ما إن يُمسك القارئ بالنسخة الأصلية من هذا الكتاب (باللغة الإنكليزية) ويبدأ بالقراءة، حتى لا يَوَدُّ طَيَّهُ قبل إتمامه وهو يتتبّعُ ما فيه من أحداثَ هامّةٍ صنعت فترةً مشرقةً من تاريخ الدين البهائي زاخرةً بالإنجازات والانتصارات. إنه كتاب يتناول بالتحليل مواقفَ داخل الجامعة البهائية وخارجها، وكيف أن ولي أمر الله، شوقي أفندي، أمسك بدَفَّة القيادة الروحية بكل مهارة وحنكة وحكمة، وأوصل سفينة دين الله بركّابها إلى برّ الأمان وسْطَ العواصف الهوجاء التي لولا صدقُ التاريخ لظنَّها الإنسان روايةً من نسج الخيال. فيُسعدنا أن نقدّم للقارئ الكريم ترجمة باللغة العربية لهذا الكتاب القيّم، واضعين أمامه مائدةً دَسِمة عليها ما يُشبِع نَهَمَه ويروي عطشه فيما يبحث عنه ويفكِّر، وعن كينونة شوقي أفندي الإنسان ومواهبه الفذّة قائدًا روحيًا، وفطرته الطاهرة مستلهِمًا مستنيرًا، وعبقريته العظيمة حكيمًا رحيمًا، وتواضعه الأخّاذ صبورًا حليمًا.
ولا يزال بعدُ طفلاً تفضل عنه المولى قائلاً “… إن هذا السرّ مصون في صدف الأمر المختوم كاللؤلؤ المكنون وسيلوح أنواره ويشرق آثاره ويظهر أسراره.“[1] فُتِنَ الجميعُ بجماله كطفل، وبمشاهدة طلعته يحسّ المرء كأنّ قوة عجيبة خفيّة كامنة فيه. دعا له المولى المحبوب ربّه بأن “أنبته نباتًا حسنًا برحمتك وإحسانك واجعله قضيبًا رطيبًا خضلاً نضرًا مزهرًا مورقًا مثمرًا بفيضان سحاب موهبتك.”
بعد أن تخرّج من الجامعة كتب شوقي أفندي يقول: ‘كم أنا سعيد ومحظوظ لأن أكون قادرًا على تقديم خدماتٍ لمحبوبي بعد أن أتممتُ مقرَّرَيْ الآداب والعلوم في الجامعة’، ومنذ ذلك الحين أخذت الأيام تصقُلُ مواهبَه بآلامها وآمالها؛ فكان أولاً صعودُ جَدِّه حضرة عبد البهاء بالنسبة إليه فاجعةً هزّت أركانه واستنفدت قُواه، وكما صرّح بأنها رزيةٌ عظمى إلا أنها كانت ‘قوةً دافعة لهذا الأمر وستوقظ كلَّ نفس مخلصة لتنهض وتحمل على كاهلها المسؤولياتِ التي وضعها المولى الآن على عاتق كل واحد منا.’
لقد صقلت الأحداثُ فطرتَه المميَّزة التي كانت تهدي لحقيقتها بنفسها لأنها فطرةٌ متصلةٌ بملكوت الله، ولذلك فإن دأْبَه في تشييد بنيان أمر الله العظيم لم يأتِ بانتهاز الفرص فحسب، بل كان ثمرة التخطيط المُلهَم والجهد المُحكم أيضًا. وبتطابُقِ الإلْهامِ مع الحقائق الموضوعية كان الكشفُ والتحليلُ ووَضْعُ سبُل تخطّي العقبات والتغلُّبُ على الأزمات. ولا غرْوَ في أن شوقي أفندي كان ذا فكرٍ علميِّ منهجيِّ أبدَعَ فيه أيّما إبداع في التفاعل مع نتاج التفكير الإنساني في كل اتجاهاته، وهو ماضٍ في رصْدِ أحداث التاريخ الهدّامة منها والبنّاءة ليُحيل حضرتُه المناسبَ منها إلى انتصارات باهرة لأمر الله.
أمسك بدَفَّة القيادة الروحية شابًا لم يتجاوز الرابعة والعشرين، واختطّ لنفسه منهجًا مختلفًا لأن الزمان مختلف، وتدعو الحاجة الآن إلى إبراز الطابَعِ الإنسانيِّ العالميِّ للدين البهائي الذي يكتنز العلاجَ الشافي لمشاكل العالم المُستعصية بكافة ميوله واتجاهاته الفكرية والعقائدية. فمنذ ظهور حضرة بهاء الله وأمورُ الدنيا تَمُوجُ بالتغيير وتغرقُ في الاضطراب وتزداد تأزّمًا يومًا بعد يوم، وهي آلام المخاض لولادة نظم عالمي جديد من قلب هذه المآسي والنكبات، وقد رأى ولي أمرنا المحبوب أن الظروف العالمية، طبقًا للمشيئة الإلهية، آخذة في التشكُّل وبتسارع ملحوظ حتى يتمكن الوَعْيُ الإنسانيُّ من الاختمار بنار تلك الويلات والتوجُّهِ إلى العلاج الجديد الذي قدّره الله لعباده الأوّابين في هذه الشريعة السمحاء.
تزاحمت أمامه الصعابُ وتآلبت عليه المِحنُ وهو بعدُ فتيًّا في مُقتَبل العمر، فنراه يقـول: ‘كم أشعر أَنّي بحاجة ماسّة إلى انبِعاثٍ رُوحِيٍّ كامل مؤثِّر في داخلي، إلى دَفَقِ قوةٍ جبارة، إلى ثقةٍ بالنفس، إلى الروح السماوي في روحي الوَلِهَة التوّاقة قبل أن أنهض لآخذ مكاني المقدّر لي في قيادة دين إلهي ينادي بمبادئ على هذا القدْر من المجد والبهاء.’ وبينما الساعات والأيام تمرّ به حزينةً بل ومقهورةً أحيانًا، استطاع أن يهمس في سَمْعِ الزمن ليفسح له طريقًا عريضًا بين أيامه وكأنه يقول له: قرّرْتُ أن أنهضَ وأسيرَ فائْتِني بما تريد ليحوّله تأييد ربّي لي كما أريد. فكان امتحانُ الأيام له أيّما امتحان، وغدا حضرتُه ذاك المحيطَ الذي يبتلع الأعاصيرَ ويطوي العواصفَ ليَمْضي في طريقه بكل عظمة وجلال. وإذا كان أحيانًا يذهب للاستجمام واستجماع القُوى فلأن معاناته كانت ردّة فعل لحركة الإيمان الطاهر وحيويته المتدفِّقة بين جَنَبات قلبه. وإذا كانت الأحداث قد شكّلت بداخله أزمةً فلا بدّ أن يكون ذلك من صُنْع العقل الإنساني ليَهُبَّ مستنجدًا بالتأييدات الغيبية بكل تبتُّل، فتنهمرُ عليه مدرارًا فتحفظُه وتقوّيه وتغذّيه وتشدُّ من أزره، لأنه كان يرى فيها نعمةً تستوجب شكرًا لا يليق به إلا المزيدُ من العمل والجهد والإنجاز، ولذلك كان ينفعل بالمسؤولية ويُقبِل عليها بعزم أكيد لأنها عنده أمر مقدس.
كلما كان المرء يطالعُ أحداثَ فترة من حياته ويبحثُ في تفاصيلها يميلُ إلى القول بأنها الأسوأ، إلى أن ينتقل إلى الأخرى ليجدها أكثر قتامة. فلا نُبالغ لو قلنا بأن فترةَ ولايته كانت مشحونةً بالصعاب والمحن، والتوتُّر والإجهاد، ومن رحمها حقّق الإنجازات والانتصارات لأنه كان يجعل من المسؤولية على قدْر ما يتطلَّبُه الموقف في خدمة دين الله لا على قدْرِ طاقته وقُدْرته، وحين يُنجزُها كان يُرجِع ذلك إلى تأييد الله وتضحيات المؤمنين وهو شريكُهم. كان يرى نفسه أمام الأحداث وكأنه المسؤول الأوحد، ونراه بالتدريج يهيّئُ النفوسَ التي ستحملها معه نحو الظَّفَر المؤكَّد، فكان في كل ذلك الحصادُ الوفيرُ والثمارُ الطيّبة.
كل شيء في حياته كان مرتّبًا في غاية التنظيم ومدوّنًا في فكره ومفكِّرته. هناك فرقٌ شاسعٌ بين النظرة الثاقبة واسعة المدى في شمولها، والفكر العقلاني المسخّر بذكائه في أغلب الأحيان لطموح ينشُدُ التصفيقَ والتمجيد. فلم يكن شوقي أفندي ذاك الذي يطمحُ في الحياة إلا خدمة أمر الله وارتفاع شأنه، فوَصَفَتْه زوجته بأنه خلاّق مبدع منظّم، ويَعافُ النظرياتِ الفكريةَ غير التطبيقية! فإذا ما أراد تحقيق هدفه اندفع نحوه في الحال إلى أن يُتِمّه على أكمل وجه وإتقان. لا يعرف التراجُعَ. قوّتُه خارقة ولا تُحدّ بحدود العقل البشري إدراكًا، وخارجةٌ عن قدرة تشخيص الإنسان وتمييزه. واعٍ لأدقِّ الأمور، وبفطرته النورانية استطاع أن يكشف بواطنها، وأن يفسّر المعضلات الغامضة في الدين، وأن يكتب في أكثر المسائل الروحانية تعقيدًا. حقًا لقد خُلق على نسقٍ تحرّكه المشيئة الإلهية من أجل أن يضطلع بهذا العمل كله.
التفّ حوله الأحباء من كل صوبٍ ليقولوا له: لك في قلوبنا الحبُّ كلُّه، فامضِ على بركة الله ونحن معك بقلوبنا وأرواحنا وعواطفنا متّحدين على الدوام. فخاطَبَهم بأنهم شركاؤُه في العمل وأنه الأخ الحقيقي لهم وشريكُهم في عبوديَّتهم لعتبات المولى المحبوب، ولم يُشِر إلى نفسه يومًا على أنه وراء أي ظَفَر أو إنجاز. فلا شيء يميّز الفطرة المتفوِّقة مثل نَأْيِها عن الغرور، وهذا ما نقرأه في كل كتاباته. إنها فطرةٌ وضعها حضرته في خدمته وتحت إمْرَته مما أفاء عليه تأييدًا لا يفتر، وعزيمةً لا تلين، وعزوفًا عن مباهج الدنيا. وكل ما فيه من مواهب وفضائل وقُدُرات كان يردّها إلى الله وإلى دعاء مولاه المحبوب.
كان يناشدُ الأحباءَ أن ينهضوا ويتقدموا وسْط طوفان الحياة الجارف، وقسوة الظروف المُعيقة، والامتحانات غير المسبوقة، ليقدّموا لهذا العالم المعذّب الغافل نصيبَهم من الخدمة والعمل مع أنهم لا يملكون نفوذًا، بل طُمأنينةً في القلب وإيمانًا راسخًا بفَتْحٍ قريبٍ لقلوب أهل العالم. ولذلك عليهم أن يفكّروا بما يحتاجه عبءُ المسؤولية من وفاء، فيرتقون بقدراتهم إلى ذلك المستوى المنشود. كان اتصاله بالهيئات والمؤسسات الروحانية وأفراد الأحباء اتصالاً حميمًا كأنه يعيش معهم وبينهم، يوجّههم وينصحُهم ويردّ على استفساراتهم.
لا يكفينا القول، ونحن في غمرة انبهارنا بما أنجز: أنظروا ماذا فعل حضرته؟ بل علينا أن نسأل: كيف؟ وفي أي الظروف؟ وسنجدُ الجوابَ في الكتاب بما يروي ظمأَنا. لقد اعتبر شوقي أفندي أن الأمر المبارك كأنه تجسَّدَ في كيانه، وأي أهوال تصيبه إنما تصيب ذلك الكيان الذي يعتبره قلبَ هذا الدين. ولذلك كان صارمًا شديدًا في الدفاع عنه، وعلى جانب كبير من المودَّة والحنان ولطفِ المعشر ورقّةِ القلب في آن معًا. يملك روحَ الدُّعابة مثل جدّه وجَدّه الأكبر، وسريع التأثُّر بما هو سارّ ومُبهِج، وفي الجانب الآخر في غاية المَهابة والوقار. شديدُ التمسُّك بالهدف، وإذا تلبّدتْ طريقُه بالصعاب سارع إلى اختيار أسلوبٍ آخر مع إصراره على الإنجاز. لقد صقل النفوسَ والهيئاتِ الإداريةَ وهيأها للخدمة وأطلق طاقاتها، فكان نشْرُ أمر الله في الأقطار وإيمانُ أفاضلِ الشخصيات، وأصبح للدين في عهده صوتٌ جهورٌ وكلمةٌ صادِحةٌ.
لقد أخبرنا شوقي أفندي بأن تاريخَ أمر الله، إذا ما أُحسنت قراءتُه، يمكن القول بأنه يكتب صفحاتِهِ بنفسه في سلسلةٍ من النبَضات – أزماتٍ وانتصاراتٍ متعاقبة – وهي أحداثٌ كانت تُقرِّبُه دومًا مما قُدِّر له، وقال: ‘أنا أعلم أنها طريقُ الآلام وعليّ أن أسيرَ فيها حتى النهاية. كلُّ شيء مُقدّرٌ له أن يُنجز بالمعاناة’، وشدّ اهتمامنا إلى أن أسمى هدف لحياة الفرد البهائي تعزيزُ وحدة الجنس البشري، وهدفنا جميعًا تأسيس حضارة عالمية سوف تعيد بدورها تشكيلَ شخصيةِ الفرد بإنسانيته وأخلاقه وسجاياه. حقًا لقد علَّمَنا وليُّ الأمر كيف نؤمنُ بأنفسنا ونحترمُ واجباتِنا تجاه البشرية واعتبارها الْتِزامًا مقدسًا.
إنه كتاب يُعدُّ بكل جدارة إبداعًا من إبداعات قلم أمة البهاء روحية رباني التي حرِصتْ فيه على تحكيم العقل والموضوعية، بعيدًا عن العاطفة كونها حرَم شوقي أفندي، وذلك في صياغة أفكارها بكل دقة وتسلسُل، ورَسْمِ صورة حيّة لأحداث ست وثلاثين سنة على شكل شريط يمرُّ أمام القارئ بانسيابٍ أخّاذ يشدّ اهتمامه ويأسر فكره، لتُمسِك بيده وتأخذه في رحلة داخل بواطن حياة ولي أمر الله العزيز، ولتُشبِع نَهَمَنا في حب الاستطلاع والاستقصاء إلى أبعد الحدود. وكما أخبَرَتْنا بقولها: ‘مع أن حقيقة شوقي أفندي في جوهرها ستبقى إلى الأبد لغزًا غامضًا لكل من في الوجود – إلى أن يأتي اليوم الذي قد يختار فيه المظهرُ الإلهي الجديد، كونه الأرفع مقامًا، أن يفسّرها لنا، نحن الأدنى مقامًا بكثير – مع ذلك نحن نعرف عنه الكثير ولنا الحق أن نحتفظ بذكراه بكل رقة وحنان حتى لو كان غير وافٍ بالمراد.’
عمدنا إلى تمييز البيانات المباركة الواردة أصلاً باللغة العربية بالخط الأسود العريض، والمترجم منها بالخط العادي. كما وضعنا بعض الكلمات المضافة بين قوسين مربعين [ ] بقصد التوضيح، وأضفنا الحواشي للمزيد من الإيضاحات لبعض الكلمات وتهجئة الأسماء بالإنكليزية وذكر مصادر المقتطفات.
نستميح القارئ عذرًا إذا وجد ركاكةً في التعبير أو ضعفًا في دقّة الترجمة نظرًا لقلّة البضاعة. ولا شك أن الطاقاتِ القادمةَ ستفي هذا الكتاب حقَّه في عملٍ أكثرَ كمالاً وأدقِّ تعبيرًا. ولْيهْنأَ القارئُ بما فيه من معرفةٍ ومُتْعةٍ ونَشْوةٍ روحية.
المترجمان
شكر وتقدير
من أصعب الفنون وأدقِّها فنُّ الترجمة لأنه يَفرض على المترجم أن يصبَّ أفكار الكاتب في قالَب لغويٍّ جديد محافظًا على أصالة المعنى ومتانة التعبير بأسلوب واضح رصين. فكل عمل في هذا الميدان لا بد أن تتضافر فيه وله جهودٌ كفؤَةٌ مخلصة إذا ما أُريد له أن يصيب قدْرًا من النجاح يُرضي النفسَ ويُشبعُ الروحَ. فلا بد هنا من الإشادة بجهود السادة: نياز روحاني في مراجعته الأوّلية للترجمة وتقديم الملاحظات المفيدة، وبيجن شهيد ورمزي زين اللذين بذلا جهدًا كبيرًا في المراجعة النهائية وإبداء الملاحظات القيّمة، وأندريه لانزارو الذي وضح لنا بعض المصطلحات والتعبيرات، وعبد المجيد دلشاد في إعداد الفهرس الخاص والعام وإبداء الملاحظات القيّمة، وكمال بهمردي الذي دأب يعمل معنا بكل صبْرٍ في إخراج هذا الكتاب فنيًا. ووفاءً لهيئة المراجعة العربية يجدر بنا التنويه إلى سعة صدرها ودقّتها في المراجعة وأبداء الملاحظات القيّمة. فلولا هذه الجهود المخلصة لما قُدّر لهذا العمل المتواضع أن يرى النور. فلهم منا جميعًا وافر الشكر وعظيم التقدير.
[1] كتاب “دور بهائي، حضرة شوقي أفندي.
“والتحية والثناء والصلاة والبهاء على أول غصن مبارك خضل نضر ريّان من السدرة المقدسة الرحمانية منشعب من كلتي الشجرتيْن الربّانيتيْن، وأبدع جوهرة فريدة عصماء تتلألأ من خلال البحريْن المتلاطميْن…”[1] عبد البهاء عباس
بهذه الكلمات تبدّدت سحابة تلبّدت في سماء عاصفة، وكأنها شعاعٌ هائل من نور الشمس انطلق فاخترق ظُلمةَ سنواتٍ عاصفة مشحونةٍ بالأخطار، وسطع من عليائه على صبيٍّ صغير هو حفيد سجينِ سلطان تركيا، القابعِ في مدينة السجن عكاء من إقليم سوريا الواقع تحت الحكم العثماني [آنذاك]. تلك كانت كلمات حضرة عبد البهاء في الجزء الأول من وصيته مشيرًا فيها إلى حفيده الأكبر شوقي أفندي.
ورغم تعيينه وريثًا يخلُف جَدّه، فلا الصبي ولا المجموعة المتنامية من أتباع حضرة بهاء الله، في شتى بقاع الأرض، سبق وأن أُعلموا بهذه الحقيقة. ففي الشرق، حيث مبدأُ توريث الخلافة في السلالة مفهوم تمامًا ومقبول كسلوك عادي في سير الأحداث، حتى إن حضرة بهاء الله نفسه قد بيّن شرْعية مبدأ البكورة العظيم هذا وما فيه من أسرار، كان من المؤمّل بلا شك أن يحذو حذوه ابنه وخليفته حضرة عبد البهاء [في وصيته]. وقبل صعوده بعدة سنوات كتب حضرته جوابًا عن استفسار بعض الأحباء الإيرانيين عمّا إذا كان هناك شخص يتحتّم على الجميع التوجُّهُ إليه من بعده، فقال: “… إن هذا السرّ مصون في صدف الأمر المختوم كاللؤلؤ المكنون وسيلوح أنواره ويشرق آثاره ويظهر أسراره.“[2]
وتُلقي مزيدًا من الضوء على هذا الموضوع مذكراتُ الدكتور يونس خان، الذي أمضى ثلاثة أشهر في عكاء في محضر حضرة عبد البهاء عام 1897م، ثم عاد عام 1900م وأقام فيها عدة سنوات. ونستدلُّ من كلماته أنه ربما بسبب وصول أخبار إلى الغرب بولادة حفيد للمولى أنْ كتبتْ إحدى المؤمنات الأمريكيات إلى حضرته بأنه مذكور في الكتاب المقدس أنه بعد حضرته سيقوم “صبي صغير يسوقها” (إشعياء 11: 6) فهل هذا يعني طفلاً حقيقيًا حيًا وموجودًا؟ لم يكن يعلم الدكتور يونس خان عام 1897م أن هذا السؤال قد طُرح وأن حضرة عبد البهاء أنزل اللوح التالي جوابًا عنه:
هو الله
“يا أمة الله، إن ذلك الطفل مولود وموجود وسيكون له من أمره عجب. تسمعين به في الاستقبال وتشاهدينه بأكمل صورة وأعظم موهبة وأتمّ كمال وأعظم قوة وأشدّ قدرة. يتلألأ وجهه تلألؤًا يتنوّر به الآفاق فلا تنْسَيْ هذه الكيفية ما دمتِ حيًّا لأن لها آثارًا على ممرّ الدهور والأعصار. وعليك التحية والثناء”. عبد البهاء عباس[3]
قد يبدو أمرًا غريبًا أن لوحًا مباركًا على هذا القدْر من الأهمية لم يكن معروفًا لدى أهل الشرق. ولكن علينا أن نتذكر أنه عمليًا لم يكن في تلك الأيام اتصال بين البهائيين في الشرق والغرب، والألواح التي كان الأحباء الأمريكيون يتداولونها إما أنها كانت مُستنسخة أو تُنقل شفاهة. لذلك، عندما استلم الدكتور يونس خان رسالة من أمريكا، في وقت كانت غيوم النقض القاتمة تتجمّع حول المولى بكثافة أكثر من ذي قبل، كان هو نفسه خالي الذهن تمامًا عن الخلفية التي ربما جاءت بهذا السؤال الذي يطلب صاحبه الآن عرضه على حضرة عبد البهاء؛ وفي حقيقة الأمر يبيّن في مذكراته بأنه لم يسمع بوجود هذا اللوح إلا بعد مرور عدة سنوات. ويكتب يونس خان: بينما كان حضرة عبد البهاء يتمشَّى يومًا أمام الخان (وهو المبنى الذي اعتاد الكثير من الأحباء أن ينزلوا فيه بعكاء) اقتربتُ من حضرته وأخبرتُه بأن ‘أحد الأحباء كتب لي من أمريكا يقول إننا سمعنا أن المولى قال بأن الذي سيأتي ظهوره من بعدي قد وُلد حديثًا وموجود في هذا العالم، فإذا كان الأمر كذلك فقد جاءنا الجواب، وإذا لم يكن، عندها ــــــــــــــــــــــ؟’ وبعد لحظة انتظار، وبنظرة تعبِّر عن مغزى ومدلول، وبتمجيد خفيّ تفضل قائلاً: ‘نعم هذا صحيح.’ وبسماعي هذه البشارة السارّة ابتهجتْ نفسي وأيقنتُ من نَصْر أمر الله في كل مكان في العالم، وأنّ نقض الميثاق سيؤول إلى العدم، وأن هذا العالم سيغدو مرآة لعالم الملكوت. إلا أن فهم ما عناه حضرته بكلمة “ظهور(appearance)”، حسبما نفهمها نحن البهائيون، كان عليّ صعبًا للغاية، وبقي في مخيّلتي أمرًا غامضًا. وفي سعيي في الحصول على مزيد من المعلومات سألتُ حضرته عندئذ: ‘وهل يعني هذا ظهورًا إلهيًا؟’ فلو أجاب بـ ’نعم’ أو ‘لا’ فستخلق هذه تعقيدات أكبر وتبرز تساؤلات أكثر، ولكن جوابه لحسن الحظ كان مقنِعًا يُلْجِم أي سائل، وبكلمات أكثر وضوحًا تفضل: ‘نصر أمر الله على يديه’. ثم يمضي يونس خان ليقول بأنه كتب هذا الجواب للبهائي في أمريكا، إلا أنه لم يُشْرِك به أحدًا لعدة سنوات، حتى إنه في ذهنه رفض التأمل في مضامينه أو أن يتساءل في نفسه عمّا إذا كان ذلك الطفل موجودًا في عكاء أم في مكان آخر. وهو يعلّل سلوكه المتحفِّظ هذا بأمر راجع إلى كلمات حضرة بهاء الله في “كتاب عهدي” الذي يؤكِّد فيه بأن جميع الأنظار يجب أن تتركّز على مركز العهد والميثاق (حضرة عبد البهاء) وعلى الارتداد والنقض وتلك المكائد ومصادر الأذى التي مزّقت عائلة المظهر الإلهي على مدى جيليْن.
وفي جزء آخر من مذكراته يصف يونس خان تلك المرة الأولى التي وقع فيها نظرُه على لحفيد الأكبر للمولى فيقول: ‘ظلّ المقيمون في دار ضيافة المسافرين، ولعدة أيام، يرجون الأفنان (والد شوقي أفندي) رؤية شوقي أفندي. وذات يوم، على غير المتوقع، أُحضر الطفل ذو الأشهر الأربعة إلى البيروني (غرفة استقبال المولى). اقترب الأحباء منه فرحين، وكنتُ أيضًا ممن حظوا بهذا الفضل، إلا أنني قلت في نفسي: “انْظُرْ إليه كمجرّد طفلٍ بهائيٍّ”، ولكنني لم أستطع كبْتَ مشاعري لأنني أحسستُ بقوة داخلية دفعتني أن أنحني أمامه خضوعًا، وفي لحظةٍ رأيتُ نفسي مفتونًا بسحر جمال هذا الطفل الرضيع. قبّلت شعر رأسه الناعم، وشعرتُ أن فيه قوة ما أجد نفسي عاجزًا عن التعبير عنها بكلمات، ولا يسعني إلا القول بأنه بدا كالطفل الذي يشاهده المرء بين ذراعي [مريم] العذراء القديسة، وظلّ وجهه لا يفارق مخيّلتي عدة أيام، وبالتدريج أخذتُ أنساه. وفي مرّتين بعد ذلك انتابتني المشاعر نفسها: مرّة عندما كان في التاسعة من عمره وأخرى في الحادية عشرة.’
ويسجّل يونس خان أيضًا بأنه بعد أن لاحظ في طفولة شوقي أفندي وصباه تلك الأمارات الداخلية والخارجية الدالّة على عظمة روحانيته وشخصيته الفريدة، لم يَعُد قادرًا على إخفاء مشاعره، وأخذ يُفضي لأحد الأحباء الثُّقات من كبار السن بما يتذكره من كلماتٍ سَمِعها من حضرة عبد البهاء بخصوص طفل سيكون نصر أمر الله على يديه.
ومهما يكن من أمر، فالحقيقة تبقى أنه إلى حين صعود حضرة عبد البهاء في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1921 وفَضِّ وصيته، التي كانت محفوظة في خزنته، ثم قراءتها، لا أحد في العالم البهائي كان يعلم أن شوقي أفندي هو تلك “الجوهرة الفريدة”، ولا حتى مدى تفرُّد وبهاء تلك الجوهرة التي خلّفها لنا حضرة عبد البهاء، إلى أن جاء شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1957 حين عادت تلك الجوهرة إلى “البحريْن المتلاطميْن” من حيث وُلدت.
في السابع والعشرين من شهر رمضان 1314 هجرية الموافق يوم الأحد الأول من شهر مارس/ آذار من عام 1897 ميلادية ولد شوقي أفندي، وقد وُجدت هذه التواريخ في واحد من دفاتر مذكراته التي احتفظ بها في صباه مدوّنة بخط يده. هو الحفيد الأكبر والأول لحضرة عبد البهاء، من ابنته الكبرى ضيائية خانم وزوجها ميرزا هادي الشيرازي، أحد الأفنان من أقارب حضرة الباب، وقد أطلق عليه جدّه عبد البهاء اسم “شوقي أفندي” وكان يناديه به باستمرار، وبالفعل أصدر حضرته توجيهاته بوجوب إضافة “أفندي” إلى اسمه في كل الأوقات، حتى إنه أخبر والد شوقي أفندي نفسه بأن عليه أن يناديه هكذا وليس “شوقي” فقط. فكلمة “أفندي” تعني “السيد” وتُضاف تعبيرًا عن الاحترام، وبالمِثْل تضاف كلمة “خانم” وتعني “السيدة” أو “المدام” بالنسبة للنساء.
عندما ولد شوقي أفندي كان حضرة عبد البهاء وعائلته لا يزالون سجناء سلطان تركيا، عبد الحميد؛ ولم يُطلَق سراحُهم إلا بعد قيام ثورة تركيا الفتاة عام 1908 وما تَبِع ذلك من إصدار أمر بالإفراج عن السجناء السياسيين. وبذلك تحرّر حضرته وشقيقته من سجنٍ ونَفْيٍ داما لأكثر من أربعين سنة. في عام 1897 كان الجميع يسكنون في منزلِ ما يُعرف بسراي عبد الله باشا، على مرمى الحجر من الثكنات العسكرية التركية الكبيرة التي حُبِس فيها حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء ومَنْ رافقهما من الأحباء فور وصولهم عكاء عام 1868. وكان في هذا المنزل أن تشرّفَتْ أول مجموعة من الزائرين من بلاد الغرب بزيارة حضرة عبد البهاء في شتاء عام 1898–1899. كما فعل كثير غيرهم من المؤمنين الأوائل في الغرب؛ كانوا يأتون من ميناء حيفا إلى عكاء بمحاذاة الشاطئ في عربة تجرّها أحصنة ثلاثة، ثم يدخلون عبر الأسوار المحصَّنة لمدينة السجن، ويُرحَّب بهم ضيوفًا على حضرته لبضعة أيام في ذلك المنزل. وهو المنزل الذي انطلق منه حضرة عبد البهاء ليُقيم بحرّية في مدينة حيفا، التي تبعد مسافة اثني عشر ميلاً [19 كيلومترًا] عن الطرف الآخر لخليج عكاء. ولدى الدخول إلى المنزل، عبر ممرٍّ يؤدّي في نهايته إلى الطابق العلوي للمبنى، يجد المرء نفسه أمام حديقة صغيرة مغلقة حيث تنمو فيها الأزهار وأشجار الفاكهة وبعض أشجار النخيل العالية، وفي أحد الأركان يقوم دَرَجٌ طويل يؤدي إلى الطابق العلوي حيث يفتح على ساحة داخلية غير مسقوفة تفتح عليها أبوابٌ تؤدي إلى غرف متعددة ورواق طويل يؤدّي إلى غرف أخرى.
وحتى يدرك المرء، ولو لمحةً، ما اعتمل في قلب حضرة عبد البهاء عند ولادة أول حفيد له وحضرته في الثالثة والخمسين من عمره، عليه أن يتذكر أن حضرته كان قد فَقَد أكثر من ابن له، وكان أحبَّهم إلى قلبه وأكثرَهم كمالاً حسينُ، ذلك الصبي الصغير الجميل الوقور الذي وافته المنيَّة وعمره بضع سنوات فقط. ثلاثٌ من بنات حضرة عبد البهاء الأربعة اللواتي عِشْنَ أنجبْن له ثلاثة عشر حفيدًا، إلا أن أكبرهم، [شوقي أفندي]، الذي يصدُقُ عليه القول “الولد سرّ أبيه” وهو إرث يجب ألا يؤخذ على أنه من والده، بل هو إرث تناقلته أصلاب الأنبياء لتهبه نبالة جدّه حضرة عبد البهاء. وكانت كلمات حضرته قد عكست بوضوح تام ما كان يجول في أعماقه من مشاعر في ذلك الوقت حين صرّح بأن اسم شوقي – يعني لغةً ‘ما يتوق إليه الإنسان’ – قد أسبغه الله على هذا الحفيد:
“… أي رب هذا فرع أُنبتت من شجرة رحمانيتك أنبته نباتًا حسنًا برحمتك وإحسانك واجعله قضيبًا رطيبًا خضلاً نضرًا مزهرًا مورقًا مثمرًا بفيضان سحاب موهبتك وقرر عين أبويه به يا من يهب لمن يشاء ما يشاء وسمّه من ملكوتك شوقي ليشتاق إلى ملكوتك ويتوق إلى عوالم غيبك.”[4]
بما أظهره شوقي أفندي من السمات في مقتبل طفولته وبفضل فطرته الفريدة، فقد جذّر نفسه عميقًا في قلب المولى أكثر من أي وقت. إننا محظوظون حقًا بما لدينا من ملاحظات خطّتها سيدة من المؤمنات الأوائل في الغرب تُدعى إيللا غودال كوبر[5]، حول لقاءٍ شهدته بين حضرة عبد البهاء وشوقي أفندي خلال زيارتها للأرض الأقدس في مارس/ آذار 1899 في سراي عبد الله باشا، إذ كتبت تقول:
ذات يوم… انضممتُ إلى نساءِ العائلة المباركة في غرفة الورقة المباركة العليا لتناول شاي الصباح الباكر. كان المولى المحبوب وقتها يجلس في ركنه المفضل من الديوان، حيث كان باستطاعته، من خلال النافذة التي على يمينه، أن يشاهد من فوق الأسوار مياه البحر الأبيض المتوسط الزرقاء. كان المولى منهمكًا في كتابة الألواح في صمت وهدوء تامّيْن إلا من صوت الماء يغلي في السماور وبقربه تجلس على الأرض إحدى الخادمات الشابات التي كانت تُخمّر الشاي.
ما لبث المولى أن رفع بصره عن الكتابة وهو يبتسم وطلب من ضيائية خانم أن تتلو مناجاة. وما إن انتهت حتى ظهر بالباب المفتوح المقابل لحضرته مباشرة هيكل بشريّ صغيرٌ، وبعد أن خلع حذاءَه دخل الغرفة بعينيْن مركِّزتيْن على وجه المولى. ردّ حضرة عبد البهاء على نظرته المُحَدِّقة بنظرة ترحيب حُبِّية بدت وكأنه يومئ لهذا الصغير أن يقترب من حضرته. تقدَّم الصبي الصغير الجميل شوقي، بوجهه الصبوح كجوهرة كريمة وبعينيه الداكنتين الطافحتين بالروح، تقدم ببطء نحو الديوان، وكأن المولى يسحبه بخيط خفيّ، إلى أن اقترب من حضرته تمامًا ووقف أمامه ساكنًا. وإذ وقف هُنيهةً، لم يحضنه المولى بل ظلّ جالسًا بغاية السكون وهزّ رأسه فقط مرتيْن أو ثلاثًا ببطء وبشكل مؤثّر وكأنه يقول – ‘هل ترَوْن؟ إن هذا الرباط الذي يصلنا ببعض ليس مجرّد صلة قرابة جسمانية بالجدّ، بل هو شيء أعمق بكثير وأكثر أهمية.’ وبينما كنا ننظر المشهدَ ونحن نحبس أنفاسنا لنرى ما سوف يفعله بعد ذلك، رأينا الطفل انحنى والْتقط طرف رداء حضرة عبد البهاء ورفَعَه ليلمس جبينه بكلّ وقار وإجلال ثم قبّله وأعاده بكل لطف إلى مكانه، كل ذلك والصغير لم يرفع عينيه أبدًا عن وجه المولى المحبوب. وما هي إلا لحظة حتى استدار وانطلق إلى اللعب كأي طفل عادي… في ذلك الوقت كان هو الحفيد الوحيد لحضرة عبد البهاء… ومن الطبيعي أن يحظى بقسط وافر من اهتمام الحجاج الزائرين.
كم كان لا بُدّ عظيمًا ذلك الجهد الذي توَجَّب على الجدّ أن يبذله حتى يحافظ على هذا الحب العارم لذلك الطفل ضمن حدود آمنة خشية أن يُعرّض وهجُ ذلك الحب الشديد حياةَ الطفل للخطر بفعل كراهية وحسد أعداء حضرته الكثيرين الذين يترصّدون ليجدوا كعب أخيل [نقطة ضعف] ينسلّون منه للقضاء عليه. في كثير الأحيان، عندما كان شوقي أفندي يتحدّث عن الماضي وعن حضرة عبد البهاء، لم أشعر بمدى استغراقه اللامحدود في حب المولى فحسب، بل ومدى وعْيِه لحقيقة أن جَدَّه قد كبح وحجب أمارات شغفه وحبه له من أجل حمايته وضمان سلامة أمر الله من أعدائه.
كان شوقي أفندي طفلاً ضئيل الجسم مرهف الحس مفعمًا بالحيوية وشقيًّا مولعًا باللعب. لم يكن قَويّ البُنية في سنواته الأولى، وكثيرًا ما كانت والدته قلقة على صحته. ومع ذلك نما وكَبُر ليصبح ذا بنية صلبة، وعندما اقترنت بفطرته وقوة إرادته الاستثنائيتيْن، مكّنته من التغلّب على كل ما كان يعترض طريقه من عقبات في السنوات اللاحقة. تُظهِر صُوَرُه الفوتوغرافية الأولى التي بحوزتنا وجهًا صغيرًا نحيلاً وعينيْن واسعتيْن وذقنًا مكتنزة جميلة الشكل منحت وجهه في طفولته استطالة بسيطة تُبديه على شكل قلب. والناظر إلى أولى صوره يمكنه أن يرى في وجهه أمارات حُزنٍ وكآبة ونزوعًا إلى المعاناة تلاحقه كأنها ظلّه الممتدّ على الحائط – ظِلُّ طفل تعاظم إلى قامة رجل. كان هيكله رقيقًا وحتى عندما أصبح رجلاً ناضجًا. كان أقصر من جدّه، وفي هيكله أقرب إلى جدّه الأكبر حضرة بهاء الله. هو نفسه أخبرني أن شقيقة حضرة عبد البهاء، الورقة المباركة العليا، كانت أحيانًا تُمسك بيده بين يديها وتقول: ‘إنها تشبه يديْ والدي’. كانتا ما أُسمّيه يديْن عقلانيّتيْن مفكِّرتيْن، وأقرب إلى الشكل المربع منه إلى الاستطالة؛ قويتان، تعبّران عن الانفعال، والعروق فيهما بارزة، معبِّرتان جدًا في إشاراتهما وواثقتان جدًا في حركاتهما. دائمًا ما كانت أميليا كولنز[6] تقول، وهي التي أقامت في حيفا عدة سنوات، بأن كل معاناة ولي أمر الله طوال حياته بالنسبة إليها كانت تعكسها هاتان اليدان. كانت عيناه باللون الكستنائي المحيِّر مما جعلتا أحيانًا مَنْ لم يحظَ مثلي بالنظر إليهما، أن يفكر بأنهما بُنِّيَّتان أم زرقاوان. والحقيقة إنهما كانتا باللون الكستنائي الصافي الذي يتحوّل أحيانًا إلى الرمادي الدافئ البرّاق. لم أشاهد في حياتي وجهًا وعينيْن معبِّرتيْن كما لولي أمر الله. كل طيف من شعورٍ وفكرٍ كان ينعكس على محيّاه كما انعكاس الضوء والظلّ على صفحة الماء. فعندما يكون سعيدًا ومتحمّسًا نحو شيء ما كانت لديه عادة فريدة أن يفتح عينيه واسعتيْن بما يكفي لرؤية الحلقة الكبرى من حَدَقتيهما، وهذا ما كان دومًا يجعلني أفكر بشمسيْن جميلتيْن تشرقان في الأفق، برّاقتيْن لامعتيْن في تعبيرهما. وبالوضوح نفسه كانتا تعكسان أمارات السخط والغضب والحزن. وللأسف، كان لديه ما يبرّر ظهور هذا أيضًا في حياته المُثْقَلة بالمشاكل والأحزان. أما قدماه فقد كانتا بجمال يديه وصغيرتيْن مثلهما، مقوّستيْن وتُعبّران عن نفس تلك القوة والقدرة.
قد نُجافي الاحترام إذا قلنا بأن ولي أمر الله كان طفلاً شقيًّا، ولكنه قال لي ذات مرة بأن الأطفال جميعًا كانوا يُقرّون بزعامته لهم. كان يتدفق حيوية ونشاطًا وكله حماس وجرأة مليئة بالضحك وخفّة الظل. كان هذا الصبي الصغير هو المدبر للكثير من مواقف المزاح والضحك، وكلما حدث شيء ما تجد وراءه شوقي أفندي! كانت طاقته غير المحدودة مصدر قلق في معظم الأحيان خاصة عندما كان يندفع بسرعة جنونية صعودًا ونزولاً في قفزات عالية فوق الدرج الطويل ذي العتبات العالية المؤدي إلى الطابق العلوي، مما كان يجعل الحجاج الزائرين، المنتظرين لقاء المولى في الطابق السفلي، في حالة من الفزع. إن الطاقة الغزيرة المتدفّقة التي لا يمكن كبح جماحها في هذا الصبي كانت هي نفسها التي جعلت منه ذلك الرجل الذي لا يعرف الكلل ولا التردُّد، والقائد الأعلى لجحافل حضرة بهاء الله ليقودهم من نصر إلى نصر، وفي واقع الأمر، نحو الفتح الروحاني لهذا الكوكب بأكمله. لدينا شاهد موثوق على هذه الصفة المميّزة لولي أمر الله، إنه حضرة عبد البهاء نفسه الذي كتب يومًا على مغلّف مُستَعمَل جملةً قصيرة ليُدْخِلَ السرور إلى قلب حفيده الصغير: ‘شوقي أفندي رجل حكيم – إلا أنه يركض كثيرًا جدًا هنا وهناك!’
وعلى كل حال يجب ألا نأخذ الأمر وكأن شوقي أفندي لم يكن مهذّبًا حسن السلوك. فالأطفال في الشرق عادة ما ينشأون منذ نعومة أظفارهم على حسن الآداب والأخلاق، فما بالُك بأولاد حضرة عبد البهاء! فعائلة حضرة بهاء الله قد تحدّرت من الملوك، وتقاليد العائلة –
ناهيك تمامًا عن تعاليم حضرته السماوية التي تقرّ الأدب فرضًا ملزمًا – هي التي ضمنت لشوقي أفندي سلوكًا نبيلاً وأدبًا رفيعًا مَيَّزاه منذ طفولته.
في تلك الأيام من طفولة شوقي أفندي جرت العادة أن تنهض العائلة عند الفجر تقريبًا ويَقْضون الساعة الأولى من يومهم في غرفة المولى حيث تُتلى المناجاة، ثم يتناولون جميعًا طعام الفطور مع حضرته. كان الأطفال يجلسون على الأرض متربّعين وأيديهم مضمومة إلى صدورهم بكل احترام، ويتلون المناجاة لحضرة عبد البهاء حينما يُطلب منهم. لم يكن هناك صياح أو سلوك غير لائق. أما الفطور فكان من الشاي المخمّر في سماوَر روسي من النحاس الأصفر ويُصَبّ في أقداح صغيرة من الكريستال، حلو جدًّا وساخن جدًّا، ثم الخبز من القمح الصافي والجبن المصنّع من حليب الماعز. سجَّلَ الدكتور ضياء بغدادي، وهو صديق حميم للعائلة المباركة، في ذكرياته عن تلك الأيام بأن شوقي أفندي كان دائمًا أول من يستيقظ ليكون جاهزًا في الوقت المحدد – بعد أن يتلقى ضربة تأديبية حُبيّة من يد جدّه لا من غيره!
ويُخبرنا الدكتور أيضًا بقصةِ أولِ لوح مبارك نزل لشوقي أفندي من يراع حضرة عبد البهاء. صرّح د. بغدادي، أنه عندما كان عُمْر شوقي أفندي خمس سنوات فقط كان يلحّ على المولى أن يكتب له شيئًا. فكتب حضرة عبد البهاء بخط يده الخطاب المؤثر التالي:
هو الله
يا شوقي أنا، لا وقت لدي للكلام، دعني وشأني! قلتَ لي ‘اكتب’ فكتبتُ. ما العمل بعد ذلك؟ ليس الآن وقت قراءتك وكتابتك، إنه وقت اللَّعب هنا وهناك وكذلك ترتيل “يا إلهي!” فاحفظ مناجاة الجمال المبارك واتلُها حتى أسمعها، لأنه لا وقت لأي شيء آخر. ع ع[7]
ما إن وصلت هذه المِنحة الرائعة إلى الطفل حتى صمّم، كما يبدو، أن يحفظ عددًا من المناجاة لحضرة بهاء الله عن ظهر قلب، وأخذ يتلوها بصوت عالٍ للغاية بحيث وصل إلى مسامع جميع من في الجوار، وعندما احتج والداه وأفرادٌ آخرون من عائلة المولى على صوته العالي أجابهم شوقي أفندي، طبقًا لما جاء في مذكرات بغدادي، ‘إن المولى كتب لي أن أتلو بصوت عالٍ كي يسمعني! وأنا أبذل كل جهدي!’ واستمر على عادته يتلو المناجاة بأعلى صوته مدة ساعات كل يوم. وأخيرًا ذهب والداه إلى المولى يرجوانه أن يوقفه، إلا أن حضرته طلب منهما أن يتركا شوقي أفندي وشأنه. كان ذلك جانبًا من تلاوته للمناجاة، إلا أن جانبًا آخر أُخبِرنا به: كان قد حفظ عن ظهر قلب بعض الفقرات المؤثِّرة التي كتبها حضرة عبد البهاء بعد صعود حضرة بهاء الله، وعندما كان يتلوها كانت دموعه تنساب على وجهه الصغير المحبوب. قيل لنا من مصدر آخر إن حضرة عبد البهاء عندما طلب منه أحد أحباء الغرب، الذي كان يقيم في منزله آنذاك، أن يُنزل مناجاة خاصة بالأطفال، لبّى حضرته الطلب، وكان شوقي أفندي أول من حفظ تلك المناجاة واعتاد أن يتلوها في اجتماعات الأحباء أيضًا.
اعتادت مربية شوقي أفندي في فترة حضانته أن تحكي كيف أن المولى عادة ما كان يدعو أحد قرّاء المسلمين الذين يرتلون في المسجد ليحضر مرة في الأسبوع على الأقل ليتلو للطفل آيات بيّنات من القرآن الكريم بصوته الجميل، كما كان للمولى نفسه ووالدة ولي أمر الله وكثير آخرين في العائلة المباركة أصواتهم الجميلة أيضًا، ولا شك أن هذا كله كان له تأثيره العميق على شوقي أفندي الذي اعتاد ترتيل المناجاة أواخر أيام حياته. كان له صوت جهوري رخيم يتعذّر وصْفُهُ؛ ليس بالعالي إلى حدٍّ كبير ولا بالخافت جدًا، واضح بإيقاع جميل في نُطقه، أكان ذلك بالإنكليزية أم بالفارسية، وأكثر جمالاً حين كان يرتّل بالعربية أو الفارسية. أما بالنسبة لي فكان على الدوام ذلك النوع الحزين من النغم الذي تَغَنُّه يمامة لنفسها وهي تقف بين الأغصان وحيدة. اعتاد صوته أن يعتصر قلبي – لأحساسي بأن شيئًا أليمًا وحزينًا يكمن في نبرات تلاوته الرنّانة الواثقة، والأمر الغريب في الموضوع ذلك الفرق الملحوظ في نوعية صوته عندما كان يغادر مرقد حضرة الباب، بعد تلاوة المناجاة، ويذهب كالمعتاد إلى مرقد حضرة عبد البهاء ويتلو هناك مناجاة [اللقاء] لحضرته: “إلهي إلهي إني أبسط إليك أكفّ…”[8] عندها تأتي في نبرة صوت ولي أمر الله واشتياق وحنين لم يسمعه المرء في أي مكان آخر، وهي ميزة لم تضعف قط، ولم تتغير أبدًا وكانت دائمة الحضور.
في ذكرياته عن تلك السنوات الأولى كتب أحد البهائيين أن شوقي أفندي دخل ذات يوم غرفة المولى وتناول قلمه وحاول الكتابة. سحبه المولى إلى جانبه وربّت على كتفه بلطف وتفضل: ‘الآن ليس وقت الكتابة، الآن وقت اللعب، سوف تكتب الكثير في المستقبل.’ ومع كل ذلك فإن رغبة الطفل في التعلُّم أدّت إلى تشكيل صفوف في بيت عائلة المولى لتعليم الأطفال من قِبَل معلم بهائي إيراني كبير في السن. أنا أعلم أن شوقي أفندي في وقت ما من طفولته، على الأرجح عندما كان لا يزال يعيش في عكاء، كان مع أحفادٍ آخرين يتلقون دروسهم من امرأة إيطالية كانت تعمل كمربية أو معلمة، وهي سيدة مسنّة شعرها أشيب، قدِمت لزيارتنا بعد زواجي بقليل.
مع أن أُولى سنوات حياته قضاها شوقي أفندي في مدينة السجن عكاء داخل أسوارها وخنادقها وبوّابتيها المحميّتيْن بحُرّاس، إلا أن هذا لا يعني أنه لم تكن لديه الفرصة للحركة والتنقّل هنا وهناك؛ فلا بد أنه كثيرًا ما كان يذهب إلى منازل البهائيين داخل المدينة، ويذهب إلى خان [العواميد] حيث يُقيم الزائرون، وإلى حديقة الرضوان وإلى البهجة. وفي كثير من الأوقات كان هو ذلك المرافق المُبتهِج لجَدِّه في مثل تلك الجولات. وكما قيل لنا، كان يُمضي الليل أحيانًا فيلٍ يُستعمل الآن دارًا لضيافة المسافرين، وكان حضرة عبد البهاء يأتي بنفسه أحيانًا إلى سريره ليلاً متفقّدًا غطاءه ومبديًا ملاحظته بقوله: ‘أنا بحاجة إليه.’ كما أنهم اصْطحبوه إلى بيروت، تلك المدينة الكبيرة الوحيدة في كامل الأقليم التي غالبًا ما كان يزورها أفراد من عائلة حضرة عبد البهاء. ويروي لنا د. بغدادي كيف أن شوقي أفندي في إحدى هذه الزيارات، عندما كان صبيًا في عمر الخامسة أو السادسة، برفقة والديه والورقة المباركة العليا وأفراد آخرين من العائلة يقيمون هناك، قد أمضى معظم وقته في غرفة د. بغدادي يقلّب صفحات كتبه الطبّية وينظر إلى الصور ويطرح الأسئلة. يبدو أن شوقي أفندي أراد أن يشاهد شيئًا يجري تشريحه أمامه عمليًا ولم يكن مكتفيًا بالنظر إلى الصور فقط. كان هذا الحماس للمعرفة (بهاتين العينين الواسعتيْن الدالّتيْن على الفِطنة والتصميم دون شك) قد استولى تمامًا على طالب الطّبِّ الصغير الذي أُحضِرت له قطَّة برّية كبيرة كانت الضحيّة، وأخذ الدكتور يشرّحها أمام الصبيّ وبمرأى من إحدى خالاته والخادم، والكل يراقب بسكون تام. أنهى الدكتور تشريحه وهو يفكّر كيف لطفلٍ صغير مثله أن يدرك كل ما كان يجري، وكم أدهشه عندما سمع شوقي أفندي يُعيد تلك النقاط البارزة التي كان يوضّحها الطبيب أثناء التشريح كلمة بكلمة. وكتب د. بغدادي فيما بعد: ‘قلتُ لنفسي إنه ليس طفلاً عاديًا، حقًا إنه ملاك عزيز غالٍ!’ ولا بدّ أن شوقي أفندي قد تذكّر درسَه الأوّل في التشريح عندما أصبح طالبًا عام 1916 يدْرس علم الحيوان كجزء من متطلبات دراسته. ثم يسترسل د. بغدادي أنه بالإضافة إلى قدرته العقلية الهائلة للتعلم والمعرفة، كان لشوقي أفندي قلب غاية في الرقَّة، وطبيعة طيبة محبَّبة لدرجة لو أنه ضايق أحد رفاقه في اللعب – مع أنه لم يكن ليفعل ذلك إلا إذا لجأ أحد الأطفال إلى الغِشّ أو تصرّف بخبث – فلا ينام ليلتَهُ قبل أن يعانق رفيقه ويتركه سعيدًا، ودومًا كان يحثّ رفاقه الصغار على تسوية خلافاتهم قبل أن يذهبوا للنوم.
كان شوقي أفندي يحلم أحيانًا أحلامًا واضحة مميّزة؛ منها المفرح ومنها المقيت. يُروى أنه عندما كان طفلاً رضيعًا حدث أن استيقظ ذات ليلة وهو يبكي، فطلب المولى من مربيته أن تُحْضره له ليُسكِّن من رَوْعه ويريحه، والتفت إلى شقيقته الورقة المباركة العليا وتفضل: ‘أترين، لديه أحلام منذ الآن!’
هناك القليل جدًا مما دُوّن عما كان يظنُّه غير البهائيين في حفيد حضرة عبد البهاء هذا. إلا أن واحدًا منها جدير بأن نقتطف منه مع شيء من الإسهاب. إنها مذكرات الدكتورة ج. فولشير[9] وهي طبيبة ألمانية عاشت في حيفا، وكانت تعتني بصحة نساء البيت المبارك، مع الأخذ بعين الاعتبار أن قصتها المثيرة للاهتمام هذه لم تُسجّل إلا بعد مرور إحدى عشرة سنة على الأقل من وقوع الحدَث، ومع ذلك فإن لها أهميتها الكبيرة:
في السادس من شهر آب/ أغسطس 1910، وعندما عُدتُ إلى منزلي من زيارة طبّية على جبل الكرمل، أخبرتني خادمتنا هادشيل قائلة: ‘منذ لحظة كان خادم عباس أفندي هنا وقال بأن الدكتورة يجب أن تأتي في ‘العصر’ (الثالثة بعد الظهر) إلى جناح النساء في بيت المولى لأن إحدى الخادمات قد أصيبت بإصبعها إصابة بليغة.’ لم أكن راغبة كثيرًا أن أبدأ زياراتي في ساعة مبكرة كهذه بعد ظهر يوم السبت، ولكن لعلمي بأن المولى لا يطلبني خارج ساعات الدوام إلا لأمر طارئ، قررتُ الذهاب في الموعد المحدد… أجريتُ اللازم لإصبع المُصابة وضمّدتُ يدها وعَصَبتُ الذراع وعلّقته برقبتها، وعندما انتهيتُ صَرَفَتْ بهائية خانم المُصابة الصغيرة المتألمة إلى فراشها ودعتني لتناول المرطبات معها بحضور سيدات أهل البيت. وبينما كنا نرشف القهوة ونتبادل أطراف الحديث بالتركية، التي كانت أسهل عليّ من العربية، جاءت إحدى الخادمات لتقول: ‘يريد عباس أفندي من الطبيبة أن تحضر إلى السَّلَمْلِك (غرفة المعيشة) قبل مغادرتها.’ … سألني المولى عن وضع إصبع الفتاة الصغيرة، وما إذا كان الخطر من حدوث تسمُّم في الدم قد زال. ما إن طمأنتُه حتى دخل الغرفة في تلك اللحظة صهره (زوج ابنته الكبرى) ليستأذن في الانصراف كما كان واضحًا. لم أَلْحظ في البداية أن خلف ذلك الرجل الطويل الوقور كان ابنه الأكبر شوقي أفندي وقد دخل الغرفة وحيّا جدَّه الموقّر بتقبيل يده كعادة أهل الشرق. سبق لي أن رأيتُ الصبي بشكل خاطف في عدد قليل من مناسبات أخرى. وأخبرتْني بهائية خانم مؤخرًا بأن هذا الفتى الصغير، وهو ربما في الثانية عشرة من عمره، هو المولود الأكبر المباشر من بين الذكور في عائلة المظهر الإلهي ومقدّر له أن يكون الخليفة والممثّل الأوحد للمولى (وزير). وبينما كان عباس أفندي يتكلم مع أبو شوقي (والد شوقي أفندي) في بعض الأمور باللغة الفارسية، وهو واقف أمام حضرته، رأيت الحفيد، بعد أن حيّانا بكل أدب وقبّل يد عمّته الكبرى، ظلّ واقفًا قرب الباب بمنتهى الاحترام. في تلك اللحظة شاهدتُ عددًا من الرجال الإيرانيين يتقاطرون في الدخول إلى الغرفة والخروج منها، يُلقون التحية ثم يطلبون الإذن بالمغادرة. استغرق ذلك ربع ساعة. انسحبنا أنا وبهائية خانم إلى اليمين قرب النافذة واستمرّ حديثنا بصوت خافت بالتركية. ومع ذلك لم يغِبْ نظري عن ذلك الحفيد اليافع لعباس أفندي الذي لا يزال واقفًا بهدوء. كان يرتدي الزيّ الأوروبي الصيفي؛ بنطالاً قصيرًا [شورت] وجوارب طويلة تصل إلى ما فوق الركبتين مع جاكيتة قصيرة، وكان بطول قامته وجسمه يبدو كأنه في الثالثة أو الرابعة عشرة من عمره… في ذلك الوجه الطفولي الهادئ بهرتني للوهلة الأولى عيناه الداكنتان الحزينتان اللتان تنمّان عن نضجه. بقي الفتى في مكانه هادئًا خاشعًا تمامًا، وبعد أن استأذن الوالد والرجل الذي معه بالانصراف همس في أذن ابنه وهو يخرج، عندئذ رأيتُ الفتى يتقدّم بخطوات بطيئة متزنة، وكأنه رجل يافع، ويقترب من جدّه المحبوب منتظرًا. فأجيب إلى طلبه بالفارسية بوضوح وبلهجة ضاحكة، أُذن له بالانصراف، ولكن ليس قبل أن يُسمح له أولاً بتقبيل اليد احترامًا. لقد تأثّرتُ كثيرًا من طريقة رجوع الشاب إلى الوراء وهو يغادر الغرفة، وكيف أن عينيه الداكنتيْن المعبِّرتيْن عن الحب الصادق لم تفارقا بريق عيني جدّه الزرقاويْن الساحرتيْن ولو لحظة واحدة.
نهض عباس أفندي وتقدّم نحونا فوقفنا على الفور إلا أنه حثّنا على الجلوس كما كنّا، ودون أي كُلفة جلس هو على كرسي [بلا ظهر ولا يدين] قريب منا وعلى الأصح في مواجهتنا. انتظرنا صامتتيْن كالعادة ليبدأ كلامه، وبعد برهة قصيرة تفضل قائلاً: ‘والآن يا ابنتي، ماذا تقولين بأليشعي[10] المستقبليّ هذا؟’ فأجبتُ: ‘يا مولاي، إذا كان لي أن أتكلّم بصراحة فيجب أن أقول إن في وجهه الصبياني عينيْن داكنتيْن فيهما المعاناة. أراه شخصًا سوف يعاني الكثير!’ سرح المولى بنظره بعيدًا في الفضاء خلفنا مفكّرًا، وبعد وقت طويل عاد ينظر إلينا محدقًا وقال: ‘ليس لحفيدي عَيْنَا مستكشفٍ أو مقاتلٍ أو فاتحٍ، إلا أن المرء يرى فيهما ولاءً عميقًا ومثابرة وضميرًا حيًا. وهل تعرفين يا ابنتي لماذا سوف يقع تحت عبء الميراث الثقيل الذي سيرثه عني كونه وزيري؟’ (يعني شغل منصب رفيع) ودون أن ينتظر جوابي استرسل في كلامه موجِّهًا نَظَرَه إلى جهة شقيقته العزيزة أكثر مني وكأنه نسيَ وجودي قائلاً: “حضرة بهاء الله، ذو العظمة والكمال – تباركَتْ كلماته، ماضيًا وحاضرًا وإلى الأبد – قد اختار هذا العبد الفاني خليفة من بعده، ليس لأنني البكر بل لأن بصيرته قد رأت آية الله منقوشة على جبيني.”
‘قبل صعود روحه إلى النور الأبدي ذكّرني المظهر الإلهي المبارك بأن عليّ أيضًا – بغضِّ النظر عن حق البكورة أو العمر – أن أتفحّص من بين أولادي وأحفادي مَنْ يختاره الله لهذا المقام والمنصب. فأولادي التحقوا بالحياة الأبدية في أرقّ سنوات عمرهم، ومن سلالتي وبين أقاربي ليس إلاّ شوقي الصغير الذي أرى في أعماق عينيه طيفَ نداء عظيم.’ ثم توقّف المولى طويلاً والتفت نحوي ثانية وقال: ‘إن الإمبراطورية البريطانية هي العظمى في الوقت الحاضر ولا تزال تتوسّع ولغتها عالمية، ومن يخلفني في المستقبل سوف يتلقى إعداده لأعباء مهامّه الجسيمة في إنكلترا نفسها بعد أن يحصل في فلسطين هنا على المعرفة الأساسية بلغات الشرق وحكمته.’ وعندئذٍ تجرّأْتُ وتدخلت: ‘ألا يُعيد التعليمُ الغربي والتدريب الإنكليزي تشكيل طبيعته ويحصر عقليته المنطلقة ضمن قيود المذهب العقلي الصارمة، ويعمل، من خلال عقائد وتقاليد، على خنق حَدْسه وعفويته الشرقية، وبذلك لن يصبح خادم الله، بل على الأرجح عبدًا للعقلانية الغربية الانتهازية والسطحية التي تكتنف الحياة اليومية هناك؟’ سادت فترة من الهدوء طويلة! ثم نهض عباس أفندي عبد البهاءل بنبرة قوية مهيبة: ‘أنا لا أُسلِّم أليشعي إلى البريطانيين كي يثقّفوه، بل إنني أكرّسه وأهبه للعليّ القدير، فعين الله سوف ترعى طفلي في أكسفورد أيضًا – إن شاء الله!’
لم يُضِفْ حضرته كلمة أخرى وغادر الغرفة دون أن يودّعنا.
ثم استأذَنْتُ بهائية خانم بالانصراف، وما إن خرجتُ حتى شاهدتُ واقفًا في الحديقة وكان واضحًا أنه غارق في تفكير عميق وهو ينظر إلى شجرة تين مثقلة بالثمار.
في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1921، وأنا مقيمة في لوغانو، عَلِمتُ بوفاة عباس أفندي عبد البهاء في حيفا، فعادتْ أفكاري وذكرياتي إلى تلك الساعة في الماضي البعيد في شهر أغسطس/ آب عام 1910، وكم أتمنى لأليشع – شوقي تمام الصحة وموفور الخير –
إن شاء الله.’
وكان حضرة عبد البهاء، بعد سنوات عدّة، قد طلب من صديقه اللورد لمنغتون[11]، وهو إسكتلندي مرموق من النبلاء لحضرته عميق الاحترام والإعجاب، أن يستخدم مكانته الرفيعة في تمكين شوقي أفندي من الالتحاق بكلية في جامعة أكسفورد. من الجائز أن يكون المولى قد ذكر خطة كهذه للدكتورة فولشير، إلا أنه بالطبع ليس لدينا دليل موثّق يعزز كلماتها.
عندما انتقل حضرة عبد البهاء أولاً إلى البيت الجديد في حيفا (الذي كان يستعمله أفراد أسرته في فبراير/ شباط 1907، إن لم يكن قبل ذلك) كان جميع أفراد عائلة حضرته يُشغِلون غرف البيت آنذاك. وأخيرًا انتقل أفراد عائلتيْن اثنتيْن من بنات حضرته إلى بيوت تخصّهم قريبة من مسكنه، ومع ذلك كان البيت يغصّ دومًا بالأقارب والأطفال والخدم والزائرين والضيوف. في سنوات لاحقة، عندما كان شوقي أفندي يعود من مدرسته إلى البيت، كانت غرفته صغيرة وملاصقة لغرفة حضرة عبد البهاء. ولأن الكهرباء لم تمدد إلا قبل صعود حضرة عبد البهاء بقليل، ولم تُوصَل إلا بعد صعوده، فقد كانت العائلة تستعمل القناديل. وكثيرًا ما كان حضرة عبد البهاء يلاحظ أن القنديل في غرفة شوقي أفندي لا يزال مضاءً حتى وقت متأخر من الليل، فكان ينهض من فراشه ويتّجه نحو الباب ليقول له: ‘كفى! كفى! إذهب للنوم!’، إلا أن عقليّة شوقي أفندي الجادَّة هذه كانت تُسِرُّ المولى كثيرًا. أخبرني ولي الأمر بأن المولى جاءه ذات مرة في غرفة المعيشة التي كان يعمل فيها، وقف ونظر إلى الحديقة من النافذة وظهره إلى شوقي أفندي. كانت أصوات الحديث والضحك من بعض أفراد العائلة يمكن سماعُها من غرفة أخرى، فاستدار حضرة عبد البهاء إلى شوقي أفندي وقال: ‘لا أريدك أن تكون مثلهم – دنيويًا.’ ومرة أخرى ذكر لي شوقي أفندي بأنه تذكّر المولى حينما التفت إلى حَرَمِه وهو يقول: ‘انظري إلى عينيه، إنهما كالماء الصافي.’ وتذكّر مرة أخرى كيف أن المولى، الذي يبدو واضحًا أنه كان واقفًا قرب نافذة مُواجِهةٍ للبوابة الرئيسة، قد لاحظ شوقي أفندي وهو يدخل مندفعًا ويصعد الدرجات بخفّة، فأرسل في طلبه وقال له: ‘لا تمشِ هكذا، امشِ بوقار!’ كان ذلك في وقت شبّ فيه شوقي أفندي وكبر وأصبح يخدم المولى في عدة أعمال. في تلك الأيام التي سبقت مغادرته إلى إنكلترا كان يلبس القفطان مع حزام أو وشاح على الخصر وطربوش أحمر على رأسه. وكثيرًا ما تُرينا الفوتوغرافية كيف أن الطربوش كان يميل بوضوح إلى الخلف، وتظهر من تحته خصلة متموجة من شعره الناعم بلونه البنّي الداكن المائل إلى السواد، وتكشف هذه الصور عن جبهة عريضة تخلو من التجاعيد، ووجه ممتلئ جميل على الدوام وذقن توحي بالحزم والتصميم وعينيْن واسعتيْن تعطيان انطباعًا بأنهما داكنتان. فَمُهُ مميّز تبدو فيه الشفة السفلى مطابقة تقريبًا للعليا ومُحْمَرَّتان بشكل واضح، وبعد مرحلة صباه احتفظ دائمًا بشارب صغير مشذّب داكن اللون.
قبل أن يقوم المولى برحلاته إلى الغرب كانت أغلب عادات أهل البيت شرقية، وبعد عودة حضرته أدخل إليها بعض العادات الغربية بالتدريج. لقد سجلتُ في مذكراتي اليومية يلي: ‘قدّم لي شوقي أفندي للتوّ وصفًا حيًا لوقت الغداء أيام المولى. ويقول بأن حضرته كان يحضر في حوالي الساعة الحادية عشرة صباحًا ويدخل القاعة الكبيرة ويسأل العم قُلي ‘ساعت چنده’ (أي كم الساعة؟) كان من عمل العم قُلي الإخبار عن الوقت. ولتحضير مائدة الطعام تقوم الخادمات بوضع ملاءة من القماش على أرضية غرفة شرب الشاي القديمة، ومن الممر، حيث مكان حفظها، تُدحرج طاولة مستديرة كبيرة ذات أرجل قصيرة وتوضع على الملاءة، وعليها يوضَع عدد من الصحون المعدنية من الطراز القديم )غالبًا مطلية بالمينا( وبعض الملاعق – التي لا تكفي كل من يجلس حولها فتوضَع عشوائيًا – كما كنّ أيضًا يوزّعن الخبز على المائدة، وفي زاوية منها بعض المناديل… ثم يدخل المولى ويجلس ويقول لمَن يكون موجودًا: ‘بيا بنشنيد’ (أي تعالوا واجلسوا) – أصهاره، عمه، ابن عمه… الخ، ويبدأ في تناول الطعام بالملعقة أحيانًا وبيده أحيانًا أخرى، كما كان يخدم الآخرين أحيانًا فيقدّم لهم بيده الكريمة الأرز و… إلخ. وفي منتصف وجبته تقريبًا تأتي الخانم (الورقة المباركة العليا) من المطبخ كالعادة، وتبدّل شبشبها عند مدخل الممر، وهي تحمل معها طبقًا من اللقيمات الشهية وتجلس قرب المولى في مكانها المحفوظ لها دائمًا، ثم يحضر الآخرون بالتدريج: النساء الضيوف، الأطفال وبنات المولى… الخ. (ويغادر المولى والرجال الذين فرغوا من طعامهم أولاً)، وعندها، كما يقول شوقي أفندي، تُرفع القيود فتتعالى أصوات الأطفال وهم يبكون ويصرخون والكل يتكلمون وتسود الجوَّ فوضى عامة. ويقول بأن ما اعتاد الأحفاد على انتظاره وترقُّبه (بمن فيهم شوقي أفندي نفسه) كان لقمة مِلْءَ الفم من الطعام الذي تُعدّه الخانم وتضعها بيدها في فم هذا أو ذاك لأنه الألذُّ طعمًا دائمًا، لذلك كانوا يسمُّونها ‘لقمة الخانم’، وكان شوقي أفندي عادة ما يحصل عليها كونه المحبّب لديها! وبعد أن تَفْرغَ سيدات أهل البيت من تناول الطعام تأتي النساء الخادمات ويجلسْنَ حول المائدة نفسها ويتناوَلْن طعامَهُنّ… بعد أن عاد المولى من رحلته إلى الغرب أُدخل المزيد من التقاليد الغربية في طريقة تناول الطعام بالتدريج مثل استعمال أواني الصيني والكراسي وسكاكين المائدة وغيرها.’
ولكن دعونا الآن نعود إلى عكاء والسنوات الأولى من حياة شوقي أفندي. ولو أنه ليس هناك شك بأن حضرة عبد البهاء قد فعل كل شيء لتوفير حياة هانئة سعيدة لطفولة شوقي أفندي قدر المستطاع، إلا أنه لم يكن ممكنًا بحال من الأحوال أن تَخْفَى على طفل ذكيّ مُرهف الحسّ مثله حقيقةُ أن جدَّه المحبوب كانت تهدِّده أخطار جسيمة في تلك السنوات التي سبقت مباشرة خَلْع سلطان تركيا. فزيارات لجان التحقيق التركية التي أرسلت لتقصّي الحقائق في التهم السامّة [الملفقة] ضد حضرة عبد البهاء من قِبَل الناقضين، ثم مكائدهم المتواصلة للنيل من حياة حضرته بالذات، ثم التهديد بعزْلِهِ ونفْيِهِ من جديد إلى ليبيا، لا بد أنها قد خلقت معًا جوًّا من القلق والتوتُّر الشديد في عائلة المولى، وما كان لها إلا أن تترك أثرًا في شوقي أفندي. كان حينها وقت النقض العنيف؛ فغالبية جماعة البهائيين الذين رافقوا حضرة بهاء الله في نفيِهِ إلى عكاء قد أصيبوا بجرثومة هذا الداء المميت، باستثناء حفنة من النفوس المخلصة. فالبعض منهم انضمَّ عَلَنًا إلى المتمرّد العاصي “محمد علي” الأخ غير الشقيق لحضرة عبد البهاء، وآخرون تعاطفوا معه علنًا. كان أثناء هذه السنوات أن طلب حضرة عبد البهاء من شوقي أفندي ألا يشرب القهوة أبدًا في أيٍّ من بيوت البهائيين لخوفه على هذا الحفيد الغالي من محاولة تسميمه! لقد أخبرني بهذا شوقي أفندي نفسه، وعندما يتذكر المرء أنه كان مجرّد صبيّ صغير في ذلك الوقت، سيدرك حينئذٍ جسامة الأخطار المُحْدِقة بهم جميعًا في تلك الأيام.
ربما بسبب هذا الوضع السيء والمتفاقم باستمرار نحو الأسوأ أن أرسل حضرة عبد البهاء شوقي أفندي مع مربّيته إلى حيفا حيث يقيم فيها بعضُ الأحباء ليعيش هناك؛ أمّا متى حدث هذا فلا أعلم، إلا أنه حدث وهو لا زال طفلاً صغيرًا. كانت الفرنسية لغته الأجنبية الأولى، ومع أنه في سنوات لاحقة كان غير راغب في التكلُّم بها رسميًا لشعوره بأن طلاقته بها قد تراجعت لعدم استعمالها، إلا أنه بالنسبة لأُذُني، على الأقل، يبقى ذلك المتملِّك لناصيتها. كان دومًا يضع كل ما يريد إضافته بسرعة البرق بالفرنسية. وحتى عام 1907 كان شوقي أفندي يعيش مع هذه المربية نفسها هاجر خاتون، التي كانت تلازمه منذ طفولته، في منزل حضرة عبد البهاء الذي بُني حديثًا [في حيفا]، والذي أصبح منزل حضرته الأخير ثم منزل ولي أمر الله فيما بعد. كان هنا في هذا المنزل عندما رأى شوقي أفندي حُلمًا له مغزاه الكبير رواه لي وقد دوّنْتُهُ. قال إنه عندما كان في التاسعة أو العاشرة من عمره، وكان وقتها يعيش مع هذه المربية في المنزل المذكور ويذهب إلى المدرسة في حيفا، رأى في حُلُمه أنه مع طفل عربي رفيق له في المدرسة كانا في الغرفة التي اعتاد حضرة عبد البهاء أن يستقبل فيها ضيوفه في البيت في عكاء حيث كان المولى يعيش وحيث وُلِد شوقي أفندي. دخل الغرفة حضرةُ الباب، ثم ظهر رجل يحمل مسدسًا أطلق منه رصاصة نحو حضرة الباب، ثم التفتَ الرجل إلى شوقي أفندي وقال: ‘الآن جاء دورُك.’ وأخذ يطارده في الغرفة ليرديه قتيلاً. عندها استيقظ شوقي أفندي وحكى حلمه لمربيته التي نصحته أن يرويه لميرزا أسد الله ويطلب منه أن ينقله للمولى. دوّن أسد الله المنام وأرسله للمولى الذي أجاب بإنزال اللوح التالي في حق شوقي أفندي. والغريب في الأمر، كما أخبرني شوقي أفندي، أن هذا اللوح كان إنزاله قريبًا جدًا من ذلك الوقت الذي كان فيه حضرة عبد البهاء في خطر عظيم، وكتب حينها واحدًا من ألواح وصاياه الذي عيّن فيه شوقي أفندي وليًا لأمر الله.
هو الله
يا شوقي أنا، هذا الحلم جيد جدًا. كن مطمئنًا بأن التشرّف بمحضر حضرة الأعلى روحي له الفداء دليل الاستفاضة من حضرة الكبرياء وحدوث الموهبة الكبرى والعناية العظمى، وكذلك بقية الرؤيا. آمل أن تصبح مظهر ألطاف الجمال الأبهى، وتزداد يومًا فيومًا إيمانًا وإيقانًا وعرفانًا، وأن تتبتّل وتتضرع وتناجى في الليل وتؤدي ما ينبغي في النهار. عبد البهاء.[12]
كان لشوقي أفندي تعلُّقٌ خاص بهذه المربية، التي ذكرها حضرة عبد البهاء في رسالة كتبها لشقيقته يقول فيها: ‘قبّلي عني وردة حديقة الرقّة شوقي أفندي، وانقلي تحياتي إلى هاجر خاتون.’ وفي مذكراتي اليومية دوَّنتُ: ‘أخبَرَني شوقي أفندي في هذه الليلة كم كان حزينًا عندما توفيت مربيته في الإسكندرون[13]، وهي التي أشرفت على تربيته، وأضاف إن والدته صمّمت الاستغناء عنها عندما تقدّمت في السن، فشعر وقتها بالمرارة ورفض ذلك بشدة مع أنه كان في التاسعة أو العاشرة من عمره. عندما جاء خبر وفاتها كان وقتها في الكرْم، حديقة والده. قال بأنه ذهب بعيدًا في الظلام وبكى من أجلها – كان في الثانية عشرة تقريبًا. وكان حبّه وإخلاصه لمربيته مَثَلاً يُحتَذى في العائلة.’
دخل شوقي أفندي أفضل مدرسة في حيفا، “كلية الفرير” التي يديرها “الآباء اليسوعيون”. لم يكن فيها سعيدًا أبدًا كما أخبرني. وفي الواقع، فإن ما استنتجته منه أنه لم يكن في الحقيقة سعيدًا على الإطلاق لا في المدرسة ولا في الجامعة. وبالرغم من طبيعته المرحة، فإنّ رقّة إحساسه وخلفيّته [تنشئته] – المختلفة تمامًا عن الآخرين في كل شيء – لم تستطع إلا أن تجعله منعزلاً عن أترابه وتسبّب له الكثير من الحزن والغمّ. كان حقًا واحدًا من أولئك المنفتحين ذوي القلوب البريئة والعقول المتوقّدة ذكاءً والطبيعة المحبة والتي يبدو أنها تجمّعت لتجلب لهم صدمات ومعاناة في حياتهم أكثر مما عند معظم الناس. وبسبب عدم ارتياحه في هذه المدرسة قرر حضرة عبد البهاء إرساله إلى بيروت حيث التحق بمدرسة أخرى كاثوليكية مقيمًا في قسمها الداخلي، إلا أنه بالمِثْل لم يكن سعيدًا. وعندما علمت العائلة في حيفا بذلك أرسلت له سيدة بهائية مؤتَمنة لكي تستأجر له مسكنًا في بيروت وتعتني به وتقوم على خدمته. لم يمضِ طويل وقت حتى كتبت المربية إلى والده تخبره بأن شوقي أفندي غير سعيد أبدًا في المدرسة ويرفض أحيانًا الذهاب إليها لعدة أيام، وأن جسمه آخذ في النحول وصحته إلى الأسوأ. عرض والده الرسالة على حضرة عبد البهاء الذي رتّب له حينئذٍ ليدخل كلية البروتستانت السورية التي تضم مدرسة وجامعة عُرفت فيما بعد بالكلية الأمريكية في بيروت، والتي التحق بها شوقي أفندي بعد أن أنهى ما يعادل الشهادة الثانوية. كان يقضي عطلاته الدراسية في المنزل بحيفا، وغالبًا – قدْر الإمكان – في محضر جدّه الذي أحبَّه حبَّ عبادة والذي أصبحت خدمته تشكل الهدفَ من حياته. فكل المقررات الدراسية التي كان يختارها شوقي أفندي لنفسه كانت تهدف إلى تأهيله لخدمة المولى ولأن يكون مترجمًا لحضرته ولخطاباته إلى الإنكليزية.
أخبرني شوقي أفندي أنه في هذه السنوات الأولى لدراسته في حيفا طلب من حضرة عبد البهاء أن يعطيه اسمًا خاصًّا به حتى لا يعود هناك خلط بينه وبين أولاد عمومته لأنهم جميعًا يُدْعَوْن أفنان، فمَنَحَه لقب “ربَّاني” ويعني “سماوي” وهو لقب استعمله أيضًا جميع إخوانه وأخواته. في تلك الأيام كان الناس لا يُعرَفون بأسماء عائلاتهم بل كانوا يُنْسَبون إلى بلدتهم أو أكبر أولادهم سنًّا أو إلى شخص بارز في العائلة.
من الصعب تمامًا تتبُّع أحداث تلك السنوات بدقّة، فكل العيون كانت مركّزة على الجَدّ عبد البهاء، ومهما كان حبّ الناس واحترامهم للحفيد الأكبر، فعندما تشرق الشمس يتجاهلون ضوء المصباح! في بعض روايات الزائرين، ومنهم ثورنتون تشيس[14]، وهو أول مؤمن بهائي أمريكي، والذي زار حضرة عبد البهاء عام 1907، قد ذكر عن لقائه مع “شوقي أفنان”. وفي واقع الأمر نشر تشيس صورة فوتوغرافية تُظهر شوقي أفندي مرتديًا ما كان على الأغلب زِيّهُ العادي في تلك الأيام؛ بنطالاً قصيرًا وجوارب طويلة داكنة، وطربوشًا على رأسه وجاكيتّة بياقة عريضة كزيّ البحّارة تغطّي كتفيه. إلا أنه لا تتوافر لدينا في الوقت الحاضر معلومات وافية لتملأ كافة الثغرات عن تلك المرحلة، حتى أولئك الذين رافقوا حضرة عبد البهاء في أسفاره إلى الغرب واحتفظوا بيوميات مدوَّنة بعناية، لم يخطر ببالهم أن يدوّنوا الكثير عن حركات وسكنات صبيّ كان في الثالثة عشرة من عمره فقط عندما بدأ حضرة عبد البهاء رحلاته التاريخية إلى أوروبا وأمريكا.
ما إن تحرر حضرة عبد البهاء من سجنه الطويل [في عكاء] وانتقل إلى إقامته الدائمة في حيفا حتى بدأ يفكّر في بهذه الأسفار. ففي تقرير نُشر في أمريكا بمجلة “الأخبار البهائية” عام 1910 نقرأ ما يلي: ‘لقد طلبتم معرفة قصة سفر حضرة عبد البهاء إلى الأراضي المصرية، إن حضرته لم يُعلِم أحدًا بأنه ينوي مغادرة حيفا… فخلال يومين استدعى إلى محضره م. ن. وشوقي أفندي و ك. وهذا العبد.’ إن ما يتذكّره أحد البهائيين بأنه قبل غروب الشمس بقليل، في عصر ذلك اليوم من شهر سبتمبر/ أيلول، عندما أبحرت الباخرة التي كانت تُقِلُّ حضرة عبد البهاء إلى بورسعيد بمصر، كان حينها شوقي أفندي جالسًا على عتبات منزل حضرة عبد البهاء متفطّر القلب بائسًا، وعلّق بقوله: ‘إن المولى الآن على ظهر الباخرة. لقد تركني وغادر، بالتأكيد إن في ذلك حكمة!’ أو أنها كانت عبارات بهذا المعنى. ولإدراكه التام، بلا شك، لما يعتري قلب حفيده العزيز… لم يمض وقت طويل حتى سارع المولى الحنون إلى طلب الصبيّ ليخفف من وَقْع هذه الصدمة الشديدة نتيجة أول انفصال جِدِّيٍّ عن حضرته. إلا أنه لم يتم العثور على معلومات إضافية ذات صلة بذلك الحدث. نحن نعلم أن المولى أمضى في بورسعيد قُرابة الشهر، وبعدها توجّه إلى الإسكندرية بدل أوروبا التي كانت وُجهته الأساسية. كم من الوقت أمضاه شوقي أفندي مع حضرته في تلك الفرصة في مصر، أمر لا نعلمه، ولكن بما أن المدرسة تفتح أبوابها في أوائل شهر أكتوبر/ تشرين الأول، فيُفتَرض أنه عاد إلى سوريا في ذلك الوقت. وما نعلمه جيدًا أن شوقي أفندي التحق بالمولى مرة أخرى في إبريل/ نيسان 1911 في الرمل، إحدى ضواحي الإسكندرية، ذلك لأن أحد الزائرين البهائيين القادم من أمريكا، وهو لويس غريغوري[15]، أول أيادي أمر الله من أصل زنجي، قد ذكر أنه التقى في 16 إبريل/ نيسان بـ ”شوقي”، صبي جميل، حفيد حضرة عبد البهاء، وقال بأنّه أظهر مودّة كبيرة للزائرين. في أغسطس/ آب من العام نفسه غادر المولى في سفرته الأولى إلى أوروبا ورجع في ديسمبر/ كانون الأول 1911. كم من الوقت مضى قبل أن يستدعي المولى حفيده الأكبر ثانية للالتحاق به هو ما نجهله أيضًا، إلا أن ما نعلمه بالفعل هو أن لدى حضرته الآن خطة – ربما متأثرًا بانطباعاته الشخصية عن أوروبا، أو لشدة اشتياقه لشوقي أفندي – تلك الخطة التي لم تكن سوى اصطحاب شوقي أفندي معه إلى أمريكا.
أخبرني شوقي أفندي بنفسه كيف أن المولى قد أوصى له بأكثر من قفطان طويل وعمامتيْن، واحدة خضراء وأخرى بيضاء كما لحضرته، حتى يرتديها شوقي أفندي في الغرب. وعندما أُحضِرت له وارتداها ليشاهده المولى قال بأن عيني حضرته لمعتا بالفخر والسعادة. فماذا كانت تعنيه رحلة كهذه إلى الغرب بالنسبة لشوقي أفندي في معيَّة حضرة عبد البهاء، أمر لا يمكن حصره. إلا أنه حالَ دون تحقيقها مكائدُ أحد الخونة الخسيسين الذي نقض العهد والميثاق فيما بعد – الدكتور أمين فريد ابن أخت حرم حضرة عبد البهاء، الذي كان مِنْ مرافقي حضرته إلى أمريكا وسبَّب له مثل هذا الضيق المتواصل لدرجة، كما أخبرني شوقي أفندي، أنه عندما عاد المولى في آخر الأمر إلى بيته في حيفا في الخامس من ديسمبر/ كانون الأول عام 1913 توجّه فورًا إلى غرفة حرمه ثم جلس، وبصوت واهن أومأ بيده قائلاً: ‘الدكتور فريد أهلكني.’ لم يكن عند شوقي أفندي أدنى شك في أن مَنْعَه من القيام بتلك الرحلة التاريخية كان بسبب فريد هذا.
في الخامس والعشرين من مارس/ آذار 1912 أبحر حضرة عبد البهاء وشوقي أفندي مع بعض السكرتارين والخدم منطلقين من الإسكندرية إلى أوروبا على متن الباخرة س. س. سيدرك[16] التابعة لشركة “وايت ستار لاين”[17]. وبعد أن رست الباخرة على رصيف ميناء نابولي أعلن مفتشو الصحة الإيطالية أن عيون أحد السكرتارين وأحد الخدم وشوقي أفندي مصابة وعلى ذلك صدر الأمر بعودتهم إلى الشرق الأوسط. لقد أورد هذه الحقائق ميرزا محمود في يومياته وقال إنه بالرغم من الجهود الحثيثة التي بُذلت من قبل حضرة عبد البهاء ومرافقيه وأحباء أمريكيين، فقد رَفَضَت السلطات الإيطالية منح هؤلاء الثلاثة تصريحًا حتى بالنزول من السفينة وصرحت بأنه حتى لو تمّ السماح لهم بمتابعة الرحلة فإن السلطات الصحية الأمريكية ستعيدهم إلى بلدهم. استمر حضرته في مساعيه يومًا كاملاً باذلاً كل ممكن من أجل تغيير هذا القرار دون جدوى. وفي المساء ما كان أمام حضرته إلا أن يصعد إلى باخرته المُبْحرة إلى أمريكا بعد وداع مؤلم حزين. إن كلماته التي وجّهها تلك الليلة إلى مرافقيه وضّحت قناعته بأن السبب في إعادة شوقي أفندي لم يكن إلا ذريعة ملفّقة. ‘لقد ظن هؤلاء الإيطاليون أننا أتراك وسجّلونا على أننا كذلك، فأوقفوا ثلاثةً منّا كان أحدهم سكرتيرًا والثاني طبّاخًا، وهذا ليس مهمًا، أما هذا الصبي شوقي أفندي فكان لا حيلة له. لماذا كانوا معه بهذا الحزم؟ لقد أساءوا معاملتنا مع أنني كنت دائمًا ذلك المؤازر والمُعين لجاليتهم أكانت في الإسكندرية أم في حيفا…’
أخبرني شوقي أفندي بأنه لم يكن هناك علّة في عينيه (فعيناه قويتان جدًا دائمًا)، إلا أن الدكتور فريد أصرّ على حضرة عبد البهاء بضرورة إرجاعه، مستعمِلاً كل أنواع الذرائع، لتأييد ما ادّعاه الطبيب الإيطالي. لقد عزا شوقي أفندي كل ما حدث إلى التدخل الشخصي لفريد، وهو مثال لطموحه غير المحدود وللمكائد التي لا نهاية لها السائدة في أوساط العائلات الشرقية. يمكن للمرء أن يتخيّل مدى انكسار القلب الذي سبّبه هذا الرفض لصبيّ في الخامسة عشرة من عمره وقد أعدّ نفسه للسفر في أول تجربة مثيرة وكبيرة في حياته، بل وأكثر من ذلك بكثير بالنسبة لشوقي أفندي، وهو المتعلّق بجدِّه تعلقًا شديدًا والمتحمّس للغاية لأن يستقلّ باخرة كبيرة في رحلة عظيمة إلى الغرب في وقت كان مثل تلك الرحلات الطويلة أمرًا نادرًا نسبيًا وزاخرًا بالأحداث! كان دائمًا يتذكر هذا الحَدَث بشيء من الحزن ولكن بروح مؤثّرة فيها التسليم والرضا باللطمات المستمرة التي طفِق يتلقاها طيلة حياته. من السهل القول بأنها إرادة الله – ولكن من يعلم كم من المرات تتحول فيها الخطوة التالية المقدرة إلهيًا إلى مسار آخر أقل كمالاً تدبّره مكائد الإنسان الشيطانية؟ لا مجال للشك بأن حزن المولى كان شديدًا جرّاء ما حدث، ولكن كان عليه أن يُبقي خططه طيّ الكتمان خشية أن ينكشف سرّ مستقبل شوقي أفندي قبل أوانه، ويقع عليه الأسوأ من خلال حقد الآخرين وحسدهم.
لدينا خطاب كتبه شوقي أفندي بعد حوالي ستة أشهر إلى أحد سكرتيري حضرة عبد البهاء في أمريكا يخبره بأنه رغم اشتراكه بمجلة “نجمة الغرب”[18]، إلا أنه لم تصله بعض أعدادها، ويرجوه أن يسعى جاهدًا في الحصول على جميع الأعداد التي كَتَبَتْ عن رحلة المولى إلى أمريكا. ويذكر بأن عنوانه سيكون، منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول، في الكلية البروتستانتية السورية في بيروت/ سوريا التي ذكر بأنه سيلتحق بها قريبًا. ووقَّع اسمه “شوقي رباني” (Choki Rabbani). يبدو أنه في سنواته الأولى كان يكتبه هكذا (Choki) وأحيانا (Shawki) أو (Shogi) ومع الوقت أصبح (Shoghi) الذي يعطيه نُطقه الصحيح بالإنكليزية. وفي دفتر مذكراته عن تلك الأيام في بيروت كتب اسمه (Shawqi Rabbani) بالتهجئة الكاملة، مُظهِرًا معرفته التامة بتهجئة اسمه – ولكنه لم يستعمل هذه التهجئة لاسمه أبدًا.
رغم طبيعة مشاغله اليومية المجهِدة في تلك الأشهر المضنية في أمريكا ثم أوروبا لاحقًا، لا بدّ وأن حضرة عبد البهاء غالبًا ما كان يتّجه بأفكاره نحو حفيده المحبوب. ففي ثلاث رسائل، من بين ما كان يكتبه لشقيقته الورقة المباركة العليا بهائية خانم خلال رحلاته، نجده يذكر شوقي أفندي مبديًا قلقه عليه ويكشف عن حبّه الكبير له، فيقول فيها ‘اكتبي لي في الحال عن أحوال شوقي أفندي، وأعلميني بالكامل ولا تُخفي شيئًا؛ فهذه هي الطريقة الفُضلى.’ ‘قبِّلي نور عيون مَجْمع النفوس الروحانية، شوقي أفندي.’ ‘قبِّلي وردة حديقة الرقّة النضرة، شوقي .’ فكلمات كهذه تشير بوضوح إلى قلقه تجاه صبيّ لم يكن دائمًا في صحة جيدة، ويدرك تمامًا مدى اشتياقه لحضرته ومعاناته في فِراقه. ولدينا لوح آخر لحضرة عبد البهاء موجَّه إلى شوقي أفندي يعبّر فيه عن اهتمامه بصحته ولكنني لا أعلم فترة نزوله:
هو الله ‘شوقي أفندي عليه البهاء الأبهى يا فتيَّ العمر ومنيرَ المُحيّا، علمتُ أنك متوعّكٌ وتلزمك الراحة، فلا بأس. إن الراحة لازمة من وقت لآخر، وإلاّ غدوتَ مثلَ عبد البهاء ضعيفًا واهنًا وغيرَ قادر على العمل من شدّة التعب. عليك بالراحة الآن بضعة أيام، ولا بأس في ذلك. آمل أن يشملك الجمال المبارك بعنايته وحمايته.’[19]
أخيرًا في السادس من يونيو/ حزيران 1913 انتهت الرحلة الطويلة وعاد حضرة عبد البهاء، ذو التسع والستين سنة، إلى مصر وقد أضناه التعب نتيجة الجهود الخارقة التي بذلها، وسارعت عائلته للتشرف بمحضره هناك، ومن بينهم شوقي أفندي الذي التحق بحضرته بعد حوالي ستة أسابيع من وصوله. وإذا عَجِب المرءُ لماذا لم يذهب فور وصول جدّه، فليتذكر أن الدراسة في المدرسة تنتهي في الأسبوع الأول من شهر يوليو/ تموز، وفي الأغلب كان على شوقي أفندي أن يستقلّ الباخرة من بيروت إلى حيفا (والبديل كان طريق البرّ في قافلة بكُلفة أقل ولكنها أطول ومشاقّها أكبر للوصول إلى هناك)، وبعد وصوله التحق ببعض أفراد أسرته ليبحروا من حيفا إلى مصر برفقة الورقة المباركة العليا وآخرين. وصلوا إلى ضاحية الرمل في الإسكندرية في الأول من أغسطس/ آب حيث استأجر حضرة عبد البهاء مرة أخرى فيلاّ [منزلاً مستقلاً]. كثيرًا ما كان شوقي أفندي يقول: ‘كان المولى كالمحيط’، ويعني بذلك أن حضرته بمقدوره أن يتلقى ويتقبّل كل شيء دون أن تظهر عليه أمارات الانزعاج. هذه القدرة الفائقة في السيطرة على النفس لا يمكن ملاحظتُها بأفضل مما جاء في مذكرة كاتب يوميات الرحلة بأن حضرة عبد البهاء بعد أن سمع بوصول شخصين هما الأحب إلى قلبه في الوجود، جلس مع الأحباء وبعض الأصدقاء ساعة كاملة قبل أن يتركهم ويرجع إلى المنزل للترحيب بهما! وجاء في المذكرة في يوم 2 أغسطس/ آب: ‘في هذا اليوم لم يأتِ المولى المحبوب لرؤيتنا في الصباح لأنه كان يُكرم وِفادة “الورقة المباركة العليا” وباقي الأحباء الذين رافقوها.’ عندما يتخيل المرء مدى سعادة العائلة في لمِّ شملها ثانية ويقرأ هذه الإشارة المُبتَذَلة التي وردت في المذكرة مشيرة إلى ذلك، يدرك المرء شيئًا من الجلال والوقار الذي كان يحيط دائمًا بعائلة حضرة عبد البهاء. ومع ذلك لدينا بعض الإشارات عن حياة شوقي أفندي هناك: لقد استؤنفت العادة القديمة بتلاوة المناجاة في محضر حضرة عبد البهاء، وكان شوقي أفندي يتلو المناجاة أيضًا بصوته الشبابي الجميل، وكان حضرة عبد البهاء يصحّحه ويعطيه توجيهاته أحيانًا. لم يكن في هذا شيءٌ غير اعتيادي، فأنا شخصيًا كثيرًا ما كنت أسمع كبار العائلة يصوّبون اللحن أو النطق لمن يتلو المناجاة أو يقرأ الشِّعر بصوت عالٍ، ولا شك أن المولى لا بد أن فَعَل ذلك لشوقي أفندي عدة مرات على مرّ السنين. بنشاطه العارم وبقدرته الحاضرة دومًا وضع شوقي أفندي نفسه في خدمة المولى في الأشهر التي أمضاها مع حضرته قبل أن يعود إلى بيروت لاستئناف دراسته، فكان يوصل رسائل حضرته إلى الأحباء الإيرانيين التي كان يُمليها عليه أثناء جلوسه في حديقة فيلّته التي اعتاد حضرته أن يشرب الشاي ويستقبل ضيوفه فيها. كان شوقي أفندي هو القائم دومًا على خدمة حضرته؛ يقوم بالمهام الخاصة، ويرسله حضرته مع آخرين لاستقبال الزائرين، أو لقائهم في محطة السكة الحديد. وقد رُوِيَ لنا كيف أرسل حضرة عبد البهاء شوقي أفندي لاصطحاب بعض الأحباء ليشاهدوا متنزّه الإسكندرية الشهير وحديقة الحيوانات هناك، وكيف أنه زار القاهرة أيضًا – حيث يمكن للمرء أن يتخيّل كيف أنه لم يُضيِّع الوقت هناك، فسارع إلى زيارة الأهرامات لأنه كان يملك روح المغامرة ويتوق إلى زيارة الأماكن البعيدة، بدلالة ما سُجّل عن اهتمامه الشديد ببعض أعداد المجلات المتخصصة بـ ’الرحلات’ التي كانت تُرسل إليه من أمريكا.
كانت هناك حركة هائلة تموج حول حضرة عبد البهاء: زائرون يصلون من الشرق والغرب، من بينهم بهائيون قدماء مشهورون مثل لِوا غتسنغر[20] وميرزا أبو الفضل اللذيْن استقر جثمان كل منهما أخيرًا في مصر [في قبرين متجاورين] تحت شاهد واحد بعد سنوات طوال على وفاتهما؛ أحباء يغادرون إلى الهند لنشر رسالة حضرة بهاء الله؛ وفود من الطلاب البهائيين الشباب من بيروت وإيران؛ لقاءات حضرته مع مراسلين صحفيين وشخصيات مرموقة وأصحاب مناصب عليا. كتب أحد سكرتيريه، الذي رافق حضرته إلى أمريكا، في ذلك الوقت عن تلك البهجة والعنايات اللامتناهية التي تنسّمت في تلك الأيام الثمينة الغالية بمحضر المولى. فإذا كان هذا ما انطبع عميقًا في ذهن السكرتير وقلبه، فكم كان التأثير يا تُرى على شوقي أفندي، الذي شعر بخيبة أمل كبيرة عندما حُرم من فضل مرافقة حضرة عبد البهاء إلى الغرب، والذي كان توّاقًا جدًا إلى محضر حضرته وسماع أخباره طيلة خمسة عشر شهرًا من الافتراق؟ فالقلْبُ في السادسة عشرة يكون قادرًا على إظهار نوع من البهجة نادرًا ما تتكرر في الحياة ثانية؛ وبالرغم من سنوات الحرب التي كانت تقترب بسرعة، فإن هذه الفترة باعتقادي، وحتى صعود حضرة عبد البهاء عام 1921، كانت أسعد أيام شوقي أفندي طيلة حياته.
أذكر قصتين مرتبطتين بالأيام التي قضاها شوقي أفندي مع المولى في مصر وقد رواهما لي بنفسه. قال: ذات يوم، بعد تناول وجبة طعام دَسِمَة إلى حدٍّ كبير، رجع المولى في ذاكرته إلى الأيام الخوالي في بغداد، حينما عاد والده بعد فترة انقطاعه وخلوته الاختيارية في جبال السليمانية، وكانوا جميعًا حينها في فقرٍ شديد – إلا أنها كانت أيامًا جرى فيها من قلم حضرة بهاء الله سيلٌ دافق من الكتابات المباركة التي كان الأحباء يجلسون معًا ويستمعون إلى ترتيلها، ليلة بعد ليلة حتى ساعات الفجر، مستغرقين في نشوة هذا الفيض الإلهي الرائع – ثم يتفضل المولى بأنَّ طعم الخبز الجافّ مع التمر في تلك الأيام كان ألذّ من أي طعام آخر في العالم. والقصة الأخرى أدهشتني – ونوّرت بصيرتي – بدرجة كبيرة؛ وقد سمِعْتُها أكثر من مرة: قال شوقي أفندي بأنه ذات يوم كان مع المولى في عربة خَيْلٍ مستأجَرة [حنطور] تُقِلُّهم مع أحد الباشوات، الذي اصطحبه المولى ليحل ضيفًا عنده، وكنا آنذاك عائدين من الإسكندرية إلى ضاحية الرمل، وعندما وصلوا وترجّلوا، سأل المولى سائق العربة [العربجي]، وهو رجل ضخم قوي البنية، عما يريده من أجر فطلب مبلغًا باهظًا جدًا. رفض حضرته دفع المبلغ، إلا أن الرجل أصرّ واستشاط غضبًا وتصرّف بصفاقة حتى إنه أمسك بالمولى من حزامه الذي يحيط بخصره وسحبه إلى الأمام ثم إلى الخلف بكل خشونة عدة مرّات مصرًّا على نقده ذلك المبلغ. قال شوقي أفندي بأن هذا المشهد قد أحرجه للغاية أمام الضيف المرموق. ولم يستطع تقديم أي مساعدة للمولى لصغر سنّه، فشعر بالخوف والمهانة. أما حضرة عبد البهاء فلم يكن كذلك، فقد بقي في غاية الهدوء ورفض الاستسلام. ولما أفْلَت الرجل أخيرًا قبضته عن حضرة عبد البهاء أنقده حضرته ما يستحقه بالضبط من أجر وقال له بأن سلوكه هذا قد أفقده إكراميّة مُجزية كان ينوي منحه إياها، ثم مشى حضرته يتبعه شوقي أفندي والباشا! لا شك أن أمورًا كهذه قد تركت أثرها في شخصية ولي أمر الله طوال حياته، فلم يسمح لنفسه أبدًا أن يُخدَعَ أو يؤخذ بالترهيب، بغض النظر عما قد يسببه ذلك من إحراج أو إزعاج له وأولئك الذين يعملون في معيته.
إن الشخصية التي رأيناها في شوقي أفندي كولي لأمر الله كانت هناك معه في صباه وسِنِيّ مراهقته. ففي رسالة كتبها من بيروت في 8 مارس/ آذار 1914، موجهة إلى أحد سكرتيري المولى في حيفا، وكان يعرفه تمامًا، نراه يلومه على إهماله في الكتابة له: ‘انقضى وقت طويل ولم تصلني أخبار من حيفا ولا حتى كلمة منك. لم أكن أتوقع ذلك حقًا، آمل أن تتغير نُدرةُ المراسلة هذه إلى رسائل عديدة زاخرة بالبشارات السارة عن الأرض الأقدس.’ فالصبي ذو السبعة عشر عامًا كان حازمًا وأميريًا. ويمضي في تمنياته أن يكون ‘مولانا وسيدنا في صحة تامة’ ويطلب أن يُرسَل إليه قبل 20 مارس/ آذار أيّ حديث وكلّ إشارة وردت على لسان المولى، وأية معلومات تتعلق بالمحكمة العليا تتوفر لدى مراسل حضرته. إن حرصه الشديد في تَتبُّع أحاديث وأفكار المولى ينعكس في هذه الرسالة كما في نظيرتها التي يطلب فيها تزويده بجميع أعداد مجلة “نجمة الغرب” التي تغطّي زيارة حضرة عبد البهاء إلى أمريكا. إلا أنه لا تزال في هذه الرسالة جوانب أخرى منيرة تلقي الضوء على اهتمامات شوقي أفندي وطبيعته حيث جاء فيها: ‘إنني على وشك الانتهاء من إعداد خارطة للولايات المتحدة الأمريكية. إنها خارطة جميلة ورائعة للغاية، فأرجو أن تُرْسِل لي قائمة بالمدن التي زارها مولانا في الولايات المتحدة مرتّبة الواحدة تلو الأخرى حتى أتمكَّن من تثبيت مواقعها على الخارطة.’ فالمصمّم العظيم لخارطة العالم البهائي أصبح منذ الآن منشغلاً بها!
في صفحات دفاتر ملاحظات شوقي أفندي من عام 1917 نجد أنه كان يضع إشارة على الأيام التي كان فيها يتم إيصال الثلج إلى منزله في بيروت – نموذج يتفق تمامًا وطبيعته النظامية المنهجية في كل أعماله. وإلى أخر حياته كان يرغب في الاحتفاظ دومًا بسجل بتواريخ استلامه صحيفة التايمز اللندنية التي اعتاد بلا شك الاشتراك فيها منذ أن كان في إنكلترا – ربما هي الصحيفة اليومية الإنكليزية الأفضل في العالم، والوحيدة التي جاء على ذكرها حضرة بهاء الله بالاسم في أحد ألواحه. كما تحتوي تلك الدفاتر على عن: التقويم البهائي، المبادئ البهائية الأساسية، ملاحظات باللغة الفرنسية عن الحُقَب التاريخية للأنبياء العبرانيين، الحسابات الشمسية والقمرية، المقاييس، الأوزان، نُسَخ من بعض “الألواح”، ومعلومات تبيّن تمكُّنَهُ من معاني القيمة العددية للحروف الأبجدية العربية بما يُعرَف بـ ”حساب الجُمَّل” إلى جانب أمور أخرى متعددة. لقد كانت كلُّ الصفات الأساسية لولي أمر الله موجودة في هذا الصبي.
كان شوقي أفندي على الدوام نشِيطًا في مراسلاته الشخصية مع الأحباء البهائيين. نحن نعلم من إحدى هذه الرسائل، والموجهة إلى “السيد مصطفى الرومي” في بورما مؤرخة: كيفا/ سوريا 28 يوليو/ تموز 1914، والتي يعبّر شوقي أفندي فيها عن سعادته الغامرة بـ’بشارات التقدم السريع للأمر المبارك في الشرق الأقصى’، أنه شارك المولى بهذه الرسالة و”أشرقت على وجه حضرته المنير ابتسامة حلوة وامتلأ قلبه بالسرور. وعندها علمتُ أن المولى في صحة جيدة، إذ تذكّرتُ أقوال حضرته التي أقْتَطِفُ منها الآن قوله: ‘كلما، وأينما أسمع البشارات السارة عن الأمر المبارك، أشعر بتحسُّن في صحتي الجسدية.’ ولذلك أخبرك بأن المولى سعيد ويشعر بصحة جيدة. انقُلْ هذا الخبر السار إلى الأحباء الهنود. كلي أمل أن يضاعف هذا من إقداماتهم وثباتهم وحماسهم في نشر أمر الله.”
كان لشوقي أفندي دور فاعل أيضًا في نشاطات الطلاب البهائيين الذين كانوا يدرسون في بيروت، تلك المدينة التي يمرُّ بها الكثير من الزائرين القادمين من إيران والشرق الأقصى في طريقهم إلى حيفا وكذلك العائدين منها. وفي رسالة أخرى كتبها إلى الشخص نفسه الذي كان يراسله مروّسة بـ ’الكلية البروتستانتية السورية – بيروت/ سوريا في 3 مايو/ أيار 1914′ نجده يقول: ‘بالإشارة مُجدّدًا لنشاطاتنا في الكلية، فإن اجتماعاتنا البهائية التي كلّمتُك عنها سابقًا قد انتظمَتْ من جديد، واليوم فقط نبعث برسائل تحمل البشارات السارة عن الأرض الأقدس إلى المحافل البهائية في أقطار مختلفة.’
في فبراير/ شباط 1915 فاز شوقي أفندي بالجائزة الأولى في مسابقة طلاب السنة الأولى والثانية في الكلية – لسبب لم يرد ذكره – منحَهُ إياها اتحاد الطلبة. كان تلميذًا جيدًا ولكنه لم يدّع قطُّ أنه كان طالبَ علمٍ لامع بارز. هناك فرق شاسع بين عقل ذي فكر عميق، واسع، بعيد النظر ومنطقي، ونوعية عقل يحفزه في العادة مطمحٌ وغرورٌ يفوز فيهما بهتاف وتصفيق رفاقه الطلاب ومعلميه في الكلية. لم يكن في طبيعة شوقي أفندي أي غرور أو مطمح على الإطلاق، بل كان مشتعلاً بدافع أسمى وأجلّ – خدمة عبد البهاء، وأن يرفع شيئًا من عبء العمل والهموم عن كاهل حضرته. ففي خطاب مؤرخ 15 يناير/ كانون الثاني 1918، أرسله شوقي أفندي إلى حضرته من بيروت، يعبّر فيه عن ذلك الدافع بكلماته الخاصة: ‘استأنفتُ دراستي موجِّهًا ومركّزًا كل جهودي عليها، باذلاً كل وُسعي في اكتساب ما ينفعني ويهيّئني لخدمة الأمر المبارك في قادم الأيام.’ بعد قضاء عطلة عيد الميلاد في حيفا عاد شوقي أفندي إلى بيروت وكتب فورًا إلى المولى يقول: ‘لقد وصلتُ الجامعة سعيدًا سالمًا’ بعد طقس بارد وماطر تعرّض له أثناء السفر. في هذه الرسالة يفيض شوقي أفندي حبًّا واشتياقًا في كل جملة فيها، ويعبّر عن ‘حبي واشتياقي إليك’ وينهيها بقوله: ‘لقد أرسلتُ بالبريد قطعة من الجبن آملاً أن تحظى بقبول حضرتك’، ثم وقّعها ‘خادمك الوضيع المتواضع شوقي.’ عندما يتذكّر المرء أن أيام الحرب حصدت أرواح ما قدّر بعشرات الآلاف من الذين قضَوْا جوعًا في لبنان، فإن هذه الهدية من قطعة الجبن تكتسب بُعدًا مختلفًا.
إن كون سنوات الحرب، التي كان شوقي أفندي يدرس خلالها في بيروت للحصول على البكالوريوس في الآداب من الجامعة الأمريكية، قد ألقت عليه بظلّ قاتم من القلق رغم طبيعته المفعمة بالمرح والبهجة، يظهر جليًّا في فقرة من إحدى رسائله كُتبت في إبريل/ نيسان 1919، وفيها يشير إلى ‘سنوات طويلة كئيبة من الحرب وسفك الدماء والمجاعة والابتلاء بالطاعون، وقتٍ أصبحت فيه الأرض الأقدس معزولة عن مختلف بقاع الأرض، وتحت وطأة أشد درجات القمع والاستبداد والدمار ضراوة…’ كانت سنوات تنامى فيها خطر دائم يهدّد حياة جدّه المحبوب، سنوات مجاعة رهيبة عاناها معظم السكان، سنوات حرمان وعَوَز طال الجميع ومن ضمنهم عائلته نفسها. وعندما قارب الصراع العالمي من نهايته كان تهديد الحلفاء بقصف حيفا بالقنابل، قد وصل إلى الحد الذي دفع حضرة عبد البهاء أن ينقل عائلته إلى قرية تقع في أسفل التلال على الجهة الأخرى من خليج عكاء حيث أقاموا عدة أشهر وأمضى فيها حضرته بعض الوقت. إلا أن التهديد الأعظم لحياة المولى وعائلته كان عندما عقد القائد التركي ‘جمال باشا السفّاح الطاغية المتهوّر والعدو اللدود لدين الله’ كما وصفه شوقي أفندي، العزم على صلب المولى وكل عائلته طبقًا لما أفاد به الرائد تيودور بول[21] الذي كان ضابطًا في جيش الجنرال أللنبي المنتصر الذي دخل حيفا في أغسطس/ آب 1918، والذي صرّح بأن هذا الفعل الشائن كان من المقرر تنفيذه قبل يومين من دخولهم، إلا أنه أُحبط بسبب التقدّم السريع للقوات البريطانية والتقهقر السريع للقوات التركية تبعًا لذلك. نحن نفترض أن شوقي أفندي كان قد أتمّ دراسته في بيروت، وكان في هذا الوقت مع حضرة عبد البهاء وشاركه في قلقه من عدم وضوح ما يحصل في تلك الأيام. يبدو لي غريبًا، وأنا أكتب هذه السطور، أن أدرك كم كانت قليلة أحداث حياته الشخصية التي ذكرها شوقي أفندي؛ كان يكره الحكايات ولا وقت لديه للذكريات عندما تشير إلى شخصه. إن فكره وروحه المُتعبيْن كانا منشغليْن تمامًا، خلال الفترة التي كنتُ فيها محظوظة أن أكون معه، في تدبير شؤون الأمر الإلهي، وتنفيذ المهمة العاجلة التي يجب إنجازها في الحين، الماثلة أمامه، تنتظره، وتلقي عليه بثقلها كل يوم.
كان ذلك في عام 1918 عندما حصل شوقي أفندي على درجة البكالوريوس في الآداب. ففي رسالة وجّهها إلى صديق له في إنكلترا مؤرخة 19 نوفمبر/ تشرين الثاني من ذلك العام كتب يقول: ‘كم أنا سعيد ومحظوظ لأن أكون قادرًا على تقديم خدمات لمحبوبي بعد أن أتممتُ مقررّيْ الآداب والعلوم في الجامعة الأمريكية ببيروت. أتلهّف وأتوقّع أن أسمع منك وعن خدماتك للأمر المبارك لأنني عندما أنقلها للمولى المحبوب سأجعله سعيدًا مبتهجًا وقويًا. إن السنوات الأربع الماضية كانت سنوات نكبة لا تُروى بكلمات، وأيام ضيق غير مسبوقة، وبؤس لا يوصف، ومجاعة قاسية وكَرْب شديد، وإراقة للدماء ونزاع لا نظير لهما. أما الآن، وقد عادت حمامة السلام إلى عُشّها وسكنت فيه، فإن فرصة ذهبية قد برزت لنشر الكلمة الإلهية. هذا ما يجب ترويجه الآن وإيصال الرسالة الإلهية إلى هذا الإقليم المتحرر دون أدنى قيد. إنه حقًا عصر الخدمة.’ لا شيء يمكن أن يكشف عن شخصية ولي أمر المستقبل أكثر مما تبديه هذه السطور التي فيها يُظْهِر مدى تفانيه في القيام بأعمال المولى، وتوْقه واشتياقه الشديدَيْن لأن يجعله سعيدًا وفي صحة جيدة، وتلخيصه الموجز لما هي عليه حياته الآن تجاه تلك الخدمة، وتحليله لما تعنيه نهاية الحرب للعمل البهائي في المستقبل القريب، قد بانت جميعها بوضوح. أما أسلوبه البلاغي في اللغة الإنكليزية فما زال في مراحل نشأته، ويعوقه عدم تمكّنه من تملك ناصية اللغة الإنكليزية بعد، إلا أن هذا الأسلوب الذي تعكسه الفقرات التالية قد أظهر وجود هيكل أساسي لعظمة مستقبل لغته: ‘الأحباء… جميعهم… كبيرهم وصغيرهم، شيبًا وشبابًا، مرضى وأصحّاء، في أوطانهم أو خارجها، مبتهجون بالأحداث التي جرت مؤخرًا؛ هم جميعًا روحٌ واحدة في نفوس متعددة، متّحدون، متّفقون، يعملون ويهدفون إلى خدمة وحدة العالم الإنساني.’
بلغ الآن شوقي أفندي من العمر واحدًا وعشرين عامًا، وعلاقته الشخصية بحضرة عبد البهاء قد توضّحت في بعض تلك الرسائل المبكرة التي كُتِب أغلبها عام 1919، وفيها يشير إلى ‘جَدّي عبد البهاء’ ويمهرها بتوقيعه ‘شوقي رباني (حفيد عبد البهاء).’ على المرء أن يتذكر أنه في الأشهر التي أعقبت الحرب مباشرة، وقد عادت الاتصالات بين المولى والأحباء في أقطار عديدة بعد انقطاعها في سنوات العداوات الطويلة، كان من المرغوب فيه جدًا أن يعرف البهائيون وغير البهائيين على السواء مَنْ يكون “شوقي ربّاني” هذا الذي يخدم الآن سكرتيرًا للمولى ويُعتبر ساعدَه الأيمن. نشرت مجلة “نجمة الغرب” في عددها الصادر في 27 سبتمبر/ أيلول 1919 صورة فوتوغرافية كاملة لشوقي أفندي تحت عنوان ‘شوقي رباني؛ حفيد عبد البهاء’، وتذكُرُ المجلة بأنه هو الذي ترجم الألواح المباركة مؤخرًا، وأن مذكراته اليومية قد بدأ نشرها في هذا العدد. حسب معرفتي وخبرتي حول كيفية إدارة شوقي أفندي لأدق تفاصيل شؤون المركز العالمي، فإنني أعتقد شخصيًا أنه من الأرجح أن يكون المولى نفسه قد وجّهه من أجل أن يجعل العلاقة العائلية بينهما واضحة جلية.
كانت أعمال حضرة عبد البهاء تزداد يومًا بعد يوم بذاك السيل الدافق من الرسائل والتقارير الواردة، وأخيرًا أفواج الزائرين إلى حيفا. انعكس ذلك في رسائل شوقي أفندي الشخصية إلى عدد من الأحباء البهائيين: ‘… إن انقطاعي عن مراسلتكم راجع فقط إلى ضغط العمل الضخم في كتابة الألواح المباركة التي تُملى عليّ وترجمتها… قضيتُ كامل فترة ما بعد الظهر وأنا أترجم لحضرته فقط محتويات جزء من العرائض التي تصلنا من لندن.’ ويُنهي الرسالة بقوله ‘مرسِل بطيّه صورتيْن فوتوغرافيتيْن بدافع شعوري البهائي ومحبتي الخاصة نحوكم…’ ‘رأسي في دوّامة. كان يومًا مشحونًا بالعمل والأحداث. لا أقلَّ من عشرين زائرًا، من الأمير والباشا إلى المجنّد البسيط، كُلٌّ ينشُدُ لقاء حضرة عبد البهاء.’ ‘المولى المحبوب من الصباح إلى المساء وحتى في منتصف الليل منشغل في تنزيل الألواح، وفي إرسال أفكاره البنّاءة الفعّالة حول المحبة والمُثُل إلى عالم يلفّه الحزن وخيبة الأمل.’ ‘بينما أنا ماضٍ في كتابة هذه السطور استُدعِيتُ ثانية إلى محضره الكريم لتدوين كلماته جوابًا على ما وصله حديثًا من عرائض.’ كل كلمة من شوقي أفندي كانت تعكس تلك الطاقة والتفاني والحماس غير المحدود لهذا الأمير الصغير الذي يقف إلى جانب الملك المسن المحنّك، قائمًا على خدمته ومؤازرته بكل ما في شبابه من حيوية وما في طبيعته من حماس فريد.
كثيرًا ما كان شوقي أفندي يرافق المولى في فعاليات رسمية يُدعى حضرته إليها وتتزايد باطّراد، من ضمنها زيارات للحاكم العسكري البريطاني لحيفا ومقابلات مع القائد الأعلى للقوات المسلحة السير إدموند أللنبي[22]، وهو الجنرال الذي قاد قوات الحلفاء في فلسطين وأصبح اللورد أللنبي فيما بعد، والذي كان وراء منح حضرة عبد البهاء لقب “فارس” من قِبَل الحكومة البريطانية. كتب شوقي أفندي يقول: ‘كانت المرة الثانية التي يزور فيها حضرة عبد البهاء الجنرال، وتَمَحْوَر الحديث فيها هذه المرة عن الأمر المبارك وتقدُّمه… هو رجل لطيف جدًا ومتواضع وذو شخصية مدهشة، دافئ في كلماته، وفوق ذلك مهيب في سلوكه وتصرفاته.’ في أوساط كهذه أصبح حفيد حضرة عبد البهاء شخصيةً معروفةً. ففي خطاب رسمي من الحاكم العسكري إلى حضرة عبد البهاء نجده يقول: ‘صاحب الرفعة والسمو: استلمتُ اليوم من حفيدكم مَبْلَغًَا وقدره –––.’ كان ذلك ردًا على زيارة قصيرة لشوقي أفندي حاملاً للحاكم مزيدًا من التبرعات من المولى لصالح “صندوق إعانة حيفا”. كان شوقي أفندي أيضًا يمضي وقتًا كبيرًا مع الزائرين، وليس فقط بمحضر حضرة عبد البهاء، وخلاله كان يحصل على معلومات مفصلة منهم، بمنتهى الحماس، عن تقدُّم النشاطات البهائية في مختلف الأقطار.
وبالرغم من أن أعمال المولى قد ازدادت الآن بحيث تطلّب الأمر انخراط العديد من الأحباء في خدمته ومساعدته على نحوٍ دائم، إلا أن أحدًا لا يُقارَن بشوقي أفندي دون أدنى شك. أتذكّر يومًا بأن ولي الأمر قد أخبرني كيف أن أحد البهائيين الأمريكيين (أعتقد أنه في بداية عام 1920) من كبار السن أهدى المولى سيارة من نوع كاننغهام[23]، وصادف أن ورد إشعارٌ بوصولها وتنزيلها على رصيف الميناء في بداية عطلة نهاية الأسبوع، وقد أعطى المولى تعليماته إلى شوقي أفندي بمتابعة التخليص عليها وإيصالها للبيت المبارك. ومع عدم وجود موظفين كبار في الميناء في اليوم التالي لأنه يوم عطلة أسبوعية، كما أخبرني شوقي أفندي، فقد أفلح في إجراء ما يلزم وأنجز معاملة تخليصها. وعندما وصلت السيارة ذهب إلى المولى يخبره بأنها بالباب خارجًا، وقال بأن المولى اندهش تمامًا وسُرَّ كثيرًا وسأله كيف نجح في إنجاز ذلك، فأخبره شوقي أفندي بأنه أخذ الأوراق الرسمية ودار بها على بيوت مختلف المسؤولين يطلب توقيعهم وإصدار تعليماتهم بوجوب تسليم سيارة السير عبد البهاء عباس على الفور. إنه نموذج لطريقة شوقي أفندي في القيام بعمله طيلة فترة حياته. كان دومًا يريد أن يُنجَزَ كل شيء في الحال، وحتى أسرع من ذلك، وكل ما كان يملك زمام تحقيقه كان ينجزه بتلك السرعة.
أينما ذهب حضرة عبد البهاء كان حفيده المحبوب يرافقه كلما أمكن ذلك في أغلب الأحيان. فهذه الرفقة المستمرة التي دامت سنتين تقريبًا لا بدّ أنها كانت عملية إشباع عميق لكليهما، كما كان لها تأثيرها العميق جدًا والقطعي على شوقي أفندي. في تلك السنين، عندما كان نجم شُهرة حضرة عبد البهاء يتألق محليًا، كما كان عالميًا أيضًا، أُتيحت لشوقي أفندي فرصة ملاحظة كيفية تعامل المولى مع كبار الرسميين والعديد من المرموقين البارزين الذين انجذبوا إلى مَنْ يعتبره الكثيرون أقلَّ بقليل من نبيٍّ من الشرق، والرمز الديني الأعظم في آسيا، وأيضًا ملاحظة كيف كان المولى نفسه يتصرف تجاه سيل لا ينقطع من حسد ومكر أعدائه وضامري السوء له. فكان لهذه الدروس التي تعلمها شوقي أفندي أن تنعكس بتأثيرها على سنوات ولايته الستّ والثلاثين لدين حضرة بهاء الله.
في رسالة إلى صديق من الأحباء مؤرخة 18 فبراير/ شباط 1919 يذكر شوقي أفندي بأنه مع المولى في البهجة، ويستهلها بقوله: ‘تحياتٍ مقرونةً بأحلى الذكريات أنقلها إليك يا صديقي البعيد من هذه البقعة المباركة!’ ويمضي في وصف جو الهدوء والطمأنينة في البهجة، بعد صَخَب المدينة في حيفا الآخذ في الازدياد، قائلاً: ‘فالهواء هناك مليء بالغازات والأبخرة التي تُطلقها المحركات البخارية والسيارات على الدوام، بينما الجوّ هنا نقيّ وصافٍ ومعطر كأحسن ما يكون.’ وعندما نتذكّر أنني ذهبت في أواخر عام 1923 إلى البهجة في عربة حضرة عبد البهاء التي يجرّها حصان، وأنه في عام 1918 كانت حركة السيارات معدومة عمليًا في فلسطين بعد الحرب، يجب أن نفترض أن شوقي أفندي كان شغوفًا بالطبيعة بشكل غير عادي وهو بالفعل كان كذلك! إن وصفه للمولى وهو يزور المقام الأعلى [لحضرة الباب] مرتين يوميًا، وتجوُّله في البرّية المزهرة، إنما يعكس مدى سروره العميق في تلك الأيام الغوالي وهو ينعُمُ بالقرب من أعز محبوب على قلبه. إلا أن هذه البركة التي تنعّمَ بها شوقي أفندي كانت تقترب من نهايتها بسرعة. فالقرار بوجوب ذهابه إلى إنكلترا قد اتُّخِذ الآن ليلتحق بجامعة أكسفورد من أجل تحقيق هدفه المعلن في أن يَبْلُغَ بلغته الإنكليزية حدّ الكمال حتى يسخّرها في أفضل ترجمة لألواح حضرة عبد البهاء والكتابات المقدسة إلى هذه اللغة.
إن قرار شوقي أفندي تَرْك حضرة عبد البهاء بعد أقل من سنتين قضاهما في خدمته المتواصلة، وفي وقت ازداد واتّسع فيه باطّراد الكم الهائل من مراسلاتِ حضرته بعد الحرب، قد ارتكز على عدة عوامل: إذا عزم على مواصلة دراسته، فكلما كان ذلك أسرع كان أفضل؛ هناك الآن العديد من السكرتارين الذين يعملون في خدمة حضرة عبد البهاء؛ الابن الأكبر لخالة شوقي أفندي قد أنهى دراسته في بيروت وهو الآن في موطنه؛ الوضع العام لحضرة المولى ومشاريعه تبشّر بالخير، وفوق ذلك كله، كون صحته في تحسُّن مستمر. كتب تيودور بول عام 1918، وكان يعمل مع جيش أللنبي المنتصر في فلسطين يقول: ‘… إن المولى نشيط وحيوي وصحته أفضل مما كانت عليه في لندن.’ كما أن رسائل شوقي أفندي الخاصة التي كتبها بنفسه خلال شهري إبريل/ نيسان وأغسطس/ آب 1919 تؤكد على ذلك: ‘المولى المحبوب في صحة تامة، قوي ونشيط، سعيد ومسرور…’ ‘إن المولى المحبوب حقيقةً في أحسن صحة، قوي جسديًا، ودائم النشاط والحيوية، يفيض قلمُه المبارك بمئات “الألواح” في الأسبوع، يتابع عددًا لا يُحصى من العرائض، يستقبل العديد من الحجاج والزوار، وغالبًا ما ينهض في منتصف الليل للدعاء والتأمل.’ في رسائله إلى أحباء في إنكلترا وبورما كتب شوقي أفندي في الفترة نفسها يخبرهم بالأنباء المذهلة عن تفكير حضرة عبد البهاء الجِدّي في القيام برحلة أخرى طويلة جدًا. جاء فيها: ‘إن ما هو هام ومدهش تلميح المولى المحبوب نفسه بأنه يخطط ويفكّر برحلة مشابهة عَبْر المحيط الهندي، حتى إنه أعلن بأنه، بمشيئة الله، يرغب في القيام برحلة إلى الهند ومنها إلى الهند الصينية واليابان ثم جزر هاواي، ومن هناك إلى مدينتكم العزيزة لندن عبر القارة الأمريكية ثم إلى فرنسا وألمانيا ومنها إلى مصر. أُوّاه! كم هو حماسنا، وكم هو عمق وصدق أمانينا أن يتمكن المولى من القيام برحلة عظيمة كهذه وهو الذي حدّد مدتها بأربع سنوات أو خمس. فلنأمل في تحقيقها ‘لقد صرَّح المولى المحبوب مؤخرًا عن عزمه على السفر إلى الهند ونأمل أن يتحقق هذا قريبًا، وأن تحظى الهند، بفضل وحدة واتحاد أحبائها وطاقاتهم، بالمقدرة على استقبال حضرته.’
قِلَّةٌ من قليلِنا يخطر ببالهم أن أحبتهم سيموتون، وأقل من ذلك كله عندما يكون الواحد منا في الثالثة والعشرين من عمره، وكم يكون هذا العدد ضئيلاً عندما يكون من نُحبّهم في أحسن صحة وعافية ويخطّطون للقيام برحلة كهذه! لذا فليس من المستغرب أن كان على شوقي أفندي أن يترك حضرة عبد البهاء في وقت ما من ربيع 1920 وهو مطمئنُّ البال مقتنعٌ تمامًا بأنه سيعود إلى جانب حضرته أفضل تأهيلاً لخدمته، واثقٌ من صميم قلبه، ولا شكّ لديّ في ذلك، أنه سيرافق جدّه هذه المرة بالتأكيد في رحلة رائعة كتلك، وأنه سيحظى بخدمة حضرته ليل نهار لسنوات عديدة مقبلة. وفي غمرة حَدسه وتطلّعه لسنوات كهذه يبدو أنها ستمتد أمام حضرة عبد البهاء، تجاهل شوقي أفندي عُمرَ حضرته (الذي كان وقتها في السادسة والسبعين)، وتجاهل ذلك العامل الذي غالبًا ما يتدخل ويحطّم قلوبنا ويبدد آمالنا للأبد – ذلك التدخل الخفيّ للإرادة الإلهية في حياتنا وخططنا. إن هول تلك اللطمة التي أصابت ولي أمر الله الشاب فجأة، قد عكسته كلماته الطافحة بالكرْب في رسالة كتبها في فبراير/ شباط 1922 بعد صعود جدّه بأشهر قليلة مخاطبًا فيها أحد أبناء خؤولته البعيدين بقوله: ‘يا لمرارة الندامة على افتقادي حضرته – في آخر أيامه على هذه الأرض – فمهما فعلتُ من أجله في المستقبل، ومهما وصلتْ إليه دراستي في إنكلترا، لن أوفيه محبته الرائعة لي، وستبقى مرارةَ نَدَمٍ أحملها معي إلى القبر.’
وجانب آخر يلقي بضوئه على حياته كولي لأمر الله وعلى وفاته المبكرة في الستين من عمره، أنه بالرغم من أن شوقي أفندي لم يكن بأكثر من شاب صغير عام 1920 عندما أرسله حضرة عبد البهاء للدراسة في الخارج برفقة لطف الله حكيم الذي كان عائدًا إلى إنكلترا بعد أول زيارة له إلى حيفا، فقد أصرّ المولى وقتئذٍ أن يذهب الشاب أولاً إلى منتجع في طريقه إلى إنكلترا حتى يتمتع بقسط وافر من الراحة، مما يشير إلى مدى ما كان شوقي أفندي فيه من إرهاق ونفادٍ لقواه العصبية بعد سنوات الحرب الطويلة، والإجهاد الشديد الذي تعرض له بسبب ما كان يمارسه بعد الحرب من عمل مضنٍ ونشاط مكثّف في خدمة المولى، ومدى قلق جدّه على صحته في ذلك الوقت. خلد شوقي أفندي إلى الراحة التي فُرضت عليه في منتجع نوِيلّي[24] في ضواحي باريس. لم يكن وقتها مريضًا بل مرهقًا؛ كان يرافق الأحباء هناك ويعاشرهم، ويلعب التنس الأرضي بعض الوقت، ويذهب لمشاهدة المعالم المشهورة، وأصبح حَسَن الاطّلاع بتلك المدينة المعروفة بجمالها والتي تضم واحدًا من أعظم المتاحف في العالم، كما زار بعض البهائيين في بلدة باربيزون[25]. مكث هناك حوالي شهرين تابع بعدها سفره إلى إنكلترا في يوليو/ تموز.
استقبله هناك كثير من الأحباء وأصدقاء حضرة عبد البهاء المخلصين بكل حرارة ومحبة صادقة. بعضهم كان قد عرفه شخصيًا مثل الدكتور إسلمنت[26] الذي كان في حيفا مؤخرًا واشترك معه وأحباء آخرين في ترجمة لوح مبارك هامّ للمولى، والرائد تيودور بول الذي سبق أن التقى بحضرة عبد البهاء أثناء إقامة حضرته في لندن، وكان في فلسطين مع جيش الاحتلال البريطاني وقدّم كل مساعدة ممكنة للأحباء هناك ضمن سلطته، وكذلك اللورد لمنغتون.
حمل شوقي أفندي معه عدة رسائل من جدّه إلى بعض أصدقائه الإنكليز، كما هو واضح من رسالة كتبها بعد وصوله بوقت قصير وجَّهها إلى زوجة “علي قلي خان” في فرنسا يقول فيها:
28 يوليو/ تموز 1920
أختي البهائية العزيزة:
كنت مشغولاً لدرجة رهيبة منذ أن وَطِئَتْ قدماي الأرض الإنكليزية، وتقدُّمي في عملي حتى الآن مدهش. حملتُ ألواحًا من المولى إلى كل من السيدة بلومفيلد[27] واللورد لمنغتون والرائد تيودور بول، ومن خلال هؤلاء توثّق اتصالي بأساتذة بارزين ومستشرقين أكانوا في جامعة أكسفورد أو جامعة لندن. وبعد أن حصلتُ على رسائل تعريف وتوصية من كل من السير دنيسون روس[28] والبروفسور كير[29] موجهة إلى السير وولتر رالي[30]، الأستاذ والمحاضر في الأدب الإنكليزي في أكسفورد، والبروفسور مارغوليوث[31] المستشرق والضليع البارز باللغة العربية في الجامعة نفسها، سارعتُ إلى أكسفورد بعد أسبوع مشحون بالعمل في لندن. وفي واقع الأمر، وقبل مغادرتي إلى أكسفورد، وصلني خطاب من مارغوليوث يخبرني فيه أنه سيسخّر كل ما لديه من نفوذ في مساعدة من يمُتُّ إلى حضرة عبد البهاء بصلة القرابة. كانت لي الفرصة أن أجلس مع هذا الرجل وعميد كلية باليول[32] التي تخرّج منها رجال عظام مثل اللورد غري[33] والإيرل كيرزون[34] واللورد مِلْنَر[35] والسيد أسكويث[36] وسوينبيرن[37] والسير هربرت صموئيل[38] – وأتكلم عن الأمر المبارك موضحًا بعض النقاط التي كانت حتى ذلك الحين مبهمة ومحيّرة بالنسبة لهؤلاء العلماء والباحثين النُشَطاء.
أرجو أن تَدْعُوا لي كما طلبتُ منكم مساءَ مغادرتي، حتى أُوَفَّق في نيل مرادي وتحقيق أهدافي في هذا الصرح الفكري العظيم…
وبعد أيام قليلة كتب اللورد لمنغتون رسالة إلى المولى لها أهمية خاصة:
8 أغسطس/ آب 1920
صديقي العزيز
أسعدني استلام رسالتك من يد شوقي ربّاني وأن أعلم منه أنك في صحة جيدة. هو نفسه يبدو لي أنه في صحة جيدة وقد تأثّرتُ ثانية بذكائه وأسلوبه المنفتح الصادق.
آمل أن يتدبّر أمره في الحصول على التدريب الذي يسعى إليه في أكسفورد. لقد جاء إلى مجلس اللوردات ليومين أو ثلاثة، ولكن ما أخشاه أن أيًّا من تلك المناسبات لم تكن ذات أهميّة كبيرة…
تشير الرسالة أعلاه إلى وقت وجود شوقي أفندي في لندن. وكونه كان يحمل رسالة من حضرة عبد البهاء إلى اللورد لمنغتون، يمكن التخمين بأنه لم يضيّعْ وقتًا في تقديمها له، وأن نتخيّل أيضًا بأن شَغَفَ ذلك الشاب الفتيّ لمشاهدة أعمال أمّ البرلمانات لم يكن ليخفى على رجل خبير كريم ومتمرّس، والذي كان بسعْيِه أن سُمح لشوقي أفندي بحضور بعض جلسات مجلس اللوردات. كان ولي الأمر شديد الاهتمام دومًا بالشؤون السياسية، حريصًا أن يكون على اطلاع حسن بها، وكان يتمتع بما يقدمه مجلسا اللوردات والعموم من رؤى. أذكر أنه بعد زواجنا، عندما ذهبنا معًا إلى لندن لأول مرة، اصطحبني وقتها إلى مجلس العموم وجلسنا في شرفة الزائرين أثناء انعقاد إحدى الجلسات. فإذا كانت هذه تجربةً كبيرة بالنسبة لي – وأنا التي كنت لا أزال مبهورة مسلوبة القوى إزاء ما حظيتُ به مؤخرًا من شرف في أن يُسمح لي أن أكون على هذا القرب من آية الله على الأرض – يمكن للمرء أن يتخيّل كم أثارت هذه التجربة مشاعر شوقي أفندي وخلّفت لديه انطباعًا قويًا كرجل في سن الشباب. لقد أصبحتْ لندن مدينة مألوفة لديه خلال مدة إقامته في إنكلترا وزار معالمها الشهيرة. وفي أكثر من مناسبة، عندما ذهبنا معًا إلى أماكن مثل كنيسة وستمنستر وكنيسة القديس بولس وبرج لندن والمتحف البريطاني والمعرض الوطني ومتحف فكتوريا وألبرت والمنطقة التجارية وحدائق كيو… الخ، أدركتُ كم من الذكريات والخواطر تركَتْه هذه المدينة المشهورة في ذهنه منذ أيام الدراسة. ولا شك أنه قد شاهد من معالم إنكلترا ما أمكنه ذلك ضمن ما تسمح له مخصّصاته المالية المتواضعة جدًا كطالب والتي كانت تصله من حضرة عبد البهاء. ومما ذكره لي أعلم أنه مارس قدْرًا كبيرًا من الاقتصاد في مصروفه من قبيل شرائه مكواة كهربائية لكيّ ملابسه بنفسه!
زار شوقي أفندي د. إسلمنت في غير مرة في مصحّته الخاصة في بورنموث[39]. فصورة فوتوغرافية تُظهرهما معًا ورأساهما قريبان من بعضهما واقفيْن أمام مبنى المصحّة، ورسالة وجَّهَها شوقي أفندي للدكتور هول[40] بعد وفاة د. إسلمنت تعبّر بكل بلاغة عما عنتْه له تلك الزيارات: ‘سأبقى ما حييت أتذكر أيام السعادة والراحة تلك وأنا في بورنموث بصحبة صديقنا الفقيد جون إسلمنت، ولن أنسى الساعات الممتعة التي أمضيناها معًا أثناء تناولنا وجبات الطعام في المصحّة.’ أثناء إقامة شوقي أفندي في تلك الجهة من إنكلترا قام أيضًا بزيارة منتجع توركي[41] على شاطئ البحر. بعد ذلك بسنوات عديدة زُرتُ هذه الأماكن برفقته، وأراني منحدرات باباكومب[42] الشهيرة، وتجوّلنا في المتنزّه الذي زاره منذ مدة طويلة – ذلك المتنزّه بممرّاته الحمراء الداكنة، التي أعتقد أنها هي بالذات التي تركت في ذهنه انطباعًا بجمال الممرات الحمراء والمسطّحات الخضراء والأصص المزخزفة عندما تجتمع معًا، والتي ألهَمَتْهُ بعد سنوات أن يحاكيها في تصاميمه لحدائقه الجميلة في البهجة وعلى جبل الكرمل.
إن ذكريات أيام الدراسة تلك – في الواقع – لم تُمْحَ أبدًا من ذاكرة شوقي أفندي. ففي السنوات الأخيرة من حياته، لا زلت أذكر قوله مرة لأحد الزائرين الإنكليز، وهو يحدّثه عن تلك الأيام، كم كان مذاق شرائح الخبز الأسمر السميكة مع مُرَبَّى التوت وقشدة ديفونشَيَر[43] لذيذًا لديه.
خلال إقامته في إنكلترا كان شوقي أفندي قريبًا بشكل خاص من أحد المؤمنين الإيرانيين القدامى الذين يُعتمد عليهم وكان مقيمًا في لندن ويُدْعى ضياء الله أصغرزاده، وكذلك مع الدكتور إسلمنت والليدي بلومفيلد وآخرين بالإضافة إلى بعض البهائيين في مانشستر. ورغم أنه كان في الحقيقة يقضي معظم وقته في أكسفورد منهمكًا في دراسته، إلا أنه كان على صلة وثيقة بالجامعة البهائية في بريطانيا ويشارك في نشاطاتها. ففي رسالة مؤرخة في 5 مايو/ أيار 1921، كتبها أحد الأحباء الهنود في إنكلترا نجده يقول: ‘ذهبتُ مساء يوم الأربعاء لأحضُر الاجتماع البهائي العادي في قاعة لندسي[44]. قرأ السيد شوقي ربّاني ورقةً أعدّها تبحث في المشاكل الاقتصادية وحلولها. كانت الورقة مُعَدّةً جيدًا، كلماتها جميلة معبِّرة…’ يبدو أن قراءاته للأوراق المُعَدَّة تلك لم تقتصر على الاجتماعات البهائية، إذ نرى في رسالة كتبها شوقي أفندي من كلية باليول إلى أحد الأحباء يقول: ‘وأنا سوف أرسل إليك لاحقًا ورقة أعددتها حول البهائية تلوتُها منذ بعض الوقت في إحدى الجمعيات الرائدة في أكسفورد.’
أكسفورد وكامبردج كلمتان لا يزال يُعتدّ بهما؛ ففي عام 1920 تَفَرَّدَتا بشهرة أكاديمية خاصة أكثر مما هما عليه الآن، ذلك لأن الجامعات والتحصيل الجامعي أصبح اليوم أكثر شيوعًا. كانت كلية باليول، التي التحق شوقي أفندي بها، على مستوى علميٍّ عالٍ كونها إحدى كليات أكسفورد الأكثر عراقة. هنا أيضًا، وبعد سنوات، اصطحبني شوقي أفندي لأشاهد الشوارع التي كان يسير فيها ومكتبة بودليان[45] ثم النهر بمياهه الهادئة ومُرُوجه الخضراء المحيطة الممتدة خلف البوابات الحديدية المزخرفة، وكذلك [كلية] “كنيسة المسيح”[46] القائمة منذ ألف سنة بمطبخها الواسع الكبير وشبكة قناطرها الجميلة بطابَعها القوطي، ثم إلى [كلية] ماغدالِن[47] بمناظرها الخلاّبة، وإلى الساحة الهادئة داخل جدران باليول التي كان يعبرها متوجهًا إلى مكان دراساته، ثم إلى قاعة الطعام حيث كان يتناول طعامه، وشاهدنا المدخل الضيّق المؤدي إلى غرفته أيام كان طالبًا. من الواضح أنها كلها تحمل له الكثير من الذكريات، ولكن القليل منها في الحقيقة كان مبهجًا على ما أظن.
كتب أحد البهائيين منذ عدة سنوات إلى ولي أمر الله ينقل إليه حديثًا جرى مع أ. د. لندسي الذي أصبح في ذلك الوقت عميدًا لكلية باليول، وكان قبلها مرشدًا لشوقي أفندي أيام دراسته في الكلية. احتفظتُ بكلماته التي نطق بها؛ ويجدر بنا أن نتذكر أنها كلمات نطق بها في محادثة قصيرة غير رسمية وليس في مقابلة خاصة: ‘كانت فكرة شوقي أفندي عن عملية التعلُّم والثقافة بأنها اكتشاف شخص لديه أفكارٌ تُثمِّنُها ثم توجّه إليه الأسئلة. فكان كلما حصل على إجابات اعتاد أن يدوِّنها جميعها في دفتر صغير ذي غلاف أسود. كنت قد أعلنتُ عن برنامجي الدراسي، فجاءني شوقي أفندي يسأل: “ماذا تفعل بين الساعة السابعة والثامنة والنصف؟” “لماذا يا رجل”، صِحْتُ به، “أنا أتناول طعام العشاء!” “ياه”، قال شوقي أفندي بنبرة تنم عن خيبة أمل واضحة، “ولكن هل أنت بحاجة إلى كل هذا الوقت؟” لم أجد في أكسفورد مَنْ كان لديه مثل هذا النَّهَم للعلم والمعرفة، فأعطيته ربع ساعة أخرى مكتفيًا بعشاء خفيف، وهكذا كان – لقد عانيتُ من أجله.’ برزت هذه الحادثة من حقيقة أن شوقي أفندي كان يريد من مرشدِهِ أن يخصِّص له وقتًا أكثر من المقرر له. وبالرغم من الملاحظات السابقة، التي كانت بنيّة حسنة، ليس هناك من دليل على أن لدى ذلك الرجل العالِم، ولو لمحة خاطفة، عن حقيقة أن امتيازه الحقيقي الوحيد في نظر الأجيال القادمة أنه كان مرشدًا لشوقي أفندي يومًا ما. وبالرغم من أن الجميع في الكلية، وبدرجة أكبر هذا المرشد، كانوا يعرفون لماذا قطع شوقي أفندي دراسته وعاد إلى فلسطين، إلا أنه ليس هناك من رسالة تعبّر عن أي مشاعر شخصية تجاه تلميذه.
وعلى كل حال، كانت هناك رسائل متبادَلَة بينهما. ففي عام 1927 كتب شوقي أفندي رسالة إلى د. لندسي ر. إ. ب. [رفيق من رتبة الإمبراطورية البريطانية][48] يذكر بأنه مُرسل إليه نسخة من المجلّد البهائي السنوي ‘شاهدًا على طبيعة العمل الذي كان يشغلني منذ استدعائي المفاجئ والمؤسف حقًا من باليول.’ ويسترسل قائلاً: ‘إن المساعدة القيّمة التي لا تُقدَّر بثمن والتي حظيتُ بها تحت إرشادك قد أثبتت فائدتها العظيمة في مهمتي الشاقة والتزاماتها، وأنتَهِزُ هذه الفرصة لأعبّر لك عن امتناني وتقديري لكل ما فعلتَهُ لأجلي.’ بعد أكثر من سنتين، وفي نداء وجّهه الدكتور لندسي يناشد فيه جميع الأعضاء القدامى للتبرع لمشروع معيّن في الكلية، شكر شوقي أفندي على إرساله المجلّد. أجابه على أثرها ولي أمر الله في اليوم التالي برسالة مرفق فيها تبرعه بمبلغ عشرين جنيهًا إنكليزيًا، ويشكره على رسالته التي ‘ذكّرَتْني بالأيام السعيدة والقيّمة التي أمضيتها تحت إرشادكم في باليول.’ بقدْر ما كان عليه مقام ولي أمر الله رفيعًا، إلا أن تواضعه وحسّه المنصف إلى جانب لطفه وكياسته كانت تدفعه دائمًا إلى التعبير عن تقديره وامتنانه حيثما وَجَب. ففي رسالة عام 1923 للبروفسور دودج[49] في الجامعة الأمريكية ببيروت ينوّه إلى ‘هذه المؤسسة التعليمية العظيمة في الشرق الأدنى والتي أدين لها بعميق الامتنان…’
أما موقف البروفسور د. س. مارغوليوث وزوجته فكان مختلفًا تمامًا، ذلك لأنه في عام 1930 كتبت زوجته إلى شوقي أفندي تشكره على كتاب أرسله إليهما قائلة: ‘كان جميلاً أن تذكّرنا بالسعادة التي غَمَرَتْنا في الترحيب بك في هذا المنزل أثناء إقامتك المؤقَّتة القصيرة في أكسفورد.’ لم يكن هو المنزل الوحيد الذي استضافه، حسب علمنا، لأن لدينا رسالة منه للسيدة وايت[50]، بعد خمس سنوات على مغادرته إنكلترا يقول فيها: ‘سأتذكّر دائمًا ببالغ السرور والابتهاج مساعدتكم القيّمة جدًا لي وكرم ضيافتكم أثناء إقامتي في أكسفورد… صديقكم المحب والممتنّ دائمًا شوقي.’
من سِجِلّ الكلية لعام 1920 يتبيّن لنا أن ولي أمر الله كان قد كتب اسمه بخط يده شوقي هادي ربّاني – الابن الأول لميرزا هادي الشيرازي وعمره 23 عامًا. وفي دفتر للملاحظات احتفظَ به حضرته نجد القائمة التالية التي وضعها بعناية يبيّن فيها تواريخ بداية دراساته المختلفة عام 1920:
14 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 علوم سياسية – القس كارلايل[51].
15 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 المشاكل الاجتماعية والسياسية – السيد سميث (عميد باليول).
13 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 المسائل الاجتماعية والصناعية – القس كارلايل.
12 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 اقتصاد سياسي السير ت. هـ. بنسون[52]/ ماجستير.
16 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 تاريخ الاقتصاد الإنكليزي منذ عام 1688 السير بنسون.
11 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 علم المنطق – السيد روس[53]/ ماجستير.
12 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 المسألة الشرقية – ف. ف. أوركوهارت[54]/ ماجستير.
19 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 العلاقات بين رأس المال والعمال: كلاي[55] الكلية الجديدة.
احتفظَ شوقي أفندي ببعض الملاحظات عن هذه المساقات وعلى الأقل ما يتعلق منها بحضوره أوائل المحاضرات. كان رأيه الشخصي واضحًا تمامًا عن سبب التحاقه بأكسفورد، ولحسن الحظ لدينا ما يعبّر عن ذلك في رسالة كتبها إلى أحد الأحباء الشرقيين مؤرخة في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 جاء فيها: ‘صديقي الروحاني العزيز… الحمد لله، أنا بصحة جيدة مُفعم بالأمل، ساعٍ بأقصى ما لديّ من قدرة، أن أتزوّد بكل ما أحتاجه من أجل خدمتي للأمر المبارك في المستقبل. أتعشّم أن أحوز على أفضل ما يقدّمه هذا البلد وهذا المجتمع بأسرع ما يمكن، ثم أعود بعد ذلك إلى موطني لأضع حقائق الأمر الإلهي في قالَب جديد، وبهذا أخدم العتبات المقدسة.’ ليس هناك من أدنى شك بأنه كان يشير في ذلك إلى ترجمته المستقبلية للتعاليم الإلهية إلى اللغة الإنكليزية المُتْقَنة والتي أرسى دعائمها خلال إقامته المؤقتة في إنكلترا.
إن التقدّم الذي أحرزه شوقي أفندي في مهمته في أكسفورد تعكسه واضحًا رسالة كتبها إلى أحد الأحباء الإنكليز مؤرخة 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1921 حيث يستشرف منها المرء تمكُّنًا وبراعة جديدة وثقةً بالنفس: ‘… كنتُ مؤخرًا غارقًا في عملي، أراجع وأنقّح كثيرًا من التراجم، وقد أرسلتُ إلى السيد هول ترجمتي لَوح الملكة فكتوريا الزاخر بأعظم ما يمكن من النصائح الحيوية بالغة الأهمية لأهل العالم، وهو ما يفتقر إليه بكل إلحاح وشدّة عالَمٌ أضناه البؤس وخيبة الأمل! فإذا لم تقرأه بعد، احرص على الحصول عليه من السيد هول، فهذا اللوح برأيي من أبرز وأروع البيانات التي أعلنها حضرة بهاء الله فيما يخص شؤون العالم وأكثرها تأكيدًا.’ ثم يسترسل بأنه مرفق بطيه مقتطفات ‘بعضها جديد والآخر قديم’ وقد استخرَجَهَا من ‘سياق قراءاتي في بودليان حول البهائية.’ وفي رسالة بالفارسية، في الفترة نفسها كتبها إلى أحد الأحباء في لندن، يشير فيها إلى حقيقةٍ مفادها ‘أنا منشغل في هذه الديار ليلاً نهارًا في إعداد نفسي إعدادًا تامًا في فنِّ الترجمة… ليس لدي لحظة راحة. أشكر الله بأن النتائج على أقل تقدير هي الآن جيدة إلى حدٍّ ما.’ ويذكر بأن مشاغله ودراساته إلى جانب أنظمة الكلية ولوائحها لا تترك له وقتًا حرًا إلا أيام الأحد حيث يمكن لصديقه أن يزوره يوم الأحد في العنوان (45) شارع برود.
منذ أيامه في بيروت، وعمليًا حتى أواخر أيام حياته، اعتاد شوقي أفندي أن يدوّن في دفاتر ملاحظاته كثيرًا من مفردات اللغة الإنكليزية واصطلاحاتها النموذجية. فمئات الكلمات والجُمَل قد دوِّنت مما يدل بوضوح على سنوات من الدراسة الجادّة بكل عناية سخّرها في إتقان لغة أحبَّها واستمتع بها. كانت اللغة الإنكليزية بالنسبة إليه في المرتبة الأولى دون منافس. كان قارئًا كبيرًا لنسخة الكتاب المقدس طبعة الملك جيمس ولكتب المؤرِّخَيْن كارلايل وغيبون[56]، حيث أُعجب كثيرًا بأسلوبهما وخاصة غيبون في كتابه “سقوط الإمبراطورية الرومانية”، والذي كان شوقي أفندي مولعًا به لدرجة لا أذكر أنّ غرفته قد خَلَت يومًا من أحد مجلداته موضوعًا بقربه، وعادةً ما كان يأخذه معه في أسفاره. حتى إن نسخة صغيرة متداولة من أحد أجزائه[57] وُجدت موضوعةً قرب سريره عندما رفّت روحه إلى بارئها. كان هذا الكتاب هو إنجيله الخاص المدلَّل باللغة الإنكليزية، ومن حين لآخر كان يقرأ لي مقتطفات منه، وكثيرًا ما كان يتوقف عن القراءة فجأة ليبدي إعجابه قائلاً: ‘يا لَهُ من أسلوب، ما هذا التمكُّن من اللغة الإنكليزية، ما هذا الإيقاع الانسيابي في الجُمل! استمعي إلى هذا.’ بصوته العذب ونُطقه الشجيّ – بلهجةِ ما ندعوها ‘لهجة أكسفورد’، ولكن دون مبالغة – كانت الكلمات تخرج من فمه متألقة كالجواهر بألوانها وقِيمتها ومعانيها. أنا شخصيًا أتذكّر على وجه الخصوص ساعة واحدة من الراحة والصفاء (كم كانت نادرة للأسف)، وكان ذلك في فصل الصيف بعد الظهر في متنزّه سانت جيمس بلندن، وكنا وقتها نجلس على مقعد في مواجهة البحيرة حيث قرأ لي من كتاب غيبون بصوتٍ عالٍ. كان يجد متعة بالغة وهو يقرأ في هذا الكتاب، ويبدو واضحًا تأثُّر شوقي أفندي في كتاباته بأسلوب غيبون، تمامًا مثلما انعكس في الوقت نفسه أسلوبُ لغة الكتاب المقدس على تراجمه الإنكليزية لأدعية حضرة بهاء الله والكلمات المكنونة وألواح مباركة.
أعلم أن شوقي أفندي، عندما كان يدرس في أكسفورد، كان أنتوني إيدن طالبًا فيها أيضًا ويعرف كل منهما الآخر دون أن تجمعهما علاقة صداقة. وفي الحقيقة لم أسمعه قط يذكر شخصًا على أنه صديق له حيث اقتَصَرَتْ علاقاته على بعض أساتذته، ويبدو أنه أبقى نفسه بعيدًا عن الآخرين ربما بسبب حياء في الطبع يصعب اكتشافه في جلال شخص ولي أمر الله، ولكنها صفة مميزة قوية في الطبيعة البشرية لهذا الرجل. كان منتميًا إلى جمعية المناظرة والحوار، ويحبّ ممارسة لعبة التنس الأرضي؛ إلا أن تفاصيل حياته اليومية في أكسفورد نراها شحيحة بشكل استثنائي. ففاجعة صعود المولى قد ألقت بظلالها على كامل هذه المرحلة من حياة شوقي أفندي، وكانت في تأثيرها مدمِّرة للغاية في حياته بحيث كان السجلُّ الواقعي الوحيد على تلك المرحلة هو ما أحدثته من تأثير نلمسه في كتاباته وعلى شخصيته. ورغم أن فترة إقامته في جو جامعي ونوعيةٍ كالتي في أكسفورد كانت قصيرة، إلا أنها طَوَّرت وصَقلت فِكْرَه المنطقي النقيّ ورفعت قُدُراته في النقد، وعزّزتْ لديه إحساسه القوي بالعدالة ومقدِرته على التعليل والاستنتاج، وأضافت إلى نبالته الشرقية، التي ميّزت عائلة حضرة بهاء الله، تلك اللمساتِ من الثقافة التي نربطها بأرقى سِمات الشخص الإنكليزي النبيل.
[1] ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.
[2] كتاب “دور بهائي”، حضرة شوقي أفندي.
[3] “پيام آسمانى”، المجلد 1، نشرة المحفل الروحاني في فرنسا، سنة 2001م، صفحة 162.
[4] مصدر اللوح من دائرة الأبحاث من دون رقم صفحة.
[5] Ella Goodall Cooper.
[6] Amelia Collins.
[7] مكاتيب حضرة عبد البهاء، المجلد 5، صفحة 91، الأصل فارسي، ترجمة المترجميْن.
[8] نسائم الرحمن، الطبعة الرابعة مارس/ آذار 1993م، صفحة 123.
[9] Dr. J. Fallscheer.
[10] نسبة إلى أليشع، وهو أليشع النبي، خليفة إيليا النبي في العمل النبوي في المملكة الشمالية.
[11] Lord Lamington.
[12] ترجمة المترجميْن.
[13] Alexandretta.
[14] Thornton Chase.
[15] Louis Gregory.
[16] S. S. Cedric.
[17] White Star Line.
[18] Star of The West.
[19] ترجمة المترجميْن.
[20] Lua Getsinger.
[21] Major Tudor Pole.
[22] Sir Edmund Allenby.
[23] Cunningham.
[24] Neuilly.
[25] Barbizon.
[26] Dr. J. E. Esslemont.
[27] Blomfield.
[28] Sir Denison Ross.
[29] Professor Ker.
[30] Sir Walter Raleigh.
[31] Pro. Margoliouth.
[32] Balliol College.
[33] Lord Grey.
[34] Earl Curzon.
[35] Lord Milner.
[36] Asquith.
[37] Swinburne.
[38] Sir Herbert Samuel.
[39] Bournemouth.
[40] Dr. Hall.
[41] Torquay.
[42] Babbacombe.
[43] Devonshire.
[44] Lindsay Hall.
[45] Bodleian.
[46] Christ Church.
[47] Magdalen.
[48] Dr. Lindsay C. B. E.
[49] Dodge.
[50] Whyte.
[51] Rev. Carlyle.
[52] T. H. Penson.
[53] Mr. Ross.
[54] . F. Urquhart.
[55] Clay.
[56] Gibbon.
[57] Everyman’s Copy.
غالبًا ما كان عنوان مكتب الرائد تيودور بول في لندن يُستَخدم مركزًا لتوزيع البرقيات والرسائل الخاصة بالبهائيين، واعتاد شوقي أفندي أن يَعْرُج عليه كلما سافر إلى لندن. في الساعة التاسعة والنصف من صباح يوم 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1921 تلقى المكتب البرقية التالية:
سايكلومتري[1]، لندن
صعد حضرة عبد البهاء إلى الملكوت الأبهى. أَعلِموا الأحباء.
الورقة المباركة العليا
في ملاحظاته حول هذا الحدث الجلل وأصدائه المباشرة دوّن تيودور بول بأنه قام على الفور بإعلام الأحباء بالخبر برقيًا وهاتفيًا وعَبر الرسائل، وأَعتقدُ أنه هاتَفَ شوقي أفندي طالبًا منه الحضور إلى مكتبه فورًا دون أن ينقل إليه في حينه ولو لمحة عن الخبر، وهو الذي يعلم تمامًا كم سيكون وقع الصدمة عليه عنيفًا. ومهما يكن من أمر، فقد وصل شوقي أفندي إلى مدينة لندن ساعة الظهيرة، ثم توجّه إلى شارع سانت جيمس رقم 61 (المتفرّع من بيكاديللي والقريب من قصر بكنغهام)، ثم أُدخِلَ إلى المكتب الخاص بتيودور بول. لم يكن الرائد بول في مكتبه في تلك اللحظة، وبينما كان شوقي أفندي واقفًا ينتظره لفت نظرَه اسم عبد البهاء على برقية مفتوحة موضوعة على المكتب فقرأها، وما إن دخل تيودور الغرفة بعد لحظة حتى وجد شوقي أفندي في حالة من الانهيار والدوار مشدوهًا بنبأ هذه الفاجعة. أُخذ شوقي أفندي على أثرها إلى منزل الآنسة غراند[2]، إحدى المؤمنات في لندن، وهناك لزم الفراش بضعة أيام. حرصت شقيقته روحنگيز، التي كانت تدرس في لندن أيضًا، وكذلك الليدي بلومفيلد وآخرون، على بذل كل ما في وسعهم في مواساة الشاب منفطر القلب.
أما الدكتور إسلمنت فقد تجاوب فورًا مع احتياجات حضرته؛ فمن الواضح أن أوّل تفكيره قد توجّه نحو شوقي أفندي فور سماعه الخبر، فأرْسل له رسالة مؤرخة في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني قال فيها:
المنتجع الصحي – بورنموث
الأعز شوقي
إنها بالفعل ‘صاعقة من السماء’ عندما استلمتُ برقية تيودور بول صباح هذا اليوم: ‘رفّت روح المولى بسلام فجر أمس في حيفا’ … لا بدّ أن الأمر صعب عليك للغاية وأنت بعيد عن عائلتك وحتى عن جميع الأحباء البهائيين. ماذا ستفعل الآن؟ أظنّك سترجع إلى حيفا في أسرع وقت ممكن، وفي غضون ذلك لك كل الترحيب في قدومك إلى هنا لبضعة أيام… فقط أبرق لي… وسوف أجهّز لك غرفة خاصة… وإذا كان بمقدوري تقديم أي مساعدة وبأي طريقة كانت سيكون من دواعي سروري. يمكنني أن أتخيّل تمامًا مدى ما تشعر به من انكسار القلب، وما أنت فيه من تَوْق لأن تكون في موطنك، والفراغ الرهيب الذي لا بدّ تشعر به في حياتك الآن… إن السيد المسيح كان أقرب إلى محبيه بعد صعوده من ذي قبل، ولذا أَدعو عسى أن تكون الحال هكذا بيننا وبين محبوبنا المولى أيضًا. علينا القيام بدورنا في تحمُّل مسؤوليتنا تجاه أمر الله، وستكون روح المولى وقوّته معنا وفينا.
بعد بضعة أيام في منزل الآنسة غراند، تحامل شوقي أفندي على نفسه ونهض ثم شرع في ترتيب أموره استعدادًا للعودة فورًا إلى الأرض الأقدس. في رسالة وجّهها تيودور بول إلى الأحباء الأمريكيين مؤرخة في 2 ديسمبر/ كانون الأول كتب يقول: ‘مع نهاية الشهر الحالي سيكون شوقي أفندي وشقيقته في طريق عودتهما إلى حيفا ترافقهما الليدي بلومفيلد…’ نفترض أن شوقي أفندي كان في أكسفورد في الثالث من ديسمبر/ كانون الأول، ذلك لأن البروفسور مارغوليوث قد أبلغه بتعازيه القلبية في ذلك اليوم ودعاه ‘لزيارة قصيرة’. ونعلم أيضًا من رسالة كتبها شوقي أفندي إلى طالب بهائي في لندن، غير مؤرخة للأسف، بأنه قَبِل دعوة د. إسلمنت، لأنه كتب فيها يقول:
سحقني الخبر المروِّع الذي سيطر على كياني وعقلي وروحي بضعة أيام لزمتُ على أثره الفراش مدة يومين كنت فيهما فاقد الحسّ، شارد الذهن، وفي حالة من الاضطراب شديدة. وشيئًا فشيئًا أحيتني قوة العلي القدير ونفثت فيَّ روح الثقة التي، أتعشّم من الآن فصاعدًا أن تُضيء أمامي دربَ الهداية وتُلهمني في عملي المتواضع في الخدمة. لا بدّ ليوم كهذا أن يأتي، ولكنه كم كان مباغتًا وغير متوقع. ومع ذلك تبقى الحقيقة بأن أمر الله قد أحيا عددًا كبيرًا من نفوس، على هذا القدْر من الجمال في كافة أطراف الأرض، هي الضمان المؤكّد لبقائه حيًا وازدهاره، ولن يطول الوقت حتى يحتضن العالمَ بأسره! إنني متوجّه فورًا إلى حيفا لأتلقى ما تركه المولى من تعليمات، وقد عقدتُ الآن أقصى العزم على تكريس حياتي في خدمته، جاهدًا في تنفيذ أوامره ما بقيتُ حيًّا بفضل عونه وتأييده.
أصرّ عليَّ الأحباء أن أخلُد للراحة يومًا أو اثنين في هذا المكان مع د. إسلمنت بعد الصدمة التي عانيتها، وسأعود غدًا إلى لندن لأتابع سفري من هناك إلى الأرض الأقدس.
إن الحركة التي ظهرت الآن في العالم البهائي إنما هي قوة دافعة لهذا الأمر وستوقظ كل نفس مخلصة لتنهض وتحمل على كاهلها المسؤوليات التي وضعها المولى الآن على عاتق كل واحد منا.
ستبقى الأرضُ الأقدس مركز العالم البهائي، وستشهد الآن عصرًا جديدًا قادمًا. فالمولى المحبوب، ببصيرته النافذة، قد أرسى قواعد للعمل مُستَحكَمة، وتؤكد لي روحه بأن ثمار هذا العمل سرعان ما ستظهر قريبًا.
بدأتُ الرحلة مع الليدي بلومفيلد إلى حيفا، وإذا ما حصل تأخير لنا في لندن سآتي لزيارتك وأخبرك كم هو رائع ومدهش ما صمّمه المولى من عمل بعده، وما تفضل به من كلمات رائعة جديرة بالاعتبار حول مستقبل الأمر المبارك…
مع الدعاء والإخلاص لدينه المجيد، متمنيًا لك التوفيق على درب خدمته.
شوقي
إنها رسالة مدهشة كونها كُتبت قبل معرفة مضمون وصية حضرة عبد البهاء أو نشرها، مع أنه يبدو واضحًا أن شوقي أفندي كان قد أُعلم بأن مغلّفًا مُعَنْوَنًا باسمه من المولى ينتظره لدى وصوله حيفا. حقًا يبدو وكأن روح المولى، وهي ترفّ إلى عالمها الأبدي، قد حلّقت فوق إنكلترا وألقت بعباءة حضرته على سليل آل بيته! كَتبت إحدى كريمات حضرة عبد البهاء في 22 ديسمبر/ كانون الأول 1921 تقول بأن المولى ‘كان قد كتب آخر توجيهاته ووضعها في مغلف معنون إلى شوقي أفندي – وعليه لا يمكننا فضّه إلا عندما يصل، ونأمل أن يكون ذلك في نهاية الشهر الحالي كونه الآن في طريقه إلى هنا.’
إن المنصب الرفيع الذي سرعان ما سيعرفه قريبًا، وسنوات التدريب الطوال في كنف جَدِّه المحبوب، يبدو أنها جميعها قد أغدقت على شوقي أفندي قوة روحانية آزرتْه في أشدّ ساعات حياته كَربًا. لقد وجد الوقت، وسط كَرْبه، لأن يواسي الآخرين. تشهد بذلك رسالة محرّكة للمشاعر كتبها لحضرته إ. ت. هول، وهو أحد المؤمنين القُدامى في مانشستر، مؤرخة 5 ديسمبر/ كانون الأول يقول فيها:
إن رسالتك النبيلة التي تفيض حبًا ومودة، والزاخرة بعبارات التشجيع والتحلّي بالاستقامة، قد جاءت ونحن في غمرة الحزن الشديد إلا أننا ثابتون، مصدومون جدًا ولكن متفهمون تمامًا، فحوَّلَتْ مدَّ مشاعرنا إلى فيض عارم من الشعور بالطمأنينة والصبر أمام مشيئة الله وقضائه… فرسالتك النبيلة سَمَت بنا جميعًا وجدّدت فينا القوة والتصميم؛ فطالما أنك استطعت، وأنت في غمرة محنة كبرى وفاجعة مؤلمة كهذه، أن تستجمع نفسك وترتفع فوق كل هذا لتُرِيحنا بعبارات المواساة، فنحن بدورنا علينا ألا نكون بأقل من ذلك؛ بل ننهض ونخدم أمرًا إلهيًّا هو في منزلة الأم لنا… أعلم أن لديك ألف شيء تتدبره قبل توجُّهك إلى الأرض الأقدس. إلا أننا نحبك كثيرًا، ونحن جميعًا متّحدون وأقوى من أي وقت مضى. فامْضِ إلى تلك البقعة الأقدس ومعك حبنا ومشاركتنا الوجدانية وقلوبنا جميعًا، لأننا معك نكون واحدًا على الدوام.
أبرق شوقي أفندي إلى حيفا بأنه لا يستطيع الوصول قبل نهاية الشهر لصعوبات تتعلق بجواز سفره. أبحر في 16 ديسمبر/ كانون الأول من إنكلترا إلى مصر حيث رست الباخرة، ترافقه الليدي بلومفيلد وشقيقته روحنگيز، ومن هناك استقلّوا القطار إلى حيفا ليصلوها في الساعة الخامسة وعشرين دقيقة من بعد ظهر يوم 29 ديسمبر/ كانون الأول. استقبله في المحطة جمعٌ غفير من الأحباء، وكان عند وصوله مُنهكًا للغاية، حسب ما جاء في التقرير، حتى إنه احتاج إلى من يساعده في صعوده الدرجات إلى المنزل. وفيه وجد في انتظاره الشخص الوحيد القادر، بكل المقاييس على التخفيف من معاناته – عمته الكبرى المحبوبة، شقيقة حضرة عبد البهاء. هذه العمة الهادئة، ضعيفة البنية، والمتواضعة في كل الأوقات – أظهرت في الأسابيع الماضية أنها الصخرة القوية التي تمسّك بها المؤمنون وسط العاصفة الهوجاء التي هبّت عليهم بغتة. فسموّ روحها ونَسَبها ومقامها قد أهّلها للدور الذي لعبته في الأمر المبارك وفي حياة شوقي أفندي في فترة عصيبة وخطيرة للغاية كهذه.
لم يكن حضرة عبد البهاء يعاني من أي مرض خطير عندما صعِدت روحه الطاهرة بكل هدوء وعلى نحو مفاجئ غير متوقّع، فأخذ أفراد عائلته المشدوهون في البحث بين أوراقه علّهم يعثرون على تعليمات تركها حضرته مصادَفةً تحدِّد أين يجب أن يُدفن. ولما لم يجدوا شيئًا وُرِي الجثمان الطاهر في الغرفة الوسطى من الغرف الثلاثة المجاورة لمرقد حضرة الباب الداخلي. بعد ذلك وجدوا وصيته – التي تتألف من ثلاث وصايا كُتبت في أوقات مختلفة وتُشكِّل بمجموعها وثيقة واحدة – معنونة باسم شوقي أفندي. وهنا أزفت ساعة المهمّة المؤلمة على شوقي أفندي ليستمع إلى مضمونها؛ فبعد وصوله بأيام قليلة تلوها على مسمعه. ولكي نُدرك ولو قليلاً من مدى تأثيرها عليه، علينا أن نتذكر ما صرّح به هو نفسه في أكثر من مناسبة، ليس لي فقط بل وللحاضرين على مائدة الطعام في دار ضيافة المسافرين الغربيين، بأنه لم يكن لديه علم مسبق بوجود مؤسسة ولاية الأمر، والأقل من ذلك كله بأنه قد عُيّن وليًا لأمر الله. كان أقصى ما توقعه أنه ربما، لأنه الحفيد الأكبر، أنّ حضرة عبد البهاء قد ترك تعليمات تفيد بكيفية انتخاب بيت العدل الأعظم، وأنه ربما قد يكون الشخص المعيّن لتنفيذ هذه المهمة، وأن يكون الداعي للاجتماع الذي سيُجرى فيه انتخابه.
في ذلك المنزل، الخالي تمامًا الآن، والفارغ بشكل رهيب جدًا، حيث كل خطوة فيه تذكّره بطلعة المولى الذي ذهب الآن وإلى الأبد، غرق شوقي أفندي بالفعل في بحر مظلم من الحزن والقنوط. كتب إلى السيدة وايت رسالة يقول فيها: ‘كثيرًا ما تنتابني لحظات من الغمّ والكآبة الشديدة والاضطراب. فأينما ذهبتُ أتذكّر جَدّي المحبوب، وكيفما فعلتُ أشعر بالمسؤولية الرهيبة التي وضعها حضرته فجأة على كاهلي الرهيف.’ في هذه الرسالة التي كتبها في 6 فبراير/ شباط 1922 بعد ما يزيد عن الشهر بقليل على رجوعه إلى حيفا، نجده يبوح بمكنون قلبه إلى صديقته [السيدة وايت] بقوله: ‘كم أشعر بحاجة ماسّة إلى انبِعاثٍ رُوحِيٍّ عميق مؤثر في داخلي، إلى دَفَقِ قوةٍ جبارة، إلى ثقة بالنفس، إلى الروح السماوي في روحي الولهة التوّاقة قبل أن أنهض لآخذ مكاني المقدّر لي في قيادة دين إلهي ينادي بمبادئ على هذا القدْر من المجد والبهاء. أعلم أن المولى لن يَكِلْني إلى نفسي، وكلي ثقة بهدايته وإيمان بحكمته، إلا أن ما ألتمسه متوسلاً هو الإيمان الراسخ والاطمئنان بأنه لن يخذلني. فالمهمة عظيمة للغاية، وإدراكي بعدم كفاءتي وكفاءة جهودي عميق للغاية بحيث لا أجد أمامي سوى مشاعر الاستسلام والقنوط كلما واجهتُ مهامّي…’ من الواضح أن هذه السيدة النبيلة قد كتبت لشوقي أفندي رسائل ملهِمة حتى إنه أخبرها بأنها ‘تدفعه للبكاء’ حين يقرؤها، ويمضي مستغيثًا بقوله: ‘آه، كم أنا الآن، في حال ضعفي وشبابي الغضّ، في حاجة بين الحين والآخر إلى مغيث قويٍّ ومُذكِّرٍ مُقْتدر وإلى كلمة تشجيع ومواساة!’ وينهي رسالته بجملة لها مغزاها الكبير إذ يخبرها بأنه كثيرًا ما كان يخبر سيدات العائلة المباركة بنصيحتها السديدة: ‘أحرصْ ألاّ تتحوّل هذه الدعوة الإلهية إلى فرقة أو طائفة’، ومهرها بتوقيعه ‘بكامل محبتي – شوقي.’
وفي رسالة أخرى في الشهر نفسه كتب يقول: ‘… إن الألم، لا بل الكَرْب بفقدان المولى قد سحقني…’ ومع ذلك، فإن هذا الشاب ذي الرابعة والعشرين من عمره قد وجد، وهو في غمرة هذا العذاب، أنه لم يلقّب بأنه “فرع مقدس مبارك منشعب من الشجرتين المباركتيْن” والذي ظله “ممدود على العالمين” فحسب، بل وأنه أيضًا “آية الله والغصن الممتاز وولي أمر الله ومرجع جميع الأغصان[3] والأفنان[4] وأيادي أمر الله وأحباء الله.” كل ما يمكننا أن نأمله هو أن الكشف عن حقيقة تعيينه لهذا الدور المقدس مُذْ كان طفلاً، كان سببًا فيه بعضُ الراحة والعزاء له. تتألف وصية حضرة عبد البهاء من ثلاثة أجزاء؛ وضّح شوقي أفندي، في سنوات لاحقة، بأن ‘جزءها الأول’ قد ‘كُتب أثناء فترة من أحلك فترات حبس حضرته في قلعة السجن بعكاء.’ كان في ذلك الجزء الأول أن أسبغ حضرة عبد البهاء على ولي الأمر مقامه العظيم، إلا أنه بقي آنذاك سرًا وفي حرز أمين عند جَدّه الذي كتب على وصيته بخط يده “لقد كانت هذه الصحيفة محفوظة تحت الأرض مدة طويلة… ولما كانت البقعة المباركة في أشدّ انقلاب، فقد تُركت الصحيفة على حالها.”[5]
وبالمثل، فقد وجد شوقي أفندي نفسه أيضًا أنه “مبيّن آيات الله” وأن مَنْ عارضه ونازعه وجادله أو أنكره فقد فعل ذلك مع الله؛ وأن من انحاز وافترق أو اعتزل عنه فقد فعل ذلك مع الله، وأن المولى قد دعا بغضب الله وقهره ونقمته على من يفعل ذلك. وعلم أيضًا أنه الرئيس الذي لا يُعزل لبيت العدل الأعظم، وأنه وبيت العدل الأعظم كلاهما تحت حفظ وصيانة الهداية المعصومة لحضرة بهاء الله وحراسة العصمة الفائضة من حضرة الأعلى، وكل ما يقرِّرانه هو من عند الله؛ وأن من خالفه أو خالفهم فقد خالف الله ومن عصاه أو عصاهم فقد عصى الله. ووجد أن عليه أن يختار في حياته ابنه البكر ليخلفه من بعده، أما إذا لم يكن ابنه البكر مظهر تلك الصفات المطلوبة، أي لم يكن “مظهر الولد سرّ أبيه“، فيجب أن يَنتخِب غصنًا آخر يخلفه. كما وجد أن المولى قد ذكره بكل رقة بقوله: “يا أحبّاءَ عبد البهاء الأوفياء! يجب أنْ تُحافظوا على فرع الشجرتين المباركتين وثمرة السدرتين الرحمانيّتين – شوقي أفندي – غاية المحافظة، لئلاّ يقع على خاطره النورانيّ غُبار الكدر والحزن؛ فيزداد فرحُه وسرورُه وروحانيّتُه يومًا فيومًا حتّى يصيرَ شجرةً مثمرةً.”[6] أن تسمع بأن شخصًا ما سيحمل على كاهله عِبْءَ العالم بأسره أمر من السهل نسبيًا تقبُّله – أما أن تتقبّل حقيقة أنك أنت ذلك الشخص الذي سيقوم بذلك فإنه أمر صعب جدًا. لقد قَبِل الأحباء شوقي أفندي، أما محنته القاسية فكانت في محاولته تَقَبُّلَ نفسِه وليًا لأمر الله.
ليس من شك في أن الورقة المباركة العليا، وربما قِلّة من أفراد العائلة المباركة المختارين، كانوا على علم بخلاصة ما كان في الوصية على أقل تقدير قبل وصول شوقي أفندي إلى حيفا، ذلك لأنهم تفحّصوها علّهم يجدون فيها ما ينصُّ على تدابير خاصة بدفن جثمان المولى الطاهر، وهذا ما أكّدته البرقيات التي أُرسلت إلى الأحباء الإيرانيين والأمريكيين من قِبَل الورقة المباركة العليا في 21 ديسمبر/ كانون الأول 1921. فالبرقية التي أرسلت إلى أمريكا نصّت على: ‘اعقدوا مجالس التذكر في أنحاء العالم في السابع من يناير/ كانون الثاني. ادعوا من أجل وحدة الأحباء واستقامتهم. ترك المولى في ألواح وصاياه المباركة تعليمات كاملة. ستُرسل إليكم الترجمة. أَعلِموا الأحباء.’ إلا أن نصوص الوصية لم تُعلَن إلا بعد أن تُليت أولاً على شوقي أفندي، وبعد أن تُليت بالطبع رسميًا في الثالث من يناير/ كانون الثاني 1922.
لا شك عندي أن شوقي أفندي وكل أفراد عائلة المولى قد عانوا في تلك الأيام، وفي واقع الأمر على مدى السنوات التي تلتها مباشرة، فترة عصيبة يصعب تحمّلها. كثيرًا ما كنتُ أراه، في سنوات لاحقة، إذا ما ضاقت عليه الأمور بشدة، يأوي إلى الفراش رافضًا الطعام والشراب، عَزوفًا عن الكلام، ولائذًا بالصمت ملتحفًا أغطيته، عاجزًا عن القيام بأي شيء إلا أن يتعذب كمن طرحته أرضًا أمطار غزيرة، ويدوم به الحال هكذا عدة أيام أحيانًا إلى أن تعمل قوىً بداخله على تعديل توازنه فيقف على قدميه من جديد. تراه وكأنه تائه في عالم يخصّه وحده حيث لا أحد بمقدوره أن يتبعه. قال لي ذات مرة: ‘أنا أعلم أنها طريق الآلام وعليّ أن أسير فيها حتى النهاية. كل شيء مُقدّر له أن يُنجز بالمعاناة.’
إن شعور شوقي أفندي بفقدان جدّه، واشتياقه الشديد له، وإحساسه بعدم الجدارة الذي كان ينتابه بكل قوة في باكورة سنوات ولايته، يزداد وقعه إيلامًا في النفوس حينما نتذكر حقيقةً روتها والدته لي ولبعض السيدات الإيرانيات، وأشارت إليها أيضًا إحدى البهائيات الأمريكيات التي كانت موجودة وقت صعود المولى، في رسالة كتبتها بعد أيام قليلة لاحقة. إذ يبدو أن حضرة عبد البهاء قبل صعوده ببضعة أسابيع دخل فجأة غرفة ميرزا هادي أفنان، والد شوقي أفندي، وقال له: ‘أبرق إلى شوقي أفندي أن يعود في الحال.’ أخبرتنا والدته [والدة شوقي أفندي] أنها حالما سمعتْ بالخبر توجهتْ إلى والدتها وتشاورتْ معها في الموضوع وقرّرتا أن إرسال برقية بهذا المعنى سيسبّب لشوقي أفندي صدمة لا ضرورة لها، وعليه قررتا إرسال رسالة إليه بتعليمات المولى تلك. إلا أن الرسالة لم تصل إلا بعد صعود حضرته. ذكرتْ والدة شوقي أفندي أن صحة المولى في ذلك الوقت كانت جيدة، حتى إنهم لم يحلموا بموضوع مفارقته هذا العالم. لا شك أن النيّة في ما جرى كانت حسنة، إلا أنه يعدّ مثالاً لتدخُّل العائلة فيما يعتبرونه شأنًا عائليًا – نظرة قاصرة جدًا عن إدراك أن حضرة عبد البهاء هو على حق دائمًا ويجب أن يُطاع دومًا. لا شك أن هذا التدخل المأساوي بهدف إنساني قد تسبّب في ألم لا يمكن وصفه أيام حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء وشوقي أفندي، وعلى كل حال فقد حَرَمت هذه الفعلة شوقي أفندي بشكل قاطع من رؤية جَدِّه مرة أخرى، وكثيرًا ما كان يصرّح بشعوره بأنه لو حضر لكان المولى قد أفاض عليه ببعض كلمات النصح أو التوجيه الخاص، ناهيك بما كانت ستوفِّره له تلك الفرصة من ارتياح لا حدود له برؤية وجهه ثانية في هذا العالم.
بعد وصوله حيفا شغل شوقي أفندي غرفته القديمة المجاورة لغرفة المولى، إلا أنه بعد أيام انتقل إلى غرفة في منزل إحدى خالاته المجاور، وبقي فيها مدة إقامته في حيفا إلى حين عملت الورقة المباركة العليا، في صيف عام 1923، على تشييد غرفتين مع حمام صغير على سطح بيت المولى خصيصًا له. ولا شك في أن أسبابًا كثيرة كانت وراء قراره الإقامة في منزل آخر في ذلك الوقت: إنه العذاب الأليم الذي كانت تثيره ذكريات تلك الغرفة القديمة، والحركة المستمرة لسيل الزائرين الوافدين والمغادرين لبيت المولى، وعامل آخر نموذجي في فطرة شوقي أفندي، ذلك هو إحساسه العميق بالعدل. فبينما عائلته قد حَظِيت بهذا الشرف العظيم بتقليد أحد أبنائها منصبًا على هذا القدْر من الرفعة، فإن الأمرَ يحتّم عليه الآن أن يُغدق على خالاته وأعمامه وأبنائهم شيئًا من هذا الشرف والألطاف، لكي يحقق إلى حدٍّ ما بعض التوازن.
وسط أجواء كهذه رافقت عودة شوقي أفندي من السفر، لم تُتَحْ له الفرصة للتعافي من الضربات التي تلقاها منذ أن وقف في مكتب تيودور بول وقرأ البرقية المفجِعة التي تخبره بصعود المولى. بالرغم من حالته تلك، فإن المقام الذي شرّفه به حضرة عبد البهاء في ألواح وصاياه قد ألقى عليه مسؤولية ستلازمه حتى آخر لحظة من حياته لوحده دون شريك، فردًا كان أم هيئة، تمامًا كما كان الأمر عندما صعد حضرة بهاء الله وألقى بهذه المسؤولية في وصيته بكل وضوح على حضرة عبد البهاء بجعله خليفته من بعده. فالقرارات يجب أن تُتّخذ الآن، وأولها تحديد كيفية إعلان وصية حضرة عبد البهاء لاطلاع العموم.
يُفهم مما تجمّع لدينا من مصادر مختلفة أنه في صباح اليوم الثالث من يناير/ كانون الثاني 1922 زار شوقي أفندي مقام حضرة الباب ثم المرقد المطهر لجدّه، وفي ساعة لاحقة من اليوم نفسه قُرئت في منزل خالته، ودون حضوره، ألواح وصايا المولى بصوتٍ مسموع بحضور تسعة من الرجال معظمهم من عائلة حضرة عبد البهاء وعُرضت عليهم أختامها وتواقيع حضرته وكتابتها بالكامل بخط يده. أعطى ولي الأمر تعليماته إلى أحد الأحباء الحاضرين من إيران بإعداد نسخة عن الوصية طبق الأصل. وفي رسالة كتبها شوقي أفندي بعد بضعة أسابيع وجّهها إلى أحد الأحباء القدامى صرّح بأن: ‘وصية حضرة عبد البهاء قُرئت في السابع من يناير/ كانون الثاني 1922 في منزل المولى بحضور أحباء من إيران والهند ومصر وإنكلترا وإيطاليا وألمانيا وأمريكا واليابان…’ ولم يحضر ولي الأمر ذلك الاجتماع أيضًا، ولا شك أن مردّ ذلك راجعٌ لأسباب صحية بقدر ما هي كياسة من جانبه. وتبعًا للأعراف والتقاليد المحلية القاضية بإقامة اجتماع تأبيني في ذكرى اليوم الأربعين على وفاة الشخص، فقد توافد عدد من البهائيين والعديد من أعيان المدينة وأشرافها، منهم حاكم حيفا، حيث تجمَّعوا في القاعة ببيت المولى. وبعد تقديم طعام الغداء عُقد اجتماع كبير في القاعة نفسها ألقيت فيه كلمات التكريم بحق المولى الفقيد، كما أُعلن عن مضامين وصيته. كان الحضور تواقين لسماع شوقي أفندي يخاطبهم ولو ببعض الكلمات مما دفع أحد الأحباء أن ينقل إليه تلك الرغبة. كان شوقي أفندي آنذاك مع الورقة المباركة العليا في غرفتها، فأجاب بأن حزنه وضعف قواه لا تساعدانه على تلبية طلبهم، وبدل ذلك كتب بعض الكلمات على عُجالة لتُقرأ عليهم بالنيابة معبّرًا فيها عن امتنانه الشخصي وأفراد عائلة حضرة عبد البهاء من صميم قلوبهم على حضور الحاكم والمتحدِّثين في الاجتماع الذين بكلماتهم المخلصة ‘أحيوا ذكرى المولى المباركة في قلوبنا… تدفعني جرأتي لأن آمل أن نبرهن، نحن عائلته وأنسباؤه، بأفعالنا وأقوالنا على جدارتنا بالمَثَل الأعلى الذي جسّده أمامنا، وبالتالي نحظى بتقديركم ومودّتكم. عسى روحه الخالدة أن تظلّ معنا وتربطنا جميعًا إلى الأبد!’ وكان قد استهل رسالته بـ: ‘كانت الصدمة مباغتة ومؤلمة جدًا لشابّ فتيٍّ في مثل عمري، لأن أكون قادرًا على حضور هذا الجمع من محبوبي حضرة عبد البهاء المحبوب.’
كان من الملائم جدًا أن قامت الورقة المباركة العليا، وليس شوقي أفندي نفسه، بالإعلان للعالم البهائي عن مضامين ألواح وصايا المولى. ففي 7 يناير/ كانون الثاني 1922 أرسلت حضرتها برقيتين إلى أحباء إيران على النحو التالي: ‘عُقِدت مجالس التذكّر في كل أنحاء العالم. بيّن مولى الورى تعليماته في ألواح وصاياه. ستُرسل إليكم نسخة. أَعلِموا الأحباء.’ وبرقية أخرى تقول: ‘طبقًا لألواح الوصايا فإن شوقي أفندي هو مركز أمر الله.’ من الأهمية بمكان أن نتذكر أن حضرة عبد البهاء – في استباقه دون شك لأحداث رأى تحققها بكل وضوح – قد كتب إلى المحفل الروحاني في طهران ردًا على استفسارهم قائلاً: ‘سألتم عن الاسم الذي يجب أن تسجل به العقارات والمباني المتبرع بها حين استصدار سندات المُلكية من الجهات الرسمية، يجب أن تُسَجل باسم ميرزا شوقي رباني، ابن ميرزا هادي الشيرازي، والموجود حاليًا في لندن.’ فمهما كان الكرب شديدًا والصدمة قوية على الأحباء في إيران بصعود المولى المحبوب، فإنه من المستبعد أن يكون خبر تعيين شوقي أفندي وليًّا لأمر الله مدعاةً للدهشة لدى الأحباء الأكثر دراية واطلاعًا، خاصةً بعد تلقّيهم، قبل وقت قصير جدًا، تعليمات على هذا النحو من التنوير من حضرة عبد البهاء. أبرقت الورقة المباركة العليا إلى الولايات المتحدة في 16 يناير/ كانون الثاني تقول: ‘عُيّن شوقي أفندي في ألواح الوصايا وليًّا لأمر الله ورئيسًا لبيت العدل الأعظم. أَعلِموا الأحباء الأمريكيين.’ بالرغم من حقيقة أن شوقي أفندي منذ البداية قد أظهر كل حنكة ولباقة في معالجة المشاكل التي واجهته باستمرار، فقد اتّكأ بثقله على الورقة المباركة العليا التي عملت شخصيتها ومكانتها وحبها الشديد له على أن تكون فورًا ذلك المؤازر والملاذ.
بعد تلك الأحداث مباشرة اختار شوقي أفندي ثماني فقرات من ألواح الوصايا وأمر بتداولها فيما بين الأحباء. واحدة منها فقط كانت تشير إليه شخصيًا، وكانت مختصرة جدًا، واقتطفت على النحو التالي: “يا أحباء عبد البهاء الأوفياء! يجب أن تحافظوا على… شوقي أفندي غاية المحافظة… إذ هو وليُّ أمر الله بعد عبد البهاء، ويجب على جميع الأفنان والأيادي وأحبّاء الله أن يطيعوه وأن يتوجّهوا إليه.” فاختار شوقي أفندي، من بين جميع الفقرات العديدة المدوّية من ألواح الوصايا التي تشير إلى شخصه الكريم، أقلَّها دويًا وإثارةً للدهشة لتكون أول ما يتداوله البهائيون. كان بحق منذ اللحظة الأولى ذلك الهادي والمَهْدِيّ.
تلك السنوات الأولى من ولاية شوقي أفندي يجب أن يُنظَر إليها على أنها عملية مستمرة من الأزمات التي كانت تهوي به أحيانًا، ثم ينهض منتصبًا على قدميه من جديد، مترنّحًا في معظم الأحيان من هول الصدمات المروعة التي يتلقّاها، ولكنه يبقى في الميدان بكل تصميم. فعشقه الشديد لحضرة عبد البهاء هو الذي كان يساعده على المضي قُدُمًا. كان يقول بأعلى صوته: ‘مع كل هذا لديّ الإيمان بل الإيقان الراسخ بقوة حضرته وهدايته وبحضوره الحي دائمًا وأبدًا…’ في رسالة كتبت في فبراير/ شباط 1922 موجهة إلى نيّر أفنان، ابن أخت حضرة عبد البهاء، تعكس بكل وضوح مدى عذاب روحه: ‘رسالتك… وصلتني في غمرة أحزاني وهمومي وبلواي… إن الألم، لا بل الكرب من فقدانه ساحق للغاية، وعبء المسؤولية التي ألقاها على كاهلي الغض الضعيف ساحق للغاية أيضًا…’ ويمضي بقوله: ‘أرفق لك شخصيًا نسخة من وصايا المولى العزيز، ولسوف تقرؤها وترى ما عاناه حضرتُه من أقربائه… وسترى أيضًا كم هي جسيمة وعظيمة تلك المسؤولية التي أوكلها إليّ، والتي لا يمكن لأي شيء أن يعينني على الاضطلاع بها إلا قوة كلمته الخلاقة…’ إنها رسالة لا تُعبّر عن مشاعره فحسب، بل وبالنظر إلى حقيقة أن الذي يخاطبه فيها كان ينتمي إلى أولئك الذين كانوا أعداء المولى في الأيام التي أعقبت صعود حضرة بهاء الله ومن نسل المنتسبين الذين شجبهم المولى بكل شدة في وصيته، فإنها تُظهر كيف أن شوقي أفندي قد رفع عاليًا مرآة صفحات الماضي بكل شجاعة داعيًا إياه في الوقت نفسه إلى مؤازرته وإظهار الولاء له وِفْقَ ما يتطلّبه الواقع الجديد.
تُظهر رسائل شوقي أفندي الأولى ما لديه من خصائص القوة والحكمة والوقار. ففي رسالة كتبها إلى أحد أساتذته في الجامعة الأمريكية ببيروت مؤرخة 19 مارس/ آذار 1922 بيّن مركزه بوضوح لا لبس فيه قائلاً: ‘ردًا على سؤالك فيما إذا عُيِّنْتُ رسميًا لأمثِّل الجامعة البهائية: ‘فإن حضرة عبد البهاء قد عيّنني في وصيته رئيسًا للمجلس البهائي العالمي الذي سيتم انتخابه كما ينبغي من قبل مجالس مركزية تمثّل أتباع حضرة بهاء الله في مختلف الممالك والأقطار…’
وعلى أي حال يجب ألا يتبادر إلى الذهن أن عملية الإعلان عن وصايا حضرة عبد البهاء قد حلّت جميع الإشكالات، وأنها أدّت إلى عصر جديد للأمر المبارك بسهولة كبيرة، بل بعيدًا عن هذا كل البعد. فقبل أن يصل شوقي أفندي إلى حيفا وجدت الورقة المباركة العليا نفسها مضطرة إلى إرسال برقية إلى أمريكا في 14 ديسمبر/ كانون الأول [1921] قالت فيها: ‘الآن وقت الامتحانات الشديدة. على الأحباء أن يكونوا حازمين ومتّحدين في الدفاع عن الأمر المبارك. بدأ الناقضون نشاطاتهم عبر استخدام الصحافة ووسائل أخرى في كل أنحاء العالم. انتخِبوا لجنة من النفوس الحكيمة والعقول الراجحة للتعامل مع الإشاعات التي تتناولها الصحافة في أمريكا.’ كانت الأحداث التي تشير إليها البرقية خطيرة وهامّة، ولا يمكن اعتبارها منعزلة عن الوضع الخطير الذي كان سائدًا في أمريكا عند صعود حضرة عبد البهاء. فقد كان المولى وقتها في غاية القلق بشأن الناقضين في ذلك البلد لبعض الوقت، حتى إنه، في خطاب كتبه حضرته قبل ذلك بسنوات، تنبّأ بأن عاصفة ستهب بعد صعوده داعيًا من أجل حفظ الأحباء وحمايتهم. في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 1921 أبرق المولى إلى روي ويلهلم[7]، وهو مراسِلُهُ المعتمد، يسأله: ‘كيف هو وضع الأحباء وصحتهم؟’ مما دفع السيد ويلهلم إلى الرد في اليوم التالي قائلاً: ‘في شيكاغو وواشنطن وفيلادلفيا نقض عنيف متمركز في فيرنالد[8] وداير[9] وواطسون[10]، أما في نيويورك وبوسطن فقد رفضوا الانضمام إليهم وتبنّوا سياسةً بنّاءة بكل صلابة.’ فكان الرد فوريًا من حضرة عبد البهاء في برقية مؤرخة 12 نوفمبر/ تشرين الثاني بلهجة شديدة للغاية تدل دلالة واضحة على انزعاجه: ‘كل مَنْ يجالس المجذوم يُصاب بالجُذام، ومن يَكُنْ مع المسيح ينبذ الفريسيين ويمقت يهوذا الإسخريوطي. أن اجتنبوا الناقضين. أعلِموا غودال وترو[11] وبارسونــز[12] بهذا تلغرافيًا.’ وفي برقية أخرى في اليوم نفسه كتب حضرته إلى روي ويلهلم يقول: ‘ألتمس الصحة من العناية الإلهية.’ تلك كانت آخر رسائله المباركة إلى أمريكا.
لم يعمل صعود حضرة عبد البهاء المفاجئ شيئًا في معالجة هذا الوضع، ولا شك أن إدراك الورقة المباركة العليا لخطورته هو الذي ألهمها أن تُبرق للأحباء الأمريكيين بأن المولى قد ترك تعليمات كاملة في ألواح وصاياه. فمنذ صعود حضرة بهاء الله والاضطراب الدائم الذي أثاره محمد علي لم يهدأ أو يخِفْ، وبقي زبانيته في الولايات المتحدة يعملون في نشاط ويقظة. في ذلك الوقت دأبت مجلة “الحقيقة”[13] – وهي مجلة إخبارية بهائية – على نشر أخبار الناقضين ونشاطاتهم، وهذا ما أزعج إلى حدٍّ كبير تلك النفوس المؤمنة الحكيمة والأوسع خبرة وخاصة أولئك الذين كان لهم شرف معرفة حضرة عبد البهاء شخصيًا، إلا أنه ترك الشباب الأغرار ذوي العقول المتحررة والذين يفتقرون إلى الخبرة، تركهم غير قلقين أو مدركين خطورة هؤلاء الناقضين. كان بسبب هذا الموقف العليل المريب أن كتب حضرة عبد البهاء قبل أقل من شهرين على صعوده لوحًا نُشر في مجلة “نجمة الغرب” حرص فيه أن يكون واضحًا للأحباء بأنهم يخوضون مغامرة في غاية الخطورة إذا هم لم يبالوا وواجهوا أمورًا كهذه باستخفاف، وأن حضرة بهاء الله قد حذّر أتباعه بأن روائح كريهة سوف تفوح وتنتشر وعليهم تجنُّبُها بالكلية، وأن تلك الروائح لم تكن سوى الناقضين أنفسهم. هذا الوضع الآن قد ورثه شوقي أفندي.
بعد أقلَّ من أسبوعين على إعلان مضامين وصية حضرة عبد البهاء، كتب أحد أقدم الأحباء الأمريكيين وأكثرهم ثباتًا وإخلاصًا لشوقي أفندي في 18 يناير/ كانون الثاني 1922 قائلاً: ‘كما تعلم فإننا نواجه محنًا وبلايا كبيرة مع من شقّوا عصا الطاعة على أمر الله في أمريكا. لقد انْسلَّ هذا السم عميقًا بين الأحباء…’ في كثير من التقارير وبغاية التفصيل انهالت على ولي أمر الله –
حديث العهد بولاية أمر الله – عرائض التُّهم وأخرى بوقائع وأحداث. إلا أنه كان هناك بالطبع جانب آخر للأحداث؛ فقد هرع أحباء الشرق والغرب للالتفاف حول قائدهم الفتيّ بقلوب طاهرة وثقة مؤثرة وبثّوه حبهم وولاءَهم قائلين: ‘نتطلّع بشوق إلى مساعدة ولي الأمر بكل السبل، وقلوبنا مستعدّة للتجاوب مع الأعباء الملقاة على كاهله الغضّ…’، ‘تناهى إلى سمعنا هنا في واشنطن أن مولانا المحبوب قد عهِد إليك بتوجيه دفّة وحماية أمر الله المقدس، وأنه قد عيّنك رئيسًا لبيت العدل. أكتُبُ إليك هذه السطور المعدودة مذعنًا بكل جوارحي للتعليمات المباركة لمولانا المحبوب، مؤكدًا على تقديم كل ما في وسعي من دعم واخلاص…’ وخاطبه اثنان من ركائز الأمر المبارك في أمريكا بقولهما: ‘يا محبوب محبوبنا، كم تغنّتْ قلوبُنا فرحًا عندما علمنا بأن المولى لم يتركنا قلقين، فقد جعلك – وأنت محبوبه – مركز وحدة دينه عسى أن تجد قلوب جميع الأحباء السكينة والاطمئنان.’ ‘لقد كانت أرواحنا غرقى في ظلام دامس إلى أن وافتنا الورقة المباركة العليا ببرقيتها الكريمة، وفيها أول شعاع من نور هو تعيينك من قِبل المولى الرحيم وليًّا ورئيسًا لنا، وأنك وليّ أمر الله ورئيس بيت العدل الأعظم’، ‘مهما كانت أمنيات ولي أمر الله أو نصائحه لخدّامه أن يفعلوا، فتلك أيضًا مرادنا ومقصدنا.’ في رسالة بعث بها أحد المؤمنين القدامى موجهة إلى الورقة المباركة العليا، وكان قد رجع حديثًا من حيفا، مؤرخة في أغسطس/ آب 1922 كتب يقول: ‘إن أحباء الله مرتبطون تمامًا بشوقي أفندي ولا يتمنَّوْن سوى إطاعة أوامر مولانا التي تقضي بأن ندعم جميعًا ولي أمر هذا الدين المبارك…’ وكتب شخص آخرُ، من الأحباء القدامى أيضًا، إلى شوقي أفندي في الوقت نفسه تقريبًا مؤكدًا له رغم ‘أننا لا نزال نواجه صعوبات جمة ونرى بعض بقع الفتنة المتقرّحة، إلا أنني أشعر بالقوة الشافية وأومن بأن الأمر الإلهي بشكل عامّ لم يكن أبدًا أفضل صحةً أو أكثر عمقًا في أمريكا مما هو عليه الآن…’ لا شك أن رسائل كهذه كان لها أكبر العزاء، إلا أنه بالمقارنة بعدد الأحباء في الغرب وبمدى انكسار قلب ولي أمر الله، يبدو أن هؤلاء كانوا مع الأسف قِلّة. إنها حقيقة مؤلمة أن كثيرًا من أولئك الذين هبّوا بكل تصميم لمؤازرته، هم أنفسهم قد تركوا أمر الله فيما بعد، وحتى إنهم انقلبوا ضدّه. فالإعصار يقتلع الأشجار الكبيرة من جذورها بينما يترك الأعشاب الصغيرة دون أن تتأثر.
ما من شك في أن جماعة البهائيين في كل مكان قد أخذتهم تمامًا موجة غامرة من العشق والولاء لدى سماعهم نصوص ألواح الوصايا، أما تأثيرها على ناقضي العهد والميثاق، من جانب آخر، فكان اندفاعهم نحو القيام بردّ فعل عنيف. مَثَلُهم في ذلك مِثْلُ وحش الهايدْرا متعدّد الرؤوس يتسابق كل منها في الفحيح بسموم أكثر، يرتفعون عاليًا ثم ينقضُّون على الشاب الفتيّ الذي خلَف المولى المحبوب. بدأ محمد علي، الأخ غير الشقيق لحضرة عبد البهاء، ومعه أخوه وأبناؤه وزبانيته وأعداء الأمر الدائمون في إيران، وحتى الناقمين وضعاف الإيمان والطامعين – أينما كانوا وأيًّا كانوا – بدأوا جميعًا في إثارة المشاكل. في 16 يناير/ كانون الثاني أرسل اثنان من الأحباء الأمريكيين القدامى، كانا يخدمان في طهران، رسائل إلى عائلة حضرة عبد البهاء يصفان فيها صورة ما كان يجري هناك؛ تكشف هذه الرسائل عن حقائق هامة ليس أقلها أن حضرة عبد البهاء كان قد أرسل خطابًا إلى إيران أرفق به، بهدف تنوير الأحباء هناك، رسالة من شوقي أفندي، موجّهة إلى حضرته آنذاك، يعلمه فيها عن أخبار الأمر المبارك في إنكلترا. وصلت هذه الرسالة بعد صعود حضرته، ولكنها أظهرت اعتزاز المولى بحفيده وجاءت متزامنةً مع أخبار صعوده وتعيين ولي الأمر التي أتت تِباعًا مما جعلها تبدو أكثر من أنها مجرد صدفة. وتمضي هذه الرسائل في القول: ‘… ارتفعت صيحات الاحتجاج ضد أمر الله… إلا أن أغنام الله لم يتفرقوا ولم يُنسوا، بل هم ثابتون متماسكون يتسابقون في مؤازرة قائدهم الفتيّ الشجاع الذي باركَنا به المولى المحبوب. كان شوقي أفندي اسمًا مألوفًا بيننا على الدوام، وكافة البهائيين يقدّمون له اليوم كل التحية والترحيب. “مبارك هو الآتي باسم الرب…”‘ ‘… أتمنى لو سمعتم عبارات التقدير والامتنان من الأحباء وهم يقولون: “نحن الآن في راحة واطمئنان. نحن الآن مسرورون وراضون. فأمر الله الآن قد تجدد شبابه.”‘
في 16 يناير/ كانون الثاني 1922 كتب ولي أمر الله رسالته الأولى إلى الأحباء الايرانيين حاثًّا إياهم أن يظلوا مستقيمين قائمين على حماية الدين، ويُشْرِكهم، بعبارات مؤثرة، بحزنه العميق بصعود المولى المحبوب. وفي 22 يناير/ كانون الثاني 1922 أبرق شوقي أفندي إلى الأحباء الأمريكيين قائلاً: ‘شعرت الورقات المباركة بالراحة من ولاء الأحباء الأمريكيين الذي لا يتزعزع ومن نُبْل موقفهم. اليوم يوم الاستقامة. تقبّلوا تعاوني الحبّي.’ وكان في اليوم السابق قد كتب إليهم أولى رسائله حيث استهلَّها: ‘في هذه الساعة الباكرة، ونور الصباح يكاد يشقُّ طريقه إلى الأرض الأقدس بينما سُحُب الكآبة لا تزال تظلِّل بكثافة آفاق القلوب بفقدان المولى العزيز، أشعر وكأن روحي المشتاقة المفعمة بالمحبة والأمل تتوجه عبر البحار نحو تلك الرفقة العظيمة من أحبّة حضرته…’ لقد أمسك القبطان فعليًا بالدفَّة، ويرى أمامه بوضوح القنوات التي عليه أن يُبحر منها: إن ‘طريق التبليغ الواسع المستقيم’، كما عبّر عنه، والاتحاد، والمحويّة، والانقطاع، والتدبُّر والتعقل، اليقظة والحذر، السعي الجادّ في تحقيق أماني المولى وآماله، الإحساس بوجود حضرته، واجتناب أعداء الأمر بالكلية – هذا ما يجب أن يكون هدف الأحباء ومحرّكهم. وبعد أربعة أيام نجده يكتب رسالته الأولى إلى الأحباء اليابانيين يقول فيها: ‘رغم ما أنا فيه من حزن وهمٍّ في هذه الأيام القاتمة، فعندما أسترجع بخاطري تلك الآمال التي وضعها فقيدنا المولى بكل ثقة بالأحباء في ذلك البلد من بلدان الشرق الأقصى، تنتعش روحي بالآمال من جديد وتزول عني الغُمّة بفقدانه. وكَوْني كنت مرافقه الحاضر لخدمته وسكرتيره مدة سنتين تقريبًا، بعد أن وَضَعَت الحرب العظمى أوزارها، أتذكّر تمامًا تلك الفرحة المشرقة التي كانت تغيّر ملامح وجه حضرته كلما فَضضْتُ أمامه عرائضَكم…’
في تلك الأيام كان شوقي أفندي تُشغِلُه أيضًا ترجمة ألواح وصايا جدّه إلى الإنكليزية. كتبت السيدة إموجين هوغ[14] في 24 يناير/ كانون الثاني، وكانت قد أقامت في حيفا بعض الوقت قبل صعود حضرة عبد البهاء، تقول: ‘لن يمرّ طويلُ وقتٍ حتى تكون ألواح وصايا المولى العزيز جاهزة لأحباء أمريكا وأماكن أخرى. شوقي أفندي عاكف الآن على ترجمتها.’
وبينما كان شوقي أفندي مشغولاً إلى هذا الحدّ ويستجمع قواه، وبدأ في إرسال رسائل كهذه إلى الأحباء في الأقطار المختلفة، إذا برسالة تصله من المندوب السامي لفلسطين السير هربرت صموئيل مؤرخة 24 يناير/ كانون الثاني 1922 يقول فيها:
عزيزي السيد ربّاني
أعلمكم باستلام رسالتكم المؤرخة 16 يناير/ كانون الثاني، وأعبّر عن شكري لما تضمّنته من مشاعر ودّية.
سيكون من المؤسف حقًا أن تحول فاجعة وفاة السير عبد البهاء دون إتمام دراستك في أكسفورد. آمل ألا يكون الأمر كذلك.
يهمني جدًا أن أعلم بالإجراءات التي اتُّخذت في سبيل تأمين إدارةٍ مستقرةٍ للدين البهائي.
وإذا ما صادف وجودُكم في مدينة القدس في أي وقت، سيكون من دواعي سروري أن أرى حضرتكم هنا.
المخلص – هربرت صموئيل
ومهما بدا لحن الرسالة ودِّيّاً فإنها تطلب أن تكون حكومة صاحب الجلالة على علم بما يجري، وهذا بالطبع ليس مثيراً للدهشة على الإطلاق نظراً لنشاطات محمد علي. فبعد صعود حضرة عبد البهاء بقليل قام هذا الناقم الخائن، الأخ غير الشقيق، بإقامة دعوى قضائية مطالبًا بنصيبه الشرعي في ممتلكات حضرة عبد البهاء بصفته أخًا له، طبقًا للشريعة الإسلامية (وهو الذي يزعم أنه لا زال صاحب الحق في خلافة حضرة بهاء الله). كما طلب [محمد علي] أيضًا من ابنه [شعاع الله]، الذي كان مقيمًا في أمريكا ويعمل على تحريك ادعاءات والده هناك، أن ينضمّ إليه في هذه الحملة الجديدة والمباشَرة على المولى وعائلته. لم يكتفِ بما كشفه عن حقيقة فطرته، إذ توجّه إلى السلطات المدنية مطالبًا بحق رعاية مقام والده حضرة بهاء الله على أساس أنه خليفة حضرة عبد البهاء الشرعي. رفضت السلطات البريطانية طلبه بدعوى أن القضية تعتبر شأنًا دينيًا؛ عندها لجأ للرئيس الديني للمسلمين وطلب من مفتي عكاء أن يتولى رسميًا مسؤولية رعاية مقام حضرة بهاء الله. إلا أن سماحته أجاب بأنه لا يرى كيف يمكنه فعل ذلك والتعاليم البهائية لا تتفق وأصول الشريعة الإسلامية. ولما خاب في كل مساعيه وسُدّت الطرق أمامه، أرسل أخاه الأصغر بديع الله برِفْقة بعض مؤازريه لزيارة الروضة المباركة. وفي يوم الثلاثاء 30 يناير/ كانون الثاني استطاعوا أن ينتزعوا المفاتيح بالقوّة من القائم على خدمة المقام الأطهر، وبذلك أكّدوا على حقّ محمد علي في أن يكون الوصيّ الشرعيّ على مرقد والده. فخلق هذا الفعل المجرّد من المبادئ الأخلاقية اهتياجًا وسَطَ الجامعة البهائية مما حدا بحاكم عكاء أن يكتفي فقط بإصدار أمر بتسليم المفاتيح إلى السلطات ووَضْعِ حرّاس على المقام المقدس. وامتنع عن تسليم المفاتيح لأي من الطرفيْن.
لا يتطلب الأمر خيالاً واسعًا حتى يدرك المرء بأنها كانت صدمة أخرى رهيبة لشوقي أفندي عندما جاءته الأخبار بعد حلول الظلام من رسول جاءه لاهثًا منفعلاً. هبّ الأحباء مفجوعين لدرجة تعجز الكلمات عن وصفها. فكيف أنه للمرة الأولى، في عقود خلت، يقع الرمس الأطهر في أيدي العدو اللدود لمركز عهده وميثاقه. وصف أحد الأحباء الأمريكيين، الذي زار الروضة المباركة برفقة شوقي أفندي في شهر مارس/ آذار 1922، ذلك الوضع في يومياته بقوله: ‘في كل من زياراتي الحديثة الثلاثة للبهجة كان أقصى ما يمكن الدخول إليه هو باحة الضريح المقدس فقط – فالحرم الداخلي كان مقفولاً ومختومًا… ولا أحد يمكنه حتى الآن أن يتنبأ بما ستؤول إليه الأمور. إن شوقي أفندي في غاية الانزعاج إزاء هذا الوضع.’ وبالرغم من مشاعره الشخصية فقد كان شوقي أفندي حريصًا للغاية على اتِّباع نهج المولى في مواجهة العدوان والعواصف في أيامه المشابهة الأخرى. فأصدر تعليماته بكل هدوء محدِّدًا مكان وضع مصابيح الإنارة داخل الروضة المباركة وخارجها حيث كانت عملية إنارتها جارية.
ويسترسل المدوّن نفسه في تسجيله قائلاً بأنه بينما كان في حيفا أرسل حضرة ولي أمر الله برقيات إلى الملك فيصل ملك العراق متظلِّمًا ضد إجراء حكومته في الاستيلاء على البيت المبارك لحضرة بهاء الله [في بغداد] (وهو المكان المقدس لحج البهائيين من كل مكان)، كما اتُّخِذَت ترتيبات من قِبَله لإرسال رسائل مماثلة من جامعات بهائية أخرى. تلك كانت ضربة أخرى مروّعة أصابت شوقي أفندي؛ إذ في غضون أشهر قليلة تعرّض لضربات أربعة، كان من شأن أيٍّ منها أن تُجهِد كيانه بأكمله على نحو لا يُطاق.
وجد شوقي أفندي نفسه الآن في وضع ساحق حقًّا. ومع أن جامعة المؤمنين كانوا مخلصين، إلا أن الأمر الإلهي الآن يتعرض لهجوم الأعداء من كل صوْب، جرّأهم في ذلك وأبهجهم صعود حضرة عبد البهاء. أعلَمَنا أحد الأحباء القدامى، الذي كان يعمل سكرتيرًا لحاكم حيفا في ذلك الوقت، أن السلطات المحلية كانت تشير إلى ولي أمر الله بشكل عام بـ ’الصبي’. وبغضّ النظر عن شبابه الغضِّ فإن طالب أكسفورد حليق الذقن، مهما كان عليه من وقار في السلوك، قد رفض حتى التظاهر بأنه يشبه البطريرك الملتحي الذي يعرفه الجميع جيدًا بأنه أحد شخصيات حيفا البارزين – تتباين نظرة الناس إليه بين الحب الشديد والكراهية البغيضة تبعًا لما يقتضيه الحال – إلا أنه في كل الأحيان يلقى الاحترام باعتباره الشخصية الأكثر بروزًا والأرفع مكانة في حيفا. رفض شوقي أفندي أن يلبس العمّة والقفطان كما كان جدّه دائمًا، ورفض أن يذهب إلى المسجد أيام الجمعة كما اعتاد المولى أن يفعل، ورفض أن يقضي الساعات مع شيوخ المسلمين الذين اعتادوا أن يقضوا يومهم مع حضرة عبد البهاء، والذين هم الآن دون شك توّاقون إلى تفحُّص وتقييم ذلك الغلام المراهق الذي نصّبه المولى على كرسيّه من بعده رئيسًا للدين. عندما كان أفراد من عائلة حضرة عبد البهاء يعارضونه في عدم اتّباعه طرق المولى ونهجه، كان ولي الأمر يجيبهم بأن عليه أن يكرّس نفسه كليًّا لخدمة أمر الله. كل هذا لا بد أنه سبب له انزعاجًا كبيرًا أضيف إلى معاناته، وأثار فزعًا كبيرًا داخل العائلة المباركة وفي الجامعة المحلية. فقد شكَّك بعضُهم سرًّا بأن شوقي أفندي لا يعرف حقًا ماذا عليه أن يفعل، وأنه بحاجة إلى نفوس أكبر سنًّا وأكثر حكمة حوله، وأنه كلما كان تشكيل بيت العدل الأعظم أسرع كلما كان أفضل للأمر المبارك ولكل مَنْ يعنيه الأمر.
