نساء ماجدات
نساء ماجدات

نساء ماجدات

الإهداء

 

إلى النساء الماجدات الفاتنات المؤمنات في هذا الظهور الأعظم الإلهي المشتعلات بمحبة وعشق جمال القدم اللاتي ضربن أروع الأمثلة في المجاهدة والإنقطاع اللاتي رفعن إسم الحق في كل مكان اللاتي أضأن طريق البشرية نحو الهداية والاصلاح

أقدّم إليكن هذه السيرة العطرة والسجل الحافل لبعض العظيمات في تاريخ أمرنا العزيز لتكون نبراسا لنا جميعًا في الخدمة والعطاء.

المؤلف

 

 

المقدمة

بعث

جمال القدم في ظهوره الاعظم نساء ماجدات مؤمنات موقنات سبقن الرجال في ميدان المجاهدة والانقطاع، وقمن بكل شغف واشتعال على إيقاد نار الحب الالهى وترويج أمره العزيز بكل شجاعه وشهامة وبسالة منقطعة النظير، وسجّلن أسماءهنّ بأحرف من نور في سجل التاريخ. لقد أثبتن أنهنّ حقاً فى مستوى الرجال بل تفوّقن عليهم. لقد نادى حضرة بهاء الله بتساوي حقوق المرأة بالرجل وأغدق عليهنّ كل اللطف والعناية، وان النساء يجب ان يتمتعن بنفس حقوق الرجال، وأعطى النساء كافة الحقوق التي حرمن منها بالسابق، بل ورفع مقامهن وطمأنهن بمحبته وعنايته حيث تفضل بقوله الكريم لإحدى المؤمنات: لقد فزتِ بعناية ربك من قبل ومن بعد، أن اشكرى وسبّحي بحمدِه وانه مع إمائِه المقبلات وعبادِه المقبلين. البهاءُ المشرق من أفق ملكوتي عليكِ وعلى من هداك الى صراطي المستقيم. وأيضا: دار البهاء المشرق من أفق ملكوتى عليكِ وعلى كل أمة فازت بأنوار عرشي العظيم. وأيضاً: نذكر إماء الرحمن في هذا الحين ونبشرهن بعناية ومحبة وتوجه الحق جل جلاله ونطلب من الله تأييدهنّ على أعمال تكون سبباً في ارتفاع كلمة الله.

أما حضرة عبد البهاء فقد أشار إلى مقام النساء في هذا الظهور بالبيان التالي: ثم إعلمي يا أمة الله إن النساء عند البهاء حكمهنّ حكم الرجال فالكل خلق لله، خلقهم الله على صورته ومثاله، أى مظاهر أسمائه وصفاته، فلا فرق بينهم وبينهنّ من حيث الروحانيات، الأقرب فهو الأقرب سواء كان رجالاً أو نساء وكم من إمرأة منجذبة فاقت الرجال في ظل البهاء وسبقت مشاهير الآفاق. وأكد بأن: عالم النساء في هذا الظهور بفضل فيوضات جمال الابهى في شغف واشتعال، ومن صهباء الالطاف في نشوة وسرور. إنهنّ في تقدم ورقي. ستشاهدين قريباً ظهور نساء قانتات مشتعلات يكوننّ مصدراً للفخر والاعجاب بل حيرة الاخرين ويصبحنّ مثل الشمعه المضيئة وينطقنّ بالحجة والبرهان.

يستعرض هذا الكتاب حياة بعض هؤلاء النساء القانتات المشتعلات اللاتي أشار إليهن حضرة عبد البهاء في البيان السالف الذكر وكيف أصبحن مصدراً للفخر والاعجاب بل حيرة الآخرين لقد أثبتن تفوقهن على الرجال، وكانوا أكثر جرأة وشجاعه وانقطاعاً، وخاضوا ميدان التبليغ بكل همّة ونشاط وبشكل لم نشهد له مثيلاً، وأصبحن مثل الشمعه المضيئة التي أضاءت طريق البشرية نحو الهداية والاصلاح. وقد خاطبهم حضرة ولي امرالله في أحد توقيعاته: بشرى لكنّ يا إمائي الزاكيات القانتات الناطقات بذكري والناشرات لنفحاتي والرافعات للواء ديني المبين بين العالمين.

في البداية يستعرض الكتاب الحياة الحافلة والمجيدة للورقة المباركة العليا وهي سيدة أهل البهاء ووديعة بهاء الله بين ملأ الانشاء التي وصفها: قد جعلناكِ من خيرةِ الاماء وأعطيناكِ مقاماً لدى الوجه الذي ما سبقته النساء، كذلك فضلناكِ وقدّمناكِ فضلا من لدن مالك العرش والثرى. وقد احتلت مقاماً أرفع وأعلى من حضرات الايادى وحروف الحي، وأطرى عليها حضرة ولي أمرالله بهذه العبارات الجميلة: يا حورية البهاء عليكِ من الثناء أطيبها وأزكاها ومن الصلوات أكملها وأبهاها. يا قرة عيني ومحبوبة فؤادى فضلك عليّ كبير لا يخفى، وحبّك إياي عظيم لا ينسى، طوبى ألف طوبى لمن يحّبك ويقتبس من أنوارك ويثني سجاياك ويعّظم قدرك ويقتفي أثرك.

