كشفت جناب الطّاهرة الحجاب عن وجهها وكفّيها في بدشت قبل مائة وخمسين سنة في أحلك عصور تاريخ إيران. وبعد أربع سنوات من اجتماع بدشت، التحقت نادرة زمانها بالخالدات، وبيدها وثيقة حريّة المرأة وبيدها الأخرى روحها الغالية. احترقت جناب الطّاهرة كالشّمعة ولمعت بوجهها من أفق التّاريخ.
لا تحرق الشّمعة غير جناحي الفراشة
لكنّ حرقتنا تضرم في الكون نيرانًا
لقد حكم على جناب الطّاهرة بالإعدام بفتوى علماء الدّين وفرمان شاه إيران. ففي حديقة خارج بوّابة مدينة طهران حشر منديل حريريّ في حلقها، ثمّ حملوها ورموها في بئر ولازال رمق الحياة بها، ثمّ ردموا البئر بالحجارة والتّراب، “ولكن لا تظّن أنّ حكاية العشق تصل نهايتها”، فإنّ صرخة جناب الطّاهرة تصل من بعيد، تسمع من أوج السّماوات، صرخة تحمل في طيّاتها نداء الحرّيّة والمساواة بين بني البشر:
سيغلب الظّلم بساعد المساواة
سيعدم الجهل بقـوّة التّفرّس
سيبسط في كلّ مكان بساط العدالة
ستبذر في كلّ مكان بذرة التّونّس
سيرفع حكم الخلاف من كلّ الآفاق
ويتبدّل أصل التّباين بالتّجانس
كانت جناب الطّاهرة تمتلك كل شيء. كانت غاية في الجمال، وسبقت الرجال في العلم والفضل والكمال، وشهرة والديها العلميّة وثروتهما الطّائلة كانت فوق الوصف. لقد اشتاق شاه إيران لقاءها، رغم كلّ ذلك، لم تعتن بمظاهر العالم التّرابي الخدّاعة، ولم تثنها عن توجّهها إلى عالم الملكوت. عشقت جناب الطّاهرة الإشراق الإلهي الّذي تحقّق في ظهور النّقطة الأولى (حضرة الباب)، وكانت توّاقة لرؤية طلعته الأعلى بكلّ وجودها. ولكن لم يتيسّر لها اللّقاء في عالم النّاسوت.
قلبي مفتون بحضرة الأعلى
أعشق لقاء محبوبي الأسمى
أسلك درب الوصال مغرمةً
أهجر الكلّ فأنت من أهوى
عشقك قد ملأ منّي الأعضاء
بعد استشهاد حضرة الباب “هبّت رياح الخريف على حديقة آمالها”. فقد كانت في منزل الكلانتر (رئيس الشّرطة) عندما وصلها خبر استشهاد حضرته. كان تحمّل خبر استشهاد حضرته وألوف من عشّاقه فوق طاقتها. إنّ البلايا الّتي تحمّلتها جناب الطّاهرة في إيران والعراق لم تكن في طاقة الكلّ. ورغم إحاطتها بمختلف أنواع المعارف الدّينيّة لعصرها، إلاّ أنّها كانت جوهر الفناء والمحويّة. فقد كان المئات من علماء الّدين من مريديها، ونهل آلاف النّاس في العراق وإيران من بحر فضلها وكمالها. لم يجرؤ العلماء على مناظرتها، وانهزم الفضلاء أمام استدلالاتها. طبقًا لما قال حضرة عبد البهاء: “كانت في البيان آفة الزّمان وفي الحجّة فتنة العالم”. ووصفها حضرة وليّ أمر الله في بيان مختصر في ظاهره وجامع عميق في جوهره بـ ”الشّاعرة الشّابّة، من عائلة مرموقة، صاحبة جمال وبلاغة ساحرين، تمتلك روحًا ذات عزيمة، وآراءً جريئة وسلوكًا في غاية الشّجاعة، ولقّبها لسان الجلال بلقب “الطّاهرة الخالدة”.
وكتب المستشرق البارز البروفسور إدوارد براون، أستاذ جامعة كامبريدج البريطانيّة، عن جناب الطّاهرة: “إنّ ظهور سيّدةً مثل قرّة العين في أيّ عصر وبلد لهو من نوادر الزّمان، أمّا في بلد مثل إيران فيعتبر واقعة لا مثيل لها، بل معجزة….. لو كان الدّين البابي فاقدًا لدليل على إثبات عظمته، لكان خلقه لبطلة كقرّة العين دليلا كافيًا على ذلك”.
المؤرّخون الرّسميّون في بلاط القاجار أمثال “سـﭙهر” و”هدايت” و”حقايق نـﮕار”، رغم عدائهم البالغ للأمر البديع وخاصّة جناب الطّاهرة، إلاّ أنّهم اعترفوا بقوة استدلالاتها وغاية جمالها وكمالها. يقول الدّكتور علي الورديّ أستاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد: “فهي علاوة على ما تميّزت به من جمال رائع كانت تملك ذكاءً مفرطًا وشخصيّةً قويّة ولسانًا فصيحًا، كانت من النّفوس الّتي غيّرت مجرى التّاريخ. ويكتب الدّكتور الورديّ: “وهي قد ظهرت في غير زمانها، أو هي سبقت زمانها بمائة سنة على أقلّ تقدير. فهي لو كانت قد نشأت في عصرنا هذا، وفي مجتمع متقدّم حضاريًّا، لكان لها شأنًا آخر، وربّما كانت أعظم إمرأةً في القرن العشرين”. استفاض شهاب الدّين محمود الآلوسي مفتي بغداد من محضر جناب الطّاهرة، وشهد لها في غاية الصّراحة، كتابةً ولفظًا بالعفّة والتّقوى والعلم والذّكاء. واعتبرها جوبينو الكاتب الفرنسي المشهور أنّها “من علماء الزّمان المتميّزين” و”أعجوبة العصر”. وقالت عنها أميرة القاجار شمس جهان “خاتون (سيّدة) العالم”، ولقّبها العلاّمة الدّكتور محمّد إقبال لاهوري “خاتون (سيّدة) العجم”.
لم يجتمع حول مجلسها العلماء في المعاهد العلميّة الإسلاميّة ليستفيدوا منها في العراق فحسب، بل في كلّ مناطق إيران، بما فيها غابات مازندران وبالأخصّ قرية “واز”، حيث كان النّاس يجلّونها ويقدّسون مواقع أقدامها ويسمّونها باسمها تخليدًا لذكراها. لقد كانت تسحر القلوب بجذبة جمالها وكمالها وفي نفس الوقت تواضعها. فهي تنشد في هذا الخصوص وتقول عن لسان حال أبناء دينها في البلاد والديار:
لو هبّ نسيم المسك من جعده العطر
تراه يوقع غزلان الفلاة في الأســـــر
وإن تزيّنت بســـــــواد الكحل مقلته
لاسودّت الدّنيا ومن فيها من البشر
ترى الســــــّماء تخرج، توقًا لرؤيته
غداة كلّ غد، مرآةً من التّبر
ولو تصادف مسراه لصومعة
دانت له راهبات الدّير في الـــــــخدر
تعرّفت على اسم جناب الطّاهرة منذ الصّغر. كانت والدتي تتمتم أشعارها بلحن ملكوتي خاصّ وأنا صغير، ما زال صوتها الشّجيّ يرنّ في أذناي عندما كانت تترنّم بغزليّات جناب الطّاهرة:
أيا فاتن المحيّا…
قلبي ينتشي بخيالك سرمدًا
ويا بهيّ السّجايا…
لا مرام لروحي سوى
* * *
حسن محيّاك الباهر
ومسك شعرك العاطر
والحضور في محفل أنسك الزّاخر
عشقت جناب الطّاهرة عشقًا كبيرًا منذ الطّفولة، ولا أبالغ إذ أقول بأنّني تحرّيت سيرتها وآثارها منذ بلغت الرّابعة عشر. كلّ ما حصلت عليه من آثارها قرأته بدقّة تامّة وقيّمته. وكنت في اشتياق دائم لمزيد من المعرفة عن حياة نادرة زمانها، إلى أن عملت عام 1973 ميلاديّة مدرّسًا في مادّة الحقوق بدعوة اثنين من الأساتذة البارزين، في كلّيّة التّجارة والعلوم الإداريّة بقزوين الّتي أصبحت لاحقًا فرعًا من مجمع الدّراسات العليا لجامعة طهران.
كنت أذهب إلى قزوين في الأسبوع يومًا أو يومين لمدّة خمس سنوات، وكنت أقضي ساعات الفراغ مع عدد من الطلبة من أقارب جناب الطّاهرة. وبواسطتهم التقيت بعدد من قدماء عائلة شهيدي وصالحي في قزوين، وحصلت على معلومات قيّمة عن حياة جناب الطّاهرة وعائلتها. هنا أجد من واجبي أن أقدّم الشّكر للجميع.
تمّ نشر عشرات الكتب ومئات المقالات عن حياة جناب الطّاهرة وآثارها الكتابيّة، بلغات مختلفة، ويحتوي كلّ منها على نقاط مهمّة عن هذه السّيّدة الفاضلة. لقد بذلت كلّ جهدي للإشارة إلى أهمّها ودراسة محتوى كلّ واحد منها باختصار.
تمّ تخصيص الفصل الأوّل من الوحدة الأولى تحت عنوان “مصادر تحرير الّنسخة الأصليّة للكتاب” لهذا الموضوع. هذا الفصل رغم طوله وتفصيله الزّائد، إلاّ أنّ القارئ الفطن المحترم يكتشف أنّ الكاتب وجد ضرورة لا بدّ منها لذلك.
الفصل الثّاني من الوحدة الأولى في بيان أحوال مشاهير النّساء عبر تاريخ الأديان، ولأنّ اسم جناب الطّاهرة قد ورد في البيانات المباركة لحضرة عبد البهاء وحضرة وليّ أمر الله، إلى جانب أسمائّهن فقد وجدت من الضروري التّعرّف على أحوالهن.
الفصل الثّالث من الوحدة الأولى، عبارة عن توضيح للمبدأ الأساسي لأمر حضرة بهاء الله حول المساواة بين الرجال والنّساء بالاستناد إلى النّصوص المقدّسة البهائيّة. في الحقيقة لقد فدت جناب الطّاهرة بروحها من أجل تحقيق هذا المبدأ المقدّس، وتعتبر هي أوّل ضحيّة لإحقاق حقوق النّساء في العصر الأخير من تاريخ العالم.
الوحدة الثّانية، وهي في الحقيقة المحتوى الأصلي للكتاب، عن حياة جناب الطّاهرة، فبعد أن ذكرت في الفصل الأوّل تاريخ وجغرافية مدينة قزوين موطنها، تطرّقت في الفصول التّالية إلى أجدادها ونسبها وولادتها، ومرحلة الطّفولة والصّبا، وزواجها وأحداث أخرى مهّمة في حياتها.
الوحدة الثّالثة، اختصّت بآثار جناب الطّاهرة الكتابيّة. في الفصل الأوّل أشعارها، والفصل الثّاني آثارها المدوّنة على شكل نثر.
راعيت في هذا الكتاب الدّقة التّامّة في مطابقة المعلومات المكتسبة من أقرباء جناب الطّاهرة، ومحتوى الوثائق الموجودة، وآراء الباحثين البهائيّين وغير البهائيّين، مع النّصوص المباركة للطّلعات المقدّسة البهائيّة. لقد كان التّشجيع الأساسي لهذا العبد الفاني في إتمام كتاب (جناب الطّاهرة)، هو تقدير وعناية بيت العدل الأعظم المستمرّة، وخاصّة في رسالتين مؤرّختين 9 شهر الملك 150 بديع (14 فبراير 1994ميلاديّة) و13 شهر الرّحمة 152 بديع (5 يوليه 1995 ميلاديّة).
كما أقدّم تقديري القلبي لمساعدة دائرة النّصوص والألواح الجليلة في المركز العالمي البهائي.
وأسجّل أيضًا شكري وتقديري لتشجيع جناب أيادي أمر الله الأستاذ العالم الجليل جناب عليّ أكبر فروتن عليه بهاء الله، بالأخصّ في رسالته المؤرّخة 15 مايو 1996 ميلاديّة ورسالته التّفصيليّة المؤرّخة 14 نوفمبر 1996 ميلاديّة، واللّتين كانتا منبعًا روحانيًّا عظيمًا لهذا العبد الفاني.
كذلك أدين لشخصّيّتين عزيزتين على قلبي واللّتين كان لتشجيعهما أكبر الأثر لبداية تحقيقاتي وانتهائها، وهما والدتي الموقنة المتصاعدة إلى الله قدسيّة آل نداف عليها رضوان الله، الّتي كان لها الأثر الأكبر في معرفتي ودرايتي باسم وآثار جناب الطّاهرة. والثّانية هي زوجتي الحبيبة “أفسر” الّتي شاركتني وساعدتني بكلّ محبّة وصبر ووفاء في جميع المراحل، وأغتنم الفرصة هنا كي أسجّل تقديري لآرائها القيّمة الثّمينة.
فضل آخر شمل هذا الفاني، وهو تشجيع مجموعة من فضلاء أمر الله، ومؤسّسة المعارف البهائيّة المبجّلة، التي كانت مصدرًا للأمل باستمرار.
في الختام أجد من واجبي أن أقدّم جزيل شكري لخادم أمر الله الجليل الدّكتور عنايت الله عنايتي وزوجته الكريمة الموهوبة أمة الله خانم إيراندخت (فوزي) عنايتي، اللّذين كانا معي بكلّ محبّة في مراحل تحقيقاتي وبحثي ووفّرا لي التّسهيلات اللاّزمة.
أرجو أن يكون هذا البحث المتواضع محل رضاء الأحباء الأفاضل، وأرجو مساندتهم في تنفيذ تعهّداتي الأخرى كما في السّابق.
نصرت الله محمّد حسيني
صيف عام 1998 ميلاديّة
مدينة برنابي، من كولومبيا البريطانيّة، كندا
نفدت نسخ كتاب “جناب الطّاهرة” بعد نشر الطّبعة الأولى بسرعة. لقد كان إقبال البهائيّين والنّاطقين بالفارسيّة على هذا الكتاب أكثر بكثير من توقّع المؤلف. لقد تمّ الاستفادة من محتوى الكتاب مرّات عديدة في برامج الإذاعة والتليفزيون، كما تمّ نشر أجزاء منه في المطبوعات الفارسيّة بكثرة. اعتبر عدد من الباحثين البهائيّين وغير البهائيّين في الغرب والشّرق كتاب “جناب الطّاهرة” من أكمل الكتب الّتي بحثت في فريدة عصرها تلك. وأبدى عدد من المستشّرقين إعجابهم بالكتاب. كما أغدق الكثير من السّيّدات الفاضلات المثقّفات في بلاد إيران المقدّسة على الكاتب بعنايتهن نظرًا للبحث والتّحقيق الّذي دام عقودًا من الزّمن عن حياة وآثار
جناب الطّاهرة.
منذ نشر هذا الكتاب سنة 157 بديع (2000 ميلاديّة)، عبّر العديد من الشّخصيّات الأفاضل وبالأخصّ الأحباء كرارًا ومرارًا سواء شفاهةً أو تحريرًا عن تقديرهم وتشجيعهم لمؤلّف الكتاب. ولا يسعني في هذه المقدّمة القصيرة إلاّ أن أذكر أسماء الأشخاص الّذين شملوني بعطفهم بطرق مختلفة، أشكرهم جميعًا وأتمنّى أن تستمر هذه المحبّة بيننا ويشجّعونني في إتمام أعمالي الأخرى.
قلنا كلّ هذا القول إنّما
قولنا دون عناية الله عدم، معدمًا
فدون عون الحقّ يلفى من سلك
أسود الصّحف ولو كان ملكًا
في هذا المقام يخضع هذا المؤّلّف الفاني بكلّ خضوع وامتنان لعنايات وتشجيع بيت العدل الأعظم المتكرّرة وبالأخصّ رسالته المؤرّخة 15 شهر الجلال 160 بديع
(23 أبريل 2003 ميلاديّة) والّتي مكانها صميم القلب والرّوح.
في سنوات حياتهما الأخيرة شمل حضرات أيادي أمر الله جناب علي أكبر فروتن وجناب الدّكتور علي محمّد ورقا عليهما رضوان الله هذا العبد بلطفهما وعنايتهما اللّتين كانتا مبعثًا لكمال امتناني لهما. في الختام أرى من واجبي أن أقدّم شكري لمؤسّسة نحل لنشرها الطّبعة الثّانية.
نصرت الله محمّد حسيني
ربيع سنة 2012 ميلاديّة في مدينة سوري
من كولومبيا البريطانيّة (كندا)
القرّاء الأعزاء، إنّ كلّ ما يجب أن يقال بخصوص كتاب “جناب الطّاهرة”، قيل في مقدّمة الطّبعة الأولى والثّانية، فهناك تفاصيل كثيرة عن إقبال الأحباء على الكتاب من البهائيّين وآخرين من عشّاق جناب الطّاهرة الخالدة. لقد لاقى هذا الكتاب ثناءً وتقديرًا كبيرين من الباحثين البهائيّين الأفاضل، وكذلك من المحترفين النّاطقين بالفارسيّة، وعدد من الأجانب المهّتمّين بتاريخ إيران ومعرفة بلادها، لكلّ هؤلاء أقدّم عظيم امتناني.
زوجتي أفسر رحمها الله، كانت مشجّعتي الأصليّة لإنجاز هذا الكتاب، وبعد عشرة دامت اثنين وخمسين سنة من حياة مشتركة مع هذا العبد كسير القلب رحلت من العالم التّرابيّ والتحقت بملائكة ملكوت الأبهى في 11 من أغسطس 2016 ميلاديّة. أقدّم هذا الكتاب لروحها النّقيّة.
أقدّم عظيم شكري وامتناني إلى السّاحة المقدّسة، بيت العدل الأعظم الّذي طالما شملني بعناياته وخاصًّة في رسالته المؤرّخة 15 شهر الجلال 160 بديع (23 أبريل 2003 ميلاديّة) لكتاباتي المتواضعة.
في البداية، تمّ نشر كتاب “جناب الطّاهرة” بهمّة ومساعدة ناشري نفحات الله دكتور عنايت الله عنايتي وزوجته الموهوبة الجليلة السّيّدة إيراندخت (فوزي) عنايتي، وهما دائمًا وأبدًا موضع شكري وتقديري.
في الختام أقدم شكري إلى مؤسّسة نحل الثّقافيّة الّتي أقدمت على طبع ونشر الطّبعة الثّالثة للكتاب بكلّ دقّة وإتقان.
نصرت الله محمّد حسيني
سوري، كولومبيا البريطانيّة (كندا)،
صيف 2018 ميلاديّة.
كان التّشجيع الّذي تلقّيته لترجمة هذا الكتاب الموسوعي عن جناب الطّاهرة في بداية الأمر طلبًا من أستاذي الرّاحل قاسم محمّد عبّاس، الباحث العراقي القدير والمحقّق البارز فقيد الثّقافة والفكر والمواقف النّبيلة، عاشق جناب الطّاهرة ومؤلّف كتاب (بكاء الطّاهرة)، لقد عمل على تنقيح ترجمة كتاب “جناب الطّاهرة” وكان ينوي نشر الكتاب، إلّا أنّ القدر حال دون تحقيق أمنيته، فقد وافته المنيّة قبل إتمام هذا العمل، وللأسف لم أعثر على النّسخة المنقّحة الّتي عمل عليها. فتمّ البدء بالعمل من جديد. أقدّم هذا العمل إهداء إلى روحه المتصاعدة إلى الله.
كم كنت أتوق لإصدار هذا الكتاب الّذي يتناول سيرة حياة تلك البطلة البابيّة العظيمة، جناب الطّاهرة، بمناسبة الذكرى المئويّة الثّانية لمولد حضرة الباب والّتي كانت حرفًا من حروف الحيّ البارزين لحضرته، والّتي عجز عن بلوغ شأوها جهابذة العلماء والبلغاء وأوّل شهيدة في سبيل تحرير المرأة، ولكن مثل هذا العمل الضخم لم يكتمل في الموعد المحدد.
وأدين بالشّكر والعرفان لزوجي الحبيب أسامة الحمامصي لمساندته التّامة لي في إنجاز هذا العمل حيث عملنا معًا لإنهاء الكتاب.
كلّ الشّكر والتّقدير للأساتذة الأجّلاء: سيفي سيفي، عبد الباسط أبو العلا، راندا الحمامصي، أمل القشيري، حسين سيف، سونيا الحمامصي لتعاونهم ومساعدتهم وملاحظاتهم القيّمة في مراجعة الكتاب وتنقيحه. وأقدّم شكري الخاص للأستاذة سالي دانيال التي بذلت جهدًا كبيرًا في مراجعة الكتاب في النّسخة النّهائيّة.
بخصوص أشعار هذه السّيّدة الشّجاعة فإنّ جناب الطّاهرة وحدها قادرة على بيان وإبراز رشحات قلبها الطّاهر فقط، ولا أظن أنّ هناك قلمًا يمكنه أن يسجّل تلك الأشعار كما في الأصل، وقد تمّت المحاولة بترجمة مضمون معظم الأشعار الواردة في الكتاب سوى بعضها الّتي لم يتمّ ترجمتها نظرًا لصعوبتها، ولكن لكي يتعرّف القارئ على طريقة التعبير عن العشق الإلهي الذي تناولته جناب الطاهرة في قصائدها وأشعارها والذي ظهر أنه كان متداول في عصرها بطريقة خاصة بين الشعراء، فبالرغم من أن ترجمة الشعر الفارسي إلى لغة أخرى لن يكون أبدًا بمثل بلاغة ورصانة الأصل الفارسي إنّما نظرًا لعشّاق أشعار وقصائد جناب الطّاهرة الكثيرين فقد تمّ الاستعانة بالحبيب محمّد عليّ قادري لترجمة مضمون الأشعار، ومراجعة بعض الأشعار من قبل السّيّد الفاضل حبيب إحسان، والسّيّدة الفاضلة ناهيد روحاني كلّ الشّكر والتّقدير لهم، وأيضًا لملاحظات المرحوم السّيّد عبد الحسين فكري القيّمة، وسنورد الأشعار بلغتها الأصليّة في نهاية الكتاب.
وكذلك وجب التنويه إلى أنه إذا كان لهذه الترجمة أن ترى النور، فإن الفضل يرجع إلى حضرة بهاء الله أوّلاً ثم إلى الجهود الكبيرة والمخلصة لهيئة المراجعة العربية القديرة التي مدّت يد العون والمساعدة في الإرشادات القيمة على مدى سنوات. لقد تم الانتهاء من الترجمة سنة 2019 ومرت بمراحل عملية المراجعة حتى عام 2025.
أقدّم إلى كلّ هؤلاء الأعزاء الأودّاء جزيل الشّكر وعظيم التّقدير والعرفان على عطائهم الموفور ودعمهم في إنجاز هذا العمل.
يجدر التنويه بأن ما هو مكتوب بخط عريض هو عربي في الأصل.
عهدية روحاني
بورسعيد – مصر 2025م
المصادر الأصليّة التي حرّر منها الكتاب
لقد جاء شرح حياة جناب الطّاهرة في آثار الطّلعات المقدّسة البهائيّة، وفي عشرات الكتب ومئات المقالات من الباحثين والكتّاب البهائيّين وغير البهائيّين وتمّ تقيّيم آثار نادرة زمانها هذه، لذلك، سنطّلع على مصادر تحرير الكتاب تحت عنواني، المصادر البهائيّة والمصادر غير البهائيّة.
أولاً: المصادر البهائيّة
أ) آثار الطّلعات المقدّسة
جاء ذكر جناب الطّاهرة وآثارها باختصار أو بالتّفصيل في الألواح المباركة لحضرة الباب، وحضرة بهاء الله، وحضرة عبد البهاء، وحضرة وليّ أمر الله.
العنوان الكامل لـ ”مقالة سائح” هو (مقالة سائح شخصيّة كتبت في شرح قضيّة الباب)، صدر هذا الكتاب من يراع حضرة عبد البهاء بين 1306–1308 هـجريّة قمريّة (1888–1890 ميلاديّة). وعدم ذكر اسم كاتب الكتاب دليل على محويّة وعبوديّة حضرة عبد البهاء في ساحة جمال الأبهى، لأنّه لم يكن يسمح في أيّام حضرة بهاء الله أن يؤتى بذكر شيء عنه. أهدى حضرته نسخة من الكتاب سنة 1890 ميلاديّة في الأرض الأقدس للبروفيسور براون، وطبقًا للشّرح الّذي سيأتي لاحقًا فقد بادر براون بترجمة الكتاب إلى اللّغة الإنجليزيّة. يحتوي “مقالة سائح”، على أربعة مواضيع، الموضوع الأوّل (ص1–39 النسخة العربيّة) يخصّ أحداث عهد حضرة الباب، والموضوع الثّاني (ص39–113) يخصّ حياة جمال الأبهى. الموضوع الثّالث ورد في أواخر الكتاب (ص72–101) حيث أورد فيه لوح السّلطان. أمّا الموضوع الرّابع فيتكوّن من مجموعة من البيانات المباركة لحضرة بهاء الله وتعاليمه. تمّ طبع “مقالة سائح”، لأوّل مرّة في بومباي، وذكر في آخر الكتاب: “تاريخ الجمعة 26 ربيع الثاني 1308 هجريّة قمريّة”. النّسخة الفارسيّة الّتي استفدت منها كانت طباعة سنة 119 بديع، طبعت بواسطة مؤسّسة المطبوعات الأمريّة في إيران. يشير حضرة عبد البهاء في الجزء الأوّل من الكتاب (ص 20–21) إلى أحوال جناب الطّاهرة ومميّزات شخصيّتها الخالدة. ورغم اختصار هذا الجزء، إلّا أنّه كان مصدرًا هامًا لي لكتابة هذا الكتاب.
ب) آثار المؤرّخين البهائيّين
1. تاريخ نبيل الزرندي: هذا الكتاب من تأليف جناب يار محمّد الزرندي (1831–1892 ميلاديّة) الّذي لقّب من قلم حضرة بهاء الله بـ ”النبيل الأعظم”. تعلّم نبيل الزرندي منذ الصّغر قليلاً من القراءة والكتابة، عمل في موطنه كراع للغنم إلى أن أصبح شابًا يافعًا، تعرّف على الأمر المبارك عام 1847 ميلاديّة وهو في سنّ السّابعة عشر، وفاز بالإيمان عن طريق جناب السيّد حسين مهجور الزّواري وجناب السيّد محمّد إسماعيل الزّواري الملقّب بـ ”الذّبيح”. في بداية إيمانه قام بالخدمة في غاية العشق، ونال توفيقات عظيمة في ميدان التّبليغ. لم يتحمّل النّبيل صعود حضرة بهاء الله، ولم يتحمّل الفراق، لذا أغرق نفسه في البحر بعد مدّة من الصّعود المبارك. من آثار النّبيل كتابه عن تاريخ الأمر المبارك وأيضًا عدد من المثنوي وأشعار أخرى ومكاتبات مع عدد من الأصحاب، تحكي جميعها عن عمق عرفانه واطّلاعاته الأمريّة والأدبيّة. أصبح تاريخ النّبيل الخالد درّةً تتلألأ في تاريخ الدّور البهائي. ابتدأ في تدوين تاريخه منذ عام 1305 هجريّة قمريّة (1887–1888 ميلاديّة)، وأتمّ التّدوين في مدّة سنة ونصف(1). لذا لا بدّ أنّه كتب وقائع سنوات 1307 هـجريّة قمريّة (حوالي 1890 ميلاديّة) وحتّى صعود جمال الأبهى (1892 ميلاديّة) لاحقًا. لقد تمّت مراجعة بعض فصول تاريخ النّبيل بواسطة حضرة بهاء الله، بحيث كان الميرزا آقا جان الخادم، يقرأه في حضور حضرته، وكان يبدي قبوله ورضاه. كذلك تمّت مراجعة فصول من هذا التّاريخ بمعرفة حضرة عبد البهاء(2). لقد كان مصدر علم النّبيل في كتابة تاريخه الخالد هو بيانات حضرة بهاء الله الكتابيّة والشّفاهيّة، وآثار حضرة الباب، والتّقارير الكتابيّة لعدد من الأحبّاء عن مشاهداتهم الحضوريّة، ومشاهدات النّبيل نفسه، واطّلاعاته الّتي أخذها خلال العشر سنوات الأولى من مجموعة مشاهير البابية وأهل البهاء من ضمنهم الميرزا موسى كليم. لقد قام حضرة وليّ أمر الله بتنقيح وتلخيص الجزء الأوّل من تاريخ النّبيل والّذي يحتوي شرح أحداث العهد الأعلى (عهد حضرة الباب)، ويختتم بخروج حضرة بهاء الله من إيران ورحيله إلى بغداد، وترجمه حضرته إلى الإنجليزيّة. عنوان التّرجمة الإنجليزيّة “The Dawn Breakers” وطبعت ونشرت هذه التّرجمة عدّة مرات. وتمّت ترجمة هذا الكتاب إلى العربيّة بواسطة أيادي أمر الله جناب عبد الجليل بيك سعد وهو من القضاة البارزين وفضلاء البهائيّين في مصر بعنوان (مطالع الأنوار). وقام جناب عبد الحميد إشراق خاوري بترجمة محتوى مطالع الأنوار العربي إلى اللّغة الفارسيّة. وتمّ طبع ونشر هذه التّرجمة أيضًا عدّة مرّات(3).
لقد أشار نبيل الزرندي في عدّة مواضع من التّاريخ إلى الأحداث المرتبطة بحياة جناب الطّاهرة وبالأخصّ في ثلاثة فصول: بعثة حضرة الباب، سفر جناب الطّاهرة من كربلاء إلى خراسان، اجتماع الأصحاب في بدشت وواقعة اغتيال ناصر الدين شاه، حيث ترك معلومات قيّمة للأجيال القادمة. ما كتبه النّبيل بخصوص حياة جناب الطّاهرة في غاية المتانة، باستثناء عدّة مواضع من تاريخه عن جناب الطّاهرة يجب مطابقته مع النّصوص المباركة بالأخصّ كتاب تذكرة الوفاء وكتاب القرن البديع، وقد تمّ تدارك هذه المسألة في محتوى الكتاب الحالي.
2. كتابات الشّيخ سلطان الكربلائي: كان أجداد جناب الشّيخ سلطان المعروف بــ ”عرب”، من علماء وفضلاء كربلاء. كان الشّيخ سلطان رجلاً فاضلاً من تلاميذ السّيّد كاظم الرّشتي المقرّبين، سمع في كربلاء بشارة الظّهور من جناب الطّاهرة وآمن(4). ذهب الشّيخ سلطان منذ بداية الظّهور إلى شيراز ولكن بسبب مرضه لم يفز في الأيام الأولى بزيارة حضرة الباب. أرسل له حضرة الباب سالة بأنّه سوف يحضر عنده، لذا ذهب بمعيّة الغلام الحبشيّ إلى الشّيخ سلطان.
يحكي المذكور قصّة تشرّفه في تلك اللّيلة في حضور حضرة الباب لنبيل الزرندي كالتّالي: “كان حضرة الباب قد أمرني أن أطفئ السّراج في غرفتي قبل وصوله، فكانت الغرفة مظلمة وأمسكت بذيل ردائه في ذلك الظّلام الحالك وتضرّعت إليه قائلاً: “يا مولاي المحبوب أرجو أن تقبل تضرّعي إليك وتحقق رجائي للشّهادة في سبيلك. وليس أحد سواك يستطيع أن يمنحني هذه الموهبة الكبرى”، فأجاب حضرة الباب: “يا شيخ إنّي أيضًا أتمنى أن أكون فداءً في سبيل المحبوب، وعلينا نحن الاثنين أن نتشبّث برداء المحبوب الحقيقي ونطلب منه أن يلبّي رجاءنا بالشّهادة في سبيله. وأعدك بأنّي أدعو ربّي القدير أن يمكّنك من التّشرّف بلقاء أفضل محبوب. فتذكّرني حين تتشرّف بحضوره. ذلك يوم عظيم جدًا لم ير العالم شبهه من قبل”.
عندما أراد حضرة الباب أن يغادر أعطاني مبلغًا، حاولت أن أرفض لم أتمكّن وأجبرني على قبوله. ثمّ غادر المكان. لقد حيّرني عندما قال أفضل محبوب، ماذا كان يقصد؟ بدايةً ظننت أنّها جناب الطّاهرة، ثمّ ذهب ظنّي بأن يكون السيّد علوّ هو المقصود(5). كنت في حيرة ولم أعرف كيف أكشف هذا السّرّ. بعد ذلك عندما تشرّفت بحضور حضرة بهاء الله تيقّنت أنّ مقصود حضرة الباب من (المحبوب) الّذي كان يتمنّى أن يفتديه بحياته هو “حضرة بهاء الله”(6).
بما أنّه لم يكن لصالح الشّيخ سلطان أن يقيم في شيراز في تلك الأيّام، لذا أمره حضرة الباب أن يرجع إلى كربلاء بعد شفائه وينشغل بخدمة الأمر الجديد. فكان في خدمة جناب الطّاهرة في كربلاء وانشغل بنشر نفحات الله، وكان ينفّذ أوامرها بالقلب والرّوح. عندما استشهد حضرة الباب كان هو في كربلاء، وهناك وقع في فخّ مكائد السّيّد علوّ. كان الشّيخ سلطان يعتبر نفسه وصيًّا على السّيّد علوّ الّذي كانت له دعاو واهية. كما وقع جناب الحاج السّيّد جوّاد الكربلائي أيضًا في فخّ مكائد وحيل السّيّد علوّ. عام 1267 هـجريّة قمريّة (1851 ميلاديّة) عندما ذهب حضرة بهاء الله إلى كربلاء، نصح الشّيخ سلطان وهداه. كما كان ذلك سببًا في تنبّه السيّد جوّاد الكربلائي أيضًا. انفضّ الأصحاب من حول السيّد علوّ، وعندما وجد نفسه وحيدًا اعترف بعظمة مقام حضرة بهاء الله، وتاب وأقسم بأنّه لن يتفوّه بعد ذلك بمثل هذه الأراجيف من الأقوال(7). آمن الشّيخ سلطان بحضرة بهاء الله وكان يبرز غاية عشقه لحضرته وحضرة عبد البهاء. كانت ابنته زوجة جناب الميرزا موسى كليم شقيق حضرة بهاء الله. وكان الشّيخ سلطان هو الّذي ذهب بعد ذلك من بغداد إلى كردستان ورافق حضرة بهاء الله وعاد معه إلى بغداد.
يوجد بين أيدينا مكتوب من جناب الشّيخ سلطان باللّغة العربيّة، كتبه عام 1263 هجريّة قمريّة (1847 ميلاديّة)، من كربلاء مخطابًا البابيّين في إيران. ونسخة من هذا المكتوب مدوّنة في المجلّد الثّالث لكتاب ظهور الحقّ (ص 245–259) تأليف جناب فاضل المازندراني. إنّ هذا السّند القيّم وصحّة المواضيع الّتي كتبها من مشاهداته، جعلني أعتبر هذا المكتوب من المصادر المّهمة لشرح حياة جناب الطّاهرة. يشير في هذا المكتوب إلى الأحداث المرتبطة بحياتها في السنين الأولى من ظهور حضرة الباب، وإقدامات مجموعة من الأصحاب بالأخصّ ملّا أحمد حصاري ضد المذكور، وأيضًا المقامات العلميّة والرّوحانيّة لجناب الطّاهرة وكتاباتها. يتّضح من محتوى المكتوب كم كان أسلوب جناب الطّاهرة الثّوري مخالفًا لمجموعة من الأصحاب الأوائل.
3. تاريخ الميرزا حسين الهمداني: جناب الميرزا حسين الهمداني هو خال جناب الحاج صدر الهمداني الملقّب بصدر الصّدور (8). أما جناب رضا خان تركمان فهو من أصحاب العهد الأعلى (حضرة الباب) الّذي استشهد في ملحمة قلعة طبرسي، وأيضًا من المنتسبين للميرزا حسين(9). كانت ميول الميرزا حسين في البداية عرفانيّة وكان يصاحب أهل التّصوّف. ولأنّه كان رجلاً أديبًا خطّاطًا، يعرف اللّغات، فقد عمل كسكرتير أحد وزراء ناصر الدّين شاه، وبالتّدريج أصبح من المقرّبين في بلاط الشّاه. وكان من مرافقي ناصر الدّين شاه في أولى أسفاره إلى أوروبا (1873 ميلاديّة)، وغنم مكاسب تجاريّة جيّدة، وفي طريق العودة إلى إيران أقام لفترة في اسطنبول. عندما رجع إلى إيران دخل السجن بتهمة إيمانه بالأمر الأعظم. في تلك الأيّام (1291 هـجريّة قمريّة /1874 ميلاديّة) قام آقا جمال البروجردي مع مجموعة من علماء الشّيعة بالنّقاش والمباهلة في مجلس خاص، وبسبب عدم مراعاة أصول الحكمة حدثت ضوضاء. ونتيجة لذلك ابتلي آقا جمال البروجردي وعدد آخر من بينهم الميرزا حسين بالسّجن. بعد خروجه من السجن عمل في مكتب مانكجي Manakji الّذي كان مسؤول الزردشتيّين في إيران في ذلك الوقت، وقام بالمطالعة والبحث والتأليف أيضًا(10). توفّي الميرزا حسين سنة 1299 هـجريّة قمريّة (حوالي 1881–1882 ميلاديّة) في رشت.
كان الميرزا حسين موضع احترام كبير عند مانكجي، وفي إحدى اللّيالي حيث كان مدعوًّا في منزله، طلب منه المضيف أن يكتب كتابًا عن تاريخ الأمر البديع، فوافق. عندها طلب الميرزا حسين المساعدة من جناب أبو الفضائل في كتابة تاريخ الأمر، الّذى وفّر له بعض المواد اللّازمة إضافةً لما سمعه من جناب الحاج سيّد جوّاد الكربلائي، وطلب منه أن يحصل على مخطوطة تاريخ الحاج ميرزا جاني الكاشاني ويبدأ كتابة التّاريخ بالاستفادة من محتواها، وأيضًا كتابي “ناسخ التّواريخ” و”روضة الصّفاء النّاصري” (كمستند لبيان تاريخ ويوم وشهر وسنة وقوع الأحداث في عهد حضرة الباب). ومن ثمّ فقد أرسل المخطوطات بالتّدريج للحاجّ سيّد جوّاد الكربلائي للتّصحيح والتّصويب. كتب أبو الفضائل مقدّمة لكتاب الميرزا حسين، ودعاه في تلك المقدّمة إلى رعاية الإنصاف وبيان الحقيقة. قرّر الميرزا حسين أن يؤلّف تاريخه في مجلّدين. المجلّد الأوّل في بيان حياة حضرة الباب، والمجلّد الثّاني عن حياة حضرة بهاء الله. بدأ الميرزا حسين كتابة المجلّد الأوّل من تاريخه بناءً على المعلومات والآراء الواصلة من جناب أبي الفضائل، ولكن مانكجي أرغمه أن يقوم ببعض التغيّيرات في مجلّده، وكثيرًا من المواضيع الّتي كان يمليها على الميرزا حسين شخصيًا كيّ يكتبها. لذا لم يكن أسلوب الكتابة ومحتوى الكتاب وفقًا لرغبة المؤلّف بالكامل.
على أيّة حال، لم يكن عمر جناب الميرزا حسين الهمداني كافيًا كيّ ينهي المجلّد الثّاني من كتاب تاريخه. المقصد الحقيقي للمذكور هو تصحيح وإكمال تاريخ الحاجّ الميرزا جاني الّذي حقّقه جزئيًا، وأحيانًا بسبب تدخّل مانكجي لم يتحقّق عمل ذلك. لم يطبع بعد المحتوى الأصلي للكتاب بالفارسيّة، ولكن يتوفّر منذ ذلك الوقت عدّة نسخ مخطوطة. في الغالب هذه النّسخ كانت تختلف عن بعضها البعض، يبدو أنّ الّذين كانوا ينسخون الكاب لعدم علمهم كانوا يغيّرون في محتوى الكتاب حسب رغبتهم.
لقد حصلت (مؤلّف الكتاب) من مكتبة فتح أعظم (مكتبة حظيرة القدس المركزيّة للبهائيّين في إيران) بطهران، على نسخة من كتاب الميرزا حسين الهمداني وذلك قبل حوالي خمس وأربعين سنة، والّذي تمّ تصحيحه وإكماله بواسطة جناب آقا محمّد فاضل القائني. تمّ تحرير هذه النّسخة المشهورة بـ ”تاريخ بديع بياني” أي تاريخ البديع البياني، حوالي سنة 1300 هـجريّة قمريّة (1882 ميلاديّة). وتمّ ترجمة تاريخ الميرزا حسين الهمداني تحت عنوان “التّاريخ الجديد” بواسطة بروفيسور إدوارد براون إلى الإنجليزيّة. “التّاريخ الجديد” يحتوي على شرح حياة حضرة الباب ومجموعة من الأصحاب وبالأخصّ جناب القدّوس، وجناب باب الباب وجناب الطّاهرة. كما يحتوي على شرح عن حوادث قلعة طبرسي وواقعتي نيريز وزنجان وأحداث مجلس وليّ العهد في تبريز وملحمة شهداء طهران السبعة واستشهاد حضرة الباب. تمّت الإشارة في مواضع عدّة في هذا الكتاب باختصار أحيانًا وبالتّفصيل أحيانًا أخرى عن أحوال جناب الطّاهرة. يجلّ المؤلّف مقام جناب الطّاهرة نقلاً عن كتاب الحاج الميرزا جاني الكاشاني تحت عنوان “راية طالقاني”(11) المذكور في الرّواية الشّيعيّة. في تاريخ الميرزا حسين تمّ توضيح واقعة مقتل ملّا تقيّ البرغاني (عمّ جناب الطّاهرة) والأحداث الدّامية نتيجة ذلك، وجاء وصف اجتماع بدشت. وتمّت الإشارة إلى استشهاد جناب الطّاهرة. يجب مضاهاة محتوى هذا التّاريخ وبالأخصّ المواضيع الّتي تخصّ جناب الطّاهرة مع محتوى تاريخ نبيل الزرندي، حيث لا يتّفقان معًا في بعض المواضع، ولقد أشرت إلى بعض هذه النّقاط في محتوى أو هوامش الكتاب الحالي.
4. تاريخ سمندر: مؤلّف هذا التّاريخ جناب الشّيخ كاظم القزويني الملقّب بسمندر من قبل حضرة بهاء الله. سمندر هو ابن جناب الشّيخ محمّد نبيل القزويني، ولد في قزوين عام 1260 هجريّة قمريّة (1844 ميلاديّة)، وترعرع منذ الصّغر في حضن الأمر البديع. نزلت ألواح عدّة من القلم الأبهى ويراع حضرة عبد البهاء بإعزاز المذكور. كان صعوده في قزوين عام (1336 هـجريّة قمريّة / 1917 ميلاديّة). يحتوي تاريخ سمندر على وقائع مهمّة في العصر الرّسولي وشرح عن حياة مجموعة من الأصحاب في ذلك العصر. كان جناب سمندر بنفسه شاهدًا لتلك الوقائع وكان يعاشر الأصحاب الأوائل ويراسلهم. كان يبلغ من العمر أربع سنوات عندما هربت جناب الطّاهرة من قزوين إلى طهران، ويتذكّر إلى حد ما تلك الوقائع. يشير سمندر في مواضع عدّة من تاريخه إلى وقائع حياة جناب الطّاهرة من ضمنها أيّام طفولتها وصباها. ولكن الّذي كان موضع استفادة كاتب هذه السّطور هي تلك الرّسالة الّتي كتبها عن حياتها. هذه الرّسالة مدرجة في تاريخ سمندر وملحقاته (ص343–370)(12).
وقد كتبت تلك الرّسالة بطلب السّيّدة الدّكتورة مودي عليها رضوان الله(13). وحضرات أيادي أمر الله في طهران وأعضاء المحفل الرّوحاني بقزوين، ولكن الخطاب الأساسي كان للدّكتورة مودي. إنّ هذه الرّسالة في الواقع مكمّلة لتاريخ سمندر، لأنّها تحتوي على نقاط كثيرة لم تذكر في تاريخه إنّما تمّ توضيحها في هذه الرّسالة. مع الأسف هذه الرّسالة لا تحتوي على مواضيع خاصّة بواقعة بدشت وأيّام حجز جناب الطّاهرة في منزل الكلانتر (رئيس الشرطة)، ولكن المحتوى الأصلي لتاريخ سمندر يحتوي على نقاط جيّدة من أيّام حياتها، وأيضًا حادثة مقتل ملّا محمّد تقيّ البرغاني وفرار جناب الطّاهرة من قزوين(14).
5. مقالة أديب العلماء: كتبت هذه المقالة بواسطة أيادي أمر الله جناب الميرزا حسن أديب ابن ملّا محمّد تقيّ الطالقاني. ولد سنة 1264 هجريّة قمريّة (1847 ميلاديّة) في قريّة كركبود بطالقان. عمل والده لفترة في البلاط الملكي معلّمًا لزينة الدّولة ابنة فتح عليّ شاه القاجار، لذا كان صاحب ثروة ومكانة. توفّي عام 1275 هـجريّة قمريّة (1858 ميلاديّة). أكمل جناب أديب دراسته في الأدب الفارسيّ والعربيّ، والعلوم الرياضيّة، والفلسفة والفقه والأصول في مدارس ميرزا صالح وخان مروى في طهران ثمّ أصفهان. منذ سنة 1291 هـجريّة قمريّة (1874 ميلاديّة) أصبح نديمًا للأمير عليّ قلّي ميرزا اعتضاد السّلطنة ووزير العلوم في أيّام ناصر الدّين شاه، ووضع الأمير مكتبته تحت تصرّفه. اشترك جناب أديب مع ثلاثة آخرين(15) تحت إشراف اعتضاد السّلطنة في تأليف المجلّد الأوّل من رسالة العلماء (دانشوران)، وتمّ ذكر هذا الموضوع في ديباجة دائرة المعارف المذكورة.
بعد وفاة اعتضاد السّلطنة، اشتغل جناب أديب لمدّة بالتّدريس في دار الفنون في طهران. وفي حوالي سنة 1304 هـجريّة قمريّة (1886 ميلاديّة) ساعد الأمير فرهاد ميرزا معتمد الدّولة في تأليف كتاب القمقام الزخار، ومن حينها زادت شهرته واحترامه، وحصل على لقب أديب العلماء من الدّولة. كان جناب أديب يميل للتّصوّف، ويحترز من البابيّين، ولكن كانت إرادة الله شيئًا آخر، وفي النّهاية قام أديب بالتّحقيق في الأمر البديع وآمن حوالي سنة 1307 هـجريّة قمريّة (1890 ميلاديّة) بعد قراءته لكتاب الإيقان. كان في البداية محتاطًا ولكن سرعان ما قام على خدمة الأمر الإلهي وارتقى إلى مقام أيادي أمر الله. عاشر الكثير من كبار العلماء والأدباء وسعى لهدايتهم. وفي أيّام حضرة عبد البهاء أيضًا قام بخدمات جليلة، حيث قام بالأسفار التّبليغيّة إلى كثير من مناطق إيران والهند، وكان أيضًا من الأركان المهمّة للمؤسّسات الإداريّة البهائيّة.
توفّي جناب أديب سنة 1327 هـجريّة قمريّة (1909 ميلاديّة) في طهران، ودفن في بقعة إمام زادة معصوم. ترك مؤلّفاته الكتابيّة من رسائل استدلاليّة وتاريخيّة وأشعار(16)، من بينها رسالة عن أحوال جناب الطّاهرة. يقول جناب سمندر في آخر رسالته في باب حياة جناب الطّاهرة، بما أنّه لم يكن لديه اطّلاعات كافيّة عن وقائع طهران الخاصّة بحياتها وما بعد ذلك، لذا طلب من أعضاء المحفل الرّوحاني بطهران بأن يقوم شخص مطّلع بكتابة مقالة عن بقيّة حياتها، فبادر جناب أديب بأداء هذه المهمّة. ورغم أنّ مقالة جناب أديب مختصرة جدًا، ولكنّها تحتوي على نقاط دقيقة، لأنّه انشغل لفترة بتعلّم الفلسفة من شقيق جناب الطّاهرة الميرزا عبدالوهّاب، وحصل منه على بعض المعلومات عنها. وفي مواضع عدّة من الكتاب الحالي، تمّ الاستفادة من رسالة جناب أديب(17).
6. رسالة البغدادي: هذه الرسالة بالعربيّة من تأليف جناب آقا محمّد مصطفى البغدادي، وهو ابن جناب الشيخ محمّد شبل البغدادي، كان من كبار علماء الشّيعة الاثني عشريّة في العراق ومن تلاميذ السّيّد كاظم الرّشتي البارزين (18). زار جناب شبل الملّا عليّ البسطامي في سجن بغداد عدّة مرّات، وفي تلك الأوقات أو قبلها بمدّة آمن بالأمر البديع. ذهب جناب شبل إلى إيران ليتشرّف بلقاء حضرة الباب ولكنّه لم يوفّق، لذا توجّه إلى خراسان وبقي مدّة في محضر جناب القدّوس وجناب باب الباب، ثمّ رجع إلى بغداد وكان في خدمة جناب الطّاهرة قائمًا على حمايتها. طبقًا للشّرح الّذي جاء في محتوى هذا الكتاب، فقد أقامت جناب الطّاهرة ومرافقوها في منزل شبل في بغداد لمدّة من الزّمن. ذهب شّبل مع ابنه الصّغير آقا محمّد مصطفى وجمع من الأصحاب العرب والإيرانيّين لمرافقة جناب الطّاهرة إلى إيران مرّة أخرى، وكان ينوي الالتحاق بأصحاب قلعة الشّيخ طبرسي ولكن لم يتوفّق بذلك وفي النّهاية رجع إلى العراق وكان قائمًا على الخدمات المهمّة إلى أن صعدت روحه إلى العالم الأبدي بعد مرور يومين من استشهاد حضرة الباب(19).
ولد آقا محمّد مصطفى سنة 1256 هجريّة قمريّة (1840 ميلاديّة) في مدينة بغداد(20). كان مع والده منذ الصّغر في ظلّ الأمر البديع وأصبح من ملازمي جناب الطّاهرة، وذهب مع والده بصحبتها إلى إيران، وكان شاهدًا لوقائع حياة جناب الطّاهرة المثيرة للحيرة عن قرب. خلال أيّام إقامة حضرة بهاء الله في بغداد ورغم كونه في ريعان شبابه، إلّا أنّه انقطع عن الدّنيا وسلك سبيل المحبوب الأبهى. وفي حوالي سنة 1270 هـجريّة قمريّة (1853 ميلاديّة) حين كان عمره أربعة عشر عامًا، آمن بمقام من يظهره الله جمال القدم(21). يتفضّل حضرة عبد البهاء في كتاب تذكرة الوفاء في حقّه التّالي:
“…اشتهر حضرة محمد مصطفى البغدادي بتفرّده في جميع الآفاق بالشجاعة، والشهامة، والوفاق من فجر شبيبته. اهتدى إلى فجر الظهور منذ كان طفلاً على يد والده، فاستنار قلبه وأحرق ستر الوهم وفتح حديد بصره، فشاهد الآيات الكبرى… واشتهر في سنة السّبعين في العراق بمحبّة نيّر الآفاق… إن هذا الهزبر الذي لا يضارع، كان يمرّ في أسواق بغداد يهابه كل من رآه، وتخشى الأشرار بأسه ولم يتعرضوا له مخافة بطشه… وهو أول محبّ ظهر في العراق… ولما ذاع في الآفاق إعلان من يظهره الله كان من الذين أذعنوا لظهوره مع أنه كان متأكدًا من ذلك ومؤمنًا قبل الإعلان … إن هذا الشخص قام على خدمة الأمر بكل ما أوتي من قوة، ولم يهدأ لحظة في هذا السبيل …توجه منفردًا إلى السجن الأعظم (عكاء) فوطئ المدينة في أيام الشدة والضيق وفاز بشرف اللقاء وطلب السماح له بالسكنى حوالي عكاء. فصدر له الإذن بالاقامة في بيروت، فصدع بالأمر واقام في تلك المدينة خادمًا للأمر بكل إخلاصّ”. ص (155–156)
كان السّيّد محمّد مصطفى قائمًا على الخدمات المهمّة لسنوات عديدة سواء في أيّام الجمال الأبهى أو في عهد حضرة عبد البهاء. كان لديه تجارة في بيروت مع أبنائه حسين أفندي إقبال، عليّ أفندي إحسان، وضياء أفندي البغدادي (دكتور ضياء مبسوط البغدادي)، وكان لتجارته فرع في الاسكندرونة. كان محمّد مصطفى لمدّة طويلة واسطة وصول وإيصال رسائل الأحبّاء والألواح المباركة. قضى سيف العهد والميثاق القاطع هذا (حسبما يقول الدّكتور حبيب مؤيّد عليه رضوان الله)(22) أيّام حياته في خدمة الأمر وحماية العهد والميثاق الإلهي. يكتب الدّكتور مؤيّد عنه في كتاب مذكرات حبيب: “كان يلتقي بالأشخاص البارزين. له علاقات مع رؤساء الجيش وحكومة الدّولة العثمانيّة. في الواقع كان حارسًا مقدامًا للأمر الإلهي وحافظًا للحصن الحصين لأمر الله من هجمات ولطمات الأعداء. كان يشرف بقدر استطاعته على رعاية التّلاميذ الإيرانيّين ويعينهم، ويقوم على ضيافة الزّائرين والواردين إلى الأرض الأقدس ويرشدهم، في الحقيقة كان مركزًا للأمر وحصنًا مهمًّا، بحيث يهابه كلّ من رآه، ويخشى الأشرار بأسه ولم يتعرّضوا له مخافة بطشه. وقد ظهرت، على الأخصّ، رجولة هذا الرّجل الرّشيد بأجلّ معانيها للقريب والغريب….” (ص 10–11). لقد فقد جناب محمّد مصطفى بصره في أواخر حياته، إلى أن صعد في النّهاية إلى الملكوت الأبدي سنة 1328 هجريّة قمريّة (حوالي 1910 ميلاديّة) في اسكندرونة، في غاية الإيقان. كان يبلغ من العمر حين وفاته اثنين وسبعين عامًا. لقد كتب جناب محمّد مصطفى مقالة عن شرح حياة جناب الطّاهرة حسب طلب جناب أبو الفضائل(23).
كما كتب جناب الشّيخ محيّي الدّين الكردي بأنّ فائق الأرمنّي (الّذي كان بهائيًّا ولكنّه انحرف عن الصراط المستقيم بعد صعود حضرة عبد البهاء) أنّه وجد نسخة من تلك المقالة لدى الحاج نياز الكرماني وقدّمها للشّيخ محيّي الدّين ليطبعها. كانت تلك النّسخة تحتوي على أخطاء لغويّة وكلمات غير مألوفة أدبيًّا، ولذلك فقد تمّ تصحيحها ثمّ طبعها. كان أصل مقالة جناب محمّد مصطفى بالعربيّة، وطبعت في عام 1338 هـجريّة قمريّة (1919 ميلاديّة) في القاهرة. تمّ ترجمة تلك المقالة مؤخّرًا بواسطة جناب أبي القاسم أفنان إلى الفارسيّة، وطبعت ضمن كتاب (چهار رساله تاريخي ص 18–44). يذكر جناب محمّد مصطفى باختصار، في بداية المقالة، عن أحواله ثمّ يكتب مشاهداته عن ملازمته لجناب الطّاهرة. تعتبر هذه المقالة من المصادر المهمّة للكتاب الحالي. لقد ذكرت مواضيع في هذه المقالة لم تذكر في أيّ من المصادر التّاريخيّة الأخرى.
7. تاريخ الكواكب الدّرّيّة: العنوان الكامل لهذا الكتاب هو “الكّواكب الدّرّيّة في مآثر البهائيّة”، ومؤّلّف الكتاب الميرزا عبد الحسين آواره، الّذي بدّل لقبه العائلي بعد طرده الرّوحاني إلى “آيتي”.
كان آواره معروفًا باسم الشيخ عبد الحسين التفتي قبل إيمانه بالدّين البهائي. التحق بالجامعة البهائيّة سنة 1319 هـجريّة قمريّة (1901 ميلاديّة) بواسطة أخيه الأكبر الشيخ محمّد عليّ التفتي في قصبة تفت. كان يعمل في أردستان معلّمًا للأطفال، ثمّ انشغل بتبليغ الأمر في مدن إيران وبالأخصّ في كاشان وطهران. تشرّف بحضور حضرة عبد البهاء مرّتين، ثمّ ذهب إلى الأرض الأقدس بعد صعود حضرة عبد البهاء وأقام فترة هناك. ذهب بعد ذلك في مأموريّة إلى بريطانيا. رغم أنّه كان مشهورًا بين جمع البهائيّين في إيران، لكنّه ارتكب أفعالاً غير لائقة في مصر وبيروت، وأحدث اضطرابًا في ألفة الأحبّاء والمحفل الرّوحاني المحلي ممّا تسبّب في حزن قلب حضرة وليّ أمر الله، لذا ابتعد عنه أهل الحقيقة تدريجيًّا. تسبّب في سقوطه سوء أعماله وآماله الواهية، وفي السّنين الأولى من عهد ولاية حضرة وليّ أمر الله صار منبوذًا من قبل الجميع ومطرودًا من قبل مركز أمر الرّحمن. عندما لم يتمّ قبول توبته الواهية غير المتينة، أخذ لنفسه لقبًا جديدًا (آيتي) وبدأ بالمعارضة وتجاوز حروف النّفي في الأدوار السّابقة. توفّي آواره بعد مشاهدته عظمة وشهرة أمر الله، سنة 1332 هجريّة شمسيّة.
يحتوي تاريخ الكواكب الدّريّة على مجلدّين. المجلّد الأوّل يشتمل أحداث العهدين الأعلى والأبهى، والمجلّد الثّاني يتناول عهد حضرة عبد البهاء، وشرحًا مختصرًا عن تاريخ بداية عهد حضرة وليّ أمر الله. رغم أنّ المجلّد الأوّل يحتوي على أخطاء تاريخيّة عجيبة(24) ولكن اشتمل على معلومات مهمّة بخصوص حياة وآثار جناب الطّاهرة. يكتب المؤلّف في الصّفحات 60–66 من الكتاب تمهيدات عن حياة جناب الطّاهرة. المواضيع المطروحة من الكتاب باستثناء موضعين قابلة للاستفادة.
ويستمر في صفحات (26–110) عن حياة جناب الطّاهرة ويطرح معلومات مفيدة. هذا القسم يحتوي على وقائع حياة الطّاهرة حتّى ورودها إلى طهران. في هذا القسم يوجد موضعان لا تنطبق مواضيعهما مع كتاب تذكرة الوفاء لحضرة عبد البهاء. لقد تمّت الإشارة إلى كلّ هذه الأمور في محتوى هذا الكتاب الّذي بين أيديكم. وفي صفحات (23–305) يحكي عن وقائع أيّام سجن جناب الطّاهرة واستشهادها. يحتوي هذا القسم أيضًا على اطّلاعات مفيدة. وقد أشار المؤلّف في مواضع أخرى في المجلّد الأوّل أيضًا إلى أحداث مرتبطة بحياة وآثار جناب الطّاهرة. كما أدرج رسالة منها وهي ذات أهميّة.
وصل المجلّد الأوّل من “الكواكب الدّرّيّة” إلى حضرة عبد البهاء، وقام حضرته بتصحيح بعض المواضيع بيده المباركة. ولكن هذا لا يعني أنّ كلّ الكتاب قد تمّت ملاحظته وتصويبه. يحتوي المجلّد الأوّل على المقدّمة، وثلاث فصول وخاتمة وطبع سنة 1923 ميلاديّة في مطبعة السّعادة بالقاهرة.
8. تاريخ مارثا روت: اسم هذا الكتاب بالإنجليزية هو “Tahirih the Pure: Iran’s Greatest Woman” (الطّاهرة النّقيّة أعظم نساء إيران) وتمّ تقديمه لحضرة الورقة العليا. قامت أيادي أمر الله السّيّدة مارثا روت Martha L. Root بتأليف الكتاب بعد مطالعة الآثار المطبوعة والمخطوطة (بمساعدة أحبّاء ناطقين بالفارسيّة) ولقائها مع الكثير من أحبّاء مهد أمر الله وأقرباء جناب الطّاهرة في طهران وقزوين(25). ولدت مارثا روت في العاشر من أغسطس سنة 1872 ميلاديّة في مدينة ريتشوود (Richwood) ولاية أوهايو. بعد أن أنهت دراستها التحقت بجامعة شيكاغو. وبعد التّخرّج اشتغلت بالتّعليم ثمّ في الصّحافة(26). فازت بالإيمان في حوالي سنة 1908–1909 ميلاديّة بعد محادثاتها مع أيادي أمر الله جناب روي ويلهلم Roy Wilhelm وجناب تورنتون تشيس Thornton Chase.
بعد إيمانها قامت على خدمة الأمر بكلّ عشق. سنة 1912 ميلاديّة دعت أربعمائة شخص من الصّحفيّين وآخرين للاستماع إلى بيانات حضرة عبد البهاء في فندق شنلي Schenley في بيتسبورج Pittsburgh وكانت موفّقة جدًّا في تلك الدّعوة. بلغت خدماتها الخالدة أوجها في السّنين الأخيرة من دورة الميثاق وأيّام ولاية حضرة وليّ أمر الله. سافرت في خلال عشرين سنة أربع مرّات حول الكرة الأرضيّة وأبلغت رسالة الأمر الأعظم إلى أهل العالم. سافرت تقريبًا إلى كلّ أرجاء العالم باستثناء روسيا. تحدّثت عن الأمر البديع مع الملوك والملكات والأمراء ورؤساء الجمهوريّات والوزراء والسّياسيّين وأساتذة الجامعات، العلماء والأدباء، والشّعراء، وعامّة النّاس. ألقت خطبًا في أكثر من أربعمائة جامعة وكليّة. التقت ثمان مرّات مع ماري ملكة رومانيا. واعترفت ملكة رومانيا في اللّقاء الأوّل (يناير 1926 ميلاديّة) بعظمة الأمر البديع والتّعاليم المباركة، وكانت نتيجة ذلك أن أصدرت بيانًا خاصًّا بهذا الشّأن. وانتشر هذا البيان بلغات مختلفة في كلّ أنحاء العالم. وفي البيان الثّالث صرّحت علنًا بإيمانها بالأمر البديع. سافرت مارثا روت إلى إيران أيضًا وزارت بعض مدنها بالأخصّ طهران وقزوين والأماكن المتبرّكة التّاريخيّة للأمر البهائي. كان صعود هذه السّيّدة الخادمة الجليلة في هونولولو Honolulu في الثّامن والعشرين من سبتمبر 1939 ميلاديّة(27)، وكانت تبلغ من العمر 67 عامًا حين وفاتها. بسبب عشقها وخلوصها وخدماتها التّبليغيّة والتّشويقيّة، لقّبها حضرة وليّ أمر الله بـالألقاب التّالية: “زعيمة المبلّغين والمبلّغات”، “مقتدى المبلّغين والمبلّغات”، “فخر المبلّغين والمبلّغات”، “آية الانقطاع”، “مشعل الحبّ والوداد”، “مثال الشّجاعة والوفاء”، “قرّة عيون أهل البهاء”، “قبسة نار محبّة الله”.
حصلت أيادي أمر الله مارثا روت أثناء إقامتها في طهران وقزوين (سنة 1930 ميلاديّة) على المصادر المختلفة الّتي تخصّ أحوال وآثار جناب الطّاهرة. والتقت مع بعض أقربائها وأحفادها ودخلت في محادثات معهم وبالتّالي حصلت على معلومات قيّمة. إنّ أغلب المعلومات الّتي حصل عليها (كاتب هذا الكتاب) في مدّة خمس سنوات (1978–1973 ميلاديّة) بالتّدريس في جامعة العلوم الإداريّة التّجاريّة في قزوين من أقرباء وأحفاد جناب الطّاهرة، كانت مطابقة للمعلومات الّتي وصلت بواسطة السّيّدة مارثا روت. وهذا يدّل على مدى دقّة المذكورة في لقاءاتها ومحادثاتها أيّام إقامتها القصيرة في قزوين والأيّام القليلة في طهران. كان السّيّد الميرزا يوسف خان وحيد كشفي المترجم في قزوين مصاحبًا مارثا روت.
فازت مارثا روت بزيارة الأماكن التّاريخيّة في قزوين. وعندما وصلت إلى منزل جناب الطّاهرة، الّذي كان متهالكًا مهجورًا، قبّلت أرضيّة حجرة جناب الطّاهرة وهي تذرف الدّموع. تكتب السّيّدة روت في كتابها ‘Tahirih’ “الطاهرة” بخصوص تشرّفها إلى منزلها التّالي: “…. ودخلت المدينة (قزوين) الّتي نشأت فيها جناب الطّاهرة. كانت روحي توّاقة لمعرفتها عن قرب! وتمنّيت مشاهدة البيت الّذي ولدت فيه، لكن الأحبّاء أخبروني أنّه شيء مستحيل، فأقاربها مسلمون متعصّبون، ولأنّهم سابقًا كانوا مستائين جدًّا منها لإيمانها بحضرة الباب، وبالتّأكيد لا زالت الكراهية للدّين البهائي مغروسة في نفوسهم. كان صاحب فندق جراند هوتيل الّذي نزلت فيه واقفًا على باب الفندق، فإذا به يشاهد أحد أقارب جناب الطّاهرة مارًّا من أمامه. قال له ممازحًا: “على عشيرتكم أن تخجل من نفسها…. إنّ جدّتكم جناب الطّاهرة محبوبة في كلّ بلدان العالم، إلّا أنّكم لا تظهرون أيّ افتخار بانتسابكم إليها. لديّ ضيفة أمريكيّة في فندقي مشتاقة جدًّا لمشاهدة البيت الّذي عاشت فيه جناب الطّاهرة ذات يوم. أجاب القريب: إن كانت تريد رؤية بيت الطّاهرة، فسآخذها أنا إليه. أجاب صاحب الفندق: لا، لا يمكنك أن تفعل هذا! أجاب القريب: نعم، يمكنني، وسوف أفعل.
وهكذا حصل، وذهبت مع صاحب الفندق والشّخص القريب إلى المنزل القديم لجناب الطّاهرة. كان منزلاً كبيرًا قديمًا جميلاً بنوافذ مزخرفة، ويبدو أنّه كان في أيّام حياة جناب الطّاهرة من أفضل المساكن في مناطق إيران في تلك الأنحاء. أطلعني القريب على جناح السّيّدات في المنزل الكبير القديم الفاخر حيث ولدت جناب الطّاهرة، ثمّ أخذني إلى مكتبة جميلة رائعة في الطابق الثّاني حيث كانت الطّفلة الصّغيرة تجلس للقراءة. الفتاة الّتي قدّر لها أن تكون شاعرة وأوّل سيّدة شهيدة في آسيا الوسطى في سبيل تثقيف المرأة ومساواة حقوقها بالرجال، وخلع الحجاب عن وجهها!. أطلعني على الغرفة الّتي كانت محبوسة فيها جناب الطّاهرة ولمدّة بأمر من والدها. لكن القريب قال بحيرة وتعجّب: إنّ والد جناب الطّاهرة كان يحبّ ابنته الموهوبة رغم أنّه كان يختلف معها بشدّة في المعتقدات الدّينيّة، ولقد سجنها في بيته الخاصّ محاولاً حمايتها من وحشيّة أولئك الّذين كانوا مسـتعدّين لتعذيبها لإيمانها بالأمر البديع. ولكن في نهاية المطاف جاءوا وأخذوها بعيدًا إلى سجن المدينة.
عندما سجدت لأقبّل أرضيّة غرفتها، وقف جميع أقاربها صامتين. لقد كانوا ودودين ومحترمين. وحال خروجي من غرفة جناب الطّاهرة قال لي ذلك القريب: إنّك أوّل بهائيّة تأتي من الغرب حتّى الآن وتسأل عن الطّاهرة وأرادت أن تشاهد بيتها وأحفادها. فأجبته: لم يأت أحد من قبل لعدم امتلاكهم الشّجاعة الكافية! أقول لك الحقيقة، كنّا خائفين جدًّا منكم جميعًا! فقال لي هذا القريب جميل الخلق بعد أن انتهيت من تلاوة الأدعيّة والدّموع تترقرق في عينيه: إنّني لست ضد الطّاهرة، إنّني أشعر أنّه لشرف لنا أن نكون من المنتسبين لمثل هذه العائلة النّبيلة. إنّ والدتي هي الأخت الصغرى للطّاهرة. بعدها، عاد معي إلى الفندق وكان بيننا حديث طويل، وفي ذلك اليوم بدأت علاقة صداقة حميمة بين أحد أقارب جناب الطّاهرة وبهائيّة من الغرب. فكلّما أتذكّر الذّكريات الجميلة والمقدّسة يدور بخاطري كيف وقف ذلك القريب الودود لجناب الطّاهرة والمحامي البارز أثناء خروجي من إيران بجانب بقيّة الأصدقاء البهائيّين وهو يقول لي: “الله أبهى” وكأنّ جسمه وروحه كانا مع الأحباء وفي تلك اللّحظات ظهر قوس قزح في السّماء ليكون علامة كاملة وبادرة للوحدة.
فكلّ ما أخبرني به هذا القريب عن جناب الطّاهرة، وكذلك ما قاله ليّ أحفاد البهائيّين القدامى عنها سجّلته وعلى أساسه أكتب هذه السّيرة لحياتها. ورغم وجود اختلاف في التّفاصيل أحيانًا إلّا أنّ الجميع كانوا متّفقين على جلال وعظمة هذه السّيّدة البهائيّة المرموقة “الطّاهرة” (ص 46–50) (28).
عندما دخلت مارثا روت قزوين صاحبتها خمس وأربعون سيّارة تحمل أحباء تلك المدينة. بعضهم جاءوا من مسافات طويلة للقائها. كان يراقبها خمسة حرّاس من أمام مكان إقامتها في الفندق، ولم تكن مارثا روت سعيدة بهذا الشيء(29). كتاب “الطّاهرة Tahirih the Pure” من أكثر الكتب شمولاً عن حياة جناب الطّاهرة. تعرض السّيّدة مارثا روت في هذا الكتاب معلومات رائعة وجديدة. بالأخصّ أنّها تكشف فترة طفولة وصبا جناب الطّاهرة. والكتاب من الكتب النّادرة الّتي تحكي طريقة استشهادها استنادًا إلى وجهة نظر حضرة عبد البهاء في تذكرة الوفاء. المحتوى الأصلي للكتاب يشتمل على المقدّمة، وثلاثة فصول وخاتمة. يحتوي الكتاب على ثلاثة ملحقات، الملحق الأوّل يحتوي على أشعار الطّاهرة، والملحق الثّاني صفحات من كتاب الإيقان بشأن حضرة الباب والأصحاب الأوائل، والملحق الثّالث توقيع لحضرة وليّ أمر الله بعنوان
The World Religion” الدين العالمي”.
أهدت مارثا روت كتاب “الطّاهرة” إلى حضرة الورقة العليا. في فبراير 1938 أمر حضرة ولي أمر الله أن يطبع كتاب “الطّاهرة” للسّيّدة روت في الهند. اشتركت مارثا روت في أبريل نفس السّنة في المؤتمر المركزي للبهائيّين في الهند. أقامت ثلاثة أشهر في كراجي وطبع الكتاب بمساعدة السّيّد اسفنديار بختياري. لقد تمّ طبع هذا الكتاب مرّة في سنة 1966 ميلاديّة في كراجي، ومرّة أخرى سنة 1981 ميلاديّة في أمريكا. الطّبعة الأخيرة الّتي تمّت بواسطة دار نشر “كلمات برسّ” Kalimat Press تحتوي على مقدّمة من السّيّدة مرضيّة گيل Gail عليها رضوان الله. تصوّر السّيّدة گيل في هذه المقدّمة على نحو بليغ شخصيّة السّيّدة روت، وتقارنها في نواحي كثيرة بجناب الطّاهرة، وتوضّح أوجه الشّبه والاختلاف بين هاتين السّيّدتين العظيمتين.
تمّت ترجمة ونشر كتاب “الطّاهرة” بواسطة السّيّد عبّاس عليّ بت، بلغة الأردو. وقد تمّت إعادة نشر هذه الترجمة. وفي المرّة الثّالثة، ألحقت بها بعض التّعديلات والإضافات بواسطة السّيّد الدّكتور صابر آفاقي وتمّت طباعته سنة 1964 ميلاديّة. كما تمّت ترجمة كتاب “الطّاهرة” إلى الفارسيّة قبل عدّة سنوات بواسطة السّيّد إحسان معتقد(30).
9. تاريخ ظهور الحقّ: هذا الكتاب من تأليف جناب فاضل المازندراني. اسمه أسد الله وولادته في سنة 1298 هجريّة قمريّة. (1880 ميلاديّة) في مدينة بابل (بارفروش في ذلك الزّمان). بعد إنهاء دراسته ذهب عند عدد من أبرز علماء عصره لتعلّم الفلسفة، والمنطق، وعلم الكلام، والفقه والأدب الفارسي والعربي، وكان يعدّ من كبار علماء العصر.
فاز جناب فاضل بالإيمان بعد مناقشاته مع بعض من أحبّاء مازندران وطهران، وبسعي جناب الميرزا عبد الحسين رفيعي الأردستاني عليه رضوان الله، وقراءته لآثار حضرة بهاء الله من بينها لوح البشارات. ومن ثمّ قام على خدمة ونشر الأمر المبارك. لقد انشغل عشرات السّنين في التّبليغ والتّعليم والتّحقيق والتّأليف، وترك مؤلّفات قيّمة. لقبّه حضرة عبد البهاء “بالمبلّغ الكامل”(31)، وعلى صعيد العلم والحكمة بـ “تالي أبي الفضائل”(32). كانت وفاته في مدينة خرمشهر سنة 1957 ميلاديّة ودفن في الرّوضة الأبديّة في مدينة أهواز(33).
تمّ تأليف كتاب ظهور الحقّ في تسع مجلّدات ويعتبر من أكبر آثار جناب فاضل المازندراني. بعد وصول المجلّد الأوّل من كتاب ظهور الحقّ ليد حضرة وليّ أمر الله، تفضّل حضرته في رسالة مؤرّخة 26 فبراير 1938، مخاطبًا جناب فاضل: “أيّها الفاضل الجليل الشّهم النّبيل، لن ننسى آنًا المجهودات العظيمة والإقدامات الباهرة لذلك الرّكن الركين للجامعة في الموطن الأصلي لجمال الأحديّة. إنّ سكّان الملأ الأعلى والفردوس الأبهى يمجّدون ويهنّئون. إنّ هذا العبد ممتن لك ومستبشر ويتمنّى ويلتمس لك مزيد التّأيّيد الدّائم ليلاً ونهارًا من حضرة خفيّ الألطاف”(34).
يختصّ المجلّد الأوّل، والذي يمثل حوالي ثلث كتاب ظهور الحقّ، بتاريخ العهد الأعلى. تمّ طبع ونشر المجلّد الثّالث من الكتاب في طهران (بواسطة مطبعة آزردﮔـان)، ولكن لم يذكر تاريخ النّشر. طبع هذا المجلّد في حدود عام 1944 ميلاديّة. يتناول جناب فاضل طيّ المجلّدات الثّلاثة بالتّفصيل عن أحوال جناب الطّاهرة وينقل بعضًا من آثارها الشّعريّة والنّثريّة. يعتبر كتاب ظهور الحقّ من أهم مصادر الكتاب الحالي. لقد كتب جناب فاضل عن أحوال جناب الطّاهرة وآثارها أيضًا في بعض مؤلّفاته الأخرى بالأخصّ كتاب “أسرار الآثار” (في خمسة مجلّدات) والكتاب الكبير “رهبران ورهروان” (القادة وعابرو السّبيل)، ومدوّن هذه السّطور استفاد من هذين المصدرين كامل الاستفادة.
10. تاريخ شهداء الأمر: هذا الكتاب من تأليف جناب “محمّد عليّ ملك خسروي”، حيث تمّ نشر ثلاثة مجلّدات منه. يحتوى المجلّد الثّالث على أحوال جناب الطّاهرة وشرح حياة شهداء طهران (ص 129–215).
إنّ أجداد “ملك خسروي” جميعهم كانوا من أهل نور ومن سكّان قرية (نج) من قرى ميانرود العليا في نور (قرب قرية تاكر). كانت ولادته سنة 1281 هجريّة شمسيّة (1901 ميلاديّة) في طهران، ودرس في دار الفنون. عمل لفترة أستاذًا وقائدًا لمدرسة النّظام العسكريّة، وفي النّهاية، طرد من الجيش بسبب عقيدته في عام 1314 هجريّة شمسيّة (1935 ميلاديّة). آمن بالأمر البديع سنة 1306 هجريّة شمسيّة بعد مناقشاته مع جناب “الله قلّي سبحاني” وجناب “عنايت الله مهاجرين”، وقراءته للآثار المباركة. من بعد ذلك قام على خدمة الأمر المبارك، وكان له افتخار عضويّة لجنة الأماكن المتبرّكة واكتسب تجارب قيّمة. صعدت روح “ملك خسروي” إلى الملكوت الأبدي في 2 من شهر يوليو سنة 1984م \ 1363 هجريّة شمسيّة، في غاية الإيقان(35).
رغم أنّ القسم الأعظم من أحوال جناب الطّاهرة يوجد في المجلّد الثّالث من تاريخ شهداء الأمر من الكتب المطبوعة الأمريّة، ولكن هذا القسم من التّاريخ يحتوي على مواضيع غير منشورة أيضًا. التّحقيق الّذي قام به “ملك خسروي” بخصوص أيّام إقامة جناب الطّاهرة في مازندران بالأخصّ في قرية “واز” قيّم جدًّا ويحتوي على مواضيع جديدة.
كتاب إقليم نور أيضًا يحتوي على مواضيع جديدة بشأن أيّام إقامة جناب الطّاهرة في قرية “واز”.
11. كشف الغطاء: تمّ نشر هذا الكتاب في 438 صفحة، حيث أنّ 132 صفحة منه، من تأليف جناب أبي الفضائل، وأقسام أخرى منه بقلم جناب السيّد مهدي گلـﭙـايـگاني (1863–1928ميلاديّة). اسم الكتاب الأصلي “كشف الغطاء عن حيل الأعداء” وذكر عنوان الكتاب بواسطة جناب السّيّد مهدي(36). لمعرفة السّبب في تدوين الكتاب، يجب الرّجوع إلى المقدّمة والمحتوى.
الخلاصة أنّه بعد نشر كتاب نقطة الكاف(37) بواسطة البروفسور إدوارد براون، فقد أمر حضرة عبد البهاء جناب أبا الفضائل أن يكتب رسالة في توضيح أسباب المعلومات المغلوطة في الكتاب، فبدأ في الكتابة امتثالاً لأمر حضرته، ولكن لم يوفه عمره كيّ يكمله، كما كانت رغبته القلبيّة(38)، فأمر حضرة عبد البهاء السّيّد مهدي گلـﭙـايـگاني، ابن خاله(39)، بإتمام الكتاب وساعده في ذلك عدد من البهائيّين، حيث قام جناب الشيخ محمّد عليّ القائني بالنّصيب الأوفر من المساعدة(40).
أمّا جناب أبو الفضائل (1844–1914 ميلاديّة)، فهو أشهر من أن يكون بحاجة إلى التّعريف. إنّه من أبرز العلماء الأفاضل والمبلّغين في العهدين الأبهى والميثاق، وترك آثارًا خالدة(41). من آثار أبي الفضائل ستّة كتيّبات وعدد من المذكرات المتفرّقة بهدف الرّدّ على نقطة الكاف، والّذي أدرجه جناب السيّد مهدي في كتاب كشف الغطاء. حوالي عشرين صفحة من هذا الفصل في الكتاب مختصّ بأحوال جناب الطّاهرة. أشار جناب أبو الفضائل بدقّته المعهودة الخاصّة، إلى أخوال وأعمام جناب الطّاهرة، وكشف مواضيع جديدة. هذا المحتوى بصرف النّظر عن عدّة موارد في الكتاب الحالي والّتي تمّت الإشارة إليها، ينطبق مع النّصوص المباركة، وهو من المصادر المهمّة الّتي استفدّت منها كثيرًا. كما وقد أشار جناب السيّد مهدي گلـﭙـايـگاني في صفحات 12–208 من الكتاب إلى جناب الطّاهرة(42).
12. تذكرة شعراء القرن الأوّل البهائي: هذا الكتاب من تأليف جناب نعمت الله ذكائي البيضائي. جناب ذكائي هو ابن ملّا محمّد رضا الآراني الملقّب بابن الرّوح والسّيّدة طيّبة النّساء، ولد في كاشان سنة 1283 هجريّة شمسيّة. كان جدّه ملّا محمّد روح الأمين من كبار علماء زمانه، وكان أغلب أحفاده من الشّعراء والفقهاء ومن المرجعيّات الرّوحانيّة في كاشان وتوابعها. الشّقيق الأكبر لجناب ذكائي هو جناب الميرزا عليّ محمّد أديب البيضائي الّذي آمن بالأمر المبارك سنة 1322 هـجريّة قمريّة (1904 ميلاديّة). وذلك في أوان ولادة ذكائي، كان يحاول دائمًا أن يهدي أقاربه إلى الأمر الجديد، وآمن ذكائي لاحقًا نتيجة مساعي شقيقه المؤمن الموقن. لقد تعلّم جناب ذكائي أغلب العلوم الأدبيّة لدى شقيقه، وكان يقول الشّعر وهو في ريعان شبابه. قام ذكائي بالتّدريس في مدرسة “معرفة البشر” في آران، ثمّ في مدرسة “التّربية” للبنين في طهران. بعد الانتهاء من الدّراسات العليا في علوم القضاء، اشتغل في وزارة العدليّة في ذلك الزّمان. كان يخالط الأحبّاء في أيّ نقطة كان يسكنها في إيران، ويفيض عليهم من علمه. كان ذكائي رجلاً فاضلاً وأديبًا وشاعرًا. اشتهر بين شعراء الزّمان في إيران وكان له احترامًا خاصًّا بينهم، وبلّغهم أمر الله. كان عضوًا في المنتديات الأدبيّة في طهران وبعض المناطق الأخرى في إيران.
إنّني (مؤلّف الكتاب) كنت مصاحبًا لهذا الشّاعر الماهر لعدّة سنوات واستمتعت بصحبته كثيرًا. كنّا معًا لسنوات طوال في هيئة مبلّغي طهران، وكان يشجّعني أحيانًا للحضور في المنتديات الأدبيّة البهائيّة وغير البهائيّة. قام جناب ذكائي بالخدمة في المناطق المختلفة في إيران في المحافل واللّجان الأمريّة، وله أشعار وآثار عديدة بهائيّة وغير بهائيّة في مجال الشّعر والأدب الفارسي، حيث تمّت طباعة بعضها.
إنّ كتاب “تذكرة شعراء القرن – الأوّل البهائي” قد أتى نتيجة بحث وتحقيق أكثر من أربعين سنة. تمّ تأليف هذا الأثر القيّم في ستّة مجلّدات، وتمّ نشر خمسة مجلّدات منه. يشير ذكائي في هذا الكتاب ببيان فصيح وبليغ عن أحوال عشرات من الشّعراء البهائيّين وينقل بعضًا من آثارهم. يبادر ذكائي في المجلّد الثّالث من الكتاب (ص 36–133) بذكر أحوال جناب الطّاهرة وتقيّيم ونقد آثارها الشّعريّة والنّثريّة. إنّ تحقيقاته بخصوص حياة جناب الطّاهرة دقيقة وحكيمة كما أنّ رأيه في صحّة بعض أشعارها أو عدم انتساب بعضها إليها، ناتج عن قرار حكيم ومستند ومبني على التّحقيق. صعدت روح نعمت الله ذكائي البيضائي في غاية الإيقان إلى الملكوت الباقي وهو في الثّانية والثمانين من العمر في 26 مرداد الموافق 17 أغسطس 1986م \ 1365 هجريّة شمسيّة في طهّران. بعد صعوده، لقّبه بيت العدل الأعظم الإلهي في مقام تجليله بـ ”الأديب والشّاعر القدير” في رسالة عزاء مؤّرخة 30 أكتوبر 1986 ميلاديّة، إلى أقاربه ودعاء لترّقي روحه الطّاهرة.
13. دراما السّيّدة بارني: عنوان هذا الكتاب “أبطال الله God’s Heroes”. ولدت السيّدة لورا كليفورد بارني Laura Clifford Barney سنة 1879 ميلاديّة في أمريكا، وأنهت دراستها في أمريكا وفرنسا، آمنت بالأمر المبارك بسعي ومساعدة السّيّدة ماي بولز ماكسول May Boles Maxwell وهي في الحادية والعشرين من العمر (1900 ميلاديّة). فازت والدتها السّيّدة أليس بارني Alice Barney أيضًا بشرف الإيمان. كانت السّيّدة أليس بارني رسّامة، وموسيقارة، ومهندسة معماريّة، ولوحاتها الفنيّة ما زالت موجودة في المتحف الوطني في مدينة واشنطن عاصمة أمريكا. من بين لوحاتها لوحة لجناب أبي الفضائل عندما التقت به في زيارته الأخيرة إلى واشنطن.
