هدف نظمٍ عالميٍّ جديد
هدف نظمٍ عالميٍّ جديد

هدف نظمٍ عالميٍّ جديد

زملائي المؤمنين في دين حضرة بهاء الله 

إنّ زحف أحداث الآونة الأخيرة الجارف قد نقل البشريّة إلى مشارف الهدف الّذي أنبأها به حضرة بهاء الله، بحيث لا يمكن لأيّ مؤمنٍ وفيٍّ لأمره المبارك، وهو يرقب من كلّ جانبٍ الشّواهد المفجعة لمحنة هذا العالم، أن يبقى ساكنًا حيال فكرة اقترابه من خلاصه. 

ويبدو من المناسب، ونحن نُحيي في كلّ أنحاء العالم ذكرى انقضاء أوّل عقدٍ على الرّحيل المفاجئ لحضرة عبد البهاء من بين ظهرانينا، أن نتأمّل، في ضوء التّعاليم الّتي أورثها حضرة عبد البهاء لهذا العالم، في تلك الأحداث الّتي عجّلت في البروز التّدريجيّ للنّظم العالميّ البديع الّذي استشرفه حضرة بهاء الله.   

ففي مثل هذا اليوم منذ عشر سنواتٍ مضت، سرت كالبرق في جنبات الأرض أنباء صعود من كان يقدر وحده، بما لمحبّته وعزيمته وحكمته من تأثيرٍ يسمو بالأرواح، أن يكون سند هذا العالم وسلوانه في مصائبه الجمّة الّتي قُدّر له أن يعانيها. 

وكم لا يزال بوسعنا، نحن العصبة القليلة من أنصاره الأوفياء الّذين ندّعي بحقّ إقرارنا بالنّور الّذي أشرق في ذاته، أن نتذكّر جيّدًا إشارات حضرته المتكرّرة في مغرب حياته الدّنيويّة إلى البلايا والمحن الّتي ستُبتلى بها أكثر فأكثر بشريّةٌ عنود.  وكم يسترجع البعض منّا بكلّ شجنٍ بياناته الحافلة بالمعاني، في حضور الحجّاج والزّائرين الّذين تجمهروا على بابه غداة الاحتفالات البهيجة بمناسبة انتهاء الحرب العالميّة – حربٍ قُدّر لها بما جلبته من أهوال، وجرّته من خسائر، وولّدته من تعقيدات أن تُحدث آثارًا بعيدة المدى في مقدّرات الجنس البشريّ.  وكم كان حضرته هادئًا رصينًا، وفي الوقت نفسه قويًّا حازمًا، في تأكيده على الخدعة القاسية الّتي بيّتتها معاهدة هلّلت لها شعوبٌ وأممٌ على أنّها تجسيدٌ لانتصار العدالة وأداةٌ مُحكمةٌ لسلامٍ دائمٍ لبشريّةٍ لم تشعر بالنّدم.  وكم من مرّةٍ سمعنا حضرته يعلّق قائلًا: السّلام، السّلام؛ كلمةٌ تتردّد على شفاه الحكّام والرّعيّة على الدّوام بينما لا تزال نار البغضاء المتّقدة تتأجّج في قلوبهم.  وكم من مرّةٍ سمعنا صوت حضرته يعلو في وقتٍ كانت فيه جلبة النّشوة بالنّصر على أشدّها  وقبل أن يستشعر أو يفصح أحدٌ بأدنى قدرٍ من الشّكّ بوقتٍ طويل، معلنًا بكلّ ثقةٍ أنّ الوثيقة الّتي أشادوا بها على أنّها ميثاق بشريّةٍ قد تحرّرت، تحمل بين ثناياها بذور خديعةٍ بلغت مرارتها حدًّا من شأنه أن يستعبد البشريّة أكثر من ذي قبل.  فما أكثر ما نراه الآن من دلائل تشهد بفراسة حكمه السّديد!

إنّ عشر سنواتٍ من هياجٍ لا ينقطع، مُثْقَلةٍ باللّوعة ومشحونةٍ بعواقبَ لا تُحْصَى لمستقبل المدنيَّة، قد جلبت العالم إلى حافَّة كارِثةٍ لا يُمكِن تَصوُّرها من فَرْط فظاعَتها.  ومن المُحْزِن حقًّا ذلك التّناقض بين مظاهر الحماس الواثق الّذي أَطلَق له العنان السّاسة المُفَوَّضون في فرساي، وبين صَرخَة اللَّوعة السّافِرة الّتي باتت تعلو الآن من المُنتصِر والمَهزوم على حدٍّ سواء، في لحظة الانخداع المرير هذه.  

عالمٌ أرهقته الحروب

لم تُثبِت القوّة الّتي حشدها صائغو معاهدات الصّلح وضامنوها، ولا المُثُل العليا الّتي حرّكت في الأصل واضعي ميثاق عصبة الأمم، أنّها كانت حصنًا حصينًا أمام قوى التّمزّق الدّاخليّ الّتي هاجمت بلا هوادة هيكلًا أُقيم بكلّ جهدٍ وعناء.  كما لم تبرهن نصوص ما قيل إنّها تسويةٌ سعت القوى المنتصرة إلى فرضها، أو آليّة مؤسّسةٍ ابتدعها رئيسٌ أمريكيٌّ مرموق بعيد النّظر، سواء من حيث الفكرة أو التّطبيق، على أنّها أدواتٌ كافية لضمان سلامة ذلك النّظام الّذي جاهدوا لإقامته.  ولقد كتب حضرة عبد البهاء في كانون الثّاني/ يناير سنة 1920: “لن تنقشع هذه الظّلمات ولن تشفى هذه الأمراض المزمنة، بل سوف تشتدّ يومًا بعد يوم وتتفاقم، ولن تهدأ البلقان بل ستزداد الأمور فيها سوءًا، ولن يقرّ للدّول المغلوبة قرار، بل ستتشبّث بكافّة الوسائل حتّى تشتعل نار الحرب من جديد.  أمّا الحركات العموميّة الحديثة فسوف تبذل قصارى جهدها في تنفيذ مقاصدها، وحركة اليسار سوف تزداد أهمّيّتها كثيرًا وينتشر نفوذها.”

ومنذ أن كُتبت هذه الكلمات، بدا وكأنّ الضّائقة الاقتصاديّة والاضطرابات السّياسيّة والتّقلّبات الماليّة، والهياج الدّينيّ، والعداوات العنصريّة، قد تآمرت كلّها لتفاقم الأعباء الّتي يئنّ تحتها عالمٌ أصابته الفاقة وأرهقته الحرب.  وهكذا بلغ تراكم آثار تلك الأزمات المتعاقبة بوتيرةٍ مذهلةٍ حدًّا جعل أسس المجتمع نفسها تهتزّ.  فما من قارّةٍ وجّهنا إليها النّظر، وفي أيّ أقليمٍ مهما كان بعيدًا دقّقنا البصر، إلّا وجدنا العالم من كلّ الجهات قد وقع فريسةً لقوى لا يستطيع تفسيرها ولا التّحكّم بها.

