملحقة هزيمة نكراء بفيالق الرّومان بدرجة عجزوا معها عن لمّ شتاتهم. فتولى الإمبراطور الرّومانيّ بنفسه قيادة الجيش التّالي المكوّن من مائة ألف جنديّ وزحف إلى الشّام. كانت روما في ذلك الوقت في أوج عظمتها وأقوى قوّة عسكريّة في العالم. فانسحبت زنوبيا بقوّاتها إلى تدمر وأحكمت دفاعاتها تحسّبًا للحصار. وبعد سنتين كاملتين من هذا الحصار قطع الإمبراطور الرّومانيّ عنها المؤن فاضطرّت للاستسلام.

عاد الرّومان إلى بلادهم في موكب ومسيرة تنمّ عن النّصر. فدخلوا روما بعظيم الأبّهة والمجد، تسبقهم أفيال أتوا بها من إفريقيا. وبعد الأفيال سارت الأسود ثمّ النّمور ثمّ الدّببة والقردة، وبعد القردة سارت زنوبيا حافية القدمين تطوّق عنقها سلسلة من الذّهب وفي يدها تاج، وكانت في غاية الاعتداد والجلال والملوكيّة والشّجاعة رغم سقوطها وهزيمتها.

من بين شهيرات التّاريخ الأخريات كليوباترا، ملكة مصر، الّتي حمت مملكتها ضدّ جيوش الرّومان فترة طويلة. وكذلك أظهرت كاثرين، زوجة بطرس الأكبر، أسمى درجات الشّجاعة وأرقى مستويات التّخطيط العسكريّ إبّان الحرب الّتي نشبت بين روسيا ومحمّد باشا. وعندما بدا أنّ الجانب الرّوسيّ استولى عليه اليأس في المعارك، أخذت حلـيّها ومجوهراتها إلى الغازي التّركيّ وقدّمتها له ملتمسة العدالة في أمر بلدها بكلّ حنكة ودبلوماسيّة إلى حدّ تمّ معه إعلان الصّلح.

كما كانت فيكتوريا ملكة إنجلترا في حقيقة الأمر متفوّقة على جميع ملوك أوروبّا في المقدرة والعدل والحنكة في إدارة الأمور. وتوسّعت الإمبراطوريّة البريطانيّة إبـّان حكمها الباهر الطّويل بصورة هائلة وازدادت ثراء بفضل حنكتها السّياسيّة وبراعتها وبُعد نظرها.

كما يمدّنا تاريخ الأديان أيضًا بأمثلة رائعة على قدرة النّساء في ظروف بالغة الصّعوبة والضّرورة. إذ تمّ فتح بني إسرائيل للأراضي المقدّسة بعد أربعين سنة من التّجوال في الصّحراء وبرّيّة اليهوديّة بفضل تدبير ودهاء إحدى النّساء.

بعد استشهاد حضرة المسيح، له المجد، بلغ الاضطراب واليأس بالحواريّين مبلغًا كبيرًا. حتّى إنّ بطرس أنكره وحاول التّنصّل منه. أمّا من أعاد الثّبات إلى الحواريّين الّذين تزعزع إيمانهم فقد كان امرأة هي مريم المجدلـيّة، إذ قالت لهم: ‘هل كان جسد المسيح الّذي رأيتموه يُصلب أم كانت حقيقته ؟ لا شكّ أنّ ذلك كان جسد المسيح، أمّا حقيقته فأبديّة ودائمة، ولا بداية لها أو نهاية. فلماذا إذًا حيرتُكم وضعفكم؟ فلطالما حدّثنا المسيح عن صلبه.’ ومع أنّ مريم المجدلـّية كانت مجرّد فلاّحة قرويّة، إلاّ أنّها أصبحت واسطة تعزية لحواريّي حضرة المسيح وسببًا لثباتهم.

في دين حضرة بهاء الله كانت هناك نساء تفوّقن على الرّجال في الاستنارة والفكر والفضائل الرّبّانيّة والإخلاص لله. ومن بينهنّ قرّة العين. وعندما كانت تتحدّث، كان يصغى إليها أعلم علماء الرّجال بكلّ إجلال. وكانوا يبدون عظيم الاحترام في محضرها، ولم يكن يجرؤ أحد على معارضتها. ومن بين النّساء الإيرانيّات اليوم السّيّدة روح الله وغيرها ممّن أوتين نعمة المعرفة والثّبات الّذي لا يقهر، والشّجاعة والفضيلة وقوّة الإرادة. وهنّ متفوّقات على الرّجال، وصرن شهيرات في بلاد فارس بأسرها.

بالاختصار، يمدّنا التّاريخ بالدّليل على أنّه كان فيما مضى من القرون عظيمات من بين النّساء وعظماء من بين الرّجال أيضًا، ولكنّ النّساء بصفة عامّة، وبسبب افتقارهنّ إلى مزايا التّعليم، كنَّ مقيّدات ومحرومات من أن يصبحن مؤهّلات بالكامل وسفيرات للجنس البشريّ. وعندما كانت تتاح لهنّ فرصة تحصيل العلوم، كنّ يظهرن قدرة مساوية لما عند الرّجال. ولقد اعتبر بعض الفلاسفة والكتَّاب أنّ المرأة أدنى من الرّجل طبيعيًّا وفطريًّا، محتجّين بأنّ دماغ الرّجل أكبر وأثقل من دماغ المرأة. فهذا دليل ضعيف وخاطئ، لأنّ الأدمغة الصّغيرة غالبًا ما تشاهد مقترنة بذكاء أرفع، في حين أنّ الأدمغة الكبيرة يمتلكها الجهلاء بل وحتّى البلهاء. فالحقيقة هي أنّ الله منح جميع البشر ذكاء وإدراكًا، وأعانهم جميعًا كعباده وأولاده، فليس هناك، والحال كذلك، أيّ تمييز بين ذكر وأنثى في خطّة الله وتقديره. والنّفس الّتي تأتي بالأعمال الطّاهرة والفضائل الرّوحانيّة هي الأعزّ في نظر الله والأقرب إليه بما اكتسبت.

لقد تمّ الكشف عن حقائق الأشياء في هذا القرن المنير، وكلّ ما هو حقيقيّ لا بدّ أن يطفو على السّطح. ومن بين تلك الحقائق مبدأ مساواة الرّجل والمرأة – مساواة في الحقوق والامتيازات في كلّ الشّئون الإنسانيّة. وقد أعلن حضرة بهاء الله هذه الحقيقة قبل أكثر من خمسين سنة. ولكن إلى جانب كون مبدأ المساواة هذا حقيقة واقعة، إلاّ أنّه من المؤكّد أيضًا أنّ على المرأة أن تثبت مقدرتها وجدارتها، وتـُظهر الدّلائل على المساواة. فعليها أن تصبح ضليعة في الفنون والعلوم وتبرهن بإنجازاتها أنّ قابليّاتها وقدراتها كانت كامنة ليس إلاّ. أمّا استعراضات القوّة كما هو الحاصل الآن في إنجلترا فهي غير لائقة ولا تأثير لها بالنّسبة لقضيّة المرأة ومسألة المساواة. بل يجب على المرأة أن توجّه طاقاتها وقدراتها بالأخصّ نحو العلوم الصّناعيّة والزّراعيّة، ساعية لمعاونة الجنس البشريّ بما هو أكثر احتياجًا. فتبرهن بهذه الوسيلة على كفاءتها وتضمن الاعتراف بالمساواة في المعادلة الاجتماعيّة والاقتصاديّة. ولا شكّ أنّ الله سوف يؤيّدها في جهودها ومساعيها، ذلك لأنّ حضرة بهاء الله قد أعلن في هذا القرن المنير عن حقيقة وحدة العالم الإنسانيّ ونادى بوحدانيّة كلّ الأمم والشّعوب والأجناس وأوضح أنّه على الرّغم من اختلاف النّاس في التّطوّر والمقدرة، فهم متساوون أساسًا وجوهريًّا بكونهم بشرًا، تمامًا كما لا تتناهى أمواج البحر في عددها واختلافها بينما تكون حقيقة البحر واحدة. وتعدّديّة البشر يمكن تشبيهها بالأمواج، بيد أنّ حقيقة الجنس البشريّ مثل البحر نفسه. فالأمواج كلّها من ماء واحد ومن بحر واحد.

فاجتهدوا إذًا لتبيّنوا أنّ النّساء في عالم الإنسان هنّ الأكثر قدرة وكفاءة، وأنّ قلوبهنّ أكثر رقّة وإحساسًا من قلوب الرّجال، وأنهنّ أكثر إنسانيّة واستجابة تجاه المحتاجين والمساكين، وأنهنّ معارضات للحرب ومحبّات للسّلام بشكل قاطع باتٍّ. واجتهدوا حتّى تتحقّق مقاصد السّلام العالميّ النّبيلة بفضل مساعي النّساء، لأنّ الرّجل ميّال إلى الحرب أكثر من المرأة، وأصدق دليل على تفوّق المرأة سيكون في خدمتها وفاعليّتها في تأسيس الصّلح العموميّ.

(3) 27 أغسطس/ آب 1912

الخطبة المباركة بنادي ما وراء الطّبيعة (الميتافيزيقيا)،
بوسطن، ولاية ماساتشوسيتس

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

أرى في وجوه الحاضرين علامات التّدبّر والحكمة، ولهذا سأتكلّم في موضوع يتناول إحدى المسائل الإلهيّة، مسألة لها أهمّيّتها الدّينيّة والميتافيزيقيّة، وهي الحركة التّقدّميّة والدّائمة لذرّات العناصر في مختلف مراتب الكائنات وعوالم الوجود. وسوف يثبت ويتّضح بالبرهان أنّ أصل الكائنات ومنشأها واحد وأنّ هناك وحدة جوهريّة في كلّ الموجودات. وهو مبدأ دقيق يتعلّق بالفلسفة الإلهيّة ويتطلّب تحليلاً دقيقًا واهتمامًا خاصًّا.

إنّ الذّرّات العنصريّة الّتي يتركّب منها كلّ كائن ووجود خَلْقيّ في هذا الكون اللاّمتناهي هي في حركة دائبة، وتخضع لمراحل متّصلة ومتوالية من التّطوّر. فلنتدبّر مثلاً ذرّة في عالم الجماد تتطوّر نحو عالم النّبات عن طريق دخولها في تركيب ألياف شجرة أو نبتة، ومن ثمّ يتمّ امتصاصها وتنتقل إلى عالم الحيوان، ثمّ ينتهي بها المطاف، بواسطة نظام التّركيب وعمليّته، فتصبح جزءًا من جسد الإنسان. بمعنى أنّها مرّت بمراحل وسيطة وحالات من الوجود الظّاهريّ، لتدخل في تركيب كائنات مختلفة عبر رحلتها هذه. وهذه الحركة أو الانتقال إنّما هي ارتقائيّة ودائمة، ذلك لأنّه بمجرّد تحلّل الجسم البشريّ الّذي دخلته، تعود إلى عالم الجماد الّذي أتت منه ثمّ تستمرّ في الانتقال فيما بين ممالك الخليقة كما حدث لها من قبل. وهذا مثال عمليّ يُقصَد منه إيضاح أنّ الذّرّات العنصريّة الّتي تتكوّن منها الكائنات تخضع لانتقال ارتقائيّ وحركة عبر العوالم المادّيّة.

في أثناء تطوّرها وترحالها الدّائب تصبح الذّرّة حائزة على المزايا والقوى المختصّة بالرّتبة أو المملكة الّتي تعبرها. ففي رتبة الجماد حازت على الانجذابات الجماديّة، كما بدت عليها مزيّة التّكاثر أو قوّة النّماء وهي في عالم النّبات، ولمّا كانت جزءًا من الكائن الحيوانيّ عكست ذكاء تلك الرّتبة، كما أنّها وهي في عالم الإنسان اتّصفت بالخواص أو المزايا الإنسانيّة.

علاوة على ذلك، فإنّ أشكال وتركيبات كائنات الوجود والخليقة في كلّ مملكة من ممالك الكون لا حصر لها ولا عدد. فرتبة النّبات أو مملكة النّبات على سبيل المثال فيها أنواع وأشكال غير متناهية من تراكيب حياة النّبات – وكلّ منها مميّز وفريد في ذاته، ولا يتطابق اثنان منها في التّكوين أو التّفصيل، لأنّه لا تكرار في الطّبيعة، ولا تقتصر خاصّيّة النّموّ على صورة أو شكل معيّن. فكلّ ورقة من أوراق الشّجر لها هيئتها الخاصّة، أيّ، إن جاز لنا التّعبير، لها شخصيّتها المميّزة كورقة. وأثناء التّرحال الدّائب لكلّ واحدة من تلك الذّرّات العنصريّة اللاّمتناهية وانتقالها عبر ممالك الوجود كعنصر في التّركيب العضويّ، فهي لا تصطبغ بقوى ومزايا الممالك الّتي تسير فيها فحسب، وإنّما تعكس أيضًا خواص وصفات الأنواع والكائنات الحيّة لتلك الممالك. وبما أنّ لكلّ من هذه الأنواع سمتها الخاصّة، يكون بالتّالي لكلّ ذرّة عنصريّة في الكون فرصة للتّعبير عن أطياف غير متناهية من تلك السّمات المنفردة، ولا تحرم أيّة ذرّة من هذه الفرصة أو الحقّ في التّعبير. كما لا يمكننا القول بأنّ إحدى الذّرّات لم تنل الفرصة مثل غيرها؛ كلاّ، بل إنّ جميعها قد مُنحت قابليّة اكتساب السّمات الموجودة في تلك الممالك والقدرة على أن تعكس خواص كائناتها الحيّة. وخلال مختلف التّحوّلات أو التّنقلات من مملكة إلى أخرى تكون الخواص الظّاهرة من الذّرّات في كلّ مرتبة مختصّة بتلك الرّتبة دون غيرها. فمثلاً لا تتّخذ الذّرّة في عالم الجماد هيئة النّبات وكيانه، كما أنّها عندما تحوز صفات النّبات بفعل عمليّة التّحوّل، لا تعكس صفات الحيوان، وهكذا.

من الواضح إذًا أنّ كلّ ذرّة عنصريّة في الكون لديها قابليّة التّعبير عن كافّة فضائل الكون. وهذا إدراك نظريّ دقيق، فتدبروا فيه لأنّه ينطوي على الشّرح الصّحيح لمسألة وحدة الوجود. ومن هذا المفهوم ووجهة النّظر فإنّ وحدة الوجود حقيقة، لأنّ كلّ ذرّة في الكون تمتلك أو تُبدي كلّ فضائل الحياة، ويتيسّر ظهور ذلك من خلال التّغيير والتّحوّل. فيكون أصل ومنشأ الكائنات فعلاً هو الله كلّيّ الوجود؛ ذلك لأنّ حقيقة كافّة الوجود الحادث هي من صنعه. فلا تكون هناك حقيقة أو مظهر لحقيقة بغير تدبير من الله. فالوجود محقّق وجائز بفضل الله، تمامًا كما هو حال الشّعاع أو اللّهب الصّادر عن هذا المصباح، فوجودهما راجع إلى المصباح إذ إنّه هو المصدر. وهكذا، فإنّ كافّة الكائنات تتحقّق بفضل الفيض الإلهيّ، ويكون شرح مبدأ وحدة الوجود الصّحيح هو أنّ موجودات الكون الظّاهريّة تتحقّق بفعل القوّة الواحدة المحرّكة والمهيمنة على كافّة الأشياء، وأنّ كلّ الأشياء ما هي إلاّ مظاهر قدرتها وفيضها، ولا تتأتّى صفة الحياة والكينونة من أيّ واسطة أخرى. ولهذا كان أوّل تعليم جرى من فم حضرة بهاء الله هو وحدة العالم الإنسانيّ.

فإذا ما أوتي الإنسان فطنة روحانيّة وكان حائزًا على البصيرة، فإنّه يشاهد أنّ أنوار الفضل الإلهيّ تغمر الجنس البشريّ برمّته، كما تحيط أنوار الشّمس بسنائها كلّ الكائنات. فكلّ ظواهر الوجود المادّيّ تكشفها وتظهرها الأشعّة المنبعثة عن الشّمس. ومن دون الضّوء لا تبصر العين شيئًا. وبالمثل فإنّ كلّ كائنات عالم الحقيقة الوجدانيّ تتلقّى المواهب الإلهيّة من منبع الفيض الرّبّانيّ. فهذه المرتبة أو المملكة البشريّة هي خلق واحد، وكلّ النّفوس هي آيات الفضل الإلهيّ وشواهده. وليس في هذه الرّتبة من استثناءات، بمعنى أنّ الجميع يتلقّون عطاياهم ومواهبهم من خلال الفضل السّماويّ. فهل تجدون نفسًا قد حرمت من التّقرّب إلى الله؟ وهل تجدون مَنْ حَرَمه الله من قوت يومه؟ هذا محال. فالله رؤوف بالكلّ، ومحبّ للكلّ، والجميع هم مظاهر الفضل الرّبّانيّ. هذه هي وحدة العالم الإنسانيّ.

بيد أنّ بعض النّفوس ضعيفة، فعلينا أن نسعى إلى تقويتهم. والبعض جاهل لا علم لديهم عن فيض الله، علينا أن نبذل الجهد لتعليمهم. والبعض مرضى يتحتّم علينا أن نسعى في معافاتهم، والبعض قاصرون كالأطفال يجب تربيتهم ومساعدتهم ليبلغوا الرّشد. نحن نرعى المرضى بكلّ لطف وبروح المحبّة العطوفة ولا ننظر إليهم بعين الازدراء كونهم مرضى. فعلينا إذًا أن نمارس أقصى درجة من الصّبر والعطف والمحبّة نحو كافّة البشر، وألاّ نعتبر نفسًا من النّفوس منبوذة، لأنّنا نكون بذلك قد خالفنا تعاليم الله. فالله محبّ للجميع، فهل يجمُلُ بنا أن نظلم أو نجافي أحدًا؟ وهل هذا جائز عند الله؟ والله رازق للجميع. فهل يليق بنا أن نحجب عطاياه الرّحمانيّة عن البشر؟ والله قد خلق الخلق كافّة على صورته ومثاله. فهل نظهر الكراهية لخلقه وعباده؟ إنّ في ذلك مخالفة لمشيئة الرّحمن واتّباع لإرادة الشّيطان، ونعني بذلك تلك الميول الغريزيّة الدّانية. فهذه الطّبيعة الدّانية في الإنسان يعبّر عنها بالشّيطان – أي الأنا الأثيمة الموجودة بداخلنا، وهي ليست شخصيّة شرّيرة مستقلّة عنّا.

من تعاليم حضرة بهاء الله أنّ أسس الدّين الإلهيّ ما هي إلاّ حقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد أو الانقسام. لذلك فإنّ الوصايا والتّعاليم الإلهيّة واحدة. أمّا الاختلافات والانقسامات الدّينيّة الحادثة في العالم فمرجعها التّقليد الأعمى للرّسوم دونما أيّ علم أو تقصٍّ للحقيقة الرّبّانيّة الجوهريّة الّتي بُنيت عليها جميع الأديان. وبما أنّ تقاليد رسوم الآباء والأجداد هذه تختلف وتتباين، فقد نشبت الخلافات بين أهل الأديان. فيتعيّن علينا والحال كذلك أن نخلّص البشريّة من هذا الانقياد للتّقليد الأعمى بإرشاد النّاس إلى الحقيقة ذاتها، الّتي هي الأساس الوحيد للاتّحاد.

كما يتفضّل حضرة بهاء الله بأنّ الدّين يجب أن يُفضي إلى المحبّة والاتّحاد. فإذا ما تبيّن كونه مصدرًا للبغضاء والعداوة، فعدمه أفضل، ذلك لأنّ المحبّة هي القصد الإلهيّ والنّاموس الرّبّانيّ، والمحبّة هي الرّابطة الّتي تؤلِّف بين قلوب البشر. إنّ الدّين هو نور العالم، فإذا ما جُعِل الدّين سببًا للظّلمة من جرّاء سوء فهم البشر وجهلهم، يكون الاستغناء عنه أفضل.

كما أنّ الدّين يجب أن يكون مطابقًا للعلم والعقل، وإلاّ كان خرافة. فقد خلق الله الإنسان لكي يدرك حقيقة الوجود، ووهبه الله العقل أو الفهم ليتبيّن الحقيقة. فعلى كلّ من المعارف العلميّة والعقائد الدّينيّة إذًا أن تكون موافقة لاستنتاجات هذه الموهبة الرّبّانيّة لدى الإنسان.

إنّ التّعصّبات بكلّ أنواعها – دينيّة كانت أم عنصريّة، قوميّة أم سياسيّة – مدمّرة للأصول الرّبّانيّة لدى الإنسان. فكلّ النّزاع وسفك الدّماء الّذي سجله التّاريخ البشريّ نجم عن التّعصّبات. هذه الأرض موئل ووطن واحد، وقد خلق الله كلّ البشر بموهبة وحقّ متساوٍ للعيش عليها. وكما تكون المدينة موئلاً لكلّ سكانها على الرّغم من أنّ كلاًّ منهم قد يكون له مسكن يختلف عن مسكن غيره، كذلك فإنّ أديم هذه الأرض هو وطن واحد رحب أو موئل لكلّ أجناس البشر. أمّا التّعصّب العرقيّ أو تقسيم العالم إلى أمم من قبيل الفرنسيّة والألمانيّة، والأمريكيّة، وما إلى ذلك، فهذا أمر غير طبيعيّ راجع إلى أغراض البشر وجهلهم. والكلّ أبناء الله وعباده، فلماذا تفصلنا الحدود الوهميّة المصطنعة؟ وفي عالم الحيوان تطير أسراب الحمام معًا في وئام وانسجام، لا تعصّب فيما بينها. نحن بشر نفوق الطّيور إدراكًا، فهل يليق بالمخلوقات الأدنى أن تُظهِر من الفضائل ما يقْصُر الإنسانُ عن إبدائه؟

لقد أعلن حضرة بهاء الله مبدأ السّلام العالميّ وروّج له. وعبر آلاف السّنين خرج الرّجال والأمم إلى ساحات الحرب والقتال لتسوية خلافاتهم. وعلّة ذلك كان الجهل والانحطاط. الحمد لله أن ترقّت العقول في هذا القرن المنير وتوقّدت الأفهام وتنوّرت الأبصار وانتبهت الآذان. ولهذا من المستحيل أن تستمرّ الحروب. انظروا جهل النّاس وتناقضاتهم: إذا قـَتل شخصٌ أحدًا فإنّه يُعاقب بالإعدام، أمّا القائد العسكريّ الفذّ الّذي يقتل مائة ألف من بني جنسه فيُخلّد ذكره بطلاً من الأبطال. وإذا سرق شخص مبلغًا صغيرًا من المال يسجن بوصفه لصًّا. وغيره ينهب بلدًا بكاملها فيشاد بوطنيّته وفتوحاته. وكَذِبٌ واحدٌ يجلب اللّوم والاستهجان، بينما خِدَع السّاسة والدّبلوماسيّين وألاعيبهم تُلهِب مشاعر الإعجاب والثّناء لدى الأمّة. فانظروا جهل البشر وتناقضاتهم، ومقدار ظلمة الغرائز البشريّة وشراستها.

نادى حضرة بهاء الله بأنّه مهما ازداد تقدّم عالم البشر في المدنيّة المادّيّة، فهو محتاج للفضائل الرّوحانيّة والمواهب الرّبّانيّة. فروح الإنسان لا تستنير وتحيا بالأسباب المادّيّة، ولا تنتعش بالبحث في كنـه ظواهر عالم المادّة، بل تحتاج إلى حفظ وحماية الرّوح القدس. وكما يترقّى الإنسان عبر مراحل متعاقبة من عالم الوجود المادّيّ الصّرف إلى عالم الفهم والإدراك، عليه أيضًا أن يترقّى في الصّفات الأخلاقيّة والفضائل الرّوحانيّة. وأثناء عمليّة التّرقّي هذه يكون الإنسان محتاجًا دومًا إلى فيوضات الرّوح القدس. والرّقيّ المادّيّ يمكن تشبيهه بزجاج السّراج، بينما الفضائل الرّبّانيّة والأحاسيس الرّوحانيّة هي نور ذلك السّراج. فزجاج السّراج يكون عديم الفائدة بغير النّور، كذلك يكون الإنسان في حالته النّاسوتيّة محتاجًا إلى النّور والحياة المنبعثة من الأفضال الإلهيّة والخصال الرّحمانيّة. وبغير وجود الرّوح القدس يكون الإنسان ميّتًا لا حياة فيه. وقد يكون حيًّا من النّاحية الجسديّة والعقليّة إلاّ أنّه يكون ميّتًا بالرّوح. لقد صرّح حضرة المسيح: المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الرّوح هو روح. بمعنى أنّ على الإنسان أن يولد ولادة ثانية، فكما يولد الرّضيع إلى نور هذا العالم المادّيّ، كذلك على الإنسان المادّيّ العقلانيّ أن يولد إلى نور العالم الرّبّانيّ. وقد كان الجنين قبل ولادته في رحم الأم محرومًا من عالم الوجود المادّيّ وغير واعٍ به، ولكنّه بعد ولادته رأى عجائب ومباهج عالم جديد من الحياة والوجود. لقد كان في عالم الرّحم جاهلاً تمامًا وغير قادر على إدراك هذه الأحوال الجديدة، ولكنّه بعد تحوّله هذا اكتشف الشّمس السّاطعة، والأشجار والأزهار وقدرًا لا يتناهى من البركات والعطايا في انتظاره. والإنسان في رتبته ومملكته أسير للطّبيعة وجاهل بعالم اللاّهوت إلى أن يولد من نفثات الرّوح القدس خارجًا عن حيّز القيد والحرمان الجسديّ. وعنئذ يشاهد حقيقة عالم الرّوح والملكوت، ويدرك ضيق قيود عالم الوجود البشريّ المحض، ويصبح واعيًا لتجلّيات العالم الإلهيّ الّتي لا حدّ لها ولا نهاية. لذا فمهما ترقّى الإنسان في الحيّز الجسمانيّ والفكريّ، يكون محتاجًا دائمًا إلى الفضائل الرّبّانيّة اللاّمحدودة، وإلى صون الرّوح القدس، وإلى وجه الله.

(4) 29 أغسطس/ آب 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّدة موراي، بالعنوان 34 شارع هيلسايد،
مدينة مالدن، ولاية ماساتشوسيتس

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

سجّلت كتب الأنبياء بعضًا من البشارات، وهي بشارات حقيقيّة بشكل قاطع ولا يتطرّق إليها الشّكّ. لقد كان الشّرق على الدّوام مطلع إشراق شمس الحقيقة، فكافّة أنبياء الله قد ظهروا هناك. وفي الشّرق تمّ التّرويج لكافّة الأديان الإلهيّة، وانتشرت تعاليم الله وتأسّست شريعته. ودائمًا ما كان الشّرق مركزَ الأنوار. وقد تلقّى الغرب الاستنارة من الشّرق، إلاّ أنّ انعكاس النّور كان أعظم في عالم الغرب من بعض النّواحي. وهذا يصدق بالأخصّ على المسيحيّة، فقد ظهر حضرة المسيح في فلسطين وهناك تأسّست تعاليمه. وعلى الرّغم من أنّ أبواب الملكوت قد فُتِحت في تلك الدّيار وانتشرت الفيوضات الرّبّانيّة وذاعت من مركزها، إلاّ أنّ أهل الغرب اعتنقوا المسيحيّة وروّجوها بشكل أكمل ممّا فعله من كانوا في الشّرق. أي أنّ شمس الحقيقة أشرقت من أفق الشّرق ولكنّ حرارتها وإشعاعها كانا أكثر لمعانًا وبهاء في الغرب حيث رُفع لواءُ حضرة المسيح المتألّق. ويحدوني عظيم الآمال أن تجد أنوار ظهور حضرة بهاء الله أكمل تجلّ وانعكاس هنا في أصقاع الغرب، ذلك لأنّ تعاليم حضرة بهاء الله تنطبق بخاصّة على أحوال النّاس هنا. فلدى أمم الغرب قدرة على فهم كلمات حضرة بهاء الله المنطقيّة الّتي لا مثيل لها، مدركين أنّه قد أودع جوهر تعاليم جميع الأنبياء السّابقين في بيانه.

لقد روّج حضرة بهاء الله تعاليم حضرة المسيح، وجاء أيضًا بتعاليم جديدة موافقة لأحوال عالم البشر المعاصرة. وبيمن قوّة الرّوح القدس وحمايتها ربّى أهل الشّرق، وألـّف بين أرواح البشر، وأرسى قواعد الوحدة العالميّة.

وبنفوذ كلماته التقت أفئدة أصحاب كافّة الأديان بكلّ وفاق. فمن بين البهائيّين في إيران مثلاً هناك المسيحيّون والمسلمون والزّرادشتيّون واليهود والعديد من أهل المذاهب والعقائد المتباينة الّذين اجتمعوا جميعًا بكلّ اتّحاد ومحبّة في أمر حضرة بهاء الله. ورغم أنّ أولئك النّاس كانوا في السّابق في عداءٍ وخصام، تملأ قلوبهم الكراهية والمرارة تجاه بعضهم البعض، متعطّشين للدّماء والنّهب والسّلب، ويعتبرون العداء والاعتداء وسيلة لنيل رضاء الله، فها هم قد أصبحوا الآن متحابّين ومُفعمين بحماس نورانيّ نحو الألفة والإخاء، وهدفهم جميعًا خدمة العالم الإنسانيّ، وترويج السّلام العالميّ، وتوحيد الأديان السّماويّة، والأعمال الخيريّة تجاه العموم. وأضحوا بأقوالهم وأفعالهم مبرهنين على حقيقة حضرة بهاء الله.

تفكّروا في العداوة والبغضاء السّائدة بين مختلف أمم العالم في يومنا هذا. كم من الخلافات والعداوات تنشب، وكم من القتال والجدال، وكم من سفكٍ للدّماء، وكم من ظلمٍ وطغيان! وتدور الآن رحى حرب في شرقيّ تركيّا، وحرب أخرى بين تركيّا وإيطاليا. وكرّست الأمم نفسها للغزو وسفك الدّماء، مدفوعة بالكراهية الدّينيّة ساعية لنيل رضاء الله بقتل وإهلاك من اعتبرتهم من جرّاء انعدام بصيرتها أعداء لها. فما أجهلهم! إذ يعتبرون ما حرّمه الله مقبولاً لديه. الله محبّة، ومراد الله هو الألفة والصّفاء والتّقديس والصّبر على الأذى؛ هذه هي صفات الألوهيّة. فهذه الأمم المتحاربة الهائجة قد قامت إذًا في وجه الألوهيّة متصوّرة أنّها تخدم الله. فيا له من جهل مبين! ويا له من ظلم وعمى وغفلة! وبالاختصار، علينا أن نجهد بالقلب والرّوح حتّى تنقشع ظلمة عالم الإمكان، وتسطع أنوار الملكوت على كلّ الآفاق، ويستنير عالم الإنسان، وتنطبع صورة الله على مرايا البشر، ويستحكم أساس شريعة الله، حتّى ينعم كلّ صقع في العالم بالسّلام والرّاحة والطّمأنينة في ظل الرّعاية الإلهيّة العادلة. ونصيحتي ووصيّتي لكم: كونوا رحماء بكلّ النّاس، أحبّوا الإنسانيّة، واعتبروا كلّ البشر أقرباء لكم وعبادًا لله العليّ المتعال. اجهدوا ليلاً ونهارًا حتّى يزول العداء والخلاف من أفئدة العباد، وتتصالح كلّ الأديان وتحبّ الأمم بعضها بعضًا بحيث لا يبقى تعصّب عرقيّ أو دينيّ أو سياسيّ، ويرى العالم الإنسانيّ أنّ الله هو مبدأ الوجود ومنتهاه. فالله قد خلق الجميع، وإليه يرجعون.أحبّوا الإنسانيّة إذًا من صميم الفؤاد والرّوح. وإذا صادفتُم فقيرًا أعينوه، أو مريضًا فعالجوه، طمئنوا الخائف، واجعلوا الجبان شهمًا شجاعًا، علّموا الجاهل، وعاشروا الغريب. اقتدوا بالله، وفكّروا كم هو رؤوف ورحيم بالكلّ، واقتفوا أثره. عليكم أن تعاملوا النّاس بمقتضى التّعاليم الإلهيّة – أي عاملوهم بالشّفقة الّتي يعاملهم الله بها، فهذا هو أسمى ما يمكن للعالم الإنسانيّ بلوغه.

اعلموا كذلك أنّ الله قد أودع في الإنسان قوّة العقل الّتي يتسنّى له بمقتضاها أن يتحرّى الحقيقة. ولم يقصد الله أن يقلّد الإنسان آباءه وأجداده تقليدًا أعمى، بل وهبه العقل أو مَلَكة الفكر الّتي يتسنّى له بواسطتها أن يتحرّى الحقيقة ويتبيّنها، ويقبل ما يراه الحقّ والحقيقة. على الإنسان ألاّ يكون مقلّـِدًا أو تابعًا أعمى لأيّ نفس من النّفوس. عليه ألاّ يعتمد كلّيّة على رأي إنسان آخر دونما بحث واستقصاء، بل على كلّ نفس أن تتحرّى بذكاء واستقلال لتصل إلى استنتاج للحقيقة وتلتزم بتلك الحقيقة دون سواها. وأكبر علّة للحرمان والحسرة في عالم البشر هي الجهل المبني على التّقليد الأعمى، فبسببه تنتشر الحروب والمعارك، وهذا هو سبب الكراهية والعداوة السّائدة بين البشر. فقد رفض اليهود يسوع المسيح لإخفاقهم في تحرّي الحقيقة. لقد كانوا ينتظرون مجيئه، وينوحون ويندبون ليل نهار قائلين: ‘أي ربّ عجّل بيوم قدوم المسيح’، معبّرين عن أشدّ الاشتياق للمسيح، ولكن عندما ظهر حضرة المسيح أنكروه ورفضوه وعاملوه بكلّ غرور واحتقار وحكموا عليه بالموت ثمّ صلبوه في نهاية الأمر. فلماذا كان ذلك؟ لأنّهم كانوا يتّـبعون التّقاليد اتّباعًا أعمى، معتقدين أنّ ما أوتوه هو تراث غالٍ من الآباء والأجداد، وتشبّثوا به بعناد وعزفوا عن تحرّي حقيقة حضرة المسيح. ولذلك حُرموا من فيوضات حضرة المسيح، والحال إنّهم إذا ما كانوا قد نبذوا التّقاليد وتحرّوا حقيقة حضرته لاهتدوا قطعًا إلى الإيمان به. إلاّ أنّهم بدلاً من ذلك قالوا ‘لقد سمعنا من آبائنا وقرأنا في التّوراة أنّ المسيح يجب أن يأتي من مكان غير معلوم، وها نحن نجد أنّ هذا الرّجل قد جاء من النّاصرة.’ وبسقوطهم في وهدة التّفسير الحرفيّ وتقليدهم معتقدات الآباء والأجداد أخفقوا في إدراك حقيقة أنّه، رغم أنّ جسد عيسى قد جاء من النّاصرة، إلاّ أنّ حقيقة حضرة المسيح جاءت من مكان غير معلوم من الملكوت الإلهيّ. كما قالوا أيضًا أنّ عصا المسيح يجب أن تكون من حديد، بمعنى أنّ عليه أن يأتي شاهرًا سيفًا. وعندما جاء حضرة المسيح كان لا يملك سيفًا؛ ولكنّ سيف لسانه المبارك هو الّذي فصل به الحقّ عن الباطل. غير أنّ اليهود كانوا عُميًا عن المعنى والرّمز الرّوحانيّ لتلك النّبوءات. وكذلك توقّعوا أن يجلس حضرة المسيح الموعود على عرش داود، بينما لم يكن لدى حضرة المسيح عرشًا أو ما يشير إلى السّلطنة، كلاّ، بل كان في الظّاهر فقيرًا ذليلاً مقهورًا، فكيف إذًا يكون هو المسيح الحقّ؟ كان هذا أشدّ اعتراضاتهم إلحاحًا، وهو اعتراض بنوه على تفاسير الأسلاف وتعاليمهم. ولكنّ حضرة المسيح كان في الحقيقة ممجَّدًا بسلطنة أبديّة ومُلك أزليّ – أي أنّ ملكه كان ملكًا روحيًّا وليس دنيويًّا، واستقرّ عرشه ومملكته في الأفئدة والقلوب، حيثما يحكم بقوّة وسلطان أبديّين. وعلى الرّغم من تحقّق كلّ علائم النّبوءات في حضرة المسيح إلاّ أنّ اليهود أنكروه فدخلوا فترة حرمانهم نتيجة انقيادهم للتّقاليد ورسوم الأسلاف.

كان من بين اعتراضاتهم الأخرى أن قالوا ‘لقد وُعِدنا على لسان الأنبياء أنّ المسيح سوف ينادي عند قدومه بشريعة التّوراة، في حين نرى هذا الشّخص ينسخ ما جاء في أسفار موسى الخمس من وصايا، ويكسر سبتنا المبارك، ويبطل حكم الطّلاق. ولم يترك شيئًا من النّواميس الموسويّة القديمة، فهو إذًا عدوّ لموسى.’ ولكنّ حضرة المسيح في حقيقة الأمر نادى بشريعة حضرة موسى وأكملها. وكان خير معين ونصير لحضرته، إذ نَشَر كتاب حضرة موسى في كلّ أرجاء العالم وأعاد إرساء قواعد النّاموس الّذي جاء به حضرته. وإذ كان قد ألغى بعضًا من الأحكام والرّسوم غير المهمّة والّتي لم تعد موافقة لمقتضيات الزّمان، مثل الطّلاق وتعدّد الزّوجات. ولم يدرك اليهود ذلك، وكان علّة جهلهم هو التّشبّث العنيد الأعمى بتقاليد الرّسوم والتّعاليم الموروثة، لذا حكموا على حضرة المسيح في النّهاية بالموت.

كما قالت اليهود أيضًا: ‘قيل على لسان الأنبياء أنّ عدل الله سيسود في جميع أرجاء العالم إبّان ظهور المسيح، ولا يعود للظّلم والطّغيان أيّ ذكر، بل قيل إنّ العدل سيمتدّ إلى عالم الحيوان، فتتعايش الوحوش المفترسة بكلّ لطف وسلام، فيشرب الذّئب والحمل من معين واحد، ويرعى الأسد والظّبي في مرج واحد، ويسكن النّسر والسّلوى معًا في عشّ واحد؛ ولكنّنا بدلاً من ذلك نرى في زمان هذا المسيح المزعوم أنّ الرّومان غزوا فلسطين ويحكمونها بأقسى درجات الطّغيان، ولا يوجد للعدل أيّ أثر، وغابت علامات السّلام في مملكة الحيوان بشكل واضح.’ وكانت أقاويل وآراء اليهود هذه موروثة عن آبائهم – أي كانت انقيادًا أعمى للتّوقـّعات الحرفيّة الّتي لم تتحقّق بحذافيرها في زمان يسوع المسيح. أمّا المغزى الحقيقيّ لتلك النّبوءات فهو أنّ أُمَمًا وشعوبًا مختلفة، وهي المعبّر عنها بالذّئب والحمل، إذ كانت المحبّة والألفة مستحيلتين بينهم، ستلتقي وتأتلف في أوان حكم المسيح، وتشرب من معين حياة تعاليمه الواحد ويصبحون من أتباعه المخلصين. ولقد تحقّق ذلك عندما اتّحدت شعوب من كلّ الأديان والقوميّات والمشارب في عقائدهم واتّبعوا حضرة المسيح بكلّ تواضع وتعاشروا بالمحبّة والإخاء في كنف حفظه الرّبّانيّ. أمّا اليهود، إذ عميت عيونهم عن هذا وتمسّكوا بتقاليدهم المتزمّتة، فقد قاوموا حضرة المسيح بصَلَفٍ وغرور ثمّ صلبوه. ولو تحرّوا حقيقة حضرته لشاهدوا جماله وتجلّت لهم حقيقته.

لقد وهب الله الإنسان عينًا متحرّية فاحصة يبصر بمقتضاها الحقيقة ويتبيّنها. كما حبا الله الإنسان بأذن حتّى يصغي إلى نداء الحقيقة، ووهبه منحة العقل الّتي يستكشف بها الأمور، وتلك هي موهبة الإنسان ووسيلته لتحرّي الحقيقة. وليس المفروض فيه أن يرى الأشياء بعين غيره، أو يسمع بأذن شخص آخر، أو يفهم بعقل من سواه. ولدى كلّ كائن بشريّ موهبته الخاصّة ومقدرته ومسئوليّته في خطّة الإبداع والخلق الإلهيّ. فاعتمدوا إذًا على عقلكم وحكمكم والتزموا بما يسفر عنه بحثكم وتحرّيكم، وإلاّ غرقتم تمامًا في بحر الجهل، وحُرمتم من كلّ العطايا الإلهيّة. توجّهوا إلى الله وابتهلوا إلى عتبته بكلّ خشوع راجين العون والتّأييد حتّى يزيل الله عنكم الحجبات الّتي تغشى أعينكم. عندئذ تتنوّر أبصاركم، وترون حقيقة الله وجهّا لوجه، وينجلي صدأ الجهل تمامًا عن قلوبكم، وتعكسون بهاء الملكوت وأفضاله.

النّفوس المقدّسة هي مثل التّربة الّتي حُرثت وهُيّـئت بكلّ عناية وطـُرحت أشواكها وزؤانها جانبًا واقتُلِعت منها الحشائش الضّارّة. وتربة كهذه تكون في غاية الخصوبة، ويكون حصادها حاكيًا عن الامتلاء والوفرة. وبنفس الكيفيّة على الإنسان أن يتخلّص من عشب الجهل وشوك الخرافات والتّقاليد حتّى يكتشف الحقيقة في حصاد المعرفة الحقّة. وبغير ذلك يكون اكتشاف الحقيقة مستحيلاً، ويدوم تشاحن العقائد الدّينيّة واختلافها، ويهتاج البشر كالذّئاب الضّارية ويفتك بعضهم بعضًا في كراهية وعداوة. نبتهل إلى الله أن يخرق الحجبات الّتي تغشى بصيرتنا، وأن تتبدّد تلك السّبحات الّتي تظلم طريق تجلّي الأنوار السّاطعة حتّى يتجلّى إشراق شمس الحقيقة. ونتوسّل إلى الله ونتضرّع إليه راجين عونه وتأييده. فالإنسان هو طفل الله، وهو في غاية النّبل والسّموّ ومحبوب من الله خالقه. فعلى الإنسان إذًا أن يجهد دائمًا حتّى تصبح النّعم والفضائل الإلهيّة الّتي أُنعِم بها عليه مرشده وهاديه. فأراضي قلوب العباد تبدو الآن كالتّربة السّوداء، ولكن في ثنايا تلك التّربة السّوداء تكمن آلاف الرّياحين. وعلينا أن نجتهد لكي نرعى هذه الإمكانات ونبعثها من سباتها، ونكتشف ذلك الكنز الدّفين في منجم الله ومستودعه، ونـُظهر هذه القوى الباهرة الّتي طالما استترت في قلوب البشر. عندئذ تمتزج بدائع الدّارين وتتنامى، ويتجلّى جوهر الكيان الإنسانيّ.

علينا ألاّ نقنع بمجرّد اقتفاء سبيل من السّبل بحجّة أنّنا وجدنا آباءنا عليه. فعلى كلّ نفس أن تتحرّى الحقيقة، كما أنّ تحرّي الآخرين للحقيقة لا ينفعنا. فإذا كان العالم كلّه أثرياء وهناك إنسان فقير، فما فائدة تلك الثّروات بالنّسبة لذلك الإنسان؟ وإذا كان العالَم كلّه بارًّا وهناك من هو غارق في الرّذيلة، فأيّ خير يتأتّى منه؟ وإذا ما كان العالَم كلّه بصيرًا، وواحد أعمى، فأين منافعه؟ وإذا كان العالَم كلّه يرفُلُ شبعًا، وهناك من هو جائع، فبأيّ قوت يقتات؟ فعلى كلّ إنسان إذًا أن يكون باحثًا لنفسه. فالأفكار والمعتقدات الّتي تركها له آباؤه وأجداده كميراث لن تكفيه، لأنّ اتّباعه لها ليس إلاّ اتّباعًا للتّقاليد، ولطالما كانت التّقاليد علّة الخيبة والضّلال. كونوا متحرّين للحقيقة حتّى تبلغوا عين الحقيقة والحياة.

لقد سألتم لماذا يتعيّن على الرّوح الّتي هي من الله أن تقوم برحلة الرّجوع إلى الله؟ فهل تريدون فهم حقيقة هذه المسألة كما أشرحها أنا أم تودّون أن تسمعوها كما يفسّرها العالَم؟ لأنّه إذا أجبتكم بمقتضى الطّريقة الثّانية فلن يخرج ذلك عن التّقليد ولن يجعل المسألة واضحة.

وحقيقة هذه المسألة هي أنّ الرّوح الشّرّيرة، أي الشّيطان أو كلّ ما يفسّر على أنّه شرّ، يُقصد به الطّبيعة الدّنيا عند الإنسان. ويَرمز إلى تلك الطّبيعة السّفلى بوسائل شتّى. ويوجد لدى الإنسان مظهران: أوّلهما مظهر الطّبيعة؛ والآخر هو مظهر العالم الرّوحانيّ. فعالم الطّبيعة ناقص. تأمُلوه جيدًا، تاركين الخرافة والتّقليد. فإذا ما تركتم إنسانًا جاهلاً متوحّشًا في مجاهل إفريقيا، فهل يكون هناك من شكّ في أنّه سيبقى جاهلاً؟ إنّ الله لم يخلق روحًا شرّيرة؛ فكلّ هذه الأفكار أو المسمّيات ما هي إلاّ مجرّد رموز تشير إلى طبيعة الإنسان البشريّة أو الدّنيويّة المجرّدة. فمن خصائص تراب الأرض أنّ الأشواك والحشائش الضّارّة والأشجار غير المثمرة قد تنمو فيه. وهذا ما يوصف مجازًا بالشّرّ؛ فهو بكلّ بساطة تلك الحالة الدّانية للطّبيعة ونتاجها الوضيع.

هكذا يتّضح أنّ الإنسان محتاج لتربية إلهيّة وإلهام ربّانيّ، وأنّ الرّوح الإلهيّة والفيوضات الرّبّانيّة ضروريّة لرقيّه. بمعنى أنّ تعاليم حضرة المسيح والأنبياء لازمة لتربية الإنسان وهدايته. لماذا؟ لأنّ الأنبياء هم البستانيّون الإلهيّون الّذين يتعهّدون أراضي قلوب البشر وعقولهم. فهم يتعهّدون الإنسان بالتّربية ويقتلعون الحشائش الضّارّة ويحرقون الأشواك ويبدّلون القفر بحدائقَ وبساتين تنمو فيها الأشجار المثمرة. والغرض والحكمة من تربية الأنبياء للبشر هو أن ينتقل الإنسان من درجة إلى درجة من الجلوة الارتقائيّة حتّى يبلغ الكمال. مثلاً إذا ما قضى إنسان كلّ عمره في مدينة واحدة، فلا يمكنه أن ينال معرفة بالعالم كلّه، فلكي يكون على علم كامل عليه أن يزور مُدُنًا أخرى، ويرى الجبال والسّهول، ويعبر الأنهار ويطوي البراري. بمعنى أنّه لا يمكن نيل الكمال بغير تربية تدريجيّة شاملة.

على الإنسان أن يسلك العديد من السّبل ويخضع لمختلف النّهُج في ترقّيه. فلا يولد الإنسان جسمانيًّا بهيئة كاملة وإنّما يمرّ بمراحل متتابعة من جنين إلى رضيع، فطفولة وشباب، ثمّ رشد وشيخوخة. فإذا افترضنا جدلاً أنّ الإنسان كان بإمكانه أن يبقى شابًّا طوال حياته، فعندئذ لا يكون عنده خبر بالشّيخوخة، بل لا يمكنه الاعتقاد بوجودها. وإذا لم يدرك أحوال الشّيخوخة، لن يكون بمقدوره أن يعلم أنّه كان شابًّا فى يوم من الأيّام، ولن يعرف الفرق بين الصّغر والكبر دون تجربة الكبر. وما لم تكونوا قد مررتم بمرحلة الطّفولة، فكيف لكم أن تعرفوا أنّ الّذي بجانبكم هذا هو طفل صغير؟ وإذا لم يكن هناك خطأ، كيف تتبيّنون الصّواب؟ ولولا وجود الرّذيلة، كيف تعرفون قدر الفضيلة؟ وإذا لم تكن الأعمال الشّرّيرة معروفة، كيف تطرون بالثّناء على الأعمال الخيّرة؟ وإذا انعدم المرض، كيف تفهمون معنى الصّحّة؟ فالشّرّ لا وجود له لأنّه غياب الخير. والمرض هو فقدان الصّحّة، والفقر نقص الثّروة. بمعنى أنّه عندما تضيع الثّروة تصيرون فقراء، أي تبحثون في خزانة النّقود فلا تجدون فيها شيئًا. ومن دون المعرفة يكون الجهل؛ فما الجهل إلاّ نقص المعرفة. والموت هو غياب الحياة. فلدينا إذًا وجود من ناحية؛ وعدم أو انتفاء للوجود وغيابه من النّاحية الأخرى.

بالاختصار، فإنّ رحلة الرّوح ضروريّة، ومشوار الحياة هو الطّريق الّذي يؤدي إلى العلم والفوز الإلهيّ. وبغير التّربية والهداية لا يمكن للرّوح أبدًا أن تترقّى لما هو أعلى من أحوال طبيعتها السّفلى الّتي هي طبيعة جاهلة وناقصة.

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في مونترِيال (1) 1 سبتمبر/ أيلول 1912

الخطبة المباركة في كنيسة الموحّدين، مونترِيال، كندا

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

لقد خلق الله تعالى جميع البشر من تراب الأرض، وخلق الكلّ من نفس العناصر، والكلّ هم من سلالة واحدة ويعيشون على كرة أرضيّة واحدة، وخلقهم جميعًا ليسكنوا تحت ظلّ هذه السّماء الواحدة. وكونهم أبناءً له وأعضاء الأسرة الإنسانيّة، فقد أنعم عليهم جميعًا بإحساسات واحدة دون تمييز. وهو يحفظ الجميع ويصونهم وهو رؤوف بالجميع، ولم يميّز بين أبنائه في إغداق فضله ورحمته. وبعث الأنبياء وأرسل التّعاليم الإلهيّة للجميع بمحبّة وحكمة لا تمييز فيها ولا تفضيل. وهذه التّعاليم هي سبب الوحدة والألفة بين البشر وسبب إيقاظ المحبّة والرّأفة في القلوب. وهو يعلن وحدة العالم الإنسانيّ، ويذمّ كلّ ما يخلق الشّقاق ويضرّ بالوفاق، ويمتدح كلّ ما من شأنه أن يؤدّي إلى تماسك النّوع الإنسانيّ. وهو يعضد الإنسان في كلّ خطوة يخطوها على سلّم التّرقّي المؤدّي إلى الاتّحاد المنشود. ولقد بعث الله أنبياءه برسالة المحبّة والاتّحاد، ونُزّلت الكتب الإلهيّة من أجل تأسيس الألفة والوحدة، وكان جميع الأنبياء خادمين للحقيقة؛ فتعاليمهم هي جوهر الحقيقة. والحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد، فنخلص إذًا إلى أنّ أساس الأديان الإلهيّة واحد. وبالرّغم من هذا، فقد دأب النّاس على اتّباع رسوم وتقاليد لا صلة لها بأساس تعاليم الأنبياء. وحيث إنّ هذه التّقاليد متعدّدة ومختلفة، فقد ساد النّزاع والجدال بين أصحاب العقائد الدّينيّة، فتزعزع أساس الدّين الإلهيّ، وصار النّاس يتحاربون ويقتل بعضهم البعض كالحيوانات المفترسة، ويخرّبون مدائن وبيوت بعضهم البعض، ويتسبّبون في دمار الأوطان والممالك.

لقد خلق الله عباده كيّ يتحابّوا ويتعاشروا، فتجلّى بإشراق شمس محبّته على العالم الإنسانيّ. فالمحبّة هي سبب خلق عالم الوجود، وجميع الأنبياء كانوا مروّجين للمحبّة. إلاّ أنّ الإنسان خالف إرادة الله وعمل بما يعارض الخطّة الإلهيّة. لهذا لم يجد العالم الإنسانيّ منذ بداية التّاريخ حتّى يومنا هذا راحة دائمة. بل ساد الاقتتال والتّناحر على الدّوام، وظلّت القلوب متنافرة. وكلّ الحروب الّتي نشبت وما سُفك فيها من دماء، وكلّ النّزاع والكراهية الّتي سادت في الماضي كانت منبعثة إمّا عن التّعصّب الدّينيّ أو العرقيّ أو الوطنيّ أو السّياسيّ. لهذا كان العالم الإنسانيّ في عذاب دائم. ففي بلاد الشّرق، حيث الحرّيّات مقيّدة، تبرز هذه التّعصّبات أكثر من أيّ مكان آخر. وكانت أمم الشّرق في القرن التّاسع عشر في حالة من الاضطراب والفوضى، وغشت ظلمة التّقاليد والرّسوم على المعتقدات الدّينيّة. وعاش أتباع جميع الأديان في اقتتال متواصل تملأ قلوبهم العداوة والكراهية والبغضاء. في خضمّ هذه الأحوال ظهر حضرة بهاء الله؛ فأعلن وحدة العالم الإنسانيّ وأنّ جميع الخلق عباد الله، وأنّ جميع الأديان في كنف حفظ الله وصونه، وأنَّ الله رؤوف بالجميع وهو يحبّ الجميع، وأنّ تعاليم كلّ من سبق من الأنبياء هي في منتهى التّوافق والانسجام، وأنّ الكتب السّماويّة يؤيّد بعضها بعضًا. فلماذا إذًا يجب أن يكون هناك نزاع وجدال بين بني البشر؟

بما أنّ جميع البشر مخلوقات إله واحد، فإنّنا أغنام في كنف وصون راع ملكوتيّ واحد. ولأنّنا أغنامه فعلينا أن نتعاشر بكلّ وئام ووفاق. فإذا ما افترق حَمَلٌ عن القطيع تتّجه جهود الأغنام الأخرى وأفكارهم نحو إعادته ثانية. ولذا أعلن حضرة بهاء الله أنّه ما دام الله هو الرّاعي الملكوتيّ الأوحد، وكلّ البشر أغنامه، فيجب أن يكون الدّين أو الهداية الرّبّانيّة وسيلة لإشاعة المحبّة والألفة في هذا العالم. فإذا أصبح الدّين سبب البغضاء والعداوة والشّحناء، وإذا ما صار علّة للحرب والنّزاع، وجعل النّاس يقتل بعضُهم بعضًا، يكون عدمه خير من وجوده. فكلّ ما يسبّب العداوة مبغوض عند الله وكلّ ما يسبّب الألفة والمحبّة مقبول وممدوح لديه. لأنّ الدّين والتّعاليم الإلهيّة بمثابة العلاج، وعلى العلاج أن يورث الشّفاء، فإذا أصبح العلاج سببًا لحدوث المرض فمن الأحسن والأفضل ألاّ نتعاطى أيّ دواء. وهذا معنى العبارة القائلة بأنّه إذا أصبح الدّين سبب الاقتتال وسفك الدّماء، فإنّ عدم التّديّن وغياب الدّين أفضل للبشر.

أعلن حضرة بهاء الله أنّ الدّين يجب أن يكون متوافقًا مع العلم والعقل. فإن لم يكن الدّين موافقًا لمبادئ العلم والتّفكير العقلانيّ، كان مجرّد أوهام، لأنّ الله وهبنا قدرات ندرك بها حقائق الأشياء، وأن نتأمّل في الحقيقة نفسها. فإذا أصبح الدّين مخالفًا للعقل والعلم تعذّر الإيمان، وإذا لم يتجلَّ الإيمان والثّقة بالدّين الإلهيّ في الفؤاد، يستحيل بلوغ أيّ ترقٍّ روحيّ.

بمقتضى تعاليم حضرة بهاء الله يجب التّخلّي عن التّعصّبات الدّينيّة والعرقيّة والوطنيّة والسّياسيّة لأنّها كلّها هادمة لأسّ أساس البنيان الإنسانيّ. وقد أعلن أنّ دين الله واحد، لأنّ كافّة الأديان الإلهيّة مبنيّة على الحقيقة. فقد دعا إبراهيم النّاس إلى الحقيقة وأعلن موسى الحقيقة وأسّس المسيح الحقيقة. وكذلك كان جميع الأنبياء خدّامًا للحقيقة ومروّجين لها. والحقيقة واحدة لا تقبل الانقسام. فلا مبرّر إذًا للتّعصّبات والتّحزّبات السّائدة الآن بين أهل الأديان، ذلك لأنّها مخالفة للحقيقة. وجميعها مخالف أيضًا لإرادة الله ومراده. تدبّروا مثلاً مسألة التّمييز والعداوة العرقيّة. إنّ جميع البشر أبناء لله، وكلّهم من عائلة واحدة وكلّهم من أصل عرقيّ واحد، فلا تعدّد في الأجناس ما داموا جميعًا أولادًا لآدم. وهذا يعني أنّ الافتراض بتعدّد الأجناس والتّمييز على أساسه ما هو إلاّ وهم، فليس لدى الله إنكليزيّ ولا فرنسيّ ولا ألمانيّ ولا تركيّ ولا إيرانيّ. فالجميع عند الله سواسية، وهم جنس واحد وخلق واحد؛ فالله لم يضع هذه التّقسيمات وإنّما ترجع إلى الإنسان نفسه. لذلك، بما أنّها مخالفة لمضمون الحقيقة ومرادها، فهي وهم باطل. إذ إنّنا من عرق واحد، تمامًا كما نحن عليه من هيئة جسمانيّة واحدة؛ فكلّ إنسان له عينان وأذنان ورأس وقدمان. لا يوجد تعصب جنسيّ بين الحيوانات. تأمّلوا الحمام؛ فليس هناك فرق في أنّ هذه حمامة شرقيّة وتلك حمامة غربيّة. وكذلك الأغنام كلّها من جنس واحد، فليس هناك افتراض بالأفضليّة بين خروف شرقيّ وآخر غربيّ، وأينما وُجدوا فإنّهم يتعاشرون بغاية الألفة. والحمامة الغربيّة إذا ما جاءت إلى الشّرق فإنّها تتآلف على الفور مع الحمام الشّرقيّ، ولن تكون هناك نزعة إلى الإعراض بأن تقول للحمامة الشّرقيّة أنتِ شرقيّة وأنا غربيّة. إذًا فهل من الصّائب أو الجائز أن يكون التّعصّب العرقيّ الّذي لا يلتفت إليه عالم الحيوان محلّ اعتبار لدى الإنسان؟

أمّا عن التّعصّب الوطنيّ، فما الأرض إلاّ كرة واحدة وأرض واحدة ووطن واحد. والله لم يقسّمها إلى حدود قوميّة بل جعل كافّة القارّات بلا تقسيمات قوميّة. فلماذا نضع مثل هذه التّقسيمات بأنفسنا؟ إنّها مجرّد خطوط وحدود وهميّة. فأوروبّا قارّة واحدة، وهي ليست مقسّمة بحدود طبيعيّة، فجاء الإنسان ليرسم الخطوط ويعيّن للممالك والإمبراطوريات حدودًا. فهو يعتبر نهرًا من الأنهار حدًّا فاصلاً بين بلدين، ويسمّي هذه الضّفّة فرنسا والأخرى ألمانيا، والحال إنّ النّهر يعود للطّرفين، كما أنّه شريان طبيعيّ للجميع. أليس هذا وهمًا وجهلاً ذلك الّذي يجعل الإنسان يتجاوز الإرادة الإلهيّة ويجعل نفس المواهب الإلهيّة سببًا للاقتتال وسفك الدّماء والدّمار؟ إذًا جميع هذه التّعصّبات بين البشر باطلة وتُعدّ خروجًا عن إرادة الله. فمراد الله هو الاتّحاد والمحبّة، وهو يأمر بالألفة والمودّة. فتكون العداوة إذًا عصيانًا من قبل البشر. والله نفسه محبّة.

أعلن حضرة بهاء الله أنّ الجهل والافتقار إلى التّعليم، كونهما حاجزين يفرّقان بين البشر، فعلى الجميع أن يتلقّوا التّربية والتّعليم. فبفضل هذا الحكم يزول سوء التّفاهم بينهم وتتعزّز وحدة الجنس البشريّ. إنّ التّعليم العموميّ مبدأ عامّ. وعليه، يتوجّب على كلّ أب أن يعلّم ويربّي أبناءه ضمن إمكاناته. فلو عجز عن ذلك توجّب على الهيئة الاجتماعيّة الممثِّلة للشّعب أن توفّر الوسائل لتعليمهم.

كانت النّساء في بلاد الشّرق مهانات يُعتَبرْن أدنى من الرّجال مكانةً، فأعلن حضرة بهاء الله المساواة بين الجنسين – أي أنّ الرّجل والمرأة كليهما عبدان لله الّذي لا فرق عنده ولا تمييز بينهما. وكلّ من كان قلبه طاهرًا وعمله حسنًا كان مقرّبًا أكثر لدى الله ومحلاًّ لأفضاله – أكان رجلاً أم امرأة. وهذا التّفاوت المشهود الآن في عالم الإنسان بين الرّجل والمرأة ناتج عن غياب تعليم المرأة الّتي حُرمت من فرصة مساوية في التّقدّم والرّقيّ. وبمقدار ازدياد الفرص الممنوحة للنّساء في هذا العصر ستتحقّق المساواة بين الجنسين، لأنّهما يتمتّعان بنفس القدرات والمواهب من الخالق. فلم يجعل سبحانه وتعالى تفاوتًا بينهما في محكم قصده ومراده.

نادى حضرة بهاء الله باتّخاذ لغة عالميّة، وأن يتمّ الاتّفاق على لغة واحدة تتحقّق بها الوحدة في العالم. وبمقتضى ذلك يتطلّب من كلّ إنسان أن يتعلّم لغتين إحداهما لغته الأمّ والأخرى تلك اللّغة العموميّة المساعدة، ممّا سيسهّل التّواصل بين الملل ويزيل سوء التّفاهم الّذي أوجدته حواجز اللّغة في العالم. فالنّاس جميعًا يعبدون إلهًا واحدًا والكلّ عبيد له، فعندما يتسنّى لهم التّواصل بسهولة وحرّيّة سيتعاشرون بكلّ ألفة وانسجام، ويُضمرون عظيم المحبّة والمودّة تجاه بعضهم البعض، بل ويتعانق الشّرق والغرب حقًّا في اتّحاد واتّفاق.

إنّ العالم في حاجة ماسّة إلى الصّلح العموميّ، وما لم يتمّ تأسيس هذا الصّلح لن ينال العالم راحة أو اطمئنانًا. فلا بدّ أن تشكّل الأمم والحكومات محكمة دوليّة تحال إليها نزاعاتهم وخلافاتهم. ويكون قرار تلك المحكمة باتًّا. وكما تفصل المحاكم المحلّيّة في الاختلافات الّتي تحصل بين الأفراد، كذلك تفصل المحكمة الدّوليّة في الخلافات بين الدّول، وبذلك لا تبقى ذريعة للحرب والقتال.

قبل خمسين سنة كتب حضرة بهاء الله رسائل إلى ملوك العالم وحكّامه، ضمّنها شرحًا لتعاليمه ومبادئه. وقد طُبعت تلك الرّسائل في الهند قبل أربعين سنة وتمّ نشرها في سائر الأرجاء.

بالاختصار كان لنشر مبادئ حضرة بهاء الله الفضل في محو التّعصّبات الّتي ابتليت بها بلاد الشّرق. فالّذين آمنوا برسالة حضرة بهاء الله صاروا يتعاشرون بغاية المحبّة والوئام. فإذا ما دخلتَ مجلسهم رأيت المسيحيّين واليهود والمسلمين والزّرادشتيّين والبوذيّين في منتهى الألفة والوفاق. وعندما يتناقشون تجد أنّ روح التّسامح والصّداقة العظيمة قد حلّت محلّ العداوة والبغضاء الّتي سادت قديمًا فيما بينهم.

لقد زرتُ أمريكا ووجدتُ شواهدَ في كلّ مكان تدلّ على وجود حكومة عادلة منصفة. لذلك، أدعو الله أن تكون هذه الأقوام الغربيّة سببًا لتأسيس الصّلح العموميّ ونشر وحدة العالم الإنسانيّ، وأن تصبحوا أنتم سببًا للاتّحاد والاتّفاق بين الأمم، وأن يضاء هنا مصباحٌ ينير العالم بأسره بنور وحدة العالم الإنسانيّ، وبالمحبّة بين أفئدة بني الإنسان، وباتّحاد كافّة بني البشر. وأملي أن تنالوا العون والتّأييد في هذا الإنجاز المجيد، وأن ترفعوا علم الصّلح والوئام العموميّ على أرض هذه القارّة، وأن تصبح هذه الدّولة والأمّة عاملاً في نشر هذه المبادئ السّامية من أجل راحة العالم الإنسانيّ، ولكسب رضاء الله العليّ الأعلى وشمول الشّرق والغرب بألطافه.

يا إلهي القدير الرّؤوف إنّ هذا الجمع متوجّه ومتضرّع إليك ومتبتّل إلى ملكوتك طالبًا منك العفو والغفران. فاجعل يا إلهي هذا الجمع محترمًا وقدّس هذه النّفوس وتجلَّ عليهم بأنوار هدايتك ونوِّر قلوبهم واشرح صدورهم بألطافك وعنايتك. وادخل الجميع في ملكوتك الأبهى وأسبغ عليهم أفضالك اللاّمتناهية وأنلهم السّعادة في كلا العالمين. يا إلهي نحن ضعفاء قوّنا، وفقراء هب لنا من كنوزك اللاّمتناهية، ومرضى أنعم علينا بالشّفاء، وعجزاء امنحنا قوّة ملكوتيّة. يا إلهي اجعلنا واسطة لمنفعة هذا العالم، وقدّسنا عن شؤون النّفس والهوى واستقمنا يا إلهنا على محبّتك واجعلنا رؤوفين بجميع الخلق ووفّقنا على خدمة العالم الإنسانيّ حتّى نخدم جميع عبادك ونحبّ جميع خلقك ونكون مشفقين بجميع البشر. إنّك أنت المقتدر الرّحيم، وإنّك أنت الغفور القدير.

 

(2) 1 سبتمبر/ أيلول 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد سذرلاند ماكسويل وحرمه،
716 غرب طريق باين، مونترِيال، كندا

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

إنّني في غاية السّرور للقائكم. والحمد لله أنّي أرى أمامي نفوسًا لديها مقدرة غير عاديّة وقدرة على التّرقّي الرّوحانيّ. وأهل هذه القارّة لديهم في الحقيقة قابليّة كبيرة، وهم سبب سعادتي، ودائمًا ما أدعو الله أن يؤيّدهم ويعينهم على التّقدّم في كلّ مراتب الوجود وأن يترقّوا في درجات المثاليّة بمثل ما تقدّموا في الشّئون المادّيّة، ذلك لأنّ التّرقّي المادّيّ بغير التّقدّم الرّوحانيّ لا ثمرة منه ولا تتأتّى منه نتائج دائمة. فعلى سبيل المثال مهما كان جسد الإنسان العنصريّ متقدّمًا ومتطوّرًا، إلاّ أنّه لا يكون هناك ارتقاء حقيقيّ في مقامه كإنسان ما لم يتقدّم عقله بدرجة مساوية. ومهما نال الإنسان من مزايا مادّيّة لا يكون بمقدوره أن يحقّق ويُظهر أعلى ما في حياته من إمكانات بغير المواهب الرّوحانيّة. لقد خلق الله كلّ الأشياء المادّيّة بمقتضى ترتيب ونظام للتّرقّي في المراتب النّاسوتيّة، إلاّ أنّه خلق الإنسان وأنعم عليه بقوى التّرقّي نحو الممالك الرّوحانيّة والغيبيّة. فالله لم يخلق الكائنات المادّيّة على صورته ومثاله، وإنّما خلق الإنسان على تلك الصّورة وأودع فيه القدرة لبلوغ ذلك المثال. وميّز الإنسان على ما سواه من خلائق. فكلّ الخلائق عدا الإنسان أسيرة للطّبيعة ولعالم الإحساس، أمّا الإنسان فقد أودِعت فيه قوّة مثاليّة تمكّنه أن يدرك الحقائق الفكريّة أو الرّوحانيّة. لقد دبّر الله ورتّب كلّ ما يلزم من أجل الحياة في هذا العالم، إلاّ أنّ الإنسان مخلوق من أجل أن يعكس الفضائل الرّبّانيّة. لاحظوا أنّ أسمى درجات الخليقة الّتي تدنو الإنسان في الرّتبة هو الحيوان، الّذي يتفوّق على كافّة مراتب الوجود عدا الإنسان. من الواضح الجليّ أنّ الحيوان مخلوق للحياة في هذا العالم، وأقصى فضائله هو إظهار الامتياز في حيّز الوجود المادّيّ. فالحيوان يكون كاملاً إذا ما كان جسده صحيحًا، وحواسه المادّيّة سليمة. وعندما يتّصف الحيوان بخصال الصّحّة الجسمانيّة، وتعمل قواه البدنيّة بصورة سليمة، ويكون الطّعام والظّروف المحيطة به موفية باحتياجاته، يكون ذلك الحيوان قد بلغ أقصى درجة من الكمال في مملكته. إلاّ أنّ الإنسان لا يعتمد في نيل فضائله على هذه الأمور. فمهما كانت عليه درجة كمال صحّته وقواه البدنيّة، فإنّ كان ذلك هو كلّ ما يملك، فلا يكون قد سما بعد عن رتبة الحيوان الكامل. إذ إنّ الله، فيما عدا ذلك، قد فتح أبواب الفضائل والصّفات المثاليّة على وجه الإنسان وأودع في كيانه أسرار الملكوت الرّبّانيّ وأنعم عليه بالقوّة المفكّرة حتّى ينفذ إلى الحقائق المثاليّة ويكشفها بواسطة ملكة العقل عندما تكون مؤيّدة بالرّوح القدس، ويصير على علم بأسرار عالم المعاني. وبما أنّ قوّة النّفاذ إلى العرفانيّات هي أسمى من القوى البشريّة وخارقة للطّبيعة، فيكون الإنسان المركز الجامع لكلّ من القوى الرّوحانيّة والمادّيّة معًا، حتّى تتجلّى الرّوح الرّبّانيّة في كيانه، وتسطع إشراقات الملكوت في محراب فؤاده، وتتجلّى علائم الصّفات والكمالات الإلهيّة على هيئة تجدُّدٍ حياتيّ، ويتحقّق نيل المجد الأبديّ والوجود السّرمديّ، ويفيض نور العرفان الإلهيّ، وتُفضّ أختام أسرار عالم الجبروت.

فالإنسان يمكن تشبيهه بهذا المصباح، أمّا إشراقات الملكوت فإنّها أشبه بشعاع المصباح، والإنسان بمثابة الزّجاجة. بيد أنّ التّجلّيات الرّوحانيّة مثلها كمثل النّور في الزّجاجة، فمهما كانت الزّجاجة صافية شفّافة تبقى مظلمة طالما لم يكن بداخلها نور. وكذلك حال الإنسان، مهما ترقّى بإنجازاته المادّيّة يظلّ كالزّجاج الخالي من النّور إذا ما كان محرومًا من الفضائل الرّوحانيّة. كما أنّ الفضائل المادّيّة يمكن تشبيهها بالجسد الكامل، إلاّ أنّ ذلك الجسد يحتاج إلى الرّوح. ومهما كان الجسد جميلاً وكاملاً، إلاّ أنّه إذا حرم من الرّوح وقوّتها المحرّكة فهو ميّت. ولكن نفس ذلك الجسد إذا ما كان مرتبطًا بالرّوح ونابضًا بالحياة، يتحقّق فيه الكمال والفضيلة. فلو حرم الإنسان من الرّوح القدس وعطاياها يكون ميّتًا روحانيًّا.

فالأطفال، على سبيل المثال، مهما كانوا طيّبين وطاهرين، ومهما كانت أجسامهم صحيحة، فإنّهم مع ذلك يُعدّون غير كاملين لأنّ القوّة المفكّرة لا تتجلّى فيهم بكمالها. فإذا ما ظهرت فيهم القوّة الفكريّة بآثارها بكلّ كمال، وبلغ هؤلاء الأطفال رشدهم، اعتُبروا كاملين. وعلى نفس المنوال، مهما كان الإنسان مترقّيًا في أمور الدّنيا ومتقدّمًا في الحضارة المادّيّة، يكون غير كامل ما لم ينتعش من مواهب الرّوح القدس؛ ذلك لأنّه من الواضح أنّه إذا لم يحظَ بذلك الدّافع الرّبّانيّ فإنّه يمسي جاهلاً ومحرومًا. ولذلك تفضّل يسوع المسيح بقوله: إن كان أحد لا يولد من الماء والرّوح، لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. وما يعنيه حضرة المسيح بذلك أنّه ما لم يتخلّص الإنسان من عالم النّاسوت ويتحرّر من أسر المادّيّات وينال نصيبًا من فيوضات العالم الرّوحانيّ، فسيكون محرومًا من عطايا الملكوت الإلهيّ ومواهبه، ويكون غاية ما نستطيع قوله عن مثل ذلك الإنسان هو أنّه حيوان كامل، إذ لا يمكن لأحد أن يدعوه حقيقة بأنّه إنسان. وفي موضع آخر يتفضّل حضرة المسيح بقوله: المولود من الجسد جسد هو والمولود من الرّوح هو روح. والمقصود بذلك هو أنّه إذا ما كان الإنسان أسيرًا للطّبيعة فهو أشبه بالحيوان لأنّه ليس سوى جسد مولود عنصريًّا، أي أنّه ينتمي إلى عالم المادّة ويظلّ خاضعًا لناموس الطّبيعة وسيطرتها. أمّا إذا ما تعمّد الإنسان بالرّوح القدس، وتحرّر من إسار الطّبيعة وتخلّص من الميول الحيوانيّة وترقّى في العالم الإنسانيّ، يصبح مؤهّلاً لدخول الملكوت الرّبّانيّ. وعالم الملكوت هو عالم العطايا الرّبّانيّة والمواهب الإلهيّة. وعالم الملكوت هو نيل أسمى الفضائل الإنسانيّة، وهو القرب من الله، وهو الاستعداد لتلقّي أفضال ربّ القِـدم. وعندما يبلغ الإنسان ذلك المقام ينال الولادة الثّانية. لقد كان الإنسان في عالم الرّحم قبل ولادته الأولى أي ولادته الجسمانيّة. ولم يكن لديه علم بهذا العالم، فعيناه لا تبصران وأذناه لا تسمعان. وعندما خرج من عالم الرّحم أبصر عالمًا جديدًا، عالمًا تشرق فيه الشّمس ببهائها، وفيه يضيء القمر في السّماء، وتبرق النّجوم في الفلك الوسيع، وفيه البحار تتموّج، وتُشاهد الأشجار خضلة نضرة، وفيه ترفل كافّة المخلوقات في نعيم الحياة، وعطايا لا حصر لها قد أعدّت له. لم يكن أيّ من هذه الأشياء موجودًا في عالم الرّحم. ففي ذلك العالم لم يكن لديه علم بهذا الاتّساع الهائل للوجود، بل لعلّه كان منكرًا لحقيقة هذا العالم. ولكنّه بعد ولادته بدأ يفتح عينيه ويرى عجائب هذا الكون غير المحدود. وبالمثل، طالما بقي الإنسان في رحم عالم البشر وطالما كان أسيرًا للطّبيعة، يكون بعيدًا كلّ البعد ودون علم بالكون الملكوتيّ. أمّا إذا نال ولادة ثانية، وهو لا يزال في عالم النّاسوت، فسيكون عارفًا بعالم اللاّهوت، وسيلاحظ أنّ هناك عالمًا آخر أسمى من عالمنا هذا. وعندئذ تتنزّل عليه النّعم البديعة، وتكون الحياة الأبديّة في انتظاره، ويحيطه المجد السّرمديّ. فهنالك تكون آيات الحقيقة والعظمة بتمامها. ويرى الأنوار الإلهيّة. وستكون كلّ هذه السّنوحات من نصيبه عندما يولد من العالم النّاسوتيّ إلى العالم اللاّهوتيّ. لذا فللإنسان الكامل ولادتان، أولاهما الولادة الجسمانيّة، وهي من رحم الأمّ، والثّانية هي الولادة الرّوحانيّة، وهي من عالم الطّبيعة. وفي كلتا الولادتين لا يكون عالِمًا بعالم الوجود الجديد الّذي يدخله. فالولادة الجديدة تعني خروجه من أسْر الطّبيعة، وتحرّره من التّعلّق بهذه الحياة المادّيّة الفانية. وهذه هي الولادة الثّانية أو الولادة الرّوحانيّة الّتي تحدّث عنها يسوع المسيح في الإنجيل.

غالبيّة النّاس هم أسارى رحم عالم الطّبيعة، غارقون في بحر المادّيّات. فعلينا أن ندعو لهم أن يولدوا من جديد، وأن ينالوا بصيرة وسمعًا روحانيّين، وأن يتلقّوا منحة امتلاك فؤاد جديد، وقوّة سامية جديدة، ويحظوا في عالم الأزل بفيض لا يتناهى من المواهب الرّبّانيّة.

يسير العالم في يومنا هذا في الظّلمات، لأنّه بعيد عن العالم الإلهيّ. وهذا هو السّبب في أنّنا لا نرى آثار الله في أفئدة العباد، كما لا نجد أثرًا لقوّة الرّوح القدس. فعندما يتجلّى الضّياء الرّوحانيّ الرّبّانيّ في عالم البشر ويظهر الإرشاد والهداية الرّبّانيّان، تأتي الاستنارة وتتحقّق روح جديدة في النّفوس وتحلّ قوّة جديدة وتُمنَح حياة جديدة. ويكون ذلك كالولادة من عالم الحيوان إلى عالم الإنسان. وعندما ينال الإنسان هذه الفضائل، تتجلّى وحدة العالم الإنسانيّ، ويرتفع لواء السّلام العالميّ، وتتحقّق المساواة بين كافّة البشر، ويصبح الشّرق والغرب متّحديْن. فعندئذ يتجلّى العدل الإلهيّ، وتبدو الإنسانيّة كلّها وكأنّها أعضاء أسرة واحدة، ويكون كلّ عضو في تلك الأسرة مكرِّسًا نفسه للتّعاون والتّعاضد. فتشرق أنوار محبّة الله، ويُكشف السّتار عن السّعادة الأبديّة، ويتحقّق السّرور الأبديّ والحبور الرّوحانيّ.

سأدعو، كما يجب أن تدعوا أنتم أيضًا، أن يتحقّق ذلك العطاء الملكوتيّ، وينمحي النّزاع والعداء، وتختفي الشّحناء وسفك الدّماء، وتنال القلوب خير وصال، ويشرب النّاس من معين واحد. وينهلون المعرفة من منبع إلهيّ واحد. فتصير كلّ القلوب متنوّرة بأشعّة شمس الحقيقة، ويدخل الجميع في معهد الله، ويكتسبون الفضائل الرّوحانيّة، ويسعون إلى العنايات الملكوتيّة. عندئذ يكون هذا العالم النّاسوتيّ، عالم الخلق، مرآةً لعالم الحقّ، وتنعكس الفضائل الرّبّانيّة النّابعة من عالم القدرة والهيمنة في تلك المرآة الصّافية.

(3) 1 سبتمبر/ أيلول 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد وليم سذرلاند ماكسويل وحرمه،
716 غرب طريق باين، مونترِيال، كندا

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

هناك اقتراح بأن نتحدّث عن خلود الرّوح.