سافرت السّيّدة لورا بارني مع جناب هيبوليت دريفوس Hippolyte Dreyfus أوّل مؤمن بهائي فرنسي عام 1901 ميلاديّة، إلى مختلف مناطق إيران واستضافهما الأحباء في طهران، وأصفهان، وتبريز. كما سافرت إلى عشق آباد والهند والصّين. تزوجت لاحقًا من السّيّد دريفوس. تشرّفت عام 1904 ميلاديّة بزيارة حضرة عبد البهاء، كانت إقامتها طويلة في الأرض الأقدس، فبادرت بتعلّم اللّغة الفارسيّة. كما كانت تسأل باستمرار على المائدة من حضرة عبد البهاء أسئلة تتعلّق بالأمر الأبهى والّتي كانت نتيجتها ظهور الكتاب النفيس الّذي اشتهر بـ “مفاوضات عبد البهاء”. فقد كانت السّيّدة بارني تجمع ردود حضرة عبد البهاء على أسئلتها والّتي كانت تدوّن بواسطة الكتّاب، وتمّ نشر هذه المجموعة تحت عنوان “النّور الأبهى في مفاوضات عبد البهاء” عام 1908 ميلاديّة. تمّت ترجمة الكتاب إلى الإنجليزيّة بهمّتها، وإلى الفرنسيّة بالتّعاون مع زوجها السّيّد دريفوس. إنّ شرح خدمات السّيّدة بارني دريفوس للجامعة البهائيّة وسعيّها الدّؤوب الّذي لا يقبل الكلل في المنظّمات الدّوليّة وكيفيّة تعاوّنها مع عصبة الأمم، وتوفيقها في تمثيل المجلس الدّولي للمرأة وتعاوّنها مع هيئة الأمم المتّحدة، لهي قصّة ذات أبعاد طويلة ولا يسعنا ذكرها في هذا المختصر.
صعد زوجها العزيز السّيّد دريفوس عام 1928 ميلاديّة. ولكن السّيّدة دريفوس بارني عاشت قرابة الخامسة والتّسعين من العمر، صعدت روحها في غاية الإيقان في 18 أغسطس 1974 ميلاديّة إلى الملكوت الأبدي. مرقدها في مقبرة ﭘاسي Passy في باريس(43).
لقد تمّ إكمال كتاب “أبطال الله” God’s Heroes في أبريل 1909 ميلاديّة، وبعد عدّة أشهر تمّ نشر الكتاب بواسطة شركة كيجان پول Kegan Paul في لندن وفيلادلفيا بأمريكا في نفس التّوقيت في مائة وثمان من الصّفحات بالإضافة إلى خمس صفحات مقدّمة. تمّ عرض لقطات من حياة جناب الطّاهرة في عدّة مشاهد في هذا الكتاب حيث يتمّ الإشارة إلى بعض أبطال الأمر الأعظم بصورة دراميّة مؤثّرة. العنوان الكامل لهذه الدّراما هو: God’s Heroes: A Drama in Five Acts (أبطال الله: دراما في خمسة مشاهد).
كتبت السّيّدة بارني في مقدّمة الدّراما: “أقول باختصار إنّ هذا الكتاب عبارة عن إظهار جزء من أحد أكثر أدوار التّاريخ الإنساني إثارةً وهياجًا، وعرض محدود لأوسع نظام فلسفي لم يعرفه الإنسان بعد” (ص V من المقدّمة) (44)، في هذه المقدّمة تشير إلى دور كلّ من حضرة الباب، وحضرة بهاء الله، وحضرة عبد البهاء في تأسيس وتبيّين الأمر الجديد. (ص VI–VIII من المقدّمة). تصرّح السّيّدة بارني في صفحة VIII بأنّه تمّت الإشارة في هذا المحتوى إلى بعض أبطال الأمر البديع. ثمّ تجلّ جناب الطّاهرة وتقول أنّها إحدى “حواريّو الحقيقة” The Disciple of Truth الّتي كانت موفّقة في نشر الحقيقة رغم التّعذيب والملاحقة والاضطهاد (ص V في المقدّمة). في نفس الصّفحة تخاطب قرّاء الدّراما وتقول، أعلم أنّ ميزة العرض المسرحي تكمن في موضوعه، أتمنى أن أكون قد ساعدت في أن تتعرّفوا على نظرة إجماليّة عن مجد أرض الشّرق، وأن تحفّز هذه الدّراما شغفكم إلى النّهضة العظيمة للدّين العالمي أي الدّين البهائي. الدّين الّذي يأتي بالأمل والصّلح للنّاس المنتظرين”.
دراما السّيّدة بارني عن جناب الطّاهرة تحتوي على محادثة الممثّلين في خمس مشاهد. قبل بدء العرض وأدوار الممثّلين تمّ التّعريف بهم كالتّالي:
| قرّة العين | عرفت بالطّاهرة لاحقًا، كيان ملكوتي |
| فاطمة | أخت قرّة العين الصغرى(45) هادئة وامرأة حقًا |
| ليلى | زوجة “أكبر”: لطيفة ومكسورة القلب |
| داعية (DAIA) | الممرّضة العجوز الّتي تخلط بين الشّر والفضيلة |
| الزّوجة الأولى لرئيس الشّرطة | |
| الزّوجة الثّانية لرئيس الشّرطة وأم العروس القادمة | |
| روح أنـگيز | خطيبة “أكبر” الشابّة |
| الزائر (Visitor) | |
| طفلان صغيران | ابنا قرّة العين |
| صالح | والد قرّة العين: محسن كريم |
| عليّ | عمّ قرّة العين: شخص معتدل ومتفهّم |
| تقيّ | عمّ قرّة العين ووالد زوجها: شخص مغرور ولا مبال |
| عبد الوهّاب | شقيق قرّة العين: مسلم مستقيم وملتزم (46) |
| محمّد | زوج جناب الطّاهرة وابن عمّها: وسيم ومحب للدّنيا |
| جناب القدّوس | جميل، زاهد ورجل شجاع |
| حسين | ابن رئيس الشّرطة: عاطفي، ذكي وطيّب القلب |
| عدد آخر من ضمنهم بشير وهو خادم أسود كبير السنّ. |
يبدأ العرض بالمشهد الأوّل “قزوين حديقة مليئة بالورود، وقت السّحر، يستيقظ المؤمنون من النّوم على صوت الأذان…” المشهد الثّاني في وصف صالة الاحتفال في منزل رئيس الشّرطة في طهران.
في النهاية المشهد الخامس والأخير، حيث يتم وصف حديقة مهجورة، وبناء مهدّم وبئر حجري. الوقت وقت الغروب ويعلو صوت المؤذّن يدعو النّاس للصّلاة. يبيّن هذا المشهد استشهاد وخاتمة حياة جناب الطّاهرة. في نهاية العرض يظهر حسين ابن رئيس الشّرطة يخاطب الظّالمين والمسؤولين بعد استشهاد الطّاهرة ودفن تلك النّابغة في البئر تحت الأحجار قائلاً: “هل تظنّون أنّكم دفنتموها هنا…. هيهات…. إنّكم خلّدتموها في أذهان النّاس. إنّ روح عشق جناب الطّاهرة سينتقل إلى ألوف القلوب الحيّة من النّاس. ستكون النتيجة معكوسة، لأنّ ما فعلتم سينتشر في العالم. إنّ استشهاد جناب الطّاهرة يعلّم أهل العالم الجرأة والخلوص واتّباع الحقيقة”. في هذا القسم من المشهد الخامس يستمرّ الأذان في دعوة المؤمنين إلى الصّلاة. ثمّ ينزل السّتار.
إنّ دراما السّيّدة بارني تنقل كثيرًا من الحقائق والمعلومات التّاريخيّة في باب حياة الطّاهرة، وبصرف النّظر عن بعض الأخطاء الجزئيّة، فإنّها تعريف مهم عن جمال وكمال ومظلوميّة نادرة زمانها جناب الطّاهرة.
14. المصادر الأخرى والكتب والمقالات البهائيّة: لقد استفدت (مؤلّف الكتاب) في بحثيّ المستمر عن حياة وآثار جناب الطّاهرة كما ذكرت آنفًا، من المعلومات الوفيرة من قبل أقاربها. لقد وفّر لي الأديب الفاضل والشّاعر القدير السّيّد نعمت الله ورتا عليه رضوان الله، وهو من أحفاد جناب الطّاهرة، والّذي سيأتي ذكره لاحقًا، معلومات قيّمة في هذا الخصوص. كما أنّني استفدتّ كامل الاستفادة من عشرات النّقاط من الكتب والمقالات الّتي جمعت من قبل فضلاء ومحقّقين بهائيّين. نذكر من ضمن هؤلاء حاج الميرزا جاني الكاشاني، الميرزا محمود الزّرقاني، محمّد معين السّلطنة التبريزي، عبد الحميد إشراق خاوري، عبّاس قابل آباده اي، محمّد عليّ فيضي، أيادي أمر الله جناب حسن باليوزي أفنان، مرضيّة ﮔيل، البروفسور ألساندرو بوزاني Alessandro Bausani، دكتور صابر آفاقي، دكتور محمّد أفنان، دكتور شاﭙور راسخ، روح الله مهرابخاني، دكتور موجان مؤمن، دكتور وحيد رأفتي، دكتور أمين بناني، دكتور حشمت مؤيّد، فروغ أرباب، نويد محبت، حسام نقبائي، دكتور هدى محمودي، أبو القاسم أفنان، دكتور طلعت بصاري (قبله)، سوزان ستايلز Susan Stiles، روث روزنوالد Ruth Rosenwald، ستانوود كاب Stanwood، كلارا إيدج Clara Edge، ديمتري أماسيانوف Dimitri Amasianof، وكاتلين جيميسون دماس Kathleen Jemison Demas.
ثانيًا: المصادر غير البهائيّة
من البديهي أنّ المقصود من المصادر غير البهائيّة، هي الكتب والرسائل والمقالات غير البهائيّة الّتي كتبت عن حياة جناب الطّاهرة، سنكمل هذا القسم تحت عدّة عناوين:
أوّلاً: المصادر الفارسيّة
1. مجلّد قاجار من ناسخ التّواريخ: الاسم الأصلي لهذا الكتاب هو “تاريخ القاجاريّة”، والّذي هو في الحقيقة كتاب مستقلّ، لكن اعتبر ملحقًا لكتاب ناسخ التّواريخ المعروف. تاريخ القاجاريّة من تأليف الميرزا محمّد تقيّ خان الكاشاني الملقّب بلسان الملك ولقبه سـﭘـهر (1216–1297 هـجريّة قمريّة. الموافق 1801–1879 ميلاديّة). الكتاب المعروف بناسخ التّواريخ يحتوي على تاريخ ظهور آدم إلى حين زمان حضرة الخاتم وبيان أحوال المعصومين حتّى حضرة الإمام الحسين، وقد كتب سـﭘـهر مجلّدًا في إتمام ذلك لم نحصل عليه حتّى الآن. يحتوي تاريخ القاجاريّة على بيان أحوال ملوك القاجار حتّى سنة 1272 هـجريّة قمريّة. (1855 ميلاديّة). وحيث أنّ هذا الكتاب معروف لدى أغلب المحقّقين بمجلّد (أو مجلّدات) القاجاريّة من ناسخ التّواريخ، فإنّنا نذكره أيضًا باسم ناسخ التّواريخ. رغم أنّ سـﭘـهر كان على الأغلب على علم بالمعارف الإسلاميّة في زمانه وكان كاتبًا وأديبًا، ولكن أسلوب كتابة تاريخ القاجاريّة ليس جذّابًا أو سلسًا. لقد كان ما كتبه سـﭘـهر في تاريخ القاجاريّة عن مقدّسات الأمر البديع في غاية الوقاحة، كما أنّه أسقط الكثير من الحقائق، وتعدّ إهانته لجناب الطّاهرة والنّساء البابيات وصمة عار في كتابة التّاريخ في عصر القاجار. رغم ذلك أشار سـﭘـهر في مواضع عدّة في تاريخ القاجاريّة إلى نقاط مهمّة جدًّا، من ضمنها اعترافه بعلم وذكاء وجمال وكمال جناب الطّاهرة. على أيّ حال أقدم سـﭘـهر في أواخر حياته على كتابة رسالة أقرّ فيها بأنّ ما كتبه في تاريخ القاجاريّة ضدّ الأمر البديع، كان “نظرًا لمقتضيات الزّمان وإجبار القريب والغريب”. هذه الرّسالة على الأغلب هي المجلّد المتمم لكتابه ناسخ التّواريخ والّذي لم نعثر عليها حتّى الآن(47).
2. روضة الصّفاء النّاصري: هذا الكتاب من تأليف رضا قلّي خان هدايت الله باشي (1215–1288 هـجريّة قمريّة. الموافق 1800–1871 ميلاديّة)(48). لقد استخدم هدايت في روضة الصّفاء النّاصري تقريبًا نفس أسلوب سـﭘـهر الكاشاني المغرض، وهاجم بكل وقاحة مقدّسات الأمر المبارك، وأبرز الكثير من الحقائق التّاريخية بعكس حقيقتها. رغم ذلك أشار في مواضع متعدّدة في الكتاب إلى عظمة واستقلال ظهور حضرة الباب، وفي عدّة مواضع أشار إلى جمال وكمال جناب الطّاهرة وأحوالها(49).
3. حقائق الأخبار النّاصري: هذا الكتاب من تأليف محمّد جعفر خان حقايق نـﮕـار (1225–1301هـجريّة قمريّة الموافق 1810–1882ميلاديّة). لقد هاجم حقايق نـﮕار، شأنه شأن المؤلّفين المذكورين أعلاه، بصورة وقحة مقدّسات الأمر البديع وأهان جناب الطّاهرة وأظهر الحقائق معكوسة. رغم ذلك أشار إلى بعض من الحقائق الدّقيقة الخاصّة بتاريخ العهد الأعلى وحياة وشخصيّة جناب الطّاهرة واعترف بجمال وكمال فريدة زمانها(50).
4. تأليفات اعتماد السّلطنة: محمّد حسن خان اعتماد السّلطنة (1259–1313 هـجريّة قمريّة. الموافق 1843–1895 ميلاديّة)، هو ابن الحاج عليّ خان حاجب الدّولة الّذي كان معروفًا بـ (اعتماد السّلطنة)، وجاء شرح مظالمه في تاريخ الأمر المبارك. يوجد مؤلّفات متعدّدة لمحمّد حسن خان، قال البعض أنّ أغلب هذه المؤلّفات من الآخرين وهو اشتراها منهم أو أخذها بالقوّة ونشرها باسمه. تمّت الإشارة في مؤلّفات اعتماد السّلطنة إلى حوادث الأمر البديع بالتّفصيل والاختصار، بالأخصّ في كتب: مرآة البلدان النّاصري، ومنتظم النّاصري، والمآثر والآثار، ومطلع الشّمس، وخيرات حسان(51)، ومن ضمن ما أشار إليه فيها أحوال جناب الطّاهرة وأعمامها وأقاربها. هاجم اعتماد السّلطنة كباقي المؤرّخين غير البهائيّين الأمر البديع بكلّ وقاحة وفي الأغلب حرّف الحقائق والوقائع وفي بعض المواقف يمكن الاستناد في ذلك إلى اعترافات ومحتويات كتبه(52).
5. مفتاح باب الأبواب: هذا الكتاب من تأليف الدّكتور محمّد مهديّ خان زعيم الدّولة (المتوفّي سنة 1323 هجريّة قمريّة الموافق 1905 ميلاديّة)(53). كان زعيم الدّولة (رئيس الحكماء) في مصر لفترة طويلة ونشر جريدة الحكمة. تمّ تأليف كتاب “مفتاح باب الأبواب” طبقًا لقول المؤلّف بأنّه تلخيص من كتابه الأكبر باسم “باب الأبواب”، سنة 1310 هجريّة قمريّة (1893 ميلاديّة) باللّغة العربيّة، ونشره سنة 1321 هجريّة قمريّة (1903 ميلاديّة). تمّ إعادة طبع هذا الكتاب وترجم إلى الفارسيّة بواسطة حسن فريد ﮔلـﭙـايـﮕـاني. يحتوي كتاب مفتاح باب الأبواب على وقائع العهدين الأعلى والأبهى. بعض إشارات المؤلّف إلى جناب الطّاهرة في هذا الكتاب جديرة بالتأمّل والاستناد. على أيّ حال يتحدّث زعيم الدّولة كبقية المؤلّفين غير البهائيّين بصورة مغرضة(54).
6. كتابات إيشيك آقاسي: اسم إيشيك آقاسي أطلق على الحاج الميرزا أحمد وهو ابن الحاج أبو الحسن تاجر الشيرازي. ولد حاج الميرزا أحمد سنة 1241 هـجريّة قمريّة (1825 ميلاديّة) في شيراز. فقد والده وهو في التّاسعة من عمره، واشتغل بالتّجارة في مدينتي شيراز ويزد في بداية شبابه. كان عمدة منطقة ميدان شاه في شيراز لعدّة سنوات، ومن ثمّ ذهب مع حسام السّلطنة إلى خراسان، وعيّن بصفة مؤقّتة بمنصب أمير الدّيوان في يزد، وبعدها تولّى مناصب مختلفة في مناطق أخرى في إيران إلى أن رجع لشيراز سنة 1298 هجريّة قمريّة (1880 ميلاديّة) وعاش سنوات هناك. قيل أنّ وفاته كانت بين 1310–1313 هـجريّة قمريّة (1892–1895 ميلاديّة). لديه علاوة على كتاباته، أشعار وثلاثة كتب عن تاريخ يزد “أخبار اليزد” و”حديقة الشّعراء” وكتاب عن مصيبة أهل بيت الرّسول الأكرم. يبدو أنّ آل حاج الميرزا أحمد كانت لديهم معرفةً وتواصل مع آل حضرة الباب. رغم أنّ حاج الميرزا أحمد تشرّف بمحضر حضرة الباب ولكنّه لم يؤمن، وكلّما برز مقام حضرة الباب أكثر، زاد هو في الإعراض والتّردّد. يتضّح هذا الموضوع من محتوى كتاباته جليًّا.
لقد صرف المذكور سنين ليوفر المواد اللّازمة لتأليف كتاب يحتوي حوادث أيام سلطنة ملوك القاجار حتّى سنة 1286هـجريّة قمريّة (1869 ميلاديّة) وأنهاه في نفس هذه السنة.
لم ينشر المحتوى الأصلي للكتاب(55) ولكن آقا الميرزا محمود خان بهادر ترجم أجزاء من كتاباته إلى الإنجليزيّة خاصّة تلك الّتي تخصّ حوادث الظّهور البديع، ونشرت هذه التّرجمة في منشور مؤتمر السّلطنة الآسيوي(56). Journal of the Royal Asiatic Society))
رغم أنّ كتابه يحتوي على أخطاء عديدة بخصوص كيفبة وقوع الأحداث وزمانها، ولكن يشتمل على نقاط قابلة للاستناد عليها. لم يشر الحاج الميرزا أحمد في كتابه هذا إلى جمال وكمال الطّاهرة فحسب، بل تحدّث عن أحوالها في كتابه حديقة الشّعراء ونقل آثار تلك البطلة الخالدة(57).
7. مكارم الآثار: هذا الكتاب من تأليف الميرزا محمّد عليّ معلّم حبيب آبادي الّذي ولد سنة 1308 هجريّة قمريّة (= 1891 ميلاديّة) في قرية حبيب آباد من قرى بلوك أصفهان. كان أجداده من الفلّاحين في تلك المناطق، لم يتتلمذ المعلّم لدى أدباء أو أساتذة المعارف الإسلاميّة بصورة مستمرّة بل قام بتحصيل معلوماته بصفة شخصيّة، وعمل في التّأليف والتّعليم لسنوات طويلة. إضافةً إلى أشعار المعلّم. لديه أيضًا عدد من الكتب الّتي تمّ نشر بعضها. توفي سنة 1396 هجريّة قمريّة (1976 ميلاديّة)(58).
التقيت به (مؤلّف الكتاب) مرّتين، مرّة في طهران وأخرى في أصفهان، وتناقشت معه في المواضيع البهائيّة، وجدّته رجلاً متمسّكًا بالإسلام ومنصفًا(59). تبدو حياديّة المعلّم، رغم تمسّكه الإسلاميّ القويّ، من محتوى مجلّدات كتاب مكارم الآثار. يأتي في هذا الكتاب بذكر عشرات من علماء ورجال إيران والعالم الإسلاميّ بالأخصّ في عصر القاجار. لقد استفدّت كثيرًا من هذا الكتاب لبيان أحوال أجداد وأعمام وأبناء وأقارب الطّاهرة.
8. قصص العلماء: هذا الكتاب من تأليف الميرزا محمّد بن سليمان التنكابني المتوفّي عام 1302 هجريّة قمريّة الموافق 1884 ميلاديّة. كان محمّد التنكابني من تلاميذ السّيّد إبراهيم موسوي القزويني أحد فقهاء وكتّاب عصر ناصر الدّين شاه. إنّ كتاب قصص العلماء كما هو واضح من عنوانه في بيان أحوال مائتين من علماء الإسلام. يتطرّق المؤلّف إلى تفصيل أحوال الإخوان البرغاني، والد وأعمام جناب الطّاهرة، بالأخصّ ملّا محمّد تقيّ، وطرح معلومات مثيرة ومهمّة بخصوصهم.
9. كتاب قرّة العين: مؤلّف هذا الكتاب مجهول ولكنّه من منشورات الأزليّين. نشر هذا الكتاب في 52 صفحة سنة 1368 هـجريّة قمريّة (1952 ميلاديّة) بمناسبة مائة سنة على استشهاد جناب الطّاهرة. يبدأ الكتاب في شرح أحوال تلك النّابغة ثمّ بعض آثارها الشّعريّة والنّثريّة. يحتوي الكتاب على أخطاء بخصوص جزئيّات وكلّيّات عن حياة جناب الطّاهرة، على الرغم من هذا، يشتمل الكتاب على نقاط عديدة مهّمة استفدّت منها.
10. كتاب باب الجنّة: اسم الكتاب بالكامل “مينودر أو قزوين باب الجنّة” من تأليف السّيّد محمّد عليّ ﮔلريز. نشر الكتاب في مجلّدين. المجلّد الأوّل من دار نشر جامعة طهران، الّذي يحتوي على شرح تفصيلي عن سبب تسمية مدينة قزوين بـ ”باب الجنّة” وقد جاء خلاصة ذلك في مقدّمة هذا الكتاب الحالي. ثمّ يتناول المؤلّف التّاريخ التّفصيلي عن بناء مدينة قزوين وأحداث تلك المدينة قبل الإسلام وبعده. يحتوى المؤلّف على معلومات جيّدة عن الأوضاع الجغرافيّة لقزوين ومحلّاتها، كما يحتوى على معلومات قيّمة عن أقارب جناب الطّاهرة، وأجدادها من ناحية الأم والأب وأبنائها. المجلّد الثّاني من الكتاب من دار نشر “طه”، حيث يتناول شرح حال وآثار رجال وعلماء قزوين. يشير في هذا المجلّد أيضًا إلى أقارب الطّاهرة وآثارها الشّعريّة. بصورة عامّة نستطيع القول أنّ كتاب “مينودر أو قزوين باب الجنّة” من المصادر المهمّة للكتاب الحاليّ.
11. قاموس دهخدا: تمّ تأليف هذا القاموس اللّغوي بهمّة عليّ أكبر دهخدا
ومجموعة من العلماء والمحقّقين البارزين في إيران أمثال دكتور محمّد معين، وقد استغرق سنوات طوال لإكمال الكتاب. ولد دهخدا سنة 1297 هـجريّة قمريّة (1879 ميلاديّة) في طهران. قام في البدء عند أساتذة ذلك الزّمان بدراسة فنون الأدب والمعارف الدّينيّة. أمضى عدّة سنوات في أوروبا. عمل كصحفي في البداية في إيران وأوروبا، ثمّ اتّجه نحو التّحقيق والتّأليف. توفّى دهخدا عام 1334 هجريّة شمسيّة في طهران. من آثاره الكتابيّة بخلاف قاموس دهخدا، عدد من الأشعار وعشرات المقالات. تمّ نشر قاموس دهخدا في أشكال مختلفة في خمسين مجلّد كبير.
استغرق دهخدا أربعين سنة في تأليف هذا القاموس. وكما ذكر آنفًا ساعده أشخاص كثيرون في إكمال القاموس، ولكن العمل الأساسي كان منه. جاء ذكر شرح حياة الطّلعات المقدّسة البهائيّة في القاموس وكذلك الرّجال البهائيّين البارزين والبابيّين. أكثر الأبواب تفصيلاً جاء تحت كلمة “باب”. كما يضمّ شرح حياة جناب الطّاهرة في مواضع عدّة من القاموس. كان هذا الكتاب مصدر قيّم في شرح أحوال أقارب جناب الطّاهرة. رغم أنّ بعض مآخذ القاموس ومصادره بخصوص تاريخ الأمر وأحوال جناب الطّاهرة غير موثّقة، إضافة إلى أخطاء عديدة موجودة في الكتاب، إلّا أنّه غنيّ المحتوى ويعدّ مصدرًا هامًّا للمحقّق البهائي.
12. مصادر فارسيّة أخرى غير بهائيّة: أولاً: لقد أقمت (مؤلّف الكتاب) في قزوين لعدّة سنوات من أجل كتابة أحوال جناب الطّاهرة، وأثناء التّدريس في جامعة العلوم الإداريّة والتّجاريّة، عاشرت أقارب وأحفاد الطّاهرة بالأخصّ أفرادًا من عائلة شهيدي، وحصلت على معلومات قيّمة. كذلك استفدت خلال عشرات السّنين من المصادر الفارسيّة العديدة، حتّى أنّني راجعت مذكّرات سيّد مهدي الدّهجي النّاقض للعهد، بخصوص واقعة بدشت والموجودة في مكتبة جامعة كمبريدج ببريطانيا، حيث أنّ تلك المصادر كثيرة، ولاختصار الكلام أشير إلى أسماء بعض المحقّقين. من ضمن المحقّقين والكتّاب غير البهائيّين الّذين استفدت منهم نذكر: محمّد هاشم الخراساني، محمّد عليّ مدرّس التبريزي، محمّد القزويني، دكتور محمّد معين، مرتضى مدرّسي چهاردهي، عبد الرّفيع حقيقت “رفيع”، مهدي بامداد، يحيى آرين پور، عبد الحسين النوائي، محمود خيري، محمّد إقبال لاهوري، فخري القويمي، معين الدّين المحرابي، عليّ أكبر مشير سليمي، دكتور غلا محسين مصاحب، هما ناطق، سيّد محمّد باقر النجفي، كشاورز صدر، آقا بزرگ الطهراني، محمّد معصوم الشيرازي، دلارام المشهوري ومحمّد حسين الرجبي.
ثانيًا: المصادر العربيّة
1. لمحات اجتماعيّة: من المصادر المهمّة للكتاب الحالي، كتاب لمحات اجتماعيّة، الاسم الكامل للكتاب هو “لمحات اجتماعيّة في تاريخ العراق الحديث”. هذا الكتاب من تأليف الدّكتور عليّ الوردي، أستاذ الاجتماع في جامعة بغداد. الدّكتور عليّ الوردي صاحب مؤّلفات عديدة في مجال الاجتماع ومعرفة التّاريخ(60). تمّ طباعة كتاب لمحات اجتماعيّة في مجلّدين في عامي (1969 و1971) في مطبعة الإرشاد ببغداد. المجلّد الثّاني (الجزء الثّاني) يشتمل على أحداث سنوات 1833–1872 ميلاديّة في العراق. يتناول المؤلّف في الفصل الخامس من المجلّد الثّاني تحت عنوان “قرّة العين” (ص 90–152) بالتّفصيل عن أحوال جناب الطّاهرة.
لقد استفاد الدّكتور الوردي من مصادر عديدة مطبوعة وخطّية لكتابة شرح حياة جناب الطّاهرة. من المصادر المذكورة كتاب “عقائد الشّيخيّة” وهو كتاب خطّ باليدّ لجناب ملّا أحمد معلّم الحصاري، الّذي استعاره الدّكتور عليّ الوردي من عبد الرزّاق العبايجي واستفاد منه. المصدر الأهم الآخر هو مصدر خطّي (مخطوطة) تحت عنوان “قرّة العين على حقيقتها وواقعها” تأليف الشّيخ عبّود الصّالحي في بيان أحوال جناب الطّاهرة. عبّود الصّالحي من أقارب الطّاهرة(61). يتناول الدّكتور عليّ الوردي حياة جناب الطّاهرة في كتاب لمحات اجتماعيّة في غايّة الإنصاف والمهارة. إنّه يدحض افتراءات المؤرّخين بخصوص جناب الطّاهرة. على سبيل المثال ما أورده الدّكتور محمّد مهدي خان زعيم الدّولة في كتاب مفتاح باب الأبواب (ص 80–81) بخصوص نصّ خطبة جناب الطّاهرة في بدشت كان محل شكّه، لأنّ ما ذكره الدّكتور محمّد مهدي مليء بالإفتراءات الّتي تناقض روح شرع البيان. رغم أنّ مقالة الدكتور الوردي لا تخلو من الأخطاء في التّفاصيل، إلّا أنّها بصورة عامّة محكمة ومستندة، فإنّه يصف دور جناب الطّاهرة في جمع البابيّين بكربلاء وعموم العراق، وموقفها في مؤتمر بدشت وتأثيرها في انتشار الدّين البابي بكل دقّة. في نهاية المقالة يصرّح بأنّه بسبب أن اجتمع في شخصيّة جناب الطّاهرة الجمال والذّكاء المفرط وفصاحة اللّسان وقوّة الشّخصيّة، لذا كانت من النّفوس الّتي غيّرت مسار التّاريخ(62). ثمّ يقول: “هي قد ظهرت في غير زمانها أو هي سبقت زمانها بمائة سنة على أقل تقدير. فهي لو كانت قد نشأت في عصرنا هذا..ربّما كانت أعظم امرأة في القرن العشرين”(63)، كما يجلّ الدكتور الوردي جناب الطّاهرة عظيم الإجلال في مقالاته الأخرى المطبوعة(64).
2. المصادر العربيّة الأخرى: علاوة على كتب دائرة المعارف والمعاجم وكتب الأعلام بالعربيّة الّتي أشارت إلى حياة قرّة العين، فقد أسهبت أقلام عشرات العلماء، المحقّقين، والكتّاب من العرب والإيرانيّين بالكتابة عن أعجوبة زمانها وأقاربها باللّغة العربيّة. من ضمن النّفوس المذكورة والتّأليفات المرتبطة بهم نذكر منهم: آقا بزرگ طهراني والكتاب المشهور “الذّريعة إلى تصانيف الشّيعة”، مير سيّد محمّد باقر الخوانساري وكتاب “روضات الجنّات في أحوال العلماء والسّادات”، وعبد الرزّاق الحسني وكتاب “البابيّون والبهائيّون في حاضرهم وماضيهم”، وعمر رضا كحالة وكتب “أعلام النّساء في عالم العرب والإسلام”، و”ظهير إلهي” و”رسالة البهائيّة” وأيضًا “رسالة البابيّة”، وشكيب أرسلان وكتاب “حاضر العالم الإسلامي” ومحمود شكري الآلوسي وكتاب “مختصر التّحفة الإثني عشريّة.”
ثالثًا: المصادر الإنجليزيّة
1. آثار البروفسور براون: بروفسور إدوارد جرانويل براون Edward Granville Browne، ولد في 7 فبراير 1862 ميلاديّة في يولي Uley الواقعة في جلوسسترشاير Gloucestershaire ببريطانيا. بعد إنهاء دراسته العليا أنهى أيضًا دراسته في كليّة الطّب. ولكن بعد ذلك ترك مهنة الطّب بسبب عشقه لتعلّم اللّغات الشّرقيّة بالأخصّ الفارسيّة والعربيّة والتّركيّة، ومطالعاته بخصوص الثّقافة والدّين في الشّرق. بعد أن طالع كتاب جوبينيو الفرنسي “المذاهب والفلسفة في آسيا الوسطى”، اشتاق للتّحقيق في الدّين البابي(65)، ومن يومها وحتّى نهاية حياته صرف جلّ أوقاته في هذا المجال. فشدّة شوقه لأرض إيران واللّقاء مع المؤمنين بالأمر البديع وكذلك عشقه للّغة الفارسيّة جعلته يسافر إلى إيران ويقضي قرابة أحد عشر شهرًا هناك فقد سافر إلى مناطق عديدة في إيران وعاشر الإيرانيّين وصاحبهم. جاء شرح هذه الرّحلة في كتابه بعنوان “عام بين الإيرانيّين” “A year amongst the Persians”.
تشرّف براون بالحضور أمام حضرة بهاء الله عام 1890 ميلاديّة في قصر البهجة أربع مرات، وقدّ شرح قصّة تشرّفه هذا في كتاباته. في نفس السّنة تشرّف أيضًا بالحضور أمام حضرة عبد البهاء. وفي نفس السّنة التقى بالميرزا يحيّى أزل ومرّة أخرى سنة 1896 ميلاديّة. إنّ مكاتبات براون مع أزل والأزليّين وحمايته لهم صرّح عنها بنفسه عدّة مرات. كان براون يراسل حضرة عبد البهاء حتّى أوائل عهد الميثاق، ثمّ انقطعت مراسلاته إلى أن تشرّف بمقابلة حضرة عبد البهاء في أوروبا. كان أستاذًا للّغة الفارسيّة والعربيّة لعدّة سنوات. تزوّج سنة 1906 ميلاديّة وأنجب اثنين من الأبناء.
توّفّي براون في الخامس من يناير سنة 1926 ميلاديّة في كامبريدج ببريطانيا. رغم أنّ براون كانت لديه صداقة قريبة مع أعداء الأمر البهائي وقام على حماية ادعاءات الأزليّين الواهية والوصايا الملفّقة، ورغم أنّ كتاباته تحتوي على أخطاء عديدة، إلّا أنّ مؤلّفاته تحتوي على معلومات واسعة بخصوص الأمر البديع، كان هذا روح الكلام الّذي قاله الفقيد الجليل أيادي أمر الله جناب حسن أفنان الباليوزي بأنّه لا أحد من العلماء الغربيّين ترك موادًا تاريخيّة عن الأمر البديع للأجيال القادمة كما فعل براون. على هذا الأساس بدون شكّ يجب على أهل البهاء أن يشكروا هذا المستشرق البارز بعمق(66). كتب براون عشرات الكتب والمقالات عن الأمر المبارك، وقد احتفظ بمئات من ألواح حضرة الباب وحضرة بهاء الله في خزنته، وأنقذ وثائق ومستندات قيّمة جدًا من خطر المحو.
أوّل أثر من آثار براون الّذي يجب أن يتمّ دراسته هو كتاب “A Traveller’s Narrative” (حكايات رحّالة). يشتمل هذا الكتاب على مجلّدين. المجلّد الأوّل يحتوي على مقالة سائح بالفارسيّة لحضرة عبد البهاء(67)، وهذه النّسخة بخطّ جناب زين المقرّبين. المجلّد الثّاني يشتمل على التّرجمة الإنجليزيّة لمقالة سائح، ومقدّمة مهمّة جدًّا مع ستّة وعشرين من الهوامش بخصوص المواد التّاريخيّة المرتبطة بالظّهور البديع. تحتوي مقدّمة الكتاب على قصّة تشرّف براون بمحضر الجمال الأبهى وحضرة عبد البهاء سنة 1890 ميلاديّة. يصرّح براون في هذه المقدّمة أنّ التّوفيق المستقبلي للدّين البّابي يكون فقط في يد اقتدار الجمال الأبهى وحده وأوصيائه وأحبّائه (ص XVIII). يتناول براون في هذا المجلّد نقاط مهّمة عن حياة جناب الطّاهرة (توضيحات Q – ص 309–316). تحت عنوان قرّة العين (Kurratu’l-Ayn) تحتوي على أحوال جناب الطّاهرة وأعمامها، ولقائها مع ناصر الدّين شاه والأقوال المختلفة بخصوص طريقة استشهادها. كما توجد مواضيع أخرى بخصوص جنابها أيضًا. إنّ بيان براون المشهور عن ظهور جناب الطّاهرة بأنّها الدّليل الكافي على عظمة وأحقّيّة حضرة الباب يوجد في هذا المجلّد تحت عنوان التّوضيحات.
الآتي هو جزء من بيان براون: “إنّ ظهور امرأة كقرّة العين يعتبر ظاهرة نادرة في أي زمن من الأزمان وفي أي قطر من الأقطار بل إنّه في قطر كإيران يعتبر أعجوبة، إن لم يكن شيئًا يقارب المعجزة… ولو لم يكن للدين البابي من سبب يمتّ به إلى العظمة سوى أنه أخرج لنا بطلة مثل قرّة العين لكفاه سببًا”(68).
كتاب آخر لبراون هو “الموّاد اللّازمة لدراسة الدّين البابيّ Materials for The Study of The Babi Religion” ويحتوي أيضًا على معلومات مثيرة عن الأمر البديع. ويشير في عدّة مواضع في الكتاب إلى أحوال جناب الطّاهرة، وقد خصّص لآثارها جزءً من الفصل الحادي عشر، ونقل في الفصل الخامس رسالة الشّرطي النّمساوي “ألفريد فون جومنز” Alfred Von Gumoens(69) الّذي شاهد استشهاد البابيّين بصورة مروّعة بعد واقعة رمي الشّاه في طهران(70). يذكر جناب الطّاهرة في هذه الرّسالة بأنّها “نبيّة قزوين الجميلة” The Beautiful Prophetess of Qazwin.(71)
كما أنّ براون يشير في حواشي وملحقات التّرجمة الإنجليزيّة لتاريخ جناب الميرزا حسين الهمداني إلى أحوال وآثار جناب الطّاهرة ويكتب في ملحق العدد (4) أربعة مواضيع بخصوص مؤتمر بدشت، وينقل رسالة من جناب الطّاهرة للشّيخ عليّ عظيم الترشيزي. في المجلّد الرّابع من “تاريخ أدب إيران” A Literary History of Persia تمّت الإشارة إلى جناب الطّاهرة وكذلك لآثارها في الكتب الثّلاثة لثورة إيران (Persian Revolution) وكتاب “عام بين الإيرانيّين”. في بعض مقالات براون المطبوعة جاء ذكر جناب الطّاهرة وآثارها أيضًا. خلاصة الكلام أنّ آثار براون تعتبر جزء من المصادر المهّمة للكتاب الحالي.
2. المصادر الإنجليزيّة غير البهائيّة الأخرى: خلال المائة وخمسة وأربعين عامًا الّتي مضت بعد استشهاد جناب الطّاهرة نشرت عشرات الكتب والمقالات بواسطة المحقّقين والكتّاب غير البهائيّين وموظّفين سياسيّين مقيمين في إيران باللّغة الإنجليزيّة بخصوص
أحوالها وآثارها. من ضمن بعض تلك النّفوس الّذين قاموا بالتّحقيق عن جناب الطّاهرة في القرن الأوّل البهائي، أو الّذين كرّموها وبجّلوها في المجامع الدّوليّة نذكر منهم: جوستين شيل Justin Sheil مأمور بريطانيا في طهران(72)،وزوجته السّيّدة ماري شيل Mary Sheil(73)، كاتب المقال في جريدة التّايمز اللّندنيّة في الصّفحة الرّابعة العدد 13 من أکتوبر 1852 (قرابة شهرين بعد استشهاد جناب الطّاهرة) في باب استشهاد الطّاهرة(74)، پروفسور بنيامين جاوت Benjamin Jawett(75)، سير فالنتاين تشيرول Sir Valentine Chirol(76)، سير فرانسيس إدوارد يانجهازباند Sir Francis Edward Younghusband(77)، لورد جورج ناثانيل کورزون Lord George Nathaniel Curzon السّياسي البريطاني المشهور(78)، روبرت جرانت واتسون Robert Grant Watson(79)، إليزابث مود کونستانس Elizabeth Maud Constance(80)، پروفسور توماس کيلي تشينى Thomas Kelly Cheyne(81)، پروفسور هدايت حسين(82)، وپروفيسور محمّد اسحاق(83).
بعض النّفوس غير البهائيّة الّذين قاموا بالتّحقيق في القرن الثّاني البهائيّ بالأخصّ في السّنين الأخيرة لحياة جناب الطّاهرة وآثارها، ونشروها باللّغة الإنجليزية هم:
إي.جى.بريل E.J. Brill(84)، حسن هادي(85)، سيّد عليّ رضا النقوي(86)، آنـماري شيميل Annemarie Schimmel(87)، حميدالگار(88)، الدّکتورعبّاس أمانت(89)، سارا جراهام براون Sara Graham Brown(90)، جونا بانکير Jonna Bankir، ديردرى لاشگاري Deirdre Lashgari(91)، وفرزانة ميلاني.
رابعا: المصادر الفرنسيّة
1. تاريخ جوبينو: اسم هذا الکتاب “الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى Les Religions et les Philosophies dans L’Asie Centrale”، وقد اختصّت فصول منه بتاريخ العهد الأعلى. مؤلّف الكتاب الكاتب المعروف والسّياسي الفرنسي جوزيف آرثر جوبينو Joseph Arthur Gobineau (1816–1882م). إنّ شهرة جوبينو في أوروربا تعود لسببين: أوّلاً: إحياء وتقديم وجهات نظر عنصريّة الّتي كانت، مع الأسف، من العوامل المؤثّرة في ترويج التّعصّبات العرقية في أوروبا خلال القرن العشرين، وكذلك ازدياد مظالم الأنظمة العنصرية المرفوضة. ثانيًا: مؤلّفاته بخصوص الحياة وطريقة تفكير النّاس في آسيا بالأخصّ الإيرانيّين.
كان لجوبينو مهمّة سياسيّة في إيران في سنوات 1855–1858 ميلاديّة و1862–1863 ميلاديّة، وخلال تلك السّنين كان يدرس كلّ شؤون الثّقافة بالأخصّ الدّينيّة في إيران، ونشر نتائج دراساته في عدّة كتب ومقالات قيّمة. نجد في آثار جوبينو إشارة متكرّرة إلى جناب الطّاهرة وكذلك خصّص في فصول من كتابه “الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى” ص 138–141، 150–155، 194–195، 246–253 من التّرجمة الفارسيّة) لأحوال جناب الطّاهرة. رغم الأخطاء الملحوظة في كتابات جوبينو، لكنّها تحتوي على نقاط مهمّة بخصوص حياتها وتجليل جوبينو لها تحت عنوان “نخبة علماء الزّمان” و”أعجوبة العصر” (ص 140 من التّرجمة الفارسيّة)، جديرة بالاهتمام.
2. تاريخ نيقولاس: اسم هذا الكتاب “السّيّد عليّ محمّد المعروف بالباب Sayyed Ali Muhammad dit le Bab. مؤلّف الكتاب. إيه. إل.ام. نيقولاس A.L.M. Nicolas (1864–1939ميلادية) المستشرق والسّياسي الفرنسي الّذي قضى أكثر من ثلاثين سنة من عمره في إيران. حصيلة دراساته كانت في خصوص تاريخ حياة وتعاليم حضرة الباب، وتأليف وترجمة عدّة كتب ومقالات عديدة.
أثناء إقامة نيقولاس في قبرص (1894–1895ميلاديّة) لتنفيذ الخدمات القنصليّة هناك، التقى عدّة مرّات مع الميرزا يحيى أزل، وكما يقول هو أنّه حصل على معلومات عن الأمر البديع. إنّ كتاب تاريخ “السّيّد عليّ محمّد المعروف بالباب” من أهم الآثار التّاريخيّة المطبوعة لنيقولاس بخصوص الأمر البديع. نشر هذا الكتاب لأوّل مرّة سنة 1905 ميلاديّة في باريس في أكثر من أربعمائة وخمسين صفحة، ويحتوي على شرح حياة حضرة الباب وأحداث العهد الأعلى. تمّت ترجمة الكتاب بواسطة عليّ محمّد الفرهوشي إلى الفارسيّة وكان في 487 صفحة(92). علاوة على مقدّمة المترجم وأربعة صفحات الملحق، أضاف ثمان وأربعين صفحة تكملةً للكتاب في نهايته. كانت مصادر نيقولاس لتأليف هذا الكتاب بعضًا من الآثار الأمريّة، ومعلومات أربعة من أيادي أمر الله، ومصاحبته مع الأزل لمدّة سنتين، وكتب تاريخ عصر القاجار.
كان تأريخ نيقولاس مثل جوبينو يحتوي على أخطاء عجيبة، رغم ذلك فإنّ تاريخه في شرح وقائع العهد الأعلى أكثر وثوقًا. في الفصل الرّابع من تاريخه (ص 276–305) تحت عنوان “قرّة العين، الطّاهرة واجتماع بدشت”، يتناول أحوال آل البرغاني ثمّ عقائد الشّيخ أحمد الأحسائي وحياة جناب الطّاهرة. وخصّ الفصل الثّاني عشر لاستشهادها.
3. المصادر الفرنسيّة الأخرى: من المحقّقين والكتّاب باللّغة الفرنسيّة عن جناب الطّاهرة نذكر: جوزيف إرنست رنان Joseph Ernest Renan(93)، کليمنت هوارت Clement Huart(94)، دکتور جان باپتيست فوريه Jean Baptist Feurier(95)، السّيّدة جين هنري ديولافوي Jane Henriette Dieulafoy(96)، آ. دو. بلکومب Bellecombe(97)، ونهال تجدّد(98). يجب التنويه بأنّ في كتب تاريخ الدّين وفي دائرة المعارف وقواميس السّير بالفرنسيّة أشير أيضًا إلى جناب الطّاهرة وأحوالها. وكذلك كتب مؤّخرا کوليت جوفيان Colette Gouvion وفيليپ جوفيان Philippe Jouvion في الكتاب القيّم المسمّى بـ ”بستانيّو جنّة الله” (ص 127–136) شرحًا مختصرًا بليغًا عن جناب الطّاهرة وذلك في التّرجمة الفارسيّة الّتي تمّت بواسطة السّيّدة باهرة سعادت وطبع ونشر بجهود مؤسّسة المعارف البهائيّة).
خامسا: المصادر الروسيّة
1. مكاتبات دولجوروكي: الأمير ديمتري إيفانوفيتش دولجوروكي (دولجوركوف)Dimitri Ivanovich Dolgorouki (Dolgorukov)، بعد أن أكمل دراسته، دخل الخدمة الحكوميّة والسّياسيّة، وكان يعمل لسنوات في عدّة دول أوروبيّة وآسيويّة بصفة دبلوماسي، وكان سفيرًا لروسيا في طهران من بداية عام 1846 ميلاديّة حتّى أوائل سنة 1854 ميلاديّة. ثمّ رجع بأمر ملك روسيا وأصبح عضوًا في مجلس الدّولة. توفّي دولجوروكي في أكتوبر سنة 1867 ميلاديّة في موسكو.
جاء ذكر دولجوركي في آثار حضرة بهاء الله، من ضمنها لوح ملك روسيا. كان له دورًا حسّاسًا في تخليص حضرة بهاء الله من سجن طهران(99). كان يكتب دولجوروكي في مراسلاته مع وزير خارجيّة روسيا وباقي الدّوائر الحكوميّة السّياسيّة عن الأمر البديع ودوره في التّغيّيرات الحاصلة في المنطقة. من ضمنها رسالته المؤرّخة 23 أغسطس 1852 ميلاديّة الّتي أشار فيها إلى سجن جناب الطّاهرة وكيفيّة استشهادها(100).
جاءت معظم مراسلات دولجوروكي في كتاب “نهضة البابيّين في إيران”
“Babidskie Vosstaniya/v Irane” من تأليف العالم الرّوسي إم.إس. إيفانوف M.S. Ivanov.(101)
2. كتاب كاظم بيك: المستشرق الرّوسي المعروف الميرزا ألكساندر كاظم بيك (بيگ) Aleksander Kazem Bek (Beg) (1802–1870) ميلاديّة، رجع عن اعتناق الإسلام في شبابه واعتنق المسيحيّة. عمل في روسيا لسنوات في الجامعة وعدّة كليّات معلّمًا للّغات الشّرقيّة. كان مدرّسًا للأدب الفارسي في جامعة سان پيترسبورج St. Petersburg، ثمّ عيّن أخيرًا مديرًا لمدرسة اللّغات الشّرقيّة.
كتب كاظم بيك عن الأمر البديع في كتاب بعنوان “الباب والبابيّة” Bab & Babidi.(102) ويعتبر أوّل كتاب ينشر عن الأمر المبارك في الغرب (أوروبا). نشرت خلاصة الكتاب المذكور باللّغة الفرنسيّة في عدد من مجلة Journal Asiatique بعنوان “الباب والبابيّين” Bab & Babies .(103)
رغم أنّ مصدر كتاب كاظم بيك هو ناسخ التّواريخ (تاريخ القاجاريّة)، ولكنّه يرفض مغالطات ناسخ التّواريخ ويدافع عن حضرة الباب وأصحابه. كما استفاد كاظم بيك من معلومات تلميذه سفروجين Sevrugin الّذي أقام في إيران لمدّة عشرين عامًا وكان يعمل سكرتيرًا لسفير الرّوس في طهران. أعطيت هذه المعلومات لكاظم بيك بواسطة خانيكوف Khanykov قنصل الرّوس في تبريز. المصدر الآخر لكتاب كاظم بيك هو معلومات موشنين Mochenin المترجم في قنصليّة روسيا بتبريز. وعلى الرّغم من أنّ ما كتبه كاظم بيك بخصوص أصحاب حضرة الباب ومنهم جناب الطّاهرة يحتوي على أخطاء عديدة لكنّه يتضمّن نقاطًا مهمّة كانت دليلاً للمحقّقين في تلك الأيّام(104).
3. المنظومة الشعريّة للسّيّدة جرينفسكايا: المقصود هو المسرحيّة الّتي كتبتها عن حياة حضرة الباب وجناب الطّاهرة. ولدت السّيّدة إيزابيلّا آركاديفنا جرينفسكايا Izabella Arkadyevna Grinevskaya في عائلة يهوديّة ألمانيّة في بولندا. ثمّ تعلّمت اللّغة الرّوسيّة وانتقلت إلى سان پيترسبيرج St.Petersburg. في البداية كانت تهوى الفلسفة ثمّ بدأت بتأليف الأشعار. هذه الشّاعرة القديرة استطاعت أن تخلق مسرحيّة دراميّة خالدة بالاستفادة من كتابات المستشرقين أمثال كاظم بيك، تومانسكي Tumansky وجامازوف Gamazov والّتي أخذت شهرةً كبيرة. اسم هذه المسرحيّة “الباب، المنظومة الدّراميّة عن تاريخ إيران” وتتناولها في خمسة مشاهد شعريّة.
إنّ مسرحيّة السّيّدة جرينفسكايا رغم أنّها تحتوي على أخطاء عديدة من حيث الحقائق التّاريخيّة بخصوص حياة حضرة الباب وجناب الطّاهرة وزمان وقوع الأحداث، ولكن مهارة الكاتبة في تصوير الوقائع في مشاهد حيّة جديرة بالاهتمام. انتشرت هذه المنظومة عام 1903 ميلاديّة بينما تمّ عرض المسرحيّة عام 1904 ميلاديّة في مسرح جامعة پيترسبيرج للفنّ والأدب، وأيضًا في مدن روسيا الأخرى. كما عرضت في لندن، وتمّت ترجمتها إلى الفرنسيّة بواسطة السّيّدة هالپرين Halperin وعرضت في باريس، وترجمت إلى الألمانيّة بواسطة الشّاعر فيدلر Fiedler وعرضت في برلين. وحظيت باهتمام الفنّانين والمثقّفين الرّوس وباقي الدّول الأوروبيّة، وتمّ تقيّيمها والتّعريف بها في صحف عديدة.
احتفلت جرينفسكايا سنة 1914 ميلاديّة بمناسبة مرور عشر سنوات على نشر كتابها وعرض مسرحيّتها. ألقت خطابة تفصيليّة في إحدى صالات لنينجراد الكبرى عن الكتاب. نشرت إحدى الجرائد الأكثر انتشارًا في المنطقة خبر انعقاد الاحتفال وخطابة السّيّدة جرينفسكايا وذكائها وابداعها في كتابة المسرحيّة المذكورة وأثنوا عليها كثيرًا.
كانت الطبعة الثّانية لكتاب “الباب” سنة 1916 ميلاديّة. تمّ عرض المسرحيّة المذكورة في “مسرح النّاس” في لنينجراد عام 1917 ميلاديّة، حيث أقبل النّاس إلى لنينجراد من المناطق البعيدة حتّى من موسكو وتركستان لمشاهدة المسرحيّة. اشتهرت السّيّدة جرينفسكايا إلى درجة أنّ الرّسائل الّتي كانت تبعث إليها من قبل النّاس بمجرّد كتابة اسمها على الظرف كان يكفي لتوصيل ساعي البريد إلى مكان إقامتها دون أن يذكر العنوان.
تكتب جرينفسكايا في مقدّمة الطّبعة الثّانية للمسرحيّة في خضمّ الحرب العالميّة الأولى، بأنّ في الأوضاع الحسّاسة الراهنة حيث يخيّم وجه الحرب المخيف، يجب على النّاس أن يتأمّلوا ويتفكّروا في المسائل الهامّة الّتي يمكن أن تقرّب أهل العالم من بعضهم البعض.(ص 3–4). تكتب جرينفسكايا في هذه المسرحيّة لتبيّن أنّ حضرة الباب كان معارضًا للأساليب العنيفة الثّوريّة، فتقول عندما صدر حكم إعدام حضرة الباب أراد النّاس أن يحرّروا حضرته، ولكنّه قال لا داعي للانتقام، ادخلوا سيوفكم في أغمادها. فإنّنا نسرع إلى الموت بالابتسام.
عرضت المسرحيّة المذكورة في لنينجراد أيضًا بعد الانقلاب الّذي حدث في روسيا. كان من بين الّذين أثنوا على المسرحيّة بعد انتشارها، ليو تولستوي Leo Tolstoy الرّوسي (1828–1910 ميلاديّة)، وهو من كبار كتّاب ذلك الزّمان في أوروبا، حيث نشر تجليله في صحف روسيا. التقت جرينفسكايا مع بعض البهائيّين في روسيا من ضمنهم جناب الميرزا عليّ أكبر نخجواني في باكو وأكملت معلوماتها. بعد سبع سنوات من كتابة مسرحيّة “الباب” كتبت جرينفسكايا بتشجيع من آخرين منهم نيقولاس زازولين Nicolas Zazuline مسرحيّة أخرى بعنوان “بهاء الله – مسرحيّة تراجيديّة من تاريخ النّهضة الدّينيّة في إيران”، في خمسة مشاهد.
طلبت جرينفسكايا أن تتشرّف بحضور حضرة عبد البهاء بواسطة جناب نخجواني وأصدر حضرته إذن التّشرّف. أثناء عزمها السّفر إلى الأرض الأقدس، صرّحت جرينفسكايا في مقالة في إحدى صحف مدينة قفقاز،عن الأمر البديع، وذكرت حضرة الباب وحضرة بهاء الله بكلّ تجليل وبأنّها ستلتقي بحضرة عبد البهاء(105). التقت بحضرته سنة 1911 ميلاديّة في رملة الإسكندريّة في مصر، وقدّمت مسرحيّة “الباب وبهاء الله” لحضرته. في ذلك الوقت كان لدى حضرة عبد البهاء النّسخة المخطوطة عن مسرحيّة “بهاء الله”، فتفضّل قائلاً سيأتي اليوم الّذي تعرض فيه المسرحيّتان في طهران. بقيت جرينفسكايا مدّة أسبوعين في حضور حضرة عبد البهاء، ثمّ رجعت إلى روسيا. وبعد سنة نشرت مسرحيّة “بهاء الله” في سان بيترسبيرج وتمّ التّجليل بالمسرحيّة من قبل النّقّاد.
أنزل حضرة عبد البهاء عدّة ألواح بإعزاز السّيّدة جرينفسكايا. بعد رجوعها من مصر وتشرّفها بمحضر حضرة عبد البهاء كتبت كتابًا تفصيليًّا بعنوان “السّفر إلى بلد الشّمس” وذكرت فيه بالتّفصيل عن لقائها بحضرته. صعدت روح هذه الشّاعرة الخالدة إلى العوالم الإلهيّة عام 1944 ميلاديّة(106).
4. الآثار الرّوسيّة الأخرى: بعض الكتّاب والمحقّقين الرّوس الّذين كتبوا عن جناب الطّاهرة عبارة عن: تومانسکي Tumanski(107)، روزن Rozen(108)، جامازوف Gamazov، بارتولد Bartold، شوکوفسکي Zhukovski، وسليتسکي Wesselitski، باکولين Bakulin، برتلس Bertels.
سادسًا: المصادر النّمساويّة
1. كتاب دكتور بولاك: عنوان هذا الكتاب “أرض إيران وسكّانها” Das Land und Seine Bemohner مؤلّف الكتاب هو دكتور جاکوب إدوارد پولاك Jakob Eduard Polak. طبع الكتاب المذكور في مجلّدين عام 1865 في لايپزيگ Leipzig. تشير أربع صفحات من المجلّد الأوّل (ص 350–353) إلى الأمر البديع وجناب الطّاهرة. ذهب دكتور پولاك إلى إيران سنة 1851 ميلاديّة وقام بالتّدريس في دار الفنون بطهران وبعد وفاة دكتور كلوكيه Cloquet أصبح هو الطبيب الخاصّ لناصر الدّين شاه، وفي النّهاية رجع إلى النّمسا عام 1861 ميلاديّة. يشير دكتور بولاك إلى استشهاد البابيّين بعد واقعة رمي الشّاه (ص 352) وبالأخصّ جناب الطّاهرة. يدّعي پولاك أنّه كان حاضرًا أثناء استشهادها (ص 353)(109).
2. شعر نجماجير الحماسي: هذا الشّعر بعنوان “قرّة العين” هو صورة عن إيران المعاصرة وطبع سنة 1874 ميلاديّة. Gurret-ul-Eyn; Ein Bild Aus Persiaens Neuzeit” الشاعرة المجريّة / النّمساويّة ماري فون نجماجير Marie Von Najmajer (1844–1904 ميلادية)، تشير إلى جمال وكمال ومظلوميّة واستشهاد جناب الطّاهرة ودورها في إحياء مجتمع النّساء وحرّيّتهن (110).
سابعًا: اللّغات الأخرى:
أ) التّركيّة: من بين الآثار التركيّة عن حياة جناب الطّاهرة كتاب “زرين تاج الطّاهرة” تأليف السّيّدة عزيزة جعفر زاده أستاذة الأدب الفارسي في جامعة باكو، وكتاب سليمان ناظم بيك بعنوان “ناصر الدّين شاه والبابيّون” طبعة استانبول، سنة 1923 ميلاديّة).
ب) الأرمنّيّة: أشار سارجيس موباجاجيان Sargis Mubagajian في کتاب “الإمامة: بلد تجليل الأئمة” Imamat: Strana Poklonnikov Imamon إلى الأمر البديع وجناب الطّاهرة. الصّورتان عن جناب الطّاهرة في هذا الكتاب ليستا واقعيّتان(111).
ج) الأردو: علاوة على ترجمة كتاب مارثا روت وكتاب “الطّاهرة” الرائع إلى لغة الأردو ومقالات جناب دكتور صابر آفاقي بالأردو، كتبت مقالات وكتب عديدة بواسطة الفضلاء والشّعراء والمحقّقين غير البهائيّين عن جناب الطّاهرة وآثارها الثّمينة. من ضمنهم أختر عزيز أحمد(112)، قمر الهاشمي(113)، مسعود الكشفي(114)، وبرفسور محمّد إرشاد(115)، (116).
مشاهير النّساء عبر تاريخ الأديان
في الآثار المباركة لهذا الظّهور الأعظم، جاء ذكر مشاهير النّساء في التّاريخ الرّوحاني للعالم، خاصّة في ألواح حضرة عبد البهاء وتواقيع حضرة وليّ أمر الله. علمًا بأنّ حضرة الورقة العليا (بهائيّة خانم) ابنة الجمال الأبهى الرّفيعة الشّأن، وشقيقة حضرة عبد البهاء الحنونة، حائزة على مقام لا مثيل له بين نساء العالم بتصريح من حضرة بهاء الله، وبعبارة أخرى، إنّ حضرة الورقة العليا هي سيّدة التّاريخ في نظر أهل البهاء وأعلى سيّدة بهائيّة(1). ذكر حضرة وليّ أمر الله، اسم حضرة الورقة العليا والتي تقارن في المنزلة بالبطلات الخالدات من أمثال سارة وآسية ومريم البتول وفاطمة الزهراء والطاهرة”(2) كما أنّ حضرة عبد البهاء يجلّ في آثاره المباركة علاوة على النّساء المذكورات وحضرة آسية خانم والدة حضرته المجيدة وحضرة خديجة زوجة حضرة الباب، يذكر أيضًا سيّدات بارزات أخريات في تاريخ الأديان ويمجّدهن أمثال دبّورة النبيّة، مريم المجدليّة، بارباراي المقدّسة وحضرة خديجة الكبرى (زوجة الرسول الأكرم). من البديهي من بعد مقام حضرة آسية خانم حرم الجمال الأبهى وحضرة خديجة خانم حرم حضرة الرّب الأعلى لن ترتقي واحدة من النساء مقامًا أرفع من مقام حضرة الورقة العليا (بهائيّة خانم)، والآن لنذكر باختصار شرح أحوال السّيّدات الخالدات في تاريخ الأديان.
1. حضرة الورقة العليا (بهائيّة خانم): ولدت حضرة الورقة العليا سنة 1846 ميلاديّة في طهران. والدتها حضرة آسية خانم. كانت منذ طفولتها محاطة بالبلايا وشاركت والدها وشقيقها في تلك البلايا والمحن. كانت قلقة في كلّ مراحل النّفي والإبعاد، خوفًا من أن تنفصل عن والدها المجيد وأخيها الحبيب.
بعد صعود الجمال الأبهى كانت في غاية الثّبات على ميثاق الله وخدمة شقيقها عالي الشّأن، حضرة عبد البهاء. لم تتوان لحظة عن إبداء الخدمة. لم تتزوّج كيّ تتفرّغ لخدمة والديها والأمر الأعظم. كانت محطّ محبّة ورأفة حضرة عبد البهاء اللّا نهائيّة. يخاطبها حضرته: “أذكرك ليلاً ونهارًا وكلّما تمرّين بخاطري يشتدّ تأثّري ويزداد تحسّري. لا تغتمّي فأنا رفيقك الّذي يشاركك الغمّ. لا تحزني، لا تيأسي، ولا تقنطي، ستمرّ هذه الأيام، إنّ شاء الله، سننسى في ظلّ الجمال المبارك في الملكوت الأبهى جميع هذه الهموم، وسوف تعوّض تلك الهموم بثناء ومدح الجمال المبارك لنا. فمنذ بدء الحياة كان الحزن والغمّ والحسرة والحرقة من نصيب عباد الله. تفكّري قليلاً، لقد كان هذا هو الحال دائمًا. لذا اجعلي قلبك مسرورًا بألطاف الجمال المبارك وكوني مسرورة ومستبشرة”(3). وفي خطاب آخر يتفضّل: “إنّك في ذكراي ليلاً ونهارًا ولم تغيبي عن خاطري آنًا. في الحقيقة لا أتأسّف ولا أتحسّر أبدًا لنفسي، بلّ كلّما أتذكّر ما ورد عليك من المحن والآلام فإنّ دموعي تسري طواعية من عيوني”(4).
وأيضًا يتفضّل في خطاب آخر: “…. إنّنا هيّأنا حيفا من أجلك، ولكنّها أصبحت في الحقيقة سبب تعبك. ولكن ما الحيلة، يجب تحمّل المتاعب في سبيل الحقّ. لو لم تتحمّلي فمن يتحمّل تلك المشاكل. على كلّ حال احضري اليوم بأيّة طريقة، لقد اشتقت إليك”(5).
وفي لوح آخر يتفضّل: “لقد اشتقنا لحضرة الأخت بالرّوح والقلب والفؤاد، ونذكرها ليلاً ونهارًا، وهي في الرّوح والوجدان. لا أستطيع قول شيء عن فراقها، فكلّما كتبت شيئًا تمحو عبراتي كتابتي”(6).
صعد حضرة عبد البهاء عام 1921 ميلاديّة إلى الملكوت الأبهى، وكان واضحًا كمّ الحزن العظيم الّذي ملأ قلب حضرة الورقة العليا. تسلّمت زمام الأمر في غياب حضرة وليّ أمر الله عن الأرض الأقدس وحيفا. لقد كانت حضرتها محبوبة قلب حضرة وليّ أمر الله.
بعد صعود حضرة الورقة العليا والّذي وقع في السّاعة الواحدة صباحًا من يوم الجمعة 15 يوليو 1932 ميلاديّة، أرسل حضرة وليّ أمر الله البرقيّة التّالية إلى طهران: “توارت الورقة العليا، بقيّة البهاء، ووديعته من أفق البقعة النّوراء وصعدت إلى سدرة المنتهى، متكئةً على أريكة عزّ البقاء في أعلى غرف الجنان. عيون أهل البهاء دامعةً، وقلوب أهل الوفاء محترقةً. الصّبر والسّكون صفة الأحبّاء، والتّسليم والرّضا من شيم المقرّبين. ستتوقّف الاحتفالات الأمريّة إعزازًا لمقامها المحمود مدّة تسعة أشهر في شرق وغرب العالم البهائي بالكلّيّة. استقرّ هيكلها العزيز في البقعة المرتفعة جوار مقام الأعلى. شوقي”(7) .
يتفضّل حضرة شوقي أفندي في أحد تواقيعه بعد صعود حضرة الورقة العليا مخاطبًا حضرتها: “يا سيّدة أهل البهاء، رحلت عنّا فتكدّر القلب والجمع انفطر. إنّ قلمي ولساني عاجز عن شكرك، ولا أستطيع أن أصف سجاياك الحميدة أو أقدّر رشحة من رشحات محبّتك الفائضة أو أصف حادثة من حوادث حياتك الثّمينة. إنّ روحك المقدّسة في المحضر الإلهي شفيع هذه النّملة الضّعيفة، وفي هذا العالم الحالك فإنّ ذكراك العطرة أنيس وعضد هذا العبد. إنّ محيّاك الجميل منقوش على قلبي المجروح، وابتسامتك العذبة مطبوعة ومحفوظة في أعماق فؤادي الحزين. لا تنسيني في ساحة عزّ الكبرياء، ولا تحرميني من إمدادات الحيّ القدير، واهدني في الملك والملكوت بما هو أنت أعلم بأعظم نوايا هذا العبد”(8).
وفي توقيع آخر صادر من قلم حضرة وليّ أمر الله بالإنجليزيّة يتفضّل في وصف سجايا حضرة الورقة العليا الملكوتيّة: “خلوصها وصفاء حياتها كانت منعكسة حتّى في المسائل الصّغيرة من أمور الحياة اليوميّة، رقّة روحها وشفقتها الّتي كانت تبطل أيّ شكل من أشكال التّميّيز العنصري أو العرقي أو الدّيني، حالة التّسليم والرّضا لديها الّتي تذكّرنا بالهدوء الرّوحي والتّحمّل الشّجاع لحضرة الباب، حبّها للأزهار والأطفال الّذي كان من صفات حضرة بهاء الله، أسلوب تعاملها وصحبتها الاجتماعيّة الّتي كانت تجعلها في متناول الجميع دائمًا، سخاؤها ومحبّتها بدون أيّ تميّيز تذكّرنا بأسلوب تعامل حضرة عبد البهاء بوضوح. خلقها وخصالها الحميدة وحيويّتها الّتي لم يكن بإمكان أيّ همّ أو غمّ أن يمحوها، هدوؤها وبساطتها الّتي كانت تعلي من مقامها العالي آلاف المراتب، تسامحها الّذي كان يجعل كلّ خصم لدود يلقي سلاحه على الفور، كلّ ذلك ضمن صفات بارزة لحياة مقدّسة سوف يسجلّها التّاريخ كحياة كان لها نصيب من القدرة السّماويّة والّتي نادرًا ما وجد بطلاً من الأبطال السّابقين يمتلك تلك الدّرجة من القدرة…” (مترجم)(9).
2. حضرة آسية خانم: لقّبت أيضًا من القلم الأبهى بـ ”الورقة العليا”. ومن ألقابها الأخرى “نواب”. حضرة آسية خانم ابنة سليل الحسب والنّسب جناب الميرزا إسماعيل وزير يالرودي. تزوّجها حضرة بهاء الله وهو يبلغ من العمر تسعة عشر عامًا (1251 هـجريّة قمريّة الموافق 1835 ميلاديّة). كانت حضرة آسية خانم جميلة وحنونة وجوهر الفداء. وكأنّ ما ذكر عنها في وثيقة زواجها من جمال الأبهى كان بإلهام إلهيّ: “أجمل عروس تزيّنت في بريق خيال نسّاجي الفكر والنظر بزينة الكمال”. كانت فترة خطوبتها مع زوجها الجليل قصيرة، وأقيمت مراسم العقد والزّواج بحضور جناب الوزير وخديجة خانم (والدة الجمال الأبهى). كان هذا الحفل مظهرًا لكل احتفالات الأعراس الجميلة، وجاذبًا لأعيان أرض إيران. وعلى مدى ستّة أشهر عمل صائغو الذّهب الحرّيفين على صنع حليّ ومجوهرات حضرة آسية خانم في منزل الميرزا إسماعيل وزير (والدها)، وفي اليوم السّابق للزّفاف، حملوا كلّ ذلك على 40 بغلاً مع باقي جهازها إلى منزل العريس. كان المهر “خمسمائة تومان سكّة ذهبيّة” (وضعت في أكياس حريريّة حمراء اللّون)، وستّة أجزاء من أرض فتح الله الخاني، وجاريتان وغلام (طبقًا للعادات القديمة في إيران والإسلام) بقيمة ثمانين تومانًا. ثمّ قرأت خطبة العقد بجانب سفرة مفروشة في حضور الأقارب والأصدقاء.
كانت حضرة آسية خانم منذ أوائل الأيّام تفكّر في رفاه الجمال الأبهى، ولم تقصّر أبدًا في أداء وظائفها الزّوجيّة والأمومية. كانت حنونة مع الجميع. هي الّتي كانت تضع المرهم على عيني نبيل الزرندي الرّاعي الشّاب والّتي كانتا ضعيفتي الرّؤية. وهي الّتي كانت تغسل وتنظّف ملابس الجمال الأبهى وحضرة عبد البهاء في أوج البرد القارس في جبال إيران الغربيّة بالماء المثلّج. تتفضّل ابنتها عالية المقام حضرة الورقة العليا قائلةً: “كانت والدتي رشيقة طويلة القامة عيناها زرقاء داكنة. كانت مثل اللّؤلؤة المنيرة والزهرة الجميلة الضّاحكة بين النّساء. كانت ذكيّة وفي نفس الوقت حنونة ومحبوبة. أينما حلّت تملأ الفضاء بالعشق والسّرور”(10).
بعد اقترانها بالجمال الأبهى أنجبت أولادًا قبل ولادة حضرة عبد البهاء، ولكن لم يكن بقاؤهم مقدّرًا، وكان مقدّر أن يتنوّر العالم بطلوع مولى العالمين حضرة عبد البهاء سنة السّتّين، (1260هجريّة قمريّة). صعدت حضرة آسية خانم إلى الملكوت الأبهى عام 1303 هـجريّة قمريّة (1886 ميلاديّة) في عكاء كانت شريكة مصائب الجمال الأبهى في جميع الأوقات. يتفضّل حضرة بهاء الله أنّ زوجته المبجّلة ستكون مصاحبته وقرينته في جميع العوالم الإلهيّة اللّا نهائيّة(11).
3. حرم حضرة الباب: اسمها حضرة خديجة بيگم، ولدت عام 1238 هجريّة قمريّة (1822 ميلاديّة) في شيراز محلّة (بازار مرغ) في البيت العلوي لوالدها آقا ميرزا عليّ. (نفس البيت الّذي شهد ولادة حضرة الباب قبل ثلاث سنوات).
والدة حضرة خديجة خانم هي القديرة جناب حاجيّة بي بي خانم، من أهل جهرم. كانت حضرة خديجة خانم فتاة جميلة، عفيفة من أقارب حضرة الباب، حيث أنّ والدة حضرة الباب هي ابنة عمّ حضرة خديجة خانم. رأت حضرة خديجة خانم في سنّ العشرين حلمًا وقد تحقّق ما رأته. رأت أنّ السّيّدة فاطمة الزّهراء جاءت لطلب يدها. وبعد مضي فترة ذهبت فاطمة خانم والدة حضرة الباب لطلب يدها وبعد شهرين تمّ زواجها من حضرة الباب (1258 هـجريّة قمريّة الموافق 1842 ميلاديّة). كان نتيجة هذا الاقتران ولادة ابن اسمه أحمد توًفي بعد فترة قصيرة(12).
آمنت حضرة خديجة خانم منذ بداية الظّهور بحضرة الباب. البعض يعتقد أنّها آمنت قبل إيمان حروف الحيّ. ما يستند إليه هؤلاء هو بيان حضرة الباب في كتاب البيان الفارسيّ حيث يتفضّل قائلاً: “كما أنّ حين ظهور نقطة البيان، وقع التّجلّي على نفسين، إلى أن وصل إلى الكلّ تدريجيًا” (الباب 11 من الواحد الرابع). وحسب رأي هذا الفريق من المحقّقين، أنّ المقصود من النفسين جناب باب الباب وحضرة خديجة خانم. ظاهريًّا يجب أن يكون النفسان هما نفس المظهر الإلهي ونفس أوّل من آمن وهو جناب باب الباب. يتّضح هذا الموضوع من مقدّمة البيان الفارسي. كما أنّ هؤلاء يستندون إلى فقرات من لوح زيارة “حضرة الحرم” النّازل من القلم الأعلى، حيث يتفضّل قائلاً: “نشهد أنك أوّل ورقة فازت بكأس الوصال”(13). وكذلك يستندون إلى بيان آخر في نفس لوح الزّيارة: “أنت الّتي وجدت عرف قميص الرّحمن قبل خلق الإمكان وتشرّفت بلقائه وفزت بوصاله وشربت رحيق القرب من يد عطائه”.(14) رغم أنّ هذه البيانات المباركة تشير إلى أسبقيّة إيمان حضرة الحرم، ولكن بالتّوجه إلى تصريح حضرة الباب في كتاب البيان الفارسي أنّ بعد أربعين يومًا من إظهار الأمر لم يؤمن بحضرته سوى جناب باب الباب. يتفضّل حضرته قائلاً: “وكذلك شاهد مبدأ ظهور البيان الّذي لم يؤمن بحرف الباء سوى حرف السّين حتّى أربعين يومًا، وتدريجيًا لبست هياكل حروف البسملة قميص الإيمان إلى أن أتمّ الواحد الأوّل” مترجم
(الباب 16 من الواحد الثامن).
على أيّ حال، قد يكون إيمان حضرة الحرم بحضرة الباب في الشّهور الأولى من الظّهور المبارك. انتهت أيّام سعادة “حضرة الحرم” بعد إظهار أمر حضرة الباب. فكانت تلك السّيّدة الموقنة العفيفة منذ تلك الأوقات حتّى آخر العمر محاطة بالبلايا الكثيرة. فبإبعاد وسجن حضرة الباب واستشهاده، ابتليت روحها بالحرقة واستمرّ ظلم وإهانة الأعداء لسيّدة النّساء حتّى خاتمة حياتها. في الختام صعدت إلى الملكوت الأبهى في مدينة شيراز عام 1299 هـجريّة قمريّة (1881 ميلاديّة) وهي في غاية العشق والإيمان بحضرة بهاء الله.
يذكرها حضرة الباب في آثاره المباركة بالأخصّ كتاب قيّوم الأسماء ومراسلاته الخاصّة، بغاية اللّطف والرّحمة. إنّ وصف حضرة الباب في تواقيعه لحضرة الحرم بعبارة “جان شيرين من” (أيّ حبيبة روحي) تنمّ عن عشق حضرته لخديجة خانم. من الألقاب الشّامخة الّتي نزلت في حقّها في ألواح الجمال الأبهى “خير النّساء”، “البتول العذراء”، “الورقة العليا”، و”الثّمرة العليا”. يجب أن ننوّه أنّ والدة حضرة الباب أيضًا كانت صاحبة مقام رفيع، وهي أيضًا لقّبت من القلم الأبهى بـ ”خير النّساء”.
4. السّيّدة فاطمة الزّهراء: لقد تمّ تجليل مقام السيدة فاطمة الزّهراء ابنة حضرة الرّسول الأكرم في الآثار المقدّسة البهائيّة. يذكرها حضرة وليّ أمر الله في صفّ أبرز النّساء في تاريخ الأديان، مثل آسية، سارة، ومريم أمّ حضرة المسيح(15). يتفضّل حضرة عبد البهاء: “كانت حضرة فاطمة سراج جميع النساء”(16).
ولدت السّيّدة فاطمة في السّنة الخامسة بعد البعثة في مكّة. والدتها حضرة خديجة حرم الرّسول الأكرم. كانت وفاة السّيّدة فاطمة سنة 11 هجريّة (632 ميلاديّة). كانت فاطمة زوجة حضرة “عليّ” عليه بهاء الله، ومن أبنائها الأجلّاء حضرات الأئمّة حضرة الإمام الحسن المجتبى وحضرة الإمام الحسين. تناول التّاريخ الإسلامي بالتّفصيل كمالات وفضائل السّيّدة فاطمة ومراتب استقامتها، ونقلوا بعض خطبها. من ألقابها الّتي جاءت في الآثار الإسلاميّة وبعض الآثار المباركة “سيّدة النّساء”، “الصّدّيقة”، “الزّهراء” و”البتول”.
5. حضرة خديجة الكبرى: اسم والدها خويلد واسم والدتها فاطمة. هي أولى زوجات الرّسول الأكرم وأمّ السّيّدة فاطمة الزّهراء. كانت خديجة سيّدة ثريّة من أشراف قريش. أنفقت ثروتها في سبيل إعانة الرّسول الأكرم والإسلام. مدحها الرّسول وأثنى عليها سواءً قبل إظهار أمره أو بعده. كانت خديجة من أولى النّساء اللّائي آمنّ بالإسلام، لذا لقّبت بأمّ المؤمنين. من ألقابها الأخرى “الطّاهرة”. كما أسماها حضرة الرّسول أيضًا “خديجة الكبرى”. كانت وفاتها قبل الهجرة بثلاث سنوات (حوالي 619 ميلاديّة) في مكّة. كان عمرها عند وفاتها قرابة خمسة وستّين عامًا، والرّسول في الخمسين من العمر.
يتفضّل حضرة بهاء الله في أحد ألواحه المباركة بخصوص السّيّدة خديجة: “تفكّر في أيّام خاتم الأنبياء روح ما سواه فداه، خلق جميع من على الأرض من العباد والإماء لعرفان نيّر أفق البيان وفي أيّام الظّهور قام الجميع على الإعراض والاعتراض، سوى نفوس معدودة، من الإماء خديجة الكبرى الّتي فازت بالشّرف الأعظم. حيث شوهدت ثابتة بلّ شاكرة في البأساء والضّراء. هنيئًا لها ومريئًا لها. هي من النّساء اللّاتي رزقن من أثمار سدرة المنتهى، وشربن من سلسبيل البقاء. “طوبى لها ولكلّ أمة أحبتّها وأقبلت إليها ونطقت بثنائها”.(17)
6. السّيّدة مريم والدة حضرة المسيح: نزلت بيانات شتّى في آثار الطّلعات المقدّسة البهائيّة بخصوص مريم العذراء، والدة حضرة المسيح. يذكرها حضرة وليّ أمر الله ضمن أبرز السّيّدات الخالدات في التّاريخ(18). يتفضّل حضرة عبد البهاء بشأنها قائلاً: “حضرة مريم التي كانت فخر الرجال”(19).
هي من نسل يهوذا وداود، ولها قرابة مع أليصابات أمّ حضرة يوحنّا المعمدان(20). حملت السّيّدة مريم من روح القدس في سنّ الثّامنة عشر أثناء ما كانت مخطوبة ليوسف النّجار، وقبل الاقتران(21). لذا سمّي حضرة المسيح بعيسى بن مريم. كانت السّيّدة مريم شاهدة من بدء ولادة حضرة المسيح الأحداث التّاريخيّة العديدة الخاصّة بحضرته وكانت حاضرة أثناء استشهاده(22).
7. السّيّدة مريم المجدليّة: هي من أهل مجدل، وهو اسم قرية قرب بحيرة طبرية (في إسرائيل). الرّوايات تختلف في شرح حياة مريم. العقيدة المسيحيّة تقول أنّها تلك السّيّدة الّتي جاء ذكرها في الإصحاح السّابع من إنجيل لوقا وكانت آثمة ثمّ آمنت وأعفى عنها حضرة المسيح(23). كانت مريم المجدليّة حاضرة أثناء استشهاد المسيح ومطّلعة أيضًا على محلّ دفن حضرته(24).
قامت مريم بعد صلب المسيح وبثّت الرّوح في التّلاميذ وضحّت حياتها في سبيل أمر المسيح المقدّس. جاء ذكر مريم المجدليّة كثيرًا في الآثار المباركة في هذا الظّهور الأعظم، من بينها قول حضرة عبد البهاء: “ومريم المجدليّة الّتي كان الرّجال يغبطونها”(25). ويتفضّل في بيان آخر: “لنلاحظ زمن حضرة المسيح بعد أن اضّطرب الحواريون حتّى بطرس الكبير أنكر حضرة المسيح ثلاث مرّات، ولكن مريم المجدليّة كانت سبب ثباتهم واستقامتهم وخدمت الدّين المسيحي خدمةً عظيمة”(26). ويتفضّل أيضًا: “وفي العالم المسيحي كانت مريم المجدليّة سبب ثبات الحواريّين، اضّطرب جميع الحواريّين بعد المسيح ولكن مريم المجدليّة استقامت كالأسد”(27). وفي أحد الألواح يتفضّل: “بعد حضرة المسيح دخل شريعة روح الله عدد قليل. رغم أنّ في بداية عروج حضرته حصل اضطراب وتزلزل، ولكن بعد عدّة أيام ظهرت امرأة مسمّاه بمريم المجدليّة باستقامة وثبات بحيث جعلت الرّجال يثبتون ويستقيمون على الأمر، ويقومون على إعلاء كلمة الله”(28). ويتفضّل في لوح آخر: “كانت مريم المجدليّة امرأةً قرويّة فلمّا تنوّرت بأنوار الملكوت أصبحت نجمة ساطعة تشرق إلى الأبد”(29). وفي لوح آخر يتفضّل: “في كور حضرة الرّوح قامت مريم المجدليّة بعد صعود وعروج عيسى باستقامة وثبات على شأن عطّرت الآفاق بنفحات محبّة الله. ونطقت “فخر الرّجال” هذه، بالنصيحة والهداية بشأن كانت في الحقيقة اليد البيضاء بتأيّيد إلهيّ، وأصبحت سبب استقامة واشتعال حضرات الحواريّين”(30). وفي لوح آخر يتفضّل: “…في الكور المسيحيّ والدّور العيسويّ بعد صعود روح الوجود إلى المقام المحمود، اضطرب جميع الأصدقاء والأقارب إلّا أمةً من إماء الرّحمن اسمها المبارك مريم المجدليّة، ومجدل قرية صغيرة على ساحل بحيرة طبرية. سبحان الله رغم أنّ هذه الورقة كانت قرويّة، إلّا أنّها توفّقت بروح التّأيّيد الّذي عجز عنها مشاهير الرّجال، وكانت سببًا في ثبات ورسوخ واستقامة وسكون جميع الموحّدين. حتّى الآن كان قدر ومنزلة هذه الورقة مستورًا، اتّضح الآن وأصبح مشهودًا. ظهرت ربّة الحجال هذه بقوّة بحيث أصبحت سيّدة أبطال الرّجال”(31).
ويتفضّل حضرته في بيان شفهيّ: “أيّ قدرة كانت تمتلك مريم المجدليّة ظاهريًّا؟ كانت امرأةً قرويّة، جاءت نساء كثيرات أعظم منها…ولكن بما أنّ مريم حملت محبّة المسيح في قلبها، فبمحبّة المسيح أعطيت لها كلّ القدرات..”(32). في بيان شفاهيّ آخر يتفضّل ضمن شرح خدمات مريم المجدليّة البارزة: “بعد صلب حضرة المسيح كانت من بين خدماتها أنّها التقت بواسطة ما بإمبراطور الرّوم، وكان هذا اللّقاء في الوقت الّذي علم بيلاطس وهيرودس، أنّ اليهود قاموا بمحض الافتراء على قتل المسيح، وأنّ حضرة عيسى كان بريئًا. لذلك كانا يعترضان على اليهود. وعندما سأل الإمبراطور مريم عمّا تريد، قالت أنّها قادمة من قبل المسيحيّين، ويطلبون الشّفاعة عن قاتلي المسيح والسّعي لراحة بال اليهود. لأنّ بيلاطس وهيرودس يضايقون اليهود ويتعرّضون لهم. رغم أنّ اليهود كانوا سبب قتل المسيح ولكن حضرة المسيح لا يرضى أبدًا أن يتمّ الانتقام منهم. تأثّر الإمبراطور من بيان مريم كثيرًا وأصدر أمره بعدم التّعرّض لليهود”(33).
8. السّيّدة آسية: طبقًا للرّوايات الإسلاميّة هي زوجة فرعون مصر وامرأة تقيّة أخذت حضرة موسى من النّهر وتبنّته وربّته في القصر. لكن بناءً على الرّوايات اليهوديّة فإنّ ابنة فرعون هي الّتي بادرت لهذا العمل. بالاستناد إلى ما جاء في التّوراة المقدّسة عندما وضعت أمّ حضرة موسى طفلها في قفّة صغيرة على نهر النيل. “كان عمر مريم أخت موسى حوالي سبع سنوات وتابعت سير القارب، وابنة فرعون هي الّتي كانت تسبح في النّهر ورأت الطّفل وعطفت عليه ووفّرت له وسائل حفظه وبقائه ثمّ تبنّته”(34).
يتفضّل حضرة عبد البهاء في إحدى خطبه المباركة: “آسية زوجة فرعون كانت فخر الرّجال”(35). وفي أحد الألواح المباركة يتفضّل بشأنها: “كمّ من إماء سبقوا الرّجال في ميدان الثّبات والرّسوخ، في الكور الموسوي طلعت آسية من أفق الاستقامة بوجه لائح”(36). إنّ حضرة عبد البهاء(37) وحضرة وليّ أمر الله(38) ذكرا آسية من النّساء الخالدات في التّاريخ.