ليس هناك من شك في أنه في غمرة كربه، وهو يواجه مختلف أنواع التعامل، من عبادة وعشق وتوجيه النصح له إلى المساءلة والمعاتبة والاعتراض عليه، قد شعر بالحاجة إلى المشورة والمؤازرة. فخلال شهر مارس/ آذار 1922 جمع في حيفا مجموعة من ممثلين عن الدين البهائي وشخصيات بهائية معروفة هم: الليدي بلومفيلد التي كانت قد رجعت معه من لندن، إموجين هوغ القاطنة في حيفا وأضاف إليهما الآنسة روزنبرغ[15] من إنكلترا، روي ويلهلم وماونتفورت ميلز[16] وميسون ريمي[17] من أمريكا، لاورا[18] وهيبوليت دريفوس – بارني[19] من فرنسا، كونسل[20] وأليس شفارتز[21] من ألمانيا، والرائد تيودور بول. كما دعا بالمثل اثنين من المبلّغين المعروفين في إيران هما آوَارِه وفاضل [المازندراني] للحضور إلى حيفا، إلا أنه بسبب بعض التعقيدات تأخر وصولهما طويلاً، فأرسلهما ولي الأمر لاحقًا في مهمات تبليغية طويلة الأمد؛ أرسل آواره إلى أوروبا وفاضل إلى أمريكا الشمالية. كما وصل لاحقًا السيد مصطفى الرومي من بورما، وكورين ترو[22] وابنتها كاثرين[23] من الولايات المتحدة. زائرون آخرون جاءوا ثم غادروا في تلك الأشهر المبكرة [من ولاية الأمر]. إلا أن الحقيقة الهامة تمثلّت في أن العديد من الأحباء القدامى لم يكونوا وحدهم الذين يعتقدون بأن الخطوة التالية يجب أن تكون تشكيل بيت العدل الأعظم، بل إن حاكم حيفا أيضًا، في حديث له مع أحد الأحباء الذين دعاهم شوقي أفندي، قد تطرّق بنفسه إلى هذا الموضوع قائلاً إنه يشعر أنه عند تشكيل بيت العدل الأعظم وتسجيل الأماكن المقدسة البهائية باسمه فإن الموضوع برمته سيتحول من شكل نزاع عائلي إلى وضع قانوني ثابت قوي الأركان لهيئة دينية دائمة. هذا الرأي الذي لم يحمله مسؤول بريطاني فحسب، بل وبعض الأحباء أيضًا ومثلهم أفراد من عائلة حضرة عبد البهاء، يعكس [هذا الرأي] بكل وضوح موقف بعضهم من ولي أمر الله. إن كونه شابًا في مقتبل العمر، ووضعه في بداية ولايته، جعلهم يميلون إلى الاعتقاد بأنه في حاجة إلى الأعضاء الآخرين لهيئة هو رئيسها الدائم ليقدِّموا له المساعدة والنصح، وفي الوقت نفسه ضمان أساسٍ شرعيٍّ أمتن ينطلق منه لدحض ادعاءات أعداء الأمر المبارك في فلسطين وفي العراق بحقهم في الأماكن البهائية المقدسة مستندين في ادِّعائهم إلى أحكام الشريعة الإسلامية.
يُظهر ردّ فعل شوقي أفندي إزاء ما كانت تميل إليه تلك الآراء والمشاورات التي كان يُجريها مع البهائيين الذين دعاهم إلى حيفا، كيف أن عقله، وهو ما زال في مستهلّ ولايته– ومهما شعر شخصيًّا أنه يرزح تحت جسامة الضغوط في أغلب الأحيان – كان دائمًا عقل ذلك القائد اللامع، يشاهد جميع المعارك الدائرة من حوله، لا تُعميه التفاصيل أو الأمور الطارئة على الإطلاق. فاليوميات التي مرّ ذكرها أعلاه تسجل لنا: ‘في الأيام الأولى من زيارتي كان شوقي أفندي منهمكًا في أكثر الأوقات بالتشاور مع ماونتفورت ميلز وروي ويلهلم ودريفوس - بارني وزوجته والليدي بلومفيلد والميجور تيودور بول، وفي وقت لاحق مع كونسل وأليس شفارتز بعد وصولهما، تشاور معهم جميعًا حول تأسيس بيت العدل الأعظم. سمعتُ بالأمور التي ناقشوها بشكل عام، ويبدو أنه قبل أن يُؤَسَّسَ بيت عدل عالمي يجب أن يكون هناك بيوت عدل محلية ومركزية عاملة في البلدان التي يقطنها بهائيون، وأعلم أن شوقي أفندي كان قد دعا نفوسًا معيّنة من إيران والهند لهذا المؤتمر من أجل أن ينضمُّوا إلى الأحباء الذين حضروا من الغرب في مشاوراتهم وسبق أن ذَكَرْتُهم ولكنهم لم يستطيعوا الحضور في الوقت المحدد.’
يبدو أن نتيجة تلك المشاورات كانت أن أصدر شوقي أفندي تعليماته: إلى عائلة شوارتز بالعودة إلى ألمانيا ليعملا في اتجاه تأسيس هيئات محلية وهيئة مركزية، وإلى روي ويلهلم وماونتفورت ميلز أن ينقلا إلى أمريكا في مؤتمرها المركزي وشيك الانعقاد أن الهيئة التنفيذية –
وهي الهيئة المركزية للبهائيين في أمريكا الشمالية – يجب أن تصبح سلطة تشريعية في عملها، تتولّى توجيه جميع الشؤون المركزية بدل مجرّد تنفيذ القرارات والتوصيات التي يتوصّل إليها الوكلاء نتيجة مشاوراتهم في مؤتمرهم السنوي. ولا شك أن على الأحباء البريطانيين الحاضرين أن ينقلوا هذا المفهوم العام لجامعتهم أيضًا. وهذا ما يعني حقًا أن شوقي أفندي، بعد تولّيه ولاية الأمر بما يزيد قليلاً عن الشهرين، قد أخذ يُرسي دعائم بنيان النظام الإداري للأمر المبارك كما جاء في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.
أما ما كان من جهد وتوتّر في هذا الميدان فكان فوق طاقته. لذا، عيّن هيئة من تسعة أفراد تعمل مؤقتًا كمحفل. نجد في سجلات هذه الهيئة في 7 إبريل/ نيسان 1922 أن رسالة وردتها من الورقة المباركة العليا تُصرِّح فيها: ‘إن ولي أمر الله، الغصن المختار، قائد أهل البهاء شوقي أفندي، قد اضطر، نتيجة ما ينوء به من هموم وأحزان لا حد لها، إلى مغادرة هذه البقعة المقدسة لفترة وجيزة طلبًا للراحة والتعافي، وسيعود بعدها إلى الأرض الأقدس ليباشر خدماته ويتولّى القيام بمسؤولياته.’ وتمضي في قولها بأنه طبقًا لرسالته التي ترفقها، فقد أَوْكَلَ حضرته إليها إدارة جميع الشؤون البهائية في فترة غيابه وذلك بالتشاور مع عائلة حضرة عبد البهاء ومحفل تم اختياره. وكان شوقي أفندي قد غادر فعليًا حيفا إلى أوروبا في 5 إبريل/ نيسان يرافقه أكبر أولاد خالاته. وعمدت الورقة المباركة العليا إلى إرسال هذه الرسالة، مع رسالة ولي أمر الله، إلى محرري مجلة “نجمة الغرب” حيث نُشرتا فيها مترجمتيْن مع صورة للأصل باللغة الفارسية. ولا شك أن رسائل مماثلة قد أُرسِلت إلى مراكز بهائية رئيسة أخرى. وفي رسالتها إلى مجلة “نجمة الغرب” وضّحت الورقة المباركة العليا بأنها شكّلت محفلاً من أولئك الذين عيّنهم شوقي أفندي. وفي رسالة ولي الأمر نقرأ ما يلي:
هو الله
إن هذا العبد، بعد ذلك الخطْب الجَلَل والمصيبة العظمى – صعود حضرة عبد البهاء إلى الملكوت الأبهى – قد أصابه شديد الحزن والألم وطوّقته المشاكل التي أثارها أعداء الأمر على شأن أجد أن وجودي هنا، في هذا الوقت وفي جوٍّ كهذا، لا يتناسب والإيفاء بواجباتي الهامة المقدسة.
لهذا السبب، ولا خيار أمامي غير ذلك، عهدتُ بشؤون الأمر المبارك لبعض الوقت، في الداخل والخارج، إلى إشْراف العائلة المباركة برئاسة الورقة المباركة العليا – روحي لها الفداء – إلى أن أستعيد عافيتي وأستردّ قوّتي وثقتي بنفسي وطاقتي الروحية بفضل العناية الإلهية، وأتمكّن من الإمساك بزمام الأمور في خدماتي كلها بانتظام طبقًا لهدفي ورغبتي، حتى أكون عندها قد حقّقتُ مُنتهى أملي وطموحي الروحاني.
عبد عتبته – شوقي
في 8 إبريل/ نيسان كتبت الورقة المباركة العليا رسالة عامة للأحباء تخبرهم أولاً باستلامها رسائلهم التي عبّروا فيها عن ولائهم، وتذكُرُ بأن شوقي أفندي يعلّق آمالاً على تعاونهم في نشر الرسالة الإلهية؛ وأن العالم البهائي، من الآن فصاعدًا، يجب أن يتواصل معًا من خلال المحافل الروحانية التي يجب أن تكون مرجع الجميع في الشؤون المحلية. ومضت في رسالتها تقول: ‘منذ صعود محبوبنا عبد البهاء وشوقي أفندي متأثر بعمق شديد جدًا… لدرجة رأى أن يخلُد إلى الهدوء حتى يتمكَّن من التفكر والتأمُّل بمهمته الكبيرة التي تنتظره. ولأجل تحقّق ذلك غادر هذه المناطق مؤقتًا وعيّنني ممثِّلته في غيابه. وبينما هو منشغل في تحقيق هذا المسعى العظيم، فإن عائلة حضرة عبد البهاء على ثقة تامة بأنكم جميعًا سوف تسعون جاهدين من أجل تقدم دين حضرة بهاء الله ظافرًا…’ كانت الرسالة المطبوعة بالإنكليزية بالآلة الطابعة قد زيَّنَها توقيعُها “بهائية” بالفارسية وخُتمت بخاتمها.
بدا كل شيء على الورق هادئًا، إلا أن عاصفة هوجاء كانت تعصف في قلب شوقي أفندي وعقله. كتبت الورقة المباركة العليا بأن شوقي أفندي ‘قد غادر في رحلة إلى أقطار متعددة.’ فسافر مع ابن خالته إلى ألمانيا لاستشارةٍ طِبّية. أذكر أنه أخبرني بأن الأطباء شخّصوا حالته بأنه كان يفتقد تقريبًا إلى رد الفعل اللاإرادي[24] مما اعتبروه خطيرًا للغاية. ومع ذلك، وجد نفسه يتعافى بعض الشيء في تلك الطبيعة النائية مثل ما حصل مع العديد من الآخرين قبله. بعد بضع سنوات، عام 1926، كتب إلى هيبوليت دريفوس، الذي كان يعرفه منذ الطفولة، وواضح أنه كان يعتبره صديقًا حميمًا يمكن أن يفتح له قلبه، كتب إليه يُعْلمه باستلام رسالته ‘أنا في طريقي إلى بيرنيز أوبرلاند[25]، التي أصبحتْ موطني الثاني. وسأحاول جاهدًا، وسط جبالها الفاتنة الشاهقة المنعزلة، أن أتناسى تلك المضايقات الشنيعة التي طالتني مدة طويلة… إنه أمر يحزنني جدًا أن أكون في وضعي الصحي الحالي لا أشعر بأي رغبة ولا حتى بالقدرة على مناقشةٍ جِدِّيةٍ لهذه المشاكل بالغة الأهمية التي تواجهني وأنت على اطّلاع بها. إن الأجواء السائدة في حيفا أصبحت لا تطاق، وتغييرها جذريًا أمر متعذّر. كما أن انتقال مركز خدماتي إلى مكان آخر أمر غير وارد وغير مرغوب فيه، وفي رأي الكثيرين هو عمل غير لائق على الإطلاق… لا أستطيع التعبير عن نفسي بأفضل من هذا لأن ذاكرتي عانت الكثير.’
في السنوات الأولى بعد صعود حضرة عبد البهاء، مع أن شوقي أفندي كثيرًا ما كان يسافر إلى أماكن عدة في أوروبا بولع لا يعرف الكلل، ليس كشاب يافع فقط بل رجلٍ يلاحقه دومًا كمٌّ هائل من الأعمال والمسؤوليات، إلا أنه اعتاد أن يعود مرة تلو الأخرى إلى تلك الجبال المُقفرة الشاهقة الشامخة بكبريائها وعُزْلتها.
هناك نسخ من مراسلات شوقي أفندي بالفرنسية مع شخص سويسري من أصل ألماني، اعتاد حضرته أن ينزل في بيته خلال العديد من فصول الصيف نجدها تُفصح بشكل واضح عن طبيعته وحبّه الشديد لمن يدعوهم ‘أُناسًا بسطاء طيّبين’ ومشاعره الرقيقة التي ميّزت شكلَ صداقاته في أغلب الأحيان. ففي إحدى رسائله نقرأ:
22 ديسمبر/ كانون الأول 1923
عزيزي السيد هاوزر[26]
استلمتُ بطاقتك اللطيفة، فأيقظ بداخلي منظر منطقة يونغفراو[27] والصورة الخلاّبة لبلدة انترلاكن[28] ذكرياتٍ لا تُنسى عن صداقتك ومودّتك وكَرَمِ ضيافتك خلال مدة إقامتي المؤقّتة الممتعة معكم. لن أنسى كل هذا أبدًا مقدِّرًا دائمًا هذه الذكرى مع مشاعر المحبّة والامتنان.
أرسل إليك بعض الطوابع البريدية آملاً أن تنال إعجابك.
أتمنى لك من كل قلبي، يا عزيزي السيد هاوزر، عامًا جديدًا سعيدًا، وحياة مديدة زاهرة مليئة بالمسرّات.
آملاً في لقائك ثانية ولن أنساك أبدًا.
بكل إخلاص – شوقي
في السنة التالية في 26 سبتمبر/ أيلول نراه يكتب له ثانية:
عزيزي السيد هاوزر
عُدت إلى موطني، وبعودتي كانت أول رسالة أردتُ أن أكتبها هي إلى عزيزي هاوزر الذي لن أنساه، والذي تحت سقفه عشتُ واستمتعتُ بمناظر سويسرا الخلاّبة وحظيتُ بحسن ضيافته التي لن تُمحى من ذاكرتي أبدًا.
فكلما تذكّرتُ تجاربي ومغامراتي المُرهقة، وما كان يتبعها من فترة راحة واستجمام يمنحها لي شاليه هوويغ[29] المريح المتواضع الذي لن أنسى سحر جماله أبدًا، كثيرًا ما تشدّني مشاعر الحنين إلى رؤيتك هنا يومًا بين عائلتي في منزلنا لأعبّر لك عن امتناني وصداقتي، وإذا كان ذلك مستحيلاً، أتعشّم أن تتذكروا دومًا تقديري ومحبتي.
وصلتني على التوّ طوابع بريدية إيرانية جديدة تحمل صورة الشاه الجديد. آمل أن تعجبك.
أتمنى لك من كل قلبي حياة مديدة سعيدة مزدهرة، وأن أراك ثانية في إنترلاكن في قلب ذلك البلد المحبوب.
صديقك المخلص على الدوام
في 18 ديسمبر/ كانون الأول كتب لهذا الصديق شاكرًا له إرساله البطاقات ومرسِلاً له ‘هدية تذكارية متواضعة عن مدينة حيفا المختلفة تمامًا وأقل جمالاً مقارنةً بالأماكن الجميلة في بلدك سويسرا ومناظرها الخلابة’، متمنيًا لـ ’صديقه العزيز الذي لن ينساه’ سنة جديدة مزدهرة.
كان هذا الصديق رجلاً سويسريًا عجوزًا يعمل دليلاً سياحيًا سبق أن استأجر شوقي أفندي في بيته الكائن في الشارع الرئيس غرفة صغيرة في علّية تحت رفرف السطح بمبلغ حوالي فرنك واحد في الليلة. كان سقف الغرفة منخفضًا لدرجة لم يستطع زوج خالته، وهو ضخم فارع الطول، أن يقف فيها منتصبًا عندما زاره للاطمئنان عليه. كان هناك في الغرفة سرير صغير، وحوضٌ وُضع بجانبه إبريق فيه ماء بارد للاغتسال. تقع بلدة انترلاكن في قلب بيرنيز أوبرلاند، وتُعتبر مُنطَلقًا لعدد لا يُحصى من النزهات عبر الجبال والوِهاد المحيطة. غالبًا ما كان شوقي أفندي يذهب في نزهته قبل شروق الشمس بوقت طويل مرتديًا بِنطالاً حتى الركبة وجاكيتّةً من طراز نورفُك[30] ويلفُّ حول ساقيه قماشًا صوفيًا أسود اللون، ثم ينتعل جزمة قوية للجبال واضعًا حقيبة صغيرة من قماش القنب الرخيص على ظهره وممسكًا بيده عصا. كان يستقلّ القطار ليصل إلى سفح أحد الجبال أو المعابر ويبدأ نزهته مشيًا على الأقدام، وغالبًا ما اعتاد أن يمشي وحيدًا مدة تتراوح بين عشر أو ست عشرة ساعة، وفي بعض الأحيان يرافقه أحد أقربائه الشباب الذي يصادف وجوده؛ ونادرًا ما كان بمقدورهم مجاراته في سرعة خطاه، فيلجؤون بعد بضعة أيام إلى اختلاق الأعذار لعدم مرافقته. من هذا المكان أيضًا تسلّق شوقي أفندي بعض الجبال الأكثر ارتفاعًا موصولاً بحبل مع دليله المرافق. استمرت هذه الرحلات عمليًا إلى حين زواجه. أتذكر عندما ذهبنا سويًا لأول مرة إلى انترلاكن في صيف عام 1937، اصطحبني شوقي أفندي إلى منزل هاوزر بقصد تعريفي، بصفتي زوجته، للرجل العجوز الذي كان شديد التعلُّق به، وهو الذي كان يستمع بكل اهتمام لكل أحاديث حضرته الحماسية عن سيره أو تسلُّقه في ذلك اليوم، ويُبدي إعجابه بمدى طاقة هذا الشاب وتصميمه الذي لا يعرف الكلل أو التعب، ولكن وجدنا أنه [الرجل العجوز] قد توفي. أخذني شوقي أفندي لنزور قبره في مقبرة صغيرة هادئة على الجبل. وكثيرًا ما كان حضرته يسرد لي هذه القصص عن سنواته الأولى في الجبال ويُريني هذه القمة أو تلك التي كان يتسلّقها، وهذا المَعْبر أو ذاك الذي قطعه مشيًا على الأقدام. أخبرني أن أطول مسافة قطعها ماشيًا كانت اثنين وأربعين كيلومترًا عَبْر ممرّيْن، وغالبًا ما كان يفاجئه هطول الأمطار، إلا أنه كان يمضي في طريقه إلى أن تجفّ ملابسُه وهي عليه. كان عاشقًا للمناظر الطبيعية، وأعتقد أن المشي المتواصل المُجْهد، الذي كان يستمر فيه ساعة بعد ساعة دون أن يستريح، قد عمل إلى حدٍّ ما على التئام جراح قلبه العميقة بفقدان المولى.
أخبرني شوقي أفندي كيف أنه عمليًا لم يكن يأكل شيئًا إلى أن يعود في الليل، وكيف اعتاد أن يذهب إلى فندق صغير (اصطحبني أحيانًا إليه وإلى المطعم البسيط نفسه) ويطلب طبقًا من البطاطا المقلية بالزبدة والبيض المقلي والسلَطة، فهي وجبة رخيصة تملأ المعدة، ثم يذهب إلى غرفته الصغيرة [في العلّيّة] تحت رفرف السطح ويُلقي بنفسه على السرير مُنهَكًا ثم يغطّ في النوم، واعتاد أن يستيقظ في الليل ليشرب ملء إبريق من مياه الجبل الباردة ويعود للنوم ثانية، إلى أن يدفعه قلق هذه الروح التي لا تهدأ فتوقظه لينهض ويخرج ثانية قبل طلوع الفجر. هناك أمر غريب مؤثّر للغاية حول الطريقة التي عاد فيها، في آخر صيف في حياته، إلى جميع تلك الأماكن الأحبّ إليه ليراها ثانية، وكأن ظلال أحد تلك الجبال الشاهقة قد امتدت نحوه تدعوه إليها. لم تكن تلك السنوات الأولى الأكثر حزنًا وكربًا على نفسه فحسب، بل كان فيها الأكثر قسوة على نفسه. كان يتبع نظامًا صارمًا طبّقه على نفسه ومَن معه. كان يضع جانبًا مبلغًا متواضعًا من المال، لا بل أقلَّ من متواضع، لفترة الصيف. وسواء أكان مع أحد أقاربه الذي يعمل مرافقًا وسكرتيرًا له، أو منضمًّا إليه بعض أفراد عائلته كما يحدث أحيانًا، فكان لهذا المبلغ أن يكفيه دون أن يضيف إليه شيئًا، ويغدو في اقتصاده أكثر حزمًا إذا ما كَثُر عدد زائريه. لم يسافر قطّ إلا بالدرجة الثالثة حتى عندما أصبح رجلاً في متوسط عمره. هناك مناسبات قليلة جدًا يمكن أن أتذكرها عندما ذهبنا بالقطار إلى مكان ما بالدرجة الأولى أو الثانية وكان ذلك فقط عندما كان القطار قذرًا جدًا أو مكتظًّا بالركّاب لدرجة يصعب فيها الجلوس بالدرجة الثالثة. فإذا كان السفر ليلاً اعتاد شوقي أفندي أن ينام على المقاعد الخشبية الصلبة متوسّدًا حقيبة ظهره، وهذا ما يفوق طاقة تحمّل أولئك الذين يسافرون معه. كان لحياته مستويان؛ واحد لنفسه بصفته رئيسًا للدين يرى فيه عامة الناس شرفَ الدين الرديف لشرفه، وآخر بصفته شخصًا عاديًا، بغير صفته الرسمية، لا يلزمه أن يظهر بغير طبيعته المتواضعة، رجلاً حيّ الضمير يأبى على نفسه أن يعيش في بذخ من الأموال التي وضعت تحت تصرفه نظرًا لمكانته العليا. لم يكن لأحد في العالم أن يحاسبه، وليس لبهائي على وجه البسيطة أن يسأله عما يفعل، بل هو الذي كان يسائل نفسه، وهو الذي كان رقيبًا صعبًا.
ومع تقدُّمه بالسن وقد أنهكَتْه أعباؤه أكثر فأكثر، أخذتُ أضغط عليه بقدر ما تسمح به جرأتي ليكون أقلّ قسوة على نفسه بعض الشيء أو أقل تدقيقًا؛ فيقبل على الأقل النزول في فندق لائق يوفّر له وسائل راحة متواضعة، وأن يقبل المعالجة الصحية أحيانًا، ويتمتَّع بغرفة لها حمّامها الخاص، وأن يتناول طعامًا أفضل نوعيةً وتَغْذِيةً طالما أنه يكتفي بوجبة واحدة يوميًا. هذا التغيير البسيط الجزئي في نمط حياته قد تقبّله فقط لأن ميللي كولنز، من فرط محبتها له، دأبت على تقديم بعض المال له قبل بدء سفره ‘للراحة والاستجمام’، وتوسَّلت إليه أن يصرفه على نفسه، وعلى أي شيء يريده. فقط بفضل إلحاحي وتوسّلي الشديد قَبِل تَقْدِمة ميللي النابعة من محبتها واهتمامها به شخصيًا، وأن يصرف جزءًا صغيرًا من المبلغ على نفسه – وينفق الباقي على شراء مستلزمات الحدائق والأماكن المقدسة ودار الآثار، وهو ما أدخل البهجة حقًا إلى قلبه، وبذلك يكون قد حقق قصد ميللي بطريقة أو بأخرى.
أخبرني شوقي أفندي أنه في بداية ولايته، وخلال فصل أو فصلين للصيف، ابتاع دراجة هوائية وتنقّل بها عَبر كثير من الممرات الجبلية. وكثيرًا ما كنت أَعجب كيف كان يصل البيت سالمًا – وهو ما كان يحصل باستمرار – وهو المعروف بحيويته وجرأته مع قلة درايته بالميكانيك! كان نموذجًا للفكر العقلاني، إلا أن ميله للآلات كان ضئيلاً، ومع ذلك كانت لديه القدرة أن يعمل بيديه أشياء ظريفة جدًّا إذا ما رغب.
بالرغم من انسحابه – وهو ما يلخّص في الواقع حقيقة غيابه الأول هذا عن الأرض الأقدس – فإن القُوى التي أطلقها شوقي أفندي للعمل بدأت تُؤتي أُكُلَها. في مؤتمر الوكلاء المركزي في أمريكا الذي عقد في إبريل/ نيسان 1922 ذكر أحد العائدين من زيارته للأرض الأقدس ما يلي: ‘كانت زيارتنا بدعوة من شوقي أفندي. التقينا في حيفا بأحباء من إيران والهند وبورما ومصر وإيطاليا وإنكلترا وفرنسا… لدى وصولي تملَّكَني انطباع قوي بأن الحق في عليائه مستوٍ على عرشه والكلُّ في أرضه على أحسن ما يرام… تشرفنا بمقابلة شوقي أفندي وهو يرتدي لباسًا أسود بالكامل بشخصيته المؤثرة. تفكروا في ما يمثّله اليوم! كل المعضلات المعقدة التي تواجه عظماء رجال الدولة في العالم تعتبر ألعابًا صبيانية مقارنةً بما يواجهه هذا الشاب من مشاكل عظمى تخصّ العالمَ بأسره… لا أحد يمكنه أن يكوّن صورة لما يعترض حضرته من صعوبات هائلة غامرة… إن المولى المحبوب لم يفارقنا، فروحه الملكوتية حاضرة بقوة وزَخَم أكبر… وفي مركز هذا الإشعاع [الروحي] يقف هذا الشاب شوقي أفندي. فالروح القدس تسري متدفقة من هذا الرجل الصغير. إنه في الحقيقة شاب فتيّ في وجهه وهيكله وسلوكه، إلا أن قلبه هو مركز العالم في هذا اليوم، ومنه تشعّ الصفات الرحمانية والروح الملكوتية. هو وحده الذي يستطيع… أن يخلّص العالم ويصنع حضارة حقيقية. كم هو متواضع حليم ومتفانٍ بحيث يؤثِّر فيك حالما تراه. خطاباته إعجاز. إنها حكمة الرب العظيمة أن منَحَنا تلك الطلعة البهية لتكون قطب الهداية لمواجهة المشاكل الصعبة – مشاكل هي، مثل مشاكلنا على نحوٍ كبير، تأتيه من جميع أطراف الأرض لتجد عنده الحل المناسب بأبسط الطرق… إن المبادئ العظيمة التي وضعها حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء أصبح لها الآن قواعدها في العالم الخارجي لملكوت الله على الأرض، وهي القواعد التي يعمل اليوم شوقي أفندي على إرسائها في حيفا بكل ثقة وعزم.’ ومما قاله شخص آخر من بين الذين دُعوا إلى حيفا للتشاور: ‘عندما يصل المرء إلى حيفا ويحظى بلقاء شوقي أفندي ويرى نتاج إعمال عقله وقلبه، وروحه المدهشة وكيف يفهم الأمور، يرى الإعجاز بعينه.’ كما روى الزائرون كيف أنهم سمعوا أن شوقي أفندي كان يأوي إلى فراشه في الساعة الثالثة فجرًا وينهض في السادسة صباحًا، وكيف أنه أمضى ذات مرة ثمانٍ وأربعين ساعة في عمل متواصل دون طعام أو شراب. وكان شوقي أفندي قد أرسل، مع أحد الزوار العائدين، باقة من زهور البنفسج هدية للأحباء المجتمعين في المؤتمر المركزي هناك مع محبته للجميع. وجاء في تقرير ذلك المؤتمر: ‘أصبح الآن واضحًا لدى الجميع أن تأسيس ملكوت الله على الأرض قد حان…’ لقد كانت نتيجةً للتعليمات التي أُعطيت للأحباء الأمريكيين الذين زاروا حيفا في الأشهر الأولى من عام 1922، أن انتخبَ مؤتمرُ الوكلاء المركزي هذا هيئةَ المحفل الروحاني المركزي ليحلَّ محلَّ ‘الهيئة التنفيذية لوحدة المعبد البهائي’ القديمة، وينطلق العمل في تدبير شؤون أمر الله في أمريكا الشمالية على أُسس جديدة تمامًا.
في خريف عام 1922 قامت الورقة المباركة العليا، وقد أحزنها كثيرًا غياب شوقي أفندي الطويل، بإرسال بعض أفراد عائلته ليلاقوه ويرجوه الرجوع إلى الأرض الأقدس. في شارع قرية صغيرة وسط الجبال، وبينما كان شوقي أفندي عائدًا في المساء من إحدى جولاته ماشيًا طول النهار، وجد لفرط دهشته والدته وقد جاءت من مكان بعيد، من فلسطين، تبحث عنه ومعها أحد أفراد عائلة المولى، وبدموع منهمرة أخبرته بمدى حزن بهائية خانم وأَلَمها، يشاركها في ذلك أفراد العائلة المباركة والأحباء، واقنعته أن يسارع في العودة ويتولّى مهامّ منصبه الشرعي.
ورد خبر في مجلة الأخبار البهائية في أمريكا، “نجمة الغرب”، يقول بأن ‘شوقي أفندي… قد عاد إلى حيفا بعد ظهر يوم الجمعة في 15 ديسمبر/ كانون الأول مكلّلاً بالصحة والسعادة واستأنف مهامّه كوليّ لأمر الدين البهائي، وهي الوظيفة التي أنيطت به بموجب ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.’ وعكست خطاباته وبرقياته الخاصة فيما بعد ذلك التغيير في حالته. فبعد يومين من عودته كتب إلى الأحباء في ألمانيا يقول: ‘إن عدم تمكُّني من أن أكون على اتّصال وثيق ودائمٍ بكم، لظروف محزنة خارجة عن إرادتي… قد سبّب لي مفاجأة مؤلمة وأشعرني بأسف عميقٍ مرير…’ إلا أنه يسترسل ويقول بأنه الآن ‘قد رجعتُ إلى الأرض الأقدس بقوة متجدِّدة وروح منتعشة.’ وفي اليوم نفسه كتب إلى الأحباء في فرنسا: ‘الآن وقد انتعشتْ روحي وعاد لي اطمئناني، أعود لاستئناف واجباتي الشاقة.’ وكتب أيضًا إلى الأحباء اليابانيين: ‘أَمَا وقد انتهت ساعات خُلْوتي بنفسي وتأملاتي الطويلة’؛ ويقول بأنه لم يشكّ أبدًا بـ’أن انسحابي المفاجئ من ميدان الخدمة الفعّال… لن ينال من أمانيكم أبدًا.’ كما أوضح تمامًا أن تلك ‘الغيبة المفاجئة’ كانت بالنسبة إليه ضرورية؛ فكتب إلى أحباء أمريكا في 16 ديسمبر/ كانون الأول 1922: ‘رغم أن هذه الفترة كانت طويلة… إلا أنني شعرتُ بقوّة منذ أن طلع عليّ فجر هذا اليوم الجديد، أن هذه الخلوة الضرورية، رغم الانفصال المؤقت الذي قد يتأتّى عنها، إلا أن نتائجها تفوق كثيرًا أي خدمة فورية كنت أستطيع أن أُقدِّمها بكلّ تواضع للعتبات المقدسة لحضرة بهاء الله.’ في عزلته تلك، أحيا شوقي أفندي الذكرى السنوية الأولى لصعود المولى؛ فوجوده في حيفا، في جوِّ مناسبةٍ كهذه، وفي مرقد حضرة عبد البهاء، كان على الأرجح أمرًا يفوق طاقة تحمُّله في السنة الأولى لولايته.
‘بمشاعر الثقة المفعمة بالابتهاج’ كما عبّر عنها، ألقى شوقي أفندي الآن بنفسه في معترك عمله. وهكذا عادت إليه واحدة من خصائص طبيعته الأصيلة، والتي كانت قد دفعت أحد الأحباء، وهو طالب يدرس في بيروت، لأن يكتب إليه قائلاً: ‘إن وجهك البشوش لا يفارقني أبدًا.’ وهذا ما انعكس واضحًا في رزمة برقيات أرسلها حضرتُه بالفعل إلى البهائيين في العالم في 16 ديسمبر/ كانون الأول 1922، بعد رجوعه من غيبته بيوم واحد، أقتطف منها النص الأصلي كما ورد في ملفاته الخاصة:
إلى إيران:
‘إن دعائي الحار، وأنا أدخل ميدان الخدمة من جديد، أن يهب رب الجنود فرسانه البواسل في تلك الأرض المكرَّمة بركة جديدة.’
إلى أمريكا:
‘إن مسيرة تقدم الأمر المبارك لم يكن ولن يكون لها أن تتوقف أبدًا. أسأل العلي القدير أن تقودها جهودي التي تجدَّدت الآن وانتعشت، مقرونة بدعمكم الذي لا يفتُر، إلى انتصار مجيد.’
إلى بريطانيا العظمى:
‘بما أَنْعُمُ به الآن من سلوان وقوّة أضمّ جهودي المتواضعة إلى مجهوداتكم التي لا تعرف الكلل في سبيل أمر حضرة بهاء الله.’
إلى ألمانيا:
‘إنّني، وقد كنت متّحدًا معكم حتى اليوم بأفكاري وتأمّلاتي، أضيف الآن بسرورٍ مفعمٍ بالأمل رباطًا آخر من المشاركة الفعّالة في خدمةٍ مدى الحياة لدى عتبة حضرة بهاء الله.’
إلى الهند:
‘عسى أن يبرهن اتّحادنا من جديد في معترك الخدمة المجيد أنه بشير انتصارات مظفّرة في الميدان الروحاني لذلك القطر.’
إلى اليابان:
‘بنشاط متجدّد واطمئنان راسخ أمدّ لكم عبر البحار البعيدة يد التعاون الأخوي في خدمة أمر البهاء.’
إلى العراق:
‘بحماس متّقد وقوة متجددة أنتظر الآن سماع بشاراتكم السارّة وأنا في الأرض الأقدس.’
إلى تركيا:
‘بعد عودتي إلى هذه البقاع المقدسة، أمدّ لكم يد الزمالة والخدمة لدين حضرة بهاء الله.’
إلى فرنسا:
‘أتطلّع إلى استلام بشاراتكم السارة وأنا في الأرض الأقدس.’
وفي 18 ديسمبر/ كانون الأول أبرق:
إلى سويسرا:
‘بعودتي السعيدة إلى الأرض الأقدس أرجو أن تؤكدوا لأحبائي السويسريين تعاوني الذي لا يفتر.’
وفي 19 ديسمبر/ كانون الأول أرسل البرقيتين التاليتين:
إلى إيطاليا:
‘بعودتي إلى الأرض الأقدس بلّغوا أحباء إيطاليا أطيب تمنياتي.’
إلى السيدة دَن (Dunn)
‘أنتظر بخالص المحبة سماع البشارات السارة عن الأحباء في أستراليا وأنا في الأرض الأقدس.’
كما أرسل شوقي أفندي أيضًا برقيات إلى بعض أقاربه عكست بوضوح تصميمه وحماسه ومسحة من حيوية شبابه التي تنفذ تلقائيًا إلى القلب بالتعاطف نحوه. ففي 18 ديسمبر/ كانون الأول أبرق إلى إحدى خالاته التي كانت في زيارة لمصر قائلاً: ‘أُمسك بزمام الأمور بإحكام تامّ. أتحرّق شوقًا لرؤيتكِ. طمئنيني عن صحتِك.’ وفي اليوم نفسه أبرق إلى ابن خالته قائلاً: ‘لقد عُدتُ إلى ميدان الخدمة ثانية. كلّي ثقة بتعاونكَ الذي لا يفْتُر.’ وإلى آخَرَ من أبناء خؤولته بعيد النسَب أبرق في اليوم التالي يقول: ‘… كلي ثقة بتعاونك الأخوي.’
كونه منهجيًا جدًا بطبيعته، احتفظ شوقي أفندي في بداية سنوات ولايته بمدوّنات كاملة تقريبًا، وبنسخ طبق الأصل عن الرسائل المرسَلة. إلا أن ضغط العمل والمشاكل منعته فيما بعد من متابعة ذلك إلا من برقياته التي احتفظ بنسخ عنها حتى آخر حياته مرقّمة ومؤرخة بالسنوات. فقد أعدّ قائمة بسبعة وستين مركزًا في الشرق والغرب كتب إليها خلال أشهر إقامته بالأرض الأقدس عام 1922. وخلال الفترة من 16 ديسمبر/ كانون الأول 1922 إلى 23 فبراير/ شباط 1923، ثبّت في سجلاته أسماء (132) منطقة كتب لها، وكتب لبعضها أكثر من مرة. في رسالة مؤرخة 16 ديسمبر/ كانون الأول 1922 كتب يقول: ‘… أنتظر الآن بغاية الشوق بشارات تقدُّم الأمر الإلهي المُفرِحة، واتساع نطاق نشاطاتكم. ولن أدّخر جهدًا في إشراك المؤمنين هنا وفي البلدان الأخرى بأنباء تقدم مسيرة الأمر المبارك السارّة المرحَّب بها.’ لقد غطّتْ مراسلاتُه خلال تلك الفترة (21) بلدًا و(67) مدينة، ولكنه لا يبدو أنه كتب لأكثرَ من عشرين شخصًا كان العديد منهم من غير البهائيين. فالبلدان التي راسلها منذ بداية ولايته شملت: إيران، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، السويد، سويسرا، الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، أستراليا، جزر المحيط الهادئ، اليابان، الهند، بورما، القوقاز، تركستان، تركيا، سوريا، بلاد ما بين النهرين، فلسطين ومصر.
بعد يوم على وصوله حيفا في ديسمبر/ كانون الأول 1922، وبما في طبيعته من وعْيٍ وحماس متّقد، جلس شوقي أفندي وكتب إلى أحبائه في بريطانيا يقول:
اخواني وأخواتي الأعزاء في دين الله
في مستهلِّ أوّل رسالة إليكم، اسمحوا لي أن أنقل إلى قلوبكم، بكلمات مهما كانت قاصرة إلا أنها بالتأكيد صادقة تنمّ عن مشاعر عميقة، مدى تلهّفي خلال أيام عزلتي لأن أعود على وجه السرعة وأضمّ يدي إلى أيديكم في العمل العظيم من أجل استحكام أمر الله، وهو العمل الذي ينتظر كل مؤمن مخلص غيور لدين حضرة بهاء الله. الآن، والسعادة تغمرني وقد عدت إلى موقعٍ أستطيع فيه القيام بواجباتي المتشعّبة والإمساك بزمام الأمور بتواصل وبكل حيوية ونشاط، فإن مرارة خيبة الأمل التي كانت تنتابني مرة بعد أخرى خلال تلك الشهور المرهِقة لشعوري بأنني لست مهيأً بعدُ، قد غاصت الآن وانصهرت في حلاوة هذه الساعة عندما تحققتُ من لياقتي الروحية والجسمانية على تحمُّل أعباء المسؤوليات تجاه الأمر المبارك بشكل أفضل… أجد لِزامًا عليّ أن أخبركم كم كنت أشعر بالامتنان والرضا لدى سماعي خبر تشكيل ‘هيئة مركزية’ هدفها الرئيس توجيه نشاطات الأحباء المختلفة والتنسيق في ما بينها بكل انسجام…
ويختم خطابه هذا مؤكِّدًا لهم أنه بـ ’مشاعر المحبة والمودّة وهمّته المتجددة’ ينتظر بغاية الشوق سماع أخبارهم، ويوقّع بكل بساطة ‘أخوكم شوقي’. وفي خطاب آخر مؤرخ في الثالث والعشرين من الشهر نفسه كتب يخبرهم: ‘في الأيام القليلة الماضية كنت أتحرّق شوقًا لاستلام أُولَى رسائل أحبائي الغربيين الخطّية التي أرسلوها لي حالما علموا بعودتي إلى الأرض الأقدس.’ ويذكر بأن أول رسالة استلمها من الغرب كانت من أحد الأحباء الإنكليز، ويسترسل بقوله: ‘يحدوني أمل بكل إخلاص، وأنا الآن بكلّيتي أدخل معترك مهمتي من جديد، علّني أكون قادرًا على تقديم نصيبي المتواضع من المساعدة وإسداء النصح في العمل الهام جدًا الماثل أمامكم الآن.’ وفي رسالة شخصية إلى قريب له كُتِبتْ في 20 ديسمبر/ كانون الأول 1922 يعبّر فيها عما في أعماقه من مشاعر: ‘حقًا إن مهمتي ضخمة هائلة، ومسؤولياتي جسيمة متشعبة، إلا أن الاطمئنان الذي تمنحني إياه كلمات المولى الحكيم في عملي لهو درعي وسندي في العمل الذي يكشف عن نفسه الآن أمام ناظري.’
في أول رسالة له للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في امريكا المنتخَب حديثًا مؤرخة 23 ديسمبر/ كانون الأول كتب يقول: ‘أن أكون غير قادر على مراسلتكم منذ أن باشرتم مهامّكم الشاقة المتشعّبة، بسبب ظروف غير متوقعة ويتعذر عليّ تجنبها، كان بالنسبة لي سبب أسف عميق وصدمة محزنة.’ تلك كانت كلمات رجل خرج من أعماق كابوس، وتعكس عمق هُوّة الرزية التي وقع فيها في السنة الماضية من حياته. ويمضي إلى القول: ‘ومع ذلك، فأنا مطمئن وثابت، بفضل إيماني الذي لا يبارح فكري ولا يعتريه الفتور أبدًا بأن كل ما يجري لأمر الله، مهما كان مُقلِقًا في تأثيره المباشَر، إنّما هو حقًا مفعم بالحكمة الإلهية اللامتناهية ويؤول في النهاية إلى ترويج مصالحه في هذا العالم.’
في هذه الرسائل المبكرة دعا شوقي أفندي المحافل الروحانية أن تكتب له، وأن تُعْلمه بـ’حاجاتها ومتطلباتها ورغباتها وعن خططها ونشاطاتها’، علّه يستطيع ‘من خلال دعائي ومؤازرتي الأخوية أن أساهم، ولو بالقليل، في إنجاح مهمتهم المجيدة في هذا العالم.’ ويُعرب عن امتنانه العميق لهم على أسلوبهم في تنفيذ ‘اقتراحاتي المتواضعة’، كما يؤكد للأحباء على ‘تعاونه الأخويّ الذي لن يضعف أبدًا.’
ما إن علم الأحباء، من برقياته المرسَلة، أن ولي أمر الله قد عاد إلى حيفا، حتى تدفّق عليه سيل من الرسائل من جميع أنحاء العالم. ومع أنه كان يبدو أمرًا مُطَمْئِنًا، إلا أنها وضعت شوقي أفندي في مأزق خطير، وهو ما بيّنه واضحًا في رسالة كتبها خلال السنوات الأولى من ولايته إلى ابن خالة له بعيد النسَب قائلاً: ‘إن إحدى أكبر مشكلاتي الملحّة تتمثل في المراسلات الفردية؛ إنه تطاول وتجرّؤ من جانبي أن أقلّد المولى [في الردّ والكتابة]، عدا عن أنه أمر غير عملي نظرًا للتوسع السريع لأمر الله. أما أن أُراسل بعض الأحباء بصفة شخصية دون الكتابة للآخرين، فإنني واثقٌ من أنه سيؤدي، كما تعلم، وبالتدريج، إلى الخِلاف وتثبيط الهمم، لا بل إلى العداوة والحقد؛ فأنت تعلم تمامًا ذلك الرهط من الأحباء ممن يتوقّعون الكثير ويفعلون القليل. وأن أنقطع عن مراسلة أفراد الأحباء بالكلية، معتمدًا على الرسائل غير المباشرة التي يكتبها بالنيابة عني مساعديّ ومَنْ يرافقني، مكرِّسًا جُلّ وقتي للمراسلات المباشرة مع المحافل الروحانية في أنحاء العالم، فهذا أيضًا يشكّل مشكلة صعبة. أُقدّر لك حقًّا وجهة نظرك فيما يتعلق بهذه المعضلة الشائكة. فالخَيار الأخير أرى فيه الرفض الواضح لتناوُل كافة العلاقات الشخصية مع أفراد الأحباء.’ في يناير/ كانون الثاني 1923 كتب ولي أمر الله إلى الأحباء في ألمانيا أنه بالنظر إلى ‘تسارع التوسّع الرائع للأمر المبارك في أنحاء العالم’ فلن يكون بمقدوره مراسلة كافة أفراد الأحباء في الشرق والغرب فرديًا لأن ذلك ‘سيتطلب من جانبي الكثير من الوقت والجهد مما يعوقني عن الانصراف بشكل وافِ إلى واجباتي الأخرى الملحّة والحيوية جدًا في هذه الأيام، لذا عليّ أن أرتضي، ولو على مضض، بالتراسل المباشر مع كل مجموعات الأحباء في كافة المراكز الأمرية، أكانت في المدينة أم القرية… وتنسيق… نشاطاتهم من خلال المحفل الروحاني المركزي…’ وفي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه كانت هذه المشكلة لا تزال تُقْلقه، فنجده يكتب للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في بريطانيا بأنه يولي الموضوع ‘جل عنايته وانتباهه’ ويؤكد له أنه ‘ما من رسالة محرّرة تصلني، مهما كانت غير مهمة، تُفَضّ أو تُقرأ من شخص سواي.’ ونراه في عام 1926 يكتب قائلاً: ‘أنا في غاية الحيرة والانشغال بحيث يصعب عليّ إيجاد أي وقت للمراسلات المباشرة.’
لعدة سنوات، بل بالأحرى طيلة ست وثلاثين سنة، ظلّ ولي أمر الله تُقلقه مسألة كيف سيجد الوقت للرد على الرسائل الواردة. وأخيرًا قرر ألا يتوقف عن الرد على رسائل الأفراد خاصة في الغرب وفي بلدان تضمّ مؤمنين جُددًا لأنه تبيّنَ له، نتيجة تجربة مؤلمة، أن المحافل الروحانية لم تكن دائمًا في مستوى الحكمة المطلوبة في التعامل مع الأفراد بطريقة تُلئم جراحهم وتبقيهم نشيطين فاعلين في الأمر المبارك. إلا أن مراسلاتٍ كهذه مع الأفراد ما كانت تتقبلها الهيئة المركزية بارتياح دائمًا، ذلك لأنها عندما تجد شخصًا قد تلقّى حقيقةً هامة من ولي أمر الله، ينتابها شعور بأنها هي التي يجب أن تكون القناة الرسمية الوحيدة لتلك المعلومة. ففي رسالة كُتبت بالنيابة عن ولي أمر الله من قبل سكرتيره إلى محفل روحاني مركزي عام 1941، نجده يشرح سياسته في مثل هذه الأمور بقوله: ‘لقد صرّح شوقي أفندي مرارًا للأحباء في كل جزء من العالم أن البهائيين أحرار تمامًا في الكتابة إليه في أي موضوع يشاؤون. وبالمثل بطبيعة الحال، فإن له مطلق الحرية في الردّ بأي طريقة تروق له. وكون مؤسسات الأمر الإلهي في الوقت الحاضر لا تزال في بداية أعمالها، يرى حضرته أنه من الضروري الاستمرار في تلك المراسلات الكثيفة رغم أنها تأتي فوق أعبائه الثقيلة الأخرى. فأحيانًا كان أوّل تلميحٍ يتلقاه حضرته حول خطوة هامة قد تؤثر على مصالح الأمر المبارك بطريقة أو بأخرى، يأتيه في رسالة لأحد الأفراد بدلاً من محفل روحاني؛ من البديهي أنه من الأفضل أن تأتيه معلومة كهذه من الهيئة الإدارية، إلا أنه مهما كان مصدر المعلومة فإن همّ ولي الأمر الوحيد هو مصلحة الأمر المبارك وسلامته. فعندما يرى حضرته أن خطوة معينة ستُلحق ضررًا ما، يبادر إلى إرسال وجهة نظره في رسالة جوابية، وله في هذا مطلق الحرية.’
كتب شوقي أفندي إلى تيودور بول عام 1923 قائلاً: ‘أنا الآن تعافيتُ تمامًا، ومنشغلٌ جدًا في عملي في الوقت الحاضر.’ إلا أن المراسلات كانت أبعد من أن تكون نشاطه الوحيد، فقد كان أيضًا ‘منشغلاً بخدمة مختلف القادمين لزيارة هذه البقعة المقدسة في هذه الأيام.’ كان من عادته في هذه الأيام المبكرة من ولايته أن يعقِد اجتماعات منتظمة في بيت حضرة عبد البهاء. ففي رسالة في ديسمبر/ كانون الأول 1922، وبعد عودته إلى حيفا بخمسة أيام نجده يكتب: ‘أشركتُ الزائرين الأعزاء والأحباءَ المقيمين في الأرض الأقدس، الذين أُقابلهم وأجتمع بهم بانتظام في قاعة الاستقبال الخاصة بالمولى، بكامل أخباركم.’ وبالإضافة إلى ما كان يوليه من اهتمام براحة ضيوفه، وتناوله الطعام مع الزائرين الغربيين في دار الضيافة المخصص لهم والمقابل لبيت المولى، وزيارة مقامَيْ حضرة الباب وحضرة عبد البهاء مع الأحباء الشرقيين وتناول قدحٍ من الشاي معهم في أغلب الأحيان في دار ضيافة المسافرين الشرقيين المجاور [للمقام الأعلى]، كان شوقي أفندي يكرّس بالفعل الكثير من وقته واهتمامه في تحسين وتوسعة المركز العالمي للدين. ففي 9 إبريل/ نيسان 1922 بُدئ العمل في دار الضيافة الجديد للمسافرين الغربيين ضمن خطط وضعها حضرة عبد البهاء أيام حياته ويقوم على تنفيذها الآن شوقي أفندي بكل همّة ونشاط. وفي اليوم الأول من عيد الرضوان، ومع أن شوقي أفندي كان قد غادر حيفا، إلا أن الأضواء الكهربائية تشعشعت أنوارُها في المقام الأعلى لحضرة الباب وفي الروضة المباركة لحضرة بهاء الله معًا لأول مرة طبقًا للترتيبات التي وضعت قبل صعود المولى، ولكن، مرّة أخرى، بإشراف شوقي أفندي نفسه. كان حضرته في وقت سابق قد تناقش مطوّلاً مع السيد ريمي خلال زيارته في شهر مارس/ آذار 1922، في مختلف الإمكانيات من أجل تشييد بناء نهائي لمرقد حضرة عبد البهاء، وموقع مشرق الأذكار على جبل الكرمل في المستقبل، وفي خطة شاملة لتحسين المنظر الطبيعي للممتلكات الأمرية هناك.
يمكن أن نصف هذه الأعمال بأنها من أكثر أوجه عمله مُتْعةً في اضطلاعه بمسؤولياتِ مَنْصِبِهِ الرفيع رغم أنها كانت تتطلّب منه قدرًا كبيرًا من الوقت والجهد. إلا أن ما كان يُثقِل كاهله حقًّا، ويفوق كل احتمال، أعمالُ الناقضين. فبعد يوم من عودته إلى حيفا كتب يقول: ‘لقد… تحققت بالفعل بشكل مذهل وعود حضرة عبد البهاء الرهيبة بخصوص الناقضين.’ وظلّ الوضع يزداد خطورة طول الوقت، إلى أن وجد من الضروري أن يُبرق إلى أحباء أمريكا في شهر فبراير/ شباط 1923 قائلاً: ‘أرسلوا لي رسائلكم كلها بالبريد المسجَّل. أَعلِموا الأحباء’، مُبديًا اهتمامًا واضحًا بأن يصله البريد الخاص به بكل أمان. وفي يناير/ كانون الثاني كتب إلى حسين أفنان قائلاً: ‘أفترض أنك توصّلتَ، بما تجمّع لديك من خبرة سابقة، بأنني أقف مؤيِّدًا الإخلاص المطلق والعدالة الحقّة في جميع الشؤون الخاصة بأمر الله، وتعرف موقفي الرافض للمساومة مع الناقضين أعداء الأمر. فالله وحده هو الذي سيحبط مساعيهم المتواصلة وأعمالهم الدنيئة.’ إن الرجل الذي كُتبت له هذه الرسالة، وهو حفيد حضرة بهاء الله وابن أخت حضرة عبد البهاء، قد أصبح من الناقضين البارزين بعد ذلك بوقت قصير، وإخوانه الثلاثة هم الذين تزوجوا من ثلاثة من حفيدات حضرة المولى؛ اثنتان منهن شقيقتان لولي أمر الله نفسه، وبهذه المصاهرة نُسِجت على هذا النحو شبكة معقّدة من المشاعر العائلية والغدر والخيانة والكراهية أُقحمت فيها في النهاية عائلة حضرة عبد البهاء بالكامل، وبذلك فقَدَ شوقي أفندي جميع أقاربه. وهنا نرى أنه، من خلال ولي أمر الله الشاب طاهر السريرة، تتألق أنوار رجل دولة صلب، حامي حمى الدين بظله الممدود والمدافع الأمين الذي خلّفه حضرة عبد البهاء لأتباعه كأعظم هدية لهم وأعزّ ما كان يملك. وفي نهاية الرسالة نفسها يؤكد له شوقي أفندي قائلاً: ‘بقلب نقيٍّ صافٍ أتطلع بلهفة إلى تلك الدلائل التي سوف تكشف عن رغبتك الصادقة وعزمك الأكيد في دعم ما جاء في ألواح وصايا المولى مجتنبًا ناقضي العهد والميثاق بشتى السبل.’ وبكلمات شوقي أفندي نفسه، فإنه ‘وسط غبار ولهيب تلك الهجمات التي كان يشنّها عدو متربّص لا ينام’ كان على شوقي أفندي أن يواصل أعماله.
كان وضع الأمر المبارك آنذاك يستدعي بالضرورة إقامة علاقات دقيقة مع سلطات الانتداب. فحضرة عبد البهاء كان شخصية معروفة تمامًا ومبجّلة إلى أبعد الحدود، مع أنه من المستبعد أن كان لدى أيّ من سكان فلسطين ولو لمحة بسيطة عن المضامين الواسعة ‘للحركة’ البهائية، كما كان يُشار إليها في الغالب في تلك الأيام الأولى، والتي تقبّلوا حضرته كرئيس لها. في 19 ديسمبر/ كانون الأول 1922 أبرق شوقي أفندي إلى المندوب السامي في فلسطين بمقرّه في القدس قائلاً: ‘أرجو أن تتقبلوا أطيب تمنياتي وتحياتي الودية مع عودتي إلى الأرض الأقدس لأستأنف مهامي الرسمية.’ كانت هذه البرقية خطوة محسوبة بدقة من جانب شوقي أفندي، ومن باب المجاملة أيضًا، إذ جاءت وسط الأجواء الملبّدة بالإشاعات والأقاويل التي أطلقها الناقضون بلا شك وغذّوها بحماس حول فترة انسحابه التي استمرت ثمانية أشهر.
مع كل ذلك، كان أعظم ما يُشغل بال شوقي أفندي الروضة المباركة لحضرة بهاء الله في البهجة. فقد كانت مفاتيح المرقد الداخلي لا تزال في حوزة السلطات؛ أما حقُّ دخول الأقسام الأخرى من المقام فممنوح للبهائيين والناقضين على السواء؛ وبقي الحارس البهائي يعتني بها كما كان من قبل، وكل قرار اتُّخذ بدا بحكم المعلَّق. لم يعرف شوقي أفندي أبدًا طعمًا للراحة إلا بعد أن نجح في استعادة حق الوصاية على المرقد المقدس وتسلُّم مفاتيحه بيده وذلك بفضل احتجاجاته أمام السلطات مدعومة بضغوط شديدة متواصلة من قبل البهائيين في أنحاء العالم. في 7 فبراير/ شباط 1923 كتب إلى تيودور بول يقول: ‘كان لي حديث مطوَّل مع العقيد سايمز وشرحتُ له بالكامل وضع الشؤون البهائية بالضبط، وأن الجامعة البهائية بأسرها ترفع صوتها الواضح المُجلجِل بتصميم لا ينثني في تمسّكها بألواح وصايا حضرة عبد البهاء. هذا وقد أرسل العقيد مؤخرًا رسالة إلى ميرزا محمد علي يطلب منه دفع مبلغ (108) جنيهات تسديدًا لنفقات حراسة الشرطة [للمرقد المقدس] مبيِّنًا بأنه كونه المعتدي يتوجب عليه دفع النفقات، إلا أن محمد علي لم يستجب لطلبه حتى الآن. أنتظرُ تطورات المستقبل بقلق بالغ.’
وفي اليوم التالي استلم شوقي أفندي برقية من ابن خالته في القدس يقول فيها:
إلى صاحب المقام الرفيع حضرة شوقي أفندي رباني – حيفا
وصلت الرسالة. اتُّخِذت خطوات فورية. القرار النهائي للمندوب السامي في صالحنا. أصبح المفتاح ملكك.
إن الرسالة المذكورة آنفًا كانت من السكرتير العام للإدارة الفلسطينية السير غيلبرت كليتون[31] إلى المندوب السامي البريطاني. وكان شوقي أفندي سبق وأخبر تيودور بول في رسالة أخرى بأن علاقة متينة تربطه بحاكم حيفا العقيد ستيوارت سايمز[32]، وأنه سبق وأن قابل السير غيلبرت أيضًا. إلى هذه الاتصالات دون شك يرجع الفضل في إصدار السلطات قرارها لصالح ولي أمر الله. وهكذا أعيد المفتاح رسميًّا إلى الحارس البهائي الشرعي القائم على رعاية المرقد المبارك بعد أن انتُزِع منه عنوة قبل أكثر من سنة.
ومع أن سلامة قِبْلَة أهل البهاء في العالم قد ضُمِنت الآن مرّة وإلى أبد الدهر، إلا أن البيت الذي سكنه حضرة بهاء الله في بغداد كان لا يزال بحوزة الشيعة أعداء الأمر الإلهي، واستمر كذلك حتى وقتنا الحاضر، ومعركة استعادة وصايته البهائية ظلت مصدر قلق وجهد دؤوب بذله شوقي أفندي طيلة سنوات عدة.
كلما أراد المرء أن يدخل في تفاصيل أي فترة محدّدة من حياة ولي الأمر يجد نفسه مدفوعًا إلى القول: ‘إنها الفترة الأسوأ’. لقد كانت ولايته بأكملها مشحونة جدًا بالتوتُّر والمشاكل والضغوط التي يصعب تحمّلها. إلا أن هناك نمطًا يُتّبع، وهناك أمور هامة[33] بلغت درجات من الارتفاع والهبوط، فنمط السنوات 1922، 1923، 1924، وبقدْر ما يتعلق الأمر بحياته الشخصية بالذات، كان هذا النمط يَظهر على شكل محاولة بطولية للإمساك بزمام هذا اللوثيان[34] – أمر الله – الذي أُمِر بقيادته. إلا أنه مرة بعد أخرى كان هذا اللوثيان يرميه عن ظهره بعيدًا فتمزِّقه آلام الشك باستحقاقه أن يكون خليفة حضرة عبد البهاء، ويدخل في صراع مع نفسه، شأنه شأن العديد من الأنبياء والأصفياء المختارين من قبله. في أعماق نفسه كان يحاور قَدَره محتجًّا على قسمته مناشدًا ربّه أن يفرّج كربه – ولكن دون طائل. فلقد أمسكتْ به بإحكام خيوط شبكة ألواح وصايا المولى الجبارة. كثيرًا ما كان يلمّح إلى ذلك في رسائله بقوله: ‘إن العاصفة والإجهاد الذي هزّ حياتي منذ صعود حضرة عبد البهاء…’ ‘من ناحيتي، وأنا أنظر إلى الوراء… إلى الظروف التعيسة من اعتلال الصحة والإنهاك الجسدي الذي رافقني في بداية سنوات عملي في خدمة أمر الله، قليلاً ما أشعر بالرضا، وقد يغلب عليّ القنوط والاكتئاب لولا الدعم الذي أستمدّه حينما أتذكّر ذلك المَثل الذي يُلهب حماسي في شواهد الجهود المضنية المتواصلة التي بذلها شركائي العاملون في أنحاء العالم خلال هاتيْن السنتيْن المرهِقتيْن في خدمة أمر الله.’ وفي رسالة أخرى كتب يقول: ‘… بنظرة إلى الوراء، إلى الأيام الكئيبة في عزلتي، ومرارة الشعور بالغمّ والقلق… بمقدوري أن أتخيّل تمامًا درجة الصعوبة، لا بل مقدار الحزن والبلاء الذي هزّ العقل والروح لدى كل خادم محبّ مخلص للمحبوب خلال تلك الأشهر الطويلة التي اتّسمت بالترقُّب والصمت المؤلم…’
إن كون حالته هذه، وما اعتبره من ناحيته عجزًا في النهوض بمهامّ المقام الذي وضعه فيه المولى بصعوده، قد آلمه أكثر من أي شيء آخر لسنواتٍ عِدّة، نجده قد انعكس في مقتطفات في بعض ما جاء في رسائله. ففي أواخر شهر سبتمبر/ أيلول 1924 كتب يقول: ‘إنني جِدُّ حزين بسبب الأثر المزعج الذي سبّبه انسحابي المتكرر من ميدان الخدمة مرغَمًا… إن غيابي الذي طال، وانقطاعي كليًا عن العمل، يجب ألا يُعزى فقط، بأي حال من الأحوال، إلى مظاهر خارجية معيّنة من قبيل عدم التوافق والانسجام، أو الاستياء وعدم الوفاء – كيفما كان تأثيرها معيقًا لاستمرار عملي – بل أيضًا إلى عدم استحقاقي، وإلى نقائصي وضعفي.’ إن مهمته الأصعب كانت منذ البداية في تقبُّل نفسه [في الوضع الجديد كوليّ لأمر الله].
في بداية صيف 1923 غادر شوقي أفندي حيفا مرة أخرى إلى سويسرا طلبًا للسلوان واستعادة بعض صحته في عزلة جبالها الشاهقة. كانت رحلته هذه انقطاعًا تامًا آخرَ، على عكس ما كانت عليه رحلاته في سنوات لاحقة، والتي كان فيها على اتصال دائم بمجريات أعمال الأمر الإلهي بواسطة رسائله وبرقياته. كانت رحلته هذه هروبًا إلى البراري، وبحثًا في أعماق روحه، وتواصلاً مع نفسه ومع قَدَرِه ملتمسًا القوة والعزم حتى يعود إلى القيام بواجبات منصبه الرفيع. عاد شوقي أفندي إلى حيفا في نوفمبر/ تشرين الثاني 1923، وفي الرابع عشر منه كتب إلى أحباء أمريكا رسالة يُعْلمهم فيها بعودته من غيابه ‘الاضطراري’، تضمّنت رسالته جملة تعطي لمحة عمّا كان يدور في خلده في تلك الفترة قائلاً: ‘إن الحقائق الرائعة الاستثنائية التي كشفتها ألواح وصايا المحبوب، المُذهلة للغاية في كل جوانبها، والقوية الواضحة في أوامرها، قد تحدّت جهابذة العقول وحيّرتها…’ فهل بمقدور أحد أن يشكّ أنها حيّرت عقله أيضًا؟ بالتواضع الكبير الذي يسم طبيعته من ناحية، وبإيمانه الراسخ وثقته التامة بالمولى التي اتصفت بها شخصيته بكل قوة من ناحية أخرى، لا بد لشوقي أفندي حقًا أن كرّس الكثير من فكره في التأمُّل بمضامين تلك الوصايا وبما يجب أن يكون عليه دوره الآن وقد عاد ‘بعد صمتٍ طويل مُطبِق’ ليتولّى ثانية ‘مهامّ عملي في خدمة أمر حضرة بهاء الله.’
في هذه المرة حرص ولي أمر الله أن تكون عودته قبل إحياء الذكرى السنوية الثانية لصعود حضرة عبد البهاء. أما مدى عمق ما حرّكته هذه المناسبة في أعماق نفسه، فنجده انعكس في البرقيات التي أرسلها إلى أقطار مختلفة في ذلك الوقت مشيرًا فيها إلى ‘ذكريات مؤثرة’ ملأى بـ’الحزن والأسى والألم’ تستحضرها هذه الذكرى السنوية. فقد أبرق إلى الأحباء في إيران قائلاً: ‘لعلَّ أشدَّ الساعات حُلكة في هذا الليل المشحون بالأحزان تكون مقدِّمةً لفجر يوم جديد لإيران الحبيبة.’ وفي رسائله العديدة خلال عدة سنوات كان حضرته يؤكد على هذه الذكرى وما يتعلق بها، إذ كانت تثير بداخله دائمًا ذكريات مأساوية عميقة. إنني أتذكر ما كان يقوله لي شوقي أفندي عدة مرات بعد الذكرى السنوية الخامسة والثلاثين لصعود حضرة عبد البهاء قوله: ‘هل تعلمين أنّي أحمل هذا العبء ستًا وثلاثين سنة؟ أنا تَعِبٌ، تَعِب!’
وبمرور عام 1923 يمكن القول بأن ولي أمر الله قد رفّ بجناحيه خارج خادرة الشباب كائنًا جديدًا. قد لا ينبسط الجناحان تمامًا في البداية، إلا أن الرفرفة تُكسب الجناحين باطّراد مدًّا وثقة على مرّ السنين إلى أن يُلقيا حقًا بظلهما على الجنس البشري بأكمله في النهاية. وفي كتاباته المبكرة يرى المرء كيف تكشّفت براعته في الأسلوب والفكر والمقدرة. دعونا نلتقط عشوائيًا مقتطفات وحقائق معينة لنرى مدى وضوحها في تأكيد هذا التطوّر الذي كان يحصل. ففي بادئ ذي بدء توجّه إلى الأحباء بتلك الثقة التي لا تُضاهى، وبلمسة من حسن الظن بهم مَلَكت على قلوب الجميع، وسألهم أن يَدْعُوا لأجله لعله بتعاونهم يتمكن من إحراز ‘النصر العاجل لأمر الله’ في كل بقعة. أسئلته متحدّية، وأفكاره ثاقبة قاطعة: ‘هل سيجرفنا طوفان الأفكار الجوفاء المتضاربة، أم نحن الذين سنقف على الصخرة الأبدية لتعليمات الحق السماوية سالمين غانمين؟’ ‘… هل نحن الذين نوقن بأن ما يصيبنا هو ما قدَّره الله لنا وليس عاقبة ترددنا وإهمالنا؟’ منذ عام 1923 وشوقي أفندي ينظر إلى العالم والأمر الإلهي على أنهما في الحقيقة شيئان مختلفان، لا ينبغي أن نخلطهما معًا في عقولنا في كتلة واحدة من العواطف والأحاسيس كيفما اتُّفِق. يؤكد لنا ولي الأمر أن إرادة الرحمن هي ‘على النقيض من الرؤى الضبابية والعقائد العاجزة والنظريات الفجّة والأوهام السخيفة والأفكار المنمّقة لعصر عابر مضطرب.’
في رسائله خلال السنوات الأولى لولايته ذكر شوقي أفندي مرارًا وتكرارًا الحاجة إلى أن ‘انهضوا لتقدِّموا لهذا العالم المعذّب الغافل نصيبَكم من الخدمة والعمل.’ وفي رسالة لأحد الأحباء نجده يكشف عن حقيقة بالغة الأهمية فيما يجب تمييزه: ‘لقد حان الوقت للأحباء… أن يفكروا كيف يجب أن يُخدَم أمر الله لا بما يمكن أن يبذلوه في خدمته.’ وعليه، يجدر بنا أن نواصل التفكير بكل عمق، وحتى يومنا هذا، في هذه الكلمات ونسأل أنفسنا: ما هي متطلّبات الأمر المبارك، إلى أين يتّجه، وما هي أهدافه؟
منذ السنوات الأولى لولايته أظهر شوقي أفندي اهتمامه بمنطقة المحيط الهادئ وإدراكه لتطوُّر الأمر المبارك في المستقبل في تلك الأرجاء. ففي يناير/ كانون الثاني 1923 كتب إلى جزر المحيط الهادئ بأسلوب عاطفي يشعّ بهجة وسرورًا بأن ‘أسماء جُزُركم بحدّ ذاتها تثير فينا أحاسيس سامية من الأمل والإعجاب لن تمحوها أبدا تقلُّبات الحياة أو يُضعفها مطلقًا مرور الزمان.’ وفي يناير/ كانون الثاني 1924 وجّه رسالة إلى ‘أحباب عبد البهاء الأعزاء في أنحاء أستراليا، نيوزيلندا، تسمانيا وجزر المحيط الهادئ المجاورة؛ أيها الأحباء المبشَّرين بملكوت حضرة بهاء الله! إن نسيمًا منعِشًا معطَّرًا بأريج محبّتكم وإخلاصكم لأمرنا المحبوب يتنسّم مرة أخرى من شواطئكم الجنوبية البعيدة على الأرض الأقدس ليذكّرنا دومًا بروح الخدمة التي لا تُخمد والتضحية التي أشعلها صعود المولى المحبوب في هذه الأيام في كل ركن من أركان العالم تقريبًا.’
وفي ديسمبر/ كانون الأول 1923 كتب شوقي أفندي إلى أحد المحافل الروحانية في أمريكا بكلمات تبدو تقريبًا كمن يناجي روحه: ‘إن حكمة الله الخفيَّة شاءت علينا، نحن المختارين، حَمَلة أعظم رسالة في العالم إلى إنسانية معذبة، أن نكدح ونواصل عملنا تحت أكثر أوضاع الحياة إنهاكًا، وفي وسط بيئة معيقة، وفي وجه امتحانات غير مسبوقة، ومن دون وسائل ولا نفوذ أو دعم، فنحرز بخطوات واثقة مطّردة فتحًا وانبعاثًا لقلوب البشر من جديد.’ فالعديد من هذه الرسائل في ذلك الوقت المُبْكر الموجهة إلى مختلف المحافل الروحانية كانت على هذه الشاكلة. لم تكن خُطَبًا ومقالاتٍ بقدْر ما كانت صوته المسموع عما في أعماق داخله من اعتبارات. وفي الشهر نفسه كتب يقول: ‘… حقًا إن تقدُّم عملنا – إذا ما قورن بنهضة مؤثرة وتطوّر عظيم لقضية دنيوية – كان مؤلمًا وبطيئًا، إلا أننا بيقين راسخ لا يعتريه أدنى شك نؤمن بأن “الانقلاب” الروحاني العظيم الذي يعمل “الله القدير” على إنجازه من خلالنا في قلوب البشر مقدّر له أن يحقِّق، بشكل ثابت مُطّرَد أكيد، ذلك التجديد الكامل للبشرية جمعاء.’ ‘مهما تكن بلايانا كبيرة، ومهما كانت محن الحياة مفاجئة، فلنتذكر حياة مولانا المحبوب التي بسطها أمامنا، مستلهمين شاكرين، ونحمل أعباء مسؤولياتنا باستقامة وجَلَد عسى أن نحظى في العالم الآتي، ونحن في محضر معزّينا المحبوب، بسلوته الحقيقية ونُجزَى على ما عملنا’، ‘مهما يصيبنا من أمر، ومهما بدت لنا توقّعات المستقبل قاتمة، فإذا ما قمنا بدورنا، فلْنطمئن إلى أنَّ يدَ الغيب الإلهية تعمل عملها في تشكيل وصياغة أحداث العالم وظروفه وتمهّد الطريق أمام تحقيق أهدافنا وأمانينا للجنس البشري في النهاية.’ ‘إن واجبنا في المقام الأول أن نخلق بأقولنا وأفعالنا، وبسلوكنا والقدوة التي نقدّمها، بيئة ملائمة لنمو البذور التي نثرتها بغزارة وسخاء كلمات حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء على مدى ثمانين سنة تقريبًا، حتى تنبُتَ وتعطي ثمارًا بمقدورها وحدها أن تضمن السلام والازدهار لهذا العالم الذي أصابته الحيرة والذهول.’ ‘… دعونا ننهض لتبليغ أمر الله بالاستقامة والإيمان الراسخ والفهم والنشاط الفاعل… فليكن هذا هو الشغَف المهيمن على حياتنا. دعونا ننتشر في أقاصي أطراف الأرض مضحّين بمنافعنا الشخصية وراحتنا، بمباهجنا ورغباتنا، ونعاشر جميع الملل والأقوام، وأن نألف آدابهم وعاداتهم وتقاليدهم وأفكارهم.’ يبدو لحن بعض تلك الرسائل مشابهًا لرسائله العظيمة خلال تنفيذ ‘الخطة الإلهية’ [لحضرة عبد البهاء]، إلا أنها كُتبت في شتاء عام 1923–1924. لقد أخذ على عاتقه مهمة رؤية أمر الله يبرز في ‘اعتراف عالمي في وضُح النهار’، وهو تعبير استعمله في تلك السنة تحديدًا.
منذ طفولته نشأ شوقي أفندي وترعرع في حضن التعاليم الإلهية وتنعّم في شبابه بالاستماع إلى الكثير والكثير من كلمات المولى وقراءتها وكتابتها. بهذا الذُّخْر وجّه ولي الأمر أحبّاء الله في الشرق والغرب بحزم في مسيرتهم المقدّرة لهم. وفي واحدة من أُولَى رسائله إلى الأحباء في أمريكا مؤرخة في مارس/ آذار 1922 بيّن أن ‘أحباء الله في العالم طُرًّا ممنوعون تمامًا من التدخُّل في الشؤون السياسية.’ وفي رسائله الأولى استعمل كلمة ‘مهاجر’. وكان في عام 1925 يحتفظ بقائمة بالمراكز الأمرية في أنحاء العالم!
رغم ما وصفه بأنه ‘الدرب الشائك لواجباتي الشاقّة’، ورغم ‘عبء المسؤولية الثقيل المرهِق والرعاية التي قُدِّرت لي وتشرفت بحملها’، فقد كان شوقي أفندي لامعًا في تفهّمه وواضحًا في تعبيره عن احتياجات الأمر المبارك والمهامّ التي تواجه الأحباء. وبالمِثْل كان واضحًا في تحديد ماهية العلاقة التي يرغب للبهائيين أن يكوّنوها معه، وبأي كيفية عليهم أن ينظروا إليه. في 6 فبراير/ شباط 1922 كتب إلى أحد الأحباء الإيرانيين يقول: ‘كل رجائي أن أُعرَف لدى الأحباء بأنني واحد، وواحد فقط، من العاملين الكُثْر في ‘كرم الله’، وأن يُدركوا هذا تمامًا مهما كان مدى ما يمكن أن أصله من تقدُّم في المستقبل، … ومهما يكن ما يصيبني، فإنني على ثقة مطلقة بحبّ حضرته (حضرة عبد البهاء) الرائع لي. علّني لا أكون أبدًا، بأفعالي، بأفكاري، أو بأقوالي، عائقًا في استمرار تدفق فيوضات روحه الداعمة التي أحتاجُها حقًا في مواجهة مسؤولياتي التي ألقاها مولاي على كاهلي الغضِّ…’ وفي 5 مارس/ آذار ذيّل رسالة أرسلها إلى الأحباء الأمريكيين بقوله: ‘راجيًا أن أعبّر أيضًا عن رغبتي القلبية الخالصة في أن ينظر إليّ أحباء الله في كل مكان بنظرة لا تتعدى كوني الأخ الحقيقي لهم، المتّحد معهم في عبوديتنا المشتركة ‘لعتبات المولى المقدسة’، وأن يشيروا إليّ دائمًا في كل رسائلهم وكلامهم بـ ”شوقي أفندي” فلا أريد أن أُعرَف بأي اسم آخر سوى ما اعتاد المولى المحبوب أن ينطق به، اسم من بين جميع الألقاب الأخرى هو الباعث الأكبر على نموّي وتطوّري الروحاني.’ وفي عام 1924 أبرق إلى الأحباء في الهند بكل إيجاز ووضوح قوله: ‘يجب ألاّ يُحتَفَل بذكرى مولدي.’ وفي عام 1930 كتب سكرتيره بالنيابة عنه يقول: ‘بخصوص مقام شوقي أفندي: ليس له بالتأكيد سوى ما أسبغه عليه المولى في وصيته، تلك الوصية التي تُبيّن أيضًا مقامه. من أساء تفسير جزء منها فكأنما أساء تفسيرها كاملة.’ عندما كتب شوقي أفندي رسالته العامة المعروفة بـ ”دورة بهاء الله” أوضح مرة وإلى الأبد مقامه الخاص، فاصلاً نفسه بشكل قاطع عن الامتيازات والمقام الذي أسبغه حضرة بهاء الله على حضرة عبد البهاء: ‘على ضوء هذه الحقيقة؛ أن تدعو لولي أمر الله، وتخاطبه بالسيد أو المولى، وتبجّله بلقب صاحب القداسة، والتماس بركاته، والاحتفال بذكرى يوم مولده، أو إحياء ذكرى أي حدَثٍ اقترن بحياته، كل ذلك يعادل انحرافًا عن تلك الحقائق الأساسية المودعة في ديننا العزيز.’ وكتب سكرتيره بالنيابة عنه في عام 1945: ‘… لم يذهب في نَهْيِه بعيدًا إلى درجة يمنع فيها الأحباء من اقتناء صُوَره، ولكنّ حضرته كان يفضّل أن يكون تركيزهمُ على المولى المحبوب.’
[1] Cyclometry.
[2] Grand.
[3] الذكور من سلالة حضرة بهاء الله.
[4] أقرباء حضرة الباب.
[5] ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.
[6] ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.
[7] Roy Wilhelm.
[8] Fernald.
[9] Dyer.
[10] Watson.
[11] True.
[12] Parsons.
[13] Reality.
[14] Emogene Hoagg.
[15] Ethel Rosenberg.
[16] Mountfort Mills.
[17] Mason Remey.
[18] Laura.
[19] Hippolyte Dreyfus-Barney.
[20] Consul.
[21] Alice Schwarz.
[22] Corinne True.
[23] Kathrine.
[24] Reflexes.
[25] Bernese Oberland.
[26] Mr. Hauser.
[27] Jungfrau.
[28] Interlaken.
[29] Hoheweg.
[30] Norfolk.
[31] Sir Gilbert Clayton.
[32] Colonel G. Stewart Symes.
[33] Themes.
[34] Leviathan. اللوثيان هو مخلوق أسطوري ضخم ورد ذكره في التوراة.
لقد حان الوقت أن نسأل أنفسنا: أي نوع من الرجال هذا الذي كتب عن نفسه ما كتب، وما هو الانطباع الذي خلّفه في الأذهان، وكيف بدا بنظر الآخرين؟
من يوميات أحد الأحباء الأمريكيين، الذين دعاهم شوقي أفندي إلى حيفا في مارس/ آذار 1922 نقرأ الوصف التالي: ‘… ظهر شوقي أفندي وحيّاني بغاية اللطف والمودّة. لم أره منذ ثماني سنوات، وبالطبع تملّكتني الدهشة لِمَا طرأ عليه من تغيير وتطوّر؛ فبدل الشاب الصغير الذي عرفتُه، أراه الآن رجلاً في مُقتَبل عمره، إلا أنه في اتِّزانه وعمق تفكيره وروحه رجل قد نضج قبل أوانه…’ أعطاه شوقي أفندي نسخة مطبوعة من ألواح وصايا حضرة عبد البهاء ليقرأها، فسجّل بدوره ردّ فعله على ما فيها من نصوص كما يلي: ‘لم أقرأ أبدًا في حياتي شيئًا منحني ذاك السرور والإلهام في قلبي بقدر ما وهبَتْني إياه هذه الوثيقة المقدسة. لقد… منحتني اتجاهًا ثابتًا أتوجَّهَ إليه، ومركزًا دائمًا علينا جميعًا أن نطوف حوله ما دمنا في هذه الدنيا… وإنه ملك الملوك الذي يحكم العالم ويحمي السلاطين والأشراف وعامة الناس على السواء.’ ويسترسل في وصف انطباعاته عن شوقي أفندي بقوله: ‘ولما كنتُ معتادًا أن أجلس إلى مائدة الطعام وأنظر إلى شوقي أفندي، ذُهلتُ لشدة شبهه بالمولى؛ في شكل رأسه ومُحيّاه، في كتفيه، في مِشيته وفي حركاته بشكل عام. عندها شعرتُ بعبءِ المسؤوليات التي أُلْقيت على كاهل ذلك الشاب الفتيّ. بدا أمرًا مرهقًا جدًا أن كان عليه، وهو الذي بالكاد بدأ مسيرة حياته – إذا جاز لنا التعبير من منظور بشري دنيوي – أن يحمل هذه المسؤولية العظيمة التي أنيطت به، وهي حملٌ سوف يستنزف قواه وينأى بنفسه جانبًا عن ميوله الذاتية، فيمحو من حياته الحرية والبهجة التي تتعلق بجانبه البشري، ولو أنها عرضية زائلة، إلا أن لكل منا كبشر حاجات معينة فيها.’
وسجّل زائر هندي بهائي انطباعه عن شوقي أفندي عام 1929 بهذه الكلمات: ‘يجدر بنا أن نفهم شوقي أفندي حتى نستطيع مساعدته في إنجاز المهمة الجسيمة التي ائتَمَننا عليها؛ إنه شخص هادئ جدًا إلا أنه نابض بالحياة، ساكن جدًا ولكنه مفعم بالحيوية.’ إنه وصفٌ يكاد يكون لامعًا لجانب واحد من شخصية ولي أمر الله. أما الانطباع الذي ولّده حضرته لدى أول بهائية أمريكية دُعيت إلى حيفا بعد الحرب العالمية الثانية في عام 1947، فإنه يُظهِر لنا جوانب أخرى عن طبيعة حضرته بقولها: ‘تَشكَّلَ أول انطباع لديّ عن حضرته من خلال ابتسامته الودودة ومصافحته الدافئة ممّا جعلني أشعر فورًا بالارتياح… وخلال تلك المقابلات ازداد وعْيي وإدراكي لمناقبه الرفيعة العديدة – نبالته، وقاره، اتّقاده وحماسته، – قدرته على طي مختلف المراحل بين المزاج المتألّق والغضب الشديد. ولكنه دائمًا وأبدًا، يضع الأمر المبارك في مقدِّمة كل شيء… أشعرني شوقي أفندي بأسلوبه العملي والمنطقي بأنني ضيفة مرحَّبٌ بها ومساعِدة يحتاجها في آن معًا، وأوجز لي بعض واجباتي التي بدأتُها في اليوم التالي مباشرة! كانت نصيحته لي في تلك الزيارة الأولى أن أقوم بكلّ مهامّي بالنيابة عنه على أكمل وجه؛ فقال بأنه يريدني أن أتبع تعليماته تمامًا، وإذا ما أخفقتُ في شيء أو واجهتني صعوبات فيجب أن أرفع له تقريرًا بها بكل دقة، وعندها سيضع لي خطة عمل جديدة… بالنسبة للبهائيين العاملين في المركز العالمي، وخلال هذه الفترة على الأقل، لم يكن هناك يوم عطلة مخصّص، عندها أدرك الواحد منا أن كل لحظة هي ملْكٌ للأمر المبارك…’ ثم تمضي وتخبرنا عن تلك الأمسيات عندما كان شوقي أفندي يشاركنا على طاولة العشاء، بتلك الخطط الخاصة وبالبرقيات والرسائل التي كان يرسلها للخارج، وأحيانًا بوثائق ثمينة يحتفظ بها: ‘… نجده يُخرج من جيوبه رسائل وخطابات بوجه متلألئ بالإثارة والخطط الجديدة، وكثيرًا ما كان يدفع بطبق عشائه من أمامه دون أن يلمسه، ويطلب ورقة وقلمَ رصاص ويثيرنا جميعًا بأفكاره الجديدة وآماله التي يتطلع أن يحققها البهائيون… كان ولي الأمر المحبوب لا يحبّ أبدًا أن تُلتَقط له صورة فوتوغرافية، لذا فإن أي صورة له مُتداوَلة لا تعكس صورته الحقيقية. في الوهلة الأولى تتدفق على ملامحه بشكل سريع عواطف وأحاسيس بحيث يحتاج المرء إلى التقاط سلسلة من الصور لمتابعة انفعالاته الكثيرة. إنه لشيء سارٌّ أن تراه وتسمعه يضحك… كان يبدو متلألئًا كالنجم عندما يُكلَّل ختامُ خطة ما بالنجاح. حِسّه بالفكاهة شيء مبهِج! كان كجبل شاهقٍ قويٍّ راسخٍ في مكانه على الدوام، ولكنه لا يُقهر أبدًا، وتكثر فيه المرتفعات والمنخفضات الفجائية غير المتوقعة… كان دقيقًا إلى أقصى حد، وعلَّمَنا جميعًا إحساسًا جديدًا بالكمال والانتباه إلى التفاصيل… كان على اطّلاع تام بمصروفات جميع الصناديق الأمرية… شديد الاهتمام والحماس بالإحصاءات البهائية… ولم يكن باستطاعتنا ابدًا فهم وإدراك كيفية تمكّنه من إحكام قبضته على زمام جميع الأمور المتعلّقة بالنشاطات الأمرية بدءًا من “مستوى القاعدة” وانتهاءً بالمركز البهائي العالمي…’
كان لزوج هذه الزائرة أيضًا شرف الخدمة في المركز العالمي مثل ما كان لها، وقد كتب إلى أحد الأحباء الأمريكيين رسالة عام 1948 معبّرًا عن انطباعه الخاص عن ولي أمر الله كإنسان: ‘من يسير ما رأيته يمكنني القول إنه ليس هناك عدد كبير من “الشرقيين” ممَّن يستطيع منهم أن يجاري شوقي أفندي في انطلاقه، ولا يسع المرء إلا أن يُعجَب باتساع أفق تفكيره وقوة شكيمته. وبالرغم من طبيعته النارية الفولاذية، إلا أنه الإنسان الأكثر محبة وتفهمًا وشفقة وتعاطفًا بين كل مَن عرفتُهم على الإطلاق. ليس له مثيل ولا نظير. كم أتمنى أن تُتاح للبهائيين الآخرين الفرصة أن يعرفوه مثل ما كان لنا هذا الامتياز أنا وغلاديس[1]. إنني في سطوري هذه، لا أكتب عن مقامه كولي للأمر لأن هذا يفوق تمامًا قدرة قلمي. كم يتوجب على جميع البهائيين أن يعملوا من أجل هذه الشخصية العظيمة! إن عِبْئَه لجسيم عظيم.’
في عام 1956 كتبت إحدى الزائرات للأرض الأقدس انطباعها عن ولي أمر الله بغاية الدقة والذكاء: ‘وجهه جميل ذو تعبير عفيف وموضوعي تمامًا، ومع ذلك فهو رقيق ومهيب في الوقت نفسه… أرى فيه عينيْن واسعتين رماديتيْن مائلتيْن إلى الزُّرْقة… أنفه يجمع بين ما كان عليه في صوره وهو صبي صغير – ولا يزال كبير الشبَهِ به! – وبأنف المولى ذي التقوّس الخفيف. يبدو سنّه لا يتجاوز الثامنة والأربعين مع أنه في الستين، له شارب صغير مشذّب بعناية فيه خيوط من الشيب. فمه ينمّ عن الحزم والطهارة، أسنانه بيضاء جميلة، وابتسامته هِبةٌ غالية… هو في غاية البساطة والصراحة. لا يطلب لنفسه كل هذه المراعاة والاحترام، إلا أنّ المرء بمجرد أن يكون في محضره يشعر أنه في منتهى “الضعف والوضاعة”. ولي أمر الله دائمًا وأبدًا دَمِثُ الخلق، ولا يفقد صبره أمام أسئلة من يفتقرون إلى النُضج. ومع ذلك لم يكن متحفِّظًا في أن يدع الناس يدركون ما هي الأسئلة الهامة وغير الهامة، وتلك التي سوف يجيب عنها “بيت العدل العالمي” فيما بعد…’ وأضافت بأن شوقي أفندي كان يترأس الطاولة ‘بغاية البساطة ولكن بطلعة مَلَكية – حيث لا يمكن إلا لملك عظيم أن يكون بسيطًا! … شعرتُ وكأن حضرته بمثابة قاطرة جبارة يسحب خلفه سلسلة طويلة وطويلة من عربات مُثقلة – ليس بحمل لا حِراكَ فيه تمامًا – بل بحملٍ يكاد يخلو من الحياة في بعض الأحيان! هذا الحِمْل هم الأحباء الذين يتحتّم دفعهم أو جرّهم أو مداراتهم أو مدحهم في كل لحظة ليدخلوا ميدان العمل. كان ولي الأمر المحبوب ينظر بعيدًا فيرى الاحتياجات وضِيقَ الوقت والعقبات والمشاكل. حقًا إنه يقطُرُنا جميعًا خلف نور هدايته القوي. وكالقاطرة أيضًا – بمقدوره أن يمضي قُدُمًا في خط مستقيم، سريعًا أو بطيئًا، ولكنه “لا يستطيع” أن يحيد عن مساره، بل “يتحتّم عليه” أن يسير على خط الهداية الإلهية المرسوم له. إنه يمنح المرء إحساسًا بأنه أداة كاملة – موضوعي جدًا، ولكنه شديد الإحساس بكل فكرة، أو بما يدور في الأجواء. لا يمكن التلاعب بأفكاره. لا يتأثر في حكمه أبدًا بالصداقة، أو بما يفضِّله، أو بالثروة، وبما يمكن أن يجرح المشاعر أم لا. هو قطعًا فوق كل هذا… كما أن ولي الأمر قد وضّح تمامًا أن الوقت الآن ليس لتناول الجوانب الباطنية للتعاليم الإلهية بإسهاب – بل بالعكس، علينا أن نكون نشيطين فعّالين وإيجابيين ونحقق أهداف خطة السنوات العشر بالكامل… يستمر في كلامه ثم يعلّق، وبعدها يصل إلى نهاية حديثه. وفجأة نراه يُمسك بمِنديله ويطويه بأناقة ثم ينهض عن كرسيّه… من المحال أن تصف أو تنقل، ولو على الأقل، شيئًا من ضياء ولي أمر الله وجمال طلعته. فلو ابتسم لك – أو نظر إليك بتلك النظرة الخاطفة الثاقبة – تجدها نظرة مثيرة للشعور ومحرِّكة للروح… تدور أحاديثه دومًا حول الأمر المبارك وتبقى حصريًا في موضوع إنجاز أهداف خطة السنوات العشر. يُظهر ابتهاجه بالأخبار الجيدة، ويغرق في حزن عميق عندما تكون هناك أخبار مَقيتة أو سيئة… ومع أنه يحب عبارات التقدير والإعجاب فيما يتعلق بالتعبير عن جمال الحدائق والمقامات المقدسة وبتصاميمها، إلا أن ولي الأمر بدا لي أنه ينأى بنفسه عن مديح شخصي أو توجيه الشكر له على أي شيء… حاولنا عبثًا أن نطبع في ذاكرتنا، وللأبد، صورةً عن طلعته الحبيبة، وألا تفوتنا ولو واحدة من تجليات تعابيره التي تكون دائمًا موضوعية مفاجئة متنوعة ومدهشة… يا للحسرة، إن “الطبيعة المتألِّقة” لشوقي أفندي غالبًا ما كانت تحجبها وتَغُمُّها تصرفات الأحباء غير الحكيمة أو عصيانهم الفاضح أو تجاهلهم لتعليماته. يتساءل المرء بمشاعر مهتاجة؛ مَن ذا الذي لم يخيّبْ أملَ حضرته بطريقة أو بأخرى!’
اقتطفتُ الفقرات السابقة لأنها تبدو لي وصفًا دقيقًا لولي الأمر كما رأيته أنا أيضًا. ولأنني أنا شخصيًا لا أتذكّر حضرة عبد البهاء، فلا أستطيع الجزم في موضوع الشبَه. إلا أن الكثير من الأحباء المسنّين ذكروا بأنهم رأوا فيه ذلك الشبه بكلّ وضوح. ومِن يومياتي الخاصة سوف أختار الآن انطباعات متنوعة عن وليِّ أمر الله:
‘شوقي أفندي بطبعه عامل وبانٍ ومُنظِّم، ينفر من الأفكار النظرية غير الواقعية! … ما من أحد، ممن يراقب شوقي أفندي، لديه شكّ ولو لحظة أنه غير مؤهل تأهيلاً كاملاً لهذه المرحلة من تاريخ الأمر الالهي، وأنا على يقين بأنه خُلِق فقط لها، وليعمل ما هو قائم عليه تمامًا. إنه أكثر شخص استثنائي ذي اتجاه واحد رأيته على الإطلاق. حادٌّ في مجمل طبيعته وفي ذوقه وفي ما يرغب وما لا يرغب. إنه أشبه بشيء ينطلق بسرعة عالية باتجاه واحد، وهو ما يمنحه قوة دافعة لا حدود لها تقريبًا. إصراره لا يُقاوَم، ولا تبديد لقواه. هو يريد شيئًا واحدًا فقط، يريده بحماس وقّاد، وحالاً، وكاملاً، وبإتقان. ففي بناء مشرق الأذكار – أو في بناء مجموعة من الدرجات هنا في الحديقة، نجده ينطلق نحوه كالإعصار ولا يغادره أبدًا حتى يُنجَز. يقود ويدفع إلى الأمام بسرعة بالغة، وهو أمر استثنائي. يحب المسطّحات الخضراء والممرات الحمراء والبيضاء. يحب زهرة الجيرانْيوم الحمراء وأشجار السرو وبالطبع أشياء أخرى قليلة – ولكن أعني بذلك أنه لا يحب أو يرغب في كل شجرة وكل زهرة. لا، بل تلك القِلّة فقط لتوضع في ذلك المكان المحدد تمامًا. ينطبق هذا أيضًا على الأطعمة، وعلى الألوان والملابس –
هناك القليل مما يحبّه بشغف ولا يريد غيره ولا يَمَلُّه على الإطلاق! إن إصراره المحصور في حيّز ضيّق لأمر واحد فقط أو اثنين هو تقريبًا ما مكّنه من بناء أساس كهذا لأمر الله في مدى عشرين سنةً. وهو أمر ليس بمقدور إنسان أشمل ذوقًا ومزاجًا أن يحققه على الإطلاق!’
‘إن ولي الأمر حساس أكثر من جهاز رصد الزلازل. هناك شيء ما في داخله، أعمق بكثير من الذكاء البشري أو أي معلومات ظاهرية قد تكون لديه. يسجل حالة الفرد، ويسجل حتى الأشياء التي قد لا يعيها الفرد عن نفسه بعد. أعتقد من الواجب علينا أن نتخذه دليلاً لنا؛ فإذا ما وجد خطأً يكاد لا يكون ظاهرًا في نهج وسلوك يخصّنا، عندها يصبح لزامًا علينا أن نبحث عنه في دخائلنا حتى نجده.’ يجدر بنا أن نتساءل ألا ينبغي أن يكون هذا هو دليلنا على الدوام، وإذا ما قرأنا كتاباته بعناية، ألا يمكننا أن نستشرف فيها شواهد على نقائصنا الفردية والقومية والعرقية، فنأخذ حذرنا ونسترشد بارشاده تبعًا لذلك. لقد كتبت بأن شوقي أفندي ‘رنينه صادق سليم كرنين الشوكة الرنّانة للتعاليم المباركة تمامًا…’ ‘إنه ولي الأمر، وعلاقته بالله هي بالطبع علاقة خفيّة غامضة. هو قادر على إدراك أيّ سر خفي، ويستطيع أن يفسّر أكثر الفقرات غموضًا في “الدين”، ويمكنه أن يكتب في المسائل المعروفة بعمق طبيعتها الغامضة –
تحرِّكُهُ في كل ذلك المشيئة الإلهية.’
‘حضرة بهاء الله هو المظهر الإلهي؛ وقد فعل كل شيء، ونطق بكل ما هو ضروري ويحتاجه العالم في هذا اليوم. كان المولى تجسيدًا لقوى حضرة بهاء الله وتعاليمه، لقد أضاف مكوِّنًا جديدًا في عالم الخدمة بمعناه الحقيقي، هو الصلاح، ومنحنا حياة دينية خالدة بأسمى أشكالها. بعد ذلك كانت هناك حاجة لشيء آخر؛ كان هنا أن… سقط الكثير من النفوس، بمن فيهم أفراد من عائلة المولى وبعض البهائيين في شَرَك منظورهم الشخصي للأمور. أرادوا “عبد البهاء” ثانيًا – سلسلة متعاقبة من أولياء الأمر لهم طابع بابويّ، إلا أن الله تعالى كانت له مشيئة أخرى على ما يبدو. فالانطباع الأقوى الذي أحمِلُه عن شوقي أفندي كان على الدوام هو الكينونة التي تتحرك في اتجاه أحادي بقوة خارقة وسرعة فائقة. فإذا كان حضرة بهاء الله قد أشرق كالشمس، وحضرة عبد البهاء قد عمل على عكس نورها كالقمر بكل لطف وعناية، فإن شوقي أفندي ظاهرة مختلفة تمامًا كاختلاف جسم يندفع بقوّة نحو هدفه المنشود عن شيء آخر ساكن مشعّ. أو يمكن للمرء أن يشبهه بمركّب كيميائي. فقد جمع حضرة بهاء الله كل ما نحتاجه، وقام المولى بمزج كل شيء معًا وجهّزه، ثم أضاف “الله” سبحانه وتعالى إلى هذا المركّب عنصرًا واحدًا، هو نوع من مُرسِّب عام، ضروريّ لجعل ذلك المركّب صافيًا نقيًّا ليمضي محقّقًا طبيعته – إنه ولي الأمر… لقد خُلق وتشكّل تمامًا ليفي باحتياجات الأمر المبارك – وبالتالي احتياجات الكوكب نفسه – في هذا الزمان.’
مع أن حقيقة شوقي أفندي في جوهرها ستبقى إلى الأبد لغزًا غامضًا لكل من في الوجود –
إلى أن يأتي اليوم الذي قد يختار فيه المظهرُ الإلهي الجديد، كونه الأرفع مقامًا، أن يفسّرها لنا، نحن الأقل مقامًا بكثير – مع ذلك نحن نعرف عنه الكثير ولنا الحق أن نحتفظ بذكراه بكل رقة وحنان حتى لو كان غير وافٍ بالمراد.
في تلك السنوات الأولى من ولايته، وبالرغم من حزنه وكربه، لم يكن بالإمكان أن يَخْفَى عنا تمامًا ذلك الجانب الفتيّ المفعم بالحيوية لذاك الذي ما زال في حقيقة الأمر شابًا فتيًّا للغاية. كان على الدوام إنسانًا متلهّفًا توّاقًا بفطرته – وهي صفة لازمته حتى آخر حياته – إلا أنها في تلك الأيام قد فاضت بكل شفافية في رسائله وبرقياته بمثل ما كانت عليه في أيٍّ من الاتصالات الشخصية معه.
كان التصوير الفوتوغرافي هوايته الشخصية الوحيدة؛ لقد التقط صورًا فنية رائعة لمناظر طبيعية في سويسرا وأماكن أخرى خلال تلك السنوات الأولى. ونجد نسخة عن رسالة أرسلها حضرته إلى مصوّر في بلدة صغيرة في سويسرا كُتبت عام 1924 (بالفرنسية) يخبره قائلاً: ‘أنتظر بفارغ الصبر وصول الصور التي أرسلتُها إليك… آمل أن تكون قد استلمتَها. هي عزيزة جدًا عليّ. أرجو أن تؤكد لي على هذا الموضوع فورًا ببطاقة بريدية. آمل أن تكون الصور كلها قد ظُهِّرت جيدًا… مع شكري مقدَّمًا. بكل إخلاص.’ حتى إن النسخة كانت ممهورة بتوقيعه الأنيق “شوقي” مع أنها كُتبت بخط يد شخص آخر!
إن رغبته في أن تُنجز الأمور على وجه السرعة لم تكن أقلّ ظهورًا منه في حقل البستنة. لقد عقد العزم على زراعة مسطّحات خضراء تمتدُّ أمام المقام الأعلى لحضرة الباب وفي مناطق أخرى في الممتلكات البهائية، فأبرق إلى أحد الأحباء المسنّين في باريس في شهر مايو/ أيار 1923 يسأله: ‘ماذا عن مشروعنا للمسطّحات الخضراء؟’ ولمّا لم يستلم أي ردّ أبرق بعد عشرة أيام: ‘لم تُجب عن رسالتنا، ماذا عن بذور المسطحات الخضراء؟’ وأخيرًا وصلت البذور، ولكن يبدو أن النتائج لم تكن مرضية، ذلك لأن شوقي أفندي حالما رجع إلى حيفا في فصل الخريف يبدو أنه بدأ حملة منظمة في هذا الاتجاه – رغم تأكيدات البستاني العجوز المتعصب لرأيه، الذي كان يعمل لدى حضرة عبد البهاء، على أن المسطحات الخضراء لن تنمو بنجاح في فلسطين! وفي 29 سبتمبر/ أيلول أرسل شوقي أفندي إلى ابن خالة له في مصر يقول: ‘يبدو واضحًا أن بذور الحشائش التي استعملناها لم تكن مناسبة، فهل يمكنك إرسال ثلاثين كيلوغرامًا من أجود أنواع البذور المتوفرة في مصر على أن تكون مناسبة لمناخنا وبيئتنا بالذات؟’ يبدو واضحًا أنه استلم جوابًا بعد أسبوع لم يفهمه، فأبرق له على الفور ثانية: ‘فاجأني جوابك، أرجو التوضيح بالبريد.’ ويبدو أن التوضيح قد جاء في هذه المرة مُبهمًا أيضًا كسابقه، فقرر شوقي أفندي بعد ذلك وقف التعامل مع الأقارب والأصدقاء، فكتب بنفسه ومباشرة في 18 ديسمبر/ كانون الأول إلى أربع شركات مختلفة مختصّة بالمشاتل وتجارة البذور – واحدة في فرنسا وثلاث في إنكلترا – طالبًا تزويده ببذور حشائش وبذور أزهار وأبصال وعُقَل نباتية، وأخبرهم بأنه ينتظر الردّ ‘بغاية الشوق!’ ولا بدّ أنه كان قد اتّخذ الترتيبات اللازمة لجلب بعض شجيرات الزينة إلى حيفا في ذلك الصيف أو قبله، ذلك لأنه أبرق إلى السيد والسيدة “دريفوس - بارني” في باريس في ديسمبر/ كانون الأول قائلاً: ‘إن الكرمل ينتظركما مع ورود أورلينز.’
يمكن الاستنتاج أن شوقي أفندي قد كوّن علاقة ودّية مع بعض التجّار الموزِّعين، ذلك لأنه في رسالة كُتبت بالفرنسية في يناير/ كانون الثاني 1925 نراه يقول: ‘مُرسِلٌ بطيّه مبلغًا وقدره —— راجيًا أن تتلطف وترسل لي على الفور بذور عشبة الزوان المعمّر للمسطّح الأخضر. أنا راضٍ جدًا بالنتائج الحاصلة من البذور التي أرسلتَها لي سابقًا، وآمل أن تصلني البذور في أقرب وقت ممكن. أشكركم سلفًا على إرسالها، وأؤكد لك يا سيدي العزيز مشاعري الودّية العميقة. شوقي رباني.’ وكما علمتُ فإن تلك المسطَّحات الخضراء كانت المسطحات الأولى الكبيرة التي زُرعت بفلسطين بنجاح. كتب شوقي أفندي إلى شركة إنكليزية خاصة ببستنة الحدائق تقع قرب نوريتش[2]: ‘… أنا مولع بالورود والحدائق. مرفِقٌ بطيّه جنيهًا واحدًا إضافيًا لقاء أي نبتة جميلة الصورة تعتقدون أنها توافق غرضي.’
أشك فيما إذا كان شوقي أفندي سبق وزرع شيئًا طيلة حياته، أو حتى كانت لديه الرغبة في ذلك. كانت تستهويه الحدائق ولكن ليس العمل فيها، ولم يفوِّت فرصة على الإطلاق لزيارة حديقة جميلة أو مشهورة إلا وانتهزها؛ لا أستطيع ذكر كم كان عدد الحدائق التي زرناها معًا خلال عشرين سنة. يبدو أنه أينما كانت هناك حديقة، كنا نذهب إليها، وغالبًا ما كنّا نعود إلى الحديقة نفسها سنة بعد أخرى وكأنها صديق قديم. في السنوات العشر الأولى لولايته، أو نحو ذلك، بذل شوقي أفندي كل ما في وسعه لضمان أن التأثيرات التي تٌحدِثها تلك النباتات التي اُعجب بها في بلدان أخرى، سيكون مثلها في حدائقه الخاصة بالأرض الأقدس. طلب في إحدى السنين ألوف الأبصال من هولندا، وفي سنة أخرى مئات من شجيرات الورد من فرنسا، حتى إنه حصل على أشجار السرخس[3] [الخنشار] التي كانت قد أُرسلت إليه من “الجهة المقابلة من الكرة الأرضية”[4]، إلا أن مستوى تأهيل العاملين في الحدائق لديه (مضافًا إليه في بعض الحالات عدم تأقلُم النباتات مع طبيعة الجوّ هنا مثل شجر السرخس ونباتات النرجس البرّي والمُكحّلة والزعفران وعشبة الوردية وغيرها) قد أحبط كل مجهود بذله حضرته مما جعله في النهاية يوقف استيراد أي شيء عدا بذور الحشائش.
في أيام حضرة عبد البهاء، عندما كان تَوَفُّرُ المياه مشكلة كبرى، أنشأ حضرته حدائق صغيرة بجوار المراقد المقدسة في كل من البهجة وجبل الكرمل احتوت في معظمها على أشجار الحمضيات والأزهار. أما شوقي أفندي فقد غيّر ووسّع وأعاد تشكيل هذه الحدائق. أتذكّر عندما قدِمْتُ مع والدتي لزيارة الأرض الأقدس أوّل مرة عام 1923، أبدت والدتي ملاحظتها على التخطيط الرسمي للحديقة الصغيرة المجاورة للمقام الأعلى وقالت إنه يشكّل رمزًا للنظام الإداري البديع الذي يعمل ولي أمر الله على إنشائه في أنحاء العالم. إنني على يقين بأن هذه الفكرة لم تخطر ببال شوقي أفندي، إلا أن النظام والترتيب متأصّلان في فطرته، وليس من طريقة أخرى يمكنه العمل بها.
من بين البهائيين الزوّار الذين تشرّفوا بزيارة حيفا في السنوات الأولى لولاية شوقي أفندي كان البروفسور ألين لوك[5] من جامعة هوارد بواشنطن، والذي عبّر عن انطباعاته وهو يتجوّل مع شوقي أفندي في حدائق المقام الأعلى لحضرة الباب بقوله: ‘شوقي أفندي هو أستاذ التفاصيل بمثل ما هو سيد المبدأ، وهو أستاذ البصيرة التنفيذية[6] بمثل ما هو سيّد الرؤية الإسقاطية[7] . لم أسمع في حياتي تفاصيل صغيرة تافهة في طبيعتها قد استردّت قيمتها وأهميتها بمثل ما كنتُ أسمعه من شوقي أفندي عند التحدّث إليه عن تصاميم الحدائق والشرفات وخطط تجميلها، وهي تفاصيل هامة لأنها بمجملها من شأنها أن تحرّك العواطف بسحر المكان وتلهب الروح بما يوحيه من أحاسيس.’
دأب شوقي أفندي على إضافة المزيد إلى هذه الحدائق التي تزايدت شهرتها باطّراد. فقد بلغ عدد زائريها والمقام الأعلى لحضرة الباب، مع نهاية حياة حضرته، ما يقارب التسعين ألفًا كل عام. وما كتبَتْه له إحدى الزائرات عام 1935 إنما يعبّر بأبسط العبارات عما تتركه مثل تلك الزيارة من انطباع في نفوس الكثيرين؛ ذلك بأنها ‘تأثرتْ بدرجة كبيرة بالجمال الصامت للمقامات، وبالبهجة التي تبعثها الحدائق في النفس.’
لقد درج ولي أمر الله كل عام على توسيع المنطقة المزروعة حول المقام الأعلى لحضرة الباب وحضرة عبد البهاء، ولا شكّ أن الحافز الأول له في هذا الاتجاه كان ينبع دائمًا وأبدًا من رغبته الواعية في تتبُّع رغبات مولاه الراحل في كل ميدان. هو يعلم أن حضرة عبد البهاء قد وضع مخططًا لسلسلة من الشرفات تمتدّ من المستعمرة الألمانية القديمة صعودًا إلى مقام حضرة الباب. وكان المولى قد بدأ بالفعل في تطوير الشرفة الأولى، ثم نذر شوقي أفندي نفسه لإتمام العمل فيها على مرّ السنين. ولا شك أنه في غضون دراسته لهذه الخطة تبلورت لديه فكرة حدائقه حول المقام الأعلى – وجاءت كلمة حدائق هنا لأنها لم تكن حديقة واحدة. ومن أجل أن يفهم المرء ويقدّر ذلك العامل الجمالي الاستثنائي الذي أبدعه شوقي أفندي على جبل الكرمل وفي البهجة، عليه أن يدرك طريقته في العمل.
في كل يوم تقريبًا كان فيه في حيفا، اعتاد حضرته أن يصعد إلى منطقة المقام الأعلى ليتشرف غالبًا بزيارة مرقد حضرة الباب وحضرة عبد البهاء بالتناوب، أما ‘أيام الأعياد’ فكان يزورهما على التوالي دائمًا. وعندما كان يجول بنظره في المشهد أمامه، كان عقله المبدع يوحي له بالتحسينات والتطويرات. هو يعلم أن حضرة عبد البهاء كان قد خطّط ليكون لمرقد حضرة الباب تسع غرف، فأخذ على عاتقه بناء الغرف الثلاثة الأخيرة [التي لم تُبْنَ] في الجهة الجنوبية من المرقد المبارك. واستبدل حضرته كلاً من الجدار الشرقي والغربي للمقام الداخلي لحضرة الباب، حيث كان في كل منهما باب خشبي سابقًا، بقوس خلق مشهدًا مهيبًا لقدس الأقداس وجمّل داخله كثيرًا. ومع السنين غيّر حضرته الزينة المحيطة بالمرقد المبارك وأضاف إليها بعض الشيء دون المساس مطلقًا بذلك الشعور بالبساطة والعفوية التي تعزّز كثيرًا من سحر هذه البقعة المقدسة. وبينما كان عاكفًا على هذه التحسينات – التي وصلت ذروتها بارتفاع البناء الفوقي العظيم للمقام الأعلى – أخذ شوقي أفندي يدرس الجهة الجبلية الجرداء المحيطة بالبناء، وبدأ بتطويرها قطعة قطعة وسنةً بعد أخرى في أقسام منفصلة. يجب أن نتذكر أنه لم تكن لديه خطّة تطوير شاملة على الإطلاق باستثناء ما كان للشرفات، وهذا ما منح الحدائق على جبل الكرمل سِمتها الفريدة. فعندما كان شوقي أفندي يتجول، كانت تمرّ بخاطره فكرة لحديقة تتناسب وطبوغرافية تلك الأرض، فتجده يضع خطة لتطوير هذه ‘القطعة’ بكل هدوء ودون نصح أو مساعدة من أحد، اللهم إلا أولئك المزارعين غير المَهَرة الذين كانوا يقومون بأعمال البستنة. وإذا ما لزم الأمر كان يأتي بمن يمسح قطعة الأرض ويوقِع عليها المنحنيات أو الخطوط الطويلة. إلا أنه في أغلب الأحيان كان حضرته يستغني عن كل هذا ويقوم بكامل العمل بنفسه.
من وصف شوقي أفندي الحيّ لما رآه وخطّط لتنفيذه، وهو ما كان يخبرني به بعد أن يعود إلى البيت، استنتجتُ بأن طريقته في العمل أن ينظر ويتأمّل قطعة الأرض التي يخطط لتطويرها وهو يتمشّى حول الممتلكات، فيخطر بباله نموذج معين، فيعمل على دراسته، ليس فقط على أرض الواقع من خلال معاينته لهذه البقعة، بل من خلال رسومات يضعها بنفسه أيضًا. ومع أن كثيرًا من الأفكار في جميع ميادين عمله كانت تأتيه على شكل وَمَضات، ومع أنه من المحتمل أن تراءت له في بعض الأحيان لمحة خاطفة للتصميم الشامل الذي خطط لاستعماله في إنشاء حديقة، إلا أنه كان يعمل بكلّ جُهد ومثابرة على تفاصيل وأبعاد رسوماته التي، وإن كانت ليست وفق مقياس رسم معيّن – لأن ذلك سيأخذ من وقته قدْرًا كبيرًا إضافيًا – إلا أن جميع أبعادها تكون قد حُسبت وحُدّدت. فعلى سبيل المثال: لِنَقُلْ إن ممرًا على الأرض، يعتبره شوقي أفندي رئيسيًا، يبلغ طوله مثلاً (25) مترًا وبعرض مترين؛ فعلى جانبيه يضيف (25) سنتمترًا لزراعة نباتات التحديد، ثم خلفه شريط بعرض (120) سنتمترًا لزراعة أشجار السرو التي تبعد عن بعضها (150) سنتمتراً… وهكذا. وعندما يصبح المخطط جاهزاً يذهب عادة إلى الموقع ويقف ويعطي تعليماته لعمال الحدائق كيف يضعونه على الأرض. وبواسطة خيط مشدود بين وَتَدين لتحديد مسار الخطوط الطويلة المستقيمة، وبخيط آخر، مثبت طرفه بوتد والآخر حرّ يدور كفرجار، يحدِّد به الدوائر، وباستعماله ‘الشِّبْر’ كمقياس في تحديد المسافات بين الأشجار، وباستخدامه ترابًا فاتح اللون يتم نثره لتحديد خطٍّ ما، وبطرق أخرى بسيطة مماثلة، غالبًا ما كان في فترة ما بعد ظهر يوم واحد فقط، ينفّذ مخططه لجزء كامل من الحديقة على الأرض بكل تفاصيله. ولأن شوقي أفندي كان عادة يعرف تمامًا ما ينوي القيام به، فكان يطلب عمّال حدائق آخرين حتى يتتبّعوا أولئك الذين يضعون التصميم على الأرض، بحيث يتمّ، أثناء سير العمل في تنفيذ المخطط على أرض الواقع، حفر الحُفر لأشجار السرو، وزراعة الأشجار، وإعداد أحواض الزهور وزراعة نباتات التحديد. كل هذا يتم وشوقي أفندي يتقدّمهم لتحديد القياسات والأبعاد! هناك مثل شائع بين العرب يقول بأن من يملك خاتم الملك سليمان في إصبعه، سيتغير كل شيء بطَرْفة عَيْن حينما يحرّكه. وهكذا درج بعض العمال العرب على القول بأن شوقي أفندي قد وجد خاتم الملك سليمان!
من الصعب أن ندرك لماذا معظم الناس يُنجزون الأعمال ببطء في الوقت الذي ينجزها شوقي أفندي بسرعة فائقة. فمجرد ترديد القول بكل أمانة وإخلاص بأن’الهداية الإلهية تقوده’ لا يبدو لي تعليلاً كافيًا. أعتقد أن عظماء الناس يرَوْن الأشياء بأبعادها الكبرى، بينما البسطاء يتعثرون بأصغر التفاصيل. فشوقي أفندي، كونه عظيمًا حقًا، ولأنه كان واضحًا في ذهنه ما يريد أن يفعله، كان لا يرى مبررًا للكثير من التفاصيل التافهة – منها على سبيل المثال التعليمات الثانوية التي يعطيها الفرد إلى من يعملون بإمرته ثم يترك لهم الخيار في تنفيذها حسب وتيرتهم الخاصة – لأن تمنعه من إنجاز كامل العمل تحت إشرافه مباشرة وفي عملية واحدة. لقد نظّم العمل بكل إتقان وأُنجِز في الحال على أتم وجه؛ فكل ما كان يستطيع أن يفعله بنفسه كان دومًا يُنجَز على هذا المنوال. وعادة ما كان التأخير وخيبة الأمل يحصلان عندما يكون مُضطرًا أن يوكِل العمل للآخرين.
يملك شوقي أفندي إحساسًا بالتناسب والتناسق لا يخيب. كان دومًا يقول عن نفسه بأنه لا يستطيع تخيُّل الأشياء، وبكلمات أخرى فإن شوقي أفندي لم تكن من ملكاته قدرة الفنان الذي يُغمض عينيه ويتصوّر ما يريده وكأنه حقيقة مُنجَزة ماثلة أمامه، إلا أن حضرته عندما كان يرى رسمًا لمخطّط، أو يكون قد حدّد أبعاده بنفسه ودرس طبيعة أرضه، نجد أن نِسَبَه في غاية الكمال. إن مزيجًا من هذا الإحساس بالتناسق، وأصالة لا تقيّدها الأعراف والتقاليد أو كثرة المعلومات، قد جعل من حدائقه لوحةً آسرةً وجميلة وفريدة للغاية. فإذا كان (كما يصرّح حضرته)، يفتقر إلى مَلَكة تخيُّل الشيء منجزًا، فإنه يمتلك بدرجة قوية تلك المقدرة الأخرى الخلاّقة للفنان الحقيقي، مقدرةً لأن يجعل من الشيء يتشكل بين يديه، وأن يتلقى إلهامًا في منتصف خطة وضعها فيتّبع مسار ذلك الإلهام بدلاً من أن تقيّده فكرة مسبقة يتخيَّلها.
لم تكن هذه الموهبة لتتجلّى في أي مكان بأكثر مما كانت عليه في تطوير الأراضي المحيطة بمقام حضرة بهاء الله في البهجة. كانت خطته الأصلية أن يجعل من المرقد المقدس والقصر المجاور له محورًا لشكل على هيئة عجلة كبيرة. وبعد أن تمّت الإجراءات النهائية مع الحكومة لتسجيل ما يلزم من الأراضي، وتمّ تأمين ما مساحته (145) دونمًا حول المرقد المقدس عام 1952، شرع شوقي أفندي في العمل على تسوية الأراضي البكر في القسم الذي يشكّل ربع مساحة دائرة شاسعة تقع في مواجهة المقام المقدس. فاستؤجرت جرّافة لهذا الغرض، وأقام شوقي أفندي في البهجة عدة أيام ليدير العمل بنفسه.
كان هناك بناء من غرفة واحدة خَرِبة تقع في محيط العمليات، ولمّا كان شوقي أفندي يتطلع إلى الحصول على منظور أوسع للأراضي، فقد صعد على سطح الغرفة فوجد أمامه رؤية أفضل لما حوله، فعمدَ إلى ترميم جدرانها وسقفها، ووُضع سُلَّمٌ خشبي خارجي يؤدي إلى سطحها، كما جُهِّز داخلها بالأثاث واستعملها بعد ذلك مكتبًا ومكانًا يعدّ فيه ردوده على بريده. بفضل مراقبته العمل وتوجيهاته من هذه النقطة الجديدة المُشرفة استطاع أن يحصل على منظور مختلف تمامًا للممتلكات حول المرقد المبارك التي تقع وسط سهل منبسط. هذا الوضع قد أَلْهَمه فكرة جديدة؛ فلمّا كانت هناك كميات كبيرة من الأتربة قد جُرّفت نتيجة أعمال التسوية، فقد أعطى تعليماته بأن تزاح كلها إلى الجهة الشرقية. وبذلك ارتفعت هناك تلّة ترابية يمكن للواقف عليها أن يكشف المنطقة المنبسطة أمامه بأكملها فتبدو للمشاهد وكأنها سجادة جميلة منقوشة. لقد أبهج وليَ الأمر نجاحُ هذه الخطة كثيرًا حتى إنه أمر ببناء مصطبتين مدرّجتيْن لا شرفة واحدة ترتفعان بما يعادل تلّة صغيرة.
كان توجُّه ولي الأمر نموذجيًا في نهجه في جميع مواقفه تجاه الأمر المبارك الذي اختير له الحامي الأمين، ذلك أنه حالما جُهِّزت المنطقة الجديدة أخيرًا بالكامل، وزُرعت بالمسطّحات الخضراء وبأحواض الزهور والورود، وثُبِّتت أعمدة الإنارة على طول الممرات الحمراء الجميلة، كان يعمد فورًا إلى نقل اجتماعاته إلى المحيط الخارجي لمنطقة التطوير الجديدة ليستضيف ضيوفه في الجزء نصف الدائري المواجه لمرقد حضرة بهاء الله على بُعد (100) متر تقريبًا من المكان الذي اعتاد أن يستقبلهم فيه سابقًا. لم أكن على علم بأن هذه الترتيبات قد جرى التفكير فيها. ففي ذلك المساء، عندما عدتُ إلى حيفا من الاجتماع، سألتُ شوقي أفندي حول هذا الموضوع فأجابني: ‘احترامًا للمرقد المطهّر’ نَقَلَ الاجتماع إلى مكان بعيد عنه. ومنذ ذلك الوقت فإن جميع الاجتماعات التي تُعقد في البهجة، بما فيها إحياء ذكرى صعود حضرة بهاء الله الذي يقع بعد منتصف الليل، أصبحت تُعقد في هذا الموقع الجديد.
بعد صعود شوقي أفندي، وتنفيذًا لرغبته المعلنة، رُفعتْ شرفة ثالثة على المصطبتيْن الأُخرييْن، وبذلك وُضعت اللمسات الأخيرة لترتيباته الرائعة لحدائق المرقد المبارك. وهذه الفكرة الجديدة تعني أن تصميمه الأصلي للحدائق على شكل عجلة عربة قد غُضّ النظر عنه كليًا، ذلك لأن نظام إلْتِقاء الممرات في مركز مشترك أصبح غير ممكن عمليًا. في كثير من الأحيان كان شوقي أفندي يُجري تغييرًا على خطته لأن عينه كانت تكشف له فورًا عما يشعر بأنه أكثر أهميةً وجمالاً.
كان عشق شوقي أفندي للنور عظيمًا كما كان للمولى من قبله، وكان يكره الإضاءة الداخلية الخافتة. إن عشقه للنور الساطع كان جليًّا للغاية، حتى إنني اعتدتُ أن أعترض على قيامه بالعمل تحت ضوء مصباح شديد الإنارة مُثبَّت على الطاولة ويسطع عمليًّا على عينيه، حيث كنت أخشى أن يكون ذلك فوق طاقة تحمُّلهما. غرفته الخاصة كانت تشعُّ بالأنوار دائمًا، والمقامات المقدسة جميعها تملؤُها المصابيح كبيرها وصغيرها. كان من أول ما فعله كولي لأمر الله أن وضع ضوءًا ساطعًا فوق باب المقام الأعلى لحضرة الباب المُواجِهِ للشرفات والشارع المستقيم في أسفل سفح الجبل المؤدي مباشرة إلى البحر. بمقدوري أن أتذكّر كيف كان أهل البلدة في عام 1923 يسخرون ويتساءلون لماذا يجب أن يكون هناك ضوء أصلاً. وكان هذا دون شك حافزًا لإقدام مسيحي متعصب يدعى دوميط[8]، بعد بضع سنوات، على نصب صليب كبير مضاء على سطح بنايته القائمة قريبًا من مرقد حضرة الباب، الأمر الذي لم يزعج شوقي أفندي بل وصفه بزهرة في عروة المقام الأعلى!
وهكذا بالتدريج أُضيئت الحدائق في كل من حيفا والبهجة بأعمدة إنارة جميلة من الحديد المطاوع ذات شعب أربعة، نُصب منها تسعة وتسعون عامودًا في البهجة وحدها. عندما حلّت الليلة التي أُضيئت فيها هذه لأول مرة بمناسبة عيد الرضوان عام 1953، واقتربنا من البهجة في السيارة، توهّجت السماء أمامنا بالأنوار وكأننا نقترب من مدينة صغيرة! أخبر ولي الأمر الزائرين الإيرانيين بأنها على الدوام كانت نورًا، إلا أنها الآن ‘نور على نور’ (في الأصل هناك تمثيل جميل تواريه الكلمات يُنوِّه إلى أن حضرة بهاء الله كالنور). بالإضافة إلى ذلك فقد أضيء المقام الأعلى في حيفا ليلاً بفيض من الأنوار الساطعة وكذلك المرقد المطهر للورقة المباركة العليا ومرقدا والدة حضرة عبد البهاء وشقيقه. هذا وقد أُرسِل طلب لشراء عاكسات كهربائية كاشفة وقوية لإضاءة مبنى محفظة الآثار العالمية أيضًا.
كل ما أنجزه وليّ الأمر كان في غاية الدقة. لم يترك شيئًا للصدفة، وأقل القليل منه لاجتهاد مساعديه العاملين وتقديرهم. من بين أمثلة كثيرة لا حصر لها على ذلك دقته المتناهية دائمًا في تحديد يوم الاحتفال بالأيام المحرّمة في حيفا تحديدًا دقيقًا. ولمّا كان هناك تفاوت في التواريخ القمرية [الهجرية] – التي تعتمد على ساعة ظهور هلال القمر في بعض الحالات – كان شوقي أفندي حريصًا جدًا على التحقُّق من ذلك في ضبط الموعد، وكذلك الأمر في وقت حدوث الاعتدال الربيعي بالضبط الذي لو حدث قبل ساعة معينة فإن ذلك يعني أن ‘السنة البهائية الجديدة’ ستبدأ في العشرين من مارس/ آذار بدل 21 منه. ونجد برقيات كهذه كان قد أرسلها حضرته إلى ابن خالته في بيروت عام 1923 يقول فيها: ‘تَحقّقْ من وقت حدوث الاعتدال الربيعي بالضبط وأبرقْ لي.’ لا شك أنه كان يعتبر المعلومات الصادرة عن الجامعة الأمريكية أدقّ علميًا مما هي محليًا. وفي عام 1932 أبرق إلى أخيه الذي كان يدرس آنذاك في الجامعة نفسها يقول: ‘تحقّقْ من عدد سكان الإمبراطورية الرومانية على وجه التقريب في أول قرنين بعد الميلاد…’ لم يكن شوقي أفندي دقيقًا فحسب، بل كان يُدرك، بفِطْنة الكاتب العظيم حقًا، أن الحقائق المقتبسة إذا ما وُضعت في مكانها الصحيح كان لها تأثير الأحجار الكريمة التي تزيّن قطعة من المجوهرات – فتُظهِر بذلك كامل إبداعها. خذ مثلاً الاستعمال العادي غير المثير للمعلومة التي تقول بأن مضيق ماكموردو ساوند[9] يقع على خط عرض 77 درجة جنوبًا في بحر روس[10]، إلا أن شوقي أفندي عندما أبلغ الأحباء بأن الكتب البهائية قد أُرسلت إلى البعثة الأمريكية للقطب الجنوبي وقاعدتها في مضيق ماكموردو، مضيفًا موقعها بالضبط بالنسبة لخطوط العرض، غدت المعلومة فجأة نابضة بالحياة ورومانسية ومثيرة!
في عام 1924 قام شوقي أفندي بكل جهد وتصميم على حل إحدى المشاكل التي كانت تواجهه آنذاك. لقد سبق أن جعل الأمر واضحًا تمامًا لضامري الضغينة من حوله بأنه ليس هو بالضعيف – رغم الوضع الذي وُضِع فيه بعد صعود المولى – ولا هو بذاك العاجز عن الإمساك بزمام الإدارة واتخاذ القرار. في واحدة من رسائله كتب يقول: ‘ليس سهلاً أن تكسر بعض عادات الماضي وتقاليده، فتجعل عددًا كبيرًا من البهائيين، المتباينة أفكارهم ومفاهيمهم، يعتادون على تغييرات ومتطلبات ضرورية في هذه المرحلة الجديدة من تاريخ الأمر المبارك.’ مع كل ذلك كان يفعل هذا، ويفعله بنجاح تامّ. إن ما كان في أمسّ الحاجة إليه في حيفا وبشكل ملحّ هو مزيدٌ من المساعدين. فوالدُهُ قليل المعرفة باللغة الإنكليزية، وأزواج خالاته الثلاثة اثنان منهم لهما أعمالهما الخاصة في حيفا والثالث كان يعيش في مصر، ثم إن شقيقه وأكبر أبناء خالاته كانا منشغليْن إما في الدراسة أو في العمل. ومع أن حضرته تلقّى المساعدة من عدّة أفراد من عائلة حضرة عبد البهاء، فإن أعمال الأمر المبارك كانت في اتساع مطّرَد، وشوقي أفندي كان قد بدأ في ترجمة الكثير من الآثار البهائية إلى اللغة الإنكليزية وإرسالها إلى أحباء الغرب، وفوق هذا مراسلاته التي كانت تتنامى في كمّها مسببةً له مشكلة حقيقية. في يناير/ كانون الثاني 1923 كتب إلى البهائيين في لندن يقول: ‘إن وجود مَن هو كَفُؤٌ ليساعدني في أعمال الترجمة في الوقت الحاضر بحيفا مُرحّب به للغاية ومرغوب فيه بدرجة كبيرة. أضع هذا الموضوع أمام أعضاء المجلس علّهم يدرسونه ويرسلون أحد الأحباء الإنكليز لفترة محدودة للقيام معي بهذا العمل بالغ الأهمية.’
إن الشخص الذي بدا أنه استجاب لهذا النداء لم يكن سوى محبوب شوقي أفندي د. إسلمنت، حيث أقام في حيفا يعمل مع حضرته ويقوم على خدمته إلى أن وافته المنية فجأة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1925. لم يكن إسلمنت في صحة جيدة لبعض الوقت، وبعد صعود المولى بقليل نجده يبرق لشوقي أفندي في فبراير/ شباط 1922 قائلاً: ‘أتعافى بشكل مُرْضٍ. وصلتني ألواح الوصايا. – المخلص.’ كانت تربطهما علاقة حميمة، وعندما توفي د. إسلمنت على نحو غير متوقع أبرق شوقي أفندي إلى أقربائه قائلاً: ‘غمرني الحزن والأسى بوفاة عزيزي المحبوب إسلمنت. كل الجهود المخلصة لم تُجدِ نفْعًا. نؤكد لكم تعازينا القلبية باسمي واسم البهائيين في العالم. ستصلكم رسالة لاحقًا.’ وبعد أربعة أيام كتب إليهم قائلاً: ‘لستُ أبالغ في قولي بأنني لا أجد الكلمات المناسبة والكافية للتعبير عن الإحساس الشخصي بالخسارة التي أشعر بها بفقدان مساعدي وصديقي جون إسلمنت.” لم يكن د. إسلمنت شخصية عالمية معروفة متميّزة في العالم البهائي فحسب – وهو مؤلّف الكتاب الذي قال عنه شوقي أفندي ‘من شأنه أن يُلهم أجيالاً لم تولَد بعد’ (بهاء الله والعصر الجديد، الذي تُرجم حتى الآن إلى مائة لغة تقريبًا)، بل كان لشوقي أفندي شخصيًا ‘الصديق الحميم الأَكثر قُربًا، والمستشار الأمين، والمساعد الذي لا يكلّ، والرفيق المحبّب’ الذي انتهت الآن بشكل مباغت تمامًا علاقته الوثيقة معه، تلك العلاقة التي كان قد ‘عقد عليها أعزّ الآمال’. ذرف شوقي أفندي الدموع على صديق كان بجانبه أيام دراسته، إلا أنه بحكم وظيفته ومقامه كما هو الحال دومًا، وبالرغم من حزنه الشخصي، كان مرغمًا على مواصلة مهامه كولي لأمر الله. أبرق على الفور إلى أحباء إنكلترا وأمريكا وألمانيا وإيران والهند ليرسلوا برقيات التعازي لأقارب إسلمنت – جميعهم كانوا غير بهائيين – وأن يقيموا مجالس تذكُّر خاصة، كما رَفَعَه بعد وفاته إلى مرتبة أيادي أمر الله.
إن قدوم د. إسلمنت إلى حيفا لم يؤدِّ أبدًا إلى حلّ مشكلة شوقي أفندي الشخصية، بل عمل فقط على إضافة حزنٍ جديد إلى قلبٍ مكلومٍ مُبْتَلٍ. في يناير/ كانون الثاني 1926 شكا شوقي أفندي من ‘عبء المسؤوليات الجسام والهموم المقدّر لي شرف حملها على كاهلي.’ ثم يسترسل ويتكلّم عن ‘كدّي المتواصل، والمحن، والتعقيدات المتشابكة’، و’الطريق الشائك’ أمام ‘واجباتي الشاقة’. وبعد أربعة أشهر كتب إلى هورِس هولي[11] يقول: ‘كثيرًا ما انتابتني رغبة شديدة في أن يكون لي مساعد مثلك يعمل إلى جانبي هنا في حيفا. إن فقدان د. إسلمنت كان وقْعُه عليّ شديدًا، وأملي أن تمكّنني الظروف والأوضاع هنا في الداخل وفي الخارج من وضع أساس للعمل في حيفا على قواعد أكثر منهجية. أنتظر الوقت المواتي لذلك.’ كُتِبَتْ هذه الرسالة في مايو/ أيار، وفي سبتمبر/ أيلول كتب رسالة أخرى إلى هورِس مادحًا خدماته ومؤكدًا من جديد قوله: ‘كم أشعر أني بحاجة إلى من هو مثلك يعمل إلى جانبي في حيفا، على درجة من الكفاءة والدقّة والعمل المنهجي واليقظة كما أنت عليه. لا يمكنك بل ولا يجدر بك ترك موقعك حاليًا، وعلى حيفا أن تتدبر أمورها بنفسها لبعض الوقت.’
كان ذلك خلال الفترة بين هاتين الرسالتين وشوقي أفندي في سويسرا عندما كتب في 30 يونيو/ حزيران 1926 إلى هيبوليت دريفوس - بارني قائلاً: ‘لا زلتُ في حاجة إلى سكرتير قدير جدير بالثقة، مثابر لا يكلّ، منهجي وخبير يجمع بين موهبة التعبير الأدبي والمكانة المشهودة في العالم البهائي. كان د. إسلمنت رفيقًا مناسبًا جدًا، لا يعيقه شيء، مثابرًا، قديرًا، متفانيًا، ومتواضعًا، أتحسّر لفقدانه… وإنني أشعر أن وجود سكرتير إلى جانبي كفؤ مثابر مكرِّس نفسه لعمله بكل إخلاص، بالإضافة إلى مشاوريْن رئيسيْن اثنين يمثِّلان الأمر المبارك في مناسبات خاصة بكل إخلاص وإجلال، مع مساعديْن من الشرق متّصفيْن باليقظة واتساع المعرفة، هو ما سيجعلني أقف على قدمي ويعمل على تحرير القوى التي سوف تنطلق بالأمر الإلهي وتصل به إلى ما قُدِّر له من تحرُّر وانتصار… لا استطيع التعبير عن نفسي بشكل أوفى لأن ذاكرتي عانت الكثير.’
ومع أن هذه الرسائل قد وُجّهت إلى أفراد إلا أن حضرته لم يكتم ما هو في حاجة إليه. ففي أكتوبر/ تشرين الأول 1926 كتب إلى أحباء أمريكا بأن: ‘تعاظم أهمية وتعقيدات العمل الذي يجب بالضرورة إدارته من الأرض الأقدس، قد ساهمت كلُّها في تقوية الشعور بالضرورة القصوى لتشكيل نوع من هيئة بهائية عالمية للسكرتاريا في حيفا التي، بصفتها الاستشارية والتنفيذية، سوف تساعدني وتكون عونًا لي في أعمالي المتَّسعة والمُجهِدة للغاية.’ ويمضي في قوله بأنه: ‘فكّر في هذا الأمر الهامّ بتَوْق ولهفة’، فطلب ثلاثة ممثلين من كل من أمريكا وأوروبا وإيران للحضور إلى الأرض الأقدس من أجل التداول معهم في الإجراءات اللازمة لمواجهة متطلبات الساعة، وصرّح بأن هذه الخطوة لن تساعده وتقوّي الروابط بين المركز العالمي والعالم البهائي بأجمعه فحسب، بل ستوفر الخطوات الأولية التي سوف تؤدي إلى تأسيس ‘أول بيت عدل عالمي’ أيضًا. وكان في شهر مايو/ أيار قد كتب إلى واحد ممّن كان يفكّر فيهم: ‘اتطلّع لمعرفة ما إذا كان بإمكانك أن تلتحق بي في الخريف القادم مع السيد (هـ) في عملي هنا بحيفا. إنني أواجه أصعب المشاكل وأكثرها دقة وتعقيدًا، وأنا في أمسّ الحاجة إلى معاونين أكفاء جسورين وأهلاً للثقة… يجب أن أتوقف عن الكتابة الآن لأنني بالكاد أستطيع أن استجمع أفكاري.’
إن التعاون الذي كان ينشده شوقي أفندي في رسالته تلك لم يرَ النور أبدًا رغم ما بذله من مجهودات. فالاعتلالات الصحية، والأحداث التي أحاطت بأمر الله، إلى جانب تعقيدات ومضاعفات عائلية ومهنية أصابت حياة أولئك الذين كان يفكّر فيهم، قد تكالبت كلها لتتركه وحيدًا محرومًا من مساعدين أكفاء مثلما كان حاله منذ توليه مهامَّه في مكتبه وليًا لأمر الله عام 1922. في فبراير/ شباط 1927 كتب إلى أحد أولئك الذين اختارهم: ‘… آمل أن تتمكّن من مشاركتي أعباء وظائفي الشاقَّة بالسرعة الممكنة ووقتك المناسب.’ وفي شهر سبتمبر/ أيلول كتب ثانية إلى ذلك الصديق الذي أبقاه المرض حبيس منزله: ‘أنظرُ إلى العمل في الشتاء القادم بقلق وأنا مدرك أن عملاً ضخمًا ينتظرني بينما أقف وحيدًا في مواجهة مهامّي الجِسام. وكما سبق ولاحظتُ، فإن المؤتمرات لن تفي بالغرض، فما أحتاجه هو تعاون وثيق ومستمر من أجل البدء بالتدابير اللازمة لانتشار أمر الله واستحكامه ثم تنفيذها. وفي غضون ذلك عليّ أن أتابع السير في خطِّ عَمَلي الحالي مع شعوري بأنه ثانوي في أهميته ويمكن أن يتولاّه مكتب السكرتاريا بكل سهولة…’ ونجده يكتب ثانيةً إلى هذا الشخص البهائي في أكتوبر/ تشرين الأول قائلاً: ‘أنا في الوقت الحاضر وحيد وأبذل كلَّ ما في وسعي.’ وفي يناير/ كانون الثاني 1928 كتب يقول: ‘كل الأمور الأخرى لا زالت معطَّلة، وأنا منتظرٌ اهتمام ومساعدة معاونين أكفاء ومتفانين وذوي خبرة.’
إن الصورة التي تعطيها لنا هذه الأوضاع عن ولي الأمر ليتفطّر لها القلب. فهو لم يَعُدْ ذاك الشاب الفتيّ ولا ذلك الإنسان الذي سحق قلبه الحزن والأسى تمامًا في بداية ولايته؛ إنه يرى الآن متطلّبات أمر الله واحتياجاته، ويشاهد الفُرص المتاحة أمامه إذا ما كان لديه مزيد من المساعدة فيكون بالتالي شخصيًا أكثر حرية ليكرِّس وقته للضروريات – ولكن لا جدوى؛ فنوعية المساعدين المطلوبين كانوا بكل بساطة غير قادرين أو غير راغبين في التخلّي عن كل شيء للمجئ والإقامة في حيفا. في رسالة كتبها أحد الزائرين من الهند يوضّح فيها الوضع بكل جلاء، وليس هناك أدنى شك بأن الشخص الذي جعل الأمر في غاية الوضوح هو شوقي أفندي نفسه، ذلك لأنه اعتاد أن يخاطب زائري الأرض الأقدس بكل صراحة. كتب ذلك الزائر الهندي رسالة في 15 يونيو/ حزيران 1929 يقول فيها: ‘يريد شوقي أفندي أن يؤسّس مكتبًا عالميًا للسكرتاريا في حيفا قبل إنشاء أية مؤسسة عالمية أخرى فيها، إلا أن الفكرة لم ترَ النور نظرًا للافتقار إلى عدد كافٍ من البهائيين القادرين والجديرين بالثقة…’
بقي الأمر على حاله مُعلَّقًا إلى أن تشكّل المجلس البهائي العالمي عام 1951، ذلك لأن شوقي أفندي خَلُصَ إلى حقيقة مُرّة تؤكد أنه وحيد رغم كل النوايا والمسببات، وازداد بذلك اعتماده على نفسه. لقد هيّأ نفسه للقيام بكامل العمل، وقام به، مستعينًا بمختلف أفراد عائلة المولى كسكرتارين، وواجه بذلك ارتفاع وتيرة روح الاستياء المتواصل من جانبهم، مستسلمًا للعمل الشاقّ الذي لا ينتهي في مهمّات ثانوية بالإضافة إلى أخرى رئيسة، راضيًا بقَدَره بغاية التسليم، قانطًا في أغلب الأحيان، ثابتًا مخلصًا في كل الأحوال. يمكن القول عنه بحقّ بأنه قام وحيدًا بتأسيس دين أجداده المقدسين على نطاق عالمي، وأثبت أنه ينتمي إلى تلك السلالة العظيمة نفسها.
في تلك السنوات، وعندما كان شوقي أفندي يسعى جاهدًا أن يجمع حوله مجموعة من العاملين المساعدين الأكفاء، تفجّرت أزمة غير مسبوقة في أبعادها لتنقضّ عليه. إن بحر “أمر الله” الذي ضربته في آنٍ معًا أرياح القَدَر والمصادفة العَرَضية التي تهبّ عليه من العالم الخارجي، قد اندفعت الآن كعاصفة هوجاء تضرب بأمواجها كلسع السياط، ودونما رحمة، على عقل شوقي أفندي وقواه وأعصابه وموارده؛ فالبيت المبارك الذي شغله حضرة بهاء الله في بغداد، والذي قضى أن يكون، كما جاء في كلمات شوقي أفندي ‘مقصد حج البهائيين المقدس المطهّر المعزّز وتبجيلهم’ قد سبق أن استولى عليه الشيعة أيام حضرة عبد البهاء بعد سلسلة من المناورات الخبيثة، ثم أُعيد إلى وُصاته الشرعيين بقرار من السلطات البريطانية. ما إن وصلت أخبار صعود حضرة عبد البهاء إلى مسامع أعداء الدين اللدودين حتى جدّدوا ثانية هجومهم ورفعوا دعوى يطالبون فيها بـ ”البيت”. في عام 1922 استولت الحكومة على مفاتيح “البيت” في بغداد رغم تأكيد الملك فيصل على احترام حق ادعاءات البهائيين في “المبنى” الذي كان ممثلوهم يُشغِلونه منذ أن غادر حضرة بهاء الله بغداد، والآن رجع جلالته عن وعده لأسباب سياسية، وفي عام 1923 سُلّمت مفاتيح “البيت” ظلمًا وبهتانًا للشيعة مرة ثانية. بعد صعود حضرة عبد البهاء بوقت قصير وحتى شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1925 شهِدت تلك الفترة نضالاً دؤوبًا من قبل البهائيين من أجل حماية “البيت الأعظم”. في البداية رفع الشيعة دعواهم لدى محكمتهم الشرعية، ومن هناك رُفعت القضية على جناح السرعة إلى محكمة “الصلح”، ثم عُرضت أمام محكمة البداية المحلية التي قررت أن “البيت” من حق البهائيين. استأنف الشيعة الحكم لدى محكمة الاستئناف ثم المحكمة العليا في العراق التي أصدرت حكمها لصالح الشيعة.
ما إن أُعلم ولي الأمر بهذا الفشل الفاضح في تحقيق العدالة، حتى جنّد العالم البهائي لاتّخاذ إجراء فوري: فأرسل تسع عشرة برقية إلى مختلف الأفراد والهيئات المركزية التي تضمّ أحباء في إيران والقوقاز وتركستان والعراق واليابان وبورما والصين وتركيا وموسكو والهند وأستراليا ونيوزيلندا وكندا والولايات المتحدة وألمانيا والنمسا وفرنسا وبريطانيا العظمى وجزر المحيط الهادئ. كانت تعليماته تنصُّ أن على البهائيين أن يُبرِقوا ويكتبوا للمندوب السامي البريطاني في العراق مُحتجّين على هذا القرار. وأخبر الأحباء في إيران وأمريكا الشمالية – حيث الجامعات البهائية ذات العدد الكبير – أنه بالإضافة إلى أصوات الاحتجاج المباشَر من كل محفل روحاني محلي، فإن على المحفل الروحاني المركزي ألا يقتصر في اتصالاته على المندوب السامي فحسب، بل وأن يحتجّ مباشرة لدى الملك فيصل والسلطات البريطانية في لندن في آن معًا. وبالمثل طلب من المحفل الروحاني المركزي للهند وبورما أن يقدّم احتجاجه لدى الملك فيصل نفسه دون الاتصال بلندن. أما في الأماكن حيث عدد الأحباء قليل نسبيًا مثل فرنسا والصين، فقد نصحهم شوقي أفندي أن يرسلوا احتجاجهم موقّعًا من الأفراد. كل هذه التوجيهات تُبرِز بشكل ملحوظ أسلوب شوقي أفندي في التخطيط. في برقياته للعالم البهائي أعلن أن الوضع ‘محفوف بالمخاطر’ و’العواقب وخيمة للغاية’، وأن على الجميع أن يطلبوا ‘إجراءً فوريًّا من أجل سلامة وحماية حقهم الروحاني كبهائيين في هذه البقعة العزيزة المحبوبة’، ‘هذا المقام المطهّر’، ‘بيت بهاء الله المقدس’. لقد وضع في أفواه الذين نصحهم العبارات المناسبة، فالأحباء الشرقيون أُخبروا بأن يستأنفوا بإصرار وبـ’حرارة ولباقة’ و’بلغة حازمة مدروسة’ مطالبين بـ’الأخذ بعين الاعتبار بحقهم الروحاني في ملكيته’، ومنوّهين بـ ’الحسّ البريطاني بالعدالة’. بينما أُعلم الأحباء الغربيون بأن هناك ‘حاجة ملحّة لعمل فوري ومؤثر… محتجّين بشدة ضد حكم المحكمة الفاضح الجائر، وأن يستأنفوا لرفع هذا الظلم متطلعين إلى الحِسّ البريطاني بالإنصاف، ومؤكِّدين على أحقيَّة المطالب الروحانية للبهائيين… معلنين عن عزمهم الأكيد لبذل أقصى جهدهم في الدفاع عن حقوقهم الشرعية المقدسة.’ وبشموليّته المعهودة وجّه شوقي أفندي نُصحه لأمريكا بأن العرائض التي تُرسل بواسطة المحافل الروحانية المحلية ‘يجب ألاّ تكون متطابقة في نصّها’.
إن تبادل ما يقرُبُ المائة من البرقيات خلال ستة شهور، بالإضافة إلى مراسلات مستمرة مع هيئات مختلفة تعمل من أجل حماية “البيت الأعظم”، إنما تقف شاهدًا – بنصّها وعددها –
على مدى استغراق شوقي أفندي في هذه المعضلة. فكان من أولى خطواته، بعد عِلْمه بقرار المحكمة العليا، أن أبرق إلى المندوب السامي البريطاني في بغداد قائلاً: ‘إن بهائيي العالم قاطبة ينظرون بكل دهشة وذُعر إلى قرار المحكمة غير المتوقع الخاص بمِلكية ‘البيت المقدس لحضرة بهاء الله’، وإذ يضعون في اعتبارهم أنهم شغلوا هذا الممتلك أمدًا طويلاً ومتواصلاً، فإنهم يرفضون أن يصدّقوا بأن ظلمًا فاضحًا كهذا يمكن لسعادتكم أن تُقرّوا به على الإطلاق. إنهم يأخذون على أنفسهم عهدًا مقدسًا للوقوف بحزم لحماية حقوقهم. فهم يناشدون فيكم ذلك الحسّ العالي بالشرف والعدالة من منطلق إيمانهم الأكيد بأنه المحرّك الحيوي لإدارتكم. باسم عائلة السير عبد البهاء عباس وكامل الجامعة البهائية – شوقي ربّاني.’ وفي اليوم نفسه أبرق إلى منكسر القلب، ‘حارس بيت حضرة بهاء الله’ قائلاً: ‘لا تحزن، فالأمر مفوَّضٌ لله. كن مطمئنًا.’
وخلال الشهور التي تلت أرسل شوقي أفندي العديد من البرقيات تتضمن عبارات من قبيل: ‘قضية “البيت” يجب متابعتها بحماس متّقد.’ كما أبرق إلى عدد من الشخصيات المرموقة غير البهائية، ودأب على تنسيق جهود من كانوا يقومون مقامه في أنحاء مختلفة من العالم. وبعد مرور أكثر من شهر أبرق شوقي أفندي إلى عدة محافل روحانية مركزية طالبًا منهم أن يستفسروا ‘بعبارات لَبِقة’ من المندوب السامي عن ‘نتائج التحقيقات’ التي وَعَدت السلطات البريطانية بإجرائها. لقد كانت معركةً خاسرة، ذلك لأن الجهات السياسية والدينية في العراق، بدوافعها ومقاصدها المشتركة، رفضت الإذعان للضغوط التي مورست عليها بما فيها ما كان من الحكومة البريطانية.
ومع ذلك لم يقبل شوقي أفندي بالهزيمة بهذه السهولة، ولم يعرف الراحة حتى عُرضت قضية “البيت المبارك” على وكالة المفوضية الدائمة لعصبة الأمم في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1928؛ أيّدت سُلطة المفوضية حق البهائيين في مِلكية “البيت”، وأوصت وكالة المفوضية مجلسَ عصبة الأمم بضرورة الطلب من الحكومة البريطانية أن تُقدّم للحكومة العراقية عرائض احتجاج تطالب فيها بالتراجع عن إنكار حق البهائيين العادل في هذه القضية. استمر البهائيون في ضغوطهم المتواصلة على هذا الموضوع من عام 1928 وحتى عام 1933، ولكن دون جدوى نظرًا للافتقار إلى آليات تنفيذ القرار، ناهيك عن أن نفوذ الشيعة في العراق كان من القوّة بحيث كان يدفع الحكومة العراقية إلى إسقاط القضية بالكامل كلما مورس عليها ضغط لتنفيذ القرار.
إن استعراضًا موجزًا لأحداث كهذه لا ينقل إلينا ما يرافقها من أحداث مثيرة يومًا بعد يوم: تقلبات بين الأمل والخيبة، بين خبر سارٍّ وآخرَ سيء، تتعاقب جميعها لتُرهِق القلب وتُنهِك القُوى. فما كاد ولي الأمر يتلقّى صدمته الأولى جراء قرار المحكمة العليا، حتى حدثت وفاة د. إسلمنت المفاجئة. فجاء فقدانه لصديقه في وقت الأزمة تلك ضربة مؤلمة مضاعفة على ولي أمر الله.
قبل أسبوع فقط على هذا الحدث أرسل شوقي أفندي رسائل إلى العالم البهائي عكست نقطة هامة مُقْلقة أخرى كانت تُشغل باله في ذلك الوقت. لقد أُشيع بأن جثمان أحد قادة الحركة الصهيونية البارزين قد يتم إحضاره إلى الأرض الأقدس ليُدفن بشكل لائق على جبل الكرمل. إزاء هذا الخبر ما كان من شوقي أفندي إلاّ أن سارع إلى مناشدة الأحباء للتبرع من أجل شراءٍ فوريٍّ لأراضٍ في جوار مرقد حضرة الباب، خاصة ما كان منها مُطلاًّ عليه، بقصد حماية هذه البقعة المقدسة. كم كان غامرًا تجاوبهم، إذ بعد ما يزيد عن الشهر بقليل استطاع حضرته أن يبشّرهم بتحقُّق الهدف بفضل دعمهم السخي الرائع، إلا أنه لم يكن هناك شك في أن هذا أيضًا قد أضاف، ولو لفترة قصيرة على الأقل، عِبْئًا ثقيلاً على همومه القاصمة للظهر.
كان هذا العبء من الثّقل ما دعا ولي الأمر إلى الكتابة إلى أحد الأحباء في فبراير/ شباط 1926 قائلاً: ‘أنا غارقٌ في بحر من المشاغل والنشاطات والهموم. فِكْري مرهق للغاية، وأشعر أنني أصبحت بطيئًا غير فعّال من شدة هذا الإرهاق الذهني.’ وقد وصل به تفاقم هذه الحالة إلى أن وجد نفسه مضطرًا أن يبتعد قليلاً طلبًا لراحة قصيرة. وفي أواخر شهر مارس/ آذار كتب يقول: ‘إن الأعباء التي غمرتني بمسؤولياتها وهمومها الضاغطة الملحّة اضطرتني إلى المغادرة في وقت… كنت أتوق فيه جدًا إلى استقبال أحبائي وشركائي في العمل من مختلف أقطار العالم.’ لا بدّ أنه كان مريضًا حقًا مما اضطره إلى مغادرة حيفا والابتعاد عن ضيوفه. ولكن مهما كانت حالُه في شهريْ فبراير/ شباط ومارس/ آذار فإنها كانت معتدلة إذا ما قورنت بما آلت إليه حاله عندما جاءته برقيةٌ من إيران أُرسِلت من شيراز في 11 إبريل/ نيسان، وكتبت بصيغة مباشرة صريحة تقول: ‘استُشهد اثنا عشر حبيبًا في بلدة جهروم. قد يمتد الهيجان إلى أماكن أخرى’، والتي ردّ عليها حضرته في اليوم نفسه: ‘صعقتني هذه الرزية المفاجئة. أوقفوا جميع النشاطات. تظلّموا لدى السلطات المركزية. انقلوا لأقارب الشهداء تعازينا القلبية.’ كما أبرق في اليوم نفسه برسالة إلى طهران تعبّر أفضل تعبير عن روح الأمر وترتبط ارتباطًا لا يمكن تجاهله بأحداث جهروم: ‘أُناشد جميع الأحباء في إيران وتركستان والقوقاز أن يشاركوا في تجديد انتخاب محافلهم الروحانية بكل قلوبهم، فليس من بهائي حقيقي يمكن أن يقف جانبًا. أرسلوا نتائج الانتخابات على وجه السرعة إلى الأرض الأقدس من خلال المحافل الروحانية المركزية واتّصلوا فورًا بكل مركز. امضوا قُدُمًا بحذر. التمسوا العون الإلهي.’ في اليوم التالي، وقد استلم تفاصيل أكثر في برقية من شيراز تفيد بأن رأس المحرّضين على الهيجان هناك قد قُبِض عليه وتتضمن اقتراحات محددة، أبرق شوقي أفندي إلى طهران قائلاً: ‘ضَرَبَتنا مأساة شهداء جهروم بشديد الحزن والأسى. بالنيابة عني وعن الأحباء انقلوا إلى جلالة الملك تقديرنا العميق على تدخّله العاجل، والتماسَنا الجدي بأن يُنْزل العقوبة الفورية بمرتكبي هذا الجرم الشنيع. حُثُّوا جميع المحافل الروحانية في إيران على إرسال رسائل مماثلة.’ إنها دلالة، وإن كانت بسيطة، ولكنها هامة وتدل على حالته الذهنية حيث كتب اسم البلدة في برقياته الأولى كما يتم لفظها “جَهْرُم” (Jahrom) ثم تحوّل حضرته إلى كتابتها حسب تهجئتها الصحيحة “جَهْرُوم” (Jahrum).
ما كان يعنيه كل هذا بالنسبة لشوقي أفندي قد عبّر عنه بنفسه في رسالة كتبها إلى أحد شركائه العاملين في 24 إبريل/ نيسان. فبعد إعلامه باستلام رسائله العديدة بيّن له أن سبب تأخيره في الرد عليها راجع إلى ‘مَرَضي الذي تفاقَمَ لسوء الحظ وكاد يُفضي إلى الانهيار، والذي تزامن مع ما حَمَلَتْه لي الأخبار المُحزنة من إيران باستشهاد اثني عشر شخصًا من أحبائنا في بلدة جهروم جنوب شيراز. لقد أبرقتُ طالبًا الحصول على تفاصيل كاملة وفي نيّتي أن أشارك مختلف المراكز البهائية بمضمونها فور وصولها. يبدو أن الاعتبارات السياسية والمنافسات الفردية قد لعبت دورًا ليس بالصغير… بعثتُ برسالة إلى الشاه بواسطة المحفل الروحاني المركزي في إيران… كما طلبتُ من محافل روحانية خارج إيران أن تنشر هذه التقارير في صحفها الخاصة بعلانية تامة وبلغة تخلو من أية نبرة عدائية، إلا أنني انتهيتُ إلى أنه لم يئن الأوان بَعْدُ لأن يسعَوْا إلى اتّصال مباشر مع الشاه… إنه لأمر محزن وباعث للضيق عندما يفكر المرء بأن البهائيين، نظرًا لما هم عليه من ضغوط تحت نير الكثير من تلك البلايا والظروف المُذِلّة، يبدو أنهم في الوقت الحاضر يقفون عاجزين تمامًا لا حول لهم في مجهوداتهم لتأمين الحماية الضرورية من السلطات المَعنية. ولا شك أن هناك بالتأكيد حكمة ما وراء إخفاقهم الواضح في مساعيهم المضنية.’ وفي برقية أخرى للشخص نفسه أُرسلت بعد أسبوعين يقول فيها شوقي أفندي بأنه ‘في غاية الحزن’.
في 21 مايو/ أيار نجده يكتب ثانية إلى البهائي نفسه مُفضِيًا له بمكنون قلبه قائلاً: ‘أجد نفسي مُنهَكًا تمامًا لأن أقوم بأي عمل فعّال حاليًا. غدوْتُ بطيئًا نافد الصبر غير كفؤ… أُفكّر بالابتعاد قليلاً إذا لم تبرز أزمة جديدة مفاجئة. لقد تلقيت الكثير منها في الأشهر القليلة الماضية…’ وبالرغم مما هو فيه، فقد نجح شوقي أفندي في عمَلِ ما اعتَقَدَ أنه يمكن عمله: ‘أشعر أنه بالصبر، باللباقة، بالشجاعة، وبما لدينا من إمكانات، يمكننا ان نستفيد من هذه التطورات في تعزيز مصالح أمر الله وتعاظُم تأثيره.’ لقد حشد حضرته قوى العالم البهائي في الدفاع عن الجامعة البهائية الإيرانية المضطهدة، وحرِص على نشر أخبار هؤلاء الشهداء في وسائل الإعلام الأجنبية على نطاق واسع، وواصل توجيهاته إلى المحافل الروحانية المركزية المختلفة فيما يجب اتخاذه من إجراءات بهذا الخصوص وبخصوص قضية “البيت الأعظم”.
تلك هي حكاية فترة واحدة من حياة ولي أمر الله؛ تُصوِّرُ لنا كم من اللطمات انهالت عليه في مدة قصيرة تجاوزت الستة أشهر بقليل، في وقت كان لا يزال يجاهد في سبيل الحفاظ على أعباء الحِمْل الذي وُضع على كاهله وقت صعود المولى متوازنًا بشكل سليم يستطيع به حمله!
[1] Gladys.
[2] Norwich.
[3] Ferns.
[4] Antipodes.
[5] Alaine Locke.
[6] Executive foresight.
[7] Projective vision.
[8] Dumit.
[9] McMurdo Sound.
[10] Ross.
[11] Horace Holley.
اعتاد شوقي أفندي التعليق بأن من رحم معاناته وآلامه يبدو دائمًا أن شيئًا ما يولد. كان يعاني تلك المحن مُكتويًا بنارها – لأنه بدا حقًا محترقًا بنار الآلام تمامًا – ثم يهطل عليه بعض الغيث من السماء على شكل بشارات سارّة تساعد في انتعاشه من جديد. أخشى أن لُغز التضحية لا يزال سرًا بالنسبة لي، إلا أنه من المؤكّد أن النفوس المقدسة في هذا العالم يدفعون ثمن انتصاراتهم بأغلى ما يملكون.
كان ذلك في هذا الوقت، والبلايا تطوّق ولي الأمر تمامًا، حينما نشرت مجلة تورنتو ديلي ستار[1] في الرابع من مايو/ أيار تصريحًا للملكة ماري ملكة رومانيا عبّرت فيه عن تقديرها العميق للدين البهائي، وهو تصريح تبعته تصريحات أخرى أثناء زيارتها للولايات المتحدة وكندا، وأوردته مائتا صحيفة إخبارية تقريبًا ليشكّل واحدًا من أوسع وأعظم مشاهد الإعلان العام عن الأمر المبارك لم يحظَ الدينُ بمثلها من قبل. في رسالة خاصة كتبها ولي أمر الله في 29 مايو/ أيار يشير إلى هذا بأنه ‘الحَدَث الأكثر إبهارًا والأعظم أهميةً في مسيرة تقدم أمر الله.’
إن إقرار ملكة رومانيا بمقام حضرة بهاء الله – باعتبار جلالتها أُولى الرؤوس المُتوَّجة التي تعتنق الدين – يعدّ بحدّ ذاته فصلاً من فصول حياة شوقي أفندي الذي لا ينفكُّ عن ارتباطه بخدمات مارثا روت، تلك ‘النجمة اللامعة الخادمة لدين حضرة بهاء الله’ كما دعاها شوقي أفندي، وبالدور الذي لعبته في حياته – ولا يمكن بحق أن يكتمل سردنا لحياة حضرته أبدًا دون التطرق إلى علاقة تلك النفس النبيلة به. كانت الآنسة مارثا روت تعمل صحفية، وتنحدر من عائلة أمريكية معروفة. تشرّفت بمقابلة حضرة عبد البهاء خلال زيارته للولايات المتحدة، ثم اشتعلت روحُها حماسًا بـ ”ألواح الخطة الإلهية”. فنهضت عام 1919 وبدأت أسفارَها التاريخية خدمةً لأمر الله، أسفارًا لم تكن الأطولَ والأبعد من أي رحلات قام بها فردٌ بهائي على الإطلاق منذ فجر تاريخ الدين فحسب، بل غالبًا ما كانت في ‘ظروف صعبة للغاية’ أيضًا كما صرّح ولي الأمر. عندما صعِدت روح حضرة عبد البهاء كان لها من العمر تسعٌ وأربعون سنةً. كانت امرأة عادية، أقصد أنها لم تكن جميلة أو جذّابة، ولكنها كانت تمتلك عينين زرقاوين صافيتين وجميلتيْن بشكل استثنائي، وهي على درجة متميّزة من الإيمان جعلتها توقن بأن حضرة بهاء الله قادر على كل شيء، وسوف يعمل كل شيء فقط إذا ما وقف المرء جانبًا وترك مشيئته تعمل كما اعتادت أن تقول. إنها بفضل رحلاتها التبليغية العظيمة – أربع منها دارت بها حول العالم بأكمله – مع ما تتمتع به من مناقب رائعة حقًا، قد جعلها عزيزة جدًا على شوقي أفندي وجعلته يدعوها بـ’زعيمة المبلِّغين البهائيين الجوالين’. لم تجلب خدَمات أحدٍ على الإطلاق ما جلبته خدماتها وانتصاراتها المتميّزة لحضرة ولي أمر الله من راحة ورضى. كتب عنها شوقي أفندي في أكتوبر/ تشرين الأول 1926 قائلاً: ‘حقًا لقد شاهدنا تمامًا في حالتها، وبأسلوب لا يمكن أن نخطئه، ما لقوّة الإيمان الذي لا يهاب شيئًا أن تحقّقه إذا ما اقترنت بشخصية سامية، وأيّ قوى يمكن لها أن تُطلِقها، وإلى أي ذُرىً سامكةٍ يمكن أن ترتقي.’
منذ مستهلّ ولاية شوقي أفندي لم تتوجَّه مارثا روت بقلبها المحبّ الكبير إليه فحسب، بل دأبت تنشد نصيحته بشأن خططها باستمرار. وليس من المبالغة في شيء إذا قلنا إن حضرته كان شريكها في كل إقداماتها، في شراكة اتّسمت بمحبة وثقة متبادَلة، وهو ما كان في غاية الندرة في حياة ولي أمر الله المُثقلة بالهموم. كانا على اتصال دائم بسيل من الرسائل والبرقيات تُخبره فيها بخططها وتُفصح عن احتياجاتها وما وُفِّقت إليه من انتصارات، ملتمسة هدايته ومتطلعة إلى ردوده واستجاباته التي لم تخفق يومًا في منْحِها الشجاعة والنصح. نجد في رسائله إليها، التي وصفها عام 1923 بـ ’إحدى حواريي عبد البهاء الغيورين الذين لا يُقهرون’، عبارات كهذه تكررت مرات ومرات معبّرًا فيها عن دفء مشاعره، وأنه قرأ رسائلها بـ’الفخر والامتنان’ والتي ‘أفرحت قلبي كالمعتاد’، وإنه ‘لشيء مُبهج دائمًا أن أسمع منكِ يا مارثا المحبوبة.’ وفي يوليو/ تموز 1926 كتب إليها، في وقت كانت تجري فيه اتصالاتها العديدة مع العائلات الملكية في أوروبا، قائلاً: ‘… اكتبي لي بالكامل وبلا انقطاع لأنني توّاق أن أسمع عن نشاطاتكِ وكل تفاصيل منجزاتكِ، مؤكدًا لك محبتي اللامحدودة…’ وفي أغسطس/ آب كتب يقول: ‘أتحرّق شوقًا إلى سماع كل التفاصيل الدقيقة عن إقداماتك المظفّرة في ميدان الخدمة… مرفق بطيه نسخة من خطابي إلى جلالة الملكة. لا تشاركي أحدًا بمضمونه.’ ولكنه سارَعَ بنفسه إلى إشراكها به كونها مبلِّغة جلالتها. وفي سبتمبر/ أيلول كتب يقول: ‘يسرني أن أشاركَكِ بمضمون رسالة ملكة رومانيا ردًّا على خطابي. أعتقد أنها رسالة رائعة تفوق أعلى توقّعاتنا. إن التغيير الذي طرأ عليها، وأسلوبها الصريح، وشهادتها النافذة، ووقفتها الباسلة، لهو حقًا برهانٌ بليغ مقنع على نفوذ الروح الغالبة لدين الله الحيّ، ودليلٌ على خدماتكِ الرائعة التي تقدمينها لأمر الله.’
إن روابط الثقة بين شوقي أفندي ومارثا تُظهِرها بكل وضوح تلك البرقيات المتبادَلة في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1926: ‘أيها المحبوب، هل توافق على استمراري بخطتي الأصلية بدءًا بالبرتغال في أواخر شهر نوفمبر/ تشرين الثاني. رجاءً أبرق.’ ليس هناك ما هو أرق وألطف وأكثر تعبيرًا عن طبيعة مارثا من ذلك التعبير القوي التحبُّبي ‘أيها المحبوب’ تبدأ به برقيتها، والذي كثيرًا ما كان ينساب منها بشكل عفوي تلقائي تجاه ولي أمر الله الذي تحبّه وتوقره إلى أبعد الحدود. فأجابها: ‘افعلي ما تُلهمك به الهداية السماوية. مع أرقّ مشاعر المحبة.’ وبعد ذلك بوقت قصير أرسل إليها خمسين جنيهًا إسترلينيًا ‘مشاركة متواضعة مني تجاه العمل الرائع الذي تقومين به من أجل أمرنا المحبوب.’ لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي يقوم بها بهذا العمل؛ إذ نجد حضرته بين الفَيْنَةِ والأخرى قد أرسل إليها مبلغًا من المال من أجل ‘عملِكِ الذي يُحتذى في الكَرْمِ الإلهي وحتى، كما جاء في كلماته، يساعد في ‘أسفارك المكثفة ونفقاتكِ المتزايدة وعملِكِ المذهل’، ومرة واحدة على الأقل حينما وصلته أخبار مرضها. وأرسل إليها أيضًا المال للمساعدة في أعمالِ ترجمةِ ونشر كتاب د. إسلمنت بلغات أجنبية مختلفة – والذي أشار إليه شوقي أفندي بأنه الكتاب المرجع عن الدين البهائي – وهو عمل انهمكت فيه مارثا روت بكل همّة ونشاط، وهو ما كان يحثها باستمرار على ترويجه، وفي أغلب الأحيان يرسل إليها التبرع لغرض آخر. أما الهدايا فلم تكن من جانب واحد بأي شكل من الأشكال. فنجد حضرته يكتب إليها: ‘استلمتُ خاتم الذهب الذي أرسلتيه لي… وبعد أن وضَعْتُه بإصبعي قدّمتُه للورقة المباركة العليا… لا يمكنك أن تتصوري مدى ما تقدمينه من مساعدة معنوية، وما تمنحينه من عزاء وإلهام لإخوة لنا في إيران تُنهِكهم المضايقات ويئنّون تحت وطأة الصدمات الموجعة. حقًا سيكون لكِ في عالم الملكوت أجر عظيم! وسيعضِّد الله ساعدك بقوة أكبر!’ ونقرأ في حاشية رسالته هذه المؤرخة فبراير/ شباط 1929 مضيفًا قوله: ‘استلمتُ المِنديل الجميل الذي أرسلتيه لي. استعمله دائمًا كذكرى عزيزة من شخصِكِ الغالي.’ طبيعيٌّ جدًا من شوقي أفندي أن يفكّر فجأة بأن مارثا روت ربما آلمها كونه وهب الخاتمَ للغير، فيسارع إلى طمأنتها بحرصه على استعمال المنديل! ويبدو أنهما تبادلا أشياء كثيرة؛ فقد اعتاد شوقي أفندي أن يرسل إليها كتبًا بهائية للتوزيع. في إحدى رسائله عام 1931 ذكر بأنه مُرسِل إليها رزمتين من الورق المروّس بالاسم الأعظم لاستعماله ‘في مراسلاتِكِ مع الشخصيات المرموقة’. ونجدها في إحدى المناسبات تحوّل له مبلغ (19) جنيهًا إسترلينيًا لتغطية نفقات برقياته لها ردًا على أسئلتها.
جاء في إحدى برقيات مارثا روت لشوقي أفندي: ‘أيها المحبوب الأرقّ، أتوق لسماع أخبارك.’ وفي إحدى رسائله لها يقول: ‘… أجيال لم تولد بعدُ ستهلّل في ذكرى مَنْ مهّدت السبيل، بكل نشاط وفعّالية وبسلاسة وروعة، لاعترافٍ عالمي بدين حضرة بهاء الله.’ دعاها حضرته بـ ’المنادي الفذّ لأمر الله’. إن ما عَنَتْهُ خدماتُها ورسائلُها بالنسبة لشوقي أفندي أثناء السنوات العشر الأولى من ولايته، في وقت كتب إليها بنفسه بأن استجابة الأحباء لمتطلبات ميدان التبليغ ‘ضئيلة جدًا وغير كافية!’ كان شيئًا لا يُوصَف. كتب إليها في العاشر من يوليو/ تموز 1926 يقول: ‘رسائلُك… أمدَّتْني بالقوة والبهجة والتشجيع في وقت كنتُ فيه حزينًا تعِبًا مُثبَطَ الهمّة.’ وفي يونيو/ حزيران عام 1927 نراه يؤكّد لها بأن مراسَلَتها لا تشكل له عبئًا، ‘… بل بالعكس فإنها تنعش روحي المرهقة وتُحيي فيّ روح الأمل والثقة التي تَسْوَدُّ أحيانًا نتيجة المشاغل الضاغطة والهموم المتعددة.’ وفي شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، عندما أُرسلت له في حيفا نسخة عن رسالة الأميرة إليانا[2] الموجهة إلى مارثا، أكّد لها شوقي أفندي أنها قد ‘جلبت دموع الفرح إلى عيني الورقة المباركة العليا… إنني متأكّد من أنكِ لا تدركين مدى ما تقومين به لأمر الله!’ وفي رسالة أخرى كُتبت في سبتمبر/ أيلول 1928 يبدؤها بعبارة: ‘مارثا الأعز والأغلى’، وبعد أن ذكر شوقي أفندي كم هو شديد الحزن على وضع الأمر المبارك في روسيا، يمضي في قوله: ‘أؤكد لكِ أنه لولا رسائلك لشعرتُ بما أنا فيه من قوّة خائرة وإنهاكٍ تامّ… عليّ أن أتوقف الآن لشعوري بعدم قدرتي على كتابة المزيد لأن أعصابي ترتعش ومرهقة. أخوكِ الحزين ولكنه شاكر حامد.’ في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني كتب يُعلمها باستلامه خمس رسائل منها – ما يعطينا فكرة عن كثافة رسائلها لحضرته – ويقول: ‘إنه لأمر باعث على راحتي وتشجيعي في عملي أن أُذَكَّر دائمًا، من خلال رسائلكِ الجميلة، بتلك القوة الغالبة لحضرة بهاء الله التي تشعّ من خلالك في كافة مساعيك الواسعة المقدسة…’ ويرسل إليها تسعة فصوص خواتم [بالاسم الأعظم] ‘لتقديمها لمن تشعرين أنهم جديرون بامتلاكها.’ وثلاثين جنيهًا إسترلينيًا، ‘وهو شيء لا يُذكر وغير كافٍ إذا ما قورن بمجهوداتكِ المذهلة…’
لقد توجّهتْ إليه مارثا في كل الأوقات، ولم تتردّد في الرجوع إليه بكل ما تشعر أنه في مصلحة الأمر المبارك. كان ولي الأمر يَعِي تمامًا طهارة دوافعها وسلامة حُكمها على الأمور، وغالبًا ما كان يوافقها الرأي في مطالبها التي تراوحت بين رسائل التشجيع للأفراد ورسائل برقية إلى شخصيات عظيمة مرموقة. كان حضرته يُخبرها: ‘بناء على طلبِكِ أرفق طيًا تلك الرسائل التي طلبتِ أن أُحررها.’ وبدوره كان يكلّفها بكثير من المهامّ، مستفيدًا منها كأداة راغبة ومستعدّة للعمل دومًا من أجل تعزيز مصالح الأمر المبارك وفي الدفاع عنه أمام أعدائه، ومشجعًا إياها على حضور، بل ومرسل إياها في الحقيقة ممثّلةً شخصيةً عنه في بعض الأحيان إلى مختلف المجامع والمؤتمرات العالمية التي تتفق اهتماماتها وأهدافُها الحيوية مع ما للبهائيين. مثال ذلك رسالته المؤرخة 12 يونيو/ حزيران 1929 الموجهة إلى ‘المؤتمر الحَوْلي[3] الثالث لـ ”الاتحاد العالمي للمنظمات التعليمية”‘ الذي عُقد في جنيف: ‘شركائي الأعزاء العاملين في خدمة الإنسانية، أُوفد إليكم الآنسة مارثا ل. روت، وهي صحفية أمريكية ومبلّغة ومتحدِّثة بهائية عالمية، بصفتها ممثلة لبهائيّي العالم في مؤتمركم المنعقد في شهر يوليو/ تموز، وسوف تقدم لكم رسالة مني تحية لمؤتمركم العظيم. مع كل التمنيات الخالصة لكم في مهمتكم النبيلة، فإنني أخوكم وشريككم في العمل. شوقي.’ كان العديد من هذه المؤتمرات بلغة الإسبرانتو، التي كانت مارثا ضليعة بالتحدّث بها. وبرقيات كهذه، أُرسلت في إبريل/ نيسان 1938، كانت شيئًا مألوفًا: ‘مارثا روت – بومبي، انقلي إلى عصبة جميع الأديان خالص تمنياتي لهم بالنجاح في مداولاتهم. عسى أن تُمكّن الهداية الإلهية المندوبين المجتمعين من تحقيق مقصدهم السامي، وتوسيع نطاق فعالياتهم الجديرة بالتقدير.’
في مارس/ آذار 1936 أبرقت مارثا لحضرته أن شقيقة الملكة “ماري” قد توفيت؛ فأبرق في اليوم التالي إليها قائلاً: ‘… أكّدي للملكة المحبوبة أعمق التعازي…’ كان شوقي أفندي ومارثا روت كلاهما دومًا على وَعْي تام بالطريقة المناسبة واللطيفة والحكيمة في القيام بما يجب. كانت مارثا إنسانة بسيطة طبيعية صادقة المشاعر غير متكلّفة، وذات شخصية ودودة آسرة، ولا شك أن هذه الأصالة، وهذه البساطة والنبالة في فطرتها قد حبّبتها لعاهل حضرة بهاء الله، ولي الأمر، بمثل ما حبّبتها لأول ملكة تعتنق الدين البهائي. في إحدى برقياتها لشوقي أفندي عام 1934 تقول: ‘عزيزتُنا (الملكة) ماري تبعث إليك بعبارات المحبة والشكر. المقابلات رائعة.’
في إحدى المناسبات أبرقت مارثا إلى ولي الأمر قائلة: ‘… ربما ترى من الحكمة توجُّهي فورًا إلى سيادة الرئيس هوفر[4] لإبلاغه تحياتك’، فأجابها شوقي أفندي في اليوم التالي برقيًا: ‘لطفًا انقلي للرئيس هوفر بالنيابة عن أتباع حضرة بهاء الله في العالم دعواتهم الحارة من أجل نجاح مساعيه التي لم يأْلُ فيها جهدًا في سبيل تعزيز قضية السلام والأُخُوَّة العالمية – وهو ما جاهد البهائيون من أجله قرابة قرن من الزمان بكل ثبات واستقامة.’ وقبل سنة بالضبط، أثناء زيارة قامت بها إلى اليابان في نوفمبر/ تشرين الثاني 1930، نجد هناك تبادلاً مماثلاً للبرقيات بينهما؛ فتقول مارثا: ‘أيها المحبوب، كم سيكون رائعًا إن أبرقتَ لي لتقديم التحيات للإمبراطور.’ فأبرقَ إليها شوقي أفندي في اليوم نفسه: ‘لطفًا، انقلي لفخامة إمبراطور اليابان، بالنيابة عني وجميع البهائيين في العالم، خالص محبتنا العميقة، وأكّدي له دعواتنا القلبية لسعادته ولازدهار إمبراطوريته العريقة.’ فالحب يولّد حبًا. بحب مارثا الكبير لشوقي أفندي ظفرتْ بمحبته واستجاباته لها تمامًا كما هي الألماسة في قدرتها على عكس النور الذي أمسكت بأشعته لتطلقه من جديد بكل أَلَق وسطوع.
في مارس/ آذار 1927 كتب شوقي أفندي لمارثا ‘… أؤكّد لكِ، عزيزتي مارثا، أن دعواتي الحارة المتواصلة سترافقك أينما كنتِ؛ في إسكندنافيا، وسط أوروبا، روسيا، تركيا أو في إيران. كلي ثقة بأن عين الله ترعاكِ وتشدّ من أزرك وتقود خُطاكِ نحو تحقيق مهمّتِكِ الفريدة غير المسبوقة كمثال يُحتَذى في الدفاع عن الدين البهائي.’
ورغم أنه لم يكن بالإمكان أبدًا ذهاب مارثا إلى روسيا، فقد ذهبت إلى إيران في زيارة رغب فيها ولي الأمر كثيرًا. ففي 22 يناير/ كانون الثاني 1930 أبرق إليها شوقي أفندي قائلاً: ‘عسى محبوب العالم أن يسدِّد خطاكِ في تقدّمك المظفَّر في إيران.’ وفي بداية شهر إبريل/ نيسان، عندما وصلت إلى الهند، نجد شوقي أفندي يكتب إليها، معلِمًا إياها باستلامه ما لا يقل عن اثنتي عشرة رسالة منها، قائلاً: ‘تستحقين تمامًا كل الشرف والحب وكرم الضيافة المتميّز الذي أبداه الأحباء لك في إيران. كنتُ مشغولاً جدًا بعد مرضي الطويل والشديد، حتى إنني شعرت بالعجز عن الرد سريعًا على رسائلكِ، ومع هذا كنتِ معي في أفكاري دومًا خاصة في تلك الساعات عندما أزور المقامات المقدسة وأضع جبيني على عتباتها المقدسة.’ مرّت السنون ومارثا روت ماضية في رحلاتها المتواصلة، بشعرها الأبيض وجسمها الضعيف وصمودها الذي لا يُقهَر، إلى أن أُصيبت ‘بمرض مميت ومؤلم’ كما كتب شوقي أفندي. وفي الثامن والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1939 صعِدت روحها إلى بارئها في جزيرة هونولولو. كانت تتقلب على جِمار الألم في الأسابيع الأخيرة من جولتها في “الجهة المقابلة من الكرة الأرضية”، وفي طريق عودتها إلى أمريكا للمساعدة في متابعة خطة السنوات السبع الأولى سقطت في دروبها مقدِّمةً حياة، قال عنها ولي الأمر، سوف تُعدّ بحق أبهى ثمرة أينعت في عصر التكوين لدورة حضرة بهاء الله.
أذكر تمامًا يومَ وصلتْ إلى شوقي أفندي برقيةٌ تنقل خبرَ وفاتها. كان وقتها يعاني مرضًا شديدًا جرّاء إصابته بحمى ذبابة الرمال وارتفاع درجة حرارته إلى (104 ْفهرنهايت)[5]. ويا للأسف والحسرة، ما كان يجب أن يستلم خبرًا كهذا في مثل حالته أبدًا! ولكن لم تكن هناك من طريقة لنحجب عنه هذه البرقية. إنه ولي الأمر، ومارثا روت هي التي توفيت. ورغم الاعتراض الشديد من والدته وأخيه ومنّي أنا، إلا أنه سحب نفسه وأخذ وضعية الجلوس في فراشه وهو شاحب اللون وفي إعياء شديد وقد زلزل الخبر المفاجئ كيانه، وشرع يُملي برقية إلى أمريكا معلنًا وفاتها. وقال: ماذا عساي أن أفعل غير هذا – فقد كان العالم البهائي بأسره ينتظر سماع ماذا سيقول حضرته. من جملة ما أورده في تلك الرسالة الطويلة قوله: ‘إن العدد الذي لا يُحصَى من الذين يُكْبِرون مارثا روت ويُجلّونها في أطراف العالم البهائي يندبون معي انطفاء شعلة حياتها البطولية على هذه الأرض… ستضعها الأجيال القادمة في المقام الأول لأيادي أمر الله… في القرن الأول البهائي… أول أينع ثمرة في عصر التكوين لدين الله…’ وقال بأنه يشعر من واجبه أن يشارك المحفل الروحاني المركزي في أمريكا في تكاليف بناء قبرها، قبر التي ‘بأعمالها أغدقت على الجامعة البهائية الأمريكية مجدًا خالدًا.’ كان ذلك المبلغ آخر ما أَنفق حضرته في تلك الشراكة الفريدة التي دامت ثماني عشرة سنة. وإلى السيدة التي صعدت روحها في منزلها أبرق قائلاً: ‘… ابتهجي لمقامها الرفيع في الملأ الأعلى…’
إلا أنه في واقع الأمر ظلّ شوقي أفندي فترة طويلة يفيض بأرقِّ العبارات بحق مارثا روت التي ‘لا تُقارن’، و’زعيمة سفراء دين حضرة بهاء الله’. كما دعاها حضرته في خطاب عام إلى الأحباء في الغرب عام 1929 بقوله: ‘وختامًا، أتمنى ببضع كلمات، ولو أنها قاصرة، أن أعبّر عن تقديري للخدمات الرائعة لأختنا العزيزة المحبوبة الآنسة مارثا روت، مثال المبلّغ الذي لا يعرف الكلل. إن رحلاتها العالمية مندوبة عن الدين البهائي، الواسعة جدًا في مداها ومُدَدِها، والملهِمة للغاية في نتائجها، سوف تزيّن وتُثري سجلات تاريخ دين الله الخالد. إن باكورة أسفارها إلى أقاصي جنوب القارة الأمريكية، وإلى الهند وجنوب إفريقيا، وإلى التخوم الشرقية لقارة آسيا، وإلى جزر البحار الجنوبية، وإلى الأقطار الإسكندنافية في الشمال؛ ثم أحدث اتصالاتها بحكّام أوروبا وملوكها المُتوَّجين، وما خلّفته روحها المقدامة من تأثير بليغ في الأوساط الملكية في دول البلقان؛ وارتباطها الوثيق بمنظماتٍ عالمية، وجمعيات السلام، والحركات الإنسانية، وحلقات الإسبرانتو؛ وآخر ما حققته من انتصارات في الأوساط الجامعية في ألمانيا – تشكل كلها دليلاً دامغًا لما يمكن أن تُحقّقه قوة حضرة بهاء الله. هذه الجهود التاريخية الشاقة التي قامت بها وناضلت بمفردها في ظروف قاسية من شحّ في المال واعتلال في الصحة قد اتّسمت في كل الأوقات بروح الإخلاص، ونكران الذات، وبشمولية وحماس على شأن لم يبزّها أحد.’ لقد كانت ‘الأقرب إلى المَثَل الذي ضربه حضرة عبد البهاء بنفسه لحوارييه في سياق رحلاته في ربوع الغرب.’
كانت مارثا روت على قناعة تامة بأن ما في حوزتها هو أبهى وأعظم جوهرة شهدتْها عين الإبداع – رسالة حضرة بهاء الله. وأيقنت أن في الكشف عن هذه الجوهرة وتقديمها لأي إنسان، مَلِكًا كان أم قرويًا بسيطًا، إنما تُغدِقُ عليه بأعظم نعمة يمكن أن يتلقاها على الإطلاق. هذا الإيمان الراسخ المُفعم بالكبرياء هو الذي مكّنها من مقابلة المزيد من الملوك والملكات والأمراء والأميرات والرؤساء والشخصيات المرموقة وأصحاب الشهرة والبارزين، وهي المرأة التي لا تملك ثروة أو مكانة اجتماعية مُميَّزة، بسيطة لا تُشغِلها أناقة ملبسها، ولا هي من كبار العلماء أو المفكرين البارزين؛ فقد قابلتهم وقدّمت لهم الدين البهائي بما يفوق ما فعله أي بهائي في تاريخ هذا الأمر الإلهي على الإطلاق. وبما أن هذا الكتاب يتعلق بولي أمر الله وحياته ولا يتطرق لحياة الآخرين، فمن المستحيل الدخول في تفاصيل، وردت بإسهاب في أماكن أخرى في الكتب البهائية، عن مارثا روت ومقابلاتها العديدة مع شخصيات مرموقة بلّغتها “الرسالة”، وماذا كانت ردود أفعالها. فاهتمامنا الرئيس إذًا يجب أن ينصبّ على الرابطة التي نشأت بين جلالة ملكة رومانيا وشوقي أفندي.
كانت مارثا روت قد أرسلت تقارير إلى شوقي أفندي تصف فيها أولى مقابلاتها الثمانية مع الملكة ماري – ملكة رومانيا – التي جرت في قصر كونتروشني[6] في بوخارست في 30 يناير/ كانون الثاني 1926 بناء على طلب الملكة نفسها بعد استلامها نسخة من كتاب د. إسلمنت – بهاء الله والعصر الجديد – الذي سبق أن أرسلته لها مارثا. كان واضحًا أن الملكة قد انجذبت إلى تعاليم الأمر المبارك، وعندما أُشيعَ بأن جلالتها قد تزور أمريكا الشمالية أرسل شوقي أفندي إلى المحفل الروحاني المركزي هناك بتعليماته التالية التي كتبها سكرتيره في 21 أغسطس/ آب 1926: ‘قرأنا في صحيفة التايمز أن الملكة ماري ملكة رومانيا قادمة إلى أمريكا. يبدو أن لها اهتمامًا كبيرًا بالدين الإلهي. وعليه، فإن علينا أن نكون في غاية الحذر خشية أن نقوم بعمل قد يضرها ويتسبب في تراجعها. وإذا ما قامت برحلتها هذه، فإن شوقي أفندي يرغب في أن يتصرف الأحباء بكل تحفُّظ وحكمة دون القيام بأي مبادرة من جانبهم إلا بعد التشاور مع المحفل الروحاني المركزي.’
كان في هذه الزيارة للملكة أن اهتزّ قلبها من الأعماق متأثّرًا بتعاليم الدين الذي كانت تدرسه، وشهِدتْ ‘بلغة رائعة الجمال’، كما وصفها شوقي أفندي ‘على قوة وسموّ رسالة حضرة بهاء الله، وذلك في رسائلها المفتوحة التي تداولتها الصحف والجرائد على نطاق واسع في الولايات المتحدة وكندا.’ ونتيجة لأولى تلك الرسائل قام شوقي أفندي، ‘متأثرًا بدافع لا يقاوَم’، بالكتابة إلى الملكة معبّرًا عن ‘ابتهاجه إعجابًا وامتنانًا’ باسمه والبهائيين في الشرق والغرب على لفتتها النبيلة تجاه الدين البهائي. في 27 أغسطس/ آب 1926 أجابت جلالتها على أول رسالة وجهها إليها شوقي أفندي بخطاب وصفه حضرته بأنه ‘خطاب مؤثر للغاية’:
بران في 27 أغسطس/ آب 1926
سيدي العزيز،
تأثّرتُ من أعماقي بتسلُّم رسالتك.
حقًا أتاني نور عظيم مع رسالة حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء. لقد جاءت كما تأتي كل الرسالات العظيمة في ساعة من الحزن البالغ والصراع الداخلي والكرْب الشديد، وهكذا غاصت بذرة الكلمة الإلهية في الأعماق.
كما أن ابنتي الصغرى تجد في تعاليم المعلميْن المحبوبيْن عظيم القوة والعزاء.
إننا نتناقل الرسالة من فَمٍ إلى فم، فيرى جميعُ مَن نمنحهم إياها بريقَ نورٍ يلمع بغتةً أمام ناظريهم فينكشف لهم الكثير مما كان مستورًا، وينجلي لهم ما كان محيِّرًا فيستنيرون ويمتلئون أملاً كما لم يكونوا من قبل.
من دواعي سعادتي الكبيرة حقًا أن أرى خطابي المفتوح بَلْسمًا لأولئك الذين يقاسون من أجل أمر الله، وأراه دليلاً على أن الله قد تقَبّل خدمتي المتواضعة.
إن الفرصة التي أتيحت لي للتعبير عن مكنون قلبي علانيةً كانت هي الأخرى بتدبير إلهي، لأنها في الحقيقة كانت سلسلة من ظروف وملابسات كل حلقة فيها كانت تُفضي بي إلى أن أخطو بلا وعي خطوة أخرى أبعد، إلى أن اتّضح كل شيء أمام عينيّ بغتة، وفهمت سبب حدوث هذه الفرصة.
وهكذا يقودنا الرب في النهاية إلى ما قُدِّرَ لنا.
بعض مَن هم مِن طبقتي لَيَعْجَبون لأمري ويستنكرون شجاعتي في أن أنطق بكلمات ليست معتادةً أن تعلنها الرؤوسُ المُتوَّجَةُ، إلا أنني أقولها بدافعٍ خفيٍّ لا أستطيع له دفعًا.
برأس خاضع أدرك بأنني أيضًا لست سوى أداة في أيدٍ أعظم، وأبتهج بمعرفتي هذه.
فالحجاب طفق ينحسر شيئًا فشيئًا وقد شطره الحزن شطرين، وكان الحزنُ لي أيضًا خطوةً تقرّبني دومًا من الحقيقة، ولهذا لن أرفع صوتي ألمًا من الحزن!
عسى أن تباركك وتؤيّدك أنت ومَن هم في ظلِّ توجيهِك تلك القوةُ المقدسة لأولئك الذين مضَوْا من قبلك.
ماري
لم تكن الملكة ماري ذات شهرة بجمالها فقط، بل من جملة ما عُرف عنها مقدرتها في التأليف، وأنها إنسانة على خُلُق رفيع وشخصية مستقلة، وقد كتبت في ‘رسائلها المفتوحة’ التي نُشرت عام 1926، في 4 مايو/ أيار و 28 سبتمبر/ أيلول في مجلة تورنتو ديلي ستار، وفي 27 سبتمبر/ أيلول في مجلة “نشرة المساء”[7] بفيلادلفيا، كلمات من قبيل: ‘منذ عهد قريب أحضرَتْ لي سيدة كتابًا أكتب لكم اسمه بالأحرف الكبيرة[8] لأنه كتاب مجيد ساطع بالحب والخير وبالقوة والجمال… أنصحكم به جميعًا. فإذا ما استرعى انتباهَكم يومًا اسمُ بهاء الله أو عبد البهاء فلا تضعوا كتاباتهما بعيدًا عنكم. ابحثوا عن “كتبهما” ودَعُوا كلماتهما ودروسَهما المجيدة، الجالبةَ سلامًا والخالقةَ محبةً، تغوص في قلوبكم كما غاصت في قلبي. قد يبدو للمرء أن يومه مشحون بالعمل ولا فُسحة فيه للدين، أو أنه قانع بدينه، ولكن تعاليم هذيْن الرجليْن النبيليْن الحكيميْن الرؤوفيْن تنسجم مع كل صاحب دين ومن لا دين له. فجِدّوا في طلبها وكونوا الأسعد حالاً’، ‘في بداية الأمر نتخيّل جميعًا أن اللهَ تعالى شيءٌ ما أو شخصٌ ما في معزل تامٍّ عن أنفسنا… الأمر ليس هكذا؛ إذ لا يمكن لنا أن ندرك تمامًا مغزاه بقدراتنا الأرضية – ولا أن ندرك حقًّا معنى الخلود… الله هو الكل، هو كل شيء. هو القوة وراء كل البدايات. هو مصدر الحب والخير والتقدّم والإنجاز الذي لا ينضب، لذا هو ‘السعادة’ بعينها. هو الصوت المنبعث من دخائل أنفسنا فيرينا الخير ويرينا الشرّ، إلا أننا غالبًا ما نتجاهل هذا الصوت أو نخطئ فهمه. من أجل هذا اصطفى مختاريه ليهبطوا بيننا على الأرض حتى يوضّحوا ‘كلمته’ و’حقيقة مُراده’. ولذلك كان الرسل والأنبياء؛ فكان المسيح وكان محمد وكان بهاء الله، لأن الإنسان محتاج من حين لآخر إلى صوت على الأرض يذكّره بالله ويشحذ إدراكه بوجود الله الحقّ. تلكم الأصوات المُرسَلة إلينا اكتست لحمًا ليكون بمقدورنا أن نستمع إليها بآذاننا الترابية ونفهمها.’
بعد أن وصلته من كندا نسخة عن الرسالة الأولى للملكة من بين ‘الرسائل المفتوحة’ كتب شوقي أفندي فورًا رسالة إلى مارثا روت في 29 مايو/ أيار واصفًا الخطاب بأنه ‘شهادة خالدة تستحقها مجهوداتُكِ الرائعة ومساعيكِ التي تُحْتَذى في نشر أمرنا المحبوب. لقد هزّت مشاعري وقوّتْ كثيرًا من روحي وعضُدي. إنجازُكِ نصرٌ جدير بالتذكُّر يصعب أن يَبزَّهُ إنجاز آخر في أهميته في تاريخ أمر الله.’ في الرسالة نفسها يطلب منها أن تفكّر مليًا في إمكانية إطْلاع جلالتها على أخبار شهداء جهروم واحتمال كسب تعاطفها لخدمة قضية اضطهاد الأحباء في إيران. لا شك في أن ذلك قد أثّر في الملكة وجعلها تُدلي بتصريحات أكثر جرأة عن الدين البهائي؛ فرسالتها إلى شوقي أفندي تشير إلى أن هذا ما حصل. لقد وصل خبر هذا الانتصار إلى شوقي أفندي عشيّةَ يوم إحياء ذكرى صعود حضرة بهاء الله في البهجة، في وقت وصفه في إحدى رسائله العامة بقوله: ‘… اجتمع خدّامه المحزونون حول مرقده المحبوب بنهاية التضرع والابتهال يلتمسون الفرج والحرية لأحبائنا المضطهدين في إيران.’ ويسترسل شوقي أفندي بقوله: ‘برؤوس خاضعة وقلوب ممتنّة فإننا نرى في هذا التقدير الوهّاج الذي قدّمته شخصية ملكية لأمر حضرة بهاء الله إعلانًا تاريخيًا مقدّرٌ له أن يكون بشيرًا لتلك الأحداث المثيرة التي ستُعلن نصرَ دين الله المقدس عند تمام الوقت كما تنبّأ حضرة عبد البهاء.’
كان ما حدث بداية علاقةٍ ليس مع الملكة ماري فحسب، بل مع آخرين من ملوك متوّجين وشخصيات ملكية في أوروبا، أقامتها مارثا روت، وفي حالات قليلة – شوقي أفندي نفسه. لم يكن حضرته يكتفي بتشجيعها الكبير وإرشادها في مثل تلك العلاقات فحسب، بل كان – مع حرصه على أن يبقى دومًا ضمن حدود الوقار وحُسْن التهذيب والإخلاص في العلاقات الإنسانية – يستخدم تلك الاتصالات لخدمة مصالح أمر الله من خلال رفع شأنه ومكانته في عيون العامّة، والتأكد من أن تصل تلك المكانة الرفيعة إلى أبصار أعداء الدين وتلفت انتباههم.
وحتى وفاة الملكة ماري عام 1938 حافظت مارثا روت على علاقة ودّية وثيقة معها مُبقيةً إياها على اطّلاع بالنشاطات البهائية، وتستلم منها رسائلها الودّية التي كانت جلالتها تكتبها بخط يدها وتعكس فيها مدى ارتباطها بتعاليم حضرة بهاء الله. كما أن هناك رسائل وبرقيات متبادَلة كانت بين شوقي أفندي والملكة أيضًا، إلا أنه غالبًا ما كان يرسل رسائله بواسطة مارثا لأنه وجد فيه الأسلوب الأكثر وُدًّا والأقلّ مدْعاةً للبروتوكولات المُتّبعة في مثل المقام الرفيع الذي يشغله كل منهما في محيطه الخاص. وهناك عامل آخر لا يمكن إغفاله أو تنحيته جانبًا، ذلك هو الضغط المستمر على الملكة التي كانت تتبوّأ تلك المكانة الرفيعة بين شعبها – والذي كانت تعصف به تيارات سياسية هوجاء في عهد حكمها وفي فترتها كملكة أرملة، من كلا الجانبين الكنسي والسياسي – بأن تلتزم الصمت بشأن دين لم يكن معروفًا على نطاق واسع آنذاك كما هو عليه اليوم، ويَنظر إليه الجُهلاء على أنه إسلامي في طبيعته، وهم لا يستنكرون قبولها المُعلَن المفتوح للدين فحسب، بل يُعدّونه خرقًا سياسيًا في أعلى الدرجات أيضًا.
تذكُرُ الملكةُ نفسُها في أول رسالة لها إلى ولي الأمر بأن ‘بعضَ مَنْ هم مِن طبقتي لَيَعجبون لأمري ويستنكرون شجاعتي في أن أنطق بكلمات ليست معتادةً أن تُعلنها الرؤوس المُتَوَّجة…’ كان الأمر يتطلب منها شجاعة استثنائية وإخلاصًا عميقًا لأن تكتب مرارًا شهادات تعبّر فيها عن مشاعرها الشخصية تجاه موضوع الدين البهائي وتأذن بإعلانها على العموم – في واقع الأمر كتبت الملكة بعضًا من هذه الشهادات متَعَمِّدةً نَشْرَها في مجلد “العالم البهائي”. ففي الأول من يناير/ كانون الثاني 1934 كتبت إلى مارثا روت رسالة ترفق فيها إحدى إشاداتها القيّمة، وتتضمن أخبارًا خاصة بها وعائلتها وتقول: ‘هل هذا مناسب لوضعه في مجلّد “العالم البهائي” الخامس؟ كان صعبًا عدم تكرار ما سبق أن قلته…’
في الخامس والعشرين من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1927 كتب شوقي أفندي إلى مارثا روت قائلاً: ‘بكامل الشوق والترحيب استلمتُ رسائلك… واهتزّ قلبي فرحًا بما حَوَتْه من أخبار، خاصةً مقابلتكِ التاريخية المميّزة مع الملكة والأميرة. أبعث إليك بعدد من الأحجار الكريمة البهائية… لتقديمها بالنيابة عني إلى الملكة والأميرة وأيّ من أفراد العائلة المالكة ممن تتوسّمين فيهم تقديرَها… أرجو أن تؤكّدي للملكة والأميرة وافر محبتنا ودعائنا لهما بالسعادة والتوفيق، ودعوتَنا القلبية الحارة لهما لزيارة الأرض الأقدس واستضافتهما في بيت المحبوب.’
إن وراء هذه المقابلة مع الملكة، التي أشار إليها شوقي أفندي في رسالته أعلاه، لا شك يكمن مدى تأثيره الشخصيّ وتلك التأييدات التي فاضت من تعليماته لمارثا في رسالة كُتبت في 29 يونيو/ حزيران من العام نفسه وفيها يقول: ‘آمل أن تنجحي ليس في مقابلة ملكة رومانيا فحسب، بل وابنتها ملكة صربيا والملك بوريس ملك بلغاريا أيضًا، وكلي ثقة أنك لن تترددي في تزويدي بالأمور الهامة والتفاصيل المتعلقة بعملكِ في ميدانٍ على هذا القدْر من الأهمية.’ إن كون ملكة رومانيا قد استلمت فصوص الخواتم المرسلة، ودَعْوةَ ولي الأمر لها لزيارة حيفا، ظهر واضحًا في برقيتها لحضرته المرسلة من قصر سينايا في 27 يوليو/ تموز 1927[9]:
شوقي أفندي حيفا
عظيم الشكر لكَ ولأحبائك الذين أشعر روحيًا بقربي الشديد منهم.
ماري
هذا وقد نجحت مارثا روت أيضًا في تنفيذ التعليمات الأخرى لشوقي أفندي، لأنه في شهر مايو/ أيار 1928 كتب إليها قائلاً: ‘… مقابلاتُك الرائعة والتاريخية مع أفراد من العائلات الملكية في رومانيا وصربيا قد أنعشتنا وحرّكتْ مشاعرَنا جميعًا…’
وقبل ذلك، في إبريل/ نيسان، كانت الملكة ماري وابنتها إليانا في زيارة إلى قبرص، فبعث ولي الأمر برسالة إلى مارثا روت يخبرها بأن الصحف اليومية قد نشرت أنباءً تفيد بأن الملكة تنوي زيارة حيفا، ويتساءل ‘ما إذا كان في نيّتهما مثل هذه الزيارة، وهل أثناهما الكشف عنها قبل أوانها عن إتمام زيارتهما المزمعة للأرض الأقدس…’ خلال زيارة الملكة إلى قبرص أبرق ولي الأمر إلى حاكمها السير رونالد ستُرْزْ[10]، الذي يستضيف البعثة الملكية، بالرسالة التالية قائلاً: ‘بالنيابة عن عائلة عبد البهاء والأحباء أرجو التلطّف بنقل مشاعرنا القلبية وتقديرنا لجلالة ملكة رومانيا وسمو الأميرة إلْيانا على إشادتهما النبيلة بالمُثُل التي يقوم عليها الدين البهائي. أرجو أن تؤكد لهما أطيب أمانينا وامتناننا العميق.’ قام السير رونالد بنقل ردّ الملكة والأميرة الذي يحمل تقديرهما إلى شوقي أفندي.
فيما يلي مسودة رسالة مطوّلة كتبها ولي الأمر بخط يده إلى الملكة ماري ولها أهميتّها التاريخية:
حيفا، فلسطين
3 ديسمبر/ كانون الأول 1929
جلالة الملكة ماري ملكة رومانيا
بوخارست
صاحبة الجلالة
استلمتُ بواسطة أختي البهائية العزيزة الآنسة مارثا روت صورة جلالتك ممهورة بتوقيعك وتحمل معها، بعبارات بسيطة مثيرة للمشاعر، الرسالة التي تكرّمْتِ بكتابتها شخصيًا. سوف أدّخر هذه الصورة الشخصية فائقة الامتياز، وأؤكّد لك أن الورقة المباركة العليا وعائلة عبد البهاء يشاطرونني بالكامل مشاعري بنشوة الارتياح باستلامنا صورة جميلة أخّاذة لملكةٍ دَأَبْنا أن نُكِنَّ لها المحبة والإعجاب.
لقد تتبّعتُ في السنوات القليلة الماضية بتعاطف عميق مجريات مختلف الأحداث المُقلقة في بلدكم الحبيب، والتي أشعر أنها لا بدّ قد سببتْ لكِ ألمًا وقلقًا شديديْن. إلا أنه مهما كانت تقلُّبات الأحداث وتعقيداتها التي تكتنف مسيرة حياتك الدنيوية، فإنني على يقين بأنكِ، حتى في أحلك ساعات كَرْبِكِ، قد استمطرْتِ وافر العون والسعادة من مجرد التفكير بأنكِ مَنَحْتِ العزاء والقوة الدائمين لجموع المخلصين، الذين طالت معاناتهم في جميع أنحاء الشرق، بفضل تصريحاتكِ التاريخية اللامعة عن الدين البهائي والشواهد اللاحقة على قلقكِ وكَرَم عنايتكِ الشديدة بمصالحه. فيا عزيزتي الملكة، أؤكّد لجلالتك أن المقام الذي قَدَّرهُ لكِ حضرة بهاء الله في عوالم الغيب يفوق ما يمكن لقوّة في الأرض مهما جاهدت أن تأمل في إحرازه.
وفور صدور العدد الثاني من مجلد “العالم البهائي” من قِبَل هيئة الطبع والنشر البهائية الأمريكية، قمتُ بإرسال نسخة منه مباشرة إلى عنوان جلالتك في بوخارست وعنوان سموّ الأميرة إليانا. وهو أحدث إصدار للمنشورات البهائية وأشملها. وفي غضون السنة القادمة، عندما يصدر المجلد الثالث منه، سأجيز لنفسي إرسال نسخة منه وأنا على ثقة بأنه سوف يحظى باهتمام جلالتكم.
ختامًا، أرجو أن أكرر مشاعر التقدير والبهجة العميقة التي تشعر بها عائلة عبد البهاء والبهائيون في كل مكان في العالم جرّاء تلك الدفعة القوية التي قدمتها كلمات جلالتك الصريحة والنبيلة إلى مسيرة تقدّم دينهم المحبوب.
تشاركني العائلة أيضًا في الترحيب الحار بجلالتكم وسمو الأميرة إليانا إذا ما عزمتما على زيارة الأرض الأقدس وبيت حضرة عبد البهاء في حيفا، وزيارة الأماكن التي نالت القداسة والذكرى الخالدة بفعل حياة وأفعال حضرة بهاء الله وعبد البهاء البطولية.
شوقي
في عام 1930 توجهت الملكة ماري وابنتها إِلِيانا في زيارة إلى مصر، وحيث كان لدى شوقي أفندي تجربة مؤسفة تمثّلت في شيوع خبر تناولته وسائل الإعلام بغير حكمة خلال زيارة جلالتها إلى قبرص، فقد أبرق حضرته إلى الإسكندرية في 19 فبراير/ شباط قائلاً: ‘إذا ما زارت الملكةُ مصرَ، أرجو من المحفل الروحاني أن ينقل إلى جلالتها بالنيابة عن البهائيين عبارات ترحيب وتقدير مكتوبة فقط. على الرسالة أن تكون مختصرة وكلماتها منتقاة بعناية. لا مانع من إرسال الزهور. تجنّبوا الاتصالات الفردية بكل حزم. أَعْلِموا القاهرة.’
وأملاً في أن تتمكن الملكة في النهاية من زيارة الأماكن البهائية المقدسة في فلسطين، أعدّ ولي الأمر لوح حضرة بهاء الله الموجّه إلى جدّتها الملكة فكتوريا منسوخًا بخط فارسي جميل جُهِّز وزُخرِف في طهران. في 21 فبراير/ شباط أبرق إلى طهران: ‘من الضروري أن يصل لوح الملكة فكتوريا المزخرف إلى حيفا في موعد لا يتجاوز العاشر من مارس/ آذار وفي صفحة واحدة أو أكثر.’ تلك ستكون هديته لجلالتها. ولمّا لم يسمع أخبارًا عن خطط الملكة منذ أن وصلت مصر، أبرق إليها مباشرة في 8 مارس/ آذار قائلاً: ‘صاحبة الجلالة الملكة ماري ملكة رومانيا، على متن السفينة ماي فلاور[11] – أسوان. تنضمّ إليّ عائلة حضرة عبد البهاء في تجديد دعوتنا القلبية والحبية لجلالتكم وسمو الأميرة إليانا لزيارة بيت حضرته في حيفا. إن قبولك بزيارة مقام حضرة بهاء الله ومدينة السجن عكاء، إلى جانب أهميتها التاريخية، ستكون مصدر قوّة وفرح وأمل لا حدّ له لمن يعانون بصمت من أتباع الدين في أنحاء الشرق. مع حبنا العميق ودعائنا وأعز أمانينا من أجل سعادة جلالتكم وخيركم.’
ولما لم يستلم شوقي أفندي جوابًا على ذلك الاتصال أبرق ثانية في 26 مارس/ آذار إلى جلالة الملكة في فندق سميراميس بالقاهرة: ‘خشية أن رسالتي وبرقيتي السابقة لم تصلكِ، وفيها دعوتي مع عائلة حضرة عبد البهاء لجلالتكم وسمو الأميرة إليانا لزيارتنا، يسرنا جميعًا أن نعبّر مجدّدًا عن سعادتنا إذا ما وجدت جلالتكم من الممكن زيارة مرقد حضرة بهاء الله ومقام حضرة عبد البهاء ومدينة السجن عكاء. أشعر بأسف شديد على ما تنشره الصحف من أخبار غير مصرّح بها.’ وبعد يومين أبرق السفير الروماني في القاهرة إلى شوقي أفندي يقول: ‘تأسف صاحبة الجلالة بأنها، ولعدم مرورها بفلسطين، لن تكون قادرة على زيارتكم.’
إن ردّ فعل شوقي أفندي على هذا الوضع قد سجله بنفسه في خطاب كتبه إلى مارثا روت في 2 إبريل/ نيسان 1930 يقول فيه: ‘أكتب إليك الآن بسرّية تامة بخصوص زيارة الملكة المخطط لها إلى حيفا. فيا للأسف، لم تتحقق هذه الزيارة. أما السبب فإنني أجهله تمامًا.’ ويمضي في قوله إنه بالرغم من دعوته الخطية لها وبرقيتيْه المرسلتيْن إليها في مصر (وأوردهما بالكامل)، كان كل ما استلمه عبارة عن برقية من الوزير الروماني (وأورد نصها كاملاً أيضًا). يبدو أن الإعلان غير المصرّح به الذي ذكره شوقي أفندي في برقيته للملكة قد انتشر على نطاق واسع فظهر في فلسطين وإنكلترا وأمريكا. وقد أعلم حضرته مارثا أن: ‘الصحفيين الذين جاءوني مستفسرين، وهم يمثّلون “الصحافة المتحدة في أمريكا”[12]، قد أبرقوا لصُحُفهم عكس ما قلته لهم تمامًا. لقد حرّفوا الحقيقة. أتمنى لو تمكنّا من التأكد بأن جلالتها على الأقل تدرك حقيقة الوضع! ولكن كيف يمكننا التأكد من أن رسائلنا لجلالتها سوف تصلها من الآن فصاعدًا. أرى أن تكتبي إليها شارحة الوضع بكامله ومؤكِّدة على خيبة أملي الكبيرة.’ ورجاها أن تعتبر كل هذا سرّيًّا للغاية وقال: ‘يحدوني الأمل أن تعمل هذه التطورات غير السارة، فقط على تقوية إيمان الملكة ومحبتها وتعزيز تصميمها في النهوض ونشر دين الله.’ من الواضح أن ولي الأمر كان متألمًا جدًا جرّاء هذا الحدث غير السار، إلا أنه يريح مارثا ويطمئنها بقوله: ‘لا تحزني أو تتألّمي عزيزتي مارثا. إن ما بذرتيه من بذور بغاية المحبة والتفاني والمثابرة التامة سوف ينبت…’
إن إلْغاء زيارة الملكة وابنتها إلى الأماكن المقدسة البهائية، تلك الزيارة التي تعلَّق بها قلبُها دون شك، كان مصدر خيبة أمل شديدة ليس لولي أمر الله فحسب، بل وللملكة نفسها أيضًا. ولا مِرْيةَ أن صراعًا حقيقيًا كان يدور خلف الستار بين الملكة الشجاعة المستقلة في رأيها وبين مستشاريها، ذلك لأنها بعد صمْتٍ طويل كتبت إلى مارثا روت بخط يدها واصفة ما جرى ولو بنذر يسير على الأقل. ففي خطاب مؤرخ 28 يونيو/ حزيران 1931 قالت جلالتها: ‘إن منعنا من زيارة المقامات المقدسة ولقاء شوقي أفندي قد أغرقني وإليانا بخيبة أمل شديدة. إلا أننا في ذلك الوقت كنا نعاني أزمة قاسية، وكل حركة أقوم بها كانت تُحسب عليّ وتُستَغلّ ضدّي استغلالاً سياسيًا بأسلوب بشع، مما تسبب لي بقدر كبير من المعاناة وتقليص فسحة حريتي بكل فظاظة. على كل حال هناك فترات يجد المرء فيها نفسه مضطرًا لأن يُذعِن للظلم. ومع ذلك، مهما كان المرء شجاعًا ستجده بين الحين والآخر مغمورًا ثانية بمفاجأة مؤلمة عندما تحيط به نفوس خبيثة حقودة. فلديّ ابنة صغيرة كان عليّ أن أحميها في ذلك الوقت وقد كانت تمرّ بتجربة مريرة، ولهذا كنت آنذاك غير قادرة أن أقف وأتحدّى العالم. إلا أن جمال الحقيقة يبقى ماثلاً، وسأبقى متشبثة بها خلال متاعب حياة هي الأقرب إلى الحزن… يسرّني أن أسمع بأن رحلاتِكِ كانت مثمرة للغاية. أتمنى لكِ دوام التوفيق وأنا أعلم كم هي جميلة تلك الرسالة التي تحملينها من قطر إلى قطر.’ وتُنهي رسالتها بجملة، بعد أن مهرتها بإمضائها، ربما تكون أكثر مغزى عن موقفها وشخصيتها من أي شيء آخر حيث ذكرت: ‘أُرفق طيًا بضع كلمات يمكنكم وضعها في كتابكم السنوي.’ وفور استلامها هذه الرسالة أبرقت مارثا إلى شوقي أفندي بخلاصة محتوياتها الذي بدوره سُرّ جدًا وأبرق إليها طالبًا تزويده بالرسالة كاملة.
أذكر ما وصفه لي شوقي أفندي عدة مرات كيف كانت الورقة المباركة العليا تنتظر ساعة بعد ساعة في بيت المولى لاستقبال الملكة وكريمتها – ذلك لأن الملكة قد أبحرت فعليًا إلى حيفا، وهو خبر دفع شوقي أفندي إلى الاعتقاد بأن الملكة سوف تقوم بالحج الذي خطّطت له. مرّ الوقت دون أي خبر، وحتى بعد رسوّ الباخرة. علم شوقي أفندي فيما بعد أن الملكة وحاشيتها قد جرت مقابلتهم في الباخرة وتمّ إعلامهم بأن زيارة جلالتها ليست من الحكمة في شيء ولذلك غير مسموحٍ بها. فوُضعت في سيارة وانطلقت بها سريعًا خارج فلسطين إلى إحدى الدول في الشرق الأوسط. لم يكن مستَغرَبًا أن تكتب في رسالتها لمارثا روت بأنها محاطة بنفوس ‘خبيثة حقودة’.