فأوروبّا الّتي كانت تُعتبر حتّى الآن مهدًا لحضارةٍ كثر التّباهي بها، وحاملةً لمشعل الحرّيّة، والمنبع الرّئيسيّ لقوى العالم الصّناعيّة والتّجاريّة، تقف حائرةً مشلولةً وهي تشاهد هذا الانقلاب الهائل؛ فها هي مُثلها الّتي طال الافتخار بها في المضمار السّياسيّ كما في المجال الاقتصاديّ للمساعي الإنسانيّة واقعة في امتحانٍ عسيرٍ تحت ضغط حركاتٍ رجعيّةٍ من جانب، وراديكاليّةٍ خبيثةٍ ملحّةٍ من جانبٍ آخر.  ومن قلب آسيا نسمع من بعيد جلبةً مشئومةً ملحّة تُنذر بهجومٍ حثيثٍ لعقيدةٍ تهدّد بتقويض دعائم المجتمع البشريّ كلّه بإنكارها الله وشرائعه وأحكامه.  فها هي نعرة حركاتٍ قوميّةٍ وليدة، مقرونة بتفشّي الشّكّ والإلحاد من جديد، تأتي لتضيف إلى بلايا هذه القارّة الّتي اعتُبرت حتّى وقتٍ قريبٍ بأنّها رمز الاستقرار العريق والرّضاء التّامّ.  وفي أعماق قارّة إفريقيا يمكننا أن نستبين بوادر زلزلةِ ثورةٍ واعيةٍ دؤوب تزداد يومًا بعد يوم في وجه أهداف الاستعمار السّياسيّ والاقتصاديّ وأساليبه، مدليةً بذلك بدلوها في القلاقل المتفاقمة الّتي ألمّت بعصرٍ مضطرب.  وحتّى أمريكا نفسها الّتي كانت إلى عهدٍ قريبٍ تتفاخر بسياستها التّقليديّة في الانعزال والاكتفاء الذّاتيّ الّذي يميّز اقتصادها ومناعة مؤسّساتها ودلائل نموّ ازدهارها وهيبتها، لم تستطع مقاومة القوى القاهرة الّتي جرفتها إلى دوّامة إعصارٍ اقتصاديٍّ بات يهدّد بتصديع قواعد مقوّمات حياتها الصّناعيّة والاقتصاديّة.  بل وحتّى أستراليا القصيّة الّتي كان من المتوقّع أن تكون محصّنةً ضدّ العذاب والمحن الّتي تعتصر القارّة الأوروبيّة المبتلاة نظرًا لبعدها عن مراكز عواصف تلك القارّة، قد انجرفت هي الأخرى في دوّامة الآلام والمعاناة عاجزةً عن تخليص نفسها من شَرَك تأثير تلك العواصف.

 

علامات الهرج والمرج الوشيك

لم تَحدث أبدًا في السّابق انقلاباتٌ جذريّةٌ واسعةُ النّطاق سواء كانت في مجالات النّشاط الإنسانيّ الاجتماعيّ أو الاقتصاديّ أو السّياسيّ كالّتي تجري الآن في مختلف بقاع العالم.  كما لم يسبِق أبدًا وجود هذا الكَمّ الهائل المتنوّع من منابع الخطر كتلك الّتي تهدّد بِنيَة المجتمع في الوقت الحاضر.  فإذا ما توقّفنا لنتأمّل الأوضاع القائمة في هذا العالم المضطرب اضطرابًا عجيبًا أدركنا المغزى العميق لكلمات حضرة بهاء الله إذ يتفضّل قائلًا: “إلى متى الغفلة؟  وإلى متى الاعتساف؟  إلى متى الفوضى والاختلاف؟ … تهبّ رياح اليأس من جميع الجهات، وتزداد انقلابات العالم واختلافاته يومًا بعد يوم.  آثار الهرج والمرج مشهودة، لأنّ النّظم السّائد حاليًّا لا يبدو مناسبًا.”

إنّ الأثر المقلق المتأتّي من كون أكثر من ثلاثين مليون نسمة يعيشون كأقلّيّات في جميع أرجاء القارّة الأوروبيّة؛ والعبء الفادح والتّأثير المحبط اللّذيْن تعاني منهما الحكومات والشّعوب إزاء الجيش الجرّار من العاطلين عن العمل الّذي يتضخّم يومًا بعد يوم؛ والسّباق الخبيث الجامح في التّسلّح وما يبتلعه من مقاديرَ متزايدةٍ من أقوات الأمم الّتي أضناها الفقر بالفعل؛ والإحباط التّامّ الّذي تعاني منه الآن الأسواق الماليّة العالميّة باطّراد؛ وهجوم العلمانيّة  الّتي تجتاح ما كان يُعدّ حتّى الآن المعاقل الحصينة لأصول المسيحيّة والإسلام – كلّ ذلك يبرز كأخطر الأعراض الّتي تنذر بالسّوء حيال استقرار بنيان المدنيّة الحديثة في المستقبل.  فلا عجب إذن لأحد أبرز مفكّري القارّة الأوروبيّة، المشهود له بالحكمة والتّروّي، أن يجد نفسه مضطرًّا لأن يؤكّد بجرأةٍ بالغة بأنّ “العالم يمرّ بأخطر أزمةٍ في تاريخ المدنيّة”.  ويكتب آخر: “إنّنا نقف إمّا إزاء نكبةٍ عالميّة، أو ربّما أمام فجر عهدٍ من الحقيقة والحكمة أعظم ممّا عرفناه من قبل.”  ويضيف: “وفي أوقاتٍ كهذة تفنى ديانات وتُوْلَدُ أخرى.”

ألا يمكننا أن نتبيّن بعد، ونحن نتفحّص الأفق السّياسيّ، تضافر تلك القوى الّتي تعيد تقسيم القارّة الأوروبيّة من جديد إلى معسكراتِ قتالٍ محتملة، عازمةً على سجالٍ قد يمثّل، خلافًا للحرب الأخيرة، نهاية حقبةٍ طويلةٍ في تاريخ التّطوّر الإنسانيّ؟  هل نحن، الأمناء المُختارون لهذا الأمر الإلهيّ النّفيس، مَدعُوُّون لنشهد تَغْييرًا كارثيًّا عنيفًا، جوهريًّا من النّاحية السّياسيّة وخيّرًا من النّاحية الرّوحيّة، مُمَاثلًا لذلك التّغيير الّذي عجَّل بسقوط الامبراطوريّة الرّومانيّة الغربيّة؟  ألَيْس مِن المُمكن – وهو ما يَجْمُل بكلّ مؤمنٍ واعٍ بدِين حضرة بهاء الله أن يتوقّف كي يفكّر فيه مليًّا – أن تتدفّق من هذا الفوران العالميّ قوى لها من الزَّخَم الرّوحيّ ما يُعيد إلى الأذهان، بل يفوق، بهاء تلك العلامات والعجائب الّتي واكبت إرساء دعائم دين يسوع المسيح؟  ألَيْس من المُمكن أن تَتَمَخَّض كروبُ عالَمٍ مُتزَلزِلٍ عن بَعثٍ دينيٍّ له من المدى والقوَّة ما يفوق حتّى فاعليّة تلك القوى الّتي أمسكت بواسطتها ديانات الماضي بزِمام العالَم وأحيَت، في فترات زمنيّة محدّدة وطِبقًا لحِكْمةٍ إلهيّة تَعجَز عن إدراكها الأفْهام، مُقَدَّرات عُصورٍ وأممٍ كانت آخذةً في الانحطاط؟  ألا يُمكن أن يكون نَفْس إفلاس مَدَنِيَّة اليوم، تلك المَدَنِيَّة المادّيّة المُمْعِنة في التّبجُّح، هو ما سَيُزيل الأعشاب الضّارّة الخانِقة الّتي تَعُوق الآن تكشّف دين الله المُكافِح وتؤخّر ازدهاره في المستقبل؟ 

لندَعْ حضرة بهاء الله ينير بكلماته سبيلنا ونحن نتلمّس طريقنا وسط مخاطر هذا العصر المضطرب ومآسيه.  فمنذ أكثر من خمسين سنةً مضت، ووسط عالمٍ كان أبعد ما يكون عن الأسقام والمحن الّتي ابتلي بها اليوم، جرت من قلمه هذه النّبوّة: “العالم منقلبٌ وانقلابه يزداد يومًا بعد يوم.  وجهه متوجّهٌ نحو الغفلة واللّامذهبيّة.  وسيشتدّ هذا الوضع على شأنٍ لا يقتضي ذكره الآن، وستمضي أيّامٌ على هذا النّهج.  وإذا تمّ الميقات يظهر بغتةً ما يرتعد به فرائص العالم إذًا ترتفع الأعلام وتغرّد العنادل على الأفنان.” 