إنّ الحياة تعبير عن التّركيب، والموت تعبير عن الانحلال. ففي عالم الجماد أو مملكته ثمّة عناصر أو موادّ أوّليّة. وعندما تتركّب تلك العناصر بمقتضى قانون الخليقة يأتي إلى الوجود كائن أو مخلوق من المخلوقات. فمثلاً إذا ما اجتمعت ذرّات معيّنة من المادّة يكون لدينا إنسان. وعندما يُهدم ذلك التّركيب ويتحلّل، يدبّ الانحلال ويكون ذلك هو الفناء أو الموت. وكذلك إذا ما تركّبت عناصر معيّنة يأتي حيوان إلى هذا الوجود. فإذا ما تفكّكت هذه العناصر أو تحلّلت يقال إنّ هذا هو موت ذلك الحيوان. كذلك، إذا ما ارتبطت ذرّات معيّنة بفعل التّجاذب الكيميائيّ يظهر إلى الوجود تركيب نسمّيه الزّهرة. وعندما تتفرّق هذه الذّرّات وينحلّ ما كوّنته من تركيب يحين أجل الزّهرة، أي تموت. فيتّضح إذًا أنّ الحياة هي تعبير عن التّركيب، أمّا الفناء أو الموت فهما بمثابة الانحلال. وبما أنّ روح الإنسان لا تتكوّن من عناصر مادّيّة فلا تكون قابلة للانحلال، وبالتّالي فلا موت لها. ومن الواضح أنّ الرّوح الإنسانيّ بسيطة مفردة وغير مركّبة وذلك حتّى تنال الخلود، ومن المبادئ الفلسفيّة أنّ الذّرّة الفرديّة أو غير القابلة للانقسام لا يعتريها الفناء. وكلّ ما هنالك أنّها تمر من خلال عمليّات متتالية من بناء وإعادة بناء. فمثلاً تُجمع هذه الذّرّات الفرديّة في تركيب، ويُخلق من هذا التّركيب كائن معيّن – فلنقل إنسان أو حيوان أو نبات. وعندما يتحلّل هذا التّركيب ينتهي ذلك الكائن المخلوق، ولكنّ الذّرّات التّكوينيّة لا تفنى، بل تستمر في الوجود لأنّها فرديّة وغير مركّبة. فيمكن القول إذًا بأنّ هذه الذّرّات الفرديّة أبديّة. وعلى نفس المنوال فإنّ الرّوح الإنسانيّ، طالما لم تكن مركّبة من عناصر أو ذرّات فرديّة – لكونها منزّهة عنها – فهي أبديّة أيضًا. وهذا برهان قائم بذاته على خلود الرّوح.

ثانيًا، فكّروا في عالم الأحلام، حيث يكون جسد الإنسان فيه ساكنًا، يبدو كالميّت، وغائب الوعي؛ فالعينان لا تبصران، والأذنان لا تسمعان، واللّسان أيضًا لا ينطق. ولكنّ روح الإنسان لا تنام، فهي ترى وتسمع وتتحرّك وتدرك الحقائق وتكشفها. فيتّضح إذًا أنّ روح الإنسان لا تتأثّر من تقلّبات الجسد وأحواله. بل إنّه حتّى إذا مات الجسد، تبقى الرّوح حيّة إلى الأبد، تمامًا كما تبقى وتعمل من خلال الجسد الخامد في عالم الأحلام. بمعنى أنّ الرّوح خالدة ومستمرّة في وجودها بعد هلاك الجسد.

ثالثًا، لبدن الإنسان هيئة واحدة. وفي معرض تركيبه تحوّلَ من هيئة لأخرى، ولكنّه لم يكن حائزًا أبدًا على هيئتين في وقت واحد. فمثلاً كان له وجود في المواد العنصريّة لمملكة الجماد، ثمّ انتقل من مملكة الجماد إلى مملكة النّبات ومكوّناتها، ومن ثمّ ارتقى بفعل التّطوّر من مملكة النّبات إلى مملكة الحيوان، ومن هنا بلغ مملكة الإنسان. وبعد تفكّكه وتحلّله يعود مرّة أخرى إلى مملكة الجماد تاركًا هيئته البشريّة متّخذًا لنفسه هيئة جديدة. وخلال هذه الانتقالات المتتالية كانت كلّ هيئة تتلو الأخرى، ولكن لا يكون الجسد حائزًا على أكثر من هيئة واحدة في أيّ وقت من الأوقات.

أمّا روح الإنسان فبمقدورها أن تبدو بكلّ الهيئات في وقت واحد. فمثلاً نقول إنّ الجسم المادّيّ يكون إمّا مربّعًا أو كرويًّا أو مثلّثًا أو مسدّسًا. وعندما يكون مثلّثًا لا يمكن له أن يكون مربّعًا؛ وعندما يكون مربّعًا لا يكون مثلّثًا. وبنفس الكيفيّة لا يمكنه أن يكون كرويًّا وسداسيًّا في الوقت ذاته. فهذه الهيئات أو الأشكال المختلفة لا تظهر في آن واحد من الشّيء المادّيّ الواحد. ولهذا يتعيّن على هيئة بدن الإنسان العنصريّ أن تهلك وتُترك قبل أن يتسنّى لها اتّخاذ شكل آخر. فالمقصود من الموت الإنسانيّ إذا هو الانتقال من شكل إلى آخر – أي الانتقال من مملكة الإنسان إلى مملكة الجماد. وعندما يموت الإنسان بالجسد فإنّه يعود إلى التّراب وهذا الانتقال مساوٍ للعدم. ولكنّ الرّوح الإنسانيّ نفسها تتضمّن جميع تلك الهيئات والأشكال والرّسوم في آن واحد. ومن غير الجائز كسر أو إهلاك أيّ شكل منها لكي تنتقل الرّوح منه إلى شكل آخر. والدّليل على ذلك أنّكم في هذه اللّحظة لديكم في الرّوح الإنسانيّ شكل التّربيع وهيئة التّثليث. وفي نفس الوقت أيضًا يمكنكم تخيّل شكل سداسيّ. وجميع هذه الأشكال يمكن تخيّلها في نفس اللّحظة في الرّوح الإنسانيّ، ولا يكون لأيّ منها حاجة لأن تهلك أو تكسر لكي تنتقل روح الإنسان من أيّ منها إلى الآخر. فلا عدم ولا هلاك، وتكون الرّوح الإنسانيّ بناء على ذلك خالدة، لأنّها لم تنتقل من جسم إلى جسم آخر.

إليكم برهان آخر: لكلّ فعل ردّ فعل والعكس بالعكس، ولا يمكن أن يكون هناك ردّ فعل بغير فعل يسبقه. والبصر ردّ فعل، ولا شكّ أنّ هناك سببًا وراء ردّ الفعل ذلك. فعندما نسمع حديثًا يكون هناك متكلّم. ولا يمكننا أن نسمع كلامًا ما لم يكن قد أتانا من لسان شخص يتكلّم. والحركة بغير محرّك أو مسبّب للحركة أمر لا يعقل. ولقد عاش يسوع المسيح منذ ألفي سنة مضت، ونحن نرى اليوم آياته اللاّئحة؛ فنوره يلمع، وسلطانه قد تأسّس، وآثاره ظاهرة، وأفضاله مشرقة. فهل يمكننا أن نقول إنّ حضرة المسيح لم يكن له وجود؟ فيمكننا الاستنتاج بشكل قاطع أنّ حضرة المسيح كان موجودًا وجاءتنا منه هذه الآثار.

هناك أيضًا برهان آخر: إنّ جسد الإنسان قد ينحف أو يسمن؛ وقد يصاب بالأمراض، ويعاني من التّشوّه؛ فلربما تعمى العينان، أو تصمّ الأذنان، ولكن لا يُلحِق أيٌّ من هذه العيوب والعاهات ضررًا أو أثرًا بالرّوح. فروح الإنسان تبقى على حالها لا تتغيّر. فقد يعمى الإنسان ولكنّ روحه تبقى كما هي. وقد يفقد السّمع أو تقطع يده أو تبتر ساقه، بيد أنّ روحه تظلّ كما هي. وقد يصبح بليدًا أو يصاب بالسّكتة الدّماغيّة، ولكن لا يكون هناك أيّ اختلاف أو تغيير أو تعديل في روحه. وهذا برهان على أنّ الموت هو هلاك الجسد ليس إلاّ، بينما تبقى الرّوح خالدة دائمة.

من ناحية أخرى، فإنّ كافّة كائنات العالم المادّيّ خاضعة للفناء والموت، ولكنّ الرّوح الخالدة لا تنتمي إلى العالم الظّاهريّ، فهي مقدّسة ومنزّهة عن الوجود المادّيّ. فإذا ما كانت روح الإنسان منتمية إلى الوجود العنصريّ لاستطاعت العين أن تبصرها، والأذن أن تسمعها، واليد أن تلمسها. وطالما لا يكون بوسع هذه الحواس الخمس أن تدركها، فالدّليل قائم قطعًا على أنّها لا تنتمي إلى العالم العنصريّ، وتكون بالتّالي في منأى عن الفناء أو الموت، وهما الظّاهرتان اللّتان لا تنفكّان عن مملكة الوجود المادّيّ. فإذا ما كانت كينونة ما غير خاضعة لحدود الحياة المادّيّة فهي أيضًا لا تخضع للموت.

هناك العديد من البراهين الأخرى على خلود روح الإنسان، وما هذه إلاّ بعض منها. ولكم تحيّاتي!

(4) 2 سبتمبر/ أيلول 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد وليم سذرلاند ماكسويل وحرمه،
716 غرب طريق باين، بمدينة مونترِيال، كندا

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

الطّبيعة هي العالم المادّيّ. وإذا ما نظرنا إلى عالم الطّبيعة نلاحظ أنّه عالم مظلم وناقص. فمثلاً، لو تركنا قطعة من الأرض على حالتها الطّبيعيّة ستصبح منبتًا للأشواك، وتنتشر فيها الحشائش الضّارّة والنّباتات البرّيّة، وتصير كأنّها من الأدغال. وتصبح الأشجار عديمة الأثمار، خالية من الجمال والتّناسق، وتتكاثر في جنباتها المظلمة الوحوش والحشرات والزّواحف الضّارّة. وهذا هو نقصان عالم الطّبيعة وعيوبه. ولتغيير هذه الأحوال علينا بتنظيف تلك الأرض وحرثها حتّى تنمو فيها الأزهار بدل الأشواك والحشائش – بمعنى يتوجّب علينا أن ننير عالم الطّبيعة المظلم. فالغابات في حالتها البدائيّة الطّبيعيّة قاتمة مظلمة لا تنفذ إليها أشعّة الشّمس، فما إن يعرّضها الإنسان لضوء الشّمس ويزيل الحشائش المتشابكة ويغرس فيها الأشجار المثمرة، سرعان ما تنقلب الغابة البرّيّة بستانًا يؤتي بالثّمار وتصبح حدائقَ غنّاء، فيحلّ النّظام محلّ الفوضى ويصبح عالم الطّبيعة المظلم منيرًا بفضل الزّراعة والرّعاية.

كذلك الإنسان، لو أنّنا تركناه على حالته الطّبيعيّة لأصبح أحطّ من الحيوان وبقي جاهلاً بليدًا. فقبائل أواسط إفريقيا المتوحّشة هي مثال حيّ على هذا. فبما أنّهم تُركوا على حالتهم الطّبيعيّة فقد غرقوا في أدنى دركات البربريّة، يتلمّسون طريقهم في عالم من ظلام العقل والأخلاق. فإذا أردنا أن ننير عالم الوجود المظلم، وجب علينا عتق الإنسان من أسر الطّبيعة اليائس، وتربيته وإرشاده إلى سبيل النّور والمعرفة، إلى أن يصير حكيمًا وعالمًا بعد انتشاله من وهدة جهله؛ فلا يبقى متوحّشًا نزّاعًا للانتقام، ويصير متمدّنًا وشفوقًا، ويصبح موهوبًا بفضائل الملكوت بعد أن كان سيّئ الخلق شرّيرًا. ولكنّنا لو تركناه على حالته الطّبيعيّة ولم نقم بتربيته وتعليمه، فمن المؤكّد أنّه سيصير أشدّ انحطاطًا وشراسة من الحيوان، بل قد يتدنّى إلى الدّرجة الّتي نرى عليها القبائل الإفريقيّة الّتي تأكل أبناء نوعها. فيتّضح إذًا أنّ عالم الطّبيعة يبقى ناقصًا وغير كامل إلى أن يتنبّه ويتنوّر بنور التّربية والتّعليم وحوافزه.

هناك اليوم مدارس فلسفيّة جديدة تدّعي من غير تبصّر أنّ عالم الطّبيعة كامل. فإن صحّ هذا القول فلماذا نعلّم التّلاميذ ونربّيهم في المدارس، وما فائدة التّحصيل المطوّل للعلوم والفنون والآداب في الكلّيّات والجامعات؟ وما الّذي كنّا سنجنيه إذا ما تركت البشريّة على حالتها الطّبيعيّة دون تربية أو تعليم؟ إنّ جميع الاختراعات والإنجازات العلميّة قد ظهرت نتيجة المعرفة والتّعليم. فالبرق والحاكي والهاتف كانت على سبيل المثال مستورة كامنة في عالم الطّبيعة، ولم يكن لها أن تأتي إلى عالم الشّهود لو لم يتسنَّ للإنسان أن يستنبط ويكتشف القوانين الّتي تحكمها بفضل التّربية والتّعليم، ولظلّت كلّ نواحي التّقدّم البديعة وإعجازات ما نسمّيه بالمدنيّة كلّها مخفيّة مجهولة، بل غير موجودة إن صحّ التّعبير، إذا ما ظلّ الإنسان على حالته الفطريّة محرومًا من مواهب التّربية والثّقافة العقليّة ونعمها ومزاياها. والفرق الجوهريّ بين الإنسان الجاهل والفيلسوف الحاذق هو أنّ الجاهل تُرك ليبقى على حالته الفطريّة، في حين أنّ العالِم تلقّى التّربية والتّعليم بانتظام في المدارس والكلّيّات حتّى أصبح ذهنه متيقّظًا ومتفتّحًا على عوالم أسمى من الفكر والإدراك، وما عدا ذلك فكلاهما بشر، وكلاهما على الفطرة.

من أجل إحياء نفوس البشر نحو إدراكات سامية ربّانيّة أرسل الله الأنبياء وأنزل الكتب السّماويّة من أجل هذا الغرض الجليل. ومن أجل هذا نَفَخ نفثات الرّوح القدس في رياض قلوب العباد وفَتَح أبواب الملكوت على وجوه البشر وأرسل الإلهامات الغيبيّة من لدنه. ولقد مُنح الإنسان هذه القوى الإلهيّة المثاليّة حتّى يتطهّر من نقائص الطّبيعة ويسمو بروحه إلى عوالم القوّة والقدرة. وشاء الله أن تتبدّد ظلمات عالم الطّبيعة وتزول الأخلاق الذّميمة من النّفس البدائيّة مع إشراق أنوار شمس الحقيقة. فبعث الأنبياء من أجل تربية نفوس البشر، وتحريرها من أسر الغرائز الفطريّة والنّزعات المادّيّة. ومثل الأنبياء كمثل البستانيّ، والخلق كالحقل والأرض البرّيّة والدّغل الشّيطانيّ الّذي يشرعون بفلاحته. فهم يقوّمون الأغصان المعوجّة ويحوّلون الأشجار غير المثمرة إلى مثمرة ويقلّبون تدريجيًّا هذه البراري غير المنتظمة إلى بستان بهيج يأتي بأشهى الثّمار وأوفر الحصاد.

لو كان عالم الطّبيعة تامًّا وكاملاً لما كانت هناك حاجة للتّربية والتّهذيب في العالم الإنسانيّ – أي لما كانت هناك حاجة إلى معلّمين ومدارس وجامعات وفنون وحرف. ولما كانت هناك ضرورة إلى رسالات الأنبياء، ولكانت الكتب السّماويّة بغير جدوى. وإذا ما كان عالم الطّبيعة كاملاً ووافيًا باحتياجات البشر، لما كانت لنا حاجة إلى الله أو لإيماننا به. فنعمة وجود هذه الوسائط والوسائل العظيمة لبلوغ الحياة الملكوتيّة راجعة إلى كون عالم الطّبيعة ناقصًا ومفتقرًا إلى الكمال. لاحظوا كيف كانت هذه البلاد الكنديّة أيّام تاريخ مونترِيال القديم عندما كانت الأرض برّيّة غير مزروعة وعلى فطرتها. لقد كانت التّربة جدباء صخريّة وغير مأهولة بالسّكان تقريبًا – وأينما نظرنا لم يكن هناك سوى الغابات الشّاسعة. فما هي تلك القوّة الغيبيّة الّتي جعلت هذه المدينة العظيمة تظهر وتزدهر وسط هذه الظّروف الوحشيّة القاهرة؟ إنّه العقل البشريّ. إذًا فالطّبيعة ناقصة وما ينتج عن نواميس الطّبيعة ناقص أيضًا. فقام عقل الإنسان وأكمل هذه النّواقص، فصرنا نرى الآن مدينة عظيمة بدلاً من البراري الشّاسعة. وقبل أن يأتي كولومبس كانت أمريكا نفسها بدائيّة، وكانت عبارة عن امتدادات شاسعة موحشة من غابات وجبال وأنهار – أي كانت مثالاً صادقًا على عالم الطّبيعة. أمّا الآن فقد أصبحت نموذجًا لعالم الإنسان. كانت مظلمة منيعة موحشة، فأصبحت مستنيرة بمدنيّة ورخاء عظيمين. ونرى مكان الغابات مزارعَ وفيرة الغلّة، وحدائقَ جميلة وبساتين خصبة، وبدلاً من الأشواك والحشائش عديمة الفائدة نجد أزهارًا وحيوانات مستأنسة وحقولاً تنتظر أوان الحصاد. ولو كان عالم الطّبيعة كاملاً لظلّت هذه البلد العظيمة على سابق حالها.

ولو ولد طفل وتركناه على حالته الطّبيعيّة محرومًا من التّربية، فلا شكّ أنّه سينشأ على الجهل والأمّيّة، وتتبلّد قواه العقليّة وتظلم، بل يصبح في الحقيقة مثل الحيوان. وهذا واضح بين المتوحّشين في أواسط إفريقيا الّذين هم بالكاد أرقى من الحيوان من حيث النّموّ الذّهنيّ.

النّتيجة الدّامغة هي أنّ أنوار شمس الحقيقة، أي الكلمة الإلهيّة، كانت منبع الرّقيّ الإنسانيّ وسبب الحضارة البشريّة. إنّ عالم الطّبيعة هو عالم الحيوان. والحيوان كامل بحالته الفكريّة وعالمه المحدود. والوحوش المفترسة خاضعة تمامًا لنواميس الطّبيعة في نموّها وتطوّرها. وليس هناك تعليم وتربية لها، وليس لها قدرة على الاستنتاج العقليّ والمثاليّات الذّهنيّة، وليس لها صلة بعالم الرّوح، ولا خبر لها عن الله أو الرّوح القدس. ولا يستطيع الحيوان أن يعرف أو يدرك القوّة الرّوحانيّة للإنسان، ويتصوّر الإنسان شبيهًا له ولا يرى فرقًا بينهما، ذلك لأنّ استعداداته محدودة بحدود الحواس وهو يعيش أسيرًا للطّبيعة ومحدودًا بنواميسها. والحيوانات جميعها تنتمي لعالم الطّبيعة المادّيّ وهي منكرة لله غير مدركة للقوى الغيبيّة الموجودة في هذا الكون ولا علم لها عن الأنبياء والكتب المقدّسة – أي أنّها لا تخرج عن كونها أسيرة للطّبيعة وللمحسوسات. والواقع إنّها أشبه بالفلاسفة العظماء في هذا اليوم – هؤلاء الّذين لا صلة لهم بالله وبالرّوح القدس، المنكرون للأنبياء الغافلون عن الإحساسات الرّوحانيّة المحرومون عن فيوضات الملكوت، غير المؤمنين بالقوى الغيبيّة. والحيوان يرتع في هذا النّوع من الحياة بكلّ وداعة وسكون. بينما ينكبّ الفلاسفة الطّبيعيّون على العمل والدّراسة لعشرة سنوات أو عشرين سنة في المدارس والكلّيّات وهم منكرون لله والرّوح القدس والإلهامات الإلهيّة. بل إنّ الحيوان فيلسوف أعظم لأنّه يكتسب القدرة على ذلك دون عناء أو تحصيل. فمثلاً تنكر البقرة وجود الله والرّوح القدس، ولا تعلم شيئًا عن الإلهامات الرّبّانيّة والفيوضات الملكوتيّة والإحساسات الرّوحانيّة، وهي غريبة عن عالم الأفئدة والقلوب. فشأنها شأن الفلاسفة من حيث كونها أسيرة للطّبيعة ولا تعلم شيئًا يخرج عن نطاق الحواس. وهؤلاء الفلاسفة يفتخرون بذلك قائلين ‘لسنا أسراء للخرافات والأوهام. فلدينا إيمان ذاتيّ بالانطباعات الحسّيّة، ولا نعلم شيئًا خارج عالم الطّبيعة الكاملة الشّاملة لكلّ شيء.’ أمّا البقرة، فإنّها بغير درس أو تبحّر في العلوم تنظر إلى الحياة بكلّ تواضع ودعة من نفس المنظور، وتعيش في وئام مع نواميس الطّبيعة وهي في غاية الوقار والنّبل.

ليس في هذا فخر للإنسان، إنّما فخره بالمعرفة الرّبّانيّة، والإحساسات الرّوحانيّة، وتنسّم أخبار ما وراء الطّبيعة، والاستفاضة من نفثات الرّوح القدس. وفخر الإنسان في اطّلاعه على التّعاليم الإلهيّة. هذا هو فخر البشريّة. فالجهل ليس فخرًا إنّما هو ظلام. فهل من الممكن أن تكون هذه النّفوس الّتي هي في أسفل دركات الجهل مطّلعة على الأسرار الإلهيّة وعلى حقائق الوجود، ويسوع المسيح محروم من ذلك؟ وهل من الممكن أن تكون إدراكات هذه النّفوس أعظم من إدراك السّيّد المسيح؟ لقد كان حضرة المسيح إلهيًّا سماويًّا ملكوتيًّا وكان تجسيدًا للمعرفة الرّوحانيّة وكان إدراكه أسمى من هؤلاء الفلاسفة. فقد كان عقله أكبر وإدراكه أوسع وعلمه أكمل. إذًا فكيف صرف حضرته النّظر وحرم نفسه من كلّ شيء في هذه الحياة الدّنيا؟ لقد أعرض عن هذه الحياة الجسمانيّة وحرم نفسه من الرّاحة والنّعمة وقبل جميع البلايا وتحمّل جميع الرّزايا طواعية. ذلك لأنّه كان ذا إحساسات روحانيّة وكان ذا قوّة من الرّوح القدس. كان يشاهد أنوار الملكوت الرّبّانيّ، وكان تجسيدًا للفيوضات الإلهيّة وكانت له قوى معنويّة، وكان مستنيرًا بالمحبّة والرّحمة، وكذلك أيضًا كان جميع أنبياء الله.

(5) 3 سبتمبر/ أيلول 1912

خطاب حضرة عبدالبهاء للقادة الاشتراكيّين والعمّاليّين
في قاعة التّتويج، مونترِيال، كندا

قد يتراءى لنا بأنّ جميع الكائنات يمكنها أن تعيش وحيدة منفردة. فالشّجرة على سبيل المثال بإمكانها أن تعيش منعزلة وحيدة في أحد السّهول أو الوديان أو على سفح جبل. ويمكن لحيوان يسكن جبلاً، أو طائر يحلّق في الهواء، أن يعيش حياة منعزلة. فهم ليسوا في حاجة إلى تعاون أو تعاضد. فهذه الكائنات الحيوانيّة تنعم بمنتهى الرّاحة والسّعادة في حياة العزلة.

أمّا الإنسان فهو على النّقيض من ذلك لا يستطيع أن يحيا وحيدًا فريدًا. فهو بحاجة إلى دوام التّعاون والتّآزر. ولنضرب مثلاً، إنسانًا يعيش وحيدًا في البرّيّة فلا محالة أنّه سيتضوّر جوعًا في النّهاية، إذ ليس بوسعه أبدًا أن يوفّر لنفسه كل ضروريّات الحياة وهو وحيد فريد. فهو محتاج إذًا إلى التّعاون والتّبادل. والحكمة في هذه الظّاهرة والغرض منها هو أنّ الإنسان قد خلق من أصل واحد، وانشعب من عائلة واحدة. وبالتّالي فإنّ كافّة البشر هم في حقيقة الأمر عائلة واحدة. فالله لم يوجد أيّ فرق وإنّما خلقهم جميعًا كنفس واحدة كي تحيا هذه العائلة بكمال السّعادة والرّخاء.

أمّا عن التّبادل والتّعاون، فعلى كلّ عضو في الهيئة الاجتماعيّة أن يحيا بتمام الرّاحة والرّفاهية، لأنّ كلّ فرد في البشريّة هو عضو في الهيئة الاجتماعيّة، وإذا ما ألمّ بعضو من الأعضاء مكروه أو انتابه مرض فلا بدّ أن تعاني سائر الأعضاء الأخرى. فالعين مثلاً هي عضو من أعضاء الجسم البشريّ. فإذا ما تضرّرت العين كان ذلك سببًا في تأثّر الجهاز العصبيّ بأكمله. وبالكيفيّة نفسها فإنّه إذا أصيب عضو في الهيئة الاجتماعيّة بمكروه، فلا شكّ أنّ الكلّ، من منظور صلة التّراحم، سوف يكون لهم نصيب من ذلك المكروه طالما أنّ المصاب هو عضو في هذه الهيئة، وجزء من ذلك الكلّ. فهل يجوز أن يكون عضو أو جزء في كرب ويكون باقي الأعضاء في راحة واطمئنان؟ لا والله! فمرام الله أن ينعم كلّ فرد في الهيئة الاجتماعيّة البشريّة بتمام الرّاحة والرّخاء.

على الرّغم من كون الهيئة الاجتماعيّة أسرة واحدة، إلاّ أنّه، ولغياب الرّوابط الحميمة، يعيش بعض أعضائها في راحة والبعض الآخر في غاية الشّقاء، بعضهم شبعى وآخرون جوعى، البعض يرفلون في أغلى الثّياب بينما بعض الأسر يعوزها القوت والمأوى. فما السّبب يا ترى؟ لأنّ هذه العائلة (الإنسانيّة) تفتقر إلى التّبادل الضّروريّ والتّوافق، فهي عائلة مختلّة التّرتيب ولا تحيا بمقتضى قانون مثاليّ. فكلّ القوانين الّتي تسنّ لا تضمن السّعادة ولا توفّر الرّاحة. لذا وجب وضع قانون لهذه العائلة ينعم بمقتضاه كلّ واحد فيها بقسط متساو من الرّخاء والسّعادة في حياته.

فهل يجوز لعضو في العائلة أن يرزح تحت بؤس شديد وفقر مدقع، بينما باقي العائلة في بحبوحة وارتياح؟ طبعًا لا يجوز هذا إلاّ إذا كان هؤلاء الأقرباء عديمي الإحساس، متبلّدين، غير كرماء ، وغير رحماء. وكأنّ لسان حالهم يقول: مع أنّ هؤلاء ينتمون لعائلتنا، ولكن دعهم وشأنهم، ولنلتفت نحن إلى أنفسنا. دعهم يموتون، فطالما كنت أنا مرتاحًا ومنعّمًا وسعيدًا، فلا بأس إن مات أخي هذا. إن كان بائسًا فليبقَ في بؤسه، طالما كنت أنا مرتاحًا. إذا كان جائعًا، فبها، لأنّي شبعان. أو عريانًا، فلا بأس طالما كنت أنا مكسوًّا. أو شريدًا بغير مأوى، فليبق في العراء، طالما عندي دار تأويني.

إنّ هذه الحالة من عدم الاكتراث التّامّ في الأسرة الإنسانيّة راجعة إلى غياب الضّابط، وغياب قانون فاعل، وغياب الشّفقة من بيننا. فإذا ما عومل كلّ من ينتمي إلى تلك الأسرة بالرّأفة والشّفقة فإنّ كافّة أفرادها سينعمون لامحالة بالرّاحة والهناء.

لقد منحنا حضرة بهاء الله تعليمات لكلّ مسألة تواجهها البشريّة. إذ أعطى مبادئ وتعاليم فيما يتعلّق بكلّ مشكلة من المشاكل الّتي يعاني منها الإنسان، ومن بينها تلك [التّعاليم] الّتي تتعلّق بالمسألة الاقتصاديّة، حتّى ينعم كلّ عضو في الهيئة الاجتماعيّة، بفضل حلّ هذه المسألة، في أقصى درجة من الهناء والرّخاء والرّاحة، دون أن يلحق بالنّظام العامّ أيّ خلل أو ضرر. فلا يبقى بعد ذلك أيّ تمايز أو تناحر، ولا تحصل فتنة أو تشاجر. وهذا الحلّ هو كما يلي:

أوّلاً وقبل كلّ شيء يأتي ذلك المبدأ المنادي بأنّ لكلّ عضو في الهيئة الاجتماعيّة الحقّ في أن يحصل على أكبر قدر ممكن من خيرات هذا العالم. أي يجب أن يحظى كلٌّ منهم بأكبر قسط ممكن من الرّخاء وراحة العيش. ولحلّ هذه المسألة، علينا أن نبدأ أوّلاً بالفلاّح، فنرسي قواعد النّظام والقانون حيثما يعيش، ذلك لأنّ طبقة الفلاّحين والمزارعين تفوق ما عداها من الطّبقات في أهميّة ما تسديه من خدمة. فيجب أن يؤسّس في كلّ قرية مخزنٌ عموميٌّ تخصّص له واردات معيّنة.

أوّل هذه الواردات هي واردات العُشر.

ثانيها يأتي من الرّسوم الّتي تفرض على الحيوانات.

الإيراد الثّالث يتحصّل عن المعادن، والمقصود هو أنّ كلّ منجم يجري التّنقيب فيه أو يُكتشف، يؤخذ ثلث ما يستخرج منه لهذا المخزن الكبير.

الإيراد الرّابع هو أنّ كلّ من توفّي ولا وريث له تذهب تركته بكاملها إلى هذا المخزن العموميّ.

الخامس هو أنّ كلّ ما يُعثر عليه في الأرض من دفائن يخصّص لذلك المخزن.

فكلّ هذه الواردات تتجمّع في ذلك المخزن.

بالنّسبة لأولى هذه الواردات، أي واردات العُشر، فيتمّ تحصيلها وفقًا لما يلي: فلو أخذنا مثلاً أحد المزارعين أو الفلاّحين، فإنّنا ننظر في موارده، ونتحرّى عن دخله ومصروفاته خلال العام. فإذا كان دخله مساويًا لمصروفاته، فلا يؤخذ من مثل هذا المزارع شيء، أي أنّه لا يُفرض عليه أيّ نوع من الضّرائب، ذلك لأنّه محتاج إلى كلّ ما كسبه. أمّا إذا كان هناك مزارع آخر بلغت مصروفاته، مثلاً، ألف دولار وكان دخله ألفيّ دولار، فيؤخذ من مثل هذا الفلاح عُشر دخله، لأنّ لديه فائضًا. أمّا إذا كان دخله عشرة آلاف أو عشرين ألف دولار بينما كانت مصاريفه ألف دولار، فعليه أن يدفع ربع دخله هذا على سبيل الضّرائب. أمّا إذا كان دخله مائة ألف دولار، وكانت مصروفاته خمسة آلاف، فحينئذ يجب عليه دفع ثلث إيراده لأنّه سينعم بفائض رغم هذا الاستقطاع، طالما كانت مصروفاته خمسة آلاف وإيراداته مائة ألف. فإذا ما دفع ضريبة مقدارها خمسة وثلاثون ألف دولار بجانب مصروفاته البالغة خمسة آلاف، يبقى له مع ذلك فائض مقداره ستّون ألفًا. إلاّ أنّه إذا ما كانت مصروفات ذلك الفلاّح عشرة آلاف وكان دخله مائتي ألف، فعليه أن يدفع نصف هذا الدّخل كاملاً، لأنّ ما سيفيض لديه في هذه الحالة تسعون ألفًا. وعلى هذا المنوال يتمّ احتساب ما يُستقطع من ضرائب. ويؤول كلّ دخل يأتي من هذه الواردات إلى هذا المخزن العموميّ.

ثمّ يجب النّظر أيضًا في الحالات الطّارئة على النّحو التّالي: فإذا كان هناك مزارع بلغت مصروفاته عشرة آلاف دولار وكان دخله خمسة آلاف فقط، فإنّه يتلقّى من المخزن ما يلزمه للإيفاء بباقي مصروفاته الضّروريّة. فتخصّص له خمسة آلاف دولار حتّى لا يبقى محتاجًا.

كما يعتني المخزن بالأيتام أيضًا، فيتكفّل بنفقات معيشتهم، وكذلك المعوّقين والمعوزين في القرية، إذ تهيّأ لهم نفقاتهم الضّروريّة. وكذلك الحال مع أصحاب الاحتياجات الخاصّة، كالمكفوفين والعجزة والصّمّ – فأولئك تجب رعايتهم. فلا يبقى في القرية معوز أو محتاج، ويحيا الجميع بمنتهى الرّاحة والسّعادة. بينما لا يلحق بالنّظام العامّ للهيئة الاجتماعيّة أيّ خلل.

وبهذا نكون قد وضّحنا مصروفات أو نفقات المخزن العموميّ وفصّلنا أوجه عمله، كما بيّنا أيضًا وارداته. ويجب أن ينتخب سكّان القرية أمناء للإشراف على هذه المعاملات. فيلقى المزارعون الرّعاية والعناية اللاّزمة، وإذا ما تبقّى بالمخزن فائض بعد استقطاع كلّ هذه النّفقات، فيجب أن يحوّل إلى الخزانة العامّة.

لقد وُضِع هذا النّظام بهذا التّرتيب كي يكون الفقير في القرية مرتاحًا، ويحيا فيها اليتيم سعيدًا هانئًا. والخلاصة لا يترك أحد معوزًا. فيحيا بذلك كلّ فرد في الهيئة الاجتماعيّة في راحة وهناء.

وطبيعيّ أن يكون بالنّسبة للمدن الكبيرة نظام أوسع نطاقًا من ذلك. وإذا ما أردنا تفصيل ما يجب أن يُتّخذ من إجراءات في المدينة لحلّ المشكلة الاقتصاديّة لطال بنا المقال.

وثمرة هذا [النّظام] أن يحيا كلّ فرد في الهيئة الاجتماعيّة بغاية الرّاحة والسّعادة دون أن يكون تحت أيّ التزام لأحد. ومع ذلك يجب الإبقاء على الرّتب، لأنّ الرّتب لازمة في عالم البشر. إذ إنّ الهيئة الاجتماعيّة يمكن تشبيهها بالجيش إلى حدّ كبير. ففي الجيش لا بدّ من وجود القائد الأعلى ووجود العقيد ووجود الضّابط ووجود الجندي، إلاّ أنّهم جميعًا يجب أن ينعموا بأقصى قدر ممكن من الرّاحة والهناء.

ليس عند الله محاباة أو مراعاة لخاطر أحد. فلكلّ نفس رزق معلوم عنده، ويأتي الحصاد من أجل الجميع، ويغدق الله بالمطر على كلّ نفس، ومقدّر لحرارة الشّمس أن تدفئ الكلّ، وحقول الأرض هي من أجل الجميع. ولذا يجب أن يكون أقصى ما يمكن من السّعادة والرّاحة والرّخاء من نصيب البشريّة جمعاء.

أمّا إذا كانت الأحوال بحيث يكون البعض سعداء مرتاحين، والبعض الآخر في شقاء، البعض يكدّس أموالاً طائلة وآخرون في فقر مدقع، ففي ظلّ نظام كهذا يستحيل على الإنسان أن يكون سعيدًا ويستحيل عليه أيضًا أن يفوز برضاء الله. فالله رؤوف بالكلّ، ورضاء الله يكمن في راحة كلّ إنسان.

لقد حدث أن كان هناك ملك من ملوك إيران يحيا بغاية التّرف والرّاحة في قصره. ومن فرط غبطته وسروره خاطب رجلاً ذات ليلة قائلاً: إنّ هذه هي أسعد لحظات حياتنا، فالحمد لله أينما توجّهنا يطالعنا الرّخاء ويبتسم لنا الحظّ. والخزينة مملوءة والجيش معتنى به جيّدًا. وقصورنا عديدة وضياعنا لا حصر لها، وعائلتنا موسرة، وجاهنا وسلطاننا عظيمان. فما الّذي نريده أكثر من ذلك؟

فردّ الرّجل الفقير الّذي كان واقفًا بباب القصر قائلاً: أيّها الملك الرّؤوف. هب أنّك سعيد من كلّ النّواحي، وخليّ البال من كلّ همّ وغمّ، أفلا تأبه بحالنا. تقول أنّه لا شيء يقلقكم، ولكن ألا تقلق أبدًا على الفقراء في ضياعكم؟ وهل يجمل أو يصحّ أن تكونوا على هذا الثّراء ونحن بهذا العوز والاحتياج؟ وكيف يهنأ لكم العيش في قصركم، أو تقولوا أنّ بالكم خالٍ من كلّ همّ وغمّ، مع احتياجنا ومتاعبنا؟ فلا يجمل بك بصفتك حاكمًا للبلاد أن تكون أنانيًّا لا تفكّر إلاّ بنفسك، بل عليك أن تفكّر فينا نحن رعيّتك. فلو كنّا مرتاحين كنت أنت أيضًا مرتاحًا، وإذا كنّا مغمومين فكيف تكون سعيدًا وأنت مليكنا؟

القصد من هذا المثال هو أنّنا جميعًا سكّان كرة أرضيّة واحدة، بل إنّنا في الحقيقة أسرة واحدة وكلّ واحد منّا عضوٌ فيها. فعلينا أن نحيا جميعًا بتمام السّعادة والرّاحة، في ظلّ قانون ونظام عادلين بما يرضي الله، وهذا ما يمنحنا السّعادة خاصّة وأنّ هذه الحياة الدّنيا هي حياة عابرة.

إذا ما قَصَر الإنسان اهتمامه على نفسه فقط لأصبح مجرّد حيوان، لأنّ الحيوانات وحدها هي الأنانيّة على هذه الشّاكلة. فإذا ما قدت ألف رأس شاة من الغنم إلى نبع ماء ثمّ ذبحت منها تسعمائة وتسعًا وتسعين نعجة، لظلّ الرأس النّاجي يرعى غير عابئ بغيره دون أن يشغل باله أبدًا بمن فُقدوا، وغير مكترث بأنّ جنسه قد قضى نحبه، أو هلك وفتك به أحد. فاعتناء المرء بنفسه فقط هو إذًا من خصائص الحيوان. فمن شأن الحيوان أن يحيا وحيدًا فريدًا، ومن جبلّته أن يهتمّ براحته هو دون غيره. أمّا الإنسان فقد خلق لكي يكون إنسانًا – أي لكي يكون نزيهًا، لكي يكون عادلاً، لكي يكون رحيمًا شفوقًا بكافّة بني جنسه، فلا يرضى أبدًا لنفسه بأن يكون موسرًا بينما الآخرون في عوز وكرب. فهذه صفة من صفات الحيوان لا الإنسان. بل على الإنسان أن يكون على استعداد ليشقى كي ينعم غيره بالرّخاء، ويستمرئ المتاعب حتّى ينعم غيره بالسّعادة والرّفاه. هذه هي شيم الإنسان، وهذا ما يليق بالإنسان، وإلاّ فلن يكون الإنسان إنسانًا – بل يكون أحطّ من الحيوان.

لا شكّ في أنّ الإنسان الّذي لا يفكّر إلاّ في نفسه ولا يكترث بغيره هو أدنى من الحيوان، لأنّ الحيوان عريّ عن ملكة العقل. فللحيوان عذره أمّا الإنسان فلديه ملكة العقل، وملكة العدل، وملكة الشّفقة. ولكونه حائزًا على هذه الملكات فلا يجمل به أن يهملها. ومَن كان قلبه قاسيًا إلى حدّ التّفكير في راحته هو فحسب، ففردٌ كهذا لا يمكن أن يُسمّى إنسانًا.

فالإنسان هو من ينسى مصالحه الشّخصيّة من أجل غيره، ويضحّي براحته من أجل رفاه العموم. لا بل يكون مستعدًّا ليضحّي بحياته من أجل حياة سائر البشر. وإنسان كهذا هو شرف لعالم الإنسان. وإنسان كهذا هو فخر لعالم البشر. وإنسان كهذا هو الّذي يفوز بالنّعيم الأبديّ. وإنسان كهذا هو المقرّب إلى العتبة الرّبّانيّة. وإنسان كهذا هو عين تجلّي السّعادة الأبديّة. وبغير ذلك تكون البشر كالأنعام، تعيش بنفس غرائز ونزعات معشر الحيوان. فأيّة أفضليّة لهم إذًا؟ وأيّ امتياز وأيّ كمال؟ لا شيء من هذا أبدًا! بل إنّ الحيوانات تكون أفضل منهم – لأنّها جبلت على أن تفكّر في نفسها فقط ولا تلقي بالاً لما يحتاجه غيرها.

لاحظوا عظماء الرّجال في العالم ، أنبياء كانوا أم فلاسفة، كم نسوا راحتهم، وكم ضحّوا بهنائهم من أجل خير البشريّة. بل إنّهم بذلوا حياتهم من أجل الهيئة الاجتماعيّة، وضحّوا بأموالهم من أجل خير ومصلحة العموم. وقبلوا الذّلّة من أجل عزّة البشريّة. فيكون من الواضح إذًا أنّ هذا هو أسمى ظفر لعالم الإنسان.

نسأل الله أن ينعم على نفوس البشر بالعدل، حتّى يكونوا منصفين، وأن يجهدوا من أجل توفير الرّاحة للجميع، ومن أجل أن يعيش كلّ واحد من بني البشر حياته في أتمّ راحة وهناء. وعندئذ يصير هذا العالم التّرابيّ جنّة الفردوس بعينها، ويصبح هذا التّراب العنصريّ ملكوتيًّا، ويحيا عباد الله جميعًا بغاية الحبور والسّرور والابتهاج. فعلينا جميعًا أن نجهد ونحصر كلّ همّنا من أجل أن تتحقّق هذه السّعادة في عالم الإنسان.

أمّا مسألة الاشتراكيّة فهي في غاية الأهميّة. إلاّ أنّ هذه المسألة لا تحلّ بالإضرابات من أجل زيادة الأجور. بل على حكومات العالم أن تتضافر وتنظّم مجلسًا يُنتخَب أعضاؤه من برلمانات الأمم ونبلائها. وعلى هؤلاء أن يجروا التّدابير بغاية الحكمة والعزم حتّى لا يعاني أصحاب رأس المال من خسائر فادحة أو يبقى العمّال محتاجين. عليهم أن يسنّوا قانونًا بغاية الاعتدال، ثمّ يعلنوا على النّاس أنّ حقوق العمّال ستراعى دونما أيّ تراخٍ. وأنّ حقوق أصحاب الأموال ستراعى أيضًا. وإذا ما اتُّبِع مثل هذا التّرتيب العامّ بإرادة كلا الطّرفين ثمّ حدث بعد ذلك إضراب، فعلى حكومات العالم مجتمعة أن تقاومه. وبغير ذلك فإنّ مشكلة العمّال ستُفضي إلى ضرر بالغ خاصّة في أوروبّا. وعندئذ يحدث ما لا تحمد عقباه.

فعلى أصحاب الأملاك والمناجم والمصانع،على سبيل المثال، تقاسم دخلهم مع عمّالهم ومنح نسبة عادلة ممّا يحصلون عليه لمن يستخدمونهم من العمّال، وبذلك يحصل العمّال، إلى جانب أجورهم، على جزء من الدّخل العموميّ الّذي يدرّه المصنع، كي يجتهد العامل في عمله بكلّ قلبه.

لن يُكتب البقاء لأيّ احتكار في مقبل الأيّام، وسيُقضَى على مسألة الاحتكارات بالكلّيّة. كما أنّ كلّ مصنع رأسماله عشرة آلاف سهم على سبيل المثال سيعطي ألفين من هذه الأسهم إلى موظفيه ويكتبها باسمهم كي تكون ملكهم، وتبقى باقي الأسهم مملوكة لأصحاب رأس المال. ثمّ يتمّ في نهاية الشّهر أو العام اقتسام ما كسبوه بينهم، بعد خصم المصروفات وسداد الأجور، وذلك طبقًا لعدد الأسهم. وفي واقع الأمر، فإنّ هناك غُبنًا عظيمًا يحيق بعامّة النّاس. ويجب أن تُسنّ القوانين لرفع هذا الغبن لأنّه يستحيل على العمّال أن يرضوا بالنّظام الحاليّ. فسوف يضربون كلّ شهر وكلّ سنة. وفي النّهاية سيخسر الرّأسماليّون. ففي قديم الزّمان حدث إضراب بين عساكر تركيّا، إذ قالوا للحكومة إنّ أجورنا ضئيلة ويجب زيادتها. فاضطرّت الحكومة لأن تلبّي مطلبهم. وبعدها بقليل أضربوا ثانية، وانتهى الحال بأن دخلت كلّ موارد الدّولة في جيوب العسكر، وفي النّهاية قتلوا السّلطان قائلين: لماذا لم تزد إيرادات الدّولة كي نحصل على المزيد؟

من المستحيل على أيّ بلد أن يحيا حياة كريمة بغير تشريعات تنظّم حياته. فلحلّ هذه المسألة يجب أن تسنّ قوانين ناجعة كي تصبح كلّ حكومات العالم حامية لها.

بيد أنّ المساوة في ظلّ المبادئ البلشفيّة تُجرى قسرًا. فالجماهير الّتي تناصب العداء لأصحاب المناصب وطبقة الأثرياء تتطلّع إلى أن تشاطرهم امتيازاتهم.

أمّا في التّعاليم الإلهيّة فإنّ المساواة تتحقّق بالإرادة الطّوعيّة في التّقاسم. فحكم الثّروة فيها هو أنّ على الأغنياء والأرستقراطيّين من النّاس أن يهتمّوا ويعتنوا بالفقراء من تلقاء أنفسهم ومن أجل أن يَسعد الأغنياء هم أيضًا. فتكون المساواة بهذه الكيفيّة نتاج الصّفات السّامية والخصال النّبيلة لبني البشر.

(6) 5 سبتمبر/ أيلول 1912

الخطبة المباركة بكنيسة سان جيمس المنهجيّة (الميثوديّة) بمونترِيال، كندا

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

الحمد لله! إنّه لمن دواعي سروري العميق حضوري هنا هذا المساء، لأنّني أنظر أمامي وجوهَ من هم جادّون في بحثهم عن الحقيقة، وتوّاقون بكلّ إخلاص إلى نيل المعرفة الحقّة. لقد خلق الله الإنسان وحباه بقوّة العقل الّتي يمكنه بواسطتها التّوصّل إلى استنتاجات صحيحة. فعلى الإنسان إذًا أن يجهد في كلّ الأمور للبحث عن أصل الحقيقة. وإذا لم يتحرّ بأسلوب مستقلّ يكون قد أخفق في استخدام الموهبة الّتي أنعم الله بها عليه. وأنا مسرور من أهل أمريكا لأنّهم، على وجه العموم، باحثون مستقلّون عن الحقيقة، وعقولهم نشطة بدلاً من أن تبقى خاملة عقيمة. وهذا أمر ممدوح للغاية.

تتخيّل بعض النّفوس أنّ هناك انقطاعًا في الأفضال الإلهيّة، كما لو كانت العطايا الرّبّانيّة في وقت من الأوقات فائضة وتكون في وقت آخر ممنوعة عن بني البشر ومتوقّفة. وإذا ما تأملنا في هذه المسألة جيّدًا، نجد أنّ مثل هذه المقولة هي في واقع الأمر إنكار للألوهيّة، ذلك لأنّ حقيقة الألوهيّة تتجلّى بفضل فيوضاتها وعطاياها. وانقطاع الفيوضات الإلهيّة في أيّ زمان يكون بمثابة انقطاع للسّلطنة الإلهيّة. فالشّمس شمس بأشعّتها وحرارتها؛ فهي الشّمس بسبب عطيّتها. ولكن إذا ما حدث في وقت ما أن توقّف إشراقها وسناؤها وسطوعها عن الانبعاث، فلا تعود تكون شمسًا. وبناء على ذلك لا يكون معقولاً أن تنقطع العطايا الرّبّانيّة، ذلك لأنّ الصّفات الرّبّانيّة موجودة دائمًا أبدًا. فالله إله منذ الأبد، ومن الأبد يمارس سلطانه ولا يزال حائزًا على الألوهيّة الأبديّة والسّلطنة السّرمديّة. فمثله مثل الشّمس الّتي لم تزل على بهائها وحرارتها وإشراقها، وستظلّ حائزة على هذه المواهب والصّفات. فإذا ما حلّ زمان انقطع فيه بهاؤها وحرارتها لا تعود تسمّى شمسًا. فالعقل السّليم يتوصل إذًا إلى أنّ أفضال الرّوح القدس مستمرّة وأنّ النّفوس المقدّسة ستبقى دائمًا متلقّية لهذه السّنوحات الرّبّانيّة. ونفوذ الرّوح القدس أبديّ وغير مؤقّت، ذلك لأنّ قدسيّة الرّوح القدس هي في قوّتها وتأثيرها الظّاهرين في الأرواح الّتي تحييها. وندعو أن نكون جميعًا متلقّين لعطاياها، ومستنيرين بأنوار الملكوت، ومتربّين بالتّعاليم الإلهيّة، ومفعمين بفضائل الخصال الرّبّانيّة، كالمرايا العاكسة لنور الشّمس. وما لم تعكس المرآة نور الشّمس فلا تكون إلاّ جمادًا مظلمًا لا حياة فيه. كذلك عندما تكون أفئدة البشر وأرواحها محرومة ولا نصيب لها من أفضال الرّوح القدس، فإنّها ترزح في وهدة الظّلام والجهل.

منذ أزل الآزال كانت التّعاليم الإلهيّة تتنزّل تباعًا، وأفضال الرّوح القدس تنبعث على الدّوام. وجميع التّعاليم حقيقة واحدة، ذلك لأنّ الحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد. ومن هنا كان الأنبياء الرّبّانيّون واحدًا، نظرًا لأنّهم يأتون بحقيقة واحدة الّتي هي كلمة الله. فقد تكلّم حضرة إبراهيم بتعاليم مبنيّة على الحقيقة، ونادى حضرة موسى بالحقيقة، كما أسّس حضرة المسيح الحقيقة، وكان حضرة بهاء الله رسول الحقيقة وبشيرها. ولكنّ البشريّة بتخلّيها عن الحقيقة الواحدة الجوهريّة الأساسيّة الّتي بُني عليها دين الله، وتمسّكها الأعمى بتقاليد رسوم الأسلاف وتفاسير العقيدة، قد تباعدت وانقسمت فيما نراه من نزاع وجدال وتعصّب أعمى على يد مختلف المذاهب والنّحل الدّينيّة. فإذا ما كانت جميعها قد التزمت بالحقيقة الأصليّة للنّبيّ وتعاليمه لصارت شعوب العالم وأممها متّحدة ولاختفت تلك الاختلافات المسبّبة للشّقاق. لقد ظهر حضرة بهاء الله في بلاد الشّرق من أجل تحقيق هذه الوحدة العظيمة اللاّزمة، وجدّد أسس التّعاليم الرّبّانيّة. وكلمته المنزلة هي تجسيد لكامل تعاليم الأنبياء على هيئة مبادئ وقواعد تناسب احتياجات وأحوال العالم الحديث، بتوسّع وكيفيّة تلائم مقتضيات اليوم وتستجيب لمشاكل البشريّة الملحّة. بمعنى أنّ كلمات حضرة بهاء الله هي جوهر كلمات أنبياء القبل وهي نفس روح العصر وسبب اتّحاد واستنارة كلّ من الشّرق والغرب. ومن اتّبعوا تعاليمه يسيرون على تعاليم ووصايا جميع ما سبق من الرّسل السّماويّين. فالاختلافات والانقسامات الّتي تقوّض أسس العالم الإنسانيّ وتخالف إرادة الله ورضاه، تتلاشى بالكلّيّة في ضوء رسالة حضرة بهاء الله، وتجد المعضلات الصّعبة حلاًّ لها، وتتأسّس الوحدة والمحبّة. لأنّ رضاء الله هو إشراق المحبّة وتأسيس الوحدة والألفة في العالم الإنسانيّ، بينما يكون الشّقاق والخلاف والقتال والنّزاع نتاج أعمال شيطانيّة ومخالفة لإرادة الرّحمن. ولكي تنال نفوس البشر وعقولها وأرواحها رقيًّا وصفاءً وبصيرة في آفاق أوسع من الوحدة والمعرفة، أعلن حضرة بهاء الله مبادئَ أو تعاليمَ معيّنة سأذكر بعضًا منها.

أوّلاً، على الإنسان أن يتحرّى الحقيقة بنفسه، لأنّ الخلافات والمشاحنات الّتي تضرّ البشريّة تنشب بالدّرجة الأولى عن تقاليد عقائد الأسلاف والتّشبّث بالطّقوس الموروثة. وتلك التّقاليد مستحدثة ولا سند لها في الكتب المقدّسة. فهي نتاج التّفاسير والاجتهادات البشريّة الّتي ظهرت تدريجًا حاجبة النّور الحقيقيّ للمقصد الرّبّانيّ وجعلت النّاس تختلف وتتخالف. وكانت الحقيقة الّتي نادت بها الكتب السّماويّة والتّعاليم الرّبّانيّة هي الباعثة دائمًا على المحبّة والوحدة والألفة.

ثانيًا، سوف تتحقّق وحدة العالم الإنسانيّ، ويتمّ قبولها وتشييد أركانها. وعندما نتدبّر هذا المبدأ المبارك، يتّضح ويتجلّى أنّه درياق ناجع لكلّ أحوال البشر. فالجنس البشريّ جميعه عباد لله خالقنا ذي المجد والجلال. فلقد خلق الكل، ومن المؤكد أنّه أحبّهم على قدم المساواة، وإلاّ ما كان ليخلقهم. وهو الحافظ للكلّ، وهو بالتّأكيد محبّ لمخلوقاته، وإلاّ لما وقاها في كهف حفظه. وهو الرّازق للكلّ، مبرهنًا على محبّته للجميع بغير تمييز أو تفضيل. ويُظهر كمال جوده وعطفه للجميع. وهو لا يعاقبنا على ذنوبنا ونقائصنا، وجميعنا مغمورون في بحر رحمته الواسع. وبما أنّ الله رحيم وحنون بأبنائه، ورفيق ورؤوف حيال نقائصنا، فلماذا نقسو ولا يُسامح بعضُنا البعض؟ وكما يحبّ هو البشريّة بغير تمييز أو تفضيل، لم لا نحبّ نحن الجميع؟ وهل بإمكاننا أن نتصوّر خطّة وسياسة أسمى من الغاية الرّبّانيّة؟ من الواضح أنّنا لا نقدر. فلنجهد إذًا لنعمل بمقتضى وصيّة الرّبّ المجيد، ونسير على هَدْيِ سياسته في حبّ كافّة بني الإنسان. إنّ حكمة الله وسياسته هما الحقّ والصّدق، بينما سياسة البشر عرضيّة ومحدودة بمفهومنا القاصر. وسياسة الله بغير حدود. فعلينا أن نقتدي به. فنقدّم للنّفس المريضة العليلة ما يشفيها، ونوفّر التّعليم للنّفس الجاهلة، وإذا كانت عاجزة، علينا أن نربّي ونُكْمِل ما ينقصها، وإذا كانت قاصرة غير راشدة، علينا أن نأتي بوسائل بلوغ رشدها. فلا نبغض نفسًا، أو نهمل أحدًا؛ كلاّ، بل إنّ عين نقائصها تستدعي مزيد العطف والشّفقة. فإذا ما حذونا حذو ربّ الرّبوبيّة لأصبحنا نحبّ كلّ البشر من صميم أفئدتنا، ولتجلّت لنا أسباب تحقيق وحدة العالم الإنسانيّ تجلّي ضوء الشّمس. فمن أعمالنا تشتعل نار محبّة الله بين النّاس. فالله محبّة، وتجد كلّ الكائنات منبعها ومنشأها في مسار هذه الفطرة الرّبّانيّة. وتحيط محبّة الله بجميع المخلوقات، فلولا محبّة الله لما وُجد أيّ كائن حيّ. وهذه رؤية وحقيقة واضحة لائحة ما لم يكن المرء محتجبًا بالخرافات وأسيرًا للخيال، ويميّز بين البشر على هواه، فيحبّ بعضًا ويكره البعض الآخر. ومثل ذلك الموقف مشين وغير جدير بالاعتبار بتاتًا.

ثالثًا، على الدّين أن يكون ينبوعًا ومصدرًا للمحبّة في العالم، إذ إنّ الدّين هو الكشف عن إرادة الله، والأصل الرّبّانيّ لتلك الإرادة هو المحبّة. فإذا ما ثبت أنّ الدّين قد صار علّة للعداوة والكراهية بدلاً من المحبّة، يكون عدمه خير من وجوده.

رابعًا، على الدّين أن يتواءم ويتّفق مع العلم والعقل. فإذا كانت عقائد البشر الدّينيّة مخالفة للعلم ومعارضة للعقل، فلا تكون سوى خرافات تفتقر إلى الحجّيّة الرّبّانيّة، ذلك لأنّ الرّبّ إلهنا قد حبا الإنسان بمَلَكة العقل حتّى يتوصّل بممارستها إلى حقائق الوجود. فالعقل هو المكتشف لحقائق الأشياء، وما يخالف استنتاجات العقل يكون راجعًا إلى وهم الإنسان وتخيّله.

خامسًا، إنّ التّعصّب – أكان في أصله أو مظهره دينيًّا أو عِرقيًّا أو قوميًّا أو سياسيًّا – هو الهادم للأسس الإنسانيّة ومخالف للوصايا الإلهيّة. فقد أرسل الله أنبياءه لغرض واحد هو إيجاد المحبّة والاتّحاد في عالم الأفئدة. إنّ كافّة الكتب السّماويّة ما هي إلاّ كلمة المحبّة المكتوبة. فإذا كانت سببًا للتّعصّب والتّباعد الإنسانيّ صارت عديمة الثّمر. وبذلك يكون التّعصّب الدّينيّ معارضًا لإرادة الله وأوامره بشكل خاصّ. وعلى نفس المنوال تكون التّعصّبات العرقيّة والقوميّة الّتي تقسّم البشريّة إلى طوائف وفروع، مرتكزة على أساس زائف ليس له ما يبرّره. ذلك لأنّ البشر جميعهم هم أبناء آدم، وهم بالضّرورة من أسرة واحدة. فلا يجب أن يكون هناك إقصاء عرقيّ أو تقسيم قوميّ فيما بين البشر. فتمييزات مثل فرنسيّ وألمانيّ وإيرانيّ وأنجلوساكسونيّ هي بشريّة مصطنعة، لا أهميّة لها ولا قبول في نظر الله. فالجميع في نظره واحد وأبناء أسرة واحدة ويحظون جميعًا بعطفه على قدم المساواة. وليس للأرض سوى سطح واحد ولم يقسّم الله هذا السّطح بحدود أو حواجز من أجل الفصل بين الأعراق والشّعوب. فالإنسان هو الّذي رسم هذه الحدود الوهميّة وأنشأها، مسمّيًا كلّ منطقة معيّنة منها باسم ومحدِّدًا إيّاها بحدود أرض قوميّة أو موطن. وبمقتضى هذا التّقسيم والفصل إلى طوائف وفروع ينجم التّعصّب، الّذي يصير بدوره منبعًا خصبًا للحرب والنّزاع. فتشنّ الأجناس والأمم الحرب على بعضها البعض مدفوعة بهذا التّعصّب، وتراق دماء الأبرياء، وتتمزّق الأرض من جرّاء العنف والشّراسة. لذا حكم الله في هذا اليوم بأن تُلقى جانبًا كلّ هذه التّعصّبات والخلافات وأوصى الكلّ بالسّعي في رضاء ربّ الاتّحاد واتّباع أمره وإطاعة مشيئته؛ وبتلك الكيفيّة يصير عالم البشر مستنيرًا من حقيقة المحبّة والوفاق.

سادسًا، يحتاج عالم البشر إلى تأييدات الرّوح القدس. يرجع التّميّز الحقيقيّ بين البشر إلى العطايا الرّبّانيّة وتلقّي إلهامات الرّوح القدس. فإذا لم يصبح الإنسان متلقّيًا للعطايا السّماويّة والأفضال الرّوحانيّة، فإنّه يبقى في مرتبة الحيوان ومملكته لأنّ ما يميّز الإنسان عن الحيوان هو أنّ الإنسان قد أنعم الله عليه بالاستعدادات الرّبّانيّة في فطرته، بينما يبقى الحيوان محرومًا بالكلّيّة من تلك النّعمة وذلك المنال. وبالتّالي فإنّه إذا ما حُرم إنسان من نفثات الرّوح القدس الوجدانيّة، ومُنع عن الفيوضات الرّبّانيّة، وانفصل عن عالم الملكوت، وغفل عن الحقائق الأزليّة، يكون في حقيقته حيوانًا ولو كان على هيئة الإنسان وشكله، وذلك كما تفضّل حضرة المسيح بقوله المولود من الجسد جسد هو والمولود من الرّوح هو روح. ويعني هذا أنّه إذا كان الإنسان أسيرًا للإحساسات المادّيّة، ومفتقدًا للإحساسات الرّوحانيّة المُحيية، فما هو إلاّ حيوان. غير أنّ كلّ نفس حازت على الإحساسات الرّوحانيّة ونالت نصيبًا وافرًا من عطايا الرّوح القدس تكون حيّة بالحياة الرّبّانيّة من الملكوت الأعلى. أمّا النّفس المحرومة الّتي لا نصيب لها فهي في عداد الموتى. ولذا تفضّل حضرة المسيح أيضًا بقوله: دع الموتى يدفنون موتاهم. أي أنّه كما يحتاج جسد الإنسان العنصريّ إلى قوّته الحياتيّة، فكذلك تحتاج النّفس البشريّة إلى الدّافع الإلهيّ والإنعاش النّابع من الرّوح القدس. وبغير ذلك الإنعاش والمدد، يكون الإنسان حيوانًا، لا بل يكون ميّتًا.

سابعًا، ضرورة تعليم بني البشر جميعًا هو أمر واضح. فيجب تربية وتعليم الأطفال على وجه الخصوص. وإذا كان الأب غير قادر على ذلك لنقص الإمكانات، فعلى الهيئة الاجتماعيّة أن تتّخذ التّدابير اللاّزمة لتحقيقه. فتختفي الأمّيّة ويزول سوء التّفاهم النّاجم عن الجهل بفضل توسيع نطاق روح التّعلُّم.

ثامنًا، سيتأسّس الصّلح العموميّ بين أمم العالم باتّفاق دوليّ. فأشدّ المصائب في عالم الإنسان اليوم هي الحرب. إنّ أوروبّا مخزن للمتفجّرات ينتظر شرارة، ويعمّ التّوتّر جميع الأمم الأوروبيّة، وتكفي شرارة واحدة لأن تشعل النّار في تلك القارّة بأكملها. وباتت أدوات الحرب والهلاك في تضاعف وتزايد بدرجة غير معقولة، وصار عبء المصاريف العسكريّة يثقل كاهل مختلف الدّول بما يفوق طاقة الاحتمال. وأمست الجيوش والأساطيل تلتهم أرزاق النّاس وأموالهم، وبفرض الضّرائب يُجْبَر الفقير الكادح البريء العاجز على الوفاء بتكاليف الذّخيرة والسّلاح لحكومات عقدت العزم على غزو الأراضي والدّفاع ضدّ أمم قويّة منافسة. ولا توجد اليوم بليّة أثقل شدّة أو وطأة في عالم الإنسان من الحرب الوشيكة. وعليه، فإنّ السّلام العالميّ يغدو ضرورة ملحّة. ولسوف تتأسّس محكمة عدل من أجل التّحكيم، تُسوَّى بمقتضاها النّزاعات الدّوليّة، وبتلك الواسطة يتمّ تحاشي كلّ احتمال للنّزاع والحرب بين الأمم.

تاسعًا، يجب أن تكون هناك مساواة في الحقوق بين الرّجال والنّساء. وبمقتضى ذلك تعطى النّساء فرصة مساوية في التّعليم، بما يمكّنهنّ من التّأهّل والتّقدّم في كافّة المستويات المهنيّة والعمليّة. ذلك لأنّ عالم البشر حائز على جناحين هما الرّجل والمرأة. فإذا ما بقي أحد الجناحين عاجزًا وقاصرًا، فإنّ ذلك يحدّ من قدرة الجناح الآخر، ويكون الطّيران الكامل مستحيلاً. ولذا فإنّ اكتمال العالم الإنسانيّ وكماله يعتمدان على ترقّي هذين الجناحين بشكل متساوٍ.

عاشرًا، يجب أن تكون هناك مساواة في الحقوق والامتيازات لكافّة البشر.

والحادي عشر، وجوب اختيار لغة واحدة كواسطة عالميّة للتّخاطب والاتّصال. وبواسطتها تقلّ حالات سوء التّفاهم، وتتحقّق الألفة وتُضمن الوحدة.

هذه بعض المبادئ الّتي أعلنها حضرة بهاء الله، فقد أتى بما يضمن البُرْءَ من العلل الّتي تحيق الآن بالعالم الإنسانيّ، كما حلّ المعضلات المستعصية لصالح الفرد والمجتمع والأمّة والعالم، وأرسى قواعد الحقيقة الرّبّانيّة الّتي ستتأسّس عليها الحضارة المادّيّة والرّوحانيّة في القرون القادمة.

الحمد لله أَنّي وجدت هاتين الأمّتين الأمريكيّتين العظيمتين في غاية الاستعداد والرّقيّ في كلّ ما يتعلّق بالتّقدّم والمدنيّة، وهاتان الحكومتان منصفتان وعادلتان. ودوافع هذين الشّعبين ومراميهما سامية وباعثة على الإلهام. لذا فإنّني آمل أن تصير هاتان الأمّتان المبجّلتان عاملاً بارزًا في تأسيس السّلام العالميّ ووحدة العالم الإنسانيّ، وأن تُرسيا قواعد المساواة والإخاء الرّوحانيّ بين البشر، وأن تُظهرا أسمى فضائل العالم الإنسانيّ، وتُبجِّلا الأنوار الرّبّانيّة الصّادرة عن أنبياء الله، وتؤسّسا حقيقة الاتّحاد الّتي هي جدّ ضروريّة اليوم بالنّسبة لشؤون الأمم. وأدعو أن تصير أمم الشّرق والغرب قطيعًا واحدًا تحت رعاية الرّاعي الرّبّانيّ وهدايته. فهذا في الحقيقة هو فيض الله وأعظم شرف للإنسان. وهذا هو مجد البشريّة. وهذا هو رضاء الله. وألتمس ذلك من الله بقلب متذلّل كسير.

يا ربّي الغفور إنّ هذا الجمع متوجّه إلى ملكوتك وكلّهم أغنامك وأنت راعي الجميع. فيا أيّها الرّاعي الحقيقيّ رَبِّ أغنامك وارْعَهم في مروجك الخضلة النّضرة واجعل طيورك هذه تبني أعشاشها في روضتك وزيِّنْ بستانك بهذه الأغراس والأزهار اليانعة وأنعش سدرات الإنسانيّة هذه بشآبيب موهبتك وفضلك. أي ربّ نحن عبادك وأرقّاؤك وأنت الرّبّ الواحد الأحد. إنّا نعبدك وأنت المولى الرّحيم. أي ربّ أنر الأبصار حتّى تشاهد أنوار ملكوتك وشنّف الآذان حتّى تسمع نداءك الرّبّانيّ وأنعش الأرواح حتّى تبتهج بنفثات الرّوح القدس. أي ربّ، نحن ضعفاء وأنت القويّ، وفقراء وأنت الغنيّ، فارحمنا وأنلنا نصيبًا موفورًا من حقائقك، وأدخلنا في ساحة المُنى. إنّك أنت القويّ، إنّك أنت القدير، وإنّك أنت الرّبّ الرّؤوف.

 

خطبة ألقاها حضرة عبد البهاء في شيكاغو 16 سبتمبر/ أيلول 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّدة كورين ترو،
5338 طريق كنمور، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته جيرترود بويكيما

الله أبهى!

الحمد لله! لقد قضيت بينكم بضعة أيّام معاشرًا معكم بالرّوْح والرّيْحان. الحمد لله! إنّ قلوبكم طاهرة ووجوهكم مشرقة وأرواحكم منتعشة ببشارات الله. وأدعو راجيًا لكم التّأييد حتّى يكون كلّ واحد منكم شمعة مضيئة ساطعة في عالم الإنسان، وتصبحون جوهر المحبّة وروحها، وتصيرون إشراقًا إلهيًّا، مفعمين بقوّة الرّوح القدس، وسببًا للاتّحاد والألفة في العالم الإنسانيّ، لأنّ العالم اليوم في حاجة ماسّة إلى المحبّة والاتّفاق. وإذا ما بقي العالم على ما هو عليه اليوم، فأمامه خطر جسيم. أمّا إذا لاح منه الوفاق والاتّحاد، وتحقّق الأمان والاطمئنان، وسعينا بالقلب والرّوح لأن تسري تعاليم حضرة بهاء الله في حقائق البشر، باعثة على الألفة والوفاق، جامعةً قلوب مختلف الأديان، وموحِّدةً الشّعوبَ المتباينة، لوجد عالم البشريّة سلامًا وطمأنينة، وتجسّدت إرادة الله بإرادة الإنسان، وصارت الأرض موطنًا حقيقيًّا للملائكة. فتتربّى النّفوس، وتتبدّد الرّذيلة، وتلوح فضائل العالم الإنسانيّ، وتختفي النّزعة المادّيّة، ويتقوّى الدّين ويصبح الرّباط الّذي يؤلّف بين أفئدة العباد.

هناك في عالم الوجود أكثر من رباط يؤلِّف بين قلوب البشر، ولكن ليس لأيّ منها كامل الفاعليّة. فأوّلها وأهمّها رباط الأسرة، وهذه الوحدة ليست فعّالة لأنّ عرى هذا الرّباط الوثيق غالبًا ما تنفكّ من جرّاء الاختلاف والتّنافر. وقد يكون رباط الوطنيّة وسيلة للألفة والاتّفاق، ولكنّ وحدة الوطن لا تؤلّف بين قلوب البشر تمامًا، لأنّه إذا ما طالعنا صفحات التّاريخ لوجدنا أنّ شعب الجنس الواحد والوطن الواحد غالبًا ما يشنّون الحرب على بعضهم البعض. وكم سفكوا دم العرق الواحد ودمّروا ممتلكات بني جلدتهم في معرض الخلافات الأهليّة. فهذا الرّباط يكون إذًا غير كاف. ورباط التّآلف السّياسيّ قد يبدو محقّقًا للوحدة إذا ما تحالفت الحكومات والحكّام من أجل التّعايش والأمان المشترك، إلاّ أنّ ذلك الاتّفاق والتّحالف عرضة للتّبديل والكراهية البغيضة بل قد يصل الحال إلى درجة الحرب وسفك الدّماء. فيكون من الواضح أنّ الوحدة السّياسيّة لا تكون مؤثّرة بصورة دائمة.

أمّا مصدر الوحدة والمحبّة التّامّيْن في عالم الوجود فهو رباط الحقيقة ووحدانيّتها. فعندما تستقرّ وتحيا الحقيقة الرّبّانيّة الجوهريّة في أفئدة البشر، تحفظ وتحمي كافّة أحوال الجنس البشريّ وأوضاعه، محقّقة تلك الوحدة الفطريّة للعالم الإنسانيّ، وهي الّتي لا تتحقّق إلاّ بنفوذ الرّوح القدس. ذلك لأنّ الرّوح القدس أشبه بالحياة في الجسد الإنسانيّ – تلك الحياة الّتي تذيب فوارق الأجزاء والأعضاء في اتّحاد واتّفاق. انظروا كم هي عديدة تلك الأجزاء والأعضاء، ولكنّ وحدانيّة روح الحياة النّابضة في البدن توحّدها جميعًا في التئام تامّ. وهي تخلق وحدة في البدن بحيث لو تعرّض أيّ جزء منه إلى الأذى أو أصابه مرض تستجيب له سائر الأجزاء والوظائف الأخرى وتتألّم في تعاطف من جرّاء الوحدانيّة الكاملة الحادثة فيما بينها. وتمامًا كما تكون روح الحياة الإنسانيّ سببًا للتّرابط بين مختلف أجزاء الكائن الإنسانيّ، تكون الرّوح القدس هي الواسطة المتحكّمة بالوحدة والتّرابط بين بني البشر. بمعنى أنّ رباط البشريّة أو وحدانيّتها لا يمكن أن يتحقّق بكيفيّة مؤثّرة إلاّ بواسطة قوّة الرّوح القدس، ذلك لأنّ العالم الإنسانيّ هو هيكل يتركّب من أعضاء مختلفة، والرّوح القدس هي المنبع النّابض لحياته.

بناء على ذلك علينا أن نجهد حتّى تصبح قوّة الرّوح القدس فعّالة في عالم البشر، وتبعث روحًا محيية جديدة في الهيئة الاجتماعيّة للأمم والشّعوب، ويهتدي الكلّ إلى كنف حماية الكلمة الإلهيّة وملاذها. عندها يصير هذا العالم البشريّ ملائكيًّا، وتتبدّد الظّلمة التّرابيّة ويغمر النّور السّماويّ كلّ الآفاق، وتنمحي النّقائص البشريّة وتتألّق الكمالات الرّبّانيّة. وهذا ممكن وحقيقيّ، ولكن بواسطة قوّة الرّوح القدس دون سواها. وأعظم ما يحتاجه العالم اليوم هو حضور الرّوح القدس المحيي والجامع. وما لم تصبح تلك الرّوح فاعلة ونافذة وسارية في الأفئدة والأرواح، وما لم يترسّخ الإيمان العقلانيّ الكامل في عقول البشر، يستحيل على الهيكل الاجتماعيّ أن ينعم بالأمان والاطمئنان. بل بالعكس ستزداد العداوة والنّزاع يومًا بعد يوم، وتتفاقم اختلافات الأمم وخلافاتها. وسيظلّ حشد الجيوش وأساطيل العالم جاريًا على الدّوام، وتزداد حدّة الخوف والقلق من وباء حرب عظمى – حرب لم يسبق لها مثيل في التّاريخ، لأنّ العتاد الحربيّ الّذي كان محدودًا حتّى وقتنا هذا، يتضاعف الآن على نطاق هائل. وتزداد الظّروف حدّة، مقتربة من الحدّ الّذي سيتقاتل فيه البشر في البحار، ويتعاركون في السّهول، ويتحاربون في الجوّ، وذلك بشراسة لم تألفْها القرون الأولى. ومع ازدياد العتاد والاستعداد، تتفاقم الأخطار بدرجة كبيرة.

علينا إذًا أن نبذل أقصى ما في وسعنا حتّى تسوق الرّوح القدس الأفهام والقلوب نحو السّلام، وتعمّ الأفضال الإلهيّة، وتتوالى الإشراقات الرّبّانيّة، وتترقّى النّفوس البشريّة، وتتّسع الأفهام برؤية أشمل، وتزداد النّفوس قداسة، ويتخلّص العالم الإنسانيّ من الخطر الأعظم الّذي يتهدّده. فمن أجل إصلاح العالم تحمّل حضرة بهاء الله كلّ المصاعب والمحن وشظف العيش، مضحّيًا بذاته وراحته، فاقدًا ضِياعَهُ وممتلكاته وجاهه – وكلّ ما يتعلّق بالوجود الإنسانيّ – ليس لسنة واحدة بل لما يقرب من خمسين سنة. وتعرّض إبّان تلك الفترة الطّويلة للاضطهاد وسوء المعاملة، وزُجّ به في غياهب السّجون، وأُبعد عن وطنه، وتعرّض للمحن والإهانة، ونـُفي أربع مرّات. فنُفي أوّلاً من إيران إلى بغداد، ومنها إلى القسطنطينيّة، ثمّ الرّوميلّي[1]، ثمّ في نهاية المطاف إلى السّجن الأعظم في حصن عكّاء ببرِّ الشّام، حيث أمضى بقيّة حياته. وفي كلّ يوم كان ينهال عليه ظلمٌ وبلاءٌ جديد إلى أن عرج عن ذلك السّجن الحصين إلى الملكوت الأعلى وعاد إلى بارئه. لقد تحمّل تلك المحن والبلايا حتّى يصير عالم البشر النّاسوتيّ هذا عالمًا سماويًّا، ولكي يصبح نور الملكوت الرّبّانيّ حقيقة واقعة في أفئدة بني الإنسان، ويترقّى أعضاء الجنس البشريّ، وتزداد قوّة الرّوح القدس نفوذًا ونفاذًا، وتتأكّد سعادة العالم الإنسانيّ. لقد أراد حضرة بهاء الله الهدوء والطّمأنينة للجميع، وأبدى العطف للأمم بصرف النّظر عن أحوالها وخلافاتها. وخاطب البشريّة قائلاً: أيّها النّاس! كلّكم أوراق وأثمار شجرة واحدة، وأنتم جميعًا نفس واحدة. تعاشروا إذًا بالرّوْح والرّيْحان، وأظهروا المحبّة بينكم، وانبذوا التّعصّب العرقيّ، وبدّدوا إلى الأبد ظلام الجهالة الحالك، فقد ظهر قرن الأنوار وطلعت شمس الحقيقة. اليوم يوم الائتلاف، والوقت وقت الاتّحاد والاتّفاق. لقد تشاحنتم آلاف السّنين في قتال ونزاع – فكفى! الآن هو وقت الوحدة. اطرحوا جانبًا مطامعَكم الشّخصيّة كلّها، واعلموا علم اليقين أنّ كلّ النّاس هم عباد الله الأحد الّذي سيجمعهم في محبّة واتّفاق.

بما أنّ عظيم خلافات العقائد المذهبيّة واختلافاتها قد نشبت في الماضي، وكلّ من يأتي برأي جديد كان ينسبه إلى الله، فقد أراد حضرة بهاء الله ألاّ يكون هناك أيّ ذريعة أو سبب للاختلاف فيما بين البهائيّين. ولذلك خطّ بقلمه كتاب عهده، مخاطبًا ذوي قرابته وكافّة أهل العالم قائلاً لقد عيَّنتُ من هو مركز عهدي وميثاقي. وعلى الكلّ إطاعته، وعلى الكلّ أن يتوجّه إليه، فهو مبيّن كتابي، وهو على علم بمرادي. وعلى الكلّ أن يتوجّه إليه، وكلّ ما يقوله هو الصّواب، لأنّه عليم بنصوص كتابي. ولا يعلم كتابي سواه. والمراد من هذا البيان هو ألاّ يكون هناك خلاف أو اختلاف بين البهائيّين، وإنّما يتعيّن عليهم أن يكونوا متّحدين ومتّفقين دائمًا. وفي مناجاته يتفضّل حضرة بهاء الله أيضًا بقوله:  ربّ اذْلُل من ينقض عهدي. ربّ امح وأزل من ينقض عهدي. ولقد ذكر وأوضح في جميع ألواحه، ومن بينها سورة الغصن، صفات وخصال من أشار إليه في كتاب عهده، مبيّنًا ومؤكّدًا بشكل كامل على وظيفة ذلك الشّخص وقدرته، حتّى لا يأتي من يقول: ‘هذا هو ما أفهمه ممّا كتبه حضرة بهاء الله’، ذلك لأنّه عيـّن مركز العهد أو المبيّن للكتاب بقوله: إنّه هو المختار دون سواه، قاصدًا بذلك ألاّ تنشأ أيّة مذاهب أو تنجم أيّ تعصّبات، مانعًا كلّ من له فكرة جديدة هنا وهناك من خلق الشّقاق والاختلاف. كما لو عيـّن أحد الملوك حاكمًا عامًّا للبلاد، فمن أطاع ذلك الحاكم فقد أطاع الملك، ومن خرج عليه وعصاه فقد خرج على حكم المليك. وبالمثل فإنّ من يطيع مركز الميثاق الّذي عيّنه حضرة بهاء الله يكون قد أطاع حضرة بهاء الله، ومن عصاه فقد عصى حضرة بهاء الله. ولا يتعلّق الأمر إطلاقًا بشخصه أي شخص عبد البهاء، تمامًا كما هو الحال مع الحاكم العامّ الّذي عيّنه الملك، فمن يُطِع الحاكم العامّ يكون قد أطاع الملك، ومن عصاه يكون قد عصى الملك.