إن ولاء وإخلاص هذه ‘الملكة المؤمنة’، كما وصفها شوقي أفندي، في مواجهتها عُزلَتَها المتزايدة، وتقدُّمها بالسنّ والتيارات السياسية في أوروبا التي طَفِقَت بالتدريج تطوِّق العديد من أنسباء الملكة، قد أثّر عميقًا على شوقي أفندي. فكتب إلى جلالتها ثانية في 23 يناير/ كانون الثاني 1934 قائلاً:
صاحبة الجلالة
تأثّرتُ عميقًا بتقديرِكِ الرائع الذي خطّه قلمك الكريم لمجلد “العالم البهائي”. أرجو أن أُعبّر عن خالص شكري وامتناني على هذا الدليل القوي على اهتمام جلالتك المستمر بدين حضرة بهاء الله.
لقد حرّكت مشاعري كلماتُكِ وأخذتُ أُترجمها بنفسي، وأنا على يقين بأن نفوسًا لا تُحصى من البهائيين في الشرق والغرب سوف تشحذ هممهم في جهودهم التي لا تتوقف في سبيل تأسيس السلام الأعظم الذي بشّر به حضرة بهاء الله في نهاية المطاف.
أقدّم لجلالتك، بواسطة الآنسة مارثا روت، لوحًا قيّمًا بخط يد حضرة بهاء الله مزخرفًا بجهود أحد الأحباء المخلصين في طهران.
عسى أن يكون رمزًا لإعجابي بالروح التي دفعت جلالتك للتعبير عن مشاعرك النبيلة تجاه أمر إلهي مناضل ومضطهد.
مع التأكيد على دعائي في العتبات المقدسة لحضرة بهاء الله من أجل خير جلالتكِ وسعادتكِ.
المخلص لكِ دائمًا.
شوقي
بعد أن أرسل شوقي أفندي للملكة نسخة من “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”[13] التي انتهى من ترجمتها حديثًا، واستلم منها رسالة تعبّر فيها عن ‘عظيم شكرها وامتنانها’، والتي أنهتها بقولها: ‘عسى أن يكون معنا الأب الأعظم بالروح حتى نحيا ونعمل كما ينبغي.’ كتب إليها شوقي أفندي ما يلي:
حيفا – في 18 فبراير/ شباط 1936
صاحبة الجلالة
أرسلَتْ لي الآنسة مارثا روت النسخة الأصلية لما خطّه قلم جلالتك من تقدير ليوضع في مجلد “العالم البهائي” القادم. تأثرتُ عميقًا، وأشعر حقًا بالامتنان على هذا الدليل الآخر على اهتمام جلالتكِ المتواصل بالتعاليم البهائية وإعجابكِ بها.
وبمشاعر الفخر والامتنان، سوف تذكر الجامعات البهائية في العالم طُرًّا على الدوام هذه الشهادات التاريخية الجميلة المؤثرة التي رقمها قلم جلالتك – شهادات ستثير بلا شك حماسهم وتشدّ من أزرهم بشكل كبير في كفاحهم الدؤوب من أجل نشر دين حضرة بهاء الله.
سررتُ جدًا وازدَدْتُ حماسًا لعلمي بأن جلالتك وجدْتِ في قراءة “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله” منافع جمّة، مما أشعرني أن جُهدي في ترجمة هذه المقتطفات قد كوفئ بالكامل.
أقدّم لجلالتك، من خلال عناية السيدة ماكنيل[14]، آخر صورة فوتوغرافية وصلتني حديثًا من أمريكا تُظهِر مدى التقدم في تشييد المعبد البهائي في ويلمت.
عسى أن تبارككِ دومًا روح حضرة بهاء الله، وتؤيد جلالتك في دعمِكِ النبيل لدينه القويم.
مع عميق المحبة والتقدير.
شوقي
أقامت السيدة ماكنيل، التي ورد ذكرها في هذه الرسالة، في قصر المزرعة قرب عكاء، وهو القصر الذي أقام فيه حضرة بهاء الله في وقت ما. عَرَفت ماكنيل الملكة وهي طفلة في مالطا، وعندما علمت من ولي الأمر بمدى اهتمام الملكة بالدين البهائي كتبت إليها معبِّرة عن اهتمامها هي أيضًا، وعن روابط البيت الذي تقيم فيه بالأمر الإلهي. كتبت إليها الملكة تقول: ‘كان لطيفًا حقًا أن أسمع منكِ، وأن أعلم فوق هذا كله أنكِ تعيشين بالقرب من حيفا، وأنكِ مثلي من أتباع التعاليم البهائية… إن المنزل الذي تُقيمين فيه… قيّمٌ للغاية بارتباطه بالشخص الذي نُجِلُّه جميعًا…’
يبدو أن آخر شهادة علنية لها تمّ نشرها، وفيها تثني جلالتها على الأمر المبارك، وذلك عام 1936 أي قبل وفاتها بسنتين، تصف تمامًا ما عنته لها رسالة حضرة بهاء الله: ‘إلى الذين يبحثون عن النور فإن التعاليم البهائية بمثابة نجمٍ يهديهم إلى إدراكٍ أعمق ويرشدهم إلى الطمأنينة والسلام وحُسْن المعاشرة مع عموم البشر.’ وقد كتب عنها شوقي أفندي: ‘لقد فازت لنفسها بـشُهرة خالدة… في ملكوت حضرة بهاء الله’ من خلال ‘إيمانها الجريء التاريخي بظهور حضرة بهاء الله’، ‘إن هذه الملكة الزهراء تستحق تمامًا أن تتبوأ مرتبةَ أُولَى الملوك الذين سيقومون في المستقبل لنصرة أمر الله، فيعترف العالم بأن كل واحد منهم، كما جاء في كلمات حضرة بهاء الله نفسه، “بمنزلة البصر للبشر والغرّة الغرّاء لجبين الإنشاء ورأس الكرَم لجسد العالم.“‘[15]
في كل هذا الذي أخذ مجراه في بداية عام 1926، يرى المرء أن الأزمات الشديدة القاسية التي أعقبت تولّي شوقي أفندي ولاية الأمر قد أَطلَقَت من عقالها، كما الحال دومًا، تلك القوى الروحانية المتأصّلة في دين الله وجلبت معها انتصارات كتلك التي رأينا فيها إيمان أول ملكة بهائية.
[1] Toronto Daily Star.
[2] Ileana.
[3] أي يُعقد مرة واحدة كل سنتين.
[4] Hoover.
[5] وتعادل 40 درجة مئوية تقريبًا.
[6] Controceni.
[7] Philadelphia Evening Bulletin.
[8] Capital letters.
[9] تمّ التأكّد فيما بعد أن هذه البرقية كانت جوابًا على برقية شوقي أفندي في 22 يوليو/ تموز 1927، وفيها يعبّر عن تعازيه للملكة ماري بوفاة زوجها الملك فردناند الذي توفي في 20 يوليو/ تموز.
[10] Ronald Storrs.
[11] Mayflower.
[12] United Press of America.
[13] Gleanings from the Writings of Baha’u’llah.
[14] McNeill.
[15] “الكتاب الأقدس، الفقرة 84.
لا يمكن الحصول على صورة تامّة متكاملة لحياة شوقي أفندي دون التطرّق لموضوع نقض العهد والميثاق. إن مبدأ النور والظلّ، حيث يُبرِز أحدهما الآخر، وتزداد حِدَّةُ أحدهما بازدياد حِدّة الآخر، يُشاهَد في الطبيعة وفي أحداث التاريخ؛ فالشمس تُلقي بالظلال، وعند قاعدة المصباح يقبع الظل، وكلما ازداد النور سطوعًا ازداد الظلّ حُلكةً. إن نوازع الشرّ في الإنسان تثير في الأذهان فضائل الخير، وعظمة الخير تؤكّد وجود الشرّ. فحياة ولي الأمر بأكملها قد ابتليت وتأذّت من أطماع وحماقة وحسد وكراهية أفراد قاموا ضد أمر الله وضده كرئيس لهذا الأمر الإلهي، الذين ظنّوا أنهم بذلك يستطيعون إما تقويض بُنيان الأمر بالكلية أو تشويه سمعة وليّه، فيُنَصِّبون أنفسهم قادة فصيل معارض، ويعملون على استمالة جموع المؤمنين إلى تفاسيرهم الشخصية للتعاليم الإلهية وإلى الطريقة التي يجب أن تُدار بها شؤون الأمر الإلهي في اعتقادهم. لم يفلح أحدٌ بذلك في أي وقت من الأوقات اللهمّ إلا سلسلة من أفراد ساخطين لم تنقطع مساعيهم أبدًا. فرؤوس الفتنة أضلّوا المغفّلين، وحاول المطرودون جرَّ المخلصين الى الانحراف.
إن الاستيلاء على مفاتيح مرقد حضرة بهاء الله من قِبَلِ من نقضوا العهد والميثاق في عهد حضرة عبد البهاء، قد تبعه، على مدى السنوات الأولى لولاية شوقي أفندي، ارتداد فائق [الأرمني] في مصر، وهو الذي أسّس ‘جمعية علمية’ سعى أن يقدّمها نِدًّا منافسًا للإدارة البهائية التي رَئِسَها شوقي أفندي. لقد أعدّ ولي الأمر نفسه وتهيّأ لصد هجمات المناوئين خاصةً بعد ما قرأ ما ورد في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء من شجبٍ للناقضين القدامى. إلا أن التحريك المفاجئ لهذا الكم الهائل من الأذى والمعارضة في منطقة غير متوقعة تركته مصدومًا ومنزعجًا للغاية. لن أنسى أبدًا منظره حينما استدعاني ووالدتي إلى غرفة نومه عام 1923؛ وقفنا حينها عند حافّة سريره حيث كان يستلقي وبدا لنا واضحًا منهك القوى كسير القلب وتحت عينيه ظلال سوداء قاتمة. أخبرنا بأنه لا يستطيع تَحمُّلاً وسوف يبتعد. لا بد أنه كان أمرًا صعبًا للغاية لشاب فتيٍّ أن يجد نفسه هدفًا لسهام هجمات كثيفة، وأن يدرك ما عليه من ممارسةٍ لحقّه في القيام بواجبه بإصدار حكم ‘الطرد’ حمايةً للدين وصونًا لأغنام الله من سطو الذئاب التي تحوم حولها.
إن نقض العهد والميثاق كان دائمًا يجعل شوقي أفندي مريضًا، وكأن الأمر الإلهي قد تجسّد في كيانه بطريقة خفية، وأي هجوم يقع على هذا الجسد إنما يقع عليه باعتباره قلب هذا الدين. إن الهجمات التي شنتها مؤمنة أمريكية حمقاء، بكل ما في الكلمة من معنى، مدّعية بأن ألواح وصايا حضرة عبد البهاء مزوّرة، قد بلغت ذروتها عام 1930. كتب شوقي أفندي وقتها لتيودور بول بأن ‘أشدّ أعداء الأمر عزمًا وتصميمًا في الشرق من الذين تحدّوا أُسَّ أساس رسالة حضرة بهاء الله، … لم يُلَمِّحوا حتى إلى احتمال أن تكون ألواح وصايا حضرة عبد البهاء وثيقة مزوّرة. لقد هاجموا بكل عنف ما جاء فيها من نصوص، إلا أنهم لم يطعنوا بموثوقيتها أبدًا. أشعر أنه كلما أُعطي هذا الموضوع الحيوي إعلانًا أكبر، حتى لو أدى ذلك الى تدخل أية حكومة، كلما كان أفضل لأمر الله…’ وذهب إلى القول: ‘أرثي لحال السيدة وايت أكثر من قلقي وانزعاجي للجهد الذي تبذله… كم هو كبير وخطير شأن الموضوع الذي تثيره كونه يمسُّ سمعة الأمر الإلهي وشرفه، وستنجلي الحقيقة حتمًا إن عاجلاً أم آجلاً… كلي قناعة بأن الزوبعة التي يمكن أن تثيرها لن تكون ضارّة، بل ستنقلب نفعًا على أمر الله.’ كما أفاد حضرته أيضًا ‘إن ألواح الوصايا موثّقة وفوق كل شبهة.’ لقد غطّت جهود السيدة وايت الطويلة والمُضنية مساحة واسعة كافية لتشمل المدير العام لمصلحة البريد في الولايات المتحدة الذي كتبت له طالبة منع المحفل الروحاني المركزي في أمريكا من استخدام البريد ‘في نشر أكذوبة أن شوقي أفندي خليفة عبد البهاء وأنه ولي أمر الدين البهائي.’ كما كتبت إلى السلطات المدنية في فلسطين مطالبة إياها أن تتخذ إجراءً قانونيًا في الإعلان عن أن الوصايا مزوّرة – وهو ما رفضته السلطات بشكل مُقتضَب، فأضافت بأعمالها تلك فترة أخرى من القلق إلى شوقي أفندي كان في غنىً عنها وتطلّبت بالضرورة مزيدًا من الجهد والاحتراز من جانبه في وقت كان فيه أصلاً مثقلاً و’مغمورًا في عملي الذي لا ينتهي’. وكان أقصى ما وصلت إليه السيدة وايت لا يتعدى إثارة سحابة من الغبار عابرة تافهة. وعندما كان هياجها في أَوْجِهِ كتب المحفل الروحاني المركزي في بريطانيا إلى الجامعات البهائية في ألمانيا، بواسطة محفلهم الروحاني المركزي، مؤكِّدًا لهم بأن الأحباء البريطانيين يقفون بولائهم خلف إدارة ولي الأمر. ومع ذلك نجد أن أحد مؤسسي الجامعة البهائية في ألمانيا – السيد هِريغل[1] قد انقلب ضد الدين الذي يدير شؤونه ولي الأمر وانفضّ عنه.
كان الأمر اللافت للنظر، بعد هذا الحدث برمته، أن أبرق زوج السيدة وايت عام 1941 إلى شوقي أفندي مبديًا ‘ندمه الشديد وطالبًا الصفح والغفران…’ ويبدو أنه لم يكن في الحقيقة يوافقها الرأي قط، فردّ عليه شوقي أفندي فاتحًا له باب الرجوع، إلا أنه حتى في ذلك التاريخ المتأخر ثبت أنه من المتعذّر عليه أن يسلخ نفسه عن زوجته المريعة وغير النادمة. وهكذا عجز التغيير في قلبه عن إحداث تغيير في وضعه.
سبق لآوارِه – المبلّغ الإيراني الشهير– الذي كان شوقي أفندي قد أرسله إلى أوروبا بعد صعود حضرة عبد البهاء بهدف تقوية جذور إيمان الأحباء هناك، واضطر في النهاية أن يصفه بـ’المرتدّ عديم الحياء’، سبق أن تَرَك حظيرة الأمر الإلهي أيضًا وأخذ يؤلف الكتب الضدّية (مستمرًا في ذلك عدة سنوات) ليس في مهاجمة ولي الأمر فحسب، بل والمولى وحضرة بهاء الله نفسه بأقذع العبارات. ومن اللافت هنا أن زوجة آوارِه، على عكس السيد وايت، قد فصلت نفسها عنه بالكلية وبقيت بهائية مخلصة متفانية جديرة بالثناء على وقفتها الشجاعة تجاه عقيدتها.
أما أحمد سُهراب الذي كان قريبًا من المولى، وعمل سكرتيرًا لحضرته، وتشرّف بمرافقته في زياراته لمراكز في أمريكا وكندا، فقد أعمى بصيرتَه طموحه واغترارُه بنفسه، فأسس “جمعية التاريخ الحديث”، وبأفعاله، وليس أقلّها عادته في الاقتباس من بيانات حضرة بهاء الله وعبد البهاء في محاضراته العامة وكأنها أقواله، أخذ يبتعد عن أقرانه البهائيين شيئًا فشيئًا. من السهل تأليف كتاب عن سيرة نقض هذا الرجل وحده مستشهدين بعدد لا يُحصى من رسائل وبرقيات ولي الأمر الموجهة إليه في سياق جهوده في بادئ الأمر لإنقاذه من أفعاله، ثم لاحقًا لكشفه وحماية الأحباء الأمريكيين من حبائل تشويهه للحقيقة، ومن أكاذيبه المكشوفة ومحاولاته لتقويض النظام الإداري الذي أسّسه المولى في ألواح وصاياه. هنا من المثير ثانية ملاحظة أن زوجته البهائية وابنته قد قطعتا كل علاقة وصلة به بالكلية. فقد شعرتا حقًا بمنتهى الخِزي والاشمئزاز من تصرفاته، حتى إنهما غيّرتا كُنْيَتهما [اسم العائلة].
وعن مثل تلك الأزمات التي كانت تبرز مع مرور الوقت كتب شوقي أفندي: ‘علينا أيضًا أن ننظر إلى كل عاصفة من الأذى يثيرها المرتدّون عن دينهم أو المدّعون بأنهم المناصرون المخلصون ويهاجمونه بها من وقت لآخر على أنها عناية مستورة وبركة مقنّعة. فهجمات كهذه من الداخل والخارج معًا، إنما تعمل على تقوية أساسات أمر الله وإذكاء لهيب شعلته بدلاً من تقويضه. وهي، وإن كانت تهدف إلى حجب نوره، إلا أنها تعلن للملأ خصائصَ مبادئه السامية، وكمال وحدته، وأصالة مقامه، واتساعَ نفوذه.’
إلا أن سرد قصص النقض على هذا النحو لا ينقل إلينا الصورة الحقيقية لما عناه نقض العهد والميثاق ودلّ عليه في ولاية شوقي أفندي. وحتى يدرك المرء ذلك عليه أن يفهم قصة قابيل وهابيل القديمة، قصة الغيرة والحسد ضمن العائلة التي بقيت كخيط داكن اللون في نسيج التاريخ ينسلُّ عَبْر جميع عصوره ويمكن تتبّعه في كل أحداثه. فمنذ أن ارتفعت عقيرة الأخ الأصغر لحضرة بهاء الله ميرزا يحيى بالاعتراض، فإن سمّ نقض الميثاق، الذي تمثّل بالاعتراض على مركز العهد والميثاق، قد انسلَّ إلى الأمر المبارك وبقي فيه. من العسير على مَن لم يختبر ماهية هذا الداء ولم يولِ أي اهتمام لهذا الموضوع، أن يدرك حقيقة ما لهذه الآفة الخبيثة من قوة تدميرية. كل أفراد عائلة حضرة بهاء الله نشأوا وترعرعوا في ظلال النقض. إن العواصف والانشقاقات، ثم جهود الإصلاح وصولاً الى قَطْع الصلات في النهاية، التي تحدث عندما يكون شخص مُقرَّب بارز، وفي أغلب الأحيان أحد الأقارب الأعزاء، يموت روحانيًا بسبب داء روحاني، أمرٌ لا يتصوره إنسان لم يسبق له أن اختبرهم. إن ضعف قلب الإنسان الذي غالبًا ما يدفعه إلى التشبث بشيء لا يستحق الاعتناء به، وسقم العقل الإنساني، الذي يجعله عرضة للنزوع إلى الغرور والاعتداد بآرائه الخاصة، يقحمان الناسَ في عواطف وانفعالات مشوَّشة تعميهم تمامًا عن الحكم السديد وتقودهم إلى الضلال المبين. ففي الشرق، حيث الإحساس بالروابط العائلية لا زال ذا طابع عشائري قوي حتى يومنا هذا، نجد أن أفراد العائلة يتشبثون ببعضهم بشدّة أكثر بكثير مما في الغرب. وبغضّ النظر عما فعله ميرزا يحيى، فقد كان في العائلة شعور أنه رغم كل شيء، لا بد أن يكون هناك مبرِّر في جانبه، وليس بالضرورة أن تكون جميع المبررات الخاصّة بشؤون العائلة إلى جانب حضرة بهاء الله. يمكن للمرء أن يلحظ بكل سهولة أنه حتى لو وُجد أدنى أثر لموقف كهذا بين أفراد عائلة حضرة بهاء الله نفسها، فإن الأطفال سوف يكبرون دون أن يشاهدوا النقض بأبعاده الحقيقية؛ هناك يكون الصدْعُ الأكبر، وهو الأخطر بين شكوك الإنسان كلها؛ حيث يُنظَر الى الشخص الذي يمثّل الكمال، في نهاية الأمر، على أنّه قد لا يكون كاملاً في كل الظروف بل يمكن أن يكون معَرّضًا لأن يحيد أحيانًا عن الصواب ولو قليلاً في حكمه على الآخرين. فإذا ما تغلغل هذا الشك في الإنسان انتشرت جراثيم النقض في أجهزته؛ فربما تبقى في سُباتٍ إلى الأبد، أو ربما تخرج من سباتها فجأة على شكل وباء. كان يبدو لي دائمًا أن الانقسام الذي أصاب عائلة حضرة بهاء الله بعد صعوده، والشقاق المتتابع إلى جيليْن فيما بعد في عائلة حضرة عبد البهاء بكاملها تجاه شوقي أفندي، قد بدأ بموقف واتّجاه فكريٍّ ظهر في أيام بغداد حتى قبل أن يُعلن حضرة بهاء الله عن رسالته. فالجذور ترجع إلى ذلك الوقت، والثمار السامة أينعت بعد ثمانين عامًا.
إن الإيمان والطاعة هما العاملان الأهم في علاقة الإنسان بربِّه وبمظهره وبرئيس دينه. على المرء أن يؤمن حتى لو لم يشاهد بعينه، وعلى المؤمن أن يطيع حتى لو لم يقتنع. إن نقض العهد والميثاق داخل عائلة حضرة بهاء الله كان كالنبتة المتسلّقة، فالتفّت على الشجرة كالضفيرة وخنقتها؛ وأي مكان تَطالُه محاليقُها تمتد وتمسك به وتلتف حوله وتقضي عليه أيضًا. هذا هو السبب في أن كثيرًا من الأقارب البعيدين وأمناء السرْ وأفراد من الجامعة الذين يحيطون بمركز الأمر المبارك قد تورطوا في مشاعر السخط وموجات النفور المتكررة الصادرة عن مختلف أفراد العائلة، وفي كل مرة انقلب فيها أحد الأفراد المُبْتَلين بهذا المرض كان يتبعه بعضُ العُمي المتعاطفون.
يبدو الأمر بسيطًا في ذكْره على الورق. أما أن ترى بيتًا سنةً بعد أخرى وقد تمزّقت أوصاله بانفعالات يتفطّر لها القلب، واهتزّت أركانه بمَشَاهِدَ تترك عقل المرء مُخدرًا، والأعصاب تالفة، والمشاعر في اهتياج عظيم، فليس بالأمر الهيّن. إنه الجحيم بعينه. فالمريض قبل أن يُمَدّد على طاولة العمليات لاستئصال عضوه الفاسد المؤذي، فإنه يخضع لاستطبابات مطوّلة تقتضي التأنّي واتبّاع أساليب طبية علاجية مع بقاء الأمل في الشفاء. هكذا الحال مع نقض العهد والميثاق. يُكتَشَف الفسادُ أولاً، ثم يأتي التحذير، ثم الاعتراض، يتبعه النصح. يتحسّن الوضع ويبدو أفضل، إلا أن حُمّى النقض تعود ثانية بشكل أسوأ؛ تظهر حالات من التشنّج – ثم ندم وتوبة يتبعهما صفح وغفران – وبعد ذلك يتكرر المشهد برِمّته ثانية، وعلى الشاكلة نفسها بل وأسوأ من ذي قبل. هذا ما كان يحصل في عهد حضرة بهاء الله وعبد البهاء وشوقي أفندي في أشكال مختلفة لا حدود لها.
كل ذلك أصبح الآن في ذمّة التاريخ، ولا فائدة تُرجى من إعادة سرده حالةً بعد أخرى، إلا أنني أعتقد أن أمرًا واحدًا يجب توضيحه؛ فبينما تكون ردّات فعلنا كبشر عاديين متماثلة بشكل عام، نجد أن ردة أفعال تلك الوجودات البشرية الاستثنائية تكون بطرق مغايرة تمامًا. فهم في أمور كهذه – مهما كان التفاوت كبيرًا في مقاماتهم – مختلفون عنّا تمامًا. عادة ما كان يتملّكني العجب في بداية سنوات حياتي مع ولي الأمر؛ لماذا تنقلب حاله بهذا الشكل الرهيب جرّاء هذه الأحداث؟ لماذا تكون ردة فعله عنيفة إلى هذه الدرجة؟ لماذا علامات النقض وشواهده تولّد فيه حالة القهر على هذا النحو؟ بدأتُ بعدها أدرك بالتدريج أن وجودات كهذه، تختلف عنا تمامًا، حائزة على نوع من الموازين الغامضة المُدمجة في صميم أرواحها. فهم يرصُدون الحالة الروحانية للآخرين تلقائيًا كما لو وَضَعْتَ شيئًا في كفّة ميزان فتهبط فورًا لاختلال التوازن. إننا كأفراد بهائيين نشبه السمك في بحر أمر الله، إلا أن تلك الوجودات بمثابة البحر نفسه، فأي عنصر غريب في بحر أمر الله، إذا جاز لنا القول، فإنهم بطبيعتهم التي يُعرفون بها تمامًا يميزون هذا العنصر، فيتولّد لديهم ردُّ فعلٍ تلقائيٍّ تجاهه؛ فالبحر يلفظ جثث موتاه.
غالبًا ما كان شوقي أفندي يجد نفسه مضطرًا لأن يعلن جهارًا، ليس عن سقوط بهائيين معروفين جيدًا سقوطًا روحانيًا فحسب، بل وعن سقوط أفراد من عائلة حضرة عبد البهاء نفسها أيضًا، وهم الذين أشار إليهم بأنهم ‘أولئك الذين تعلن أفعالُهم انفصالَهم عن شجرة الأمر المباركة وخسرانَهم الحقَّ في شرف انتسابهم المقدس.’ ويصرح حضرته بأن قلبه كان يتفطّر حزنا وغمًّا بتلك ‘الرِّدّات المتكررة’ من ‘المنتسبين غير الجديرين’ للمولى المحبوب، وهي رِدّات وضّحها حضرته بأنها كانت ‘عملية تطهير تعمل بموجبها الحكمة الإلهية من وقت لآخر على تطهير زمرة عباده المختارين من دنس العناصر غير المرغوب فيها وغير اللائقة…’ وقد بيّن شوقي أفندي أنّ مَن يُضمِرون العداء للدين الإلهي يستدلّون دائمًا بشواهد عملية التطهير تلك على أنها علامة شقاق وفُرقة قادمة، ويأملون أن تُعجّل في عملية سقوط أمر الله واضمحلاله. وهو ما لم يحصل على الإطلاق.
ومع أن ظاهرة نقض الميثاق هذه تبدو جانبًا متأصّلاً في الدين، فلا يعني هذا أنها لا تصيب الأمر الإلهي بتأثيرها الضارّ، بل بالعكس من ذلك كما جاء في برقية شوقي أفندي إلى البهائيين بعد وفاة أحد أقربائه حيث قال: ‘الوقت وحده كفيل بأن يكشف عن مدى الخراب والدمار الذي أحدثه جرثوم النقض هذا الذي حُقِنَ وترعرع داخل عائلة حضرة عبد البهاء لعقدين من الزمن.’ ولا يعني هذا أن كثيرًا مما حصل كان لا يمكن تجنُّبه بمزيد من الجهد والولاء من جانب الفرد! وفوق هذا كله لا يعني أنه لم يكن له ذلك التأثير الضارّ جدًا على مركز الميثاق نفسه. لقد خيّمت على شوقي أفندي طيلة حياته سحابة داكنة نتيجة الهجمات الشرسة على شخصه. إنني شخصيًا مقتنعة تمامًا أن السبب الرئيس في تلف قلب ولي الأمر تدريجًا بما يكفي ليتوقف عام 1957، كان ذلك الجهد الذي لا يُحتمل والذي بذله خلال ست وثلاثين سنة قضاها في نضال لا ينتهي مع سلسلة من ناقضي العهد والميثاق. لزام عليّ أن أُضيف هنا أن موت زوج أخته هو الذي دفعه إلى إرسال البرقية المُستَشهد بها أعلاه وذلك من أجل أن ندرك ولو لمحة عما كان يكابده شوقي أفندي مرارًا وتكرارًا على مدار ولايته.
في إحدى المناسبات أبرق شوقي أفندي إلى مؤمن كان مقرّبًا جدًا إليه والذي علم مؤخرًا أنه عومل بأسوأ ما يمكن من قبل أحد أقاربه: ‘قلبي يغمره التعاطف الوجداني على ما تحمّلتَهُ من معاناة بكل شجاعة. لو عرفتُ بذلك من قبل لكنتُ اتصلتُ بك فورًا. نتجرع أنت وأنا معًا كأس المعاملة المريرة من الأقارب الأقربين. أشعر بقربي منك مدركًا أحزانك متذكّرًا خدماتك الجليلة المتواصلة التي لن تُمْحى. دعائي الحار في المقامات المقدسة. مع خالص المحبة.’
إن الكلمات التالية من مذكراتي اليومية التي كتبتُها بين عامي 1940 و 1945م، تحت تأثير ما كنت أراه من معاناة شوقي أفندي جراء الأزمات الطويلة المحطِّمةٍ التي حَرَمتْه من أقاربه، ربما تستطيع أن تنقل بشكل أفضل مدى تأثير نقض العهد والميثاق:
‘يمضي في طريقه، ولكنه كحال رجل وسط عاصفة ثلجية لا يستطيع أحيانًا حتى فتح عينيه من شدة وهج الثلج الذي يعمي البصر.’ ‘هو مثل رجل قد احترق جلده… إنه ضَرْبٌ من الإعجاز أن نجده قادرًا على مواصلة الطريق.’ ‘أشعر يقينًا بأن المدّ سوف ينحسر. ولكن يا للحسرة، لا ولن نجد شوقي أفندي كما كان أبدًا! لا أعتقد أن أي شيء في هذا العالم بمقدوره أن يمحو ما فعلتْ به السنون الأخيرة! الوقت أكبر شافٍ ولكنه عاجز عن إزالة النُّدْبات.’ ‘يبدو أن كل شيء كُسر ويتعذّر إرجاعه كما كان.’
ليس هناك أدنى شك في أن تلك الأزمات المتكررة قد تدخّلت بشكل كبير في أعمال شوقي أفندي من أجل خدمة أمر الله. وبالعودة إلى عام 1926 نجده قد كتب إلى مؤمن يفتقر إلى الحماس، وقد أصبح فيما بعد من أكثر الناقضين خِسّةً: ‘أنت تعلم أني لست ممن تحكمه العواطف، وما كنتُ يومًا كذلك. أتعطّش للعمل وأفكاري مُنصبّة على إنجاز المهامّ الهامة إذا سمحت لي الظروف وتحرّرتُ من هجمات مَن هم في الداخل وفي الخارج.’
إن الصبر الذي تحلّى به شوقي أفندي في معالجته هذه المواقفَ المروّعة التي برزت داخل عائلته، تجلى في واقع الأمر في إحدى المناسبات حين أمسك ثمانية أشهر عن إرسال برقية تحمل قرار الطرد الروحاني بحق أخيه، محاولاً معالجةَ الموضوع – دون جدوى – وليتجنّب ضرورة إرسال الرسالة التي كان يتفطّر لها قلبه.
كم كان تأثير النقض على أمر الله كارثيًا بحيث كان أحد آخر أعمال شوقي أفندي في ولايته إعلام أيادي أمر الله بضرورة تعيينهم مجموعةً ثانية من أعضاء هيئة المعاونين للقيام بواجب حماية الأمر المبارك وصيانته.
[1] Herrigel.
إن كون شوقي أفندي حازمًا في جميع الشؤون المتعلقة بحماية الأمر المبارك لا يعني أنه لم يكن رقيقًا لطيف المعشر أيضًا. كان في جوهره رقيقَ القلب إلى أبعد الحدود، وإذا ما حظي بفسحة كافية من الهدوء داخل نفسه، عبّر عن ذلك اللطف والرقة الفطرية ليس لمن حوله فحسب، بل وللأحباء شخصيًا بطرق شتى أيضًا. هناك العديد من الأمثلة على ذلك مما نقرؤه في ملفات برقياته. فإذا ما حلّت كارثة بقطر ما يقطن فيه بهائيون، اعتاد مرارًا وتكرارًا أن يسارع إلى الاستفسار عن سلامتهم، كما في برقيته التالية إلى إيران: ‘أبرقوا لنا عن سلامة الأحباء. قَلِقٌ من تقارير الزلزال في إيران وتركستان.’ وغالبًا ما كان يُتْبِع ذلك بمساعدةٍ مالية لمن هم في أمسّ الحاجة. عندما أُصيب بهائي أمريكي في إيران بشلل الأطفال، وكان في طريقه مع زوجته عائديْن إلى الولايات المتحدة، أبرق شوقي أفندي إلى الأحباء في بيروت والإسكندرية ونيويورك طالبًا منهم استقبال الباخرة التي تُقِلّه ومساعدته بكل ما يستطيعون. وكذلك أرسل حضرته سبع برقيات خلال فترة قصيرة بخصوص سيدة بهائية كانت تواجه صعوبات مختلفة في الوصول إلى حيفا ومغادرتها بعد انتهاء زيارتها. إن دقته المتناهية في أمور كهذه واهتمامه بها تعكسها لنا بكل حُبور برقيتُه المرسَلة إلى مصر: ‘سيصل الليلة إلى القاهرة السيد دْيُوِنغ[1] وليوم واحد، وهو بهائي من نيوزيلندا. نحثّكم على لقائه في المحطة. يضع على رأسه خوذة. فإذا أخطأتموه قابلوه في الصباح التالي في مكتب كوكس[2] الساعة التاسعة. أحيطوه بوافر اللطف والحفاوة.’ ونرى شوقي أفندي يُبرق في مناسبة أخرى بخصوص بهائي لم يتمكّن من النزول في حيفا لسبب ما حتى يعملوا على ‘تطييب خاطره بالنيابة عنّي’. وعندما علم من شخص أبرق إليه بأن زوجته كانت ‘مشوّشة بالكامل وتعتقد أنها فقدت محبتك، وإن رسالة منك ستهدّئها’، أبرق شوقي أفندي فورًا: ‘أكِّدْ لها… محبتي الكاملة، ولْتطمئنّ إلى ذلك.’ وأبرق إلى مؤمن في الشرق الأدنى يقطن أقاربه في فلسطين قائلاً: ‘مع كل الترحيب بقدومك، ننصحك باصطحاب أطفالك لإطفاء نار الشوق لدى جدّتهم.’ وجاء في برقية تحمل رسالة إلى شخص بارز آمَنَ حديثًا: ‘أَبْرقْ إلى الأميرة معبّرًا عن خالص محبتي وأطيب أمانيَّ عسى أن تحيطها عناية حضرة بهاء الله بساعديْه المقتدريْن على الدوام.’
سبق أن توفيتْ في سويسرا سيدة بهائية مهاجرة مخلصة تدعى داغمر دول[3] ودُفنت هناك. وذات مرة، عندما كنت مريضة ولازمت الفراش لبضعة أيام، كم كان تأثُّري عميقًا ودهشتي شديدة عندما جاءني شوقي أفندي ليقول لي بأنه ذهب لزيارة قبرها حيث استقلّ القطار في رحلة لمسافة قصيرة من المكان الذي نقيم فيه.
كان يتجاوز أحيانًا التشجيعَ العادي والتعليمات العامة التي كان يُوجّهها للبهائيين ليتدخّل في خططهم بطريقة مباشرة. مثال ذلك شاب في السابعة عشرة من عمره رغب في الذهاب إلى أمريكا اللاتينية ليساهم في خطة السنوات السبع الأولى، فنُصح بأنه لا زال شابًا صغير السنّ وأن عليه أن ينتظر حتى يكبر ويُنهي مراحل متقدّمة أكثر من دراساته، فأبرق شوقي أفندي إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا من أجل أن يعيد النظر في موضوع هجرته ويدعه يذهب، وكان شوقي أفندي يَذْكر هذا الرجل صغير السنّ بكل فَخَار لتلبيته نداء الحاجة إلى مهاجرين. وامرأة عجوز مُقْعدة كانت توّاقة للهجرة إلى شمال إفريقيا، شجّعها شوقي أفندي على الهجرة، وقد أُشير إلى مكان وفاة إللاّ بيلي[4] على إحدى خرائط حضرته بوضعه نجمة ذهبية! أتذكّر إحدى الزائرات للأرض الأقدس وهي جالسة على المائدة تُخبر شوقي أفندي بأن زوجها وافق أن يهاجرا معًا وتسأل نصيحته في اقتراح مكانٍ يذهبان إليه، فأجابها في الحال ‘إفريقيا’. ثم سألت ‘هل من مكان محدد في إفريقيا؟’ أجابها ‘جنوب إفريقيا’. لقد تفاجأَتْ بعض الشيء بهذه الإجابات القاطعة السريعة كطلقات الرصاص ثم قالت: ‘وهل من مدينة محددة؟’ أجاب على الفور ‘جوهانسبرغ’. وهكذا تحدد مصيرها وأسرتها بأربع كلمات.
في بعض الحالات كانت الروح التي تُحَرِّك فردًا بهائيًا على درجة كافية لأن تُقنع شوقي أفندي بتغيير تعليماته الخاصة. مثال ذلك حالة ماريون جاك[5]، التي لقّبها المولى بـ’الجنرال جاك’، ووصفها ولي الأمر بـ’البطلة الخالدة’ حيث قال بأنها المثال اللامع للمهاجرين لأجيال الحاضر والمستقبل في الشرق والغرب، ولم يتجاوزها أحد في ‘الثبات والإخلاص ونكران الذات والجرأة’، إلا ‘مارثا روت التي لا تُضاهَى’. كانت جاكي – كما كانت تُدعى عادة –
تعيش في صوفيا/ بلغاريا، وعندما اشتعلت الحرب هناك أبرق إليها شوقي أفندي، بدافع قلقه عليها من وضعها الخطير آنذاك، قائلاً: ‘أنصحُكِ بالعودة إلى كندا. أعلميني إذا كنتِ مقتدرةً ماليًا.’ فأجابت: ‘… ما رأيك بسويسرا؟’، إلا أنها أكّدت له طاعتَها التامة. عندها أبرق إليها ‘أوافق على سويسرا.’ إلا أنها كانت لا تزال غير راغبة في مغادرة مركز هجرتها فرجته أن يسمح لها بالبقاء في بلغاريا، فاستجاب ولي الأمر إلى مطلبها قائلاً: ‘أنصح البقاءَ في صوفيا. مع المحبة.’
هناك غموض كبير يكمن في مستويات الخدمة. كان شوقي أفندي ينصح الأحباء دائمًا أن يسلكوا سبيل الاعتدال والحكمة. أما إذا لم يفعلوا واختاروا ارتقاء قمم البطولة والتضحية بالنفس، فكان فخورًا جدًا بهم. فبالنتيجة ليس هناك ما يمكن اعتباره عملاً حكيمًا أو معتدلاً في الاستشهاد – ومع ذلك فإن ما توَّجَ ديننا بالمجد هو أن مَظْهره الأول قد استشهد في هذا السبيل وتبِعَ خُطاه عشرون ألفًا. حاولتُ جاهدةً أن أفهم هذا الذي يصعب إدراكه؛ الاعتدال من جهة وكلمات حضرة بهاء الله من جهة أخرى: ‘… فاكتب من المداد الأحمر الذي سُفك في سبيلي إنه أحلى عندي من كل شيء…‘[6] ويبدو لي أن أفضل مثال على ذلك هو الطائرة: فعندما تنطلق بعجلاتها على سطح الأرض تكون حينها مقيّدة بقانون الأرض وتتقدم بانتظام في مستوىً أرضي، أما عندما تحلّق في الهواء وتطوي عجلاتها وتنطلق إلى الأمام بتسارعٍ يحيّر البصر، تغدو في عالم سماوي تختلف فيه القِيَم. عندما نكون على الأرض نتلقى نصيحة أرضية رشيدة، أما إذا اخترنا نبْذَ الدنيا وقفزنا إلى عوالم من خدمات وتضحيات أجلّ وأعلى، فلن نعود نتلقى بعد ذلك مثل تلك النصيحة، فنفوز عندها بالشُهرة الأبدية ونغدو أبطال أمر الله وبطلاته.
لقد عمل شوقي أفندي من خلال كل شيء. فكلّ شيء صادفه، إنسانًا كان أم شيئًا آخر أو قطعة أرض، وكان بمقدوره أن يحوِّله إلى ما فيه فائدة لصالح الأمر المبارك، إلا وأمسك به واستخدمه. ومع أنه كان يعمل من خلال المحافل الروحانية واللجان بشكل عام، إلا أنه عمل أيضًا من خلال الأفراد مباشرة. مثال ذلك فكتوريا بِدِكْيان[7] المعروفة بـ ”العمة فكتوريا”. فقد دأبت لعدة سنوات على كتابة رسائل تداولتها الأيدي على نطاق واسع في الشرق والغرب، وكان ولي الأمر يشجعها على هذا النشاط حتى إنه أخبرها بما يجب أن تركّز عليه في رسائلها تلك.
لم يكن شوقي أفندي تُشغل بالَه مصادر المعلومة؛ وأعني بذلك أنه لم يكن دائمًا ينتظر الطرق الرسمية في توثيق خبر وصول مهاجر إلى مكانه، أو خبر عن بشارة سارة نقلته له رسالة شخصية أو من أحد الزائرين للأرض الأقدس، فكان يعمد إلى تضمين هذه المعلومة المشجعة في رسائله. إن هذا المجال الذي سمح شوقي أفندي لنفسه به قد أشار إلى أن أعمال الأمر المبارك بكلِّيتها قد انطلقت إلى الأمام بخُطىً أسرع بكثير مما لو عمل بأسلوب آخر. وككل القادة العِظام، كان حضرته يملك شيئًا من خاصّية رجل الصحافة البارع الذي يدرك أن عامل الوقت في نقل الخبر له أهميته القصوى، وأن السرعة بحدّ ذاتها لها تأثيرها المنبّه والمحفّز للخيال. ومع ذلك، فإن نهجه هذا يجب ألا يقودنا خطأً إلى التفكير بأنه لم يكن شخصًا استثنائيًا في دقته. فإن دقتَه المتناهية في جمعه المعلومات الإحصائية، وبحثَه في الحقائق التاريخية، وعملَه في كل تفصيل دقيق في خرائطه وخططه، كانت مدهشة.
كان لولي الأمر علاقات شخصية قليلة تفوق وتتعدى عواطفه ومشاعرَه الودّية المعتادة تجاه جميع الأحباء الجديرين حقًا بحمل اسم “بهائي”. ففي إحدى المناسبات، عندما كان حضرته مريضًا، أبرق إليه فيليب سبريغ[8] معبّرًا عن قلقه على مرضه ومُنْهِيًا رسالته بعبارة ‘بقلب مفعم بالمحبة’، فردّ عليه شوقي أفندي برقيًا بقوله: ‘لقد تعافيتُ. أُبادلك تمامًا مشاعر حبك الكبير.’ وكثيرًا ما سنحت له الفرصة لأن يُبرق إلى وكيله د. جياكري[9] في إيطاليا من أجل لوازم متنوعة مطلوبة للمركز البهائي العالمي. والعديد من تلك البرقيات كان شبيهًا بما يلي: ‘لطفًا، أرجو طلب أربعة وعشرين عامودًا إضافيًا للكهرباء مماثلة لتلك التي طُلبت من قبل. مع محبتي.’ وبرقيات كهذه كانت بعيدة عن كونها أسلوب ولي الأمر المعتاد.
إلا أن هناك وجهًا آخر لبرقياته؛ فإذا كان بعضها ودّيًا جدًا وذات طابع روتيني في معظمها، فإن برقيات أخرى يمكن أن تكون حادّة إلى أقصى الحدود. هناك العديد من برقيات كهذه أُرسلت إلى محافل روحانية مركزية، منها هذه التي أُرسلت إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا عام 1923 يقول فيها: ‘أتوقّع تقارير شاملة منتظمة…’، وعدة برقيات أخرى إلى أشخاص مختلفين بعبارات أقوى مثل: ‘إياكَ وعصيان ما أبتغيه’، ‘أحذرك مرة أخرى’؛ ‘إياكَ والإهمال’، وهكذا دواليك. من المستحيل أن تجد برقيات فيها إطْنَابٌ وغموض. أبرق إلى أخيه في بيروت: ‘أرسِلْ مع الشقيقة عشرة أشرطة سوداء نوع كورونا’ [للآلة الطابعة]. وإلى أول بهائي طلب الإذن للتشرف بزيارة حيفا بعد انتهاء الحرب [العالمية الثانية]، بعد أن فُتِحت ثانية طريق زيارة الأماكن المقدسة، أبرق إليه شوقي أفندي بعبارة واحدة: ‘أهلاً وسهلاً’، معبِّرةً بكل بساطة عما كان يعنيه.
كل ما في حياة شوقي أفندي من عمل ونشاط كولي لأمر الله؛ من قبيل تفكيره وأحاسيسه، ردّات فعله وتعليماته، يمكن أن نجده منعكسًا بشكل مصغّر في برقياته وتلغرافاته. وغالبًا ما كانت هذه البرقيات أكثر ألفة وأكثر صراحة وقوة من آلاف الرسائل التي كانت تُكتَب للأفراد [بالنيابة عنه]، ذلك لأن في رسائله عادة ما كان سكرتيره يهتمّ بالتفاصيل، وبذلك تبعد كلماتها عن كونها كلمات ولي الأمر نفسه، باستثناء ما كان يكتبه في الحواشي بخط يده التي كانت تتضمّن في معظم الأحيان تأكيدًا على دعواته وتشجيعه وعلى تصريحاته بشأن المبادئ العامة.
كان شوقي أفندي، مثل جدّه وجدّه الأكبر من قبله، يملك حسًا ظريفًا بالدعابة جاهزًا لأن يُظهر نفسه إذا ما أُعطي الفرصة لأن يكون سعيدًا أو يتمتع بفسحة ضئيلة من راحة البال. تجد عينيه تكادان ترقصان فرحًا، وقد يكون مسرورًا فيضحك ضحكة خافتة أو ينفجر في ضحكة عالية أحيانًا. قال شوقي أفندي يومًا لأحد الشباب الزائرين الذي عبّر عن رغبته في الزواج: ‘لا تنتظرْ طويلاً، ولا تنتظر أن يسقط أحد من السماء.’ وفي برقية إلى بعض أقاربه الشباب في بيروت عام 1923 نجده يقول: ‘متى سيُنهي سكرتاريَّ صعبا المراس فترة علاجهما؟ أبرقا.’ كان يحب ممازحة من كان يأنس إليهم داخل نطاق عائلته. غالبًا ما كنتُ أنا الضحية، ولعلمه بأنني على الأرجح سأصدّق ما يقوله، فقد استغلَّ حضرتُه ذلك واستمتع بممازحتي بحِيَله. فمثلاً أذكر، ونحن في فترة الحرب، حينما دخلتُ غرفته وجدتُه جالسًا بغاية الوقار وعيناه تحملقان بقلق. هذا المنظر لوحده شد انتباهي وجعلني قلقة. ثمّ قال بأن شيئًا مروعًا قد حدث. ازداد قلقي بالطبع فسألتُ ما الذي حدث. وفي لهجة معبِّرة عن قلق عميق أخبرني بكل جِدّية بأن تشرشل قد مات. ولما كانت هذه الفترة من أخطر فترات الحرب، اهتاجت مشاعري وقلقت كثيرًا من هذا الخبر وسألتُه ماذا سيحصل للحلفاء الآن بعد موت قائدهم العظيم… إلخ. أبقاني شوقي أفندي على اضطرابي وقلقي وأمسك نفسه ما باستطاعته، ثم انفجر ضاحكًا! وكثيرًا ما كان يمازحني بمثل هذه الحِيَل طالما وجد فيّ هدفًا مثاليًا – إلا أنني بالتدريج أصبحتُ أَعِي مَقَالِبَه، وبعد عشرين سنة أخبرني أنه أصبح يجد صعوبة كبيرة في خداعي. حاولتُ أحيانًا أن أقوم بالدور نفسه معه فلم أستطع إتقانه كما كان يفعل، وتقريبًا لم أنجح أبدًا في الإيقاع به.
في جانبٍ تجده في غاية الجلال وفي الآخر نقيّ القلب يُفضي بما في دخيلة نفسه لمن يأتمنه بروح فتيّة. هكذا كان ولي أمرنا! عندما علم شوقي أفندي مرة أن بمقدوري أن أُلوِّن الأشكال بشكل بسيط، أصبح من جملة مهامّي أن أُلوّن له أشياء مختلفة من بينها خارطة تبيّن قطع أراضٍ امتلكَتْها الجامعة البهائية على جبل الكرمل. وذات يومٍ، بينما كنت أقوم بتلوين مساحات جديدة تمّ امتلاكُها، أخبرني شوقي أفندي بضرورة أن تكون بلون أفتح. سألتُه لماذا؟ فأجاب: لماذا! لنبيّن بأنها ‘امتُلِكت حديثًا’. كان ذلك انعكاسًا واضحًا لما كانت هذه القطع من الأراضي المشتراة حديثًا تجلبه لحضرته من بهجة وسرور. وفي مناسبة أخرى أذكرُ كم أمضيتُ الساعاتِ والساعات في تلوين صُوَرٍ فوتوغرافية مختلفة الحجم تُظهر مسقطًا معماريًا عاموديًا للنَّصْب التذكاري لمرقد الورقة المباركة العليا وعلى جانبيه النصبان التذكاريان للمرقديْن المطهريْن لوالدتها وشقيقها.
يستدعي هذا ذِكْرَ جانب آخر من شخصية شوقي أفندي الغنية بالمزايا، فقد كان شديد التمسك بأهدافه بكل عزم وتصميم، إلا أنه لم يحد أبدًا عن المنطق. ومع أنّه لم يلجأ قطّ إلى تغيير أهدافه، إلا أنه كان أحيانًا يعمد إلى تغيير مسار خطته للوصول إليها. وخير مثال على ذلك تصميم النُصب التذكارية التي لوّنتُها. فعندما راودته فكرة نقل رُفات والدة بهائية خانم وشقيقها من عكاء إلى جبل الكرمل، أمر حضرته على الفور بجلب نُصبيْن جميليْن من المرمر من إيطاليا كالذي استُعمل في بناء مرقد الورقة المباركة العليا. ولما كان كل ذلك قد حدَثَ وهو بعيد عن حيفا، اتّجه فكرُهُ إلى وَضْع هذين النُّصبيْن على جانبي مرقدها المطهّر، فأمر بوضع رَسْمٍ يوضّح له الصورة كاملة. إلا أنه، عندما عاد إلى حيفا ودرس تنفيذ خطته على أرض الواقع، قرر أن ذلك لن يكون بجمال وضع النصبين جنبًا إلى جنب لوحدهما وعلى المحور نفسه. وهو ما فعله في النهاية.
طيلة فترة ولاية شوقي أفندي كنا نرى نور الهداية الإلهية تُضيء دربَه، مؤيِّدةً قراراته، وملهِمةً إياه في اختياراته. إلا أن هناك دومًا عوامل غير متوقعة تتدخل في كل خطة. فبفعل الإرادة الإلهية، وبخلاصة المسعى البشري تتغيّر الخطط باستمرار، صغيرة كانت أم كبيرة. هذا ما كان يحدث دائمًا للأعظم كما للأصغر من البشر، وهو ما تشهد به كلمات الرسل والأنبياء أنفسهم. كان شوقي أفندي معرّضًا لمثل هذه القوى، ولكنّه هو أيضًا كثيرًا ما كان يَعْمَد إلى تعديل في خططه الخاصة. والأمثلة على ذلك كثيرة ومثيرة للاهتمام؛ ففي وقت ما راودته فكرة نقل الرمس المطهّر لحضرة بهاء الله من عكاء إلى جبل الكرمل بحيفا، إلا أنه عَدَل عن فكرته بالكلية فيما بعد وأبقى على مكانه الدائم في البهجة؛ وما عُرف بالجهاد الروحاني العالمي أو خطة السنوات العشر كان في البداية إعلان عن خطة لسبع سنوات؛ كما أن بناء مشرقِ أذكارٍ واحدٍ خلال هذه الخطة قد أصبح ثلاثة؛ والدول الأوروبية الثمانية المستهدَفة، كما كانت في الأصل، أصبحت عشرة… وهكذا دواليك. فإذا ما تدخّلت قوى خارجية، ليس لولي الأمر عليها سلطان، وأثّرت على بعض خططه وأعاقتها – كتضاربها مع تعديل أجراه، أو توسُّع في خطة خاصة به على ضوء الظروف – كان يعمل فورًا على تعويضها بحيث لو تعرّض الأمر المبارك إلى نكسة عابرة أو إذلال مؤقت، يخرج في النهاية بمزيد من الانتصارات وبفيض من المواهب والعطايا أغلى وأقْيَم.
ربما اضطر شوقي أفندي أحيانًا إلى تغيير مساره، ولكنه لم يُهزم قَطُّ في الوصول إلى هدفه، فبراعته كانت استثنائية. مثال جيد على ذلك طريقته في الإعداد لبناء اثنين من المعابد البهائية القارية الثلاثة العظيمة الجديدة المقررة في خطة السنوات العشر. فقد استخلص من المهندس المعماري المتوفر لديه ما يمكن أن يكون تصميمًا لائقًا لمشرق الأذكار في كل من “سيدني” و”كمبالا”. فكان تصميمهما يوحي بالجلال والوقار، مبهجًا في تناسقه، محافظًا في طرازه، ومتواضعًا نسبيًا في كلفته. ولمّا كان المهندس المعماري في وضع لا يسمح له بتنفيذ المخططات التفصيلية أو الإشراف الفعلي على عملية البناء، وحتى لا يجعل شوقي أفندي من ظرف تافه صغير عائقًا كبيرًا يوجب التوقف عنده طويلاً كما لو كان رجلاً ضيق الأفق تربكه صغائر الأمور، فقد أصدر على الفور تعليماته إلى المحفليْن الروحانييْن المركزييْن في سيدني وكمبالا بضرورة الاتفاق مع شركات هندسية محلية تقوم بوضع المخططات التفصيلية وتنفيذ البناء. وقد أجرى شوقي أفندي بنفسه تعديلات على الاقتراحات المرتفعة الثمن التي قدمتها تلك الشركات في بادئ الأمر، واستطاع إتمام بناء مشرق الأذكار في كلا البلدين بسعر اعتبره معقولاً يمكن للأمر المبارك أن يدفعه. وهكذا مرة بعد أخرى استطاع ولي الأمر، بفضل حنكته وحكمه السديد أن يوفّر الكثير من أموال الأمر لتُصْرَف على العديد من المهمّات بالغة الأهمية، ويجنِّب الأمر عجزًا ماليًا مؤقتًا نتيجة مواصلة الصرف غير الحكيم على تنفيذ مشروع واحد.
كان الاقتصاد مبدأً يراعيه شوقي أفندي بكل حزم، ولديه أفكاره المتشدّدة في الشؤون المالية. رفض في غير مرة أن يأذن بالزيارة لأحد الأحباء، الذي علم بأنه مدين، قائلاً بأن عليه أن يسدِّد ديونه أولاً. لم أرَ ولي الأمر قطُّ يسدّد قيمة فاتورة قبل أن يدقِّق في جَمْعِها، أكانت لوجبة غداء أم لدفع آلاف الدولارات! فيبادر إلى لفت النظر إذا ما وجد المبلغ أكثر من المفروض – أو كان أقل منه أيضًا. كثيرًا ما راجعتُ أناسًا أبدوا دهشتهم عندما لفتُّ نظرهم إلى خطأ في جَمْعهم وأن عليهم مراجعته ثانية وإلا كانوا هم الخاسرين. كان أيضًا مساومًا حازمًا، فلا يدفع أبدًا ثمن شيء إذا شعر أنه أعلى بكثير مما يجب. حدث في غير مرة أن قطعة للزينة جميلة، تصلح لوضعها في المقامات المقدسة أو محفظة الآثار أو في الحدائق ووجدها باهظة الثمن، أنْ غضّ النظر عن شرائها إذا لم يصل مع البائع إلى السعر الذي يريده حتى لو كان راغبًا فيها ولديه المال الكافي، معتبرًا شراءها بالقيمة العالية خطأ لن يُقْدِم عليه. ومع أن لشوقي أفندي كانت سيارة خاصة مع سائقها لعدة سنوات (كما كانت لحضرة عبد البهاء قبله)، فقد باعها عندما أصبحت قطع الغيار غير متيسرة في أكثر سنوات الحرب شِدّة، واعتمد في تنقلاته على سيارات الأجرة. لا شك عندي أنه، من منطلق أن الإنسان يمكنه عادة شراء أي شيء إذا ما توفر لديه المال الكافي، كان يمكن لشوقي أفندي أن يوفّر لنفسه سيارة أخرى فيما بعد، إلا أنها لم تراود فكره أبدًا. كان ضد التبذير وضد الترف والتباهي وبالتالي مَنَع عن نفسه وعن الآخرين أشياء كثيرة لأنه شعر أنها إما غير ملائمة أو لا مبرر لها.
وصِفَة أخرى ميّزت شخصية ولي أمر الله بقوة، تلك هي انفتاحه؛ فالأحباء كانوا موضع ثقته؛ كان معهم صريحًا، مَهيبًا، متحفِّظًا ولكن بثقة هي الأحبُّ للنفس والآسرة للقلب. اعتاد أن يُشْرِك الزوّار الذين هم ضيوفه، ليس فقط بأفكاره وتفاسيره للتعاليم الإلهية، بل ومشاريعه وخططه أيضًا. لم يكن بين مستمعيه أحد مميَّز عن الآخر باعتباره صاحب الحق في تلقّي أفكاره. ورغم حقيقة أن المحافل الروحانية المركزية كانت هي قنواته الإدارية التي كان من خلالها يرسل خططه العظيمة وينشرها، وأنها الهيئات التي تقوم على متابعة تنفيذها، إلا أن حضرته اعتاد أن يُشرك أولئك الذين كان يلتقي بهم [من الزوّار] بهذه الخطط وبكامل تفاصيلها تقريبًا لدرجة أن العديد من الزوّار العائدين كانت لديهم كل التفاصيل تقريبًا التي ستُبلَّغ للعالم البهائي رسميًا في وقت لاحق. ويَصْدُقُ ذلك أيضًا على أسلوب عمله في المركز البهائي العالمي. كانت صراحته تامة على هذا النحو، حتى إنه في بعض الأحيان كان يرسم وهو على المائدة بعض الرسومات المبدئية لما هو قائم على تنفيذه في الحدائق على جبل الكرمل؛ كيف سيكون ‘القوس’، ما هي الأبنية التي ستقام عليه… وهكذا.
كل شيء جديد يضعه قيد التنفيذ، قُطْرِيًا كان أم عالميًا، قد يقول المرء منا على وجه التقريب إنه يتبع النمط نفسه كطلوع فجر يوم جديد: فأول خيوط الضوء، أو تَلَمُّس الرؤية، يمكن أن نتبيّنه في كلمات ولي الأمر إلى الزائرين للأرض الأقدس، أو قد يكمن على شكل تلميح مستتر في رسائله إلى العالم البهائي؛ ثم يأتي بعد ذلك بريق أهداف تبدأ في التشكُّل بينما شمس فكرته ترتفع عاليًا وهو عاكف على تركيز كل طاقته الفكرية المتألّقة عليها؛ وأخيرًا يتفجر خِبْؤُها بضياءٍ يكشف بكل وضوح عن الفكرة بكليتها بكمال روعتها –خطة السنوات السبع، خطة السنوات العشر، التحذيرات والوعود في رسالة جديدة عامة رائعة، تعليماته التامة بخصوص مشاريع رئيسة مثل إتمام بناء المقام الأعلى لحضرة الباب، ومحفظة الآثار البهائية، وبناء أحد دور العبادة الجديدة والعظيمة، أو بيان مواضيع أساسية معينة ورُؤىً لحضرته وضعها في كتبٍ من قبيل: “ظهور العدل الإلهي”[10] و”قد جاء اليوم الموعود”[11].
إن علاقة شوقي أفندي بالزائرين للأرض الأقدس، ولطفه كمضيف، وبمودته التي يبديها لهم بطرق شتّى بسيطة، والأمور التي كان يناقشها معهم بكل انفتاح، كان له تأثيره الهائل على أعمال البهائيين القائمين على إنجازها في أقطار كثيرة جدًا. ذلك لأن هؤلاء المؤمنين المحظوظين، قد عملوا كالخميرة لدى عودتهم إلى جالياتهم، ينشّطون ويحْفِزون همم أقرانهم البهائيين نحو جهود أكبر، واصفين شخصية ولي الأمر بصورة أكثر حيوية للذين لم يحظوا بلقائه وجهًا لوجه، باعثين فيهم شعورًا بأنهم قريبون من حضرته ومن المركز البهائي العالمي في آنٍ معًا، وهو ما كان يصعب تحقيقه بأي أسلوب آخر. في محادثاته مع الزائرين الحجّاج استطاع شوقي أفندي أن ينقل إليهم أحاسيسه القوية تجاه مواضيع معيّنة، وبلغة غالبًا ما كانت أكثر سلاسة وأقوى تعبيرًا مما لو استعملها في الكتابة. أثناء زيارتنا للأرض الأقدس عام 1937 كان لي شرف تدوين بعض الملاحظات التي قالها لي ولوالدتي على المائدة، إلا أنني فيما بعد نادرًا ما كنت أفعل ذلك. على كلٍ، كنتُ قد دوّنتُ في مناسبات قليلة ما نطق به تمامًا وعند نُطْقِهِ به، وكانت إحداها عام 1954 عندما تكلم إلى الحاضرين من زوّار الأرض الأقدس بنبرة قوية جدًا في موضوع الحاجات الملحّة للجهاد الروحاني الأكبر وموقف البهائيين تجاه الهجرة فقال: ‘بمقدوري تحذيرهم، باستطاعتي حثّهم، ولكن ليس بإمكاني خلق الروح فيهم – إن في ذلك تعاسة لي وخطر على الأحباء. تلك هي النتيجة حقًا…’، ‘عليهم أن يحزموا أمتعتهم وينطلقوا وليس لأحد سلطان أن يحرمهم – عندما يكونون مستقلّين؛ فليأخذوا جواز السفر ويذهبوا…’، ‘إن أمر الله سينتصر رغم تقاعس عدد كبير من أنصاره. فهو يعمل بطريقة غامضة خفية.’ وفي مَعرِض حديثه عن بعض الأماكن التي يعمل فيها الأحباء كمدرّسين في المدارس قال بأنهم ‘يُقيمون في المدارس نمط الحياة الأمريكية بدل إقصائه جانبًا وتأسيس نمط الحياة البهائية.’ ولكن بالرغم من كل ما كان يُسبغه على الزائرين الحجاج – من توفير الراحة الجسمانية لهم كونهم ضيوفه، إلى إزالة حُجُب الغشاوة عن عيونهم وتثقيفهم بأمور دينهم – إلا أنه كلما أراد أحدهم أن يعبّر له عن امتنانه العميق للشرف الذي حظي به في لقاء حضرته، كان فورًا يغيّر مجرى حديثه قائلاً بأن الهدف من زيارة الأرض الأقدس هو زيارة المقامات المقدسة.
كثيرة هي الذكريات التي تراودني عندما أفكر بالزائرين للأرض الأقدس بمن فيهم نفسي، من قَبيل ما حدث في فجر ذلك اليوم من عام 1923، عندما كنتُ طفلة ونحن عائدين بسيارة ولي الأمر من البهجة حيث ذهبنا جميعًا لإحياء ذكرى صعود حضرة بهاء الله. أصرّيت يومها على الجلوس فوق حافة غطاء سقف السيارة الذي كُشف وارتدّ إلى الخلف بدلاً من جلوسي في المقعد الخلفي. اعترض عليّ شوقي أفندي وحذّرني من مغبّة السقوط، ولكنني أكّدت له أن ذلك لن يحصل. كنت حينها ثَمِلةً نشوى بانبلاج الصباح وبكل تلك الألطاف التي هطلتْ عليّ لدرجة لم أشعر معها بأي خوف. لم تكن في تلك الأيام طريق معبّدة بين عكاء وحيفا، فانطلقتْ بنا السيارة بمحاذاة الشاطئ فوق شريط الرمال الرطبة الفاصل بين مياه البحر والكُثْبان الرملية. مئات من سراطين البحر الصغيرة البيضاء فرّت من أمام السيارة في موجة لا نهاية لها تنشُدُ السلامةَ في جحورها. بالكاد كانت الشمس قد بدأت ترسل خيوطها، والدنيا من حولنا بدت كلها منتعشة وردية نظيفة. أخذ شوقي أفندي يحدّثني عن مدى شوقه لرؤية جبال روكي في كندا، وعن حُبّه للجبال وتسلُّقها. وحتى آخر أيام حياته ظلّ يتابع باهتمام شديد أي قصة عن حملات تسلق قمّة إفرست. كان شَغَفُه بجمال الطبيعة كبيرًا للغاية، وإذا ما أُتيح له أن يكون حرًا فإنني أؤكّد بأن كثيرًا من وقته كان سيقضيه في زيارة المواقع الطبيعية الخلاّبة في العالم.
في السنة الأخيرة من حياة شوقي أفندي قدِمَ اثنان من الزوّار السويسريين إلى حيفا، فأثار حضورهما شجونه في ذكرياته عن سويسرا، فأفاض في إظهار حبّه لبلدهم بأسلوب بعيد كليةً عما اعتاد عليه من تحفّظ حول حياته الخاصة ومشاعره الشخصية. كنت وقتها مريضة أُلازم الفراش ولم أحضر العشاء في دار ضيافة المسافرين، إلا أن شوقي أفندي، عندما عاد إلى المنزل، أخبرني بأنه ‘قال كل شيء’ – عن الجبال التي تسلّقها، وجولاته سيرًا على الأقدام، والمناظر الطبيعية التي أَحَبّها كثيرًا. كان ذلك مخالفًا جدًا لطبيعته، ونادرًا جدًا، ودليلاً واضحًا لشيء ما يكمن عميقًا في قلبه.
أتذكّر حَدَثًا آخر وقع في سويسرا بالذات عندما كنا نغادر زِرمات[12] في مساء أحد الأيام. ففي جميع السنوات التي سافرنا فيها معًا، لم يُكوّنْ شوقي أفندي أي علاقات شخصية، ونادرًا جدًا ما تكلم إلى أغراب. لم يكن هذا من طبيعتي أنا، فكنت أحيانًا أنسلّ من مقصورتنا في القطار، أو في مناسبة أخرى، وأدخل مع أحد المسافرين في محادثة حيوية ممتعة. كان حضرته يعلم دائمًا متى كان يحدث هذا (ولم يهتم أبدًا). أعتقد أن ذلك كان نتيجة تورُّد وجهي وما يطرأ عليه من تعابير متباينة عندما كنتُ أعود إليه، وبعينيْن برّاقتيْن يسألني عما كان يُشغلني. ومع ذلك، ففي هذه المناسبة بالذات، كان هو مَنْ بادر ودخل في محادثة طويلة بينما كنا جالسيْن على مقاعد خشبية صلبة في مقصورتنا بالقطار بالدرجة الثالثة. أخذ يتكلم مع شاب كان يجلس مقابلنا وبدا فتىً مهذّبًا ودودًا ولطيفًا للغاية، هو ابن عائلة من روسيا البيضاء تعيش في أمريكا ويسافر إلى سويسرا لأول مرة. أخذ ولي الأمر، باللطف والرقّة والحيوية التي غالبًا ما تُميِّز محادثته، يقدِّم له نصيحته بكل تفصيل حول الأماكن التي يجب ألا تفوته مشاهدتُها خلال المدة المحدودة المتاحة له، حتى إنه أخرج له دليل السكة الحديد السويسرية، وأطلعه على القطارات التي عليه أن يستقلّها؛ أين يذهب ومتى. أسندتُ ظهري إلى الخلف واستمعتُ وأنا أشاهد وجه ذلك الشاب الجميل وهو في غاية الأدب وبمنتهى السرور كونه يحظى بكل هذا الاهتمام من هذا الرجل الغريب، وبالطبع كنت أدعو من كل قلبي بأن هذه العناية التي نزلت على هذا الشاب – والتي لا يمكنني الإفصاح له عنها بأي طريقة كانت – أن تقوده بطريقة ما، في يوم ما، إلى الدين الذي كان هذا الغريب رئيسه!
ولكن، عَوْدًا إلى ملاحظات شوقي أفندي للزائريْن السويسرييْن القادميْن إلى حيفا، فقد كان متحمّسًا لإخبارهما برغبته لأن يكون لسويسرا مشرق أذكار خاص بها يقع قرب العاصمة بيرن وله إطلالة واضحة على جبال الألب البيرنيزية حيث أمضى شهورًا عديدة جدًا من حياته سائرًا على الأقدام ومتسلّقًا. في 12 أغسطس/ آب 1957 عبّر حضرته، لما كان يُعرف آنذاك بالمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في إيطاليا وسويسرا، عن تمنياته في هذا الشأن. وكتب سكرتيره: ‘كما أوضح حضرته لــِ ــــــــــــــــــــــــ، فإنه شديد التلهف لأن تمتلك سويسرا موقعًا لبناء مشرق أذكار خاص بها في المستقبل مهما كان صغيرًا وكيفما كانت البداية متواضعة. ويرى أن يكون الموقع في ضواحي مدينة بيرن مطلاً على بيرنيز أوبرلاند، كما يسره جدًا أن يتمكن شخصيًا من تقديم قطعة الأرض هذه هدية للجامعة البهائية السويسرية. لا إعلان عن هذا الموضوع مهما كان نوعه خشية أن يُجابَه بمعارضة العناصر المتعصبة في بيرن كما حدث في ألمانيا. وحالما تجد اللجنة المكلَّفة قطعةَ أرض مناسبة، فإن حضرته يرغب من محفلكم الروحاني أن يُعلمه بالتفاصيل.’ تلك كانت هدية فريدة في طبيعتها، لم تحظَ جامعة بهائية في العالم بمثل هذا الشرف. وقد اشتُريت قطعة الأرض بمساحة (2000) مترٍ مربعٍ تقريبًا في ضواحي بيرن مطلة على غوربتال[13] ومنها يمكن رؤية منظر جبال فنشترارهورن[14] ومونك[15] وأيغر[16] ويونغفراو المشهورة، وهي الأماكن التي كثيرًا ما شهِدتْ مآثر ولي الأمر في تسلُّق الجبال، كما شهدت أيضًا مروره بأحلك ساعات كربه بعد صعود جدّه.
في إحدى المناسبات أخبرتْ إحدى الزائرات من كندا ولي الأمر أن الأحباء في تبليغهم الأمر المبارك لسكان الإسكيمو لاحظوا أنه من الصعب جدًا على الأهالي هناك أن يدركوا معنى تشبيهات لكلمات مثل “ورقة الفردوس”[17] و”الوَرد”[18]، لأن أشياء كهذه غير معروفة لديهم بالكلية. كان رد فعل شوقي أفندي على هذا نموذجيًا؛ فعندما ودّعها وهي عائدة لموطنها قدّم لها زجاجة من عطر الورد الإيراني الخالص، وأخبرها بأن تعطّر أهالي الإسكيمو به قائلاُ ربما بهذه الطريقة يمكن لهم أن يأخذوا ولو فكرة بسيطة عما عناه حضرة بهاء الله عندما كتب عن الورد.
وحادثة أخرى تخطر الآن ببالي؛ فمن بين آخر الزوّار الذين غادروا حيفا، قبل أن يغادرها شوقي أفندي في يونيو/ حزيران 1957 ولم يَعُدْ بعدها، سيدتان أمريكيتان زنجيتان. لن أنسى ما حييت تلك النظرة التي بدت على وجه إحديْهما وهي جالسة في مقابل ولي الأمر على المائدة في منزل الزائرين للأرض الأقدس. يمكن للمرء أن يشعر في لقائه مع حضرته أن أحزانه وآلامه التي داهمت حياته قد تلاشت – فهو الذي قابل الجميع على أنهم مخلوقات الله، ولم يراوده أي شعور سوى البهجة بأنهم جميعًا هكذا كما خلقهم الله. كانت نظرة السيدة الزنجية إليه مزيجًا من الحب العارم الذي يملأ قلب الأم، والاحترام والإجلال الواجب لحضرته على مقامه الرفيع، مما جعلني أعتقد بأنها لا بد أن تكون تلك النظرة نفسها على وجوه ملائكة الجنة وهي شاخصة أبصارُها إلى ربها.
إن الذين تشرفوا بقربهم من ولي الأمر، بغضّ النظر عن خبراتهم، أو عن مدّة إيمانهم بالدين البهائي – البعض مثلي منذ الولادة – كان مفهومهم عن عظمة هذا الأمر يتّسع باستمرار بفضل كلمات شوقي أفندي وردّات فعله وما يضربه من مَثَلٍ يُحتَذى. أذكر دهشتي عندما ذكر حضرته، في رسالة الرضوان المطوّلة لعام 1957 الموجهة إلى البهائيين في العالم (بكل فخر كما هو واضح وإلا لما أورده في الرسالة)، أولئك ‘النزلاء البهائيين الذين اهتدَوْا مؤخرًا’ في سجن كيتاليا بأوغندا. لم يخطر لي أبدًا أن أحدًا يمكن أن يأتي على ذكر بهائي في السجن دون شعوره بالخجل! ولكن حضرته أراد هنا أن يُعلن أن لنا في السجن جماعة من أتباع حضرة بهاء الله. غالبًا ما كان يشير إلى ذلك في حديثه مع الزائرين للأرض الأقدس، وعندما فكرتُ مليًّا في ذلك وبما قاله عنه، أدركتُ أن هذا الدين بما أنه جاء لعموم الجنس البشري؛ للقديسين مثل ما هو للخطاة، فإن هناك مبدأين كانا يعملان: أحدهما حقيقة أن المجتمع الإنساني يجب أن تحكمه القوانين، وتحميه القوانين، وأن الناس يعاقبون بموجب القوانين، والآخر يقول بأن الإيمان بالمظهر الإلهي يجب أن يكون عموميًا ويحتضن كل إنسان، ذلك لأن الإيمان هو الشرارة التي تضيء الروح وتمنحها الوعي الأبدي بخالقها، وهو حق ممنوح لكل نفس إنسانية بغضّ النظر عن آثامها مهما كانت. ففي أكثر من رسالة لأناس مختلفين وفي أوقات متباينة شجّع شوقي أفندي البهائيين على التبليغ في السجون.
إن التعاطف الذي أبداه جميع الأنبياء والمرسلين تجاه المقهورين والمضطهدين، والفقراء المستَضعفين، وأولئك المنبوذين، بأن اختصّوهم برعاية خاصة وحماية ودعم حبّي، نراه دومًا يظهر جليًّا في أفعال ولي الأمر وكلماته. إلا أننا يجب ألا نخلط هذا الموقف بالحقيقة الأساسية بأن الكثير من جموع الناس من الذين يقعون حاليًا ضمن تلك الفئات ليسوا ممن يستحقون العناية الخاصة فحسب، بل ولديهم في دخائل أنفسهم قوىً على درجة عظيمة من الروحانية يحتاجها العالم بأسره. خذ مثلاً الهنود الحمر في النصف الغربي من الكرة الأرضية، فقد كتب حضرة عبد البهاء بحقهم: ‘يجب عليكم الاهتمام كلّ الاهتمام بأهالي أمريكا الأصليين أي الهنود الحمر، لأنّ هذه النفوس أشبه بأهالي شبه الجزيرة العربية القدماء الّذين كانوا قبل البعثة النبوية كالوحوش فلمّا طلع فيهم النور المحمّدي استناروا إلى درجة أناروا العالمين، وكذلك الأمر في هؤلاء الهنود فإنّهم لو تربّوا ونالوا الهداية فلا ريب في أنّهم يتنوّرون بالتعاليم الإلهية بحيث ينيرون بها كلّ الأقاليم.’[19] لم تغِبْ عن بال شوقي أفندي هذه الكلمات طيلة فترة ولايته، فحثّ الأحباء في جميع أنحاء كندا والأمريكتين مرارًا وتكرارًا أن يعملوا على انضواء تلك النفوس تحت راية حضرة بهاء الله. بعض رسائله الأخيرة التي كتبها في يوليو/ تموز 1957 إلى محافل روحانية مركزية مختلفة في النصف الغربي من الكرة الأرضية، شدّدت كَرَّةً أخرى وبقوة على هذا الموضوع وأشارت إلى أنه ‘قد طال انتظار هداية الهنود الأمريكيين’. أقتَبِسُ فيما يلي بعض تعليماته التي كتبها سكرتيره بالنيابة عنه:
‘إن أسمَى الأعمال وأعظمها بالطبع هو التبليغ. يجب أن يوليه محفلكم بالغ العناية في كل جلسة، معتبرًا كل شيء آخرَ ثانويًا في أهميته. إن الواجب ليس في تطوير العديد من المحافل الروحانية الجديدة والجماعات والمراكز النائية فحسب، بل في بذل اهتمام خاص في التركيز على هداية الهنود الأمريكيين إلى حظيرة الأمر المبارك أيضًا. والهدف يجب أن يكون تشكيل محافل روحانية جميع أعضائها من الهنود، لعلّ هؤلاء السكان الأصليين المقهورين والمقموعين يدركون أنهم متساوون مع غيرهم وشركاء في تحقيق مصالح أمر الله، وأن حضرة بهاء الله هو مظهر الله المرسَل إليهم.’
‘كان سعيدًا جدًا بشكل خاص لأن يعلم أن بعض المؤمنين الهنود كانوا حاضرين في مؤتمر الوكلاء المركزي. يعلّق حضرته أهمية كبرى على تبليغ الأمر للسكان الأصليين في الأمريكتين، وقد بيّن حضرة عبد البهاء نفسُه كمْ هي عظيمة قدراتُهم، وأنه حقٌّ لهم وواجب على البهائيين غير الهنود أن يتأكدوا من إبلاغهم رسالة الله لهذا اليوم. إن أحد أهداف محفلكم الروحاني الأجدر باهتمامكم يجب أن يكون تشكيل محافل روحانية كل أعضائها من المؤمنين الهنود، وبالمثْل يجب السعي بشكل خاص للوصول إلى الأقليات الأخرى وتبليغها أمر الله. على الأحباء أن يضعوا نصب أعينهم أن في شريعتنا البهائية، بخلاف ما هو قائم في المجتمعات الأخرى، يجب أن تأخذ الأقلية حقها وتعويضها عن معاملتها كطبقة أدنى، فتَلْقَى عناية خاصة وحبًا وتقديرًا…
‘وبينما أنتم تحدّدون الأهداف التي يجب أن تحظى بعنايتكم المركّزة في السنوات القادمة، فإنه يحثكم أن تأخذوا بالاعتبار الهدف الأكثر أهمية من الكلّ، وبالتحديد، مضاعفة أعداد المحافل الروحانية والجماعات والمراكز النائية، وهو ما سوف يضمن اتساع وعمق الأساسات التي تضعونها لهيئات مركزية مستقلة مستقبلاً. يجب أن تحثّوا الأحباء على أن يأخذوا في الاعتبار، كأفراد، حاجات منطقتهم المجاورة لهم مباشرة، وأن يبادروا في التقدُّم للهجرة إلى المدن والبلدات البعيدة والقريبة، وعلى محفلكم الروحاني أن يقوم بتشجيعهم وتذكيرهم بأن الناس البسطاء، وهم في الغالب فقراء غير معروفين، قد استطاعوا في السابق أن يغيّروا مسار مُقدّرات البشر بأكثر من أولئك الذين انطلقوا ومعهم الثروة والشهرة والأمان. إنه مغربل القمح[20] الذي نهض في الأيام الأولى لديننا وأصبح بطلاً وشهيدًا وليس علماء الدين في مدينته!’
كانت لحضرته مشاعر مماثلة تجاه أقوام من جنس آخر. ففي رسالة له مؤرخة في 27 يونيو/ حزيران 1957 كتب إلى المحفل الروحاني المركزي في نيوزيلندا الذي تشكل حديثًا: ‘بينما أنتم تضعون خططكم وقائمون على تنفيذها في عمل أئتُمِنْتُم عليه في السنوات الست القادمة، يريدكم أن تضعوا نصب أعينكم بشكل خاص الحاجة إلى تبليغ شعب الماوري[21]. فهؤلاء المكتَشِفون الأصليون لنيوزيلندا هم من عرق أصيل ممتاز وشعب حاز على الإعجاب لخصاله النبيلة، ويجب بذل جهد خاص، ليس من أجل الاتصال بالماوريين في المدن وجذبهم إلى حظيرة الأمر فحسب، بل والذهاب إلى مدنهم والعيش بينهم وتأسيس محافل روحانية معظم أعضائها من الماوريين على الأقل إن لم يكن جميعهم، وسيكون هذا إنجازًا قيّمًا حقًا.’
وإلى زائر للأرض الأقدس ينتمي إلى العرق المنغولي صرح ولي الأمر بأنه ما دامت غالبية الناس في العالم ليسوا من البيض، فليس هناك من سبب يستوجب أن تكون غالبية المؤمنين بالدين البهائي من البيض، بل بالعكس فإن على الأمر الإلهي أن يعكس الوضع القائم في العالم. إن اختلاف الأجناس بالنسبة لشوقي أفندي ليس شيئًا يجب محوه، بل بالأحرى هو عنصر طبيعي وضروري ورائع حقًا، أتاح للكون أن يكون أكثر جمالاً وكمالاً.
لم يرسّخ شوقي أفندي في نفوس البهائيين باستمرار ذلك الاحترام لأناس من خلفيات عرقية مختلفة فحسب، بل علّمهم أيضًا كيف يكون الاحترام؛ وفوق ذلك كله حقيقة التوقير والتبجيل، كمناقب لازمة لتشكيل هوية الشخص النبيل. فالعالم الغربي اليوم يفتقر بكل أسف إلى توقير الأشياء المقدسة. ففي عصر أسيء فيه فهم فكرة المساواة، وبات يعني أن كل أنصال أوراق العشب يجب أن تكون متساوية الارتفاع تمامًا، كان شوقي أفندي المَثَل الأفضل والقُدوة الذي يمكن للمرء أن يجده في احترامه البليغ لمن هم أعلى منه مقامًا. فمنتهى التبجيل الذي أظهره حضرته للمظهريْن الإلهييْن التوأم ثم لحضرة عبد البهاء، أكان ذلك في كتاباته وأحاديثه أم في الطريقة التي كان يقترب بها من مراقدهم المطهّرة، إنما يقدّم أنموذجًا دائمًا يقتدي به جميع البهائيين. وكلما كان شوقي أفندي قريبًا من أحد المراقد المقدسة يمكن للمرء أن يشعر بوعي حضرته بذلك باديًا من كل كيانه. فطريقة مِشْيته وهو يتقدم منها، وأسلوبه وهو يقترب من العتبات المقدسة بمنتهى الهدوء وبغاية التوقير والتبجيل، ويركع أمامها ويضع جبينه عليها، وطريقته في عدم الالتفاف وإدارة ظهره بتاتًا طالما هو داخل الضريح في تلك البقعة المقدسة التي تضمّ واحدًا من هذه الوجودات الأقدس والأعز على الإطلاق، نبرة صوته، تبجيله الوقور المتّزن في مناسبات كهذه، كل ذلك يشهد على الأسلوب اللائق بالإنسان لدى اقترابه من قدس الأقداس ماضيًا برفق وتُؤَدَة وهو يطأ أرضًا مقدسة. حقًا إنها الروح هي التي يجب أن يهتم بها الإنسان في هذه الحياة لأنها هي كل ما سيأخذه معه عند مفارقتها الجسد. هذا هو المفهوم الأساس – الذي غفلت عنه النظريات الفلسفية المعاصرة ونسيته تمامًا – والذي يمنح، حتى غُبار هذه الوجودات النبيلة، قدرات وقوى خفيّةً باطنية. كم هو قويٌّ عطر بعض الورود حتى بعد ذبولها وجفافها بسنوات، وما زال المرء يمكنه أن يشمّ رائحة الورد فيها. إنه مثال بسيط على القوة التي تبقى في ذرات الغبار المنسوبة إلى الأرواح السامية لتلك النفوس السماوية عندما كانت في هذا العالم.
هذا الشعور الرائع بالتوقير والتبجيل – الذي يبدو كالنسيم عندما يهبّ من فوقنا ويحمل معه بعيدًا ما خَبُثَ من طبائعنا البشرية غير الناضجة – كان سِمَةً انطبعت عميقًا في شخصية ولي الأمر وقد تعلّمها وحملها معه منذ نعومة أظفاره، عندما جلس راكعًا طاويًا ذراعيه على صدره أمام جدّه الجليل. تمرّ بمخيّلتي حادثة حصلت بعد عودة والديّ إلى كندا عام 1937 وأرسلا إليَّ كتبي مع خِزانتها وأشياء أخرى كانت في منزلي بكندا. قمتُ بترتيب الكتب بكل عناية قرب سريري كما كان الوضْعُ في غرفتي ببيتي من قبل، ووضعتُ عليها صورة حضرة عبد البهاء نفسها، مما جعلها بمحاذاة الطرف السفلي لسريري. وحالما لاحظ شوقي أفندي ذلك الوضع صاح متعجبًا: ‘تضعين المولى عند قدميكِ!’ جَفَلتُ أمام هذه الملاحظة الشديدة وبيّنتُ بأنني اعتدتُ دائمًا أن أضع شمائله هناك حيث يكون وجهه أول ما أراه عندما أصحو في الصباح. فأجابني بأن هذا لا يليق، فعليّ أن أضع المولى عند رأسي احترامًا وتقديرًا وليس عند قدميّ. قبل ذلك لم يخطر ببالي أن في الغرفة ما هو علوي وما هو سفلي، أو كم هي من القداسة تلك الارتباطات بأشياء كهذه كالصورة الشخصية لمركز ميثاق صاحب الظهور الإلهي ورسم الاسم الأعظم. فمكانهما إذًا يجب أن يكون الأعلى حتى لو كان ذلك في غرفة. ومثال على موقف ولي الأمر هذا ما احتوته كلمات كتبها سكرتيره، بالنيابة عنه، إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا عام 1933: ‘بخصوص ألواح حضرة بهاء الله الموجّهة إلى الورقة المباركة العليا، يرى شوقي أفندي أنه ليس من مظاهر الاحترام وضع صورة عن لوح مبارك بخط يد حضرة بهاء الله في النشرة المقترحة. لقد عمل حضرته على استخراج عدة نسخ عن ذلك اللوح كي تتم زخرفتها ومن ثم إرسالها هدية لمختلف المحافل الروحانية المركزية للاحتفاظ بها بكل إعزاز وتوقير ضمن محفوظاتهم المركزية.’
هناك أمثلة أخرى بخصوص هذا الأمر نفسه؛ ففي بدايات عام 1923 أبرق شوقي أفندي إلى ذلك المحفل الروحاني المركزي نفسه: ‘إن الحفاظ على هيبة الأمر المبارك ووقاره يتطلّب استعمالاً مقيّدًا للاسطوانة المسجل عليها صوت حضرة عبد البهاء’، مشيرًا بذلك إلى تسجيل صوت حضرة عبد البهاء وهو يتلو المناجاة خلال زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وفي مناسبة أخرى أصدر شوقي أفندي تعليماته إلى ذلك المحفل الروحاني قائلاً: ‘في إدارتكم لأي نشاط اجتماعي في المكتب البهائي المركزي، مهما كان نوعه، عليكم بكلِّ الحرص في الحفاظ بحزم أكيد على كرامة المكان، خاصة نظرًا لقربه من مشرق الأذكار مما يضاعف من ضرورة التزام جميع الأحباء بمعايير السلوك والتعامل الاجتماعي التي تنادي بها التعاليم البهائية.’
إن ما نحن بصدده هنا ليس طقسًا من الطقوس بل هو موقف، ذلك لأن الدين البهائي خالٍ من الطقوس الدينية. ومع أن شوقي أفندي نفسه اعتاد أن يسجد خاشعًا أمام عتبات المراقد المقدسة، كان يسعى جاهدًا لأن يشرح لزائريها أنهم أحرار في أن يفعلوا هكذا أو لا. كان يفعل ذلك لأنه جزء من عادات الشرق الذي جاء منه أسلافه، إلا أن التوقير أمر آخر: فهو في جانبٍ مظهرٌ من مظاهر التعبير الذي يخضع لاختيار الفرد نفسه، وفي الآخر تلك الروح اللائقة التي يجب أن تسكُنَ قلبَ المؤمن المخلص وهو يقترب من تلك الأشياء التي هي الأقدس في الوجود.
كانت عادة ولي الأمر، متتبِّعًا خطوات المولى الذي اتخذ لنفسه لقب خادم خُدّام الله، أن يقف قرب باب المرقد المطهّر ويمسح على أيدي الأحباء بماء الورد أو عطره وهم يعبرون أمامه ويدخلون للزيارة، ويكون حضرته آخرَ الداخلين. ومع ذلك، وسط ذلك الجو العابق بمشاعر العبودية الخالصة والخضوع التام، يقفون بترتيب متناسب، غير غافلين عن تباين الرُتَب والمقامات المتأصل في ذلك الجزء من المجتمع الإنساني، فتجد حضرته هو الذي يتقدم ويقود الأحباء الأوفياء في الدعاء؛ بينما أولئك الذين تبوَّءوا أعلى المراتب في حيفا يقودون الجميع إلى داخل المرقد المبارك يتقدمهم ولي الأمر، وهم يتبعونه إلى الداخل، أو أنهم يتشرّفون بمرافقته بالسيارة عند ذهابه إلى البهجة لإحياء ذكرى مباركة؛ في كل ذلك نرى اللباقة والاحترام والتوقير يأخذ مكانَه اللائق في مجريات الأمور.
بالتزامه بهذا الإحساس العميق بالتبجيل والتوقير نحو شخصيات ديننا الرئيسة، كان شوقي أفندي في غاية اليقظة في الدفاع عنها أمام أي استخفاف أو توهين. مثال ذلك ما حدث في يناير/ كانون الثاني 1941 عندما أقدمت بلدية حيفا على تسمية شارع صغير مقابل منزل حضرة عبد البهاء ودار ضيافة المسافرين الغربيين باسم “شارع البهاء”، مما أثار حفيظته للغاية، فأرسل سكرتيره فورًا ليقابل رئيس البلدية محتجًّا كون هذا الاسم يعود إلى مؤسس ديننا، ولذلك فإننا نعتبر ذلك ليس لائقًا فحسب بل ومُهينًا أيضًا. اجتمعت سلطات البلدية وقررت تغييره إلى “شارع إيران”. أذكر حينها أن ولي الأمر أقلقه جدًا هذا الموضوع حتى إنه قال إن لم يزيلوا الشاخصة سوف يذهب بنفسه وينزعها بيديه إذا اقتضت الضرورة حتى لو أدّى ذلك إلى زجّه في السجن! أقلقني جدًا ذلك الوضع، فلم أكن أريده أن يدخل السجن من دوني، ولم أدرِ ماذا عليّ أن أفعل حتى أدخل السجن معه.
لا يمكن رسم صورة مكتملة تمامًا لشخصية شوقي أفندي دون التطرّق إلى الإحساس الفني الحقيقي الاستثنائي الذي كان يمتلكه. وهذا لا يعني أنه كان بمقدوره أن يكون رسّامًا، بل كان كاتبًا بدرجة امتياز، إلا أن له بالتأكيد نظرة رسام وعين مهندس معماري. لقد اتحدت هذه المواهب مع سجيّته الأساسية التي من دونها لا أستطيع أن أتصوّر كيف يمكن لإنسان أن يحقّق العظمة في أي من الفنون أو العلوم – هو إحساس كامل بالتناسب، إحساس دقيق يعمل في حدود الملليمترات أكثر منه بالسنتمترات. لقد كان هو الذي حدَّد لوالدي طراز المقام الأعلى لحضرة الباب من خلال تعليماته – التي لم تكن في الغالب بالتفصيل بل من حيث المبدأ. وهو الذي وضع تصميم بناء محفظة الآثار العالمية، حتى إن مهندسه المعماري صرّح بشكل قاطع بأنه من تصميم شوقي أفندي وليس من تصميمه. لقد وضع ولي الأمر تصميمه الفخم الرائع للحدائق في البهجة وحيفا دون مساعدة واستشارة أحد محدِّدًا بنفسه جميع قياساتها. إلا أن ما قد يجهله الناس بأن المظهر الداخلي للمقام الأعلى وقصر حضرة بهاء الله [في البهجة] وبيت عبود وقصر المزرعة كان من تصميم ولي الأمر نفسه، ولا أحد سواه، مهما كانت تفاصيله صغيرة بسيطة. لم يكن حضرته يضيف باطّراد إلى ما هو قائم من الزينة والصوَر المعلقة ومصابيح الإنارة والأثاث ما يمكن أن يزيد هذه الأماكن جمالاً فحسب، بل كل ما كان يُوضَع في مكانه كان بإشرافه أيضًا. لم تُعلَّقْ صورة على الجدران إلا ووُضِعت في المكان الذي حدّده حضرته لها بالضبط وفي حدود سنتمتر واحد. هو لم يخلق فقط مؤثرات الجمال التي تجذب عين الناظر لحظة دخوله تلك الأماكن فحسب، بل وأبدع كل هذا بأقلِّ التكاليف أيضًا، وذلك بشرائه اللوازم ليس بسبب طرازها وقِدَمها بل لأنها كانت غير باهظة الثمن ويمكنها أن تُحدِث تأثيرًا في النفس بصرف النظر عن قيمتها الفعلية. زيارته للمقامات المقدسة والحدائق كانت تشكّل لديّ الفرصة الوحيدة لتنظيف غرفته. كثيرًا ما أتذكّر كيف أنه بالرغم من محاولاتي مع الخادمة لإعادة الأشياء العديدة الموجودة على مكتبه إلى مكانها تمامًا، إلا أنه عندما كان يدخل غرفة نومه، حيث كان يُنجِز كل عمله، يتوجه إلى مكتبه ويُلقي نظرة تلقائية، ثم يمدّ يده إلى ما قد تغيّر وضعه ليجري تعديلاً طفيفًا لموقع الأشياء المختلفة إلى حيث كان يحبها أن تكون مع أنني متأكّدة أن الفرق لم يكن ملحوظًا عمليًا لأي عين إلا عينه. لا حاجة بي لأن أضيف أن كل هذا كان يتمّ بترتيبٍ وتنظيمٍ استثنائيين.
أَحَبّ شوقي أفندي الأشياء المزخرفة، تلك الأشياء المزخرفة الجميلة بتناسقها وليس لمجرّد أنها مزخرفة. أدركتُ على مرّ السنين ماهية بعض المباني والطُّرُز المعمارية المفضّلة لديه. كان معجبًا جدًا بالطراز اليوناني خاصة عندما يماثل ما كان عليه البارثنون[22] من تناسق لا يُضَاهى، ثم الفن المعماري القوطي[23] (الجرماني) بالدرجة الثانية، وقد أثارته نماذج رائعة منها، مع بُعدها التامّ في التعبير عن الأسلوب اليوناني، فأُعجب كثيرًا بأقواسها العالية وزخارفها الدقيقة المخرّمة المتشابكة المنحوتة في الحجر. كثيرًا ما زرنا في إنكلترا كاثدرائيات مبنية على الطراز القوطي. وفي الغرف الخاصة بحضرته وَضَع صورة فوتوغرافية كبيرة مُبروَزة لكاثدرائية ميلان، كما كانت لديه أيضًا صورٌ فوتوغرافية لقصر الحمراء في غرناطة وضع بعضها في منزله الخاص والآخر في قصر البهجة معتبرًا إياها جميلة جدًا. وهناك صَرْحٌ آخر أحبّه شوقي أفندي، مختلف عنهم تمامًا في تناسقه وفي الإحساس الذي يبعثه في النفس، ذلك هو بناء السينوريا[24] في فلورنسا. ليس من دليل أوضح على عُمق إحساسه الفني وقوة مقدرته الطبيعية في مسائل كهذه بأكثر من كون هذا البناء الإيطالي الضخم، الذي يختلف تمامًا عن أبنية أخرى يفضّلها، قد حاز على هذا القدْر الكبير من إعجابه وتقديره.
غير مقيّد بالتقليد فيما يخص التذوّق الفني، كان ذوق شوقي أفندي أصيلاً إلى أبعد الحدود ومبدعًا في طريقة إحراز مؤثراته. لقد قام بأعمال لم تحاول أي سلطة أن تقوم بها وهي تصدر تعليماتها الغزيرة في سلسلة من الأوامر إفعل كذا ولا تفعل كذا. خذ مثلاً التصميم الداخلي الذي اعتمده حضرته لزخرفة مبنى محفظة الآثار ذي الطراز الإغريقي. فمن أجل توفير حيّز أكبر ليكون بمثابة قاعة ضخمة عملاقة وحيدة تُعرض فيها أشياء كثيرة، متبركة أو غير متبركة، والتي كان ينوي تأثيثها بها، بنى شوقي أفندي شُرفتيْن ضيقتيْن تمتدّان على طول جانبيّ القاعة بالكامل ووضَعَ لهما درابزينًا وقائيًا رائع الطراز من الخشب تَميَّزَ طرازُه بعصر النهضة الأوروبية البحت. كانت معظم الخزائن التي اختارها، على طول امتداد جدران القاعة السفلية، مصنوعة من الخشب المطلي بالورنيش الياباني أو من خشب التِّيك الصيني المنحوت، كما كانت الثريات الستة الضخمة المُدلاّة من السقف من الكريستال المقطّع المصقول وعلى الطراز الأوروبي البحت. عندما سألتُ ولي الأمر عن الأثاث الذي سيضعه على الشرفتين، أجاب بأنه سيضع بعض الخزائن التي كانت في محفظة الآثار السابقة ولم تكن في الواقع من طراز معين، إلا أنها تشبه الأثاث الحديث المدهون الذي يستعمله الناس في بيوتهم في هذه الأيام. ومع ذلك فإن هذه التشكيلة الغريبة من الأثاث التي تمثِّل فترات من الزمن متباينة، وبلدانًا مختلفة بما فيها قطع فنية لا تُحصى جُمعت لتخلق صورة من الجمال والوقار والغنى والروعة من الصعب أن تجد مثيلاً لها في أي مكان.
مثال آخر على براعة ولي الأمر البالغة، تلك الحديقة الصغيرة التي بناها على ارتفاع طابقيْن فوق سطح الأرض في فناء صغير مكشوف في بيت عبود بعكاء. فهو، دون أن يَسأل نصيحة أحد – ولم يُنصح بالتالي بعدم فعل ذلك – باشر العمل ببلاطٍ كان فائضًا عن الحاجة، وبقليل من الصبّ الإسمنتي، وقاعدة تمثال خشبي قديمة، وهيكل طاووس معدني وبعض النباتات، مبتكرًا تصميم حديقة صغيرة مربّعة الشكل لم تكن ساحرة فحسب، بل شدّت أيضًا أنظار أهالي عكاء – الذين زاروا البيت في أيام فَتْحِهِ للعموم – فوقفوا محدِّقين بأفواه فاغرة في شيء جديد لم يسمعوا به أضاف للجامعة البهائية مزيدًا من الشهرة.
حقًا كان ولي الأمر رجلاً استثنائيًا. فلا نهاية للأمثلة التي تراود الذهن عندما يفكر الإنسان في طبيعته وإنجازاته. له قلب على جانب كبير من الإخلاص لأولئك الأوفياء له على شأن ندر أن تجد له نظيرًا. في الحدائق، وعلى الشُرفة أمام المقام الأعلى لحضرة الباب تقوم غرفة صغيرة من الإسمنت، أوسع قليلاً من صندوق كبير. تلك كانت غرفة أبو القاسم [الخراساني]، خادم المقام الأعلى الذي يحبّه شوقي أفندي ويُعزّه كثيرًا على خُلُقه وتفانيه. وفي الليلة التي سبقت وفاة هذا الرجل أخبرني شوقي أفندي أنه رأى منامًا غريبًا تكرر مرتين. رأى فيه أن الغطاء النباتي الأخضر النضر عند المقام الأعلى قد ذَوَتْ أوراقُه وبدت كأنها احترقت. احتار حضرته في أمر هذا المنام جدًا وشعر أن له مغزاه، وعندما نقلوا له بعد بضع ساعات خبر وفاة خادم المقام الأعلى، أدرك على الفور مغزى منامه. في أوقات مختلفة وعلى مدى عدة سنوات، عندما كان ولي الأمر يبني المقام الأعلى ويوسّع الشرفة أمامه، كان يهدم هذه الغرفة، وفي كل مرة كان يحرص على بنائها ثانية بعيدًا قليلاً إلى الغرب نظرًا لارتباطها بتلك النفس المخلصة المتفانية.
[1] Dewing.
[2] Cooks.
[3] Dagmar Dole.
[4] Ella Bailey.
[5] Marion Jack.
[6] “الكلمات المكنونة العربية رقم 71.
[7] Victoria Bedekian.
[8] Philip Sprague.
[9] Dr. Giachery.
[10] The Advent of Divine Justice.
[11] The Promised Day Is Come.
[12] Zermatt.
[13] Gurbetal.
[14] Finsteraarhorn.
[15] Monch.
[16] Eiger.
[17] Nightingale.
[18] Rose.
[19] “ألواح الخطة الإلهية، ص 14.
[20] قصّة مغربل القمح، مطالع الأنوار، الترجمة العربيّة، طبعة 2008، ص 88–89.
[21] Maoris.
[22] Parthenon. هيكل الآلهة، الإلهة أثينا في مدينة أثينا.
[23] Gothic architecture. فن معماري نشأ في شمال فرنسا وانتشر في غرب أوروبا في القرن الثاني عشر وحتى السادس عشر.
[24] Signoria.
مهما كانت عليه علاقات شوقي أفندي من إخلاص ومودّة مع الأقربين من حوله طيلة حياته، فعلاقته الأسمى كانت مع الورقة المباركة العليا. عندما صَعِدت روحها الطاهرة عام 1932 جاءه الخبر وهو في إنترلاكن بسويسرا. ورغم أنه كان يعي تمامًا حالتها الصحية التي وصفها عام 1929، عندما كتب بأن الورقة المباركة العليا هي ‘الآن في مغرب حياتها، مع ظلال تزداد قتامة بسبب ضعف بصرها، وتداعٍ متسارع في قواها يتجمع حولها’؛ ومع أنه كان لديه شعور سابق بأن ختام حياتها يقترب بسرعة عندما كتب في مارس/ آذار 1932 إلى الأحباء الأمريكيين يحثّهم على بذل أقصى الجهد في إتمام بناء قبة ‘مشرق أذكارنا العزيز’ حيث قال: ‘إن صوتي هذا مرة أخرى، يعزّزه حماس وشغف الورقة المباركة العليا وربما رجاؤها الأخير وهي ترفّ روحها الآن على حافة عالم الغيب العظيم، وتتوق للانطلاق نحو الملكوت الأبهى… لهو تأكيد على الاكتمال السارّ لمشروع كان التقدُّم فيه يُضفي على أيام أفول حياتها الأرضية إشراقًا ساطعًا عظيمًا’؛ ومع أنها كانت في الثانية والثمانين من عمرها – فلا شيء من هذا كله قد خفّف من هَوْل الفاجعة أو هدّأ من مشاعر الحزن التي غمرت ولي الأمر. في الخامس عشر من يوليو/ تموز أبرق حضرته إلى أمريكا معلنًا عروج روحها الطاهرة إلى عالم البقاء ومتفجّعًا ‘فقداني المفاجئ لسندي الوحيد في هذا العالم وبهجة حياتي وسلواي.’ وأعلن للأحباء أن ‘مثل هذه الرزية تتطلّب تعليق كل مظاهر الاحتفالات الدينية مدة تسعة أشهر في أنحاء العالم البهائي’؛ يتوجب إحياء مجالس تذكّر في كل مكان، محليًا ومركزيًا، من أجل مَنْ هي ‘بقية البهاء ووديعته’.
لم يكن إلا في 17 يوليو/ تموز أن كتب ولي الأمر إلى الأحباء في أمريكا وكندا رسالة تمنحنا لمحة عما كان يموج في قلبه، وفيها يؤبّن شقيقة عبد البهاء ويشيد بحياتها ومقامها وأفعالها بسيلٍ من كلمات لا تنسى تفيض حبًا وتقديرًا:
أيتها العزيزة المحبوبة الورقة المباركة العليا! من خلال غشاوة الدموع التي تملأ عينيّ، وأنا أكتب هذه السطور، بمقدوري أن أرى بوضوح هيكلك الجليل شاخصًا أمامي، وألْحَظ صفاء مُحيّاكِ الحنون. ولو أن ظلال القبر تفصلنا، فلا زلتُ قادرًا أن أحدّق في عينيكِ الزرقاويْن المليئتين بعميق المحبة، وأن أشعر بالعشق الكبير الرزين الذي حملتيهِ لأمر أبيك العظيم القدير، وبالمودة التي ربطتكِ حتى مع أكثر أتباعه مسكنة وبساطة، وبالحنان الدافئ والمحبّة التي كنّها قلبك لي. ستظلّ ذكرى جمال ابتسامتك التي لا توصف تُبهِجني وتشدّ من عزمي عبر الدرب الشائك المقدّر أن أمضي فيه، وذكرى لمسة يدك ستحفزني نحو السير على خُطاكِ بثبات واستقامة، وحلاوة صوتك الساحر سيذكّرني في أحلك ساعات الشدة والكرب بالتمسّك بكل إحكامٍ بالحبل الذي تشبّثْتِ به بغاية القوة طيلة أيام حياتِك.
إلى شقيقِكِ حضرة عبد البهاء، ذي المقام الرفيع والمعيّن إلهيًا، بلّغيه نجوى هذا العبد: إن أمر الله الذي عمل وتحمّل حضرة بهاء الله في سبيله كلَّ بلاء، والذي عانيتَ من أجله الحزن والألم والهمّ والغمّ سنوات، ومن أجله سُفِكت دماءٌ طاهرة زكية، إذا كان له أن يُبتَلى في قادم الأيام ببلاء أعظم، فأحِطْ غلامك الضعيف هذا، المعيَّن بغير استحقاق، بدوام عطف فضلك وعنايتك وحكمتك.
إن ما فعلتْه الورقة المباركة العليا لشوقي أفندي بعد صعود حضرة عبد البهاء مباشرة وفي السنوات اللاحقة يفوق كل عدّ وحدّ. وكما قال حضرته، فقد أدّت دورًا فريدًا طوال مراحلَ من تاريخ الأمر الإلهي كانت صاخبة مضطربة، وليس أقلّه تأسيس دعائم ولاية شوقي أفندي نفسه بعد صعود حضرة عبد البهاء. ‘فأي البركات أذكر’ كما كتب شوقي أفندي، ‘من تلك التي غمرتْني بها بعناياتها اللامتناهية في أكثر ساعات حياتي حَرَجًا واضطرابًا!’ كما قال بأنها كانت بالنسبة له تجسيدًا للطف حضرة عبد البهاء ومحبّته الشاملة. فبينما كانت حياتها في أفول كانت حياته في طلوع وإشراق. بأي رضا عميق كانت تشاهِد شوقي أفندي، بينما مَدُّ حياتها عن شواطئ هذا العالم ينحسر، وقد غدا قويًا يُحْكِم قبضته على مقاليد ولاية الأمر، قادرًا على مواجهة اللطمات المتواصلة التي يتلقاها بثبات وجَلَدِ رجلٍ بلغ أشدّه في الإمساك بزمام مهمّته الهائلة المذهلة.
بعد صعود المولى أصبح شوقي أفندي بالنسبة لبهائية خانم هو كل شيء، والمحور الأساس لحياتها – أما هي فكانت على الدوام بالنسبة له الأحب إلى قلبه في العالم بعد جدّه. أعود في ذاكرتي كيف أنه في إحدى المناسبات، خلال زيارتي عام 1923 مع والدتي، كان هناك اجتماع كبير حضره الرجال البهائيون في القاعة الرئيسة لبيت حضرة عبد البهاء؛ جلستْ والدتي والسيدة إديث ساندرسون[1] بجانب ولي الأمر، بينما انضممتُ أنا إلى النساء في غرفةٍ يفتح بابها على القاعة. جلسنا في الظلام حتى يمكننا ترك الباب مفتوحًا لنسمع القليل مما يدور هناك (اتّباعًا لعادة أهل البلاد في الشرق في تلك الأيام في فصل الرجال عن النساء بالكلية). يبدو أن أحد الأحباء الشرقيين غلبت عليه عواطفه فقام فجأة ورمى بنفسه على أقدام شوقي أفندي. لم نستطع أن نشاهد ما حدث ونحن في غرفتنا بل سمعنا فقط ضجيجًا وصَخَبًا يخرج من القاعة. ارتعبت الورقة المباركة العليا، التي كانت نحيلة الجسم ضعيفة للغاية، وخشيتْ أن مكروهًا أصاب ولي الأمر الشاب الصغير، فهبَّت واقفةً وصرخت بصوت عالٍ، ثم هدأت عندما جاء أحدُهُم بالخبر بأن شيئًا خطيرًا لم يحدث، إلا أن ملامح خوفها وقلقها على شوقي أفندي كانت واضحة تمامًا، وظلّ هذا المشهد مطبوعًا في مخيّلتي طيلة حياتي.
كان من عادة شوقي أفندي أن يتناول وجبة طعامه اليومية الوحيدة مع الورقة المباركة العليا لوحدهما على طاولة صغيرة في غرفة نومها، وبقي الأمر كذلك حتى آخر حياتها. أخبرني بأنها عندما كانت تراه منزعجًا للغاية غالبًا ما كانت تنصحه بعدم تناول الطعام لتأثيره السيّء على صحته وهو في تلك الحالة. وحكى لي قصة أخرى كيف أنها، عندما أصرّ عليها استلام المبلغ البسيط الذي ورثته عن حضرة عبد البهاء، تبرعت بجزء كبير منه مساهمةً في تكاليف بناء الشرفة الثانية أمام المقام الأعلى لحضرة الباب تنفيذًا للخطة العزيزة لشقيقها.
كانت صلة شوقي أفندي بعمَّته الكبرى حميمة للغاية بحيث كان مرة بعد مرة يضمّها إليه في برقياته وفي اتصالات أخرى، خاصة في السنوات الأولى لولايته، مستعمِلاً عبارات مثل: ‘طمئنونا’، ‘الورقة المباركة العليا وأنا’، ‘نحن’، وهكذا. وحتى في برقية أُرسلت عام 1931 نراه قد وقّعها باسم ‘بهائية شوقي’. لا شيء يكشف عن هذا الحب العارم الذي ملأ قلبه تجاهها أكثر من حقيقة أنه في يوم عقد قراننا توجّه ولي الأمر إلى غرفتها، والتي حرِصَ حضرته على إبقاء كل شيء فيها كما كان في حياتها، ووقفنا قرب سريرها وتمّت إجراءات عقد القران بكل بساطة ويدي بيده ونحن نردد آية الزواج بالعربية: إِنَّا كُلٌّ لله راضون – إِنَّا كُلٌّ لله راضيات.
إن شعلة هذا الحب الذي كنّه ولي الأمر للورقة المباركة العليا التي رَعَتْه وسَهِرت على راحته وكانت له أكثر من أمّ طوال خمس وثلاثين سنة، ظلّت واضحة طيلة أيام حياته. عندما وصله خبر صعودها وهو في سويسرا، كان أول ما فعله أن وضع خطَّة لبناء نصب تذكاري مناسب لمرقدها، وسارع إلى طلبه من إيطاليا. لا يمكن لأحد أن يدعو ذلك النصب التذكاري، المتناسق الأنيق المبنيّ من مرمر “كرّارا” ناصع البياض، بأي شيء إلا بما يدل عليه – معبد الحب، تجسيد حب شوقي أفندي لها. لا شك أنه استوحى تصميمه من أبنيةٍ أخرى بطرازٍ شبيه، ثم تحت إشرافه قام فنان بدمج فكرة حضرته في تصميم النصب التذكاري الذي خطط له ليرتفع فوق مرقدها. اعتاد شوقي أفندي أن يشبّه مستويات مؤسسات “النظام الإداري” للأمر المبارك بهذا النصب بقوله بأن العتبات الثلاثة التي تشكّل قاعدته إنما تمثّل المحافل الروحانية المحلية، والأعمدة القائمة تمثل المحافل الروحانية المركزية، أما القبّة التي تتوّج الجميع وتربطهم ببعض فهي تمثّل بيت العدل الأعظم، والتي لا يمكن وضعها في مكانها إلا بعد أن تبنى الأساسات والأعمدة بناءً رصينًا. وبعد أن أُنجز بناء النصب التذكاري لمرقد الورقة المباركة العليا وظهر بتمام جماله وكماله، أُرسِلت صورة فوتوغرافية له، بناء على طلبه، إلى عدة محافل روحانية مختلفة، وإلى أفراد محدّدين في قائمة خاصة رَغِب حضرته أن يقدّم لهم تذكارًا لطيفًا كهذا.
حتى الكرسي ذي الذراعين الذي اعتاد حضرته أن يجلس عليه دائمًا في غرفتها نقله إلى حيث كان يجلس غالبًا للراحة والاسترخاء بعد عناء العمل، وظلّ يستعمله حتى آخر أيام حياته؛ غرفة نومه كانت مَلأَى بصورها التي تمثِّل مختلف مراحل حياتها، وأكثر من صورة تُظهر النصب التذكاري لمرقدها. وفي برقية مؤثرة جدًا، أرسلها حضرته إلى أمريكا بعد مرور سبعة أشهر على صعودها وفيها أثْنى على ولاء وتضحية الأبطال بُناة النظام العالمي، أضاف قوله: ‘إن مؤسس ديننا كان راضيًا كل الرضا بشواهد تدابيرهم الحكيمة، وعبد البهاء فخور ببسالتهم وإقداماتهم، والورقة المباركة العليا تشعُّ بهجةً وسعادةً على إخلاصهم.’ وكتب بأن ذكراها ستبقى ‘ذات نفوذ مشرّف… وسط حطام عالم بائس مترنّح.’ لقد زيّن محفظةَ الآثار بألواحٍ مزخرفة لحضرة عبد البهاء موجهة إليها، ووضع معها بعض صورها وصور نصبها التذكاري ثم بعض مقتنياتها الشخصية والتذكارية. في اليوم الذي فاتحني بأنه اختارني زوجة له، وضع في إصبعي خاتمًا ذهبيًا بسيطًا نُقش عليه الاسم الأعظم سبق أن أهدته إياه الورقة المباركة العليا قبل سنوات ليكون خاتمه البهائي، وقال لي يجب ألا يراه أحد في الوقت الحاضر، فوضعتُه في سلسلة حول رقبتي إلى أن جاء يوم زفافنا.
في كل ما عَمِل شوقي أفندي في حياته من خدمات لأمر الله ضمّ إليه الورقة المباركة العليا. عندما دُفنت رفات والدة بهائية خانم وأخيها على جبل الكرمل أبرق: ‘… لقد تحققَتْ أُمنية الورقة المباركة العليا العزيزة’ مشيرًا إلى رغبتها التي طالما أفصحت عنها بدفنها بالقرب منهما. في تلك المناسبة الهامة جدًا عبّر عن بالغ سروره وابتهاجه العظيم بشرف التبرع بمبلغ ألف جنيه مساهمة منه لصندوق بهائية خانم الذي خُصص لتدشين المرحلة الأخيرة لإتمام بناء مشرق أذكار أمريكا. كتب حضرته بأن عملية نقل الرمسين المطهّريْن وإعادة دفنهما إنما هي أحداث ذات ‘أهمية مؤسسية عظمى’، وقال: ‘إن في ضمّ مرقد الورقة المباركة العليا إلى مرقدَيْ أخيها ووالدتها دعمًا وتقويةً لا حصر لها للطاقات والقدرات الروحانية لتلك البقعة المقدسة’، التي ‘قُدِّر لها أن تتطور لتصبح المحور الأساس لتلك المؤسسات الإدارية، مزلزلة العالم، ومحتضنة العالم، وموجهة العالم، التي أمر بها حضرة بهاء الله.’
عندما وُضع رداء حضرة عبد البهاء، كرئيس للدين، على كاهل شوقي أفندي طرأ عليه تغيير كبير. أمّا طبيعة ذلك التغيير الروحاني، فهو ما لا يمكن لنا إدراكُه أو تعريفه – ونحن في بُعدنا القصيّ عنه رتبةً ومقامًا. كثيرًا ما اعتاد أن يقول لي: ‘عندما قرأوا عليّ ألواح وصايا المولى المحبوب، لم أعد بعدها مجرّد إنسان عادي.’ إن ذلك الشاب النبيل دائم الجاذبية قد انطبع الآن بطابع ملوكي يزداد أَلَقًا على مرّ السنين في محيّاه وفي سلوكه ومشيته وإيماءاته. لم يكن هذا الطابع مظهرًا صوريًا ولا كان أبدًا محاكاة لجدّه، بل يمكن القول بأنه كان تغييرًا منحته العناية الإلهية. لم تكن لشوقي أفندي على الإطلاق علاقات حميمة بأحد سوى أفراد عائلته الأقربين وأولئك الذين، في الأيام الأولى، عملوا معه كزملاء مساعدين وسكرتارين. وحتى تلك الحميمية أخذت في التضاؤل مع ازدياد أعباء مسؤولياته بتوالي السنين لدرجة أن أعضاء المجلس البهائي العالمي، عندما قدِموا إلى حيفا، نادرًا ما كان حضرته يلتقي بأحد أعضائه الغربيين منفردًا إلا لوداعه كالعادة عند السفر، أو لإعطاء أيادي أمر الله بعض تعليماته حين مغادرتهم لتمثيله في مؤتمر ما. وكان المفضّل لديه وأكثرهم امتيازًا في هذه الناحية ميللي كولنز التي كانت تكنّ له حبًا وتفانيًا فريديْن، الأمر الذي حبّبها إليه بدرجة كبيرة. بعد وفاة والدي، أثناء زيارة له إلى موطنه في كندا، دعا ولي الأمر ميللي للإقامة في منزل المولى في الغرفة التي كان يُشغلها والدي لأن غرفتها الخاصة في دار ضيافة المسافرين الغربيين كانت شديدة الرطوبة، وكانت تعاني كثيرًا من إلتهاب المفاصل؛ وباستثناء لطف الله حكيم، كان جميع أعضاء المجلس البهائي العالمي يقيمون في هذا المبنى، واعتاد شوقي أفندي أن يُنجز كافة أعماله مع أعضاء المجلس على مائدة العشاء في دار الضيافة هذه، أو من خلال رسائله التي تُنقل للمجلس بواسطة ضابط ارتباطه معهم.
ولا يعني هذا أن حضرته لم يكن يحيط أعضاء المجلس من وقت لآخر بلطفه وعنايته خاصة ميللي. فهي الوحيدة التي كان لديها دومًا عنوان حضرته عندما كنا خارج حيفا – ما عدا الشخص المسؤول عن بريده (وطبعًا عدا والدي أيضًا)، وبالتالي كان لها الإذن بالاتصال بحضرته على الدوام. كم كان حبّ ميللي لشوقي أفندي كبيرًا وفي غاية الرقة – وهو الذي الْتقَتْه أول مرة بعد صعود المولى بفترة قصيرة – حتى إنها لم تكتب له مباشرة قطّ، بل جعلت رسائلها لحضرته موجهة لي من أجل أن تعفيه من ضرورة الكتابة إليها مباشرة. هي التي تعي جيدًا أن بعض الأحباء كانوا، بأنانيتهم البريئة يجمعون خمسين أو ستين رسالة أو أكثر مُحرّرةً بذلك القلم المُثْقل بالأعباء! فصمَّمتْ ألا تضيف شيئًا من جانبها إلى ذلك العبء، وكل تفكيرها كان يتّجه نحو التخفيف عن حضرته قدْر استطاعتها في بذل أي مجهود زائد مهما كان ضئيلاً، وأن تخدمه بأي طريقة توفّر له الراحة وتُدخِل السرور إلى قلبه. كم كان اهتمامها بهذه الأمور كبيرًا لدرجة أنها، وإن كانت تعيش في منزل حضرته، كانت تعود وتدخل غرفتها في وقت دخول شوقي أفندي أو خروجه حتى لا يجد نفسه مضطرًا لأن يصرف ولو لحظة من وقته المشحون بالعمل المُجهِد وعقله المُرهَق في تحيّتها والشعور بوجوب التوقف ليتكلم معها بضع دقائق. وبسبب كِبَر سنِّها واعتلال صحتها كانت تضطرّ أحيانًا إلى ملازمة غرفتها، عند ذلك اعتاد حضرته أن يزورها لبضع دقائق ومعه هدية لها في أغلب الأحيان. أذكر في مساء أحد الأيام، عندما كانت مريضة، دخل غرفتها وخلع الشال الكشمير الناعم الدافئ من حول رقبته، الذي أهداه له أحد الأحباء، ووضعه بنفسه حول رقبتها وأصبح هذا الشال لها أغلى كنز تملكه، ولم تستطع أبدًا أن تنسى لمسة دفء رقبته في الشال الذي لامس رقبتها.
إلا أن روابط كهذه كانت نادرة جدًا في حياة ولي الأمر، وعلى أي حال كان هناك واحدة مِثْلُها مع والدي. كثيرًا ما بدا لي أن من بين العنايات والألطاف الكثيرة التي شملتني في حياتي عن غير استحقاق، كانت تلك العطية الأكبر التي أغدقها الله عليّ من واسع رحمته – ذلك الحب الكبير بين شوقي أفندي ووالدي. فخلفيّة هذه الرابطة ترجع أصولها إلى أيام زواج ولي الأمر المحبوب. وحتى العِقْد الأخير من حياة والدي كانت والدتي دائمًا هي البهائية الشهيرة؛ فهي التي جاءت مع أول فوج من الزائرين من الغرب لزيارة حضرة عبد البهاء في عكاء في شتاء 1898–1899، وكانت أول بهائية على أرض أوروبا، والأم الروحانية للجامعة البهائية في كل من فرنسا وكندا، وإحدى أوائل حواريي حضرة عبد البهاء ومن أشهرهم، والمحبّبة جدًا لحضرته. لقد ذكرْتُ ذلك لأن شوقي أفندي قال لوالدتي مرة، عندما جاء في مساء أحد الأيام بعد زواجنا لتناول العشاء في دار ضيافة المسافرين الغربيين، بأنني لو لم أكن ابنة ماي ماكسويل لما تزوّجني. ولا يعني هذا أنه السبب الوحيد، ولكنه واضح أنه من أقواها، ذلك لأن في البرقية التي أرسلها في 3 مارس/ آذار 1940، ويعلن فيها رسميًا نبأ وفاة والدتي التي حصلت قبل يومين، قال: ‘إلى سجلّ خدماتها الذي تكلل بالرباط المقدس، أضيف الآن بموتها شرفُ الشهادة النفيس الغالي. إنه تاج مزدَوَجٌ فازت به بكل استحقاق.’ تلك كلمات تشير بوضوح إلى علاقتها بزواجه. في لوح مبارك لحضرة عبد البهاء وجّهه إلى أحد أولادها الروحانيين كتب يقول: ‘مصاحبتها تسمو بالروح وتُرقّيها.’ وإلى الوقت الذي أصبَحْتُ فيه تحت ظلّ توجيهات ولي الأمر المباشرة بتشرُّفي أن أكون رفيقة عمره لأكثر من عشرين سنة، أستطيع القول حقًا إن شخصيتي وإيماني بحضرة بهاء الله، وأية خدمات متواضعة استطعتُ تقديمَها حتى الآن للجمال المبارك، يرجع الفضل فيها بالكلية إلى تأثير والدتي عليّ. من منطلق هذه الحقائق يمكن أن نلاحظ أنني عندما قدِمتُ إلى حيفا مع والدتي في زيارتنا الثالثة للعتبات المقدسة في يناير/ كانون الثاني 1937، كان أفضل وصف لمكانة والدي في الأمر المبارك بأنه ‘زوج السيدة ماكسويل’.
كانت والدتي أول من عرف شوقي أفندي وهو بَعْدُ طفل صغير عندما قدِمَتْ إلى الأرض الأقدس في نهاية القرن الماضي[2]، وتشرّفتْ بالزيارة مرّة أخرى عام 1909 مع والدي، ولكنني لا أعلم إذا كان لهما أي اتصال مباشر بشوقي أفندي في ذلك الوقت. بعد صعود حضرة عبد البهاء عانت والدتي من تدهور كامل في صحتها نتيجة صدمتها بصعود حضرته، وهو الخبر الذي كان صاعقًا لكيانها وهي تتلقاه فجأة على الهاتف. وطوال سنة كاملة لم نكن ندري ما إذا كانت ستُكتب لها الحياة أو الموت أو أن تفقد قواها العقلية. شعر والدي أن الأمل الوحيد في إخراجها من كَرْبها وتبديد أفكارها السوداوية التي سيطرت عليها – من أنها لن تتمكن أبدًا من رؤية المولى المحبوب في عوالم الملكوت لعدم استحقاقها ولياقتها – هو في قيامها بزيارة حيفا ثانية، وفي هذه المرّة لرؤية الشابّ الذي خَلَف حضرة عبد البهاء. وصلنا حيفا في إبريل/ نيسان 1923، وكان شوقي أفندي بالفعل هو من بعث الحياة في امرأة قَضَّها المرض الشديد وأقعدها عن المشي ولو خطوة واحدة، وأصبحت لا تستطيع التنقُّل إلا بالكرسي المتحرك. ومنذ ذلك الوقت أصبح قلب والدتي منصبًّا في حبّه بالكلية على ولي الأمر، وعندما تعافت وأصبحت قادرة على العودة إلى أمريكا، بعد أن أمضينا فترتين طويلتين في حيفا (تفصلهما زيارتنا لمصر أثناء غياب شوقي أفندي في أوروبا)، نَهضَتْ ثانية وقامت على خدمة الأمر المبارك بكل همّة ونشاط. وبعد ثلاث سنوات تشرّفتُ بزيارة أخرى مع اثنتين من صديقات والدتي البهائيات. وهكذا عندما تشرفتُ بزيارة حيفا مع والدتي عام 1937 لم نشعر بأننا غريبتان بل اثنتان تصلان إلى كعبة عشقهما.
لا شك أن البساطة التي وَسَمت زواج شوقي أفندي – التي تذكّرنا إلى حدٍّ كبير ببساطةِ زواج حضرة عبد البهاء نفسه في مدينة السجن عكاء – يجب أن تحفز البهائيين في كل مكان إلى التفكير مليًا بهذا الأُنموذج. لا أحد كان يعلم بحدوث هذا الزواج سوى والدَيْ شوقي أفندي ووالديّ وأخ له وشقيقتيْن يعيشون في حيفا. لقد شعر حضرته بضرورة إبقاء الموضوع سرًّا لعلمه، بفضلِ سابقِ خبرته، كم كان يثير أي حدث هام في الأمر المبارك من قلق واضطراب على الدوام. وهذا ما أثار دهشة مذهلة لدى الخُدّام والأحباء المحليين عندما شاهدونا وأنا أجلس إلى جانب شوقي أفندي في السيارة التي يقودها السائق مغادرين حيفا لزيارة المرقد الأطهر لحضرة بهاء الله بعد ظهر يوم 25 مارس/ آذار 1937، حيث قاده قلبُه إلى تلك البقعة الأقدس على وجه الأرض في لحظة كهذه من حياته. أذكر أنني كنت أرتدي في تلك المناسبة الفريدة لباسًا أسودَ اللون بالكامل إلا من قميص أبيضَ مُخرّم، حيث يعدّ اللباس الأسود لباسًا نموذجيًا للمرأة الشرقية في خروجها إلى الشوارع في تلك الأيام. ورغم أنني من أهل الغرب، إلا أن شوقي أفندي رغب في أن أتكيّف مع نمط الحياة في بيته – وكان نمطًا شرقيًا للغاية – بشكل طبيعي بعيدًا عن التكلُّف قدر الإمكان، وكنت وقتها في غاية السعادة لأن أُلبّي كل رغباته بأي أسلوب كان. عندما وصلنا إلى البهجة ودخلنا المرقد المبارك طلب مني أن أعطيه خاتمه الذي كنتُ لا أزال أُخفيه مُعلَّقًا حول رقبتي. أخذه ووضعه في الإصبع المخصص لذلك في يدي اليمنى تمامًا بما يماثل الإصبع نفسه الذي اعتاد أن يلبس فيه ذلك الخاتم دائمًا، وتلك كانت اللّفتة الوحيدة من حضرته. دخل إلى الصحن الداخلي للمقام تحت الطابق الذي أُدخِل إليه الرمس الأطهر لحضرة بهاء الله، وفي منديل كان يحمله جَمَع كل البتلات والزهور الجافة التي اعتاد القيّم على المقام المطهّر أن يجمعها من العتبة المقدسة ويضعها في وعاء فضّي عند قدمي حضرة بهاء الله. وبعد أن تلا لوح الزيارة عُدنا إلى حيفا وتمّت إجراءات الزواج الفعلية في غرفة الورقة المباركة العليا كما مرّ ذكره. وباستثناء هذه الزيارة، واليوم الذي أخبرني فيه أنه اختارني ليمنحني هذا الشرف العظيم، وعدا لحظة واحدة أو اثنتين قصيرتيْن في دار ضيافة المسافرين الغربيين عندما كان يحضر لتناول العشاء، لم يحدث أبدًا أن كنت وحدي مع ولي الأمر. لم يكن هناك احتفال ولا زهور ولا مراسيم مُعَدَّة مسبقًا ولا ثوب زفاف ولا حفل استقبال. وتنفيذًا لأحكام شريعة حضرة بهاء الله حضر والداه ووقّعا على وثيقة زواجنا إقرارًا بموافقتهما، وبعد ذلك عَبَرْتُ الشارع إلى دار ضيافة المسافرين الغربيين وانضممتُ إلى والديّ (اللذيْن لم يحضرا أيًّا مما حدث)، وذهب شوقي أفندي لتصريف شؤونه الخاصة. وفي موعد العشاء كالعادة دخل حضرته بهدوء وأفاض على والدي ووالدتي بعميق محبّته وتهانيه القلبية، وبابتسامته الفريدة قدّم لوالدتي المنديل المليء بتلك الزهور بالغة النفاسة، وقال بأنه أحضرها لها من الصحن الداخلي لمرقد حضرة بهاء الله. وقّع والديّ على وثيقة الزواج أيضًا. وبعد العشاء والانتهاء من هذه الوقائع، مشيتُ مع شوقي أفندي إلى البيت. وكان الخادم فوجيتا قد أنهى نقل أمتعتي عبر الشارع إلى المنزل بينما كنا نتناول طعام العشاء. جلسنا مع عائلة ولي الأمر برهة قصيرة وبعدها صعدنا إلى غرفتيه اللتين أمرت ببنائهما الورقة المباركة العليا لشوقي أفندي منذ مدة طويلة.
إن الهدوء والبساطة والتحفُّظ والوقار الذي جرى فيه هذا الزواج لا يعني أن ولي أمر الله لم يعتبره حدَثًا هامًا – بل بالعكس. فقد أُرسلت إلى أمريكا البرقية التالية بتوقيع والدته ولكنها بالنصّ الذي وضعه حضرته: ‘أعلِنوا للمحافل الروحانية نبأ الاحتفال بزواج ولي الأمر المحبوب. شرف نفيس لا يُثَمّن أُسبغ على أَمَةِ البهاء روحية خانم الآنسة ماري ماكسويل. الوحدة التي أعلنها الدين البهائي بين الشرق والغرب قد ترسّخت. التوقيع – ضيائية، والدة ولي الأمر.’ وبرقية أخرى مماثلة أُرسلت إلى إيران. هذه الأخبار التي طال انتظارها جلبت بالطبع عظيم الفرحة للبهائيين ليبدأ سيل الرسائل بالتدفق على شوقي أفندي من جميع أنحاء العالم. وعن تلك التي وصلته من المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتحدة وكندا أجاب شوقي أفندي: ‘رسالتكم حرّكت المشاعر من الأعماق. إن مؤسسة ولاية الأمر، وهي حجر الزاوية الأساس للنظام الإداري لأمر حضرة بهاء الله، والتي سبق وأن تشرّفَتْ بارتباطها العضوي بشخصَيْ مؤسِّسَيْ الدين البهائي التوأم، قد تقوّت الآن بارتباطها المباشر بالغرب وبالذات بالأحباء الأمريكيين الذين قُدِّر لهم روحانيًا أن يؤسسوا نظم حضرة بهاء الله العالمي. من ناحيتي أتوجّه إلى جامعة المؤمنين الأمريكيين بالتهاني بما حظوا به من وِثاق يربطهم بشكل حيوي بمؤسسة في دينهم هي على هذا القدْر من الأهمية.’ وعلى سيل الرسائل الأخرى التي لا تُحصى كان ردُّه العملي عليها عمومًا منحصرًا في التعبير عن تقديره الحبيّ على تهانيهم. إلا أنه، وحتى في برقياته تلك، نجد أن ردّ فعله كان دائمًا متناغمًا مع سجيّة مُرسِلها ومدى إخلاصه. فعندما يكون المرسِل من الذين لا يميل إليهم ولا يثق بهم بشكل خاص، كان ولي الأمر يجيبه على تهانيه هذه (التي تبدو رفعًا للعتب) غيرَ معبِّرٍ عن تقديره وإنما مكتفيًا بقوله: ‘داعيًا لك في العتبات المقدسة.’ وكأنه بذلك يقول: ‘لا حاجة لي بتهانيك، ولكنك حتمًا محتاج إلى دعائي’! واحدة من أكثر البرقيات المتبادَلة إثارة للمشاعر والأحاسيس في ذلك الوقت كانت بين الأحباء في عشق آباد وولي الأمر. فمن خلال وسيط أبرق شوقي أفندي قائلاً: ‘أرجو أن تبرق للبهائيين في عشق آباد معبّرًا عن بالغ تقديري لرسالتهم القيّمة وداعيًا لهم بالحماية والحفظ على الدوام.’ وعندما أبرق إليه جون ولويز بوش[3] قائليْن: ‘زواجكم الميمون هزّ الكوْن سعادةً’، كشف ولي الأمر في رده قليلاً عن مدى عمق تأثره بتلك الرسائل الحبّية التي انهمرت عليه: ‘بتقدير بالغ يصعب التعبير عنه تلقّيت رسالتكم التي أثارت المشاعر. لكم أعمق المحبة.’ وردٌّ آخرُ كان بالذات دافئًا بكلماته أُرسل إلى “الجهة المقابلة من الكرة الأرضية” يقول: ‘أكّدوا لأحبائنا الأعزاء في أستراليا ونيوزيلندا عميق تقديرنا على الدوام.’
ومهما يكن من أمر، فإن النقطة الأكثر أهمية التي ارتبطت بزواج وليّ الأمر كانت تشديده على حقيقة أن زواجه قد قارَبَ بين الشرق والغرب. وليس هذا فقط، بل إن روابط أخرى أيضًا قد تأسست ودُعمت. في ردّه للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا جوابًا عن استفساره: ‘تطلبون النصح بشأن السياسة التي يجب اتباعها في الإعلان عن الزواج’، قال شوقي أفندي: ‘أؤيّد الإعلان العام. أكّدوا على أهمية مؤسسة ولاية الأمر في اتحاد الشرق والغرب وربْط قَدَرَيْ إيران وأمريكا. أشيروا إلى أن للشعوب البريطانية نصيبًا من هذا الشرف أيضًا.’ وهو تلميح مباشر عن والدي الكندي من أصل إسكتلندي.
كان لكل هذا تأثيره على الجامعة البهائية الأمريكية بحيث بادر المحفل الروحاني المركزي إلى إعلام ولي الأمر المحبوب بأنه مرسل إليه مبلغ (19) دولارًا من كل محفل روحاني محلي من محافله الإحدى والسبعين رمزًا ‘لتقوية فورية لذلك الرباط الجديد الذي يشدّ الأحباء الأمريكيين إلى مؤسسة ولاية الأمر.’ – حقًا لقد كانت هدية زواج استثنائية جدًا قدّمتها قلوب نقيّة للأمر المبارك نفسه!
بعد زواجنا استمرّ شوقي أفندي في عمله كما كان في السابق تمامًا. بقي والديّ في فلسطين أكثر من شهرين معظمهما في دار ضيافة المسافرين الغربيين. ومع أن ولي الأمر كان يذهب كل مساء تقريبًا لتناول العشاء معهما، لم تكن هناك من فرصة لتطوير أية علاقة شخصية حميمة فيما بينهم. وأخيرًا حان وقت مغادرتهما، وفي أحد الأيام سأَلَتْني والدتي: ‘ماري، هل تظنين أن ولي الأمر سوف يقبّلني عند الوداع؟’ (مع أن الجميع كانوا ينادونني باسمي الفارسي الجديد روحية خانم الذي منحني إياه حضرته، إلا أنه من الطبيعي أن يسمح لعائلتي أن تناديني ماري، بالاسم الذي اعتادوا عليه طيلة حياتي). لم يخطر ببالي مثل هذا أبدًا ولكنني ذكرت ملاحظة والدتي أمام شوقي أفندي ولم أطلب منه شيئًا بهذا الخصوص بطبيعة الحال! كان على والديّ أن يغادرا بعد الظهر. وبعد تناول طعام الغداء ذهب ولي الأمر لوحده إلى غرفة والدتي في دار ضيافة المسافرين لرؤيتها. وبعد أن غادرها أسرعتُ إلى الغرفة لأرى والدتي تبادرني بقولها وعينيْها تلمعان كنجميْن ‘لقد قبّلني’.
وتمر السنون، ففي عام 1940 قررتْ والدتي، تُحرِّكها تلك الرغبة المتّقدة في أن تقدّم شيئًا ما في خدمة أمر الله حمدًا وشكرًا على البركات والألطاف اللامتناهية التي أسبغها عليها المولى المحبوب وكان آخرها ذلك الرباط المقدس غير المتوقع لابنتها بمحبوبها ولي أمر الله، قرَّرَت الهجرة إلى أمريكا الجنوبية والمساعدة في أعمال التبليغ في الأرجنتين التي بدأ للتوّ تشكيل جامعة بهائية فيها. إن الرابطة العميقة التي تطوّرت بين والِدِي وولي أمر الله قد بدأت فعلاً في ذلك الوقت. فرغم أن حضرته قد أحب والدي وانجذب إلى ما فيه من خصال حميدة أصيلة عندما كان في حيفا، إلا أنه لم يكن هناك الوقت ولا الفرصة السانحة لبناء علاقة حميمة بينهما آنذاك. أما الآن، وقد بلغت والدتي السبعين من عمرها وتُعاني من اعتلال صحتها معظم حياتها، ومع ذلك تُقرر الذهاب في هذه الرحلة إلى نهاية العالم، فقد شعر حضرته بما كان يعني هذا لزوجها. فأبرق إليه في 22 يناير/ كانون الثاني 1940 قائلاً: ‘أقدّر عميقًا تلك التضحية النبيلة لأعزّ حبيب.’ وأبرق إلى والدتي في اليوم نفسه وهي على متن الباخرة في طريق رحلتها بأنه كان ‘فخورًا بهذا القرار النبيل’. كان ولي الأمر ووالدي وأنا قد أيّدناها في هذا السفر الطويل، إلا أنه في عُمرٍ كهذا وقلب ضعيف جدًا كان مخاطرة في أقلّ تقدير.
لم أعمد إلى سرد كل هذه الأمور الشخصية إلاّ لأنّ من خلفها وفي ثناياها كانت تتخلَّلها روح ولي الأمر ورقَّة قلبه وإخلاصه وتفانيه في خدمة أمر الله، وما قدّمه من ثناء وتقدير بكل تجرّد كرئيس للدين، وهو ما انعكس في جميع الأحداث التي تلت. وصلتْ والدتي إلى بيونس أيرس، إلا أنها توفيت بنوبة قلبية فور وصولها تقريبًا. البرقيات الثلاث التي وصلت سلّمتُها بنفسي لشوقي أفندي؛ واحدة من والدتي ترجو حضرته الدعاء من أجلها، والأخرى من والدي يقول بأنها مريضة جدًا ويُهيِّئني لخبر جلل، والثالثة من ابنة خالي جين بولز التي رافقَتْها في السفر تقول بأن والدتي توفيت. وبينما كان ولي الأمر يقرؤها رأيت ملامح وجهه قد تغيّرت، ثم نظر إليّ نظرةً تعبّر عن قلق واهتمام شديديْن. بعد ذلك، بطبيعة الحال، كان عليه إخباري بالتدريج بأن والدتي توفيت. لا أتخيل شخصًا في الوجود قد حظيَ بمثل ما حظيتُ به من ولي الأمر من لطف خالص على هذا النحو في تلك الفترة التي صعقتني فيها الصدمة ولفّني الحزن العميق. فمدحُهُ لها على تضحيتها، ووصفُهُ لسرورها في العالم الآخر حيث ‘أرواح أهل الفردوس في الجنة العليا تسألها البركات’، كما جاء في برقيته للمحفل الروحاني المركزي في العراق يُعلم فيها الأحباء بوفاتها، ثمّ تصويره الحي لها وهي تطوف رحاب الملكوت الأبهى جاعلة من نفسها سبب إزعاج تام وشامل، لأن كل ما تريد أن تتحدث عنه هو ابنتها العزيزة على الأرض! – كل ذلك تجمّع ليرتفع بي إلى حالة من سرور الخاطر لدرجة وجدتُ نفسي عدة مرات أضحك معه على الأشياء التي بدا وكأنّه فعليًّا يتكهّن بها.
إن وفاة والدتي كانت السبب الحقيقي في توثيق العلاقة بين ولي الأمر ووالدي سذرلاند ماكسويل[4] بحيث رفعته إلى ذُرىً من الخدمة كان قادرًا أن يصل إليها قبل وفاته أيضًا. في الثاني من مارس/ آذار أبرق شوقي أفندي إلى والدي قائلاً: ‘مع حزني العميق، فإن عزائي هو ما تحقّق من خاتمة لائقة لسيرة نبيلة للغاية تتسم بشجاعة مثالية في خدمة أمر حضرة بهاء الله. ومع إدراك روحية الحاد بخسارة لا تُعوَّض، تغمرها مشاعر الغبطة والامتنان على التاج الأبدي الذي فازت به والدتها اللامعة باستحقاق. أُوصي بدفن رفاتها في بيونس أيرس، وأن تقومَ أنتَ بتصميم ضريحها وسيُبنَى على نفقتي. فهذه البقعة التي سقطت فيها مناضلةً بمجد عظيم ستغدو مركزًا تاريخيًا للنشاط البهائي في الهجرة. نرحّب بك في حيفا. رتِّبْ أمورك للإقامة فيها – كن متأكّدًا من عميق محبتنا وتعاطفنا.’
هذه الرسالة هي التي جعلت والدي يسارع في القدوم إلى حيفا، ومكّنته، بفضل خِبْرَتِهِ المهنية ومعرفته الواسعتين، من أن يصبح الأداة التي تحققت بواسطتها خطط حضرة عبد البهاء، وذلك بوضعه تصميمًا لبناء فوقي لائق يحيط بالمرقد المطهّر لحضرة الباب الذي بدأ ببنائه المولى نفسه. خلال سنوات الحرب، وفي وقت كان حضرة شوقي أفندي يعاني أزمة متفاقمة في علاقته بأفراد عائلته، تولّد لديه شعور عميق بالمودة والألفة الحميمة مع سذرلاند مما عوّض إلى حدٍّ ما عن كل ما كنا نمر به من معاناة. ليس سهلاً أن تكون بينك وبين من هو أرفع منك مقامًا إلى أبعد الحدود علاقة حميمة، مع المحافظة – خلال الألفة الحميمية – على الاحترام والتبجيل اللازميْن لذلك الشخص رفيع المقام. إلا أن والدي لم يخفق في هذا أبدًا. فعندما كان أحيانًا يحضر ومعه رسم مبدئي لمخطط جديد ليُريه لشوقي أفندي، ويكون حضرته جالسًا في فراشه مسنِدًا ظهره إلى وسائده وهو ينظر إليه، كان يدعو والدي للجلوس إلى جانبه على السرير حتى يتمكنا من مراجعة التفاصيل معًا بشكل أفضل. يمكن للمرء أن يتصوّر ما كان يعنيه لي أن أرى ذينك الرأسين الحبيبين على قلبي بهذا القرب الشديد، أحدهما شعره أبيض والآخر مائل إلى الرمادي عند صدغيه! فلحظات عابرة سريعة الزوال كهذه، وتفيض بالطمأنينة والبهجة العائلية في ذلك الجوّ العاصف من حياتنا، كانت تجعل كأس البلاء المرّ عذبًا فراتًا.
عندما مرض والدي في شتاء عام 1949–1950، واشتدّ عليه المرض وأصبحتْ حالته ميئوسًا منها كما صرح أطباؤه، وصل إلى حالة وكأنه فَقَدَ عقله الواعي تمامًا لدرجة لم يستطع فيها التعرّف عليّ بتاتًا – أنا ابنته الوحيدة والأعز على قلبه، وفقَدَ كل سيطرة على نفسه وكأنه طفل عمره ستة أشهر. ولو كنتُ وقتها في حاجة إلى اقناع فيما إذا كان للإنسان روح أم لا، لكنتُ قد حصلت على دليل دامغ بوجودها في ذلك الوقت. فعندما كان شوقي أفندي يأتي لزيارة والدي، ورغم أنه كان عاجزًا عن الكلام بالكلية ولم يكن يصدر أيّ إشارة واعية حول اقتراب ولي الأمر منه، فبمجرّد دخول حضرته إلى غرفته لرؤيته كانت تنتابه رعشة ورجفة كردّة فعل خاطفة، سرعان ما تزول، إلا أنه يمكن ملاحظتها. كان هذا أمرًا غير عادي وظاهرًا جدًا للعيان حتى إن ممرضته الخاصة (الأفضل في حيفا) قد لاحظت ذلك أيضًا وغلبتها الحيرة بدرجة كبيرة، فحالته تلك قد خرقت كافة قوانين العقل الذي تراه في ترهّله يسترجع الماضي البعيد بحيوية أكثر من الماضي القريب. إزاء ذلك سعى شوقي أفندي وأصرّ على أن والدي يجب ألا يُترك هكذا حتى يموت. ونزولاً عند رغبته، عندما لم يكن لأي أحد، ولا حتى أنا، أدنى أمل في شفائه، اصطحبناه إلى سويسرا مع ممرّضته. وتحت رعاية طبيبنا الخاص هناك أخذ والدي يتعافى سريعًا إلى أن شُفي تمامًا، حتى إنه بعد عدة أسابيع، عندما أخَذْتُه مع ممرّضته السويسرية الجديدة في جولة بالسيارة لأول مرة، وقع نظره على مقهى يقع وسط حديقة، فدعانا إليه على الفور لنحتسي الشاي معه – وهي دعوة لبّيتُها بمشاعر الدهشة والامتنان الذي لا يوصف. كان بعد أن شُفي والدي من مرضه هذا أن تحرّكت مشاعر شوقي أفندي للإشارة إلى هذه الأحداث في رسالة بعث بها إلى أمريكا في شهر يوليو/ تموز 1950 ذاكرًا التقدم الحاصل في بناء المقام الأعلى، فقال: ‘ازداد امتناني عمقًا بالشفاء المعجز لمهندسه الموهوب سذرلاند ماكسويل الذي سبق وأن أعلن الأطباء أن لا أمل في شفائه.’
غالبًا ما كنت أندهش خلال السنوات التي نجا فيها والدي من هذا المرض الذي تركه ضعيفًا جدًا وكانت أعراضه تظهر في نوبات ألم متتالية في المرارة وأدت في النهاية إلى وفاته، أقول أَندهشُ كثيرًا أمام ذلك اللطف الرائع العجيب والصبر الجميل الذي أحاط به شوقي أفندي هذا الرجلَ العجوزَ. إنه ظهور جانب آخر من طبيعة ولي الأمر، ذلك لأنه بطبعه لم يكن صبورًا، وعلى الدوام يرزح تحت ضغط أعماله التي لا تنتهي. ليس هناك من وصف يحكي عن درجة ما كان يكنّه والدي من وَلَهٍ وتوقير لحضرته. لم تكن مشاعره نحو شوقي أفندي قائمة على إيمانه الراسخ بصفته فردًا بهائيًا، ولا على الاحترام والطاعة التي يدين بها لحضرته بسبب كونه وليًا لأمر دينه فحسب، بل أيضًا على محبته له كرجل أُعجب به كثيرًا من كل الوجوه، وبطبيعة الحال أيضًا بفضل تلك العلاقة الإنسانية الشخصية التي شعر بها والدي بعمق شديد. أذكر عندما تُوُفيتْ عمتي الوحيدة التي كانت على قيد الحياة عام 1942، أخبر شوقي أفندي والدي في ذلك الوقت أن عليه ألا يعتبر الآن مدينة مونترِيال موطنه الأول وهذا موطنه الثاني، بل العكس. وأخبره أيضًا بما أن مساعدته له أضحت تزداد يومًا بعد يوم، فإنه لا يستطيع الاستغناء عنه. إن موقف شوقي أفندي من أقارب والدي غير البهائيين (شقيقة واحدة فقط لوالدي كانت بهائية وتوفيت قبل عدة سنوات) كان يحمل عظيم الدلالة على كامل طبيعته. أتذكّر وقت زواجي، عندما بعث لي هؤلاء الأقارب بتهانيهم الحارة، وعبّروا فيها عن محبّتهم لـ ”شوقي”، كنت وقتها محرجة بعض الشيء ومتردّدة في كيفية نقل هذه الرسالة إلى مَن هو آية الله على الأرض. وأخيرًا قررتُ أن عليّ أن أفعل وأقرأ عليه الفقرة الواردة في رسالة عمتي. أصغى إليّ بعناية، وبعد لحظة قال بغاية اللطف ‘انقلي لهم محبتي أيضًا.’ وتمّ تبادل مثل هذه الرسائل طوال السنين. كم كان حضرته كريم الخلق نبيلاً وغير متكلّف في كل أفعاله وعلاقاته!
إحدى الطرق التي اعتاد شوقي أفندي أن يُظهِر فيها مودّته لوالدي كانت بأن يمسح عليه أحيانًا، بكل حماس، بعضًا من زيت عطر الورد. لم يكن في الشرق حظر سخيف يمنع الرجال من استعمال العطور، وكان حضرته شغوفًا إلى أبعد الحدود بهذا العطر الرائع. كان في الواقع شيئًا يستحق المشاهدة أن ترى ما يرتسم على وجه والدي الإسكتلندي من تعابير! وهو الذي جاء من خلفية ومن جزء من العالم يعتبر استعمال الرجال للعطور أمرًا مُحرَّمًا، وحتى إنه لم يستعمل في حياته الدهون المعطِّرة. إن كونه مذعورًا من أن رائحة قوية ستصدر عنه الآن، بجانب سروره الصادق من هذه اللفتة الكريمة التي يحيطه بها محبوبه ولي الأمر، قد رسما على وجهه تعابير غير عادية للغاية!
في عام 1951 قرر ولي الأمر أن نصطحب معنا والدي إلى سويسرا مرة أخرى؛ وعندما حان موعد عودتنا إلى الأرض الأقدس أعلمونا بأن الوضع الغذائي هناك أصبح صعبًا للغاية، ومن المستحيل عمليًا اتباع النظام الغذائي الخاص المقرَّر لوالدي بتناول أطعمة طازجة فقط والذي يُعتَبر أمرًا أساسيًا لمنع انتكاس حالته. كان والدي توّاقًا لأن يزور موطنه ويرى عائلته بعد غياب دام إحدى عشرة سنة، ولذلك قرر ولي الأمر إرساله إلى كندا مع الممرضة السويسرية المخلصة نفسها التي اعتنت به في السنة السابقة وكانت معنا ثانية. كان ذلك هناك، في موطنه القديم وفي مسقط رأسه، عندما جاءه الخبر بأن ولي أمر الله قد رفعه إلى مرتبة أيادي أمر الله في وقت كانت حياته في أفول متسارع.
حقًا لم يكن في حياة شوقي أفندي مطلقًا متّسع لاستيعاب تلك المحنة التي فُرضت عليه نتيجة إصابة والدي بمرضه الطويل، ثم شفائه ثم اعتلاله المتكرر إلى أن وافته المنية أخيرًا. وعندما جاءتنا الأخبار في مارس/ آذار 1952 بأنه في حالة من المرض شديدة، وأن عليّ أن أُسارع في الحال إلى مونترِيال إذا كنت آمل أن أراه حيًا، كانت بالفعل صدمة أخرى مؤلمة. وبينما كنت أُجهِّز نفسي للمغادرة بسرعة كان دعائي الوحيد أن يتوفاه الله قبل مغادرتي إذا كان هذا قَدَره حتى لا أترك شوقي أفندي وحيدًا في مُعتَرَك أشغاله، وفقط لمجرّد حضوري أمام والدي في وقت لا يعي حتى بوجودي. استُجيب لدعائي وجاءني الخبر بأن والدي قد تحررتْ روحُه من قيود هذا العالم. كان حزن شوقي أفندي شديدًا للغاية لدرجة لم أجد لنفسي الوقت لأن أقف وأفكّر، بعد كل هذا، بأن الذي توفي هو والدي أنا. لقد تطرَّقْتُ إلى ذكر هذا كله لأن من شأنه أن يُظْهِر تلك العوامل والمؤثرات التي تخلَّلَت حياة ولي أمر الله، وموجات المشاعر والمحن والبلايا التي كانت تضرب على نسيج قلبه حتى أُنهِك وبَلى.
بعد أن حضرتُ والسيدة كولنز المؤتمرَ البَيْقارّي[5] الذي عُقد في شيكاغو عام 1953 ذهبنا إلى مونترِيال بموافقة ولي الأمر حتى أزور قبر والدي وأتدبّر بعض أموري الشخصية، وأن أقدّم للمحفل الروحاني المركزي في كندا منزلنا هناك نزولاً عند رغبة والدي ووالدتي – وهو المنزل الوحيد في كندا الذي زاره حضرة عبد البهاء خلال أسفاره في شمال أمريكا. لم ينسَ شوقي أفندي أبدًا أولئك الذين أحبّهم؛ فقد كان في كلِّ علاقاته شديد الإخلاص. فبعد أن أبرق بنفسه إلى المحفل الروحاني للبهائيين في مونترِيال، أبرق لي في 9 مايو/ أيار 1953 قائلاً: ‘وجّهتُ المحفل الروحاني في مونترِيال أن يجمع الأحباء عند قبر سذرلاند إحياءً لذكراه. أوصيكِ بوضع زهور من المقام على ضريحه، وابتياع أجمل الزهور بمائة دولار معظمها زرقاء اللون لتغطّي كامل قبره بالنيابة عني وأرفقي فيها العبارة التالية: بكل التقدير في ذكرى سذرلاند ماكسويل أيادي أمر الله، المهندس المعماري المحبوب الموهوب للمقام الأعلى لحضرة الباب – شوقي. أحضري معكِ نسخًا عن صورة فوتوغرافية كبيرة الحجم للأحباء المجتمعين عند الضريح. أبرقي لي بموعد الاجتماع وتاريخه حتى أتذكره في المقام الأعلى.’ أما الأكثر تأثيرًا في النفس ليس فقط ما أعطاني إياه في حيفا من زجاجة عطر الورد الخالص لأنثرها على الضريح، والأزهار الجافة التي جُمعت من العتبة المقدسة لمرقد حضرة الباب لوضعها على قبره هناك، بل كان في إبداء رغبته المحدّدة في أن أبتاع له زهورًا معظمها باللون الأزرق متذكّرًا بأنه اللون الذي كان يفضّله سذرلاند في ملابسه على الدوام. وعندما عُدتُ أدراجي إلى حيفا أخذ شوقي أفندي الصور الفوتوغرافية العديدة التي أحضرتُها معي ونظر إليها طويلاً واحتفظ بها لنفسه.
[1] Edith Sanderson.
[2] أي القرن التاسع عشر.
[3] John and Louise Bosch.
[4] Sutherland Maxwell.
[5] أي بين القارات.
في سعيي لأن أنقل ولو لمحةً عما كانت عليه حياة ولي أمر الله المحبوب – عن ذلك الجانب من حياته المعروف لدى عائلته الأقربين، ولا يَعرف عنه الآخرون إلا أقلّ القليل – رأيت أن أقتطف بعض ما جاء في مدوّنات يومياتي الخاصة. وهنا يجب أن نأخذ بالاعتبار أن هذه الملاحظات لم يكن تدوينُها وحفظُها منتظمًا على مرّ السنين. وكما في معظم المدوَّنات اليومية كانت لا تتعدى صورًا وَصْفِية سطحية لوقائع يمكن أن تستغرق ساعات إذا ما أُريد تدوينُها بالتفصيل، وفي السنوات اللاحقة توقفتُ عن تدوينها بالكلية لضعف في الهمّة وشُحٍّ في الوقت. إن الإشارة إلى أشخاص في هذه اليوميات لم تكن لأي سبب خاص سوى أنهم تصادف أن ظهروا في خلفية ما كان يدور في حياة شوقي أفندي اليومية في تلك اللحظة. هناك شيء ما في الكلمات التي دُوّنت في لحظات من شعور عميق أو ملاحظة دقيقة لا يمكن استعادته تمامًا عندما يقوم المرء بمراجعتها في وقت لاحق؛ وسعيًا وراء استحضار هذا الشعور الطارئ الشديد في حدّته، تجرّأْتُ على نشر هذه المقتطفات القليلة جدًا دون محاولة الخوض في تفاصيلها أو تحليلها، بل هي مجرّد إزاحة النقاب قليلاً عن ضخامة العمل اليومي لشوقي أفندي وأحزانه.
1939 ’أشعر أحيانًا أن هذه الموضوعية الشديدة التي يتّصف بها شوقي أفندي هي واحدة من المواهب التي أسبغها الله عليه. هو كآلة منقطعة كليًّا عن الوعي بالذات. بواعثه المحرِّكة له عنيفة، ولا أحد (أعني ليس من مراقب منصف) يمكنه أن يشكّك في إنجازاته الهائلة للأمر الإلهي، فكلُّها نُفِّذت بفضل هذه القوة المحرِّكة التي لا تعرف التردُّد. كل قراراته كانت على هذه الشاكلة – إلا أنه بالطبع كان يمحّص الأمور مليًا ويقلّبها بعقله عدة أسابيع، وأحيانًا سنوات قبل أن يضعها قيد التنفيذ. كل فكرة ممكنة في الوجود كانت حاضرة في ذهنه، ولكن عندما كان يشعر أن الأمر ملحٌّ مستَعجَل، ما كان لينتظر ولو خمس ثوانٍ!’
1939 ’وهَبَنَا المولى “وديعة”، تلك هي ولي أمر الله. وتفضل قائلاً “لئلاّ يقع على خاطره النورانيّ غُبار الكدر والحزن.”[1] غبار الكدر والحزن!! لقد أُسيء إليه وعانى بشدة من قِبَل أولئك الذين كان عليهم أن يساندوه ويشجعوه، حتى غدا خاطره النوراني أندر من النادر. أحيانًا أرى النورانية في محيّاه كشمس مشرقة في وجهه الحبيب – بينما كثيرًا ما نجده يعاني بشدة لدرجة تضطره إلى أن يأوي إلى فراشه منكبًّا على وجهه بكل ما في الكلمة من معنى.
1939 لقد عانى: ‘في أغلب الأحيان وبمنتهى الشدّة فيما يتعلق بإرسال أفراد الجامعة بعيدًا عن حيفا.’
8/ 8/ 1939 ’استيقظتُ اليوم في السادسة صباحًا وذهبنا للحصول على التأشيرات اللازمة (مفترضين دومًا أن باستطاعتنا مغادرة سويسرا)، وفي ظرف ثماني عشرة ساعة كنا في طريقنا! ولم يكن هذا أول يوم لنا نكون فيه على عجل… بل هو نموذج لحياتي العادية. فلا فُسحةَ وقتٍ لأي شيء…’
6/ 9/ 1939 ’عُدنا إلى الشرق الأوسط… كانت رحلة منهِكة للغاية. معظم الوقت لم نستخدم عربات النوم في القطار، وفي إحدى الليالي نمنا ساعة ونصف الساعة فقط! لا يبدو واقعيًا على الإطلاق أن حربًا في العالم قد اندلعت؛ مررنا بمدن غارقة في ظلام دامس – رأينا قطارات تسير محمّلةً بالجنود – ننتظر سماع الأخبار من المذياع… فُتحت الطريق أمام شوقي أفندي كما ستكون على الدوام – بدا المشهد خلفنا ينهار ولكننا تجاوزناه بأمان.’
5/ 10/ 1939 ’هو يقول، بأنه يشعر وكأنه قصبة مشروخة. لا شك أن جزءًا من هذا الشعور يرجع إلى مرضه الشديد لمدة عشرة أيام وكانت حرارته رهيبة – وصلت أحيانًا إلى (104) درجات فهرنهايتية (40˚م)! سهِرنا أنا و(ز ـــــــــــــ) على رعايته ليلاً نهارًا، ولن أبالغ إذا قلت إننا كنا نمرّ بما يشبه الجحيم. أن تكون وحدك مع ولي الأمر وهو مريض جدًا ومع طبيب غريب لا تعرفه، يكون مجهدًا للغاية، إلى جانب عبء المسؤولية! أعتقد أننا لم نَنَمْ خلال أسبوع أكثر من أربع ساعات ليليًا كحد أقصى!’
22/ 1/ 1940 ’إن أمر الله ووليّه في حصن منيع. كثيرًا ما وددتُ أن أقول للبهائيين “اتبعوه، أكان ذلك في الجنة أم في النار، في النور أو الظلام، في الحياة أو الموت، أكنتم مُبصِرين أم عُمْيًا. تشبّثوا بأذياله، فهو خلاصكم الوحيد.” في هذه الليلة حضر رجل إلى هنا. دخل البيت بهائيًا وخرج منه ناقضًا للعهد والميثاق. (رفض إطاعة ولي الأمر بكل صراحة). وقف الرجل بالبوابة فترة طويلة. وددتُ لو أصيح به: “وهل تترك روحك خلفك بهذه البساطة؟” بعد كل هذه السنين، وقد ترعرع في حضن الأمر المبارك، يرميه هكذا بكل بساطة! وما الذي يمكن للحياة أن تقدمه للإنسان سوى روحه؟ وقد أسقط على قارعة الطريق أغلى هدية منحه الله إياها لأنه وجدها غير ملائمة وصَعُبت عليه الطاعةُ في تلك اللحظة… آه لو علِم البهائيون فقط كم كانت شديدة معاناة المولى وولي الأمر بسبب نوعية البهائيين المحليين. كان بعضهم جيدًا، والبعض الآخر فاسدًا. يبدو وكأنه، عندما لا يكون الشخص ثابتًا على العهد والميثاق فإنه يتطاول على المظهر الإلهي نفسه أو على المثَل الأعلى أو على ولي الأمر. لقد رأيتُ هذا بنفسي. إنه كالسُّم، فهو يتعافى منه ولكنه يسبب له معاناة لا توصف. ولأسباب كهذه وصف المولى نفسه في وصيته بأنه “طير كليل الجناح”. إنه أمر عضوي تمامًا، ولا علاقة له بالعواطف إطلاقًا.’
(ملاحظة من شوقي أفندي) ’ليس بمقدورك أن تكون بطلاً دون الإتيان بفعل، فهذا هو المعيار، وليس بالحركة وبالذهاب والإياب، بل بظهور ما يدلِّل على سجاياك. جاكي (ماريون جاك) بطلة بسبب سلوكها، فروح البطولة بذاتها تجلّت فيها. ومارثا (مارثا روت) انتهجت عملاً بطوليًا ومضت فيه إلى أن سقطت.’
(ملاحظتان من شوقي أفندي) ’الهدف من الحياة بالنسبة للبهائي ترويج وحدة الجنس البشري’، ‘هدفنا تأسيس حضارة عالمية سوف تؤثر بدورها على تشكيل شخصية الفرد.’
(ملاحظة من شوقي أفندي) ’أعلم أنها طريق الآلام، وعليّ أن أسير فيها حتى النهاية. كل شيء يجب أن يُنجَزَ بالمعاناة.’
2/ 1/ 1942 ’يقول حضرته بأن هذه الحرب قد لا تكون الأخيرة قبل الصلح الأصغر، ربما سيكون هناك فترة هدوء، أو هدنة، ثم تنفجر الأوضاع ثانية، أو تستمر أسوأ مما كانت عليه في أي وقت مضى. بالطبع لم يكن جازمًا في هذا الاعتقاد بل فقط يقول `ربما، وهو أمر محتمل الحدوث إلى حدٍّ بعيد.’
5/ 1/ 1942 ’إنهم (العائلة) جميعًا شذّوا عن النغم وخرجوا عن ايقاعات اللحن السائد لهذا البيت – لحن ولي الأمر – وبالنتيجة ليس من الممكن ضبط أنفسهم كبهائيين طالما أنهم انحرفوا عن الأساس.’
7/ 1/ 1942 ’كل هذا يسبّب لولي الأمر ألمًا شديدًا. حقًا إنني قَلِقة على قلبه. كانت نبضاته في الليلة الماضية سريعة جدًا، بل أكثر بكثير من سريعة جدًا! وفي بعض الأحيان يبقى كذلك لساعات تقريبًا، يتنفّس بسرعة وتثاقل من شدة انزعاجه… هناك شيء ما في ولي الأمر يُماثل جهاز الباروميتر [مقياس الضغط]، فيسجل ضغطك الروحاني إذا جاز القول. لا شيء في الظاهر يمكن أن يفسّر ذلك، فهو أحيانًا ينزعج بشدة من شيء هو لا يدركه بعد! رأيت هذا يحدث مرات عِدّة. ينفعل غريزيًا وعلى الفور. وكثيرًا ما كان يأتي السبب واضحًا فيما بعد، فيرى المرء لمحة من مجريات الأمور بأكملها. وهو ما سيقضي عليه في النهاية. ولكن كيف ومتى فذلك بلا شك معلّق بالحكمة الإلهية، وسوف يكون هو المظفّر دائمًا – كما كان على الدوام. إلا أن المشاكل المتواصلة والكفاح الأبدي، الذي يبدأ أولاً مع فرد من العائلة ثم يليه آخر، قد أخذ شيئًا فشيئًا وبالتدريج يُرهق حضرته تمامًا. لقد انحنى ظهره، وقلبه مُتّقدٌ بالقلق، وأعصابه مُنهكة…’
16/ 3/ 1942 ’إنهم (عائلة المولى) قد قطعوا شوطًا بعيدًا في سحق كل ذرّة من روح ولي الأمر. إنه مرح بطبيعته ويتدفق نشاطًا وحيوية، وله طبيعة فريدة رائعة مشرقة قادرة على جعله يتألّق عندما يكون سعيدًا أو متحمسًا لشيء ما. إلا أن كفاحه الدائم في حياته مع أفراد عائلة المولى، والعواصف التي قاساها كونه وليًا لأمر الله (من مختلف الأزمات التي عصفت بأمر الله)… قد تلبّدت غيومها كلها… عليه. وحالما كانت أنوار بهجته تبدأ في الإشراق (في السنوات الخمس الماضية التي كنتُ فيها قادرة على ملاحظة حضرته) يأتي أحدهم ويُلقي عليه دفعة واحدة بحِمْل ثقيل من الهمّ أو الغمّ، وبذا تنتهي البهجة! إنه عمل إجرامي! كم مرة سمعته يقول: “فقط لو كنت سعيدًا، ولو أنهم فقط أسعدوني، لرأيتِ حينها ما يمكن أن أفعله لهذا الأمر!” إنه أشبه ما يكون بالنبع، فكلما تبدأ مياهه بإخراج الفقاعات والتدفق يأتي شيء ما ويسد فتحته من جديد. وعندما يدرك المرء أن كل ما فعله حضرته لأمر الله إنما كان يُنجز بالرغم من معاناته ومضايقاته بعيدًا عن تمتّعه بقسط وافر من الحرية والسعادة وراحة البال مع نفسه، عندها يعي تمامًا مدى عظمة ما أَنجز وحَقّق، بل ويتساءل أيضًا كيف يمكن أن تكون عليه تلك الإنجازات لو كان سعيدًا. لقد أُوذي شوقي أفندي، إنها الكلمة الوحيدة المعبِّرة: أُوذي وأُوذي ثم أُوذي. والآن وصل إلى مرحلة يقاتل فيها وظهره إلى الحائط. يقول حضرته بأنه سيبقى في الحَلَبة يقاتل حتى الجولة الأخيرة…”
20/ 3/ 1942 ’بينما كان شوقي أفندي جالسًا يعمل في كتابه “القرن البديع”[2] إذا بطائرتين حربيتين كانتا تحلّقان في طلْعة تدريبية قد تلامَسَ جناحاهما وفقدتا السيطرة وتحطمتا؛ هوت إحداهما في اتجاه سقف بيتنا، وكانت من القرب حتى خُيّل إليّ أنها ستخترق سقف غرفة شوقي أفندي، إلا أنها هَوَت على الأرض واندلعت فيها النيران عند أسفل الشارع بعيدًا عنا بأقل من مائة يـاردة [91 مترًا].’
26/ 4/ 1942 ’أخذ شوقي أفندي يكلّمني عن همومه وآلامه ويقول بأن الذين كانوا حول حضرة عبد البهاء قد قتلوه كما قتلوا حضرة بهاء الله، حتى إنه قال “وسيقتلونني أنا أيضًا”. قال لي بأن الحاج عَلِي أخبره بأن حضرة بهاء الله، وقبل صعوده ببضعة أيام، استدعاه إلى غرفته (ليكلّمه في أمر ما أو بآخر). استمر حضرته يذرع الغرفة جيئةً وذهابًا وكان منزعجًا جدًا لدرجة منعته من الكلام، ثم أشار أخيرًا إلى الحاج عَلِي بالانصراف. شاهد الحاج كم كان حضرته غاضبًا، ومع هذا لم يذكر للحاج سبب ذلك. وبعدها قال لي ولي الأمر بأن حضرة بهاء الله لا بدّ أنه عانى الأمرَّيْن، وهو الذي كان بالطبع يرى ببصيرته النافذة كيف أن محمد علي سوف يشقُّ عصا الطاعة ضد المولى في المستقبل، إلا أن حضرته كتم كل هذا في قلبه.’
18/ 5/ 1942 ’يقول شوقي أفندي إن المولى كثيرًا ما أخبرهم (أي أفراد عائلته) بأنهم جميعًا “سوف يُذَلُّون” من بعده.’
4/ 7/ 1942 ’وكان بعد ذلك غزو مصر، كان يتساءل: أيهما أخطر – أن يبقى أم يغادر، هذا إذا ساءت الأوضاع هنا للغاية! إن هذا الموقف اللاّقرار، مُجْهِدٌ للغاية. إلا أننا في الحقيقة أصبحنا معتادين على المصاعب تمامًا حتى غدت في أغلب الأحيان عاجزة عن مضايقتنا!’
3/ 1/ 1943 ’كل من عرف قصة حياة شوقي أفندي على حقيقتها سوف يبكي – يبكي لطيبته، يبكي لقلبه الطاهر البسيط، يبكي لأجل جهوده المضنية وهمومه وقلقه، يبكي على السنوات التي طالت وطالت وهو يكدّ ويكدح، والأصعب كونه وحيدًا دائمًا، وحتى أكثر من ذلك يبكي على اضطهاده من قِبَل مَن كانوا حوله!
‘فقط قبل بضعة أيام دخل غرفتي وهو قلق تمامًا على ما هو قائم على إنجازه. فسألته لماذا لا يقرأ كتب مؤلفين آخرين كتبوا على شاكلة ما يكتبه (كتاب “القرن البديع”) حتى تجود قريحته… فأجابني: “ليس لدي الوقت، لا وقت، وعلى مدى عشرين سنة لم يكن لديّ الوقت!”‘
30/ 1/ 1943 ’أنا قلقة بالفعل على شوقي أفندي. عندما كان في الماضي يتعرّض لكَرْب وانزعاج شديديْن، كان ذلك يؤثِّر عليه، ولكن ليس بدرجة ما يؤثّر عليه الآن، حتى إنني أفكر أحيانًا بأنه سوف يودي به إلى موت مبكر… يتنفس الآن بصعوبة كمن أجهده الركض، وتحت عينيه تبدو ظلال قاتمة. يتحامل على نفسه ليتابع عمله وينهي ما لديه من رسائل تكدّست على مكتبه على مدى عدة أيام – وأحيانًا كان يقرأ شيئًا ما ويعيد قراءته مرة تلو الأخرى ولمدة عشر دقائق لأنه غير قادر على التركيز! أعتقد أنه ليس هناك من معاناة أشد من أن ترى شخصًا تحبّه وهو يعاني ويتألم. أقف عاجزة عن معالجة الموضوع. كل عجبي كيف أن الله تعالى يتحمّل أن يراه يعاني لهذه الدرجة.’
29/ 11/ 1943 ’مع أن الصيف قد مرّ بأمان بمعنى أنه لم تكن هناك أزمات مروعة… إلا أنني لا أعتقد أن ولي الأمر قد سبق وأن عمل بهذا القدْر من الجهد في فترة “إجازته”، وكذلك الأمر بالنسبة لي أيضًا! كثيرًا ما كان يقول “هذا الكتاب يقتلني” وكنت أبادره بجوابي المعتاد: “وأنا أيضا”، وبكلمات أخرى فإن طريقة عمله في مراجعته لأحداث قرن من تاريخ الأمر المبارك في كتابه “القرن البديع” كانت بالفعل قاسية. فإلى جانب جميع أعماله الأخرى وهمومه نجده يكابد جاهدًا مدة سنتين لانجاز الكتاب…’ (استلم شوقي أفندي رسالة من محفل روحاني مركزي كانت بشكل خاص جافة تخلو من المشاعر، فاستأْتُ كثيرًا منها) ‘… كانت الأكثر جفاءً وبرودة على الإطلاق من بين الرسائل التي وقع نظري عليها. فلماذا لا يتعلم [ذلك المحفل الروحاني] من ولي الأمر الذي كان يكتب للعموم بكلمات المحبة والمودة حتى لو كان المتلقي ضعيف العقل؟ البهائيون لا يستحقّون وليًا لأمر الله، وكل ما أتمناه ألا يستبدلهم الله بقوم آخرين.’
توفي أحد أفراد العائلة وحضرتْ أرملته إلى المنزل تريد من شوقي أفندي أن يقبل ما جاء في وصية المتوفى فيستلم مبلغًا من المال أوصى به للأمر المبارك، وأن يتسلم منها أيضًا أختامًا ثمينة للغاية لحضرة بهاء الله كان حضرة عبد البهاء قد وضعها أمانة لديها حين ذهب في أسفاره إلى الغرب. ولكون هذه المرأة كانت على اتصال بأفراد من العائلة من زمرة الناقضين، لم يقبل شوقي أفندي كل ما عرضته… نقلتُ إلى حضرته حديثها (هو لم يُرِدْ رؤيتها فأرسلني بالنيابة عنه).’
26/ 12/ 1943 ’كل ما قالته كرّرتُه لشوقي أفندي بتفاصيله الطويلة وأحضرتُ له الأختـام ووصية (فلان). قال لي أخبريها بأنه لا يقبلها ولو كانت مليون خاتم، أو جاءته بجبل الكرمل كاملاً. إن ما يريده هو الولاء والإخلاص ليس إلاّ، وما لم تقطع نفسها بالكليـة عن عائلة (فلان)… من صميم قلبها، فلن يستطيع أن يفعل لها شيئًا، وعليها أن تحتفظ بالأختام والوصية… كان ولي الأمر بودّه جدًا أن يحصل على الأختام – الثمينة جدًا – لتوضع في محفظة الآثار، إلا أنه كما أخبرني ليس من الصواب أن يأخذ الأختام منها ثم يُخرجها من المنزل! إن ما كان يحيّرني أنها، وبعد مرور ثلاث وعشرين سنة على صعود المولى، لم تستطع ولو مرة واحدة خلال تلك السنوات التي كانت في معظمها قريبة جدًا من ولي الأمر، أن تقدّم له تلك الآثار المقدسة الثمينة والتي أفادت هي نفسها بأنها لم تُمنح لها أبدًا بل وُضعت عندها أمانة! كانت تريد مني أن آخذها بعد أن أدركت أن ولي الأمر لن يقبلها، إلا أنني قلت لها لن أفعل هذا، فلن تكون رغبة شوقي أفندي أن أقوم بذلك…’
‘كان شوقي أفندي منهمكًا طيلة اليوم في طباعة مخطوطته لكتاب “القرن البديع” على الآلة الطابعة، ثم أقرأ أنا النسخة المطبوعة قبل إرسالها بالبريد إلى هورِس (هورِس هولي سكرتير المحفل الروحاني المركزي الأمريكي) للتأكد من أن آخر الأخطاء قد صُحّحت، وأقضي مع حضرته ساعات في قراءة النسخة الأصلية وتصويب الصفحات ووضع العلامات النُّطقية، التي يبدو لا نهاية لها. [لكيفية لفظ الحروف والكلمات العربية بالإنكليزية].
‘حتى إنني لم أسجل أن والدي قد أعدّ تصميمًا للمقام الأعلى لحضرة الباب بناء على طلب ولي الأمر. واليوم فإن ما يشبه المآذن أو الأبراج (التي اقترحها ولي الأمر) قد نالت موافقة حضرته، وأن على والدي أن يمضي قُدُمًا ويضع التفاصيل، وأنه يمكن الكشف عن التصميم النهائي أو عرضه في عيد القرن المجيد مدعّمًا بمجسّم للبناء. ذلك المجسّم سيكون الامتحان الحاسم – فإذا ما أحبّه ولي الأمر فسوف يعلن للعالم البهائي عن الخطة!
‘يبدو أنها مِنْحة غاية في الروعة، بكل ما في الكلمة من معنى، أن يحظى والدي بهذه البركة التي لا تُقَدّر بثمن لتصميمه المقام الأعلى لحضرة الباب. فإذا ما نجح في مهمته فذلك من خالص فضل الله وإحسانه، وإذا لم يكن له هذا فلن نُفاجأ أو نُذهل لأنه قد سبق وشملتنا البركات من جميع النواحي بشكل يفوق بكثير ما تمتعنا به من حُلْوٍ في حياتنا كعائلة!’
5/ 7/ 1944 ’شوقي أفندي بفطرته كان الإداري والباني بامتياز، وهما أمران نحن في أمسّ الحاجة إليهما في هذا الوقت بالذات. ما أضْيَقَ نظرة الإنسان للأمور إذا ما قورنت بالخطة الإلهية! أعتقد أننا إذا حمدْنا الله وشكرناه مليون سنة صباحًا وظهرًا ومساءً، فلن نتخطّى حرف (الحاء) من الحمد! ومع ذلك لا زالت بصائرنا عاجزة تمامًا عن إدراك ما نحن فيه من نِعَم وآلاء!’
24/ 7/ 1944 ’لا يستطيع شوقي أفندي أن يتحمّل المزيد. أنا في غاية القلق عليه… إنهم يرهقونه ويُنْهِكون قُواه. كان اليوم في حالة من الاضطراب شديدة حتى إنه بكى. لا أستطيع أن أكتب عما حصل. لا أستطيع أن أتحمّله! أتعجّب كيف لله أن يتحمّل رؤيته هكذا.’
18/ 12/ 1944 ’هذه بالتأكيد هي السنوات العصيبة. لا أعتقد أن شوقي أفندي سوف يواجه على الإطلاق أزمة ثانية كهذه طيلة حياته (نفور وعداء العائلة والجامعة المحلية والخُدَام). أتمنى ألا يكون ذلك! أَعْجَبُ كيف يُتَوَقَّعُ لصحته وأعصابه أن تجتاز هذه المحنة!’
30/ 1/ 1945 ’أنا لا أستطيع الدخول في التفاصيل الآن، إلا أنه لزام عليّ أن أقول بأن عدد المغفّلين غير الأكفاء – إن لم يكن الأنذال – الذين هم حول شوقي أفندي كم هو مروّع. إنه يعاني الكثير والكثير. ينام خمس أو ست ساعات فقط في الليل. فلو كان بمقدوري أن أقلق أكثر لفعلت…’
27/ 2/ 1945 ’أشعر يقينًا أن أمواج المدّ ستنحسر، ولكن يا للحسرة، لن نجد شوقي أفندي يعود كما كان أبدًا أبدًا! لا أعتقد أن أي شيء في هذا العالم بمقدوره أن يمحو آثار ما فَعَلتْ به هذه السنوات الأخيرة! فالزمن أعظم شاف للجِراح، إلا أنه لا يستطيع إزالة الندوب.’
13/ 4/ 1945 ’كلما أردتُ أن أتأكّد من مدى ولاء شخص بهائي لحضرته (شوقي أفندي) أنظر حولي لأرى مَن يبغضه – فإذا كان مكروهًا تمامًا من العائلة أتأكّد حقًا أنه جوهر الولاء لولي أمر الله!’
6/ 7/ 1945 ’ذهب علي أصغر إلى المستشفى… لقد تدهورتْ حالته الصحية في الأيام الثلاثة أو الأربعة الأخيرة بشكل رهيب… كل هذا مرهِق للغاية. ولكن لا آبَهُ لشيء سوى لهذه اللطمة الشديدة التي ستصيب ولي الأمر… إنهم لا يموتون، ولا أولئك الكُثْرُ الآخرون من الأعداء البائسين عديمي النفْع – فقط علي أصغر. وكما قال شوقي أفندي الشخص ‘الأغلى’ عنده! ولكن الله سوف يكون في عونه. سوف يكون، سوف يكون، أعلم أنه سوف يكون. سوف يرفعه إليه بهالة من مجد – وكنت أفكّر في الليلة الماضية بأنه بعد ذلك كله فإن قطرة واحدة من محبة الله يمكنها أن تعوِّض المرء عن ألف سنة من الألم… ذهب شوقي أفندي لرؤيته بينما كنتُ هناك هذا اليوم. يخطط حضرته الآن في جعل جنازته على أفضل ما يكون، لأنها رغبته (شوقي أفندي)، ولأن الأعداء يجب أن يروها هكذا. إلا أن هذا الأمر برمّته كان صعبًا جدًا، صعبًا عليه للغاية… قال شوقي أفندي “كل ما تبقّى لي هو أنتِ ووالدكِ وعلي أصغر، والآن يأخذ اللهُ علي أصغر!” ’
8/ 7/ 1945 ’توجّهتُ إلى المستشفى في الساعة الرابعة بعد الظهر وبقيتُ فيها حتى الثامنة مساءً. طلب مني شوقي أفندي أن أُخبر عليّ أصغر بأن حضرته قد حرّر برقية عنه ليرسلها إلى الأحباء في إيران ويصفه فيها بأنه “أسد أجَمَة محبة الله”، معدِّدًا كل خدماته الطويلة… إلخ. وعندما ذكرتُ ذلك لعلي أصغر – الذي كان واعيًا تمامًا رغم ضعفه الشديد – ارتسم على وجهه طيفُ ابتسامةٍ مشرقة بالسعادة… أخبرتُه بأنه دخل الجنة قبل أن يغادر هذا العالم – جنة محبة ولي أمر الله، جنة الرضا والثناء. ظلّ صامتًا بعض الوقت (إلا من بعض دلالات التقدير يتمتم بها)، وبعدها أدرك بوضوح تام أن تلك البرقية تعني في الحقيقة أنه سوف يموت. عندها استجمع قواه وتمتم بأن الكتاب الذي طلبه… والذي أراده… تقدِمَةً منه لشوقي أفندي. وعندما عدتُ وأخبرتُ ولي الأمر بكل شيء عن علي أصغر وكيف أنه أراد أن يكون الكتاب مجلّدًا لتقديمه لحضرته، اغرورقت عيناه بالدموع! مسكين شوقي أفندي المحبوب فهو الإنسان الأكثر تأذّيًا على وجه الأرض! يجدر بكل واحد أن يبتهج من أجل علي أصغر – مات كملك. واليوم أخبر حضرتُه إماءَ الرحمن – اللائي دعاهنّ إلى قاعة الاستقبال – بأن علي أصغر قد خدم على شأن جعل زائري الأرض الأقدس في النهاية يكتبون إليه ويمهرون رسائلهم بتوقيعهم (خدّام خادم البيت)! وقال حضرته بأنه كان مثالاً لمنطوق كلمات “لوح أحمد” – ‘كشعلة النار لأعدائي وكوثر البقاء لأحبائي.’[3] وبينما كان حضرته يهمّ بالمغادرة قال “هو الآن في الملأ الأعلى يعاشر أهله!” حسنًا، ما الذي يريده الإنسان من الحياة أكثر من هذا؟ وبعد الظهر توجّه حضرته إلى المقام الأعلى، وبعد أن أتمّ زيارته طلب من ـــــــــــــــــــ أن يجمع كل الورود المنثورة على العتبتين المقدستين ويأتيه بها، ثم دخل لوحده إلى حيث يرقد علي أصغر وعطّر جسده بزجاجتين من عِطر الورد ووضع الزهور على جثمانه – وبكى من أجله – ماذا يريد أي إنسان من هذا العالم أكثر من هذا! … أخبرني شوقي أفندي بشيء مؤثّر جدًا عندما عاد في الليلة الماضية. ذلك أنه عندما كان لوحده في الغرفة أمام جثمان علي أصغر تذكّر “كيف خدمني ذلك الرجل!” لدرجة… اقترب منه وكشف عنه الغطاء ونظر إليه وكان يريد أن يقول “علي أصغر استيقظ، قم!” لأنه بدا طبيعيًا جدًا كأنه لم يمت…’
11/ 7/ 1945 ’بلغت الجنازة حدّ الكمال. تكلم شوقي أفندي عنه، ثم أمر بإحضار التابوت إلى الغرفة العليا من دار ضيافة المسافرين حيث كان يجلس حضرته. ثم وقف ووقف الجميع لصلاة الميت، وبعدها رش حضرته عطر الورد على التابوت ثم رفعَه مع الجميع وتبعه إلى الباب وأعطى تعليماته مُحَدِّدًا مَن سيستقلّ أول سيارتَيْ الأجرة… وساروا جميعًا في موكب جنائزي ضم خمسًا وعشرين سيارة… ثم غادر الجميع بينما زار شوقي أفندي المقام الأعلى وأمر – بجمع كل الزهور الموضوعة على العتبات المقدسة وأخذها إلى حيث القبر… هنيئًا لعلي أصغر، فلا بد أنه في السماء السابعة – كل واحد يتنهّد، والجميع يتَمَنَّوْن أن يكونوا علي أصغر! – بمن فيهم أنا.’
14/ 7/ 1945 ’شوقي أفندي الآن مريض يعاني من عسر الهضم، ويمكنني القول إنه بسبب إرهاقه الشديد وتوتّر أعصابه، وليست هي المرة الأولى أيضًا. والعجيب في الأمر أنه لا زال على قيد الحياة… لقد أصابته الحمّى الآن – أدعو الله ألا يكون الأمر خطيرًا… قستُ حرارته للتوِّ – فكانت 5/ 3 103 درجة فهرنهايت! [40˚م تقريبًا].’
15/ 7/ 1945 ’لقد خارت قواي من المخاوف التي أخبرني بها الطبيب ـــــــــــــــــــ! قال لي الآن بأن الحالة يمكن أن تكون التهابًا بالزائدة الدودية والدسنطاريا. أتخيّلُ منظرنا ونحن نندفع بسرعة جنونية في سيارة الإسعاف المتّجهة إلى القدس مع شوقي أفندي ووالدي (لم يكن في حيفا وقتها طبيبٌ جرّاحٌ تطمئن له وتعهد إليه بهذا المريض العزيز الغالي) – ولكن لا أصدّق أن الأمر قد يصل إلى هذا الحدّ… علينا بالإسراع، لا شيء غير الإسراع. أما عن القلق، أشعر أن تفكيري قد شُلّ تمامًا! … أقيس حرارته مرة كل ساعة. إنه في غاية اللطف – ما هي جريمته حتى يُعامَل على هذا النحو ممن حوله! … حمدًا لله، لا أعتقد أنه مصاب بالتهاب الزائدة أو أنه سوف يُصاب بها…’
17/ 7/ 1945 ’تحسّنت صحته ولكن آه، إنه في غاية التوتّر والإرهاق…’
20/ 7/ 1945 ’لم أكن أتمنّى حتى للشيطان ما يقاسيه شوقي أفندي وأنا من معاناة؛ معاناة لا أستطيع وصفها إطلاقًا – معاناة ذهنية، وضاغطة على الأعصاب… وحيدًا… يعمل، ويعمل، ويعمل طيلة اليوم. شراء أراضٍ، مشاكل، رسائل، استفسارات، نزوع للأذى، نوايا سيّئة، شك وارتياب، وهكذا إلى ما لا نهاية.’
11/ 4/ 1946 ’طلب شوقي أفندي من والدي أن يضع خطط المرحلة الأولى لبناء المقام الأعلى قيد التنفيذ – الشكر لله.’
20/ 4/ 1946 ’… كل هذا كثير جدًا على ولي الأمر… ومع ذلك فقد فرِغ لتوّه من كتابة برقية في غاية الروعة موجّهة لمؤتمر الوكلاء المركزي متضمّنة خطة السنوات السبع الجديدة، وباشر بمشروع بناء المقام الأعلى، إلا أنه يعاني الكثير، الكثير جدًا.’
25/ 5/ 1946 ’شوقي أفندي وأنا، لم يبق لنا أحد على قيد الحياة سوى والدي، (واثنين من الأحباء الأوفياء أحدهما في الثمانين من عمره تقريبًا)، إنه كل شيء ويفعل كل شيء: يتابع جميع المعاملات المصرفية، ويضع جميع الرسائل بالبريد، ويرسل جميع البرقيات، ويقوم بكل المهامّ ذات الطبيعة الخاصة – الحصول على تأشيرات السفر، مراجعة الدوائر الحكومية وكذلك البلدية… إلخ – واستشارات فنية وتصاميم معمارية… إلخ. كل هذا وهو في الحادية والسبعين من عمره. هو الآن يقوم بما كان يقوم به علي أصغر ورياض وحسين. لا يشكو أبدًا… كنتُ وشوقي أفندي نتكلم معًا عن خططنا، ثم قال لي بأنه يجب أن نغادر… بدا لي أمرًا صعبًا للغاية أن أترك والدي ثانية وهو عجوز مُرهَق يواجه كل هذا العمل الخاص بأمر الله دون راحة أو فسحة هدوء. إلا أنني عندما تكلمتُ اليوم مع والدي حول الموضوع كان رائعًا في ردّه إذ قال إن بإمكانه أن يتدبّر كل شيء ولا داعي للقلق عليه، وأن كل شيء سوف يكون على ما يُرام. لا أستطيع أن أعبّر عن موقفه بكلمات كوني مُتْعبة للغاية (بكيت بكاءً شديدًا ثلاث مرات في هذا اليوم). كم هي رائعة روحه، متواضع للغاية، وفوق ذلك في غاية النُّبْل والبسالة.’
18/ 7/ 1947 ’وصلت غلاديس أندرسون[4] في الثلاثين من مارس/ آذار… وهي تقوم الآن بجميع أعمال والدي. أَحْمَدُ الله! … تُنجز المعاملات المصرفية، ترسل الرسائل والبرقيات، تقوم ببعض المهامّ، وتقابل الناس… في نهاية إبريل/ نيسان سافر والدي إلى قبرص في إجازة –
أول إجازة له خلال سبع سنوات – وأمضى هناك ستة أسابيع كانت مفيدة له للغاية، وهو الآن يباشر العمل في المخططات التنفيذية للمقام الأعلى لحضرة الباب.’
12/ 2/ 1948 (من رسالة لروحية رباني) اعتدتُ أن يكون متيسّرًا لي حضور شخص يهودي يتقن لغة الاختزال من أجل مساعدتي، أما الآن فليس ليهودي أن يأتي إلى هذا الشارع إن كان باستطاعته تفادي ذلك لكونه يقع في الجزء العربي من المدينة. ذلك أن الشارع يقع في المستعمرة الألمانية القديمة، ومعظم السكان في الحي الذي نسكنه هم من العرب والإنكليز. قد يبدو لكم أمرًا لا يُصدّق عندما تفكّرون بأننا نعيش في شارع قد يُقتَلُ الرجل فيه بدم بارد، فقط لمروره فيه. لكن تلك هي فلسطين اليوم. بالطبع هناك قِلّة من الجريئين الذين يؤمنون بالقضاء والقَدَر فيجرّبون حظهم ويأتون مندفعين [بسيارتهم] بسرعة تسعين ميلاً في الساعة [146 كيلومترًا] وهم ينحدرون إلى أسفل الشارع، إلا أنهم يُعتبرون متهوِّرين حمقى، وهو أقل ما يمكن قوله.
‘الحالة برمّتها مأساوية للغاية، والأسوأ من كل ذلك طريقة تكييف الإنسان عقلَه وفكرَه لمثل هذا الجو. فبينما كان في السابق إطلاق رصاصة واحدة من شأنه أن يجعل دمك يتجمّد في عروقك ويملأك سخطًا، إلا أن تكرار ذلك باستمرار سرعان ما يجعلك تعتاد عليه وتلعن فاعله أيًّا كان، وتلعن الطرف الآخر لأجل الإنصاف، ثم تمضي لتواصل عملك. وفيما بعد تسمع مَن ذا الذي أصابته تلك الطلقات وكيف. إنه أمر يثير الاشمئزاز حقًا، ومقرف بشكل لا يوصف، أن يُترك وضع كهذا ينشأ في الأرض الأقدس ويُسمح له أن يتطور من خلال المكائد والإهمال…
‘أصبح الغضب الشديد انفعالي الرئيس في هذه الأيام. فالقتل المُتَعَمَّد العبثى يغيظني. معظم الناس لا يريدون أكثر من أن يُترَكوا وشأنهم. فالمتعطشون للدماء هم الاستثنائيون الشاذّون، وليسوا هم القاعدة، إلا أنهم يا للحسرة متواجدون. فلماذا لا يُطلِق أحد النارَ عليهم؟ إنهم من وجهة نظري دائمًا ما يطلقون النار على الناس الخطأ في كل قتالهم.’
1/ 3/ 1948 ’يباع السلاح في الأحياء العربية في العَلَن. فالبهائيون هنا وفي عكاء ومن طبريا، إلخ، كلهم يشهدون بذلك… قال حسن إنه بينما كان يجلس مع ابن عمه محمد في المقهى بطبريا رَأَيا صبيًا يتجوّل ويصيح “قنبلة يدوية، قنبلة يدوية للبيع!” لم يستطع حسن أن يصدّق أذنيه، فنادى على الصبي وسأله عمّا يبيع؟ فأجابه “قنابل”، وكان يحمل على ظهره كيسًا أنزله على الأرض بكل لطف وأفرغ ما فيه – كومة من قنابل يدوية (قنابل الميلز). سأله حسن كم سعر الواحدة؟ أجابه البائع المتجول: خمسة وسبعون قرشًا. لا حاجة بي إلى القول بأن حسن لم يشترِ… وقبل بضعة أيام نظرتُ من شباك غرفة نومي لأرى رجلاً يحمل مسدسًا وحوله مجموعة من العرب. أراد أن يتأكد من صلاحية المسدس فجاء إلى هنا، إلى حائط حديقتنا، وأطلق عليه رصاصتين، ثم انطلق نحو البلدة ربما ليقوم بدوره في القتل.’
11/ 4/ 1948 ’غادر والدي والسيد بِنْ ويدن[5] (زوج السيدة غلاديس أندرسون)، إلى تل أبيب بسيارة أجرة مصفّحة! كان من المفروض أن يسافرا بالطائرة في الثالث عشر من هذا الشهر من مطار اللُّد إلى روما للتوقيع على عقودٍ لشراء أعمدة للمقام الأعلى مع الزخارف إن أمكن.
‘سوف تأتي الآن غلاديس وتنام في هذا المنزل… وبذلك تكون قريبة منا لأن إطلاق النار أصبح كثيفًا جدًا ومن الصعب عليها أن تبقى في الليل وحدها في دار ضيافة المسافرين… إلى جانب خطورة عبور الشارع ذهابًا وإيابًا لأي أحد بعد أن يحلّ الظلام… أخبَرْنا بِنْ أننا سنُحضرها إلى هنا فلا داعي للقلق عليها.’
21/ 4/ 1948 ’لم نستطع زيارة البهجة واكتفينا بزيارة المقام الأعلى هنا نظرًا للظروف. بعد ذلك أصبح من غير الممكن للسيارة أن تصعد إلى الحدائق أو تغادرها بسبب إطلاق النار في الشارع على الأرجح ولكونه أصبح مغلقًا. ولذلك نزل شوقي أفندي الدرجات القريبة من الحدائق عائدًا إلى البيت، وهكذا فعَلنا أنا وغلاديس.’
23/ 4/ 1948 ’بما أنني مرهقة لدرجة الموت، فسوف أختصر… أخبار معركة حيفا تناولتها وسائل الإعلام بشكل جيد في كل مكان على ما أظن، لذا سأكتب فقط عما يجري معي في ليلي ونهاري. المعركة بحدّ ذاتها كانت حربًا حقيقية ومتواصلة. تلك الليلة بالنسبة لي كانت كمن ينام في قعر بركة راكدة وشخص ما يحرّكها بصورة مستمرة. كنت مرهقة للغاية وأغطّ في النوم أحيانًا، فيختلط الحلم بإطلاق النار وانفجار القنابل لتصبح كلها مزيجًا واحدًا مخدِّرًا أسوأ تقريبًا من النوم أو اليقظة نفسها. في كل هذه الأيام كان شوقي أفنـدي منزعجًا للغاية من أ ــــــــــــــــ ومن م ـــــــــــــــ وبشأن مشاكل أخرى.’
25/ 4/ 1948 ’لا زلت أحاول الوصول إلى النقطة الرئيسة في هذه المذكرة: في الثالث والعشرين من هذا الشهر، بعد يوم على معركة حيفا، اتصل بي د. واينشال[6] بالهاتف، وهو محامي ولي الأمر، ليسألني عن أحوالنا فقلت إننا جميعًا بخير ونبقى في البيت. فقال، “أتمنى ألا تكون لديكم نيّة المغادرة.” فقلت بالطبع لا، لا نيّة لنا في المغادرة، ولماذا يجب أن نغادر؟ فقال،”لا سبب لذلك على الإطلاق”، وكان سعيدًا لسماع هذا. ثم قلتُ له بأننا نعرف اليهود وهم يعرفوننا وليس لدينا ما نخشاه منهم. فقال إنه أمر حقيقي وأنّ الكلَّ يكِنّون لنا بالغ الاحترام. وسأل أيضًا إذا كان أي من خدامنا سيغادر فقلت لا، بالطبع لا. وبعد أن تبادلنا معًا قليلاً من الأفكار عن مدى حمق حشود العرب الذين نزحوا جماعيًا، طلب مني أن أنقل أرقّ تحياته لشوقي أفندي. وعندما سمع ولي الأمر بهذا طلب مني أن أذهب لأشكره وأُخبره بأن حضرته يريده أن يكون على علم بموضوع لمعلوماته الخاصة، وعندها ذهبتُ وأخبرتُه بزواج منيب من ابنة جمال الحسيني، إلخ، وكيف أنه قد طُرد علنًا من حظيرة الأمر المبارك لهذا السبب …إلخ. أبدى دهشته الشديدة ودوّن اسمه واسم حسن. كما أخبرته أيضًا عن طرد روحي، وأن السبب الحقيقي وراء ذلك، كونه قد يستغرب وجود هذا الخلاف والنزاع في عائلتنا، ليس دينيًا فقط بل يرجع أساسًا إلى اشتغاله بأمور سياسية، وهلم جرّا. وأخبرته (في محادثة جرت يوم أمس) أننا سنزوّده بنص البرقية التي أرسلها له ولي الأمر للاطلاع عليها…
‘هاتَفْتُ اليوم المحامي واينشال ثانية وأخبرته بأننا نريد أن نعطيه أسماء أولئك الأشخاص الذين قد يدّعون بأنهم بهائيون وهم ليسوا كذلك، وأخبرته بأن شوقي أفندي مستاء جدًا بالطبع من الذين فُصلوا من جامعتنا البهائية منذ عشر سنوات أو خمس عشرة سنة… ويسعَوْن الآن إلى إقامة علاقات طيبة مع اليهود بدعوى أنهم بهائيون، بينما نحن أنفسنا لا نعلم عن سلوكهم شيئًا طيلة هذه السنين.’
27/ 4/ 1948 ’مررنا يوم أمس بلحظة من هياج جنوني عندما أسرعت الخادمة فجأة إلى الأعلى وقرعت الباب ثم قالت بأن عناصر من الهاغانا[7] يريدون الدخول. كنتُ في ملابسي لحسن الحظ… فنزلتُ إلى الأسفل بأسرع ما أستطيع لأنه يبدو أن خادمتنا الساذجة قد ذهبت أولاً… إلى الباب، وعندما رأت عصابة من اليهود المدجّجين ببنادق رشاشة ومسدسات كادت تصاب بنوبة هلع. فركضتْ مُسرعة إلى الداخل لتنادي بانو. حضَرَتْ بانو وسمِعَت اليهود يصيحون “افتحوا الباب”، عندها أجابتهم بأنها يجب أن تُعْلِم سيدة المنزل، وفي الوقت نفسه هرعتْ للبحث عن السيد ب ــــــــــــــ فلم تجده، فأسرعت إليّ تدعوني. سَمِعَتِ القادمين يصيحون: إذا لم تفتحوا الباب سنكسره وندخل! في تلك اللحظة الحاسمة وصلتُ وسمحتُ لهم فورًا بالدخول. كانوا خمسة شبان. سألتُهم إذا كانوا يتكلمون الإنكليزية فأجابني أحدهم بأنه يتكلمها قليلاً. فسألته إذا كان يعرف صاحب هذا المنزل فهو رئيس الجامعة البهائية. أجابني “نعم”، إلا أنني أعتقد بشكلٍ ما أنهم لا يعرفون، وأن ما دفعهم للمجيء كان أحد أمرين: إما لأنه قبل وقت قصير توقّفَتْ لبرهة أمام منزلنا شاحنة محمّلة برجال عرب فظنّوا أننا نُؤوي بعضهم، أو لسبب يتعلق بسيارتنا، لأن أحد أسئلتهم الأولى كان: “لمَن تعود السيارة الموجودة في المرآب؟” ولما أخبرتهم بصاحبها بدا عليهم الارتياح. وقد تبّين أن أحدهم يتكلم الفارسية لأن أمّه، كما قال، إيرانية ولو أنه من “أورشليم القدس”، فحادثته بالفارسية طوال الوقت. لم يكونوا جادّين في تفتيش المنزل. كانوا مهذّبين جدًا ومؤدَّبين. في أول الأمر قالوا: لا تخافي فأجبتهم بالتأكيد لست خائفة! تلفّتوا حولهم سريعًا متفحّصين، ورفضوا أن ينزلوا إلى الأسفل أو يدخلوا المطبخ… إلخ، ثم غادروا…
‘اعتدنا، غلاديس وأنا، أن نذهب إلى الحي اليهودي ونعود باستمرار، ودام هذا أشهُرًا في الأوقات الجيدة والعصيبة على السواء. أعتقد أن هذا كان تصرُّفًا منا في غاية الحكمة، مع أنه، عندما أصبح جميع العرب يقتنصون اليهود، ولدينا حراسنا الخصوصيون من العرب وفي هذا الشارع بالذات، فقد غدا من قبيل المجازفة أن نفعل الشيء ذاته، ومع هذا كنا نذهب ولكن بدرجة أقل عمّا في السابق، ولكننا ذهبنا؛ مما جعَلَنا نبدو للكثير من اليهود الذين يعرفوننا أننا لسنا من الأصدقاء الذين تأخذهم الريح فيقفون بعيدًا في اللحظات الحرجة. دأب الحراس اليهود على تفتيش سيارتنا في كل مرة، ولمن لا يعرفنا منهم كنا نضطر في أغلب الأحيان أن نُريهم جوازات سفرنا الأمريكية. ما حدث بالفعل في أحد أيام الأسبوع الماضي أنه بينما كنا عائدين من الحي اليهودي، خفّفنا سرعة السيارة عند حاجز التفتيش وإذا بسيارة يهودية تتجاوزنا بسرعة وأخذ من فيها يتكلمون مع الحراس. لم يكن بمقدورنا المرور كما أن السيارة لم تتحرك، لذا سألت الحارس عما إذا كان بمقدورهم التقدم. بدا عليه الحرج وأجابني بأنهم يقولون إنهم رأوا شخصًا عربيًا يقود سيارتنا. فقلت “هذا صحيح وهل تعلم سيارة مَن تكون؟ إنها تعود لصاحبها شوقي أفندي رئيس الدين البهائي ولدينا سائق عربي يعمل عندنا ويحضر بعد ظهر كل يوم ليقود السيارة بحضرته صعودًا إلى الحدائق ثم يعود به إلى البيت، وبخلاف ذلك نقودها بأنفسنا دائمًا. فإذا ما راقبت، سوف ترى خلال ربع ساعة هذه السيارة بعينها تقطع الطريق صعودًا إلى الجبل لأخذ حضرته ويقودها سائق عربي.” ولما كانت تلك هي الحقيقة بدا لي أنه أدرك الوضع على هذا النحو ولم نواجِه مزيدًا من المتاعب…
‘أخبرني السيد ب ـــــــــــ بشيء مضحك: سألتُه عما إذا كان جيراننا العرب في الحي سيغادرون… فقال إنهم يسألونني كل يوم “هل شوقي أفندي سيغادر؟” ويقولون بأنهم سيغادرون إن هو غادر. ثم قال بأن رجلَ الأَمْن الفلسطيني الذي يقيم الآن في منزل عائلة ك ـــــــــــــــــ سأل صاحبَ المنزل متى عليه أن يرحل فأجابه: متى رأيتَ شوقي أفندي يرحل فضعْ سترتك عليك واقفل الباب واتبعه! فقال له الرجل أيضًا… “إذا لم تخبرني بأن شوقي أفندي يخطط للمغادرة وغادر بالفعل، فستكون أنت مسؤولاً عن حياتي.” فهذا الاعتبار والاحترام المفاجئ الذي أبداه لنا جيراننا من أهل الحي بعد خمس وعشرين سنة مِن تجاهُلِهم أمر الله ووليّه لهو أمر على الأرجح عجيب ومُضحك!’
4/ 5/ 1948 ’اليوم سُرقت السيارة! (وهي هدية من روي ويلهلم لشوقي أفندي حيث كان ولي الأمر دون سيارة عدة سنوات لأنه باع سيارته القديمة خلال الحرب لعدم توفر قطع الغيار لها). يا إلهي يا له من يوم! في الساعة الثانية والنصف بينما كنت والسيدة غلاديس جالستيْن نرتشف القهوة في فترة الغداء، جاءت الفتاة لتقول بأن يهوديًا على الباب. ذهبت غلاديس لتستطلع ما يريد، واختصارًا للقصة كان الرجل رئيس حرس الهاغانا المحلي ويُدعى السيد فريدمان ومعه حوالي عشرين مسلّحًا، وقد أفاد بأن حارس الشارع من الهاغانا قد استدعاهم (حارسان كانا يداومان في شارعنا). كان الحارس قد رأى خمسة مسلّحين يحومون حول باب المرآب الخاص بنا، وعندما أشهر مسدسه عليهم طالبًا منهم أن يذهبوا في طريقهم، رفعوا عليه أسلحتهم وطلبوا منه أن يبتعد بسرعة. ولما كانوا خمسة ضد واحد، ابتعد الحارس ثم طلب النجدة. كان المسلّحون الخمسة في سيارة جيب، وما إن حضرت النجدة حتى اختفوا. ومع أن قفل باب المرآب قد قُطع بمنشار إلا أن الباب كان مغلقًا من الداخل ولذلك ظنوا أن السيارة لا تزال موجودة. نظرتُ من فتحة المفتاح ويا لهول ما رأيت! كان المرآب فارغًا وسيارة البويك قد اختفت! أسرعت غلاديس المسكينة إلى الباب الصغير في الخلف فلم تجد البويك بالفعل! لمّح حارس الهاغانا أن اليهود أخذوها (أو الإنكليز) ولم يقلها بصراحة. قام فريدمان بإعلام الهاغانا بذلك، كما قامت غلاديس ومنصور بإعلام الجيش ومركز شرطة شارع ستانتون. تكلمتُ بالهاتف مع د. واينشال حول الحادث ونصَحَنا أن نرجع إلى مركز الأمن في هدار هاكرمل[8]. بدا شوقي أفندي أكثر الجميع هدوءًا واكتفى بالقول “كم سيُفرِح هذا أعدائي!” في الواقع لا أظن أن أحدًا منا كان يأمل في أن يرى السيارة ثانية – ولكن كم كان محزنًا أن نجد سيارتنا البويك الكبيرة الجميلة، والتي استلمناها حديثًا بعد طول انتظار، قد اختفت! استطعت، بشيء من الصعوبة، أن أستأجر سيارة عمومية من شخص يهودي لاستعمال ولي الأمر. قال لي سائق السيارة: “إذا كان اليهود هم الذين أخذوا السيارة فستعاد اليكم.” ذهبتُ مع غلاديس إلى مركز الأمن وانتظرتُها في الخارج ريثما كتبت تقريرًا بذلك، وبعدها تركنا لواينشال أوصاف السيارة بناء على طلبه حتى يستطيع المساعدة، ثم أخَذَنا سائق سيارة الأجرة اللطيف إلى مركز آخر للهاغانا حيث قدّمنا لهم تقريرًا مرة أخرى بالحادث. بعد ذلك حدث شيء غريب! فبينما كنا في طريقنا نمشي عائدتيْن إلى البيت مرهقتيْن مُثْبطتيْن، لاحظَتْ غلاديس في واجهة محل لبيع موادّ التجميل في شارع هرتزل نوعًا من كريم اليدين سبق أن حاولتُ عدة مرات أن أجده. فكّرتُ أن لا داعي للاهتمام به الآن، إلا أنني قررتُ أخيرًا أن أشتريه فدخلنا المحل. كان صاحبه يعرفني ويعرف والدي منذ عدة سنوات. سألني عن والدي واستفسرتُ عن والده المسنّ أيضًا إلخ. لم يكن في نيّتي قول أي شيء عن موضوع السيارة لأنني كنت يائسة مُحبَطة، وبعد أن دفعتُ ثمن مشترياتي هممتُ بالخروج ونسيت أن آخذها. بدا ذلك عملاً غبيًّا لدرجة أنني اعتذرت له وقلت “إنني أشعر باستياء شديد لأن سيارتنا قد سُرقت للتوّ!” أجابني الرجل “ولكنني رأيتها اليوم في الساعة الثانية والربع بعد الظهر في مركز التجارة الجديد! واستغربتُ حينها كيف تبيعون سيارة جميلة وجديدة كهذه!” يبدو أن الرجل رآنا قبل يوم أنا وغلاديس نقودها مارّين أمام محلّه وتذكّر تلك السيارة تمامًا بلوحتها الأمريكية! وأضاف بأنه رأى يهودًا بداخلها ويقودها شخص يهودي، وكانت عند زاوية الطريق بالضبط على مقرُبة من فندق سافويْ[9]، ورجانا ألا نذكر اسمه كشاهد. ولكنني قلتُ له إن عدم ذكر اسمه لا يساعدنا، فتراجع بعد ذلك وسمح. وبالطبع اندفعنا بسرعة عائدين إلى مركز الشرطة وقدّمنا تقريرًا بما قاله، وعندما عدتُ إلى المنزل وجدتُ أن السيد فريدمان قد ترك لي رقم هاتفه، فاتصلتُ به وأخبرتُه بما جرى فقال: “هذا كل ما أحتاج معرفته، أعرف الآن أنهم جاؤوا بها إلى منطقتنا في المدينة وأستطيع أن أُمسك بهم!” وبعد وقت قصير اتصل مركز شرطة هدار هاكرمل قائلاً: “حدّدنا موقع سيارتكم وسوف تستلمونها غدًا فلا تقلقوا.” كما أن فريدمان أخبرنا هاتفيًا بالشيء ذاته. وفعلاً في الساعة الحادية عشرة صباحًا تقريبًا من اليوم الرابع من الشهر [مايو/ أيار] اتصل بنا فريدمان وقال بأنه سوف يأتي ليصطحب غلاديس لترجع بالسيارة. ذهبت غلاديس إلى مركز هدار وأحضرت السيارة. يا إلهي، كم كنا جميعًا سعداء! والشيء العجيب في الموضوع أننا ونحن في طريقنا إلى البيت، قبل دخولنا ذلك المحل، كنت أقول لن تعود السيارة إلا بمعجزة!
‘إلا أنه يبدو لي الآن أن الشباب اليهود الخمسة المسلحين (وقد كتبنا عنهم بشكل منفصل) الذين جاؤوا هنا بعد سقوط حيفا في أيدي اليهود مباشرة، والذين ادّعوا أنهم من رجال الهاغانا، وزملاءهم الشباب في سيارة الجيب (هذه السيارة تظهر دائمًا وأصبحت كما أظن تشكل حلقة الوصل) الذين وجدهم ب. ــــــــــــــــــــــ في إحدى الليالي يحاولون اقتحام المرآب، وأخبرهم وقتها بأنه سوف يفتحه لهم دون الحاجة إلى كسره، ودخلوا وداروا حول السيارة لمعاينتها وأخيرًا قال لهم “إذا كنتم تريدون أن تعرفوا كل شيء عن صاحب السيارة فتعالَوْا وتكلموا بالهاتف مع رؤسائكم ومع د. واينشال”، وبعد ذلك غادَروا بسرعة – على كل حال فإننا جميعًا على يقين الآن بأنهم كانوا دائمًا هم الرجال أنفسهم وعلى الأرجح من رجال إرغون زيفي لئومي[10] وليسوا من الهاغانا بكل تأكيد!’
14/ 5/ 1948–’في منتصف هذه الليلة تنتهي مدة الانتداب البريطاني على فلسطين! وتشتعل حرب، لا بل اشتعلت بالفعل. فماذا يا تُرى يخبّئ المستقبل؟ … من المفروض أن يعود والدي وبِنْ غدًا! أنا متعبة!’
15/ 5/ 1948 ’وصل والدي إلى المنزل! أسمعُ إطلاق نار كثيفًا على التلال الواقعة بين هنا والناقورة – الحدود اللبنانية. وكذلك الأمر يوم أمس، عندما سقطت عكاء بأيدي اليهود، سمعنا إطلاق نار كثيفًا. أما الآن فقد أصبح أزيز المدافع الرشاشة مسموعًا بوضوح طوال الوقت. فهي تذكّرني بالأيام التي احتلّ فيها البريطانيون لبنان أثناء الحرب – ووقتها فقط تأكّدنا أن المعركة ستكون بعيدة عنّا، أمّا الآن فمَنْ يدري؟ والمسافات في فلسطين قصيرة جدًا – عشرة أميال [16 كيلومترًا] يمكن أن تُغيّر مجرى المعركة بالكلية؛ نصرًا أو هزيمة…
‘استقبلت غلاديس والدي وبِنْ حيث وصلوا إلى البيت في الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر. لقد وصلا على متن الباخرة أرجنتينا[11] التي وصلت مساء أمس قبل موعدها المقرَّر بيومين لأنها تجاوزت التوقف في مدينتَيْ الإسكندرية وتل أبيب. كان نجاح رحلتهما رائعًا من جميع الوجوه. فكيف يمكن للمرء أن يكون شاكرًا ربه في كل حين على معجزاته وفيض رحمته؟’
3/ 7/ 1948 ’اليوم، كما قال شوقي أفندي لوالدي الذي جاء هذا المساء لمقابلة حضرته بعد العشاء: “حسنًا، إن القرار التاريخي للبدء في أعمال بناء المقام الأعلى قد اتُّخذ في الساعة العاشرة والربع ليلاً من هذا اليوم!” ثم صافحه! …
(حاشية) – الساعة الآن الحادية عشرة والنصف ليلاً أسمع صوت انفجارات على مسافة منّا. كان الله في عون هذا البلد المسكين!’