عجز ساسة العالم

أيّها الأحبّاء الأعزّاء! إنّ البشريّة، سواء نظرنا إليها في ضوء السّلوك الفرديّ للإنسان أو من زاوية العلاقات القائمة بين المجتمعات والأمم المنظّمة، قد شطّت بعيدًا، ويا للأسف، وعانت من انحطاطٍ شديدٍ لا يمكن الرّجوع عنه بالجهود المنفردة لأفضل من يشار إليهم بالبنان من حكّامها وساستها – مهما بلغ من نزاهة دوافعهم، واتّساق مجهوداتهم، وشدّة حماسهم وإخلاصهم لقضيّتها.  فما من مخطّطٍ قد تجود به قريحة أقطاب السّاسة؛ وما من مبدأٍ قد يأمل في ترويجه أبرز مناصري النّظريّات الاقتصاديّة؛ وما من قاعدةٍ قد يجدّ أشدّ الأخلاقيّين حماسةً في غرسها في النّفوس، يمكنها أن تقدّم في نهاية المطاف أسسًا متينة يمكن أن يشيّد عليها مستقبلُ عالَمٍ ذاهل.  وما من مناشدةٍ من أجل تسامحٍ متبادلٍ يطلقها الخبراء في الشّئون الإنسانيّة، مهما كانت تتّسم بالإقناع والإصرار، يمكنها أن تُسكّن آلام البشريّة أو تعيد إليها حيويّتها.  وما من تدبيرٍ عامّ لمجرّد تعاونٍ منظّمٍ بين الأمم في أيّ مجالٍ من مجالات النّشاط الإنسانيّ، مهما كان مبتكرًا في فكرته أو شاسعًا في نطاقه، يمكنه أن يفلح في استئصال شأفة الشّرّ الّذي أخلّ بكلّ عنفٍ بتوازن مجتمع اليوم الحاضر.  لا بل إنّني أجرؤ على التّأكيد بأنّ مجرّد ابتكار الآليّة اللّازمة لتوحيد العالم من الوجهتين الاقتصاديّة والسّياسيّة – وهو المبدأ الّذي حظي بتأييدٍ متزايدٍ في الآونة الأخيرة – ليس من شأنه في حدّ ذاته أن يأتي بالتّرياق النّاجع ضدّ السّمّ الزّعاف الّذي بات يقوّض بشكلٍ مُطّرد قوى الأمم والشّعوب المنظّمة.  أفلا يحقّ لنا إذن أن نؤكّد بكلّ ثقة أنّ لا شيء يمكنه في النّهاية الصّمود في وجه قوى الانحلال الدّاخليّ، الّتي إنْ لم تُكبح فلا مناص من أن تنهش أحشاء مجتمعٍ يائس، سوى قبولِنا دون تحفّظ بالبرنامج الإلهيّ الّذي أعلنه حضرة بهاء الله منذ ستّين عامًا مضت بهذه البساطة والقوّة، مودعًا في حقائقه الأساسيّة التّدبير الإلهيّ الهادف إلى توحيد الجنس البشريّ في هذا العصر – قبولٍ يلازمه إيمانٌ لا يتزعزع بالفعّاليّة الأكيدة لكلّ موادّه وأحكامه جملةً وتفصيلًا؟  إذ إنّه نحو هذا الهدف – هدف نظمٍ عالميٍّ جديد، إلهيٍّ في أصله، شاملٍ في مداه، عادلٍ في مبدئه، متحدٍّ في مظاهره– يتعيّن على إنسانيّةٍ منهكة أن تسعى جاهدةً.

أمّا الادّعاء بفهم كافّة مضامين وتبعات مشروع حضرة بهاء الله الهائل الّذي يهدف إلى تحقيق تضامنٍ إنسانيّ يشمل العالم بأسره، أو بسبر غور دلالاته، فيعدّ تماديًا حتّى من جانب المجاهرين من مناصري  أمره الكريم.  إذ إنّه من السّابق لأوانه، حتّى في هذه المرحلة المتقدّمة من تطوّر الجنس البشريّ، محاولة تخيّل هذا المشروع بكلّ إمكانيّاته، أو تقدير فوائده المستقبليّة، أو تصوّر مدى بهائه وجلاله.

 

المبادئ الهادية للنّظم العالميّ

إنّ كلّ ما بوسعنا أن نتجاسر على محاولته في حدود المعقول هو أن نسعى جاهدين للحصول على قبسٍ من الخيوط الأولى لنور ذلك الفجر الموعود الّذي من شأنه، عند حلول الميقات، أن يبدّد القتام الّذي حاق بالبشريّة.  وكلّ ما يمكننا عمله هو أن نشير، بإيجازٍ شديدٍ، إلى ما تبدو لنا أنّها المبادئ الهادية الّتي يقوم عليها نظم حضرة بهاء الله العالميّ، كما أسهب في وصفه وبيّنه حضرة عبد البهاء، مركز عهده وميثاقه مع بني البشر كافّة، والمبيّن المختار لكلمته الإلهيّة. 

إنّ كون المعاناة والاضطراب اللّذيْن يحيقان بمجمل الجنس البشريّ هما إلى حدٍّ كبير النّتيجة المباشرة للحرب العالميّة ويُعزيان إلى رعونة وقصر نظر من صاغوا معاهدات الصّلح، لهو حقيقة لا تنكرها إلّا عقليّة متحيّزة.  وكون الالتزامات الماليّة الّتي تمّ التّعاقد عليها أثناء الحرب، فضلًا عن فرض عبءٍ فادحٍ من التّعويضات على الدّول المغلوبة، هي المسؤول الأعظم عن سوء التّوزيع وما نجم عنه من نقصٍ في الأصول الاحتياطيّة من الذّهب في العالم، وهو ما أفضى بدوره بقدرٍ كبيرٍ إلى زيادة حدّة ذلك الانهيار الشّديد في الأسعار وبالتّالي فاقم من أعباء الدّول الفقيرة بلا هوادة، لهو أمرٌ لا يشكّك فيه أيّ فكرٍ نزيه.  وإنّ كون الدّيون القائمة بين الحكومات قد فرضت ضغوطًا شديدةً على شعوب القارّة الأوروبيّة وأصابت ميزانيّات الدّول بالخلل، وشلّت صناعاتها وزادت من أعداد العاطلين عن العمل فيها، هو ما لا يخفى على أيّ مراقبٍ منصفٍ.  وكون روح الانتقام والشّكّ والخوف والتّنافس الّتي ولّدتها الحرب، والّتي ساهمت نصوص معاهدات الصّلح في إدامتها وإذكائها، قد أفضت إلى ازديادٍ هائلٍ في سباق التّسلّح الدّوليّ بحيث وصل الإنفاق عليه في العام الماضي ما لا يقلّ عن ألف مليون جنيه، ممّا فاقم بدوره من تبعات الكساد العالميّ، لهو حقيقة لا يمكن حتّى لأشدّ المراقبين سطحيّة أن يتردّد في قبولها.  وإنّ كون تلك النّعرة القوميّة الضّيّقة الشّرسة الّتي ساهمت في تعزيزها نظريّة الحقّ في تقرير المصير الّتي ظهرت في أعقاب الحرب هي المسؤول الأساسيّ لظهور سياسة فرض الرّسوم الجمركيّة الباهظة الّتي أضرّت ضررًا بليغًا بالانسياب السّليم للتّجارة الدّوليّة وبآليّة التّمويل الدّوليّ، لهي حقيقة قلّ من يجرؤ على تفنيدها. 

بيد أنّه من اللّغو المجادلة بأنّ الحرب بكلّ ما جلبته من خسائر وأثارته من شجون وخلّفته من مظالم، كانت هي المسؤول الوحيد عن الفوضى غير المسبوقة الّتي غرق فيها تقريبًا كلّ جزءٍ من أجزاء العالم المتمدّن في الوقت الحاضر.  أليست حقيقةً واقعةً، وهذه هي الفكرة الجوهريّة الّتي أريد التّأكيد عليها، أنّ السّبب الأساسيّ لهذا الاضطراب العالميّ لا يُعزى كثيرًا إلى تبعات ما سوف يعدّ عاجلًا أو آجلًا اختلالًا مؤقّتًا في شؤون عالمٍ دائم التقلّب، بل إلى إخفاق من أؤتمنت أيديهم على المصائر المباشرة للشّعوب والأمم في تعديل أنظمة مؤسّساتهم الاقتصاديّة والسّياسيّة لتتماشى مع المطالب الملحّة لعصرٍ سريع التّطوّر؟  ألا ترجع هذه الأزمات المتقطّعة الّتي تزلزل كيان المجتمع الحاضر في المقام الأوّل إلى العجز المؤسف لزعماء العالم المرموقين عن استقراء علامات الأزمنة بشكلٍ صحيح، وعن التّخلّص نهائيًّا من آرائهم المسبقة وأفكارهم المقيِّدة، وعن إعادة صياغة آليّة عمل حكوماتهم بما يتماشى مع تلك المعايير الواضحة في إعلان حضرة بهاء الله السّاميّ عن وحدة الجنس البشريّ، الّذي هو السّمة الرّئيسيّة المميّزة للدّين الّذي نادى به؟  ذلك لأنّ مبدأ وحدة الجنس البشريّ، الّذي هو حجر الزّاوية لسلطنة حضرة بهاء الله الشّاملة للعالم، يرمي لا أكثر ولا أقلّ إلى تنفيذ مشروعه القاضي بتوحيد العالم – ذلك المشروع الّذي أشرنا إليه سابقًا.  ولقد كتب حضرة عبد البهاء قائلًا: “في كلّ ظهور أشرق صبح الهدى كان موضوع ذلك الإشراق أمرًا من الأمور … أمّا في هذا الدّور البديع والقرن الجليل فإنّ أساس دين الله وجوهر شريعة الله … هو إعلان وحدة العالم الإنسانيّ.” 