لقد جاء بالتّفصيل في هذا الكتاب الجليل قصّة حياة هذه السّيّدة الجميلة عالية المقام والّتي استنادًا للتّوراة كانت أخت حضرة إبراهيم من الأب(40). يحتوي سفر التّكوين على قصّة الخليقة باختصار، ولكنّه يسرد قصّة حياة سارة بالتّفصيل. يخمّن أنّ أيّام إبراهيم وسارة كانت حوالي ألفي سنة قبل ميلاد المسيح. كانا يعيشان في حاران. أمر الله حضرة إبراهيم أن يترك أرض أجداده إلى أرض الميعاد. جاء في كتاب التّوراة المقدس بهذا الخصوص: “وقال الرّبّ لإبرام، ارحل من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض الّتي أريك، فأجعلك أمّة عظيمة وأباركك وأعظّم اسمك وتكون بركة، وأبارك مباركيك، وألعن لاعنيك، ويتبارك بك جميع عشائر الأرض”(41).
رحل حضرة إبراهيم إلى أرض كنعان وكانت حضرة سارة معه، حيث وردت عليهما مصائب كثيرة إلى حين الورود لأرض الميعاد، وتحمّلت حضرة سارة كلّ تلك المصاعب. وكما يقول بطرس الحواري: “مثل سارة الّتي كانت مطيعة لحضرة إبراهيم وتدعوه سيّدها”(42). تحمّلت حضرة سارة القحط والغلاء الشّديد في وادي النيل في غاية الصّبر ولم تصبها أيّام السّعادة والغنى السّابقة بالغرور. توفّيت في غاية الإيمان ومنتهى الكهولة(43). دفنت في غار مكبلة Machpelah (4)، تمّ تجليل اسمها في مواضع عديدة من التّوراة والإنجيل. في بعض الآثار الإسلاميّة ذكرت حضرة سارة (سارا) ابنة عمّ حضرة إبراهيم وكانت تعتبر من جميلات زمانها. كما ينسب إليها الفضل والعلم والحكمة. يقول في حقّها ناصر خسرو:
لم نرث سوى الفضل والعلم والحكمة من إبراهيم وسارة.
تمّ تجليل اسم حضرة سارة في هذا الظّهور الأعظم، ويعتبرها حضرة وليّ أمر الله من ضمن بطلات النّساء الخالدات في تاريخ الأديان(45). ويتفضّل حضرة عبد البهاء: “كانت سارة امرأة إبراهيم فخر الرّجال”(46).
10. سيّدات خالدات أخريات: إنّ ذكر أحوال سيّدات خالدات أخريات في تاريخ الأديان قدّ يكون سببًا لطول الكلام. نستطيع أن نقول أنّ من بين هذه المجموعة في هذا الأمر المبارك: منيرة خانم زوجة حضرة عبد البهاء، وأيادي أمر الله حضرة أمة البهاء روحية خانم، زوجة حضرة وليّ أمر الله. وفي تاريخ الإسلام يمكننا أن نذكر السّيّدة زينب الكبرى ابنة حضرة عليّ عليه بهاء الله. في العالم المسيحي السّيّدة بارباراي المقدّسة(47)، وفي تاريخ اليهود السّيّدة دبورا (دبورة النبية) القاضية البارزة لآل إسرائيل.
إنّ مطالعة حياة تلك النّساء الخالدات بالتّفصيل ومئات من السّيّدات البارزات البهائيّات في شرق وغرب العالم، يبيّن مقامهن العظيم وأهميّة تعاليم جمال الأقدس الأبهى الأساسية عن تساوي حقوق الرّجال والنّساء.
تساوي حقوق الرّجال والنّساء
يحمل الأمر المقدّس البهائي في هذا الدّور الجليل، رسالة وحدة الرّجال والنّساء وتساوي حقوقهم. إنّ في الآثار المباركة لهذا الأمر الأعظم ما يعتبر أنّ تفوّق وأسبقيّة الرّجال على النّساء ليس أمرًا موهومًا فحسب، بل تمّت الإشارة فيها إلى أنّ ذكاء المرأة ومهارتها الفطريّة وروحانيّتها تبرز بصورة أكبر. وتثبت المشاهدات العينيّة والعلميّة بأنّ المرأة هي الأم ومربية الأولاد وأيضًا العامل الأصلي لاتّحاد واتّصال أعضاء الأسرة.
تبرز لنا الشّواهد التّاريخيّة بأنّ في العصر العتيق وفي الزّمن الّذي أطلق عليه بالخطأ عصر سيادة الأم أو النّظام الأمومي Matriarchy(1)، كانت المهارة الفطريّة للمرأة تستخدم في حلّ مشاكل الحياة المعيشيّة والاجتماعيّة للبشر. لم يشهد في العصر العتيق أبدًا أعمال الخشونة والسّيطرة من قبل النّساء. فالرّجل الذي يمارس الصّيّد كان يجري وراء فريسته بمساعدة قوّة عضده، لذا نادرًا ما كان يتسنّى له الفرصة كيّ يتفحّص ويعرف ظواهر واقعه الّذي يعيش فيه. بينما لم تذهب المرأة للصّيد بسبب الحمل، لذا كان استقرارها الدّائم في محل واحد سببًا في معرفتها للأرض والنّباتات.
في العصر الزّراعي لم تتوفّق المرأة في كشف النّباتات المأكولة فحسب بل وفّرت أيضًا الوسائل الضّروريّة لإنتاج الأغذية المناسبة، ولذا فإنّ تغذية الأطفال وترويض الحيوانات واكتشاف النّباتات الشّافية، جميعها كانت من دراية المرأة. هذه المعرفة لم تتّخذ في أيّ وقت شكل القدرة والسّيطرة على مقدّرات الرّجل، بل استخدمت في رفاه الرّجل وأطفال العائلة. كان دور المرأة الرّئيس هو نفوذها وتأثيرها في تربية الأطفال والحفاظ على الرّوابط العائليّة المتّحدة. إذًا السّبب في أن تفدى المرأة في مذبح خشونة وسلطة الرّجل في خلال الألفيات، غير واضح على وجه الدّقّة. ولكن لا بدّ وأنّه كان مرتبطًا بحبّ الرّجل للقتال وقدرته البدنيّة.
إنّ مفهوم سيادة الرّجال أو الآباء Patriarchy لم يتّفق مع خصائص دور المرأة في العصر العتيق، فقد استمدّ الرّجل، بخلاف المرأة، العون من قدراته لتحقير وتقليل شأن المرأة وتقيّيدها، فأصبحت المرأة أسيرة ومطيعة للرّجل ومحرومة من حقوقها الإنسانيّة، وأصبحت ثقافة تفوّق الرّجل على المرأة هي العنصر الأساسي البديل. إنّ الأنبياء والرّسل المبعوثين في كور حضرة آدم تدارك كلّ واحد منهم بشكل ما مقدّمات تحقّق مبدأ تساوي حقوق الرّجال والنّساء، ولكن مع الأسف لم يكن النّاس مستعدّين لقبول هذا المبدأ الجليل، وبما أنّ التّعاليم الإلهيّة تنزل على أساس مقتضيات الزّمان، فلم يتيسّر إزالة الموانع لتحقيق هذا المبدأ الأساسي.
رغم هذا الحرمان والتّحقير، إلّا أنّ بعض النّساء سبقن الرّجال في مواضع كثيرة وأدّوا دورهن الأساسي على النّحو المطلوب. مثلما خلّدت السّيّدة خديجة بحمايتها للرّسول الأكرم، وكانت مريم المجدليّة سببًا في إحياء الجامعة المسيحيّة. فقد ظهرت أيضًا نساء خالدات في ظلّ الأديان في مختلف أنحاء العالم في مجالات الخدمة والفلسفة والشّعر والفن، وأخذن قصب السّبق من الرّجال في هذه الميادين. وقد أشرنا إلى أسماء بعضهن.
في الوقت الّذي آمنت جناب الطّاهرة بحضرة الباب لم يكن للمرأة في إيران أيّة قيمة. في الحقيقة قيمتها كانت كأداة في يد الرّجل. كانت أغلب النّساء أمّيّات ومحرومات من حقوقهن الإنسانيّة. كان مجرّد لفظ اسم المرأة بين الجمع، يعدّ مخالفًا للعفّة والأخلاق العامّة. كان مكان المرأة داخل المنزل ووظيفتها تنحصر في الطّبخ ورعاية البيت والأطفال، فلم يستثن من ذلك حتّى الأميرات. تكتب الأميرة تاج السّلطنة ابنة ناصر الدّين شاه في مذكّراتها بأنّ السّيّدات الإيرانيّات كنّ محرومات من الاختلاط مع البشر، إنّهن محشورات مع الحيوانات. تكمن حريّتهن فقط في البكاء وارتداء الملابس السّوداء للعزاء، أو عندما يلبسوهن الكفن الأبيض(2). كانت النّظرة السّائدة للمرأة أنّها دانية، كاذبة، ماكرة وناقصة عقل. سعت الحكومة الصّفويّة والقاجاريّة في ترويج هذه العقائد الواهية أكثر من أيّ حكومات أخرى، وكثير من المؤلّفات في تلك الأيّام مليئةً بالإهانات لمقام المرأة نقلًا عن أقوال السّابقين غير المعقولة عن النّساء. إنّ نقل الأقوال الواهية ليس من شأن ذلك الكتاب الّذي وضع للاطّلاع على أحوال جناب الطّاهرة الخالدة. العجيب هو كيف صدّق الرّجال الإيرانيّون تلك الأقاويل عن أمّهاتهم وأخواتهم وزوجاتهم وبناتهم. كيف يمكن لأمّهات دانيات، كاذبات، ماكرات وناقصات عقل (بزعمهم) أن يربّين رجالًا أمثال ابن سينا، الخيّام، العطّار، ومولوي. كما تقول ﭘروين اعتصامي:
إن يكن بلاتو وسقراط عظيمين فما من عجب أنّ من ربّاهما في المهد، قد كان عظيمًا.
وأيضًا قولها المتوافق في مغزاه مع جوهر البيانات المباركة في هذا الظّهور الأعظم
إنّ حجر الأم للأبناء أوّل مدرسة
هل تربّي طالب العلياء أمّ جاهلة؟
يهب الأمر المقدّس البهائي المرأة هويّة تقدّر شأنها. فلا يسمح أن تحمل المرأة صليبها على كتفها وتفدى في مذبح السّلوك الخالي من الخلق الإنساني. يسعى الأمر البهائي لأن تصبح المرأة وجودًا محمّلًا بالثّمر، وتستعيد دورها الأصلي في اتحاد العائلة. إنّ أصل مبدأ تساوي حقوق الرّجال والنّساء مبدأ عظيم مبني على أساس وحدة العالم الإنساني. تمّ تشريعه وتوضيحه على نحو قاطع، وتحقيق هذا الشّرط الأصلي يكون سببًا في استقرار الصّلح الأعظم في الجامعة الإنسانيّة. لقد جاء في الآثار المباركة لهذا الظّهور الأعظم عن تعليم مبدأ وحدة الرّجال والنّساء وتفاصيله، ونجد من المناسب هنا أن نذكر بعض تلك البيانات المقدّسة:
أ) من آثار حضرة الباب: يجب أن نعلم بأنّ حضرة الباب أعدّ أهل العالم لقبول ظهور جمال الأقدس الأبهى. تعتبر أحكام حضرته بخصوص حقوق النّساء حلقة وسيطة بين الأديان السّابقة وشريعة الجمال الأبهى، ويجب أن يتّم البحث الدّقيق في هذا الموضوع في تحقيقات أخرى. نكتفي فقط ببيان واحد من حضرته. يتفضّل في سورة الأخلاق قائلًا: “لقد أحلّ الله عليكم النّساء… ولتعزّزوهن ولتوقّروهن ولتكرّموهن ولتعظّموهن لتكونّن عند الله ربّكم من المقبلين، إنّ الله ما جعل الفرق بينكم وبين النّساء إلاّ أنتم كرجل الأيمن وهن كرجل الأيسر”(3).
ب) من آثار حضرة بهاء الله: يتفضّل حضرة بهاء الله بخصوص وحدة الرّجال والنّساء وتساوي الحقوق ومقامهّن: “تعالى تعالى من رفع الفرق ووضع الاتّفاق. تباهى تباهى من أخذ الاختلاف وحكم بالإثبات والائتلاف. لله الحمد بما أزال القلم الأعلى الفرق ما بين العباد والإماء ووضع الجميع في صقع واحد بالعناية الكاملة والرّحمة الشاملة. لقد قطع ظهر الظنون بسيف البيان ومحا مخاطر الأوهام بالقدرة الغالبة القويّة”(4). ويتفضّل في لوح آخر: “…. أصبح العباد وإماء الرّحمن في صقع واحد”(5). وفي لوح مبارك نزل بإعزاز إحدى السّيّدات البهائيّات يتفضّل قائلًا: “كان وسيكون الإناث والذّكور عند الله واحد”(6).
ج) من آثار حضرة عبد البهاء: جاء في الآثار الكتابيّة والشّفاهيّة لحضرة عبد البهاء الكثير عن تساوي حقوق الرّجال والنّساء. نستشهد هنا ببعض الفقرات من تلك البيانات المقدّسة. يتفضّل في أحد الألواح: “يقع تجلّي المواهب على الرّجال والنّساء من صقع واحد”، وفي لوح آخر خطاب لسيّدة بهائيّة: “الذّكورة والأنوثة والرّجولة والحكمة لم تكن باللّحى والشّنب، بلّ بالهمّة والقدرة والمعرفة والثّبات والاستقامة والحماسة والانجذاب..” ويتفضّل في الخطبة المباركة في دبلن بأمريكا قائلًا: “إنّ الله خلقنا جميعًا على حد سواء، فأعلن حضرة بهاء الله المساواة بين الرّجال والنّساء وأنّ الرّجل والمرأة كليهما عبيد للّه وجميعهم بشر متساوون في الحقوق وليس عند الله رجل أو امرأة وكلّ شخص تكون أعماله أفضل يكون أكثر قربًا إلى العتبة الإلهيّة، وفي العالم الإلهي ليس هناك ذكور وإناث.. الجميع واحد، ولهذا فالرّجال والنّساء يجب أن يتّحدوا ويتساوّوا”. في خطبة لحضرته في فيلادلفيا تفضّل قائلًا: “إنّ العالم الإنساني كالطّير يحتاج إلى جناحين أحدهما الإناث والآخر الذّكور ولا يستطيع الطّير أن يطير بجناح واحد، وأيّ نقص في أحد الجناحين يكون وبالًا على الجناح الآخر. وعالم البشريّة مثل يدين فإذا بقيت يد ناقصة تتعطّل اليد الأخرى الكاملة عن أداء وظيفتها”. وفي لوح السّلام (لاهاي) يتفضّل أيضًا في بيان مشابه: “من ضمن تعاليم حضرة بهاء الله وحدة النّساء والرّجال، إنّ للعالم الإنساني جناحين أحدهما الرّجال والآخر النّساء، وما لم يتساو الجناحان لن يستطيع الطائر أن يطير. لو ضعف جناح واحد لن يتمكّن من الطيران. ما لم يتساو عالم النّساء مع الرّجال في تحصيل الفضائل والكمالات، فإنّ النّجاح والفلاح المطلوب يكون ممتنعًا ومحالًا”. وفي بيان آخر ردًّا على مدير إحدى الجرائد الأمريكيّة يتفضّل قائلًا: “ما لم تتحقّق المساواة التّامّة بين الذّكور والإناث لن يترقّى العالم الانساني ترقيات خارقة للعادة. فالنّساء ركن مهم من الرّكنين العظيمين وأوّل معلّم ومربّي للإنسان”(7).
تتّضح لنا نقطة هامّة بعد دراسة الكتب المقدّسة السّابقة والآثار المباركة لهذا الظّهور الأعظم، وهي أنّ في الأديان السّابقة كان يرى مبدأ عدم تساوي حقوق الرّجال والنّساء على أساس اقتضاء الزّمن، وكان يشاهد التّساوي في بعض المواقع. ولكن الأصل في الأمر البهائي هو مبدأ تساوي حقوق الرّجال والنّساء إلّا في أمور جزئيّة جدًّا. يتفضّل حضرة عبد البهاء في أحد الألواح قائلًا: “في هذا العصر الإلهي شملت الموهبة الرّحمانيّة عالم النّساء، لقد تمّ إعلان مساواة الرّجال والنّساء من جميع الجهات سوى في أمور جزئيّة، وتمّ إزالة التّميّز وأصبحت النّساء آيات الهدى ومظاهر ألطاف جمال الأبهى. يجب عليهن أن يشتعلوا بنار محبّة الله، شكرًا لهذه الموهبة ليثبتوا استحقاقهن لهذه الألطاف”(8). وفي لوح السّيّدة ترو يتفضّل: “في شريعة الله النّساء والرّجال متساوّون في جميع الحقوق إلّا في بيت العدل العمومي لأنّ رئيس وأعضاء بيت العدل من الرّجال حسب نصّ الكتاب. ولكن في المحافل عمومًا…الرّجال والنّساء مشتركون في جميع الحقوق”(9).
يجب ملاحظة أنّ مواضع عدم التّساوي ليس بمعنى حرمان النّساء من الحقوق الخاصّة، بل هي نوع من الإعفاء. إنّ حكمة وسبب إعفاء النّساء من عضويّة بيت العدل الأعظم الإلهي حسب تصريح حضرة عبد البهاء ستتّضح في المستقبل. إنّ الإعفاء في الحقيقة ميزة وليس حرمان، مثل الإعفاء من إعطاء المهر وقت الزّواج، والإعفاء من إعطاء النّفقة فترة الاصطبار، والإعفاء من وجوب الحج. في الإرث أيضًا هناك تفاوت في الأسهم بصورة جزئيّة، وأسبابها الاقتصاديّة والاجتماعيّة واضحة تمامًا. لذا يجب أن نقول أنّ مواضع عدم تساوي حقوق الرّجال والنّساء فرعيّة وجزئيّة ونوع من الإعفاء. مقابل عدم التّساوي الجزئي هذا، هناك موضوع تفوّق وأسبقيّة النّساء على الرّجال في مواضع معيّنة، صرّح بها حضرة عبد البهاء. يتفضّل في أحد البيانات: “كان العالم في العهود السالفة أسير سطوة الرّجال تحكمه قسوتهم وتسلّطهم على النّساء بصلابة أجسامهم وقوّة عقولهم وسيطرة شدّتهم، أمّا اليوم فقد اضطربت تلك الموازين وتغيّرت واتّجه العنف جهة الاضمحلال، لأنّ الذّكاء والمهارة الفطريّة والصّفات الرّوحانيّة من المحبّة والخدمة، الّتي تتجلّى في النّساء تجليًّا عظيمًا، صارت تزداد سموًّا يومًا فيومًا. إذن فهذا القرن البديع جعل شؤون الرّجال تمتزج امتزاجًا كاملًا بفضائل النّساء وكمالاتهّن. وإذا أردنا التّعبير تعبيرًا صحيحًا قلنا أنّ هذا القرن سيكون قرنًا يصبح فيه ميزان هذين العنصرين أكثر تعادلًا وتوافقًا في تمدّن العالم”(10). وفي بيان آخر يشير حضرته قائلًا: “النّساء في الأغلب ليس لديهن تعصّب سياسي”(11). وفي لوح مبارك صدر بإعزاز إحدى السّيّدات البهائيّات يتفضّل: “إنّ حلل العرفان تظهر أكثر جلاءً على قامة النّساء وزينتها أعظم. على الخصوص النّساء اللّاتي تعلو أصواتهن في ميدان العرفان كاللّيث المقدام ويطيرن كعقاب الملكوت”(12). وفي لوح آخر يتفضّل: “يا أمة الله في الأدوار السّابقة مهما قدّمت النّساء من خدمات وقطعن الطريق في بادية محبّة الله، لم يحسبن في صفّ الرّجال. لأنّه كان منصوصًا بأنّ الرّجال قوّامون على النّساء. والآن في هذا الدور البديع تقدّمت النّساء بأعمالهّن. لقد رفع هذا القّيد والكلّ محشور في صقع واحد. فكلّ من سبق أخذ نصيبًا أوفر، وكلّ فارس يجول في هذا الميدان يتغلّب على خصمه، سواء من الرّجال أو من النّساء، من الذّكور أو من الإناث”. “ربما ربّة الخدور فاقت الذّكور وانتصرت على جيش موفور وحازت قصبات السّبق في مضمار الوجد والسّرور”(13). بسبب وجود هذه المواهب والخصال في النّساء يتفضّل في أحد الألواح قائلًا: “بما أنّ جناب الطّاهرة كانت في سلك النّساء، لذلك كانت لها هذه الجلوة الّلامتناهية وأصبحت سبب حيرة العموم. لو كانت من الرّجال لما كان لها مثل هذه الجلوة أبدًا”(14).
إنّ مطالعة التّاريخ الإنساني توضّح، أنّ المرأة كانت صانعة التّاريخ أكثر من الرّجل، بعبارة أخرى إنّ دور المرأة في تغيّير التّاريخ أهمّ من دور الرّجل. من البديهي أنّ السّيّدات اللّاتي كنّ أسيرات أنفسهن وأهوائهن كنّ سبب دمار العشيرة والقوم، وعلى العكس، السّيّدات الخالدات في التّاريخ، قدّمن خدمات عظيمة لأهل العالم، وقد أشرنا إلى بعضهن في هذا الكتاب.
يتفضّل حضرة عبد البهاء قائلًا: “…عندما تنظر إلى العالم وأحداث وأخبار تاريخ القرون والدّهور والأعصار، تجد أنّ أعظم الوقائع والآثار على مرّ العصور قد ظهرت وصدرت عن جنس النّساء، ولكنّ بعضهن كنّ مظاهر الآيات الكبرى، والبعض أسيرات سطوة النّفس والهوى، الفئة الأولى كانت سبب الحياة الأبديّة للعالم والعالمين، والأخرى سبب الممات السّرمديّ للمساكين”(15). على مرّ التّاريخ هيمن الرّجال على النّساء بقوّتهم الجسمانيّة، وسطوتهم الحيوانيّة، ولتبرير هذه الغلبة، حاكوا الأساطير بخصوص ضعف النّساء.
ما هو مسلّم به أنّ التّفاوت بين الرّجل والمرأة في المجتمعات الحاليّة ناشئ عن عدم التّربيّة المطلوبة للمرأة. يتفضّل حضرة عبد البهاء، ضمن خطبته المباركة في فيلادلفيا، بهذا الخصوص ما يلي: “لقد كان تأخّر النّساء حتّى الآن ناشئًا عن عدم تربيّتهن مثل الرّجال، فلو ربين مثل الرّجال فلا شكّ أنّهن يصبحن مثل الرّجال وعندما يكتسبن كمالات الرّجال، فإنّهن يبلغن حتمًا درجة المساواة ولا يمكن أن تكتمل سعادة العالم الإنساني إلّا بمساواة النّساء بالرّجال مساواة تامّة”(16). ويتفضّل أيضًا: “النّساء والرّجال متساوون في الحقوق، ولا يوجد، بأيّ وجه من الوجوه أيّ امتياز بينهم، لأنّ الجميع بشر، يحتاجون إلى التّربية فحسب. لو تتربّى النّساء مثل الرّجال، بدون شكّ فلن يكون هناك أيّ امتياز”(17). يتفضّل حضرة عبد البهاء: “… حتّى النّقائص والضّعف الجسماني أيضًا يرجع إلى العادة والتّربية”(18). وطبقًا لبيان حضرة وليّ أمر الله، أنّ تساوي حقوق الرّجال والنّساء هو “في تحصيل العلوم والفنون والصّنايع والبدائع وكمالات وفضائل العالم الإنساني، وليس في الحرّيّة المضرّة لعالم الحيوانات”(19).
رغم مرور مائة وخمسين عامًا على ظهور الأمر البديع والمنظمات العالميّة والمركزيّة المحبّة للبشر في سعيّ متزايد ومستمرّ لتحقيق تساوي حقوق النّساء والرّجال، فما زال المجتمع الإنساني في منتصف طريق وادي وحدة الرّجال والنّساء. إنّ السّيّدات اللّاتي يحملن أكثر من ثلثيّ حمل العالم على أكتافهن، ويتولّين أعظم دور بنّاء، أيّ تربية الأطفال، مازلن لم يأخذن حقوقهن. مازالت ملايين من النّساء يجهلن أنّهن متساويات مع الرّجال. هذا الجهل تسبّب في أن يعتبرن مقامهن أدنى من الرّجال. طالما لم تعرّف وتوضّح لهذه الفئة مسألة حقوق النّساء، فلن يتّم تنفيذه أبدًا. يوجد غالبًا دراسات في آثار المحقّقين عن علم المرأة، ولكن لم تنتقل لعامّة النّساء غير الواعيات على النّحو المطلوب. لو لن تعرف النساء أنّهن متساويات مع الرّجال في الحقوق، فلن تكن لديهن المعرفة الاجتماعيّة الكافية، ولذا سيؤثّر ذلك على تربية أولادهن تأثيرًا معاكسًا للمطلوب. من أجل تحقيق الوحدة الإنسانيّة يجب على الرّجال مزيدًا من المتابعة في رفع وعي المرأة، بينما يجب على النّساء أن يطالبن بمساواة الحقوق. هذه توصية حضرة عبد البهاء في مؤتمر حريّة النّساء في لندن(20).
يتّضح من البيانات المباركة في هذا الظّهور الأعظم أنّ عدم تساوي حقوق الرّجال والنّساء يخالف الأصل العظيم للعدالة الاجتماعيّة، لأنّه سوف يحرم نصف سكّان العالم من حقوقهم الإنسانيّة، وسيبقى الرّجال محرومون من الحصول على العظمة الّتي كان يمكن أن تكون من نصيبهم. ما لم يتحقّق تساوي حقوق الرّجال والنّساء ستستمر مشاكل الجامعة الإنسانيّة الحاليّة على المستوى العالمي. إنّ عدم التّساوي يجعل التّفوّق شيء أبدي ويتمّ تأخير تحقّق الصّلح العالمي. إنّ عدم الاعتقاد بتساوي حقوق الرّجال والنّساء، سيؤدي على الدّوام إلى انتقال الاتجاهات والعادات المضرّة من محيط العائلة إلى محيط العمل، وفي النّهاية إلى ميدان العلاقات الدّوليّة. إنّ عدم تساوي الحقوق لا يمكن تبريره من الناحية البيولوجيّة ولا من النّاحية الأخلاقيّة.
قدّ يتصّور البعض أنّ المقصود من وحدة الرّجال والنّساء، أو تساوي الحقوق، يعني تحويل جنس المؤنّث إلى مذكّر. بالطّبع جاء في البيانات المباركة في هذا الظّهور الأعظم أنّ في هذا العهد النّساء يحسبن من الرّجال، ولكن المقصود الحقيقي هو إعطاء النّساء الحقوق المساوية للرّجال. يتفضّل الجمال الأبهى في أحد الألواح قائلًا: “اليوم تحسب إماء الله من الرّجال”(21). في توضيح هذه الفقرة من الضّروري الاستناد إلى عدّة فقرات من بيانات حضرة عبد البهاء. يتفضّل حضرته في أحد الألواح قائلًا: “يا أمة الله…. اليوم عظماء الرّجال غافلون وأنت من الفطنين، علماء الأقوام والملل عمي، وأنت ذات بصيرة ودراية. لقد أصبح الأقوياء أضعف الضّعفاء، والمقتدرون عجزاءً وإماء الرّحمن رجال الميدان”(22). وفي لوح آخر يتفضّل قائلًا: “… منذ بدء الوجود تفوّق الرّجال على النّساء في جميع المراتب… في هذا الدّور البديع أصبح الفيض العظيم للرّب الجليل سببًا للفوز المبين للنّساء. بعثت ورقات سبقن الرّجال في ميدان العرفان.. هذه هي مواهب هذا الدّور البديع بأن جعل الجنس الضّعيف قويًّا، ومنح الإناث قوة الرّجال…”(23). وفي لوح آخر يتفضّل: “… يا أمة الله اشكري الله بأنّه بعث من عنصر النّساء الضّعيف إماءً، وأوجد فيهن حقائق شاخصة قويّة بحيث أصبحن موضع حسد الرّجال وغبطة الأبطال، كوني كالجبل الرّاسخ في الاستقامة، وكالبنيان الثّابت في الرّسوخ والرّزانة. هذه هي من القدرة العظيمة الإلهيّة، بأن يبعث الجزء الضّعيف بأعظم القوى، وكثير من الرّجال محشورون في قميص النّساء. اشكري الله بأنّك رجل الميدان…”(24)، وأيضًا يتفضّل في لوح آخر قائلًا: “في هذا الدّور البديع يجب على إماء الرّحمن أن يشكرن الله في كلّ لحظة بأنّ يد العناية نجّت النّساء من حضيض الذّلّة وأوصلتهن إلى أوج عزّة الرّجال، لاحظوا أيّ موهبة هذه، لأنّ حزب النّساء كان ساقطًا في الشّرق على شأن…. عندما يأتي ذكر المرأة يلحقها كلمة الحرمة أو الضعيفة (تعبيرًا عن دنوّ مقام المرأة). الحمد لله الآن في ظلّ العنايات المباركة أضحت النّساء في غاية الاحترام…”(25).
بالتّوجّه لبيانات حضرة عبد البهاء المباركة يتّضح أنّ المقصود من عبارات “إماء الرّحمن رجال الميدان”، “منح الإناث قوة الذّكور” “بعث من عنصر النّساء الضّعيف إماءً…” “إنّك رجل الميدان” (في خطاب لإحدى السّيّدات البهائيّات) “وأوصلتهن إلى أوج عزّة الرّجال” و”الآن..أضحت النّساء في غاية الاحترام”، هي إشارات إلى ذلّة النّساء في السّابق وعزّتهن كعزّة الرّجال بعد ظهور الأمر البديع، إنّ الأمر المقدّس البهائي يسعى كيّ تأخذ صفات الرجال من خشونة وسطوة وسلطة طابع التّعاطف واللّطافة والوفاء الّذي تتحلى به النّساء، لا أن تفقد النّساء هويّتهن ويتحوّلن إلى رجال.
لقد أعطيت النّساء في هذا الأمر البديع حقوقًا كيّ تتساوى مع الرّجال لا أن تتبدّل في هذا المجال صفاتهن الجميلة بخصائص وأحوال الرّجال الخشنة. لذا طبقًا لبيان حضرة عبد البهاء المذكور سابقًا يصبح “الكلّ محشورين في صقع واحد”. ويتفضّل بقوله الأعلى: “يا أمّة الله، في الأدوار السّابقة جميع الإناث مهما يقدّمن من خدمات في بادية محبّة الله، لم يحسبن في صفّ الرّجال أبدًا. لأنّه كان منصوصًا بأنّ الرّجال قوّامون على النّساء. الآن في هذا الدّور البديع تقدّمت النّساء بأعمالهن، لقد رفع هذا القيد والكلّ محشور في صقع واحد، فكلّ من تقدّم خطوة أخذ نصيبًا أوفر، وكلّ فارس يجول في هذا الميدان يتغلّب على خصمه، سواء من الرّجال أو من النّساء، من الذّكور أو من الإناث”(26). وفي لوح آخر يتفضّل قائلًا: “كم من ربّات الحجال بعثن بقوّة أعظم الرّجال، وكم من رجال حشروا تحت قناع الذّلّ والهوان. إذًا لا بدّ أن ننظر إلى الصّفة والشّرط الم/*نوط بالسّمة والسّيرة وليس الرّسم والصّورة. فعندما تظهر الكمالات المعنويّة والفضائل الرّوحانيّة والأنوار الرّحمانيّة في قميص الإناث وتنير بلّورة النّساء يكون التّجلّي أشدّ”(27).
إذًا نستنبط من البيانات المباركة أنّ المقصود من تساوي الحقوق لم يكن تبديل النّساء إلى ذكور، بلّ المراد هو تحقيق أمرين مبرمين: أحدهما منح النّساء الحقوق المساوية للرّجال، والثّاني تلطيف خشونة الذّكور. على كلّ حال يكمن جوهر الكلام في بيان حضرة شوقي أفندي في معنى تساوي الحقوق: “… التّساوي في تحصيل العلوم والفنون والصّنايع والبدايع وكمالات وفضائل العالم الإنساني، وليست الحرّيّة المضرّة كما للعالم الحيواني”(28). أشار هذا البيان إلى أخذ “فضائل العالم الإنساني” وترك “الحرّيّة المضرّة للعالم الحيواني” واستنادًا للنّصوص المقدّسة الأخرى، فإنّ عبارة تحقّق العدالة ليس بمعنى أن يتحوّل الرّجل إلى امرأة، ولكن أن تتحلّى أعمال القوّة والخشونة الّتي اتّصف بها الرّجال طوال الزّمان، بصفات اللّطافة والرّقّة الّتي هي من الخصائص الإنسانيّة الجميلة ولها بروز أكثر في النّساء.
ننقل هنا مرّة أخرى بيان حضرة عبد البهاء بهذا الخصوص الّذي ذكرناه سابقًا تأكيدًا لهذا الموضوع. قوله الأعلى: “كان العالم في العهود السّالفة أسير سطوة الرّجال، تحكمه قسوتهم وتسلّطهم على النّساء بصلابة أجسامهم وقوّة عقولهم وسيطرة شدّتهم، أمّا اليوم فقد اضطربت تلك الموازين وتغيّرت، واتّجه العنف جهة الاضمحلال، لأنّ الذّكاء والمهارة الفطريّة والصّفات الرّوحانيّة من المحبّة والخدمة الّتي تتجلّى في النّساء تجليًّا عظيمًا صارت تزداد سموًّا يومًا فيومًا. إذن فهذا القرن البديع جعل شؤون الرّجال تمتزج امتزاجًا كاملًا بفضائل النّساء وكمالاتهن. وإذا أردنا التّعبير تعبيرًا صحيحًا قلنا أنّ هذا القرن سيكون قرنًا يصبح فيه ميزان هذين العنصرين أكثر تعادلًا وتوافقًا في تمدّن العالم”(29).
في كور آدم وردت في متن الكتب الدّينيّة على أساس مقتضيات الزّمان بأنّ رمز الإنسانيّة هو الرّجل، والمرأة وجود فرعي وتبعي. في كور حضرة بهاء الله استنادًا للنًّصوص المباركة الإلهيّة الّتي ذكرناها سابقًا إنّ المرأة والرّجل هما في صقع واحد، بلّ في بعض المواقف للمرأة السّبق والأسبقيّة. لذا يمكننا القول بصورة عامّة أنّ المرأة في الفكر الفلسفي البهائي تتقدّم على الرّجل. ولو أنّ الفلسفة الأساسيّة لإعلان هذا التّقدّم هي نسخ العقائد الخرافيّة القديمة بخصوص مقام وحقوق المرأة، ولكن يجب أن يقال أنّ المرأة تتقدّم على الرّجل بدليلين أساسيّين. الدّليل الأوّل مقام الأمومة. بعبارة أخرى إنّ دور الأم في تربية الأطفال عظيم. المرأة هي المربيّة الأولى للطّفل، الدّخول في هذا الموضوع وبيان أهميته وعظمته خارج عن موضوع الكتاب، وقد تطرّقت (مؤلف الكتاب) إلى هذا في بحث آخر(30).
أجد من الجدير أن ننقل بعضًا من بيانات حضرة عبد البهاء المباركة بهذه المناسبة.
يتفضّل في الردّ على أحد مديري الصّحف في سان فرانسيسكو قائلًا: “السّيّدات أحد الأركان الهامّة من الرّكنين العظيمين، فهي المعلّم والمربّي الأوّل للإنسان، لأنّ معلّم الأطفال الصّغار هن الأمّهات. إنّهن يؤسّسن الأخلاق، ويربين الأطفال الّذين سيتعلّمون في المدارس. فلو كان المعلّم والمربّي ناقصًا، كيف يربّي إنسانًا كاملًا.”(31) ويتفضّل في لوح آخر: “الأمّهات هن المربيّات والمعلّمات الأوّل، لأنّهن يؤسّسن السّعادة، والرّفعة، والأدب، والعلم، والمعرفة، والفطنة، والدّراية، والدّيانة في الأطفال”(32). وفي لوح آخر يتفضّل قائلًا: “لأنّ الأمّهات هن المربيّات الأوّل، يجب في البداية أن يرضعن الطّفل الرّضيع من حليب ثديّ دين الله وشريعة الله، كيّ تمتزج محبّة الله بالرّوح. وما لم تربّي الأمّهات الأطفال، وما لم يؤسّسن الآداب الإلهيّة، فلن تكون للتّربية نتائج كلّيّة من بعد”(33). وفي خطبة حضرته في فيلادلفيا يتفضّل قائلًا: “إنّ تربية النّساء أعظم من تربية الرّجال بل وأهمّ، لأنّ هؤلاء البنات سيصبحن ذات يوم أمّهات، والأمّ هي الّتي تربّي الأطفال، والأمّهات هن المعلّمات للأطفال لهذا يجب أن يكن في منتهى الكمال والعلم والفضل حتّى يستطعن تربية الأولاد. وإن لم تكن الأمّهات كاملات لظلّ الأطفال جهلاء دون علم”(34).
الدّليل الثّاني أنّ العواطف الرّقيقة ومشاعر الأمومة تحول دون حدوث الحرب. يتفضّل حضرة عبد البهاء في هذا الخصوص، ضمن خطاب حضرته في فيلادلفيا قائلًا: “حينما تصبح التّربية على نمط واحد في جميع المدارس يحصل بين البشر ارتباطًا تامًّا، وعندما ينال جميع الجنس البشري نوعًا واحدًا من التّعليم تتمّ وحدة الرّجال والنّساء وينهدم بنيان الحروب، ولا يمكن أن تنتهي الحروب إلّا بعد تحقّق هذه المسائل ذلك لأنّ اختلاف التّربية يورث الحروب، بينما المساواة في الحقوق بين الذّكور والإناث تمنع الحروب. فالنّساء لا يرضين بالحروب. فهؤلاء الشّبان أعزّاء جدًا عند أمّهاتهم ولا ترضى الأمّهات أبدًا بإرسال أبنائهن إلى ميدان القتال لتسفك دماءهم، فالشّابّ الّذي أمضت أمّه عشرين سنة في تربيته بمنتهى المشقّة والصّعوبة، هل ترضى أمّه أن يقطّع إربًا إربًا في ميدان الحرب؟ ومهما حاولوا أن يدخلوا في عقولهن الأوهام باسم محبّة الوطن والوحدة السّياسيّة ووحدة الجنس ووحدة العرق ووحدة المملكة، وقالوا لهن بأنّ هؤلاء الشّبان يجب أن يذهبوا ويقتلوا من أجل هذه الأوهام، فلا ترضى أيّة أمّ بذلك. ولهذا، فحينما تعلن المساواة بين المرأة والرّجل فلا شكّ أنّ الحروب سوف تزول ولا يعود يضحّى بأطفال البشريّة فداءً للأوهام”(35).
وفي بيان آخر يتفضّل قائلًا: “إنّ الرّجل يميل أكثر من المرأة إلى الحرب وإراقة الدّماء، فعندما يكون للنّساء في العالم الإنساني نفوذًا وتأثيرًا كلّي سيمنعن الحرب بالتّأكيد. إذن النّساء لن يقتنعن مثل الرّجال ولن يرضين وجدانيًّا بالحرب. ويجب أن يستفاد من نفًورهن من الحرب من أجل استقرار وحفظ السّلام العالمي”. ويتفضّل أيضًا: “إجهدوا كيّ تتحقّق آمال السّلام العالمي عن طريق مساعي النّساء لأنّ الرّجل يميل إلى الحرب أكثر من المرأة، الشّاهد والدّليل الحقيقي على إثبات أفضليّة المرأة على الرّجل هو الخدمة الجادّة في سبيل استقرار السّلام العالمي”. ويتفضّل أيضًا: “الأمّ تتحمّل المشقّات والبلايا لتربية طفلها… إنّه من الصّعب على الأمّهات أن يدفعن فلذّات أكبادهن الّذين ترعرعوا في حضن العشق والمحبّة إلى ميدان القتال. لذلك ستتوقّف الحرب عندما تشارك النّساء في أمور هذا العالم ويحصلن على التّساوي مع الرّجال، مما لا شكّ فيه أنّ النّساء هن المانعات للحروب”(36).
نؤكّد مرّة أخرى بأنّ تعليم مبدأ مساواة حقوق الرّجال والنّساء مبنيّ على أساس وحدة حقوق الجنس البشري أو وحدة العالم الإنساني. في ظلّ تعليم هذين المبدأين المباركين حرّم أيّ نوع من التّميّيز ضد النّساء في الأمر البهائي. النّساء والرّجال يتمتّعون بالتّساوي من مزايا حرّيّة الحقوق الإداريّة والاقتصاديّة، الثّقافيّة والاجتماعيّة. يعتقد الأمر البهائي أنّ تربية الرّجل عبارة عن تربية فرد واحد، أمّا تربية المرأة فهي ليست فقط تربية أسرة كاملة، بلّ تربية للجنس البشري كافّةً.
في المجتمعات الحاليّة، ينتهي عمل الرّجل وقت غروب الشّمس، ولكن المرأة تخدم الأسرة طوال الوقت ولا ينتهي عملها أبدًا(37). يسعى الأمر البهائي أن يتعاون الرّجل والمرأة في جميع مناحي الحياة معًا ويكون لهما دورًا بارزًا في خدمة الأطفال والنّوع الإنساني. الرّجل يحمي المرأة، والمرأة تحمي الرّجل، مثلما يكملان بعضهما في المعيشة فهما يكملان بعضهما أيضًا من الناحية الاجتماعيّة. إنّهما يرفعان طائر حياة الإنسان ليحلّق بجناحيه كالطّائر في الفضاء. في معبر الحياة لا تستطيع المرأة أن تعيش بدون عون الرّجل، ولا الرّجل يتحمّل بمفرده حمل مسؤوليّات الحياة الاجتماعيّة. إنّ تّعاون المرأة والرّجل هو الّذي يحرّك عجلة الحياة الاجتماعيّة. أينما كانت الحاجة للقوّة الجسديّة للرّجل، فأيضًا هناك الحاجة لعواطف ومحبّة المرأة. ففي طبيعة العالم التّرابي البارد الجافّ تكون لطافة النّساء منشأ العشق والأمل والحيويّة والسّعي. لذلك نجد في الألواح المباركة في هذا الظّهور الأعظم أنّ رمز الوحيّ جاء في هيئة التأنيث، فإنّ “حوريّة البقاء”، و”حوريّة المعاني”، و”حوريّة الحياة”، و”حوريّة الفردوس”، و”ورقة النّوراء” كعنوان للملائكة حاملات الوحيّ في الألواح المباركة الإلهيّة جميعها تبيّن بأنّه تمّ تجليل المرأة بوصفها رمزًا لاستمرار الحياة، والبقاء، والنّورانيّة، وفلاح العالم الإنساني في الآثار الإلهيّة، وتتقدّم على الرّجل، لكيّ يتبيّن أنّ طراز عقائد العصر الجديد ناسخ للأوهام السّابقة عن تقدّم الرّجل على المرأة.
الخلاصة أنّ في الأمر البهائي لا يكون تقدّم المرأة عن الرّجل في دور الأمّ والمربية الأولى للطّفل فحسب، بل تقدّمت على الرّجل بكونها صاحبة دور مؤثّر في زيادة رقّة مشاعر أفراد الجامعة الإنسانيّة وتطبيق تشريعات جمال الأقدس الأبهى، وساحة بيت العدل الأعظم طبقًا لنصّ الطّلعات المقدّسة النّوراء في هذا الدّور الأسنى. سوف تتزايد هذه الأسبقيّة، وسيشهد تاريخ الأمر المقدّس البهائي في السّنوات القادمة ظهور نساء خالدات بحيث يخطّن على جدار الزّمن تقدّم النّساء. تفضّل حضرة عبد البهاء بقوله الأعلى: “ستلاحظون عن قريب ظهور نفوس منجذبة من بين النّساء على شأن يصبحن سببًا للحيرة وكالشّموع المضيئة”(38).
رغم سطوع نور تساوي حقوق الرّجال والنّساء على آفاق العالم كأحد تعاليم أمر حضرة بهاء الله، وأحرزت العديد من النّساء في أغلب المجالات على المستوى الدّولي نجاحات لا مثيل لها في الخدمات الإنسانيّة، إلّا أنّه ما زال يشاهد السّلطة الذّكوريّة في جميع أنحاء المعمورة. إنّ وظيفة أهل البهاء في السّنين الأخيرة الحرجة والصّانعة للتّاريخ في القرن العشرين عظيمة جدًّا. يجب أن تمحى صورة المرأة الّتي مكانها الوحيد في نظر وفكر المجتمع هو المنزل، ويتمّ تذكير الرّجال بأنّ هذا هو العصر الجديد للمرأة. الأمر البديع يحمل رسالة حرّيّة النّساء. يعرض أمر حضرة بهاء الله هذا المنشور الإلهي في تساوي حقوق الرّجال والنّساء للعالم، ويعطي المرأة الهويّة الّتي تستحقّها.
إنّ حياة حضرة الطّاهرة مثال على عظمة تعاليم حضرة بهاء الله. كانت الطّاهرة فخر الرّجال وبداية عصر جديد من حرّيّة المرأة. إنّها كانت الكلمة الّتي تفوّه بها موعود العالمين، ورغم مخالفة النّاس فتحت أبواب الحرّيّة على وجه النّساء المحرومات المظلومات. يجب أن يتمّ متابعة عملها الّذي يبرهن لأهل الأوهام بأنّ المرأة هي رمز اللّطافة والعشق والحياة. إنّ وجودها الثّمين سبب خلق الصلح في العالم، ويجب تعظيم مقامها للأبد كأوّل مربّي للإنسان.
كانت قزوين تسمّى في السّابق “كشوين” طبقًا لقول ابن فقيه الهمداني(1). كما أنّ الإمام الرّافعي القّزويني قال، كان اسم هذه المدينة “كشوين”(2). وأيضًا ياقوت الحموي ذكر بأنّ الاسم الأصلي لقزوين هو “كشوين” أو “كجوين”.(3)
كتب حمد الله المستوفي بأنّ سبب تسمية مدينة “قزوين” بـ اسم “كشوين” هو: “أرسل أحد الأكاسرة القدماء جيشًا إلى ديلمان واصطفّوا في صحراء قزوين. وجد القائد الأوّل لجيش الأكاسرة خللًا في صفوف الجيش على أرض قزوين فقال لأحد أتباعه: “آن كش وين” يعني “أنظر إلى ذلك الرّكن” واجعل صفّ الجيش مستقيمًا. فأطلق اسم “كشوين” على هذا الموضع لأنّهم أقاموا في تلك البقعة فأسموها كشوين. والعرب عرّبوها وأسموها قزوين”(4).
يكتب محمّد عليّ گلريز في كتاب “مينودر أو قزوين باب الجنّة”: “لقد تمّ بناء قلعة في مدخل الجبال الشّمالي لقزوين والّذي يشاهد مثل البرج، بفرمان السّلطان، لمنع الإغارة من قبل ساكني الجبال من (الأماردة والديالمة)، كما بنيت قلعة أكبر كمقرّ ومعسكر لجيش المستحفظين في المكان الحالي بقزوين بين نهريّ ديزج وإرنزك، سميّ البناء الأوّل (دجبالا) القلعة العليا، والبناء الثّاني (دجبائين) القلعة السّفلى. تمّ تبديل اسم (دجبائين) بمرور الأيّام إلى (دجبين) و(كجوين) و(كشوين). وفي عصر شاپور ذي الأكتاف، بني مكان نفس القلعة حصنًا وأسماه بنفس الاسم الّذي كان معروفًا من قبل “كشوين”. وبعد أن استولى العرب على حدود كشوين قاموا بتعريب الاسم وسميت قزوين”(5).
هناك رأي آخر مقابل الآراء السّابقة بأنّ اسم “قزوين” هو تعريب لاسم “كاسپين”، تمّ أخذ الاسم من السّكان الّذين كانوا يعيشون في السّواحل الغربيّة لبحر كاسپين (بحر قزوين أو مازندران)(6).
ورأى البعض أنّ لفظ “كاسپين” مركّب من كلمتين في اللّغة الفارسيّة القديمة “كسن” (الضّفّة) و”پين” (المنبسط) والمقصود من الضّفّة المنبسطة أيّ ساحل بحر مازندران الوسيع(7).
إنّ أيًّا من الآراء السّابقة لا تستند إلى دلائل مقنعة ويقينًا هناك حاجة إلى بحث أعمق بخصوص معنى لفظ قزوين. ما هو مسلّم به أنّ بحر مازندران يعرف عند العرب ببحر “قزوين” وفي بلاد الغرب ببحر “كاسپين” Caspian.
ابن فقيه ينسب بناء مدينة قزوين إلى شاپور ذي الأكتاف(8)، والإمام الرّافعي القزويني (9)وياقوت الحموي (10) وفرهاد ميرزا معتمد الدّولة (11) أيضًا لهم نفس الرأي. أمّا حمد الله مستوفي ينسب بناء مدينة قزوين إلى شاپور السّاساني الأوّل(12)، وكان لمحمّد حسن خان اعتماد السّلطنة (13) وبارتولد Bartold المستشرق الرّوسي نفس رأي حمد الله مستوفي(14).
وبدون أن ننتقد الآراء المذكورة نصرّح بأنّ ما هو مسلّم به أنّ قزوين هي من مدن إيران القديمة وكانت تتمتّع بمكانة خاصّة من النّاحية العسكريّة والحكوميّة منذ أوائل وأواسط العصر الساساني.
طبقًا لقول ياقوت الحموي(15)، أنّه في سنة 24 هـجريّة قمريّة / 644 ميلاديّة أعطى عثمان حكومة (ري) إلى براء بن عازب وبعد فتح أبهر ذهب إلى قزوين وأوقع الجزية على أهالي تلك المنطقة. وبما أنّ النّاس لم يرغبوا في دفع الجزية رجّحوا أن يدخلوا في الإسلام. بعد فترة قصيرة قاموا على الحكومة والخلافة ولكن في النّهاية أطاعوا وثبت إسلامهم بشكل أكبر. وقد تمّ توسعة مدينة قزوين طبقًا للمصادر الموجودة، على يد سعيد بن عاص بن أميّة. ذهب حجّاج بن يوسف الثقفي في أيام حرب جيش الإسلام مع الدّيلم إلى قزوين وبنى مسجد الجامع هناك ونقش اسمه على لوح حجري ونصبه عليه.
ينقل بعض المحدّثين أخبارًا عن فضائل مدينة قزوين. من جملة ما قيل، أنّ الرّسول الأكرم قال أنّ قزوين مثل جنّة عدن على الأرض(16). يتناول الإمام الرّافعي في كتاب “التّدوين في أخبار قزوين” بنقل عدّة أحاديث نبويّة عن قزوين وشهدائها، ننقل هنا بعضها(17).
في إحدى الرّوايات عن الرّسول الأكرم “إنّها من أعلى أبواب الجنّة”(18). وفي رواية أخرى يذكر “يظهر في آخر الزّمان قوم بقزوين يستضيء من نورهم الشّهداء كما تشرق الشّمس على أهل العالم”(19). وفي رواية أخرى أيضًا قيل أنّ “قزوين باب من أبواب الجنّة”(20). وفي رواية أخرى عن الرّسول الأكرم قال، “رحم الله إخواني بقزوين لأنّ شهداء تلك المدينة لهم مقام شهداء بدر”(21). وفي رواية أخرى قال الرّسول الأكرم: “لأمّتي مدينة تسمّى قزوين العيش في تلك المدينة أفضل من الإقامة في الحرمين”(22).
توسّعت قزوين بسبب مكانتها العسكريّة بالتّدريج. يكتب حكيم ناصر خسرو قبادياني (394–481 هـجريّة قمريّة/1003–1088ميلاديّة) في كتاب أسفاره بخصوص قزوين: “… وصلت في التّاسع من محرّم سنة 438 هـجريّة قمريّة إلى قزوين. بها حدائق كثيرة ولم يكن هناك أيّ موانع في الطّريق ووجدت قزوين مدينة طيّبة بها أسواق جميلة، إلّا أنّ الماء في القنوات المائيّة تحت الأرض كان قليلًا”. (ص 33–34)
يشير عماد الدّين محمود زكريا القزويني (المتوفّي سنة 682 هجريّة قمريّة /
1283 ميلاديّة) المؤرّخ والجغرافي، في كتابه آثار البلاد، إلى عظمة وعمار مدينة قزوين في أيّامه، ويصرّح بأنّ المدينة تربتها جيّدة وبساتينها مثمرة ليس لها مثيل في المدن الأخرى. اتّخذ طهماسب الصّفوي الأوّل سنة 955 هـجريّة قمريّة / 1548 ميلاديّة مدينة قزوين كعاصمة. وكانت هذه المدينة عاصمة الصّفويّين حتّى سنة 1000 هجريّة قمريّة / 1591 ميلاديّة، حيث بدّل شاه عبّاس الكبير العاصمة إلى أصفهان.
بلغت شهرة قزوين في العالم في القرن العاشر الهجري (16 ميلاديّ) حدًّا كبيرًا بحيث أشار جون ميلتون John Milton (1608–1674 ميلاديّة) الشّاعر والكاتب البريطاني في كتابه المعروف “الجنّة الضّائعة Paradise Lost” والّذي أكمله عام 1667 ميلاديّة، إلى تلك المدينة. ولكن بعد انتقال العاصمة إلى أصفهان فقدت قزوين أهمّيتها تدريجيًّا. الأطلال الموجودة من زمن شهرة قزوين وارتفاع قدرها تحكي عن وسعة وعظمة المدينة في الأيّام الّتي كانت فيها هي العاصمة.
على كلّ حال كانت قزوين من المراكز الرّوحانيّة العظيمة حتّى بعد أيام الصّفويّة، وأجداد جناب الطّاهرة من طرف الأمّ وجميعهم من علماء الشّيعة من الدّرجة الأولى، كان لهم دور أساسيّ في ذلك. يكتب الأستاذ الدّكتور إبراهام إبراهيم فلنتاين ويليامز جاكسون Abraham Valentine Williams Jackson (١٨٦٣–١٩٣٧ ميلاديّة) المستشرق الأمريكي في مذكّرات أسفاره بعنوان “Persia, Past and Present” (إيران في الماضي والحاضر)، يقول بأنّ قزوين في حدود سنة 1903 ميلاديّة لم تعد مدينة من الدّرجة الأولى، رغم أنّ عدد سكّانها كان يصل إلى خمسين أو مائة ألف نسمة. (التّرجمة الفارسيّة ص500)، مع الأخذ في الاعتبار رأيّ الدّكتور جين بابتيست فوريه Jean Baptiste Feuvrier (١٨٤٢–١٩٢١ ميلاديّة) بخصوص عدد سكّان قزوين في تلك الفترة يرى البرفسور جاكسون أنّه رأيّ مبالغ فيه.
يكتب الدّكتور فوريه الفرنسي بين (1306–1309 هـجريّة قمريّة / 1889–1892 ميلاديّة) والّذي كان الطبيب الخاصّ لناصر الدّين شاه، في كتابه Trois Ans A La Cour De Perse (ثلاث سنوات عن إيران) بخصوص قزوين: “قزوين مدينة لا يتجاوز عدد سكّانها عشرين ألف نسمة، ولكن من مشاهدة محلّاتها الخالية والدّمار الكثير فيها يستدّل بأنّ عدد سكّانها كان من قبل أكثر بكثير من الآن. كان مصير هذه المدينة نفس مصير المدن القديمة الإيرانيّة الأخرى الّتي كانت في وقت ما عاصمة، بمعنى أنّه طالما استقرّ الملك في مدينة تكون هذه المدينة معمّرة وجميلة، ولكن بمجرّد أن تسقط عنها هذه الميزة ويتّخذ مقامها هذا مكانًا آخر، كان يلحق بها الانحطاط والخراب والدّمار (التّرجمة الفارسيّة ص 85–86).
يكتب الدّكتور فوريه: “تقع قزوين على قرب 24 فرسخ أيّ 140 كيلومتر من طهران. يمكن اجتياز هذه المسافة بالعربة خلال 14 ساعة، بشرط أن تتبدّل الأحصنة في خمسة أماكن (ص 93). في سنين (1298–1299 هجريّة قمريّة / 1880–1881 ميلاديّة) قاموا في إيران بإحصائيّة لعدد السّكان وبلغ عدد سكّان قزوين حوالي 23 ألف ومائتين شخص(23). طبقًا للإحصائيّة الرّسميّة سنة 1363 شمسيّة، بلغ عدد سكّان مدينة قزوين قرابة 350 ألف نسمة وعدد سكّان قزوين الكبرى (قزوين وتوابعها) سبعمائة ألف(24).
كانت قزوين تحتلّ مكانة خاصّة للسّوق العسكري والزّراعة. كانت بمثابة جسر يربط بين مدن جنوب ووسط إيران مع مناطق شمال وغرب إيران وأيضًا الدّول الأوروبيّة. يحدّ قزوين من الشّمال جبلان، ومن الجنوب المحافظة الوسطى، ومن الغرب تاكستان، ومن الشّرق طهران. يحيط أطراف قزوين بالبساتين الكثيرة والّتي تصبح أشجارها باسقةً مخضرّة نضرة في بداية الرّبيع. المحاصيل الزّراعيّة الرّئيسيّة لمدينة قزوين عبارة عن أنواع الفواكه بالأخصّ العنب، ومن البقوليات (القمح، الشّعير، اللّوبيا، الحمّص) الشّمندر السّكريّ، القطن، الذّرة، البندق، الفستق، الجوز، أمّا المعادن المكتشفة في قزوين عبارة عن الزّاج، الملح، الفحم الحجري، الحديد، النّحاس(25).
كان ملوك القاجاريّة يحكمون قزوين في أيّام ملّا محمّد صالح القزويني وابنته جناب الطّاهرة. في عصر سلطنة فتح عليّ شاه تمّ تعيّين أبناءه لحكومة تلك المدينة وهم: عليّ تقيّ ميرزا (1222 هجريّة قمريّة / 1807ميلاديّة) محمّد عليّ ميرزا (1231 هجريّة قمريّة/1815 ميلاديّة) والإمام قلّي ميرزا (1238 هـجريّة قمريّة / 1822 ميلاديّة). وفي أيّام محمّد شاه أيضًا حكم قزوين بهرام ميرزا ابن فتح عليّ شاه (1256هجريّة قمريّة / 1840 ميلاديّة). كما حكمها حمزة ميرزا حشمت الدّولة ابن عبّاس ميرزا. وفي أيّام حكومة ناصر الدّين شاه حكم قزوين اسكندر ميرزا (1264 هجريّة قمريّة / 1848 ميلاديّة) بأمر من أمير كبير(26).
بعد دخول الآريّين إلى أرض إيران استقرّت جماعات منهم في أرض قزوين. كان أهالي قزوين القدماء الأقرب من آل الدّيلم وبعد اندماجهم مع الفرس والتّرك والمغول حصلت تحوّلات كثيرة ومنها أنّ لغة بعض منهم اختلطت بالتّركيّة. مثلًا أهالي مناطق درب كوشك، وشيخ آباد، وگوسفند ميدان، وقملاق، وديمج الّذين كانوا على اتّصال أكثر مع الأتراك والبلاط السّلطاني الصّفوي يتحدّثون التّركيّة. وعلى العكس فإنّ أهالي بعض مناطق قزوين لا يعرفون التّركيّة(27).
بالنّظر إلى ما تمّ ذكره كانت عائلة جناب الطّاهرة من المناطق الّتي تتحدّث التّركيّة في قزوين ومن ضمنها منطقة قملاق وديمج، وتوجد أغلب أموالهم وممتلكاتهم في هذه المناطق.
يتّضح من المستندات الموجودة واكتشافات علماء الآثار أنّ أهالي قزوين كانت لديهم نزعة عبادة الشّمس، وبعد ظهور حضرة زرادشت تديّنوا بدين ذلك النّبيّ الفارسيّ. طبقًا لرأي علماء الآثار فإنّ مسجد الجامع الكبير في قزوين كان في البداية معبد عبدة النّار، وبعد انتشار الإسلام تحوّل إلى مسجد. وكما ذكرنا سالفًا فإنّ أهالي مدينة قزوين أسلموا بالإجبار عام 24 هـجريّة قمريّة / 644 ميلاديّة في عصر خلافة عثمان، ولكّنهم سرعان ما آمنوا بالدّين الجديد.
وبعد ظهور المذاهب المختلفة في المجتمع الإسلاميّ، تمسّك أهالي قزوين بالمذهب الشّافعيّ بحيث أصبح أغلب النّاس في قزوين وتوابعها شافعيّين وذلك في المائة الرّابعة للهجرة (العاشر الميلادي). كما كان هناك أتباع للمذهب الحنفيّ والشّيعيّ أيضًا، وانتشر المذهب الزيديّ في (ردوبار) و(ألموت)، والتحقت جماعة بالمذهب الاسماعيليّ في (طارم)، وبالتّدريج ازداد أتباع المذهب الحنفيّ بشكل ملحوظ. رغم أنّه في أيّام هجوم جيش جنكيز قتل حوالي إثني عشر ألفًا من الحنفيّين، وقلّ عددهم كثيرًا، ولكن حتّى منتصف القرن الثّامن الهـجري (14ميلادي) كان أغلب أهالي قزوين من الشّافعيّة، وكانت هناك جماعة من اليهود تعيش في قزوين أيضًا(28). ولكن تزايد عدد الإسماعيليّين منذ سنة (500 للهجرة) في (تارم، ورودبار، وألموت) بشكل سريع(29).
جعل حسن بن صبّاح سنة 483 هجريّة قمريّة / 1090 ميلاديّة قلعة ألموت مركزًا لإقداماته وزاد عدد أتباعه. وبالتّدريج زاد نفوذه وشهرته في كلّ أنحاء الإمبراطوريّة، وأوجد الرّعب في قلوب ملوك الزّمان بسبب تضحية وفدائيّة أتباعه. كان كلّ الخلفاء الفاطميّين مروّجين للفرقة الاسماعيلية، وعلى أساس بعض الرّوايات التّاريخيّة كانوا من أبناء محمّد بن إسماعيل، لكن أتباع المذهب الشّيعيّ الإثني عشريّة في قزوين رغم قلّة عددهم في البداية كان لهم تأثيرًا ملموسًا في مختلف شؤون حياة النّاس في تلك المدينة، كما زاد عدد أتباع الشّيعة الإثني عشريّة في أنحاء قزوين في زمن حكومة آل بويه (320–448 هـجريّة قمريّة / 932–1056 ميلاديّة)، بحيث أصبح في بداية عام 700 هـجريّة قمريّة كلّ أهالي دهستان زهراء من الشّيعة الإثني عشريّة.
بعد قبول السلطان محمّد الجايتو (المتوفّي عام 716 هـجريّة قمريّة / 1316 ميلاديّة) لمبدأ الإثني عشرية، زادت قوّة جماعة الإثني عشريّة، ولكن لم يحصلوا على الحرّيّة الكاملة واتّخذوا التّقيّة. في النّهاية بظهور الشاه إسماعيل الصّفوي ونشره للمذهب الإثني عشرية ثمّ جلوس الشاه طهماسب الصّفوي على سرير السّلطنة واختيار قزوين كعاصمة، واستمرار إقدامات والده (الشاه إسماعيل)، أخذ المذهب الشّيعيّ الإثني عشريّة في قزوين محل المذاهب الأخرى ولم تجرؤ المذاهب الأخرى إلّا قلّة قليلة منها على إثبات وجودها.
منذ ذلك الزّمن ظهر علماء وفقهاء عظماء في المجتمع الشّيعيّ بقزوين، وأصبحت تلك المدينة من المراكز العظيمة لنشر المذهب الشّيعيّ الإثني عشريّة. ولكن اختلاف التّيّارين الأصوليّ والإخباريّ في عصر فتح عليّ شاه وفي أوان حياة جناب الطّاهرة وصل إلى أوجه، ومن ثمّ أخذ النّزاع الشّيخي و(بالاسري)5 شكلًا كانت نتيجته قتل ملّا محمّد تقي البرغاني (عمّ جناب الطّاهرة) ومن ثمّ استشهاد مجموعة من أصحاب حضرة الباب المظلومين. وسوف نذكر قصّة خلاف ملّا محمّد تقي البرغاني المذكور مع جناب الشيخ أحمد الأحسائي في متن هذا الكتاب بتفصيل أكثر.
إنّ علماء الشّيخيّة المتميّزين في قزوين هم إثنان، الأوّل جناب ملّا عبد الوهّاب القزويني (دار الشّفائي) خال جناب الطّاهرة، والثّاني جناب ملّا محمّد عليّ البرغاني عمّها الأصغر. وسنشير إلى شرح حال الاثنين في هذا الكتاب. في أيّام حياة جناب الطّاهرة كانت جماعة من الأرمن تسكن قزوين أيضًا. بهذه الصّورة كانت قزوين مركزًا مهمًّا لنشر العقائد الشّيعيّة الإثني عشريّة ومسكنًا لمجموعة من أتباع الأديان الموسويّة والعيسويّة. ولكن ظلّ تأثير عقائد الاسماعيليّة، والباطنيّة، والنقطوية مشهودًا في أذهان النّاس، وقد يكون هذا التّأثير من العوامل الّتي جعلت بعض العلماء وعوامّ النّاس تستجيب لعقائد الشّيخ أحمد الأحسائي.
من المراكز التّاريخيّة المهمّة في قزوين حسب ارتباطها مع حياة جناب الطّاهرة وعائلتها، يمكننا أن نذكر الأماكن التّالية إضافةً إلى منزل والدها محل ولادتها:
1. مسجد ومدرسة الصّالحيّة: باني هذا المسجد والمدرسة ملّا محمّد صالح البرغاني، والد جناب الطّاهرة. تقع المدرسة والمسجد المذكور في محلّة قملاق. في أيّام حياة جناب الطّاهرة وبعدها لعشرات السّنين كانت تقام مراسم العزاء الدّينيّة في أيّام محرّم بالأخصّ عاشوراء في هذا المسجد، وكان ملّا محمّد صالح أو شخص آخر من عائلة البرغاني يقيمون صلاة الجماعة فيه.
المدرسة المذكورة أيضًا كانت متميّزة في إيران من حيث الاتّساع والعظمة، حيث بلغ عدد طلّاب العلوم الدّينيّة سبعمائة شخص. كانت النّساء أيضًا يكتسبن المعارف الإسلاميّة في قسمهن الخاصّ. في وسط فناء المدرسة يوجد حوض صخري كبير على شكل صليب، بحيث يضفي جمالًا وافرًا على المكان. وعلى باب المدرسة المزيّن بالمرمر الجميل كتبت أشعار بخطّ نستعليق الّتي تحكي عن مراتب عظمة مقام ملّا صالح البرغاني وخدماته بالأخصّ بناء المسجد والمدرسة(30).
كانت جناب الطّاهرة تذهب غالبًا إلى هذه المدرسة، علاوة على تلمذتها لدى والدها كانت تتباحث أيضًا مع الأساتذة والتّلاميذ من الرّجال والنّساء في المدرسة المذكورة. انشغلت جناب الطّاهرة بالتّدريس لمدّة سنتين في تلك الجامعة الإسلاميّة العظيمة. كانت مدرسة الصّالحيّة تتمتّع برونق عظيم حتّى أيّام حكومة (المشروطيّة)، وكان من أوقاف المدرسة، قرية (قره قباد) مع 14 مزرعة، وحمّام محمّد خان بيك في حيّ (گوسفند ميدان).
2. مسجد الشهيد: بنى هذا المسجد ومخزن الماء المتّصل به، الملّا محمّد تقي البرغاني عمّ جناب الطّاهرة (الملقّب لدى الشّيعة بالشّهيد الثّالث). بني المسجد المذكور في حيّ (ديمج) في سوق الدّباغين. كان الملّا محمّد تقي هذا يصلّي ويعظ في هذا المسجد، ممّا سيأتي شرحه بالتّفصيل في متن الكتاب الحالي. قام الملّا عبد الله الشّيرازي (المعروف بالميرزا صالح) وهو من أتباع الشّيخيّة الغيورين في ذلك الزّمان ومن البابيّين الشّجعان لاحقًا، قام بطعن الملّا محمّد تقي في المسجد، بحيث توفّى الشّخص المذكور بعد ثلاثة أيّام من شدّة الضّرّبة(31). يوجد حمّام في حيّ ديمج مشهور باسم الشّهيد (ملّا محمّد تقي الشّهيد الثّالث).
3. شاهزاده (الأمير) حسين: من الأماكن التّاريخيّة الأخرى في قزوين المرتبطة بحياة جناب الطّاهرة مزار شاهزاده حسين. كانت جناب الطّاهرة في طفولتها وصباها غالبًا ما تذهب إلى هذا المكان مع والدتها وتنشغل بقراءة الأوراد والأدعية، وخرجت من بوّابة نفس هذا المزار من مدينة قزوين متخفّية عندما كانت في الثّالثة والثّلاثين من العمر، وقرب هذه البقعة قتل عدد من الأصحاب البابيّين أو جرحوا. وفي نفس المكان تحصّن بعض الأصحاب. وفي المقبرة الشّماليّة كان قد بنى الملّا عبد الوهّاب القزويني هناك مدفنًا له ولأقاربه. وفي هذه البقعة يوجد مدفن والدة جناب الطّاهرة ومقبرة عمها الملّا محمّد تقي البرغاني أيضًا.
ولكن من المقصود بالأمير حسين؟ لا يوجد توافق في الآراء بهذا الخصوص بصورة دقيقة، ولكن الاحتمال الأقوى أنّ المذكور هو حسين بن عليّ بن موسى الرضا، ويقال كان عمره سنتين أو أقلّ حينما توفّى في قزوين سنة 201 هـجريّة قمريّة / 816 ميلاديّة ودفن في هذا المكان الحالي(32). لقد تمّ تعمير بقعة الأمير حسين خلال قرون عدّة مرّات، وفي النّهاية أصبح المكان من المباني التّاريخيّة الجميلة في قزوين وموضع احترام كبير من قبل أهالي المدينة. تقع مقبرة ملّا محمّد تقيّ البرغاني من جهة مدخل بقعة الأمير حسين.
وكان الحاجّ الميرزا أبو القاسم الشّيرازي قد بنى مقبرة له حيث وضع جسد الملّا محمّد تقي بعد مقتله أمانة في ذلك المكان. وبعد مرور عام عندما أرادوا نقل الجسد إلى العتبات العاليات، وقد أعلنوا حينها عطلة رسميّة، منع النّاس حينها نقل الجسد، لذا تمّ دفنه في نفس المقبرة الخاصّة بالميرزا أبو القاسم شيرازي. ننوّه هنا بأنّ مرقد جناب الملّا عبد الوهّاب القزويني يوجد في النّجف بجانب مرقد الإمام عليّ عليه بهاء الله.
من المباني التّاريخيّة الأخرى في قزوين، مقبرة حمد الله المستوفي، واجهة عالي قاپو، عمارة (چهل ستون) أي ذات الأربعين عمودًا، مدرسة الحيدريّة، وعدّة مدارس أخرى، وخانات وسوق مسقّف. كانت قزوين في القرون الأخيرة من أهم معاقل المذهب الشّيعيّ الإثني عشريّة، وبين سنوات 1973–1978ميلاديّة عندما كنت (الكاتب) أعمل في التّدريس والتّحقيق في تلك المدينة، كانت المدينة تحتوي على حوالي خمسين مسجدًا.
إنّ وجود الإخوة البرغاني، وهما من أبرز علماء وفقهاء الشّيعة، وأيضًا وجود علماء من عائلة جناب الطّاهرة من جانب الأمّ في أوان ظهور الأمر البديع، حوّلت تلك المدينة إلى مركز مشتعل للنّشاط الإسلاميّ.
ومقابل آل البرغاني التحقت عائلات بارزة أخرى إلى الطريقة الشّيخيّة، وبعد ظهور حضرة الباب، نال عدد من العلماء والتّجار المشهورين في تلك المدينة شرف الإيمان. سنتحدّث قريبًا عن علماء الشّيخيّة في قزوين، وبالأخصّ ملّا عبد الوهّاب قزويني خال جناب الطّاهرة وملّا محمّد عليّ البرغاني عمها الأصغر. هنا سنشير إلى بعض الأسماء من كبار مؤمني قزوين في العهد الأعلى. الأشخاص الّذين آمنوا علاوة على جناب الطّاهرة وشقيقتها مرضيّة وعمّها الأصغر جناب ملّا محمّد عليّ البرغاني، منهم جناب ملّا محمّد عليّ القزويني (ابن خال الطّاهرة وزوج أختها)، وجناب ملّا عبد الكريم القزويني (الميرزا أحمد كاتب)، وأعضاء عائلة فرهادي، وجناب الشيخ محمّد نبيل القزويني، وجناب ملّا جعفر القزويني، وجناب آقا السيّد عبد الهادي القزويني، وإخوة القزويني (جناب كربلائي محمّد حسين، وجناب آقا محمّد صادق، وجناب حسن آقا وجناب آقا عليّ زرگر)، وجناب كريم خان مافي الملقّب بـ ”بهجت”، وكربلائي لطف عليّ وجناب آقا محمّد عليّ كدخدا. سنشير إلى حياة بعض هؤلاء ضمن بيان أحوال جناب الطّاهرة.
ينحدر أجداد جناب الطّاهرة من طرف والدها من برغان من أهالي قرى دهستان، تقع هذه القريّة بين كرج وقزوين، مقاطعة ساوجبلاق وهي منطقة جبليّة باردة. يعمل أهالي برغان في الزّراعة أساسًا، بينما تعمل جماعات منهم في حياكة السّجاد، والشيلان والجوارب. الطّرق المؤديّة إلى القرية هي طريق المواشي، ويبلغ عدد سكّانها في الوقت الحاضر حوالي ثلاثة آلاف شخص(1).
يتّضح من الوثائق الموجودة أنّ أسلاف جناب الطّاهرة وحتّى الجدّ الثّالث عشر كانوا من العلماء والأتقياء(2). كان من بينهم الجدّ الأكبر من طرف والدها ملّا محمّد كاظم المعروف بطالقان (البرغاني الأصل) والّذي كان من أفاضل الدّورة الصّفويّة، ومدرّس في مدرسة نواب في قزوين، توفّي عام 1094هجريّة قمريّة / 1682 ميلاديّة(3). كان حفيد ملّا محمّد كاظم، الّذي كان اسمه ملّا محمّد البرغاني(4) رجلًا فاضلًا، متّقيًّا(5). كما أنّ شقيقة ملّا محمّد، السّيّدة ماه شرف (المتوفيّة عام 1234هـجريّة قمريّة / 1818ميلاديّة) كانت من السّيّدات الأديبات والفاضلات، ماهرة وبارعة في الفقه وأصول الأدب العربي، ومن المقرّبات لتاج الدّولة زوجة فتح عليّ شاه القاجار، والّتي كانت تقوم بتحرير المراسلات عند تاج الدّولة(6). رزق ملّا محمّد البرغاني من زوجته فاطمة خانم، عدّة أبناء من بينهم ثلاثة أولاد: الحاجّ ملّا محمّد تقيّ البرغاني(العم الأكبر)، الحاجّ ملّا محمّد صالح البرغاني (والد جناب الطاهرة) والحاج ملّا محمّد عليّ البرغاني(7) (العم الأصغر).
ولد الحاجّ ملّا محمّد تقيّ الأخ الأكبر (عمّ جناب الطّاهرة) عام1183هـجريّة قمريّة / 1769ميلاديّة في برغان(8). درس لفترة في قزوين، ثمّ ذهب مع أخيه الحاجّ ملّا محمّد صالح إلى مدينة قم المقدّسة وتتلّمذ على يد الميرزا أبو القاسم القمي المعروف بميرزاي قمي ومؤلّف الكتاب المشهور قوانين الأصول(9). رغم أنّ مدّة تحصيله وتتلّمذه عند ميرزاي قمي كانت قصيرة، ولم يعجب الملّا محمّد تقي، – إلّا إنّه أرغمه أن يطالع في الفقه الشّيعي بصورة تفصيليّة. ويبدو من الشّواهد أنّ ميرزاي قمي لم يكن يتذكّر ملّا محمّد تقيّ، لأنّه عندما كان يسئل في أواخر حياته عن صلاحيّة اجتهاد ملّا محمّد تقيّ، كان يقول بأنّه لم يلتق به. على أيّة حال لم يتّفق ميرزاي قمي وملّا محمّد تقيّ في بعض المسائل الفقهيّة الشّيعيّة، وتطوّر هذا الأمر إلى المناقشات الكتابيّة بينهما(10).
ذهب ملّا محمّد تقيّ من قم إلى أصفهان واستمرّ في دراسته. وبدأ بالدراسات الفلسفيّة وكان يقوم بتدريس الفلسفة أحيانًا(11). يقول البعض أنّ أخويّ ملّا محمّد تقيّ، ملّا محمّد صالح وملّا محمّد عليّ، أيضًا كانوا يدرسون معه في قم وأصفهان(12). في النّهاية ذهب الإخوة برغاني إلى العراق – وأكملوا دراستهم لدى كبار علماء الشّيعة. ويتّضح من الشّواهد أنّ ملّا محمّد تقيّ ذهب ثانيةً إلى العتبات العاليات لاستكمال دراسته(13). وفي المرّة الثّانية أخذ درجة الاجتهاد من السيّد عليّ الطباطبائي صاحب الكتاب المشهور”رياض المسائل”(14).
كان الملّا محمّد تقيّ رجلًا صعبًا ومجادلًا. يحكي بنفسه أنّه كان يتناقش في يوم مع أستاذه السيّد عليّ الطباطبائي، حينما تدّخل شاب في النقاش وأفحمه، لم يتمكّن الملّا محمّد تقيّ من الرّد، فغضب وأهان الشاب المذكور ولكن سرعان ما أدرك أنّ هذا الشاب هو السيّد مهدي ابن أستاذه. فلم يعجب أستاذه هذا التّصرّف ووبّخه بشدّة(15). ذكر البعض بأنّ الملّا محمّد تقيّ علاوة على حصوله من السيّد عليّ الطباطبائي رخصة الاجتهاد أخذ أيضًا من ابنه السيّد محمّد وكذلك الشيخ جعفر النّجفي(16)، إذنًا بالاجتهاد(17). بعد أن أنهى الملّا محمّد تقيّ دراسته في العراق (في سفره الأوّل) ذهب إلى طهران وأقام لفترة هناك مع أخوانه. ومن هناك ذهب مرّة أخرى إلى العراق وأخذ إذن الاجتهاد من السيّد عليّ الطباطبائي ورجع ثانيةً إلى طهران. اشتهر الإخوة البرغاني في طهران وأصبحوا محطّ أنظار البلاط السّلطاني. كان الإخوة البرغاني، وبالأخصّ ملّا محمّد تقيّ، متغطرسين ومغرورين جدًا.
وقد جاءت حكاية عنف الإخوة بخصوص ملّا محمّد عليّ في حضور فتح عليّ شاه في أغلب الكتب. خلاصة الحكاية أنّه عندما كان ملّا محمّد صالح البرغاني (والد جناب الطّاهرة) يدرس في قزوين، كان معلّمه شخصًا يدعى ملّا محمّد عليّ من أهل مازندران، واشتهر بملّا محمّد جنگلي، التقى فتح علي شاه في أحد أسفاره إلى قزوين مع محمّد عليّ الجنگلي وأعجب به ولقّبه جدلي. بعد مرور سنوات، في أحد المرّات الّتي كان فيها الإخوة البرغاني في حضور فتح عليّ شاه، كان ملّا جدلي حاضرًا. سأل الشّاه من ملّا محمّد تقيّ البرغاني سؤالًا فأجابه. اعترض ملّا جدلي على ردّ ملّا محمّد تقيّ. وردّ عليه ملّا محمّد تقيّ. ولكن ملّا جدلي لم يقتنع واستمرّ في جداله، فسكت ملّا محمّد تقيّ، ولكن أخاه ملّا محمّد صالح اعتبر هذا السّكوت في مجلس السّلطان كنوع من الهزيمة، لذا شرع بمجادلة ملّا جدلي، الّذي كان ثرثارًا، وضمن الحديث قال ملّا جدلي لملّا محمّد صالح بأنّك كنت تلميذي وكلّ ما تعرفه في هذا الخصوص تعلّمته منّي. فالتزم الملّا محمّد صالح السّكوت أيضًا. في هذه الأثناء دخل الأخ الأصغر ملّا محمّد عليّ البرغاني في النّقاش واشتدّ الجدال. كان الاثنان الجالسان في حضور السّلطان بعيدين عن بعض، ولكنهما اقتربا من بعضهما قليلًا فقليلًا. قرّر ملّا جدلي أن يصفع البرغاني، ولكن البرغاني سبقه وصفعه على وجهه صفعةً قويّة.أمسك الاثنان في خناق بعضهما البعض، فجأة غضب السّلطان وصرخ في وجه الإخوة البرغاني ووبّخهم فترك الإخوة البرغاني المجلس وعادوا إلى البيت(18).
كتب البعض، بأنّه على إثر هذه الحادثة أجبر السّلطان الإخوة البرغاني بترك المجلس ومن ثمّ طهران(19). أمّا ملّا محمّد تنكابني، وهو من تلاميذ ملّا محمّد تقيّ البرغاني الّذي أخذ إذن الاجتهاد منه(20)، كتب في كتاب قصص العلماء(ص32)، بأنّ في تلك اللّيلة يحلم فتح عليّ شاه بأنّ السّيّدة فاطمة الزّهراء تعترض عليه من هذا العمل وقالت بأنّه يجب أن يرضي خاطر الإخوة البرغاني ويحترمهم. لذا يطلبهم للحضور في اليّوم التالي، ويظهر لهم الاحترام “ويلبس كلّا منهم خلعة فاخرة وتشريفًا ملكيًا”.
كان محمّد تقيّ البرغاني في فترة الحروب بين إيران والرّوس مصاحبًا للسيّد محمّد المجتهد المعروف في إصدار فتوى الجهاد ضدّ الرّوس. بعد هزيمة نائب السّلطنة عبّاس ميرزا، في أحد الأيّام سأل فتح عليّ شاه في مجلس العلماء بطهران عن الحوادث الواقعة في الحرب وسبب هزيمة عبّاس ميرزا، فلم يجب أحد، ثم سأل مجدّدًا ولم يتلق جوابًا. في المرّة الثّالثة عندما سأل، قال ملّا محمّد تقيّ أنّه سوف يجيب، ولكن قبل أن يتكلّم يرغب أن يحكي حكاية للشّاه فوافق الشّاه. قال ملّا محمّد تقيّ، كان في بلاد إسرائيل زاهدًا منشغلًا بالعبادة في المعبد. وكانت هناك شجرةً كبيرة قرب المعبد وكانت القوافل عند مرورها تستريح تحت ظلّها. اتّخذ قطّاع الطّرق وكرًا للاختباء فوق الشّجرة، وأثناء ما كان أصحاب القوافل نيام، كانوا يسرقون أموالهم وينهبونها، فقرّر العابد المذكور أن يقطع الشّجرة كيّ يقضي على مأوى قطّاع الطّرق. عندما قطع نصف الشّجرة ظهر له الشّيطان في هيئة إنسان وحارب الرّاهب وصارعه ولكن الرّاهب انتصر. وبما أنّ الرّاهب كان متعبًا، فقد قرّر أن يكمل قطع الشّجرة في اليّوم التّالي. فكّر في اللّيل مع نفسه بأنّه سيزيل الشّجرة تمامًا ويريح أصحاب القوافل من شرّ قطّاع الطّرق، فمن الجيّد إذن أن يأخذ الإتاوة (الضريبة) من القوافل مقابل العمل الّذي سيقوم به كيّ يؤمّن مصاريف معيشته. في صباح اليّوم التّالي عندما انشغل بقطع نصف الشّجرة الباقية ظهر له الشّيطان مرّة أخرى كيّ يمنعه من العمل. حارب الرّاهب الشّيطان وصارعه ولكن هذه المرّة سقط الرّاهب أرضًا، لأنّه لم تكن نيّته الخدمة بلّ كان يطلب منفعته الشّخصيّة. الأمير عبّاس ميرزا في البداية كانت نيّته الخدمة والتّقرّب للبلاط السّلطاني لذا انتصر. ولكن بعد ذلك تغيّرت نيّته لذا كانت نتيجة عمله الهزيمة. أعجب الشّاه بهذه القصّة وخلع عليه خلعة(21). كان ملّا محمّد تقيّ جريئًا جدًا وسريع الإجابة، وبسبب سرعة إجابته هذه حصل على خلعة أيضًا في أيّام محمّد شاه.
كان الحاجّ ميرزا آقاسي الصوفي الصّدر الأعظم ل للشاه(22) في غاية العداوة مع الإخوة البرغاني وبالأخصّ مع ملّا محمّد تقيّ، لذا كان بعض رجال الدّولة يخالفون الإخوة البرغاني من أجل محاباته. وفي إحدى أسفار محمّد شاه إلى قزوين، تحايل الحاجّ ميرزا آقاسي كيّ لا يلتقوا مع الشّاه وجهًا لوجه فأمر أن يخرج الإخوة برغاني من المدينة ولكنّهم حاولوا بكلّ وسيلة وبقوا في المدينة كيّ يلتقوا بالشّاه. وبعد أن جلسوا لحظات في حضور الشّاه، أشار حاجب المجلس أن يتركوا المكان. تجرّأ ملّا محمّد تقيّ في هذا الوقت أن يعرض على الشّاه بأنّ لديهم مطلبًا ولكن الحاجب يأمرهم بترك المجلس. غضب الشّاه وأمر الحاجب أن يسكت. تكلّم ملّا محمّد تقيّ: إنّ إخوة حضرة يوسف الكنعاني حين باعوه إلى شخص مصري، قيّده المصريون بالسّلاسل وأرسلوه إلى مصر. جعلوا (يقلوس) حارسًا على يوسف، وكان عبدًا أسودًا، قبيح الوجه، وشديد القساوة. وعندما وصلت القوافل إلى مقبرة آل يعقوب، ألقى يوسف بنفسه من على الجمل وذهب إلى قبر أمّه رحيل وشرع بالبكاء والنّحيب. عندما لم يجد (يقلوس) يوسف على الجمل بحث عنه إلى أن وجده عند مقبرة والدته فصفعه على وجهه بشدّة. رفع حضرة يوسف يديه إلى العتبة الإلهيّة باكيًا متضرّعًا. فجأة تلاطم بحر القهر الإلهي وحدثت زلزلة وعصفت الرّياح، وخوطب جبرئيل بأن يزيد من شدّة الزّلازل والرّياح حتّى يبقى أصحاب القوافل في حيرة واضّطراب. عندها انتبهوا أنّ كلّ هذا العذاب بسبب الظّلم الّذي أوردوه على يوسف، لذا توسّلوا إليه كيّ يدعو لإزالة هذه الاضّطرابات. فوافق يوسف ولبّى طلبهم.