فعليكم إذًا أن تقرأوا ألواح حضرة بهاء الله. عليكم أن تقرأوا سورة الغصن والتفتوا إلى ما صرّح به حضرة بهاء الله بكلّ وضوح؛ حذار حذار أن يتكلّم أحد بأهوائه أو آرائه الشّخصيّة أو يأتي بأمور جديدة من عنده. حذار حذار أن تلقوا بالاً إلى مثل هذا الشّخص ولو أقلّ من آن، تمامًا كما ينصّ عهد حضرة بهاء الله بكلّ صراحة. فحضرة بهاء الله يتبرّأ من مثل تلك النّفوس. ولقد بيّنتُ لكم هذه الأمور من أجل الحفاظ على تعاليم حضرة بهاء الله وحمايتها، ولكي تكونوا على بيـّنة حتّى لا يخدعكم أحد، وحتّى لا يبثّ أحد الرّيبة بينكم. وعليكم أن تحبّوا جميع البشر، ومع ذلك إذا ما أوقعتكم نفوسٌ في ريبة أو شكّ، فاعلموا أنّ حضرة بهاء الله بريء منهم. ومن يعمل من أجل الاتّحاد والألفة هو خادم لحضرة بهاء الله، وحضرة بهاء الله هو معينه وناصره. وأسأل الله أن يجعلكم واسطة الاتّفاق والاتّحاد ذاتها، ويجعلكم أبناء منيرين رحماء سماويّين للملكوت الرّبّانيّ، حتّى تتقدّموا يومًا فيومًا، وتصبحوا مضيئين كهذه المصابيح، واهبين النّور للبشر أجمعين.

لكم منّي التّحيّات، ووداعًا!

[1]        مدينة أدرنة التّركيّة.

 

خطبة ألقاها حضرة عبد البهاء في مينيابوليس 20 سبتمبر/ أيلول 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد ألبرت ل. هول،
2030 جنوب طريق كوين، مينيابوليس، ولاية مينيسوتا

نقلاً عمّا دوّنته إلين بورسيل

الحمد لله على هذا الجمع الجميل المنير! وهو لقاء متّسم بالرّحمة، لأنّكم التقيتم هنا بغاية المحبّة والرّوحانيّة. هناك العديد من اللّقاءات في العالم، وربّما الآلاف منها منعقد في هذه اللّحظة، ومعظمها يجري لأغراض اجتماعيّة أو سياسيّة أو علميّة أو تجاريّة؛ أمّا لقاؤنا هنا اللّيلة فهو لأجل الله، ولغرض سماويّ. فنحن لسنا متعلّقين بالتّجارة، أو ذوي اهتمام علميّ؛ فروحنا ودافعنا هما تجلّي المواهب الرّبّانيّة ليس إلاّ.

إنّ للإنسان نوعين من المناقب: أوّلهما مادّيّ والثّاني مثاليّ في طبيعته. فمثلاً، يُظهر جسم الإنسان مناقب مادّيّة معيّنة، في حين أنّ روحه تبدي مناقبَ مثاليّة. فحاسّة البصر عند الإنسان منقبة مادّيّة؛ أمّا البصيرة، وهي قوّة الإدراك الباطنيّ، فمثاليّة بطبيعتها. وحاسّة السّمع هي أيضًا نعمة مادّيّة، بينما الذّاكرة في الإنسان منقبةٌ مثاليّة. ومن بين قوى الإنسان الأخرى قوّة التّفكير، أو ملكة العقل، وهي مادّيّة، أمّا قوّة الحبّ فهي روحانيّة. ويكون بلوغ حقائق الكائنات منقبة مثاليّة، ويماثلها أيضًا مشاعر الإنسان وقدرته على إثبات وجود الله. كما أنّ بلوغ السّموّ الخلقيّ، وولوج عالم الكشفيّات ينطوي على مناقب مثاليّة في جوهرها.

إذا ما طالعنا التّاريخ نشاهد أنّ التّقدّم البشريّ كان على أشدّه فيما يتعلّق بتطوير المناقب المادّيّة. والمدنيّة هي عنوان ودليل على ذلك التّطوّر المتعاقب. فقد بلغت المدنيّة المادّيّة في الحقيقة درجة عالية بديعة من الكفاءة في كلّ ركن من العالم – بمعنى أنّ القوى والمناقب الظّاهريّة لدى الإنسان قد تطوّرت بدرجة كبيرة، أمّا المناقب المعنويّة المثاليّة فقد تأخّرت وأُهملت مقارنةً بذلك. والآن حان أوان تلك الفترة من تاريخ العالم الّتي يتوجّب علينا أن نبذل الجهد من أجل إعطاء دفعة وزخم لترقية القوى الباطنيّة المعنويّة وتطويرها – أي أنّ علينا أن ننهض للخدمة في عالم الأخلاقيّات، ذلك لأنّ أخلاق البشر محتاجة للتّعديل والتّحسين. وعلينا أيضًا أن نخدم عالم الأفكار والأفهام، حتّى تزداد عقول البشر عمقًا في الفكر وحدّة في الفهم، بما يعين العقل البشريّ على بلوغ أَوْجِهِ حتّى يتجلّى منه المثاليّ من المناقب. وقبل اتّخاذ أيّ خطوة في هذا الاتّجاه علينا أن نملك القدرة على إثبات الألوهيّة من وجهة النّظر العقلانيّة، حتّى لا يبقى لدى العقلانيّين أيّ مجال للشّكّ أو الاعتراض. وبعد ذلك يتحتّم علينا أن نكون قادرين على إثبات وجود الفضل الإلهيّ – أي إثبات أنّ الفضل الإلهيّ يحيط بالإنسانيّة ويسمو فوق الوجود المادّيّ. كما علينا أن نثبت أنّ الرّوح الإنسانيّ خالدة، وأنّها ليست عرضة للتّحلّل، وأنّها حائزة على المناقب الإنسانيّة.

لقد حازت المناقب المادّيّة على عظيم التّرقّي، ولكنّ المناقب المثاليّة ظلّت على تأخّرها بدرجة كبيرة. وإذا ما سألتم ألف شخص ‘ما هي الدّلائل على حقيقة الألوهيّة؟’ فربّما لا تجدون من يستطيع الإجابة. فإذا ما عاودتم التّساؤل وقلتم ‘ما هي البراهين الّتي لديكم على جوهر الله؟’ أو ‘بماذا تفسّرون الإلهام والوحي؟’ أو ‘ما هي الدّلائل على الفكر العرفانيّ الّذي يتخطّى عالم المادّة؟’ أو ‘هل لديكم خطّة أو وسيلة لإصلاح أخلاق البشر؟’ أو ‘هل بإمكانكم بكلّ وضوح تحديد عالم النّاسوت وعالم اللاّهوت والتّمييز بينهما؟’ فلن تجدوا سوى النّذر اليسير من المعرفة الحقيقيّة والاستنارة فيما يتعلّق بهذه التّساؤلات. ويرجع ذلك إلى حقيقة أنّ موضوع ترقية المناقب المثاليّة قد أُهمل. وبينما يتحدّث النّاس عن الألوهيّة، إلاّ أنّ أفكارهم وعقائدهم عن الألوهيّة ما هي إلاّ خرافات في حقيقة الأمر. فالألوهيّة هي إشراق شمس الحقيقة، وظهور الفضائل الرّوحانيّة والقوى المثاليّة. والبراهين العقليّة على وجود الألوهيّة مبنيّة على المشاهدة والقرينة اللّتين تشكّلان حجّة دامغة، بما يثبت إثباتًا منطقيًّا حقيقةَ الألوهيّة، والإشراق الرّحمانيّ، ويقين الإلهام الرّبّانيّ، وخلود الرّوح الإنسانيّ. وهذا حقًّا هو علم الألوهيّة. فالألوهيّة ليست هي ما تقدّمه لنا تقاليد الكنيسة وعظاتها. فعادة إذا ما ذُكرت كلمة الألوهيّة تكون مرتبطة في عقول السّامعين بطقوس وعقائد معيّنة، في حين أنّ لفظ الألوهيّة يعني في جوهره الحكمة والمعرفة الإلهيّة، وإشراق شمس الحقيقة، وظهور الحقيقة، والفلسفة الرّبّانيّة.

الفلسفة نوعان: فلسفة طبيعيّة، وفلسفة إلهيّة. وتسعى الفلسفة الطّبيعيّة إلى نيل المعرفة عن الحقائق النّاسوتيّة وشرح الظّواهر المادّيّة، بينما تختصّ الفلسفة الإلهيّة بالحقائق المثاليّة، والظّواهر الرّوحيّة. ولقد اتّسع مجال الفلسفة الطّبيعيّة ونطاقها بدرجة كبيرة، وصارت إنجازاتها محطّ عظيم الثّناء والمديح، ذلك لأنّها قد خدمت البشريّة. بيد أنّه، وطبقًا لما تثبته أحوال العالم المعاصرة، فإنّ الفلسفة الإلهيّة – وهي الفلسفة الهادفة إلى التّسامي بالفطرة الإنسانيّة، والتّرقّي الرّوحانيّ، والهداية الملكوتيّة من أجل تقدّم النّوع الإنسانيّ، ونيل نفثات الرّوح القدس وعرفان الحقائق الإلهيّة – قد تخلّفت وأهملت. والآن حان الوقت لكي نبذل الجهد ونمكنّها من التّرقّي جنبًا إلى جنب مع فلسفة الاستقصاء المادّيّ، حتّى تتقدم صحوة الفضائل المُثلى على قدم المساواة مع تكشّف القوى الطّبيعيّة. وبنفس القدر الّذي يتطوّر به جسم الإنسان، يجب أن تتقوّى روحه أيضًا، وتمامًا كما تُشحذ إدراكاته الظّاهريّة، يتوجّب بعث الوعي في قواه الذّهنيّة الباطنيّة حتّى لا يكون محتاجًا للاعتماد كلّيّة على التّقاليد والسّوابق البشريّة. فلا يجمل بنا أن نعتمد بالكلّيّة على ميراث التّقاليد والتّجربة البشريّة القديمة في المسائل الرّبّانيّة، لا بل علينا أن نُعمل العقل والفكر، ونفحص ما يقدّم لنا من حقائق بالتّحليل والمنطق، لكي تُستلهم الثّقة ويتحقّق اليقين. عندئذ، وعندئذ فقط تنكشف لنا حقائق الأشياء. لقد كرّس فلاسفة اليونان أمثال أرسطو وسقراط وأفلاطون وغيرهم أنفسهم للبحث في الظّواهر الطّبيعيّة والرّوحانيّة معًا. وكانوا يتحاورون في معاهدهم بشأن عالم الطّبيعة وعالم ما وراء الطّبيعة أيضًا. وفلسفة أرسطو ومنطقه معروفة اليوم في جميع أنحاء العالم. ولأنّها كانت معنيّة بالفلسفتين الطّبيعيّة والإلهيّة معًا ودافعة بذلك عجلة التّقدّم لعالم البشر المادّيّ بجانب الذّهنيّ، فقد أسدت للبشريّة خدمة جديرة بالثّناء. وكان هذا هو السّبب في تغلّب تعاليمها ومبادئها وبقائها. وعلى الإنسان أن يسير في هذين الدّربين من البحث والتّحرّي حتّى تصبح كافّة المناقب الإنسانيّة، الظّاهريّة والباطنيّة ممكنة. فنوال تلك المناقب المادّيّة والمثاليّة مشروط بالتّحرّي الواعي للحقيقة – التّحرّي الّذي يتحقّق به سموّ الإنسان ورقيّه الفكريّ. ويجب التّخلّي عن الرّسوم والتّقاليد ونبذها، والسّعي في طلب الحقيقة. علينا أن نتبيّن بأنفسنا أين الحقيقة وما هي الحقيقة. وما أمم اليوم وشعوبه إلاّ مقلّدون للأسلاف والأجداد في العقائد الدّينيّة. فإذا كان المرء من أب مسيحيّ يكون مسيحيًّا، والبوذيّ هو ابن البوذيّ، والزّرادشتيّ ابن الزّرادشتيّ. كما يقتفي الوثنيّ أو المُشرِك سُنَّةَ أبيه وأسلافه. وهذا تقليد محض. وما يلزم اليوم هو أن يتحرّى الإنسان كلّ شكل من أشكال الحقيقة بنفسه ومن دون تحيّز.

أهمّ مسألة تتعلّق بالبشريّة هي الدّين. وأوّل شروطها هو أن يتحرّى الإنسان أصولها بعقلانيّة. والشّرط الثّاني هو أن يقرّ ويعترف بوحدانيّة العالم الإنسانيّ. وبهذه الواسطة يضمن تحقّق الألفة الحقّة بين البشر، ويمتنع إقصاء وتغريب الأعراق والأفراد. فالكلّ يجب اعتبارهم عبادًا لله، وعلى الكلّ أن يؤمنوا بالله بوصفه حاميهم وخالقهم الأحد الرّحيم. وعلى قدر الإقرار بوحدة الجنس البشريّ وتعاضده تكون الألفة ممكنة، ويزول سوء الفهم وتتجلّى الحقيقة. عندها يسطع نور الحقيقة، وعندما تضيء الحقيقة هذا العالم، تتحقّق سعادة النّوع الإنسانيّ. وعلى الإنسان أن يدرك روحانيًّا أنّ الله قد جعل الدّين وسيلة للرّحمة، ومصدرًا للحياة وسببًا للاتّفاق. فإذا ما صار الدّين علّة للخلاف والعداوة والبغضاء، يكون من الأفضل للإنسان أن يتخلّى عن هذا الدّين. ذلك لأنّنا نلتمس في تعاليم الدّين روح الخير والمحبّة من أجل جمع شمل أفئدة العباد. فإذا ما وجدناه على النّقيض من ذلك، يباعد ما بين قلوب العباد ويملؤها مرارة، يحقّ لنا أن نطرحه جانبًا. وبناء على ذلك فإنّ الإنسان عندما يتبيّن بالبحث الصّادق حقيقة الدّين الجوهريّة، تزول تعصّباته القديمة، ويكون ما حلّ به من جديد الاستنارة سببًا لرقيّ العالم الإنسانيّ.

المغزى من موضوعنا هذا أنّه كما يكون الإنسان محتاجًا للتّربية الظّاهريّة، يكون أيضًا في حاجة إلى المثاليّة في تهذيب خلقه؛ فكما تكون حاسّة البصر الظّاهريّة لازمة له، عليه أيضًا أن يمتلك البصيرة والإدراك الوجدانيّ؛ وكما يحتاج للسّمع كذلك تكون الذّاكرة ضروريّة؛ وتمامًا كما لا يستغني عن جسمه، كذلك يلزمه عقل؛ والأُولى هي مناقب مادّيّة والثّانية مناقب مثاليّة. وعلينا، بوصفنا مخلوقات آدميّة مهيّأة ومعدّة بهذه العطيّة المزدوجة، أن نجهد بعون الله وفضله وبإعمال قوّة العقل المثاليّة الموهوبة لنا لكي نبلغ سائر المناقب السّامية، ونشاهد إشراق شمس الحقيقة، ونَظهر بروح الملكوت، ونشاهد الدّلائل الباهرة للحقيقة الرّبّانيّة، وندرك البراهين الدّامغة على خلود الرّوح، ونعيش بوجدانيّة واعية مع هذا العالم الأبديّ، وننتعش ونستيقظ بالحياة الإلهيّة والمحبّة الرّبّانيّة.

خطبة ألقاها حضرة عبد البهاء في سانت بول 20 سبتمبر/ أيلول 1912

الخطبة المباركة بمنزل الدّكتور كليمنت وولسون وحرمه،
870 طريق لوريل، سانت بول، ولاية مينيسوتا

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

يرى المادّيّون أنّ عالم الطّبيعة كامل، بينما يرى الفلاسفة الرّبانيّون أنّ عالم الطّبيعة ناقص. فهناك اختلاف كبير بينهما. فالمادّيّون يلفتون النّظر إلى كمال الطّبيعة، والشّمس والقمر والنّجوم، والأشجار بزينتها، والأرض بتمامها، والبحر – وحقيقة أنّ أقلّ الكائنات شأنًا يحكي عن أشدّ التّناسق كمالاً. بينما ينكر الفلاسفة الرّبّانيّون ما يبدو في مملكة الطّبيعة من كمال واكتمال، على الرّغم من إقرارهم بجمال مناظرها ومظاهرها، واعترافهم بالقوى الكونيّة الّتي لا تقاوم والّتي تتحكّم في الشّموس الهائلة والسّيّارات الضّخمة. وحجّة الرّبّانيّين هي أنّه على الرّغم من أنّ الطّبيعة تبدو كاملة، إلاّ أنّها ناقصة لأنّها تفتقر إلى الذّكاء والتّربية. ولإثبات ذلك يقولون إنّ الإنسان على الرّغم من كونه في مكانة السّيّد لعالم الخلق المادّيّ، إلاّ أنّه هو نفسه محتاج إلى المربّي. فالإنسان الّذي لم يترقّ بالتّربية يكون متوحّشًا وحيوانيًّا فظًّا. وأنّ الغرض من سنّ القوانين والنّظم، وإنشاء المدارس والكلّيّات والجامعات هو تربية الإنسان والرّقيّ به من حدود مملكة الحيوان المظلمة. فما الفرق يا تُرى بين شعب أمريكا وسكان أواسط إفريقيا؟

إنّ الجميع مخلوقات آدميّة. ولكن لماذا ترقّى شعب أمريكا إلى مستوى عالٍ من المدنيّة، بينما لا تزال قبائل أواسط إفريقيا على درجة كبيرة من الجهل والوحشيّة؟ إنّ الفرق والامتياز بينهما هو في مستوى التّربية. وهذا أمر لا يقبل الجدال. لقد تسبّبت التّربية والتّعليم في ترقية شعوب أوروبّا وأمريكا من حضيض دنيا النّقائص وسمت بهم إلى عالم الكمال، بينما بقيت شعوب إفريقيا في حالة فطريّة من الأمّيّة والحرمان بسبب حرمانهم من التّرقّي التّربويّ، ذلك لأنّ الطّبيعة غير كاملة ومعيبة. فالتّربية أمر ضروريّ. فإذا ما تُركت قطعة من الأرض على حالتها الفطريّة الأصليّة، فإمّا أن تصبح جرداء يملؤها الشّوك، أو تملأها الحشائش غير المفيدة. ولكنّه عندما تـُنظّف تلك الأرض القاحلة وتُحرث ثمّ تزرع ستعطي حصادًا وفيرًا بغذاء يقتات به الإنسان.

الفرق نفسه ملحوظ أيضًا بين الحيوانات، فبعضها قد تدجّن وتربّى، والبعض الآخر تُرك على وحشيّته. والدّليل هنا واضح على أنّ عالم الطّبيعة غير كامل، وعلى أنّ عالم التّربية كامل. بمعنى أنّ الإنسان ينجو من مقتضيات الطّبيعة بالتّعليم والتّثقيف، فتكون التّربية بناء على ذلك أمرًا ضروريًّا إلزاميًّا. بيد أنّ للتّربية أنواعًا مختلفة. فهناك تعليم وترقية للجسم المادّيّ بما يضمن قوّته ونموّه. وهناك تربية ذهنيّة أو تعليم عقليّ تأسّست من أجله المدارس والمعاهد. وثالث أنواع التّربية هو تربية الرّوح. فمن خلال نفثات الرّوح القدس يسمو الإنسان إلى عالم الأخلاقيّات ويستنير بضياء العطايا الرّبّانيّة. ولا يتمّ نوال عالم الأخلاق إلاّ بفضل إشراق شمس الحقيقة وبيُمْن الرّوح الرّبّانيّ الباعث للحياة. ومن أجل ذلك تأتي المظاهر المقدّسة الإلهيّة إلى العالم الإنسانيّ، ويَظهرون لتربية البشر وتنويرهم وإضفاء الإحساسات الرّوحانيّة وإيقاظ الإدراكات الوجدانيّة، فيزيّنون بذلك حقيقة الإنسان – أي الهيكل الإنسانيّ – بالنّعم والآلاء الرّبّانيّة. فيصير الإنسان بواسطتهم نقطة الفيوضات الإلهيّة ومهبط العطايا الملكوتيّة. ويصبح بتأثير تعاليمهم مظهر الإشراقات الإلهيّة ومغناطيسًا جاذبًا لأنوار العالم الأسمى. ولذلك فإنّ المظاهر المقدّسة الإلهيّة هم المعلّمون والمربّون الأُوَل للبشريّة، وآثارهم هي أبلغ الدّلائل على ذلك، وتعليمهم الرّوحانيّ عموميّ التّطبيق في عالم البشر، ونفوذهم وقوّتهم لا تُعدّ ولا تُحدّ. ولقد قامت منهم نفسٌ ملكوتيّة واحدة بترقية أمم عديدة. فمثلاً قام يسوع المسيح وحيدًا فريدًا بتربية أمم الرّومان واليونان والآشوريّين، فضلاً عن أوروبّا بأكملها. فيكون من الواضح إذًا أنّ أعظم تربية هي الّتي تأتي من التّربية الرّوحيّة الإلهيّة.

على روح الإنسان أن تنال عطاياها من ملكوت الله حتّى تصبح مرآة الأنوار وتجلّـياتها، ومشرق الآثار الرّبّانيّة، ذلك لأنّ الحقيقة الإنسانيّة كالتّربة، فإذا لم تنزل نعمة المطر من السّماء على التّربة ولم تنفذ فيها حرارة الشّمس تظلّ قاحلة جرداء غير منتجة، أمّا إذا ما نزل عليها المطر الرّطيب وتعرّضت لأشعّة الشّمس بإشراقها الباهر، خرجت من باطنها الأزهار الجميلة العبقة. وكذلك الحال مع الرّوح الإنسانيّ أو حقيقة الإنسان، فما لم تصبح متلقّـية لأنوار الملكوت، وتُطوّر الإحساسات الرّبّانيّة، وتعكس الإشراق الإلهيّ بوجدانها، فلن تكون مظهرًا للفيوضات المثاليّة، ذلك لأنّ حقيقة الإنسان وحدها هي الّتي بإمكانها أن تصبح مرآة تجلّي الأنوار الرّبّانيّة. فتكون حقيقة الإنسان إذًا بمثابة الرّوح لهذا العالم، ذلك لأنّه كما تكون نبضة الحياة محيية لجسد الإنسان، كذلك يجد جسد العالم حياته في المنقبة المحيية لروح الإنسان القدسيّة.

من الواضح أنّ المظاهر المقدّسة والمشارق الرّبّانيّة ضروريّة، ذلك لأنّ هذه النّفوس المباركة البهيّة هم المعلّمون والمربّون الأُوَل للجنس البشريّ، وبواسطتهم تترقّى جميع نفوس البشر بفيض روح القدس الرّبّانيّ.

خلال بعثته في فلسطين كان يسوع المسيح محاطًا بمختلف الأقوام، بمن فيهم اليهود، وجميعهم كانوا يعيشون في حالة من الجهل المفرط، محرومين من كلمة الله وغارق وعْيُهم ووجدانهم في ظلام دامس. فربّى حضرة المسيح تلك النّفوس وأحياهم بحياة الكلمة الإلهيّة حتّى صاروا هم أنفسهم أداة لتربية العالم، فأناروا الشّرق والغرب.

انظروا إلى ما للتّربية والتّعليم الرّوحانيّ من أثر بديع. إذ بواسطته انقلب بطرس الصّياد إلى أعظم المعلّمين. وجعلت التّربية الرّوحانيّة من الحواريّين مصابيحَ مضيئةً في ديجور العالم، وجعلت مسيحيّي القرنين الأوّل والثّاني مشهورين بفضائلهم في كلّ مكان. حتّى إنّ الفلاسفة شهدوا بذلك. فمنهم جالينوس الطّبيب الّذي وضع كتابًا عن ترقّي الأمم، وكان من مشاهير فلاسفة اليونان ولم يكن مسيحيًّا. وذكر في كتابه هذا أنّ العقائد الدّينيّة لها أثر بالغ على المدنيّة، وأنّ العالم محتاج إليها. وكبرهان على ذلك قال ما معناه ‘في وقتنا الحاضر هناك جماعة تسمّى بالمسيحيّين، وعلى الرّغم من أنّهم ليسوا من الفلاسفة أو ممّن تلقّوا العلم، فهم متفوّقون على سائر النّاس من حيث الأخلاقيّات، فهم يتحلّـون بكمال الأخلاق، وكلّ منهم بمثابة فيلسوف عظيم في الأخلاقيّات والسّلوكيّات، والتّوجّه إلى الملكوت الإلهيّ.’ فهذا دليل نسوقه من شهادة مراقب غريب لبيب على أنّ التّربية الرّوحانيّة هي نور العالم الإنسانيّ، وأنّ غيابها عنه هو الظّلام بعينه.

لقد ظهر حضرة بهاء الله في إيران في زمان كانت ظلمة الجهل مخيِّمة على الشّرق، ولم يكن هناك أيّ أثر للمحبّة والألفة بين البشر. وبفضل التّربية الإلهيّة ونفوذ نفثات الرّوح القدس سما بنفوس من اتّبعوه من الإيرانيّين على شأن نالوا أعلى درجة من الفطنة وأظهروا صفات الكمال للعالم. فبينما كانوا في السّابق جهلاء أصبحوا عرفاء، وكانوا ضعفاء فأصبحوا أقوياء، وكانوا مفتقدين للنّزاهة فصاروا ثقاة، وكانوا أعداء لكافّة البشر فغَدَوْا محبّين للإنسانيّة، وكانوا غافلين روحانيًّا فأضحوا متذكّرين ومتنبّهين، وكانوا نيامًا فاستيقظوا، ومتنافرين فاتّحدوا بالمحبّة، وهم الآن ساعون في خدمة العالم الإنسانيّ. وغايتهم الوحيدة هي خدمة الله والبشريّة، ولا رغبة ولا مطلب لهم سوى رضاء الله. ورضاء الله هو في محبّة خلقه. فإرادة الله وتدبيره هو أن يصير كلّ فرد من النّوع الإنسانيّ منيرًا كالمصباح، مشرقًا بكلّ الفضائل المقدّرة لعالم الإنسان، مُخرِجًا بني جلدته من الظّلام النّاسوتيّ إلى النّور الملكوتيّ. وفي ذلك منقبة العالم الإنسانيّ ومجده. هذا هو كمال الإنسان وشرفه وفخاره وإلاّ فالإنسان يكون حيوانًا لا فرق بينه وبين مخلوقات تلك المملكة الدّنيا.

من الواضح الجليّ أنّ الإنسان بينما يمتلك قوى مشتركة مع الحيوان، فهو مميّز عنه بتحصيل العلوم والإدراك الرّوحانيّ، وبنيل الفضائل، وبالقابليّة لتلقّي الفيوضات الإلهيّة والفضل الرّبّانيّ وفيوضات الرّحمة الملكوتيّة. هذا هو زينة الإنسان وشرفه وعلوّه. وعلى الإنسانيّة أن تسعى إلى هذا المقام الأسمى. وقد عبّر حضرة المسيح عن هذا المقام بالولادة الثّانية. فالإنسان يولد أوّلاً من عالم الظّلام، أي رحم الأمّ، إلى هذا العالم الدّنيويّ المنير، وفى ذلك العالم المظلم الّذي أتى منه لم يكن لديه علم بفضائل هذا الوجود. لقد تحرّر من حالة من الظّلام وجيء به إلى عالم جديد فسيح فيه تشرق الشّمس، وتلمع النّجوم، ويفيض القمر بضيائه، وهناك المناظر البديعة والرّياض والفواكه وكافّة نعم العالم الحاضر. فكيف حصل الإنسان على هذه النّعم؟ لقد حصل عليها من جرّاء ولادته من أمّه. وكما وُلد الإنسان جسديًّا إلى هذا العالم، يمكنه أن يولد مرّة ثانية من عالم الطّبيعة ورحمها، إذ إنّ عالم الطّبيعة هو حالة من الحيوانيّة والظّلام والنّقصان. وفي هذه الولادة الثّانية يبلغ عالم الملكوت، وهناك يرى ويدرك أنّ عالم الطّبيعة هو عالم ظلمانيّ، بينما الملكوت هو عالم نورانيّ، وأنّ عالم الطّبيعة عالم النّقائص، والملكوت عالم الكمال، وأنّ عالم الطّبيعة محروم من النّورانيّة، وملكوت الإنسانيّة الرّوحانيّة هو سماء من النّور. وعندئذ تكون الاكتشافات والكشفيّات العظيمة من نصيبه، ويكون قد بلغ عين العرفان، واتّسعت دائرة فهمه بغير حدود، ويشاهد حقائق الوجود، ويدرك المواهب الرّبّانيّة، ويفضّ أختام أسرار الخليقة. هذا هو المقام الّذي عبـّر عنه حضرة المسيح بالولادة الثّانية. إذ يصرّح بأنّه كما ولدتم بالجسد من رحم الأمّ إلى هذا العالم، عليكم أن تولدوا مرّة أخرى من رحم عالم الطّبيعة الأمّ إلى حياة الملكوت الرّبّانيّ. وأدعو الله أن تنالوا جميعًا هذه الولادة الثّانية الرّوحانيّة. فالمولود من جسد جسد هو، والمولود من الرّوح هو روح.

إنّني أدعو الله أن تتنزّل عليكم التّأييدات الإلهيّة، وأن تولدوا مرّة ثانية من هذا العالم الفاني إلى العالم الملكوتيّ. وأن تشاهدوا آيات الله، وتشعروا بالفضائل الرّبّانيّة، وتنالوا العطايا الأزليّة، وتدركوا حقيقة الحياة الأبديّة.

خطبتان ألقاهما حضرة عبد البهاء في دنفر (1) 24 سبتمبر/ أيلول 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّدة روبرتس،
بمدينة دنفر، ولاية كولورادو

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

جئت من بلاد الشّرق البعيدة لأزوركم، عابرًا المحيط العظيم وقاطعًا مسافة طويلة عَبْر هذه القارّة. فانظروا كم تقت للقائكم، إذ إنّ جسدي واهن ضعيف لا يقدر على طول المشقّة، إلاّ أنّنا والحمد الله وصلنا مدينة دنفر أخيرًا. ولقاء كهذا يستحقّ الشّكر، فهو بلا نظير وفريد بين اللّقاءات. فاللّقاءات الأخرى تعقد بدافع من المنافع المادّيّة – كالاجتماعيّة والسّياسيّة والتّجاريّة والتّعليميّة – بيد أنّ هذا الجمع ليس له مراد سوى نوال الملكوت الرّبّانيّ، فهو فريد إذًا ولا مثيل له. فالقلوب متوجّهة إلى الله، والأرواح سامية بالبشارات الإلهيّة، ومقاصد الكلّ متوجّهة إلى الله. فأيّ لقاء يمكن تصوّره أفضل من هذا؟

هذا الاجتماع روحانيّ في جوهره، متّسم بالإخلاص وفي غاية الأهمّيّة. ولكن علينا أن ننهض للوفاء بغاياته، لأنّ اهتمامنا موجّه إلى الملكوت السّماويّ الّذي يجمل بنا أن نخدمه بكلّ إخلاص. فعلى جميع الحاضرين هنا إذًا أن يظهروا كامل المحبّة والألفة، مُبدين غاية الخضوع ونكران الذّات، ومتوجّهين بأفكارنا إلى ملكوت الله حتّى يكون لقاؤنا حاكيًا عن الجنود المجنّدة للملأ الأعلى.

الحمد لله أنّنا نعيش في قرن الأنوار. والحمد لله أنّنا على هذه البسيطة في يوم الإشراق الرّبّانيّ. والحمد لله أنّنا نحيا في هذا الزّمان، زمان تجلّي المحبّة الإلهيّة. والحمد لله أنّنا نعيش في يوم فيض العطاء السّماويّ. والحمد لله أنّ هذا يوم أيقظت فيه الأنوارُ والإشراقاتُ الرّقيَّ والتّقدّمَ في أرجاء الشّرق والغرب. فكم من نفوس مقدّسة في العصور الماضية تاقت لمشاهدة هذا القرن، وعلت زفراتها آناء اللّيل وأطراف النّهار شوقًا للعيش على الأرض في هذا الدّور. أمّا وجودنا وسنوح الفرصة لنا فهو منحة من الفضل الرّبّانيّ. فبيُمْن رحمته ومحض فضله أسبغ علينا هذا، مصداقًا لما تفضّل به السّيّد المسيح المدعوّون كثيرون والمختارون قليلون. حقًّا، لقد اختاركم الله لمحبّته وعرفانه، واختاركم الله من أجل الخدمة الجليلة الّتي هي توحيد الجنس البشريّ، واختاركم الله لغرض تحرّي الحقيقة وترويج السّلام العالميّ، واختاركم الله لتقدّم الإنسانيّة وترقّيها، ولنشر التّربية الحقيقيّة والمناداة بها، ومن أجل إبداء المحبّة لإخوانكم في الخليقة وإزالة التّعصّب، واختاركم الله للتّأليف بين الأفئدة وإنارة العالم الإنسانيّ. وها هي أبواب منّه وكرمه قد فتحت أمامنا على مصاريعها، ولكن علينا أن نكون متنبّهين ويقظين وواعين، ومنشغلين بخدمة البشريّة كافّة، معربين عن امتناننا لأفضال الله، وملتزمين دائمًا بإرادته.

لاحظوا كم يُخيّم الظّلام على العالم. ففي كلّ ركن من الأرض نجد نزاعًا وخلافًا وصراعًا من نوع أو آخر. والبشر غرقى في بحر المادّيّة ومشغولون بشؤون هذا العالم. فلا تفكير لديهم سوى في التّملّـك الدّنيويّ، ولا رغبة لهم غير أهواء هذه الحياة العابرة الفانية. وأقصى مرادهم هو نوال الرّزق المادّيّ، والرّاحة الجسمانيّة، والملذّات الدّنيويّة من قبيل تلك الّتي تشكّل سعادة العالم الحيوانيّ بدلاً من سعادة العالم الإنسانيّ.

إنّ شرف الإنسان يكمن في الفوز بعرفان الله؛ وسعادته تنبع من محبّة الله؛ وفرحه في البشارات الإلهيّة؛ وعظمته معلّقة بعبوديّته لله. وأسمى رقيّ للإنسان هو في دخوله الملكوت الإلهيّ، وثمرة هذا الوجود الإنسانيّ هي لبّ الحياة الأبديّة وجوهرها. فإذا ما كان الإنسان محرومًا من العطايا الرّبّانيّة، وإذا ما كانت لذّته وسعادته مقصورتان على هذه الرّغبات المادّيّة، فأيّ امتياز أو فرق بينه وبين الحيوان؟ وفي حقيقة الأمر تكون سعادة الحيوان أعظم، لأنّ احتياجات الحيوان أقلّ وأسباب رزقه سهلة المنال. ولو أنّه من الضّروريّ للإنسان أن يكدح من أجل احتياجاته وراحته المادّيّة، إلاّ أنّ ما يحتاجه حقًّا هو نيل العطايا الإلهيّة. فإذا ما حرم من المواهب الرّبّانيّة والإحساسات الرّوحانيّة والبشارات الملكوتيّة، فلا يكون لحياة الإنسان في هذه الدّنيا أيّ ثمر يذكر. فبينما يكون الإنسان حائزًا على الحياة الجسديّة، عليه أيضًا أن يتمسّك بالحياة الرّوحانيّة، وبجانب الرّاحة والسّعادة الجسمانيّة، عليه أن ينعم بالمباهج الرّبّانيّة والرّضاء الإلهيّ. عندئذٍ يكون جديرًا بلقب إنسان، وعندئذٍ يكون على صورة الله ومثاله، لأنّ صورة الرّحمن ما هي إلاّ صفات الملكوت السّماويّ. وإذا لم تظهر ثمار الملكوت في روضة فؤاده، لا يكون الإنسان على صورة الله ومثاله، أمّا إذا ظهرت تلك الثّمار يكون عندها متلقّيًا للعطايا المثاليّة، ومشتعلاً بنار محبّة الله. وإذا ما أصبحت أخلاقه روحانيّة الطّابع، وكانت أمانيه ملكوتيّة، ووافقت أعماله إرادة الله، فيكون الإنسان قد بلغ صورة خالقه ومثاله؛ وإلاّ يكون على صورة الشّيطان ومثاله. ولذا تفضل حضرة المسيح بقوله من ثمارهم تعرفونهم.

ولكن تُرى ما هي ثمار عالم الإنسان؟ إنّها الصّفات الرّوحانيّة الّتي تظهر في الإنسان. وإذا ما حرم الإنسان من تلك الصّفات يكون كالشّجر بلا ثمر. أمّا من كان مطمحه ساميًا، وهمّته عالية، فلن يرضى بمجرّد الوجود الحيوانيّ، بل سيسعى للملكوت الإلهيّ ويتوق لأن يكون في الجنّة. ولو كان يمشي على هذه الأرض بجسده المادّيّ، وعلى الرّغم من كون طلعته الخارجيّة جسمانيّة، إلاّ أنّ الوجه الّذي يعكس باطنه يكون روحانيًّا ملكوتيًّا. وما لم ينل الإنسان ذلك المقام تكون حياته خالية تمامًا من أيّ نتائج حقيقيّة ويضيع عمره في الأكل والشّرب والنّوم بغير ثمار باقية ودون آثار ملكوتيّة أو استنارة – أي بغير فاعليّة روحانيّة، أو حياة أبديّة، ودون الإنجازات السّامية المقدّرة له خلال رحلته في العالم الإنسانيّ. ويجب أن تحمدوا الله على أنّ مساعيكم سامية ونبيلة، وأنّ مجهوداتكم قيّمة، ومقاصدكم منحصرة في ملكوت الله، وأنّ منتهى غايتكم هو نيل الفضائل الأبديّة. عليكم أن تعملوا وفقًا لهذه المقتضيات. فقد يكون الإنسان بهائيًّا بالاسم فقط. أمّا إذا كان بهائيًّا حقًّا، فستكون أعماله وتصرّفاته برهانًا قاطعًا على ذلك. فما هي متطلّبات ذلك؟ هي محبّة الجنس البشريّ، الإخلاص للجميع، إظهار وحدة العالم الإنسانيّ، الأعمال الخيريّة، الاشتعال بنار محبّة الله، الفوز بعرفان الله، وكلّ ما يؤدّي إلى خير البشر.

لقد كنّا نتحدّث هذا المساء عن تآلف البهائيّين الإيرانيّين واتّحادهم. فيمكن أن يقال عنهم بحقّ إنّهم عشّاق. فمثلاً إذا ما وفد أيّ من أحبّاء الله على مدينتهم، يبتهج كلّ الأحبّاء ويجتمعون للقائه. فإذا كان عليلاً اعتَنَوْا به، أو مغمومًا واسوه. فهم يحيطونه بالرّعاية بكلّ وسيلة ويعطون الدّليل القاطع على أنّ هناك صلة روحانيّة تربط بعضهم بعضًا.

يتعجّب الغرباء وغير البهائيّين من هذه المحبّة والتّعاطف الغامر السّائد بين البهائيّين، فيستقصون عنه. ويلاحظون الوحدة والوفاق الظّاهر بينهم، فيقولون ‘ما أجمل الرّوح المشرقة من محيّاهم!’ والكلّ يغبطهم عليها ويتمنّى أن تتجلّى رابطة المحبّة هذه في كلّ مكان. ولهذا فإنّ أوّل نصيحتي لكم هي: عاشروا مع الكلّ بغاية العطف، كونوا كعائلة واحدة، واسلكوا هذا السّبيل. فلتكن مقاصدكم واحدة حتّى تنفذ محبّتكم وتؤثّر في أفئدة الآخرين فيصبحون محبّين لبعضهم البعض ويبلغون هذه الحالة من الوحدة.

إنّ عالم الإنسانيّة غارق في الظّلام، وأنتم شموعه المضيئة. وهو في غاية الفقر، عليكم أن تكونوا كنزه الملكوتيّ. وهو في غاية التّدنّي، يجب أن تكونوا سبب علوّه. وهو محروم من الأفضال الرّبّانيّة، عليكم أن تعطوه الدّافع والحافز الرّوحانيّ. وطبقًا لتعاليم حضرة بهاء الله عليكم أن تحبّوا وتعتزّوا بكلّ فرد في الإنسانيّة.

المحبّة هي أوّل دليل على الإيمان. فرسالة المظاهر الإلهيّة المقدّسة هي المحبّة؛ كما أنّ كائنات الوجود قائمة على المحبّة، ونور العالم راجع إلى المحبّة، ورخاء العالم وسعادته وقف عليها. ولذا فإنّني أنصحكم أن تجتهدوا في نشر نور المحبّة في كلّ أرجاء العالم الإنسانيّ. ولأنّ أهل هذا العالم مشغولون بالتّفكير في الحرب والقتال، فعليكم أن تكونوا صانعي السّلام. والأمم لا تفكّر إلاّ في نفسها، فعليكم أن تفكّروا في الآخرين لا في أنفسكم. فهم غافلون، عليكم أن تكونوا متذكّرين. وهم نيام، فعليكم أن تكونوا يقظين متنبِّهين. عسى أن يكون كلّ واحد منكم نجمًا لامعًا في أفق المجد الأبديّ. هذا هو رجائي لكم ومنتهى أملي. فقد طويت المسافات البعيدة حتّى تنالوا هذه الصّفات والمنح الرّبّانيّة. والحمد لله أنّي قد حضرت هذا اللّقاء الهادف إلى ذكر الله.

(2) 25 سبتمبر/ أيلول 1912

الخطبة المباركة بالكنيسة الثّانية للعِلْم الرّبّانيّ،
3929 غرب الطّريق الثّامن والثّلاثين، بمدينة دنفر، ولاية كولورادو

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

لقد علمت وأنا في بلاد الشّرق مقاصد الشّعب الأمريكيّ السّامية وإنجازاته البديعة. وعندما جئت هذه الدّيار أدركت أنّ المثل الأمريكيّة تستحقّ حقًّا أعظم الثّناء، وأنّ النّاس هنا عاشقون للحقيقة. فهم يبحثون عن الحقيقة ولا أثر للتّعصّب فيما بينهم. واليوم نرى أمم العالم على شفا الحرب، مدفوعة ومتأثّرة بتعصّبات الجهل والعنصريّة. والحمد لله ليس لديكم ذلك التّعصّب لأنّكم تؤمنون بوحدانيّة العالم الإنسانيّ وتضامنه. ولا شكّ أنّ التّأييدات الرّبّانيّة ستشملكم.

أحد أشكال التّعصّب الّذي ابتلي به عالم البشر هو العصبيّة والحميّة الدّينيّة. فعندما تشتعل تلك الكراهية في الصّدور، تصير علّة الثّورة والهلاك وسبب تدنّي البشريّة والحرمان من رحمة الله. ذلك لأنّ المظاهر المقدّسة والمؤسّسين الرّبّانيّين للدّين كانوا هم أنفسهم متّحدين تمامًا في محبّة واتّفاق، بينما يتّصف أتباعهم بالتّنافر المرير والسّلوك العدائيّ لبعضهم البعض. لقد أراد الله للبشر إشراق المحبّة، ولكنّ الإنسان بفقدانه البصيرة والفهم قد غلّف نفسه بحجبات الخلاف والنّزاع والكراهية. إنّ التّعاون والاعتماد المتبادل هما أسمى ما تحتاجه الإنسانيّة. وكلّما ازدادت روابط الألفة والتّكافل بين البشر، ازدادت القوّة البنّاءة وتقدّم الإنجاز في كافّة مجالات النّشاط الإنسانيّ. ومن دون التّعاون والتّبادل يظلّ فرادى أعضاء المجتمع الإنسانيّ على أنانيّتهم، ولا تلهمهم أيّ دوافع تتّسم بنكران الذّات، ويكونون محدودين ومنعزلين في رقيّهم كالكائنات الحيوانيّة والنّباتيّة المنتمية إلى ممالك الوجود الأدنى. والمخلوقات الدّانية ليست بحاجة إلى تعاون وتبادل للمنافع. فالشّجرة بمقدورها أن تحيا وحيدة منفردة، ولكن هذا يستحيل على الإنسان البقاء فيه دون أن يبتلى بالتّقهقر والتّأخّر. فكلّ سلوك ونشاط في حياة الإنسان متّسم بالتّعاون يكون ممدوحًا ومطابقًا للإرادة الإلهيّة. وأوّل مظهر من مظاهر التّعاون هو الرّباط العائليّ، وهو لا يعوّل عليه وغير مؤكّد فى فعّاليّته، لأنّه عرضة للانفصال ولا يربط ما بين أفراد المجتمع الإنسانيّ بصفة دائمة. وهناك أيضًا تعاون ووحدانيّة المولد أو العرق وهي أيضًا غير فعّالة، لأنّه رغم إمكانيّة اتّفاق المرتبطين بها بوجه عامّ، تجدهم مختلفين اختلافًا جذريًّا في وجهات النّظر الشّخصيّة والخاصّة. ولذا فإنّ التّرابط العرقيّ لن يفي بمتطلّبات الصّلة الرّبّانيّة. وهناك وسائل أخرى في عالم الإنسان تتحقّق بها المعاشرة المادّيّة، ولكنّها عاجزة عن تأليف أفئدة العباد وأرواحهم، وتكون تلك الوسائل بالتّالي غير فعّالة. فيتّضح إذًا أنّ الله قد قَدّر الدّين وقصد منه أن يكون سببًا وواسطة للسّعي والعمل التّعاونيّ بين البشر. ولهذا الغرض بعث الله أنبياءه، المظاهر المقدّسة للكلمة الإلهيّة، لإثبات أنّ الحقيقة الجوهريّة والدّين الإلهيّ هو رابطة الوحدة الإنسانيّة، ذلك لأنّ الأديان الإلهيّة الّتي أتت بها الرّسل المقدّسة لها نفس الأساس الواحد. ولهذا لا بدّ أن يقرّ الجميع إذًا، أنّ المراد من الأديان الإلهيّة هو أن تكون وسيلة التّعاون الصّادق بين البشر، وأنّها متّحدة في هدف جعل البشريّة أسرة واحدة، ذلك لأنّها ترتكز على أساس عامّ من المحبّة، والمحبّة هي أوّل إشراق للرّبوبيّة.

لقد جاء كلّ دين سماويّ بقسمين من الأحكام: الجوهريّ والعرضيّ. فالأحكام الجوهريّة قائمة على القاعدة الثّابتة الأزليّة الّتي لا تتغيّر للكلمة الإلهيّة ذاتها. وهذه الأحكام الجوهريّة معنيّة بالرّوحانيّات، والسّعي لترسيخ الأخلاقيّات، وإيقاظ الأحاسيس الوجدانيّة، والكشف عن عرفان الله، وغرس محبّة البشريّة جمعاء في الأذهان. أمّا الأحكام العرضيّة فمعنيّة بتنظيم أعمال البشر وعلاقاتهم ببعضهم البعض وذلك بإقامة الأحكام والقوانين الضّروريّة المنظّمة لعالم الأجسام. وهي تخضع دائمًا إلى التّغيير والنّسخ طبقًا لمقتضيات الزّمان والمكان والحال. فمثلاً كان هناك في زمان حضرة موسى عشرة أحكام بالقتل نصّ عليها في كتابه. كما كان الطّلاق وتعدّد الزّوجات مسموحًا به بقدر مقدور. وإذا ما ارتكب شخص جريمة سرقة كانت يده تقطع. وكان ذلك حكمًا شديدًا وعقوبة قاسية سارية في زمان حضرة موسى. ولكن عندما أتى زمان حضرة المسيح كانت العقول قد تطوّرت، والأفهام شحذت، والإدراكات الرّوحانيّة ترقّت بما اقتضى إبطال بعض أحكام القتل وتعدّد الزّوجات والطّلاق. بيد أنّ الأحكام الجوهريّة للدّورة الموسويّة لم تتغيّر، وكانت تلك هي الحقائق الأساسيّة لعرفان الله والمظاهر المقدّسة، وتطهير الأخلاق، وإيقاظ الإحساسات الرّوحانيّة – أي تلك المبادئ الخالدة الّتي لا تغيير فيها ولا تبديل. فأساس الأديان الإلهيّة بالاختصار هو أساس أزليّ واحد، أمّا الشّرائع والأحكام الّتي تُسنّ من أجل ظروف ومقتضيات وقتيّة فهي عرضة للتّغيير. ولذا فإنّ التّشبّث بتلك الشّرائع والأحكام المؤقّتة والاتّباع الأعمى للرّسوم الموروثة وتقليدها قد أدّيا إلى نشوب الاختلاف والتّنافر بين أتباع مختلف الأديان، ممّا أفضى إلى الشّـقاق، والخلاف والكراهية. فالتّقاليد العمياء والرّسوم المتزمّتة تؤدّي إلى التّباعد والاختلاف، وتفضي إلى سفك الدّماء وتدمير أركان العالم الإنسانيّ. فيتعيّن إذًا على أصحاب الأديان في العالم أن يتخلّوا عن هذه التّقاليد ويتحرّوا الأساس الجوهريّ أو الحقيقة ذاتها الّتي لا تقبل التّغيير أو التّبديل. هذه هي الوسيلة الرّبّانيّة للاتّفاق والاتّحاد.

تهدف كافّة الأديان الإلهيّة إلى تأسيس عرى المحبّة والألفة بين البشر، كما أنّ المقصود من عظمة الكلمة الإلهيّة المنزلة هو أن تكون مصدر معرفة واستنارة لبني البشر. وطالما أصرّ الإنسان على تمسّكه بالرّسوم الموروثة وتقليد الطّقوس العتيقة، منكرًا الظّهورات السّامية للنّور الإلهيّ في هذا العالم، فسيعمل الخلاف والجدال على تقويض الغرض من الدّين ويجعل من المحبّة والألفة أمرًا مستحيلاً. لقد بشّر كلّ واحد من المظاهر الإلهيّة المقدّسة بمن سيأتى من بعده، وصدّق كلّ منهم على رسالة من سبقه. وبالتّالي، وبما أنّهم كانوا متّفقين ومتّحدين في الهدف والتّعاليم، يتعيّن على أتباعهم أن يكونوا بالمثل متّحدين في المحبّة والألفة الرّوحانيّة. وليس هناك أيّ وسيلة أخرى للقضاء على النّزاع والتّباعد وتأسيس وحدة العالم الإنسانيّ.

من بعد إثباتنا لأحقّيّة مظاهر الكلمة الإلهيّة عن طريق البحث في التّعاليم الإلهيّة، يجب أن نتيقّن ممّا إذا كانوا مربّين حقيقيّين لبني البشر. فحضرة موسى كان من بين منزلي الشّريعة الإلهيّة، وعند ظهوره رفضته كلّ أمم زمانه. ومع ذلك فقد عمل وحيدًا فريدًا على ترويج التّعاليم الإلهيّة، وحرّر أمّة من حضيض الذّلّ والعبوديّة. إذ كان بنو إسرائيل جهلة أذلاّء ومنحطّين في أخلاقهم – أي كانوا طبقة من العبيد ترزح تحت طغيان مستبدّ. فخرج بهم حضرة موسى من الأسْر وجاء بهم إلى الأرض المقدّسة وربّاهم وهذّبهم، وأرسى فيما بينهم قواعد مدنيّة مادّيّة وإلهيّة. وبيمن تربية حضرة موسى بلغ هؤلاء القوم الجهلة مكانة سامية من القوّة والهيبة، بلغت ذروتها في مجد حكم سليمان. فانتُشلوا من حضيض الحرمان والعبوديّة إلى أوج الفلاح والحضارة القوميّة. يتّضح إذًا أنّ حضرة موسى كان مربّيًا ومعلّمًا. إنّ هدف الرّسل الإلهيّة المقدّسة ورسالتهم هي تربية البشريّة وترقّيها، ورعاية الثّمار الرّبّانيّة في رياض قلوب العباد، وانعكاس الإشراق السّماويّ على مرايا الأرواح البشريّة، وإيقاظ المقدرة العقليّة، وزيادة الإحساسات الرّوحانيّة. وعندما تشاهد هذه النّتائج والثّمار في عالم البشر، يكون عمل المظاهر الإلهيّة ومهمّتهم جليًّا واضحًا. لقد ظهر حضرة المسيح في العالم، وحيدًا فريدًا دون أن يدخل المدارس وبغير تعليم ظاهريّ سوى التّدريب على العمل في دكان نجّار، في زمان كانت فيه الأمّة اليهوديّة في أشدّ حالات الذّلّة. فعمل ذلك الفتى الرّبّانيّ النّورانيّ، دون ثروة أو قوّة من جند أو نفوذ، على تخليص من اتّبعه من اليهود من القمع والإهانة، ورفعهم إلى أعلى مصاف الرّقيّ والمجد. كان بطرس، حواريّ السّيّد المسيح، صيادًا، ولكنّه أفاض نورًا على كلّ آفاق العالم بقوّة حضرة المسيح. كذلك ائتلفت مختلف الأقوام من أمم اليونان والرّومان والمصريّين والأشوريّين بغاية الاتّحاد والاتّفاق، وحيثما كان القتال وسفك الدّماء قائمًا حلّ مكانهما التّواضع والمحبّة وأرسيت قواعد الدّين الإلهيّ بكلّ إحكام. وهذا برهان على أنّ حضرة المسيح كان معلّمًا ومربّيًا سماويًّا لعالم الإنسان، ذلك لأنّ هذه الدّلائل تاريخيّة دامغة، وليست مبنيّة على الرّوايات أو التّقارير الظّرفيّة. إنّ قدرة كلمته على لمّ شمل هذه الأمم معًا هو أمر جليّ واضح وضوح الشّمس في رابعة النّهار. ولا حاجة لدليل آخر.

إنّ البرهان على صدق وأحقّيّة أيّ من المظاهر الإلهيّة هو نفوذ كلمته واقتدارها، وغرس الصّفات الملكوتيّة في أفئدة أتباعه وحياتهم، والإنعام على عالم الإنسانيّة بالتّربية الرّبّانيّة. وهو برهان قاطع. إنّ العالم مدرسة يلزم لها معلّمون للكلمة الإلهيّة. وبرهان كفاءة هؤلاء المعلّمين هو في تربية الصّفوف الّتي تتخرّج بكلّ كفاءة.

لقد كان أفق بلاد فارس في النّصف الأوّل من القرن التّاسع عشر مغلّفًا بظلام وجهل كبيرين. وكان أهل تلك البلاد في حالة من الهمجيّة. وكانت الكراهية والتّعصّب سائديْن بين مختلف أهل الأديان، وكان سفك الدّماء والعداء مألوفًا بين المذاهب والملل. ولم يكن هناك من شواهد على الألفة والاتّحاد، واستولى التّعصّب والعداء على قلوب النّاس. في مثل ذلك الوقت نادى حضرة بهاء الله بأوّل مبدأ في رسالته وتعاليمه – وهو وحدة العالم الإنسانيّ. وكان ثاني ما نادى به هو تحرّي الحقيقة، وثالثها وحدة أسس الأديان الإلهيّة. وبفضل التّربية الرّوحانيّة أخرج النّاس من الظّلام والجهل إلى نور الحقيقة اللاّئح، وأضاء قلوبهم بأنوار المعرفة، وأرسى أساسًا عموميًّا وحقيقيًّا للتّعالم الدّينيّة، وهذّب الفضائل الإنسانيّة، ومنح الإحساسات الرّوحانيّة، وأيقظ الإدراكات الوجدانيّة، وبدّل خزي النّفوس المتعصّبة ورفعها إلى أوج الفخار والاستعداد. واليوم تجدون في بلاد فارس والشّرق أتباع حضرة بهاء الله قد اتّحدوا بأوثق أواصر الألفة والمحبّة ونبذوا التّعصّبات الدّينيّة وصاروا أسرة واحدة. وإذا ما دخلتم اجتماعاتهم تجدون بينهم المسيحيّين والمسلمين والبوذيّين والزّرادشتيّين واليهود وأهل العقائد الأخرى، متّحدين جميعهم ببديع الاتّحاد دون أيّ شائبة من تعصّب أو تزمّت، يلوح في وجوههم نور وحدانيّة العالم الإنسانيّ. وهم يترقّون يومًا بعد يوم ويظهرون العظيم والعظيم من المحبّة لبعضهم البعض. وهم عاقدون العزم على توحيد الجنس البشريّ، وأسمى مرادهم هو وحدانيّة العقيدة، ويعلنون للبشريّة جمعاء رحمة الله الوارفة وفضله غير المتناهي، ويلقّنون توافق الدّين مع العلم والعقل، ويبرهنون قولاً وعملاً على حقيقة محبّة كافّة البشر بوصفهم عبادًا لإله واحد، والمتلقّون لفيضه العميم. تلك هي أفكارهم وعقائدهم ومبادؤهم الهادية ودينهم. ولا يوجد فيما بينهم أيّ شائبة لتعصّب دينيّ أو عرقيّ أو قوميّ أو سياسيّ، ذلك لأنّهم عباد حقيقيّون لله ومطيعون لإرادته وحُكمه.

غاية أملي ومناي هو أن يستحكم أقوى وأحكم رباط بين الأمّة الأمريكيّة وأهل بلاد الشّرق. هذا هو ابتهالي إلى الله. عسى أن يأتي يوم تتّحد فيه الأديان وتتلاقى فيه كافّة أجناس البشر في اتّحاد ومحبّة من خلال النّفوذ الرّبّانيّ والرّوحانيّ في العالم الإنسانيّ. ولقد نادى حضرة بهاء الله منذ خمسين سنة بالصّلح بين الأمم وأعلن وحدانيّة الأديان الإلهيّة، موجّهًا كلماته إلى كلّ ملوك العالم ورؤسائه في ألواح مخصوصة. لذا فإنّ أسمى أمنية لي هي اتّحاد الشّرق والغرب، والصّلح العموميّ، ووحدة العالم الإنسانيّ.

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في أوكلاند، بالو ألتو، سان فرانسيسكو، وساكرامنتو (1) 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل 1912

الخطبة المباركة في جمعيّة الشّباب المسيحيّ اليابانيّ،
في الكنيسة اليابانيّة المستقلّة، بمدينة أوكلاند، ولاية كاليفورنيا

نقلاً عمّا دوّنته بيجو شتراون

إنّها لسعادة غامرة أن أكون هنا في هذه الأمسية، خاصةً وأنّ أعضاء هذه الجمعيّة قدِموا من إقليم الشّرق. ولطالما كانت تخامرني الرّغبة في لقاء بعض الأصدقاء اليابانيّين. لقد أحرزتْ تلك الأمّة تقدّمًا غير عاديّ في برهة قصيرة – تقدّمًا وترقّيًا أدهشا العالم. وبما أنّهم قد ترقّوا في المدنيّة المادّيّة، فلا بد أنّهم يمتلكون الاستعداد للرّقيّ الرّوحانيّ. لذا كان لديّ شوق غامر لأن ألتقي بهم. والحمد لله أن نلت هذا السّرور، فها أنا ذا في هذه المدينة ألتقي مع مجموعة مبجّلة من اليابانيّين وجهًا لوجه. وممّا يتناقله النّاس أنّ شعب الأمّة اليابانيّة ليسوا متعصّبين، بل يتحرّون الحقيقة. وأينما يجدون الحقيقة يثبتون أنّهم عشّاقها. فهم لا يتشبّثون بالتّقاليد العمياء الموروثة عن العقائد والطّقوس القديمة. لذا فإنّ لي عظيم الرّغبة في أن أتحدّث إليهم في مسألة معيّنة حتّى تزداد وتتحقّق وحدة وامتزاج أمم الشّرق مع أمم الغرب. وبهذه الكيفيّة تزول التّعصّبات الدّينيّة والعرقيّة والسّياسيّة، والتّحزّب والمذهبيّة من بين البشر. فكلّ لون من ألوان التّعصّب هو هادم للهيئة الاجتماعيّة.

عندما نتصفّح التّاريخ منذ بداية الوجود البشريّ حتّى عصرنا الحاضر الّذي نحياه، يتّضح أنّ كافّة الحروب والنّزاعات وسفك الدّماء والاقتتال وكلّ شكل من أشكال الفتن كانت راجعة إلى لون أو آخر من ألوان التّعصّب – سواء أكان تعصّبًا دينيًّا أو عرقيًّا أو قوميًّا – فضلاً عن التّحزّب والتّحيّز بسبب مصلحة أو أخرى. وحتّى في يومنا هذا فإنّنا نرى هيجانًا في البلقان، وحربًا مرجلها التّعصّب الدّينيّ. وحدث قبل مدّة من الزّمن عندما كنت أقطن مدينة الرّوميلّي أن نشبت معركة بين أصحاب الأديان. لم يكن لديهم أيّ ميل إلى العدل أو الإنصاف، فقد نهبوا أموال بعضهم البعض وأحرق كلّ فريق منهم ديار وبيوت الفريق الآخر، وذبحوا الرّجال والنّساء والأطفال، متخيّلين أنّ مثل ذلك القتال وسفك الدّماء وسيلة للتّقرّب إلى الله. وهذا برهان واضح على أنّ التّعصّب مقوّض لبنيان العالم الإنسانيّ، بينما المفروض بالدّين أن يكون سبب الألفة والاتّفاق.

فعلى الدّين أن يكون سببًا للمحبّة وأن يكون دافعًا إلى العدل، ذلك لأنّ الحكمة من إرسال المظاهر الإلهيّة هو خلق رابطة محبّة لا تنفصم عراها. أمّا الرّوابط الّتي تؤلّـف بين أفراد الأمّة فليست كافية. وهي روابط يمكن ذكرها – منها على سبيل المثال الرّابطة الوطنيّة، وهي رابطة من الواضح قصورها، ذلك لأنّه غالبًا ما يحدث أن يشنّ أهل الوطن الواحد الحرب الأهليّة على بعضهم البعض. وقد يكون رباط الألفة رباطًا عرقيًّا، بيد أنّ التّاريخ يُثبت أنّه ليس وثيقًا بما فيه الكفاية، فكم من حرب ضروس نشبت بين أصحاب العرق الواحد. كما قد تكون الرّابطة الّتي تؤلّف ما بين النّاس رابطة سياسيّة. ولكن غالبًا ما يحدث أن تتمخّض الدّبلوماسيّة الدّوليّة عن معاهدة سلام ذات يوم ثمّ تشنّ الحرب في اليوم التّالي. أي أنّه من الجليّ الواضح تاريخيًّا أنّ هذه الرّوابط كلّها لا تكفي.

أمّا الرّباط الحقيقيّ المتين فهو رباط دينيّ في طابعه، ذلك لأنّ الدّين مدلّ على وحدة العالم الإنسانيّ. والدّين يخدم عالم الأخلاق. والدّين يطهّر القلوب. والدّين يحفز النّاس على القيام بأعمال محمودة. والدّين هو سبب المحبّة في أفئدة العباد، ذلك لأنّ الدّين أصل إلهيّ، وهو الأصل الّذي طالما كان باعثًا على الحياة. كما أنّ التّعاليم الإلهيّة هي مرجع استنارة أهل العالم. ودائمًا ما يكون الدّين بانيًا وليس هادمًا.

إنّ أساس جميع الأديان الإلهيّة واحد. وهي جميعها ترتكز على الحقيقة، والحقيقة لا تقبل التّعدّد. ومع ذلك نشأت بين البشر اختلافات فيما يتعلّق بالمظاهر الإلهيّة. فالبعض زرادشتيّون، والبعض بوذيّون، والبعض الآخر يهود، ومسيحيّون، ومسلمون، وهلمّ جرّا. وصار ذلك علّة للاختلاف، في حين أنّ تعاليم النّفوس المقدّسة الّتي أسّست الأديان الإلهيّة واحدة في جوهرها وحقيقتها. لقد أسدوا جميعهم أعظم الخدمة لعالم الإنسان. فجميعهم دعوا النّفوس إلى السّلام والوفاق. وجميعهم نادوا بالفضائل الإنسانيّة. وجميعهم هدوا النّفوس لبلوغ الكمال، ومع ذلك نشأت بين الأمم تقاليد من الطّقوس الموروثة، وهي تقاليد ليست من أساس الأديان الإلهيّة وجوهرها. وبما أنّ تلك التّقاليد كانت مخالفة للحقيقة ومختلفة عن التّعاليم الجوهريّة الّتي أتت بها المظاهر الإلهيّة، فقد نشبت الخلافات وظهر التّعصّب. وهكذا صار التّعصّب الدّينيّ علّة للقتال والنّزال.

إذا ما تخلّينا عن تلك التّقاليد البالية العمياء وتحرّينا الحقيقة لاتّحدنا جميعًا، فلا يبقى بيننا خلاف، وتزول العداوة، ويتعاشر الكلّ بمنتهى الألفة، وينعم الجميع بروابط التّآلف الودّيّة. عندئذ سيحظى عالم الخليقة بالاطمئنان، وتتبدّد وتنقشع الغيوم الكثيفة – غيوم التّقاليد العمياء والاختلافات العقائديّة، وتسطع شمس الحقيقة بأبهى إشراق.

علينا حقًّا أن نعتبر أنبياء الله هم الوسطاء، إلاّ أنّ العالم قد جعل منهم علّة للشّقاق وذريعة للقتال والنّزاع. لقد كانوا في الحقيقة وسطاء المحبّة والوفاق. ولو لم يكونوا مصادر المحبّة والألفة بين العباد، لما كانوا، بلا شكّ، أنبياء صادقين، ذلك لأنّ حكمة الله وهدفه من إرسال الأنبياء هو تجلّي المحبّة في أفئدة العباد. فعلينا إذًا أن نتحرّى الحقيقة. ولكن دعونا نتأكّد أوّلاً ممّا إذا كان هؤلاء الأنبياء صادقين أم لا، وذلك باستخدام الدّلائل العقليّة والحجج الباهرة، لا بمجرّد ترديد الدّلائل النّقليّة، لأنّ الرّوايات المنقولة متباينة وهي أصل الخلاف.

فمن بين المظاهر الإلهيّة المقدّسة كان موسى وبوذا وغيرهما. ولطالما كانت بعثة الأنبياء من أجل تربية البشر. فهم المربّون والمعلّمون الأُوَل. فإذا ما كان موسى سببًا لترقية الهيئة الاجتماعيّة فلا يكون هناك أدنى شكّ في أنّه كان معلّمًا ومربّيًا حقيقيًّا. وسيكون هذا برهانًا ودليلاً على أنّه نبيّ. فلنبحث كيف أرسل الله حضرة موسى إلى بني إسرائيل عندما كانوا في وهدة اليأس وحضيض الجهل والضّلال، منحطّين يعيشون في حال من الأسر والعبوديّة. فكان حضرة موسى هو الّذي نجّى شعب إسرائيل الذّليل من حالة العبوديّة، وانتشلهم من تلك الجهالة، وخلّصهم من الهمجيّة، وخرج بهم إلى الأرض المقدّسة. وربّاهم ووهبهم نعمة العقل والحجى، وجعلهم أهل جدارة وشرف. كما مدّنهم ورفعهم إلى مستوى عالٍ في الحياة، إلى أن صار بمقدورهم تأسيس سلطنة قوميّة، وهي مملكة سليمان العظيمة. وهذا برهان على أنّ موسى كان معلّمًا ومربّيًا. فلم يكن له جيش ولا ملك، كما لم يكن لديه ثروة ولا جاه. ولم يجمعهم معًا إلاّ بواسطة قوّة مثاليّة، مبرهنًا على أنّه كان نبيًّا ربّانيًّا، ومربّيًا ومعلّمًا إلهيًّا.

بنفس الكيفيّة، علينا أن نتخلّى عن التّعصّب فيما يتعلّق بغيره من المربّين الإلهيّين وذلك بتحرّي الحقيقة. دعونا نتحدّث عن حضرة المسيح مثلاً. فقد أتى بنتائج فاقت ما جاء به حضرة موسى، إذ كان سببًا لتربية الهيئة الاجتماعيّة وتعليم أمم قويّة. ولا مِرية في أنّ نفوسًا كهذه كانت من الأنبياء، لأنّ الهدف من النّبوّة هو التّربية، وقد قامت هذه النّفوس البديعة بتعليم العباد وتربيتهم.

كان حضرة المسيح شخصيّة فريدة، لا معين له ولا نصير. نهض وحيدًا فريدًا لتربية أمم عظيمة قويّة؛ فخضع لنفوذه الرّومان واليونان والمصريّون، والفينيقيّون، والكلدانيّون والأشوريّون. واستطاع أن يؤلّف بين أمم كثيرة، فصهرهم معًا، بما في هذه الكلمة من معنى، ساكبًا إيّاهم في قالب واحد، مبدّلاً عداوتهم بالمحبّة، وحربهم بالسّلام. وصارت النّفوس الشّيطانيّة بيمن تربيته ملائكة حقيقيّين، وأصبح الطّغاة من الحكّام عادلين، وارتقت معايير الأخلاق الإنسانيّة. فهذا برهان على أنّ حضرة المسيح كان مربّيًا ومعلّمًا ومدرّبًا للأمم. فلو أنكرنا ذلك فلن يكون هذا إلاّ ظلمًا.

النّفوس المباركة – أكان موسى أو عيسى أو زرادشت أو كريشنا أو بوذا أو كونفوشيوس أو محمّد – كانت سببًا لاستنارة عالم البشر. فكيف لنا أن ننكر مثل هذا البرهان الدّامغ؟ وكيف نعمى عن ذلك النّور؟ وكيف نشكّك في أحقّيّة حضرة المسيح؟ إنّ هذا لن يكون إلاّ ظلمًا وإجحافًا، بل وإنكارًا للحقيقة. على الإنسان أن يكون عادلاً، ويجب أن نتخلّى عن التّحيّز والتّعصّب. علينا أن ننبذ تقاليد الآباء والأجداد، وأن نتحرّى الحقيقة بأنفسنا ونحكم بالعدل.

لقد أنكرت أمّة الفرس القديمة كلّ هذه الحقائق، وأظهرت أشدّ الكراهية والعداوة للمعتقدات الدّينيّة الّتي كانت تخالف ما لديها. فها نحن قد تحرّينا الحقيقة ووجدنا أنّ جميع هذه النّفوس المقدّسة مرسلة من عند الله، وجميعهم ضحّوا بالنّفس، وتحمّلوا المصاعب والشّدائد في سبيل تربيتنا. فكيف ننسى مثل هذه المحبّة؟ إنّ نور حضرة المسيح واضح، وشمعة حضرة بوذا مضيئة، ونجم حضرة موسى ساطع، والشّعلة الّتي أوقدها حضرة زرادشت لا تزال متّقدة. فكيف ننكرهم؟ إنْ هذا إلاّ ظلم وإنكار للدّليل الكامل. وإذا ما تخلّينا عن التّقاليد صرنا جميعا متّحدين، ولا يبقى هناك من الاختلافات ما يفرّقنا.

لسنا بمتحيّزين ضدّ حضرة محمّد. ففي ظاهر الأمر كان للأمّة العربيّة دور فعّال في الإطاحة بالسّيادة الفارسيّة، وسلطان دولة الفرس، ولهذا أظهرت أمّة الفرس القديمة كلّ ازدراء للعرب. ولكنّنا نحكم بالعدل ولن نتخلّى أبدًا عن صراط الإنصاف. لقد كان العرب في أسفل دركات الانحطاط وكانوا همجًا متعطّشين للدّماء، وبلغوا في وحشيّتهم وانحطاطهم حدًّا كان يدفع الأب في أغلب الأحوال إلى دفن ابنته حيّة. فتأمّلوا: هل هناك بربريّة أحطّ من ذلك؟ وكان قوام تلك الأمّة أهل القبائل المتحاربة المتعادية الّذين كانوا يقطنون شبه جزيرة العرب الواسعة، ولم يكن لهم من همّ سوى الاقتتال وسلب ونهب بعضهم البعض، آسرين النّساء والأطفال ومهلكين بعضهم البعض. في قوم كهؤلاء ظهر حضرة محمّد، فربّى تلك القبائل المتوحّشة ووحّد ما بينها، ووضع حدًّا لسفكهم الدّماء. وبيمن تربيته بلغوا في المدنيّة شأوًا تسيّدوا فيه وحكموا القارّات والأمم. ويا لها من حضارة تلك الّتي أسّسها المسلمون في الأندلس! وما أبدع المدنيّة الّتي أسّسها المغاربة البربر في مراكش! وما أقوى تلك الخلافة الّتي شُيّدت في بغداد! وكم خدم الإسلامُ مسألة العلم ورقّاها! فلماذا إذًا ننكر أحقّيّة حضرة محمّد؟ فلو أنكرناه نكون قد أطلقنا العنان للعداوة والكراهية، وصرنا بتعصّبنا هذا علّة للحرب وسفك الدّماء. فلقد كان التّعصّب علّة تلك العاصفة الهوجاء الّتي ما فتئت تهبّ عبر تاريخ البشريّة قرابة ثلاثة عشر قرنًا ولا تزال. بل هناك الآن في بلاد البلقان هيجانٌ واضح – هيجان يدلّ على تلك العاصفة ويحمل سماتها.

يبلغ تعداد المسيحيّين حوالي ثلاثمائة مليون نسمة، ويقرب تعداد المسلمين من ذلك. فلن يكون من السّهل القضاء على تلك الأعداد. وفضلاً عن ذلك، لماذا يجب محوهم من الوجود؟ فهم جميعًا عباد الله الواحد. فلنجتهد لتحقيق السّلام بين المسيحيّين والمسلمين. أليس هذا أفضل؟ وما فائدة الحرب؟ وما هي ثمرتها؟ لقد دام الاقتتال والعداوة ثلاثة عشر قرنًا من الزّمان. فما الّذي جنيناه منها؟ أليست الحرب حماقة وطيشًا؟ وهل يرضى الله عنها؟ وهل حضرة المسيح راض عنها؟ أو حضرة محمّد؟ من الجليّ الواضح أنّهم غير راضين عنها. لقد امتدح كلّ نبيّ منهم غيره من الأنبياء بأرفع مديح وثناء. وأعلن حضرة محمّد أنّ حضرة المسيح هو روح الله بصريح نصّ القرآن. وأعلن أنّ حضرة المسيح هو كلمة الله، كما امتدح حواريّي المسيح، واختصّ مريم أمّ حضرة المسيح بأسمى درجات الثّناء. وعلى نفس المنوال، اختصّ حضرة المسيح شخص حضرة موسى بالثّناء والمديح، ونشر العهد القديم، التّوراة، على نطاق واسع، وكان السّبب في بلوغ اسم حضرة موسى إلى أسماع الشّرق والغرب. والغرض من قولي هذا بيان أنّ الأنبياء أنفسهم قد أظهروا أقصى درجات المحبّة لبعضهم البعض، ولكنّ الأمم الّتي آمنت بهم واتّبعتهم هم الّذين يتبادلون العداء والخصام فيما بينهم.

لقد كان العالم على هذا الحال من الظّلام عندما ظهر حضرة بهاء الله من أفق إيران. فرفع راية وحدة العالم الإنسانيّ، ونادى بالصّلح العموميّ، وأوصى الأمّة الإيرانيّة بأن تتحرّى الحقيقة، وأعلن أنّ على الدّين أن يكون سببًا للوحدة والمحبّة، وأن يكون وسيلة للتّأليف بين القلوب، وعلّة للحياة والاستنارة. فإذا ما صار الدّين علّة للعداوة وسفك الدّماء، يكون عدم التّديّن أفضل، لأنّ الدّين دواء لكلّ علّة، فإذا ما صار الدّواء علّة المرض وسبب المتاعب، يكون من الأفضل تركه. وبوسعكم أن تشاهدوا اليوم في إيران مسلمين ومسيحيّين وزرادشتيّين وبوذيّين يجتمعون معًا في لقاء واحد، ويعيشون طبقا لتعاليم حضرة بهاء الله، مظهرين غاية المحبّة والوفاق وقد اختفت من بينهم الضّغينة والبغضاء والعداوة والعنف، وصاروا يعيشون معًا كأسرة واحدة.

أنتم يا أهل الشّرق – ذلك الشّرق الّذي كان دومًا مشرق الأنوار، ومنه أشرقت شمس الحقيقة على الدّوام، ساطعة بنورها على الغرب – عليكم إذًا أن تكونوا مظاهر الأنوار. عليكم أن تكونوا سُرُجًا وهّاجة، وأن تسطعوا كالنّجوم مشرقين بنور المحبّة نحو البشر كافّة. وإنّي أدعو لكم أن تكونوا سبب المحبّة بين الأمم، عسى أن يصبح العالم شاهدًا على أنّ الشّرق كان وما يزال مطلع النّور، ومنبع المحبّة والوفاق. أقيموا سلامًا مع العالم كلّه. أحبّوا الجميع، واخدموا الكلّ. فالكلّ عباد الله. والله خالق الكلّ ورازق الكلّ ورؤوف بالكلّ. وبالمثل علينا أن نكون رؤوفين بالكلّ.

إنّني في غاية البهجة بهذا اللّقاء ويغمرني السّرور والحبور إذ صادفت هنا في أصقاع الغرب بعضًا من أهل الشّرق وهم ساعون إلى نيل العلوم ومتحرّرون من كلّ تعصب. عسى أن يكون الله معينًا لكم!

 

(2) 8 أكتوبر/ تشرين الأوّل 1912

الخطبة المباركة في جامعة ليلاند ستانفورد
مدينة بالو ألتو، ولاية كاليفورنيا

نقلاً عمّا دوّنته بيجو شتراون

العلم أعظم منقبة في العالم الإنسانيّ لأنّه يكشف حقائق الأشياء. وحيث إنّني أجد نفسي اليوم في مركز العلم – جامعة من أعظم الجامعات في هذه البلاد وشهرتها طبّقت الآفاق – فإنّني في غاية السّرور.

إنّ الأشخاص الّذين يكرّسون طاقاتهم للعلم يستحقّون أعظم الثّناء. وأشرف المراكز هو الّذي تُعلَّم فيه العلوم والفنون وتُدرّس. والعلم على الدّوام سبب نورانيّة العالم الإنسانيّ، وعلّة عزّته الأبديّة. وسلطنة العلم أعظم بكثير من سلطنة الملوك. إذ إنّ سلطنة الملوك تنتهي، والمَلِك نفسه يمكن خلعه، أمّا سلطنة العلم فهي أبديّة سرمديّة لا تزول. لاحظوا الفلاسفة القدامى؛ فعلامات سيادتهم وسلطنتهم لا تزال ظاهرة في العالم، أمّا ممالك اليونان والرّومان فقد ذهبت رغم عظمتها، ولم يبق من ممالك الشّرق إلاّ ذكرها، بينما لا يزال نفوذ أفلاطون وأرسطو وتأثيرهما باقييْن على حالهما. كما أنّ ذكرَهما باق ومبجّلٌ حتّى الآن في معاهد العالم ومدارسه، ولكن أين نسمع مدح من مضى من الملوك؟ لقد غابوا عن الذّاكرة ورقدوا في وادي النّسيان. فسلطنة العلم إذًا أعظم من سلطنة الحكّام. لقد غزا الملوك الممالك وحقّقوا الفتوحات بسفك الدّماء، لكنّ الإنسان العالِم يغزو أصقاع الجهل ويفتح مدائن العقول والأفئدة بإنجازاته النّافعة. لذا فإنّ فتوحاته دائمة باقية. أرجو لكم تقدّمًا عظيمًا في مركز التّعليم هذا وأن تصبحوا كالمصابيح المنيرة الّتي تشرق بنورها على ظلمات الجهل.

بما أنّ أسّ أساس تعاليم حضرة بهاء الله هو وحدة العالم الإنسانيّ، فسأتحدّث إليكم حول الوحدة الجوهريّة للكائنات، فهي واحدة من المسائل الغامضة في الفلسفّة الإلهيّة.

من حيث الأساس، فإنّ جميع الموجودات تمرّ في مراتب ومراحل التّطوّر نفسها، وكلّ كائن من الكائنات يشتمل على كلّ ماعداه من الكائنات. وهناك قول قديم للحكماء العرب يفيد بأنّ كلّ شيء في كلّ شيء. ومن الواضح أنّ كلّ واحد من الكائنات يتكوّن من جزيئات فرديّة بسيطة، وكلّ جزيء خليويّ أو ذرّة له مسيرته أو رحلته الخاصّة في مراتب متعدّدة لا حصر لها من مراتب الوجود. فمثلاً، الجزيئات الخليويّة الموجودة في تركيب الكائن البشريّ كانت في وقت من الأوقات جزءًا مكوّنًا في عالم الحيوان، وفي وقت آخر كانت ضمن تركيب عالم النّبات، وقبل ذلك كانت موجودة في عالم الجماد. فكلّها تنتقل من حال وجوديّ إلى حال آخر، وتمرّ بالعديد من الأشكال والمراحل، ولها في كلّ صورة من صور الوجود وظائف معيّنة. وترحال هذه الذّرّات في تركيب الموجودات لا يتوقّف. لهذا فإنّ كلّ كائن عبارة عن تعبير بشكل ما عمّا عداه من الكائنات. والفرق بينها يكمن في التّحوّلات المتتابعة والفترة الزّمنيّة الّتي تستلزمها عمليّة التّطوّر.