كم هي مدعاةٌ للأسف حقًّا تلك الجهود الّتي يبذلها قادة المؤسّسات البشريّة الغافلون تمامًا عن روح العصر، في سعيهم لتعديل الأساليب القوميّة، الّتي توافق الأزمنة الخالية حيث الأمم منغلقة على نفسها، لكي توائم عصرًا إمّا أن يحقّق وحدة العالم كما أشار إليها حضرة بهاء الله، أو أن يفنى.  ففي آونةٍ حرجةٍ كهذه في تاريخ الحضارة يجدر بقادة أمم العالم قاطبةً، كبيرها وصغيرها، في الشّرق كانت أم في الغرب، منتصرةً كانت أم مهزومة، أن يلتفتوا إلى النّداء الّذي أطلقه حضرة بهاء الله، وينهضوا بكلّ شجاعة، مفعمين بشعورٍ من التّضامن العالميّ، ذلك الشّرط الّذي لا غنى عنه للولاء لأمره المبارك، من أجل إنجاز المشروع الشّافي الأوحد بتمامه، ذلك المشروع الّذي وصفه الطّبيب الإلهيّ لبشريّة عليلة.  عليهم أن ينبذوا تمامًا كلّ فكرةٍ مسبقةٍ وكل ّتعصّبٍ قوميّ ويلتفتوا إلى النّصيحة السّامية لحضرة عبد البهاء، المبيّن المختار لتعاليم حضرة بهاء الله.  ففي ردٍّ على استفسارٍ لمسؤولٍ رفيعٍ كان يخدم الحكومة الاتّحاديّة للولايات المتّحدة الأمريكيّة عن أفضل السّبل الّتي يمكنه بها تعزيز مصالح حكومته وشعبه، تفضّل حضرته بأنّه يمكنك أن تخدم وطنك بأفضل وجه إذا سعيت جاهدًا كمواطنٍ عالميّ للمساعدة في التّطبيق التّامّ لمبدأ الفيديراليّة، الّذي تقوم عليه حكومة بلادك، في العلاقات الّتي تربط بين شعوب العالم وأممه في الوقت الرّاهن. 

كما تطالعنا “الرّسالة المدنيّة”، تلك المساهمة البارزة الّتي جاد بها حضرة عبد البهاء في ما يتعلّق بإعادة تنظيم شؤون العالم في المستقبل بما يلي:

“نعم، إنّ التّمدّن الحقيقيّ لينشر أعلامه في قطب العالم عندما يتقدّم عددٌ من ذوي الهمّة العالية من أعاظم الملوك، وكالشّمس المشرقة في عالم الغيرة والحميّة يأخذون زمام المبادرة بعزمٍ أكيد ورأيٍ سديد من أجل خير عموم البشر وسعادتهم، فيطرحون أمر السّلام العامّ على بساط المشورة، ويتشبّثون بكلّ الوسائل والوسائط لعقد مؤتمرٍ يجمع دول العالم، ويبرمون معاهدةً مُلزمةً للجميع وميثاقًا بنوده محكمة ثابتة، ثمّ يعلنونها ويقرّونها بعد موافقة عموم الجنس البشريّ عليها.  فيَعتبر كلُّ سكان الأرض هذا الأمر الأتمّ الأقوم الّذي هو في الحقيقة سبب اطمئنان الخليقة أمرًا مقدّسًا، وتهتمّ جميع قوى العالم بضمان استقرار هذا العهد الأعظم ودوامه.  وفي هذه المعاهدة العامّة، تُعيَّن حدود كلّ دولة وتُحدَّد ثغورها، وتُرسى المبادئ الّتي تبيّن مسلك كلّ حكومة ونهجها، وتتقرّر جميع المعاهدات والاتّفاقيّات الدّوليّة وتتحدّد الرّوابط والضّوابط بين الحكومات البشريّة.  وكذلك يُحدّد بكلّ دقّة وصرامة حجم تسلّح كلّ حكومة، ذلك لأَنَّ السّماح لأيّة دولة بزيادة جيوشها واستعداداتها الحربيّة يثير شكوك الدّول الأخرى.  قصارى القول، يحب أن يكون المبدأ الأساسيّ لهذا الاتّفاق الرّصين محدّدًا بحيث إذا أَقدمت أيّ دولة فيما بَعْدُ على انتهاك أيّ بندٍ من بنوده قامت كلّ دول العالم على اضمحلالها، بل هبّ عموم الجنس البشريّ لتدمير تلك الحكومة بكلّ قوّته.  فإذا ما اعتُمِد هذا الدّواء الأعظم لعلاج جسم العالم المريض اكتسب بلا ريب الاعتدال الكامل ونال الشّفاء الدّائم.” 

ويضيف قائلًا: “ويَعتبر بعض من لا علم لهم بعلوّ همم عالم الإنسان أنّ هذا الأمر في غاية الصّعوبة بل ضربٌ من المحال، إلّا أنّ الأمر ليس كذلك، فما من أمرٍ في الوجود مستحيلٌ تحقيقه بفضل الله وعناية مقرّبي عتبته وهمّة الأنفس الحكيمة الماهرة الفريدة وأفكارهم الفذّة وآرائهم السّديدة.  فاللّازم هو الهمّة الهمّة والغيرة الغيرة.  فكم من أمورٍ كانت في الأزمنة السّابقة من قبيل الممتنعات، ولم تكن العقول تتصوّر وقوعها قطّ، أمّا اليوم فنراها أصبحت سهلة ومتيسّرة.  فكيف إذن يُفترض استحالة هذا الأمر الأعظم الأقوم الّذي هو في الحقيقة الشّمس المنيرة لعالم المدنيّة، وسبب الفوز والفلاح والرّاحة والنّجاح للجميع؟  فلا بدّ أن تتجلّى شواهد هذه السّعادة في مجمع العالم آخر الأمر، ذلك لأنّ الآلات والمعدّات العسكريّة ستبلغ مبلغًا يجعل الحرب فوق طاقة الجنس البشريّ.”

شموع الاتّحاد السّبعة

ويتفضّل حضرة عبد البهاء في أحد ألواحه المباركة قوله الآتي، ملقيًا مزيدًا من الضّوء على هذه المسألة الجليلة:  

 “… وإن كان الائتلاف في الأدوار السّابقة حاصلًا، إلّا أنّ ائتلاف كلّ من على الأرض لم يكن متيسّرًا لأنّ وسائل ووسائط الاتّحاد كانت مفقودة، والارتباط والاتّصال ما بين قارّات العالم الخمس معدومًا، بل إنّ الاجتماع وتبادل الأفكار بين أمم القارّة نفسها كان أمرًا عسيرًا.  لهذا، كان التقاء جميع طوائف العالم على الاتّحاد والتّواصل وتبادل الأفكار ممتنعًا محالًا.  أمّا اليوم، فوسائل الاتّصال عديدة، وفي الواقع، فإنّ قارّات العالم الخمس أصبحت في حكم القارّة الواحدة … وكذلك أصبحت أجزاء العالم كلّها من مللٍ وحكوماتٍ ومدنٍ وقرى أكثر حاجةً لبعضها البعض، ولا يمكن لأيٍّ منها الاستغناء عن الآخر، لارتباطهم جميعًا بعلاقاتٍ سياسيّة، وروابط مستحكمة في التّجارة والصّناعة والزّراعة والمعارف، لهذا فإنّ اتّفاق الكلّ واتّحاد العموم أصبح اليوم ممكنًا.  وهذه الأسباب من معجزات هذا العصر المجيد والقرن العظيم قد حُرمت منها القرون الماضية، لأنّ هذا القرن، قرن الأنوار، قد اختُصّ بعظمةٍ وقوّةٍ ونورانيّةٍ فريدة، لذلك تتجلّى في كلّ يومٍ معجزةٌ جديدة، وفي النّهاية سوف تضيء شموعٌ منيرة بين أهل العالم.