أمّا ملائكة السّماء فقد عرضوا على العتبة الإلهيّة: ربّاه، إخوة يوسف ظلموه، رموه في البئر، عرّوه، وفي النّهاية باعوه، ولكن إلى الآن لم تنزل غضبك عليهم، ماذا حدث بسبب صفعة من (يقلوس) أنزلت كلّ هذه البلايا على المصريّين؟ وصل الخطاب من العتبة الإلهيّة، إنّ إخوة يوسف من نسل الأنبياء، ولكن (يقلوس) شخص غريب وبلا قيمة، بما أنّه صفع يوسف، وأصحاب القوافل لم يمنعوه، أنزلنا عليهم هذه البلايا كيّ تكون درسًا وعبرة لهم.
بعد أنّ روى ملّا محمّد تقي هذه القصّة، توجّه إلى محمّد شاه وقال يا سلطان لو أنت تحكم علينا نقبله بأرواحنا ونكون راضين، ولكن لا نقبل الظّلم من (يقلوس) الزّمان الّذي هو عبد للحاجّ ميرزا آقاسي. فقد حكم الميرزا آقاسي أن يخرجونا من إيران أيضًا. لو كان حكم الإخراج بدستور من السّلطان فلا حرج عليه ونقبله بأرواحنا. تأثّر محمّد شاه من كلام ملّا محمّد تقيّ بشدّة وغضب من عمل الحاجب جدًا. فقام على إعزاز الإخوة وخرجوا من محضر الشّاه مسرورين راضين، فقد كان الشّاه منذ صباه له تعلّق خاصّ بهم(23).
كان ملّا محمّد تقيّ البرغاني غيورًا وجسورًا في الدّفاع عن آرائه وفتاويه. في إحدى المرّات أصدر فتوى مخالفة لآراء المجتهدين الآخرين، كان أخوه ملّا محمّد صالح (والد جناب الطاهرة) وحده فقط متّفقًا معه. في هذا الخصوص لم يوافق ملّا عبد الوهّاب القزويني(خالها) على فتوى ملّا محمّد تقيّ، فاتّفق جميع علماء قزوين في الرّأي مع الملّا عبد الوهّاب. عقد ملّا محمّد تقيّ مجلسًا وفي ذلك المجلس قام العلماء بالمناظرة والمناقشة والمحاجاة، ولكن لم يستطع أيّ واحد منهم أن يغلبه. طلب علماء قزوين الاستفتاء من علماء إيران (طلبوا الفتوى أو الرّأي)، هم أيضًا كان رأيهم ضد ملّا محمّد تقيّ. حتّى حجّة الإسلام الحاجّ السيّد محمّد باقر شفتي الرشتي في أصفهان الّذي كان أشهر المجتهدين في إيران رفض فتوى ملّا محمّد تقيّ وكتب رسالة في دحضّ رأيه، ولكن لم يستطع أن يغلبه. كما أنّ آقا سيّد محمّد – الطباطبائي ابن آقا سيّد عليّ الطباطبائي كتب ضد ملّا محمّد تقيّ، وبعث أحد الملالي مندوبًا عنه إلى قزوين كيّ يبطل فتوى ملّا محمّد تقي وينفّذ حكم السيّد محمّد –. ولكن ظلّ ملّا محمّد تقيّ غير قانع وكتب رسالة ضدّ فتوى السيّد محمّد – ودافع في مؤلّفاته عن رأيه.
قيل أنّه في البداية كانت صلاة الجماعة في قزوين، يقيمها الحاجّ السيّد محمّد تقيّ إمام الجمعة(24)، ولكن ملّا محمّد تقيّ البرغاني كان يعتقد بتحريم صلاة الجماعة في زمن غيبة حضرة القائم وكان يمنع أتباعه من الحضور في صلاة الجماعة. في إحدى المرّات حصلت كدورة بين الحاجّ السيّد محمّد تقيّ مع بعض النّاس في قزوين فلم يحضر صلاة الجماعة، فحضر ملّا محمّد تقيّ البرغاني فورًا إلى المسجد وأخذ إمامة صلاة الجمعة. ومن حينها أخذ منصب إمام الجمعة، ولم يدع بعد ذلك مجالًا للحاجّ السيّد محمّد تقي لإقامتها.
يقال أن يومًا ما تقابل إمام الجمعة السّابق (الحاج السيّد محمّد تقيّ) وملّا محمّد تقيّ البرغاني في مجلس، فقال الحاجّ السيّد محمّد تقيّ للملّا محمّد تقيّ البرغاني، ما هو الحكم الشّرعي الّذي يكون اليّوم حرامًا وبعد أسبوع يصبح حلالًا. فكّر ملّا محمّد تقيّ البرغاني ولم يعرف جوابًا لذلك. قال الحاجّ السيّد محمّد تقيّ إنّها صلاة الجماعة، عندما كنت أنا أقيمها كانت حرامًا، وبما أنّك أخذت منصب إمام الجمعة أصبحت حلالًا(25).
كان ملّا محمّد تقيّ في بعض فتاويه يخالف تمامًا الفقهاء الآخرين، وقدّ جاء ذكر بعض تلك الفتاوى في متون مؤلّفاته أو الكتب التّاريخيّة والفقهيّة. على سبيل المثال، كان مخالفًا على مدى سنين مع الغناء في إقامة العزاء بالتّشبيه والتّمثيل، ولكن على إثر مشاهدته لرؤيا (طبقًا لإدعائه) تغيّر رأيه.
يقال أنّه رأى حلمًا بأنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام قال له: “أيّها الملّا إنّ الغناء في مراثي الإمام الحسين جائز، لا تمنع النّاس”. من حينها أجاز الغناء في ذكر المصائب(26).
من جملة فتاويه أنّه كان يقول أنّ الحاكم الشّرعي يستطيع أن يأخذ الأجرة من النّاس، وكان يكرّر دائمًا من أعلى المنبر: “يوجب عليّ أن أحكم، ولكن لا يوجب عليّ الكتابة، ويجب أن أحصل على أجرة الكتابة”. لهذا كان النّاس يقولون أنّه يتقاضى الرّشوة(27).
يكتب بروفيسور براون أنّ الملّا محمّد تقيّ البرغاني كان يعتبر نفسه من أعلم المجتهدين في عصره(28).
كان ملّا محمّد تقيّ رجلًا ظالمًا، مغرورًا، عنيدًا وسليط اللّسان. رغم أنّه قام بالدّراسات الدّينيّة لسنين، إلّا أنّه كان من القشريّين. إنّ بيان حضرة عبد البهاء في كتاب تذكرة الوفاء (ص302) حيث يصفه بـ ”الظالم الجهول” يلخّص كلّ معايبه. رغم أنّ أخاه ملّا محمّد صالح برغاني (والد جناب الطّاهرة) كان من أعلم علماء وفقهاء عصره، وكان دائمًا يحميه ويبرز محبّته له، إلّا أنّ ملّا محمّد تقيّ كان يصفه عند الآخرين “بالأحمق وقليل الإدراك”(29).
كما أنّ جناب ملّا عبد الوهّاب القزويني (خال جناب الطّاهرة) وهو رجل فاضل ومجتهد جدير بالاحترام من العلماء الأصوليّين والإخباريّين بالأخصّ المذهب الشّيخي، كان يدافع عن ملّا محمّد تقيّ البرغاني، وفي البداية وفّر له وسائل شهرته(30) إلّا أنّ ملّا محمّد تقيّ كان ينفر منه ويخالفه. كانت إحدى أسباب الكدورة أنّ السيّد محمّد - الطباطبائي ابن السيّد عليّ الطباطبائي في أوائل شهرة الإخوة البرغاني جاء إلى قزوين، فسأله بعض العلماء عن المقامات العلميّة ودرجة اجتهاد الإخوة البرغاني. مثلًا سأله شخص: هل الحاجّ الملّا محمّد صالح (والد جناب الطّاهرة) مجتهد أم لا؟ فصرّح بأنّه مجتهد. وعندما سأله عن اجتهاد ملّا محمّد تقيّ البرغاني، لم يجب صراحة، ولكنّه قال “أنّ ملّا محمّد تقيّ شخص فاضل”. فأشاع الشّخص السّائل أنّ السيّد محمّد - الطباطبائي قال أنّ ملّا محمّد تقيّ هو شخص مجتهد. في حين أنّ السيّد محمّد - الطباطبائي لم يقل شيئًا من هذا القبيل. عندما علم ملّا عبد الوهّاب القزويني عن القضيّة، اعترض على السّائل في حضور السيّد محمّد - الطباطبائي وقال: لماذا نشرت هذه الشّائعة؟ حزن ملّا محمّد تقيّ بعد اطّلاعه بما جرى، ولذا ذهب السيّد محمّد طباطبائي فى أحد الأيّام للغذاء فى منزل ملّا محمّد تقيّ البرغاني وبعد إبراز لطفه كتب له رخصة الاجتهاد وسلّمها إليه، ثمّ صعد على المنبر وأعلن هذا الخبر للجميع. رغم أنّ ملّا عبد الوهّاب كان اعتراضه على السّائل في كمال الصّفاء، ولكن تسبّب في كدورة شديدة لملّا محمّد تقيّ البرغاني.
ولكن السّبب الرّئيسي للخلاف بين ملّا محمّد تقيّ البرغاني وملّا عبد الوهّاب، هو دفاع الأخير عن جناب الشيخ أحمد الأحسائي. خاصّة أنّ الشيخ أحمد، أقام بمنزل ملّا عبد الوهّاب في سفره الأخير إلى قزوين والّذي كان بدعوة من ملّا محمّد تقيّ، هذا الأمر كان سببًا في حقد وحسد ملّا محمّد تقيّ، وكان ينتقد ملّا عبد الوهّاب في كلّ مكان. كان ملّا محمّد تقيّ الفقيه الشّيعي، أوّل من كفّر جناب الشيخ أحمد الأحسائي وكان يذمّه على المنبر. تسبّبت إهانته وتكفيره للشيخ أحمد الأحسائي ومريدوه بأن تقوم جماعة من مؤيّدي الشّيخيّة بالاعتراض على ملا محمّد تقيّ البرغاني ومخالفته، وفي النّهاية كان سببًا في قيام أحدهم بقتله.
أمّا قصّة تكفير الشيخ أحمد الأحسائي بواسطة ملّا محمّد تقيّ، فهي قصّة طويلة خلاصتها إنّه بعد ورود الشيخ أحمد إلى قزوين، أقام في منزل ملّا عبد الوهّاب، كان يقضي النّهار في مسجد الجمعة بالصّلاة فيحضر علماء قزوين ويقتدون به، وكان جناب الشيخ أحيانًا يذهب لملاقاة علماء قزوين. في يوم من الأيّام ذهب مع عدد من العلماء للقاء ملّا محمّد تقيّ وبعد أداء المراسم والتّحيّات، سأل ملّا محمّد تقيّ الشيخ أحمد عن المعاد. عندما لم يجد الجواب متفقًا مع عقيدته جادل معه. فلم يحصل أيّ نتيجة من المناقشات، وفي النّهاية تفرّق الجمع، ولكن ملّا محمّد تقيّ كفّر الشّيخ رسميًّا. وعندما أشيع خبر التّكفير في قزوين، لم يحضر العلماء بعد ذلك إلى المسجد لأداء صلاة الجماعة بإمامة الشّيخ أحمد الأحسائي باستثناء ملّا عبد الوهّاب القزويني، فطلب هذا الأخير من الشّيخ أن يكتب رسالة بخصوص المعاد. لبّى الشّيخ طلبه ولكن محتوى تلك الرّسالة، لم ترفع الشّبهة أيضًا ولم تعط نتيجة.
كان حاكم قزوين الأمير عليّ نقي ميرزا ركن الدّولة، يعلم أنّ فتح عليّ شاه من مريدي الشّيخ أحمد، وأنّ الشّاه لن يرضى بما حدث بل وسيكون سببًا في إساءة سمعته أيضًا، لذا دعا العلماء ذات ليلة لرفع الشّقاق. ودعا أيضًا جناب شيخ أحمد وملّا محمّد تقيّ البرغاني. في حين حضور العلماء في المجلس، أجلس الشّيخ أحمد في صدر المجلس وبعده ملّا محمّد تقي ووضعوا سفرة لهما، ولكن ملّا محمّد تقيّ استخدم سفرة أخرى، وأثناء تناول العشاء كان يضع كفّه على طرف وجهه كيّ لا يرى الشّيخ. بعد انتهاء العشاء، بدأ الأمير ركن الدّولة بالكلام وقال أنّ جناب شيخ أحمد الأحسائي “من فحول علماء العرب والعجم” وواجب أداء الاحترام له، ويجب على الملّا محمّد تقيّ أن يحترمه أيضًا. ولكن ملّا محمّد تقيّ قال في الجواب: “لا يوجد صلح وإصلاح بين الكفر والإيمان، لأنّ الشّيخ له عقيدة في المعاد تخالف ضروريات الدّين الإسلامي ومن ينكر الضّروريات فهو كافر”. على أيّ حال لم يثمر سعي الأمير أيضًا، واستمرّ ملّا محمّد تقيّ في التّكفير والعناد.
ترك جناب الشيخ أحمد قزوين متوجّهًا إلى العراق(31). بعد انتشار خبر تكفير الشّيخ في بلاد إيران والعراق، بادر بعض علماء الشّيعة أيضًا إلى تكفيره، وكان من بينهم حاجّ ملّا محمّد جعفر أستر آبادي، ملّا آقا دربندي والشيخ محمّد حسن النّجفي صاحب “جواهر الكلام”(32).
يكتب التنكابني في كتاب قصص العلماء (ص 20) في باب أحوال ملّا محمّد تقيّ البرغاني مفاده التّالي: “كان يؤدّي صلاة الجمعة ثمّ يبدأ بالخطابة. كان سابقًا لعلماء عصره وزمانه في حسن البيان والموعظة، وكان بيانه في غاية الفصاحة والبلاغة والسّلاسة والملاحة وله تأثير في القلوب. وعادة ما كان ينقل في وعظه حكايات غريبة. وكان يبدع في مصيبة حضرة الإمام الحسين. ويؤدّي بيان المسائل العلميّة والدّينيّة على نحو أكمل، وله يدّ طولى في التّفسير والتّأويل. يحضر مجلس وعظه طلّاب كثيرون ويدوّنون تقاريره، وكان يمكث في المسجد من منتصف اللّيل حتّى الصّباح، وينشغل بالدّعاء والتّضرّع، وشوهد مرارًا في فصل الشّتاء حيث كان يعتلي سطح المسجد أثناء هطول الثّلج ينشغل بالتّضرّع والمناجاة، واقفًا رافعًا يديه نحو السّماء، بشأن كانت الثّلوج البيضاء تغطّيه تمامًا…”.
على أيّ حال، فقد استمرّ ملّا محمّد تقيّ بتكفير جناب شيخ أحمد الأحسائي وأتباعه، وقام بتعذيب نفًوس كثيرة بتهمة أنّهم من مريدي الشّيخ، وصادر ممتلكاتهم. استمرّت هذه الأحوال إلى الحدّ الّذي سيأتي شرحه، وعندما التحقت جناب الطّاهرة بجموع أتباع الشّيخ، سرعان ما آمنت بحضرة الباب، قام ملّا محمّد تقيّ وابنه ملّا محمّد(زوجها) بمخالفتها بشدّة، وفي النّهاية قام الميرزا عبد الله الشيرازي المعروف بالميرزا صالح – وكان من الشّيخيّة – والّذي كان يبحث في أحقّيّة دين حضرة الباب، بقتل ملّا محمّد تقيّ، حيث سنأتي على ذكر قصّة قتله بالتّفصيل ضمن شرح حياة جناب الطّاهرة. والجدير بالذّكر، أنّ توقيع حضرة الباب خطابًا للملّا محمّد تقيّ، أيضًا لم يجد نفعًا، وزاد في مخالفته.
بعد موت ملّا محمّد تقيّ لقّبه الشّيعة بالشّهيد الثّالث(33)، طعن المذكور ليلة 15 ذو القعدة 1263 هجريّة قمريّة / 1856 ميلاديّة وتوفّي في 17 من الشّهر نفسه(34)، وكان يبلغ من العمر 80 عامًا حين وفاته. دفن جسده في محلّ يسمّى (سلامگاه شاهزاده حسين). كان لملّا محمّد تقيّ عشرة أبناء وأربعة بنات، وكان جميع أبنائه وأحفاده يعرفون بآل الشّهيد – لقزوين(35). – طلب عدد من علماء الشّيعة من ملّا محمّد تقيّ البرغاني رخصة الاجتهاد. كان ملّا محمّد بن سليمان التنكابني(36) من العلماء الّذين أخذوا إذن الاجتهاد وأدرج ذلك في كتابه قصص العلماء(37). (ص 25–26).
هناك مؤلّفات عديدة للملّا محمّد تقيّ، أشهرها كتاب “مجالس المتّقين” ويحتوي على خمسين مجلسًا. حيث يذكر في هذه المجالس المواعظ الدّينيّة، ومباحث فقه الإسلام، وتفسير القرآن الكريم، والحكايات المختلفة وذكر مصيبة استشّهاد الإمام الحسين. طبع هذا الكتاب وأضيف ملحق له يحتوي على شرح لمقتل ملّا محمّد تقيّ نفسه. تمّ تأليف الكتاب سنة 1258 هـجريّة قمريّة 1842 ميلاديّة وأكمله بعد عدّة سنوات. ومن مؤلّفاته الأخرى كتاب “عيون الأصول” في مجلّدين، و”علم الأصول” وهو تقريبًا بحجم كتاب “القوانين” للميرزا قمي. من أهمّ مؤلّفاته كتاب باسم “منهج الاجتهاد” والمكوّن من أربعة وعشرين مجلّدًا في شرح كتاب “الشّرائع” المعروف. بدأ في تأليف هذا الكتاب سنة 1226 هجريّة قمريّة 1811 ميلاديّة، واستمرّ أكثر من خمسة عشر سنة في كتابته(38).
ومن المعروف أنّ شيخ محمّد حسن النّجفي صاحب كتاب “جواهر الكلام” (ذي المجلّدات الأربعة والعشرين) قد استفاد من كتاب “منهج الاجتهاد” لملّا محمّد تقيّ عند تأليف بعضًا من مجلّدات كتابه(39). كان ملّا محمّد تقيّ البرغاني أثناء تأليف الكتاب يمتنع عن الزّيارات والذّهاب إلى مجالس العرس أو العزاء وكان يجلس كلّ يوم ساعتين قبل الغروب ويشرف على مشاكل النّاس.
لقد شاهدّت (المؤلّف) النّسخة الأصليّة للكتاب العظيم عند أحفاد ملّا محمّد تقيّ أثناء انشغالي في جامعة العلوم الإداريّة والتّجارة في مدينة قزوين 1973–1978 ميلاديّة، وأثناء تحقيقي عن أحوال وآثار وأجداد جناب الطّاهرة في أوقات فراغي، لفت نظري هذه اللّطيفة الدّقيقة الّتي جاء بها، بأنّ المقصود من سرّ التّنكيس، هو أن “يجعل أعلاهم أسفلهم وأسفلهم أعلاهم”. كم من علماء الصّف الأوّل، من أمثال ملّا محمّد تقيّ الّذي كان له حسب الظّاهر أعلى المقامات الدّينيّة، ولكن نتيجة إعراضهم عن أمر الله، تنزّلوا إلى أدنى مرتبة، وكم من الأمّيّين الّذين حسب الظّاهر كانوا في المراتب الدّانية، ارتقوا إلى المقامات العالية نتيجة إيمانهم بالمظهر الإلهي، وخلّدت أسماؤهم في سجلّ الملكوت وفي عالم النّاسوت. فقد كان محمّد جعفر منقّي القمح من تلك الفئة حيث خلّد اسمه في اثنين من أمّهات الكتاب لهذا الدّور الأعظم (كتاب الأقدس المستطاب، وكتاب البيان الفارسي المبارك).
كتب تلاميذ ملّا محمّد تقيّ شروح وتفاسير على بعض رسائله، ولا تزال تلك الشّروح والّتفاسير موجودة(40).
كان هذا شرح أحوال وآثار ملّا محمّد تقيّ البرغاني. أما الأخ الأصغر لملّا محمّد تقيّ كان اسمه ملّا محمّد صالح وهو والد جناب الطّاهرة واّلذي سنشرع الآن في شرح أحواله وآثاره.
كان ملّا محمّد صالح البرغاني الّذي لقّبه حضرة عبد البهاء “فاضل قزوين والعالم النّحرير”(41)، من أبرز علماء وفضلاء عصره. بلغ في مراتب الزّهد والعبادة مقامًا بحيث أسماه النّاس “سلمان العصر”(42). قام بتحصيل العلم بمعيّة إخوته في قزوين، وقم، وأصفهان والعتبات العاليات، وتتلّمذ فترة من الزّمن لدى السيّد عليّ الطباطبائي، ولكن كانت عمدة تحصيلاته في مدرسة السيّد محمّد - الطباطبائي (ابن السيّد عليّ). كان ملّا محمّد صالح موضع تقدير واحترام لدى فتح عليّ شاه ومحمّد شاه، وكانا يكنّان له محبّة خاصّة. كان محمّد شاه أثناء تولّيه فترة ولاية العهد، وفي سفر الجهاد، يفرش السّجّادة للملّا محمّد صالح ويقوم على خدمته في أموره الخاصّة بأمر الشّاه(43).
كان ملّا محمّد صالح شديدًا وصعبًا في تنفيذ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. ونتيجة همّته هو وإخوته، فقد بدّل مدينة قزوين الّتي كانت معروفة منذ القدم بمصدر إنتاج الخمر إلى دار للعبادة. وكان معروفًا أنّه يذرف دموعًا كثيرة في ذكر مصيبة استشّهاد حضرة الإمام الحسين، ويتسبّب في بكاء الحضور في المجلس أيضًا. لم يكن يقبل في ذكر المصيبة من أيّ أحد أن يستند إلى الأخبار غير الموثوقة(44). إنّ كثرة قراءة ملّا محمّد صالح وانشغاله بتأليف الكتب العديدة وإدراكه واستنباطه ودرايته الفقهيّة، وسلامة نفسه، كانت سببًا في أغلب الأوقات بألّا يتّفق مع أخيه الأكبر ملّا محمّد تقيّ، في حين كان فضل وكمال ملّا محمّد صالح أكثر بكثير من أخيه بشهادة أهل العلم والتّحقيق، إلّا أنّ أخوه هذا كان – يصفه – بأنّه شخص قليل الإدراك.
كان المرح من طباع شخصيّة ملّا محمّد صالح المميّزة، فكان يجذب ألوف النّفوس بمرحه ولطف بيانه وقوّة استدلاله، بحيث كان يستولى على قلب كلّ مكابر مجادل ويجعله مطيعًا، وأينما حلّ كان موضع احترام كبار ذلك المكان، كما أنّ سلطان اقليم حلب استضافه، وأعطاه هدايا كثيرة، عندما قام بإقناعه في إثبات إمامة ووصاية الإمام عليّ عليه بهاء الله(45).
كانت زوجة ملّا محمّد صالح تدعى آمنة. ولدت في قزوين سنة 1202 هـجريّة قمريّة/1787ميلاديّة وهي حفيدة السيّد حسين القزويني وأيضًا السيّد محمّد مهدي بحر العلوم من أكبر علماء وفقهاء الشّيعة، وسيتمّ الإشارة إلى أحوال السيّد حسين القزويني لاحقًا. أمّا السيّد محمّد مهدي بحر العلوم (1154–1212هجريّة قمريّة / 1741–1797 ميلاديّة) فقد كان في الواقع بحرًا زخّارًا في المعارف الإسلاميّة ومن مشاهير المجتهدين الأصوليّين. وجناب الحاجّ السيّد جوّاد الكربلائي حفيد السيد محمد مهدي بحر العلوم –كان من كبار أصحاب الدّورة البابيّة والبهائيّة. على أيّ حال كانت آمنة جميلة وجذّابة، وتزوّجت من ملّا محمّد صالح البرغاني في سنّ السّابعة عشر. درست آمنة الفقه والأصول عنده وعند أخيها ملّا عبد الوهّاب القزويني، ودرست الفلسفة لدى ملّا آغا حكمي القزويني في مدرسة الصّالحيّة. كانت مدرسة الصّالحيّة في ذلك الوقت تخصّص قسمًا خاصًا لتعليم النّساء، وكان أغلب الأساتذة منتسبين إلى عائلة آمنة. استفادت هذه السّيّدة الفاضلة كثيرًا من محضر جناب الشيخ أحمد الأحسائي أيضًا في قزوين، والتحقت بجماعة الشّيخيّة قلبيًّا، ولكن لم تصرّح بذلك خوفًا من زوجها وبالأخصّ شقيق زوجها ملّا محمّد تقيّ البرغاني. كان الملّا محمّد صالح يحيل إليها مشاكل النّساء في المسائل الشّرعيّة، وكذلك كانت تدرّس النّساء المعارف الإسلاميّة. كانت مدرّسة لمدّة سنين في الجامعة الإسلاميّة العظيمة (مدرسة الصّالحيّة بقزوين).
توفّت آمنة في حدود سنة 1269 هـجريّة قمريّة / 1852 ميلاديّة. ربما توفّيت من حزنها الشّديد وغمّها لفقدان ابنتها العزيزة جناب الطّاهرة. لديها آثار شعريّة منها قصيدة طويلة مكوّنة من أربعمائة وثمانون بيتًا على لسان السّيّدة زينب بخصوص واقعة كربلاء(46).
كانت والدة آمنة واسمها فاطمة خانم أيضًا سيّدة فاضلة. تتلمذت فاطمة خانم (1172–1260 هجريّة قمريّة / 1758–1844ميلاديّة) لدى والدها السّيّد حسين القزويني وعمّها السّيّد حسن القزويني وأيضًا السّيّد محمّد مهدي بحر العلوم، وبعد زواجها من ملّا محمّد عليّ القزويني ابن الشّيخ عبد الكّريم القزويني، استفادت الكثير من زوجها علميًّا إلى أن اكتسبت المهارة الكاملة في المعارف الإسلاميّة العقليّة والنّقليّة. كانت فاطمة خانم أيضًا أستاذة في الوعظ والخطابة، واستفادت النّساء كثيرًا في حضورها، كانت سيّدة زاهدة صافية القلب تقول الشّعر الجميل. أصبح أبناؤها جميعًا من كبار علماء زمانهم، سنشير إلى شرح أحوال أحدهم وهو جناب ملّا عبد الوهّاب القزويني الّذي آمن بقلبه بأمر حضرة الباب(47).
سعى ملّا محمّد صالح كثيرًا كيّ لا تميل ابنته جناب الطّاهرة إلى مكتب الشّيخيّة ولكنّه لم يوفّق، ويئس تمامًا بعد إيمانها بحضرة الباب، ومع ذلك حاول كثيرًا أن يقنعها بترك الدّين الجديد ولكنّه لم يفلح. كان يقول لجناب الطّاهرة على الدّوام أنت بسعة فضلك وشدّة ذكائك، لو كنت قد ادّعيّت النّبوّة لكنت قبلت ادّعاءك، أتأسّف أنّك تتّبعين هذا الصّبي الشّيرازي الجاهل(48).
لقد حاولت جناب الطّاهرة مرارًا سواء وهي في كربلاء أو قزوين أو طهران حضورًا أو بالمراسلة أن تبلّغ أفراد عائلتها بالأخصّ والدها للدّخول في ظلّ الأمر الجديد ولكنّها لم توفّق. تصرّح جناب الطّاهرة في رسائلها إلى والدها (بعضها موجودة حتّى الآن) بأنّها تتضرّع وتدعي في الأماكن المقدّسة لإيمان والدها. حسب الشّرح الّذي سيأتي لاحقًا، لقد أنزل حضرة الباب توقيعًا خاصًّا مخاطبًا ملّا محمّد صالح أثناء توقّفه القصير في (سياه دهان) بقزوين، ودعاه للإيمان ولنصرة الأمر البديع. ورغم أنّ ملّا محمّد صالح لم يؤمن، إلّا أنّه دحض جميع التّهم الموجّهة لابنته ومن بينها دورها في التّواطؤ على قتل الحاجّ ملّا محمّد تقيّ.
ينقل جناب سمندر في تاريخه (ص 74–76) حكاية بهذا الشّأن خلاصتها كالتّالي: حكى أحد الأصدقاء من الّذين يعتمد عليهم بأنّه حضر مجلسًا في الفترة الّتي تلت طعن ومقتل حاج ملّا محمّد تقيّ، وكان كلّ الحضور في المجلس من كبار العلماء والأعيان في قزوين، ودار الحديث عن جناب الطّاهرة، وكانت حينها تعيش في منزل والدها. خاطب سيّدًا من أحد العلماء المشهورين في قزوين الملّا محمّد صالح وأورد بعض الاتهامات الموجّهة لجناب الطّاهرة. دافع الملّا محمّد صالح عن جناب الطّاهرة ودحض جميع التّهم، ولكن السّيّد المذكور كان سيء النّيّة بدرجة أنّه قال بيتًا من الشّعر من باب إهانة ملّا محمّد صالح وتحقيره ما مضمونه:
لم يبق أيّ مهابة من تلك السّلالة
بحيث يسمع صياح الدّيك من الدّجاجة
جرح قلب ملّا محمّد صالح وذرف الدّمع بحيث تبلّلت محاسنه فالتزم الصّمت. مات السّيّد المذكور سريعًا، وتلاشت أسرته، وأذيع عن ابنته أقوالًا غير لائقة، حتّى تصبح عبرة للجميع.
لم يتحمّل ملّا محمّد صالح سماع تلك الاتهامات، فترك قزوين إلى العتبات العاليات وبقي هناك عدّة سنوات بعد استشهاد الطّاهرة حزينًا مهمومًا، إلى أن توفّي عام 1283 هجريّة قمريّة / 1866 ميلاديّة(49). في يوم خروج ملّا محمّد صالح من بيته في كربلاء (الّذي كان قد اشتراه قبل عدّة سنوات)، ذهب إلى مرقد حضرة الإمام الحسين عليه بهاء الله. بعد الزّيارة والصّلاة انشغل بالدّعاء فانقلب حاله وسقط أرضًا، ونقلوه إلى منزله وتوفّى هناك(50).
ملّا محمّد صالح لديه أربع بنات وستّة أولاد، سوف يتمّ الإشارة إلى شرح حياتهم ضمن حياة جناب الطّاهرة. كما توجد له مؤلّفات عظيمة وعديدة. من ضمنها كتاب “غنيمة المعاد” في 14 مجلّد (وهو شرح عن الإرشاد)(51). كتاب آخر أيضًا في مجلّدين باسم “المسالك في شرح الإرشاد”. وكتاب “بحر العرفان”(52) في عدّة مجلّدات، وأيضًا “في تفسير القرآن الكريم” وهو من الآثار المهمّة لملّا محمّد صالح. وأيضًا من أهمّ مؤلّفاته شرح “نهج البلاغة” في أربعة مجلّدات(53). كما لديه أشعار منظومة بالعربيّة والفارسيّة. لا يمكننا أن نذكر جميع آثاره في هذا المقام، وعلى الرّاغب في المزيد من الاطّلاع أن يرجع إلى كتب شرح حال علماء الشّيعة في القرن الثّالث عشر الهجري (19 ميلادي)(54).
بعد شرح أحوال وآثار الأخوين الحاجّ ملّا محمّد تقيّ والحاجّ ملّا محمّد صالح يستلزم أن نتناول الآن شرح أحوال الشّقيق الأصغر الحاجّ ملّا محمّد عليّ البرغاني. كانت دراساته في قزوين، وقم، وأصفهان ثمّ العتبات العاليات مثل أخويه. كان من التّلاميذ البارزين لجناب الشّيخ أحمد الأحسائي واستفاد فترة أيضًا من محضر السيّد كاظم الرّشتي. كان ملّا محمّد عليّ، طبقًا لقول أخيه ملّا محمّد صالح ومؤرّخي تاريخ عصر القاجار، في غاية الزّهد والتّقوى، وكان يقضي أوقاته أغلب اللّيالي في التّضرّع والابتهال. ولكيّ لا يغلبه النّوم في اللّيل كان يربط سلسلة في رقبته معلّقًا طرفها بسقف الحجرة بحيث كلّما تنحني الرّقبة يستيقظ(55).
كان ملّا محمّد عليّ لا مثيل له في الفضل والكمال، هذا مشهود من محتوى آثاره وشهادة علماء زمانه علاوة على النّصوص المباركة. كان ملّا محمّد عليّ من الشّيخيّة وآمن بحضرة الباب لذا خالفه إخوته بشدّة، بالأخصّ ملّا محمّد تقي. جاء إقرار ملّا محمّد عليّ التّحريري عن أحقّيّة حضرة الباب في آخر “الصّحيفة الجعفريّة” أو “شرح دعاء زمان الغيبة” والمعروف أيضًا ب ”تفسير الهاء”. نقل كلمات حضرة الباب وكذلك أحد العلماء البارزين من الشّيخيّة والبابيّة في آخر الرّسالة تحت عنوان “الشّهادتين” كدليل على أحقيّة حضرته. نشرت وطبعت هذه الشّهادة التّحريريّة في كتاب “ظهور الحقّ” تأليف جناب فاضل المازندراني(56).
يوصي حضرة الباب في توقيعاته النّازلة مخاطبًا إيّاه لهداية أقاربه لكن مع مراعاة الحيطة والحكمة. من بين التّواقيع النّازلة بإعزازه، ذلك التّوقيع النّازل في سياه دهان بقزوين. يستشهد حضرة بهاء الله في كتاب الإيقان بالدّلائل الّتي أوردها ملّا محمّد عليّ في أحقيّة حضرة الباب.
بخلاف أخويه، لم يكن ملّا محمّد عليّ راغبًا في سلطة دينيّة أو دنيويّة، وقضى عمره في تحصيل المعارف الدّينيّة والعرفانيّة. أشار الكتّاب الإسلاميّين، كلّ منهم بطريقته، إلى إيمانه، يكتب ملّا محمّد التنكابني في كتاب “قصص العلماء”: “كانوا ثلاثة إخوة حاجّ ملّا محمّد تقي وهو الأخ الأكبر، وملّا محمّد صالح الأخ الأوسط، وكان الاثنان من الفقهاء، والأخ الأصغر هو حاجّي ملّا محمّد عليّ من تلاميذ الشيخ أحمد الأحسائي، وفي زمن إعلان بعثة حضرة الباب (الميرزا عليّ محمّد) كان يميل إليه أيضًا، وكان يحضر مجلس وعظ مريدي الباب”. (ص 19).
يكتب سيّد محمّد عليّ گلريز أيضًا في المجلّد الأوّل من كتاب “مينودر أو قزوين باب الجنّة” بخصوص إيمان ملّا محمّد عليّ ما يلي: “كان حاجّ ملّا محمّد عليّ، الأخ الأصغر لحاجّ ملّا محمّد تقيّ من مريدي الشّيخ أحمد الأحسائي، التحق بعد ذلك بحضرة السيّد عليّ محمّد (الباب) وعاش أثناء الأحداث والوقائع منبوذًا إلى أن توفّى”. (ص 471)(57).
على أيّ حال اعتبر المدرّس التبريزي ملّا محمّد عليّ من أكابر علماء الإماميّة (58)، وكتب عنه محمّد حسن خان اعتماد السّلطنة وزير مطبوعات عصر القاجار بأنّه من أكبر علماء عصر القاجار(59).
كتب ابن ملّا محمّد عليّ واسمه عبد الحسين القزويني، شروحًا على بعض كتب والده(60).
لم استطع (مؤلّف الكتاب) العثور حتّى الآن على المستندات الخاصّة بأحداث الأيّام الأخيرة لجناب ملّا محمّد عليّ البرغاني عليه رضوان الله، ولا سنة صعوده. يتّضح من القرائن أنّ المذكور عاش حتّى حدود سنة 1270 هـجريّة قمريّة (1853 ميلاديّة)(61).
من أهم آثار ملّا محمّد عليّ، توضيح الآيات القرآنيّة والمباحث الفلسفيّة العرفانيّة الإسلاميّة، ولكن لديه أيضًا مؤلّفات هامّة في الفقه الشّيعي(62). كان ملّا محمّد عليّ مثل أخيه ملّا محمّد صالح، صاحب آثار منظومة. من أهمّ مؤّلفاته الفقهيّة كتاب “مجمع المسائل” في شرح “مختصر نافع” للعلّامة الحلّي(63). ومن أشهر مؤلّفاته كتاب “رياض الأحزان” مكوّن من ثمان مجلّدات، في توضيح المسائل الفلسفيّة والعرفانيّة(64). من مؤلّفاته الأخرى “رموزات العارفين”، “لسان العارفين”، “معراج العارفين”، “غنائم العارفين”، “مشكاة العارفين”، “منهاج السالكين” و”حياة الإيمان”.(65)
أمّا من أقارب وأجداد جناب الطّاهرة من ناحية الأم، فنذكر عددًا منهم. الأوّل هو السّيّد حسين القزويني(66)، وابنته فاطمة خانم، وهي والدة آمنة، وآمنة والدة جناب الطّاهرة(67). كان آقا السّيّد حسين من أبرز أهل الثّقة من علماء الشّيعة ومن أعظم فقهاء ومجتهدي أواخر القرن الثّاني عشر والسّنوات الأولى للقرن الثّالث عشر الهجري. كان معاصر آقا محمّد باقر البهبهاني ومن أساتذته السيّد عليّ الطباطبائي (صاحب كتاب “رياض المسائل”) والميرزا أبو القاسم القمي المعروف بميرزاي قمي، والسّيّد محمّد مهدي بحر العلوم.
توفّي السّيّد حسين سنة 1208 هـجريّة قمريّة / 1793ميلاديّة. مرقده في مدينة قزوين، وبزعم أهالي البلد، يعتبر قبره مكانًا لتلبية الحاجات. من أهمّ آثاره: “براهين السّداد”، “الدّر الثّمين”، و”معارج الأحكام”(68).
الملّا محمّد عليّ القزويني هو صهر السّيّد حسين القزويني – كما جاء شرحه سابقًا، وهو والد آمنة (والدة جناب الطّاهرة)، وكذلك الملّا عبد الوهّاب القزويني (خالها(69). كان ابن السّيّد حسين القزويني، آقا السيّد جوّاد القزويني أيضًا من كبار علماء قزوين في عصره الّذي تزوّج من ابنة السيّد محمّد مجاهد وتوفّي سنة 1278 هـجريّة قمريّة / 1861 ميلاديّة(70). السّيّد جوّاد هذا يختلف عن ملّا جوّاد البرغاني وهو من أنساب جناب الطّاهرة، وسوف نشير إلى اسمه وعاقبته لاحقًا.
كان والد السّيّد حسين القزويني، مير محمّد إبراهيم القزويني، من أبرز فقهاء الشّيعة في إيران أيضًا. تتلّمذ لسنوات عديدة لدى ملّا محمّد باقر المجلسي المعروف (صاحب كتاب “بحار الأنوار”) وأيضًا لدى والده محمّد معصوم القزويني. توفّى مير محمّد إبراهيم في حدود سنوات 1145–1149 هجريّة قمريّة / 1732–1736 ميلاديّة، في الثّمانين من العمر(71). لديه آثار مهمّة في توضيح الفقه الشّيعيّ وسائر المعارف الإسلاميّة(72).
على أنّ الأهمّ من بين أجداد الطّاهرة من ناحية الأمّ، هو مير محمّد معصوم القزويني، والّذي كان من علماء وحكماء القرن الحادي عشر الهجري/السّابع عشر الميلادي، البارزين. كان تلميذًا فاضلًا من تلاميذ الميرزا رفيعاي النائيني ومن معاصري ملّا محسن فيض وملّا محمّد تقيّ المجلسي الأوّل (والد ملّا محمّد باقر المجلسي الثّاني). كانت وفاته في حدود 1191–1192 هـجريّة قمريّة /1777–1778 ميلاديّة(73). لدى مير محمّد معصوم آثار قيّمة في توضيح المسائل الفلسفيّة والعرفانيّة ومختلف المعارف الإسلاميّة(74).
ومن أقارب جناب الطّاهرة من ناحية الأم في القرن 13 هجريّة قمريّة / 19 ميلاديّة، خالها جناب ملّا عبد الوهّاب القزويني. ولد في قزوين سنة 1140هـجريّة قمريّة / 1727 ميلاديّة. إنّه كما ذكر سابقًا حفيد ابنة السّيّد حسين القزويني، وشقيق آمنة (والدة جناب الطّاهرة)، أنهى ملاّ عبد الوهّاب دراسته الإبتدائيّة في قزوين وبعض المدن الإيرانيّة، ثمّ ذهب إلى العتبات العاليات لاستكمال الدّراسة. استفاد فترة من الزّمن أيضًا من محضر جناب الشّيخ أحمد الأحسائي والتحق بجمع محبّيه، وكما جاء شرح ذلك سابقًا استضاف ملّا عبد الوهّاب جناب الشّيخ في منزله في قزوين عدّة مرّات. كان ملّا عبد الوهّاب موضع احترام عميق من علماء إيران وفتح عليّ شاه شخصيًّا، شاه القاجار. كان المذكور (عبد الوهّاب القزويني) هو الشّاب الّذي تسبّب في اشتهار الإخوة البرغاني وخاصّة ملّا محمّد تقي في قزوين، ولكن الأخير بعد أن كسب الشّهرة الكافية وسيطر على النّاس في قزوين لم يردّ له الجميل كما ينبغي.
كان ملّا عبد الوهّاب جامعًا للمعقول والمنقول وهو من أعظم علماء الشّيعة والشّيخيّة في زمانه. يشير جناب فاضل مازندراني في المجلّد الأوّل من كتاب ظهور الحقّ (النّسخة الخطّيّة) إلى إقبال وإيمان ملّا عبد الوهّاب بحضرة الباب. ويكتب في المجلّد الثّالث: “وقدّ أقبل الحاجي للأمر وأظهر إيمانه” (ص 304). يكتب ملّا جعفر القزويني في تاريخه، أنّ ملّا عبد الوهّاب لم يعترف بإيمانه علنًا أبدًا في حضور الجمع(75).
أنزل حضرة الباب توقيعًا لملّا عبد الوهّاب أثناء إقامته القصيرة في قرية (سياه دهان) بقزوين، ودعاه إلى نصرة الأمر البديع. منع الملّا محمّد صالح برغاني (والد جناب الطّاهرة)، الملّا عبد الوهاب في (سياه دهان) من التّشرّف بمحضر حضرة الباب، وقال له أنّ بناتي وأبناءك آمنوا بالظّهور البديع ونحن موضع اتّهام. لذا لو نتدخّل في هذا الأمر سيقوم العلماء المخالفون لنا بإذلالنا وإسقاطنا من الاعتبار(76). ورغم ذلك فإنّ اثنين من أبناء الملّا عبد الوهّاب، الملّا محمّد عليّ القزويني والميرزا محمّد هادي القزويني آمنوا بظهور حضرة الباب وأصبحوا من حروف الحيّ. استشهد الملّا محمّد عليّ الأخ الأصغر(77)، والّذي كان زوج مرضيّة (شقيقة جناب الطّاهرة) في قلعة طبرسي. أمّا الميرزا محمّد هادي الأخ الأكبر فلم يدخل في المهالك وبقي حيًّا وفي النّهاية التحق بالميرزا يحيى أزل.
يبدو من القرائن أنّ الملّا عبد الوهّاب اشتهر بدار الشّفائي(78). على أيّة حال وصف حضرة الباب في آثاره المباركة، الملّا عبدالوهّاب بأنّه عالم جليل. في التّوقيع المبارك لحضرة الباب المتعلّق بزيارة الجامعة الصّغيرة يتفضّل حضرته عن ملّا محمّد عليّ ابن عبد الوهّاب ما يلي: “أخي محمّد عليّ نجل العالم الجليل الحاجّ عبد الوهّاب القزويني”(79). كان لملّا عبد الوهّاب ابن آخر معروف باسم آقا ميرزا يوسف دار الشّفائي(80). الّذي لم يؤمن بالأمر البديع. قام السيّد جوّاد موسوي خوانساري(81) طبقًا لطلب ملّا عبد الوهّاب بتجميع شهاداته في سنة 1248 هجريّة قمريّة / 1832 ميلاديّة ويذكره في بداية المجموعة، باسم المولى الجليل والعالم النّبيل ذي الشّرف الأصيل، قدوة أهل التّحقيق وزبدة أهل التّدقيق(82). لقد تّم تجليل ملاّ عبد الوهّاب في الكتب كثيرًا، فقد خصّص آقا بزرگ طهراني في كتاب “الكرام البررة” عدّة صفحات عن أحواله وآثاره، واعتبر المذكور من كبار علماء القرن الثّالث عشر الهجريّ (19 ميلاديّ).
مرض ملّا عبد الوهّاب في سنّ الثّالثة والثّمانين وكان يقيم في النّجف، ووصّى أن يدفن بعد وفاته قرب مرقد الإمام عليّ عليه بهاء الله، لذا تمّ دفنه بعد صعوده في محرّم سنة 1264 هجريّة قمريّة / ديسمبر1847 ميلاديّة في حرم حضرة الإمام عليّ(83).
من تصريح لحضرة وليّ أمر الله، ولدت جناب الطّاهرة سنة 1233 هـجريّة قمريّة / 1817 ميلاديّة في قزوين(1). من الصّعب نسيان هذه السّنة في تاريخ العالم أبدًا، لأنّها سنة ميلاد الجمال الأبهى. اتّفق أغلب المؤرّخين البهائيّين وغير البهائيّين على ولادة جناب الطّاهرة في هذه السّنة، إلّا أنّ مؤلّف كتاب الكواكب الدّرّيّة(2) اعتبر سنة ولادتها في 1230 أو 1231هـجريّة قمريّة / 1814 أو 1815 ميلاديّة، والدّكتور عليّ الوردي قال عن سنة ولادتها 1814 ميلاديّة(3).
وذكرت أيادي أمر الله السّيّدة مارثا روت في كتاب Tahirih سنة ميلاد جناب الطّاهرة بالاستناد لأقوال أفراد وكتّاب مختلفين بصورة غير مؤّكّدة، بين 1817–1820(4). ولكن في المقالات اللّاحقة ذكرت بيقين ولادتها سنة 1817 ميلاديّة(5). إنّ يوم ميلادها غير معلوم، ما ذكره جناب فاضل مازندراني نقلًا عن جناب نبيل الزرندي بأنّ ولادة جناب الطّاهرة هو ليلة ميلاد الجمال الأبهى (6) فهو سهوّ القلم، وبالتّوجه للتّرجمة الإنجليزيّة لحضرة وليّ أمر الله نجد أنّه لا أساس للتّاريخ المذكور. لأنّ ‘النّبيل’ هو الّذي صرّح عن سنة ميلادها(7). ويجب أن يعلم بأنّ الكتاب الّذي كتب في صفحته الأولى التّاريخ الدّقيق لميلاد جناب الطّاهرة، تمّ حرقه مع الكتب والأوراق الأخرى وملابسها بعد استشهادها بواسطة الأعداء(8).
سرعان ما نطقت جناب الطّاهرة ومشت وهي في الشّهر السّابع من عمرها(9)، فمنذ بداية حياتها أثبتت أنّ الله خلقها للحركة والخطابة. كانت طفلة مليحة اللّسان، وقد حيّرت منذ طفولتها الجميع بذكائها وفطنتها. تزامنت ولادتها مع زيادة ثروة والدها وشهرته. كان وجودها باعثًا لسرور أعضاء عائلة الإخوة البرغاني. ترعرعت جناب الطّاهرة في أحضان والدتها الدّافئة “آمنة”. تلك الأمّ المثقّفة ذات الجمال الّتي كانت بتمام وجودها مفتونة ومنجذبة لجمال ابنتها. تحكي الرّوايات الموجودة أنّ والدة جناب الطّاهرة كانت أيضًا تتمتّع بحسن وجمال فريد من نوعه(10). فهي ابنة ملّا محمّد عليّ القزويني، ومن طرف الأمّ من أحفاد السّيّد حسين القزويني من مشاهير علماء الشّيعة في إيران.
الاسم الأصلي لجناب الطّاهرة هو فاطمة(11) وهو الاسم الّذي اختاره لها والدها (الملّا محمّد صالح)(12). ولكن الوالد والأقارب كانوا يسمّونها في المنزل بأمّ سلمة ولا يكرّرون اسم فاطمة احترامًا لجدّتها فاطمة خانم(13). لذا يتفضّل حضرة عبد البهاء في كتاب تذكرة الوفاء (ص 291) في الجزء الخاصّ بحياة جناب الطّاهرة قائلًا: “اسمها المبارك أمّ سلمة”. وكانت معروفة أيضًا بين أفراد عائلتها وأقاربها بلقب زرين تاج وزكيّة(14).
الأخت الصغرى للطّاهرة اسمها مرضيّة، وكانت أيضًا آية من الجمال والكمال. وسيأتي شرح لسيرتهالاحقًا، تزوّجت مرضيّة من ملّا محمّد عليّ القزويني ابن خالها وسافرت مع الطّاهرة إلى كربلاء وبعد ظهور حضرة الباب آمنت به. كان للطّاهرة أخت أصغر منها أيضًا اسمها ربابة. قامت ربابة بدراسة اللّغة العربيّة، والأدب الفارسيّ، والفقه، والأصول، والتّفسير والحديث، عند كلّ من: والدها، وعمّها، وجناب الطّاهرة، وملّا محمّد عليّ القزويني وأخيها الميرزا عبد الوهّاب، وتعلّمت الفلسفة لدى الشّيخ ملّا آقا حكمي. تزوّجت من الميرزا هبة الله القزويني (رفيعي). كانت ربابة واعظة لا مثيل لها، وصاحبة فتوى في المسائل الفقهيّة. اشتهرت بمساعدتها للمحتاجين والمساكين، وكانت تنتقد في خطاباتها ناصر الدّين شاه وأقاربه وحاشيته، ولكن لم تقع في مهلكة الخطر قطّ. لم أجد حتّى الآن (الكاتب) سندًا يدّل على إيمان ربابة بالأمر الجديد، والاحتمال الأقوى أنّها لم تؤمن بالأمر المبارك. توفّيت ربابة سنة 1297 هجريّة قمريّة / 1879 ميلاديّة(15).
ذكر أغلب من تناول شرح حياة جناب الطّاهرة، بأنّ لديها عدّة إخوة وأخوات. في حين يكتب جناب فاضل المازندراني: “كان لحاجّي ملّا محمّد صالح ابنتان وولد واحد”(16). ووافق جناب ملك خسروي هذا القول أيضًا(17). يكتب جناب سمندر في تاريخه(ص344): “من أولاد حاجّي ملّا صالح ابنتان، أمّ سلمة ومرضيّة خانم وكانتا فاضلتان وعالمتان”. يتّضّح من بيان جناب سمندر أنّ ملّا محمّد صالح كان لديه أولاد آخرون أيضًا.
يكتب سمندر عن كيفيّة ورود جناب الطّاهرة إلى قزوين بعد رجوعها من سفر كربلاء (ص 349): “… إلى أن وصلت الأخبار والمراسلات من تلك البلدان إلى إيران ووصلت لوالدها المرحوم ملّا صالح، حيث بعث ابنه مع جماعة من الأعزّة والمحترمين ليأتوا بها إلى قزوين”.
يذكر نبيل الزرندي اسم أحد إخوان الطّاهرة وهو الميرزا عبد الوهّاب وبأنّه اعترف بصدق الرّسالة ولكن لم يقم بأيّ خدمة(18). زوجة الميرزا عبد الوهّاب هي ابنة عمّه ملّا محمّد تقي البرغاني واسمها أمّ كلثوم. ولدت أمّ كلثوم سنة 1224 هجريّة قمريّة / 1809 ميلاديّة في قزوين، درست مقدّمات الأدب الفارسيّ والعربي والمعارف الإسلاميّة لدى عمّة والدها، ماه شرف قزويني، ومن ثمّ درست علم الفقه والأصول لدى والدها وعمّها ملّا محمّد صالح البرغاني. كانت أمّ كلثوم تدرّس النساء المعارف الإسلاميّة سنوات كثيرة، وتعلّمت الفلسفة من ملّا آغا حكمي القزويني. وجعلت مكتبته وقفًا لطلّاب العلوم الدّينيّة سنة 1268 هجريّة قمريّة / 1852 ميلاديّة، أشرف عليها بدايةً، زوجها الميرزا عبد الوهّاب البرغاني. وبعد وفاته انتقلت إلى الابن الثّاني لملّا محمّد صالح، وهو الشيخ حسن. كانت أمّ كلثوم صاحبة مؤّلفات من ضمنها تفسير سورة الفاتحة في القرآن الكريم. رغم أنّ المذكورة لم تؤمن بالأمر المبارك ولكنّها كانت تكنّ لجناب الطّاهرة محبّة كبيرة(19).
كان الميرزا عبد الوهّاب كما سيأتي ذكره جامعًا للمعقول والمنقول، ولا مثيل له في البيان والخطابة في عصره. يكتب أيادي أمر الله جناب الميرزا حسن أديب الطالقاني في شرح مختصر عن حياة جناب الطّاهرة بخصوص الميرزا عبد الوهّاب: “…كما أنّ هذا الفاني في بداية الشّباب درس كتاب “قبسات في الفلسفة” عند المرحوم الميرزا عبد الوهّاب القزويني شقيق جناب الطّاهرة”(20). أشار محمّد مصطفى البغدادي إلى إخوتها في رسالة شرح حياة جناب الطّاهرة(21). ما هو بديهي أنّ جناب الطّاهرة كان لديها عدّة أخوة. يتّضح ذلك جيّدًا من كتاب تذكرة الوفاء (207) وأيضًا كتاب القرن البديع God Passes By (ص 100)، حيث أشار حضرة عبد البهاء وحضرة وليّ أمر الله فيهما إلى أشقّاء الطّاهرة. على أيّ حال طبقًا للمستندات التّاريخيّة الموجودة كان لملّا محمّد صالح قزويني ستّة أولاد وأربع بنات. خمسة من الأولاد أخذوا رخصة الاجتهاد، وأسماءهم، الميرزا عبد الوهّاب، آقا شيخ حسن، آقا شيخ محمّد، آقا شيخ عبد الحسين وآقا شيخ رضا، باستثناء آقا ميرزا محمّد عليّ الّذي كان على وشك أخذها(22).
لا يوجد لدينا الكثير عن فترة طفولة جناب الطّاهرة. ما نعلمه أنّها كانت تعشق والدتها كثيرًا، رغم وجود عدّة خادمات في المنزل، إلّا أنّها كانت تؤدّي أعمالها وأعمال المنزل شخصيًّا، وتساعد والدتها، وكانت عطوفة جدًا مع الخادمات وتعاملهن بغاية الأدب، لذلك كانت خادمات المنزل وبالأخصّ من يعملن في الدّاخل يعشقن جناب الطّاهرة بلا حدود(23). كانت جناب الطّاهرة قريبة جدًا من والدتها، رغم أنّ والدتها لم تؤمن بالأمر البديع ولكن كانت تنفي جميع الاتّهامات الواردة على ابنتها(24).
كان النّاس في قزوين ينادون جناب الطاهرة في أيّام صباها بابنة الآقا وبعد ذلك غالبًا ما كانوا يطلقون عليها الخانم(25). كانت جناب الطاهرة تتغذّى جيدًا منذ أوان طفولتها، ويتّضح هذا الأمر من الحكاية الّتي ذكرها حضرة عبد البهاء، بأنّها كانت لها شهيّة جيّدة. إحدى سيّدات الغرب عندما تشرّفت في محضر حضرة عبد البهاء في عكا، وكانت تتناول الغذاء مع حضرته، تناولت أكثر من الحدّ الطّبيعي بسبب المذاق اللّذيذ للطّعام، لذا اعتذرت من حضرة عبد البهاء لشهّيّتها المفتوحة، تفضّل مخاطبًا إيّاها: “إنّ الفضيلة والتّقوى عبارة عن الإيمان الحقيقي بالحقّ وليس بالشّهيّة الحسنة أوالسّيئّة، جناب الطّاهرة كانت لها شهيّة جيّدة وكلّما كانوا يسألونها في هذا الخصوص تقول جاء في الحديث القدسيّ أنّ إحدى صفات أهل الفردوس التّغذية الجيّدة المستمرّة”. (خلاصة مضمون البيان المبارك)(26).
إنّ ذكاء واستعداد جناب الطّاهرة اللّذان لا مثيل لهما أدّى إلى أن يخصّص لها والدها حاجّ محمّد صالح منذ طفولتها، تعليمًا خاصًّا تحت إشراف معلّم ماهر، وسعى هو أيضًا في تعليمها مواضيع ومعارف العصر. يكتب جناب أبو الفضائل في كتاب “كشف الغطاء” (ص 92): “هذه الفتاة (جناب الطّاهرة) قامت في سنّ الشّباب بتحصيل مبادئ اللّغة العربيّة والمنطق والكلام والفقه والأصول والحديث لدى والدها وسائر أقاربها، وبرعت في هذه المعارف”.
لقد بلغت جناب الطّاهرة بعد عدّة سنوات من الدّراسة لدى والدها وعمّها في المعارف الدّينيّة والأدبيّة من المهارة والبراعة بحيث كان والدها يقول بحسرة: “لو كانت هذه الابنة ولدًا ذكرًا لأصبح ربّ المنزل ولأخذ مقام والده بين فضلاء القوم”(27). لقد صرّح شهود عيان لحياة جناب الطّاهرة والمؤرّخون البهائيّون وغيرهم عن مهارتها العلميّة العجيبة وذكائها وجمالها الّذي لا مثيل له. لقد اعترف الميرزا محمّد تقيّ خان سپهر المؤرّخ المشهور في المجلّد الثّالث من كتاب “تاريخ القاجاريّة” (المعروف بناسخ التّواريخ) (ص 219)، بجمالها وكمالها الّذي لا مثيل له، بالرّغم من أنّه اتّهمها باتّهامات في غاية الوقاحة. وممّا ذكره: “هذه الفتاة رغم ما لديها من وجه كالقمر وشعر كالمسك الأذفر، فقد كانت أيضا ذات حظّ وافر في العلوم العربيّة وحفظ الأحاديث وتأويل آيات الفرقان”.
رضا قلّي خان هدايت، مؤرّخ مشهور آخر في عصر القاجار، الّذي كان تاليًا لسپهر في وقاحة البيان عن جناب الطّاهرة، إلّا أنّه نطق عن نادرة زمانها بإجلال: “كانت امرأة في كمال الجمال، وملحدة مليحة المقال”(28).
ويكتب الميرزا محمّد جعفر خان حقايق نگار المؤرّخ الخاص لبلاط القاجار في المجلّد الأوّل من “تاريخ حقايق الأخبار النّاصري” (ضمن بيان أحداث سنة 1263 هـجريّة قمريّة) عن جناب الطّاهرة: “بالرّغم من حسنها وجمالها وغنجها ودلالها، فقد بلغت في علوم المعقول والمنقول حدّ الكمال”.
على أيّة حال، كانت جناب الطّاهرة “بوجهها القمريّ المنير” وضفائرها السّوداء “كالمسك الأذفر”، وحسب قول جناب فاضل المازندراني “الوجه المليح الأسمر والحسنة على الخدّ الأيسر”(29). كانت منذ بداية شبابها تجلس في صدر محافل النّساء وتردّ بأجوبة قاطعة على أصعب وأعقد أسئلتهن، وكانت أيضًا تحلّ المشاكل الدّينيّة في جمع رجال عائلتها. لهذا السّبب، طبقًا لاقتراح بعض أعضاء أسرة برغاني وطلب جماعة من النساء الواعيات في مدينة قزوين، قامت بتدريس المعارف الدّينيّة والأدبيّة في الجامعة الإسلاميّة (مدرسة الصّالحيّة) قسم النساء(30). كانت موضع احترام عظيم لدى والدها، وأقاربها وسائر النّاس في المدينة نظرًا لأخلاقها الملكوتيّة.
تزوّجت الطّاهرة وهي في سنّ أقّلّ من الخامسة عشر، ومن المرجّح أنّها كانت في حدود الثّالثة عشر من العمر، حينما أجبرها والدها وعمّها ملّا محمّد تقيّ، على الزواج من ابن عمّها ملّا محمّد(1). هناك أدلّة كثيرة تؤكّد هذا الاحتمال. مثلًا نستند إلى بيان حضرة عبد البهاء حين يتفضّل: “قرّة العين هي معروفة الآفاق، عندما آمنت بالله وانجذبت بالنّفحات الإلهيّة، ابتعدت عن اثنين من أبنائها الكبار لأنّهما لم يؤمنا ولم تلتق بهما أبدًا، في حين كانا ولدين رشيدين”(2). نستنبط من البيان المبارك أنّ جناب الطّاهرة في حدود السنوات 1260–1263 هـجريّة قمريّة / 1844–1847 ميلاديّة كان عمرها 27 أو 30 سنة وقد كان عمر أبنائها أكثر من 13 أو 14 سنة. اعتبر دكتور عليّ الورديّ أيضًا أنّ زواج الطّاهرة كان في سن الرّابعة عشر(3).
يكتب جناب أبو الفضائل في كتاب “كشف الغطاء” أنّ جناب الطّاهرة “بعد أن أكملت دروسها تزوّجت من ابن عمّها ملّا محمّد نجل حاجّي ملّا محمّد تقيّ الّذي أصبح إمام الجمعة بعد ذلك”. (ص 92). لا شكّ أنّ مقصود أبو الفضائل من إكمال دروسها هو الدّراسات العليا أو الإعداديّة والّتي بدأتها في بداية سنين شبابها (الثّالثة عشر أو الرّابعة عشر)(4). وما يذكره البروفسور براون باحتمال زواجها بعد عودتها إلى قزوين سنة 1263 هـجريّة قمريّة / 1847 ميلاديّة لا أساس له(5).
من المحتمل عند زواجها أن يكون والدها قدّ أهداها قرية من القرى القريبة من قزوين، والّتي أطلقت عليها جناب الطّاهرة اسم (بهجت آباد)(6). درس ملّا محمّد (زوجها) لعدّة سنوات في العتبات العاليات وبعد الرّجوع إلى قزوين ومقتل والده أختير لإمامة الجمعة.
أنجبت جناب الطّاهرة من ملّا محمّد ولدين وبنت. يذكر دكتور عليّ الورديّ أنّ ولادة أبنائها، إبراهيم وإسماعيل، كانت في كربلاء(7). لو اتّضح أنّ جناب الطّاهرة في زمن حياة السّيّد كاظم الرّشتيّ لم تكن مقيمة في كربلاء، فلا بدّ أنّ ولادة إبراهيم وإسماعيل كانتا في قزوين. وصل أبناؤها بعد ذلك إلى درجة الاجتهاد. كان يقيم آقا شيخ إبراهيم (ابنها) في قزوين وتوفّي في نفس المكان. في الغالب لم يكن يذكر شيئًا عن والدته، وكان يسكت أمام الأسئلة العديدة من عامّة النّاس والعلماء. في حين أنّ الابن الآخر للطّاهرة آقا الشيخ إسماعيل كان يصعد على المنبر وينتقد جماعة البابيّة ويتبرّأ منهم. آقا شيخ إسماعيل رجع إلى قزوين بعد الانتهاء من دراساته العالية في العتبات العاليات. كانت له إحاطة علميّة، وكان واعظًا لا مثيل له، يجذب أنظار الحضور ويعمّ السّكوت المكان في أيّ مسجد أو مجلس يفتح فيهما شفتاه بالبيان، وكأنّما تكتّمت الأنفاس في الصّدور(8). كان شيخ إسماعيل بعد وفاة والده ملّا محمّد إمامًا للجمعة لفترة من الزّمن(9).
لقد دخل في ظلّ الأمر المبارك بعد ذلك من عائلة الشيخ إسماعيل الأستاذ نعمت الله ورتا حفيده من ابنته (ابن معصومة خانم) (1273–1342 هجريّة شمسيّة)(10). أشار جناب نعمت الله ذكائيّ البيضائيّ في المجلّد الرّابع لشعراء القرن الأوّل البهائيّ وأيضًا في مجلة آهنگ بديع (سنة 120 بديع، العدد السابع) إلى أحوال جناب ورتا وآثاره.
كان سبب تعرّفي (الكاتب) بجناب ورتا هو السّيّد ذكائيّ البيضائيّ. منذ بداية معرفتي به كنت أكنّ له محبّة خاصّة. كان رجلًا دقيقًا، عميقًا، حكيمًا، فاضلًا وأستاذًا في الأدب الفارسيّ. كانت حياته البسيطة تدّل على أنّه لم يعتن بالمظاهر الخدّاعة للعالم التّرابيّ. رغم أنّه كان يميل للانزواء كثيرًا، إلّا أنّ منزله كان مركز الإفاضة لمريديه، وكان يسرع إلى محضره الكثير من الفضلاء والأدباء والشّعراء للاستفاضة منه، وكان إذا حضر في أيّ مجمع أدبيّ، يتمّ كمال الاستفادة منه. كان يذهب لمدّة سنوات مع جناب ذكائي البيضائي إلى المجمع الأدبيّ بطهران، ويغتنم الأعضاء وجوده. لديه أشعار من الطّراز الأوّل، عميقة ذات مغزى وفي أوج الفصاحة، تمّ طبع ونشر بعضها في المنشورات البهائيّة من ضمنها المجلّد الرّابع لشعراء القرن الأوّل البهائي، ونرجو أن يتمّ طباعة آثاره القيّمة بأسرع وقت.
أثناء معاشرتي ومصاحبتي (الكاتب) مع السّيّد ورتا كنت أسأل أحيانًا بعض الأسئلة عن أحوال جناب الطّاهرة وأقاربها وأستفيد من حضوره. وموضوع لقائها مع مهد عليا والدة ناصر الدّين شاه الّذي جاء في هذا الكتاب بناءً على بيانات السّيّد ورتا. كان ورتا كما قيل سابقًا ابن معصومة خانم (أي أنّه حفيد ابن جناب الطّاهرة) كان والده حاجّ السّيّد عزيز الله من علماء وأعيان زمانه من مدينة رضائيّة (أروميّة). رحل سيّد عزيز الله إلى طهّران وأقام في ساوجبلاق. كان ورتا في الثّالثة عشر من العمر عندما توّفّي والده. آمن في أيّام شبابه بعد قراءته لكتاب الفرائد من تأليف جناب أبي الفضائل. استفاض لسنوات من محضر الفاضل والأديب الشّهير جناب عزيز الله مصباح. عمل في الحكومة سنة 1299 هجريّة شمسيّة، وخدم في عدّة وزارات ومنظّمات حكوميّة في طهّران ومناطق أخرى في إيران. تقاعد سنة 1327 هجريّة شمسيّة وبعد ابتلائه بمرض مدّة طويلة صعد إلى الملكوت الأبهى في 30 ارديبهشت سنة 1342 هجريّة شمسيّة(11). أمّا من إخوة شيخ إسماعيل غير الأشقّاء (من جهة الأب)، فقد جاء ذكر الميرزا حسن في المجلّد الخامس من مكارم الآثار (ص 1717).
ابنة جناب الطّاهرة اسمها سارا واشتهرت أيضًا بآسيا(12). ليس لدينا اطّلاعات كثيرة عن حياتها. نعلم أنّها كانت تتمتّع مثل والدتها بالجمال والكمال الكافي، وتتلّمذت لسنوات عند والدتها وأيضًا عند جدّها حاج ملّا محمّد صالح. ونعلم أنّ خطيبها كان سيّد عبد الهادي قزوينيّ (ابن حاج سيّد صادق قزوينيّ) شّاب مشهور من علماء قزوين وآمن في شيراز بالأمر الجديد، وسافر إلى العراق بأمر حضرة الباب وأصبح من أصحاب جناب الطّاهرة(13).
عاش سيّد عبد الهادي بعد استشهاد جناب الطّاهرة لسنوات وآمن بحضرة بهاء الله وتشرّف بحضور حضرته في بغداد ومن ثمّ في عكا. وعاشر الأحباء لسنوات طوال في طهّران وفي النّهاية صعد في تلك المدينة سنة 1293 هـجريّة قمريّة / 1876 ميلاديّة(14). على أنّ ابنة جناب الطّاهرة ورغم عشقها الكبير لوالدتها، إلّا أنّها حرمت من موهبة الإيمان. توفّيت بعد فترة قليلة من استشهاد جناب الطّاهرة، حيث لم تتحمّل معاناة ألم فراق والدتها، فتركت العالم التّرابيّ(15).
ما هو مسّلم به أنّه لم يؤمن أيًّا من أبناء جناب الطّاهرة بالأمر المبارك. استندت (الكاتب) في موضوع عدم إيمان أبناء جناب الطّاهرة إلى أقوال المؤرّخين في عصر القاجار وأيضًا إلى بيانين من حضرة عبد البهاء، الأوّل في كتاب “تذكرة الوفاء” والثّاني في لوح آخر. يتفضّل حضرته في “تذكرة الوفاء”: “ورزقت منه بثلاثة أولاد وهم ذكران وبنت واحدة. هؤلاء الأولاد الثلاثة حرموا من المواهب التي نالتها والدتهم..” (ص217). المقصد من “حرموا من المواهب الّتي نالتها والدتهم” هو الحرمان من موهبة الإيمان الّتي حظيت بها والدتهم. استنادي في ذلك (الكاتب) إلى ترجمة العبارات المذكورة من حضرة وليّ أمر الله في هامش إحدى صفحات المتن الإنجليزيّ لتاريخ النّبيل(16). ويتفضّل حضرة عبد البهاء في لوح آخر: “قّرّة العين وهي معروفة لدى الجميع، عندما آمنت وانجذبت بالنّفحات الإلهيّة، ابتعدت عن أبنائها الاثنين الكبار لأنّهما لم يؤمنا ولم تلتق بهما أبدًا، في حين كانا ولدين رشيدين وكانت تقول إنّ أحبّاء الله جميعهم أبنائي ولكن هذين الاثنين ليسا منّي وقدّ تضايقت وابتعدّت عنهم”(17).
يكتب عليّ الورديّ مؤلّف كتاب “لمحات اجتماعيّة”، أنّ جناب الطّاهرة رزقت سنة 1257 هجريّة قمريّة / 1841 ميلاديّة في قزوين بابن ثالث أسمته اسحاق(18). طبقًا لتصريح حضرة عبد البهاء في “تذكرة الوفاء” ص (217) حيث يتفضّل أنّ جناب الطّاهرة كان لها ولدان وبنتًا واحدة، ففي حالة صحّة قول المؤلّف يجب الاعتقاد بأنّ الابن الثّالث قدّ توفّى في طفولته(19).
في بداية زواج ملّا محمّد من جناب الطّاهرة، سافر إلى العراق لإتمام اطّلاعاته وأقام هناك عدّة سنوات. كان يذهب إلى قزوين مدّة شهر أو شهرين في السّنة ويرجع ثانيةً إلى العتبات العاليات. كتب البعض أنّ جناب الطّاهرة أيضًا كانت معه في العراق. يكتب الدّكتور عليّ الورديّ بعد زواج الطّاهرة من ملّا محمّد بقليل، بأنّهما سافرا إلى كربلاء لاستكمال دراستهما، وأقاما هناك مدّة ثلاثة عشر سنة. كان محلّ سكنهما منزلين في حيّ المخيّم حيث كان أغلب أفراد عائلة البرغانيّ يقيمون هناك أثناء سفرهم إلى كربلاء. يقول الدّكتور الورديّ بأنّه شاهد هذا المكان عن قرب(20). حسب الشّرح الّذي سيأتي لاحقًا فإنّ مسألة إقامة الطّاهرة لمدّة ثلاثة عشر سنة في كربلاء هي موضع شكّ. ففي أوقات إقامة ملّا محمّد في العتبات العاليات، عاشت الطّاهرة سنوات في منزل والدها ومع والدتها(21).
على أيّة حال فرغم أنّ الطّاهرة رزقت من ملّا محمّد المذكور أبناءً ولكنّها لم تتوافق معه منذ البداية، وبالأخصّ عندما أصبحت جناب الطّاهرة من أتباع السّيّد كاظم الرّشتيّ، ثمّ زاد عدم توافقهما ووصل إلى أوجه. بالتّأكيد أنّ سيّدة عالمة ذات بصيرة مثل جناب الطّاهرة الّتي بشهادة جميع المؤرّخين سبقت أكثر الرّجال في ميدان المعرفة، لم تستطع أن تتفّق مع رجل سطحي الفكر قصير النّظر متعصّب مثل ملّا محمّد.
استمرّت الطّاهرة في إتمام دراساتها وبرعت منذ بداية شبابها في المعارف الإسلاميّة من ضمنها تفسير القرآن الكريم، علم الرّجال، علم الحديث، الأصول، الفقه، الفلسفة الإلهيّة، الأدب الفارسيّ والعربيّ. عندما كانت تتحدّث في أيّ مجلس لم يكن يجرؤ أحد من الحضور أن يبدي رأيًّا.
يكتب أيادي أمر الله جناب الميرزا حسن أديب الطالقانيّ في رسالة مختصرة عن حياة جناب الطّاهرة: “كنت في بداية شبابي أدرس كتاب “قبسات في الفلسفة” (22) عند المرحوم الميرزا عبد الوهّاب القزوينيّ، ولو كان عندي أخطاء كنت أذهب إليه في غير وقت الدّرس لتصحيح الأخطاء، وفي أحد أيّام الصّيف ذهبت إليه وهو في فناء المنزل، ومن شدّة الحرّ كان يلبس لباسًا خفيفًا وجالسًا بمفرده. بعد قليل قلت أريد أن أسأل عن موضوع ولكن منعني الحياء عدّة مرّات من السّؤال. لو تأذن لي أقوله الآن. قال اسأل. قلت، إنّ فضائل وكمالات قرّة العين تشتهر بين الخلق على نحو محيّر للعقول، ولا أحد أبصر وأعرف عن حالها من جنابك. أريد أن أعرف صدق أو كذب هذه الأقوال. تأوّه قليلًا وقال: أنت تسمع عن قرّة العين، أسفًا أنّك لم تشاهدها. أستطيع أن أقول فقط أنّ المجلس الّذي تكون فيه، فإنّ أمثالي لا يكونوا قادرين على التّكلّم في حضورها. كأنّما جميع كتب علماء السّلف والخلف كان حاضرًا أمامها. حين كانوا يتحرّون موضوعًا، كانت تأتي بشواهد من عبارات كتب العلماء عن ظهر قلب صفحةً بصفحة على شأن لم يبق لأحد قوّةً للإنكار”(23).
كان الميرزا عبد الوهّاب شقيق جناب الطّاهرة من علماء أصحاب الفنون وجامع للمعقول والمنقول، وهذا قول يتفّق عليه الجميع. يكتب محمّد حسن خان اعتماد السّلطنة في الكتاب المعروف “المآثر والآثار” بخصوص المذكور: “إنّه الخلف الأرشد للحاجّ ملّا صالح البرغانيّ، لم يتبعه أحد من سلالة البرغانيّة في المعقول والمنقول… كان له في قزوين رياسةً معتدّ بها، وكان مطاعًا لدى حكّام الدّيوان الأعلى…في الحقيقة لم يصل إلى مستواه أحد في جميع إيران من حيث طلاقة اللّسان وملاحة البيان وحلاوة اللّهجة وحسن التّفهيم، سواء من العامّة أو على المنبر من الخاصّة.” (ص 163)
بالتّوجّه لما كتب اعتماد السّلطنة في باب كمالات الميرزا عبد الوهّاب القزويني، نستطيع أن نحكم مدى درجة فضل وكمال جناب الطّاهرة بحيث أنّ أمثاله لم يكن يجرؤ في محضرها أن يبدي رأيًا(24).
قبل الحديث عن كيفيّة التحاق جناب الطّاهرة بمكتب الشّيخيّة لابدّ من أن نذكر باختصار تاريخ ظهور هذا الفرع من مذهب الشّيعة الإثني عشرية ومعتقداتهم. مؤسّس مكتب الشّيخيّة الشّيخ أحمد الأحسائي (1166–1241) هجريّة قمريّة الموافق (1752–1825 ميلاديّة). لقد فتح الشّيخ في عشرات الكتب من مؤلّفاته الّتي يشرح فيها عن العقائد الجديدة بابًا جديدًا في المعارف الإسلاميّة.
أصول الدّين حسب عقيدة الشّيعة خمسة: التّوحيد، النّبوة، الإمامة، العدل، والمعاد. يستدّل الشّيخ على أنّ العدل من الصّفات الإلهيّة الّتي لا حدّ لها، وإدراج الصّفات الإلهيّة في أصول الدّين ليس له مفهوم. المعاد أيضًا من تعاليم القرآن المجيد. الإيمان بنبوّة الرّسول الأكرم يستلزم الإيمان بالقرآن وبالنتيجة المعاد. لذا ليس من الضّروري إدراج المعاد ضمن أصول الدّين. أشار الشّيخ إلى أساس آخر بعنوان نائب الإمام وتفضّل أنّ أصول الدّين أربعة: التّوحيد، النّبوة، الإمامة ونائب الإمام.
عقيدته بخصوص التّوحيد أنّ المتاح فقط هو عرفان أفعال وآثار الحقّ، لأنّ “ممكنة الوجود” لن تفوز أبدًا بعرفان ذات “واجب الوجود” (الألوهيّة)، حتّى المظاهر الإلهيّة محرومون أيضًا من عرفان ذات الحقّ. كان يؤمن بأنّ صفات الحقّ هي غير الذّات. صفات الحقّ قديمة وغير منفصلة عن بعضها البعض. يؤمن الشّيخ أنّ الإيمان بوحدة الوجود لا أساس له ولا يمكن أن يكون هناك اتصال وارتباط مادّي بين الخالق والمخلوق.
يؤمن الشّيخ بأصالة الماهية والوجود، في حين أنّ العرفاء الإسلاميّين، إمّا يؤمنوا بأصالة الماهية أو بأصالة الوجود. حسب اعتقاد الشّيخ أنّ عرفان ذات “واجب الوجود” غير ممكن. لذا فإنّ عرفان المظهر الإلهي هو عرفان الله. وأنّ الرّسول الأكرم كان معصومًا قبل بعثته وكذلك الأئمّة كانوا معصومون من قبل أن ينالوا مقام الإمامة.
من اعتقادات الشّيخ أنّه بعد الإيمان بوجود الله وعرفان مقاميّ الرّسالة والإمامة، يجب على كلّ مؤمن شيعي صالح أن يطّلع على الرّكن الرّابع الّذي هو وسيط بين الإمام والمؤمنين. مقام الرّكن الرّابع الّذي هو في الحقيقة (الشّيعة الكاملة) في كلّ عصر يكون دون مقام الإمام ولكن بين المؤمنين هو أعظم مقام. إنّ الرّكن الرّابع هو باب الإمام. الشّيخ لم يكن أصوليًّا ولا إخباريًّا بلّ جمع بين المذهبين. لأنّه كان معتقدًا كالإخباريّين بالأحاديث عن مقام الرّسالة والأئمّة، ولكن كان يدخل ميزان العقل كثيرًا في إدراك هذه الأحاديث. وفي العرفان والتّصّوف أيضًا جمع بين الطّريقة والشّريعة.
كانت عقيدة الشّيخ في القيامة تختلف عن باقي علماء الشّيعة. يستفاد من آثاره أنّ القيامة هي في عالم المثال. بعبارة أخرى أنّ القيامة تكون مع الجسد المثالي. إنّ عالم المثال او عالم الهورقليا، هو عالم بين عالم الرّوح وعالم الجسد. الجسد الهورقليائي ألطف من الجسم وأغلظ من الرّوح. يؤمن الشّيخ أنّ معراج الرّسول الأكرم كان بالجسد الهورقليائي، وأنّ القائم الموعود أيضًا يعيش في الغيب بهذا الجسد. بالطبع كان الشّيخ يبيّن عقائده في منتهى الحكمة وعلى حسب الظّاهر كان موافقًا مع العقائد العامّة للشّيعة، ولكن بالتّعمق في آثاره يتبيّن جميع النّقاط الّتي عرضت.
بعد صعود الشّيخ أحمد الأحسائي قام تلميذه السّيّد كاظم الرّشتي (1209–1259هجريّة قمريّة الموافق 1794–1843 ميلاديّة) بنشر عقائد الشّيخ وترك آثارًا قيّمة. الشّيخ أحمد والسّيّد كاظم بشّرا كتابةً وشفاهةً عن ظهور حضرة الباب والجمال الأبهى وفي الحقيقة أنّهما فتحا الطّريق أمام ظهور موعود العالمين(1).
بالتّوجه إلى المعارف الشّيخيّة البديعة ونضارة هذه الطريقة الدّينيّة في ذلك الزّمان، يتّضح كيف ابتهجت وانجذبت إليها سيّدة حساسّة نابغة كجناب الطّاهرة وبعد تعرّفها على مكتب الشّيخيّة. يظهر من القرائن أنّ الطّاهرة التحقت بالشّيخيّة في سنّ التّاسعة عشر وهذا شيء عجيب، لأنها كانت في الحقيقة باحثة ومحقّقة دؤوبة جدًا، ومن غير المعلوم لماذا حتّى ذلك الوقت لم تأتلف مع آثار الشّيخ أحمد والسّيّد كاظم، رغم أنّ أقرباء والدتها ومن ضمنهم خالها جناب ملّا عبد الوهّاب القزويني وعمّها الأصغر جناب حاج ملّا محمّد عليّ البرغاني كانوا من الشّيخيّة. ربّما أنّ السّبب الأساسي لحرمانها لسنوات من مطالعة آثار الشّيخ والسّيّد، هو المعارضة الفظيعة من عمّها ملّا محمّد تقيّ وزوجها ملّا محمّد اللّذين كانا مخالفين لعقائد الشّيخيّة. إنّ البحث عن العقائد في عائلة البرغاني كان يعتبر مانعًا عظيمًا. فوالد الطّاهرة ملّا محمّد صالح كان أيضًا معارضًا للشّيخيّة بشكل عجيب وحاول قدر الإمكان منع نفوذها إلى أقربائه.
على كلّ حال كان عم جناب الطّاهرة الأصغرحاجّ ملّا محمّد عليّ من علماء الشّيخيّة البارزين، ولكن ظاهريًّا بسبب معارضة أخويه الشّديدة، كان يخشى أن يصارحها. ولكن في النّهاية حدث ما كان يجب أن يحدث. والتحقت جناب الطّاهرة بجماعة الشّيخيّة. كان ملّا جوّاد الولياني ابن خالتها أوّل من هيّأ وسائل التحاق الطّاهرة بمكتب الشّيخيّة. بالطّبع كان هذا بإلحاح منها نفسها. ملّا جوّاد الّذي كان من علماء ووعّاظ الشّيخيّة المعروفين في قزوين، آمن لاحقًا بأمر حضرة الباب، ولكن حسب ما سيأتي شرحه أعرض عن الأمر البديع بعد وقوع البداء في حادثة كربلاء.
التحقت الطّاهرة بجماعة الشّيخيّة في سنة (1253 هجريّة قمريّة – 1837 ميلاديّة) تقريبًا. يشير جناب فاضل مازندراني بعد ذكر تلك السّنة إلى لفظ “برغان”(2) وتطابق حروفه مع عدد 1253، لذا قد يكون لفظ “برغان” مأخوذًا من كتابات جناب الطّاهرة نفسها.
يتفضّل حضرة عبد البهاء في كتاب “تذكرة الوفاء” قصّة التحاق جناب الطّاهرة القلبي بمكتب الشّيخيّة كالتّالي: “وبينما كانت جناب الطّاهرة في دار ابن خالتها المدعو – ملّا جوّاد – ذات يوم، إذ عثرت في مكتبته على كتاب من مؤلّفات المرحوم الشّيخ أحمد الأحسائي فتصفّحته، وما كادت أن تأتي على آخره حتّى بهرتها عباراته وراقت لها آراؤه ثمّ طلبت من ملّا جوّاد أن يعيرها إياّه لتطالعه في خلوتها. فأكبر الملّا ذلك وقال لها: “كيف أعيرك إياّه وأبوك هو ضد كلّ من النّورين النّيّرين الشّيخ أحمد الأحسائي والسّيّد كاظم الرّشتي. والحقيقة، إذا اسّتشم أنّه قد وصل إلى سمعك أو أنّك قد وقفت على شيء من نفحات المعاني المتضوّعة من رسائل هذين العظيمين، لقام على قتلي ولحلّ عليك غضبه الشّديد”. فقالت جناب الطّاهرة: “أعلم أنني كنت ولا أزال متعطّشة إلى تجرّع مثل هذا الكأس الصّافي ومتشوّقة لمثل هذه البيانات والمعاني منذ أمد غير قصير. وعليه أرجوك أن تتكرّم عليّ بكلّ ما لديك من هذه المصنّفات ولو أدّى الحال إلى اشمئزاز والدي”. فارتاح الملّا جوّاد لجوابها ولهذا أرسل لها كلّ ما وصل إلى يده من مؤلّفات حضرتيّ الشيخ والسيد.
وتصادف أن دخلت جناب الطّاهرة على والدها ذات ليلة وهو في غرفة المطالعة وفاجأته بالتّحدّث عمّا جاء به المرحوم الشّيخ أحمد الأحسائي وخاضت في مسائله. فما كاد والدها يفهم من كلامها أنّها لعلى بيّنة من مطالب الشّيخ حتّى انهال عليها بالسّبّ والشّتم والتأنيب، ثمّ قال لها: “إنّ الميرزا جوّاد (يعني الملّا جوّاد المذكور) قد أضلّك السّبيل”. فقالت: “يا أبت، إنّني قد استنبطت من مؤلّفات ذلك العالم الرّباني – حضرة الشّيخ المرحوم – معان لا حصر لها، لأنّ مضامين كلّ ما جاء به مستندة إلى روايات الأئمّة الأطهار. والمعلوم أنّ حضرتك، أيّها الوالد المحترم، تدعو نفسك عالمًا ربانيًا وتعتبر عمّي المحترم فاضلًا ومظهرًا لتقوى الله. والحال أنّ لا أثر مشهود فيكما من تلك الصّفات”.