فمثلاً استلزم هذا الجزيء الخليويّ، الدّاخل في الخلايا الّتي تكوّنت منها يدي، أن تنقضي مدّة من الزّمن حتّى يمرّ بفترات مختلفة من التّشكيل والتّعيّن. ففي وقت من الأوقات كان في عالم الجماد وكانت له تغيّرات وانتقالات في الصّور الجماديّة. وبعد ذلك انتقل إلى عالم النّبات حيث دخل في درجات وأحوال مختلفة. وبعد ذلك انتقل إلى الرّتبة الحيوانيّة متّخذًا أشكال الخلايا الحيوانيّة إلى أن وصل أخيرًا بتحوّلاته وانتقالاته إلى العالم الإنسانيّ. ثمّ سيعود بعد ذلك إلى حالته العنصريّة البدائيّة في عالم الجماد، ليخضع، على نفس المنوال، لترحال لانهائي من مرتبة وجوديّة إلى أخرى، مارًّا بكلّ مرحلة من مراحل الوجود والحياة. وكلّما تجلّى في هيئة أو صورة معيّنة، تكون له مجالاته وكمالاته ووظائفه. وبما أنّ كلّ ذرّة أو عنصر تركيبيّ داخل في أعضاء كائنات الوجود المادّيّ يخضع للتّحوّل عبر أشكال ومراحل غير متناهية ويكون حائزًا على كمالات مخصوصة بتلك الصّور والأحوال، فيتّضح إذًا أنّ كافّة الكائنات واحدة في جوهرها. فعندما تكون هذه الذّرّة أو العنصر التّركيبيّ في مملكة الجماد تكون حائزة على كمالات الجماد؛ وفي عالم النّبات تصير متّصفة بالصّفات أو الكمالات النّباتيّة؛ وفي مرتبة الوجود الحيوانيّ تكون مزوّدة بالكمالات الحيوانيّة – ألا وهي الحواس؛ وفي مملكة الإنسان تظهر بصفات مختصّة بالمقام الإنسانيّ.

فإذا كان هذا يصدق على الكائنات، فكم هو أوضح وأكثر ضرورة أن تكون الوحدة مميّزة للإنسان في مضمار المثاليّات الّتي لا تشاهد إلاّ في عالم الإنسان. فمن المؤكّد أنّ أصل الوجود المادّيّ واحد، وأنّ منتهاه واحد أيضًا. ومع هذه الوحدة والوفاق الجوهريّيْن في كلّ شكل من أشكال حياة الكائنات، لماذا يتعيّن على الإنسان في مملكة وجوده أن ينهمك في عداوة وشحناء مدمّرتيْن نحو أخيه الإنسان؟ فالإنسان أشرف المخلوقات لأنّه بتركيبه الجسمانيّ حائز على الكمالات الجماديّة، ويجسّد فضيلة التّكاثر أو قوّة النّموّ الّتي تميّز عالم النّبات. كما أنّه في رتبته الجسديّة مؤهّل بوظائف وقدرات مخصوصة بالحيوان. وفضلاً عن ذلك يأتي مجال موهبته البشريّة المميّزة من حيث العقل والرّوح. ومع وجود هذه الوحدة البديعة لممالك الوجود وتجسّدها في أسمى وأشرف المخلوقات، هل يجوز للإنسان أن يكون في خلاف ونزاع مع أخيه الإنسان؟ وهل يكون من اللاّئق والجائز أن يتحارب ويتقاتل، في حين تتّسم ممالك الحياة الظّاهريّة الأدنى منه رتبةً بالوفاق والتّعاضد؟ وما دامت جميع العناصر وأشكال الحياة الأدنى في وئام فيما بينها في نظام الوجود العظيم، فهل يصحّ أن يكون الإنسان، الّذي يسمو عنها في الرّتبة بمراحل، عدوانيًّا هادمًا لذلك الكمال؟ أستغفر الله من هذا الحالّ!

تنشأ الحياة عندما تلتئم وتأتلف هذه الذّرّات العنصريّة فيما بينها. ومن توافقها وامتزاجها يتجدّد الوجود على الدّوام، فتكون النّورانيّة والاكتمال والنّضج؛ هذه هي الحياة بعينها. فهذه الطّاقات الفيزيائيّة والقوى الطّبيعيّة الّتي نراها الآن هي كلّها في صلح مع بعضها البعض. فالشّمس في صلح مع الأرض الّتي تشرق عليها. والنّسيم العليل في صلح مع الأشجار، وكافّة العناصر في وفاق وتوازن مع بعضها البعض. فأقلّ اختلال أو اضطراب يحصل بينها قد يُحدث زلزلة مثل زلزلة سان فرانسيسكو وحرائقها. وأقلّ صدام، أو نزاع بين العناصر إن جاز التّعبير، يسبّب كوارث طبيعيّة. هذا هو الحال في عالم الجماد. فتفكّروا إذًا في أثر النّزاع والخلاف في مملكة الإنسان، الّذي يسمو كثيرًا عن الوجود الجماديّ؟ وكم من البلايا تحصل، خاصّة ونحن ندرك أنّ الله قد أنعم على الإنسان بالعقل والحجى. حقًّا إنّ العقل أعظم موهبة من الله، وهو في الحقيقة قوّة من قوى التّجلّيات الإلهيّة. وهذا أمرٌ ظاهر مشهود.

جميع الكائنات ما عدا الإنسان أسيرة للطّبيعة وخاضعة لها، ولا تقدر أن تتجاوز قانونها قيد شعرة. فهذه الشّمس الهائلة، مركز نظامنا الكوكبيّ، هي أسيرة للطّبيعة لا تستطيع تجاوز قانونها قيد شعرة. وكذلك الأمر في الأجرام والنّجوم في هذا الفضاء اللاّمتناهي فكلّها مطيعة لناموس الطّبيعة. والكرة الأرضيّة مذعنة لهيمنة الطّبيعة الغالبة. وممالك الجماد والنّبات والحيوان مطيعة لإرادة الطّبيعة وأمرها. فالفيل رغم ضخامته وقوّة بنيته لا قدرة له أن يخرج على القيود الّتي فرضتها عليه الطّبيعة. ولكنّ الإنسان بحجمه الصّغير وجسمه الضّعيف مقارنة بالفيل بإمكانه التّصدّي لحكم الطّبيعة وتسخير نواميس الطّبيعة لمنفعته لأنّه مؤيّد بالعقل الّذي هو من تجلّي الرّحمن.

وبحكم قواه الجسمانيّة المحدودة كان من المفروض أن يعيش الإنسان على سطح الأرض، لكنّه يكسر هذا القانون ويرفع حواجزه بقواه العقليّة، فيحلّق في الهواء كالطّير، ويسبر أغوار البحر بالغوّاصات، ويبني أساطيلَ يمخر بها عباب المحيط، مطوّعًا بذلك قوانين الطّبيعة لإرادته. فجميع ما ننعم وننتفع به الآن من العلوم والفنون كانت كلّها فيما مضى أسرارًا للطّبيعة وكان من المفترض أن تبقى مخفيّة كامنة بمقتضى قانون الطّبيعة. لكنّ عقل الإنسان نفذ إلى كلّ ما يحيط بها من نواميس وكشف الحقائق الكامنة، ونقلها من مكمن الغيب إلى حيّز الشّهادة، وصنّف هذه القوانين وحوّرها لمنفعة النّاس وحاجاتهم، وهو شيء يخالف مقتضيات الطّبيعة.

فمثلاً كانت الكهرباء فيما مضى قوّة طبيعيّة مخفيّة أو كامنة. وكان من المفروض أن تبقى كذلك لو لم يكتشفها عقل الإنسان. فالإنسان كسر حكم إخفائها وجاء بها من خزائن غياهب الكون إلى حيّز الشّهود. أليس عملاً خارقًا أن يقوم الإنسان، وهو المخلوق الصّغير، بحبس هذه القوّة الكونيّة الغالبة داخل زجاجة مصباح كهربائيّ؟ إنّ عملاً كهذا يتجاوز حدود قدرة الطّبيعة ورؤيتها. فالشّرق أصبح بمقدوره أن يتخابر مع الغرب في بضع دقائق، وهي معجزة تتجاوز حكم الطّبيعة. ويأخذ الإنسان الصّوت ويحبسه في مسجّل مع أنّ الصّوت يجب أن يبقى حرًّا وعابرًا طبقًا لقانون الصّوت وخاصّيّته، غير أنّ الإنسان يمسك بزمام هذه التّموّجات ويضعها في صندوق متحدّيًا بذلك قوانين الطّبيعة. لقد كانت سائر الاكتشافات البشريّة في الماضي أسرارًا مغلقة مخبوءة في باطن هذا العالم المادّيّ إلى أن نفذ إليها عقل الإنسان – أعظم الإشراقات الإلهيّة – وأخضعها لإرادته وأغراضه. من هذا المفهوم يكون الإنسان قد كسر قوانين الطّبيعة وما يزال يُخرج الجديد من الاكتشافات ويُبدعها من جعبة الطّبيعة. ومع هذه العطيّة الإلهيّة العظمى الّتي هي أعظم قوّة في عالم الخلق، يظلّ الإنسان يتقاتل ويتعارك ويقتل أخاه الإنسان بشراسة الوحوش. فهل يليق هذا بمقام الإنسان السّامي؟ كلاّ، بل إنّه مخالف للقصد الرّبّانيّ المتجلّي في خلقه وعطائه.

فإذا ما كانت الحيوانات متوحّشة مفترسة، فهذه مجرّد وسيلة لتوفير طعامها وبقائها. فهي محرومة من ذلك المستوى من الفكر الّذي يعقل ويميّز بين الخطأ والصّواب وبين الظّلم والعدل، وهي معذورة في تصرّفاتها ولا تثريب عليها. أمّا الإنسان فعندما يكون شرسًا قاسيًا تجاه إخوانه في الإنسانيّة، فلا يكون هذا من أجل طعامه وأمانه، بل بدافع المصلحة الأنانيّة والأذى المتعمّد. فليس من الملائم أو اللاّئق بكائن نبيل مثله، وُهِب العقل والأفكار السّامية، وقادر على الإنجازات الباهرة والكشفيّات العلميّة والأدبيّة، ولديه الاستعداد لما هو أسمى من الإدراكات وتحقيق المقاصد الإلهيّة في الحياة، أن يسفك دم أخيه في ميدان الاقتتال. فالإنسان بنيانٌ إلهيّ وليس بنيانًا بشريًّا. فلو أنّكم أقدمتم على هدم بيت لا شكّ أنّ صاحبه سيحزن ويغضب جدًّا، فكم سيكون الضّرر أكبر لو أنّ إنسانًا هدم هيكلاً صمّمه الله وبناه! فلا شكّ أنّه سيكون مستحقًّا لقصاص الله وغضبه.

لقد خلق الله الإنسان نبيلاً وشريفًا، وجعله حاكمًا على جميع الكائنات، واختصّه بمواهب كلّيّة؛ فوهبه العقل والإدراك والقوّة الحافظة وقوّة التّخيّل والقوى الحاسّة. وكان المراد من جميع هذه المواهب الإلهيّة للإنسان جعله مظهرًا للفضائل الرّبّانيّة، ونورًا ساطعًا في عالم الوجود، وسببًا للحياة، ووسيلة للعمران في ميادين الوجود اللاّمتناهية. فهل يجمل بنا الآن أن نخرّب هذا الصّرح العظيم من أساسه، ونقوّض هذا البنيان الإلهيّ والهيئة البشريّة، اجتماعيّة كانت أم سياسيّة؟ فما دمنا متحرّرين من أسر الطّبيعة وقيودها، ونملك القوى الّتي تمكّننا من التّحكّم بأنفسنا، فهل يليق بنا أن نصبح أسرى للطّبيعة ونتحرّك بمقتضاها؟

هناك في الطّبيعة قانونٌ يقول بأنّ البقاء للأفضل. وبموجب هذا النّاموس وهذا القانون الطّبيعيّ يتحتّم على الإنسان، حتّى لو لم يتربَّ، أن يكون متسيّدًا. فالهدف من تأسيس المدارس والكلّيّات والجامعات تربية الإنسان لينجو ويتخلّص من مقتضيات الطّبيعة ونقائصها، ولكي تنبعث من داخله تلك القدرة على التّحكّم بنعم الطّبيعة واستخدامها كما يجب. لاحظوا أنّنا لو تركنا هذه القطعة من الأرض تنحدر إلى حالتها الطّبيعيّة، وسمحنا لها بأن ترجع إلى ما كانت عليه في الأصل، فستصبح منبتًا للأشواك وتنمو فيها أعشاب غير نافعة، أمّا عندما نتعهّدها بالرّعاية فإنّها تصبح أرضًا خصبة وتؤتي ثمارها. وإذا تركتم هذه المنحدرات الجبليّة على حالتها الطّبيعيّة فستصبح غابة لا تنمو فيها شجرة مثمرة. أمّا البساتين فإنّها تعطي الثّمار والأزهار بمقدار ما يوليها البستانيّ من عناية وفلاحة. وبناء على ذلك، ليس مُقدَّرًا للعالم الإنسانيّ أن يبقى على حالته الفطريّة، بل محتاج إلى التّربية الّتي هيّأها الله له. فالمظاهر الإلهيّة المقدّسة كانوا هم المربّين، وهم البستانيّون الإلهيّون الّذين يُحيلون أدغال الطّباع البشريّة إلى بساتين مثمرة، ويحوّلون منابت الأشواك إلى رياض. فيتّضح إذًا أنّ الواجب الخاصّ بالإنسان والمفروض عليه أن ينجي نفسه ويخلّصها من نقائص عالم الطّبيعة الموروثة، وأن يتّصف بالفضائل الرّبّانيّة. فهل يجمل به أن يضحّي بهذه المواهب المثاليّة ويبدّد إمكانيّات رقيّ كهذه؟ لقد منحه الله قوّة يقهر بها قوانين الطّبيعة وكائناتها، وينتزع السّيف من يد الطّبيعة ويستخدمه ضد الطّبيعة ذاتها. فهل يجوز له إذًا أن يبقى أسيرًا للطّبيعة، بل وينحدر إلى مستوى أدنى من مستوى قانون الطّبيعة الّذي يقضي ببقاء الأفضل؟ أي هل يجمل به أن تظلّ حياته مثل حياة عالم الحيوانات، دونما تمييز بينها وبينه في الدّوافع الفطريّة والغرائز الوحشيّة؟ ليس هناك من حالة أشدّ انحطاطًا وتحقيرًا للإنسان من هذه الحالة الفطريّة الحيوانيّة. وساحة القتال هي ذروة انحطاط الإنسان، وهي سبب الغضب الإلهيّ وسبب هدم كيان الإنسان الّذي هو بنيان ربّانيّ.

الحمد لله، إنّني أجد نفسي اليوم في مجمع أعضاؤه كلّهم محبّون للصّلح ومناصرون لوحدة العالم، وجميع أفكارهم متوجّهة إلى وحدة العالم الإنسانيّ، وكلّ طموحاتهم الخدمة في مجال رفعة البشر وإصلاحهم. وإنّي أرجو الله أن يؤيّدكم ويوفّقكم كي يصبح كلّ واحد منكم علاّمة عصره في مضمار العلوم، ورافعًا مخلصًا لراية السّلام، وسببًا في ارتباط واتّفاق أفئدة العباد.

لقد نادى حضرة بهاء الله قبل خمسين سنة بضرورة الصّلح العموميّ بين الدّول وتحقيق التّوافق بين أهل أديان العالم. وتفضّل بأنّ أساس الأديان واحد وأنّ جوهر جميع الأديان هو الألفة والوئام بين الأنام، وأنّ الاختلاف الحادث في العقائد يرجع إلى التّفاسير العقائديّة والتّقاليد العمياء الّتي تنافي القواعد الّتي أرساها أنبياء الله. ونادى بأنّه لو جرى تحرٍّ للحقيقة الّتي تقوم عليها تعاليم الأديان فإنّ جميع الأديان تتّحد وتتّفق، وتتحقّق المشيئة الإلهيّة، ألا وهي المحبّة والتّآلف بين قلوب البشر. وبموجب تعاليمه فإنّه إذا أصبحت العقيدة الدّينيّة سببًا للنّزاع والجدال يصبح عدمها أحسن، لأنّ الغرض من الدّين هو أن يكون علاجًا إلهيًّا، ودواءً لأمراض الإنسانيّة، ومرهمًا شافيًا لجراح البشر. أمّا إذا تسبّب سوء فهم الدّين وتلويث تعاليمه في الحرب وسفك الدّماء بدلاً من الشّفاء والعلاج، فإنّ العالم يكون أفضل في ظلّ عدم التّديّن.

لقد شدّد حضرة بهاء الله على قضيّة السّلام العالميّ بصفة خاصّة. وأعلن أنّ النّوع الإنسانيّ كلّه من سلالة آدم، وأنّهم أفراد عائلة شاملة واحدة. فإذا كانت أعراق البشر المختلفة وفصائله المتميّزة قد انحدر كلّ منها من أصلاب أجداد مختلفة – بمعنى أنّه لو كان هناك أكثر من آدم وانحدر منهم آباؤنا في الإنسانيّة – لكان هناك مبرّر معقول لاختلافات النّوع البشريّ وخلافاتهم في وقتنا الحاضر. ولكن، بما أنّنا جميعًا أفراد سلالة وعائلة واحدة فإنّ كلّ الأوصاف الّتي تنزِع إلى التّمييز والتّفريق فيما بين البشر، كأن نقول مثلاً إنّ هؤلاء إيطاليّون وأولئك ألمان، أو هؤلاء فرنسيّون والآخرون روس، وما إلى ذلك – إنّما هي مجرّد أوهام لا وزن لها أو قبول. فجميعنا بشر وكلّنا عبادٌ لله وكلّنا من سلالة أسرة السّيّد آدم، فلماذا إذًا كلّ هذه الفروقات الوهميّة، قوميّة كانت أم عرقيّة؟ أمّا الحدود والحواجز المصطنعة فقد اخترعها المستبدّون والغزاة الّذين سعوا إلى الهيمنة على البشر، وبذلك أجّجوا المشاعر الوطنيّة وأزكوا الولاء الضّيق لأنظمة حكومات لا تخرج عن كونها أنظمة محلّيّة. وكانوا هم أنفسهم ينعمون جميعًا برغد العيش في القصور تحيط بهم مظاهر البذخ والرّخاء، بينما الجيوش المجنّدة من عساكر ومدنيّين وفلاّحين يقاتلون ويموتون بأمرهم في ساحات القتال، سافكين دماءهم البريئة من أجل وهم من قبيل ‘نحن ألمان’، أو ‘الفرنسيّون أعداؤنا’، أو ما شابه ذلك. بينما الكلّ في حقيقة الأمر بشر، وكلّهم من أسرة وسلالة آدم أبي البشر الواحد. هذا التّعصّب أو النّزعة الوطنيّة الضّيّقة نراها تسري اليوم في كافّة أنحاء العالم، بينما البشر يغمضون أعينهم عن الوطنيّة بمفهومها الواسع الّذي يشمل كلّ الأعراق والأوطان. فإذا ما توخيّنا الحقيقة والصّواب يتحتّم أن يسود السّلام بين كلّ الأمم.

لقد خلق الله كرة أرضيّة واحدة، وخلق نوعًا بشريًّا واحدًا ليسكنها، وليس للإنسان موطن آخر سواها. ولكنّ الانسان نفسه فرض حدودًا وهميّة وقيودًا إقليميّة، وسمّاها ألمانيا وفرنسا وروسيا وما إلى ذلك. ثمّ سالت بحور الدّماء النّفيسة دفاعًا عن هذه التّقسيمات الوهميّة الّتي أجريناها بموئلنا البشريّ الواحد، تحت وهم من وطنيّة ضيّقة ما هي إلاّ محض خيال.

فضلاً عن هذا وذاك، إنّ الادّعاء بالأحقّيّة في إقليم أو وطن وامتلاكه ما هو إلاّ تعلّق بتراب الأرض. في حين أنّنا نعيش بضعة أيّام فوق هذا التّراب، وبعد ذلك نرقد تحته إلى الأبد، فهو قبرنا الأزليّ. فهل يليق بالإنسان أن يتقاتل من أجل قبر سيبتلعه في جوفه، من أجل قبره الأبديّ؟ أيّ جهالة أعظم من أن يقتتل الإنسان على قبره، ويقتل غيره من أجل هذا القبر! فأيّ غفلة هذه؟ وأيّ ضلالة هذه؟

أملي يا أيّها الدّارسون في هذه الجامعة ألاّ يُطلب منكم أبدًا أن تتقاتلوا من أجل تراب الأرض الّذي هو قبر كلّ البشر ومثواهم، بل أن تنعموا خلال أيّام حياتكم برفقة بعضكم البعض على أكمل وجه، فتكونون كأسرة واحدة، بمثابة أشقّاء وأخوات وأمّهات وآباء، تتعاشرون في سلام تامّ وألفة حقيقيّة.

(3) 10 أكتوبر/ تشرين الأوّل 1912

الخطبة المباركة بمنتدى الحوار الحرّ،
بمدينة سان فرانسيسكو، ولاية كاليفورنيا

نقلاً عمّا دوّنته بيجو شتراون

رغم شعوري باعتلال صحّتي في هذا المساء فقد حضرت هذا اللّقاء من فرط محبّتي لكم، ذلك لأنّني سمعت أنّه منتدى حوار مفتوح يتحرّى الحقيقة، وأنّكم متحرّرون من التّقاليد العمياء، راغبون في الوصول إلى حقيقة الأشياء، وأنّ مساعيكم سامية. وبناء على ذلك رأيت أنّه من المناسب أن أحدّثكم عن مسألة الفلسفة الّتي هي محلّ اهتمام في الشّرق بقدر ما هي في الغرب، وهو ما سيمكّننا من التّدبّر في أوجه الشّبه والاختلاف بين التّعاليم الفلسفيّة لبلاد الشّرق ومثيلتها في بلاد الغرب.

إنّ معيار الحكم في نظر فلاسفة الغرب هو الإدراك الحسّيّ، إذ يعتبرون أنّ كلّ ما هو ملموس أو مدرك بالحواس يكون حقيقيًّا – أي لا شكّ في وجوده. فمثلاً نحن نبرهن على وجود هذا الضّوء من خلال حاسّة البصر؛ نبصر هذه الغرفة، ونرى الشّمس، ونرى المروج الخضراء، وفي كلّها نستخدم حاسّة البصر حتّى نشاهدها. فهؤلاء الفلاسفة يروْن أنّ مثل ذلك الإدراك حقيقيّ، وأنّ الحواس هي أسمى موازين الإدراك والحُكم، ولا يكون فيها شكّ أو غموض. أمّا فلاسفة الشّرق، وخاصّة فلاسفة اليونان والفرس، فيرون أنّ ميزان الحكم هو العقل. فمن رأيهم أنّ المعيار الحسّيّ ناقص، وحجّتهم في ذلك هو أنّ الحواس غالبًا ما تنخدع وتخطئ، وأنّ كلّ ما هو محتمل الخطأ لا يمكن أن يكون معصومًا، ولا يمكن أن يكون ميزان حكم صادق.

مع أنّ البصر هو من بين أقوى الحواس وأوثقها، إلاّ أنّ تلك الحاسّة ترى السّراب ماء وتصدّقه، بينما السّراب عدم لا وجود له. كما أنّ حاسّة البصر أو النّظر ترى الصّور المنعكسة على المرآة وكأنّها حقائق، بينما يعتبرها العقل عدمًا. كما أنّ العين تشاهد الشّمس والكواكب تدور حول الأرض، بينما الحقيقة هي أنّ الشّمس ثابتة ومحوريّة، وأنّ الأرض هي الّتي تدور حول محورها. وترى حاسّة البصر أنّ الأرض مسطّحة، بينما تكتشف ملكة العقل أنّها كرويّة. وتشاهد العين الأجرام السّماويّة في الفضاء اللاّمحدود صغيرة تافهة، بينما يُثبت العقل أنّها شموس هائلة الحجم. كما أنّ حاسّة البصر ترى الشّرارة الدّوّارة وكأنّها حلقة متّصلة من النّور ولا تشكّك فيها، فى حين أنّ دائرة كهذه لا وجود لها. كما أنّ من يبحر في سفينة يرى الضّفّتين وكأنّهما تتحرّكان في حين أنّ السّفينة هي الّتي تتحرّك. وبالاختصار هناك العديد من الدّلائل والشّواهد الّتي تدحض مقولة أنّ الملموسات والانطباعات الحسّيّة حقائق مؤكّدة، ذلك لأنّ الحواس مضلّلة وخاطئة في غالب الأحيان. فكيف ننادي إذًا وبكلّ ثقة أنّ الحواس برهان للحقيقة والحال إنّ الميزان أو المعيار نفسه معيب؟

إنّ فلاسفة الشّرق يعدّون العقل أو النُّهى معيارًا كاملاً، وأنّه طبقًا لذلك الميزان يمكن إثبات حقيقة كافّة الأشياء، ذلك لأنّ ميزان العقل والنُّهى هو كما يقولون كامل، وأنّ كلّ ما يبرهن عليه من خلال العقل يكون حقيقة واقعة. ولهذا يعتبر هؤلاء الفلاسفة أنّ كافّة الاستنباطات الفلسفيّة تكون صحيحة إذا ما قيست بميزان العقل، ويقولون بأنّ الحواس عون العقل وأدواته، وأنّه مع كون تقصّي الحقائق ممكنًا من خلال الحواس، إلاّ أنّ معيار المعرفة والحكم هو العقل نفسه. وبهذه الكيفيّة يختلف فلاسفة الشّرق عن فلاسفة الغرب. كذلك يعتبر فلاسفة الغرب المادّيّون أنّ الإنسان ينتمي إلى مملكة الحيوان، بينما يصنّف فلاسفة الشّرق – من أمثال أفلاطون وأرسطو وفلاسفة الفرس – عالم الوجود أو الكائنات الحيّة إلى قسمين أو مملكتين عموميّتين إحداهما مملكة الحيوان، أو عالم الطّبيعة، والثّانية هي مملكة الإنسان، أو عالم العقل.

فالإنسان مميّز عن الحيوان بعقله. وله نوعان من الإدراكات هما المحسوسة أو الحسّيّة، ثمّ المعقولة، بينما تكون إدراكات الحيوان مقصورة على الحواس، أي المحسوس دون سواه. والإدراكات الحسّيّة يمكن تشبيهها بهذه الشّمعة، أمّا الإدراكات العقليّة فتشبه النّور. وحساب المسائل الرّياضيّة والتّعرّف على كرويّة الأرض تأتي من الإدراكات العقليّة. كما أنّ مركز الجاذبيّة هو فرضيّة عقليّة. هذا في حين أنّ العقل نفسه غير محسوس أو مدرَك بالحواس. فالعقل واقع أو حقيقة ذهنيّة. وجميع الصّفات هي حقائق معقولة وليست حقائق حسّيّة. فمثلاً نقول إنّ هذا الرّجل متبحّر في العلم والمعرفة. ولكنّ العلم نوال معقول لا تدركه الحواس. بمعنى أنّكم عندما تقابلون ذلك الرّجل المتبحّر، لا تشاهدون معارفه بأعينكم ولا تسمعوا علمه بآذانكم أو تكتشفوه بحاسّة الذّوق. ذلك أنّ العلم ليس حقيقة ملموسة، بل حقيقة معقولة. فيتّضح إذًا أنّ إدراكات الإنسان قسمان: إدراكات عقليّة، وإدراكات محسوسة أو حسّيّة.

أمّا بالنّسبة للحيوان فإنّه يملك الإدراك الحسّيّ فقط، وينقصه الإدراك العقليّ. فليس بمقدوره أن يعقل الحقائق المعقولة. فالحيوان لايستطيع أن يفهم كرويّة الأرض. كما أنّ ذكاء حيوان يعيش في أوروبّا لا يمكّنه أبدًا التّخطيط لاكتشاف قارّة أمريكا. ومملكة الحيوان عاجزة عن اكتشاف الأسرار الكامنة في الطّبيعة – مثل الكهرباء – وإخراجها من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود. فيتّضح أنّ الاكتشافات والابتكارات تعلو فوق ذكاء الحيوان. فلا يستطيع الحيوان أن ينفذ إلى أسرار التّكوين والخليقة. ويقصر فهمه عن إدراك كنه المادّة الأثيريّة. كما لا يمكنه أن يعرف أسرار المغناطيسيّة لأنّ موهبتي العقل المتحرّي والعقلانيّة لا تدخلان ضمن ما حباه الله به. بمعنى أنّ الحيوان مجبول على أن يكون أسيرًا لحواسه وليس بمقدوره قبول ما يخرج عن نطاق المحسوسات والانطباعات الحسّيّة، بل إنّه يرفضها جميعًا. فهو عاجز عن الإدراك العقليّ، وبالتّالي يكون أسيرًا للحواس.

فالفضيلة أو الكمال هما من شئون الإنسان الّذي يملك الإدراك الحسّيّ والإدراك العقلي معًا. فالاكتشافات الفلكيّة على سبيل المثال هي من الإنجازات البشريّة. ولم يحُز الإنسان هذه العلوم من خلال حواسّه، وإنّما نال القسم الأعظم منها بواسطة العقل وعن طريق الأحاسيس الفكريّة. ولقد ظهرت ابتكارات الإنسان عن طريق ملكاته العقليّة وأتت كلّ إنجازاته العلميّة من خلال موهبته العقليّة. فشواهد الذّكاء أو العقل هي بالاختصار ظاهرة في الإنسان وهو مميّز بمقتضاها عن الحيوان. وبناء على ذلك تكون مملكة الحيوان مستقلّة عن مملكة الإنسان ودانية عنها في الرّتبة. ومع ذلك فإنّ لدى فلاسفة الغرب بعضًا من الاستنباطات أو الإثباتات العقليّة الّتي يحاولون بمقتضاها إثبات أنّ أصل الإنسان يرجع إلى مملكة الحيوان، وأنّه على الرّغم من كون الإنسان الآن من الفقاريّات إلاّ أنّه كان يعيش أصلاً في البحار؛ ثمّ تحوّل منها إلى اليابسة وأصبح من الفقاريّات؛ وظهرت يداه وقدماه تدريجًا إبّان تطوّره البنيويّ، ومن ثمّ بدأ يمشي على الأربع ومن بعدها بلغ الهيئة البشريّة ومشى منتصب القامة. ويرون أنّ تكوينه العضويّ قد مرّ بمراحل متعاقبة من التّغيير إلى أن اتّخذ لنفسه في نهاية المطاف هيئة بشريّة، وأنّ تلك الأشكال أو التّغيّرات الوسيطة هي بمثابة حلقات متّصلة. بيد أنّ هناك حلقة مفقودة بين الإنسان والقرد، ولم يتوصّل العلماء حتّى وقتنا الحاضر إلى اكتشافها. وبناء على ذلك يكون البرهان الأكبر على صحّة نظريّة نشوء الإنسان وارتقائه الّتي توصّل إليها فلاسفة الغرب برهانا تشريحيًّا، مستنتجين أنّ في الإنسان بقايا معيّنة من أعضاء تتميّز بها القردة والحيوانات الدّنيا، وهم يخلُصون إلى الاستنتاج بأنّ الإنسان كان يمتلك تلك الأعضاء في زمان ما إبّان نشوئه وارتقائه، وهي الأعضاء الّتي لا وظيفة لها الآن في بدنه ولكنّها موجودة فيه كمجرّد بقايا وزوائد.

فللثّعبان مثلا ثمّة زوائد تدلّ على أنّه كانت لديه في زمن من الأزمان أطرافٌ طويلة، ولكن بعد أن بدأ ذلك المخلوق يلتمس مأواه في جحور الأرض لم تعد لديه حاجة إلى تلك الأطراف فأصبحت ضامرة متقلّصة ولم يبقَ منها سوى بقايا أو زوائد، كشاهد على ذلك الوقت الّذي كانت فيه طويلة ونافعة. ويقال بالمثل إنّ الإنسان لديه زوائد معيّنة توضّح أنّه قد مرّ عليه زمان كان فيه تركيبه البنيويّ مختلفًا عمّا هو عليه الآن، وأنّه قد حدث تحوّل أو تغيّر مماثل في ذلك التّركيب. فيقال إنّ العصعص أو طرف العمود الفقريّ للإنسان هو بقيّة ذيل كان يمتلكه في السّابق، بيد أنّه تلاشى تدريجًا عندما صار يمشى منتصبًا وانعدمت فائدته. وهذه المقولات والحجج تعبّر عن مضمون الفلسفة الغربيّة فيما يتعلّق بمسألة نشوء الإنسان.

في ردّ من فلاسفة بلاد الشّرق على فلاسفة الغرب يقولون: فلنفترض أنّ بنية الإنسان البدائيّة كانت مختلفة فيما مضى عمّا هي عليه الآن، وأنّها تحوّلت بالتّدريج من مرحلة إلى أخرى إلى أن بلغت شكلها الحالي، وأنّه كان يومًا من الأيّام أشبه بالسّمكة، ثمّ أصبح من اللاّفقاريّات وأخيرًا صار إنسانًا. فذلك النّشوء أو الارتقاء في البنية لا يغيّر ولا يؤثّر على مقولة أنّ الإنسان كان دائمًا وأبدًا إنسانًا في سلالته وتطوّره البيولوجيّ. ذلك لأنّ الجنين البشريّ عند فحصه ميكروسكوبيًّا يكون في بدايته مجرّد نطفة أو دودة، وعندما ينمو شيئًا فشيئًا تبدو فيه انقسامات معيّنة، فتظهر منه بدايات لليدين والقدمين – بمعنى أنّه يمكن تمييز جزء علويّ وجزء سفليّ. وبعد ذلك يمرّ هذا الجنين بتغييرات مميّزة إلى أن يصل إلى هيئته البشريّة المعتادة ويولد في هذا العالم. لكنّ هذا الجنين، حتّى عندما كان مشابهًا للدّودة، قد كان في كلّ الأوقات إنسانًا في استعداده وخصائصه، لا حيوانًا. فالأشكال الّتي يتّخذها الجنين البشريّ بتغييراتها المتعاقبة لا تقوم دليلاً على أنّه كان حيوانًا في خصائصه الجوهريّة. فخلال ذلك التّطوّر كان هناك توريث للسّلالة ومحافظة على الجنس أو النّوع. وفي إدراكنا لهذا يمكننا الإقرار بحقيقة أنّ الإنسان كان تارة من أهل البحار، وتارة أخرى من اللاّفقاريّات، ثمّ من الفقاريّات ثمّ في النّهاية كائنًا بشريًّا منتصب القامة. ومع أنّنا نسلّم بحدوث تلك التّغييرات إلاّ أنّه لا يمكننا القول أنّ الإنسان حيوان. ففي كلّ مرحلة من تلك المراحل كانت هناك علامات وشواهد على وجوده واتّجاهه البشريّ. ويكمن الدّليل على ذلك في حقيقة أنّ الإنسان لا يزال يشبه الدّودة في مرحلته الجنينيّة وأنّ ذلك الجنين لا يفتأ يتطوّر من حالة إلى أخرى متّخذًا أشكالا مختلفة إلى أن يظهر ما هو مكنون فيه – ألا وهو الصّورة البشريّة. وعلى ذلك، فالإنسان كان إنسانًا في جِبِلَّته، وهذا من لوازم حفظ الأنواع.

إنّ الحلقة المفقودة في نظريّة داروين هي في حدّ ذاتها دليل على أنّ الإنسان ليس بحيوان. فكيف يتسنّى وجود كافّة الحلقات ثمّ تغيب هذه الحلقة الهامّة؟ فغيابها دليل على أنّ الإنسان لم يكن حيوانًا في أيّ وقت من الأوقات، وهي حلقة لن يتمّ العثور عليها أبدًا.

المغزى هو: إنّ عالم الإنسان متميّز ومستقلّ عن مملكة الحيوان. وهذا هو تعليم فلاسفة بلاد الشّرق. ولديهم برهان عليه، وهو أنّ الحيوانات أسرى للطّبيعة. وكلّ كائن ومخلوق ينتمي إلى الممالك الدّانية أسير للطّبيعة؛ فالشّمس بجلالها، والنّجوم على كثرتها، ومملكتا النّبات والجماد، لا يقدر أيّ منها أن يحيد قيد شعرة عن قيود قوانين الطّبيعة. وتبقى، إذا جاز التّعبير، في قبضة الطّبيعة. أمّا الإنسان فهو يكسر قوانين الطّبيعة ويُخضعها لمنافعه وأغراضه. فالإنسان على سبيل المثال كائن حيّ أرضيّ شأنه في ذلك شأن الحيوان ويتعيّن عليه بمقتضى الطّبيعة أن يبقى محدودًا بالعيش على ظهر الأرض، إلاّ أنّه، بتحطيمه لقوانين الطّبيعة، يحلّق في الهواء الّذي يعلو أديم الأرض. وبإعماله لعقله يتغلّب على قانون الطّبيعة ويغطس في أعماق البحار في الغوّاصات أو يمخر عبابها بالسّفن. كما يقبض على قوّة عاتية من قوى الطّبيعة مثل الكهرباء ويحبسها في مصباح كهربيّ. وبمقتضى قانون الطّبيعة لا يمكنه التّخابر إلاّ على مسافة ألف قدم مثلاً، ولكنّه بفضل ابتكاراته واكتشافاته يتخابر مع الشّرق والغرب في بضع لحظات، وهذا كسر لقوانين الطّبيعة. والإنسان يأسر الصّوت البشريّ ويعيده على الأسماع بالفونوغراف. ولا يمكن لصوته أن يُسمع لأكثر من مسافة مائة قدم، بيد أنّه يخترع آلة تنقله ألف ميل. وبالاختصار فإنّ كافّة فنون وعلوم العصر الحاضر واختراعاته واكتشافاته ممّا جاء بها الإنسان كانت في وقت من الأوقات أسرارًا تحتّم الطّبيعة أن تبقى مخفيّة وكامنة، إلاّ أنّ الإنسان أخرجها من حيّز الغيب وأتى بها إلى حيّز الشّهود. وهذا منافٍ لقوانين الطّبيعة. فعلى الكهرباء أن تبقى سرًّا كامنًا، ولكنّ الإنسان يكتشفها ويجعلها خادمة له. وهو ينتزع السّيف من يد الطّبيعة ويشهره في وجهها، مبرهنًا على أنّه يمتلك قوّة أعلى من الطّبيعة، ذلك لأنّ هذه القوّة قادرة على كسر قوانين الطّبيعة وإخضاعها. فإذا لم تكن تلك القوى خارقة للطّبيعة وغير عاديّة، لما تسنّى للإنسان الإتيان بما جاء به من منجزات.

كما يتّضح أيضًا أنّ المعرفة الواعية غائبة عن عالم الطّبيعة. فالطّبيعة فاقدة للمعرفة بينما الإنسان واع. والطّبيعة محرومة من الذّاكرة بينما يمتلكها الإنسان. والطّبيعة بغير إدراك وإرادة، وكلاهما موجود لدى الإنسان. فيكون من الواضح إذًا أنّ الإنسان يحوز من الفضائل ما لا وجود له في عالم الطّبيعة. وهذا أمر يمكن إثباته من كلّ زاوية.

فإذا ما ادّعى أحد بأنّ حقيقة الإنسان المفكّرة تنتمي إلى عالم الطّبيعة – وأنّها جزء من ذلك الكلّ – فنحن نسأل هل يجوز للجزء أن يحوز من الصّفات ما حرم منه الكلّ؟ فمثلاً، هل يجوز للقطرة أن تحوز صفات قد حرم منها جسم البحر بكامله؟ وهل يجوز لورقة شجر أن تمتلئ بخصائص غائبة عن الشّجرة ككلّ؟ ثمّ هل يجوز لموهبة العقل غير العاديّة لدى الإنسان أن تكون حيوانيّة في طبعها وخاصيّتها؟ ومن ناحية أخرى، من المحقّق الواضح – وإن كان ذلك أمرًا بالغ الغرابة – أنّ في الإنسان تلك القوّة أو الملكة الفائقة للطّبيعة الّتي تكشف حقائق الأشياء ولها القدرة المخيّلة أو العاقلة. وهذه الملكة قادرة على اكتشاف القواعد العلميّة، والحال إنّ العلم كما نعرفه ليس حقيقة محسوسة. فالعلم موجود في عقل الإنسان على شكل حقيقة معقولة. والعقل ذاته، والفكر نفسه هما حقيقة معقولة غير محسوسة.

مع ذلك هناك من حكماء العباد من يقول: ‘لقد بلغنا أسمى درجات المعرفة، وغُصْنا في أعماق الطّبيعة، دارسين العلوم والفنون، ووصلنا أعلى مراتب المعرفة في العالم الإنسانيّ، وتقصّينا الحقائق كما هي ووصلنا إلى الاستنتاج بأنّه لا يصحّ إلاّ المحسوس، وهو الحقيقة الجديرة بالاعتبار دون سواه، وكلّ ما هو غير محسوس ما هو إلاّ وهم وخرافة.’

غريب حقًّا أنّه بعد عشرين سنةً من الدّراسة في الكلّيّات والجامعات أن يصل الإنسان إلى حالة ينكر فيها وجود المعقولات أو ما لا تدركه الحواس. فهل تأمّلتم ذات مرّة في أنّ الحيوان قد تخرّج بالفعل من هذه الجامعة؟ وهل أدركتم ذات مرّة أنّ البقرة هي بالفعل أستاذ فخريّ بتلك الجامعة؟ إذ إنّ البقرة هي في واقع الأمر فيلسوف من الدّرجة الأولى في مدرسة الوجود دونما أن تبذل أيّ عناء في البحث والدّراسة. فالبقرة تنكر أيّ شيء غير محسوس وتقول: ‘أنا أرى! أنا آكل! إذًا أنا أومِن فقط بما هو محسوس!’

فلماذا إذًا علينا أن نذهب إلى الكلّيّات؟ فلنذهب إلى البقرة؟

(4) 12 أكتوبر/ تشرين الأوّل 1912

الخطبة المباركة بالمعبد اليهوديّ عمانوئيل،
450 شارع سَتِر، بمدينة سان فرانسيسكو، ولاية كاليفورنيا

نقلاً عمّا دوّنته بيجو شتراون

الدّين أعظم موهبة إلهيّة في العالم الإنسانيّ، لأنّ تعاليم الدّين الرّبّانيّة هي بالتّأكيد مقدّمة على كلّ ما عداها من مصادر المعرفة والتّرقّي بالنّسبة للإنسان. فالدّين ينعم على الإنسان بحياة أبديّة ويهدي خطاه في عالم الأخلاق. وهو الّذي يفتح أبواب السّعادة الأبديّة ويمنح عالم الإنسان شرفًا دائمًا. ولطالما كان الدّين أساس كلّ تمدّن ورقيّ في تاريخ البشر.

لذا سنبحث في موضوع الدّين ونحن ساعون بفكر غير متعصّب لأن نتبيّن ما إذا كان الدّين مصدرًا للاستنارة، وسببًا للتّقدّم، والقوّة الدّافعة لكلّ رقيّ بشريّ. وسيكون بحثنا هذا مستقلاًّ متحرّرًا من قيود العقائد المتزمّتة، والتّقليد الأعمى للرّسوم الموروثة، وتأثير الآراء البشريّة البحتة، لأنّنا عندما نلج تلك المسألة، سيصادفنا من ينادون بأنّ الدّين هو سبب رفعة العالم وإصلاحه، بينما يؤكّد غيرهم بنفس الحماس أنّ الدّين ضارّ للبشر وعلّة انحطاطهم. فعلينا أن نولي تلك المسائل دراسة شاملة غير متحيّزة حتّى لا يبقى في نفوسنا أيّ شكّ أو ريبة حيالها.

فكيف لنا أن نقرّر ما إذا كان الدّين سببًا للرّقيّ أو الدّنوّ في عالم البشر؟

لنبدأ أوّلاً بمؤسّسي الأديان – أي الأنبياء – متصفِّحين سيرة حياتهم، مقارنين ما كان يسبق ظهورهم من ظروف وأحوال بتلك الّتي استجدّت بعد رحيلهم، مسترشدين بالسّجلاّت التّاريخيّة والحقائق الدّامغة بدلاً من الاعتماد على الرّوايات المنقولة الّتي تحتمل القبول والإنكار في آن واحد.

من بين الأنبياء العظام كان حضرة إبراهيم، وهو الّذي نُفي من موطنه لكونه محطّمًا للأصنام وداعيًا إلى وحدانيّة الله. لقد خلّف من بعده عائلة كانت محطًّا للبركة الإلهيّة، وتقدّمت وترقّت السّلالة الإبراهيميّة بفضل هذا الرّكن الدّينيّ الرّكين. وبيمن البركة الإلهيّة ظهر من نسله المبارك أنبياء نورانيّون يشار إليهم بالبنان، منهم إسحق وإسماعيل ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان. وفتحت الأرض المقدّسة بقوّة الميثاق الّذي أبرمه الله مع حضرة إبراهيم، وطلع فجر حكمة سليمان وسلطنته. وكان كلّ ذلك راجعًا إلى دين الله الّذي أقامته تلك السّلالة المباركة وتمسّكت به. ومن الواضح أنّ ذلك كان مصدر فخرهم ورقيّهم وحضارتهم طوال حياة حضرة إبراهيم وذرّيّته. بل إنّنا نجد اليوم من هم ينحدرون من هذا البيت وتلك السّلالة في جميع أنحاء العالم.

هناك جانب آخر أعظم لهذا الدّافع والزّخم الدّينيّ. فقد كان بنو إسرائيل قيد الأسر والعبوديّة في أرض مصر زهاء أربعة قرون، وكانوا في أقصى حالة من الانحطاط والعبوديّة تحت طغيان الفراعنة وقمعهم. وعندما كانوا في أشدّ حالات العوز وأدنى درجات الذّلّة والجهل والعبوديّة، ظهر حضرة موسى بينهم فجأة. وعلى الرّغم من أنّه كان مجرّد راعٍ للأغنام، فقد بدا عليه من الجلال والعظمة والهيمنة بقوّة الدّين ما جعل أثره ونفوذه خالدَيْن إلى يومنا هذا. واستحكمت رسالته في كلّ صقع، وأصبح قانون كلمته أساسًا لشرائع الأمم. وصارت تلك الشّخصيّة الفريدة، رغم أنّها كانت وحيدة بغير معين، سببًا لنجاة بني إسرائيل من العبوديّة بقوّة التّربية والانضباط الدّينيّ. وجاء بهم إلى الأرض المقدّسة وأسّس هناك حضارة عظيمة دامت واشتهرت، وبلغ أولئك القوم في ظلّها أسمى درجات العزّة والمجد. فحرّرهم من الأسر والعبوديّة ومنحهم صفات الرّقيّ وقدرات التّقدّم. فصاروا شعبًا راقيًا يصبو إلى التّربية والتّحصيل العلميّ. واشتهرت فلسفتهم، وذاع صيت صناعاتهم بين الأمم، وتفوّقوا في كلّ درب من دروب الرّقيّ الّتي بها يمتاز كلُّ شعب راقٍ. وفي أوج مجد حكم سليمان تقدّمت علومهم وفنونهم بالدّرجة الّتي جعلت فلاسفة اليونان يأتون إلى بيت المقدس لينهلوا المعرفة من حكماء العبرانيّين ويتعلّموا أصول شريعة بني إسرائيل. وهذه حقيقة ثابتة في تاريخ الشّرق. حتّى إنّ سقراط الحكيم زار فلاسفة اليهود في الأرض المقدّسة، وعاشرهم وتحاور معهم في أصول عقائدهم الدّينيّة، وبعد عودته إلى اليونان صاغ فلسفته المنادية بالوحدانيّة الإلهيّة وساق اعتقاده بخلود الرّوح بعد فناء البدن. ولا شكّ أنّ سقراط قد نهل هذه الحقائق من حكماء اليهود الّذين التقى بهم. وبالمثل فإنّ أبقراط وغيره من فلاسفة اليونان قد زاروا فلسطين وأخذوا الحكمة عن الأنبياء العبرانيّين، دارسين قواعد السّلوك والأخلاقيّات، ثمّ رجعوا إلى بلادهم بمساهمات جعلت شهرة اليونان تطبّق الآفاق.

عندما تكون حركة دينيّة الجوهر سببًا في أن تجعل أمّة ضعيفة أمّة قويّة، وتحوّل قومًا من البدو من الصّعب وصفهم أو تصنيفهم إلى حضارة عظيمة وقويّة، وتنجّيهم من الأسر وترفعهم إلى سدّة الحكم، وتبدّل جهلهم بالمعرفة، وتمنحهم الدّافع على التّقدّم في كافّة درجات الرّقيّ (وهذه ليست أمور نظريّة وإنّما هي حقائق تاريخيّة)، فيكون من الثّابت إذًا أنّ الدّين هو السّبب لنيل الإنسان المجد والرّفعة.

ولكن عندما نتحدّث عن الدّين فنحن نعني الأساس الجوهريّ للدّين أو حقيقته، ولا نقصد تلك الطّقوس والتّقاليد العمياء الّتي تراكمت عليه شيئًا فشيئًا لتصبح علّـة انحطاط الأمّة وزوالها. فهذه تكون هادمة ومهلكة لا محالة وتلحق الضّرر بحياة الأمّة وتعوق تقدّمها – تمامًا كما هو ثابت في التّوراة ومؤكّد تاريخيًّا وهو أنّه عندما صار اليهود مكبّلين بالرّسوم والتّقاليد الجوفاء حلّ عليهم غضب الله. فعندما نبذوا أصول الشّريعة الإلهيّة جاء نبوخذ نصّر وغزا الأرض المقدّسة، وأهلك شعب إسرائيل وأسرهم، وخرّب الدّيار والمدن العامرة وأحرق القرى، وأخذ سبعين ألفًا من اليهود أسرى إلى بابل، ودمّر بيت المقدس ونهب الهيكل، ودنّس قدس الأقداس وأحرق التّوراة وهي كتاب الملّة السّماويّ. ومن ذلك نعلم أنّ اتّباع الأساس الجوهريّ للأديان الإلهيّة دائمًا ما كان سبب الرّقيّ والتّقدّم، بينما يكون التّخلّي عن الحقيقة الجوهريّة وطمسها بفعل التّقاليد العمياء والتّمسّك بالطّقوس علّة انحطاط الأمّة وتدنّيها. كما أنّ اليهود بعد أن غزاهم البابليّون أخضعهم اليونان وتلاهم الرّومان في ذلك. لقد سُلـِبت الأرض المقدّسة ونـُهـِبت تحت إمرة القائد الرّومانيّ طيطس عام 70 ميلاديّة، وسُوّي بيت المقدس بالأرض، وفُرّق بنو إسرائيل أشتاتًا في جميع أنحاء الأرض، وكان شتاتهم باتًّا حتّى إنّهم ظلّوا بغير دولة وحكومة إلى يومنا هذا.

من هذا الاستعراض لتاريخ الأمّة اليهوديّة ندرك أنّ أساس الدّين الإلهيّ الّذي أرسى موسى قواعده كان سببًا لشرفهم الأبديّ ومجدهم القوميّ، وحافزًا لترقّي جنسهم وسموّه، ومصدرًا لامتياز سيظلّ دائمًا مثار احترام وتبجيل من يَعرفون ما اختُصَّ به ذلك الشّعب من قَدَر ومصير. كما أنّ الطّقوس والتّقاليد العمياء الّتي غشت تدريجًا حقيقة الدّين الإلهيّ أثبتت أنّها هي الّتي تسبّبت في هلاك بني إسرائيل، ونجم عنها طرد ذلك الشّعب المختار من الأرض المقدّسة – أرض عهدهم ووعدهم.

فما هي إذًا مهمّة أنبياء الله؟ إنّها تربية وترقية عالم البشر. فهم المعلّمون والمربّون الحقيقيّون، والموجّهون الكلّيّون للبشريّة. فإذا أردنا أن نتبيّن ما إذا كانت نفس من تلك النّفوس العظيمة أو الرّسل نبيًّا من عند الله في حقيقة الأمر، فعلينا أن نتقصّى الحقائق المحيطة بحياته وسيرته، وأوّل نقطة في استقصائنا يجب أن تدور حول التّربية الّتي منحها للبشر. فإذا ما كان مربّيًا، وإذا ما كان حقًّا قد أنشأ أمّة أو شعبًا، رافعًا إيّاه من أدنى دركات الجهل إلى أسمى درجات العلم، عندئذ نوقن بأنّه كان بالفعل نبيًّا. وهذا منهجٌ استقصائيٌّ صريح وواضح، وهو أيضًا برهان دامغ. ولا حاجة بنا أن نبحث عن غيره من البراهين، ولا حاجة بنا لذكر المعجزات، بأن نقول إنّ الماء قد انبثق من الصّخر، ذلك لأنّ مثل هذه المعجزات والأقاويل يمكن إنكارها ورفضها من قبل السّامعين. وفي أعمال حضرة موسى براهين قاطعة على نبوّته. فإذا ما كان المرء منصفًا، وغير متحيّز، وكان مستعدًّا لتحرّي الحقيقة، فلا ريب أنّه سيشهد بحقيقة أنّ حضرة موسى كان حقًّا من عند الله وكان شخصيّة عظيمة.

في معرض بحثنا لهذه المسألة، أتمنّى أن تكونوا منصفين وعقلانيّين في حكمكم، متجنّبين كافّة التّعصّبات الدّينيّة. علينا أن ننشد الحقائق ونتحرّاها بكلّ جدّيّة وشمول، مدركين أنّ هدف الدّين الإلهيّ هو تربية الإنسانيّة وتحقيق وحدة البشر وتآلفهم. كما أنّنا أيضًا سنقيم الدّليل على أنّ أصول الأديان الإلهيّة ما هي إلاّ أساس واحد وأنّ ذلك الأساس لا يتعدّد لأنّه هو الحقيقة بعينها. فالحقيقة لا تقبل التّعدّد، مع أنّ كلّ دين من الأديان السّماويّة ينقسم إلى قسمين، أحدهما يتعلّق بعالم الأخلاق وتنشئة الفطرة البشريّة على السّلوك القويم. ويهدف هذا القسم أيضًا إلى ترقية العالم الإنسانيّ بصفة عامّة، فيكشف عن عرفان الله ويرسّخه في النّفوس، ويتيح الكشف عن حقائق الحياة. وتلك هي التّعاليم المثاليّة الرّوحانيّة، والخاصّيّة الجوهريّة للدّين الإلهيّ، وهي لا تخضع للتّغيير أو التّبديل. وهي الأساس الأوحد لكلّ الأديان الإلهيّة. فالأديان في جوهرها إذًا واحدة لا تتغيّر.

أمّا القسم أو الشّقّ الثّاني فيشمل القوانين والتّنظيمات الاجتماعيّة الّتي تنطبق على السّلوك البشريّ. وهو لا يمثّل ذلك اللّبّ الجوهريّ والرّوحانيّ للدّين. ويخضع هذا القسم للتّغيير والتّبديل طبقًا لمقتضيات الزّمان والمكان ومتطلّباتهما. فمثلاً كانت هناك في زمان حضرة نوح مبرّرات معيّنة استلزمت أن تكون كلّ المأكولات البحريّة مباحة ومحلّلة. واقتضت بعض الظّروف في زمان نبوّة حضرة إبراهيم تحليل زواج المرء من خالته، فقد كانت سارة أختا لأمّ حضرة إبراهيم. وفي دورة حضرة آدم كان من المحلّل والموافق أن يتزوّج المرء من أخته، كما فعل هابيل وقابيل وسيث أبناء آدم وتزوّجوا من أخواتهم. ولكنّ تلك الزّيجات حرّمت في شريعة أسفار حضرة موسى الخمس، وأبطلت تلك العادات ونسخت أحكامها. كما نـُسِخـَت في زمان حضرة موسى شرائع أخرى كان معمولاً بها قبل ذلك. فمثلاً كان محلّلاً في دورة حضرة إبراهيم أكل لحم الجمل، لكنّه حرّم في زمن يعقوب. وهذا التّغيير والتّبديل في تعاليم الدّين يسري على ظروف الحياة العاديّة، ولكنّها ليست بأمور هامّة أو جوهريّة. فلقد عاش حضرة موسى في برّيّة سيناء حيث كانت الجريمة تقتضي قصاصًا فوريًّا. فلم يكن هناك سجون أو عقوبات بالسّجن. ولذا، طبقًا لمقتضيات الزّمان والمكان، كان الشّرع الإلهيّ هو العين بالعين والسّنّ بالسّنّ. وتطبيق هذا الشّرع في الوقت الحاضر غير عمليّ – كأن تعمي من أعماك عن غير عمد. وهناك في التّوراة أحكام كثيرة تتعلّق بعقوبة القاتل. وهي أحكام لا يسمح أو يجوز تطبيقها اليوم. بل إنّ أحوال عالم البشر ومقتضياته اليوم قد جعلت مسألة عقوبة الإعدام نفسها – وهي العقوبة الوحيدة الّتي ما زالت معظم الدّول تجريها جزاء القتل – جعلتها محلاًّ لمداولات العقلاء الّذين يتباحثون في جدواها. وفي الواقع، فإنّ الأحكام الّتي تتناول ظروف الحياة العاديّة تكون سارية المفعول لأجل مسمّى. فكان ممّا تبرّره مقتضيات الزّمان في أيّام موسى قطع يد الإنسان بسبب السّرقة، ولكنّ عقوبة كهذه لا يسمح بها الآن. فالظّروف تتغيّر بمرور الزّمان والشّرائع تتغيّر لتناسب الظّروف. وعلينا أن نأخذ في الاعتبار أنّ هذه القوانين الّتي يطرأ عليها التّغيير ليست من الجوهريّات، وإنّما هي بمثابة الأمور العارضة في الدّين. فالأحكام الجوهريّة الّتي يرسي قواعدها المظهر الإلهيّ هي روحانيّة بطبيعتها، وتتعلّق بقواعد السّلوك والتّطوّر الخلقيّ للبشر والإيمان بالله. وهي مثاليّة، كما أنّها بالضّرورة دائمة – فهي تعبيرات الأصل الواحد، وهي لا تقبل التّغيير أو التّبديل. فالجوهر الأساسيّ لدين الله المُنزل هو جوهر ثابت لا يتغيّر على مرّ القرون والأعصار ولا يخضع لعوارض عالم البشر المتقـلّـبة.

لقد أقرّ حضرة المسيح أساس شريعة حضرة موسى ونادى بها. كما أعاد حضرة محمّد وسائر الأنبياء أساس الحقيقة نفسه على مسامع البشر. فمقاصد الرّسل الإلهيّة وإنجازاتهم كانت واحدة لا تتغيّر. فكانوا مصدر الرّقيّ بالنّسبة للهيئة الاجتماعيّة، وكانوا سبب الشّرف والحضارة الرّبّانيّة للبشريّة، وهي حضارة واحدة في أساسها، واحدة في كلّ دور. ويتّضح إذًا أنّ دلائل صدق أيّ من أنبياء الله وصحّة إلهامه هي ما يصدر عن ذاته من عظمة ومن أعمال تحقّق الخير والمنفعة. فإذا ما ثبت أنّه كان مؤثّرًا وفاعلاً في رفعة البشر وإصلاح أحوالهم، فهو بكلّ تأكيد رسول صادق من عند الله.

أريدكم أن تكونوا معتدلين ومنصفين في حكمكم على ما سأقوله الآن:

في الوقت الّذي كان فيه بنو إسرائيل مشتّتين متفرّقين بفعل سطوة الإمبراطوريّة الرّومانيّة، ومحيت فيه سيرة حياة الشّعب العبريّ على يد غزاتهم – زمان بدا فيه أنّ شريعة الله قد ذهبت من بينهم وأنّ أساس دين الله قد تقوّض – ظهر يسوع المسيح. وعندما نهض بين اليهود، كان أوّل ما قام به هو المناداة بصحّة رسالة حضرة موسى. وأعلن أن التّوراة، أي أسفار العهد القديم، هي كتاب الله، وأنّ جميع أنبياء بني إسرائيل هم حقّ وحقيقة. وأثنى على رسالة حضرة موسى، وبيمن دعوة حضرته ذاع وشاع اسم حضرة موسى في جميع أرجاء العالم. وبفضل الدّين المسيحيّ اشتهرت عظمة موسى بين الأمم. ومن المحقّق الثّابت أنّ اسم حضرة موسى لم يكن قد سمع به أحد في بلاد الفرس قبل ظهور حضرة المسيح، ولم يكن للهند خبر بالدّيانة اليهوديّة، ومن الثّابت أيضًا أنّه بفضل اعتناق أوروبّا للمسيحيّة دون سواها انتشرت تعاليم العهد القديم في ذلك الصّقع. لم تكن هناك نسخة واحدة من العهد القديم في أيّ مكان بأوروبّا. ولكن تدبّروا ما أقوله الآن لكم بكلّ عناية وأبدوا الرّأي فيه بكلّ إنصاف: لقد تمّت ترجمة العهد القديم، أي أسفار التّوراة، إلى ستمائة لغة ونشرت في كلّ مكان من المعمورة بفضل نفوذ حضرة المسيح وبفضل تراجم العهد الجديد – ذلك السّفر الصّغير المسمّى بالإنجيل. وبذلك صارت أسماء الأنبياء العبرانيّين أسماء متداولة في بيوت سائر الأمم الّتي آمنت بأنّ بني إسرائيل كانوا حقًّا شعب الله المختار، وأنّهم أمّة مباركة اختصّها الله ببركته وحفظه، وأنّ الأنبياء الّذين ظهروا في إسرائيل كانوا بالتّالي مشارق الإلهام ونجومًا ساطعة في سماء المشيئة الرّبّانيّة.

بذلك يكون حضرة المسيح قد روّج الدّين اليهوديّ، ذلك لأنّه كان يهوديًّا ولم يكن معارضًا لليهود، ولم ينكر نبوّة حضرة موسى، بل نادى بها وصدّق عليها. ولم ينسخ التّوراة بل نشر تعاليمها. وكلّ ما تغيّر هو ذلك الشّقّ من الأحكام الموسويّة المتعلّق بالمعاملات والظّروف الثّانويّة غير الهامّة، أمّا التّعاليم الموسويّة الجوهريّة فقد نادى بها حضرة المسيح وأكّد عليها كما هي دون أيّ تغيير. ولم يترك شيئًا ناقصًا أو غير كامل. وعلى المنوال نفسه، قام بتوحيد غالبيّة أمم الشّرق والغرب بنفوذ كلمة الله الغالبة واقتدارها. وتحقّق ذلك في زمان كانت تعادي فيه تلك الأمم بعضها البعض بالخصومة والنّزاع. فجاء بهم إلى خيمة وحدة الإنسانيّة الظّليلة، وتعهّدهم بالتّربية إلى أن صاروا في اتّحاد واتّفاق، وبفضل روح المصالحة الّتي بثّها حضرة المسيح فيهم امتزج الرّومان والإغريق والكلدانيّون والمصريّون في حضارة موحّدة. وهذه القوّة العجيبة والنّفوذ غير العاديّ للكلمة الإلهيّة يعطينا برهانًا قاطعًا على أحقّيّة حضرة المسيح وصدقه. فانظروا كيف ظلّت هيمنته السّماويّة دائمة وباقية. وإنّ هذا لبرهانٌ قاطع ودليلٌ لائح.

من أفق آخر يطالعنا نور حضرة محمّد، نبّي الله في بادية العرب. وقد لا تعلمون أنّ أوّل خطاب خاطب به حضرة محمّد قبيلته كان قوله إنّ حضرة موسى نبيّ من أنبياء الله، والتّوراة كتاب من عند الله، فعليكم يا قوم أن تؤمنوا بالتّوراة وبحضرة موسى وبالأنبياء. وعليكم أن تسلّموا بصدق كافّة أنبياء إسرائيل. لقد تكرّر ذكر سيرة حضرة موسى في القرآن سبع مرّات، وهناك مديح لحضرته في كلّ رواية منها. وصرّح حضرة محمّد بأنّ حضرة موسى كان من أعظم أنبياء الله، وأنّ الله أوحى إليه في برّيّة سيناء، وأنّه بفضل نور الهداية لبّى حضرة موسى نداء ربّه، وأنّه كان كليم الله وحامل ألواح الوصايا العشر، وأنّ كلّ الأمم الّتي عاصرته قامت ضدّه، وأنّ حضرة موسى غلبهم في النّهاية، لأنّ الحقّ دائمًا ما يزهق الباطل والضّلال. وهناك الكثير من المناسبات الأخرى الّتي أكّد فيها حضرة محمّد على نبوّة حضرة موسى، وما أذكره لكم هو القليل. لاحظوا أنّ حضرة محمّد ولد في قبائل شبه جزيرة العرب الهمجيّة المتوحّشة وعاش بينهم، وكان في ظاهر الأمر أمّيًّا وغير عالم بالكتب الإلهيّة المقدّسة. وكانت الأعراب في أقصى درجات الجهل والهمجيّة، يئدون بناتهم أحياء، ويعتبرون ذلك دليلاً على الشّجاعة وسموّ المَحْتِد. وعاشوا أذلاّء عبيدًا تحت حكم الفرس والرّومان، مشتّتين في بوادي الصّحراء، منهمكين دومًا في النّزاع وسفك الدّماء. فلمّا أشرق عليهم النّور المحمّديّ، تبدّد ظلام الجهل من بادية العرب. وبلغت هذه الأقوام الهمجيّة، في فترة قصيرة من الزّمان، درجة عالية من الحضارة، امتدّت رقعتها – عندما كانت بغداد حاضرتها – إلى إسبانيا في الغرب، ومن بعد ذلك أثّرت في جزء أكبر من القارّة الأوروبّيّة. فأيّ برهان على النّبوّة أعظم من ذلك؟ إلاّ إذا أغمضنا أعيننا عن الإنصاف وعقدنا العزم على معارضة العقل.

المسيحيّون هم اليوم مؤمنون بحضرة موسى، ويقبلونه نبيًّا من عند الله، ويلهجون ببالغ الثّناء عليه. كما أنّ المسلمين، على نفس المنوال، مؤمنون بحضرة موسى ومقرّون بصحة نبوّته إلى جانب إيمانهم بحضرة المسيح. فهل لنا أن نقول إنّ قبول المسيحيّين والمسلمين لحضرة موسى قد ألحق الضّرر والخسران بهاتين الأمّتين؟ كلاّ، بل كان في ذلك نفعٌ لهم وبرهانٌ على إنصافهم وعدلهم. فما الضّرر الّذي يلحق باليهود إن هم بالمثل قبلوا حضرة المسيح وأقرّوا بصحّة نبوّة حضرة محمّد؟ فبمثل هذا القبول والموقف الحميد تتبدّد العداوة والكراهية الّتي لحقت بالبشريّة قرونًا عديدة، وينتهي التّعصّب وسفك الدّماء، وينعم العالم بالاتّحاد والاتّفاق. فالمسيحيّون والمسلمون يعتقدون ويقرّون بأنّ حضرة موسى كان كليم الله. فلِمَ لا تقولون بأنّ حضرة المسيح كان كلمة الله؟ ولماذا لا تنطقون بهذه الكلمات القليلة الّتي ستزيل كلّ هذه الصّعوبات؟ فلا يبقَ بعد ذلك من كراهية وتعصّب، ولا يكون هناك اقتتال وسفك دماء في أرض الميعاد، ويسود بينكم السّلام إلى الأبد.

إنّي لأشهد أمامكم الآن بكلّ صدق أنّ حضرة موسى كان كليم الله، وأنّه كان من الأنبياء ذوي العزم، وأنّ حضرة موسى قد جاء بأصول شريعة الله، وأرسى قاعدة أخلاقيّة صادقة من أجل تمدّن البشريّة ورقيّها. فأيّ ضرر في ذلك؟ وهل أخسر شيئًا إن قلت لكم هذا وآمنت به بصفتي بهائيًّا. كلاّ، بل إنّ هذا ينفعني، كما يؤكّد حضرة بهاء الله، مؤسّس الدّين البهائيّ، على قولي هذا فيقول: إنّك منصف وعادل في حكمك، ولقد تحرّيت الحقيقة بكلّ نزاهة، وبلغت قول الحقّ، وأعلنت إيمانك بحضرة موسى نبيًّا لله، وقبلت التّوراة كتابًا لله، والآن، وبما أنّه قد تيسّر لي أن أمحو كلّ شائبة للتّعصّب بمثل هذا التّصديق المتسامح الشّامل، فكيف لا يمكنكم أنتم أن تفعلوا الشّيء نفسه؟ ولم لا تضعون حدًّا لهذا الخلاف الدّينيّ وتوجدون بدلاً من ذلك صلة للتّرابط بين قلوب العباد؟ ولم لا يمدح أتباع دين ما رسول الدّين الآخر ومعلّمه؟ فأتباع الأديان الأخرى يثنون على عظمة حضرة موسى ويقرّون بأنّه كان مؤسّسًا لليهوديّة. فلماذا يرفض العبرانيّون أن يمتدحوا أو يقبلوا غير حضرة موسى من الرّسل العظام الّذين ظهروا في هذا العالم؟ فما الضّرر في ذلك؟ وما هي أحقّيّة الاعتراض؟ لا شيء على الإطلاق. فبمثل هذا التّصرّف أو القول لا تخسرون شيئًا. كلاّ، بل إنّكم ستسهمون في رخاء البشر ويكون لكم دور فعّال في تحقيق سعادة العالم الإنسانيّ. فشرف الإنسان الأبديّ يتوقّف على التّحرّر الفكريّ الّذي يتّسم به هذا العصر الحديث. وطالما أنّ إلهنا إلهٌ واحد هو خالق جميع البشر، فهو يرزق الكلّ ويحفظهم. ونحن نؤمن به ربًّا شفوقًا عادلاً رحيمًا، فلماذا ننهمك نحن أبناؤه والمؤمنون به بالحرب والقتال، جالبين الأسى والحزن لقلوب بعضنا البعض؟ فالله شفوق رحيم، ودائمًا ما كان مقصده من الدّين أن يكون رابطة اتّحاد وتآلف بين البشر.

الحمد لله أن ولّى عصر ظلمة القرون الوسطى وبزغ فجر هذا القرن المنير، هذا القرن الّذي تجلّت فيه حقائق الأشياء، ونفذ فيه العلم إلى أسرار الكون، وتأسّست فيه وحدة العالم الإنسانيّ، وصارت خدمة البشريّة الدّافع الأسمى لكلّ من في الوجود. فهل نبقى في وهدة العصبيّة والتّشبّث بالتّعصّبات؟ وهل يليق أن نبقى مكبّلين بالخرافات القديمة وأوهام الماضي، وعاجزين بما عفا عليه الدّهر من عقائد، وبجهل عصور الظّلام، نشنّ الحروب باسم الدّين، متقاتلين وسافكين للدّماء، متحاشين ومكفّرين بعضنا البعض؟ فهل هذا يليق؟ أليس من الأفضل لنا أن نكون محبّين ومراعين لبعضنا البعض؟ أليس من الأفضل أن ننعم بالألفة والوحدة، مرتّلين معًا آيات الحمد لله العليّ المتعال، مُثْنين على كلّ أنبيائه بروح من التّقبّل وبنظرة يلازمها الصّواب؟ فعندئذ يصير هذا العالم حقًّا روضة من رياض الجنّة، ويطلع فجر يوم الله الموعود. وعندئذ، كما تنبّأ إشعياء، يشرب الذّئب والحمل من مجرى واحد، ويعشّش البوم والباز معًا على أيك واحد، ويرعى الأسد والعجل في مرج واحد. ما معنى هذا؟ أي أنّ الأديان المتشاحنة، والملل المتعادية، والمذاهب المتخالفة تتّفق وتتآلف بغضّ النّظر عن سابق الكراهية والعداوة، وتمتزج بكلّ ألفة ومحبّة بفضل النّظرة الإنسانيّة المتسامحة الّتي يقتضيها هذا القرن المنير. هذه هي روح كلمات إشعياء ومغزاها. فلن يأتي أبدًا يوم تتحقّق فيه هذه النّبوءة بحذافيرها، لأنّ هذه الحيوانات بطبيعتها لا يمكنها أن تختلط وتتعاشر في عطف ومحبّة. فهذه النّبوءة ترمز إذًا إلى اتّحاد واتّفاق الأجناس والأمم والشّعوب الّتي ستتقارب بروح من العقلانيّة والاستنارة والرّوحانيّة.

لقد طلع فجر العصر الّذي ستصبح فيه ألفة الجنس البشريّ حقيقة واقعة، وأتى القرن الّذي ستتّحد فيه جميع الأديان، وحان أوان الظّهور الّذي ستنعم فيه جميع الأمم ببركة الصّلح العالميّ. ولقد جاء الدّور الّذي ستنبذ فيه كلّ قبائل العالم وشعوبها التّعصّب العرقيّ، وبدأ العهد الّذي ستترابط فيه كلّ الأوطان لتصير أسرة إنسانيّة واحدة، لأنّ كافّة البشر سيعيشون في سلام وأمان في ظلّ الخيمة العظيمة لله الواحد الحيّ.

(5) 25 أكتوبر/ تشرين الأوّل 1912

25 أكتوبر/ تشرين الأوّل 1912

الخطبة المباركة بفندق ساكرامنتو، بمدينة ساكرامنتو، ولاية كاليفورنيا

نقلاً عمّا دوّنته بيجو شتراون

عندما ظهر حضرة المسيح، اقتدت به بعض النّفوس المباركة، وكانوا ملازمين لسيّدهم يراقبون ويلاحظون تصرّفاته وحركاته وأفكاره عن كثب. وشاهدوا بأعينهم ما انهال على هيكله من البلايا والتّعذيب، واطلّعوا على كلّ الأحداث والوقائع المنسوبة إلى تلك الحياة المدهشة – وكانوا محطّ عطفه وأفضاله. وبعد صعود حضرة المسيح سرعوا إلى أرجاء مختلفة من العالم، ناشرين ما منحهم من تعاليم ومبادئ. وبفضل إخلاصهم وجهودهم صارت بقاع أخرى وأمم قاصية على علم بما أتى به من مبادئ.

وبهم استضاء الشّرق، ومن فيض نور الشّرق استفاض الغرب. وصار ذلك النّور سببًا لهداية جنود مجنّدة من البشر، وبرهن على كونه مانعًا للحرب والنّزاع في حالات عديدة. يشهد بذلك توحيد وتأليف أمم مختلفة كانت في السّابق متعادية – كاليونان والرّومان والمصريّين والسّريان والكلدانيّين والأشوريّين. وبفضل حضرة المسيح وجدت وحدة العالم الإنسانيّ تجلّـيها وظهورها وصارت واسطة لاستنارة البشر روحيًّا وسرى أثر نفثات الرّوح القدس في أفئدة العباد.

لقد جئناكم نحن أيضًا من بلاد الشّرق معلنين عن ظهور حضرة بهاء الله، الّذي أشرق من أفق الشّرق. وقد لاحظنا حياة حضرته ورأينا أعماله، وكنّا شهودًا على مصائبه وآلامه، وعاصرنا حبسه ونفيه. ونحن على علم تامّ بما انهال على هيكله المبارك من أذى وتعذيب. ولهذا انتشرنا، نحن أتباعه، في كلّ أرجاء المعمورة حتّى تُذاع تعاليمه وتسمعها كلّ أذن، وحتّى يحظى البشر ببشارات بزوغ فجر رسالته العظيمة، ويكونوا على علم بالعلامات الرّبّانيّة الّتي تجلّت في شخصه، ويُحاطوا علمًا بالأحداث البديعة من حياته المدهشة، وعظمة اقتداره في الوقوف أمام ملوك الشّرق، وقوّة روحه المتجلّية في حمله لواء وحدة عالم البشر تحت كلّ الظّروف والأحوال. ولعلّكم سمعتم أو قرأتم شيئًا عن حضرته. وها أنذا أعطيكم نبذة عن حياته لتكونوا عالمين بتاريخ رسالته العظيمة وعارفين بتعاليمه.

كان حضرة بهاء الله شخصيّة بارزة في إيران وينتمي إلى سلالة نبيلة. وفي مقتبل حياته ظهر في إيران شابّ يدعى علي محمّد، وهو الّذي لُقّب فيما بعد بالباب. كان صاحب هذا اللّقب نفسًا عظيمة ظهرت منها علامات ودلائل روحانيّة. تحمّل حضرته محن الزّمان وعاش على خلاف عادات بلاد الفرس وأعرافها. فقد أتى حضرة الباب بنظم دينيّ جديد يختلف عن معتقدات بلاده، ونادى بمبادئ تخالف أفكار النّاس. لأجل هذا تعرّضت تلك الشّـخصيّة المرموقة للحبس على يد حكومة إيران. ثمّ نال الشّهادة في نهاية المطاف بأمر منها. وواقعة استشهاده هي بالاختصار أنّه عُلّق بالحبال في ميدان وأطلق عليه الرّصاص حتّى الموت. ولقد بشّر ذلك الشّخص الجليل بمجيء شخص آخر قال عنه عند مجيئه سيكشف لكم أمورًا أعظم.

هكذا، بعد استشهاد حضرة الباب، ظهر حضرة بهاء الله. فقامت عليه الحكومة، وقاومه رجال الدّين في بلاد فارس، وعرّضوه لشديد الاضطهاد. فصودرت أملاكه، وقتل أقرباؤه وأحبّاؤه، وأُلقي به في قبو كان يُتّخذ سجنًا، فحبس فيه مدّة طويلة، مكبّلاً بالسّلاسل والأغلال معانيًا أقسى الآلام والشّدائد. ثمّ نفي بعد ذلك إلى العراق، أو ما كانت تسمى آنذاك بلاد ما بين النّهرين، ومنها إلى القسطنطينيّة، ومن ثمّ جرى ترحيله إلى أدرنة وأخيرًا إلى عكّاء ببرّ الشّام. وقضى في سجن عكّاء مدّة أربع وعشرين سنة تعرّض خلالها لأشدّ المحن وأقسى درجات الحرمان، دونما راحة أو هناء ولو ليوم أو ليلة واحدة. ومع هذا الحبس والمعاناة، أبدى حضرته أسمى درجات القوّة والجلال الرّوحانيّ. وعلى الرّغم من أنّه كان مسجونًا إلاّ أنّه وقف في وجه ملكين طاغيين، وتغلّب عليهما في نهاية الأمر.

وجّه حضرة بهاء الله بعد فترة وجيزة من سجنه رسائلَ أو ألواحًا إلى كافّة ملوك العالم ورؤسائه، داعيًا إيّاهم إلى الصّلح العموميّ، والاتّحاد، والإخاء العامّ. من بين هؤلاء السّلاطين كان شاه إيران، وهو الّذي يُنسب إلى تدخّله النّصيبُ الأكبر في سجن حضرته. وفي رسالته لذلك الحاكم عنّفه بشدة وتنبّأ بسقوطه إذ تفضّل قائلاً: بظلمك ستخرب بلادك، ويُذلّ ويُهان آلك. كما وجّه حضرته إلى سلطان تركيّا عبارات مماثلة قائلاً: سيخرج المُلك من يدك. لقد كتب حضرة بهاء الله رسائله إلى ملوك العالم ورؤسائه منذ خمسين سنة مضت يدعوهم فيها إلى الصّلح العامّ. وكلّ ما كتب عنه قد تحقّق. لقد طبعت تلك الألواح في بومباي منذ ثلاثين سنة، وهي الآن ذائعة وشائعة في كلّ أنحاء العالم. وبالاختصار، تحمّل حضرة بهاء الله أربعين سنة من البلايا والمحن والمصاعب من أجل نشر تعاليمه الّتي نذكرها في ما يلي:

أوّل مبدأ هو أنّ على الإنسان أن يتحرّى الحقيقة، ذلك لأنّ الحقيقة تتعارض مع التّفاسير الضّيّقة وتقاليد رسوم عقائد الآباء الّتي تتشبّث بها كلّ الأمم والأقوام. فتلك التّقاليد العمياء تتعارض مع الأساس الجوهريّ للأديان الإلهيّة، ذلك لأنّ الأديان مبنيّة في جوهرها على الاتّحاد والمحبّة والسّلام، في حين أنّ تلك الاختلافات والتّقاليد طالما كانت مورِّثة للصّراع والفتنة والنّزاع. فعلى كلّ النّفوس إذًا أن تدرك أنّه من الواجب عليها تحرّي الحقيقة. والحقيقة واحدة، وعندما تظهر ستوحّد البشر أجمعين. والحقيقة هي محبّة الله، والحقيقة هي عرفان الله، والحقيقة هي الإنصاف، والحقيقة هي اتّحاد البشر وتعاضدهم، والحقيقة هي الصّلح العموميّ، والحقيقة هي العلم ببواطن الأمور، والحقيقة تُوحِّد ما بين البشر.