“ولقد لاحت في أفق العالم بارقة صبح هذه النّورانيّة العظيمة.  فالشّمعة الأولى هي الوحدة السّياسيّة الّتي يمكن مشاهدة بوادر تلألُئِها الآن.  والشّمعة الثّانية هي وحدة الرّأي في الأمور العظيمة، وعمّا قريب تظهر آثارها هي الأخرى.  الشّمعة الثّالثة هي الوحدة في الحرّيّة، وهي أمرٌ لا بدّ أن يحدث.  الشّمعة الرّابعة هي الوحدة الدّينيّة، وهي أسّ الأساس وسوف تتجلّى شواهدُها في عالم الإنسان بالقوّة الإلهيّة.  الشّمعة الخامسة هي وحدة الأوطان، وسيظهر هذا الاتّحاد أيضًا بكلّ قوّة في هذا القرن، وعلى إثره سيَرى جميع ملل العالم أنفسَهم أهلَ وطنٍ واحد.  والشّمعة السّادسة هي وحدة الأجناس فيصير جميع من على الأرض أبناء جنسٍ واحد.  أمّا الشّمعة السّابعة فهي وحدة اللّسان، وتعني أن يتمّ اختيار لغةٍ من اللّغات لتكون لغةً عالميّةً يتعلّمها الجميع ويتحدّثون بها.  ولسوف تتحقّق كلّ هذه الأمور الّتي ذكرت لا محالة إذ إنّها مؤيّدة بالقوّة الملكوتيّة.”

 

حكومةٌ عالميّةٌ

منذ ما يزيد على ستّين عامًا مضت، وفي لوحه إلى الملكة فيكتوريا، تفضّل حضرة بهاء الله مخاطبًا “معشر الأمراء” في العالم بقوله:

“تدبَّروا وتكلَّموا فيما يَصلح به العالم وحاله … انظروا العالمَ كهيكل إنسانٍ إنّه خُلِقَ صحيحًا كاملًا فاعتَرتْه الأمراض بالأسباب المختلفة المتغايرة وما طابتْ نفسه في يومٍ بل اشتدّ مرضه بما وقع تحت تصرّف أطبّاء غير حاذقةٍ  الّذين ركبوا مَطيّةَ الهوى وكانوا من الهائمين، وإنْ طابَ عضوٌ من أعضائه في عصرٍ من الأعصارِ بطبيبٍ حاذقٍ بقيت أعضاءٌ أخرى فيما كان، كذلك يُنْبئكُم العليم الخبير … والّذي جعله الله الدّرياق الأعظم والسّبب الأتمّ لصحّته هو اتّحادُ مَنْ على الأرض على أمرٍ واحدٍ وشريعةٍ واحدةٍ، هذا لا يُمْكِنُ أبدًا إلاَّ بِطبيبٍ حاذقٍ كاملٍ مؤيّدٍ  لَعَمري هذا لهو الحقّ وما بعده إلّا الضّلال المبين.” 

وفي فقرةٍ تالية يضيف حضرة بهاء الله هذه الكلمات: “إنّا نراكم في كلّ سنةٍ تزدادون مصارفكم وتحمّلونها على الرّعيّة إن هذا إلّا ظلمٌ عظيمٌ، اتّقوا زفرات المظلوم وعبراته ولا تُحمّلوا على الرّعيّة فوق طاقتهم … أن أَصلحوا ذات بينكم إذًا لا تحتاجون بِكَثرة العساكر ومهِمّاتهم إلّا على قَدَرٍ تحفظون به ممالككم وبلدانكم … أنْ اتّحدوا يا معشر الملوك به تسكن أرياح الاختلاف بينكم وتستريح الرّعِيّة ومَن حولكم إنْ أنتم من العارفين، إنْ قام أحدٌ منكم على الآخر قوموا عليه إنْ هذا إلاّ عدلٌ مبينٌ.”

فهل من دلالةٍ أخرى لهذة الكلمات المهيمنة سوى الإشارة إٍلى أَنَّ الحدّ من السّيادة الوطنيّة المطلقة أَمرٌ لا مناص منه كإجراءٍ أوَّليّ لا يمكن الاستغناء عنه في تأسيس رابطة الشّعوب المتّحدة الّتي ستَنْتَمي إليها مُستقبلًا كلّ دول العالم؟  فلا بُدَّ من حدوث تطوّرٍ يَقودُ إلى قيام شكلٍ من أشكال الحكومة العالميّة تخضع لها عن طِيب خاطرٍ كلّ دول العالم، فتتنازل لصالحها عن كلّ حقٍّ في شنّ الحروب، وعن حقوقٍ مُعيَّنة في فرض الضّرائب، وعن كلّ حقٍّ أَيضًا يسمح لها بالتّسلُّح، إِلاَّ ما كان منه يَكفي لأغراض المحافظة على الأمن الدّاخليّ ضمن حدود كلٍّ منها.  ويدور في فَلَك هذه الحكومة العالميّة قوّةٌ تنفيذيّة دوليّة قادرة على فرض سلطتها العليا الّتي لا يمكن تحدِّيها من قِبَل أيّ مُعارضٍ من أعضاء رابطة شعوب الاتّحاد؛ وبرلمانٌ عالميّ يَنتخِب أعضاءَه كلُّ شعبٍ ضمن حدود بلاده، ويَحْظَى انتخابُهم بموافقة حكوماتهم الخاصّة؛ ومحكمةٌ عُليا يكون لقراراتها صِفَة الإِلزام حتّى في القضايا الّتي لم تكن الأطراف المَعنيَّة راغبةً في طرحها أمام تلك المحكمة.  إِنَّها جامعةٌ عالميّة تزول فيها إلى غير رجعة كلّ الحواجز الاقتصاديّة ويقوم فيها اعترافٌ قاطعٌ بأنَّ رأس المال واليد العاملة شريكان لا غِنَى للواحد منهما عن الآخر، جامعةٌ يتلاشى فيها نهائيًّا ضجيج التّعصّبات والمُنازعات الدّينيّة، جامعةٌ تنطفئ فيها إِلى الأبد نار البغضاء العرقيّة، جامعةٌ تسودها شِرْعَةٌ قانونيّة دوليّة واحدة تكون تعبيرًا عن الرّأي الحصيف الّذي يَصِل إليه بعنايةٍ مُمثِّلو ذلك الاتّحاد، ويجري تنفيذ أحكامها بالتّدخّل الفوريّ من قِبَل مجموع القوّات الخاضعة لكلّ دولة من دول الاتِّحاد.  وأخيرًا إِنَّها جامعةٌ عالميّة يتحوّل فيها التّعصّب الوطنيّ متقلِّب الأهواء، عنيف الاتّجاهات، إلى إِدراكٍ راسخٍ لمعنى المواطنة العالميّة – تلك هي حقًّا الخطوط العريضة لصورة النّظم الّذي رسمه مُسبقًا حضرة بهاءالله، وهو نظمٌ سوف يُنْظَر إليه على أنّه أينع ثمرةٍ من ثمرات عصرٍ يكتمل نضجه ببطء. 