6/ 7/ 1948 شوقي أفندي يُساوره قلق شديد من أن الحرب يمكن أن تشتعل ثانية يوم الجمعة. يا له من توقُّع رهيب! إن أكبر تهديد هو ما يمكن أن يطال المرقد المبارك لحضرة بهاء الله كما أخبرنا شوقي أفندي أنا وبِنْ وغلاديس، والآن بما أن مجد الدين وشعاع بهائي يقيمان في قصر البهجة – فإذا ما جاء العرب ستكون العواقب واضحة للغاية – يا الله، أعباء كثيرة جدًا، ومشاكل جمّة… فلولا الإيمان أين يمكن لنا أن نكون؟
‘أثنى شوقي أفندي كثيرًا على والدي أمام بِنْ وغلاديس وقال بأن الجميع يحبونه وأنه صاحب قلب طاهر، وعلاوة على كل ذلك، اختاره حضرته لمؤهلاته كمهندس معماري.’
28/ 12/ 1948 ’أشعر بالإنهاك الشديد. يبدو أنه لم يتبقَّ لدي هذه السنة أي مقاومة من أجل الحياة… يبدو الأمر خطيرًا، وقد لا يكون كذلك. آمل ألا يكون، لأنه بالرغم مما أنا فيه من ضعف، لا زِلتُ لازمة هنا، وأظلّ أفْضَلَ من لا شيء…
‘في هذه الليلة وصَلَنا عرض شركة سوليل بونيه[12] لبناء الرواق المُقنطر بكلفة قدرها (18000) جنيه إسترليني. يا لَلهوْل! شوقي أفندي الآن في وضع مؤلم ومُحبَط؛ فالحجارة اللازمة موجودة وتأتي تباعًا؛ لقد اقتَلَع البلاط وصَبَّ الأساسات وجرّف مُنحَنى الجبل خلف المرقد المقدس! يقول حضرته بأنه لن يدفع أي مبلغ قريب من هذا السعر – آه يا عزيزي! مشاكل كثيرة جدًا وصعوبات. امنحني يا إلهي القوة لأن أخدم وأن تستمر أعصابي الضعيفة بالعمل ـــــــــــــــــــ.’
20/ 1/ 1949 ’سيكون هذا نوعًا من تدوين الأخبار بطريقة الاختزال: كان الطقس ممطرًا وعاصفًا – في الوقت الذي كان لدينا ثمانون صندوقًا لا زالت باقية في الميناء وعلينا رفعها وإحضارها إلى موقع المقام الأعلى. لا أستطيع النوم من صوت زخّات المطر. إنها توقظني لأنني أعلم أنها تؤخّر تقدم العمل… هكذا الأمر طيلة الوقت مشكلة تلو الأخرى. إن العمل في المقام الأعلى هذه السنة يدعونا جميعًا لأن نُسرع أكثر وأكثر.’
8/ 2/ 1948 ’في الثالثة صباحًا غرق الصندل[13] بكل ما عليه من حجارة تخصّنا! مجرّد حادث لطيف آخر! وعندما أخبرتُ شوقي أفندي بذلك أجابني “لم أعد أهتمّ أبدًا”. لقد أصبح معتادًا على مثل هذه الأمور ومنهكًا جدًا بسبب ما كان يواجهه من مشكلةٍ تلو الأخرى. كان هذا كل ما تبقى حسب مفهومنا. الطقس من جهة، وتعقيدات لا نهاية لها من جهة أخرى، والآن هذه! يقولون يمكنهم انتشالها – هذا ما أسمعه.’
11/ 2/ 1948 ’بسبب الحفريات الجارية خلف المقام الأعلى… إلخ، كان شوقي أفندي يصعد كل يوم تقريبًا إلى الحدائق ويقضي النهار بطوله ليدير العمل بنفسه للاقتصاد بالمصاريف.’
5/ 4/ 1949 ’قابلني شوقي أفندي مع غلاديس وبِنْ في غرفة الاستقبال كما كان يفعل أحيانًا عندما يجد متَّسعًا من الوقت. رأيت على معطفه مشحًا من الطين فسألته ماذا كان يفعل؟ أجابني “كنتُ في معركة مع الجنرال طين وكان هو المنتصر!” ثم شرح كيف أنه انزلق ثانية. كان المنحدر زَلِقًا للغاية بسبب المطر – انفجرنا بالضحك جميعًا.’
3/ 4/ 1952 ’أشكّ أن يكون لديّ الوقت والهمة لأستمر في تدوين اليوميات بعد الآن، وهو ما يدعو إلى الأسف كوني أرى وأعرف الكثير جدًا مما يجري في الداخل هنا…’
15/ 9/ 1955 ’أظن أن هناك عددًا من أنواع الجحيم بقدْر نفوس العباد، ولكن ليس الكثير منهم، كما أتمنّى، يعيشون في الجحيم الخاص بنا أنا وشوقي أفندي. فإذا ما سألني أحدهم أن أُعرِّف لهم الجحيم لقلتُ إنه بالرغم من وجود أنواع كثيرة جدًا منه فإنه من حيث المبدأ هناك قسمان: جحيم بلا مسؤولية وآخر بمسؤولية…’ (لأولئك الذين قد لا يتفهمون الاستعمال الإنكليزي لكلمة “جحيم” كما وردت هنا. فأعني بها الكرب الشديد والمعاناة الحارقة).
14/ 11/ 1955 ’تلقّى ولي الأمر خبرًا مفاده أن ورقاء قد توفى. فعلّق شوقي أفندي قائلاً: “كان ألطف وأفضل رجل لدينا.” وبالطبع كان حضرته يتوقع وفاته منذ مدة، إلا أنه يشعر بالخسارة لأن البهائيين العاملين الأكفاء قليلون جدًا.’
[1] ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.
[2] God Passes By.
[3] نسائم الرحمن، الطبعة الرابعة مارس/ آذار 1993، صفحة 25.
[4] Gladys Anderson.
[5] Ben Weeden.
[6] Dr. Weinshall.
[7] Hagana.
[8] Hadar Hacarmel.
[9] Savoy Hotel.
[10] Irgun Zvi Leumi.
[11] S. S. Argentina.
[12] Solel Boneh.
[13] عبارة عن عوامة مسطحة القاع لتفريغ وتحميل السفن التي ترسو بعيدًا عن رصيف الميناء البحري.
في مطالعتي لمذكراتي اليومية – التي اقتطفت عددًا قليلاً جدًا منها من مئات الصفحات التي كُتِبت على مرّ السنين بشكل متقطّع – يبدو لي غريبًا خلُوّها عمليًا من ذكر أو إشارة للحرب العالمية التي كانت مشتعلة في كل مكان على مدى ست سنوات تقريبًا وشكّلت تهديدًا رهيبًا لسلامة المركز العالمي للدين البهائي وخاصة لولي الأمر نفسه كرئيس للدّين. ذلك لأنه لا شيء يمكنه أن يشهد على هول الاضطرابات الداخلية التي كابدها حضرته خلال تلك السنوات أبلغ من خلو مذكراتي من الإشارة اليها. فالضغوط اليومية إلى جانب العمل، والقلق والإجهاد الفكري، كانت من الشدّة بحيث تجمّعت وطغت على أي ذكر لهذه التهديدات المستمرة وذلك الاضطراب السائد في الأجواء. كان شوقي أفندي المراقب الأدقّ للأحداث السياسية، وظلّ متتبّعًا كافةَ التطورات. إن ذكاء ولي الأمر وقدرته على التحليل لم يدعانه يَركِن إلى اطمئنانٍ زائف يستقرئه على الأرجح أناس ينقادون أحيانًا إلى أفكار صبيانية عما يعنيه “الإيمان”. فحضرته أدرك تمامًا أن الإيمان بالله والتوكل عليه لا يعني ألا يستعمل الإنسان عقله؛ فيقيّم الأخطار، ويحسب المتَوَقّع، ويتّخذ القرارات الصائبة في الأزمات.
لقد ترددتُ كثيرًا في الكتابة عن حياة شوقي أفندي الخاصة وهي على تلك الدرجة من طهارة الجانب، والمشحونة بالمحن إلى أبعد الحدود. إلا أن ما دفعني إلى ذلك أمران؛ أولهما ما لم يدرِك المرء ولو لمحة عما كابده حضرته كإنسان بمفرده، لن يتمكن من تقدير عظمة ما أنجز. وثانيهما إن أي شخصية مشهورة ستكون على مرّ القرون موضع بحث واستقصاء تاريخي مكثّف يمحّص التفاصيل، لذا فإن أمورًا كثيرة ستبرز في دائرة الضوء في سجلات جُمعت من هنا وهناك، فإن تعذّر وجود شاهد عيان يقوم على شرحها وتوضيحها، فمن الأرجح أن يُساء تفسيرها بالكامل، وتُحاك حولها كل أشكال الروايات السخيفة الملفّقة من نسج الخيال.
بعد وفاة والدتي المفاجئ في الأرجنتين في مارس/ آذار 1940، عندما دعا ولي الأمر والدي للحضور والإقامة معنا، قرر شوقي أفندي السفر إلى إنكلترا لأسباب خاصة به. ولأولئك الذين لم يكونوا في مسرح أحداث الحرب الأوروبية – الشرق أوسطية، من المستحيل تقريبًا أن ننقل إليهم صورة الصعاب اللامحدودة التي تحيط بسفرٍ كهذا في تلك الفترة العصيبة من التاريخ. فبالرغم من مكانة ولي الأمر ونفوذه، كان من المستحيل في واقع الأمر الحصول على تأشيرة الدخول إلى إنكلترا من قِبَل السلطات في فلسطين، ولذلك حُوِّل طلبنا إلى لندن. وناشد شوقي أفندي أيضًا صديقه القديم اللورد لمنغتون ببذل مساعيه الحميدة، بحكم مركزه واتصالاته، في ضمان صدور التأشيرة اللازمة. إلا أنه عندما أصبحت مغادرتنا إلى إنكلترا في الحال أمرًا ملحًّا للغاية، هذا إذا كان بالإمكان أن نصلها بالفعل، لم نكن عندها قد استلمنا بعدُ أي رد من السلطات في فلسطين، كما أن رد اللورد لمنغتون كان قد تأخر طويلاً. فقرّر شوقي أفندي، مدفوعًا بتلك القوى الخفية التي توجّه كافة قراراته، السفر إلى إيطاليا، لأنها البلد التي حصلنا على تأشيرة الدخول إليها. وهكذا غادرنا حيفا في 15 مايو/ أيار بطائرة مائية إيطالية صغيرة. كانت كريهة الرائحة، والماء يتسرّب إلى أرضيتها تحت ألواح الخشب التي نضع أرجلنا عليها وكأننا في قارب تجديف قديم. وصلنا روما بعد بضعة أيام، ثم توجّهتُ إلى جَنَوى حتى أقابل والدي الذي وصلها في آخر رحلة قامت بها باخرة نقل الركّاب س. س. رِكْس[1]. وحالما رجعتُ مع والدي أرسَلَنا شوقي أفندي إلى القنصلية البريطانية للاستفسار عن احتمال أن تكون تأشيرتنا قد حُوّلت إلى هنا من فلسطين، فلم نجد أخبارًا عنها، وأفادنا القنصل بأنه لا يملك أبدًا أي صلاحية في منحنا تأشيرة دخول لأن جميع الصلاحيات تصدر من لندن، وأنه أصبح في وضع لا يمكّنه من الاتصال بحكومته! عُدنا ونحن نحمل هذه الأخبار المحزنة لولي الأمر، إلا أنه عاد وأرسلنا ثانية. إنه وليّ الأمر وعلينا بالطبع إطاعته بكل بساطة. لم أعرف أنا ولا والدي ما يمكن فعله أكثر مما فعلناه، ومع ذلك وجدنا أنفسنا نجلس ثانية أمام القنصل لنكرّر الى حدٍ كبير ما قلناه في السابق باستثناء ما أضفته هذه المرة بأن شوقي أفندي هو ‘حفيد السير عبد البهاء عباس وخليفته.’[2] بالطبع كان قد سبق أن قلت للقنصل أن شوقي أفندي هو رئيس الدين البهائي… وغير ذلك. نظر القنصل إليّ وقال ‘أنا أتذكّر عبد البهاء’ وأخذ يكلمنا عن بعض اتصالاته التي جرت مع المولى المحبوب. كان واضحًا تأثُّرُه العميق في ما تذكّره، ثم تناول جوازات السفر الخاصة بنا وختمها بتأشيرة الدخول إلى إنكلترا وقال بأنه لا يملك الحق في ما فعله بأي شكل كان، وأن الختم لا يساوي قيمة الورق الذي وُضع عليه، إلا أن هذا أقصى ما يمكنه فعله، فإذا آثرنا محاولة الدخول إلى إنكلترا بهذه التأشيرة فإنه راجع إلينا، إلا أن إقدامنا على ذلك فيه مجازفة إذ قد يرفضون دخولنا. بهذا الوضع غادرنا فورًا إيطاليا إلى فرنسا مارّين بـ ”منتون”[3] في 25 مايو/ أيار متوجّهين إلى مرسيليا، وما هي إلا بضعة أيام حتى دخلتْ إيطاليا الحرب ضد الحلفاء.
من العسير أن تصف الفترة التي أعقبت ذلك؛ فالمشهد بمجمله كان أشبه بكابوس مضاء بضياء باهر – كابوس خاص بنا، وآخر عملاق تورّطت فيه أوروبا بأكملها. وبينما كان القطار يشق طريقه إلى باريس كنا نشاهد كل محطة وهي تغصّ بآلاف اللاجئين الفارّين أمام الانهيار السريع لجبهة الحلفاء في الشمال. لم تكن هناك من وسيلة للحصول على معلومات صحيحة. فوضى عارمة تموج. في باريس اكتشفنا ما سبّب لنا الهلع بأن جميع الموانئ إلى إنكلترا مغلقة وأن آخر أمل في الوصول إلى هناك – وهو أمل كان يخبو كل ساعة – أن ننزل الى ميناء سانت مالو[4] الصغير، ونرى إذا كان بالإمكان أن نستقلّ مركبًا من هناك. كان علينا، مع المئات الذين يحاولون الوصول إلى بيوتهم في إنكلترا، أن ننتظر أسبوعًا قبل أن ينجح أخيرًا مركبان في الوصول إلى ميناء سانت مالو. لم يسبق لي أبدًا أن رأيت ولي الأمر في ما كانت عليه حالُه في تلك الأيام. كان معظم الوقت يجلس هادئًا في سكون تامّ من الصباح حتى المساء دون حِراك كتمثال من حجر حتى أصبح لديّ انطباع بأنه كان يذوَى من شدّة المعاناة كشمعة تحترق إلى أن تذوب بالكليّة. كان يرسلني ووالدي مرتين في اليوم إلى شركة القوارب في الميناء لنستطلع أي خبر عن مركب، فنرجع في كل مرة قائلين ‘لا أخبار’. كان يبدو غريبًا للغير أن يُرى حضرته على هذا القدْر من القلق الشديد، إلا أن عقلاً كعقله كان يملك قدرة تفوق قدرتنا بكثير في إدراك الخطر المُحْدِق بالأمر المبارك في ذلك الوضع – ويعلم الله أنني كنت مريضة من شدة القلق أيضًا. فكنتُ ووالدي لا نزال نعيش صدمة موت والدتي المفاجئ بالنوبة القلبية، وبضمّ هذا إلى كل شيء آخر قد جعل والدي على أقل تقدير شبه مُخدّر. أما ولي الأمر فلم يكن كذلك؛ كان يدرك تمامًا أنه إذا ما وقع بأيدي النازيين الذين سبق وأن حَظَروا الدين البهائي في بلدهم، وما كانوا عليه من تعاون حميم مع مفتي الديار بالقدس – المنخرط بكل همّة ونشاط في العمل السياسي العربي وهو العدو المعروف لولي الأمر – فهناك احتمال كبير أن يُزَجَّ بحضرته في السجن إن لم يحدث الأسوأ، وبذلك يُترك الأمر المبارك نفسه بلا قائد ولا محفّز ولا هادٍ يقود العالم البهائي في وقت كهذا من الاضطراب والفوضى العالمية. يبدو لي أن الوضع مشابه تمامًا لما كانت عليه تلك الأيام في عكاء عندما كان المولى تحت خطر ترحيله إلى منفى جديد، وكان هو أيضًا ينتظر خبرًا عن وصول مركب. وأخيرًا صعدنا إلى أول المركبيْن اللذيْن وصلا في ليلة الثاني من يونيو/ حزيران لإجلاء أولئك الذين تقطّعت بهم السبل عند شاطئ سانت مالو، ومنها أبحرنا في ليل دامس إلى ساوثامبتون[5] حيث وصلناها في صبيحة اليوم التالي. وفي اليوم الذي تلا مغادرتنا سانت مالو دخلها الألمان على ما أذكر.
وكما واجهتنا الصعوبات في دخولنا إنكلترا كذلك الأمر كان في خروجنا منها. فقد صادف أن كان وقت ‘إخلاء الأطفال’ الكبير وكانت له الأولوية القُصوى. ويرجع الأمر فقط إلى مكانة شوقي أفندي، والصداقة التي كانت تربط والدي بذاك الرجل الذي كان وقتها المندوب السامي لكندا في لندن، أن نجحنا في الحصول على تصريح دخول إلى جنوب إفريقيا مُبْحرين إلى كيب تاون على ظهر الباخرة كيب تاون كاسل[6] في 28 يوليو/ تموز. كانت باخرة سريعة، وبمجرد أن غادرنا شواطئ إنكلترا في قافلة كبيرة أصبحت باخرتنا لوحدها. أتذكّر كيف كنتُ أراقب الخط المتعرّج الغريب الذي كانت تخلّفه الباخرة وراءها على سطح الماء وهي تمخُرُ في مسارٍ مضلِّلٍ حتى لا تكون هدفًا سهلاً للغواصات. وبما أن دخول إيطاليا الحرب قد أغلق البحر الأبيض المتوسط في وجه سفن الحلفاء، فما كان أمامنا سوى الإبحار عبر إفريقيا للعودة إلى فلسطين. ومع أن شوقي أفندي كان قد عبر إفريقيا مرة قبلها في بداية ولايته – مُبْحِرًا آنذاك من إنكلترا في سبتمبر أيلول 1929 متابعًا سيره في أغلب الأحيان برًا بِدْءًا من كيب تاون وانتهاءً بالقاهرة – فلم يستطع في ذلك الوقت الحصول على تأشيرة دخول إلى الكونغو البلجيكية التي دائمًا ما كانت تفتنه لسبب ما. إن روحه التي تعشق المغامرة، وحبه للمناظر الطبيعية قد جذباه إلى الجبال العالية والغابات الكثيفة في العالم، وهو ما دعاه إلى القيام برحلته السابقة. أما الآن، وبمعجزة مدهشة وسط حرب ضروس، أمكننا الحصول على تأشيرة الدخول إلى الكونغو. وحالما وصلنا إلى ستانليفيل[7] وقمنا بنزهة قصيرة في عمق الأدغال البكر الكثيفة، أدركتُ أن شغف شوقي أفندي بجمال الطبيعة كان واحدًا من الأسباب التي قادته إلى هناك. كان راغبًا في مشاهدة الأدغال بتفتُّح أزهارها، إلا أنه يا للحسرة! لم يكن آنذاك في المكان المناسب ولا بالموسم المناسب، فواصلنا طريقنا خائبَيْ الرجاء.
كان شوقي أفندي قلقًا جدًا على صحة والدي (في السادسة والستين من عمره وضعيف البُنية) ولا يحسن بنا أن ندعه يرافقنا في رحلتنا هذه برًا، لذا أنزلناه بأمان في فندق بـديربان منتظرًا فرصة تأمين سفره جوًا. كانت لائحة الركاب المنتظرين طويلة، ومَن كان منهم غير موظف حكومي أو عسكري فإنه معرّض باستمرار إلى تأجيل سفره لصالح مَنْ لهم الأولوية. كان ذلك في تلك الأسابيع من الانتظار أن قام والدي بتصميم شاهد قبر والدتي الذي جمع فيه، ليس بين أفكاري وأفكاره فحسب، بل واقتراح شوقي أفندي القيّم في تجميله أيضًا.
بعد ثلاثة أيام من السفر بالسيارة من ستانليفيل إلى جوبا بالسودان توجهتُ مع ولي الأمر بالقارب عبر نهر النيل حيث وصلنا إلى مدينة الخرطوم – التي كانت بالنسبة لي أشدّ الأماكن حرارة على وجه الأرض – وبينما كنا جالسين في شُرفة الفندق بعد العشاء، ظهرت وسط الظلام مجموعة من المسافرين بالطائرة ينوون قضاء الليلة هنا، وكان بينهم السيد و. س. ماكسويل! حقًا كان حظًا عجيبًا ذلك الذي جَمَعَنا معًا في قلب إفريقيا، ومنحنا شعورًا بالطمأنينة أيضًا. إذ لم يكن أحد منا لديه ولو فكرة بسيطة عن مكان الآخر، وليست هناك وسيلة للاتصال بيننا على الإطلاق. في ديربان كان شوقي أفندي قد طلب من والدي ببساطة أن يتوجه إلى فلسطين وينزل في فندق بالناصرة وينتظرنا هناك لنتمكن نحن الثلاثة من العودة معًا إلى حيفا.
ما أثار دهشتنا أن الحاكم العام [للسودان] السير ستيوارت سايمز قد دعانا لتناول طعام الغداء معه في قصره في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول. وبعد تجديد هذه المعرفة القديمة به تابعنا طريقنا إلى القاهرة ثم فلسطين لنلتقي بوالدي كما كان مخطّطًا والعودة معًا إلى حيفا بعد غياب دام ستة أشهر. يمكن للمرء أن يتخيل أن رحلة كهذه، محفوفة بالحيرة والترقُّب والمخاطر منذ البداية وحتى النهاية، كانت بحدّ ذاتها تجربة هائلة ومرهقة تمامًا. ومع أن شوقي أفندي لم يَزُر النصف الغربي من الكرة الأرضية أبدًا، كما أنه لم يبتعد شرقًا أكثر من مدينة دمشق، فمن الجدير ملاحظته أن حضرته قطع إفريقيا من جنوبها إلى شمالها مرتين.
كم ستكون عليه دهشة الأحباء البريطانيين الذين يعانون ضغوطًا شديدة لو علموا أن ولي الأمر، الذي أبرق إلى محفلهم الروحاني المركزي في 27 ديسمبر/ كانون الأول 1940 قائلاً: ‘أبرقوا لي عن سلامة الأحباء في لندن ومانشستر ندعو لهم باستمرار. مع محبتنا وتقديرنا’، أنّ حضرته قد نجا بنفسه بصعوبة من القصف الكاسح الخاطف على لندن، وأنه أفلح أخيرًا في العودة إلى الأرض الأقدس!
إن السنوات التي أعقبت عودتنا إلى فلسطين شهِدتْ أخطارًا هائلة عصفت بالأرض الأقدس، أخطارًا هدّدت أيضًا المركز العالمي للدين ووليّه بالإضافة إلى بهائيين في أقطار عدّة.
بما كان عليه شوقي أفندي من تبحّر عميق وتشبُّع بالتعاليم الإلهية منذ طفولته، وهو المرافق اليقظ سريع الملاحظة لجدّه المحبوب، يبدو أنه كان مدركًا دومًا لما دعاه حضرته بـ’بوادر قلاقل واضطرابات الكارثة المزلزلة للعالم التي تنتظر إنسانية فقدت إيمانها.’ ورغم أنه رأى حربًا أخرى قادمة، إلا أنه ما كان ليعيش حالة دائمة من الاستنفار الزائف. كتب حضرته إلى مارثا روت ردًا على مخاوفها التي أوردتها في رسالتها الموجّهة له من أوروبا عام 1927 مطمئنًا إياها من جديد: ‘بالنسبة لموضوع الحرب التي قد تنفجر في النهاية في أوروبا، لا تُشغلي نفسك بأقل اهتمام أو قلق. فالمشهد لا يزال بعيدًا جدًا، ولا خطر يلوح في المستقبل القريب’ – رغم أنه في تلك السنة صرّح بأن صراعًا آخر مميتًا لا بدّ آتٍ ويتعذر تجنُّبه وتتنامى بوادره باطّراد، فقد عمل على تهيئة عقول البهائيين مرّة بعد أخرى لمواجهة الحقيقة بأن حريقًا عالميًا هائلاً سيشتعل. كتب حضرته عام 1938: ‘إن العمليّتين التوأم؛ الانحلال والتفكك الداخلي والفوضى والاضطراب الخارجي تتسارعان وتتقدمان نحو ذروتهما يومًا بعد يوم بكل إصرار. إن دمدمة العتاد والسلاح التي يجب أن تسبق تفجّر تلك القوى التي سوف “يرتعد به فرائص العالم“[8] يمكن سماعها الآن. و”وقت النهاية” و”آخر الزمان” الذي أنبأت به الكتب المقدسة أصبح قاب قوسين أو أدنى.’ وفي كتاب “ظهور العدل الإلهي” الذي كتبه حضرته في أواخر شهر ديسمبر/ كانون الأول 1938 توقّع حدوث الحرب بكل وضوح: ‘ومَن يعلم’، وهو يتساءل، ‘فقد تكون السنوات القليلة الباقية والمتسارعة جدًا حُبلى… بصراعات مدمّرة تفوق أيًا مما سبقها!’ وفي إبريل/ نيسان 1939 كتب يقول: ‘رمال الساعة[9] لحضارة محتضرة آخذة بالنِفاد لا رادّ لها.’
بينما امتدت ظلال الحرب الطويلة لتشمل أوروبا، أتذكّر جيدًا ذلك الشعور الحقيقي بالكارثة الذي اعتراني عندما كتب شوقي أفندي من القلب النابض لتلك القارة تلك الكلمات الشاعرية القوية التي افتتح بها برقيته في 30 أغسطس/ آب 1939: ‘إن ظلال الليل التي تمتدّ إلى إنسانيةٍ مهددة بالخطر تزداد قتامة دون توقّف…’ وقبل إبحاره من إنكلترا بأسبوع أبرق شوقي أفندي في شهر يوليو/ تموز 1940 بواسطة حيفا (حيث كان أثناء غيابه يرسل جميع رسائله وبرقياته إلى حيفا لتخرج منها الى العالم) بأن نيران الحرب ‘… تهدد الآن بدمار الشرق الأدنى والغرب الأقصى كليهما، حيث المركز العالمي والقلعة الرئيسة المتبقية لدين حضرة بهاء الله على التوالي…’ يبدو أمرًا لا يُصدّق أنه، في خضمّ هذه القلاقل والاضطرابات، وبعد غياب نصف سنة بدوْنا فيها وكأننا نسابق الزمن طوال الوقت ونحن نعتلي موجة مدٍّ (أولاً في خروجنا من حيفا في الوقت المحدد والعودة إليها في الوقت المحدد أيضًا)، كيف لولي الأمر بعد عودته إلى الأرض الأقدس أن يمتلك القوة العقلية والقدرة الجسمانية حتى يجلس ويؤلّف كتابًا كهذا “قد جاء اليوم الموعود” كتابًا جعل فيه الأمر واضحًا تمامًا بأن ‘القصاص الإلهي’ الذي باغت البشرية، مهما كانت موجِباتُه ودواعيه السياسية والاقتصادية، فإنه يرجع في أساسه إلى تجاهلها رسالة الله لهذا اليوم مدة قرن من الزمن.
إن ما جلبته الحرب لنا من أخطار ومشاكل في حيفا وللعالم البهائي بشكل عام قد واجهها شوقي أفندي بهدوء لافت، ولا يعني هذا أنه لم يكن يعاني شدائدها. فعبء المسؤولية جاثم دائمًا، ولم يكن ليتخلى عنها قط ولو لحظة. أذكر في إحدى المناسبات، عندما بدوتُ بغاية الاضطراب والانزعاج والألم لأن حضرته كان دومًا يصرّ أن يُحال إليه كل شيء لاتخاذ القرار بشأنه، وحتى حين المرض، قال بأن القادة الآخرين، وحتى رؤساء الوزراء، يمكنهم أن يفوّضوا غيرهم بصلاحياتهم لفترة قصيرة على الأقل إذا ما اضطُرّوا، أما هو فلا يمكنه ذلك أبدًا ولو للحظة واحدة ما دام حيًّا. فلا أحد غيره تسيّره الهداية الإلهية في إنجاز مهمّته، وليس بمقدوره أن يُحيل هذه الهداية لشخص آخر.
ومع أن الحرب العالمية الثانية لم يصل لهيبها فعليًا إلى الأرض الأقدس، إلا أننا عشنا سنوات ونحن نشعر بأن الخطر وشيك وقد يداهمنا في أي وقت. كنا، كغيرنا من بلدان أخرى كثيرة في العالم، نقوم بتعتيم النوافذ بالكامل، ولما كان منزل المولى يضمّ عدة أبنية تحتوي على مائة نافذة تقريبًا، فقد شكّل لنا هذا الهاجس وحده مشكلة حقيقية؛ طبعًا لم يكن ضروريًا أو ممكنًا تعتيم جميعها، ولكنها تعني الكثير من السير في الظلام وسط نداءات غاضبة متكررة من مراقبي الغارات الجوية. وكون مدينة حيفا ميناءً رئيسًا هامًا وفيه مصفاة للبترول ضخمة، فإنها بذلك تُعتبر نقطة هامة استراتيجيًا. كانت المدينة مزوّدة بمدافع متنوعة مضادّة للطائرات لحمايتها؛ اثنان منها على بُعد ميل [1,6 كم] تقريبًا من بيت ولي الأمر. لقد أُلْقِيتْ بعض القنابل إلا أن الضرر كان لا يُذكر – حقًا كانت الحماية إعجازًا – ومع ذلك كان هناك غارات جوية من وقت لآخر وشظايا المدافع المضادّة للطائرات الضخمة تتطاير هنا وهناك مما شكّل قلقًا إضافيًا لدى شوقي أفندي من أن الشظايا التي تُقَدّر الواحدة منها بحجم حبة العنب بمقدورها بكل سهولة أن تُحدِث ضررًا لا يُمكن ترميمه في الرخام الجميل لأي من النُّصُب التذكارية لمراقد عائلة المولى، وقد وُجدت أحيانًا قِطَعًا كبيرة الحجم بقربها إلا أنها بالفعل لم تسقط عليها أبدًا. اضطررنا إلى بناء ملجأ إلا أنّ ولي الأمر وأنا لم ندخله أبدًا. وعندما كانت صفارات الإنذار تُطلق في الليل كان شوقي أفندي ينهض أحيانًا وينظر من الشباك، وحتى هذا لم يعتَدْ أن يفعله دائمًا. كان النشاط العسكري على أشُدِّه عندما غزت بريطانيا لبنان، وبقينا وقتها نسمع هدير الأسلحة الثقيلة لمدة أسبوع. أما الميناء الذي يبعد عن بيتنا مسافة نصف ميل [800 متر] فقد كانت تدكّه على فترات متقاربة طائرات قوات ڤيشي بالقنابل.
إلا أن كل ما حدث لم يحمل لنا خطرًا جسيمًا أو مميتًا. ففي رسالةٍ برقيةٍ لشوقي أفندي في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1941 تنبأ بالمستقبل وشخّص السنوات التالية التي تنتظرنا: ‘… وبينما ضراوة وشدّة دمار الحرب العالمية الرهيبة تبلغ ذروة حدّتها…’ وعلى الرغم مما ينتظر العالم من محن، مررنا نحن في فلسطين فعلاً خلال عام 1941، بشهورٍ كانت بالنسبة إلينا أقسى أشهر الحرب برمتها معاناةً، شهورٍ سبّبت لولي الأمر بالغ القلق. في تلك السنة قامت ثورة “رشيد عالي (الكيلاني)” الفاشلة ضد الحلفاء في العراق، وتوالى تقهقرُ القوات البريطانية في ليبيا على يد الجنرال رومل، ووصل الألمان في النهاية إلى مشارف الإسكندرية (عام 1942)، واحتلّت القوات النازية جزيرة كريت – وهي القاعدة الثانية للانطلاق في تخطيطها لفتح الشرق الأوسط؛ كما غزت القوات البريطانية والفرنسية لبنان وقضت على نظامه الذي أقامته حكومة ڤيشي.[10] وبالإضافة إلى كل هذه الأخطار الفعلية الملموسة، كان هناك كبيرُ دار الإفتاء بالقدس أيضًا وهو العدوّ اللدود لأمر الله ووليّه والحليف القويّ لحكومة ألمانيا النازية. ولا يتطلّب الأمر خيالاً واسعًا لنتخيّل ما كان يمكن أن يحدث لشوقي أفندي وللمقامات المقدسة والمركز البهائي العالمي، بما يضمّه من سجلات ووثائق وآثار مباركة، إذا ما انتصر الجيش الألماني واستولى على فلسطين ومعه المفتي الماكر المولع بالقدح والذم! وقد صرّح شوقي أفندي عدة مرات أن المسألة ليست فيما يمكن للألمان أن يفعلوه، ولكن من حقيقة وجود الكثير من الأعداء المحليين للأمر المبارك، إذ بانضمامهم للمفتي يمكنهم أن يسمّموا أفكار الألمان بالكامل ضدّ حضرته مما يفاقم من خطورة وضعٍ كان في الأصل خطيرًا، إذ إن أفكارنا البهائية لا تتفق والأيديولوجية النازية من وجوه عِدّة.
أخذ شوقي أفندي، على مدى أشهر، يراقب اقتراب مدِّ الحرب المتواصل بمنتهى القلق، فيَزِن في عقله ماذا عليه أن يفعل لو تمّ الغزو، وكيف يوفّر أفضل حماية وبكل وسيلة للدين الذي يمثّل هو نفسه رمزَه الحيّ.
طوال سنوات الحرب كان شوقي أفندي في وضع يسمح له الحفاظ على اتصاله بجموع الأحباء في البلدان حيث الجامعات البهائية الأقدم والأكثر كثافة مثل إيران وأمريكا والهند وبريطانيا العظمى، وكذلك الأمر مع المراكز الأمرية الجديدة التي كانت تنمو بسرعة في أمريكا اللاتينية. أما الجامعات الصغيرة نسبيًا كما في اليابان والأقطار الأوروبية وبورما وإلى وقت ما في العراق، فكانت الوحيدة التي انقطع اتصالها بحضرته – انقطاعًا أحزنه وسبّب له قلقًا بالغًا على مصيرها. بفضل هذا الاتصال بجماعات المؤمنين في أنحاء العالم البهائي، والذي كان في أسلوبه أقرب إلى المعجزة في تحقُّقه، لم يكن شوقي أفندي قادرًا على إيصال تعليماته وتوجيهاته إلى المحافل الروحانية المركزية المختلفة فحسب، بل وبيان ما كانت تعنيه هذه الحرب العظمى لنا كبهائيين أيضًا. في رسالته الغرّاء بعنوان “قد جاء اليوم الموعود” صرح بأن ‘غاية الله لم تكن سوى التبشير بـاقتراب “العصر العظيم”، “العصر الذهبي” لإنسانية طال أمد تشرذمها وابتلائها، وذلك بطرق هو وحده القادر على إحداثها، وهو وحده القادر على سبر غور كنهها. إن حالة الإنسانية الراهنة بل ومستقبلها القريب في الحقيقة مظلم محزن، إلا أن مستقبلها البعيد متألق بكل روعة – يبلغ مجدُ تألُّقه حدًّا لا تستطيع عين أن تستجليه… لقد ولّت عصور طفولة الإنسانية إلى غير رجعة ليأتي “العصر العظيم”، ختام كل العصور، الذي يشير إلى بلوغ الجنس البشري قاطبة سنّ رشده. أما انتفاضات هذه الفترة الانتقالية، وهي الأكثر اضطرابًا في تاريخ الإنسانية، فهي المتطلّبات الضرورية البشيرة بالدنوّ المحتوم لـ ”عصر العصور”، “وقت النهاية” الذي يتحول فيه حُمْقُ النزاع وجَلَبَتُه الذي لطّخ وجه البشرية منذ فجر تاريخها، إلى حكمة وسكينة وسلام عالمي دائم مستقرّ يغيب فيه التنافر والفرقة بين بني البشر ليحلّ محله الوئام العالمي والاتحاد الكامل بين العناصر المكوِّنة للمجتمع الإنساني على اختلافها… إنها المرحلة التي تقترب منها الإنسانية طوعًا أو كَرهًا بكل استسلام، ولأجل هذه المرحلة نفسها كانت هذه الرزايا والمحن بنيرانها المستعرة التي تعانيها البشرية لتمهيد الطريق إليها بشكل خفيّ.’
كم كان سرور ولي الأمر وارتياحه عظيمًا عندما انتهى الجانب الأوروبي من الحرب في مايو/ أيار 1945، حتى إنه أبرق إلى أمريكا قائلاً: ‘إن أتباع حضرة بهاء الله في القارات الخمس طُرًّا تغمرهم البهجة لرؤية الإنسانية، التي مزّقتها الحرب، تخرج جزئيًّا من ذلك الاضطراب العظيم.’ ثم يعبّر عما في أعماق قلبه بقوله: ‘بوافر الامتنان نهلِّل للشواهد الرائعة على تدخُّل العناية الإلهية التي مكّنت المركز العالمي لديننا من النجاة خلال تلك السنوات المحتقنة بالمخاطر والأهوال…’ واسترسل فيها معبّرًا عن شكر مماثل حمدًا على الحفظ والصون الذي أحاط بجامعات أخرى بكل إعجاز ومستذكرًا تلك الانتصارات التي أحرزها الدين في تلك الفترة رغم ظروف الحرب، والتي كانت استثنائية حقًا. وفي 20 أغسطس/ آب 1945 أبرق ثانية: ‘بقلوب منجذبة نرفع أيادي الشكر على التوقُّف التام لذلك الصراع العالمي غير المسبوق الذي امتدّ طويلاً’، وحثّ الأحباء الأمريكيين على النهوض والقيام بواجباتهم مرحّبين بإزالة القيود والعقبات مما سيمكّنهم الآن من المضيّ قُدمًا لتدشين المرحلة الثانية من الخطة الإلهية. لا شيء على الإطلاق يمكن أن يكون أفضل مثالٍ على التصميم والحماس والقيادة الفذّة لولي الأمر من تلك الرسائل التي انطلقت غداة خروج العالم من أتون أسوأ حرب في كل تاريخه.
مهما كان الحال عليه في باقي أنحاء العالم، فقد استمرّ الوضع الداخلي في فلسطين يتدهور إلى الأسوأ من جميع الوجوه؛ فالمحرقة التي اجتاحت الشعب اليهودي الأوروبي وابتلعته، والمرارة التي ولّدتها السياسة البريطانية في الوسط اليهودي في فلسطين بخصوص هجرتهم التي حُدِّدت وضُبطت بكل حزم، وتصاعُدُ حدّة الاستياء لدى العرب ضد تلك السياسة نفسها – كل هذا أدّى إلى تنامي مشاعر التوتر والكراهية محليًا. فالعديد من المصاعب، التي بدأت تخرج منها أقطار أخرى ببطء مثل الشُحّ الشديد في المواد التموينية، أصبحنا ندخل أعتابها الآن. كل شيء أصبح صعبًا. لم نعد الآن في خطر من غزوٍ أو قصف أو احتلال، إلا أن استشراف مستقبل هذا البلد الصغير، على قداسته، أخذ يزداد قتامة باطّراد ونحن ندخل تلك الفترة التي شخّصها شوقي أفندي بـ’أخطر هيجان يهزُّ الأرض الأقدس في العصر الحديث’.
كانت سنوات الحرب بتوتّرها وإجهادها مُرهقة لشوقي أفندي. فهي السنوات التي لم يقم فيها بكتابة رسالته “قد جاء اليوم الموعود” وكتابه “القرن البديع” فحسب، بل وقام خلالها أيضًا – ومَنْ ذا الذي بمقدوره أن يُنْكِر أنه كان مصدر إيقاد متواصل لحماس البهائيين وتشجيعهم وشحذ هممهم مما صقل قدراتهم ودفعم نحو الانخراط في العمل والخدمة؟ – قام بمتابعة تنفيذ خمس سنوات من خطة السنوات السبع الأولى. وهي السنوات التي كان حضرته خلالها مصدر ارتياح وسلوى للعالم البهائي وألهمهم وجمع صفوفهم متّحدين، وأثناءها وسّع دائرة الأمر المبارك باطّراد، وعمل على تفتيح براعم حياة الجامعات المركزية وعمّق جذورها، وفيها دُشِّن العمل في المشروع الفريد لتشييد البناء الفوقي للصرح الذي يعلو مقام حضرة الباب، سنوات شهِدت فقدانه أفراد عائلة حضرة عبد البهاء بمن فيهم أفراد عائلته هو أيضًا بعد أن خاب فيهم الرجاء. كان وقتها يقترب من الخمسين وقد ابيضّ شعره عند صدغيه وتقوّست كتفاه من انكفائه الطويل على مكتبه. لم يكن قلبه حزينًا على كل ما لاقاه وكابده فحسب، بل أُجزم يقينًا بأنه مستنزف بما عاناه.
وبينما كانت أيام الانتداب البريطاني تقترب من نهايتها في 14 مايو/ أيار 1948، أخذ الوضع في فلسطين يزداد سوءًا باطّراد. فالبلد بأسره يجتاحه غليان الخوف والكراهية، وحوادث الإرهاب تتزايد باستمرار. العرب واليهود والإنكليز كلهم متورطون، وكل طرف منهم يدرك تمامًا أن ولي الأمر ينأى بنفسه تمامًا عن القضايا السياسية المطروحة، ولا نبالغ إذا قلنا بأنه كان يحظى باحترام عالمي – ولذلك تُرك وشأنه. إنها حقيقة لها أهميتها الكبرى ذلك لأنه خلال السنين، وخاصة الأشهر، التي سبقت نهاية الانتداب لم يكن هناك من بقعة محايدة فعليًا. فاليهود دأبوا على تقديم الأموال للدفاع عن الجالية اليهودية، وكذلك العرب للدفاع عن الجالية العربية. فكون ولي أمر الله قد تمكّن من توجيه الجامعة البهائية الصغيرة وسط أمواج الأخطار المتتابعة وعبر بها في تلك الأيام إلى برّ الأمان، ولم يُطالَب أثناءها بالدعم المالي لقضية إخوانه الشرقيين (وهم الذين يعلمون تمامًا أن حضرته قد وُلد وترعرع في تلك الديار)، إنما يشهد على علوّ كعبه وسموّ سمعته التي أسّسها ورفعها كرجل ذي مبدأ قويم وعزم مكين.
ومع كل ذلك فإنّ تَرْك شوقي أفندي وشأنه لا يعني أنه كان في منأى عن الخطر، أو أن الأمر الإلهي نفسه لم يكن في وضع خطير. فالأرض الواسعة التي يملكها الأمر حول المقام الأعلى لحضرة الباب، والتي لم يُشيَّد عليها أي بناء بعدُ، كانت المصدر الأكبر لقلق حضرته كونها محاطة بمساحات يشغلها العرب. فأي مساحات مكشوفة وأي أرض مشرفة كانت تُشكّل مصدر خوف لطَرَفَيْ النزاع من السكان الذين كثيرًا ما كانوا ضحايا القنّاصة وهدفًا للهجوم بالقنابل وإلقاء القنابل اليدوية، ولذلك كانت صدمة قوية لشوقي أفندي عندما اكتشف في أحد الأيام، وهو ينظر بمنظاره إلى جهة المقام الأعلى، أن جنودًا بريطانيين قد وضعوا مدفعًا رشاشًا في أرض نمتلكها تُشرف على طريق في نقطة هامة من الواضح أنهم شعروا أنها ستوفر لهم وضعًا جيدًا لإطلاق النار على أي مهاجم في الجوار. لقد أزالوه بعد ذلك، إلا أن الإنذار المزعج الذي شكّلته قد بقي ماثلاً، وهو خطر مخيف في أن نُقحَم بطريقة ما وعن غير قصد لنصبح إلى جانب دون الآخر ونتورط في أعمال القتل الجارية حولنا.
أذكر مناسبة أخرى مع عامل يهودي، غالبًا ما كان يقوم بعمل خاص بنا، عندما غادر لتوّه موقع المقام الأعلى، ثم جاء بعض العرب واستفسروا منا أين كان ذلك اليهودي – كان يمكن أن يُقتل لو وجدوه – فكم ستكون مروعة تَبِعاتُها لجامعة تقف بكل جوارحها ضد سفك الدماء الجاري في كل وقت، وتلتزم جانب الحياد التام في كل ما يجري من صراع سياسي. في أغلب الأحيان كان هناك إطلاق نار يتصاعد في كل مكان حول بيت المولى ويزداد أحيانًا ليتحوّل إلى معارك جانبية صغيرة. لم يحدث قطّ أنّ أحدًا أطلق النار علينا أو هاجمنا، إلا أن خطر إصابة أحدنا لم يكن أمرًا يُسْتَخفّ به. ولما تصاعدت أعمال الإرهاب، فإن مناطق محددة، بما فيها منطقتنا، كان يتمّ تعتيمُها في الليل اختياريًا، والشوارع لا تُضاء إطلاقًا. وعندما تقع معارك ضارية أو تُنفّذ عمليات إرهابية كبيرة كان يُفرض منع التجوال في النهار ولا يُسمح بالتحرُّك إلا للقوات البريطانية بدباباتها الضخمة وهي تعبر الشوارع المهجورة بضجيجها الصاخب، وغالبًا ما كانت تطلق نيران مدافعها الرشاشة عشوائيًا أثناء سيرها. كان نُواح صفارات الإنذار يحمل معه الرعب والخوف والبشاعة المقززة. وإذا ما جنّ الليل أصبح الوضع مرعبًا حقًا لأُناس سبق وأن تَلِفَتْ أعصابُهم وباتوا كأنهم يعيشون على حافة بركان قد ينفجر ثَوَرانًا في أي لحظة.
في كل تلك الظروف والأوقات كان شوقي أفندي يصعد جبل الكرمل كل يوم كالمعتاد لمزاولة عمله وواجباته؛ يشرف على الأعمال في الحدائق، يزور المقامات ثم يعود إلى المنزل قبل حلول الظلام. خلال تلك الفترة بكاملها أذكر مناسبة أو اثنتين فقط عندما كان منع التجوال مفروضًا بسبب الأوضاع ولم يتمكّن حضرته من القيام بجولته اليومية. في أحد الأيام، بينما كانت السيدة ويدن تقود سيارة حضرته وهو متوجِّه إلى المقامات (وكان سائقنا العربي قد غادر البلاد)، كانت تسير خلفه سيارتان. أطلقت سيارة النار على السيارة التي أمامها مما جعلها تسرع فجأة وتتجاوز سيارة ولي الأمر وبذلك أصبحت سيارة حضرته بين السيارتين، وسرعان ما لحقت بها السيارة الأخرى وتجاوزت سيارة حضرته لتمضي إلى معركتها الخاصة. يمكن للمرء أن يتخيّل شعورنا عندما سمعنا بهذه الحادثة فيما بعد! ومع كل ذلك لم يكن بمقدورنا فعل شيء. كل من عاش في تجارب كهذه يدرك أن شيئيْن فقط يمكن فعلهما في مثل تلك الظروف إما المغادرة أو البقاء ومتابعة العمل كالمعتاد، وهذا ما فعلناه، فقد اخترنا البقاء. والمقتطف التالي من أحد يومياتي الذي كتبتُه في 22 فبراير/ شباط 1948 هو أفضل ما يصوّر الوضع الذي عشناه في ذلك الوقت: ‘نحن نعرف أن عين حضرة بهاء الله ترعانا، إلا أنه نظرًا لكوننا بشرًا فمن الطبيعي أن نمرّ بلحظات من القلق مثلما يحدث عندما تندلع نيران المواجهات في كل مكان في المدينة وولي الأمر المحبوب لم ينزل بعدُ من المقامات وقد أغلقت الطريق وعليه أن يعود إلى المنزل مشيًا على الأقدام – عندها ندرك أن الأمر في قبضة حضرة بهاء الله ليس إلا… ولا أبالغ إذا قلت إنه لا يمرّ ليل دون إطلاق نار. يستمر أحيانًا طوال الليل أو يأتي متقطّعًا، ولكن سرعان ما تجد نفسك تَغُطّ في النوم على صوته إلا من صوت انفجار قنبلة…’
ومع ذلك، ليس بسبب هذه الأخطار كان النوم عند شوقي أفندي عزيز المنال في الليالي، فجلّ اهتمامه كان مُنْصَبًّا على حماية المرقديْن المقدسيْن التوأم [في البهجة بجوار عكاء وفي حيفا]. إذ عندما انتهى الانتداب البريطاني واندلعت الحرب بين العرب واليهود أصبح هناك خطر حقيقي يتهددهما بالفعل مسببًا لحضرته قلقًا شديدًا. فقد كانت البهجة على بُعد حوالي خمسة عشر ميلاً فقط [24 كيلومترًا] عن الحدود التي يمكن أن تتدفّق عبرها قوات غازية في أيّ لحظة…
إذا كان لأحدنا أن يَعْجَب كيف لولي الأمر المُلْهَم إلهيًا أن يكون على هذه الشدة من القلق تجاه أُمور كهذه، أودّ هنا أن أعطي تفسيرًا لهذا الموضوع من منطلق مفهومي الخاص. يبدو لي أن هناك عوامل ثلاثة تؤثر في معظم الأوضاع والمواقف: مشيئة الله، التي تحمل في طيّاتها ألْطاف الله واقتداره والقَدَر الذي قدره للإنسان – ومن شأنها أن تصوّب في النهاية كل الأخطاء والزلاّت؛ ثم عامل المفاجأة العَرَضية التي قال عنها حضرة عبد البهاء بأنها متأصلة في الطبيعة؛ ثم عامل إرادة الفرد الحرة ومسؤوليته. فلو أخذنا كل هذه العوامل بالاعتبار فلن تدهشنا شدة اهتمام ولي الأمر وقلقه على أي وضع يمكن أن يؤثر على مصالح الأمر المبارك وحمايته، وأن نراه يفكّر مليًّا وبقلق في كل ما يواجهه من مشاكل ومعضلات ساعيًا إلى ضمان أن الحلّ السليم قد وُجد، وأن الفرصة الأفضل قد انتُهزت، والمنفعة الأعظم لأمر الله قد أُحرزت.
كثيرًا ما أشار شوقي أفندي إلى الحماية المعجزة التي أحاطت بالمركز العالمي في فترة الاضطرابات والأخطار التي أعقبت انتهاء الانتداب البريطاني. إن قائمة المخاطر التي تمّ تجنُّبها، وما شهدته هذه الفترة من إنجازات – التي أوردها حضرته في برقية أُرسلت إلى مؤتمر الوكلاء المركزي في أمريكا في 25 إبريل/ نيسان 1949 – كانت كافية لأن تعطينا لمحة عن شدّة القلق الذي عاناه حضرته وفداحة الملمّات التي عصفت به. ونسخة هذه البرقية التي نُشرت بيّنت كم كانت عظيمة ‘شواهد العناية الإلهية التي أُسبِغَت على المركز العالمي للدين على مدار السنة الثالثة من خطة السنوات السبع الثانية’، واسترسل قائلاً: ‘إن العداء التخريبي الذي طال أمده في الأرض الأقدس قد انتهى بفضل العناية الإلهية، والأماكن المقدسة البهائية قد سَلِمتْ بإعجاز على عكس الأماكن التي تعود للديانات الأخرى. كما أن المخاطر التي لم تكن بأقلَّ من تلك التي هدّدت المركز العالمي للدين تحت حكم عبد الحميد جمال باشا وفي ظلّ مطامع هتلر للاستيلاء على الشرق الأدنى قد تمّ تجنّبها…’.
في السنوات التي أعقبت الحرب، بينما تضاعفت انتصارات الأحباء التي أُحرزت، وبرزت هيئة الأمم المتحدة إلى حيّز الوجود – أقوى أداة جبّارة على الإطلاق ابتكرها العالم لصنع السلام – تأمّل الكثير منا بلا شك، وبيقين مفعم بالرجاء، بأننا خلّفنا وراءنا أسوأ مرحلة من تاريخ الإنسانية الطويل في الحروب، وأن بإمكاننا الآن أن نتبيّن الخيوط الأولى لنور ذلك الفجر، الذي نعتقد اعتقادًا راسخًا، نحن البهائيون، بأن هذا ما ينتظره العالم. إلا أن العقل الرزين المُلهَم لولي الأمر لم يرَ الأحداث من هذا المنظار. فحتى أواخر أيام حياته استمر في ترديد نفس الملاحظة القائمة على كلمات حضرة بهاء الله، والتي كثيرًا ما كان يكررها قبل الحرب: ‘المستقبل البعيد مشرق جدًا إلا أن القريب منه حالك الظلام.’
من بين رسائل التشجيع التي كان يرسلها شوقي أفندي مرارًا إلى البهائيين في جميع أنحاء العالم، وعبارات الإطراء على خدماتهم الرائعة التي يقدمونها، وخططه التي ابتكرها لهم بمثل هذا التفصيل من أجل أن يقوموا على متابعة تنفيذها، كانت هناك رسائل تتكرر فيها من وقت لآخر إشارت النذير والتحذير. في عام 1947 صرح حضرته بأن البهائيين حتى الآن مؤيَّدون بسخاء ليتابعوا تقدُّمهم ‘لا تحرفهم التيارات المتضاربة ولا الرياح العاصفة التي يتحتّم بالضرورة أن تهزّ المجتمع الإنساني بشكل متزايد قبل أن تحين ساعة خلاصه النهائي…’ في ذلك التصريح يحثّ ولي الأمر الجامعة البهائية الأمريكية أن ينهضوا قُدُمًا نحو خدمات هي الأبرز والأهم في خطة السنوات السبع الثانية الخاصة بهم، وتكلّم عن المستقبل قائلاً: ‘بينما الوضع العالمي يزداد سوءًا، ومصائر البشرية تتدهور نحو الأسوأ… وبينما نسيج مجتمع اليوم تُنْسَلُ خيوطه وتتقطّع تحت وطأة أحداث وكوارث هائلة، وبينما التصدعات والانشقاقات التي تكشف عن انقسام دولة عن دولة، وطبقة عن طبقة، وعرق عن عرق، وعقيدة عن عقيدة، تتضاعف…’ فمهما حاولنا أن نبسِّط الوضع، وبقينا ندير ظهورنا عن ماضينا التعيس، تبقى هناك ‘أزمة تتعمّق باطّراد’ بل إن حضرته في مارس/ آذار 1948، ذهب إلى أبعد من هذا في محادثة سجّلتُها في يومياتي: ‘حدّثني شوقي أفندي هذه الليلة ببعض الأمور المثيرة جدًا للاهتمام: قال إنه بوجه عام من الغباء أن نقول بأنه لن تنشُبَ حرب أخرى على وقْعِ الظروف الراهنة، ومن الغباء أيضًا أن نقول بأنه لو نشبت حرب أخرى فلن تُستَخدم فيها القنبلة الذرية. لذلك علينا أن نعتقد بإمكانية نشوب الحرب، وأنها ستستخدم، وسيكون هناك دمار مروع. إلا أن البهائيين، كما يشعر حضرته، سوف يخرجون من المحنة ليشكّلوا نواة الحضارة العالمية المستقبلية. وليس من الصواب، كما صرّح أيضًا، أن نقول بأن الصالح سيهلك بعروة الطالح لأن الكل طالحون إلى حدٍّ ما. فالإنسانية كلها هي المُلامة بسبب تجاهلها وإنكارها حضرة بهاء الله بعد أن كرّر إعلان رسالته إلى كل مخلوق بصوت مدوٍّ. وقال أيضًا بأن القدّيسين في أديرتهم، والآثمين في أسوأ ملاهي الترف والمجون في أوروبا كلهم خطاة لأنهم رفضوا كلمة الحقِّ. وقال من الخطأ أن نظن، كما يعتقد بعض البهائيين، بأن الخيِّر سيذهب بذنب الشرّير، فالناس جميعًا يُعتبرون أشرارًا لأنهم أنكروا الله في هذا اليوم وأعرضوا عنه. قال، بل بإمكاننا أن نؤمن فقط أنه بطريقة ما خفيّة سيبقى هناك ما يكفي لبناء المستقبل رغم ما سيحصل من خراب ودمار مروّع.’
في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة نفسها كتب إلى الأحباء الأمريكيين من جديد حاثًّا إياهم على المواظبة على تنفيذ أهداف خطتهم، وقال: ‘بينما التهديد يتنامي باضطرابات أشد عنفًا تتأهّب لتُغِير على عصر تزداد آلام مخاضه، وصراع آخر، مقدّر له أن يشارك مشاركة متميزة وربما حاسمة في ميلاد النظام الجديد الذي لا بدّ له أن يشير إلى مجيء الصلح الأصغر، نراه يفرد جناحيه فيجعل أفق العالم مظلمًا… ودمدمة كوارث لا تزال أشدّ هولاً تهزُّ، بوتيرة متزايدة، عالمًا يئنّ تحت وطأة الإجهاد المرير والفوضى… وهكذا، فإن كل درجة في تفاقم وضع عالم لا يزال يُنهِكه صراع مدمّر، ونراه الآن يحوم حول حافة صراع أشد خطورة، لا بدّ أن يُواكبها ظهورٌ أعظم نُبلاً لروح هذا الجهاد الروحاني الثاني…’ وفي الشهر نفسه أشار حضرته إلى ‘الأزمات المستفحلة التي تنذر بتهديدٍ أبعدَ في مداه يخلّ بتوازن مجتمع متشنجٍ سياسيًا، منهار اقتصاديًا، مفكك اجتماعيًا، منحطّ أخلاقيًا ويحتضر روحانيًا.’ وذهب في القول ليتحدّث عن ‘دمدمات أوّلية تُنذِر بكارثة ثالثة تطوِّق العالم بنصفيه الشرقي والغربي.’ وقال: ‘إن صورة العالم تزداد قتامةً باطّراد.’ وحثّ الأحباء على أن ‘ينطلقوا قُدُمًا نحو المستقبل مطمئنين واثقين بأن ساعة ذروة جهودهم، والفرصة السامية لأعظم أعمالهم البطولية، يجب أن تتزامن مع الزلزال الهائل الموعود الذي يشير إلى أدنى درجة من الانحطاط تهوي إليها مصائر البشرية.’
واستمرت الكلمات في الرسالة ذاكرةً الانتصارات التي حقّقناها وعبارات الثناء والتشجيع، ومدى سرور ولي الأمر وابتهاجه – ثم عبارات التحذير. وفي عام 1950 أخبر الأحباء بأن عليهم ‘ألاّ يهابوا’ أخطار ‘تفاقُم تداعي الوضع العالمي’. وفي عام 1951 أعلم المؤتمر التبليغي الأوروبي بأن ‘الأخطار’ التي تجابه تلك ‘القارة الممتحنة ببلايا شديدة’ في ‘تصاعد مطّرد’. إلا أنه في عام 1954 كُتبت رسالة كانت حقًا هي الأخطر والأكثر إثارة للتفكر حيث أسهب شوقي أفندي في موضوع صراع مستقبلي؛ مسبباته، مجراه، نتائجه وتأثيره على أمريكا بتفصيل أوسع وبلغة أشدّ وأقوى مما سبق أن كتب. فهو يربط ‘المادّية السرطانية’ ‘المفرطة’ المتفشّية في جسد عالم اليوم بإنذارات حضرة بهاء الله، ويصرّح بأن حضرته قارنه بـ’نار مدمِّرة’ واعتبره ‘العامل الرئيس في تعجيل حدوث محن رهيبة وأزمات تزلزل أركان العالم وتؤدي حتمًا إلى احتراق المدن وانتشار الإرهاب والذعر في قلوب البشر.’ ويمضي شوقي أفندي في قوله: ‘حقًا إن الخراب والدمار الذي سوف تُلحقه هذه النيران المحرقة بالعالم، والتي بها ستحترق مدن الأمم المشارِكة في هذا الصراع المأساوي الذي يطوّق العالم، قد خَبِرْنا جزءًا يسيرًا منه في الحرب العالمية الأخيرة، التي كانت المرحلة الثانية لدمار عالمي لا بدّ لإنسانية، نسيت خالقها تمامًا وغفلت عن الإنذارات الصريحة التي نطق بها الحق على لسان رسوله لهذا اليوم، أن تُبتلى به بكل أسف.’
فالرسالة التي عبّرت عن هذه التنبؤات الرهيبة كانت موجّهة إلى الأحباء الأمريكيين، وفيها يشير ولي الأمر إلى أن التدهور العام في وضع ‘عالم حائر’، وتَضاعُف الأسلحة ذات القدرة التدميرية المتزايدة، وهما أمران ساهم فيهما الجانبان المنخرطان في نزاع عالمي – ‘وقد وقعا في دوامة الخوف والريبة والكراهية’ وبقيا فيها – إنما يؤثر ذلك على بلدهم بشكل متزايد وسيؤدي حتمًا، إذا لم تعالَج الأمور، إلى أن ‘يُزَجَّ بالأمة الأمريكية في كارثة لا يُمكن حتى تخيُّل أبعادها ولا حتى التنبؤ بعُقباها على بُنية المجتمع وعلى معايير ووعي الشعب الأمريكي وحكومته… فمهما كانت الزاوية التي ينظر منها المراقب للمُقَدَّر لها قريبًا فإن… الأمّة الأمريكية… تقف حقًا وسط أخطار مهلكة. ويمكن تجنُّب ما يتهددها من بلايا ومحن جزئيًا، إلا أنها في معظمها قَدَرٌ محتوم من عند الله…’ ويمضي حضرته ليبيِّن التغييرات التي لا بدّ أن تُحْدِثها تلك الويلات المتعذّر تجنبها في ‘عقيدة السيادة الوطنية المطلقة الآيلة إلى الزوال’، التي ما زالت حكومتها وشعبها يتمسكون بها ويقفون عندها، والتي هي ‘على تباين واضح وحاجات عالم تقلّص واختُصر إلى حيٍّ صغير ويصرخ مطالبًا بالوحدة والاتحاد’، ومن خلالها ستجد هذه الأمة نفسها وقد تطهّرت مما علِق بها من مفاهيم عفا عليها الزمن وغدت مهيأة لدورها العظيم الذي تنبّأ به حضرة عبد البهاء في تأسيس الصلح الأصغر. ‘فالاضطرابات المحمومة’ القادمة لن تعمل فقط على ‘الْتحام الأمة الأمريكية بأخواتها من الأمم في نصفي الكرة الأرضية’ فحسب، بل وستعمل أيضًا على تطهيرها من ‘الخَبَثِ والشوائب المتراكمة التي تكافلت كلّ من التفرقة العنصرية، والمادّية المفرطة، وانعدام التقوى، وتفشي الكفر والانحلال الخلقي، مجتمعةً، وعلى مدى أجيال متعاقبة، لِتُحدِثها، فمَنَعَتْها من أداء دورها في قيادة العالم روحانيًا كما تنبّأ به قلم حضرة عبد البهاء المعصوم – دور عليها أن تؤدّيه قسرًا عبر ثنايا الأسى والمعاناة.’
خلال آخر شتاء في حياته، وقد بدا كأنه مُرهق نتيجة كفاحه الطويل مع مَواطن ضعفنا، ومن سنوات كَدّه المتواصل وتفانيه الكامل، تكلّم ولي الأمر عن هذا الموضوع بلهجة أشدّ وأقوى مما سمعتُها منه من قبل. لم يكن موضوعه مقصورًا على التحذير مما يخبئه المستقبل فحسب، بل وفي تقييمه الصارم لفشل البهائيين – جميعهم شرقًا وغربًا – في الانطلاق قدمًا بأعداد كافية لأداء مهمتهم العظيمة في تبليغ أمر الله طولاً وعرضًا في الأقاليم والجزر المفتوحة حديثًا من الكرة الأرضية بينما لا زال هناك الوقت والفرصة السانحة للقيام بذلك، فيخلقون بالتالي، بفضل الزيادة الكبيرة في نفوس أتباع الدين، تلك الأَنْوِيَة الروحانية التي بإمكانها أن تجابه قوى الهدم التي تعمل في المجتمع الإنساني اليوم، ويشكّلون مِهادًا صالحة لنمو بذور النظام العالمي للمستقبل الذي نؤمن بكل حزم أن باستطاعته، بل ويجب أن يبرز من بطون الفوضى الحالية.
لا بأس أن يصيبنا الذعر ولكن دون أن يأخذنا العجز والجمود. ففي إحدى رسائله الأخيرة إلى محفل روحاني مركزي في أوروبا في أغسطس/ آب 1957 كتب سكرتيره بالنيابة عنه: ‘لا يريد من الأحباء أن يأخذهم الخوف، أو أن يعيشوا جوّ الاحتمالات البغيضة للمستقبل. عليهم أن يدركوا أنّهم إذا ما أدّوا دورهم وأحرزوا أهدافهم في خطة السنوات العشر، بإمكانهم أن يطمئنوا إلى أن الله سوف يقوم بدوره ويكلأهم بعين رعايته.’ إن سياسة البهائيين في هذا الوقت من أزمات العالم قد توضّحت في رسالة أخرى لحضرته كُتبت قبل شهر موجّهة إلى أحد المحافل الروحانية المركزية في إفريقيا موضّحًا فيها سكرتيره بالنيابة عنه بأنه: ‘لما كان الوضع في العالم يتجه نحو الأسوأ باطّراد كما هو في منطقتكم أيضًا، فلا وقت يضيّعه الأحباء في الارتقاء إلى مستويات أعلى من التفاني والخدمة والوعي الروحاني على وجه الخصوص. إنه واجبنا تقديم نهج الخلاص لأكبر عدد ممكن من أبناء جنسنا بقدر ما نستطيع، من الذين استنارت قلوبهم قبل أن تباغتهم كارثة كبرى، فإما أن تبتلعهم مأيوسين أو ينجون منها مطهّرين أقوياء جاهزين للخدمة. فكلما ازداد عدد الأحباء الذين يقفون منارات للهدى وسط الظلمة متى حلّت، كلما كان أفضل. لهذا فإن الأهمية العظمى لأعمال التبليغ تبرز في هذا الوقت.’
وكان شوقي أفندي قد أشار في وقت سابق إلى أنه ‘مهما كانت التحديات قاسية، ومهما كانت المهمات مضاعفة، ومهما كان الوقت قصيرًا، ومهما بدت أوضاع العالم قاتمة، ومهما كانت المصادر المادية محدودة لجامعة لا زالت فتيّة مُثْقلة بالضغوط، فإن مصادر القوة السماوية التي يمكن أن تستمطرها لامحدودة في قوة نفوذها، وستنهمر مؤثراتها الباعثة على النشاط دون تردُّد إذا ما بُذلت الجهود اليومية اللازمة وقُدمت التضحيات المطلوبة عن طيب خاطر.’ كثيرة جدًا هي الأمور التي يتوقف علينا إنجازها، وما يعتمد تحقيقُه على الله فلنتركه له تعالى بكل ثقة طالما بذلنا أقصى جهدنا.
ونحن جيل الفجر الذي يسبق طلوع شمس هذا اليوم الجديد، لو سألنا أنفسنا لماذا يجب أن تواجهنا كوارث كهذه في تلك الأوقات؟ سنجد الإجابات كلها هناك وقد جاءت واضحة جدًا من ولي الأمر في شروحاته العظيمة لمغزى تعاليمنا ومضامينها. وكما علّمنا فإن عاملين يعملان معًا: الأول تضمّنته كلمات حضرة بهاء الله “عمّا قريب سوف يُطوى بساط العالم ويبسط بساط آخر.”[11] فتمزيق وإزالة غطاء طالما احتمت به وأجلّته مجتمعات لا عِدَّ لها وكلٌّ جعله جزءًا أصيلاً من عاداته ومعتقداته الخرافية وتعصُّباته، ووضعُ إطار عالمي جديد للوجود مكانه، إنما هي عملية مؤلمة للغاية حتما وليس لغير الله القدير أن يتعهّدها. حتى إن حالة البشر الفكرية والروحية قد جعلت الوضع أكثر إيلامًا؛ فبعض المجتمعات هم ضحايا ‘العلمانية المفرطة – مُنتَج اللادينية المباشر’، والبعض في قبضة ‘المادية والعنصرية الفاضحة’ التي قال عنها شوقي أفندي بأنها هي التي ‘اغتصبت حقوق الله نفسه’. إلا أن الكل – كل شعوب الأرض قاطبة – مذنبون لأنهم لأكثر من قرن ‘رفضوا الاعتراف بظهور مَن وُعدت به جميع الأديان، والذي بدينه وحده يمكن لجميع الأمم بل ويجب أن تنشُد خلاصها الحقيقي في النهاية.’ إنه أساسًا بسبب هذا الدين الجديد، هذه ‘الجوهرة النفيسة للظهور الإلهي التي تجلت فيها روح الله، وتجسّدت غايته لعموم الجنس البشري في هذا العصر’، كما وصفه شوقي أفندي، أن كان للعالم أن ‘يعاني العذاب’. وقد تفضل حضرة بهاء الله نفسه “قد اضطرب النظْم من هذا النظم الأعظم“[12]، “آثار الهرج والمرج مشهودة لأن الأسباب حاليًا لا تبدو مناسبة”[13]، “إنّ العالم منقلب ويزداد انقلابه يومًا فيومًا، ووجهه متوجّه نحو الغفلة واللامذهبية. وهذا الأمر سيشتدّ ويزداد على شأن لا يقتضي الحال ذكره، وستمضي الأيام على هذا النهج مدة طويلة. وإذا تم الميقات يظهر بغتةً ما يرتعد به فرائص العالم. إذًا ترتفع الأعلام وتغرّد العنادل على الأفنان“[14]، “عما قريب سوف تتغير كل حكومات الأرض ويعمّ الظلم العالم وبعد الشدة العامة تشرق شمس العدل من أفق ملكوت الغيب.”[15]
ومهما يكن من أمر، كم هي مثيرة رؤيتنا للمستقبل كما رسمه لنا شوقي أفندي بكلماته النيّرة على شأن يزيل كل خوف ويملأ قلب كل بهائي بذاك المستوى من الثقة والابتهاج بحيث لن يُضعِفَ إيمانَه أو يُحطِّم آمالَه أيُّ قدْر من المعاناة والحرمان المتوقّعيْن مهما كانا. فقد كتب حضرته قائلاً: ‘والواقع، إن العالم يمضي الى مصيره المحتوم. فاعتماد الأمم بعضها على بعض وترابط شعوب الأرض حقيقة واقعة مهما قال زعماء دول العالم المختلفة أو فعلوا.’ وما رابطة شعوب العالم ‘المقدّر لها أن تخرج إلى حيّز الوجود، إن عاجلاً أو آجلاً، من وسط مجازر هذا الاضطراب العالمي الساحق وكَرْبه وخرابه’، إلا تلك النتيجة الحتمية لعمل تلك القوى. ففي المقدمة يأتي الصلح الأصغر الذي ستقوم على تأسيسه أمم الأرض بنفسها غير واعية بعدُ بظهور حضرة بهاء الله؛ ‘فهذه الخطوة الجبّارة والتاريخية المنطوية على إعادة بناء الجنس البشري كنتيجة لإيمانه العام بوحدته وكليّته سوف تستتبع اكتساب الجماهير للروحانية نتيجة الاعتراف بدين حضرة بهاء الله والإقرار بمطالبه – وهذه الحال هي عينها اللازمة لصهر الأجناس والعقائد والطبقات والأمم، ذلك الانصهار الذي يشير الى انبثاق نظامه العالمي في حيز الوجود.’ ويمضي في قوله ‘هنالك يتم الإعلان عن بلوغ الجنس البشري قاطبة وتحتفل به كافة شعوب الأرض وأممها، وهنالك تُرفع راية الصلح الأعظم، وهنالك يُعترَف بسلطنة حضرة بهاء الله… على العالم بأكمله، ويُهلل لها، وتتأسس أركانها بكل ثبات. وعندئذٍ تُولَد حضارة عالمية تزدهر وتدوم، حضارة مفعمة بالحياة لم يشهد العالم شبهها أو حتى يمكن تصوُّرها… حينها يكون الكوكب، وقد جلّله إيمان سكانه بإله واحد والولاء لظهور إلهي واحد… بمثابة… ملكوت الله على الأرض القادر على تحقيق ذلك المصير الذي يفوق الوصف الذي قدّره الخالق له منذ الأزل ببالغ حكمته ومحبته.’
[1] S. S. Rex.
[2] وردت هذه الجملة في الطبعة الأولى للكتاب عام 1969 وقد آثرنا وضعها لتوضيح الجملة التي بعدها.
[3] Menton.
[4] St. Malo.
[5] Southhampton.
[6] S. S. Cape Town Castle.
[7] Stanleyville.
[8] كتاب “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، فقرة 61، ص 48، طبعة ثانية سنة 2006م.
[9] رمال الساعة أي الساعة الرملية التي كانت تستعمل سابقًا.
[10] ڤيشي هو رئيس الحكومة الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية، وحليف ألمانيا النازيّة.
[11] “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، الفقرة 4، ص 2، الطبعة الثانية سنة 2006م. (ترجمة المترجميْن، الأصل فارسي)
[12] “الكتاب الأقدس، الفقرة 181.
[13] “مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله نزلت بعد الكتاب الأقدس، ص 152.
[14] “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، الفقرة 61، ص 83، الطبعة الثانية سنة 2006م. (ترجمة المترجميْن، الأصل فارسي)
[15] “ظهور حضرة بهاء الله، المجلد الثالث، صفحة 318.
في عصر عندما يلعب الناس فيه بالكلمات ككرة القدم ويتقاذفونها ذات اليمين وذات الشمال دون تمييز ولا احترام لمعانيها أو مراعاة لسلامة استخدامها، يبرز أسلوب شوقي أفندي في الكتابة بجماله الأخّاذ. إن سروره وابتهاجه وهو يصيغ العبارات ويكتب الكلمات يُعدّ واحدًا من أقوى مميّزات شخصيته، أَكَتَبَ باللغة الإنكليزية – التي أسْلَمَ لها قلبَه – أم بالمزج بين الفارسية والعربية اللتين اعتاد أن يخاطب بهما أهل الشرق في رسائله العامة. ومع أن شوقي أفندي كان في غاية البساطة في أذواقه الخاصة، إلا أنه كان يملك عشقًا فطريًا لكل ما هو نفيس وعريق. وقد ظهر هذا في أسلوبه بترتيب وتجميل الأماكن البهائية المقدسة على تنوعها، وفي طراز المقام الأعلى لحضرة الباب، وفي الطرز المعمارية التي كان يفضّلها، وفي انتقائه الكلمات المعبِّرة وصياغتها. ويمكن القول عنه، كما جاء في كلمات كاتب كبير آخر يدعى ماكولي[1] بأن حضرته ‘يكتب بلغة… دقيقة نورانية واضحة.’ وبخلاف غيره الكثيرين فإن شوقي أفندي قد كتب ما يعنيه وعنيَ بالضبط ما كتبه. من المستحيل أن نحذف كلمة من إحدى جُمله دون التضحية بجزء من معناها. أسلوبه في الكتابة غاية في الإيجاز والبلاغة، وكتاب مثل “القرن البديع” إنما هو في الحقيقة لُبابُ الجوهر. فمن ذلك السرد التاريخي الفريد لأحداث مائة سنة يمكنك تأليف خمسين كتابًا بكل سهولة دون أن يكون أحدهم سطحيًا في موضوعاته أو فقيرًا في مادته. كم هو غنيّ ذلك المصدر الذي وضعه ولي أمر الله أمام القارئ، وكم هي مركّزة معالجته لكل ما جاء فيه.
إن الأسلوب الذي كتب به شوقي أفندي، أكان لبهائيي الغرب أو الشرق، قد وضع لهم مقياسًا يوجب عليهم عدم الهبوط إلى مستوى أشباه المثقفين الذين يشكّلون غالبية الجيل الحالي بكل أسف فيما يخصّ اهتمامَهم بتقدير الكلمات وحُسْن استعمالها. لم يجارِ أبدًا جهل قُرّائه، بل كان يتوقع منهم أن يتغلّبوا على جهلهم بتعطُّشهم للمعرفة. درج شوقي أفندي، بكل ما لديه من مقدرة عالية، على اختيار الكلمات المعبِّرة عن أفكاره دون الأخذ باعتباره ما إذا كان الشخص العادي يستطيع فهمها أم لا. وعلى كلٍ فإن ما لا يعرفه المرء يمكنه أن يسعى إليه. ومع أنه كان يمسك بناصية اللغة ببراعة، إلا أنه بين الحين والآخر كان يراجع قاموس وبستر[2] الضخم، ليدقق في معنى كلمة يود استعمالها فيدعم معرفته بها باليقين، وغالبًا ما كانت إحدى مهامّي أن أناوله القاموس. كان حقًا مُجلّدًا ثقيل الوزن! كثيرًا ما كانت الكلمة التي يختارها تأخذ المعنى الثالث أو الرابع في قاموس اللغة، وأحيانًا تأخذ معنى إما قديمًا أو نادر الاستعمال، إلا أنه يجدها الكلمة المناسبة تمامًا في نقل المعنى الذي يريده فيبادر إلى استعمالها. أتذكر ما قالته لي والدتي يومًا: أن تصبح بهائيًا يعني كمن يدخل جامعة، إلا أنه لن يُنهي تعليمه ولن يتخرّج أبدًا. في ترجماته للكتابات البهائية، وفوق كل ذلك في مؤلفاته الخاصة، وضع شوقي أفندي نهجًا قياسيًا يمدّ القارئ بالمعرفة ويرفع مستواه الثقافي، ويغذّي في الوقت نفسه عقله وروحه بالأفكار والحقائق.
منذ بداية حياتي مع ولي الأمر وحتى منتهاها، كنت حاضرة معه بشكل شبه دائم حين تَرجم أو ألّف كتبه وكتب رسائله الطويلة وبرقياته باللغة الإنكليزية. ولا غرابة في هذا، فقد كان يحب أن يتواجد شخص ما في الغرفة في تلك الأوقات حتى يستمع إلى ما كان يكتب. فطريقته في الإنشاء كانت، بالنسبة لي، جديدة جذّابة وآسرة. كان حينما يكتب ينطق الكلمات بصوت عال. أظن أنها عادةٌ حملها معه من الفارسية واستعملها في الإنكليزية. فالإنشاء الفارسي والعربي الجيّد ليس فقط يمكنه أن يُتلى بلحن بل ويجب أن يكون كذلك. يتذكر المرء كيف أن حضرة الباب وهو ينزّل سورة “قيوم الأسماء” كان يتلو ما ينزله بصوت عالٍ، كما أن تنزيل ألواح حضرة بهاء الله كان بالطريقة نفسها. هكذا كانت عادة ولي الأمر في الكتابة بالإنكليزية والفارسية على السواء، ولهذا السبب كما أعتقد كانت جُمَلُهُ، حتى الطويلة منها والمتداخلة، تبدو أكثر انسيابًا وتفهُّمًا عندما تُقرَأ بصوت عالٍ. وعندما كنت أحيانًا أُعلِّق على طول بعض هذه الجُمَل كان شوقي أفندي يرفع رأسه وينظر إليَّ بعينيه الرائعتين، اللتين تتغيّران في اللون والتعبير كثيرًا، وفيهما لمحة من التحدّي والإصرار – ويُبقي على جملته الطويلة! أذكر حالة واحدة فقط أقرّ فيها، بغير ارتياح، بأن الجملة كانت طويلة ولكنه أصرّ على إبقائها دون تغيير لأنها جاءت معبّرة عما يريد قوله تمامًا، ولكن مع الأسف الشديد كانت طويلة جدًا. ومن ناحية أخرى كان يحب أحيانًا استعمال جُمل قصيرة جدًا متتابعة تأتي مثل قرقعة السوط، وكان يلفت نظري إلى هذا التغيير في نمط الكتابة مبيّنًا كيف أن لكل نمط تأثيره، وكيف أن الجمع بين النمطين يُثري كامل الموضوع ويحقق نتائج مختلفة. كان في صياغة الجملة يميل بشدّة الى الجناس[3] الذي يكثر استعماله في اللغات الشرقية ولم يعد الآن شائع الاستعمال في اللغة الإنكليزية، وأفضل مثال على ذلك ما تعطينا الجملة التالية من تكرار كلمات فيها تبدأ بحرف (P) استخلصتُها من إحدى برقياته:
“Time pressing opportunity priceless potent aid providentially promised unfailing”
كان أسلوب شوقي أفندي في صياغة النصّ أشبه بفنان الفسيفساء الذي يبدع في تشكيل لوحته بقِطَعٍ منفصلة واضحة ومحدّدة. فلكل كلمة موقعها الخاص. وإذا ما صاغ جملة معقّدة، فلا يبادر إلى تغييرها بقصد ملاءمتها مع فكرة يريدها، مع أنها لا تنسجم مع التركيبة اللغوية للجملة بكاملها، بل كان يتمسك بها، ويبقى أحيانًا على هذا الحال عدة ساعات يردد العبارة إلى أن أشعر أنا بالإرهاق على الأقل وهو يجاهد في سبيل تطويعها لما يريده، ويقوم أثناءها بطباعة قِطَعِهِ الفسيفسائية، الواحدة تلو الأخرى إلى أن يجد الحل لمشكلته. يندر كما أذكر أنه تخلّى يومًا عن جملة وبدأ بأخرى جديدة. وثمة خاصّية أخرى في اختياره الكلمات؛ فهو لا يرى سببًا في تجنُّب استخدام أو التخلي عن استعمال كلمة شاع استخدامها بشكل سيء أو أنها أساءت للفكرة المقدّمة، بل كان يستخدمها بمعناها الصحيح والدقيق. لم يتخوّف من التكلم عن ‘هداية’ conversion)) الناس إلى الدين البهائي، أو أن يدعوهم بـ ’المهتدين’ converted)). لقد أثنى على ‘الروح التبشيرية’ للروّاد الأوائل في ‘ميادين الإرساليات الأجنبية’، وفي الوقت نفسه أوضح بأن لا رهبنة لدينا، ولا إرساليات تبشيرية، ولا نقدم المغريات، ولا نلجأ الى الضغط بأنواعه.
أذكر مرة عندما أعطاني شوقي أفندي مقالاً لأقرأه ورد في صحيفة إخبارية إنكليزية، يُلفِتُ النظر إلى اللغة البيروقراطية الآخذة في التطوّر خاصة في الولايات المتحدة، والتي فيها يُستعمل الأكثر والأكثر من الكلمات التي تنقل للقارئ الأقل والأقل من الدلالات والمعاني ومن شأنها فقط أن تحيّر القارئ وتربكه. كان شوقي أفندي يؤيّد تمامًا ما جاء في المقال! فالكلمات برأيه أدوات في غاية الدقّة. أذكر أيضًا ذلك التمييز الجميل الذي أورده في حديثه مع بعض الزائرين في دار ضيافة المسافرين الغربيين حين قال: ‘نحن متديِّنون ولكننا غير متعصبين.’
كثيرًا ما كانت لغة ولي الأمر تحلّق إلى مستويات شعرية سامية عظيمة. انظروا إلى مثل هذه الفقرات التي تتألّق كبريق زجاج الكاثدرائيات: ‘وإننا إذ نستعرض مشاهد هذا الفصل الأول من فصول الأحداث السامية، لنشاهد هيكل بطل أبطالها – وهو حضرة الباب – يلمع في أفق شيراز كالشهاب ليعبُر سماء إيران المعتمة مارقًا من الجنوب إلى الشمال، ثم يهوي بسرعة مأساوية ويفنى في سناء المجد. ونرى هالته، نجومًا كثيرة من الأبطال النشاوى بخمر الله، يشرقون في الأفق نفسه، ويسطعون بالنور المتوهّج ذاته، ويحترقون بتلك السرعة عينها. فيضيفون بدورهم قوة جديدة إلى تلك القوة المتزايدة التي يستجمعها بثبات دين الله الجديد.’[4] لقد وصف ولي الأمر حضرة الباب بـ ’ذلك الشاب أمير المجد’، ووصف استقرار عرشه على جبل الكرمل بقوله: ‘فلما انتهى كل شيء وأودعت بعد أمد طويل رفات المظهر الإلهي الشيرازي الشهيد مقرّها الأخير في صدر جبل الله المقدس، خلع حضرة عبد البهاء عمامته وخلع نعليه ونزع عباءته وانحنى بخشوع فوق التابوت وكان ما زال مفتوحًا، وشعره الفضيّ يتماوج حول رأسه وأسارير وجهه تتألّق بالبِشْر، ثم استراح بجبينه على حافّة التابوت الخشبي وشهق شهيقًا عاليًا ثم بكى بكاءً أبكى من كان حوله’، ‘أما الفترة الثانية… فتستمدّ إلهامها من شخص حضرة بهاء الله الشامخ فائقًا في قداسته، مُذْهِلاً في جلال قوته وقدرته، متفرّدًا في إشراق مجده الفائق’، ‘وسط الظلال القاتمة التي يزداد تجمُّعُها حولنا، يمكننا أن نتبين ومضات من سلطنة حضرة بهاء الله الملكوتية تظهر متلألئة في أفق التاريخ’، أو تلك الكلمات التي خاطب فيها الورقة المباركة العليا: ‘في أعماق قلوبنا شيّدنا لكِ أيتها الورقة العليا في الجنة الأبهى قصرًا منيرًا لن تقوّضه يد الزمان، ومقامًا سوف يُجسِّد محيّاكِ الجليل اللامثال أمدَ الدهر، ونصبًا تبقى فيه نار محبّتِكِ مشتعلة إلى الأبد’، أو هذه الكلمات التي ترسم صورة لعقاب الله في هذا اليوم: ‘في أعالي البحار، في الفضاء وعلى اليابسة، في جبهات القتال، في قصور الملوك والسلاطين وأكواخ البسطاء، وفي أعظم الحُرُمات قداسةً – دينية كانت أم علمانية – فإن شواهد قصاص الله وتأديبه الخفيّ ظاهرة واضحة. فصوت ناقوسه المدوّي يعلو باطّراد – مَحْرَقة لا تُوفّر أميرًا ولا وضيعًا، ولا رجلاً ولا امرأة، ولا صغيرًا أو كبيرًا.’ أو هذه الكلمات الخاصة بخدّام أمر الله البررة ‘لمثل هكذا رجال ونساء يمكن أن يُقال عنهم حقًا’ ‘كل الأوطان أوطانهم، وكل الأوطان غريبة عنهم.’ لأن مواطنتهم… هي في ملكوت حضرة بهاء الله، ومع أنهم راغبون في أن يأخذوا نصيبهم من متاع الدنيا الفانية ومباهجها الزائلة بأقصى ما يستطيعون، وتوّاقون إلى المشاركة في أي نشاطات تؤدي بهم إلى الثراء والحصول على البهجة والأمان في هذه الحياة، إلا أنهم لا يغفلون في كل وقت عن أنها مجرّدُ دارِ بَوَارٍ وعبور، وأنها مرحلة مختصرة جدًا لوجودهم، وأن الذين يعيشونها إنما هم حجّاج وعابرو سبيل ليس إلاّ، غاية ترحالهم مدينة الله، ووطنهم بلد لا يعدمه الفرح والابتهاج.’
إن قدرة قلم شوقي أفندي في الوصف أفضل ما تُرى في عبارات هي أشبه بالجواهر اختارها باللغة الإنكليزية ليصوّر لنا مقامَ حضرة بهاء الله. والكلمات التالية جميعها مُقتبسة من كتابات ولي الأمر ومختارة من عدة مصادر، ولكنني جمعتها هنا لتنقل للقارئ مدى اتساعها وقوتها الاستثنائيتين: ‘الأب الأبدي، رب الجنود، الاسم الأعظم، جمال القدم، القلم الأعلى، الاسم المكنون، الكنز المخزون، نور الأنوار، البحر الأعظم، سماء الرفعة، الأصل القديم، نير الآفاق، القاضي، المشرّع، مخلّص الإنسانية، منظّم الكوكب كله، موحّد بني الإنسان، فاتح العصر الألفي المُرْتَجى، مُبدِع النظام العالمي الجديد، مؤسس السلام الأعظم، منبع العدل الأعظم، معلن بلوغ النوع الإنساني سن الرشد، مُلهِم الحضارة العالمية ومؤسسها.’ وخذ أيضًا ترجمة شوقي أفندي الرائعة لألقاب كتلك التي أطلقت على حضرة عبد البهاء: “المنبع الرئيس لوحدة العالم الإنساني”، “راية الصلح الأعظم”، “غصن شريعة الله”.
عندما نهض أتباع حضرة عبد البهاء الأمريكيون لتنفيذ خطته كتب شوقي أفندي عنهم قائلاً: ‘بعملهم هذا هم يطوّقون العالم بهالة من مجد’، وماضون نحو ‘تزيين دروعهم بأوسمةُ انتصارات جديدة’. في رسالة الرضوان الأخيرة الموجّهة إلى العالم البهائي نجده يحثّ أتباع حضرة بهاء الله بكلمات فريدة في روعتها: ‘مرتدين درع حبّه، متشبّثين بكل حزم بدرع ميثاقه الجبار، ممتطين صهوة الاستقامة والثبات، رافعين عاليًا راية كلمة ربّ الجنود، معتمدين بالكُلّية على وعوده التي اتخذوها زادَهم الأفضل في رحلتهم، فليتوجهوا نحو تلك الميادين التي لم تُستكشف، وليوجّهوا خطاهم نحو تلك الأهداف التي لم تُحرز بعد، واثقين بأن ذاك الذي قادهم ليحرزوا انتصارات كهذه، ويدّخروا في خزائن ملكوته هكذا جوائز، سوف يتابع فيض عونه وتأييده في إثراء حقهم في البكورة الروحانية على شأن لا يمكن معه لعقل محدود أن يتخيله أو لقلب بشر أن يدركه.’
هناك الكثير الكثير من جوانب الحياة الأدبية لشوقي أفندي. بمقدوري أن أُسمّي على أصابع اليد الواحدة ما قرأه من كتب (غير كتب محبوبه غيبون) من أجل الراحة والاستجمام خلال السنوات العشرين التي قضيتها معه، مع أن قراءاته في فترة شبابه كانت مكثَّفة جدًا في مواضيع شتى. ويُعزى ذلك دون شك إلى حقيقة أنه بحلول عام 1937، عندما قَدِمْتُ إلى حيفا لآخذ مكاني في حياتي الجديدة، كان شوقي أفندي أصلاً مغمورًا بالكمّ الهائل المتزايد من المواضيع التي يتوجب عليه قراءتها بحكم عمله ومسؤولياته؛ من قبيل الرسائل الإخبارية، ومحاضر جلسات المحافل الروحانية المركزية، والنشرات الدورية، وما يأتيه بالبريد. وكان حتى أواخر أيام حياته، لو لم يقضِ يوميًا ساعتين أو ثلاثًا على الأقل في القراءة، لن يكون باستطاعته مجاراة متطلّبات عمله على الإطلاق؛ لقد قرأ في الطائرات والقطارات والحدائق وعلى مائدة الطعام عندما نكون بعيدين خارج حيفا، أما في حيفا فكان ينكبّ على مكتبه ساعة بعد ساعة إلى أن يُنهِكه التعب فيذهب إلى سريره ويجلس في فراشه ليتابع القراءة. كان دومًا على اطّلاع بالأخبار السياسية والتوجُّهات العالمية من خلال صحيفتَي التايمز والجروساليم بوست، وأحيانًا تلك الصحف الأوروبية اليومية المشهورة مثل صحيفة جنيف والطبعة التي تصدر في باريس لصحيفة نيويورك هيرالد تربيون. وقبل نشوب الحرب كان مشتركًا بالمجلة الإنكليزية “القرن التاسع عشر”[5] التي كانت تضم عدة مقالات حول الأوضاع الحالية، وهي المجلة الوحيدة على حدّ علمي التي كان يقرأها، إلا أنه وجد أن مستواها قد تدنّى بعد الحرب فتركها. غالبًا ما كانت تتردد على شفتيه كلمة: ‘تجاهل’. كان يتجاهل كل ما هو غير أساسي، ويتخلص سريعًا من كل ما هو ثانوي منحِّيًا جانبًا ما يعتبره توافه الحياة. اعتاد أن يتبع النهج نفسه عند تصفّح جريدته. كان يعرف تمامًا أي الصفحات تحمل أخبارًا يريد أن يتصفّحها من صحيفة التايمز – العناوين الرئيسة، أخبار العالم وفي مقدِّمتها مقالات المحررين –
فيُلقي نظرة سريعة عليها ثم يبدأ بأصابعه في اقتطاع المقالات التي يريد أن يتصفّحها أو تلك التي سيقرأها بعناية، ويُلقي بالباقي بعيدًا – لأنه صرَفَ عنه النظر! فالأمر لا يحتاج إلى كثير فِطنَةٍ لندرك أن ذلك الإجراء، إلى جانب أنه فعّال، ما هو إلا انعكاس للضغط الذهني الكبير الذي كان يعاني منه حضرته محاولاً إقصاء أعباء كثيرة، وحتى قصاصة ورق إضافية أصبحت بالنسبة إليه عبئًا. كان من العسير عليّ أن أجد فرصة لتصفُّح جريدة بكاملها أو قراءة أي شيء فيها، إلا من قصاصات طويلة واحدة تلو الأخرى كان يناولني إياها ويقول: ‘إقرئيها فهي مثيرة للاهتمام’، وعندها أجد نفسي أقرأ مناظرة جرت في مجلس العموم (البريطاني)، أو مقالة حاذقة تتناول الوضع السياسي، أو الاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة، أو مواضيع دينية… وهكذا. وكلها ملء راحة اليد غير مرتّبة فأحشوها في حقيبتي أو جيبي بانتظار فرصة سانحة بعيدة تمَكِّنني من إيجاد وقت لقراءتها.
كان نهج الكتابة عند ولي الأمر مثيرًا للاهتمام: ما كان يرغب في استعمال الورق ذي الحجم الكبير، وعادة ما كان يكتب كتبه ورسائله الطويلة على ورق ملاحظات صغير مسطّر [paper pad]، ويكتب كل إنشائه بخط يده. فإذا كانت المسودة الأولى كثيرة الشطب والتغيير، كان يجلس ويستنسخها كلها بصبر وأناة. كان يطبع كل ما يكتبه على آلةِ طابعةٍ محمولة صغيرة جدًا مستعمِلاً إصبعين فقط ومُجْريًا بعض التعديلات اللازمة أثناء الطباعة. وبهذا الأسلوب لا عجب أن نراه يُتْحِفنا بأعمال رفيعة مبهرة خَطَّها قلمه. وعندما يكتب بالفارسية كان يعطي سكرتيره نسخة أصلية نظيفة بخط يده ليقوم بنسخها بخط فارسي جميل حتى يرسلها ولي الأمر بعد ذلك إلى طهران. وما كان يثير اهتمامي دائمًا نمط كتابته للأحرف الإنكليزية الذي تطوّر إلى خط يميل قليلاً إلى اليسار بعد أن أصبح وليًا للأمر، ودائمًا ما كانت الأحرف تبدو قوية متقنة الانحناء وواضحة تسهل قراءتها. خط يده بالفارسية كان رائعًا، هناك عدد من الخطوط المتنوعة بالفارسية والعربية، إلا أن خطّه بالفارسية كان مختلفًا بعض الشيء عن نوع “الشكسته نستعليق” إذ نلمس في أحرفه جمالاً وإبداعًا، رشاقةً وقوّة كامنة فيها. على المرء أن يتذكر أن فن الخط هو أرفع الفنون التصويرية في البلدان الإسلامية، وكان الخط الجميل معيار التميّز للرجل المثقّف الذي يملك هذه الموهبة. فحضرة الباب وحضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء امتازوا بخطّهم الجميل، وكذلك شوقي أفندي الذي برهن على أهليته أيضًا لهذا الإرث البديع.
مع كل هذا، لم يكن ولي الأمر ليعمد الى المبالغة في التدقيق بالتفاصيل، فعندما كان يراجع صفحات كثيرة من الرسائل التي أقوم بإعدادها للمحافل الروحانية المركزية وتكون طويلة أحيانًا، كان يضع في الهوامش سلسلة من الإكسات (X, XX, XXX) من أجل أن أضيف هناك كلمة أو فكرة لم ترد. وعندما كان السكرتير ينتهي من كتابة الرسالة كان شوقي أفندي يبادر إلى كتابة ملاحظته بنفسه وهو يدور بها في الحواشي حول الصفحة، منتقلا من صفحة الى أخرى كما هو معمول به في الأسلوب الشرقي في حقيقة الأمر. ما أحاول قوله هنا أنه لم يكن يزعجه قَطُّ وجود أخطاء مُصحَّحة على نَصّ الرسالة بأكملها باللغة الإنكليزية طالما أن الفكرة الواردة فيها واضحة تمامًا.
ومهما قلنا، لا نستطيع مطلقًا أن نؤكد بشكل كافٍ على الأهمية القصوى التي تحتلّها تراجم شوقي أفندي ورسائله بالإنكليزية كون حضرته المبيّن الوحيد والمفسّر المعتمد للآثار المباركة الذي عيّنه حضرة عبد البهاء في ألواح وصاياه لهذا الغرض. هناك شواهد كثيرة على إمكانية حدوث التباس في المعنى المقصود لدى القارئ بسبب طبيعة المرونة في تركيبة الجمل باللغة الفارسية. فعندما اقترنت اللغة الإنكليزية السليمة المصاغة بعناية، والتي لا تحتمل في المقام الأول مثل ذلك الالتباس، بالعقل اللامع لشوقي أفندي ومقدرته كمبيّن ومفسّر للكلمة الإلهية، غدت ما يمكن تسميتها بحق الوسيلة لبلورة التعاليم الإلهية. وبالرجوع إلى تراجم شوقي أفندي باللغة الإنكليزية غالبًا ما كان يتوضح المعنى الأصلي لبيانات حضرة الباب أو حضرة بهاء الله أو حضرة عبد البهاء، وهكذا تُصان الكلمة الإلهية من زلل التفسير الخاطئ مستقبلاً. كان شديد الدقّة في الترجمة إلى أبعد الحدود، ويتأكّد بشكل قاطع أن الكلمات الإنكليزية التي يستعملها إنما تحمل المعنى الأصلي للفكرة أو الكلمة ولا تحيد عنه. يجب أن يكون الشخص ضليعًا بالفارسية والعربية حتى يدرك حقيقة ما فعله حضرته. فلدى قراءة بيان مبارك بلغته الأصلية مثلاً يجد المرء أن كلمة واحدة باللغة العربية عُرضة لأن تُترجم إلى الإنكليزية بكلمتين أو أكثر، وهكذا فإن شوقي أفندي في تركيبته الإنشائية للجمل باللغة الإنكليزية قد يختار بالتناوب واحدة من هذه الكلمات الثلاثة (power, strength, might) لتحلّ محلّ تلك الكلمة الواحدة [القوّة]، وتحقق الأفضل في المعنى، وبذلك يتجنب تكرار الكلمة نفسها مما يضفي على ترجمته أزهى الألوان البلاغية دون التضحية بالمعنى الحقيقي، بل ويعمل على تعزيزه حقًا. اعتاد أن يقول إن مترادفات الكلمات العربية تحمل في طياتها المعنى نفسه، أما في الإنكليزية فهناك دومًا ظلٌّ فارقٌ بسيط جدًا يجعلها قادرة على التعبير عن الفكرة على نحو أدق. وقال أيضًا إنه يعتقد أن قلّة من كتابات حضرة بهاء الله ذات الصبغة الصوفية والشعرية الرفيعة، لا يمكن ترجمتها إطلاقًا، لأن الترجمة في هذه الحالة يمكن أن تصبح عبارات منمّقة برونق بلاغِيٍّ مصطنع تُفقد الأصل جماله ومعناه وتعطي عنه انطباعًا خاطئًا تمامًا. وذات مرة – وهي للأسف كانت الوحيدة في حياتنا المرهقة والمشحونة بالعمل – قال لي شوقي أفندي بأنني الآن أعرف من اللغة الفارسية ما يكفيني لفهم النصّ الأصلي، وقرأ عليّ فقرة من لوح مبارك لحضرة بهاء الله وقال: ‘كيف يمكن للمرء أن يترجمه إلى الإنكليزية؟’ حاولنا ذلك مدة ساعتين، بمعنى أنه كان هو يحاول وأنا أتابعه عاجزة مرهقة، وكلما اقترحْتُ عليه جملة تؤدي المعنى المطلوب [في رأيي] كان يقول: ‘آه ولكن هذه ليست ترجمة! لا يمكنُكِ أن تغيّري أو تُسقطي كلمات وردت في الأصل وبكل سهولة تضعي ما تعتقدين أنه يطابق المعنى بالإنكليزية.’ وقد وضّح أن على المترجم أن يكون بمنتهى الأمانة للنص الأصلي، وهذا يعني أنه في بعض الحالات قد يكون ما يُصاغ بلغة أخرى يأتي أحيانًا رديئًا وحتى لا معنى له، ولما كانت كلمات حضرة بهاء الله دائمًا في غاية الروعة والسموّ والجمال فإن ترجمتها بهذا الأسلوب يجعلها غير ممكنة. وفي النهاية توقّف شوقي أفندي عن محاولة ترجمته تلك الفقرة وقال بأنه لا يعتقد أبدًا بإمكانية ترجمتها إلى الإنكليزية كما يليق وينبغي، وهذه الفقرة الواحدة كانت أبعد من أن تكون الأكثر غموضًا بين كتابات حضرة بهاء الله ذات الصبغة الصوفية.
أنا أعلم عن حالة واحدة فقط قال فيها شوقي أفندي بأنه أجرى تعديلاً طفيفًا على شيء ورد في النص الأصلي وكان ذلك عندما ترجم وصيّة حضرة عبد البهاء بعد صعوده مباشرة. كانت الجملة المعنية هي التي تشير إلى بيت العدل الأعظم، ‘وولي أمر الله هو الرئيس المقدس لهذا المجلس والعضو الأعظم الممتاز مدى الحياة’، فذكر بأنه استبدل العبارة الأصلية، ‘الذي لا ينعزل’ بـ ’مدى الحياة’، ولا شيء أظهر من هذه اللهجة الوادعة يمكن أن يكشف عن عمق تواضعه في علاقته ببيت العدل الأعظم.
كان ولي الأمر حريصًا جدًّا في كل ما يتعلّق بالنص الأصلي للكلمة الإلهية، ولم يعمد أبدًا إلى التوضيح أو التعليق على ترجمة إنكليزية لنصّ أصلي يُسَلَّم إليه (عندما لا تكون ترجمته) إلا بعد أن يتأكد من صحة الترجمة بمقابلتها بالنص الأصلي. كان شديد العناية في انتقاء الكلمات التي يستعملها في تعليقه على مختلف الأحداث في الأمر المبارك، رافضًا مثلاً تسمية شخص ما شهيدًا – وهو تعبير عن مقام – فقط لأنه قُتل، بينما يعتبر أحيانًا أُناسًا شهداء مع أنهم لم يموتوا قتلاً لأنه رأى أن طبيعة الظروف التي رافقت موتهم تتفق وظروف الشهادة.
هناك جانب آخر له أهميته القصوى في المقام الإلهي الذي أُسبِغ على شوقي أفندي كمبيّن للتعاليم المباركة. فهو لم يعمل على حماية الكلمة المقدسة من سوء الفهم أو التفسير فحسب، بل حافظ بكل عناية على علاقة الجوانب المختلفة للتعاليم المباركة وأهميتها لبعضها البعض أيضًا، إلى جانب ضمان سلامة المقام الحقيقي لكل من الشخصيات الرئيسة الثلاثة للدين البهائي. هناك مثال على ذلك يسترعي الانتباه عكسته رسالة للسيد أ. ل. م. نيقولاس[6]، وهو باحث فرنسي ترجم كتاب البيان لحضرة الباب إلى اللغة الفرنسية، ومن الصواب وصفه بأنه بابيٌّ. فعلى مدى سنوات عدة كان هذا الباحث يحمل انطباعًا بأن البهائيين تجاهلوا عظمة حضرة الباب وقلّلوا من شأن مقامه، وعندما اكتشف أن شوقي أفندي في كتاباته قد مجّد حضرة الباب وخلّد ذكراه في صفحات كتاب مثل “تاريخ النبيل”، وترجم كلمات حضرته إلى الإنكليزية مرارًا، فقد تغيّر موقف الباحث الفرنسي بالكلية، إذ في رسالة وجّهها لواحدة من الأحباء القدامى في فرنسا كتب يقول: ‘الآن يمكنني أن أموت مطمئنًا… المجد لشوقي أفندي الذي خفف من عذابي وهدّأ من قلقي. المجد له بما كشف عن حقيقة مقام السيد علي محمد الملقّب بالباب. أنا مرتاح تمامًا لدرجة أُقبّل فيها يديكِ اللتين خطّتا عنواني على المغلّف الذي حمل لي رسالة شوقي أفندي. أشكركِ أيتها الآنسة وأشكركِ من صميم قلبي.’
كان شوقي أفندي جلودًا وعمليًا في إقدامه على عمله، ولعدّة سنوات دأبَ على إرسال تراجمه ومخطوطاته إلى جورج تاونزند[7]، الذي كان حضرته يكنُّ له بالغ الإعجاب نظرًا لمعرفته وتمكّنه من اللغة الإنكليزية. وفي إحدى رسائله كتب شوقي أفندي إليه قائلاً: ‘أنا في غاية الامتنان لك على ما أرسلته لي من اقتراحات قيّمة جدًا مُفصَّلة ومُعَدَّة بعناية…’، كما أن هورِس هولي كان يضع العناوين لكثير من رسائل شوقي أفندي العامة الموجّهة إلى الغرب، وعناوين فرعية أيضًا يُدخلها خلال النص ينتقيها من عبارات وردت في كتابات ولي الأمر من شأنها أن تمنح أفضل وصف للموضوع بشكل عام. لم يرَ شوقي أفندي في ذلك ما يوجب الاعتراض طالما أنه يُسهِّل على القارئ قراءة كلماته، ويجعلها أكثر وضوحًا وتفهّمًا لدى المؤمن الأمريكي متوسط الثقافة. كان هورِس هولي كاتبًا، ولم تكن العناوين التي يضعها لرسائل ولي الأمر من أجل أن تخدم في تعريف الأحباء بموضوعها فحسب، بل ليضعها في قالب مؤثر جذّاب يأسر خيالهم أيضًا.
كان من أول أعمال شوقي أفندي في بداية ولايته أن باشر بنشر تراجمه للآثار المباركة. فبعد سنة وعشرة أيام على قراءة ألواح وصايا حضرة عبد البهاء نجده يكتب إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا قائلاً: ‘من دواعي بالغ سروري أن أشارككم بترجمة بعض المناجاة والألواح المباركة لمولانا المحبوب…’ ويمضي في قوله مضيفًا بأنه واثق من ‘أنني سوف أتمكّن، بمرور الوقت، من أن أرسل إليكم بانتظام تراجم صحيحة ومُعتَمدة… من شأنها أن تكشف لأنظاركم رؤية جديدة لمهمّة حضرة بهاء الله المجيدة… وتمنحكم بصيرة نافذة لإدراك ميزة تعاليمه السماوية ومغزاها.’ ومرة تلو الأخرى، في رسائله المبكرة إلى أقطار مختلفة، كان يذكر بأنه يرفق ترجمة لشيء ما يرسله للبهائيين. وبعد شهر نجده يقول في رسالة أخرى موجّهة إلى أمريكا: ‘كما أرفق بطيه ترجمتي المنقّحة للكلمات المكنونة لحضرة بهاء الله المنزّلة بالعربية والفارسية متطلِّعًا إلى إرسال المزيد من كلمات حضرته وتعاليمه في المستقبل.’ وفي 27 إبريل/ نيسان من ذلك العام كتب شوقي أفندي ثانية للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا يقول: ‘كما أرفق طيًا ترجمتي لفقرات مختلفة من “الكتاب الأقدس”، ولكم مطلق الحرية في نشرها بين الأحباء.’ وفي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من ذلك العام كتب إلى المحفل الروحاني المركزي نفسه بأنه مرسل إليه ‘مصطلحات شرقية مكتوبة بالأحرف اللاتينية… وهو على ثقة بأن الأحباء لن يشعروا بأن طاقتهم وصبرهم قد نفِدا نتيجة التزامهم التام بمجموعة رموز معتمدة تتحكم في كيفية لفظ المصطلحات الشرقية.’ لا شك أن ترجمة المصطلحات مع طريقة اللفظ عمل شاق ومُربِك في الغالب، إلا أن ما لا يدركه الشخص العادي أن كتابة لفظ الكلمة بالضبط إنما تُثبِّت قراءتها بالشكل السليم، أما مَنْ لهم دراية بهذا الأسلوب سيدركون في الحال أصل الكلمة لأن بمقدورهم استرجاعها وتصريفها بالعربية أو الفارسية. وبالنسبة للباحثين والناقدين للدين البهائي فإن هذه الدقّة في غاية الأهمية لأنها تخدم أيضًا هدف تجنّب تعدد أشكال لفظ الكلمة نفسها والارتباك في لفظها.
من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن شوقي أفندي نفسه في المقتطف أعلاه كتب عبارة “كتابِ أقدسْ” كما يلفظها تقريبًا، إذ لم يكن حينها قد أدخل أسلوب كتابة الكلمة بلفظها السليم إلى ترجمته كما تبنّاه فيما بعد. وثمّة كلمة يجب أن تقال بشأن “الكتاب الأقدس”، فرغم أنه مصدر أحكام وتشريع حضرة بهاء الله إلا أنه كتاب صغير الحجم ويتضمّن مواضيع أخرى في معظمه. وإلى أن صعدت روح شوقي أفندي من هذا العالم كان قد منح أحباء الغرب ترجمة إنكليزية بلغة رائعة لمعظم فقرات “الكتاب الأقدس”، بالإضافة إلى كل الأحكام التي شعر أنها قابلة للتطبيق في هذا الوقت من قبل بهائيين يعيشون في مجتمعات غير بهائية. هو لم يترجم وينشر فقرات من التعاليم المباركة فحسب، بل ضَمِن أن المؤمنين أيضًا، بحماسهم المفرط وافتقارهم الى بعد النظر، لن يذهبوا بعيدًا في الأسلوب الذي به يحررون مجموعات من النصوص البهائية ويطبعونها. وردًّا على اقتراحات معيّنة لأحد الأحباء فيما يتعلق بطباعة كتاب شامل للدعاء، كتب إلى مُرسل الاقتراحات قائلاً: ‘أوافقه الرأي شريطة ألا يتجاوز التصنيفُ ما يأمر به حضرة بهاء الله ويفرضه، وإلاّ سنجد أنفسنا غرقى عقيدة متزمّتة صارمة.’
إن تأليف وترجمة ونشر الكتب البهائية كان واحدًا من اهتمامات ولي الأمر الرئيسة التي دعمها شخصيًا بكل فعّالية ولم يتغاضَ عنها قط. فالوضع المثالي للجامعات المحلية والمركزية أن تسعى إلى توفير المال اللازم للقيام بنشاطاتها، إلا أنه في عصر التكوين هذا لأمرنا المبارك، أدرك ولي الأمر تمامًا أن هذا ليس ممكنًا على الدوام، لذلك قدّم الدعم المالي، وبقوّة، على مدى السنوات في تمويل ترجمة ونشر الآثار الكتابية البهائية من الصناديق التي كانت تحت تصرّفه. وفي الحالات الطارئة، عندما يكون تحقيق الأهداف العزيزة والهامّة جدًا على كفّة الميزان، كان شوقي أفندي يعمل فورًا على معالجة هذه الثغرة. وهكذا نجد أنه في سنة واحدة فقط دعم المحفل الروحاني المركزي في الهند بتبرعات تجاوزت ألفي جنيه من أجل تنفيذ برنامجه الخاص بالترجمة والنشر. وحالما انفضّ المؤتمر العالمي الأمريكي الذي افتتح به خطة جهاد السنوات العشر، نجد شوقي أفندي يبرق للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا قائلاً: ‘اتخذوا فورًا خطوات من أجل نشر كتيّبات باللغات المتداولة في أمريكا.’ وبعد يومين نجده يبرق إلى لجنة التبليغ الأوروبية بالموضوع نفسه ذاكرًا ‘اللغات الأوروبية’، ثم يرسل رسائل مماثلة إلى الهند وإلى بريطانيا التي أكّد لها أنه سيرسل ألف جنيه في وقت لاحق لمساعدتهم. منذ اليوم الأول لولاية شوقي أفندي تركّز اهتمامه المتواصل على نشر المطبوعات البهائية بلغات مختلفة وعلى نطاق واسع، وهو وحده الذي كان مسؤولاً عن غالبية التراجم التي تمّت خلال سنوات ولايته الست والثلاثين. لم يترك فرصة إلا واغتنمها، ومثال على ذلك رسالته إلى بولندي كان يُعِدّ بحثًا في التعاليم في بولندا يخبره فيها بأنه مرسل له كلمات الملكة ماري – ملكة رومانيا – حول الأمر المبارك ويطلب منه أن يترجمها إلى البولندية ويعيدها إليه! كان ذلك في عام 1926، إلا أنه وحتى نهاية حياته تميّز أسلوب عمله في هذا المجال بهذا الحماس والمثابرة نفسها.
بالإضافة إلى هذا، فقد وجّه كبيرَ اهتمامه في السنوات الأولى لولايته إلى التشجيع على إصدار مجلة بهائية بلغة الإسبرانتو عندما أخذت هذه اللغة تنتشر بسرعة خاصةً في أوروبا، ووضّح لمدير تحريرها بأن اهتمامه راجع إلى ‘رغبتي الشديدة أن أعزِّز وأدعم دراسة لغة عالمية في أجزاءَ كهذه من العالم البهائي حسب ما تسمح به الظروف الراهنة.’
لقد جمع ولي الأمر في حيفا آثارًا كتابية بكل اللغات، فوضَعَ كتبًا في مكتبته الخاصة وفي مكتبتَي دارَي ضيافة المسافرين، وفي قصر حضرة بهاء الله في البهجة، وفي محفظة الآثار العالمية. من الجدير ملاحظته هنا كيف كان يضع تلك الكتب ويرتّبها لأنني لم أعهد مثل هذا من قبل: فلو قلنا مثلاً لديه مجموعة من كتب لون غلافها باهت، وبعض الطبعات الرخيصة، ومجموعة أخرى أكبر باللون الرمادي، وعدد أكبر باللون الأزرق أو بلون آخر. بهذه المجموعات اعتاد أن يملأ رفوف كتبه بأنماط على هذا المنوال: خمسة باللون الأحمر يليها اثنان بالأزرق ثم خمسة بالأحمر… وهكذا، مستخدمًا التنويع في اللون والعدد حتى يضيف إلى التأثير العام لخزانة الكتب مسحة من الجاذبية، وحتى لا يكون مظهرها رتيبًا لا يلفِت الأنظار.
في رسالة له إلى مارثا روت عام 1931 كتب يقول: ‘في غرفتي الآن نسخ لسبع تراجم مطبوعة.’ (وكانت لكتاب د. إسلمنت)، ويستنهض همّتها لطباعة المزيد من التراجم بقوله: ‘سأكون في منتهى السعادة للمساعدة في نشرها عندما تكون جاهزة.’ وبعد سنة يكتب ولي الأمر إلى ‘السيد مصطفى الرومي’ في بورما موضّحًا له كم كان رضاه وارتياحه في نشر تلك المطبوعات الجديدة، ويقول بأنه ‘… يرفق طيّه مبلغ تسعة جنيهات للمساعدة والإسراع في إنجاز ترجمة الكتاب إلى اللغة البورمية، وأن ست عشرة من التراجم المطبوعة قد جُمعت معًا ووُضعت في قصر حضرة بهاء الله في البهجة القريب من مرقده المبارك، وأن الكتاب قد تُرجم حتى الآن إلى ست عشرة لغة إضافية بما فيها اللغة البورمية.’ وبحلول عام 1935 كان حضرته في وضْعٍ يمكّنه من أن يخبر الشخص البهائي نفسه بأن: ‘هناك الآن إحدى وثلاثون ترجمةً مطبوعةً من الكتاب [كتاب د. إسلمنت] قد أصبحت متداولة في أنحاء العالم البهائي.’
هناك عدد لا يُحصى من البرقيات في سجلات شوقي أفندي كتلك التي أرسلها إلى أصغرزاده في لندن كانت على النحو التالي: ‘لطفًا، أعْلِمني برقيًا بأقل التكاليف لطباعة كتاب إسلمنت باللغة الروسية.’ من الواضح أنه استلم منه جوابًا فأبرق إليه يقول: ‘مرسلٌ إليك بالبريد مبلغ أربعين جنيهًا. أعتقد أن خمسمائة نسخة تكفي. أرسلتُ إليك اليوم بالبريد الجزء الأول من الكتاب بالروسية وسأرسل الباقي قريبًا. لك مني عميق التقدير على تعاونك في خدماتك المستمرة.’ كما أبرق إلى أوسكولي[8] في شانغهاي قائلاً: ‘أعلِمني برقيًا بتاريخ نشر كتاب د. إسلمنت. أرسل لي بالبريد خمسين نسخة. بكل محبة.’ في غمرة انشغاله وحياته المزدحمة بالأعمال كان شوقي أفندي، بين الحين والآخر، يقيّم الأمور ويزنها ويقرر أن جانبًا من جوانب العمل يتطلّب دعمًا ودفعًا حيويًا فوريًّا. مثال ذلك أربع برقيات كُتبت تباعًا في يوم واحد من عام 1932 إلى مارثا روت في أوروبا وإلى أمريكا ونيوزيلندا وبورما قال فيها: ‘أشعر بقوة إلى الحاجة الماسّة الفورية لترجمة كتاب د. إسلمنت إلى اللغة التشيكية والهنغارية والرومانية واليونانية، كمقدمة للحملة التبليغية المكثّفة في أوروبا. أتوق لمساعدتكم ماليًّا، منتظرًا تقديراتكم. بكل محبة.’ ‘لي رغبة شديدة أن تباشروا فورًا بترجمة كتاب د. إسلمنت إلى لغة بريل[9] للمكفوفين. لطفًا أعلموني برقيًا إذا كان هذا ممكنًا. بكل محبة.’ ‘أعلموا ب ــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يتكفّل بترجمة كتاب د. إسلمنت إلى اللغة الماورية فورًا (لغة شعب نيوزيلندا الأصلي).’ ‘نحثّكم على الشروع بترجمة كتاب د. إسلمنت فورًا إلى اللغة البورمية. مع المحبة.’ ويبدو أن صبره قد عِيل من شح النتائج في مختلف المشاريع التي بدأها، فنجده يبرق في وقت لاحق من تلك السنة قائلاً: ‘هل صدر كتاب د. إسلمنت بالفرنسية؟ أبرقوا.’ ‘ننتظر بشوق صدور طبعة كتاب إسلمنت باللغة الكردية.’
لقد شجّع شوقي أفندي مختلف الأحباء على الكتابة عن الأمر المبارك. ففي برقية له عام 1927 إلى الآنسة بنكون[10]، وهي بهائية إنكليزية، خاطبها بقوله: ‘كتابُكِ في طريقة عرضه يدعو للإعجاب، كما أنه رائع في أسلوبه. بادري إلى نشره بسرعة. مرسل إليكِ تسعة عشر جنيهًا.’ وفي عام 1926 أبرق إلى هورِس هولي قائلاً: ‘لطفًا، أرسل لي بالبريد مائة نسخة من كتابك. بكل محبة.’ لم يكتفِ شوقي أفندي بالتبرع ماليًا من أجل طباعة ونشر الكتب البهائية، بل غالبًا ما كان يطلبها. فنراه يبرق لأمريكا قائلاً: ‘لطفًا، أرسلوا لي بالبريد كتبًا من أرخص الطبعات لكتاب د. إسلمنت بقيمة خمسين دولارًا. مرسل لكم الشيك بالبريد.’
إن الحقائق والأحداث، بشكل أو بآخر، تكاد تكون عديمة الجدوى ما لم يُنظر إليها من منظورها السليم، وما لم يؤخذ برؤياها حين تفسيرها. فأحد جوانب عبقرية شوقي أفندي البارزة يكمن في الطريقة التي يلتقط فيها أهمية حدث أو ظاهرة منعزلة تبرز من وسط فوضى أمور لا صلةَ بينها مرتبطة بالتطوّر العالمي للأمر المبارك، فنجده يضعها في إطارها التاريخي مسلّطًا عليها أضواء عقله المُقيِّم للأمور فيجعلنا نفهم ما الذي يحدث وما تشير إليه الآن وإلى الأبد. لم يكن هذا بالأمر الجامد الساكن أو صورة من أشكال ونماذج، بل على الأرجح وصفًا لمكان ووجهة سفينة أوقيانوسية ضخمة [سفينة الأمر المبارك] وهي تمخر عباب المحيط – سفينة يمُوجُ مَتْنُها بنشاطات أتباع جامعة حضرة بهاء الله بحركات متناسقة متكافئة في محيط دورته [Dispensation]؛ فهنا محفل روحاني تأسس، وهناك شخص توفي، ثم شهادة منحتها هيئة حكومية غير معروفة – إنها حقائق وأحداث تبدو منعزلة ولا صلة بينها، إلا أنها بنظر شوقي أفندي جزء من نمط جعَلَنا نراه وهو يُحاك أمام أعيننا أيضًا، وقد أبان ذلك ولي الأمر في مجلّدات “العالم البهائي” ليس من أجل المؤمنين فقط، بل لعامّة الناس على نطاق واسع أيضًا. لقد أبرز تقدّم الدين البهائي بأسلوب دراميّ مؤثّر، وجعل من كمّ هائل من حقائق مبعثرة وصورٍ فوتوغرافية غير مترابطة، شاهدًا على أحقية ما يعلنه هذا الدين من أنه دين عالمي شامل يحتضن الجميع.
من الجدير ملاحظته أن اقتراح إصدار سلسلة مجلدات على نسق مجلد “العالم البهائي” قد جاء لشوقي أفندي فعليًا من هورِس هولي في رسالة إلى حضرته في فبراير/ شباط 1924 – ومع ذلك، ليس لديّ أدنى شك في أن الرؤية الواسعة لولي الأمر الشابّ، والقالب الذي وضع فيه أعمال الأمر المبارك في رسائله إلى الغرب، قد أثّرت على العقل الخلاّق للسيد هورِس وحفّزته نحو هذه الفكرة، فأمسك بها شوقي أفندي وأصبح هورِس هولي منذ ذلك الحين أداة حضرته الرئيسة ككاتب موهوب، إلى جانب طاقته ومقدرته كسكرتير للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في أمريكا، وذلك ليجعل من مجلد “العالم البهائي” كتابًا فريدًا مميّزًا. لقد صدر العدد الأول منه عام 1925، وسُمِّي آنذاك بـ ”المجلد البهائي السنوي” – الذي غطّى أحداث الفترة الممتدة من إبريل/ نيسان 1925 إلى الشهر نفسه من عام 1926 ويتألف من (174) صفحة – ثم أخذ عنوانه الدائم في المجلّد الثاني “العالم البهائي، سجلٌّ عالمي بأحداث سنتين”، نتيجة اقتراح من المحفل الروحاني المركزي في أمريكا وموافقة شوقي أفندي. وإلى أن صعد ولي الأمر كان قد صدر اثنا عشر مجلدًا، أكبرها حجمًا يقع في ما يزيد عن ألف صفحة. ومع أن جميع تلك المجلدات قد أُعِدّت تحت إشراف المحفل الروحاني المركزي في أمريكا ونشرتها هيئة الطبع والنشر المنبثقة عنه، وجمَّعَتْ مواضيعَها هيئة من المحررين وكانت جميعها إهداءً لشوقي أفندي، إلا أنه من الأجدر أن ندعوها “كتاب شوقي أفندي” طبقًا للحقائق والمعطيات؛ فهو نفسه قام بعمل رئيس هيئة التحرير، والكمّ الهائل من المواضيع التي تضمّنها كل مجلد كانت تُرسَل إليه بواسطة المحفل الروحاني المركزي في أمريكا مرفق فيها جميع الصور الفوتوغرافية اللازمة قبل اعتمادها ونشرها، وله القرار النهائي في ما يجب أن يبقى منها وما يجب حذفه. ولما كانت ستة من هذه المجلدات قد نُشرت في الفترة التي كُرِّمْتُ فيها أن أكون معه، فقد كان بمقدوري أن ألاحظ كيف كان شوقي أفندي يقوم بتحريرها. فبفضل طاقته اللامحدودة للعمل كان يطّلع على الكمّ الهائل من رُزَم الأوراق والصور الفوتوغرافية التي كانت تصله، فيحذف منها المواد الأضعف والتي لا علاقة لها بالموضوع. أما أجزاء الفصول المتنوعة الواردة بموجب فهرس المحتويات الذي نظّمه بنفسه، فكانت تجهّز لاحقًا وتوضع جانبًا إلى أن يتم إعداد جميع المواضيع على الآلة الطابعة وتكون جاهزة لإرسالها بالبريد ثانية إلى أمريكا للطبع والنشر. كان يأسف دائمًا لحقيقة أن المواضيع ليست بمستوى أعلى كان يأمله. إن تصميمه ومثابرته وحدهما كانا السبب في أن تكون مجلدات “العالم البهائي” كما هي عليه من الألَق والتأثير. فالمحررون (وقد رشّح بعضهم بنفسه) الذين يناضلون ضد القوى المُعيقة لعمل أيّ هيئة تحاول إنجاز أعمالها حتى خاتمتها بالمراسلات ومن خلال مصادر تبعد آلاف الأميال، وتسعى أن تعمل بأفراد إداريين غالبًا ما تنقصهم الخبرة والكفاءة، لم يكن ليُكتَبَ لهم النجاح في تجميع المواد المطلوبة دون وقوف ولي الأمر خلفهم موجهًا ومساندًا وداعمًا لمجهوداتهم. وهناك جانب يسترعي الانتباه في هذا العمل وهو أن شوقي أفندي، كان بعد أن يتمّ نشر المجلد، يعيد الى حيفا جميع المواد الأصلية المرسلة المطبوعة على الآلة الطابعة أو المكتوبة باليد لتُحفظ في المركز العالمي.
وحالما يتمّ نشر المجلد كان حضرته يشرع بنفسه في جمع موادّ المجلّد التالي. فإلى جانب تذكيره المتكرر للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا ليقوم بالعمل نفسه، كان يرسل عددًا لا يُحصى من الرسائل والبرقيات بهذا الخصوص إلى محافل روحانية مختلفة وأفراد من الأحباء. فمثلاً أبرق في يوم واحد إلى ثلاثة محافل روحانية مركزية قائلاً: ‘صورة أعضاء المحفل المركزي ضرورية لتوضع في مجلد “العالم البهائي”.’ كما أرسل برقية إلى مراكز نائية وبعيدة مثل شانغهاي طالبًا موادًا يرغب فيها. كان أمرًا عاديًا أن يستلم المحفل الروحاني المركزي في أمريكا رسالة كُتب فيها: ‘مخطوطة “العالم البهائي” أُرسلت إليكم بالبريد. أوصي بنشرها بسرعة وعناية.’ كان شوقي أفندي هو مَن نظّم مواضيع المجلّد، وطَبَع في حيفا قائمة المحتويات بكاملها، ووضع عناوين جميع الصور الفوتوغرافية، واختار جميع الصور التي توضع بعد الغلاف، كما قرر لون الغلاف، وفوق هذا كله بعث بتعليماته الدقيقة إلى هورِس هولي – في رسائل طويلة مفصلة، وهو الذي اختاره بنفسه كأفضل كاتب موهوب واسع الاطلاع ليكتب مجلد “نظرة عالمية عامة للنشاطات البهائية الجارية”، والذي علّق عليه حضرته أهمية كبرى، فأبرق إليه قائلاً: ‘رسالة مفصّلة أرسلت بالبريد من أجل مجلد “النظرة العالمية”، واثقٌ من براعة معالجتكم للمعلومات التي جُمِعت.’ ومثالٌ كيف أن رسائل شوقي أفندي في هذا الموضوع كانت شاملة تطلّبت الجهد والمثابرة، نجده في الفقرات التالية المقتَطَفة من رسالة إلى هورِس هولي كُتبت بواسطة سكرتير شوقي أفندي، ولو أنه ليس لديّ أدنى شك في أن ولي الأمر نفسه قد أملاها عليه: ‘تفحّصَ شوقي أفندي هذه المادة بعناية، وأجرى التغيير اللازم ثم رتّب موادّها وأثراها بإضافة مادة جديدة جمعها بنفسه، ووضع الجميع في شكله النهائي، وسيرسل المخطوطة بكاملها إلى عنوانك بالبريد قبل نهاية هذا الشهر… لقد كرّس الكثير من وقته في تفحُّص المواد بكل تفاصيلها وفي ترتيبها فوجد أن العمل شاق ويتطلّب دقّة متناهية… يرغب في التشديد على أهمية الالتزام التام بالترتيب الذي تبنّاه، ويأمل أن يكون كل شيء في مكانه السليم على خلاف المجلد السابق.’
إن ما كان يدور في خَلَد شوقي أفندي ويفكر فيه عن مجلد “العالم البهائي” نجده قد دوّنه في كتاباته. في عام 1927 – وكان قد صدر العدد الأول منه فقط – كتب إلى شخص غير بهائي يقول: ‘أوصيك بضرورة الحصول على نسخة من المجلد البهائي السنوي… وهو الذي سيمنحك عرضًا واضحًا موثَّقًا لهدف الدين البهائي وما يدعو إليه، ومدى نفوذه.’ وفي رسالة عامة كتبها شوقي أفندي عام 1928 موجهة ‘إلى أحباء الله وإماء الرحمن في الشرق والغرب’، ومخصصة بالكلية لموضوع مجلد “العالم البهائي” نراه يعلمهم بأنه ‘منذ البداية وأنا في حماس شديد واهتمام متواصل بتطويره. شاركتُ شخصيًا في تجميع موادّه وفي ترتيب محتوياته والتدقيق التام لما فيه من معلومات. وبكل ثقة وإصرار أوصي به لكل مفكّر وغيور من أتباع الدين في الشرق كان أم في الغرب…’ وذكر بأن موادّه مقروءة جذابة، شاملة وموثّقة، ومعالجته لمبادئ الأمر الأساسية موجزة ومقنِعة، ورسوماته التوضيحية معبّرة بدقّة تامة. إنه كتاب لا يجاريه أو يفوقه أي من المنشورات البهائية الأخرى في نوعه. كان شوقي أفندي ينظر دائمًا الى هذا الكتاب على أنّه – وفعلاً هو الذي صمّمه ليكون – مناسبًا بكل امتياز للعموم، وللباحثين، ولوضعه في المكتبات، وأيضًا كوسيلة قَصد منها حضرته ‘إزالة الصور المغرضة والمشوّهة والمفاهيم الخاطئة التي حجبت لمدة طويلة وبكل أسف وحسرة دين حضرة بهاء الله.’
كان المجلد كتابًا غالبًا ما قدّمه ولي الأمر إهداءً للأُسر الملكية ورؤساء الدول والأساتذة والجامعات ومحرري الصحف وإلى غير البهائيين عمومًا، فيرسله إليهم بالبريد مرفَقًا ببطاقة شخصية بسيطة باسمه “شوقي رباني”. كان ردّ فعل أحدهم وهو أستاذ جامعي أمريكي أن عبّر عن انطباعه بكل وضوح لدى استلامه هدية شوقي أفندي حيث قال: ‘وصلتنا نسختان من كتاب “العالم البهائي”… لا أستطيع إخبارك بمدى تقديري لتمكُّني من دراسة الكتاب الذي هو بحقٍّ مثير جدًا للاهتمام ومُلهِم بكل السبل… أهنئكم خاصة على تطوير اللغة الأدبية والحفاظ على تلك الروح حيّةً بين أناس من مختلف الأقوام والأجناس التي تتوجه إليك من أجل قيادة رشيدة.’ ولعلّ التكريم الأجلّ للمستوى الرفيع لهذا العمل الكتابي المنشور الذي أغدق عليه شوقي أفندي الكثير من الوقت والعناية على مرّ السنين، هو أن ملكة أبيّة فخورة كتبت للمجلد معبّرة عن تقديرها الخاص للدين البهائي مما حاز القبول وجعل كلماتها وصورتها الشخصية جديرة بأن تظهر في صفحتين مواجهتيْن لغلاف المجلد في مختلف إصداراته. ففي عام 1931 كتب شوقي أفندي إلى مارثا روت، عندما استلم منها ما كتبته الملكة ماري في إحدى رسائلها تبدي فيها احترامها وإعجابها بالأمر المبارك، قائلاً: ‘ليست هناك من كلمات تعبّر تمامًا عن بالغ سروري باستلامي رسالتكِ المرفق فيها ذلك التقدير الغالي الذي سيشكل مساهمة قيّمة ومميّزة لمجلّد “العالم البهائي” الذي سوف يصدر لاحقًا.’
من الصعب علينا، ونحن نسترجع إنجازات شوقي أفندي، أن ندرك أنه فعليًّا لم يكتب سوى كتاب واحد فقط خاص به هو “القرن البديع” الذي نُشر عام 1944. فحتى “قد جاء اليوم الموعود” الذي كُتب عام 1941 ويقع في (136) صفحة، كان رسالة مطوّلة موجّهة لأحباء الغرب. إنها حقيقة تقف وحدها مؤشرًا قويًا على مدى ما كان عليه هذا الرجل من تواضع. كان على اتصال بالبهائيين لأنه هو الذي عُيّن ليحمل أمانة قيادتهم وتوجيههم، ولأنه الوصي على دين حضرة بهاء الله. كانت تسيّره قوى عُليا تفوق قواه ولا يملك حيالها خيارًا. فإلى جانب سيل الرسائل متوسطة الحجم التي كانت تتدفق منه إلى الأحباء في الغرب وإلى محافلهم الروحانية المركزية باستمرار، كانت هناك رسائل عامة معينة متباينة في طبيعتها. بعضها موجّه إلى الأحباء في الولايات المتحدة وكندا، والآخر إلى أحباء الغرب، وكلها جُمعت في كتاب واحد بعنوان “نظام بهاء الله العالمي”[11]. فكتاب “نظام بهاء الله العالمي”، ثم كتاب “نظام بهاء الله العالمي – اعتبارات اضافية”[12] قد كُتِبا في عامي 1929، 1930 على التوالي، وقد وُضعا ليوضّحا للمؤمنين المعنى والهدف الحقيقي لدينهم؛ عقائده، مضامينه، ما قُدّر له ومستقبله، وليكون الكتاب أيضًا مرشدًا لجامعة تأخذ طريقها إلى الظهور والنضوج ببطء في أمريكا الشمالية وفي الغرب نحو إدراك أفضل لواجباتها وامتيازاتها وما قُدِّر لها. ثم أَتْبَع ذلك برسالة في عام 1931 عُرفت بـ ”هدف نظام عالمي جديد”[13]، صيغت ببراعة جديدة فائقة ونبرة واثقة تسمو بمستواها عن كونها رسالة عادية موجهة إلى شركاء في العمل في ميدان الخدمة العامة، فأخذت تعبّر عن تلك المَقْدِرة الخارقة في عرض الفكرة والتي من شأنها أن تميّز القائد العظيم والكاتب الفذّ. في رسالة لولي الأمر كُتبت في يناير/ كانون الثاني 1932، ذكر سكرتيره مشيرًا بوضوح إلى رسالته “هدف نظام عالمي جديد” يقول: ‘إن شوقي أفندي كتب رسالته العامة الأخيرة إلى الأحباء في الغرب لأنه شعر بأن عامة الناس يجب أن يدركوا وجهة نظر الدين البهائي حيال المشاكل الاقتصادية والسياسية السائدة. علينا أن ندع العالم يدرك ما هو الهدف الحقيقي لظهور حضرة بهاء الله.’ لقد جعل شوقي أفندي رسالته هذه تتزامن مع الذكرى العاشرة لصعود حضرة عبد البهاء حيث أسهب فيها في استعراض أحوال العالم والتغيير الذي يجب أن يحصل فيما بين عناصر مكوِّناته على ضوء تعاليم حضرة بهاء الله وما بيّنه حضرة عبد البهاء.
تَبِع تلك الرسالة رسالة أخرى عام 1932 بعنوان “العصر الذهبي لدين بهاء الله”[14] حيث كانت عرضًا بديعًا لـ’ألوهية رسالته’، التي بيّن شوقي أفندي أنها تُغذّي نفسها بنفسها معتمدة على ‘فيوضات الينابيع الخفية للقوى السماوية’، وعاد ليوضّح علاقة هذا الظهور الإلهي بالظهورات السابقة، وصلته بحلّ المشاكل التي تواجه العالم في الوقت الحاضر. وفي عام 1933 منح البهائيين في أمريكا الشمالية رسالة بعنوان “أمريكا والصلح الأعظم”[15] تناول في معظمها الدوْر المقدّر إلهيًا لهذا الجزء من العالم أن يؤديه في هذه الحقبة التاريخية، معيدًا إلى الأذهان ما قدّمه المولى من تضحيات وخدمات خلال رحلاته الميمونة إلى الغرب، ومُلخِّصًا ما حقّقته هذه الجامعة المؤيَّدة من انتصارات لأمر الله. إن رسالته المنيعة التي خطّها عام 1934 المعروفة بـ ”دورة بهاء الله”[16] قد سطعت على الأحباء بنور باهر يخطف الأبصار. أذكر، عندما قرأْتُها لأول مرة، تملكتني مشاعر استثنائية للغاية، وكأن الكون برمّته قد اتّسع من حولي فجأة وأخذتُ أنظر إلى نجومه المُبهرة التي ملأت فضاءه على ضخامته. فجميع حدود مفاهيمنا قد امتدت إلى آفاق أوسع، وتكشَّفَ لنا مجدُ هذا الدين وعظمته وحقيقة مقام شخصياته الأساسية، ولم نعد كما كنا على الإطلاق. يتبادر إلى ذهن المرء أن التأثير المذهِل لهذه الرسالة الواحدة لولي أمر الله من شأنه أن يقضي على ما في الروح من ضعف واستكانة إلى الأبد! ومهما كان شوقي أفندي يشعر في أعماق قلبه تجاه كتاباته الأخرى، إلا أنني أَسْتشفُّ من ملاحظاته أنه اعتبر نفسه قد قال بطرق عدّة كل ما يجب أن يقوله في رسالته “دورة بهاء الله”.
وفي عام 1936 كتب رسالة “الكشف عن المدنية الإلهية”[17]، ومرة أخرى، كما كان يفعل في أغلب الأحيان، ربطها شوقي أفندي بصعود حضرة عبد البهاء. كانت الرسالة عرضًا أشمل وأوسع لحالة العالم، من انحلال واضح سريع في أوضاعه السياسية والأخلاقية والروحانية، وضعف أركان الديانتيْن المسيحية والإسلامية، إلى أخطار تهرع نحوها إنسانية طائشة، وما تُقدّمه تعاليم حضرة بهاء الله من علاج إلهي قوي مفعم بالأمل. وبالإضافة إلى أهمية تلك الرسائل الرائعة وأبعادها التربوية، كونها غنية بمقتطفات من كلمات حضرة بهاء الله التي ترجمها ولي الأمر واستشهد بها بكل سخاء في المكان المناسب، فقد قدمت للأحباء مَدَدًا روحيًا لأن كلمة المظهر الإلهي هي غذاء الروح كما نعلم. كما أن تلك الرسائل ضمّت أيضًا فقرات لا حصر لها من ألواح المولى المحبوب تميّزت بجمال وروعة ترجمتها. فكل هذه النعَم والآلاء التي أسبغها ولي الأمر على الأحباء في وليمة بعد وليمة قد غذّت أرواحهم وبعثت فيهم جيلاً جديدًا قويًا من خدّام الدين الإلهي. فكلماته قد ألهبت خيالهم وتحدّتْهم أن يرتقوا ذُرىً سامكة جديدة، ومدّت بجذورهم إلى مستويات أعمق في أرض أمر الله الخصبة.
لقد ظهر حقًا تغيير في كتابات شوقي أفندي في فترة الثلاثينيات يمكن للمرء أن يلحظه. فهو الآن يقف متأهّبًا كعملاق وبيده قلمه البتّار، بينما في السابق كان يمكن للمرء أن يلحظ صدى ما عانته روحه بعد صعود المولى وتولِّيه منصبَه الرفيع، وأنين قلبه في اشتياقه لفقيد حياته المحبوب. أما الآن فإن النبرة قد تغيّرت؛ فأمامنا رجل يتكلم بصراحة المتأكد من نفسه بكل قوة وثقة تامة. فالمحارب الآن يعرف كيف تكون الحرب. لقد فوجئ وهوجم وأثخنته الجراح من أعداء فاسدين خلقيًا وضالين روحيًا، كما أن جانبًا من رقة وثقة الشباب المطلقة فيه قد ولّت إلى غير رجعة. لم يظهر هذا التغيير فقط في طبيعة وقوة توجيهاته للعالم البهائي، ولا في أسلوب تشكيله الإدارةَ البهائيةَ في الشرق والغرب، ولا في جمعهِ كافة تلك الجامعات البهائية المتباينة على اختلاف مكوّناتها في لُحمةٍ عامّة فحسب، بل في ما أصبح في نهجه من جمال وثقة واطمئنان اكتسب رونقًا مع مرور السنوات أيضًا.
بالتزامن مع الفترة التي شهِدت دَفَقَ هذه الرسائل الساطعة بقلم شوقي أفندي التي تناول فيها مواضيع رئيسة كهذه، شرع في ترجمة كتابين هامين. ففي رسالة مؤرخة 4 يوليو/ تموز 1930 كتب يقول: ‘أشعر بإرهاق شديد بعد سنة من العمل الشاقّ، خاصة بعد أن استطعت أن أضيف إلى أعبائي ترجمة “كتاب الإيقان” الذي سبق أن أرسلتُه إلى أمريكا.’ كان هذا أول تراجمه الرئيسة، وفيه بَسَطَ حضرة بهاء الله شرحًا وافيًا لمقام مظاهر أمر الله ودورهم خاصة على ضوء النبوءات والتعاليم الإسلامية، ويُعرف بـ ”كتاب الإيقان”. فبالنسبة للبهائيين في الغرب كان المرجع المساعد النفيس في دراستهم للدين الذي اعتنقوه، وأثرى مفاهيمهم عن الظهور الإلهي.
وفي السنة نفسها شرع ولي الأمر في العمل على ترجمة الكتاب الثاني الذي تم نشره في تلك الفترة، عملٍ لم يكن ترجمةً لكلمات حضرة بهاء الله ولا هو إحدى رسائل شوقي أفندي العامة، بل يجب اعتباره تحفة أدبية رائعة وواحدًا من أعظم هداياه الفريدة على مدى الزمن. كان ذلك ترجمة الجزء الأول من الوقائع التاريخية التي جمعها مؤمن عاصر فترة حضرة الباب وحضرة بهاء الله والمعروف بـ ”النبيل”، الذي نُشر عام 1932 بعنوان “مطالع الأنوار”. فلو كان لناقد ومُشكّك أن يحاول صرف النظر عن الأعمال الأدبية البهائية باعتبارها نموذجًا لمستوى أفضل من الكتب الدينية المعدّة للمبتدئين فقط، فلا يمكن أن يُقصي جانبًا، ولو لحظة، مجلّدًا بنوعية كتاب “تاريخ النبيل” الذي يستحق أن يُعَدّ من الطراز الأول بين الملاحم التاريخية المروية بلسان إنكليزي. ومع أنه في الظاهر ترجمة عن الأصل الفارسي، إلا أنه يمكن القول بأن شوقي أفندي أبدع كتابته من جديد بالإنكيزية، وقد حاكت ترجمته أسلوب فيتزجيرالد في ترجمته لرباعيات عمر الخيام التي قدّم فيها للعالَم شِعرًا بلغة أجنبية فاق الأصل عن جدارة واستحقاق في نواحٍ عدة. وأفضل تعليق وأدقّه في وصف هذه التحفة الأدبية الرفيعة لولي أمر الله يمكن أن نجده في كلمات شخصيات بارزة غير بهائية. فقد كتب الكاتب المسرحي غوردن بوتوملي[18] قائلاً: ‘… أن تعيش في أحداثها يعدّ واحدة من التجارب البارزة في حياة المرء، إلا أن ما يتعدّى ذلك أنها تجربة حية محرّكة للمشاعر بحدّ ذاتها من جهة، وفي ما تُلقيه من ضوء نفساني على سيرة “العهد الجديد” من جهة أخرى.’ وفي رسالة بعث بها إلى شوقي أفندي الباحث والمصلح الاجتماعي المشهور الدكتور ألفرد و. مارتن[19] من “جمعية الثقافة الخلقية”، يشكره فيها على إرساله كتاب “تاريخ النبيل” إذ كتب يقول: ‘عملك الرائع الضخم الذي يرتفع مَعْلمًا بارزًا… سيبقى أثرًا أدبيًا فنيًا من الطراز الأول، ومقياسًا للتميُّز في جميع الأوقات في قادم الأيام. أُسجِّل هنا إعجابي المُطلق بقدرتك على إعداد عمل كهذا على ما سبّبه لك من ضغط جاء فوق كل تلك المهامّ والمسؤوليات التي تفرضها أعمال منصبك المعتادة.’ وبعد أن استلم أحد أساتذته القدامى في الجامعة الأمريكية في بيروت السيد بيارد دودج[20] كتاب “تاريخ النبيل” هدية من ولي الأمر كتب إليه يقول: ‘… إن الكتاب الأخير – مطالع الأنوار – يعدّ بحق مساهمة قيّمة بشكل خاص. أهنئك من كل قلبي على نشره، ولا بد أنك عملت بجهد شاقّ لإنجاز ترجمة رائعة كهذه مدعّمة بملاحظات وصور فوتوغرافية مثيرة جدًا للاهتمام.’ وفي وقت لاحق علّق بإسهاب على هذا المجلد الفريد بقوله: ‘لقد استفدتُ من فرصة اصطيافي لأقرأ “تاريخ النبيل”… كل إنسان مهتمٍّ بالدين وبالتاريخ أيضًا مدين لك بعظيم الامتنان على نشرك هذا العمل الرائع. إن الجانب الأعمق من هذا العمل إنما هو مؤثر للغاية بحيث يبدو من الصعب أن نثني بما يليق على بعض الجوانب العملية المتصلة بالترجمة، ومع ذلك لا أستطيع أن أُمسك نفسي عن القول بأنني كم أُثمّن عاليًا تخصيصك وقتًا تقتطعه من حياتك المشحونة بالعمل لإنجاز مهمّة ضخمة كهذه.
‘إن مستوى اللغة الإنكليزية ونوعيتها، والمتعة في قراءة الترجمة بانسياب، إنما يعدّ أمرًا استثنائيًا، ذلك لأن الترجمة في العادة من العسير قراءتها. لقد كنتَ بارعًا في جعل الكتاب حياديًا للغاية وفي الإضافات التي ثبّتّها في الحواشي، مما جعله يبدو عرضًا تاريخيًا علميًا أكثر منه مادة دعائية. فالكتاب عظيم جدًا في قوته لأن الترجمةَ علميةٌ، ومُصَنَّفَهُ الأصليَّ تلقائيٌّ وعفويٌّ للغاية، بحيث جعل العمل برمّته يبدو أصيلاً حتى في نظر أكثر الناقدين تحاملاً.
‘إن عملاً كهذا، من المنظور التاريخي، له أعظم قيمة ممكنة، ويزخر بفوائد جمّة أيضًا لأنه يوضّح الدافع النفسي وراء توجّهاتنا العظيمة في الظهورات الدينية. ومن الطبيعي أن تكون قيمته الرئيسة متمثلة في الضوء الذي سُلِّط على فجر تاريخ الدين البهائي. فحياة أولئك المُهتَدين الأوائل إنما هي ملهِمة بشكل هائل.
‘لقد أعرتُ نسختي للبروفسور كروفورد[21] والبروفسور سيلي[22]، وآمل أن عددًا كبيرًا من الأساتذة هنا والطلاب سوف يجدون الوقت لقراءة كتاب كهذا مُثير ومنير.’
ومع أن تقديرًا قيّمًا كهذا صادرًا عن جهة كهذه بحق عمل أنجزه شوقي أفندي قد أدخل السرور إلى قلبه وحرّك مشاعره، إلا أن الرسالة التي كتبها له المستشرق المعروف السير دنيسون روس[23]، من كلية الدراسات الشرقية في جامعة لندن، كانت بلا شك ذلك التقدير الأرفع لحضرته:
27 إبريل/ نيسان 1932
عزيزي شوقي أفندي
كان منتهى اللطف منك أن تتذكرني فترسل لي نسخًا من آخر عمليْن لك أفتخر بأن يكونا في حوزتي خاصة وأنهما من طرفك. حقًا إن كتاب “مطالع الأنوار” واحد من أروع الكتب التي رأيتُها منذ عدة سنوات. فورقه وطباعته ورسوماته كلها رائعة، وبالنسبة لأسلوب لغتك الإنكليزية، فلا يمكن أن تكون أفضل إبداعًا، ولا تبدو أبدًا للقارئ أنها ترجمة. فاسمح لي أن أبعث إليك بأحرّ التهاني على أنجح إنجاز لك شرعتَ به منذ أن قدِمتَ إلى أكسفورد ألا وهو الإمساك الكامل بناصية لغتنا.
وإلى جانب هذا كله، فإن “تاريخ النبيل” سيبقى أعظم مصدر خدمة لي في محاضراتي التي أُقدّمها هنا في سياق دوراتي التعليمية عن الباب وعن البهاء.
آملاً أن تكون في صحّة جيّدة
المخلص لك على الدوام
إ. دنيسون روس – مدير
في رسالة بعث بها إلى مارثا روت في 3 مارس/ آذار 1931 وصف شوقي أفندي ما هو “مطالع الأنوار”، وماذا يعني له إصداره حيث قال: ‘بعد ثمانية أشهر من العمل الشاقّ المتواصل أكملتُ للتوِّ ترجمة تاريخ الأيام الأولى للأمر المبارك وأرسلتُ مخطوطته إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا. يقع الكتاب في (600) صفحة تقريبًا، و(200) صفحة من ملاحظات إضافية جمعتُها خلال أشهر الصيف من كتب مختلفة. كنت مستغرقًا للغاية في هذا العمل على شأن اضطررتُ فيه إلى تأخير مراسلاتي… أنا الآن في غاية التعب والإرهاق حتى إنني بالكاد أستطيع الكتابة… إنه سجلّ موثّق يتناول بشكل رئيس حضرة الباب، وأجزاء منه تليت على مسامع حضرة بهاء الله ونقحها حضرة عبد البهاء… لقد غلبني الإعياء تمامًا بما سبَّبه لي الإجهاد القاسي والطويل في العمل الذي أخَذْتُهُ على عاتقي لدرجة أشعر فيها بضرورة التوقُّف الآن والركون إلى الراحة.’
وقبل أن يجد الكتاب طريقه إلى النور، أبرق شوقي أفندي إلى أمريكا في أكتوبر/ تشرين الأول 1931 قائلاً: ‘حثّوا جميع المؤمنين الناطقين بالإنكليزية أن يركّزوا دراستهم على وقائع “تاريخ النبيل” الخالدة كخطوة أولية أساسية نحو استئناف حملة تبليغية مكثّفة استدعاها استكمال بناء مشرق الأذكار. أشعر بشدة أن استعمال مادته الغنية الموثّقة والمتنوعة على نطاق واسع سيكون السلاح الأكثر فعالية لمواجهة تحدّيات الساعات الحرجة. أوصي به دون تردّد لكل مَنْ يتطلع إلى زيارة موطن حضرة بهاء الله.’
إن المجلّد الذي يوصي شوقي أفندي الأحباء بدراسته يقع في (748) صفحة ويضم أكثر من (150) صورة فوتوغرافية؛ ويحتوي على رسم بياني مفصّل يبيّن تسلسل نسَب حضرة الباب وقد أعدّه شوقي أفندي بخط يده وتم استنساخه بوسيلة الفاسيميل[24] وإدراجه في الكتاب؛ وبالإضافة الى النصّ الأصلي الذي أورده النبيل، والذي جلّلته هالة من مجد بفضل معالجته الباهرة وهو يمر في عقل شوقي أفندي ومفرداته اللغوية، فإن الحواشي الوفيرة التي أضافها باللغتين الإنكليزية والفرنسية وجمعها من مصادر لا تُحصى، تلقي ضوءًا على الأحداث المدوّنة في الكتاب ومن شأنها أن تعزِّز الى درجة كبيرة ذلك الاهتمام التاريخي بها [الأحداث] وبمصداقيّتها. ثم طُبعت ونُشرت ثلاثمائة نسخة فخمة موقعة ومرقمة بالتسلسل مع الطبعة العامّة للمجلد. استغرق شوقي أفندي ما يقارب السنتين في البحث والتجميع والترجمة ليكمل هذا المجلد المميّز. وخلال عام 1930 أرسل مصوِّرًا بهائيًا أستراليًا إلى بلاد فارس ليتعقّب بكل جهد ومثابرة خط سير حضرة الباب داخل موطنه، وكذلك موقع استشهاد حضرته ومواقع استشهاد أتباعه ومواقع تاريخية كثيرة. فلو لم يفعل شوقي أفندي هذا لتعذّر تقريبًا مشاهدة وتتبّع أثر العديد من هذه الأماكن في وضعها الأصلي ولفُقِدت آثارُها إلى الأبد. وبالإضافة إلى اختيار الصور الفوتوغرافية لكتاب “تاريخ النبيل”،” أجرى شوقي أفندي ترتيباته بكل عناية من أجل أن يرسل إلى أمريكا ما وصفه بـ’الأمانة التي لا تُقدّر بثمن’، ولم تكن بأقل من ألواح حضرة الباب الأصلية التي وجهها إلى حروف “حي”، وأقدسها إطلاقًا ما كان موجّهًا إلى حضرة بهاء الله، كونه “مَن يظهره الله”. وقد استُخرِجتْ منها كلها نُسخ طبق الأصل بكل دقة. واختار حضرته الصفحة المقابلة لصفحة العنوان لتوضَعَ فيها صورة ملوَّنة عن داخل المرقد المقدس لحضرة الباب. أخيرًا كان لدى ولي الأمر هديته الخاصة اللائقة ليمنحها لمن كانت الأحب الى قلبه:
إلى
الورقة العليا
آخر الأحياء من عصر الشجاعة المجيد
أقدّم هذا الكتاب
تذكارًا
لما أنا مدين به لها من عظيم المحبة والفضل
خرج بهائيّو الغرب من قراءتهم هذا التاريخ عن حياة حضرة الباب وزمانه وقد أحاطتهم هالة من المجد، وكأنّ رشحًا من تلك الدماء النفيسة لأولئك الشهداء الأوائل الأبرار قد أصابهم. لقد أدركوا لمحة عن تراث مَنْ سَبَقَهم، فرأوا أن هذا هو الدين الذي دفع صاحبه لأن يحمل حياته على كفّه، وفهموا تمامًا ما كان شوقي أفندي يتكلم عنه، وماذا كان يتوقع منهم عندما دعاهم بـ’سليلي مطالع الأنوار الروحانيين’. إن البذور التي غرسها هذا الكتاب في قلوب أتباع حضرة بهاء الله في الغرب قد نمت وأينعت في خطة السنوات العشر، الجهاد الروحاني الأكبر، وسيستمر حصادُها وذُخْرُها بوفرة أكثر من ذي قبل بينما تتكشّف ألواح الخطة الإلهية لحضرة عبد البهاء عن ذلك الفتح الروحاني للكوكب بأسره.
وفي عام 1935 قدّم شوقي أفندي للأحباء الغربيين هدية أخرى رائعة نُشرت تحت عنوان “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله” التي وصفها ولي الأمر نفسه، برسالة إلى السيد هربرت صموئيل، بأنها ‘تحتوي على منتخبات هي الأكثر تميُّزًا بين كتابات صاحب الظهور البهائي الرائعة والتي لم تنشر بعد.’ وهي تُعيد للأذهان طيف تلك الصفحات القليلة للعهد الجديد [الإنجيل]، والكلمات المنسوبة إلى بوذا، وقليلاً من أقوال بعض الأنجم السماوية الآخرين التي رغم ضآلتها مجّدت حياة الملايين من البشر لعدة قرون. ويبدو أن هذه “المنتخبات” وحدها تُشكّل مصدر هداية وإلْهام كافييْن لدورة روحانية لأي رسول سماوي. وفي رسالة شكر بعث بها البروفسور نورمان بنتويتش[25] على استلامه نسخة “المنتخبات” من شوقي أفندي قال: ‘أُجِلُّها ضمن ثمارٍ أُخَرَ لجهدك النابع من تَقْواك.’ حقًا إنه وصف جميل لطبيعة عمل شوقي أفندي من أجل أن يضع أمام العالم الغربي كلمات المظهر الإلهي لهذا اليوم. إلا أنه من المؤكد أن ما قالته الملكة ماري – ملكة رومانيا – لمارثا روت بحق هذا الكتاب إنما يُعتَبر التقديرَ الأكثرَ ثراءً حين قالت: ‘حتى المتشككين يجدون فيه قوة مقتدرة إذا هم قرأوه بأنفسهم وأتاحوا لأرواحهم فرصةَ الانفتاح والانطلاق.’ وفي شهر يناير/ كانون الثاني 1936 كتبت الملكة ماري إلى شوقي أفندي نفسه بعد استلامها نسخة من الكتاب: ‘أرجو أن أبعث إليك بعميق شكري وامتناني على هذا الكتاب الرائع. كل كلمة فيه عندي نفيسة، وما يضاعف قيمته أنه جاء في وقت الشدّة والضيق هذا.’ فأجابها ولي الأمر بأن مكافأته على جهوده في الترجمة قد وصلته بالكامل عندما صرّحت جلالتها بأنها قد استفادت من قراءته.
وبين عامي 1936–1937 أتْبَع هذا العمل بترجمة ما يمكن تسميته تقريبًا بالكتاب المرافق، وهو يضارع المنتخبات قيمةً ويكمّلها مادةً، ذلك هو “أدعية ومناجاة لحضرة بهاء الله”.[26] وهنا نجد ثانية الأستاذ السابق لولي الأمر البروفسور بيارد دودج يكتب إلى حضرته بعبارات تنمّ عن تقييم ذكيّ حاد لما تضمّنه عمل كهذا من جهد قائلاً: ‘إن ترجمة الأفكار الشاعرية العميقة، كالتي جاءت في المناجاة والتأملات، تتطلّب قدرًا هائلاً من العمل الصعب المُجهد… لقد أخبرتُكَ سابقًا كم هو إعجابي عندما أرى المستوى الرفيع للغة الإنكليزية التي تستعملها.’ وعندما تسلّم كتاب “المنتخبات” كتب البروفسور دودج إلى ولي الأمر قائلاً: ‘لقد برعتَ باللغة الإنكليزية وتمكّنتَ منها بطريقة رائعة إلى درجة جعلتني أتأكد بأن الأقوال لم تفقد معانيها وسحرها عند الترجمة.’ وعندما وصلته ترجمة شوقي أفندي للكلمات المكنونة كتب البروفسور ثانية بنظرة ثاقبة إلى ما يمكن أن يدلّل عليه عمل كهذا: ‘أدرك كم هو صعب للغاية ترجمة أفكار شرقية جميلة إلى اللغة الإنكليزية. أُهنئك على نوعية اللغة التي استعملتَها.’
ما إن نُشر هذا الكنز الثمين من المناجاة مع الله الذي لم يَرِدْ مثلُه في أدبيات أي من الديانات السابقة، حتى أخذ شوقي أفندي يعمل في إعداد رسالة عامة كانت الأطول مما سبق وكتب، وقد رأت النور عام 1939 بعنوان “ظهور العدل الإلهي”، حيث كتبها خلال السنة التي قضاها في أوروبا لسبب راجع للأعمال الإرهابية في فلسطين، وقد وجّهها للأحباء في أمريكا وكندا، وفيها بيّن شوقي أفندي لتلك الجامعة، وبشكل غير مسبوق، ما قُدّر لها من دور تؤدّيه في الكشف عما قُدّر للإنسان على هذا الكوكب، وحدّدت الرسالة أهداف خطة السنوات السبع التي افتُتِحت مؤخرًا، والذي يشكّل الخطوة الأولى نحو تحقيق ما جاء من تدابير في ألواح الخطة الإلهية لحضرة عبد البهاء. وأشار إلى أن مصير جميع النشاطات والفعاليات المستقبلية في نشر نظامه العالمي في أنحاء القارات الأخرى من العالم إنما يتوقف على نجاح هذا المشروع المشترك الأعظم الذي لم يسبق لأتباع حضرة بهاء الله أن تعهّدوا وقاموا بمثله من قبل. وقف شوقي أفندي أمام الجامعة البهائية في أمريكا الشمالية رافعًا بيده بكل لطف ولكن بحزم، مرآةً أمام وجوههم تعكس لهم حضارة تحيط بهم، محذّرًا إياهم من شرورها بعبارات تسمّرت لها الأحداق وارتجفت منها القلوب، ومبيّنًا لهم حقيقةَ، لعلّ قلّة منهم تأملت فيها، أن الشرور الحقيقية لتلك المدنية هي السبب الخفيّ وراء اختيار الحق – جلّ جلاله – موطِنَهم مهدًا ‘لنظامه العالمي’ في هذا اليوم. ولما كانت التحذيرات التي تضمّنتها رسالته “ظهور العدل الإلهي” تعدّ جزءًا مكملاً لرؤية شوقي أفندي وتوجيهاته التي دأب على تقديمها لأحبائه الأوفياء طيلة فترة ولايته، فلا يمكن لهذه التحذيرات أن تمرّ بسكون وتلقى منا الصمت إذا ما أردنا أن نحصل ولو على فهم بسيط سليم للمهمّة التي أوكلت إلى حضرته. وبعبارات لا لبس فيها وجّه نقده الشديد إلى الانحلال الخلقي الحاصل، والفساد السياسي، وإلى التعصب العنصري، والمادية التي أخذت تنخر في مجتمعهم، على النقيض تمامًا من تلك المعايير السامية التي غرسها حضرة بهاء الله في تعاليمه وفرضها على أتباعه. وتذهب الوثيقة إلى تحذيرهم من الحرب التي باتت قريبة جدًا، وحثِّهم على الثبات والاستقامة رغم كل المحن التي قد تطالهم وتُبتَلى بها أُمّتهم في المستقبل، وأن ينطلقوا بالأمانة المقدسة ليحققوا النصر المؤزّر لأهداف الخطة الإلهية التي دشّنوها حديثًا في ربوع النصف الغربي من الكرة الأرضية.
هناك رسالة أخرى عامة صدرت عام 1941 – موجهة في هذه المرة إلى جموع البهائيين في أنحاء الغرب – وظهرت بعنوان “قد جاء اليوم الموعود”، وتكشف أمامنا مع رسالة “ظهور العدل الإلهي” جذور فساد وانحلال عالم اليوم. في هذه الرسالة التي كُتبت في السنة الثانية من الحرب، يرفع شوقي أفندي صوته مدوّيًا، شاجبًا هذا الجيل على ضلاله ومفاسده، مقتبسًا مقتطفات خرجت كلماتها من فم حضرة بهاء الله نفسه مستخدِمًا إياها كالصواريخ الموجهة من قِبَله: ‘قد آن أوان فناء العالم وأهله’[27] ‘قد جاء اليوم الموعود، يوم تدمدم عليكم المحن والبلايا فوق رؤوسكم وتحت أرجلكم وهي تقول: ‘ذوقوا بما اكتسبت أيديكم‘[28]، ‘عما قريب سيدمدم عليكم العذاب الإلهي ويلفّكم رماد سَقَر’[29]، ‘وإذا تمّ الميقات يظهر بغتةً ما يرتعد به فرائص العالم‘[30]، ‘سوف تحترق المدن من ناره [أي التمدن] وينطق لسان العظمة المُلْك لله العزيز الحميد‘[31]، ‘عما قريب سيأتي يومٌ يصرخون فيه هل من مغيث، ولكن لا مجيب’[32]، ‘إنّا قد جعلنا ميقاتًا لكم فإذا تمّت الميقات وما أقبلتم إلى الله ليأخذنّكم عن كلّ الجهات ويرسل عليكم نفحات العذاب عن كلّ الأشطار وكان عذاب ربّك لشديد‘[33]، ‘قل يا أهل الأرض اعلموا علم اليقين أنّ من ورائكم بلاءً مباغتًا وأنّ في أعقابكم عقابًا عظيمًا، فلا تحسبوا أنّ ما ارتكبتموه قد مُحي من أمام عيني. قسمًا بجمالي إنّ جميع أعمالكم قد أثبتها القلم الجليّ في الألواح الزبرجدية.’[34]
يرسم لنا ولي أمر الله صورة رهيبة، مرعبة ومهيبة لما آلت اليه أوضاع الجنس البشري نتيجة عناده وإصراره على رفضه حضرة بهاء الله، فكتب يقول بأن ‘المحن والبلايا العالمية التي أحكمت قبضتها على الإنسانية’ هي ‘في الدرجة الأولى قضاء إلهي حكم به الله على شعوب الأرض الذين ظلّوا قرنًا من الزمان يرفضون الاعتراف بالذي بظهوره وُعدت جميع الأديان.’ ويعيد شوقي أفندي بإيجاز ذِكْرَ المعاناة والاضطهاد والافتراءات والقسوة التي تعرّض لها حضرة الباب وحضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء، ويروي من جديد حكاية براءتهم واصطبارهم وثباتهم في مواجهة تلك المحن والرزايا، ثم سأْمهم في النهاية من هذا العالم وهم يعدّون أنفسهم لمغادرته إلى عوالم خالقهم السماوية. يعدّد شوقي أفندي آثام الجنس البشري تجاه هؤلاء الأبرار، ويشير بإصبع الاتهام إلى قادة العالم وملوكه وإلى رجال الدين في أعلى المراتب والحكام الذين وجّه إليهم المظهران الإلهيان التوأم مباشرة رسالتهما بكل ما فيها من قوة وجبروت، والذين بسبب تجاهلهم واجبَهم الأسمى في الإصغاء لنداء الله، صرّح حضرة بهاء الله نفسه بقوله الأحلى: ‘قُبضت العزّة عن طائفتين: الأمراء والعلماء.’[35]
كم هي جذّابة وغزيرة وواسعة كتابات شوقي أفندي في مواضيعها، بحيث إن المرء عندما يُمسك رسالة مثل “قد جاء اليوم الموعود” ويبدأ بمجرّد تصفُّحها حتى يجد نفسه منساقًا وراء هذا الفكر العظيم الذي أَلْهَبَ مشاعره، وغائبًا عن باله أن الغرض من هذه الصفحات ليس مراجعة كتبه، بل هي محاولة للكشف عن الجوانب العديدة من حياته ومنجزاته والتأمُّل فيها. ومع كل هذا لا أستطيع إلا أن أقتطف فقرة من رسالة كتبها بهائي متواضع جدًا لولي أمر الله على أثر نشر هذه الوثيقة: ‘إن كتاب ‘قد جاء اليوم الموعود’ بالنسبة لي كحبّة دراق حلوة أُحِبّها، وكل ما أحتاجه الآن فهم واضح له من أعماق قلبي. لك الشكر على مَنِّك وفضلك يا شوقي أفندي، لا يمكن أن تعرف مقدار ما فَعَلْتَ من أجلي… فما الذي فعلناه يومًا من أجلك؟ لقد فعلتَ من أجلنا كل شيء…’
بين هاتين الرسالتين اللتين يمكن اعتبارهما عامّتين – “ظهور العدل الإلهي” و”قد جاء اليوم الموعود” – قدّم شوقي أفندي لأحباء الغرب خامس وآخر كتاب من تراجمه لآثار حضرة بهاء الله الكتابية والذي أنجزه في شتاء عامي 1939–1940، خلال فترة أخرى من أخطر وأصعب فترات حياته، ثم أرسله إلى أمريكا بالبريد بقصد نشره، وذلك عشيّة مغادرته إلى أوروبا وسط لهيب الحرب الأوروبية. ذلك هو ترجمته “لوحَ ابن الذئب”، آخر آثار حضرة بهاء الله الأساسية التي تضم مختارات مما كتبها حضرته واختارها بنفسه (من المؤكّد أنه حَدَثٌ فريد من نوعه في التاريخ الديني!) خلال السنتين الأخيرتين من حياته، ولذلك لها مكانتها الخاصة بين الآثار الكتابية لديننا. وفي برقية قبل وقت قصير من نشر ترجمة اللوح المبارك قال شوقي أفندي ‘آمل مخلصًا أن تساهم دراسته في مزيد من التنوير والفهم الأعمق للحقائق التي تتوقف عليها في نهاية المطاف متابعة فعّالة لتنفيذ المشاريع التبليغية والإدارية…’
من مَدْخلٍ ورد في مذكّراتي اليومية الخاصة المؤرخة 22 يناير/ كانون الثاني 1944 أقتطف ما يلي: ‘تمّت في هذا اليوم بالفعل التصحيحات النهائية للفصل الأخير من كتاب شوقي أفندي Prospect and Retrospect [تأمُّل الماضي واستشراف المستقبل] وغدًا سوف يُرسَل بالبريد للسيد هورِس. مرّت سنتان تقريبًا – وربما أكثر! – منذ أن باشر ولي الأمر العمل فيه، وما يعنيه ذلك أنه كان تقريبًا عملاً متواصلاً من جانبه وعبئًا ثقيلاً مُجهِدًا، إلا أنه يستحقّ كل هذا العناء بالتأكيد! فهو كتاب رائع مدهش.’ بمثل هذه المدونات البسيطة غالبًا ما كانت تُدوَّن الأحداث العظيمة بواسطة أولئك الذين شاركوا فيها ليصلوا في النهاية منهكين مُسْتَهْلَكين، لم يتبق لديهم سوى ما هو عرضي بالٍ! وهنا أيضًا أجد نفسي منهكة حتى إنني بالكاد أتذكّر أن هذا العمل قد استغرق فعلاً أكثر من سنتين ليَكتُب ما أشار إليه شوقي أفندي وأنا أيضًا بـ ”الكتاب”، ولكنه في النهاية اتخذ عنوانه الجميل.
إنه كتاب “القرن البديع”، قصة قرن من الزمان هي الأعظم تألُّقًا وروعة لم يكن بمثلها من قبل، إنه حقًا “أمّ” سِيَر تأريخ المستقبل، كتابٌ لكل كلمة فيه مكانتها واعتبارها، وكل جملة زاخرة بالفكر، وكل فكرة تُفضي إلى فضاء خاص بها. كتاب مليء بالحقائق البارزة المتراصة، حقائق، في تسلسلها، لها مدى ودقة بِلَّوْرات الثلج الصافية كل واحدة منها كاملة بحدّ ذاتها، وكل موضوع فيه برّاق في خطوطه العريضة ومتناسق متوازن وتامّ في ذاته ويشكّل مادة أساسية لأولئك الذين يتابعون ويدرسون ويقيّمون ويتوسّعون في رسالة حضرة بهاء الله ونظامه البديع. إنه واحد من أعظم إنجازات شوقي أفندي إبّان حياته وأكثرها تركيزًا. هو الكتاب الوحيد بكل معنى الكلمة الذي لدينا من قلمه – لأن جميع كتاباته الأخرى كانت بلا شك، بسبب تواضعه الشديد وإنكاره للذات، على شكل رسائل موجهة لجامعة معينة أو قطاع من العالم البهائي.
كانت طريقة شوقي أفندي في تأليفه كتاب “القرن البديع” أن جلس سنة كاملة يقرأ كل كتاب عن الآثار البهائية بالفارسية والإنكليزية، وكل كتاب ألّفه بهائيون عن الدين البهائي، منشورًا كان أم مخطوطًا، وكل ما كتبه غير البهائيين ويشكّل له مرجعًا مهمًا. لقد غطّى خلال تلك السنة قراءة ما يعادل مائتي كتاب على الأقل حسب ظني. كان يسجّل الملاحظات وهو يقرأ، ثم يجمّع ويرتّب ما يرد فيه من حقائق. وأيّ شخص عالج يومًا عملاً له صبغة تأريخية يدرك تمامًا كم احتاجه من بحث وتدقيق، وكم على المرء أن يقرر في أغلب الأحيان، على ضوء المادة مدار البحث، بين هذا التأريخ الذي ورد في مكان ما والتأريخ المذكور في مكان آخر. كم هو عمل قاصم للظهر برمّته، وكم هو أكثر بكثير عندما يكون ولي الأمر منشغلاً تمامًا في مثل هذا العمل، وقائم، في الوقت نفسه، على التجهيز للاحتفال بالعيد المئوي القادم للأمر المبارك، ويتخذ قراراته فيما يتعلق بتصميم البناء الفوقي لمقام حضرة الباب. وحالما تجمَّعت لديه كل الخيوط المطلوبة لكتابه، أخذ شوقي أفندي في حَبْكها بنسيج لوحته مُبرزًا رؤيته عن أهمية القرن الأول للدورة البهائية. لم يكن غرضه، كما صرّح، بأن يكتب تاريخًا مفصّلاً لأحداث تلك السنوات المائة، بقدْر ما هو استعراض الملامح البارزة لميلاد هذا الدين ونشأته، وإقامة مؤسساته الإدارية، وسلسلة من الأزمات المتتابعة التي دفعته إلى الأمام بطريقة خفيّة بفضل انطلاق القوة الملكوتية الكامنة فيه لتنقله من نصر إلى نصر. فكشف لنا عن مشهد عام شامل لأحداث وصفها بأنها ‘حقبة المائة سنة… قد انبسطت أمام بصائرنا’، وأزاحت الستار عن الفصول الافتتاحية لما أكّد هو نفسه بأنه يمثّل ‘مرسحية واحدة محبوكة الأطراف فائقة سامية، لا يمكن لفكر أن يسبر غور عقدتها، ولا لعين أن تلمح قمّتها ولو بشكل ضبابي، ولا لعقل أن يتكهّن خاتمتها بصورة كافية.’
كم من مئات الساعات قضاها شوقي أفندي في قراءة مصادره وتجميع وتصنيف ملاحظاته، وكم هي عديدة تلك الأيام والأشهر التي كابدها في الكتابة بخط يده بكل مثابرة – وكثيرًا ما كان يعيد الكتابة – لسلسلة فصوله المهيبة، وكم هو المزيد من الأيام المرهقة التي جلس فيها أمام طابعته المحمولة الصغيرة يضرب عليها ببضع أصابعه ولمدة عشر ساعات متواصلة أحيانًا وهو يطبع النسخة النهائية من كتابه! وكم من ساعات أُخَرَ أكثر قضيناها معًا حتى وقت متأخر من الليل، بعد أن ينتهي من الطباعة نهارًا، لنجلس جنبًا إلى جنب على طاولته الكبيرة في غرفة نومه، وكل واحد منا معه ثلاث نسخ من المادة المطبوعة على الآلة الطابعة مبسوطة أمامنا ونحن نقرأ ونصحِّح الأخطاء ونضع باليد آلاف إشارات ضبط لفظ الكلمات التي تُكتَب بحروف لغة أخرى والتي اعتاد شوقي أفندي أن يلفظها بصوت عالٍ، ونبقى على هذا الحال حتى تَحْمَرَّ عيناه وتَغْبشا ويتصلّب ظهره وذراعاه من شدة الإرهاق. كل هذا ونحن ماضون في عملنا حتى نُنهي الفصل بكامله أو جزءًا من فصل أَنْجز طباعته نهار ذلك اليوم ويجب الانتهاء منه. فليس هناك مجال للعمل بخطوات أبطأ، فكان يسابق الزمن في سبيل أن يقدّم للأحباء في الغرب هذه الهدية التي لا تُضاهَى بمناسبة ذكرى العيد المئوي لمولد دينهم العزيز. ورغم أنه في الحقيقة قد أرسل المخطوطة المُصحَّحة إلى أمريكا بالبريد على دفعات، إلا أن الظروف السائدة في الولايات المتحدة آنذاك قد أعاقت نشره، ولم يخرج الكتاب من المطبعة إلا في منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1944.
لا يكفينا القول: ‘أنظروا ماذا فعل الرجل!’ بل على المرء أن يسأل: ‘كيف! وفي أي الظروف فعل ما فعل؟’ لقد كتب حضرة عبد البهاء ألواح الخطة الإلهية عندما كان متقدّمًا في السنّ وقد أضناه التعب وكان في خطر عظيم متواصل عندما كانت الحرب العالمية الأولى تضع أوزارها، هكذا الأمر مع شوقي أفندي الذي غدا في غاية الإرهاق ينوء تحت عبء ثقيل مدة عشرين سنة منذ تولّيه الولاية، وعندما امتدت الحرب العالمية الثانية وهدّدت باكتساح الأرض الأقدس والنيل من حضرته ومن المركز العالمي للأمر المبارك في اجتياح كارثي دفعة واحدة، في فترة كان بيته يعاني من عاصفة عنيفة ضربته نتيجة نقض العهد والميثاق والتي أخذت تؤثر الآن على عائلته بالذات، كان شوقي أفندي قد وضع لنفسه مهمة تقضي بأن يقيّم مغزى أحداث القرن الأول للدور البهائي لمدى الزمن. فيا لحسرتي عندما كنت أراه في أوقات نادرة من تلك السنوات يبكي بكل حُرقة كمن انكسر قلبه – لقد عانى من الكرب أَشُدَّه ومن الضغوط الساحقة أقساها!
لم يكتفِ شوقي أفندي بما أتمّه توًّا من سردٍ تاريخي باللغة الإنكليزية، فقد توجّه الآن بأفكاره إلى جامعة أتباع حضرة بهاء الله المحبوبين المخلصين في موطنه الأصلي الذين عانوا طويلاً صنوف العذاب والاضطهاد، وبدأ يكتب مذكرة أخرى باللغة الفارسية عن القرن الأول للأمر الإلهي في إيران، وكانت في موضوعها تحاكي كتابه بالإنكليزية ولكنها أصغر حجمًا، مختلفة في طبيعتها إلا أنها لا تقلّ عنه روعة في عرض حقائقها وتألُّق لغتها على السواء. وبينما جالسْتُه في معظم كتابته “القرن البديع” بالإنكليزية، لم يكن لي مبرر لفعل المثيل في هذا اللوح – [لوح القرن]. كان الفارق بين أسلوب شوقي أفندي في رسائله المكتوبة بالفارسية والمتداخل معها مفردات اللغة العربية بوفرة، وبين اللغة الفارسية الدارجة في حينه هو كالفرق بين اللغة الإنكليزية الشكسبيرية ولغة الصحافة الحديثة! وبسبب ضحالة معرفتي بالفارسية وعدم إلمامي بالعربية لم يكن بمقدوري أن أفهم أكثر من ثلاث أو أربع كلمات من أصل عشرٍ، ومع ذلك اعتاد أن يقرأ لي أو بالأحرى يقرأ لي بلحن بعضًا من فقراته، فكان سَيْل كلماته المهيبة المنسابة بإجلال بما فيها من قوة وكمال، واضحًا لي حتى لو عجزتُ عن متابعة معانيها. أذكر كيف كنت أسمع صوته، وأنا أقترب من غرفته، وهو يلحن لنفسه ما ينشيه بقلمه بصوت بالغ الحزن وفي غاية الجمال. والشيء الساحر أيضًا كيف كان يواصل تلحينه للجملة التي يكتبها إلى أن يصطدم بشيء أحسّ به، بكلمة لا تنسجم وسلاسة التعبير، وعندها يتوقف الصوت الجميل بشكل تلقائي ثم يعود إلى بداية الجملة ويبدأ الترتيل ثانية إلى أن يصل إلى النقطة نفسها، وعندما لا يعثر على مراده يبقى يكرِّر العملية إلى أن ينجح! إن الأمر أشبه بطائر رائع تائه في عالمه الخاص يختبر ألْحانه لنفسه. يقع هذا اللوح في مائة صفحة بخط اليد الجميل ويعدّ تحفة أخرى من روائع شوقي أفندي الكتابية، ويشكّل مع كتاب “القرن البديع” مُراجعةً لأحداث مائة عام، ويُعدّان معًا هدية نفيسة لا تُقدّر بثمن من حضرته إلى البهائيين بمناسبة الذكرى المئوية، وقد كُتبا بثمن باهظ من قوته وصحته وفي سنوات كان العالم فيها يهتزّ مترنّحًا من أهوال حربه العظمى.
في السنوات الثلاثة عشرة التي تلت لم يعمد شوقي أفندي إلى الترجمة ولا إلى تأليف أي كتب إضافية، وتلك كانت خسارتنا الكبرى، ذلك لأنه أصبح لا يجد الوقت الكافي لمثل هذه الأعمال. فالجامعة العالمية للدين البهائي التي كان عليه بناؤها بتلك الآلام منذ عام 1921، قد امتدت الآن واتسعت بحيث باتت تستنفد منه وقته وقوَّته ولم تترك له إلا القليل من أجل أن يُنجز العمل الإبداعي المكثّف بفضل موهبته التي منحته إياها فطرته بسخاء. وعلى كل حال، ظلّ يُغدق على الأحباء وهيئاتهم المركزية بوافر إرشاداته وتوجيهاته من خلال الرسائل وعلى وجه الخصوص في برقيات مطوّلة. وبحلول عام 1941 كان شوقي أفندي قد بدأ بالفعل في تعداد انتصارات الأحباء التي أحرزوها في جميع أنحاء العالم. ومن خلال هذا النوع من الرسائل فقد طوّر أخيرًا رسائل الرضوان المنعشة والمثيرة التي يستعرض فيها ما تمّ من أعمال في كل عام، وهو استعراض مكّن الأحباء من الاطّلاع على ثمار مجهوداتهم في كل قطر كجزءٍ من كُلٍّ باهرٍ عظيم.
منذ مستَهلّ ولايته كان شوقي أفندي، وبشكل متزايد، يستعمل التلغراف والبرقية وسيلةً لاتصالاته ليس توفيرًا للوقت فحسب، بل لتأثيرها النفسي كما بيّن لي. فالبرقية تحمل إحساسًا بالإلحاح والتأثير بأهمية الموضوع، وغالبًا ما تكون الطريقة الأفضل لإيصال المراد. لقد طوّر شوقي أفندي ما يمكن أن يُسمّيه المرء ‘لغة البرقيات’ وعلى درجة عالية أصبحت فيها إنجازًا أدبيًا، وكثيرًا ما كان يرسل برقياته بطول الرسائل. كان يفكّر في صيغتها المختصرة حين كتابتها. لم تكن المسألة مجرد تعبير عن فكرة ما بالإنشاء المألوف في الكتابة ثم يتم حذف كل الكلمات التي يمكن استبعادها دون المساس بالمعنى المراد، بل كان يصيغ برقياته منذ البداية دون أن يفكّر إطلاقًا بإدخال مثل تلك الكلمات في نصّه، وهكذا يأتي الأسلوب واضحًا للغاية، قويًا ومؤثرًا. فالبرقية تفقد طرازها – وغالبًا معناها الصحيح – إذا ما أدخل شخص ما عليها كل أحرف العطف والجرّ وألّ التعريف وغيرها بقصد توضيحها حسب ظنّه (if`s, and`s , of`s , the`s). فإضافة أحرف كهذه دون حصرها بين هلاليْن يعدّ تدخلاً لا مبرر له في نصوص ديننا لأنها تعني أن محررًا ما قد أدخل إلى جمل شوقي أفندي أحرفًا أو كلمات متذرعًا بتوضيح ما عناه حضرته حسب اعتقاده. ومن ناحية أخرى فإن إدخال أي شيء على النص مهما كان، حتى لو كان بين هلالين، يبدي للقارئ ضمنًا أنه إنسان غير فَطِن وعاجز عن فهم ما عناه ولي الأمر.
وحتى أواخر أيام حياته واصل شوقي أفندي إلهامه للعالم البهائي بتوجيهاته وأفكاره بكلمات تدفّقت من قلمه غاية في القوة والأهمية تعادل عددًا من المجلّدات في حجمها. إلا أنه كان عهدًا قد انتهى بانتهاء الحرب وبازدياد النشاط الإداري في أنحاء العالم. ومع أن بواعثه الدافعة لم تغِبْ عنه أبدًا، وساعات عمله اليومي في خدمة أمر الله لم تتقلّص قطُّ إلى أن غادر هذا العالم، فإن شوقي أفندي كان في غاية التعب والإرهاق.
يمكن تقسيم أعمال شوقي أفندي في حياته إلى أربعة أقسام رئيسة: تراجمه لكلمات حضرة بهاء الله وحضرة الباب وحضرة عبد البهاء ثم “تاريخ النبيل”؛ مؤلَّفاته الشخصية مثل سرده تاريخ قرن من الزمان نُشِرَ بعنوان “القرن البديع”، بالإضافة إلى سيل لم ينقطع من رسائله الإرشادية والتوجيهية الصادرة من قلمه والتي بيّن فيها للأحباء أهمية بناء مؤسساتهم الإدارية وتوقيت ذلك وأسلوبه الأمثل؛ برنامج عمل متواصل يهدف إلى توسيع رقعة الأصول المادية وتقويتها لدين عالمي واسع الانتشار، ويشمل ذلك، ليس إتمام وإنشاء وتجميل الأماكن المقدسة في المركز العالمي فحسب، بل وتشييد مشارق الأذكار أيضًا، وحيازة المراكز الإدارية المركزية منها والمحلية، والأوقاف الأمرية في أقطار مختلفة في أنحاء الشرق والغرب؛ وقبل كل شيء، توجيه بارع للفكر نحو المفاهيم التي تكتنزها تعاليم الأمر المبارك، وتصنيف مُبوَّب لتلك التعاليم بما يمكن وصفه بحق بأنه مشهد شموليّ لمغزى دين حضرة بهاء الله وتطبيقاته، وهدفه، وما قُدِّر له. وهي بالفعل تلك الحقيقة الدينية نفسها التي تُجَسِّد صورة الإنسان، كأشرف مخلوقات الله، وهو يسير منذ نشوئه نحو اكتمال تطوّره – وتأسيس ملكوت الله على الأرض.
[1] Macaulay, Thomas Babington.
[2] Webster.
[3] Alliteration.
[4] كتاب “القرن البديع – من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل – الطبعة االثانية سنة 2002، ص 21–22.
[5] The Nineteenth Century.
[6] A. L. M. Nicolas.
[7] George Townshend.
[8] Ouskouli.
[9] Braille.
[10] Pinchon.
[11] The World Order of Baha’u’llah.
[12] The World Order of Baha’u’llah Further Considerations.
[13] The Goal of a New World Order.
[14] The Golden Age of the Cause of Baha’u’llah.
[15] America and the Most Great Peace.
[16] The Dispensation of Baha’u’llah.
[17] The Unfoldment of World Civilization.
[18] Gordon Bottomley.
[19] Dr. Alfred W. Martin.
[20] Bayard Dodge.
[21] Crawford.
[22] Seelye.
[23] Denison Ross.
[24] Facsimile.
[25] Norman Bentwich.
[26] صدر الكتاب بلغته الأصلية (عربي وفارسي) بعنوان “مناجاة، من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل.
[27] نقلاً عن مسودة ترجمة، لم تنشر بعد، للتوقيع المبارك The Promised Day is Come قام بها المرحوم د. محمد العزاوي.
[28] المصدر السابق نفسه.
[29] ترجمة المترجميْن.
[30] كتاب “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، فقرة 61، ص 48، الطبعة الثانية سنة 2006م.
[31] كتاب “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، فقرة 164، ص 135، الطبعة الثانية سنة 2006م.
[32] ترجمة المترجميْن.
[33] كتاب “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، فقرة 108.
[34] كتاب “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، فقرة 104 (المقتطف مدرج في The Promised Day is Come وقد أخذت ترجمته من مسودة ترجمة غير منشورة للتوقيع المذكور قام بها المرحوم العزاوي).
[35] حضرة بهاء الله، كما استشهد به شوقي أفندي في كتاب “القرن البديع، من منشورات دار النّشر البهائية في البرازيل، طبعة مارس/ آذار 2002، ص 271.
إن تطوّر المركز العالمي للدين البهائي برعاية ولي أمر الله يمثّل أحد الإنجازات الرئيسة الهامة في حياته، ولا يمكن مقارنته من حيث الأهمية إلا بانتشار الأمر المبارك نفسه واستحكام أركانه في أنحاء الكرة الأرضية بأكملها. وعن الأهمية الفريدة لهذا المركز كتب شوقي أفندي بأنه ‘… الأرض الأقدس – قِبلة جامعة عالمية، والقلب النابض الذي تتدفق منه باستمرارٍ تلك القوى المُنشِّطة لدين مانح للحياة، المقرّ والمركز الذي تدور في فلكه مختلف النشاطات والفعّاليات لنظام إداري إلهيّ التعيين.’
عندما تولّى شوقي أفندي عام 1921 المهامّ والمسؤوليات التي أُوكلت إليه في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء، كانت الممتلكات البهائية في حيفا وعكاء تضمُّ مقام حضرة بهاء الله في البهجة الذي كان يقع في منزل يخصّ الأفنان ورثة ابنة حضرة بهاء الله التي ووري في منزلها جثمانه الطاهر بعد صعوده المبارك؛ ثم المقام الأعلى لحضرة الباب على جبل الكرمل محاطًا بقطع قليلة من الأراضي التي امتُلِكت زمن حضرة عبد البهاء وعلى إحداها أقيم دار ضيافة المسافرين الشرقيين للأرض الأقدس؛ وهناك بيت عبّود الذي أقام فيه حضرة بهاء الله عدة سنوات في عكاء وأنزل فيه “الكتاب الأقدس”؛ وحديقة الرضوان والحدائق المجاورة؛ ثم منزل حضرة عبد البهاء في حيفا. أما قصر حضرة بهاء الله المجاور لمرقده المقدس فكان يسكنه محمد علي الناقض الأكبر للعهد والميثاق. كانت سندات تسجيل الملكية للممتلكات البهائية كلها تقريبًا مسجّلة إما بأسماء مختلف أفراد العائلة أو بأسماء عدد قليل من الأحباء. وهكذا، كان الوضع القانوني للدين وممتلكاته برمّته غير آمن. ولذلك فإننا نرى أن ما أنجزه شوقي أفندي أثناء ولايته في حماية هذه الأماكن المقدسة وما أضافه إليها، ثم في توسعة رقعة الأراضي المحيطة بها، وفي تسجيل تلك الأراضي في حالات كثيرة بأسماء فروع فلسطينية مسجلة رسميًّا لمحافل روحانية مركزية مختلفة، ثم في تأمين إعفائها رسميًا من الرسوم البلدية والضرائب الحكومية، إنما يعدّ عملاً أشبه بالمعجزة. وعندما نتذكر أن وضع شوقي أفندي عام 1922 كان غير مستقرّ مما جرّأ محمد علي في الاستيلاء على مفاتيح المرقد المقدس لحضرة بهاء الله، وأن الكثير من العناصر الإسلامية والمسيحية، ممن حرّكتهم مشاعر الغيرة والحسد بسبب التأييد والحظوة العالمية التي حظي بها حضرة عبد البهاء في أواخر حياته، كانوا توّاقين جدًا للنيل من سُمعة ومكانة خليفة حضرته الشاب في أعين السلطات الرسمية، وأن شوقي أفندي نفسه ما إنِ اضطلع بمهمة ولاية الأمر حتى وجد نفسه مباشرة مغمورًا في لُجّة مشاكل خطيرة من كل نوع وطبيعة يمكن تصوّرها، في داخل أمر الله وخارجه، لا يسعنا عندها إلاّ أن نبدي إعجابنا من جديد بالحكمة والحنكة في القيادة التي ميّزت تصريفه لشؤون الأمر الإلهي في المركز العالمي.
قد انقضى العصر البطولي للأمر المبارك، وما اصطلح عليه شوقي أفندي بـ ”عصر التكوين” قد طلع فجره بابتداء ولايته، واتّخذ شكله بواسطته إلى الأبد. أمّا وقد أدرك تمامًا أنّ لا مقامه الخاص ولا قُدراته يمكن أن يكونا مثل تلك التي كانت للمولى المحبوب، فقد رفض شوقي أفندي أن يقلِّد حضرته بأي طريقة؛ في اللباس، في العادات، في السلوك. لقد كان يؤمن بأن تقليده لحضرة المولى إنما هو عمل يفتقر تمامًا إلى سداد الرأي والاحترام اللائق. فالأمر المبارك يشهد الآن يومًا جديدًا ويتطلّب أساليب جديدة. هذا هو عصر انعتاق الأمر المبارك وتحرره، والاعتراف بوضعه المستقل، وتأسيس نظامه وتشييد مؤسساته. لقد وصل حضرة عبد البهاء إلى الأرض الأقدس سجينًا ومنفيًّا؛ ومع أنه استطاع أن يُعلن في أسفاره إلى بلاد الغرب، ومن خلال رسائله، الطابع المستقلّ لدين والده، إلا أنه لم يستطع محليًا، في أواخر أيام حياته، أن يكسر جدار شرنَقَة العُرْف السائد الذي ربطه ردحًا من الزمن بالمجتمع ذات الأغلبية المسلمة؛ فالقيام بما من شأنه أن يكون مؤلمًا للآخرين ويفتقر إلى اللباقة، ليس من شيمة التعاليم البهائية. أما شوقي أفندي، العائد من دراسته في إنكلترا، فتىً يافعًا، متدربًا على عادات أهل الغرب وثقافتهم، هو الآن في موقف يتيح له التغيير. فمهما كان عليه حضرة عبد البهاء من الحب والتبجيل ممن كانوا حوله، إلا أنه لم يكن يُنْظر إليه على أنه رئيس لدين عالمي مستقلّ، بل كان بنظرهم شيخًا جليلاً يحمل فلسفة روحانية رفيعة المستوى لأُخُوّة عالمية، ويعدّ شخصية بارزة مميّزة من بين عليّة القوم في فلسطين. وبمحض قوة شخصيته وجاذبيتها استطاع حضرته أن يهيمن على قلوب مَن حوله. إلا أن شوقي أفندي عرف أنه لا يستطيع أبدًا أن يسير على هذا النهج في الظروف المحيطة به في بداية ولايته، بل لم يكن لديه الرغبة في ذلك. كان دأبه في كل مكان – خاصة في المركز البهائي العالمي – أن ينجح في الحصول على اعتراف بالأمر المبارك كدين عالمي يؤهله ليتبوّأ مكانته بين الديانات السماوية العالمية كالمسيحية والإسلام واليهودية ويتمتع بنفس الامتيازات الممنوحة لها.
منذ بداية ولايته أدرك شوقي أفندي حقيقةً مفادُها إذا كان عليه تأسيس المركز البهائي العالمي على قواعد متينة في السنوات القادمة التي لا بد للدين البهائي أن يمتد خلالها في الخارج، فإن مكانته – التي لم تكن مكانة رئيس محلي أو قومي بل مكانة رئيس عالمي للدين – يجب أن ترتكز في المحيط المحلّي على أساس مختلف تمامًا. ومع أن فلسطين تعتبر مكانًا مقدسًا لدى الديانات العالمية الثلاث العظيمة، إلا أنها لم تكن يومًا مركزًا روحيًا وإداريًا في آن معًا لأي منها. وعليه، لم يملك أحد في هذا البلد وضعًا مماثلاً لوضعه. وفي كل الاحوال، فهو كونه رئيسًا لدين عالمي مماثل، ومقيمًا في قلب مركزه الروحي والإداري معًا، فمن حقّه أن يتمتّع بالأولوية على جميع الرؤساء الدينيين في البلد. ومع أن شوقي أفندي كان يعي ذلك منذ بداية ولايته، إلا أنه كان حكيمًا على شأن أدرك فيه أن لا أمل له في ذلك الوقت من أن يحظى بدعم الآخرين لوجهة النظر تلك. ولذلك أظهر براعته بتجنُّب الدخول في نشاطات كان المولى المحبوب قد اعتاد عليها، وعدم المشاركة كيفما كان في فعاليات اجتماعية مختلفة، رسمية كانت أم غير رسمية. كان يدرك جيدًا أن لا أمل له بين المسؤولين ورجالات العلم المحليين أن يلقى حق الأولوية الذي تستحقه مكانته، وأنه إذا ما كان لمكانته كممثّل للبهائين أن تنزل إلى مكانة ثانوية بالنظر لصغر سنّه ولِمَا تتمتّع به الجالية المسلمة الكبيرة من سلطة ونفوذ، فإن مقامه سيتبلور استنادًا على هذه السابقة، وسيصبح في حكم المستحيل تقريبًا فيما بعد أن يتبوّأ مكانته الصحيحة كرئيس روحي لديانة عالمية. ولهذا السبب بشكل أساسي، تجنّب شوقي أفندي، ولمدة ست وثلاثين سنةً، جميع المناسبات والفعاليات التي تقيمها الحكومة والبلدية اللهم باستثناء واحدة أو اثنتين. ولم يتّخذ لنفسه دورًا في الحياة الاجتماعية مهما كان، مصرًّا باستمرار وبكل لباقة على ضرورة أن يتلقّى هو أو من يختاره ممثلاً عنه الأولوية التي يستحقها. وفي نهاية حياته كان هو الفائز عمليًا بهذه المعركة الطويلة، وبالرغم من أن المندوب البهائي لم يكن يحظى دائمًا بالأولوية التي يرغب فيها شوقي أفندي تمامًا، إلا أنه منع بشكل فعال أن يتخذ ممثله مكانة ثانوية بصفة دائمة في الفعاليات الرسمية. وفي المناسبات النادرة التي حضر فيها ولي الأمر بنفسه بعض الفعاليات الحكومية، كان يُسْتَقبَل كما ينبغي كرئيس لدين عالمي. وبالنظر إلى انشغاله المتواصل في عمله، وتوالي لطمات الأزمات عليه طيلة فترة حياته، ومتطلّبات الزائرين للأرض الأقدس التي أخذت من وقته ما يلزم، فإن التخلّي عن جميع أشكال الحياة الاجتماعية لم يشكّل حرمانًا كبيرًا لشوقي أفندي. إلاّ أنه زاد من عُزلته وحَرَمَه فعليًا من أي تَواصل فكريّ مع الشخصيات الهامّة المرموقة، ومن الحفز الذي قد يستمدّه من لقاء مثل هذه الشخصيات.
ومع ذلك كان لشوقي أفندي، في العقدين الأولين لولايته، اتصالاته الشخصية الوثيقة نوعًا ما مع مختلف المفوضين السامين ومدراء المقاطعة، ومن خلالها استطاع أن ينجح في استعادة مفاتيح المرقد الأطهر لحضرة بهاء الله، وفي تثبيت حقّه في الوصاية عليه دون منازع، وكذلك في امتلاك قصر حضرة بهاء الله في البهجة، وفي الحصول على الإذن بنقل رفات أقرب أقرباء حضرة عبد البهاء ودفنهما في منطقة مجاورة للمقام الأعلى لحضرة الباب وسط منطقة سكنية على جبل الكرمل، وفي اعتماد عقد الزواج البهائي لدى الحكومة أسوة باليهود والمسيحيين والمسلمين، وفوق هذا كله نجح بفضل جهوده الحثيثة في إقناع السلطات البريطانية بالطبيعة المقدسة للممتلكات البهائية في فلسطين وفي الحصول على موافقتها بإعفاء تلك الممتلكات من الضرائب الحكومية والرسوم البلدية.
كان قصر البهجة الشغل الشاغل الأول لشوقي أفندي، وكان عاقدًا العزم ليس على حماية المرقد المطهر لحضرة بهاء الله فحسب، بل وآخِر منزل كان قد شغله حضرته في هذا العالم وما يجاوره من أراضٍ ومبانٍ. فمنذ صعود حضرة بهاء الله عام 1892 وحتى عام 1929 ظلّ محمد علي وأقرباؤه يستوْلون على هذا البيت المعروف بـ ”القصر” أو “بيت عودة خمّار”، وهو بناء يعدّ فريدًا في فلسطين من حيث طرازه المعماري الفخم وكان قد اشتُري لحضرة بهاء الله قرابة نهاية حياته. هذا القصر أصبح الآن في حالة مزرية وخطيرة نتيجة سوء استعماله والإهمال في صيانته. فجدرانه قد اتّسخت وتآكلت بفعل مياه الأمطار وسقفه يكاد ينهار، وغرفُهُ التي كانت يومًا ما جميلة ومُحبَّبة للنفس أصبحت مهجورة أو استُخدمت مستودعات. في نوفمبر/ تشرين الثاني 1927 كتب شوقي أفندي إلى أحد الأحباء بأن ‘القصر لا يزال يحتلّه محمد علي، وقد أرسل إلينا مجد الدين (ابن عمه) رسالة يطالبنا فيها بإصلاح السقف الذي قد ينهار في أي وقت، وتمّ إعلامه بشكل قاطع بأننا لن نقوم بأي ترميم ما لم يتم إخلاء المبنى كاملاً.’ ويبدو أخيرًا أن وضع القصر قد وصل إلى نقطة لم يعد فيها للناقضين من خيار إلا أن يُذعِنوا لطلب شوقي أفندي، وهو ما تمّ بالفعل. ففي 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1929، وقبل يوم من إحياء الذكرى الثامنة لصعود حضرة عبد البهاء، أبرق شوقي أفندي إلى أحد الأقارب قائلاً: ‘… أُخلِيَ القصر وبدأت أعمال الترميم.’ وفي 5 ديسمبر/ كانون الأول كتب إلى أحد الأحباء يقول: ‘قصر حضرة بهاء الله، الذي سكنه محمد علي وبطانته أربعين سنةً تقريبًا، قد أُخلي أخيرًا، والصورة الفوتوغرافية المرفقة ستبيّن لك على أي حال تركوه! أعمال الترميم بدأت، والزائرون أخذوا يتوافدون لزيارة الغرفة التي رفّت فيها روح حضرة بهاء الله وحيث أمضى أسعد أيام حياته في هدوء وسلام.’ وبعد سنتين أُنجز العمل على الوجه الأكمل. فقد رَمَّمَ شوقي أفندي البناء وجدّده وأعاد إليه جماله الأصلي. وكان قد دعا أحد الأحباء، الذي كثيرًا ما تواجد هناك أيام شبابه ولديه المقدرة وذو ضمير حيّ، لكي يشرف على العمل. وهكذا أُعيد كل شيء إلى حالته الأصلية؛ السقف، الأعمال الخشبية، أعمال الجبص في الشرفة، الرسومات الزخرفية المعقدة التي تُزيِّن جدرانَ غرف الطابق العلوي كلها، عوارض السقف الخشبية الجميلة. وحالما تمّ ذلك أخذ شوقي أفندي في فرش الأرض بسجاد فخم ثمين أرسله الأحباء في إيران، وشرع في تعليق اللوحات النادرة للمخطوطات المزخرفة بخط الخطاط البهائي الشهير مشكين قلم على جدرانه، ثم أثَّثه بخزائن تضم تراجم الآثار البهائية بلغات مختلفة، وكذلك وضع عددًا لا يُحصى من الصور الفوتوغرافية والوثائق ذات الأهمية التاريخية في غرفه المختلفة، وبعد ذلك دعا ولي الأمر المندوب السامي البريطاني ليرى القصر وصَحِبَه بنفسه في هذه الجولة الاستطلاعية. ولما شاهد كل شيء سأل شوقي أفندي ضيفَه المندوب السامي عمّا إذا كان لا يشعر بأن مكانًا كهذا، وعلى هذا النحو من القداسة بالنسبة للبهائيين في العالم أجمع، إنما هو أسمى بكثير من أن يكون سَكَنًا خاصًا لفرد يقيم فيه! ويجب أن يُحافَظَ عليه ويُصان مكانًا مقدسًا للزائرين ومتحفًا تاريخيًا هامًا. فما كان من المندوب السامي، الذي أُعجب كثيرًا بلا شك بذلك المُدافع وبتلك الشهادة على حدٍّ سواء، إلا أن وافق على طلبه. وهكذا بقي القصر في عُهدة ورعاية شوقي أفندي. وبحلول شهر إبريل/ نيسان 1932 حظي الزائرون للأرض الأقدس بشرف المبيت ليلة واحدة في هذه البقعة التاريخية المقدسة، كما أن أبوابه قد فُتحت لعموم الزوّار من غير البهائيين أيضًا والذين تجوّلوا في غرفه الجميلة وتمعّنوا بتلك الشواهد الرائعة على الطبيعة العالمية للأمر المبارك، وبتلك النسخ التي لا تُحصى من أوراق التسجيل الرسمي للمحافل الروحانية، ووثائق الزواج البهائية، ومواد تاريخية أخرى إلى جانب صورٍ فوتوغرافية لشهداء الأمر وللمهاجرين.
بالرغم من حقيقة رجوع القصر المبارك إلى عهدة شوقي أفندي، أذكر كم كان يضايقه على الدوام حتى آخر أيام حياته حقيقة أن الناقضين لا زالوا يُشغِلون المنزل المجاور. ففي ليلة إحياء ذكرى صعود حضرة بهاء الله، عندما كان شوقي أفندي يتوجّه إلى المرقد المطهّر، وهو على رأس الرجال من الأحباء، بعد أن يزور الغرفة التي صعد فيها حضرته في القصر، كان عليه أن يمرّ أمام الغرفة التي يجتمع فيها الناقضون يقظين متربّصين، وغالبًا ما كانوا يرشقونه ببعض الكلمات الجارحة على مَسْمعه وهو يتجاوزهم، فيُضاف أسىً إلى ليلة هي في الأصل فيها ما يكفي من الأسى. بقي الأمر كذلك إلى أن جاء يومٌ أبرق فيه في شهر يونيو/ حزيران 1957 إلى العالم البهائي يزُفُّ إليه البشارة التالية: ‘بمشاعر عميقة من الفرح والابتهاج والامتنان، أُعلنُ اليوم، غداة الذكرى الخامسة والستين لصعود حضرة بهاء الله، عن نصر تاريخي رائع أُحرِز على زمرة خسيسة من ناقضي عهد الله وميثاقه، الذين تمترسوا، وعلى مدى ستة عقود ونيِّف، حول أقدس حرَمٍ في العالم البهائي.’
منذ شهر يناير/ كانون الثاني 1923، عندما كتب شوقي أفندي إلى أكبر أولاد ابنة حضرة بهاء الله (السيد حسين أفنان) طالبًا منه أن يُصدر إعلانًا صريحًا قاطعًا بأن الحقوق القانونية لأولئك الأفنان مهما كانت عليه، فإن المقام المقدس في البهجة، بسبب طبيعته، ترجع ملكيته إلى الدين البهائي، وحتى آخر لحظة من حياته واصل شوقي أفندي كفاحه من أجل أن يضع لهذه البقعة المقدسة أساسًا قانونيًا ثابتًا لا يتزعزع، رغم معارضة تلك الطُّغمة الفاسدة من الأقارب الذين قاوموا كل جهد بذله على مدى ثلاثين سنةً ونيِّف. لقد كان ذلك بفضل العناية الإلهية التي كانت تعمل في الخفاء، وبعد انتهاء حرب فلسطين، وما حصل من نزوح جماعي للكثيرين من العرب بمن فيهم الكثير من أعداء الدين، أن أصبح بمقدور شوقي أفندي أن يخرج منتصرًا في هذا الكفاح الطويل. ففي عام 1952 تحققت أمنيته – بعد طول انتظار – في امتلاك الأراضي المحيطة بالمرقد المطهّر وقصر حضرة بهاء الله في البهجة والتي بلغت مساحتها أكثر من (145000) متر مربع [145 دونمًا]. وسبق لشوقي أفندي عام 1931 أن بذل مساعيه لدى الحكومة في استرداد جزء من هذه الأرض – التي كانت أصلاً تابعة لممتلكات القصر واغتصبها مسلمون من أصدقاء ومناصري محمد علي – إلا أن الحكومة رفضت التدخل في هذه المشكلة، كما أن المبلغ الذي كانوا يطلبونه ثمنًا للأرض يفوق سعر السوق بأكثر من عشرة أضعاف، فكان على ولي الأمر أن ينتظر أكثر من عشرين سنةً إلى أن شاءت أقدار الحرب أن تعيد الأرض إلى أصحابها الشرعيين. إلى جانب هذا، فإن البيت المعدّ لنزول زوّار الأرض الأقدس، والذي كان بتصرّف حضرة عبد البهاء منذ صعود حضرة بهاء الله، والبناء الآخر المعروف بدار ضيافة المسافرين الذي اعتاد حضرة المولى أن يستضيف فيه المؤمنين ويشرب الشاي معهم – بمن فيهم أول مجموعة من الزائرين من الغرب – قد نجح ولي الأمر في امتلاكهما خلال السنوات الأخيرة من حياته. وفي عام 1952 سحبت السلطات من المحكمة المدنية في حيفا دعوى أقامها الناقضون ضد ولي الأمر فيما يتعلق بهدم بيت في البهجة، وأيدت ادّعاء ولي الأمر بأن القضية قضية دينية بحتة، وبذلك تمكّن شوقي أفندي من أن يخرج منتصرًا مرة أخرى في كفاحه ضد أعداء حضرة عبد البهاء المتمترسين الذين ما تخلوا قط عن قاعدتهم قرب المرقد المقدس لحضرة بهاء الله والتي كانوا يحمونها بكل حميّة وغيرة. وأخيرًا تمكّن شوقي أفندي عام 1957من الحصول على أمرٍ بمصادرة ملكية المنازل التي كان يشغلها من أسماهم ‘البقية البائسة’ من ناقضي العهد والميثاق، وذلك على خلفية قربها من مكان مقدس للزيارة، ليتحقق أخيرًا ما وصفه حضرته بتطهير الحرم الأقدس من ذلك الدَّنَس الروحاني. كم كان اعتراض الناقضين شديدًا على قرار تجريد الملكية هذا، والذي تضمّن طردهم من البهجة، بحيث استأنفوا القرار أمام المحكمة العليا، إلا أنهم خسروا قضيّتهم وأُجبروا على إخلاء تلك البيوت وإلى الأبد.
كان ولي الأمر قد عبّر عن رغبته في أن يشرف بنفسه على هدم تلك البيوت المتاخمة للقصر والملاصقة للمقام الأقدس مباشرة، إلا أنه لم يعد أبدًا إلى الأرض الأقدس. وعندما هُدمت تلك البيوت وسوّيت بالأرض بعد عدة أشهر على صعوده تنفيذًا لخطّته، وُجد أن الحديقة الأساسية الكبرى التي أنشأها أمامها قد وُضعت أبعادها بكل دقة وصُممت بحيث يمكن أن تستمر – وهو ما يُغريني لأن أقول كأنها سجادة بُسِطت – بدقّة تامّة لتغطّي المكان حيث كانت تلك البيوت قائمة وصولاً إلى جدار القصر نفسه.
لم يغِب يومًا عن ذهن شوقي أفندي ما اعتبره أهم ما إئتُمِن عليه كولي للأمر – وهو الإيفاء حرفيًا وبكل ما أوتي من قوّة بكل رغبة وأَمْرٍ لمولاه المحبوب – فكان المقام الأعلى لحضرة الباب ثاني أعظم اهتماماته في المركز العالمي. كان لهذا العمل المرتبط بثاني أقدس مقام في الدين البهائي جانبان: استكمال البناء نفسه، ثم حماية وحفظ ما حوله. فالأول يقضي ببناء ثلاث غرف إضافية فضلاً عن البناء الفوقي – وهو بناء كامل بحد ذاته – هو بلا شك أحد أجمل الصروح على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. والجانب الثاني يقضي بالامتلاك التدريجي، خلال ثلث قرن من الزمن، لحزام كبير واقٍ من الأراضي المحيطة بالمقام الأعلى ويمتدّ من قمة جبل الكرمل إلى أسفله. ويعتبر الليل أفضل الأوقات لمشاهدة هذه المساحة التي تزيد عن خمسين فدانًا [200 دونم]، حيث تمتدّ على شكل V ضخم غير مضاء في قلب المدينة، وقد وُضع في وسطها دبوس ذهبي، ذلك هو المقام الأعلى لحضرة الباب بنوره الساطع، مستقرًّا بكلّ جلال على سفح الجبل وموشَّحًا بمساحة مخملية سوداء من الحدائق والأراضي. لقد دأب شوقي أفندي على تكريس نفسه مدة ست وثلاثين سنة من أجل تطوير هذه البقعة المقدسة في قلب جبل الرب المقدس، فكان عمله هذا مثيرًا جدًا للإعجاب، وفريدًا من نوعه للغاية وواسعًا متشعّبًا في مداه على قدر خُيّل إليّ وكأن بعضًا من جوهر حضرته الحقيقي قد تغلغل واندمج في مكوّنات أحجار هذه البقعة وترابها.
لقد استغرق الأمر أكثر من مائة سنة لينزل عن كاهل حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء وشوقي أفندي عبء الأمانة المقدسة المتمثلة برفات حضرة الباب، تلك الأمانة التي دامت منذ يوم استشهاد حضرته عام 1850 إلى أن استُكمل بناء مقامه الأعلى عام 1953. فمنذ اللحظة التي أُخبر فيها بنبأ إعدام حضرة الباب وإلى وقت صعوده عام 1892 كان حضرة بهاء الله دائب السهر على سلامة ذلك الرمس المطهّر، مشرفًا على نقله من مخبأ إلى آخر. وفي إحدى زياراته إلى جبل الكرمل أشار لحضرة عبد البهاء بيده المباركة إلى مكان استقرار الرمس المطهر لحضرة الباب إلى الأبد، مُصدِرًا أوامره بضرورة شراء تلك البقعة من الأرض وإحضار الرفات المطهرة من إيران وإيداعها ذلك المكان. وقد نجح حضرة عبد البهاء، وهو سجين، في تأمين نقل الصندوق الخشبي الصغير الذي كان يضم الرفات المقدسة لحضرة الباب ورفيقه الشهيد، بواسطة القوافل والمراكب، من إيران إلى عكاء. وعندما زارت أول مجموعة من الزائرين الغربيين للأرض الأقدس مدينة السجن في شتاء 1898–1899 كان ذلك التابوت الثمين الغالي قد وصل فعلاً وأُخفيَ في منزل المولى المحبوب، وبقي وجوده هناك سرًا مكتومًا.
وذات يوم عام 1915، وبينما كان حضرة عبد البهاء يقف على عتبات بيته المبارك، توجّه بنظره إلى مرقد حضرة الباب وأبدى ملاحظته لأحد مرافقيه: ‘المقام الأعلى لم يُبنَ بعد. يحتاج من (10–20) ألف جنيه لإتمامه. سوف يُنجز بمشيئة الله. لقد وصلنا في بنائه إلى هذه المرحلة.’ وإلى أحد الزائرين للأرض الأقدس قال حضرته: ‘سوف يرتفع المقام الأعلى لحضرة الباب بطراز هو الأجمل والأجلّ.’ حتى إن حضرته ذهب بعيدًا في تصوّره فطلب من شخص تركي في حيفا أن يضع له رسمًا أوليًّا لما يمكن أن يبدو عليه مظهر البناء عند اكتماله. ولكن بالرغم من وضوح الفكرة التي كان يحملها حضرته عن طبيعة المقام الذي يتوق بشدة إلى تشييده من أجل المبشّر بالدين، إلا أنه كان من المقدّر أن تقع المهمّة في النهاية على كاهل شوقي أفندي.