ثمّ أخذت تباحث أباها في مسائل القيامة والحشر والنشر والبعث والمعراج والوعد والوعيد وظهور حضرة الموعود حتّى ضاق والدها ذرعًا لقلّة بضاعته ولم يقو على دحض حججها وأخيرًا أمطرها وابلًا من السّباب واللّعنات. وحدث أنّها روت لأبيها ذات ليلة حديثًا من المأثور عن جعفر الصّادق عليه السّلام لإثبات مدّعاها. ورغم أنّ الحديث كان برهانًا دامغًا على مدّعاها، فقد جنح أبوها إلى السّخرية والاستهزاء. فقالت: “يا أبت، إنّ هذا من البيانات منسوبة لحضرة جعفر الصّادق عليه السّلام، فلم تستوحش منها وتظهر السّخرية. وفي النّهاية، قطعت حبل المذاكرة والمناقشة مع والدها وكانت تكاتب المرحوم – السّيّد الرّشتي – وتستخبر منه عن جلّ المسائل الإلهيّة المعضلة. وهذا ما جعل حضرته يلقّبها بـ ”قرّة العين”. ص 217–219
هذه البيانات المباركة من أكثر الشّروحات التّفصيليّة بخصوص كيفيّة التحاق جناب الطّاهرة بمكتب الشّيخيّة، وقد نقلت (المؤلف) نفس البيانات كيّ لا أترك أي جزء إلّا وكتبته.
على أيّة حال، نستنتج من بيان جناب أبو الفضائل في كتاب “كشف الغطاء”، أنّ جناب الطّاهرة تعرّفت على المعارف الشّيخيّة منذ أوائل زواجها. قوله: “بعد تكميل الدّروس تزوجت من ابن عمّها ملّا محمّد… وقامت بمطالعة كتب الشّيخ أحمد الأحسائي والسّيّد الرّشتي قدّس الله تربتهما، وترّسخت محبّتهما في قلبها”. (ص 92)
لو نعتبر رأيّ جناب فاضل المازندراني صائبًا بخصوص سنة التحاق جناب الطّاهرة بمكتب الشّيخيّة (1253 هجريّة قمريّة الموافق 1837 ميلاديّة) إذن يجب تعديل رأيّ جناب أبو الفضائل. حيث يبدو أنّه بعيدًا عن شخص فطن ومشتاق مثل جناب الطّاهرة، أن تستمرّ بمطالعة آثار الشّيخ والسّيّد لأكثر من خمس سنوات حتّى تلتحق بجماعة الشّيخيّة. ربّما من الأفضل القول عن بيان أبو الفضائل: “في هذه الأثناء قامت بمطالعة كتب الشّيخ الأحسائي والسيّد الرّشتي”. إنّ مطالعات جناب الطّاهرة عن فرقة الشّيخيّة لم تكن بعد الزّواج مباشرة.
ما هو مسلّم به أنّ لقب قرّة العين أعطي لجناب الطّاهرة من قبل السّيّد كاظم الرّشتي، لأنّ حضرة عبد البهاء صرّح عن هذا الموضوع(3)، وأيضًا حضرة وليّ أمر الله يستند إلى بيان حضرة عبد البهاء في عدّة مواقع من كتاباته(4). وسبب التّأكيد على هذه النّقطة، هو أنّ البعض قال أنّ ملّا محمّد صالح البرغاني والد جناب الطّاهرة عادة ما كان يخاطبها بـ قرّة عيني(5). لذا قد يحصل التباس بأنّ ملّا محمّد صالح هو من أعطى لقب قرّة العين لابنته. كتبت الطّاهرة رسالة في إثبات عقائد الشّيخ والسّيّد وأرسلتها للسّيّد كاظم الّذي بعد قراءته لتلك الرّسالة كتب لها رسالة في غاية اللّطف والرّقّة وفي بداية المكتوب خاطبها بـ ”يا قرّة العين وروح الفؤاد”(6). ومن حينها اشتهرت أمّ سلمة بدايةً بين جماعة الشّيخيّة ثمّ عند العموم بـ ”قرّة العين”(7). الشّخص الّذي كان وسيلة تسليم واستلام مكاتيب جناب الطّاهرة والسيّد الرّشتي غالبًا كان ملّا محمّد عليّ البرغاني عمّ جناب الطّاهرة(8).
ولكن عن لقاء جناب الطّاهرة بالسّيّد كاظم الرّشتي فهو موضوع يحتاج إلى بحث دقيق. البعض قال أنّ جناب الطّاهرة بعد زواجها من ملّا محمّد سنة 1244 هجريّة قمريّة 1828 ميلاديّة ذهبت معه إلى كربلاء وأقامت هناك مدّة ثلاثة عشر سنة(9). لو قبلنا هذا الرّأي يجب أن نقول أنّ جناب الطّاهرة التحقت بجماعة الشّيخيّة في قزوين قبل سنّ الثّانية عشر وهذا يبدو غير منطقي. ولو نقول أنّها التحقت بالشّيخيّة في كربلاء، فذلك يعارض بيان حضرة عبد البهاء، على كلّ حال كثير من المؤرّخين أكّدوا بأنّه تمّ اللّقاء بين جناب الطّاهرة والسّيّد كاظم في كربلاء. جاء في كتاب “قرّة العين” الّذي نشر بواسطة الأزليّين بمناسبة مرور مائة سنة على استشهاد جناب الطّاهرة ما يلي: “…. في أواخر حياة السّيّد الرّشتي أدركت جناب الطّاهرة ذلك وقامت بجمع مجموعات فضائل ذلك الأستاذ ولقّبت من طرف السّيّد بـ قرّة العين، وبعد استكمال دراساتها ووفاة السّيّد شكّلت مجلسًا للدّرس في كربلاء ودرّست أعدادًا كثيرة من الطّلاب من خلف ستارة، وبهذه الطّريقة انتشر صيت فضلها وعلمها في كربلاء أيضًا”. (صفحة 3).
إنّ مؤلّف كتاب “قرّة العين” اعتبر التحاق جناب الطّاهرة بالشّيخيّة وذهابها إلى كربلاء لم تكن لمدّة طويلة. (ص 2) وكما أسلفنا (ص 3) هذا السّفر كان في أواخر حياة السّيّد الرّشتي. يكتب نيقولاس الفرنسي عن ملاقاة جناب الطّاهرة بالسّيّد الرّشتي: “سافرت الطّاهرة لاحقًا إلى كربلاء وحضرت دروس السّيّد كاظم الرّشتي وقبلت أفكار الأستاذ بعشق”. (ص 289 من التّرجمة الفارسيّة لتاريخ نيقولاس). ويوافقه الرّأيّ دكتور علي الوردي أيضًا(10). ومؤلّف “قاموس دهخدا” أيضًا يذكر تحت اسم الطّاهرة، بأنّها التقت بالسّيّد كاظم الرّشتي في كربلاء(11).
يكتب جناب سمندر في شرح حياة جناب الطّاهرة: “بعد أن أنهت السّيّدة أمّ سلمة دراساتها العلميّة الممكنة في قزوين، لم تقتنع بذلك، فعزمت الذّهاب إلى كربلاء والنّجف لاستكمال دراستها. قال لها عمّها المرحوم حاجّي ملّا عليّ، من الأفضل أن تكملي دراساتك في كربلاء في محضر السّيّد كاظم الرّشتي لأنّه ممتاز بين العلماء. لم تهتمّ السّيّدة أمّ سلمة كثيرًا، وفي البداية التقت بعلماء كبار في ذلك الزّمان. وفي الآخر تصل إلى محضر السّيّد الرّشتي وتجد فيه التّميّز في معلوماته ومن كلّ النّواحي، فتذهب لتدرس عنده وأثناء تلقّيها العلوم نظرًا لذكائها وفطنتها وبصيرتها خاطبها السّيّد في خطاباته بـ قرّة العين، ولقبّت بذلك. وبعد أن أكملت دراساتها وحين المراجعة والامتحان وعندما لاحظ العلماء أوراق أجوبتها الامتحانيّة، قالوا: حقًّا وإنصافًا أنّها في مقام العلم والفضل أعلم وأفقه من باقي العلماء ولكن ليس من العادة أن تعطى درجة الاجتهاد لطائفة الإناث. الخلاصة بعد رجوعها تزوّجت أمّ سلمة الملقّبة بـ قرّة العين من ابن عمّها ملّا محمّد ابن حاجّي ملّا تقي إمام الجمعة… وقريبًا من سنة السّتين ذهبت هي وأختها لتتشرّف بزيارة العتبات العاليات وفي الأغلب كانت إقامتهما في بيت السّيّد الرّشتي عليه سلام الله. وكانت قرّة العين هي من تقوم بتدبير أمور المنزل بإذن صاحبة البيت. وفي هذه الأثناء صعد السّيّد الرّشتي إلى عالم البقاء”(12).
ينقل العالم الجليل جناب فاضل المازندراني في المجلّد الثّالث من كتابه “ظهور الحقّ” ضمن أحوال جناب الطّاهرة نقلًا عن جناب آقا محمّد جوّاد عمو جان الفرهادي بأنّ: “جناب طا، (طاهرة) أولًا ذهبت إلى كربلاء في زمن السّيّد للدّراسة ثمّ رجعت. ثانيًا كانت في العتبات العاليات حين حصل صعود السّيّد. بعد عدّة أشهر من صعود السّيّد انتشر أمر حضرة النّقطة الأولى، آمنت جناب الطّاهرة وهي في العتبات العاليات ثمّ حدثت واقعة محرّم”. (هامش ص 312).
كما يشير جناب محمّد عليّ ملك خسروي في المجلّد الثّالث من تاريخ شهداء الأمر، ص 134 إستنادًا إلى قول عمو جان الفرهادي، إلى سفر جناب الطّاهرة الأوّل إلى كربلاء. يرجى الانتباه أنّ جناب فاضل المازندراني لم يذكر في محتوى كتاب “ظهور الحقّ” عن السّفر الأوّل لجناب الطّاهرة إلى كربلاء. يكتب جناب أبو الفضائل في كتاب “كشف الغطاء”: “رجعت أمّ سلمة إلى منزل أبيها، وطلبت الإذن من والدها أن تذهب إلى كربلاء لاستكمال دروسها، وفي كربلاء شكّلت حلقة درس، وخاطبها السّيّد الرّشتي، قدّس الله تربته، كتابةً وشفاهةً بلقب قرّة العين واشتهرت بهذا اللّقب” (ص 93).
على كلّ حال أكثر المؤرّخين أشاروا تصريحًا أو تلويحًا إلى لقاء جناب الطّاهرة والسّيّد الرّشتي في كربلاء. يتفضّل حضرة عبد البهاء في مقالة سائح ضمن وصف كمالات جناب الطّاهرة: “كانت ماهرة في فنون شتّى، وفي النّطق والبيان محيّرة للعقول، وفي الأفكار من فحول الأساتذة. كانت كتابًا مبينًا في التّفسير والحديث، وآية عظيمة في مواضيع الشّيخ الجليل الأحسائي. واقتبست المسائل الإلهيّة في العتبات العاليات من المصباح الكاظمي”. (ص 32).
من العبارة الأخيرة في البيان المبارك يستنبط طبقًا لرأيّ غالبية المؤرّخين أنّ جناب الطّاهرة تتلّمذت لمدّة في كربلاء في محضر السّيّد الرّشتي. ولكن بعد الرّجوع لبيانات أخرى لحضرة عبد البهاء وحضرة وليّ أمر الله وتاريخ نبيل الزرندي، يتمّ التّأكيد على أنّ جناب الطّاهرة لم تفز بلقاء السّيّد الرّشتي. يصرّح نبيل الزرندي أنّ الطّاهرة عندما وصلت إلى كربلاء كان السّيّد الرّشتي قد توفّى(13). إنّ رأيّ نبيل الزرندي يطابق رأيّ بيان حضرة عبد البهاء في كتاب “تذكرة الوفاء”، حيث يتفضّل ضمن شرح حياة الطّاهرة قائلًا: “فأثّر ذلك في الطاهرة أيّما تأثير وأهاجها حتى إنها سافرت إلى كربلاء قصد التشرف بملآقاة الحاج سيد كاظم الرشتي. وما أن وصلت كربلاء حتى علمت أن السّيد قد انتقل إلى الملأ الأعلى قبل وصولها بعشرة أيام ولذا لم يتيسر لها ملآقاته”. (ص 219). إنّ عبارة “لهذا لم يتيسّر لها ملاقاته، مع ملاحظة ترجمة حضرة وليّ أمر الله للعبارة المذكورة(14)، في الحقيقة توضّح أنّ جناب الطّاهرة لم تلتق أبدًا مع جناب السّيّد”. وعبارة “أثّر ذلك في الطّاهرة أيّما تأثير واشتعال”. أيضًا تدلّ على أنّ جناب الطّاهرة كانت قد قصدت لأوّل مرّة ملاقاة السّيّد، وهذا يتنافى مع القول بأنّها قبل ثلاثة عشر عامًا كانت تدرس في محضر السّيّد كاظم.
إذا كانت قد نالت جناب الطّاهرة ملاقاة السّيّد الرّشتي، فلا شكّ أنّ حضرة عبد البهاء كان سيصرّح بذلك ضمن شرح حياتها في “تذكرة الوفاء” حتّى أنّه لم يشر إلى أوّل سفر لجنابها إلى كربلاء. كما أنّ حضرة وليّ أمر الله أيضًا لم يذكر في هذا الخصوص شيئًا في كتاب “القرن البديع” God Passes By ولا في حواشي التّرجمة الإنجليزيّة لتاريخ النّبيل، فلقد كان من صفات حضرته أنّ ينقل أقوال المؤرّخين.
بالتّوجّه لما تمّ عرضه، فإنّ المراد من بيان حضرة عبد البهاء “واقتبست المسائل الإلهيّة في العتبات العاليات من المصباح الكاظمي” يكون في الأساس استفادة جناب الطّاهرة من الآثار الكتابيّة الكثيرة للسّيّد الرّشتي، بالأخصّ في كربلاء والّتي في الغالب لم يطبع منها بعد ولم يتوفّر منها في قزوين. نجد هذه النّقطة بوضوح في كتاب جناب مارثا روت(15).
على كلّ حال فالطّريق مفتوح للمحقّقين في المستقبل، وفي حين عثورهم على وثائق مؤكّدة بخصوص السّفر الأوّل لجناب الطّاهرة إلى كربلاء وملاقاتها مع السيّد كاظم الرّشتي، لابدّ أن يتمّ عندئذ تعديل قول هذا المحقّق الحالي. ولكن يتمّ التّأكيد مرّة أخرى بأنّ صحّة خبر إمكانية سفر جناب الطّاهرة الأوّل إلى كربلاء تقريبًا أصبح مستبعدًا، لأنّه لو كانت الطّاهرة أقامت لسنين في كربلاء واستفادت من محضر السّيّد الرّشتي، فهناك احتمال قوي أن تكون قد التقت أيضًا بحضرة الباب كما ظنّ بعض المؤرّخين ذلك(16). ولكنّنا نعلم أنّ النّصوص المباركة لم تؤيّد ملاقاة حضرة الباب وجناب الطّاهرة. وبيان حضرة وليّ أمر الله في هذا الخصوص صريح وواضح(17).
بعد أن اعتنقت جناب الطّاهرة الفكر الشّيخي، انشغلت ليل نهار في مطالعة آثار الشّيخ أحمد الأحسائي والسّيّد كاظم الرّشتي، وفي مدّة قليلة صارت على اطّلاع واف بالمعارف الشّيخيّة ممّا أثّر فيها وأشعلها، وكذلك مراسلاتها مع جناب السّيّد كاظم وتشجيعه المستمرّ لها، وأيضًا جناب ملّا محمّد عليّ البرغاني عمّها، حتّى أنّها سافرت لملاقاة مرشدها وأستاذها.
حينها تزامن سفرها مع سفر أختها (مرضيّة) وزوجها ملّا محمّد عليّ القزويني (ابن خالها) إلى كربلاء وهما من الشّيخيّة، لذا اغتنمت جناب الطّاهرة الفرصة وقرّرت أن ترافقهما. فأخذت الإذن من والدها وتركت أبناءها عند زوجها ملّا محمّد وسافرت إلى كربلاء عام 1259 هجريّة قمريّة / 1843 ميلاديّة.
وصلت جناب الطّاهرة إلى كربلاء بعد عشرة أيّام من صعود السّيّد كاظم الرّشتي. كان هناك اضطراب كبير، حيث أصيب الأصحاب بفجيعة وفاة أستاذهم وكان بعضهم يفكّر في أخذ الرئاسة وادّعوا أنّ لديهم وصيّة من السّيّد. ادّعى الميرزا محيط الكرماني بأنّه المشرف على أموال السّيّد بعد وفاته(1). كان رجلًا نحيفًا وطويلًا جدًا. ادّعى لفترة أنّه قائد الشّيخيّة ووصيّ السّيّد، ولكنّه في النّهاية التحق بحاجّ محمّد كريم خان الكرماني.
أبلغ حضرة الباب أمره للميرزا محيط الكرماني، ونزلت صحيفة “بين الحرمين” الصادرة من قلم حضرة الباب ردًّا على أسئلته. كان المذكور في أيّام البطون (أيّ المدّة بين استشهاد حضرة الباب وإظهار أمر حضرة بهاء الله في حديقة الرّضوان) يتظاهر بأنّه يتدارك ما فاته وقصد التّشرّف بمحضر حضرة بهاء الله، ولكن لم يأذن له التّشرّف بالطريقة الّتي كان هو يريدها، وفي النّهاية توفّي في غاية الخسران.
كما ادّعى الميرزا حسن گوهر طبقًا لقول (ابن الكربلائي) وهو من البابيّين الأوائل، بأنّه عيّن من قبل السّيّد لتنفيذ وصيّته(2). كان الميرزا حسن رجلًا بدينًا، ورغم علمه بأنّ الشّخص الّذي يظهر بعد السّيّد الرّشتي يجب أن يكون خاليًا من العيوب الجسمانيّة (حسب تصريح السّيّد)، إلّا إنّه ادعى أنّه خليفة السّيّد. وطبقًا لما كتبه ابن الكربلائي(3) إلى سنة 1263 هجريّة قمريّة / 1847 ميلاديّة، لم يتبقّ سوى اثنين من علماء الشّيخيّة، الشّيخ أحمد مشكور النجفي، والشّيخ راضي قصيّر، من أتباع الميرزا حسن گوهر. تباحث جناب ملّا حسين البشروئي مع الميرزا محيط الكرماني وملّا حسن گوهر في مباحثات مطولّة، وذكّرهم بنصائح جناب السّيّد الرّشتي، وطلب منهما أن يرافقاه في السّفر للبحث عن حضرة الموعود، ولكنّهما امتنعا، وفي النّهاية رحلا عن هذا العالم في غاية الخسران.
سرعان ما تعلّقت زوجة جناب السّيّد كاظم الرّشتي، والّتي كانت شيرازيّة الأصل، بجناب الطّاهرة، وجعلت منزل ومكتبة السّيّد المرحوم أي ديوان الرّشتي(4) في متناول يدها(5). استقرّت جناب الطّاهرة في منزل السّيّد وفرشت بساط التّدريس. تزيّنت حوزة درس الطّاهرة بوجود مجموعة من الرّجال والنّساء، بالأخصّ كبار علماء العراق وإيران، من بينهم الشّيخ محمّد شبل البّغدادي، الشّيخ صالح الكريمي، آقا السّيّد أحمد اليزدي، السّيّد محمّد البايكاني(6)، الشّيخ سلطان الكربلائي وملّا محمّد إبراهيم المحلّاتي(7). كان أغلب هؤلاء مشهورين بغزارة العلم والتّقوى، واعتبروا جناب الطّاهرة النّقطة العلميّة الإلهيّة بعد السّيّد الرّشتي واعتبروا طاعتها فرضًا.
كان الشّيخ محمّد شبل البغدادي من علماء الشّيعة الاثني عشريّة ومن تلاميذ السّيّد الرّشتي البارزين ومندوبه في الجامعة الشّيخيّة ببغداد. وزار جناب ملّا عليّ البّسطامي أثناء حبسه في بغداد عدّة مرّات وآمن بالأمر البديع، وقد أشرنا سابقًا إلى أحواله وابنه محمّد مصطفى، وسنشير لاحقًا أيضًا.
كما سيأتي شرحه لاحقًا، اتّهم جناب الشّيخ صالح الكريمي أيضًا في حادثة مقتل عمّ جناب الطّاهرة، وقتل بدون ذنب فنال الشّهادة. سيتمّ عرض لقصّة استشهاد ذلك المظلوم في الصّفحات التّالية. كان الشّيخ صالح عربي الأصل وفاز بالإيمان عن طريق جناب الطّاهرة.
كان السّيّد أحمد اليزدي من أفاضل الشّيخيّة ومن تلاميذ السّيّد كاظم الرّشتي وفاز بالإيمان عن طريق ملّا عليّ البسطامي. استشهد المذكور مع ابنه الرّضيع بعد أحداث قلعة طبرسي بعدّة سنين. وسنشير لاحقًا إلى أحوال السّيّد أحمد في مواضع أخرى.
السّيّد حسين كاتب اليزدي الملّقب بـ عزيز، هو ابن السّيّد أحمد. كان أجداد الشّيخ سلطان الكربلائي من كبار علماء كربلاء. وكان المذكور من علماء زمانه ومن التّلاميذ المقرّبين لجناب السّيّد كاظم الرّشتي، سمع في كربلاء بشارة الظهور من جناب الطّاهرة وآمن. بعد ذلك أصبحت ابنة الشّيخ سلطان زوجة لجناب الميرزا موسى كليم شقيق حضرة بهاء الله.
كان ملّا إبراهيم المحلّاتي أيضًا من تلاميذ الشّيخ والسّيّد، آمن بالأمر البديع عن طريق جناب ملّا عليّ البسطامي، واستشهد بعد سنوات من حادثة قتل عمّ جناب الطّاهرة.
مع ورود جناب الآخوند[1] ملّا محمّد حسين البشروئي، المعروف في تاريخ الأمر المبارك بملّا حسين(8)، إلى كربلاء وهو من التّلاميذ البارزين والشّجعان لجناب السّيّد كاظم الرّشتي، تمّ طرح موضوع وصيّة جناب السّيّد الرّشتي في أواخر حياته بشأن خليفته وعن ظهور الموعود. ذكّر تلاميذ السّيّد المخلصين الأوفياء جميعهم بأنّ جناب السّيّد وصّى مرارًا بأنّهم بعد صعوده، عليهم أن يتفرّقوا في الأطراف ويسعوا ويبحثوا عن الموعود العظيم. خاطب ملّا حسين التّلاميذ وقال لهم لماذا أنتم باقون في كربلاء إذًا، ولم تتفرّقوا في الأطراف حتّى الآن. أثار خطاب ملّا حسين الحماس في أغلبية التّلاميذ وسافروا للبحث عن الموعود.
توجّه بعض تلاميذ السّيّد إلى إقليم فارس، للبحث عن الموعود، طبقًا للقرائن والدّلائل الموجودة في آيات القرآن الكريم وروايات الرّسول الأكرم والائّمّة الأطهار، وتبعًا لإشارات السّيّد نفسه. من ضمن آيات القرآن الكريم الّتي أشارت إلى إقليم فارس والفرس الآية التّالية: “وإن تتولّوا يستبدل قومًا غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم”.(1) هذه الآية تخاطب المسلمين العرب بأنّكم لو أعرضتّم عن الحقّ ولم تعملوا بالأحكام الإلهيّة كما ينبغي، سيستبدلكم الله بقوم آخرين، وهمّ مثلكم، سيكونوا أصحاب شريعة مستقلّة.
أجمع المفسّرون الإسلاميّون على أنّ المقصود من “قومًا غيركم” همّ الفرس، لأنّ بعد نزول الآية المباركة أشار الرّسول الأكرم في جواب بعض الّذين سألوا عن “قومًا غيركم” إلى سلمان الفارسيّ، وقال بأنّ المقصود هو قوم هذا الرّجل(2). هناك روايات عديدة في كتب الحديث في باب ولادة القائم الموعود في فارس أشهرها رواية: “و(قيل) يولد في الفرس”(3).
من النّفوس الّتي ذهبت إلى فارس، جناب ملّا محمّد عليّ القزويني ابن خال وزوج أخت جناب الطّاهرة الّذي توجّه إلى شيراز لعلّ يصل إلى مشامه الرّائحة العطرة ويتشرّف بحضور موعود العالمين. كانت جناب الطّاهرة تثق جدًا بملّا محمّد عليّ، وتعلم جيّدًا أنّه يبحث عن محبوبه في غاية الإخلاص، ولن تثنيه إغراءات العالم التّرابي عن مقصده الشّريف. لذا كتبت عريضة إلى الموعود وسلّمتها لملّا محمّد عليّ، بحيث لو تشرّف بحضور صاحب الزّمان يقدّمها إليه.
ذهب ملّا محمّد عليّ إلى شيراز وتشرّف بحضور حضرة الباب عن طريق ملّا حسين البشروئي وفاز بشرف الإيمان. لم يمض شهران من تاريخ إظهار أمر حضرة الباب حتّى وصلت عريضة جناب الطّاهرة لحضرته، وفورًا اعتبرها من حروف الحيّ(4). أبلغ ملّا محمّد عليّ جناب الطّاهرة فورًا عن هذه المنقبة العظمى. قد يبدو موضوع إيمان جناب الطّاهرة في البداية مبهمًا في نظر بعض المحقّقين. يكتب دكتور عليّ الورديّ، كان الباب في شيراز وقرّة العين في كربلاء، كيف يمكن التّصوّر بأن تؤمن بالباب دون أيّ وسيلة اتّصال(5).
يذكر جناب أبو الفضائل في كتاب “كشف الغطاء” كيفيّة إيمان جناب الطّاهرة على النّحو التّالي، ولم يذكر إيمانها الأوّلي: “وصلت سنة 1260، ورسمت يدّ التّقدير خطّة عجيبة جديدة على صفحة التّاريخ. ذهب ملّا عليّ البسطاميّ إلى العراق، وذكر خبر تشرّفه ومعرفته للباب ونشر خبر ظهوره وآثاره المباركة. كانت قرّة العين من النّفوس الّتي انجذبت لبياناته المباركة، والّتي آمنت بحقيقة الظّهور بعد قراءتها الأولى لآثار النّقطة الأولى واطّلاعها على الأسرار، وتركت الدّروس السّابقة في مجالس الدّرس. فأزاحت السّتار وقامت بهمّة على نشر آثاره المباركة. وبدّلت مجالس الدّرس إلى محافل التّبليغ والدّعوة. (ص 94)
ولكن يتّضح ممّا كتب جناب نبيل الزرندي أنّ إيمان جناب الطّاهرة في البداية كان قبل اطّلاعها على الآثار المباركة لحضرة الباب ومن ضمنها كتاب قيّوم الأسماء(6). لقد أيّد حضرة وليّ أمر الله رأيّ نبيل الزرندي، حيث أشار حضرته في كتاب القرن البديع God Passes By (ص 26) إلى إيمان جناب الطّاهرة قبل اكتمال حروف الحيّ في شيراز لأنّ آخر حرف من حروف الحيّ والّذي آمن بحضرة الباب كان القدّوس، وبإيمانه اكتمل الواحد البياني الأوّل.
بالاستناد لبيان حضرة وليّ أمر الله وهو مستند أيضًا على بيان حضرة عبد البهاء في كتاب تذكرة الوفاء (ص 219) بأنّ الاتّصال الأوّلي لجناب الطّاهرة مع الأمر البديع، أو بعبارة أخرى إيمان الطّاهرة بدايةً، حدث عن طريق الاستمرار في الأدعية ومشاهدة الرّؤيا. يقينًا أنّ إيمانها كان قبل جناب القدّوس من حيث عامل الزّمان، وكان في الشّهر الثّاني من ظهور حضرة الباب. مع الأخذ في الاعتبار ما ذكر، وبعد اطّلاع جناب الطّاهرة على كتاب قيّوم الأسماء وصلت في إيمانها إلى أوجه، أو بلغت إلى مرحلة اليقين. ما كتبه جناب أبو الفضائل في باب إيمان جناب الطّاهرة يرجع إلى مرحلة إيقانها وليس إيمانها الأوّلي على إثر استمرار الدّعاء والرّؤيا.
يوضّح حضرة عبد البهاء في كتاب تذكرة الوفاء قصّة إيقان جناب الطّاهرة بخصوص أحقيّة الأمر الجديد ما يلي: “كان حضرة السّيّد الرّشتي المرحوم يبشّر تلاميذه، قبل وفاته، بظهور الموعود ويقول لهم اذهبوا وجوسوا خلال الديار وطوفوا في الأرض وابحثوا عن سيدكم”. فذهب نفر من أجلّة تلاميذه إلى الكوفة واعتكفوا بمسجدها واشتغلوا بالرياضة (التنسّك). وذهب بعضهم إلى كربلاء مترصدين ظهور الموعود وكان من جملتهم حضرة الطاهرة التي أشغلت نفسها بالصوم نهارًا وبالتهجد وتلاوة الأنجية ليلاً. وبينما هي سابحة في هذا الخضم إذ رأت رؤية صادقة في وقت السّحر وهي منقطعة عن العالم، فرأت سيّدًا شابًّا بعمامة خضراء يرتدي عباءة سوداء وما أن وقع قدمه على الأرض حتى ارتفع إلى أوج الهواء ثم انتصب يصلي ويتلو في قنوته بعض الآيات. فحفظت جنابها آيةً ممّا كان يتلوه. ولمّا استيقظت دوّنتها في مذكّرتها. ولمّا انتشر، بعد ظهور حضرة الأعلى كتابه الموسوم بأحسن القصص (قيّوم الأسماء)، تناولته، وبينما هي تتصفّحه إذ وقع نظرها على نفس الآية الّتي حفظتها في المنام. فقامت على الفور بشكران الله وخرّت على الأرض ساجدة للحقّ وأيقنت أنّ هذا الظّهور حقّ لا ريب فيه.” (ص 220)
بعد وصول جناب الطّاهرة إلى مرحلة الإيقان، قامت بكلّ عشق على نشر الأمر البديع وبشّرت خبر الظّهور للجميع. لم يجرؤ أحد على مقاومتها. كانت بمثابة نهر عظيم اتّصل ببحر معارف الظّهور البديع. أرعبت أمواج بحر بيانها أعداء الأمر الجديد، وهدت المخلصين وأصحاب القلوب الصّافية إلى وادي الإيمان والإيقان.
قامت جناب الطاهرة بترجمة كتاب قيّوم الأسماء للفارسية وكانت تدرّس ذلك الكتاب يوميًا في مدرستها وتفسّره. وبهمّة ملّا عليّ البسطامي لم تفز الطّاهرة وحدها بقراءة قيّوم الأسماء فحسب، بلّ كان الافتخار من نصيب أصحاب آخرين أيضًا.
كانت أوّل سيّدة آمنت من سكّان كربلاء، هي زوجة جناب السيّد كاظم الرّشتي الشيرازيّة. وفاز أغلب البابيّين في كربلاء بالإيمان بالأمر المبارك نتيجة المساعي المستمرة لملا البسطامي وجناب الطّاهرة، واشتهر أمر الله في العتبات العاليات واتّخذ عظمة خاصّة. كانت جناب الطّاهرة والأصحاب الأجلّاء يقومون على العبادة بكلّ خضوع وخشوع وطبقًا لبيان حضرة عبد البهاء: “ولم تترك مستحبًّا حتّى أوردته”(7). كانت مجموعة من العلماء من سكّان كربلاء يحضرون مجلس الدّرس عند جناب الطّاهرة ويستفيدون من محضرها من خلف السّتار. وكانت تبلّغهم جهارًا الأمر الجديد. يكتب جناب أبو الفضائل في كتاب كشف الغطاء (ص 97): “… لم تكن قرّة العين تلبس النّقاب في مجلس الدّرس مع التّلاميذ وتجلس مكشوفة الوجه في المجلس، ولكن في المجالس الأخرى وفي حضور سائر العلماء كانت تتكلّم من خلف ستار، وبعض العلماء اعتبروا عدم ارتدائها للنّقاب هو كشف للحجاب وخرق للإجماع ومخالف لأحكام الإسلام، بينما لم تجد مجموعة أخرى من العلماء في كشف الوجه والكفّين عورة، وقالوا بأنّه غير واجب سترها، مثلما وردت في أحاديث أمّهات المؤمنين بأنّ في أسفار الحجّ في صحبة حضرة خاتم الأنبياء عليه التّحيّة والثّناء حين طواف البيت ورغم الجموع الكثيرة والازدحام، كان الوجه والكفّان مكشوفين ولم يترتّب أيّ محظور على هذا العمل”.
كما أنّ مجموعة من النساء استفدن من محضر جناب الطّاهرة أيضًا، من بينهن والدة جناب ملّا حسين البشروئي (بي بي كوچك) وشقيقته الملقّبة بورقة الفردوس، والّتى كانت سببًا لأن تأتي خورشيد بيگم الملقّبة بشمس الضّحى (حرم جناب آقا ميرزا هادي النّهري)، إلى محضر جناب الطّاهرة وتصل إلى أوج الإيقان. قامت النّساء المحترمات ومعهن جناب الطّاهرة بنشر النّفحات الإلهيّة. كانت جناب الطّاهرة منشغلة بإثبات أحقّيّة حضرة الباب في غاية الشّجاعة وكمال الفصاحة والبلاغة. احتفلت في اليوم الأوّل من محرّم بميلاد حضرة الباب عوضًا عن إجراء مراسم العزاء لاستشهاد حضرة الإمام الحسين(8).
يكتب جناب سمندر في تاريخه: “… ويأتي شهر محرّم، وكعادة كلّ سنة، كانت تقام مراسم العزاء في منزل المرحوم السّيّد الرشتي، قامت جناب الطّاهرة بمعيّة شقيقتها ليلة الأوّل من محرّم وهو ميلاد حضرة النّقطة الأولى، باستخدام الحنّاء والألبسة الملوّنة ومنعت القهوة والأرجيلة الّتي كانت مكروهة ومذمومة ومنهيًّا عنها في آثار حضرة الباب. يتّضح إذن بعد انتشار هذا الكلام، أيّ هياج قام وظهر في محضر العلماء”. (ص 346–347) لذلك أخذ أهل البغضاء ذلك ذريعة ليهيّجوا الحكومة وعوام النّاس على جنابها.
لم تتعرّض جناب الطّاهرة في كربلاء إلى مخالفة الأعداء من الشّيعة والشّيخيّة فحسب، بل أنّ جماعة من البابيّين أيضًا شاركوا في إثارة المشاكل لتلك المشتعلة بنار محبّة الله. لم يكن عناد الأعداء الخارجيّين كافيًا، بلّ قام بعض من علماء البابيّة السّاكنين في كربلاء باتّخاذ أساليب مستهجنة في مخالفتها. تسبّب هذا الهجوم في أن تقيم جناب الطّاهرة لعدّة أشهر في الكاظمين إلى حين تهدئة الوضع.
يكتب الدكتور عليّ الورديّ بخصوص سبب انتقال جناب الطّاهرة إلى الكاظميّة (الكاظمين) وأحداثها، بأنّ السّبب الأصلي للانتقال المؤقّت إلى الكاظمين في أغسطس 1846 هو الخلاف الشّديد للميرزا محمّد حسن گوهر من كبار الشّيخيّة معها. استقبل جناب الطّاهرة في الكاظمين جمع غفير. في البداية كانت تشارك في استضافة الرّؤساء الّذين كانوا يزورونها، ثمّ سكنت في منزل السيّد صادق الكشفي والّذي كان منزله محلّ ورود الزّائرين من الشّيخيّة.
قامت جناب الطّاهرة في الكاظميّة على غرار كربلاء بالتّدريس، وتحيّر المستمعون والتّلاميذ من قوّة استدلالها وحسن بيانها. اشتهرت بسعة معارفها في بغداد، وسرع النّاس من الشّيعة وغيرهم إلى محضرها في الكاظميّة للاستفادة منها(1). يكتب الدكتور الورديّ أنّ جناب الطّاهرة أقامت مدّة ستّة أشهر في الكاظميّة ورجعت إلى كربلاء في فبراير 1847 ميلاديّة. حسب ظنّه، أنّها تركت أسلوب التّقيّة بعد رجوعها إلى كربلاء، وبدأت بنشر الدّعوة علنًا للنّاس، ولهذا السّبب انقسمت جماعة البابيّين في كربلاء إلى مجموعتين: المجموعة الأولى مريدوها والّذين اشتهروا بجماعة القرتيّة، ومن ضمنهم ملّا باقر التّبريزي من حروف الحيّ. المجموعة الأخرى الّتي لم توافق على أسلوبها في إبلاغها للدّعوة علنًا وانحازوا لملّا محمّد الخراساني (حصاري) الّذي كان يشرف على منزل السّيّد كاظم الرّشتي. يقول دكتور الورديّ بأنّه استند في رأيه بخصوص انشقاق البابيّة في كربلاء على سندين مهّمين. السّند الأوّل كتاب “عقائد الشّيخيّة” تأليف ملّا أحمد الحصاري والّذي انتقد جناب الطّاهرة فيه ولقّبها ببنت الطّالح (بدلًا عن بنت الصّالح). حصلت على النّسخة المخطوطة لهذا الكتاب من عبّود الصّالحي من أقارب جناب الطّاهرة. السّند الثّاني رسالة الشيخ سلطان الكربلائي(2).
يجدر الانتباه إلى أنّ هذه الرّسالة ذكرت في المجلّد الثّالث من كتاب ظهور الحقّ (ص 245–259) تأليف جناب فاضل المازندراني. يدافع فيها الشّيخ سلطان عن جناب الطّاهرة ويخالف ملّا أحمد ومريديه. بعد أن قام دكتور الورديّ بمطالعة هذين السّندين بكلّ دقّة ذكر مواضع الاختلاف بين الطّرفين في النّقاط التّالية:
ثمّ ينقل دكتور الورديّ عدّة صفحات من كتاب عقائد الشّيخيّة، ملّا أحمد الحصاري، ورسالة الشيخ سلطان الكربلائي. رغم أنّ استنباط دكتور الورديّ في بعض المواضع يبدو صحيحًا، ولكن الموضوع أدقّ من أن يذكر بهذا النّحو. على أيّة حال كان الشيخ سلطان الكربلائي رعاية للحكمة قد اعتبر رجعة الأئمّة في الرّسالة المذكورة كفرًا محضًا. بديهي أنّه لم يكن يعتقد بعد بهذه الأمور في ذلك الزّمان.
بالرّجوع إلى كربلاء لم يهدأ الخلاف مع جناب الطّاهرة بعد. اعتبر الشيخ سلطان مخالفة ملّا أحمد هي العلّة الأساسيّة لبروز المشاكل لجناب الطّاهرة(4). يتّضح من كتاباتها نفسها أنّ هذه النابغة اطّلعت على حقائق كثيرة في الشّهور الأولى للظّهور المبارك، وكانت معتقداتها مطابقة مع محتويات آثار حضرة الباب اللّاحقة، رغم أنّ تلك المعتقدات حينها كان الشيخ سلطان كربلائي يعدّها كفرًا محضًا(5).
كانت جناب الطّاهرة تعتقد قلبيًّا أنّ ظهور حضرة الباب هو ظهور مستقلّ وناسخ لشرع الإسلام، وكانت تلوّح هذا الاعتقاد لبعض الأصحاب، ولذا قام البابيّون المحافظون أو (الأصحاب) بمخالفة عقائدها الثّوريّة، وكان من بينهم ملّا أحمد معلّم الحصاري. سعى جناب ملّا أحمد بعد وفاة زوجة السيّد كاظم الرّشتي الّتي حصلت بعد سنة من إيمان الطّاهرة، إلى أن يجعل ديوان الرّشتي مركز مجهوداته التّبليغيّة ووفّق في ذلك في النّهاية. كان ملّا أحمد رجلًا فاضلًا وتقّيًّا. ولكنّه لم يوافق أسلوب جناب الطّاهرة الثّوري.
أجد لزامًا هنا أن أشير إلى أحوال ملّا أحمد باختصار. ولد المذكور في (نامق) من توابع ترشيز خراسان، وتتلّمذ عند والده الآخوند إسماعيل الكربلائي وهو من علماء وخطّاطي زمانه، وأيضًا لدى عدد من الأساتذة في البلد، ثمّ سافر إلى العتبات لاستكمال مطالعاته وفي النّهاية أخذ مقام الاجتهاد(6). في البداية كان يبتعد عن الشّيخيّة، ولكن نتيجة معاشرته مع أحد تلاميذ السّيّد كاظم الرّشتي تعرّف على عقائد الشّيخ وفي النّهاية أصبح من مريدي وتلاميذ السّيّد. تزوّج من امرأة عربيّة لذا استحكم استقراره في كربلاء. كان يعلّم أبناء السّيّد كاظم لمدّة لذا
اشتهر بالمعلّم.
عندما سمع والده ملّا إسماعيل بهذه الأخبار عزم على الذّهاب إلى كربلاء كيّ يتحقّق من أمر ابنه عن قرب، عندما تأكّد من أنّ ابنه أصبح شيخيًّا عاد إلى خراسان وحرمه من الميراث. فاز ملّا أحمد بزيارة حضرة الباب أثناء إقامة حضرته في كربلاء وشاهد مدى احترام وتجليل السّيّد الرّشتي لحضرته، وكان يندهش من مدى هذا الاحترام ولم يتمكّن من معرفة السّبب الأصلي. بعد وفاة السّيّد الرّشتي، عندما عزم جناب باب الباب أن يذهب إلى إيران للتّحّقيق، طلب منه إذا حصل ووجد حضرة الموعود وزاره أن يخبره فورًا ويبلّغه. لذا كتب جناب باب الباب بعد إيمانه رسالة إليه وأخبره ببشارة الظّهور الجديد. فاز ملّا أحمد فورًا بالإيمان، وقام بهداية النّفوس وكان موفّقًا. ثمّ ذهب إلى خراسان وقام بهداية إخوانه وأخواته أيضًا إلى الأمر البديع. قضى فترة مع جناب باب الباب وعدد من الأصحاب ثمّ قصد الرّجوع إلى العراق والاستمرار في تبليغ وهداية النّفوس.
سافر والد ملّا أحمد الّذي كان يسمع أخبار كثيرة عن ابنه مرّة أخرى إلى كربلاء، ووجد ابنه هذه المرّة بابيًّا. عاتبه في البداية ولكن هدأ في النّهاية، وقام بالتّحقيق وفاز بالإيمان. سافر ملّا أحمد إلى إيران بعد إيمان والده واستمرّ في خدماته. تشرّف بحضور حضرة الباب في ماكو. واستنسخ في هذه السفرة كتاب البيان الفارسيّ من على خطّ جناب السّيّد حسين اليزدي كاتب الوحي وقام حضرة الباب بتصحيح بعض مواضعه. ذهب ملّا أحمد مع مجموعة من الصّحابة إلى قلعة طبرسي، ولكنّه لم يوفّق في أن يلتحق بأصحاب القلعة، لذا رجع إلى خراسان واستمرّ في خدمته.
كما ذكرنا سابقًا لم يتّفق ملّا أحمد الحصاري سواء في العراق أو إيران مع أسلوب جناب الطّاهرة الثّوري في نشر الأمر ولكن نظرًا لأنّ حضرة الباب كان يحمي جناب الطّاهرة سكت في النّهاية. دخلت مجموعة من النّاس في مدينتيّ (نامق) و(حصار) في ظلّ أمر الله بهمّة ملّا أحمد وأقاربه، وسافر إلى مناطق أخرى في خراسان أيضًا للتّبليغ. عاش سنوات عديدة بعد استشهاد حضرة الباب، وفي النّهاية آمن أيضًا بحضرة بهاء الله وصعد بحسن الخاتمة(7).
إنّ أغلب مخالفي جناب الطّاهرة من البابيّين (باستثناء ملّا أحمد الحصاري) كانوا من النّفوس الّذين تزلزلوا في واقعة البداء في اجتماع كربلاء، وابتلوا بالخسران وسوء العاقبة. وخلاصة حادثة وقوع البداء في اجتماع كربلاء هي كالتّالي: أمر حضرة الباب المؤمنين في آثاره المباركة أن يجتمعوا في أرض كربلاء المقدّسة لنصرة الأمر الجديد وينتظروا توجيهات حضرته فلم يتحقّق هذا الوعد وصار البداء في اجتماع كربلاء، حيث أوضح حضرته في التّوقيعات النّازلة بعد ذلك أسباب هذا البداء. يتفضّل في توقيع مبارك مؤرّخ عاشوراء (10 محرّم) سنة 1261 هـجريّة قمريّة / 20 يناير 1845 ميلاديّة مخاطبًا لملّا حسين، بأنّ الله لم يأذن له، والسّبب هو المخالفة الشّديدة لأعداء الأمر في كربلاء. كما تفضّل أيضًا في توقيع ملّا عبد الخالق اليزدي وتوقيع جناب الحاج سيّد عليّ، الخال الأعظم، عن العلل الأصليّة للبداء في اجتماع كربلاء بأنّه بسبب مخالفة علماء العراق، وحفظ المؤمنين من بروز الفتن والظّلم والذّلّة الّتي كان من المحتمل حدوثها(8).
إنّ وقوع البداء كما يتفضّل حضرة الباب في توقيع ملّا عبد الخالق اليزدي، هو عامل لافتتان العباد وسبب لامتحان بعض الأفراد ضعيفي الإرادة، خلاصة القول أنّ الأعداء سواء من داخل الأمر أو من خارجه وبالأخصّ علماء الشّيخيّة في كربلاء الّذين كانوا مغلوبين في ميدان الاستدلال أمام جناب الطّاهرة كان لهم دخل عظيم في تحريك النّاس ضدّها.
قام علماء السوء في كربلاء على تكفير جناب الطاهرة ثم هاجموا بيت شمس الضحى ظانين أن حضرة الطاهرة فيه، ثم أحاطوا بأمة الله المنجذبة (شمس الضحى) وأوسعوها ضربًا وشتمًا ولعنًا وزجرًا وتأنيبًا بدرجة لا توصف ثم سحبوها من الدار إلى السوق، فهجم عليها الأعداء وأوسعوها ضربًا بالعصي وقذفوها بالحجارة وبينما هي على هذه الحال إذ أتى والد زوجها المحترم الحاج سيد مهدي النهري وصاح في القوم قائلا: “إن هذه السيدة ليست بجناب الطاهرة”. فلم تصدقه الشرطة والعامة ولم يتركوها ثم طلبوا من حضرة الحاج سيد مهدي أن يأتي بمن يشهد على ما يقول وما لبثوا أن سمعوا أحد الغوغاء يصيح قائلا: “إن قرة العين قد قبض عليها”، ولهذا تركوا شمس الضحى.(9)
طبقًا لبيان حضرة عبد البهاء في تذكرة الوفاء (ص 205) “وعندما علم الأعداء بأنّه تمّ إلقاء القبض على جناب الطّاهرة، أفرجوا عن شمس الضّحى”. أبلغت جناب الطّاهرة الحكومة بأنّها في منزلها حتّى لا يتعرّضوا لأشخاص آخرين، لذا توجّه المأمورون إلى مسكنها وأحاطه العساكر ومنعوها وأفرادًا آخرين من الخروج والدّخول إلى المنزل(10). تمّ إبلاغ والي بغداد والباب العالي في البلاط العثماني، عن جهودها ونشاطها ومرّت ثلاثة أشهر ولم يصل أيّ جواب. إن الحكومة وضعت بعضًا من الحراس في بيت جناب الطاهرة ومنعوا الناس من الدخول والخروج حتى تأتي الأوامر من بغداد وإسلامبول. ولما طالت مدة انتظار الأوامر طالبت جناب الطاهرة لها ورفيقاتها بالذهاب إلى بغداد ريثما تأتي الأوامر بشأنها من إسلامبول ويفعل الله ما يشاء. فلبّت الحكومة طلبها فسافرت من كربلاء هي وجناب ورقة الفردوس ووالدتها وجناب شمس الضحى إلى بغداد ولما وصلن بغداد نزلن في بيت حضرة الشيخ محمد شبل(11). وبالطّبع وأثناء خروجها من كربلاء فقد هاجمها ومن معها جماعة من الأشرار بالأحجار حتّى مسافة بعيدة.
يذكر جناب محمّد مصطفى بغدادي (ابن الشّيخ محمّد شبل) أنّ العلماء الّذين كانوا برفقة جناب الطّاهرة منهم ملّا إبراهيم المحلاتي، الشيخ صالح الكريمي، الشيخ سلطان الكربلائي والسّيّد أحمد اليزدي، وأيضا والدة شمس الضّحى كانت من المرافقين لجناب الطّاهرة(12).
ولما وصلت جناب الطاهرة بغداد نزلت في بيت حضرة الشيخ محمد شبل والد جناب آقا محمد مصطفى البغدادي. ولما كثر الوافدون على جناب الطاهرة هاج أهالي ذلك الحي فاضطرت إلى الانتقال إلى منزل خاص بجهة أخرى من المدينة(13). هاج القوم في بغداد، بينما أرسلت جناب الطّاهرة إلى كبار العلماء السّاكنين في كربلاء، رسالة تفصيليّة دعتهم فيها لقبول الأمر الجديد(14). أولئك العلماء الّذين لم يعترفوا بالنّساء واعتبروهن أقلّ درجة من الحيوانات وأنّهن فاقدات للرّوح الإنساني، عجزوا عن مقابلتها، وكانوا يتجنّبون قدر الإمكان مواجهتها. كانت جناب الطّاهرة تتباحث وتتناقش مع علماء الكاظمين أيضًا وتتمّم الحجّة عليهم، فقامت جماعة منهم بالمعارضة وأعدّت جناب الطّاهرة نفسها للمباهلة (المناظرة)(15) ولكن لم يقبل العلماء ذلك وزادت معارضتهم لها. وبسبب الخوف من حدوث ضوضاء عظيمة، قام نجيب باشا والي بغداد(16) بإحضارها واستجوابها، ولكّنه لم يجد ما يدينها. لذا أرسلها مع السّيّدات شمس الضّحى وورقة الفردوس إلى منزل الفقيه البارز الشيخ محمود ابن الآلوسي مفتي المدينة(17). للإقامة هناك لفترة(18).
يتفضّل حضرة عبد البهاء في كتاب تذكرة الوفاء (ص 222) بخصوص محادثات مفتي بغداد مع جناب الطّاهرة ما يلي: “ولمّا وقف ابن الآلوسي على مدى اطّلاعها وطول باعها في حلّ المسائل العلميّة وشواهد التّفسير، كان يصرف أغلب أوقاته في طرح الأسئلة عليها، فكانت تجيبه بأجوبة شافيّة وعلى الأخصّ فيما يتعلّق بالحشر والنشر والميزان والصّراط وما إلى ذلك”.
كانت كمالات جناب الطّاهرة تسبّب حيرة مفتي بغداد، ويصرّح ويعترف بمقامات فضل، وكمال، وحياء، وعفّة، وعقل ودراية جناب الطّاهرة(19). يكتب محمّد مصطفى البغدادي في رسالة شرح حياتها أنّ ابن الآلوسي أذعن بأحقيّة ظهور حضرة الباب(20)، وكتب البعض أنّ حضرة الباب أنزل توقيعًا مباركًا مخاطبًا لابن الآلوسي دعاه لقبول الأمر الجديد(21). يشير جناب أبو الفضائل أيضًا نقلًا عن أحد خدّام بيت ابن الآلوسي بأنّ المذكور وافق مع عقائد جناب الطّاهرة: “أحد أهالي بغداد الّذي كان والده يخدم في أكثر مجالس قرّة العين والآلوسي، يحكي أنّ المرحوم الآلوسي كان حذرًا جدًا في كلامه خوفًا من انتقاد قرّة العين، وكان يتكلّم بالعربيّة الفصحى ويتجنّب اللّغة الدّارجة. في أحد الأيام كنت واقفًا أستمع لكلامهما وكان الآلوسي يتكلّم في غاية الخضوع ويقول: “يا قرّة العين تالله إنّي على مذهبك ولكنّي أخاف سيوف آل عثمان”(22). على أيّة حال، إنّ ما هو مسلّم به، أنّ ابن الآلوسي استفاض من محضر جناب الطّاهرة، وطبقًا لبيان حضرة عبد البهاء: كان المفتي، خلال مدة اقامتها في بيته يباحثها في مسائل علمية معضلة فكانت تجيبه بأجوبة كافية شافية” (23).
كما يتفضّل حضرة عبد البهاء بخصوص أيّام إقامة جناب الطّاهرة في منزل ابن الآلوسي قائلًا:
“واتّفق أنّ ابن الآلوسي قدّ رأى رؤيةً وقصّها على جناب الطّاهرة وطلب منها تعبيرها قائلًا: “إنّني رأيت في منامي أنّ علماء الشّيعة أتوا إلى ضريح سيّد الشّهداء (الحسين بن عليّ) المطهّر ورفعوا مقصورة الضّريح ونبشوا قبره المنوّر وعرّوا جسده المطهّر وكشفوه للعيان، ثمّ أرادوا أن يأخذوا رفاته المباركة، فمنعتهم عن ذلك ورميت نفسي على الرّفات”. فقالت له السّيّدة الطّاهرة: “إنّ تعبير رؤياك هو أنّك ستخلّصني من يد علماء الشّيعة”. فقال ابن الآلوسي: “وهذا هو تعبيري أيضًا”(24).
أثناء إقامة جناب الطّاهرة في منزل ابن الآلوسي والّتي استمرّت حوالي ثلاثة أشهر(25) كانت أحيانًا تحضر في بيت الشّيخ محمّد شبل وتتباحث مع الأصحاب وعلماء آخرين. وعند ذهابها إلى منزل السّيّد شبل كانت دائمًا يرافقها اثنتان من النساء البابيّات ومأمور من الحكومة للحفاظ عليها. كان يحضر هذه المجالس أعدادًا كبيرة من الأصحاب وأيضًا أتباع الفرق والأديان الأخرى. كان محضر جناب الطّاهرة مثيرًا ورائعًا إلى درجة أنّ الجميع كانوا يتأثّرون من ذلك وكلّ يباحثها ويناظرها بطريقة ما. حاول فقهاء الشّيعة والشّيخيّة من سكّان بغداد، وعلماء السّنّة، حتّى القساوسة المسيحيّين ورجال الدّين اليهود غاية ما في وسعهم أن يمنعوا جناب الطّاهرة من استمرارها في ترويج الأمر البديع، واستخدموا أنواع التّدابير والأساليب ولكّنهم كانوا ينهزمون أمامها في ميدان الاستدلال. كانت إحاطتها العلميّة بشأن أنّ الحضور – حتّى لو لم يدخلوا في ظلّ الأمر الجديد – إلّا أنّهم كانوا يعترفون بعظمة ومقام جناب الطّاهرة ويبجّلونها في قلوبهم، رغم حسدهم وعنادهم(26).
سافر جناب حكيم مسيح الكليمي برفقة محمّد شاه في سفرته الأخيرة لزيارة المقامات المتبرّكة للشّيعة في العراق، وبعد أن سمع عن أوصاف جناب الطّاهرة في بغداد، سرع إلى محضرها في منزل الشّيخ محمّد شبل، حيث انجذب وآمن بعد ذلك. يكتب جناب سمندر في هذا الخصوص: “عندما التقيت جناب حكيم مسيح الكليمي في طهران، وكان هو أوّل كليمي ألتقيه في زمرة الأصحاب، وشاهدت عليه حالة الأنس والإيمان والجذب والمحبّة الّتي أدهشتني فسألته، رغم أنّ بين دين حضرة موسى وهذا الأمر الأعظم مسافة كبيرة، كيف تخطّيت هذه المسافة وبأيّة وسيلة وصلت إلى المقصود. قال، في أيّام وجود قرّة العين في بغداد كنت حينها موجودًا في بغداد أيضًا وكنت أحضر بعض المجالس ومحاوراتها ومكالماتها مع العلماء، وتحيّرت واندهشت من أسلوبها وبياناتها وطريقة محادثتها، فتأثّرت كثيرًا وبدأت بالبحث والتّحقيق والتّعمّق في هذا الأمر. توصّلت إلى بعضها أثناء إقامتي هناك، ومن ثمّ بفضل الله تعالى وصلت إلى المقصود”. (ص 348–349).
أمّا قصّة إيمان جناب حكيم مسيح هي كالتّالي، أنّه فاز بشرف عرفان الأمر الأعظم أثناء مداواته لأيادي أمر الله جناب الميرزا محمّد عليّ محمّد ابن أصدق في سجن “سياه چال” طهران وكان في ذاك الوقت طفلا، وذلك نتيجة محادثاته مع أيادي أمر الله جناب اسم الله الأصدق. فقد تمّ القبض على جناب اسم الله الأصدق (ملّا محمّد صادق الخراساني)، عام 1278 هجرية الموافق 1861 ميلادية بأمر عمّ ناصر الدّين شاه السلطان مراد ميرزا والي خراسان، على أساس فتوى القتل الصّادرة من ثمانية عشرة من العلماء المعارضين في خراسان، وكان معه ابنه الصّغير واثنان من الأحباء، ملّا عليّ أصغر والميرزا نصر الله، حيث أخذوا مكبّلين بالسّلاسل والأغلال إلى طهران وأودعوا السّجن هناك، وظلّوا مدّة سنتين وأربعة أشهر في “سياه چال” طهران مقيّدين ومحبوسين.
مرض ابن اسم الله الأصدق البالغ من العمر 11 سنة مرضًا شديدًا نتيجة شدائد السّجن. كان اسم هذا الطّفل عليّ محمّد وهو نفسه أيادي أمر الله جناب ابن أصدق. كان “مشهدي عليّ” نائب مخزن “سياه چال”، شخصًا عطوفًا، حاول أن يأتي بطبيب لهذا الطّفل البابي البريء لمعالجته. لم يرض أيّ طبيب الذّهاب إلى “سياه چال” لمعالجة هذا الطّفل البابي. ولكن جناب حكيم مسيح الكليمي وافق على طلب السّجناء وذهب لمعالجة الطّفل في الحبس. كان لمدّة شهرين يحضر كلّ يوم عدّة ساعات إلى الحبس للمعالجة وكان يستفيد من محضر جناب ملّا صادق.
أثمر في النّهاية علاج جناب حكيم وشفي عليّ محمّد. جناب حكيم مسيح الّذي كان قدّ وقع تحت تأثير عظمة مقام وفصاحة بيان جناب الطّاهرة، وصل إلى أوج الإيمان نتيجة مباحثاته مع جناب ملّا صادق، وهكذا كان هو أوّل من آمن من اليهود. بعد ذلك بعدّة سنوات وبعد أيّام الرّضوان نزل عدد من الألواح من القلم الأبهى بإعزاز جناب حكيم مسيح، ولكن مع الأسف لا يوجد أغلبها(27).
لمع من عائلة جناب حكيم مسيح رجال بارزون في جامعة الاسم الأعظم، منهم حفيد المذكور وهو جناب الدكتور لطف الله حكيم (ابن حكيم سليمان) الخادم الوفيّ لحضرة وليّ أمر الله والعضو السّابق لبيت العدل الأعظم وشقيقه الدكتور أرسطو خان حكيم وابن دكتور أرسطو جناب بروفيسور منوچهر حكيم الأستاذ المتميّز في جامعة طهران والشّهيد المجيد(28).
على أيّة حال هناك نفوس مخلصة كثيرة ممّن وقعوا تحت تأثير مجالس مناظرة ومباحثة جناب الطّاهرة مع علماء الأديان، وكلّما تمّ التّحقيق الأكثر في تاريخ الأمر المبارك تزداد هذه القصص. تسبّبت فصاحة كلام جناب الطّاهرة وإحاطتها الّتي لا مثيل لها في المعارف الإلهيّة وغلبتها على علماء الأديان وبالأخصّ الشّيعة والسّنّة في بغداد والعراق عامّة، بأنّهم قاموا عليها في غاية الحسد والعناد لترويج الشّائعات الّتي لا أساس لها، وشوّهوا سمعتها في أنظار العموم بأنّها لا تتقيّد بأيّ دين أو مذهب.
يشير الشيخ محمود ابن الآلوسي مفتي بغداد في الشّرح الّذي كتبه بشأن جناب الطّاهرة، إلى هذه النّقطة (وهي غلبتها في الحجّة مع رجال الدّين) ويصرّح أنّ الشّائعات المذكورة (بخصوص مخالطتها مجالس الرّجال) كانت جميعها لا أساس لها(29). كان أساس كلام المخالفين أنّ جناب الطّاهرة ظهرت بدون حجاب أمام النّاس، في حين أنّها كانت تتحدّث مع علماء الأديان وغير البابيّين من خلف ستار. وطبقًا لرواية بعض المؤرّخين أنّها كانت تزيل النّقاب فقط في جمع البابيّين(30). اعتبر المعاندون كشف النّقاب هذا خرقًا للإجماع ومخالفًا للإسلام(31). على أيّة حال أثناء إقامة جناب الطّاهرة في كربلاء وبغداد سعى أعداء الأمر البديع غاية ما في وسعهم كيّ يلوّثوا سمعتها، وبدأ جمع من البابيّين أيضًا بمخالفتها.
كانت جناب الطّاهرة سيّدة ثوريّة، وتعتقد بالإصلاحات الأساسيّة للمجتمع، ومنذ بداية أيّامها كانت تذكر الحقائق الموجودة في الدّين الجديد بدون ستر. أمّا أغلب الأصحاب، إمّا أنّهم لم يكونوا مطّلعين على تلك الحقائق، أو أنّهم خالفوها بسبب إظهارها لهذه الحقائق جهرًا. كان ملّا أحمد الحصاري من المجموعة الأخيرة، الّذي خالفها بسبب جرأتها. كان ذلك سببًا في مشاجرات كثيرة بين المجموعتين، المؤيّدين لجناب الطّاهرة والمنحازين لملّا أحمد.
يكتب الشيخ سلطان الكربلائي، إنّه ذات ليلة كنّا مجتمعين مع ملّا أحمد وعدد من مريديه في منزل السّيّد كاظم الرّشتي بهدف رفع الفتنة وقطع النّزاع ولكن لم نصل لنتيجة، كان ملّا أحمد يدّعي القيادة ودعا جمعًا إلى اتّباعه وعدّ نفسه أعلم المعاصرين(32). حريّ بالذّكر أنّ توقيعات حضرة الباب الّتي نزلت في أيّام إقامة جناب الطّاهرة في كربلاء، ردًّا على الشّكاوى الواصلة، ومن ثمّ في بغداد والسّنوات التّالية، جميعها تشمل حماية حضرته لجناب الطّاهرة.
إنّ شجاعة وشهامة جناب الطّاهرة في نشر عقائدها كانت مبنيّة على روح آيات حضرة الباب (كما اتّضحت هذه النّقطة بعد ذلك) وإيمانها بأنّه لا بدّ من ذكر حقائق الأمر البديع وانتشارها بدون الإفراط في التّقيّة، ولكن الأصحاب المحافظين لم يعجبوا بأسلوبها الثّوري، لذا اجتمعوا وتشاوروا وأرسلوا رسالة شكوى إلى حضرة الباب. اجتمعت مجموعة منهم في قصبة الكاظميّة وأعلمهم هو “السّيّد عليّ بشر”، فكتب رسالة شكوى وأرسلها بواسطة “نوروز عليّ” خادم بيت السّيّد كاظم الرّشتي ليقدّمها لحضرة الباب(33). نزل توقيع من قلم حضرة الباب المبارك للردّ على السّيّد عليّ بشر، وتمّ تسليمه بواسطة نوروز عليّ أيضًا إلى السّيّد عليّ ورفاقه. ذهب جناب شيخ محمّد شبل البغدادي ومجموعة من أصحاب بغداد إلى الكاظمين وقرأوا توقيع حضرة الباب في جمع تجاوز السّبعين شخصًا من الأحباب. يذكر في التّوقيع خطابًا للسّيّد عليّ بشر بعد التّجليل الوفير لجناب الطّاهرة، وبأنّها سيّدة صادقة، عالمة، عاملة، وطاهرة ومدركة حقائق الأمر البّديع وعلى السّيّد المذكور اتّباعها(34).
كان ذلك سببًا في تزلزل السّيّد عليّ بشر وعدد من البابيّين من ضمنهم السّيّد محمّد جعفر، والسّيّد حسن، والسّيّد طه، وكاظم صوفي. ولكن باقي الأصحاب أبرزوا مراتب السّرور والإيقان، ومنذ ذلك الحين زادت محبّتهم القلبيّة لجناب الطّاهرة.
تمّ إجلال جناب الطّاهرة في الآثار المباركة لحضرة الباب خطابًا لها أو في التّواقيع الموجّهة للأصحاب ودحض الاتّهامات الواردة عليها. يتفضّل في توقيع ملّا محمّد عليّ قزويني “حرف الحيّ”، زوج أخت جناب الطّاهرة بأنّها ورقة طيّبة، فؤادها طاهر، وإنّ الله يرحم الأشخاص الّذين يعرفون قدرها ولا يتسبّبون في إيذائها. فجناب الطّاهرة هي سبب عزّة عشيرتها وطاعتها شرف ومنقبة(35).
ويتفضّل في توقيع آخر أنّ هيكله المبارك لا يحبّ أن ينكر أحد مقام جناب الطّاهرة العظيم، ولو عقول الأصحاب غير البالغة لا تدرك بعض المواضيع الّتي تتفضّل بها، لذلك يجب عليهم أن يصبروا حتّى يتمّ تنفيذ الإرادة الإلهيّة(36). وفي توقيع آخر يتفضّل: ولا يجوز لأحد أن يشكّ في علم جناب الطّاهرة. إنّها مطّلعة على حقائق الأمر البديع، واليوم وجودها شرف لجماعة المؤمنين. كلّ من يتسبّب في إيذائها يكون قد ارتكب ذنبًا عظيمًا(37).
على أيّة حال عذرًا لأنّنا رجعنا إلى أحداث كربلاء، والسّبب هو أنّ حوادث كربلاء وبغداد متّصلة ومرتبطة معًا. استمرّت جناب الطّاهرة في بغداد بنشر الأمر البديع والمباحثة والمناظرة مع العلماء وطالبي الحقيقة.
سعى زوجها وعمّها بواسطة إحدى الشّخصيّات البارزة في كربلاء بأن تقوم حكومة العراق بإرسالها إلى إيران. ذهب هذا الشّخص من كربلاء إلى بغداد وعمل كلّ ما في وسعه، ومن ثمّ كتب رسالة إلى ملّا محمّد تقي البرغاني، عمّ جناب الطّاهرة. ترجم عبّود الصّالحي هذه الرّسالة إلى العربيّة، وذكر دكتور عليّ الوردي تلك التّرجمة في كتاب لمحات اجتماعيّة المجلّد الثّاني ص 172. صرّحت هذه الرّسالة بأنّ جناب الطّاهرة موضع احترام جميع علماء وأعيان بغداد، وكلّ ما يذكره المخالفون عنها هو خلاف الحقيقة.
واتفق أن أتى حضرة والد ابن الآلوسي إلى الدار وما أن وقع نظرة على جناب الطاهرة حتى انطلق لسانه بأنواع السباب والشتائم واللعنات والطعن في الطاهرة بكل وقاحة وقلّة حياء. فخجل ابنه من ذلك وأخذ في تقديم الأعذار لجناب الطاهرة وقال لها: “إن الأمر بشأنك قد أتى من إسلامبول وفيه يأمر السلطان بإطلاق سراحك شريطة ألا تقيمي في الممالك العثمانيّة(38).
كان وقتها أواخر أيّام شتاء سنة 1263 هجريّة قمريّة / 1847 ميلاديّة. ولأنّ السّلطان قد أمر بإخراج مريدي جناب الطّاهرة أيضًا، فقد خرج عشرات من رجال العرب والعجم برفقتها إلى إيران. كان محمّد آقا ياور من أقارب نجيب باشا والي بغداد مأمورًا أن يرافق جناب الطّاهرة والأصحاب حتّى خانقين عند حدود إيران. كان من هذه المجموعة ثلاثين نفرًا من الأصحاب العرب وبعضهم مسلّحون ويعبرون الطّريق سيرًا على الأقدام. كان من مرافقيها طبقًا لتصريح محمّد مصطفى البغدادي: الشّيخ صالح الكريمي، والشّيخ محمّد شبل، والشّيخ سلطان الكربلائي، والسّيّد أحمد اليزدي، والسّيّد محمّد البايكاني، والسّيّد محسن الكاظمي وملّا إبراهيم المحلّاتي، البعض منهم تحرّكوا راكبين(39).
اطّلعت جناب الطّاهرة على ردّ الباب العالي فخرجت في صباح اليوم التّالي من بيت المفتي وتوجّهت إلى الحمّام وبعد عودتها أخذ جناب الحاج الشيخ محمد شبل وجناب الشيخ سلطان العربي بتهيئة لوازم السفر وبعد ثلاثة أيام بارحت جناب الطاهرة بغداد هي وجناب شمس الضحى وجناب ورقة الفردوس (أخت جناب باب الباب) ووالدة الميرزا هادي النهري قاصدين إيران والذي تولى الصرف على هذه الرحلة من جيبه الخاص هو جناب الشيخ محمد شبل(40).
مع خروج جناب الطّاهرة وأصحابها انخفضت مساعي البابيّين وشهرتهم في بغداد بالكلّيّة، إلى أن اشتهر أمر الله بعد ذلك مرّة أخرى بورود الجمال الأبهى في تلك المدينة، ممّا سبّب الرّعب في قلوب المخالفين وعنادهم. كان محمّد مصطفى بغدادي ابن الشّيخ محمّد شبل الّذي كان عمره آنذاك ما يقارب السّبع سنوات(41) من مرافقي جناب الطّاهرة، وهو الّذي كتب شرح أسفارها من بغداد إلى قزوين في رسالته المعروفة.
على أيّة حال ذهبت جناب الطّاهرة والأصحاب من بغداد إلى إيران. عند وصولهم إلى خانقين، استأذن محمّد آقا ياور مأمور نجيب باشا من جناب الطّاهرة بالرّجوع إلى بغداد، بعد أن انجذب خلال الطّريق لكمالاتها وفضائلها وشهامتها واستقامتها على شأن ودّعها بعيون دامعة وقلب حزين وهو عائد إلى بغداد.
وصلت جناب الطّاهرة والمرافقون بعد مرورهم على حدود الإمبراطوريّة العثمانيّة إلى كرمنشاه، وفي الطّريق توقّفوا مدّة ثلاثة أيّام في (كرند). قامت جناب الطّاهرة في غاية الشّجاعة بتبليغ الأمر الجديد للأهالي ومنهم رؤساء تلك المناطق حيث أعلن جماعة من الرّؤساء والشّيوخ إيمانهم وعقدوا الضّيافات والعزائم وذبحوا القرابين وقالوا لجناب الطّاهرة أنّ جميع أفراد قبيلتهم مستعدّون لفداء أرواحهم في سبيل الأمر البديع ومنتظرين فرمانكم. دعت جناب الطّاهرة في حقّهم وطلبت منهم أن يرجعوا إلى ديارهم وينشغلوا بخدمة الأمر(1). بعد الوصول إلى كرمنشاه أقامت النّساء في دار على حدة والرّجال في بيت آخر(2).
يكتب محمّد مصطفى في رسالته أنّ جناب الطّاهرة أمرت أن يتم تجهيز ثلاثة منازل كبيرة، منزل لها وللنّساء وعدد من العلماء، ومنزل ثان للأصحاب، وثالث لانعقاد مجالس التّبليغ والإعلان العمومي للأمر البديع(3) وتمّ تنفيذ أوامرها. ومن اليوم الثّاني من وصولهم، فتح المنزل الخاصّ لإعلان الأمر. حضر جمع من الأعيان والشّيوخ والتّجّار في ذلك المنزل وتمّ إبلاغ الأمر المبارك لهم. كان العدد ضخمًا إلى الحدّ الّذي لم يتّسع المنزل رغم اتّساعه. أخذت مجالس التّبليغ في ذلك المنزل رونقًا خاصًّا وكانت مثمرة.
في تلك المجالس كان الشّيخ صالح الكريمي، الشّيخ سلطان الكربلائي، الشّيخ محمّد شبل وملّا إبراهيم المحلّاتي كلّ واحد منهم بالتّناوب يقرأون ويترجمون شرح الكوثر النّازل من قلم حضرة الباب، ويجيبون على أسئلة العلماء. تتصدّرهم جناب الطّاهرة الّتي كانت منشغلة بتبليغ الأمر في غاية الفصاحة والشّهامة، فالعلماء الّذين استفاضوا من محضرها في كرمنشاه أو كانوا يتباحثون معها ويناظرونها، انجذب بعضهم وتحيّر البعض الآخر. وفي النّهاية حضر عندها مجموعة من كبار سيّدات المدينة ومن بينهم زوجة الوالي، وانجذبن لكمالات وفضائل جناب الطّاهرة وللأمر البديع وفاز الأمير (الوالي) وزوجته بالإيمان بالأمر المبارك.
كان محبّ عليّ خان ماكوئي أمير كرمنشاه، ولأنّه كان من نفس بلد الحاج الميرزا آقاسي الصّدر الأعظم في إيران، لذا كان محبوبًا من قبله، فتقلّد المناصب لمرّات عديدة، وفي ذلك الزّمان بصفته أمير كرمنشاه كان مستبدًّا في حكمه على النّاس(4)، ولكنّه تعامل مع جناب الطّاهرة والأصحاب في غاية المحبّة والمودّة. أمّا زوجة (محبّ عليّ خان) فهي الأميرة ماه باجي خانم ابنة فتح عليّ شاه القاجار وشقيقة الأمير أحمد ميرزا عضد الدّولة مؤلّف ‘تاريخ عضدي’. كان الأخّ والأخت من أهل الأدب ومن محبّي الشّعر، وكلاهما كان مغرمًا بالتّواصل مع أعيان القوم والاستفادة من محضرهم(5).
لقد كان إقبال الأمير وزوجته وبعض من أقاربهم وأيضًا مجموعة من أهالي كرمنشاه من الشّيعة الاثني عشرية وغيرهم إلى الأمر المبارك، سببًا في حسد علماء المدينة. كان عدد طالبي الحقيقة والمحقّقون يزداد في كلّ يوم إلى درجة لم تسعهم المنازل الثلاثة. كان العلماء وعامّة النّاس يأتون في كلّ يوم ويستفسرون من حضور جناب الطّاهرة كتابةً وشفاهةً، وكانت جنابها تكتب الرّدود بسرعة مذهلة. بلغ الأمر إلى أنّ علماء المدينة راجعوا آقا عبد الله البهبهاني المجتهد الأعظم في كرمنشاه وطلبوا منه أن يجيب على كتاباتها ويكتب رأيه سواءً بالرّفض أو القبول صراحةً.
كان آقا عبد الله البهبهاني من سلالة آقا محمّد عليّ البهبهاني(6) والمعروف بقاتل الصوفيّة. آقا محمّد عليّ (ابن آقا محمّد باقر البهبهاني المجتهد الأصولي والمعروف بوحيد)(7). وكما يستدلّ من عنوان “قاتل الصّوفيّة” فقد كان في غاية العناد مع الصّوفيّة، ولكنّه لم يخالف الإخباريّين. أمّا آقا عبد الله البهبهاني المعروف بكرمنشاهي كان مخالفًا للصّوفيّة والإخباريّين، وبما أنّهم يعتبرون الشّيخيّة والبابيّين من الإخباريّين فقد كان يكفّرهم. كانت وفاة آقا عبد الله سنة 1289 هجريّة قمريّة / 1872 ميلاديّة(8).
على أيّة حال عندما عجز آقا عبد الله عن مواجهة جناب الطّاهرة، راجع أمير كرمنشاه وطلب إخراجها ومرافقيها من كرمنشاه. الأمير الّذي كان من محبّي جناب الطّاهرة ومؤمن بالأمر البديع، لأجل حفظها، طمأن آقا عبد الله بأنّه سوف يتناقش معها ويخبره النتيجة. طلب الأمير من جناب الطّاهرة أن تنتقل إلى منزله فاستجابت وذهبت مع عدد من النّساء البابيّات وأيضًا الشّيخ سلطان الكربلائي وملّا إبراهيم المحلّاتي إلى منزل الأمير. طلب الأمير من جناب الطّاهرة أن تردّ على أسئلة آقا عبد الله بصورة عامّة، وتوضّح السّبب الأساسي لتوقّفها في كرمنشاه. قالت جناب الطّاهرة ردًّا على الأمير، بأنّ أفضل جواب أن تقول له أنّها تقيم في كرمنشاه بهدف التّبشير بظهور القائم الموعود وإثبات حقّانيّته. وقالت: قل له بأنّ دليل حقّانيّة حضرة الباب هو الآيات النّازلة من قلمه ولسانه المبارك.
قال الأمير لجناب الطّاهرة أنّ آقا عبد الله يطلب دليلًا آخر غير الآيات. قالت جناب الطّاهرة الّتي تعتبر دليل الآيات أكبر برهان لحقّانيّة الرّسول الأكرم وحضرة الباب: “طالما لا يكفي هذا المجتهد دليل الآيات فأنا مستعدّة لأقوم بالمباهلة معه”. فرح أمير كرمنشاه من اقتراح المباهلة كثيرًا، وقال لآقا عبد الله أن يحدّد موعدًا لهذا الهدف كيّ يقوم بالمباهلة مع جناب الطّاهرة. تمارض آقا عبد الله وانتقل إلى خارج المدينة واختفى في أحد البساتين ثمّ كتب رسالة شكوى إلى الحاجّ ملّا محمّد صالح والد جناب الطّاهرة، والحاجّ ملّا محمّد تقي والحاجّ ملّا محمّد عليّ (أعمام جناب الطّاهرة) وطلب منهم أن يرسلوا بعضًا من أقاربهم إلى كرمنشاه ليأخذوها إلى قزوين. طلب منهم ضمنيًّا أن يشرحوا للعميد صفر عليّ خان القزويني الّذي كان قائد الجيش في كرمنشاه، أن يساعدهم في ترحيل جناب الطّاهرة إلى قزوين.
بعد خمسة عشر يومًا وصل أربعة من أقارب جناب الطّاهرة وجميعهم من العلماء ذوي النّفوذ إلى كرمنشاه، وبدون أن يخبروا الأمير تشاوروا مع العميد صفر عليّ خان المذكور لإخراجها من كرمنشاه وإعادتها إلى قزوين. في اليوم الثّاني من وصول أقارب جناب الطّاهرة حاصروا المنازل الثلاثة للطّاهرة والأصحاب بواسطة القائد صفر عليّ خان وجيشه(9).
يتفضّل حضرة عبد البهاء في كتاب تذكرة الوفاء (ص 223): “فهاجم دارها مأمور الشّرطة وأعوانه ونهبوا متاعها وبدّدوا كلّ ما كان بالدّار ثمّ حملوا النّساء في هودج مكشوف وساروا بالجميع من رجال ونساء إلى الصّحراء وتركوهم يهيمون في البادية بلا زاد ولا فراش”. يكتب محمّد مصطفى بأنّه بعد هجوم العميد صفر عليّ خان وعساكره، دخل ضبّاط الجيش المنازل ونهبوا كلّ ممتلكات الأصحاب وجهّزوا لنقل جناب الطّاهرة إلى قزوين بواسطة عربات يجرّها عشرين رأس من البغال. لبست جناب الطّاهرة فورًا عباءتها دون أن تضطرب من هجومهم الوحشي، ووقفت وسط المهاجمين وصرخت بأعلى صوتها، لقد ظهر حضرة الموعود ومظهر الرّب الودود، وأنتم أيّها الغافلون أصبحتم صمًّا عميًّا كالأموات. قام العميد صفر عليّ خان وأعوانه بضرب وإيذاء الشّيخ صالح الكريمي والشيخ سلطان الكربلائي وملّا إبراهيم المحلّاتي. نهبوا كلّ شيء وحبسوا الأصحاب العرب في نفس المنازل، وتمّ تعيّين ضبّاط الأمن حرّاسًا كيّ لا يخرج أحد منهم.
أمّا أقارب جناب الطّاهرة فقد قاموا جميعهم على إهانتها وإيذاء الأصحاب ما عدا رجل في السّبعين من عمره والّذي كان يبدو عاقلًا ونجيبًا(10). كتبت جناب الطّاهرة رسالة إلى الأمير وبعد شرحها للأحداث قالت: “أيّها الحاكم العادل، نحن بمنزلة ضيوف على حضرتك، فهل يستحقّ الضّيوف مثل هذه المعاملة؟ عندما وصلت رسالتها إلى حاكم كرمنشاه قال: “إنّني براء من مثل هذه المعاملة ولا علم لي بهذه الأمور” وتأسّف لجناب الطّاهرة. ثمّ أصدر أمرًا صارمًا بإعادة كلّ ما سلبه أو بدّده المأمورون فورًا إلى دار الحكومة. وقد كان. كما قدّم أمير كرمنشاه هدايا لها(11). طلب الأمير في رسالته لجناب الطّاهرة أن ترجع بمعيّة الأصحاب إلى المدينة وأوضح أنّ كلّ هذه الأحداث حصلت بفتنة من آقا عبد الله. كتبت جناب الطّاهرة مرّة أخرى للأمير وبشّرته بحسن الخاتمة وشكرته لقيامه على نصرة الأمر الإلهي.
أقامت جناب الطّاهرة والأصحاب مدّة ثلاثة أيّام في خيام خاصّة بعيدًا عن المدينة ثمّ ذهبوا إلى همدان. استمرّت مدّة توقّفهم في كرمنشاه بخلاف الثّلاثة أيّام حواليّ أربعين يومًا. التحق بجناب الطّاهرة الأصحاب العرب الّذين أطلق سراحهم من الحبس، واجتمع الأصحاب مرّة أخرى مع بعضهم البعض. الثّلاثة من أقارب جناب الطّاهرة الّذين قاموا بإيذاء الأصحاب بعد أن وجدوا أنفسهم بدون معين، قاموا بخلق الأعذار وانحنوا أمامها وطلبوا العفو والمعذرة. أمرت جناب الطّاهرة أن يرجعوا فورًا إلى قزوين، فرجعوا على وجه السّرعة خوفًا من غضب الأصحاب.
توجّهت مع الأصحاب من كرمنشاه إلى همدان، وفي الطّريق توقّفوا عشرة أيّام في (صحنة). عند دخولهم صحنة، طلب أهالي البلد وهم من أهل الحقّ، أن يلتقوا بجناب االطّاهرة. اجتمعت معهم وبدأت ببشارة ظهور الأمر البديع. انجذب جميع الأهالي لبيانات الطّاهرة والأمر الجديد وطلبوا مرافقتها. دعت جناب الطّاهرة في حقّهم جميعًا، ولكنّها لم تأذن لهم الرّفقة لاقتضاء الحكمة. وأوصتهم أن يبقوا هناك ويخدموا الأمر. كانت جناب الطّاهرة والأصحاب ضيوفًا عند أهالي صحنة مدّة إقامتهم. بعد وصولهم إلى همدان نزلت جناب الطّاهرة والنّساء في دار، والشّيخ صالح الكريمي، وملّا إبراهيم المحلّاتي، وسيّد أحمد اليزدي وبقية الأصحاب في أماكن أخرى(12).
اشتهرت جناب الطّاهرة في همدان وزارها أفواج من النّاس للاستفاضة من بياناتها القيّمة. يكتب نبيل الزرندي: “أمّا في همدان فكان القادة الدّينيّون في المدينة منقسمين في موقفهم تجاهها. وكان القليل منهم يحرّض النّاس ضدّها ويسعى لزعزعة مكانتها، وكان بعضهم الآخر يتغنّى علنًا بفضائلها ويثني على شجاعتها. وكان هؤلاء الأصحاب يتكلّمون من المنابر قائلين: “يجدر بنا أن نتّبع مثالها النّبيل ونطلب منها أن تكشف لنا عن أسرار القرآن الّتي هي مجهولة لنا. وأن تحلّ لنا تعقيدات الكتب الإلهيّة. لأنّ كلّ ما وصلنا إليه لم يكن إلّا كقطرة من بحر بالنّسبة إلى علمها”(13). وأقامت جناب الطّاهرة والأصحاب في همدان هانئين(14).
أقامت جناب الطّاهرة في همدان (مدّة شهرين) وكانت سبب إقبال مجموعة من الأهالي من بينهم عدد من الأميرات اللّائي أحبّوها كثيرًا.
وفي أواخر إقامتها في همدان، قابلها عدد من أقربائها ومن بينهم إخوانها من قزوين الّذين كانوا مأمورين من قبل والدها وعمّها وزوجها ليأخذوها إلى قزوين. عندما وصلوا قزوين قبلت جناب الطّاهرة اقتراحهم بالعودة لقزوين بشرط أن تبقى تسعة أيّام أخرى في همدان(15).
من جملة الأحداث الهامّة التي حدثت أثناء إقامة جناب الطّاهرة في همدان، كانت مناظرتها مع الحاجّ الميرزا عليّ تقي الهمداني، حيث انعقد مجمع من العلماء (بحضور حاكم همدان) من أجل المناظرة معها، وكان الحضور قد اختار الحاجّ الميرزا عليّ تقيّ أن يكون المتحدّث أمامها(16). كانت جناب الطاّهرة تتحدّث من خلف ستار، واشترطت أن يكون الحوار بعدّة شروط. أولًا، أن يتوقّف التّدخين أثناء المناقشة. ثانيًا أن يحافظ العلماء في النّقاش على غاية الأدب والوقار والابتعاد عن الألفاظ البذيئة الرّكيكة. ثالثًا أن يكون الموضوع الأصلي للحوار خاصّ بالنّبوءات والبشارات الخاصّة بالظّهور الجديد ويكون على أساس مستندات ووثائق معتمدة.