وقد ارتفع نداء حضرة بهاء الله في رسالته إلى البشريّة قائلًا: “قد ارتفعت خيمة الاتّحاد لا ينظر بعضكم إلى بعضٍ كنظرة غريبٍ إلى غريبٍ” … “كلّكم أثمار شجرةٍ واحدةٍ وأوراق غصنٍ واحدٍ” … “يُعتَبر العالم في الحقيقة وطنًا واحدًا ومَن على الأرض أهلُه” … “ليس الفخر لمَن يحبّ الوطن بل لمَن يحبّ العالم.”

الوحدة والاتّحاد في التّنوّع والتّعدّد

ينبغي ألّا تساورنا الشّكوك حول الغاية الواهبة للحياة لشريعة حضرة بهاء الله عالميّة النّطاق.  فبعيدًا عن أيّ محاولةٍ لتقويض الأُسُس الرّاهنة الّتي يقوم عليها المجتمع الإنسانيّ، يسعى مبدأ الوحدة هذا إلى توسيع قواعد ذلك المجتمع، وإعادة صياغة شكل مؤسّساته على نحوٍ يتناسق مع احتياجات عالمٍ دائمِ التّطوّر.  ولن يتعارض هذا المبدأ مع أيّ ولاءٍ من الولاءات المشروعة، كما أنّه لن ينتقص من حقِّ أيّ ولاءٍ ضروريّ الوجود.  فهو لا يستهدف إطفاءَ شُعْلَة المحبّة المتّزنة للوطن في قلوب بني البشر، ولا يسعى إلى إزالة الحكم الذّاتيّ الوطنيّ، الّذي هو ضرورةٌ ملحّة إِذا ما أُريدَ تجنّب الشّرور والمخاطر النّاجمة عن الحكم المركزيّ المُبالَغ فيه.  ولن يتجاهل هذا المبدأ أو يسعى إِلى طَمْس التّنوّع في الأصول العرقيّة، والمناخ، والتّاريخ، واللّغة والتّقاليد، والفكر والعادات، الّذي يُميّز شعوب العالم ودُوَلَه بعضها عن بعض.  إِنَّه يدعو إلى إقامة ولاءٍ أوسع، واعتناق مطامحَ أسمى، تَفُوق كلّ ما سبق وحرّك مشاعر الجنس البشريّ في الماضي.  ويؤكّد هذا المبدأ إخضاعَ المشاعر والمصالح الوطنيّة للمتطلَّبات الملحّة في عالمٍ مُوحَّدٍ، رافضًا المركزيّة الزّائدة عن الحدّ من جهة، ومُستنكِرًا من جهة أخرى أيّ محاولةٍ من شأنها القضاء على التّنوّع والتّعدّد.  فالشّعار الذي يرفعه هو: “الوحدة والاتّحاد في التّنوّع والتّعدّد”، تمامًا كما فصّله حضرة عبد البهاء في بيانه التّالي:

“لاحظوا أزهار الحدائق.  فمهما اختلف نوعها وتفاوتت ألوانها وتباينت صورها وتعدّدت أشكالها إنّها لمّا كانت تُسقى من ماءٍ واحدٍ، وتنمو من هواءٍ واحدٍ، وتترعرع من حرارةِ وضياءِ شمسٍ واحدةٍ فإنّ تنوّعها واختلافها يكون سببًا في ازدياد رونقها وجمالها … ولو كانت أزهار الحديقة ورياحينها وبراعمها وأثمارها وأوراقها وأغصانها وأشجارها من نوعٍ واحدٍ ولونٍ واحدٍ وتركيبٍ واحدٍ وترتيبٍ واحدٍ لَما توفّر لمثل تلك الحديقة أيّ رونقٍ ولا جمال بأيّ وجهٍ من الوجوه.  أمّا إذا تعدّدت ألوانها واختلفت أوراقها وتباينت أزهارها وتنوّعت أثمارها تسبّب كلّ لونٍ في زينة سائر الألوان وإبراز جمالها وبرزت الحديقة في غاية الأناقة والرّونق والحلاوة والجمال.  كذلك الحال في تفاوت الأفكار، وتنوّع الآراء والطّبائع والأخلاق في عالم الإنسان.  فإنّها إذا استظلّت بظلّ قوّةٍ واحدة، ونفذت فيها كلمة الوحدانيّة تجلّت وهي في نهاية العظمة والجمال والعلويّة والكمال.  ولا شيء اليوم يستطيع أن يجمع عقول بني الإنسان وأفكارهم وقلوبهم وأرواحهم تحت ظلّ شجرةٍ واحدةٍ غير قوّة كلمة الله المحيطة بحقائق الأشياء.” 

إنّ نداء حضرة بهاء الله مُوَجَّهٌ في المَقام الأوّل ضدّ كافَّة أشكال الإقليميّة والانعِزاليّة والتّعصُّب.  فإذا كانت المُثُل الّتي طال الاعتزاز بها، والمؤسّسات الّتي طال احترامُها عبر الزّمن، وإذا كانت بعض الفروض الاجتماعيّة والقواعد الدّينيّة قد قَصّرت في تعزيز سعادة الإنسان ورفاهيّته بوجهٍ عامّ، وباتت عاجزةً عن سدّ احتياجات إنسانيّةٍ دائمةِ التّطوّر، فَلِتندثِرْ وتَغِبْ في عالم النّسيان مع تلك العقائد المُهْمَلة البالية.  ولماذا تُستثنَى من الاندثار الّذي لا بدّ أن يُصيب كلّ مؤسّسة إنسانيّة في عالمٍ يَخْضَع لقانونٍ ثابتٍ من التّغيير والفَنَاء؟  إِنّ القواعد القانونيّة والنّظريّات السّياسيّة والاقتصاديّة وُضِعت أصلًا من أجل المحافظة على مصالح الإنسانيّة ككلّ، وليس لكي تُصْلَب الإنسانيّة بقصد الإبقاء على سلامة أيّ قانونٍ أو مبدأ أو المحافظة عليه. 

 

مبدأ الوحدة

لِيَكُن واضحًا، أنّ مبدأ وحدة الجنس البشريّ، وهو المحور الّذي تدور حوله كافّة تعاليم حضرة بهاء الله، ليس مُجرَّد فَوْرَة عاطفيّة عمياء، أو تعبيرٍ عن أملٍ مبهمٍ زائف.  كما لا يُمكِن اعتبار ما يَدعو إليه على أنّه مُجرَّد إعادة إيقاظ روح الأُخُوَّة والخير بين العباد، أو أنّه يهدف فقط إلى رعاية تعاونٍ وُدّيٍّ بين شُعوبٍ وأُممٍ بعَيْنها.  ذلك لأنّ مَضامينه أعمَق وما يَدعو إليه أعْظَم مِن أيٍّ ممّا أُتيحَ لأنبياء القَبْل الإفصاح عنه.  فضلًا عن أنَّ رسالته لا تنسحب على الفرد فقط، بل تُعْنى في المَقام الأوّل بطبيعة تلك العلاقات الأساسيّة الّتي لا بدّ أن تربط كلّ الدول والأمم كأعضاء في عائلةٍ إنسانيّةٍ واحدة.  كما أنّه لا يُمثِّل مُجرَّد إعلانٍ عن مبدأ مِثاليّ، بل هو مَبدأ يبقى دائمًا وأبدًا مرتبطًا بغير انْفِكَاك مع مؤسّسةٍ كَفِيلةٍ بتجسيد حقيقته، وتقديم المَثَل الحيّ على صلاحِيَّته، وإدامة نفوذه.  وهو ينطوي على تغييرٍ عضويّ في هيكل المجتمع المعاصر، تغييرٍ لم يعهده العالم بعد.  إنّه يُشكِّل تحدّيًا جسورًا وشاملًا في آنٍ معًا لتلك الشّعارات البالية الّتي تنادي بها النَزَعات القوميّة – نَزَعاتٌ ولَّت أيّامها، ويتَحَتَّم عليها، وفقًا للمسار العاديّ للأحداث كما رسمته ووجّهته يد العناية الإلهيّة، أنْ تُفسِح المجال لبشارةٍ جديدةٍ تختلف في جَوْهَرها وتسمو بغير حُدود على ما سبق أن تصوّره العالم حتّى الآن.  فهو مبدأٌ يستلزم أقلّ ما يمكن إعادة بناء العالم المُتمدِّن بأسره ونزع سلاحه، ليصبح عالَمًا متّحدًا اتّحادًا عضويًّا في كافَّة نواحي حياته الأساسيّة، فيتوحّد جهازه السّياسيّ، وتتوحّد مطامحه الرّوحيّة، وتتوحَّد فيه عوالم التّجارة والمال، ويتوحَّد في اللّغة والخطّ، على أن يبقى في ذات الوقت عالمًا لا حدود فيه لتنوُّع الخصائص الوطنيّة والقوميّة الّتي يُمثّلها أعضاء هذا الاتِّحاد. 