وهكذا كان. ففي عام 1928 بُدئت أعمال الحفر في صخور الجبل الصلبة خلف البناء القائم لإفساح المجال أمام بناء ثلاث غرف إضافية ضخمة مقنطرة وبسقف عال كانت ضرورية لاستكمال الطابق الأرضي للبناء. وبحلول الرابع عشر من شهر فبراير/ شباط 1929 نرى شوقي أفندي يبرق إلى أحد الأفنان قائلاً: ‘لقد بُدئ العمل في المقام.’ وفي ديسمبر/ كانون الأول من ذلك العام نجده يخبر أحد الأحباء: ‘إنشاء الغرف الإضافية الثلاثة الملاصقة للضريح المقدس على جبل الكرمل سوف يُنجَز قريبًا، وخطة المولى في إنشاء تسع غرف تشكل الطابق الأرضي للمقام الأعلى قد تحققت.’ من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن إتمام البناء الأصلي الذي بدأه حضرة عبد البهاء والذي يعدُّ بحدِّ ذاته مشروعًا ضخمًا، وأعمال الترميم الدقيقة الباهظة الكلفة لقصر حضرة بهاء الله، قد شُرِع في تنفيذهما في السنة نفسها واستغرقا في العمل الوقت نفسه تقريبًا.
في كل ما فعله شوقي أفندي كان هاديه ومرشده ما كان يعلم أنه إيفاءٌ برغبة المولى نفسه. فقد نجح حضرة عبد البهاء بحلول عام 1907 في بناء ست غرف فقط من أصل تسع تُشكِّل مربعًا سيُسجّى في وسطه الرمس المطهر لحضرة الباب، وفي السنة نفسها عُقدت اجتماعات في الغرف المواجهة للبحر. وفي عام 1909 وَضع بيديه المباركتين رفات الشهيد المبشر بالدين ليرقد في مكانه الأخير إلى الأبد، وفي السنة التالية بدأ حضرته بأسفاره إلى بلاد الغرب، وبعد ذلك نشبت الحرب [العالمية الأولى]، ثم حدث صعوده المبارك. ومع ذلك كان حضرته قد عبّر عن تصوّره للبناء بشكله التام: إذ يجب أن يكون هناك رواق مقنطر يحيط بالغرف التسعة الأصلية التي كان حضرته قد خطط لها، وسوف يعلو هذا الرواق قبّة تُتوِّجه. لم تكن فكرة المولى عن هذا المخطط لتبرح ذهن شوقي أفندي ومخيلته، إلا أن تحقيقها بدا غير محدد المعالم. فأين سيجد مهندسًا معماريًا يصمِّم له مثل هذا المقام وكيف سيوفّر المال اللازم لتشييده؟
جاء الجواب بطريقة غير متوقَّعة للغاية. ففي عام 1940 توفيت والدتي في بيونس أيرس، وأصبح والدي وحيدًا بالكلية حيث كنتُ أنا ابنته الوحيدة. وبذلك اللطف الذي لا يُضاهى قال لي شوقي أفندي يومًا بأن والدتي الآن قد توفيت، وأن المكان الطبيعي لوالدي الآن أن يكون معنا. وهكذا دعاه لينضم إلينا. وبالرغم من الحرب المستعرة التي اتسعت رقعتها بشكل سريع، فقد استطاع والدي أن يحضر إلينا. ولسنوات عدّة كان أي عمل إنشائي يقوم به شوقي أفندي في الممتلكات الأمرية يتمّ بمساعدة عرضية من معماري محلي أو مهندس. فإلى جانب الغرف الثلاثة التي أضيفت إلى مقام حضرة الباب، وتشييد النُّصب التذكارية الضخمة المتميزة على مراقد أفراد عائلة حضرة عبد البهاء الأقربين، ثم ترميم قصر البهجة وإعادته إلى ما كان عليه، كان شوقي أفندي قد أنشأ مدخلاً أنيقًا مؤدِّيًا إلى مرقد الورقة المباركة العليا، كما هدم بيت عائلة دوميط بعد أن أفلح في شرائه واستعمل حجارته وأُطُر أبوابه ونوافذه في تشييد مبنىً مُلحَق بدار ضيافة المسافرين الشرقيين للأرض الأقدس، كما أنشأ جسرًا فوق شارع ليحمل إحدى الشرفات أمام المقام الأعلى. في عام 1937 صمَّم والدي بعض الغرف الإضافية لتضاف إلى الغرف التي كان يُشغلها شوقي أفندي فوق البيت المبارك لحضرة عبد البهاء، وباستثناء مثل هذه الأعمال التي كانت تتطلّب خبرة مهنية، كان شوقي أفندي دائمًا يعمل بنفسه في تحديد أبعاد الأدراج والمداخل الفرعية في الحدائق. لم أكن أملك الخبرة في أمور كهذه، ولكن يمكنني أن أتذكر كيف أراد مرة أن يبني سلسلة درجات معلقة ملفتة للنظر قائمة على ركيزتين ومؤدية إلى المقام الأعلى في نهاية ممر جديد. لقد عملنا في ذلك عدة ساعات لضمان التناسب بين أجزائها، وأخيرًا جهَّزْتُ له نموذجًا مجسّمًا من الورق بمقياسِ رسمٍ ارتأيناه ونظرنا إليه بكثير من الشك! ومع ذلك كان المُنتَج النهائي ليس مثيرًا للاهتمام فحسب، بل ومُرضيًا أيضًا. بيت القصيد هنا أن ولي الأمر لم يكن ذا خبرة مهنية، ولا يريد أن ينفق أموالاً غير ضرورية عند مهندس معماري على أمور صغيرة كهذه كانت في الغالب تشكِّل له مشكلة وتستنفد منه وقتًا دون طائل. عندما عاد إلى البيت في أحد الأيام قادمًا من حدائق المقام الأعلى سألني رأيي كيف ستبدو عليه درجات السلالم بأبعاد كذا وكذا، فسألته لماذا، وعنده في دار ضيافة المسافرين الغربيين – في الجهة المقابلة لشارعنا – يعيش واحد من أفضل المهندسين المعماريين في كندا، لم يطلب من والدي أن يعمل على حلّ هذه المسألة. فنظر إليّ مندهشًا، كما أذكر، وسأل إذا كان والدي حسب رأيي يستطيع ذلك. فأكّدْت له أن تصميم شيء كهذا بالنسبة لوالدي يعدّ في غاية البساطة، وبإمكانه أن ينجزه فورًا. لم يكن الأمر قلَّة ثقة بوالدي كمهندس معماري، فقد سبق وأرسل له في مونترِيال صورًا فوتوغرافية لبوابة حديدية، كان ولي الأمر قد طلب صنعها لتوضع في مدخل الشُرفة السفلى للمقام الأعلى، وسأله وقتها أن يُدمج هذه البوابة في تصميمٍ للشُّرفة من أجل اكتمالها. في الواقع، أُعجب شوقي أفندي تمامًا بتصميم والدي إلا أنه لم يتوصل مع مجلس البلدية إلى اتفاق لتعارض وضع الشرفة مع ممتلكات بلدية حيفا، وهكذا لم يخرج المخطط إلى حيّز التنفيذ. لم يخطر ببال شوقي أفندي قطُّ، بعد سنوات من الكفاح وحده أمام مشاكل من هذا القبيل، أن يجد نفسه الآن أمام مَن يستطيع أن يُنجز له مثل هذه الأمور. كانت هذه علامة البدء في شراكة جميلة. لم أعرف أبدًا اثنين كان لهما مثل هذا الإحساس الكامل بالتناسق والتناسب مثل ما كان لشوقي أفندي ووالدي، إلا أن ولي الأمر كان الأدقّ.
يبدو لي وأنا أنظر إلى سابق حياة شوقي أفندي، أنه إلى جانب الظفر المؤزّر الذي أحرزه الأمر المبارك والتي عنت له انتصاراته الشيء الكثير، فإن مارثا روت من جهة وسذرلاند ماكسويل من جهة أخرى جلبا له رضًا وارتياحًا شخصيًا عميقين أكثر من أي شخص آخر من الأحباء. كانا متماثليْن للغاية في جوانب عدة. نفسيْن طاهريْن متواضعيْن وولِهيْن في حبهما لشوقي أفندي، وقدّما له بكل سرور أفضل ما عندهما من خدمة ووفاء وإخلاص. ومع أن خدمات مارثا روت كانت أهم بكثير للأمر المبارك، فإن مواهب سذرلاند أضحت الوسيلة التي استطاع شوقي أفندي من خلالها أن يعبّر أخيرًا بكل سلاسة عن جانب من عظيمِ طبيعته الفنية الخلاّقة، وهذا ما وفّر له الرضا والسعادة. وحتى آخر أيام حياته كان والدي يصمم له الأدراج والجدران والأعمدة والإنارة ومختلف مداخل الحدائق على جبل الكرمل. وبالإضافة إلى كونه مهندسًا معماريًا يملك الخبرة والمعرفة، كان يرسم ويلوّن بأسلوب جميل، كما كان بإمكانه أن يُشكّل وينحت أي شيء بيديه. أذكر ذات ليلة، بعد أن طلب منه شوقي أفندي أن يضع له تصميمًا لمدخل رئيسٍ لمنطقة المقام الأعلى يدمج فيه الأعمال الحديدية التي سبق ونُفِّذت للشُّرفة الأخيرة للمقام الأعلى، التي لم تكتمل بعد والتي سبق ذكرها أعلاه، أذكر أنني أحضرتُ له التصميم الذي وضعه والدي، وكان وقتها جالسًا في سريره. وما إن ناولتُه الرسم الصغير الملوّن حتى أخذ يحدّق فيه ويتفرّسه بصمت ثمّ قال: ‘هذا ليس عدلاً!’ صُدمتُ كثيرًا بما قال وسألتُه عما يعنيه، فقال: ‘لماذا لا يستطيع أحد أن يقاوم أي شيء بهذا الجمال!’ لم ينفّذ حضرته المخطط في بناء المدخل فحسب، بل ووضع هذا الرسم التخطيطي في إطارٍ وعلّقه على الحائط بجانب سريره.
بعد أن جرّب والدي في مشاريع صغيرة مختلفة ووجده يفوق المطلوب، نرى شوقي أفندي فجأة – وأعتقدُ أنه كان في أواخر عام 1942 – يبدي رغبته لوالدي في أن يضع له تصميمًا للبناء الفوقي لمقام حضرة الباب. وأخيرًا مُنح الباني البارع تلك الأداة التي بها سيحقِّق خطة حضرة عبد البهاء.
وأنا أسترجع في الذاكرة تلك الأشهر التي أعقبت ذلك، يدهشني كيف أن شوقي أفندي كان قادرًا على تكريس أيّ اهتمام لهذا المشروع الرئيس الآخر مع أنه كان منشغلاً تمامًا في تأليف كتاب “القرن البديع” وليس لديه سوى القليل من الوقت لإنجازه قبل حلول الذكرى المئوية للدين البهائي. في بداية الأمر اكتفى شوقي أفندي بإعطاء سذرلاند عرضًا مُقتضبًا لما هو ضروري؛ فأخبره بأن المقام الأعلى يجب أن تكون له قبّة تعلو رواقًا مقنطرًا، وليس هو بالطابع الشرقي البحت أو الغربي الصرف ولا شبيهًا بالكنيسة أو المسجد؛ وتركه حرًا ليضع تصميمه الخاص. فكان أول تصميم وضعه والدي عبارة عن بناء يحيط به رواق وأقواس وله منور يشبه مناور الكنيسة وتعلوه قبة هرمية الشكل، إلا أنه لم يَحْظَ بقبول شوقي أفندي. أخذ يناقش شكل القبّة مع سذرلاند وأخبره بأنه يرغب في أن تكون في شكلها مشابهة لقبّة كنيسة القديس بطرس في روما التي اعتبرها الأجمل في العالم. إن كان الله تعالى قد أنعم على شوقي أفندي بمهندس معماري، فقد منح ذلك المهندس، برحمته الواسعة اللامتناهية، ليس بركات روحانية لا حصر لها فحسب، بل وفرصة تُعدّ نادرة في حياة أي رجل مِهَني أيضًا – فرصة لأن يسكب خلاصة موهبته وخبرته طوال سِنيِّ حياته في عملٍ قيّم هام يعبّر بجدارة عن مدى عبقريّته، أما التصميم الثاني لوالدي، فرغم أن شوقي أفندي كان راضيًا عن نِسَبه وتناسقه، إلا أنه اعتبره يميل كثيرًا إلى الطراز الأوروبي، فطلب من والدي أن يغيّره. سُرَّ والدي بذلك الاقتراح، وعاد إلى شكل القبة الذي كان قد وضعه في تصميمه لمشرق الأذكار في أمريكا عندما دخل المسابقة للفوز بالتصميم آنذاك وكان يغلب عليه الطابع الهندي في بعض تفاصيله. لقد سَرَّ هذا التصميمُ الأخير شوقي أفندي كثيرًا ما عدا معالجته الجزء العلوي للمنوَر الذي شعر بأنه يحتاج إلى قليل من الارتفاع عند زواياه الثمانية. ظلّ سذرلاند يقدّم له التصميم تلو الآخر لمدة أسابيع وأسابيع إلى أن حاز على موافقته على التصميم القائم الآن وذلك في 25 ديسمبر/ كانون الأول 1943. كما أن اقتراحات شوقي أفندي قد شملت أيضًا زوايا الرواق الأربعة التي شعر أنها بحاجة إلى بروز أكثر، وعُدِّلت كما أراد. ومع أن شوقي أفندي قد أحبّ التصميم كثيرًا بشكله النهائي، كما أظهرته الصورة الملوَّنة التي رسمها والدي، إلا أنه أبدى رغبته في أن يُعمل له نموذج مصغّر حتى يراه قبل اتخاذ قرار نهائي في أمر هو على هذا القدْر الهائل من الأهمية، وبذلك يمكنه تصوّر البناء بشكل أفضل مثل ما سيظهر عندما يتم بناؤه؛ وإذا ما حاز هذا على موافقته فقد خطط أن يعلن عنه رسميًا في عيد القرن الذي سيقام في حيفا احتفالاً بمرور مائة عام على إعلان حضرة الباب دعوته في شيراز.
كان أمرًا في غاية الصعوبة في تلك الأيام أن تجد من هو قادر على تنفيذ نموذج مجسّم على هذا النحو، ومع أنه اسميًّا كان هناك من تعهّد بالقيام بهذا العمل، إلا أن معظمه، من الوجهة العملية وقع على كاهل والدي الذي لم يكن أمامه سوى القليل جدًا من الوقت لإنجازه. وفي شهر مايو/ أيار قُدّم المجسّم لشوقي أفندي الذي درسه بكل عناية ثم اتخذ قراره القاطع. وفي الثاني والعشرين من شهر مايو/ أيار تمّ إعلام الصحافة بأن التصميم الخاص في استكمال بناء المقام الأعلى لحضرة الباب قد تم اختياره، وسيتم البناء حالما تسمح الظروف. وبعد ظهر يوم 23 مايو/ أيار، وفي اجتماع ضمّ الأحباء من الرجال بحضور ولي الأمر في دار ضيافة المسافرين الشرقيين، ومن ضمنهم زائرون كثيرون من أقطار مجاورة، لإحياء ذكرى بزوغ فجر ظهور دينهم قبل مائة سنة، أمر شوقي أفندي بإحضار المجسم، فوُضع على المنضدة حتى يشاهده الجميع. وبعد يومين أبرق إلى أمريكا قائلاً: ‘… أعلنوا للأحبّاء البشرى السارة بأن الذكرى المئوية لإعلان المبشّر الشهيد دعوته للدين قد تُوّجت بالقرار التاريخي استكمال تشييد مقام حضرته الذي بدأ ببنائه حضرة عبد البهاء في البقعة التي اختارها حضرة بهاء الله نفسه. لقد كُشف الستار في حضور الأحباء المجتمعين عن مجسّم القبّة الذي تمّ تصميمه حديثًا. نرفع أيادي الرجاء بالدعاء لإزالة العوائق سريعًا أمام إنجاز الخطة المذهلة التي تصوّرها مؤسس الدين (حضرة بهاء الله) وتحقيق الآمال التي تعلّق بها مركز عهده وميثاقه.’
عندما تمّ هذا الإعلان كان العالم يقترب من نهاية أكثر الحروب هولاً في التاريخ؛ والأحباء في النصف الغربي من الكرة الأرضية منهكون إلى أقصى حدّ بما بذلوه من جهد كبير في سبيل تحقيق أهداف مشروعهم في خطة السنوات السبع الأولى، كما كان الأحباء يعانون من تَبِعات النضوب الاقتصادي العام الذي ساد معظم البلدان. لذلك لم يكن من أدنى شك في أن أسبابًا كهذه، إلى جانب أن ولي الأمر لم يتّخذ أي خطوة نحو فتح صندوق لبناء المقام الأعلى، قد جعلت مشروعه ينساب إلى حيّز الوجود بكل صمت وهدوء، ولم يُسمع عنه شيء إلى أن جاء يوم الحادي عشر من شهر إبريل/ نيسان 1946 عندما أعطى شوقي أفندي أوامره إلى السيد ماكسويل بوضع المخططات في حيّز التنفيذ لبناء الوحدة الأولى للمقام الأعلى. ثم كتب فيما بعد إلى المسؤولين في البلدية ما يلي:
حيفا
7 ديسمبر/ كانون الأول 1947
اللجنة المحلية للتعمير والتخطيط لمدينة حيفا
حضرة الرئيس
سيدي العزيز
بخصوص الرسومات والتصاميم المرفقة وطلب الحصول على تصريح بالبناء، أود أن أضيف كلمة توضيح.
إن مرقد حضرة الباب ومرقد حضرة عبد البهاء، المعروف جيدًا عند عامة الناس في حيفا بـ ”عبّاس أفندي”، يرتفع حاليًا على جبل الكرمل في شكله غير التام. وهو بوضعه الحالي، بالرغم من كثرة الحدائق المحيطة به، يبدو مبنىً سكنيًا يشبه القلعة في مظهره.
تتجه نيتي الآن إلى إكمال هذا البناء مع الحفاظ على بنيته الأصلية وتجميله في الوقت نفسه بمبنى ضخم ذي جمال أخّاذ ليضاف إلى التحسينات العامة الجارية على مظهر سفح جبل الكرمل.
إن الهدف من هذا الصرح بعد أكماله سيبقى كما هو في الوقت الحاضر، وبكلمات أخرى سيبقى حصريًا المقام الذي يضم رفات حضرة الباب.
وكما ستلاحظ من التصاميم المرفقة، فإن البنية المكتملة للبناء ستضم رواقًا مقنطرًا من أربعة وعشرين عامودًا من الرخام أو أحجار ضخمة أخرى، يعلوه درابزين مزخرف في مستوى الطابق الأول أو الطابق الأرضي للبناء، وهو الجزء الذي نرغب في البدء بإنشائه في الحال تاركين القسم الأوسط والقبّة التي ستعلو الضريح بأكمله إلى وقت لاحق، ليتمّ تنفيذه في المستقبل، بعد اكتمال رواق الطابق الأرضي بوقتٍ قصير إن أمكن.
إن المهندس المعماري لهذا البناء الضخم هو السيد و. س. ماكسويل، زميل في المعهد الملكي للمهندسين المعماريين البريطانيين (F. R. I. B. A.)، وزميل في المعهد الملكي للهندسة المعمارية في كندا (F. R. A. I. C.)، وزميل في الأكاديمية الملكية الكندية للفنون (.R. C. A)، وهو مهندس كندي شهير حيث قامت شركته ببناء فندق شاتو فرونتيناك[1] في كويبك، ومبنى البرلمان في رجينا[2] ومبنى معرض الفنون، ثم كنيسة يسوع المسيح وبعض البنوك وغيرها في مونترِيال. أرى أن تصميمه الجميل في استكمال ضريح حضرة الباب سيضيف الكثير إلى مظهر مدينتنا، وسيكون عامل جذب إضافي للزائرين السياح.
المخلص
شوقي رباني
لقد استشهدتُ بهذا الخطاب وأوردتُه بالكامل لأنه يُظهر الأسلوب الرفيع الواضح اللّبق الذي كان شوقي أفندي يتعامل به مع السلطات، وهو ما أمّن له التصريح اللازم للبناء. في 15 ديسمبر/ كانون الأول أبرق شوقي أفندي إلى أمريكا قائلاً: ‘أُعلن بكل سرور اكتمال المخططات والمواصفات الخاصة ببناء الرواق ذي القناطر المحيط بضريح حضرة الباب، وهو ما يشكّل أول خطوة في عملية قُدِّر لها أن تُتوَّج ببناء القبة التي ترقّب بناءَها حضرة عبد البهاء، والتي تشير إلى اكتمال المشروع الذي بدأه حضرته منذ خمسين سنةً تنفيذًا لتعليمات حضرة بهاء الله.’
نعم، لقد اتُّخذت أولى الخطوات التاريخية، إلا أن العوائق في طريق تحقيق هذه الخطة قد تفاقمت وتنامت إلى أبعادٍ بدا أن من غير الممكن التغلّب عليها. فالانتداب البريطاني قاربَ على الانتهاء، وفلسطين تتقاذفها صراعات أهلية وعلى وشك أن تغرق في حرب محلية. ولدى البحث عن الحجر المناسب للبناء وُجد أنه متوفر محليًا في مقالع تقع على مقربة من الحدود اللبنانية، الأمر الذي جعل أصحاب المقالع غير قادرين على تحديد موعد البدء في التوريد، إلى جانب أن حجم العمل من المواد المنحوتة المطلوبة للبناء يتطلب فريقًا كبيرًا من العمّال المهَرة، وكفاءات كهذه غير متوفرة محليًا من الناحية العملية. أمام هذا كله توصّل شوقي أفندي إلى قرار آخر كان أُنموذجًا لعقله العملي والجريء: سيدرس إمكانية القيام بجزء من العمل المطلوب في إيطاليا.
من المستحيل أن أخوض بكامل التفاصيل التي كانت آسرة جدًا بحيث شكّلت قصة زاخرة بالأعمال البطولية لبناء المقام الأعلى. في رسالة مؤرخة 6 إبريل/ نيسان 1948، كتبتُها بالنيابة عن ولي الأمر إلى د. أوغو جياكري[3] تبيّن بكل وضوح ماذا كان عليه الوضع آنذاك. تقول الرسالة: ‘… السيد ماكسويل… وبسبب صعوبات جمة… لم يكن بإمكانه عقد أيّ اتفاقيات لتنفيذ أعمال البناء الفعلية هنا في فلسطين. إلا أنه أجرى اتصاله مع شركة إيطالية في كرّارا[4] من أجل التوقيع على عقود لتوريد أعمدة الغرانيت التي ستحيط بالبناء في الطابق الأول. هو الآن في طريقه إلى إيطاليا للتوقيع على عقد شراء هذه الأعمدة بالدرجة الأولى، وكذلك من أجل التوقيع على عقود إضافية لتأمين التيجان المزخرفة للأعمدة، وقطع منحوتة معينة إن كان بالإمكان إيجاد الحجر المناسب المطابق لنظيره في فلسطين الذي سيُستعمل هنا… السيد بنيامين ويدن… سيرافق السيد ماكسويل من أجل العناية به وليسهِّل أيضًا في التعجيل بإنجاز العمل هناك… وحيث إن الأوضاع في هذا البلد باتت في غاية الاضطراب، والمستقبل القريب غير محدد المعالم على الغالب، فإن ولي الأمر في غاية اللهفة أن يتمّ توقيع العقود في إيطاليا بالسرعة الممكنة، وأن يتمكن السيد ماكسويل والسيد ويدن من العودة إلى هنا قبل أن تتقطّع بهم السبل ولو مؤقتًا. ولذلك فإنه سيُقدّر لك عاليًا أن تقدّم أكبر وقتٍ تستطيعه في مساعدتهما، والترجمة لهما، والتأكد من أنهما يتصلان بالشركات الإيطالية التي يُعَوّل عليها وأن يتم التعامل معهما بالإنصاف… وحيث إن وسائل الاتصال بالقدس مع الأسف مقطوعة من الوجهة العملية… فلم يكن بمقدور السيد ويدن الاتصال بالقنصلية الإيطالية هناك للحصول على تأشيرة الدخول، فإذا لم تستطيعا أنت وهو الحصول عليها عندما تحطّ طائرته في روما، سوف يتوجه بالطائرة نفسها إلى جنيف… ومن ثم يعود لينضم للسيد ماكسويل… ذلك لأن السيد ماكسويل يبلغ من العمر 74 عامًا، ونطمح أن يلقى منك كل عناية ولو أنه في صحة جيدة… الأوضاع هنا شديدة الخطورة، وعليه فمن المهم جدًا أن ينجزا مهمتهما ثم يعودا بسرعة إلى فلسطين.’
في اليوم الخامس عشر من الشهر نفسه كتبْتُ إلى السيد هورِس هولي، سكرتير المحفل الروحاني المركزي في أمريكا، رسالة بالنيابة عن ولي الأمر أعلمه فيها بتفاصيل تلك الرحلة إلى إيطاليا، وبيّنت له بأنه نظرًا لأن حسابات ولي الأمر في البنوك في فلسطين قد جُمّدت نتيجة التعليمات الرسمية الصارمة الخاصة بتداول العملات، ‘لذا فإنه يفكّر أن يطلب من الأحباء – من الذين يسمح لهم وضعهم المالي – أن يرتّبوا منحنا قرضًا يمكّننا من إبرام تلك العقود… ويُبدي حضرتُه رغبةً في أن يكون هو الضامن لهذا القرض الذي سوف يُسَدّد في أقرب فرصة ممكنة. إن حضرته حريصٌ جدًا ألا يكون هناك سوء فهم في هذا الموضوع. فهو قائمٌ على تمويل هذا المشروع من الصندوق العالمي للأمر المبارك، وسيأخذ فقط بعين الاعتبار ذلك الترتيب الذي يتضمن سداده لهذا القرض المؤقَّت… وحيث إن وضعنا هنا غير مستقرّ، بحيث يمكن أن نجد أنفسنا في أي يوم وقد توقفت المراسلات وعُلّقت البرقيات بشكل مؤقت، فقد سارع إلى إبلاغكم بهذه المعلومات… فإذا كان بالإمكان إجراء الترتيبات المناسبة والتوقيع على العقود، فإن السيد جياكري سيمثّلنا في هذا الأمر، وسيستلم المبالغ التي ستُرسلونها من الولايات المتحدة، ويواصل مراقبته لسير العمل في إيطاليا، وسيتولى بشكل عام المسؤولية هناك إذا ما انقطع اتصالنا ببعض… لقد حثّ حضرته السيدين ماكسويل وويدن على العودة إلى فلسطين بعد ثلاثة أسابيع إن أمكن خشية أن تنقطع سبل الاتصال بهما بالكلية… إنه لأمر رائع حقًا أن نعلم بأن العمل الفعلي في المقام الأعلى قد قطع مراحل متقدمة، وأصبح بإمكاننا أن نرى إمكانية البدء في عمليات البناء وقد أضحت قريبة، إلا أن هناك كمًّا هائلاً من العوائق يجب تجاوزها، وكلّه ثقة في التغلُّب عليها.
في عاصفة هوجاء كهذه اتخذت خطوة أخرى في هذا التاريخ المضطرب الذي يصعب تصديقه لرفات حضرة الباب وبناء مقامه المقدس. لم يكن أمرًا مُطَمْئِنًا، أن أودّع والدي والسيد ويدن في اليوم التالي، في 16 إبريل/ نيسان، وهما داخل سيارة أجرة مصفّحة تمامًا وليس فيها سوى شقّ صغير باتساع نصف بوصة [12 ملم] ليُمَكِّن السائق من رؤية طريقه. وإلى أن أبرقا إلينا من إيطاليا لم نكن نعلم عنهما شيئًا ولا ما آل إليه مصيرهما. لقد أجبروهما على النزول من السيارة في منتصف الطريق إلى المطار واضطُرّا إلى السير عدة مئات من الأمتار مع حقائبهما الثقيلة ليصلا إلى سيارة أجرة أخرى. كانت مشقّةً غير ضرورية أبدًا، وهي نموذج لما كان على أهالي البلد أن يعانوه في تلك الأيام. الطائرة التي استقلاّها كانت واحدة من الطائرات الأخيرة التي غادرت مطار مدينة اللّد قبل أن يتمّ اقتحامه والاستيلاء عليه، وبعدها عُلِّقت جميع رحلات الطيران والخدمات فيه لبعض الوقت. وأثناء غيابهما اندلعت حرب فلسطين ووقعت البلاد بعد ذلك فريسة أيام صعبة في ظلّ هدنة مسلحة هشّة.
خلال عام 1948 تولى شوقي أفندي للمرة الثانية في عشرين سنةً – الإشراف بنفسه على أعمال الحفر في الصخور خلف المقام الأعلى بقصد توسِعَة المنطقة بشكل كاف حتى تتّسع لبناء الرواق. كان هذا عملاً ضخمًا استدعى إزالة مئات الأمتار المربعة من الصخور والحجارة. كانت براعة ولي الأمر تظهر على الدوام مع تقدُّم هذا العمل؛ فقد سبق له أن ابتاع مجموعة كاملة مستعملة من قضبان السكة الحديد مع عربتهم، فمُدت القضبان على أرض الممر أمام المقام الأعلى وبمحاذاته، وكانت أنقاض الحفريات توضع في مجرى خشبي مائل يصب في العربة مباشرة لتنقلها بدورها إلى أقصى نقطة في الموقع الشرقي من الشُرفة وتفرغ حمولتها هناك على شكل رَدْمٍ يعمل على توسعة مساحة الشرفة نفسها. منذ الصباح الباكر وحتى حلول الظلام كنا نرى في أغلب الأحيان ولي الأمر واقفًا على قدميه لأكثر من ثماني ساعات، يومًا بعد يوم وشهرًا بعد شهر وهو على هذا المنوال يدير العمل بنفسه. من المؤكد أن ذلك لم يكن من طبيعة وظيفته، ولكنه كان مصرًّا على أن يضمن إنجاز العمل ليس بالسرعة فحسب، بل وبأقلِّ التكاليف أيضًا، ولم يكن هناك من كان يملك قوة الإرادة والقدرة المطلوبين لذلك العمل حتى يأخذ مكانه. بذلك الإصرار الذي لا يلين والمثابرة التي لا تعرف الكلل، تمكّن شوقي أفندي من أن يجعل من الأماكن المقدسة في المركز العالمي ما نراه أمامنا اليوم.
لديّ ملاحظة في دفتر يومياتي مؤرخة الثلاثاء 24 فبراير/ شباط 1949 تقول: ‘الأحد بدأ المتعهد م ــــــــــــ بصبّ الأساسات في الزوايا الجنوبية الشرقية والغربية، وبعدها بأسبوع وضع العتبات الحجرية، وهكذا بدأ العمل فعلاً في نهاية الأمر.’ بذلك وصلت أشهر الكدّ الطويلة لولي أمر الله إلى نهايتها؛ فصَرْحُ المقام الأعلى يمكنه الآن أن يرتفع! لقد رفعه شوقي أفندي وبناه بعزمٍ وإصرار وقال بأنه ‘تحقيق لمشيئة حضرة بهاء الله التي لا تُقهر في إقامة صرح تذكاري أبديٍّ يليق بمبشّره السماوي وشريكه في تأسيس دينه.’ هو لم يقم ببنائه فحسب، بل جعله أُمثولة حيّة لجميع أهل البهاء، جعل منه مشروعًا تعلّقت به قلوبهم كما تعلّق فيه قلبه. لقد جعل من العمل المألوف في البناء شيئًا مليئًا بالإثارة. فعندما كان يعلن عن وصول شحنة جديدة من الحجارة من إيطاليا وكمية الأطنان المستلمة منها، أو يُخبِر عن تشييد وحدة جديدة، أو يُبلِغنا بأن سطح القبة تبلغ مساحته 250 مترًا مربعًا، أو في وصفه جمال وروعة بعض التفاصيل، فإن سحر كلماته والحماس الذي كانت تعكسه كان يحملنا بعيدًا على ذروة أمواج الفرح والبهجة فنرتفع عن أنفسنا ونشعر بأننا شركاء في شيء غاية في العظمة والإثارة، لدرجةِ أنّ ما كان يُعتبر عادة حقيقة مملة في عالم متبلِّد الحسّ تُعلَن لأناس أغبياء، قد أطلق العنان لخيالنا وعمّق انتماءنا لديننا. فلا عجب أن الأحباء، وهم المنهمكون بشؤونهم المركزية بعد الحرب العالمية، قد التفّوا حول ولي الأمر وساعدوه لأن يكمل، في مدى خمس سنوات، وبثلاثة أرباع المليون من الدولارات، ما كان حقًا ‘مشروعًا عالميًا’.
كان شوقي أفندي في الأصل يفكّر في الاكتفاء ببناء الرواق حول المقام وترك البناء الفوقي الفعلي لإنجازه في وقت لاحق. إلا أن التجاوب الرائع للأحباء في جميع أنحاء العالم الذين هبّوا لدعم هذا الصرح المقدس، وتردّي الوضع العالمي بشكل عام، ثم التوجهات الإقتصادية نحو رفع الأسعار الذي سيؤدي إلى زيادة الكلفة، إلى جانب حقيقة أن العمال المهرة ذوي الكفاءة العالية الذين نفّذوا بناء الرواق على أتمّ وجه لا زالوا يتوفّرون لدى الشركة التي جرى التعاقد معها لتجهيز الحجارة في إيطاليا، كلها مجتمعة جعلت ولي الأمر يتخذ قراره بمواصلة العمل في البناء دون انقطاع.
إن مشروعًا كهذا دام العمل فيه سنوات عدّة، كان يستهلك الكثير من الوقت، وكان مشحونًا بالكثير من الصعاب والهموم؛ فالمفاوضات مع المهندس المشرف على التنفيذ ثم المقاول المنفّذ – وكنت فيها أُمثّل ولي الأمر – كثيرًا ما كانت عسيرة وصعبة للغاية، خاصة وأن أحدًا لا يستطيع أن يخدع شوقي أفندي أو يضلِّله. فمتى كان السعر المقدم عاليًا جدًا كان يرفضه بكل صراحة، حتى إنه صرح في إحدى المرّات أنه سيوقف العمل في البناء إلى أجل غير مسمّى لأنه لا ينوي دفع ما يعتقد أنه سعر باهظ. لقد كافح وكابد في سبيل إزالة كل عقبة، وغالبًا ما وجدتُ نفسي لفرط دهشتي أنني كنتُ سيفَه المُسْلَط! لم تكن الحجارة المنحوتة هي التي تُستَورد من إيطاليا فحسب، بل حتى الإسمنت والحديد كان لوقت ما يُشترى من هناك بسبب النقص الشديد في السوق المحلي. وكان هذا أيضًا بالطبع مصدر تعقيدات وقلق لا نهاية لهما.
بالإضافة إلى مشاكل من هذا القبيل، هناك مشكلة أخرى أشغلته وقتًا طويلاً، وحتى إنها تسببت في تأخير إنجاز البناء الفوقي للمقام الأعلى. إذ يجب أن نتذكر هنا أن الرواق محيط بالبناء القديم وليس قائمًا عليه، ويحتاج إنجاز باقي البناء الفوقي إلى غرز ثمانية أعمدة من الإسمنت المسلّح وسط ثمانية من جدران البناء القديم الداخلية لتنزل في الأرض إلى عمق يلامس القاعدة الصخرية. كان هذا الأمر مصدر قلق شديد لولي الأمر لأن الغرفة التي سبق وأن سُجّي فيها جثمان حضرة عبد البهاء لم تكن أبعادها معروفة تمامًا، وهناك خطر كبير في أن يؤدي اختراق أيّ من هذه الأعمدة لأحد هذه الجدران إلى اختراق اللحد نفسه. لقد تعلمتُ هنا، أكثر مما تعلمته طيلة حياتي، كيف يكون التوقير والإجلال والقداسة في مضامينها الحقيقية، وذلك من خلال موقف ولي الأمر تجاه هذه المعضلة. صرّح شوقي أفندي بأنه إذا كان لنا أن نحفر حتى نخترق سرداب اللحد، فإن جثمان حضرة عبد البهاء يجب أن يُنقَل [من مكانه قبل البدء بالحفر]. بدا لي الأمر سهلاً جدًا، فكل ما في الأمر أن الجثمان سينقل إلى مكان آخر مؤقتًا. يا لروعة ما تكلم به شوقي أفندي آنذاك! أتمنى لو تسعفني الذاكرة لأذكر كلماته بالضبط، لقد صرّح بأن رفات حضرة المولى لا يجوز أبدًا أن تُعامل هكذا دون احتفال رسمي مَهيب. ويجب أن يُنقل بشكل لائق في احتفال كبير ويوضع بكل وقار في مكان آخر لائق، ثم يعاد بعد ذلك بنفس الإجلال والوقار إلى حيث كان. ويتساءل شوقي أفندي أين له أن يجد ذلك الجمع من الناس الذين سيحضرون مثل هذه المناسبات المقدسة المهيبة، وسط جامعة محلية يعوزها الحماس ومعظم أفرادها من الخدم، وكل المنافذ إلى الأقطار المجاورة مغلقة؟ وفوق ذلك أين يمكنه أن يجد المكان اللائق ليرقد فيه الرمس المطهّر لحضرة عبد البهاء مؤقتًا انتظارًا لإتمام العمل في الجزء الداخلي من ضريحه المقدس؟ كان في صوته الخشية والرهبة وهو يتكلم. بعد هذه الواقعة ازددت قدْرًا كبيرًا في مفهومي عن الدين. وأخيرًا، بعد أن قام والدي والمهندس المشرف بالنقر على الأرضيات والجدران مرات عديدة حتى كلّت أيديهم [بقصد التعرّف على ما تحتها من صدى الصوت]، وبما أفاد به أيضًا بعض الأحباء القدامى الذين حضروا جنازة المولى آنذاك بما يتذكرونه عن موقع السرداب بالضبط، تبيّن أنه من غير المرجّح لأي من الأعمدة، التي ستقام أقرب ما يمكن للجدران الخارجية، أن تكسر جدران اللحد وتخترقه إلى الداخل. وبناءً عليه بُدئ بالعمل.
في مارس/ آذار 1952 توفي سذرلاند ماكسويل بعد صراع مع المرض دام سنتين، ولو أن وفاته لم تُعِق إنجاز التصميم الذي تصوّره للمقام الأعلى، إلا أنها حرمت القسم الخاص بالقبّة من الانتفاع برسومات ذات مقياس رسم كبير يضعها بنفسه، وبالتالي من ذلك الكمال الرائع الذي كانت تسفر عنه دومًا معالجته التفصيلية الدقيقة لعمله. واعترافًا وتقديرًا له وللدكتور جياكري على ما قدّماه من خدمات للمقام الأعلى أطلق شوقي أفندي أسميهما على البابين اللذين لم يكونا قد سُمّيا بعد من البناء الأصلي الذي شيّده حضرة عبد البهاء، وفي وقت لاحق أطلق على الباب المؤدي إلى الرواق المثمَّن إسم السيد إيواس وهو الذي أشرف على بناء الصحن والقبة.
عندما اكتمل بناء المقام الأعلى الذي شيّده بذاك الحب الكبير والعناية الفائقة أطلق عليه شوقي أفندي اسم “ملكة الكرمل”، لما وجد فيه من سمات الطهر والجمال الأنثوي الأصيل، ووصفه بـأنه ‘يُتوّجْ جبل الرب المقدس بتاج مذهب متلألئ ورداء ناصع البياض يلفّه حزام أخضر زمردي، مشهدٌ يسرّ كل ناظر سواء من الجو أو البحر أو السهل أو الجبل.’ من بين الفقرات التي لا تُحصى التي مجّد فيها شوقي أفندي هذه البقعة النوراء ووضّح مغزاها الروحاني العميق، لا شيء أكثر إثارة للانتباه ولا أقوى تعبيرًا من تلك التي يتصوّر فيها الرفات المقدسة للشهيد المبشّر بالدين كمركزٍ لدوّامةٍ روحية. إن حضرة الباب الذي وصفه حضرة بهاء الله نفسه بـ ”النقطة التي تطوف حولها حقائق النبيين والمرسلين” في عوالم الروح، قد قال عنه شوقي أفندي بأن في الرفات المقدسة لجسده المادي الذي بقي على هذه الأرض يكون القلب والمِحوَر لتسع دوائر متّحدة في مركزها: وأبعد هذه الدوائر كوكب الأرض نفسه؛ وفي قلب هذه الدائرة تقع الأرض الأقدس التي وصفها حضرة عبد البهاء بـ ”موئل الأنبياء”؛ وفي قلب هذا الموئل يرتفع “جبل الرب”، “كرم الله”، وكهف إيليا النبي الذي مثّل حضرة الباب عودته؛ وعلى هذا الجبل تمتد الرحاب المقدسة للمقام الأعلى، أراضي الوقف العالمية للدين؛ وفي قلبها تقع حدائقه وشُرُفاته التي تشكّل الحرم الأقدس؛ وفي قلب هذا الحرم صرحٌ بديع رفيع، المقام الأعلى لحضرة الباب الذي هو بمثابة “الصدفة”؛ وفي داخل هذه الصدفة لؤلؤة نفيسة غالية، هي “قدس الأقداس”، المرقد الأصلي الذي شيّده حضرة عبد البهاء نفسه؛ وفي داخل قدس الأقداس يقع الضريح أو المدفن، وهو الغرفة الوسطى للمقام المقدس؛ وبداخل هذا المدفن تابوت من المرمر، “التابوت المقدس”، والذي فيه كما كتب شوقي أفندي ‘أودعت جوهرة غالية لا تُقدّر بثمن ألا وهي الرفات المقدسة لحضرة الباب.’
صرح شوقي أفندي بأن المقام الأعلى هو ‘مؤسسة’، ولا يمكن وضع تأكيد أكثر شدّة على الدور المقدّر لهذه المؤسسة أن تلعبه في ‘الكشف عن المركز الإداري العالمي لدين حضرة بهاء الله وفي نشوء وتطوّر مؤسساته العليا التي تشكّل جنين نظامه العالمي المستقبلي.’ وكلما ارتفع البناء الفوقي بكل عظمته وجلاله كان شوقي أفندي يكشف أكثر فأكثر عن المغزى الحقيقي للمقام الأعلى. فقد كتب بأنه لم يكن الصرح الأول والأقدس الذي ارتفع بنيانه في المركز العالمي لأمر الله فحسب، بل كان ‘المؤسسة العالمية الأولى التي تبشِّر بتأسيس الهيئة التشريعية العليا للمركز الإداري العالمي…’
إن رفات حضرة بهاء الله، “قبلة” المخلصين، مقدسة جدًا في جوهرها، ومقامها أسمى بكثير من أن تعمل كمولِّد روحاني يحرّك مؤسسات نظامه العالمي. أما رفات حضرة الباب – الذي وصف مقامه بالنسبة لمقام حضرة بهاء الله بأنه “خاتَمٌ في يَدَيْ مَن يظهره الله“[5] الذي “يقلب كيف يشاء لما يشاء بما يشاء“[6] – فقد اختارها حضرة بهاء الله نفسه لتكون المركز الذي تتحلّق حولها وتعمل تحت ظلّها مؤسسات أمره الإدارية من خلال إقدام حضرته على اختيار الموقع على جبل الكرمل الذي ستستقرّ فيه رفات حضرة الباب، وأمر حضرةَ عبد البهاء آنذاك بأن يشتري تلك البقعة ويعمل على إحضار رفات حضرة الباب من إيران ودفنها هناك. علينا أن نتذكر أنه قبل إعلان حضرة بهاء الله عن مقامه بوقت طويل، كان حضرة الباب هو الذي رفع صوت الصافور مبشِّرًا بظهور “النظم البديع”. فما هو إذًا الإجراء الأكثر لياقة وملاءمةً من اختيار رفاته المقدسة لهذا الغرض؟ لقد جعل شوقي أفندي هذا التمييز واضحًا عندما أشار إلى الطبيعة التوأم للكثير من المباني في المركز العالمي، المقاميْن التوأم [في حيفا وعكاء]، والمركزين التوأم الإداري والروحي للدين.
ليس هناك من أدنى شك في أن أول ما راود ذهن شوقي أفندي عند قراءته ألواح وصايا حضرة عبد البهاء كان ضرورة الإسراع بتشكيل الهيئة الإدارية العليا للدين البهائي – بيت العدل الأعظم. فكان من أوائل ما قام به عام 1922 أن دعا إلى حيفا بعض الأحباء القدماء البارزين للتشاور معهم في هذا الأمر. وكان يكرّر ذكر هذه الهيئة في اتصالاته – بالفعل، في رسالته الأولى إلى إيران والتي كُتبت في 16 يناير/ كانون الثاني 1922، نرى شوقي أفندي يشير إلى هذه الهيئة ويصرّح بأنه سوف يعلن للأحباء في وقت لاحق عن الإجراءات الأولية لعملية انتخابها. لم يكن في ذهنه على الاطلاق أي شك حول وظيفة تلك الهيئة وأهميتها. ففي مارس/ آذار 1923 وصفها بأنها ‘الهيئة العليا التي ستوجّه وتنظّم وتوحّد شؤون دين الله في أرجاء العالم.’ مما لا شك فيه أن هناك قوتين كانتا تعملان وتتفاعلان داخل ولي أمر الله في بواكير أيام ولايته: الأولى تَوْقُهُ الشديد كشاب فتىّ للإسراع في تنفيذ جميع تعليمات مولاه المحبوب ومن ضمنها تأسيس بيت العدل الأعظم، والثانية الهداية السماوية والحفظ والحماية التي وُعِد بها في ألواح الوصايا. فالقوّة الثانية خفّفت من الأولى وعدّلتها. لقد حاول شوقي أفندي مرارًا وتكرارًا أن يضع في حيز التنفيذ على الأقل الخطوات الأولية لانتخاب هذه الهيئة العليا، ومرة تلو الأخرى أيضًا تتدخّل يد القدرة الإلهية في الأحداث على نحو جعلت القيام بعمل لم يئِنْ أوانه بعد أمرًا مستحيلاً. وخلال مشاوراته التي أجراها عام 1922 لا بدّ أن الأمر أمامه قد اتّضح فجأة بأنه مهما كانت الرغبة شديدة في اتخاذ ولو خطوة أولية في تشكيل بيت العدل الأعظم، فمن الخطورة اتخاذها في ذلك الوقت. فالأساس الإداري المتين المطلوب لانتخابه ودعمه غير متوفّر، عدا عن الافتقار إلى أعداد كافية من نفوس مؤمنة كفؤة حسنة الاطلاع يمكن الانتخاب من بينها.
عندما تبيّن له أن الباب مغلق آنذاك أمام تشكيل بيت العدل الأعظم بدأ شوقي أفندي في السعي لتأسيس هيئات أولية على الأقل تسبق انتخابه. وعندما سعى في بداية سنِيّ ولايته إلى استقدام أناس كُفْءٍ إلى حيفا يمكنهم مساعدته في أعماله، كان يدور في ذهنه تشكيل هيئة محدّدة في المركز العالمي، وهذا ما يتضح من خلال كلماته نفسها. ففي 30 أغسطس/ آب 1926 كتب إلى أحد الأحباء: ‘أتطلَّع بكل شوق إلى تهيئة الوسائل والسبل أمام تشكيل نوع من السكرتارية في حيفا قديرة وفعّالة… لقد فكّرتُ في ذلك كثيرًا ولا زلت أتفحّص وأبحث عن مساعد كفؤ، موثوق يُعوَّل عليه، منظم ومنهجي، ومدرَّب، يمكنه أن يكرس، دون عائق أو قيد… شهورًا متواصلة لمثل هذه المهمة الدقيقة عظيمة المسؤولية. وعندما يتم لي ذلك، ستحدوني أجمل الآمال في تقوية الروابط الحيوية بين المركز العالمي في حيفا وجميع المحافل الروحانية في العالم البهائي.’ وفي السابع من ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه أعلم أحدَ أقاربه بأن اثنين من الأحباء البارزين قد انضمّا إليه في حيفا و’نأمل أن يتشكل نوع من السكرتارية البهائية العالمية…’ وعلى كل حال فإن الأهمية الحقيقية التي كانت لتلك السكرتارية في ذهن شوقي أفندي قد بيّنها بوضوح في رسالةٍ كتبها بعد أسبوعين، وفيها يقدّم هذيْن البهائييْن للسيد أبرامسون[7]، حاكم المنطقة الشمالية في فلسطين. وبعد أن ذكر له اسميهما قال بأن هذين ‘المندوبَيْن البهائيَّيْن… قد طلبت حضورَهما للتشاور معهما ومع بهائيين آخرين من الشرق في تأسيس سكرتارية بهائية عالمية كخطوة أوليّة نحو تأسيس المجلس البهائي العالمي.’
من ملاحظات أحد الزائرين الهنود للأرض الأقدس التي أوردها في رسالة بعث بها إلى أحد الأحباء وكتبها في حيفا في 15 يونيو/ حزيران 1929 نجد فيها ما يلي: ‘يقول شوقي أفندي… طالما أن مختلف المحافل الروحانية المركزية لم تترسّخ أركانُها بعد ولم تنتظم أوضاعها أيضًا، سيكون مستحيلاً تأسيس “بيت عدل” حتى لو كان بشكل غير رسمي. يريدنا أن نضع فورًا دستورًا للمحفل الروحاني المركزي على نسق النظام الأمريكي، وأن نسجله لدى حكومة الهند ككيان ديني إن أمكن، أو كهيئة تجارية إن تعذَّر ذلك… وقد حثّ شوقي أفندي، في رسائله الأخيرة إلى الأقطار الشرقية، على السعي لدى حكوماتها المحلية للاعتراف بالمحافل الروحانية المركزية على أنها محاكم عدل دينية…’
من المثير للاهتمام أن نلاحظ أنه في رسالة إلى السيدة ستانارد[8]، المسؤولة عن المكتب البهائي العالمي في جنيف – وهو مكتب أُسّس بهدف تعزيز شؤون الدين ومصالحه في أوروبا، بالإضافة إلى حفز وتنشيط فعالياته العالمية في أنحاء العالم، والذي كان ولي الأمر يدعمه ويوجّهه في أعماله بشكل متواصل – ذكر لها شوقي أفندي في شهر أغسطس/ آب 1926 أنه يرغب في المجلة البهائية التي يُصدرها المكتب أن تكون ‘باللغات الثلاثة السائدة في أوروبا أي الإنكليزية والفرنسية والألمانية… لقد عبّرتُ في برقيتي لكم عن استعدادي لمدّ يد المساعدة المنتظَمة وتقديم العون الماديّ لضمان إصدار المجلة المقتَرَحة باللغات الرسمية الثلاثة المعترف بها في الجزء الغربي من العالم البهائي… إن مكتبكم في سويسرا والمجلة البهائية التي تصدر بلغة الإسبرانتو في هامبورغ قد قُدِّر لكليهما أن يحملا أعباء بعض الوظائف والمسؤوليات التي سيضطلع بها في المستقبل المحفل البهائي العالمي عندما يُشكَّل.’
في الكثير من إشارات كهذه، خاصة في السنوات العشر الأولى من ولايته، كشف شوقي أفندي أنه كان على الدوام يتطلع إلى تأسيس شكل من أشكال السكرتارية العالمية أو المجلس العالمي ريثما يتم انتخاب بيت العدل الأعظم نفسه، الذي كانت وظائفه ومغزاه وأهميته تتنامى في ذهنه. وفي وقت ما من صيف عام 1929 خطر ببال شوقي أفندي فكرة أن يعقد البهائيون مؤتمرًا عالميًا يجتمعون فيه بشكل غير رسمي ويناقشون طرق وأساليب الإسراع في تشكيل محافل روحانية مركزية في الشرق بالإضافة إلى موضوع الإدارة بشكل عام والتي كان يعمل حضرته على تطويرها. وهكذا يمكن التعجيل في الوصول إلى ذلك اليوم الذي يمكن فيه انتخاب بيت العدل الأعظم كما تصوّره حضرة عبد البهاء. كان في ذهن بعض الأحباء القدامى فكرة مختلفة عما يجب أن يأخذ مجراه في ذلك المؤتمر، إذ كانوا يرغبون في رؤية شكل ما لهيئة مؤقَّتة تُنتخب. وما إن أُعلِم شوقي أفندي بذلك حتى أبرق فورًا في 12 ديسمبر/ كانون الأول 1929 إلى اثنين من الأحباء المعنيين مباشرة بتنظيم هذا المؤتمر وأمر يإلغائه بشكل قاطع مُصرّحًا بأن مؤتمرًا على هذا النحو سوف يكون ‘مصدر حيرة وارتباك وسوء فهم وحتى جِدال كبير.’ لقد تراجع أمام خطرٍ كبيرٍ توقّع حدوثه، تمثّل في تولّي أناس يفتقرون إلى النضج، ولم يتعمّقوا بعد في فهم “النظام الإداري” الذي كان قائمًا على كشفه وبنائه، مراكز وسلطات كانوا بالتأكيد غير قادرين على تولّيها بشكلٍ سليم. وظلت هذه الفكرة بكاملها معلقة بشكل مؤقت لأكثر من عشرين سنةً، وتوقّفت الإشارات المتكررة لموضوع تشكيل بيت العدل الأعظم التي اعتدنا أن نجدها في رسائله السابقة، إلى أن شكّل حضرتُه “المجلسَ البهائيَ العالمي” من أعضاء سمّاهم بنفسه. لا يساورني أدنى شك، بفضل ما أخبرني به من أشياء في أوقات مختلفة، أنه في السنوات الأولى لولايته لمس من أحباء بارزين رغبة في أن يكونوا أعضاءً في هيئة كبيت العدل الأعظم أو في هيئة مؤقتة، وشعر بأنهم يقللون من قدراته وسداد رأيه ويتطلعون إلى الإمساك بزمام أمر الله. كانوا رجالاً كبارًا في مثل سن والده ويتطلعون إليه بطريقة أو بأخرى على أنه شاب تنقصه الخبرة والدراية بغض النظر عن رأيهم في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.
منذ البداية ركّز شوقي أفندي على مضاعفة أعداد ‘المحافل الروحانية المحلية والمركزية’ وتقويتها. ففي وقت مبكر من عام 1924 صرّح بأنها تشكل ‘حجر الأساس الذي سيرتفع عليه بنيان بيت العدل الأعظم في المستقبل بكل قوة وثبات.’ وعندما كان في سنوات لاحقة يدعو إلى تشكيل هيئات روحانية مركزية جديدة، دأب ولي الأمر في أغلب الأحيان على استعمال عبارات كتلك التي وردت في برقيته للمؤتمر الأوروبي الرابع للتبليغ عام 1951: ‘… صَرْحُ المستقبل، بيت العدل الأعظم، الذي يتوقف استقراره على الأركان القوية الثابتة التي شيّدت في الجامعات البهائية المتنوّعة في الشرق والغرب، والمقُدّر له أن يستمدّ قوة إضافية من خلال بروز ثلاثة محافل روحانية مركزية… ينتظر تشكيل مؤسسات مشابهة على البرّ الأوروبي…’ ومستبقًا انتخاب تلك الهيئة الجليلة، أصدر شوقي أفندي بيانات، إذا ما أضيفت إلى كلمات موجدها حضرة بهاء الله وإلى ما خصّها به حضرة عبد البهاء في ألواح وصاياه من قوى وامتيازات أسبغها عليها صراحة وبكل وضوح، لا يمكنها إلا أن تكون سندًا قويًا وتسهيلاً للوظائف المنوطة ببيت العدل الأعظم لألف سنة على الأقل. لقد صرّح شوقي أفندي بأن بيت العدل الأعظم سيكون ‘النواة والبشير’ للنظام العالمي الجديد، وقال بأن ‘بيت المستقبل ذلك’ هو بيت ستعتبره الأجيال القادمة الملاذ الأخير لحضارة مترنّحة’، وسوف يكون ‘الوحدة الأخيرة التي ستتوِّج هيكل نظام حضرة بهاء الله العالمي الذي ما زال في مرحلة الجنين.’ إنه ‘الهيئة التشريعية الأعلى في التسلسل الهرمي الإداري للدين’، وهو ‘هيئته العليا المنتَخَبة’. وقد بيّن ولي الأمر بأن حضرة بهاء الله قد ‘فوّض أمناء بيت العدل الأعظم بتشريعِ ما لم يُنص عليه صراحةً في كتاباته، ووعد بأن الله سوف “يلهمهم ما يشاء“، وكتب يقول: ‘ومن بين المعالم الّتي تصطلح على تمييز النظام الماثل في ظهور حضرة بهاء الله عن أيّ نظام حكوميّ بشريّ قائم… حقوق بيت العدل الأعظم وسلطاته، وهو الهيئة المتفرّدة بالحقّ المطلق في تشريع الشؤون الّتي لم يرد بها نصّ صريح في “الكتاب الأقدس”؛ ومنها الحكم القاضي بإعفاء أعضاء بيت العدل الأعظم هذا من المسؤولية تجاه من يمثّلونهم ومن الاضطرار إلى العمل بموجب آراء هؤلاء أو معتقداتهم أو عواطفهم أو ميولهم؛ ومنها الموادّ الخاصّة الّتي تقضي بانتخاب جمهور المؤمنين لهذه الهيئة الّتي تكوّن الأداة التشريعية الوحيدة في الجامعة البهائية العالمية انتخابًا ديمقراطيًا حرًّا.’[9]
في سويسرا، وفي أحد أيام شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1950، بعد أن شُفي والدي من مرض خطير ‘بأعجوبة’، كما أعلن شوقي أفندي، وجدتُ ولي الأمر يجلس فجأة ويبدأ، لشدة دهشتي، في إرسال برقيات يدعو فيها أول تلك المجموعة من الأحباء، الذين أصبحوا فيما بعد أعضاء المجلس البهائي العالمي، للقدوم إلى حيفا. وككل شيء يفعله تقريبًا، بزغت الفكرة أولاً كطلوع الفجر، وما لبثت أن ارتفعت شمسها مكتملة في الأفق. بعد عودتنا إلى الأرض الأقدس بدأ المدعوُّون يتوافدون إلى حيفا. كان أولهم د. لطف الله حكيم ثم جيسي وإيثيل ريفل[10] وتَبِعهما أميليا كولنز وميسون ريمي. وبينما هم مجتمعون على المائدة في أحد الأيام في دار ضيافة المسافرين الغربيين ومعهم غلاديس ويدن وزوجها بِنْ، اللذان كانا يقيمان هناك، أعلن ولي الأمر لنا عن نيته في تشكيل ‘مجلس عالمي’ من تلك المجموعة. تأثرنا جميعًا بهذه الخطوة ذات الطابع غير المسبوق وبتلك العناية اللامتناهية التي أسبغها على أولئك الحاضرين وعلى العالم البهائي بأسره. ومع ذلك لم يكشف عن هذا الخبر إلا في برقية تاريخية أُرسلت في 9 يناير/ كانون الثاني 1951 قال فيها: ‘أُعلن للمحافل الروحانية المركزية في الشرق والغرب عن قرار تاريخي هام بتشكيل المجلس البهائي العالمي الأول، المبشّر بالهيئة الإدارية العليا المقدّر لها أن تبرز عند تمام الوقت في رحاب المركز الروحي العالمي للدين وتحت ظلّه، ذلك المركز الذي تأسَّس بالفعل في المدينتين التوأم عكاء وحيفا.’
إن تحقُّق نبؤات حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء من خلال تفتّح المشروع التاريخي الاستثنائي الذي ارتبط بتشييد البناء الفوقي للمقام الأعلى لحضرة الباب، ودرجة النضج الكافية التي وصلت إليها الآن تسعة محافل روحانية مركزية فاعلة بقوة، كل ذلك تضافر ليُقنع ولي الأمر باتّخاذ هذا القرار التاريخي الذي كان المَعْلم الأبرز والأهم في تطور النظام الإداري خلال السنوات الثلاثين الماضية. في تلك البرقية ذهب شوقي أفندي إلى القول بأن لهذه المؤسسة الجديدة ثلاث مهمات: بناء جسور الاتصال مع السلطات؛ مساعدته في بناء المقام الأعلى (وكان قد تم بناء الرواق فقط)؛ ثم إجراء المفاوضات مع السلطات المدنية في أمور تتعلق بالأحوال الشخصية. وستضاف إليها مهمات أخرى مع تطوّر هذه ‘المؤسسة الجنينية العالمية’ لتصبح محكمة بهائية رسمية معترفًا بها، وتتحول من ثمّ إلى هيئة منتَخَبة وتصل إلى أوج تفتُّحها الأخير في هيئة بيت العدل الأعظم؛ وهذا بدوره سوف يُسْفِر عن إقامة مؤسسات مساعِدة فرعية عديدة تُشكّل المركز الإداري العالمي. لقد طلعت هذه الرسالة المثيرة، فيما حملته من بشائر، على العالم البهائي كدويّ الرعد. وكالمهندس البارع الذي يقوم بتجميع أجزاء آلته إلى بعضها البعض، أحكم الآن شوقي أفندي تثبيت الإطار في مكانه، ذلك الإطار الذي سيدعم في النهاية الهيئة المتوِّجة للمؤسسات قاطبة – بيت العدل الأعظم.
في الثامن من مارس/ آذار 1952، أي بعد أربعة عشر شهرًا، أعلن شوقي أفندي في برقية طويلة إلى البهائيين في العالم عن التوسّع في عضوية المجلس البهائي العالمي: ‘لتتكون العضوية حاليًا من أمة البهاء روحية خانم التي اختيرت لتكون حلقة الاتصال بيني وبين المجلس، وأيادي أمر الله مايسون ريمي رئيسًا، أميليا كولنز نائبًا للرئيس، أوغو جياكري العضو المفوّض، ليرُويْ إيواس السكرتير العام ثم جيسي ريفل أمينًا للصندوق، وإيثيل ريفل مساعدة سكرتير للغرب ولطف الله حكيم مساعد سكرتير للشرق.’ لقد حدث هذا التغيير في العضوية بسبب مغادرة السيد ويدن وزوجته لأسباب صحية ووصول ليرُويْ أيواس الذي عرض خدماته على ولي أمر الله، ثم ضم الدكتور أوغو جياكري، الذي ظلّ مقيمًا في إيطاليا، بقصد الإشراف على بناء المقام الأعلى – على كل حجر قُطع ونُقش وجُهّز هناك ثم شحن إلى حيفا، وعلى القرميد المذهّب المخصص للقبة الذي جُهّز في هولندا – وليعمل وكيلاً عن شوقي أفندي في طلب وشراء الكثير مما تتطلبه الحاجة في الأرض الأقدس. في شهر مايو/ أيار من عام 1955 أعلن ولي الأمر أنه رفع عدد أعضاء المجلس البهائي العالمي إلى تسعة بتعيين سيلفيا إيواس. عمل المجلس بحكم مهامه كهيئة سكرتاريا، تلك الهيئة التي طالما تاق ولي الأمر إلى تأسيسها منذ عدة سنوات؛ كان أعضاؤه يتلقون التعليمات منه منفردين بعيدًا عن الرسميات وعلى طاولة العشاء في دار ضيافة المسافرين وليس رسميًا كهيئة؛ واجتماعاته كانت قليلة وغير منتظمة لانشغال أعضائه المتواصل بالمهام الكثيرة التي كان يكلّفهم بها ولي الأمر نفسه. لقد أفاد شوقي أفندي من هذه المؤسسة الجديدة بمهارة فائقة ليخلق في أذهان المسؤولين وموظفي المدينة صورة عن هيئة ذات صبغة عالمية تُعنى بالشؤون الإدارية في المركز العالمي. لم يكن من اهتمام العامّة ما كان لهذه الهيئة من سلطة كبيرة كانت أم طفيفة، أما نحن الذين كنا أعضاء فيها فقد كنا نعلم أن شوقي أفندي كان كل شيء؛ وعلى كل حال بدأ الناس يشاهدون أمامهم ما يمكن أن يتطور مستقبلاً إلى “بيت العدل الأعظم”.
بين الرسالة الأولى والثانية اللتين أعلن فيهما شوقي أفندي للعالم البهائي عن تشكيل المجلس البهائي العالمي وأسماء أعضائه، خطا خطوة أخرى أساسية في تاريخ تطوّر المركز العالمي للأمر المبارك بإعلانه الرسمي في 24 ديسمبر/ كانون الأول 1951 تعيين أول كوكبةٍ من أيادي أمر الله تضم اثني عشر من الأيادي موزّعين بالتساوي بين الأرض الأقدس وقارات آسيا وأمريكا وأوروبا. أما الذين رفعهم ولي الأمر آنذاك إلى هذا المقام الرفيع فكانوا: سذرلاند ماكسويل، مايسون ريمي وأميليا كولنز في الأرض الأقدس؛ ولي الله ورقاء، طراز الله سمندري وعلي أكبر فروتن في آسيا؛ هورِس هولي، دوروثي بيكر وليروي إيواس في أمريكا؛ جورج تاونزند، هيرمان غروسمان وأوغو جياكري في أوروبا. وفي 29 فبراير/ شباط 1952 أي بعد شهرين، أعلن شوقي أفندي للأحباء في الشرق والغرب أنه رفع عدد أيادي أمر الله إلى تسعة عشر بتعيين: فرِدْ شوبفلوكر[11] في كندا، كورين ترو في الولايات المتحدة، ذكر الله خادم وشعاع الله علائي في إيران، أدلبرت مولتشليكل[12] في ألمانيا، موسى بناني في إفريقيا، وكلارا دَنْ [13]في أستراليا. وبقيامه بهذين التعيينيْن لأيادي أمر الله، صرّح شوقي أفندي بأن الوقت بالنسبة له قد حان الآن لاتّخاذ هذه الخطوة تمشيًا مع ما نصّت عليه ألواح وصايا المولى المحبوب من تدابير، وأنها قد جاءت بالتوازي مع الإجراء الأوّلي الذي اتخذ بتشكيل المجلس البهائي العالمي المقدّر له أن يبلغ ذروته بانبثاق بيت العدل الأعظم. لقد أعلن ولي الأمر بأن هيئة أيادي أمر الله الجليلة قد مُنحت طبقًا لألواح وصايا حضرة عبد البهاء وظيفة مقدسة ذات شقين: نشر نفحات الله، والحفاظ على وحدة الدين.
في آخر رسالة لشوقي أفندي موجّهة للعالم البهائي في أكتوبر/ تشرين الأول 1957 أعلن أنه عيّن ‘كوكبة أخرى من أيادي أمر الله… فالثمانية الذين ارتقوا الآن إلى هذا المقام السامي هم: إينوك أولنغا، ويليم سيرز وجون روبارتس في غرب وجنوب إفريقيا، حسن باليوزي وجون فِرابي في الجزر البريطانية، كوليس فذرستون ورحمة الله مهاجر في منطقة المحيط الهادئ، وأبو القاسم فيضي في شبه الجزيرة العربية – وهم مجموعة تم اختيارها من أربع قارات حول العالم ويمثّلون الأفنان والعرقيْن الأسود والأبيض، وينحدرون من خلفيات دينية مسيحية وإسلامية ويهودية إلى جانب الوثنية.’
في فترة زمنية لا تتعدى الشهرين من عام 1952 أوجد شوقي أفندي هيئة أيادي أمر الله مكوّنة من عدد واحد (أي 19)، وأبقاهم كذلك حتى عام 1957 عندما أضاف إليهم ثمانية جاعلاً منهم ثلاثة أضعاف عدد (9). وعندما كان يتوفى أحد الأعضاء الأصليين التسعة عشر كان يبادر إلى تعيين البديل؛ اثنان من الأيادي الذين عُينوا بهذه الكيفية ارتقيا إلى المقام الذي كان يشغله والد كل منهما، وعليه فقد شرّفني ولي الأمر بهذا المقام في 26 مارس/ آذار 1952 بعد وفاة والدي سذرلاند ماكسويل؛ كما عُيّن علي محمد ورقاء خلفًا لوالده في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1955 وخلفه أيضًا في وظيفة أمين حقوق الله. وبعد أن توفيت دوروثي بيكر في حادثة مؤسفة عُيّن بول هَاينِي[14] أيادي أمر الله في 19 مارس/ آذار 1954، وبعد وفاة فْرِد شوبفلوكر عُيّن جلال خاضع في 27 ديسمبر/ كانون الأول 1953، وبعد وفاة جورج تاونزند بوقت قصير عيّن ولي الأمر أغنِس ألكساندر في 27 مارس/ آذار 1957. وهكذا حافظ ولي الأمر على العدد تسعة عشر لأيادي أمر الله إلى أن تمّ تعيين الكوكبة الثالثة منهم في رسالته الأخيرة العظيمة التي جاءت في منتصف الطريق لخطة الجهاد الروحاني الأكبر (خطة السنوات العشر).
لقد شهِد النظام الإداري لأمر الله في مركزه العالمي تغييرات بارزة بعيدة المدى وقعت في الفترة بين 9 يناير/ كانون الثاني 1951 و 8 مارس/ آذار 1952، تغييرات كتب عنها شوقي أفندي أنها دلّت أخيرًا على تشييد ‘آليات مؤسساته العليا’، ‘الهيئات الأسمى في نظامه الآخذ بالتكشف’، والتي هي الآن في ‘شكلها الجنيني’ الآخذ في التطور حول المقامات المقدسة. وقد بيّن للأحباء في كتاباته أن تقدُّمَ وتَكَشُّفَ نظام حضرة بهاء الله إنما تقوده التوجيهات والقوى الروحانية المنطلقة عبر ثلاثة ‘دساتير’ عظيمة، قال إنها أطلقت ثلاث عمليات متميّزة؛ الأول منحَنا إياه حضرة بهاء الله نفسه في “لوح الكرمل”، والدستوران الآخران من فيض قلم المولى المحبوب، وبالتحديد، ألواح وصاياه ثم ألواح الخطة الإلهية. فالأول عمل ‘في بقعة’ وصفها شوقي أفندي بأنها ‘تشكّل قلب كوكب الأرض بأكمله جغرافيًا وروحيًا وإداريًا’، ‘الأرض الأقدس، المركز والمحور الذي تدور حوله مؤسسات إلهية التعيين تتضاعف بسرعة لدين سماوي يحتضن العالم ويتقدم بعزم لا يلين’، ‘الأرض الأقدس، قِبلة جامعة عالمية، القلب الذي تفيض منه باستمرار التأثيرات الدافعة المنشطة لدين مُحْيٍ للعالم، والمقرّ والمركز الذي تطوف حوله النشاطات المختلفة لنظام إداري إلهي.’ إن محور “لوح الكرمل” إنما هو تلك الكلمات التي تفضل بها حضرة بهاء الله: ‘… سوف تجري سفينة الله عليك ويظهر أهل البهاء الذين ذكرهم في كتاب الأسماء…‘[15]، وقد وضّح شوقي أفندي بأن المقصود بـ ”أهل البهاء” هم أعضاء بيت العدل الأعظم.
وبينما كان دستور ألواح وصايا حضرة المولى يعمل في أنحاء العالم من خلال إقامة تلك المؤسسات الإدارية التي حدّدها حضرته فيه بكل وضوح، وبينما عُنِيَ دستور ألواح خطته الإلهية بالفتح الروحاني لهذا الكوكب بأكمله من خلال تعاليم حضرة بهاء الله، حيث كان الكوكب نفسه بالمثل مسرحًا لعملياته، فإن “لوح الكرمل” ألقى بأنواره وألطافه وعناياته تحديدًا على جبل الكرمل، على ‘تلك البقعة المقدسة التي’، كما كتب شوقي أفندي ‘مُقدّرٌ لها أن تتطور تحت ظلّ جناحَيْ الضريح الأطهر لحضرة الباب… لتصبح المركز البؤري لتلك المؤسسات الإدارية التي تهزّ العالم وتحتضنه وتوجِّهه، والتي أمر بها حضرة بهاء الله واستبق حدوثها حضرة عبد البهاء، والتي عليها أن تعمل بكل توافق وانسجام مع المبادئ التي تحكم المؤسستيْن التوأم: ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم.’
إن أهمية ومغزى ذلك ‘المجد الآخذ بالتكشف’ لهذه المؤسسات في المركز العالمي قد عكسته رسائل كثيرة بعث بها شوقي أفندي خلال السنوات الأخيرة من حياته، رسائل حرّكت مشاعر رجل مثل جورج تاونزند ليكتب إليه، في رسالة مؤرخة في 14 يناير/ كانون الثاني 1952 أرسلها شاكرًا إياه على عناياته ومكرُمته بتعيينه أحد أيادي أمر الله، قائلاً: ‘اسمحوا لي أن أعبّر لكم بكل خضوع وخشوع عن بالغ التقدير والامتنان على قرب رؤية الظفر الإلهي الذي ساهمتَ بقدرتك أنت وحدك تقريبًا في بسطه أمام العالم البهائي المذهول.’
في سياق هذه الرسائل كشف شوقي أفندي عن مقام هذه الهيئة الجديدة التي أوجدها من أيادي أمر الله وعن شيء من وظائفها. لقد رحّب بهذا الكشف، خلال ‘السنوات الأولى’ من العهد الثاني لعصر التكوين لهذا الدور الإلهي، عن تلك ‘المؤسسة الجليلة’ التي لم يتنبأ بها حضرة بهاء الله نفسه فحسب، بل سبق أن عيّن حضرتُه عددًا قليلاً من أعضائها في حياته، والتي أسسها حضرة عبد البهاء رسميًا ‘في ألواح وصاياه’. وبالإضافة إلى خدمات أيادي أمر الله في الأرض الأقدس في دعمهم لولي الأمر في بناء المقام الأعلى، وفي تقوية الروابط مع السلطات المحلية، وتوسيع رقعة الأوقاف العالمية في الأرض الأقدس، واتخاذ الإجراءات الأولية لتأسيس المركز الإداري البهائي العالمي، كان لهم حضور في المؤتمرات التبليغية الأربعة البيقارية العظيمة، التي عقدت في السنة المقدسة من أكتوبر/ تشرين الأول 1952 إلى أكتوبر/ تشرين الأول 1953، حيث مثّلوا فيها وليَّ أمر الله، وسافروا بعدها حسب توجيهاته في رحلات مكثَّفة إلى شمال ووسط وجنوب أمريكا وإلى أوروبا وآسيا وأستراليا. وفي شهر إبريل/ نيسان من عام 1954 صرح شوقي أفندي بأن هذه الهيئة تدخل الآن مرحلتها الثانية من التطور، والتي تتميّز بتشكيل روابط بينها وبين المحافل الروحانية المركزية المنهمكة في تنفيذ أهداف خطة السنوات العشر؛ فعلى أيادي أمر الله الخمسة عشر المقيمين خارج الأرض الأقدس، وخلال أيام الرضوان، أن يعيّنوا في كل قارّة على انفراد، ومن بين الأحباء في تلك القارّة، هيئات معاونين يعمل أعضاؤها ‘مندوبين’ و’مساعدين’ و’مستشارين’ لأيادي أمر الله، ويساعدون في الترويج لخطة السنوات العشر بشكل مطَّرَد. على هيئات المعاونين هذه أن تتشكل من تسعة أعضاء في كل من قارة أمريكا وأوروبا وإفريقيا، وسبعة في آسيا، واثنين في أستراليا. وكل هيئة تكون مسؤولة أمام أيادي أمر الله في قارّتها، وعلى أيادي أمر الله من جانبهم أن يظلوا على اتصال وثيق بالمحافل الروحانية المركزية في مناطقهم ويُعْلِموهم بنشاطات هيئاتهم، وأن يكونوا أيضًا على اتصال وثيق بأيادي أمر الله في الأرض الأقدس الذين سيعملون حلقة اتصال بينهم وبين ولي أمر الله. في هذا الوقت دشّن شوقي أفندي صناديق مالية قارية لدعم أعمال الأيادي في وظائفهم مفتتحًا بنفسه هذه الصناديق متبرعًا بمبلغ ألف جنيه لكل صندوق.
بعد سنة سمّى شوقي أفندي أيادي أمر الله الثلاثة عشر الذين رغب في أن يمثّلوه في مؤتمرات الوكلاء المركزية الثلاثة عشر التي ستعقد في عام 1957 لانتخاب محافل روحانية مركزية جديدة. ومنذ أن عَيّن رسميًّا أيادي لأمر الله وحتى وقت صعوده، كان ينتدبهم باستمرار لهذا الغرض. وقبل أربعة أشهر بالضبط من صعوده عام 1957، أعلم شوقي أفندي الأحباء في برقية مُطوّلة أن ‘الإنجاز المظفّر لسلسلةٍ من مشاريع تاريخية’، و’شواهد العداء المتزايد في الخارج والمكائد الدائمة بإصرار في الداخل’ والتي تُنذر ‘بصراعات رهيبة، مقدّرٌ لها أن تضع جحافل النور في مواجهة قوى الظلام لكلا السلطتين الدينية والمدنية’ قد استدعت تعاونًا أوثق بين أيادي أمر الله في القارات الخمس والمحافل الروحانية المركزية كي يتقصّوا معًا عن ‘الأفعال والنشاطات الشائنة للأعداء في الداخل، ويتّخذوا تدابير حكيمة فعالة ضد مكائدهم الغادرة’ فيعملون بذلك على حماية جموع الأحباء، ويوقفون انتشار تأثير شرور هؤلاء الأعداء. وقد بيّن شوقي أفندي في مستهلّ برقيته هذه أن أيادي أمر الله، بالإضافة إلى مسؤولياتهم الجديدة في مساعدة المحافل الروحانية المركزية في تنفيذ أهداف مشروع الجهاد الروحاني العالمي، فإن عليهم الآن القيام ‘بواجبهم الأساسي’ في أن يَبقوا عينًا ساهرة على حماية الجامعة البهائية العالمية بالتعاون الوثيق مع المحافل الروحانية المركزية. ويختم هذه الرسالة المنيعة بهذه الكلمات: ‘أدعو أيادي أمر الله والمحافل الروحانية المركزية في كل قارّة على حِدة بأن يؤسسوا من الآن فصاعدًا اتّصالات مباشرة فيما بينهم ويتشاوروا معًا، كلما كان ذلك ملائمًا، بشكلٍ دوري قدر الإمكان، وأن يتبادلوا التقارير التي ترفعها هيئات معاونيهم واللجان المركزية، وأن يمارسوا منتهى الحذر واليقظة ويؤدوا واجباتهم المقدسة التي لا مفرّ منها. إن أمن وسلام هذا الدين النفيس، والمحافظة على الصحة الروحية للجامعات البهائية، وحيوية إيمان كل فرد من أعضائها، وحسن أداء مؤسساته التي أُنشئت بكل جهد، وتحقق أهداف مشاريعه العالمية النطاق، وتحقيق قدَرِه النهائي، إنما تعتمد جميعها بشكل مباشر على القيام بشكل لائق بالمسؤوليات الجسيمة الملقاة الآن على كاهل أعضاء هاتين المؤسستيْن [أيادي أمر الله والمحافل الروحانية المركزية] اللتين تحتلان مع بيت العدل الأعظم أعلى مقام، بعد مؤسسة ولاية الأمر، في السُّلَّم الإداري إلهيّ التعيين لنظام حضرة بهاء الله العالمي.’
إن رسالة شوقي أفندي العظيمة الأخيرة في حياته – المؤرخة في أكتوبر/ تشرين الأول، ولكنها في الواقع كُتبت في أغسطس/ آب – قد رسّخت مرة أخرى مغزى وأهمية مؤسسة أيادي أمر الله. لم يٌعيّن ولي الأمر في هذه الرسالة آخر كوكبةٍ من أيادي أمر الله فحسب، بل خطا خطوة غاية في الأهمية بالإعلان عن تعيين هيئة معاونين إضافية في كل قارّة: ‘هذه الإضافة الأخيرة إلى العصبة رفيعة الشأن من العاملين في النظام الإداري العالمي سريع التطور، والتي تتضمّن توسّعًا إضافيًا في مؤسسة أيادي أمر الله الجليلة، تستدعي، في ضوء تولّيهم مؤخرًا مسؤوليتهم المقدسة كحُماة لدين الله، أن يقوم هؤلاء الأيادي أنفسهم، في كل قارّة على انفراد، بتعيين هيئة معاونين إضافية تساوي في عدد أعضائها ما كان قائمًا أصلاً، وأن تُكَلَّف بواجب محدَّد يتمثّل في السهر على حماية دين الله، لتكمل بالتالي عمل الهيئة الأصلية التي سوف ينحصر واجبها من الآن فصاعدًا في المساعدة بمتابعة أهداف خطة السنوات العشر إلى أن تتحقق.’
من المستحيل تقريبًا أن نتصور ما كان يُمكن أن يُقحَمَ فيه وضع العالم البهائي بعد وفاة شوقي أفندي لو لم يُشِرْ بعباراته هذه إلى أيادي أمر الله، ولو لم يكلِّف بوضوح تام المحافل الروحانية المركزية في التعاون معهم في القيام بوظيفتهم الأساسية كحُماة للدين. ألا يمكننا أن نرى في تلك الرسائل الأخيرة سحابة سوداء بحجم يد رجل تلوح في الأفق؟
كان من واجب شوقي أفندي ومن حقه، كما نصّت عليه صراحة ألواح الوصايا المباركة، أن يعيّن في حياته أياديًا لأمر الله. في الثلاثين سنة الأولى لولايته، وباستثناء حالة واحدة فقط، لم يعيّن حضرته أياديًا لأمر الله إلا بعد وفاتهم. إنها مرتبة الشرف الأعلى التي يمكن له أن يُنعم بها على الفرد المؤمن حيًا كان أم ميتًا، وعليه فقد رفع إلى هذا المقام بهائيين كثيرين في الشرق والغرب بعد وفاتهم؛ وأبرز هؤلاء جميعًا كانت مارثا روت التي وصفها بأنها تأتي في المقام الأول بين أيادي أمر الله [المُعَيَّنين] في القرن الأول للأمر المبارك منذ بداية عصره التكويني. الحالة الاستثنائية الوحيدة كانت أميليا كولنز. فقد أبرق إليها ولي أمر الله في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1946 قائلاً: ‘إن خدماتك العالمية العظيمة، وتفانيك الذي يُقتدى به، وهذه الخدمة الرائعة التي قمتِ بها الآن قد دفعتني إلى أن أُخْبركِ برفع مقامك إلى مرتبة أيادي أمر الله. فأنتِ أول من شُرّف بهذا المقام الرفيع أثناء حياته. أما إعلان الخبر فاتركيه لخياري.’ كانت عادة شوقي أفندي أن يُعلم كل واحدٍ من أيادي أمر الله بارتقائه إلى ذلك المقام وقت إعلانه أسماء من اختارهم على العموم، إلا أن ثلاثة منهم وهم: فرد شوبفلوكر وموسى بناني، اللذيْن كانا في حيفا زائرين للأرض الأقدس في ذلك الوقت عندما أعلن عن تعيينهما، بالإضافة إليَّ أنا، أعلَمَنا بذلك الشرف شخصيًا. أن تحاول وصف مشاعر الذهول المجبولة بالإحساس بعدم اللياقة والاستحقاق إلى جانب رهبة هذا الخبر المشرّف التي تنتاب متلقّيه، إنما يعدّ ضربًا من المستحيل. فقد تلقّاه كل قلب وكأنه سهم اخترقه فأيقظ فيه حبًا أكبر لولي أمر الله ووفاءً وإخلاصًا لم يكن فيه بهذا القدر من قبل.
إن سنوات الإعداد والتحضير الطويلة – في الخارج في هيكل العالم البهائي من خلال تشييد آليّات النظام الإداري، وفي الداخل في قلب العالم البهائي من خلال إقامة البناء الفوقي للمقام الأعلى لحضرة الباب واستحكام عموم أركان المركز العالمي – قد تضمّنت خلق ‘بقعةٍ’ مناسبة لتشكّل ‘المركز البؤري’ للمؤسسات الأعلى والأعظم في الدين، كما صرّح شوقي أفندي. هذه ‘البقعة’ لم تكن سوى مراقد والدة حضرة عبد البهاء وشقيقته وشقيقه، ‘الأرواح الثلاثة النفيسة التي لا تُضاهى’، كما دعاهم ولي الأمر، ‘الذين بعد الشخصيات الرئيسة في الأمر المبارك يرتفعون شامخين في مقامهم فوق مواكب الأبطال وحروف “حي” والشهداء وأيادي أمر الله والمبلّغين والإداريين لأمر حضرة بهاء الله.’
ولطالما كانت آمال الورقة المباركة العليا أن يكون مرقدها قرب والدتها التي دُفنت في عكاء، والتي يوجد فيها قبر شقيقها الغصن الأطهر أيضًا، ولكنها عندما صعدت روحها الطاهرة عام 1932 دُفنت بكل إجلال قرب مقام حضرة الباب على جبل الكرمل. كانت تراود شوقي أفندي فكرة نقل الرمسين المطهرين لوالدتها وشقيقها من مكانهما غير اللائق بمنزلتهما في عكاء إلى جوار مرقدها المطهر. في عام 1939 أوصى ولي الأمر بنصبين توأميْن من إيطاليا من المرمر مشابهيْن للنصب الذي أقيم فوق ضريحها، ولحسن الحظ فقد وصلت الشحنة سالمة إلى حيفا بالرغم من الحرب. إن عملية نقل الرفاتين لم تكن أبدًا بالعملية البسيطة. فـ ‘تحقيق هذه الأمنية العزيزة التي طال انتظارها’ أثبت أنه كان صعبًا إلى أقصى حدّ. سوف أقتطف هنا بعض ما نشرتُه شخصيًا عن وقائع رافقت تلك الأحداث بصفتي كنت، بالطبع، حاضرة في ذلك الوقت في حيفا: ‘بينما كانت أعمال الحفر في الصخر الأصم للجبل جارية لإعداد اللحديْن للرمسيْن المطهريْن، تناهى إلى علم ولي الأمر بأن زمرة الناقضين قد احتجّوا على حق البهائيين في نقل رفات والدة وشقيق حضرة عبد البهاء إلى مراقد جديدة، وأنه قد بلغ بهم الطيش والتهوّر أن تقدّموا إلى الحكومة بادّعائهم بأنهم أقرباء الفقيديْن. ولكن، ما إن تَوَضَّحَ للسلطات المدنية واقع الحال – أن هؤلاء الأقارب أنفسهم كانوا الأعداء اللدودين للمولى وعائلته، وأنهم اختاروا الابتعاد عن دين حضرة بهاء الله ليتَّبِعوا أهواءهم، وأن حضرة عبد البهاء قد شجبهم وأدانهم في ألواح وصاياه – حتى وافقت على خطّة ولي الأمر وأصدرت على الفور الأوراق الرسمية التي تجيز إخراج الرمسين المطهريْن ونقلهما. وتجنُّبًا لأي تأخير آخر، قام شوقي أفندي بنفسه بعد يومين برفع رفات الغصن الأطهر ووالدته ونقلهما إلى جبل الكرمل.’
بعد طلوع الفجر ذهب شوقي أفندي إلى عكاء يرافقه عددٌ قليل من الأحباء، وفتح القبرين الواحد تلو الآخر وأحضر الرفات إلى حيفا. لقد أخبرني فيما بعد بما حصل حيث كانت تجربة مرهِقة للأعصاب بكل الاعتبارات. ففي المقام الأول كان هناك خطرٌ حقيقي في أن يكون الناقضون قد قرروا الحضور ومعهم جماعة من مناصريهم إلى المقابر محاولين منعَ فتح القبور بالقوة، وفي هذا العمل قد يكسبون تعاطف المسلمين الذين يعتقدون بأن نبش القبور يعتبر التدنيس الأكبر لها، والذين في واقع الأمر يقومون بنبش القبور لمجرد إلحاق أعظم الإهانات هذه بها. وعلاوة عن هذا الخطر، فإن كونك تقف عند حافة قبر يجري فتحه، بغضّ النظر عن نُبل المقصد، يعتبر بحد ذاته تجربة مؤلمة للغاية، ويكون وَقْعُه على النفس أكثر بكثير عندما يكون الشخص إنسانًا حسّاسًا مثل شوقي أفندي! فعندما أُزيح التراب عن تابوت والدة المولى وُجد أن الخشب لا يزال سليمًا باستثناء قاعدته التي اهترأت بالكامل، فأعطى تعليماته برفع الجزء العلوي بكل لطف. أخبرني بأن جثمان والدة حضرة عبد البهاء كان ملفوفًا بالكفن ومسجّى في التابوت وواضح المعالم بحيث يمكن للمرء أن يتبين قسمات هيكلها تقريبًا، إلا أنه أضحى ترابًا وعظامًا من أول لمسة. فنزل بنفسه إلى القبر وساعد بيديه في وضع الهيكل العظمي في التابوت الجديد المعدّ لهذا الغرض ثم أغلقه، ورُفع التابوت إلى عربة كانت تنتظر، ثم تقدَّمَ الجميع إلى المقبرة العربية الثانية حيث مكان دَفْن الغصن الأطهر، وهناك فتحوا قبره. وبما أنه قد دُفن قبل والدته بعشرين سنةً، وتم دفنه في عُجالة أيام كان حضرة بهاء الله مسجونًا في الثكنات العسكرية في عكاء تحت حراسة مشدّدة صارمة، فقد وُجد التابوت متحللاً بالكلية، فقام شوقي أفندي بنفسه مرة أخرى بجمع العظام القليلة والتراب المتبقيين ووضعها ثانيةً بنفسه في التابوت الثاني المعدّ لذلك والموضوع بجانب القبر. ومع أن كل هذا قد تمّ بنجاح، إلا أنه تطلّب ساعات عديدة أليمة مليئة بالقلق وشَدِّ الأعصاب قبل أن يتمكن شوقي أفندي من العودة إلى حيفا بوديعته النفيسة. سأقتطف ثانية مما كتبتُه في ذلك الوقت لأنني أجده أكثر وضوحًا ودقّة من أي شيء يمكنني كتابته من جديد بعد انقضاء مدة طويلة على هذا الحدث: ‘ألقى الشفَقُ بحُمرة الغروب على جبل الكرمل، وخليج عكاء تحجبه ظلمة الغسق والليل يُرخي سدوله. بجانب البوابة، عند أسفل الدرجات، يقف جمع من الرجال ينتظرون. وفجأة سُمع صوت حركة، فركض البستاني ليضيء المدخل. ومن وسط أعمدة النور البيضاء ظهرت أمامي طليعة موكب. رأيت رجلاً بلباس أسودَ يرفع على كتفه تابوتًا، إنه ولي أمر الله يحمل البقايا الفانية للغصن الأطهر، ابن حضرة بهاء الله المحبوب. توجّه حضرته مع رفاقه رافعي التابوت وصعدوا ببطء في الممر الضيّق، وبمنتهى الهدوء والسكون اقتربوا من البيت المجاور لمرقد الورقة المباركة العليا. تقدم أحدُ الخدام المخلصين الموكبَ وأسرع حاملاً معه سجادة وقنديلاً أحضرهما من المقامات المقدسة، وبسرعة فائقة أنهى تجهيز الغرفة. ظهر ولي الأمر، بمحيّاه اللطيف وملامح وجهه المعبِّرة بقوة عن العظمة والجلال، وعَبَر البابَ وعلى كتفه تلك الوديعة الثمينة. وُضع التابوت مؤقتًا في غرفة متواضعة مواجهًا للروضة المباركة في عكاء، قبلة أهل البهاء. ثم عاد هؤلاء الخدام المخلصون إلى البوابة، يتقدمهم ولي أمر دينهم، وصعدوا الممر ثانية ليرجعوا بحمل مقدس آخر، تابوت رفعوه على أكتافهم يضمّ الرمس المطهر لحرم حضرة بهاء الله – والدة المولى المحبوب.’
وحالما أُنجزت هذه المهمة بسلام، استلم المحفل الروحاني المركزي في أمريكا في 5 ديسمبر/ كانون الأول برقية من شوقي أفندي قال فيها: ‘الرفات المقدسة للغصن الأطهر ووالدة المولى نُقلت بسلام إلى الرحاب المقدسة للمقامات على جبل الكرمل. لقد ولَّى عنهما ذلك الابتلاء المهين الذي طال أمده. مكائد الناقضين لإبطال الخطة قد خابت تمامًا. وأمنية الورقة المباركة العليا الغالية قد تحققت. فشقيقة حضرة عبد البهاء وشقيقه ووالدته وزوجته قد اتّحدوا من جديد في بقعة واحدة صُمِّمت لتشكّل المركز البؤري للمؤسسات الإدارية البهائية في المركز العالمي للدين. شاركوا أحباء أمريكا طرًا بهذه البشارة السارة. شوقي ربّاني.’ جاء توقيع ولي الأمر بالاسم الكامل لأنه مطلب ضروري بسبب ظروف الحرب آنذاك حيث جميع المراسلات كانت تخضع للرقابة.
إن الذوق الرفيع والحسّ بالتناسق والتناغم الذي ميّز كل شيء أبدعه ولي الأمر لا يمكن أن نجده في أي مكان بأفضل مما هو عليه في النُّصُب التذكارية المرمرية التي أقامها فوق المراقد المُطَهّرة الأربعة لهؤلاء الأقرباء المقرّبين لحضرة عبد البهاء. صُمِّمت هذه النُصُب في إيطاليا طبقًا لتعليمات شوقي أفندي نفسه، وجُهّزت هناك من مرمر “كرّارا” الأبيض، ومن ثمّ شحنت إلى حيفا ووُضعت في أماكنها المحدّدة لها مسبقًا، وذلك خلال عشر سنوات ما بين عام 1932 – وعام 1942، وقد أنشأ حولها الحدائق الجميلة التي كنا نشير إليها عمومًا بـ’حدائق النصب التذكارية’ والتي طوّرها وجعل منها مركز ذلك القوس على جبل الكرمل، الذي ستقام حوله في المستقبل المؤسسات العالمية للدين.
ظلت هذه الرفات النفيسة الغالية محفوظة في تلك الغرفة مدة ثلاثة أسابيع إلى أن أبرق شوقي أفندي في 26 ديسمبر/ كانون الأول قائلاً: ‘عشيّة الاحتفال بعيد الميلاد المجيد سُجّيت الرفات العزيزة للغصن الأطهر ووالدة المولى في احتفال رسمي بجوار المقام الأعلى لحضرة الباب. وفي يوم عيد الميلاد أودعت [الرفات] في التراب المقدس لجبل الكرمل وسط احتفال حرّك بعمق مشاعر الحاضرين الذين يمثّلون الأحباء في الشرق الأدنى. أجد نفسي هنا ملزمًا أن أضمّ إلى خطة السنوات السبع الهام جدًا لأمريكا، هذه الذكرى الخالدة لهاتين الروحين المقدستين اللتين تتبوّءان مع الورقة المباركة العليا، بعد المظهرين التوأم والمَثَل الأعلى [عبد البهاء]، مقامًا يسمو فوق مقام جميع الملأ الأعلى المخلصين. وببهجة غامرة بهذه المنحة الكبرى كان تبرّعي بمبلغ ألف جنيه لصندوق بهائية خانم تدشينًا لآخر حملة تبرعات لضمان عقد الاتفاقية مع مقاول البناء والتوقيع عليها في شهر إبريل/ نيسان القادم بقصد إنجاز المرحلة المتبقية من إنشاء مشرق الأذكار. فالوقت يضغط، والفرصة فريدة، وقوى العناية الإلهية الموعودة لا تخيب.’
إن براعة ولي الأمر في أداء الأعمال بما يليق وينبغي، وهو يتّبع على الدوام خطوات جدّه المحبوب بكل أمانة وإخلاص، لم تكن في أي مكان بأفضل مما كانت عليه في ذلك التبجيل والتوقير البالغَيْن في إنجاز الدفن النهائي لذينك النفسين المقدسيْن اللذيْن كانا محبوبيْن للغاية لحضرة بهاء الله وعبد البهاء كليهما. كانت هذه حادثة فريدة من نوعها في التاريخ الديني، بحيث أشعر بأنها يجب أن تلقى كامل استحقاقها هنا، ومرة أخرى أشير إلى فقرة مذكراتي المذكورة أعلاه: ‘وُضع الحجر الأخير في اللحديْن، ورُصفت أرضيتهما بالبلاط المرمر، وثُبّتت لوحتان بالاسميْن علامة لاتجاه الرأسين، ثم مُهّدت الأرض من حولهما، وأنشئ الممر المؤدي إلى مرقدهما الأخير… والآن، مرة أخرى على كتف ولي الأمر، يُحملان مُتقدِّمًا بهما ليُوضعا بكل مهابة في المقام الأعلى لحضرة الباب. وجنبًا إلى جنب، بعظمة فوق عظمة هذا العالم، يرقدان بمحاذاة تلك العتبة المقدسة ومواجهة البهجة، بالشموع المضاءة عند رأسيهما والزهور أمام قدميهما… وبعد غروب شمس اليوم التالي تجمّعنا ثانية في ذلك المقام المقدس… وبالسكينة والوقار رُفع النعشان بأيدي الأحباء المخلصين يتقدّمهم شوقي أفندي الذي لم يتخلَّ قط عن هذا الحِمْل النفيس… وبعد أن طافوا حول المقام الأعلى، مرّ أمامنا ببطء نعش الغصن الأطهر المحبوب محمولاً على كتف ولي الأمر، يتبعه نعش والدة المولى. طاف الموكب المهيب حول المقام الأعلى ثم إلى الأمام مارًّا بالحديقة المضاءة ثم هبوطًا إلى الممر الأبيض ومنه إلى الخارج في الطريق على ضوء القمر. انطلق النعشان في طريقهما وهما مرفوعان عاليًا وكأنهما يتحركان من تلقاء أنفسهما فوق رؤوس أولئك الذين يتبعوهما… مّروا من أمامنا وكأنهم خطوط تتحرك في سماء الليل… هم يقتربون، وجه ولي الأمر ملتصق بالحِمْل الغالي الذي يرفعه. يمرّون متّجهين نحو اللّحديْن الجاهزين. الآن هم يضعون نعش الغصن الأطهر في مرقده. يدخل شوقي أفندي بنفسه إلى اللحد المكسو بالسجاد، وبغاية اللطف يركّز النعش في مكانه المقرّر، وبيده ينثر عليه الزهور، لتكون يداه آخر من يربّت عليه. وبالأسلوب نفسه وُضع بعد ذلك نعش والدة المولى بواسطة ولي الأمر في اللحد المجاور… استُدعي البناؤون لإغلاق اللحديْن… وُضعت الزهور أكوامًا على القبرين ورشهما ولي الأمر بعطر الورد… ارتفع الآن صوت شوقي أفندي الشجيّ وهو يتلو تلك الألواح التي أنزلها حضرة بهاء الله لتُتلى عند زيارة مرقدهما.’
عندما يمرّ بخاطرنا ونتذكّر أن كل تلك الأحداث بالغة الحساسية في طبيعتها، بما تسبِّبه من قلق شديد وترقُّب، وألم مبرّح للمشاعر والأحاسيس بشتى الطرق، قد جاءت بعد أقل من شهرين على تعافي ولي الأمر ومغادرته فراشه بعد مرض كان الأخطر مما أصابه في أيّ وقت مضى، لا نملك إلا أن ننبهر ثانية بالجانب العاطفي لحياته، وبالتصميم الصلب والشجاعة والتفاني الذي دفعه وحرّكه في كل ما عمل وأنجز.
وأخيرًا… مؤيَّدًا بقوة الهداية السماوية نجح شوقي أفندي في تأسيس ‘مركزه البؤري’. إلا أن الأمر استغرقه بعد ذلك أكثر من أربع عشرة سنةً حتى وجد نفسه في وضع يمكِّنه من إعلام العالم البهائي بأنه الآن يخطو خطوة ‘تبشّر باقتراب تأسيس المركز الإداري العالمي لأمر الله على جبل الكرمل – سفينة الله التي أشار إليها حضرة بهاء الله في الفقرات الختامية من “لوح الكرمل”.’ وتلك الخطوة لم تكن سوى تأسيس ‘محفظة الآثار البهائية’ العالمية.
في بداية الثلاثينيات، وبعد إضافة الغرف الثلاثة إلى مقام حضرة الباب بفترة قصيرة، أسّس شوقي أفندي محفظة آثار في المركز العالمي في تلك الغرف بشكل مؤقت، ترتكز على الآثار النفيسة التي تخصّ حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء، والتي كانت بحوزة عائلة المولى وكثير من الأحباء القدامى المقيمين في فلسطين. أصبح التشرُّف بزيارتها تجربة مثيرة تحرك الأحاسيس بعمق. كتبْتُ بعد أول زيارة تشرفتُ فيها بالآثار المقدسة عام 1937: ‘لو كان باستطاعة المرء أن يتجوّل في متحف يضم آثارًا موثّقة ارتبطت بأيام السيد المسيح وحياته المباركة، فماذا كانت ستعني للمسيحيين إذا ما شاهدوا صندله مغبرًا بتراب الطريق التي سلكها بين بيت لحم والقدس، أو سترة القماش التي كانت تتدلى من على كتفيه، أو قطعة القماش التي كانت تحمي رأسه من أشعة الشمس؟ فأي جوّ من الاطمئنان والانبهار، بل وأي مشاعر من العشق والهيام سَتُهَيْمِنُ على أتباعه والمؤمنين بدينه؟ ولو أن عيونهم وقعت حتى على جزءٍ من سطرٍ كتبه بخط يده المباركة… فإن ما تعنيه أشياء كهذه لمعظم الناس في العالم لا بد أنها تتعدّى خيالهم، أما بالنسبة للبهائيين، أتباع الظهور الأحدث لمشيئة الحق للجنس البشري على هذا الكوكب، فإن هذا الامتياز الذي لا يُقدّر بثمن قد مُنِح لهم.’
وما إن أخذ البهائيون يزدادون وعيًا وإدراكًا بقيمة هذه الآثار المباركة، وما إن أخذ الزائرون للأرض الأقدس يتشرفون بزيارتها بأعداد متزايدة، ورأوا كيف أن هذه الموروثات والمقتنيات التاريخية المقدسة قد حفظت بسلام وأمان، وكيف أنها عُرضت بشكل جميل بكلّ وقار وتبجيل، حتى أخذ الأحباء في إيران يرسلون مواد ومقتنيات لا تقدر حقًّا بثمن، تتعلق بالشخصيات الرئيسة الثلاثة لأمر الله، بالإضافة إلى شهدائه وأبطاله. ومن بين هذه الإضافات التي لاقت كل الترحيب متعلقات تخص حضرة الباب نفسه قدّمها الأفنان مما أثرى مجموعة الآثار بدرجة كبيرة. لقد نمت وكبُر حجمها لدرجة أن البيت الصغير الذي سبق ووُضع فيه الرمسان المطهّران للغصن الأطهر ووالدته مؤقتًا قبل دفنهما ثانية، قد حوّله ولي الأمر في وقت لاحق إلى محفظة آثار إضافية، ولسهولة الرجوع إليهما، أصبحتا تعرفان بمحفظتي الآثار ‘الرئيسية’ و’الثانوية’، أو ‘القديمة’ و’الحديثة’.
كان ذلك عام 1954، خلال السنة الأولى من خطة السنوات العشر، عندما قرر شوقي أفندي البدء في ما أسماه ‘أول صرح من الصروح الرئيسة المقدّر لها أن تُشكّل مقر المركز الإداري البهائي العالمي، الذي سيشيّد على جبل الكرمل.’ فقد وقع اختياره على تصميم مبنى اعتبره ملائمًا ويفي بالحاجة الملحّة في آنٍ معًا، وبالتحديد، في وضع الآثار التاريخية والمقدسة التي تجمّعت في الأرض الأقدس، والتي كانت في ذلك الوقت مشتّتة في ست غرف ضمن مبنييْن منفصليْن، لتحفظ في مبنى واحد. وبحلول نوروز عام 1954 بوشر في حفر الأساسات. إن في اختيار شوقي أفندي تصميمه المبدئي للأبنية التي كان لها في ذهنه أهمية خاصة، كانت توجّهه أمور ثلاثة: أن يكون المبنى جميلاً، وأن يوحي بالجلال والوقار، وأن يبقى تراثًا قيّمًا أبدًا ولا يجاري طرز الأبنية الحديثة سريعة الاندثار كونها أقيمت في العصر التجريبي وتسعى وراء التشكيلات الحديثة (وبالنسبة له غير مستساغة إطلاقًا في معظم جوانبها). كان معجبًا جدًا بالفن المعماري الإغريقي واعتبر مبنى البارثِنون في أثينا واحدًا من أجمل الأبنية التي شُيّدت على الإطلاق، فقد اختار منه التناسب كنموذج له ولكنه غيّر طراز تاج الأعمدة من الدُوري[16] إلى الأيوني[17]، [وهي طرز معمارية إغريقية قديمة]. وبعد أن أُدمجت اقتراحات شوقي أفندي العديدة في التصميم النهائي، حاز على موافقته. وفي عام 1957 اكتمل بناء هذا الصرح الذي وصفه حضرته بـ’هذا الصرح الجميل الجليل الأخاذ’، بكلفة بلغت ربع مليون دولار تقريبًا. ومثلما كان في بناء المقام الأعلى لحضرة الباب، فقد تمّ طلب مواده اللازمة من إيطاليا، ونُحتت ونُقشت حجارته وجُهّزت بالكامل هناك ثم شُحنت إلى حيفا للبناء. لم يكن كل حجر يحمل رقمه الخاص به في البناء فحسب، بل وُضعت مخططات ورسومات تحدّد مكان كل حجر تسهيلاً لعملية وضعه في مكانه الصحيح في البناء. وباستثناء أعمال صب الأساسات وأعمال صب الخرسانة المسلّحة للأرضيات والجدران والأسقف، قد نصدُق لو قلنا بأنه بناءٌ صُنّع بالكامل تقريبًا في الخارج وجرى تجميعه وبناؤه محليًا.
إن أصالة شوقي أفندي وإبداعه، واستقلاليته عن آراء ونصائح الآخرين وتصميمه على إنجاز الأمور بشكل سريع، لا يمكن لها أن تظهر بأفضل مما كانت عليه في الطريقة التي تناول بها شخصيًا تنفيذ هذا المشروع بكامله. ففي البداية قضى وقتًا طويلاً في دراسة الموقع الدقيق الذي أراد لذلك البناء أن يشغله، مستخدما في ذلك خيوطًا وضعت على الأرض وفقًا لأبعاد المبنى، وقد قام بتغييرها عدة مرات إلى أن أصبح راضيًا عن موقعه؛ وبعدها باشر في تحسين كامل المساحة الواقعة أمام موقع البناء، فأنشأ الممرات وزرع الأشجار والمسطحات الخضراء. وبعد ذلك أعلم ليروي إيواس، المشرف على العمل محليًا (بينما كان أوغو جياكري يشرف على إنجاز جزئه الآخر في إيطاليا)، بأن البناء يجب أن يبدأ تشييده من الخلف ليمتدّ إلى الأمام نحو الحدائق المقامة حوله، والتي تمتد على كامل طوله تقريبًا من الجهات الثلاثة، مما لا يترك سوى ممرّ بعرض خمسة أمتار تقريبًا كمساحة للعمل. ونتيجة لذلك كان البناء كلما ارتفع، كان يرتفع وسط مجموعة حدائق نمت وازدهرت واكتمل مظهرها، وعندما اكتمل بناؤه لم نجد حوله أرضًا مقفرة عبثت بها الأقدام كالمعتاد، بل بدا وكأنه قائم هناك منذ سنوات. كم كان فيض العناية الإلهية مدرارًا حتى تمكّن شوقي أفندي أن يفعل ويُنجز كل هذا، وأن يتمّ إكمال البناء كاملاً – بإرشاداته وتوجيهاته، وبذوْقه الرفيع الصائب، وإحساسه الكامل بالتناسق – قبل أن يرحل عن هذا العالم! حقًا كانت كل الترتيبات والتجهيزات التي أعدها مكتملة تمامًا، بحيث عندما حان الوقت لوضع الأثاث واللوازم الفنية الضرورية التي اختارها واشتراها بنفسه داخل محفظة الآثار، كان كل ما يلزم موجودًا عمليًا وفي متناول اليد، وكان بالإمكان وضع الآثار المباركة والكثير من الأشياء ذات الأهمية التاريخية التي جمعها ورتّبها بكل كدّ وجهد في محفظتي الآثار الرئيسة والثانوية، في الوضعية والمكان الذي أعدّه لها شوقي أفندي كما لو أنه وضعها بنفسه تقريبًا.
في رسالة الرضوان الأخيرة التي وجّهها شوقي أفندي للعالم البهائي، انعكس بوضوح مدى رضاه بمبنى محفظة الآثار الذي اختاره وأنشأه؛ فبعد أن أعلن عن اكتمال بنائه كتب بأن البناء إنما ‘يساهم بدرجة غير مسبوقة، بألوانه الزاهية، وطرازه الكلاسيكي، وتناسقه الجميل الأخاذ، وباقترانه مع المقام الأعلى الذي يرتفع من ورائه بتاجه المذهّب بكل عظمة وجلال، في الكشف عن مجد المؤسسات المركزية لدين عالمي تربض في قلب جبل الرب المقدس.’
وفي رسالة وُجّهت إلى العالم البهائي في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 – مرة أخرى ربطها ولي الأمر بالذكرى السنوية لصعود مولاه المحبوب – تناول شوقي أفندي بإسهاب مغزى وأهمية ذلك البناء مصرّحًا بأن امتلاك قطعة الأرض الذي طال انتظاره قد أصبح أخيرًا واقعًا مؤكَّدًا، وأن امتلاك تلك القطعة سيجعل من الممكن الآن المضي قُدمًا في تشييد بناء محفظة الآثار البهائية العالمية. واستطرد قولَه بأن ‘إقامة هذا الصرح سيكون بدوره بشيرًا لإنشاء عدة صروح أخرى، على مدى عهود متتالية للعصر التكويني للأمر المبارك، تكون مقرّات إدارية لمؤسسات إلهية مثل ولاية الأمر وأيادي أمر الله وبيت العدل الأعظم. هذه الصروح، التي ستكون على شكل قوس واسع وستتبع طُرُزًا معمارية متناسقة، ستحيط بمواقع المراقد المطهّرة للورقة المباركة العليا بمنزلتها الأولى بين بنات جنسها في الدور البهائي، وشقيقها الذي افتداه حضرة بهاء الله لحياة العالم واتحاده، ووالدتهما التي صرّح جمال القدم نفسه بأنها ستكون “رفيقته” المختارة “في جميع العوالم الإلهية”. إن اكتمال هذا المشروع الرائع المذهل في صورته النهائية سوف يُؤْذِن بارتقاء نظام إداري إلهي عالمي ذروةَ تطوُّره، نظام يمكن تتبّع بداياته بالرجوع إلى السنوات الختامية من العصر البطولي لأمر الله.’
كم كانت عظيمة تلك الأهمية التي علّقها شوقي أفندي على ذلك ‘القوس’، الذي درس خطوطه بعناية فائقة على أرض الواقع والذي يمتد على الجبل في هيئة قوس ضخم يلتف فوق المراقد المطهرة لأقرب أقرباء حضرة عبد البهاء، وفي الجانب الأيمن منه يرتفع الآن مبنى محفظة الآثار الذي أعلن حضرته عن اكتماله في آخر رسالة له في رضوان 1957 بقوله: ‘إن الخطة التي وُضعت لضمان التوسّع في القوس واستكماله، والتي تخدم أساسًا في إنشاء صروح المستقبل التي تشكِّل المركز الإداري البهائي العالمي، قد تحقّقت وتمَّ إنجازُها بنجاح.’
[1] Chateau Frontenac.
[2] Regina.
[3] Dr. Ugo Giachery.
[4] Carrara.
[5] كتاب “القرن البديع، طبعة سنة 2002، صفحة 52–53.
[6] المصدر السابق نفسه.
[7] Abramson.
[8] Stannard.
[9] “القرن البديع، طبعة 2002م، ص 385.
[10] Jessie and Ethel Revell.
[11] Fred Schopflocher.
[12] Adelbert Mühlschlegel.
[13] Clara Dunn.
[14] Paul Haney.
[15] “مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله نزّلت بعد الكتاب الأقدس، “لوح الكرمل، ص4، طبعة 2006م.
[16] Doric.
[17] Ionic.
إن امتلاكَ أراضٍ في حيفا وفي البهجة كان حقًا ذلك الأساسَ المتينَ والدعامة القوية التي غالبًا ما جعلت النجاح ممكنًا في مشاريع كبيرة مثل تشييد البناء الفوقي للمقام الأعلى لحضرة الباب، وبناء محفظة الآثار البهائية العالمية، وإنشاء الشُرُفات على جبل الكرمل، بالإضافة إلى فعاليات أخرى كثيرة، وهي المهمة التي أولاها ولي أمر الله أهمية كبرى وناضل من أجلها طيلة سنوات ولايته. فقبل صعوده كان شوقي أفندي قد أفلح في امتلاك أراضٍ تُشكِّل طوقَ حماية كبير حول أقدس المقامات، مرقد حضرة بهاء الله الأطهر في عكاء، وحول المراقد المقدسة لحضرة الباب وحضرة عبد البهاء ووالدته وشقيقته وشقيقه على جبل الكرمل في حيفا. وبالإضافة إلى هذا كله اختار ودبّر شراء تلك الأرض على جبل الكرمل لتكون مقرًّا للمعبد البهائي الذي سيرتفع في الأرض الأقدس مستقبلاً. فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن مساحة الأراضي البهائية المملوكة على جبل الكرمل وقت صعود حضرة عبد البهاء لم تتجاوز (10) آلاف متر مربع [10 دونمات]، وأن شوقي أفندي قد رفعها بحلول عام 1957 إلى (230) ألف متر مربع [230 دونمًا]، وأن مساحة الممتلكات في البهجة كانت في عام 1921 تُقدّر بـ(1000) مترٍ مربعٍ [دونم واحد]، وأصبحت عام 1957 (257) ألف متر مربعٍ [257 دونمًا]؛ يمكننا أن نكّون فكرة عن إنجازات حضرته في هذا المجال وحده فقط. فبفضل أريحية الأحباء وسخائهم، وبفضل ما كانوا يوصون به للأمر المبارك في وصاياهم، وبفضل تجاوبهم لنداءاته عند الأزمات، إلى جانب استخدامه للصناديق الأمرية الموضوعة تحت تصرفه في المركز العالمي، نجح شوقي أفندي في شراء مساحات من الأراضي بقدر ما عكسته تلك الأرقام، فأحدث بذلك تحوُّلاً كبيرًا في وضع الأمر المبارك في مركزه العالمي.
في شهر مايو/ أيار 1931 أبرق ولي الأمر إلى المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتحدة وكندا قائلاً: ‘إن المحفل الروحاني المركزي الأمريكي قد سُجّل رسميًّا كهيئة دينية معترف بها في فلسطين لها حق تملُّك الأراضي وتسجيلها بصفتهم أمناء البهائيين الأمريكيين. أُرسلُ إليكم بريديًا سندات الملكية لأراضٍ تمّ تسجيلُها بأسمائهم فعلاً. لقد تعزّزت عاليًا مكانة الأمر المبارك وتقوّت أساساته وتدعّمت أركانه. مع خالص المحبة.’ كان هذا بمثابة الخطوة الأولى لتأسيس ‘فروع فلسطينية’ ممثِّلة لمحافل روحانية مركزية مختلفة، وتسجيل أراضٍ تمّ امتلاكها في الأرض الأقدس بأسمائها. ومع أن حقّ التصرّف بهذه الممتلكات قد أنيط محليًا بالمركز البهائي العالمي بشكل كامل، إلا أن خطوة كهذه قد عزّزت مكانة الأمر المبارك بدرجة كبيرة، وساهمت في دعم الأماكن المقدسة وحمايتها، وتأكّدت في أعين السلطات المحلية عالميةُ هذا الدين، كما أن الجامعات البهائية المركزية قد شُحِذَت هِممُها بهذه الخطوة وازدادت قوةً ومِنْعةً. إن رسائل شوقي أفندي في إشارته لهذا الموضوع قد عكست بكل وضوح سياسته وبواعثه المحرِّكة: ‘فرع فلسطين للمحفل الروحاني المركزي في الهند قد تأسس. هنّئوا الأحباء في الهند وبورما على تسجيل محفلهم الروحاني رسميًّا، ليكون أوّل مؤسسة تحمل صفة قانونية في القسم الشـرقي من العـالم البهـائي…’، ‘… اعترافًا بالخدمات المميّزة التي تُثري وتدعم على الدوام إنجازات جامعة بهائية عالمية رفيعة، فقد اتَّخذتُ الترتيبات اللازمة لنقل ملكية ممتلكات واسعة ثمينة جدًا تم استملاكها حول المقامات المقدسة على جبل الكرمل إلى اسم فرع المحفل الروحاني الأمريكي في فلسطين…’، ‘وكهدية إكْبار وإجلال للروح السامية المتجلِّية بالأحباء الأستراليين والنيوزيلنديين ولجهودهم المتواصلة وخدماتهم الجليلة، ستُبذل كافة المساعي في الأرض الأقدس… للإسراع في تسجيل بعض الأوقاف البهائية العالمية باسم فرع محفلكم الروحاني الذي تأسس حديثًا في فلسطين، وهو ما من شأنه أن يمنح محفلكم الموقر على الفور بركات روحانية ومادِّية جمّة، ويعزّز روابطه بالمركز العالمي…’
عندما صعد شوقي أفندي إلى الملكوت الأبهى كان قد أسس تسعة من هذه الفروع هي: الولايات المتحدة، كندا، أستراليا، نيوزيلندا، الجزر البريطانية، إيران، الباكستان، ألاسكا، وفرع المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الهند وبورما.
حينما أتمّ شوقي أفندي بناء الغرف الثلاثة الإضافية للمقام الأعلى، وانتهى من ترميم قصر حضرة بهاء الله في البهجة، وقدّم بذلك دلائل محلية ملموسة على مدى قوة الجامعة البهائية، وأظهر للسلطات البريطانية، بما حقَّقه من نصر على ناقضي العهد والميثاق، بأن جميع البهائيين في العالم يقفون خلفه ويساندونه بقوّة، بدأ مساعيه من أجل الحصول على إعفاء الأماكن المقدسة البهائية في الأرض الأقدس من الضرائب الحكومية والعوائد البلدية. إن الحصول على إعفاء من الضرائب لبناء له قداسته بشكل واضح ويؤمّه الزائرون، لم يكن بالصعوبة نفسها في الحصول على إعفاء مماثل للمساحات الواسعة من الأراضي المملوكة للأمر المبارك الآخذة في الاتساع، ومعظمها مسجل بأسماء أفراد. ذلك لأن الحكومات والبلديات عادة ما تُمانع تعرّضها لأية خسارة في مصادر دخلها، وتخشى دائمًا أن يصبح الإعفاء سابقة تتذرّع بها جامعات أخرى لجَنْيِ مكاسب خاصة بها. لهذا، فإن الإعفاء الكامل من جميع أنواع الضرائب، بما فيها الرسوم الجمركية، الذي استطاع أن يحصل عليه شوقي أفندي للمباني والممتلكات البهائية في كافة أنحاء القطر، كان حقًا إنجازًا عظيمًا.
في جهوده الأولى في بداية الثلاثينيات للحصول على هذا النوع من الاعتراف، كان المساعد الأكبر لشوقي أفندي في هذا المجال السير آرثر واتشوب[1] المندوب السامي في فلسطين آنذاك، والذي بدا من رسائله لشوقي أفندي أنه رجل كريم المَحْتِد، دمث الخلق، نبيل في تفكيره. ففي 26 يونيو/ حزيران 1933 نجد السير آرثر يكتب إلى ولي الأمر قائلاً: ‘تلقيتُ رسالتَك المؤرخة 21 يونيو/ حزيران، وها أنا أسارع في الردّ لأشكرك عليها وأؤكد لك أن القضية التي ذكرتَها، عندما تُحَوّل إليّ في المجلس لاتخاذ القرار بشأنها في ظلّ القانون الخاص بالأماكن المقدسة في فلسطين، ستحظى بعنايتي الفائقة.’ وبعد سنة تقريبًا في 10 مايو/ أيار 1934 أبرق شوقي أفندي إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا قائلاً: ‘أسفرت المباحثات المُطوَّلة مع السلطات الفلسطينية عن إعفاء كامل الأراضي المحيطة بالمقامات المقدسة على جبل الكرمل من الضريبة.’ وأشار إلى أن خطوة كهذه يعتبرها معادِلةً لـ’ضمان اعتراف غير مباشر بقداسة المركز العالمي للدين…’ وهناك رسالتان ذات صلة بالموضوع؛ الأولى مؤرخة 16 مايو/ أيار 1934 من السير آرثر لشوقي أفندي يقول فيها: ‘آمل أن يساعدك هذا الإعفاء على إنجاز ما تقوم به من عمل رائع.’ والثانية كان شوقي أفندي قد أرسلها إليه قبل ستة أيام يقول فيها: ‘وصلتني للتوِّ الأخبار السارّة من قائد المقاطعة في حيفا بأن التماسي الخاص بإعفاء الممتلكات البهائية على جبل الكرمل من الضرائب قد وافقت عليه الحكومة.’ وتابع رسالته بتقديم تقديره العميق والبهائيين على اهتمام سعادته المؤثِّر والفعّال في هذا الموضوع، وأن قرارًا كهذا يفتح الطريق أمام ‘خطتنا لتجميل هذه الممتلكات بالتدريج من أجل منفعة الأهالي في حيفا واستمتاعهم…’
إن مجرّد مطالعة كهذه للنهاية السارّة لهذه الأحداث، لا يمكن للمرء من خلالها أن يكوّن أيّ فكرة عما كابده شوقي أفندي من مصاعب ومشقّات في شراء الممتلكات، وفي تأمين الإعفاءات الضريبية، وتوفير الحماية اللازمة للأوقاف البهائية في المركز العالمي. ففي برقية للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا مؤرخة 28 مارس/ آذار 1935، نجد واحدًا من الأمثلة التي لا تُحصى عما كان يحدث: ‘تمّ توقيع عقد شراء ممتلكاتٍ عائدة لعائلة دوميط في وسط المنطقة المخصَّصة للمقامات المقدسة على جبل الكرمل، لتُسجّل الملكية باسم المحفل الروحاني الأمريكي/ فرع فلسطين. أربع سنوات من الدعاوى القضائية، إلى جانب الالتماسات المرفوعة للمندوب السامي في فلسطين باسم البهائيين في العالم، تمّ التنازل عنها. المالكون يطلبون أربعة آلاف جنيه. يتوفر نصف المبلغ. فهلاّ تبرَّع أحباء أمريكا متّحدين بمبلغ ألف جنيه قبل نهاية شهر مايو/ أيار المقبل، ومبلغ الألف المتبقّي خلال تسعة أشهر؟ أجد نفسي مضطرًّا لأن أناشد الجامعة البهائية الأمريكية بأكملها بأن تُخضِع مصالح الأمر المبارك في موطنها لاحتياجاته الأساسية الملحّة في مركزه العالمي.’ وبعد يومين أجاب المحفل الروحاني المركزي بأن الجامعة البهائية في أمريكا ‘بقلب واحد سيوفون بواجب هذا الفضل والامتياز الذي منحهم إياه ولي الأمر المحبوب.’
كثيرًا ما أشار شوقي أفندي إلى الأرض الأقدس على أنها ‘القلب النابض والمركز العصبي’ للأمر الإلهي. فحماية هذا المركز والعمل على تطويره وإسماع صوت تمجيده في الخارج كان جزءًا من عمله كولي لأمر الله. وإلى جانب اتصالاته الرسمية مع السلطات في الحكومة وفي البلدية، فقد حافظ على علاقات طيبة وودّية مع الكثير من غير البهائيين من مرموقين وبارزين ومع آخرين غيرهم. إن الروح الشمولية التي ميّزت شخصية ولي الأمر بكل قوة، إلى جانب ترفّعه تمامًا عن أي إشارة تعصب أو تحيّز، مع اتصافه بالتعاطف ودماثة الخلق واشتهاره بهما بشكل بارز وقوي، قد تجلّت كلها في رسائله وخطاباته لتلك الفئة من الناس. في السنوات الأولى لولايته كانت له مراسلات مُطوَّلة مع الدوق الأكبر ألِكْسانْدر دوق روسيا، ويبدو واضحًا من أسلوب خطاباته أنه كان يكنّ له كلّ محبة وتقدير، إذ خاطبه بعبارات: ‘أخي الحقيقي في خدمة الله’، و’أخي العزيز في محبة الله’. كان الدوق الأكبر مهتمًا جدًا بحركة تدعى ‘وحدة النفوس’، وقد شجّعه شوقي أفندي على ذلك، فكتب له قائلاً: ‘تأثّرت أكثر فأكثر بالتشابه الملفت للنظر بين ما نحمله من أهداف ومبادئ. ألْتمس من العليّ القدير أن يبارك خدّامه في خدماتهم من أجل إنسانية معذّبة.’ وفي خطاب إلى ولي الأمر كتب الدوق يقول: ‘عليّ أن أعترف لك يا أخي العزيز ورفيقي في هذا الميدان أن في عملي المتواضع هذا أشعر بالإحباط من وقت لآخر… إن قوى الشر التي تصبّ حِمَى أذاها على السواد الأعظم من البشر هائلة ومرعبة.’ فكان ردّ شوقي أفندي بغاية الجمال: ‘… أؤكد لك يا رفيقي العزيز في خدمة الله بأنني أيضًا أشعر في كثير من الأحيان أنني غارق بين أمواج الأنانية العاتية والمادّية البحتة التي تهدِّد بالإطباق على العالم، وأشعر أنه مهما كانت مهمّتنا المشتركة صعبة وشاقة، فإن علينا أن نثابر حتى النهاية ونواصل دعاءنا بكل غيرة وحماس أن تملأ روحُ الله الحيّة الأبدية أرواحَ أولئك النفوس، وتجعلهم ينهضون بِرُؤىً جديدة من أجل خدمة الإنسانية وخلاصها. أشعر بأن الدعاء والجهد الفردي المتواصل يجب أن يحظى بقسط أوفر ومدىً أوسع في هذه الأيام المُفعمة بالكآبة والتوتّر…’
لم يكن شوقي أفندي على اتّصالٍ بالملكة ماري ملكة رومانيا وعدد من أفراد عائلتها فحسب، بل مع آخرين من عائلات ملكية أيضًا مثل الأميرة مارينا في اليونان، التي أصبحت فيما بعد دوقة كِنْت، والأميرة قدْرية من مصر. فإلى الكثير من هؤلاء، إلى جانب رجال مشهورين مثل اللورد لمنغتون وعدد من المندوبين السامين السابقين لفلسطين، ومستشرقين وأساتذة جامعات ومربّين تربويين وغيرهم، كان من عادة شوقي أفندي أن يرسل إليهم نسخًا من آخر إصدارٍ لمجلّد “العالم البهائي” أو أحد تراجمه المنشورة حديثًا ومعها بطاقة باسمه الشخصي – وكانت من الناحية العملية هي المناسَبَة الوحيدة التي كان يستخدم فيها هذه البطاقات[2]، إذ يبدو أن استخدامه إياها كان أساسًا لتدوين ملاحظاته عليها! كان شديد الحرص على الدوام – طالما أن العلاقة في حدود المجاملة والاحترام المتبادَل – في إرسال رسائل تعزية إلى معارفه ممن عانوا فقدان عزيز تعبيرًا عن ‘تعازيه القلبية الخالصة’ على ‘الخسارة الفادحة’ لذلك الشخص. رسائل من هذا النوع، والتي غالبًا ما كانت ترسَل على شكل برقيات أو تلغرافات، كانت تؤثر بعمق في قلوب متلقّيها وتولّد لديهم انطباعًا عنه يُكذّب تلك الصورة الخاطئة التي يبذل الناقضون أقصى جهدهم في اختلاقها عنه. وكثيرًا ما كان يبعث بتهانيه إلى أناس في مناسبات أخرى كالزواج أو الترقية.
إلى جانب علاقاته الشخصية هذه، كان لشوقي أفندي اتصالات مع منظمات غير بهائية مُحدَّدة أكثر بكثير مما يُفترض في العادة. ويَصدُقُ هذا بشكل خاص في علاقته مع المتكلمين بلغة الإسبرانتو الذين كان كل هدفهم تحقيق المبدأ البهائي المنادي بضرورة تبنّي لغة عالمية إضافية تخدم السلام العالمي. لدينا نسخ من رسائله الشخصية الموجّهة إلى المؤتمرات العالمية للإسبرانتو التي عُقدت في الأعوام: 1927، 1928، 1929، 1930، 1931. ومما لا شك فيه أنه أرسل رسائل كثيرة مماثلة في طبيعتها في أوقات أخرى. لم يكتفِ شوقي أفندي بالترحيب الحار في تجاوبه لأي دعوة تُوجّه إليه، بل غالبًا ما كان يبادر إلى إرسال ممثلين عنه من الأحباء يختارهم بنفسه لحضور المؤتمرات المختلفة التي تتفق اهتماماتها مع تلك التي للبهائيين. وهكذا نجده يكتب إلى المؤسسة العالمية للإسبرانتو عام 1927 بأن مارثا روت وجوليا غولدمان سوف تحضران مؤتمرهم في دانزغ ممثلتيْن رسميتيْن عن البهائيين، وكله ثقة بأن هذا الحضور ‘سوف يقوّي عُرى الصداقة والزمالة بين الناطقين بالإسبرانتو وأتباع حضرة بهاء الله، الذي من مبادئه الأساسية… تبنّي لغة عالمية مساعِدة للبشرية جمعاء.’ وفي رسالته الموجّهة إلى المندوبين والأصدقاء المشاركين في هذا المؤتمر العالمي التاسع عشر للناطقين بالإسبرانتو كتب يقول:
زملائي الأعزاء العاملين في خدمة الإنسانية
يسرني أن أخاطبكم متمنيًا لكم… من أعماق قلبي النجاح التام والتوفيق الخالص في إقداماتكم الجليلة من أجل خير الإنسانية وصالحها.
كلي ثقة بأنه سيثير اهتمامَكم أن تعلموا بأنه نتيجة لنصائح حضرة عبد البهاء المؤكّدة والمتكررة، فإن أتباعه العديدين، حتى في أقصى القرى والنجوع في إيران حيث بالكاد وصلتهم أنوار الحضارة الغربية وفي بلدان أخرى في مختلف أنحاء الشرق، منهمكون بجدٍّ وحماس في دراسة لغة الإسبرانتو وتدريسها، وهي لغة يعلّقون على مستقبلها آمالاً كبيرة.’
كان ولي الأمر نفسه موضع تقديرٍ واحترامٍ كبيريْن من قِبل العديد من الناس ممن يعملون من أجل أهداف مشابهة لتلك التي ينادي بها البهائيون. فقد كتب إليه السير فرانسيس ينغهزبند[3] رسالة عام 1926 بخصوص “المؤتمر العالمي للأديان” قال فيها: ‘أرغب الآن في طلب معروف كبير منك. مرة أخرى سأحاول إقناعك بالمجيء إلى إنكلترا لحضور المؤتمر. إن حضورك هنا سيكون له بالغ الأثر وعميق التقدير، وبالرحب والسعة يسرنا أن نتحمّل نفقات السفر كاملة.’ لم يلبِّ ولي الأمر هذه الدعوة، ولكنه أعدّ الترتيبات لتقديم ورقة بهائية في المؤتمر. كان يشعر أن خططه ومشاغله تمنعه من أن يفتح عليه بابًا كهذا.
في عام 1925 دُعي حضرة ولي أمر الله لحضور حدثٍ في القدس يرتبط بتأسيس جامعةٍ هناك، فأبرق حضرته إلى الهيئة التنفيذية في 1 إبريل/ نيسان قائلاً: ‘مع تقديري لدعوتكم الكريمة، أرجو أن أقدم اعتذاري لعدم تمكُّني من الحضور. يتمنّى البهائيون ويدعون أن يساهم تأسيس هذا الصرح العلمي في نهضة هذا البلد الذي يحمل ذكريات مقدسة لنا جميعًا، والذي علّق عليه حضرة عبد البهاء آمالاً كبيرةً.’ فكان ردّ الهيئة بعبارات ودِّية قائلة: ‘إن الهيئة التنفيذية تقدّر عاليًا رسالتك الودّية وتمنياتك الطيبة، ونحن واثقون بأن الجامعة الحديثة ستساهم ليس في تقدّم العلم والمعرفة فحسب، بل والإسهام أيضًا في خلق تفاهم أفضل بين بني البشر، وهو الهدف الذي يعمل البهائيون جاهدين على تحقيقه.’ وبعد خمس وعشرين سنةً نجد أن العلاقة التي تأسست كانت لا تزال قائمة: ‘بغاية الشكر والامتنان استلَمَتِ الجامعة شيكًا بمبلغ مائة جنيه، تبرعًا من سعادة شوقي أفندي رباني لصالح هذه المؤسسة… يسرنا أن نعلم أن سعادته مدرك لأهمية ما تقوم به الجامعة، وأن نحظى منه بهذا العطاء السخيّ الدال على تقديره العميق…’
وفي ديسمبر/ كانون الأول 1930 أرسل شوقي أفندي برقية إلى الهند تحمل أهمية خاصّة لأنها تُظهر كيف أنه، وحتى أواخر أيام حياة الورقة المباركة العليا، اعتاد أن يذْكُرها بغاية اللطف في رسائله كلما وجد ذلك مناسبًا: ‘باسم الورقة المباركة العليا، شقيقة حضرة عبد البهاء، وبالنيابة عني انقلوا إلى مؤتمر الهند للمرأة الآسيوية اهتمامنا الحقيقي العميق بمداولاتهنّ. نبتهل إلى العليّ القدير أن يبارك مساعيهن السامية.’
وإلى جانب هذه المراسلات الواسعة مع شخصيات مرموقة ومجتمعات متنوِّعة أيضًا، اعتاد شوقي أفندي أن يستقبل في منزله أشخاصًا بارزين مثل اللورد والليدي صموئيل، والسير رونالد سترز وهو صديق آخر لحضرة عبد البهاء؛ والبروفسور نورمان بنتويتش، والكثير من الكُتّاب والصحفيين والوُجهاء.
ومهما كانت عليه مثل هذه الاتصالات والرسائل المتبادَلة من أهمية، فلا شك أن الأهم هي تلك العلاقة التي أقامها ولي الأمر مع المسؤولين في المركز العالمي. ومع أن هذه العلاقات كانت ودّية، إلا أنها ستكون أكثر ودّية بلا شك، وتؤدي إلى أمور أعظم بكثير، لولا ذلك التأثير الغادر المتواصل الذي مارسه أعداء الأمر المبارك بكافة أنواعهم، أكانوا بهائيين ساخطين، أم أعضاء في مجموعات دينية أخرى بدافع الحسد والغيرة. وإلى التأثير السلبي الناتج من أناس كهؤلاء، لا بد أن نضيف النتائج المترتبة على حقيقة أن معظم مساعدي شوقي أفندي كانوا يفتقرون إلى الكفاءة والمعايير المطلوبة. وقد أبدى لي مرة ملاحظة بأنه من المؤسف حقًا أن نجد كثيرًا من الناس الطيبين يفتقرون إلى الحكم السديد، وكثيرًا من الأذكياء تنقصهم الطويّة السليمة، موضّحًا لي بأن الأمر المثالي أن يجمع الإنسان بين الطيبة والذكاء معًا. فكان كولي للأمر حائزًا على نصيبه كاملاً من الميزتيْن معًا في حدودهما القصوى، ونادرًا جدًا ما وجد هاتين الميزتين مجتمعتيْن كما كان يتمنّى في أولئك الذين خدموه. وفي مناسبة أخرى أتذكَّر قولَه لي عن مَثَل فارسي يقول: ‘عدو عاقل خير من صديق جاهل!’ ومثال على ما كان ولي الأمر يعاني منه، أسوق هنا حادثة أخبرني بها أحد أفراد عائلته فقال: إن رجلاً إنكليزيًا – لم يكن بأي حال شخصًا عديم الشأن – قال له أنه يرغب في زيارة شوقي أفندي، فأجابه هذا الشخص بأنه مُرحَّب به في ذلك، ولكن عليه أن لا يتوقّع من ولي الأمر أن يردّ له الزيارة لأنه لم يفعل هذا قطّ. من السهل جدًا أن يرى المرء كيف أن تعليقات كهذه تفتقر إلى اللباقة وحسن التفكير قد ساهمت في بناء حاجزٍ من سوء الفهم حول شخص شوقي أفندي، وأدّت، جنبًا إلى جنب مع وسوسة حاسديه ومبغضيه الحقيقيين، إلى تشويه صورته أمام العموم وإبرازه على أنه فظٌّ غليظ. فلو التقى الرجل الإنكليزي بشوقي أفندي لتأثّر به كثيرًا على شأن لن يخطر بباله أن ولي الأمر سيردّ له الزيارة أم لا. ولكن بالطبع، بعد تلك الملاحظة لم يقترب الرجل من ولي الأمر على الإطلاق. وعلى كل حال كان حُكْم شوقي أفندي على الأشياء في غاية الكمال، فبفضل قيادته الحاسمة لشركائه العاملين معه ومرؤوسيه، أنجز المعجزات وهو يواجه أوضاعًا مُعقَّدة للغاية وغالبًا ما بدت ميؤوسًا منها. ومع أن تفكير حضرته لم يكن ماكرًا ملتويًا، إلا أنه كان بمقدوره أن يُبصر ويُدرك كيفية تفكير أصحاب العقول الماكرة غير السويّة، وبالتالي لم يكن حضرته ليصرّ على مواضيع دون مراعاة الحكمة في الوقت الخطأ غير المناسب، أو يجد نفسه في مواجهة رفضٍ قد يؤدي بالأمر المبارك للوقوع في مأزق لن يكون باستطاعته إخراجه منه إلا بعد وقت طويل جدًا.
عندما يفكّر أحدنا ويتأمل في: مَن كان شوقي أفندي، وكم كانت رِفْعةُ منزلته وعظمة قدراته!! لا يسعه إلا أن يشعر بشديد الأسف على حرمانه من رفقة رجال عظماء في هذا العالم كان يمكن أن يوفّروا له، ولو بدرجة بسيطة، صُحبةً مشوِّقة محفّزة. وكثيرًا ما كان يُفصح لي في ملاحظاته وتعليقاته بأنه يشعر بافتقاره إلى علاقات كهذه. كان شوقي أفندي يرى الناس على حقيقتهم بمنتهى الوضوح، وبحنكةٍ أفضل وصف لها بأنها حنكة ربّانية وليست بشرية.
في كل علاقاته مع المسؤولين كان شوقي أفندي يحرص منذ البداية أن يطبع في أذهانهم أن الأمر الإلهي دينٌ مستقلّ،ٌ عالميٌّ في خصائصه، وأن مركزه العالمي الدائم، الإداري والروحي، يقع في الأرض الأقدس. لقد أمضى ستًا وثلاثين سنةً وهو يسعى لأن يحقق لهذا الأمر المبارك الفوز باعتراف السلطات به وبحقوقه التي تقتضي مكانته الرفيعة أن يتمتّع بها، والتي كان أحدها أن يلقى ولي أمره في المناسبات الرسمية تلك المعاملة التي تليق بوريث الرئاسة الروحية لدين كهذا. ولعدد من الأسباب؛ منها ذلك العدد الضئيل من أفراد الجامعة البهائية في فلسطين، وما قام به الناقضون من تحدٍّ لسلطة ولي الأمر بعد صعود حضرة عبد البهاء مباشرة، وإحجام السلطات المدنية عن إقحام نفسها في قضايا دينية، فإن السلطات لم ترغب في منح شوقي أفندي ما يستحقّه ومنصبه الفريد من احترام لائق وأسبقية في المكانة والمقام. لهذا السبب – عدا بعض الاستثناءات الطفيفة – تجنّب حضرته تمامًا حضور الاحتفالات والمناسبات الرسمية. فعندما نعود بالذاكرة إلى حقيقة أن حضرة عبد البهاء منذ أن وصل إلى عكاء عام 1868 إلى أن صعدت روحه الطاهرة عام 1921، لم تطأ قدماه مدينة القدس، ذلك لأنه – كما ذكر شوقي أفندي – لم يكن ليُعامَل معاملة لائقة بمقامه الرفيع وبما لزيارته تلك من أهمية تاريخية للقدس، وأنه بسبب هذا تجنّب حضرته الذهاب إليها بالكلية، تتكون لدينا عندئذٍ فكرة ما عن بعض القضايا التي ارتبطت بهذا الكفاح.
في باكورة ولايته كانت لشوقي أفندي تجربة نبّهته إلى مآزق محرِجة قد يقع فيها إذا ما قبِل الدعوات الرسمية التي كانت تُوجَّه إليه من السلطات المحلية لحضور مناسبات مثل زيارة مسؤول رفيع المستوى لمدينة حيفا. أخبرني كيف أنه حضر إحدى حفلات الاستقبال هذه التي أقامها قائد المقاطعة على شرف المندوب السامي لفلسطين. فعندما دخل شوقي أفندي وجد المندوب السامي جالسًا يتصدَّر الغرفة، والكرسي الوحيد الفارغ القريب منه كان إلى يمينه مباشرة. تقدم شوقي أفندي بلا تردّد وجلس عليه. ولمّا كان هذا الكرسي محجوزًا لقائد المقاطعة الذي لم يرغب في الطلب من ولي الأمر إخلاءه أمام الجميع عندما حضر، فقد أُحضِر لهذا المسؤول كرسي آخر. كان ولي الأمر يدرك جيدًا أنه لن يُسمح لمثل هذا الموقف أن يتكرر في مناسبة أخرى مماثلة، لذا فضّل عدم حضور أي مناسبة من هذا القبيل.
يبدو أن هناك تلميحًا حول هذا الموضوع، أو على الأقل حول المأزق الذي وجد شوقي أفندي نفسه فيه، في رسالة موجهة إلى العقيد ستيوارت ب. سايمز، حاكم حيفا السابق، الذي نُقل حديثًا إلى القدس بسبب تعيينه سكرتيرًا أول لإدارة عموم فلسطين، فقد كتب إليه شوقي أفندي في 17 مايو/ أيار 1925 مهنئًا إياه بالمنصب الجديد. ويبدو أن العقيد سايمز جاء بعدها إلى حيفا في زيارة رسمية، ذلك لأننا نجد أن شوقي أفندي قد كتب إليه ثانية في الخامس والعشرين من الشهر نفسه بأنه: ‘نظرًا لاعتبارات عديدة تتعلق بوضع الجامعة البهائية الذي لا زال غير محدد، فإنه يتعذر عليّ، مع اعتذاري وأسفي الشديديْن، أن أشارك شخصيًا في الاحتفالات العامة التي تُنظَّم على شرفك. وعليه، فإنني أجد نفسي محرومًا من ذلك السرور والشرف العظيميْن برفع صوتي عاليًا، ليس باسم الجامعة البهائية المحلية فحسب، بل والبهائيين في أنحاء العالم أيضًا تقديرًا وامتنانًا على نواياكم الطيبة وإحساسكم العالي بالعدل والإنصاف الذي ميّز مواقفكم تجاه مختلف المشاكل التي برزت بعد وفاة حضرة عبد البهاء المفاجئة. كلّي ثقة من إدراككم أن غيابي الاضطراري عن هذه الاجتماعات العامة لا يدلّ بأي وجه من الوجوه على صداقة ومشاعر ودّية فاترة نحو من يمثّل إدارة يكنّ لها البهائيون تقديرًا عاليًا وثقة عميقة.’ ويسترسل في رسالته ليدعو العقيد وزوجته ووالدتها لتناول الشاي في الحدائق [على جبل الكرمل]، أو إذا تعذر ترتيب ذلك على نحو مناسب فإنه سيزورهم في منزلهم شخصيًا.
كانت علاقة شوقي أفندي بالعقيد سايمز ودّية للغاية؛ فهو حاكم فينيقيا الذي سبق وخاطب الحاضرين بكلمات معبِّرة في جنازة المولى المحبوب، وحضر تأبينه في اليوم الأربعين في بيته المبارك. وهو الذي كتب إليه شوقي أفندي في 5 إبريل/ نيسان 1922 عندما غادر حيفا لأسباب صحية قائلاً: ‘بسبب اضطراري إلى مغادرة حيفا لأسباب صحية، قرّرتُ أن تمثِّلني أثناء غيابي شقيقة حضرة عبد البهاء بهائية خانم.’ ويمضي بقوله: ‘ولمساعدتها في القيام بأعباء الشؤون المتعلقة بالدين البهائي في هذا القطر وأقطار أخرى، شكّلتُ لجنة من البهائيين (ثمانية رجال من الجالية المحلية – ثلاثة منهم أصهار حضرة عبد البهاء)… إن رئيس هذه اللجنة، الذي سيُنتخب قريبًا بواسطة أعضائها، مُفَوّض، وبتوقيع بهائية خانم، بتصريف أي أمور قد تتطلب النظر فيها واتّخاذ قرار بشأنها أثناء فترة غيابي. أعتذر بشدة عن عدم تمكّني من لقائك قبل سفري مما كان سيتيح لي الفرصة أن أعبّر بشكل أفضل عما يجيش في نفسي من مشاعر الرضا لعلمي بأن إحساسك المرهف بالعدالة سوف يحمي مصالح دين حضرة بهاء الله كلما استدعى الأمر اتخاذَ إجراء ما.’
إن العلاقة الودّية بين سايمز وشوقي أفندي، والاحترام الواضح الذي كان يكنّه لهذا الحاكم على خصاله وسجاياه الحميدة، قد عكستها الرسالة التي كتبها له شوقي أفندي بعد عودته إلى حيفا: ‘من دواعي سروري، بل ومن واجبي، أن أُعْلِمكم بعودتي إلى الأرض الأقدس بعد فترة طالت من الراحة والتأمُّل، وبأنني قد باشرت تولّي ما أوكل إليّ من مسؤوليات ومهامّ رسمية’. واسترسل قائلاً: ‘لقد شعرتُ بعد وفاة جدّي المحبوب بالإرهاق الشديد وغمرتني مشاعر الحزن والأسى حتى غدوتُ غيرَ قادر على إدارة شؤون الدين بالكفاءة المطلوبة. والآن، وقد استعدْتُ قواي ونشاطي من جديد، وأصبحتُ في وضع يمكّنني من استئناف واجباتي الشاقّة، أودّ بهذه المناسبة أن أعبّر لك من صميم قلبي عن عميق تقديري وامتناني على تعاطفك الصادق تجاه الدين وشؤونه أثناء غيابي.’ وفي الفقرة التالية من الرسالة نجدها تحتوي على مشاعر حارّة غير اعتيادية: ‘إنه لسرور عظيم وامتياز لي أن أتمكن من تجديد معرفتي بكم وبالسيدة سايمز، وكلّي ثقة بأنها سوف تنمو في المستقبل إلى صداقة حميمة باقية.’ وأنهى خطابه بقوله: ‘مع خالص التحيات وأفضل التمنيات.’ ووقّعها بكل بساطة “شوقي”. إن تبادل الرسائل مع العقيد سايمز – الذي مُنح لقب فارس فيما بعد وأصبح الحاكم العام للسودان قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها – استمرّ لعدة سنوات وحتى بعد تقاعده.
كتب شوقي أفندي له عام 1927 قائلاً: ‘سمحتُ لنفسي بأن أرفق طيًا – لمعلوماتك – نسخة من أحدث رسالة لي إلى البهائيين في الأقطار الغربية تتعلق بوضع الدين البهائي في مصر… إنه لمصدر تشجيع عظيم لنا أن نتذكّر، في كل مرّة نواجه فيها مسائل حسّاسة محيّرة، أن فلسطين تحكمها إدارةٌ رائدُها العدلُ والإنصافُ، مما يدعونا كبهائيين لأن نكون لكم مقدِّرين وشاكرين. لقد سرّني أن يحوز المجلّد البهائي السنوي على اهتمامك…’ ومرة أخرى ينهي رسالته بتحياته الخالصة له وللسيدة سايمز. وفي 27 ديسمبر/ كانون الأول 1935 نجد أن سايمز (وهو الآن السير ستيوارت سايمز) يكتب لشوقي أفندي من ‘القصر الحكومي في الخرطوم’ قائلاً: ‘كل الشكر الجزيل على تهنئتك بعيد الميلاد المجيد وإرسالك المجلّد…’ وبعد سنة، في 9 إبريل/ نيسان 1936، أرسل له من السودان أيضًا قائلاً: ‘شكرًا جزيلاً على تفضّلك بإرسال المُجلّد الخامس من “العالم البهائي”. أتمنى أن تسري بعض الروح البهائية في أوصال الشؤون القومية والعالمية! كلي ثقة بأن الأمور تسير بشكل جيد معك وفي عملك…’
وآخر رسالة منه وجدناها في ملفات شوقي أفندي كُتِبت في شهر يوليو/ تموز 1945 وهي شاهدة على دوام علاقة شوقي أفندي بالأناس الذين تعاملوا معه وتجاوبوا مع مبادراته بنفس العواطف الحارة واللطافة التي كان على استعداد أن يحيطهم بها على الدوام. لقد علم ولي الأمر بأن ابن سايمز قد قتل أثناء الحرب. وردًا على برقيته التي حملت تعازيه استلم شوقي أفندي الرسالة التالية: ‘تأثّرتُ جدًا وزوجتي ببرقيتك. حقًا كان لطفًا منك وعناية أن تتذكرنا في أحزاننا…’ وينهي رسالته الطويلة بقوله: ‘وإذا ما عزمتَ على زيارة إنكلترا أتعشّم أن تُعلمنا بذلك، فسيكون من دواعي سرورنا لُقْياك ثانية. مع أطيب الذكريات والاحترام…’
ومسؤول آخر، لم يكن بهذه الرتبة العالية في وظيفته، إلا أنه كان بحكم وظيفته على ارتباط مباشر بشؤون الجامعة البهائية في المركز العالمي، ذلك هو قائد المقاطعة. فخلال تلك السنوات التي كان شوقي أفندي قد بدأ يسعى فيها إلى اعتراف السلطات ببعض الحقوق والامتيازات الملموسة للأمر المبارك، كان السير إدوارد كيث-روتش يشغل هذا المنصِب. ومع أنه شخص مختلف بكل المقاييس عن العقيد سايمز، إلا أنه كان ودودًا وداعمًا ويبدو أنه كان معجبًا بشخصية شوقي أفندي، وقد دامت المراسلات المتبادلة معه من عام 1925 وحتى عام 1939. كان إدوارد كيث، وهو الذي كان يدرك بلا شك أن السلطات الأعلى منه غالبًا ما يكون موقفُها إيجابيًا، كان في كثير من الأحيان متعاونًا جدًا ليس في تسهيل الأمور أمام ولي الأمر والتعجيل فيها فحسب، بل وتقديم الاقتراحات التي كان يتبنّاها ولي الأمر أحيانًا. إن أول رسالة نجدها من شوقي أفندي له كانت بمنتهى البساطة، ومع ذلك فإنها كانت نموذجًا للمشاعر الحميمة الراسخة التي كان ولي الأمر يتجاوب فيها مع اقتراحات الآخرين التي تُقدَّم بروح ناصحة أمينة، بحيث أجدني غير قادرة على منع نفسي من أن أقتطفها. كانت الرسالة مؤرخة ببساطة ‘حيفا 25/ 12/ 1925’، وجاء فيها: ‘عزيزي السيد كيث–روتش: لقد تأثرتُ جدًا برسالتك الحبية التي تحمل نواياك الحسنة وتحياتك الطيبة، وسارعتُ لأؤكد لك بأنني أبادلك هذه العواطف القلبية العطرة التي حملتْها رسالتك. مع تمنياتي القلبية الخالصة بحلول عيد الميلاد المجيد. بكل إخلاص – شوقي رباني.’
في العديد من الرسائل المتبادلة بين شوقي أفندي وكيث - روتش يَظهر بوضوح أنهما تقابلا مرارًا. فعندما كان كيث - روتش في المستشفى بالقدس عام 1935 كتب له شوقي أفندي قائلاً: ‘شكرًا جزيلاً على رسالتك… يسرني أن أسمع عن تحسّن صحتك. كلّي ثقة بأنك لدى عودتك ستكون قادرًا على تناول الشاي معي في الحدائق الجديدة الممتدة المحيطة بالمرقد المقدس.’ في جميع مراسلات شوقي أفندي مع كل من كيث - روتش وسايمز، كانت هناك دعوات لهما لشرب الشاي معه في الحدائق على جبل الكرمل، كما أن دعوته للعقيد سايمز كانت تشمل زوجته أحيانًا. لم يكن قصد شوقي أفندي من هذه الدعوات مقتصرًا على إظهار حسن الاستقبال وكرم الضيافة اللائقة لهؤلاء المسؤولين فحسب، بل كانت تخدم أيضًا، من خلال استضافتهم وسط الممتلكات البهائية، في إطلاعهم على آخر التطورات وأحدث التوسّعات في الحدائق. ولا شكّ لديّ أنه في ذلك كان يرمي إلى إطلاعهم على خططه المستقبلية متطلّعًا إلى دعمهم المتعاطف ومؤازرتهم له. وفي حقيقة الأمر فإن كثيرًا من تلك الدعوات كانت لتحقيق هذا الغرض بالذات.
منذ بداية ولايته وحتى الأربعينيات درج شوقي أفندي بنفسه على مقابلة الموظفين الرسميين والمهندسين والمحامين وآخرين من غير البهائيين لأمور تتعلق بتصريف أعماله الهامّة، ولم يكن ذلك ليتم في مكاتبهم الرسمية، بل كان يقابلهم في محل إقامتهم أو في أغلب الأحيان كانوا يأتون إلى منزله أو كان يقابلهم في الممتلكات حول المقام. ومثال لما أدّى إليه مثل هذا التعاون الودّي نجده في الأحداث الهامة التي جرت عام 1932؛ ففي 19 نوفمبر/ تشرين الثاني وصل النصب التذكاري لمرقد الورقة المباركة العليا إلى ميناء حيفا، وفي العشرين منه كتب شوقي أفندي إلى كيث - روتش: ‘هل لي أن أحظى بمساعدتك في موضوع المرمر الخاص بالنَّصْب التذكاري الذي سيقام فوق مرقد شقيقة حضرة عبد البهاء، والذي وصل سالمًا إلى ميناء حيفا بعد ظهر أمس؟ إن أحد موظفي دائرة الجمارك على استعداد لإعفائه من الرسوم الجمركية إذا ما حصلنا على الموافقة اللازمة من السلطات العليا. لذا أناشدك، وكلّي ثقة بأنك ستبذل كل ما في وسعك لتسهيل دخول هذا العمل الفني إلى فلسطين والذي سيُنظر إليه، من بعض جوانبه، عملاً فريدًا من نوعه في هذا البلد. مع بالغ التقدير والامتنان. بكل إخلاص.’ وفي 22 نوفمبر/ تشرين الثاني كتب له شوقي أفندي ثانية يقول: ‘أرجو أن أقدم لك وافر الشكر على تجاوبك الفوري اللطيف لمطلبي. وصل النصب التذكاري بأمان، وأعطيتُ تعليماتي اللازمة للمباشرة فورًا ببنائه. أكرر لك شكري وامتناني مع التحيات وخالص التمنيات…’ إن إدخال هذا النصب التذكاري معفى من الرسوم الجمركية قد أوجد سابقة لها دلالات ضمنية بعيدة المدى كفلت للأمر المبارك في مركزه العالمي، وعلى مدى عقود قادمة، الحصول على مجال من الإعفاءات يتّسع باطِّراد، وأفضت في النهاية إلى الحصول على إعفاءات وامتيازات من السلطات المحلية ما كان لمثلها في طبيعته أن نحصل عليه في عهد الانتداب البريطاني.
بعد أربعة أيام نجد شوقي أفندي يذكّر قائد المقاطعة (كيث–روتش) بمطلب أعظم أهمية بكثير، كان قد طلبه منه من قبل. إن الرسالة برمّتها، والتي تلت مباشرةً الرسالتين الواردتين آنفًا، تُمثِّل دبلوماسية بارعة حقًا – لدرجة تُغري المرء أن يقول بأنها دبلوماسية من جانب الله سبحانه وتعالى ثم شوقي أفندي – فالله وفّر تعاقب الأحداث، أما شوقي أفندي فقد اغتنم الفرصة التي أتاحتها تلك الأحداث:
حيفا في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 1932
عزيزي السيد كيث - روتش
أنا واثق أنه يهمك أن تعلم بأنني بصدد اتخاذ الخطوات الأولية الضرورية من أجل توسيع الشرفات لتشكِّل جزءًا مكمّلاً للمقام الأعلى ولتمتدّ إلى المستعمرة الألمانية.
لقد أَطْلعْتُ مهندسَ البلدية على الأمر ووجدت موقفَه إيجابيًا ومتعاطفًا جدًا. ولذلك أنوي تزويد لجنة تخطيط المدينة ببيان رسمي بالظروف التي تتيح لنا البدء بالعمل وتوسيع الشرفات وعلى نفقتنا الخاصة ووفق المخطط العام الذي تمّ اعتماده.
أملي الجادّ أن الأمنية التي عبّرتَ أنت عنها، والتي سأسعى بكلّ إخلاص لتحقيقها، سوف تتحقق بالكامل قبل نهاية عام 1933.
كلّي ثقة بأن الطلب الذي قدّمتُه لك مؤخرًا فيما يتعلق بقدسية قصر البهجة، والذي يُعتبر جزءًا مكمّلاً لمرقد حضرة بهاء الله نفسه، سوف يلقى منك الرعاية اللازمة، وأن يحظى بإصدار كتاب الإعفاء من الرسوم الجمركية للمواد المخصصة لذلك البناء.’
من الواضح أن شوقي أفندي لم يكن حريصًا على إبقاء قائد المقاطعة على علم تام بكل هذه الأمور فحسب، بل وكان يتابعها معه بطريقة لبقة وودية وبارعة حتى يضمن للأمر المبارك امتيازات كان يؤمن بأنها من حقه. كما أن كيث - روتش، وبعد أن تأكّد له بلا شك تعاطف الإدارة في القدس مع ما يقوم به شوقي أفندي من أعمال، قد ساعده بالفعل بتقديم مقترحاته الشخصية وبتعاونه. لذا نجد شوقي أفندي يكتب إليه في الثاني من فبراير/ شباط 1934 رسالة كانت واحدة من تلك الحلقات الرئيسة في ذلك الكفاح الطويل من أجل إعفاء الممتلكات البهائية من الضرائب:
عزيزي السيد كيث - روتش
نزولاً عند اقتراحك، أرفق بطيه الإقرار الرسمي الذي وقّعتُه كوليٍّ للدين البهائي، وكلّي ثقة بأنه سيسهّل عملية إعفاء الأراضي حول المقام البهائي العالمي على جبل الكرمل من الضرائب.
سأكون ممتنًا إذا ما عملتَ على إصدار التصريح الرسمي اللازم لإعفاء البوابة الحديدية المزخرفة والمطلية بالذهب من الرسوم الجمركية، وهي التي تشكِّل جزءًا من مدخل المرقد المقدس للورقة المباركة العليا.
أرفق بطيه مفتاح البوابة العليا المؤدية إلى المقام الأعلى آملاً في استعماله عندما تعبُر مارًّا بالحدائق.
مؤكدًا لك من أعماق قلبي امتناني الدائم وتقديري على مساعدتك ومراعاتك الحُبية وتعاطفك مع مصالح الجامعة البهائية. المخلص لك جدًا.
وبعد ثلاثة أشهر، في 10 مايو/ أيار، نجد أن ولي الأمر كتب له ثانية قائلاً: ‘أودّ أن أعبّر لك عن عميق تقديري لما اتخذتَه من إجراء في إعفاء جميع الأراضي المحيطة، المخصصة للمقامات المقدسة البهائية على جبل الكرمل، من الضرائب.’ ولا شك أنه واحد من الانتصارات العظيمة التي أُحرزت في مسيرة تطوير المركز البهائي العالمي.
وفي رسالة أخرى مؤرخة 21 يونيو/ حزيران 1935 يلفت فيها شوقي أفندي نظر كيث - روتش إلى أمور تتعلق بقضية في المحكمة فيقول: ‘إن أي مساعدة يمكن أن تبذلها بهذا الخصوص سوف تلقى مني بكل تأكيد عميق التقدير ولا أقلّ منه من مختلف المحافل الروحانية البهائية التي أُمثّل مصالحها.’ طوال سنوات ولايته حرص شوقي أفندي أن يكون معروفًا بكل وضوح لدى المسؤولين الرسميين بأنه رغم كونه رئيس الدين البهائي، إلا إن حشود البهائيين الكبيرة في أقطار عِدّة تقف خلفه متأهّبة لدعمه ومساندته بكل ما لديهم من قوة في دعاويه ومطالبه؛ وفي التعبير عن شكره، غالبًا ما كان يضمّن رسائله مشاعرهم من الامتنان والتقدير إلى جانب مشاعره الشخصية.
ومع أن ولي الأمر لم يحضر أي احتفالات استقبال أو فعاليات حكومية لأسباب مرّ ذكرُها، إلا أنه غالبًا ما كان يرغب في زيارة المسؤولين بصفة شخصية. فنجده يكتب إلى كيث - روتش قائلاً: ‘… يسعدني أن أدعوك لتناول الشاي غدًا بعد الظهر في منزلي حيث يمكننا بحث الموضوع… يمكنني أن أُعرِّج على دار النقاهة إذا كان ذلك أكثر ملاءمة لك وفي أي وقت يناسبك.’ وفي 27 ديسمبر/ كانون الأول 1936 نجد أن كيث - روتش يخطُّ بيده رسالة حميمة إلى شوقي أفندي ويميّزها بكلمة ‘شخصي’ شاكرًا شوقي أفندي على ‘تحياتك الجميلة العطرة بعيد الميلاد المجيد التي نقدّرها جيدًا.’ هو لم يشكره فقط على باقة زهور جميلة عطرة مهداة منه، بل وعلى الكتب البهائية المتنوعة التي استلمها بكل تقدير في مناسبات عدة واستدعت منه أن يشكره على إهداءاته. بعد زواج ولي الأمر في مارس/ آذار 1937 كتب إليه كيث - روتش قائلاً: ‘بكل إخلاص أقدم لك ولعروسك التهاني بالزواج السعيد متمنيًا لكما حياة موفقة في خدمة مصالح المهمة العظيمة التي أوكل الله إليك تنفيذها، وإلى أن أتمكن من زيارتك، لك مني خالص التحيات…’ هذه الرسالة، على هذا القدر من الدفء والطابع الشخصي، ردّ عليها شوقي أفندي في نفس يوم استلامها في 23 إبريل/ نيسان: ‘تأثرتُ عميقًا بعواطفك النبيلة التي عبّرتَ عنها بمناسبة زواجي. أقدّر عاليًا تمنياتك الطيبة في رسالتك، وبمشاعر الامتنان سوف أتذكر على الدوام، ما قدمته لي من مساعدة في مهمتي الشاقة. يسعدني جدًا أن أرحّب بك في منزلنا في أي يوم يناسبك. مع شكري الجزيل على رسالتك…’ وبعدها بمدة قصيرة أصبح كيث - روتش قائد مقاطعة القدس، إلا أن عُرى الصداقة ظلّت مستمرّة، وبعد بضع سنين هنأناه على زواجه الذي سبق أن أخبرنا بأنه موضوع قيد التفكير. وحيث إنه لا تتوفر لدينا تقريبًا أية سجلات توضّح لنا كيف كان موقف شوقي أفندي تجاه غير البهائيين ممن كانت تربطه بهم علاقات ودّية، فقد أشرتُ إلى مراسلاته مع كيث - روتش بشيء من التفصيل لأنها تكشف لنا جانبًا آخر من طبيعة ولي الأمر متعددة الجوانب.
بمجرد عودة شوقي أفندي إلى الأرض الأقدس بعد صعود حضرة عبد البهاء، دأب حضرته على اتباع سياسة إعلام السلطات المحلية، خاصة في مقرّ الحكومة في القدس، ليس بمشاريعه فحسب، بل والمشاكل التي تواجهه والأزمات المختلفة التي كانت تبرز؛ مثل الاستيلاء على مفاتيح المرقد المقدس لحضرة بهاء الله في البهجة والبيت المبارك في بغداد، بالإضافة إلى ما يتعرض له أمر الله من ظلم واضطهاد. فابتداءً من خطابه الأول إلى المندوب السامي السير هربرت صموئيل، صديق لحضرة عبد البهاء، الذي كُتب في 16 يناير/ كانون الثاني 1922، حافظ شوقي أفندي على ذلك الاتصال مع الحكومة حتى آخر لحظة من حياته. عندما غادر شوقي أفندي فلسطين مريضًا منهوك القوى في ربيع عام 1922، قام بإعلام السير هربرت بالإجراءات التي اتخذها حماية لأمر الله أثناء غيابه، وعندما عاد إلى حيفا في 15 ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، أبرق إلى السير هربرت في التاسع عشر منه قائلاً: ‘أرجو قبول خالص التمنيات وأحرّ التحيات إثر عودتي إلى الأرض الأقدس واستئنافي مزاولة واجباتي الرسمية.’
في مايو/ أيار 1923 نجد شوقي أفندي يُبقي كلاً من حاكم حيفا والمندوب السامي على علم بما يجري من أحداث. لأنه في خطاب له إلى الأول كتب يقول بأن: ‘المحفل الروحاني في حيفا’ قد ‘أُعيد تشكيله رسميًّا، وسيعمل معي على إدارة جميع شؤون الدين المحلية في هذه المنطقة. أعلمتُ مؤخرًا سعادة المندوب السامي بهذا الأمر…’ في الخطاب الذي أشار إليه والمؤرخ في 21 إبريل/ نيسان، بيّن ولي الأمر بأنه أرفق به نسخة من خطابه الدوري الأخير إلى الجامعات البهائية في الغرب، مشابه لخطابٍ كُتب بالفارسية إلى البهائيين في الشرق، ‘وحيث إنكم أفصحتم في رسالتكم الأخيرة لي عن رغبتكم في معرفة الإجراءات المُتَّخذة من أجل ضمان استقرار شؤون الدين البهائي… فيسرني أن ألقي مزيدًا من الضوء على أي نقطة تودّ سعادتكم الاستفسار عنها فيما يتعلق بمضمون الرسالة المرفقة، أو أي موضوع آخر يهمُّ مصالح الدين بشكل عام.’
إن الإتيان على ذكر تفاصيل علاقات شوقي أفندي بالسلطات خلال السنوات الست والثلاثين إنما يعدّ ضربًا من المستحيل. وكونه نجح في الفوز بمشاعرهم الودية ونواياهم الحسنة والحفاظ عليها، وبتعاونهم في أعماله ومشاريعه المختلفة في المركز العالمي، واعترافهم بهذا المركز على أنه قلب الدين البهائي الذي يكتنز تاريخه ومؤهل ليتمتع بما للديانات الأخرى في الأرض الأقدس من حقوق وامتيازات – بل في بعض جوانبه يستحق حقًا أن يتمتع بحقوق أكبر – كل هذا في مواجهة أذى الأعداء المتواصل على اختلافهم، الذين كانوا، في الخفاء وفي العلن، يعارضون على الدوام كل خطوة يتخذها، إنما تشهد على الحكمة الاستثنائية والصبر المميّز اللذين اتّصفت بهما قيادة شوقي أفندي لأمر الله.
عندما قاربت فترة خدمة السير هربرت صموئيل في وظيفته على الانتهاء، أرسل إليه ولي أمر الله في 15 يونيو/ حزيران 1925 واحدة من تلك الرسائل التي صاغت بكلّ فعالية روابط لعلاقات طيبة مع الحكومة، معبّرًا فيها بالنيابة عن نفسه وعن البهائيين جميعًا عما يكنّون له دومًا من مشاعر الامتنان والتقدير العميق ‘للمواقف الودية والنبيلة التي اتخذتَها سعادتُكم تجاه المشاكل المتنوعة التي أحاطتهم من كل الجهات منذ صعود حضرة عبد البهاء… إن البهائيين… وهم يتذكرون ما أظْهَرَتْهُ الإدارة الفلسطينية في عهدكم وتحت توجيهاتكم من تعاطف ونيّات حسنة، سوف يسعون بجرأة ودون تردد للمشاركة بنصيبهم كاملاً من أجل الازدهار المادي فضلاً عن الترقي الروحاني لبقعة هي على هذا القدْر من القداسة والنفاسة بالنسبة إليهم جميعًا.’ أجابه السير هربرت على هذه الرسالة بالعبارات التالية: ‘… كنت سعيدًا في السنوات الخمسة، وأنا أقوم بمهامّ وظيفتي، بأن أُقيم علاقات ودّية وطيبة جدًا مع الجالية البهائية في فلسطين، وأُقدّر عاليًا تلك النوايا الحسنة التي كانوا يكنونها دائمًا ويظهرونها تجاه الإدارة ولي شخصيًا.’
عندما اندلعت الاضطرابات في فلسطين عام 1929، نجد ولي الأمر يكتب إلى المندوب السامي آنذاك السير جون تشانالور[4] في 10 سبتمبر/ أيلول رسالة كانت على درجة عالية من الأهمية:
صاحب السعادة
علمتُ بكل أسف وأسى بالأحداث المؤلمة في فلسطين، وسارعتُ، وأنا بعيد عن أرض الوطن، إلى تقديم تعاطفي الودّي لسعادتكم في مهمتكم الصعبة والشاقة التي تواجهكم.
إن أفراد الجامعة البهائية في فلسطين، الذين بحكم دينهم تتعلّق قلوبهم بثرى هذا الوطن، يأسفون حقًا لهذا العنف الذي يفجّره التعصب والتطرف الديني، ويحدوهم الأمل أن بانتشار المُثُل البهائية وتأثيرها في المجتمع وتعميقها في القلوب، فإنهم قد يتمكّنون في قادم الأيام من تقديم مساعدتهم المتنامية لإدارتكم في تعزيز روح التسامح والنوايا الحسنة بين الطوائف الدينية في الأرض الأقدس.
إنني، وقد حركتني أحاسيسي، أقدم لسعادتكم بالنيابة عن البهائيين في فلسطين المبلغ المرفق طيًا تبرعًا منهم للتخفيف من المعاناة والعوز لمن هم في حاجة بغضّ النظر عن العرق أو العقيدة…’
وكان في العام نفسه 1929، وبفضل التماس رسمي قدمَتْه الجامعة البهائية بحيفا للحكومة في 4 مايو/ أيار، أن نجح شوقي أفندي في الحصول على تصريح رسمي للجامعة في إدارة شؤونها الداخلية حسب الشريعة البهائية في أمور تتعلق بالأحوال الشخصية مثل الزواج، وبذلك وُضعت الجامعة في هذا على قدم المساواة مع اليهود والمسيحيين والمسلمين في فلسطين. رحّب شوقي أفندي بهذه الخطوة واعتبرها ‘إجراءً رسميًا له أهميته الكبرى ولا سابقَ له كليًا في تاريخ الأمر في أي بلد.’ ونتيجة لهذا النجاح والاعتراف الذي أُحرز فقد سُجّل زواج ولي الأمر البهائي رسميًا وأصبح بذلك موثَّقًا وقانونيًا.
أحد الذين شغلوا منصب المندوب السامي الهامّ خلال تلك السنوات التي بدأ الأمر الإلهي فيها يفوز بمثل هذه الطرق الملموسة بالاعتراف بكيانه المستقل، كان السير آرثر واتشوب الذي كان شخصيًا يكنّ لولي الأمر كل المحبة بمثل ما كان زميله العقيد سايمز، وأغلب الظن أنه أدرك ثقل تلك الأعباء التي أُلقيت على كاهل هذا الشاب الفتيّ الذي كان رئيسًا للدين البهائي. خلال فترة إدارته، والتي تزامنت جزئيًا مع الوقت الذي كان فيه كيث–روتش قائدًا لمقاطعة حيفا، كان أن أُحرزت بعض أعظم الانتصارات وذلك بالفوز بامتيازات من السلطات، كان أكثرها أهمية، بعد حق الجامعة في مراعاة بعض أحكام شريعتها الخاصة بالأحوال الشخصية، هو إعفاء كامل الأراضي المحيطة بالمقام الأعلى لحضرة الباب على جبل الكرمل من الضرائب. وبخلاف معظم المندوبين السامين، يبدو أن السير آرثر كان له نصيب في مقابلة شوقي أفندي شخصيًا وهذا ما أشار إليه السير في بعض رسائله إليه.
ففي واحدة من هذه الرسائل مؤرخة 26 يونيو/ حزيران 1933 يذكر السير آرثر: ‘تلقيتُ رسالتَك المؤرخة 21 يونيو/ حزيران، وها أنا أسارع في الردّ لأشكرك عليها وأؤكد لك أن القضية التي ذكرتَها، عندما تُحَوّل إليّ في المجلس لاتخاذ القرار بشأنها في ظلّ القانون الخاص بالأماكن المقدسة في فلسطين، ستحظى بعنايتي الفائقة. كما وصلني منك مجلد “العالم البهائي” للسنوات 1930–1932. إنني في غاية الامتنان على هذا الكتاب القيّم الذي يشدّ الاهتمام إلى أبعد الحدود… أتطلّع إلى أن أحظى بزيارة أخرى للحدائق الجميلة على سفح الجبل خارج حيفا.’
في 13 مارس/ آذار 1934 كتب له شوقي أفندي قائلاً: ‘… بما أن القضية التي أحيلت إلى سعادتكم حديثًا، والمتعلقة بالمقامات البهائية المقدسة على جبل الكرمل، لها أهميتها الحيوية العالمية، فقد طلبت من السيد ـــــــــــــــــــــــــ أن يحضر إلى فلسطين لأتشاور معه بشأنها. أُقدّر عاليًا لطف سعادتكم لو منحتموه فرصة مقابلتكم للاستيضاح عن نقطة أو اثنتين لم أفهمهما تمامًا، إذ عليهما تعتمد الخطوة المستقبلية التي سأتخذها في هذا الشأن.’ في الأول من مايو/ أيار من السنة نفسها كتب إليه شوقي أفندي ثانية: ‘أقدّر لك عاليًا رسالتك اللطيفة التي أبديتَ فيها تعاطفك ومؤازرتك للخطة التي وضعتْها الجامعة البهائية من أجل تجميل منحدرات جبل الكرمل والتي أرسلتَها لي مع السيد ـــــــــــــــــــــــــ. لقد شجعتني كثيرًا. ولكن لسوء الحظ هناك أصحاب مصالح ذوو نفوذٍ قويٍّ مؤثّر يسعون إلى وضع العقبات أمام خطتنا. بعضهم مجرد مضاربين في مجال العقارات، يبذلون، بنظرتهم القاصرة، كل ما في وسعهم من أجل تطوير السفح الشمالي لجبل الكرمل على نحو يحقق لهم منافعهم الذاتية الآنية. ولكن الأصعب والأخطر منهم على خطتنا هم أولئك الذين يسعون بكلّ تأكيد إلى إحباط جهود أتباع حضرة بهاء الله في كل ما يمكن أن يفعلوه. إن في اعتقادنا أن هؤلاء الناس هم الذين كانوا وراء القضية التي رفعَتْها عائلة دوميط ضدنا على سبيل المثال. وللسبب هذا نفسه شعرنا أن هناك ما يبرر قرارنا بضرورة سحب القضية من أمام هيئة المحلَّفين في المحاكم ووَضْعِها أمام سعادتكم لتحظى بعنايتكم الشخصية… بكل التحيات الحبية أعبّر لكم مجدّدًا عن تقديري الحارّ على تعاطف سعادتكم ومساندتكم…’ فالقضية المشار إليها، والتي دامت أربع سنوات أمام القضاء، هُجرت أخيرًا وتمّ التخلّي عنها. وفي عام 1935 جرى توقيع العقد لشراء أرض عائلة دوميط، وأبرق شوقي أفندي آنذاك إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا بنيّته في تسجيل الأرض باسم فرعه بفلسطين. ومما هو مثير للاهتمام أن نشير إلى أن ولي الأمر قد كتب الاسم في مخاطبته البهائيين بأحرف لغة أخرى، ولكن لم يفعل ذلك مع المندوب السامي.
بذل شوقي أفندي مساعيه الحثيثة لبعض الوقت في الحصول على إعفاء الممتلكات البهائية الواقعة حول المقام الأعلى لحضرة الباب من الضرائب إلى أن وصلته الأخبار أخيرًا بقرار الإعفاء. خلف هذه السطور الرسمية التي جاءت في هذه الرسالة إلى السير آرثر وكُتبت في 11 مايو/ أيار 1934 يمكننا أن نشعر بمدى ابتهاج شوقي أفندي بهذا النصر:
صاحب السعادة
وصلتني للتوّ الأخبار السارّة من قائد المقاطعة في حيفا بأن التماسي الخاص بإعفاء الممتلكات البهائية على جبل الكرمل من الضرائب قد وافقت عليه الحكومة.
لقد سارعتُ إلى الكتابة لسعادتكم للتعبير عن عميق تقديرنا باسمي وبالنيابة عن الجامعة البهائية في العالم للتعاطف الكبير والاهتمام الفعّال الذي أبديتموه سعادتكم تجاه هذه المسألة، والذي أعلم تمامًا أنه ساهم إلى حدّ كبير في الوصول إلى هذه النتيجة. يحدوني الأمل في دوام دعم سعادتكم واستمرار تعاطفكم مع خطتنا الرامية إلى تجميل هذه الممتلكات بالتدريج من أجل منفعة الأهالي في حيفا واستمتاعهم، والتي فتح قرار الحكومة هذا أمامها الطريق الآن.
أجاب السير آرثر على هذه الرسالة بشكل شخصي بعد خمسة أيام قائلاً:
عزيزي شوقي أفندي
شكرًا على رسالتك المؤرخة في الحادي عشر من شهر مايو/ أيار وما فيها من كلمات معبِّرة عن فيض محبتك. كنتُ دومًا على تعاطف تام مع مشروعك الهادف إلى تطوير وتجميل منحدرات جبل الكرمل. آمل أن يساعدك هذا الإعفاء فيما تقوم به من عمل جميل رائع.
بكل إخلاص
آرثر واتشوب
وفي رسالة أخرى كتب المندوب السامي ما يلي: ‘امتناني كبير على هديتك اللطيفة كتاب “مطالع الأنوار”. سوف أقرأه بكل اهتمام لأنك تعلم كم أثارتني تلك القصة الرائعة وحرّكت أحاسيسي عندما سمعتُ بها لأول مرة في إيران. إنه كتاب شيّق بديع في إخراجه، وصوره ورسوماته تضيف إليه سحرًا وجاذبية. أكرر شكري الجزيل على أفكارك الطيبة وهديتك التي لاقت كل الترحيب…’ كما كانت هناك رسائل مشابهة تشكر ولي الأمر على كتاب “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله” ومجلدات “العالم البهائي”. والرسالة الأخيرة التي كتبها المندوب السامي في فبراير/ شباط 1938، والذي بفضل رتبته الرفيعة ساعد شوقي أفندي على إحراز انتصار عظيم للأمر المبارك في المركز العالمي، كانت نموذجًا لما درج عليه من اللطف ودماثة الأخلاق، إذ نقرأ فيها: ‘… كان لدي رغبة وتصميم أكيد على زيارتكم في حيفا حيث كنت آمل أن أشاهد ما أجريتَه من تطوُّر في حدائقك، وتكون لي فرصة توديعك شخصيًا، إلا أن مشاغلي الكثيرة… جعلت من ذلك أمرًا مستحيلاً. لذا أنتهز هذه الفرصة لأودّعكم وأعبّر عن أفضل تمنياتي للجامعة البهائية.’ وذيّل الرسالة بخط يده مضيفًا: ‘أسمع بأن حدائقك تزداد جمالاً كل سنة.’
في وقت كانت فترة الانتداب البريطاني تقارب على الانتهاء، وجموع الناس القلقة المضطربة في فلسطين تستعدّ لحسم الأمر بالقتال، عيّنت هيئة الأمم المتحدة لجنة خاصة بفلسطين برئاسة القاضي إميل ساندستروم[5]. وجّه هذا القاضي من مدينة القدس رسالة إلى شوقي أفندي مؤرخة 9 يوليو/ تموز ذكر فيها أنه بموجب الصلاحيات الممنوحة لهذه اللجنة، فقد كُلّفتُ بالعناية التامة بالمصالح الدينية في فلسطين؛ الإسلامية منها واليهودية والمسيحية. واستطرد قائلاً: ‘سيكون موضع تقديري لو أعلمتَني إذا ما كنتَ ترغب في تقديم دليل – في بيان مكتوب عن المصالح الدينية لجامعتكم في فلسطين.’ وبما أن جواب شوقي أفندي على هذه الرسالة يمثِّل أهمية تاريخية للبهائيين، فإنني أورده هنا كاملاً:
14 يوليو/ تموز 1947
سعادة القاضي ساندستروم
حضرة الرئيس
لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين
سيدي
استلمتُ رسالتك اللطيفة المؤرخة في التاسع من شهر يوليو/ تموز. أود أن أُعبّر عن شكري لك لمنحي الفرصة لأن أقدم لك ولزملائك الكرام بيانًا يوضح العلاقة التي تربط الدين البهائي بفلسطين، وموقفنا من أي تغيير قد يطرأ في المستقبل على وضع هذه البقعة المقدسة من العالم والمتنازَع عليها بشدة.
تجدون طي هذا البيان، لاطّلاعكم، نبذة مختصرة عن تاريخ الدين البهائي وأهدافه وأهميته، وكتيبًا صغيرًا يبسط أمامكم نظرة هذا الدين لحالة العالم الحاضرة، والخطة العامة التي نأمل ونؤمن بأنه يجب، لا بل سوف تتطور بموجبها.
إن وضع البهائيين في هذا البلد فريد من منظور معين: فبينما مدينة القدس هي المركز الروحي للعالم المسيحي، فإنها ليست مركزًا إداريًا لكنيسة روما أو أي طائفة مسيحية أخرى. وبالمثل، مع أن المسلمين يعتبرونها البقعة التي يقع فيها أحد أقدس مقاماتهم، فإن الأماكن المقدسة للمسلمين ومركز حجّهم واقعة كلها في شبه الجزيرة العربية وليس في فلسطين. والقدس بالنسبة لليهود تحتضن بقايا الهيكل المقدس. أما بالنسبة للبهائيين فإن تراب فلسطين يحتضن المراقد المقدسة للرموز الدينية الثلاثة المؤسسين للدين البهائي، وهي ليست محج العالم البهائي من أطراف الأرض فحسب، بل وفيها أيضًا المقرّ الدائم لنظامنا الإداري والذي أتشرف أن أكون رئيسًا له.
إن الدين البهائي ليست له صبغة سياسية على الإطلاق، ولا نتحيّز لأي طرف في النزاع المأساوي الحالي الذي تدور رحاه على مستقبل هذه الأرض المقدسة وأهلها، وليس لدينا أي بيان ندلي به أو نصيحة نقدّمها بما يجب أن تكون عليه طبيعة السياسة المستقبلية لهذا البلد. إن هدفنا تأسيس سلامٍ عالمي يسود هذا الكوكب، ومرادنا أن نرى العدلَ رائدَ كل مجال في المجتمع الإنساني بما فيه المجال السياسي. ولمّا كان الكثير من أتباع ديننا هم من خلفيات يهودية وإسلامية، فليس لدينا أي تعصب تجاه أي مجموعة من هؤلاء، وجُلّ ما نصبو إليه التوفيق فيما بينهم من أجل مصالحهم المشتركة وفي سبيل صالح هذا البلد.
ومهما يكن من أمر، فإن ما يهمنا في أي قرارات تُتَّخذ وتؤثر على مستقبل فلسطين، أن تعترف أي سلطة تمارس السيادة على حيفا وعكاء بحقيقة أن ضمن هذه الحدود يقع المركز الإداري والروحي لدين عالمي، وأن يتمّ الاعتراف باستقلالية هذا الدين، وبحقّه في إدارة شؤونه العالمية من هذا المكان، وبحق البهائيين من كل أطراف المعمورة في زيارته كحجاج (كما لليهود والمسلمين والمسيحيين من امتياز في زيارة مدينة القدس)، وأن تصان هذه الحقوق وتتم حمايتها على الدوام.
إن ضريح حضرة الباب على جبل الكرمل ومرقد حضرة عبد البهاء في تلك البقعة ذاتها، إلى جانب دار ضيافة المسافرين الشرقيين الذي يقع بقربهما، ثم الحدائق الواسعة والشرفات المحيطة بها (المفتوحة لزيارة العموم من جميع الطوائف)، ودار ضيافة المسافرين الغربيين عند أسفل جبل الكرمل، والمقرّ الرسمي لرئيس الجامعة البهائية، والعديد من الأبنية والحدائق في عكاء والمنطقة المجاورة المرتبطة بسجن حضرة بهاء الله في تلك المدينة، ثم مرقده المقدس في البهجة قرب عكاء، وقصره الذي حوفظ عليه مَعْلمًا تاريخيًا ومتحفًا (وكلاهما بالمِثْل مفتوحان لعامة الناس من كل الطوائف)، بالإضافة إلى ممتلكات في سهل عكاء – إنما تشكّل في مجموعها معظم الممتلكات البهائية في الأرض الأقدس. ويجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أيضًا أنها جميعها قد أُعفيت بالفعل من الضرائب الحكومية والعوائد البلدية نظرًا لطبيعتها الدينية، كما أن بعض هذه الممتلكات تعود لفرع المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة وكندا في فلسطين المسجّل رسميًا جمعية دينية بموجب قوانين هذا البلد. وستقوم محافل روحانية مركزية أخرى في المستقبل بواسطة فروعها في فلسطين أيضًا بتملّك بعض أوقاف الدين العالمية في الأرض الأقدس.
وبالنظر لما ورد ذكره أعلاه من معلومات، فإنني ألتمس منكم ومن أعضاء لجنتكم الكريمة أن تأخذوا بعين الاعتبار صيانة الحقوق البهائية في أي توصية ترفعونها لهيئة الأمم المتحدة تخصّ مستقبل فلسطين.
أرجو أن أنتهز هذه الفرصة لأؤكد لكم عميق تقديري للروح التي بها أدرتم أنتم وزملاؤكم تحرياتكم وتقصّيكم للحقائق في خضمّ هذه الظروف العصيبة التي تعصف بهذه الأرض المقدسة. وأدعو الله واثقًا أن مداولاتكم المتأنِّية سوف تُثمر حلاً منصفًا وسريعًا للمعضلات الشائكة التي برزت على أرض فلسطين.
بكل إخلاص
شوقي رباني
يجب أن نتذكر أن شوقي أفندي كان الشخصية الشرقية الوحيدة رفيعة المقام، من بين باقي الوجهاء المرموقين، الذي لم يترك أرض فلسطين قبل نشوب الحرب [ولا أثناءها]. بأعمالٍ وتصرفاتٍ على هذا النحو نجح ولي الأمر في أن يطبع في نفوس غير البهائيين – الذين لم يكن لديهم أي سبب ليثقوا به دون أي مبرّر – انطباعًا قويًّا بنزاهته واستقامته الأصيلة وتمسّكه التام بما كان يعتقد أنه السبيل الصواب، وهو ما تميزت به قيادته لدين حضرة بهاء الله. لهذا السبب، بشكل رئيس، ولمعرفتهم لما تمثّله التعاليم البهائية، أبدت السلطات تعاونًا إلى أقصى الحدود وبشتى السبل. ومن جملة إجراءاتها الأولى، والاقتتال لا زال قائمًا، أن وضعوا شاخصة على المرقد المقدس لحضرة بهاء الله في عكاء – الذي كان أكثر انعزالاً مما كان عليه الحال في المقامات المقدسة في حيفا – تقول بأن الموقع ‘مكان مقدس’، لضمان معاملته بالاحترام اللائق.
في العدد الصادر في 20 ديسمبر/ كانون الأول 1948 لجريدة الأخبار الإنكليزية الرئيسية، ظهر مقال طويل يُعتبر نموذجًا لتاريخ أمر الله برمته والمشاكل المتواصلة التي حاقت به من جميع الجهات، عُرضت فيه بأفضل العبارات تعاليم الدين وذُكر مقام شوقي أفندي على أنه رئيسه العالمي. وفي 28 يناير/ كانون الثاني 1949 ظهر في عمود رسائل القراء في الجريدة نفسها بيان مُقْتضب غير طبيعي بتوقيع ‘مراقب بهائي في الأمم المتحدة’ داحضًا صراحة ما جاء في المقال ومؤكدًا بأن ‘السيد رباني ليس ولي أمر الدين البهائي ولا رئيسه العالمي’، ووضع اسم “جمعية التاريخ الحديث” في نيويورك مصدرًا لمزيد من المعلومات. ولما لم يكن هناك شيء كهذا يسمّى ‘مراقب بهائي في الأمم المتحدة’، فإنها بكل بساطة حركة أثارتها زمرة الناقضين القدامى الذين كانت تحدوهم آمال أكبر في السابق، والذين سعوا، منذ بداية الولاية الجديدة، إلى تشويه سمعة شوقي أفندي وصَرْف الأنظار عن مقامه الرفيع بإشارتهم إلى جماعة أحمد سهراب في أمريكا [في نيويورك] التي لا أصل لها. وفي وقت لاحق فيما بعد، في عام 1952، عندما رفع الناقضون في البهجة [عكاء] دعوى أمام المحاكم المحلية ضد شوقي أفندي لإزالته مبنىً قديمًا قرب قصر حضرة بهاء الله في البهجة [بمجرد استلامه مفاتيحه من السلطات]، خاب سعي سهراب في ممارسة الضغط على وزير الشؤون الدينية كي يدحض مطالب البهائيين. لقد كان على شوقي أفندي أن يتعامل مرة أخرى مع مثل هذه الهجمات، أكانت في العلن أم في الخفاء، بينما هو على أعتاب مرحلة جديدة من تطور شؤون الأمر في مركزه العالمي.
إن مشاعر الودّ والاحترام التي كانت تكنّها السلطات لشوقي أفندي وللدين البهائي كانت تعكسها الاتصالات العديدة بينهما. لم تكن المسألة مجرد كلمات فقط، بل كانت هناك شواهد ملموسة على اعتراف وشيك بمكانة الدين في مركزه الإداري العالمي.
كانت أمنية شوقي أفندي منذ مدة طويلة أن يمتلك قصر المزرعة حيث عاش حضرة بهاء الله أول ما غادر أسوار مدينة السجن في عكاء دون رجعة. كان هذا المِلك وقفًا إسلاميًا وقد أصبح الآن خاليًا. ولمّا كانت الحكومة تخطط لتحويله إلى استراحة للموظفين الرسميين، فقد باءت بالفشل جميع المساعي التي بُذلت لدى الدوائر الحكومية المعنية من أجل تملّكه، إلى أن استأنف شوقي أفندي الموضوع مبينًا أهمية هذا المكان للبهائيين ورغبته في أن يجعله ضمن الأماكن التي يزورها الحجاج البهائيون لارتباطه الشديد بحضرة بهاء الله نفسه. وأخيرًا تمّ تأجيره للبهائيين بصفته موقعًا تاريخيًا. وبكل افتخار أعلم شوقي أفندي العالم البهائي في 16 ديسمبر/ كانون الأول 1950 بأن المفاتيح قد سُلمت إلينا بعد مُضي أكثر من خمسين عامًا.
كانت شؤون الجامعة البهائية فيما يتعلق بمعاملاتها اليومية مع السلطات، والخاصة بعمل المركز العالمي، قد وُضعت تحت سلطة وزارة الشؤون الدينية، وكانت تُدار في البداية من قِبل رئيس الدائرة التي تُعنى بالشؤون الإسلامية، وهذا ما رفضه شوقي أفندي بشدّة لأن هذا يعني ضمنًا أن البهائية بطريقة ما تُعتبر فرعًا من الإسلام. وبعد مفاوضات مطوَّلة استلم ولي الأمر كتابًا يفيد بتأسيس دائرة خاصة بشؤون الدين البهائي في وزارة الشؤون الدينية.
لاقى هذا النصرُ الترحيبَ الأكبرَ لأنه جاء بعد الدعوى القضائية التي سبق ذكرها ورَفَعها الناقضون ضد شوقي أفندي استنادًا إلى حَرفية القانون، لقيامه بهدم البيت المجاور للروضة المباركة وقصر حضرة بهاء الله في البهجة. كان الناقضون، وهم الذين لم يعدِموا وسيلة إلا واتّبعوها في تشويه صورة رئيس الأمر الإلهي أمام الرأي العام والحط من شأنه أكان حضرة عبد البهاء أم ولي الأمر، قد اندفعوا بطيش محموم من أجل استدعاء شوقي أفندي وإجباره على الظهور في قاعات المحاكم كشاهد. ومرة أخرى بدافع حرصه الشديد في المحافظة على سموّ مقام الأمر المبارك في مركزه العالمي، أرسل من يمثّله، وهم رئيس المجلس البهائي العالمي وسكرتيره العام وعضوه المفوَّض العام (الذي استدعاه من إيطاليا لهذه الغاية)، أرسلهم إلى القدس في أكثر من زيارة ليؤكدوا للمسؤولين على الاستراتيجية التي وضعها ولي الأمر نفسه. نجح الممثلون في عرض الموضوع، وسحبت السلطات هذه القضية من سلطة المحاكم المدنية باعتبارها مسألة دينية بحتة. ولمّا وجد المدّعون أن خطتهم في الحطّ من شأن شوقي أفندي قد أُحبطت، أبدوا استعدادهم لتسوية القضية بالتفاوض.
ورغم أن الشؤون الكبيرة الخاصة بالمركز العالمي بشكل عام كانت تعالج عادة في القدس مع كبار المسؤولين، فإن الكثير من الأعمال كان يتم إجراؤها بمساعدة موظفي البلدية الرسميين في كل من عكاء وحيفا – خاصة في حيفا. هناك حقيقة مثيرة للاهتمام وهي أن من بين التعاملات الكثيرة التي كانت للجامعة البهائية مع مهندسي بلدية حيفا على مرّ السنين، كانت أولاها زمن حضرة عبد البهاء نفسه، عندما قدّم الدكتور “سيفرين” لحضرته تصميمه للدرج الضخم والطريق المُحاط بأشجار السرو المؤدي من دير المستعمرة الألمانية القديم في أسفل جبل الكرمل صعودًا إلى المقام الأعلى لحضرة الباب. لم يوافق حضرة المولى آنذاك على المخطط فحسب، بل منح الأراضي اللازمة لتحقيقه، وترأس قائمة المتبرعين لـ’الدرج الضخم المؤدي إلى مرقد حضرة الباب’، كما كان يُطلق على المشروع، بتبرعه بمبلغ (100) جنيه.
وإلى جانب كفاح شوقي أفندي بكل حنكة ومثابرة في سبيل الحصول على امتيازات من مسؤولي البلدية، فضلاً عن الاعتراف بالوضع الفريد للأمر المبارك في كل من حيفا وعكاء – المدينتين التوأم اللتين تحتضنان مركزه العالمي – فقد حافظ على علاقة ودّية وتعاون وثيق مع رئيس بلدية حيفا فيما يتعلق بكثير من المشاريع التي كانت تقيمها البلدية، ليس أقلها ذلك الدعم الذي كان يقدمه إلى السلطات – إما إلى البلدية أو إلى قائد المقاطعة في الأيام الأولى لولايته – عندما كانت هناك حاجة بشكل خاص لمساعدة مالية في الأعمال الخيرية.
لا شيء يمكن أن يعبّر عن موقف شوقي أفندي وسياسته حيال تلك الأمور أكثر من الرسالة التي كتبها في 7 فبراير/ شباط 1923 إلى العقيد سايمز في وقت مبكّر من ولايته حين قال: ‘سمعت للتوّ عن الحفل الخيري الذي تنظِّمه السيدة سايمز لمساعدة الفقراء في حيفا، ولعلمي كيف كان جدّي المحبوب يدعم قضيتهم باستمرار، وتَوْقي إلى السعي في تتبُّع خطاه في هذا الميدان، اسمحوا لي أن أرفق بطيه مبلغ عشرين جنيهًا تبرعًا لذلك الصندوق… أرجو أن تكون قد قضيتَ وقتًا ممتعًا للغاية في مصر، آملاً أن أجتمع بك والسيدة سايمز قريبًا…’ وفي رسالة أخرى بعد سنتين موجهة للعقيد سايمز نجدها تحمل المشاعر نفسها: ‘إن اطلاعي على خطابك الدوري المؤرخ 16 فبراير/ شباط 1925 بخصوص تأسيس صندوق خيري لمدينة حيفا قد عاد بذاكرتي إلى ذلك الاهتمام الشديد الذي كان يبديه حضرة عبد البهاء للمؤسسات الخيرية. بالمشاعر الإنسانية نفسها والرغبة في اتّباع خطوات جَدّي المحبوب، فإنني أسارع وأرفق بخطابي هذا مبلغ عشرين جنيهًا مساهمة في التخفيف من معاناة الفقراء في حيفا.’
كلما داهمت الناس مصيبة أو كارثة تبدّى لها شوقي أفندي بحرارة وحماس في مساعدة المحتاجين. ففي إبريل/ نيسان 1926 كتب إلى حاكم المنطقة الشمالية قائلاً: ‘لعلمي التام بالمعاناة الشديدة التي تسببت بها الاضطرابات الأخيرة، وإذ أضع نصب عيني ما كان يوليه حضرة عبد البهاء من عطف وعناية للمعذَّبين والمحتاجين، يسعدني جدًا أن أرفق بطيه مبلغ ثلاثين جنيهًا مساهمة منّي لإغاثة الفقراء والمشرّدين… سأكون ممتنًّا لو أعلمتني، من وقت لآخر، بأي حاجة قد تطرأ من هذا القبيل في أي مكان كان، وبغض النظر عن أصحابها من أي طائفة كانوا.’ وفي عام 1927 نجده مرة أخرى يهبّ متجاوبًا مع كارثة أخرى بإرساله مبلغ مائة جنيه إلى مكتب سكرتارية الحكومة في القدس مساهمة منه في ‘صندوق إغاثة منكوبي الزلزال’. وعلى مرّ السنين كان يتْبع خطوات المولى الذي سمّاه الناس “أبو الفقراء” في التبرع بمبالغ صغيرة أو كبيرة.
إن كون هذه التبرعات التي قُدّمت لأسباب مختلفة قد قوبلت بتقدير حار لهو أمرٌ واضحٌ بديهيّ: فنجد مفوّض المنطقة الشمالية يشكر شوقي أفندي عام 1934 على ‘التبرع السخي لإعانة المنكوبين في طبريا’ وعلى ‘رسالة التعاطف التي سوف أنقلها إلى مفوّض منطقة طبريا’. وفي عام 1950 نجد أن رئيس مجلس بلدية حيفا، يشكر شوقي أفندي على مبلغ الخمسمائة جنيه، ‘تبرع فخامتكم السخي للتخفيف من معاناة الفقراء في حيفا بمناسبة الذكرى المئوية لاستشهاد حضرة الباب.’ كان شوقي أفندي على الدوام، عندما يرسل تبرعات كهذه، يضيف إلى رسالته عبارة تقول ‘لتُوَزَّع بالتساوي بين المحتاجين من جميع الطوائف والملل بغض النظر عن عرقهم أو دينهم.’
كانت السياسة العامة للأمر المبارك تجاه الأمور الخيرية قد وضّحها ولي الأمر تمامًا في رسالة كتبها إلى رئيس بلدية حيفا في 7 مايو/ أيار 1929 يعلمه فيها باستلامه خطاب التعميم القاضي بمنع التسوّل في مدينة حيفا ويبيّن: ‘لحسن الحظ فإن الجامعة البهائية لا تعاني من مشكلة كهذه، فالتسوّل محرّم عندنا دينيًا. وعلى كل حال فإنني أقدّر أهمية وحسن توقيت ما حدّدْتَه واتخذْتَه من إجراءات. يسعدني أن أرفق بطيه شيكًا لأمرك بمبلغ خمسين جنيهًا باسم الجامعة البهائية دعمًا لأي خطة قد تتبنّاها البلدية في التخفيف من غائلة الفقر والفاقة ومساعدة المحتاجين في حيفا، وثق تمامًا بأن الجامعة سوف تتقيد بكل دقة بما تضعونه من تعليمات وأنظمة قيد التنفيذ.’
عندما كان الأهالي في فلسطين يعانون الضيق والحرمان الشديديْن خلال السنوات من عام 1940–1952 بلغت تبرعات ولي الأمر خلال تلك الفترة وحدها أكثر من عشرة آلاف دولار لبلدية حيفا لمساعدة الفقراء من جميع الطوائف والأجناس. وبالإضافة إلى مساعدات كهذه قُدِّمت من خلال هيئات حكومية وممثلي بلديات، نجده قد استجاب لنداءات الكثير من الجمعيات الخيرية، كما أعطى بشكل فردي إلى من كان يراه مستحقًا، وحتى إنه كان يتبرع أحيانًا بالمال لهدف خاص له علاقة وثيقة بالمسجد في حيفا. وكثيرًا ما كان يقدِّم التبرعات تلقائيًا مثل ما حدث عندما تبرع بمبلغ مائة جنيه للمستشفى الحكومي للأمراض العقلية في عكاء – الثكنات العسكرية التركية سابقًا – عندما سلّمت الغرفة التي كان يشغلها حضرة بهاء الله لعهدة البهائيين.
ومثال هام آخر على تلك الروح التي كان شوقي أفندي يتجاوب فيها مع القضايا الهامة التي كانت تشدّ انتباهه، هو ذلك التعاون الذي قدّمه لقائد المقاطعة في عكاء الذي كتب لولي الأمر عام 1943 بأنه لم يتمكّن من إيجاد مكان مناسب يصلُحُ استعمالُه مدرسةً للأطفال، ويسأله عما إذا كان بإمكانه تأجيره ثمانية غرف من بيت عبّود (وهو بناء كبير ومكان يقصده البهائيون للزيارة) لاستعمالها لهذا الغرض. سمح شوقي أفندي للمدرسة باستعمال بعض الغرف، ولكنه أوضح أنه لن يأخذ أجرًا عليها.
[1] Arther Wauchope.
[2] Visiting Cards.
[3] Sir Francis Younghusband.
[4] John Chanallor.
[5] .Emil Sandstrom
خلال السنوات التي كان ولي أمر الله يعمل فيها، ليس على إقامة وتأسيس مُنشآت وأصول مادية للأمر المبارك في مركزه العالمي فحسب، بل والحصول أيضًا على اعتراف به من كلا السلطتيْن: تلك التي يقع فيها مركزه، ثم السلطات البلدية في المدينة المقرر لها أن تحتضن المقارّ الدائمة لمؤسساته الرئيسة، دأب في الوقت نفسه على القيام بمهمة مماثلة في الخارج. وبعد سنوات حدّد حضرته ماهية تلك المهمة مبينًا أنها مجهود ثلاثي عالمي النطاق يهدف إلى إثبات الصفة المستقلة للدين، توسيع رقعته ومدّ حدوده، وازدياد عدد المؤمنين به وأنصاره. في هذا السبيل كان لا بد أن تتوافر له أدوات تحقّق ذلك، وهي أدوات جاءت واضحة في التعاليم المباركة وتتمثل بالمحافل الروحانية المحلية والمركزية التي تعدّ اللَّبِنات الأساسية في بناء نظامه الإداري. من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن شوقي أفندي قد حدّد واضحًا علاقته بهذه المهمة بالغة الأهمية وذلك في رسالة له عام 1941 وجّهها إلى شخص غير بهائي بقوله: ‘…النظام الإداري الذي عملتُ، كَوْني المبيّن والمفسّر المسؤول المُعَيّن من قبل حضرة عبد البهاء، على توضيحه وتشييده… طبقًا للتعليمات الصريحة المنصوصة في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء…’ ومن الواضح أنه لم يقنع بأن ما صرّح به كان كافيًا ولا لبس فيه، فعاد إلى التعبير عنه بصيغة أخرى في الرسالة نفسها قائلاً بأنه قد ‘مُنح السلطة ودُعي’ لتشييده.
ومع أن شوقي أفندي نادرًا جدًا ما أشار إلى نفسه – ونَدَر جدًا في واقع الأمر أن استعمل الضمير (أنا) في رسائله العامة – فإن السلطات الممنوحة له في ألواح الوصايا، كانت على شأنٍ ما كان للنظام الإداري البهائي أن ترتفع مؤسساته من دونها، وما قُدّر للجامعة البهائية العالمية أن تبرز للوجود كما هي عليه الآن، وما أُرسِيت أسس وقواعد نظام حضرة بهاء الله العالمي. فكلما تضاعفت المؤسسات المحلية والمركزية في عددها ونما نسيجها واشتدّ عودها، كلما أصبح مركز ولي الأمر الحقيقي أكثر وضوحًا وجلاءً؛ ليس لأولئك البهائيين القدامى الذين أدركوا مقامه على الدوام فحسب، بل وللعديد من المؤمنين الجدد وقليلي الدراية في أغلب الأحيان الذين لم يُدركوا بعدُ حقيقة أهمية مقامه ومضامينه. هناك رسالة واحدة كان فيها مضطرًا لأن يُوضِّح مدى سلطاته الإدارية من أجل حماية أمر الله؛ كُتبت هذه الرسالة ردًا على رسالة كانت غريبة يعوزها الإدراك بشكل استثنائي بعث بها سكرتير محفل روحاني مركزي، وعلى غير عادة ولي الأمر لم يُذيّل رسالة الرد هذه التي أُعدت بالنيابة عنه بأي شيء بخط يده، بل اكتفى بإضافة عبارة: ‘قُرئت واعتُمدت’ – شوقي. جاء في هذه الرسالة ما يلي:
كما أن سلطة المحفل الروحاني المركزي تنسحب تمامًا على كافة المحافل الروحانية المحلية الواقعة ضمن نطاق إدارته، كذلك الأمر فإن لولي الأمر كامل السلطة والنفوذ على جميع المحافل الروحانية المركزية. فليس مُطالبًا باستشارتهم في قرارٍ يستصوبه إذا ما اعتقد أنه في صالح الأمر المبارك. فهو نفسه الذي يحكم على حِكْمَة وصواب أي قرار تتخذه تلك الهيئات، وليسوا هم الذين يزنون حكمة قراراته وصوابَها، وقد وضَّحَتْ تمامًا ألواح الوصايا هذا المبدأ لكل قارئ متمعّن بها. إنه هو ولي الأمر بكل ما في الكلمة من معنى، وهو المعيَّن إلهيًا مبيّنًا للتعاليم ومفسرًا لها، والمُلهَم بالهداية في اتخاذ القرارات التي من شأنها أن تحمي أمر الله وترعى مصالحه العليا.
له الحق دائمًا أن يتدخل ويُبطل قرارات محفل روحاني مركزي. فلو لم يكن يملك هذا الحق سيغدو عاجزًا عن حماية أمر الله بالكلية، تمامًا كما هو الأمر مع محفل روحاني مركزي، إذ سيقف عاجزًا عن رعاية وتوجيه المصالح المركزية للجامعة البهائية إذا ما جُرّد من صلاحية إلغاء قرارات محفل روحاني محلي.
من النادر جدًا حدوث هذا – ولكنه مع ذلك يحدث – عندما يرى ولي الأمر نفسه مضطرًا إلى تغيير قرار رئيسي (كما عبّرتم عنه) لمحفل روحاني مركزي؛ ولكنه يفعل ذلك دائمًا بلا تردد إذا ما كان ضروريًا، وعلى المحفل الروحاني المركزي المعني أن يقبل هذا بسرورٍ ودون تردّد على أنه إجراء صُمِّم لتحقيق خير وصالح الأمر المبارك الذي يسعى ممثلوه المُنتَخَبون إلى خدمته بكل تفانٍ وإخلاص.
ليس عجيبًا أن نرى شوقي أفندي قد وصف الفترة التي أعقبت صعود حضرة عبد البهاء بـ ”العصر الحديدي”، “عصر التحوُّل والانتقال”، “عصر التكوين” للأمر المبارك. إنه العصر الذي تشكّلت فيه مؤسسات الأمر الإلهي محلية كانت أم مركزية أم عالمية، مؤسسات قال عنها ولي الأمر بأنها تشكّل الأُنموذج الجنيني الذي لا بد أن ينمو ويتطور في العصر الذهبي للدور البهائي إلى رابطة شعوب العالم. إن ‘الروح التي تنفخ الحياة في العالم’ الكامنة في الأمر المبارك، كما كتب حضرته، قد وصلت إلى النقطة التي كانت فيها جاهزة لأن ‘تتجسّد في مؤسسات تُصرّف قواها الفيّاضة الدافعة في قنوات وتحفِز نموها.’ إن المبادئ التي تحكم النظام الإداري الذي أُرسيت أسسه في ألواح الوصايا قد بيّنها وحدّدها ولي الأمر نفسه في السنوات الأولى لولايته في سيل من الرسائل إلى المؤمنين في أنحاء العالم مُوضّحًا فيها وظائف المحافل الروحانية ومجالات اختصاصها – والأهم من ذلك – تلك الروح التي يجب أن تحرّكهم وتدفعهم إلى العمل إذا ما أرادوا تحقيق هدفهم في المستقبل القريب.
يمكن تشبيه المؤسسات الإدارية بشرايين الجسم وأوردته التي تنقل بشبكتها فيض تعاليم حضرة بهاء الله الحيوية إلى جميع أنحاء العالم؛ فمن خلال آلية هذه الشبكة سيُخلَق مجتمعٌ من جديد، هو ‘ملكوت الله الذي وعد به السيد المسيح، وهو ذلك النظام العالمي النابض بالحياة الذي لا باعث له سوى حضرة بهاء الله نفسه، النظام الذي يبسط سلطانه ونفوذه على الكوكب بأسره؛ شعاره الوحدة والاتّحاد، وقوّته الباعثة على الحياة سلطان العدل، وغايته المقصودة إقامة عهد الحقّ والصلاح، وأسمى ما يبلغه من المجد والجلال سيكون في تحقيق السعادة الكاملة المستمرّة الأبدية للجنس البشري بأسره.’
بعد تحديده الآليّات والتقنيات البحتة المتعلقة بكيفية انتخاب المحافل الروحانية وإدارة أعمالها، كانت نصائح ولي الأمر المبكرة لها غالبًا ما تناولت موضوع الوحدة. فإذا كان “شعار” مجتمع المستقبل سيكون “الوحدة”، فمن الواضح أنه من الضروري أن يتمّ على الدوام رعاية هذه الوحدة بين البهائيين أنفسهم. كتب شوقي أفندي إلى أحد المحافل الروحانية المحلية عام 1923 قائلاً: ‘إن الانسجام التامّ والتفاهم الكامل بين الأحباء خارج المحفل الروحاني وفي داخله، وتوفُّر الثقة التامّة لدى غير الأعضاء في كل قرار يتخذه ممثلوهم المنتخَبون، وعزم هؤلاء الأكيد في التغاضي عمّا يحبون وعمّا لا يرغبون، وعدم السعي إلا إلى تحقيق المصالح العامة للدين – هي وحدها تشكّل الأساس المتين الأكيد الذي يمكن أن يُشاد عليه في المستقبل أي عمل بنّاء يَثبُت صلاحُه لخير أمر الله.’ لم تكن رسائله للمحافل الروحانية المركزية بأقل منها تأكيدًا، كما تشهد بذلك المقتطفات التالية من رسالتين كُتِبتا خلال عام 1925: ‘وعلى كل حال، فإن المطلب الرئيس في كل عمل قد يتولاّه الأحباء، أن يحرصوا تمامًا على روح الزمالة النقية الصافية، والتعاون الصادق المخلص… روح الزمالة البهائية الحقّة – التي وحدها كفيلة بأن تُزيل الكثيرَ من أمورنا المحيِّرة المعقَّدة في الحياة، والتي وحدها قادرة على التغلب على المشاكل التي لا مناصَ من مواجهتها ونحن نقوم بجهودنا من أجل خدمة أمرنا المحبوب.’ ‘إن محفلاً روحانيًا مركزيًا يعمل بنشاط واتّحاد وانسجام، وتمّ انتخابه كما ينبغي بضمير حيٍّ، ويؤدي وظائفه بهمّة عالية، يَقِظًا واعيًا بمسؤولياته المتعددة الضاغطة، وعلى تواصل وثيق مستمرٍّ مع المركز العالمي في الأرض الأقدس، متنبّهًا تمامًا لكل تطور في أي اتجاه طولاً وعرضًا في ميدان عمله الدائم التوسُّع والامتداد – لا شك أن وجوده في هذه الأيام يشكّل ضرورة ملحّة وأهمية كبرى لأنه بمثابة حجر الزاوية الذي يجب أن يستقرّ عليه في النهاية صرح النظام الإداري الإلهي.’
بالتُّؤَدة والصبر، وببالغ المحبة والتفهّم اللامحدود كان شوقي أفندي يثقّف المحافل الروحانية في الشرق والغرب ويرشدها إلى كيفية إدارة شؤون أمر الله على أسس سليمة وطِبقًا للتعاليم. فأعضاء تلك المؤسسات الناشئة حقًا، كانوا كالأطفال، معرّضين من وقت لآخر لحدوث خلاف فيما بينهم، إلا أن ولي الأمر ما كان ليسمح لذلك الخلاف أن يعرّض مصالح الأمر المبارك للخطر. ففي مناسبة واحدة كهذه، عندما صوّت أعضاء محفل روحاني مركزي بارز بشأن فصل أحد أعضائه بعد أن عيل صبرهم عليه، أبرق إليه شوقي أفندي مُحذرًا بكل شدة بأن ذلك من شأنه أن ‘يسدّد ضربة مؤذية لأمر حضرة بهاء الله لا يمكن إصلاحها، وسيتردد صداها على نطاق عالمي.’ وقال بأنه يجب الإبقاء على عضوية الشخص المعني، وأن يُسقَط كل انتقاد، ويُغلق كل نقاش ويُنسى بالكلية لأنه سوف ‘يقوّض سلطة مؤسسة المحفل الروحاني المركزي الكاملة’.