بالاختصار فإنّ فحوى مبدأ حضرته هذا هو أنّ الحقيقة هي أسّ أساس كافّة الأنظمة الدّينيّة العظيمة في العالم. لقد دعا حضرة بهاء الله أمم العالم وشعوبها إلى الحقيقة. وبفضل قبول الحقيقة المودعة في كلمات حضرته اتّحدت الملل المتعادية، وزال النّزاع والاختلاف والجدال من بينهم، وبلغوا أقصى درجات المحبّة. فأولئك الّذين قبلوا تعاليم حضرته واقتدوا به من أهل آسيا في الوقت الحاضر صاروا يتعاشرون بكلّ أخوّة وألفة، مع أنّهم كانوا قبل ذلك في عداء مرير مع بعضهم البعض. وانتهى النّزاع والصّراع الّذي ساد بينهم في الماضي. وبفضل حضرة بهاء الله بلغ اليهود والزّرادشتيّون والمسيحيّون والمسلمون وملل أخرى مرتبة سامية من المحبّة والوفاق وأصبحوا يتعاشرون الآن كعائلة واحدة. لأنّهم تحرّوا الحقيقة، والحقيقة لا تقبل التّعدّد، ولا تخضع للانقسام. وهكذا صارت تلك الأقوام المتباعدة متّحدة ومتّفقة.

ثاني تعاليم حضرة بهاء الله هو مبدأ وحدة العالم الإنسانيّ. فالله واحد وعباده هم بالمثل واحد. وقد خلقنا الله جميعًا، وهو رؤوف بالكلّ. وطالما كان أبًا رحيمًا بالكلّ، فلماذا يختلف أولاده؟ ولماذا يتحاربون ويقتتلون؟ فعلينا أن نحيا بمحبّة واتّحاد، تمامًا مثل أبينا السّماويّ. والإنسان هيكل الرّحمن وصورة الرّبّ ومثاله. ولا مِرية في أنّ من يهدم هيكل الله يجلب غضب الخالق. ولهذا علينا أن نتعايش في وداد ومحبّة. لقد خاطب حضرة بهاء الله عالم البشر قائلاً: كلّكم أثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد. وهذا يعني أنّ عالم البشر بأجمعه هو شجرة واحدة، وأنّ أمم وشعوب العالم المختلفة بمثابة أغصان تلك الشّجرة. أمّا فرادى أعضاء الجنس البشريّ فهم ممثّلون في أفنانها وأزهارها. فلماذا تبدي أعضاء الشّجرة الواحدة عداوة وبغضاء لبعضها البعض؟

ثالث تعاليم حضرة بهاء الله يتعلّق بالصّلح العموميّ بين الأمم وبين الأديان وبين الأعراق والأوطان. إذ أعلن أنّه طالما بقيت التّعصّبات بين بني البشر – دينيّة كانت أم عرقيّة، قوميّة أو سياسيّة أو طائفيّة – فلا يمكن للصّلح العموميّ أن يتحقّق في العالم. ومنذ فجر التّاريخ البشريّ إلى وقتنا الحاضر كانت علّة ما نشب فيه من حروب وسفك للدّماء إمّا من تحيّز دينيّ أو عرقيّ أو سياسيّ أو طائفيّ. فيتّضح إذًا أنّه ليس باستطاعة عالم البشر أن ينال السّلام والاطمئنان طالما بقيت تلك التّعصّبات.

من تعاليم حضرة بهاء الله نداؤه بأن يكون الدّين سببًا للمحبّة والألفة، وباعثًا على الاتّحاد في قلوب العباد. فإذا ما صار الدّين علّة للعداء والبغضاء، يكون من الواضح أنّ إبطال الدّين أفضل من ترويجه؛ ذلك لأنّ الدّين دواء لعلل البشر وأسقامهم، فإذا ما كان الدّواء مُفضيًا إلى المرض، يكون من المستحسن قطعًا تركه.

كما أنّ تعاليم حضرة بهاء الله تنادي أيضًا بأن يتطابق الدّين مع العلم والعقل، وإلاّ يكون الدّين وهمًا وخرافة؛ ذلك لأنّ العلم والعقل كلاهما حقيقة، والدّين نفسه هو الحقيقة الإلهيّة الّتي يتعيّن على كلّ من العلم والعقل الحقيقيّين أن يوافقاها. ولقد أنعم الله على الإنسان بنعمة العقل لكي يزن كلّ حقّ أو حقيقة تعرض عليه ويقرّر ما إذا كانت معقولة. فيتسنّى له بذلك أن يقبل ما يوافق عقله، وينبذ ما لا يوافق العقل والعلم على أنّه وهم وخرافة، وعلى أنّه شبح لا حقيقة. وبما أنّ ما لدى النّاس من تقاليد عمياء أو تفاسير متزمّتة لا يتماشى مع ما يسلّم به المنطق، ولا يتقبّله العقل والاستقصاء العلميّ، فإنّ الكثير من النّفوس في عالم البشر اليوم تتحاشى الدّين وتنكره. أي أنّ التّقاليد عندما توزن بموازين العقل لا تتماشى مع المعايير والشّروط العقلانيّة. لذا فإنّ تلك النّفوس تنكر الدّين وتجنح إلى اللاّدينيّة، في حين إذا ما تجلّت لهم حقيقة الأديان الإلهيّة وكُشف لهم جوهر التّعاليم السّماويّة بما يطابق الوقائع والحقائق الواضحة ويوافق المعارف العلميّة والبراهين العقليّة، فلا شكّ يقرّ بها الكلّ، وتنتهي اللاّدينيّة. وبهذه الكيفيّة تهتدي البشريّة بأسرها إلى أساس الدّين، ذلك لأنّ الحقيقة هي العقل والعلم الصّحيحين، بينما كلّ ما لا يطابقهما هو مجرّد وهم وخرافة.

تنادي تعاليم حضرة بهاء الله أيضًا بالمساواة بين الرّجل والمرأة، إذ صرّح بأنّ الجميع عباد لله وأنّه أنعم عليهم بالاستعداد لنيل الفضائل والمواهب. وهم جميعًا مظاهر الرّحمة الرّبّانيّة، ولا تفاوت في خلق الله، فالكلّ عباده. وليس لدى الله ذكور وإناث، وإنّما من كانت أعماله أجدر وأقواله أفضل وإنجازاته أكثر فائدة فهو الأقرب والأعزّ عند الله، ذكرًا كان أم أنثى. وعندما ننظر إلى الخليقة نجد مسألة الذّكورة والأنوثة واضحة في كلّ كائنات الوجود. ففي مملكة النّبات نجد ذَكَرَ شجرة التّين وأنثاها، وذَكَرَ النّخيل وأنثاه، والشّيء نفسه في شجر التّوت وهلمّ جرّا. وكافّة أوجه الحياة في النّبات تتّصف بهذا الاختلاف في الجنس، بيد أنّه لا يوجد هناك أيّ شواهد على التّمييز أو التّفضيل، بل على المساواة التّامّة. وعلى نفس المنوال تحصل الذّكورة والأنوثة في مملكة الحيوان؛ إذ نجد فيها الذّكر والأنثى، ولكن بغير تمييز أو تفضيل. فالمساواة الكاملة متجلّية وواضحة فيها. ولا يستطيع الحيوان، لأنّه محروم من رتبة العقل والإدراك الإنسانيّ، أن يقدّر المسائل المتعلّقة بالمطالبة بحقوق الإناث، أو يشدّد على ميزتها. أمّا الإنسان، وهو الّذي يحظى بسموّ عقله ويتفوّق على الحيوان في إنجازاته وفهمه لحقائق الأشياء، فلن يقبل بكلّ تأكيد أن يسمح لقسم كبير من المجتمع الإنسانيّ أن يظلّ ناقصًا أو محرومًا لأنّ ذلك يكون ظلمًا مبينًا. ولعالم الإنسانيّة جناحان: الذّكر والأنثى. وطالما ظلّ هذان الجناحان غير متساويين في القوّة والمقدرة، لن يتسنّى للطّير أن يحلّق ويطير. وإلى أن تبلغ المرأة نفس الدّرجة الّتي بلغها الرّجل، وإلى أن تحظى بالدّخول في مجال العمل نفسه، فلن يكون متاحًا للبشريّة تحقيق أيّ إنجازات فائقة؛ أي لن تقدر البشريّة أن تحلّق إلى آفاق الإنجاز الحقيقيّ. وعندما يكون الجناحان أو القسمان متساويين من حيث القوّة والمقدرة، ويحظيان بنفس الامتيازات، يكون تحليق الإنسان في غاية السّموّ والتّفوّق. فيجب إذًا أن تنال المرأة نفس ما يناله الرّجل من تربية وتعليم، وأن يتمّ تصحيح كافّة أوجه التّفاوت. وهكذا ستصبح النّساء أندادًا للرّجال عندما يتأهّلن بنفس مناقب الرّجال ويتقدّمن في كافّة مراتب الإنجاز البشريّ. ولن يتيسّر تقدّم الجنس البشريّ الحقيقيّ وإنجازاته ما لم تتحقّق تلك المساواة.

الأسباب الجليّة الّتي ترتكز عليها تلك الحقيقة هي: إنّ المرأة بطبيعتها معارضة للحرب؛ فهي نصيرة للسّلام. والأبناء يتربّون وينشأون على يد الأمّهات اللّواتي يعلِّمْنَهم أوّل مبادئ التّربية، ويجهدن من أجلهم بغير كلل أو ملل. فتدبّروا مثلاً حال أمّ ربّت ابنها بكلّ حنان مدّة عشرين سنة إلى أن بلغ أشدّه. فهي لن ترضى بكلّ تأكيد أن يُقطّع ذلك الابن إربًا ويُقتل في ساحة المعركة. ولذلك فإنّه إذا ما تقدّمت المرأة إلى نفس درجة الرّجل من حيث السّلطة والامتيازات، وكان لها حقّ الاقتراع واتّخاذ القرار في أمور الحكم الإنسانيّ، فستنتهي الحروب لا محالة؛ لأنّ المرأة بالفطرة أخلص وأقوى مدافع عن السّلام العامّ.

كما أنّ حضرة بهاء الله يعلّمنا أنّ المدنيّة المادّيّة غير كاملة وغير كافية، وأنّ المدنيّة الرّبّانيّة يجب أن تتحقّق. فالمدنيّة المادّيّة تتعلّق بعالم المادّة أو الأبدان، أمّا المدنيّة الرّبّانيّة فهي عالم السّلوك والأخلاقيّات. وما لم تترقَّ الأمم في مستواها الأخلاقيّ وتبلغ المناقب الإنسانيّة شأوًا رفيعًا، فإنّ سعادة البشر تكون أمرًا مستحيلاً. لقد شيّد الفلاسفة والحكماء مدنيّة مادّيّة، بينما أسّس الأنبياء مدنيّة ربّانيّة. فكان حضرة المسيح مؤسّسًا لمدنيّة سماويّة. ويتلقّى البشر نعم وآلاء المدنيّتين المادّيّة والرّبّانيّة من الأنبياء السّماويّين. فهم الّذين يهبون البشر استعدادًا لنيل كلّ ما هو استثنائيّ وممدوح من الرّقيّ بواسطة نفثات الرّوح القدس، وليس هناك من وسيلة أخرى لنيل المدنيّة الملكوتيّة أو تحقيقها. وهذا برهان على احتياج الإنسانيّة للمواهب السّماويّة، وإلى أن يتمّ الحصول على تلك المواهب لا تتحقّق السّعادة الأبديّة.

بالاختصار، فإنّ ما أهدف إليه من حديثي هو أنّ تعاليم حضرة بهاء الله لا عِدَّ لها ولا حصر، ولن يتيح لنا الوقت ذكرها تفصيلاً. إنّ أساس الرّقيّ والرّخاء الحقيقيّ في العالم الإنسانيّ هو الحقيقة، لأنّ الحقيقة هي الميزان الإلهيّ والعطيّة الرّبّانيّة. والحقيقة هي العقلانيّة، والعقلانيّة دائمًا ما تؤدّي إلى رفعة مقام الإنسان. والحقيقة هي الهداية الإلهيّة. والحقيقة هي سبب استنارة البشر، والحقيقة هي المحبّة الّتي تسعى دائمًا إلى خير البشريّة. والحقيقة هي الرّابطة المؤلِّفة للقلوب، وهذا ما يسمو بالإنسان دومًا إلى أوج الفلاح والنّجاح. والحقيقة هي وحدة الجنس البشريّ الّتي تهب الحياة الأبديّة. والحقيقة هي المساواة التّامّة، وأساس الاتّفاق بين الأمم وأوّل خطوة على الطّريق نحو السّلام العالميّ.

 

(6) 26 أكتوبر/ تشرين الأوّل 1912

الخطبة المباركة بقاعة الاجتماعات بفندق ساكرامنتو،
بمدينة ساكرامنتو، بولاية كاليفورنيا

نقلاً عمّا دوّنته بيجو شتراون

لقد زرت مبنى البرلمان الخاصّ بكم وحدائقه، وليس هناك من مبنى برلمانيّ آخر يحيطه مثل هذا الجمال. وبمثل ما هو رائع ومميّز عن كلّ ماعداه، أدعو أن يكون أهل كاليفورنيا أسمى وأكمل أهل العالم في محبّة الخير للعموم. فكاليفورنيا هي حقًّا أرض مباركة. ومناخها معتدل وشمسها مشرقة على الدّوام، والفواكه فيها وفيرة وشهيّة. فكلّ البركات الظّاهريّة متجلّية هنا. وأهل كاليفورنيا شعب نبيل طيّب؛ لذا فإنّ أملي أن يحرزوا ترقّيًا استثنائيًّا وأن يشتهروا بمناقبهم.

إنّ القضيّة بالغة الأهميّة في عالم اليوم هي قضيّة السّلام العالميّ. فالقارّة الأوروبّيّة أشبة بترسانة ومخزن مملوء بالمتفجّرات جاهز للانفجار، وشرارة واحدة ستُشعل أوروبّا بأسرها، خاصّة في هذا الوقت الّذي أصبحت مسألة البلقان مطروحة أمام العالم. بل إنّ رحى الحرب تدور الآن بضراوة في بعض الأصقاع، وتُراق دماء الأبرياء، ويؤخذ الأطفال أسارى، وتترك النّساء بغير عائل، وتهدم البيوت. ولذا فإنّ أهمّ ما يحتاجه العالم اليوم هو السّلام العالميّ. فقد آن الأوان – أوان إبطال الحروب، وتوحيد الأمم والحكومات. وهو أوان المحبّة، وأوان التّأليف ما بين الشّرق والغرب.

بما أنّ أهل كاليفورنيا يظهرون محبّة للسّلام وحائزون على عظيم الجدارة والاستعداد، فإنّي آمل أن يزداد دعاة السّلام في ما بينهم يومًا بعد يوم إلى أن ينهض سكّانها بأجمعهم من أجل ذلك الهدف الخيّر، وأن يرفع ذوو الشّأن في هذه الولاية الدّيمقراطيّة لواء الصّلح العموميّ، فيسطع شعاع المقاصد الحميدة وتشعّ الأفكار الخيّرة من هذا المركز على باقي أصقاع المعمورة، ويكلِّل مجدُ هذا الإنجاز غرّةَ تاريخ هذه الدّيار إلى الأبد، ويرتفع أوّل علم للسّلام العالميّ في هذه الولاية، ويلمع أوّل نور للحقيقة على هذا التّراب بكلّ بهاء، ويكون هذا المركز وهذه الحاضرة مميّزة في كلّ درجات الإنجاز، فمناقب الإنسانيّة وإمكانات التّرقي الإنسانيّ هي بغير حدود ولا نهاية لها. ومهما بلغت البشريّة في درجة إنجازها، فهناك دائمًا درجات تعلوها. فليس هناك في عالم الوجود الظّاهريّ إنجاز يقال عنه ‘ليس في الإمكان أحسن ممّا كان’، أو ‘قد بلغنا الذّروة بهذا.’ فمهما بدا لنا ذلك كاملاً، فهناك دائمًا درجة أعلى من السّبْق يتعيّن بلوغها. وعليه، فإنّ الإنسانيّة مهما ترقّت ستبقى أمامها على الدّوام درجات أعلى يتعيّن بلوغها لأنّ المناقب والفضائل غير محدودة. ولكلّ شيء ذروة ونهاية عدا الفضائل، ومع أنّ هذه البلاد قد حقّقت رقيًّا غير عاديّ، فإنّني آمل أن تكون إنجازاتها أعظم بغير حدود، ذلك لأنّ النّعم الإلهيّة لانهائيّة ولامحدودة.

هناك من يعتقد أنّ النّعم الإلهيّة قابلة للانقطاع. فهم يظنّون مثلاً أنّ الوحي الإلهيّ، والإشراق الإلهيّ، والنّعم الإلهيّة قد انتهت. إنّ هذه فكرة واضحة البطلان، لأنّ جميعها لا يقبل الانتهاء. فحقيقة الألوهيّة مثل الشّمس، والوحي كأشعّة تلك الشّمس. وإذا ما قلنا بأنّ النّعم الإلهيّة ليست أبديّة، نكون مدفوعين بالضّرورة للاعتقاد بأنّ الألوهيّة قد تنتهي، بينما حقيقة الألوهيّة شاملة لكافّة الفضائل، وهي كاملة بسبب هذه النّعم. فإذا ما كانت غير حائزة على كلّ تلك الكمالات أو الفضائل فلا يمكن أن تكون ألوهيّة. والشّمس هي الشّمس بسبب أشعّتها وضيائها وحرارتها، فإذا ما كانت محرومة منها لا تكون شمسًا. فإذا ما قلنا إذًا أنّ الألوهيّة أو السّلطنة الإلهيّة حادثة وتقبل الانقطاع، يكون لزامًا علينا أن نعتقد بأنّ الألوهيّة نفسها حادثة، لا أصل لها ولا ضرورة.

فالله هو الخالق، وكلمة الخالق تفترض أو تعني ضمنًا وجود خلق. والله هو الرّازق، وهي كلمة توحي بوجود المرزوق. وكلمة المُحْيي اسم آخر من أسماء الخالق، وتتطلّب وجود مخلوقات تُحْيَا. أي أنّه إذا لم يكن الله رازقًا، فكيف نتخيّل وجود مخلوقات تتلقّى فضله؟ وإذا لم يكن ربًّا، فكيف نتصوّر المربوب؟ وإذا لم يكن عليمًا، فكيف نفترض وجود المعلوم؟ وإذا ما قلنا إنّه كان هناك حين من الدّهر لم يكن لله فيه خلق، أو أنّه كان للعالم بداية، لكان ذلك بمثابة إنكار كلّ من الخلق والخالق. أو إذا ما أعلنّا أنّه سيأتي زمان تنقطع فيه المواهب الإلهيّة، لكان هذا بمثابة إنكار لوجود الألوهيّة. ويكون كما لو تصوّر الإنسان ملكًا يحكم بغير بلد أو جيش أو خزينة أو أيّ رمز من رموز السّلطنة أو المَلَكِيّة. فهل من الجائز أن نتخيّل وجود مثل هذا الملك؟ إذ يلزم أن يكون للملك مُلك وجيش وكلّ ما يتعلّق بالسّلطة لكي تكون سلطنته حقيقة واقعة. وكذلك هو الحال مع حقيقة الألوهيّة الّتي تنطوي على كلّ الفضائل. فسلطنة الله أبديّة وخلقه ليس له بداية وليس له نهاية.

الوحي من النّعم الإلهيّة. لهذا فإنّ الوحي متتابع ومستمرّ، ولا ينقطع أبدًا. ومن الضّروريّ أن تتجلّى حقيقة الرّبوبيّة بتمام كمالاتها وصفاتها في العالم الإنسانيّ. حقيقة الألوهيّة مثل البحر الّذي لا أوّل له ولا آخر. أمّا الوحي فيمكن تشبيهه بالمطر. فهل يمكنكم تخيّل انقطاع المطر؟ فالمطر ينهمر دومًا في مكان ما من أديم الأرض. وبالاختصار فإنّ عالم الوجود متطوّر، وهو خاضع للتّرقّي والنّموّ. انظروا كم هو عظيم تقدّم هذا العصر المنير، عصر فيه تكشّفت المدنيّة، وترقّت الأمم، وتوسّعت دائرة الصّناعة والقانون، وتزايدت العلوم والاختراعات والاكتشافات. جميعها تدلّ على أنّ عالم الوجود في تقدّم ورقيّ دائم؛ ويستلزم ذلك بالتّأكيد أن يتّسع وينمو بنفس الكيفيّة مجال الفضائل الدّالة على نضج الإنسان.

إنّ أعظم عطيّة إلهيّة للإنسان هي الاستعداد لنيل الفضائل الإنسانيّة. ولذلك يجب أن يتطرّق الإصلاح والتّجديد إلى تعاليم الدّين لأنّ تعاليم الماضي لا تناسب الوقت الحاضر. فعلوم القرون الغابرة مثلاً لا تفي باحتياجات الحاضر لأنّ العلوم خضعت للإصلاح. وصناعات الماضي لن تكفل كفاءة الحاضر لأنّ الصّناعة طالها التّقدّم والرّقيّ. كما أنّ تشريعات الماضي يجري استبدالها لأنّها غير قابلة للتّطبيق في هذا الزّمان. وكلّ الأحوال المادّيّة المتعلّقة بعالم الإنسان قد طالها الإصلاح، وأحرزت الرّقيّ. كما أنّ مؤسّسات الماضي لا تقارن ولا تقاس بمؤسّسات العصر الحاضر. فشرائع الحكومات الغابرة ومؤسّساتها لا يمكن أن تسري في هذا اليوم، لأنّ التّشريع يجب أن يكون ملائمًا لاحتياجات الهيئة الاجتماعيّة ومتطلّباتها في هذا الزّمان.

كذلك هي الحال مع التّعاليم الدّينيّة الّتي طالما نسمعها في المعابد والكنائس، لأنّها لم تُبنَ على أصول الأديان الإلهيّة. بمعنى أنّ أساس الأديان الإلهيّة قد احتجب، وما صار يُتَّبَع هو الرّسوم والطّقوس – أي أنّ ما يبدو الآن هو أنّ لبّ الدّين قد ذهب ولم يبق سوى القشرة. فأصبح ضروريًّا بالتّالي تجديد الأساس الجوهريّ لتعاليم كافّة الأديان، وأن تشرق من جديد شمس الحقيقة الّتي غربت، وأن يعود ثانية فصل الرّبيع الّذي أنعش وأحيا حقل الحياة في سالف العصور، وأن يهطل المطر الّذي توقّف، وأن تهبَّ مرّة أخرى تلك النّسائم الّتي سكنت.

لذا فقد طلع حضرة بهاء الله عن أفق الشّرق وأعاد تشييد الأساس الجوهريّ لتعاليم أديان العالم. فمحيت العقائد الموروثة البالية الّتي كانت سائدة بين البشر، وأوجد الألفة والاتّفاق بين ممثّلي مختلف المذاهب بحيث أصبحت المحبّة ظاهرة بين الأديان المتخالفة. وخلق جوًّا من التّآلف والانسجام بين المذاهب المتعادية، ورفع لواء وحدة العالم الإنسانيّ، وشيّد أساس السّلام العامّ، وجعل قلوب الأمم متلاحمة، ووهب حياة جديدة لمختلف شعوب الشّرق. ومن بين أولئك الّذين اتّبعوا تعاليم حضرة بهاء الله ليس هناك من يقول ‘أنا إيرانيّ’ أو ‘أنا تركيّ’ أو ‘أنا فرنسيّ’ أو ‘أنا إنجليزيّ’. كما أنّه ليس هناك بينهم من يقول ‘أنا مسلم مؤمن بالدّين الوحيد الحقّ’ أو ‘أنا مسيحيّ مخلص لعقائد الأسلاف’ أو ‘أنا يهوديّ أتّبع تفاسير التّلمود’ أو ‘أنا زرادشتيّ أعارض كلّ الأديان الأخرى.’ بل، على العكس من ذلك، لقد نجوا جميعًا من التّعصّبات الدّينيّة والعرقيّة والسّياسيّة والقوميّة، وهم يتعاشرون الآن بكلّ ألفة ومحبّة بالدّرجة الّتي لو دخلتم مجلسًا من مجالسهم لا تلاحظون فرقًا بين مسيحيّ ومسلم، أو يهوديّ وزرادشتيّ، أو عجميّ وتركيّ، أو عربيّ وأوروبيّ؛ ذلك لأنّ لقاءاتهم تدور حول جوهر أصول الدّين، فتحقّقت بينهم وحدة حقيقة حقّة. فزالت من بينهم عداوات الماضي؛ وانتهت قرون الكراهية المذهبيّة؛ وولّت فترة التّنافر؛ وانمحت جهالات القرون الوسطى.

لقد طلع حقًّا فجر قرن منير، فالعقول في رقيّ، والأفهام في اتّساع، وأصبحت إنجازات القدرات البشريّة عالميّة، وصارت الاستعدادات في تقدّم، وانكشاف الحقائق في تطوّر. فصار لزامًا علينا إذًا أن نلقي جانبًا بكلّ تعصّبات الجهل، ونتخلّى عن العقائد البالية لتقاليد العصور الغابرة، وأن نرفع راية الوفاق العامّ عالية. فلنتعاون معًا بمحبّة، ولننعم بسعادة وسلام أبديّين بفضل التّوافق الرّوحانيّ.

 

 

 

خطبتان ألقاهما حضرة عبد البهاء في شيكاغو (1) 31 أكتوبر/ تشرين الأوّل 1912

الخطبة المباركة بفندق بلازا، بمدينة شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته جرترود بويكيما

أبدت الصّحف والجامعات والكنائس في مدينتي لوس أنجلوس وسان فرانسيسكو اهتمامًا كبيرًا بتعاليم حضرة بهاء الله. وكانت خطبنا مسهبة، وأُعلِنـَتْ رسالة الأمر المبارك، وأقيمت الحجج والبراهين. ولم يكن هناك أيّ اعتراض، فاستمع الكلّ إلى البشارات بقبول تامّ، وكان الاستحسان عامًّا، بمن فيهم رجال الدّين.

أحبّاء لوس أنجلوس وسان فرانسيسكو هم في غاية الثّبات على الميثاق الإلهيّ. وإذا أحسّوا بأقلّ انحراف من أيّ شخص يجتنبونه بالكلّيّة؛ فهم يدركون أنّ مثل ذلك الشّخص يسعى لإطفاء سرج الإيمان الّتي أوقدتها شعلة الميثاق، فيُحدِث بعمله هذا الضّعف والفتور في دين الله. فمثلاً يقوم أحد الثّابتين على الميثاق بتبليغ شخص ما، ثمّ يذهب إليه النّاقضون ويزرعون شوك الشّكوك لديه إلى أن يصيبه الفتور. كان هنا في شيكاغو ناقضون للميثاق زهاء عشرين سنة. فماذا أنجزوا؟ لا شيء إطلاقًا! هل كان بمقدورهم تبليغ أيّ من النّفوس؟ وهل كان بوسعهم التّحدّث في الكنائس أو إلقاء الخطب في الجموع في أيّ مكان؟ أو هل تمكّنوا من جعل أيّ نفس ثابتة على أمر الله؟ إنّهم لا يفعلون شيئًا سوى إطفاء المصابيح الّتي نشعلها. إنّ الأحبّاء في سان فرانسيسكو هم بغاية الثّبات والرّسوخ، ولا يفتحون بيوتهم للنّاقضين. لقد وفد في الآونة الأخيرة أحد هؤلاء النّاقضين على تلك المدينة، فردّه الأحبّاء البهائيّون على عقبيه قائلين: ‘إنّك لست منّا، فلماذا تسعى إلى الدّخول بيننا؟’ إنّ أهمّ مبدأ يقوم عليه الإيمان اليوم هو الثّبات على الميثاق، ذلك لأنّ الثّبات على الميثاق يحمي من الخلافات. فعليكم إذًا أن تكونوا راسخين كالجبال الرّاسيات.

حدث بعد رحيل حضرة المسيح عن الدّنيا أن ظهر الكثير ممّن كان لهم دور فعّال في خلق الفِرَق والانقسامات والمجادلات. وصار من الصّعب تبيّن أيّ من النّاس يسلك الصّراط القويم. وكان نسطوريوس، وهو من بلاد الشّام، أحد هؤلاء المثيرين للفتن، إذ أعلن أنّ حضرة المسيح لم يكن نبيًّا من عند الله ممّا أحدث انقسامًا وخلق طائفة تسمّى النّسطوريّة. وكذلك أعلن الكاثوليك أنّ حضرة المسيح هو ابن الله، بل اعتبروا أنّه هو نفس ذات الألوهيّة. أمّا البروتستانت فقد نادوا بمبدأ أنّ حضرة المسيح كان تجسيدًا لعنصرين هما العنصر البشريّ والعنصر اللاّهوتيّ. وبالاختصار تطرّقت الانقسامات إلى دين الله، ولم يكن معروفًا مَن الّذي كان يسلك سبيل الحقّ والصّواب، إذ لم يكن هناك مركز مرجعيّ معتمد أوصى حضرة المسيح الكلّ بالتّوجّه إليه من بعده، ولم يكن هناك خليفة يقول الكلمة المؤدّية إلى الحقيقة. فلو كان المسيح قد كشف عن ميثاق أبرمه مع أحدٍ من النّفوس، موصيًا الكلّ بالتّمسّك بكلمته وتبيينه على أنّه الصّواب، لاتّضح أيٌّ من تلك العقائد والمقولات كانت حقيقة وصوابًا.

لمّا لم يكن هناك مفسِّرٌ معتمد لكتاب حضرة المسيح، ادّعت كلّ نفس أنّها تمتلك السّلطة قائلة ‘هذا هو سبيل الحقّ وما عداه ضلال.’ ولدرء مثل هذه الخلافات ومنع أيّ شخصٍ من خلق مذهبٍ أو إحداث انقسام عيّن الجمال المبارك، حضرة بهاء الله، شخصيّة مرجعيّة مخوّلة مشيرًا إليها بوصفها مفسّرة ومبيّنة لكتاب الله. ومفاد ذلك أنّ النّاس بوجه عامّ لا يفهمون معاني كتاب الله، في حين أنّ ذلك الشّخص المعيَّن على علم بها. ولذا فقد تفضّل حضرة بهاء الله فى حقّه قائلاً هو المفسّر والمبيّن لكتابي ومركز عهدي وميثاقي. وتضمّنت الآيات الختاميّة للكتاب تعليمات جاء فيها أنّه من بعدي عليكم أن تتوجّهوا إلى شخصيّة مخصوصة وأنّ ما يقوله هو الصّواب. ويعلن حضرة بهاء الله في كتاب العهد أنّ المراد بهاتين الآيتين هو تلك الشّخصيّة. وقد امتدح في كلّ كتبه وألواحه أولئك الثّابتين على الميثاق وعنّف من هم على غير ذلك، إذ تفضّل حضرته قائلاً اجتنبوا المزعزعين في الميثاق. والله مؤيّد للثّابتين. وفي مناجاة له يتفضّل بقوله اللّهمّ بارك الثّابتين على الميثاق، واخذل المرجفين. أي ربّ انصر من نصر مركز العهد والميثاق، وأيّد من أقبل إليه. وكثير من البيانات موجّهة إلى ناقضي العهد والميثاق، والغرض من ذلك هو ألاّ يحدث اختلاف في هذا الأمر المبارك؛ وألاّ يقول أحد ‘هذا ما أراه’؛ وأن يعرف الكلّ من هو المفسّر المعتمد ويدركوا أنّ ما يقوله هو الصّواب. فلم يترك حضرة بهاء الله أيّ مجال محتمل للاختلاف. هناك بطبيعة الحال بعض المعاندين، والبعض الآخر ممّن يتّبعون أهواءهم النّفسيّة، وهناك غيرهم ممّن يتشبّثون بأفكارهم، بل وهناك البعض ممّن يبغون إحداث الاختلاف والشّقاق في أمر الله. فمثلاً كان يهوذا الإسخريوطيّ من بين الحواريّين، ولكنّه خان حضرة المسيح. وهي أمور حدثت في الماضي، إلاّ أنّ الجمال المبارك أعلن في يومنا هذا قائلاً: إنّ هذا الشّخص هو المفسّر والمبيّن لكتابي وعلى الكلّ أن يتوجّهوا إليه. والغرض من ذلك هو درء الانقسام والاختلاف عن أتباعه. ولكن، مع وجود هذه الحماية والتّدابير الّتي تدرأ الاختلاف، هناك ثمّة نفوس هنا في أمريكا وبضعة أخرى في عكّاء ممّن نقضوا هذا الأمر الواضح المبين. ولم تسفر مساعي هؤلاء النّاقضين عن شيء زهاء عشرين سنة. فهل حقّقوا شيئًا هنا في شيكاغو؟ غير أنّه يتعيّن على الأحبّاء هنا أن يكونوا مثل أحبّاء سان فرانسيسكو. فبمجرّد إحساسهم بأقلّ خروج على الميثاق من أيّ شخص فليقولوا له ‘إبتعد عنّا! لا يحقّ لك معاشرتنا.’

(2) 1 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّدة كورين ترو،
5338 طريق كينمور، مدينة شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته جرترود بويكيما

إنّني راضٍ تمامًا عن كلّ واحد هنا في هذه الأمسية، وسعيدٌ جدًّا بلقائي أحبّاء الله وإماء الرّحمن. فالحمد لله! الوجوه منيرة والقلوب منجذبة إلى الملكوت الأبهى، والإيمان لائح على كلّ محيّا، وهذا مدعاة للفرح والسّرور. لقد تحمّل الجمال المبارك، حضرة بهاء الله، المصاعب والمشقّات زهاء خمسين سنة. فليس من محنة أو شدّة إلاّ وعاناها، بيد أنّه تحمّلها جميعًا بكلّ فرح وسرور.

كان كلّ من يرى حضرته يوقن بعظيم سروره، فلم يبدُ على محيّاه أيّ شائبة من حزن أو أسى، بل كان في سجنه كملك يتربّع على العرش بكلّ جلال وعظمة، وكان دائم التّصرّف بغاية الثّقة والهيبة. وعندما كان موظفو الحكومة وأكابرها يفدون إلى محضره، كانوا يظهرون الاحترام على الفور. كان جلاله وهيبته مثار العجب والدّهشة. تذكّروا أنّ حضرته كان سجينًا – أي كان حبيس السّجن. وأنّه قد تحمّل المحن والبلايا من أجل غرض واحد هو تنويرنا حتّى تنجذب أفئدتنا إلى ملكوت الله، وتستضيء وجوهنا ببشارات الله؛ وحتّى ننغمس في بحر الأنوار ونصير كالشّموع المضيئة الّتي تبدّد جنبات الظّلام، وتغمر الأصقاعَ توهّجًا. وعندما أنظر الآن من حولي أرى – ولله الحمد – وجوهكم مشرقة، وأفئدتكم عامرة بمحبّة الله، وأشاهدكم تفكّرون في خدمة أمر الله. ولذا فإنّني في غاية السّرور كوني هنا، وأرجو أن تظلّ هذه السّعادة تصاحبكم على الدّوام – أي أن يكون هذا هو حالكم إلى الأبد.

لقد زرنا سان فرانسيسكو ومنها قصدنا لوس أنجلوس. وألفينا في هذين المكانين أحبّاء في غاية الخلوص والتّكريس. فهم حقيقة من ذوي الهمّة ومشتعلون بنار محبّة الله، وهدفهم الأوحد هو خدمة الملكوت الأبهى في كلّ وقت. وأملي أن تخدموا أنتم بإخلاص أعظم، وتنالوا قصب السّبق على سائر الأحبّاء. عسى أن تشتعل نار محبّة الله في شيكاغو على شأن تشتعل منها كلّ مدن أمريكا. فهذا هو أملي.

إنّ زيارتي الثّالثة لكم إنّما تُفصح عن مدى اشتياقي لرؤيتكم ومقدار محبّتي لكم. فقد كان من المزمع أن أتوجّه من سان فرانسيسكو إلى نيويورك رأسًا ومنها إلى بلاد الشّرق؛ ولكنّني إذ كنت مدفوعًا بمحبّة غامرة، قصدت شيكاغو ثانية لأتواصل معكم بكلّ رَوْح وريحان. وأرجو أن تثمر هذه الزّيارات الثّلاث عن أعظم النّتائج فى المستقبل. وآمل أن تصبحوا جميعًا آيات التّوحيد، وأن يكون كلّ واحد منكم لواءً لحضرة بهاء الله، وأن يتلألأ كلّ واحد منكم تلألؤ النّجوم، ويصير كلّ فرد منكم عزيزًا وغاليًا في ملكوت الله. وأن تبلغوا في الرّوحانيّة شأنًا يحيّر النّاس فيقولون ‘إنّ هذه النّفوس لهي في حدّ ذاتها أدلّة على أحقّيّة حضرة بهاء الله، ذلك لأنّ أرواحهم قد تجدّدت بكاملها بيمن تربيته. إنّ هذه النّفوس لا نظير لها، فهم حقًّا أصحاب الملكوت، وهم مميّزون عمّا سواهم. وهذا في الحقيقة برهان من براهين حضرة بهاء الله. انظروا مقدار تربيتهم واستنارتهم.’

عندما ظهر هذا الأمر المبارك في بلاد الشّرق، كان الأحبّاء والمؤمنون في أقصى درجة من نكران الذّات، مضحّين بالنّفس والنّفيس. إنّها حقيقة مهمّة ومدهشة أنّ الحياة مع أنّها أثمن شيء في الوجود، إلاّ أنّ عشرين ألف نفس قد فدوا بأرواحهم طواعية في مشهد الفداء. وقد قُتِل في الآونة الآخيرة بمدينة يزد مائتان من الأحبّاء البهائيّين بكلّ قسوة ووحشيّة. فتوجّهوا إلى مكان الشّهادة وقد بلغوا من نشوة الانجذاب أقصاها، ناظرين إلى قاتليهم بابتسامات الفرح والامتنان. بل قدّم البعض منهم الحلوى لجلاّديهم، مخاطبينهم بقولهم ‘تذوّقوا منها لكي تمنحونا كأس الشّهادة المبارك بكلّ حلاوة ومتعة.’ وكان من بين تلك النّفوس المحبوبة المجيدة عدد من النّساء اللاّئي تعرّضن لأبشع أساليب القتل. فبعضهنّ قُطِّعت أجسادهنّ إرْبًا؛ ولمّا لم يقنع جلادوهنّ بهذا الفتك والتّنكيل، أشعلوا النّار في أجساد بعضهنّ لتأتي عليها بالكلّيّة. وطوال تلك المحن المروّعة لم تنبسْ نفس واحدة من الأحبّاء البهائيّين بكلمة اعتراض، أو تتفوّه بإنكار لعقيدتها. ولم يُبْدِ أيٌّ منهم مقاومةً رغم أنّ بهائيّي تلك المدينة كانوا من أشجع النّاس وأشدّهم بأسًا. وكان بمقدور واحد منهم، بقوّة جسمه وثباته وجَلَده، أن يتصدّى للعديد من أعدائهم، إلاّ أنّهم قبلوا الشّهادة بروح من التّفويض والتّسليم الكامل، ولفظ العديد منهم أنفاسهم وهم يصيحون: ‘ربّنا اغفر لهم لأنّهم لايعلمون ما يفعلون. إذ لو علموا لما اقترفوا هذا الإثم.’ فتلك النّفوس قد بذلت وهي في غمرات الشّهادة كلّ ما ملكت في هذه الحياة الدّنيا عن طيب خاطر.

لقد جاء في بعض النّبوءات أنّه عندما يظهر لواء الله في الشّرق، تتجلّى علاماته في الغرب. وهذه حقًّا من أطيب الأنباء والبشارات لكم. وأرجو أن يتحقّق بكم ذلك الوعد، وأن يكون بوسع الجميع أن يقرّوا بروح تلك النّبوءة وصدقها، قائلين: ‘لقد ظهر لواء الله حقًّا في الشّرق، وصارت علاماته لائحة في الغرب.’ وسيكون تحقّق النّبوءات هذا مصدر فرح عظيم لكلّ الأحبّاء في بلاد الشّرق الّذينهم يتطلّعون إلى أخبار سارّة، وينتظرون البشارات من أرض الغرب. فهم مشتاقون لسماع أنّ أحبّاء الغرب قد صاروا راسخين وثابتين، وأنّهم قد تميّزوا بتأسيس وحدة العالم الإنسانيّ، بل ضحّوا بحياتهم من أجل إرساء قواعد السّلام العالميّ، وأنّهم صاروا أنوارًا للملكوت، وأثبتوا أنّهم مظاهر الرّحمة الرّبّانيّة، وأنّ أحبّاء الغرب هم تجلّيات نِعَم الجمال المبارك وآلائه، وهم أنجم العطاء الإلهيّ ذاتها، وأنّهم سدرات وأزهار مباركة في روضة الطّهارة والتّقديس الرّحمانيّ. وكلّ خبر طيّب يخرج من هنا هو سبب سرور وحبور أحبّاء الشّرق، وعلّة امتنانهم العميق. فيقيمون عيدًا ويحمدون الله على خير البشارات. وإذا ما لزم الأمر سيبذلون أرواحهم فداء لكم دون أدنى تردّد. وأحبّاء الشّرق هم جميعًا مجتمعون على الاتّحاد والاتّفاق.

ليس هناك في الشّرق من يتذبذب، ولا مَن يعارض ميثاق الله. وليس هناك من نفس واحدة بين البهائيّين في إيران معارضة للميثاق، فهم ثابتون جميعًا. وإذا ما رغب شخص في التّحدّث عن هذا الأمر المبارك سيسألونه: ‘هل هذا كلامك، أم هو صادر عن يراعة مركز العهد والميثاق؟ فإذا كان ما لديك صادرًا عن مركز العهد والميثاق فقدّم الدّليل على ذلك. أين الخطاب الّذي أرسلك به؟ وأين الإمضاء الممهور به؟’ فإذا ما قدّم الخطاب قبلوه، وإذا ما أخفق ردّوا عليه بقولهم: ‘لن نقبل كلامك لأنّه لا يصدر إلاّ منك ولا يعود إلاّ إليك. وليس لدينا أمر من الجمال المبارك، حضرة بهاء الله، بأن نطيعك. فلقد أتانا بكتاب أبرم فيه معنا عهدًا بأن نطيع مركز العهد والميثاق المعتمد، ولم يعاهدنا على أن نطيعك. فمقولتك والحال كذلك مرفوضة. عليك تقديم الدّليل على أهليّتك ومصداقيّتك. لقد أُمرنا بالتّوجّه إلى مركز واحد لا سواه، ونحن لا نطيع مَراجعَ متعدّدة. لقد أبرم معنا الجمال المبارك ميثاقًا، ونحن متمسّكون بهذا العهد والميثاق، ولا نصغي لأيّ شيء سواه، لأنّه قد يظهر أشخاص يتكلّمون من أنفسهم، وأُمرنا بألاّ نعيرهم أيّ التفات.’

لم يكن الحال كذلك في الأدوار السّابقة. فلم يعيّن حضرة المسيح مثلاً مركزًا للمرجعيّة والتّفسير. ولم يقل لأتباعه أطيعوا من اخترتُه. ولكنّه سأل حواريّيه ذات مرّة قائلاً: وأنتم من تقولون إنّي أنا؟ فردّ سمعان بطرس قائلاً: أنت هو المسيح ابن الله الحيّ. وفي رغبة من حضرة المسيح لترسيخ إيمان بطرس قال: أنت بطرس، وعلى هذه الصّخرة أبني كنيستي. وكان يقصد بذلك أنّ إيمان بطرس كان هو الإيمان الحقيقيّ. أي أنّ ذلك كان تصديقًا على إيمان بطرس. ولكنّه لم يقل إنّ على الجميع أن يتوجّهوا إلى بطرس. فلم يقل حضرة المسيح عن بطرس: هذا هو الفرع الّذي انشعب من هذا الأصل القديم. كما أنّه لم يقل: اللّهمّ بارك كلّ من يخدمون بطرس. أي ربّ اخذل كلّ من عصاه. أَعْرِضوا عن كلّ ناقض للميثاق. أنت تعلم يا إلهيّ أنّي أحبّ كلّ ثابت على الميثاق. ولكنّ هذا كلّه نزل في كلّ كتب وآثار وألواح حضرة بهاء الله فيما يتعلّق بمركز العهد والميثاق المعيّن في هذا الدّور. فدور حضرة بهاء الله يتميّز إذًا عمّا عداه من الأدوار بهذه الحقيقة، وكان قصد حضرة بهاء الله ألاّ يتمكّن أحد من القيام على إحداث الخلافات والفرقة. لقد ظهر بعد رحيل حضرة المسيح العديد من الفرق والنّحل، ادّعت كلّ منها أنّها نهج المسيحيّة القويم، بيد أنّه لم يكن لأيّ منها تخويلٌ مكتوب من حضرة المسيح نفسه؛ ولم يكن بمقدور أيّ منها أن تأتي بدليل من حضرته؛ غير أنّها جميعًا ادّعت أنّ حضرة المسيح يصدّقها ويوافقها فيما ذهبت إليه. أمّا حضرة بهاء الله فقد كتب عهدًا وميثاقًا بخطّ يده، معلنا أنّ توجّه الجميع وطاعتهم تكون لمن عيّنه مركزًا لعهده وميثاقه. فالحمد لله إذًا على أنّ حضرة بهاء الله قد مدّ الصّراط المستقيم وأوضح كلّ الأمور بجلاء وفتح كلّ الأبواب لترقّي النّفوس. وليس هناك سبب لتردّد أحد. وكان الغرض من العهد والميثاق بكلّ بساطة هو درء الفُرقة والخلافات حتّى لا يقول أحد ‘إنّ رأيي هو الحقّ والصّواب.’

إنّ ما يراه مركز العهد والميثاق هو الصّواب، وليس هناك ذريعة لعصيان أيّ نفس. وعليكم أن تحذروا، فقد يكون بينكم ناقضون للميثاق، فلا تصغوا إليهم. اقرأوا كتاب العهد، ففيه أمرٌ للكلّ بإطاعة الميثاق، وأوّل الأوامر موجّه إلى أبناء حضرة بهاء الله، أي الأغصان: عليكم أن تتوجّهوا إلى مركز العهد والميثاق المعيّن؛ إنّه هو المبّين للكتاب.

فإذا ما نقضت نفس هذا الأمر وخرجت عليه صراحة، فهل يحقّ لها أن تدّعي بأنّها بهائيّة؟ وإذا ما عصى أحد صريح أمر حضرة المسيح، فهل يقول بكلّ صدق إنّه مسيحيّ؟

في الختام أقول إنّني مسرور جدًا بهذا اللّقاء، وسوف أدعو لكم طالبًا التّأييد من الجمال المبارك. والحمد لله! يجب أن تكونوا ممتنّين لأنّه اختاركم من بين أهل العالم، وأنّكم قد اختُصصتم بهذه الموهبة العظمى والأفضال والنّعم الّتي لا تتناهى. وعليكم ألاّ تلتفتوا إلى ما تمّ تحقيقه في الوقت الحالي، لأنّ ذلك ليس سوى البداية كما كان الحال في بدء زمن حضرة المسيح. وعمّا قريب سترون أنّكم قد صرتم مميّزين من بين كلّ النّاس. وسوف تحيطكم التّأييدات الإلهيّة من كلّ جانب، ويشرق محيّاكم بنور ملكوت حضرة بهاء الله. كونوا ممتنّين حقًّا لكلّ هذه البركات. وآمل أن أسمع عنكم طيّب الأخبار دائمًا، بما يفيد أنّ الأحبّاء في شيكاغو مشغولون بخدمة الأمر الإلهيّ، وتغمرهم فرحة ترويج الكلمة الإلهيّة، ومنهمكون في نشر تعاليم حضرة بهاء الله وإظهار المحبّة والشّفقة لكلّ البشر. هذا هو رجائي ومنائي. وأنا واثق من أنّكم ستجهدون لتحقيق ذلك، حتّى تغمر فرحة البشارات أحبّاء إيران وإيّاي. جعلكم الله سبب سرورنا وحبورنا، ومصدر اطمئناننا وراحة بالنا.

خطبة ألقاها حضرة عبد البهاء في سنسيناتي 5 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بفندق جراند هوتيل، بمدينة سنسيناتي، ولاية أوهايو

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

حيث إنّنا في سنسيناتي، موطن الرّئيس تافت[1] الّذي أسدى خدمة جليلة لقضيّة السّلام، سأقول كلمة في حقّ أهل سنسيناتي وشعب أمريكا عمومًا. لقد علمت وأنا في بلاد الشّرق أنّ في أمريكا الكثيرَ من محبّي السّلام. ولذا سافرت من موطني لأتعاشر هنا مع أولئك الّذين يحملون لواء الصّلح والوفاق العالميّ. وحيث إنّي تنقّلتُ في أمريكا من شاطئها الشّرقيّ إلى شاطئها الغربيّ، أجد أنّ الولايات المتّحدة شاسعة الأرجاء آخذة في الرّقيّ، وحكومتها عادلة منصفة، وأمّتها نبيلة مستقلّة. لقد حضرتُ العديد من اللّقاءات الّتي نوقشت فيها قضيّة السّلام العامّ، ودائمًا ما كانت تغمرني السّعادة بمشاهدة ما تسفر عنه تلك اللّقاءات من نتائج، ذلك لأنّ أحد أعظم تعاليم حضرة بهاء الله هو تأسيس الصّلح بين شعوب العالم. لقد أرسى حضرته قواعد هذا المبدأ في بلاد الشّرق منذ خمسين سنة، ونادى بالوحدة العالميّة، ودعى أديان العالم إلى الوفاق والوئام، وأرسى دعائم الألفة والمودّة بين العديد من الأجناس والمذاهب والطّوائف. كتب حضرته في تلك الآونة ألواحًا إلى ملوك العالم وحكّامه، دعاهم فيها إلى أن ينهضوا ويشاركوه في نشر هذه المبادئ، متفضّلاً بأنّ استقرار البشريّة ورقيّها لا يتحقّقان إلاّ باتّحاد الأمم. وبيمن جهوده ثبت عمليًّا مبدأ الوفاق والاتّفاق العموميّ هذا في إيران وبلاد أخرى. ففي إيران اليوم، على سبيل المثال، هناك أناس كثيرون ينتمون إلى أعراق وأديان مختلفة ممّن اتّبعوا نصائح حضرة بهاء الله وهم يتعايشون في محبّة وألفة دون أيّ تعصّب دينيّ أو قوميّ أو عرقيّ – من مسلمين ويهود ومسيحيّين وبوذيّين وزرادشتيّين وكثيرين غيرهم.

لقد نهضت أمريكا لنشر مبادئ السّلام وزيادة استنارة البشر ومنح السّعادة والرّخاء لبني الإنسان. وهذه مبادئ المدنيّة الإلهيّة وشواهدها. وأمريكا أمّة نبيلة، وهي حاملة لواء الصّلح في جميع أرجاء العالم، وهي أمّة تمنح الضّياء لكلّ الأصقاع. والأمم الأخرى ليست خالية ومتحرّرة من الدّسائس والتّعقيدات مثل الولايات المتّحدة؛ ولذا فإنّها عاجزة عن إحداث الوفاق العامّ. أمّا أمريكا، والحمد لله! فهي في سلام مع العالم أجمع وهي جديرة برفع لواء الإخاء والاتّفاق العموميّ. وعندما يتحقّق ذلك ستقبله باقي أمم العالم، فتنضمّ إليها جميع الأمم في تطبيق تعاليم حضرة بهاء الله المنزلة منذ أكثر من خمسين سنة. وفي ألواحه هذه طلب من برلمانات العالم أن توفد خيرة أعضائها وأكثرهم حكمة إلى مؤتمر عالميّ يضمّ جميع الدّول من أجل الفصل في كافّة المسائل القائمة بين الشّعوب وتأسيس السّلام العامّ. وسيكون ذلك بمثابة محكمة استئناف عليا. وبذلك يتحقّق قيام برلمان البشريّة الّذي طالما راود الشّعراء والمثاليّين في أحلامهم، وسيأتي بنتائج تفوق إنجازات محكمة لاهاي بمراحل.

إنّني في غاية الامتنان للرّئيس تافت كونه وجّه ما لديه من نفوذ وتأثير نحو تحقيق السّلام العامّ. وما أنجزه من إبرام معاهدات مع مختلف الأمم لهو جيّد جدًّا، ولكن عندما يكون لدينا هيئة برلمانيّة مشكّلة من أعضاء يمثّلون كافّة أمم الأرض ويكرّسون جهودهم لصيانة الوفاق والنّوايا الحسنة، عندئذ سيتحقّق حلم المدينة الفاضلة الّذي طالما تمنّاه الحكماء والشّعراء، ألا وهو برلمان البشريّة.

 

[1]        الرّئيس الأمريكيّ وليام تافت الّذي كان يحكم الولايات المتّحدة آنذاك.

 

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في واشنطن العاصمة (1) 6 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بكنيسة اليونيفرساليست،
تقاطع شارعيّ 13 وحرف لام شمال غرب، بواشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

الحمد لله أنّ راية الحرّيّة ترفرف عاليًا في هذا البلد. فها أنتم تتمتّعون بالحرّيّة السّياسيّة وتنعمون بحرّيّة الفكر والتّعبير، وبالحرّيّة الدّينيّة، والحرّيّة العرقيّة والفرديّة. وهو أمر جدّ جدير بالامتنان والشّكر. وبهذه المناسبة دعوني أكلّمكم عن الحرّيّة وكرم الضّيافة والتّرحيب العامّ الّذي نلته إبّان أسفاري الأخيرة في كافّة ربوع أمريكا. وأودّ أيضًا أن أبادل القسّ الطّبيب راعي هذه الكنيسة الموقّر كلّ التّحيّة الحارّة وروح المودّة الّتي أبداها لي، وهو الّذي يستحقّ، على وجه الخصوص، كلّ تقدير وإشادة بما لديه من إحساسات حُبيّة جيّاشة. ويجمل حقًّا بروّاد الفكر وقادته أن يحذوا حذوه في عطفه ومودّته. فاللّيبراليّة أمر جوهريّ في يومنا هذا – وهي تعني العدل والإنصاف تجاه كافّة الأمم والشّعوب. ولا يجمل بتوجّهات البشر أن تكون مقيّدة ومحدودة؛ لأنّ الله غير محدود، ومن كان خادمًا للعتبة الإلهيّة عليه أن يكون بالمثل حرًّا من أيّ قيود وحدود. فعالم الوجود هو انبعاث من صفة الرّحمانيّة الرّبّانيّة. أي أنّ الله سطع بإشراق الرّحمانيّة على كائنات الوجود، وهو رحيم وعطوف بخلقه أجمعين. فعلى عالم البشر إذًا أن يكون متلقّيًا دائمًا لأفضال جلاله، أي لأفضال الرّبّ الأبديّ، تمامًا كما تفضّل حضرة المسيح بقوله فكونوا أنتم كاملين كما أنّ أباكم الّذي في السّموات هو كامل. ولأنّ أفضال الله تتنزّل كضوء الشّمس وحرارتها في أصقاع الأرض على كافّة النّاس على حدّ سواء، كذلك على الإنسان أن يعي درس العطف والإحسان ويتعلّمه من ذات الله. وتمامًا كما يكون عطف الله على الإنسانيّة بأسرها، على الإنسان أن يكون عطوفًا على بني جنسه. فإذا ما صار رائده العدل والمحبّة تجاه أقرانه وسائر الخلق عندئذ يكون جديرًا حقًّا بأن يقال عنه إنّه على صورة الله ومثاله.

الأخوّة أو الإخاء على أنواع شتّى. فقد يكون ترابطًا أسريًّا، أي تلك العلاقة الحميمة بين أهل البيت الواحد. ولكنّ هذه محدودة وقابلة للتّغيّر والاختلال. فكثيرًا ما تنقلب محبّة الأسرة ووفاقها إلى عداوة وبغضاء. وهناك شكل آخر من أشكال الإخاء يتجلّى في المشاعر الوطنيّة. وهو أن يحبّ الإنسان أخاه الإنسان لأنّه ينتمي إلى تراب الوطن الواحد. وهذا أيضًا محدود وقابل للتّغيّر والتّفكّك، كما يحدث مثلاً أن يناصب أبناء الوطن الواحد بعضهم البعض العداء في حرب وسفك دماء وعراك. هناك أيضًا من صنوف الأخوّة أو الإخاء ما يتأتّى عن الوحدة العرقيّة، أي الأصل العرقيّ الواحد، بما يُحدِث روابطَ من التّعاطف والتّآلف. لتلك أيضًا حدودها وقابليّتها للتّغيير، فكثيرًا ما نرى حربًا ونزاعًا مريرًا ينشب بين أقوام وأمم العنصر العرقيّ الواحد. والنّوع الرّابع من الأخوّة هو موقف الإنسان وتوجّهه نحو البشريّة ذاتها، أي حبّ البشر المتّسم بنكران الذّات والإيثار، والإقرار بالرّابطة الإنسانيّة الجوهريّة. وعلى الرّغم من أنّ هذه الرّابطة غير محدودة، غير أنّها في الوقت ذاته معرّضة للتّغيير والزّوال. بمعنى أنّه لا يظهر حتّى من هذه الرّابطة الأخوّيّة العموميّة ما يُرجى من نتائج. فما هي تلك النّتائج المرجوّة؟ هي التّعاطف بين كافّة المخلوقات الإنسانيّة، والأخوّة الّتي لا تنفصم عراها، والّتي تشتمل على كلّ السّنوحات والدّلالات الرّبّانيّة المودعة في النّوع الإنسانيّ. فيتّضح إذًا أنّ الأخوّة والمحبّة والشّفقة المرتكنة إلى العائلة أو الوطن أو العرق أو مشاعر الإثرة ليست بالكافية ولا هي بالدّائمة طالما أنّها جميعًا محدودة ومقيّدة وعرضة للتّغيير والانفكاك. ذلك لأنّ الخلاف والتّباعد موجودان في الأسرة؛ والنّزاع والاقتتال الدّاخليّ مشهودان في الوطن الواحد؛ والعداوة والبغضاء متواترتان في العنصر العرقيّ الواحد؛ بل إنّ اختلاف وجهات النّظر ونقص الإخلاص المتجرّد بين أنصار نكران الذّات يعطي القليل من الأمل في وحدة بين بني البشر تكون دائمة لا تنفصم عراها.

لهذا فإنّ ربّ النّاس قد أرسل مظاهره المقدّسة الإلهيّة إلى العالم، وأنزل كتبه السّماويّة من أجل تأسيس الأخوّة الرّوحانيّة، وبيمن قوّة الرّوح القدس جعل تحقيق الإخاء التّامّ المتقن بين البشر أمرًا ممكنًا. عندما يتأسّس هذا الإخاء والوفاق الكامل بين النّاس بفضل نفثات الرّوح القدس، تنشأ وحدة لا تقبل الانفكاك، وحدة لا تتغيّر ولا تتبدّل، وذلك لكون ذلك الإخاء والمحبّة روحانيّين في طبيعتهما، ولكون تلك الشّفقة شفقة سماويّة، وتلك الأواصر أواصرَ ربّانيّة. ودائمًا ما كانت وستظلّ وحدة واحدة لا تتغيّر. فانظروا مثلاً صَرْحَ الإخاء الّذي شيّد حضرة المسيح قواعده. لاحظوا كم كان ذلك الإخاء سببًا في الاتّحاد والاتّفاق، وكيف أتى بمختلف النّفوس إلى مضمار سَبْقٍ موحّد، حيث كانوا مستعدّين للتّضحية بحياتهم في سبيل بعضهم البعض وقبلوا بالتّخلّي عمّا لديهم من متاع الدّنيا وصاروا مستعدّين للفداء بحياتهم ذاتها بكلّ فرح وسرور. ولقد تعايشوا بمثل تلك المحبّة والألفة بدرجة أنّ جالينوس، حكيم اليونان الشّهير الّذي لم يكن مسيحيًّا، قد كتب في رسالته المسمّاة ترقّي الأمم يقول إنّ المعتقدات الدّينيّة تؤدّي بدرجة كبيرة إلى تأسيس حضارة حقيقيّة. وكدليل على ذلك قال: ‘هناك بين ظهرانينا ثمّة نفر من النّاس يقال لهم المسيحيّون. وينعم هؤلاء بقدر رفيع من التّمدّن الخُلُقيّ. وكلّ واحد منهم هو فيلسوف عظيم لأنّهم يتعايشون بعظيم المحبّة وكامل الألفة. وهم يضحّون بأرواحهم من أجل بعضهم البعض. ويبذلون كلّ ممتلكاتهم الدّنيويّة لبعضهم البعض. ولكم أن تقولوا إنّ الشّعب المسيحيّ هو بمثابة نفس واحدة. وتجمعهم رابطة تمتاز بأنّها لا تنفصم عراها.’

فيتبيّن إذًا أنّ أساس الإخاء الحقيقيّ، وسبب التّراحم والتّواصل، وعلّة الشّفقة الحقّة والتّفاني، ما هي إلاّ نفثات الرّوح القدس. وبغير هذا الدّافع والحافز يكون ذلك مستحيلاً. وقد يكون بمقدورنا أن نحقِّق قَدْرًا مّا من الإخاء بواسطة دوافع أخرى، ولكنّها تبقى أواصرَ محدودةً تقبل التّغيير والتّبديل. ولكن عندما تتأسّس الأخوّة الإنسانيّة على أساس من الرّوح القدس تكون أخوّة أبديّة لا تغيير فيها ولا حدود لها.

لقد جاء وقت على العديد من ربوع الشّرق بدا فيه أنّ الأخوّة والشّفقة وسائر الصّفات الإنسانيّة الحميدة قد غابت واختفت. ولم يبقَ هناك شاهد على وجود أيّ إخاء قوميّ أو دينيّ أو عرقيّ؛ وإنّما سادها بدلاً عن ذلك ظروف من التّعصّب والكراهية والتّزمّت. وكان أتباع كلّ دين أعداء ألدّاء لأتباع الأديان الأخرى، وكانوا مفعمين بروح من العداء ومتعطّشين لسفك الدّماء. وما يجري في البلقان الآن من حرب يعطينا مثالاً مشابهًا لتلك الظّروف. فتأمّلوا في سفك الدّماء والوحشيّة والطّغيان البادي هناك حتّى في هذا القرن المستنير – فهي جميعها مبنيّة في الأصل على التّعصّب والخلاف الدّينيّ. وعلى الرّغم من أنّ الأمم المتحاربة في البلقان تنتمي إلى نفس الأعراق والأوطان، إلاّ أنّها في غاية الوحشيّة والقساوة نحو بعضها البعض. لقد سادت في إيرانَ في القرن التّاسع عشر مثلُ تلك الأحوال المؤسفة، وعمّ الظّلام والتّعصّب الجاهليّ، ولم تعد هناك مسحة من ألفة أو أخوّة بين الأعراق والأجناس، بل امتلأت القلوب على العكس من ذلك حقدًا وكراهية؛ وساد الظّلام والقتام في حياة وأحوال البشر في كلّ مكان. وفي زمان كهذا طلع حضرة بهاء الله عن الأفق الرّبّانيّ، مثلما تشرق الشّمس ببهائها، فسطع نور عظيم وسط ذلك الظّلام الحالك واليأس المستبدّيْن بعالم البشر. فأرسى حضرته أساس وحدة العالم الإنسانيّ، معلنًا أنّ البشر كالخراف وأنّ الله هو الرّاعي الحقيقيّ الحقّ، وأنّ ذلك الرّاعيّ واحد والنّاس أغنامه.

بما أنّ عالم البشر واحد، وبما أنّ الله عطوف بالكلّ سواء بسواء، فما السّبب إذًا في تلك القسوة والكراهية في العالم الإنسانيّ؟ فذاك الرّاعي الحقيقيّ يحبّ أغنامه كافّة ويسيّرهم في المروج والمراعي الخضراء ويربّيهم ويحميهم. فما هو إذًا أصل العداوة والتّنافر بين بني البشر؟ ومن أين هذا الخلاف والنّزاع؟ إن السّبب الحقيقيّ وراء ذلك هو نقص الاتّحاد والتّآلف الدّيني، ذلك لأنّنا نلفي في كلّ دين من الأديان العظيمة خرافات وتقاليد مذهبيّة عمياء، وفتاوى دينيّة ينساق وراءها النّاس بدلاً من أن تتّبع الأسس الرّبّانيّة، وهي جميعها باعثة على الفرقة والاختلاف بين البشر بدلاً من الوفاق والألفة. ونتيجة لهذا الاختلاف والتّباعد نشب النّزاع والبغضاء والاقتتال. وإذا ما تقصَّيْنا أصول الأديان الإلهيّة لوجدناها واحدة لا تغيير فيها أبدًا ولا تبديل. فمثلاً يشتمل كلّ دين من الأديان الإلهيّة على قسمين من الشّرائع أو الأحكام. يتعلّق القسم الأوّل منها بعالم الأخلاق والقواعد السّلوكيّة، وهذه هي الأحكام الجوهريّة. فهي تغرس وتوقظ معرفة الله ومحبّة الله ومحبّة الإنسانيّة وفضائل العالم الإنسانيّ وصفات الملكوت الرّبّانيّ، وهي الولادة الثّانية والبعث من عالم الطّبيعة. وهي تشكّل قسمًا واحدًا من الشّرع الإلهيّ يشارك فيه الجميع، ولا يخضع هذا القسم أبدًا لأيّ تغيير أو تبديل. ولطالما بقي هذا النّاموس الإلهيّ الجوهريّ دون أيّ تبديل أو تغيير منذ فجر الدّور الآدميّ إلى يومنا هذا. هذا هو أسّ أساس الدّين الإلهيّ.

يشتمل القسم الثّاني على شرائع وأنظمة تفي باحتياجات البشر وأحوالهم طبقًا لمقتضيات الزّمان والمكان. وهي أمور عارضة تخلو من أيّ أهميّة جوهريّة، وما كان يجدر أبدًا أن تكون علّةً ومصدرًا للخلاف بين البشر. ففي زمان حضرة موسى عليه السّلام، مثلاً، كان الطّلاق مباحًا طبقًا لمقتضيات ذلك الوقت. أمّا في دورة حضرة المسيح، حيث لم يكن الطّلاق موافقًا لمقتضيات الزّمان والظّروف، حرّمه يسوع المسيح. وكان تعدّد الزّوجات مباحًا في دورة حضرة موسى. ولكنّ المبرّرات الّتي سمحت به في السّابق لم يعد لها وجود في زمان حضرة المسيح؛ ولذا فقد حُرّم ذلك التّعدّد. وكان حضرة موسى يعيش في برّيّة صحراء سيناء؛ ولذا كانت أحكامه وأوامره مناسبة لتلك الظّروف. فكانت عقوبة السّرقة قطع يد إنسان. وأحكام من هذا القبيل كانت مناسبة لحياة البادية، ولكنّها لا تتماشى مع ظروف يومنا الحاضر. فأحكام كهذه تشكّل إذًا القسم الثّاني أو غير الجوهريّ من قسمي الأديان الإلهيّة وهو قسم غير ذي أهميّة، لأنّه يتعلّق بالمعاملات البشريّة الّتي دائمًا ما تتغيّر طبقًا لمقتضيات الزّمان والمكان. فالأسس الجوهريّة للأديان الإلهيّة هي إذًا واحدة. وبما أنّ هذه حقيقة واقعة فلماذا تنشب العداوة والنّزاع بين تلك الأديان؟ ولماذا تستمرّ تلك الكراهية والاقتتال والوحشيّة وسفك الدّماء؟ فهل ذلك أمر مسموح به ومُبرّر؟ لا سمح الله!

أحد المبادئ الجوهريّة في تعاليم حضرة بهاء الله هو أنّ الدّين يجب أن يكون سبب الاتّحاد والمحبّة بين العباد؛ وأنّ الدّين هو أسمى التّجلّيات الرّبّانيّة، وهو الحافز على الحياة، ومنبع شرف الإنسان، وباعث الوجود الأبديّ. فلا يقصد بالدّين أن يثير العداوة والكراهية، أو يكون علّة للظّلم والاعتساف. فإذا ما صار سببًا لعداء البشر ونزاعهم وتباعدهم، كان غياب الدّين أفضل من وجوده بكلّ تأكيد. فتعاليم الأديان مثل العلاج الّذي يهدف إلى شفاء البشريّة وإبرائها من الأسقام والعلل. فإذا لم يسفر العلاج عن شيء سوى التّشخيص والبحث العقيم في الأعراض، يكون من الأفضل تركُ هذا العلاج وإبطاله. ومن هذا المنطلق يكون في غياب الدّين على الأقلّ ثمّة تقدّم على الطّريق إلى الوحدة.

علاوة على ذلك، يجب أن يكون الدّين مطابقًا للعقل وموافقًا لاستنتاجات العلم. ذلك لأنّ الدّين والعقل والعلم كلّها حقائق، فيتعيّن إذًا علىها بوصفها ثلاث حقائق أن تتطابق وتتواءم. فأيّ مسألة دينيّة الطّابع يجب أن يقبلها العلم. أي أنّ على العلم أن يقرّ بصحّتها وعلى العقل أن يوافق عليها حتّى تكون باعثة على الثّقة. أمّا إذا كانت التّعاليم الدّينيّة تتعارض مع العلم والعقل تكون خرافة بغير شكّ. لقد وهبنا ربّ البشريّة مَلَكة العقل لكي نتبيّن بها حقائق الأشياء. فكيف يمكن للإنسان أن يقبل بحقّ أيّ مقولة لا تطابق تحليلات العقل أو أصول العلم؟ من المؤكّد أنّ مسلكًا كهذا لا يكون باعثًا على الثّقة والإيمان الصّادق لدى الإنسان.

تشتمل تعاليم حضرة بهاء الله على مبادئ عديدة؛ وما أقدّمه لكم ليس إلاّ نبذة منها. أحد هذه المبادئ يتعلّق بالمساواة بين الرّجال والنّساء، إذ أعلن حضرته أنّه بما أنّ الكلّ قد خلقوا على صورة الله الواحد ومثاله، فلا تمييز أو تفضيل لدى الله فيما يتعلّق بالجنس. ومن كان أطهر في القلب، وأغزر في العلم، وأسبق في العطف على عباد الله فهو الأقرب والأعزّ عند الله خالقنا، بصرف النّظر عن جنسه. هناك فروق جنسيّة في الممالك الدّنيا، أي في مملكتي الحيوان والنّبات، فيما يتعلّق بالوظيفة والتّركيب. فكلّ النّباتات والأشجار والحيوانات تخصع لذلك التّمييز في خلقتها، إلاّ أنّ مطلق المساواة يسودها جميعًا دونما أيّ تمييز فيما يتعلّق بالجنس. فلماذا يفرّق البشر إذًا في ما لا تلتفت إليه الممالك الأدنى؟ خاصّة عندما ندرك أنّ الذّكر والأنثى كليهما ينتميان إلى نفس المملكة والسّلالة؛ وأنّ كليهما أوراق شجرة واحدة وأمواج بحر واحد؟ إنّ التّفسير المنطقيّ الوحيد هو أنّ المرأة حرمت من مزايا التّعليم على قدم المساواة مع الرّجل. لأنّها لو نالت نفس فرص التّعليم والتّرقّي كالّتي حظي بها الرّجل فلا شكّ أنّها كانت ستبلغ نفس ما للرّجل من درجة ومكانة. وليس عند الله أيّ تمييز؛ فكلاهما واحد وكلاهما حائزان على نفس الدّرجة من الاستعداد. ولذا فإنّه بإتاحة الفرص والتّرقّي ستكون المرأة مستحقّة لنفس الامتيازات وستنالها. عندما مات يسوع المسيح على الصّليب، اضطرب من شاهد صلبه من الحواريّين وتزعزعوا. بل إنّ بطرس، أحد أعظم حواريّيه، أنكره ثلاث مرّات. فجمعتهم مريم المجدليّة وثبّتت إيمانهم قائلة: ‘لم الشّكّ، ولم الخوف؟ لماذا أنكرته يا بطرس؟ إنّ حضرة المسيح لم يصلب وحقيقة حضرة المسيح لا تزال حيّة باقية إلى الأبد. فليس لتلك الحقيقة الرّبّانيّة بداية أو نهاية، ولذا فليس هناك موت. وغاية ما هنالك هو أنّه لم يعانِ من الموت سوى جسد يسوع.’ وبالاختصار، كان لتلك المرأة الوحيدة الفريدة أكبر أثر في تبديل نفوس الحواريّين وجعلهم ثابتين. وهذا شاهد على قدرة غير عاديّة وصفات فائقة، وبرهان على أنّ المرأة نظير للرّجل ومكمّلة له. ومن كانت تربيته وتعليمه أفضل وقدراته أعظم ومُثُلُه أسمى فهو الأكثر تميّزًا والأجدر، رجلاً كان أم امرأة.

لقد استضاء أفق الشّرق نورًا ومجدًا بيُمْن تعاليم حضرة بهاء الله. واليوم تتعايش تلك النّفوس الّتي لبّت نداءه وقبلت رسالته بكامل الألفة والمحبّة. بل إنّهم يضحّون بأرواحهم لبعضهم البعض ويعزفون عن متاع الدّنيا ويتخلّون عنه من أجل بعضهم البعض، مُؤْثِرًا كلّ منهم الآخر على نفسه. ويرجع ذلك إلى نداء وحدة العالم الإنسانيّ وتأسيسها. وتجري اليوم في إيران لقاءات ومحافل تمتزج وتختلط فيها النّفوس الّتي استنارت بتعاليم حضرة بهاء الله – وبينهم المسلمون والمسيحيّون واليهود والزّرادشتيّون والبوذيّون، وأهل مختلف مذاهب تلك الدّيانات – بألفة تامّة ووفاق صرف. ممّا أحدث بينهم إخاء ومحبّة رائعين، فاتّحدوا جميعًا بالرّوح وائتلفوا في خدمة السّلام العامّ. وضحّى أكثر من عشرين ألف بهائيّ بأرواحهم في ساحة الفداء والشّهادة لأمر الله. وقامت عليهم حكومات الشّرق عازمة على استئصال شأفتهم. فقُتلوا بغير هوادة، إلاّ أنّ أعدادهم وقوّتهم كانت تتعاظم يومًا بعد يوم، وكانوا يزدادون بلاغة وفصاحة. وازدادوا قوّة بفضل تأثير قوّة روحانيّة عجيبة. ولكن ما أفظع وأقسى وحشيّة الإنسان ضدّ أخيه الإنسان! لاحظوا ما يحدث الآن في البلقان، وكم من الدّماء تسفك. فحتّى الوحوش المفترسة والحيوانات الشّرسة نفسها لا ترتكب مثل هذه الأعمال. إذ إنّ أشدّ الذّئاب افتراسًا لا يقتل سوى خروف واحد في اليوم، بل إنّه يفعل ذلك من أجل طعامه. ولكنّ شخصًا واحدًا في البلقان اليوم يهلك عشرة من بني جنسه. ويتفاخر قادة الجيوش بأنّهم قتلوا عشرة آلاف نفس، لا من أجل الطّعام، وإنّما بغرض الهيمنة العسكريّة، والأطماع التّوسّعيّة، والشّهرة وامتلاك تراب الأرض. فهم يقتلون من أجل المطامع القوميّة، في حين إنّ هذا الكوكب الأرضيّ ما هو إلاّ عالم ظلمانيّ من أحطّ أنواع المادّة وأحقرها. فهو عالم الحزن والأسى، عالم خيبة الأمل والتّعاسة، وهو عالم الموت. فالأرض ما هي في النّهاية إلاّ مقبرة أبديّة، ومدفنٌ عامٌ فسيح للجنس البشريّ كلّه. بيد أنّ النّاس تتعارك من أجل امتلاك ذلك المدفن، منهمكين في الحرب والقتال، وسفك دماء بعضهم البعض. فيا له من جهل! وما أوسع الأرض بما فيها من متّسع يكفي الجميع! وما أرحم العناية الّتي قدّرت بذلك لكلّ نفس أن تُخرج رزقها منها! فلا يرضى الله خالقنا لأيّ نفس أن تتضوّر جوعًا أو أن تعيش في فاقة وعوز. فلكلّ نصيب من العطايا الإلهيّة المباركة السّخيّة. وكلّ الحروب وسفك الدّماء في عالم البشر راجع أساسًا إلى الافتقار إلى الوحدة والألفة بين الأديان الّتي حجبت الحقيقة الواحدة الّتي هي منبعها وأساسها جميعًا، وذلك بفعل الخرافات والتّمسّك بالعقائد المذهبيّة.

فيما يتعلّق بالشّعب الأمريكيّ: فإنّ هذه الأمّة المجيدة النّجيبة المدبّرة المتدبّرة لا تحرّكها دوافع المطامع الإقليميّة وهوى التّملّك. كما أنّ حدودها معزولة ومنفصلة جغرافيًّا عن سائر الأمم. ونرى هنا وحدة في المصالح واتّحادًا على سياسة قوميّة واحدة. فهناك ولايات متّحدة بمعنى الكلمة. ولذا فإنّ هذه الأمّة تمتلك القدرة والاستعداد لرفع لواء الصّلح العموميّ. وأدعو الله أن يكون هذا الشّعب المجيد سببًا لتوحيد البشريّة، وأن يعمل على إذاعة وإشاعة المدنيّة الإلهيّة والاستنارة الملكوتيّة، ويصير سبب انتشار محبّة الله، وينادي بتعاضد البشريّة ويكون علّة لهداية النّوع الإنسانيّ. ولذا أطلب منكم أن تعطوا هذه المسألة المهمّة شديد اعتباركم وجهدكم. وأدعو أن يجد العالم الإنسانيّ سلامًا واطمئنانًا، وأن يتحوّل هذا الكوكب الأرضيّ المظلم إلى ملكوت منير، وأن يتصافح الشّرق والغرب، وأن تتجلّى وحدانيّة الله وتنعكس بكمالها على أفئدة البشر، ويثبت الجنس البشريّ كلّه أنّه تجسيد النّعم الإلهيّة.

سيكون هناك حتمًا بين النّاس من هو غير كامل، ولكن من واجبنا أن نعينهم على بلوغ الكمال بأساليب إرشاد وتعليم تتّسم باللّطف والشّفقة. فقد نجد البعض ممّن يعانون مرضًا أخلاقيًّا؛ فيتوجّب علاجهم لكي يجدوا الشّفاء. كما يكون آخرون غير راشدين كالأطفال، فيجب تربيتهم وتعليمهم حتّى يصيروا راشدين عقلاء. وآخرون نائمون يجب إيقاظهم؛ وغيرُهم غافلون يجب تنبيههم وجذب اهتمامهم، بيد أنّ هذا كلّه يجب أن يجري بروح من العطف والمحبّة لا بالنّزاع والخصام أو بروح العداوة والبغضاء، فذلك مخالف لرضاء الله. وما هو المقبول عند الله هو المحبّة. فالمحبّة في حقيقة الأمر هي أوّل إشراق ربّانيّ وأعظم سناء إلهيّ.

يا ربّي الرّؤوف، أنت الكريم وأنت القدير. نحن عبادك قد آوينا إلى ظلّ عنايتك انظرنا بلحاظ فضلك وأنر أبصارنا وشنّف آذاننا واملأ قلوبنا بالمحبّة والعرفان. اشرح نفوسنا ببشاراتك. أي ربّ اهدنا سبيل ملكوتك وأحينا جميعًا بنفثات الرّوح القدس وامنحنا حياة أبديّة وأنلنا مجدًا سرمديًا. وحِّد البشر ونوّر العالم الإنسانيّ حتّى نسلك في منهجك القويم ونشتاق رضاءك ونلتمس أسرار ملكوتك. أي ربّ اجمعنا على الاتّحاد وألّف بين قلوبنا بعروتك الوثقى. إنّك أنت المعطي، إنّك أنت الرّؤوف، وإنّك أنت القدير.

 

(2) 7 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه،
1700 شمال غرب الشّارع الثّامن عشر، بواشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

انظروا إلى ما يحدث اليوم في البلقان، حيث تدور رحى حرب ضروس يراق فيها الكثير من الدّماء. والعالم الإنسانيّ كلّه تقريبًا يئنّ ويتألّم من تجدّد تلك الأحوال المأساويّة. وها هي حكومات قد دخلت في طور الانقلاب والتّبديل وأخذت هيمنة أمم الشّرق تتداعى، وباتت العواقب يلفّها غموض وقلق بالغ. لذا أرغب أن أحدّثكم في هذه المسألة.

سأُلفت اهتمامكم بشكل خاصّ إلى مظاهر وسمات هذه الحرب الّتي تنبّأ بها حضرة بهاء الله منذ أربعين سنة مضت بشكل تامّ وكامل. فقد وجّه حضرة بهاء الله، إبّان نفيه وعندما كان رهن الاعتقال في سجن عكّاء، رسالة إلى سلطان تركيّا. كما أرسل ألواحًا أخرى إلى نابليون الثّالث وشاه إيران. لقد جُمعت كلّ رسائله الموجّهة إلى ملوك الأرض ورؤسائها في كتاب تمّ طبعه منذ خمس وثلاثين سنة في بومباي بالهند، وصدرت طبعاتٌ عديدة لذلك الكتاب بعد ذلك.