وصلت المناقشات في ذلك المجلس إلى أوجها، وعندما شعر العلماء بهزيمتهم وخذلانهم، أثارهم ذلك. وكان أحد العلماء وهو ملّا حسين يتحدّث بخشونة تامّة. فقام حاكم همدان بتوبيخ ملّا حسين وحلّ المجلس خوفًا من حدوث بلاء. وقدّ قيل أنّ الحاجّ الميرزا عليّ نقيّ وقع تحت تأثير فضائل وكمالات جناب الطّاهرة بشدة وتحدّث عن عظمتها وجلالها(17).
كانت من بين النّساء اللّاتي أقبلن إلى الأمر الأعظم في همدان، أميرتان إحداهما: نوّاب حاجيّة خانم، والدة محمّد حسين خان حسام الملك، والأخرى الّتي أشار إليها مؤلّف كواكب الدّرّيّة هي زبيدة خانم المكّناة عنها بـ ”جهان” وهي الابنة السّابعة والعشرون لفتح عليّ شاه القاجار من ماه آفرين خانم. وحاجيّة خانم، زوجة ناصر الملك بزرگ. تشرّفت السّيّدة الأخيرة في بغداد بحضور الجمال الأبهى وانجذبت لحضرته وسردت أشعارًا كثيرة في وصف حضرته(18).
كما ذكر أحمد ميرزا عضدّ الدّولة في تاريخ العضدّي أنّ زبيدة خانم من بين أبناء فتح عليّ شاه لا مثيل لها وكانت نخبة عصرها، وعرفت بالملاك لدى الأمراء والنّاس نظرًا لحسن أعمالها وخلقها. كان لزبيدة خانم دور ملموس في تعمير الأماكن الدّينيّة في همدان والأبنية التّاريخيّة فيها. تزوّجت من عليّ خان نصرت الملك قرا گوزلو. وكانت ثمرة هذا الزّواج هو محمّد حسين خان حسام الملك. على الرغم من أنّ زبيدة خانم كانت حسب الظّاهر تميل لاتّباع الحاجّ الميرزا عليّ تقيّ الهمداني الصّوفي، ولكن قلّبتها الأنفاس القدّسيّة لجناب الطّاهرة كاملا، وكانت مؤمنة قلبيًّا حتّى آخر حياتها بالأمر المبارك، وكانت وفاتها عام 1305 هجريّة قمريّة / 1887 ميلاديّة. زبيدة خانم سيّدة شاعرة ولها معرفة بالمعنى الحقيقي للكلمة وتلقّب نفسها باسم “جهان”، والأبيات التّالية من صفوة أشعارها الممتازة:
ترجمة مضمون الأبيات:
أعطني يا ساقي كأسين أو ثلاثة،
فمن حرقتي أسرد بيتين أو ثلاثة، كالسّكارى،
أريد نسيان نفسي من الثّمالة،
كيّ لا يبقى قريب أو غريب سواك.
أصبحت “جهان” حائرة عاشقة لوجه المحبوب،
أصبحت ثملة تتحدّث كالعاشق المجنون(19).
النص الأصل الفارسي:
درده به من اى ساقى زان مى دوسه پيمانه
کز سوز درون گويم شعرى دو سه مستانه
خواهم که در اين مستىخودنيز رود ازياد
غير ازتو نماند کس نه خويش و نه بيگانه
از عشق رخ جانان گشته است “جهان” حيران
مستانه سخنگويداينعاشق ديوانه.
يكتب أبو الفضائل في كتاب كشف الغطاء (ص 105 و120): “سمعت عن وجود جناب الطّاهرة في همدان ليس فقط من المرحوم مصطفى البغدادي رحمة الله عليه، بل أيضًا من ثلاثة آخرين… الأوّل الميرزا محمّد رضاي الهمداني (ابن حاجّ ميرزا علي نقي… والثّاني عندما وصلت همدان عام 1305 هـجريّة قمريّة سمعت من ابن الأمير الأفخم مؤيّد السّلطنة، حاجّي محمّد مهدي ميرزا نجل المرحوم مؤيّد الدّولة طهماسب ميرزا كان يقول: لقد جاءت قرّة العين إلى همدان وذهبت عمّتي المحترمة لزيارتها، وبما أنّني كنت صغير السّن دون البلوغ رافقت عمّتي في زيارتها وتشرّفت بحضورها. ولكن نظرًا لصغر سنّي لم أحضر مجالس المناظرة. ولكن في همدان كان يذكر حكيم إيليا والد حكيم رحيم من الأطباء المشهورين في البلاد، عن انعقاد مجلس مناظرة في بيت الوالي وأنا حضرت المجلس. كان الوالي جالسًا على الكرسي والعلماء جالسين على الأرض، أنا والخدّام كنّا واقفين، وقرّة العين من خلف السّتار تتكلّم في غاية الفصاحة، وتجيب على كلّ أسئلة العلماء، إلى أن أسكتتهم. ثار أحد العلماء المعروفين بالشّيخيّة وأظن كان يذكره حكيم إيليا بأنّ اسمه الميرزا عليّ أصغر، وبدأ بالسّبّ واللّعن. غضب الوالي بشدّة، وقال يا آخوند لقد أخطأت واتّخذت السّفاهة حجّتك وأهنت الحكومة، لولا احترام أهل العمائم لقمت بتأديبك، وأمر بإخراج الجميع من دار الحكومة”(20).
على أيّة حال كتبت جناب الطّاهرة رسالة مفصّلة وفي غاية الفصاحة والبلاغة إلى رئيس العلماء أعلم علماء همدان، ودعته إلى قبول الأمر البديع وأوصل ملّا إبراهيم المحلّاتي تلك الرّسالة إلى المجتهد المذكور. عندما وصل ملّا إبراهيم إلى منزل رئيس العلماء، سلّمه رسالة جناب الطّاهرة، ثمّ قرأ فقرات من آثار حضرة الباب واستدلّ على حقّانيّة أمر حضرته. إنّ ما أقدم عليه ملّا إبراهيم كان صعبًا جدًا على المجتهد المذكور الّذي غضب بشدّة وأمر الحضور أن يقوموا بتأديبه بقوّة. قام العلماء والطلّاب والنّاس من الحضور وانهالوا على ذلك المظلوم، ملا إبراهيم المحلاتي، بالضّرب والرّكل وجرحوا بدنه إلى أن أصبح شبه ميّت. ثمّ جرّوه من رجليه وسحبوه وألقوا به خارج المنزل. صادف ذلك مرور شخص من هناك يتّصف بالطّيبة، ودخلت الرّحمة في قلبه، فحمله على كتفه وأخذه إلى منزل جناب الطّاهرة. عندما وقعت عينا الطّاهرة على ملّا إبراهيم وبدنه الملطّخ بالدّماء، أبرزت غاية اللّطف والعناية له وقالت طوبى لك أنّك تحمّلت الأذى في سبيل المحبوب(21).
إنّ قسوة أسلوب رئيس العلماء وبعض العلماء الحاضرين في منزله وهيجان مجموعة أخرى من العلماء والنّاس في همدان أدّى إلى أن تغيّر مسكن جناب الطّاهرة رعايةً للحكمة وانتقلت إلى منزل حكيم إلياهو الكليمي. لقد تشرّف أليعازر ابن حكيم إلياهو من قبل بحضور جناب الطّاهرة وكان منجذبًا ومفتونًا بها.
شفي ملّا إبراهيم بعد حادثة ضربه بسبعة أيّام، وفي النّهاية ذهبت جناب الطّاهرة والأصحاب إلى قزوين حيث رافقهم في الطّريق إخوة الطّاهرة وتعاملوا معها بغاية الاحترام والتّجليل(22). كان برفقتها عدد من النّساء(23) وأنسباء الطّاهرة وأيضًا مجموعة من الأصحاب من بينهم الشّيخ صالح الكريمي، وملّا إبراهيم المحلّاتي، والسّيّد أحمد اليزدي، والسّيّد محمّد البايكاني، والسّيّد عبد الهادي القزويني والميرزا (ملّا) محمّد عليّ القزويني. أمرت جناب الطّاهرة بعض الأصحاب العرب مثل الشّيخ سلطان الكربلائي، وشيخ محمّد شبل البغدادي وابنه محمّد مصطفى، ومجموعة أخرى بعد وصولهم إلى قزوين بالعودة إلى العراق. كما أنّها طلبت من بعض الأصحاب الإيرانيّين مثل السّيّد محمّد الگلپايگاني المتّصف بـ ”طائر”، ولقّب من قبل الطّاهرة ب ”الفتى المليح”، أن يعودوا إلى أوطانهم(24). ولكن بعد خروج جناب الطّاهرة من همدان بقي الشّيخ محمّد شبل وابنه محمّد مصطفى في همدان لمدّة شهر، وبخلاف أمر جناب الطّاهرة ذهبوا بعد ذلك إلى قزوين. والتحق بهم بعض الأصحاب الآخرين أيضًا(25).
كتبت جناب مارثا روت وجناب الميرزا حسين الهمداني والبروفسور براون، أنّ جناب الطّاهرة أرادت أن تذهب إلى طهران وتتحدّث مع محمّد شاه عن الأمر البديع وتهديه، ولكن عندما علم والدها ملّا محمّد صالح نيّتها، أرسل لها رسالة بواسطة من بعثهم ليرافقوها إلى قزوين، بأن تمتنع عن هذا الأمر(1).
بعد وصولها إلى قزوين، أي بعد حواليّ شهرين من مغادرة حضرة الباب تلك المدينة وإقامته القصيرة في قرية سياه دهان. ذهبت مباشرةً إلى منزل والدها. ونزل الأصحاب في إحدى الاستراحات(2). ويبدو من القرائن أنّ بعض الأصحاب سكنوا في أماكن خاصّة بعد ذلك، من بينهم الشّيخ محمّد شبل وابنه محمّد مصطفى استقرّوا في منزل قريب من منزل جناب الطّاهرة(3).
يكتب النبيل بخصوص بداية إقامتها في قزوين بعد عودتها من العراق التّالي: “وإذ وصلت إلى منزل والدها أرسل ابن عمها ذلك المتغطرس أسود القلب الملّا محمد ابن الملّا تقي الذي ظنّ نفسه بعد والده وعمه أقدر مجتهدي إيران، أرسل إليها بعض النسوة من منزله لإقناعها بنقل سكنها من عند والدها إلى منزله، فكان جوابها الجريء لهنّ: “قولوا لقريبي الأحمق المغرور لو كان قصدك حقًّا أن تكون رفيقًا لي وزوجًا، لكنت أسرعت لمقابلتي في كربلاء، ولسرت على قدميك لحراستي وقيادة هودجي طول الطريق إلى قزوين، وإذ ذاك كنت أثناء سفري معك أقدر أن أوقظك من نوم غفلتك وأظهر لك طريق الحق، ولكن ذلك لم يقدّر لك وقد مرّ على فراقنا ثلاث سنوات فلا يمكن في هذه الحياة ولا في الحياة الآخرة أن اجتمع بك، فقد طرحتك كلية من حياتي إلى الأبد”. وكان الجواب قاسيًا شديدًأ بدرجة أثار وأغضب الملّا محمد ووالده وحكما عليها بالكفر فورًا، واجتهدا ليل نهار أن ينتقصا من مقامها وأن يلطخا سمعتها. وكانت الظاهرة تدافع عن نفسها بحماس، وأظهرت لهما نقائصهما. وكان والدها المسالم المنصف يتأسّف لهذا النزاع المرّ واجتهد في عقد الصلح وتحقيق الوفاق بينهما ولكنه خاب في مساعيه واستّمرت حالة التوتر بينهم”.(4)
قيل أنّ عمّ الطّاهرة (ملّا تقيّ) تلفّظ بكلمات مسيئة عن حضرة الباب في حضور جناب الطّاهرة، كما قام على ضربها(5). إنّ سبب عداء ملّا محمّد تقيّ برغاني وابنه ملّا محمّد كان واضحًا. فقد ذهبت جناب الطّاهرة من قزوين وهي شيخيّة والآن رجعت بعدما أصبحت بابيّة. والمذهبان يعتبران كفرًا بالنّسبة للأب والابن. كانت جناب الطّاهرة تلتقي في دار أخيها مع نساء الأعيان وتبلّغهن الأمر البديع(6). وبالتّدريج وبهمّة الطّاهرة وباقي الأصحاب دخلت نفوس جديدة في ظلّ الأمر الجديد. ثار الاضطراب في البلاد وانتشر خبر زرين تاج قرّة العين ابنة حاج ملّا محمّد صالح الّتي تبشّر بالظّهور الجديد في كلّ مكان.
كانت جناب الطّاهرة تشعر بالخطر على الأصحاب، لذا أمرتهم أن يعودوا إلى أوطانهم ويتركوا قزوين فغادر البعض وعادوا إلى أوطانهم. كانت تبدأ يومها بزيارة سريعة إلى منزل الشّيخ محمّد شبل وتتوقّف مدّة ساعة من الزّمن هناك. وغالبًا ما كان يرافقها عدد من النّساء وأيضًا تلاميذ ملّا محمّد تقيّ بزعم المحافظة عليها، وفي الواقع كان بقصد التّجسّس. بعد ذلك أصبح محمّد مصطفى ابن شبل الّذي كان بلغ من العمر عشر سنوات في تلك الأيّام، واسطة بينها وبين الشّيخ شبل. بقي الشّيخ شبل ومحمّد مصطفى لمدّة شهر في قزوين. في أحد الأيّام قالت جناب الطّاهرة لمحمّد مصطفى أن يخبر الأصحاب الباقين بأنّ عليهم أن يتركوا قزوين بأسرع وقت ويقصدوا أرض طهران المقدّسة. مضمون ما كتبه محمّد مصطفى في هذا الخصوص التّالي:
“…. وفي ذات يوم حين التّشرّف بمحضرها، أمرت جنابها بأن أقول للأحبّاء أن يخرجوا من قزوين ويتوجّهوا إلى طهران، إلى محل تجلّي أسرار الظّهور الإلهي. ثمّ عندما تشرّفت في اليوم الثّاني سألتني “هل أخبرت أباك بما قلت لك؟” أجبت: نعم. ولكن قاموا بتأويل طهران بالمقام الطّاهر والمقدّس. قالت: “حسنًا قل لهم أن يتوجّهوا إلى بلدة قم”. فبلّغتهم الأمر أيضًا. فقالوا إنّ قصد جناب الطّاهرة من الذّهاب إلى قم، يعني القيام على نصرة أمر الله. ثمّ في اليوم الثّالث تشرّفت بمقابلتها وسألتني: “هل بلّغت الجماعة؟” أجبت: نعم. ولكن يقولون إنّ المقصود من توجّه الأحبّاء إلى قم أي القيام بخدمة الأمر الإلهي. فتبسّمت وقالت: “اذهب وقل لهم أن يتوجّهوا إلى مشهد المقدّس في خراسان”. فرجعت وعرضت الأمر. وقالوا المقصود من التّوجّه إلى مشهد، الوصول إلى مقام مشهد النّفس الرّحماني الّذي هو محل شهود النّفوس الزّكيّة. وفي اليوم الرّابع تشرّفت بمقابلتها وسألتني: (هل بلّغت الوالد ومن معه رسالتي؟) أجبت: نعم. ولكن يقولون أنّ مقصدك من توجّههم إلى مشهد هو الوصول إلى المشهد الملكوتي ومشاهد النّفوس. فغضبت وأمرت هذا العبد بأن أقول لهم أن يخرجوا جميعًا من قزوين لأنّه لا بدّ من وقوع حدث عظيم ترتجّ منه قزوين وسوف تسفك دماؤكم جميعًا… ومنذ ذلك اليوم توجّهنا إلى طهران وجناب الشّيخ سلطان معنا… وبعد خمسة عشر يومًا وقعت الواقعة في قزوين حيث قتل الحاجّ ملّا تقيّ رئيس العلماء فيها”(7).
قبل الخوض في حادثة مقتل ملّا محمّد تقيّ البرغاني عمّ جناب الطّاهرة. من الجدير أن نتحدّث عن أسباب وعوامل هذه الحادثة. أسلفنا الذّكر أنّ عمّ الطّاهرة تناقش كثيرًا مع الشّيخ أحمد الأحسائي ومن ثمّ كفّره، والشّيخ الأحسائي كما ذكرنا لم يكن أصوليًّا ولا إخباريًّا بلّ نوعًا ما جمع بين الاثنين، وأمّا من ناحية العرفان والتّصوّف فقد جمع الشّيخ أحمد الأحسائي ما بين الطّريقة والشّريعة. كان لديه نظريات جديدة في أصول الدّين رغم أنّه كان يراعي جدًا أصول الحكمة والتّقيّة، كان لديه آراء تتباين مع عقائد العلماء بخصوص القيامة والمعاد والمعراج وغيبة حضرة القائم الموعود. تمّ تكفيره من قبل ملّا محمّد تقيّ البرغاني والأصوليّين وأعدائه بسبب عقيدته بخصوص القالب المثالي أو الهورقليائي(8)، حيث أنّهم كانوا يعتبرون معراج رسول الله والقيامة والمعاد وغيبة الإمام أمرًا جسمانيًّا صرفًا، والآن يفسّره الشّيخ الأحسائي في قالب مثالي أو الجسد المثالي، الّذي يعتبره جسدًا أغلظ من الرّوح وأرّق من الجسم(9).
رغم أن السيّد كاظم الرّشتي روّج عقائد الشّيخ الأحسائي في غاية الحكمة(10) إلّا أنّه تمّ تكفيره أيضًا بواسطة نفس العلماء الأصوليّين. لا يسعنا هنا بيان تفاصيل الاختلاف بين مذهب الشّيخيّة والأصوليّين. ولكن كان الاعتقاد بنوع من المعاد الرّوحاني يكفي أن يأخذه القشريّون حجّة لإراقة دماء الأبرياء.
أمّا إنّه لم يرد أي أذى على الشّيخ الأحسائي، فكان ذلك لسببين أساسّيّين. الأوّل حماية شاه إيران فتح عليّ شاه القاجار وعشرات من علماء إيران البارزين للشّيخ الأحسائي، والسّبب الثّاني وجود مراعاة أصول التّحفّظ والحكمة في آثار الشّيخ. على كلّ حال كانت إشارات الشّيخ إلى المعاد الرّوحاني وموضوع الجسد المثالي والهورقليا كما ذكرنا، حجّة جيّدة لملّا تقيّ ليكفّر الشّيخ.
أيضًا، حصل ملّا تقي في المناظرات الحضوريّة مع الشيخ أحمد الأحسائي في قزوين على مستندات كافية ضدّ الشّيخ. وهناك سبب آخر تسبّب في زيادة عداء ومخالفة ملّا تقيّ مع الشّيخ، هو أنّه عندما ذهب الشّيخ في سفرته الأخيرة إلى قزوين بدعوة من الملّا تقيّ، نزل في منزل حاجّ ملّا عبد الوهّاب القزويني (حوالي عام 1235 هـجريّة قمريّة / 1819 ميلاديّة). فقد كان الشّيخ أحمد الأحسائي في أي وقت يسافر إلى قزوين، يدير مجلس الدّرس في منزل ملّا عبد الوهّاب حيث كان الحضور متاحًا للكلّ.
أرسل حضرة الباب أثناء إقامته القصيرة في قرية سياه دهان توقيعات خطاب للحاجّ ملّا عبد الوهّاب القزويني، وملّا تقيّ البرغاني، وملّا صالح البرغاني والحاجّ السيّد تقيّ القزويني. في التّواقيع المذكورة دعاهم إلى الأمر البديع والتّوصية بحماية حضرته. مزّق ملّا محمّد تقيّ التّوقيع المبارك وتفوّه بألفاظ بذيئة عن حضرة الباب، بحيث عندما علم حضرة الباب عن ذلك أنزل كلمات قهريّة بحقّه(11).
أرسل ملّا عبد الوهّاب القزويني لملّا محمّد صالح (والد جناب الطّاهرة) رسالة وطلب منه أن يحضر معه إلى محضر حضرة الباب ليتحقّقوا من حقيقة الأمر، ولكن ملّا محمّد صالح ردّ “بأنّ بناتي وأبناءك آمنوا بالظّهور البديع ونحن موضع اتّهام، فلو تدخّلنا في هذا الأمر، فإنّ العلماء المخالفين سيقلّلون من شأننا ويسقطون منّا درجة العلم”. وبذلك منع ملّا محمّد صالح محاولات الحاجّ عبد الوهّاب بأيّة وسيلة(12). على كلّ حال آمن ملّا عبد الوهّاب قلبيًّا بعد ذلك بالأمر الجديد. ولكن في الظّاهر كان يراعي الحكمة ولا يبرز إيمانه للعموم.
كان ملّا محمّد تقيّ البرغاني يصعد المنبر ويسبّ ويشتم الشّيخ أحمد الأحسائي ومريديه بألفاظ بذيئة ومن ضمنهم الحاجّ ملّا عبد الوهّاب القزويني، هذا الأمر تسبّب في غضب أتباع الشّيخ. يتفضّل حضرة عبد البهاء في شرح أحوال جناب الطّاهرة في كتاب تذكرة الوفاء بهذا الخصوص (ص 224) قائلًا: “أما السبب المجهول لقتل ذلك الظالم– الحاج ملا تقي – فهو كونه صعد على المنبر وأمطر حضرة الشيخ الأكبر الجليل أحمد الإحسائي وابلاً من السباب والطعن واللعنات فأوقد بذلك نار الفتنة ووقع القوم في نزاع وخصام وبلغ مسامع القاصي والداني ما زلف به لسان الملا تقي من الشتائم والألفاظ النابية والعبارات الركيكة الدالة على قلة الحياء وكان من بين الذين سمعوا ما قاله الملا تقي شخص من أهالي شيراز حديث العهد باعتناق الأمر وقد كبر عليه ما تفوه به الملا تقي من الألفاظ الخشنة في حق الشيخ أحمد الإحسائي فانتظر إلى أن جن الليل ثم ذهب إلى المسجد حيث الملا تقي المذكور ودس في حلقه رمحًا وركن إلى الفرار.”.
المقصود من “شخص من أهالي شيراز” الوارد في بيان حضرة عبد البهاء هو الميرزا عبد الله المعروف بالميرزا صالح الشيرازي(13). دخل قزوين في أوّل شهر رمضان سنة 1263 هـجريّة قمريّة / 1847 ميلاديّة وكان من عشّاق الشّيخ أحمد والسّيّد كاظم. لم يكن مؤمنًا بعد بالأمر البديع وقد جاء إلى قزوين، ومن ثمّ يذهب إلى ماكو فيتشرّف بحضور حضرة الباب ويتحرّى عن حقيقة الأمر المبارك. أرى من المناسب هنا أن أنقل ما حكى الميرزا صالح الشيرازي بنفسه إذ كان يحاكم في طهران أمام صاحب الدّيوان قال: “إنّي لم أكن يومًا ما بابيًّا مقتنعًا، ولمّا وصلت إلى قزوين كنت في طريقي إلى ماكو بقصد زيارة حضرة الباب والتّحرّي عن طبيعة دعوته. وفي يوم وصولي إلى قزوين لاحظت أنّ المدينة كانت في حالة اضطراب شديد. وبينما كنت أمرّ في السّوق رأيت أنّ حشدًا من الأوباش قد خلعوا عمامة رجل وحذاءه ولفّوا رقبته بالعمامة وسحبوه بها في الشّوارع. وكان جمع كبير غاضبًا يتوعّدونه بتهديداتهم ويؤذونه بضرباتهم ولعناتهم. ولمّا سألت كانت الإجابة: “إنّ جريمته الّتي لا تغتفر أنّه تجاسر على مدح الشّيخ أحمد والسّيّد كاظم وإظهار فضائلهما علنًا. ولذلك حكم عليه الحاجّ الملّا تقيّ حجّة الإسلام بالكفر وأمر بطرده من المدينة”.
فدهشت من التّبرير الّذي تلقّيته وتساءلت في نفسي كيف يكون شخصًا من أتباع الشّيخ أحمد والسيد كاظم كافرًا ومستحقًا لمثل هذه المعاملة القاسية؟ ورغبةً في التّحقّق من صدق هذه الرواية من الملّا تقيّ نفسه ذهبت إلى مدرسته وسألته إذا كان أصدر مثل هذا الحكم ضدّه فعلًا. فقال: “إنّ الإله الّذي يعبده المرحوم الشّيخ أحمد البحريني هو إله لا يمكن أن أعتقد به، وإنّي أعتبره هو وأتباعه تجسيدًا للخطأ والزلل”. وكنت في تلك اللّحظة على وشك أن أصفعه على وجهه أمام تلاميذه المجتمعين ولكنّي تداركت نفسي وحلفت، أن أشقّ شفتيه بحربتي، إن شاء الله، حتّى لا يقدر مرّة أخرى أن يتفوّه بمثل هذا الكفر.
فتركته توًا وذهبت فورًا إلى السّوق واشتريت خنجرًا ورمحًا صغيرًا مصنوعًا من أحد أنواع الفولاذ، وخبأتهما في حجري لأشفي غليلي منه، وترصدّت الفرصة، ودخلت ذات ليلة المسجد الّذي كان يؤم النّاس فيه للصّلاة وانتظرت للفجر إلى أن رأيت عجوزًا دخلت المسجد ومعها سجّادة فرشتها على أرض المحراب. وبعد برهة قصيرة رأيت الملّا تقيّ يدخل وحده وأخذ يصلّي، فجئت من خلفه بسكون واحتراس وتبعته ووقفت خلفه، وإذ خرّ على وجهه ساجدًا سحبت مديتي وغرزتها في رقبته من الخلف، فصاح صيحة قويّة فقلبته على ظهره واستللت خنجري وغرزته عميقًا في حلقه ثمّ طعنته جملة طعنات في صدره وجوانبه وتركته يدمي في المحراب. ثمّ صعدت إلى سطح المسجد وراقبت اضّطراب الجمهور وذعره. ودخل حشد من النّاس إلى الدّاخل ووضعوه على نقالة ونقلوه إلى منزله. لم يعلم القاتل.
انتهز النّاس الفرصة للتّشفّي والانتقام من بعضهم البعض أمام الحاكم. ولمّا رأيت أنّ عددًا كبيرًا من النّاس أوذي أذًى بليغًا في السّجن، ناداني صوت الضّمير أن أعترف بعملي. فطلبت المثول بين يدي الحاكم وقلت له: “إذا أتيتك بالقاتل فهل تعدني أن تطلق سراح كلّ المظلومين الّذين يعذبون مكانه؟” ولمّا أكّد لي ذلك، اعترفت بما عملته. ولم يكن في بادئ الأمر يميل إلى تصديقي، وبناءً على طلبي أحضروا العجوز الّتي فرشت السّجّادة في المحراب، ولكن لم يقتنع بالشّهادة الّتي أدّتها. وأخيرًا أخذوني إلى سرير الملّا تقيّ الّذي كان مشرفًا على الموت، وبمجرّد أن رآني تعرّف على ملامحي، وفي اضّطرابه أشار بإصبعه إليّ للدّلالة على أنّي أنا القاتل وأظهر رغبته في أن يبعدوني عنه. وبعد برهة توفّى. فقبضوا عليّ فورًا واتّهمت بالقتل وأودعت السّجن. إلّا أنّ الحاكم لم يف بوعده ولم يقبل بإطلاق سراح المساجين”(14).
يكتب نبيل الزرندي بعد نقله حديث الميرزا عبد الله المعروف بصالح الشيرازي: “وكانت سلامة طوّية الميرزا عبد الله وصدقه قد أعجبت صاحب الدّيوان، فأعطى أوامر سريّة لخدّامه أن يسهّلوا هربه من السّجن. وفي منتصف اللّيل التجأ السّجين إلى منزل رضا خان السّردار الّذي اقترن بأخت السـﭘاه سالار حديثًا، وبقي مختبئًا في ذلك المنزل إلى أن حصلت حادثة المعركة العظيمة عند قلعة الشّيخ طبرسي، حيث عزم على الاشتراك مع المدافعين الأبطال في تلك القلعة. وفيها شرب كأس الشّهادة مع رضا خان السّردار الّذي تبعه إلى مازندران”(15).
ويذكر حضرة عبد البهاء في تذكرة الوفاء (ص 225) ضمن حياة جناب الطّاهرة بخصوص الميرزا عبد الله الشيرازي: “وحدث أنّه، بينما كان القاتل في دار رضا خان المذكور، إذ دعاه ذات يوم أحد رؤساء الدّيوان وهو المدعو – الميرزا شفيع – وقال له: “يا حضرة الفاضل، هل أنت من أرباب الطّرق أم من أهل شريعة من الشّرائع؟ فإن كنت تنتمي إلى شريعة ما، فكيف تقدم على قتل ذلك المجتهد الفاضل بأن أحدثت في عنقه جرحًا عميقًا أدّى إلى موته! وإن كنت من أرباب الطّرق فليس من شروط أيّ طريقة كانت إيصال الأذى إلى مخلوق. فكيف أقدمت على قتل ذلك العالم الشّفيق المرحوم الملّا تقيّ؟” وكان القاتل يجيب بقوله: “يا صاحب الدّيوان هناك حقيقة واحدة وهي أنّني قدّ جازيته جزاءً يستحقّه”.
يكتب جناب أبو الفضائل في كتاب كشف الغطاء (ص 108–109): “كان سبب قتل حاجّي ملّا تقي أنّه كان كلّ يوم يصعد على المنبر بعد الصّلاة ويعظ النّاس، ومن ضمن الكلام يمنع الخلق من الدّخول في حزب الشّيخيّة ولم يقصّر في سبّ ولعن الشّيخ الأجلّ (الشّيخ أحمد) والسّيّد الأفخم (كاظم الرّشتي) قدّس الله تربتهما. فقام شاب شيرازي يدعى الميرزا صالح الشيرازي الّذي كان مخلصًا جدًا للشّيخ الأحسائي والسّيّد كاظم وعزم على قتله. وبالفعل قتله عندما وجده بمفرده. وأنّ ما يقال بأنّه قتل أثناء الصّلاة غير مقبول بالنّسبة لي، لأنّه لو كان قد تمّ هذا الفعل في المسجد حين الصّلاة، لما كان يسمح للقاتل أن يختفي، وكان سيقبض عليه فورًا، لأنّه من البديهي أن حصل هياج في المدينة فور قتل حاجي ملّا تقي وقبضوا على مجموعات، وكلّ شخص كان له عداء مع شخص آخر كان يتّهمه بالاشتراك في القتل إلى درجة صعب على الحكومة تحديد القاتل. ولمّا رأى الميرزا صالح الشيرازي بأنّ فعلته تسبّبت في إيذاء جماعة من النّاس، منعته فتوته وشهامته أن يدع النّاس في العذاب، وظنّ بأنّه لو عرف القاتل، سيكون ذلك سببًا في خلاص الباقين. بهذا الظّن ذهب إلى الحكومة واعترف بأنّه القاتل. المسؤولون في الحكومة اندهشوا ومنعوه من هذا التّهوّر. عندما وجدوه رابط الجأش في اعترافه، عرضوا قضيته على الوالي. لم ينكر الميرزا صالح فعلته في حضور الوالي أيضًا. وحكى حكاية القتل في غاية الجرأة. كبار السّنّ الموجودين آنذاك أمثال المرحوم الميرزا محمّد عليّ كدخداي القزويني، حكى لي أنّ عدم خوف الميرزا صالح وصدقه، كان موجب لحيرة الوالي. وأثناء الاعتراف قال أحدهم: يا رجل لماذا لم ترحم شبابك وقتلت عالمًا من أهل قزوين؟ قال الميرزا صالح، أيّ عالم!، غاية ما في الأمر أنّه سرق حفنة أعناب من المعرفة من حديقة أبي حنيفة. ضحك الوالي من هذا الكلام، وبما أنّه كان منزعجًا من المقتول بسبب الرّشاوي الّتي كان يأخذها من النّاس في فصل المحاكمات والمرافعات، فلم ير في هذه الحادثة منكرًا إلى حد ما” (16).
في تلك الأوقات كانت جناب الطّاهرة تسكن منزل والدها في قزوين، ولكنّها كانت تنشر معارف الأمر البديع في منزل أخيها. التقت بجناب ملّا حسين، الّذي كان يعزم على الذّهاب إلى ماكو لزيارة حضرة الباب، في منزل جناب آقا محمّد هادي الفرهادي(17). يحتمل حدوث هذا اللّقاء مرّة أخرى في منزل أحد أفراد عائلة فرهادي، ولأنّ عائلة فرهادي كانت موضع احترام النّاس في قزوين، وكان لهم دور مهّم في نشر الأمر المبارك في تلك المدينة. لذا وجّهت إليهم أصابع الاتّهام بعد قتل ملّا تقي من قبل أقاربه. إنّ أفراد عائلة فرهادي هم أبناء الأخوين حاجّ الله ورديّ والحاجّ أسد الله. كان حاجّ الله ورديّ من التّجّار في قزوين توفّي قبل ظهور حضرة الباب، كان يتّبع الشّيخية ولكن أخاه الحاجّ أسد الله فرهادي آمن واستشهد في النّهاية في طهران. زوّج الحاجّ أسد الله أربعة من بناته لأربعة من أبناء حاجّ الله ورديّ ومن ضمنهم خاتون جان زوجة آقا محمّد هادي. لقد آمن معظم أفراد عائلة فرهادي بالأمر الجديد. كانت خاتون جان وآقا محمّد هادي من أجلّ أفراد العائلة، وقاموا على الخدمة بكل عشق ووفاء. عندما أخذ مأمورو محمّد شاه حضرة الباب إلى تبريز، ذهب آقا محمّد هادي إلى حضرة الباب وطلب الإذن أن ينقذ حضرته من أيدي العساكر، ولكنّ حضرة الباب لم يأذن له ودعا في حقّه. ولقد تعهّد هذا الشّخص بجميع مصاريف جناب الطّاهرة والأصحاب المرافقين لها أثناء عودتها إلى قزوين، كما تقبّل مصاريف إقامة ملّا جليل الأرومي لمدّة سنة كاملة في منزل أخت آقا محمّد هادي ووفّق لهداية النّفوس(18).
إنّ ملّا محمّد ابن ملّا محمّد تقيّ زوج جناب الطّاهرة والّذي كان قلبه مليئًا بالحقد من ناحيتها هو أوّل من اتّهمها في حادثة القتل. يكتب البروفسور براون طبقًا لشكوى زوج جناب الطّاهرة فقد تمّ إحضارها عند حاكم قزوين ولكن بما أنّهم لم يجدوا دليلًا على إدانتها فقد تمّت تبرئتها من اتّهام الاشتراك في القتل(19). ملّا محمّد اعتبر آقا محمّد هادي الفرهادي من المحرّضين الأصليّين لقتل ملّا تقيّ.
سعى ملّا محمّد كثيرًا بالتّعاون مع أقاربه ليحبس جناب الطّاهرة في منزل والدها ملّا محمّد صالح. لقد كانت مراقبة تمامًا في منزل والدها وجعلوا عليها نسوة حرّاسًا وأمرن ألّا يسمحن لها بمغادرة الغرفة إلّا للأمور الضّروريّة فقط. أعداؤها اتّهموها بأنّها هي القاتل الحقيقي لملّا تقيّ، حيث تمّ ذلك بأمر منها.
يتّضح من بيانات حضرة عبد البهاء في تذكرة الوفاء (ص 224) أنّ الحاجّ ملّا محمّد تقيّ كان شخصًا ظالمًا، جاهلًا معروفًا بالعلم، سليط اللّسان ولا دين له. وكان ابنه ملّا محمّد مثله أيضًا، لذا أظهر في حادثة قتل والده كلّ مكنون خباثته. يكفي أنّه كان مصّاصًا للدّماء ولم يرحم أيّ مظلوم في حادثة قتل والده. يتّضح من جميع القرائن أنّه لا أحد كان متورّطًا في قتل ملّا تقيّ، سوى الميرزا عبد الله الشيرازي(20). هذه النّقطة موضع تأيّيد حضرة عبد البهاء. يتفضّل في كتاب تذكرة الوفاء (224) بعد شرح إقدام الميرزا عبد الله على قتل ملّا تقيّ: “وفي الصّباح اعتقلوا بعض الأتباع وعذّبوهم وزجروهم، وهم أبرياء، لم يجر أيضًا أيّ تحقيق في أمرهم، رغم أنّهم نفوا علمهم بالحادث، ولكنّهم لم يقبلوا منهم ذلك”. وانتهى الحالّ بجناب الطّاهرة في قزوين بعد مقتل عمّها غير الورع، أن وقعت في مخالب المصائب والأحزان والسّجون، وكاد قلبها أن يتفتّت من هذه الوقائع المؤلمة رغم عظيم ضيقها من كثرة المراقبة من الشّرطة. (تذكرة الوفاء ص 226)
يكتب “عمر رضا كحالة” (ص 80 –82)، أنّ جناب الطّاهرة كانت تحت مراقبة شديدة ومسجونة في جناح النّساء عند حاكم قزوين(21). ويكتب جناب سمندر في تاريخه تحت عنوان “استشهاد جناب الطّاهرة”: “وما أن حدثت واقعة قتل حاجّ ملّا تقيّ عمّ الطّاهرة، حتّى اندلعت ضوضاء عظيمة وغوغاء في المدينة، ولأجل القبض على أصحاب أغلب البيوت المشهورة المرتبطة بهذا الأمر، كانت تقوم مجموعة من الضّباط والجلّادين برفقة أحد السّادة وهو السيّد محسن بالهجوم على أغلب منازل البابيّين وتفتيشها أو تسلق أسطحها. وما حصل من اضطراب وتزلزل في تلك الأيّام وارتفاع صياح وبكاء الزّوجات والنّساء، لا يمكن اختصاره هنا، فكان السيّد محسن الّذي كان يترأّس مجموعة الضّباط والجلّادين يقول للنّساء أنّ أزواجكن قد ارتدّوا عن دينهم، ولستّن بحاجة إلى الطّلاق وباستطاعتكن الزّواج من أيّ شخص ترغبن…
على كلّ حال فقد قبضوا على جميع أصحاب جناب الطّاء عليها بهاء الله الأبهى مثل جناب آقا الشّيخ صالح عرب، وآقا الشّيخ طاهر، وحاجّي ملّا إبراهيم، وحبسوهم في دار الحكومة، وحبسوا المرحوم حاجّي أسد الله التّاجر طاب ثراه، مع آخرين في مكان آخر وهو معتلّ الصّحّة، وأخذوا جناب الطّاء ومعها إحدى الخادمات الّتي كانت مرتبطة بها، مع شخص آخر من النّساء الأصحاب إلى دار الحكومة، وأعدّوا وسائل التّعذيب والكيّ، وبدأوا بتعذيب تلك الخادمة لكيّ تقرّ، حيث كان ظنّهم أنّ جناب الطّاء عليها بهاء الله كانت تعرف السّبب وراء ذلك (مقتل الحاج ملّا تقيّ)، فوضعوا يديّ خادمتها تحت مزلاق النافذة وهمّوا بتعذيبها، في هذه الأثناء اتّجهت جناب الطّاء عليها بهاء الله بوجهها إلى الله منقطعةً إليه وسجدت، وشرعت في تلاوة مناجاة في سرّها وتضرّعت بقلب مجروح وفؤاد ممزّق إلى ساحة حضرة قاضي الحاجات. في تلك الاثناء وصل الخبر بأنّهم وجدوا القاتل”.
كما أنّ جناب سمندر يكتب في تاريخه أيضًا(ص 356–359): “أمر ضبّاط الحكومة باعتقال مشاهير الأحباء، ودخل جمع من رجالهم الأراذل والسّفلة إلى بيت حاجّي أسد الله وانشغلوا بالنّهب، فاعتقلوه هو وابن أخيه آقا مهدي ومجموعة أخرى وأخذوهم إلى الحبس المشدّد. من ضمنهم جناب آقا الشّيخ صالح العرب وحاجّي ملّا إبراهيم المحلاتي وحاجّي ملّا طاهر الشّيرازي وغيرهم. وكانوا يهجمون على أيّ بيت من بيوت الأحبّاء. لقد كنت صبيًّا صغيرًا، لكنّني أتذكّر جيدًا “السيّد محسن” المشهور بلقب “قاتل البابيّين”، كان برفقته العديد من الضّبّاط والجلّادين عندما طرق باب بيتنا. فلم يفتح له أحد، لذلك تسلّقوا الجدار ودخلوا وفتّشوا أرجاء البيت وحاولوا اقتحام بعض الغرف المقفلة آنذاك. فما كان من ربّ البيت إلّا أن قام بفتح الأبواب، بينما كان جميع أفراد العائلة في اضطراب وخوف من سطوة وقهر أولئك الرّجال المرعبة. الخلاصة أنّه منذ قتل الحاجّ ملّا تقيّ ولمدّة مديدة كان ذلك السّيّد الشّقي العنيد مع أعوانه وجلّاديه يهجمون على أيّ منزل من منازل الأحبّاء بدون إنذار وفي بعض المنازل كان يقول السيّد محسن للنّساء البابيّات أنّ أزواجكن قدّ ارتدّوا عن دينهم، وباستطاعتكن الزّواج من أيّ شخص ترغبن دون أخذ إذن بالطّلاق. وهكذا حبس بعض الأصحاب والبعض اختفى ومنهم من فرّ إلى الجبال والصّحاري. ولكن رغم كلّ ذلك لم يهدأ غضب ملّا محمّد (ابن القتيل) ولم يقتنع بتعذيب هذه الفئة، لأنّه كان متوهّمًا أنّ رؤساء البابيّة اجتمعوا في منزل حاجّي أسد الله بعلم جناب الطّاهرة وبحكمهم حصل قتل الملّا تقي، لهذا طلب من الحاكم بإصرار استجواب وإيذاء جناب الطّاهرة، ولكن عندما طلبوها من والدها حاجّي ملّا صالح رفض ذهابها، إلّا أنّهم أخذوا جناب الطّاهرة وخادمتها “كافية” وسيّدة أخرى إلى دار الحكومة للاستجواب. فكان جوابهن: “إنّ هذا القتل لم يحدث بأمرنا ورغبتنا ولا بعلمنا ورضانا”.
ملّا محمّد، أصرّ في مطالبة الحاكم بإيذائها وتعذيبها. ممّا حدا بالحاكم إلى الرّضوخ لطلبه، وأمر الجلّادين بإحضار الحديد لكيّهن. في البداية لكيّ يرعبوا جناب الطّاهرة، وضعوا يديّ خادمتها “كافية” تحت مزلاج النافذة وهمّوا بحرقها من الجانب الآخر. فأدركت الطّاهرة تحت وطأة هذه الظّروف الرّهيبة أنّه لا ملجأ لهن إلّا بالتّوجّه إلى الله العزيز القدير، فسجدت وتوسّلت لحضرة الرّب الأعلى، وبلا حجاب شرعت في الدّعاء والتّضرّع، لقد كان الوضع في تلك اللّحظة بعيدًا عن كلّ وصف. وفجأة، علا صوت في الخارج يصيح: لقد وجدوا القاتل. وعند ذلك تحوّل الاهتمام تمامًا للسّؤال: من هو القاتل وأين وجد؟ وبهذا صرفوا النّظر عن موضوع الكيّ. ثمّ علم بعد ذلك أنّ القاتل هو آقا ميرزا عبد الله الشّيرازي الّذي عندما شاهد الاضطراب الشّديد في المدينة واعتقال الأبرياء، توجّه بنفسه إلى دار الحكومة واعترف بجريمته قائلًا: “أنا الّذي غرزت الخنجر في فمه. وليس لي شركاء. وأنّكم اعتقلتم وآذيتم هؤلاء العباد المظلومين بدون سبب”. فسألوه: لماذا قتلت مثل هذا الرّجل العالم والمجتهد؟ فأجاب: لم يكن عالمًا. لقد كان سارقًا لعنقود صغير من حصرم العنب من بستان أبو حنيفة. لو كان عالمًا لما سبّ ولعن على المنبر قدوتي الشّيخ أحمد الأحسائي والسّيّد كاظم الرّشتي. لقد قتلته لهذا السّبب فقط”. فأخذوه إلى محضر الحكومة وتقابل الملّا محمّد(ابن القتيل) بالميرزا عبد الله الشيرازي. فاستجوبه وسمع إقراره واعترافه بفعلته بمنتهى الصّراحة. فقال: إنّه يكذب. أجاب: “إنّ الخنجر الّذي استعملته وطعنت به فمه، مخبّأ تحت جسر قرب المسجد”. فذهب الفرّاشين إلى المكان، ووجدوا الخنجر وأحضروه. فقال ملّا محمّد مستنكرًا بغضب: إنّ هذا الرّجل لا يليق أن يكون قاتل أبي. فأجابه الميرزا عبد الله: احضر لي لباسًا فاخرًا وجبّة لألبسها حتّى يبدو قاتل أبيك ذو شأن. فـأخذوه إلى السّجن وربطوه بسلاسل. عندما سمع أهل المدينة هذا الأمر العجيب كانوا يذهبون جماعات إلى باب السّجن للفرجة”.
يكتب جناب الميرزا حسين الهمداني في تاريخه بما مضمونه “عندما سأل أبناء حاجّ ملّا محمّد تقيّ في الحبس الميرزا عبد الله، لماذا قتلت والدنا العالم الجليل، وسبّوه ولعنوه، فقال في الجواب: إنّه لم يكن عالمًا، إنّه قطف بعض الفاكهة من حديقة أبي حنيفة. فأنا أرسلته إلى جهنم وسأرسلكم أيضًا. وفجأة هجم عليهم وقطع السّلاسل الّتي كان مقيّدًا بها. لذا قفل السّجّان باب السّجن. وبالرّغم من الاعتراف الصّريح للميرزا عبد الله، إلّا أنّ ملّا محمّد زوج جناب الطّاهرة لم يقتنع وكان يفكّر دائمًا بقتل المتهمين ظلمًا(22).
كان ملّا محمّد يقصد أن يقضي على جناب الطّاهرة وكلّ البابيّين بحجّة الانتقام من قتل والده، لذا لم يأبه لاعتراف الميرزا عبد الله (الميرزا صالح الشيرازي). وعندما شاهدت حكومة قزوين هذا الوضع أرسلت الأسراء البابيّين إلى طهران كيّ يتمّ علاج القضيّة في العاصمة. كان من ضمنهم الحاجّ أسد الله فرهادي، الشّيخ صالح الكريمي، الحاجّ ملّا إبراهيم المحلّاتي، ملّا طاهر الشيرازي، وقاتل ملّا تقيّ الميرزا عبد الله. وحبسوهم في منزل الكدخدا في تلك المدينة(23). آقا محمّد فرهادي المتّهم أيضًا بالمؤامرة وحتى أنّه شارك بقتل الملّا تقيّ كان قد غادر حينها إلى طهران.
بعد أنّ اطّلع حضرة بهاء الله على أوضاع السّجناء، توجّه حضرته إلى منزل الكدخدا الّذي كان يعرفه، لكيّ يتمّ توفير وسائل الرّاحة وفي النّهاية الإفراج عن الأصحاب. ولكن ذلك الموظف الماكر الطمّاع كان يعلم حق العلم بجود حضرة بهاء الله وكرمه، فأراد أن يتّخذ من هذه الحادثة وسيلة للحصول على منافع ماليّة لنفسه، فأخذ يبالغ في وصف المصائب الّتي حلّت بالمحبوسين التّعساء وقال إنهم محرومون من ضوريات الحياة، جياع وملابسهم رثّة، فأرسل حضرة بهاء الله مساعدة ماليّة حالًا لإنقاذهم، وطلب من الكدخدا تخفيف وطأة الحبس عليهم، فأطلق المذكور سراح بعضًا منهم ممن كانوا غير قادرين على تحمّل السّجن. وعمل جهده في تخفيف حبس الباقين. وإذ حرّكته الأطماع، أخبر رؤساءه بالأمر وأن حضرة بهاء الله يمّد هؤلاء المحبوسين بالمال اللّازم والطّعام بانتظام. لكيّ يجعل نفسه محبوبًا عند الرؤساء ويحصل على مال أكثر. فابتدأ هؤلاء الموظفون بدورهم في السّعي للحصول على كلّ ما يمكن الحصول عليه من المنافع من كرم حضرة بهاء الله وجوده. فطلبوا حضرته أمامهم واحتجّوا على مساعدته للمحبوسين واتّهموه بالاشتراك مع هؤلاء في جريمتهم في قتل ملّا محمّد. فأجاب حضرة بهاء الله: “إنّ الكدخدا أظهر لي شدّة احتياجهم وآلامهم، وشهد أمامي ببراءتهم وطلب منّي مساعدتهم فلم أتوان في المساعدة”.
طمع المسؤولون في مال حضرة بهاء الله، وحبسوه في منزل الكدخدا. وكان حبسه أوّل ضير أصاب حضرته في سبيل أمر الله ومكث على هذه الحالة بضعة أيّام إلى أن تمكّن جعفر قلّي خان شقيق الميرزا آقا خان النوري وآخرون من إخلاء سبيل حضرته. وجد المسؤولون وكبراء القرية أنفسهم مضّطرين لإجابة رغبات جعفر قلّي خان خوفا منه، لذلك أبدوا أسفهم من معاملتهم تجاه حضرة بهاء الله، وبمنتهى الحسرة والندم ذهبوا في حال سبيلهم.
كان ورثة الملّا تقيّ البرغاني دائمًا يبذلون جهدهم للانتقام من الأصحاب. تقدموا بالطّلب إلى محمّد شاه نفسه وسعوا في أن يكسبوا عطفه على قضيتهم. مزّق ملّا محمّد زوج جناب الطّاهرة قميصه عند الشّاه وطلب الانتقام والقصاص. وطلب من الشّاه أن يقوم ملّا إبراهيم المحلّاتي وملّا طاهر الشيرازي بالطّواف حول قبر ملّا محمّد تقيّ كدلالة على تقصيرهم وإظهار أسفهم(24). أجاب الشّاه على ملّا محمّد وأقاربه قائلًا: “إنّ والدكم الملّا تقيّ لم يكن أعلى مقامًا من الإمام عليّ أمير المؤمنين الّذي لمّا علم أتباعه أنّه وقع ضحيّة لسيف ابن ملجم لم يعدموا أحدًا سواه، فبأي دليل وحجّة تودّون أن تقتلوا مجموعة بأسرها. اذهبوا وابحثوا عن القاتل الحقيقي حتّى أصدر حكم الإعدام بحقّه. وفي نفس اليّوم أمر الشّاه ملّا محمود الطهراني أن يحقّق في ادّعاء ملّا محمّد البرغاني وأقاربه. وبعد أن تحقّق ملّا محمود وثبتت له براءة الأصحاب المتهمين بقتل ملّا تقيّ، أبلغ الشّاه بالموضوع(25)، ولكن ورثة الملّا تقيّ لم يتوانوا من اتّهام الشّيخ صالح الكريمي بأنّه القاتل الحقيقي لوالدهم. وأمر الشّاه مضّطرًا بإصدار فرمان قتل الشّيخ صالح(26).
قتل ورثة الملّا تقيّ جناب الشّيخ صالح الكريمي بطريقة في غاية قسوة القلب. وكان الشّيخ صالح أوّل من سفك دمه في إيران في سبيل أمر الله. وبينما كان يقاد إلى محل الشّهادة، كانت آثار الشّجاعة والسّرور بادية على سيماه وقابل الجلّاد الّذي كان في حيرة من أمر الشّيخ صالح وكأنّه يقابل صاحبًا عزيزًا وصديقًا حميمًا. وحين استشهاده كانت تسمع هذه الكلمات من لسانه: “يا مولاي المحبوب، أنت رجائي. آمنت بك وأعرضت عمّا سواك. منذ أن عرفتك نفضت جناني وبصيرتي من آمال ومعتقدات العالمين”. وبعد استشهاده في سبزه ميدان(27)، دفن جسده في فناء ضريح الإمام زاده زيد في طهران(28). كان الشّيخ صالح موضع احترام وإجلال جناب الطّاهرة لدرجة أن البعض ظنّ أنّه يكون مساويًا في الرتبة لجناب القدّوس(29).
أخذ ورثة الملّا تقيّ، الّذين لم يكتفوا بقتل الشّيخ صالح، يبحثون عن طرق جديدة كيّ يقتلوا مجموعة أخرى من الأصحاب. صاحب الدّيوان(30) أفلح في إقناع الحاج الميرزا آقاسي بالمسلك الشرير لورثة الملّا تقي، ولذلك لم يلتفت إلى طلبهم. يجب التّذكير هنا إلى أنّ عدم التفات الميرزا آقاسي لورثة الملّا تقيّ كان فقط بسبب خصومته معهم لا محبةً في البابيّين. وعندما يئس ورثة الملّا تقيّ من الشّاه والحاجّ الميرزا آقاسي، توسّلوا إلى الصّدر الأردبيلي، الّذي كان أحد العلماء والقادة الرّوحانيّين الشّيعة في طهران وكان متكبّرًا ومغرورًا، فكتبوا إليه ما مضمونه: “إنّ الّذين وكّل إليهم في مهمّتهم الرّئيسيّة حماية الإسلام قصّروا في واجبهم، وبذلك لم يعاقبوا بعد قتلة الملّا تقيّ. لو استمر هذا الوضع، سيتجرّأ النّاس ويتصرّفوا مع باقي المراجع الدّينيّة بنفس الطريقة. حتّى ربما يتجرّأون عليك وتتعرّض حياتك للخطر”.
عندما قرأ الصدر الأردبيلي هذه الرسالة شعر بخوف شديد. لذا قرّر أن يكتب رسالة إلى الشاه وأن يحتال لتسليم الأصحاب إلى ورثة الملا تقي. لأنه كان يعلم أن محمد شاه لم يعد مستعدًا لإصدار أمر بإعدام أي شخص بتهمة قتل الملا تقي. فكتب رسالة إلى الشاه بالآتي: “بما أن الملا تقي كان عالمًا جليلًا وورثته أيضًا من النفوس المحترمة، فمن أجل الحفاظ على مكانتهم أرجو من جلالة الشاه أن يأذن لورثة الملا تقي بأخذ المحبوسين معهم إلى قزوين. وعندما يرى الناس أن قتلة ذلك العالم المذكور محبوسون ومحتجزون، حينها سيعلن ورثة الملا تقي على الملأ أننا عفونا عن قتلة والدنا وسامحناهم. إذا وافق جلالة الشاه على هذا الطلب سيكون ذلك أقصى درجات الرعاية التي يمكن أن يظهروها لهم”(31).
ولمّا كان الشّاه غافلًا عن المخططات الشريرة لذلك الدّساس المحتال، قبل ذلك بشرط أن يصله إخطار كتابي من قزوين يطمئنه بأن حالة المحبوسين بعد إطلاق سراحهم مرضيّة جدًا، وأن لا يصيبهم أي أذًى في المستقبل. ولكن ورثة الملّا تقيّ تعاملوا مع المحبوسين بمنتهى قسّوة القلب. وما كاد هؤلاء الأشرار يستلمون المحبوسين حتى أخذوا يشفون غليلهم ويصبون عليهم جام انتقامهم. وفي أول ليلة تسلموا المحبوسين أعدموا بلا رحمة الحاج أسد الله، أخا الحاج الله وردي، عم محمد هادي ومحمد جواد الفرهادي، وكان تاجرًا في قزوين اشتهر بالصلاح والتقوى بدرجة عظيمة لا تقل عن تقوى أخيه الشهير. ولعلمهم بعدم إمكانهم توقيع العقاب عليه في بلدته كما أرادوا، عزموا على قتله في طهران بطريقة تبعد عنهم شبهة اقتراف جريمة القتل. ففي منتصف الليل ارتكبوا فعلهم الشنيع، وفي صباح اليوم التالي ادعوا أنه توفي من مرض ألمّ به.(32)، قام معارفه وأصحابه الّذين هم من قزوين بدفنه بين شاه عبد العظيم وبي بي زبيدة(33).
أخذ ملّا محمّد البرغاني وأقاربه كلًّا من الحاجّ ملّا طاهر الشيرازي والحاجّ ملّا إبراهيم المحلّاتي عن طريق برغان إلى قزوين، فهاج الأهالي في قرية برغان وماجوا وهجموا عليهما وألحقوا بهما من البلايا بكلّ وحشيّة بحيث يعجز القلم عن شرحها. وفي النّهاية قتلوا المظلومين في قزوين بغاية القسوة وبأفظع الطّرق.
يكتب جناب سمندر في تاريخه بخصوص استشهاد هذين المظلومين التّالي:
“… جناب فيض الله… الّذي رأى استشهاد هذين المظلومين، كتب شرح يوم الاستشهاد في صفحة، وسأنقل لكم عين عباراته وكلماته… في ذات يوم عند عودتي من السّوق إلى المنزل، وصلت درب بيت حاجّي ملّا تقيّ البرغاني، شاهدت آقا الشيخ طاهر الواعظ الشيرازي مكبّلًا بالسّلاسل والأغلال وأخرجه الفرّاش من منزل حاجّي ملّا تقيّ، أراد هذا الفرّاش واسمه (أصغر) أن يربط آقا الشيخ طاهر بشجرة، فقال له الشّيخ طاهر: لديّ وصّيّة، فهل هناك أحد من أهل شيراز لتوصيلها؟. كان يقف بين الحضور شخص شيرازي تاجر، قال: مهّما تكن وصّيّتك فسأعمل بها. قال: لديّ كتاب واحد وعشرة تومان نقدًا في المحل الفلاني، الرّجاء أن تأخذها وتوصّلها لزوجتي وطفليّ الصّغيرين في المكان الفلاني في شيراز. فقبل هذا الشّخص الشّيرازي.
بعد ذلك ربط الفرّاش “أصغر” جناب الشيخ طاهر بشجرة التّوت الأبيض قرب نهر وبدأ يضربه بعصا كانت بيده، وجمّ من النّاس كانوا حاضرين هناك يقذفونه بالحجارة والأخشاب إلى أن أغمى عليه، وفي أثناء الضّرب والإيذاء ورمي الأحجار، لم يقل جناب طاهر شيئًا سوى التّوجّه والتّسليم والرّضا. بعد ذلك جمع بعض الأشخاص الأشواك والأوراق الكثيرة وأشعلوا النّار فيها وأحرقوه إلى أن احترقت الحبال المربوطة ووقع جناب طاهر على الأرض وسط النيران. ورغم ذلك استمرّ النّاس بقذف الحجارة والعصىّ إلى أن صعدت روحه المقدّسة.
ثمّ أخرجوا حاجّي ملّا إبراهيم المحلّاتي من منزل حاجّي ملّا تقيّ عاري الرّأس مكبّلًا بالسّلاسل إلى قرب النّهر. وكان هناك شخص نجّار عائدًا من السّوق إلى منزله وبيده فأس. فسأل من يكون هذا الشّخص؟ قال أحدهم أنّه قاتل حاجّي ملّا تقيّ، جئنا به لنقتله. رمى النّجّار فأسه على رأس حاجّي ملّا إبراهيم، فاستقرّ الفأس على رأس ذلك المظلوم، وقضى عليه بضربة واحدة، وقذفه النّاس بالحجر والخشب إلى أن طارت روحه إلى مكانها القدسي. ثمّ آذوا الجسدين الجليلين وربطوا حبلين بأرجلهما وأخذوهما إلى خارج المدينة ورموهما في حفرة. فيما بعد، حفر عدد من الأصحاب قبرًا في ذلك المكان خفية ووضعوا الجسدين الطّاهرين في قبر واحد وأخفوهما، حيث قال النّاس إنّ الجثّتين كانتا طعمة للحيوانات.
كتب فيض الله، لقد شاهدت هذه الوقائع. كان من بين الّذين آذوا الجسدين أحد الأشخاص، يدعى طيّب قاسم والّذي يعمل في الإمساك بالأفاعي، وصل بعد القتل والحرق، ولكيّ يكسب الثّواب، فقد أخرج سكّينًا ورشقه في ظهر أحد الأجساد، وبعد أيّام وقع ابنه، وكان شابًا ناشئًا، من على القافلة وتوفّي وحرق كبد أبيه عليه. كان هذا جزء ممّا حدث له… فقد نال الظّالمون جزاء أعمالهم وثمرة أفعالهم، بينما صعد الشّخصان الجليلان إلى الدّار الباقية…” (ص 111–113).
غضب حاجّ الميرزا آقاسي من خيانة الصّدر الأردبيلي، لم يكن سبب غضبه شفقته بحال الأصحاب، بل نظرًا لعدائه للمذكور. لذا أخبر محمّد شاه بكلّ التّفاصيل، فنفى الشّاه الصّدر الأردبيلي إلى مدينة قم(34). ولكن الشّاه والصّدر الأعظم، لم يظهرا ردّ فعل تجاه ظلم الملّا محمّد برغاني وأقاربه للمحبوسين، لذا ازداد ملّا محمّد جرأة، فقرّر أن يدسّ السّمّ لجناب الطّاهرة ليقتلها، فلمّا علمت بقصدهم كتبت رسالة إلى الملّا محمّد الّذي ورث أباه وأصبح إمام الجمعة المعروف في قزوين.
ينقل نبيل الزرندي مضمون الرّسالة كالتّالي: “إنّهم عبثًا “يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون”. فإذا كان الأمر الّذي أتّبعه هو الحقّ وكان الرّبّ الّذي أعبده هو الإله الواحد الحقّ، فإنّه قبل مرور تسعة أيّام يخلّصني من ظلمكم، وإن فشل في تحريري، تكونون أحرارًا في أن تعملوا ما تشاءون وتكونون قدّ أثبتّم فساد اعتقادي”(35).
بالرّغم من محاولة ملّا محمّد البرغاني وأقاربه منع جناب الطّاهرة من الخروج من منزل والدها ووضع رقابة شديدة عليها، إلّا أنّه في النّهاية شاءت الإرادة الإلهيّة خلاصها. وقصتها كالتّالي:
في أيّام حبس جناب الطّاهرة في منزل والدها كانت خاتون جان الإبنة الكبرى للحاجّ أسد الله الفرهادي من مريداتها الصّادقات، تذهب إلى منزل ملّا صالح والد جناب الطّاهرة بتدابير مختلفة وملابس متفاوتة، كانت أحيانًا ترتدي لباس الفقراء أو تأتي بحجّة أنّها تريد أخذ الماء، وأحيانًا تأخذ إليها الطّعام، لأنّ جناب الطّاهرة كانت تعلم سوء قصد ملّا محمّد وأقاربه، فكانت تمتنع عن تناول أغلب الأطعمة في منزل والدها.
في هذه الأثناء أبلغ السّيّد أحمد اليزدي حضرة بهاء الله عن وضع جناب الطّاهرة، حينما كان حضرته في حفل زواج إحدى أميرات القاجار مع جمع من كبار البلد وأعيانها. ذهب السّيّد أحمد اليزدي إلى مكان الحفل وأبلغ حضرة بهاء الله بالإشارة بأنّ لديه بلاغ مهم لحضرته. وبما أنّه لم يتيسّر لحضرة بهاء الله الخروج من الحفل في تلك اللّحظة، طلب من السّيّد أحمد أن ينتظر حتّى اختتام حفل الزّواج. وبعد انتهاء الحفل أخبر السّيّد أحمد حضرته عن مشكلة جناب الطّاهرة(1).
في تلك الأوقات الّتي كان فيها محمّد هادي الفرهادي في طهران تشرّف بلقاء الجمال الأبهى بواسطة السّيّد يحيى الدّارابي. كتب حضرة بهاء الله خطابًا لجناب الطّاهرة وسلّمه لأقا محمّد هادي ليذهب متنكّرًا إلى قزوين ويسلّمه لها، ويقوم بإعداد وسائل خلاصها. نفّذ آقا محمّد هادي تدابير الجمال الأبهى وتوجّه إلى قزوين وأوصل الرّسالة لجناب الطّاهرة بواسطة زوجته خاتون جان والّتي ظهرت بزيّ امرأة متسوّلة. عندما اطّلعت جناب الطّاهرة على مضمون رسالة الجمال الأبهى وتفاصيل خطّة الهروب، قالت لخاتون جان: اذهبي وأنا سألحق بك بأسرع وقت. وبعد ساعة تحقّق التّأيّيد الإلهي، بأن غطّ حارسها في النّوم، فاستغلّت الفرصة وتركت دار والدها وذهبت مع آقا محمّد هادي إلى منزله بعدما كان ينتظرها بقرب منزل والدها. ومن هناك ذهبوا إلى منزل آقا حسن النّجار، الّذي كان صديقًا حميمًا لآقا محمّد هادي.
وفي المساء خرجت جناب الطّاهرة من قزوين بمعيّة آقا محمّد هادي ومساعدة آقا قلي عن طريق البرج ناحية بوابة الأمير حسين، وعند المسلخ، ركبوا الجياد الّتي أعدّت لهم من قبل وتوجّهوا إلى طهران عن طريق (كله درّه) و(اشتهارد)(2).
وطبقًا لتصريح جناب نبيل الزرندي في مطالع الأنوار (ص 261)، أنّ حضرة بهاء الله دعى محمّد هادي الفرهادي وقال له: “قل لخاتون جان أن توصّل هذه الرّسالة إلى مكان حبس جناب الطّاهرة وأن ترتدي لباس متسولة لتدخل في المنزل الّذي حبست فيه جنابها وتدفع لها الخطاب، وأن ينتظر هو على مدخل المنزل حتّى تأتي إليه ويحضرها عنده. وقال حضرة بهاء الله للمبعوث: “بمجرّد أن تنضمّ إليك الطّاهرة اذهب توًا إلى طهران. وفي هذه اللّيلة سوف أرسل إلى بوابة قزوين مرافقًا ومعه ثلاثة جياد، فتستلمها وتودعها مكانًا أمينًا خارج أسوار قزوين، ثمّ تأخذ الطّاهرة إلى ذلك المكان وتركبون الجياد معًا وتسيرون في طريق غير مطروق، وتجتهدون أن تصلوا قبل طلوع النّهار إلى ضواحي العاصمة. وبمجرّد فتح البوابات تدخلون المدينة وتتّجهون فورًا إلى منزلي. واحترس جدًا لئلّا تنكشف هويّتها”.
يكتب نبيل الزرندي باختصار: “قام محمّد هادي على تنفيذ تعليمات حضرة بهاء الله مطمئنًا بتأكيداته، فلم يعترضه في طريقه أيّ مانع، وأدّى الخدمة المطلوبة باقتدار وإخلاص وتمكّن من إحضار جناب الطّاهرة سالمة في السّاعة المعيّنة إلى منزل مولاه”. (مطالع الأنوار ص 262)
ولكن جناب سمندر كما نقلنا سابقًا كتب في تاريخه بتفصيل أكثر عن هذه الواقعة، فقد كتب عن حكاية ورود جناب الطّاهرة إلى طهران كالتّالي: “في البداية ذهبت إلى بستان إمام زاده حسن، وجاء آقا قلي بالجياد وقام بترويضها واستراحت جناب الطّاهرة، وذهب آقا هادي إلى المدينة للإخبار عن الورود. علم كربلائي حسن التّاجر القزويني بقدوم جناب الطّاهرة فذهب إلى البستان المذكور مبتسمًا. فمنعه آقا قلي، إذ لم يكن يعرف أنّه صديق، وصفعه على وجهه بشدّة فمنعته جناب الطّاهرة من ذلك. ثمّ أحضرت الفواكه لاستضافة الاثنين. وفي المساء أتى عدّة فرسان فتوجّهت بكلّ احترام مع المرافقين إلى منزل جمال القدم جلّ ذكره الأعظم”(3).
كان آقا قلي الّذي سعى لنجاة جناب الطّاهرة وإيصالها إلى بيت الجمال الأبهى بطهران بائع شمّام في السّوق وصديق وكاتم أسرار آقا محمّد هادي(4). في ليلة وصول جناب الطّاهرة إلى المنزل المبارك، في البداية امتنع عن أن ينام على سرير وثير غالي الثّمن وقال: كيف لي أن أنام على هذا السّرير بهذه الملابس الرّثّة؟ قالت له جناب الطّاهرة أن يستريح في نفس المكان. وتفضّلت قائلة له بأنّ الله سيعطيه الأجر الجزيل بسبب الخدمة الّتي قام بها.
في صباح اليّوم التّالي ذهبت جناب الطّاهرة مع آقا محمّد هادي إلى قرية خارج طهران حيث كان الأحبّاء مجتمعين، ثمّ وصل الجمال الأبهى مع آقا قلي إلى القرية، وبقوا هناك في تلك اللّيلة، وفي الصّباح الباكر طلبت جناب الطّاهرة من آقا قلي أن يذهب إلى قزوين فورًا، لأنّه لو لم يذهب سيعمّ اضطراب عظيم هناك، حيث يبدو من القرائن أنّ آل آقا قلي طلبوه من عائلة فرهادي. على كلّ حال منحته جناب الطّاهرة مبلغًا كبيرًا وطلبت منه العودة إلى قزوين. رجع آقا قلي ليلًا إلى منزل الجمال الأبهى والتقى هناك بالميرزا عبد الله الشيرازيّ (ملّا صالح)، ثمّ ذهب إلى قزوين حيث وصل في التّوقيت المناسب، لأنّه لو تأخّر ساعتين لكان قد عمّ فساد جديد حيث كانت عائلته تبحث عنه. لقد كان لدعاء الجمال الأبهى وجناب الطّاهرة، الأثر في أن يصبح آقا قلي صاحب ثروة. بعد ذلك ذهب إلى طهران وخدم عند الميرزا موسى الوزير واشتهر باسم نايب قلي وفي أواخر أيّامه التحق بجمع الأحبّاء(5).
يكتب نيقولاس الفرنسي في تاريخه عن نايب قلي المذكور: “بعد ذلك أصبح نايب قلي ضمن ضبّاط الشّاه، وكتب عن فرار جناب الطّاهرة كالتّالي: كنت من ضمن الموظّفين الّذين رافقوا هذه السّيّدة. بمجرّد أن خرجنا من المدينة تركنا الطّريق الرّئيسي وسلكنا طريق زهراء قزوين إلى أن وصلنا إلى أندرمان قرب شاه عبد العظيم وهناك أعطتني جنابها رسالة كيّ أوصلها منزل الميرزا بزرك النوري في طهران وأسلمها للميرزا حسين عليّ ابن الميرزا بزرك. في الصّباح الباكر وصلت المدينة وسلّمت الرّسالة لصاحبها. بعد قراءتها قال لي ارجع إلى أندرمان وأخبرهم أنّني سأحضر بنفسي بعد الظّهر إلى هناك. ثمّ وصل الميرزا حسين عليّ (بهاء الله) قبل الغروب بخمس ساعات مع عدد من الأشخاص راكبين الجياد. وبعد دقائق غيّرت قرّة العين ملابسها وركبت الجواد الّذي كانت واجهته ذهبيّةً، وركب كلّ منّا جوادًا وتحرّكنا قبل غروب الشّمس بساعة ووصلنا بعد ساعتين إلى منزل الميرزا حسين عليّ ومكثنا هناك عدّة أيّام. في تلك الأيّام كانت أعدادًا كثيرة من النّاس يزورون قرّة العين.
بعد خمسة أيّام من وصولنا، وفي أحد هذه الأيّام انتابني العجب حيث شاهدت الخادم وحده في حين خرج الجميع. أحضر لي الخادم الشّاي وقال يوجد جواد في الاسطبل اركبه واذهب إلى مسكر آباد قرب سرخه حصار. ركبت الجواد ووصلت قبل الغذاء، وهناك تجمّع عدد غفير ونصبت خيام عديدة. أحضرتني قرّة العين وقالت: “هل ترغب أن تكون بابيًّا؟” قلت: لا، فمنحتني مبلغًا من المال، وقالت: “اللّيلة أنت ضيفي وفي الصّباح الباكر عد إلى طهران”.
بعد تناول العشاء مع الجميع غادرت قرّة العين، وأنا أيضًا رجعت إلى طهران في اليوم التّالي مع عدد من الخدم الّذين لم يرغبوا أن يذهبوا مع الجماعة. هناك عرفت أنّ قرّة العين ستذهب إلى خراسان”. (من التّرجمة الفارسيّة ص 295–296)
بالرّغم من أنّ ما كتبه نيقولاس يكولاي بهذا الخصوص، يختلف بعض الشّيء مع تاريخ النبيل وتاريخ سمندر، إلّا أنّه يحتوي على نقاط جديدة. الخلاصة، كان ملّا محمّد البرغاني زوج جناب الطّاهرة وأعوانه يراقبونها عن كثب، وثارت دهشتهم لاختفائها المفاجئ. كما أنّ الأصحاب لم يعلموا عن الوقائع شيئًا، فاندهشوا للغاية وظنّوا أنّهم أعدموها. علم الأصحاب بسرعة عن خلاص جناب الطّاهرة، ولكن أعداءها أخذوا يبحثون عنها في كلّ مكان، وخابوا في سعيهم ويئسوا، بينما تنبّه البعض أيضًا أنّه لا يمكن لهم أن يحاربوا أولياء الحقّ، وأصبح هذا التنبّه سبب إيمانهم.
وحسب قول جناب نبيل الزرندي: “من ضمن الّذين آمنوا في نفس اليوم الميرزا عبد الوهّاب أخو جناب الطّاهرة… ولكنّه لم يقم بأيّ خدمة للأمر المبارك ولم يقدم على ذلك كيّ يثبت صدق اعتقاده(6). “بقيت جناب الطّاهرة في الطّابق العلوي من بيت الجمال الأبهى في طهران”(7)، في تلك الأوقات الّتي كانت الحكومة تبحث عنها في كلّ مكان كان الأحبّاء يزورونها بلا انقطاع وكانت تخاطب الرّجال من وراء حجاب في كمال العظمة والفصاحة. ويبدو أنّ جناب الشيخ سلمان هنديجاني فاز بالإيمان في تلك الأيّام عن طريق جناب الطّاهرة(8).
من بين النّفوس الّذين التقوا بجناب الطّاهرة في تلك الأيّام جناب السّيّد يحيى الدّارابي الملقّب بوحيد. وقد وصفه الجمال الأبهى في كتاب الإيقان بـ ”وحيد عصره وفريد زمانه”. واعتبره حضرة وليّ أمر الله “من أكثر أصحاب حضرة الباب نفوذًا وفضلًا وعلمًا….”(9). يتفضّل حضرة عبد البهاء بخصوص كيفيّة لقاء جناب الطّاهرة مع وحيد في طهران في منزل الجمال الأبهى قائلًا: “حدث أن حضر ذات يوم جناب آقا السّيّد يحيى والملقب بوحيد، ذلك الشّخص الفريد، روح المقرّبين له الفداء، وجلس في غرفة الضّيوف وكانت جناب الطّاهرة جالسة وراء الحجاب، وكنت أنا نفسي إذ ذاك طفلًا جالسًا على حجرها وما لبثنا حتّى أخذت الآيات والأحاديث تتدفّق كالدّر المنثور من فم جناب وحيد في إثبات هذا الأمر، وفجأة هاجت جناب الطّاهرة ثمّ قالت: “يا يحيى، فأت بعمل إن كنت ذا علم رشيد. ليس الوقت وقت الأقوال والرّوايات إنّما الوقت وقت الآيات البيّنات، وقت الاستقامة وهتك الأستار والأوهام، وإعلاء كلمة الله، وقت تضحية الرّوح في سبيل الله. العمل! العمل! لا بدّ من العمل!”(10).
علم أعداء حضرة بهاء الله الّذين كانوا يترصدونه كيّ يلحقوا الضّرر بحضرته، بالتّدريج عن وجود جناب الطّاهرة في منزله المبارك، لذا قام حضرته بتدبير للمحافظة عليها، حيث تمّ نقلها إلى منزل وزير الحرب. وكان الوزير آنذاك الميرزا آقا خان اعتماد الدّولة النوري، الّذي أصبح الصّدر الأعظم لإيران بعد ذلك بعدّة سنوات، لذلك غضب محمّد شاه من الميرزا آقا خان وأبعده إلى كاشان، فأوصى حضرة بهاء الله، أخت الميرزا آقا خان أن تستضيف جناب الطّاهرة وتحافظ عليها. بقيت جناب الطّاهرة في منزلها إلى أن ذهبت نحو خراسان تنفيذًا للأمر، “عليكم بأرض الخاء”. في الحقيقة حسب قول حضرة عبد البهاء: “وبالإجمال، كان الجمال المبارك قدّ هيّأ ما يلزم لراحة الطّاهرة، من خدم وحشم، وما إلى ذلك وبعث بجنابها إلى بدشت”(11). ودّع حضرة بهاء الله جناب الطّاهرة وأوصى أخاه جناب الميرزا موسى كليم أن يخرجها في غاية الحذر والدّقّة مع خادمتها قانتة من بوابة شميران، حيث أنّ المأمورين كانوا يتفحّصون ويدقّقون بشدّة بخصوص خروج النّساء من البوابة. مرّ جناب كليم مع جناب الطّاهرة وخادمتها قانتة من بوابة شميران، ولحسن الحظّ لم يسأل الحرّاس عن أيّ شيء.
بعد الخروج من البوّابة وعلى مسافة فرسخين من طهران وصلوا إلى حديقة واقعة على سفح جبل تنساب فيها مياه غزيرة ولها مناظر جميلة وفي وسطها منزل بدا مهجورًا تمامًا. ويقول جناب كليم: “ولمّا دخلت لأبحث عن صاحبه قابلت رجلًا هرمًا كان منشغلًا في إرواء نباتاته. وإجابة عن سؤالي شرح بأنّه حصل نزاع بين المالك والمستأجرين نتج عنه أنّ القاطنين في المنزل هجروه، وأضاف: لقد طلب منّي المالك حراسة المكان حتّى ينتهي النّزاع. فسررت جدًا من المعلومات الّتي أدلى بها وطلبت منه أن يشاركنا تناول الغداء. ولمّا عزمت على العودة في عصر ذلك اليوم إلى طهران وجدته راغبًا في حراسة جناب الطّاهرة وخادمتها والمحافظة عليهما”.
ويقول جناب كليم: “ولمّا وصلت إلى طهران، أرسلت ملّا باقر أحد حروف الحيّ ومعه خادم للانضمام إلى جناب الطّاهرة، وأخبرت حضرة بهاء الله بخروجها سالمة من العاصمة. فسرّ للخبر الّذي أتيته به، وسمّى ذلك البستان “باغ جنّت” وقال: إنّ ذلك المنزل قد أعدّته لكم يد القدرة الإلهيّة لاستقبالكم حتّى يرحّب فيه بأحبّاء الله”. ومكثت جناب الطّاهرة في تلك البقعة سبعة أيّام، وبعد ذلك سافرت إلى جهة خراسان ومعها محمّد حسن القزويني المسمّى بالفتى وآخرون. وأمرني حضرة بهاء الله أن أعدّ لرحيلها كلّ ما يلزم سفرها(12).
صدر الأمر من حضرة الباب بتوجّه الأصحاب نحو خراسان، فتوجّهت مجموعة من البابيّين من مختلف مناطق إيران إلى هناك. كان حضرة بهاء الله قد وعد جناب الطّاهرة بأنّه سيلتقي بها قريبًا، لذا أمر جناب كليم أن يهيّئ وسائل سفرها، كما أوصاه بالعائلة المباركة.
وبعد فترة سافر حضرة بهاء الله إلى خراسان. كان جناب القدّوس الّذي كان عائدًا من مشهد برفقة ملّا محمّد عليّ القزويني (ابن خال جناب الطاهرة وزوج أختها)، قد التقى في الطّريق مع جناب الميرزا سليمان قلي النوري، فحكى الأخير لجناب القدّوس قصّة خلاص جناب الطّاهرة من سجن قزوين وتوجّهها إلى خراسان، وكذلك ذهاب حضرة بهاء الله إلى هناك. فذهب جناب القدّوس بمعيّة ملّا محمّد عليّ القزويني والميرزا سليمان قلي إلى شاهرود. وواصلوا الطّريق، فوصلوا وقت الفجر إلى بدشت والتقوا بجمع من الأصحاب. ثمّ تركوا بدشت وذهبوا إلى شاهرود. بعد مدّة سمعوا من الميرزا محمّد حناساب أنّ حضرة بهاء الله وجناب الطّاهرة مع مجموعة من أصحاب أصفهان وقزوين ومناطق أخرى في بدشت، وينوون التّوجّه نحو خراسان. ذهب آقا محمّد حناساب إلى بدشت وأخبر حضرة بهاء الله عن توجّه القدّوس إلى شاهرود، فذهب حضرة بهاء الله عند الغروب برفقة ملّا محمّد معلّم النوري إلى شاهرود، وفي صباح اليوم التّالي عاد حضرته مع جناب القدّوس إلى بدشت.
وفي اجتماع الأصحاب ببدشت كانت فرصة مناسبة لإعلان حقائق الأمر البديع للأصحاب دون غموض أو تورية. وكان لجناب الطّاهرة في هذا الإعلان دورًا دقيقًا في حياتها الإيمانيّة والّذي نحن الآن بصدد توضيحه.
كان الهدف الأصلي من مؤتمر بدشت، هو إعلان استقلال الدّين البابي(1)، والهدف الآخر من المؤتمر هو بحث وسائل تحرير حضرة الباب من اعتقاله القاسي في سجن أذربيجان، والّذي فشل منذ البداية(2). إنّ الاعتقاد باستقلالية شريعة حضرة الباب تمّ التّلويح بها وأحيانًا بالتّصريح في آثار حضرة الباب ومكاتبات ورسائل كبار العهد الأعلى ومن بينهم جناب الطّاهرة. ويجب أن ننتبه إلى أنّه حسب تصريح حضرة وليّ أمر الله، أنّه في نفس ليلة إظهار الأمر المبارك من قبل حضرة الباب في شيراز لجناب باب الباب، اعتقد باب الباب بقائميّة حضرته(3)، ورغم أنّ حضرة الباب في الحقيقة قد أعلن عن عموميّة واستقلال ظهوره في كتاب قيّوم الأسماء الّذي نزل في أربعين يوم في أوّل الظّهور(4). ولكن نظرًا لوجود التّعصّبات الشّديدة وعدم الاستعداد وجهالة أغلبيّة النّاس في ذلك الوقت، راعى حضرة الباب في تصريح مقاماته العظيمة غاية الدّقّة والحذر والحكمة. لذا يصرّح حضرة عبد البهاء أنّ “أيّام حضرة الباب كان زمن التّقيّة”(5). ولكن تمّ الإعلان عن استقلال ظهور حضرة الباب المبارك في الآثار النّازلة في ماكو بالتّصريح، ومن ثمّ في مؤتمر بدشت ومجلس محاكمة حضرة الباب في تبريز، تمّ الإعلان عن هذا المقام جهارًا(6).
قام الكاتب (مؤلّف الكتاب) ببحثين مفصّلين بخصوص موضوع استقلال دعوة حضرة الباب وأسلوب إعلانه التّدريجي لمقامات حضرته(7). سيتمّ نقل خلاصة ذلك التّحقيق هنا أيضًا كيّ يتّضح الدور الحسّاس لمؤتمر بدشت ودور جناب الطّاهرة الخالد في إعلان استقلال الدّين البابي بصورة اوضح.
لقد صرّح حضرة بهاء الله في لوح مبارك بإعزاز جناب فتح أعظم (الميرزا فتح عليّ الأردستاني) عن مراحل إعلان دعوة حضرة الباب بالتّرتيب التّالي: إعلان حضرته عن مقام بابيّة العلم الإلهيّ، ثمّ القائميّة، ثمّ الرّسالة والمظهريّة الإلهيّة(8). المقصود من هذه الألفاظ والمصطلحات المذكورة، هو “المظهريّة الإلهيّة”، ولكن حقيقة الأمر إنّه قد تمّ الإعلان عنها في غاية الحكمة. وقد أشار حضرة الباب في كتاب قيّوم الأسماء (سورة 94) إلى هذه الحكمة المحضة في دعوة النّاس(9). وفي السّورة الثّامنة والعشرين من ذلك الكتاب العظيم يتفضّل بأنّ الحقائق المرتبطة بالمقامات العظيمة لحضرته يجب بيانها على نحو الإجمال والإفاضة برشح منها على الخلق(10). في السّورة السّابعة والأربعين من الكتاب المذكور بعد التّصريح بضعف ميزان عرفان العباد، يتفضّل بالتّلويح بأنّه لو يظهر مقاماته الحقيقيّة سيتفرّق المؤمنون من حول حضرته(11).
أوضح حضرة الباب في آثاره المنزلّة في السّنوات الأولى من الظّهور، ومن بينها كتاب قيّوم الأسماء، عن مقاماته الحقيقيّة بالشّكل الظّاهر والمستور كيّ يفهم الحكماء، ولا تصبح ذريعة بيد الجهلاء والمتعصّبين. ويتفضّل في كتاب الدّلائل السّبعة في توضيح أسباب إظهار مقام البابيّة في بداية ظهوره قائلًا: “أنظر في فضل حضرة الموعود في حقّ المسلمين، كيف غمرهم بفضله ورحمته وذلك حتّى ينجّيهم، فالمقام الّذي هو أوّل الخلق ومظهر إنّني أنا الله، أنظر كيف أظهر نفسه باسم بابيّة قائم آل محمد (صلعم) حتّى لا يضطّرب النّاس… ولا يغفلون لما خلقوا له”. ذكر حضرته ضمن مناجاة أنّ السّبب في أنّ الآيات الإلهيّة كانت تنسب “للحجّة” موعود الشّيعة في بداية الظّهور كان لحفظ المؤمنين من ظلم المعرضين(12). رغم أنّ المقصد الحقيقي من “الحجّة” في تلك الأيّام أيضًا كان وجوده المبارك.
لكيّ نجسّد ميزان ضعف عرفان العباد وعدم استعدادهم لقبول الظّهور الجديد، ومدى مداراة حضرة الباب للنّاس في زمنه، يمكننا الإشارة إلى قصّة إعراض وانزواء ملّا عبد الخالق اليزدي.
كان ملّا عبد الخالق اليزدي من علماء الشّيخيّة البارزين، وجاء شرح أحواله في أغلب كتب تاريخ عصر القاجار(13). إنّه آمن في بداية الظّهور بمقام بابيّة حضرة الباب. حتّى ابنه جناب الشيخ عليّ استشهد بعد ذلك في قلعة طبرسي، ولكن بعد أن تيقّن ملا عبد الخالق من أنّ حضرة الباب أعلن بأنّه القائم أعرض عن الأمر البديع، وكان إعراضه بعد انعقاد مؤتمر بدشت بعدّة أشهر.