لم يكن تناول هذه القضية بالأمر غير العادي، فولي الأمر أدرك تمامًا أن العالم والمؤمنين والمحافل الروحانية لا تزال غير ناضجة تمامًا، وأن الإدارة التي تحكم بـ ”العدل” – بحدّ ذاته هو موضوع متشابك إلى أبعد الحدود – تتطلب من القائمين عليها درجة معينة من النضج والخبرة والمعرفة الواسعة بالتعاليم، إلى جانب أنها تأخذ وقتًا طويلاً. وخلال سنوات ولايته، رفض مرارًا وتكرارًا أن يفصل في قضايا حُوّلت إليه، واكتفى بحثِّ الأشخاص المعنيين أن يترفّعوا فوق ما يحدث، وأن يتناسَوْا الماضي ويصفحوا ويتسامحوا ويركّزوا جهودهم على متطلبات الأمر المبارك العليا الملحّة المتمثلة في تحقيق أهداف مشاريعهم القائمة ونشر تعاليم دينهم الشافية لعموم الجنس البشري. وبطبيعة الحال فإن حالات الطلاق أو الخلافات المالية ومواضيع مادية أخرى كان ينصح الأحباء فيها بالرجوع إلى محافلهم الروحانية، وكان يحثّ تلك الهيئات أن تتحرّى الموضوع وتصل به إلى قرار. وفي حقيقة الأمر، بينما كانت الهيئات الإدارية تنضج تدريجًا على مرّ السنين، دأب شوقي أفندي على تشجيع الأحباء للرجوع إليها في مشاكلهم طلبًا للحل، وبهذا الإجراء يمكن للأحباء والمحافل الروحانية أن تكتسب الخبرة، وأن يتعلم الجميع تطبيق نظام حضرة بهاء الله البديع في حياتهم الخاصة وحياة الجامعة. ومع هذا، ففي الحالات التي كانت تنجم عن عدم الانسجام، وتفشّي الغيبة، وانعدام الثقة المتبادَلة، كان دومًا يناشد الأحباء ويدعوهم أن يترفّعوا عنها لأجل مصلحة الأمر المبارك. كانت نصائحه ومناشداته في حالات كهذه كاليد الباردة التي تمتدّ برفق على جبين ساخن محموم، فتهدّئ النفوس الغاضبة الحزينة، وتسكّن خواطرهم إلى أن يصبحوا مستعدّين لأن يَدَعوا حبَّهم الأصيل لدينهم يطغى ثانية على قلوبهم فتلتئم به جراحُهم.
ما إن تحقق لشوقي أفندي محافل روحانية مركزية منتَخبة وفعّالة بشكل سليم – في البلدان التي أمكن فيها اتخاذ خطوة كهذه – حتى شرع في عملية تهدف إلى تثبيت هذه الهيئات على قواعد قانونية واضحة لا لبس فيها. وبفضل تشجيعه المتواصل تمّ عام 1927 إنجاز أحد أعظم المعالم في التاريخ البهائي – أي بعد خمس سنوات فقط على بداية تولّيه مهامّه وليًا لأمر الله – ولم يكن ذلك المَعْلَم بأقل من ‘وضع دستور بهائي مركزي وتبنّيه، وهو أول دستور يضعه ويعلنه ممثلو الجامعة البهائية الأمريكية المنتخَبون.’ لقد وصف ولي الأمر هذه الخطوة بأنها الأولى نحو ‘توحيد الجامعة البهائية العالمية واستحكام نظامها الإداري’، وقال بأنها كانت ‘الكشف الثمين والأمين عن الأساس الدستوري للجامعات البهائية العالمية في كل قطر، مؤذنًا ببروز رابطة شعوب العالم البهائي في المستقبل.’
أصبحت هذه الوثيقة بمثابة “الدستور” لجميع المحافل الروحانية المركزية حيث تُرجمت إلى لغات رئيسة حيّة في أنحاء مختلفة من العالم البهائي من قبيل: الفارسية، العربية، الفرنسية، الألمانية والإسبانية. أمّا بنوده – التي كانت ترتكز على إرشادات شوقي أفندي التي توفرها كتاباته في تفسيره وتوضيحه تعاليمَ الأمر المبارك، وما وصفه بأنه ‘نظام كامل لإدارة شؤون العالم يكمن ضمنًا في تعاليم حضرة بهاء الله’ – فقد لخّصها ولي الأمر بالكلمات التالية: ‘يشكّل نصّ هذا الدستور المركزي إقرار ائتمان تبيّن موادّه طبيعة الجامعة البهائية المركزية وأهدافها، وتوضّح واجبات هيئة ممثّليها المنتَخَبين، وتعيّن مركزها الرئيس، وتصف ختمها الرسمي، كما تتضمّن طائفة من القوانين الفرعية الّتي تبيّن طريقة انتخاب المحافل الروحانية المحلية والمركزية، وأوضاعها القانونية وسلطاتها وواجباتها، وتصف العلاقة بين المحفل الروحاني المركزي وبين بيت العدل الأعظم من ناحية، وبينه هو والمحافل الروحانية المحلية، وبينه وبين المؤمنين من ناحية أخرى. وترسم معالم حقوق المؤتمر المركزي والتزاماته وعلاقته بالمحفل الروحاني المركزي، وتوضّح طبيعة الانتخابات البهائية، وتنصّ على شروط الأهلية للانتخاب في كلّ الجامعات البهائية.’[1]
وبالمِثْل كانت صياغة القوانين الفرعية للمحفل الروحاني المحلي للبهائيين في مدينة نيويورك عام 1931، خطوة أخرى كبيرة متقدّمة في تطور النظام الإداري، وتَبِعها بعد سنة تسجيلُ ذلك المحفل الروحاني رسميًا في ولاية نيويورك[2]. وعن تلك القوانين الفرعية كتب شوقي أفندي بأنها ‘ستشكل نمطًا لكل محفل روحاني محلي في أمريكا، ونموذجًا لكل جامعة محلية في أنحاء العالم البهائي.’
إن صياغة هذا النموذج الأوَّلي لجميع دساتير المحافل الروحانية المركزية، علاوة على وضع القوانين الفرعية المناسبة لأي محفل روحاني محلي، قد أرسى قواعد صلبة يمكن للمحافل الروحانية المركزية والمحلية على حد سواء أن تتمكن بموجبها من الحصول على تسجيل رسمي طبقًا للقوانين المعمول بها في بلدانها، وبالتالي تتمكن من الحصول على سندات ملكية رسمية بممتلكات الأمر المبارك من قبيل قطع أراضٍ، ومقرّات مركزية ومحلية، ومواقع بهائية تاريخية، أو دور عبادة بهائية [مشارق أذكار] في بعض الحالات – وهي خطوات أَوْلاها شوقي أفندي أهمية قُصوى. وخلال عام 1928 أخذ ولي الأمر يحثّ المحافل الروحانية المركزية في البلدان الشرقية أن تضع لنفسها دستورها المركزي على غرار الدستور الأمريكي، وأن تسعى في الحصول على اعتراف بالهيئة على أنها محكمة دينية لها صلاحية تطبيق التعاليم البهائية في أمور تخصّ الأحوال الشخصية مثل الزواج والطلاق والميراث وغيره، حيث إن مثل هذه الأمور، في كثير من البلدان الإسلامية، لا تقع ضمن صلاحيات المحاكم المدنية العادية.
كل هذا فَرَضَ، بالدرجة الأولى، على دين مستقل، خوضَ معركة من أجل الحصول على اعتراف تامّ بمكانته في التاريخ، ومعاملته كسائر الأديان العالمية على قدم المساواة. وفي دَأْبه المتواصل في توجيه أقدار الجامعات البهائية المستقلّة نحو هدفها المشترك في أن تصبح هيكلاً بهائيًا عالميًا متَّحدًا بالكامل تحت إدارة مركز بهائي عالمي، يعمل جاهدًا على إحراز ما لا يقل عن الأُخوّة العالمية لبني البشر والسلام العالمي ثم رابطة شعوب العالم في النهاية، علّق شوقي أفندي آمالاً على تأسيس هيئة الأمم المتحدة كوسيلة إضافية للتعجيل في الوصول إلى هذا الهدف السامي.
وحالما أصبح واضحًا أن إطار عمل هذه الهيئة الدولية يسمح للمنظمات غير الحكومية أن ترسل ممثليها المفوَّضين إلى المؤتمرات المختلفة التي تُعقد برعايتها، حثّ شوقي أفندي ما كان يُعرف في ذلك الوقت بالمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتحدة وكندا أن يقدّم طلبًا للحصول على هذا الوضع، والذي وافقت عليه هيئة الأمم المتحدة عام 1947. وفي الوقت الذي رفع فيه المحفل الروحاني المركزي طلبه هذا، قدّم وثيقة بهائية تتضمن الإقرار بحقوق الإنسان وواجباته، ووثيقة بهائية أخرى خاصة بحقوق المرأة. وعليه، عُيّنت لجنة بهائية تابعة للأمم المتحدة لهذا الغرض، كما حضر مراقب بهائي جلسات هذه الهيئة. ولما كان هذا الوضع محدودًا جدًا في مداه، فقد وُجدت طرق وأساليب يمكن بها توسيع تلك الحدود. وهو ما تمّ تحقيقه خلال شتاء عام 1947–1948 بواسطة سبعة محافل روحانية مركزية بأن مَنَحت المحفل الروحاني المركزي في أمريكا تفويضًا بأن يمثِّلها في هيئة الأمم المتحدة تحت اسم “الجامعة البهائية العالمية”، مما أوجب الاعتراف بها كمنظمة دولية معتَمَدة لدى هيئة الأمم المتحدة، وهو وضع لا شك أنه عزّز مكانة الأمر المبارك وزاد من امتيازات الممثلين البهائيين الرسميين الذين أخذوا يحضرون بانتظام ويشاركون في مختلف مؤتمرات هيئة الأمم المتحدة المفتوحة لمن يتمتَّع بتلك الصفة والمكانة. وحالما كانت تشكَّل محافل روحانية مركزية جديدة كانت تنضمُّ إلى تلك الهيئة التي تمثّل البهائيين في العالم فتعمل على دعمها وتقويتها.
إن الأهمية التي علّقها شوقي أفندي على هذه العلاقة التي تربط الأمر المبارك بأعظم أداة دولية صُنعت في التاريخ الإنساني على الإطلاق، قد عكستها كلماته الخاصة التالية: ‘إنها تُعدّ خطوة هامّة إلى الأمام في نضال ديننا العزيز من أجل أن يفوز في نظر العالم بالعدالة التي يستحقها، وأن يُعتَرف به دينًا عالميًا مستقلاً. إن هذه الخطوة، في واقع الأمر، سيكون لها ردّ فعل إيجابي في تقدم أمر الله في كل مكان، خاصة في تلك الأصقاع من العالم التي ما زالت تعاني الاضطهادَ والقمع أو الازدراء خاصة في الشرق.’ عندما كانت موجة الاضطهاد العنيفة آخذة في اجتياح الجامعة البهائية في إيران عام 1955، نجد أن العلاقة التي نشأت بعناية وتعزّزت مع هيئة الأمم المتحدة قد أتت أُكُلَها؛ فنتيجة للوثائق التفصيلية التي تكلمت عن أشكال الإيذاء والأعمال الوحشية التي عاناها أتباع حضرة بهاء الله في موطنه، والتي سُلّمت للأمين العام للأمم المتحدة، أن عُيّنت لجنة من قِبَله برئاسة المندوب السامي للاجئين، وطُلب منها أن تتصل بالحكومة الإيرانية للحصول على تأكيد رسمي بأن حقوق الأقلية البهائية سوف تُصان. لقد علّق ولي الأمر أهمية كبرى على هذه العلاقة حتى إن واحدًا من الأهداف السبعة والعشرين لخطة السنوات العشر العالمية – الجهاد الروحاني العالمي – الخاصة بالتبليغ والاستحكام كان ‘تقوية وتعزيز روابط الجامعة البهائية العالمية بهيئة الأمم المتحدة.’
كتب شوقي أفندي بأن تاريخ أمر الله ‘إذا ما قُرئ قراءة صحيحة، يمكن أن يُقال عنه بأنّه يتألف من حلقات متعاقبة يتلو بعضها بعضًا؛ حلقات من أزمات تعقبها على الدوام حلقات أخرى من الانتصارات المتساجلة الّتي ما فتئت تقرّبه من مصيره الإلهي التقدير.’ ورغم أن صعود الشخصيات الرئيسة الثلاثة للدين – أكان صعود حضرة الباب، حضرة بهاء الله أو حضرة عبد البهاء – قد أنزل كلُّ خَطْبٍ منها أزمةً كان متعذّرًا تجنُّبُها، إلا أن معظم الصدمات التي دفعت عجلة الأمر المبارك إلى الأمام كانت نتيجة للاضطهادات التي ألمّت به في العادة، ولكن ليس حصرًا، على أيدي أعداء الأمر المبارك اللدودين من رجال الدين المسلمين. فعلى مدار سنوات ولاية شوقي أفندي الست والثلاثين تفجّرت أحداث عنف متكرِّرة، وحشية متعطشة للدماء في طبيعتها، محليًا وعلى نطاق قومي ضدّ أتباع الدين في إيران. كما اضطهد أتباعه في تركيا وقُيّدت حرياتهم ووُجهت إليهم تُهَم باطلة ملفّقة. ثم الأحباء في مصر حيث تعرضوا للاعتداء عليهم شخصيًا، واستُبيحت ممتلكاتهم ومقابرهم، وانتُهكت حقوقهم القانونية. أما أحباء الله في روسيا فقد حُلَّت محافلهم الروحانية، وصودر معبدهم [مشرق الأذكار في عشق آباد]، وتعرّض معظمهم إما للترحيل أو النفي. والجامعة البهائية في ألمانيا قد حُلَّت تشكيلاتها الإدارية رسميًا، وصدر قرار في شهر يونيو/ حزيران 1937 بحظر نشاطاتها، وصودرت وثائق وسجلات المحفل الروحاني المركزي، ثم استُجوِب بعض أعضائه بل وحتى اعتُقلوا أيضًا.
إن أحداثًا كهذه قد سببت لولي الأمر ألمًا شديدًا واستنزفت من وقته الكثير وأضافت حملاً إلى قلبٍ وعقلٍ مُثقليْن أصلاً بالأعباء الجسام. ومع ذلك كان الهمّ الأكبر على الدوام إيران حيث ‘جامعة عانت طويلاً من الأذى والاضطهاد وابتُليت إلى حدٍّ بعيد’، قد ناضلت دومًا أمام أشكال القمع والاضطهاد المستمرّ من أجل الحفاظ على وجودها. هذه الجامعة ‘العزيزة المحبوبة’ – كما أشار إليها شوقي أفندي مرارًا وتكرارًا بمشاعر الحب والحنان – قد شغلت باله منذ بداية ولايته وحتى منتهاها. سيل دافق من الرسائل التي كانت تُرسَل دون انقطاع إلى أفراد الجامعة هناك وهيئتهم المركزية المنتَخَبة. وحتى في رسائله إلى البهائيين في الغرب كان هذا الموضوع همّه الشاغل والمألوف في مناشداته للدفاع عنهم وفي شرحه لماذا كان على هذه الجامعة – التي قال عنها حضرته بأنها قادت العصر البطولي للدين – أن تذوق المرارة وتُهاجَم بعنف على يد مواطنيها.
إن حقيقة أن الظهور الإلهي الأعظم قد أشرقت أنواره من إيران، فأصبحت بذلك ‘مهد ديننا’ الذي نحبّه كثيرًا، و’موضع ألطف وأرقّ مشاعرنا’ كما قال شوقي أفندي؛ وحقيقة أن الوقت سوف يحين، كما كتب حضرته أيضًا، ‘عندما نشاهد ارتفاع مكانة إيران الروحية والمادية بين جميع أمم العالم’، لا تعني أن سِمَةَ طبيعتها القومية قد تغيرت كثيرًا في الوقت الحاضر لدرجة تَعِدُ بتحقيق سريع لهذا التنبّؤ. وكما كتب في إحدى رسائله العامة: ‘لا يمكن إلا لمراقبٍ منصف، قريبٍ من أخلاق وعادات الشعب الإيراني… أن يقدّر حقًا عِظم المهمة التي تواجه كل مؤمن غيور في ذلك الوطن’، وذلك بسبب ‘النزعات والميول السائدة لمختلف فئات المجتمع الإيراني’ من قبيل اللامبالاة، التكاهل والتكاسل، غياب الإحساس بالواجب العام والولاء للمبدأ، الافتقار للجهود المنسّقة والمثابرة في الجهد والعمل، وعادة الناس في التكتّم، والانقياد الأعمى لرجال الدين المتعصِّبين الجَهَلة. وكما أن رسالة حضرة بهاء الله كفيلة بأن تغيّر العالم بأسره، فإنها بالمثل ستغيّر موطنه الأصلي، وحالما يستظلّ هذا الوطن في ظلِّ دينه يكون في انتظاره المصير العظيم المُقدّر له.
وكما تشير إليه رسائله، كان هناك وقتٌ تأمَّلَ فيه شوقي أفندي، من أول من تبوّأ سدة الحكم في إيران من سلالة بهلوي – والذي أدخل الكثير من الإصلاحات الضرورية الملحّة – أنّ يُسرّع في إدخال أمر حضرة بهاء الله مرحلة جديدة من تطوره في ذلك القطر. ففي عام 1929 كتب شوقي أفندي بأن الأحباء هناك ‘يتذوّقون باكورة ثمار حلمهم الطويل في التحرر’. وبالنظر لعملية الإصلاح والتغيير الجارية الآن، نصح المحفل الروحاني المركزي هناك أن يضغط في الحصول على إذن لطباعة الكتب البهائية وتأسيس هيئة بهائية للطبع والنشر. ولأن الطلب قد رُفض، نجده يبرق للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا في شهر يناير/ كانون الثاني 1932 قائلاً: ‘نحثّكم على إرسال رسالتين على الفور بواسطة المحفل الروحاني في طهران؛ واحدة للحكومة الإيرانية وأخرى للشاه نفسه تعبّرون فيهما، بالنيابة عن الأحباء الأمريكيين، عن تقديركم العميق للإصلاحات الداخلية المفيدة البنّاءة الجارية الآن، مؤكّدين على الروابط الروحانية التي تجمع بين البلدين، ملتمسين بكل جِدِّية إلغاء الحظر على دخول المطبوعات البهائية، مشدّدين على قيمتها الأخلاقية الرفيعة، ومشيرين بشكل خاص إلى كتابَيْ “تاريخ النبيل” و”مجلد العالم البهائي”.’ إلا أن آمال شوقي أفندي لم تدم طويلاً؛ فالإصلاحات في إيران لم تكن واسعة بما فيه الكفاية لتشمل جامعة مكروهة تعاني مرارة القسوة، فرُفض الطلب هذا أيضًا. إلا أن ولي الأمر، مصممًا ألاّ يستسلم دون كفاح حقيقي، أبرق إلى أمريكا بعد خمسة أشهر قائلاً: ‘أحثّكم على أن توجّهوا فورًا التماسًا إلى الشاه باسم البهائيين في أمريكا تقدّمون فيه السيدة رانسوم – كِلَر ممثِّلة مختارة مخوَّلة في استئناف طلبنا إدخال المطبوعات البهائية إلى إيران. أكِّدوا على التقدير الواسع النطاق للإصلاحات الداخلية، وعلى العُرى الروحانية التي تربط البلدين، وأكّدوا أيضًا على التقدير والإجلال الكبيريْن اللذين تبديهما الكتابات البهائية للإسلام، وما يمكن أن تقدمه هذه الكتابات من قِيَم أخلاقية لإيران وشعبها. أرسلوا بالبريد نسخة عن التماسكم هذا إلى المحفل الروحاني المركزي في إيران.’
تبسط أمامنا هذه القضية مثالاً رائعًا كيف أن ولي الأمر كان يضع يده على أي أداة في متناوله ويستخدمها لخدمة مصالح الأمر المبارك. فالسيدة كيث رانسوم - كلر، وهي بهائية أمريكية وامرأة متميّزة بمقدرتها وشخصيتها، كانت قد قدِمتْ إلى حيفا زائرةً للأماكن المقدسة، وصمَّم شوقي أفندي على إرسالها إلى إيران. كانت في السابق راهبة في كنيسة مسيحية قبل إيمانها بالبهائية، وقد عُرفت بأنها متحدّثة مفوّهة قديرة تلهب حماس مستمعيها. فأبقاها ولي الأمر في حيفا عدة أسابيع موجِزًا لها بمعلومات عن إيران وأحوالها وما يأمل منها أن تفعله هناك لتساعد في إحراز المزيد من الحرية لأمر الله، وشيئًا من الاعتراف على الأقل. ومع أن المهمة الموكلة إليها قد فشلت في تحقيق غرضها لأن الشاه رفض استقبالها، إلا أن زيارة مبعوث ولي الأمر هذه كان لها تأثيرها التاريخي على الجامعة البهائية الإيرانية نظرًا لأن السيدة كلر كانت مشبّعة بتعليمات ولي الأمر فيما يتعلق بتطوير النظام الإداري هناك، فاستطاعت أن تحرّك جامعة عايشها الرعب والترهيب، مضطهدة باستمرار، ومبتلاة باللامبالاة أحيانًا، لتحوّلها إلى جامعة واعية مدركة للمهمة الجديدة التي تنتظرها في المستقبل، والواجبات الفورية الملحّة الماثلة أمامها. ولكن، كما كان الأمر مع د. إسلمنت، فإن هذه الأداة الجديدة المنتقاة قد انتزعت من يد ولي الأمر. ففي 28 أكتوبر/ تشرين الأول 1933 أبرق حضرته إلى أمريكا قائلاً: ‘لقد قدّمت كيث حياتها الثمينة فداءً لأمر حضرة بهاء الله في موطنه. فعلى ثرى إيران ومن أجل إيران واجَهَتْ وتحدّتْ وقاتلت قوى الظلام بتميّز رفيع وعزيمة لا تُقهر وولاء مثالي تامّ. إن جماعات إخوانها الإيرانيين يقفون عاجزين، يندبون فقدان محرِّرتهم الباسلة المفاجئ. أمّا المؤمنون الأمريكيون فيشعرون بالفخر والامتنان بذكرى أول شهيدة أمريكية مميّزة. أتفجّع بحرقة على هذا الانفصال الدنيوي لشريك لا يُقدّر بثمن، ومستشار لا يخذل وصديق وفيّ مخلص. أحثّ المحافل الروحانية المحلية على إقامة مجالس تذكّر لائقة بذكرى واحدة رفعتها خدماتها العالمية إلى مرتبة بارزة بين أيادي أمر حضرة بهاء الله.’ فخسارة إيران الكبيرة بهذا الفقدان قد غدت مكسبًا عظيمًا لأمريكا.
إن استحقاق مبعوثة شوقي أفندي للتكريم الذي أغدقه حضرته عليها بكل سخاء بعد وفاتها، تعكسه بإسهاب كلماتها الخاصة التي كَتَبتْها في إيران في وقت شعرت فيه بأنها أخفقت تمامًا في مهمتها الأساسية: ‘لقد سقطتُ، ولكنني لم أتردد أبدًا. شهور من الجهد دون إنجاز هو السجلّ الذي يواجهني. لو أن أحدًا في المستقبل أبدى اهتمامه في القيام بمغامرتي المخيّبة للآمال هذه، هو وحده يمكنه أن يقرّر ما إذا كان جسدي الهرم المنهك قد سقط قريبًا أم بعيدًا عمّا يبدو أنه ذُرى منيعة من اللطافة واللامبالاة. دخان المعركة إلى اليوم كثيف، وجَلَبتُها جِدُّ شديدة بحيث لا أستطيع التحقُّق؛ أكنتُ أتقدم إلى الأمام أم أنّي وقعت صريعةً في دربي. لا شيء في الوجود بلا معنى، والمعاناة أكثرها مغزى. إن التضحية بما يلازمها من كَرْب وألم هي بزرة وكيان عضوي حيّ لا يمكن للإنسان أن يوقف إثمارها كما الأمر مع بذور الأرض. فمتى بُذِرَت ستُزهِر حسب ظني إلى الأبد في حقول الخُلْد الجميلة. زهرتي ستكون متواضعة جدًا، ربما مثل زهرة ‘لا تنسني’ الوحيدة الصغيرة التي رُوِيت بدم القدوس، واقتطفتُها من سبز ميدان في بارفروش؛ فإذا ما وقع البصر عليها يومًا، فليعمل مَن يبدو أنه يكافح عبثًا، على رعايتها باسم شوقي أفندي ويُبقيها لذكراه العزيزة.’
في شهر ديسمبر/ كانون الأول 1934 أبرق شوقي أفندي للمحفل الروحاني المركزي في إيران قائلاً: ‘هل أُقفلت مدرسة (ترْبِيَتْ) بشكل دائم. تحرّوا الأمر وأبرِقوا.’ لقد عَكَسَ جواب المحفل الروحاني المركزي التالي إلى ولي الأمر ما كان وراء هذا السؤال: ‘بناء على طلب [حضرتكم]، تم تعطيل الدراسة في مدرستَيْ (تربيت) في طهران في يوم ذكرى استشهاد حضرة الباب، فأصدرت وزارة التربية والتعليم أمرًا وأجبرتنا على إغلاق أبوابهما [بشكل دائم] وتساءلتْ لماذا لم تخفوا عقيدتكم…’ يمكن اعتبار هذه الحالة مثالاً نموذجيًّا ممتازًا لنضال البهائيين الإيرانيين – الذين طالما استحثّهم شوقي أفندي وأرشدهم – في الحصول على قدْر معقول من الحرية على الأقل في اتّباع دينهم، وهم الذين كانوا من حيث العدد يشكّلون الأكثرية في البلاد بعد المسلمين. كانت مدرستا (تربيت) للبنين والبنات، المملوكتان والمُدارتان بالكامل من قبل البهائيين، قائمتين هناك وتعملان منذ ست وثلاثين سنة، حيث تأسّستا عام 1898 في عهد حضرة عبد البهاء، وهو المشروع الذي كان عزيزًا على قلبه؛ سُمْعَتُهما على الدوام كانت ممتازة، ومع أن الطلاب فيهما كانوا من البهائيين بشكل رئيس، إلا أن هناك أطفالاً من كل الطوائف والملل ينتظمون في الصفوف. اعتادت المدرسة أن تغلق أبوابها في الأيام البهائية التسعة المحرمة. أما الآن، وبذريعةٍ واهية في أن البهائيين ينتمون إلى طائفة دينية غير مُعتَرف بها رسميًا في إيران، فقد طلبت وزارة التربية والتعليم فجأة من المدرسة أن تُبقي أبوابها مفتوحة في تلك الأيام. شكّل هذا تراجعًا بدل التقدم في معركة انعتاق الأمر المبارك التي كافحوا فيها بكل جهد من أجل أن يكسبوها. رفض شوقي أفندي هذا القرار بكل صراحة، وأمر المحفل الروحاني أن يُغلق أبواب المدرسة في ذكرى استشهاد حضرة الباب. وحيث إن ولي الأمر لم يكن لديه أي استعداد لأن يطلب من الأحباء إخفاء عقيدتهم، ولا أن تبقى أبواب المدرسة مفتوحة في الأيام البهائية المحرّمة، وأمام إصرار الحكومة على عدم تغيير تعليماتها، كان أن أُقفلت مدرسة (تربيت) التي تُعتبر من أفضل المدارس في إيران، وظلّت مغلقة إلى يومنا هذا.
وفي إعلانه هذا الخبر السيّء – في اليوم الذي تلا استلامه الردّ من طهران – على البهائيين في تلك الديار التي يتمتّع فيها البهائيون بأكبر قدْر من الحرية مقارنةً بأي مكان في العالم، نجد أن كلَّ كلمة من كلمات ولي الأمر قد عكست غضبه وهو يعدّد سلسلة الإهانات والمحن التي يتعرض لها البهائيون في إيران فقال: ‘تلقيّتُ للتوّ معلومات تفيد بأن جهودًا متعمَّدة قد اتّخذت لتقويض جميع المؤسسات البهائية في إيران؛ فالمدارس في كل من كاشان وقزوين وسلطان آباد قد أُغلقت. وصدرت أوامر من عدة مراكز قيادية بما فيها قزوين وكرمانشاه بتعليق النشاطات التبليغية، ومنع الاجتماعات، وإغلاق قاعة الاجتماعات البهائية، وحرمان البهائيين من حقَّهم في دفن موتاهم في مقابرهم البهائية. وفُرِض على البهائيين في طهران تسجيل أنفسهم مسلمين في أوراق البطاقة الشخصية وإلاّ فالسجن أمامهم. رجال الدين المغرورون يحرّضون الأهالي ضد البهائيين. رُفضت الْتماسات المحفل الروحاني المركزي في طهران الموجهة إلى الشاه دون أن تُعرض على جلالته. أكّدوا على الوزير الإيراني خطورة هذا الوضع الذي لا يُحتَمل.’
أمام هذه الضربات التي وُجّهت دون أي مبرر على الإطلاق، في وقت كان من المتوقّع منطقيًا أن سياسة أكثر تحرُّرًا تعمّ البلاد بأكملها لا بدّ أنها ستمتدّ لتشمل أتباع دين كان يشكّل الحقّ الوحيد الجادّ لتلك الأمّة في العزّة والشهرة منذ عهد داريوس وخلفائه – في ذلك الوقت تمكّن البهائيون الإيرانيون من عقد مؤتمر مركزي ضمّ وكلاء يمثِّلون على نحوٍ وافٍ الجامعة البهائية في أنحاء إيران بهدف انتخاب محفلهم الروحاني المركزي الذي وضعه شوقي أفندي رسميًا في جدوله الإحصائي على أنه تشكّل عام 1934. وكان قد سبق في عام 1927 أن عُقد ما عبّر عنه ولي الأمر بـ’مؤتمرهم التاريخي الأول الممثِّل لهم بمختلف المندوبين والوكلاء’، ووُضعت خطط لعقد اجتماعات سنوية في المستقبل تَحْمِل الطابع نفسه. وفي عام 1928 بدأ ولي الأمر في تسمية المحافل التي تُنتَخَب في تلك الاجتماعات بـ ”المحفل الروحاني المركزي في إيران”. كان أحد الأسباب الرئيسة لهذا التأخير الطويل في إجراء الانتخاب بالطريقة السليمة في إيران، ‘على غرار’، كما كتب شوقي أفندي، ‘ما يتّبعه إخوانُهم في الولايات المتحدة وكندا’، هو أن المحفل الروحاني في إيران كان غير قادر على تنفيذ تعليمات ولي الأمر في ضرورة إعداد قائمة دقيقة بأسماء جميع الأحباء هناك كمتطلّب أساسيّ للإجراءات الإدارية السليمة في تشكيل الهيئة المركزية.
وخلال عام 1931 أصدر شوقي أفندي تعليماته إلى إيران بشراء قطعة أرض ليُبنى عليها مشرق الأذكار الخاص بهم في المستقبل، والبدء ببناء حظيرة قدس في طهران. لا شك أنه، وبشكل جزئي بسبب هذه التأكيدات على حقها في الوجود كجامعة مُعترف بها، أن عمدت حكومة حانقة، وبعيدًا عن الاعتراف بها، إلى التشدد في تصميمها على إنكار وجود هذه الجامعة بالرغم من المدى البعيد الذي ذهب إليه ولي الأمر والجامعة في مجهود حصيف معتدل من أجل عدم إثارة السلطات الرسمية وعامّة الناس بلا طائل. ومثال على هذا الاعتدال نجده في تعليماته للنساء البهائيات بألا يأخذْن زمام المبادرة في النداء الجديد الذي أطلقه الشاه بشأن تحرير المرأة الذي وُضع قيد التنفيذ – ويشمل رفع الحجاب، وهو ما يتّفق تمامًا وتعاليم حضرة الباب وحضرة بهاء الله – وذلك خشية أن يؤدي ذلك إلى جلب متاعب جديدة.
لم يكن في واقع الأمر وضع البهائيين في الشرق هادئًا على الإطلاق خاصة في إيران، بل كان غير مستقرٍّ ومحفوفًا بالمخاطر على الدوام وعُرضة في أي وقت للانفجار في موجة عنف تتفجّر عن اضطهاد دموي كثيرًا ما كان يتكرر. مرارًا وتكرارًا كان هناك حالات منفردة قُتل فيها بهائيون – وصف ولي الأمر بعضهم بالشهداء؛ كما كانت هناك باستمرار حُمّى الاضطهاد المستعرة، تشتدّ هنا أحيانًا وهناك أحيانًا أخرى، ولكنها كانت دومًا موجودة. وفي جميع المحن التي كانت تصيب الأحباء الإيرانيين كان ولي الأمر يفيض عليهم برسائل مفعمة بالمودّة والمحبة، وببعض المال للتخفيف عنهم، يُتْبعها بتعليماته التي كان يوجهها في العادة للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا للتدخّل بالنيابة عنهم ملتمسًا تحقيق العدالة بشأن قضيتهم. ورسائل كالتالي كانت مألوفة وتعكس ما فيها من روح: ‘أوصي… بعقد مجلس دعاء خاص في قاعة المعبد البهائي، وأن تتضرّعوا سائلين العون من جنود الغيب في ملكوته الأبهى من أجل تحرير أخوة لكم في الموطن الأصلي لحضرة بهاء الله وخَلاصهم من معاناة طال أمدها. عسى أن يعوّض نضال أمريكا المتواصل وجهودها المضاعفة عن الجمود الذي فُرض قسرًا على قسم كبير جدًّا من جامعة منظّمة من أتباع حضرة بهاء الله.’
وعلى كل حال فإن أسوأ الأزمات التي عانت منها الجامعة البهائية في إيران، خلال سنوات ولاية شوقي أفندي الست والثلاثين، قد برزت عام 1955 عندما حصل، كما أَبْرَقَ حضرته، تدهور مفاجئ في شؤون هذه الجامعة الأكبر في العالم البهائي. ففي برقية طويلة مؤرخة في 23 أغسطس/ آب أعلم شوقي أفندي أيادي أمر الله والمحافل الروحانية المركزية بما كان يجري على الساحة: على أثر استيلاء السلطات على حظيرة القدس المركزية في طهران وهَدْم قبتها الضخمة المزخرفة (وهو هدمٌ شارك فيه أحد رجال الدين البارزين في البلاد وجنرالٌ في الجيش بأن حملوا المعاول وتوجّهوا لتنفيذ مأربهم)، تمّ الاستيلاء على المقرّات البهائية الإدارية المحلية في أنحاء إيران وأشغلوها لأغراضهم، واعتبر برلمان البلاد أن الدينَ البهائي غير شرعي وخارج على القانون، وابتُدِئت حملة صحفية وإذاعية خبيثة، عملت على تشويه تاريخه وتوجيه التُّهم والافتراءات لمؤسّسيه وتحريف تعاليمه وطمس مقاصده وأهدافه – وتَبِع كل ذلك سلسلةٌ من الفظائع والأعمال الوحشية التي ارتُكبت بحق أفراد هذه الجامعة المُبْتَلاة إلى حدٍّ كبير في جميع أنحاء البلاد. وفي تلخيص شوقي أفندي للدمار الرهيب و’الأفعال البربرية’ التي اقتُرِفت، فقد استشهد حضرته بأحداث من قبيل: انتهاك قدسية بيت حضرة الباب في شيراز، المقام المقدس الأول للدين البهائي في إيران، الذي أصيب بأضرار جسيمة؛ الاستيلاء على منزل حضرة بهاء الله الذي وَرِثه عن أجداده؛ نَهْبُ المتاجر والدكاكين والمزارع التي يملكها بهائيون وسَلْبُ محتويات منازلهم وقتل مواشيهم وحرق محاصيلهم ونبش قبورهم وانتهاك حرمة أمواتهم؛ ضُرِب الكبار؛ وخطفت الفتيات الصغار وأجبرن على الزواج من مسلمين؛ أُهين الأطفال وشُتموا وضُربوا وفُصلوا من مدارسهم؛ قاطَعَ التجارُ البهائيينَ ورفضوا بيعهم الأطعمة؛ فتاة في الخامسة عشرة من عمرها اغتُصبت؛ طفل عمره أحد عشر شهرًا سُحِق تحت الأقدام؛ مُورست على الأحباء ضغوطٌ لإنكار عقيدتهم. وذهب حضرته إلى القول بأن ألفين من الغوغائيين العُتاة انهالوا حديثًا على أفراد عائلة كاملة من سبعة أنفار بالمعاول والفؤوس وقطّعوهم إرْبًا إرْبًا – كان أكبرهم في الثمانين وأصغرهم في التاسعة عشرة من عمره – وهم نشاوى على وقع أنغام الموسيقى وقرع الطبول.
كان البهائيون قد رفعوا فعلاً أصواتهم بالاحتجاج على ذلك الظلم المرير، وأفعال لا يُقرّها قانون اقتُرفت بحق إخوة لهم ملتزمين بالقانون مطيعين له، وذلك عبر إرسالهم، من أكثر من ألف مركز ديني ومحفل روحاني في مختلف أنحاء العالم، وبتعليمات من ولي أمرهم، برقيات ورسائل للسلطات الإيرانية. كما وَجّهت جميع المحافل الروحانية المركزية رسائل احتجاج إلى الشاه والحكومة والبرلمان ضد ذلك الاضطهاد غير المُبرّر القائم على أساس ديني بحت لجماعة مسالمة لا يصدر عنها أي أذى أو ضرر. ولكن كل ذلك لم يحرِّك ساكنًا لدى الدوائر الرسمية من أي نوع كان. عند ذلك أصدر ولي الأمر تعليماته إلى الجامعة البهائية العالمية، المعتَمدة منظمةً غير حكومية في هيئة الأمم المتحدة، أن تضع القضية أمام الهيئة الدولية في جنيف، وعيّن بنفسه ممثلي الجامعة البهائية في هذا الشأن الهامّ. سُلّمت نسخ من كتاب الالتماس البهائي لمندوبي الدول الأعضاء في المجلس الاقتصادي والاجتماعي ومدير شعبة حقوق الإنسان، ومثلها إلى وكالات أخرى معيّنة ومختصّة من المنظمات غير الحكومية التي تتمتع بوضع استشاري. وبالمثل قام المحفل الروحاني المركزي في أمريكا وجميع المراكز الإدارية والمحافل الروحانية المحلية هناك بمناشدة رئيس الولايات المتحدة للتدخُّل بالنيابة عن جامعة إخوتهم المقهورين في إيران.
إنها المرة الأولى في تاريخه التي يتمكّن فيها دينٌ مُعتَدىً عليه من الردّ بأسلحةٍ تملك شيئًا من القوّة للدفاع عنه، وقد بيّن شوقي أفندي أهمية ذلك بكل وضوح. فمهما تمخّضت عنه تلك الأحداث التي ‘تُمزّق نياطَ القلب’، فإن حقيقة واحدة برزت بكل جلاء: إن دين الله الرضيع، الذي زوّد نفسه خلال السنوات الخمس والعشرين التي تلت صعود حضرة عبد البهاء، بآلية ‘نظامه الإداري’ المعيّن إلهيًا، ثم نراه ينتفع لاحقًا من وكالاته الإدارية حديثة الولادة في نشر وترويج الأمر المبارك بطريقة منهجية بفضل سلسلة من الخطط المركزية التي بلغت ذروتها في مشروع الجهاد الروحاني العالمي الأكبر، نجد الآن هذا الدين قد اجتاز مرحلة المجهولية بعد هذه المحنة العنيفة التي هزّت وأصابت السواد الأعظم من أتباعه. إن أصداء هذه الأحداث التي تردَّدت على نطاق عالمي واسع سوف تُهَلّل لها الأجيال القادمة على أنها ‘صوت الصافور الإلهي العظيم’، والذي لا بدّ له، من خلال آليّة ‘أقدم أعداء [الأمر المبارك] وأكثرهم ترويعًا وأشرسهم أفعالاً وأشدّهم تعصبًا’، أن يوقِظ الحكوماتِ وينبّه رؤساءَها في الشرق والغرب إلى وجود هذا الدين ومضامينه. كانت الظروف والأحوال التي أحاطت بتلك الأحداث في إيران عاصفة للغاية، وأصداؤها في الخارج مؤثرة جدًا ومثيرة للإعجاب، حتى إن ولي الأمر صرّح بأنها لا بدّ وأن تمهّد الطريق أمام تحرير الأمر المبارك من أغلال المتزمّتين في الدول الإسلامية، وتؤدي في نهاية المطاف إلى الاعتراف بالطابع المستقل لظهور حضرة بهاء الله في موطنه الأصلي.
أمام هذه المعاناة الشديدة والحالة التي يُرثى لها للمؤمنين الإيرانيين، فتح شوقي أفندي صندوقًا ماليًا ‘لمساعدة المضطَهَدين’ وافتتحه بتبرع شخصي بما يعادل ثمانية عشر ألف دولار من أجل ‘هذا الغرض النبيل’. وغير مُكْتفٍ بهذا الدليل على التماسك والتعاضد البهائي، فقد دعا إلى بناء ‘أمّ المعابد’ في القارة الإفريقية، في كمبالا قلب تلك القارة، ليرتفع كـ’أعظم عزاء وسلوى’ لـ’الجماعات المقهورة’ من ‘إخوان لنا بواسل’ في مهد الأمر. لقد قام بتوجيه ضربة مضادّة إلى قوى الظلام المحتشدة فوق أقدم معقل لأمر الله في العالم وفي قبضته وتحت إمرته أعظم الأسلحة – قوى التقدم الخلاّق، وسُرُج التنوير والإيمان.
من الصعب أن ندرك أن رجلاً واحدًا، وحده تمامًا، يمضي عزلته في سويسرا، ودون نُصحاء يحيطونه لمساعدته أو التخفيف عنه في مثل هذا الوقت، قد تحمّل صدمةَ هذه الموجة العنيفة من الهجمات التي اندلعت فجأة في إيران عام 1955؛ وبأنه وحده تمامًا قد وضع خطته الدفاعية وأبرق إلى هيئاته المساعِدة – المحافل الروحانية المركزية في مختلف المناطق – بما يتوجب عليهم عمله، وعيّن مَن عليهم أن يمثّلوا مصالح أمر الله في أعلى منظمة عالمية أوجدها الإنسان –
هيئة الأمم المتحدة – كما واسَى المدوسين المقهورين، وجَمَع الأموال اللازمة لمساعدتهم والتخفيف عنهم، وانطلق بكل قوة رافعًا حِرابَهُ [يلوح بها] يمينًا ويسارًا دفاعًا عنهم.
وبالرجوع إلى موضوع تصفية الأمر المبارك في روسيا، يجب أن نتذكر أن إحدى أقدم الجامعات البهائية في العالم قد وُجدت هناك في القوقاز وتركستان منذ نهاية القرن الماضي، حيث وَجَد فيها الكثير من الإيرانيين البهائيين ملجأً متعاطفًا هربًا من أعمال الاضطهاد التي كانوا يتعرّضون لها على الدوام في موطنهم. فكان أن أسّسوا لهم حياة في عدد من المدن خاصة في عشق آباد، وفيها بنَوْا لهم مشرق أذكار كان الأول في العالم البهائي، وفتحوا المدارس للأطفال البهائيين التي ظلت قائمة لمدة تزيد عن ثلاثين سنةً. وهكذا كانت شؤون الجامعة هناك في غاية التنظيم. ففي عام 1928 كان لهم عدد من المحافل الروحانية (بما فيها واحد في موسكو)، ومحفلان رئيسان كانا يعملان على إدارة شؤون الجامعة بانتظار إجراء انتخابات مركزية بطريقة سليمة بواسطة ممثليهم الوكلاء، وقد ظهر هذان المحفلان في القوائم التي نُشرت في الولايات المتحدة كمحفلين روحانيين مركزيين في القوقاز وتركستان. ففي رسالة موجَّهة إلى المحفل الروحاني المحلي في عشق آباد مؤرخة في سبتمبر/ أيلول 1927 أصدر شوقي أفندي تعليماته إليهم بأن يعملوا بالتدريج على التحضير لقدوم الوكلاء من جميع المحافل الروحانية في تركستان حتى يجتمعوا في عشق آباد ويقوموا بانتخاب محفلهم الروحاني المركزي. في 22 يونيو/ حزيران 1928 استلم شوقي أفندي برقية من المحفل الروحاني في عشق آباد تقول: ‘طبقًا للمرسوم العام الصادر عام 1917 قامت الحكومة السوفياتية بتأميم جميع المعابد في البلاد، إلا أنها ستسمح بتأجيرها ضمن شروط خاصة تأجيرًا حرًا للجامعات الدينية الخاصة بها. وبالنسبة لمشرق الأذكار في عشق آباد فقد قدّمت الحكومة للمحفل الروحاني اتفاقية بالشروط نفسها. نلتمس الهداية والتوجيه برقيًا.’ اتخذ شوقي أفندي إجراءً فوريًا بأن أبرق إلى المحفل الروحاني في موسكو أن ‘تَوسَّطوا في الموضوع بكل قوة لدى السلطات للحيلولة دون مصادرة مشرق الأذكار. استوضِحوا عن التفاصيل من عشق آباد…’، وإلى عشق آباد قال: ‘ارجعوا إلى المحفل الروحاني في موسكو الذي سيقدِّم التماسًا إلى السلطات بالنيابة عن جميع البهائيين في روسيا. تصرّفوا بحزم. نؤكد لكم دعواتنا.’
في استرجاعنا للأحداث التي وقعت في روسيا علينا أن نميّز تمامًا – وهو ما وضّحه ولي الأمر نفسه – بين المصاعب التي تعرّض لها المؤمنون في روسيا والاضطهادات التي قاساها البهائيون في إيران. ففي إيران كان المؤمنون ولا يزالون معروفين على أنهم ضحايا كل أشكال الظلم لأنهم أتباع حضرة بهاء الله لا غير؛ أما في روسيا فالوضع مختلف تمامًا، فالبهائيون لم يعانوا تمييزًا ضدّهم بسبب عقيدتهم بل عانوا من السياسة التي انتهجتها الحكومة ضد كلّ الجاليات الدينية.
في رسالة إلى مارثا روت في سبتمبر/ أيلول 1928، لم يُشِرْ شوقي أفندي إلى ما يدور في روسيا فحسب، بل كيف أثّرت فيه شخصيًا أيضًا: ‘كان صيف هذا العام بالنسبة لي كئيبًا مؤلمًا لِمَا آلت إليه أحوال الأمر المبارك في روسيا من سيّء إلى أسوأ. فالدولة استولت على مشرق الأذكار وأغلقت أبوابه وختمتْها بالشمع الأحمر، وفي حالة تأجيره لهم يحتاج الأحباء إلى دفع مبلغ كبير من المال، وإلاّ هدّدت السلطات ببيعه مُجزَّءًا إلى آخرين. الوضع حَرِج للغاية والعديد من العائلات رحلت عائدة إلى إيران. فالاجتماعات عُلِّقت، والمحافل الروحانية حُلَّت وفُرضت قيود مُشدَّدة وغرامات كبيرة… هذه الأحداث وغيرها جعلتني حزين القلب مكتئبًا للغاية.’ إن عودة الأحباء من روسيا إلى إيران كان خطوةً لم يوافق شوقي أفندي عليها على الإطلاق، فأعلم المحفل الروحاني في عشق آباد أن ‘مغادرة الأحباء إلى إيران ضارَّة إلى أبعد الحدود’، وقال بأن عليهم أن يستبدلوا جنسياتهم الإيرانية بالروسية إذا اقتضى الأمر، وكان قد حثّ الأحباء المهاجرين في روسيا أن يتعلموا اللغة الروسية ويترجموا الكتابات البهائية إليها. وفي عام 1929 كتب إلى المحفل الروحاني المركزي في إيران أنّ على أحباء عشق آباد أن يظلّوا هناك وألا يتشتتوا بل يجب أن ينتظروا إلى أن تنقشع غيوم الظلم الوخيمة وتشرق شمس العدل من جديد.
في جميع حالات الاضطهاد، كم كانت الأوضاع تزداد خطورةً وحِدَّةً بسبب عدم حكمة المضطَّهَدين أنفسهم متأثّرين بعدم حكمة المرءوسين في تنفيذهم تعليمات رؤسائهم – من الذين قد يتّخذون أو لا يتخدون موقفًا عدائيًا – هو لغز غامض من المرجّح أننا لن نستطيع حلّه على الإطلاق في هذا العالم. ومع ذلك لا يبدو بعيدًا عن المعقول أن نفترض أن بعض مصائبنا على الأقل نُفاقِمُها بأعمالنا.
إن ما حدث في روسيا ذَكَره شوقي أفندي في رسالة مطوّلة إلى الأحباء في الغرب في الأول من يناير/ كانون الثاني 1929 بأن البهائيين الروس قد وقعوا أخيرًا تحت نير ‘التطبيق الصارم للمبادئ التي أعلنتها سلطات الدولة وفرضتها بشكل عام على كل الجامعات الدينية الأخرى للتنفيذ.’ والبهائيون، ‘كما يليق بوضعهم كمواطنين موالين للقانون ومخلصين له”، قد أطاعوا ونفّذوا ‘الإجراءات التي اختارت الدولة وضعها قيد التنفيذ انطلاقًا من حرّيتها في ممارسة حقوقها المشروعة.’ إن الإجراءات التي اتخذتها السلطات ‘تنفيذًا لسياستها القاضية بنزع ملكية جميع الصُروح والنُصُب التذكارية ذات الصبغة الدينية لصالح الدولة’ قد قادتها إلى مصادرة ‘ذلك الصرح الأعزّ والمِلْك البهائي الأقْيَم عالميًا – مشرق أذكار عشق آباد’ وانتزاع ملكيته والسيطرة عليه. بالإضافة إلى هذا، ‘أُبلغت المحافل الروحانية وأفراد الأحبّاء رسميًّا بأوامر الدولة، شفاهةً وخطّيًا، بتعليق جميع الاجتماعات… وحلّ جميع لجان المحافل الروحانية المحلية والمركزية، وحظر جميع التبرعات… مُطالبين بحق التفتيش الكامل المتكرّر على مداولات ومناقشات… المحافل البهائية… وفَرْض رقابة شديدة على جميع المراسلات من وإلى المحافل الروحانية… وتعليق جميع النشرات البهائية الدورية… ومطالبين بترحيل وإبعاد الشخصيات القيادية في الدين، أكانوا مبلِّغين ومتحدّثين بارزين أم أعضاء في الهيئة الإدارية للمحافل الروحانية. إزاء كل هذه الإجراءات’، صرّح شوقي أفندي بأنه ‘ما كان من أتباع دين حضرة بهاء الله، بما هم عليه من مشاعر الكَرْب الشديد وما هم فيه من ثبات بطوليّ، إلا أن خضعوا بالإجماع للأوامر دون أي تحفُّظ، يقودهم في ذلك وعيهم التامّ بالمبادىء التي تحكم السلوك البهائي، والتي تقضي، فيما يتعلق بالنشاطات الإدارية، بأنه مهما كان التدخّل فيها معيقًا ومؤلمًا في تأثيره على تقدم أمر الله وانتشاره، فما دام تعليقها لا يشكّل بحدّ ذاته خروجًا عن مبدأ الولاء للأمر المبارك، فإن الأحكام القضائية والقرارات الرسمية الصادرة عن حُكّامهم المسؤولين يجب أن تُحترم بالكامل وتُطاع بكل إخلاص إذا ما أرادوا أن يكونوا أوفياء لأوامر حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء الصريحة الواضحة.’ ثم ذهب شوقي أفندي في قوله بأن الأحباء في تركستان والقوقاز، بعد أن استنفدوا دون جدوى كل الوسائل المشروعة للتخفيف من تلك القيود التي فُرضت عليهم، قرروا ‘الإذعان بكل وجدانهم للأحكام التي اتّخذتها حكومتهم المُعترف بها’، ‘وبأملٍ لا يمكن لقوة أرضية مهما كانت أن تطفئه… فوّضوا أمر دينهم إلى الحافظ الأمين والمخلّص الإلهي القدير…’
أكّد شوقي أفندي للبهائيين في هذه الرسالة أنه إذا ما رأى من المناسب أن يدعو العالم البهائي للتدخُّل في مرحلة لاحقة فسوف يفعل. وفي شهر إبريل/ نيسان 1930 شعر أن الوقت قد حان لمثل هذه الخطوة؛ فمشرق الأذكار الثمين الذي نجح البهائيون في استئجاره من السلطات بعد مصادرته، أصبح الآن في وضع خطير يهدد بإخراجه من أيديهم نهائيًا من خلال سلسلة إجراءات إضافية أكثر قسوة فُرضت على الأحباء. ولذلك أبرق إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا قائلاً: ‘… يتطلّب الأمر عملاً فوريًا. أكّدوا على الصفة العالمية لمشرق الأذكار…’ في رسالته الطويلة السابقة كان قد حدّد الخطوات الواجب اتخاذها إذا ما حان الوقت وآن للأحباء في الخارج أن يرفعوا أصواتهم بالاحتجاج وتوضيح الأمور: فعلى المحافل الروحانية المركزية والمحلية في الشرق والغرب، في إيماءة على التضامن والتكاتف البهائي، أن تلفت أنظار الجهات الرسمية الروسية، ليس فقط إلى دحض وتفنيد أيّ مضمون يحمل طابعًا سياسيًا أو باعثًا خفيًا لتهمة زائفة أُلصقت بإخوانهم في ذلك القطر، بل إلى ‘الطبيعة الإنسانية والروحانية للعمل الذي ينخرط فيه البهائيون جميعًا في كل أرض ومن كلّ عرق’، وإلى الطابع الدولي لذلك الصرح العظيم [مشرق الأذكار] الذي حظي بامتياز أن يكون بيت العبادة العالمي الأول لحضرة بهاء الله، والذي وُضع تصميمه طبقًا لما تصوّره حضرة عبد البهاء نفسه، وشُيِّد بتوجيهاته وبدعمٍ مالي قدّمه الأحباء بتبرعاتهم الجماعية من كل مكان في العالم.
ولكن، عندما وقعت الواقعة في النهاية، أبرق شوقي أفندي إلى المحفل الروحاني في عشق آباد بضرورة ‘الالتزام بقرار سلطات الدولة’. إن قضية كهذه تخصّ أول المَعبديْن البهائييْن اللذيْن شُيّدا برعاية حضرة عبد البهاء، لا يمكن إلا أن تشكّل نمطًا تهتدي به المحافل الروحانية وتتَّبعه في كل الأوقات، وتمنح الفرد البهائي المؤمن معلومات وافية حول واجبه تجاه حكومته مهما كانت طبيعة تلك الحكومة.
هناك دولتان أُخريان هما تركيا ومصر شكّلتا مع روسيا وإيران وألمانيا مسرح الإجراءات القمعية الخطيرة والقيود الصارمة التي فُرضت على الأمر المبارك طيلة ولاية شوقي أفندي. ففي تركيا، والتي كانت منذ سقوط نظام الخلافة الإسلامية كما كتب شوقي أفندي، موضع ‘سياسة لا تقبل المساومة تهدف إلى جعل الدولة علمانية وفصل الدين الإسلامي عن الدولة’، تمّت إصلاحات مدنية كبيرة تَصادَفَ أن كان البهائيون في توافق تامّ معها. ولذلك فإن المشاكل التي برزت هناك لم تكن تستند إلى تعصُّب ديني، بل على الأرجح تعود في واقع الأمر إلى أن نظام الحكم الجديد كان قد اكتشف في السابق أن ما يُدعى بالمجموعات الدينية في تركيا قد مَنَحت غطاءً داعمًا لما كان يحدث من اهتياج سياسي، وعندما وجد عملاء النظام أن الجامعة البهائية جامعة منظّمة تقوم بنشاطاتها علنًا فتُبلّغ الدينَ وتنشره، دخل الشك إلى نفوسهم وتنبّهوا وأخذوا يداهمون العديد من منازل الأحباء بقصد تفتيشها، وصادروا كل ما وجدوه من كتب ومطبوعات بهائية، وقاموا باستجواب بعضهم بقسوة وسجنوا عددًا لا بأس به. أدت هذه القضية إلى إعلانٍ كبيرٍ عن الأمر المبارك في الداخل وعلى قدر بسيط في الخارج؛ حيث تناولته الكثير من الصحف التركية بلهجة كانت لصالح البهائيين، مؤكدة على ضمان جلسة استماع لهم كاملة ونزيهة في قضيتهم أمام “محكمة الجنايات” في 13 ديسمبر/ كانون الأول 1928. وهو ما أشار إلى انطلاقة جديدة في مسيرة الكشف عن الأمر الإلهي: فكما كتب شوقي أفندي ‘لم يسبق في تاريخ الدين البهائي أن استُدعي أتباع حضرة بهاء الله من قِبَل مسؤولين في الدولة… للكشف عن تاريخ دينهم ومبادئه…’
من المثير للاهتمام أن نشير إلى أن من بين الأوراق التي صادرتها السلطات من المحفل الروحاني في القسطنطينية (مدينة إستانبول حاليًا) كانت إحدى الرسائل التي كتبتها الملكة ماري ملكة رومانيا في ثنائها وتقديرها للدين البهائي، والتي كان لها تأثيرها على قضاة التحقيق. وبأسلوب غاية في الروعة والذكاء، عرض رئيس المحفل الروحاني في القسطنطينية، وهو يُدلي بشهادته في المحكمة، المعتقدات البهائية، مُضمّنًا عرضه المقتطف التالي من كلمات حضرة بهاء الله: ‘انطق بالصدق الخالص أمام العدالة ولا تخف من شيء.’ وكانت نتيجة كل ما حدث أن حُكِم على البهائيين بدفع غرامة لمخالفتهم القانون القاضي بضرورة تسجيل جميع المؤسسات لدى الحكومة والحصول على الترخيص اللازم لعقد اجتماعات عامة. إلا أن نتائجها كانت عظيمة الأهمية للأمر المبارك، ليس في الداخل فحسب بل وفي الخارج أيضًا. ففي رسالة عامة بعث بها شوقي أفندي إلى الأحباء في الغرب مؤرخة 12 فبراير/ شباط 1929 كتب يقول ملخِّصًا قرار المحكمة: ‘وبالنسبة لحكم المحكمة… فقد نصّ صراحة أنه بالرغم من أن أتباع بهاء الله، في مفهومهم البريء للطابع الروحاني لدينهم، وَجَدوا من غير الضروري طلب تصريح لممارسة نشاطاتهم الإدارية، وبالتالي حُكِم عليهم بدفع غرامة مالية، إلا أنهم، وحسب قناعات الممثّلين القانونيين للدولة، لم يُثبتوا بشكل راسخ براءة دين حضرة بهاء الله فحسب، بل عملوا بجهد جدير بالتقدير على إثبات استقلاليته وأصله السماوي وملاءمته لظروف هذا العصر ومتطلباته.’
ومع أن ما حصل كان الحدث الرئيس الأول الذي جمع الأحباء بالدولة الجديدة التي نشأت وتطوّرت في تركيا بعد سقوط نظام الخلافة الإسلامية، إلا أنه لم يكن الأخير. فقد كانت السلطات العلمانية متيقّظة دومًا للقوى الرجعية في الدولة. ولما كانت ذاكرة الدولة الرسمية ضعيفة، فقد تجدّدت عام 1933 نفس الشكوك والاتهامات التي كانت قد تسبّبت بحدوث القضية الأولى عام 1928. ففي 27 يناير/ كانون الثاني نجد شوقي أفندي يبرق إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا قائلاً: ‘ما يقارب الأربعين من أحباء القسطنطينية وأَضَنَة قد سُجنوا مُتهمين بدوافع تخريبية. سارِعوا إلى حث الوزير المفوَّض لتركيا في واشنطن للاحتجاج فورًا لدى حكومته مطالبًا بإطلاق سراح أناس مطيعين للقانون هم أتباع دين ليست له صبغة سياسية على الإطلاق. أُوصي المحفل الروحاني المركزي أيضًا أن يبرق إلى السلطات في أنقرة ويتَّصل بوزارة الخارجية.’ وفي الوقت نفسه أبرق شوقي أفندي إلى المحفل الروحاني المركزي في إيران قائلاً: ‘أحثّكم على تقديم احتجاجات فورية إلى السفير التركي بالنيابة عن إخوانكم البهائيين المسجونين في إستانبول وأضنة بتهمة أن لهم دوافع سياسية.’ وفي اليوم التالي أبرق إلى شخصية تركية مرموقة قائلاً:
سعادة عصمت باشا
أنقرة
بصفتي رئيسًا للدين البهائي علمتُ ببالغ الأسى والاستغراب عن سجن أتباع حضرة بهاء الله في إستانبول وأضنة. فبكل احترام أناشد سعادتكم التدخُّلَ بالنيابة عن أتباع دينٍ عاهدوا حكومتكم على الولاء والإخلاص، وهي التي تسعى إلى إصلاحات تاريخية يكنّ لها أتباع الدين البهائي في أنحاء العالم كل إعجاب وتقدير.
وحيث إن الأحباء كانوا على اطّلاع تام بكامل الموضوع من خلال رسائل ولي الأمر المفصَّلة التي كتبها عندما حدثت القضية السابقة، فقد اتخذوا خطوة فورية برفع عرائضهم للسلطات التركية. أدّت هذه الخطوة، بالإضافة إلى تحرّكات أخرى دون شك جرت في تركيا، مستشهدة بقرار محكمة الجنايات الذي صدر في القضية السابقة، إلى إطلاق سراح الأحباء وتبرئة ساحتهم بعد مساعٍ ومجهوداتٍ دامت عدة شهور. في الخامس من شهر مارس/ آذار أَعلم ولي الأمر المحفلَ الروحاني المركزي في أمريكا قائلاً: ‘بُرِّئت ساحة الأحباء في إستانبول. لا زال ثلاثة وخمسون مسجونين في أضنة. جدّدوا على الفور عرائضكم بكل قوة للإفراج الفوري عنهم”. وفي الثاني من إبريل/ نيسان أبرق قائلاً: ‘أُطلِق سراح أحباء أضنة. أوصي بتقديم شكرنا وتقديرنا للسفير التركي.’
عندما نتذكر أن هذه القضية الأخيرة في تركيا قد أثيرت في الوقت الذي كان شوقي أفندي يناضل من أجل اكتساب بعض الحقوق للأمر المبارك في إيران – أثناء إقامة السيدة كيث رانسوم - كلر مؤقتًا هناك – يمكننا أن نكوّن فكرة ولو بسيطة عن عدد وطبيعة المشاكل التي كان عليه أن يتعامل معها باستمرار ويعالجها. فبالرغم من الشكوك التي كانت تنشط بانتظام من جانب السلطات التركية، إلا أن ولي الأمر كان قادرًا خلال حياته على إرساء قواعد قوية للجامعة البهائية في تلك الديار من أجل أن تنتخب محفلها الروحاني المركزي المستقل بعد وفاته، تحقيقًا لأحد أهدافه في خطة السنوات العشر.
وفي مصر، التي كانت من أوائل الدول التي تشرّفت باستقبال أنوار ظهور حضرة بهاء الله في فترة حياته، تفجّرت أحداث قبل ثلاث سنوات من أول قضية قضائية كانت للأحباء في تركيا، وهي التي علّق عليها ولي الأمر أهمية كبرى. بدأت الأحداث بهجوم شرس على مجموعة صغيرة من البهائيين في قرية نائية في مصر العليا، وانتهت لتصبح، كما قال شوقي أفندي، ‘أول خطوة نحو القبول العالمي بالدين البهائي في نهاية الأمر كأحد الأنظمة الدينية المستقلّة المعتَرف به عالميًا.’ إن القوانين الخاصة بالأحوال الشخصية في جميع الدول الإسلامية تقريبًا عادةً ما تُطبّقها المحاكم الشرعية، وعندما شكّل أحباء تلك القرية محفلهم الروحاني المحلي، قام عُمدة القرية، محمومًا بتعصّبه الديني، بإلهاب المشاعر ضد ثلاثة رجال متزوجين آمنوا بالبهائية، وقدّم دعوى قضائية طالب فيها بتطليق زوجاتهم منهم كونهن مسلمات أصبحن الآن متزوجات من أشخاص مرتدّين عن الإسلام. أُحيلت القضية إلى محكمة الاستئناف الشرعية بمركز “ببا” التي أصدرت حكمها في العاشر من شهر مايو/ أيار 1925 أدانت فيه المرتدّين بشدّة لانتهاكهم شرائع الإسلام وأحكامه، وقضت بفسخ عقود الزواج. لقد كانت القضية بحدّ ذاتها نقلة لها أهميتها الخاصة، إلا أن ما كان له أهميته القصوى عند ولي الأمر كون ‘الحكم تمادى إلى أبعد من ذلك فصرّح ذلك التصريح الإيجابيّ المثير والتاريخي حقًّا، ألا وهو أنَّ الدين الّذي يعتنقه هؤلاء الملحدون يجب أن يعدَّ دينًا قائمًا بذاته، مستقلاًّ كلّية عن الأديان الّتي سبقته.’ وفي إيجازه لحكم المحكمة أورد شوقي أفندي الكلمات التي جاءت في القرار الذي يحمل في أبعاده أهمية تاريخية كبرى للبهائيين:
‘إن البهائية دين جديد قائم بذاته له عقائد وأصول وأحكام خاصة تغاير وتناقض عقائد وأصول وأحكام الدين الإسلامي تناقُضًا تامًا. فلا يقال للبهائي مسلم ولا العكس، كما لا يقال للبوذي أو البرهمي أو المسيحي مسلم ولا العكس.’
وحتى لو بقي هذا الحكم ظاهرة فردية منعزلة من محكمة محلية في منطقة نائية مغمورة في مصر، لظلَّ سلاحًا لا يُقدّر بثمن بأيدي الأحباء في كل أنحاء العالم الذين كانوا يسعون للتأكيد فقط على تلك الاستقلالية المعلن عنها بكل وضوح في نصّ هذا الحكم. إلا أن الأمور لم تتوقف عند هذا الحدّ، فقد صادقت عليه لاحقًا السلطات الدينية العليا في القاهرة وأيّدته، ثم طُبع ونُشر من قبل المسلمين أنفسهم.
إن ولي أمر الله الذي كان جاهزًا دومًا وأبدًا لاستثمار أبسط الأدوات وأقلها أهمية – من عناصر بشرية إلى قصاصات ورق – فيستخدمها بنجاح كأسلحة في معركته من أجل تحرير الأمر المبارك والاعتراف به، قد أمسك بهذا السيف الحادّ الجديد، الذي وضعه بيده أعداء الدين أنفسهم، ومضى يضرب به حتى الرَمَقٍ الأخير من حياته. وقد صرّح بأن هذا هو الفصل الأول من عملية تحرير أمر الله من أغلال الإسلام. فاستخدم الأحباء في الشرق هذا السلاح بإرشاداته الذكية كرافعة تمكّنهم من الفوز باعترافٍ يقرّ لهم بأن الأمر المبارك ليس بِدْعة داخل الإسلام، وفي الغرب ليؤكدوا على براءته من هذه التهمة. حتى إن شوقي أفندي استشهد بهذا القرار في عرائضه القوية الصريحة التي قدّمها لوزير الشؤون الدينية، ليدعم حجته وإصراره بأن شؤون الجامعة البهائية يجب ألا تتولاّها الدائرة نفسها التي تُعنى بشؤون المسلمين، مشيرًا إلى أن ما كان مُتّبعًا من إجراء قد خلق انطباعًا بأننا فرع من الإسلام. وصرّح بأنه يفضِّل أن توضَع شؤون البهائيين ضمن نطاق سلطة رئاسة إدارة الشؤون المسيحية، فبهذه الطريقة لن يكون هناك أي التباس فيما يتعلق بالوضع المستقل للدين البهائي [عن الإسلام]. ونتيجة لمثل هذه الحجج كان أن خصصت وزارة الشؤون الدينية دائرة خاصة بالبهائيين لها رئاستها الخاصّة.
بهذه الرافعة القوية لحكم محكمة ببا الشرعية كافح المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في مصر، على مدى سنوات عدة، من أجل أن يحصل لجامعته ولو على اعتراف متواضع على الأقل بوضعه الديني المستقل. وتسهيلاً لتحقيق هذا الأمر، قام المحفل الروحاني بنشر مجموعة من الأحكام البهائية الخاصة بالأحوال الشخصية. وبفضل القوة الداعمة لهذه الوثيقة الصادرة، وباستغلال ما يثيره المتعصبون المسلمون من أحداث متكررة ضد البهائيين، فقد نجح المحفل الروحاني في الحصول على قطع أراضٍ وهبتها لهم الحكومة المصرية رسميًا في تلك المدن التي تضم مجموعات كبيرة نسبيًّا من المؤمنين البهائيين لاستعمالها حصريًّا مقابر خاصة بهم.
تُرجم قانون الأحوال الشخصية هذا إلى الفارسية والإنكليزية واستُعمل دليلاً في إدارة شؤون البهائيين في بلدان تفتقر إلى قوانين مدنية تغطي مثل تلك الأمور. ومع أنهم فازوا ببعض التنازلات من السلطات في بلدان إسلامية مثل مصر وإيران وفلسطين والهند نتيجة لذلك، إلا أن الحقيقة التي بقيت شاخصة كانت تقول بأن الوضع القانوني للبهائيين، وخاصة في مصر وإيران، ظلّ غامضًا للغاية، وكثيرًا ما كان الأحباء يجدون أنفسهم بلا حقوق بالكامل في بعض النواحي، يعيشون في حالة من الفراغ القانوني. ويَصدُقُ هذا بشكل خاص على عقود زواجهم وطلاقهم التي كانت تُسجّل في محافلهم الروحانية وتُجرى طبقًا للأحكام البهائية، إلا أنها كانت تعتبر لا وجود لها بنظر حكومة بلادهم. إن حقيقة تقبّل هذه الجامعات الكبيرة من البهائيين لهذه الشدَّة وهذا الجور بكل كبرياء، رافضين أن يَنظُر إليهم أبناءُ وطنهم بشيء من الاستهزاء والإذلال، وماضون حتى هذا اليوم في صراعهم من أجل الاعتراف بمثل هذه الأمور الأساسية، لَيُعتبر أعلى تقدمةٍ ممكنة لروح الإيمان التي ولّدتها تعاليم حضرة بهاء الله في قلوبهم، وشاهدًا على الولاء والإخلاص الذي به نفَّذوا تعليمات ولي أمرهم المحبوب غير آبهين بـ’أي موجة من عدم التأييد الجماهيري ونظرات الارتياب والانتقاد التي قد يثيرها التزامهم القوي بمعاييرهم.’
في تلخيصه لتلك الأحداث، التي لا بد أن تؤدي في النهاية إلى الاعتراف بالأمر المبارك وتحرُّره من قيوده المكبِّلة، كتب شوقي أفندي في كتابه “القرن البديع” هذه الكلمات الخالدة:
‘إن الجامعة البهائية في إخلاصها لالتزاماتها المقدسة تجاه الحكومة وإدراكها لواجباتها المدنية قد أبدت وتبدي، نحو ما أصدرته وتصدره السلطات المدنية من أوامر إدارية في تلك البلاد كما في غيرها من البلدان الأخرى بين الحين والآخر، طاعة تامة… غير أنها تأبى تمامًا أن تُذعِن لتلك الأوامر التي توازي ارتداد أفرادها عن دينهم والتي تتطلب انصرافهم بالولاء عن مبادئهم ومعتقداتهم الروحية الأساسية الإلهية، مفضّلة السجن والطرد وكل ألوان الاضطهاد بما في ذلك الموت كما لقيه من قبل عشرون ألف شهيد ضحّوا بحياتهم في سبيل مؤسّسي الدين – على أن تتَّبع ما تمليه السلطة الزمنية من مطالبتها إياها بالانفضاض عن دينها.’
في إدارته لشؤون الأمر المبارك كان شوقي أفندي يبدي قدْرًا من الحزم والصرامة في الأمور الأساسية وبعض المرونة في غيرها، وهذا ما يجب أن يميّز القائد العظيم الحقيقي على الدوام. فبينما لا مجال للمساومة في الأمور الأساسية، فإن في إدارة شؤون جامعة واسعة الانتشار في العالم يمكن بل ويجب أن يكون هناك اعتراف بحقيقة أن الناس هم في مراحل مختلفة من التطور. ومثال على حكمة وحنكة شوقي أفندي في ذلك نراه في معاملته جامعات مختلفة بطرق متباينة. فلم يكن أبدًا ليسمح لأيّ جامعة – أكانت في أعظم عواصم العالم وأكثرها تقدُّمًا، أم في قرية تضمّ فلاّحين أميين – أن تغضّ الطرف عن تعاليم حضرة بهاء الله الأساسية، مدركًا في الوقت نفسه حقيقة أنه لا يُطلب من طفل في الخامسة من عمره عين ما يُطلب من شاب مراهق، أو أن يُطلب من شاب يافع في الحادية والعشرين من عمره نفس الحكمة والطاعة والخبرة التي نتوقعها من رجل في السبعين من عُمْرٍ أمضاه في مدرسة الحياة. فبسبب هذا الفهم والإدراك للمراحل المختلفة من انعدام الخبرة أو النضج لدى الجامعات البهائية المختلفة، كما قد يكون عليه الحال، تعامل شوقي أفندي مع الجامعة البهائية في إيران – وهي الأقدم والأكثر اكتواءً بنار الامتحانات من أي جامعة أخرى في العالم – بأكبر قدر من الحزم والصرامة متوقعًا من مؤمنيها الممنوحين ذلك الامتياز أن يكونوا قدوة في الوفاء والإخلاص والطاعة لأوامر وأحكام حضرة بهاء الله في كل الظروف. وبسبب هذه السياسة، هو لم يعمل فقط على إعداد الجامعة البهائية في أمريكا الشمالية بكل جهد ومثابرة، وهي التي تُشكّل أقدم جامعة بهائية غربية في العالم، من أجل أن تقوم على تطبيق أحكام – قليلة ولكنها أساسية – أعطاهم إياها في النهاية، بل كابد معهم متحلّيًا بالصبر على مدى سنوات طوال ليثقّفهم ويصل بهم إلى تلك النقطة التي عندها يمكنهم أن يتقبّلوا تلك الأحكام ويطبّقوها. وطبقًا لهذا المفهوم كان يُصدر تعليماته إلى تلك المحافل الروحانية المركزية المنهمكة في تبليغ أمر الله في أقطار كثيرة فُتحت أثناء الجهاد الروحاني العالمي – بلدان ينحدر معظم سكانها من أصول وثنية – بأن يطلبوا من المؤمنين الجدد الإلمام بحدّ أدنى من المعرفة بتعاليم الدين وأحكامه قبل قبولهم ضمن جالية الاسم الأعظم.
ليس هناك من مثالٍ على ذلك التباين في درجات التطوّر الذي يميّز الجامعات البهائية المختلفة في الوقت الحاضر بأفضل مما ورد في رسالة شوقي أفندي الأخيرة التي وجهها إلى أحد المحافل الروحانية الإقليمية الكبرى في إفريقيا. ففي هذه الرسالة المؤرخة في 8 أغسطس/ آب 1957 (أي قبل صعوده من هذا العالم بثلاثة أشهر)، وكُتبت بناءً على تعليمات ولي أمر الله شخصيًا، وضّح سكرتيره لُبَّ أفكاره تجاه هذا الموضوع ذي الأهمية القصوى في هذه المرحلة من التاريخ البهائي:
‘خلال زيارة السيدة _____، ناقشَ معها ولي الأمر المجهودات التبليغية في _____ حيث هناك مِثْل هذا التجاوب مع الرسالة الإلهية، وحيث يبدو أن الناس في المناطق النائية توّاقون لتسجيلهم بهائيين. يرى حضرته أن على أولئك المسؤولين عن قبول المؤمنين الجدد أن يأخذوا بعين الاعتبار أن أوّل وأهم مؤهلات القبول تكمن في اعتراف طالب التسجيل بمقام حضرة بهاء الله ومكانته في هذا اليوم. لا يمكننا أن نتوقع من الأميين من الناس (الذين لا تؤثِّر أميتهم على طاقاتهم وقدراتهم العقلية) أن يكونوا قد درسوا التعاليم المباركة، خاصة، وفي المقام الأول، عندما لا يتوفر بين أيديهم إلا القليل جدًا من المطبوعات البهائية بلغتهم الخاصة، وأن يستوعبوا كل ما فيها بالطريقة التي نتوقعها من شخص إفريقي يعيش مثلاً في لندن. إن الشيء المهم هو روح الشخص نفسه والاعتراف بحضرة بهاء الله ومقامه في هذا اليوم. لذا على الأحباء ألا يكونوا شديدين جدًا، وإلا سيجدون أن موجة الحماس الحبّية الكبيرة، التي حملت الناس في إفريقيا إلى شاطئ أمر الله وقد آمن العديد منهم، قد أصابها الفتور. وبالنظر لحساسيتهم الشديدة، سيشعرون بطريقة غير مباشرة أنه غير مرحّب بهم بين أفراد الجامعة، وهذا ما يعيق تقدم العمل التبليغي.
‘إن الهدف من المحافل الروحانية المركزية الجديدة في إفريقيا، والهدف من كل هيئة إدارية هو نقل الرسالة الإلهية للناس وانضواء الصادقين منهم تحت راية هذا الدين.
‘على محفلكم ألا يفقد هذه الرؤية ولو لحظة واحدة، وأن يمضي بكل إقدام وشجاعة لمضاعفة أعداد المؤمنين في الجامعات تحت نطاق إدارتكم، ثم تثقيفهم بالتدريج بالتعاليم المباركة والأمور الإدارية. ليس هناك من مأساة أعظم من أن يكون تأسيس هذه الهيئات الإدارية العظيمة عاملاً في إعاقة أمر التبليغ وخنق روحه. يجب ألا يغيب عن بالنا أن المؤمنين الأوائل في الشرق والغرب كانوا لا يعرفون إلا النذر اليسير عن دينهم عمليًا إذا ما قورنوا بما يعرفه الفرد البهائي عن دينه في هذا اليوم، ومع ذلك كانوا هم الذين سُفكت دماؤهم في سبيل تمسكهم بعقيدتهم، وهم الذين قاموا وقالوا ‘ربنا إنا سمعنا وأطعنا’، دون أن يطلبوا أيّ حجةٍ أو برهان، ودون أن يكونوا قد اطلعوا على كلمة واحدة من الآيات المُنزّلة في أغلب الأحيان. لذا فإن على المسؤولين عن قبول المؤمنين الجدد أن يتأكدوا من شيء واحد فقط – وهو أن قلب المقبل قد تأثر بروح الدين، وكل شيء بعد ذلك يمكن أن يُبنى على هذا الأساس بالتدريج.
‘يأمل ولي الأمر خلال السنة القادمة أن تزداد باضطراد، أمام المبلِّغين الأفارقة، إمكانية تنقّلهم بين المؤمنين المُسجَّلين حديثًا لتعميق معرفتهم وفهمهم للتعاليم المباركة.’
ولعل أفضل مكان يتمثّل فيه الحكم المتزن الذي كان صفة مميزة لفكر شوقي أفندي ما جاء في تعليماته التالية التي وردت في الرسالة نفسها:
‘وبخصوص استفساراتكم حول الممارسات القَبَلية، فإن ولي الأمر يأمل أن تتحلّوا بالصبر والأناة إلى أبعد الحدود في مسألة قطع البهائيين الجدد أنفُسَهم عن تقاليدهم وعاداتهم القديمة، ويمكن أن يحصل ذلك فقط بمعالجة كل حالة على انفراد عندما تبرز، وبمنتهى الحكمة واللطافة، متجنِّبين فرضًا صارمًا لتنفيذ كل الأحكام البهائية بتفاصيلها الدقيقة في هذا الوقت.
‘من الواضح طبعًا أن الرجل البهائي، إذا ما كان متزوجًا من امرأة واحدة، لا يستطيع الزواج من أخرى مهما كانت تقاليد القبيلة. على محفلكم الروحاني أن يميّز بين نقطة أساسية كهذه والجوانب الأخرى من الحياة القبلية التي من الممكن أنها لا تزال موغلةً في حياة البهائي الجديد، ولا يستطيع أن يخلع نفسه منها إلا عندما يصبح العنصر البهائي في جامعته ذا قوّة كافية مؤثرة بحد ذاته.
‘إن ولي أمر الله يبادلكم شعورَ محفلكم في أن البدء بفرض عقوبة شديدة بحرمان الأحباء من حقوقهم الانتخابية لا يتفق أبدًا والحكمة في الوقت الحاضر، فالسياسة الأفضل في هذا السياق هي في التوعية والتثقيف الحبّي.’
إن ما جعلَنا شوقي أفندي ندركه أن الشجرة العظيمة للنظم العالمي لحضرة بهاء الله كانت في بدء غرسها بذرة صغيرة – هي الإيمان بحضرة بهاء الله. ولسوف تنمو بالتدريج كأي كائن حي لتصبح أكبر فأكبر حجمًا وتغدو أعظم وأكثر نضجًا. اعتبر شوقي أفندي أن مهمته الرئيسة، بمقتضى تعليمات حضرة عبد البهاء في ألواح وصاياه، هي نشر دين الله في أنحاء المعمورة بأسرها وانضواء شعوب العالم كلها تحت لوائه. لقد أدرك حضرته أن من الواجب أولاً توفير المواد الخام التي منها يمكن تشكيل مجتمع المستقبل لذلك العالم. ومع أن هناك أمورًا كثيرة يتطلّبها تشكيل ذلك المجتمع المستقبلي، وهي متطلبات أساسية مسلّم بها كشرط لخَلْقِه وإبرازه للوجود، فإن الحقيقة الأعظم والأهم تبقى في أنّ جموع البشر لا بدّ وأن تستظلّ أولاً في ظلّ دين حضرة بهاء الله قبل أن يتجلّى نظامه العالمي بكامل مجده وبهائه.
في أمريكا الشمالية حيث مهدُ النظام الإداري لأمر الله، أمضى ولي الأمر ست عشرة سنة في وضع أساس متين وخلق نموذج يُحتَذى لجميع المؤسسات الإدارية البهائية. ففي مصطلحات عصرنا الحديث فإن ما قام ببنائه أشبه بمنصّة إطلاقٍ استطاع أن يطلق منها مشاريعه – خطط التبليغ العظيمة التي أخذت القسط الموفور من وقته خلال العِقديْن الأخيريْن من حياته. وما جعله شوقي أفندي غاية في الوضوح أن ‘النظام الإداري للأمر المبارك يجب أن يُنظر إليه على أنه وسيلة وليس بديلاً عن دين حضرة بهاء الله، ويجب أن يُعتبر قناة يمكن أن تنساب من خلالها فيوضات بركاته الموعودة، وأن نحذر من ذلك التصلّب الذي يمكن له أن يعوق ويقيّد انطلاق القوى المنبعثة من الظهور الإلهي لحضرته…’ وذهب إلى القول: ‘من المؤكّد أن على تلك النفوس التي ائتُمِنَتْ على هذا الإرث النفيس أن يحترسوا بكل ورع وخشوع خشية أن تحلّ هذه الأداة محل الدين نفسه، وخشية أنّ يؤدي اهتمامهم غير الضروري بالتفاصيل الدقيقة التي تبرز من النظام الإداري للأمر، إلى حجب رؤية مروّجيه، وخشية أن تحجب غيوم التحيّز والطموح والنزوع إلى الحياة الدنيوية إشراقة دين حضرة بهاء الله وتعكّر صفاءه وتُضعف تأثيره مع مرور الوقت.’ بعد أربع سنوات على بدء مراسلاته مع الأحباء في الشرق والغرب في يناير/ كانون الثاني 1922، أخذ شوقي أفندي يشدّد على هذه النقطة التي رأى خطورتها واضحة جلية منذ بداية ولايته وحتى منتهاها. ففي كانون الثاني/ يناير 1926 كتب للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتحدة وكندا يقول: ‘لمّا كانت الأعمال الإدارية للأمر المبارك في اتساع مطّرد، وفروعه تتعاظم أهمية وتزداد عددًا، فقد أصبحت الحاجة ملحّة أن نضع في الأذهان حقيقة أساسية وهي أن كل هذه الأعمال الإدارية، مهما كانت تدار بتناغم وفعّالية، فإنها ليست سوى وسائل لتحقيق غاية، ويجب أن يُنظر إليها على أنها أدوات مباشرة لنشر الدين البهائي. فلنحذر من أن نجعل تركيز اهتمامنا الكبير على كمال هذه الآلة الإدارية لأمر الله يُفقدنا رؤية الهدف الإلهي الذي من أجله وُجدت.’
عندما انتُخِبت المحافل الروحانية الإقليمية في أوروبا لأول مرة عام 1957 كهيئات وسيطة لإدارة شؤون الأمر في بعض البلدان العشرة المستهدَفة في خطة السنوات السبع الثانية بانتظار تشكيل المحافل الروحانية المركزية المستقلة فيما بعد، كتب شوقي أفندي لكلٍ من هذه الهيئات المنتَخَبة حديثًا رسالة شدّد فيها ثانية – كما كان دأْبُه مرارًا مع جميع المحافل الروحانية المركزية على مدى سنوات – على كون الإدارة البهائية وسيلة لا غاية بحدّ ذاتها. كتب سكرتيره بالنيابة عنه إلى أحد تلك المحافل الروحانية المركزية قائلاً: ‘إن الهدف الكلّي للمؤسسات الإدارية البهائية في هذا الوقت تبليغ أمر الله، وزيادة عدد المؤمنين، ورفع عدد المحافل الروحانية والمراكز الأمرية.’ وإلى محفلٍ آخر كتب قائلاً: ‘إن الهدف الأساس للإدارة البهائية في الوقت الحاضر تبليغ أمر الله. فإدارته هدفها فقط تنسيق نشاطاته والحرص على سلامته. على الأحباء أن يضعوا هذه النقطة نصب أعينهم بكل وضوح. كما أن حضرته يشعر أن من واجبه أن يشير إلى محفلكم الذي باشر لتوّه مهامّه التاريخية، ما سبق ووجّه إليه أنظار الهيئات المركزية القديمة صاحبة التجربة والخبرة وكرَّره عدة مرات، بأن عليكم أن تتجنبوا، بكل حزمٍ وقوة، وَضْعَ أنظمة وقوانين من شأنها أن تعقّد سلاسة سير أعمال الأمر المبارك في منطقتكم، وتعيق الأحباء وتُربكهم بلا طائل. فباستثناء الأمور الأساسية والضرورية، كما ورد ذكرها في التعاليم، والمتاحة بكل وضوح، فإن على الهيئات المركزية أن تبذل قصارى جهدها في تشجيع الأحباء على التبليغ الفردي، والخدمة بكل نشاط وهمّة، وفتح مراكز جديدة، وتحويل المراكز القائمة إلى محافل روحانية…’
بعد أن وُضعت خطة السنوات السبع الأولى وبُدئ تنفيذُها، أعلم ولي أمر الله – الذي كان واضحًا على الدوام في ذهنه ما هو قائم على فعله، وكيف يجب فعله – أعلم البهائيين في أمريكا الشمالية عام 1939، الموكل إليهم تنفيذ الخطة، بأنهم كانوا ‘يعزّزون نموّ واستحكام حركة الهجرة تلك التي لأجلها وُضعت وصُممت في المقام الأول آليّة نظامهم الإداري بكاملها.’
وكما الأمر تمامًا في هذا الكون، حيث الكثير من المجرات في مراحل متفاوتة من التطور، فإن في عالم أمر الله كانت هناك أجزاء مختلفة من العالم البهائي في مراحل متباينة من التطور. فالجامعات البهائية في الشرق الأوسط قطعت شوطًا أكبر بكثير في تطبيق الأحكام والأوامر البهائية بين أفراد المؤمنين في حياتهم، إلا أنهم لم يتمتّعوا بالحرية أو كان معترفًا بهم. بينما الجامعات البهائية في الغرب؛ في الأمريكتين وأوروبا وأستراليشيا، كانت تتمتع بكامل الحرية. إلا أنه بسبب ماضيها الثقافي، وحقيقة أن قوانين الأحوال الشخصية في تلك البلدان تطبّقها المحاكم المدنية وليس الشرعية، فإن تلك الجامعات قد تخلّفت كثيرًا عن التي في الشرق في تطبيق العديد من أحكام دينهم ومراعاة أوامره. أما البهائيون الجدد في العديد من بلدان العالم الأكثر تخلُّفًا، فقد كانوا أحرارًا، بمعنى أنهم لم يكونوا، كإخوانهم في الشرق، ضحايا الحكومات المتعصِّبة التي كان دين الدولة فيها الإسلام، ومع ذلك لم يكونوا دومًا قادرين على تطبيق الأحكام البهائية بسبب مجتمعاتهم القبلية التي يعيش فيها أكثرهم، ناهيك عما واجهوه من عقبات، ولو مؤقتًا، بسبب واقع أن الخلفيات التاريخية التي جاءوا منها تختلف تمامًا في كثير من جوانبها عن خلفيات الشعوب اليهودية والمسيحية والإسلامية التي جاء الدين البهائي نفسه من خلفيتها المشتركة. بسبب هذه العوامل، كان شوقي أفندي يعمل وكأنه قائد فرقة موسيقية عظيمة. فقد تأكّد أن كل جامعة بهائية في العالم البهائي تعزف لحنها الخاص بها ضمن كامل لحن السمفونية. ولو أن المقاطع مختلفة، إلا أن كل مجموعة كانت تعزف النوتة التي خُصِّصت لها. وما لم ندرك هذه الصورة لِما هو عليه عالمنا البهائي في مرحلته الحالية من تطوره، لن يكون بمقدورنا أبدًا أن نفهم وبشكل سليم ما أبدعه شوقي أفندي وأنجزه بالفعل في سنوات ولايته، وكم كانت انجازاته مُبهِرة مذهلة.
إن هذه الأمثلة المختلفة تشير إلى أنه على الرغم من أن الجنس البشري واحد، ودين الله واحد، وعلى الرغم من أن نظامه الإداري واحد، ونظامه العالمي سيكون واحدًا، إلا أن تطبيق الحدود الإلهية والأحكام والإجراءات الإدارية لدين الله يجب أن يتقدم بالضرورة بسرعات متفاوتة في أماكن مختلفة. لقد استغرق البهائيون وقتًا طويلاً، في الشرق والغرب، حتى وصلوا إلى مرحلةٍ بلغوا فيها درجة كافية من النضج، واكتسبوا فهمًا كافيًا لنظامهم الإداري بحيث تمكّن شوقي أفندي من أن يضع العقوبات موضع التنفيذ – على سبيل المثال. فقد أمضى السنين الطوال وهو يبني ويشيد، فوق الأسس التي أرسى قواعدها المولى المحبوب، نظامًا مُحْكمًا يميّز بشكل واضح بين البهائي وغير البهائي – بإيمانه، وامتيازاته وبمسؤولياته – وذلك قبل أن يتمكّن من اتخاذ خطوة يتدبّر بها طريقةً تضمن له أنّ المؤمنين داخل مجتمعاتهم البهائية قد بذلوا جهدًا كافيًا في اتّباع التعاليم البهائية، وأنهم إذا ما جانبوا اتّباعها بشكل فاضح، فهناك وسيلة ردع – العقوبة – متوفرة لضمان عدم تعريض سمعة الأمر المبارك الطيّبة وطابَعه المستقل للخطر، ووسيلة لحماية سمعة الجامعة نفسها أيضًا. هذه العقوبة تتمثل في حرمان الفرد المخالف من حقوقه الإدارية، ما يعني أنه (أو أنها) لا يستطيع أن يشترك في الانتخابات البهائية، ولا يُنتَخب عضوًا في المحفل الروحاني أو يُعيَّن في اللجان المساعدة، ولا يُعقد له القران البهائي أو يُطَلَّق، ولا يُسمح له بحضور الاجتماعات التي يلتقي فيها البهائيون كجالية. من المثير جدًا للاهتمام أن نشير إلى أن شوقي أفندي عندما فتح الباب أمام استعمال هذا الرادع – الذي يعدّ أقسى عقوبة إدارية يملكها البهائيون، ويجب هنا عدم الخلط أبدًا، ولو لحظة واحدة، بينها وبين عقوبة نقض العهد والميثاق وما يلازمها من قطع الاتصال بالناقض بالكلية، أي العزل التام عن الجامعة البهائية لأنه بمثابة مرض روحاني مُعْدٍ – قد وضّح تمامًا للمحافل الروحانية المركزية أن هذه العقوبة يجب ألا يُلجأ إليها إلا كإجراء أخير، وأن تُطبّق فقط (في الغرب) بموافقة المحفل الروحاني المركزي نفسه، وألا تُنفّذ إلا في الحالات القصوى. في الشرق، حيث الكثير من أحكام الأحوال الشخصية تتولى تنفيذها المحافل الروحانية، فقد تضمّنت تلك الحالات عددًا من الأحكام الواردة في “الكتاب الأقدس”؛ أما في الغرب، حيث الوضع مختلف، فقد تضمّنت الامتثال لتلك الأحكام التي اعتبر ولي الأمر أن الوقت قد حان للبهائيين هناك أن يطبّقوها من قبيل: الحصول على موافقة الوالدين في حالة الزواج، وضرورة إجراء العقد البهائي، واتّباع أحكام الطلاق البهائية. لقد فُرضت هذه العقوبة أيضًا في الحالات التي انخرط فيها البهائيون في النشاطات والشؤون السياسية متجاهلين تعاليم دينهم بالكلّيّة، أو في حالات وصفها ولي الأمر بكل دقة ‘اللاأخلاقية الفاضحة’ التي جلبت العار على الجامعة بأسرها، أو في حالات أخرى يتم فيها خرق خطير لما أسماه ولي الأمر لتلك ‘المبادئ الموجِّهة والمنظِّمة للعقيدة البهائية’ التي ‘يشعر الموالون للأمر المبارك… بضرورة الالتزام بها وتطبيقها بكل حرص بينما نظامهم الإداري يتّسع ويكتسب قوة ومِنْعة.’ لقد وضّح شوقي أفندي أن الحرمان من حق التصويت في الانتخابات يجب ألا يكون أمرًا يُلجأ إليه بكل يُسر وبساطة، بل يجب تجنُّبه قدر الإمكان حمايةً للأفراد من قصاصٍ متسرّع من جانب هيئات غاضبة من جهة، وحتى يدرك الأحباء في الوقت نفسه أن كونهم بهائيين قد منحهم امتيازات ورتّب عليهم مسؤوليات، وأنهم بفقدانهم حقوقَهم في الجامعة إنما يفرّطون بشيء عظيم جدًا وثمينٍ للغاية من جهة أخرى.
إن إجراءً أساسيًا كهذا كان إجراءً طالب شوقي أفندي البهائيين في جميع أنحاء العالم بتطبيقه، بغضّ النظر عن طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه، وكان جزءًا من التطبيق التدريجي للأحكام والمبادئ التي أمر بها حضرة بهاء الله، والتي، كما وصفها ولي الأمر، ‘شكّلت اللُّحمة والسَّداة للمؤسسات التي يجب أن يستقر عليها النظام العالمي لحضرة بهاء الله في النهاية.’
إن إدارة شؤون الأمر المبارك من المركز العالمي على هذا النحو، والذي أوجب الحزم وجعله عموميًا في الأمور الأساسية، وسمح بل وشجع على المرونة في الأمور الثانوية، لأَمْرٌ آسِرٌ جدير بالملاحظة والتأمل. فولاية شوقي أفندي كانت بمثابة تحطيم مستمر للقيود المختلفة التي تربط البهائيين بالماضي وبالمجتمعات التي كانوا يعيشون فيها، إلى جانب تعميق معرفتهم بالأمر المبارك ومؤسساته الإدارية. وهو في ذلك كالطبيب الحاذق، قدّم قواعد الصحة العامة للجميع ووصف علاجًا محددًا في حالات خاصّة. فالأمثلة على ذلك لا تُحصى، والقليل منها فقط يمكن ذكره هنا.
كتب شوقي أفندي للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الهند وبورما عام 1923 أن النساء البهائيات يجب أن يكنّ على قدم المساواة مع الرجال البهائيين في جميع التشكيلات والفعاليات الإدارية – النساء في ذلك الجزء من العالم كُنَّ يتمتَّعن بحرية أكبر مما هنّ عليه في الغرب. ولكن في بعض بلدان الشرق الأوسط مثل إيران ومصر والعراق، حيث المرأة مكبوتة كليًا في الحياة المدنية، ما كان لولي الأمر أن يرغب في إثارة مشاعر السكان المسلمين باتخاذ إجراء كهذا يمكن أن يعدّ استفزازًا كبيرًا، ولذلك لم يَسْمَح للمرأة البهائية أن تأخذ دورها في التشكيلات الإدارية هناك إلا بعد مرور ربع قرن. وبالرغم من عبارات الإطراء والتقدير، التي كثيرًا ما وجَّهها شوقي أفندي للنساء البهائيات، إلى جانب شهادة حضرة عبد البهاء بأن ‘النساء أثبتْنَ جرأة تفوق الرجال عندما انضممن إلى صفوف أتباع الأمر المبارك’، ورغم أن المبدأ الأساس الذي تُنادي به التعاليم البهائية يقول بأن النساء متساوون مع الرجال، فإن تطبيقه في آلية النظام الإداري قد اعتبره شوقي أفندي أمرًا ثانويًا تمامًا وغير هامٍّ نسبيًا مقارنة بالحاجة الأعظم إلى تقدّم المصالح العامة للأمر المبارك في البلدان الإسلامية وحماية وجوده.
ومثال آخر رائع على أسلوب ولي الأمر في تعديل تعليماته الواضحة التي وجّهها إلى محافل روحانية مركزية مختلفة تدير خططًا تحت قيادته تبعًا للظروف المتغيّرة، نراه في تلك المتعلقة بامتلاك أوقاف بهائية محلية وتأسيس مَقَرّات إدارية محلية خلال مشروع الجهاد الروحاني العالمي: فلما كانت أهداف خطة السنوات العشر تتضمن امتلاك حظائر قدس مركزية وأوقاف مركزية، فقد أصدر تعليماته للمحافل الروحانية بأنه لا داعي لأي استنزاف إضافي لموارد الأمر المبارك المالية، المحدودة جدًا والمثقلة أصلاً بأعباء الصرف على مثل هذا البرنامج بعبئه الثقيل، من خلال الإنفاق على المستوى المحلّي. فلو أن شوقي أفندي لم يُجْرِ هذا التعديل، ما كان لهذه الأهداف الرئيسة الكبرى أن تتحقَّق على الإطلاق. إلا أنه بحلول صيف عام 1957 كتب سكرتيره في رسالته إلى أحد المحافل الروحانية الإقليمية في إفريقيا قائلاً: ‘حيث إن العمل في أنحاء العالم البهائي نراه الآن متقدِّمًا بشكل ملحوظ، وقد تمّ شراء حظائر القدس والأوقاف المركزية تحقيقًا لكل المقاصد والأهداف، يشعر حضرته بأن الأحباء يجب أن يُتركوا أحرارًا في إضافة حظائر قدس وأوقاف أخرى أينما رغبوا.’
إنه بفضل سياسات كهذه نجح ولي الأمر، قبل صعوده بمدة طويلة، في تشييد النظام الإداري للدين في جميع أنحاء العالم وَجَعَلَ منه نظامًا عالميًا يعمل بكل سلاسة ويُسر. لم يكن ليُوَفَّقَ أبدًا في تحقيق هذا خلال حياته لو لم يكن لديه ذلك الإحساس المُميَّز بالتناسق والتناسب. لقد عرف على الدوام متى يتراجع أمام ضغوط الأحداث دون الإضرار بالدين، ومتى عليه أن يُصرّ على اتّباع مبدأ معيّن بكل دقة مهما كلّفه الأمر، لأن تَرْكَه يُعرّض مسألةً أساسية للخطر. دعونا نأخذ أمريْن على طرفيْ نقيض شملتهما تعليماته التي صدرت بشأنهما في مناسبات مختلفة ويتعلقان بموضوع واحد – مؤتمرات الوكلاء المركزية. فعندما قدّم المحفل الروحاني المركزي في أمريكا عام 1932 اقتراحًا بإلغاء عقد مؤتمر الوكلاء المركزي في ذلك العام بسبب الحاجة الملحة إلى الاقتصاد في النفقات، والاستعاضة عنه بإجراء الانتخابات بالبريد، أبرق ولي الأمر قائلاً: ‘إن الفوائد الروحانية التي تُثمر عنها مداولات الوكلاء المجتمعين في المؤتمر تسمو فوق كل اعتبار مالي. أحثّكم على إلغاء النفقات غير الضرورية.’ وفي مناسبة أخرى، عندما أعلن افتتاح خطة السنوات السبع الأولى الخاصة بأحباء أمريكا الشمالية في برقية موجّهة إلى مؤتمر الوكلاء المركزي عام 1937 وقت انعقاده، ناشد الوكلاء تمديد فترته حتى يجدوا الوقت الذي يمكّنهم من دراسة تفاصيل هذه الخطة التي كانوا بصدد وضعها وإطلاقها. إلا أنه، عندما أصدر تعليماته إلى الأحباء في أستراليا ونيوزيلندا لتشكيل هيئتهم المركزية المشتركة عام 1934، لا بدّ كان يعي تمامًا حقيقة أن مصاريف السفر ستكون باهظة تمامًا كون البلديْن تفصلهما مسافة شاسعة مما قد يشكل صعوبة أمام المحفل الروحاني المركزي في عقد جلساته. فمن الواضح أن ولي الأمر قد أخذ بكفّة الميزات والفوائد الراجحة؛ فقد عقد الأحباء الأستراليون والنيوزيلنديون مؤتمرهم المركزي المشترك في عام 1934، وآخر في عام 1937، وآخر في عام 1944 – أي ثلاث مؤتمرات في عشر سنوات؛ وغالبًا ما كان المحفل الروحاني المركزي يدير أعماله بالمراسلات، كما كان له نصاب قانوني يعمل في أستراليا في الحالات الطارئة. هذا المثال المختلف تمامًا عن نصيحته للأحباء الأمريكيين، يُظهر كيف أن شوقي أفندي بحِكمته وحنكته كان قادرًا على تسريع عجلة تقدم الأمر المبارك بهذه الخطى السريعة، دون أن يسمح أبدًا لاعتبارات ثانوية بسيطة أن تُعيقه أو تُحبط هدفه. كان من الأهمية بمكان تشكيل المحافل الروحانية المركزية – حالما تُرسَى قواعد مقبولة لانتخابها؛ كان من المرغوب فيه أن تُعقد مؤتمرات الوكلاء المركزية في كل عام، ومن المرغوب أيضًا أن يحضرها أكبر عدد ممكن من الوكلاء للمشاركة فيها، وأن تتعدد جلسات المحفل الروحاني قدر الإمكان للتشاور، إلا أن ذلك كله لا يعتبر أساسيًا؛ إذ يمكن تحقيق الهدف بوسائل أخرى عند الضرورة.
ومثال آخر نموذجي لذلك التوازن الرائع الذي عبّر عنه شوقي أفندي في كل رُؤاه هو ما انعكس في وُجهة نظره تجاه موضوع الصناديق الأمرية. فهناك أحكام أنزلها حضرة بهاء الله نصّت على دعم الأمر المبارك ماديًا، كما جاء على ذكرها أيضًا حضرة عبد البهاء في مناسبات عدة، إلا أن شوقي أفندي لم يبدأ إلا في عام 1923 بإرساء قواعد دعم مالي منهجي للعمل. ففي 12 مارس/ آذار من ذلك العام كتب رسالة عامة موجهة إلى ‘أحباء الله وإماء الرحمن في أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وسويسرا وإيطاليا واليابان وأستراليشيا’ قال فيها: ‘لما كان تقدّم النشاطات الروحانية وتوسعها معتمدًا ومنوطًا بالوسائل المادية، فإنه من الضرورة القصوى أن يتمّ تأسيس صناديق مالية بهائية فور تشكيل المحافل الروحانية المحلية والمركزية… إنه الواجب المقدس لكل خادم ذي ضمير حيٍّ ومخلص لحضرة بهاء الله، يتوق أن يرى أمر الله يتقدم، أن يتبرع بكل سخاء بمحض إرادته لرفد الصندوق بالمال.’ وفي السادس من مايو/ أيار كتب للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا مؤكِدًا على أهمية هذا الموضوع وموضحًا أنه من أجل تعزيز الحملة التبليغية الحيوية الضرورية الجاري تنفيذها، وإدارة الشؤون المتعددة التي تقع على عاتق المحفل الروحاني المركزي بكفاءة وبشكل سليم، أصبح ‘حاجةً ملحّةً تأسيسُ ذلك الصندوق المركزي الذي سيمكّنكم قريبًا من تحقيق أهداف خططكم بكل سرعة وحيوية إذا ما وجد دعمًا سخيًا من أفراد الأحباء والمحافل الروحانية المحلية.’ وفي رسالة أخرى له في أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه عبّر عن عظيم اهتمامه بالعمل، الذي كان على المؤمنين القيام به بشكل عاجل بعد صعود المولى، في ما تعكسه الكلمات التالية: ‘الأمر الإلهي الذي هو اليوم في أشد الحاجة إلى المساعدة والدعم المادي.’
فمن جهة كان واضحًا أن نظام حضرة بهاء الله الشافي للبشرية لا يمكن أن يُؤسَّس في أي ظرف كان دون تمويل وفير لسدّ النفقات، ومن جهة أخرى شعر شوقي أفندي أن عليه أن يُلفت أنظار البهائيين إلى مبدأيْن ما لم يُفْهَمَا بالشكل السليم ويُوَضَّحا تمامًا سيؤثّران سلبًا على تدفُّق التبرعات الضرورية والمُلحّة إلى مختلف الصناديق الأمرية؛ فالأول هو أن البهائيين طالما أنهم فازوا بألطاف عرفان حضرة بهاء الله والإيمان به في هذا اليوم الجديد العظيم، وأصبحوا بذلك من أهل البهاء الذين فازوا بامتياز تأسيس ملكوت الله على الأرض، فإنهم هم وحدهم الذين سيردّون، وعن طيب خاطر، منافع هذا الفضل على أقرانهم في الإنسانية. فليس من المستصوب حقًا أن تطلب من الناس أن يدفعوا أولاً ثمن شيء ما – وهو في هذه الحالة جميع مؤسسات الدين البهائي المتعددة – ثم تمنحهم إياه كهدية! لقد جعل شوقي أفندي هذا الأمر في غاية الوضوح في باكورة ولايته عام 1929 بقوله: ‘أرى أن علينا أن نعتبره مبدءًا بديهيًا وهاديًا في الإدارة البهائية أنه عند عقد كلّ نشاط بهائي مُحدَّد… فإن أولئك الذين نسبوا أنفسهم إلى هذا الدين واعتُبروا من مؤيديه المُعلنين ومؤازريه غير المتحفظين، هم فقط الذين يُدعوْن للمشاركة والتعاون. ذلك أنه بصرف النظر عن أي اعتبار للتعقيدات المحرجة التي قد يولّدها اشتراك غير البهائيين في دعم مالي لمؤسسات ذات طابع بهائي بحت… يجب ألا يغيب عن البال أن هذه المؤسسات البهائية المحدّدة، التي يجب أن يُنظَر إليها على أنها عطايا حضرة بهاء الله التي أنعم بها على الجنس البشري، يمكنها أن تؤدي وظيفتها على أفضل وجه وبنفوذ روحاني كبير في شؤون العالم فقط إذا ما دعمها وصانها وحدهم أولئك الذين هم واعون ومُذعنون دون تحفّظ لصُلب ما تدعو إليه تعاليم حضرة بهاء الله.’ كان هذا هو المبدأ الروحاني العظيم الذي تضمنته الرسالة. فالإجراء العملي الملموس الذي قد يؤدي إلى ‘تعقيدات محرجة’ هو أنه إذا ما قبلتم تبرعات مالية من غير البهائي لدعم المدارس البهائية، والمعابد الدينية، ومؤسسات بهائية أخرى بما فيها النشاطات المختلفة التي تتبناها المحافل الروحانية، فإنكم بذلك تغامرون بأن هؤلاء، الذين هم من أصحاب النوايا الحسنة، حكومات كانوا أم أفرادًا، جمعيّات أم محسنين، سوف يرون أن لهم حقًا في تتبُّع مصائر أموالهم، ويكون بالتالي لهم رأي في إدارة الشؤون البهائية البحتة. ولما كان هذا أمرًا مستحيلاً، فإن ولي الأمر قد صرّح بأن البهائيين يمكنهم قبول تبرعات من غير البهائيين فقط إذا كانت لأغراض إنسانية بحتة، كالهبات والصدقات التي تصرف على مستحقيها من المُعْوِزين من جميع الطوائف والملل وليس البهائيين فقط.
والمبدأ الثاني الذي أسماه شوقي أفندي ‘المبدأ الأساس’ في رسالة له للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا عام 1926، هو أن ‘جميع التبرعات للصناديق الأمرية يجب أن تكون طوعية بحتة في خاصّيتها، ويجب أن يكون واضحًا جليًا لكل فرد أن أي شكل من أشكال الضغط أو الإجبار مهما كان ضئيلاً وغير مباشر، فإنه يضرب أصل جذور المبدأ الذي يقوم عليه الصندوق منذ بداية تأسيسه.’ كان هذا التوجيه هو الشيء المنطقي الملازم لموقف الدين البهائي بأن رسالة الله للبشرية في هذا اليوم إنما هي عطيته المجانية لأهل العالم، وأن جميع أفراد العالم الإنساني مدعوون من قِبَله للدخول إلى حظيرته السماوية، وهم في فعلهم هذا لا يتطلّبهم المال بل الإيمان. فبخلاف العديد من الكنائس، ليس هناك من رسوم للدخول، ولا استحقاقات إجباريّ دفعُها، ولا مقاعد في المعبد تُشترى، ولا تبرعات قسرية. فالفقير يجد فيه ملجأً، والغني يلقى ترحيبًا، وبالشروط ذاتها.
وبصرف النظر عن هذين المبدأين؛ ماذا كان واجب البهائيين تجاه الصندوق المالي؟ فمن أجل دعمه وُجد ذلك الواجب المؤكّد والصريح [مبدأ ‘رفْد الصناديق’]، كما وضّحه تمامًا شوقي أفندي وجاء في رسالته للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا عام 1935 بقوله: ‘إن توفير تدفق الأموال لدعم الصندوق المركزي يشكّل في الوقت الحاضر دم الحياة لتلك المؤسسات حديثة الولادة التي تسعون جاهدين إلى تشييدها، ومهما قلنا بحقها لن نكون مغالين في تقديرنا لأهميتها.’ وقال في الرسالة نفسها إن الصندوق المركزي هو ‘الأساس المتين الذي يجب أن تستقرّ عليه جميع المؤسسات الأخرى بالضرورة’، وقال ‘يجب أن تُدعم تلك الصناديق باطّراد من قبل جميع المؤمنين، بصفتهم الفردية وبمجهوداتهم الجماعية، مراكز أمرية كانوا أم محافل روحانية محلية.’ بالتوجيه والقدوة ثقّف ولي الأمر البهائيين وعلّمهم على مدار ثلث قرن ونيّف من الزمن، ضمن إطار من الفهم السليم، ماذا يعني أن يكون لهم صندوق بهائي يقومون على دعمه والإنفاق منه. إنه من أكثر المواضيع إبهارًا وروعة؛ فكما أن القلب يضخُّ الدمَ خلال الشرايين والشعيرات الدموية مانحًا الحياة لكل خلية في الجسم، كذلك فإن الصندوق العالمي والمركزي والمحلي يُغدق على جامعة المؤمنين تلك المنافع التي جعلتْ تبرعاتُهم منها أمرًا ممكنًا. فالمؤسسات البهائية العالمية ترقى بشهرة جامعة عالمية وتُشكّل قلبها النابض؛ والمؤسسات المركزية والمعابد البهائية والمدارس الصيفية والأوقاف الأمرية والمعاهد التبليغية والمطبوعات البهائية والنشرات الإخبارية كلها تؤدي الدور نفسه على نطاقٍ مركزي؛ والصناديق المحلية تمكّن المؤمنين من توفير مَقرّاتٍ لاجتماعاتهم ومن القيام بنشاطاتهم التبليغية والعمل بشكل عام على تقدم مصالح الدين في المدن والقرى والقصبات [قرى صغيرة].
لقد وضّح شوقي أفندي أن أحد الواجبات والامتيازات، في كون المرء من أتباع حضرة بهاء الله، إنما هو دعمه لما يقوم به حضرته [بهاء الله] من عمل في هذا العالم، كما بيّن بوضوح أن المبدأ الذي يحكم العطاء نفسه أهم من مقدار المبلغ المقدّم. إن قرشًا واحدًا من فقير، والذي قد يعني تضحية حقيقية بالنسبة له ولعائلته، يعادل في نفاسته ويحظى بالاحترام والحاجة إليه كما لمئات أو ألوف الدنانير التي يمكن لبهائي موسرٍ أن يقدمها. أكّد شوقي أفندي مرارًا وتكرارًا على أمرين: الشمولية في العطاء، أي مشاركة الجميع رمزًا لعشقنا المشترك لديننا ولتكافلنا فيه، ثم درجة التضحية في العطاء. عندما كان “أم المعابد” العظيم في الغرب في حاجة ماسّة إلى التبرعات لارتفاع بنيانه، كتب ولي الأمر يقول: ‘لا يمكن إنكار أن فيوضات القوى الروحانية والإلهامات المقدّر لها أن تنبعث من قلب صرح مشرق الأذكار ستتوقف إلى حد كبير على عدد وتنوّع المؤمنين المتبرّعين، وعلى طبيعة ودرجة نكران الذات في تقدماتهم الطوعية أيضًا.’ من الصعب على الغنيِّ أن يضحّي لأنه يملك الكثير، ولكن من السهل على الفقير أن يضحي لأنه يملك النذر اليسير. فالمال المقدّم للأمر المبارك بروح التضحية إنما يحمل لصاحبه بركات خاصة.
يمر بخاطري مثال على هذا العطاء من فقير خاضع في ملكوت الله أشار إليه شوقي أفندي في كتابه “القرن البديع” بقوله: ‘… منظر حضرة عبد البهاء المؤثِّر حين تلقَّى من يدَيْ أحد مؤمني إيران، كان قد قدِم مؤخرًا إلى لندن من عشق آباد، منديلاً قطنيًا يحتوي على كِسرة من الخبز الأسود وتفاحة ذابلة – هدية من عامل بهائي فقير في تلك المدينة – فتح حضرته المنديل أمام ضيوفه المجتمعين، تاركًا طعامه دون أن يمسّه، وكسر لقيمات من هذا الخبز وأكل منه كما أكل معه الحاضرون.’ فمشرق الأذكار الأول الذي شُيد في روسيا، وأم معابد الغرب في أمريكا، ومشارق الأذكار الثلاثة العظيمة الأخرى في أوروبا وإفريقيا وأستراليا قد بُنيت جميعها بفضل تدفق تبرعات الأحباء في كافة أنحاء العالم، والكثير منها يمثّل تضحية حقيقية من جانب البهائيين رجالاً ونساءً وحتى الأطفال منهم.
في باكورة تعليماته فيما يتعلق بالحاجة إلى تأسيس صندوق مركزي وإنشاء صناديق محلية، وضّح شوقي أفندي بكل جلاء مبدءًا أساسيًا آخرَ خاصًا بالعطاء في برقية له عام 1923 حيث قال: ‘لأفراد الأحباء مطلق الحرية في تحديد الجهة المستفيدة من تبرعاتهم، إلا أنه من المحبّذ بشكل عام أن توجّه التبرعات، الطوعية والمستمرة، من قبل الأفراد والمحافل الروحانية المحلية، نحو الصندوق المركزي ليترك للمحفل الروحاني المركزي حرّية تقسيمها وتوزيعها بحكمته.’ فكعادته وضع ولي الأمر كلّ شيء في مكانه الصحيح بكل بساطة واختصار. فالصناديق الخاصة بالمحافل الروحانية – مركزية كانت أم محلية – يلزم أن يكون دعمها حُرًّا دافقًا بانتظام، أما مبدأ حرية الأفراد الوارد في صُلب الدين، فقد أشير إليه بالمثل.
لقد بادر شوقي أفندي شخصيًا مرارًا وتكرارًا إلى دعم مشاريع متنوعة في بلدان عديدة. فبعد صعود المولى المحبوب بقليل بدأ يرسل تبرعاته لمشرق الأذكار في أمريكا؛ وفي عام 1957 تعهد شخصيًا بدفع ثلث نفقات بناء مشارق الأذكار الثلاثة الجديدة التي ستُشيّد خلال مشروع الجهاد الروحاني العالمي؛ كما قدّم الدعم الكبير لترجمة وطباعة الكتب البهائية، إلى جانب تبرعاته للرياض الأبدية وامتلاك مراكز إدارية بهائية عديدة ولنشاطات أخرى لا تُحصى. بأفعاله تلك قدّم للمؤمنين والمؤسسات البهائية مثالاً في العطاء وفي مشاركته الآخرين في مُتعة جَنْيِ ثمار المشاريع الإلهية. إن صراحته التامة في أمور كهذه، وإقراره في بعض المناسبات أنه لا يملك المال اللازم للقيام بشيء ما أراده للأمر المبارك، وكلماته المؤثِّرة التي حملت معها مبلغًا ضئيلاً من المال إلى مشرق الأذكار في أمريكا: ‘أرجو أن أرفق بطيه تبرعي المتواضع بمبلغ (19) جنيهًا وهي حصتي من بين عطاء الأحباء الكبير الذي وصل إلى صندوق مشرق الأذكار في السنة الماضية’، كل هذا لم يقدّم لنا مثالاً يُحتذى فحسب، بل ودافعًا حقيقيًا قويًا للمؤمنين، غنيّهم وفقيرهم، لأن يتّبعوا خطاه وهم سعداء في التمثل بتلك الخُطى.
في تشجيعه المتواصل للأحباء وحثِّهِم على النهوض لنشر الأمر المبارك بين جموع العطاشى روحانيًا من أقرانهم، كثيرًا ما كان شوقي أفندي يذكّرهم مرارًا بأمر حضرة بهاء الله: ‘ابذلوا الهمة كل الهمة في تبليغ أمر الله. فمن كان أهلاً لهذا المقام الأعلى فلينهض، وإلا له أن يأخذ وكيلاً لنفسه في إظهار هذا الأمر…’ وقال بأن أولئك الذين لا يقدرون على الذهاب والاستقرار في الأماكن التي تحتاج أن يكون فيها بهائيون بكل إلحاح، عليهم، وقد وضعوا نصب أعينهم كلمات حضرة بهاء الله، أن: ‘يعقدوا العزم… على أن يأخذ [كلٌّ منهم] وكيلاً لنفسه ينوب عنه في النهوض بهذا المشروع النبيل.’ وفي أكثر من مناسبة أناب ولي الأمر عن نفسه، من خلال محفل روحاني مركزي، عددًا من البهائيين لتحقيق أهداف محددة.
لقد منح ولي الأمر بهائيي العالم ما أودّ أن أسميه بمفهومي الخاص خطوطًا هادية للفكر، مواضيع مختلفة في ميادين متنوعة. وهي، لو استخدمنا تشبيهًا مجازيًّا مألوفًا، أشبه ما تكون بخط السكة الحديد المخصص لسيْر القطارات؛ فهو الذي يحفظ للقطار اتجاه سيره ويوصله إلى غايته. وإذا كان لنا أن نفوز بتقدير حقيقي لأعمال شوقي أفندي في حياته، وندرس كيف نجح في تشييد المؤسسات حديثة الولادة لمجتمع العالم المستقبلي، علينا أن نستعرض من جديد بعض تلك المواضيع الرئيسة.
[1] كتاب “القرن البديع، ص 395.
[2] تم تسجيله على أنه هيئة أمناء اختيارية، وهو نوع من التسجيل المعمول به في حدود القانون العام يمكّن المحفل الروحاني من أن يُبرم العقود ويمتلك الأملاك ويستلم المواريث.
لا يمكن بلوغ فهم سليم وإدراك شامل لتطور أمر الله ما لم تتوضّح فيه حقائق أساسية معيَّنة يكتنزها. نصّ حضرة عبد البهاء على إحداها عندما كتب: ‘كان النور الإلهي منذ البدء إلى وقتنا هذا يسطع من الشرق على الغرب. إلا أن سطوعه في الغرب كان أقوى وأشد.’[1] إنه بيانٌ لمبدأٍ عام يشير إلى ظاهرة مشتركة لدين الله على هذا الكوكب، إلا أنه في هذا الدور البهائي نرى بأم أعيننا وضوح هذا المبدأ وفاعلية عمله على مدار فترة تزيد عن مائة وخمس وعشرين سنةً. في أول كتبه وأعظمها “قيّوم الأسماء”، دعا حضرة الباب أهل الغرب أن يخرجوا من ديارهم ويحقِّقوا نُصرة أمره. وفي أقدس كتبه “الكتاب الأقدس”، خاطب حضرة بهاء الله حكام القارة الأمريكية ودعاهم لينهضوا ويستجيبوا لندائه. إلى هذه القوة الدافعة المنطلقة من بواكير هذه النداءات السماوية بواسطة هذين المظهريْن التوأم لأمر الله في هذا اليوم، أضيف الاهتمام الشخصي والعناية المكثَّفة لمركز العهد والميثاق. فمنذ الوقت الذي تلا صعود حضرة بهاء الله مباشرة، عندما ورد أول ذكر لاسمه في المعرض الكولَمبي العالمي الذي عُقد في شيكاغو عام 1893، غدت أمريكا الشمالية في كنف تموّجات الفيوضات الإلهية التي انبثقت من شخص حضرة عبد البهاء ويراعه، ثم توجيهات شوقي أفندي وتشجيعه المتواصل فيما بعد. لقد أخبرنا ولي الأمر أن ألواح الخطة الإلهية لحضرة عبد البهاء مستوحاة من نفس كلمات حضرة بهاء الله المنزَّلة في “الكتاب الأقدس”، وفي جزء منها ليس بالقليل كانت نتيجة الاتصال المباشر لحضرة عبد البهاء بالأحباء الأمريكيين والكنديين أثناء رحلاته في أمريكا الشمالية.
إن امتزاج محبة الأب لمولوده البكر، لأول أُمّةِ في الغرب تستجيب لرسالة حضرة بهاء الله، مع حيوية العالم الجديد نفسه، يبدو أنه، بطريقة خفية وجميلة، قد منح البهائيين في أمريكا الشمالية مقامًا وقدرات لا نظير لها في التاريخ. لقد أنعم عليهم المولى نفسه بلقب “حواريّي بهاء الله”. وكما كتب شوقي أفندي بأنهم أصبحوا ‘موضع عنايات وألطاف حضرة عبد البهاء… ومحور آماله، والمعنيين بوعوده، والفائزين ببركاته”. وعلى مدى ولاية شوقي أفندي فازوا منه بالألطاف والتشجيع ما يعادل ما أنعم به المولى عليهم – حقًا كان استمرارًا لنفس ذلك الحب ولتلك السياسة نفسها. لقد أشار إليهم ولي الأمر بأنهم ‘جامعة بهائية أمريكية لا تعرف الكلل، تتقدم بشكل لا يقاوَم، وتتكشّف عن عظمة وجلال’، هم ‘مهد ومعقل’ النظام الإداري، ‘قد اختصّهم العليّ القدير بمثل هذا القَدْر الفريد من الفضل.’ وفي رسائله التي لا تُحصى كان غالبًا ما يخاطبهم بـِ: ‘إخواني المبجّلين الأعزاء’، وكذلك ‘أعزائي المحبوبين، المُنعَم عليهم بسخاء، أهل العزم والإقدام’، وقال بأنهم حازوا على ‘قصب السبْق الروحاني’ من قِبَل حضرة عبد البهاء، وأنهم ‘الأمناء الرئيسيون المُعَيَّنون’ لتلك ‘الرؤية السماوية الحاضنة للعالم’، خطة إلهية أسبغت عليهم مهمة عالمية هي بمثابة ‘حق البكورة المقدس لأتباع حضرة بهاء الله الأمريكيين’. والأكثر من ذلك، أنهم ليسوا هم المنفّذين لتلك الخطة فحسب، بل و’المنفِّذون لألواح وصايا حضرة عبد البهاء’. ولهذه الأسباب كانوا ‘البُناة الأبطال لنظام حضرة بهاء الله في طوره الجنيني’، و’حَمَلةَ شعلة المدنية العالمية’، والذين ‘تشرّفوا بامتياز وضْع الأُطُر الدستورية لدين حضرة بهاء الله نفسه ويكونوا القيِّمين عليه.’ وفي رَصْده لتحقُّق ما كُنز في التعاليم الإلهية من حقائق، أشار شوقي أفندي إلى أن هناك قوى كانت منهمكة في العمل ‘والتي، من خلال أرجحة استثنائية لبندول الأحداث، جذبت مركز الثقل الإداري للأمر المبارك لتُلقي به بعيدًا عن مهده إلى شواطئ القارة الأمريكية. وعلى أثر خُطى إخوانهم الإيرانيين، الذين نالوا إكليل الشهادة في العصر البطولي لأمر الله، جاء الآن دور الأحباء الأمريكيين، طلائع عصره الذهبي، ليخلفوهم باستحقاق’، لقد أصبحوا ‘سليلي الأبطال الروحانيين لأمر الله’. إنه قَدَرُهم، قَدَرُ أولئك ‘المحبوبين جدًا’، ‘النبلاء الأشاوس’، جامعة ‘اختارها الله’، هذه ‘اليد الغالبة التي لا تُقهر، هذه الأداة الجبارة’ للدين، وهي تواصل ‘مهمتها الفريدة’ حتى ‘يُنادَى بهم البُناةُ الأبطال المبدعون لنظام بهاء الله العالمي.’
اعتبر شوقي أفندي أن بروز الجامعة البهائية الأمريكية كان أحد أنبل الفصول في القرن الأول للدين، وأن تطوُّرها يرجع مباشرة إلى فعالية عمل ألواح وصايا المولى. إن ما تغاضى عنه شوقي أفندي، كعادته في شدة نكران ذاته، هو أن يضيف أن كل هذا قد تحقق بفضل جهوده الخاصة في تنفيذ ألواح الوصايا وإخلاصه لها وفي تطبيق ما كُنز فيها من توجيهات.
في واحدة من أوائل رسائله كولي لأمر الله، موجّهة إلى المحفل الروحاني في نيويورك عام 1923، وضّح شوقي أفندي موقفه نحو أمريكا في بضع كلمات، وهو موقف لم يتبدَّل قطُّ حتى نهاية حياته: ‘وأنا أدرك تمامًا نُبؤات مولانا المحبوب الصريحة المؤكّدة حول الدور المهيمن المُقَدَّر للغرب أن يؤدّيه في المراحل الأولى لغَلَبَة أمر الله عالميًا، توجهتُ بنظري، منذ صعوده المبارك، إلى الشواطئ البعيدة لتلك القارة بتوقُّعات ملؤها الأمل…’ وكتب إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا في السنة نفسها: ‘كم تُقْتُ وتمنَّيتُ أن أكون أقرب إلى ميادين إقداماتكم، وبهذا أكون قادرًا على الحفاظ على تواصُلٍ أكبر واتصال أقرب مع كل تفاصيل خدماتكم الهامة المتنوّعة التي تقدمونها.’
إنها الثقة المتبادلة والعلاقة الودّية الرقيقة تلك التي نمت حقًا بين ولي الأمر الشابّ ومَنْ كان يدعوهم ‘أبناء حضرة عبد البهاء’ منذ اللحظة الأولى التي سمعوا فيها بتعيينه خليفة المولى. عندما أُعلنت مضامين ألواح وصايا حضرة عبد البهاء، بعد أن فُضَّتْ وتُليت في جَمْعٍ رسمي في السابع من يناير/ كانون الثاني 1922، أبرقت إليه الهيئة المركزية، التي كانت لا تزال تُعرف بـ’وحدة المعبد البهائي’ أو ‘المجلس التنفيذي’، في العشرين من شهر يناير/ كانون الثاني: ‘أمريكا مبتهجة بهذا التعيين. تتقدم إليك بخدماتها المتفانية وتعاوُنِها المخلص.’ كلاهما كانا فتيّيْن؛ ولي الأمر والجامعة الأمريكية، وهناك شيء ما يحرّك المشاعر بعمق حول طريقة نموّهما معًا خلال فترة ولايته؛ فبعد صَدْمَتِه النفسية العنيفة واعتلال صحته وابتعاده المؤقّت لفترة من الوقت في عام 1922، أبرق إلى أمريكا في 16 ديسمبر/ كانون الأول بعد رجوعه إلى حيفا يقول: ‘إن مسيرة تقدّم أمر الله لم تتوقف، ولا كان لها أن تتوقف على الإطلاق. أدعو الله القدير – وقد تجدّدت الآن قُواي واستعدْتُ اطمئناني – عسى أن تؤدي جهودي ودعمكم المتواصل لهذه المسيرة إلى تحقيق النصر المبين.’ في التاسع عشر من الشهر نفسه ردّ المحفل الروحاني المركزي قائلاً: ‘أنعشتْ رسالتكم كل قلب وأحيَتْه من جديد حتى عاد الجميع يعملون ثانية هيئةً موحّدة بروح واحدة، عسى أن تكون قوى الوحدة المستدامة في أمريكا جاهزة دومًا لخدمتكم ورهن إشارتكم، مع حبنا وولائنا وتعاوننا المخلص، متمنِّين لكم السعادة والهناء.’
في واحدة من رسائله الأولى إليهم والتي تكشف عمّا كان يدور في ذهنه، وعن الوضع الذي كانت عليه الأمور في بداياتها، وموجّهة ‘إلى أعضاء المحفل الروحاني المركزي، الممثِّلين المنتَخَبين لجميع الأحباء في قارّة أمريكا’، مؤرخة في 23 ديسمبر/ كانون الأول 1922، وأتبعها بذكر أسمائهم التسعة، يقول فيها شوقي أفندي من بين أمور أخرى: ‘… إن الطريقة الفعّالة التي نفّذتم بها اقتراحاتي المتواضعة كانت مصدر تشجيع كبير لي وأنعشت الثقة في قلبي من جديد. لقد قرأتُ تقاريركم عن نشاطاتكم وأعدْتُ قراءتها، ودرستُ بدقَّة كل الخطوات التي اتخذتموها في سبيل استحكام أسس الدين في أمريكا، واطّلعتُ بنهاية الرضا على ما تعتزمون وضعَه من خطط تهدف إلى مزيد من انتشار أمر الله ونهضته في وطنكم العظيم…’ إنه يؤكد لهم بأنه لا يترقّب فقط ‘كل الأخبار السارة عن تعميق أسس أمر الله بالإضافة إلى انتشاره، والتي من أجلها كرّس مولانا المحبوب جُلَّ وقته وحياته وكل ما عنده’، بل ويتذكّر أيضًا ‘مدى عشقهم وجهودهم في الخدمة في كل مرة أضع جبيني على العتبات المقدسة’، ثم مهرها بتوقيعه – أخوكم في خدمته.
يجب ألا يغيب عن بالنا أبدًا أن هذه الشراكة المبكرة مع أمريكا، المتأصِّلة في قَدَر الدين، هي التي أدّت إلى تأسيس ونموّ النظام الإداري في جميع أنحاء العالم. فالنشأة الأولى لذلك النظام قد اكتملت بالتمام في أمريكا مع أن وجوده في طوْره الجنيني قد سبق وكان في أيام حضرة عبد البهاء. ومنذ البداية، عام 1923، عندما كتب شوقي أفندي ‘أؤكد لكم مجدَّدًا استعدادي ورغبتي في أن أكون عونًا لمساعدة وخدمة خدام حضرة بهاء الله المتفانين الأوفياء في تلك البقاع’، لم يغيّر موقفَه هذا على الإطلاق. في عام 1939 كتب يقول: ‘عقدتُ العزم من جانبي أن أدعم وأُعزّز حركة الجامعة التي تدفع بأعضائها إلى الأمام حتى يواجهوا قَدَرهم.’
عند صعود حضرة عبد البهاء، كان البهائيون في أمريكا الشمالية وسط أزمةِ نقضٍ للعهد والميثاق. إن فاجعة رحيل حضرته، وموجة الكرب والقنوط التي اجتاحتهم، قد تبعتها موجةُ حبٍّ وأمل عندما ثبّتوا أنظارهم على ولي أمرهم الشاب. فمبدأ المساعدة يعتمد على أمرين: شخص يحتاج المساعدة وراغب فيها وآخر راغب في المساعدة وقادر عليها. منذ بداية ولايته وشوقي أفندي يرشد أمريكا بكل همّة ونشاط بما وجد فيها من تَوْق واستجابة. فإلى مؤتمر الوكلاء المركزي عام 1923 أبرق: ‘عسى أن يكون مؤتمر هذا العام… فاتحة حملة تبليغية لا سابقَ لها، فهذا حقًا منتهى دعواتي الحارة. فلتكن هذه رسالة الرضوان إليكم: أن اتّحدوا وتعمّقوا وانهضوا.’ لقد أمسك الربّان بالدفّة وأخذ يوجّه ويرشد في كلّ عاصفة، وفي المياه الهادئة، في سنوات المحن وتقلُّبات الأيام، في الحرب والسلم، في شبابه ومتوسط عمره وحتى نهاية حياته، لم يتوقف شوقي أفندي قطُّ عن التوجُّه بكل الحب والمودة لهذه ‘الجامعة المميَّزة المرموقة في العالم البهائي’ موجِّهًا إيّاها ومرشدًا ومذكّرًا ومشجعًا. جامعة – كما كتب عنها مرة ولي الأمر ‘قد اختصّها العلي القدير بمثل هذا القَدْر الفريد من الفضل… مميَّزةً عن أخواتها من الجامعات من خلال ظهور خطةٍ إلهية انطلقت مباشرةً من عقلِ وقلمِ مؤسسها’، جامعة ‘عُرفت بأنها القلعة الحصينة لدين الله ومهد بروز مؤسسات نظامه العالمي’، جامعة ‘توقّع مركز العهد والميثاق بكل ثقة بأنها سوف تعتلي عرش السلطنة الأبدية.’
في السادس من يناير/ كانون الثاني 1923 كتب شوقي أفندي إلى أحد المحافل الروحانية المحلية في أمريكا بعد مرور سنة على تلاوة وصية حضرة عبد البهاء قائلاً: ‘كلما أتذكر رسائل المحبة المفعمة بالثقة والأمل التي عبّر عنها محبوبنا [المولى] بعبارات على هذا القدْر من الألق في ألواحه المباركة التي لا تُحصى إلى عشاقه المحبوبين في أمريكا، أشعر، إن عاجلاً أم آجلاً، أن السرّ الخفي وراء هذا الحب اللامحدود لا بدّ أن ينجلي ويظهر إلى حيّز الوجود، وأن تلك القارة العظيمة القريبة والعزيزة جدًا على قلب المولى لا بد أن تكشف عن نفسها تمامًا في القريب العاجل أمام بهاء ظهوره.’
من المحال تمامًا فصل نشوء النظام الإداري وتقدُّمه في أنحاء العالم عن تطوُّر الجامعة البهائية في أمريكا الشمالية وعلى الخصوص أحباء الولايات المتحدة الأمريكية، لأن كلتا العمليتين هما بالفعل عملية واحدة وتُعتبران شيئًا واحدًا. فعلى مدى ست وثلاثين سنةً، عدا استثناءات طفيفة، كان النمط في الأمور الإدارية، والتوجيهات العظيمة المتعلقة بالتبليغ، والأفكار والخطط الخاصة بتشكيل العالم، والتي نُقلت في رسائل ولي الأمر العامة، كانت قد وُجّهت إلى هذه الجامعة أو نُشرت بواسطتها أو نُقلت عَبرها إلى جهات أخرى. ولا يعني هذا أن ولي الأمر قد تجاهل إيران والجامعات البهائية الأخرى، بل كان بعيدًا عن ذلك كل البعد. فقد كانت له علاقات شخصية قويّة وودّية مستقلّة مع كل واحدة من الجامعات الأقدم، كتلك التي تشكّلت في الوقت نفسه مع الجامعة البهائية في أمريكا، وهي علاقات لم يُصِبْها الفتور ولا عانت يومًا من التجاهل على مدى سنوات، بل على الأصح كانت تنمو في مداها وشدَّتها مع مرور الوقت. كان حضرته على الدوام ولي أمر كل فرد بهائي. إلا أن جماعة البهائيين الأوفياء في شمال أمريكا، طبقًا لخطط العناية الإلهية، قد تحمّلوا عبء مسؤوليّات فريدة وتشرّفوا بامتيازات لا مثيل لها. وفي خطاب كُتب عام 1933 بعنوان “أمريكا والصلح الأعظم”[2]، بيّن شوقي أفندي مكانة أمريكا بعبارات لا لبس فيها؛ فبعد أن خرج من حالة الحزن الشديد التي عانى منها إثر صعود حضرة عبد البهاء كتب يقول: ‘إن النظام الإداري البديع لدين حضرة بهاء الله الذي لا يٌقهر قد وُلِد.’ وبصعود حضرة عبد البهاء انطلقت ‘طاقات فعّالة هائلة’ ‘تبلورت في هذه الأداة المعصومة، فائقة السمو، من أجل إنجاز مشيئة الله.’ كانت وصية حضرة عبد البهاء قد حَدَّدت خصائص وتدابير النظام الإداري، فتبنّته أمريكا: ‘لقد أُعطي لها، ولها وحدها… لتصبح البطل الذي لا يهاب لذلك النظام الإداري، ومحور مؤسساته حديثة الولادة، والرائد المعزّز لنفوذه.’
وكونه إداريًا بالفطرة وصاحب فكر وعقل بالغ الدقة في التنظيم والترتيب، شرع شوقي أفندي في تنظيم شؤون الأمر المبارك بأسلوب منهجي رفيع. احتفظ خلال السنتين أو الثلاث الأولى بقوائم تُبيّن رسائله الموجَّهَة، إلا أنه نظرًا لمراسلاته الكثيفة، وكثرة مشاكله، وعمله المرهِق، وافتقاره إلى مساعدين أكفاء، كان من المستحيل عليه الاستمرار في التعامل مع بريده بهذا النهج. من هذه القوائم التي استطعنا جمعها وجدناه قد كتب رسائل للأماكن التالية: أمريكا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، اليابان، بلاد ما بين النهرين [العراق]، القوقاز، إيران، تركستان، تركيا، أستراليا، سويسرا، الهند، سوريا، إيطاليا، بورما، كندا، جزر المحيط الهادئ، مصر، فلسطين، السويد، وإلى أوروبا. كما كتب إلى العديد من المراكز الأمرية المنفردة في أمريكا وأوروبا وشمال إفريقيا والشرق الأوسط والشرق الأقصى. فنجد في قائمته في الفترة ما بين عامي 1922–1923 (67) بلدًا، وفي الفترة ما بين عامي 1923–1924 (88) بلدًا، وفي الفترة ما بين عامي 1924–1925 (96) بلدًا. نرى ولي الأمر يفرد ساعديْه ويمدّهما بعيدًا، ربما في الواقع ترتجفان في غالب الأحيان من شدة الصدمات والمرض، وذلك من أجل أن يُمسك بزمام الأمور في مملكة حضرة بهاء الله المترامية الأطراف التي أصبح وريثها عام 1921.
في ذلك الوقت كان السواد الأعظم من البهائيين لا يزالون مقيمين في إيران والأقاليم المجاورة، وكانت هناك جامعة صغيرة في أمريكا الشمالية إلا أنها تحاكيهم ولاءً وإخلاصًا وتفانيًا، وجامعات أصغر في أوروبا وإفريقيا وفي شبه القارة الهندية ومنطقة المحيط الهادئ. معظم هؤلاء المؤمنين – بمن فيهم بعض أفراد عائلة حضرة عبد البهاء نفسها – لم يكن في ذهنهم أي شيء واضح لما يمكن أن يمثّله الأمر المبارك بالضبط، ولا كانت لديهم فكرة حول الشكل الذي سيتَّخذه طبقًا لما جاء في ألواح وصايا المولى من تعليمات، ولا حتى مفهوم حقيقي، ولو بدرجة أقلّ، عن نظامه الإداري. ورغم وجود هيئات تُدعَى محافل روحانية، إلا أنها غالبًا ما كانت تُسمّى بأسماء أخرى. وكثيرًا ما كانت وظائفها وعضويتها مُبهمة وتحمل شَبَهًا بسيطًا لما يجب أن تكون عليه المحافل الروحانية حسب ما نعرفه الآن. فالهيئة المركزية التي كانت قائمة بشكل ما في أمريكا منذ عام 1908 كانت تُعرف آنذاك بـ ”وحدة المعبد البهائي”. وفي عام 1909 تمّ تسجيلها قانونيًا وأصبح لها ‘مجلس تنفيذي’؛ وبالإضافة إلى الوكلاء المُنتَخَبين لمؤتمر الوكلاء المركزي كان هناك ‘وكلاء بديلون’؛ والمحفل الروحاني في شيكاغو كان يُعرف بـ’بيت الروحانية للبهائيين في شيكاغو’. وفي وقت من الأوقات كان مكوّنًا من تسعة أعضاء و’عضويْن مستشارَيْن’؛ وفي نيويورك كان هناك تسعة أعضاء يُعرفون بـ’هيئة شورى حاضرة نيويورك’؛ كتب الأحباء في إحدى مدن ولاية كاليفورنيا لشوقي أفندي بأنهم انتخبوا لجنة من اثني عشر شخصًا كمحفل روحاني محلّي لهم؛ ومع أن هناك انتخابات كانت تُجرى قبل صعود حضرة عبد البهاء بأكثر من عقد من الزمن، إلا أن ما كان يُسمى بالهيئات الإدارية كانت تتشكل وتعمل كيفما اتُّفق. لقد كان نظامًا في مرحلته الجنينية بكل ما في الكلمة من معنى؛ والوضع في إيران لم يكن مشوّشًا على هذا النحو من الإرباك فحسب، بل يُضاف إليه ما كانت تلاقيه الجموع الغفيرة غير المنظّمة من الأحباء من صنوف الاضطهاد والقمع، مما استغرق ولي الأمر سنوات حتى يخلق فيهم نوعًا من نظام يُخرجهم مما هم فيه من فوضى؛ وأقطار أخرى حاكتهم أيضًا في جهلها بمبادئ النظام الإداري لأمر الله. في بريطانيا شكّل الأحباء عام 1922، وبشكل تلقائي، ‘مجلس الشورى البهائي’ لرعاية الشؤون المركزية، وكان للهند محفل روحاني مركزي بشكلٍ ما لأن شوقي أفندي بيّن عام 1923 أنه بالرغم من أن بورما كان لها ‘مجلس شورى مركزي’ خاص بها، إلا أنها تقع ضمن سلطة ‘المحفل الروحاني المركزي لجميع الهند’. وفي عام 1921 عقد الأحباء في ألمانيا مؤتمرًا مركزيًا، إلا أن هيئة مركزية لم تُنتَخب إلا بحلول عام 1922. في مستهل السنوات الأولى من الكشف عن النظام الإداري، كانت شؤون البهائيين في كل من إيران والقوقاز وتركستان تدار بواسطة محفل روحاني محلي بارز في كل منها يقوم بمهام المحفل الروحاني المركزي أو المجلس المركزي، بانتظار الوقت الذي يمكن فيه عقد مؤتمر وكلاء مركزي حرٍّ يمثل الجميع. كان هذا هو الحد الذي تمكّن حضرة عبد البهاء قبل صعوده، وحضرة شوقي أفندي والبهائيون مباشرة بعد الصعود، من الوصول إليه بهذا النظام الإداري البهائي حديث الولادة. وفي عام 1922 لم يكن بالإمكان، في العالم البهائي بأسره، إلا أن يكون هناك هيئة واحدة – الهيئة الأمريكية – التي كانت قليلة الشبه بالمحفل الروحاني المركزي المُنتَخَب مركزيًا كما نعرفه الآن.
هذه الجماعات الكبيرة من الأحباء، المنتشرة في أنحاء العالم، المتغايرة في خواصها وعناصرها، غير المنظمة ولكنها متحدة في ولائها، كانت تواجه معوّقات أخرى عليها تجاوزها. فالأحباء الإيرانيون مع وعيهم الكامل بطبيعة استقلالية دينهم التامة– استقلالية ضحّوا بحياتهم بالرضا والتسليم في سبيل التأكيد عليها – لم ينجحوا بعدُ في قطع اتصالهم نهائيًا بعادات قومية معيّنة ومفاسد على نقيض تام من تعاليم مؤسس دينهم. فلا تزال هناك بين الأحباء رواسب من عادات إسلامية ومفاسد كثيرة أدّى تدهور الإسلام التدريجي إلى بروزها على مرّ القرون. فمبدأ الزواج بواحدة لم يكن صارمًا تنفيذه عند الأحباء ولا فهمه بالشكل السليم، وشرب الكحول كان لا يزال متفشّيًا على نطاق واسع، وتحريم حضرة بهاء الله المُطلق بخصوص تعاطي المخدرات لم يُدرك وينفّذ بالكامل في بلد أدمن أهلُه على شرب الأفيون اللعين ومخدِّرات أخرى. وفي الغرب، خاصة في أمريكا حيث أكبر مجموعة من الأتباع الغربيين، مهما كان تمسّك البهائيين بالدين الجديد الذي اعتنقوه، فما زالت لديهم ارتباطاتهم بالكنيسة، ولا زالوا أعضاء عاملين في جمعيات متنوعة. الأمر الذي عمل على تبديد مصادرهم المحدودة للغاية، وتشتيت طاقاتهم بدلاً من تركيزها على تدبُّر شؤون الأمر الإلهي ورعاية مصالحه، وعلى إضعاف أي ادعاءات قد يقدّمونها حول طبيعة دينهم المستقلّة. لم يكن واضحًا في ذهن الأحباء في الشرق ولا في الغرب إلى أي مدى عليهم أن يتجنّبوا جميع الانتماءات والنشاطات السياسية. إزاء هذه الحالة من الأمور غير الواضحة إلى حدٍّ ما في العالم البهائي، تقدّم شوقي أفندي ممسكًا بزمامها بطريقتيْن: أُولاها كان في إيجاد منهج عام وشامل متماسك وثابت في اتّباع الجامعة نهج الحياة البهائية وتنظيم شؤونها طبقًا للتعاليم الإلهية وتفاسيرها التي بيّنها المولى، وثانيها تمثّل في تثقيف الأحباء وتوعيتهم بأهداف دينهم ومضامينه وما يكتنزه من حقائق.
إن عبقرية شوقي أفندي في التنظيم – وهي واحدة من أقوى خصائصه التي كانت دون شك إلهية المنشأ وخُلقت فيه من أجل أن يفي بمتطلبات “عصر التكوين” للأمر المبارك – قد أخذت تتكشَّف بازدياد، فأنشأ حضرته، بكل سرعةٍ وإتقان، نظامًا موحدًا للمحافل الروحانية المركزية والمحلية في مختلف أنحاء العالم. كانت الخطوة الأولى تسمية الهيئة المركزية في أمريكا باسمها الملائم وانتخابها كما ينبغي. فبمجرد إعلان ألواح وصايا حضرة عبد البهاء توجَّهَ عدد من الأحباء الأمريكيين البارزين إلى حيفا للتشرف بزيارة العتبات المقدسة وولي أمر دينهم. واحدة من هؤلاء كانت كورين ترو التي رفعت إلى شوقي أفندي تقريرها في رسالتها المؤرخة في 4 مايو/ أيار 1922 تخبره بأن: ‘روح المؤتمر كانت رائعة جدًا، وعصرًا جديدًا للأمر المبارك قد افتتحه خطابُك. حضر الوكلاء من خمسة وستين مركزًا في أنحاء الولايات المتحدة وكندا… ولقد جاهدتُ في أن أقدّم للأحباء الحاضرين الخطة التي أمرتَ بها أثناء وجودي في حيفا… أسفر المؤتمر عن انتخاب “المحفل الروحاني المركزي” أو المجلس التنفيذي… هؤلاء الأعضاء التسعة، رجالاً ونساءً، هم في خدمتك في جميع الأوقات ويرجون التأييد من مركز العهد والميثاق عسى أن يُوَفَّقوا في تقديم خدماتهم المخلصة إليك في جميع الشؤون المؤدِّية إلى تقدم الأمر المبارك.’ تشرّف بعضوية المحفل الروحاني آنذاك كل من السيدة كورين ترو وعددٌ من الأحباء القدامى الذين تلقّوا تعليمات من شوقي أفندي في حيفا خلال الأشهر الأولى لولاية حضرته.
في الرابع من إبريل/ نيسان 1923 أبرق شوقي أفندي إلى هذه الهيئة المركزية الجديدة قائلاً: ‘أؤكّد بشدّة على ضرورة تجديد انتخاب المحافل الروحانية المحلية في اليوم الأول من عيد الرضوان في 21 إبريل/ نيسان.’ إن صدى هذا التأكيد الذي وضعه شوقي أفندي فيما يتعلق بالحاجة إلى نظام موحَّد للانتخابات البهائية، وما هي التسمية السليمة التي يجب أن تكون عليها تلك الهيئات المنتَخَبة، يبدو أنه قد تردّد في أرجاء العالم البهائي بأسره. كان هناك حركة في كل مكان، وكان ولي الأمر يرعاها ويشجّعها بنفسه باستمرار من أجل انتخاب محافل روحانية محلية، والأخذ بيدها لتقوم بوظائفها وواجباتها طبقًا للمبادىء التي وضعها حضرة عبد البهاء والتي لم تحظَ بالانتباه الكافي آنذاك. وبالرغم من هذه الجهود المبكرة التي بُذلت بالفعل لضمان تشكيل المحافل الروحانية، إلا أنها كانت مهمة كان على شوقي أفندي أن يتابعها بهمّة ونشاط لعدة سنوات، ذلك أن الأحباء في كثير من الأحيان أهملوا تمامًا انتخاب محفلهم الروحاني المحلي أو تجديد انتخابه. رحّب البهائيون الذين كانوا توّاقين، ولكنهم مشوّشون، بهذه التوجيهات من ولي أمر دينهم. وكلما كان يوضّح لهم المواضيع والمسائل كانت الأمور تنجلي وتزداد وضوحًا له أيضًا. في نسخة الكربون عن رسالتين كتبهما في ديسمبر/ كانون الأول 1922 موجّهتيْن إلى الوكلاء المنتخبين للمؤتمر المركزي نجد أنه استخدم تعبيرين: “المحفل المركزي الروحاني” و”المحافل المحلية الروحانية”، ولكنه في وقت لاحق اعتمد بشكل دائم تعبيريْن أكثر دقّة في وصف تلك الهيئات هما: “المحفل الروحاني المركزي”، و”المحفل الروحاني المحلّي”. وفي الشهر نفسه كتب للأحباء في باريس بفرنسا: ‘إنه مَبْعَث ارتياح نفسي وسروري الحقيقي أن أعلم بتشكيل محفل روحاني محلي بالأسلوب السليم، ويؤدي وظائفه بكل كفاءة، ويَعترف به رسميًا أفرادُ العائلة البهائية العظيمة. فلو لم يكن مثل هذا المحفل قد تشكّل حتى الآن، أحثُّكم بشدة أن تبادروا إلى تأسيس مثل هذه الهيئة التي تعدّ محورًا واضحًا وثابتًا للأمر المبارك، والذي، وإن بدا في أول الأمر أنه مجرَّدَ مسألة شكلية، إلا أنه لن يملأ فراغًا في النسَق الإداري لأمر الله في أنحاء العالم فحسب، بل كلي ثقة بأنه سوف يُثْبِت أنه النواة التي سوف تتجمَّع حولها نفوس كثيرة في المستقبل…’ إنه ليس بالأمر الغريب أن يلقى شوقي أفندي مثل هذا التعاون العالمي مجرّد أن يخاطب الأحباء بهذا القدْر من الحبّ والمودّة، وبتلك اللباقة والصراحة التي يُظهِرها هذا المقتطف الوارد في رسالة هي لا بدّ واحدة من رسائل كثيرة مشابهة. وحالما كان يأتيه التجاوب، كنا نراه يبادر فورًا إلى إرسال التهنئة وعبارات الإطراء. أما بالنسبة لهذه الحالة فقد انتظر أكثر من سنة حتى تمكّن من الرد على باريس ببرقية قال فيها: ‘تهانيّ القلبية بتأسيس محفل روحاني.’
سبق لبعض الجامعات البهائية أن استجابت لحثّ حضرة عبد البهاء وتشجيعه لهم فبادرت إلى تشكيل لجان خاصّة بها. كما أن المراسلات التي كانت بين شوقي أفندي والمحفل الروحاني المركزي في أمريكا خلال عامي 1922، 1923 تُظهر وجود مثل هذه اللجان المركزية من قبيل: نشر النفحات الإلهية، النشر والمراجعة، تربية الأطفال، المكتبة، مجلة “نجمة الغرب”، تآلف الأعراق والأجناس، محفظة الآثار. في مطالعتنا لأعمال ولي الأمر ومراسلاته في بداية ولايته يتملّكنا الإعجاب والانبهار عندما نرى كيف أن كل شيء كان قائمًا في نهاية ولايته كان قائمًا في البداية أيضًا، ومع توالي السنوات دأب على توسيع أفكاره وإتقان دراسته للمواضيع. هو نفسه نضج ونضجت معه شؤون الأمر الإلهي، إلا أنها كانت مكتملة تمامًا في طورها الجنيني عندما بدأ بأُولى توجيهاته لشؤون الأمر المبارك. فالتعليمات التي كان يصدرها للهيئات المركزية والجامعات التي تشكّلت في البداية قد اختلفت فقط في خاصِّيتها، وليس في نوعيتها، في أواخر حياته. خذ مثلاً برقيته إلى مؤتمر الوكلاء المركزي الأمريكي عام 1923: ‘… في ساعة التحديات هذه، إنما أنتم واقفون على أعتاب عهد جديد من تاريخ أمرنا المحبوب. فالمهامّ التي دُعيتم لتأديتها زاخرة بالفرص والإمكانيات الهائلة، والمسؤوليات الملقاة على كاهلكم خطيرة وهامة للغاية، وعيون الكثير من الشعوب شاخصة… نحوكم، تتوقع انبلاج فجر يوم سوف يشهد تحقُّق وعده الإلهي.’ خمس وثلاثون سنةً تقريبًا من الأحداث المُقبِلة انحصرت في تلك العبارات القصيرة.
كان تثقيف البهائيين بالمبادئ الأساسية لنظام حضرة بهاء الله الاجتماعي أعظم اهتمامات ولي الأمر على مدى سنوات عِدّة. هم درجوا على الإيمان بتعاليم الأمر المبارك واعتادوا محاولة نشرها بين أقرانهم، ودرجوا، في أقل تقدير، على مراعاة اليسير من حياة الجامعة في اجتماعاتهم العامة والضيافات التسع عشرية وفي الاحتفالات بذكرى الأيام المباركة، ولكنهم لم يعتادوا العمل بأسلوب منظَّم كأعضاء في تنظيم بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وما اعتادوا أيضًا على اتّباع أسلوبٍ منفتح للحفاظ على تواصل ضمن نطاق الدين. لقد أدرك شوقي أفندي منذ البداية أن المهمة التي تنتظره تتطلب منه – على وجه الخصوص – أن يكون على اطّلاع كامل وشامل بما يجري في الجامعات البهائية في أنحاء العالم، وعلى أوضاع نشاطاتها وتجاوبها مع ما يستدعيه تشييد النظام الإداري لأمر الله. وقد تطلَّبَ هذا تواصلاً وثيقًا، ليس فقط مع جميع المحافل الروحانية المركزية، بل وجميع المحلية منها أيضًا. كانت الهيئات المركزية ضعيفة أو غير موجودة من الناحية العملية، والمحافل الروحانية المحلية كانت في العادة أضعف. فرأى أنه من الضروري أن يكون على اتصال بها جميعًا في الشرق والغرب. ففي شهر ديسمبر/ كانون الأول 1922 أعلم المحفل الروحاني المركزي في أمريكا قائلاً: ‘أغدو شاكرًا وممتنًّا لو استطعتم إعلام جميع المحافل الروحانية المحلية المختلفة برغبتي وأمنيتي في أن أستلم من كل محفل محلي بالسرعة الممكنة تقريرًا رسميًا مفصّلاً عن نشاطاتهم الروحانية، والأسلوب والتنظيم الخاص المُتّبع في محافلهم الخاصّة، وبيان باجتماعاتهم الخاصة والعامة، وعن الوضع الفعلي للأمر المبارك في مناطقهم، وعن خططهم وترتيباتهم المُقبلة. أرجو منكم أن تنقلوا إليهم جميعًا أطيب تمنياتي مؤكدًا من صميم قلبي دعمي الكامل لهم في خدماتهم النبيلة للنوع الإنساني.’ وبعد سنة كتب للمحفل الروحاني المركزي في ألمانيا بالأسلوب نفسه قائلاً: ‘إنني في غاية الشوق لأن أستلم من محفلكم الروحاني المركزي تقارير دورية شاملة عن الوضع الحالي لأمر الله في أنحاء ألمانيا وحتى تاريخه أولاً بأول، وتقريرًا بالنشاطات التي تقوم بها المراكز البهائية المختلفة التي تأسَّست حديثًا في أنحاء البلاد.’
لم يكن قصده في ذلك مجرد جمع المعلومات والاحتفاظ بها في المركز العالمي، بل كان يرمي أيضًا إلى تشجيع الجامعات الشرقية المُضطَّهدة وحفزها بأن ينقل إليهم البشارات السارّة عن تقدّم شقيقاتها الجامعات البهائية في الغرب. لقد جعل هذا واضحًا في رسالة له للمحفل الروحاني المحلي في نيويورك مؤرخة في فبراير/ شباط 1924 حيث قال: ‘وكما ذكرتُ في رسالتي الأولى إلى المحفل الروحاني المركزي، سأكون في غاية السرور أن أستلم من كل مركز بهائي في أنحاء أمريكا تقارير شاملة منتظمة حول وضع الأمر المبارك ونشاطات الأحباء، ولسوف أنقلها مبتهجًا إلى الأحباء في أنحاء الشرق الذين سيبتهجون بكل تأكيد، وهم في هذه الساعة من معاناتهم واضطرابهم، ويهلّلون حال سماعهم بالنموّ المطّرد لأمر الله بأمان واطمئنان في بلدكم العزيز… بانتظار أخباركم السارّة…’
كان على هذا النظام أن يعمل في اتجاهيْن كما سبق وكتب شوقي أفندي في رسالة إلى “المجلس المركزي” للبهائيين في بريطانيا في شهر ديسمبر/ كانون الأول 1922: ‘بدأتُ الآن مراسلاتي مع كل مركز بهائي محلي في كل أنحاء الشرق، ولن أدّخر جهدًا في التوجُّه إلى الأحباء أينما كانوا لأطلب منهم وأحثّهم على إرسال البشارات السارّة عن تقدم أمر الله، مباشرة من خلال محافلهم الروحانية المحلية على شكل تقارير مفصّلة منتظمة، إلى إخوانهم وأخواتهم في مختلف المحافل الروحانية المحلية في الغرب.’ وكتب إلى البهائيين في لايبزغ/ ألمانيا قائلاً: ‘أنتظر رسائلكم بكل شوق ومحبة’، وإلى الأحباء في اليابان: ‘آمل من الأحباء في اليابان، من الآن فصاعدًا، أن يكتبوا إليّ رسائل مفصّلة متتالية بنشاطاتهم الروحانية المختلفة، ويُعلموني بخططهم المُقبِلة في خدمة أمر حضرة بهاء الله.’ وإلى البهائيين في جزر المحيط الهادئ كتب الشيء نفسه. لقد عبّر عن مشاعر عاطفية كهذه مرارًا وتكرارًا في رسائله المبكرة إلى المراكز المحلية في أقطار مختلفة. ولكنه لم يكن من السهل حفز الهمم للحصول على التجاوب القوي المُرتَجى، فقد صرف الكثير من وقته، وهو يذكّر الأحباء بوظائفهم ومسؤولياتهم طيلة فترة ولايته. ففي عام 1923 أبرق إلى أمريكا قائلاً: ‘أنتظر من المحفل الروحاني المركزي تقارير شاملة متتالية.’ وأبرق إليهم ثانية عام 1924 قائلاً: ‘لم أستلم من المحفل الروحاني المركزي أي رسالة منذ شهرين.’ وأبرق إلى الهند عام 1925: ‘أنتظر بكمال الشوق تقارير المحفل الروحاني المركزي المفصّلة المستمرة.’ مثل هذا التذكير كان يتكرر على الدوام ومع أكثر من بلد واحد.
كان البهائيون، وهم ثلّة من العاشقين المخلصين الذين الْتفّوا حول حضرة بهاء الله بقلوبهم العامرة بالثقة والإيمان، يعون تمامًا وبكل عمق بأن ارتباطهم العالمي يكمن في اتحادهم ووحدتهم في هذا الإيمان. إلا أن هذا لم يكن كافيًا. لقد حان الوقت لهذا الوعي أن يأخذ مكانه يوميًا في حركة دائمة وعمل دؤوب. فبالإضافة إلى إيجاد نظامٍ موحّد للانتخابات البهائية وأسلوبٍ لتدفّق التقارير والرسائل منه وإليه، اتخذ شوقي أفندي خطوات من شأنها أن تقوّي وتنشّط بدرجة كبيرة منشورات بهائية معيّنة كانت متداوَلة عندما استلم زمام ولاية الأمر، والتي سبق أن دعمها وشجّع عليها حضرة عبد البهاء نفسه مثل: مجلة “نجمة الغرب” التي تصدر في أمريكا، وهي أقدم المنشورات البهائية وأشهرها، وهناك مجلة “شمس الحقيقة”[3] التي تصدر في ألمانيا، و”الفجر”[4] في بورما، ومجلة “الأخبار البهائية في الهند”[5] التي تصدر هناك، و”خورشيد خاور” في عشق آباد؛ وإلى كل هذه المنشورات قدّم شوقي أفندي دعمه بكل حماس. ففي شهر فبراير/ شباط 1923 كتب إلى الأحباء في سوريا حاثًّا إياهم على الاشتراك في المجلات البهائية: “نجمة الغرب”، “الأخبار البهائية للهند”، و”خورشيد خاور” الخاصة بأحباء روسيا، والمساهمة في مواضيعها. إن المستوى الذي وضعه شوقي أفندي لمثل تلك المنشورات قد عبّر عنه بلغة بليغة في رسالة وجهها إلى محرِّري مجلة “الفجر” في بورما كُتبت بعد شهرين داعيًا إلى أن تكون: ‘عالمية في مظهرها، تقدّمية وعملية في معايير ما تدعمه وتدافع عنه، أمينة مخلصة لتعاليم أمر الله ومبادئه المقدسة، شاملة في مناهجها، نزيهة في وجهات نظرها، رفيعة ومؤثّرة في أسلوبها، عسى أن تتقدم بعزم ثابت متجاوزة كل العقبات نحو تحقيق ما قُدِّر لها.’ في الشهور الأولى هذه من سنة 1923 كتب ولي الأمر إلى محرِّر مجلة الأخبار البهائية للهند قائلاً: ‘لقد طلبتُ مؤخرًا من الأحباء في إيران وتركستان والقوقاز والعراق ومصر وتركيا وأمريكا وبريطانيا العظمى وألمانيا وسوريا وفلسطين أن يزوّدوا مجلة “الأخبار البهائية في الهند” بتقارير منتظمة عن نشاطاتهم، وبمقالات كُتبت بعناية في مواضيع روحانية آملاً في ذلك توسيع نطاقها ورفع مكانتها كواحدة من أهم المجلات الرائدة للجامعة البهائية في العالم… ولسوف أتتبّع كل مرحلة من مراحل تقدُّمها بكل اهتمام مفعم بالأمل، ولن أتوانى في الإسهام بنصيبي للمساعدة في دعم هذا المقصد النبيل الذي عزمتم على تحقيقه.’ ورسائل أخرى مماثلة أُرسلت إلى كل من ألمانيا وأمريكا حاثًّا إياهم على اتّباع النهج نفسه فيما يتعلق بمجلاتهم البهائية، وكرَّر طلبه إلى الجامعات البهائية المركزية المختلفة في العالم لإرسال الأخبار والبشارات والمقالات المناسبة لهذه المنشورات البهائية على اختلافها لدعمها ونشر أمر الله وإنعاش النفوس المؤمنة.
وعلاوة على ذلك دشّن شوقي أفندي مشروع ‘نشرة دورية يُصدرها المحفل الروحاني للبهائيين في حيفا كل تسعة عشر يومًا ويعمِّمها على جميع المراكز البهائية في أنحاء الشرق’، وكانت باللغة الفارسية ولها نظيرتها بالإنكليزية. وقد كتب إلى الأحباء في سويسرا في فبراير/ شباط 1923 قائلاً: ‘من الآن فصاعدًا سوف يُرسِل إليكم المحفل الروحاني الذي تأسس في حيفا أخبار الأمر المبارك في الأرض الأقدس وبانتظام…’ إن رسالة حيفا الإخبارية هذه، والتي كانت باشراف ولي الأمر نفسه ويمدّها بالمواضيع اللازمة، استمر إصدارها وتوزيعها إلى أن حُلّ المحفل الروحاني في حيفا بأمر من ولي الأمر بعد أن أَبعد حضرته أفراد الجامعة المحلية عن فلسطين عامي 1938 و 1939. إن إجراءات كهذه كان تأثيرها بمثابة أداةٍ عملاقة حرّك بها ولي الأمر بقوة جبارة جامعة الأوفياء المخلصين بأكملها في جميع أنحاء العالم، يمزج، يحفز، متحديًا عناصر مكوناتها وهو يدفع بهم نحو فعاليات وتعاون وإدراك أكبر وأعظم.
إلا أن ما يجب أن نقف عنده ونتساءل: ما كُنه هذا النظام الإداري الذي جاهد ولي الأمر في تأسيسه بكدٍّ لا يعرف الكلل؟ وهو خلال تطوّره، كما قال، ‘سيجسّد ويحمي ويرعى في آن معًا’ روح هذا الدين الذي لا يُقهر. إنه نظام فريد من نوعه في التاريخ، إلهي التصميم، ويختلف عن أي نظام وُجد في أديان القبل. في جوهره هو الأداة لنظام عالمي مستقبلي ومدنية عالمية سوف يشكّلان لا أقل من رابطة شعوب العالم التي تجمع كل المِلل والأقوام على هذا الكوكب. ومع أن هيكل هذا النظام من المؤسسات المنتخبة قائم بأكمله على مبدأ حق التصويت العام والاقتراع السرّي، إلا أن عملها في النهاية يتمّ ضمن مفاهيم ومواقف تختلف في مضمونها عن المبدأ الأسمى للسلطة الديمقراطية الذي يحتّم باستمرار مساءلة المُنْتَخَبين أمام منتخِبيهم. فالمؤسسات البهائية هي مسؤولة في كل الأوقات أمام مؤسس الدين الإلهي وطبقًا لتعاليمه. ولما كان العنصر الحاكم في الديمقراطية في أقصى قوّته ونفوذه لا يستطيع أن يتجاوز حدود ما اتَّفَق عليه المتشاورون في مداولاتهم، وأن ما يخرجون به من قرارات عُرضة للفحص والتدقيق وموافقة مَن يمثلونهم، فإن هذا العنصر الحاكم في دين الله هو في كل الأوقات خادمٌ لخُدّام أمر الله الذين هم جامعة المخلصين الأوفياء – إلا أنه مسؤول أمام رأس سلطةٍ أعلى وأجلّ، ذلك الرأس المُلهَم الذي تقوده الهداية الإلهية، إنه ولي الأمر أو المبيّن الوحيد، ثم بيت العدل الأعظم، الهيئة العليا المنتَخَبة، أو المشرّع الوحيد. في هذا النظام سوف نرى أن الناس، بعدما تحرروا من المؤثرات الفاسدة لعملية الترشيح، ونبذوا حملات الدعاية السياسية لكسب أصوات الناخبين، وتخلّصوا من عنف أصحاب النزوات والأهواء والاستياء وعدم الرضا الذي يدبّ بسهولة بين أوساط الجماهير بفعل مبدأ الديمقراطية هذا وحده، نراهم قد أصبحوا أحرارًا في اختيار مَن يتوسّمون فيهم الكفاءة الأفضل لإدارة شؤونهم وحماية حقوقهم من جهة، وخدمة مصالح الأمر المبارك وصيانتها من جهة أخرى.
إن الهيئات البهائية المُنتَخَبة يمكن تشبيهها بشبكة ضخمة من أنابيب الريّ، يختارها الناس بأنفسهم ويوصلونها ببعضها بقصد خدمة مصالحهم الشخصية وتحقيقها، إلا أن المياه الواهبة للحياة التي تنساب في داخلها من الأعالي في هذا النظام هي مياه مستقلّة في ذاتها عن سلطة الناس، ومستقلة عن أي إرادة للأنابيب نفسها، وما هذه المياه سوى الهداية السماوية والنصائح والإرشادات الملهَمة الصادرة عن ولي الأمر وعن الهيئة العليا للأمر الإلهي التي يتلقونها في هذا الدور البهائي من مصدر ليس بأقل من المظهريْن التوأم للظهور الإلهي. وكما كتب شوقي أفندي فإن نظام حضرة بهاء الله ‘لا يمكن له أبدًا أن ينحدر إلى أي شكل من أشكال الاستبداد أو حكم الأقلية أو حكم الدُّهَماء الذي من شأنه، إن عاجلاً أم آجلاً، أن يفسد آلية كل ما صنعه الإنسان من النظم السياسية القاصرة في جوهرها.’ وفي عام 1934، استطاع شوقي أفندي أن يكتب عن أعمال وفعّالية هذا النظام الذي كان ينمو بسرعة ويمدّ جذوره بوتيرة ثابتة في أنحاء العالم البهائي، بحيث أظهر بوضوح قوةً وقدرةً ليس ‘لمجتمع خائب محبَط مترنّح’ أن يتجاهلها. إن حيوية مؤسساته، والعقبات التي تغلّب عليها القائمون على إدارتها، وذلك الحماس لمبلّغيه الجوّالين، وعلوّ شأن التضحيات التي أُحرزت بواسطة بُناته الأبطال، وما أبداه مدافعوه الشجعان من بصيرة نافذة وتفاؤل وفَرَح ونفس مطمئنة وانضباط واعتزاز ووحدة، ثم تلك الطريقة التي تطهرّت بها الشعوب المختلفة من رجس تعصباتها لتنصهر وتذوب في بنيان هذا النظام – كل هذا يشهد، كما كتب شوقي أفندي، على قوة وقدرة نظام حضرة بهاء الله دائم التوسّع والامتداد.
لقد كان شوقي أفندي يتمتّع بصفات الإدارة والقيادة الحقّة. وبخلاف الكثير من الأحباء الذين يميلون مع الأسف للطيران، مثل “الايكاروس”[6]، بأجنحة من الشمع يملؤهم الأمل والإيمان وحدهما، فإن شوقي أفندي قد صاغ آلة طيرانه من مواد تصلح للطيران وجمّعها وبناها بكل عناية قطعة قطعة. ففي السنوات القليلة الأولى لولايته أوجد الاتساق والتماثُل في الأمور الأساسية للإدارة البهائية. لقد أسس قاعدته الصلبة من محافل روحانية محلية وهيئة مركزية، حيثما تواجدت جامعات مركزية على درجة من القوة كافية لدعم مثل هذه المؤسسة. فبحلول عام 1930 كانت له تسعة من هذه المؤسسات التي وردت في قوائم “الدليل البهائي” للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا على النحو التالي: القوقاز، مصر، بريطانيا العظمى، ألمانيا، الهند وبورما، العراق، إيران، تركستان، والولايات المتحدة وكندا. كانت طبيعة تشكيل المحفل الروحاني المركزي في كل من القوقاز وتركستان وإيران مختلفة لسنوات عديدة عن باقي المحافل الروحانية الأخرى حيث إن تشكيلها كان يتم دون انعقاد مؤتمر مركزي يجتمع فيه الوكلاء بحرّية وينتخبون مؤسستهم المركزية. ومع ذلك فإن الهيئة الإدارية قد وُجدت (أشار إليها ولي الأمر بالإنكليزية على أنها “محفل مركزي”، ولكنها بالفارسية كانت باصطلاح آخر غير الذي استُعمِل فيما بعد عندما جرت الانتخابات المركزية في إيران حسب الأصول)، واضطلعت بتصريف شؤون الجامعة المركزية. وعلى كل حال تمخّض الوضع في روسيا عن حلّ المحفليْن المركزييْن في القوقاز وتركستان حيث عُلِّقت جميع النشاطات البهائية بالكامل فيما بعد.
في أعماله وجهوده من أجل تأسيس النظام الإداري للأمر المبارك وجد شوقي أفندي نفسه مدعومًا بمقدرة شركاء له في العمل بارعين ومتفانين من كلا الشرق والغرب، والذين يبدو أنهم قد بُعِثوا بقدرة إلهية من أجل أن يُمسكوا برؤية ولي الأمر، ويستجيبوا لتعليماته وأوامره، ويتفاعلوا مع أفكاره باقتراحات بنّاءة، ويندفعوا بسرعة نحو تنفيذ رغباته وتوظيفها للمقتضيات المحلية.
وتزامنًا مع هذا الاندماج المفاجئ تقريبًا لعناصر النظام الإداري، كانت هناك عملية أخرى تأخذ طريقها في تثقيف الأحباء بالهدف الحقيقي للدين ومضامينه – تثقيفٍ ليس لأحد سوى حضرته، الذي وحده أُعطى حق التبيين والتفسير لتعاليمه – أن يقوم على تنفيذه. ولما كان من المستحيل على المرء أن يفصل الأداة عن الروح، دعونا نحاول، فنُلقي نظرة خاطفة على بعض الحقائق البارزة التي لفت شوقي أفندي أنظارنا إليها على مدى السنين.
إن إحدى أكثر ميزات شوقي أفندي روعةً أنه كان دومًا يدفع بآفاق أفكارنا وعقولنا إلى أبعد حد ممكن. إذ إن رؤيته للأمر الإلهي كانت تُشاهَد من ذُرى إحاطته وفهمه التام لمضامين تعاليمه. وفي السنوات الست والثلاثين من ولايته لم نرَ شيئًا في الأمر المبارك يغدو صغيرًا على الإطلاق، بل كل شيء فيه ينمو إلى الأكبر فالأكبر. كان هناك فسحة لا حدود لها أمام الأحباء، ليس لالتقاط أنفاسهم فحسب، بل وحتى يحلموا أيضًا. فحضرة بهاء الله الفاتح لكوْرٍ إلهي مدته خمسمائة ألف سنة، إنما يعتلي ذروة كور من النبؤات مدته ستة آلاف سنة قد بدأت بآدم. ومع هذا فإن ظهوره ما هو إلا حلقة في سلسلة غير متناهية من حلقات الهداية الإلهية. لقد لخّص ولي الأمر هذا المفهوم في بيانه الذي صاغه بكل براعة وقدّمه إلى “لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين” حيث جاء فيه: ‘فالمبدأ الأساس الذي أعلنه حضرة بهاء الله… هو أن الحقيقة الدينية نسبية وليست مطلقة، وأن الظهورات الإلهية عملية متعاقبة مستمرة، وأن جميع ديانات العالم العظيمة إلهية في أصلها، منسجمة تمامًا في مبادئها الأساسية، متفقة ومتماثلة في أهدافها ومقاصدها، وأن تعاليمها ما هي إلا مظاهر لحقيقة واحدة، وأنها متكاملة في وظائفها، وما اختلافها إلا في فروع أحكامها غير الأساسية، وأن رسالاتها تمثّل مراحل متتابعة من التطور الروحاني للمجتمع الإنساني. إن مقصد حضرة بهاء الله… ليس هدم الأديان السابقة، بل جاء تحقيقًا لوعودها… وهدفه… إعادة بسط الحقائق الأساسية الخالدة التي تكمن في تلك التعاليم الإلهية بما يتفق وحاجات… العصر الذي نعيش فيه… كما أن حضرة بهاء الله لا يدّعي لنفسه مقام الظهور الإلهي الأخير، بل بالأحرى يتعهّد بأن إشراقًا أكمل من الحقيقة… لا بدّ وأن يتكشّف في المستقبل على مراحل في سياق تطوُّر البشرية المستمر وغير المحدود.’
وفي البيان نفسه، بكلمات غاية في الوضوح والشفافية، يضع ولي الأمر النظام الإداري في الإطار السليم لعلاقته بهذا الظهور الإلهي: ‘إن النظام الإداري لدين حضرة بهاء الله، المُقدّر له أن يتطور إلى رابطة شعوب العالم البهائي… هو سماوي في أصله بخلاف الأنظمة التي نشأت وتطوّرت بعد وفاة مؤسسي الأديان المختلفة… وما يجب أن نلاحظه في هذا السياق، أن هذا الدين، الذي يقوم هذا النظام على خدمته وحمايته والإعلاء من مكانته، هو في جوهره فوق الحدود الطبيعية والقومية، وغير سياسي بالكلّيّة، يربأ عن التحزّب والحزبية، وعلى النقيض تمامًا من أي سياسة أو مدرسة فكرية تسعى إلى تمجيد أي عرق أو طبقة أو أُمَّة بالذات. إنه يخلو بالكلية من أي طقوس كنائسية أو نظام كهنوتي، وليس هناك من رجال دين ولا قساوسة، ولا شعائر دينية. دين ينحصر دعمه المادي بما يساهم به – بكل طواعية وعن طيب خاطر – أتباعه الذين أعلنوا إيمانهم به.’
إن ما يذهب إليه هذا المفهوم قد وضّحه ولي الأمر في مناسبة أخرى في واحدة من رسائله إلى البهائيين في الغرب بقوله: ‘إن نظامًا اتّحاديًا عالميًا – يبسط حكمه على سكان الأرض كافة… يجمع بين مثاليات الشرق والغرب ويجسّدها، متحررٌ من ويلات الحروب اللعينة… نظام تُسخَّر فيه القوة لخدمة العدل، ويغذي استمرارَ حياته إقرارُه العالمي بإله واحد، والولاءُ لظهور إلهي عامّ واحد – لهو الهدف الذي تتقدّم نحوه الإنسانية صاغرة مدفوعة بالقوى الموحِّدة للحياة.’
فبينما الأمر على هذا النحو، كانت هناك مسألة على جانب كبير من الأهمية ترتبط بالعالم وحاله، وهو ما جعله شوقي أفندي أيضًا واضحًا لنا في رسالته “قد جاء اليوم الموعود” بقوله: ‘لقد أمهل الله البشرية قرنًا بأكمله لعلهم يعترفون بمؤسس ظهور إلهي على هذا القَدْر، ويعتنقون دينه ويعلنون عظمته ويُقيمون نَظْمه البديع. في مائة مجلد… أعلن حامل هذه الرسالة الإلهية ما عهد الله به إليه إعلانًا لم يقم بمثله نبيٌّ من قبل… ربّما حقّ لنا أن نسأل أنفسنا كيف كافأ العالمُ، وهو المقصود بهذه العناية الإلهية، ذلك الذي ضحّى بكلّ ما عنده من أجله؟’ وكتب شوقي أفندي بأن رسالة حضرة بهاء الله قد قوبلت باستخفاف تام من صفوة القوم، ومَقْتِ رجال الدين، وسُخرية شعب إيران، وبالازدراء التام من معظم الملوك والحكام الذين خاطبهم حضرته، وحَسَدِ ومكر نفوسٍ في البلدان الأجنبية، وكلها شواهد على سوء المعاملة التي تلقّتها رسالة كهذه من ‘جيل غارق في الرضا الذاتي، غافل عن ربه، ناسيًا ما كشف له رسله من إنذارات وتحذيرات وتأنيب.’ ولهذا فإن الإنسان عليه أن يذوق ما اقترفت يداه. لقد رفض سَواءَ السبيل الذي يقوده إلى مصيره العظيم بقبوله موعود هذا الزمان، واختار الطريق الطويل، المرير، الملطّخ بالدماء، المظلم، الذي يقوده بالفعل إلى نار سَقَر قبل أن يعود ثانيةً ويتمكن من الاقتراب من الهدف الذي وُضع في الأصل عند أطراف أنامله ليمسك به.
إن كلمات حضرة بهاء الله نفسه تبيّن لنا بوضوح تام ماذا ينتظر الإنسانية وماذا تتوقعه نتيجة رفضها قبول رسالته منذ بداية إعلانها: “إنّا قد جعلنا ميقاتًا لكم فإذا تمّت الميقات وما أقبلتم إلى الله ليأخذنّكم عن كلّ الجهات ويرسل عليكم نفحات العذاب عن كلّ الأشطار وكان عذاب ربّك لشديد“[7]، “قد آن أوان فناء العالم وأهله”[8]، “قد جاء اليوم الموعود، يوم يدمدم عليكم العذاب من فوق رؤوسكم ومن تحت أرجلكم…”[9]، “عمّا قريب ينفخ فيكم صرصر الغضب الإلهي ويحيط بكم لهيب جهنّم.”[10]
منذ بداية ولايته، وقد تشبّع تمامًا بروح التعاليم المباركة، تنبّأ شوقي أفندي بمجرى الأحداث الذي بدا أن ليس بالإمكان تجنُّبُه. وفي وقت مبكر من ولايته في شهر يناير/ كانون الثاني 1923 رسم صورة المستقبل في رسالة إلى محفل روحاني محلي في أمريكا بقوله: ‘إن تيار النفاق والأنانية يجرف بدوّامته الأفرادَ والأمم، وما لم يُقاوَم سوف يُعرّض الحضارة الإنسانية نفسها للخطر، لا بل سيدمّرها. إنه واجبنا وامتيازنا أن نشدّ انتباه العالم إلينا تدريجًا وبكل مثابرة وإصرار بما نحن عليه من خلوص النيّة في بواعثنا المحرِّكة، واتساع مدى رؤيتنا، وبالتفاني والتماسك اللذين نتابع بهما عملنا في خدمة البشرية.’ هو لم يكن واضحًا في ما هو عليه وضع العالم وعلاجه فحسب، بل كان على درجة من الفطنة والذكاء بحيث لم يدع مجالاً للشك في إمكانية تفادي حدوث كارثة عالمية شاملة بعد ثمانين عامًا من التجاهل من جانب إنسانية غافلة. وقد كتب في شهر فبراير/ شباط 1923: ‘من الواضح أن العالم ينجرف مبتعدًا أكثر فأكثر عن روح التعاليم السماوية…’ لقد ذكّر شوقي أفندي البهائيين عِدّة مرات في كل من كتاباته وكلماته للزائرين للأرض الأقدس بالإنذار المرعب الهائل لحضرة بهاء الله: “إنّ التمدّن الذي يذكره علماء مصر الصنائع والفضل لو يتجاوز حدّ الاعتدال لتراه نقمة على الناس كذلك يخبركم الخبير. إنّه يصير مبدأ الفساد في تجاوزه كما كان مبدأ الإصلاح في إعتداله تفكّروا يا قوم ولا تكونوا من الهائمين. سوف تحترق المدن من ناره وينطق لسان العظمة الملك لله العزيز الحميد.“[11]
لقد أدرك شوقي أفندي منذ البداية أن هناك سرطانًا ماحقًا يلتهم كل ما هو حيوي في حياة البشر، ذلك هو المادية التي وصلت إلى درجة من التطور في الغرب لا يضارعها ذلك الانحطاط الذي طالما أفرزته في الحضارات الماضية حين ابتدأ سقوطها. ولما كان الكثير من الناس لا يعرفون ماذا تعني كلمة المادية، فلا ضير في أن نورد ما جاء في قاموس “وبستر” الذي يحدد بعض أوجهها بأنها ‘النزعة نحو توجيهِ اهتمامٍ مفرط للشؤون المادية؛ تكريس الحياة للأمور المادية ومتطلَّباتها.’ ويورد تعريفًا آخر يقول بأن الوجود الإنساني يجب أن يُنظَر إليه ويُفسَّر بلغة الطبيعة والمادة أكثر منه بواعث روحانية ومبادئ أخلاقية. كان موقف شوقي أفندي حيال هذا الموضوع قد عكسته فقرات لا عِدَّ لها من كتاباته بدءًا من عام 1923 وصولاً إلى عام 1957 موضِّحًا فيها الشرورَ التي تُنتج المادية، والمفاسد والآفات التي تولّدها بدورها هذه المادّية. ففي عام 1923 أشار إلى ‘حالة الارتباك والفوضى والمادية المفرطة التي غرقت فيها البشرية الآن’، وبعد سنوات قليلة كتب عن ‘اللامبالاة والمادية المُفرِطة وسطحية مجتمع اليوم’، وكتب عام 1927 إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا: ‘في قلب المجتمع نفسه حيث الأمارات المنذِرة بتفاقم الإسراف والتبذير والإباحية، التي من شأنها إلا أن تثير قوى التمرد وردود الفعل التي نراها تزداد بروزًا كل يوم.’ وفي رسالة عامة وجّهها ولي الأمر إلى البهائيين الأمريكيين عام 1933 تكلم حضرته عن ‘الحماقات التي تُرتكب، وروح الانتقام، التحايل والمراوغة، الزيف والرياء، والحلول الوسط التي يصطبغ بها العصر الحاضر.’ وفي رسالة عامة إلى الأحباء في أنحاء الغرب عام 1934 تكلم حضرته عن: ‘علامات تنذر بكارثة وشيكة الوقوع تعيد إلى الأذهان السقوط المدوّي للإمبراطورية الرومانية في الغرب، الأمر الذي يهدّد بابتلاع حضارة اليوم بكاملها.’ وفي الرسالة نفسها يقول: ‘كم هو مقلق عدم سيادة القانون، وتفشّي الفساد والإلحاد التي أخذت تنخر في كيان حضارة متداعية مترنّحة!’ وفي رسالته العامة إلى البهائيين في الغرب عام 1936 كتب يقول: ‘في أي اتجاه التفتنا ودققنا النظر… لا يمكن تجنّب صدمتنا بشواهد الانحلال الأخلاقي من حولنا وقد أصاب جميع جوانب حياة الرجال والنساء في حياتهم الفردية، وليس بأقل منها في مداركهم الجماعية.’ وفي عام 1938 حذّر ولي الأمر من ‘أن تحديات هذه الأوقات محفوفة بالمخاطر ومشحونة بالفساد إلى حدٍّ بعيد.’ ثم نراه يتكلّم عن أصل كل الشرور: ‘بسبب برودة اللادينية اللاسعة التي تنسلّ دون هوادة لتنال من أوصال الجنس البشري’، وعن ‘عالم قد خبا ضياؤه بكسوف أنوار الدين فيه باطّراد’، عالم باتت الغلبة فيه للمشاعر القومية العمياء، وفيه الاضطهاد الديني والعرقي يعملان فتكًا بلا هوادة، عالم شاعت فيه النظريات المزيَّفة والتعاليم المضلِّلة التي باتت تهدّد لتحل محلّ عبادة الله الحق، عالم في مجمله ‘أَوْهَنَتْ قواه مادّيةٌ مفرطة شرسة، وآخذ في التفسّخ والانحلال بما ابتُلي به من عوامل الانحلال الأخلاقي والتدهور الروحاني.’
وفي عام 1941 وجّه شوقي أفندي بعبارات عنيفة محددة انتقاده الشديد إلى النزعات السائدة في مجتمع اليوم قائلاً: ‘انتشار التمرّد على القانون وشرب المسكرات ولعب القمار والجنوح نحو الجريمة؛ ولوع جامح بالمتعة، لهاث وراء الثراء وأمور دنيوية أخرى تافهة؛ انحلال في الأخلاق يتجلّى في المواقف غير المسؤولة تجاه الزواج، وفي ضعف الإشراف الأبوي، وفي ارتفاع معدّل الطلاق، وفي تدنّي مستوى الأدب والصحافة، وفي مناصرة نظريات هى بعينها ضد الطهارة والفضيلة والعفة – هذه الشواهد من الانحطاط الخلقي الذي يغزو ربوع الشرق والغرب، والتي نراها تنفذ إلى كل طبقة من طبقات المجتمع لتنفث سمومها في أفرادها ذكورًا وإناثًا، شيبًا وشبّانًا على السواء، لا تزال توغل فيها وتُسَوِّدُ صفحات تاريخها التي نُقشت عليها خطايا وآثام إنسانية لا تتوب.’ وفي عام 1948 عاد شوقي أفندي ليَصِمَ المجتمع الحديث بأنه ‘متشنّج سياسيًا، متدهور اقتصاديًا، مُمزَّق اجتماعيًا، منحلّ أخلاقيًا، محتضرٌ روحانيًا.’ بمثل هذه الكلمات التي عاد وكرَّرها عدة مرات كان ولي الأمر يسعى جاهدًا إلى حماية الجامعات البهائية وتنبيهها إلى الأخطار المُحْدِقة بها.
ومهما يكن من أمر، فإن شوقي أفندي أخذ في نهاية حياته يركّز على هذا الموضوع بانفتاح أكبر وعلى فترات مشيرًا إلى أنه بالرغم من أن أوروبا كانت مهد ‘الإلحاد’ وسرير ‘مدنية غاية في التبجُّح، إلا أنها لا تزال مدنية فجّة ناقصة جديرة بالرثاء’، فقد أصبحت الولايات المتحدة الآن ذلك النصير الأول الفعّال لتلك المدنية، وأن مظاهرها في ذلك البلد قد أدّت اليوم إلى درجة من المدنية الجامحة التي باتت تشكّل الآن خطرًا داهمًا على العالم بأسره. في رسالة إلى البهائيين في الولايات المتحدة عام 1954، صاغها بعبارات له غير مسبوقة، لخّص شوقي أفندي الامتيازات الاستثنائية التي تتمتع بها تلك الجامعة، والفتوحات الاستثنائية التي أحرزتها. إلا أنها كما قال: تقف عند منعطف حرج في تاريخها، ليس في تاريخها هي فحسب بل وفي تاريخ أمتها الأمريكية، أمة وصفها بأنها ‘الصَدَفة التي تدّخر عضوًا ثمينًا جدًا في الجامعة العالمية’ لأتباع حضرة بهاء الله. في هذه الرسالة أشار إلى أن البلد الذي يشكّل البهائيون الأمريكيون جزءًا منه ‘يمرّ الآن بأزمة هي في أوجهها الروحانية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية أزمة في منتهى الخطورة – خطورة قد يَبْخس المراقب السطحي تقديرَ مداها.
‘إن التدهور المستمرّ المنذر بالخطر في المعيار الأخلاقي المتمثّل في الارتفاع الرهيب لوتيرة الجريمة، وفي الفساد السياسي دائم الاتساع حتى في الدوائر العليا، وفي تفكك الروابط المقدسة في الحياة الزوجية، وفي الرغبة الجامحة في اللهو والملذّات، وفي الإهمال المتزايد الواضح في الإشراف الأبوي، لا شك أنه المظهر الأشد لفتًا للنظر ومَدْعاةً للأسى لذلك الانحدار الذي أخذ مجراه ويمكن رؤيته بوضوح وهو ينهش في مقدَّرات الأمة بأكملها.
‘يتوازى مع هذا الفساد متغلغلاً في جميع مناحي الحياة – شرّ تشارك فيه الأمة، وفي واقع الأمر، كل أولئك الذين يدورون في فلك النظام الرأسمالي، ولو بدرجة أقل، مع تلك الدولة وحلفائها الذين يُعتبرون الأعداء الألدّاء لذلك النظام – إنه المادية الصرفة التي تشدد على الرفاهية المادية وتوليها اهتمامًا كبيرًا متزايدًا، غافلة عن تلك الأمور المتعلّقة بالروح، والتي عليها وحدها يمكن إقامة أساس مستقرّ أكيد لمجتمع إنساني. إنه المادية السرطانية نفسها، التي وُلدت أصلاً في أوروبا وحُملت إلى قارة أمريكا الشمالية لتتبنّاها بكل إفراط، ثم نراها تنتشر ملوّثةً شعوب آسيا وأممها، وترسل مِجَسّاتِها المشؤومة إلى تخوم إفريقيا وتغزو الآن قلبها في الصميم، والتي ندّد بها حضرة بهاء الله في آثاره المباركة بلغة واضحة أكيدة، مشبهًا إيّاها بأَلْسِنة اللهب الملتَهِمة، ومعتبرًا إياها عاملاً رئيسًا في حدوث المحن الرهيبة والأزمات الخانقة التي تهز العالم وتزعزع أركانه، والتي لا بد لها أن تأخذ المدن بحريقها، وتبثّ الذعر والرعب في قلوب البشر.’
لقد أعاد شوقي أفندي إلى أذهاننا صوت حضرة عبد البهاء الذي رفعه عاليًا أثناء زيارته إلى أوروبا وأمريكا من على المنصّات والمنابر بندائه ‘المؤثّر المتواصل’ ضد هذه ‘المادية الخبيثة المُهلِكة’، مشيرًا إلى أنه ما دام ‘هذا الانحلال في الأخلاق المنذر بالشؤم، وهذا الضغط المتعاظم الواقع على الإنسان في لهاثه وراء الرفاهية المادية’ مستمرًا، فإن الأفق السياسي سوف يُظلم أيضًا ‘كما هو مُشاهَد في اتساع الهُوّة الفاصلة بين مناصري مدرستين متضادّتين في الفكر، اللتين مهما تباعدتا في إيديولوجيتهما، فهما مُدانتان عمومًا ممن يدعمون معايير مبادئ دين حضرة بهاء الله، بسبب فلسفتهما المادية البحتة وتجاهلهما القِيَم والفضائل الروحية والحقائق الخالدة التي عليها وحدها يمكن أن تقوم مدنية مستقرّة ومزدهرة في نهاية المطاف.’
جلب ولي الأمر انتباهنا باستمرار إلى حقيقة أن أهداف عالم اليوم ومعاييره وممارساته في معظمها تتعارض مع ما يؤمن به البهائيون أو يسعون لتأسيسه، أو هي شكل مُشوّه له. إن إرشاداته لنا في مثل تلك الأمور لم تقتصر على مواضيع صارخة ملتهبة كتلك التي وردت في المقتطفات السابقة، بل ثقّفنا أيضًا – إذا ما قبلناه معلّمًا لنا – في مسائل الذوق الرفيع، والحُكم السديد، والتربية الصالحة. غالبًا ما كان يقول: هذا هو دين الاعتدال الذهبيّ، دين الوسطية المنزّه عن كل تطرّف، ولا يعني بذلك دينَ المساومة الذي يقبل بالحلول الوسط، بل يعني أنه الجوهر الحقيقي لما تختزنه كلمات حضرة بهاء الله التالية من فكر: “ولا تفرّط في الأمور“[12]، “إن الذي تمسّك بالعدل إنه لا يتجاوز حدود الاعتدال.“[13] إننا نعيش في مجتمع ربما لم يشهد العالم مثيلاً له في تطرّفه، مجتمع يتساقط بنفسه إلى قطع متناثرة لأنه أدار ظهره عن الله ورفض الإذعان لمظهر أمره.
لم ينظر شوقي أفندي إلى هذا المجتمع كما ننظره نحن، فلو فعل ذلك لما كان هادينا ولا كان حامينا. فبينما المظهر الإلهي يأتي من عوالم الله الملكوتية ومعه دستور عهد جديد للبشرية، فإن مقام ولي الأمر ووظيفته مختلفان تمامًا. لقد كان رجل القرن العشرين بكل ما في الكلمة من معنى. وبعيدًا عن كونه غريبًا عن العالم الذي عاش فيه، يمكن للمرء أن يقول بأن حضرته قد مثّل أفضل ما في هذا العالم بفكره المنطقي الواضح، وبتقييمه التلقائي غير المنحاز. ومع ذلك، فإن إدراكه نقاط ضعف الآخرين ونقائصهم لم يجعله يميل إلى اللّين أو التساهل أو القبول بالخطايا والنزعات الآثمة والصفح عنها بحجة أنها شائعة وعامّة، وليس هناك من تأكيدٍ أشدّ من هذا على هذه النقطة. إننا كبشر نزّاعون إلى الاعتقاد بأن شيئًا ما إذا كان عامًا وشائعًا يكون صائبًا؛ أو لأن قادتنا وعلماءنا يتبنّون وجهة نظر معيّنة تكون هي الصواب، وكذا الأمر أيضًا إذا أكّد لنا الخبراء بأن هذا أو ذاك أو شيئًا آخر هو الصواب، ويؤكدون ويصرّون عليه كونهم يتكلمون بصوت السلطة. مثل هذا الرضا لم يجد له مكانًا لدى شوقي أفندي. كان يرى كل شيء في عالم اليوم من خلال تعاليم حضرة بهاء الله – أكان في دنيا السياسة، في الأخلاق، في الفن، في الموسيقى، في الأدب، في الطب، أم في علم الاجتماع. فلو اتفق أيٍّ منها وخطوط الهداية التي أنزلها حضرة بهاء الله يكون عندها توجُّهًا صحيحًا. وبعكس ذلك يكون في المسار الخطأ والخطير.
لقد منحنا شوقي أفندي على مرّ السنين ما أرغب في تسميته ‘خطوط الهداية’؛ فوضّح لنا المبادئ والتعاليم والأفكار العظيمة في ديننا. قِلّة منها فقط يمكن انتقاؤه كيفما كان لعمل بهذا الاتساع وهذه الشمولية، إلا أنها بالنسبة لي لها أهمية خاصة في تشكيل نظرتنا البهائية في العالم الذي نعيش فيه اليوم. إحدى المعتقدات الحديثة المضلِّلة التي تتنافى بكل أبعادها وجميع تعاليم الديانات السماوية هي أن الإنسان غير مسؤول عن أفعاله ومعذور في ما يرتكبه من أخطاء لأنها وليدة عوامل شكّلت ذلك الإنسان. هذا جدال لم يكن لشوقي أفندي أن يصبر عليه لأنه لا يتّفق وكلمات حضرة بهاء الله التي تقول: “إنّ مُرَبِّيَ العالم هو العدل لأنه حائز لركني المجازاة والمكافأة، وهذان الركنان هما الينبوعان لحياة أهل العالم.”[14] وعليه فإن الأفراد والشعوب والجامعات البهائية وكامل الجنس البشري كلٌّ مسؤولٌ عن أفعاله. فبالرغم من وجود عدة عوامل تتدخَّل في اتخاذ كل قراراتنا، فإن جوهر العقيدة البهائية هو أن الله سبحانه وتعالى قد وهبنا الفرصة والقدرة والعون في اتّخاذ القرار السليم، وبموجبه سنُكافأ إذا أفلحنا أو نُجازى لو أخفقنا. وهو مفهوم يتعارض، على وجه التقريب، مع تعاليم عِلم النفس التربوي الحديث. لقد كان لي هذا المبدأ صورة حية في حياتي الشخصية. فعندما منحني شوقي أفندي هذا الشرف العظيم وغير المتوقع واختارني زوجة له، فكّرت حينها، على الأقل بالنسبة لي، بأن كل قلقي وحيرتي عما ستكون عليه خاتمتي الروحانية قد ولّتا. سوف أكون معه وبقربه، وهو ما يشبه الموتَ الذي يعقبه دخول الجنة حيث لن يصيبني فيها شيء آخر. في محادثة معه ذات يوم قال لي شوقي أفندي كلمات كان لها وقع شديد في نفسي: ‘مصيرُكِ مرهون بما اكتسبتْ يداكِ.’ عندها ارتجفتُ رُعبًا! واسترجعتُ في ذهني حقيقة أن الحياةَ مسيرةُ نضال طويل من أجل عملٍ صالحٍ يفيد روحي.
كانت روابط شوقي أفندي قائمة على هذا المبدأ في علاقاته مع العالم البهائي بأكمله ومع الأفراد والرسميين وغير البهائيين. كان صبورًا حليمًا إلى أبعد الحدود إلا أنه في النهاية كان يأتي العقاب سريعًا وعادلاً، ومكافآته أيضًا سريعة تبدو لي دائمًا فوق استحقاق من يتلقّاها.
لقد عكست كتابات حضرة الباب وحضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء وشوقي أفندي أسمى معايير الأدب واللغة، أكان منها بالفارسية أم بالعربية أو الإنكليزية. لم تأتِ أقلامهم بكلمة إلا وتحمل في مضمونها معنىً ومغزىً عميقيْن. أذكر يومًا أن أحد الزائرين للأرض الأقدس، وبمحض إخلاصه وتواضعه وهو في محضر ولي الأمر، قد تكلَّم عن صعوبة فهم الأحباء العاديين في أمريكا رسائلَه وكتاباتِه واقترح تبسيط لغتها ولو قليلاً. أجابه ولي الأمر بحزم أن هذا ليس بالحلّ السليم، بل على الأحباء أن يرتقوا بمستوى لغتهم الإنكليزية، مضيفًا بصوته العذب ولفظه الجميل – ولمعة بريق في عينيه – بأنه هو نفسه كتب باللغة الإنكليزية[15]. إن إشارته الضمنية إلى أن الكثير من الكتابات في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي لم تقع دومًا ضمن هذه الفئة كانت واضحة تمامًا! فقد حثّ حضرته القائمين على المجلات البهائية أن يستعملوا ‘لغة رفيعة بأسلوب مؤثّر’، وهو بالتأكيد قد وضع نفسه قدوة لنا في جميع الأوقات.
في بداية زواجي انتابني بعض القلق عما يمكن أن تكون عليه نظرة شوقي أفندي تجاه الفن الحديث. تحيّرتُ ماذا عساي أن أفعل لو وجدتُه معجبًا بنزعات وصرعات الفن الحديث في الرسم والنحت والبناء وأنا أحب عهود الفن العريق في ثقافتنا وثقافة الآخرين. لم أكن بحاجة إلى تلك المخاوف. كان بمقدورنا أن نزور معًا متاحف أوروبية شهيرة ومعارض فنية من وقت لآخر، وسرعان ما اكتشفتُ، وهو ما أراحني إلى أبعد الحدود، أن عشقه للتناسق والجمال وحبّه للطراز المتقن والتعبير الراقي للقِيَم الأصيلة كان حقيقيًا وعميقًا. إن البحث الأعمى عن طراز جديد من الفن، مهما بدا صادقًا ومنطقيًا، والذي أعقب الانهيار الشامل للطُّرُز القديمة في العالم، لم يكن ليشتبه على شوقي أفندي فيعتبره مؤشرًا على تعبير جديد متطوّر للفن، ناهيك عن كونه تعبيرًا بهائيًا عن أي شيء. كان ولي الأمر على دراية تامّة بالتاريخ، ولم يكن ليخطئ أدنى دركات التفسّخ والانحطاط، التي هي انعكاس لمجتمع منحطّ محتضِّر، فيعتبرها ولادة طراز جديد من الفن من وحي النظام العالمي لحضرة بهاء الله! لقد أدرك شوقي أفندي أن ثمار الشجرة تأتي في المرحلة الأخيرة من نموّها وليس في الأولى؛ ويعلم أن نظامًا عالميًا يستمدّ قوّتَه من سلام واتحاد عالمي يجب أن يأتي أولاً، يتبعه إزهار تعبير جديد وناضج للفن في العصر الذهبي لأمر الله. ولئلا يكون هناك أدنى شك في ذلك، انظروا إلى البناء الفوقي للمقام الأعلى لحضرة الباب ومبنى محفظة الآثار العالمية اللذين أقامهما؛ وإلى تصاميم مشارق الأذكار الأربعة: على جبل الكرمل، وطهران، وسيدني، وكمبالا التي اختارها بنفسه. لقد كانت تصاميم محافِظة وقورة بشهادة الجميع ومستَلهَمة من عراقة الماضي وتجاربه؛ كما أنها اعتمدت في شكلها على طُرُزٍ صمدت أمام تقلّبات الزمن وامتحاناته، وستبقى كذلك إلى أن يصبح بالإمكان تطوير طراز جديد هو ثمرة تطوّر هذا العالم بتأثير تعاليم حضرة بهاء الله. لقد دوّنْتُ بنفسي ملاحظة شوقي أفندي، بعد أن شاهد تصميم مشرق أذكار كمبالا الذي أُرسل إليه: ‘الأفارقة المساكين! هل أصبحوا بهائيين ليتجمّعوا تحت سقف أبنية بشعة كهذه!’ لقد هبَّ لحماية إخوانه وأخواته العزيزين جدًا على قلبه في تلك القارّة بأن طلب لهم تصميمًا معماريًا تمّ ابتكاره في المركز البهائي العالمي كان هو نفسه قد أحبّه ووافق عليه. على المرء الرجوع فقط إلى رسائله الخاصة للتأكد من ذلك. ففي رسائل كتبها عام 1956 إلى محفليْن روحانييْن مركزييْن مختلفيْن بخصوص مشرقَيْ أذكار مختلفيْن، أورد سكرتيره وجهة نظر حضرته كما يلي: ‘بما أنه أم المعابد… فإنه يشعر بأن له أهمية كبرى؛ ويجب الحفاظ على مكانته ووقاره في جميع الظروف والأحوال، وألاّ يحمل أية صِبْغة يمكن أن تبدو متطرّفة في فن بنائه. لا أحد يعلم كيف سيكون حكم جيليْن أو ثلاثة من الآن على طُرُز وقتنا الحاضر؛ والبهائيون، من جهة أخرى، لا يمكنهم أن يتحمّلوا كلفة بناء مشرق أذكار آخر إذا ما وجدوا أن ما بنوه اليوم سيبدو متطرفًا جدًا وغير مناسب لذلك الوقت من المستقبل’، ‘هو يأسف لأنه خيّب أمل السيد ف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ … وعلى كل حال لم يكن هناك مجال لاحتمال قبول شيء على هذا النحو من التطرف. إن ولي الأمر يعتقد جازمًا أنه بغضّ النظر عما يمكن أن يكون عليه رأْيُ مدرسة العمارة الحديثة في هذا الموضوع، فإن طُرز التصاميم في العالم في عصرنا الحاضر ليست بشعة جدًا فحسب، بل وتفتقر كليةً أيضًا إلى الوقار وحسن التناسق والجمال الذي يجب أن يتوفر ولو جزئيًا على أقل تقدير في مشرق الأذكار البهائي. يجب ألا يغيب عن البال دائمًا أن السواد الأعظم من البشر ليسوا عصريين جدًا ولا متزمّتين للغاية في أذواقهم، وأن ما تعتقده المدرسة المتقدمة الحديثة أنه مدهش ورائع، غالبًا ما يكون في الحقيقة عديم الذوق لدى الناس البسطاء والعاديين.’
نفس الأفكار التي كانت تحرّك ولي الأمر في عالم الفن والأدب، كانت تنطبق على مشاعره نحو الموسيقى التي كان يكنّ لها حبًا كبيرًا.
إن ما يستشفُّه المرء مما ذُكر أعلاه أن ولي الأمر تعلقت إرادته بحفظ أمر الله وصيانته، وأن يؤمِّن للدين ومؤسساته النفيسة مستوىً رفيعًا من الوقار والجمال من شأنه أن يحمي اسمه المقدس، والطبيعة القدسية لمؤسساته، وسمته العالمية، وحداثته وما يَعِدُ به، من أهواء ونزوات عصر يمرّ بمرحلة من التحوّل والانتقال، ومن التأثير المفرط لحضارة فاسدة غربية بالكامل. لأن من الواجب أن نضع في أذهاننا أنه حتى وقتنا الحاضر فإن أكثر أتباع الدين هم من أصل آري بينما غالبية الجنس البشري ليسوا كذلك. أذكر وأنا أشاهد ملامح وجه أول بهائي ياباني كان يزور الأرض الأقدس عندما قال له شوقي أفندي، وهو يحدّق في وجهه بعينيه الرائعتيْن المعبِّرتيْن، بأنه طالما أن غالبية الجنس البشري ليسوا بيضًا فليس هناك من مبرر أن يكون معظم البهائيين بيضًا. إن لهجة التأكيد هذه، وهذا الانفتاح الذي اتّسم به كلام ولي الأمر كان واضحًا أنه كشفٌ مثير للدهشة بالنسبة لذلك الرجل من الشرق الأقصى العائد من الولايات المتحدة بعد إقامة طويلة.
كم من البهائيين يقدّرون حقيقة أنه كما أن العفّة والأمانة والصدق هي صفات عليهم التحلّي بها، فإن اللطف والكياسة والوقار والإجلال هي كذلك قِيَمٌ أخلاقية مُلزِمة لهم حضّت عليها تعاليم حضرة بهاء الله؟ في واحدة من البرقيات المبكرة التي أرسلها شوقي أفندي إلى أمريكا نراه يشدّد على هذه النقطة بقوله: ‘إن الحفاظ على هيبة الأمر المبارك ووقاره يتطلّب استعمالاً مقيَّدًا للاسطوانة المسجّل عليها صوت حضرة عبد البهاء.’ فالإحساس بقداسة الأشياء من أعظم النعم التي تُوهب للإنسان، وقد وجّه شوقي أفندي أنظارنا مرارًا وتكرارًا إلى هذا الأمر في تعليمات مثل: ‘احرصوا ألاّ يلتقط أحدكم صورة فوتوغرافية لصورة حضرة الباب أثناء عرضها.’ إن النظر بتفرّس إلى صورة أصلية التُقِطت لوجه المظهر الإلهي أكانت لحضرة الباب أم لحضرة بهاء الله هو امتياز فريد علينا أن نتعامل معه على هذا الأساس، وليس كنسخة أخرى عنها تتناقلها الأيدي.
إن شرح وبيان ولي الأمر لِمَا جاء في التعاليم المباركة حول الدوْر الذي دُعيت أمم معينة لتأديته في التاريخ في بداية الكور البهائي قد أنار العقول وحرّك الفكر وأثاره، وغالبًا ما يختلف اختلافًا بيّنًا عن مفهومنا المحدود. إن السبب في أن إيران هي مهد الأمر المبارك وأمريكا مهد نظامه الإداري البديع يرتكز على التعاليم الإلهية القائلة بأن روح القدس هي القوة الأعظم في العالم، هي الكيمياء الإلهية والإكسير الأعظم الذي باستطاعته أن يحوّل معدن النحاس الصرف الرخيص إلى الذهب النفيس. ففي رسالته “ظهور العدل الإلهي” يعلّمنا ولي الأمر هذه الحقيقة الأساسية، فكتب يقول: ‘أن نقتنع بأن الاستحقاق الفطري، والمعيار الخلُقي العالي، والكفاءة السياسية، والمكانة الاجتماعية الحاصلة لأي جنس أو أمة، هي السبب في ظهور أي من تلك الأنجم الإلهية الساطعة بين ظهرانيها، إنما يُعتبر انحرافًا مطلقًا عن الحقائق التاريخية، ويعدُّ إنكارًا كاملاً للتفاسير القطعية التي جاء بها حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء بكل صراحة وتأكيد.’ ويسترسل في قوله مبيّنًا بأن أقوامًا وأجناسًا كهذه اجتباهم ربهم خصيصًا، إنما عليهم أن يعترفوا دون تحفّظ ويشهدوا بكل جرأة بحقيقة أن اختيارهم على هذا النحو كان بسبب حاجتهم الماسة، وانحطاطهم المحزن، وغيّهم وتماديهم الذي لا سبيل إلى معالجته، وليس بسبب أي امتياز عنصري أو مقدرة سياسية أو فضائل روحانية. من أجل أسباب كهذه اختار حضرة الباب وحضرة بهاء الله إيران مهدًا لأمر الله وأمريكا مهدًا لنظمه العالمي البديع. ومن خلال تحقُّق هذا القانون الإلهي العظيم يظهر مجد الله وبهاؤه ليجعل الإنسان يدرك أن مصدر قوّته وعزّه وسلطانه هو الله وحده. إن كون أفراد أمة ‘من بين أكثر الأمم تخلّفًا والأكثر وضاعة وجبنًا، وضلالاً وفسادًا’ قد انقلبوا عندما قبلوا الرسالة الإلهية إلى سليلي أبطال أشاوس ‘مؤهّلين لأن يؤثّروا بدورهم في تطويرٍ مماثلٍ في حياة الجنس البشري’، لهو برهان على قوة روح ظهور حضرة بهاء الله المجدِّدة. وبيّن شوقي أفندي أن المبدأ نفسه ينطبق على أمريكا عندما صرّح قائلاً: ‘بالرغم من خصائصها وإنجازاتها العظيمة الأخرى التي لا يمكن إغفالها، فإنها، وعلى وجه الدقة، بسبب ما فيها من شرور ومفاسد مباحة ولّدتها فيها ويا للأسف مادّية مفرطة مهيمنة’ قد اختيرت لتكون حامل لواء النظام العالمي الجديد. واسترسل بقوله: ‘إنه بوسائل كهذه يمكن لحضرة بهاء الله أن يُظهر بأفضل ما يكون قوته وقدرته على أن يبعث من وسط شعب غارق في بحر من المادية، جيل هو فريسة أحد أخبثِ وأطولِ أشكالِ التعصب العنصري، ومعروف بفساد نظامه السياسي، وتمرُّده على القانون، وانحطاط مستوى قِيَمه الأخلاقية، رجالاً ونساءً، سيغدون بمرور الوقت مثالاً لتلك الفضائل الأساسية في الانقطاع ونكران الذات، واستقامة الخلق، والعفّة، والأُخُوّة المتحررة من أي تعصب، والانضباط المقدس والبصيرة الروحية’ وهو ما سيؤهلهم لأداء دور متفوّق في تأسيس نظام حضرة بهاء الله العالمي.
عندما شرع شوقي أفندي في كتابة رسالته “ظهور العدل الإلهي”، كان في أحد الأيام يسهب في هذا الموضوع، وفجأة صرّح بأن الولايات المتحدة هي أكثر بلاد العالم فسادًا سياسيًا. لقد أذهلني حقًا ما سمعته لأنني كنت أفترض دائمًا أنه بسبب نظامنا الديمقراطي ومكانتنا السياسية أن اختارنا الله لبناء نظامه الإداري! تجرّأتُ وقلتُ محتجّة بأن إيران هي بالتأكيد أكثر فسادًا سياسيًا، فأجابني لا! بل أمريكا هي الأكثر فسادًا سياسيًا. ولا بدّ أنه قرأ حينها في وجهي تعابير دهشتي من هذه الفكرة الجديدة وكم كانت صعبة عليّ وليس من السهل استيعابُها وتَقَبُّلُها، لأنّه أشار إليّ فجأة بإصبعه قائلاً: ‘اقبليها هكذا فهي مفيدة لكِ.’ قبلتُها وبقيتُ صامتة. ولما أخذ يفصّل ويتوسّع في هذا الموضوع، وأخذ قلمه يخطّ فقراته الخالدة حوله، أصبحتُ أرى بوضوح، على مرّ السنين، كيف كان حضرته يُعلن ويوضّح من التعاليم الإلهية تلك الأحكام والحقائق الروحانية العظيمة التي يكمن فيها شفاؤنا وقوّتنا إذا ما أدركناها وتمسّكنا بها. نحن كبهائيين لن نُصيب نفعًا إذا حملنا أفكارًا خاطئة هي نتاج اصطباغ تعاليم المربّي الإلهي بأفكارنا المحدودة المتحيّزة صنيعة بيئتنا. فلا شيء يمكن تحسينه أو جعله أكثر فائدة بالتحريف والتشويه. لهذا السبب تراني أعتبر تلك المواضيع العظيمة، وهذه البيانات التي منحنا إياها ولي الأمر عن الحقيقة خطوط هداية للفكر ستمكّننا من رؤية الأشياء كما هي عليه، والحصول على الفهم الصحيح لديننا.
إن هذه المقاربة الحقيقية والواقعية لولي الأمر قد عنت أنه لم يكن يقدّر القوة الحقيقية للأمر المبارك حق قدرها فحسب، بل كان واعيًا أيضًا لحدوده في الوقت الحاضر. وهو لم يخلط أبدًا بين الأمريْن. في رسالة له لشاب غير بهائي في الولايات المتحدة عام 1926 قال: ‘نؤمن بأن روح أمر الله آخذة في توجيه الشعوب والأمم بالتدريج، وأن جميع البهائيين مدعوون أن يواظبوا على دفاعهم عن المبادئ والتعاليم السامية التي أتى بها حضرة بهاء الله. هم لن يكونوا في مَعزِل عن المساعي الإنسانية العظيمة لقادة الفكر العام الحقيقيين، ويرحّبون دومًا بكل فرصة لإسماع صوتهم وضمّه إلى الحركات الأخرى المنادية بالسلام والحقيقة والعدالة.’ بالرغم من هذا، لم يكن لدى ولي الأمر تصوّر خادع لمدى ما نملكه من قوة ونفوذ يمكن استخدامهما. ففي شهر يوليو/ تموز 1939 كتب للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا (الذي يمثل أقوى الجامعات البهائية وأكثرها حريةً) بأنهم لا يستطيعون فرض إرادتهم على أولئك الذين يقع في أيديهم مصير البهائيين في إيران، وأنهم لا يزالون غير قادرين على إطلاق حملة ضخمة وفعّالة بشكل كافٍ تشدّ انتباه العالم وتوقظ ضمير البشرية ليضمنوا خلاص إخوانهم المضطهدين من المظالم التي يتعرّضون لها، وأنهم لا يملكون السلطة ولا النفوذ حاليًا في المجالس الأممية بالقدر الذي يتناسب وعظمة أمر حضرة بهاء الله وأحقيّته، وأنهم لا يستطيعون تولّي مركز يسمح لهم بممارسة مسؤوليات تمكّنهم من ‘أن يعكسوا اتجاه العملية التي تدفع بالمجتمع الإنساني ومؤسساته إلى هاوية التفكك والانحلال بشكل مأساوي.’