لديّ نسخة من طبعة صدرت منذ اثنتين وعشرين سنة. إذ ألّف البروفسور إدوارد جرانفيل براون، الأستاذ في جامعة كامبردج بإنجلترا، في عام 1891 كتابًا يروي فيه تفاصيل زيارته لعكّاء. وأردفه بمجلّد ثانٍ ضمّنه مقتطفات من ألواح حضرة بهاء الله إلى الملوك والرّؤساء. وهناك أيضًا ترجمات لبعض هذه الألواح في مكتباتكم. فإذا ما حصلتم عليها يمكنكم قراءة تلك البيانات الشّهيرة الّتي صدرت عن حضرة بهاء الله.

وسأتلو عليكم من النّصّ العربي نفس الكلمات الّتي كتبها حضرة بهاء الله في خطابه إلى الصّدر الأعظم في تركيّا، وستتمّ ترجمتها لكم فوريًّا وأنا أقرأها.

أَنْ يا رَئِيسُ قَدِ ارْتَكَبْتَ ما يَنُوحُ بِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ فِي الجنَّةِ العُلْيا وَغَرَّتْكَ الدُّنْيا عَلَى شَأْنٍ أَعْرَضْتَ عَنِ الوَجْهِ الَّذِي بِنُورِهِ اسْتَضاءَ الملأُ الأَعْلَى فَسَوْفَ تَجِدُ نَفْسَكَ فِي خُسْرانٍ مُبِينٍ، وَاتَّحَدْتَ مَعَ رَئِيسِ العَجَمِ فِي ضُرِّي بَعْدَ الَّذِي جِئْتُكُمْ مِنْ مَطْلِعِ العَظَمَةِ وَالكِبْرِياءِ بِأَمْرٍ بِهِ قَرَّتْ عُيُونُ المُقَرَّبِينَ، تاللهِ هذا يَوْمٌ فِيهِ تَنْطِقُ النَّارُ فِي كُلِّ الأَشْياءِ قَدْ أَتَى مَحْبُوبُ العالَمِينَ، وَعِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الأَشْياءِ قامَ كَلِيمُ الأَمْرِ لإِصْغاءِ كَلِمَةِ رَبِّكَ العَزِيزِ العَلِيمِ… هَلْ ظَنَنْتَ أَنَّكَ تَقْدِرُ أَنْ تُطْفِئَ النَّارَ الّتي أَوْقَدَها اللهُ فِي الآفاقِ لا وَنَفْسِهِ الحَقِّ لو أَنْتَ مِنَ العارِفِينَ، بَلْ بِمَا فَعَلْتَ زَادَ لَهِيبُها وَاشْتِعالُها فَسَوْفَ يُحيطُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها، كَذلِكَ قُضِيَ الأَمْرُ وَلا يَقُومُ مَعَهُ حُكْمُ مَنْ فِي السّمواتِ وَالأَرَضِينَ.

فَسَوْفَ تُبَدَّلُ أَرْضُ السّرِّ وَما دُونَها وَتَخْرُجُ مِنْ يَدِ المَلِكِ وَيَظْهَرُ الزِّلْزالُ وَيَرْتَفِعُ العَوِيلُ وَيَظْهَرُ الفَسَادُ فِي الأَقْطارِ وَتَخْتَلِفُ الأُمُورُ بِما وَرَدَ عَلَى هؤِلاءِ الأُسَرَاءِ مِنْ جُنُودِ الظّالِمِينَ، وَيَتَغَيَّرُ الحُكْمُ وَيَشْتَدُّ الأَمْرُ عَلَى شَأْنٍ يَنُوحُ الكَثِيبُ فِي الهِضَابِ وَتَبْكِي الأَشْجَارُ فِي الجبالِ وَيَجْرِي الدَّمُ مِنْ كُلِّ الأَشْياءِ وَتَرى النَّاسَ فِي اضْطِرابٍ عَظِيمٍ… هَلْ الفِرْعَوْنُ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمْنَعَ اللهَ عَنْ سُلْطانِهِ إِذْ بَغَى فِي الأَرْضِ وَكَانَ مِنَ الطَّاغِينَ، إِنَّا أَظْهَرْنَا الكَلِيمَ (موسى) مِنْ بَيْتِهِ رَغْمًا لأَنْفِهِ إِنَّا كُنَّا قادِرِينَ، وَاذْكُرْ إِذْ أَوْقَدَ النَّمْرُودُ نارَ الشّرْكِ لِيَحْتَرِقَ بِها الخَلِيلُ (إبراهيم)، إِنَّا نَجَّيْنَاهُ بِالحَقِّ وَأَخَذْنَا النَّمْرُودَ بِقَهْرٍ مُبِينٍ، قُلْ إِنَّ مَلِكَ العَجَمِ قَتَلَ مَحْبُوبَ العالَمِينَ (الباب) لِيُطْفِئَ بِذلِكَ نُورَ اللهِ بَيْنَ ما سِواهُ وَيَمْنَعَ النَّاسَ عَنْ سَلْسَبِيلِ الحَيَوانِ فِي أَيَّامِ اللهِ العَزِيزِ الكَرِيمِ، وَقَدْ أَظْهَرْنَا الأَمْرَ فِي البِلادِ وَرَفَعْنا ذِكْرَهُ بَيْنَ المُوَحِّدِينَ. قُلْ قَدْ جَاءَ الغُلامُ لِيُحْيِي العَالَمَ وَيَتَّحِدَ مَنْ عَلَى الأَرْضِ كُلِّها فَسَوْفَ يَغْلِبُ ما أَرَادَ اللهُ وَتَرَى كُلَّ الأَرْضِ جَنَّةَ الأَبْهَى، كَذلِكَ رُقِمَ مِنْ قَلَمِ الأَمْرِ عَلَى لَوْحٍ قَوِيمٍ.

هناك العديد من النّبوءات الأخرى في هذا الكتاب، خاصّة في اللّوح الموجّه إلى شاه إيران، وهي نبوءات قد تحقّقت جميعها. ولأنّها مسهبة فلن يكون لدينا متّسع من الوقت لقراءتها.

المراد من هذه المقتطفات هو إظهار أنّ مهمّة حضرة بهاء الله العظيمة في الشّرق كانت توحيد بني البشر، ودفعهم إلى المصالحة والاتّفاق، بما يظهر وحدة العالم الإنسانيّ ويمهّد الطّريق إلى الصّلح العالميّ وإرساء دعائم السّعادة والخير. بيد أنّ الأمم لم تصغ لنداء حضرته ورسالته. فقامت حكومتا إيران وتركيّا ضدّ دعوته، وكانت النّتيجة تفكّك هاتين الحكومتين واندحارهما. فلو كانتا قد انتبهتا إلى وصاياه وأصغتا إلى نصائحه، لكان الحفظ والصّون من نصيبهما، ولكانتا قد نعمتا بالسّعادة والرّخاء، وارتبطتا بأواصر الألفة والإخاء، ولكان لهما نصيب من بديع نعماء المحبّة والاتّحاد، ولصار مقامهما بهيج جنّة الملكوت الإلهيّ. غير أنّه، ويا حسرتاه، قد أهملت نصائح وإرشادات الجمال المبارك وتمّ تجاهلها، وباتت الأمم منقادة إلى أهوائها وتصوراتها يومًا بعد يوم، إلى أن اشتعلت اليوم نيران الحرب هذه بغاية القسوة والضّراوة.

(3) 7 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه،
1700 شمال غرب الشّارع الثّامن عشر، بواشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

نشاهد الكائنات الحيّة في عالم الطّبيعة في صراع دائم من أجل البقاء. وتطالعنا من كلّ صوب شواهد تدلّ على البقاء المادّيّ للأصلح. وهذا هو عين منبع الخطأ وسوء الفهم في آراء ونظريّات من يخفقون في إدراك أنّ عالم الطّبيعة ناقص بالفطرة من حيث العلّة والمعلول، وأنّه من الواجب أن تُزال هذه العيوب بالتّربية. فانظر إلى الإنسان نفسه على سبيل المثال؛ فإذا ما بحثنا في المخلوقات الآدميّة مثل القبائل الأصليّة في أواسط إفريقيا ممن تربّوا في ظلّ انصياع كامل لقوانين الطّبيعة، لألفيناهم ناقصين بمعنى الكلمة. إذ هم محرومون من أيّ تربية دينيّة، ولا يبدو لديهم أيّ شاهد على تقدّم يُذكر نحو الحضارة. فقد نشأوا وتربّوا بكلّ بساطة في درجة فطريّة من البربريّة؛ نراهم متعطّشين للدّماء، مفتقدين إلى الأخلاق، حيوانيّي الطّبع بدرجة أنّهم يقتلون ويفتكون ببعضهم البعض. فيتّضح إذًا أنّ عالم الطّبيعة بمفرده يكون ناقصًا لأنّه حلبة يتجلّى فيها الصّراع من أجل البقاء المادّيّ.

فإذا ما تُركت قطعة من الأرض على حالتها الطّبيعيّة تنبت فيها الأعشاب البرّيّة الضّارّة والأشواك وشجر الأدغال. أمّا إذا ما فلحنا نفس هذه الأرض تكون النّتيجة تخلّصها من النّقائص الفطريّة وتحوّلها إلى روضة أو بستان من الأشجار المثمرة. وهذا دليل على أنّ عالم الطّبيعة ناقص. والقصد من بناء المدارس وتأسيس النّظم التّعليميّة في العالم هو استبدال النّقائص الفطريّة بالفضائل والكمالات. فإذا لم يكن هناك نقائص لما كانت هناك حاجة إلى التّعليم والتّهذيب والتّربية. ولكن بما أنّنا نلفي الأطفال في حاجة إلى التّدريب والتّعليم، يكون ذلك برهانًا قاطعًا على ضرورة التّرقّي بعالم الطّبيعة. وهناك أشياء كثيرة تدلّ على هذه الحقيقة بكلّ وضوح. وأهمّ هذه الدّلائل ظاهرة البقاء للأصلح في مملكة الحيوانات، وكذلك جهلها، وشهوانيّتها، وغرائزها ونزواتها الجامحة. لهذا تكون هناك حاجة في عالم الطّبيعة إلى مربٍّ ومعلّم لبني البشر. ويجب على ذلك المعلّم والمربّي أن يكون كلّيًّا في قدراته وأعماله. فالمعلّمون نوعان: معلّم كلّيّ ومعلّم خاصّ. والمعلّمون الكلّيّون هم أنبياء الله، أمّا المعلّمون الخاصّون فهم الفلاسفة. فالفلاسفة قادرون على تربية وتعليم لفيف محدود من البشر، بينما تهب المظاهر الإلهيّة المقدّسة تربية شاملة للإنسانيّة كلّها. فهم ينهضون لمنح التّربية الخُلُقيّة للبشريّة جمعاء. لقد كان حضرة موسى، على سبيل المثال، معلّمًا كلّيًّا؛ فربّى بني إسرائيل وهذّبهم، ومكّنهم من إنقاذ أنفسهم من وهدة اليأس والجهل، وجعلهم يبلغون درجة رفيعة من المعرفة والرّقيّ. وكانوا أُسارى وفي عبوديّة الرّقّ، فصاروا بفضله أحرارًا. وأتى بهم من مصر إلى الأرض المقدّسة وفتح لهم أبواب التّرقّي إلى مدنيّة أسمى وأعلى. وبفضل تربيته قام ذلك الشّعب الذّليل المقهور، عبيد وأسراء الفراعنة، بتشييد مجد ملك سليمان وسلطنته. فهذا مثال على المعلّم الكلّيّ والمربّي الكلّيّ. وبالمثل انظروا إلى حضرة المسيح، وكيف أنعم مظهر تلك الوحدانيّة المدهشة بالتّربية والتّهذيب الأخلاقيّ على أمم الرّومان واليونان ومصر والسّريان وآشور، وصهرهم معًا في شعب واحد بروابط دائمة وثيقة. لقد كانت تلك الأمم في السّابق في حالة دائمة من العداوة والخصومة، فوحّدها وألّف فيما بينها، وأنعم على الإنسانيّة بالطّمأنينة، وأرسى قواعد الخير للبشريّة في ربوع الدّنيا. فكان حضرة المسيح بالتّالي مربّيًا حقيقيًّا، ومعلّمًا للحقيقة.

إذا ما تدبّرنا الأحوال الّتي سادت في الشّرق قبل قيام النّبيّ العربيّ، لوجدنا أنّ ما ساد في ربوع شبه الجزيرة العربيّة كان ظلامًا حالكًا في العقول والأفهام، وما شاع بين أهلها كان أقصى درجات الجهل. كان أولئك البدو منهمكين في حرب لا تخمد أوارها؛ يقتلون ويسفكون الدّماء، يحرقون وينهبون ديار بعضهم البعض، ويعيشون في أقصى حالات الانحطاط والفجور. فكانوا أحطّ وأقسى من الحيوانات. فظهر حضرة محمّد بين أقوام كهذه نبيًّا من عند الله. فربّى تلك القبائل المتوحّشة، ورفعهم من حضيض الجهل والوحشيّة، ووضع حدًّا لما ساد بينهم من نزاع وكراهية دائمة، وأسّس الاتّفاق والوفاق فيما بينهم، ووحّدهم وعلّمهم أن يعدّوا بعضهم بعضًا إخوانًا. فازدادوا بفضل تربية حضرته مكانة وحضارة في وقت قصير. كانوا جهلاء فصاروا حكماء، وكانوا متوحّشين فنالوا دماثة الخُلق والتّحضّر، وكانوا منحطّين قساة، فسما بطباعهم ورقّاهم، وكانوا أذلاّء منبوذين، فذاعت وشاعت حضارتهم وشهرتهم في كلّ أنحاء الدّنيا. وهذا برهان كامل على أنّ حضرة محمّد كان مربّيًا ومعلّمًا.

في القرن التّاسع عشر ساد النّزاع والعداء بين أهل الشّرق، واتّسمت الأمم هناك بالكراهية والجهل. فكانوا في ظلام وقتام بمعنى الكلمة، غافلين عن الله وخاضعين لأحطّ النّزوات والشّهوات البشريّة، وكان الصّراع من أجل البقاء عارمًا وشاملاً. في ذلك الوقت ظهر حضرة بهاء الله بينهم كالنّيّر المتلألئ في السّماء. فأفاض بالنّور على الشّرق، ونادى بمبادئ وتعاليم جديدة، وأرسى قواعد نظم جديد هو عين روح التّمدّن، ونورٌ للعالم، ورقيٌّ للهيئة الاجتماعيّة، ومجدٌ أبديٌّ. وسرعان ما تخلّت النّفوس، الّتي أقبلت إلى تلك التّعاليم من بين مختلف أمم الشّرق، عن روح النّزاع والعداوة، وشرعت في المعاشرة بالرّوْح والرّيحان. وانتقلوا ممّا كانوا فيه من أدنى دركات العداوة، إلى ذروة المحبّة والإخاء. كانوا متحاربين متنازعين؛ فصاروا متحابّين يعيشون معًا بكامل الاتّحاد والاتّفاق. لا تجدون بينهم اليوم أيّ تعصّب دينيّ أو سياسيّ أو قوميّ، وهم متوادّون متحابّون يتعاشرون بغاية السّعادة. وليس لهم أيّ دور في الحرب والنّزاع الّذي يجري في الشّرق، ولا يضمرون سوى الخير والتّراحم للنّاس كافّة. لقد ارتفعت بينهم راية السّلام العامّ، واستفاضت نفوسهم من نور الهداية. وهذا نور على نور، ومحبّة على محبّة. هذه هي التّربية والتّنشئة الّتي أحدثها حضرة بهاء الله. فقد أخذ بيد هؤلاء النّفوس إلى هذا المستوى، ومنحهم تعاليمَ تضمن لهم الاستنارة السّرمديّة. وصار كلّ من أضحى متبحّرًا في تعاليمه يقول: ‘أشهد حقًّا أنّ هذه الكلمات هي نور الإنسانيّة، وأنّ هذا هو المجد الأزليّ، وأنّ هذه تعاليم إلهيّة، وأنّها سبب الحياة الأبديّة للبشر.’

 

 

(4) 8 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بالمعبد اليهوديّ، الشّارع الثّامن واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

الله واحد وإشراقه واحد، والبشر عباد ذلك الإله الواحد. والله رؤوف بالكلّ. هو الخالق والرّازق للكلّ، والكلّ في كنف حفظه وصونه. وشمس الحقيقة، الّتي هي كلمة الله، تسطع على البشر كافّة، ويُنزل الغمام الرّبّانيّ مطره الغالي، ويهبّ نسيم رحمة الله العليل، والإنسانيّة جمعاء مغمورة ببحر عدله وعطفه الأزليّين. لقد خلق الله البشر من نسل واحد لكي يتعاشروا بخالص الألفة ويتحابّوا ويحيوا معًا في اتّحاد وأخوّة.

أمّا نحن فقد تصرّفنا بما يخالف مشيئة الله ورضاءه. وصرنا علّة العداوة والانقسام. تباعدنا وقمنا في وجه بعضنا البعض في معارضة ونزاع. ما أكثر الحروب الّتي نشبت بين الأقوام والأمم والدّماء الّتي سفكت! وما دُمِّر من المدن والدّيار لا حصر له. كلّ هذا كان مخالفًا لرضاء الله، لأنّه سبحانه وتعالى أراد المحبّة للبشريّة. فهو الرّحمن الرّحيم بخلائقه أجمعين، وهو الّذي أمر بالتّآخي والتّآلف بين البشر.

إنّ أشدّ ما يدعو للأسف هو حالة الاختلاف والتّنافر الّتي أوجدناها فيما بيننا باسم الدّين، متخيّلين أنّ أسمى واجب في عقيدتنا الدّينيّة هو التّباعد والتّجافي وتحاشي بعضنا البعض واعتبار كلّ منا الآخر ملوّثًا بالضّلال والكفر. إنّ أسس الأديان الإلهيّة هي في الحقيقة واحدة ومتطابقة تمامًا، وما نشب بيننا من اختلافات إنّما مرجعها التّقليد الأعمى للمعتقدات المذهبيّة والتّشبّث بطقوس الأسلاف. فقد كان حضرة إبراهيم مؤسّسًا للحقيقة، وكذلك كان كلّ من حضرة موسى وحضرة المسيح وحضرة محمّد مظاهرًا للحقيقة. وكان حضرة بهاء الله بهاء الحقيقة. ليس هذا مجرّد ادّعاء، ذلك لأنّني سأبرهن على صحّة ما أقوله.

دعوني أطلب منكم الانتباه جيّدًا وأنتم تأخذون هذه المسألة في الاعتبار. إنّ الأديان الإلهيّة تحتوي على قسمين من الأحكام. أوّلها تلك الّتي تشكّل التّعاليم الجوهريّة أو الرّوحانيّة للكلمة الإلهيّة. وهي الإيمان بالله واكتساب الفضائل الّتي تميّز كمال الآدميّة والأخلاق الحميدة ونيل المواهب والفضائل الفائضة من الإشراقات الرّبّانيّة – وبالاختصار، تلك هي الأحكام المتعلّقة بعالم الأخلاق والسّلوك. هذا هو المظهر الأساسيّ للدّين الإلهيّ، وهو على أعلى قدر من الأهمّيّة، إذ إنّ عرفان الله هو الفريضة الأساسيّة للإنسان. فعلى الإنسان أن يدرك وحدانيّة الألوهيّة، وعليه أن يتوصّل إلى معرفة التّعاليم الإلهيّة والإقرار بها، ويوقن بأنّ ترقّي البشريّة في السّلوك والأخلاق معتمد على الدّين. وعليه أيضًا أن يتخلّص من كلّ النّقائص ويسعى إلى بلوغ الفضائل الملكوتيّة لكي يبرهن على أنّه صورة الله ومثاله. لقد جاء في الكتاب المقدّس قول الله: لنعملنّ إنسانًا على صورتنا ومثالنا. فمن الواضح أنّ الصّورة والمثال المعنيّين لا ينطبقان على رسم الإنسان وشكله، إذ إنّ حقيقة الألوهيّة ليست محدودة بأيّ رسم أو هيئة، بل المقصود بالأحرى هو صفات الله وأسماؤه الحسنى. فكما يقال عن الله أنّه عادل، فعلى الإنسان كذلك أن يكون عادلاً. وكما يكون الله محبًّا ورؤوفًا بالبشر كافّة، على الإنسان أيضًا أن يُظهر العطف على البشريّة بأسرها. وبما أنّ الله مخلص وصادق، فيتحتّم على الإنسان إذًا أن يُبدي نفس تلك الصّفات في العالم الإنسانيّ. وكما يعامل الله الجميع بالرّحمة، فعلى الإنسان أن يثبت أنّه مظهر الرّحمة. والخلاصة هي أنّ صورة الله ومثاله عبارة عن الفضائل الرّبّانيّة، وأنّ المطلوب من الإنسان هو أن يستفيض من إشراقات الصّفات الإلهيّة. هذا هو الأساس الجوهريّ لكافّة الأديان الإلهيّة، وهو عين الحقيقة، وهو واحد فيها جميعًا. هذا ما روّج له حضرة إبراهيم، ونادى به حضرة موسى، ورفع حضرة المسيح وسائر الأنبياء هذه الرّاية وذلك الجانب من الدّين الإلهيّ.

ثانيًا، هناك من الأحكام ما هو مؤقّت وغير جوهريّ. وهي تتعلّق بالمعاملات بين النّاس وعلاقاتهم ببعضهم البعض. وهي أحكام عارضة وعُرضة للتّغيير طبقًا لمقتضيات الزّمان والمكان. فهي ليست دائمة ولا جوهريّة؛ فمثلاً كان من الملائم في زمان حضرة نوح تحليل أكل الحيوانات البحريّة، ولهذا أمر الله نوحًا بتناول كافّة حيوانات البحار. ولكن في زمان حضرة موسى لم يكن ذلك موافقًا لمتطلّبات حياة بني إسرائيل، ولذلك نزلت أحكام أخرى تنسخ بعضًا من شريعة تحليل أكل الحيوانات البحريّة. كما أنّه في زمان حضرة إبراهيم عليه السّلام كان لبن النّياق طعامًا حلالاً طيّبًا، كما كان لحم الجمل كذلك؛ ولكن في زمان حضرة يعقوب، وبالنّظر إلى عهدٍ قطعه على نفسه، صار ذلك محرّمًا. فهذه شرائع وقتيّة وغير أساسيّة. فهناك أحكام في الكتاب المقدّس كانت طبقًا لتلك الأزمنة الماضية هي روح ذلك العصر ونور ذلك الأوان. فمثلاً، وطبقًا لشريعة التّوراة، إذا ما سرق إنسان مبلغًا من المال، كانت تقطع يده. فهل من العمليّ والمعقول في اليوم الحاضر أن تقطع يد إنسان من أجل سرقة دولار واحد؟ كما أنّ في التّوراة عشرة أحكام بالقتل، فهل يمكن إجراؤها اليوم؟ كلاّ بكلّ تأكيد فقد تغيّرت الأزمنة. وطبقًا لصريح نصّ التّوراة فإنّه إذا ما غيّرت نفس حكم السّبت أو كسرته، أو إذا ما لمست نارًا يوم السّبت، فيجب أن تقتل. لقد أُبطل ذلك الحكم اليوم. كما أنّ التّوراة تنصّ على أنّه إذا ما وجّه أحد إلى أبيه كلمة سوء، تجرى عليه عقوبة الإعدام. فهل هذا قابل للتّطبيق الآن؟ كلاّ؛ لأنّ أحوال البشر قد تغيّرت. وعلى نفس المنوال، فرضت في زمان حضرة المسيح بعض الأحكام الجزئيّة ممّا كان موافقًا لتلك الآونة.

لقد أوضحنا إذًا، بما لا يدع مجالاً للشّكّ، أنّ أساس دين الله يظلّ دائمًا على حاله ولا يتبدّل، وهو ذلك الأساس الّذي يضمن تقدّم الهيئة الاجتماعيّة واستقرارها واستنارة البشريّة. ولطالما كان ذلك الأساس دائمًا سببًا للمحبّة والإنصاف بين العباد، والباعث على توطيد أواصر الألفة الصّادقة وتوحيد كافّة البشر، ذلك لأنّه أساس واحد لا يتغيّر ولا ينسخ أبدًا. أمّا الأحكام العارضة وغير الجوهريّة، من تلك الّتي تنظّم معاملات الهيئة الاجتماعيّة وشئون الحياة اليوميّة، فهي قابلة للتّغيير وعرضة للنّسخ.

دعوني أطرح سؤالاً: ما الهدف من النّبوّة، ولماذا أرسل الله الأنبياء؟ من الواضح أنّ الأنبياء هم المربّون للبشر والمعلّمون للجنس البشريّ. فهم يأتون لمنح البشريّة تربية عموميّة، ومن أجل تعليمها، ولانتشال الجنس البشريّ من وهدة اليأس والدّمار وتمكين الإنسان من بلوغ أوج الرّقيّ والمجد. فالنّاس في ظلام؛ ومن يُخرجهم إلى عالم النّور هم الأنبياء. والبشر هم في أشدّ حالة من النّقائص؛ ومن يمدّهم بالكمال هم الأنبياء. وما الغرض من رسالات النّبيّين إلاّ تربية العباد وهدايتهم. ولذا يتعيّن علينا أن نترقّب ونترصّد تلك الشّخصيّة المؤهّلة لذلك الدّور – بمعنى أنّ أيّ شخص يبرهن على أنّه مربٍّ للبشر ومعلّم الجنس البشريّ يكون بلا شكّ هو نبيّ عصره.

فلنتدبّر مثلاً الوقائع المتعلّقة بتاريخ حضرة موسى عليه السّلام. لقد سكن في مَدْيَنَ في زمان كان فيه بنو إسرائيل قيد الأسر والعبوديّة بأرض مصر، معرّضين لأشدّ صنوف الظّلم والاضطهاد. وكانوا أمّيّين جهلة يرزحون تحت وطأة أقسى المحن والتّجارب. وكانوا في حالة من العجز والضّعف بدرجة كان من المتعارف حيالها القول بأنّ قبطيًّا واحدًا بوسعه أن يغلب عشرة من السّبطيّين. في زمان وتحت ظروف قهريّة كهذه ظهر حضرة موسى، فأشرق بنور ملكوتيّ وأنقذ بني إسرائيل من نير العبوديّة لفرعون، وخلّصهم من قيد الأسر، وخرج بهم من أرض مصر إلى الأرض المقدّسة. لقد كانوا مشتّتين منكسرين؛ فوحّدهم وربّاهم، وأنعم عليهم بنعمة الحكمة والمعرفة. كانوا أرقّاء فجعلهم أمراء، وجهلاء فجعلهم علماء، ونقصاء فمكّنهم من بلوغ الكمال. والخلاصة، فقد أخرجهم ممّا كانوا فيه من الخيبة واليأس وأبلغهم السّبق في مضمار الثّقة والإقدام. فاشتهروا في ربوع الدّنيا القديمة إلى أن بلغوا في النّهاية مجد مُلك سليمان في ذروة حضارتهم الجديدة ومجدها. وبيمن إرشاد حضرة موسى وتعليمه صار أولئك العبيد والأرقّاء سادة بين الأمم. هم لم يشتهروا بتفوّقهم البدنيّ والعسكريّ فحسب، وإنّما طبّقت شهرتهم الآفاق في كلّ مدارج الفنون والآداب واللّطافة. بل إنّ مشاهير فلاسفة اليونان ارتحلوا إلى أورشليم للدّرس والتّحصيل على يد حكماء إسرائيل، وتلقّوا الكثير من دروس الفلسفة والحكمة. ومن بينهم كان سقراط الشّهير، وهو الّذي زار الأرض المقدّسة ودرس مع أنبياء بني إسرائيل، ونال مبادئ تعليمهم الفلسفيّ ومعارف رقيّهم الأدبيّ والعلميّ. وعندما عاد سقراط إلى اليونان أسّس مذهبه المعروف بوحدانيّة الله. فقام اليونان ضدّه وأُجبر أخيرًا على تجرّع السّمّ في حضرة مليكهم. كما جلس أبقراط وكثير غيره من حكماء اليونان تحت أقدام أحبار بني إسرائيل، ونهلوا من شروحهم في الحكمة والحقيقة الباطنيّة.

بالنّظر إلى أنّ حضرة موسى بيمن نفوذ رسالته العظيمة كان السّبب في تخليص بني إسرائيل من وهدة الذّلّ والهوان، وتمكينهم على كرسي المجد والعزّة، وتهذيبهم وتربيتهم، فيتعيّن علينا إذًا أن نصل إلى حكم عادل وسديد في حقّ هذا المعلِّم البديع لأنّه كان وحيدًا فريدًا في هذا الإنجاز العظيم. وهل كان من الممكن له أن يُحدث هذا التّحوّل ويأتي بهذه الحالة وسط ذلك القوم بغير عون وتأييد من قوّة ملكوتيّة؟ وهل كان بوسعه أن يحوّل شعبًا من الذّلّة إلى العزّة دونما تأييد قدسيّ إلهيّ؟

لم يكن بوسع شيء سوى القوّة الرّبّانيّة أن تحقّق ذلك، وفي هذا دليل على النّبوّة، إذ إنّ مهمّة النّبيّ هي تربية الجنس البشريّ كما فعلت تلك الشّخصيّة، مثبتة أنّها من ذوي العزم من الأنبياء، وأنّ كتابها هو عين كتاب الله. وهذا برهان عقليّ دامغ كامل.

الخلاصة، إنّ حضرة موسى عليه السّلام قد أسّس شريعة الله، وطهّر أخلاق بني إسرائيل وأعطاهم حافزًا نحو إنجازات أسمى وأنبل. بيد أنّه بعد رحيل حضرة موسى، وفي أعقاب أفول مجد مُلك سليمان، طرأ تغيير شديد على تلك الأمّة إبّان حكم يربعام. إذ تلاشت المُثل الخلقيّة السّامية والكمالات الرّوحانيّة، وفسدت الأحوال والأخلاق وانحطت الدّيانة وغشت الخرافات وعبادة الأوثان على ما جاء به حضرة موسى في شريعته من مبادئ مُثلى. ونشبت الحرب والنّزاع بين الأسباط وتبدّدت وحدتها. وادّعى أتباع يربعام أحقّيّتهم في الخلافة الملكيّة، بينما ادّعى مؤيّدو رحبعام نفس الشّيء. فتفرّقت الأسباط وتشرذمت في النّهاية بفعل العداوة والبغضاء، وأفل مجد بني إسرائيل. بل لقد كان الاندحار باتًّا بدرجة أنّ أهل صور صنعوا عجلاً من الذّهب ليعبدوه. وهنا أرسل الله نبيّه إيليّا فخلّص الشّعب وجدّد الشّريعة وأتى بعهد من حياة جديدة لبني إسرائيل. ويطالعنا التّاريخ بحدوث تبدّل وتحوّل آخر لاحق عندما تبع تلك الوحدة والتّعاضد تفرّق آخر للأسباط؛ فقد غزا نبوخذ نصّر ملك بابل الأرض المقدّسة وسبا سبعين ألفًا من بني إسرائيل إلى أرض كلدان حيث حاقت النّكسات والمحن والويلات بذلك الشّعب التّعس. عندئذ تعهّد أنبياء الله الشّريعة مرّة ثانية بالإصلاح والاستحكام، فعاود الشّعب الذّليل اتّباعها، ممّا كان السّبب في تخليصهم من الأسر، وكان عودهم إلى المدينة المقدّسة بفرمان من كورش ملك الفرس. فأعيد بناء أورشليم وهيكل سليمان وأعيد لبني إسرائيل مجدهم. ولكن بعد زمن قصير انحطّت أخلاق الشّعب واشتدّت الأمور إلى أن استولى القائد الرّومانيّ طيطس على أورشليم وسوّاها بالأرض. واكتمل الخراب بالنّهب والسّلب، وصارت فلسطين أرضًا برّيّة قفرًا، وفرّ اليهود هربًا من الأرض المقدّسة، أرض الآباء والأجداد. وكانت علّة ذلك التّداعي والشّتات هي خروج بني إسرائيل على أسّ شريعة الله الّتي نزلت على حضرة موسى – أي بسبب بعدهم عن نيل الفضائل الرّبّانيّة والأخلاق والمحبّة ورقيّ الفنون والعلوم وروح وحدة الإنسانيّة.

أرجو منكم الآن أن تتأمّلوا بعضًا من الحقائق والمقولات الجديرة بالاعتبار. وغرضي ومرادي هو أن أزيل من قلوب العباد العداوة والكراهية الدّينيّة الّتي قيّدتها، وأن أجمع الأديان كافّة على الاتّفاق والاتّحاد. وبما أنّ تلك الكراهية والعداوة، وذلك التّعصّب وعدم التّسامح هو نتاج سوء الفهم، فإنّ حقيقة وحدانيّة الدّين سوف تتجلّى للأعين عندما يزول سوء الفهم هذا، إذ إنّ أساس الأديان الإلهيّة واحد. هذه هي وحدانيّة التّنزيل أو التّعليم. بيد أنّنا، ويا للأسف، قد أعرضنا عن ذلك الأساس، وتشبّثنا بشتّى الطّقوس والرّسوم المذهبيّة والتّقليد الأعمى لعقائد الأسلاف. هذا هو السّبب الحقيقيّ للعداوة والبغضاء وسفك الدّماء في العالم – أي سبب التّباعد والنّفور بين البشر. ولهذا فإنّني أودّ أن تكونوا بغاية العدل والإنصاف فى حكمكم على ما سأقوله الآن.

في الوقت الّذي كان فيه بنو إسرائيل تتقاذفهم وتنتابهم الأحوال الّتي ذكرتها، ظهر فيهم يسوع المسيح. كان يسوع النّاصريّ يهوديًّا، وكان بمفرده دون معين وحيدًا فريدًا، ولم يكن لديه من يساعده. فنبذه اليهود على الفور بوصفه عدوًّا لحضرة موسى واعتبروه محطّمًا لشريعة حضرة موسى وأحكامه. فلنفحص الحقائق كما هي، ولنتحرَّ الحقّ والحقيقة لكي نصل إلى رأي واستنتاج سليميْن. ولأجل أن نكوّن رأيًا سديدًا حيال هذه المسألة، يجب أن نطرح كلّ ما لدينا جانبًا ونتحرّى الحقيقة بكلّ استقلال. لقد أعلنت تلك الشّخصيّة، أي يسوع المسيح، أنّ حضرة موسى نبيّ من عند الله واعتبر حضرته أنّ كافّة أنبياء بني إسرائيل قد بعثوا من الله. وأعلن أنّ التّوراة هي عين كتاب الله، ودعا الكلّ إلى العمل بمقتضى مبادئها واتّباع تعاليمها. ومن الثّابت تاريخيًّا أنّ ملوك إسرائيل، خلال زمان دام ألف وخمسمائة سنة، قد عجزوا عن نشر الدّيانة اليهوديّة على نطاق واسع. بل إنّه خلال تلك الآونة كان اسم حضرة موسى وتاريخه محصورين داخل حدود فلسطين، ولم تكن التّوراة كتابًا شائعًا إلاّ في تلك الدّيار. بيد أنّه، بيمن حضرة المسيح وبفضل بركة العهد الجديد الّذي أتى به يسوع المسيح، تمّت ترجمة العهد القديم، أي التّوارة، إلى ستّمائة لغة مختلفة ونشرت في جميع أنحاء العالم. وبفضل المسيحيّة وصلت التّوراة إلى بلاد الفرس. ولم يكن لتلك البلاد أيّ علم عن كتاب كهذا من قبل، ولكنّ حضرة المسيح كان السّبب في نشره وقبوله. وبفضله ارتفع ذكر حضرة موسى وتقدّس اسمه. وكان لحضرته دور فعّال في شيوع صيت أنبياء بني إسرائيل وعظمتهم، وأثبت للعالم أنّ الإسرائيليّين هم شعب الله. فأيّ ملك من ملوك إسرائيل كان بمقدوره أن يقوم بذلك؟ وهل كان بإمكان الكتاب المقدّس، أي التّوراة، أن يصل إلى الأراضي الأمريكيّة هذه لولا يسوع المسيح؟ وهل كان لاسم حضرة موسى أن ينتشر في جميع أرجاء الدّنيا؟ ارجعوا إلى التّاريخ؛ فالكلّ يعلم أنّه عندما انتشرت المسيحيّة حدث انتشار مماثل في معرفة الدّين اليهوديّ والتّوراة، ولم يكن هناك في طول بلاد فارس وعرضها نسخة واحدة من العهد القديم إلى أن تسبّب دين يسوع المسيح في وجوده في كلّ مكان، بالدّرجة الّتي جعلت من الكتاب المقدّس كتابًا يقتنيه كلّ بيت في تلك الدّيار. يتّضح إذًا أنّ حضرة المسيح كان حبيبًا لحضرة موسى، وأنّه أحبّ حضرة موسى وآمن به، وإلاّ لما خلّد اسمه ونبوّته. وهذا أمر ثابت لا يحتاج إلى دليل. فمن الواجب بناء على ذلك أن يبدي المسيحيّون واليهود عظيم المحبّة لبعضهم البعض لأنّ مؤسسَيْ هاتين الدّيانتين العظيمتين كانا على كامل الوفاق في الكتاب والتّعليم، فمن الواجب على أتباعهما أن يكونوا كذلك.

لقد ذكرنا آنفًا تلك البراهين المثبتة للنّبوّة. وها نحن نجد نفس علامات صدق حضرة موسى مشهودة ومكرّرة في حضرة المسيح. فقد كان حضرة المسيح هو الآخر شخصيّة وحيدة فريدة مولودة من سلالة إسرائيل. واستطاع بنفوذ كلمته أن يوحّد شعوب أمم الرّومان واليونان والكلدان ومصر وآشور. وبعد أن كانوا قساة متعطّشين للدّماء متعادين ومتقاتلين وناهبين وآسرين بعضهم البعض، ألّف حضرته فيما بينهم بكامل أواصر الوحدة والمحبّة وجعلهم يتّفقون ويتصالحون. وكانت تلك الآثار العظيمة ناتجة عن ظهور نفس واحدة. وفي ذلك برهان دامغ على أنّ حضرة المسيح كان يتلقّى العون الإلهيّ. كما أنّ جميع المسيحيّين اليوم يعترفون بأنّ حضرة موسى كان نبيًّا من عند الله ويؤمنون بذلك، وينادون بأنّ كتابه كان كتابًا من عند الله، وأنّ أنبياء بني إسرائيل كانوا على حقّ وصدق، وأنّ شعب إسرائيل كان شعب الله. فأيّ ضرر لحق بهم من جرّاء ذلك؟ وما الضّرر الّذي يجلبه إقرار من اليهود بأنّ حضرة المسيح أيضًا كان مظهرًا لكلمة الله؟ فهل عانى المسيحيّون من جرّاء إيمانهم بحضرة موسى؟ وهل لحق بهم وهن في درجة إيمانهم أو عانوا من ضعف في عقيدتهم بمجرّد إعلانهم أنّ حضرة موسى كان نبيًّا من عند الله، وأنّ التّوراة كانت كتابًا من عند الله، وأنّ كافّة أنبياء بني إسرائيل كانوا أنبياء من عند الله؟ فالثّابت أنّه لا يتأتّى من ذلك أيّ خسارة. والآن قد حان لليهود أن يعلنوا أنّ حضرة المسيح كان كلمة الله، عندئذ تزول هذه العداوة الّتي نشبت بين دينين عظيمين. لقد دامت هذه العداوة والتّعصّب الدّينيّ زهاء ألفي سنة. فأريقت الدّماء، وذاق النّاس الويّلات. وسوف تكون هذه الكلمات القليلة ترياقًا لهذه الشّدّة وتوحيدًا لديانتين عظيمتين. فما الضّرر النّاجم عن هذا: وهو أنّه تمامًا كما يمجّد المسيحيّون اسم حضرة موسى ويمتدحونه، كذلك يجب على اليهود أن يحيوا ذكرى حضرة المسيح ويعتبرونه كلمة الله ويعدّونه واحدًا من رسل الله المختارين؟

الآن أقول بضع كلمات عن القرآن والمسلمين: عندما ظهر حضرة محمّد، تكلّم عن حضرة موسى كشخص عظيم من عند الله. ويشير في سبع مواضع مختلفة من القرآن الكريم إلى أقوال حضرة موسى، مناديًا به نبيًّا صاحب كتاب، ومؤسّسًا لشريعة الله وروحًا من عند الله. وتفضّل حضرة محمّد عن حضرة موسى أنّ من آمن به فهو مقبول عند الله، ومن أعرض عنه أو عن أيّ من أنبيائه فقد أعرض عن الله. بل إنّه في نهاية المطاف خاطب عشيرته قائلاً: لماذا أعرضتم عن حضرة موسى ولم تؤمنوا به؟ لماذا لم تعترفوا بالتّوراة؟ ولماذا لم تؤمنوا بأنبياء اليهود؟ وفي إحدى سور القرآن يذكر أسماء ثمانية وعشرين نبيًّا من أنبياء بني إسرائيل ويمتدحهم جميعًا. وعلى هذا القدر العظيم صدّق على أنبياء بني إسرائيل ودينهم وأثنى عليهم. وما أقصده هنا هو هذا: إنّ حضرة محمّد امتدح حضرة موسى ومجّده وأكّد على صحّة الدّين اليهوديّ وأعلن بأنّ من أنكر حضرة موسى فقد كفر ولن تقبل توبته حتّى وإن تاب. وعدّ أبناء عشيرته كفّارًا دنسين لأنّهم أنكروا الأنبياء، وأخبرهم: بما أنّكم لم تؤمنوا بحضرة المسيح ولم تؤمنوا بحضرة موسى ولا بالتّوراة والإنجيل فأنتم كفّار غير أطهار. وبهذه الكيفيّة امتدح حضرة محمّد كلاًّ من التّوراة وحضرة موسى وحضرة المسيح وأنبياء القبل. لقد ظهر حضرته بين العرب، وهم الّذين كانوا شعبًا بدويًّا جاهلاً، متوحّشين في الطّبع ومتعطّشين للدّماء، فهداهم وربّاهم إلى أن بلغوا درجة عالية من الرّقيّ. وبيمن تعليمه وتربيته لهم نهضوا من أسفل دركات الجهل إلى ذروة المعرفة، وصاروا من أساطين المعرفة والفلسفة. فيتّضح لنا إذًا أنّ ما ينطبق من هذه البراهين على أيّ من النّبيّين ينطبق أيضًا على غيره.

ختامًا، بما أنّ الأنبياء أنفسهم، وهم المؤسّسون لهذه الأديان، قد تحابّوا وامتدحوا وشهدوا لبعضهم البعض، فلماذا نختلف نحن ونتباعد؟ فالله واحد، وهو راعي الكلّ، وبما أنّنا نحن أغنامه فعلينا أن نحيا معًا في محبّة واتّحاد. وعلينا أن نُظهر روح الإنصاف والخير لبعضنا البعض. فهل نفعل ذلك أم أنّنا سنعارض ونكفّر ونمتدح أنفسنا ونلعن الآخرين؟ وأيّ خير قد نناله من مثل هذا الموقف والتّصرّف؟ كلاّ، بل لن يتأتّى من ذلك سوى العداوة والكراهية والظّلم وانعدام الإنسانيّة. ألم يكن هذا هو العلّة الكبرى لسفك الدّماء، والويل والمصيبة فيما مضى؟

الحمد لله أنّكم تعيشون في بلد تنعم بالحرّيّة وأنّكم مباركون بوجود رجال العلم بينكم ممن هم متبحّرون في دراسة الأديان المقارنة وأنّكم تدركون ضرورة الوحدة وتعلمون الضّرر الشّديد الحاصل من التّعصّب والخرافة. فدعوني أسألكم: أليست الألفة والإخاء أفضل من العداوة والبغضاء، أكان ذلك في المجتمع أو بين الجماعة؟ إنّ الإجابة عن هذا السّؤال واضحة. فهناك حاجة مطلقة إلى المحبّة والألفة لنيل رضاء الله الّذي هو غاية كلّ بلوغ إنسانيّ. علينا أن نتّحد وأن نحبّ بعضنا البعض. علينا أن نمدح بعضنا البعض. علينا أن نكيل الثّناء لكلّ النّاس، مزيلين بذلك الشّحناء والبغضاء الّتي هي سبب التّنافر والتّباعد بين النّاس. وإلاّ فإنّ أحوال الماضي ستظلّ كما هي، نمتدح أنفسنا ونلعن الآخرين؛ ولن يكون هناك نهاية للحروب بين أصحاب الأديان وسيتفاقم التّعصّب الدّينيّ الّذي هو السّبب الأوّل لهذا الخراب والمعاناة. علينا أن نتخلّى عن كلّ ذلك، والسّبيل هو تحرّي الحقيقة الماثلة في كلّ الأديان، ألا وهي محبّة الإنسانيّة. إذ إنّ الله واحد والبشر واحد، ودين الأنبياء الوحيد هو المحبّة والاتّحاد.

(5) 9 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه،
1700 شمال غرب الشّارع الثّامن عشر، بواشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

يبدو أنّ الخطبة الّتي ألقيت مساء الأمس في المعبد اليهوديّ قد أقلقت بعضًا من النّاس، بمن فيهم الحاخام المبجّل الّذي زارني عصر اليوم. فاسترجعنا سويًّا ما طُرح من نقاط، وهو ما سأعيده عليكم الآن من أجل استفادتكم.

لقد كان من غير الممكن جعل المسألة واضحة تمامًا للحاخام ليلة الأمس لأنّ وقته لم يكن يسمح له بذلك، أمّا اليوم فقد أتاحت الفرصة الوقت الكافي لإعادة النّظر في ما قلته بالتّفصيل. وأرجو أن تفهموها جيّدًا وتحفظوها لكي يمكنكم أن تتحاوروا مع اليهود، عسى أن يكون لكم دور فعّال في هدايتهم.

إنّ لبّ موضوعنا كان الآتي: ما هي المهمّة الّتي تناط بالنّبيّ وما الهدف من الشّريعة الإلهيّة؟ وجوابًا عن ذلك قلنا: ليس هناك شكّ في أنّ غرض الشّريعة الإلهيّة هو تربية النّفوس وتعليم البشريّة. ويمكن اعتبار كافّة البشر تلاميذًا أو أنّهم أطفال في حاجة إلى المربّي الرّبّانيّ، أي إلى معلّم حقيقيّ. فالمطلب الجوهريّ للنّبوّة وأهليّتها هو تربية النّفوس وهدايتها. ولذا سننظر أوّلاً إلى فاعليّة التّعاليم الّتي أتى بها من آمن بهم النّاس واتّبعوهم كأنبياء من عند الله. فيكون السّؤال الّذي يتعيّن الإجابة عنه هو: هل قام هؤلاء الأنبياء بتربية البشر؟ وهل أثبتوا أنّهم معلّمون ربّانيّون أكفّاء؟

من بين هؤلاء كان حضرة موسى، وألفيناه يبرز قائدًا لبني إسرائيل زمان عبوديّتهم وأَسْرِهم. كانوا بغاية الذّلّ والجهل والضّلال، يعيشون في أحطّ الأحوال بمصر في ظلّ ظروف حياة أسوأ من الموت نفسه. تصوّروا شعبًا جاهلاً، مدحورًا ومقهورًا، عاريًا عن كلّ فكر، غافلاً مظلم العقل، واقعًا في الأسر كالعبيد. فأرسل الله حضرة موسى لتخليصهم وتربيتهم. فهداهم وخرج بهم من العبوديّة إلى الأرض المقدّسة، ورفعهم من وهدة الجهل واليأس، وتعهّدهم بالتّربية لكي يخرجوا من حالة الذّلّ والهوان إلى حالة من الشّرف وعلوّ المكانة، ومكّنهم من نيل درجة عالية من الكمال. فصاروا متبحّرين في العلوم والفنون، وبلغوا شأوًا رفيعًا في التّمدّن، وصاروا ممجّدين ومبجّلين بين الأمم، والحال إنّهم كانوا في السّابق أذلاّء منبوذين. كانوا جهلاء فصاروا نجباء حتّى بلغوا في النّهاية فترة من الهيمنة والقوّة شُوهدت في عهد سليمان. وذاع صيتهم في أرجاء المعمورة، وأصبحوا محطّ التّقدير لفضائلهم وخصالهم المميّزة. بل إنّ فلاسفة اليونان قصدوا فلسطين لكي ينهلوا من معين حكمتهم ويجلسوا تحت أقدام حكمائهم. وتبرهن هذه الحقائق جميعها على أنّ حضرة موسى كان نبيًّا ومعلّمًا.

أمّا عن حضرة المسيح، فقد كان شخصًا وحيدًا فريدًا بسيطًا ظهر في زمان هبطت فيه الأمّة الإسرائيليّة من آفاق مجدها إلى أحطّ حالة من العبوديّة والاحتقار، واقعين تحت ظلم الإمبراطوريّة الرّومانيّة، يعيشون تحت نِير المذلّة والجهل والغفلة عن الله. وتؤكّد السّجلاّت التّاريخيّة للكتب المقدّسة هذه الحقائق. لقد ظهر حضرة المسيح – تلك الشّخصيّة الفريدة الوحيدة – بين ظهراني ذلك الشّعب المحتقر المُستَذَلّ، مبديًا قوّة ربّانيّة ونفوذًا للرّوح القدس. فوحّد مختلف شعوب الدّنيا وأممها، وجمعها على الألفة والوفاق، ولمّ شملها تحت الظّلّ الظّليل للكلمة الإلهيّة الواحدة. ولم ينحصر صيته وذكره في بني إسرائيل وحدهم، وهم الّذين كانوا في ذلك الزّمان سلالة وشعبًا قليلي العدد، وإنّما نفذت قوّته الرّوحيّة ووحّدت أممًا ذات نفوذ عظيم – أممًا كانت في السّابق متحاربة ومتعادية كالرّومان واليونان والمصريّين والكلدان، والسّريان، والآشوريّين. فبدّد عداوتها، وشفاها من علّة الكراهية، وجعل منها شعبًا متّحدًا، وبيمن كلمته أوجد بين تلك الأمم عظيم المحبّة بدرجة أنّهم ترقّوا بلا حدود في مراتب المعرفة والكمالات الإنسانيّة بالغين بذلك مجدًا أبديًّا.

لقد تبدّد اليهود وتفرّقوا أشتاتًا. ولكنّ ذلك الشّخص الوحيد الفريد تغلّب على كلّ ما كان معروفًا من العالم آنذاك، مؤسّسًا سلطنة أبديّة، وأمّة قويّة بمعنى الكلمة. فكانت تلك النّتيجة برهانًا على أنّه نفس عظيمة، وأنّه هو المربّي الأوّل في عصره، والمعلّم الأوّل في زمانه. فأيّ برهان أعظم من ذلك؟ وأيّ دليل أكثر إقناعًا من أنّ شخصًا واحدًا قد أحيا عددًا كهذا من الأمم والشّعوب، ووحّد كمًّا كهذا من القبائل والمذاهب، وأزال قدرًا كهذا من الجدال والكراهية؟ فلا شكّ أنّ هذا العمل لا يمكن أن يتحقّق إلاّ بيمن القوّة الإلهيّة لا بالجهد البشريّ العادّيّ الّذي يعجز تمامًا عن الإتيان بهذه النّتائج العظيمة.

عندما ظهر حضرة المسيح عدّه اليهود عدوًّا لحضرة موسى، وصرّح أحبار الفرّيسيّين في ذلك الزّمان أنّه مقوّض ناموس حضرة موسى وأحكام التّوراة، وأعلنوا أنّه سوف يجلب شقاوة عظيمة لشعب إسرائيل، وعدّوه منتهكًا لحرمة السّبت المقدّس وهادم هيكل سليمان. ولذا أعرضوا عنه. فدعونا نبحث في ذلك لنتبيّن ما إذا كانت تلك الاتّهامات حقيقة أم زيفًا. وسوف نجد أنّ حضرة المسيح كان في الحقيقة سببًا في ذيوع اسم حضرة موسى وصيته. وبفضل أعمال حضرة المسيح وتعليمه صار كتاب حضرة موسى – الكتاب المقدّس – معروفًا في كلّ مكان. ولزهاء خمسة عشر قرنًا لم تكن هناك سوى ترجمة واحدة للعهد القديم – أي أسفار التّوراة – وهي ترجمة كانت قد تمّت من العبرانيّة إلى اليونانيّة. بيد أنّه بيمن نفوذ رسالة المسيح وتعاليمه تمّت ترجمة التّوراة إلى ستّمائة لغة، وانتشرت في كلّ أرجاء المعمورة. كما أنّ كافّة ملوك إسرائيل وأنبيائها كانوا عاجزين عن ترويج تعاليم اليهوديّة والتّعريف باسم حضرة موسى لما وراء حدود فلسطين، بينما صارت اليهوديّة بفضل حضرة المسيح دينًا معترفًا به في آسيا وإفريقيا، وأوروبّا، وسائر الدّنيا على وجه العموم. وبفعل رسالة حضرة المسيح نودي في كلّ مكان بحضرة موسى نبيًّا من أنبياء الله وكتابه كتابًا من عند الله. فهل نعتبر تلك الشّخصيّة عدوًّا لحضرة موسى أم صديقًا له؟

وهنا يلزمنا الإنصاف؛ أي علينا أن نصدر حكمًا عادلاً بصدد هذه المسألة. فإذا ما كان حضرة المسيح عدوًّا لما سَمَحَ باسم حضرة موسى وتعاليمه أن تنتشر في الدّنيا، ولما رَوّج شريعة التّوراة ومبادئها. وهل كان هناك أيّ ذكر لحضرة موسى في أمريكا؟ بل هل كان ممكنا حتّى لاسم اليهوديّة أن يصل إلى هذا الجزء من العالم بفعل أيّ واسطة أخرى؟ لا شكّ أنّ اليهوديّة صار معترفًا بها في هذا العالم الغربيّ بفضل هذه الواسطة المباركة – الّتي هي المسيحيّة – وتأثيرها. وليس لحضرة موسى حبيب ونصير أفضل من حضرة المسيح. انظروا كم يُخفي الجهلاء من بني إسرائيل صدق هذه الحقائق ويستمرّون في ترويج الأراجيف بأنّ حضرة المسيح كان عدوًّا لحضرة موسى. فكلّ المسيحيّين يؤمنون بحضرة موسى ويعلنون أنّه كان رجلاً من عند الله وكليم الله ونبيّه وأنّ كتابه كتاب إلهيّ وأنّ شعب إسرائيل كان شعب الله وأنّ سائر أنبياء إسرائيل كانوا حقًّا وصدقًا. كما أنّ المسيحيّين يغدقون بالغ الإطراء وخالص الثّناء على دين حضرة موسى ويكنّون له محبّة لا حدود لها. فما الضّرر الّذي يتأتّى عن ذلك؟ وبالمثل إذا ما قال اليهود بأنّ حضرة المسيح كان أيضًا كلمة الله وروح الله، فأيّ أذى يمكن أن ينجم عن قولهم هذا؟ إنّ مجرّد قول تلك الكلمات القليلة سيكون كفيلاً بخلق الوفاق بين المسيحيّين واليهود. فالمسيحيّون يؤمنون بحضرة موسى وكتابه. فما الضّرر الّذي لحق بهم من جرّاء ذلك الاعتقاد؟ وهل خسروا شيئًا بسببه؟

لقد أجاب الحاخام على كلّ هذه التّساؤلات بالنّفي.

فواصلنا الحديث بسؤال آخر: ما الضّرر الّذي يمكن أن ينتج إذا ما سلك اليهود مسلكًا مماثلاً تجاه المسيحيّة، معلنين أنّ حضرة المسيح كان كلمة الله وأنّ الإنجيل كتاب من عند الله؟ فبمقدور تصرّف كهذا أن يزيل عداوة قرون عديدة. وإذا ما أعلنّا أنّ حضرة موسى كان نبيًّا من عند الله وأنّ كتابه كان شريعة إلهيّة فهل يخلّ هذا بمفهومنا في الدّين؟ أبدًا على الإطلاق. وفضلاً عن ذلك فإنّ كلّ أمّة تفخر بعظمائها وأبطالها حتّى ولو كانوا ملحدين أو لاأدريّين. ففرنسا اليوم تمجّد نابليون بونابارت قائلة ‘لقد كان عبقريّة حربيّة فرنسيّة’، بينما هو في الحقيقة طاغية. كما إنّهم يقولون ‘إنّ فولتير واحدٌ منّا’، على الرّغم من أنّ فولتير كان ملحدًا، أو ‘إنّ روسو من عظماء هذه الأمّة’ والحال إنّ روسو كان لادينيًّا. ففرنسا فخورة بهؤلاء العظماء، وتقام المآدب تمجيدًا لهم وتُخلَّد أسماؤهم في أيّام مخصوصة ويُعتزّ بذكراهم في أشهر الأماكن وتعزف الموسيقى وتقام الاحتفالات على شرفهم وتتفاخر بهم الأمّة. والآن، هل تعتبرون عظماء فرنسا هؤلاء أعظم من يسوع النّاصريّ؟ من الثّابت أنّهم لا شيء بالمقارنة بيسوع المسيح. انظروا إلى مجد حضرة المسيح وجلاله بالمقارنة مع هؤلاء النّاس الّذين ذكرناهم. تدبّروا أمره من حيث الصّيت والشّهرة. فأين مقامهم من مقام حضرة المسيح؟ وهل هناك وجه للمقارنة؟ فحضرة المسيح بلا نظير في حقيقة الأمر. فما الضّرر الّذي قد يأتي إذًا من قولكم بأنّ يسوع النّاصريّ كان رجلاً عظيمًا من أصل إسرائيليّ، وأنّنا بالنّظر إلى ذلك نحبّه؟ أو أنّنا قدّمنا للعالم رجلاً عظيمًا بمعنى الكلمة؟ أو أنّ هذا الّذي ذاعت كلمته في كلّ أرجاء المعمورة وقهر الشّرق والغرب كان إسرائيليًّا؟ ألا يحقّ لكم أن تفخروا به؟ بل كونوا مطمئنين من أنّكم إذا ما مجّدتم وعظّمتم ذكرى حضرة المسيح فإنّ المسيحيّين سيصافحونكم يدًا بيد بكلّ ألفة. وأنّ كلّ صعوبة وتردّد وحاجز سوف يتلاشى. فانظروا إلى المتاعب والاضطهادات الّتي انهالت عليكم في روسيا بسبب تعصّبكم العقائديّ، ولا تحسبوا أنّ ذلك هو آخرها.

إنّ هذه المذلّة سوف تستمرّ إلى الأبد. وقد يأتي زمان تقوم فيه أوروبّا ضد اليهود. ولكنّ إقراركم بأنّ حضرة المسيح كان كلمة الله سوف ينهي كلّ هذه المتاعب. ونصيحتي هي أنّه لكي تكونوا محترمين ومصانين وآمنين بين أمم العالم، ولكي يحبّكم المسيحيّون ويحفظون الشّعب الإسرائيليّ، عليكم أن تكونوا مستعدّين لإعلان إيمانكم بحضرة المسيح، كلمة الله. هذا هو قول الفصل ولا شيء سواه. أليس ما يحول بينكم وبين ذلك هو عدم التّفكير والجهل والتّعصّب؟ أعلنوا أنّ كلمة الله قد تجسّدت فيه حقًّا وسوف يكون كلّ شيء على ما يرام.

فقال الحاخام بعد تفكير وتأمّل: ‘أعتقد أنّ كلّ ما قلتموه صحيح تمامًا، ولكن لي مطلبًا عندكم: هلاّ أخبرتم المسيحيّين أن يحبّونا أكثر قليلاً؟’

فأجبناه ‘لقد نصحناهم وسنستمرّ في هذا.’

(6) 9 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه،
1700 شمال غرب الشّارع الثّامن عشر، بواشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

كلّ تركيب يخضع بالضّرورة للهلاك والتّفكّك. فهذه الزّهرة، مثلاً، هي تركيب عناصر مختلفة، وتفكّكها واقع لا محالة. وعندما يتعرّض ذلك الشّكل المركّب للتّحلّل – بمعنى أن تتفرّق هذه العناصر وتتفكّك – يكون ذلك ما نُسمّيه موت الزّهرة. إذ بما أنّها مركّبة من عناصر مفردة ومن تجمّع كمّ من الذّرّات الخلويّة، فهي عرضة للتّحلّل. هذا هو موت الزّهرة. وبالمثل، فإنّ جسم الإنسان مركّب من عناصر مختلفة، وفي هذا التّكوين العنصريّ سرت الحياة، وعندما تتحلّل تلك العناصر تختفي الحياة، وهذا هو الموت. فالوجود في مختلف المستويات أو الممالك يدلّ على التّركيب، أمّا العدم أو الموت فهو التّفكّك والتّحلّل.

أمّا حقيقة الإنسان المعنويّة والجوهريّة فليست مركّبة من عناصر، ولا يمكن لها بالتّالي أن تتفكّك. فهي ليست تركيبًا عنصريًّا خاضعًا للتّحلّل أو الموت. هناك مبدأ علميّ أساسيّ يقول بأنّ العنصر نفسه لا يموت أبدًا ولا يمكن إفناؤه لأنّه مفرد غير مركب. ولذلك لا يتعرّض العنصر المفرد للتّحلّل.

دليل أو برهان آخر على أنّ حقيقة الإنسان غير قابلة للتّلف والهلاك هو أنّها لا تتأثّر بالتّغيّرات الّتي تطرأ على البدن. فتلك الأحوال المتغيّرة للتّركيب الجسمانيّ إنّما هي حتميّة ودائمة الحدوث. فتارة تكون الأحوال عاديّة، وأخرى غير عاديّة. أي أنّها قد تكون أحيانًا ضعيفة وأخرى قويّة. كما أنّها قد تتعرّض للأذى؛ كأن تقطع اليد أو ينكسر السّاعد أو السّاق، أو تُفقأ العين، أو تصمّ الأذن، أو أن يعتري عضوًا من الأعضاء خللٌ ما، بيد أنّ تلك التّغيّرات لا تؤثّر في الرّوح البشريّة، أي نفس الإنسان. فإذا ما سَمِن البدن أو نحف، أو هزَل أو تقوّى فلا تتأثّر الرّوح أو النّفس بذلك. وإذا ما تلف جزء من أجزاء الكيان البدنيّ، أو حتّى لو قطع بالكامل، تظلّ الرّوح تعمل مُظهِرة أنّ أيّ تغييرات في البدن لا تؤثّر على عملها. لقد عرفنا أنّ الموت والهلاك مرادفان للتّغيّر والتّفكّك. وبما أنّنا لا نرى الرّوح تتأثّر بهذا التّغيير والتّحلّل البدنيّ، نكون قد أثبتنا أنّها خالدة، ذلك لأنّ كلّ متغيّر عارضٌ وزائلٌ.

فضلاً عن ذلك فإنّ هذه الرّوح الإنسانيّة الخالدة قد أعطيت وسيلتين للإدراك، إحداهما تعمل من خلال الوسائط، والأخرى تعمل باستقلال. فمثلاً ترى الرّوح بواسطة العين، وتسمع بالأذن، وتشمّ بالأنف، وتمسك الأشياء باليدين. هذه هي تصرّفات الرّوح أو عملها من خلال الوسائط. أمّا في عالم الأحلام فإنّ الرّوح تُبصر بينما تكون العين مغمضة، ويبدو على المرء الموات ويكون راقدًا بلا حراك؛ وبينما لا تسمع أذناه يسمع أصواتا في المنام. وقد يكون البدن راقدًا في الفراش، إلاّ أنّه – أي روحه – تسافر وتشاهد وتتأمّل، وذلك حين تكون كافّة وسائط الجسد خاملة وتبدو كلّ وظائفه عاطلة. وعلى الرّغم من هذا يكون هناك إحساس فوريّ يقظ من جانب الرّوح ويكون هناك شعور بالانشراح، فتسافر الرّوح وتدرك وتشعر. وغالبًا ما يحدث أن يكون المرء في حالة اليقظة عاجزًا عن إيجاد حلّ لمسألة من المسائل، ولكنّه عندما يخلد إلى النّوم يصل إلى ذلك الحلّ في منامه. وكم من مرّة يحدث فيها أن يحلم المرء، كما حلم الأنبياء، بالمستقبل ثمّ يتحقّق ما رآه حرفيًّا.

نفهم إذًا أنّ خلود الرّوح أو النّفس غير متوقّف أو مشروط بما يُدّعى من خلود للجسد، إذ إنّ الجسد في حالة خموله، أي أثناء سباته يكون كالميّت فاقدًا للوعي والإحساس، بينما تحوز الرّوح أو النّفس إدراكات وإحساسات وحركة وكشفًا، بل إنّ الإلهام والوحي يتأتّى منها. فكم من الأنبياء رأَوْا من عجائب الرّؤى عن مستقبل الأمور وهم في تلك الحالة! فالنّفس أو الرّوح الإنسانيّ هي الفارس وما البدن إلاّ الجواد. فإذا ما حاق بالجواد شيء لا يتأثّر به الفارس. ويمكن تشبيه النّفس بالنّور في المصباح، والجسد مجرّد زجاجة لذلك المصباح، فإذا ما انكسر الزّجاج بقي النّور على حاله، لأنّ النّور يبقى يضيء حتّى لو لم يكن هناك مصباح. والنّفس تتصرّف في أمورها دون البدن، وتكون في عالم الرّؤى تمامًا مثل النّور من دون هذه المشكاة. فهي تضيء بغير الزّجاج. أي بمقدور روح الإنسان أن تؤدّي وظائفها بواسطة هذا البدن، وبوسعها أيضًا أن تتصرّف من دونه. وإذا ما اعترى البدن إذًا أيّ تحلُّل فلا تتأثّر النّفس بتلك التّغيُّرات أو التّبدُّلات.

إنّها لحقيقة واضحة أنّ البدن لا يمارس وزن الأمور عقليًّا أو إعمال الفكر فيها. فهو ليس إلاّ واسطة لأفظع الأحاسيس وأدناها. فجسد الإنسان حيوان محض في نوعه، وهو كالحيوان يخضع فقط للحسّيّات الغثّة. وهو محروم تمامًا من التّفكير أو العقلانيّة، وعاجز بالكلّيّة عن إعمال العقل. فالحيوان يدرك ما تراه العين ويحكم على ما تسمعه الأذن. فهو يدرك بمقتضى حواسه الحيوانيّة، أي بما تشمّه أنفه ويتذوّقه لسانه، وليس له إدراك فيما يتخطّى دائرة الإدراكات الحسّيّة. والحيوان أسير مشاعره وإحساساته وسجين حواسه، أمّا عدا ذلك، أي فيما يختصّ بالعقلانيّة السّامية، فالسّبيل مسدود أمام الحيوان. فلا يمكن للحيوان مثلاً أن يتصوّر أنّ الأرض الّتي يقف عليها كرويّة الشّكل، ذلك لأنّ كرويّة الأرض من المسائل المعقولة فكريًّا وليست من المسائل الّتي تدرك بالحواس. ولا يسع أيّ حيوان في أوروبّا أن يتنبّأ باكتشاف أمريكا ويخطّط له كما فعل كولمبوس. ولا يمكن للحيوان أن يمسك بخريطة الأرض ويتصفّح القارّات قائلاً ‘بما أنّ هذا هو نصف الكرة الشّرقيّ، فلا بدّ أن يكون لها نصف آخر هو النّصف الغربيّ’، أي لا يكون بوسع أيّ حيوان أن يعرف هذه الأمور لأنّها ممّا يحال على الفكر والعقل. كما لا يكون بمقدور الحيوان أن يدرك حقيقة دوران الأرض وثبات الشّمس. فهذا استنتاج لا يتمّ إلاّ بإعمال العقل. أمّا العين الظّاهريّة فترى الشّمس كأنّها تدور وتحسب النّجوم والكواكب سيّارة حول الأرض. أمّا العقل فيحدّد أفلاكها، ويدرك أنّ الأرض هي الّتي تتحرّك وأنّ باقي العوالم ثابتة، ويعلم أنّ الشّمس هي المركز الشّمسيّ وأنّها تشغل دائمًا نفس المكان، ويثبت أنّ الأرض هي الّتي تدور حولها. وهذه الكشفيّات أمور عقلانيّة صرفة لا تتأتّى من الحواس.

من هنا نعلم أنّ في المخلوق البشريّ مركز للإدراك العقليّ وقوّة عمل ذهنيّ، وهي القوّة المكتشِفة لحقائق الأشياء. وبإمكانها أن تكتشف أسرار الكائنات وتفهم ما هو معلوم وليس ما هو محسوس فقط. وكلّ الاختراعات حادثة عنها، ذلك لأنّها كانت جميعًا من أسرار الطّبيعة. فقد مرّ زمان كانت فيه الطّاقة الكهربائيّة سرًّا من أسرار الطّبيعة، ولكنّ الحقيقة الجامعة الظّاهرة في الإنسان اكتشفت سرّ الطّبيعة هذا، وتلك القوّة الكامنة. بهذا الاكتشاف أتى الإنسان بهذه الطّاقة إلى حيّز الشّهود. وكلّ ما نستخدمه اليوم من علوم هي نتاج تلك الحقيقة البديعة. غير أنّ الحيوان محروم من وظائفها. فما ننعم به الآن من فنون هي تعبيرات تلك الحقيقة المدهشة. والحيوان محروم منها لأنّ تلك الحقائق المُدرَكة مختصّة بالنّفس الإنسانيّة دون سواها. وكلّ الآثار الّتي نراها من حولنا هي نتاج الكمالات المدرِكة للحقائق. والحيوان محروم منها.

تبرهن هذه الدّلائل بشكل قاطع على أنّ الإنسان حائز على حقيقتين، إذا جاز التّعبير، أولاهما حقيقة تتعلّق بالحسّيّات الّتي يشترك فيها مع الحيوان على قدم المساواة، وحقيقة أخرى ذات خاصّيّة وجدانيّة ومثاليّة، وهي الحقيقة الكلّيّة الجامعة الكاشفة للأسرار. ولا شكّ أنّ ما يكتشف حقائق الأشياء لا يكون مخلوقًا من الموادّ العنصريّة، وإنّما هو مميّز عنها. ذلك لأنّ الموت والتّحلّل هما من الخصائص اللّزوميّة في المركّبات وينسبان إلى الأشياء الخاضعة للإدراك الحسّي. أمّا الحقيقة الجامعة الكلّيّة في الإنسان، فلكونها ليست خاضعة للإدراك الحسّي، تكون هي الكاشفة للأشياء، وتكون تبعًا لذلك حقيقيّة ودائمة، ولا يتعيّن عليها أن تخضع للتّغيير والتّبديل.

هناك العديد من البراهين الأخرى المثبتة لهذه المسألة بالغة الأهميّة، ولكنّني سأختم القول بكلمات يسوع المسيح: المولود من الرّوح هو روح ويكون مقبولاً في ملكوت الله. ويعني هذا أنّه كما يخرج الجنين من رحم الأمّ في الولادة الأولى إلى أحوال وظروف مملكة الإنسان، فعلى روح الإنسان أيضًا أن تولد من رحم الطّبيعة، أي من الماهيّة الدّانية، حتّى يدرك عظائم أمور ملكوت الله. فعلى الإنسان أن يولد من رحم الأرض الأمّ ليحظى بالحياة الأبديّة. وإذا ما ولدت هذه الحقيقة الكلّيّة في الإنسان، أي نفسه، من رحم عالم الطّبيعة ونالت الصّفات الإلهيّة، فإنّها ستبقى حيّة إلى الأبد في العالم الباقي.

(7) 9 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة في المأدبة البهائيّة، بقاعة روشار، بواشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

يخامرني شعور غامر بالفرح والسّرور بحضوري هذه المأدبة مساء اليوم لأنّني، والحمد لله، أرى وجوهًا مشرقة، وآذانًا صاغية لنغمات الملأ الأعلى، وقلوبًا مشتعلة بنار محبّة الله، ونفوسًا منشرحة ببشارات الله، وأرواحًا مستظلّة في كنف قدرة الملكوت الأبهى. وأشاهد أمامي لفيفًا من الأرواح من المختارين وليس من المدعوّين الكُثْر. وأملي أن يظلّ حضرة بهاء الله بيمن أفضاله يجذبكم إلى ملكوته ويجعلكم منصورين ومظفّرين في خدمتكم لوحدة الجنس البشريّ وتكافله، وأن يعين كلّ راسخ على تأسيس وحدة سكّان هذه الأرض، وأن تصبحوا جميعًا شركائي ومعاونِيَّ في العبوديّة.

أي ربّ أيّد هذا الجمع واشمله بعونك، وأيّد هذه الأرواح بنفثات الرّوح القدس، وأنر الأبصار بمشاهدة هذه الأنوار الباهرات، وشنّف الآذان بألحان نداء الخدمة. أي ربّ قد اجتمعنا هنا بنفحات محبّتك، وتوجهّنا إلى ملكوتك، ولا ننشد إلاّ إيّاك، ولا أمل لنا إلاّ رضاك. أي ربّ اجعل هذا الطّعام مَنّك السّماويّ، وهذا الجمع من ملئك الأعلى، حتّى يكونوا سببًا لمحبّة الورى، وعلّةً لاستنارة بني الإنسان، ويصيروا وسائل هدايتك على وجه الغبراء. إنّك أنت القويّ، إنّك أنت الوهّاب، إنّك أنت الغفور، وإنّك أنت القدير.

تنظّم في العالم العديد من المآدب والمحافل واللّقاءات، ولكنّ تلك الاجتماعات تكون إمّا تجاريّة أو سياسيّة أو تعليميّة أو اجتماعيّة في مقصدها ودافعها. فتعقد لقاءات لترويج خطط ماليّة أو لترويج الآداب والعلوم. وتسعى لقاءات أخرى إلى تأسيس مشاريع زراعيّة، أو إبرام اتّفاقيّات بشأن مناطق النّفوذ. كما يُعقد ما لا يُحصى من المحافل للتّشاور بشأن شئون تعليميّة أو تربويّة. وتهدف كلّ تلك اللّقاءات إلى تقدّم المدنيّة. بيد أنّ هذه المأدبة وهذا المحفل، ولله الحمد، لا غرض له سوى المحبّة، ولا هدف له سوى إعلان ملكوت الله وتجلّي الآثار الإلهيّة الباقية وانعكاس إشراقات ملكوت الله، ومن أجل تأليف القلوب وخدمة العالم الإنسانيّ وترويج الحقائق الخيريّة والإنسانيّة وتقدّم الصّلح العموميّ ونصرته واستنارة العالم كافّة. لذا، فإنّ محفلاً كهذا ليس له مثيل أو نظير لأنّ غيره من المحافل يعقد بغرض محدود أو نيّة شخصيّة، بينما هذا اللّقاء هو لله، ومن أجل الله وحده، وهو لمحبّة الله ومرامه، وهو لمحبّة أفئدة العباد ووحدة العالم الإنسانيّ. فلنشكر الله أن أيّدنا على نوال سرور هذه المناسبة، وجعلنا خدّامًا للعالم الإنسانيّ ومناصرين للصّلح والوحدة بين الأديان ومنادين بالوفاق العموميّ بين الأجناس والأمم ومؤسّسين للوئام الرّبّانيّ بين الشّعوب كافّة.

إنّه لمن أعزّ وأحرّ آمالي بفضل الله أن يكون لقاؤنا هذا مبشّرًا فاعلاً باليوم الّذي ترتفع فيه راية وحدة العالم الإنسانيّ عالية في أمريكا، وأن يكون بمثابة أوّل دعامة حقيقيّة لصلح عموميّ يهدف إلى خدمة عموم البشر، وأن يكون خيرًا ربّانيًّا لا تمييز فيه ولا تفرقة بين البشر. وأن تعدّوا كافّة الأديان أدوات ووسائل إلهيّة، وتعتبروا كلّ الأجناس وسائطَ للتّجلّي الرّبّانيّ. وأن تنظروا البشر أغنامَ الله وتوقنوا بأنّه الرّاعي الحقّ. انظروا كم يعتني هذا الرّاعي الرّؤوف الرّؤوم بكلّ أغنامه؛ وكيف يسيّرهم في المروج الخضراء وقرب المياه العذبة. وكيف يصونهم جيّدًا! فليس لدى ذلك الرّاعي أيّ فرق أو تمييز من أيّ نوع كان؛ فهو رؤوف بجميع أغنامه على حدّ سواء. فعلينا إذًا أن نقتدي بالله، ونسعى في سبيل الخير للنّاس كافّة. وأن نجهد قلبًا وروحًا في التّوفيق بين أديان الدّنيا، ونوحّد بين الشّعوب والأجناس، ونؤلّف بين الأمم بكامل الوفاق. وأن نرفع علم الاتّفاق العامّ ونشعل نورًا ينير كلّ الأرجاء بإشراق الاتّحاد. وأن تنحصر مرامينا في السّعي الجادّ لنيل رضاء الله، وتتّجه أسمى هممنا نحو لمّ شمل العائلة الإنسانيّة. علينا ألاّ ننظر إلى استعداداتنا الشّخصيّة، بل نكون ناظرين دومًا إلى فضل الله ومواهبه. فلا يجمل بالقطرة أن تنظر إلى استعدادها المحدود؛ بل عليها أن تدرك وفرة البحر وغناءه – ذلك البحر الّذي يمجّد القطرة على الدّوام. ولا يجدر بالبذرة الواهية البسيطة، مهما كانت وحيدة فريدة، أن تنظر إلى عجزها، وإنّما عليها أن توجّه اهتمامها باستمرار إلى الشّمس وأشعّتها حيث حياتها ونشاطها، وتكون ناظرة دائمًا إلى هطول الأمطار من سحاب الرّحمة. لأنّ بمقدور فيض الغمام، وإشراق الشّمس وحرارتها، وأنفاس نسائم الرّبيع أن تحوّل البذرة الصّغيرة وتنمّيها إلى شجرة عظيمة. ولتتذكّروا أنّ ذرّة وحيدة ضئيلة تغدو في شعاع الشّمس عظيمة مشرقة بيمن فيض ساطع من النّيّر الشّمسيّ الدّافق.

فلنتوكّل على الله دائمًا ونلتمس منه التّأييد والعون ولنثق كمال الثّقة ومطلقها في فضل الملكوت. استعرضوا الوقائع الّتي أحاطت بالنّفوس فيما مضى من أزمان في بدء أيّامها؛ ثمّ تدبّروا أمرها عندما أثبتوا أنّهم أشدّاء الرّحمن وأقوياؤه بعون الله ومدده. تذكّروا أنّ بطرس كان صيّادًا، ولكنّه صار حواريًّا عظيمًا بالفضل الملكوتيّ. وكانت مريم المجدليّة قرويّة وضيعة المنشأ، غير أنّ نفس تلك المريم انقلبت لتصبح واسطة نزول التّأييد الإلهيّ على الحواريّين. حقًّا، لقد خدمت ملكوت الله بدرجة أشهرتها وألهجت ألسنة الرّجال بذكرها. بل إنّها تشرق اليوم من أفق الجلال السّرمديّ. انظروا كم يكون الفضل الإلهيّ بغير حدود إذ يصطفي الله امرأة مثل مريم المجدليّة لتصبح واسطة تأييد الحواريّين ونور القرب في ملكوته. فثقوا إذًا في عطاء الله وفضله، وتأكّدوا من مواهب فيضه الأزليّ. وإني آمل أن يصبح كلّ واحد منكم نورًا ساطعًا مثلما تلمع هذه المصابيح الكهربيّة الآن بهذا التّوهّج. بل أن يصير كلّ واحد منكم نيّرًا كنجم درّي في سماء المشيّة الإلهيّة. هذا هو تضرّعي لدى عرش الرّحمن وهذا أملي بيمن أفضال حضرة بهاء الله. أتوجّه بهذا الدّعاء من أجلكم جميعًا، وألتمس بفؤاد كسير أن تنالوا العون والمجد من عطاء أزليّ.