ويمثّل هذا المبدأ اكتمال التّطوّر الإنسانيّ – تطوّرٍ تمثّلت أولى بداياته في ظهور حياة العائلة، وتطوّرها اللّاحق الماثل في تحقيق تضامن القبيلة، وهو ما أدّى بدوره إلى تكوين المدينة- الدّولة، ليتّسع نطاقه فيما بعد إلى تأسيس دول مستقلّة ذات سيادة.

إنّ مبدأ وحدة الجنس البشريّ، كما أعلنه حضرة بهاء الله، ينطوي لا أكثر ولا أقلّ، على تأكيدٍ حازمٍ بأنّ بلوغ هذه المرحلة النّهائيّة من هذا التّطوّر الهائل، ليس ضروريًّا فحسب، وإنّما هو حتميّ، وأنّ أوان تحقّقه يقترب سريعًا، وأنّه لا شيء سوى قوّة إلهيّة من شأنها أن تفلح في تأسيسه.  

وتبدو أولى مظاهر هذا المفهوم الرّائع في الجهود الواعية الّتي بذلها، والبدايات المتواضعة الّتي حقّقها بالفعل من أعلنوا إيمانهم بدين حضرة بهاء الله، الّذينهم، بوعيهم بسموّ المهمّة الّتي دُعوا لأدائها ودخولهم في ظلّ مبادئ نظمه الإداريّ السّامية بالأرواح، يمضون قدمًا لتأسيس ملكوته على هذه الأرض.  كما تتجلّى مظاهره غير المباشرة في السّريان التّدريجيّ لروح التّضامن العالميّ المنبعثة بصورة تلقائيّة من ركام مجتمعٍ قد انفرط عقد نظامه. 

وقد يكون من المثير تتبّع تاريخ نموّ وتطوّر هذا المفهوم السّامي الّذي لا بدّ وأن يستحوذ شيئًا فشيئًا على انتباه المسؤولين المؤتمنين على مصائر الشّعوب والأمم.  فبالنّسبة للدّول والإمارات الّتي برزت للتّوّ من فوضى الهيجان الكبير للعهد النّابليونيّ، والّتي كان شغلها الشاغل هو إمّا أن تستعيد حقوقها في وجودٍ مستقلّ أو أن تحقّق وحدتها القوميّة، فإنّ مفهموم التّضامن العالميّ لم يكن يبدو بعيد المنال فحسب، بل كان أمرًا يستعصي على الأفهام.  ولم يكن من الممكن قبل أن تنجح قوى دعاة القوميّة في الإطاحة بأسس “التّحالف المقدّس” الّذي كان يسعى إلى الحدّ من نفوذهم المتزايد، أن يبدأ التّفكير جدّيًّا في إمكانيّة وجود نظام عالميّ يسمو في مداه فوق المؤسّسات السّياسيّة الّتي أسّستها تلك الأمم.  وما إن وضعت الحرب العالميّة أوزارها، حتّى بدأ دعاة مذهب القوميّة المتغطرسة ينظرون إلى نظامٍ كهذا على أنّه صنيعة عقيدةٍ خبيثةٍ تسعى إلى تقويض ذلك الولاء الأساسيّ الّذي يتوقّف عليه استمرار وجود حياتهم القوميّة.  وبعنفوانٍ أعاد إلى الأذهان تلك الهمّة الّتي سعى بها أعضاء “التّحالف المقدّس” إلى خنق روح القوميّة الصّاعدة بين الشّعوب الّتي كانت قد تحرّرت من نير العهد النّابليونيّ، عمل أنصار السّيادة القوميّة المطلقة بدورهم، ولا زالوا يعملون، على تشويه تلك المبادئ الّتي لا بدّ وأن يتوقّف عليها خلاصهم في نهاية المطاف. 

فالمعارضة الشّرسة الّتي استُقبل بها مشروع بروتوكول جنيف العقيم، والسّخرية الّتي انهالت على ما اقتُرح بعد ذلك بتأسيس ولاياتٍ متّحدة أوروبيّة، وإخفاق المشروع الشّامل الهادف إلى تحقيق الوحدة الاقتصاديّة لأوروبّا، تبدو جميعها وكأنّها نكسات لجهودٍ تبذلها بكلّ جدّ حفنة من ذوي البصيرة من أجل مناصرة هذا المبدأ النّبيل.  ومع ذلك ألسنا على حقّ في أن نستمدّ التّشجيع مجدّدًا عندما ندرك أنّ مجرّد النّظر في مثل هذه المقترحات هو في حدّ ذاته علامة على نموّها المتزايد في أذهان وأفئدة البشر؟  ثمّ ألا نشاهد في المحاولات المنظّمة الجارية للتّنديد بمبدأٍ بهذا السّموّ، تكرارًا على نطاق أوسع لتلك النّزاعات التّحريضيّة والصّراعات الشّرسة الّتي سبقت ميلاد الولايات المتّحدة في عالم الغرب وساعدت في إعادة بنائها؟

 

رابطة الجنس البشريّ

لنتناول مثالًا واحدًا: كم كانت واثقة تلك التّأكيدات الّتي صدرت خلال الأيّام الّتي سبقت توحيد ولايات قارّة أمريكا الشّماليّة بشأن الحواجز المنيعة الّتي اعترضت سبيل اتّحادها النّهائيّ! ألم يُعلَن على الملأ كافّة وبشكلٍ قاطعٍ أنّ المصالح المتضاربة وانعدام الثّقة المتبادل، وتباين  أساليب الحكم والعادات الّتي فرّقت هذه الولايات، مستعصية بحيث يستحيل على أيّ قوّة، روحيّة كانت أم زمنيّة، أن تأمل أبدًا في التّوفيق بينها أو التّحكّم فيها؟  ومع ذلك، ما أشدّ اختلاف الظّروف الّتي كانت سائدة قبل مئة وخمسين عامًا عن تلك الّتي يتميّز بها مجتمع اليوم! فلا مبالغة حقًّا إذا ما قلنا إنّ غياب تلك الوسائل الّتي وضعها التّقدّم العلميّ في خدمة البشريّة في وقتنا هذا  قد جعل من مسألة صهر الولايات الأمريكيّة في ائتلافٍ واحدٍ، رغم كون تلك الولايات متماثلة في بعض العادات والتّقاليد، مهمّة أكثر تعقيدًا بكثير من تلك الّتي تجابه بشريّة منقسمة على نفسها وهي تسعى لتحقيق وحدة الجنس البشريّ قاطبة.

ومن يدري، فلعلّ من المحتّم كي تتحقّق هذه الفكرة السّامية أن يحلّ بالبشريّة بلاءٌ أشدّ ممّا كابدته حتّى الآن؟  وهل كان بمقدور أيّ شيء أقلّ من نيران حربٍ أهليّة بكلّ ما فيها من عنفٍ وتقلّبات –  حربٍ كادت أن تمزّق أوصال الجمهوريّة الأمريكيّة العظمى – أن تصهر هذه الولايات ليس في اتّحادٍ لوحداتٍ مستقلّةٍ فحسب وإنّما في أمّةٍ واحدة، وذلك بالرّغم من كلّ الاختلافات العرقيّة الّتي ميّزت كلّ مكوّن من مكوّناتها؟  أمّا أن تتحقّق ثورة جذريّة كهذه بما تتضمّنه من تغييرات بعيدة المدى في بنية المجتمع بالوسائل المعتادة من دبلوماسيّةٍ وتعليمٍ فهو أمرٌ يبدو بعيد الاحتمال بدرجةٍ كبيرة.  وما علينا إلّا أن نلقي نظرة على تاريخ الإنسانيّة الملطّخ بالدّماء لندرك أنّه لا شيء أقلّ من محنة معنويّة ومادّيّة قاسية كان بوسعها أن تُحدِث تلك التّغييرات الفارقة الّتي هي بمثابة أعظم معالم تاريخ الحضارة البشريّة. 