كان ذلك عام 1948 عندما كتب شوقي أفندي قائلاً: ‘ليس لنا أن نتكهن أو نمعن النظر في الأعمال الآنيّة للعناية الإلهية الغامضة التي توجّه بالمِثْل تلك الأقدار المتهاوية لنظام يحتضر وبروز خطة إلهية مجيدة تحمل في ثناياها بذور انبعاث روحاني جديد يحمل للعالم خلاصه وبُرءَه في النهاية.’ تكلم ولي الأمر مرارًا إلى الزائرين للأرض الأقدس عن خطتين: خطة داخلية خاصة بنا – وهي مشاريع الخطة الإلهية التي يقع علينا وحدنا واجب تنفيذها –
وخطة الله القدير التي تغطّي الكوكب بأسره، وهو سبحانه الذي يطبّقها بطريقته الخاصة من خلال قوى تعمل خارج نطاق الدين من أجل تسريع الوصول بها إلى خواتمها التي قدرها لها. وبقدْر ما يعمل البهائيون ضمن إطار خطتهم والإسراع في تحقيق أهدافها – وهو تأسيس ملكوت الله على الأرض – بقدر ما سوف يهْطُلُ عليهم غيث بركات حضرة بهاء الله وتأييداته؛ وبمقدار ما يتجاهل العالم رسالة حضرة بهاء الله ويتمادى في غيّه وضلاله، بقدر ما سيُنزل الله بشعوبه وأممه على السواء عقابه، فيفتِّتهم ويطحنهم ليجعل منهم عالمًا واحدًا لأنهم رفضوا أن يشكِّلوا هذا العالم بسلام من خلال التعليمات التي منحهم إياها رسول الله لهذا اليوم.
ولطالما أشار ولي الأمر على الدوام لأتباع حضرة بهاء الله إلى ذلك الفارق البيِّن بين اندماجهم في نظام عالمي موحَّد منبعث روحانيًا، وبين الانحلال والتفكك والتحزب والكراهية التي تفتك بمعظم الأجناس والأديان والأحزاب السياسية، مؤكدًا مرارًا وتكرارًا على تلك الأخطار التي تنتظرهم إذا لم ينأَ البهائيون بأنفسهم بكل حزم وإصرار عن تلك الخلافات والنزاعات. ففي شهر سبتمبر/ أيلول 1938، وبينما كانت البشرية تنجرف نحو شفا هاوية الحرب العالمية الثانية، أبرق شوقي أفندي بتحذيره الشديد وبتعليماته الصريحة إلى البهائيين داعيًا إياهم إلى التزام الحياد الكامل قائلاً: ‘إن الولاء لنظام حضرة بهاء الله العالمي وضمان حماية مؤسساته الأساسية إنما هما مطلبان ملزِمان لجميع البهائيين، خاصة بُناته الأبطال في القارة الأمريكية، في هذه الأيام التي أُطلق فيها العنان لقوى الفساد التي يتعذر السيطرة عليها وهي تُعَمّق الشقاق وتزرع الفرقة بين الشعوب والأقوام وأتباع العقائد والطبقات، الأمر الذي يحتّم عليهم، بالرغم من أي ضغوطات قد يولّدها الرأي العام الآخذ بالتبلور بسرعة، أن يمتنعوا بالكلية، فرادى وجماعات، قولاً وعملاً، بشكل رسمي أو غير رسمي في كل ما ينطقون به أو يصدرونه من منشورات، عن توجيه أي لوم، أو التحيّز لأي جانب، مهما كان ذلك غير مباشر، في هذه الأزمات السياسية المتكررة التي تحتدم الآن لتُطوِّق في نهاية المطاف المجتمع الإنساني. إن أخطر ما أخشاه أن يؤدي التأثير التراكمي لمساومات على هذا النحو إلى تمزّق نسيج الجامعة وسدّ قناة الفضل التي تغذّي نظامًا إلهيًا في أساسه يتسامى فوق القوميات ونفوذه فوق الطبيعة، نظامًا قد تطوّر بغاية الجهد والمشقة وتأسست أركانه مؤخرًا.’
إن محبّة الوطن عند البهائيين لا تتجلّى في الولاء للتعصبات القومية والأنظمة السياسية، بل بالأحرى في طريقين: بأن يخدم المرء وطنه برعاية مصالحه الروحانية العليا، ثم بالطاعة التامة للحكومة كيفما كانت عليه. وقد بيّن ولي الأمر عام 1932 أن توسُّع النشاطات والفعاليات البهائية في أنحاء العالم، و’تنوع الجامعات البهائية التي تعمل تحت ظلّ حكومات تتفاوت في شكلها، وتختلف جوهريًا في معاييرها وسياساتها وطرقها، يجعل من الضروري تمامًا لعموم… الأفراد في أيٍّ من تلك الجامعات أن يتجنّبوا أي تصرّف من شأنه أن يخلق الشبهات أو يثير عداء أي حكومة، فيُقحمون أخوة لهم في اضطهادات جديدة…’ وذهب إلى القول: ‘وإلا، قد أتساءل، كيف يمكن لدين كهذا واسع الانتشار، الذي يتخطّى الحدود السياسية والاجتماعية، والذي يضم في حظيرته تنوعًا كبيرًا من الأعراق والأمم، والذي عليه أن يعتمد بشكل متزايد، وهو يتقدّم إلى الأمام، على دعم حكومات الأرض المتنوعة المتنافسة ونواياها الحسنة – كيف لدين كهذا أن ينجح في الحفاظ على وحدته وحماية مصالحه وضمان تطوير مؤسساته بوتيرة ثابتة تنعم بالأمان؟’ وفي مناسبة أخرى كتب شوقي أفندي: ‘دعهم يعلنون أنه في أي موطن أقاموا، ومهما بلغ تقدُّم مؤسساتهم، أو رغبتهم الشديدة في تنفيذ الأحكام وتطبيق التعاليم والمبادئ التي أعلنها حضرة بهاء الله، فإنهم لن يتردّدوا في إخضاع تنفيذ تلك الأحكام وتطبيق تلك المبادىء لمتطلبات حكوماتهم. وهم، في سعيهم في إجراء وإتمام شؤون دينهم الإدارية على الوجه الأكمل، لن يكون مقصدهم تحت أيّ ظرف انتهاك أحكام الدستور والقوانين المعمول بها في موطنهم، ناهيك عن أن يسمحوا لآليات نظامهم الإداري أن تحلّ محلّ حكومة بلدانهم.’ في برقية لولي الأمر أُرسلت عام 1930 إلى أحد المحافل الروحانية في الشرق الأدنى نجده يشير بكل وضوح إلى الموقف البهائي السليم بقوله: ‘إن تشكيل المحفل الروحاني أمر ضروري ما لم تعارضه الحكومة.’ وكما صرّح أيضًا بأن البهائيين لا ينتمون لأي حزب سوى ‘الحزب الإلهي’. إنهم وكلاء حكومته السماوية.
إن حرية الدولة ذات السيادة في اتّباع سياساتها الخاصة – مهما كانت أو قد تكون ضارّة بالمصالح البهائية – أمر أيّده شوقي أفندي في عام 1929 عندما صادرت الحكومة السوفييتية أول معبد بهائي في العالم. ورغم ما سبّبه هذا الإجراء من حزن وأسى لولي الأمر، فقد كتب بأن السلطات هناك قد تصرّفت بموجب مواد دستورها و’ضمن حقوقها القانونية المعتَرَف بها’. وعندما أخفقت كل جهود الاستئناف في تحقيق غرضها، أصدر تعليماته إلى البهائيين في تلك الدولة بضرورة إطاعة الأحكام القضائية الصادرة عن حكومتهم، واثقين بأنه عندما يحين الوقت، كما كتب حضرته، سوف ‘يرفع الله الحجاب الذي يغشّي أبصار حكّامهم الآن، وينكشف لهم نُبل الهدف وطهارة المقصد وحسن السلوك والمُثُل الإنسانية التي تُميّز جامعات بهائية لا تزال قوية بقدراتها وإمكاناتها ولو أنها ضئيلة في حجمها، في كل أرض تقيم، وتحت ظلّ أي حكومة كانت.’
يجب ألا يتبادر إلى الذهن بأن هذه السياسة الأساسية التي أعلنها شوقي أفندي بعد ثماني سنوات فقط على بداية ولايته قد تغيّرت مع تنامي هذا الدين في قوته وإحرازه النصر تلو الآخر. بل على العكس من ذلك، ففي عام 1955، وفي وقت تضاعف فيه تقريبًا عدد البلدان في العالم التي انضوت تحت لواء دين الله خلال سنتين فقط، أبرق شوقي أفندي في رسالة إلى جميع المحافل الروحانية المركزية يناشد فيها الأحباء، الذين انخرطوا في مشروع الجهاد الروحاني العالمي الأكبر، والذي لم يسبق أن دُشّن مثله من قبل منذ نشأة الدين قائلاً: ‘سواءٌ كانوا يقيمون في أوطانهم أو خارجها، ومهما كانت الأنظمة التي يعملون في ظلها قمعية، فإن عليهم أن يفكروا مجدّداّ في المضامين الكاملة والمتطلبات الأساسية التي تقتضيها واجباتهم في تدبير شؤون أمر حضرة بهاء الله… عليهم أن يرتقوا إلى مستويات أعلى من التكريس، وأن يتصدُّوا بكل يقظة وحذر لجميع أشكال التشويه، وأن يعملوا على إزالة الشبُهات وتبديد الهواجس والشكوك، وإسكات صوت الانتقادات. وبإظهار المزيد من الولاء لحكوماتهم الموقَّرة، يقوّون ثقة السلطات المدنية بنزاهتهم وإخلاصهم ويعملون على تعزيزها. وأن يؤكدوا من جديد على عالمية مقاصد الدين وأهدافه، وأن يعلنوا عن الطبيعة الروحانية لمبادئه الأساسية، وأن يؤكدوا على الطابع غير السياسي لمؤسساته الإدارية…’
هناك عوامل ثلاثة ترتبط بمسألة الولاء للحكومة مع الابتعاد تمامًا عن الشؤون السياسية: أولها الطاعة وثانيها الحكمة وثالثها استخدام القنوات القانونية المشروعة. ففي غالب الأحيان كان يتم التغاضي عن عامل الحكمة، مع أن ولي الأمر جعل المسألة في غاية الوضوح وأنه من الواجب أخذها دومًا بعين الاعتبار، ليس فقط في كلماته التالية فحسب: ‘إن تنوُّع الجامعات البهائية التي تعمل تحت ظلّ أشكال متعدِّدة من الحكومات… يجعل من الضروري تمامًا لعموم… الأفراد في أيٍّ من تلك الجامعات أن يتجنّبوا أي تصرّف من شأنه أن يخلق الشبهات أو يثير عداء أي حكومة، فيُقحمون أخوة لهم في اضطهادات جديدة…’، بل أيضًا في تعليماته المتكرِّرة إلى أفراد الأحباء وجامعات بهائية مختلفة بأن عليهم أن يراعوا أقصى درجات الحكمة في خدمتهم أمرَ الله. إن في عالم تفيض صفحات وسائل إعلامه وبث إذاعاته على مدار الساعة بسيل من الإساءات والإدانات والاتهامات يكيلونها على أنظمة وسياسات في أمم أخرى، فإن البهائيين ليس من السهل عليهم مراعاة الحكمة فيها تمامًا. عندما يتذكر المرء كم كان فرح شوقي أفندي واعتزازه عندما تشكّل أول محفل روحاني في قلب العالم الإسلامي، وعبارات الثناء التي أنعم بها بسخاء على المهاجر الذي كان وراء هذا الإنجاز – وكان من خلفية يهودية بالإضافة إلى كونه بهائيًا، وهو ما وضع حياته أمام خطر مزدوج في ذلك البلد – وعندما نتذكّر أن هذا المهاجر لم يبُح بسرّه وظلّ سنتين صامتًا دون أن يُعلن عن نفسه جهارًا بأنه بهائي إلى أن جاء يوم دعا فيه صديقًا له، وهو يشعر برهبة الموقف ويرتعش وجلاً وبقلب يردد المناجاة والدعاء، دعا مؤمنَ المستقبلِ الأولَ هذا إلى الجزء الخلفي من دكّانه، وبدأ يحدّثه في موضوع الدين، عندها يمكن للمرء أن يأخذ فكرة عما كان يعنيه شوقي أفندي بالحكمة المطلوبة.
لقد منع ولي الأمر البهائيين في أقطار مختلفة من السعي وراء الدعاية، وطلب منهم أن يتجنّبوا الاتصال بطوائف وجنسيات محدَّدة يمكن أن تشكّل خطرًا على كامل أعمال البهائيين المهاجرين في تلك البلدان إذا ما سمعوا بالأمر الإلهي أو حتى قبِلوه. هذا هو أسّ أساس الحكمة، وفي كل مرّة أدّى تجاهُلُها إلى وقوع كارثة.
ومن ناحية أخرى، في دول مختلفة وفي أوقات متباينة، حثّ وليّ الأمر المحافل الروحانية والمهاجرين بشدّة بالغة، حيثما أمكن، على حماية مصالح الأمر عن طريق القنوات القانونية وبذل الجهد لتأمين اعتراف قانوني به، ومن خلال ضمان دعم الرأي العام له بواسطة وسائل الإعلام في الصحافة والإذاعة أيضًا.
ففي سياسات كتلك، التي يمكن لها أن تؤثر على مصالح الأمر المبارك العالمية وسلامته، يجب أن تأتي الهداية والحماية من المركز البهائي العالمي الذي يشكّل في جوهره المرجع الأعلى والسلطة الوحيدة المخوّلة بإصدار حكمها في مثل هذه المسائل الحيوية الحساسة.
وهناك خيط هداية آخر عظيم للفكر يطالعنا في شروحات ولي الأمر وبياناته في ما تعنيه الوحدة التي جاءت في التعاليم المباركة. فكتب شوقي أفندي إن ‘مبدأ الاتّحاد الذي يؤيِّده’ الدين ‘ويدافع عنه، والذي به يُعرَف ويُمَيَّز’ قد أساء أعداء الأمر ‘فهمه على أنه محاولة سطحية للتماثل’؛ ‘يجب ألاّ يكون هناك أي شك تجاه الهدف المفعم بالحيوية لذلك القانون العالمي لحضرة بهاء الله… فهو يرفض المركزية المفرطة من جهة ويبرأ من كل محاولة ترمي إلى التماثُل من جهة أخرى. فشعاره – الوحدة والاتحاد في التنوع والتعدّد…’ فمبدأ وحدة العالم الإنساني، رغم أنه يرمي، كما بيّن شوقي أفندي، إلى خلق ‘عالم مُوحَّد عضويًا في جميع الجوانب الأساسية من حياته’ إلا أنه سيكون عالمًا ‘لا حدود فيه لتنوّع الخصائص الوطنية والقومية التي يمثّلها أعضاء هذا الاتحاد.’ كتب حضرته عن ‘المجتمع البهائي المستقبليّ الغنيّ جدًا بتنوّعه’، حاثًّا البهائيين أن يولوا اهتمامًا خاصًا لكسب موالاة مختلف الأجناس تجاه الأمر الإلهي، بقوله: ‘إن تآلف عناصر على هذه الدرجة العالية من التبايُن للجنس البشري، وحبكها بغاية التناسق في نسيج اجتماعي يعتنق الكلُّ فيه دينَ الأُخوّة البهائي، وتستوعبهم تمامًا عمليات نظام إداري إلهي التعيين، يساهم كلٌّ بنصيبه في إثراء حياة الجامعة البهائية وتألّقها، هو بالتأكيد إنجازٌ لا بدّ وأن يملأ التأمُّلُ فيه قلبَ كل بهائي بالدفء والإثارة.’ وكتب شوقي أفندي إن هذا الدين ‘لا يتجاهل أو يسعى إلى طمس ذلك التنوّع في الأصول العرقية، ولا ذاك الذي في المناخ ولا في التاريخ، ولا في اللغة والتقاليد، ولا في الفكر والعادات، التي من شأنها أن تميّز شعوب العالم ودُوَلَه.’
في عصر التبشير هذا الذي نرى فيه دُوَلاً وكُتَلاً من دول ومجتمعات متنوعة ومنظمات تدقُّ على عقول الناس ليلاً ونهارًا ساعين إلى إعادة تشكيلهم وجَعْلهم على صورتهم، ومحاولين فرض أنظمتهم السياسية، وملابسهم وأسلوب حياتهم ومسكنهم وأنظمتهم الصحّية ومجموعة مبادئهم الفلسفية والخلقية والاجتماعية على بعضهم البعض، يصبح من المؤكد أن من الأهمية الكبرى للبهائيين أن يتفكَّروا مليًّا في تعاليم دينهم وفي تفاسيرها التوضيحية المنيرة التي يقدّمها لهم ولي أمرهم. فالعالم الغربي اليوم مولع بالتماثُل، ويسعى جاهدًا بأسرع ما يمكن أن يجعل الكل متشابهين. والنتيجة أنه؛ بينما كثير من الأشياء الجيدة قد شاعت بلا شك، وأن منافع مادية تصيب عددًا من الناس أكبر من أي وقت مضى، إلا أن أمورًا كثيرة تتعارض تمامًا مع مناهج حضرة بهاء الله وأهدافه للجنس البشري نراها أيضًا قد أخذت مكانها في الاتساع والشيوع.
من بين الأمور التي تنشرها ماديتنا الغربية بسرعة – إلى جانب اللادينية واللاأخلاقية وحب المال والتملّك إلى درجة العبادة – موجة من اليأس والقنوط والقلق والشعور العميق بالدونية فيما بين أوساط من يُدْعون بشعوب العالم المتخلِّف. ربما يجدر بنا أن نتوقّف قليلاً لنتبيّن وجه الاختلاف الصارخ بين ذلك التأثير – المميت جدًا – المتأتّي من هذا الاعتداد بالنفس والرضا عن الذات والثراء، على الشعوب الأخرى، وبين ما كان ولي الأمر يؤكد عليه في علاقته بمثل تلك الشعوب. لماذا كان ولي الأمر يحتفظ وينشر مثل هذه القوائم المُستنزِفة للجهد والوقت عن ‘الأجناس’ وعن ‘القبائل’ التي انضوت تحت لواء الدين البهائي؟ هل – ربما – كان يجمعهم كحبات لؤلؤ متناثرة ليحبك منهم عقدًا ثمينًا يزيّن به هيكل أمر حضرة بهاء الله؟ ولماذا علّق على جدران القصر في البهجة صورة أول قزم بهائي، وأول مَن آمن بالأمر المبارك من هنود الإنكا؟ لم يكن الموضوع بالتأكيد من باب الفضول أو تذكارًا بالنصر، بل بالأحرى لأن يوسفيّي العالم المحبوبين قد أتوا إلى دارهم في سرادق أبيهم. أذكر تمامًا عندما علم شوقي أفندي أن أحد زائريه للأرض الأقدس هو سليل عائلة أحد الملوك القُدامى في جزر هاواي، تهلّل وجهه بِشرًا وفرحًا بشكل ملحوظ، بحيث غمر هذا الوهج وتلك الحماسة ذلك الرجلَ، الذي كان أغلب نصيبه في الحياة أن يلاقي صنوف الاحتقار والازدراء بسبب عِرقه الوطني الأصلي! يجب ألا يتبادر إلى الذهن أن أشياء كهذه كانت ميزات فريدة في شخصية شوقي أفندي أو أنها كانت سياسة يتبعها ليس إلا، بل هي أبعد، وأبعد من ذلك بكثير؛ إنها انعكاس للجوهر الحقيقي للتعاليم البهائية التي تقول بأن كل عرق من الجنس البشري يتميّز بمواهب خاصة به ضرورية لنظام حضرة بهاء الله الجديد لتجعل منه نظامًا كاملاً متكاملاً غنيًا بالتنوّع والتعدّد.
لم يكتفِ شوقي أفندي بالدعوة إلى ضرورة اتّباع هذا المبدأ فقط، بل دأب على متابعته بنداءاته ومناشداته وتعليماته للمحافل الروحانية: ‘لقد ترسخت دعائم أول محفل روحاني كامل أعضائه من الهنود الحمر في مايسي/ نبراسكا.’ هذا ما أبرقه حضرته عام 1949 مبتهجًا بهذا الظَّفَر الروحاني. كان حضرته يذكر على الدوام كلمات حضرة عبد البهاء في ألواح الخطة الإلهية بأنه ‘يجب عليكم الاهتمام كل الاهتمام بأهالي أمريكا الأصليين أي الهنود الحمر.’ وظلّ شوقي أفندي وراء هذا الهدف حتى الأشهر الأخيرة من حياته عندما كتب في يوليو/ تموز 1957 إلى المحفل الروحاني المركزي في كندا بأن ‘التحوّل الذي طال انتظاره’ للهنود الأمريكيين والإسكيمو وأقليات أخرى يجب أن يحظى بقوة دافعة من ‘شأنها أن تدهش أفراد كافة الجامعات البهائية وتشحذ هممهم في طول البلاد وعرضها في نصف الكرة الغربي.’
وقبل هذا التاريخ بسنة، في إحدى رسائل شوقي أفندي إلى المحفل الروحاني المركزي في الولايات المتحدة، كتب سكرتيره: ‘يشعر ولي الأمر المحبوب أن موضوع الاتصال بالأقليات في الولايات المتحدة لم يُعْطَ ذلك الاهتمام الكافي… يرى أن على محفلكم أن يعيّن لجنة خاصة لإجراء مسح للفرص المتاحة لمثل هذا النوع من العمل، ومن ثم ابعثوا بتعليماتكم إلى المحافل الروحانية المحلية وفقًا لذلك، وفي غضون ذلك شجِّعوا الأحباء أن ينهضوا وينشطوا في هذا المجال المفتوح أمام كل واحد منهم خاصة وأن الأقليات تعيش على الدوام منعزلة، وغالبًا ما تتجاوب مع لغة المودّة واللطف أسرع بكثير من تلك الأغلبية المستقرّة المتمكّنة من السكان.’
إن النتيجة الطبيعية لهذه السياسة هي تفرُّد الدين البهائي بهذا الموقف المميّز تجاه الأقليات والذي بيّنه شوقي أفندي بوضوح تام في توقيعه المبارك “ظهور العدل الإلهي” قائلاً: ‘أن نميز ضد أي عرق على أساس كونه متخلِّفًا اجتماعيًا وغير ناضج سياسيًا، وأنه يمثّل أقلّية من حيث العدد، إنما يُعدّ انتهاكًا صارخًا للروح المحرّكة للأمر الإلهي.’ بمجرد أن يؤمن الشخص بهذا الدين، فإن ‘كل تمييز طبقي أو عقائدي أو في اللون يجب أن يُمحى تلقائيًا، وألاّ يُسمح له على الإطلاق أن يعيد فرض نفسه، تحت أي حجة أو ستار، ومهما كان ضغط الأحداث أو تأثير الرأي العام كبيرًا.’ وبعد ذلك يسترسل شوقي أفندي ليصرّح عن مبدأ على هذا القدْر من الخلاف والتفاوت مع الفكر السياسي السائد في العالم بأسره ويستحقُّ منا اهتمامًا وعناية تفوق ما نوليه له في المعتاد، حيث قال: ‘فإذا كان هناك تمييز يمكن السماح به بأي حال من الأحوال، فيجب أن يكون بالأحرى تمييزًا لصالح الأقلية وليس ضدَّها، أكان تمييزًا عرقيًا أو غير ذلك. وعلى النقيض من أمم الأرض وشعوبها، أكانوا من الشرق أو الغرب، ديموقراطيًا كان حكمها أم استبداديًا، شيوعيًا أم رأسماليًا، ينتمون إلى العالم القديم أو الجديد، الذين إمّا يَتجاهلون ويدوسون بأقدامهم على أقليات عرقية أو دينية أو سياسية واقعة ضمن نطاق سلطتهم أو يسعون إلى استئصالها، فإن كل جامعة منظّمة وتستظلّ براية حضرة بهاء الله عليها أن تُدرك أن أول فَرْض عليها، وواجب مُلزِم لا يمكن التهرّب منه، هو رعاية وتشجيع وحماية كل أقلّية تنتمي إلى أي دين أو عرق أو طبقة أو أمّة تقع ضمن نطاق سلطتها. كم هو حيوي وعظيم هذا المبدأ بحيث، في ظروف كهذه، لو تعادلت أصوات الناخبين أو تساوت المؤهلات لأي وظيفة بين أشخاص من أعراق أو أديان أو قوميات مختلفة ضمن الجامعة البهائية، فإن الأولوية هنا يجب أن تُعطى لمن يمثّل الأقلّية دون تردد، وهو إجراء لا يهدف إلا إلى تحفيز وتشجيع تلك الأقلية وإتاحة الفرصة أمامها لتعزيز مصالح الجامعة.’ لقد عبّر شوقي أفندي مرة عن مدى فعالية هذا المبدأ بكلمات بليغة في غاية الإعجاز والبراعة حتى إنني دوّنت كلماته بالذات: ‘إن أقلّية لأغلبية أهم من أغلبية لأقلّية’، وبكلمات أخرى، ليست القوة العددية أو ضَعْفُها في الأمة هو الدليل على الأقلية، بل هو قوّتها العددية أو ضعفها داخل الجامعة البهائية التي تُجري الانتخاب – فكم هو عظيمٌ حفظُ حق أي أقلية. لقد اعتاد شوقي أفندي أن يقول بأنه عندما يأتي اليوم الذي تتواجد فيه دولة بهائية ستكون فيها حقوق الأقليات الدينية غير البهائية مصونة ومحمية بكل دقة وحِرص من قبل البهائيين.
إن الدين البهائي في إجراءاته لا يرمي إلى صيانة المجتمع ككل وحماية حقوق الأقليات فيه فحسب، بل ويؤيّد حقوق الفرد، وحقوق الأمة على المستوى الدولي، وحقوق الفرد الإنسان داخل جامعته. كتب شوقي أفندي بأن: ‘وحدة الجنس البشري، كما صوّرها حضرة بهاء الله، تعني تأسيس رابطة شعوب العالم… وفيها يكون استقلال دولها الأعضاء المكوِّنة لها، والحريات الشخصية، والإبداعات الفردية، مكفولة ومصونة بالكامل.’
بالحزم نفسه الذي أيّد فيه ولي الأمر ودَعَمَ سلطة المحافل الروحانية، وقف أيضًا مدافعًا غيورًا عن الفرد المؤمن، وكانت له روابطه الحبية العميقة مع جميع أتباع حضرة بهاء الله. وفي مناشداته للعالم البهائي أو الجامعات المركزية نادرًا ما كان يخلو خطابه من عبارات موجَّهة للفرد البهائي، ليس في تشجيعه على المبادرة فحسب، بل ومشيرًا إلى أن جميع الخطط لن يُكتب لها النجاح من دون تلك المبادرة. ففي رسالة إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا مؤرخة عام 1927 كتب يقول: ‘في ساعات ابتهالي في العتبات المقدسة سأدعو متضرّعًا أن تُنير سبيلَكم أنوارُ الهداية الإلهية، وأن تمكّنكم من استثمار تلك الروح المقدامة للأفراد بأفضل السبل الفعّالة، والتي بمجرّد اشتعالها في صدر كل مؤمن، وتوجُّهها وفق القانون المهيب الذي أوجبه علينا حضرة بهاء الله، سوف تحمل أعباء أمرنا المحبوب وتتقدم به لتحقق قَدَرَه المجيد.’ وأشار أيضًا في رسالته – ظهور العدل الإلهي – بأن هناك واجبًا يقع على كل فرد بهائي، ‘وهو الوفيّ المؤتمن على الخطة الإلهية لحضرة عبد البهاء… أن يبتكر ويروّج ويدعم’ أي نشاط وفعالية يرى أن لها اعتبارها في المساعدة على تحقيق أهداف تلك الخطة، وأن يقوم بذلك على الدوام ضمن الحدود التي تضعها له المبادئ الإدارية للأمر المبارك. وقد أخبر المحفل الروحاني المركزي في أمريكا أنه في حين أن إدارة الشؤون البهائية واتخاذ القرار النهائي هو من حقه، فإن عليه أن ‘يرعى ويعزّز الحِسَّ بالاعتماد المتبادل، وبالشراكة الحقيقية والتفهُّم التامّ والثقة المتبادلة’ بينه وبين المحافل الروحانية المحلية وأفراد الأحباء.
لطالما تفرّد المتواضعون بالنعم والبركات الإلهية الفريدة. ففي عام 1925 كتب شوقي أفندي: ‘مرارًا، لا بل في أغلب الأحيان، يساهم أكثر الأحباء تواضعًا وأبسطهم علمًا وأقلهم خبرة، وبمحض القوى الملهمة المنبعثة من محويَّته الصرفة وإخلاصه الشديد، بنصيب متميّز لا يُنسى في نقاش على درجة عالية من الأهمّية في أي محفل روحاني كان.’ كان ولي الأمر يُبدي إعجابه بحماسٍ للشخص الحليم الوديع صاحب القلب النقي، وينفُرُ من الأفراد العدوانيين وبالأخصّ الطموحين لجاه أو لمركز. فنداءاته في طلب المهاجرين قد جعلت موقفه هذا في غاية الوضوح. فقد كتب خلال خطة السنوات السبع الأولى يقول: ‘لا أحد من الأحباء مهما كان بسيطًا’ له أن يشعر في قرارة نفسه أنه محظور عليه الاشتراك في حركة الهجرة العظيمة الجارية، كما يجب ألا توضع العوائق والعراقيل أمام أولئك الذين يرغبون في أن ينطلقوا قُدُمًا إلى الخدمة ‘صغيرًا كان أم كبيرًا، غنيًا أم فقيرًا’. وذهب إلى أبعد من ذلك بكثير في رسالته “ظهور العدل الإلهي” عندما كتب: ‘على الكل أن يشاركوا؛ مهما كان مَنْبِتهم وضيعًا، ومهما كانت خبرتهم محدودة، ومهما كانت وسائلهم مقيَّدة محدودة، ومهما كانت ثقافتهم ضحلة، ومهما كانت همومهم ومشاغلهم ملحّة، ومهما كانت بيئتهم حيثما يعيشون غير مواتية… وغالبًا ما كان… الأكثر وضاعة من الموالين للدين، والذين لم يدخلوا المدارس ويفتقرون إلى الخبرة بالكلية، ولا مكانةَ لهم تُذكر، ويعوزهم الذكاء في بعض الحالات، كانوا قادرين على إحراز انتصارات لأمرهم المبارك تصغر أمامها أعظم وأروع انجازات المتعلمين والحكماء وذوي الخبرة.’ ثم أشار شوقي أفندي إلى أنه إذا كان السيد المسيح، الابن، قادرًا على أن يغرس في قلب تلميذه بطرس – الذي كان على درجة من الجهل بحيث كان يُقسّم طعامه إلى سبعة أقسام ثم يستريح عندما يصل إلى القسم السابع لإدراكه أنه يوم السبت – أن يغرس روحًا كهذه تُمكّنه من أن يصبح خليفته، فكيف هي إذًا قوة حضرة بهاء الله، الآب السماوي، لتُمكّن أضعف أتباعه وأبسطهم من أن يحقّقوا العجائب التي من شأنها أن تجعل ما حققه حواريو السيد المسيح الأوائل من إنجازات، تبدو ضئيلة بجانبها. وغير مكتفٍ بتأكيده على واجبات البُسطاء، توجّه ولي الأمر إلى أولئك الأحباء من فئة أخرى بعبارات محدّدة أكيدة ناصحًا ومُذكِّرًا بقوله: ‘لذلك يتحتّم على كل مؤمن أمريكي، خاصة الموسرين منهم، والمستقلّين في عيشهم، والذين ينعمون بالراحة، وأولئك الذين يلهثون وراء المادة، أن ينهضوا ويتقدموا ليكرّسوا مواردهم ووقتهم وحياتهم في خدمة دين هو على قدْر من الرفعة والسموِّ لا يمكن لعين بشر أن تشهد ولو ومضة خاطفة من مجده وبهائه.’ وبكلمات مؤثرة للغاية تفضّل قائلاً: ‘لا يملك قلب ولي الأمر إلا أن يقفز فرحًا وغبطة، ويستمدّ عقله إلهامًا جديدًا مع كل دليل على استجابة الفرد للمهمة التي خصصت له.’
إن مسألة من هو المؤمن، وكيف يصبح المرء مؤمنًا مشدودًا برباط إلى نظام مرن مطواع ولكنه جيد التنظيم، نظام إداري عالمي للدين، كانت مسألة واضحة تمامًا لشوقي أفندي – إلا أنها لم تكن دائمًا بهذا الوضوح لدى البهائيين أنفسهم. إن ما يجب إدراكه أن شوقي أفندي كان يرى الأمر الإلهي في جميع الأوقات على أنه كائن حي ينمو ويتّسع بدرجات متفاوتة في أماكن مختلفة. فهناك الأساسيات التي يجب أن تكون في اتِّساق وتماثُل، وهناك أمور أخرى يمكن أن تكون، بل وتتطلب الحاجة أن تكون متنوّعة متباينة. فلو أخذنا مثلاً سيارة فورد؛ فلكونها آلة، نجدها نفس السيارة في كل مكان. أما الأفراد في عائلة ممتدّة، الذين هم أبعد ما يكون عن كونهم مجرد آلات، فهم مختلفون؛ لكلٍّ عمره المختلف، ومرحلة نموه المختلفة. فلا أحد يتوقع في العائلة من حفيد عمره خمسة أشهر السلوك نفسه والفهم والإدراك كما لجدّه أستاذ الفيزياء في الجامعة. فمنذ البداية كان المتوقّع من الجامعات الشرقية القديمة، خاصة في إيران، أكثر مما هو متوقّع من تلك الجامعات البهائية الغربية الأصغر عمرًا كما في الجامعات البهائية في أمريكا وأوروبا. وما نتوقعه من هذه الجامعات الغربية أكثر بكثير مما نأمله مثلاً من الجامعات التي لا تزال أصغر عمرًا في إفريقيا وجزر المحيط الهادئ. يجب ألا يغيب عن البال أن الإسلام هو الظهور الإلهي الأقرب والأحدث قبل البهائية، وأن البهائيين الذين جاءوا من خلفية إسلامية هم الأقرب، إذا جاز التعبير، إلى الأحكام التي أنزلها حضرة بهاء الله، ذلك لأن أحكامه نبتت من أحكام الإسلام وأبطلت في الوقت نفسه العمل في الكثير من أحكامه. لذا لا غرابة في أن يُتَوقَّع من الأحباء الذين جاءوا من تلك الخلفية تطبيقُ النمط البهائي في أمور تتعلّق بالأحوال الشخصية، وأن يعملوا منذ البداية بموجب التعاليم والأحكام التي أنزلها حضرة بهاء الله والتي يمكن تطبيقها في المجتمع الذي يعيشون فيه. أما أولئك الذين آمنوا وجاءوا من خلفيات إمّا وثنية أو ديانات أقدم ظهورًا، فإنهم لا شك يتطلّبون تثقيفًا أكبر بصبر وتدرّج حتى يتمكّنوا من أن يحذوا حذو إخوانهم.
وقبل أن نحاول فهم السِّمات التي تؤهِّل الشخص أن يكون بهائيًا، دعونا نحاول التعرّف أولاً على كيفية تصوّر شوقي أفندي لأمر الله وإدارة شؤونه. فإذا ما درسنا مسار دورات الأديان الماضية سنرى أن أحد العلل الرئيسة التي أصابت الأديان، كان نزعة أتباعها الشديدة نحو جعل القوى الشاملة المحرّكة الملهمة المنبعثة من الدين أماثيل جامدة صنعوها في أشكال متعددة متحجِّرة، بينما الدين الإلهي كيان نامٍ لا يعرف الجمود. في رسالته إلى المؤتمر العالمي الذي عُقد في شيكاغو عام 1953 منحنا شوقي أفندي أجمل وصف شاعري لهذه العملية الطبيعية للنمو التي شبّه فيها تاريخ الدين بشجرة معمِّرة نامية منذ آلاف السنين، من عهد آدم واستمرت إلى عهد حضرة الباب. فكانت تطلق أغصانها وأوراقها وبراعمها وأزهارها إلى أن حملت في النهاية البذرة المقدسة التي تمثلت بالظهور الإلهي لحضرة الباب. تلك البذرة التي طحنتها رحى الشهادة بعد ست سنوات فقط من وجودها، قد أخرجت زيتًا أومض نوره على حضرة بهاء الله في سياه چال ثم ظهر سناه متألِّقًا في بغداد وأضاء مشرقًا في أدرنة وسطعت أشعته فيما بعد على تخوم القارة الأمريكية والأوروبية والأسترالية لتنتشر الأنوار الإلهية بعد ذلك في بقاع الأرض في عصر التكوين هذا، والذي، كما قال شوقي أفندي، سيتجلَّى إشراقُه بالكامل كما هو مُقدَّر له في مدى آلاف السنين المقبلة ليعمّ الكوكب بأسره. فكم هي إذًا حديثة النشوء مرحلتنا الحالية من التطور!
إن ذوي العقول الصغيرة يسعون غريزيًا إلى حصر الأشياء ضمن حدودٍ حولهم، فيبدأون في تصغير المساحة من حولهم بتضييق الجدران لتصبح مناسبة لحجم وجودهم الصغير وتغدو الساحة بعد ذلك على قياسهم، فيشعرون بهذا الإجراء بالراحة والأمان. إن هذه العملية تعني دومًا أن الكثير من المواد المستخدمة في جدرانهم هي من المنزل الأخير الذي سكنوه، ومعظمها مما اعتادوا عليه قبل انتقالهم، إذا جاز لنا التعبير. أما أصحاب العقول الراجحة فإنهم على العكس من ذلك، إذ يدفعون بالجدران إلى آفاق أبعد تخلق لهم حدودًا جديدة تاركة مساحة كافية للنمو. ليس صعبًا على المرء، عندما يطالع رسائل شوقي أفندي الصادرة والواردة، أن يرى كيف حافظ حضرته على توازن تامٍّ بين ما هو ضروري ويتفق والحكمة المطلوبة من أجل المرحلة الحالية للأمر المبارك، وبين ما يمكن، دون أي داعٍ، أن يحدَّ من تكشّفه ويجعل من تعاليمه الحيّة شكلاً جامدًا غير ناضج؛ شكلاً صغيرًا جدًا، قوميًا أو إقليميًا للغاية، طائفيًا أو عرقيًا إلى أبعد الحدود، بحيث لا يمكن له أن يمتدّ ويتّسع ليصبح نظامًا عالميًا يضمّ بين جَنَباته حكومة عالمية ومجتمعًا عالميًا. وكثيرًا ما عَجِبْتُ في سياق حياتي البهائية وأنا أتساءل: لماذا كثيرٌ من الناس الذين يُعتَبرون متفوِّقين وعمليين وواعين في حياتهم، مثل رجال الأعمال والأطباء والمحامين وعمّال الحفر وغيرهم مهما كانت مهنتهم، لا يحملون معهم هذه المواهب والمهارات ويوظّفونها في ميادين نشاطاتهم البهائية؟ وكأن “المدينة الفاضلة” بالنسبة لهم هي فيلم سينمائي، وكل ما عليهم فعله هو عرضه على شاشة ليصبح حقيقة واقعة.
لم يكن شوقي أفندي على هذا النحو. فقد شرع في تنفيذ المهمّات الخاصّة التي أوكلت له – تشييد “النظام الإداري”، تنفيذ ما جاء في ألواح الخطة الإلهية لحضرة عبد البهاء، تنظيم عمله وعمل العالم البهائي – فهو إلى حدٍّ بعيد يشبه الرسامين العظام في عصر النهضة الأوروبية الذين أبدعوا في رسوماتهم الزيتية على القماش ولوحاتهم الضخمة على الجدران. ففي البداية كان يُعَدُّ رسمٌ تمهيدي يتم فيه توضيح الفكرة الكاملة بمقاييسها وألوانها وتناسُب أجزائها، ثم يُقسّم إلى أربعة أقسام متساوية، ويُقسّم كل مربّع إلى عدد من المربّعات؛ ثم تُنقل هذه المربّعات إلى السطح الدائمي لها، وبعد ذلك يملأ السطح بالخطوط الدليلية الرئيسية ثم بالخطوط المحدِّدة ثم بتظليل الأشكال؛ وبعد ذلك تأتي التفاصيل والألوان التي تطبّق بمنتهى الصبر والتأنّي إلى أن تكْمُل اللوحة وتصل إلى درجة الكمال. هكذا كان أسلوب شوقي أفندي وطريقته. ولم يكن يسمح لأحد أن يبدأ في رسم الأشكال أو التفاصيل قبل تجهيز اللوحة التي سوف تستوعبهم. فماذا يعني هذا في دنيا الحقائق العملية؟
كثيرة هي الأمثلة التي تخطر بالبال؛ فبعد صعود حضرة عبد البهاء، كنا نريد لبيت العدل الأعظم أن يتشكل في اليوم التالي، ولكنه كان من الضروري الانتظار مدة اثنتين وأربعين سنة من أجل أن ترتفع الأعمدة اللازمة لاستقراره، فتشكلت المحافل الروحانية المحلية والمركزية الواحد تلو الآخر، والتي عليها سوف يستقرُّ بنيانُه بكل قوَّة. أردنا أن يكون “الكتاب الأقدس” بين أيدينا باللغة الإنكليزية، فعكف شوقي أفندي بنفسه على ترجمة الجزء الأكبر منه ببطء وتأنٍّ ووضَعَه بنفسه بين أيدينا باقتباسه من آياته مرارًا وتكرارًا؛ قلة من القوانين والأحكام والتفاصيل هي التي لم يترجمها حضرته وسوف تأتي ترجمتها فيما بعد؛ إنه عمل يتطلّب عناية فائقة قام حضرته بنفسه بإنجاز جزء منه أواخر أيام حياته. في كثير من الأوقات رغب أحد أفراد الأحباء المتحمّسين أو مجموعة منهم أن يبدأوا الآن وفي الحال في العيش في منطقة هادئة من البلاد يجعلون منها مستوطنة بهائية حيث يمكن وضع جميع التعاليم البهائية الخاصة بالاقتصاد في حيّز التنفيذ – وهو منظور “للمدينة الفاضلة” ليس إلا – فجاء رد شوقي أفندي: ليس هذا بالوقت المناسب، ركّزوا الآن على زيادة أعداد الأحباء والمراكز الأمرية والمحافل الروحانية. أردنا بناء مدرسة في العاصمة فجاء الرد: لا، ليسَ في العاصمة حيث أي فشل قد يتسبب في إهانة للأمر المبارك بموارده المالية المحدودة وقلة عدد عامليه، ولكن يمكنكم البدء بدايةً بسيطةً متواضعة في إحدى المناطق النائية. أردنا جامعة بهائية – لم يبدُ لصاحب الفكرة، الذي لم يقع ربما تحت طائلة الديْن في حياته أو حاول أن يتظاهر بأنه مليونير، بأن مشروعًا كهذا يمكن له أن يعطِّل كل نشاط مركزي آخر، ويتطلب تمويلاً هو أصلاً محدود جدًا ويُستخدم من أجل فتح العالم بأسره للأمر المبارك! كل موهبة لدى شوقي أفندي عملت على منعه من اعتلاء قمم غير مأمونة في ما يسمى بالعُرْف التجاري قفزات توسعية. كان يغامر ويخاطر ولكنها مخاطرة تبقى دائمًا في حدود المعقول، ولم تكن تهوّرًا على الإطلاق. كان حكمه يسير على خط سواء مع إيمانه. كان إيمانه بالمعجزات كبيرًا، إلا أنه لم يتعامل قط مع الله القدير على أنه ساحر مقتدر. فلو درسنا حياة حضرة عبد البهاء سنرى أيضًا هذا التوازن الرائع بين العقل المنطقي العملي والإيمان الراسخ في أسمى مراتبه.
هناك مثال بسيط قد يراود الأذهان، إلا أن له دلالته. ماذا عن الأرواحية[16]؟ كتب سكرتير شوقي أفندي قائلاً: ‘لا يشعر ولي الأمر أن الوقت مناسب لأن يُصدِر بيانًا خاصًا بهذا الموضوع… هناك أمور أخرى أكثر أهمية على الأحباء أن يركّزوا أفكارهم فيها، وبالتحديد، على تأسيس محافل روحانية ومراكز أمرية جديدة.’ وكثيرًا ما كان يأتي الجواب نفسه: ليس هو الوقت المناسب، لم يحن الوقت بعد، إرفعوا راية بهاء الله في أقاصي أركان الأرض، اجذبوا الناس إلى حظيرة أمر الله، ضعوا أساس مملكة الله، لا تبدأوا في تزيين بيت لم يُبْنَ بعد.
منذ الأيام الأولى لولايته شرع شوقي أفندي في خلق نظام في عالم بهائي صغير جدًا موجود بالكاد في بعض أجزاء من خمسة وثلاثين بلدًا، كانوا قد تلقوا على الأقل، بصيص شعاع سطع عليهم من نور حضرة بهاء الله. كانت خطوط أنوار الهداية العظيمة واضحة في ذهنه، وكلما كان يتقدم في السنّ، وجامعة المؤمنين تكبُرُ وتزداد خبرة، كانت تلك الخطوط تزداد وضوحًا ويضاف إليها التفاصيل. فحضرة عبد البهاء نفسه توقّع ذلك التكشّف التدريجي عندما قال في ألواح وصاياه عن ولي الأمر بأنه ‘فيزداد فرحُه وسرورُه وروحانيته يومًا فيومًا حتى يصير شجرةً مثمرةً.’ لا أرى الوقت ولا المجال يسمح لي، ولو بإيجاز، سرد الترتيب الزمني لهذا التطور. علينا أن نحاول الوقوف على الرؤية الكبرى التي منحنا إياها ولي أمر الله ونرى كيف امتلأت بداخلها التفاصيل بالتدريج. في كثير من الأحيان، وأنا أستمع إلى شوقي أفندي وأُدقِّق النظر في ما يقوله، شعرتُ أنه كان هو البهائي الحقيقي الوحيد في العالم. فكل إنسان آخر يدّعي أنه بهائي، كان يرى جزءًا محددًا من الأمر المبارك. كان ينظر إليه من زاوية محددة، ويحمل تجاهه وجهة نظر ومفهومًا، مهما كان عظيمًا، إلا أنه مصبوغ بحدودات ذاته. أما ولي الأمر فكان يرى الأمر المبارك بصورته الكلّية الشاملة، بكل عظمته وتوازنه. فلم يكن حضرته يملك القدرة على الرؤية والمشاهدة فحسب، بل وتحليل الأمور والتعبير عما يراه بكل براعة وجلاء.
فعلى سبيل المثال، خذ خلاصة ما كان يشعر به ولي الأمر عن ماهية الدين البهائي في سياق الأمور: ‘… لا بدّ لي أن أقرّر أنّ ظهور حضرة بهاء الله يعطّل كلّ الظهورات السابقة بلا قيد ولا شرط، ويؤمن بجميع الحقائق الخالدة الّتي تكتنزها إيمانًا لا مساومة فيه، ويعترف بسماوية أصحابها وأصلهم الإلهيّ اعترافًا راسخًا ثابتًا، ويرعى قداسة كتبها المعتمدة، ويبرأ من كلّ نيّة في الحطّ من شأن مؤسّسيها أو تحقير المُثُل الروحية العليا الّتي لقّنوها، ويوضّح وظائف هذه الظهورات ويربط بينها، ويؤكّد من جديد غرضها الأساسيّ المشترك الثابت، ويوفّق بين مطالبها وعقائدها المتعارضة في الظاهر، ويبادر فيعترف لها شاكرًا لإسهامها المتوالي في سبيل التفتّح التدريجيّ لظهور إلهيّ واحد. ولا يتردّد لحظة واحدة في الإقرار بأنّه هو نفسه ليس سوى حلقة أخرى في سلسلة الظهورات الدائمة التقدّم. وهو يذيّل تعاليم هذه الظهورات بالشرائع والأحكام الّتي تتماشى مع الضرورات الملحّة والقابلية النامية للمجتمع السريع التطوّر والدائم التغير. كما يعلن عن استعداده وقدرته على أن يصهر ويوحّد الفِرق المتناحرة والطّوائف المتنافرة الّتي تفكّكت إليها هذه الظهورات السابقة ليخلق منها أخوّة عالمية عاملة بمقتضى نظام عالميّ شامل – وفي نطاق –
يوحّد العالم ويفتديه.’ وهكذا يرى المرء مباشرةً أين يحتلّ ‘ظهور ديني هو الأعظم في التاريخ الروحي لبني الإنسان’ مكانه اللائق في المشهد الواسع الشامل للتاريخ.
هذا الدين الذي يعتبر ‘في الوقت نفسه هو الجوهر، والموعود، والموفِّق، والموحِّد لجميع الأديان’، يحمل معه ‘مهمة أساسية’ ليست بأقل من تأسيس مدنية إلهية. أنا أذكر في سياق حديث شوقي أفندي مع أستاذ له سابق في الجامعة الأمريكية ببيروت، تلك الطريقة الجميلة التي أجاب فيها عن سؤاله: ما هدف الحياة بالنسبة للبهائي؟ أجاب ولي الأمر بأن هدف حياة الفرد البهائي ترويج وحدة العالم الإنساني. واسترسل في حديثه معه ليبيّن بأن حضرة بهاء الله قد ظهر في وقت تستطيع رسالته أن تكون، بل ويجب أن تكون، موجَّهةً إلى العالم برمّته وليس إلى الأفراد فقط؛ ذلك بأن الخلاص والنجاة في هذا اليوم لا يكون إلا بخلاص العالم ونجاته، بتغييره وإصلاح مجتمعه، وأن الحضارة العالمية الناتجة سوف تنعكس بدورها على الأفراد المكوِّنين لها وتأخذ بيدهم نحو الخلاص والصلاح. وقد جعل شوقي أفندي الأمر واضحًا مرارًا وتكرارًا في كتاباته وأحاديثه أن هناك عمليتيْن متلازمتيْن يجب أن تأخذا مجراهما معًا: إصلاح المجتمع، وإصلاح الشخصية الذاتية. لم يكن هناك أدنى شك بأن البعث الروحاني للفرد، كما كتب ولي الأمر إلى شخص غير بهائي عام 1926، هو ‘الأساس القويّ الراسخ والدائم الذي عليه يمكن لمجتمع أُعيد بناؤه’ أن يتطوّر ويزدهر. ولكن كيف للمرء أن يبتكر نمطًا لمجتمع المستقبل، أو حتى مجرّد جنين صغير لرابطة شعوب العالم في المستقبل طبقًا لنظام حضرة بهاء الله، إذا كانت لا تزال تحيط بأهدابه من كل جانب خيوط تحبكه بنسيج بُنية ذلك المجتمع الذي يحتضر، وعليه أن يموت ويندثر حتى يفتح الطريق أمام الجديد؟
لقد أمسك شوقي أفندي بمبضعه – تفسير الآثار الكتابية للأمر المبارك – وأخذ في التفسير والتحليل. ورغم أن قراءتنا السليمة لتعاليمنا تؤكِّد أن هناك دينًا واحدًا للرب الجليل على مرِّ الدهور والعصور، وأن رسل الله وأنبياءه هم أدلاّء البشرية لهذا الدين في أزمان مختلفة عبر التاريخ، إلا أن الحقيقة التي وضّحها شوقي أفندي وجعلنا ندركها تبقى في أن واجب الإنسان في كل دورة دينية جديدة أن يلتزم بها تمامًا ويتقيّد بكل جوانبها وأشكالها، وأن يقطع المرء نفسه بالكلية عن مظاهر الدين السابق وأحكامه الثانوية. فكيف يمكن لمسيحي صادق يؤمن من صميم قلبه أن حضرة بهاء الله هو الآب السماوى، وأن مملكة الله آخذة في البروز بتأسيس أحكامه وقوانينه ونظامه المتجسّد في النظام الإداري، كيف يمكن له أن يبقى مواليًا لكنيسته ويدعو من أجل مجيء الآب ومملكته؟ إن البهائيين في الشرق والغرب كانوا يفهمون هذا الموضوع بشيء من الغموض تتفاوت درجاته من مكان لآخر. أما الآن، وبفضل رسائل ولي الأمر واتّصالاته، فقد أخذوا يتبيّنون خطًا دقيقًا فاصلاً يلتقي عنده الظلّ بالنور دون السماح لترك ولو فسحة بسيطة لأمل في المساومة مع مشاعر عائلية أو رأي للجماعة أو قناعة شخصية. فالمتوقّع هو أن تكون إمّا في النور أو خارجه ولا شيء سواه. كان لهذا التوضيح تأثيره في تطهير وتقوية جامعة المؤمنين بأكملها في أنحاء العالم وجَعْلِها واعية مدركة، كما لم تكن من قبل، لحقيقة أنهم أفراد جامعة عالمية، هم شعب اليوم الجديد لدورة دينية جديدة. ولتشبيه ذلك بعبارات مألوفة نقول: إذا كان حضرة بهاء الله هو باني الفُلْك، فإن المولى هو مَن أدار محرّكه، وشوقي أفندي هو الذي رفع مراسيه وأبحر به بكل هدوء. ومع مرور السنين، لم تكن نظرةُ غير البهائيين إلينا هي النظرة الوحيدة الجديدة فحسب، بل ونحن أصبحنا ننظر إلى بعضنا بعيون جديدة أيضًا. وأدركنا بالتدريج أننا لسنا وجهًا جديدًا للمجتمع الذي نعيش فيه، بل نحن ذلك المجتمع الجديد، نحن المستقبل.
إنه في ضوء هذه العملية علينا أن نرى كيف تحوّل التركيز فيما يتعلّق بقبول البهائيين الجُدُد على مدى السنوات. ففي السنوات الخمس عشرة الأولى لولاية شوقي أفندي تمّ تشجيع الهيئات الإدارية البهائية خاصة في الغرب على التأكّد من أن أولئك الذين أصبحوا بهائيين أنهم يعون تمامًا عظمة الخطوة التي أقدموا عليها، وكان المطلوب منهم بوضوح أن يقطعوا كل صلة لهم مع عقيدتهم في الماضي. وفي عام 1927 كتب شوقي أفندي يقول: ‘وإلا، فإن هؤلاء الذين لم يزل إيمانهم غير ناضج بعد قد يظلّون إلى أجل غير مسمّى دون أن يحدّدوا ولاءهم، ويبقون على موقفهم بنصف قلوب موالية لتعاليم الأمر المبارك بمجملها.’ في تلك السنوات ارتفع صيت الأمر وعلت منزلته وظفر بالاعتراف به في عدة بلدان غربية على أنه دين مستقلّ له أحكامه وقوانينه ونظامه الخاص به – وما ساعد في تلك العملية بشكل كبير ما أصدرته المحكمة الشرعية الإسلامية في مصر التي قضت بأننا لسنا جزءًا من الإسلام بل منفصلون عنه تمامًا كالمسيحية واليهودية – وأصبح، على نحوٍ متزايد، معتَرَفًا به كدين في حدّ ذاته. وعلى كل حال، فإن شوقي أفندي الذي كان دائمًا يقِظًا وحساسًا بشكل غير طبيعي تجاه كل ما يمكن أن يؤثّر على روح أمر الله ومسيرته، اكتشف وجود نزعة بين مؤسسات الأمر الإدارية إلى المبالغة في تنفيذ تعليماته الأصلية بشأن قبول المؤمنين الجدد (التي أُعطيت لهم عام 1933) بأن على المحافل الروحانية أن ‘تتأنّى في قبول’ المؤمنين الجدد، حيث ذهبوا بعيدًا جدًا في تطبيقها. إنه تصلّب جديد قد يؤدّي إلى إحباط الهدف الحيوي الرئيس لجميع المؤسسات البهائية– المتمثّل في تَوَجُّه الجنس البشري إلى دين حضرة بهاء الله. فالبهائيون في توقهم لإطاعة تعليمات شوقي أفندي قد ذهبوا إلى الحدود القصوى وحصروا اهتمامهم في غربلة طالبي الانضمام للدين بكل دقّة حتى غَدَا من الصعب أن يصبح الفرد بهائيًا على الإطلاق، ولذلك وجد شوقي أفندي عام 1938 أنه من الضروري أن يطلب من المحافل الروحانية في أمريكا أن ‘تكفّ عن الإصرار بتصلّب على الملاحظات والمعتقدات الثانوية التي قد يَثْبُتُ أنها عائق في طريق أي طالب جادٍّ.’ وبيّن أن على الجامعات البهائية واجب رعاية المؤمنين الجدد بعد قبولهم الدين إلى أن يصبحوا بهائيين ناضجين.
فبينما الأمر المبارك آخذ في النمو وتتماسك أجزاؤه الداخلية بكل قوة، وبينما المحافل الروحانية المركزية تتشكّل الواحد تلو الآخر في الشرق والغرب، وهم يباشرون أعمالهم بحماس ومنهجية منظّمة، وبينما شعوب العالم أصبحت تعي باطّراد وجود هذا الدين الجديد وتدرك أنه ظهور إلهي مستقلّ بحد ذاته وله نظامه الخاص، كانت تعليمات شوقي أفندي تأخذ منحىً آخرَ خاصة أثناء خطة السنوات العشر الكبرى للتبليغ والاستحكام. فالتأكيدات التي تتعلق بتسجيل المؤمنين الجدد بمجملها قد عُدّلت؛ لقد أصبحنا الآن أقوياء، والآن وُضِعت أُسسنا بشكل متين حصين، وأخيرًا، أصبح بإمكاننا الآن التعامل مع جماهير الجنس البشري في كل بلدان العالم. ألا هُبّوا وافتحوا الأبواب واجلبوهم وأدخلوهم إلى فُلُك النجاة التي أعدّها حضرة بهاء الله! لقد حان الوقت لإطاعة أوامر حضرة عبد البهاء ‘ونادوا بالملكوت الأبهى في هذه الأقطار والعواصم والجزر والمحافل والكنائس.’[17] وبكلمات أخرى فإن شوقي أفندي، بعد أن حقَّق غايته في النهاية نجده قد غيّر نهجه. فقد أعلم المحفل الروحاني المركزي في أمريكا بأن المتطلبات الأساسية والأولية التي يجب أن تتوفّر لدى الفرد المُقبِل هي الإقرار بمقام حضرة الباب، المبشّر؛ وأن حضرة بهاء الله هو المؤسِّس؛ وحضرة عبد البهاء هو المثَل الأعلى للدين، والإذعان التام لكل ما أُنزل من قلمهم؛ والولاء والاستقامة التامّة في التقيُّد بما جاء في ألواح وصايا المولى المحبوب، والارتباط الوثيق بروح وشكل النظام الإداري البهائي العالمي. تلك هي ‘المتطلبات الأساسية’، وأي محاولة للتحليل والشرح أبعد من ذلك، كما قال ولي الأمر، سوف لا تُفرِز إلاّ نقاشًا عقيمًا وجدالاً يضرّان بنموّ الأمر الإلهي. وأنهى بيانه في هذا الموضوع الدقيق والحسّاس بِحَثِّ الأحباء على ‘النأْيِ عن التصلّب في وضع حدود قطعية’ ما لم يكن هناك ظرف خاص يجعل الأمر ضرورةً قصوى.
لقد كان حضرة الباب وحضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء وشوقي أفندي هم ‘المبلّغين العِظام’، فكانت ولاياتهم – التي اختلفت كل منها تمامًا في خصائصها – مكرّسة بالدرجة الأولى للمقصد الأسمى في جلب جميع أبناء الجنس البشري إلى سُرادق هذا الدين الشافي، صانع السلام، ومحيي الأرواح. ومرة تلو الأخرى، وطيلة ست وثلاثين سنة، استجمع شوقي أفندي قوانا بكل تصميم لـ ‘المهمة المبجّلة في تبليغ أمر الله للجماهير…’، مهمة أكّد لنا في رسالة الرضوان الأخيرة له إلى العالم البهائي بأنها: ‘… مهمة مقدسة وأساسية وملحّة للغاية في آنٍ واحد، وتضع بالدرجة الأولى كل فرد أمام تحدٍّ بمفرده؛ فهي الصخرة الأساس التي على صلابتها وثباتها يتوقّف استقرار ورسوخ مؤسسات متضاعفة لنظام آخذ في العلو والارتفاع. ومهمة كهذه يجب أن تأخذ الصدارة والأولوية على كل نشاط بهائي آخر خلال هذه السنة’، مهمة قد منحها حضرة بهاء الله نفسه تلك الأولوية، كما ذكّرنا بها شوقي أفندي مرارًا مدعّمًا بياناته بمقتطفات من قبيل: “يا ملأ البهاء بلّغوا أمر الله لأن الله كتب لكل نفس تبليغ أمره وجعله أفضل الأعمال“[18]، “احصروا طاقاتكم بتبليغ أمر مالك الأنام”[19]، “هذا يوم النداء، على كل نفس أن تجاهد بالصبر والمثابرة في جلب النفوس إلى أفق عزه المنيع”[20]، “انطقوا ولا تصمتوا أقل من آنٍ وإنّ هذا خير لكم من كنوز ما كان وما يكون.”[21] وعلّق حضرة بهاء الله أهمية كبرى على تبليغ أمره، حتى إنه حثّ أتباعه بشدّة أن من كان منهم غير قادر على القيام بالتبليغ بنفسه بأن “يأخذ وكيلاً لنفسه في إظهار هذا الأمر“[22]، وكتب شوقي أفندي عام 1938 بأن ‘أمر التبليغ هذا الحيوي للغاية والملزِم للجميع’ يجب أن يصبح ‘محور جميع الاهتمامات’ لكل فرد بهائي، وأن على المحافل الروحانية أن تخصِّص وقتًا في كل جلسة من أجل ‘البحث بكلّ جدٍّ وتضرّع في أنجع الطرق والوسائل التي من شأنها أن ترعى وتُعزّز حملات التبليغ.’
لقد جعل ولي الأمر الموضوع في غاية الوضوح بأنّ على المبلِّغ أن ‘يمتنع في البداية عن الإصرار على تلك الأحكام والأوامر التي قد تفرض ضغطًا شديدًا على إيمان الباحث الذي أوقظ حديثًا… عليه ألا يطمئنّ ولا يرتاح له بال حتى يغرس في طفله الروحاني ذلك الشوق العميق الّذي يدفعه للنّهوض بدوره دون الاعتماد على أحد، وتكريس طاقاته لإحياء نفوس الآخرين، وإعلاء الأحكام والمبادئ المنصوص عليها في دينه الّذي اعتنقه حديثًا.’
إذا جمّع الفرد كل ما كتبه شوقي أفندي في موضوع التبليغ لأصبح لديه كتابٌ كبير الحجم، ولكنه يجد في كل ركن فيه أن الهدف كان واضحًا والواجب محددًا والوسائل مهيّأةً ومرِنةً. لقد استعمل شوقي أفندي كلمات كثيرة جدًا في ما يتعلق بتسمية البهائيين الجدد وبقبولهم بحضرة بهاء الله: فقد دعاهم بأنهم: ‘المُهتَدون’، ‘المُقْبِلون’، ‘الموالون المُقِرّون’، ‘المؤمنون الجدد’، ‘المُجاهرون’، ‘الداعمون’ للأمر المبارك وبأسماء وصفية معبِّرة أخرى؛ وقال بأنهم ‘المسجلون’، ‘المُهتَدون’، ‘المُعْلِنون’ عن إيمانهم، ‘معتنقو الدين’، ‘المسجّلون’ تحت لواء حضرة بهاء الله، ‘مناصِرو أمر الله’، ‘المنضمّون إلى صفوف’ أتباعه الأوفياء… وهكذا. ففي عصر نشاهد فيه مصطلحات مُبتَذَلة نُحسن عملاً لو تذكّرنا هذا؛ يمكنني أن أضيف بأنني لم أسمع قط شوقي أفندي يُقلِّل من قدْر تَقَبُّلْ المؤمن الجديد ‘للمظهر الإلهي الكلي’ بعبارة مُنفِّرة وعديمة المعنى لا تعبّر بأي شكل عن حالة الانبعاث الروحي لديه بالقول ‘لقد وقَّعَ على بطاقته’. لم يتوقف شوقي أفندي قط عن استعمال اللغة الإنكليزية بالشكل اللائق والسليم لأن بعض الكلمات قد طُوِّرت لها معانٍ ومضامينُ غيرُ شائعة ولا مألوفة. ليس في الدين البهائي كهنة ولا دُعاة مبشِّرون – إلا أن أفراد البهائيين يأخذون على عاتقهم القيام ‘برحلات تبليغية’ بقصد واضح صريح يتمثّل في ‘الهداية’.
[1] “القرن البديع، طبعة 2002، ص 296.
[2] America and the Most Great Peace.
[3] Sun of Truth.
[4] The Dawn.
[5] The Baha`i News of India.
[6] مخلوق خرافي عند قدماء اليونانيين له أجنحة من شمع، وعندما يقترب من الشمس لا تلبث أن تذوب وتهوي بصاحبها.
[7] “منتخباتي از آثار حضرة بهاء الله، المقتطف 108.
[8] “ظهور حضرة بهاء الله، المجلد الثاني، ص307.
[9] ترجمة المترجميْن.
[10] “ظهور حضرة بهاء الله، المجلد الثاني، ص 307.
[11] “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، فقرة 164، ص 135، الطبعة الثانية سنة 2006م.
[12] “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، فقرة 114، ص 92، الطبعة الثانية سنة 2006م.
[13] “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، فقرة 164، ص 135، الطبعة الثانية سنة 2006م.
[14] الإشراقات، الإشراق الثامن، صفحة 27 (ترجمة عن الفارسية) – كتاب “مجموعة من الواح حضرة بهاء الله، نزلت بعد الكتاب الأقدس، طبعة عام 1980.
[15] ربما يعني في كلامه أنه كتب بالإنكيزية التي تعلمها ولم تكن لغته الأصلية.
[16] الاعتقاد بأن أرواح الموتى تتصل بالأحياء عبر وسيط عادة – قاموس المورد.
[17] ألواح الخطّة الإلهية، ص 19.
[18] “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، الفقرة 128، ص 110، الطبعة الثانية سنة 2006م. (سورة البيان)
[19] المصدر السابق، الفقرة 96، ص 78. (ترجمة المترجميْن عن الأصل فارسي)
[20] ترجمة المترجميْن.
[21] “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، الفقرة 154، ص 130، الطبعة الثانية سنة 2006م.
[22] المصدر السابق، الفقرة 96، ص 78.
في القيام بأي محاولة لإعطاء صورة مترابطة لما دعاه شوقي أفندي بالعهد الأول لمراحل تطوّر الخطة الإلهية لحضرة عبد البهاء – عهد صرّح بأنه ابتدأ عام 1937 وينتهي عام 1963، وتضمّن ‘ثلاث’ حملات تبليغية ‘متتابعة’ – لا بدّ للمرء أن يرجع ويدرس كتابات شوقي أفندي حسب تسلسلها الزمني، لأنه سيجد فيها انعكاسًا واضحًا لما كان يدور في ذهنه، وبروزًا لنمط مبرمَج لخططه. فمنذ صعود مولاه المحبوب كان مُجمل الغرض من وجود ولي الأمر تحقيق رغبات المولى واستكمال ما بدأه من أعمال. فالخطة الإلهية التي وضعها حضرته في أحلك الفترات ظلمةً في تاريخ البشرية كانت، كما صرح شوقي أفندي، ‘تصميم عبد البهاء العظيم الفريد’ لخطة تجسّدت في ألواحه الموجّهة إلى البهائيين في الولايات المتحدة وكندا، وستبقى أقدار أتباع حضرة بهاء الله في شمال القارة الأمريكية ‘محبوكة في نسيج هذه الخطة لأجيال قادمة ولا انفصام لها’؛ فلمدة عشرين سنة بقيت الخطة الإلهية معلّقة، بينما هيئات نظام إداري آخذ في البروز ببطء كانت تتشكّل وتتهيّأ تمامًا لتفي بمتطلبات ‘تنفيذ فعّال للخطة بمنهجية عالية’. كم هي كبيرة تلك الأهمية التي أولاها ولي الأمر لهذا المفهوم الأساسي، وغالبًا ما أكّد عليه. إلا أننا عادةً نزّاعون إلى النسيان، لذا دعونا نرجع إلى كلماته وما تفضّل به بالفعل. فخلال السنوات الأولى لافتتاح خطة السنوات السبع الأولى، كتب ولي الأمر عام 1939 إلى جامعة الأحباء الأمريكيين قائلاً: ‘إنهم، من خلال كل ما هو تحت تصرفهم من موارد، يعزّزون نموّ واستحكام حركة الهجرة تلك، والتي من أجلها أساسًا صُمِّمت وأُنشئت كامل آليّات نظامهم الإداري.’ وبعد ثماني عشرة سنةً لم تختلف نظرة شوقي أفندي لهذا الموضوع حيث كتب لأحد المحافل الروحانية المركزية في أوروبا في أغسطس/ آب 1957، قبل وفاته بوقت قصير قائلاً: ‘وعلى كل حال، كان التقدم الذي أُحرز في ميدان التبليغ الهام متواضعًا، وأدنى منه بكثير كانت درجةُ التسريع في العملية الحيوية لهداية النفوس التي من أجلها أنشئت أساسًا آليات النظام الإداري بأكملها بالجهد الجهيد.’
إنه ولي الأمر الذي ‘أنشأ بالجهد الجهيد’ هذه ‘الآلية’، بمساعدة نفوس راغبة توّاقة وجدها بين المؤمنين في أمريكا الشمالية الذين أدركوا أفكاره وأطاعوا أوامره وسارعوا في وضع تعليماته حيّز التنفيذ. إنه ولي الأمر وحده الذي كان يملك الحق الإلهي الذي لا يمكن إبطاله ليوجّه معركة جحافل النور لحضرة بهاء الله ضد قوى الظلام حسب قوله الأحلى “عما قريب سوف يُطوى بساط نظم العالم ويُبسَط بساط آخر.“[1] إنه نظم بديع اضطرب له حقًا نظم العالم الذي عرفه الإنسان. لقد أورَثَنا حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء سليلاً ليس قادرًا على إدراك رؤيتهما فحسب، بل وتنظيم تعاليمهما وشؤون أتباعهما أيضًا.
فلو عاينّا ما حدث عام 1937 في بداية خطة السنوات السبع الأولى وتفحّصناه بشكل سليم، لرأينا الآن شوقي أفندي وهو في سن الأربعين قد انبرى جنرالاً يقود جيشًا – بهائيي أمريكا الشمالية – ويتقدم بهم نحو الفتح الروحي للنصف الغربي من الكرة الأرضية. فبينما قادة العالم الآخرون، وهم المشهورون بنظر العالم، كانوا يقودون الجيوش الجرّارة نحو الدمار في كل أرجاء المعمورة، يقاتلون في معارك ضارية مُرعبة لا سابق لها في أوروبا وآسيا وإفريقيا، كان هذا الجنرال المغمور، وغير المعترف به، ولم تتَغَنَّ الآفاقُ بشهرته، عاكفًا على ابتكار وتنفيذ حملة أكثر حيوية وأبعد مدى مما يمكنهم يومًا أن ينفذوه. فمعاركهم تُؤجّجها الكراهية القومية والطموحات، أما حملة ولي الأمر فمِرْجَلُها المحبة والتضحية بالذات. هم حاربوا في سبيل الحفاظ على مفاهيم وقيَمٍ بالية ومن أجل نَظْمٍ عفا عليه الزمن، وهو ناضل من أجل المستقبل، بعصره المشعشع بأنوار السلام والوحدة، وقيام مجتمع عالمي، وتأسيس ملكوت الله على الأرض. أسماؤهم ومعاركهم سيطويها النسيان شيئًا فشيئًا، أما اسم شوقي أفندي وشهرته فتعلو باطّراد وتعظُمُ معه انتصاراته التي لن تعرف النسيان أبدًا، بل ستبقى شمس عبقريته وإنجازاته مشرقة لألف من السنين في شعاع ساطع ضمن أنوار الدورة البهائية.
في مراجعة الكمّ الهائل من المواد الخاصة بموضوع خطط ولي الأمر، علينا ألا نغفل أبدًا أنه بالرغم من أن أوّل تنفيذ منظّم للفرمان الروحاني لحضرة عبد البهاء الموجّه للأحباء الأمريكيين (ويجب أن نلاحظ أن هذا التعبير لا يشير إلى البهائيين في الولايات المتحدة وحدها بل إلى جميع الأحباء في قارة أمريكا الشمالية) ابتدأ مع إطلاق خطة السنوات السبع الأولى، فإن مجموعة من الأحباء الأمريكيين المخلصين الأوفياء، وأغلبهم كانوا من ‘النساء المهاجرات’ كما أشار شوقي أفندي، كانوا قد نهضوا في استجابة فورية ‘لألواح الخطة الإلهية’ التي عُرِضت في مؤتمر الوكلاء السنوي الحادي عشر في نيويورك عام 1919، وتوجّهوا إلى أستراليا، والعواصم الأوروبية في أقصى الشمال، ومعظم الولايات الأمريكية الوسطى، وشبه جزيرة البلقان، وأطراف إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وبعض البلدان في آسيا، وجزيرة تاهيتي في المحيط الهادئ. لم ينسَ شوقي أفندي خدمات تلك النفوس طيلة السنوات الست والثلاثين، أو توقّف عن ذكر أسمائهم. ومع ذلك، فقد أوضح حضرته أن مشاريع التبليغ تلك عَبْر البحار، الخاصة بالأحباء الأمريكيين، كانت ‘مؤقتة’ و’متقطّعة’. وبافتتاح خطة السنوات السبع الأولى يكون عهدٌ جديدٌ قد بدأ.
أما متى قُدِّر للخطة الإلهية أن تبلغ نهايتها فهذا ما لا نعلمه. تخبرنا الأسطورة بأنه حيث يلامس قوسُ قُزَح سطحَ الأرض يكون هناك قِدْرُ الذهب؛ وهكذا فإن نهاية قوس قزح المجيد الخاص بنا قد تستقرّ إذًا في العصر الذهبي لديننا. إن أهمية الخطة الإلهية ومغزاها قد جاء ولي الأمر على شرحها بالتفصيل في فقرات لا عِدَّ لها. وكما كتب فإنها ‘الخطة الروحانية الأهم التي دُشّنت في التاريخ المدوّن’ و’الأداة الأعظم فعاليةً من أجل تطوير النظام الإداري العالمي’، و’عاملٌ أساسٌ في ولادة النظام العالمي نفسه وازدهاره في الشرق والغرب معًا.’ إن المؤمنين الأمريكيين ‘الذين امتازوا بشرف تلقِّيهم هذه الألواح التاريخية’، ‘طلائع مطالع الأنوار لنظام حضرة بهاء الله’، هم الذين وضعت العناية الإلهية في أيديهم مفتاح الإعلان عن الخطة الإلهية، وبه يمكنهم فتح الباب الذي سيقودهم إلى تحقيق ما قُدِّر لهم من مجد لا يمكن تصوّره. وكما أكّد لهم شوقي أفندي، فإن خطة المولى هذه، إذا ما نفّذوها بإخلاص خلال مراحل تفتّحها، سوف تؤدي في العصر الذهبي لديننا إلى تحقيق ما وعدهم به حضرة عبد البهاء: يجلسون على ‘عرش السلطنة الأبدية’[2] و’يحيط صدى عظمتهم جميعَ العالمين’[3].
كل شيء عند شوقي أفندي كان واضحًا: فهناك الخطة الإلهية، وبعد ذلك كانت هناك خطط وخطط! فبعد افتتاح خطة السنوات السبع الأولى، وعلى مدى سنوات عدة، وفي أجزاء مختلفة من العالم، كان هناك خطة التسعة عشر شهرًا، ومشروع السنتين، والسنوات الثلاث، والخمسة وأربعين شهرًا، والأربع سنوات ونصف، والسنوات الخمس، والسنوات الستة وغيرها. وسواء أكانت هذه الخطط من تصميم ولي الأمر نفسه أم جاءت بمبادرات تلقائية من الأحباء أنفسهم، فقد عرف حضرته أين يضعها في سياق الأمور. هناك مهمة هي مِنْحة إلهية مكنونة في فرمان سماوي وُضعت أمانةً في أعناق المؤمنين الأمريكيين؛ مهمة هي بالنسبة إليهم بمثابة حق الولد البِكْر، ولا يمكنهم تحقيقها إلا بإطاعتهم التامة للتعليمات التي أٌعطيت لهم في ألواح الخطة الإلهية لحضرة المولى والنجاح في كلّ حملة يقومون بها. أما الخطط الأخرى كما كتب شوقي أفندي عام 1949 ‘فإنها ليست سوى ملحقات مساندة لذلك المشروع الضخم الذي تحدّدت معالمه في تلك الألواح المباركة، ويجب اعتبارها، نظرًا لطبيعتها الخاصّة، إقليمية في مداها، على النقيض من الطبيعة العالمية لتلك المهمّة التي ائتُمِنت عليها جامعة البُناة الأبطال لنظام حضرة بهاء الله العالمي، حَمَلة مشعل الحضارة التي لا بدّ لذلك النظم البديع أن يؤسسها في النهاية.’
فإذا كان شوقي أفندي هو الجنرال، فإن رئيسَ هيئة أركانه كان المحفل الروحاني المركزي الأمريكي بلا شك؛ كان يتلقّى الأوامر منه مباشرة، والعلاقة كانت تامّة وحميمة. ولكنه لم ينسَ قطُّ أن مجد الجيش يكون بفضل جنوده، ‘ضباط الصف’، كما دعاهم صراحةً. فلم يكفّ أبدًا عن مناشدتهم وإلهامهم وإحاطتهم بمحبته وإعلامهم بأن كل بهائي في أمريكا الشمالية يتحمّل مسؤولية مباشرة في إنجاح الخطة الإلهية. ومن منطلق إدراكه للطبيعة البشرية كم هي نزّاعة إلى الانحراف عن أي هدف، دأب ولي الأمر باستمرار على تكرار ذكر المهمات الموكولة إليهم، والمسؤولية التي أخذوها على عاتقهم، والاحتياجات الضرورية الملحّة. وعندما أوشكت الخطط المختلفة على الاقتراب من نهاية مدتها، وبدا النجاح في ميادين مختلفة من العمل متأرجحًا في كفة الميزان، ارتفعت وتيرة مناشداته في تعاظُمٍ حقيقي لتدفع البهائيين بقوّة نحو النصر. في مطالعتنا لرسائله إلى المؤمنين الأمريكيين على مدى ست وثلاثين سنةً، يبدو لنا وكأنه كان يعيش بينهم. هم عايشوه بالفعل، في حياته، في أفكاره، في صلواته وخططه – وحتى في قلقه؛ لَيْتَهم يعرفون ذلك. ولكن لهم أن يطمئنوا، فقد جلبوا له الكثير من البهجة والسرور، وأمدّوه بأمل كبير، وما خذلوه يومًا. عسى أن يبقى سجلّهم ناصع البياض.
كان شوقي أفندي يشبه إلى حدٍّ كبير بركانًا قبل ثورانه، له طريقته في إطلاق دمدماته التحذيرية الأوّلية. ففي عام 1933 أبرق إلى مؤتمر الوكلاء المركزي الأمريكي بأن كل العيون متوجهة إليه، وأن أمامه فرصة عظيمة لإطلاق قوى ستبشّر باقتراب عصرٍ في إشراقه ‘سيفوق حتمًا بريق العصر البطولي لأمرنا المحبوب… وأن أهل الملأ الأعلى ينتظرونهم في انتهاز هذه الفرصة.’ وأصبح أكثر تحديدًا في رسالته إلى الأحباء المجتمعين في مشرق الأذكار عام 1935 احتفالاً بإتمام قبته في قوله: ‘دقّت ساعة جديدة… تدعو إلى جهود منهجية واسعة ودائمة في ميدان التبليغ تشمل الأمة بأسرها…’ حتى إنه بعد عشرة أسابيع كان في خطابه أكثر صراحةً بل وأكثر تَنَبُّؤًا في حقيقة الأمر، وكأن المرء يتلمّس فيه بوادر برودة ظلال الحرب القادمة: ‘هذه المرحلة الجديدة في الكشف التدريجي عن مراحل عصر التكوين لأمرنا المبارك، والتي دخلناها للتوّ – مرحلة التركيز على النشاط التبليغي – إنما تتزامن مع فترة ظلام يزداد حُلكةً، وعَجْز عالمي، وفقر مدقع يزداد تفاقمًا باطّراد، وخيبة أمل تتفشى على نطاق واسع في أقدار عصر متدهور آيل للزوال.’ وأبرق إلى مؤتمر الوكلاء المركزي عام 1936 بأن فرص الساعة الحاضرة لا يمكن تصوُّرُ كم هي نفيسة، وحثّهم أن يفكروا مليًا في ‘المناشدات التاريخية التي نادى بها حضرة عبد البهاء في ألواح الخطة الإلهية’، وأن يتشاوروا في كيفية ضمان ‘تحقيقها بالكامل’ في لحظة كانت فيها الإنسانية ‘تقترب من حافّةِ هاويةٍ هي الأخطر في مراحل وجودها.’ وفي نهاية الرسالة يُفصح عن الجوهرة التي كانت تنمو في مكنون قلبه قائلاً: ‘نضرع إلى العلي القدير عسى أن تنعم كل ولاية من جمهورية أمريكا، وكل جمهورية في القارة الأمريكية، بأنوار دين حضرة بهاء الله ويعتنقوه قبل نهاية هذا القرن المجيد، وترتفع فيها دعائم صرح نظامه العالمي.’ لقد انطلقنا! فكانت هذه الكلمات بمثابة تحية الافتتاح للخطة الإلهية.
كانت خطة السنوات السبع الأولى تحمل ‘مهمة بثلاثة أهداف’: الأول إتمام أعمال الزخرفة الخارجية لأول مشرق أذكار في العالم الغربي؛ والثاني تأسيس محفل روحاني محلي واحد في كل ولاية من الولايات المتحدة وفي كل مقاطعة في كندا؛ والثالث تأسيس مركز بهائي واحد في كلٍّ من جمهوريات أمريكا اللاتينية، ‘الذين’، كما كتب شوقي أفندي، ‘من أجل دخولهم في ظلّ أمر حضرة بهاء الله، كان أن وُضعت هذه الخطة الإلهية في المقام الأول’. على كل أمة في نصف الكرة الغربي أن ‘تدخل ضمن نسيج نظام حضرة بهاء الله المظفّر’، وبيّن لنا بأن هناك عشرين جمهورية مستقلة في أمريكا اللاتينية وهي ‘تشكّل ثلث عدد دول العالم ذات السيادة تقريبًا’، وأن هذه الخطة ليست بأقل من ‘حملة شاقة ثنائية يأخذونها على عاتقهم؛ في وطنهم وفي أمريكا اللاتينية في آن معًا.’
ما إن تجاوزت هذه الحملة التبليغية التاريخية سنتها الثانية بقليل حتى اشتعلت نيران الحرب في أوروبا، ومرت سنتان قبل أن تدخلها الولايات المتحدة – وكامل هذا الكوكب من الوجهة العملية. أما نشاط سنواتها السبع، فقد أخذ مجراه في مواجهة أعظم معاناة وأخطر تهديد شهده العالم الجديد على الإطلاق. إن درجة مراقبة شوقي أفندي لتلك النشاطات وتشجيعه وتوجيهه لأول خطة عظيمة منبثقة عن الخطة الإلهية كانت شيئًا لا يُصدَّق، حيث تدفّقت منه الرسائل إلى المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتحدة وكندا. ففي عام 1937 أخبرهم بأن تنفيذ المشاريع الثنائية في هذه الخطة سوف يُلقي على ختام سنوات القرن الأول البهائي ‘بريقًا لا يقل روعةً وتألقًا’ ‘عن تلك الأعمال الخالدة التي وَسَمتْ عهد مولد ديننا في عصره البطولي.’ وفي عام 1938 أخبرهم بأن ‘الظلمة الحالكة’ التي تكتنف العالم القديم قد أضفت على جهودهم وأعمالهم ‘أهمية خاصة ومطلبًا مُلحًّا عاجلاً’ لا يمكن المغالاة في تقديرهما. كانت الحملة الخاصة بأمريكا اللاتينية ‘واحدة من أمجد فصول تاريخ أمر الله في العالم’، وعلى نجاحها توقفت خطط المستقبل. أبرق إليهم بأنها وَسَمَتْ ‘بدء العمل في مهمة عالمية طال تأجيلها تُشكّل الإرث المُميّز الذي منحه حضرة عبد البهاء لجامعة البهائيين في أمريكا الشمالية.’ كان هذا ‘مشهد الافتتاح لأول فصل من تلك المسرحية الرائعة التي لم تكن في موضوعها بأقل من الفتح الروحي لنصفي الكرة الأرضية الشرقي والغربي كليهما.’ ومع كل هذا، ما زال يجب أن يُنظر إليها على أنها ‘مجرّد بداية، اختبارٍ للقوة، وعَتَبَة لخُطانا نحو حملة تبليغية لا زالت أكبر حجمًا وأعظمَ شأنًا…’
بعد سنتين على مسيرتهم في الخطة، عندما كان العمل في الزخرفة الخارجية لمشرق الأذكار يتقدم على نحو مرضٍ، وسلسلة مناشداته الحماسية المتلاحقة (بالإضافة إلى تبرعه بمبلغ تسعمائة جنيه، حيث شعر ‘بدافع لا يقاوم’ و’الفخر’ بأن يساهم في الاستقرار الدائم للمهاجرين في تسع ولايات وأقاليم في أمريكا الشمالية لم تستقرّ الهجرة فيها بعد) قد أكّدَت أن جميع الخطوات التمهيدية قد اتُّخذت على الجبهة الداخلية – لوّح شوقي أفندي بذراعه وقاد مسيرة قوّاته نحو الجنوب – إلى سواحل أمريكا الوسطى وجزرها متّبعًا، كما أبرق، ‘تقدمًا منهجيًا على طول المسار الذي خطّه قلمُ حضرة عبد البهاء.’ وبالرغم من أعبائه الجِسام وهمومه المتنامية على الدوام، أعلم الأحباء برغبته في أن يكون شخصيًا على اتصال دائم بالمهاجرين في أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية. أمّا ما عنته رسائله تلك لأولئك المهاجرين، كما قال عنهم، ‘المتشبثين بمواقعهم المنعزلة الموحشة في المناطق الشاسعة المبعثرة في أنحاء الأمريكتين’، فالذين تسلموها هم وحدهم يمكنهم تقديرها حق قدرها، ولكن أنا نفسي أتساءل فيما إذا كان من الممكن لهذا الجهاد الروحاني، أو الحملات التي تلته، أن تحقّق يومًا النجاح دون ذلك التواصل والاتصال الذي كان لولي الأمر مع المؤمنين! فحُبُّه وتشجيعه وتفهُّمه أبقاهم متشبثين بإحكامٍ بمواقعهم. وما زال عدد منهم ليس بالقليل مستقرّين في مواقعهم بفضل تلك الرسائل المذيّلة بتوقيعه ‘أخوكم الحقيقي – شوقي.’
بعد مرور سنة على اندلاع ‘نيران الحرب التي طوّقت العالم’ والتي انطلقت شراراتها الأولى من الشرق الأقصى، كما كتب شوقي أفندي، فاجتاحت نيرانها أوروبا وطوّقت إفريقيا، وهي تهدد الآن، ليس المركز البهائي العالمي فحسب، بل وأمريكا أيضًا – ‘الحصن الرئيس الباقي’ لأمر الله كما أطلق عليها – كان هناك فقط جمهوريتان في أمريكا اللاتينية لا زالتا بانتظار مهاجرين. قام سكان هذا ‘الحصن الباقي’ بواجبهم في ‘حمل الشعلة المقدسة إلى جميع جمهوريات نصف الكرة الغربي’ بأسلوب فذٍّ للغاية. كان الأحباء في إيران مُضطهَدين، والدين في روسيا حُلَّت مؤسساته وتلاشى، وأصبح مشرق الأذكار المصادَر هناك في خطر؛ والبهائيون في غرب أوروبا وجنوبها الشرقي ووسطها مقموعون؛ وفي ألمانيا تمّ حظر نشاطاتهم؛ وفي شمال إفريقيا كانوا هدفًا لهجمات المتعصبين الدينيين؛ كما أن تطوُّر الحرب واتّساعها قد وَضَع المركز البهائي العالمي نفسه في خطر عظيم. فلا غرابة في أن يكتب شوقي أفندي إلى الأحباء الأمريكيين أن ‘آمال وتطلعات جموع الأحباء في الشرق والغرب، صغيرًا وكبيرًا، حرًا كان أو مكبوتًا’، معلقة ‘بإحراز النصر المؤزّر’ الآتي بجهودهم! ولا عجب أن ناشدهم ‘أن أقدموا بجرأة فائقة، اكدحوا دون تراخٍ، ضحّوا بجدارة واستحقاق، ورابطوا بكل أَلَق وثبات حتى النهاية.’ ولا غرابة أن أكّد لهم بأن ‘عظمة مهمتهم تتناسب حقًا وتلك الأخطار المميتة المُحدِقة بجيلهم. وبينما الظلمة تنسلّ مُخيِّمةً على مجتمع يغرق باطّراد، فإن ملامح الضياء المنبعث من مهمتهم الشافية تبدو أكثر وضوحًا كل يوم. لا بدّ لهذا القلق والاضطراب العالمي الحالي، أحد أعراض داء عالمي واسع الانتشار، من أن يبلغ ذروته، كما سبق وأكد لهم دينهم، في كارثة عالمية سيتولّد منها وعي بالمواطنة العالمية، وعي يستطيع وحده أن يوفّر أساسًا ملائمًا لقيام وَحدةٍ عالميةٍ سيعتمد عليها بالضرورة سلام عالمي دائم، سلام هو بدوره سيدشِّن تلك المدنية العالمية التي ستشير إلى بلوغ الجنس البشري بأسره مرحلة النضج.’ وقال بأنهم قد ‘اندفعوا للعمل بمجرّد رؤيتهم حضارة تتهاوى ببطء.’ ولو لم يبيّن لهم، بكلمات ألهبت خيالهم، طبيعة مسؤولياتهم فيما يتعلّق بحالة العالم، لَمَا كانوا سيتحفّزون للعمل على الإطلاق.
بالرجوع إلى تلك السنوات المجيدة والرهيبة للحرب الأخيرة، نجد أن النجاح في خطة السنوات السبع الأولى يبدو ضربًا من الإعجاز حقًا. فبينما عُشْرُ سكان أوروبا وآسيا يهلكون، والمركز العالمي للدين مهدَّد بأخطار غير مسبوقة من الجهات الأربعة، وبينما الولايات المتحدة وكندا منشغلتان في أتون صراع عالمي وما يرافقه من مخاوف وقيود وهياج، نجحت حفنة من الناس، تفتقر إلى الموارد ولكنّها غنية بإيمانها، تعوزها المكانة والنفوذ ولكنها ثريّة بتصميمها، نجحت ليس في مضاعفة عدد المحافل البهائية في أمريكا الشمالية، وضمان وجود محفل روحاني محلي واحد على الأقل في كل ولاية من “الاتحاد” وكل مقاطعة في كندا فحسب، بل وفي إتمام الزخرفة الخارجية المُكلِفة للغاية ‘لأم المعابد’ الخاص بهم أيضًا، متقدِّمين عن الموعد المقرّر في البرنامج بستة عشر شهرًا، ونجحت أيضًا ليس في تأسيس مركز بهائي قوي في كل من الجمهوريات اللاتينية العشرين فحسب، بل وفي تشكيل خمسة عشر محفلاً روحانيًا إضافيًا في كافة أنحاء المنطقة. في الأشهر الأخيرة من الخطة اندفع شوقي أفندي نحو ما تبقَّى من مهمات لم تُنجَز بعدُ ومعه جيشه الصغير الباسل الذي غمرته مشاعر البهجة والحماس على شأن نسي مشاق كفاح مستمرّ مرهق دام سبع سنوات. وعندما أشرقت شمس ‘القرن البهائي’ الثاني إنما أشرقت على قمم الظَفَر والانتصار. وإلى كتائبه العاملة قال شوقي أفندي بأنه والعالم البهائي بأسره مدينون لهم بامتنان ليس بمقدور أحد أن ‘يقدّره أو يصفه’. فلا عجب أن كتب حضرته بأنّ تلك الجامعة قد ‘برهنت تمامًا على جدارتها في أن تحمل تلك المهام التي تفوق طاقة البشر التي ائتُمنت عليها.’
في مدى عشرين سنةً، وتحت توجيهات شوقي أفندي وطبقًا لتصميمٍ وضَعَهُ، حاكَ البهائيون لوحة مزدانةً بالمشاريع الثلاثة الكبرى للجهاد الروحاني خلال فترة ولايته. وفي وسط المشاهد متعددة الألوان التي تَمُوج بالنشاطات والأعمال الكثيرة في أماكن متعددة، يمكننا أن نتبيّن ثلاث عجلات ذهبية فخمة تدور – هي ثلاثة احتفالات مئوية عظيمة، تمثل معالم تاريخية وضع فيها ولي الأمر خيوط خططه، ومنها خرج الأحباء لينسجوا أنماطًا رائعةً لا تزال أكثر جمالاً وقوة. كان الاحتفال المئوي الأول في 23 مايو/ أيار 1944. وبفضل العناية الإلهية لم ينقطع اتصال معظم الجامعات البهائية في أنحاء العالم بوليّ الأمر في المركز البهائي العالمي، ولا ابتلعتها معاركها الطاحنة رغم أخطارها التي تعدّت مسرح ميادينها. لقد بقيت كل من إيران والعراق ومصر والهند وبريطانيا العظمى وأستراليا ونيوزيلندا ونصف الكرة الغربي في منأى عن نيران الحرب بشكلٍ مُعْجِزٍ. وبذلك تمكّنت الجامعات البهائية فيها، حسب ظروف كل منها، من الاحتفال بالمناسبة المجيدة وإحياء الذكرى المئوية لإعلان حضرة الباب دعوته التي كانت بداية الدور البهائي وذكرى مولد حضرة عبد البهاء في آنٍ معًا.
وبالرغم من حقيقة أن الأحباء الإيرانيين لم يتمتعوا بحرية إقامة احتفالات لائقة على مستوى البلاد بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لميلاد الدين الذي انبثق فجره في موطنهم، فلا يعني هذا أنهم لم يحتفلوا بذكرى حضرة الباب المباركة بما يليق بها من إجلال. فقد بعث ولي الأمر نفسه، بكل ما فيه من رقّة وحنان تجاه جامعة مبتلاة على الدوام، بتعليماته المفصّلة إلى الهيئة المركزية في إيران بما يجب أن يكون عليه الاحتفال بذكرى هذا الحدث المجيد؛ فمُمثِّلُه الخاص جناب ولي الله ورقاء، أمين حقوق الله، كُلّف بوضع سجادة حريرية نفيسة في الغرفة التي أعلن فيها حضرة الباب دعوته في منزله المبارك بشيراز، وهي تَقْدِمةٌ من شوقي أفندي نفسه؛ وبعد ساعتين وإحدى عشرة دقيقة بعد الغروب، أي بمرور مائة عام بالضبط على الكشف عن مقامه للملا حسين في تلك الغرفة بالذات، على أعضاء المحفل الروحاني المركزي والوكلاء المُنتَخَبين لمؤتمر الوكلاء المركزي السنوي أن يجتمعوا؛ طُلب من أعضاء المحفل الروحاني المركزي أن يسجدوا عند عتبة تلك البقعة المقدسة بالنيابة عن حضرة شوقي أفندي، وأن تُرتّل بعد ذلك السورة الأولى من “قيوم الأسماء”. بعد أن تمّ ذلك تُلِيَت فقرات من رسالة ولي الأمر الموجَّهة إلى البهائيين في الشرق بمناسبة عيد القرن ذاكرًا فيها مآثر وعظمة حضرة الباب وأهمية الأحداث التي وقعت في تلك البقعة المباركة قبل قرن من الزمان.
أما بالنسبة للجامعة البهائية في أمريكا الشمالية، فقد كان لهم هناك احتفال ثانٍ في الوقت نفسه – مرور خمسين عامًا على تأسيس الأمر المبارك في العالم الغربي. وبنظره الثاقب وأسلوبه المعتاد، جعل شوقي أفندي الأمر واضحًا تمامًا للأحباء الأمريكيين في سلسلة من الرسائل خلال عام 1943 كيف توقَّعَ منهم إحياء ذكرى مناسبة جليلة كهذه كما يليق وينبغي، ولماذا أرادهم أن يحيوها على مستوى كهذا: ففي ‘هدفها وعظمة جلالها’ كان عليها أن ‘تعوّض تعويضًا كاملاً عن المعوِّقات التي منعت كثيرًا من الجامعات البهائية في أوروبا وأماكن أخرى في العالم، وحتى في موطن حضرة بهاء الله، من القيام بنصيبهم في تقديم الإجلال والتقدير كما يليق بدينهم المحبوب في تلك الساعة المجيدة من تاريخه.’ وقال بأن الاحتفالات التي سيقيمها الأحباء الأمريكيون سوف لا تكون تتويجًا لجهودهم الذاتية فحسب، بل وجهود شركائهم في العمل في الشرق والغرب كليهما.
ويسبق هذا الاحتفال المئوي حملة إعلامية واسعة على نطاق الأمة بهدف الإعلان العام عن رسالة حضرة بهاء الله، وبها يتعرّف عموم الناس، بواسطة مختلف وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة ونشرات، على أهداف الأمر المبارك ومقاصده، وعلى ما أنجزه أبطاله وشهداؤه وما حققه المبلّغون والمهاجرون والإداريون، وعلى طبيعة مؤسساته التي يجب أن تُوَضّح. وعلى الأحباء، على النطاقَيْن المركزي والمحلي، أن يحتفلوا بهذه المناسبة ويُعلنوا عن طبيعة هذا المهرجان المُبهِجة من خلال المحاضرات والمؤتمرات وإقامة المآدب والاتصالات بالقادة البارزين.
إن ذروة تلك البهجة الغامرة ستكون في انعقاد مؤتمر الوكلاء المئوي لجميع أمريكا والذي سيحضره وكلاء ليس من الولايات المتحدة وكندا فحسب – وهم الذين تم انتخابهم ولأول مرة في تاريخهم بتصويت جميع الأحباء في مؤتمرات على مستوى الولاية والمقاطعة وليس فقط بتصويت الجاليات التي لها محافل روحانية محلية – بل سيحضره أيضًا ممثّل واحد على الأقل من كل بلد من بلدان أمريكا اللاتينية. وفي تمام الساعة التي أعلن فيها حضرة الباب دعوته سيُقام احتفال مهيب خاص في قاعة مشرق الأذكار (شيكاغو) شكرًا وامتنانًا، وفيه ستُعرض النسخة المصغّرة الوحيدة لصورة حضرة الباب التي ما فارقت يومًا شوقي أفندي، وهي هديته الخاصة لهذه الجامعة العزيزة المظفّرة لتتكحّل بمشاهدتها عيون مَن في ذلك الجمع العظيم المبارك، على أن يَتْبَع ذلك اجتماعٌ عام مكرّس لذكرى حضرة الباب وحضرة عبد البهاء معًا. وكما توقّع شوقي أفندي، لا شيء حجب ‘النهاية المظفّرة لأول وأسطع قرن في العصر البهائي.’ كما عقدت اجتماعات مماثلة، وإن كانت أقل أُبّهةً، في بلدان أخرى. وقد أعلن شوقي أفندي بأن ختام هذه الاحتفالات العالمية سيشير إلى انتهاء العهد الأول من عصر التكوين للدين، والذي امتدّ من عام 1921 إلى 1944.
إن لحظة اختتام قرن وافتتاح آخر جديد، تكون مناسَبَةً مواتية لإجراء عملية جرد وتقييم للعالم البهائي. فالفيض العارم من المواد الذي يطرح نفسه أمام أي فرد يحاول تقييم أعمال وجهود ولي الأمر يبرهن على أنه من الصعب حقًّا معرفة كيفية التعامل مع إنجازاته المتنوعة. لم يكن شوقي أفندي ذلك المبدع العظيم في استنباط الحقائق فحسب، بل هو رجل الإحصاء القادر المهتمّ، ولم يكن هناك ما لم يستطع التعبير عنه ووضعه في قالبه. ولكن أليس ذلك هو جوهر الحياة الحقيقي – أن تستخلص النفع والفائدة مما يبدو في الظاهر أمرًا روتينيًا مُلزِمًا، وبالتالي مملاً؟
أصدر شوقي أفندي في حيفا عام 1944 نشرة صغيرة في ست وعشرين صفحة بعنوان “الدين البهائي، 1844–1944” وكتب تحته بكل تواضع ‘معلومات إحصائية ومُقارنة’. وفي عام 1950 أصدرت لجنة الطبع والنشر البهائية في الولايات المتحدة نشرة مماثلة ضمّت مواضيع شاملة أكبر بكثير، زوّدها بها ولي الأمر. كانت النشرة أكبر حجمًا، تقع في خمس وثلاثين صفحة واحتوت على خارطة، وكُتبت عليها عبارة: ‘جَمَعها شوقي أفندي ولي أمر الدين البهائي.’ ومرة أخرى، وبناء على حثّه وتشجيعه، أصدر المحفل الروحاني المركزي في كل من بريطانيا وأمريكا عام 1952 النشرة نفسها بالعنوان ذاته ضمَّت مواضيع زودهما بها حضرته أيضًا، كانت النشرة في هذه المرة ضعف حجم الأولى وتُغطّي الفترة من عام 1844–1952، وقد أضاف إليها الآن شوقي أفندي عنوانًا فرعيًا جديدًا: ‘خطة السنوات العشر العالمي للتبليغ والاستحكام.’
إن التطرق إلى تفاصيل موضوعٍ بهذا الاتساع يعدّ أمرًا مستحيلاً، ومن ناحية أخرى فإن تجاهله بالكلية يعتبر إجحافًا بحق ميدان عملٍ استغرق أكثر من ثلاث عشرة سنة، واستنفد من شوقي أفندي قدْرًا كبيرًا من اهتمامه ووقته. إن كَوْن معظم الناس معرّضون للخطأ إلى جانب عدم توفّر الكفاءات المطلوبة، جعل من قصة هذه الإحصاءات وحدها جهدًا خارقًا تقريبًا من جانب شوقي أفندي في الحصول عليها. فكيف كان إذًا مجهوده في الحصول على الحقائق التي يُمثلها الكثير من هذه الإحصاءات؟ لقد حرِص دومًا أن تكون إحصاءاته حديثة؛ ووقت صعوده كان يحتفظ بمفكرته الصغيرة المعتادة في غرفة نومه حيث كان قد أضاف إليها آخر الإحصاءات. أذكر مرة كيف رفع مفكرته ولوّح بها أمامي مبتسمًا وقال: ‘هل تعلمين أن العالم البهائي بأسره في هذه؟’
وفي سبيل فهمٍ أفضلٍ للإحصاءات، على المرء أن يدرك ماذا كان في ذهن شوقي أفندي وراء تلك المعلومات الإحصائية. فالحقائق لا يمكن لإنسان أن يجادل فيها؛ يمكن للمرء أن يخالف الأفكار والآراء، يعترض متذمرًا، يقلّل من شأن أحداث تاريخية، ولكن عندما يظهر للمرء في نشرة مطبوعة موثّقة أن ممتلكات هنا وهناك تُقدّر قيمتها بخمسة ملايين ونصف من الدولارات، أو أن سبعة محافل روحانية مركزية قد سجّلت رسميًّا، أو أن عقد الزواج البهائي قد أصبح قانونيًا تمامًا في خمس عشرة ولاية، أو أن يقرأ أحدٌ أسماء القبائل الإفريقية الممثَّلة في الدين، واللغات التي تُرجمت إليها تعاليمه، فلا مفرّ له إلا أن يُقرّ بأن هذا الدين قائم بشكل واقعيّ ملموس. كانت الحقائق جزءًا من ذخيرة شوقي أفندي وعتاده الذي به استطاع أن يدافع عن الأمر المبارك ضد أعدائه، ومن خلال هذه الحقائق لم يقتصر جُهده على تشجيع الأحباء فحسب، بل وحفزهم أيضًا للقيام بجهود أكبر وأعظم.
واحدة من أعزّ القوائم لديه، بل وأوّلها على الإطلاق، تلك التي عكست نطاق انتشار هذا الأمر البهيّ المجيد الذي ائتمنه عليه حضرة عبد البهاء عام 1921. فنرى تحت بند ‘البلدان التي فُتحت لدين حضرة بهاء الله’ وضع شوقي أفندي رقم (2) خلال فترة ولاية حضرة الباب ورقم (13) خلال ولاية حضرة بهاء الله ورقم (20) خلال ولاية حضرة عبد البهاء. من المثير للاهتمام أن نلاحظ كيف كان عقله منهجيًا ومنظّمًا للغاية، لأن في نشرة عام 1944 ورد الرقم (10) فقط خلال ولاية حضرة بهاء الله، فلماذا إذًا وضع شوقي أفندي رقم (13) في نشرة عام 1952؟ والسبب أن الباكستان أصبحت دولة مستقلة واثنان من الأقاليم الروسية الأصلية قد انقسما إلى أربع جمهوريات في الاتحاد السوفييتي – ما يعني احتساب هذه الدول الثلاثة ضمن ولاية حضرة بهاء الله، وهل من مكان آخر توضع فيه؟ فهذه الإحصاءات تعكس توسع ديننا بطريقة رائعة للغاية. سأستمر في عرض الإحصاءات، بحدود ما تسمح به المادّة المتوفّرة لدي، حتى صعود ولي أمر الله. فمن عام 1844–1921 كانت البلدان التي فُتحت للأمر المبارك (35) بلدًا (ولأغراض بهائية فإنها تشمل دُوَلاً ذات سيادة وأقاليم تحت الانتداب ودوَلاً تابعة ومستعمرات). ومن عام 1921–1932 أضيفت خمسة بلدان في إحدى عشرة سنة؛ ومن عام 1932–1944 أضيف (38) بلدًا في اثنتي عشرة سنة؛ من عام 1944–1950 أضيف (22) بلدًا في ست سنوات؛ وفي عام 1950–1951 أضيفت (6) بلدان في سنة واحدة؛ وفي عام 1951–1952 أضيف (22) بلدًا في سنة واحدة؛ وفي عام 1952–1953 لا زيادة في الأعداد، وفي 1953–1954 أضيف (100) بلدٍ خلال سنة واحدة وهو إنجاز كتب عنه شوقي أفندي بأنه يعني أن: ‘الهدف الأعظم حيوية والأكثر مدعاة للإعجاب في خطة السنوات العشر’ قد ‘أُحرِز بالفعل قبل نهاية السنة الأولى من هذا المشروع الضخم الذي يمتد عقدًا من الزمن.’ عند هذه النقطة، وأمام ما يمكن للبهائية أن تحققه من أهداف، يبدو أن بلدان العالم آخذة بالنفاد! ومع هذا فمن عام 1954–1957 أضيف (26) بلدًا. عندما تسلّم شوقي أفندي زمام الولاية كان هناك (35) بلدًا يقطنها بهائيون وعند صعوده ارتفع العدد إلى (254) أي بزيادة (219) بلدًا بفضل رؤيته واندفاعه وتصميمه وعمله مع، وبواسطة، جموع المؤمنين المخلصين المشتعلين روحانيًا والمنتشرين في أنحاء العالم.
ورغم عدم توفّر إحصاءات دقيقة بعدد المراكز الأمرية التي كان يقيم فيها البهائيون في أنحاء العالم، والتي كان شوقي أفندي يدعوها ﺑ ‘بُؤَر نور الدفء والشفاء لظهور إلهي قاهر’، إلا أنه يبدو من غير المحتمل أن يكون عددها قد بلغ الألف في القرن الأول للأمر الإلهي. ويشير الحساب التقريبي للمراكز الأمرية أنه بحلول عام 1952 كانت حوالي (2400) مركز، وقد أعلن شوقي أفندي نفسه عن الأرقام التالية: عام 1953 (2500) مركز، عام 1954 (2900) تقريبًا، عام 1955 تعدّى الرقم (3200)، وعام 1956 قريب جدًا من (3700) مركز، وفي عام 1957 (4500) مركز، أي أنه في غضون أقل من خمس سنوات تمّ إضافة أكثر من (2000) مركز بهائي.
إن ما تقدِّمه هذه الإحصاءات من صورة عامة لهي واضحة ومثيرة للإعجاب، ولكن أي الأجزاء في هذه الشجرة البهائية كان الأسرع في نموه؟ هذا أيضًا ما عكسته إحصاءات ولي الأمر التي نُشرت. عندما قام حضرة عبد البهاء برحلته التاريخية إلى الولايات المتحدة وكندا، كان هناك على الأرجح حوالي (40) مركزًا يتواجد فيه بهائيون في النصف الغربي من الكرة الأرضية. وبحلول عام 1937 أصبحوا (300) مركزٍ أي بزيادة (260) خلال (25) عامًا. وبحلول عام 1944 ارتفع العدد ليصل إلى (1300) مركزٍ في أمريكا الشمالية بزيادة تفوق الألف مركزٍ خلال خطة السنوات السبع الأولى. وآخر رقم وَصَلَنا من شوقي أفندي في أكتوبر/ تشرين الأول 1957 كان (1570) مركزًا. وبفضل رسائل شوقي أفندي التي كانت تحمل في طيّاتها الإلهام والتشجيع والتي لم تنقطع خلال سنوات ولايته الست والثلاثين، وبفضل قوة فعالية خططه المتتابعة، أضيف على الأقل (1500) مركزٍ جديد في الولايات المتحدة وكندا وحدهما، ولم تكن قائمة المحافل الروحانية المحلية في أمريكا الشمالية بأقل منها إثارة للإعجاب: ففي عام 1931 كان هناك (47) محفلاً روحانيًا محليًا، وبحلول عام 1944 أصبحوا (131) بزيادة (84) في (13) عامًا – أضيف معظمهم أثناء الحملة العظيمة التي ارتبطت بخطة السنوات السبع الأولى. وبحلول عام 1952 كان هناك (184) محفلاً روحانيًا، وفي إبريل/ نيسان 1957 وصل المجموع الكلي إلى (204) محافل روحانية محلية.
في عام 1944 أصدر شوقي أفندي أول قائمة إحصائية عن أمريكا اللاتينية شملت (57) مركزًا أمريًا و(15) محفلاً روحانيًا محليًا، وبحلول عام 1950 أصبحوا (70) مركزًا و(35) محفلاً روحانيًا، ووقت صعوده ارتفع عدد المراكز إلى (137) مركزًا والمحافل الروحانية المحلية إلى (52) محفلاً تقريبًا. في النشرة التي غطّت الفترة من عام 1921–1944 ذكر فيها شوقي أفندي أرقامًا تخصّ الهند (وكانت وقتها تضم ما عُرف بالباكستان فيما بعد) وبورما جاء فيها عدد المراكز (66) والمحافل الروحانية المحلية (31)، وبحلول عام 1957 أصبح العدد (140) مركزًا وحوالي (50) محفلاً. أما في إيران فكان من الصعب دومًا الحصول على إحصائية دقيقة بسبب استمرار تفجُّر موجات الاضطهاد فيها، إلا أنه في عام 1952 أصدر شوقي أفندي أرقامًا تفيد بأن المراكز الأمرية فيها تبلغ (621) والمحافل الروحانية المحلية (260). أما الأجزاء الواقعة في “الجهة المقابلة من الكرة الأرضية”، والتي كان شوقي أفندي يخصّها برعايته، فقد حققت تقدُّمًا ملحوظًا خلال سنوات ولايته رغم موقعها المنعزل عن بقية العالم البهائي: ففي عام 1934 كان هناك (8) مراكز أمرية و(3) محافل روحانية محلية في أستراليا ونيوزيلندا؛ وبحلول عام 1950 أصبحوا (59) مركزًا – بزيادة حوالي (50) مركزًا في ست عشرة سنةً، وعدد المحافل الروحانية (10)؛ وبحلول عام 1957 كان هناك أكثر من (100) مركز أمري و(12) أو (13) محفلاً روحانيًا. وبالمثل أظهرت الجزر البريطانية زيادة ملحوظة: ففي عام 1944 كان هناك بضع مراكز أمرية و(5) محافل روحانية محلية؛ وفي عام 1957 تجاوزوا (110) مراكز و(20) محفلاً روحانيًا. وفي أول إحصاء لشوقي أفندي عن ألمانيا والنمسا عام 1950 أظهرت الأرقام وجود (34) مركزًا أمريًا و(14) محفلاً روحانيًا (بينما قبل الحرب كانوا على الأرجح قريبين من 15 و 5 على التوالي)؛ وفي عام 1957 كان هناك أكثر من (130) مركزًا و(25) محفلاً روحانيًا.
مع خطة السنوات السبع الثانية ظهرت قائمة جديدة في نشرة عام 1950، قائمة الدول الأوروبية العشرة المستهدَفة والتي كان فيها آنذاك (34) مركزًا أمريًا و(14) محفلاً روحانيًا محليًا. وبحلول عام 1957 ارتفع العدد إلى أكثر من (110) مراكز و(27) أو (28) محفلاً روحانيًا. وبكل حرص وحذر أدرج شوقي أفندي في قوائمه رقمًا عن شبه الجزيرة العربية (لم يتغير من عام 1950–1957) جاء فيه (10) مراكز أمرية – ربما هي الأصعب في الحفاظ عليها في العالم البهائي بأسره. وفي مصر والسودان، ميدانَيْ نضال الأحباء الطويل في وجه التعصّب الإسلامي، بيّنت القائمة عام 1952 وجود (38) مركزًا و(10) محافل روحانية محلية. وفي عام 1956 أعلن شوقي أفندي عن وجود أكثر من (900) محفل روحاني محلي في أنحاء العالم. وبحلول عام 1957 استطاع أن يُعلم العالم البهائي بأن هذا العدد قد ارتفع ليتجاوز (1000) محفل روحاني محلي، مع أنه من غير المرجّح أن يكون عددها وقت صعود حضرة عبد البهاء عام 1921 قد تجاوز بضع محافل قليلة في كافة أنحاء الشرق والغرب. لقد كان شوقي أفندي هو مَنْ أوجدها متتبعًا النمط الذي وضعه المولى المحبوب بنفسه.
بالإضافة إلى جهود شوقي أفندي في تأسيس بنيان النظام الإداري وترسيخ قواعده وضمان الانتشار السريع للدين، فقد أبدى اهتمامًا خاصًا في ضمان نشر الآثار الكتابية البهائية بلغات مختلفة لتكون في متناول شعوب العالم. كثير من تلك التراجم والكتب المنشورة كان حضرته يقوم بتغطية تكاليفها. في السنوات التي سبقت وفاة مارثا روت عام 1939 كانت هي ممثلته وأداته المنفِّذة في كل تلك الأعمال الهامة في أغلب الأحيان. في عام 1944 كان لدينا منشورات بهائية بـ(41) لغة، وبحلول عام 1950 أضيفت إليها (19) لغة أخرى، وبحلول عام 1952 أصبحت (71) لغة أي بإضافة (11) لغة في سنتين. في عام 1955 أصبحت (167) لغة أي بإضافة ما لا يقل عن (96) لغة في ثلاث سنوات. وبحلول عام 1957 أصبحت (237) لغة بزيادة تربو عن (70) لغة في سنتين. من الجدير بالملاحظة هنا أنه بعد قائمة اللغات التي نشرت بها الكتابات البهائية، كانت على الدوام تليها مباشرة قائمة أخرى ‘باللغات التي يجرى العمل حاليًّا على ترجمة الآثار والمطبوعات البهائية إليها.’
لم يكن شوقي أفندي متلهفًا للترحيب بأكبر عدد ممكن من مختلف المجموعات العرقية التي تستظلّ بظلّ الأمر الإلهي فحسب، بل كان دومًا يحثّ الأحباء على الوصول إلى الناس المنحدرين من أصول عرقية مختلفة حتى يُمكن للمبدأ الأساس الداعي إلى الوحدة والاتحاد في التنوع والتعدد أن يكون مَثَلاً يُحتَذى داخل الجامعات البهائية. لقد انعكس هذا في اثنين من إحصائياته حيث أكد الإحصاء الثاني بوضوح على الأهمية القصوى التي علّقها حضرته على هذا الجانب من تعالمينا؛ فعناوين أعمدة هذه الإحصاءات تتكلم عن نفسها: ‘الأعراق الممَثَّلة في الجامعة البهائية العالمية’، وقد ذُكرت في القوائم بالاسم. في عام 1944 كان هناك (31) عرقًا، وفي عام 1955 أصبحوا (40) عرقًا تقريبًا. وبالمثل ذُكِرت بالاسم أيضًا ‘الأقليات والسلالات العرقية التي أقام البهائيون اتصالاً معها’: في عام 1944 كان منها (9) بينما في عام 1952 ارتفع العدد إلى (15) أقلّية وعرق – منها (12) من سكان الإسكيمو وقبائل الهنود الأمريكيين. وفي عام 1952 أضيفت أعمدة بعناوين جديدة بغضّ النظر عن ضآلة الأرقام التي تضمنتها؛ ‘القبائل الإفريقية الممثَّلة في الدين البهائي’؛ وذُكرت أسماء (12) قبيلة – بكل فخر. وبشكل دوري واصل حضرته الإعلان عن تنامي هذه الأرقام: عام 1955 (90)؛ عام 1956 (140)؛ وعام 1957 (197) – أي بإضافة (185) قبيلة خلال خمس سنوات. في عام 1954 أعلم العالم البهائي أن هناك ما يزيد عن (500) بهائي إفريقي في أوغندا وحدها (من أصل 800 بهائي زنجي ربما في القارة بأكملها)، وفي عام 1957 قال بأن عدد البهائيين الأفارقة الآن يفوق (3000). إن اهتمام شوقي أفندي الشديد بالمسائل المتعلقة بالعرق في عصرنا الحاضر، وإحساسه القوي بقيمة الصفات المختلفة التي منَّ الله بها على مختلف الشعوب، جعلاه يتطلع بكل شغف إلى المشاركة في ما يعتبره انتصارات أساسية. ففي عام 1956 أعلن حضرته أن هناك (170) مركزًا بهائيًا في منطقة المحيط الهادئ، وفي عام 1957 أعلمنا بارتفاع العدد إلى (210) مراكز، وأن هناك أكثر من (2000) مؤمن من العرق الأسمر في أنحاء تلك المنطقة.
إن النموّ في مؤسسات الدين وفي ممتلكاته وأوقافه، وهو السدّ المنيع الذي يحمي نظامه الإداري الآخذ في النضوج، كان جانبًا آخر كرّس له شوقي أفندي اهتمامًا خاصًا. لم يكن ما جاء به حضرة بهاء الله إلى هذا العالم حلمًا جاء حضرته ليساعدنا أن نحلم به، بل جاء بحقيقة واقعية منحنا تصاميمها كي نقوم على بنائها وتشييدها. فالهيئات المسجلة رسميًا يمكنها أن تُسجّل ممتلكات باسمها بطريقة قانونية. وقد كان ولا يزال ضروريًا للأمر الإلهي المتنامي أن يمتلك معابده الخاصة ومبانيه الإدارية المركزية منها والمحلية، ومقرّات مؤسساته، ثم أراضيه ومدارسه… إلخ. إن الأرقام في هذا الصدد تتكلم بكل بلاغة عن التقدم الذي تحقق خلال فترة ولاية شوقي أفندي؛ ففي عام 1944 كان هناك (5) محافل روحانية مركزية مسجّلة رسميًا و(63) محفلاً روحانيًا محليًا مسجلاً رسميًا في أقطار مختلفة؛ في عام 1952 أصبحت (9) و(105) على التوالي؛ وبحلول عام 1957 كان هناك ما يزيد عن (200) محفل روحاني محلي مسجل رسميًا – أي بإضافة (137) خلال (13) سنة. وبينما في بداية القرن البهائي الثاني عام 1944 كان الحق الشرعي في إجراء عقود الزواج البهائي قائمًا في أماكن قليلة جدًا، أصبح في عام 1957 حقًا يتمتع به البهائيون في (30) منطقة، واعتُرف بالأيام المحرمة البهائية في (45) منطقة كأيام تمنح الحق في التغيب عن العمل أو الدراسة، وتعريف المنطقة هنا يعني الدولة أو الولاية أو المقاطعة. في عام 1952 كان البهائيون يمتلكون (8) مقرّات مركزية فقط، بينما في عام 1957 امتلكوا (48) منها. وبالمثل تضاعفت أعداد الأوقاف المركزية بدرجة غير مسبوقة، وفي السنة نفسها كان هناك (50) وقفًا دينيًا في مختلف عواصم العالم.
وبالمثل ازدادت بسرعة تلك الأصول المالية للأمر المبارك المتنامي. فقيمة الممتلكات المتعددة في مختلف البلدان الآن قد عكستها قائمة الأرقام المتضخِّمة التي استمر شوقي أفندي في إعلانها على مرّ السنين: في عام 1944 قُدّرت الممتلكات في الولايات المتحدة ﺑ (1,768,339) دولارًا أمريكيًا، وفي عام 1950 ﺑ (1,783,958) دولارًا، وفي عام 1952 ﺑ (3,070,958) دولارًا، وبحلول شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1957 أصبح المبلغ يقارب الخمسة ملايين دولار. كانت الأوقاف الأمرية في إيران تُقدّر بخمسمائة ألف دولار أمريكي عام 1952، بينما في عام 1957 ارتفعت قيمتها إلى خمسة ملايين دولار، وفي عام 1947 قدّر شوقي أفندي قيمة الممتلكات الأمرية في المركز البهائي العالمي في الأرض الأقدس ﺑ (35,000) جنيه إسترليني (140,000 دولار أمريكي)، وفي عام 1952 بـ (500،000) دولار، وفي عام 1957 بلغت (5,500,000) دولار. وكانت الأرقام التقديرية في البلدان الأخرى كما أوردها: في عام 1952 (500,000) دولار وفي عام 1957 أصبحت (850,000) دولار. أما الرقم الإجمالي لقيمة تلك الممتلكات المتنوعة، بأفضل تقدير معتدل، فكان عام 1952 (4,500,000) دولار وفي عام 1957 فاق (16,350,000) دولار.
إن النشرات الإحصائية الثلاثة التي أصدرها شوقي أفندي ليست فقط غنية بما تقدّمه لنا من معلومات، ولكنها تمنحنا أيضًا رؤية نافذة لما كان يدور في ذهنه، لأنها تعكس ما كان يُعلّق عليه من أهمية. كان هناك قوائم بتواريخ لها قيمتها التاريخية التي، إلى جانب التواريخ الرئيسة الواردة في التاريخ البهائي، فإنها تشير إلى تواريخ ترتبط بأحداث من قبيل إنشاء أول مشرق أذكار في الغرب، وبناء المقام الأعلى لحضرة الباب، وحُكْم المحكمة الشرعية الإسلامية العليا في مصر بإعلانها أن الدين البهائي دينٌ مستقلٌ، والمقابلة الأولى لمارثا روت بالملكة ماري ملكة رومانيا، وقرار مجلس عصبة الأمم بتأييد الدعوى المرفوعة من الجامعة البهائية حول بيت حضرة بهاء الله في بغداد، وبدء العمل في الخطط والمشاريع الأمرية المتنوعة… وهكذا. ليس هناك تواريخ تشير إلى أن للدين البهائي وليًا للأمر. فالرجل الذي طَلَب منا ألاّ نحيي أي ذكرى سنوية تتعلق به مهما كانت، لم يَظهر له ذكر في قوائمه. لقد عدّد أشهر كتابات حضرة الباب وحضرة بهاء الله وأعاد إصدار التقويم البهائي؛ وذكر أسماء المدن التي تشرّفت بزيارة حضرة عبد البهاء خلال السنوات الثلاثة من أسفاره إلى بلاد الغرب؛ وطبع قائمة بالمراكز الأمرية في جرينلاند التي أُرسِلت إليها كتب بهائية؛ وجهّز قائمة بأسماء الشخصيات التي عبّرت عن مشاعر الإجلال والتقدير للدين البهائي، بالإضافة إلى معلومات أخرى. وهناك قائمة صغيرة غريبة حقًا كانت تُكرَّر بانتظام في كل نشرة جديدة: ‘مقارنة بين قياسات هياكل القباب الشهيرة في العالم’ – قبة كنيسة القديس بطرس في روما، القديس بولس في لندن، القديسة صوفيا في إستانبول، الهيكل المقدس في روما – كل واحدة على حِدة. إنها قائمة تدعو للتفكير إلى أبعد الحدود. فهل تخيّل حضرته مجيء ذلك اليوم الذي سيبني فيه البهائيون معابد تفوق قياساتها هذه الأبعاد بكثير من أجل تمجيد اسم الآب الجليل؟
في كل إصدار بمعلومات إحصائية كان عدد المحافل الروحانية المركزية يتنامى. فتأسيس هذه ‘الأعمدة’ التي سيقوم عليها بيت العدل الأعظم في المستقبل، وظهورها إلى حيّز الوجود، كانت مهمة اعتبرها شوقي أفندي واحدة من واجباته الأوّلية الأساسية. قِلّة من البهائيين قد يتذكرون الأسماء التسعة التي ذُكرت عام 1930 وهي: المحافل الروحانية المركزية للبهائيين في كل من القوقاز، مصر، بريطانيا العظمى، ألمانيا، الهند وبورما، العراق، إيران، تركستان ثم الولايات المتحدة وكندا. ومع أن المحفلين الروحانيين المركزيين في روسيا والمحفل الروحاني المركزي في إيران كانوا ذات طبيعة انتقالية – أي محفل روحاني في مرحلة وسطية يؤدي وظائف هيئة مركزية مستقبلية كالتي نعرفها الآن، بانتظار الوقت حينما تتوفّر أرضية مناسبة لإجراء انتخاب من قبل وكلاء مركزيين – ومع ذلك كانوا يقومون بوظائف محافل روحانية مركزية. وبسبب حظر جميع النشاطات البهائية في روسيا فقد تلاشى بالكامل وجود المحفليْن الروحانييْن المركزييْن في كل من القوقاز وتركستان، ولذلك كان هناك ثمانية محافل روحانية مركزية فقط في نهاية القرن البهائي الأول، نظرًا لإضافة المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في أستراليا ونيوزيلندا عام 1934.
كان المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وهو الأقدم في العالم البهائي، مؤسسًا وقت صعود حضرة عبد البهاء تحت اسم “وحدة المعبد البهائي”؛ في عام 1909 جرى تسجيله رسميًا، وفي السنة نفسها تشكلت ‘هيئته التنفيذية’. ولما تسلّم شوقي أفندي زمام الأمور عام 1921 بدأ على الفور في خلق تماثُل في المبادئ الأساسية، ومنذ ذلك الحين دُعيت “بيوت العدل الثانوية” المستقبلية هذه بـ ”المحافل الروحانية المركزية”. وبحلول عام 1923 كانت المحافل الروحانية المركزية للبهائيين في الجزر البريطانية، وألمانيا، والهند وبورما مؤسسة وقائمة في وظائفها، وسرعان ما تبِعَتها المحافل الروحانية المركزية للبهائيين في مصر والسودان، إيران، العراق، وكذلك أستراليا ونيوزيلندا. وبقدر ما كان شوقي أفندي توّاقًا أن يرى ‘أعمدة’ جديدة تقام وتشيّد، بقدر ما كان حريصًا على وجود جامعة قوية بشكل كافٍ – وخاصة أن يكون لها قاعدة صلبة كافية من محافل روحانية محلية – قبل أن يسمح بانتخاب محفل روحاني مركزي. في عام 1948 أعلن فصل كندا عن الولايات المتحدة في إدارة مركزية مستقلة، ليُتْبِعَه عام 1951 بتشكيل محفليْن مركزييْن آخريْن أحدهما لأمريكا الوسطى والآخر لأمريكا الجنوبية. كان في ذهن شوقي أفندي سبب واضح جدًا في ضم بلدين أو أكثر تحت إدارة محفل روحاني مركزي واحد، وهو ما وضّحه لأحد الحجاج البهائيين من الهند عام 1929 الذي دوّن كلمات حضرته في ذلك الوقت: ‘هو ضدّ فصل بورما عن الهند معلّلاً ذلك بقوله إن لدينا عددًا قليلاً جدًا من العاملين، وسيعمل الفصل على تبديد قوانا وطاقاتنا، بينما نحن في حاجة ماسّة إلى تقوية وتعزيز كل مواردنا وقدراتنا في الوقت الحاضر…’
بتشكيل هاتين الهيئتين العملاقتين في أمريكا الوسطى والجنوبية باسم المحفل الروحاني المركزي، مع أن تشكيل ونطاق عمل كل منهما كان إقليميًا في طبيعته، تكون مرحلة جديدة من التطوّر الإداري للأمر المبارك قد بدأت. لم يكن شوقي أفندي ليهاب جسامة المهمة أو صعوبتها، ولا كان مُحابيًا لوجهات النظر أو الأساليب الدارجة. كان شغله الشاغل في مدة تسع سنوات ليس سوى تشكيل تلك المحافل الروحانية المركزية ‘الإقليمية’ الواسعة، التي كانت – عدا حالة المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في إيطاليا وسويسرا الذي انتخب عام 1953 – تعمل على نطاقٍ واسعٍ حقًّا. فالمحفلان الاثنان في أمريكا اللاتينية كانا يضمّان في نطاق إدارتهما عشرين بلدًا، والمحافل الروحانية المركزية الأربعة في إفريقيا التي تشكلت عام 1956 كانت تمثّل (57) إقليمًا ومقاطعة، مما يعني أن تسعة أعضاء يقيمون في الغالب في بلدان تبعد عن بعضها أكثر من ألف ميل [1600 كم تقريبًا]، عليهم أن يتشاوروا ويديروا شؤون محافل روحانية وجامعات معظمها حديثة العهد وتفتقر إلى الخبرة منتشرة فوق مئات الآلاف من الأميال المربعة. لا شك أن شوقي أفندي لو استشار نفرًا من البهائيين لأضحت الحكمة وراء مشاريع كهذه مثار تساؤلات، ولأشاروا عليه إما بتأسيس محافل روحانية مركزية صرفة أو على الأقل محافل إقليمية أصغر بكثير مما تمّ. لحسن الحظ لم يتشاور ولي الأمر مع أحد، فبعقله الصافي وذهنه الحادّ قيّم حسنات كل سياسة وسيئاتها واختار ما بدا في ظاهره أكثر صعوبة في نهجه. كان هناك عوامل كثيرة تدخّلت في هذا الاختيار: الرئيسي منها أن الحاجة أصبحت الآن ملحّة في جميع تلك البلدان إلى التوجه نحو مزيد من المركزية في العمل؛ فلم يعد بالإمكان إدارة شؤونها بالكفاءة المطلوبة من قواعد عبر المحيطات برعاية محافل روحانية مركزية أخرى منشغلة في تنفيذ مراحل أكثر تقدّمًا من الخطة الإلهية بواسطة لجانها، مهما كانت عليه تلك المحافل من قدرة وتفانٍ. كما أن الهدف الأساسي من تبليغ أمر الله في ميادين جديدة كان إعداد المؤمنين الجدد ليتولّوا مسؤولية العمل في مناطقهم. هناك الآن في أمريكا الجنوبية وإفريقيا فيلق مختار من المهاجرين والإداريين والمبلّغين البهائيين أصحاب الخبرة والتجربة، ولكنهم ليسوا بالعدد الكافي المطلوب للعمل في عشرين هيئة إدارية مستقلة في أمريكا الوسطى والجنوبية، وبعيدون كل البعد عن العدد اللازم لتزويد (57) إقليمًا في إفريقيا ببهائيين ذوي خبرة. فالحل إذًا يكمُن في تلك المحافل الروحانية المركزية المؤقتة، التي يجب أن تتفكك إلى وحدات أصغر عندما يأتي وقتٌ تملك فيه كل دولة شبكة قوية من المحافل الروحانية المحلية، ومؤمنين أكثر نضجًا، متعمقين بتعاليم اعتنقوها حديثًا، وباستطاعتهم أن يتحملوا مسؤولية إدارة وتقدّم مصالح الأمر المبارك في أقاليمهم. إن ما حققته تلك المحافل الروحانية الإقليمية من أعمال بطولية رائعة، بالحثّ المستمر من شوقي أفندي وتشجيعه لها في تأدية مهامّهم التاريخية، إنما يثبت بالكامل أهليّةَ أسلوبه في العمل.
في اختياره البلدانَ التي جمعها تحت إدارة محفل روحاني مركزي واحد أظهر ولي الأمر بوضوح تلك الحقيقة بأن البهائيين هم أسمى بكثير من أن يكونوا عالميين، هم في الواقع فوقوميون[4] – يتخطّون حدود القومية والوطنية – في معتقداتهم وسياستهم. فلا اعتبارات لتعصبات قومية أو أحقاد وعداوات سياسية أو خلافات دينية قد تؤثّر على اختيار حضرته لأولئك الذين عليهم أن يعملوا معًا تحت إدارة محفل روحاني واحد. فاعتبارات دنيوية كهذه لم يَسمح لها أن تشكِّل وزنًا، مع أن حضرته كان دارسًا حادّ الذكاء للشؤون العالمية الجارية ولم يغفل يومًا عن الحقائق. فالقوى الإلهية الكامنة في الدين هي التي استخدمها وأفاد منها – دين عبّر عنه بطريقة جميلة حين قال: ‘يغذّي نفسه معتمدًا على… ينابيع القوى الغيبية الخفية’ و’يُعلن عن نفسه بطرق غامضة تخالف تمامًا تلك المعايير التي سلّم بصحّتها غالبية الجنس البشري.’
لم يكن ممكنًا لشوقي أفندي إلا في عام 1957 أن يستأنف تشكيل محافل روحانية مركزية محضة؛ في إبريل/ نيسان من تلك السنة انتخب الأحباء في كل من ألاسكا والباكستان ونيوزيلندا محافلهم الروحانية المركزية الدائمة الخاصة بهم. لقد كانت مناسبة تاريخية في تطور النظام الإداري بتشكيل ما لا يقل عن أحد عشر محفلاً روحانيًا مركزيًا جديدًا في وقت واحد في تلك السنة، والأخرى كانت محافل روحانية إقليمية لكل من شمال شرق آسيا، وجنوب شرق آسيا، وبلدان البنيلوكس[5]، وشبه الجزيرة العربية، وشبه جزيرة آيبيريا[6]، وإسكندنافيا وفنلندا، وجزر الأنتيل، ودول شمال أمريكا الجنوبية التي شكّلت لها هيئة جديدة. فالمحفلان الروحانيان المركزيان اللذان كانا قائميْن حتى ذلك الوقت لأمريكا الجنوبية والآخر لأمريكا الوسطى قد أصبحا الآن محفليْن إقليمييْن أصغرين في أمريكا الجنوبية، بينما نجد محفل أمريكا الوسطى قد تقلّص نطاق إدارته جزئيًا بضم جمهوريات جزره مع بعضها البعض لتنتخب محفلها الروحاني المركزي الخاص بها. وقبل أن يصل مشروع الجهاد الروحاني الأكبر الأخير لشوقي أفندي إلى خاتمته كانت كل جمهورية في أمريكا اللاتينية قد انتخبت محفلها الروحاني المركزي الخاص بها طبقًا لما خطّطه ولي الأمر بنفسه، كما جاء في كتيّبه الإحصائي الذي أصدره عشية الذكرى المئوية عام 1953، عندما ضمّن ‘خطة السنوات العشر العالمي للتبليغ والإستحكام’، إحدى أكثر المهام تحديًا وإثارة، ألا وهي زيادة عدد المحافل الروحانية المركزية القائمة إلى أكثر من أربعة أضعافها برفع عددها إلى ما يزيد عن الخمسين.
في تقييم ما حقّقه شوقي أفندي من إنجازات بإيجاز على هذا النحو، فإنه من غير الممكن وصف ما تحقق من تقدم بالتفصيل في كل دولة وقطر خلال فترة ولايته، لأن ذلك يتطلب سردًا تاريخيًا كاملاً ومفصّلاً وبحثًا مستفيضًا في المصادر التي يجري تجميعها بالتدريج في المركز البهائي العالمي. وكما كان هو نفسه على الدوام يرى عمله في أوسع أُطُره، علينا نحن أن نَجْهَد هنا في تتبّع مسار ذلك الشهاب عبر السموات. إن الفتح الروحي لهذا الكوكب – وهو الهدف المُعْلَن لتعاليم حضرة بهاء الله – مرتبط بالدرجة الأولى في تنفيذ الخطة الإلهية لحضرة عبد البهاء. وبينما كان المؤمنون الأمريكيون يسعون جاهدين، خلال خِطَط الجهاد الروحاني المتتابعة، نحو قَدَرهم الذي أسبغته عليهم الخطة الإلهية، انطلقت في أنحاء العالم البهائي قوة هائلة كانت تنمو وتتعاظم باستمرار. فإذا نظرنا إلى الجامعة البهائية في أمريكا الشمالية وكأنها جبال الهملايا – المُستَجْمَعُ المائي العظيم لقوى التوسّع لأمر الله – فإن الجامعات الأخرى يجب أن يُنظر إليها على أنها الجداول والغُدْران التي تصب في الأنهر العظيمة وتغذّيها فتزداد قوةً لتروي بها كل الأراضي على سطح هذا الكوكب.
إن المَثَل الذي قدمته إنجازات خطة السنوات السبع الأولى قد أثار هِمَم الجامعات البهائية الأخرى وحفزها على الإقدام ببسالة كبيرة. فالوعْيُ المتنامي بالفرص الرائعة للخدمة المتاحة أمام العالم البهائي في القرن الثاني من عهده، كان ولي الأمر يُؤجِّج لهيبه باستمرار في رسائل إلى مختلف المحافل الروحانية المركزية. وكثيرًا ما كان يقتطف بيان حضرة بهاء الله القائل: ‘في خدمة الله وأمره فليتنافس المتنافسون’[7]، وشجع بصراحة تامة روح المنافسة بأنبل أشكالها. كان استخدامه للإحصاءات مثالاً واحدًا على أسلوبه في فعل هذا، ومثال آخر نجده في كلماته التي وردت في برقيته إلى أمريكا عام 1941: ‘إن المنافسة الروحانية التي تلهب حماس أتباع حضرة بهاء الله المنظَّمين في الشرق والغرب تزداد شدة بينما يسارع القرن البهائي الأول نحو خاتمته.’ وما تلا ذلك يظلُّ أكثر تنويرًا لأن ولي الأمر رحّب به وهلّل له على أنه علامة على التماسك والتضامن البهائي في القارات الخمس لهذا الكوكب – وهم في ذلك كخيول يجرّون عربة رومانية، وكل واحد منهم يحاول أن يمدّ عنقه إلى الأمام مندفعًا بكل قوّة، إلاّ أن الكل في المُحَصِّلة يجرّون العربة معًا. سيعوزنا الاحترام إذا قلنا بأن حضرته قد دعا إلى عرض مزايدات – ولكنه لم يتردد قط في أن يخبر جنده المقاتلين أن هناك ميدالية ذهبية رائعة تنتظر من يفوز بها؛ فمن سيكون أول الواصلين؟ لا شك أنها كانت كلها إلهامات سماوية، ولكنها أيضًا دافئة وإنسانية نابضة بالحياة ومحفِّزة!
إن أنباء الانتصارات التي أُحرزت في خطة السنوات السبع الأولى، والتي أفاض بها ولي الأمر بسيل دافق مستمر من الرسائل الملهِمة على الأحباء في إيران، ‘قد حرّكت’، كما جاء في برقية شوقي أفندي عام 1943، ‘مشاعر الجامعات الشرقية في العالم البهائي بالبهجة والإعجاب والدهشة… خمس وتسعون عائلة إيرانية ضربوا مثالاً يحاكي المثال الذي ضربه المهاجرون الأمريكيون في الأمر المبارك’، فهجروا أوطانهم وتوجّهوا ليرفعوا رايته في أفغانستان وبلوچستان والسليمانية والحجاز والبحرين. الْتهبت مشاعر الأحباء في الهند ومصر. والبهائيون في العراق تسارعت وتيرة جهودهم نحو تنفيذ خططهم ليتوّجوا ختام القرن الأول البهائي بانتصارات محلية. فكان الأحباء في الشرق والغرب يسطرون آخر صفحات المجد في فصول تاريخهم في القرن الأول لدينهم.
بعد ثلاثة أشهر على انتهاء احتفالات شهر مايو/ أيار 1944، أعلم ولي الأمر الجامعة البهائية في أمريكا الشمالية قائلاً: ‘فصل بارز لا يمكن نسيانه من تاريخ دين حضرة بهاء الله في الغرب قد انتهى، وفصل جديد يبدأ الآن من شأنه أن يطغى، قبل نهايته، على أعظم الانتصارات التاريخية التي أحرزها بكل بطولة أولئك الذين افتتحوا بلا خوف ولا وجل أول مرحلة للخطة الإلهية التي وضعها حضرة عبد البهاء للأحباء الأمريكيين.’ لقد وقفوا عند عتبة ‘مرحلة أخرى من سلسلة مشاريع الجهاد الروحاني التي يجب أن تقود… الذين امتازوا بشرف تلقّيهم تلك الألواح التاريخية إلى ما وراء النصف الغربي من الكرة الأرضية في أقاصي أصقاع الأرض ليثبّتوا الراية ويُرسوا قواعد منيعة للهيكل الإداري لدين حضرة بهاء الله.’ ليس هناك من طرق متعدّدة كثيرة لفعل الأشياء في هذا الكوكب، فالطّرق السليمة تكون سليمة عند تطبيقها في ميادين العمل المختلفة. كان شوقي أفندي جنرالاً روحانيًا يقود جيشًا روحانيًا نحو الفوز بمكاسب روحانية – إلا أن أسلوب الحملات المتّبع كان ممعِنًا في القِدَم: نظِّمْ قوّاتك، ضَع خططك، هاجمْ هدفك، احتلّ الموقع، اضمن بقاء اتصالاتك بقاعدتك مفتوحة، عزِّزْ إمداداتك، شيِّد الحاميات والحصون في الإقليم المفتوح، ثم احشد قواتك وابدأ بالحملة التالية. وبينما جيوش القادة اللامعين يكتسبون المزيد والمزيد من الخبرة والدراية، تأخذ فترات الراحة بين الحملات الهجومية في التناقص. هذا ما كان حقًا في خطط شوقي أفندي.
ما إن حقق انتصاراته في الحملة العظيمة الأولى حتى توجّه شوقي أفندي مباشرة إلى العمل على استحكام انتصاراته: فقد أعلم المحفل الروحاني المركزي في أمريكا بأن ما فزتم به من محافل روحانية محلية بالعمل والجهد الشاقّ يجب الحفاظ عليه، والمجموعات يجب أن ترتقي لتصبح محافل روحانية، والمراكز الأمرية يجب أن تتضاعف عددًا، والإعلان عن الأمر المبارك يجب أن يعمّ جماهير الناس، كما يجب تعميق المؤمنين الجدد في مفاهيم دينهم. وإلى جانب ذلك يجب العمل على إصدار المزيد من التراجم للكتابات البهائية ونشرها للاستفادة منها في ميدان العمل في أمريكا اللاتينية، وفوق هذا كله يجب الآن تشكيل محفل روحاني في كل جمهورية لم يؤسّس فيها بعد.
بين المرحلة الافتتاحية ‘للمهمة العالمية’ للمؤمنين الأمريكيين التي انتهت بانتهاء خطة السنوات السبع الأولى، والمرحلة الثانية من تلك المهمة، كان هناك ما أسماه شوقي أفندي – بمناسبة إطلاقه خطة السنوات السبع الثانية – ﺑ ’سنتين من الراحة’. لم يكن مرجّحًا أن الجامعة البهائية الأمريكية قد أدركت أن جهودها المُضنية بين عامي 1944–1946 – التي امتدّت من أنكورِج شمالاً إلى مضيق ماجلاّن في جنوب نصف الكرة الغربي – كانت فترة ‘راحة’ إلا عندما نَعَتَها ولي الأمر بهذا الاسم. فعندما توقّف ‘مجتمع مفلس، خائب الأمل، دمّرته الحروب’ عن المعارك الدامية بعد ست سنوات من انطلاقها، وابتدأ، مع توقّف العمليات الحربية الأوروبية في صيف عام 1945، في تضميد جراحه، أعلم شوقي أفندي الأحباء الأمريكيين أن على القائمين على تنفيذ الخطة الإلهية أن ‘يشمّروا عن سواعد الجِدِّ ويحشدوا طاقاتهم ومواردهم’، ويهيّئوا أنفسهم للمرحلة التالية من قَدَرهم. كانت مناشداته لعقول وقلوب الأحبّاء الأمريكيين، في الأشهر التي سبقت تدشين خطة السنوات السبع الثانية، عميقة جدًا. فقد أخبر ‘سفراء دين حضرة بهاء الله’ هؤلاء بأن ‘الشعوب والأمم التي ضربتها المحنة ومزّقتها الحرب وباتت في إرباك شديد’ في أوروبا، تنتظر بدورها ذلك التأثير الشافي للدين ليمتدّ إليهم كما امتدّ إلى شعوب الأمريكتين. كان لأنباء الأزمة التي تعرّض لها الأحباء في ألمانيا وبورما – جامعتين قديمتين ممتَحَنتيْن – أثرها الشديد عليه، وآلمته حتى إنه سارع إلى مناشدة ‘رفاقهم العاملين في الأصقاع التي نجت من رعب الاجتياح وكل الشرور والمحن المرافقة بفضل العناية الإلهية’ للقيام بعمل فوري وجماعي يخفف من معاناتهم وآلامهم. ووجه نداءه بشكل خاص إلى الجامعة الأمريكية التي ‘نعِمَتْ بأعظم حصانة دون جميع أخواتها الجامعات في الشرق والغرب’ خلال فترة الحرب، وكان لها أن امتازت أيضًا بتنفيذ الخطة العظيمة بنجاح، من أجل أن تسخِّر كل قدراتها في مساعدتهم ماليًا وبأي وسيلة أخرى مُتاحة.
لقد تمّ تدشين خطة السنوات السبع الثانية، ‘المشروع الجماعي الثاني الذي أخذ مجراه في التاريخ الأمريكي البهائي’، رسميًا في مؤتمر الوكلاء المركزي لعام 1946. وبدا كأن جميع الأعمال التي أُنجزت بنجاح تامٍّ منذ عام 1921، من قبيل إنشاء مؤسسات إدارية قوية للأمر المبارك، وامتداد الجامعة البهائية في أمريكا الشمالية خلال سبع سنوات ليشمل كل ولاية في الولايات المتحدة وكل مقاطعة في كندا – ذلك الامتداد الذي رفع عدد المراكز الأمرية من (300) إلى (1000) مركز – ثم الحملة الروحانية المظفّرة في أمريكا اللاتينية، بدت جميعها كأنها صُمّمت لتخلق جبهة أمامية واسعة في نصف الكرة الغربي، ومنها يتمكّن العالم الجديد من الانطلاق الآن بشكل محكم التنظيم نحو العالم القديم – نحو أوروبا، قارتها الأم. وعاد شوقي أفندي ثانية ليحشد جيشًا روحانيًا صغيرًا، وأعلم الأحباء بأن ‘كتائب حضرة بهاء الله الروحانيين يتحركون لأخذ مواقعهم.’ إن أمريكا، طفل العالم القديم، قد نمت الآن تمامًا وأصبحت عملاقًا فتيًّا، وأضحت مُهيّأةً لأن تعود بكل حيوية ونشاط نحو قَدَرها، كما كتب شوقي أفندي، في ‘أن تحقِّق في عقود متتالية الفتحَ الروحي للقارة التي لم يفتحها الإسلام، التي تُعتبر حقًّا القارة الأم للنصرانية، والينبوع الرئيس للثقافة الأمريكية، والدافع الأقوى للحضارة الغربية…’
مرة أخرى نشاهد تصاميم لوحة شوقي أفندي الرائعة تلفت انتباهنا إلى عجلة أخرى متوهجة بالمجد – في هذه المرة هي الذكرى المئوية العظمى الثانية للأمر المبارك عام 1953 [الأولى عام 1944]، والتي أعلمنا بأنها سوف تُحيي ذكرى سنة التسع المشيرة إلى مولد رسالة حضرة بهاء الله وإعلان دعوته السرية بينما كان قابعًا في سجن سياه چال بطهران.
إن أهداف هذه الخطة الجديدة، وأوروبا تُعتبر هدفَها ‘البارز’، والتي أصبحت تُعرف بالحملة الأوروبية، كانت على النحو التالي: دعم الأعمال الجارية في أنحاء الأمريكتين واستحكامها، إتمام الزخرفة الداخلية لأمّ المعابد في الغرب في الوقت المقرر للاحتفال بعيدها الخمسين عام 1953، تشييد ثلاثة من أعمدة بيت العدل الأعظم المستقبلي بانتخاب محفل روحاني مركزي لكل من كندا وأمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية، القيام بحملة تبليغية منهجية منظّمة في أوروبا بهدف تأسيس محافل روحانية في شبه جزيرة آيبيريا (إسبانيا والبرتغال) وفي البلدان المنخفضة (هولندا وبلجيكا) والدول الإسكندنافية (النرويج والسويد والدنمارك) وفي إيطاليا. وأنهى رسالته بقوله إنه يتبرع بمبلغ عشرة آلاف دولار كمساهمة أولية منه ‘للحملة التبليغية العظيمة متعددة الأهداف التي تفوق كل مشروع قام به أتباع دين حضرة بهاء الله خلال القرن البهائي الأول.’
وبعد ستة أسابيع أبرق شوقي أفندي إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا بضرورة إرسال ‘تسعة مهاجرين أكْفاء’ فورًا إلى أكبر عددٍ ممكن من الأقطار في أوروبا، وأن إمارة لوكسمبورغ يجب أن تضاف إلى “البلدان المنخفضة”، وكذلك يجب ضمّ سويسرا. وبإضافة هذين البلدين إلى جانب البلدان الثمانية السابقة أصبح مصطلح ‘البلدان العشرة المستهدَفة’ من مفردات لغتنا البهائية. وفي وقت لاحق، ونظرًا للتقدم الملحوظ الذي أُحرِز في شمال أوروبا، أضيفت فنلندا أيضًا إلى أهداف الخطة. ومع أنه، إلى جانب بريطانيا وألمانيا، كان هناك أحباء يقطنون في فرنسا وسويسرا والنرويج والسويد والدنمارك ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا وربما في أماكن أخرى، إلا أن القسم الأكبر منهم كانوا معزولين أو أنهم مقموعون جدًا بحيث لا يستطيعون القيام بنشاط تبليغي على نطاق واسع. إن افتتاح هذا المشروع المنهجي محكم التنظيم في أوروبا التي ‘مزّقتها الحرب وتوّقتها للروحانية’ كان له معناه بأن الجامعة البهائية الأمريكية قد وجدت نفسها الآن ‘منطلقة في نصفَي الكرة الأرضية في مرحلة ثانية أكثر مجدًا لجهاد روحاني منهجي صُمِّم ليصل في تمام الوقت إلى ذروته في الفتح الروحي لهذا الكوكب بأسره.’ كما عَنِيَ أيضًا أن الجامعة الأمريكية عليها أن تنخرط في عمل مُجْهِدٍ في ثلاثين بلدًا، بالإضافة إلى ضمان إرساء أسس سليمة لانتخاب المحفل الروحاني المركزي في كندا عام 1948، والذي تُعتَبر محافله الروحانية المحلية الأساسية في مختلف المقاطعات لا تزال في معظم الحالات ضعيفة وحديثة التأسيس.
وبينما البهائيون في هذه الجبهة الأمامية، الذين يُعَدُّون ببضع آلاف في أحسن الحالات، يناضلون ببطولة ضد مختلف الشرور والأهوال التي أصبحت الآن في أعقابهم، أخذت محبة ولي الأمر وإعجابه بهم يزدادان باطّراد. ومع أن شوقي أفندي استعمل أحيانًا كلمة ‘نحن’ في صيغتها البلاغية، نجد أنه في إحدى رسائله الأكثر تحريكًا للمشاعر في البدايات الأولى لهذا المشروع الجديد، كان استعماله كلمة ‘نحن’، يُظهِر دلالةً واضحة على مدى عمق اندماجه مع ثلّة البهائيين في أمريكا الذين تبعوه بإخلاص منذ اللحظة الأولى التي طرق أسماعَهم تعيينُه وليًا لأمر الله: إذ نراه يقول: ‘نحن نقف قريبين جدًا من الصرح العظيم الذي تُشيّده سواعدنا… وهو وَضْعٌ لا يمكّننا من تقييم المساهمة التي نُقاد إليها الآن، بصفتنا المنفّذين للخطّة الإلهية لحضرة عبد البهاء، والبُناة الأبطال لنظام حضرة بهاء الله، وحَمَلة شعلة حضارة يشكِّلُ لها ذلك النظامُ الباعثَ والبشير… لتحقيق النصر العالمي لديننا…’ حقًا لقد أصبحوا له إخوانًا وأخوات!
وكما صرّح شوقي أفندي؛ فإنه لا جدوى من محاولة تخيُّل ما ستقودنا إليه هذه الخطة الجديدة ونحن لا نزال في هذه المرحلة المبكرة؛ فمهمة الساعة كانت كافية وافية، والمستقبل معتمد على مجهوداتنا الحاضرة. فلا فرصةَ نضيّعها، ولا واجبَ نتهرب منه، ولا عملَ يُؤَدَّى بفتور، ولا قرارَ يُؤجّل. كل الطاقات والموارد، الروحانية منها والمادية، يجب أن تتوجّه نحو المهمات التي تنتظرنا؛ على الجميع أن يشاركوا مهما كانت مساهمتهم متواضعة، محدودة أو غير ظاهرة، إلى أن تُستَنفد كل ذرة من طاقة، ونجني، ‘بتعب ولكن بسعادة’، ذلك الحصاد الموعود. كانت القارة الأوروبية وقتها ‘قلقةً مضطربة، متشنّجة سياسيًا، منهارة اقتصاديًا، ناضبة روحانيًا.’ إلا أنها كانت الميدان الذي على الجامعة الأمريكية أن تنفّذ فيه الآن ‘أول مرحلة من مشروعها التبليغي عبر الأطلسي’، ‘وسط شَعْب محطّمة آماله، متعدد الأعراق واللغات، متباين في وجهات النظر إلى حدٍّ بعيد، مفتقر جدًا إلى الروحانية، يشلّه رعب شديد، مرتبك فكريًا للغاية، هابط جدًا بقِيَمِه الأخلاقية، ممزّق بالانشقاقات الداخلية…’
عندما بدأ ‘روّاد’ خطة السنوات السبع الثانية تنفيذ مهمتهم، كان هناك في أوروبا جامعتان بهائيتان فقط جديرتان بهذا الاسم: في الجزر البريطانية وألمانيا، كلتاهما تأسستا قبل وقت طويل، ولكل منهما كان هناك محفل روحاني مركزي فعّال ونشيط قبل الحرب؛ الأول لم يتوقف نشاطه أبدًا؛ أما الثاني فقد حُلَّ بأمر من السلطات النازية عام 1937 عندما عُلِّقت جميع النشاطات البهائية رسميًا، والآن أُعيد تشكيله وجَمَع حوله على نحو بطولي أحباءه الذين مزّقتهم الحرب. مع هاتين الجامعتين عملت لجنة التبليغ الأوروبية المنبثقة عن المحفل الروحاني المركزي في أمريكا ومجموعة المهاجرين الذين كانوا يزدادون عددًا في البلدان العشرة المستهدَفة، في جهد وتعاون مشترك وثيق إلى حدٍ بعيد. كان التقدُّم سريعًا للغاية لدرجة أنه في السنة الثانية للخطّة الجديدة أصبح هناك ثمانية محافل روحانية محلية جديدة تؤدّي واجبها في تلك البلدان. وبينما كان العمل مستمرًا في التوسُّع السريع ضمّ ولي الأمر فنلندا إلى الأهداف المطلوبة.
وبالدرجة نفسها من ذلك الاهتمام الزائد الذي قاد به مآثر خطة السنوات السبع الأولى، مضى الآن شوقي أفندي يتابع مسار الخطة الثانية. ففي عام 1948 أعلم الأحباء بأن ‘أوليّة’ الجامعة البهائية الأمريكية قد ‘تمّ التأكيد عليها ثانية وجرى إثباتها تمامًا وحمايتها بالكامل’ وأنها بـِ’تصميمها على الحفاظ على دورها القيادي بين شقيقاتها الجامعات البهائية’ قد أثارت ‘مشاعر الإعجاب والغيرة لدى عدة جامعات في الشرق والغرب.’ إن الانتصارات التي أُحرزت في أوروبا كانت الأكثر استحقاقًا للتقدير كما أشار شوقي أفندي، لأن الأجواء والظروف السائدة كانت أكثر سلبيةً وتحدّيًا عما كانت عليه في أمريكا اللاتينية. ومع أن آثار الحرب الكارثية من حيث البؤس والشقاء الذي خلّفته أخذت تزول بالتدريج، إلا أن الصعوبة الأساسية في تبليغ أمر حضرة بهاء الله للشعب الأوروبي لم يطرأ عليها تغيير. في رسالة لشوقي أفندي إلى أحد المحافل الروحانية المركزية قبل صعوده بأشهر قليلة، كان حضرته مشدّدًا وواضحًا فيما يتعلّق بهذه المشكلة ومؤكّدًا عليها كما كان عام 1946 حيث قال: ‘في اهتمامهم المتواصل من أجل إنارة قلوب مواطنيهم بإشراق ظهور حضرة بهاء الله، وفي اتصالهم اليومي بأناس محافظين جدًا بطبيعتهم، منغمسين في التقاليد، مكبّل أغلبهم برباط تعصبٍ ديني، غارقين في المادية، قانعين تمامًا بمستوى ما حقّقوه’، فإن البهائيين لا بدّ لهم ‘بالضرورة أن يروا العمل بطيئًا بدرجة مؤلمة، شاقًّا إلى أبعد الحدود، ومُحبطًا جدًا في أغلب الأحيان… ومع ذلك، فإن البذور التي يبذرونها الآن… سوف’، كما أكّد لهم ولي الأمر، ‘تنبت عند تمام الوقت، تحت لحاظ العناية الإلهية، ونتيجة للمحن والبلايا التي لا بدّ لجيل غافل أن يقاسي منها إن عاجلاً أم آجلاً، لتُثمر حصادًا يبلغ من الأهمية ما سيملؤهم دهشةً وذهولاً.’
في منتصف هذا المشروع الأوروبي العظيم الذي ألهب حقًا خيال البهائيين في أنحاء العالم بما فيهم الجامعات الجديدة في أمريكا اللاتينية – الذين تمكنوا من إرسال بعض من مهاجريهم للمساعدة في هذا الجهاد الروحاني الجديد – وجد الأحباء الأمريكيون أنفسهم، وهم المُثْقَلون أصلاً بالأعباء الجسام، أمام أزمة خطيرة. فبسبب ارتفاع مفاجئ في الأسعار، كان لتكاليف استكمال بناء معبدهم العزيز على قلوبهم، من خلال تزيينه في الداخل بزخارف من المواد نفسها التي استعملت في زينته الخارجية ولكن بتفاصيل أقل تعقيدًا، أن ارتفعت بشكل كبير. فجيش شوقي أفندي الآن يواجه صعوبات. قام حضرته بتفحُّص الوضع بكل عناية، وقرّر فورًا ما يجب عمله إنقاذًا للموقف. إنه لمن المنير لفكرنا أن نرى ما اعتبره حضرته أمورًا يمكن التخلّي عنها دون إحداث ضرر، وما هو ضروري وأساسي: فالميزانيات المخصّصة للعمل الأوروبي بالغ الأهمية، ولانتشار المحافل الروحانية المحلية والمراكز الأمرية العزيزة التي تأسست في أمريكا الشمالية واللاتينية والمحافظة عليها، لا يجوز تقليصها؛ كما أن عَقْد مؤتمر الوكلاء المركزي في أمريكا والاستمرار في إصدار مجلة “الأخبار البهائية” اعتبره أمرًا لا غنى عنه؛ أما بالنسبة لجميع النشاطات الأخرى من قبيل الإعلان العام عن الأمر المبارك، وإصدار النشرات والمطبوعات، وعقد المدارس الصيفية، فإما أن ‘تُقَلَّص بشدة أو أن تُعَلَّق لمدة سنتين’ (1949، 1950). وكأيّ جنرال عظيم يقود حملة، ضَمِن سلامة أمور ثلاثة: خطوطه الأمامية في المعركة، ‘قاعدته الأساسية’ للعمليات (على حدّ وصفه)، وخطوط اتصالاته. ومع ذلك كانت هناك اعتبارات أخرى أقنعت ولي الأمر عام 1951 ودعته ليس فقط لأن يطيل أمد هذه الفترة من الاقتصاد الشديد في النفقات في أمريكا، بل ويوسّع أيضًا من نطاقه ليطوّق العالم البهائي بأسره. فأعمال البناء في المقام الأعلى لحضرة الباب – فيما يخص كافة الأعمال الحجرية التي وقّع عقد بنائها حديثًا – بالإضافة إلى تشكيل المجلس البهائي العالمي، والتوسّع العام في الأعمال بالأرض الأقدس، قد دفعه كل ذلك إلى التوجّه بنداء إلى جميع المحافل الروحانية المركزية والمحلية وأفراد الأحباء يناشدهم فيه تقليص ميزانياتهم، وأن يسارعوا إلى دعم المركز البهائي العالمي ببذل مجهودات وتضحيات أكبر وأعظم. فأبرق قائلاً: ‘إن فترة التقشّف التي أثّرت على مقدّرات الجامعة البهائية الأمريكية في السابق لم يكن بالإمكان تجنب إطالة أمدها، وقد تمّت توسعتها الآن لتطال العالم البهائي بأسره بسبب الحاجات الملحّة والأهمية العظمى لمهمة عالمية هي على درجة سامية من الرفعة والمجد.’ وقد سبق للأحباء الأمريكيين بحلول عام 1950 أن جمعوا تبرعات وصلت إلى نصف مليون دولار لإتمام الزخارف الداخلية لمشرق الأذكار الخاص بهم، فخففوا بذلك أعباء التزام ثقيل قاصم للظهر قطعوه على أنفسهم.
خلال تلك السنوات الصعاب كانت الجامعة الكندية الأقل كثيرًا في عدد أفرادها – وهي شريكة الجامعة الأمريكية في تنفيذ أهداف الخطة الإلهية – كانت وقتها منهمكة في تنفيذ خطة السنوات الخمس الخاصة بها، والتي طلب منها ولي الأمر أن تبادر إلى تنفيذها عندما وصلت في تطورها إلى مرحلة الاستقلال عام 1948، الأمر الذي لم يمكّنها من تقديم الكثير من المساعدة إلى جموع المؤمنين في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى أن تشكيل محفلين روحانيين مركزيين جديدين أحدهما في أمريكا الوسطى والآخر في أمريكا الجنوبية عام 1951 قد شكّل عبئًا إضافيًا على مواردها وتطلَّب منها مزيدًا من التماسك والشجاعة. ومع كل أعبائهم الثقيلة أخذت انتصاراتهم في السنوات الأخيرة لخطة السنوات السبع الثانية تتضاعف باستمرار. كم كان سرور شوقي أفندي عظيمًا بروح هذه الجامعة البطلة حقًا – الذين كانوا يبرهنون في كل سنة بكل وضوح على أهليَّتهم للآمال الكبيرة التي علّقها عليهم حضرة عبد البهاء والثقة التي وضعها بهم – مما جعل ولي الأمر في صيف عام 1950 يقترح على تلك الجامعة، في الذكرى المئوية لاستشهاد حضرة الباب ‘بكل ما تحمله إلينا من ذكريات أليمة’، أن الأمر يبدو مناسبًا لجامعة كهذه لتعقد العزم في الذكرى المئوية لمولد رسالة حضرة بهاء الله – التي تتزامن مع نهاية خطة السنوات السبع الثانية – على وضع خطة من ‘خمسة بنود تُقَدَّم على مذبح دين حضرة بهاء الله… قربانًا لائقًا قيّمًا’ وذلك بالعمل على تقوية الأسس التي شُيّدت عليها مؤسسات الدين في أمريكا الشمالية؛ تشييد عمودين لبيت العدل الأعظم المستقبلي في أمريكا اللاتينية؛ الحفاظ على المقدرة والزخَم الذي أُحرز في البلدان العشرة المستهدَفة في أوروبا؛ إتمام الزخارف الداخلية لمشرق الأذكار؛ وتقديم المساعدة اللازمة في ارتفاع البناء الفوقي لصرح هو الأكثر قداسة في المركز العالمي للدين البهائي. ومع أنها ليست سوى ‘جامعة فتية وعلى كاهلها أعباء ضاغطة’، إلا أن شوقي أفندي ما فَتِئَ يُذَكِّرُها بأن ‘ينابيع القوة السماوية غير محدودة، ولن تتردد في الإفاضة بتأثيراتها المحفِّزة بسخاء إذا ما بُذلت الجهود اليومية الضرورية، وقُدِّمت التضحيات المطلوبة تلقائيًا عن طيب خاطر.’
إن إحراز مثل هذه الانتصارات الكثيرة من قبل البهائيين في الولايات المتحدة وكندا – والتي أضيفت إليها في السنوات الختامية لهذا الجهاد الروحاني خدمات في القارة الإفريقية لم تكن تخطر بالبال في الخطة الأصلية على الإطلاق – التي فاقت في جوهرها طيف تلك الغنائم الغامضة التي لاحت، مغريةً ولكنها غير واضحة، وسط الضباب الذي راح يلف العالم في نهاية الحرب، نجدها الآن قد شجعت ولي الأمر أن يضيف قربانًا سادسًا جديدًا على مذبح دين حضرة بهاء الله واصفًا إياه ﺑ ’الثمرة الأطيب’ للمشروع الأوروبي الجبار. فأبرق عام 1952 بأنه ‘قبل ختام خطة السنوات السبع الثانية للجامعة الأمريكية’ يجب تشكيل المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في إيطاليا وسويسرا، مضيفًا قوله ‘أوصي لجنة التبليغ الأوروبية، عند إتمام المشروع المجيد، أن تبادر رسميًا إلى دعوة سليلهم الروحاني، المحفل الروحاني المركزي الذي تشكّل حديثًا في أوروبا، لأن يشارك مع إخوانه المحافل الروحانية المركزية في كل من الولايات المتحدة والجزر البريطانية وألمانيا في مؤتمر ما بين القارات الذي سيعقد في عاصمة السويد في شهر أغسطس/ آب من العام نفسه.’ وأوضح بأنه يخطط لأن يعهد إلى هذا المحفل الروحاني المركزي الأحدث في العالم البهائي بخطة خاصة به كجزء من مشروع الجهاد الروحاني العالمي حتى يشرع في تنفيذها ما بين الاحتفالين المئوييْن الثاني والثالث المُزمَع إقامتهما. لقد أصبح هذا إجراءً متّبعًا من قِبَلْ ولي الأمر لهذه المحافل الروحانية المركزية حديثة التشكيل بأن تُولَد وفي فمها خطة للتنفيذ!
يمكن لنا أن نتخيّل كم كانت أخبارٌ كهذه مثيرةً لجميع أتباع حضرة بهاء الله ومنعشة لأرواحهم ومجدِّدة لعزيمتهم. لقد بدا لهم كأن ما حصل أشبه بمعجزات صغيرة وأن حبيبهم ‘الأخ الحقيقي’، بتواضعه وإطرائه ولطفه قد جعلهم يعتقدون أن تلك المعجزات ُتنسَب إليهم. فنجاح إيطاليا، التي انطلقت من نقطة الصفر، في تأسيس قاعدة من المحافل الروحانية المحلية قوية إلى درجة كافية وذلك خلال عقد من الزمن، والذي أهّلها هي وزميلتها الجامعة البهائية في سويسرا لأن تحمل أعباء ومسؤوليات محفل روحاني مركزي مستقل، كان بحدّ ذاته عملاً بطوليًا تجاوز كل حُلُم جميل.
وحتى ندرك، ولو على نحوٍ ضبابيّ مهما كان، لماذا استبدل شوقي أفندي خطة السنوات السبع الثالثة – التي كان يشير إليها مرارًا منذ انتهاء القرن الأول البهائي – بخطة السنوات العشر، علينا أن نفهم أحد تعاليم ديننا الأساسية. إن ربًّا محبًّا عادلاً لا يطلب من نفسٍ شيئًا إلا ومنحها القدرة التي ستساعدها على فعله وإنجازه. فالامتيازات تقتضي المسؤوليات، أكانت للشعوب أم للأمم أو كانت للأفراد. فبمقدار نهوضهم للإيفاء بتلك المسؤوليات تكون البركات والتأييدات، وبمقدار إخفاقهم يكون الحرمان التلقائي وفيه القصاص الإلهي. لقد كتب شوقي أفندي في بداية خطة السنوات السبع الأولى بأن ‘الإخفاق في انتهاز هذه الفرص الذهبية سوف… يشير إلى خسارة فادحة لأندر امتياز أسبغته العناية الإلهية على الجامعة البهائية الأمريكية’، وكما تفضل حضرة عبد البهاء: ‘إن في ملكوت الله قوى لا محدودة، وعلى جيش الحياة أن يتحلى بالمغامرة والإقدام إذا أراد أن يفوز بتأييد الملكوت الأعلى على الدوام…’[8] إنه بالسير بموجب هذا المبدأ العظيم، وجد أتباع حضرة بهاء الله، المؤتَمَنون على الخطة الإلهية، المنطلقون لمواجهة تحدياتهم، المستلهِمون بخدماتهم من عليائه التأييدات الغيبية المتعاظمة دومًا، القائمون بمسؤوليتهم المقدسة بأسلوب غاية في النُّبل والشهامة، وجدوا القَدَر مسرعًا للقائهم ويتقدمهم بخطوة. إن الجيش المظفّر، وقد أزاح من أمامه كل العوائق والحواجز، نراه غالبًا ما يبتهج تمامًا بمآثره البطولية فلا يحتاج إلى فترة من الراحة أو التأجيل. فهو المستعدّ للمضيّ قُدُمًا مشتعلاً حماسًا بما حقق وانتصر. هكذا كان حال العالم البهائي باقتراب عام 1953 وهو يوشك الدخول في رحاب السنة المقدسة. قائدهم الأعلى جنرال لا تعوزه سوى ومضَةِ تشجيعٍ لحَفْزِهِ على الانطلاق، وهو الذي لم يخلد للراحة قطُّ. وهكذا كان من المحتَّم، في تلك الساعة المحددة وبتلك المعنويات العالية ومع وجود ذلك الجنرال، أن يجد البهائيون أنفسهم دون ‘ثلاث سنوات من الراحة’، بل أمام اثنتي عشرة خطة كاملة – واحدة لكل محفل روحاني مركزي – وجاهزة لأن توضع قيد التنفيذ في لحظة سماع صوت النفير العام في رضوان 1953.
كم كان رائعًا ذلك الاحتفال بالعيد المئوي لمولد الدين البهائي عام 1944 الذي أحيته الجامعات البهائية التي عانت ويلات أسوأ حرب عرفها العالم على الإطلاق، ومع ذلك فإننا نراه قد تقزّم أمام الأحداث المصاحبة للاحتفال المئوي بذكرى الوحي الذي تلقّاه حضرة بهاء الله في سجن سياه چال بطهران. كتب شوقي أفندي قبل أشهر من إحياء تلك الذكرى، بأسلوب مؤثّر مثير للمشاعر، معيدًا للأذهان موجة الاضطهاد والاستشهاد العارمة التي طالت الكثير من حواريي حضرة الباب والعديد من أبطاله الأشاوس والنساء البريئات وحتى الأطفال منهم قبل قرن من الزمن، لتصل ذروة عنفها بإلقاء القبض على المظهر الكلي الإلهي ليقبع في غياهب زنزانة كريهة تحت الأرض إثر المحاولة الفاشلة في الاعتداء على حياة ناصر الدين شاه في 15 أغسطس/ آب 1852. فاختار ولي الأمر منتصف شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1952 بدايةً للسنة المقدسة – للاحتفال بالذكرى المئوية ﻟ”سنة التسع”. لقد عمّت أحباء الله في الشرق والغرب حُمّى حقيقية من التطلعات والتوقُّعات، وهم الآن أحرار في كل بقعة من بقاع الأرض ليُمتّعوا قلوبهم بالبهجة والسرور دون تحفّظ، وربما لأول مرة في تاريخهم يتملّكهم إحساس نبّاض بوحدتهم الحقيقية كجامعة عالمية. فالوحدة التي كانت على الدوام مسألة عقيدة تلقّنوها وآمنوا بها وتمسّكوا بأهدابها بشدة، قد أصبحت الآن حقيقة واقعة عظيمة ومجيدة يُحسّ بها كل فرد مؤمن. فخطط المستقبل التي وضعت قيد التنفيذ من خلال سلسلة من الرسائل المؤثرة لشوقي أفندي عملت على إشعال هذا الوعي الجديد.
في نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1951، وجّه شوقي أفندي برقية إلى جميع المحافل الروحانية المركزية في العالم البهائي يعلمنا فيها بأن مرحلة ‘ما بين القارات’، التي طال انتظارها في مسيرة تطور النظام الإداري لديننا، قد أصبحت الآن في متناولنا. وأشار إلى أننا مررنا بمراحل النشاطات المحلية والإقليمية والمركزية والعالمية لنبرُز، في لحظة ميمونة كهذه، عالمًا بهائيًا من نوع جديد، عالمًا بدأنا نفكّر فيه بلغة الكوكب بأسره وبكل قارّاته من منظور استراتيجيتنا التبيلغية. لقد تناول شوقي أفندي الذكرى المئوية – وهي العجلة الذهبية العظيمة في لوحته – وطرّزها على نحوٍ جعل فيه من شيئين مختلفيْن تمامًا يتفاعل كل منهما مع الآخر، وفي الوقت نفسه يندمجان معًا ليكوِّنا مركز قوة عظيم خلاّق؛ أحدهما يمثّل الماضي، وهو ذكرى أحداث تَقْشَعِرُّ لها الأبدان مثل مآسي الاستشهاد وحبس حضرة بهاء الله، وتجربته الروحانية في الكشف عن مقامه الإلهي في سجن سياه چال، ثم نفيه وكلّ ما عنته تلك الأحداث من تقدّمٍ للإنسان في مسيرة رحلته للتقرب إلى خالقه؛ والآخر تلك المسيرة التي تضمّ في رِكابها هذه المرة كل الجامعات البهائية المنظّمة على هذا الكوكب في خطة واسعة شاملة تمثل الخطوة التالية في الكشف عن الخطة الإلهية لحضرة عبد البهاء.
وإذْ حرَّكتْه روحَا ذينك ‘الوجوديْن المقدسيْن’ اللذين وعد حضرة عبد البهاء في ألواح وصاياه بأنهما سيعصمانه ويهديانه، تركّزت أنظار ولي الأمر بكل جوارحه وقلبه في انتشار ذلك الدين الذي ائتُمن عليه وصيًّا – وكلمة Guardian التي تعني بالعربية “الوصي” تُعتبر قاصرة جدًا في تعبيرها بالإنكليزية مقارنةً بالتعبير الأصلي العربي “ولي أمر الله” الذي يعني أيضًا حامي حِمَى الدين، الزعيم، القائد الأعلى – وباشر حضرته في تدبير المرحلة التالية من الخطة الإلهية للمولى المحبوب. كانت خيوط تلك المرحلة قد بدأت تتشكّل في ذهنه قبل مدّة طويلة من إفصاحه عن تفاصيلها في نشرته الصادرة عام 1952 تحت عنوان “الدين البهائي من عام 1844–1952” مع الملحق بها “خطة السنوات العشر العالمية للتبليغ والاستحكام” الذي أعلن عنه في مستهلّ السنة المقدسة. وكان في السابق قد طلب من عدة محافل روحانية مركزية تزويده بأسماء الأقاليم والجزر الرئيسة في القارات الخمس حيث النشاط البهائي فيها يشهد تقدمًا، وذلك لإلحاقها بقائمته الخاصة الشاملة التي ضمّت جميع البلدان التي ذكرها حضرة عبد البهاء نفسه في “ألواح الخطة الإلهية” والتي استعان في إعدادها بدقة وعناية بالأطالس الجغرافية والمراجع ذات الصلة. أذكر تمامًا كيف كان يعمل على خارطته الخاصّة التي ضمّت أهداف خطة السنوات العشر. كان مُنْهَكًا أضناه التعب بعد عمله الشتوي الطويل في حيفا؛ من قبيل ما يخصّ المقام الأعلى والحدائق، والزائرين للأرض الأقدس، ثم الردّ على سيل الرسائل المتزايدة التي لا تنقطع. لقد أفلحتُ بصعوبة في أن أحظى منه بما يشبه الوعد أنه عندما يذهب للعلاج في منتجعٍ مائيٍ مشهور، سوف يخلد للراحة التامة ويكرّس نفسه خلال ذلك الوقت على الأقل للاعتناء بصحته. وها هو الصيف الجميل الممتِع بأشعته المشرقة في الخارج، والممرّات الطويلة التي تحفّ بها الأشجار المورقة فترمي بظلالها لتخفف من قيظ الحرّ لمن يريد أن يعبرها قاصدًا المياه المعدنية المختلفة في أوقات محدَّدة للاستشفاء، وكلها تُغْري الإنسان بالاسترخاء والشعور بالنعاس – إلا أن شوقي أفندي نجده وقت النهار يقضي الساعات منكبًّا على خارطته ليملأها بالتفاصيل اللازمة بدقة فائقة غير عابئ باعتراضي ولا باعتراضات طبيبه ولا بإظهار استيائي وأنا أُذكّره بما قطعه لي من وعد، فكل ذلك لم يُجْدِ نفعًا. كان بكلّه منهمكًا تمامًا في مهمته متناسيًا تعب عضلاته المرهَقة وعينيه المُجْهَدتيْن وعقله الذي يعمل فوق طاقته.
إن أبرز ملامح السنة المقدسة كان أربعة مؤتمرات تبليغية بيقارّية عظيمة، سبق أن أعلن عنها حضرته في ذات البرقية التي أرسلها في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1951، على أن تُعقد في أربع قارات؛ الأول في إفريقيا في كمبالا بأوغندا في ربيع عام 1953؛ والثاني في شيكاغو بالولايات المتحدة في عيد الرضوان؛ والثالث في ستوكهولم بالسويد خلال فصل الصيف؛ والرابع في نيودلهي بالهند في فصل الخريف. إن نمط هذه المؤتمرات العظيمة– التي أُعلن عنها قبل سنة من الكشف عن الخطّة الجديدة نفسها– قد أصبح واضحًا للأحباء مع اقتراب ساعة انعقادها. لقد دُعيَ جميع أيادي أمر الله لحضور أكبر عدد ممكن منهم تلك المؤتمرات، وأرسل ولي الأمر لكل منها أحد الأيادي ممثِّلاً خاصًا عنه ‘ممن تشرفوا بإشراكهم مباشرة بالمشاريع التي أُطلقت حديثًا في المركز البهائي العالمي.’ وكان المندوبون لتلك المؤتمرات بالترتيب الذي ذُكرت به آنفًا: لِيرُويْ إيواس، أمة البهاء روحية خانم، أُوغو جياكري، وميسون ريمي. وقد كُلِّفوا بإنجاز مهمة ذات أبعاد أربعة: سيتشرفون بحمل نسخة من صورة مصغّرة لحضرة الباب لتتكحّل بها عيون الأحباء المجتمعين في مثل هذه المناسبة التاريخية، ويقدمون رسالة ولي أمر الله الخاصة الموجهة إلى جموع الحاضرين؛ وسيبيّنون خاصّية الجهاد الروحاني العالمي وأهدافه، وسوف يحثّون المشاركين على القيام بكل همة ونشاط ومثابرة مُفعمة بالحماس من أجل تنفيذ مهام عظيمة تنتظرهم.
قبل الدخول في مزيد من التفاصيل يجدر بنا أن نعيد إلى الأذهان أنه، على الرغم من أن حضرة شوقي أفندي قد ألمح، في رسالته المؤرخة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1951 التي تعلن عن عقد تلك المؤتمرات خلال السنة المقدسة، إلى أمور قادمة عندما صرّح بأنها ستطلق مرحلة جديدة من النشاط الروحاني بين القارات، وستعكس درجة من التماسك بين الأحباء لم يسبق لها مثيل في مداها وقوّتها، إلا أن تلك المؤتمرات كانت مع ذلك، بحسب ما عرفه العالم البهائي، مُعدّة لتكون تجمّعات في احتفالات يوبيلية عظيمة إحياءً لذكرى سنة التسع، واحتفالاً بانتهاء خطة السنوات السبع الثانية المظفّرة، وكثير من الخطط الإقليمية أيضًا. وقبل أسبوع فقط من وصول البرقية الموجَّهة إلى الأحباء في العالم والتي تُعلن عن انعقاد تلك المؤتمرات، كانت هناك في الواقع رسالة أخرى من ولي الأمر لا تزال تشير إلى “خطة السنوات السبع الثالثة”. ولذلك لم يكن في ذهن الأحباء عام 1951 أي ترابط بين بدء الجهاد الروحاني الجديد وهذه التجمعات الاحتفالية. إن النجاح الاستثنائي الذي حقَّقه الأحباء في كل أنحاء العالم، والحماس الذي أبدته المحافل الروحانية المركزية مثل أمريكا وبريطانيا، اللذان حقّقا انتصارات رائعة في أوروبا وإفريقيا على التوالي، قد دفع بمؤشر البوصلة نحو مسار جديد، مسار كانت خُطاه قد بدأت في الواقع قبل ثلاث سنوات من افتتاح خطة السنوات العشر. كم كان واسعًا ذلك المدى الذي غطّتْه بنود هذه الخطة، وكم كانت اتصالات شوقي أفندي عديدة في هذا الموضوع قوائمه وبياناته وإحصائياته بدءًا من عام 1952 واستمرارها حتى وفاته في نوفمبر تشرين الثاني 1957– بحيث يستحيل هنا تقديم أكثر من عرض مختصر عنها. ومن ناحية أخرى فإن هذا الجهاد الروحاني الذي تَوّج فترة ولايته وأعماله طيلة حياته، كان مصدر سعادة غامرة له، وانتصاراته الباهرة التي تكشّفت كانت عزاءً وراحة لقلبه المُثْقل غالبًا بالهموم. وعليه فلا بدّ من التطرّق إليه وإن كان ذلك لن يفيه حقَّه.
ليس هناك من كلمات تُلخِّص لنا لُبَّ جوهر هذه الخطة الأرفع والأسمى، التي ابتكرها ولي الأمر ونظّمها بنفسه، بأفضل مما وضّحه بقوله: ‘يجب ألاّ يكون هناك أي سوء فهم، فالهدف الأساس المُعلن لهذا الجهاد الروحاني ما هو إلا فتح قلاع أفئدة العباد، ومرسح عملياته الكوكب الأرضي بأكمله، وينسحب أمده على عقد كامل من الزمن، وتدشينه يتزامن والعيد المئوي لمولد رسالة حضرة بهاء الله وبعثته، وأمّا بلوغ ذروته فيتّفق والذكرى المئوية للإعلان العام عن تلك الرسالة.’
ومع أن الأحباء جميعًا كان مرحبًا بهم لحضور هذه المؤتمرات الأربعة الكبرى للسنة المقدسة، إلا أن شوقي أفندي قد اختار فئة خاصة ودعاها للحضور تمثلت في ممثلين عن تلك المحافل الروحانية المركزية والجامعات البهائية المعنية أساسًا بالأعمال التي يجب أن تواصل تقدّمها في كل قارة من القارات الأربع. فلو بدأنا بأول مؤتمر عُقد في إفريقيا في شهر شباط، وتناولنا بالتحليل ما كان أكثر المراحل أهمية وحَسْمًا في الجهاد الروحاني بأكمله القائم هناك – من قَبيل فتح أقاليم جديدة وجهود الاستحكام المبذولة في تلك الأقاليم التي فُتحت – سوف نستشفّ منها فكرة عما كان لتلك الاجتماعات التاريخية من تأثيرٍ كبيرٍ مُذهل على التاريخ البهائي: (57) إقليمًا ستكون هدفًا لنشاطات تبليغية مُكثّفة تقع مسؤوليتها على عاتق ستّ هيئات مركزية هي بالتحديد: المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في كل من بريطانيا، أمريكا، إيران، مصر والسودان، العراق، الهند والباكستان وبورما، ويترتّب عليها فتح (33) إقليمًا جديدًا، ودعم وتعزيز العمل الذي ابتدأ فعلاً في (24) إقليمًا. أما المهمات التي خُصصت لكامل الجامعة البهائية في نصف الكرة الغربي لتنفيذها بواسطة محافلها الروحانية المركزية الأربعة وهي: الولايات المتحدة، كندا، أمريكا الوسطى، وأمريكا الجنوبية، فكانت مذهلة بالدرجة نفسها: (56) إقليمًا؛ (27) منها لتُفتح و(29) بحاجة إلى التقوية والاستحكام، وتضم أهدافًا صعبة واسعة مترامية مثل يوكون وكيواتين في الشمال وجزر فوكلاند في الجنوب. أما الأهداف الآسيوية فكانت تفوقها ضخامة: (84) إقليمًا في مجملها؛ منها (41) يجب فتحها للأمر المبارك و(43) تحتاج إلى تقوية واستحكام، وتمتد من بلدان في الهملايا إلى جزر صغيرة في المحيط الهادئ، وقد قُسّمت هذه الأهداف بين تسعة محافل روحانية مركزية هي: إيران؛ الهند والباكستان وبورما؛ العراق؛ أستراليا ونيوزيلندا؛ الولايات المتحدة؛ كندا؛ أمريكا الوسطى؛ أمريكا الجنوبية؛ والجزر البريطانية. أمّا في المؤتمر الأوروبي فقد استلمت خمسة محافل روحانية مركزية حصتها من المشروع وهي (52) إقليمًا؛ منها (30) إقليمًا جديدًا يجب فتحها للأمر المبارك و(22) إقليمًا لتقويتها واستحكامها. وفي وسط تلك المحافل الروحانية المركزية الأكبر والأقدم –
الولايات المتحدة، كندا، الجزر البريطانية، ألمانيا، والنمسا – تقف هيئة مركزية حديثة الولادة، هي المحفل الروحاني المركزي في إيطاليا وسويسرا، وعمره بالكاد ثلاثة أشهر – وقد خصّه ولي الأمر بسبعة أقاليم تابعة له.
في تلك الاجتماعات التاريخية التي عُقدت في أماكن تفصلها مسافات شاسعة – ليس عن بعضها البعض فحسب، بل وفي معظم الحالات عن جامعات بهائية محلية متباعدة منتشرة على نطاق واسع – حضر أكثر من (3400) بهائي يمثلون ليس جميع الأعراق الرئيسة للجنس البشري فحسب، كما صرح شوقي أفندي، بل وأكثر من ثمانين دولة أيضًا. كان لكل مؤتمر امتيازه الخاص. فالأول، وهو المؤتمر الإفريقي، قد حضره ما لا يقل عن عشرة من أيادي أمر الله وأحباء من (19) بلدًا وممثلين عن أكثر من (30) قبيلة وعرقًا، وقد حظيَ بشكل خاص بالبركات بحضور أكثر من (100) مؤمن جديد من إفريقيا بصفتهم ضيوفًا على ولي الأمر نفسه، وهو ما يُعتَبر علامة بارزة على مدى تعلُّقه الشديد بالأحباء الجدد الإفريقيين. ففي رسالته الهامة جدًا إلى المؤتمر الأول في السنة المقدسة، بذل شوقي أفندي قصاري جهده كي يقتبس كلمات حضرة بهاء الله التي شبّه فيها سود البشرة ﺑ ’بؤبؤ العين’[9] التي منها ‘يشع نور الروح’[10]. لم يقتصر إطراء شوقي أفندي على الجنس الإفريقي فحسب، بل وعلى القارة الإفريقية أيضًا، تلك القارة التي ‘بقيت في منأى عن شرور المادية المتفشية كالسرطان الذي يفتك بنسيج المجتمع الإنساني في الشرق والغرب على حدّ سواء، ليصيب المقوّمات الحيوية لشعوبٍ وأجناسَ متصارعة في القارات الأمريكية والأوروبية والآسيوية، ويُهدد بكل حسرة باضطراب كارثي عام يلفّ عموم الجنس البشري ويبتلعه.’ فهل يمكن لتحذير كهذا، صادر في مرحلة تاريخية حاسمة كهذه في أقدار القارة الإفريقية، أن يمرَّ دون أن يتذكّره ويتنبّه إليه بإصرار أكبر، فريقٌ من أتباع الاسم الأعظم الذين يعملون هناك ويجاهدون من أجل تأسيس نظام عالمي على قواعد روحانية؟
أمّا المؤتمر الثاني، الذي كتب عنه شوقي أفندي ‘لا شك أنه الأكثر تميُّزًا بين المؤتمرات التبليغية البَيْقارّية الأربعة التي عُقدت إحياءً للذكرى المئوية لمولد رسالة حضرة بهاء الله’، والذي يُعتبر علامةً لافتتاح ذلك ‘الجهاد الروحاني التاريخي العالمي الممتد لعقد طويل من الزمن’، فقد عُقِد في منتصف السنة المقدسة وشكّل محور احتفالات تلك السنة وذروة مهرجاناتها. عُقِد هذا المؤتمر العظيم الذي احتضن القارة الأمريكية بأكملها في شيكاغو، قلب أمريكا الشمالية، وهي المدينة ذاتها التي ذُكِر فيها اسم حضرة بهاء الله علنًا لأول مرة قبل ستين عامًا في العالم الغربي في جلسة البرلمان العالمي للأديان الذي تزامن مع افتتاح المعرض الكولمبي العالمي في الأول من مايو/ أيار 1893. لقد سبق انعقاد جلسات هذا المؤتمر انتهاءُ العمل في مشروع قديم دام خمسين عامًا – تكريس أُمِّ المعابد في الغرب دارًا للعبادة لعموم البشر وذلك غداة افتتاحه في الثاني من شهر مايو/ أيار، والذي كان، كما أكّد لنا شوقي أفندي، ليس فقط ‘أقدس مشرقٍ للأذكار ارتفعت أركانه لتمجيد الاسم الأعظم’، بل وليس هناك من مشرقٍ للأذكار يمكنه أن ‘يكتنز أبدًا تلك الطاقات الكامنة اللامحدودة التي وُهبت له’، وأن ‘الدور المقدَّر له أن يلعبه في تسريع ظهور نظام حضرة بهاء الله العالمي’ لم يُسبَر غَوْره بعد.
إن الكشف عن نموذج مشرق الأذكار الذي سوف يرتفع صرحه على جبل الكرمل في قادم الأيام في المركز البهائي العالمي إنما هو حَدَثٌ آخرُ خطّط له شوقي أفندي نفسه ليقع بالتزامن مع انعقاد ذلك المؤتمر – مؤتمر قال بأنه سوف ‘يدخل التاريخ على أنه التجمّع الأهم منذ اختتام العصر البطولي للأمر المبارك، وسوف يُنظر إليه على أنه أعظم قوة فعالة تُمهّد الطريق أمام افتتاح واحدة من أعظم المراحل إشراقًا لأكبر جهادٍ روحاني على الإطلاق طوّقت أمانته أعناق أتباع حضرة بهاء الله منذ طلوع فجر رسالته…’
إن حصة الأسد في هذا الجهاد الروحاني الجديد، تنفيذًا للخطة الإلهية لحضرة عبد البهاء، قد أعطاها شوقي أفندي إلى أولئك الذين وصفهم بكل الحبّ والمودّة بأنهم ليسوا ‘المستعدّين دومًا لتحمُّل العبء الأكبر من المسؤولية’ فحسب، بل كانوا حقًا ‘القيِّمين’ و’المؤتَمَنين الرئيسيين’ على الخطة أيضًا. وقد سبق لهم أن قاموا في الماضي ‘بأعمال بطولية لا تعرف الفتور’، وهم الآن، من خلال محفليْهم الروحانييْن المركزييْن في الولايات المتحدة وكندا، وبالتنافس مع عشرة محافل روحانية مركزية أخرى، وقد استلم كل واحد منهم نسبةً كبيرة من الأهداف، فإن على هذه الجامعة في واقع الأمر أن تناضل جاهدةً من أجل الحفاظ على دورها القياديِّ وإحراز ما يُؤمَل منها من انتصارات جديدة. ففي السنوات العشر من المقرر فتح (131) إقليمًا بكرًا لدين حضرة بهاء الله في جميع أنحاء العالم، وهناك (118) إقليمًا سبق أن فُتحوا ولكنهم ما زالوا بحاجة ماسّة إلى التقوية والاستحكام. من مجموع هذه الأقاليم الـ (249)، ومعظمهم دول كبيرة مستقلة، خُصِّص (69) إقليمًا للولايات المتحدة وكندا وهو ما يشكِّل 28% من المجموع الكلي؛ وهناك (48) محفلاً روحانيًا مركزيًا جديدًا يجب أن تُشكَّل قبل عام 1963، (36) منها بجهود المحفل الروحاني المركزي في الولايات المتحدة وحدها. كما كان عليها إقامة أول بناء ملحقٍ يشيّد على الإطلاق بجوار معبدٍ بهائي، وبالإضافة إلى ذلك كان عليها شراء موقعيْن لبناء دارَيْن للعبادة في المستقبل؛ واحد في مدينة تورنتو بكندا والآخر في مدينة بنما بجمهورية بنما؛ ثم ترجمة كتابات بهائية ونشرها بلغات عشرة خاصة بالهنود الحمر في نصف الكرة الغربي، إلى جانب إحراز أهداف عديدة أخرى.
وأمام اثني عشر من أيادي أمر الله الذين حضروا هذا المؤتمر – والذي ضمّ أحباءً من (33) دولة – تطوَّع أكثر من مائة من الأحباء للهجرة وإنجاز المهمات العظيمة التي حدَّدها ولي الأمر بكل وضوح في رسالته التي دعا فيها أحباء الولايات المتحدة، ‘المنفّذين الرئيسيين’ و’حلفاءهم’ الأحباء الكنديين، و’رفاقهم’ أحباء أمريكا اللاتينية، لأن ‘يُعدّوا أنفسهم ويبادروا… في قارات أخرى من الكرة الأرضية إلى القيام بحملة ما بين القارات صُمّمت لتقود، إلى مرحلة أبعد، تلك الأعمال المجيدة التي سبق أن دُشِّنت في أنحاء نصف الكرة الغربي.’ كتب شوقي أفندي منذ وقت طويل بأن الهجرة تتطلّب ‘أولاً وقبل كلّ شيء تلك الفضائل من نكران الذات والمثابرة والحماس المتّقد الجريء.’ يمكن للمرء أن يرى في وجوه أولئك المتطوّعين الجدد، كبيرهم وصغيرهم، أفرادًا كانوا أم عائلات، سود البشرة أم بيضها، تلك الفضائل والصفات منعكسة كضياء سماوي وهّاج. وهكذا كانوا هم طلائع جند الله البواسل الذين تَبِعَهُم من كافة أنحاء العالم جيشٌ صغير عاقدٌ العزمَ ظلّ يتنامى باستمرار، فعصفوا بقلاع تلك الأقاليم ‘البكر’ وفتحوا في سنة واحدة مائة منها. لقد تشرّف كل مهاجر منهم بلقب ‘فارس بهاء الله’ من قِبَل شوقي أفندي، وهو حق محفوظ لكل مؤمن في عمر يؤهله لاتخاذ قرار كهذا ويكون أول مهاجر إلى إقليم بكر، أو أن يكون قد وصله أو في طريقه إليه قبل نهاية السنة الأولى من الجهاد الروحاني الأكبر. وفي السنوات المقبلة مَنْ يكون أول الواصلين إلى الأقاليم البكر سوف يحظى باللقب نفسه. ومن الجدير بالملاحظة أن هذا التعبير قد استعمله حضرة عبد البهاء عندما تكلّم عن ‘فرسان الرب’ وكأنه يؤذن بذلك باستعمال هذا اللقب الجميل. فنيران الحماس التي أشعلها ولي الأمر كانت حقًا بفضل تلك الشرارات التي جمعها بشق الأنفس من الكلمات الإلهية على لسان أجداده.
إن فتح أبواب أم المعابد أمام عامّة الناس للعبادة، والاجتماعات العامة التي تكلّم فيها أشخاص مرموقون من بهائيين وغير بهائيين على السواء في الاحتفالات اليوبيلية، قد جذب آلاف الناس ونال دعاية حماسية واسعة النطاق على مستوى الأمة في الصحافة والتلفاز والإذاعة. وخلال السنة المقدسة سطع نور الدين الإلهي حقًا بإشراقٍ أعظمَ أَلَقًا في أعظم جمهورية في الغرب، المهد المختار لنظامه الإداري. إن إحدى أكثر لحظات تلك الاحتفالات المجيدة إثارة للمشاعر، والتي لا يمكن نسيانها، كان حينما مرّ أكثر من (2500) بهائي أمام ممثّل ولي الأمر في المؤتمر، أمة البهاء روحية خانم، التي كلّفها بالنيابة عنه أن تعطِّر الجميع بعطر الورد، في حفل الافتتاح الذي خُصّص للبهائيين فقط في مشرق الأذكار، وتلا ذلك مقتطفات من النصوص المباركة تُليت بالإنكليزية وأخرى رُتِّلت بالفارسية والعربية –
ضمن برنامجٍ نظّمه شوقي أفندي نفسه – ثمّ تُوِّج بحدث فريد عندما مرّ الحاضرون في صفٍّ طويل ليحظَوْا بشرف زيارة صورة حضرة الباب وحضرة بهاء الله، بل وسُمح لهم، وهم يمرّون، بلحظة عابرة مقدسة من التأمل في الطلعة البهية للمظهريْن الإلهييْن التوأميْن لهذا ‘اليوم الجديد’ الذي تعيشه البشرية. وبالصمت التام، والرضا كله، وبنشوة غامرة، غادروا مشرق الأذكار.
أما المؤتمر التبليغي الثالث البيقارّي الذي عقد في ستوكهولم خلال شهر يوليو/ تموز، فقد تشرّف بحضور عددٍ أكبرَ من أيادي أمر الله عن أيٍّ من المؤتمرات الأخرى، إذ بلغ عددهم أربعة عشر؛ منهم أيادي أمر الله الإيرانيون الخمسة وواحد إفريقي حضروا لتوِّهم من رحلات مكثّفة في النصف الغربي من الكرة الأرضية قاموا بها بناءً على تعليمات ولي الأمر بعد افتتاح مشروع الجهاد الروحاني العالمي الأكبر في شيكاغو مباشرة. ولن نجانب الحقيقة إذا قلنا بأن هذا التجمّع الثالث كان بمثابة ‘المؤتمر التنفيذي’. ومع أن الحاضرين كانوا أقلَّ عددًا بكثير مما كانوا عليه في المؤتمر الأمريكي، إلا أن الظروف قد ساعدت أن تحضره من جميع أنحاء أوروبا نواة صلبة من نفوس مقدامة نشطة مضحّية من أعضاء محافل روحانية مركزية، ومبلّغين وإداريين ومهاجرين، بمن فيهم مائة وعشرة مؤمنين من ‘البلدان العشرة المستهدَفة’. وطيلة ستة أيام كرّس المشتركون أنفسهم، وهم الذين حضروا من ثلاثين بلدًا، ليس لذلك العرض المهيب البهيج الذي يلخّص لهم أحداثًا وقعت قبل قرن مضى أَحْيَتْ ذكراها هذه السنة المقدسة فحسب، بل ولإجراء دراسة تحليلية دقيقة للعمل والمهمات التي عَهِد بها ولي أمرهم المحبوب إلى المحافل الروحانية المركزية الأوروبية الثلاثة إلى جانب المحفل الروحاني المركزي في الولايات المتحدة، ثم الهيئة المركزية الوحيدة الأخرى التي كان لها دورها الفاعل في الجهاد الروحاني الأوروبي وهي المحفل الروحاني المركزي في كندا الذي خُصّص له هدف آيسلندا من أجل التقوية والاستحكام.
في رسالته بهذه المناسبة التاريخية، لم يُعِدْ شوقي أفندي إلى الأذهان فقط تاريخ الدين البهائي فيما يتعلق بأوروبا – ‘تلك القارة التي كان لها تأثير شامل على مصير وأقدار الجنس البشري طيلة الألفي سنة الأخيرة لم تُحاكِها في ذلك أية قارة أخرى في العالم’ – بل ومدى تأثير المسيحية والإسلام كليهما في الكشف عن مقدّراته. في تلخيصه للتقدم الحاصل والانتصارات التي أُحرزت منذ نهاية الحرب العالمية الأخيرة، أشار ولي الأمر بأن هذا يُعزَى بدرجة كبيرة إلى ‘التأثير الديناميكي لسلسلة من الخطط المركزية الفاعلة الممهِّدة لافتتاح الجهاد الروحاني العالمي الأكبر.’ تلك الخطط هي خطة السنوات السبع الثانية التي تَولّى تنفيذها الأحباء في أمريكا الشمالية، وخطة السنوات الست وخطة السنتين اللتيْن أطلقهما الأحباء في بريطانيا، ثم خطة السنوات الخمس التي تولّت تنفيذها الجامعة البهائية في كل من ألمانيا والنمسا. فكانت نتيجة تلك المجهودات الشاقّة الحسنة التنظيم تأسيس محافل روحانية محلية في جزيرة إيرلندا وإيرلندا الشمالية واسكتلندا وويلز وفي كل عاصمة من عواصم البلدان العشرة المستهدَفة، وزيادة كبيرة في عدد المحافل الروحانية والمراكز الأمرية والمؤمنين في أنحاء أوروبا، وانتخاب هيئة مركزية مستقلة أخرى أيضًا، وامتلاك مقرّ إداري مركزي بهائي في فرانكفورت. كتب شوقي أفندي بأن الساعة الآن مواتية لهم ‘للمبادرة بشكل لائق ومناسب إلى تنفيذ الحملة الأوروبية للجهاد الروحاني العالمي بكل همّة ونشاط’، والتي من شأنها ليس توسعة قاعدة الأمر الإلهي في أوروبا فحسب، بل ‘ستنشر نوره على الجزر المجاورة’ أيضًا، و’بمشيئة الله سوف تحمل أشعتَه الساطعةَ إلى الأقاليم الشرقية من تلك القارة وتتعداها بعيدًا إلى قلب آسيا.’ وصرّح بأن أوروبا تدخل ‘ما يمكن أن يُعتَبر حقًا افتتاحَ مرحلةٍ من انبعاثٍ روحيٍّ عظيم يكون سناؤه كاسفًا لسناء أي فترة أخرى من تاريخها الروحاني.’ ويذهب في قوله إلى التعبير عن الأمل المعقود على ‘الممثلين المنتَخَبين للجامعات المركزية البهائية الذين ائتُمِنوا على إدارة هذا المشروع الهام والخطير الذي انطلق على أرض هذه القارة’ عسى أن ‘يمنحوا قوة دافعة هائلة نحو التحوُّل والتغيير ونبذ الخلافات، وأخيرًا توحيد الشعوب المتنافرة والأعراق والطبقات المتنازعة التي تضُمُّها حدود تلك القارة المبتلية بالمحن والآلام الموجِعة، والمتعطّشة للروحانية.’
فكلمات كهذه قد أشعلت في الحاضرين نار الحماس نحو عمل فوري. لم يكن هناك فقط أن تَقدَّمَ (63) متطوعًا من بين الحاضرين للهجرة فورًا إلى الأهداف الأوروبية، بل حدث ما هو فوق المعتاد بأن هيئاتٍ ولجانًا مركزيةً متنوعةً، ممن تواجد عدد كبير من أعضائها، قد استلمت هذه العروض وشرعت فورًا في دراستها وتنظيمها، وقبل أن يصل المؤتمر إلى نهايته كان قد جري توزيع المهاجرين على كافة الأهداف المحددة للأحبّاء الأوروبيين عدا الأقاليم الواقعة في المدار السوفييتي. إن الهدف الذي يأخذ بالألباب الذي تمثّل في بناء أحد مشرقَيْ الأذكار اللذين تمّت الدعوة لبنائهما ضمن المخطط الأصلي ‘لخطة السنوات العشر للتبليغ والاستحكام’ – وهو أم المعابد في قارة أوروبا المقرر بناؤه في ألمانيا – قد حظي من المؤتمِرين بتعهُّدات مالية سخية، وبمثلها حظيت ثلاثة مشاريع أوروبية تستلزم أموالاً طائلة، وهي بالتحديد: شراء حظيرة القدس المركزية للبهائيين البريطانيين، وموقعيْن اثنيْن لبناء مشرقَيْ أذكار في المستقبل؛ أحدهما في ستوكهولم والآخر في روما. وكان العديد من المهاجرين الجدد قد أنابهم عن أنفسهم أحباءٌ متحمسون ممن حضروا المؤتمر، ممن لم تمكنهم مشاغلهم من التقدم للهجرة. وفي جو من التضحية مؤثِّر للغاية تقدّم من كان غير قادر على التبرع بالمال، ببعض مقتنياته الشخصية. لقد قوبلت الدعوة لمؤتمر كهذا بدعاية مواتية على نطاق واسع، كما أن الاجتماع العام الذي عقد بالتزامن معه قد جذب أحد أكبر الحشود الجماهيرية التي شهدتها القارة الأوروبية تحت الرعاية البهائية حتى الآن.
وبعد اثني عشر شهرًا على بداية السنة المقدسة، التي ابتدأت في منتصف شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1952، عُقد المؤتمر التبليغي الآسيوي الكبير البيقارّي في نيودلهي بالهند. ومع أنه من المنطق أن اجتماعًا كهذا يجب أن يُعقد في إيران وإن تعذّر ففي العراق، ولكن بسبب حُمّى السكان المتعصبين في هذيْن البلدين وعداء رجال الدين المسلمين المتواصل، كان من المستحيل اختيار أي منهما. ولذلك غدا من المناسب جدًا للأخت الشقيقة الكبرى في الشرق (الهند) – التي افتُتِحت للأمر المبارك في الأيام الأولى لولاية حضرة بهاء الله – أن تحظى بهذا الشرف. إلى هذا المؤتمر توافد المئات من أتباع حضرته من مختلف بقاع العالم، من أماكن متباعدة مثل أوروبا وإفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا واليابان وأقطار كثيرة من نصف الكرة الغربي، وعلى وجه الخصوص من إيران بالإضافة إلى أيادي أمر الله الخمسة الآسيويين الذين حضروا المؤتمرات التي عُقدت في إفريقيا وأمريكا وأوروبا بناءً على تكليف ولي الأمر، كما حضر المؤتمر ستة آخرون من أيادي أمر الله من الأرض الأقدس وأوروبا وأمريكا وإفريقيا وأستراليا. وفي رسالته إلى آخر تلك المؤتمرات التبليغية العظمى، بعد إبلاغ تحياته للمؤتمِرين ‘بقلب ملؤه البهجة والسرور وآمال عالية’، أشار شوقي أفندي إلى الظروف الاستثنائية الفريدة وإلى أهمية العمل في قارة آسيا: إن ‘الحملة الثلاثية التي تحتضن الجزء الرئيس من قارة آسيا وقارة أستراليا وجزر المحيط الباسيفيكي’ في هذا ‘الجهاد الروحاني العالمي الذي يُطوّق العالم’، يمكن لها ‘أن تُعَدّ بحق الحملة التبليغية الأوسع شمولاً والأكبر مشقَّة والأكثر أهمية من بين جميع الحملات.’ ففي مداها ‘لا نظير لها في تاريخ الأمر الإلهي في النصف الشرقي من الكرة الأرضية’؛ من المقرر أن تأخذ مجراها في قارة ‘أُريقت’ على ترابها ‘دماء طاهرة غزيرة قبل أكثر من قرن مضى’، قارة تتمتع بمكانة لا تُضارَع في العالم البهائي، قارة سكنها السواد الأعظم من أتباع حضرة بهاء الله، وهي ‘مهد الديانات الرئيسة للبشرية، وموطن الكثير من أقدم الحضارات التي ازدهرت على هذا الكوكب وأعظمها، وملتقى الكثير من الشعوب والأعراق، وعلى أرضها دارت رحى الكثير من معارك الشعوب والأمم’، وفي العصر الحديث أشرقت من أفقها شمس مظهريْن إلهييْن مستقلّيْن متتاليْين، وتحتضن داخل تخومها أماكن هي على هذا القدْر الكبير من القداسة والطهارة بمثل قبلة ديننا في (البهجة)، و’أم العالم’ (طهران)، و’قبلة الأمم’ (بغداد). وأنهى ولي الأمر رسالته بعبارة مطمئنة تحمل أيضًا نذير خطر قد ينتظرهم بقوله: ‘عسى لهذا الجهاد الروحاني الأكبر الذي انطلق في البر الآسيوي وجزره المجاورة و”الجهة المقابلة من الكرة الأرضية” في آنٍ معًا… أن يمدّهم، وهو يتكشّف، بالترياق الشافي ضد السموم المميتة لقوى الإلحاد والقومية والعلمانية والمادية التي تمزّق كل ما هو حيوي في هذه القارة المضطربة، وعساه أن يعيد مشاهد تلك البطولات الروحانية التي فاقت كل الثورات العلمانية التي عصفت بوجه القارة وبمقدّراتها بما نقشته من بصماتٍ خالدة في أقدار الشعوب والأمم التي تُقيمُ ضمن تخومها.’
لم يكن الحماس تجاه المهمات المنتظرة – والتي كان أكثرها إرباكًا هو العمل في (84) إقليمًا نصفهم مناطق بكر – الذي امتلأت به قلوب البهائيين المجتمعين في نيودلهي، بأقل مما كان يميّز تجاوب إخوانهم وأخواتهم الذين حضروا المؤتمرات الثلاثة السابقة. ذلك الحماس الذي زاد اشتعالاً عندما استلم المؤتمرُ برقيةً من ولي الأمر تزفُّ إليهم بشارة تحقُّق أمله الخاص – الذي أفصح عنه قبل أن تبدأ الاحتفالات بالسنة المقدسة – بالانتهاء من البناء الفوقي للمقام الأعلى لحضرة الباب، الأمر الذي جعل حشود الأحباء تندفع بقوة نحو الأهداف المحددة لهم: تَقَدَّم أكثر من (70) شخصًا للهجرة، تحرك منهم (25) إلى مواقعهم بعد فترة قصيرة من انتهاء المؤتمر؛ كما قُدِّمت التبرعات للصناديق الأمرية بكل سخاء لامتلاك ثلاثة مواقع لبناء مشارق الأذكار في المستقبل – في بغداد وسيدني ودلهي، وقبل أن ينفضّ المؤتمر تم الحصول على (9) أفدنة من الأرض [36 دونمًا] من أجل المعبد الأخير؛ كما قُدِّمت التبرعات السخية لذلك المعبد الأنفس والأعزّ والأكثر توقًا لتشييده في الموطن الأصلي لحضرة بهاء الله – مدينة طهران، عاصمة إيران، والذي كان أحد مَشْرِقَيْ الأذكار المقرر بناؤهما في مشروع الجهاد الروحاني العالمي الأكبر؛ كما نُظّمت اجتماعات عامة وحفل استقبال لما يزيد عن ألف ضيف من بينهم شخصيات هامة مرموقة؛ كما التقى رئيس الهند د. راجندرا براساد[11]، ورئيس وزرائها الشهير جواهرلال نهرو بمندوبين عن المؤتمر، وحظي المؤتمر بإعلان عامّ واسع النطاق مفعم بدفء الصداقة والمودة. وقد أعطى ولي الأمر تعليماته إلى أيادي أمر الله الحاضرين بأن ينتشروا بعد المؤتمر في رحلات تستغرق عدة شهور مزوِّدًا إياهم بنفسه بالمساعدة والتوجيهات اللازمة فيما يتعلق بمسار رحلاتهم وبرنامجها.
بالإضافة إلى ما يمكن أن يُدعى عمله الروتيني اليومي، الذي كان يستنفد من وقته معظمَه، فإن شوقي أفندي لم يكن يعمل طيلة سنتين في وضع التفاصيل الدقيقة لهذا الجهاد الروحاني الأكبر ووضْع الخطط الشاملة الضرورية لتلك الاحتفالات اليوبيلية العظيمة فحسب، بل كتب أيضًا كتاب “القرن البديع” بالإضافة إلى كتاب آخر باللغة الفارسية هو عبارة عن نسخة مشابهة لكتاب “القرن البديع” يتناول الموضوع نفسه ولكنه أقل حجمًا. قد يظن المرء أن فترة من الهدوء والراحة المؤقّتة سوف تتبع أعمال حضرته الخلاّقة البديعة، إلا أن الأمر لم يكن كذلك. فالبرقيات والرسائل نراها كالسيل الدافق قد انهمرت في نهاية كل مؤتمر كأنها قذائف صاروخية موجهة نحو الأهداف، وطيلة سنوات أربعة لم يكن ليسمح لتلك النار المتأججة التي أوقدها أن يَضْعُفَ لهيبُها. ومثال نموذجي على ذلك نجده في لحن البرقية التي خاطب فيها المحفل الروحاني المركزي في إيران بعد انتهاء المؤتمر الأمريكي مباشرة، والعالم البهائي المشدوه أخذ بالكاد يصحو من الكشف الأول المُبهر عن الخطة الجديدة، إذ قال في برقيته: ‘أعلنوا للأحباء أن ما لا يقل عن (128) مؤمنًا قد تقدّموا للهجرة خلال فترة الاحتفالات في ويلمت بمن فيهم واحد للخدمة في مستعمرة لمرضى الجذام. ناشدوا الأحباء ألا يسمحوا لأنفسهم أن يفوقهم إخوانهم الغربيون. على المئات أن ينهضوا. يجب تحقيق الأهداف المحددة في الداخل والخارج على الفور. على تجاوبكم يتوقف تقدُّم وحماية ونصرة الجامعة بأسرها. أنتظر دلائل أفعالكم بكل شوق.’ كان لمثل هذه المناشدات المتكرّرة تأثيرها الكبير على جامعة عاشت حياتها أسيرة قضبان التعصب والاضطهاد المقيت. فما كان من الأحباء الإيرانيين، وهم يرون الباب مفتوحًا أمامهم غير مصدّقين، إلا أن بدأوا يتدافعون قدمًا نحو أطراف الأرض الأربعة بأعداد تتنامى باطّراد. ومن دون مساعدتهم ودعمهم المالي القوي واستعدادهم الدائم للتضحية ما كان للجهاد الروحاني الأكبر أن يحقق النصر بالمقياس الذي ميّز خاتمته المظفّرة عام 1963 على الإطلاق.