وخلاصة الحكاية هي أنّه في أحد الأيّام تشرّف جناب السّيّد يحيى الدّارابي (وحيد) بحضور الجمال الأبهى في طهران، ذكر أنّ توقيعًا قد نزل من قلم حضرة الباب بإعزاز ملّا عبد الخالق اليزدي ويجب أن يسلّمه له. فتفضّل الجمال الأبهى: “إنّ ملّا عبد الخالق يسكن في منزل الميرزا زمان النوري، فاذهب إلى هناك وسلّمه التّوقيع”.
ويقول جناب وحيد: “عندما وصلت منزل الميرزا زمان، وجدت ملّا عبد الخالق اليزدي يتوضّأ، فوضعت التّوقيع في الحجرة بقربه كيّ يقرأه وخرجت من البيت. بعد ساعة وصلني الخبر بأنّه قرأ التّوقيع بعد الانتهاء من الصّلاة، وعندما وصل إلى الآية المباركة “أنا القائم الحقّ الّذي أنتم بظهوره توعدون” ترك التّوقيع ورماه وعلا صراخه وقال آه إنّ ابني قتل بغير حقّ(14).
يتفضّل الجمال الأبهى في أحد الألواح النّازلة بخصوص تزلزل ملّا عبد الخالق اليزدي: “كان ملّا عبد الخالق من مشايخ الشّيخيّة، آمن بالنّقطة الأولى روح ما سواه فداه في أوّل الأمر عند ظهوره في قميص البابيّة وكتب عريضة. ونزل ذكره من مصدر العناية الكبرى، وكان كمال العناية له مشهودًا حسب الظّاهر. إلى أن أرسل له، حضرة النقطة الأولى، لوحًا خاصًا نزلت فيه هذه الكلمة العليا قوله تعالى: “إنّني القائم الحقّ الّذي أنتم بظهوره توعدون”. بعد قراءته صاح وقام على الإعراض التّام وأعرض بسببه جمع في أرض الطّاء”(15).
ونزل في اللوح المبارك حسين بإمضاء – خادم الله آقا جان – بخصوص مراتب مسايرة حضرة الباب خلق ذلك الزّمان ومراعاة منتهى الحكمة في إظهار مقامات حضرته: “نظرًا لضعف العباد في أوان الظّهور كان حضرة الأعلى يساير ويراعي في إظهار البيانات وتكلّم بكلّ حكمة… لو… كان حضرته يقول في بداية الأمر ما قاله في الآخر لحدثت شرارة نار الإعراض والإنكار في الأوّل كما حدثت في الآخر… قام المعرضون والمنكرون وهم علماء العصر على الإعراض على شأن سمّى جوهر الوجود هذا نفسه بعبد بقيّة الله، ولم يرض الخلق الدّنيء بذلك أيضًا وقاموا بما يعجز القلم واللّسان والمداد عن ذكره…”(16).
يجب أن نتذكّر أنّ مراد حضرة الباب من مقام باب بقيّة الله في حقيقته، هو باب ظهور أو مدينة حضرة من يظهره الله (الجمال الأبهى) بحيث تفضّل بذلك نظرًا لرعاية الحكمة في بداية الظّهور على نحو ينطبق مع مقتضيات الزّمان.
يشير حضرة عبد البهاء في مقالة سائح (الصّفحة الثّالثة) إلى هذه النّقطة. ويصرّح حضرة وليّ أمر الله أيضًا في توقيعاته المباركة بأنّ حضرة الباب لم يدّع في الواقع نائبيّة القائم الموعود وكان مقصده من البابيّة في الحقيقة، بابيّة حضرة من يظهره الله(17). لقد جاء ذكر ادّعاء مظهريّة حضرة الباب باستقلال ظهوره ونزول الآيات من أوّل سنة الظّهور، في فتوى علماء الشّيعة والسّنّة المجتمعين في مجلس محاكمة جناب ملّا عليّ بسطامي في بغداد، وأيضًا في كتب التّاريخ الرّسميّة لعصر القاجار مثل ناسخ التّواريخ (المجلّد الثّالث من مجلّدات تاريخ القاجاريّة، ص 233) وروضة الصّفا النّاصري (مجلّد القاجاريّة، ص 310) وحقائق الأخبار النّاصري (ضمن وقائع سنة 1265 هجريّة قمريّة).
يجب التّصريح بأنّ النّخبة من أصحاب حضرة الباب، قد أدركوا مقام حضرته العظيم منذ بداية الظّهور، وتبدو هذه النّقطة في الآثار الكتابيّة لأولئك النّخبة من أصحاب حضرته بصورة واضحة وجليّة. كمثال نجد في مكتوب بقلم جناب الطّاهرة المؤرّخ سنة 1261 هـجريّة قمريّة بأنّها كانت معتقدة منذ بداية الظّهور باستقلال الأمر الجديد وكانت تعتبر حضرة الباب ظهور رسول إلهي مستقلّ وصاحب آيات إلهيّة. تكتب في مقطع من المكتوب المذكور بخصوص حضرة الباب: “إنّ حجّة وبيّنة حضرته… لهو التّفسير المبارك والصّحيفة المكنونة… وما كان لرسول أن يأتي بآية إلّا بإذن الله”. في موضع آخر من المكتوب كتبت: “سبحان الله هل كان لمنكري رسول الله كلام غير هذا بأنّه جاء ببيان جديد لا يتّفق مع قواعدنا”(18).
ولكن عامّة البابيّين وحتّى مجموعة من العلماء من الأصحاب، لم يدركوا ماهيّة الأمر قبل مؤتمر بدشت، رغم أنّ حضرة الباب صرّح في البيان الفارسي والدّلائل السبعة عن استقلال ظهوره المبارك. قد يكون السبب الأصلي أنّ آثاره المذكورة لم تكن منتشرة بقدر كاف. على أيّة حال فمن أجل إعداد هذه المجموعة من الأصحاب كيّ يقبلوا استقلال الظّهور الجديد كان الأمر يتطلّب المسايرة والمراعاة مدّة ثلاث سنوات واتّخاذ التّدابير الحكيمة. لذا على إثر المكاتبات المستمرّة بين حضرة بهاء الله وحضرة الباب، تقرّر ذهاب الأصحاب إلى خراسان وإتمام هذه المهمّة في تلك الدّيار، ولقد أوجد مؤتمر بدشت هذه الفرصة العظيمة.
كانت بدشت(19) مصيف الأشراف، وهي قرية صغيرة وجميلة في سهل بدشت توجد على مسافات قصيرة بين قرية ملّا ومناطق شاهرود وبسطام. كانت قرية ملّا من ممتلكات عبد الرّحمن جامي الشّاعر والعارف المشهور في القرن التّاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي). في الأيّام الماضية كان المسافرون من طهران إلى خراسان عندما يصلون إلى قرية ملّا يستريحون فترة في بدشت. لذا يشاهد فيها آثار حطام محطة القوافل والصهاريج القديمة (خاصة شاه عبّاسي). كانت بدشت سابقًا جزءًا من بسطام ولكن اليوم هي جزء من قرية استاق من توابع شاهرود. محاصيلها الأساسيّة هي الغلال، والقطن وأنواع الفواكه. تحدّ هذه القرية من الشمال جبال بسطام وسفح كلاته، ومن الغرب بستان زندان وشاهرود، ومن الجنوب قرية سعيدآباد ومن الشّرق خيرآباد. تبعد عن شاهرود حوالي سبع كيلو مترات وعدد سكّانها أقلّ من ألف شخص(20).
لم يكن غالبية أصحاب حضرة الباب المشاركين في مؤتمر بدشت، ميسوري الحال(21)، أو أصحاب قدرة وسلطة وكان عددهم علاوة على الجمال الأبهى وجناب القدّوس وجناب الطّاهرة واحدًا وثمانين(22). وكانت جناب الطّاهرة هي السّيّدة الوحيدة الحاضرة في مؤتمر بدشت(23). يبدو من القرائن أنّ خادمة الطّاهرة كانت أيضًا موجودة في بدشت(24)، أو كانت تسكن في حول تلك المنطقة، على كلّ حال لم تحسب ضمن أصحاب بدشت. أمّا أسماء بعض المشاهير الّذين حضروا مؤتمر بدشت بالإضافة إلى الجمال الأبهى وجناب القدّوس وجناب الطّاهرة، فهم كالآتي:
ملّا محمّد باقر التبريزي (من حروف الحي)، ملّا حسين دخيل مراغة، ملّا أحمد إبدال مراغة، الشيخ أبو تراب الاشتهاردي، ملّا محمّد معلّم النّوري، الحاجّ محمّد نصير القزويني، الميرزا سليمان قلي النّوري، الحاجّ ملّا إسماعيل القمي، ملّا محمّد عليّ القزويني، الميرزا هادي النّهري، الميرزا محمّد عليّ النّهري، آقا محمّد باقر نقش (ابن الميرزا محمّد عليّ النّهري والبالغ أربعة عشر عامًا) سّيّد عبد الرّحيم الإصفهاني، آقا محمّد هادي الفرهادي، آقا سّيّد أحمد اليزدي، السّيّد محمّد عليّ اليزدي (ابن السّيّد أحمد المذكور والبالغ عمره أحد عشر عامًا)، رضا خان تركمان، الملّا عبد الخالق الاصفهاني، الميرزا عبد الله الإصفهاني، الميرزا عبد الله الشّيرازي (ميرزا صالح)، آقا محمّد حناساب، آقا محمّد قاسم عبادوز الإصفهاني، آقا محمّد تقيّ بيد الآبادي، محمّد حسن القزويني (الفتى القزويني) ملّا أحمد علاقة بند الإصفهاني، آقا أبو القاسم الإصفهاني، آقا محمّد مهدي الأردستاني، والميرزا جواد جولا الأردستاني(25). بعض المؤرّخين ذكروا بأنّ جناب باب الباب كان حاضرًا أيضًا في بدشت. منهم مؤلّف كتاب الكواكب الدّرّيّة يصرّح في المجلّد الأوّل من الكتاب المذكور تحت عنوان قضيّة بدشت في موضعين (ص 127 و131) ما يلي: “… عندما توجّه الأصحاب من طهران نحو خراسان، كانت تسير مجموعة برئاسة جناب القدّوس وباب الباب في المقدّمة ومجموعة أخرى برئاسة بهاء الله وقرّة العين من الخلف. عبروا السّهول إلى أن وصلوا بدشت”. (ص 127)
ويكتب جناب سمندر في تاريخه أيضًا: على أيّة حال، كان أصل الموضوع شرح أحوال جناب الطّاهرة التي وصلت إلى هنا، وبعد ذلك سافرت في ركاب الجمال المبارك بطريقة – لا أعرف كيفيّتها – وتشرّفت في بدشت بحضور حضرة بهاء الله مع جناب القدّوس وجناب باب الباب وبعض الأصحاب. (ص 367).
ونجد في تاريخ نيقولاس (التّرجمة الفارسيّة ص 305) بأنّ باب الباب كان حاضرًا في بدشت.
حضور جناب باب الباب في بدشت لم يؤيّد في الآثار المباركة لحضرة عبد البهاء وحضرة وليّ أمر الله والتّواريخ المستندة الأمريّة، مثل تاريخ نبيل الزرندي. يجب أن نتذكّر بأنّ جناب ملّا حسين كان في الطريق بين خراسان ومازندران في أيّام انعقاد مؤتمر بدشت(26).
ذكر أيضًا مؤلّف الكواكب الدّرّيّة أنّه من المحتمل أنّ جناب وحيد كان من ضمن المشاركين في بدشت (المجلّد الأوّل، ص 201) والّذي لا أساس له من الصحة. جوبينو الفرنسي، ذكر علاوة على ملّا حسين البشروئي، حضور الميرزا يحيى أزل أيضًا في بدشت(27). ولكن لا نجد في الآثار المباركة والتّواريخ الأمريّة ذكرًا عن هذا الموضوع. من البديهي أن يكون قد حضر مؤتمر بدشت علاوة على النّفوس المذكورة أعلاه مجموعة أخرى من الأصحاب في آذربايجان، إصفهان (بالأخصّ أردستان)، وأيضًا من مناطق أخرى في إيران، لأنّ تحرّك عشرات النّفوس الّذين كانوا في قلعة طبرسي (من ديارهم) كان بقصد التّوجّه إلى خراسان وليس المشاركة في أحداث طبرسي، وكمثال لذلك توجّه أحبّاء أردستان إلى خراسان من تلك القصبة. ومن المستندات الموجودة يتّضح أنّ أخوال الإخوة ندّاف حضروا في بدشت، ومن المحتمل أنّ الميرزا حيدر عليّ الأردستاني، وأخاه الميرزا محمّد، الميرزا محمّد حسني الأردستاني، والميرزا عليّ محمّد الأردستاني (ابن الميرزا محمّد سعيد فدا)، أيضًا حضروا في ذلك الاحتفال. على أيّة حال ترجع وجهة النّظر الأدقّ إلى المحقّقين في المستقبل.
يستفاد ممّا كتبه نبيل الزرندي في تاريخه أنّ الأصحاب كانوا على علم من اليّوم الأوّل عن ورود جناب القدّوس إلى بدشت(28)، ولكن يستنبط من بيان حضرة عبد البهاء في كتاب تذكرة الوفاء أنّ جناب القدّوس كان يسكن في الحديقة الخاصة به بشكل مخفيّ. قوله الأعلى: “نزل جناب القدّوس خفية في بستان”.
بالنّظر إلى القرائن والإشارات الموجودة. يحتمل أنّ جناب القدّوس كان يقيم في الحديقة بعيدًا عن عيون أعدائه الّذين يعيشون في مازندران وأطراف بدشت، وكان الأصحاب يذهبون للاستفادة من محضره في الحديقة الخاصّة به. كما أسلفنا الذّكر، أمر حضرة الباب، الأصحاب أن يتوجّهوا ناحية خراسان. من المحتمل بعد عودة جناب القدّوس من مشهد واطّلاع الأصحاب على أوضاع خراسان غير الحسنة، وجدوا من الأفضل أن يجتمعوا على حدود مازندران وخراسان أي سهل بدشت.
بقي حضرة بهاء الله مدّة 22 يومًا في بدشت(29)، فوجب أن تحسب المدّة الرّسميّة لانعقاد مؤتمر بدشت اثنين وعشرين يومًا. جناب فاضل مازندراني يذكر في المجلّد الثّالث من كتاب ظهور الحقّ (ص 111) وينقل قول جناب نبيل الزرندي، بأنّ إقامة الجمال الأبهى في بدشت كانت 22 يومًا. ولكن في موضع آخر في نفس المجلّد الثّالث (ص 109) يذكر مدّة اجتماع الأصحاب في بدشت عشرة أيّام، والمذكور لم يأت بسند في هذا الخصوص.
انعقد مؤتمر بدشت خلال شهريّ حزيران وتموز (يونيو ويوليو) سنة 1848 (أواخر رجب حتّى أواسط شعبان سنة 1264 هـجريّة قمريّة)، في الوقت الّذي كان حضرة الباب مسجونًا في قلعة چهريق، وكان جناب باب الباب في مشهد ومن ثمّ في طريقه بين مشهد ومازندران. تحمّل الجمال الأبهى شخصيًّا كافّة مصاريف الاجتماع وإقامة الأصحاب في بدشت، واستضاف جميع الأصحاب وعددهم أكثر من ثمانين شخصًا، واستأجر ثلاثة بساتين تحيط بها المياه الجاريّة(30). طبقًا لبيان حضرة عبد البهاء بأنّ تلك البساتين كانت “غبطة الجنان”(31).
خصّص حضرة بهاء الله بستانًا منها لجناب القدّوس وآخر لجناب الطّاهرة، وفي البستان الثالث أقام الهيكل المبارك الجمال الأبهى في خيمة. أمّا الأحبّاء، فقد نصبوا خيامهم في البستان الواقع في وسط الميدان(32). وبأمر من حضرة بهاء الله كان آقا محمّد هادي الفرهادي يشرف على بستان جناب الطّاهرة، ويشرف الحاجّ نصير القزويني على بستان الجمال الأبهى.
صرّح حضرة عبد البهاء في كتاب تذكرة الوفاء، بأنّ جناب القدّوس وجناب الطّاهرة كانا يتشرّفان أثناء اللّيل بملاقاة الجمال المبارك في بدشت. ولم تكن إلى ذلك الحين، قد أعلنت قائميّة حضرة الباب فقرّر الجمال المبارك هو وجناب القدّوس إعلان الظّهور الكلّي وفسخ الشّرائع الموجودة ونسخها (ص 227). من المؤكّد أنّه كان هناك تفاهم كامل في المناقشات وكانت الطّاهرة مشتركة أيضًا. ولكن التّصميم النّهائي كان بيد الجمال الأبهى. يستنتج من محتوى كتب التّاريخ (البهائيّة وغير البهائيّة) أنّ تدابير جناب الطّاهرة كانت مؤيّدة من قبل حضرة بهاء الله وجناب القدّوس.
ما كتبه نيقولاس الفرنسي في هذا الخصوص – ولو أنّه غير مستند، ولكن بصورة عامّة – له نوع من الحقيقة. فحسب قوله، تمّ قبول اقتراح الطّاهرة لإعلان استقلال الدّين البابي للأصحاب المجتمعين في بدشت وكان الاقتراح كالتّالي: لو اعترض جميع الأصحاب على الطّاهرة بعد كشفها الحجاب، على أنّها أخطأت، فإن ارتداد المرأة في الإسلام لا يستوجب قتلها، “بلّ يجب تعقيلها وتعليمها وتفهيمها خطأها وإرجاعها عن خطأها وعودتها إلى الإسلام…. ولو أصرّت على خطأها… حينها تستوجب القتل”، أي أنه عليها أن تتوب من أقوالها وترجع إلى لإسلام. ثمّ يكتب نيقولاس بالتّفصيل أنّ الطّاهرة توفّقت بمساعدة القدّوس على إعلان استقلال الدّين البابي ولم تكن بحاجة إلى التّوبة.
يكتب نيقولاس، قام القدوس بطريقة غير مباشرة بتشجيع البابيّين غير الراضين عن أقوال جناب الطّاهرة وكشفها لحجابها على أن يوافقوا بأن يقوموا بالمناقشة والمناظرة معها، لأنّ جناب القدّوس تظاهر بأنّه لا يتّفق مع أفعال جناب الطّاهرة وعقائدها المبنيّة على نسخ شريعة الإسلام، وبأنّه واثق في غلبته عليها باستدلاله. في النّهاية يكتب نيقولاس أنّ جناب الطّاهرة قامت بالمناظرة مع جناب القدّوس بحضور الأصحاب وفي ختام المجلس أيّد جناب القدّوس صحّة رأيّ جناب الطّاهرة وأعلن بأعلى صوته أنّ ما تقوله جناب الطّاهرة حقّ وما فعلته صحيح. قضى الأصحاب عدّة أيّام في الفرح والسّرور وباركوا لبعضهم البعض ومن ثمّ انتهى مؤتمر بدشت(33). ما كتبه نيقولاس بهذا الخصوص يبدو ظاهريًا أنّه مأخوذ من آراء أياديّ أمر الله جناب الميرزا حسن أديب العلماء الطالقاني. يصرّح نيقولاس في كتابه “سّيّد عليّ محمّد الباب” (ص 43 التّرجمة الفارسيّة) بأنّه استفاد من البيانات الشّفاهيّة لجناب أديب في تأليف كتابه.
يكتب جناب أديب العلماء في رسالة كتبها بطلب من جناب سمندر في شرح أحوال جناب الطّاهرة: “سمع من بعض الموثوق بروايتهم بأنّ في الرّحلة الّتي قامت بها جناب الطّاهرة مع جمال القدم إلى مازندران، كانت في وقت صدر الأمر بأن يتحرّك كلّ من يستطيع من البابيّين نحو خراسان ويلحقوا بجناب باب الباب (أوّل من آمن). تحرّك جناب القدّوس من مشهد إلى مازندران، ثمّ جمال القدم والطّاهرة مع جمع آخر، والتقوا في بدشت مع القدّوس والأصحاب. كانوا يسعون ليل نهار في ترّقي أفهام وعرفان الأحباء، وفي جعلهم ثابتين على طريق الهداية بالمواعظ الحسنة. كما صدر في تلك الأيّام حكم تجديد الأحكام. لأنّهم كانوا أناسًا متمسّكين بشدّة بالقوانين الشّرعيّة ولم يتخطّوها أبدًا، لذا كان من الصعب على هؤلاء القوم أن يغيّروا الأحكام أو يحرّموا أحكامًا كانوا يعتبرونها حلالًا لسنوات أو العكس. وكان من المتصوّر أنّه لو تمّ الإفصاح، فسيتزلزل الغالبيّة منهم. لذا أشارت جناب الطّاهرة لجناب القدّوس وحضرة بهاء الله، بأنّ تنفيذ هذا الأمر سهلًا يسيرًا بالنّسبة لها، لأنّ في شرع الإسلام لو قالت امرأة كلمة كفر ثمّ تابت، تقبل توبتها، على عكس الرّجل حيث لا تقبل توبته. لذا ستظهر هذا الحكم علنًا، فلو حصل خلاف واعتراض ولم يتمكنوا من حلّه بأيّة طريقة، حينها تتوب عن أقوالها وترجع إلى الحالة السّابقة إلى أن يزداد استعداد النّفوس. لذا عندما كان الأصحاب مجتمعين وقت موعظتها وتعليماتها، قالت: “اعلموا جميعًا بأنّ الشّريعة السّابقة نسخت ويجب علينا جميعًا أن نعمل حسب الشّريعة الجديدة”. دبّ الخلاف فجأة بين الأصحاب. صدّق البعض منهم فورًا، بينما قال البعض الآخر: “لن نترك شريعة رسول الله أبدًا”، واشتكوا لدى جناب القدّوس. فقام بتهدئتهم بأن قال: “لا نظن أنّ جناب الطّاهرة لديها مثل هذا الاعتقاد، ولو كانت فعلًا قالت شيئًا كهذا، فإنّها لا تقول كلامًا بدون دليل أو مصدر، لذا وجب التّحقّق من الواقعة”. اشتدّت المناقشات بين الأصحاب، إلى أن تقرر في النّهاية تشكيل مجلس بحضور الرّؤساء. تحدّث جناب القدّوس مع قرّة العين في تلك المسألة، بأنّها لو تمكّنت من تقديم الدّليل فبها، وإلّا تتوب عن أقوالها. تمّت المناقشة مع الجماعة والكلّ استمع إلى أن أثبتت قرة العين بالأدلّة السّاطعة والبراهين القاطعة بأنّ هذا الشّرع ناسخ للشّرائع السّابقة وأنّ هذا شرع جديد وأمر بديع. فصدّق الكلّ واعترفوا بحسن رأيّها وإصابة خاطرها وإحاطتها العلميّة، وأكملوا اجتماعهم بكامل الشّوق والمحبّة والمودّة وجلسوا مع بعض إخوانًا على سررّ متقابلين، وكان يحثّ بعضهم بعضًا في الانقطاع عمّا سوى الله وتقديم الطّاعة والانقياد لأوامر الله ويتسابقون في مقام الطّاعة(34).
بادر جوبينو الفرنسي في تاريخه المعروف عن “مذاهب وفلسفة آسيا الوسطى” بالرّدّ على الكلام الواهي للسان الملك سپهر مؤلّف تاريخ القاجاريّة المعروف (بناسخ التّواريخ)، وكتب عن دور الطّاهرة في مؤتمر بدشت كالآتي: “حكى لي لسان الملك المؤرّخ المسلم الّذي أعدّ لي شرحًا لقسم من الوقائع بخصوص الجماعة الّتي كانت بصحبة السّيّدة التي كانت ذات حماس وشوق، عرض بعض الأمور بصورة مازحة وكان يصرّ على أنّ ما يقوله صحيح. حيث أنّه كان يعتقد بأنّ الدّين البابي وشرائعه غير الصّائبة، لا يمكنه جذب أيّ فرد مهما كان، وركّز على إظهار أتباع هذه السّيّدة بأنّهم أصحاب لهو، وكانوا عشاق قرّة العين دون أن يكونوا مؤمنين بعقائدها. ولكن بالتأكيد لم يصدّق أحد أقواله أو يؤيّدها، لأنّه لو كان الأمر كذلك، كيف كان من الممكن أن تجتمع كلّ هذه الجموع في حالة من الألفة والاتحاد تحت لواء واحد! لو كان الأمر كذلك لكان دبّ فيما بينهم النّفاق والفرقة. ولكن لا يوجد أي دلائل على حدوث شقاق ونفاق بين هذه المجموعة…
على أيّة حال اجتمعت هذه المجموعة في قريّة بدشت. أقام البعض في منازل المزارعين ومنهم بقوا في الحدائق، ولم يخرجوا تمامًا عن ولاية خراسان لأنّ بسطام كانت على حدود خراسان بمسافة فرسخ ونصف. على كلّ حال وجدت قرّة العين أنّه من اللّازم قبل أيّ عمل أن تحرّك وتثير الهمم والاشتعال التّام بين المؤمنين المجتمعين بخطاباتها وبياناتها… كان المستمعون ينتظرون بكلّ شوق وسرور وشغف وحماس، مواعظ وخطابات جناب الطّاهرة وأعدّوا أنفسهم لتقبّل أيّ نوع من التّضحية والفداء والإخلاص. الخلاصة أنّ هذه السّيّدة الشّابّة بدأت بالخطابة، ومن أجل لفت أنظار المستمعين للحقيقة الكبرى، بادرت بمقدّمة ثمّ استمرّت قائلة: “لقد حان الوقت أن يعمّ دين الباب كلّ الكرة الأرضيّة، وأن تكون العبادات وطرز عبادة الله الواحد طبقًا لأصول الدّين الجديد، وأن يتمّ بروح خالصة وطرح مقبول جديد. يجب أن تعلموا أنّ ضياءً جديدًا قد سطع ووجدت قوانين جديدة، وكتاب جديد قد حلّ مكان الكتاب القديم، ومن المسلّم به أنّ أمرًا عظيمًا كهذا لن يتحقّق سوى بأن يقوم الجيل الحاضر لترويجه بتحمّل المتاعب والمشاقّ والصّعاب، وهمّ مأمورون بذلك، وأن يقدّموا تضحيات كثيرة في هذا السّبيل. حتّى النّساء يجب عليهن مشاركة أزواجهن وإخوانهن في مساعيهم وأن يتحمّلن المخاطر والمشقّات. لقد ولّت تلك الأيّام الّتي تحبس فيها النّساء بالإجبار داخل البيوت ويقضين أعمارهن كسجناء ويرتزقن من أجرة الرّجال. الآن يجب أن يتركوا تلك القواعد والتّقاليد ويتخلّصوا من الانزواء ويتمسّكوا بأداء الوظائف الإنسانيّة. يجب على النّساء أنّ يتخلّصن من الضّعف والمسكنة الّتي تنسب إليهن منذ الولادة، وبالأخصّ من الخوف الّذي ترسّخ بمرور الزّمان في أرواحهن وأصبح وكأنّه شيء طبيعيّ، يجب أن يعتبروا أنفسهن إنسانًا بتمام المعنى ويسلكن مراحل الحياة جنبًا إلى جنب مع الرّجال ويساعدنهم في الأعمال…
لا أريد أن أدخل في التّفاصيل الدّقيقة لخطابة قرّة العين، بلّ أريد أن ألفت نظركم إلى مفهومها وبأنّ خطاباتها كانت في غاية الفصاحة والبلاغة… رغم أنّ علمها وفضلها كان أظهر من الشّمس، ولكنّها كانت تتحدّث دائمًا ببساطة ودون مجاملات وفي نفس الوقت كان حديثها مؤثرًا بحيث كان يحرّك أعماق أرواح المستمعين، وغالبًا ما كان يجري سيل الدّموع من العيون من شدّة التّأثّر”. (التّرجمة الفارسيّة، ص 54–151)
رغم أنّنا لا نستطيع القول أنّ جوبينو نقل بيانات جناب الطّاهرة بالضّبط كما كانت في بدشت، ولكن من المسلّم به أنّ من ناحية ما كتبه جوبينو عن البيانات المنسوبة لها والّتي تعبّر عن جوهر خطاباتها ومراسلاتها وأصول معتقداتها. كان من هذه النّاحية، جدير بالتّقدير.
بعد أن نقلنا آراء أيادي أمر الله جناب أديب الطالقاني وأجزاء من تاريخ نيقولاس وتاريخ جوبينو، من المجدي أن نستند أيضًا إلى أقوال المؤرّخين في إيران من الّذين عاصروا جناب الطّاهرة، إلّا أنّ كتاباتهم مليئة بالاتّهامات الظالمة وممزوجة بنوع من الوقاحة والذّمّ بحيث يكون نقلها مخالفًا لشؤون الأدب. على أيّة حال، لقد اعترفوا خلال تأريخهم ببعض الحقائق المسلّمة من بينها غاية فضل وكمال وجمال جناب الطّاهرة الّذي لا مثيل له. وقد أوردنا سابقًا بعض آراء هؤلاء في هذا الخصوص. ننقل هنا فقرة واحدة ممّا كتبه الميرزا تقيّ خان سپهر الكاشاني المتعلّق بمؤتمر بدشت.
يكتب سپهر في تاريخ القاجاريّة المعروف بـ ”ناسخ التّواريخ” المجلّد الثّالث، بخصوص سفر الطّاهرة إلى خراسان ومشاركتها في مؤتمر بدشت الآتي: “… أسرعت صوب خراسان وأقامت في منزل ببدشت يبعد عن بسطام بفرسخ، والتقت بحاجّي محمّد عليّ الّذي وصل من خراسان أيضًا، وتحاورا في عدّة مجالس بعد أن أخلوها من الغرباء وتشاورا بخصوص ترويج دين حضرة عليّ محمّد الباب، وفي النّهاية اتخذا مشهدًا وصعدت قرّة العين على المنبر المنصوب في المجلس دون ستار، وأزالت البرقع وأظهرت وجهها النّوراني المضئ للرّجال وقالت… حينما يحيط دين حضرة الميرزا عليّ محمّد الباب الأقاليم السّبعة ويوحّد هذه الأديان المختلفة سيأتي بشريعة جديدة وسيضع قرآنه وديعة بين الأمّة، ولو يأتي بأيّ تكليف جديد سيكون واجبًا على الخلق….” (ص 39–238)
كما أبدى دكتور مهدي خان زعيم الدّولة أيضًا بمثل هذه الآراء في كتاب “مفتاح باب الأبواب” (81–180 التّرجمة الفارسيّة).
حان الوقت الآن أن نتحقّق من أحداث مؤتمر بدشت استنادًا للنّصوص المباركة وتاريخ نبيل الزرندي الموثوق والتّواريخ البهائيّة الأخرى. ينقل جناب فاضل المازندراني عن ملّا أحمد علاقة بند الأصفهاني، بأنّه قال عدّة مرات أنّ: “في أيّام بدشت، كان جناب القدّوس يفرش السّجّادة ويؤدي الصّلاة في غاية الرّوحانيّة، وتظهر جناب الطّاهرة فجأة وتخاطبه بفصاحة وشجاعة واقتدار خاصّ بها وتقول: “اطو هذا البساط، فقد انتهت دورة الأوراد والسّجّادة ويجب الاستعداد لميدان العشق والفداء”.
وينقل ملّا أحمد أيضًا: “إنّ في خضّم الاختلافات الشّديدة الظّاهرة، في أيّ وقت كانت جناب الطّاهرة تخاطب جناب القدّوس، كان يجيبها بعبارة “لبّيك” وأمثال ذلك. كما نقل ملّا أحمد، أنّ جناب الطّاهرة كانت تلبس في أيّام بدشت أحيانًا معطف من الحرير المطرز الّذي قدّمه لها الجمال الأقدس الأبهى(35).
يكتب جناب فاضل المازندراني أيضًا عن الرّوابط الظّاهريّة لجناب القدّوس وجناب الطّاهرة في بدشت: “اتّبع عدد من الأصحاب جناب الطّاهرة، وأصحاب آخرون كثيرون اتّبعوا جناب القدّوس. وفي الظّاهر بلغت المناظرة حدّتها بين الطّرفين، ولكن بعد انقضاء عدّة أيّام انتهت إلى الألفة وحسن الختام”(36).
طبقًا للشّرح الّذي سوف نورده، لم يكن في الحقيقة هناك خلافًا بين جناب القدّوس وجناب الطّاهرة، ولكن بناءً على مصالح وحكمة خاصّة فقد بدى الأمر كذلك. ما هو مسلّم به أنّ جناب الطّاهرة خطبت في الأصحاب عدّة مرّات(37). لقد رفعت الطّاهرة في بدشت أوج جذبات الشّوق بالنّداء العرفاني: “إنّي أنا الله” إلى عنان السّماء”(38). وذلك طبقًا لشهادة حضرة عبد البهاء. إنّ ارتفاع هذا النّداء استنادًا للنّصوص المباركة للطّلعات المقدّسة البهائيّة هو أوج المحويّة والفناء في الله.
كان في كلّ يوم في بدشت، ينزل لوحًا أو عدّة ألواح من قلم الجمال الأبهى، وتتلى في جمع الأصحاب بواسطة الميرزا سليمان قلي نوري الملقّب بخطيب الرّحمن(39). في تلك الألواح، كان أغلب الأصحاب يتصوّرون إنّها صادرة من حضرة الباب. لقد خلع الجمال الأبهى على الأصحاب الحاضرين في مؤتمر بدشت ألقابًا جديدة ومن بينهم نفس هيكله المبارك(40). السّيّدة أمّ سلمة الّتي اشتهرت حتّى ذلك الوقت بقرّة العين، لقّبت بـ ”الطّاهرة”، ومن بعد ذلك كانت تكنى بهذا اللّقب(41). ولقّب جناب حاجّ ملّا محمّد عليّ البارفروشي، بـ ”القدّوس”، والهيكل المبارك فقد تلقب بـ ”البهاء”(42). ونزلت التّواقيع من حضرة الباب خطابًا لتلك النّفوس المباركة بعد واقعة إعطاء تلك الألقاب الجديدة وكانت معنونة بنفس تلك
الألقاب البديعة(43).
كانت رئاسة مؤتمر بدشت، تحت قيادة الجمال الأبهى، وكان الأصحاب يقضون النّهار في الاستماع لبيانات الجمال الأبهى، وجناب القدّوس، وجناب الطّاهرة، والبابيّين ذوي الاطلاع، وفي اللّيالي كان الجمال الأبهى وجناب القدّوس وجناب الطّاهرة يلتقون ويتباحثون لاتّخاذ تدابير إعلان استقلال الظّهور البديع. في النّهاية تقرر في تلك اللّقاءات أن يتمّ إعلان استقلال ظهور حضرة الباب ونسخ شريعة الإسلام صراحة في جمع الأصحاب(44). تحقّق هذا الهدف بإبداع وإدارة وهداية الجمال الأبهى(45)، وابتكار وطريقة وأسلوب جناب الطّاهرة الثّوري عن طريق كشف الحجاب(46)، وبمساعدة جناب القدّوس(47).
كانت جناب الطّاهرة مكلّفة بتنفيذ الأمر بطريقة ثورية جسورة، وجناب القدّوس كمندوب متحفّظ عن الأصحاب مكلّف أن يقوم ظاهريًّا بتعديل النّظريات الإفراطيّة لجناب الطّاهرة وبعض البابيّين الآخرين(48). وكان حضرة بهاء الله على ما يبدو متّخذًا خطّة الحياد في المناظرات والمباحثات ما بين الطّاهرة والقدوس في جمع الأصحاب رغم أنّه كان المبدع لتلك الخطّة(49).
ففي ذات يوم ألمّت بحضرة بهاء الله وعكة ألزمته الفراش(50)، وكان جناب القدّوس جالسًا بجانب حضرته. وبالتّدريج حضر باقي الأصحاب في محضر الجمال الأبهى(51). وما كادوا يجتمعون حوله حتّى دخل فجأة محمّد حسن القزويني رسول جناب الطّاهرة وهو الّذي تسمّى حديثًا بالفتى القزويني، وأعلم جناب القدّوس بدعوة ملحّة منها ليقوم بزيارتها في الحديقة الخاصّة بها. فأجابه بجرأة وحزم: “إنّي قطعت نفسي عنها بالكامل وأرفض أن أقابلها. “فاستأذن الرّسول بالانصراف فورًا، ثمّ عاد ثانيًا وأعاد الرّسالة وتضرّع إليه أن يلبي نداءها المستعجل وقال: “إنّها مصمّمة على الزّيارة وإذا كنت تصمّم على الرّفض فإنّها لا بدّ آتية إليك”، ولمّا شاهد امتناعه عن القبول، استل الرّسول سيفه ووضعه عند قدميّ جناب القدّوس وقال: “إنّي لا أرضى أن أذهب بغيرك، فاختر أحد أمرين، إمّا أن تصطحبني إليها أو تقطع رأسي بهذا السّيف”. فأجاب القدّوس غاضبًا: “إنّي أعربت عن نيّتي بعدم زيارتها وسأنفّذ لك غرضك الآخر الّذي اقترحته عليّ”. وبينما كان محمّد حسن القزويني راكعًا أمام جناب القدّوس قرب قدميه ورقبته ممدودة لتنفيذ الضّربة، وإذ بالطّاهرة حضرت فجأة مزيّنة دون حجاب أمام أعين الأصحاب المجتمعين(52). فاكتسحت أرواحهم مشاعر الرّعب والغضب والحيرة وشلّت تفكيرهم(53). وقع الكلّ في حيرة وارتباك(54)، فجلست جناب الطّاهرة بجانب جناب القدّوس غير هيّابة من حال الأصحاب.
في أيّام بدشت حسب الظاهر (طبقا لأدلة سنوردها لاحقًا) أن جناب الطّاهرة قالت مرارًا “إني اعتبر القدوس تلميذي. وحضرة الباب أرسله إليّ ليتعلّم.” حين جلوسها، خاطبت جناب القدوس أيضًا ولامته “لماذا فعلت ذاك ولم تفعل ذلك” فأجابها: “إنّي حرّ أن أتّبع ما يمليه عليّ ضميري، ولست مقيّدًا بآراء وإرادة أصحابي”(55). خاطبت جناب الطاهرة الباقين من الاصحاب(56)، وألقت خطابها بصوت عال وفي غاية الفصاحة والبلاغة. قامت بتلاوة هذه الآية القرآنية والّتي كانت مناسبة لذلك المقام وأشارت إلى حضور المتّقين وهي تتلو “إنّ المتّقين في جنّات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر”(57)، وكانت أثناء تلاوة هذه الآية تنظر خلسة إلى حضرة بهاء الله وجناب القدّوس معًا، بحيث لا يقدر الحاضرون على تعيّين من منهما كانت تعني بهذا القول(58). عند ذلك صاحت قائلة: “إنّ هذه لنقرة النّاقور ونفخة الصّور”(59). وهي إشارة إلى ظهور القيامة وانقضاء دورة شريعة الإسلام.
إن حضور جناب الطاهرة – التي كانت تعد الرمز النبيل الناصع للعفة وتجسّد طهارة فاطمة الزهراء – فجأة أمام الأصحاب المجتمعين سافرة… هتكت ببيانها الناري الأستار المغلفة لقداسة التكاليف الإسلاميّة، ونفخت في صور الدورة الجديدة وأعلنت افتتاحها. وكان الأثر صاعقًا خاطفًا، لحظتها بدت لعين الناظرين الشّاعرين بالخزي والعار أنّها، وهي الطّاهرة النّاصعة المبجّلة بصورة تجعل مجرّد النّظر إلى ظلّها كبيرة لا تغتفر، قد جلبت العار على نفسها وأخزت الدّين الّذي اعتنقته(60).
بعد كشف الحجاب(61) وختام بيانات جناب الطّاهرة، فرّ جمع من الأصحاب الّذين كانوا مقيّدين بالتقاليد السّابقة والّذين كانوا يشكّلون أغلبيّة الحضور(62)، ومجموعة أخرى التجأوا في ذهولهم إلى حصن مهجور في جوار ذلك المكان، ومن الّذين تزلزلوا الأخوين النّهري.(63) وانصرف بعضهم بالكلّيّة، ودبّ في روع بعضهم عامل الشكّ والارتياب (64). اضّطرب ملّا عبد الخالق أصفهاني فجأة، وقام بشكل مخيف وجنوني بقطع حنجرته وسال الدّمّ منها، وفي تلك الأثناء ابتعد عن جناب الطّاهرة(65). عاد بعضهم إلى الحضور المبارك بعد التّردّد، ومنهم من ظلّ مبهوتًا مندهشًا غارقًا في صمته. والبعض أيضًا تذكّر الرّواية الإسلاميّة أنّ الفاطمة ستعبر الصّراط يوم القيامة دون حجاب(66).
أمّا جناب القدّوس الّذي أسكته الهياج والغضب، فقد بدا أنّه يتحيّن الفرصة ليضرب عنق جناب الطّاهرة بسيف كان يحمله في يده آنذاك. ولكنها نهضت ثابتة الجنان غير هيّابة ولا وجلة تتهلّل بشرًا وسعادة، وانطلقت ترتجل بيانًا بليغًا حارًا عجيبًا أشبه ما يكون ببيان القرآن وجّهته للبقيّة الباقية من المؤتمر وختمته بقولها الجريء: “إنّي أنا الكلمة الّتي ينطق بها القائم والّتي يفرّ منها نقباء الأرض ونجباؤها”.(67) ثمّ دعتهم إلى أن يحتضن كلّ واحد منهم أخاه ويحتفلوا بهذه المناسبة العظيمة (68). بعد ذلك، وبواسطة هداية وإرشاد الجمال الأبهى عاد الأصحاب الفارّين إلى المؤتمر. وأمرهم حضرة بهاء الله أن يقرأوا سورة الواقعة من القرآن الكريم.
يتفضّل حضرة عبد البهاء: “فتفضّل جمال القدم في ذلك الحين بقوله: “قرأوا سورة الواقعة”. فقرأها أحد القرّاء، ثمّ أعلنت الدّورة الجديدة وظهور القيامة الكبرى”(69).
يتفضّل حضرة وليّ أمر الله عن خطّة إعلان استقلال الظّهور الجديد في مؤتمر بدشت “A Pre-Conceived” أيّ (خطّة محكمة سبق تدبيرها)(70). فطبقًا لتصريح حضرته في أحد التّواقيع المباركة بأنّ إقدام جناب الطّاهرة على كشف الحجاب وإعلان استقلال الدّين البابي في بدشت كان مبنيًا بالاتّفاق الكامل مع جناب القدّوس والتّصويب المسبق من الجمال الأبهى. وأنّ ظهور جناب القدّوس غاضبًا وغير راض حسب الظّاهر كان لتهدئة غضب تلك المجموعة من الأصحاب في بدشت الّذين لم يكونوا متّفقين مع أسلوب جناب الطّاهرة الجريء. بعبارة أخرى أنّه لم يكن هناك اختلاف في الحقيقة بين أسلوب جناب الطّاهرة الثّوري وبين أسلوب جناب القدّوس (مضمون البيان المبارك)(71).
يجب ملاحظة أنّ الخطب الأولى الّتي صدرت من قلم جناب القدّوس في قلعة الشّيخ طبرسي حازت على أهميّة خاصّة. كانت الخطبة الأولى خاصّة بحضرة الباب، والثّانية بحضرة بهاء الله، والثّالثة بجناب الطّاهرة(72). نستنتج من إقدامات جناب القدّوس على مدى الرّوابط الإيمانيّة والعرفانيّة الّتي كانت تربطه بجناب الطّاهرة ومدى الخلوص والعشق الرّوحاني.
فقد كتب جناب سيّد مهدي الگلپايگاني عن هذه النّقطة وقد أدركها جيدًا في كتاب كشف الغطاء (ص 211) بأنّ إعلان استقلال شرع البيان، كان بالاتّفاق بين جناب القدّوس وجناب الطّاهرة. هذا ما قاله هذا العالم القدير: “إنّ حقيقة النّقاش المقبول وغير المقبول الّذي اشتهر بين الغريب والقريب في بدشت، أنّه حين وصول الأمر بإظهار قائميّة سيّد الأنام ونسخ شريعة دين الإسلام إلى مسمع جناب القدّوس وجناب الطّاهرة، فمن أجل إبلاغ هذا الخبر المدهش لباقي الأصحاب الّذين كانوا يعتبرون شخص الباب حتّى ذلك الوقت، بأنّه واسطة حجّة الغائب وعبد حضرة صاحب الزّمان، وأنّ تغيّير دين الفرقان أمر خارج عن حيّز الإمكان، وكانوا عاملين بآداب وأحكام الإسلام، وجدوا أنّ من المصلحة أن تعلن جناب الطّاهرة دعوى القائميّة وتجديد الشّريعة وأن يقوم جناب القدّوس بالإنكار والشكّ كيّ لا تضطّرب النّفوس الضّعيفة وتتشتّت. ونتيجة لهذا التّدبير، تمّ رفع التّوهّم والنّفور من قلوب أرباب الرّيب والشّبهة في النّهاية، وهدأت القلوب الخائفة من هيمنة نفخ الصّور، واتّفق الكلّ على قبول كلمة القائم ولزوم تجديد الشّريعة وابتعدوا عن الاختلاف والشّقاق”.
يكتب جناب سيّد مهدي في حاشية تلك الصّفحة: “إنّ سرّ تحديد شخص جناب الطّاهرة لإعلان القائميّة ونسخ الشّريعة، هو أنّ النّساء في قانون الإسلام في حال الكفر والارتداد يعفين من حكم القتل، ويقبل منهن أيضًا التّوبة والرّجوع”.
يصرّح دكتور عليّ الورديّ في كتاب لمحات اجتماعيّة، أنّ مؤتمر بدشت كان سببًا في إعلان الدّعوة البابيّة كدين جديد. حيث أنّه قبل مؤتمر بدشت كان أغلب النّاس يعتبرون البابيّة فرقة من المذهب الشّيخي. (المجلّد الثّاني، ص 179).
يكتب جناب نبيل زرندي في تاريخه، أنّ بعد واقعة كشف الحجاب، كان في كلّ يوم يكسر صنم من الأصنام ويحرق حجاب… وطرحت العبادات القديمة الّتي كان المتعبّدون المخلصون يتّبعون نظامها طرحًا أبديًا، وكسرت عادة وضع التّربة الّتي كانوا يضعونها للصّلاة حتّى ذلك اليوم واسموها صنمًا… انقسم الأصحاب في ذلك اليوم إلى ثلاث فئات، رأى البعض أنّ قول جناب الطّاهرة هو الفصل وأنّ طاعتها واجبة، وكان هناك آخرون ممن امتعضوا من تصرّفها مع جناب القدّوس، واعتبروه هو الممثل والنّائب عن حضرة الباب، ونظر فريق يؤيّد سلطة جناب القدّوس وجناب الطّاهرة معًا إلى الحادثة بأجمعها على أنّها امتحان إلهيّ لفصل الصّادقين من الكاذبين والمؤمنين عن الكافرين…
مرّت عدّة أيّام على هذا المنوال إلى أن أصلح الجمال الأبهى بينهم، ورأى من الصّالح أن تبقى جناب الطّاهرة معه، لأنّه شاع بين الأصحاب أنّ عيسى سينزل من السّماء في الجزيرة الخضراء، وقالوا سنذهب كيّ ننصر حضرته في قتل الدّجال، وأيقنوا أنّ الجزيرة الخضراء هي بدشت وأنّ حضرة عيسى هو حضرة البهاء الّذي ورد عليهم، على كلّ حال حصل المقصود من خرق الأحجاب وكسر العوائد والتّقاليد لحصول استعداد النّفوس من أجل الشّريعة الباقيّة لربّ الأرباب…(73).
كان الأصحاب البابيّون إلى حين مؤتمر بدشت معروفين لدى أهل الحقيقة بكثرة أداء النّوافل، وعند الصّلاة الإسلاميّة يضعون جبينهم على تربة وأنفهم على تربة أخرى، فبعد الاطّلاع على حقيقة نسخ شريعة الإسلام – كما ذكر نبيل زرندي –أبعدوا تلك الترب جانبًا، وبالتّدريج قاموا بتنفيذ أحكام العبادات في أمّ الكتاب للدّور البابي، كتاب البيان المبارك. ولكن مع الأسف لم يدرك بعضهم المفهوم الحقيقي من نسخ شريعة الإسلام وحادوا عن طريق الاعتدال.
يكتب نبيل الزرندي: “أراد بعض أتباع حضرة الباب أن يسيئوا استعمال الحرّيّة الّتي نتجت عن نسخ الشّرائع القديمة. وظنّوا أنّ في طرح جناب الطّاهرة للحجاب إشارةً منها للتّجاوز عن حدود الآداب وإشباع النّزوات الأنانيّة. وسبّب هذا التّعدي الواقع من تلك القلّة غضب المقتدر القدير وتسبّب في تفريقهم وتشتيتهم. ففي قرية نيالا امتحنوا امتحانًا شديدًا وأصيبوا بأضرار جسيمة على أيدي أعدائهم، وأطفأ هذا التّشتيت الشّرور الّتي حاول إشعالها ذلك النّفر القليل من غير المسئولين من بين أتباع أمر الله، وصان شرفه وسمعته في نقاء وصفاء”(74).
ويفهم من العبارات الإنجليزية أنّ بعض الأصحاب تجاوزوا عن حدود الاعتدال كيّ يرضوا رغباتهم الشّخصّية. سأنقل عبارات المتن الإنجليزي من كتاب مطالع الأنوار (Dawn Breakers) لأهمية الموضوع:
“They viewed the unprecedented action of Tahirih in discarding the veil as a signal to transgress the bounds of moderation and to gratify their selfish desires” (298)
أدرك جناب سيّد مهدي گلپايگاني جيّدًا، بأنّ الأصحاب في بدشت لم يرتكبوا أيّ فسق وعصيان. فيكتب في كتاب كشف الغطاء (ص 12–211): “بعد حصول الاطمئنان بظهور القائم المنتظر، هلّلوا وكبّروا مالك يوم النّشور متحدين بكلّ سرور، ووصل صياح يا بشرى يا بشرى إلى عنان السّماء، وبسبب هذا الصّياح والشّوق والشّغف الّذي كان أشبه بحال السّكارى والمجانين، ثار أهالي الأطراف عليهم وشتّتوا جمعهم، وكلّ ما أشاع معاندو أمر الله عن كسر الحدود، لم تكن سوى خرق الحجاب وترك الصّوم والصّلاة والعبادات الواردة في القرآن، وليس ارتكاب الفسق والعصيان والّذي هو ممنوع بحكم العقل والوجدان في كلّ كور ودور وقبيح ومنفور منه في الشّريعة الإنسانيّة”.
بعد اختتام مؤتمر بدشت عزم الجمع المحتشد على الرحيل إلى مازندران، رحل جناب القدّوس مع جناب الطّاهرة في هودج واحد أعدّه لسفرهما حضرة بهاء الله، وفي طريقهما كانت جناب الطّاهرة تنظم قصيدة وتدعو الأصحاب أن ينشدوها أثناء سيرهم خلف الهودج(1).
كانت الجبال والأودية تردّد أصوات وأناشيد ذلك الجمع المتحمّس أثناء سفرهم إيذاناً بمحوّ القديم وبعث اليوم الجديد. بعد عبورهم من شاه رود، وشاه كوه، وميانة سرّ، ودزوار، وصلوا إلى نيالا(2). ونظرًاً لطول الطريق نالهم التعب فنصبوا خيامهم عند سفح جبل كبير في نيالا واستراحوا ليلاً هناك. وعند الصباح في الفجر استيقظوا على صوت قذف الأحجار التي رشقهم بها ما يقرب من خمسمائة شخص من سكّان المنطقة المجاورة. وكانوا يرمونهم بها من أعلى الجبل، اشتد هجومه السكان الوحشي الذين أسرعوا لنهب أمتعة الأصحاب.
يحكي حضرة بهاء الله هذه القصة لنبيل زرندي كالآتي: “كنّا مجتمعين في بلدة نيالا ونزلنا للإستراحة عند سفح الجبل، وفي ساعة الفجر استيقظنا فجأة على صوت الأحجار التي رشقنا بها المجاورون، وكانوا يرموننا بها من أعلى الجبل. واشتد هجومهم علينا حتى التجأ أصحابنا إلى الهرب مرعوبين مذعورين. فألبست القدوس ملابسي وأرسلته إلى محل آمن وعزمت على اللحاق به، ولما وصلت إليه وجدته قد ارتحل عنه. ولم يبق أحد في نيالا سوى الطاهرة وشاب من شيراز يدعى الميرزا عبد الله. وكان عنف الهجوم الذي شن ضدنا قد أوقع الخراب في مخيمنا. ولم أجد أحدًا أسلّم له الطاهرة سوى ذلك الشاب الذي أظهر في تلك المناسبة بسالة وعزمًا مدهشين. وإذ أمسك بسيفه غير هيّاب ولا وجل من هجوم السكان الوحشي الذين أسرعوا لنهب أمتعتنا، اندفع قدمًا لمنعهم عن مقصدهم. ومع أنه جرح في مواضع كثيرة من جسمه، ولكن أبى إلا أن يخاطر بحياته لصيانة أموالنا رغم أني أمرته بالكف عن ذلك. فلما هدأ الاضطراب تقدمت إلى بعض سكان القرية وأقنعتهم بقسوة عملهم المخجل ونجحت في إعادة جزء من أموالنا المنهوبة.”(3)
حدثت واقعة نيالا في أواسط شعبان 1264 هجريّة قمريّة / أواسط أغسطس 1848 ميلاديّة. بعد انفضاض حادثة نيالا رحل حضرة بهاء الله مع جناب الطّاهرة وخادمتها إلى بلدة نور، وأثناء الطريق عيّن الشّيخ أبو تراب اشتهاردي لحراستها وتوجه حضرته إلى ميناء جزّ.
في تلك الأوقات رغبت جناب الطّاهرة أن تتوجّه إلى أذربيجان لتتشرّف بحضور حضرة الباب، ولكنّ الجمال الأبهى نبهّها لمخاطر هذا السّفر ولم يوافق(4). بعد ذلك أيضًا أرسلت رسالة إلى الجمال الأبهى تطلب الإذن أن تذهب إلى قلعة طبرسي بلباس الرجال، ولكنّه لم ير في ذلك صلاحًا(5).
وقع جناب القدّوس في هذه الأثناء في يدّ أعدائه وحبس في مدينة ساري موطن الميرزا محمّد تقيّ رئيس المجتهدين في البلدة. أمّا باقي رفاقه فتفرّقوا بعد حادثة نيالا في جميع الجهات وبعد ذلك التحق أغلبهم بالأصحاب في قلعة طبرسي(6).
وصلت جناب الطّاهرة مدينة بارفروش أوّلًا وهي في طريقها إلى نور. كانت أيّام رمضان ونزلت في منزل المجتهد الشهير جناب ملّا محمّد حمزة شريعتمدار الكبير. كان المذكور من تلاميذ الشّيخ أحمد الأحسائي البارزين، وقد استفاد أيضًا من علماء عصره الكبار. كان شريعتمدار محترمًا لدى الأصوليّين والإخباريّين، وأهالي بارفروش يميلون إليه ويحترمونه، وقد رويت عنه معجزات وكرامات كثيرة. كان هذا الفاضل الجليل يتحدّث أثناء الدعاء والمناجاة والتدريس بلغة بسيطة ولهجة مازندرانية. كان بيانه حلوًا ومبهجًا للقلب بحيث كان مسجد حاج كاظم بيك (محلّ وعظه وإمامته) يموج بالحشود الكثيرة. كان عند حديثه يضحك الحضور بشدّة، وكان يقول: لقد ولّى عهد البكاء وهذا عصر السّرور والضّحك.
كان شريعتمدار مؤمنًا قلبيًا بالأمر البديع واستفاض من محضر جناب القدّوس وجناب باب الباب كثيرًا بعد ظهور حضرة الباب. في أثناء اجتماع الأصحاب في قلعة طبرسي، ورغم أنّه كان في التسعين من عمره، إلّا إنّه عزم على أن يلتحق بالأصحاب في القلعة مع مجموعة من الأحبّاء، ولكنّه لم يتوفّق بسبب أنّ الأعداء سدّوا الطّرق الّتي تؤدي إلى القلعة، ولكنّه لم يأل جهدًا لمساعدة الأصحاب في القلعة بأيّة وسيلة. أرسل له جناب القدّوس بعضًا من آثاره (من ضمنها تفسير صاد الصمد) ليحتفظ بها، وبعد استشهاد أصحاب قلعة طبرسي، قرأ شريعتمدار الصّلاة على أجساد الشّهداء ودفنهم، وهو الّذي أمر أن يتم جمع قطع جسد جناب القدّوس الطّاهر وأن تدفن.
تزوّج في سن التّسعين من مريم شقيقة جناب القدّوس كي يكون حاميًا وحافظًا لها. في النّهاية صعد إلى الملكوت الأبهى في سن تجاوز المائة في 1281 هـجريّة قمريّة / 1864 ميلاديّة . بقي عدد من الآثار الهامّة من شريعتمدار لم يطبع أيّ منها، ولقد كتب شرحًا في خاتمة وملحق كتاب أسرار الشّهادة يدافع فيه عن الأمر البديع وأحوال حضرة الباب، وجناب القدّوس وجناب باب الباب(7).
على أيّة حال، فقد بدأت جناب الطّاهرة بالوعظ وحلّ المسائل الدّينية الصّعبة للعلماء وأهالي المدينة في مسجد حاج كاظم بيك وهو محل كبير لوعظ وتدريس جناب شريعتمدار. كانت تجلس في صفّ النّساء وتجيب على أسئلة الحضور من خلف السّتار إجابات قوية بليغة، حتى أنّها كانت تنتقد أحيانًا أقوال شريعتمدار وتبدي رأيًا بخصوصها. وكان شريعتمدار يجلّها ويردد دائمًا أنّه وأمثاله يجب أن يستفيضوا منها. لقد أصبح إجلال شريعتمدار لجناب الطّاهرة واشتياق النّاس لاسّتماع بياناتها سببًا في حسد سعيد العلماء المجتهد المعروف، فقام بالفتنة وكان سببًا في هياج النّاس ضدها، لذا اقترح شريعتمدار على جناب الطّاهرة أن تبقى عدّة أيّام بمنزل سادات القاضويّة من كبار أثرياء بارفروش، ثمّ توجّهت إلى آمل(8)، وبعد آمل توجّهت إلى سعادت آباد ومن هناك وصلت إلى دار كلا، حيث توقّفت لمدة يوم، ثمّ قصدت إلى قرية واز في قلب غابات مازندران. بقيت هناك لمدة أسبوعين، ثمّ ذهبت بصحبة الجمال الأبهى إلى تاكر وسكنت لفترة هناك. يكتب جناب فاضل مازندراني: أهدت خاتمها المنقوش عليه: “ربّ الطّاهرة أدركها” لإحدى نساء منطقة نور الّتي كانت بصحبتها(9).
استضاف جناب الميرزا محمّد حسن شقيق الجمال الأبهى، جناب الطّاهرة في تاكر، وقد هيّأ لها الوسائل كي يستفيد الأصحاب منها كامل الاستفادة(10). كان الجمال الأبهى أيضًا في تاكر في تلك الأيّام ثمّ عاد إلى طهران. يكتب جناب فاضل المازندراني، بعد اختتام إقامة جناب الطّاهرة في نور، عقدت عزمها على الذّهاب إلى قلعة طبرسي، ولكنّها وقعت أسيرة المأمورين والجواسيس الّذين أعدّوا كمينًا في أطراف القلعة. بعد القبض عليها أخذوها إلى طهران(11). ربما استند جناب فاضل المازندراني على بيان حضرة عبد البهاء في كتاب تذكرة الوفاء حين تفضّل قائلاً: “أما حضرة الطاهرة فقد ارتبكت واشتد قلقها في بدشت ووقعت فريسة النكبات. وأخيرا، ألقت الحكومة عليها القبض وأرسلتها إلى طهران وأنزلوها في بيت المدعو محمود خان كلانتر محافظ المدينة بصفة سجينة” (ص 228–229).
لا يجب أن نستنبط من بيان حضرة عبد البهاء أنّ جناب الطّاهرة ألقي القبض عليها فورًا بعد واقعة بدشت وأرسلت إلى طهران، لأنّ الشواهد والمستندات التاريخية تدلّ على أنّها قد ألقي القبض عليها بعد سنتين تقريباً من الواقعة المذكورة في مازندران وأرسلوها إلى طهران. كما أنّ ما كتبه البعض عن أنّ جناب الطّاهرة اشتركت في أحداث قلعة طبرسي(12) لا يتفق مع محتوى تاريخ نبيل زرندي وباقي المصادر الموثّقة البهائية.
لقد أشاروا أيضًا في المصادر الأزليّة إلى لقاءات جنابها مع يحيى أزل المتكرّرة في مازندران(13). ولكن لم تتيسّر لها الإقامة المطولة في تاكر لأنّ ضباط الميرزا تقيّ خان الأمير الكبير، كانوا بصدد البحث عنها في كلّ مكان للقبض عليها، ولذلك فقد رجعت إلى قرية واز في قلب الغابات كي تبقى آمنة.
يكتب جناب نبيل زرندي حبست جناب الطّاهرة في شهر ربيع الثّاني 1266 هـجريّة قمريّة، حوالي فبراير ومارس 1850 ميلاديّة في منزل محمود خان الكلانتر(14). وفي موضع آخر من تاريخه يصرّح بأنّها حبست في منزل محمود خان كلانتر في سنة واقعة شهداء طهران السّبعة(15).
استنادًا إلى تحقيق الباحث الفقيد جناب محمّد عليّ ملك خسروي، أنّ جناب الطّاهرة كانت في أواخر ربيع الثّاني 1266 هـجريّة قمريّة / مارس 1850 ميلاديّة في قرية واز.
بالقرب من القرية يوجد نهر يجري، بحيث يقطع الطّريق وعندما عبرته جناب الطاهرة، سمّي المكان باسم “طاهرة واز” ولازال معروفًا بذلك. “واز” هي قرية صغيرة من أرياف نائيج في إقليم نور وتبعد عن مدينة آمل أقلّ من ثلاثين كيلومتر. هي قرية بين الغابات هواءها معتدل ورطب، ولا زال طريق الوصول إليها عن طريق الدّواب. كان مالك قرية واز هو آقا نصرالله گيلرد الّذي حمي جناب الطّاهرة بكلّ محبّة، وكانت شهربانو بنت أخت آقا نصر الله مضيفة جناب الطّاهرة.
في الأيّام الّتي استشهد فيها شهداء طهران السّبعة، قرر الميرزا تقي خان رئيس الوزراء أن يعثر على الطّاهرة بأيّ ثمن ويقتلها. كما حكى المعمّرون في القرية، وبالأخصّ الكربلائي حبيب الله (العجوز البالغ من العمر مائة وثلاثين) لجناب ملك خسروي، أنّه كان هناك خلافًا شديدًا بين آقا نصر الله گيلرد وزوج أخته آقا نصر الله نائيجي، فاشتكى آقا نصرالله گيلرد إلى حكومة نور ومركزها في چمنستان، فجاء الضّباط إلى قرية واز وقبضوا على آقا نصر الله نائيجي وأخذوه مقيّدًا إلى چمنستان. بقي نائيجي مدّة في الحبس ثمّ هرب وذهب إلى طهران وحكى عن موضوع إقامة جناب الطّاهرة في قرية واز للميرزا تقيّ خان أمير كبير رئيس الوزراء. أصدر الميرزا تقيّ خان الأمر على الفور أن يذهب الضّباط بصحبة نائيجي إلى واز ويأخذوا جناب الطّاهرة، ويقتلوا آقا نصرالله گيلرد وتصادر أمواله. تمّ تنفيذ أوامر أمير كبير رئيس الوزراء بنفس الطّريقة وأسروا جناب الطّاهرة وأخذوها إلى طهران وحبسوها في منزل محمود خان الكلانتر(16).
إنّ ما كتبه نيقولاس الفرنسي في تاريخه (التّرجمة الفارسيّة ص 477) بشكل مؤكّد، أنّ جناب الطّاهرة عادت من مازندران إلى قزوين وقبضوا عليها هناك ثمّ نقلت إلى طهران وحبست في منزل الكلانتر، لا يتّفق مع محتوى أيّ من الوثائق التّاريخيّة البهائيّة وغير البهائيّة، ومن المؤّكد أنّه خطأ. يكتب جناب أبو الفضائل في كتابه كشف الغطاء (ص 110) أنّ جناب الطّاهرة حبست بأمر الشّاه في منزل محمود خان الكلانتر. من المحتمل أنّ الميرزا تقيّ خان رئيس الوزراء حبس جناب الطّاهرة بعد أمر ناصر الدّين شاه.
منزل الكلانتر (رئيس الشّرطة) الّذي يقع الآن في القسم الغربي من شارع بوذر الجمهري في طهران (تقاطع بين شارع ناصر خسرو وسيروس)، كان في أيّام ناصر الدّين شاه مكانًا حبس فيه مجموعة من الأصحاب. حبست جناب الطّاهرة بأمر الميرزا تقيّ خان أمير كبير رئيس الوزراء ثمّ بأمر الميرزا آقا خان نوري في هذا المنزل لمدّة دامت أكثر من سنتين. كانت تقيم لفترة في حجرة صغيرة، أو بالأحرى زنزانة صغيرة في الطّابق العلوي من منزل محمود خان الواقعة في الجهة الشماليّة الشرقيّة لفناء المنزل، حيث لم يكن باستطاعتها حتى أن تمدّ ساقيها كاملة، وكان الصّعود لتلك الحجرة يفتقد لوجود درج لذا كان لابد من استخدام سلّم لدخول تلك الغرفة والخروج منها. من المحتمل، وبعد مدّة، بسبب كثرة ذهاب وإياب النّاس لزيارة تلك السّيّدة الفاضلة بالأخصّ أميرات القاجار أنهم نقلوها إلى حجرة أكبر في نفس الطّابق(1).
كاتب هذه السّطور كان له شرف زيارة منزل الكلانتر عدّة مرّات وكسب الرّوحانيّات. أمر محمود خان الكلانتر بتوصية من أمير كبير رئيس الوزراء أن يراقب الضّبّاط تحرّكات جناب الطّاهرة وألّا يسمحوا لها أن تمسك بالقلم والدّفتر، ولكن هذا لم يمنعها من المكاتبة مع الأصدقاء وإنشاد الأشعار الجميلة. فقد جعلت من عصارة الخضروات مدادًا ومن أعواد المقشّة (المكنسة) قلمًا وكتبت أشعارها على صفحات الأوراق المقطّعة الّتي كانت تلف بها الجبن ومواد الطّعام الأخرى(2).
من بين النّفوس الّتي كانت تراسلهم على الدّوام، كريم خان مافي من أصحاب قزوين والمكنيّ ببهجت. رغم الموانع الموجودة والتّشديد في المراقبة من قبل محمود خان الكلانتر، إلّا أنّ السّيّدات البابيّات كنّ يسعين بأيّة طريقة للوصول لجناب الطّاهرة بتغيّير ملابسهن إلى لباس التّسوّل، وكانت المراسلات السرّية موجودة بينهن(3).
بالتّدريج انجذبت زوجة محمود خان إلى كمال وجمال وسلوك جناب الطّاهرة، وبالمثل أقاربه وهيّأوا وسائل تشرّف النّفوس العديدة وبالأخصّ أميرات القاجار بمحضرها. سعى محبّو جناب الطّاهرة الفارسة الخالدة في مختلف مناطق إيران لخلاصها، فذهبت نساء عائلة فرهادي بالأخصّ خاتون جان زوجة آقا محمّد هادي فرهادي وآخرين، منهم حاجّ حسن زرگر وأخوه آقا علي وكريم خان مافي (بهجت) إلى طهران كيّ يسعوا بإذن الجمال الأبهى أن يخلّصوا جناب الطّاهرة، ولكن لم يتيسّر ذلك(4) لأنّها كانت تحت حراسة مشدّدة من محمود خان وأعوانه. إنّ سيّدة قويّة مثل الطّاهرة لا تستطيع أن تبقى في قفص ضيّق في منزل الكلانتر. فبعدها عن حضرة الباب وعن الأصحاب كان يعصر قلبها وتذرف الدّموع من أجل ذلك. ربما كانت ترنّمات أشعارها كالأبيات الجميلة أدناه تخفّف من حزنها وتزيد في قواها الرّوحانيّة.
ترجمة المضمون:
لو وقع ناظري علیك والتقيتك وجهًا لوجه
لسوف أبثّ حزني على فراقك نقطةً نقطة، شعرةً شعرة
أهيم كريح الصّبا طلبًا لرؤية طلعتك
من بيت لبيت، وباب لباب، من درب لدرب وحيّ بعد حيّ
على فراقك تجري دماء قلبي من مقلتيّ
دجلة دجلة وبحرًا بحرًا، نبعًا وراء نبع وجدولاً بعد جدول
* * *
نسج قلبي الحزين حبّك بقماش روحي
فتلةً بفتلة خيطًا بخيط، سداةً بسداة لحمةً بلحمة
بحثت “طاهرة” في قلبها، وسواك لم تجد
صفحةً بصفحة طيّةً بطيّة، ستارة بستارة ثنيّةً بثنيّة(5)
من بين النّفوس الّذين التقوا جناب الطّاهرة في منزل الكلانتر ووصلوا إلى أوج العرفان، كانت الأميرة حاجيّة شمس جهان، وهي ابنة الأمير محمّد رضا ميرزا (77–1211 هـجريّة قمريّة الموافق 1796–1860 ميلاديّة) الابن الثّالث عشر لفتح عليّ شاه القاجار. كان الأمير محمّد رضا ميرزا حاكمًا لگيلان لفترة وكان من مريدي طريقة شاه نعمت اللّهي، ولكن في أواخر حياته ونتيجة مناقشته مع ابنته، أصبح مريدًا ومخلصًا لحضرة الباب. قضى محمّد رضا ميرزا أكثر أيّام حياته في سبزوار لذا اشتهر بالسبزواري ولا يجب أن يلتبس اسم المذكور مع الميرزا محمّد رضا السبزواري الملقّب بمؤتمن السّلطنة وهو من المؤمنين رفيعي المقام في خراسان. رغم أنّ من ضمن ألقاب الأمير محمّد رضا ميرزا أيضًا مؤتمن السّلطنة. ولكن الأمير محمّد رضا ميرزا بسبب كنيته الشّعريّة (أفسر) اشتهر بالاسم الأخير. وله أشعار جميلة من ضمنها الأبيات التّاليّة(6):
ترجمة المضمون:
استمع لنصيحتي سمع عاقل لمجنون
لا تدع الكأس من يدك ولا تسحب رجلك عن الحانة
يا شيخ إن أردت ألّا يفتضح أمرك فلا تجالسني
أنت العاقل الحصيف وأنا الفاسد الوضيع
هيمان بطرّتك قلبي، بشامتك تعلّقت روحي
يا من شامتك كالمصيدة ومصيدتك كما الشّامة
على أيّ حال لقّبت الأميرة شمس جهان من القلم الأعلى بورقة الرّضوان وفتنة البقاء، ونزل لوح الفتنة بإعزازها(7)، فهي سيّدة فاضلة وشاعرة التقت بحضرة الطّاهرة في منزل الكلانتر فزاد عرفانها عن حقائق الأمر البديع. من بين آثار شمس جهان (فتنة) مثنوي قرابة ستمائة بيت والّتي تشير فيها إلى أحوالها(8). كانت والدتها من أهل نور كما تذكر في المثنوي:
التّرجمة:
شكرًا لله إذ كانت والدتي من “أهالي نور”
كانت سمع روحي مستعدةً، لسماع صوت الصور.
قامت (فتنة) بالتّحقيق بعد سماعها عن ظهور حضرة الباب، ولكنها لم توفّق لمدّة في لقاء الأصحاب، فهي تقول:
التّرجمة:
سمعت بأنّ قائم آل الرّسول قد ظهر
في أرض شيراز، فتبيّنت الخبر
يا إخوة الإسلام ما هذا الصّخب
على وجه الغبراء عمّ وانتشر
تداركتني رحمة الرّبّ فأرشدني
ذاك المليح الوفي إلى الله الغني
فليرحم الله الأستاذ الّذي دلّني
أن أعبد الحقّ وعلّمني
المقصود من “المليح الوفيّ” هو السّيّد محمد الگلپايگاني من أصحاب حضرة الباب وتلاميذ جناب الطّاهرة، وهو رجل فاضل وشاعر لقّبته جناب الطّاهرة بـ ”المليح”. كان هذا الفتى المليح أستاذ الأميرة فتنة وحينما شاهدها مستعدّة وصاحبة حسن نيّة، أرشدها للأمر البديع وأوصاها أن تذهب إلى منزل الكلانتر وتفوز بلقاء جناب الطّاهرة. وتقول في المثنوي الّذي كتبته بخصوص لقائها معها ما يلي:
التّرجمة:
قيل لي: هنالك في بيت محمود خان محبوبة، هي أنقى وأفضل من روح الحياة.
فانطلقت في طلبها وروحي على كفّي حتى وصلت إلى بيت محمود خان
توسّلت لملاقاتها بشتّى الحيل، وعانيت الكثير من القوم الرّعاع.
فوجدت القمر سجينة برج العقرب وكأنّها عيسى علّقته اليهود على الصليب.
وقفت قبالة البرج وحادثتها بلسان حالي،
فأطلّت برأسها من النّافذة ذاك القمر وقالت اقتربي قليلًا، تعالي.
ذهبت بشوق وشغف إليها لأقدّم روحي فداءً لها.
قلت من أنت يا سيّدة العالم؟ وما الّذي يجذبني إليك، لا أعلم.
ما هذه الجلبة في الأكوان؟ وأيّ محشر قام بمازندران؟
قالت: لقد جاء صاحب الزّمان، وأحدث البلبلة بين أهل الإمكان.
ثمّ ردّت على ما طرحت من سؤال، وأرتني طريق الحقّ والصّواب.
وفجأة … تنبّه الملحدون أنّ الشّمس والقمر قد اجتمعا في نفس المكان.
هبّ أعوان محمود اللّعين من مخابئهم أجمعين،
وماذا عساي أن أقول عن سوء معاملة الأرذلين معي ومع محسودة شمس العالمين.
فأمرتني بالخروج قائلة إنّ في البقاء عليك خطرًا،
وإنّ لك علينا أجرًا عظيمًا، سوف تنالينه قريبًا.
فلثمت قدمها وخرجت وقد صرت مجنون ليلاي.
لقد ثبّت الله لي “قدم صدقي” وأغمضت عمّا أملك وما لا أملك عيناي.
كانت فتنة (كما تقول في المثنوي) إنّها انجذبت في البداية إلى أزل وكانت تلتقي به، وبعد استشهاد جناب الطّاهرة وخروج الجمال الأبهى وجمع من الأصحاب من إيران، ذهبت إلى بغداد للقاء أزل مرّة ثانية، ولكنّه أخفى نفسه من شدّة الخوف، فنوت فتنة الرّجوع إلى إيران بقلب مكسور. في تلك الأثناء الّتي كانت متأوهة وحائرة ومضطربة وحزينة ومروّعة الفؤاد كانت تدعو لربّها، وحين الدّعاءألهمت أن تلتجئ لساحة الجمال الأبهى. أخذ الميرزا آقا جان لها إذن التّشرّف فتشرّفت الأميرة بحضور الجمال الأبهى وفازت بعرفان المقام الشامخ لحضرته. بقيت مدة ستة أشهر بجوار الجمال الأبهى في بغداد ومن ثمّ عادت بأمر من حضرته إلى إيران.
تشير في هذا المثنوي أيضًا إلى سفر جناب أحمد اليزدي (المخاطب في لوح أحمد العربي) إلى إيران وإعلان مقام من يظهره الله وأيضًا مأموريّة جناب منيب وجناب نبيل الزرندي وفي النّهاية إلى صحبة الأميرة مع جناب مريم (ثمرة) زوجة شقيق الجمال الأبهى (وابنة عمّته وأخت زوجة حضرته). صعدت جناب فتنة إلى ملكوت البقاء في النّهاية وهي في غاية الإيقان بالجمال الأبهى. عليها رضوان الله وثناؤه.
من النّفوس الأخرى الّذين التقوا بجناب االطّاهرة، مهد عليا (ولادتها 1212 هجريّة قمريّة / 1797 ميلاديّة) حفيدة فتح عليّ شاه (من ناحية الأم) ووالدة ناصر الدّين شاه(9). كان اسمها الأصلي جهان أو جهان خانم، وبعد جلوس ابنها على سرير السّلطنة، لقّبت بمهد عليا. كانت تميل للتّصوّف مثل زوجها محمّد شاه. كانت صاحبة خطّ جميل وعلى علم بالأدب الفارسيّ والعربيّ وكانت تقول الشّعر أحيانًا وهذه الأبيات من أشعارها:
التّرجمة:
من كان من الرّجال والنّساء ذا بداهةً
يكون في جميع الأحوال مرفوع الرأس
والجاهل، سواء امرأةً كانت أم رجلًا
يكون كما يقول المثل، كشوك بلا ورد
يقال أنّ مهد عليا كانت من أتباع جناب الميرزا قربان عليّ درويش، من شهداء طهران السّبعة لمدّة من السّنين، وبعد أن تيقّنت أنّه اتّبع حضرة الباب تركت تبعيّته. كانت ظاهريًّا سيّدة حلوة اللّسان وتحفظ العديد من الأمثال والأشعار، ولكنّها لم تكن صافية القلب أوخالصة النيّة، وخصومتها مع أصحاب الباب لا نهاية لها.
عندما سمعت عن أوصاف جناب الطّاهرة من أميرات القاجار وعدد من سيّدات الأعيان والكبار، اشتاقت ظاهريًّا للقائها ولكن قصدها كان تحقير تلك الفاضلة النّادرة الخالدة. لذا في أحد أيّام حبس جناب الطّاهرة في منزل محمود خان، أخذتها إلى قصرها كي تقيم مناظرة معها أمام ضيوفها زعمًا من أنّها ستكشف سيطرتها عليها. كان قصرها الفخم يحضره دائمًا أربعة من مخصيّوا الحرم وعشرين من الخدم الخاص بملابس فاخرة مزينّة بالجواهر، وكانت النراجيل وفناجين الشّاي والقهوة والأطباق والملاعق جميعها من الذّهب والفضّة. حضرت عشرات من سيّدات آل قاجار وكبار القوم في البلد. لا توجد تفاصيل لما كان يدور من مناقشات، ولكن يمكننا أن نخمّن أنّ جناب الطّاهرة أدهشت الحضور في المجلس بجمالها وكمالها وقدرتها على الاستدلال.
سعت مهد عليا كثيرًا بعد حادثة رمي الشاه بأن يعدم الجمال الأبهى، ولكنّها أخذت هذه الأمنية معها إلى القبر، ولكن بما أثارته من فتن وعدائها ومناصرة أعداء الأمر الآخرين، وخوف ميرزا آقا خان نوري الصدر الأعظم، استشهد جماعة من المظلومين ومن ضمنهم جناب الطّاهرة(10).
توفّيت مهد عليا في طهران سنة 1290 هـجريّة قمريّة / 1873 ميلاديّة عندما كان ناصر الدّين شاه في بلاد الغرب. نقل جسدها إلى قم ودفنت بجوار جناب معصومة(11). لا أحد يتذكّرها اليوم وأصبح قصرها الفخم بمستوى التراب، بينما بقي اسم جناب الطّاهرة خالدًا وصارت أوصاف عظمتها ومقامها تتزيّن بها كتب الحبيب والغريب.
يتّضح من بعض المصادر التاريخيّة أنّ ميرزا تقي خان رئيس الوزراء (أمير كبير) التقى مع جناب الطّاهرة أيّام إقامتها في منزل الكلانتر، ودعا ’نابغة عصرها‘ ضمن استجوابها، أن تتبرّأ من دعواها. ولكن جناب الطّاهرة أثبتت الأمر البديع في غاية الفصاحة والبلاغة، بدرجة أن قال رئيس الوزراء (أمير كبير) بعد أن انفضّ المجلس “كادت قرّة العين أن تجعلني بابيًّا”(12).
كتب بعض المحقّقين أنّ بعد القبض على جناب الطّاهرة وأخذها إلى طهران، التقى بها ناصر الدّين شاه. وهذا الموضوع، موضع تأيّيد أحفاد الطّاهرة. كاتب هذه السّطور التقى مع عدد من أحفاد الطّاهرة في قزوين وتناقش بهذا الخصوص معهم، وجميعهم صرّحوا بأنّ هذا اللّقاء تمّ بينهما، حتى أنّ أحدهم كان يعتقد أنّ الشاه التقى عدّة مرات بالطّاهرة كيّ يجبرها على التّبرّؤ. قد يكون موضوع لقاء الشّاه مع جناب الطّاهرة قبل استشهادها بيوم أقرب إلى الصّواب.
تكتب أيادي أمر الله جناب مارثا روت في كتاب “الطّاهرة” Tahirih: عندما كنت في طهران، سمعت من أحد أحفادها أنّ جناب الطّاهرة أخبرت الشّاه أنّها تؤمن بحضرة بهاء الله، وأنّه أمرها بنشر ظهور الدّين الجديد. فأنا (مارثا روت) أعدت سؤالي لهذا الحفيد “ربّما تقصد شخص حضرة الباب” وللمرّة الثّانية، أجاب: كلّا. إنّها أشارت لحضرة بهاء الله. من المؤكّد أنّها عرفت ببصيرتها الثّاقبة مقام حضرة بهاء الله في هذه الدّيانة العالميّة العظيمة. ولقد أثبت ذلك كل تصرّف صدر منها بعد تلك الزيارة. (ص 80)(13).
وقع ناصر الدّين شاه تحت تأثير جمال وكمال الطّاهرة بشدّة، وقال للوزير الحاضر في محضره حال رؤيتها: “لقد أعجبني شكلها، اتركوها، ودعوها كما هي”(14). حصل تأخير في استشهاد الطّاهرة سنتين بسبب فرمان الشّاه. تكتب أيادي أمر الله جناب مارثا روت في كتابها “الطاهرة” (Tahirih) نقلًا عن أحد أقارب جناب الطّاهرة، أنّ الشاه أرسل لها رسالة وذكر فيها أنّها لو تترك محّبة حضرة الباب وتعود إلى الإسلام، فسوف يجعلها السّيّدة الأولى، والمسؤولة عن نساء قصره. فأجابته ببيت من أشعارها كتبته على ظهر رسالة الشّاه وأعادتها إليه:
أنت اسكندر فيما لك من ملك وجاه
وأنا درويش في زهدي في الحياة
إن يكن ذلك جيدًا لك، فهنيئًا
أو يكن منهجي سيئًا، فذاك جزائي
وعندما قرأ الشّاه تلك الأبيات، والّذي كان في الحقيقة يعبّر عن رّد جناب الطّاهرة بالنّفي، تحيّر من شجاعتها وقال: “لا يوجد في ذاكرة التاريخ سيّدة مثل الطّاهرة أبدًا”(15).
في أثناء إقامة جناب الطّاهرة في منزل رئيس الشّرطة، جاء أعضاء عائلة جناب الحجّة الزنجاني الّذين تعذّبوا كثيرًا ونجوا من واقعة زنجان الدّامية، صاحبوا جناب الطّاهرة مدّة أربعين يومًا. كانت تحضن زوجة الحجّة الزنجاني وأطفالهما المعذّبين وتواسيهم بكل محبّة، فقد كانت زوجة الحجّة حزينة ومهمومة للغاية. فإنّ أخبار أحداث نيريز وزنجان واستشهاد المظلومين لم يكن هيّنًا، فكانت تلك الأخبار المؤلمة بالنسبة لسيّدة فاضلة مرهفة الحسّ كجناب الطّاهرة يفوق طاقتها. كانت في كلّ يوم تصل أخبار محزنة، ولكن استشهاد حضرة الباب كان فوق طاقة الأصحاب وبالأخصّ الطّاهرة. فلم تتيسّر لها أمنيتها وهو لقاء حضرة الباب في هذا العالم كثير المنعطفات، رغم أنّ ذرّات وجودها كانت تدور حول هذا الاشتياق.
قلبي مفتون بحضرة الأعلى
أهوى لقاء محبوبي الأسمى
أسلك درب الوصال مغرمةً
تركت كلّ شيء وإياك أهوى
عشقك قد غشّى كياني والأعضاء
كانت أعداد من الأكابر والأمراء تلتقي بجناب الطّاهرة في منزل الكلانتر. وكانت زوجة الكلانتر هي السّبب الأصلي لهذه اللّقاءات، حيث أنّها انجذبت لجناب الطّاهرة بدرجة أنستها نفسها. كما انجذب لها أيضًا أقاربها الآخرون حتى ابن الكلانتر. رغم أنّها كانت حسب الظاهر شخصًا محبوسًا، إلّا أنّها كانت تسلب عقول أميرات القاجار بكلامها ونفوذ شخصيّتها وجمالها. وكلّما كانت تقام مناسبات وحفلات وعزائم في منزل الكلانتر، كان الحاضرون في الحفل يتركون الحفل والرّقص والشّرب والمرح ويجتمعون حول جناب الطّاهرة للاستماع إلى بياناتها العذبة واستدلالاتها المحكمة المتينة ويستفيدون منها.
يتفضّل حضرة عبد البهاء ضمن بيان أحوالها في هذا الخصوص: “… وكانت تزورها سيّدات من أعيان وأكابر أهل طهران وغيرهم بحجّة الاستماع لحديثها والإصغاء لبياناتها. واتّفق أن أقامت إحدى العائلات عرسًا في بيت المحافظ المذكور،…. وكان ضمن المدعوات سيّدات الأسرة المالكة ونساء الوزراء وعقيلات الكبراء والعظماء والأعيان. وأخذت العازفات في العزف على آلات الطّرب المتنوّعة كالكمان والعود والسنطير وما إلى ذلك، وغنّت بعضهن بعض المقطوعات الغزليّة بألحان شجيّة واستمر ذلك طوال الليل…. وبينما هنّ في لجّة الفرح والمرح إذ شرعت جناب الطّاهرة في البيان والتقرير بحديثها الشّيّق فاسترعت الأسماع…. وابتعدن عن سماع الطّار والطّنبور وآلات الطّرب وتركن الفرح والمرح واللّهو، والتففن حول جناب الطّاهرة ولهين عن النّغمات باستماع حلو حديثها وشهيّ كلامها”(16).