(8) 10 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه،
1700 شمال غرب الشّارع الثّامن عشر، بواشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

ما هي حقيقة الألوهيّة وما الّذي نعرفه عن الله؟

عندما نتأمّل في عالم الوجود نجد أنّ الحقيقة الجوهريّة الكامنة في أيّ كائن من الكائنات مجهولة. فالكائنات أو المخلوقات تكون معروفة لنا فقط بخصائصها. فالإنسان لا يفهم سوى ظواهر الأشياء أو خصائصها، بينما تبقى ماهيّتها وحقيقتها مكنونة. فنحن مثلاً نسمّي هذا الشّيء زهرة. فما الّذي نفهمه من هذا الاسم واللّقب؟ إنّ ما نفهمه هو أنّ الخصائص المتعلّقة بهذا الكائن معروفة لنا بالحواس، بينما تظلّ حقيقته العنصريّة الباطنيّة، أو ماهيّته، مجهولة. فمظهره الخارجيّ وخصائصه الظّاهريّة معروفة، ولكنّ الكينونة الباطنيّة، أي الحقيقة الأساسيّة أو الماهيّة الذّاتيّة تبقى في منأى عن فهم وإدراك قوانا البشريّة. وبما أنّ حقائق الكائنات المادّيّة ممتنعة ومجهولة ولا تُعرف إلاّ من خصائصها أو صفاتها، فكم يكون الحال أكثر صدقًا من ذلك فيما يتعلّق بحقيقة الألوهيّة – تلك الحقيقة الجوهريّة المقدّسة الّتي تسمو فوق مستوى إدراك الإنسان وعقله؟ إنّ ما يقع في حيّز إدراك البشر محدود، ونحن بالنّسبة إليه غير محدودين لأنّ بمقدورنا أن ندركه. فالمحدود هو بكلّ تأكيد أدنى من غير المحدود، ودائمًا ما يكون غير المحدود هو الأعظم. فإذا ما تسنّى احتواء حقيقة الألوهيّة في حيّز إدراك الفهم البشريّ، فلا تحوز في تلك الحالة إلاّ على وجود عقلانيّ – أي مجرّد مفهوم عقلانيّ بحت خال من أيّ وجود يخرج عن نطاق العقل، وتكون صورة أو مثالاً ممّا يدخل في حيّز إدراك العقل المحدود. فيكون عقل الإنسان في هذه الحالة أسمى وأعلى من حقيقة الألوهيّة. فكيف يجوز لصورة ليس لها سوى وجود عقلانيّ أن تكون حقيقة الألوهيّة الّتي هي حقيقة غير متناهية؟ فحقيقة الألوهيّة إذًا من حيث الماهيّة خارجة عن مجال الإدراك البشريّ، ذلك لأنّ فكر الإنسان وعقله وتفكيره محدود، في حين أنّ حقيقة الألوهيّة غير محدودة. فأنّى للمحدود أن يدرك حقيقة اللاّمحدود ويسمو عليه؟ إنّه أمر مستحيل. فدائمًا ما يكون غير المحدود هو الّذي يدرك المحدود، ولا يتسنّى للمحدود أبدًا أن يحيط باللاّمحدود ويستوعبه. وبناء على هذا فإنّ أيّ مفهوم للألوهيّة داخل حيّز إدراك أيّ كائن بشريّ يكون متناهيًا أو محدودًا، وهو نتاج خيال بحت، بينما تكون حقيقة الألوهيّة مقدّسة ومنزّهة فوق تلك المفاهيم كافّة وبعيدة عن متناولها.

لكن قد يكون هناك من يتساءل: كيف لنا أن نعرف الله؟ نحن نعرف الله بصفاته، ونعرفه بآياته، ونعرفه بأسمائه. فنحن مثلاً لا نعرف ماهيّة الشّمس، ولكنّنا نعرف الشّمس بأشعّتها وحرارتها وبأثرها ونفاذها. ونحن نعرف الشّمس بفيضها وإشراقها، أمّا ما الّذي تتشكّل منه ماهيّة الطّاقة الشّمسيّة وحقيقتها فهذا غير معلوم لنا. هذا في حين إنّ ما تتميّز به الشّمس من صفات معروف لدينا. فإذا ما رغبنا في التّعرّف على حقيقة الألوهيّة فإنّنا نفعل ذلك عن طريق التّأمّل في مخلوقاتها وصفاتها وآثارها، وهي شائعة في هذا الكون. فكلّ الأشياء في عالم الوجود حاكية عن تلك الحقيقة الواحدة. فأنوارها لامعة، وحرارتها مشهودة، وقوّتها لائحة، وتربيتها وتعليمها ساطع في كلّ الأرجاء. فأيّ برهان أعظم ممّا هو جليّ ولائح من أفعالها وصفاتها؟ وإذا ما تساءلنا عمّا إذا كانت هذه النّبتة أو الزّهرة موجودة أم لا، أو إذا ما كان بوسعها أن تتعرّف على وجود الإنسان أو حقيقته، يكون الجواب بطبيعة الحال نفيًا. فليس لها أيّ انسجام مطلقًا مع مملكة الإنسان، وليس لديها أيّ استعداد لذلك، مع أنّ كلاًّ من الإنسان والزّهرة من المخلوقات. بيد أنّ التّفاوت في الرّتبة بين النّبات والإنسان طالما كان عقبة وحائلاً. وبما أنّ درجة استعداد هذه النّبتة تدنو عن مملكتنا البشريّة، يستحيل تمامًا على النّبات الّذي هو أدنى أن يدرك حقيقة الإنسان الّذي هو أعلى، وذلك على الرّغم من أنّ كليهما حادث أو مخلوق. فنحن من المخلوقات، وهذا النّبات هو بالمثل من المخلوقات، وكذلك هذا الجماد، وهذا الخشب. ولكن هل بمقدور هذه الأرضيّة أن تدرك حقيقة أولئك الواقفين عليها؟ إنّها لا تقدر، لأنّ البصر والسّمع هما من خواص أو حواس مملكة تعلو على مملكة الجماد. والفرق بين هاتين المملكتين، أي ذلك البون الشّاسع الّذي يفصل مملكة الجماد عن مملكة الإنسان، مانع للفهم والإدراك.

فكيف إذًا لحقيقة الإنسان الّتي هي حادثة أن تفهم حقيقة الله الّتي هي أزليّة؟ إنّ في ذلك استحالة واضحة. وعليه يمكننا أن نشاهد آثار الله وصفاته الباهرة في كلّ الكائنات والسّاطعة سطوع الشّمس في رابعة النّهار، ونعلم يقينًا بأنّها تنبثق جميعًا من معين لا ينضب، وندرك أنّها تنبع من مصدر لا يتناهى بكلّ تأكيد.

كما أنّ هناك قاعدة فلسفيّة مفادها أنّ وجود الكائنات دليل على التّركيب، وأنّ الموت أو العدم مرادف للتّحلّل والتّفكّك. فمثلاً حدث تأليف لبعض العناصر ونتج عن ذلك التّركيب وجود الإنسان. ودخلت ثمّة عناصر في تركيب هذه الزّهرة. واستخدمت بعض العناصر العضويّة أو الخلويّة في تركيب كلّ كائن حيوانيّ. فبوسعنا إذًا أن نقرّر أنّ الوجود يستلزم التّركيب، والموت هو تعبير آخر عن التّحلّل والتّفكّك. وعندما يحدث تفكّك بين هذه العناصر التّكوينيّة، يكون ذلك هو الموت والفناء. فالعناصر الّتي دخلت جسم هذه الزّهرة وأعطت حياة لهذا الشّكل وتلك الهيئة ستتفكّك لا محالة؛ وسيتحلّل هذا التّركيب الجميل؛ وهذا ما نسمّيه الموت والفناء. وتكون الخلاصة بالتّالي هي أنّ الحياة تعني التّركيب، والموت مرادف للتّحلّل. واعتمادًا على هذا الشّرح يرى المادّيّون أنّ الحياة هي مجرّد التّأليف ما بين العناصر المادّيّة في آلاف الأنواع والأشكال. ويتوصّل الماديّوّن إلى الاستنتاج بأنّ الحياة، بتعبير آخر، تعني التّركيب؛ وأنّه أينما صادفتنا عناصر مفردة اجتمعت معًا في هيئة مركّبة فسنرى كائنات الحياة العضويّة؛ وأنّ كلّ تركيب عضويّ يمثّل حياة عضويّة. فإذا ما كانت الحياة تعني تركيب العناصر، فقد يصل المادّيّون إذًا إلى استنتاج بعدم لزوم من يقوم بالتّركيب، أي عدم لزوم خالق؛ ذلك لأنّ التّركيب هو كلّ ما هنالك، وهو ما يتمّ بالالتحام أو بالتّماسك. وللرّدّ على ذلك نقول إنّ التّركيب يكون بالضّرورة على أنواع ثلاثة: أوّلها يسمّيه الفلاسفة تركيبًا تصادفيًّا، والثّاني إلزاميًّا، والثّالث إراديًّا. أمّا عن التّركيب الأوّل، أي التّصادفيّ، فذلك يعني أنّ عناصرَ معيّنةً قد ائتلفت بفعل خصائص ذاتيّة وقوى جذب أو تآلف، أي أنّها امتزجت فكوّنت شكلاً من الأشكال، مخلوقًا كان أو كائنًا. وهذا أمر يمكن إثبات بطلانه؛ لأنّ التّركيب معلول، ولا يعقل فلسفيًّا أن يكون هناك معلول بغير علّة. فلا معلول يعقل بغير علّة أوّليّة من نوع مّا. فمثلاً هذه الحرارة معلولة، ولكنّ تلك الطّاقة الّتي تنبعث منها هذه الظّاهرة الحراريّة هي العلّة. والضّوء معلول، ولكنّ مصدره يرجع إلى الطّاقة الّتي هي العلّة. فهل يجوز لهذا الضّوء أن ينفكّ عن الطّاقة وهو أحد خصائصها؟ إنّ هذا محال وغير معقول وهو واضح البطلان. فالتّركيب التّصادفي هو إذًا نظريّة باطلة يمكن استبعادها.

أمّا عن الشّكل التّركيبيّ الثّاني، أي التّركيب الإلزاميّ: فهذا يعني أنّ قوّة التّركيب موجودة في كلّ عنصر كلزوم ذاتيّ له. فمثلاً يكون الاحتراق أو الحرارة هو اللّزوم الذّاتيّ للنّار، فالحرارة من خصائص النّار. والرّطوبة هي اللّزوم الذّاتيّ للماء. فلا يعقل أن يتمّ التّركيب الكيميائيّ للماء الّذي هو ذرّتين من الهيدروجين وذرّة من الأكسجين دون أن تلازمه الرّطوبة، ذلك لأنّ الرّطوبة لزوم ذاتيّ للماء. ولقوّة الجاذبيّة وظيفتها الجاذبة أو الخاصّة المغناطيسيّة، ولا يمكننا فصل الجاذبيّة عنها. والقوّة الطّاردة وظيفتها الطّرد أي الإقصاء. فلا يمكنكم فصل المعلول عن العلّة. فإذا كانت هذه الافتراضات صحيحة – وهي بادية الوضوح من نفسها – فإنّه يستحيل في هذه الحالة على أيّ كائن مركّب، أي على العناصر الّتي دخلت في تركيب كائن مركب، أن تتحلّل أبدًا، ذلك لأنّ اللّزوم الذّاتيّ لكلّ عنصر هو التّماسك. فكما لا يمكن للنّار أن تنفكّ عن الحرارة، فكذلك الوجود العنصريّ لا يقبل التّحلّل والتّفكّك، وهذا غير صحيح، لأنّنا نرى التّحلّل والتّفكّك في كلّ مكان. من هنا تكون هذه النّظريّة باطلة، طالما رأينا أنّ كلّ تركيب تعقبه عمليّة تحلّل تنهيه إلى الأبد. وبذلك ندرك أنّ التّركيب بالنّسبة للكائنات لا يكون تصادفيًّا ولا إلزاميًّا.

فما الّذي يتبقّى لنا إذًا من أشكال التّركيب؟ ما يبقى هو التّركيب الإراديّ، الّذي يعني أنّ التّركيب يتمّ بإرادة عليا، وأنّ هناك إرادة متجلّية في هذه الحركة أو الفعل. فيثبت إذًا أنّ وجود الكائنات يتمّ بفعل من الإرادة الأزليّة، إرادة الله الحيّ الأبد القيّوم. وهذا دليل عقليّ فيما يتعلّق بالتّركيب لا شكّ فيه ولا مِرية. وكذلك من الواضح تمامًا أنّ نوعنا الحياتيّ، أي شكلنا الوجوديّ، محدود، وكذلك حقيقة كلّ المخلوقات الحادثة محدودة أيضًا. ونفس حقيقة كون الكائنات محدودة تنمّ تمامًا عن لزوم وجود حقيقة غير محدودة، لأنّه إذا لم تكن هناك حقيقة غير محدودة أو غير متناهية في الحياة لما أمكننا تصوّر الوجود المتناهي للأشياء. ولتوضيح ذلك أكثر أقول: إذا لم يكن هناك ثراء في العالم لا يكون هناك فقر، وإذا لم يكن في الدّنيا نور، لما أمكنكم تصوّر الظّلام، لأنّنا نعلم الأشياء فلسفيًّا من نقائضها. فمثلاً نعرف أنّ الفقر هو فقدان الغنى. وحيثما لا تكون هناك معرفة لا يكون هناك أيضًا جهل. فما هو الجهل؟ الجهل هو غياب المعرفة. إذًا فوجودنا المحدود يكون برهانًا دامغًا على أنّ هناك حقيقة غير محدودة، وهذا برهان لامع وحجّة لائحة. والبراهين على هذه المسألة كثيرة، ولكنّ الوقت غير كافٍ للاسترسال في الموضوع أكثر من هذا.

هذه هي آخر أمسياتنا، وأسأل الله أن تشملكم تأييداته، وأن تصبح قلوبكم مضيئة، وأن تتنوّر أبصاركم بمشاهدة آيات الله، وتصغي آذانكم إلى نغمات الملكوت، وأن تتوهّج وجوهكم بإشراق نور الكلمة الإلهيّة، وأن تتّحدوا جميعًا وتتّفقوا، وتعملوا في سبيل تكافل بني البشر. وأن تكونوا محبّين لخير الإنسانيّة جمعاء، وعونًا لكلّ فقير، ورعاة لكلّ مريض. وأن تكونوا مصدر راحة لكلّ ذي فؤاد كسير، وملجأ لكلّ تائه هائم، ومصدر شجاعة لكلّ خائف. وبذلك يرتفع لواء سعادة الإنسانيّة في قطب الوجود وتُنشر راية الوفاق العموميّ بيمن من فضل الله وعونه.

(9) 10 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد جوزيف هانين وحرمه،
1252 شمال غرب الشّارع الثّامن، بواشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ هذا لجمع جميل وإنّي في غاية السّعادة أن أجد البيض والسّود هنا معًا. فهذا مدعاة لسروري، إذ إنّكم جميعًا عباد الله الواحد، وإنّكم بذلك إخوان وأخوات وأمهات وآباء. وليس عند الله فرق بين بيض وسود، فالكلّ واحد. ومن كان قلبه أطهر هو المقرّب لله – أبيضًا كان أم أسودًا، أحمرًا أم أصفرًا. واللّون موجود في الحيوانات؛ فهناك الحمام الأبيض والأسود والأحمر والأزرق، ولكن رغم هذا التّنوع اللّونيّ تطير أسراب الحمام معًا في وفاق وهناء وألفة دونما أيّ تمييز أو تفرقة فيما بينها، فهم جميعًا حمام. أمّا الإنسان فإنّه يتمتع بالذّكاء والتّعقّل، ويمتاز بالقدرات الذّهنيّة، فلماذا يكون متأثّرًا إذًا بالتّفرقة في اللّون أو العرق طالما أنّ الكلّ من أسرة بشريّة واحدة؟ إنّنا لا نجد من بين الأغنام من يتحاشى بعضه، كأن تقول شاة ‘أنا بيضاء وأنتِ سوداء’. فالأغنام ترعى معًا بكامل الوفاق، وتتعايش بكلّ ألفة وسرور. فكيف بالإنسان إذًا أن يكون ضيّق الأفق ومتأثّرًا بلون العرق؟ إنّ ما هو مهمّ أن ندرك أنّ الكلّ بشر، وأنّ الكلّ من سلالة آدم. فطالما أنّهم من أسرة واحدة، فعلام التّفرقة والتّباعد؟

كان عندي خادم أسود يدعى إسفنديار. فإذا كان بالإمكان أن يوجَد رجل كامل في هذه الدّنيا، فذاك هو إسفنديار. إذ كان جوهر المحبّة، متوهّجًا بالورع والكمال ومشرقًا بالأنوار. وكلّما أتذكّر إسفنديار تدمع عيناي مع أنّه فارق الدّنيا منذ خمسين سنة. لقد كان خادم بهاء الله المخلص والمؤتمن على أسراره. لهذا السّبب كان شاه إيران يجدّ في طلبه ويستفسر باستمرار عن أماكن تواجده. كان حضرة بهاء الله رهين السّجن، ومع ذلك أمر الشّاه الكثيرين بالبحث عن إسفنديار. ولربّما عهد بأكثر من مئة ضابط للبحث عنه. ولو كانوا قد أفلحوا بالإمساك به لما كانوا قد قتلوه على الفور، بل لقطّعوا لحمه قطعة قطعة، لإجباره على الإفصاح عن أسرار حضرة بهاء الله. بيد أنّ إسفنديار اعتاد السّير في الطّرقات والأسواق بكلّ عزّة وجلال. جاءنا ذات يوم حينما كانت أمّي تقطن هي وأختي وأنا في دار بالقرب من ناصية أحد الشّوارع. ونظرًا لأنّ أعداءنا كانوا دائبين على إيذائنا، فقد كنّا ننوي الانتقال إلى مكان لا يعرفوننا فيه. كنت حينها طفلاً، وكان الوقت منتصف اللّيل عندما جاءنا إسفنديار. فبادرته أمّي قائلة: ‘يا إسفنديار، إنّ هناك مائة من العسس يبحثون عنك. فإذا ما أمسكوا بك فلن يقتلوك على الفور بل سيكوُون جسدك بالنّار ويقطعون أصابعك ويجدعون أذنيك، كما سيقتلعون عينيك لإجبارك على أن تفصح لهم عن أسرار حضرة بهاء الله. ارحل بعيدًا، ولا تبقَ هنا.’ فردّ عليها قائلاً: ‘لا يمكنني الرّحيل لأنّني مدين بنقود لأهل الشّارع وأصحاب المتاجر، فكيف لي أن أرحل؟ سيقولون إنّ خادم حضرة بهاء الله اشترى بضاعة ومؤنًا من أصحاب الحوانيت واستهلكها دون أن يسدّد ثمنها. فلا يمكنني الرّحيل قبل أن أوفي بكلّ هذه الالتزامات. أمّا إذا أخذوني فلا تلقي لذلك بالاً. وإذا ما عذّبوني فلا ضير في ذلك. وإذا ما قتلوني فلا تحزني. أمّا أن أرحل فهذا مستحيل. فعليّ أن أبقى حتّى أدفع كلّ ما في ذمّتي من دين، وعندئذ سأرحل.’ طفق إسفنديار يتجوّل في الطّرقات والأسواق زهاء شهر. فقد كان يملك أشياء سعى في بيعها، ومن حصيلة البيع تمكّن من سداد ديونه شيئًا فشيئًا. في حقيقة الأمر لم تكن هذه الدّيون تخصّه بل كانت مترتّبة على البلاط الملكيّ لأنّ ممتلكاتنا قد تمّت مصادرتها. فقد أخذوا منّا كلّ ما نملك، وكلّ ما أبقوه لنا كان هذه الدّيون. لقد دفعها إسفنديار بالكامل، ولم يبقَ منها درهم واحد لم يُدفع. ثمّ جاء يودّعنا وارتحل. وبعد ذلك أُفرج عن حضرة بهاء الله من سجنه، وانتقلنا إلى بغداد، وأتانا إسفنديار هناك. كان يرغب في الإقامة معنا، فقال له حضرة بهاء الله، الجمال المبارك: ‘عندما تواريتَ عن الأنظار، كان هناك من وزراء إيران من آواك في وقت لم يكن هناك من يحميك غيره. ولأنّه آواك وحماك عليك أن تكون وفيّا له. فإذا قبل أن تتركه فارجع إلينا؛ أمّا إذا لم يرغب في إخلاء سبيلك فلا تتركه.’ عاد إسفنديار إلى سيّده الّذي بادره بقوله: ‘لا أريد فراق إسفنديار. فأنَّى لي أن أجد شخصًا آخر مثله، شخصًا بهذا الإخلاص وبهذا الوفاء، وبهذا الخُلق، وبهذا العزم؟ أنّى لي أن أجد غيرك يا إسفنديار؟ ليس لي استعداد لأن أتركك تذهب. أمّا إذا أردت أنت أن تذهب، فليكن لك ما تريد.’ ولكن بالنّظر إلى أنّ حضرة بهاء الله قد قال له ‘عليك أن تكون وفيًّا’، ظلّ إسفنديار مع سيّده إلى أن توفّي. لقد كان شعلةً من نور. ومع أنّه كان أسود اللّون إلاّ أنّه كان منير الطّبع والخلق، وكان منير الفكر، ومنير الوجه. لقد كان منارًا بمعنى الكلمة.

فيكون من الثّابت إذَا أنّ الامتياز لا يعتمد على لون الإنسان وإنّما الخُلق هو المعيار الحقيقيّ للإنسانيّة. فمن كان على خُلُق قويم، ولديه إيمان بالله وتحلّى بالثّبات، وكانت أفعاله طيّبة وأقواله حسنة – فهو المقبول لدى عتبة الأحديّة مهما كان لونه. وبالاختصار، الحمد لله أنّكم جميعًا عباد لله، وقلوبكم عامرة بمحبّة حضرة بهاء الله، وأرواحكم مبتهجة ببشارات حضرة بهاء الله. وأملي هو أن يتّحد الأبيض والأسود بكمال المحبّة والألفة، وبكامل الوفاق والإخاء. فتَعاشَروا وفكّروا في بعضكم البعض وكونوا كحديقة الورد. فمن يقصد حديقة ورد يشاهد مختلف ألوان الورود، من أبيض وورديّ وأصفر وأحمر، ويراها جميعها تنمو سويّا بكلّ رونق، وتُزيد كلّ منها الأخرى جمالاً. فلو كانت جميعها من لون واحد لكانت الحديقة مملّة للنّاظرين. فإذا ما كانت جميعها بيضاء أو صفراء أو حمراء لغاب التّنوع والجاذبيّة عن تلك الحديقة، أمّا إذا ما تنوّعت الألوان بأبيضها وورديّها وأصفرها وأحمرها فإنّها تبدو لنا بأبهى جمالها. فأملي إذًا أن تكونوا مثل حديقة الورد؛ فمع أنّكم مختلفون في اللّون، إلاّ أنّكم والحمد لله مستنيرون من شمس واحدة، وينزل عليكم المطر من سحاب واحد. وها أنتم تحت رعاية بستانيّ واحد، وهذا البستانيّ رؤوف بالجميع. فعليكم إذًا أن تُظهروا كلّ رأفة لبعضكم البعض، وتوقنوا بأنّه كلّما اتّحدتم ستشملكم تأييدات الملكوت الأبهى، وتتنزّل عليكم الأفضال السّماويّة، وتوهبون من العطايا الإلهيّة، وتشرق عليكم شمس الحقيقة، ويهطل عليكم غمام الرّحمة، وتسري بينكم نسائم الكرم الرّبّانيّ بشذاها وأريجها.

أملي أن تظلّوا متّحدين متآلفين. فما أجمل أن نرى السّود والبيض سويًّا! أملي أن يأتي يوم، بإذن الله، أرى فيه بينكم حمرًا، أي هنودًا، وكذلك يابانيّين وغيرهم. عندئذ سيكون لدينا من الورد أبيضه وأصفره وأحمره، وتظهر في الدّنيا روضة هي في غاية الإبداع.

 

(10) 10 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بالعنوان 1901 شمال غرب الشّارع الثّامن عشر
واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّني في غاية السّرور من الأحبّاء في واشنطن وتغمرني سعادة حقيقيّة من لقائهم. كما إنّني مسرور أيضًا من أحبّاء بالتيمور لأنّني لاحظت انجذاب قلوبهم لمحبّة حضرة بهاء الله. فأنظارهم متّجهة إلى الملكوت الأبهى، ونفوسهم مبتهجة ببشارات الأبهى. فهم حقًّا خادمون لأمر الله. وجميعهم مشتغلون بالخدمة، وأسمى أمانيهم الدّخول في الملكوت الأبهى والتّقرّب من الله. ولذا فإنّني في غاية السّرور وراضٍ جدًّا عنهم وأدعو من أجلكم جميعًا أن تشملكم ألطاف الجمال المبارك، بهاء الله، وأن تصير أنوار شمس الحقيقة ضياء لكم، وأن تتّحدوا وتطمئنّوا جميعًا، وأن تخدموا أمر الله كجند واحد مجنّد. وأبشّركم بأنّ التّأييدات الإلهيّة سوف تنزل عليكم. فكونوا مطمئنّين بذلك. فسوف تغدون مستنيرين وتصبحون من الفاتحين.

بيد أنّه قد يحدث بعد أن أرحل عنكم أن يقوم البعض بالاعتراض، وينهالون عليكم بالمضايقات من فرط امتعاضهم، كما قد تنشر الصّحف مقالات تهاجم الأمر المبارك. ولكن اطمئنّوا اطمئنان الرّاسخين الثّابتين، وكونوا بغاية الهدوء والصّفاء، وتذكّروا أنّ ذلك ما هو إلاّ شقشقة عصفور لا ضرر منها وسرعان ما ستزول. فما لم تحصل مثل هذه الأمور لن يذيع صيت أمر الله، ولن يصغي أحد إلى نداء الله. تدبّروا تاريخ ما مضى من أيّام، وتذكّروا مثلاً أيّام حضرة المسيح وما تلاها من وقائع. فكم من كتب كتبت ضدّه! وكم من مفتريات نسبت إليه! وما أقسى ما قيل عنه في الهياكل! وكم من تهم كيلت! وأيّ بغض واضطهاد أُنزل! وكيف استهزأوا به بكلّ سخرية وازدراء! وتفكّروا في ما خلعوا على سلطانه من ألقاب ونعوت. بل إنّهم لقّبوه ببعلزبول – أي الشّيطان. وقالوا إنّهم قبضوا على بعلزبول وصلبوه. ووضعوا تاجًا من الشّوك على رأس ذلك البعلزبول وطافوا به في الطّرقات. فذاك كان الاسم الّذي أطلقه اليهود على حضرة المسيح، وهو مكتوب في الإنجيل. وكانت هناك ألوان أخرى عديدة من الشّتائم والأذى، فبصقوا على وجهه الصّبيح، ولعنوه وكفّروه، وانحنوا له من الوراء قائلين ‘السّلام عليك يا ملك اليهود’، ‘السّلام عليك يا هادم الهيكل’، ‘السّلام عليك يا أيّها الملك الّذي ادّعى بناء الهيكل في ثلاثة أيّام!’ وكتب فلاسفة ذلك الزّمان من رومان ويونان، يقدحون حضرة المسيح. بل إنّ هناك ملوكًا كتبوا كتبًا ملأوها لعنًا ومفتريات وسخرية. وكان أحد هؤلاء الملوك قيصرًا، كما كان فيلسوفًا أيضًا، قال في كتابه عن أتباع حضرة المسيح: ‘إنّ أراذل القوم هم المسيحيّون. وأكثر النّاس فسقًا في زماننا هذا هم المسيحيّون. لقد أضلّهم يسوع النّاصريّ. فيا أيّها النّاسّ إذا أردتم أن تعرفوا من هو المسيح وماذا تعني كلمة مسيحيّ، فاسألوا أهله. اسألوا اليهود الّذين يعرفونه وتبيّنوا كم هو فاسد، وكم هو وضيع.’ وكان هناك العديد من الرّوايات المماثلة. ولكن تذكّروا أنّه لم يكن لأيّ من تلك المقولات أثر على الدّعوة المسيحيّة، بل على العكس من ذلك كانت المسيحيّة تزداد يومًا بعد يوم قوّة ونفوذًا.

ازداد جلال المسيح بهاءً وإشراقًا يومًا بعد يوم. فما أقصده إذًا هو أن أنبّهكم وأشُدّ من أزركم في مواجهة ما سيأتي في مقالات الصّحف أو غيرها من المطبوعات من مثل تلك الاتّهامات والانتقادات والتّهكّمات والسّخرية. فلا تضطربوا منها أبدًا، فهي عين التّأييد للأمر المبارك، وهي أسّ أساس تشييد صرح الدّعوة. اللّهمّ عجّل بذلك اليوم الّذي يقوم فيه عشرات من كهنة الكنائس ويعرّون رؤوسهم صائحين بأعلى صوتهم بأنّ البهائيّين هم الضّالّون. فيا شوقي لهذا اليوم، لأنّ ذلك سيكون أوان انتشار دين الله. لقد وصف حضرة بهاء الله أمثال هؤلاء بأنّهم المنادون بهذا الأمر، ولسوف يعلنون من فوق المنابر أنّ البهائيّين حمقى، وأنّهم أهل شرّ وضلال، ولكن عليكم بالثّبات والرّسوخ في أمر الله، فإنّهم بذلك ينشرون رسالة حضرة بهاء الله.

لقد كتب ميرزا أبو الفضل رسالة[1] ردّ فيها على انتقادات قسّ من أهل لندن. فليحصل كلّ منكم على نسخة منها. اقرأوها واحفظوها عن ظهر قلب وتأمّلوا فيها، وعندما تأتي الاتّهامات والانتقادات ممّن يناهضون الأمر المبارك ستكونون متسلّحين جيّدًا.

[1]        طبعت هذه الرّسالة بالإنجليزيّة فى أمريكا عام 1912 أثناء زيارة حضرة عبد البهاء، بناء على توجيهاته، في كتيّب بعنوان البرهان السّاطع The Brilliant Proof.

 

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في نيويورك (1) 15 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بمنزل الآنسة جولييت طومسون،
48 غرب الشّارع العاشر، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوبر هاريس

لقد تحدّثتُ في مختلف كنائس المسيحيّة وفي معابد اليهود، ولم يكن هناك صوت واحد مخالف في أيّ من المحافل. فالكلّ أصغوا، والكلّ أذعنوا بأنّ تعاليم حضرة بهاء الله سامية في طبيعتها، مقرّين بأنّها تمثّل روح هذا العصر الجديد، وأنّه لا يوجد سبيل أفضل منها لبلوغ ما تضمّنته من مُثُل عُليا. ولم يعلُ صوت واحد بالاعتراض. وأكثر ما هنالك أنّ البعض رفض الإقرار برسالة حضرة بهاء الله، مع أنّ نفس هؤلاء قد اعترفوا بأنّه كان معلّمًا عظيمًا، ونفسًا قديرة، وشخصيّة جليلة. والبعض الآخر ممّن لم يجدوا حجّة أخرى قالوا ‘ليست هذه التّعاليم بشيء جديد؛ فهي قديمة ومألوفة؛ وقد سمعنا بها من قبل.’ لذا سأحدّثكم عن الخصائص المميّزة لظهور حضرة بهاء الله، وأثبت أنّ أمره مميّز من كلّ النّواحي عمّا عداه. فهو مميّز بخاصّيّته التّربويّة، وأسلوبه في العرض والطّرح، وفي آثاره العمليّة، وملاءمته لأحوال العالم المعاصرة، ولكنّه متميّز على وجه الخصوص من حيث انتشاره وتقدّمه.

عندما ظهر حضرة بهاء الله في بلاد فارس، قامت عليه كلّ المذاهب والأنظمة الدّينيّة المعاصرة، وكان أعداؤه ملوكًا. كان أعداء حضرة المسيح هم الفرّيسيّون من اليهود؛ أمّا أعداء حضرة بهاء الله فكانوا حكّامًا بوسعهم إمرة الجيوش وإرسال مئات الآلاف من الجنود إلى حلبة النّزال. وكانوا ملوكًا على ما يقرب من خمسين مليون نسمة، وكلّ من خضع لنفوذهم وسلطانهم كانوا معادين لحضرة بهاء الله. بهذا يكون حضرة بهاء الله قد وقف في واقع الأمر وحيدًا فريدًا أمام خمسين مليونًا من الأعداء. إلاّ أنّ هذه الجحافل العرمرم، بدلاً من أن تتمكّن من التّغلّـب والسّيطرة عليه، لم تستطع التّصدّي لشخصه البديع وقوّة أمره السّماويّ ونفوذه. وبالرّغم من أنّهم كانوا عاقدي العزم على إطفاء نور ذلك المصباح الألمع، إلاّ أنّهم خُذِلوا في نهاية المطاف وانثلّـت عروشهم، وبات ضياؤه يزداد إشراقًا يومًا بعد يوم. ومع أنّهم لم يألوا جهدًا للتّقليل من مكانته العظيمة، إلاّ أنّ جلاله وصيته كانا يتزايدان بنفس مقدار سعيهم للحطّ من شأنه. لم يلجأ حضرته يومًا إلى الاختفاء، ولم يسع إلى حماية نفسه، مع أنّه كان محاطًا بأعداء يسعون إلى إنهاء حياته؛ بل بالعكس، كان ظاهرًا أمام وجوه النّاس في كلّ الأوقات بقدرته الرّوحانيّة وهيمنته ويسهل الوصول إليه، ومواجهًا حشود معارضيه بهدوء واطمئنان. فارتفعت رايته في نهاية المطاف.

إذا ما تصفّحنا سجلّ التّاريخ وطالعنا صفحات الكتب المقدّسة، لما وجدنا أنّ أيًّا من رسل وأنبياء القبل قد نشر تعاليمه أو روّج أمره من داخل السّجن. غير أنّ حضرة بهاء الله رفع راية الأمر الإلهيّ بينما كان حبيسًا في سجن تحت سطح الأرض، وخاطب ملوك العالم من زنزانة سجنه، موبّخًا إيّاهم على قمعهم رعاياهم وسوء استخدامهم للسّلطة. وبوسع الجميع أن يقرأوا اليوم ذلك اللّوح الّذي أرسله حضرته إلى شاه إيران وهو في ظلّ تلك الظّروف. كما أنّ ألواحه الأخرى الموجّهة إلى سلطان تركيّا، ونابليون الثّالث إمبراطور فرنسا وغيرهما من حكّام العالم بمن فيهم رئيس جمهوريّة الولايات المتّحدة، هي الآن متداولة ومتاحة أيضًا. وقد طُبع الكتاب الّذي يضمُّ هذه الألواح الموجّهة إلى الملوك في الهند قبل ثلاثين سنة تقريبًا، وهو الكتاب المعروف بسورة الهيكل. وكلّ ما هو مذكور في هذه الألواح قد تحقّق، بل إنّ بعضًا من النّبوءات الّتي تضمّنتها قد تحقّق بعد سنتين؛ بينما تحقّق غيرها بعد خمس أو عشر أو عشرين من السّنين. وأهمّ النّبوءات الخاصّة بالأحداث المتعلّقة بالبلقان قد تحقّقت في وقتنا الحاضر رغم أنّها كتبت منذ أمد بعيد. فمثلا تنبّأ حضرة بهاء الله، في اللّوح الّذي وجّهه إلى سلطان تركيّا بالحرب والوقائع الّتي تدور رحاها في يومنا الحاضر. بل إنّ هذه الأحداث قد تنبّأ بها أيضًا في اللّوح الّذي خاطب فيه مدينة القسطنطينيّة، مفصّلاً الوقائع الّتي نشاهدها الآن في تلك المدينة.

في الوقت الّذي كان حضرته يخاطب أولئك الملوك والحكّام الأقوياء، كان حبيس أحد سجون الأتراك. فانظروا كم كان هذا أمرًا عجيبًا أن يعنّـف سجينٌ واقع تحت نظر الأتراك وفي قبضتهم نفسَ المليك المتسبّب في حبسه وبكلّ شجاعة وقوّة. فأيّ هيمنة تلك، وأيّ عظمة هذه! فنحن لا نصادف حدثًا كهذا في أيّ من سجلاّت التّاريخ. فعلى الرّغم من الحكم الحديديّ لهؤلاء الملوك وسلطانهم المطلق، إلاّ أنّه وقف في وجههم، وكان عزمه وثباته بالدّرجة الّتي تسبّبت في تنكيس راياتهم ورفع لواء حضرته. فأعلام الإمبراطوريّتين الفارسيّة والتّركيّة قد تمرّغت بالتّراب، بينما تعلو راية حضرة بهاء الله الآن في العالم كلّه شرقًا وغربًا. فلاحظوا كم هي بالغة تلك الهيمنة، وكم هي قاطعة تلك الحجّة! فعلى الرّغم من كونه حبيس جدران حصن حصين، لم يُلقِ بالاً إلى هؤلاء الملوك ولم يعبأ بتحكّمهم في زمام حياة الرّعايا وموتهم، بل على العكس من ذلك خاطبهم بلغة صريحة لا تعرف الوجل، معلنًا بكلّ صراحة عن اقتراب الموعد الّذي يتقوّض فيه سلطانهم وتتأسّس فيه هيمنته.

لقد تفضّل حضرته بما مضمونه عمّا قريب ستجدون أنفسكم في خسران مبين، ويبيد سلطانكم، وتبور ممالككم وتصير خرابًا. وستغزوا جيوش من الخارج أراضيكم وتخضعها، وسيرتفع النّحيب والبكاء من دياركم. ولن يبقى لكم عرش ولا تاج ولا قصر ولا جيوش، بل ستفنى جميعها. أمّا راية أمر الله فسوف تعلو، وعندئذ ترون النّاس يدخلون في دين الله أفواجًا، وينتشر هذا الظّهور العظيم في كلّ أرجاء الدّنيا. اقرأوا النّبوءات الّتي تضمّنتها سورة الهيكل وتدبّروا فيها مليًّا.

هذه إحدى سمات رسالة حضرة بهاء الله وتعاليمه. فهل بإمكانكم أن تجدوا وقائع من هذا القبيل في أيّ دورة رسوليّة أخرى؟ فإذا كان هناك من يقول إنّ لها مثيلاً في الماضي، فليخبرنا في أيّ دورة حدثت مثل تلك الوقائع؟ وهل تجدون مثل هذه النّبوءات المحدّدة والبيانات الصّريحة الواضحة عن المستقبل في كتب القبل؟ والآن سنقارن ما جاء به حضرة بهاء الله من تعاليم بتلك التّعاليم المذكورة في كتب الدّورات السّابقة المقدّسة.

إنّ الأوّل من بين المبادئ العظيمة الّتي جاء بها حضرة بهاء الله مبدأ تحرّي الحقيقة. بمعنى أنّ كلّ فرد من أعضاء الجنس البشريّ مدعوّ ومأمور بأن يطرح العقائد الموهومة والطّقوس الموروثة في الدّين والتّقليد الأعمى ويتحرّى الحقيقة بنفسه. فالحقيقة الأساسيّة طالما أنّها واحدة، فإنّ أديان العالم وأممها من شأنها أن تصبح واحدة بفضل تحرّي الحقيقة. ولا نجد مناداة بهذا المبدأ في أيّ من الكتب المقدّسة السّابقة.

ثاني المبادئ الّتي تتميّز بها تعاليم حضرة بهاء الله هو ذاك الّذي يفرض الإقرار بوحدة العالم الإنسانيّ. إذ خاطب حضرته البشريّة جمعاء بقوله: كلّكم أوراق شجرة واحدة. فلا اختلاف ولا تميّز في الأعراق بينكم عند الله. لا، بل إنّ الكلّ عباد لله، والكلّ منغمس في بحر وحدانيته. وليست هناك نفس واحدة محرومة، بل إنّ الجميع متلّقون لأفضال الله. فكلّ مخلوق آدميّ له نصيب من مواهبه وله قدْر من تجلّي حقيقته. فالله رؤوف بالكلّ، والبشر أغنامه وهو راعيها الحقيقيّ. ولا تحوي أيّ من النّصوص الإلهيّة الأخرى مثيلاً لهذا في شمول المقال وعموميّته، ولا تنادي أيّ تعاليم أخرى بهذا المبدأ القاطع عن تكافل البشريّة. أمّا بالنّسبة للفروق الّتي قد توجد بين إنسان وآخر، فإنّ حضرة بهاء الله يتفضّل بأنّ غاية ما هنالك أنّ الظّروف المحيطة بالبشر تختلف؛ أي أنّ بعضها مثلاً قد لا يكون على ما يرام، فيتوجّب عندئذ أن تُربّى مثل تلك النّفوس حتّى تصل إلى رتبة الكمال. فبعض النّفوس قد تكون مريضة عليلة، فيتعيّن علاجها ورعايتها إلى أن تتعافى. والبعض نائم يجب إيقاظه. والبعض قاصرون كالأطفال، يجب الأخذ بيدهم نحو البلوغ. بيد أنّ الكلّ يجب أن يلقى المحبّة والرّعاية. فالطّفل لا يصحّ أن يكون مكروهًا لمجرّد أنّه صغير، بل تتوجّب تربيته وتنشئته بكلّ صبر وأناة. والمريض لا يجوز نبذه وإهماله لمجرّد اعتلاله، بل يجب النّظر إليه بالعطف والمودّة، فيلقى الرّعاية إلى أن يبرأ. كما أنّ الرّوح النّائمة لا يصحّ أن يُنظر إليها بازدراء، بل يجب إيقاظها والأخذ بيدها نحو النّور.

من تعاليم حضرة بهاء الله أيضًا أن يكون الدّين على توافق مع العلم والعقل. فإذا كان الاعتقاد والتّعليم الدّينيّ متعارضين مع استنباطات العقل وقواعد العلم، فهما غير جديريْن بالقبول. وهذا مبدأ لم يرد في أيّ من الكتب السّماويّة للأديان السّابقة.

هناك نداء أساسيّ آخر لحضرة بهاء الله هو أنّ على الدّين أن يكون سببًا للاتّحاد والألفة في هذا العالم. فإذا كان سببًا للعداوة والكراهية والتّعصّب، يكون عندئذٍ غياب الدّين أفضل. وهذا مبدأ جديد منزّل، لا نجده إلاّ في بيانات حضرة بهاء الله.

كما يعلن حضرة بهاء الله أنّ علينا نبذ كافّة ألوان التّعصّبات بين البشر، وأنّه ما لم تزُلْ تمامًا تلك التّعصّبات القائمة لن يبلغ العالم الإنسانيّ سلامًا ورخاء وطمأنينة، لا بل لن يكون بمقدوره أن يبلغ ذلك. وهذا المبدأ لا يمكن العثور عليه في أيّ من الكتب المقدّسة فيما عدا تعاليم حضرة بهاء الله.

هناك تعليم آخر يقضي بالمساواة التّامّة بين الرّجال والنّساء. فلماذا يوجِد الرّجل تمييزًا لا يقرُّ به الله؟ إنّ الذّكورة والأنوثة موجودتان في ممالك الوجود الّتي تدنو مملكة الإنسان، ولكنّ التّمييز بين الذّكر والأنثى في تلك الممالك ليس تمييزا قمعيًّا أو تقييديًّا. فالفَرَس على سبيل المثال لها ما للحصان من قوّة، بل غالبًا ما تفوقه سرعة. فهناك مساواة كاملة بين الجنسين في سائر مخلوقات مملكتيّ الحيوان والنّبات، وهي مساواة يجب أن تسود كذلك في مملكة البشر؛ ومن كان قلبه أطهر، وحياته وخلقه أسمى وأقرب إلى المعيار الرّبّانيّ، فهو الأجدر والأكثر امتيازًا عند الله. هذا هو الامتياز الصّادق الحقيقيّ الوحيد، سواء صادفناه في رجل أو امرأة.

أعلن حضرة بهاء الله عن ضرورة إيجاد لغة عموميّة تكون بمثابة وسيلة للتّخاطب العالميّ، وبذلك تزول كافّة أسباب سوء التّفاهم والصّعوبات. وهذا التّعليم مشروح في الكتاب الأقدس الّذي طبع منذ خمسين سنة.

كما نادى حضرته أيضًا بالمبدأ القائل بوجوب تعليم كافّة البشر، حتّى لا يبقى للأمّيّة من أثر. وهذا العلاج العمليّ اللاّزم للعالم لا يمكن العثور عليه في نصوص أيّ من الكتب المقدّسة الأخرى.

يعلـّم حضرة بهاء الله أيضًا بأنّه يتعيّن على كافّة البشر أن يكونوا مؤهّلين بحرفة مفيدة أو صنعة أو مهنة تضمن لهم العيش، وتعتبر مثل تلك المهارات عملاً من أعمال العبادة.

إنّ تعاليم حضرة بهاء الله لا عِدّ لها ولا حصر من حيث منفعتها بعيدة المدى لبني البشر. فالقصد والغرض ممّا ذكرناه اليوم أنّها تعاليم جديدة لا مثيل لها في أيّ من كتب أديان القبل. وفي ذلك إجابة عن السّؤال القائل ‘ما الّذي أتى به حضرة بهاء الله ولم نسمع به من قبل؟’ فيكون من المؤكّد الثّابت أنّ مظهر أمر الله لهذا اليوم متميّز عن سائر ما سبقه من ظهورات ورسالات، سواء من حيث جلاله وهيمنته ونفوذ كلمته وفاعليّتها.

لقد عانى كلّ أنبياء الله من الاستهزاء والاضطهاد. فانظروا إلى حضرة موسى، إذ دعاه النّاس قاتلاً، وقالوا له ‘لقد قتلتَ نفسًا ثمّ هربتَ من العقاب والقصاص. فهل يجوز بعد سابق فعلتك هذه أن تصبح نبيًّا؟’

يذكر التّاريخ روايات مماثلة عديدة فيما يتعلّق بالرّسل الإلهيّة المقدّسة. فما أمرّ وأقسى ما تعرّضوا له من اضطهادات! فانظروا كم سعى اليهود إلى محو حضرة المسيح والحطّ من شأنه، ووضعوا على رأسه تاجًا من الشّوك وساروا به في الطّرقات والأسواق ساخرين منه قائلين ‘السّلام عليك يا ملك اليهود!’، وكان البعض ينحني له من الوراء قائلين باحتقار ‘يا ملك اليهود!’ أو ‘يا ربّ الأرباب، عليك السّلام!’ بل إنّ بعضهم كان يبصق على طلعته المباركة. مجمل القول إنّ الاضطهادات الّتي عاناها حضرة المسيح زمان ظهوره مذكورة في كتب الدّورة القديمة من يهود ورومان ويونان. ولم يكن من نصيبه أيّ مديح، ولم يأته أيّ تقدير أو قبول إلاّ ممّن آمنوا به واتّبعوه. فكان بطرس على سبيل المثال واحدًا ممّن مدحوه؛ وتكلّم نفر آخر من الحواريّين في صالحه. ولكنّ الكثير من الكتب كتبت ضدّه. وتجدون في تاريخ الكنيسة سردًا لما أبداه له فلاسفة الرّومان واليونان ومصر من كراهية وعداوة، ملحقين به الافتراءات، وناسبين إليه النّقائص.

أمّا أيّام ظهور حضرة بهاء الله، فمنذ أوّل يوم لمجيئه حتّى وقت رحيله أقرّ النّاس من كلّ الأمم بعظمته، بل إنّ أولئك الّذين كانوا من ألدّ أعدائه قالوا عنه ‘إنّ هذا الرّجل عظيم حقًّا، ونفوذه غالب ومدهش. لقد كانت شخصيّتة مجيدة، وقدرته عظيمة، وبيانه في غاية الفصاحة، بيد أنّه ويا للأسف كان مُضلِّلاً للنّاس.’ هكذا كان فحوى مديحهم وثنائهم وإنكارهم. والواضح أنّ أصحاب تلك المقولات، رغم كونهم أعداءه، قد تعجّبوا ودُهشوا إلى أقصى حدٍّ من عظمته وجلاله. بل إنّ بعضًا منهم أقرظوا شعرًا فيه ضمّنوه إيماءات قصدوا منها السّخرية والتّهكّم، إلاّ أنّها في الواقع كانت مديحًا وثناء. فمثلاً قال شاعر معارض لأمره المبارك: ‘حذار حذار أن تقربوا هذا الشّخص، فله ما للسّحرة من نفوذ وطلاوة في الحديث. فهو يسحر البشر ويسكرهم ويغيّب وعيهم. حذار حذار أن تقرأوا كتابه، أو تقتدوا بمثاله، أو تعاشروا أصحابه، فلديهم قدرة خارقة وهم أيضًا مضلِّلون للنّاس.’ والقصد هو أنّ ذلك الشّاعر عمد إلى هذه الأوصاف ظنّا منه أنّها تعبيرات للتّحقير والقدح، غير مدرك أنّها كانت في حقيقة الأمر مديحًا وثناء، ذلك لأنّ الإنسان الحكيم بعد أن يقرأ تحذيرًا كهذا لا يسعه إلاّ أن يقول: ‘لا بدّ أنّ هيمنة هذا الرّجل عظيمة بغير جدال طالما اعترف بها النّاس حتّى أعداؤه، ولا شكّ أنّ قدرة كهذه غيبيّة في مصدرها.’ فكان ذلك أحد الأسباب الّتي دفعت بالعديد من النّاس لأن تتحرّى أمره. وكلّما زاده الأعداء قدحًا، كلّما انجذبت إليه النّفوس أكثر، وازدادت أعداد من يأتون لتحرّي حقيقة أمره. فكان النّاس يقولون: ‘ما هذا إلاّ أمرٌ مدهش، وما تلك إلاّ شخصيّة عظيمة علينا الاستقصاء والبحث في دعواها لنتبيّن فحواها ونكتشف مرادها ونفحص براهينها ونفهم معانيها بأنفسنا.’ وهكذا تسبّبت مفتريات أعدائه ومكائدهم في أن يتودّد النّاس ويتقرّبوا إلى الأمر المبارك. كما بلغ الحدّ بعلماء الدّين الإسلاميّ في إيران أن ندّدوا بأمر حضرة بهاء الله من فوق المنابر، ملقين بعمائمهم على الأرض – وهي علامة على عظيم الهياج والغضب – صائحين: ‘أيّها النّاس! إنّ بهاء الله هذا ساحر يريد تغييبكم عن وعيكم، وإبعادكم عن دينكم، وضمّكم إلى زمرته. حذار أن تقرأوا كتابه! حذار أن تعاشروا أصحابه!’

يتحدّث حضرة بهاء الله عن نفس هؤلاء الّذين كانوا يهاجمونه ويندّدون به بقوله: إنّهم دعاتي والمنادون برسالتي والنّاشرون لكلمتي. ادعوا الله أن يتضاعفوا ويزدادوا عددًا، وأن يَعلو صياحهم أكثر فأكثر. فكلّما تزداد إساءتهم إليّ بكلماتهم ويتعاظم هياجهم، كلّما يزداد نفوذ أمر الله قدرة وقوّة، ويتزايد نور الكلمة الإلهيّة بريقًا ويعظـُم إشراق الشّمس الرّبّانيّة. وفي النّهاية سيتبدّد قتام ظلام العالم، ويلمع نور الحقيقة حتّى يغمر الأرض كلّها ببهاء إشراقه.

(2) 16 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

حيثما يرتفع ذكر حضرة بهاء الله فتلك هي جنّة الأبهى، وحيثما توجد النّفوس الطّاهرة المتجرّدة المستنيرة فذلك هو فردوس البهاء. ومدينة طهران هي فردوس حضرة بهاء الله لأنّ هناك نفوسًا لا يمكنكم اعتبارها نفوسًا بشريّة، وإنّما هم من الملائكة. فالأحبّاء البهائيّون في تلك المدينة هم حقًّا من جنود السّموات، وكلّما يخطرون ببالي تغمرني السّعادة والسّرور.

لقد عانى الجمال المبارك من المحن والمصائب ما لا حصر له، ولكنّه ربّى في زمان حياته الكثير من النّفوس في كلّ الأصقاع – نفوسًا لم يكن لها مثيل أو نظير. فالغرض من مجيء المظاهر الإلهيّة هو تربية العباد. تلك هي النّتيجة الوحيدة لرسالتهم، وذلك هو أثرها الحقيقيّ. فما تحقّق من حياة حضرة اليسوع كلّها كان تربية أحد عشر حواريًّا وامرأتين. وإذا ما تساءلنا لماذا عانى من المتاعب والمحن والمصائب، لكان الجواب: من أجل تربية ذلك النّفر القليل من الأتباع. فتلك كانت محصّلة حياته الدّنيويّة. وما نتج عن حياة حضرة المسيح لم يكن الكنائس، بل تلك النّفوس المنيرة الّتي آمنت به. وهم الّذين قاموا من بعده بنشر تعاليمه.

أملي أن تصبحوا جميعًا نتاجَ حياةِ حضرة بهاء الله، ومحصّلة تربيته السّماويّة. وعندما يسألكم النّاس ‘ما الّذي حقّقه حضرة بهاء الله’ قولوا لهم ‘لقد صنع هذه النّفوس، لقد تعهَّدَنا بالتّربية والتّهذيب.’

(3) 17 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بقاعة عِلْم الأنساب (Genealogical Hall)،
بالعنوان 252 غرب الشّارع الثّامن والخمسين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

هذا لقاء مبارك لأنّ هذه النّفوس المحترمة قد التقت معًا بكامل الاتّحاد وبدافع من توقّد العقول والأذهان. إنّها مناسَبة سرورٍ عظيم بالنّسبة لي، فأمامي وجوه مشرقة ببشارات الله، وقلوب مشتعلة بنار محبّة الله، وآذان مصغية إلى نغمات الملكوت، وأعين مستنيرة بالآيات والدّلائل الرّبّانيّة.

كلّ كائن من الكائنات له درجته أو مرتبته من البلوغ. فمرحلة البلوغ في عمر الشّجرة هي أوان إثمارها. ونضج النّبات هو وقت ظهور براعمه وتفتُّح أزهاره. ويبلغ الحيوان في نضجه مرحلة تمام النّموّ والاكتمال. أمّا في مملكة البشر فإنّ الإنسان يصل إلى نضجه واكتماله عندما تبلغ أنوار عقله أعظم درجات توقـّدها وترقـّيها.

فالإنسان يمرّ من بدء حياته إلى نهايتها عبر فترات أو مراحل معينة، تتّسم كلّ مرحلة منها بأحوال معيّنة تميّزها عن غيرها. فمثلاً تكون أحوال الإنسان واحتياجاته في مرحلة الطّفولة موسومة بما للطّفولة من درجة في الذّكاء والاستعداد. ثمّ يدخل بعد فترة في مرحلة الشّباب، حيث تتبدّل أحواله واحتياجاته السّابقة بمتطلّبات جديدة تتناسب والتّقدّم الحاصل في هذه المرحلة. فتتّسع قوّة ملاحظته وتتّعمّق، وتُدرّب قدراته الذّهنيّة وتُشحذ، فلا تعود قيود الطّفولة وأجواؤها تحدّ من طاقاته وإنجازاته. وأخيرًا يجتاز فترة الشّباب ليدخل مرحلة أو مقام البلوغ، وهي المرحلة الّتي تستلزم تحوّلاً جديدًا وترقّيًا في مضمار أنشطة الحياة بما يتماشى مع متطلّباتها. فيلبس رداءً من جديدِ القدرات والأفهام، ويصير ذهنه منشغلاً بتعليمٍ وتربية يناسبان ما أحرزه من تقدّم، ويُختصّ بمواهب وعطايا توازي قدراته المتنامية، فلا تعود فترة صباه السّابقة وأحوالها تشبع توجّههه ورؤيته الّتي بلغت نضجها واكتمالها.

هناك بالمثل فترات ومراحل في حياة عالم الإنسانيّة جمعاء؛ فقد مرّت في وقت ما عبر مرحلة طفولتها، وفي وقت آخر بمرحلة صباها، غير أنّ الإنسانيّة قد دخلت الآن مرحلة نضجها واكتمالها المتنبّأ بها منذ أمد بعيد، وهي الفترة الّتي نرى شواهدها الآن لائحة واضحة في كلّ مكان. فتكون احتياجات وأحوال الفترات السّابقة قد تغيّرت واندمجت في المقتضيات الّتي تميّز بوضوح عصر عالم البشر الحاضر. فما كان موافقًا لاحتياجات البشر فيما مضى من تاريخ البشريّة لا يمكنه أن يفي أو يلبّي احتياجات عصر ومرحلة التّجديد والبلوغ الحاليّ. إذ خرجت البشريّة من مراحل قصورها ومحدوديّة تحصيلها السّابقة، وصار لزامًا على الإنسان الآن أن يكون مزوّدًا بالجديد من الفضائل والقدرات، والجديد من الأخلاقيّات والاستعدادات. كما أنّ هناك المزيد من المواهب والعطايا والكمالات في انتظاره، بل إنّها تهبط عليه الآن بالفعل. أمّا مواهب وأفضال مرحلة الصّبا، فمع أنّها كانت ملائمة وكافية إبّان فترة مراهقة العالم الإنسانيّ، إلاّ أنّها تعجز اليوم عن أن تفي بمقتضيات نضجه وبلوغه. كما أنّ دُمى مرحلة الطّفولة والرّضاعة لم تعد تُرضي أو تشدّ اهتمام العقل النّاضج.

إنّ العالم الإنسانيّ يخضع لعمليّة إصلاح في كلّ نواحيه. فقوانين حكومات الماضي وحضاراته هي الآن قيد المراجعة؛ وتجري ترقية وتطوير الأفكار والنّظريّات العلميّة من أجل التّعامل مع ما يستجدّ من ظواهر؛ وصارت الابتكارات والاكتشافات تمتدّ إلى ميادين لم تكن معروفة من قبل، كاشفة بذلك عن الجديد من عجائب الكون المادّيّ وأسراره المكنونة؛ كما صارت الصّناعات تغطّي مجالاً شاسعًا من حيث تنوّعها وكَمـّها؛ وأمسكت عمليّة التّطوير، بما يرافقها من آلام، بزمام كلّ ركن من أركان عالم البشر بما يشير إلى انتهاء أحواله القديمة ومجيء عصر جديد من الإصلاح. فأعجاز الشّجر لا تعطي الثّمر؛ والأفكار والأساليب القديمة قد عفى عليها الدّهر ولم تعد ذات فائدة؛ وأنماط السّلوك والأخلاقيّات وأساليب الحياة الماضية لم تعد تفي باحتياجات العصر الحاضر من الرّقيّ والتّقدّم.

هذا الدّور هو أيضًا دور نضج الدّين وإصلاحه. فتقاليد عقائد الأسلاف هي الآن في طريقها إلى الزّوال. ومع أنّها كانت المحور الّذي ارتكز عليه الدّين، إلاّ أنّه لم يعد لها الآن أيّ ثمار؛ بل على النّقيض من ذلك صارت في يومنا هذا سبب انحطاط الإنسان وإعاقته. فالتّعصّب والتّشبّث المتزمّت بالعقائد العتيقة صار هو العلّة الرّئيسة والأساسيّة للعداء بين البشر، وأصبح عقبة أمام الرّقيّ الإنسانيّ، وسببًا للصّراع والنّزاع، وبات مدمّرًا للسّلام والطّمأنينة والخير في العالم. انظروا أحوال بلاد البلقان اليوم: آباء وأمهات وأطفالاً في لوعة وعويل، وقوامَ حياة قد انقلبت رأسًا على عقب، ومدنًا دُمّرت وأراضي خصبة بارت من جرّاء الخراب والدّمار الّذي جلبته الحرب. وما هذه الأحوال إلاّ محصّلة العداء والكراهية بين الأمم وأهل الأديان من المقلّدين والمتشبّثين بالرّسوم والطّقوس والخارجين على روح التّعاليم الإلهيّة وحقيقتها.

بمثل ما أنّ هذا أمر حقيقيّ واضح، فإنّ من الثّابت أيضًا أنّ ربّ الإنسانيّة قد أنعم على العالم في قرن النّضج والاكتمال هذا بأفضال وعطايا لا تتناهى، وأنّ بحر الرّحمة الرّبّانيّة موّاج، وشآبيب النّيسان الإلهيّ تهطل، وشمس الحقيقة تسطع بكلّ جلال. فقد جاءتنا في هذا العصر الرّحيم تعاليمُ سماويّة توافق رقيّ أحوال البشر. وهذا الإصلاح والتّجديد لحقيقة الدّين الأساسيّة هو بمثابة روح الحداثة الأصيلة الفاعلة، ونور العالم الجليّ، وإشراق الكلمة الإلهيّة الواضح، والعلاج الرّبّانيّ لكلّ اعتلال إنسانيّ، وهبة الحياة الأبديّة للبشر كافّة.

لقد أشرق نور حضرة بهاء الله، الّذي هو بمثابة شمس الحقيقة، من أفق الشّرق ساطعًا على كلّ الأرجاء بضياء وحياة دائميْن. وتعاليم حضرته الّتي تجسِّد روح العصر الرّبّانيّ، وتوافق عصر البلوغ هذا في حياة العالم الإنسانيّ، هي:

وحدة العالم الإنسانيّ

الرّوح القدس هو الحافظ والهادي

أساس كلّ الأديان واحد

على الدّين أن يكون سببًا للوحدة

على الدّين أن يكون موافقًا للعلم والعقل

التّحرّي المستقلّ عن الحقيقة

المساواة بين الرّجل والمرأة

نبذ كافّة التّعصّبات بين البشر

الصّلح العموميّ

التّربية العموميّة

اتّخاذ لغة عالميّة

حلّ المشكلة الاقتصاديّة

تأسيس محكمة دوليّة

كلّ من يبحث حقًّا ويتدبّر بإنصاف سيقرّ بأنّ تعاليم اليوم الحاضر المنبعثة من مصادر وسلطة بشريّة بحتة هي علّة المصاعب والاختلافات بين البشر، وهي عين ما يدمّر البشريّة. بينما يرى أنّ تعاليم حضرة بهاء الله هي عين شفاء العالم المريض، والعلاج الوافي بكلّ احتياج ولكلّ حالة. وهي الّتي نجد فيها تحقّقًا لكلّ رغبة وأمل، وهي سبب السّعادة للعالم الإنسانيّ، وحافز الأفهام ونورها، ودافع الرّقيّ والرّفعة، وأساس وحدة كلّ الأمم، وينبوع المحبّة بين البشر، ومركز الاتّفاق، وواسطة الصّلح والوفاق، والرّابطة الوحيدة الّتي ستؤلّف بين الشّرق والغرب.

إنّ لكلّ ليلٍ نهارًا يعقُبه. ومن مقتضيات حكمة الله البالغة أنّه عندما يغشى العالم كثيفُ ظلام الكراهية والعداوة الدّينيّة، وقتام الجهل الدّينيّ، والخرافات والتّقاليد العمياء، تطلع شمس الحقيقة وتتجلّى روح الحقيقة وتنعكس على مرايا قلوب العباد. لقد طلع حضرة بهاء الله في زمان كهذا من أفق بلاد الشّرق وتحمّل طوال خمسين سنة أقسى المصاعب والمحن بينما كان يعمل دائمًا على تبديد ظلام أحوال الدّين، وإزالة علّة العداوة والبغضاء، وإيقاظ العالم الإنسانيّ من فراش الإهمال والغفلة، بنور البشارات المجيدة الوهّاج وبوق الصّيحة والنّداء الملكوتيّ. ومن أجل نشر رسالته هذه قدّم حياته فداء، وتحمّل كلّ تقلّبات العيش… وكان في كلّ الأحيان تحت خطر السّيف وتهديده، إلاّ أنّه حمل لواء التّعاليم الرّبّانيّة عاليًا وأغرق عالم الشّرق بالنّور والضّياء. ففي بلاد الشّرق يلوح اليوم نور البشارات الملكوتيّة من كلّ مكان، ويـُسمع النّداء الرّبّانيّ، ويَلمع إشراق شمس الحقيقة، وينهمر المطر الثّمين من سحاب الرّحمة، وتَمنح نفثاتُ الرّوح القدس قلوبَ العباد حياة جديدة. وعمّا قريب سينقشع الظّلام بالكلّيّة، وتصير أصقاع الشّرق في غاية الإشراق؛ ولن تبقى هناك أيّ عداوة أو كراهية أو جهل أو تعصّب؛ ولسوف تُعزل القوى الشّيطانيّة الّتي تخلّ بالمساواة بين البشر وبوحدة الأديان، وتُثلُّ عروشها. فتعيش الأمم في سلام ووفاق تحت راية وحدة البشريّة الوارفة. فعلينا إذًا أن نتضرّع إلى الله ربّنا بقلوب مخلصة منكسرة، طالبين العون والمساعدة في تحقيق هذه الغاية الجليلة: أن تتوحّد الأمم على كلمة الله، وتختفي الحرب والعداوة والكراهية من بين الأجناس والأديان والأوطان والمذاهب، ولا يبقى لها أيّ ذكر على الإطلاق؛ وأن تتعانق الشّعوب والأمم بالأرواح في عروة وثقى من قوّة محبّة الله. عندئذ يصير عالم البشر مشرقًا، ويهنأ النّوع الإنسانيّ كلّ الهناء من نعم وآلاء الفضل الرّبّانيّ. فإذا ما بقيت الشّحناء والعداوة الدّينيّة بين البشر لن يجد عالم الإنسانيّة أيّ سعادة أو راحة أو طمأنينة.

فادعوا الله أن يعيننا على هذه المهمّة الملكوتيّة، وأن ينجّي عالم البشر من ويلات الجهل والعمى والموت الرّوحانيّ. عندئذ ترون نورًا على نور، وحبورًا على حبور، وسعادة كاملة مستحكمة في كلّ الأرجاء، وتشاهدون أهل الأديان يتعاشرون بالرّوْح والرّيحان، وتجدون هذا العالم بنضجه واكتماله قد صار انعكاسًا للملكوت الأبديّ، وتُلفون هذا المسكن البشريّ التّرابيّ قد أصبح الفردوس الإلهيّ بعينه. ادعوا من أجل ذلك، ادعوا من أجل ذلك!

إلهي إلهي، ترى الحاضرين متوجّهين إليك، متوكّلين عليك. ربّ ربّ أنر أبصارهم بنور المحبّة، وأضئ قلوبهم بالأشعّة السّاطعة من ملكوت الملأ الأعلى، واجعلهم آيات موهبتك بين الورى، ورايات فضلك بين الملأ. أي ربّ، اجعلهم جنود الملكوت وسخّر قلوب البشر بخدمتهم وعملهم وأنزل عليهم رحمتك الكبرى، وانصر جميع أحبّتك واجعلهم متوجّهين إلى ملكوت رحمانيّتك ومنادين باسمك بين خلقك حتّى يهدوا العباد إلى فضل هدايتك العظمى.

ربّ ربّ، انظرهم جميعًا بلحاظ رحمانيّتك.

ربّ ربّ، قدّر لهم جمال قدسك في ملكوت أزليّتك.

ربّ ربّ، احفظهم في كلّ امتحان وثبّت كلّ قدم على صراط محبّتك وأعنهم على أن يكونوا في أمرك كالجبال الرّاسيات، على شأن لا يتزعزع إيمانهم ولا تغشى بصائرهم أو تُحرم من مشاهدة الأنوار السّاطعة من ملكوتك الأعلى. إنّك أنت الكريم، إنّك أنت القدير، وإنّك أنت الرّحمن الرّحيم.

(4) 18 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد فرانك موكسي وحرمه،
575 طريق ريفرسايد، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

أشكر الله تعالى على لقائي هذا بكم، فهذه اللّقاءات من حيث الظّاهر مستحيلة، لأنّنا من أهل الشّرق بينما أنتم من أهل الغرب. فلا تربطنا معًا أيّ علاقة وطنيّة، أو لغويّة، أو عرقيّة، أو تجاريّة، أو سياسيّة. فلا يوجد بيننا أيّ رابطة أو صلة دنيويّة من أيّ نوع لتكون مبرّرًا للقاء كهذا. ولكنّ الّذي جمعنا معًا هو محبّة الله، وتلك أفضل الوسائط والدّوافع. فأيّ رابطة أخرى من روابط الصّداقة محدودة في أثرها، ولكنّ الألفة المبنيّة على محبّة الله لا تعرف الحدود، وهي أزليّة ربّانيّة نورانيّة. فعلينا إذًا أن نكون شاكرين لله الّذي وحّدنا برباط المحبّة والوفاق، ونسبّح بحمده أن أوجد فينا مثل هذا الانجذاب، حتّى إنّ أولئك القادمين من بلاد الشّرق البعيدة يعاشرون أحبّاء الغرب بكلّ رَوْح وريحان.

لكلّ شيء بالتّأكيد حكمة شاملة، خاصّة فيما يتعلّق بعظائم أمور الحياة وأهمّها. وأعظم وأهمّ حدث في العالم الإنسانيّ هو المظهر الإلهيّ ونزول شريعة الله. فمظاهر الله لم يأتوا من أجل تأسيس دولة أو مذهب أو فرقة، ولم يظهروا لكي يُقِرَّ بنبوّتهم نفر من النّفوس، ولم يعلنوا عن مهمّتهم ورسالتهم السّماويّة حتّى يرسوا أساسًا لاعتقاد دينيّ. وحتّى السّيّد المسيح لم يظهر لمجرّد أن نؤمن به أنّه المسيح فنتبعه ونعشق سيرته. فهذه الأمور جميعها محدودة في نطاقها ومقتضاها، بينما حقيقة حضرة المسيح جوهر لا تحدّه حدود. فلا يمكن أن تحاط الحقيقة اللاّمتناهية وغير المحدودة بأيّ حدود. بل إنّ حضرة المسيح على العكس من ذلك ظهر من أجل إنارة العالم الإنسانيّ، ومن أجل أن يحوّل العالم التّرابيّ إلى عالم سماويّ، ومن أجل أن يجعل مملكة البشر عالم الملائكة، ومن أن أجل توحيد الأفئدة، وإيقاد نور محبّة الله في نفوس بني البشر؛ لكي تنال تلك النّفوس استقلالها، وتبلغ تمام الاتّحاد والألفة، وتتوجّه إلى الله، وتدخل في الملكوت الرّبّانيّ، وتتلقّى العطايا والمواهب الإلهيّة، وتنال نصيبًا من المنّ السّماويّ. فقد كان من المقدّر لتلك النّفوس أن تتعمّد بالرّوح القدس على يد حضرة المسيح، وتنال روحًا جديدة، وتحظى بالحياة الأبديّة. والغرض من التّعاليم المقدّسة والتّصريح بالشّرائع السّماويّة كان هذه المقاصد الملكوتيّة على اختلافها. لذا نرفع أيادي الشّكر لله على أنّه رغم عدم وجود أيّ رابطة دنيويّة بيننا، قد امتزجنا والحمد لله بأواصر مثاليّة ربّانيّة واجتمعنا معًا في هذا اللّقاء، توّاقين إلى تجلـّي وظهور المواهب الرّبّانيّة.

لقد تراءى لأمم العالم في القرون الماضية أنّ أحكام شريعة الله تستلزم تقليدًا أعمى للرّسوم الموروثة عن الأسلاف في العقيدة والعبادة. فمثلاً كان اليهود أسرى طقوس دينيّة عرقيّة موروثة. كما بات المسلمون كذلك أسرى شعائر ورسوم متواترة. كما أنّ تصرف المسيحيّين ينمّ أيضًا عن اتّباعهم للعادات القديمة والتّعاليم الموروثة. وفي الوقت نفسه فإنّ القاعدة الأساسيّة لدين الله، الّتي كانت دائمًا وأبدًا مبدأ المحبّة والوحدة والألفة بين البشر، قد هُجرت ونُحِّيتْ جانبًا، وتشبّث كلّ نظام دينيّ بتقاليد الرّسوم الموروثة على أنّها أسمى جوهر في الدّين. ولذلك ظهرت الكراهية والعداوة في العالم لتحلّ محلّ الثّمار الرّبّانيّة الماثلة في الاتّحاد والمحبّة. ومن جرّاء ذلك صار من المستحيل على أتباع الأديان أن تلتقي على معين الألفة والاتّفاق. بل إنّ مجرّد الاتّصال والتّخاطب قد عُدّ نجاسة، وكان الحاصل حالة من الاغتراب التّامّ والتّعصّب المتبادل. ولم يعد هناك تحرٍّ عن الجوهر الّذي ترتكز عليه الحقيقة. فمن كان أبوه يهوديًّا كان هو الآخر دومًا يهوديًّا، والمسلم هو المولود لأب مسلم، والبوذيّ بوذيّ بسبب ملّـة أبيه من قبله، وهلمّ جرّا. والخلاصة إنّ الدّين كان ميراثًا ينتقل من الآباء للأبناء ويعطيه الأسلاف للأخلاف دونما أيّ استقصاء للحقيقة الجوهريّة؛ فاحتجب أتباع الأديان جرّاء ذلك ولفّتهم الظّلمة، واختلفوا وتنافروا فيما بينهم.

الحمد لله أنّنا نعيش في هذا القرن الأنور الّذي فيه ترقّت أفهام بني الإنسان، واتّسم البشر بفضيلة استقصاء الأصول الجوهريّة. فصار النّاس فرادى وجماعات يسعون إلى إثبات حقيقة الأحوال ظاهريًّا وباطنيًّا والتّعمّق فيها. ولذا بتنا الآن نرفض كلّ ما يشتمّ منه رائحة التّقليد الأعمى، وصرنا نتحرّى الحقيقة بكلّ تجرّد واستقلال. فلنفهم الآن جوهر حقيقة الأديان الإلهيّة. فإذا ما ألقى المسيحيّ جانبًا تلك الرّسوم الموروثة والتّقليد الأعمى للطّقوس، وتحرّى حقيقة الأناجيل، لتبّين له أنّ المبادئ الأساسيّة في تعاليم حضرة المسيح كانت هي الرّحمة والمحبّة والألفة والإحسان والإيثار، وإشراقات المواهب الرّبّانيّة، والفوز بنفثات الرّوح القدس والوحدة مع الله. وسيعرف أيضًا أنّ حضرة المسيح قد أعلن بأنّ الأب يشرق شمسه على الأشرار والصّالحين، ويمطر على الأبرار والظّالمين. وفحوى هذا القول هو أنّ رحمة الله تحيط البشر أجمعين، وأنّه لا يحرم أيّ إنسان من رحمة الله، ولا تُمنع نفس عن أنوار مواهب الله. فالإنسانيّة بكاملها منغمسة في بحر الرّحمة الصّمدانيّة، ونحن جميعًا أغنام راع ربّانيّ واحد. فإذا ما كانت فينا نقائص توجّبَ علينا علاجها. فمثلاً، من كان جاهلاً يجب أن يُفقّـه ليصير عارفًا، والمريض تجب معالجته إلى أن يتعافى، والقاصر يُربّى ليبلغ رشده، ومن كان غافلاً يُنبّه. ويتوجّب إجراء كلّ ذلك بالمحبّة لا بالبغضاء والعداوة. كما أنّ يسوع المسيح، في إشارة منه لنبوءة إشَعياء، تحدّث عمّن لهم أعين لا تبصر، وآذان لا تسمع، وقلوب لا تفقه، ولكنّه أوصى بوجوب إبرائهم من ذلك. فيتّضح إذًا أنّ مواهب حضرة المسيح حوّلت العين الكفيفة إلى عين بصيرة، ووهبت الأذن الصّمّاء قدرة على الإصغاء، وجعلت القلب القاسي الفظّ حنونًا مرهفًا. أي أنّ المقصود هو أنّه على الرّغم من أنّ للنّاس عيون ظاهريّة، إلاّ أنّ بصيرة الرّوح أو الإدراك قد أصابها العمى؛ ومع أنّ الأذن الظّاهريّة تسمع، إلاّ أنّ السّمع الرّوحانيّ أصمّ؛ وعلى الرّغم من أنّ قلوبهم واعية، إلاّ أنّها بغير استنارة؛ وأنّ مواهب حضرة المسيح نجّت هذه النّفوس وخلّصتها من تلك الأحوال. فيتّضح إذًا أنّ ظهور حضرة المسيح كان مرادفًا لظهور رحمة عموميّة. فكانت عنايته عامّة شاملة، وتعاليمه للجميع، ولم تكن أنواره مقصورة على نفر قليل من النّفوس. وما من مسيح إلاّ وقد جاء للنّاس كافّة. فعلينا إذًا أن نتحرّى أساس الدّين الإلهيّ ونتبيّن حقيقته ونعيد تأسيسه وننشر رسالته في جميع أنحاء الدّنيا لكي يصير سبب النّور والاستنارة للبشر، فيحيا به أموات الرّوح، ويبصر عُمْيُ البصيرة، ويتنبّه الغافلون عن الله.

إنّ تعاليم الأديان الإلهيّة وأحكامها على قسمين. أوّلهما روحانيّ وجوهريّ في طبيعته – كالإيمان بالله، والإيمان بحضرة المسيح، والإيمان بحضرة موسى، والإيمان بحضرة إبراهيم، والإيمان بحضرة محمّد، ومحبّة الله، ووحدة العالم الإنسانيّ. وهذه المبادئ الإلهيّة ستُنشَر في العالم كلّه، فيختفي النّزاع والعداء، وينتهي الجهل والكراهية والعداوة ويأتلف جميع بني الإنسان. أمّا القسم الثّاني من الأوامر والتّعاليم فيختصّ بالأحوال الظّاهريّة ومعاملات عالم البشر، وهي تشريعات شؤون البشر غير الجوهريّة أو التّشريعات العارضة أو المؤقّتة الخاضعة للتّغيير والتّبديل طبقًا لمقتضيات الزّمان والمكان. فمثلاً، كان الطّلاق في زمان حضرة موسى مُحلّلاً بيد أنّه حُرّم في زمان حضرة المسيح. وكان في التّوراة أحكام قصاصيّة عشرة عقوبتها القتل، وهي أحكام لا يمكن تطبيقها اليوم في ظلّ ظروف العالم الحاليّة، لذا أُبطلت هذه الأحكام المؤقّتة غير الجوهريّة واستُبدلت بما يناسب مقتضيات واحتياجات ما توالى عليها من أزمنة.

بيد أنّ أتباع الأديان الإلهيّة أعرضوا وابتعدوا عمّا حدّدته الكلمة الإلهيّة بأنّه جوهريّ ودائم من المبادئ والأحكام، وهجروا هذه الحقائق الأساسيّة الّتي تتعلّق بحياة العالم الإنسانيّ – أي الحياة الأبديّة، مثل محبّة الله والإيمان بالله، والبِرّ والإحسان، والمعرفة والعرفان والهداية الرّبّانيّة – معتبرينها عرضيّة وغير جوهريّة، بينما هم يتخاصمون ويختلفون على مسائل من قبيل ما إذا كان الطّلاق حلالاً أم حرامًا، أو ما إذا كان إجراء تشريع ثانويّ هو من صلب العقيدة ومصداقيّتها. فمثلاً يعتبر اليهود الطّلاق حلالاً؛ ويعدّه الكاثوليك من المسيحيّين محرّمًا؛ فتكون النّتيجة نشوب النّزاع والعداوة بينهما. أمّا إذا ما تحرّوا الحقيقة الأساسيّة الواحدة الّتي تقوم عليها كلّ من شريعتيّ موسى والمسيح لزالت هذه الكراهية وسوء الفهم وسادت الوحدة الرّبّانيّة.

لقد أوصى حضرة المسيح بأنّه إذا ما لـُطِمنا على الخدّ الأيمن، علينا أن ندير الخدّ الآخر أيضًا. فانظروا ما يحدث الآن في البلقان. تُرى أيّ التزام بتعاليم حضرة المسيح نراه في تلك الحالة المؤسفة؟ ألم يَنْسَ الإنسان تمامًا تلك الوصيّة الإلهيّة الّتي أتى بها المسيح وضرب صفحًا عنها؟ فذلك النّزاع والاقتتال هو في حقيقة الأمر شواهد الاختلاف على ما هو غير جوهريّ من مبادئ وأحكام العقيدة الدّينيّة. فالوحدة والمحبّة في أفئدة العباد لا يخلقها سوى تحرّي الحقيقة الأساسيّة الواحدة، واتّباع المبادئ الجوهريّة الثّابتة الّتي جاءتنا بها الكلمة الإلهيّة.

لقد سادت بلادَ الشّرق في القرن التّاسع عشر حالةٌ من الظّلام الرّوحانيّ، وغرقت الأديان في بحر من التّقاليد العمياء والتّشبّث بالرّسوم الموروثة. ولم يكن هناك أيّ أثر للأساس الجوهريّ للرّسالة الرّبّانيّة. فأحاطت الشّحناء والبغضاء بالبشر جرّاء ذلك، وابتليت الإنسانيّة بالنّزاع والضّغينة والاقتتال، واصطبغت آفاق عالم الشّرق بالدّماء. وبدلاً من أن يكون الدّين سببًا للألفة والوفاق، صار علـّة للكراهية؛ وبدلاً عن إقامة الوحدة صار باعثًا على الخلاف والعداء والنّزاع. فكانت الظّروف آنذاك مماثلة لما يسود البلقان اليوم، حيث يتوهّم النّاس أنّ أساس الدّين الإلهيّ هو القتال والنّزاع، ويسعى أتباع هذا الدّين إلى إفناء أصحاب ذاك الدّين وإهلاكهم، وصار أتباع كلا الدّينين متشبّعين بدافع تعصّبي نحو القتل. فهم يحسبون أنّ السّبيل إلى إرضاء الله طريق ملطّخ بالدّماء، ويظنّون أنّه كلّما أمعن المؤمن في سفك الدّماء كلّما ازداد قربًا من الله، وما هذا إلاّ نتاج التّقاليد العمياء. فما أظلم هذه المحصّلة وما أشدّها إهلاكا للبشريّة! وإذا ما كان هذا هو أساس الدّين الإلهيّ فيكون غيابه أفضل؛ فحتّى الكافرين لا يسفكون الدّماء بهذه الكيفيّة ولا هم يعادون بعضهم البعض. فها هي أديان اليوم قد صارت قوى للعداوة والنّزاع، وما كان مفروضًا منه أن يساهم في تنوير العالم وإصلاحه صار جالبًا للظّلام الحالك والهوان.