ولإدراكه تمامًا حقيقةَ أن أحباء الغرب كانوا قِلّة في العدد، غالبًا ما كان شوقي أفندي بنفسه يقدّم المعونة لهم في مشاريعهم. فبعد الافتتاح الرسمي للجهاد الروحاني الأكبر في مؤتمر شيكاغو مباشرة أرسل حضرته (500) جنيه إسترليني تبرعًا منه للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا الوسطى للمساعدة في امتلاك موقع مشرق الأذكار في بنما، كما أرسل (1000) جنيه إسترليني إلى المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في إيطاليا وسويسرا تبرعًا منه لشراء موقع مشرق الأذكار في روما، وفي الوقت نفسه ضغط على المحافل الروحانية المركزية في الولايات المتحدة وبريطانيا والهند للإسراع في طباعة ونشر آثار كتابية بهائية باللغات التي حُدّدت لهم في خطة السنوات العشر مرسِلاً مبلغ (1000) جنيه إسترليني تبرعًا شخصيًا منه إلى بريطانيا لعلمه بأن العبء المالي الذي تفرضه عليهم حصتهم من ذلك العمل بالغ الأهمية يفوق طاقتهم في تحمّله وحدهم. وكما جاء في أهداف مشروع الجهاد الروحاني العالمي فإن مؤلّفات بهائية يجب أن تُترجم إلى (91) لغة جديدة حيّة؛ منها (40) في آسيا، (31) في إفريقيا، (10) في أوروبا، (10) في أمريكا، وهو ما كانت مسؤولة عنه الجامعات البهائية في كل من الهند وأستراليا وبريطانيا وأمريكا. وغالبًا ما كان شوقي أفندي يدعم هذا العمل بنفسه طيلة سنوات هذا الجهاد الروحاني الأكبر. وفي واقع الأمر كان موضوع اللغات واحدًا من اهتماماته الرئيسة طيلة فترة ولايته. فكان يختار اللغات بنفسه، ويحثّ على نشر التراجم، ويبقى مستفسرًا عن موعد إنجازها، وغالبًا ما كان يتبرع بالمال لأجل طباعة الكتب وأحيانًا لترجمتها، وكثيرًا ما كان يشتري نسخًا منها للاحتفاظ بها في حيفا.
إن الجمع بين الرؤية الثاقبة التي يتمتّع بها شوقي أفندي، وإصراره المتواصل على إنجاز المهام الأمرية بالتمام، ودعمه المالي في كثير من الأحيان، وهو ما تمكن من القيام به نظرًا لاستلامه “حقوق الله” بصفته رئيسًا للدين البهائي طبقًا لألواح وصايا حضرة عبد البهاء – كل ذلك وفّر القوة الدافعة وراء الكثير من المشاريع. كان يقدِّم تبرعاته بكل حكمة وسخاء، في بعض الأحيان لتكون قدوة للآخرين، وأحيانًا تكون شكلاً من المشاركة الشخصية في مشروع خاص عزيز على قلبه، وأحيان أخرى بسبب عدم وجود تمويل آخر يمكن الاعتماد عليه. ومثال هام على ذلك مَنْحُهُ (50) جنيهًا إسترلينيًا للأحباء في تسمانيا للقيام بتنفيذ أول حملة تبليغية لهم في الولايات. وفي مناسبات لا تُعدُّ ولا تحصى تبرّع لرحلات المبلِّغين البهائيين، خاصة بعد صعود حضرة المولى عندما تعرّض أحباء الغرب لكثير من الامتحانات، وكانت الحاجة تدعو إلى تعميق مفاهيمهم بالأمر المبارك، لذلك شعر أن زيارة أحد الأحباء الإيرانيين القدامى من ذوي الخبرة والدراية سوف تفيد. كما أنه في وقت لاحق دعم أيادي أمر الله غير المقتدرين ماليًا في الصرف على رحلاتهم التي كلّفهم بها. وعندما نقل ولي الأمر الرفات المطهرة لوالدة حضرة عبد البهاء وشقيقه الغصن الأطهر من المقبرتين المتواضعتين في عكاء إلى جبل الكرمل في حيفا ليدفنا بما يليق في موكب مهيب، تبرع بمبلغ (1000) جنيه إسترليني لأم المعابد في الغرب إكرامًا لذكراهما العطرة. وفي عدة مناسبات، خلال كل الخطط العظيمة، قدّم مبلغًا من المال، ودعا عددًا معينًا من الأحباء لينهضوا من أجل تحقيق هدف محدّد يمكن الصرف عليه من هذا المبلغ. وتقدِماتٍ كهذه كان أحيانًا يُرفقها بكلمات مؤثرة كأن يقول بأنه كان ‘محرومًا من المشاركة بنفسه’، أو أن هذا هو ‘تبرعه المبدئي’. لم يكن أبدًا ليتقاعس عن التبرع بسخاء لضحايا الكوارث العديدة؛ فعندما تعرّض الأحباء القرويُّون في إيران للاضطهاد والاستشهاد، وحينما طُرد الأحباء المهاجرون من روسيا ليعودوا إلى موطنهم الأصلي صفر اليدين، وإذا ما ضربت هزّة أرضية منطقة ما أو تسبّب فيضان في تشريد الأحباء وترْكِهم مُعدَمين دون مأوى، كان شوقي أفندي في كل ذلك يهُبُّ لمساعدتهم. لقد خصص للمحفل الروحاني المركزي في إيران مبلغًا سنويًا للمساعدة في شراء المواقع التاريخية المرتبطة بالأمر المبارك في ذلك القطر، وهي واحدة من الواجبات المحدّدة له. وساعد أيضًا في شراء أبنية لمقرّات مركزية ومواقع لمشارق الأذكار، وغالبًا ما كان يتبرع شخصيًا لتشييد شواهد قبور أحباء بارزين أعزاء على قلبه رمزًا لتقديره ومحبته لهم.
ومع ذلك، ما كان يُعَدُّ التبرع الأعظم والفريد خلال فترة ولايته تعهّده بدفع ثلث مليون دولار مساهمة منه في تشييد مشارق الأذكار الثلاثة التي أصبحت جزءًا من أهداف مشروع الجهاد الروحاني الأكبر. أما كيف وصل تقديره إلى هذا الرقم فذاك أسلوبه النموذجي المعتاد الذي بموجبه يفعل كل شيء. أتذكر كل ذلك بوضوح تام: كان أول ما فعله أن زوَّدهم بتصاميم مشارق الأذكار المنوي بناؤها، ثم حصل من المحافل الروحانية المركزية التي كلّفها بمهمة البناء على تقديرهم للتكاليف – بعد أن حدّد لهم، على نحو تقديري، سقفًا أعلى للأسعار؛ وبعد أن تأكد له أن تكاليف بناء مشارق الأذكار الثلاثة ستكون قريبة من المليون دولار، ولعلمه بالمبلغ المتوفر لديهم وقيمته (150) ألف دولار، قام حضرته بتخمين ما قد يُجمع من الأحباء من تبرعات منذ ذلك الوقت ولحين الموعد المتوقع للانتهاء من بنائها، والذي سيتصادف مع قرب انتهاء مشروع الجهاد الروحاني الأكبر، وبعد تأكده في حسابه هذا من إمكانية توفّر حوالي ثلث مليون دولار، تابع تقدير حساباته ليخرج بالرقم الذي يشعر أن باستطاعته الإيفاء به. وبفضل خبرته في الماضي في ما يمكن أن يكون عليه دخل المركز البهائي العالمي، وما تعهّد به حضرته من دعم مالي لمشاريع أخرى، آخذًا في اعتباره كل الاحتمالات الممكنة، نراه قد توصل إلى مبلغ ثلث المليون دولار الذي تعهد به. أما الثلث الثالث فقد فوّضه، إن جاز التعبير، لله تعالى مدركًا تمامًا أن أتباع حضرة بهاء الله، إذا ما بذلوا أقصى ما عندهم، فإن قوى غيبية غامضة ستنطلق لتمكّن المؤمنين من تحقيق هدفهم.
ولكن دعونا الآن نرجع إلى ما افتُتح حديثًا، ‘مشروع جهاد روحاني مشحون بقضاء الله وقدَرَه، مُحَرِّكٍ للروح، يمتدّ لعقد من الزمن ويحتضن العالم’ بأهدافه الأربعة: تطوير المؤسسات في المركز العالمي للأمر المبارك؛ تقوية وتعزيز الجبهات الداخلية للأقاليم الاثنتي عشرة التي تعمل بمثابة قواعد إدارية للخطط الاثنتي عشرة المكوِّنة لأجزاء المشروع العظيم؛ تقوية واستحكام جميع الأقاليم التي فُتحت للأمر المبارك؛ فتح الأقاليم التي لا تزال بكرًا في أنحاء العالم. ومع أن إدارة مشروع الجهاد الروحاني الأكبر قد أوكلت إلى الاثني عشر محفلاً روحانيًا مركزيًا، فإن كل فرد مؤمن، مهما كان عِرقه وقوميته وطبقته ولونه وعمره أو جنسه، عليه أن يقدّم مساعدته الخاصة لمؤازرة هذا ‘المشروع العملاق’ إلى أن يتمّ إنجاز أهدافه. وفي فقرة نثرية جميلة متألقة صاغها قلم شوقي أفندي، أزاح الستار كاشفًا عن ميدان هذا المشروع الجديد: أين؟ … يا إلهي! في كل مكان – في الدائرة القطبية الشمالية، في الصحارى، في الأدغال، وجزر بحر الشمال البارد، وفي المناطق الحارة في المحيطين الهندي والهادئ. لِمَنْ؟ … يا إلهي! لكل البشر– لقبائل إفريقيا، وسكان الإسكيمو في كندا وجرينلاند، وشعب اللاب[12] في أقصى الشمال، وشعوب البولينيز[13]، وسكان أستراليا الأصليين، والهنود الحمر في الأمريكتين. وتحت أي الظروف والأحوال؟ ليس فقط في البراري والقفار، بل وفي المدن ‘الغارقة في المادية البحتة’، حيث يتنفس الناس الهواء النتن ‘للتمييز العنصري العدواني’، وتُقيّدُهم أغلال ‘عقلانية متعجرفة’، وتطوِّقهم ‘قومية متشددة عمياء’، وغارقون في ‘طقوس كَنَسية ضيِّقة متعصّبة’. وما هي المعاقل الواجب على جنود حضرة بهاء الله اقتحامُها؟ إنها قلاع الهندوسية والأديرة البوذية وغابات الأمازون وجبال التيبت وسهول روسيا الشاسعة وقفار سيبيريا وبرّ الصين ومنغوليا واليابان بمن فيها جميعًا من حشود بشرية – كما عليهم ألا ينسوا مجالسة المجذوم ومعاشرة المنبوذ في مستعمراتهم الجزائية. فكتب يقول: ‘أوجّه مناشدتي الحارة أن يطيعوا ويُلبّوا نداء رب الجنود كما يليق وينبغي بمقاتليه، وأن يستعدُّوا ليوم الأيام هذا عندما تحتفل كتائبه المُظفّرة بساعة النصر النهائي وسط تهليل ملائكة الغيب في الملكوت الأبهى.’
من الواضح أن ولي الأمر كان ينظر إلى خطة السنوات العشر هذا على أنها ليست أقل ولا أكثر من معركة، يخوضها ‘جيش على نطاقٍ عالمي، مخلص، وفيّ، لا يُقهر’ من ‘محاربي حضرة بهاء الله’، ‘جيشه، جحافل النور’ الذي يقف في مواجهة كتائب الظلام المتمترسة وهي تطوّق العالم ماسكة بزمامه. ‘فالقائد الأعلى’ لهذه المعركة هو حضرة عبد البهاء وخلْفه يقف والده “ملك الملوك” لنَصْرِ ‘من قام على نصرة أمره’ ﺑ”جنود من الملأ الأعلى” احتشدت ‘في صفوف متراصّة جاهزة للهبوط بقوى التأييد من الأعالي’. على هذا النحو اجتمعت عُصبة صغيرة من أبطال ربانيين متأهّبين للاندفاع إلى الأمام ‘ليزيِّنوا دروعهم بأوسمة انتصارات جديدة’، حاضرين لأن يغرسوا ‘الرموز الدنيوية لسلطنة حضرة بهاء الله السماوية’ في كل قطر في العالم، وهم جاهزون لوضع الأساس الإداري المنيع لملكوت الله على الأرض كما وعد به السيد المسيح.
في استعراضنا للأحداث الماضية نرى أن شوقي أفندي قد قسّم مشروعه، الجهاد الروحاني الأكبر، إلى أربع مراحل: الأولى تمتد من رضوان عام 1953 إلى رضوان عام 1954، والثانية من 1954–1956، والثالثة من 1956–1958، وربط انتهاء المرحلة الرابعة والأخيرة بإتمام بناء مشارق الأذكار الثلاثة المقرر تشييدها خلال خطة السنوات العشر، وقد تمّ إنجاز ذلك عمليًا وبالكامل بحلول عام 1963. لم يكن في ذهن ولي الأمر في بداية المشروع تحديد مؤكّد لفترة كل مرحلة، بل كانت نتيجة للنمو الطبيعي للقوى التي انطلقت من الجهاد الروحاني الأكبر، ولطبيعة الانتصارات التي أُحرِزت أيضًا. ومع ذلك، لم يكن هناك أدنى شك في أن عقله هو الذي وجّه تلك القوى؛ أولاً نحو مجموعة واحدة من الأهداف، ثم نحو مجموعة أخرى… هكذا كان الأمر في كل الحملات التي قام بها جيشه الموحَّد بكتائبه الاثنتي عشرة.
ما إن مضت ثلاثة أسابيع على بداية مشروع الجهاد الروحاني الأكبر حتى أبرق شوقي أفندي إلى العالم البهائي بأن ‘التحدي الأعظم’ أمام منفّذي الخطة إنما هو الحاجة إلى انتشارٍ ‘فوري عالمي مُستدام بتصميم أكيد’ في كل الأقاليم البكر. إن شوقي أفندي، الذي لم يفتقر يومًا إلى الإحساس المناسب بالبروتوكول، وبما يمكن أن يدعوه المرء بالبروتوكول الإلهي، قد ذكر بأن المنفِّذين الرئيسيين للخطة الإلهية لحضرة عبد البهاء، وبفضل منْحِهم الأولوية على غيرهم كما ورد في ألواحه المباركة، قد تشرّفوا بحق الصدارة في إرسال مهاجريهم إلى أهداف حُدّدت مواقعُها لأخوة لهم في الجامعات البهائية في الشرق أو الغرب. ومن ثمّ ناشد الأحبّاء بأن ينهض (130) من ‘الجنود الروحانيين البهائيين’ ويملأوا الفراغ الحاصل في الأقاليم البكر غير المفتوحة للأمر المبارك في الكرة الأرضية خلال السنة الأولى من الجهاد الروحاني الأكبر. وبعد أربعة أشهر، وقبل انعقاد المؤتمر التبليغي الآسيوي البيقارّي، كان بمقدوره أن يُبلغ البهائيين في العالم أن ما يزيد عن (300) مؤمن قد تطوّعوا للهجرة؛ (150) منهم من أمريكا الشمالية، وأكثر من (50) من أوروبا، وأكثر من (40) من إفريقيا، وما يزيد عن (40) من آسيا. وفي أقل من خمسة أشهر فُتح للأمر المبارك (28) إقليمًا وجزيرة. كان عنصر النجاح على الدوام عاملاً مشجّعًا لشوقي أفندي على طلب المزيد، فأخبر الأحباء أنه طالما أن مجموع البلدان في العالم التي فُتحت لأمر الله قد تعدّت (150) بلدًا، فإن عليهم أن يسعوا ليجعلوها (200) بحلول نهاية السنة المقدسة. وقد نجح الأحباء تقريبًا في الوفاء بهذا الموعد، حيث تمّ الوصول إلى رقم المئتين بعد ثلاثة أسابيع من ختام السنة المقدسة. كان ذلك في شهر سبتمبر/ أيلول 1953 عندما أعلن شوقي أفندي عن أول المؤمنين الذين خطّ أسماءَهم على ‘لوحة الشرف’ التي ستوضع تحت عتبة المدخل المؤدي إلى الضريح الأقدس في البهجة بعكاء بعد اكتمالها، وهو المكان اللائق بأبطاله ‘الفرسان’. وقد ثبّت في اللوحة تلك الأسماء وأسماء الأقاليم المفتوحة، وظلّ شوقي أفندي مستمرًا في إعلاناته الدورية هذه عن المهاجرين حتى نهاية حياته. وبحلول عام 1963 كانت اللوحة تضم أسماءً من جميع الأعراق في جميع القارات من الجنسين رجالاً ونساءً ومن بلدان متعددة. وبعد افتتاح مشروع الجهاد الروحاني الأكبر بتسعة أشهر كان باستطاعة ولي الأمر أن يُعلن عن فتح تسعين إقليمًا تقريبًا، وهو ما يعادل ثلاثة أرباع العدد الإجمالي، باستثناء الأقاليم التي تدور في فلك الاتحاد السوفييتي. وفي رسالة الرضوان لعام 1954 كان بمقدور ولي الأمر أن يعلن البشارة السارة بأن ‘فرسان رب الجنود في مواصلتهم مهمَّتَهم السامية في الفتح الروحاني لهذا الكوكب’ قد فتحوا (100) إقليم بكر، وبعملٍ كهذا فإن المرحلة الافتتاحية للجهاد الروحاني الأكبر تكون قد ‘اختُتمت بنصر مبين… فاق أعزّ توقّعاتنا.’
كان ذلك في فترة الرضوان ذاته أن عيّن أيادي أمر الله في مختلف القارات هيئةَ معاونين لهم في كل قارة، مؤلفة كل منها من تسعة أعضاء، وذلك بناء على تعليمات مفصّلة من ولي الأمر في رسائل موجهة إليهم سابقًا، ليعملوا ‘مندوبين ومساعدين ومستشارين’ لهم، كما أن خمسة صناديق مالية قارية قد تأسّست بحثِّ وتشجيع حضرته لتسهيل أعمال هذه المؤسسة التي تكشّفت وظهرت للعيان.
وها هو جيش حضرة بهاء الله، وقد حاز على مائة جائزة جديدة، نراه منهمكًا في الأعماق. أما شوقي أفندي، وقد ارتاح فكره إلى حدٍّ ما، بفضل ما أُحرز من تقدّم في الخطوط الأمامية، نراه يبادر فورًا إلى مرحلة الاستحكام. فالمرحلة الثانية من الخطة التي يجري تدشينها الآن كانت تنصبّ بالدرجة الأولى على التقوية والاستحكام. ففي رسالته لرضوان عام 1954 أدرج ولي الأمر (13) نقطة يجب التركيز عليها في السنتين المقبِلتين: متابعة عمل التبليغ بالغ الأهمية؛ الحفاظ على الإنجازات التي أُحرِزت؛ الحفاظ على جميع المحافل الروحانية المحلية؛ مضاعفة عدد المجموعات البهائية والمراكز الأمرية – وكل ذلك لتسريع عملية بروز (48) محفلاً روحانيًا مركزيًا مقرر لها أن تتشكل خلال مدة الجهاد الروحاني الأكبر؛ امتلاك مواقع لمشارق الأذكار؛ المبادرة إلى إنشاء صناديق مالية خاصة لشراء حظائر قدس مركزية محددة؛ إنجاز سريع لمهامٍ متعددة تتعلّق باللغة؛ امتلاك المواقع البهائية التاريخية في إيران؛ اتخاذ التدابير اللازمة لإنشاء مَشْرِقَيّْ الأذكار في طهران وفرانكفورت؛ إنشاء ملحقات مشرق الأذكار في ويلمت؛ تدشين أوقاف مركزية؛ تسجيل محافل روحانية محلية رسميًا لدى السلطات؛ تأسيس هيئات جديدة للطبع والنشر. لقد وجّه ‘نداءه الحارّ’ لإنجاز هذه الأعمال الهائلة الهامة إلى الأفراد المئة والثمانية الذين يشكلون أعضاء الاثني عشر محفلاً روحانيًا مركزيًا في العالم البهائي، من بين ملايين البشر الذين يزدحم بهم هذا الكوكب!
كانت المعجزة أن مناشدة كهذه، والتي تبدو بنظر المتحذلقين المعقّدين مجرّد وسيلة ضعيفة هزيلة تدعو للرثاء، أن كان لها ذلك التأثير. ففي جميع أنحاء العالم البهائي ضاعف القادة الروحانيون وضُبّاط صفّهم وجندهم من جهودهم، فكان لهم انتصارات كاسحة فازوا بها. أعلم شوقي أفندي الأحباء، برسالته السنوية في رضوان 1955، التي كانت وسيلته الرئيسة لنقل أخبار تقدم الأمر المبارك، بأن الخطة كانت ‘تنطلق إلى الأمام وتكتسب زخمًا يومًا بعد يوم محطِّمة العوائق والعقبات في جميع الأحوال وفي وسْط الشعوب والأعراق المختلفة، متقدِّمةً بتوسّع لا يُقاوَم في عملياتها الشمولية الخيّرة، وكاشفة أكثر من أي وقت مضى عن أمارات جبروت قواها المتأصلة وهي تسير قُدُمًا نحو الفتح الروحاني للكوكب بأسره.’
ومع ذلك، رغم تشجيعه المتواصل، كانت هناك أوقات شعر فيها شوقي أفندي أن عليه أن يتوجّه إلى قادة كتائبه العاملة – المحافل الروحانية المركزية الاثنتي عشرة – بعبارات تحمل مشاعر الحزن والإحباط. وإحدى تلك الأمثلة المميزة برقيته الموجهة إليهم في مايو/ أيار 1955 التي يقول فيها بأنه ‘مضطر’ في ‘هذه الساعة الهامّة والخطيرة’ أن يطلب منهم أن يفكّروا من جديد ﺑ’المضامين الكاملة’ و’المتطلبات الأساسية’ ﻟـ’إدارتهم’ لأمر الله. ويضيف قوله بأنه يرجوهم بحرارة ألا ‘يسمحوا لأي تقلبات، حاضرًا أو مستقبلاً، أن تنال من جذوة حماسهم’ أو ‘تُضعِف من عزيمتهم’. لقد ناشدهم جميعًا، ولكنه خاطب بشكل خاص أولئك الذين كانوا ‘غير مقيّدين بالمُعوِّقات أو القيود التي فُرضت على أقرانهم الأقلّ حظًا’، أن يسرّعوا من وتيرة جهدهم وعملهم ويعملوا على مضاعفة إقداماتهم الجريئة. وهكذا يعوِّضون ‘النكسات العابرة’ التي قد يعاني منها دين يتقدّم باطّراد ولكنه لم ‘يتحرر تمامًا’ بعد.
وخلال شهر أغسطس/ آب من العام نفسه [1955] واجه العالَم البهائي واحدة من أزماته الدورية التي تصيبه من وقت لآخر – أزمة استنفدت من ولي الأمر قدْرًا هائلاً من طاقته وقواه، وكانت عاملاً إضافيًا عجّل في وفاته في سن مبكرة نسبيًا. فقد أبرق شوقي أفندي برسالة قال إنها يجب أن تُرسَل إلى جميع أيادي أمر الله والمحافل الروحانية المركزية وبيّن فيها بأن الجامعة البهائية، التي لا تزال تضمّ العدد الأكبر من المؤمنين، تتعرّض الآن لـ’موجة جديدة من العنف والاضطهاد الذي ظلّ يُبتَلى به أتباع حضرة بهاء الله من وقت لآخر في موطنه منذ أكثر من قرن من الزمان’: فحظيرة القدس المركزية في طهران قد استولوا عليها، وهُدِمَت قبّتها على مرأى من الأنظار من قبل أحد قادة رجال الدين الإيرانيين – بحضور ومساعدة جنرال في الجيش الإيراني – تَبِعَ ذلك الاستيلاءُ على مؤسسات محلية مشابهة في جميع الأقاليم؛ وأصدر برلمان البلاد إعلانًا يحظر فيه الدين البهائي؛ وهاجمت الصحفُ والإذاعة الدينَ بكل شراسة وشوّهت أهدافه ومقاصده، كما كان الأحباء هدفًا لسلسلة من الأعمال الوحشية في طول البلاد وعرضها؛ والبيت المقدس لحضرة الباب قد انتُهِكت حُرمتُه مرتين وتعرّض لأضرار جسيمة؛ والأماكن المقدسة الأخرى إما أن صودرت وشَغَلها آخرون أو دُمّرت؛ حوانيت البهائيين وبيوتهم نُهبت ودُمّرت إلى أن سُوّيت بالأرض؛ نُبشت القبور في المدافن البهائية ومثّلوا بالجثث؛ ضُرب البهائيون الكبار والأطفال ضربًا مبرحًا واختُطِفت النساء البهائيات وزُوِّجن من مسلمين قسرًا؛ وعائلة بهائية من سبعة أفراد أكبرهم في الثمانين وأصغرهم في التاسعة عشر من عمره مُزِّقت أجسادهم وقُطِّعت بالمعاول بأيدي جمهور بلغ عدده حوالي ألفيْن من السوقة الرعاع الغوغائيين على أنغام الموسيقى وقرع الطبول. ولا شك أن أعمالاً مرعبة كهذه أثارت سخطًا شديدًا في أوساط العالم البهائي بأسره. وبناءً على طلب ولي الأمر تدفّق على إيران سيل من الرسائل ناهزت الألف، موجهة إلى السلطات هناك من أماكن لم يسمع بها حتى أعضاء برلمانهم. كما أُرسلت المناشدات إلى هيئة الأمم المتحدة ومثلها إلى رؤساء دول وشخصيات بارزة في كافة أنحاء الجزء المتحضِّر من العالم. كما أكّد مدير شعبة حقوق الإنسان للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا (بصفته الممثل الرسمي للهيئات البهائية الأخرى المُعْتَمدة لدى الأمم المتحدة كمنظمة غير حكومية باسم “الجامعة البهائية العالمية”) بأن شرحًا مجملاً عن الوضع قد أُعدّ لتقديمه إلى مفوضية حقوق الإنسان وإلى الحكومة الإيرانية، في حين عَيّن الأمين العام للأمم المتحدة لجنة من موظفيها برئاسة المندوب السامي لشؤون اللاجئين ومعها تعليمات بأن تحتجَّ لدى الحكومة الإيرانية وتسعى للحصول على ضمانات تصون فيها حقوق الأقلية البهائية في إيران. ومع كل ذلك، فإن الدين البهائي الذي لم يكن قد تحرَّر بعدُ بالكامل، قد طوّر لديه، بعد أكثر من قرن من الكفاح والنضال، بعضَ الأسنان القوية التي تمكّن بها من أن يضغط بشكل مؤثّر في هذه المناسبة، يساعده في ذلك حملة إعلامية في الولايات المتحدة تكلفت (40) ألف دولار. وبالإضافة إلى ردّ الفعل القوي الذي أدار دفته شوقي أفندي ضد ذلك الهجوم البربري على أناسٍ عُزّل وجامعة مسالمة، بادر حضرته إلى إنشاء صندوق ‘إعانة المضطهدين’ الذي تبرع له فورًا بمبلغ يقدّر ﺑ (18) ألف دولار، ولاقى هذا الصندوق دعمًا واسعًا وبكل حرارة من قبل الجامعات البهائية الساخطة التي كانت تناضل أصلاً في فترة مُثقلة بالالتزامات المالية.
كان ذلك خلال المرحلة الثانية من الجهاد الروحاني الأكبر عندما أنجز الأحباء أعمالاً بطولية كهذه من قبيل شراء عشرة مواقع لمشارق الأذكار من أصل أحد عشر موقعًا يشكّلون أهدافًا في خطة السنوات العشر بكلفة زادت عن (100) ألف دولار، ثم امتلاك (30) وقفًا مركزيًا من أصل (51) بمبلغ يقدر بنحو (100) ألف دولار، وشراء (43) مقرًا إداريًا مركزيًا من أصل (49) بمبلغ يتجاوز نصف مليون دولار في مختلف القارات – وهذا الإنجاز الأخير كان إنجازًا بطوليًا فذًّا، صرح شوقي أفندي، بشكل مبطّن له مغزاه، بأنه ‘يعوّض بسخاء عن مصادرة واحتلال المقرّ الإداري المركزي للدين وهدم قبته من قبل السلطات العسكرية في العاصمة الإيرانية.’
هناك الكثير من الانتصارات الباهرة في تلك السنوات الأولى للجهاد الروحاني الأكبر: فسجن سياه چال، الذي شهد أولى بوادر إعلان رسالة حضرة بهاء الله السماوية، قد تم شراؤه؛ وغُرست راية البهاء في قلب الإسلام عندما تأسس محفل روحاني محلي في مكة المكرمة؛ كما طرقت سمع ولي الأمر البشارة السارة بأن هناك بهائيين – وهم مَنْ بقي من سابق الجامعات البهائية في القوقاز وتركستان – يقطنون في بعض دول الاتحاد السوفييتي المدرجة ضمن البلدان غير المفتوحة في بداية الجهاد الروحاني، والتي يمكن أن يُنظَر إليها الآن على أنها مواقع مفتوحة للأمر المبارك مهما كان وجود تلك الشموع المحترقة المنعزلة هناك خافتًا وضعيفًا؛ وهناك الآن (98) جزيرة في أنحاء العالم يقطن فيها بهائيون؛ وبوشر العمل في بناء محفظة الآثار البهائية العالمية في المركز البهائي العالمي.
وكان في فترة من انتصاراتٍ كتلك، أن اتخذ شوقي أفندي قراره الحاسم بتشييد ليس مشرقي أذكار اثنين فقط بل ثلاثة خلال خطة السنوات العشر. فالأهمية التي أَوْلاها حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء في آثارهما الكتابية لمشارق الأذكار تلك إنما هي عظيمة للغاية، فهي تُشيّد، كما قال شوقي أفندي، ‘لعبادة الله الواحد الحق، ولتمجيد مظهر أمره في هذا اليوم.’ إنها دُور لها ارتباط وثيق بالحياة الروحانية للفرد والحياة الجماعية للمؤمنين. لقد دعا ولي الأمر مشرق الأذكار الأمريكي بـ’الصرح الرمزي’ للنظام الإداري، و’حصنه المنيع، ورمز قوته وآية عظمته ومجده في مقبل الأيام’ و’المبشّر بحضارة لم تُولَد بعد’، و’رمز النظام العالمي وبشيره’. وصرّح حضرته بأن هذه المعابد ‘الأم’ هي بمثابة المبلّغ العظيم الصامت لدين الله، وتحتلّ مكانة بارزةً في تقدّمه، حتى إنه صرّح بأن مشرق الأذكار الأمريكي يُجسّد روح الجامعة البهائية الأمريكية في النصف الغربي من الكرة الأرضية. ومع أن أول مشرق أذكار كان قد بُني في عشق آباد في أيام حياة حضرة عبد البهاء، حسب إرشادات وتعليمات حضرته، إلا أن ولي الأمر أكّد لنا أنّ أول مشرق أذكار بُني في العالم الجديد (أمريكا) كان هو الأقدس في كل الأوقات لأن المولى نفسه وضع حجر الأساس فيه أثناء زيارته لأمريكا الشمالية وكان واحدًا من أعز المشاريع على قلب حضرته. وبحلول عام 1921، عندما تسلّم شوقي أفندي ولاية الأمر المبارك، كانت أساسات البناء مُنجَزة، أما المبنى نفسه الذي تاق حضرة المولى أن يراه مرتفعًا شامخًا قبل صعوده، فلم يكن آنذاك سوى بناء بشع على شكل اسطوانة متّشِحة بغطاء أسود ليحميها من الماء، أشبه ما تكون بخزان وقود يرتفع منتصبًا فوق سطح الأرض.
وضع ولي الأمر في اعتباره أن إكمال هذا الصرح المقدس بالسرعة الممكنة هو أحد واجباته الرئيسة. استغرقته هذه المهمة اثنتين وثلاثين سنة حتى أُنجزت، وقد دعاه بالمشروع الأعظم على الإطلاق الذي دشّنه أتباع أمر الله الغربيون، والنصر الأبرز للدورة البهائية في عصرها التكويني. كان من أول ما قام به أن أرسل (19) جنيهًا إسترلينيًا تبرعًا منه لصندوق المعبد عام 1922، وفي عام 1926 رأيناه يقول: ‘يسعدني التعهد بمبلغ (95) دولارًا شهريًا كمساهمة متواضعة مني’، وطوال السنين كثيرًا ما تبرع من أجل تشييده. لقد شجّع شوقي أفندي الأحباء على تحويل الباحة الدائرية الكبرى، التي ستحيط بها في المستقبل درجات المعبد، إلى قاعة يمكن استعمالها للمؤتمرات المركزية ولتجمّعات أخرى إلى حين إنشاء قاعة اجتماعات عامة في وقت لاحق لأغراض كهذه يمكن تنفيذها خارج هذا الصرح الذي يجب أن يُخصَّص للدعاء والعبادة فقط. وبحلول عام 1923 عُقد مؤتمر الوكلاء المركزي في ما أصبح يُعرف منذ ذلك الحين بالقاعة الأساسية. ولتزيين الجدران أرسل ولي الأمر هديته وهي قطع جميلة من سجاد إيراني كانت موضوعة في المرقد المطهر لحضرة بهاء الله. ومع ذلك لم يحصل أي تقدم في بناء مشرق الأذكار حتى عام 1928. فخاطب حضرته مؤتمر الوكلاء المركزي في ذلك العام برسالة قوية ناشد الأحباء الأمريكيين فيها على استئناف العمل في بناء مشرق الأذكار العظيم الخاص بهم، مما أثّر فيهم وجعلهم يبادرون إلى ما أصبح يُعرف ﺑ’خطة العمل الموحّد’ التي صُمّمت من أجل جمع تبرعات مالية لتغطية نفقات الإنشاءات الفوقية للمعبد باهظة الكلفة. ورغم ذلك، لم يكن المبلغ المطلوب قد جُمِعَ بعد بحلول عام 1929. ولما كان شوقي أفندي غير قادر في ذلك الوقت على إرسال مبالغ كبيرة لهذا الغرض، فقد قرر بيع أثمن ما يملكه الأمر المبارك في الأرض الأقدس، وخاطب مؤتمر الوكلاء المركزي ببرقية قال فيها: ‘إنني أضحّي بأثمن ما يزيّن المرقد المطهّر لحضرة بهاء الله في سبيل تكريس المساعي الجماعية للأحباء الأمريكيين وتقويتها والتعجيل في إنجاز ‘خطة العمل الموحّد’، وأدعوكم إلى بذل التضحيات الذاتية غير المسبوقة.’ وكعادته أبرق أولاً إلى المؤمن الإيراني الذي سبق أن تبرع بذلك الشيء الذي لا يُقدّر بثمن قائلاً: ‘إن العمل في بناء مشرق الأذكار الأمريكي يتقدّم، وقد تم بالفعل التبرع بثلاثة أرباع المبلغ المطلوب للطابق الأول. لي رغبة شديدة في بيع السجادة الحريرية التي تبرعتَ بها. أبرِقْ فورًا بوجهة نظرك حول وضع السوق والأسعار. أُقّدر لك موافقتك.’ ولم يُعلم أحباء أمريكا بقراره هذا إلا بعد أن استلم حضرته الرد بالقبول الحار المخلص وتنسيب بيعها في نيويورك. مَلَكت تقدمة شوقي أفندي هذه على قلوب الأحباء هناك وحرّكت مشاعرهم بحيث وصلت تبرعاتهم إلى (300) ألف دولار قبل نهاية المؤتمر. وخوفًا من أن يقعوا تحت أعباء الديون الثقيلة، إذا لم يتوفر مقدَّمًا ذلك المبلغ المطلوب لإنجاز كامل البناء في المستقبل، لم يسمح شوقي أفندي بإبرام العقود وتوقيعها. وعلى كل حال، بحلول مؤتمر الوكلاء عام 1930 تم ضمان توفير المبلغ المطلوب كاملاً وصدرت موافقة ولي الأمر بمواصلة العمل – وقد أبدى الأحباء رغبتهم في شراء السجادة الثمينة التي كانت قد وصلت في ذلك الوقت إلى الولايات المتحدة. لقد كانت برقياته الجوابية نموذجية بكل المقاييس: ‘أوافق على المضيّ قدمًا ببناء كامل مشرق الأذكار دون الزخارف الخارجية، على أن يعقد الأحباء عزمهم على إتمام تضحياتهم بإنجاز تلك الزخارف في النهاية. أرى أن علينا جميعًا التمسك بتصميم البناء كما أقرّه حضرة عبد البهاء بالكامل.’ ‘لا حاجة لبيع السجادة المقدمة لهذا الغرض ولا داعي لإرجاعها، فهي هدية مكرسة لتكون زينة دائمة لأول مشرق أذكار في الغرب.’ لقد تأثّر المؤتَمِرون عميقًا بتلك الكلمات وأبرقوا معبّرين عن ‘عميق امتنانهم بالإهداء اللامثال’. إن مشاعر الحماس التي ولّدها شوقي أفندي برسائل على هذا النحو وأفعال على هذه الشاكلة لم تكن صادرة عن سياسة مرسومة يتّبعها، بل على الأرجح نابعة من مشاعر عميقة من نكران الذات التي فُطر عليها مَنْ وُلِدَ ليكون قائدًا ويمتلك قلبًا طاهرًا وسريرة فريدة نقية.
وبحلول مؤتمر الوكلاء المركزي لعام 1931 كان باستطاعة شوقي أفندي أن يبرق قائلاً: ‘تشاطرني الورقة المباركة العليا… في التعبير عن تهانينا القلبية وفرحتنا العارمة وامتناننا العميق للإنجاز العملي للبناء الفوقي للصرح المجيد…’ وفي عام 1933 عاد ليشرك معه شقيقة حضرة عبد البهاء في ذلك الإنجاز في برقية قال فيها: ‘بما في جامعة المؤمنين الأمريكيين طُرًّا من حب يكنّونه للراحلة العزيزة، الورقة المباركة العليا، ألتمس منهم ألا يسمحوا لأدنى توقف عن العمل في مشرق الأذكار المقرّب جدًا إلى قلبها بأن يُضعف من بريق منجزاتهم الماضية. أُناشدُهم التفكُّرَ عميقًا في الطابع المُلِحِّ جدًا لالتماسي هذا.’ أُرسلت هذه البرقية في شهر يناير/ كانون الثاني، وتبعتها برقية أخرى في شهر أكتوبر/ تشرين الأول قال فيها: ‘أناشد الأحباء الأمريكيين المُثقَلين بالأعباء والضغوط أن ينتبهوا إلى التماسي الحبّي الأخير هذا، فلا يسمحوا بأدنى توقف في تدفق سيل التبرعات للمعبد، حتى لا يُبْهِتَ روعةَ وعظمةَ مشروعهم التاريخي… وأعدكم بسنة واحدة من الراحة بعد الانتهاء بنجاح من المرحلة الأولى لزخرفة معبدنا الزاهر.’ ولا غرابة في أن يستعمل كلمة ‘معبدنا’، فقد ناضل مع الأحباء الأمريكيين في تشييد هذا الصرح ‘خلال’ وقت هو نفسه وصفه بأنه ‘أحد أقسى كساد اقتصادي عاناه شعب الولايات المتحدة في هذا القرن.’ وقد أصرّ حضرته في خضمّ هذا النضال بأن المناصرين للأمر المبارك ‘الذين يعلنون عن إيمانهم دون أي تحفُّظ’ هم وحدهم القادرون على التبرع لإنجاز بنائه؛ فقط أولئك ‘الواعون بالكامل’ و’المذعِنون تمامًا’ لظهور حضرة بهاء الله. لقد حشد شركاءَه البهائيين الذين كانوا قلّة في العدد، يعاني معظمهم من وطأة الفقر ويعيشون قُوتَهم اليومي في ظلّ كساد اقتصادي كارثي، بأن أكّد لهم أن مشروعًا على هذا القدْر من الأهمية يجب أن يلقى الدعم ‘ليس بسخاء مجموعة صغيرة من الأحباء بل بالعطاء الجماعي الذي يشترك فيه جموع أتباع الدين الموقنين طرًا’، مشيرًا إلى أن القوى الروحانية المقدّر لها أن تنطلق من مشرق الأذكار سوف تعتمد إلى حدّ بعيد على ‘نطاق ومدى تنوّع الأحباء المتبرعين، علاوة على طبيعة ودرجة نكران الذات’ التي يستلزمها ‘عطاؤهم التلقائي’. لقد شجّعهم وطمأَنهم ثم قادهم إلى ساحة النصر، وذكّرهم بكل افتخار أن أحدًا في الوجود لا يملك ما يملكون – بَرَكةً مُزدَوَجة؛ من نظام إداري يعمل بكفاءة، ومن معبد يرتفع فيه ذكر الله.
سنة بعد أخرى وسيل الرسائل دافق، وبناء المعبد الرائع يرتفع. إلى أن كان باستطاعتي، في الاحتفال بالعيد المئوي العظيم الثاني، وهو الأخير خلال حياة شوقي أفندي، أن أقرأ تلك الكلمات: ‘بالنيابة عن ولي أمر دين حضرة بهاء الله، لي عظيم الشرف أن أكرّس مشرق الأذكار هذا، الأول في العالم الغربي، مكانًا للعبادة العامة… أحييكم باسم ولي ديننا وأرحب بكم داخل هذه الجدران…’
إن إيجازًا تاريخيًا كهذا لعملٍ كان عزيزًا جدًا على قلبَيْ حضرة عبد البهاء وشوقي أفندي يعطي فكرة عن أهمية تلك المعابد في حياة الجامعات البهائية. فلا عجب إذًا أن نرى أن ولي الأمر قد وجّه اهتمامه، في بداية الجهاد الروحاني، إلى مسألة إقامة أول معبد بهائي في موطن حضرة بهاء الله. ففي عام 1942 أعلن شوقي أفندي أن الأحباء الإيرانيين قد اشتروا قطعة أرض قرب طهران مساحتها ثلاثة ملايين ونصف من الأمتار المربعة [3500 دونم] لتكون موقعًا لمشرق الأذكار الخاصّ بهم في المستقبل. إن ما حفزهم على هذا الإنجاز هو ما بذله الأحباء الأمريكيون من جهود متواصلة بكل ثبات في تشييد معبدهم – تمامًا مثلما تَحفَّزَ الأحباء الأمريكيون عام 1903 ليتولّوا مهمة إنشاء المعبد الخاص بهم تأسّيًا بالأحباء الشرقيين القائمين على بناء مشرق الأذكار في عشق آباد بآسيا. لقد علّق ولي الأمر أهمية كبرى على هذا المعبد التاريخي المقدس [مشرق أذكار طهران]. من المهم أن نتذكر أنه رَفَضَ كل التصاميم الكثيرة التي قُدّمت له، بناء على طلبه، لأنه وجدها بالغة التطرف وتعكس إلى حدٍّ بعيد ذلك النمط الحديث الجاري من أبنية الطُّرُز الزجاجية، وتخلو من مظهر المهابة والوقار، وغير ملائمة لأهداف دين سيَلِد نظامًا عالميًا وحضارة إنسانية في دورة دينية مدتها ألف سنة. لقد استقرّ رأيه على تصميمٍ محافظ يوحي بالوقار قد أُنجز في حيفا بموافقته الشخصية، وصرّح بأنه ‘يضمّ قبةً تذكّر بالقبة التي تعلو المقام المقدس لحضرة الباب.’ وكان الأحباء المتحمسون في إيران قد شرعوا بالفعل في تنفيذ خطة مدتها خمس سنوات لجمع (12) مليون تومان من أجل إنشائه، كما أن شوقي أفندي نفسه قد كشف النقاب عن تصميمه في اجتماع بقصر البهجة في اليوم الأول من عيد الرضوان عام 1953. إنه مشروع علّق عليه حضرته أهمية قصوى. إلا أن الحظر القانوني للنشاط البهائي في إيران عام 1955 جاءه كلطمة قوية، لأنه أدرك أن الوضع هناك كان بعيدًا عن التحسّن خلال ربع قرن من ولايته، وها هو الآن ثانية يتدهور إلى وضع كهذا جعل الأمل ضعيفًا في بناءٍ كهذا أن يُقام قبل نهاية خطة السنوات العشر. وبالرغم من حقيقة أن مشرق الأذكار الأول في أوروبا – وهو المعبد الثاني في خطة السنوات العشر – كانت إمكانية بنائه لا تزال قائمة، إلا أن حضرته رد الضربة فورًا لأعداء الأمر المبارك من خلال برقية أُرسلت في نوفمبر/ تشرين الثاني 1955 يقول فيها: ‘توصّلنا إلى قرار تاريخي بارتفاع أم المعابد في قلب القارة الإفريقية بكمبالا ليشكّل أسمى عزاء للجماهير المضطهدة من إخواننا البواسل في مهد الأمر المبارك. وسوف تفخر بذلك كل قارة في العالم، ما عدا أستراليشيا، وستستمد المنافع الروحية المباشرة من مشرق الأذكار الخاص بها. وسنكون بهذا، علاوة على ذلك، قد أبدينا تقديرنا اللائق بذلك التوسع المدهش الرائع لأمر الله والمضاعفة المذهلة لعدد مؤسساته الإدارية في أنحاء القارة…’ وهكذا استقبل الأحباء الأفارقة ما وصفه حضرته بأنه ‘المشروع الفريد المذهل بالغ الأهمية لبناء أم المعابد في إفريقيا’.
وبينما كان من المقرر أن تكون طهران صاحبة مشرق الأذكار العظيم الثالث في العالم البهائي وألمانيا صاحبة الرابع، إلا أنه في الحقيقة أصبح مشرق الأذكار الأوروبي هو الثالث في سُلَّم الأولويات والإفريقي هو الرابع. لقد صُمّم المعبد الإفريقي تحت إشراف شوقي أفندي في حيفا وحاز على موافقته الكاملة. أما بالنسبة للمعبد الألماني فقد كان الوضع مختلفًا، إذ اختار ولي الأمر بنفسه تصميمًا أرسله إلى المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في ألمانيا والنمسا، إلا أن هناك كانت معارضة كَنَسية شديدة في ذلك الحين ضد بناء معبد بهائي، بحيث أَعلم المحفلُ الروحاني المركزي حضرتَه بشعوره أن الشكل المحافِظ للتصميم، الذي اختاره حضرته لتنفيذه في بلد أفضليته في الوقت الحاضر تجنح بشدّة نحو النمط الحديث في البناء، سيعقّد الأمور في بنائه، إذ إنه قد يشكل ذريعة لرفض الجهات المعنية منح التراخيص اللازمة للبناء. وعلى ذلك سمح لهم شوقي أفندي باللجوء إلى طرح مسابقة لتصميمه، ومن بين تلك التي أُرسلت لحضرته اختار التصميم الذي بُني فيما بعد على صورته الحالية.
لا يساورني أدنى شك في أن ولي الأمر لو سأل الأحباء في ذلك الوقت رأيَهم لنصحوه بالتأكيد بأن يتجنب ألمانيا؛ فعندما أعلن عام 1953 أن المعبد الأوروبي سوف يُبنى هناك، كان قد مضى على انتهاء الحرب الرهيبة ثماني سنوات فقط، وكان الأحباء في جميع أنحاء العالم يقيمون في بلدان عانت المصاعب والويلات بسبب ألمانيا، أو قاتلت ضدها أثناء الحرب، إلا من عدد ضئيل من بلدان كانت تخلو تمامًا من بهائيين في واقع الأمر. لقد مضى شوقي أفندي قُدُمًا متتبّعًا أثر القَدَر الروحاني لجامعة الاسم الأعظم العالمية النطاق والتي ائتُمِن على رعايتها، غيرَ هيّاب ولا مقيّد بالاعتبارات الدنيوية. فموازين العالم لم تكن يومًا دليلاً له، بل قسطاسه الأتمّ ما جاءت به التعاليم الإلهية. متذكّرًا على الدوام زيارة حضرة عبد البهاء لذلك البلد [ألمانيا] وحُبَّ حضرته للجامعة البهائية هناك، فقد رعى شوقي أفندي تكشُّفَ خِبْئِها منذ السنوات الأولى لولايته، وكانت هي إحدى الجامعات التي ضمّتها رسائله الأولى التي حملت الحيرة والأسى العميق، والتي أرسلها إلى العالم البهائي المصغّر في تلك الأيام من سنة 1922. وفي الكتابة عنها عام 1926 أشار إلى ‘العدد المتنامي من المراكز الأمرية الألمانية والأتباع المخلصين والكلمات المجيدة التي نطق بها محبوبنا [المولى] حول قَدَرهم والدور البارز الذي ستلعبه جامعتهم في يقظة أوروبا في المستقبل…’ وفي رسائل بعث بها إلى مارثا روت عام 1927 أخبرها بأنه ‘يجب أن تصبح ألمانيا المركز المحوري لنشاطاتك لأنني أُعلّق أهمية كبرى على ما يوفّره ذلك القطر الناهض من فرص ثمينة متنوعة…’ ‘أرى أن تكرّسي مزيدًا من الاهتمام بألمانيا لأنني أشارككِ تمامًا بالآمال التي تعقدينها على مساهمتها المستقبلية في انبعاثٍ روحي جديد في أوروبا.’ وفي عام 1947 أشار ولي الأمر إلى ‘الانبعاث المذهل’ لـٍ’جامعة وسط أوروبا التي دمرتها الحرب’، وبيّن أن في التخوم الألمانية تربض ‘أكبر جامعة من أتباع أمر الله في تلك القارة – جامعة مقدّر لها أن تلعب دورًا رئيسًا في يقظة روحية، كما تنبأ لها حضرة عبد البهاء، وفي تحوّل الشعوب والأجناس الأوروبية إلى دين والده في نهاية الأمر.’ فمدينة فرانكفورت تقع في قلب ألمانيا، وألمانيا تربض في قلب أوروبا، ولذلك فإنها المكان المنطقي لمشرق الأذكار الأوروبي.
أطلق شوقي أفندي بهدوء، وهو ما زال يستنهضه تمامًا تأثّره باضطهاد القسم الأكبر من المؤمنين المقيمين في مسقط رأس حضرة بهاء الله، مشروعًا جديدًا وضعه قيد التنفيذ، فاختار تصميمًا لمعبد ثالث وأصدر تعليماته إلى المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في أستراليا ونيوزيلندا أن يستفسر بشكل غير علنيّ عن تكاليف إنشاء بناء كهذا إذا أقيم في سيدني. وعندما وجد أن الكلفة التقديرية لن تضيف عبئًا ثقيلاً على الأعباء المالية لمشروع الجهاد الروحاني الأكبر التي تُثقل كاهله أصلاً، أطلق إعلانه المثير في رسالته لرضوان لعام 1957 بافتتاح ‘مشروعٍ طموحٍ ذي ثلاث شعب صُمّم تعويضًا عن العجز الذي عانت منه جامعة مُبتلاة إلى حدٍّ بعيد من أتباع حضرة بهاء الله في مسقط رأسه، يهدف إلى تشييد مشارق أذكار في أماكن متباعدة: فرانكفورت وسيدني وكمبالا، هي أم المعابد في قارة أوروبا وأستراليا وإفريقيا بكلفة تقدّر بمليون دولار تقريبًا، لتشكّل تتمةً لمشرقيْ الأذكار المبنييْن في قارتي آسيا [عشق آباد] وأمريكا.’ إنه إعلان يعني أن خسارة الأحباء في إيران لأول مشرق أذكار لهم سوف يعوّضها بناءٌ مُقامٌ في منطقة المحيط الهادئ وصفه شوقي أفندي بأنه ‘أم المعابد للبلدان الواقعة في “الجهة المقابلة من الكرة الأرضية”، بل في الحقيقة لمنطقة المحيط الهادئ بأكملها’، وبناء مشرق أذكار آخر في قلب القارة الإفريقية الذي قال بأنه ‘قُدِّر له أن يؤثّر بشكل فاعل على مسيرة الأمر المبارك في أنحاء العالم، ويعزز بدرجة ملحوظة المؤسسات الصاعدة لنظام إلهي التعيين، ويُعلي شهرتَه في كلَّ القارات.’ كما أعلن ولي الأمر في رسالة الرضوان هذه بأن تصاميم هذه ‘الصروح الضخمة’ الثلاثة، ‘التي صُمِّم كل منها ليكون بيتًا تطوف رحابَه روحُ الله، وسُرادقًا يُمَجَّد فيه اسمُ مبعوثه المرسَل في هذا اليوم’، سوف يُكشف النقاب عنها أمام أنظار ‘الوكلاء المجتمعين في المؤتمرات المركزية التاريخية الثلاثة عشر التي ستعقد لأول مرة أثناء الاحتفال بعيد الرضوان في هذا العام.’
وكان، في هذه المرحلة الثانية من الجهاد الروحاني الأكبر، أن ابتاع المحفل الروحاني المركزي في أمريكا قطعة أرض ليُشيّد عليها أول بناء من توابع مشرق الأذكار هناك. وكان ولي الأمر قد بيّن لذلك المحفل الروحاني أنه لا يعتبر إنشاء مكتبة، وهو الاقتراح الأول، برهانًا كافيًا يوضّح الهدف والمغزى من وجود مؤسسة مشرق الأذكار في المجتمع البهائي، ولذلك قرر بناء دار للمسنّين. وفي إحدى رسائله الأخيرة حثّ ذلك المحفل الروحاني على البدء في بناء الدار لأنها سوف تلفت انتباه الجمهور إلى أن من أهم أعمال ديننا خدمة المجتمع الإنساني بغض النظر عن العقيدة أو العرق أو الطائفة، وستعمل حتمًا على جلب الانتباه لأمر الله واشتهاره بين العالمين.
[1] “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، الفقرة 4، ص 2، الطبعة الثانية سنة 2006م. (ترجمة المترجميْن عن الأصل الفارسي)
[2] “ألواح الخطة الإلهية، حضرة عبد البهاء، ص 17.
[3] المصدر السابق نفسه.
[4] أي متخطٍّ الحدود أو السلطة القومية – قاموس المورد.
[5] بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ.
[6] إسبانيا والبرتغال.
[7] ترجمة المترجميْن.
[8] ترجمة المترجميْن.
[9] ترجمة المترجميْن.
[10] ترجمة المترجميْن.
[11] Dr. Rajendra Prasad.
[12] شعب مُرتحِل يعيش على صيد الأسماك والثدييات البحرية في شمال إسكندنافيا وفنلندا.
[13] شعوب جزر جنوب شرق آسيا.
“طوبى لمن استظلّ في ظلّه الممدود على العالمين”[1] – عبد البهاء عباس
استوعب ولي أمر الله في ثنايا عقله المبدع الخلاّق عناصر دين حضرة بهاء الله كلها وجبلها في وحدة عظيمة متكاملة لا تتجزأ؛ فأوجد من أتباع الاسم الأعظم جامعة منظّمة أضحت تحتضن تعاليم حضرة بهاء الله وأحكامه ونظامه الإداري؛ وحاك تعاليم المظهرين الإلهييْن التوأميْن، والمثَل الأعلى للدين، في عباءة مشرقة من شأنها أن تكسو الإنسان وتوفّر له الحماية لألف سنة، عباءة اختار لها شوقي أفندي بأنامله النماذج والأنماط، ثم حَبَك الدرزات، وصَنَع المشابك اللامعة الواقية بتفاسيره للنصوص المقدسة التي لا انفصام لها، والتي ليس لها أن تبلى إلى يوم مجيء مُشرّعٍ جديد لأهل العالم، فيُدثِّر مخلوقه الإنسان مرة أخرى برداء سماوي آخر.
لقد ارتقى حفيد المولى بفضل القوى التي انطلقت من ألواح وصاياه المباركة إلى مقام وليٍّ لأمر الله؛ وبانتمائه إلى طبقة الأسياد لأسلافه السماويين كان بحد ذاته مَلِكًا ذا سلطان. فإلى الأوّلية التي أُنعمت عليه بروابط القرابة هذه، أُضيفت قوى الهداية المعصومة التي منحته إياها قوى العهد والميثاق. إن الحق الإلهي الممنوح لشوقي أفندي، غير القابل للإلغاء أو التعطيل في تولّيه قيادة أمر الله، إنّما هو حق ثبُتت صحته تمامًا طوال ست وثلاثين سنةً من الكدح المتواصل المحطِّم للقلب. من العسير حقًا أن نجد رمزًا آخر في التاريخ يقارَن بحضرته الذي تمكّن، بفترة تزيد عن ثلث قرن بقليل، من إطلاق كل هذا الكمّ المتنوّع من العمليات، وإيجاد الوقت الكافي لأن يكرّس انتباهه لأدقّ التفاصيل من جهة، وأن يشمل الكوكب بأسره بخططه وإرشاداته وهدايته وقيادته من جهة أخرى. لقد أرسى قواعد ذلك المجتمع الإنساني المستقبلي الذي أبدعه حضرة بهاء الله في عقل المولى الذي بدوره حمله وطوّره في ذهنه إلى أن وصل نقطة الكمال، لينقله بعد صعوده إلى يديْ خليفته الأمينتيْن شوقي أفندي.
بالصبر والأناة، كما يعمل صائغ المجوهرات البارع في تصاميمه حين ينتقي من مجموعة أحجاره الكريمة حجرًا فخمًا ويثبّته وسط أحجار أخرى أصغر حجمًا ولكنها تحاكيه في نفاستها، كان شوقي أفندي يختار موضوعًا من التعاليم المباركة فيدرسه ويُجلّي حقائقه ثم يضعه وسط شروحاته المشرقة ليومض ببريقٍ يخطف أبصارنا على شأن لم نعهده من قبل عندما كان مستورًا تحت كومة من الدُّرر الإلهية الأخرى. ليس من المبالغة في شيء إذا قلنا إننا كبهائيين نعيش الآن في غرفة مرصّعة بالكامل بتلك الأفكار الرائعة البرّاقة التي أبدعها شوقي أفندي. إن الأمر وكأن حضرته أمسك بنور شمس هذا الظهور وأسقطه على منشور زجاجي فمكّننا من إدراك عدد ألوان الأشعة التي تشكّل ذاك النور المبهر لكلمات حضرة بهاء الله.
إن الأمور التي عرفناها طيلة حياتنا، نجدها فجأة، وعلى نحو مذهل، قد بدأت تتخذ معنىً جديدًا ومغزىً إضافيًا. لقد وُضعنا أمام تحدّيات، عوتِبْنا، وحُفِّزْنا. وجدنا أنفسنا ننهض لنخدم ونهاجر ونضحّي. هكذا ترعرعنا في كنف رعايته؛ ونما أمر الله معنا أيضًا، وأصبح شيئًا مختلفًا تمامًا عما كان قائمًا من قبل. دعونا نلتقط قليلاً من هذه الجواهر الأساسية، تلك المواضيع التي بسطها أمامنا شوقي أفندي بذلك الأسلوب الرائع المشرق. وقف حضرة بهاء الله يومًا على سفح جبل الكرمل، ثم أشار بيده المباركة إلى بقعة وقال لحضرة عبد البهاء امتلِكْ هذه الأرض واجلب رفات حضرة الباب ووارِهِا الثرى هنا. وهكذا، أحضَرَ المولى تلك الأمانة الغالية وأودعها قلبَ الجبل داخل بناء أقامه بالدموع تلو الدموع، وأكمل ولي الأمر هذا الصرح المقدس ليرتفع الآن المقام الأعلى للمبشّر بدين الله شامخًا بكل عظمة وجلال على جبل الكرمل، قِبْلة جميع الأنظار.
أرسل المولى إلى أمريكا بعد الحرب [العالمية الأولى] عددًا قليلاً من الألواح القيّمة التي خطّها قلمه المبارك خلال الأيام المظلمة الخطيرة، وأقيم هناك احتفال بهيج تحت اسم ‘الكشف عن الخطة الإلهية’ حيث قام عدد من الأطفال والشباب، كل اثنين معًا (كنتُ من بينهم) بسحب حبال كانت بدورها تكشف عن أحد الألواح المباركة المثبتة على الستارة الخلفية للمسرح. لقد بعث حضرة عبد البهاء إلى أحباء أمريكا الشمالية هدية أشبه بفِدية ملك، فابتهجوا بها ولكنهم لم يفهموها. لم يفقد شوقي أفندي رؤيته لذلك الكنز البرّاق الذي أُودِع في الجانب الآخر من العالم، فأخذ يشقّ طريقه نحوه. استغرقه الأمر حوالي عقدين من الزمن، ولكنه أصبح في النهاية، بعد أن انتهى من تشييد آليّة النظام الإداري بكل الآلام والانفعالات المقلقة، في وضع يمكّنه من التقاط تلك الجواهر وترتيبها. لقد فُتح الشمال كما فُتح الجنوب أيضًا، وبدأ الشرق والغرب بالمِثْل يتوهّجان ضياءً في جميع أرجائهما بنور مراكز أمرية ومحافل روحانية جديدة تربو عن (4200) في أنحاء العالم. وإلى مختلف تلك الأقاليم في العالم – التي تُعدّ بـ (251) إقليمًا، والتي أكّد شوقي أفندي بأنه من الضروري إما إيقاظها أو إنعاشها بنسمات الخطة الإلهية، أفاض حضرته بسيل من التراجم للكتابات البهائية بـ (230) لغة حية. ولمدة عشرين سنةً، منذ أن أطلق القوى التي أودعها المولى في تلك الألواح، لم يتوقف شوقي أفندي قط عن إرسال أفواج المهاجرين في كتائب تلو الأخرى مندفعين لفتح الكوكب بأسره إطاعة لأوامره، وتثبيت راية حضرة بهاء الله في البلدان التي تُفتح للأمر المبارك.
أَمَا وقد أحاط ولي أمر الله بمكنون “لوح الكرمل” لحضرة بهاء الله؛ فكان أن وارَى جثمان الورقة المباركة العليا بجوار المقام الأعلى، ونَقَل الرمسيْن المطهريْن لوالدتها وشقيقها [الغصن الأطهر] ليرقدا بجوارها، معتبرًا هذه البقعة قلبَ الإدارة البهائية العالمية، ثم رسم قوسًا في أعلاها على سفح الجبل رابطًا إياه بكلمات حضرة بهاء الله “جعلكِ الله… مقرَّ عرشه“[2]، وشيّد حضرته أول الصروح العظيمة التي سوف ترتفع على ذلك القوس. وفي فقرات لا تُحصى من رسائله بيّن ولي الأمر طبيعة التقدم المقدّر أن يُغدقه هذا المحور الروحاني العظيم على جميع الأمم والشعوب، تَقَدُّمٌ قائمٌ على تعاليم دين هو ‘في جوهره فوق الحدود الطبيعية والقومية، وغير سياسي بالكلّيّة، ويربأ عن التحزّب والحزبية، وعلى النقيض تمامًا من أي سياسة أو مدرسة فكرية تسعى إلى تمجيد عِرق أو طبقة أو أُمّة بالذات.’ دين ‘ينظر أتباعُه الجنسَ البشري كينونةً واحدة، ويرتبطون ارتباطًا وثيقًا بمصالحه الحيوية، وسوف لا يتردّدون في إخضاع كل مصلحة خاصة، شخصية كانت أم إقليمية أو قومية، للصالح العام لبني الإنسان، مدركين تمامًا أن في عالَمٍ، تعتمد أجزاؤه على بعضها البعض من شعوب وقبائل وأمم، فإن أفضل تَحقُّقٍ لمصلحة الجزء هو في تحقُّق مصلحة الكل’؛ إنه دين، كما بيّنه شوقي أفندي، نما جنينه وتطوّر خلال العصر البطولي، وطفله الذي هو النظام الاجتماعي الذي تكتنزه تعاليم حضرة بهاء الله، سوف ينمو ويتطور في العصر التكويني، وستشهد فترة مراهقته تأسيس النظام العالمي، وستُزهر مرحلة بلوغه ونضجه، في المراحل البعيدة من العصر الذهبي، عن حضارةٍ عالمية لا سابق لها تشمل الكوكب بأسره، حضارة من شأنها أن تشكّل علامة على ‘الحدود القصوى في عملية تنظيم المجتمع الإنساني’، حضارة لن تغرب شمسُها أبدًا، وفيها يواصل الإنسان تقدُّمَه بلا حدود، ويرتقي دومًا ذُرى قوة روحانيةٍ أعظم.
قسّم شوقي أفندي ما جرى من أحداث في أمر الله وما كان يجري حينها، إلى عدة أقسام مبيّنًا علاقة كلٍّ منها بنشأة الدين وتطوره ككل، واضعًا أمامنا خارطة مُجَسّمة مكّنتنا بنظرة خاطفة من رؤية موقع مجهوداتنا الحالية من هذه الخريطة، وكيف أن إنجاز الأهداف الحالية يمهّد الطريق أمام خطوتنا الحتمية التالية الواجب اتخاذها في خدمتنا لأمر حضرة بهاء الله. إن ما وضعه شوقي أفندي من تحديد وتقسيم لم يكن اعتباطيًا، بل جاء به من صلب التعاليم المباركة وضمن سياق مسار الأحداث داخل أمر الله. فدورة النبؤات – التي بدأت بآدم وبلغت ذروتها بمحمد عليه الصلاة والسلام– التي تعلّم الإنسان وتربّى في مدرسة رُسُلِها وأنبيائها وتهيّأ لعصر نضجه وبلوغه، قد مهدت السبيل نحو دورة تحقُّق النبوءات التي افتُتحت بظهور حضرة بهاء الله. إن الوحدة على هذا الكوكب، التي جعلها العلم أمرًا ممكنًا، سوف تمكّن الإنسان، لا بل وتُجبره، على خلق مجتمع جديد يستطيع فيه، عالمٌ يعيش بسلام، أن يكرّس نفسه وذاته بالكلّيّة في الكشف عن حقيقة الإنسان المادية والروحية. وبسبب عظمة هذا التحوّل الباهر، سيبقى كوكب الأرض بأسره تحت ظلّ حضرة بهاء الله لمدة خمسة آلاف قرن من الزمان، وأول عشرة قرون منها ستسودها أوامر وتعاليم ومبادئ أنزلها حضرته.
هذه الدورة الدينية التي تمتد إلى ألف سنة جاء شوقي أفندي على تقسيمها إلى عصور عظيمة؛ أولها يبدأ باعلان دعوة حضرة الباب وينتهي بصعود حضرة عبد البهاء وقد امتدّ إلى سبع وسبعين سنةً، أسماه ولي أمر الله بالعصر الرسولي أو البطولي للدين بسبب طبيعة ما جرى فيه من أحداث، وحمّامات الدماء التي اصطبغت بها بدايته وذهب ضحيتها عشرون ألفًا من ضمنهم حضرة الباب نفسه. قَسّم ولي الأمر هذا العصر إلى ثلاثة عهود ارتبطت بولاية حضرة الباب وحضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء على التوالي. والعصر الثاني الذي أسماه شوقي أفندي بعصر التكوين، عصر الانتقال، العصر الحديدي لأمر الله، كان تلك الفترة التي لا بدّ لنظامه الإداري – العلامة البارزة المميّزة لهذا العصر – أن يتطور خلالها ليصل درجة الكمال، ويُزهر بتأسيس النظام العالمي لحضرة بهاء الله. فالعهد الأول منه ينسحب على المدة من صعود حضرة عبد البهاء عام 1921، وما تَبِعه من أحداث مباشرةً، إلى الذكرى المئوية لولادة الظهور الإلهي عام 1944. أمّا العهد الثاني فقد انتهى بانتهاء الجهاد الروحاني الأكبر عام 1963 متزامنًا مع الاحتفال المئوي لذكرى إعلان دعوة حضرة بهاء الله العلنية. ومع أن ولي الأمر لم يحدد بالضبط كم عدد العهود التي ستسم عصر التكوين، إلا أنه أشار ضمنًا إلى أن عهودًا تالية، تحاكيها في الحيوية والإنجازات المثيرة، سوف تأخذ مجراها في مسيرة الأمر المبارك بينما هو يتقدم باطّراد نحو ما أسماه ‘عصره الذهبي’ الذي من المرجّح أن يظهر للوجود في القرون اللاحقة خلال دورة حضرة بهاء الله كما بيّنه شوقي أفندي في أكثر من مناسبة.
صرّح شوقي أفندي بأن أمر الله سوف يجتاز مرحلة المجهولية والاضطهاد إلى نور الاعتراف به دينًا عالميًا، وسوف يحظى بتحرّر كامل من قيود الماضي ويصبح دين دولة، وفي النهاية يبرز كيان الدولة البهائية نفسها، خَلْقًا جديدًا فريدًا في التاريخ الديني للعالم. وعندما ينتهي عصر التكوين ويدخل الإنسان العصر الذهبي، يكون قد دخل عصرًا تنبّأ به الكتاب المقدس في نبوءة حبقّوق (العهد القديم) 2: 14 التي تقول: “لأن الأرض تمتلئ من معرفة مجد الرب كما تغطّي المياهُ البحرَ.”
إن التنفيذ التاريخي للخطة الإلهية لحضرة عبد البهاء من قِبَل شوقي أفندي قد قسّمه حضرته بالمثل إلى عهود، والعهود بدورها إلى مراحل محددة، وهي وسيلة مكّنت البهائيين من متابعة سير نشاطاتهم الخاصة عن كَثَب، والتركيز على أهداف محددة. فالعهد الأول من تنفيذ ألواح الخطة الإلهية مرّ في ثلاث مراحل: مرحلة خطة السنوات السبع الأولى ثم خطة السبع سنوات الثانية وبعدها خطة السنوات العشر للتبليغ والاستحكام التي عُرفت بالجهاد الروحاني الأكبر. وفترة الجهاد الروحاني الأكبر هذه قسّمها شوقي أفندي إلى سلسلة من المراحل: الأولى منها دامت سنة واحدة من 1953–1954. وخلالها، كما قال حضرته، أُحرز فعليًا الهدف الحيوي للخطة بإضافة ما لا يقل عن (100) قطر جديد استظلوا براية حضرة بهاء الله، والثانية من عام 1954–1956 حيث تميزت بمستوى فريد من الاستحكام ومثله في التوسّع، والتي لم تمهّد الطريق أمام انتخاب ثمانية وأربعين محفلاً روحانيًا مركزيًا جديدًا من المقرر تأسيسهم قبل نهاية المشروع فحسب، بل تميّزت أيضًا بنفقات مالية غير مسبوقة نتيجة شراء حظائر قدس مركزية ومواقع لمشارق الأذكار، إلى جانب تأسيس هيئات بهائية للطبع والنشر؛ و’الثالثة، وهي المرحلة التي تبشّر بأن تكون الأكثر أَلَقًا في الجهاد الروحاني الأكبر’، كما كتب حضرته، سوف تأخذ مجراها بين عاميْ 1956–1958 وستتميّز بمضاعفة غير مسبوقة في عدد المراكز الأمرية في العالم قاطبةً، إلى جانب تشكيل ستة عشر محفلاً روحانيًا مركزيًا جديدًا. وقبل صعوده بيّن ولي أمر الله أن المرحلة الرابعة لخطته العظيمة التي تمتد من عام 1958–1963 ينبغي أن تتميّز ليس بزيادة عدد الأحباء والمراكز الأمرية زيادة غير مسبوقة في كل أنحاء العالم فحسب، بل والتقدُّم أيضًا في عملية بناء مشارق الأذكار الثلاثة التي تشكّل الآن جانبًا من أهداف خطة السنوات العشر.
إلا أنه بالنسبة إلينا، فإن هذه القيادة العظيمة – التي منحتنا مفاهيم وأفكارًا كهذه، وأتمّت بهذه الطريقة الرائعة بالكامل ذلك العمل الذي بدأه حضرة عبد البهاء، والتي نفذت بكل جدارة، ليس تعليمات المولى فحسب، بل والهداية الربانية الممنوحة من المظهر الإلهي نفسه أيضًا – كانت نهايتها وشيكة. لم يكن بمقدور أحد أن يتكهّن، ولا حتى باستطاعته أن يتحمّل أن يعرف، عندما تسلّم العالم البهائي الرسالة المؤرخة في أكتوبر/ تشرين الأول 1957، أنها ستكون الرسالة الأخيرة لشوقي أفندي. كانت رسالة نابضة بالسعادة وزاخرة بالانتصارات، عامرة بالأمل فائضة بالخطط الجديدة، آخر هدية لا تُثمّن من الرجل الذي كان في الواقع، عندما كتبها، يضع قلمه جانبًا ويدير وجهه عن العالم وعن أحزانه إلى الأبد. أعلمنا شوقي أفندي بأن الجهاد الروحاني العالمي سيبلغ قريبًا نقطة منتصفه، وستتسم تلك النقطة بالدعوة إلى سلسلة من خمسة مؤتمراتٍ بيقارّية ستُعقد في شهر يناير/ كانون الثاني، مارس/ آذار، مايو/ أيار، يوليو/ تموز، وسبتمبر/ أيلول من عام 1958، وذلك في قارة إفريقيا، و”الجهة المقابلة من الكرة الأرضية”: [أستراليا ونيوزيلندا]، وأمريكا، وأوروبا، وآسيا على التوالي. وباتّباعه الأسلوب نفسه في الدعوة إلى المؤتمرات الأربعة الأولى البيقارّية التي عقدت خلال السنة المقدسة في بداية الجهاد الروحاني الأكبر، حدّد شوقي أفندي الهيئات الروحانية المركزية الخمسة التي ستُعقد تلك التجمعات العظيمة تحت رعايتها والتي سيقوم رؤساؤها بالدعوة لها. فجعل حضرته المحفل الروحاني الإقليمي لوسط وشرق إفريقيا مسؤولاً عن المؤتمر الأول (من المؤكّد أنه ليس من المصادفة أن تتقدم إفريقيا سلسلةَ المؤتمرات، مرّتين خلال خمس سنوات، بعقدها المؤتمر الأول)، والمحفل الروحاني المركزي في أستراليا للثاني؛ والمحفل الروحاني المركزي في الولايات المتحدة للثالث؛ والمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في ألمانيا والنمسا للرابع؛ والمحفل الروحاني الإقليمي لجنوب شرق آسيا للمؤتمر الخامس والأخير. وكما كتب شوقي أفندي: ‘… يجب أن تُعقد هذه المؤتمرات من أجل الهدف ذي البنود الخمسة: تقديم الشكر بكل خضوع وخشوع لمؤسس ديننا السماوي الذي مكّن أتباعه بفضله وكرمه، في مُعتَرَك فترة من القلق العميق ووسط الحيرة والارتباك في مرحلة حرجة من أقدار الجنس البشري، من تنفيذ أهداف خطة السنوات العشر دون انقطاع، والذي يرمي إلى تحقيق المقصد الأعلى للخطة الكبرى التي صمّمها حضرة عبد البهاء؛ وأن يستعرضوا ويحتفلوا بسلسلة الانتصارات المشهودة التي أُحرِزت بسرعة فائقة في سياق كل حملة من الجهاد الروحاني الذي طوّق العالم؛ وأن يدرسوا دراسة مستفيضة تلك الطرق والوسائل التي ستضمن الظَّفر بتحقيق الأهداف؛ وأن يعطوا العالم بأسره، وبشكل متزامن، دفعة قوية نحو العملية الحيوية في اهتداء الفرد واعتناقه أمر الله – وهو الهدف الأول البارز في الخطة بجميع تشعُّباتها – ونحو إنشاء وإتمام المعابد الثلاثة الأم المقرر بناؤها في قارات أوروبا وإفريقيا وأستراليا.’
لقد أخبرنا شوقي أفندي بأن ‘التقدم الهائل الذي أُحرز منذ بداية الجهاد الروحاني الذي طوّق العالم، في مدة وجيزة تقلّ عن خمس سنوات… يفوق، من حيث عدد ونوعية الإنجازات البطولية التي حققها مناصروه، أيَّ مشروع جماعي سابق اضطلعوا به… منذ ختام… العصر البطولي…’ وبسرور واضح أوجز حضرته تلك الأعمال البطولية، وعدَّدَ ما أُحرز من انتصارات واصفًا إياها بأنها ‘تَقَدُّمٌ من الروعة بمكان بحيث غطّى ميدانًا بهذا الاتساع، وأُحرز في وقت بهذا القِصَر من قبل ثلّة صغيرة من نفوس مقدامة نبيلة.’
كان في هذه الرسالة أن عيّن ولي الأمر آخر دفعة من أيادي أمر الله – ثمانية أفراد إضافيين لينضموا إلى تلك ‘المؤسسة الجليلة’ – وبهذا يرتفع العدد الإجمالي لـ’أولئك المسؤولين، رفيعي المقام، لنظام إداري عالمي سريع التطوّر’ إلى سبعة وعشرين. وهو إجراء قد استوجب، نظرًا لتولّيهم مؤخرًا ‘مسؤوليتهم المقدسة كحُماةٍ للدين’، تشكيل هيئة معاونين أخرى مساوية في العدد للهيئة السابقة، وعلى عاتقها ‘واجب مُحدَّد يتمثل في السهَر على حماية الأمر المبارك وضمان أمنه.’ وكان على أيادي أمر الله الخمسة، الذين اختارهم شوقي أفندي للعمل في المركز البهائي العالمي، حضور تلك المؤتمرات الخمسة البيقارّية كممثلين عنه شخصيًّا؛ اثنان منهم سوف يضعان في أساسات بناء ‘أمّ المعابد’ في كل من كمبالا وسيدني ‘شيئًا من التراب المقدس من داخل الروضة المباركة لمرقد حضرة بهاء الله’، وكمية أخرى من هذا التراب المقدس سوف تُسلّم في فرانكفورت للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في ألمانيا والنمسا لتوضع في أساسات أول مشرق أذكار أوروبي عند حلول الوقت. كما أن الحاضرين في المؤتمرات التي ستُعقد في كل من أوروبا وأستراليا وإفريقيا سوف لا تتكحّل عيونهم برؤية نسخة من صورة لحضرة بهاء الله وخصلة من شعراته المباركة فحسب، بل وستحتفظ بها تلك المحافل الروحانية المركزية التي ستُبنى في مناطقها مشارق الأذكار الثلاثة كهديةِ محبةٍ من وليّ أمرهم المحبوب يحتفظون بها بشكل دائم. وسيرسل ولي الأمر، مع أيادي أمر الله الذي سيحضر المؤتمر في آسيا نسخة أخرى من صورة لحضرة بهاء الله ليتشرف الحاضرون بزيارتها على أن تُعاد إلى الأرض الأقدس لضمان سلامة حفظها. وفي المؤتمر المقرر عَقْده في شيكاغو سوف يعرض ممثلُ شوقي أفندي على الأحباءَ صورتَيْ حضرة بهاء الله وحضرة الباب اللتين ائتُمِن عليهما المحفل الروحاني المركزي في أمريكا في وقت سابق. تلك كانت العنايات الأخيرة من خالص محبة شوقي أفندي التي استطاع أن يُغدقها على الأحباء، تلك الثلّة من المخلصين الذين طالما سهِر على رعايتهم، وهم الثابتون الراسخون الذين تبعوه وأطاعوه ولم يخذلوه لسنوات طويلة صنعت التاريخ.
عندما تقاطر آلاف الأحباء من بلدان لا عِدّ لها، وتجمّعوا خلال عام 1958 في تلك المؤتمرات البيقارّية العظيمة الخمسة إيفاءً بخطّة شوقي أفندي ورغبته، لم تكن أنظارهم شاخصة على شمائل مؤسس دينهم بخشية الوَرِعين فحسب، بل بقلوب طافحة بالحزن وعيون فائضة بالدموع؛ وهم الذين خضعوا لبهائه ومجده، والذين اعتنقوا تعاليمه وناصروه، وهم الآن يحدّقون في أعماق عينيه الثاقبتين اللتيْن تفيضان علمًا وحكمة متسائلين: ما حِكمة حضرته في أن يرفع من وسطهم سليله؟ هم لم يكونوا في أمس الحاجة إلى ولي أمرهم فحسب، بل تساءلوا أين هي ولاية أمر الله؟ حقًا كان هذا الامتحان الأخطر والأرفع للإيمان؛ الله أعطى والله أخذ “يفعل ما يشاء ولا يُسأل عما شاء“[3]. فبعد ما استشهد حضرة الباب كان لنا حضرة بهاء الله، وبعدما صعد حضرة بهاء الله كان لنا حضرة عبد البهاء، وبعدما غادرنا حضرة عبد البهاء كان لنا شوقي أفندي. أما الآن، فكأنَّ موكبَ الملوك – وإن اختلفوا في مقاماتهم بدرجة كبيرة– قد توجَّه بهم جميعًا نحو غرفتهم الخاصة ليغلقوا الباب خلفهم. ووقفنا نحن البهائيين ننظر إلى الباب ونتساءل باستمرار، كالأطفال الذين فقدوا والديْهم في زلزال مدمّر واختفيا: لماذا أُغلق الباب؟
إن عُمْق جذور الإيمان التي تربط الأحباء بعقيدتهم الغراء ربما لن تتبدّى للعيان مرّة أخرى في تاريخ دينهم بأوضح مما كانت عليه في السنة التي تلت صعود شوقي أفندي. نعم لقد أحنوا رؤوسهم أمام عاصفة الحزن التي اجتاحتهم، إلا أنهم ثبتوا وصَمَدوا. فلو لم يدعُ ولي الأمر إلى تلك التجمعات الخمسة الضخمة التي أمكن فيها للأحباء أن يجتمعوا بذلك الحشد الكبير ويواسوا بعضهم البعض ويحظوا بنصائح وإرشادات أيادي أمر الله الذين هبّوا لإنجاز خطة ولي الأمر وضمان انتخاب الهيئة الإلهية المعصومة، بيت العدل الأعظم، لكان عسيرًا أن نتخيّل ذلك التأثير الهائل الذي قد يصيب هيكل الدين بذلك الموت المفاجئ وغير المتوقع أبدًا لرئيسهم المحبوب. إن حقيقة أن الأحباء كانوا منهمكين بكل نشاط في خطة السنوات العشر، وحقيقة أن انتباه العالم البهائي كان منصبًّا على نقطة منتصفه، وحقيقة أن هناك خمسة مواضيع محددة يجب أن تنال اهتمامًا خاصًا في تلك المؤتمرات، وحقيقة أنهم تسلّموا مرارًا رسائل المحبة والثقة التامة والتشجيع من أيادي أمر الله – كل ذلك كان له تأثيره الكبير في توحيد بهائيي العالم وتماسكهم. إن الرزية العظمى بحدّ ذاتها قد أمدّت قلوبهم، التي غسلتها سيول أحزانهم الدافقة، بطاقةٍ جديدةٍ من الثبات، واستدعت منهم حبًا أعمق في قادم الأيام. هم ما كانوا ليخذلوا شوقي أفندي. لقد طلب منهم أن يتبنَّوْا وسائل وطرقًا تضمن خاتمةً مظفّرة للخطة – حَسَنٌ جدًا، هم سوف يفعلون هذا، وسيشاهدونها متوَّجةً بما يليق في عام 1963 بنجاح كان سيهزّ قلب حضرته فرحًا وغبطة، ويجري من قلمه واحدة من سيل رسائل الإطراء والامتنان التي كانوا يثمّنونها إلى حد بعيد.
لم تكن هناك شهادة على حقيقة وقوة أمر الله أعظم من النهاية المظفّرة التي حققها المؤمنون لمشروع الجهاد الروحاني العالمي الذي وضعه ولي الأمر. لقد كانت مهمة صعبة للغاية وعملاً شاقًا للبدء به. إن كون البهائيين قد أنجزوه، وأنهم عملوا وضحّوا مدة تزيد عن خمس سنوات بدرجة أكبر من أي وقت مضى في تاريخهم ومن دون قيادة حضرته، ودون تلك المناشدات والتقارير، وتلك الصور الرائعة التي رسمها لهم بكلماته في رسائله، ودون علمهم بأن حضرته كان هناك ممسكًا بالدفة، وهو قبطانهم العزيز المحبوب الذي يقودهم إلى برّ الأمان ظافرين غانمين، إنما يُعدّ أمرًا أقربَ إلى المعجزة، ويشهد ليس فقط كيف كان بناؤه متقنًا بديعًا، بل وإلى تلك الكلمات للمولى: ‘إن في الأمر قوة خفية تفوق إدراك الإنسان والملائكة بكثير.’[4]
إن الحياة والموت شطران مترابطان إلى أبعد الحدود وكأنهما نصفيْ نبضة قلب واحدة، ومع ذلك لا يبدو لنا الموتُ حقيقيةً واقعةً في مجرى الأحداث العادية – ولذلك مَن ذا الذي كان يتوقع وفاة شوقي أفندي! وهو الذي كان في صحة جيدة في ذلك الصيف الأخير، بل وأفضل ما كان عليه منذ وقت طويل. وهي حقيقة لم يذكرها هو نفسه فحسب، بل وطبيبه أيضًا الذي علّق حينها عندما فحصه قبل أسابيع معدودة على وفاته. لم يكن أحد يحلم بأن بندول الساعة داخل قلبه قد وصل إلى آخر شوْط له. كثيرًا ما سألني الناس عمّا إذا كنت قد لاحظت أي مؤشرات تدلّ على قُرب منيّته. جوابي هو ‘لا’ بتردد. فلو أن عاصفة هوجاء هبّت فجأة في منتصف نهار جميل، يمكن للمرء فيما بعد أن يتخيّل بأنه رأى قشًّا يتطاير في الهواء ويدّعي بأن ذلك كان نذير شؤم. أتذكّر تمامًا بعض الأمور التي يمكن أن يكون لها مغزى وأهمية، ولكنها بالتأكيد لم تعْنِ لي شيئًا وقتها. فلم أكن لأتحمل أبدًا أي علم مسبق لي بموت ولي الأمر، وما كان تحمّلي له في النهاية إلا لأنه لم يكن بمقدوري أن أتخلّى عنه وعن عمله القيّم الذي قضى نحبه في سبيله في وقت أبكر بكثير مما يعتقده المرء أنه خاتمة حياته.
أحد أهداف خطة السنوات العشر المرتبط بالمركز البهائي العالمي، وهو هدف حدّده ولي الأمر لنفسه، كان ما دعاه ‘مُلخّص مُصنّف لأحكام وأوامر “الكتاب الأقدس”، أُمّ الكتاب في الدورة البهائية.’ فأي عمل يتناول كتابًا بهذا القدر وهذه الأهمية، والذي صرّح حضرة شوقي أفندي بأنه يشكّل مع ألواح وصايا حضرة عبد البهاء ‘المخزن الرئيس لعناصر المدنية الإلهية التي لا تُقَدَّر بثمن والتي يُعدّ تأسيسها المهمة الأولى للدين البهائي’، لن يكون مناسبًا بالتأكيد إلا لرئيس الدين أن يقوم به دون سواه. لقد عمل شوقي أفندي في هذا الملخّص مدة ثلاثة أسابيع تقريبًا في ربيع عام 1957 قبل مغادرته حيفا. وبما أنني كنت غالبًا ما أرافقه الجلوسَ في الغرفة وهو يعمل ويقرأ بصوت عالٍ ويضع الملاحظات، أدركتُ مما أخبرني به أنه لم يكن يخطط في ذلك الوقت لوضع تصنيف رسمي للأحكام المنزّلة في “الكتاب الأقدس”، بل بالأحرى كان ينوي تجميع نصوص مختارة ووضعها مرتّبة وفق مواضيعها، مما سيساعد البهائيين على إدراك واستيعاب طبيعة التعاليم والأحكام التي أنزلها حضرة بهاء الله لأتباعه. كان في ذلك الوقت عندما ألمح شوقي أفندي في غير مرة أنه لا يشعر أنه سينهي هذه المهمة التي أخذها على عاتقه. لم أُعلّق وقتها أهمية خاصة على ذلك، لأنه كان أحيانًا يئِنّ تحت وطأة العبء الثقيل لعمله المتزايد باطّراد، وعَزَوْتُ الأمرَ إلى شعوره بالإرهاق الشديد في نهاية عمله الطويل الشاق المتواصل الذي أنجزه خلال الأشهر التي امضاها في أرض الوطن. وبعد صعوده من هذا العالم أخذتُ أعود بذاكرتي إلى الوراء وأتساءل.
في ذلك الصيف الأخير رجع شوقي أفندي إلى العديد من الأماكن والمَناظر المحبَّبة إليه في الجبال بقصد زيارتها، عجِبْتُ لذلك أيضًا عندما وقعت الواقعة، ولكنني كنتُ في ذلك الوقت سعيدة فقط لأن أراه سعيدًا، ناسيًا ولو للحظات عابرة أعباء حياته وأحزانها.
قبل أن يحين وقت رجوعنا إلى حيفا في نوفمبر/ تشرين الثاني، ذهب شوقي أفندي إلى لندن لابتياع بعض اللوازم الإضافية الأخرى من أجل تأثيث مبنى محفظة الآثار العالمية التي اكتمل بناؤها الآن استعدادًا لنقل جميع المواد التاريخية الثمينة إليها بعد وصوله حيفا، والتي سبق أن عُرضت وخُزّنت في الغرف الستة التي ضمّتها في السابق. وعندما كنا هناك اجتاح أوروبا وباء الأنفلونزا الآسيوية وأُصبنا نحن الاثنين بها. كان لدينا طبيب حاذق وثِق به ولي الأمر وأحبّه، ولم تكن إصابتنا بتلك الخطورة، مع أن حرارة حضرته ظلت مرتفعة إلى حدٍ ما بسبب الحمى عدة أيام. أصرّ الطبيب على شوقي أفندي ألا يجهّز نفسه لمغادرة لندن ما لم تَعُدْ درجة حرارته إلى طبيعتها لمدّة أسبوع، فوافق. وبالرغم من إصابته بالحمى كان حضرته يقرأ كثيرًا وهو في فراشه ويجيب عمّا يرده من سيل الرسائل والبرقيات، لأن المرض ما كان ليُقعِده بأي حال من الأحوال، غير أنه كان يتركه ضعيفًا فاقد الشهية تقريبًا. عندما مرّ أسبوع على شعوره بالأعراض الأولى للأنفلونزا كان منهمكًا في العمل بخارطته الأخيرة الجميلة، تلك التي أسماها ‘نقطة منتصف الطريق للجهاد الروحاني للسنوات العشر’. كان قد طلب مني إحضار طاولة كبيرة ووضْعِها في غرفته ليتمكن من بسط خارطته عليها، وأخذ يعمل فيها لعدة ساعات وهو يراجع معي مختلف الأرقام والمعلومات مقارنةً بالملاحظات الكثيرة التي دوّنها واحتفظ بها، وهي تُبَيّن وضعَ مشروع الجهاد الروحاني الأكبر في أنحاء العالم. وعندما اعترضتُ على وقوفه عدة ساعات في العمل بالخارطة وهو لا يزال مرهقًا تعِبًا، ورجوته أن ينتظر عدة أيام ريثما يشعر بتحسن ويستعيد قوته، قال: ‘لا، عليّ أن أُنهيها. إنها تقلقني. لم يبقَ منها سوى التدقيق. وجدت في بريدي اسمًا أو اثنين عليّ إضافتهما، وسوف أُنهي العمل فيها اليوم.’ وبينما كان يعمل كان يكرّر الكلمات التي غالبًا ما كنتُ أسمعه يردِّدها في السنوات الأخيرة من حياته: ‘هذا العمل يقتلني! كيف بمقدوري أن أستمر به؟ عليّ أن أتوقّف عنه، إنه كثير للغاية. انظري إلى عدد الأماكن التي عليّ أن أكتبها، انظري ما يجب أن أكون عليه من الدقة!’ كان مرهقًا حين أنجز العمل كاملاً ثم عاد إلى فراشه حيث جلس وأخذ يقرأ التقارير الواردة. كانت الرسائل والمواضيع التي تصله في كل الأوقات من أجزاء مختلفة من العالم البهائي من الضخامة والكمية على شأن لو لم يُفْرِد لها يوميًا عدة ساعات لقراءتها لجازف في عدم تمكُّنه من قراءتها أبدًا في وقت لاحق.
إلا أن الإجهاد الشديد وضغوط حياته كانت كثيرة للغاية، وفي الصباح الباكر من اليوم الرابع من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني أُصيب فجأة بانسداد في الشريان التاجي. لا بدّ أن الموت عاجله فجأة وبكل لطف حتى إنه فارق الحياة دون أن يشعر بأنه انتقل إلى عالم آخر. فعندما ذهبتُ صباحًا إلى غرفته للاطمئنان على صحته لم أدرك أنه كان متوفيًا؛ عيناه كانتا نصف مفتوحتين ولا نظرة فيهما تعبّر عن ألم أو سابق إنذار أو مفاجأة، كان مستلقيًا وكأنه استيقظ لتوّه ويفكّر بهدوء بشيء ما وهو في وضع استرخاء وراحة. كم كان ألمه ومعاناته شديديْن عندما علم بصعود جدّه المفاجئ! والآن دُعي لينضم إليه بسرعة وهدوء. وهكذا غدت الصدمة والمعاناة الآن من نصيب شخص آخر.
لقد تراءى لي، وأنا في لُجّة أحزاني في ذلك اليوم الأسود الرهيب، أنه ليس بمقدوري أن أفعل بأي بهائي ما فعله هذا الخطْبُ بي. كيف لي أن أُبرق للأحباء بأن وليّ أمرهم قد صعد إلى الملكوت الأعلى؟ ماذا عن أولئك المُسنّين والمرضى والضعفاء الذين سيقع عليهم هذا الخبر كالصاعقة، وسيكون وقعه عليهم مثل وقْع خبر صعود المولى المحبوب على شوقي أفندي وعلى والدتي؟ لهذا السبب أبرقتُ في الحال إلى أعضاء المجلس البهائي العالمي في حيفا: ‘ولي الأمر المحبوب مصاب بحمّى الأنفلونزا الآسيوية وحالته ميئوس منها. أخبروا ليرُويْ [إيواس] أن يُعلم المحافل الروحانية المركزية بأن تطلب من جميع الأحباء أن يتوسّلوا في دعائهم من أجل حماية الدين بقوة سماوية.’ كنت أعلم بأن عليّ أن أُتبعها بعد ساعات قليلة ببرقية أخرى لأخبرهم فيها بالحقيقة كاملة، ولكنني شعرتُ أنّي كنت مضطرّة لإرسال هذه البرقية أولاً أملاً في التخفيف من قوة الصدمة الرهيبة. ولاحقًا في اليوم نفسه أبرقتُ إلى حيفا ثانية مع ذكر تفاصيل الوفاة حتى تُعَمَّم من هناك على جميع المحافل الروحانية المركزية في العالم، وقد شعرتُ أن خبرًا كهذا يجب أن يأتي تعميمه أولاً من المركز البهائي العالمي:
‘محبوب قلوب الجميع شوقي أفندي، الوديعة المقدسة التي منحها المولى للأحباء، قد وافته المنيّة إثر إصابته بنوبة قلبية مفاجئة أثناء نومه بعد أن أصيب بالأنفلونزا الآسيوية. ناشدوا الأحباء أن يبقوا ثابتين راسخين، وأن يلتفّوا بكلّ محبّة حول مؤسسة الأيادي التي تأسست حديثًا واستحكمتْ أركانُها بجهود ولي الأمر المحبوب. فوحدة القلوب ووحدة الهدف فحسب كفيلان بأن يُثبتا، كما ينبغي ويليق، إخلاصَ جميع المحافل الروحانية المركزية والأحباء لولي الأمر الراحل الذي فدى نفسه بالكلّيّة لخدمة أمر الله.’
روحية
وفي اليوم التالي، في الخامس من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني أُرسِلت برقية أخرى إلى جميع المحافل الروحانية المركزية، وقد أُرسلت هذه المرة من لندن مباشرة:
‘إن محبوب قلوب الجميع، ولي أمر الله الغالي، قد صعدت روحه الطاهرة يوم أمس بكل سلام إثر إصابته بالأنفلونزا الآسيوية. أناشد أيادي أمر الله والمحافل الروحانية المركزية وهيئات المعاونين أن يكونوا ملاذًا للأحباء، وعونًا لهم على اجتياز هذا الامتحان الأشدّ خطورة على القلوب المكلومة. سيُشيَّع جثمانه الطاهر يوم السبت في لندن. جميع أيادي أمر الله وأعضاء المحافل الروحانية المركزية وهيئات المعاونين مدعوون للحضور والاشتراك، وأي إعلان يُنشَر يجب أن يصرِّح بأن أيادي أمر الله سيجتمعون قريبًا في حيفا، وسيعلنون للبهائيين في العالم خططَ المستقبل. أقيموا مجالس التذكر والدعاء لروحه الطاهرة يوم السبت.’
روحية
تموّج بحر الحزن في القلوب بما حمله هذا النبأ المفجِع إلى الأحباء في أطراف المعمورة بمثل ما فاض عليهم نبأ صعود مولاهم المحبوب قبل ست وثلاثين سنةً من حزن وأسى عندما فقدوه في ظروف مماثلة مفاجئة وساحقة. كما أن المشاكل التي صاحبت ذلك الحدث كانت بالمِثْل خطيرة. فأحكام “الكتاب الأقدس” – التي كان شوقي أفندي نفسه المدافع والحامي المُعيَّن لها – تنصّ على ألا تأخذ رحلة دفن الجثمان أكثر من ساعة من مكان الوفاة؛ وكنت أعلم أنه لا مجال أبدًا لكسر هذا الحكم ونقل الجثمان إلى الأرض الأقدس. وهكذا، وبمنتهى الألم، اتُّخذت الإجراءات لدفن جثمان عزيز قلوبنا جميعًا في مقبرة قرب لندن في بقعة جميلة هادئة محاطة بالأشجار يصدح بأجوائها تغريدُ الطيور. وحُدّدت الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم السبت في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1957 موعدًا لانطلاق موكب الجنازة. غدت مدينة لندن قطب جذب العالم البهائي بأسره، وأخذت تتدفق على حظيرة القدس المركزية هناك الرسائل والمكالمات الهاتفية وأرتال الأحباء، ومع كل واحد منهم موجة جديدة من الأسى والمحبة لتُضاف إلى ذلك البحر الهادر المائج بالمشاعر التي تركزت على ذلك الهيكل الهادئ الصامت وقد تحرر في النهاية من كل مسؤولية.
كان أول من هبّ لنجدتي، إثر سماعهم الخبر المفجع الذي نقلتُه إليهم، هم نُظرائي أيادي أمر الله. فبعد الوقائع الأولى المفجعة التي تلت دخولي غرفة شوقي أفندي، توجهتُ فورًا في مكالمة هاتفية إلى حسن باليوزي، الذي كان مقيمًا في لندن، فجاءني في وقت قصير، ثم لحقه بعد قليل جون فيرابي الذي كان يعيش في لندن أيضًا. في تلك الليلة وصل أوغو جياكري من روما، وفي اليوم التالي وصلت أميليا كولنز بالطائرة قادمة من حيفا لتكون بجانبي كعهدها معي في أغلب الأحيان في ساعات حاجتي الماسّة. وكنت قد هاتفتُ أيادي أمر الله د. أدلبرت مولتشليكل، الذي كان أيضًا طبيبًا لحسن الحظ، وسألته إذا كان باستطاعته الحضور وغسل الجثمان المطهر لولي الأمر، فحضر من ألمانيا مع هيرمان غروسمان. لقد شاركني كل هؤلاء الرفاق الأعزاء ذلك العبء الجسيم وأكّدوا لي بأن كل شيء يمكن فعله، في سبيل إبراز مظاهر الإجلال والامتنان والحب الكبير الذي يعْمُرُ قلب كل مؤمن مخلص في تلك اللحظة، سوف يتم بالشكل اللائق. ومع مرور الأيام ازداد توافد حضرات الأيادي من جميع القارات، فكانوا منتهى الراحة والسلوى لي ولبعضهم البعض وللمؤمنين. وعشيّة تشييع جنازة شوقي أفندي اجتمعنا نحن أيادي أمر الله لنختار بعض المقتطفات المباركة لتلاوتها أثناء مراسيم الدفن، وكان هذا أول اجتماع لنا من بين اجتماعات أخرى كثيرة تلته فيما بعد بينما كان مشروع الجهاد الروحاني العالمي يطوي سنواته الأخيرة بانتصار تلو الآخر ليُتَوَّجَ في النهاية بالنصر المؤزّر الذي أَمِلَه حضرته وخطّط له.
وأخيرًا جاء يوم الوداع الأخير وسار مئات الأحباء خلف نعش ولي الأمر في موكب ضمّ أكثر من ستين سيارة مضت في طريقها نحو ‘مقبرة لندن الشمالية الكبرى’. وحين وصولهم وجدوا أمامهم حشدًا كبيرًا من الأحباء ينتظرون، خاصة الجامعة البهائية البريطانية بكاملها وقد تجمّعت في لندن لتؤكّد ولاءها لولي الأمر الذي اختار الله أن يُودِع رفاته المطهر أمانة في ثرى موطنهم لأسباب خفيّة. تَقَدّمَتِ الموكبَ أولاً العربةُ المغطاة بالأكاليل والزهور الجميلة النضرة، ثم تلتها العربة التي تحمل النعش الذي يضم جثمان شوقي أفندي. وقف الجميع في صمت تام والرؤوس منحنية خاشعة، ووجوه الكثير تنساب عليها الدموع. جرت مراسيم الجنازة في مُصلّى بسيط في المقبرة يتّسم بالوقار ولا يتبع طائفة معيّنة، وكان المكان صغيرًا لأن يضم حشود الأحباء بين جدرانه. إن ما كتبتُه من وصف ونُشر في كتاب “صعود شوقي أفندي”[5] في وقت لاحق بعد عدة أشهر، أعتَبِرُه أفضلَ وصفٍ لما حدث: ‘حُمِل نعش ولي أمر الله العظيم إلى الداخل ووُضع على منصّة خاصة مغطّاة بالقماش الأخضر الناعم. كان المصلّى يغصّ بالحاضرين حتى أبوابه، وكان على العديد منهم أن يقفوا خارجًا. كان الجميع وقوفًا بينما صلاة الميت الجليلة التي أمر بها حضرة بهاء الله تُتلى بالعربية. ثم تليت ستة أدعية ومقتطفات مباركة بأصوات بعض الأحباء الجميلة، بعضها بالإنكليزية والأخرى بالفارسية، يمثلون البهائيين في أوروبا وإفريقيا وأمريكا وآسيا – زنوج ويهود وآريين.
‘وفي رتل مهيب تَبِع الأحباءُ النعشَ المحمول على الأعناق إلى الخارج ليوضع في عربة نقل الموتى ثانية، وتحّركت العربة ببطء قاطعةً بضع مئات من الياردات كانت تفصلها عن موقع اللحد.
‘وبينما الجميع واقفون بصمت وخشوع بانتظار إنزال النعش في اللحد، شعرت روحية خانم بنوبة الكرب التي اجتاحت قلوب مَن كانوا حولها وهي تخترق موجة حزنها الكبير. كان المُسَجَّى وليَّ أمرهم، وقد رحل عن أعينهم إلى الأبد حيث اختطفته يدُ المَنون من بينهم فجأة بقضاء الله وقَدَره الذي لا رادّ له، ولا يُسأل عما شاء. هم لم يسبق أن رأوه، ولا كان بمقدورهم أن يقتربوا منه. فقررتْ روحية خانم أن تطلب الإعلان بأن مَن يرغب من الأحباء، قبل إنزال النعش، بإمكانه أن يمرّ بجانبه لإبداء مشاعر الاحترام والإجلال. فكان أن اصطفّ الأحباء شرقيين وغربيين مدّة تزيد عن الساعتين، وكان معظمهم يركعون أمام النعش ليقبِّلوا طرفه أو مقبضه. من النادر حقًا في التاريخ أن نرى مشهدًا كهذا معبّرًا عن الحزن والأسى والحب الصادق. أطفال أحنوا رؤوسهم الصغيرة ملتصقين بجانب أمهاتهم، رجال كبار بكَوْا بحرقة؛ وحتى التحفظ الشديد للأنكلوساكسون –الذين مِنْ عُرْفِهِم عدم إظهار المشاعر علنًا– نراه قد ذاب بلهيب نار الأسى الحامية في القلوب. كان الصباح مشمسًا جميلاً، وبدأت الآن زخات خفيفة من المطر بالتساقط وتناثرت بضع قطرات منها على النعش، وكأن الطبيعة نفسها قد تأثّرت فأخذت تذرف الدموع فجأة. وضع بعض الأحباء زجاجات صغيرة من عطر الورد عند الرأس، ووضع أحدهم مترددًا وردة حمراء على النعش كانت تمثّل قلب صاحبها بلا شك، وشخص آخر لم يتحمل قطرات الماء المتجمّعة على وجهه المبارك المغطّى، فمدّ يده المرتجفة ومسح بها وهو راكع، وآخرون بأصابعهم المرتجفة التقطوا حفنة من التراب قرب النعش. دموع، دموع وقبلات، وشفاه تتحرّك مردِّدة ما في السرائر من عهود مقدسة جليلة قطعوها على أنفسهم وهم يقفون عند رأس مَن كان يدعو نفسه ﺑ’أخوهم الحقيقي’. وما إن مرّ آخر الأحباء في ذلك الرتل المتفجّع حتى تقدّمت روحية خانم من النعش. قبّلته وركعت أمامه في دعاء لبرهة قصيرة. ثم سحبت طرف الغطاء الأخضر المخمليّ وغطّته به، ووضعت فوقه القماش الأزرق المقصّب بالذهب الذي أُحضر من داخل الروضة المباركة لمرقد حضرة بهاء الله، ثم فَرَشتْ كامل النعش بأزهار الياسمين بعطرها الفوّاح. حينئذٍ أُنزل جثمان الهيكل البشري لمن وصفه حضرة عبد البهاء نفسه بأنه “أبدع جوهرة فريدة عصماء تتلألأ من خلال البحريْن المتلاطميْن“[6]، أُنزِل ببطء إلى داخل اللحد وسط جدران كستها أغصان دائمة الخضرة ورصّعتها الورود والزهور ليستقرّ على السجادة التي أُحضِرت من الروضة المباركة في البهجة.
بهذا الوفاء والإجلال، وبهذه الروح، سجّى الأحباءُ الجثمانَ المبارك لحفيد حضرة عبد البهاء ليرقد في مثواه الأخير.
وطيلة مراسم الجنازة كان على النعش إكليل كبير من الزهور الحمراء والبيضاء كنتُ قد طلبتُ إعداده خصيصًا لذلك الموقف، ووضعتُ عليه بطاقة بدت لي أنها تعبّر عن مشاعر أولئك الذين وحدهم كان لهم الحق في أن تكون لهم حصّة في ذلك الدرع المعَطّر الذي يُخفي عنهم جسَدَه الطاهر، وكتبتُ على البطاقة: ‘من روحية وجميع أحبّائك ومحبّيك في أنحاء العالم الذين تفطّرت قلوبهم.’ وعندما أُحكِم إغلاق اللحد وُضِع إكليل الزهور الكبير هذا فوقه، ومثل أمواج البحر الملوّن تراكمت فوقه الآلافُ فوق الآلاف من الزهور التي أحضرها معهم الأحباء أو طلبوا إحضارها من جميع أنحاء العالم، لتغطّي كامل المساحة المحيطة بالقبر بطبقة سميكة من الأزهار الفوّاحة.
وعندما انتهت مراسم الدفن أُعلم العالم البهائي بذلك وطُلب من الأحباء عقد مجالس التذكّر اللائقة:
‘وُري جثمان ولي أمر الله في لندن طبقًا لأحكام “الكتاب الأقدس” في بقعة جميلة بعد تشييعه بمراسم دفن محرّكة للمشاعر بحضور حشد كبير من الأحباء يمثِّلون أكثر من خمسة وعشرين بلدًا في الشرق والغرب. أكّد الأطباء أنه كان موتًا مفاجئًا لم يصاحبه أي ألم. كان محيّاه المبارك في منتهى الجمال، وطلعته البهية في بالغ العظمة والطمأنينة. أيادي أمر الله الثمانية عشر الذين تجمّعوا وقت الجنازة يحثّون المحافل الروحانية المركزية الطلب من الأحباء إقامة مجالس التذكّر في الثامن عشر من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني إحياءً لذكرى مطلع الهداية الإلهية الذي غادرنا بعد ست وثلاثين سنةً من التضحية التامة والعمل المتواصل واليقظة المستمرة.’
روحية
في عام 1958 شُيّد مرقد ولي أمر الله من مرمر كرّارا ناصع البياض كالذي اختاره حضرته للنصُب التذكارية التي أقامها فوق مراقد أقاربه اللامعين في حيفا. إنه مرقد يتّسم بالبساطة كما كان يتمناه أن يكون؛ مِسَلّة واحدة من المرمر يعلوها تاج كورينثيّ الطراز، وفوقه كرة أرضية تظهر على وجهها الأمامي خارطة إفريقيا – أوَلَم تجلب الانتصارات الأمرية التي تحققت في إفريقيا منتهى السعادة إلى قلبه في السنة الأخيرة من حياته؟ – وعلى هذه الكرة الأرضية يحطّ تمثال برونزي مذهّب لنسر كبير هو نسخة عن تمثال ياباني جميل لنسر كان حضرته معجبًا به كثيرًا ويضعه في غرفته الخاصة. لا شعارَ أفضل منه رمزًا للنصر يمكن أن نجده ليوضع فوق مرقد مَن كان وراء تلك الانتصارات الباهرة وهو يقود ويوجّه جحافل أتباع حضرة بهاء الله في فتوحاتهم الروحانية المتواصلة في أرجاء قارات العالم الخمس.
أمّا وقد أتمّ، بكل جَلَدٍ وإرادة صلبة في وجه كل محنة وبلاء، تلك ‘المهمة الشاقّة في تثبيت النمط، وإرساء القواعد والأسس، وإنشاء الآلية، ووضع النظام الإداري قيد العمل’، كما جاء في كلمات ولي الأمر نفسه؛ وبعد أن أَحدث ذلك الانتشار الكبير لأمر الله وثبّت أركانه على نطاق عالمي واسع بتنفيذ الخطة الإلهية لحضرة عبد البهاء؛ وبعد أن أدار دفة دين حضرة بهاء الله ليرتقي معارجَ عاليات لم يصلها أبدًا من قبل بفضل روحه النادرة التي جمعت بين القوة والجرأة والرزانة والوقار؛ وبعد أن أنجز العمل الذي ائتمنه عليه مولاه ووصل به إلى أبعد مدى سمحت به قواه المُستنزَفة؛ نراه، وقد حمل نُدوب الهجمات التي لا تُحصى واستهدفت شخصه وشُنّت عليه طيلة ولايته، نراه يغادر مرسح أعماله الشاقة. ها هو الرجل قد ‘دُعي من عالم الحزن والأسى وخيبة الآمال العجيبة المدمِّرة إلى مواطن الهدوء والسكينة.’ إنه ولي أمر الله الذي وصفه المولى في ألواح وصاياه المباركة “أول غصن مبارك… من السدرة المقدسة الرحمانية“، والذي، بمقتضى نصوص تلك الوصايا، قد غُرِس عميقًا في أراضي قلوب المؤمنين بعد صعود حضرة عبد البهاء وبقي فيها ساكنًا إلى الأبد. فحقًا طوبى “لمن استظلّ في ظلّه الممدود على العالمين”.
[1] ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.
[2] كتاب “مجموعه اى از الواح جمال اقدس ابهى كه بعد از كتاب اقدس نازل شده، طبعة 137 بديع، “لوح الكرمل، صفحة 2.
[3] “الكتاب الاقدس، الفقرة 7.
[4] ترجمة المترجميْن.
[5] The Passing of Shoghi Effendi.
[6] ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.
ملاحظات
حياته وعمله
شوقي أفندي، وليّ أمر الله، تنوع تهجئة اسمه، 23
طفولته وصباه، الفصل الأول، هنا وهناك
يحقق النبوءات – “الجوهرة الفريدة”، 2، 488
ميلاده ونسبه، 4؛ سليل ملوك، 8
طلق عليه حضرة عبد البهاء لقب “أفندي”، 4
يُرسل ليعيش في حيفامع مربيته، 18
يتعلم الفرنسية، 18
يذهب للدراسة في كلية الفرير اليسوعية، 19
يلتحق بالكلية البروتستانتية السورية (الكلية الأمريكية) في بيروت، 19
يحصل على كنية “ربّاني”، 20
يُمنع من مرافقة حضرة عبد البهاء في سفره إلى الغرب، 21–23
يساعد حضرة عبد البهاء، 25
مراسل نشيط مع الأحباء، 28
أنشطته كطالب بهائي، 28–29
يحصل على درجة البكالوريوس، 30
يصبح سكرتيرًا لحضرة عبد البهاء وساعده الأيمن، 31–32
توضيح علاقته الأسرية للبهائيين، 31
يحضر الفعاليات الرسمية مع حضرة عبد البهاء ويرافقه باستمرار، 32–33
يلتحق بكلية باليول في أكسفورد، 34؛ تأثير ذلك عليه، 44
في لندن، 37
صعود حضرة عبد البهاء وتبعاته الفورية، الفصل الثاني هنا وهناك
يستلم خبر صعود حضرة عبد البهاء؛ ردات فعله، 45–47، 49، 82–83، 307
يعود إلى حيفا، 48
يعين خلفًا لحضرة عبد البهاء في ألواح وصاياه، 49–50
يُستقبل بموجة من المحبة والولاء من البهائيين، 57–59
سلطته هاجمها الناقضون، 57–58، 60–61
سنوات ولايته المبكرة، 52 وما يليها؛ صعابها وشكوكها، 62–63، 81–82
انظر أيضًا الفصلين الثالث والخامس، هنا وهناك
شدة وقع الوصية عليه، 82
يكسر القيود مع الماضي، 62، 256، 357
يعين محفلاً مؤقتًا ثم يغادر إلى سويسرا، 64–72؛ يشرح أسباب مغادرته، 72–73
يعود إلى حيفا، 72
رسائل وبرقيات إلى العالم البهائي مستأنفًا واجباته، 73–74، 77–78
يعقد دائمًا اجتماعات مع الحجّاج الزائرين باستمرار، 78
يكرر زيارته لسويسرا، 82–83
زواجه، 165–166، 170–172
تفجُّعه وحزنه لفراق الورقة المباركة العليا، 163–164، 166
الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين
يستشرف ببصيرته وقوع الحرب العالمية الثانية، 205–206
حياته في حيفا وقت الحرب، 188–197، انظر فصل 9 هنا وهناك، خصوصًا 207 وما يليها
يسافر إلى إنكلترا، 200–202، وعودته الى حيفا عن طريق الكونغو والسودان، 204
انظر أيضًا الحرب
أعماله في حياته
موجز، 254، 258، 473–478، 489–490؛ ولاية الأمر، 86–87، 284–285، 300، 479–480
التأثير الموحّد لأعماله، 481
أوجه اهتماماته الرئيسة، 254
(1) كتابات وتراجم، الفصل 10 هنا وهناك. انظر أيضا ترجمة
تأليف وترجمة ونشر الكتب البهائية من اهتماماته الرئيسة، 231
أسلوب الكتابة: بدايةً، 30، 39؛ فيما بعد، 220، 240؛ امتلاك ناصية اللغة؛ 221؛ لغة شاعرية تصويرية رفيعة وقوية، 222–225؛ استعمال فنون البديع والبلاغة، 221–222؛ دقة متناهية في استعمال الكلمات، 222، 228–229، 412؛ أسلوبه الإنشائي، 220–221، 250–251؛ قراءة وتحضير، 225، 250؛ استعداد لتقبل الاقتراحات، 229–230؛ طريقته في الكتابة، 226–227، أسلوب صياغته للبرقيات، 253–254
تقدير كتاباته، 242–243، 246؛ يحمي الكلمات المقدسة من التحريف، يحافظ على العلاقة بين أوجه التعاليم الإلهية، ويقف حاميًا للمقام الشرعي للشخصيات الثلاثة الرئيسة للدين، 229
يروّج تداول ترجماته للآثار المقدسة، 230، أهميتها القصوى، 227
يقدم الدعم المالي السخي لتمويل ترجمة ونشر الكتب البهائية، 231–232؛ يحث باستمرار على الترجمة إلى جميع اللغات، 232
يشجع على الكتابة والتأليف عن الأمر المبارك، 232
انظر أيضًا تحت عناوين منفردة: “ظـهور العدل الإلهي“؛ “أمريكا والصلح الأعظم“؛ “الدين البهائي” (3 طبعات)؛ “العالم البهائي” (المحرِّر)؛ “مطالع الأنوار” [تاريخ النبيل]؛ “دورة بهاء الله”؛ “لوح ابن الذئب”؛ “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله”؛ “هدف نظام عالمي جديد”؛ “كتاب القرن البديع”؛ “العصر الذهبي لدين بهاء الله”؛ “كتاب الإيقان”؛ “أدعية وأذكار لحضرة بهاء الله”؛ “قد جاء اليوم الموعود”؛ “الكشف عن المدنية الإلهية”؛ “نظام بهاء الله العالمي”؛”نظام بهاء الله العالمي – اعتبارات إضافية”؛ “ألواح حضرة عبد البهاء”.
(2) برنامجه لتوسيع واستحكام أصول الدين المادية، الفصلان 11، 12 هنا وهناك
يتضمن إتمام وإنشاء وتجميل الأماكن المقدسة في المركز العالمي، امتلاك مقار محلية ومركزية وأوقاف في بلدان مختلفة، 254؛ النمو ضرورة لحماية “النظام الإداري”، 428
ممتلكات: الممتلكات البهائية في 1920، 255؛ إحصائيات مقارنة، 429؛ وضع قانوني غير آمن، 255؛ مسجلة أصلاً بأسماء عائلة حضرة عبد البهاء وبعض أفراد بهائيين، 255؛ يعلّق شوقي أفندي أهمية قصوى لحصول الأوقاف على صفة قانونية رسمية، 331؛ أراض سجلت بأسماء أفرع لمحافل روحانية مركزية في فلسطين، 298، ينجح في إعفاء الأماكن المقدسة من الضرائب الحكومية وعوائد البلديات، 258، 298–300، 310–311
خطط لتحسين المركز البهائي العالمي، 79، 96–101؛ يخشى على سلامته أثناء الحرب، 205–206، 212–213
(أ) ضريح وقصر حضرة بهاء الله في البهجة: بحاجة إلى حراسة، 258؛ ينجح في استعادة مفاتيح المرقد، 259؛ والقصر، 259؛ يجدِّد البناء ويعيد تأثيثه، 259؛ يتملك أراضي محيطة، 260–261، 297؛ ببيت الحجاج، 261؛ وببيت الضيافة للمولى، 261
(ب) المقام الأعلى لحضرة الباب: يكمل بناء الصرح ويمتلك شريطًا من الأراضي حوله لحمايته، 261–262، 297، 316، انظر أيضًا دوميط
ينقل رفات والدة وشقيق حضرة عبد البهاء إلى جبل الكرمل، 146، 289–293؛ يشيّد مبنى محفظة الآثار العالمية، 293–296؛ يخبر عن صروح مستقبلية سوف تُشيَّد في المركز العالمي، 296
(ج) يزيد الممتلكات البهائية على جبل الكرمل وفي البهجة، 297؛ موارد مالية استخدمت لهذا الغرض،297؛ يحصل على عقد إيجار لقصر المزرعة، 322
يحافظ على علاقات ودية مع السلطات ويطلعهم على الخطط، 306–320
تكليف الجامعة البهائية في إيران بشراء أرض لمشرق الأذكار، 338
انظر أيضًا المركز البهائي العالمي؛ نقض العهد؛ الصناديق الأمرية؛ الأماكن المقدسة؛ إحصائية،معلومات
(3) تأسيس النظام الاداري، الفصل 13 هنا وهناك؛ 365–384
النظام الداخلي للدين وقت صعود حضرة عبد البهاء، 367–373
تعيين ولي أمر الله، 53. انظر أيضًا ألواح وصايا حضرة عبد البهاء
شوقي أفندي يؤسس لنمط عالمي متماسك ومتين لحياة مشتركة وتشييد نظام إداري، 372–377؛ انظر أيضًا إحصائية،معلومات
علاقة ولي الأمر بـ ”النظام الاداري” وُضّحت، 326–327؛ الخصائص الأساسية للنظام، 328، 354–355، 377–379، 413؛ انظر أيضًا الإداري، النظام
شراكة مبكرة مع أمريكا، 368، 370؛ يتخذ أمريكا الشمالية مثلا يُحتذى للبهائيين جميعًا في نشاطاتهم الإدارية، 331، 354؛ ويطلق مشلريع من هناك، 354؛ وضع خاص وفريد لبهائيي أمريكا الشمالية، 365–366؛ مهمتهم، 366؛ نهوض الجامعة البهائية الأمريكية وعلاقتها مع شوقي أفندي، 366–367
تشكيل سكرتارية عالمية تمهيدًا لتأسيس المجلس البهائي العالمي، 277–278، يحدّ من تصرفات تفتقر الى النضج، 279؛ التركيز على مضاعفة أعداد المحافل الروحانية المحلية وتقويتها لتكون أساسًا متينًا لتأسيس بيتالعدل الأعظم، 279؛ سلطات بيت العدل الأعظم وامتيازاته تحددت، 280؛ علاقة ولي الأمر ببيت العدل الأعظم المنصوص تحددت، 228–229. انظر أيضًا هيئة سكرتارية بهائية عالمية؛ بيت العدل الأعظم
تشكيل مجلس بهائي عالمي (خطوة متقدمة لتأسيس مؤسسة إدارية عليا)، 280-281؛ ثم توسعته، 282؛ مهامه، 282
يعيّن أيادي أمر الله، 282–284؛ 286–287؛ مهامهم ومقامهم، 283، 285–286. انظر أيضًا أيادي أمر الله.
يكلف الأيادي بتعيين هيئة معاونين، 286، 287، 479؛ مهامهم، 285–286. انظر أيضًا هيئات المعاونين.
يفتتح صندوقًا ماليًا قاريًا في كل قارة لدعم الأيادي في أداء مهامهم، 286. انظر أيضًا الصناديق الأمرية.
يثقِّف المحافل الروحانية في كيفية تطبيق نظام حضرة بهاء الله، 329–330؛ أهمية اكتساب المحافل الروحانية الصفة القانونية الواضحة، 330–331؛ مسودة أولية لدستور مركزي،330؛ قوانين فرعية داخلية (إجراءات) لمحفل مدينة نيويورك يخدم كمنهج يُحتذى للمحافل الروحانية المحلية في العالم، 331؛ الدستور المركزي هو “هيئة ائتمان” اختيارية تعتبر نفسها هيئة “إقرار ائتمان” وقوانين فرعية، 330–331؛ يحثّ المحافل الروحانية المركزية في الشرق أن تسعى للاعتراف بها كمحاكم شرعية تنظر في أمور خارجالمحاكم المدنية، 331
يُبرِز أهمية الارتباط بمنظمة الأمم المتحدة، 332
يُحرز اعترافًا رسميًا بالدين البهائي كدين عالمي بصفة قانونية، 322، 332، 346، 348–349. انظر أيضًا دين عالمي.
يميز التفاوت في درجات التطور بين الجامعات البهائية، 351–353، 355–356؛ تطبيق العقوبات، 353، 356–357
يطلب تقارير شاملة ومنتظمة من جميع المراكز البهائية لتجميعها في المركز العالمي، 376؛ ويثقف الأحباء بأهداف الدين البهائي ونظامه الاجتماعي وتطبيقاته، 375، 380–382
(4) تنفيذ الخطة الإلهية، الفصل 15 هنا وهناك، انظر أيضًا خطط وعهود ومراحل،
477–478
العهد الاول في تطوره على ثلاث مراحل متتابعة من الجهاد الروحاني، 413
الهدف العام لشوقي أفندي تحقيق رغبات المولى واستكمال أعماله، 413
خطة السنوات السبع الأولى (1937–1944) (حملة أمريكية)، 414–422
جرد وتقييم، 422
يصدر شوقي أفندي نشرة صغيرة تحمل عنوان “الدين البهائي، 1844–1944″، 423
يُكرِّس اهتمامًا خاصًا لضمان ترجمة الآثار البهائية الكتابية، 427
يرحب بمختلف المجموعات العرقية الجديدة، 427–428
نمو المؤسسات والأوقاف، 428
طلائع المحافل الروحانية، 431؛ أسباب تجميع قطرين أو أكثر بإدارة محفل روحاني مركزي واحد، 432–433
يشرع في تشكيل محافل روحانية مركزية “إقليمية”، 431؛ العوامل التي تحكم اختياره، 432–433
يستأنف تشكيل محافل روحانية مركزية بحتة، 433
انتصارات خطة السنوات السبع الأولى تلهم جامعات بهائية أخرى، 434
“خطة السنوات السبع الثانية” (1946–1953)، (حملة أوروبية)، 436–443
منهج الحملة، 436
لا فترة راحة بين الخطتين الثانية والثالثة، 443–444
شوقي أفندي ينشر طبعات منقحة من “الدين البهائي” في 1950 و 1952، مع إحصائيات؛ أهمية المعلومات الإحصائية، 425–428
خطة السنوات السبع الثالثة (أصبحت خطة السنوات العشر للجهاد الروحاني العالمي) (1953–1963)، 443–477
شوقي أفندي يعلن عن مرحلة ما بين القارات للتطوير الإداري لأمر الله، 444، 446
رسائله الى المؤتمرات: الإفريقي، 449؛ الأمريكي، 450–451؛ الأوروبي (المؤتمر المنفذ)، 452؛ الأسيوي، 454–455
يضع خططًا تمهيدية للاحتفال بأعياد مئوية قادمة، 442–443
حق الهي لا يمكن إبطاله ثبتت صحته لتولي قيادة معصومة، 473
الأيام الأخيرة
يُعيّن آخر دفعة من ممثليه، أيادي أمر الله، 479
يبدأ العمل في ترجمة وتصنيف أحكام الكتاب الأقدس، 482
أشهره الأخيرة، 483–484
صعوده، 484
أمة البهاء روحية خانم تخبر البهائيين، 485
توافد حضرات الأيادي، 486
تشييع جثمانه الطاهر، 486–489
نصبه التذكاري، 489
عائلته: 19 ، 53، 55، 65، 69، 74، 103، 118، 138–139، 145، 170، 175، 179، 182. انظر أيضًا أمة البهاء روحية خانم، ضيائية خانم؛ روحنگيز؛ الشيرازي، ميرزا هادي
مناقبه الشخصية
أوصاف محياه وشخصيته: كطفل، 3–8، 17–21، 20–21؛ كشاب يافع، 15–16، 70–72؛ كرجل، 89–94؛ كان لا يحب أن تُلتقط له صور فوتوغرافية، 89
رجل شديد الصلابة قوي الإرادة استثنائي بفطرته، 7؛ ولكن الانهاك الفكري وشدة الابتلاء والعمل المضني والنشاط المكثف كلها أرهقته واستنفدت قواه الجسدية، 35، 66، 82، 111، 118، 180–181، 186
أحلامه، 11–12، 18، 162
صوته وتلاوته،9–10، 25، 44، 253، 293
الصفات الروحانية والذهنية
شمولية الروح، 300، 403؛ خال من التطرف، 403؛ حازم في الأمور الأساسية ولكن مرن في غيرها، 146، 350، 357–359، 387
التواضع، 29، 69، 82، 86–87، 228، 430؛ التسليم بما قُدر له من لطمات شخصية، 23؛ قدرته في النهوض ثانية بعد ما قُدر له من لطمات، 55، 81–82، 111، 139، 183؛ الإحساس المرهف، 10؛ ثقل أعبائه يفوق طاقته،184، 188؛ طريق الآلام، 52، 181
أستاذ التفاصيل والترتيب، 27، 75، 89، 96، 101–102، 144، 370؛ قدرة في حذف ما ليس له علاقة بالموضوع، 234؛ الموضوعية، 179
نبل مَحْتِدِه، 8، 89–90، 167؛ القوة، الحكمة، الوقار، 55، 89؛ الشفقة والعطف ورقّة القلب، 90، 141، 152، 176؛ الكرم والجود، 323–325، 363–364 (انظر أيضًا هدايا من شوقي أفندي)؛ حسن الآداب والأخلاق، 8، 90، 159، 300؛ الحس بالوقار، 156–158
طلعته المشرقة وطبيعته المتألقة، 71، 91، 182؛ أندر ما تكون وقت الشدة، 180؛ شخصية روحانية فريدة، 3؛ المرح وخفة الظل، 8، 89، 145؛ روح مقدامة وحماس متّقد كطفل، 7؛ طاقة غزيرة خلاقة لا يمكن كبح جماحها، 456؛ نشاط وتفانٍ وحماس، 32؛ الصراحة والانفتاح، 90، 146، 148–149
مساومة بذكاء، حسّ اقتصادي، أمانة، 27، 69–70، 148، 322–323؛ واقعية، 393؛ عبقرية فذّة، 148، 161–162؛ قدرة استخدامية عالية، 89؛ ولكن يعوزهالحس الآلي، 70–71
إرادة قوية، 7؛ سرعة وتصميم، 33، 90، 92، 94، 99، 142؛ وحدة الاتجاه، 91
الهدف من وجوده، 413؛ تركيزه على أمر الله، 29، 89؛ صارم وحازم في أمور حماية الدين والدفاع عنه، 138، 141، 144 (انظر أيضًا نقض العهد)؛ وُلد إداريًا، 370، 372؛ الحاجة والافتقار الى مساعدين أكفاء، 103–106، 304، 341
أحاسيسه الفنية والثقافية واهتماماته:
الاهتمام بالحدائق، 94–97؛ والخرائط، 27، 445، 483؛التصويرالفوتوغرافي، 94؛ علم الحيوان، 11
عشقه لجمال الطبيعة، 33، 39، 204؛ خاصة الجبال، 66، 68، 82، 151، 154، 204؛ عشقه للنور، 101؛ بهجته بماء الورد، 158، 177–178، 188، 293؛ ذوق فني، 159، 291؛ إحساس عالٍ بالتناسب، 99، 159، 291، 359؛ حُبُّه للزخرفة الجميلة، 160؛ انتقاؤه لطرز المقامات، 159–162؛ طريقة ترتيبه للكتب في مكتبته، 232
حماسه وتشوُّقه للمعرفة، 11؛ مفهومه عن التعلم، 40؛ المقصد من دراساته، 20، 34، 43–44؛ طالب مُجدّ، 15، 40–43؛ قدراته الفكرية، 27، 84؛ مطالعاته، 43–44، 225–226؛ حبه الشديد للأدب والفن والموسيقى، 389–391؛ امتلاكه ناصية لغة شعرية تصويرية رفيعة، 223–225؛ إحصائي قدير، 423
علاقاته مع الآخرين
أفعاله وسلوكياته دروس لتنشئة جيل صالح، 387
مسجّل حساس يكشف عن الحالة الروحانية للآخرين: كتاباته وشخصيته دستور هدايتهم إلى الصراط المستقيم، 92، 137؛ رقة مشاعره تُفْقِدُه السعادة، 19
عشقه لـــ: عبد البهاء، 6–7، 19، 55؛ تفجُّعه لفقدان حضرته، 45–47، 49
الورقة المباركة العليا، 163؛ حزنه الشديد لفراقها، 163–164
ميللي كولنز، 167
سذرلاند ماكسويل، 168
إشادته بالدعم والسلوان اللذين تلقاهما من مارثا روت، 114
انظر أيضًا مداخل أخرى بأسماء فردية
علاقاته الحميمة القليلة، 144، 167
مراسلاته وأعماله من خلال الأفراد والمحافل الروحانية، 78–79، 144، 148
تعاطفه مع المقهورين والمنبوذين، 154
تبرعاته السخيّة لأولئك المنكوبين، 324–325؛ يقدم مساعدات مالية بأشكال عديدة، 457–458، 466
يحافظ على علاقات ودية مع غير البهائيين، 300 وما يليها؛ مع سلطات الانتداب، 80–81؛ مع السلطات المحلية، 322–325. انظر أيضًا ألكساندر، الدوق الأكبر؛ بنتويتش، نورمان؛ الاسبرانتيون؛ المؤتمر النسائي الهندي الآسيوي؛ صموئيل، السير وولترز؛ سترز، السير رونالد؛ واتشوب، السير آرثر؛ المؤتمر العالمي للأديان.
يتجنَّب الفعاليات العامة، 305–306؛ ينسحب من الحياة الاجتماعية، 257–258
مراقب للأحداث السياسية، 200، 225
العلاقات مع الناقضين، انظر نقض العهد
بيانات وتوجيهات
الخطط الإلهية، 394؛ استشراف المستقبل، 216، 218–219، 381–382.
الحقيقة الدينية نسبية وليست مطلقة، 381؛ نمو أي دين، 404
تنفيذ الانسان لـ ”الخطة“، 394
الإنسان كائن مسؤول، 388، 416
إصلاح المجتمع وإصلاح الشخصية الذاتية أمر جوهري، 408
لا تساهل أو لين مع الخطأ والنزعات الآثمة، 387
العالم والأمر الإلهي شيئان مختلفان، 84، 133، 434
عقاب العالم الحديث لماديته المفرطة وانحلال أخلاقه، 205–208، 215–219، 247–248، 382–388
العفة والأمانة والصدق واللطف والكياسة والوقار والإجلالهي المناقب المطلوبة في الإنسان، 391
الحرب، 30؛ العبرة منها، 209؛ استشراف حرب عالمية ثانية، 205–206
الوحدة: موحِّدة، نظام عالمي تحرِّكه قوى روحية،ضرورة ملحة، 394–395
هدف الحياة ترويج الوحدة والاتحاد، 181؛ اعتماد متبادَل ما بين الشعوب والأمم، 219
الوحدة والاتحاد بين البهائيين متطلب جوهري، 328–331
الوحدة في التنوّع، 398–401، 404، 427
احترام المنتمين إلى خلفيات عرقية مختلفة، 156، 427–428
رؤيته لأمر الله، 381
دور الجامعة البهائية في مصير الانسان، 246–247
الواجب الاول للبهائيين، 85، 91، 217–218
مغزىالتعاليم البهائية ومضامينها، 218
أهداف للأحباء، 59
الفوائد الروحانية للمؤتمرات المركزية تسموفوق كل اعتبار مالي، 359
الإدارة: دور ولي الأمر، 86–87، 253–254، 300
مفهوم النظام الاداري، 381
علاقة ولي الأمر بالنظام الاداري، 326–327؛ بأيادي أمر الله، 287؛ بالمحافل الروحانية المركزية، 430؛ بالبهائيين عمومًا، 86–87، 256–257
تعيين الفرد لوكيل ينوب عنه، 364
في النهاية جميع الأعمال الادارية لا تتعدى كونها وسيلة، 354–355
نمو المؤسسات الادارية والأوقاف ضرورة ملحة لحماية النظام الاداري، 428
سياسة الدين حيال الأعمال الخيرية، 323–324
في تجنب التصرفات غير المدروسة، 338–339، 353، 358، 406، 412؛ وبالإحساس بالتناسب والتناسق، 329
في الاعتدال، الوسطية المثالية، 143، 231، 387
في الحياد السياسي والولاء للدولة، 86، 210، 344–346، 350، 395–397؛ الهداية أثناء اضطهاد الأحباء الإيرانيين، 110–111، 334–342؛ أثناء المضايقة الروسية، 342–345؛ أثناء الاضطهاد التركي، 345–348
في العلاقات السليمة، 86–87، 156، 158، 229
في دور أمم معينة في التاريخ، 392–393
في مستويات الوقار والجمال في الأدب والفن والموسيقى، 388–389، 391
في التبليغ والترجمة والاهتداء للإيمان، 154–156، 343، 352–355، 409–412، 427، 439–440؛ أسلوب تبليغ الطالبين، 411–412؛ يحتاج الى مهاجرين، 450؛ البطولة موضع فخره، 143؛ مستوى المنشورات، 377–378
المتطلبات الأساسية للمقبلين، 411؛ قبولهم، 402–403؛ تحويلالتركيز، 409–411
في المعابد: أهميتها في حياة الجامعات البهائية، 468–470؛ قدسية أم المعابد في الغرب، 466
(أ)
أبرامسون، السيد، حاكم المنطقة الشمالية في فلسطين، 278
أبو الفضل، ميرزا، 25
أبو القاسم، خادم المقام الأعلى، 162
“الاتحاد العالمي للمنظمات التعليمية”، 116
أثينا، 294
إحصائية، معلومات، 423–431؛ صدرت في نشرة “الدين البهائي”… (3 أعداد)، نظرة سريعة، 423
أحمد سهراب، الناقض، 135، 321؛ يشكّل جمعية التاريخ الجديد، 135
انظر أيضًا نقض العهد
زوجته وابنته، 135
الإداري، المركز، 275؛ خطر انفصاله عن المركز الروحي عند تثبيت حدود الدولة الجديدة، 212–213. انظر أيضًا العالمي، المركز
الإداري، النظام، 64، 96، 135، 166، 171، 255، 279، 281، 284، 287، 288، 296، 326، 328–331، 336، 341، 352–354، 357–359، 366، 367–369 (368)، 378–381، 392، 398، 403، 405، 409، 413–414، 437–439، 468، 474، 476، 479، 489
توضيح علاقة ولي أمر الله به، 326–327
خصائصه الأساسية، 328، 354–355، 378–380
هدف الهيئات الإدارية، 352
تحذير من التصلب، 354–355، 410
عقوبات، 353، 356–357
انظر أيضًا الإداري، المركز؛ أمريكا، مهد النظام الإداري؛ المعاونين، هيئات؛ اللجان؛ الصناديق الأمرية؛ أيادي أمر الله؛ الروحانية، المحافل؛ المركز العالمي
أدرنة، 405
“أدعية ومناجاة لحضرة بهاء الله“، 246
آدم، بداية كور من النبوءات مدته ستة آلاف سنة، 381، 404، 476
الأرجنتين، 173، 200
الأرض المقدسة، انظر فلسطين
إرغون زيفي لئومي، 196
الأرواحية، 407
آريون، بهائيون، 487
إسبانيا، 437
الترجمة إلى اللغة الإسبانية، 330
الإسبرانتو، 116، 119، 232، 278، 302
الناطقون بها، 302؛ المؤسسة العالمية للإسبرانتو، 302؛ المؤتمر العالمي، 302
إستانبول [القسطنطينية]، 346–347، 430
أستراليا، 74–75، 84، 107، 172، 283، 286، 298، 359، 363، 370، 415، 421، 426، 430–431، 448، 454، 457، 460، 471، 478–480
السكان الأصليون فيها، 460
مصوّر من، 244
أستراليشيا، 355، 360، 470
انظر أيضًا “الجهة المقابلة من الكرة الأرضية”؛ أستراليا؛ نيوزيلندا
أسد الله، ميرزا، 18
اسكتلندا، 453
الإسكندرون، 19
الإسكندرية، 21–22، 24–26، 127، 141، 197، 208
إسكندنافيا، 117، 433، 380، 403
أسكويث، السيد، 37
الإسكيمو، 153، 400، 428، 460
الإسلام، 239، 257، 318–319، 335، 337، 345، 347–350، 355، 372، 397، 404، 410، 453، 465
المسلمون، 62، 257، 260، 283، 289، 315، 319، 333، 337، 339، 348، 355، 358، 410، 427، 429، 454، 464
فن الخط الإسلامي، 226
الشريعة الإسلامية، 60
إسلمنت، الدكتور ج. إي، مؤلف “بهاء الله والعصر الجديد”، 36، 38، 46–47، 103–104، 109، 114، 120، 232–233، 336
إشادة شوقي أفندي به، 104
أسوان، 127
آسيا، 33، 119، 282، 286، 386، 414–415، 420، 433، 453–456، 457، 461، 469، 472، 479، 487
مقر المؤتمر التبليغي العالمي الرابع في السنة المقدسة، 454–460
شمال شرق، 433
جنوب شرق، 433؛ المحفل الروحاني الإقليمي هناك مسؤول عن المؤتمر العالمي الخامس في عام 1958، 478–479
أصغرزاده، ضياء الله، 39
اضطهاد البهائيين في: إفريقيا، شمال، 419
ألمانيا، 333، 345، 419، 436
أوروبا، غربها وجنوبها الشرقي ووسطها، 419
إيران، 110–111، 123، 333–342، 345، 350، 419، 426، 463–465، 472
تركيا، 333، 345–348
روسيا، 333، 342–343، 345، 419
الشرق، 339
مصر، 333، 345، 348، 350
اهتمام حضرته بخصوص المضطهدين، 334
توثيق الإيذاء والأعمال الوحشية في إيران وتسليمها إلى منظمة الأمم المتحدة يؤدي إلى تعيين لجنة، 333
انظر أيضًا بيانات وتوجيهات، الفهرس الخاص، 502–504
أضنة، 347
أعياد مئوية وسنوية:
(1944) إعلان دعوة حضرة الباب، 185، 250–251، 266–268، 420–422، 435، 444؛ رسالة الذكرى المئوية لأحباء الشرق، 421
(1953، السنة المقدسة) لميلاد ظهور حضرة بهاء الله، 420، 437، 442–447، 452، 454، 461، 469
(1963) إعلان دعوة حضرة بهاء الله، 420، 442–445، 447، 477
مرور خمسين سنة على تأسيس أمر الله في عالم الغرب، 421، 437
ذكرى ميلاد حضرة عبد البهاء، 421
ذكرى صعود حضرة عبد البهاء، 83
إفرست، قمة، 151
إفريقيا، 142، 203–205، 217، 283، 286، 341، 351–353، 358، 363، 371، 386، 404، 414، 419، 431، 442، 446–449، 454، 457، 461، 470–472، 478، 480، 487، 489
وسط –، 478
شمال –، 142، 370، 419
شرق –، 478
جنوب –، 119، 142، 203، 283
غرب –، 283
مؤهلات قبول المؤمنين الجدد، 352–353
مقر المؤتمر التبليغي الأول للسنة المقدسة، 447–448
المحفل الروحاني الإقليمي لوسط وشرق إفريقيا مسؤول عن المؤتمر العالمي الأول في 1958، 478
أفغانستان، 435
أفنان، حسين، الناقض، 79. انظر أيضًا نقض العهد
أفنان، نيّر، 55
الأفنان، 4، 20، 50، 55، 255، 260، 263، 283، 294
ألاسكا، 298، 433
الأقليات، 155–156، 400–401، 428، 460
أكوار: كور تحقق الوعود، 381، 476؛ كور النبوءات، 381، 476
أللنبي، الجنرال السير إدموند (لورد في وقت لاحق)، قائد قوات الحلفاء في فلسطين، 30، 34
يعود إليه الفضل بشكل كبير في تلقّي حضرة عبد البهاء لقب سير، 32
ألمانيا، 34، 53، 63، 72–73، 75، 77، 104، 107، 119، 134، 152، 283، 360، 370، 376، 377، 380، 426، 430، 438، 442، 448، 471، 480، 486
القوات الألمانية، 203، 208
اللغة الألمانية، الترجمة إليها، 278، 330
انظر أيضًا فرانكفورت؛ النازيون
الألمانية، المستعمرة، بالقرب من المقام الأعلى، 97، 190، 310، 333
ألكساندر، الدوق الأكبر، روسيا، 300
ألكساندر، أغنس (أيادي أمر الله)، 284
ألواح:
حضرة الباب، 244
حضرة بهاء الله، 28، 44، 127، 158، 187، 221، 228، 284، 293، 475
ألواح حضرة عبد البهاء، ترجمها شوقي أفندي بإبداع في رسائله، 240؛ مقتطفات منها هنا وهناك
“ألواح الخطة الإلهية”، 112، 245، 247، 252، 284، 365، 400، 405، 415–417، 445، 477
أليشعي، حضرة عبد البهاء يدعو شوقي أفندي مستقبله، 13
الأمازون، غابات، 460
الأماكن المقدسة، 63، 70، 91، 118، 127، 129، 139، 148، 150، 157، 160، 213، 254، 255، 293، 298–299، 455، 464؛ الممتلكات في 1921، 255؛ اعفاؤها من الضرائب، 255–258، 299، 311
انظر أيضًا ناقضو العهد
(1) حضرة بهاء الله، ضريحه (القصر والمرقد في البهجة، قبلة أهل البهاء)، 11، 33، 61، 78، 80، 96، 99–100، 123، 128، 147، 150، 156–157، 170–171، 197، 212، 232، 255–256، 258–262 (258–260)، 284، 290، 297–298، 310، 313، 320–322، 399، 455، 461، 466، 469، 488
(2) حضرة بهاء الله، بيته في بغداد، 62، 81، 107–109، 111، 313، 430
(3) بيت عبّود في عكاء، مكان إقامته، 160، 161، 255، 325
(4) قصر المزرعة، شغله لفترة من الزمن، 131، 160، 321
(5) جبل الكرمل، المقامات عليه، 172، 208، 210، 276، 284، 290، 298–300، 310–311، 316–317، 373، 402؛ أهميتها، 275–276
(أ) ضريح حضرة الباب، 53، 79، 94، 96–97، 101، 109، 149، 158–159، 161، 165، 175، 178، 185، 188، 191، 197–198، 210–211، 251، 255، 258، 261–262، 267–269، 274–275، 281–282، 284–285، 288، 291–292، 297–298، 310، 319، 323، 390، 429، 441، 445، 455، 469، 475
(ب) ضريح حضرة عبد البهاء 96، 128، 158، 268، 274–275، 319
(ج) مراقد أقرباء حضرته، 101، 146، 166–167، 288–293، 296، 458، 475
(6) حضرة الباب، بيته في شيراز، 340، 464
(7) سياه چال، موقع بزوغ فجر ظهور حضرة بهاء الله، 405، 437، 465
الحدائق على جبل الكرمل، 39، 70، 91، 94–100، 148–149، 159–160، 194، 261، 265، 275، 291، 309، 311، 316، 317
في البهجة، 39، 96، 99–100، 159
حول بيت عبّود، 161
حديقة الرضوان، 11، 255
فلسطين (الأماكن المقدسة)، القانون الخاص، 299، 315
أمة البهاء روحية خانم [ماري ماكسويل] (أيادي أمر الله)، 38، 70، 96، 118، 133، 142، 146–147، 150–151، 157، 165–166، 168–178، 179–199 (عدة مذكرات)؛ 200–207؛212 (مذكرات)؛ 221، 225؛ 248، (مذكرات)؛ 251، 263، 281، 283، 288–289، 322–323، 387–388، 392–393، 445–446، 452، 482–490
زيارتها الأولى إلى حيفا، 96
زواجها، 165–166، 170–173
اختيرت لتكون حلقة اتصال بين شوقي أفندي والمجلس البهائي العالمي، 282
عُيّنت أيادي أمر الله، 284
تفتتح احتفال تدشين أم معابد الغرب ممثلة عن شوقي أفندي، 452
تواجدها أثناء قيام شوقي أفندي بالكتابة والترجمة، 221
أمريكا [أمريكا الشمالية، الولايات المتحدة]، 2–3، 20–21، 23، 27، 34، 46، 51–53، 55–64 (56–58)، 72–73، 75–76، 79، 83، 85–86، 88، 104–105، 107، 112، 118–121، 128، 131، 134–135، 141–142، 145، 150–151، 154–155، 158، 163، 166–167، 169، 171–172، 176، 178، 185، 213–214، 215–217، 222، 224، 230–231، 234–240، 243–246، 249، 252، 267، 269–270، 278، 282–283، 286، 291، 297–298، 316، 330–332، 334–335، 340، 343، 345، 347، 351، 354–355، 359–364، 365–378 (365–371)، 380، 383–386، 391–394، 400، 402–405، 409–410، 413–423 (413–420)، 425–431، 433–443، 446–454، 456–457، 461، 464، 466–469، 472، 474، 478، 480، 487
فرمان حضرة عبد البهاء الروحاني إلى كافة أحباء أمريكا الشمالية، 414–415
أقدم جامعة بهائية غربية في العالم، 351
مهد النظام الإداري، 330–332، 354، 366، 368، 370، 392–393
الدستور المركزي والقوانين الفرعية للمحفل الروحاني المحلي أنموذج للعالم البهائي، 330–331
اختُصت بفضلٍ فريدٍ، 365–371
رسائل شوقي أفندي الأولى إليها، 76، 368
تعرب عن ولائها لشوقي أفندي، 57–59
الناقضون فيها، 57، 61، 134–135
الانحطاط فيها، 383–388
خطط، 428–454 هنا وهناك. انظر أيضًا خطط
أم المعابد فيها، 466–469. انظر أيضًا مشارق الأذكار
إحصاءات، 425–429
اللغة الأمريكية، 222، 389
انظر أيضًا “أمريكا والصلح الأعظم“؛ كندا؛ الهنود الحمر؛ الروحانية، المحافل (المركزية والمحلية)
– الوسطى، 286، 418، 431–433، 437، 448، 457
– اللاتينية، 142، 208، 415، 417–419، 422، 426، 431–433، 436–437، 440–442، 451
– الجنوبية، 173، 286، 419، 431–433، 437، 448
الأمريكتين، 155، 355، 436، 448–449
“أمريكا والصلح الأعظم“، 239، 370
الأمريكية، البعثة – للقطب الجنوبي، 102
أنبياء [ورسل]، 82، 147، 154، 409، 476
(عبرانيون)، 28
إنترلاكن، 68–69، 163
الأنتيل، جزر، 433
أندرسون، غلاديس، انظر ويدن، غلاديس
أنقرة، 347
إنكلترا، 14، 16، 24، 28، 34–36، 38–39، 47–48، 53، 63، 71، 94، 103–104، 128، 206، 208–210، 256، 308
الإنكليز، في حيفا، 190
اللغة الإنكليزية، 102، 220، 222، 278، 350، 378، 487؛ استعمال شوقي أفندي لها، 226–228، 245
انظر أيضًا بريطانيا العظمى
الأنكلوساكسونية، التقاليد، كُسرت خلال جنازة شوقي أفندي، 488
أكسفورد، 14، 36، 39، 46
جامعة، 15، 34، 36–40، 42–44، 60–62، 243؛ “باليول”، 37، 39–42؛ “كنيسة المسيح”، 40؛ “ماغدالن”، 40
أنكورج، 436
آواره، مبلّغ إيراني، ناقض للعهد لاحقًا، 63، 135
انظر أيضًا نقض العهد
أوركوهارت، ف. ف.، 42
أورلينز، 94
أوروبا، 20–23، 63، 65–66، 105، 113، 119، 129، 135، 169–170، 202، 205، 215، 217، 232–233، 246، 249، 278–280، 283، 286، 354–355، 363، 370، 385–386، 404، 413–414، 418–419، 422، 436–442، 447، 452–454، 457، 461، 470–471، 478–479، 483، 487
وسطها، 117، 419، 471
انعقاد المؤتمر البيقاري الثالث فيها في السنة المقدسة، 452–454
انعقاد المؤتمر البيقاري الرابع فيها في 1958، 478–482
اللغات الأوروبية، 231
انظر أيضًا مؤتمرات؛ خطط؛ ودول أوروبا فرديًا
أوسكولي، 233
أوغندا، 154، 428
انظر أيضًا مشارق الأذكار؛ كمبالا
أولنغا، إينوك (أيادي أمر الله)، 283
أيادي أمر الله (أعمدة الدين)، 50، 55، 140، 167، 177–178، 282–288، 296، 336، 339، 446، 449، 451–452، 454، 456، 458، 462، 479–481، 485–486، 489
أول دفعة عينوا بعد وفاتهم، 288
تعيينات أخرى، 282–283، 286–287، 479
وظائفهم، 283، 285–287
يعيّنون هيئات المعاونين، 285، 287، 479
آيبيريا، شبه جزيرة، 433، 437
انظر أيضًا إسبانيا، البرتغال
إيدن، أنتوني، 44
إيران، 26، 28، 53–54، 58–59، 63–64، 71، 73، 75، 83، 104، 107، 110–111، 114، 117–118، 123، 141، 171، 187، 208، 223، 252، 259، 262، 276، 283، 294، 298، 302، 317، 333–334، 358، 363، 369–371، 377، 380، 392–393، 404، 421، 426، 429–431، 435، 448، 454، 456–458، 462–463، 469، 472
شاه إيران، 68، 110، 334–335، 340، 444
استشهادات في جهروم، 110
الظلم اللاحق، انظر اضطهاد البهائيين
سبب اختيارها مهدًا لأمر الله، 392–394
شوقي أفندي يناشد أحباءها، 456
شراء أرض لموقع مشرق أذكار، 469؛ ولكن الخطط تؤجل، 472
احصاءات، 426، 429
اللغة الفارسية، 220، 252، 313، 350، 378، 456، 487
إيرلندا، الشمالية، 453
آيسلندا، 452
إيطاليا، 22، 53، 71، 74–75، 152، 201–203، 322، 360، 370، 431، 437، 442–443، 448
مصدر المواد الإنشائية للمركز العالمي، 144، 166، 269–274، 282، 289، 291، 295
نمط العمارة الإيطالي، 160
أيغر، 153
الإيكاروس، 380
إليانا، الأميرة (الابنة الصغرى للملكة ماري من رومانيا)، 115، 125–129
إيليا، 275
إيواس، سيلفيا، 282
إيواس، ليروي (أيادي أمر الله، السكرتير العام للمجلس البهائي العالمي)، 275، 282–283، 295، 322، 446، 484
(ب)
الباب، حضرة [السيد علي محمد]، 4، 18، 50، 143، 157، 172، 223، 226، 229، 243–245، 248، 262–263، 268، 271، 276، 294، 297، 333، 365، 392، 411، 421، 424، 452، 474، 476، 480
انظر أيضًا الأماكن المقدسة (5)، (6)
باباكومب، 39
باربيزون، 36
البارثنون، 160، 294
بارسونز، 56
بارفروش، 336
باريس، 94، 202، 374
الباكستان، 298، 424، 426، 433، 448
باليوزي، حسن (أيادي أمر الله)، 283، 486
ببا، المحكمة الشرعية فيها، 348
البحرين، 435
بخارست، 120، 126
بدكيان، فكتوريا [“العمة فكتوريا”]، 144
بديع الله، شقيق محمد علي، ناقض للعهد، 61
انظر أيضًا نقض العهد
براساد، د. راجندرا، رئيس الهند، 456
بران، 121
البرتغال، 114، 437
البرلمان العالمي للأديان، 449
بريطانيا العظمى [الجزر البريطانية، المملكة المتحدة]، 39، 64، 73، 75، 107، 134، 172، 207، 208، 231، 283، 298، 360، 370–371، 376، 378، 380، 421، 423، 426، 430–431، 438–439، 442، 447، 448، 453، 457، 487
جيش الاحتلال –، 36
الحكومة – في فلسطين، 313
السلطات – في حيفا، 61، 298
القنصل – في روما، 201
الإمبراطورية –، 14
القوات –، 30، 207–208، 212
الحكومة –، 109
المندوب السامي – في حيفا، 259
انظر أيضًا إنكلترا؛ فلسطين، الانتداب البريطاني فيها
بريل، لغة المكفوفين، 233
بطرس، 403
بغداد، 26، 108، 137، 405، 455
السلطات البريطانية في، 108
المندوب السامي في، 108–109
بيت حضرة بهاء الله في، انظر الأماكن المقدسة
بغدادي، الدكتور ضياء، ذكرياته عن طفولة شوقي أفندي، 9–11
بلاد ما بين النهرين (العراق)، 75، 370
بلجيكا، 437
البلدان العشرة المستهدفة (ثمانية أساسًا)، 147، 354، 426، 438، 439، 442، 452–453
انظر أيضًا خطط
البلدان المنخفضة، 437
انظر أيضًا، بلجيكا؛ هولندا
بلغاريا، 38، 143
انظر أيضًا بوريس، ملك بلغاريا
البلقان، 119، 415
بلوچستان، 435
بلومفيلد، الليدي، 36، 39، 45–48، 63، 64
بناني، موسى (أيادي أمر الله)، 283، 288
بنتويتش، البروفسور نورمان، 245، 303
بنسون، السير ت. هـ.، 42
بنكون، الآنسة فلورنس، 233
بنما، جمهورية، 451
بنما، مدينة، 450
بنيلوكس، بلدان، 433
البهائية، المجلة، للمجلس البهائي في جنيف، 278
بهائية، وثيقة، عن واجبات الإنسان وحقوقه، 332–333
البهائية، مجلة الاسبرانتو، 232، 278
“الدين البهائي” [نشرة]، إصدار 1844–1944، مع معلومات احصائية، 1944م؛ زيادة حجمه في 1950م، 423، 429–430
“الدين البهائي” [نشرة]، 1844–1952، زيادة إضافية في الحجم، بعنوان “خطة السنوات العشر العالمية للتبليغ والاستحكام”، 423، 429–430، 445
“الأخبار البهائية“، 20، 441
“الأخبار البهائية في الهند” 377–378
البهائية، هيئة الطبع والنشر، 463، 477؛ في إيران، 335
لجنة الطبع والنشر البهائية الأمريكية، 126، 235، 423
بهائي، شعاع، 197
البهائية، الوثيقة، خاصة بحقوق المرأة، 332
البهائي، وحدة المعبد، الاسم الأصلي لأول محفل روحاني مركزي، 72، 367، 371، 431
انظر أيضًا الروحانية، المحافل، المركزية، أمريكا
“مراقب بهائي في الأمم المتحدة”، 321
“العالم البهائي“، سجل عالمي لأحداث سنتين [العدد الأول بعنوان “المجلد البهائي السنوي]، 41، 124، 126، 130، 234–237، 301، 308، 315، 317، 335
المجلد البهائي السنوي، انظر “العالم البهائي”
بهاء الله، حضرة، 1، 3–4، 7، 14، 17، 26–28، 43–44، 50–53، 55، 57، 71، 79، 84–85، 93، 101، 107–108، 112–113، 115، 122–123، 126، 130، 135، 154، 164، 169، 171، 183–184، 223–224، 226–228، 230، 246–248، 254، 258–259، 262، 269، 272، 280، 284–285، 289، 292–293، 296، 317، 321، 362، 375، 391، 409، 412، 435–436، 443–444، 452، 473، 479–480
مقتطفات من كتاباته اقتبست هنا وهناك، انظر أسماءها الفردية
عائلته، 8، 38، 79، 136–137، 255، 260
انظر أيضًا الأماكن المقدسة (1–4)
“بهاء الله والعصر الجديد“، 103؛ “الكتاب المرجع عن الدين البهائي”، 114؛ ترجم إلى عدة لغات، 103، 232
انظر أيضًا إسلمنت، الدكتور ج. إي
بهائية خانم، انظر الورقة المباركة العليا
البهجة، انظر الأماكن المقدسة
بهلوي، سلالة (إيران)، 334
بوتوملي، غوردن، 241
بوذا، 245
البوذية، 348، 460
بورسعيد، 21
بورما، 28، 34، 63، 71، 75، 107، 208، 232، 233، 298، 358، 370، 371، 377، 380، 426، 430، 431، 436، 448
البورمية، اللغة، الترجمة إليها،232
بورنموث، 38، 46
بوريس، ملك بلغاريا، 125
بوسطن، 56
بوش، جون، 172
بوش، لويز، 172
بولز، جين، 174
بولندا، 232
البولينيزيون، 460
بومبى، 116
بونيه، سوليل، 198
بيت العدل الأعظم، 50، 54، 57–58، 63–64، 90، 105، 166، 228، 276–285، 287، 296، 331، 379، 406، 481
المحافل المركزية أعمدته، 430، 437، 442
بيوت عدل محلية ومركزية، 64
بيت لحم، 293
بيرن، 152
بيرنيز أوبرلاند، 66، 68، 152
إيغر، 153؛ فنشترارهورن، 152؛ غوربتال، 152؛ يونغفراو، 67، 153؛ مونك، 153
بيروت، 11، 19، 27–29، 102، 141، 145
الكلية البروتستانتية السورية فيها (عُرفت لاحقًا باسم الجامعة الأمريكية في بيروت)، 41، 55، 102، 241، 408
شوقي أفندي طالبًا فيها، 19، 23، 28–30، 73
بيكر، دوروثي (أيادي أمر الله)، 283، 284
بيلي، إللا، 142
بيونس أيرس، 174، 175، 264
(ت)
تاهيتي، 415
تاونزند، جورج (أيادي أمر الله)، 229، 283
التايمز، صحيفة، 28، 120، 225
التبليغ، 85، 154–156، 217، 352–353، 364، 398–399، 400، 415–417، 436، 437–439، 445–446
في أوروبا، 403؛ في السجن، 154؛ في المدارس، 133؛ الأقليات، 137–138، 368
مدارس أغلقت خلال الاضطهاد، 308–309
انظر أيضًا مؤتمرات، خطط، بيانات وتوجيهات، الفهرس الخاص، 502
“تربيت“، مدارس، طهران، 337
ترجمة الكتابات الأدبية، تأكيد أهميتها، 232–233، 343، 350، 436، 451، 457
تراجم شوقي أفندي، 34، 42–43، 60، 103، 227–230، 240–245، 249، 253، 406، 475
إحصاءات، 427
انظر أيضًا إسلمنت، الدكتور. ج. إي.
ترجمة المصطلحات، 230
تركستان، 75، 107، 110، 141، 342، 344، 370، 371، 377، 380، 430، 465
انظر أيضًا روسيا
تركيا، [أتراك]، 22، 74–75، 107، 117، 263، 333، 345–348، 370، 378
تركيا الفتاة، ثورة، 4
القوات التركية، 30
ترو، كاثرين، ابنة كورين، 63
ترو، كورين (أيادي أمر الله)، 56، 63، 283، 373
تسمانيا، 84، 458
تشانالور، السير جون، المندوب السامي في فلسطين، 314
تشرشل، السير ونستون، 146
تشيس، ثورنتون، 20
تشيكوسلوفاكيا، 438
الترجمة إلى اللغة التشيكية، 233
تل أبيب، 191، 197
توركي، 39
تورنتو، 450
“تورنتو ديلي ستار“، 112، 122
التيبت، 460
تيودور بول، الرائد و.، 30، 34، 36، 45–46، 53، 63–64، 78، 80–81، 134
(ج)
جاك، ماريون [“الجنرال جاك”، “جاكي”]، 143، 181
جبل الكرمل، انظر الأماكن المقدسة
جروساليم بوست، 225
جرينلاند، 430، 460
جمال باشا، القائد الأعلى للقوات التركية، 29، 213؛ يهدد بصلب حضرة عبد البهاء وعائلته، 30
“جمعية التاريخ الحديث”، 135، 321
“جمعية علمية”، أسسها فائق، 133
جنوى، 201
الجنوب، 475
جنيف، 116، 270، 278، 340
“الجهة المقابلة من الكرة الأرضية“، 95، 118، 172، 426، 455، 472، 478
انظر أيضًا أستراليا؛ أستراليشيا؛ نيوزيلندا؛ الهادئ، المحيط وجزره
جهروم [جهرم]، 110، 111، 123
جوبا، 204
جوهانسبرغ، 142
جياكري، الدكتور أوغو (أيادي أمر الله، العضو المفوض في المجلس البهائي العالمي)، 144، 270–271، 275، 282–283، 295، 446، 486
(ح)
الحاج علي، 183
الحجاج [الزائرون]: أول مجموعة من العالم الغربي تزور حضرة عبد البهاء في سجنه في عكاء، 4؛ يزورون حضرة عبد البهاء باستمرار، 25؛ شوقي أفندي يقضي وقتًا معهم، 32، 78
انظر أيضًا المركز العالمي؛المسافرين، دار ضيافة
الحجاز، 435
الحرب:
العالمية الأولى، 29–30، 252، 263
العالمية الثانية، 76، 125، 181، 220، 268، 347، ؛ تنبأ بها شوقي أفندي، 181
– فلسطين، 190–195، 209–213، 260، 269، 272
انظر أيضًا الصلح؛ بيانات وتوجيهات، الفهرس الخاص، 502–504
الحرم الأقدس، 261، 275
حروف “حي”، 288
حسين، ابن حضرة عبد البهاء، 5
حسين، الملاّ، 421
حظيرة القدس، 316
البريطانية، 454؛ المركزية، 462، 477، 486؛ في طهران، 339
حقوق الله، تدفع إلى شوقي أفندي، 284، 457
انظر أيضًا الصناديق الأمرية
“الحقيقة“، مجلة، تنشر أخبار الناقضين، 57
الحكومة، إطاعتها، انظر بند بيانات وتوجيهات (الفهرس الخاص)، فقرة الحياد السياسي والولاء للدولة، 504
حكيم، لطف الله، (مساعد سكرتير للشرق في المجلس البهائي العالمي)، 35، 167، 281، 282
الحلفاء، 29، 146، 202–203؛ انظر أيضًا الحرب
الحمراء، قصر، في غرناطة، 160
حيفا، مقر إقامة حضرة عبد البهاء وشوقي أفندي ومقر المقامات المقدسة (جبل الكرمل)، هنا وهناك
انتقال حضرة عبد البهاء إليها من عكاء، 15
فترة شباب شوقي أفندي هناك، 17–19
دعوة سذرلاند ماكسويل للإقامة فيها، 175
في أوقات الحرب، 191–195، 206–207
الحاكم العسكري البريطاني فيها، 32
قائد المقاطعة فيها، 299، 306، 308، 315–317، 323
حاكمها، 54، 62–63، 81، 313
رئيس بلديتها، 323–324
مجلس البلدية، 325
بلديتها، 159، 265، 323
لجنة تخطيط المدينة، 310
الممتلكات البهائية فيها، 255
كلية الفرير، 19
حيفا الأخبارية، رسالة، 378
(خ)
خادم، ذكر الله (أيادي أمر الله)، 283
خاضع، جلال (أيادي أمر الله)، 284
خان، الدكتور يونس، ذكريات عن شوقي أفندي في طفولته، 1–3
الخرطوم، 204، 308
الخطة الإلهية، ألواح، انظر “ألواح الخطة الإلهية”
خطط: جميعها ملحقات مساندة للخطة الإلهية، 416؛ يشارك فيها بالتفصيل شوقي أفندي مع أفراد ومحافل روحانية، 149
خطة السبع سنوات الأولى (الحملة الأمريكية؛ أول مرحلة من المهمة العالمية)(1937–1944)، 414–423
أهدافها الثلاثة: (1) إتمام أعمال الزخرفة الخارجية لأم معابد الغرب؛ (2) تأسيس محفل روحاني محلي واحد في كل ولاية من الولايات المتحدة وفي كل مقاطعة في كندا؛ (3) تأسيس مركز بهائي واحد في كل من جمهوريات أمريكا اللاتينية التي من أجل دخولهم وضعت الخطة في المقام الأول، 417
إطلاق الخطة، 415
رسائل أولية، 405
التقدم إلى داخل أمريكا الوسطى، 418؛ وإلى أمريكا الجنوبية، 418
طبيعة مسؤوليات الولايات المتحدة، 416، 419
أول احتفال يوبيلي في 1944م، 422–423؛ يتزامن مع الاحتفال في أمريكا الشمالية بالذكرى الخمسين لتأسيس أمر الله في الغرب، 422–423
انتصارات الخطة تلهم الجامعات البهائية الأخرى، 435
انظر أيضًا 142، 210، 247، 291، 355، 402، 413، 425–426، 435، 439، 477
خطة السبع سنوات الثانية (البلدان العشرة الأوروبية المستهدفة؛ المرحلة الثانية من الحملة العالمية) (1946–1953)، 435–443
البلدان العشرة المستهدفة، 437، 439؛ تحديد المهام، 437؛ الصعوبة الأساسية في تبليغ الأوروبيين، 439. انظر أيضًا البلدان العشرة المستهدفة
فترة سنتين قبيل إطلاقها، 435–436؛ التدشين الرسمي، 437
الصعاب المالية أمام البهائيين الأمريكيين، 440؛ قرار شوقي أفندي حول الاقتصاد في النفقات، 440–441
انتصارات الحملة، 442
انظر أيضًا 213–214، 354، 413، 426، 453، 477
خطة السنوات العشر للتبليغ والاستحكام (الجهاد الروحاني العالمي) (1953–1963)، 443–484
تدشينها يتزامن والعيد المئوي لمولد رسالة حضرة بهاء الله، 447
أسباب تمديدها لعشر سنوات، 443
أهدافها، 459؛ تعريف الخطة، 447
الإفصاح عن تفاصيلها، 445، 451؛ النصيب الأكبر في الجهاد الروحاني للولايات المتحدة وكندا، 450
مراحلها الأربعة، 460؛ (1) 1953–1954ــــــــــــ انتشار المهاجرين، 461؛ (2) 1954–1956ـــــــــــــــ الاستحكام، شراء مواقع بناء معابد وأوقاف مركزية أخرى، تشييد المعابد، 462–463؛ (3) 1956–1958ـــــــــــــ مضاعفة أعداد المراكز، 477؛ (4) 1958–1963ــــــــــــ زيادة غير مسبوقة في أعداد المؤمنين والمراكز والتقدم في تشييد ثلاثة معابد، 478
انظر أيضًا 91، 147، 149، 217، 245، 285–287، 294، 333، 341، 348، 351، 358، 364، 397، 410، 413، 425، 433، 486
رسائل شوقي أفندي إلى المؤتمرات الافتتاحية: (1) الإفريقي، 449؛ (2) الأمريكي، 451؛ (3) الأوروبي، 452؛ (4) الآسيوي، 454–455
نشر المطبوعات بالعديد من اللغات موضع اهتمام خاص، 457
لوحة الشرف، 461
الأهداف للأعوام 1954–1956، 462
عقد خمسة مؤتمرات عالمية في منتصف الخطة (1958)، 478؛ الهدف منها، 479
وصول البهائيين بالخطة إلى نهاية مظفرة، 481
انظر أيضًا المؤتمرات
خطط متنوعة، 415؛ البريطانية، 453؛ الكندية، 441؛ الألمانية النمساوية، 453
الخلقية، جمعية الثقافة، 241
خورشيد خاور، 377
(د)
داريوس، 338
دانزغ، 302
داير، ناقض للعهد، 56. انظر أيضًا نقض العهد
دريفوس-بارني، هيبوليت، 63–64، 66، 94، 104
دريفوس-بارني، لاورا، 63–64، 94
الدنمارك، 437–438
دلهي، 455
دمشق، 205
دَن، كلارا (أيادي أمر الله)، 74، 283
دودج، البروفسور بيارد، 41، 241، 246
ديِربان، 204
“دورة بهاء الله“، 87، 239
دول، داغمر، 142
دوميط، ينصب صليبًا على منزله، 101
يبتاع البهائيون منزله، 300، 316؛ ويُهدم، 264
عائلته (آل دوميط)، 316
دين عالمي، قبول الدين البهائي، 322، 331–332، ؛ مهمة 36 سنة، 305
منظمة الأمم المتحدة: حثّ المحفل الروحاني المركزي في الولايات المتحدة وكندا على طلب الإذن لإرسال ممثلين مفوضين إلى مؤتمرات الأمم المتحدة، 332؛ تقديم إعلان حقوق الإنسان وواجباته والوثيقة البهائية حول حقوق المرأة، 332؛ الاعتراف بالجامعة البهائية العالمية كمنظمة معتمدة غير حكومية، 332، 340
مصر: تحقق استقلال أمر الله بواسطة محكمة ببا الشرعية، 349
فلسطين: وضع البهائيين الخاص، 319–320؛ شوقي أفندي يحصل على إذن للجامعة البهائية في حيفا لإدارة شؤونهم الشخصية، 315؛ ويحصل على تأسيس دائرة منفصلة في وزارة الأديان خاصة بشؤون الدين البهائي، 322
إيران: الدين البهائي غير معترف به رسميًا، 337–339؛ قضية الاضطهاد تتبناها الجامعة البهائية العالمية في الأمم المتحدة،340
تركيا: الكشف عن الأمر الإلهي تحقق بقرار محكمة الجنايات، 346
ديونغ، 141
(ر)
رالي، السير وولتر، 36
رانسوم–كلر، السيدة كيث، 335، 348
رجينا، 269
رشيد عالي، 207
الرضوان، حديقة، 11، 255
انظر أيضًا الأماكن المقدسة
الرمل، من ضواحي الإسكندرية، 21، 24، 26
روبارتس، جون (أيادي أمر الله)، 283
روت، مارثا ل.، الفصل 4 هنا وهناك؛ 143، 205، 232–233، 237، 243، 246، 265، 288، 302، 343، 427، 471
إشادة شوقي أفندي بها، 113–115، 118–119، 181، 288
وصف لها، 113
رحلاتها التبليغية، 113، 116–119
علاقتها بالملكة ماري ملكة رومانيا، 123، 128؛ مقابلاتها مع الملكة، 120، 125، 429
وفاتها، 118–119
[سوف نستخدم أدناه رمز م. ر للمحافل الروحانية المركزية، م. م. للمحلية]
الروحانية، المحافل، 28، 64، 66، 72، 85، 110، 142، 155، 235، 259، 277–279، 328–330، 370، 398، 402، 411، 421، 431
الغاية منها، 352
التناقض في البداية في اسمها ووظائفها، 371
قبول المؤمنين الجدد، 352، 409–410
مساهمة المرأة في عضويتها، 358
الاتصالات والتقارير، 375–377
تسجيلها رسميًا وأوقافها، 431
تأسيس م. م أعضاؤها من الهنود الحمر، 155
انظر أيضًا بلدان فردية، خاصة أمريكا؛ تأسيس النظام الإداري، الفهرس الخاص، 497
– الإقليمية: إفريقيا، 351، 358، (وسط وشرق إفريقيا)، 478؛ أمريكا (الجنوبية، الدول الشمالية منها)، جزر الأنتيل، شبه الجزيرة العربية، آسيا (شمال وشرق)، دول البنيلوكس، شبه جزيرة آيبيريا، إسكندنافيا وفنلندا، 433؛ آسيا (جنوب شرق)، 433، 478؛ أوروبا، 354
تأسيس م. ر. الخالصة يُستأنف، 433
– المركزية (أعمدة بيت العدل الأعظم)، 77، 149، 155، 158، 166، 184، 208، 217، 225، 238، 255، 278، 286–287، 298، 326–332 (330)، 340–342، 345، 351–353، 354، 356–358، 360، 371–373، 374، 376، 380، 390، 396–397، 405، 413، 429–433، 440–441، 444–447، 449–451، 458–459، 462–464، 477، 485، 489
الدستور البهائي المركزي، 330–331
السنوات المبكرة، 281، 380، 430–434
أول تسعة م. ر.، 430
فروعها في فلسطين، 300، 316، 320
في إفريقيا:
الإفريقي، 351–352، 432
في مصر، 349، 380، 430
في مصر والسودان، 431، 448
في الأمريكتين:
في أمريكا [أمريكا الشمالية، الولايات المتحدة] (المعروف أساسًا بوحدة المعبد البهائي)، 64، 72–73، 107، 119، 134، 142، 145، 158، 172، 185، 230–231، 235–236، 243، 270، 291، 300، 316، 332، 340، 345، 347، 359–362، 367–368، 370–371، 375–376، 380، 383، 394، 400، 402، 411، 416، 423، 431، 435، 438–439، 441، 447–448، 452، 457، 464، 472، 478، 480؛ فرع فلسطين، 298، 300، 316
م. ر. للولايات المتحدة وكندا، 171، 297، 320، 332، 354، 380، 418، 430–431؛ فرع فلسطين، 320
م. ر. لكندا، 178، 298، 400، 431، 437–438، 448، 450؛ فرع فلسطين، 298
م. ر. لألاسكا، 433؛ فرع فلسطين، 298
م. ر. لأمريكا اللاتينية، 426
م. ر. لأمريكا الوسطى، 431–432، 437، 441، 448، 457
م. ر. لأمريكا الجنوبية، 431–432، 437، 441، 448
في “الجهة المقابلة من الكرة الأرضية”:
م. ر. لأستراليا، 478؛ فرع فلسطين، 298
م. ر. لنيوزيلندا، 156، 433، فرع فلسطين، 298
م. ر. لأستراليا ونيوزيلندا، 430، 431، 448، 471
في آسيا:
م. ر. للهند، 231، 371، 457
م. ر. لبورما، 371
م. ر. للهند وبورما، 107، 358، 380، 426، 430–431،؛ فرع فلسطين، 298
م. ر. للباكستان وبورما، 448
م. ر. للهند والباكستان وبورما، 448
م. ر. للباكستان، 433؛ فرع فلسطين، 298
م. ر. للعراق، 174، 380، 430، 448
م. ر. لإيران، 107، 111، 335، 339، 340، 343، 347، 380، 421، 430–431، 447–448، 456؛ فرع فلسطين للمحفل الروحاني المركزي في إيران، 298
م. ر. لروسيا، 430
م. ر. للقوقاز، 342، 380، 430
م. ر. لتركستان، 342، 380، 430
في أوروبا:
م. ر. لبريطانيا، 77، 134، 205، 371، 376، 380، 423، 430–431، 442، 447–448، 457؛ فرع فلسطين، 298
م. ر. لألمانيا، 134، 376، 380، 426، 430–431، 442، 453
م. ر. لألمانيا والنمسا، 448، 470، 478
م. ر. لشبه جزيرة آيبيريا (إسبانيا والبرتغال)، 437
م. ر. لإيطاليا، 437
م. ر. لإيطاليا وسويسرا، 431، 442، 448، 457
م. ر. للبلدان المنخفضة (هولندا وبلجيكا)، 437
م. ر. لإسكندنافيا (النرويج، السويد والدانمرك)، 437
– المحلية، 107، 166، 326، 328، 330–331، 335، 342، 345، 358، 364، 369، 371–372، 376، 380، 406، 417، 426، 428، 431–432، 436، 441، 462
أول م. م جميع أعضائه من الهنود الحمر، 400
القوانين الفرعية، 331؛ في الأيام الأولى، 374؛ الأوقاف والمقار، 358
إحصاءات بخصوص م. م، 426، 428–429
في إفريقيا:
مصر والسودان، 427
مصر العليا، 348
في أمريكا، 85، 173، 340، 383، 410
في أمريكا الشمالية، 107، 426
في مونترِيال، 178
في نيويورك، 331، 367، 376
في أمريكا اللاتينية، 426
في “الجهة المقابلة من الكرة الأرضية”:
أستراليا ونيوزيلندا، 426
في آسيا:
إستانبول، 346
إيران، 107، 110، 426
حيفا، 313، 378
روسيا، 344
عشق آباد، 343–344
المحيط الهادئ، 376
مكة المكرمة، 465
الهند وبورما (والباكستان)، 426
اليابان، 376
في أوروبا:
الجزر البريطانية، 426
إيرلندا، 453
إيرلندا الشمالية، 453
إسكتلندا، 453
ويلز، 453
ألمانيا والنمسا، 426
إيطاليا، 443
لايبزغ، 376
باريس، 374
روحنگيز، شقيقة شوقي أفندي، 45، 48
روحي، 192
روزنبرغ، إيثيل، 63
روس، السيد، 42
روس، السير دنيسون، 36، 242–243
روسيا، 115، 117–118، 333، 342–346 (342–343)، 363، 377، 380، 419، 430، 458، 460
السوفييت، 397، 424، 454، 462، 465
روسيا البيضاء، 152
انظر أيضًا القوقاز، تركستان
روكي، جبال، 151
روما، 191، 201، 266، 270، 319، 430، 454، 457، 486
الإمبراطورية الرومانية، 102، 384؛ عربة رومانية، 434
رومانيا، العائلة المالكة، 125
السفير الروماني في القاهرة، 128
اللغة الرومانية، الترجمة إليها، 233
رومل، الجنرال، 208
الرومي، السيد مصطفى، 28، 63، 232
ريفل، إيثيل (مساعدة سكرتير للغرب)، 281، 282
ريفل، جيسي (أمينة صندوق المجلس البهائي العالمي)، 281، 282
ريمي، ميسون (أيادي أمر الله، رئيس المجلس البهائي العالمي)، 63، 79، 281–282، 322، 446
(ز)
زرمات، 151
زنوج، 487
زواج، حفل، بهائي: حث المحافل الروحانية المركزية على الحصول على اعتراف رسمي به، 331؛ بعض النجاح في حالات معينة، 258، 424، 429؛ ولكن ليس في مصر وإيران، 350
تأثير العقوبة، 357
مبدأ الزواج بواحدة، 372
حفل زواج حضرة عبد البهاء، 170؛ وشوقي أفندي، 165–166، 170
(س)
سانت مالو، 202–203
ساندرسون، إديث، 165
ساندستروم، القاضي إيميل، رئيس لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين، 318
ساوثامبتون، 203
سايمز، العقيد السير ج. ستيوارت، الحاكم العام لحيفا، السكرتير العام لإدارة فلسطين، الحاكم العام للسودان، حاكم فينيقيا، 80–81، 204، 306–309، 315، 323؛ متحدث في جنازة حضرة عبد البهاء، 306
السيدة سايمز، 269
والدتها، 268
سبريغ، فيليب، 144
ستانارد، السيدة، من المجلس البهائي العالمي في جنيف، 278
ستانليفيل، 204
سترز، السير رونالد، حاكم قبرص، 125، 304
ستوكهولم، 446، 452، 454
“سقوط الإمبراطورية الرومانية“، 43
سلطان آباد، 337
سليمان، خاتم الملك، 98
السليمانية، 26، 435
سمندري، طراز الله، 283
سميث، السيد، عميد باليول، 42
السودان، 204، 308، 427، 431، 448
سوريا، 1، 21، 23، 28، 75، 370، 377–378
السويد، 75، 370، 437، 438، 442، 446
سويسرا، 67–70، 74–75، 82، 94، 104، 142–143، 151–152، 163، 166، 176–177، 180، 278، 280، 341، 360، 370، 378، 431، 438، 442–443، 448
أهداها شوقي أفندي أرضًا لمشرق أذكار، 152
سوينبيرن، 37
السياسي، الحياد، بيان شوقي أفندي بالخصوص، انظر بيانات وارشادات، الفهرس الخاص، 504
سياه چال، 405، 437، 444–445، 465
انظر أيضًا الأماكن المقدسة
سيبيريا، 460
سيدني، 147–148، 390، 455، 471، 479؛ انظر أيضًا مشارق الأذكار
سيرز، وليم (أيادي أمر الله)، 283
سيفرين، الدكتور، يقدّم لحضرة عبد البهاء تصميمه للدرج الضخم المؤدي إلى المقام الأعلى، 322–323
سيلي، البروفسور، 242
(ش)
شانغهاي، 233، 236
الشرق، 1–2، 16، 33، 44، 75، 77، 86، 121، 126–127، 130، 134، 143–144، 158، 165، 170–172، 220، 236–237، 240، 254، 278–283، 288، 302، 313، 329، 333، 339، 341، 349، 352، 354–358، 365، 372، 375، 378، 380، 382، 385، 401، 409–410، 415، 419، 421–422، 427، 434–436، 440، 444، 449، 461، 475، 489
– الأقصى، 28، 370، 391، 419
– الأوسط، 129، 180، 208، 355، 358، 370
– الأدنى، 142، 206، 213، 291، 396
الشريعة الإسلامية، 60–61، 64
شعاع، 197
شفارتز، أليس، 63–64
شفارتز، كونسل، 63–64
“شكسته نستعليق”، فن خط، 226
الشمال، 475
الشمال، بحر، جزره، 459
“شمس الحقيقة” مجلة، 377
شوبفلوكر، فرِد (أيادي أمر الله)، 283–284، 288
شوقي أفندي، انظر الفهرس الخاص، 493–504
شيراز، 110، 111، 223، 267، 340، 421
بيت حضرة الباب فيها، انظر الأماكن المقدسة
الشيرازي، ميرزا هادي، والد شوقي أفندي، 3–4، 13، 42، 52، 54، 102، 170
الشيعة، 81، 107، 109
شيكاغو، 56، 178، 365، 371، 404، 422، 446، 449، 452، 457، 480
(ص)
“الصحافة المتحدة في أمريكا“، 128
صحيفة جنيف، 225
صربيا، العائلة المالكة، 125
“صعود شوقي أفندي”، كتاب، 487
الصلح: الأصغر، 181، 215–216، 219؛ الأعظم، 219
صموئيل، السير هربرت (لورد في وقت لاحق)، 37، 60، 245، 303، 313–314
الليدي صموئيل، 303
الصناديق الأمرية: تأسست، 360–363
المبادئ المرتبطة بالتبرعات:
(1) يدعمها البهائيون فقط، 361–362؛ (2) جميع التبرعات طوعية، 361؛ (3) دعم الصناديق واجب وفضل، 360–361؛ (4) المبدأ أهم من المقدار، 362–363؛ (5) حرية الفرد في تخصيص هدف التبرع مسموحة، ولكن التبرعات غير المخصوصة والمنتظمة محبذة جدًا، 363
الصناديق الفردية: العالمي، 362؛ القاري، 286، 462؛ المركزي، 360، 362–363؛ المحلي، 362؛ لمشرق الأذكار، 456، 466–467؛ بهائية خانم، 292؛ متنوعة، 361
حقوق الله تُدفع إلى شوقي أفندي بموجب وصية حضرة عبد البهاء، 457–458
يصرف منها لدعم المشاريع المختلفة، 231–234، 363، 458
الأوقاف والموجودات المالية، نموها ضروري لحماية النظام الإداري، 429؛ إحصاءات النمو، 429
الصهيونية، 109
صوفيا، 143
الصين، 107–108، 460
(ض)
ضيائية خانم، الابنة الكبرى لحضرة عبد البهاء ووالدة شوقي أفندي، 4، 6، 119، 171
(ط)
طبريا، 190، 324
طهران، 54، 58، 110، 127، 130، 226، 335، 337–339، 390، 437، 444، 455–456، 462، 464، 469–470
مدارس “تربيت” فيها، 337
(ظ)
“ظهور العدل الإلهي“، 149، 206، 246–247، 249، 392–393، 400، 402–403
(ع)
العالمي، المحفل البهائي، 249
العالمي، المكتب البهائي (جنيف)، 278
نشرته، 278
العالمية، الجامعة البهائية، 332، 340، 464
العالمية، السكرتاريا البهائية أو المجلس، الحاجة إليها، 105، 278–279
العالمي، المعرض الكولمبي، 365، 449
عالمية، نظرة عامة للنشاطات البهائية الجارية، 236
العالمي، الوضع، تحذيرات بشأنه، انظر بيانات وتوجيهات، الفهرس الخاص، 502–504
عبّود، بيت، في عكاء، منزل حضرة بهاء الله، انظر الأماكن المقدسة
عبد البهاء، حضرة [السير عبد البهاء، المولى، مركز العهد والميثاق] في مدينة السجن عكاء حين مولد شوقي أفندي، 4؛ فرحه لدى مولد حفيده الأول، 5؛ ولكنه يخفي قدره، 1–2؛ محبته لحفيده، 6–7، 23؛ تعليماته حول مخاطبة الآخرين لحفيده بلقب أفندي، 4؛ ويمنحه اسم ربّاني، 20
ينتقل إلى حيفا، 15
التقاليد المنزلية والتحول التدريجي إلى العادات الغربية، 16–17
في خطر من الناقضين، 17
عدم تمكنه من اصطحاب شوقي أفندي في سفره إلى أمريكا، 21–22
يعود إلى مصر حيث تنضم إليه عائلته، 24
تزايد الخطر عليه خلال الحرب العالمية الأولى، 29–30
أسفاره إلى الغرب، 16، 20–22، 26، 135، 158، 239، 256، 263، 425، 466؛ إلى مصر، 20، 24؛ إلى ألمانيا، 471؛ شوقي أفندي يعدد المدن التي زارها المولى، 430
خلال مرضه الأخير يطلب عودة شوقي أفندي فورًا من انكلترا، 52
صعوده، 45؛ وتبعاته، الفصل الثاني هنا وهناك
وصيته، انظر وصية حضرة عبد البهاء [ألواح الوصايا]
مرقده، انظر الأماكن المقدسة
ألواحه: مقتطفات منها هنا وهناك والإشارة إليها؛ إلى شوقي أفندي، 9، 18، 24. انظر أيضًا ألواح الخطة الإلهية
شقيقته، انظر الورقة المباركة العليا
والدته وشقيقه مهدي (الغصن الأطهر)، انظر الأماكن المقدسة، مراقد أقربائه
حرمه، 15، 291
أعضاء عائلته، 6، 11، 13، 23، 29، 45–47، 51–53، 55، 60، 62، 66، 72، 79، 93، 103، 106، 125–128، 137، 181، 183، 186، 207، 210، 255، 290، 293، 371. انظر أيضًا الناقضون
عبد الحميد، سلطان تركيا، 1، 4
عبد الله باشا، بيت، 4–5
العذراء، السيدة مريم، 3
العراق، 62، 64، 107، 174، 207، 358، 378، 380، 421، 430، 435، 448، 454
المندوب السامي البريطاني فيه، 107
الحكومة، 107، 109
المحكمة العليا، 109
العرب في فلسطين، 190–194، 210–212، 260
المثل العربي، 98
اللغة العربية، 220، 330، 487
انظر أيضًا الإسلام
العربية، شبه الجزيرة، 154، 283، 319، 427، 433
عشق آباد (موقع أول مشرق أذكار بهائي في العالم)، 172، 333، 342–345، 363، 377، 466، 469، 472
“عصبة الأمم“، 430
وكالة المفوضية الدائمة، 109
“العصر الذهبي لدين بهاء الله“، 239
العصور:
(1) الرسولي أو البطولي، 256، 296، 334، 366، 417–418، 450، 475–476، 479؛ عهوده، 223–224
(2) التكوين، الانتقالي، الحديدي، 118–119، 231، 256، 285، 296، 327، 373، 405، 417، 422، 475–477
(3) الذهبي، 209، 327، 366، 390، 415، 476–477
العقوبات، 356–357
عكاء، توأم مدينة حيفا، مدينة معيشة حضرة عبد البهاء ومكان ولادة شوقي أفندي، مكان مدفن والدة حضرة عبد البهاء وشقيقته، 1–4، 10، 17–18، 50، 127–128، 146–147، 151، 161، 169–170، 190، 197، 203، 212، 255، 262، 281، 289–290، 305، 319، 325، 458
خليج، 29، 290
قائد مقاطعة، 325
حاكم، 61، (السير غيلبرت كليتون) 81
مفتي، 61
انظر أيضًا الأماكن المقدسة
علائي، شعاع الله (أيادي أمر الله)، 283
علي أصغر، 186–189
علي قلي خان: زوجته تصل إلى فرنسا، 36
(غ)
غتسنغر، لوا، 25
غراند، الآنسة، 45، 46
الغرب، 1–2، 25، 57، 75، 86، 103، 119–121، 136، 143–144، 154–155، 169–172، 184، 205–206، 215، 220، 229، 231، 234، 236–240، 245، 247، 251، 254، 261، 267، 283، 288، 307، 313، 334، 341، 343، 346، 349، 352، 354–358، 363، 365، 372، 375–376، 380، 382، 384–385، 399–401، 404، 409–410، 414–415، 417–419، 421–422، 425، 427، 429، 434–437، 440، 444، 448–449، 451، 454، 457–458، 461، 466، 469، 475، 489
غروسمان، هيرمان (أيادي أمر الله)، 283، 486
غري، اللورد، 37
غريغوري، لويس (أيادي أمر الله)، 21
الغصن الأطهر [مهدي] شقيق حضرة عبد البهاء، مرقده، 101، 146، 167، 289–292، 297، 458، 475
فدى حياته لحياة العالم وتوحيده، 296
غير البهائيين، موقف شوقي أفندي حيالهم، 31، 259، 300–303، 305–325، 356، 361، 409
غودال، 5، 56
غوربتال، 152
غولدمان، جوليا، 302
غيبون، إدوارد، 44، 225
(ف)
فائق، مؤسس “الجمعية العلمية”، ناقض للعهد، 133
فاضل، مبلّغ إيراني، 63
“الفجر“، 377
فذرستون، كوليس (أيادي أمر الله)، 283
فرانكفورت، 453، 462، 471، 480
فرسان حضرة بهاء الله، 451، 462
انظر أيضًا مهاجر
فرنسا، 34، 36، 63، 71–72، 74–75، 94–95، 107–108، 168، 202، 229، 360، 370، 374، 438
القوات الفرنسية، 208
اللغة الفرنسية، 95؛ الترجمة إليها، 229، 233، 278، 330
فروتن، علي أكبر (أيادي أمر الله)، 283
فريد، الدكتور أمين، ناقض للعهد، 21–23
انظر أيضًا نقض العهد
فريدمان، السيد، رئيس حرس الهاغانا المحلي، 194–196
الفريسيون، 56
فكتوريا، الملكة، 127
فلسطين (الأرض الأقدس)، 14، 32–34، 36، 41، 60، 64، 72، 75، 80، 94–95، 126–129، 134، 142، 173، 190، 196–197، 201، 203–205، 207–208، 210، 246، 256–258، 269–271، 278، 293، 298–301، 305–307، 310، 313–316، 318–320، 324، 350، 370، 378، 381
الانتداب البريطاني فيها، 196، 210–213، 269، 307، 318
حاكم المنطقة الشمالية، 278، 323–324
المندوب السامي، 313–318
لجنة الأمم المتحدة الخاصة، 318–320، 381
حرب، 320
فلورنسا، 161
فنشترارهورن، 152
فنلندا، 433، 438–439
فوجيتا، 171
فوكلاند، جزر، 448
فولشير، الدكتورة ج.، ذكريات عن طفولة شوقي أفندي، 12، 15
فيتزجيرالد، مترجم رباعيات عمر الخيام، 241
فيرابي، جون (أيادي أمر الله)، 486
فيرنالد، ناقض للعهد، 56
انظر أيضًا نقض العهد
فيشي، قوات، 207؛ حكومة، 208
فيصل، ملك العراق، 62، 107
فيضي، أبو القاسم (أيادي أمر الله)، 283
فيلادلفيا، 56، 122
فينيقيا، 306
(ق)
قابيل، 136
القاهرة، 25، 127–128، 141، 203–204، 349
قبرص، 125، 127، 190
انظر أيضًا سترز، السير رونالد، حاكمها
القبلة، انظر الأماكن المقدسة
“قد جاء اليوم الموعود“، 149، 206، 208، 210، 237، 247–249، 382–383
قدرية، الأميرة، من مصر، 301
القدس، 60، 80–81، 188، 193، 270، 293، 303، 305–306، 309، 311–313، 318–319، 322، 324، 339
الإدارة فيها، 311
قائد المقاطعة فيها، 312
مفتي الديار، 203
القدوس، 336
القرآن الكريم، 10
“القرن التاسع عشر“، مجلة، 225
قزم، أول بهائي، 399
قزوين، 337
القسطنطينية، انظر إستانبول
قصر عودة خمار، 258
انظر أيضًا الأماكن المقدسة، مرقد حضرة بهاء الله
القطبية، الدائرة – الشمالية، 459
قُلي، العم، 16
القوطي، الفن المعماري، 160
القوقاز، 75، 107، 110، 342، 344، 370، 371، 377، 430، 465
انظر أيضًا روسيا
“قيوم الأسماء“، 221، 365، 421
(ك)
كارلايل، توماس، 43
كارلايل، القس (الأستاذ)، 42
كاشان، 337
كامبردج، 39
كاليفورنيا، 371
“الكتاب الأقدس“، 230، 231، 255، 280، 357، 365، 376، 378، 406، 482، 485، 489
“كتاب الإيقان“، 240
“كتاب القرن البديع” [مراجعة لأحداث قرن من الزمان]، 183–185، 210، 220، 237، 250، 252–254، 266، 350، 363، 456؛ نسخة أقل حجمًا بالفارسية، 456
الكتاب المقدس، 43–44، (حبقوق) 477، (إشعياء) 2، (العهد الجديد) 241، 245
كرارا، رخام، 166، 270، 291، 489
كراوفورد، البروفسور، 242
الكردية، اللغة، الترجمة إليها، 233
الكرْم، حديقة منزل والد شوقي أفندي، 19
كرزون، الإيرل، 37
كرمانشاه، 337
كريت، جزيرة، 208
“الكشف عن المدنية الإلهية”، 239
كلاي، من الكلية الجديدة، أكسفورد، 42
“الكلمات المكنونة“، 44، 230، 246
كليتون، السير غيلبرت، السكرتير العام للإدارة الفلسطينية ، 81
كمبالا، 147–148، 341، 390، 446، 470–471، 479
انظر أيضًا مشارق الأذكار
كندا، 75، 107، 112، 121، 123، 135، 143، 151، 154، 157، 163، 167، 169، 171، 177–178، 203، 238، 246، 264، 268، 283، 297–298، 320، 332، 338، 354، 370، 373، 380، 400، 413، 417–418، 420، 422، 425–426، 430–431، 437–438، 442، 448، 450، 452، 460
المندوب السامي لكندا في لندن، 203
أقدم محفل روحاني مركزي هو الذي تأسس في الولايات التحدة وكندا، 431
انتخاب محفلها الخاص بها، 437
خطة السنوات الخمس لها، 441
منزل ماكسويل زاره حضرة عبد البهاء وأهدي إلى المحفل الروحاني المركزي في كندا، 178
انظر أيضًا أمريكا؛ الأقليات
كوبر، إللا غودال، وصفها لشوقي أفندي في طفولته، 5
كولنز، أميليا [ميللي] (أيادي أمر الله ونائبة رئيس المجلس البهائي العالمي)، 7، 70، 167، 178، 281–283، 288، 486
إشادة شوقي أفندي بها، 288
الكونغو، البلجيكي، 203
كويبك، 269
كيب تاون، 203
كيتاليا، 154
كيث-روتش، السير إدوارد، قائد مقاطعة في حيفا وفي القدس، 308–312، 315
كير، البروفسور، 36
كيواتين، 448
(ل)
اللاب، شعب، 460
لايبزغ، 376
لبنان، 29، 197، 207–208، 269
اللجان، 144، 374
لجنة التبليغ الأوروبية، 231، 439، 442
اللد، 191، 271
لمنغتون، اللورد، 14، 36–37، 201، 301
لندسي، الدكتور أ. د. عميد كلية باليول، 40–41
لندن، 36–39، 43–47، 54، 103، 201، 205، 233، 363، 430، 483، 485–487، 489
السلطات البريطانية فيها، 107
جامعة، 36؛ كلية الدراسات الشرقية، 242
“لوح ابن الذئب“، 249
لوغانو، 14
لوك، البروفسور، 96
لوكسمبورغ، 438
ليبيا، 17، 208
(م)
ماجلاّن، 436
مارتن، الدكتور ألفرد و.، 241
مارغوليوث، البروفسور د. س، 36–37، 41، 46
زوجته، 41
ماري، ملكة رومانيا، الفصل 4، هنا وهناك، خاصة 120–131؛ 232، 237، 246، 301، 346، 429–430
مراسلات مع شوقي أفندي، 121–122، 124–125، 129–130
بياناتها عن الدين البهائي، 122، 130، 132
زيارتها لفلسطين ألغيت، 128
أقرباؤها، 117، 301
انظر أيضًا روت، مارثا ل.
مارينا، الأميرة من اليونان، دوقة كِنْت، 301
ماكسويل، سذرلاند (أيادي أمر الله)، 169، 174، 176، 178، 204، 264–271، 274، 283، 284
تصاميمه للبناء الفوقي للمقام الأعلى، 266–273، 274–275
أخته، 176؛ أقرباء آخرون، 177
ماكسويل، ماري، انظر أمة البهاء روحية خانم
ماكسويل، ماي [تشير إليها روحية خانم بـ ”والدتي” دون ذكر اسمها]، 96، 133، 150، 164–165، 168–175، 200، 202–204، 221، 264، 484
إشادة شوقي أفندي بها، 169، 174
ماكموردو ساوند، 102
ماكنيل، السيدة، 131
ماكولي، توماس بابنغتون، 220
مالطا، 131
مانشستر، 39، 48، 205
الماوريون، 156
اللغة الماورية، الترجمة إليها، 233
مايسي، 400
المتحدة، الأمم، منظمة، 213، 318–320، 332–333، 340، 381، 464
اللجنة البهائية للأمم المتحدة، 332
مفوضية حقوق الإنسان، 464
لجنة فلسطين الخاصة، 381
المندوب السامي للاجئين، 333، 464
الأمين العام، 464
المتحدة، الولايات، انظر أمريكا
رئيسها، 340
المدير العام لمصلحة البريد فيها، 134
المتوسط، البحر الأبيض، 262
مجد الدين، ابن عم محمد علي، ناقض للعهد، 197، 258
انظر أيضًا نقض العهد
المحافل، الروحانية المركزية والمحلية، انظر الروحانية، المحافل
محفظة الآثار، العالمية، 101، 148، 149، 159، 161، 166، 185، 232، 293–297، 390، 465، 483
الرئيسية والثانوية، 294
محمد ()، 122، 154، 476
محمد علي، ناقض للعهد، 17، 57–58، 259–260
ابنه، 61؛ أقرباء آخرون، 58، 258؛ يطالب بأرض، 60–61، 81، 255–256، 258–259
انظر أيضًا نقض العهد
محمود، ميرزا، 22
المخدرات، تحريم حضرة بهاء الله استعمالها، 372
مدارس، انظر “تربيت“، مدارس؛ التبليغ
“المدينة الفاضلة“، 405–406
مرسيليا، 202
المركز العالمي للدين البهائي (الروحي والإداري)، 31، 89، 105، 144، 149، 206، 208، 213، 235، 252، 254، 255–301، 304، 310، 313، 318، 321، 323، 326، 332، 357، 376، 390، 398، 419–421، 429، 434، 441–442، 446، 459، 465، 479، 482، 485
ممتلكاته في الأرض الأقدس، 255، 297، 429؛ خطر عليه أيام الحرب، 205–206، 212–213، 252، 420؛ تسجيله بأسماء فروع محافل مركزية في فلسطين، 298؛ إعفاؤه من الضرائب، 255، 258، 299، 311، 315–317، 320. انظر أيضًا دين عالمي
تطويره على يد شوقي أفندي، الفصل 11 هنا وهناك
انظر أيضًا محفظة الآثار العالمية؛ بيت العدل الأعظم؛ دور ضيافة المسافرين
المزرعة، قصر، أقام فيه حضرة بهاء الله، انظر الأماكن المقدسة
“مساعدة المضطهدين“، صندوق فتحه شوقي أفندي، 341
المسافرين، دور ضيافة، 3، 151، 232، 261، 282
الشرقيين، 79، 255، 264، 267، 319
الغربيين، 49، 78–79، 159، 167–168، 169، 171، 173، 223، 261، 264، 281، 320
المسلمون، انظر الإسلام
المسنّين، دار، 472
المسيح، حضرة، يسوع، 56، 122، 293، 328، 403، 460
المسيحية، 239، 257، 318–319، 410، 453
المسيحيون، 256، 283، 315، 348، 409
مشارق الأذكار، 148، 472؛ المعابد الأم، 466؛ شراء مواقعها، 462، 477
أم المعابد في الغرب، 163، 167، 244، 266، 292، 363، 417، 422، 429، 437، 440–442، 450–452، 458، 465–470، 472
إفريقيا (كمبالا)، 363، 471؛ أستراليا (سيدني)، 363، 471؛ آسيا، 472؛ أوروبا (فرانكفورت)، 363، 471؛ روسيا
(عشق آباد)، 344–345، 363، 469
التخطيط، التصاميم، المواقع:
إفريقيا (كمبالا)، 147–148، 390، 459، 465، 470، 479
الأمريكتان (تورنتو)، 450؛ (مدينة بنما)، 450، 457
آسيا (طهران)،338، 390، 456، 462، 469–470؛ (بغداد، دلهي)، 455؛ (حيفا)، 297، 390، 450
أستراليا (سيدني)، 147–148، 390، 455، 471، 479
أوروبا (فرانكفورت)، 454، 458، 462، 470–471، 480؛ (روما)، 454، 457؛ (ستوكهولم)، 454؛ (بيرن) موقع المعبد هدية من شوقي أفندي، 152
مشكين قلم، 259
مصر، 20–21، 24، 26، 34، 48، 53، 71، 74–75، 94، 103، 127–128، 133، 141، 170، 183، 301، 307، 323–333، 345، 348–350، 358، 370، 378، 380، 410، 421، 427، 429–431، 435، 448
– العليا، 348
زيارات حضرة عبد البهاء إليها، 20، 24–25
انظر أيضًا قدرية، الأميرة
“مطالع الأنوار” [تاريخ النبيل]، 229، 241، 243، 317، 335
معابد، انظر مشارق الأذكار
المعاونين، هيئات، 140، 286، 287، 462، 479، 485
“المعرض الكولمبي العالمي”، 322، 394
المعمارية، الطُرُز، 390
القوطي، 160؛ الإغريقي، 257؛ الهندي، 266؛ الإيطالي، 160
مفتي عكاء، 61
مفتي الديار بالقدس، 203، 208
مكة المكرمة، 465
المملكة المتحدة، انظر بريطانيا العظمى
“منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، 130، 131، 245، 317
منتون، 202
منغوليا، 156، 460
مهاجر، رحمة الله (أيادي أمر الله)، 283
المُهتدون، الجدد، تسميات شوقي أفندي لهم، 412
مهدي، ميرزا، انظر الغصن الأطهر
المؤتمر العالمي للأديان، 303
مؤتمرات:
– التبيلغ الأوروبي (1951)، 279
– البيقارية (التبليغية) عند اطلاق مشروع الجهاد الروحي خلال السنة المقدسة (1952–1953)، 286، 446–457:
(1) الإفريقي (كمبالا)، 446–448؛ (2) الأول لكل أمريكا (شيكاغو)، 178، 231، 404، 446–447، 450–451، 456–457؛ (3) الأوروبي (ستوكهولم)، 442، 446، 448، 452–454؛ (4) الآسيوي (نيو دلهي)، 446، 448، 454–456، 461
– البيقارية في منتصف المشروع (1958):
(1) الإفريقي (كمبالا)؛ (2) “الجهة المقابلة من الكرة الأرضية” (سيدني)؛ (3) الأمريكي (شيكاغو)؛ (4) الأوروبي (فرانكفورت)؛ (5) الآسيوي، 478–482
المؤتمر العالمي، فكرة اطلاقه في 1929م، 279
مؤتمرات الوكلاء، 359–360
– المركزية وعلاقتها بالمحفل الروحاني المركزي، 331، 359–360، 371
– في أمريكا، 64، 71–72، 155، 213، 360، 371، 375، 415–417، 422، 437، 440–441، 466–467
– في أستراليا ونيوزيلندا، 359
– في القوقاز وتركستان، 371
– في ألمانيا، 371
– في حيفا، 373
موسكو، 107، 342
مولتشليكل، أدلبرت (أيادي أمر الله)، 293، 486
مونترِيال، 176–178، 265، 269
مونك، 153
ميلان، 160
ميلز، ماونتفورت، 63–64
ملنر، اللورد، 37
(ن)
نابولي، 22
النازيون، 203، 208، 439
ناصر الدين شاه، 444
الناصرة، 204
ناقضو العهد، [الناقضون، 56، 79. الإشارة هنا إلى استعمال روحية خانم اللفظين بالفارسية “ناكسين” و”ناكزين”]، انظر أفنان، حسين؛ أحمد سهراب؛ آواره؛ بديع الله؛ داير؛ فائق؛ فريد،الدكتور أمين؛ فيرنالد؛ هريغل؛ مجد الدين؛ محمد علي؛ واطسون؛ وايت، السيدة؛ يحيى، ميرزا
الناقورة، 197
نبراسكا، 400
النبيل، 241، 244، 254
النبيل، تاريخ، انظر “مطالع الأنوار”
“نجمة الغرب“، 23، 27، 31، 57، 65، 72، 374، 377
النرويج، 437–438
النساء:
الوثيقة البهائية الخاصة بحقوق المرأة، 332
مشاركتهن في الأنشطة الإدارية في الدول الشرقية، 358
“النساء المهاجرات”، 415
تحرير المرأة في إيران، البهائيات لا يأخذن زمام المبادرة، 338–339
نشر الكتب (المطبوعات) البهائية، 231، 377، 389، 457
“نشرة المساء“، مجلة (فيلادلفيا)، 122
“نظام بهاء الله العالمي“، 238
“نظام بهاء الله العالمي – اعتبارات اضافية”، 238
نقض العهد، 2، 17، 56–61، 79–80، 133–140، 181–185، 252، 255، 258–261، 289–291، 298، 302، 305، 321–322، 356، 368
تحليل ووصف للنقض في عائلة حضرة بهاء الله، 136–137
هجماته تقوي أمر الله، 136
تطهير الحرم الأقدس، 261
تأثيره على شوقي أفندي، 133–134، 136–137، 180–182، 185
النمسا، 107، 426، 448، 453، 470، 478، 480
المحفل المركزي في ألمانيا والنمسا مسؤول عن المؤتمر العالمي الرابع في 1958، 478
نهرو، جواهرلال، رئيس وزراء الهند، 456
النهضة، رسامو عصر، 405
نوريتش، 95
نويلي، 35
نيقولاس، أ. ل. م.، 229
النيل، نهر، 204
نيودلهي، 446، 454–455
نيوزيلندا، 84، 107، 141، 156، 172، 233، 298، 421، 433، 454، 471، 478
وأستراليا، 359، 426، 430
انظر أيضًا “الجهة المقابلة من الكرة الأرضية”، أستراليشيا؛ الماوريون؛ الأقليات
نيويورك، 56، 141، 321، 331، 371، 376، 415، 467
“نيويورك هيرالد تربيون” (طبعة باريس)، 225
(هـ)
هابيل، 136
هاغانا، 192، 194–196
انظر أيضًا فريدمان، السيد
هاجر خاتون، 18–19
هادشيل، 12
الهادئ، المحيط وجزره، 75، 84، 107، 283، 370–371، 376، 404، 415، 428، 448، 459، 472
هامبورغ، 278
هاواي، جزر، 34
حاج من نسل العائلة المالكة في هاواي، 400
هاوزر، السيد، 67، 69
هتلر، أدولف، 213
هجرة، مهاجرون، 86، 402–403، 413، 419، 451، 455، 461
عرض للخدمة في مستعمرة مرضى الجذام، 456
“نساء مهاجرات”، 415
هدايا من شوقي أفندي:
قطعة أرض للجامعة البهائية السويسرية، 152
إلى أم المعابد في الغرب، 466
– مختلفة، 324–325، 364، 457
“هدف نظام عالمي جديد“، 238
هريغل، ناقض للعهد، 135
انظر أيضًا نقض العهد
الهملايا، جبال، 434
الهنغارية، اللغة، الترجمة إليها، 233
الهند، 26، 34، 53، 64، 71، 74–75، 86، 104، 106–107، 118–119، 208، 231، 278، 298، 303، 350، 358، 370–371، 377، 380، 421، 426، 430–431، 435، 446، 448، 454، 456–457
الهند، مؤتمر، للمرأة الآسيوية، 303
الهند الصينية، 34
الهندي، المحيط، 459
الهندي، نمط العمارة، 266
الهندوسية، 460
هنود نصف كرة الأرض الغربي، 154–155، 377، (الحمر) 460، (الإنكا) 399؛ أهمية تأسيس محافل روحانية محلية جميع أعضائها من الهنود، 155؛ ترسيخ دعائم أول محفل روحاني جميع أعضائه من الهنود، 400
لغات هنود نصف كرة الأرض الغربي، الترجمة إليها، 451
هوغ، إموجين، 60، 63
هوفر، الرئيس، 117
هول، إي، تي، 48
هول، الدكتور، 38
هول، السيد، 43
هولندا، 95، 282، 437
هولي، هورس (أيادي أمر الله، سكرتير المحفل الروحاني المركزي الأمريكي)، 104، 185، 229، 230، 233، 234، 236، 250، 270، 283
هونولولو، 118
هايني، بول (أيادي أمر الله)، 284
(و)
واتشوب، السير آرثر، المندوب السامي في فلسطين، 299، 315–317
وبستر، قاموس، 221
واشنطن، 56–57، 96، 347
واطسون، ناقض للعهد، 56
انظر أيضًا نقض العهد
وايت (Whyte)، السيدة، 41، 49
وايت (White)، السيدة، ناقضة للعهد، 134
زوجها، 135
انظر أيضًا نقض العهد
واينشال، الدكتور، 192، 195–196
وثنيون، 283
ورقاء، جناب ولي الله (أيادي أمر الله، أمين الحقوق)، 176، 283، 421
ورقاء، علي محمد (أيادي أمر الله، أمين الحقوق)، 284
الورقات المباركة، 59
انظر أيضًا الورقة المباركة العليا
الورقة المباركة العليا [بهائية خانم]، تبرق نبأ صعود حضرة عبد البهاء إلى لندن، 45؛ علمها المسبق بمضامين الوصية، 51؛ تعلن المضامين إلى العالم البهائي، 54؛ مؤازرتها لشوقي أفندي خلال السنوات الأولى من ولاية أمر الله، 56–57؛ قوّتها، 48؛ عيّنها شوقي أفندي لإدارة الشؤون البهائية أثناء غيابه، 65–66؛ ترسل بعض أقربائه إلى سويسرا، 72؛ محبتها لشوقي أفندي وتواصلها معه، 163–166؛ خاتمها استُعمل في حفل زفاف حضرته، 166؛ إهداء كتاب “مطالع الأنوار” إليها، 244–245؛ وفاتها، 163؛ مرقدها والنصب التذكاري على جبل الكرمل، 101، 146–147، 166، 264، 289–292، 296، 297، 309–310، 475
انظر أيضًا ، 11، 12، 16–17، 25، 52–58، 115، 126، 129، 158، 171، 223، 303، 306، 468
وصية حضرة عبد البهاء [ألواح الوصايا]، 1، 4، 18، 47، 49، 50–51، 53–58، 60–61، 64، 72، 80، 82–83، 86، 88، 103، 133–135، 167، 181، 227–228، 230، 255، 276-277، 279–280، 283–285، 288–289، 326–328، 353، 366–367، 369–371، 373، 407، 411، 445، 457، 473، 482، 490
بنودها الرئيسة، 47–49؛ نشرها، 53–54؛ أثرها على شوقي أفندي، 82، 167؛ استقبلت بموجة من الولاء لحضرته، 57–59؛ ترجمها حضرته إلى الإنكليزية، 60؛ ادعاء ناقضي العهد الأمريكيين أنها مزورة، 134
ولاية أمر الله، 480؛ انظر وصية حضرة عبد البهاء؛ بيانات وتوجيهات، الفهرس الخاص، 502–504
“ولي أمر الله“، المعنى العربي والإنكليزي، 445
انظر أيضًا شوقي أفندي، الفهرس الخاص، 493–504
ويدن، بن، 90، 191، 270–271، 281–282
ويدن، غلاديس (غلاديس أندرسون)، 89–90، 189، 191، 193–198، 212، 281–282
ويلز، 453
ويلمت، 131، 456، 462
ويلهلم، روي، 56، 63–64، 194
(ي)
اليابان، 34، 53، 59، 72، 74، 75، 107، 117، 208، 360، 370، 376، 454، 460
إمبراطورها، 117
فن النحت الياباني، 489
يحيى، ميرزا، ناقض للعهد، 136
انظر ايضًا نقض العهد
ينغهزبند، السير فرانسيس، 302–303
اليهود، 190، 192–193، 210–212، 258، 283، 315، 319، 356، 397
انظر أيضًا اليهودية، الصهيونية
اليهودية، الديانة، 257، 318، 410
يهوذا الإسخريوطي، 56
يوسف، 399
يوغوسلافيا، 438
يوكون، 448
اليونان:
النمط الإغريقي في العمارة، 160، 294
اللغة اليونانية، الترجمة إليها، 233
انظر أيضًا مارينا، الأميرة
يونغفراو، 67، 153