 

نيران عذاب الامتحان

وبقدر ما كانت تلك التّغييرات هائلة وبعيدة الأثر في الماضي فإنّها لا تبدو، إذا ما تناولناها من منظورها الصّحيح، سوى تعديلاتٍ ثانويةٍ تسبق ذلك التّحوّل الّذي لا مثيل له في جلاله ومداه والمتعيّن على البشريّة أن تمرّ به في هذا العصر.  أمّا أنْ تَكون قُوَى كارِثةٍ عالميّةٍ هي وَحْدها القادرة على التّعجيل بمِثل هذه المَرحلة الجديدة من الفِكْر البشريّ، فهو أمْرٌ قد بات بكلّ أسَفٍ يَزداد وضوحًا.  وأنّه لا أقلّ من نار مِحنةٍ قاسِيةٍ لا مثيل لشِدَّتها يمكن أن تصْهَرَ وتُدْمجَ الكيانات المتنافرة الّتي تشكّل عناصر مَدَنيّة اليوم لتجعلها المُكَوِّنات الكلّيّة لرابطة شعوب العالم المستقبليّة، إنَّما هو حقيقة سوف تُبَرْهِن أحداث المستقبل على صحّتها على نحوٍ متزايد. 

وما نداء حضرة بهاء الله منذرًا “أهل الأرض” في الفقرات الختاميّة للكلمات المكنونة أنّ “بلاءً مباغتًا يتعقّبُهم، وعقابًا كبيرًا ينتظرُهم” إلّا بمثابة إلقاء ضوءٍ رهيبٍ على المصائر الوشيكة لبشريّةٍ غارقةٍ في الأسى.  فلا شيء سوى محنةٍ كاوية، تخرج منها البشريّة مطهّرة ومهيّأة، من شأنها أن تُفلح في غرس ذلك الإحساس بالمسئوليّة الّتي يتوجّب على قادة عصرٍ وليد أن ينهضوا للاضطلاع بها. 

ويجدر بي أن أوجّه انتباهكم مرّة أخرى إلى تلك الكلمات المنذرة لحضرة بهاء الله الّتي استشهدت بها من قبل: “وإذا تمّ الميقات يظهر بغتة ما يرتعد به فرائص العالم.”

ألم يؤكّد حضرة عبد البهاء نفسه بلغةٍ لا لبس فيها أنّ “حربًا أخرى أشدّ من الحرب الأخيرة ستقع حتمًا ولا شكّ في ذلك على الإطلاق”؟

إنّ إنجاز هذه المهمّة الجبّارة، الّتي يفوق مجدها كلّ وصف، وهي المهمّة الّتي حيّرت كلّ ما أوتيه ساسة الإمبراطوريّة الرّومانيّة من براعةٍ وحنكة وفشلت جهود نابليون اليائسة في إنجازها، سوف يعتمد عليه التّحقّق النّهائيّ لتلك الألفيّة الّتي تغنّى بها الشّعراء في كلّ العصور وحلم بها الحكماء دهورًا.  كما سيتوقّف عليها تحقّق النّبؤات الّتي نطق بها أنبياء القبل إذ تُطبع السّيوف سككًا ويربض الأسد مع الحمل.  وهي وحدها دون سواها الّتي يمكنها أن تأتي بملكوت الآب السّماويّ الّذي بشّرت به رسالة السّيّد المسيح.  كما أنّها وحدها دون سواها الّتي يمكنها إرساء قواعد النّظم العالميّ الجديد الّذي ارتآه حضرة بهاء الله – ذلك النّظم الّذي سيعكس على هذا العالم التّرابيّ، ولو بشكلٍ خافتٍ، سناء الملكوت الأبهى الّذي لا يخبو. 

وفي الختام أودّ أن أضيف إنّ إعلان مبدأ وحدة الجنس البشريّ، الّذي هو الرّكن الأساس لسلطنة حضرة بهاء الله الجامعة، لا يمكن مقارنته بأيّ حالٍ من الأحوال بما قيل في الماضي تعبيرًا عن أملٍ بعيد الاحتمال.  فإعلان حضرته لم يكن مجرّد نداءٍ أعلنه وحيدًا فريدًا في وجه تلك المعارضة العنيدة الّتي اتّحد عليه فيها إثنان من أعتى سلاطين الشّرق في زمانه، إذ كان منفيًّا ومسجونًا في قبضتهما – وإنّما كان تحذيرًا ووعدًا في آنٍ معًا؛ تحذيرًا يكمن فيه سبيل الخلاص الوحيد لعالم أمضّه العذاب، ووعدًا قد اقترب تحقّقه. وإذ ارتفع هذا النّداء في وقتٍ لم تكن فيه إمكانيّة تحقّقه محلّ تصوّرٍ جادّ في أيّ بقعة من بقاع العالم، فقد صار في نهاية المطاف، بفضل القدرة الملكوتيّة الّتي نفثتها فيه روح حضرة بهاء الله، محلّ اعتبار عددٍ متزايدٍ من رجال الفكر، ليس بوصفه احتمالًا وشيك الوقوع فحسب، بل باعتباره أيضًا نتيجة حتميّة للقوى الفاعلة في العالم اليوم.

المنادي الرّبّانيّ

من المؤكّد أنّ العالم، وقد تقلّص وتحوّل إلى كيانٍ واحدٍ شديد التّعقيد جرّاء التّقدّم المذهل الّذي تحقّق في مجال العلوم الطّبيعيّة، ونتيجة التّوسّع العالميّ في التّجارة والصّناعة، ويكافح تحت عبء الضّغوط الاقتصاديّة العالميّة وسط شراك حضارةٍ مادّيّة، لهو في حاجة ماسّة إلى إعادة صياغة الحقيقة الإلهيّة الّتي قامت عليها كافّة رسالات القبل بلغةٍ توافق مطالبه الأساسيّة.  فأيّ لسانٍ غير لسان حضرة بهاء الله، المنادي الرّبّانيّ لهذا العصر، قادرٌ على أن يُحدِث تبديلًا وتحويلًا جذريًّا في المجتمع كالّذي أحدثه بالفعل في أفئدة أولئك الرّجال والنّساء الّذين يشكّلون جماعة أتباعه في كلّ أنحاء المعمورة، رغم ما هم عليه من تنوّعٍ وتعدّدٍ وما يبدو من استحالة تحقيق الوفاق والوئام بينهم؟ 

أن يتبرعم سريعًا مفهومٌ عظيمٌ كهذا في عقول البشر، وأن تعلو الأصوات تأييدًا له، وأن يكون من المحتّم أن تتبلور سريعًا معالمه البارزة في وعيِ أُولِي السّلطة، هو ممّا لا ينكره إلّا قلّة.  وأن تكون بداياته المتواضعة قد تجسّدت بالفعل في النّظم الإداريّ العالميّ الّذي ينتمي إليه أتباع دين حضرة بهاء الله هو ما لا يخفق في إدراكة سوى من لوّث التّعصّب قلوبهم.

شركائي الأعزّاء في العمل، إنّ واجبنا في المقام الأوّل أن نمضي قدمًا برؤية جليّة وعزمٍ لا يلين للمساهمة في البناء النّهائيّ لذلك الصّرح المشيد الّذي أرسى حضرة بهاء الله قواعده في أفئدتنا، وأن نستمدّ المزيد من الأمل والعزيمة من المسار العامّ للأحداث الأخيرة، مهما كانت تبعاتها المباشرة مظلمة، وأن نبتهل بحرارة لا تفتر أن يعجّل حضرته باقتراب تحقّق تلك الرّؤية البديعة الّتي هي أبهى فيوضاته، وأينع ثمرةٍ لأبدع مدنيّة شهدها العالم حتّى الآن.  

أوليس من الممكن أن تكون الذّكرى المئويّة لإعلان أمر حضرة بهاء الله هي موعد افتتاح عصرٍ مجيدٍ كهذا في تاريخ البشريّة؟ 

أخوكم المخلص