استئنافًا لما سبق: انظروا كم تسبّبت نفس تلك التّقاليد العمياء في جعل الظّلام يغلّـف بلاد الشّرق بأكملها. في وقت كهذا أشرق حضرة بهاء الله من أفق الشّرق متألّقًا كالشّمس، فجدّد أساس الأديان الإلهيّة، وحطـّم التّشبّث الأعمى بالرّسوم الموروثة، وشيّد مكانها محبّة وألفة روحانيّة بالدّرجة الّتي لم يبق معها أيّ نزاع أو خلاف أو عداء. وما حدث من جمعٍ لشمل المذاهب المختلفة واضح ولائح. فهم يتعايشون الآن في محبّة واتّحاد. وإذا ما دخلتم مجلسًا من مجالسهم لا بدّ تلاحظون أنّهم قد صاروا كأنّهم من جنس واحد ووطن واحد ودين واحد؛ وتجدون أنّهم يتعاشرون بكلّ إخاء ووفاق. والحمد لله أن اندثرت تلك التّقاليد العمياء وتبدّد ذلك الظّلام، وثبتت حقيقة وحدة الإنسانيّة عمليًّا.

الشّعب الأمريكيّ في نظري هو شعب عالٍ في تمدّنه وفطنته، وأمّة تتحرّى الصّدق والحقيقة. وأملي أن يتواصل ازدياد تعاضد البشريّة بفضل جهود هذه الأمّة النّبيلة، وأن تعمّ استنارة العالم الإنسانيّ، وأن يُرفع لواء الصّلح العموميّ، وأن يُوقد سراج وحدة العالم الإنسانيّ وتأتلف أفئدة أهل الشّرق والغرب معًا. عندئذ تسطع حقيقة الأديان الإلهيّة وتشرق بأنوارها، بما يبرهن على أنّ ما كان مقصودًا منها هو أن تكون سببًا للاتّحاد والمحبّة، وأنّها كانت دائمًا واسطة سطوع أنوار العطايا الملكوتيّة على عالم البشر.

(5) 23 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بالمأدبة الّتي أقميت بفندق جريت نورثرن،
118 غرب الشّارع السّابع والخمسين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

يجري في العالم ما لا حصر له من لقاءات ومحافل على درجات متفاوتة من الأهمّيّة وفقًا لما تسهم به في إصلاح العالم الإنسانيّ، إلاّ أنّها لقاءات مقتصرة في مراميها وأهدافها على مسائل ونتائج مادّيّة. فهي إمّا لقاءات سياسيّة أو تجاريّة أو تعليميّة في طبيعتها؛ وتسعى إلى دفع عجلة التّقدّم الاقتصاديّ، وتعزيز أغراض زراعيّة، وتشجيع البحث العلميّ ومساندة الاكتشافات؛ وهي تعمل على توفير ما يلزم لبناء مؤسّسات جديدة، ووضع التّدابير الماليّة، والاتّفاق على قوانين تنظّم الشّئون المدنيّة والاجتماعيّة. مثل هذه الاجتماعات مفيدة، إلاّ أنّ تأثيرها وهدفها لا يتعدّى دائرة منفعة البشر المادّيّة وإدارة شئونهم – بمعنى أنّها لا تخدم سوى المدنيّة المادّيّة.

أمّا لقاؤكم هذا في هذه اللّيلة فهو مختلف تمامًا في طبيعته، إذ إنّه لقاء عموميّ؛ لقاء ملكوتيّ وربّانيّ في غرضه لأنّه يخدم وحدة العالم الإنسانيّ ويروّج للصّلح العموميّ. وهو لقاء مكرّس لتعاضد بني الإنسان وإخائهم، ولمصلحة البشر الرّوحانيّة، ولاتّحاد العقائد الدّينيّة من خلال معرفة الله، ومواءمة التّعاليم الدّينيّة مع مبادئ العلم والعقل. وهو لقاء يروّج أيضًا للمحبّة والأخوّة بين بني الإنسان، ويسعى لإزالة وتحطيم الحواجز الّتي تباعد بين الأسرة البشريّة، وينادي بمساواة الرّجل والمرأة، ويرسّخ التّعاليم الرّبّانيّة والأخلاق، وينير العقول وينعشها بالإدراك الملكوتيّ، ويجذب العطايا والمواهب الإلهيّة الّتي لا تتناهى، ويزيل التّعصّبات العرقيّة والوطنيّة والدّينيّة، ويرسي قواعد الملكوت السّماويّ في أفئدة كافّة الأمم والشّعوب. وتأثير لقاء كهذا يؤدّي إلى الألفة الرّبّانيّة وإلى تقوية الأواصر الّتي تؤلّف وتوحّد بين القلوب، أواصر الرّوح الّتي لا تنفصم عراها وتربط الشّرق والغرب معًا، وبيمنها تُقتلع شأفة جذور التّعصّب العرقيّ وتباد، وتُرفع راية الدّيمقراطيّة الرّوحانيّة عاليًا، وبفضلها يَطَّهَّرُ عالم الدّين من المعتقدات البالية ورسوم التّقاليد الموروثة، وتتجلّى وتتّضح وحدة الحقيقة الّتي تقوم عليها جميع الأديان. فلقاء كهذا يرتكز على أسّ أساس الشّرائع الإلهيّة. فهو إذًا يوحّد بين كافّة الأديان، ويؤلّف بين سائر الملل والمذاهب والفرق، وذلك بكلّ عطف ومحبّة متبادلة بفضل رباطه الرّوحانيّ الوثيق. بهذه الكيفيّة، وبفعل لقاء كهذا، تزول علل التّخاصم والكراهية والتّعصّب، وتتبدّد العداوة والخلاف بالكلّيّة. فكلّ حركة أو لقاء تحدّه وتقيّده منفعة وهدف شخصيّ يكون بشريًّا بطبيعته، وكلّ حركة عموميّة غير محدودة في مداها وغرضها هي سماويّة ربّانيّة. والأمر الإلهيّ يترقّى ويتقدّم حينما وحيثما يتحقّق لقاء عموميّ بين بني البشر.

فاجهدوا إذًا أن تكون توجّهاتكم ومقاصدكم هنا في هذه اللّيلة عموميّة ومتفانية في طبعها. كرّسوا أنفسكم بكلّ إخلاص لإصلاح وخدمة البشريّة كافّة ولا تتركوا حاجزًا من الضّغينة أو التّعصّب الشّخصيّ باقيًا بين هذه النّفوس، إذ عندما تكون دوافعكم عموميّة ومقاصدكم ملكوتيّة، وعندما تنحصر آمالكم وتطلّعاتكم في الملكوت، لن يكون هناك أدنى شكّ في أنّكم ستصبحون محطـًّا لمواهب الله ومحلاًّ لرضائه.

إنّ هذا اللّقاء لهو حقًّـا أعزّ وأشرف اللّقاءات في العالم بفضل ما يحدوه من تلك النّوايا الرّوحانيّة العموميّة. فمأدبة ومحفل كهذا يستدعي تفانيًا مخلصًا من قبل جميع الحاضرين، ويستمطر البركات الإلهيّة. فكونوا على يقين وثقة بأنّ التّأييدات الإلهيّة تتنزّل عليكم، والعون الإلهيّ سيكون من نصيبكم، ونفثات الرّوح القدس ستحييكم بحياة جديدة، وشمس الحقيقة ستسطع عليكم بكلّ إشراق، وشذى الرّوض الرّحمانيّ سينفذ إلى نوافذ أرواحكم. كونوا واثقين وثابتين من أنّ خدماتكم ستكلّل بتأييد من قوى الملكوت؛ فنواياكم سامية ومقاصدكم خالصة حميدة. والله معينٌ لتلك النّفوس الّتي تسعى إلى خدمة الإنسانيّة، وتكرّس جهودها ومساعيها لخير وصلاح عموم الجنس البشريّ.

(6) 29 نوفمبر/ تشرين الثّاني 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد إدوارد كيني وحرمه،
بالعنوان 780 طريق وست إند، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

أودّ أن أحدّثكم في هذا المساء عن سرّ التّضحية والفداء. هناك نوعان من التّضحية: تضحية مادّيّة وأخرى روحانيّة. إنّ ما تقدّمه الكنائس من شرح يتعلّق بهذه المسألة هو في الحقيقة وهم وخيال. فمثلاً جاء في الإنجيل قول حضرة المسيح أنا هو الخبز الحيّ الّذي نزل من السّماء: إن أكل أحد من هذا الخبر يحيا إلى الأبد. وقوله أيضًا هذا ]الخمر[ هو دمي… الّذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا. فهذه الآيات فسّرتها الكنائس على نحوٍ من الخرافة يستحيل معه لأيّ عقل بشريّ أن يفهم ذلك التّفسير أو يقبله.

فهم يقولون إنّ حضرة آدم عصى أمر الله وأكل من ثمرة الشّجرة المحرّمة، فاقترف بذلك خطيئة توارثتها ذريّته من بعده. كما يعلّمون أيضًا أنّه بسبب خطيئة حضرة آدم، اقترفت سلالته بالمثل إثمًا وصارت مسؤولة بالوراثة؛ وبناء على ذلك فإنّ الجنس البشريّ كلّه يستحقّ العقاب ويجب أن يجرى عليه القصاص؛ وأنّ الله أرسل ابنه فداء لكي يُغفر للإنسان، وتجد البشريّة الخلاص من تبعات عصيان آدم.

نودّ أن ننظر إلى هذه المقولات من منظور العقل. فهل يُمكننا أن نتَصوّر أنّ إلهًا هو العدل نفسه يُنزل العقاب بذرّيّة حضرة آدم من أجل خطيئة ومعصية ارتكبها حضرة آدم؟ فإذا ما وجدنا آمرًا أو حاكمًا دنيويًّا يعاقِب ابنًا بذنب أبيه لاعتبرنا ذلك الحاكم إنسانًا ظالمًا. وهب أنّ الأب ارتكب خطأ، فما الخطأ الّذي ارتكبه الابن؟ فليست هناك صلة بين الأمريْن. فخطيئة حضرة آدم لم تكن خطيئة سلالته، خاصّة وأنّ حضرة آدم يسبق إنسان اليوم بألف جيل. وإذا ما اقترف أب لألف جيل ذنبًا، فهل من العدل أن ننادي بأنّ على جيل اليوم أن يتحمّل مغبّة ذلك الذّنب؟

هناك مسائل وشواهد أخرى جديرة بالاعتبار. لقد كان حضرة إبراهيم مظهرًا إلهيًّا ومن سلالة حضرة آدم؛ وكذلك كان إسماعيل وإسحق وإرميا، وكلّ سلالة الأنبياء، بمن فيهم داود وسليمان وهارون، هم من ذرّيّته. فهل تُدان تلك النّفوس القدسيّة من أجل عمل اقترفه أوّل الآباء، أي بسبب خطأ قيل إنّ أقصى سلف لهم، هو حضرة آدم، قد ارتكبه؟ إنّ الشّرح الّذي يُقدّم هو أنّه عندما جاء حضرة المسيح وفدى بنفسه تخلّصت سلالة من سبقه من الأنبياء جميعها من الخطيئة والعقاب، وهو قول لا يمكن حتّى لطفل أن ينطق به. فهذه التّفاسير والأقوال نتيجة عدم فهم لمعاني الكتاب المقدّس.

لكي نفهم حقيقة الفداء، علينا أن نتدبّر مسألة صَلب يسوع المسيح وموته. صحيح إنّه فدى نفسه من أجلنا، ولكن ماذا يعني ذلك؟ عندما ظهر حضرة المسيح، كان يعرف أنّ عليه أن يعلن عن نفسه في مواجهة كافّة أمم الأرض وشعوبها. وكان يعرف أنّ النّاس سوف تقوم عليه وتُلحق به صنوف الأذى. وما من شكّ أنّ من يدّعي أمرًا مثل ما ادّعاه حضرة المسيح لا بدّ أن يثير عداوة العالم ويكون شخصه عُرضة للأذى والمهانة. كان حضرة المسيح يعرف أنّ دمه سيسفك وأنّ جسده سيكون ضحيّة الشّراسة والوحشيّة. وعلى الرّغم من علمه بما كان سيحلّ به من بلايا فقد نهض لإعلان رسالته، وقاسى من النّاس كلّ محنة وبليّة، إلى أن فدى بنفسه في النّهاية حتّى يُنير البشريّة – أي أنّه بذل دمه في سبيل أن يهدي عالم البشر، وتقبّـل كلّ بليّة ومعاناة كي يهدي النّاس إلى الحقيقة. فلو أراد حضرة المسيح أن ينجـّي نفسه، ولم يرغب في تقديم روحه فداءً لما كان قادرًا أن يهدي نفسًا واحدة. فلم يكن هناك من شكّ أنّ دمه المبارك سيُسفك وجسده سيُحطّم. ومع ذلك فإنّ تلك الرّوح المقدّسة قبلت البليّة والموت من فرط محبّتها لبني الإنسان. وهذا هو أحد معاني الفداء.

أمّا عن المعنى الثّاني: فقد تفضّل حضرة المسيح بقوله أنا هو الخبز الحيّ الّذي نزل من السّماء .ولم يكن جسد حضرة المسيح هو الّذي أتى من السّماء، وإنّما جاء جسده من رحم مريم. أمّا الكمالات المسيحيّة فهي الّتي نزلت من السّماء؛ أي أنّ حقيقة حضرة المسيح هي الّتي أتت من السّماء. فروح حضرة المسيح لا جسمه هي الّتي تنزّلت من السّماء، فلم يكن جسده سوى جسد إنسان وليس هناك أيّ شكّ في أنّ ذلك الجسد العنصريّ قد ولد من رحم مريم. إلاّ أنّ حقيقة حضرة المسيح وروح حضرة المسيح وكمالات حضرة المسيح قد جاءت جميعها من السّماء. وبالتّالي فإنّ ما قصده بقوله إنّه كان الخبز الّذي نزل من السّماء هو أنّ الكمالات الّتي أظهرها كانت كمالات ربّانيّة، وأنّ البركات الماثلة في شخصه كانت نِعَمًا وعطايا ملكوتيّة، وأنّ نوره كان نور الحقيقة. وكذلك تفضّل قائلاً: إن أكل أحد من هذا الخبر يحيا إلى الأبد .ويعني هذا أنّ كلّ من يتمثّل بهذه الكمالات الرّبّانيّة المودعة فيّ لن يموت أبدًا؛ ومن له قسمة ونصيب من هذه العطايا الملكوتيّة المجسّدة في شخصي سيجد حياة أبديّة؛ ومن يستنير بهذه الأنوار الإلهيّة سيكون من نصيبه عيشٌ سرمديّ. فما أوضح هذا المعنى! وما أجلاه! فالرّوح الّتي تكتسب الكمالات الإلهيّة وتسعى الى الاستنارة الملكوتيّة من تعاليم حضرة المسيح لا شكّ تحيا حياة أبديّة. وهذا أيضًا أحد أسرار الفداء.

لقد ضحّى حضرة إبراهيم في حقيقة الأمر بحياته، ذلك لأنّه أتى العالم بتعاليم سماويّة وأنعم على البشريّة بمائدة سماويّة.

عن المعنى الثّالث للفداء فهو هذا: إذا ما زرعتم بذرة في التّربة ستظهر شجرة من تلك البذرة. فالبذرة تفدي بنفسها من أجل أن تأتي منها تلك الشّجرة وتكون البذرة في ظاهر الأمر قد فنت وهلكت؛ ولكنّ نفس تلك البذرة الّتي بذلت نفسها فداء سيتمّ امتصاصها وتصير جزءًا من الشّجرة وأزهارها وثمارها وأغصانها. فإذا لم تكن كينونة تلك البذرة قد بـُذلت فداء للشّجرة الّتي أتت منها، لما ظهر هناك أغصان ولا أزهار ولا ثمار. لقد فني حضرة المسيح في الظّاهر، واختفت هويّته الذّاتيّة عن الأبصار، تمامًا كما اختفت هويّة تلك البذرة؛ أمّا المواهب والصّفات والكمالات الرّبّانيّة لحضرة المسيح فقد تجلّت في زمرة المؤمنين الّذين أوجدهم حضرة المسيح بفدائه نفسه. وعندما تنظرون إلى الشّجرة تدركون أنّ كمالات البذرة وألطافها وصفاتها وجمالها قد تجلّت في الأغصان والأفنان والأزهار والثّمار؛ فتكون البذرة بذلك قد فدت نفسها للشّجرة. فلو لم تفعل ذلك لما جاءت الشّجرة إلى الوجود. وهكذا فدى حضرة المسيح بنفسه تمامًا، كما فعلت البذرة من أجل شجرة المسيحيّة، فتجلّت بذلك كمالاته ومواهبه وألطافه وأنواره وأفضاله في المجتمع المسيحيّ الّذي ضحى بحياته من أجل تأسيسه وإيجاده.

أمّا بالنّسبة للمعنى الرّابع للفداء فهو مبدأ تضحية الكينونة بصفاتها. فعلى الإنسان أن ينقطع عن تأثيرات عالم المادّة، وعن عالم الطّبيعة ونواميسه. فالعالم المادّيّ هو عالم الفساد والموت، وهو عالم الشّرّ والظّلام، والحيوانيّة والوحشيّة، والتّعطّش للدّماء والطّمع والبخل، وعبادة الذّات والأنانيّة والهوى؛ فهو عالم الطّبيعة. وعلى الإنسان أن ينسلخ عن تلك النّقائص كافّة، ويضحّي بتلك النّزعات الّتي هي من خصائص عالم الوجود الظّاهريّ المادّيّ.

من ناحية أخرى، على الإنسان أن يكتسب الصّفات الملكوتيّة وينال الخصال الرّبّانيّة، ويصبح على صورة الله ومثاله. عليه أن يسعى نحو المواهب الصّمدانيّة، ويصبح مظهر محبّة الله، ونور الهداية، وسدرة الحياة، ومخزن المواهب الإلهيّة. بمعنى أنّ على الإنسان أن يضحّي بصفات وخصال عالم الطّبيعة من أجل نيل صفات وخصال عالم اللاّهوت. انظروا مثلاً إلى تلك المادّة الّتي نسمّيها بالحديد. لاحظوا صفاتها؛ تجدونها صلبة سوداء باردة. هذه هي خواص الحديد. أمّا إذا امتصّ نفس هذا الحديد الحرارة من النّار، فهو يضحّي بصفته الصّلبة من أجل نيل صفة السّيولة، كما يضحّي بخاصّيّة الظّلام من أجل نيل خاصّيّة النّور الّتي هي من خصائص النّار، كما يضحّي بخاصّيّة البرودة من أجل نيل صفة الحرارة الّتي تحوزها النّار، فلا يبقى في الحديد صلابة أو ظلام أو برودة، إذ يصير منيرًا ومتحوّلا وقد ضحّى بخواصّه وصفاته من أجل نيل خصائص النّار وصفاتها.

كذلك تكون حال الإنسان عندما ينفصل عن صفات عالم الطّبيعة ويتجرّد عنها ويضحّي بخصال ومقتضيات العالم الفاني ويظهر بكمالات الملكوت، تمامًا كما تفنى خواص الحديد وتتبدّل بخواص النّار.

فكلّ من تربى بالتّعاليم الإلهيّة واستضاء من أنوار الهداية الرّبّانيّة، وصار مؤمنًا بالله وبآياته، واستوقد من نار محبّة الله، يضحّي بنقائص الطّبيعة من أجل الكمالات الرّبّانيّة. وبالتّالي فإنّ كلّ شخص كامل وكلّ فرد ملكوتيّ منير يكون قائمًا في مقام التّضحية والفداء. وأملي أن تكونوا بعون الله وعنايته وبيمن أفضال الملكوت الأبهى منقطعين بالكلّيّة عن نقائص عالم الطّبيعة، ومطهـّرين عن النّزعات الأنانيّة البشريّة، متلقّين الحياة من الملكوت الأبهى، وبالغين الألطاف الملكوتيّة. وأدعو أن يلوح النّور الرّبّانيّ من وجوهكم، وتنتعش مشامّكم بنفحات القدس، وأن تحيوا بحياة أبديّة من نفثات الرّوح القدس.

(7) 2 ديسمبر/ كانون الأوّل 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد إدوارد كيني وحرمه،
780 طريق وست إند، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

هذه أيّام وداعي لكم، ذلك لأنّني سأبحر في الخامس من هذا الشّهر. فأينما توجّهت في هذا البلد، كنتُ دائمًا أعود إلى مدينة نيويورك. هذه هي زيارتي الرّابعة أو الخامسة هنا، وأنا الآن مغادر إلى بلاد الشّرق وسيكون من الصّعب عليّ أن أزور هذا البلد ثانية، إلاّ إذا كانت تلك إرادة الله. فعليّ إذًا أن أقدّم لكم اليوم نصائحي ووصاياي، وهي ليست سوى تعاليم حضرة بهاء الله.

عليكم أن تُظهروا كامل المحبّة والوداد تجاه كافّة البشر، وألاّ تتعالَوْا على الآخرين، بل اعتبروا الجميع مساوين لكم، واعتبروهم عبادًا لله الواحد. واعلموا أنّ الله رؤوف بالجميع؛ فعليكم إذًا أن تحبّوا الجميع من أعماق قلوبكم. آثروا جميع أهل الأديان على أنفسكم، وامتلئوا بالمحبّة تجاه كلّ عرق، وكونوا رفقاء بالنّاس من كافّة الجنسيّات. لا تتكلّموا أبدًا بازدراء عن الآخرين، بل امتدحوهم بغير تمييز. ولا تلوّثوا ألسّنتكم بسوء القول عن أيّة نفس أخرى. عدّوا أعداءكم أحبّاء، واعتبروا أولئك الّذين يتمنّون لكم السّوء كمن يتمنّون لكم الخير. لا تنظروا إلى السّيّىء على أنّه سيّىء ثمّ تساوموا في رأيكم فيه، فالتّصرّف بلطف ورقّة مع من تعتبرونه سيّئًا أو عدوّا ما هو إلاّ نفاق، وهو أمر لا هو بالممدوح ولا بالمسموح. عليكم أن تعدّوا أعداءكم أحبّاءكم، وأن تعتبروا من يتمنّون لكم السّوء كمن يتمنّون لكم الخير وعاملوهم على هذا الأساس. تصرّفوا على شأن يجعل قلوبكم خالية من البغضاء ولا تسمحوا لقلوبكم أن تستاء من أحد. وإذا ما ارتكب أحد خطأ أو سوءًا بحقّكم، فعليكم بالصّفح عنه فورًا. لا تتذمّروا من الآخرين، وأحجموا عن تأنيبهم، وإذا ما أردتم إسداء موعظة أو نصيحة لأحد فقدّموها بطريقة لا تثقل عليه. احصروا كلّ فكركم في إدخال البهجة إلى القلوب. حذار حذار أن تجرحوا قلب أحد. قدّموا العون لعالم البشر بأقصى ما في وسعكم. كونوا مصدر عزاء لكلّ محزون، ساعدوا كلّ ضعيف، وكونوا عونًا لكلّ محتاج. قدّموا الرّعاية لكلّ مريض، كونوا سببًا في عزّة كلّ ذليل، وأغيثوا كلّ ملهوف.

بالاختصار، ليكن كلّ واحد منكم سراجًا وهّاجًا بنور فضائل العالم الإنسانيّ. كونوا أمناء مخلصين أودّاء مفعمين بالعفـّة والطّهارة. كونوا نورانيّين، كونوا روحانيّين، كونوا ربانيّين، كونوا ماجدين، كونوا أحياء بالله، كونوا بهائيّين.

(8) 2 ديسمبر/ كانون الأوّل 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد إدوارد كيني وحرمه،
780 طريق وست إند، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

مرحبًا بكم جميعًا، إنّ هذا جمع طيّب. الحمد لله! فالأفئدة متوجّهة إلى الملكوت الأبهى والأرواح مبتهجة ببشارات الله.

سأحدّثكم عن تعاليم حضرة بهاء الله المميّزة. فكلّ المبادئ الرّبّانيّة الّتي جاءت على لسان أنبياء القبل موجودة في كلمات حضرة بهاء الله؛ ولكنّه بالإضافة إليها جاء بتعاليم جديدة مخصوصة لا وجود لها في أيّ من كتب العصور الماضية. وسأذكر بعضًا منها، وما يبقى منها، وهو كثير، يوجد في كتب وألواح حضرة بهاء الله – كالكلمات المكنونة، والبشارات، والكلمات الفردوسيّة، والتّجلّيات والطّرازات وغيرها. كما أنّ هناك في الكتاب الأقدس تعاليم جديدة لا مثيل لها في كتب القبل أو في صحف النّبيّين.

هناك تعليم أساسيّ لحضرة بهاء الله هو وحدة العالم الإنسانيّ. فقد خاطب البشر قائلاً: أنتم أوراق شجرة واحدة وأثمار غصن واحد .والمقصود بذلك هو أنّ العالم الإنسانيّ كشجرة، والأمم والشّعوب هم بمثابة مختلف أعضاء وفروع تلك الشّجرة، وأنّ فرادى الخلق البشريّ يمثّلون ثمارها وأزهارها. بهذه الكيفيّة عبّر حضرة بهاء الله عن وحدة الجنس البشريّ، بينما كان عالم الإنسان في كافّة تعاليم الأديان السّابقة يقدَّم على أنّه منقسم إلى قسمين: قسم يعرف بأهل الكتاب أو الشّجرة الطّيّبة، وآخر يطلق عليه أهل الكفر والضّلال أو شجرة الشّرّ. فالقسم الأوّل يعدّ من المؤمنين، والآخرُ من زمرة الزّنادقة والكافرين – أي أنّ قسمًا من الإنسانيّة هو المتلقّي للرّحمة الرّبّانيّة، والقسم الآخر محطّ لنقمة الخالق. لقد أزال حضرة بهاء الله تلك التّفرقة بإعلانه وحدة العالم الإنسانيّ، وهو مبدأ قد اختصّت به تعاليمه وحدها، لأنّه غمر البشر كافّة في بحر الكرم الرّبّانيّ؛ فبعض البشر نيام يحتاجون لمن ينبّههم، والبعض مرضى يحتاجون للشّفاء، والبعض قـُصّر كالأطفال يحتاجون للتّربية، بيد أنّ الجميع متلقّون لعطاء الله ومواهبه.

مبدأ جديد آخر جاء به حضرة بهاء الله هو الأمر بتحرّي الحقيقة – بمعنى أنّه لا يجدر بأيّ إنسان أن يتّبع أسلافه وآباءه اتّباعًا أعمى، بل على كلّ واحد أن يرى بعينه هو ويسمع بسمعه ويتحرّى الحقيقة بنفسه حتّى يتّبع الحقّ بدلاً من الإذعان والتّقليد الأعمى لمعتقدات الأسلاف.

كما أعلن حضرة بهاء الله أنّ أساس كلّ الأديان الإلهيّة واحد، وأنّ الوحدة هي الحقيقة، والحقيقة هي الوحدة الّتي لا تقبل التّعدّد. وهذا التّعليم جديد ومختصّ بهذا الظّهور دون سواه.

يأتي حضرة بهاء الله أيضًا بمبدأ جديد لهذا اليوم بإعلانه أنّ الدّين يجب أن يكون سببًا للاتّحاد والألفة والوفاق بين البشر. فإذا ما كان الدّين سببًا للخلاف والعداء، وإذا ما أفضى إلى التّباعد وكان جالبًا للنّزاع، كان غيابه عن العالم أفضل.

كما يعلن حضرته أنّ الدّين يجب أن يكون موافقًا للعلم والعقل، فإذا لم يكن مطابقًا للعلم وموافقًا للعقل فهو خرافة. فقد كان من المعتاد حتّى يومنا هذا أن يقبل الإنسان تعليمًا دينيًّا حتّى لو لم يكن موافقًا لعقل الإنسان وحكمه. فتوافـُق العقيدة الدّينيّة مع العقل هو أفق جديد فتحه حضرة بهاء الله على روح الانسان.

كذلك أسّس حضرته مبدأ المساواة بين الرّجل والمرأة. وهذا أمر خاصّ بتعاليم حضرة بهاء الله، ذلك لأنّ جميع الأديان الأخرى قد جعلت للرّجل مكانة أعلى من مكانة المرأة.

هناك مبدأ دينيّ جديد هو أنّ التّعصّب والتّزمّت – سواء أكان طائفيـًّا أم مذهبيًّا، وطنيًّا أو سياسيًّا – هادم لبنيان التّضامن بين بني الإنسان؛ فعلى الإنسان إذًا أن يحرّر نفسه من هذه القيود حتّى تتجلّى وحدة العالم الإنسانيّ.

أكّد حضرة بهاء الله على الصّلح العموميّ بوصفه إنجازًا أساسيًّا لدين الله – أي أنّ السّلام سيسود بين الأمم والحكومات والشّعوب وبين الأديان والأعراق وكافّة أحوال بني البشر. هذه واحدة من الخصائص المميّزة لكلمة الله المنزلة في هذا الظّهور.

يعلن حضرة بهاء الله أنّ البشر كافّة يجب أن يكتسبوا معرفة وينالوا قسطًا من التّعليم. وهذا مبدأ ضروريّ في العقيدة الدّينيّة وتطبيق أحكامها، وهو جديد في سمته في هذا الظّهور.

وضع حضرة بهاء الله الحلول للمسألة الاقتصاديّة ووصف لها الدّواء. وليس من بين كتب أنبياء القبل ما يتناول هذه المشكلة البشريّة الهامّة.

قضى حضرته بتأسيس بيت العدل وأحكم قواعده، وهو المُخوّل بوظيفة سياسيّة ودينيّة في نفس الوقت، وهو بمثابة أشمل وأسمى اتّحاد واندماج بين الدّين والدّولة. هذه المؤسّسة هي في ظلّ صون حضرة بهاء الله وحفظه. وسيتشكّل أيضًا بيت عدل عموميّ أو عالميّ، وستكون أحكامه وفقًا لأوامر وتعاليم حضرة بهاء الله، وعلى البشريّة كافّة أن تطيع ما سيقضي به بيت العدل العموميّ. وسيتمّ اختيار بيت العدل العموميّ هذا وتأسيسه بواسطة بيوت العدل القائمة في كلّ دولة من دول العالم كلّه، وسيكون العالم بأسره تابعًا لإدارته.

أمّا عن أعظم خاصّيّة تميّز ظهور حضرة بهاء الله، فهي مبدأ مخصوص لم يأت به أيّ من أنبياء القبل: ألا وهو النّصّ على مركزٍ للعهد والميثاق وتعيينه. فبهذا النّصّ والتّعيين يكون قد حفظ حضرته دين الله ووقاه من الخلافات والانقسامات، بما يجعل من المستحيل على أحد أن يشكّل طائفة أو فِرقة عقائديّة جديدة. فلضمان الوحدة والاتّفاق أبرم حضرة بهاء الله ميثاقًا مع كلّ أهل العالم، بمن فيهم مفسّر تعاليمه ومبيّنها، حتّى لا يفسّر أحد دين الله أو يشرحه طبقًا لرأيه أو حكمه الشّخصيّ فيخلق بذلك طائفة تقوم على مفهومه الشّخصيّ للكلمة الإلهيّة. وكتاب عهدي أو وصيّة حضرة بهاء الله هي الوسيلة لمنع مثل ذلك الاحتمال، لأنّ من سيتكلّم بدافع من نفسه منفردًا سيكون مدحورًا. كونوا على علم ومعرفة بهذا. حذار أن يهمس لكم أحد بتشكّكه أو إنكاره لذلك، فهناك بعض المغرضين وذوي الأهواء ممّن لا يفصحون لكم صراحة عن نواياهم، فيغلـّفون ما يعنونه في عبارات وتلميحات خفيّة. فهم مثلاً يمتدحون شخصًا معيّنًا بقولهم إنّه حكيم ومطّـلع، وإنّه كان محلّ تمجيد في محضر حضرة بهاء الله، قائلين لكم ذلك بالدّهاء أو بالتّلميح. فعليكم أن تكونوا على بيّنة من ذلك، وكونوا متيقّظين ومستنيرين لأنّ حضرة المسيح صرّح بأنّه لا يمكن لأحد أن يخبّئ المصباح تحت مكيال للحبوب. وما أقصده من نصحي هو أنّ بعض النّاس سوف يسعون في إمالتكم نحو أفكارهم وآرائهم الشّخصيّة، فكونوا على حذر كي لا يفلح أحد في النّيل من وحدة أمر حضرة بهاء الله وتماسكه. والحمد لله! إنّ حضرة بهاء الله لم يترك شيئًا إلاّ وقد قاله. فقد وضّح كلّ شيء، ولم يترك مجالاً لأيّ شيء يضاف. بيد أنّ هناك من سيحاولون بدافع من غرض ونفوذ شخصيّ أن يبذروا بينكم زؤان الفتنة وعدم الولاء. لقد حدّد حضرة بهاء الله مركز العهد والميثاق بالاسم وعيّنه من أجل حفظ وصون دين الله من مثل هذا التّعدّي وغيره. فإذا ما طلع شخص ما بمقولة في مدح أو تبجيل أيّ شخص عدا ذلك المركز المعيّن، عليكم أن تطلبوا منه تقديم برهان كتابيّ على المرجع الّذي يتّبعه. واجعلوه يريكم أثرًا من قلم شخص مركز العهد والميثاق، بما يدعَم مديحه ومساندته لأيّ شخص خلاف الشّخصيّة الشّرعيّة. أخبروه أنّه غير مسموح لكم بقبول كلام كلّ قائل. قولوا له ‘هل يجوز اليوم أن نحبّ شخصًا ما ونمتدحه، ثمّ نسلـّم غدًا بشخص ثان ونتّبعه، بل وبثالث بعد غد؟ فلا يمكننا إذًا أن نصغي لهذا الشّخص أو ذاك. أين دلائلك ومرجعك من البيانات؟ وأين حجّتك من آثار قلم العهد والميثاق؟’

فمرادي هو أن أبيّن لكم أنّ من واجبكم أن تحرسوا دين الله حتّى لا يتسنّى لأحد أن يتعدّى عليه من الخارج أو الدّاخل. فإذا ما وجدتم أفكارًا ضارّة أتى بها شخص من الأشخاص مهما كانت هويّته، حتّى لو كان ابنًا لي، فأيقنوا أنّني بريء منه بالكلّيّة. وإذا ما تفوّه أحد بكلمة ضدّ الميثاق، ولو كان ابني، فاعلموا أنّني معارض له. وكلّ من تكلّم بالأباطيل وأحـَبّ عـَرَض الحياة الزّائل وسعى لتكديس ثروات هذه الدّنيا فهو ليس منّي. ولكنّكم عندما تُلْفون شخصًا يحيا بمقتضى تعاليم حضرة بهاء الله، ومتّبعًا وصايا الكلمات المكنونة، فاعلموا أنّه منتسب إلى حضرة بهاء الله، وأنادي بأعلى النّداء حقًّا إنّه منّي. ومن ناحية أخرى، إذا وجدتم من تخالف أعماله وسلوكه رضاء الجمال المبارك، وتتنافى مع روح الكلمات المكنونة، فاجعلوا هذا معيار وميزان حكمكم عليه، واعلموا أنّني بريء منه بالمرّة مهما كان ذلك الشّخص. هذا هو الحقّ.

إنّ تعاليم حضرة بهاء الله لا تُعدّ ولا تُحصى. لقد سألتموني ما هي المبادئ الجديدة الّتي أنزلها. فما ذكرته لكم منها هو القليل. وهناك العديد غيرها ولكنّ الوقت لا يتّسع لذكرها اللّيلة. ولذا فإنّني أدعو الله أن يقوّيكم على صالح الأعمال، وأدعو الله أن يؤيّدكم حتّى تحيوا وفقًا لتعاليم حضرة بهاء الله.

وعليكم البهاء الأبهى!

(9) 3 ديسمبر/ كانون الأوّل 1912

الخطبة المباركة بمنزل الدّكتور فلوريان كروغ وحرمه،
830 طريق المتنزّه، نيويورك

لقد اجتمعتم هنا في هذا الأصيل بغاية المحبّة منشغلين بذكر الله، وأملي أن يزداد هذا الاجتماع عددًا يومًا بعد يوم، وأن تصبحوا أكثر وأكثر انجذابًا وأكثر روحانيّة وأكثر استنارة، وتكتسبون معرفة عن تعاليم حضرة بهاء الله من بعضكم البعض، وتصبحون قادرين على نشر رسالة الحقّ. وأملي أيضًا أن تصبح أفئدتكم منجذبة على شأن إذا ما سُئلتم سؤالاً تعطون له الإجابة الصّحيحة فورًا، وأن تنطق حقيقة الرّوح القدس بواسطة ألسنتكم. أعينوا الآخرين بعناية الجمال المبارك وفضله، إذ إنّ أفضاله تقلب القطرة بحرًا، وتجعل البذرة دوحة، وتمنح الذّرّة بهاء الشّمس. فنِعَمُه بغير حدود، ومخازن الله مملوءة بالعطايا. والله الّذي أنعم على غيركم سوف ينعم عليكم أيضًا بكلّ تأكيد. أتضرّع إلى الملكوت الأبهى سائلاً عظيم البركات والتّأييدات من أجلكم، لتكون ألسنتكم طلقة وأفئدتكم كالمرايا الصّافية الطّافحة بأشعّة شمس الحقيقة وأفكاركم شاملة وأفهامكم شاحذة، وأن تترقّوا في مدارج الكمالات الإنسانيّة.

فما لم يكتسب المرء نفسه الكمالات لن يستطيع أن يعلّـمها لغيره. وما لم يحُز الإنسان نفسه على الحياة، لا يمكنه أن يهبها لغيره. وما لم يجد الضّياء لا يقدر أن يعكسه. فعلينا إذًا أن نجهد نحن أنفسُنا لنيل كمالات العالم الإنسانيّ، ونحصل على الحياة الأبديّة ونسعى إلى الرّوح الرّبّانيّة لنكون قادرين بيمنها أن نهب الحياة لغيرنا، وننفخ الرّوح في الآخرين.

عليكم أن تتضرّعوا إلى الملكوت الأبهى سائلين حضرته العطايا الأبديّة، وعليكم أن تلهجوا بالدّعاء لتمتلئ قلوبكم من الأنوار الباهرة كالمرايا الصّافية، وعندئذ تلمع فيها أنوار شمس الحقيقة. عليكم أن تتضرّعوا إلى الله وتدعوه صباحًا ومساء سائلين عونه ومساعدته قائلين:

أي ربّ نحن ضعفاء قوّنا، ونحن جهلاء علـّمنا. أي ربّ نحن فقراء أغننا، ونحن أموات أحينا. أي ربّ نحن أذلاّء عزّزنا فى ملكوتك. إن تشملنا تأييداتك يصير كلّ واحد منّا كالثّريّا، وإلاّ نصبح أحقر من الثّرى. أي ربّ قوّنا وانصرنا وغلِّبنا على النّفس والهوى. أي ربّ نجّنا من علائق عالم النّاسوت. أي ربّ أحينا بنفثات الرّوح القدس حتّى نقوم على خدمتك، وننشغل بعبادتك، ونبذل أنفسنا بكلّ صدق في ملكوتك. إنّك أنت المقتدر ربّي، وإنّك أنت الغفور ربّي، وإنّك أنت العطوف الرّؤوف.

(10) 3 ديسمبر/ كانون الأوّل 1912

الخطبة المباركة في حلقة دراسة الكتاب المقدّس
الّتي ينظمها السّيّد كيني، 780 طريق وست إند، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

بلغني أنّ الهدف من حلقتكم الدّراسيّة دراسة رموز وأسرار الكتب المقدّسة وفهم معاني الأسفار الإلهيّة. فمن أسباب عظيم سروري أنّكم متوجّهون إلى ملكوت الله، وأنّكم راغبون في التّقرّب من محضر الله والاطّلاع على الحقائق والتّعاليم الإلهيّة. أملي أن تبذلوا أقصى همّتكم في تحقيق هذه الغاية، وأن تتفحّصوا وتدرسوا الكتب المقدّسة كلمة كلمة حتّى تنالوا معرفة الأسرار المكنونة فيها. عليكم ألاّ تقنعوا بالكلمات، بل اسعوا إلى فهم المعاني الرّوحانيّة المستترة في جوهر الكلمات. فاليهود يقرأون أسفار العهد القديم ليل نهار، ويحفظون كلماتها ونصوصها دون أن يفقهوا معنى أو مغزى واحدًا، إذ إنّهم لو فهموا حقيقة معاني العهد القديم لصاروا من المؤمنين بحضرة المسيح، ذلك لأنّ العهد القديم قد أُنزل تهيئة لمجيئه. وبما أنّ أحبار اليهود وكهنتهم لم يؤمنوا بحضرة المسيح، فيكون من الواضح أنّهم كانوا جاهلين بحقيقة مغزى العهد القديم. ومن الصّعب أن يفهم الإنسان حتّى كلمات أتى بها فيلسوف؛ فكم يكون أكثر عُسرًا فهم كلمات الله! فالكلمات الإلهيّة لا تؤخذ بمعناها الظّاهريّ، ذلك لأنّها رمزيّة وتحوي حقائق المعاني الرّوحانيّة. فمثلاً تطالعون في سفر سليمان نشيد الإنشاد خبر العريس والعروس. ولكن من الواضح أنّ المقصود بهما ليس هو العريس والعروس بالجسد. فهذه بالطّبع رموز تَنقل إلينا رمزًا مكنونًا باطنيًّا. وبنفس الكيفيّة لا يمكننا أن نأخذ رؤى يوحنّا اللاّهوتيّ حرفيًّا، وإنّما تُفهم فهمًا روحانيًّا. فتلك هي أسرار الله. فليست قراءة الكلمات هي الّتي تنفعكم وإنّما فهم معانيها. فادعوا الله إذًا أن تكونوا قادرين على فهم أسرار الأسفار الإلهيّة.

انظروا إلى المعاني الرّمزيّة لكلمات حضرة المسيح وتعاليمه. فقد قال: أنا هو الخبز الحيّ الّذي نزل من السّماء؛ إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد .فلمّا سمع اليهود ذلك أخذوا قوله هذا حرفيًّا وأخفقوا في فهم دلالة مرماه وتعليمه. فالحقيقة الرّوحانيّة الّتي أراد حضرة المسيح إبلاغهم إيّاها هو أنّ الحقيقة الرّبّانيّة المودعة فيه كانت كالنّعمة الّتي تنزّلت من السّماء، وأنّ من تناول من تلك النّعمة لا يموت أبدًا. بمعنى أنّ الخبز كان رمزًا للكمالات النّازلة عليه من عند الله، ومن أكل من ذلك الخبز أو تنعّم من كمالات حضرة المسيح لا شكّ ينال حياة أبديّة. ولمّا لم يفهمه اليهود وأخذوا كلماته حرفيًّا قالوا: ‘كيف يقدر هذا الرّجل أن يعطينا جسده لنأكل؟’ فلو فهموا حقيقة معنى الكتاب المقدّس لصاروا من المؤمنين بحضرة المسيح.

فجميع نصوص وتعاليم الأسفار المقدّسة لها معان روحانيّة جوهريّة، ولا يجوز أن تؤخذ بمعناها الحرفيّ. لذا فإنّني أدعو لكم أن تـُمنحوا المقدرة على فهم تلك المعاني الحقيقيّة المودعة في بواطن الكتب المقدّسة وتصبحوا عالمين بالأسرار المودعة في كلمات الكتاب المقدّس لتنالوا حياة أبديّة وتنجذب قلوبكم إلى ملكوت الله. وأن تتنوّر نفوسكم من نور الكلمات الإلهيّة، وتصبحوا مخازن أسرار الله، فلا راحة أعظم ولا سعادة أحلى من الفهم الرّوحيّ للتّعاليم الإلهيّة. فإذا ما فهم إنسان حقيقة ما يعنيه شِعْر أحد الشّعراء كما لشكسبير مثلاً، يكون سعيدًا ومسرورًا. فكم تكون فرحته ومتعته أعظم عندما يفهم حقيقة الكتب المقدّسة ويصبح مطّلعًا على أسرار الملكوت!

أدعو أن تتنزّل عليكم البركات الرّبّانيّة يومًا بعد يوم، وأن تتفتّح قلوبكم على فهم المعاني الباطنيّة لكلمة الله. فلا ثمرة تُجنى من مجرّد العلم بحروف الكتاب. فقد حفظت غالبيّة اليهود نصوص العهد القديم وكانوا يردّدونها ليل نهار، ولكن بما أنّهم كانوا جاهلين بمعانيها حرموا من مواهب حضرة المسيح. وأدعو أن تحيوا بنفثات الرّوح القدس وتستنيروا بأشعّة شمس الحقيقة وأن تنعموا بالبركات السّماويّة في العتبة الإلهيّة وتنالوا حياة أبديّة. هذا هو دعائي. بارككم الله وأنار بصيرتكم.

(11) 3 ديسمبر/ كانون الأوّل 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد إدوارد كيني وحرمه،
780 طريق وست إند، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

لقد حضرت من الاجتماعات في نيويورك أكثر ممّا حضرته في كافّة المدن الأخرى مجتمعة. ولقد استمعتم ليل نهار، فرادى وجماعات، إلى تعاليم حضرة بهاء الله ووصاياه وأعلنتُ لكم بشارات الملكوت الإلهيّ وبيـّنتُ مراد الجمال المبارك وشرحتُ ما يُفضي إلى التّرقـّي الإنسانيّ وأريتـكم التّواضع في العبوديّة وفسّرتُ تعاليم حضرة بهاء الله بكلّ وضوح وجلاء. لقد حان الوقت الّذي فيه يجب أن أغادركم؛ لذا فإنّ هذا هو لقاء وداعنا.

إنّني راضٍ عنكم أعظم الرّضا، ومبتهج لأنّكم أبديتم لي خالص اللّطف والمودّة. ومنائي أن يكون حضرة بهاء الله راضيًا عنكم، وأن تتّبعوا أوامره وتكونوا لائقين لتأييداته. وذلك مشروط بأن تكون عقولكم مستنيرة وأرواحكم منشرحة ببشارات الله، وأن تصبحوا متشبّعين بالأخلاق الرّوحانيّة، وتشهد حياتكم اليوميّة على إيمانكم واطمئنانكم، وتكون قلوبكم مقدّسة طاهرة عاكسة عظيم المحبّة والانجذاب إلى الملكوت الأبهى. يجب أن تصبحوا مصابيح حضرة بهاء الله حتّى تتألّقوا بنور أبديّ وتكونوا براهين حقيقته ودلالاتها. عندئذ تتجلّى آيات الطّهارة والعفّة من أعمالكم وتصرّفاتكم بدرجة يرى عندها النّاس إشراق حياتكم السّماويّ ويقولون: ‘حقًّا، أنتم براهين حضرة بهاء الله، لا شكّ أنّ حضرة بهاء الله هو الحقّ لأنّه ربّى نفوسًا كهذه، وكلّ نفس منها دليل في حدّ ذاتها.’ ويقولون للآخرين: ‘تعالوا واشهدوا سلوك تلك النّفوس؛ تعالوا واستمعوا إلى كلماتهم، وانظروا استنارة قلوبهم، وشاهدوا دلائل محبّة الله فيهم، لاحظوا أخلاقهم الحميدة، وتبيّنوا أسس وحدة الإنسانيّة وقد ترسّخت في نفوسهم بكلّ إحكام. فأيّ برهان هنالك أعظم من هذه النّفوس بأنّ رسالة حضرة بهاء الله هي الحقّ والحقيقة؟’ أملي أن يكون كلّ واحد منكم داعيًا إلى الله، معلنًا عن دلائل ظهوره بالأقوال والأعمال والأفكار. ولتكن أعمالكم وأقوالكم شاهدة على أنّكم من ملكوت حضرة بهاء الله، فهذه هي الواجبات الّتي فرضها حضرة بهاء الله عليكم.

لقد تحمّـل حضرة بهاء الله شديد المحن، ولم يجد راحة باللّيل أو أمانًا بالنّهار ودائمًا ما كان تحت وطأة بلاء عظيم – مرّة في السّجن ومرّة تحت السّلاسل والأغلال، ومرّة تحت سيوف الأعداء – إلى أن حطـّم قفص الأسر في نهاية المطاف، وترك هذا العالم الفاني وصعد إلى الملكوت الإلهيّ. لقد تحمّل كلّ هذه المحن من أجلنا، وعانى هذا الحرمان كي ننال عطايا الموهبة الرّبّانيّة. فعلينا إذًا أن نكون مخلصين له، معرضين عن أهوائنا وأوهامنا حتّى نعمل ما يريده منّا مولانا.

أملي أن تنهضوا لتحيوا وفق هذه التّعاليم والوصايا؛ وأن نتقوّى جميعًا بالقوّة الرّبّانيّة وندخل فردوس الملكوت الرّوحانيّ وننشر أنوار شمس الحقيقة ونوصل أمواج هذا البحر الأعظم لكافّة نفوس البشر، حتّى ينقلب هذا العالم النّاسوتيّ عالمًا ملكوتيًّا وتتحوّل هذه الأرض الجدباء إلى فردوس الأبهى.

(12) 4 ديسمبر/ كانون الأوّل 1912

الخطبة المباركة بالمجمع الثيوصوفي، 2228 طريق برودواي، بنيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

إنّ الّذين لا علم لهم بعالم الحقيقة، ولا يفقهون كنه الموجودات، ومحرومون من إدراك حقيقة الخلق الباطنيّة، ولا يتعمّقون في أسرار الخليقة الظّاهريّة والرّوحانيّة، وليست لديهم سوى فكرة سطحيّة عن الحياة والوجود الكونيّ، ما هُم إلاّ تجسّدات لمحض الجهل والغفلة. فهم لا يصدّقون إلاّ ما سمعوه من آبائهم وأسلافهم. فلا يسمعون من أنفسهم ولا يرون ولا يعقلون ولا يفكّرون؛ بل يعتمدون فقط على المنقول والموروث. ويتخيّل أمثال هؤلاء أنّ المُلْـك الإلهيّ هو مُلك أو ملكوت حادث.

فهم يعتقدون مثلاً أنّ عالم الوجود قد خـُلق منذ ستّة أو سبعة آلاف سنة مضت، كما لو أنّ الله لم يحكم قبل ذلك الزّمان، ولم يكن له من خلق قبل تلك الفترة. وهم يظنّون أنّ الألوهيّة حادثة، ذلك لأنّ الألوهيّة عندهم تعتمد على وجود الموجودات، بينما الحقيقة هي أنّه طالما كان هناك إلٓه كان هناك خلق. فطالما كان هناك نور كان هناك المستنيرون من ذلك النّور، إذ إنّ النّور لا يتجلّى ما لم توجد تلك الأشياء الّتي تبصره وتقدّره. فعالم الألوهيّة يفترض وجود الخلق، ويفترض وجود المتلقّين للموهبة، ويفترض وجود مختلف العوالم. فلا يمكن تخيّل ألوهيّة منفصلة عن الخلق، وإلاّ لكان ذلك بمثابة تخيّل مملكة بغير رعيّة. فالمَلِك يلزمه مملكة، ويحتاج إلى جيش ورعيّة. فهل يمكن أن يكون هناك ملك بلا دولة ولا جيش ولا رعيّة؟ فما هذا إلاّ هـُراء. فلو قلنا بأنّه كان هناك زمان لم يكن فيه دولة ولا جيش ولا رعيّة، فكيف يستقيم أن يكون هناك ملك أو حاكم؟ فهذه الأمور أساسيّة بالنّسبة لأيّ ملك.

يترتّب على هذا أنّه، تمامًا كما لم يكن لحقيقة الألوهيّة بداية – أي أنّ الله كان دائمًا خالقًا، وأنّ الله كان دائمًا رازقًا، وأنّ الله كان دائمًا مُحييًا، وأنّ الله كان دائمًا وهّابًا – فكذلك لم يكن هناك أبدًا زمانٌ لم يكن لصفات الله فيه تعبير وتجلٍّ. فالشّمس شمس بسبب أشعّتها وبسبب حرارتها. فإذا ما تخيّلنا أنّ هناك وقتًا كانت فيه شمس بغير حرارة وضياء، فإنّ ذلك يعني أنّه لم تكن هناك شمس على الإطلاق، وأنّ تلك الشّمس صارت شمسًا في زمان لاحق. وقياسًا على ذلك، لو قلنا بأنّه كان هناك زمان لم يكن لله فيه خليقة أو مخلوقات، زمان لم يكن فيه متلقّون لمواهب الله وأفضاله، ولم تتجلّ صفاته وكمالاته، لكان قولنا هذا بمثابة إنكار كامل للألوهيّة، لأنّه يعني أنّ الألوهيّة حادثة. وللمزيد من التّوضيح، إذا ما اعتقدنا أنّه لم يكن هناك مخلوقات قبل خمسين ألف سنة، أو مائة ألف سنة مضت، ولم تكن هناك عوالم ولا مخلوقات بشريّة ولا حيوانات، لكان اعتقادنا هذا يفيد أنّه لم تكن هناك ألوهيّة قبل ذلك. أي أنّنا إذا قلنا إنّه كان هناك زمان كان فيه ملك ولكن دون رعيّة ولا جيش ولا بلد يحكمها، لجزمنا في حقيقة الأمر أنّه كان هناك زمان لم يكن فيه ملك، وأنّ ذلك الملك حادث. فيتّضح لنا إذًا أنّه طالما كانت حقيقة الألوهيّة بغير بداية، تكون الخليقة أيضًا بغير بداية، وهذه حقيقة واضحة وضوح الشّمس. وإذا ما تدبّرنا هذا النّظام الواسع الحاكي عن القدرة الرّبّانيّة المحيطة، وتمعّنا في هذا الفضاء غير المتناهي وما فيه من عوالم لا تُعدّ ولا تُحصى، لاتّضح لنا أنّ عمر هذا الخلق اللاّنهائي يزيد على ستة آلاف سنة، بل إنّه قديم موغل في القدم.

مع ذلك نقرأ في سفر التّكوين في العهد القديم أنّ عمر الخليقة لا يزيد على ستّة آلاف سنة. وهذا له معنى ودلالة باطنيّة ويجب ألاّ يؤخذ بالتّفسير الحرفيّ للكلمة. فمثلاً يقال في العهد القديم أنّ ثمّة أشياء قد خلقت في اليوم الأوّل. ويبيّن وصف ذلك التّسلسل أنّ الشّمس لم تكن قد خلقت بعد في ذلك الوقت. فكيف لنا أن نتخيّل نهارًا لم تكن فيه شمس في السّماوات؟ فالنّهار موقوف على ضوء الشّمس. وطالما أنّ الشّمس لم تكن قد خلقت بعد، فأنّى لليوم الأوّل أن يتحقّق؟ فيكون لهذه المقولات إذًا دلالات تختلف عن مفهومها الحرفيّ.

للإيجاز نقول: إنّ مرادنا هو إظهار أنّ السّلطنة الرّبّانيّة، أي ملكوت الله، هي سلطنة قديمة وليست بسلطنة حادثة، تمامًا كما تفترض أيّ مملكة وجود رعايا وجيش ودولة؛ فبغير ذلك لا يمكن تخيّل وجود حالة من مُلك وسلطنة ومملكة. فإذا ما تصوّرنا إذًا أنّ الخلق حادث، لقبلنا بالضّرورة أنّ الخالق هو أيضًا حادث، والحال إنّ الموهبة الرّبّانيّة دافقة منذ الأزل، وأشعّة شمس الحقيقة لم تتوقّف أبدًا عن الإشراق. فلا انقطاع جائز في الموهبة الرّبّانيّة، تمامًا كما لا يجوز أيّ انقطاع لأشعّة الشّمس. وهذا أمر واضح ولائح.

بناء على ذلك كان هناك العديد من المظاهر المقدّسة الإلهيّة. فقد كانت عطيّة الله دافقة، والتّجلـّي الرّبّانيّ مشرقًا، وسلطنة الله قائمة – سواء من ألف سنة مضت، أو من مائتي ألف سنة، أو من مليون سنة.

فلماذا تأتي هذه المظاهر الإلهيّة؟ وما الحكمة والغرض من ظهورهم؟ وما هو الحاصل من مهمّتهم ورسالتهم؟ من الواضح أنّ الهويّة البشريّة تتجلّى على هيئتين: أولاهما صورة الله ومثاله والثّانية هي هيئة الشّيطان. وتقف الحقيقة البشريّة في المنتصف بين هاتين الاثنتين: أي بين الهيّئة الرّبّانيّة والهيّئة الشّيطانيّة. ومن المشهود أنّ الإنسان قد اختُصّ بحقيقة أخرى غير هذا الجسد المادّيّ، وهي عالم المثاليّات الّتي تشكّل جسد الإنسان السّماويّ. فعندما يتكلّم الإنسان يقول ‘أنا رأيت’، ‘أنا قلت’، ‘أنا ذهبت’. فمن هي تلك الأنا؟ من الواضح أنّ هذه الأنا تختلف عن هذا الجسد. وواضح أنّ الإنسان عندما يفكّر، يكون كما لو أنّه يتشاور مع شخص آخر. تُرى مع من يتشاور؟ من الواضح أنّها حقيقة أخرى، أو شخص بغير هذا الجسم يتشاور معه عندما يفكّر ويقول: ‘هل أقوم بهذا العمل أم لا؟’ أو ‘ما الّذي سيحصل إن فعلتُ هذا؟’ أو عندما يحاور الحقيقة الأخرى ويسألها ‘ما الضّير في هذا العمل إذا ما فعلته؟’ فتجيبه تلك الحقيقة الباطنة في الإنسان برأيها في المسألة المطروحة. فتكون تلك الحقيقة الكائنة بداخل الإنسان إذًا بكلّ وضوح وجلاء شيئًا غير بدنه – نفسًا يشاورها ويسألها عن رأيها.

غالبًا ما يحسم الإنسان أمره إيجابيًّا حول مسألة ما؛ فمثلاً ينوي القيام برحلة. ثمّ يعيد التّفكير فيها من جديد – بمعنى أنّه يشاور حقيقته الباطنة – ثمّ يصل في النّهاية إلى قرار بالتّخلّي عن رحلته. فما الّذي حدث؟ ولماذا تخلّى عن سابق عزمه؟ من الواضح هنا أنّه قد استشار حقيقته الباطنة، الّتي أخبرته بمساوئ تلك الرّحلة، فينزل على رأي تلك الحقيقة ويغيّر ما اعتزمه من قبل.

كما أنّ الإنسان يُبصر ويرى في عالم الرّؤى والأحلام. فيسافر في الشّرق ويتجّول في الغرب؛ رغم أنّ جسده يكون ساكنًا، ويكون جسده باقيًا هنا في مكانه. إنّ ما يقوم بتلك الرّحلة، بينما الجسد في سبات، هو تلك الحقيقة الماثلة فيه. ولا يكون هناك شكّ في وجود حقيقة تختلف عن تلك الحقيقة الجسمانيّة الظّاهريّة. وكذلك على سبيل المثال يموت إنسان ما ويدفن تحت التّراب. ثمّ تراه بعد ذلك في عالم الرّؤى وتتحدّث معه، رغم أنّ جسده قد ووري الثّرى. فمن هو الّذي تراه في أحلامك وتتحدّث إليه ويجاوبك؟ فهذا أيضًا يبرهن على أنّ هناك حقيقة أخرى بخلاف الحقيقة الجسديّة الّتي تموت وتدفن. فيكون من المؤكّد بذلك أنّ في الإنسان حقيقة ليست هي جسمه العنصريّ. وقد يضعف الجسد آنًا، بينما تبقى تلك الحقيقة الأخرى الماثلة فيه على حالتها الطّبيعيّة. كما ينام الجسد ويصير كالميّت؛ بينما تبقى تلك الحقيقة متحرّكة، تفهم الأمور وتعبّر عنها بل وتكون واعية بنفسها.

هذه الحقيقة الباطنة الأخرى هي الّتي نسمّيها بالهيكل السّماويّ، أي الهيئة الأثيريّة المطابقة لهذا الجسد. وهذه هي الحقيقة الواعية الّتي تكتشف المعاني الباطنيّة للأشياء، ذلك لأنّ بدن الإنسان الظّاهريّ لا يكتشف شيئًا. فالحقيقة الأثيريّة الباطنة هي الّتي تفهم أسرار الوجود، وتكتشف الحقائق العلميّة وتبيّن تطبيقاتها العمليّة. فهي تكتشف الكهرباء، وتبتكر التّلغراف والهاتف وتفتح الباب على عالم الفنون والآداب. فإذا ما كان ذلك من صنع البدن العنصريّ الخارجيّ، لكان بمقدور الحيوان هو الآخر أن يقوم باكتشافات علميّة مدهشة، ذلك لأنّ الحيوان مشارك للإنسان في كافّة القوى الجسمانيّة ومحدوديّتها. فما هي إذًا تلك القوّة الّتي تنفذ إلى حقائق الوجود ولا يكون لها وجود عند الحيوان؟ تلك هي الحقيقة الباطنة الّتي تعقل الأشياء، وتلقي الضّوء على أسرار الحياة والوجود، وتكتشف الملكوت السّماويّ، وتفضّ أختام الأسرار الإلهيّة، ويتميّز بها الإنسان عن البهائم. وهذا أمر لا يتطرّق إليه أيّ شكّ.

تقف هذه الحقيقة البشريّة، كما بينّا من قبل، بين الأسمى والأدنى في الإنسان، أي بين عالم الألوهيّة وعالم الحيوان. وعندما تصبح النّزعة الحيوانيّة في الإنسان مسيطرة، فإنّه يتدنّى إلى ما هو أحطّ من البهائم. وعندما تنتصر القوى الملكوتيّة في سجيّته يصير الإنسان أشرف وأرفع كائن في عالم الخلق. فكلّ نقائص الحيوان نجدها أيضًا في الإنسان. فنرى فيه عداوة وكراهية وكفاحًا أنانيًّا من أجل البقاء؛ كما تكمن في جبلـته الغيرة والانتقام والضّراوة والمكر والنّفاق والطّمع والجور والعدوان. وبتعبير آخر، تكون حقيقة الإنسان مكسوّة برداء خارجيّ حيوانيّ، أي بثياب عالم الطّبيعة، الّذي هو عالم الظّلام والنّقائص وعالم لا حدَّ له من التّدنـّي.

نلفي في الإنسان، على الجانب الآخر، عدلاً وإخلاصًا ووفاءً وعرفانًا وحكمة واستنارة ورحمة وشفقة، مصحوبين بالعقل والإدراك والمقدرة على فهم طبائع الأشياء والقدرة على النّفاذ إلى حقائق الوجود. كلّ هذه الكمالات العظيمة موجودة في الإنسان. لذا نقول إنّ الإنسان حقيقة قائمة بين النّور والظّلام. من هذا المنظور تكون حقيقة الإنسان مكوّنة من طبائع ثلاثة: حيوانيّة، وإنسانيّة، وملكوتيّة. فالطّبيعة الحيوانيّة هي ظلام، والملكوتيّة نور على نور.

تأتي المظاهر المقدّسة الإلهيّة إلى العالم لتبديد ظلمة الطّبيعة الحيوانيّة أو الجسديّة في الإنسان، وتطهيره عن نقائصه لتصبح طبيعته الملكوتيّة الرّوحانيّة حيّة، وتصير صفاته الرّبّانيّة متنبّهة، وكمالاته واضحة، وقواه الإمكانيّة لائحة، وسائر فضائل عالم الإنسان الكامنة فيه قد بُعثت فيها الحياة. فهؤلاء المظاهر المقدّسة الإلهيّة هم المربّون والمنشـئون لعالم الوجود، وهم المعلّـمون للعالم الإنسانيّ. إذ يحرّرون الإنسان من ظلمة عالم الطّبيعة، ويخلّصونه من اليأس والخطأ والجهل والنّقائص وسائر الرّذائل، ويقمصونه بقميص الكمالات والفضائل السّامية. فالنّاس جهلاء؛ فتجعلهم المظاهر الإلهيّة حكماء. وهم حيوانيّون فتجعلهم المظاهر إنسانيّين. وهم قساة أفظاظ فتأخذ المظاهر بيدهم إلى ممالك النّور والمحبّة. وهم ظالمون فتحوّلهم المظاهر عادلين. والإنسان أنانيّ فينقطعونه عن النّفس والهوى. والإنسان متغطرس فيحوّلونه وديعًا متواضعًا ودودًا. وهو ترابيّ فيجعلونه سماويًّا. والنّاس مادّيـّون فتقلّبهم المظاهر إلى صورة ومثال ربانيّ. وهم أطفال قاصرون فترقى بهم المظاهر إلى الرّشد. والإنسان فقير فينعمون عليه بالثّروة. والإنسان ذليل وغادر وخسيس فترقى به المظاهر الإلهيّة نحو الكرامة والشّرف والرّفعة.

فهؤلاء المظاهر المقدّسة يحرّرون العالم الإنسانيّ من النّقائص الّتي تلمّ به، ويكونون السّبب في ظهور البشر بجمال الكمالات السّماويّة. ولولا مجيء تلك المظاهر المقدّسة الإلهيّة، لألفينا كافّة البشر في مستوى الحيوان ولباتوا في ظلام وجهل كأولئك الّذين حرموا من التّعليم ولم يكن لهم من معلـّم أو مربّ. فلا شكّ أنّ أولئك التّعساء سيظلّون على حالهم هذا من عَوَز وحرمان.

إذا ما تـُركت جبال وتلال وسهول العالم المادّيّ أحراشًا برّيّة بغير تهذيب تحت حكم الطّبيعة، فإنّها تبقى قفرًا مهملاً لا نجد فيها أيّ أشجار مثمرة. أمّا الزّارع الحقيقيّ فيقلب هذا الغاب والدّغل بستانًا، ويربّي أشجاره فتأتي بالثّمار، ويجعل الأزهار تنمو محلّ الشّوك والحسك. والمظاهر المقدّسة هم البستانيّون المثاليّون لأرواح البشر، والمهذّبون الرّبّانيّون لأفئدة العباد. وما عالم الوجود إلاّ دغلٌ من الفوضى والارتباك، وحالة فطريّة لا يخرج منها سوى الأشجار غير المثمرة عديمة الفائدة. فيربّي البستانيّون المثاليّون هذه الأشجار الإنسانيّة البرّيّة الجدباء، جاعلين منها شجرًا ذا ثمر، ويسقونها ويهذّبونها يومًا بعد يوم كي يزدان بهم عالم الوجود ويتواصل ازدهارها بأقصى الجمال والنّضارة.

بناء على ذلك لا يمكننا القول بأنّ العطاء الرّبّانيّ قد انقطع، أو أنّ جلال الألوهيّة قد استُنفِد، أو أنّ شمس الحقيقة قد أفُلَت في غروب أبديّ إلى ظلام لن يعقبه نور، ودلفت في ذلك اللّيل الّذي لن يعقبه شروق أو فجر، ودخلت في ذلك الموات الّذي لن تعقبه حياة، ووقعت في ذلك الزّلل الّذي لن تعقبه حقيقة. فهل يعقل أن تأفل شمس الحقيقة في ظلام أبديّ؟ لا، فهذه الشّمس قد خلقت لكي تسطع على العالم بنورها، وتربّي ممالك الوجود كافّة. فكيف بشمس الحقيقة المثاليّة، الّتي هي الكلمة الإلهيّة، أن تغرب إلى الأبد؟ إذ إنّ ذلك يعني انقطاع العطاء الرّبّانيّ، والحال إنّ العطاء الرّبّانيّ هو بطبيعته مستمرّ لا انقطاع فيه. فشمسه مشرقة دائمًا؛ وغمامه لا يفتأ يأتي بالمطر؛ ونسيمه دائمًا ما يتنسّم؛ ومواهبه شاملة؛ وعطاياه كاملة دومًا. فعلينا إذًا أن نكون دائمًا في ترصّد وتوقّع، ودائمًا في رجاء وابتهال إلى الله أن يرسل لنا مظاهره المقدّسة في أكمل هيمنة، مزوّدين بالقدرة الرّبّانيّة النّافذة لكلمته، كي تمتاز تلك الذّوات الملكوتيّة على سائر الكائنات في كافّة الشّئون وكافّة الكمالات والأوصاف، تمامًا كما تمتاز الشّمس البهيّة عن كلّ الكواكب.

مع أنّ النّجوم لامعة باهرة، إلاّ أنّ الشّمس تفوقها لمعانًا وإشراقًا. كذلك تكون هذه المظاهر المقدّسة الرّبّانيّة، ويجب أن تظلّ دائمًا متميّزة على سائر الكائنات في كلّ صفة من صفات الجلال والكمال حتّى يثبت أنّ المظهر الإلهيّ هو المعلّم الحقيقيّ والمربّي الأصليّ وأنّه هو شمس الحقيقة الحائزة على أبهر إشراق، والعاكسة لجمال الله. وبغير ذلك لا يمكننا أن نربّي نفسًا بشريّة ثمّ بعد أن نربّيها نؤمن بها ونقبلها مظهرًا مقدّسًا للذّات الإلهيّة. فالمظهر الإلهيّ الحقّ يجب أن يكون حائزًا على العلم الرّبّانيّ، وغير معتمد على العلوم الّتي تُكتسب في المدارس. يجب أن يكون هو المربّي وليس المتربّي؛ وميزانه العلم اللّدنيّ وليس العلم المكتسب. ويتوجّب أن يكون كاملاً لا ناقصًا، وأن يكون عظيمًا وماجدًا لا ضعيفًا عاجزًا. ويلزم أن يكون غنيًّا بغناء عالم الرّوح وليس مفتقرًا إليه. وبالاختصار يلزم أن يكون مظهر الله القدسيّ الرّبّانيّ ممتازًا عن سائر العباد في كلّ الشّئون والأوصاف حتّى يكون قادرًا على تربية الهيئة الاجتماعيّة البشريّة بكلّ فاعليّة، ويبدّد الظّلام المخيّم على عالم الإنسان، ويُخرج البشريّة من المُلك السّفليّ إلى الملكوت العلويّ، ويكون قادرًا على ترويج ونشر رسالة الصّلح العموميّ المفعمة بالخير بين العباد بيُمْن القوّة النّافذة لكلمته، ويحقّق وحدة الجنس البشريّ في المعتقد الدّينيّ بفضل قوّة ربّانيّة مشهودة، ويؤلـّف بين كافّة المذاهب والفرق، ويقلّب كلّ الأوطان والقوميّات إلى وطن وأرض واحدة.

نأمل أن تشملنا جميعًا مواهب الله، وأن تتجلّى النّعم الرّبّانيّة، وأن تضيء أنوار شمس الحقيقة أبصارنا وتلهم أفئدتنا وتنعش أرواحنا بالبشارات الإلهيّة وتسمو بأفكارنا وتجعل أعمالنا تؤتي أروع النّتائج وأبهاها. وبالاختصار، أملنا أن نبلغ أسمى ذروة في التّطلُّعات والآمال الإنسانيّة.

لقد مكثت في أمريكا تسعة شهور وسافرت إلى كافّة المدن الكبرى، متحدّثًا في مختلف المحافل، معلنًا فيها عن وحدة العالم الإنسانيّ، داعيًا الكلّ إلى الاتّحاد والوفاق والوحدة. وقد نلت في الحقيقة بالغ اللّطف من الشّعب الأمريكيّ، واعتبرهم أمّة نبيلة قادرة على الإتيان بكلّ كمال. وغدًا سأرحل إلى أوروبّا، وأقول لكم الآن وداعًا، راجيًا لكم الرّحمة الرّبّانيّة والمجد السّرمديّ والحياة الأبديّة، وأدعو أن تبلغوا أسمى درجات الإنسانيّة. وأنا في غاية الرّضا عن هذا اللّقاء، وسروري عظيم، ولن أنساكم أبدًا. ستعيشون دائمًا في فكري وسأبتهل دائمًا وأتضرّع إلى الملكوت الإلهيّ راجيًا لكم البركات السّماويّة.

(13) 5 ديسمبر/ كانون الأوّل 1912

الخطبة المباركة الأخيرة فى الولايات المتحدة،
على ظهر الباخرة سيلتيك، قبل رحيلها من ميناء نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته مريم هايني

هذا هو لقائي الأخير بكم، فها أنا الآن على ظهر الباخرة استعدادًا للإبحار، وهذه آخر وصاياي لكم. لقد دعوتكم مرارًا إلى وحدة العالم الإنسانيّ، وإلى اعتبار أنّ جميع البشر هم عباد لله الواحد الأحد. فالله خالق الكلّ ورازقهم ومحييهم، وهو يحبّ الكلّ على حدّ سواء، والكلّ عباده الّذين تتنزّل عليهم رحمته وألطافه. ولهذا يجب عليكم أن تُظهروا أعظم قدر من اللّطف والمحبّة حيال جميع ملل العالم، وأن تنبذوا العصبيّة وتتخلّوا عن التّعصّبات الدّينيّة والقوميّة والعرقيّة.

فالأرض وطن واحد وبلد واحد، وكلّ البشر أبناء أب واحد. لقد خلقهم الله والكلّ يستفيضون من عطفه وشفقته. لذلك، من يسيء إلى أحد فإنّما يسيء إلى الله. فإرادة أبينا السّماويّ هي أن يفرح كلّ قلب ويمتلئ بالسّعادة، وأن نعيش معًا بكلّ سرور وحبور. إنّ ما يقف عقبة في سبيل سعادة الإنسان هو التّعصّب العرقيّ أو الدّينيّ، والصّراع على البقاء، ومعاملة بعضنا البعض بإسلوب غير إنسانيّ.

لقد تنوّرت بصائركم، وتنبّهت مسامعكم، ووعت قلوبكم. فعليكم إذًا أن تتحرّروا من التّعصّب والتّزمّت، وألاّ تروا أيّ فرق بين الأعراق والأديان. فلتكن أنظاركم متوجّهة إلى الله؛ فالله هو الرّاعي الحقيقيّ وكلّ البشر أغنامه. وهو يحبّهم جميعًا دون تمييز. وبما أنّ هذا هو عين الحقيقة، فهل يجوز للأغنام أن تتعارك. لا، بل عليها أن تبدي الشّكر والامتنان لله، وأفضل وسيلة لشكر الله هي محبّة بعضنا البعض.

إيّاكم أن تُحزنوا قلب أحد، أو تغتابوا أحدًا، أو أن تجافوا أيًّا من عباد الله. عليكم أن تعتبروا كلّ عباده أسرتكم وأقرباءكم. وليكن مقصدكم أن تسعدوا البائسين، وتطعموا الجائعين، وتكسوا المحتاجين، وتعزّزوا الذّليلين. كونوا عونًا للمساكين ومظاهر العطف لإخوانكم في الخليقة حتّى تنالوا الرّضا الإلهيّ. هذا هو سبب نورانيّة العالم الإنسانيّ وسروركم الأبديّ. وحيث إنّني أريد لكم العزّة الأبديّة فهذا دعائي ونصيحتي لكم.

انظروا إلى ما يجري في البلقان. كم من الدّماء تسفك، وكم من الدّيار تُخَرّب، وكم من الأموال تنهب، وكم من المدن والقرى تدمّر. إنّها نار حارقة للعالم يرتفع لهيبها في البلقان. ومع أنّ الله خلق النّاس لمحبّة بعضهم البعض، فإنّهم يقتلون بعضهم البعض بكلّ وحشيّة وإراقة دماء. لقد خلق الله هؤلاء من أجل أن يتعاونوا ويتعاضدوا، لكنّهم الآن ينهب بعضهم بعضًا ويهجم بعضهم على بعض في ساحات الوغى. وقد خلقهم الله ليكونوا سببا للهناء والصّلح المتبادل، ولكنّ ما نراه هو الشّحناء والألم والعويل المتصاعد من قلوب الأبرياء والمُبتَلين.

أمّا بالنّسبة لكم، فيجب أن تظهروا همّة عالية، وأن تجهدوا بقلوبكم وأرواحكم عسى أن تسطع نورانيّة الصّلح العموميّ وتتبدّد ظلمة التّنافر والعداوة من بين البشر، ويصبح الجميع عائلة واحدة ويتعاشرون بالمحبّة والرّحمة. فيساعد الشّرق الغرب ويعاون الغرب الشّرق لأنّ الكلّ سكّان كوكب واحد، وأهل وطن أصيل واحد، وقطيع راعٍ واحد.

تفكّروا في الأنبياء الّذين أرسلوا إلى العالم، وتلك النّفوس العظيمة الّتي ظهرت، والحكماء الّذين نهضوا في هذا العالم – كيف حثّوا الجنس البشريّ على الوحدة والمحبّة. فذلك كان جوهر مهمّتهم وتعاليمهم، وذلك كان الهدف من هدايتهم ورسالتهم. فلقد فدى الأنبياء والقدّيسون والحكماء والفلاسفة حياتهم من أجل استحكام هذه المبادئ والتّعاليم بين البشر. انظروا إلى العالم وغفلته؛ فمع كلّ المشاقّ والآلام الّتي تحمّلها أنبياء الله، لا تزال الأمم والشّعوب في خصام وحروب. ومع كلّ الأوامر الإلهيّة بأن يحبّوا بعضهم بعضًا، لا يزالون يسفكون دماء بعضهم البعض. فما أشدّ غفلة أهل العالم وجهلهم وما أحلك ما يحيق بهم من ظلمة! فمع أنّهم أبناء الرّحمن، إلاّ أنّهم يعيشون ويسلكون خلاف إرادة الله ورضاه. فالله رؤوف لطيف بالجميع، وهم مع ذلك في منتهى العداء والكراهية لبعضهم البعض. والله واهبهم هذه الحياة، وهم يسعون دومًا لإفنائها. والله يبارك ديارهم ويحميها، وهم يطمرون بيوت بعضهم البعض ويسلبونها وينهبونها. لاحظوا ما أجهلهم وما أغفلهم!

أمّا واجبكم فهو من نوع آخر، لأنكم مطّلعون على الأسرار الإلهيّة وبصائركم مستنيرة وآذانكم صاغية. لهذا يجب عليكم أن تتعاملوا بمنتهى المحبّة والرّأفة مع بعضكم البعض ومع عامّة الخلق. وليس لكم أيّ عذر لتبدوه في محضر الله إذا ما أخفقتم في الحياة طبقًا لوصيّته، لأنّكم عرفتم كلّ ما يرضي الله، وسمعتم نصائح الحقّ واستمعتم إلى البيانات والتّعاليم الإلهيّة. فعليكم أن تعاملوا كلّ البشر بالرّأفة، بل وأن تعاملوا أعداءكم كما تعاملون أحبّاءكم، وأن تعتبروا من يريد لكم سوءًا كأنّه يرجو لكم خيرًا، وكلّ من لا يعجبكم كأنّه مقبول ومحبوب. عسى أن تزول ظلمة الخصام والنّزاع هذه من بين البشر، وتنجلي النّورانيّة الإلهيّة لتتنوّر بلاد الشّرق وتتعطّر بلاد الغرب، لا، بل يتعانق كلّ من الشّرق والغرب بكلّ محبّة ويعاشر بعضهم بعضًا بمنتهى المحبّة والألفة. وما لم يبلغ البشر هذا المقام السّامي فلن يجد العالم الإنسانيّ الرّاحة ولن تتحقّق السّعادة الأبديّة. أمّا إذا عملوا بموجب هذه الوصايا المقدّسة فسينقلب عالم النّاسوت إلى عالم الملكوت، ويصبح سطح الغبراء جنّة المجد. وأملي أن تتوفّقوا في هذه المهمّة العليا، حتّى تنيروا العالم الإنسانيّ كالسّرج الوهّاجة، وتحرّكوا جسد عالم الإمكان كما تحرّك الرّوح الجسد. هذا هو المجد الأبديّ. هذه هي السّعادة السّرمديّة. هذه هي الحياة الأزليّة. وهذا هو الفوز السّماوي. هذه هي صورة الله ومثاله. بهذا أوصيكم، وأدعو الله أن يؤيّدكم ويبارككم.