ومن ثم يتضمن الكتاب شرحاً مسهباً لحياة ثلاث نساء عظيمات ظهرن في الغرب وتشرفن بالايمان في زمن حضرة عبد البهاء ونذرن أنفسهنّ لخدمة أمرالله وهنّ: مارثا روت – دوروثي بيكر واميليا كولنز، وقد تشرفت الاولى والثانية بالحضور والمثول في محضر حضرة عبد البهاء، ومن ثم التقين جميعاً بحضرة ولي أمرالله المحبوب أثناء فترة ولايته، وقد عيّن حضرته دوروثي بيكر وإميليا كولنز ضمن أول كوكبة أيادى أمرالله عام 1951 ويعتبرن أول إمرأتين وصلن إلى هذا المقام الرفيع في تاريخ الامر المبارك، ومنح حضرته لقب أيادى أمرالله للسيدة الجليلة مارثا روت بعد وفاتها عام 1939م وأطلق عليها (فخر المبلغين والمبلغات).

إن السيرة العطرة لكل واحدة منهنّ تحكي عن حياة شريفة مليئة بالعشق والفداء والتضحية، وسجل حافل بالانجازات والانتصارات تستحق كل التقدير والتبجيل. لقد دخلن التاريخ من أوسع أبوابه، ولهذا يجب ان نستلهم من سيرتهن العطرة ونسير على خطاها وتكون عبرة ونبراساً لنا جميعاً في خدمة أمر حضرة بهاء الله. لقد لبّين نداء الحق وقمن لنصرته وسمعن ما تفضل به جمال القدم لاحدى المؤمنات قوله تبارك ذكره: لو تسمعين ما نزّل لكِ في هذا الحين من قلمي الاعلى حق الاستماع لتطيرين بأجنحة الاشتياق في هواء محبة مالك يوم الميثاق وتقولين في أيام حياتك: لَكَ الحمد يا مقصود العالم ولك الثناء يا محبوب العارفين، كل الوجود لعنايتك الفداء وما كان وما يكون لكلمتك الفداء.

إن حياة هؤلاء الماجدات الفاضلات دليل على ان الإيمان والعشق الالهى يمكن أن يقلب القلوب، ويبعث النفوس، ويضيء الطريق، ويجذب تأييدات الملأ الاعلى، ويحرز انتصارات لا تُعدّ ولا تُحصى. لنقرأ حياتَهنّ لنعرف معاني النبالة ومنازع الاصالة والحياة العظيمة التي عاشوها وما قدّمنه للبشرية، لتظل اسماؤهن محفورة في ذاكرة التاريخ، وتكون نبراساً وهادياً لإماء الرحمن في هذا الظهور حتى يقتدن ويحذن بهنّ. وان سنحت لي الفرصة في المستقبل سأضيف للكتاب سيرة حياة مجموعه اخرى من هؤلاء النساء الماجدات.

وفي الختام لا يسعنى الا أن أتقدم بجزيل الشكر والامتنان لحضرات السادة والسيدات محمود فكري وسانازسعادت ومنى مهين گستر وشهرزاد هاشمي لمراجعتهم اللغوية والنحوية لكافة فصول الكتاب وإبداء ملاحظاتهم القيّمة واقتراحاتهم البناءة التي أخذت بعين الاعتبار فلهم كل التقدير والعرفان. وأيضا الشكر موصول للشاب العزيز نبيل ولف الذي ساعدنى على فهم بعض العبارات الانجليزية والمصطلحات الغربية للمراجع والمستندات التي استخدمتها اثناء اعداد الكتاب. فلهم جميعاً كل محبة وتقدير.

 

عبدالحسين فكري

نيسان/ ابريل 2008

 

 

الورقة المباركة العليا سيدة أهل البهاء 1932–1846

المقدمة

قلمّا يلد التاريخ نساء عظيمات مثل الورقة المباركة العليا التي ضربت أروع الامثله في التقوى والورع والايمان والتمسك بالعهد والميثاق ومحاربة الاعداء وتوجيه الاحباء والخلوص والتفانى في خدمة أمرالله، ومواجهة الناقضين والرد عليهم ودحضهم والولاء والطاعة لمركز عهد الله وولي أمره العزيز. لقد سطر لنا التاريخ بأحرف من النور ما قامت به هذه السيدة الفاضله في حفظ وحماية المجتمع البهائي، وتوجيه وادارة شئونه في أهم وأحلك فترة من فترات تاريخه، وستكون أعمالها ومآثرها وحياتها نبراساً  لنا جميعا وعلى الاخص لاماء الرحمن القانتات في الاقتداء بهذه الوديعة الالهيه وثمرة الشجرة الازليه.