يكتب جوبينو في تاريخه، “الأديان والفلسفة في أواسط آسيا”، بخصوص أيّام إقامة جناب الطّاهرة في منزل الكلانتر: “قرّة العين… كانت مراقبة في منزل الكلانتر في البيت المخصّص للحريم من قبل النّساء. استجوبها الكلانتر بنفسه عدّة مرّات ولكن بدون إيذاء أو تعذيب، لأنّه هو أيضًا مثل البقيّة انجذب لوجاهة وجه الطّاهرة وفصاحة بيانها وقوّتها الجاذبة الّتي لم يستطع أحد أن يقاومها، وكان يتعامل معها في غاية الاحترام والأدب. في الوقت الّذي كان يسعى بأن يؤدّي واجبه كان يميل أن يخفّف من عذاب أسر محبوسته وأن يجعلها متفائلة في المستقبل. ولكنّه كان مخطئًا لأنّ جناب الطّاهرة لم تكن بحاجة إلى التّفاؤل، وبالأخصّ عندما كان الكلانتر يتحدّث إليها في هذا الموضوع، فقد كانت تقاطعه فورًا وتباشر بالتّبليغ وتتحدّث عن عقائدها الدّينيّة والحقائق وعن سوء فهمه، في حين كانت بانتظار أن ترفع السّتارة في أي لحظة ويأتوا بحكم إعدامها. كان أسلوبها وتعاملها بطريقة تجعل الشّخص المخاطب منذهلًا ومبهوتًا من مشاهدة روحها الطليقة وعقيدتها الثابتة”.
في صباح أحد الأيّام عاد محمود خان من المعسكر السّلطاني إلى المدينة وبمجرّد وصوله داخل البيت، سلّم على قرّة العين وقال: “لديّ خبر سار لك”. تبسّمت قرّة العين وقالت: “أعرف ماذا تريد أن تقول لا داعي أن تكرّر ذلك”. قال محمود خان: “لا يمكن أن تعلمي ما هي القضيّة”. أنا مأمور من قبل الصّدر الأعظم أن أبلغك وليس لدي شكّ بأنّ حريّتك وسلامتك تكمن في قبول هذا العرض. سيأخذونك إلى نياوران ويسألونك يا قرّة العين هل أنت بابيّة؟ أجيبي فقط لا، وهذا يكفي، رغم أنّ الجميع يعلم يقينًا إنّك بابيّة، وهم يرغبون أن لا يسألونك شيئًا آخر، فقط يتوّقعون أن تنزوي لفترة ولا تتحدّثي مع النّاس…”. قالت قرّة العين بشكل جاد: “لا تتوقّع مني أن أنكر عقيدتي أبدًا، ولا تأمل أن أقبل أمرًا كهذا ولو ظاهريًا حتّى ولو لدقيقة واحدة وذلك من أجل هدف ونيّة لا فائدة منها بأن أحافظ على هذا الجسد المؤقّت والّذي لا قدر ولا قيمة له. لن أقدم على هذا العمل أبدًا. ولو يسألونني، وبالطبع سوف يسألونني، فلن يكون لي رّد سوى الاعتراف بديني وكم هو شرف وسعادة لي أن أترك الحياة وأفدي روحي في سبيل الله…” (التّرجمة الفارسيّة ص 48–246)
في منتصف أيّام إقامة الطّاهرة بمنزل الكلانتر، وبفرمان من ناصر الدّين شاه تمّ قتل ميرزا تقيّ خان رئيس الوزراء الصّدر الأعظم، الّذي كان ذو كفاءة عالية، ولكنّه معروف بسفّاح إيران القاسي، وذلك في حمّام “فين”. كان المذكور ابن مشهدي قربان الفراهاني (طبّاخ أبو القاسم قائم مقام) ولد في سنة 1222 هـجريّة قمريّة / 1807 ميلاديّة في إحدى قرى فراهان أراك. قضى طفولته في الفقر والتّشرّد ودرس معارف زمانه في شبابه وبمساعدة القائم مقام المذكور أخذ صفة المستوفي. ترقّى تدريجيًّا في أجهزة الدّولة القاجاريّة ووصل إلى المقامات العليا. كان لفترة مندوب دولة إيران في أرزنة الرّوم ثمّ عاد إلى إيران، وكان وزير نظام آذربايجان إلى حين موت محمّد شاه. بعد جلوس ناصر الدّين شاه على سرير السّلطنة أخذ المذكور لقب أمير كبير وأتابك الأعظم وأصبح مقرّبًا أكثر للبلاط السّلطاني بعد زواجه من عزّت الدّولة أخت الشّاه. وبما أنّ الشّاه كان شابًا ذا تسعة عشر عامًا ومنغمس في الشّهوات والملذّات، فقد وضع كلّ أمور الجيش والدّولة في يد ميرزا تقيّ خان، وكان يتصرّف بالطريقة الّتي يريدها. ورغم أنّه كان رجلًا كفؤًا وذا دراية، إلّا أنّه كان قاسيًا وسفاحًا لا مثيل له. وبالتدريج تكدّر خاطر الشّاه من استبداده وأنانيته، وبعد مدّة عزله من مقام الصّدارة العظمى وأمر أن يأخذوه إلى “فين كاشان” ويعدموه.
هناك احتمال قويّ أنّ رئيس الوزراء (أمير كبير) التقى بحضرة الباب في تبريز. وأيضًا تشرّف بحضور الجمال الأبهى عدّة مرّات، كما التقى بجناب الطّاهرة وكان على دراية بمظلوميّة تلك الفاضلة الجليلة ولكنّه قام بكلّ هذا الظّلم. قتل في 18 ربيع الأوّل سنة 1268 هـجريّة قمريّة / 1852 ميلاديّة في حمّام “فين”، بعد أن قطعوا شريانه بساعات. وبسبب ظلمه، ومساعيه وأوامره تجرّع حضرة الباب كأس الشهادة الكبرى، واستشهد أصحاب قلعة الشّيخ طبرسي في ميدان الفداء. كما استشهد مئات النّفوس في نيريز وزنجان. وشرب شهداء طهران السّبعة كأس الشّهادة. وأسرت جناب الطّاهرة وحبست. ودمرّت بيوت كثيرة. كان ظلم رئيس الوزراء (أمير كبير) في الواقع رهيبًا. ثبّتت أعماله الظّالمة في صفحات التّاريخ. ولقد كانت عاقبة هذا الرّجل السّفّاك عبرة للظّالمين الآخرين.
بعد رئيس الوزراء (أمير كبير) وصل ميرزا آقا خان اعتماد الدّولة النّوري إلى مقام الصّدارة(17). ميرزا آقا خان الّذي طلب الدّعاء من حضرة الباب أثناء الإبعاد إلى كاشان بواسطة حاج ميرزا جاني الشهير، لكيّ يعود إلى مقامه السّابق، وأبرز نوعًا ما إيمانه، حاول بعد استشهاد حضرة الباب وخاصة بعد موت رئيس الوزراء (أمير كبير) أن يصلح الأمور بين الأصحاب والحكومة. لم يكن هذا الأمر بسبب إيمانه بالظّهور البديع، كان مقصده أن تهدأ الأمور في البلاد ويستمّر هو في مقام الصّدر الأعظم في إيران. ومن جهة أخرى تأثّر بعض أقاربه بالأمر البديع بشدّة وأصبحوا من أصحاب جناب الطّاهرة، وخاصة ابنة عمّه وهي زوجة جناب ميرزا محمّد حسن الأخ الأكبر (من ناحية الأب) للجمال الأبهى. فلم تتحقّق هذه الأمنية، ومع حدوث واقعة رمي الشّاه تلاشت كلّ خططه الّتي كانت كالنّقوش على الماء. هذه الحادثة الهائلة أدّت في النّهاية إلى استشهاد جمع من الأصحاب ومن بينهم جناب الطّاهرة.
بعد استشهاد حضرة الباب لم يتوقّف تعذيب ومطاردة الأصحاب. يتفضّل حضرة عبد البهاء: استشهد أكثر من أربعة آلاف بابيّ في سنوات 1266–67 هـجريّة قمريّة (1850–51 ميلاديّة) في مختلف أنحاء إيران(1). لقد كان كل هذا القتل والذّبح المريع ناتجًا من أنانيّة ميرزا تقيّ خان رئيس الوزراء الّذي كان يظن أنّ بالقسوة يمكنه القضاء على جماعة البابيّين، في حين اتّضح بطلان تصورّه، فبعد استشهاد حضرة الباب والأصحاب المظلومين، نفذ الأمر البديع في قلوب نفوس جديدة في إيران(2).
عندما ندم ميرزا تقيّ خان بعد صدور أمر قتل حضرة الباب، وكان يرى قرب أجله، سعى كي يعقد صلحًا بين الحكومة والبابيّين، لذا التقى مع حضرة بهاء الله ولكن كان بعد فوات الأوان ولم يتيسّر له أن يتدارك ما فاته إذ قتل بأمر من الشّاه. توجّه حضرة بهاء الله في أوائل شعبان سنة 1267 هجريّة قمريّة / 1851 ميلاديّة إلى كربلاء، وكان هناك عندما سمع خبر مقتل رئيس الوزراء (أمير كبير). عاد حضرته إلى إيران بعد مقتل رئيس الوزراء بثلاثة أشهر واستلم رسالة من ميرزا آقا خان نوري الّذي أصبح الصّدر الأعظم في إيران بدلًا عن ميرزا تقيّ خان حيث طلب من حضرته في تلك الرّسالة أن يلتقيه ويتباحث معه. حاول ميرزا آقا خان منذ بداية حكمه أيضًا أن يعقد صلحًا بين الدولة والبابيّين وكان يتصوّر أنّ أفضل طريقة لإيجاد هذا الائتلاف هي التّفاوض مع حضرة بهاء الله الّذي كان الرئيس الفعلي للبابيّين. عاد حضرة بهاء الله إلى طهران في شهر رجب 1268 هجريّة قمريّة / أبريل 1852 ميلاديّة.
خلال الأيّام الّتي كان حضرة بهاء الله متشرّفًا في كربلاء، تشاور عدد من البابيّين في طهران بخصوص كيفيّة الانتقام من المتسبّبين في استشهاد حضرة الباب، إذ تصوّرت هذه المجموعة من الأصحاب بل كانوا متيقّنين أنّ ناصر الدّين شاه (بالإضافة إلى رئيس الوزراء الّذي قتل مؤخرًا) هم المتسبّبون في هذه الواقعة الهائلة، ومنشأ جميع البلايا الواردة على الأصحاب واستشهاد الآلاف من المؤمنين المظلومين الأبرياء.
كان الشّخص الّذي دعا إلى هذا التّجمّع هو جناب ملّا الشّيخ عليّ التّرشيزي الملقّب بعظيم. كان رجلًا شجاعًا وجريئًا وسعى باستمرار أن يهيّئ وسائل تخليص حضرة الباب من سجن أذربايجان، وبعد استشهاد حضرة الأعلى كان يريد الانتقام من رئيس الوزراء (أمير كبير) وشاه إيران. لذا اقترح خطّة لقتل الشّاه ووافق معه آخرون من البابيّين من بينهم سليمان خان التبريزي. يكتب جناب فاضل المازندراني في المجلّد الرّابع من كتاب ظهور الحقّ (مخطوطة) بخصوص مقترح جناب عظيم وأحداث تلك الأيّام (ص 61–62): “…. استقر الشّيخ عظيم بعد استشهاد حضرة الباب في طهران واجتمع البابيّون من حوله، وفي هذه الأوقات الخطيرة الّتي كان رجال الحكومة يتعقّبونهم باستمرار، قاموا بعقد اجتماعات سريّة، وكانوا هائجين ومضطربين بشدّة من المظالم الواردة من الدّولة وقتل ونهب وحبس الأصحاب، وكان ميرزا يحيى أزل أيضًا يؤيّد الشيخ عظيم ولقّبه بسلطان منصور البيان، وقال بأنّ إطاعته فرض وأرسل رسول إلى جميع أنحاء إيران خفيةً وجمعوا البابيّين المتهوّرين كي يساعدوا الشّيخ في تنفيذ مقصده الخطير الّذي كانوا يستندون في مفهومهم على بيانات حضرة الباب.
لا شكّ أنّ عددًا من كبار هذه الطّائفة هربوا من شدّة هجوم رجال الدّولة على المركز (مكان تجمّعهم)، أو أنّهم نجوا من مخالب الظّالمين واستقرّوا في هذا المركز، أو ذهب بعضهم للقاء كبار هذه الطائفة إلى العاصمة أو سرعوا في النّهاية لنصرة سلطان منصور واجتمعوا في طهران، ومن بينهم حسين خان ميلاني السّالف الذّكر الّذي أوجد حماسًا عجيبًا وغريبًا في القلوب والعقول جعل الدم يغلي في عروق الجماعة وكانوا يشيدون به في غاية الخضوع والخشوع، وبينما كان عدد من مشاهير البابيّة مجتمعين في تلك المجامع أمثال حاجّي سليمان خان التّبريزي، ميرزا سليمان قلّي النّوري، ملاّ عبدالكريم القزويني، حاجّي ميرزا جاني الكاشاني، لطف علي ميرزا الشّيرازي وغيرهم، وعقدوا مؤتمرًا في منزل سليمان خان في المدينة أو في دزآشوب، أو في وادي شميران وغيرها. في تلك الأوقات حيث كانت نيران الفتنة متأجّجة، لم يكن في طهران من قادة البابيّة سوى قرّة العين المحبوسة في منزل محمود خان الكلانتر، وآقا السّيّد حسين اليزدي كاتب الوحي، الذي كان يعيش في أنبار بطهران”.
ينقل جناب فاضل من المحتوى الأصلي لتاريخ نبيل الزّرندي في نفس المجلّد الرّابع من ظهور الحقّ (مخطوطة) ويكتب بأنّ “جناب الميرزا موسى كليم الّذي كان في تلك الأثناء يسعى أن يمنع البابيّين من تنفيذ خطّتهم في الهجوم على الشّاه، قد تكدّر كثيرًا من تصرّفات بعضهم بالأخصّ حسين الميلاني ومع الأسف لم يتمكّن من تفريق الجماعة. (ص 62–64). طبقًا لبيان حضرة عبد البهاء فإنّ أهواء الميرزا يحيى أزل، والسّيّد محمّد الإصفهاني وملّا جعفر نراقي كان له تأثير كلّي في وقوع حادثة رمي الشّاه، وجعل “صفحة تاريخ تلك الأيّام مظلمة قاتمة ولوّث ذيل الأمر الأطهر”(3).
على أي حال، فبعد عودة حضرة بهاء الله من كربلاء عرض جناب عظيم على حضرته خطّته المبنيّة على قتل الشّاه، حيث منعه حضرة بهاء الله بشدّة وببيان قاطع وحذّره من عواقب هذا العمل المشئوم. ولكن شيخ عظيم رغم محبّته وإيمانه العميق بحضرة بهاء الله، إلّا أنّه لم يستمع لإنذار حضرته وفعل ما فعل. وقع عدد من البابيّين غير المسؤولين تحت تأثير أفكاره وحتى بدون أن يتشاوروا معه، هجموا في صباح يوم 28 شوال 1268 هـجريّة قمريّة الموافق 15 أغسطس 1852 ميلاديّة في نياوران ببندقية رش على ناصر الدّين شاه. كانت العناصر الأساسيّة في هذا الهجوم هم صادق التّبريزي وفتح الله حكّاك القمي. بالطبع نجى الشّاه ولم يصب سوى بخدوش وجرح بسيط في بدنه. يتفضّل حضرة عبد البهاء في مقالة سائح أن بعد حدوث واقعة رمي الشّاه “قامت القيامة بغتة”. (ص 55).
كان الميرزا آقا خان النّوري الصّدر الأعظم يرتعش من الخوف، ووقف بجانب الشّاه وأمر أن تحاط أطراف قصر الشّاه بالقوى المسلّحة مشاةً وفرسانًا. فقرعت الطّبول ونفخت الأبواق، وأغلقت أبواب المدينة بأوامر من أردشير ميرزا حاكم طهران وانتشرت قوى المراقبة في جميع الطّرقات والشّوارع.
اتّضحت عواقب وآثار هذه الواقعة الرّهيبة سريعًا. تمّ القبض على عدد كبير من الأصحاب وأخذوهم أسارى في الحبس تحت السّلاسل والأغلال. استشهد مئات من البابيّين المظلومين الأبرياء في طهران وباقي مناطق إيران، من أبرز الأصحاب منهم أمثال سليمان خان التّبريزي، سيّد حسين كاتب اليزدي، ملّا عبد الكريم القزويني (المعروف بالميرزا أحمد) والشّيخ علي عظيم. ومنهم من وضعت الشّموع الموقدة في ثقوب شقّوها في أبدانهم، وآخرون فقئت عيونهم ونشرت أجسادهم بالمناشير وخنقوا وقذفوا من أفواه المدافع، وقطّعوا إربًا إربًا ومزّقوا بالفؤوس والبلط، ونعلت أقدامهم بحدوات الخيل وطعنوا بالحراب. لم يبق عذاب لم يرد على هؤلاء. رغم هذا الوضع، إلّا أنّ الأصحاب كانوا ثابتين كالجبال، وكانوا مظهر العشق والوفاء ويحضرون إلى ميدان الشّهادة في غاية الفرح والسّرور.
وجّه الاتّهام إلى حضرة بهاء الله في هذه الحادثة بأنّه المحرّض الرّئيسي لها، وحبس أربعة أشهر في سجن سياه چال طهران وتعرّض لأنواع المحن والبلايا، رغم أنّه كان بريئًا منها، واتّضح هذا الأمر بعد انقضاء أربعة أشهر بواسطة محاكم الصّلح. استخّدم المتجاسرون البابيّون وسائل غير فعّالة لقتل السّلطان بكلّ جهالة بل تصرّفوا من أهواء انفسهم(4). إنّ واقعة رمي الشّاه كما أسلفنا الذّكر سرّعت في استشهاد جناب الطّاهرة. الميرزا آقا خان النّوري الّذي أظهر إيمانه في أيّام حضرة الباب ووعد بحماية الأصحاب، وآمن بعض أقاربه بحضرة الباب أيضًا، خاف على حياته ومن أجل الحفاظ على مقامه، أقدم على إعدام البابيّين وابتكر أسلوبًا لقتلهم وأعدم كلّ واحد من الأصحاب بشكل معيّن.
بخصوص جناب الطّاهرة كان يرى أن تجبر على إنكارها للأمر البديع، لذا أرسل مندوبيه لاستجوابها والغلبة عليها في منزل الكلانتر. فطلب من اثنين من كبار العلماء البارزين في طهران، وهم ملّا عليّ الكنّي وملّا محمّد الأندرماني، أن يذهبا إلى منزل الكلانتر ويقنعا الطّاهرة. تناقش الإثنان مع الطّاهرة خلال سبع جلسات متتالية وحصلت المناظرة بينهم(5). ولكنّهم لم يتغلّبوا عليها، في العاقبة صدرت فتوى قتل تلك البطلة الخالدة.
حصل ملّا عليّ الكنّي (1220–1306 هـجريّة قمريّة / 1805–1888 ميلاديّة) على دراسته الإبتدائيّة في موطنه (كن) ثمّ ذهب إلى العراق وهو في سن العشرين وتتلمذ على يد الشّيخ محمّد حسن النّجفيّ، وسيّد إبراهيم الموسوي القزويني وجناب الشّيخ مرتضى الأنصاري لعدّة سنوات. إنّه من مشاهير مجتهدي طهران، وصاحب ثروة طائلة. كان أصحاب الدّيوان يطلقون عليه اسم رئيس المجتهدين. كان ملّا عليّ موضع تقدير كبير لدى ناصر الدّين شاه، وهو الّذي عيّن مع عدد من مجتهدي طهران من طرف الشّاه كي يرّد على لوح السّلطان لحضرة بهاء الله ولكنّه ماطل في ذلك. علاوة على جناب الطّاهرة استشهد آخرون أيضًا بفتوى المجتهد المذكور. جاء ذكر مظالمه في ألواح حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء كثيرًا. يخاطبه حضرة بهاء الله في أحد الألواح: “قد ناح رسول الله من ظلمه”(6). جاء شرح حياته في مؤلّف له باسم (توضيح المقال في علم الدّراية والرّجال)(7)، كما جاء في كتب تتناول شرح أحوال علماء الشّيعة في إيران(8). كما هو معروف فإنّ ملّا عليّ، جعل مقامه الرّوحانيّ وسيلة لجمع المال ونيل آماله الشّخصيّة(9). كان يطلق عليه سيّد صادق أحد مجتهدي طهران اسم ملّا عمر الكنّي، وهذا الاسم كان محببًا جدًا لدى أعداء ملّا عليّ(10).
أمّا ملّا محمد الأندرماني (أندرمان هي قرية في ريّ)، فقد كتب محمّد حسن خان اعتماد السّلطنة بشأنه في كتاب المآثر والآثار (المجلّد الأوّل ص 206): “كان من مجتهدي الدّرجة الأولى، له امتياز بيّن في بسط اليد ونفاذ الأمر وقبول الكلمة، لذا فقد أشرف على إدارة مدرسة فخريّة في طهران. الحقّ أنّ المذكور أنعم الله برضوانه عليه، لم يقصّر في ترويج الشّرع وإغاثة الملهوفين وقضاء حاجات المسلمين وفصل الخصومات على أساس شريعة الإسلام وموازين المذهب، وكان يرأس كافّة علماء دار الخلافة ويتقدّمهم. نوّر الله مرقده”.
في الأوقات الّتي كان الجبل يفرّ من اسم البابيّ، قامت الطّاهرة في غاية الشّجاعة على دحض الاتّهامات الواردة على حضرة الباب وتعاليم حضرته المباركة، وأفحمت ملّا عليّ الكنّي وملّا محمّد الأندرماني. يكتب أيادي أمر الله جناب الميرزا حسن أديب الطالقاني في هذا الخصوص في رسالة شرح فيها حياة جناب الطّاهرة ما يلي: “سمعت من سيّدتين كانتا تزوران باستمرار منزل الكلانتر، أنّه في أيّام حبس قرّة العين، أقام الكلانتر حفل زواج لابنه استغرق عدّة أيام وأعدّت كل وسائل السّمر والطّرب، كلّ يوم يتمّ دعوة فئة معيّنة من نساء البلد. وبمجرّد أن تمّ تجهيز الحفل، وما أن تشرع الطّاهرة في البيان، حتّى يبتعدن عن الفرح والمرح ويتركن آلات الطّرب واللّهو ويتحيّرن من طلاقة لسانها وحسن بيانها، بدرجة لا أحد يلتفت لوسائل السّمر والطّرب، وينجذبن لكلامها وسلوكها ويتعجّبن كيف يمكن لسيّدة مثلها أن تكون كافرة. الخلاصة، ظلّ الوضع كذلك إلى أن حصل رمي الشّاه من قبل البابيّين ووقعت كلّ هذه الفئة في الخطر وقتل جمع كبير كما هو مذكور بالتّفصيل في التّواريخ، وصدر حكم إعدام الطّاهرة الّتي كانت محبوسة أكثر من سنة في منزل محمود خان الكلانتر. بما أنّ الشّاه والصّدر الأعظم كانا مطّلعين سرًّا على أنّها كانت صديقة حميمة ومحبوبة جدًا من غالبيّة نساء المجتمع ومن الطّبقة الأرستقراطيّة، ومن المحتمل أن يؤدّي قتلها إلى قيامهنّ باحتجاج لا يستطيع أحد إخماده. لذا وجدوا أن يتحدّث حاجّي ملّا عليّ الكنّي وحاجّي ملّا الميرزا محمّد الأندرماني مع الطّاهرة، وهما من أكبر وأشهر علماء طهران، وأن يتمّ تنفيذ ما يقرّراه بخصوصها. حضر العالمان الكبيران عدّة مرّات في منزل محمود خان ودارت مناقشات كثيرة، بدرجة صارا عاجزين. ولكنّهما بقيا غير مقتنعين برأيها، وفي النّهاية كتبا حكمهما. إنّ هذه السيّدة ضالّة ومضلّة وقتلها واجب ولازم. فوافقت الحكومة على ذلك وأضافت لحكم رجليّ الدّين بعض التّهم الكاذبة والمفتريات الأخرى ونشرتها بين النّساء والرّجال، ثم بادروا بقتلها. رغم تلك الشّائعات قتلوها بسرّية خوفّا أثناء الليل(11).
خصّص نيقولاس الفرنسي في الفصل الثّاني عشر من كتابه “السّيّد عليّ محمّد الباب” حول استشهاد جناب الطّاهرة، يكتب عن أواخر أيّام حياتها ومناقشاتها مع ملّا عليّ الكنّي وملّا محمّد الأندرماني، أنّ جناب الطّاهرة بعد سجنها في منزل الكلانتر(12)، التقت بكثير من النّاس وأبلغتهم أنّ الدّين الجديد قد أعطى حريّة خاصّة للنّساء. لذا كان يدور النّقاش في كثير من البيوت بخصوص مقام المرأة وفي الأغلب كان ينهزم الرّجال. (ص 477 التّرجمة الفارسيّة). ثمّ يكتب نقولاس: بالطّبع لو لم يصل الميرزا آقا خان النّوري لمنصب الصّدارة لاستمرّت هذه المباحثات. إنّ هذا الصّدر الأعظم الجديد أمر الحاجّي ملّا ميرزا محمّد الأندرماني وحاجّي ملّا عليّ الكنّي أن يذهبا إليها ويمتحنا معتقداتها. استمرّت تلك المباحثات سبع جلسات بين هذين المجتهدين وقرّة العين. كانت قرّة العين تتباحث معهما في غاية القوّة والمحبّة وتثبت وتبرّهن أنّ الباب هو الإمام الموعود المنتظر. كانوا يقولون لها أنّه بموجب الأخبار، يجب أن يأتي الإمام الموعود من جابلسا وجابلقا، فكانت ترّد عليهم في غاية القوّة أنّ هذا الخبر كاذب ومن أكاذيب الكتّاب. فلا توجد مدن بهذه الأسماء، وهي أساطير من ضمن الموهومات الّتي تليق بالعقول المريضة.
كانت تشرح الدّين الجديد وتستخرج حقائقه وكانت دائمًا تصطدم بموضوع جابلقا. في النّهاية نفد صبرها وقالت: “أدلّتكم مثل أدلّة طفل جاهل وأبله. إلى متى تظلّون متمسّكين بالأكاذيب المنافية للعقل؟ متى ستوجّهون أفكاركم نحو شمس الحقيقة؟ شعر حاجّي ملّا عليّ بالإهانة، فقام وأخذ رفيقه وقال لا يصحّ أن نستمر في النّقاش أكثر من هذا مع هذه الكافرة. ذهبا إلى منزل أحدهما وكتبا حكم ارتدادها وامتناع توبتها وأنّه يتوّجب قتلها بموجب القرآن. (ص 477–478 الترجمة الفارسيّة).
إنّ ما يكتبه نيقولاس رغم بساطته، إلّا أنّه يدّل على محتوى حديث المجتهدين وقوّة استدلال جناب الطّاهرة. جوهر الكلام هو ما قاله حضرة وليّ أمر الله في كتاب القرن البديع (God Passes By ص 101) إذ يتفضّل بأنّ الطّاهرة قامت بكلّ شوق وجرأة ودون حذر على إثبات دعوة حضرة الباب وبيان خصائص تعاليمه وأحكامه المباركة في سبع جلسات متتالية.
استنادًا إلى روايات وأقوال أنسباء جناب الطّاهرة(13)، كما أنّ مؤلّف هذه السّطور أثناء البحث والتّحقيق سمع من أقارب الطّاهرة، أنّه قبل استشهادها حاول الشّاه أن يلتقي بها مرّة أخرى كيّ تتبرّأ، ولكن لم يصل إلى نتيجة، لأنّ جناب الطّاهرة كانت العاشقة الولهة للأمر البديع وأصل الشّجرة الإلهيّة، فلم تأبه لنصيحة محتسب أو شيخ أو ملك.
حبّة خال قرب الشفتين، وطرّتان مسكيّتان على الطرفين
يا ويل طائر قلبي، من تلك الحبّة والشركين
شيخ ومحتسب وأنا، وحديث العشق جار بيننا
كيف أقنعهما، يا ترى؟، وحدي الخبير المعنّى ما بين ساذجين
الأصل الفارسي:
خال بکنج لب يکى طرّه مشکفام دو
واى بحال مرغ دل دانه يکى و دام دو
محتسباست وشيخ ومن صحبت عشق درميان
از چه کنم مجابشان پخته يکى و خام دو
أصدر الشّاه أيضًا فرمان قتل جناب الطّاهرة. وهذه النّقطة مستندة إلى النصوص المباركة. يتفضّل حضرة عبد البهاء في إحدى خطبه المباركة بهذا الخصوص قائلًا: “إلى أن حكم الشّاه بقتلها”(14). من البديهي أنّ صدور فرمان القتل كان بعد واقعة إطلاق النّار على الشّاه، حيث يتفضّل حضرة عبد البهاء: “إلى أن وقعت حادثة الشّاه فصدر الأمر بقتلها”(15).
إنّ ما كتبته أيادي أمر الله مارثا روت أنّ قتل جناب الطّاهرة كان بدون علم الشّاه(16) يجب تعديله بالتوجّه إلى بيانات حضرة عبد البهاء. (بالطّبع كان رأيها استنادًا إلى أقوال أقارب الطّاهرة) قد يكون مقصدها من عبارة “بدون علم الشّاه”، أي عدم علمه عن قتلها بتلك السّرعة الّتي كانت في اليوم التّالي للقائه. على أيّ حال في يوم لقاء الشّاه مع جناب الطّاهرة، طلب مرّة أخرى أن تتبرّأ من الأمر البديع. فأجابت جناب الطّاهرة بآية من القرآن الكريم: “لكم دينكم ولي دين” (سورة الكافرون، آية 6).
عندها أطرق الشّاه برأسه إلى الأرض بصمت لبعض الوقت، ثمّ نهض وترك الغرفة بدون أن يقول شيئًا(17).
إنّ يوم استشهاد جناب الطّاهرة غير معلوم بدّقة. يذكر أحد الكتّاب الإيرانيّين، عبد الرّفيع حقيقت (رفيع) ضمن بيان أحوالها أنّ استشهادها كان في اليوم الأوّل من ذي القعدة سنة 1268 هجريّة قمريّة(18). وفي كتاب قرّة العين الّذي أصدره الأزليّون بمناسبة مرور مائة سنة على استشهادها، ذكروا أنّه كان يوم 29 ذي القعدة 1268 هجريّة قمريّة. هذا التّاريخ يوافق 14 سبتمبر 1852 ميلاديّة. مع التوجّه إلى المستندات الموجودة فإنّ هذا التّاريخ لا أساس له. تذكر أيادي أمر الله جناب مارثا روت في كتاب “الطّاهرة” Tahirih أنّ استشهاد جناب الطّاهرة في أغسطس 1852 (ص 96). ذكر البروفسور براون أيضًا أنّ استشهادها في شهر أغسطس(19). جناب محمّد عليّ ملك خسروي أيضًا لديه نفس الرّأي في المجلّد الثّالث من تاريخ شهداء إيران(20). (ص 214).
يتّضح من الوثائق الموجودة أّنّ استشهاد جناب الطّاهرة حدث بعد محاولة إطلاق الرّصاص على ناصر الدّين شاه في نفس شهر أغسطس. يتّضح ذلك أيضًا من توضيح حضرة وليّ أمر الله في الهامش رقم 1 ص 583 التّرجمة الإنجليزيّة لتاريخ النّبيل
The Dawn Breakers. لأنّه اعتبر اليوم الثّالث بعد استشهاد جناب الطّاهرة داخلًا في شهر أغسطس. وأيضا في أحد توقيعات حضرة وليّ أمر الله يصرّح بوضوح أكثر بأنّ جناب الطّاهرة استشهدت قبل سجن حضرة بهاء الله في سجن طهران بقليل(21). وللعلم فإنّ حضرة بهاء الله توّجه إلى معسكر الشّاه في اليوم السّادس عشر من أغسطس وبدايةً كان في منزل شقيقته نساء خانم في زركنده، وبعد الورود قبض عليه، وبعد ثلاثة أيام(22) وفي 19 أغسطس حبس في سجن طهران.
ومن الوثائق الأخرى الّتي تثبت أنّ استشهاد جناب الطّاهرة، كان في شهر أغسطس تقارير سفيريّ بريطانيا وروسيا في طهران، يكتب الأمير دالجوركف (دالجوروكي) سفير روسيا في طهران رسالة مؤّرخة 23 أغسطس 1852 إلى سينياوين Seniavin عن خبر استشهاد جناب الطّاهرة وعدد آخر من البابيّين كالآتي: “لمدّة مديدة كانت سيّدة بابيّة تحت حراسة محمود خان الكلانتر رئيس شرطة طهران، محبوسة في نفس المدينة. رغم حبسها إلّا أنّها كانت تلتقي يوميًّا مع كثير من البابيّين. خنقوها في حضور مساعد الشّاه في إحدى الحدائق. قطّعوا أجساد أربعة آخرين إلى قطعتين. وأثناء ما كانت الشّموع مشتعلة في أبدانهم راحوا يجوبون بهم في المدينة والشّوارع… إنّهم كانوا يبرزون الفرح بجلال خاص لأنّهم كانوا على يقين بأنّ هذه البلايا ستضع على رأسهم تاج الشّهادة”(23).
كما يشير شيل Sheil سفير بريطانيا في طهران في رسالته المؤّرخة 22 أغسطس 1852 إلى ملمزبري Malmesbury إلى استشهاد جناب الطّاهرة، ويقول بأنّ هذه السيّدة كانت لدى البابيّين تعتبر نبيّة محترمة خنقت بأمر من الشّاه(24). يتّضح من المستندات المذكورة أنّ استشهاد جناب الطّاهرة كان يقينًا بين 15 إلى 22 أغسطس 1852 ميلاديّة وباحتمال قويّ قبل يوم 19 بقليل من نفس الشّهر.
لا يوجد تصوير حقيقي لجناب الطّاهرة حتّى الآن. إنّ الصّورة الّتي أعدّتها السّيّدة جين هنريت بول راشل دويولافوي Jane Henriet Paule Rachel Dieulafo (والّتي كانت تسافر بين إيران والعراق في سنين 1880–1887) عن جناب الطّاهرة والمنشورة في بعض المنشورات البهائيّة وغير البهائيّة ليست حقيقيّة. هناك صور أخرى أيضًا خياليّة وغير واقعيّة. يكتب جناب الميرزا محمود الزّرقاني في المجلّد الأوّل من كتاب بدائع الآثار (عن رحلة سفر حضرة عبد البهاء) عندما كان حضرة عبد البهاء مشرّفًا في نيوهامبشاير (دوبلين) أمريكا، طبع شخصًا ألمانيًّا صورة الطّاهرة وتمّ تقديمها لحضرته فتفضّل قائلًا: “هذا ليس هو الأصل بتاتًا”. (ص 168).
وللمؤرّخين وجهات نظر مختلفة بخصوص محل استشهاد جناب الطّاهرة. يكتب جناب سمندر في تاريخه: “سمع أنّه أعطيت لجناب الطّاهرة حجرة في منزل الكلانتر في الطّابق العلوي.. بقيت في ذلك المكان إلى أن حدث إطلاق الرّصاص من الجهّال على ناصر الدّين شاه. حينها سلّموا تلك البريئة إلى الجلّادين وأرادوا أن ينزعوا العباءة من عليها في حديقة “إيلخاني” أو ربما في “لاله زار” ويخنقوها. فلم ترض فخنقوها بعباءتها ورموها في البئر”. (ص 368). إنّ شكّ سمندر بين حديقة “إيلخاني” أو “لاله زار” جدير بالاهتمام.
يكتب بروفسور براون بأنّ البعض قالوا أنّ محل استشهاد الطّاهرة هو حديقة “لاله زار” والبعض قال حديقة “كاخ نگارستان”(25). يكتب جناب الميرزا حسين الهمداني في تاريخه أنّهم أخذوا جناب الطّاهرة من منزل محمود خان الكلانتر إلى حديقة “نگارستان” وبعد استشهادها ألقوا بها في حفرة في نفس الحديقة(26).
كتب جوبينو الفرنسي أنّ محلّ استشهاد جناب الطّاهرة هو “أرك طهران”، إلّا أنّ ما يكتبه بخصوص طريقة الاستشهاد لا يتّفق مع المحتوى التّاريخي للآخرين. ولكن يحتوي على عدّة نقاط مهمّة. إنّه يكتب في كتاب “الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى” بهذا الخصوص: “على أيّ حال كما توقّعت قرّة العين أخذوها في اليوم التّالي إلى نياوران وطلبوا منها في حضور الأمراء والأعيان وكبار رجال الدّولة والمحبوسين ومختلف النّاس في غاية اللّطف وبدون إيذاء أن تقول فقط: أنا لست بابيّة. ولكنّها كما قالت من قبل بدلًا من الإنكار اعترفت وقالت ما كانت تريده هي. لذلك نقلوها إلى “أرك طهران” ووضعوا غطاءً على وجهها، وما أن دخلوا أرك طهران وضعوها على أكوام من الحصير الّذي كانوا يضعونه في المنازل تحت السّجاجيد وقبل أن يشعلوا النّار في تلك الأكوام أخذ الجلادون خرقة قديمة وأدخلوها في حلقها ثمّ خنقوها، ثمّ جعلوا جسدها طعمًا للنّار ونثروا رمادها في الهواء”. (ص 252 التّرجمة الفارسيّة).
يتّضح من كتابة جوبينو أنّ جناب الطّاهرة أخذت قبل استشهادها إلى نياوران واستجوبوها. رغم أنّ جوبينو لا يشير إلى حضور الشّاه في هذا الاستجواب، ولكن يصرّح بحضور الأمراء. النّقطة الثّانية شهامة جناب الطّاهرة الرّائعة في اعترافها بأحقيّة الأمر البديع. النّقطة الثّالثة أسلوب خنق جناب الطّاهرة، حيث كتب أنّهم دفعوا المنديل في حلقها. في حين أنّ أغلب المؤّرخين حتى جناب نبيل الزّرندي(27) كتبوا أنّهم لفّوا المنديل حول عنقها حتى أسلمت الرّوح(28). ما هو مسلّم به، أنّ العبد الأسود الذي كان سكرانًا دفع بالمنديل في حلق جناب الطّاهرة ثمّ خنقها.
يتفضّل حضرة عبد البهاء بهذا الخصوص فأحضروا زنجيًّا نشوانًا يترنّح وأعطوا لذلك الرجل، أسود الخلقة وأسود القلب وأسود السجيّة منديلا فدسّه في فمها المبارك وخنقها.
توجد أقوال أخرى أيضًا بخصوص طريقة استشهاد جناب الطّاهرة(29) الّتي يجب أن تتفّق مع النّصوص المباركة. على أي حال لا يمكن التردّد بخصوص محل استشهاد جناب الطّاهرة لأنّ حضرة وليّ أمر الله صرّح بأنّه كان في حديقة “إيلخاني”(30). ويذكر جناب أبو الفضائل في كتاب كشف الغطاء (ص 110) أنّ مدفن جناب الطّاهرة في حديقة “إيلخاني” الواقعة في شارع علاء الدّولة. سمّي هذا الشّارع بعد ذلك بالفردوسيّ. كانت حديقة إيلخاني في ذلك الوقت تقع خارج بوّابة مدينة طهران(31). يبدو أنّ هذه الحديقة أصبحت بعد ذلك ضمن أملاك السّردار أسعد بختياري(32).
يكتب نيقولاس الفرنسي بخصوص محل استشهاد الطّاهرة (حديقة إيلخاني): “هي ساحة فسيحة تقع مقابل المفوضيّة البريطانيّة والسّفارة التّركيّة، ولكن بموازاة الشّارع، ارتفعت خمس أو ست شجرات تميّز البقعة التي استشهدت فيها البطلة البابيّة، لأنّه في تلك الأيّام كانت حديقة إيلخاني تمتّد إلى تلك المسافة. ولما عدت في سنة 1898 ميلاديّة وجدت أنّ السّاحة قد زالت تمامًا لتفسح المجال للأبنية الحديثة ولا أعلم إذا كان المالك الحالي قد حفظ هذه الأشجار الّتي غرستها أيد صالحة”(33).
لقد صرّح جناب محمّد علي ملك خسروي، وجناب آقا يد الله آل نداف (عمّ والدة كاتب هذه السّطور) وأيضًا الأستاذ الفقيد جناب فاضل المازندراني، ونقلًا عن قدماء الأحباء، بأنّ مبنى فرع البنك المركزي في شارع الفردوسيّ كان موقع حديقة إيلخاني ومكان استشهاد جناب الطّاهرة. يكتب محمّد حسين الرجبي في تحقّيقه تحت عنوان مشاهير النّساء الإيرانيّات والنّاطقات بالفارسيّة تضمّن بيان أحوال جناب الطّاهرة (ص 190) أنّ محل استشهادها في “حديقة إيلخاني” (المكان الحالي للبنك المركزي الإيراني في شارع الفردوسيّ).
وما كتبه البعض بأنّ بقايا جسد جناب الطّاهرة نقلت عند تسطيح حديقة إيلخاني إلى مكان آخر ليس له أساس من الصّحة. كاتب هذه السّطور سمع من الأحبّاء القدامى مرارًا (بالأخصّ من موظفي البنك المركزي) أنّ مدفن جناب الطّاهرة قريب من مكان هو الآن مطبعة البنك المركزي. على أية حال يستدّل من القرائن أنّ مدفن الطّاهرة كان في بئر خلف جدار ثلاجة(34) ويقينًا سوف تكشف في المستقبل.
يتفضّل حضرة عبد البهاء في لوح له نزّل بإعزاز جناب الحاج أبو القاسم الدبّاغ (ناظريان): “إنّ مرقد جناب الطّاهرة في حفرة بحديقة. وسوف ينكشف ذلك ويتّضح أيضًا إن شاء الله”(35).
يكتب نيقولاس الفرنسي في كتاب “السيّد عليّ محمّد المعروف بالباب” نقلًا عن إحدى السيّدات الخادمات في منزل الكلانتر بخصوص الأيّام الأخيرة لحياة الطّاهرة ما يلي: “… في النّهاية خرجت في ليلة مثل العادة من الغرفة. وكنت مستيقظة. ذهبت إلى الفناء وغسلت كلّ بدنها ورجعت للغرفة ولبست ملابس بيضاء كاملة وكانت تتعطّر وهي تدندن. لم أرها قطّ بهذا الفرح والسّرور أبدًا. مرّت بكلّ النّساء اللّاتي في المنزل واعتذرت منهّن إذا كانت أثقلت عليهّن أو بدر منها أيّ أخطاء وطلبت العفو، كانت تتصرّف تمامًا كشخص مغادر. كان الجميع مندهشين من تصرفاتها وكنّا نتساءل من بعضنا البعض ما معنى هذا التصرّف وما مقصدها؟ عندما حلّ اللّيل لبست عباءة وربطتها ثم لفّت خصرها بشال كالحزام ثمّ لبست سروالًا واسعًا تحت العباءة، وأثناء انشغالها بهذه الأمور كانت بشوشة لدرجة جعلتنا نبكي دون إرادة، لأنّنا كنّا نحبّها لعطفها ومحبّتها، ولكنّها قالت لنا مبتسمة: “اللّيلة سأسافر في رحلة كبيرة وطويلة جدًا”. وفي نفس اللّحظة سمعنا طرقًا على باب البيت. قالت: “افتحوا الباب إنّهم يريدونني”. عند فتح الباب دخل الكلانتر وذهب إلى غرفتها وقال: “تفضّلي يا سيّدة إنّهم يريدونك”. قالت: “نعم أعرف جيّدًا إلى أين يأخذونني وأعلم ما سيفعلون بي”… وبنفس الملابس الّتي كانت ترتديها خرجت مع الكلانتر ولم نعرف إلى أين سيأخذونها. في اليوم التّالي عرفنا أنّهم قتلوها. (ص 478–480 التّرجمة الفارسيّة).
يكتب نيقولاس في نفس الكتاب بخصوص أحداث استشهاد جناب الطّاهرة نقلًا عن أحد أبناء إخوة محمود خان الكلانتر كالتّالي: “عندما كتب الحاجّي ملّا ميرزا محمّد الأندرماني وحاجّي ملّا عليّ الكنّي فتوى قتل الحواريّة البابيّة وبعثوها إلى الشّاه، أمر الشّاه بقتلها. وكانت القضيّة سرّية ولم يعلم بها سوى اثنان من موظفي الدّولة. كان عمّي قد وصّاني لمدّة أيّام أن أكون حذرًا وأراقب الشّرطة الدّوريّة وأتأكد أن يكونوا حاضرين في مكان عملهم، وإن كانوا أعلنوا ألّا يتجول أحد بعد ثلاث ساعات من حلول اللّيل. في تلك اللّيلة أمروني أن أرسل صفًّا من الشّرطة يقف عند منزل كلانتر وحتّى حديقة إيلخاني. وأنا واريت أتباعي من الشّرطة عن الأنظار وأمرتهم إذا صادف ووجدوا أيّ شخص ليس من أعضائنا وخاصّتنا، أن يقبضوا عليه ويقتلوه فورًا.
بعد أربع ساعات من الغروب سألني الكلانتر: هل اتّخذت كل الاحتياطات اللّازمة؟ ولأنّني طمأنته فقد أخذني إلى منزله. دخل بمفرده إلى الداخل ورجع فورًا مع قرّة العين وأعطاني ظرفًا مختومًا وقال: “عليك أن تأخذ هذه السّيّدة إلى حديقة إيلخاني وتسلّمها لعزيز خان السّردار وتؤكّد الاستلام. أحضروا جوادًا ركبته قرّة العين. وخوفًا من أن يعرف أيّ بابيّ عن الواقعة وضعت عباءتي على رأسها بحيث لو رآها أيّ شخص، يخال له أنّها رجل. تحرّكنا بموكب مسلّح تمامًا وسرنا بين الشّوارع، ولكن رغم كلّ الاحتياطات اللّازمة وإحاطة كلّ القوى المهمة حولنا، كنت على يقين بأنّهم لو كانوا هجموا علينا لفرّ جميع أفرادنا، لأنّ البابيّين في تلك الأثناء أرعبوا قلوب الناس بشأن لم يتصوّره أحد. بمجرّد أن دخلت الحديقة تنفّست الصّعداء. وضعتها في حجرة قرب ممرّ باب الحديقة، وأمرت العساكر أن يراقبوا الدّرب بدقّة تامّة. ثمّ ذهبت للطّابق الأوّل من العمارة لمقابلة السّردار. كان بمفرده ووجدته ينتظرني. أعطيته الرّسالة. قرأها وقال: “ألم يلحظ أحد من الأسير الّذي معك؟” قلت: “لم يكن أحد بالشّارع. أرجوك أعطني إشعارًا باستلامها”. قال: “لا، يجب أن تكون حاضرًا في تنفيذ القتل وعندها أعطيك الإشعار”.
نادى على خادمه التّركي، كان شابًا وسيمًا. أثنى السّردار عليه كثيرًا وقال له: “أنت تخدمني لمدّة طويلة وأنا لم أهتم بك كما ينبغي. ولكن أحبّك وأريد أن أتدارك ما فات عنّي وأجازيك. وحاليًا خذ هذا المبلغ (ما يعادل سبيكة ذهبية كاللّيرة) واصرفها كما تشاء. سأعدّ لك وظيفة جيّدة عن قريب. خذ هذا المنديل الحريريّ واذهب مع هذا العسكري إلى أسفل. فهو يأخذك إلى حجرة يوجد بها سيّدة كافرة، تحاول أن تخرج المؤمنين عن طريق الإسلام. أخنقها بهذا المنديل، وبالطبع ستكون بذلك خدمت خدمة حسنة لله وسأكافئك مكافئة جيّدة أيضًا”.
أبدى الخادم احترامه وسار معي، فأخذته إلى الحجرة فوجدت المسجونة ساجدة وتقرأ الأدعية. توجّه الخادم نحوها كيّ ينفّذ مأموريته، رفعت قرّة العين رأسها من السّجدة، ونظرت إليه نظرة عميقة وقالت: “أيّها الشّابّ، من المؤسف أن تتلوّث يداك بقتل إنسان”. لا أعرف مدى تأثير هذا الكلام في روح هذا الشّاب بحيث فرّ هاربًا كالمجنون. وخرجت مسرعًا وراءه أيضًا ووصلنا معًا عند السّردار. قال الخادم: “لا يمكنني أن أنفّذ هذا العمل. أعلم أنّني سأحرم من مكرمتك وسأجلب لنفسي سوء الحظ، مع هذا لا أستطيع أن ألمس هذه السّيّدة”.
صرفه عزيز خان بكلّ غضب، وفكّر لثوان، ثمّ أحضر أحد ضبّاطه الّذي كان من المغضوب عليهم وكان قد وقّع العقاب عليه ليعمل في المطبخ، وأنّبه بصورة ودّية وقال: “حسنًا… أظن أنّ عقابك يكفي، ولا بد أنّك عقلت الآن، عليك أن تفكّر بعقلك بعد هذا وتترك جنونك وتكون عند حسن ظنّي. أعلم أنّك لاقيت المصاعب في هذه المدّة وكانت أحوالك سيئّة، خذ وتناول كأس العرق هذا فأنا أسمح لك بهذا”.
ثمّ أعطاه منديلًا جديدًا وأمره نفس الأمر الّذي سبق وأعطاه للخادم التّركي. ذهبنا معًا إلى الحجرة، وبمجرد دخوله رمى بنفسه على قرّة العين ولفّ المنديل حول رقبتها وشدّها عدّة مرّات بقوّة إلى أن قطعت أنفاسها، فوقعت المسكينة على الأرض. مرّة أخرى وضع ركبته على ظهرها وشدّ المنديل بكلّ قوّة وكأنّه كان يخشى من فشل عمله، ولم يمهلها حتّى تفارق الحياة بل أخذ جسدها على الفور خلف جدار الثّلاجة وفي حين لم تكن قد أسلمت الرّوح تمامًا رماها في الحفرة. صاح السّردار على الخدم كيّ يردموا الحفرة بسرعة حيث كان طلوع الصّبح قريب. (ص 480–484 التّرجمة الفارسيّة).
يكتب أيادي أمر الله جناب الميرزا حسن أديب بخصوص واقعة استشهاد جناب الطّاهرة ما يلي: “بما أنّ هذا الفاني في بداية الشبّاب كنت منشغلاً بدراسة العلوم وحريصًا على كشف الحقائق، رغم أنّ صدق الأمر المبارك لم يكن واضحًا لي حينها، إلّا أنّني كنت أرغب أن أطّلع على حقيقة تلك القضيّة. لذا سألت يومًا أحد أبناء أعمامي الّذي كان مقرّبًا جدًا لي، وهو رجل دين وصوفيّ المسلك وأكبر منّي سنًّا، قلت له: “ما هي معلوماتك عن هذه القضيّة؟ قال: “أنا أيضًا لا توجد لديّ معلومات مؤّكدة، ولكن هذا أمر سهل، لأنّ ابن الكلانتر الأكبر صديقي ومن نفس مسلكي، سأدعوه في يوم تكون أنت موجودًا أيضًا ونتحقّق الأمر منه”.
في اليوم المحدّد بعد أن تمّ الاجتماع، سألت المذكور: “أنّني سمعت عن واقعة قتل قرّة العين قصصًا مختلفة، جنابكم أعلم من الكلّ لأنّها كانت محبوسه لديكم”. قال: “بعد ظهر ذلك اليوم الّذي كانت ستقتل فيه ليلًا، نزلت من الغرفة العلويّة وكأنّ لديها خبرًا، نظّفت نفسها وغيّرت ملابسها، وكانت تعتذر من أهل البيت فردًا فردًا لأنّها أتعبتهم، كالمسافر الّذي على وشك الحركة، وكعادتها في أوائل الغروب كانت تتحرّك في كمال النشاط والانبساط وهي تتلو بعض الأدعية بصوت خفيض في الحجرة العلويّة ولم تتحدّث إلى أيّ أحد.
وبعد ثلاث ساعات من حلول اللّيل منع التّجوّل في الشّارع ولم يخرج أحد من منزله خوفًا من العقاب. دخل والدي وقال لي: “لقد أخذت جميع الاحتياطات اللّازمة، وأوصيت كلّ النّوّاب مع الخدم الأقوياء أن يراقبوا كلّ المنافذ مراقبة شديدة كيّ لا يحصل أيّ غوغاء. يجب عليك أيضًا أن تأخذ هذه السيّدة في غاية الحذر مع هؤلاء الخدم إلى حديقة إيلخاني وتسلّمها إلى رئيس الكلّ السّردار عزيز خان، وتبقى هناك إلى أن يتم تنفيذ هذا الأمر، ثمّ ترجع لتخبرني لأنّي يجب أن أبلغ الشّاه”. ثم قام وقال لي: “تعال معي”.
سرنا سويًا إلى باب الغرفة العلويّة، فوجدنا الطاهرة جاهزة. قال لها والدي: “تفضّلي يجب أن تذهبي إلى مكان ما”. قامت فورًا. عندما وصلنا إلى باب المنزل كان جواد والدي حاضرًا، جعلوها تركب الجواد ووضع والدي جبّته على رأسها كي لا يعرف أنّها إمرأة. ثمّ تحرّكنا مع جماعة من الخدم الأقوياء، ومررنا بعدّة أماكن حتى وصلنا إلى حديقة، أنزلوها وأدخلوها في حجرة أرضيّة كانت خاصة بالخدم. ذهبت إلى السّردار فوجدته وحده منتظرًا. أبلغته رسالة والدي وسلامه. فقال: “هل اطّلع أحد في الطّريق بالأمر؟ قلت: “لا”.
طلب خادمًا وسأل عن أحواله وهل أرسل شيئًا إلى أهله خلال سفرته؟ قال: “لا”. أعطاه بعض النقود وقال: “ارسل لهم هذا فورًا، ولاحقًا سأكافئك”. وأعطاه منديلاً حريريًّا كان في يده، وقال: “خذ هذا واذهب لتلك المرأة البابيّة الّتي جاءوا بها وأخنقها به، لأنّها تتسبّب في الضّلال”.
ذهب هو وخرجت معه. توقفت عند باب الحجرة وتقدّم هو. وبمجرد أن اقترب نظرت إليه قرّة العين وقالت عبارة ما، وجدت الخادم يتراجع شيئًا فشيئًا. طأطأ رأسه وكان يتمتم بالتّركيّة مع نفسه وخرج من الحجرة. رجعت إلى السّردار وأخبرته بما حدث. طلب القهوة وبعد برهة من التفكير طلب حارسه وقال له: “أين الأسود الشرير الّذي طردته وسبق أن أسلمته لك؟” قال: “إنّه يخدم في المطبخ”. قال: “قل له أن يأتي”، فدخل شخص أسود قذر قبيح المنظر. قال له: “أرأيت كيف تورّطت؟. لو تتوب وتترك شرورك سأرجعك إلى مقامك الأوّل لتكون سعيدًا مثل البقيّة”. قال: “لن أعصى أوامرك بعد الآن”. قال: “حسنًا، يقينًا لم تشرب العرق منذ مدة. اذهب إلى تلك الحجرة واشرب كأسًا وتعال كيّ أقول لهم أن يوفّروا لك ملابسك وأغراضك”.
ذهب وعاد وقال له: “هل تقدر أيها البطل، أن تخنق المرأة الموجودة بأسفل؟” قال: “بلى”، وخرج وخرجت معه أيضًا. بمجرد أن وصل إليها وضع شيئًا حول رقبتها ولفًه بحيث أغمى عليها ووقعت. ثمّ ركلها عدّة ركلات شديدة في صدرها وجوانبها. ثمّ جاء الحرّاس وأخذوها بنفس ملابسها وألقوا بها في بئر بحديقة خلفيّة وردموه بالحجارة والتّراب. ثمّ رجعت إلى المنزل ونقلت تفصيل ما حدث لوالدي(36).
إنّ كتابات جناب أديب حائزة على أهميّة كبرى لأنّها مستندة على أقوال ابن الكلانتر الّذي كان شاهد عيان لاستشهاد جناب الطّاهرة. رغم أنّ نقولاس استفاد يقينًا من معلومات جناب أديب ولكن كتابته تختلف في عدّة مواضع عن المذكور. على كلّ حال كتابة الاثنين تحتوي على اطّلاعات مهمّة بخصوص استشهاد جناب الطّاهرة.
ولكن روح الكلام في بيان حضرة عبد البهاء في كتاب تذكرة الوفاء قوله الأعلى: “ثمّ أخرجوها من بيت كلانتر المذكور بحجّة الذهاب بها إلى منزل رئيس الوزراء، فتزيّنت ما استطاعت ولبست أفخر ثيابها وطلت وجهها بالعطر وماء الورد ودهنت شعرها بالرّوائح المسكيّة النّفيسة وبارحت دار المحافظ. فقادها الحرّاس إلى بستان لينفّذوا فيها حكم الإعدام. ولمّا حان وقت قتلها تردّد الجلادون وامتنعوا عن قتلها. فأحضروا زنجيًّا نشوان يترنح وأعطوا لذلك الأسود ذي القلب الأسود منديلًا ليدسّه في حلقها ففعل ثمّ خنقها. وبعد أن فاضت روحها الزكيّة ألقوا بجسدها المطهّر في بئر واقع في وسط البستان ورجموه بالحجارة ثم أهالوا عليه التراب. أما هي فكانت تتلقى كلّ ما حلّ بها (وهي على قيد الحياة) هاشّة باشّة مسرورة للغاية، وفدت بروحها مستبشرةً بالبشارات الكبرى متوجّهةً إلى الملكوت الأعلى…” (ص 230)
وتفضّل في بيان آخر: “أخبروا الطّاهرة، أنّ زوجة الصّدر الأعظم تحب أن تلاقيها في البستان، لذا ذهبت مع المأمورين إلى تلك الحديقة. ففي تلك الحديقة قام عبد أسود بخنق الطّاهرة بالمحرمة ورموا جسدها في البئر”(37). (مضمون البيان المبارك)
أمّا بخصوص أنّ جناب الطّاهرة تزيّنت قبل استشهادها، مستندة إلى بيان حضرة عبد البهاء. يتفضّل “أنّ الطّاهرة لم تتزيّن في حياتها.. ولكنّها تزيّنت أثناء الشّهادة”(38).
يجب أن لا ننسى أنّ جناب الطّاهرة كانت من عائلة ثريّة جدًا وكان لديها من وسائل الزّينة الكثير، ولكنها لم تستخدمها. وحسب تصريح حضرة وليّ أمر الله أنّ جناب الطّاهرة في بدشت كانت متزيّنة أثناء كشف الحجاب(39). ويكتب نبيل الزّرندي ضمن توضيح واقعة بدشت: “وإذ بالطّاهرة حضرت فجأة مزيّنة دون حجاب أمام أعين الأصحاب المجتمعين(40). كما ذكر في تاريخ نبيل (نقلاً عن زوجة الكلانتر) أنّ جناب الطّاهرة كانت في كامل زينتها قبل الاستشهاد(41). وفي رأي كاتب هذه السّطور استنادًا إلى بيان حضرة عبد البهاء المبارك ومصداقًا لما يقال “أنّ وجه المليحة لا حاجة له للزينة”. فإنّ جناب الطّاهرة بسبب جمالها الأخّاذ لم تكن بحاجة إلى الحلية والزّينة، لقد تزيّنت خلال حياتها مرتين فقط، أثناء كشف الحجاب في بدشت وبعدها بسنوات قبل استشهادها بلحظات.
على أيّ حال بعد عرض كلّ هذه النّقاط ونقل وجهات نظر المؤرّخين البهائيّين وغير البهائيّين ونصّ حضرة عبد البهاء بخصوص استشهاد جناب الطاهرة. من الجدير أن ننقل هنا ما كتبه جناب نبيل الزّرندي في هذا الباب كيّ يكون مسك الختام لشرح حياة جناب الطّاهرة نابغة زمانها، لأنّ ما كتبه نبيل يعتبر أكثر شموليّة وتصويبًا نوعًا ما(42). بالطبع لا بدّ من مطابقة عدّة نقاط صغيرة من تاريخ النّبيل في باب استشهاد جناب الطّاهرة مع محتوى كتاب تذكرة الوفاء من آثار قلم حضرة عبد البهاء وكتاب القرن البديع God Passes By لحضرة ولي أمر الله.
يصوّر نبيل الزّرندي نقلًا عن بعض أصدقاء زوجة الكلانتر المقرّبين قصّة استشهاد جناب الطّاهرة للأجيال القادمة بشكل جيد ويقول: “كانت زوجة الكلانتر على خلاف زوجها قد أظهرت الاحترام الزّائد للطّاهرة ولأنّها كانت مضيفتها، كانت تعرض عليها خيرة النّساء في طهران، وكانت تخدمها بكلّ حماس وتشاركها في عملها بتوثيق عرى ألفتها مع باقي النّساء من الأميرات. تقول زوجة الكلانتر: “ذات ليلة بينما كانت الطّاهرة في منزلي استدعتني لمحضرها، فوجدتها مزيّنة ومرتدية رداءً من الحرير الأبيض. وكانت الغرفة معطّرة بأحسن الأطياب. فأظهرت دهشتي من هذا المنظر غير المألوف. فقالت: “إنّي أستعد للقاء المحبوب وأريد أن أخلّصك من متاعب سجني”. فذهلت في البداية وبكيت لفكرة الافتراق عنها. فقالت لي لتطمئنني: “لا تبك، لأنّ ساعة حزنك لم تأت بعد، وأريد أن أشاركك بآخر رغباتي لأنّ السّاعة الّتي سيقبض عليّ فيها، والّتي أتجرّع فيها كأس الشّهادة، تقترب سريعًا. وأطلب منك أن تسمحي لنجلك أن يرافقني إلى مكان إعدامي وليؤّكد على الحراس والجلاد الّذين سوف أسلّم لأيديهم أن لا يجرّدوني من هذه الثّياب. وأرغب أيضًا أن يطرح جسدي في بئر، وأن تملأ بعد ذلك بالتراب والأحجار. وبعد مرور ثلاثة أيّام على وفاتي، ستأتي إليك امرأة تزورك، فعليك أن تسلّمي لها هذه الرزمة الّتي أسلّمها لك الآن. وآخر طلباتي أن لا تسمحي لأحد بأن يدخل غرفتي، فمن الآن إلى وقت أن يطلبوا خروجي من هذا المنزل، أريد أن لا يقطع أحد صلاتي، ففي هذا اليوم اعتزمت الصّوم، ولا أقطع هذا الصّوم حتّى أقابل محبوبي”. وأمرتني بهذه الكلمات أن أغلق الغرفة ولا أفتحها حتّى تدّق ساعة الفراق، وطلبت أن لا أفشي سرّ شهادتها.
فأغلقت باب غرفتها وعدت إلى غرفتي في حالة حزن عميق. ومكثت بلا نوم مكتئبة على فراشي، وأفجع قلبي علمي بدنوّ ساعة شهادتها، وكنت أناجي ربّي في يأسي وأقول: “ربّ ربّ إذا شئت امنع عنها الكأس الّذي ترغب في تجرّعه”. ففي ذلك اليوم واللّيلة الّتي تلته لم أتمكّن من تمالك نفسي فقمت ووقفت عند عتبة باب غرفتها وبقيت صامتة متلهّفة لاستماع ما يخرج من فمها. وسحرتني نغمات ذلك الصّوت الّذي تغنّى بمدائح محبوبها…أخبرت نجلي برغبات الطّاهرة. كنت من شدّة قلقي أقوم وأذهب إلى عتبة غرفتها وأبقى هناك صامتة أستمع لما يخرج من فمها من المناجاة ونغمات المدائح في محبوبها. نفّذت ما طلبته مني جناب الطّاهرة.
وبعد أربع ساعات من غروب الشّمس، سمعت دقّ الباب… وتصادف في تلك اللّيلة غياب زوجي. ولمّا فتح نجلي الباب أخبرني أنّ الفراشين (المأمورين) المرسلين من عزيز خان السّردار، واقفون عند البوابة يطلبون تسليم جناب الطّاهرة لأيديهم على الفور… ذهبت إلى باب غرفتها وفتحته بيد مرتعشة ووجدتها مستعدّة للمغادرة، وعندما دخلت الغرفة وجدتها تذرع جيئةً وذهابًا وترتل مناجاة جامعة بين الحزن والنّصر. وبمجرّد أن رأتني اقتربت مني وقبّلتني ووضعت في يدي مفتاح صندوقها الّذي تركته لي وبه بعض الأشياء الصغيرة كتذكار لبقائها في منزلي وقالت لي: “كلّما تفتحين الصّندوق وتشاهدي الأشياء الّتي فيه، أرجو أن تتذكّريني وتفرحي لفرحي”.
وبهذه الكلمات ودّعتني الوداع الأخير وغابت عن أنظاري برفقة نجلي… وامتطت الجواد الّذي أرسله لها السّردار، وحرسها نجلي وعدد من الخدّام الّذين مشوا على جانبيها وذهبت إلى الحديقة الّتي كانت محل استشهادها. وبعد ثلاث ساعات عاد نجلي ووجهه مغطى بالدموع وهو ينزل اللّعنات على السّردار وعلى أعوانه الفاسقين. وأردت تهدئة خاطره وإذ جلس بجانبي سألته أن يحكي كيفية استشهادها، فأجاب وهو يبكي: “والدتي! لا أقدر أن أصف ما شاهدته بعينيّ حقّ الوصف. فقد ذهبنا مباشرة إلى حديقة إيلخاني، الّتي تقع خارج بوابة المدينة. وذعرت إذ شاهدت السّردار وأعوانه غارقين في الملذّات والفسق، وقد لعبت الخمر بعقولهم وعلت أصواتهم بالقهقهة والضّحك. وفي تلك الحالة أمر السّردار أن تخنق جناب الطّاهرة ويرمى جسدها في البئر”(43).
وحسب رواية نبيل الزّرندي حكى نجل الكلانتر لوالدته: “وإذ وصلنا إلى البوابة ترجّلت جناب الطّاهرة ونادتني وطلبت مني أن أكون وسيطًا بينها وبين السّردار، لأنّها لا تميل إلى مخاطبته وهو في غمرة مرحه. وقالت: “يبدو أنّهم يريدون خنقي، وقد أعدّدت منذ زمن منديلًا حريريًّا ليستعمل لهذا الغرض. وأنا أعطيه لك وأريدك أن تقنع هذا السّكير الفاجر أن يستعمله في إنهاء حياتي”. ولما ذهبت إلى السّردار وجدته في حالة سكر عميق. وإذ اقتربت إليه، صاح قائلًا: لا تكدّر علينا صفو بهجتنا، فلتؤخذ هذه الشّقيّة التّعسة وتخنق ويطرح جسدها في بئر.
وقد دهشت من صدور مثل هذا الأمر، واعتقدت أنّ لا حاجة لإعادة السّؤال، وذهبت إلى اثنين من خدمه كنت أعرفهما، وأعطيتهما منديل الطّاهرة. فعملا على إجابة طلبها ولفّا المنديل حول عنقها حتّى أسلمت الرّوح. وأسرعت إلى البستاني لأسأله عن مكان يصلح لمواراة جسدها فيه. فأرشدني لفرط سروري لبئر حفرت حديثًا وتركت دون إكمال. وبمساعدة آخرين أنزلنا الجسد في قبره وملأنا البئر بالتراب والأحجار كما أرادت هي بنفسها…”
وقد بكيت دموعًا حارة على تلك الفاجعة الّتي رواها لي نجلي. وغلب عليّ التّأثر حتّى وقعت على الأرض مغشيًّا عليّ، ولمّا أفقت وجدت أنّ نجلي قد وقع مثلي من شدّة الألم وأصابه مثل ما أصابني، وكان مطروحًا في فراشه تنهمر منه دموع انفعال مخلص، وإذ شاهد حالي وما أصابني، واساني بقوله: “إنّ دموعك ستكشفك أمام عينيّ والدي وقد يحمله مركزه ومقامه أن يتركنا ويقطع كل علاقة تربطه بهذا المنزل. وإذا لم نحبس دموعنا فإنّه قد يتّهمنا أمام ناصر الدّين شاه بأنّنا وقعنا فريستين لسحر عدوّ بغيض. ويحصل على موافقة الشّاه بإعدامنا وربّما يذبحنا بيديه. فلماذا نرضى بمثل هذا النّصيب على يده ما دمنا لم نعتنق هذا الدّين؟ وكلّ ما علينا عمله هو أن ندافع عن الطّاهرة ونكذّب أقوال كل من يتّهمها في عرضها وشرفها. ولنجعل حبّها مكنونًا في أفئدتنا إلى الأبد، ونؤّكد نبل حياتها أمام كلّ عدوّ مفتر”(44).
وكما يروي النّبيل، قالت زوجة الكلانتر، في اليوم الثّالث من شهادتها، جاءت المرأة الّتي أخبرتني مقدمًا بمجيئها، وسألتها عن اسمها. ولما علمت أنّه مطابق للّذي أخبرتني به الطّاهرة، سلّمتها الرّزمة الّتي ائتمنت عليها، ولم أكن قد رأيت هذه المرأة من قبل، ولم أرها بعد ذلك(45). بعض المؤرخين يعتقدون أنّ هذه المرأة كانت الأميرة شمس جهان الملّقبة بفتنة(46).
وبرواية نبيل الزّرندي قالت زوجة الكلانتر بعد استشهاد الطاهرة: “ذهبت وأحضرت صندوقها وفتحته بالمفتاح الّذي وضعته في يدي. فوجدت فيه قارورة من ألطف الطّيب وبجانبها مسبحة وقلادة من المرجان وثلاثة خواتم مطعمة بأحجار الفيروز والعقيق والياقوت”(47). ذكرى سيّدة عظيمة في طهارتها وتقواها، وعلمها وبصيرتها وذكائها، وأيضًا في خشوعها وخضوعها وحماسها لم يكن لها مثيل بين نساء عصرها بل في تاريخ قيام النّساء من أجل الحريّة. تلك السّيّدة الّتي أطلق عليها بنصّ الحقّ والتّاريخ الطّاهرة الخالدة. وهكذا أصدر ملّا عليّ الكنّي والميرزا محمد الأندرماني فتوى قتل الطّاهرة. والشّاه أيضًا كما ذكرنا سابقًا أصدر فتوى قتلها قبل يوم من استشهادها. لذا حضرت الطّاهرة في اليوم التّالي ثملة بعشق المحبوب في مذبح العشق ثمّ لحقت به.
نصب العشق رايةً فوق أنقاضي
ودعاني إلى عتبة محبوب فؤادي
سكب سلاف الحقّ في كأسي
تهت عن نفسي وعن ناسي
ونشد الحقّ همّتي وحماسي
ساقي الحان في محفل الميثاق
سكب الرّاح في قدح العشّاق
كذرّات صعدنا وقد كنّا هباءً
فحيّت الرّاح منّا وباتت بقاء
ما ذاك إلّا من نشوة صهبائي
العشق ينادي في كلّ حين وآن
على الموجود في الكون والمكان
من يهوى السّلوك في درب حبّي
وهاب أمواج البلايا في سبيلي
لن تطأ قدماه شطّ بحر عطائي
فيما يلي نصّ لوح زيارة نزل بحقّ جناب الطّاهرة، من قلم الجمال الأقدس الأبهى(1).
بسم الله العليّ الأعلى
أن يا قلم الأعلى، ما أخذك السّرور في أيّام ربّك العليّ الأعلى لتغنّ به على أفنان سدرة المنتهى بنغمات البهاء، ولكن مسّتك المصيبة العظمى، إذًا ضجّ بين الأرض والسّماء ثمّ اذكر ما ورد عليك من شؤونات القضاء ليجري دموع من في لجج الأسماء في هذه المصيبة الّتي فيها اهتزّالرّضوان وتزلزلت الأكوان واضطّربت حقائق الإمكان وبكى عين العظمة على عرش اسمه الرّحمن، وقل أوّل رحمة نزلت من سحاب مشيّة ربّك العلّي الأبهى وأوّل ضياء أشرق من أفق البقاء وأوّل سلام ظهر من لسان العظمة في ملكوت الإمضاء عليك يا آية الكبرى والكلمة العليا والدّرّة النّوراء والطّلعة الأحديّة في جبروت القضاء. كيف أذكر مصائبك يا أيّتها الورقة الحمراء تاللّه من سقوطك عن شجرةالأمر سقطت أوراق سدرة المنتهى وانكسرت أفنان دوحة البقاء ويبست أغصان شجرة الطّوبى واستدمت قلوب الأولياء واصفرّت وجوه الأصفياء وتشبّكت افئدة الأتقياء في الجنّة المأوى وناح روح الأمين على محضر الكبرياء وصاحب سكّان الأرض والسّماء. أنت الّتي كنت لوجنة الإماء شامة الهدى ولجبين التّقوى غرّة الغرّاء، وبك شقّت سبحات الأوهام عن وجه الإماء وبك زيّنت هياكلهن بطراز ذكر مالك الأرض والسّماء. أنت الّتي إذا سمعت نداءالله ما توقّفت أقلّ من آن وسرعت إليه منقطعةً عمّا سواه وآمنت به وبآياته الكبرى وعرفت مظهر نفسه في أيّامه بعد الّذي فزع من في السّموات والأرض إلاّ الّذين أمسكتهم يد إرادة ربّك العليّ الأبهى ونجّاهم من غمرات النّفس والهوى. أنت الّتي كنت غريبة في وطنك وأسيرة في بيتك وبعيدة عن ساحة القدس بعد اشتياقك وممنوعة عن مقرّ القرّب بعد شوقك وتوجّهك. أنت الّتي لم تزل حرّکتك أرياح مشيّة ربّك الرّحمن كيف شاء وأراد، وما كان لك من حركة ولا من سكون إلاّ بأمره وإذنه. طوبى لك بما جعلت مشيّتك فانية في مشيّة ربّك ومرادك فانيًا فيما أراد مولاك. أنت الّتي ما منعتك إشارات أهل النّفاق عن نيّر الآفاق ولا إعراض الشّقاق عن مالك يوم التّلاق، وقد وفّيت الميثاق في يوم تشاخصت فيه الأبصار وانفضّ الفجّار عن حول مظهر نفس ربّك المختار إلاّ قليلًا من الأخيار. فآه آه، في مصيبتك منع القلم عن الجريان ومرّت روائح الأحزان على أهل الجنان وبها انفصلت أركان كلمة الجامعة وظهرت على صور الحروفات المقطّعات في أوائل سور الكتاب وبها أخذ العقول حكم القيود في عالم الجبروت ولبس الهيولا ثوب الصّورة في ملكوت القضاء. فوحقّك يا أيّتها الورقة البقائيّة صعب عليّ بأن أرى الدّنيا ولا أراك وأسمع هدير الورقاء ولا أسمع نغماتك في ذكر ربّك العليّ الأبهى. تاللّه بحزنك حزنت الأشياء عمّا خلق في ملكوت الإنشاء ولبس مطالع الأسماء أثواب السّوداء فكيف أذكر يا حبيبة البهاء أيّام الّتي فيها تغنّيت على الأفنان بفنون الألحان في ذكر ربّك الرّحمن وبنغماتك في ثناء ربّك العزيز المنّان ارتفع حفيف سدرة البيان وهدير ورقاء العرفان وخرير ماء الحيوان وهزيز أرياح الجنان وزقاء ديك العرش في ذكر ربّك العزيز المستعان. أنت الّتي بتسبيحك سبّح كلّ الوجود ربّه العزيز الودود وببعدك تكلكلت الورقاء وركدت الأرياح وخبت مصابيح الفلاح وجمدت مياه النّجاح. عميت عين ما شهدت في وجهك نضرة الرّحمن وما بكت بما ورد عليك من الأحزان وخرست لسان لا يذكرك بين ملأ الأكوان. فيا بشرى لأيّام فيها تحرّكت على الشّجرة وتغنّيت عليها بآيات الأحديّة واستجذب به فؤاد كلّ أمة خاشعة خاضعة، والّتي أرادت ربّها بوجه ناضرة ضاحكة مستبشرة. فوا حزنًا لتلك الأيّام الّتي فيها غطّي وجهك وستر ظهورك ومنع لقاؤك. فآه آه يا أيّتها الورقة الأحديّة والكلمة الأوليّة والسّاذجة القدميّة والثّمرة الإلهيّة والطّلعة العمائيّة والآية اللّاهوتيّة والرّوح الملكوتيّة، في مصيبتك منعت البحار عن أمواجها والأشجار من أثمارها والآيات من إنزالها والكلمات من معانيها والسّماء من زينتها والأرض من إنباتها والمياه من جريانها والأرياح من هبوبها وإنّي لو أذكر رزاياك علی ما هي عليها لترجع الوجود إلى العدم ويرتفع صرير قلم القدم. لم أدر أيّ رزاياك أذكره بين ملأ الأعلى. أذكر ما ورد عليك من أحبّائك أو ما ورد عليك من أعداء الله ربّ الآخرة والأولى. أنت الّتي حملت في سبيل مولاك ما لا حملته أمة من القانتات وبه جرت دموع القاصرات في الغرفات وخررّن حوريّات الفردوس على وجه التّراب وعرّين رؤوسهنّ طلعات الأفريدوس. يا ورقة الحمراء بمصيبتك تغبّر وجه الظّهور وبدّل السّرور واضطّربت أركان البيت المعمور وطوي رقّ المنشور. فآه آه. بمصيبتك قبل كلّ الوجود من الغيب والّشّهود حكم الموت بعد الحيوة ولبس مشيّة الأوّليّة رداء الأسماء والصّفات. ولمّا انصّبت رزاياك علی نهر الأعظم الّذي كان مقدّسًا عن الألوان تفرّقت وصارت أربعة أنهار وأخذته الألوان المختلفة والحدودات العرضيّة فلمّا ألقيت علی ركن الأوّل من كلمة الّتّقوى تأخّرت فيها حرف الإثبات لحزنها واستقدمت حرف النّفي وظهر منها ما احترق به قلب البهاء وكبد البهاء. فلمّا قرأت على النّقطة الأوّليّة صاحت واضطّربت وتزلزلت إلى أن تنزّلت وظهرت على هيئة الحروفات في الصّفحات. فلمّا سمعت نقطة العلم ضجّت وناحت واختلفت وتفرّقت وفصّلت وظهرت منها علوم متفرّقات ومظاهر مختلفات وبها استكبرن مرايا على الله في يوم فيه شهد كلّ الذّرات بأنّ الملك لله الواحد المقتدر القهّار. تاللّه بما ورد عليك من أعدائك كاد أن تستبق العدل فضل ربّك، والقهر رحمة الّتي سبقت كلّ الأشياء. فآه آه يا كلمةالبهاء والمستشهد في سبيل البهاء كم من ليال بكيت علی الفراش شوقًاً للقاء البهاء وكم من أيّام احترقت بنار الاشتياق طلبًا لوصال البهاء وتوجّهًا إلى وجه البهاء الّذي لا يرى فيه إلاّ الله العلّى الأعلى وإنّك أنت ما أردت من وجهه إلاّ وجه ربّك ويشهد بذلك أهل ملأ الأعلى ثمّ أهل جبروت البقاء. عميت عين ما شهدت فيك آيةالتّوحيد وظهور التّفريد. يا أيّها المذکور بلسان البهاء تاللّه حكم التّأنيث يخجل أن يرجع إليك يا فخر الرّجال. طوبى لك يا مظهر الجمال، طوبى لك بما طهّرك الله في أزل الآزال عن شبهات أهل الضّلال وحفظك عن الزلزال وإنّه لهو العزيز المتعال وإليه يرجع حكم المبدء والمآل. أشهد بأنّك كنت ورقةً لم تزل حرّكتك أرياح مشيّة الله وما أخذتك إشارات أهل النّفاق الّذين نقضوا الميثاق وكفروا باللّه مالك يوم التّلاق. طوبى لأمة آنست بك وسمعت ذكرك وتمسّكت بحبل حبّك واستقربت بك إلی الله موجدك وخالقك، والّتي ما ذاقت حبّك خالصًا لوجه ربّك أنّها صارت محرومة من عناية الّتي اختصّك الله بها. والجنّة لمن أقبل إليك وبكى عليك وزارك بعد موتك يا أيّتها المستورة في أطباق التّراب إنّ جسدك وديعة الله العزيز الوّهاب في بطن الأرض وروحك استرقى إلى الأفق الأبهى والّرّفيق الأعلى. اللّهم يا إلهى، وال من والاها وعاد من عاداها وانصر من نصرها وارزق من زارها خير الدّنيا والآخرة، وما قدّرته للمقرّبين من خلقك والمخلصين من بريّتك وإنّك أنت مالك الملوك وراحم المملوك وفى قبضتك ملكوت ملك الأرض والسّماء تفعل ما تشاء، لا إله إلاّ أنت ربّ العرش والثّرى وربّ الآخرة والأولى. سبحانك اللّهم يا إلهي أسألك بمظهر نفسك العليّ الأعلى وبظهوراتك الكبرى وبآياتك الّتي أحاطت الأرض والسّماء ثمّ بهذا القبر الّذي جعلته أوعية حبّك ومقرّ ورقة من أوراق سدرة ظهورك بأن لا تطردني عن بابك ولا تجعلني محرومًا عمّا قدّرته لأصفيائك. أي ربّ أسألك بك وبها وبمظاهر الأسماء كلّها بأن لا تدعني بنفسي وهوائي ولا تجعلني من الّذينهم اعترضوا عليك وأعرضوا عنك في يوم الّذي فيه استويت على عرش رحمانيّتك وتجلّيت على كلّ الأشياء بكلّ أسمائك. فاشربني يا إلهى من سلسبيل عرفانك وكوثر عنايتك واجعلني منقطعًا عمّا سواك ومقبلًا إلى حرم وصلك ولقائك وإنّك أنت المقتدر على ما تشاء. لا إله إلاّ أنت المتعالي العزيز الوهّاب. أي ربّ أسألك بنار الّتي اشتعلتها في صدر هذه الورقة الّتي تحرّكت من أرياح مشيّتك ونطقت على ثناء نفسك بأن تشتعل قلوب عبادك من نار حبّك لينقطعنّ عن الّذينهم كفروا ويقبلنّ إلى وجهك، ثمّ انزل يا إلهى عليّ وعلى عبادك المنقطعين وأحبّائك الثّابتين خير الدّنيا والآخرة، ثمّ اغفر لنا ولآبائنا وأمّهاتنا وإخواننا وأخواتنا وذرّياتنا وذوي قرابتنا من الّذين آمنوا بك وبآياتك وكانوا مقرًّا بوحدانيّتك ومعترفًا بفردانيّتك ومذعنًا بأمرك وناطقًا بثنائك، وإنّك أنت الّذي لم تزل كنت قادرًا ولا تزال تكون حاكمًا لا يمنعك اسم عن اسم ولا صفة عن صفة، كلّ الأسماء خادمة لنفسك وطائفة في حولك ومنقادة لسلطنتك وخاشعة عند ظهور آثار قدرتك وخاضعة لدى بوارق أنوار وجهك، وإنّك لم تزل كنت وتكون مقدّسًا عن خلقك وبريّتك وبذلك يشهد نفسي وكلّ الذّرات وكينونتي وكينونات من خلق بين الأرضين والسّموات. لا إله إلاّ أنت المقتدر المتعالي العزيز المنّان.
صدر من قلم حضرة الباب تواقيع عديدة بإعزاز جناب الطّاهرة، أو جاء وصف لحضرتها في تواقيع أخرى للأصحاب. لقد تمّ نقل فقرات من تواقيع الأصحاب بخصوص الطّاهرة سابقًا في هذا الكتاب، سنبادر هنا بتوضيح محتوى عدد من التواقيع المباركة النّازلة بإعزاز تلك الشّهيدة الخالدة.
أ) الباب السّابع عشر من الواحد الخامس لكتاب الأسماء(1) “في معرفة اسم المقلّب” هو بإعزاز جناب الطّاهرة. قد يكون المراد من اسم الله “المقلّب” إشارة إلى قدرة جناب الطّاهرة في تقليب مئات النّفوس من العلماء والأمراء وكبار الشّخصيات في إيران والعراق.
ب) توقيع آخر من حضرة الباب وخطاب لجناب الطّاهرة تمّ طبعه في مجموعة نشرت بواسطة دار الآثار المركزية للبهائيّين بإيران (عدد 91، ص 52–145). يتفضّل في هذا التوقيع المبارك: “الّلهمّ ولقد نزّل على ورقة مضيئة الّتي قد جلّت وعلت آيات مجدك فيها وزكّت إشاراتها في البيان لا غيرها، وانّك لتعلم أنّها ورقة مباركة عن الورقة المصفرّة عن الشّجرة الحمراء. لا إله إلاّ أنت ولقد سئلت فيها ما عظمت عندك وجلّت لديك ولا تسأل فيها إلاّ ما خلقت ورتّبت لأجلها وهى كلمةالبديعة.”
ج) في توقيع آخر بإعزاز جناب الطّاهرة، يتفضّل كنوع من الدّعاء: “وأسألك يا إلهى أن تكتب للّتي جعلتها نفسًا خاشعة لأوليائك وراضية بقضائك وصابرة في بلائك، أمتك الّتي قد ملأتها بديعًا من آيات إلهامك لينفق في سبيلك بما شئت”(2).
د) في توقيع بإعزاز جنابها يتفضّل: “هو المتكبّر الجميل المحسن…اشكرى الله فإنّ كتابك ممهورًا قد لاحظته فخلّصك الله بمنّه ممّا تخافه وتحذره فاعلمي بأنّ من جواهر علمك قد ظهرت بواطن السّنن ومواقع الفتن فصبرًا صبرًا….”(3)
هـ) توقيع مبارك آخر من حضرة الباب نزل بإعزاز جناب الطّاهرة يبدأ بعبارات “بسمالله الأمنع الأقدس الله لا إله إلاّ هو الأفطر الأفطر”. يوجد نسخة من هذا التوقيع في أرض الأقدس بحيفا والّتي تضرّرت بسبب مرور الزّمن في عدّة مواضع.