إن إصطلاح الورقات المباركه يطلق في هذا الظهور على النساء المنتسبات لحضرة الباب وحضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء، وبالنسبة للنساء المنتسبات لحضرة بهاء الله تحديداً  فقد اطلقت عليهنّ في الآثار المباركه ألقاب مثل (أوراق السدرة) و (أوراق الشجرة) و(أوراق سدرة المنتهى). أما والدة حضرة الباب وحرمه خديجه بگم، فقد سُميت بخير النساء وقد أطلق لقب الورقة المباركة العليا في الآثار المباركه غالبا على آسيا خانم حرم الجمال المبارك وعلى ابنته بهائيه خانم ايضا. كما أطلق لقب الأم المقدسة  The Holy Mother على منيره خانم حرم حضرة عبد البهاء في البرقيه التي صدرت باللغة الانجليزية إلى أحباء الغرب من يراعة حضرة ولي أمرالله.

في كل ظهور كان هناك نساء ماجدات وممّيزات ضربن أروع الامثلة في التضحية والفداء والايثار، ونذكر مثلا في الادوار السابقه، السيدة سارة زوجة سيدنا ابراهيم وآسيه في زمن سيدنا موسى ومريم العذراء ومريم المجدلية في زمن المسيح وفاطمة الزهراء في الدورة المحمدية وجناب الطاهره في زمن حضرة الباب وبهائيه خانم في الدور البهائي.

الطفولة ودورة الصبا

ولدت الورقة المباركه العليا في عام 1846م في طهران واسمها الحقيقي فاطمة وسمّيت فيما بعد ببهائية خانم، وتروى عن ذكريات طفولتها عندما كانت في السادسة بهذه الكلمات:   كنا في منزلنا بالقرية وكان والدي مغادرا البيت حينما حاول أحد الشبان البابيين اغتيال الشاه. وفجأة دخل أحد الخدام مضطرباً  وقال لوالدتي باكياً: سيدتي سيدتي، قبضوا عليه، لقد شاهدته يمشي عدة أميال حافي القدمين تسيل منهما الدماء وقاموا بضربه ومزقوا ثيابه وأحاطوا عنقه بالسلاسل. ازداد وجه والدتي شحوباً  وانتابتنا نحن الاطفال مشاعر الرعب الشديد وأخذنا في البكاء بكل مرارة. في شهر يناير 1853م غادرت الورقة العليا طهران الى بغداد في معية والدها الماجد حضرة بهاء الله وأمها اسيا خانم واخيها غصن الله الاعظم حيث بدأت رحلة نفي جمال المبارك ولم يكن يتجاوز عمرها انذاك سبع سنوات وكانت اصغر المرافقين سنا. وقد عانت الكثير من وعثاء السفر وتحملت شتى أنواع المصاعب والآلام في سبيل أمر مولاها العظيم، وكانت مثالاً يُحتذى بها في الصبر والتحمل وبالرغم من قضاء غالبية عمرها المديد في الغربة ولكنها لم تنس حب الوطن الذي لم ترجع اليه منذ ان غادرته. كما حافظت على العادات والتقاليد الايرانية الاصيله حتى آخر لحظة في حياتها حيث كانت تلف كل هدية في منديل مطرز لا يقل قيمة عن الهدية نفسها وتقدمها للافراد. وقد وصف طفولتها حضرة ولي أمر الله بهذه الكلمات المؤثره: منذ نعومة أظفارها لم تذق طعم الراحة والاستقرار، بل ذاقت في طفولتها شتى أنواع الاذى والمصاعب مع والدها العظيم وعانت من الفقر اثر الهجوم على أملاك والدها الجليل وكانت شريكة معه في الغربة والكربة.

رحلة النفي والابعاد

عندما وصلت بغداد كان عمرها سبع سنوات ولم تذق طيلة الفتره طعم السعادة والسرور حيث غادر حضرة بهاء الله الى جبال السليمانيه لمدة سنتين وتركها مع اهله في البيت المبارك ولهذا عانت حرمان محبة الوالد. وما أن رجع جمال القدم من السليمانيه حتى قام الميرزا يحيى أزل بالمعارضة والاذى. شاركت الورقة المباركه الجمال المبارك في جميع مراحل نفيه الى اسلامبول وادرنه ثم عكا وليست لدينا معلومات دقيقة بما كانت تعمله طوال هذه الرحلة الطويلة سوى انها من المتمسكات والمطيعات لأوامر الجمال المبارك والثابتات على عهده المتين. ان المؤرخين في الشرق عادة لا يكتبون عما يحدث للنساء لانه لم يكن متداولا انذاك. ولكن ما هو ثابت ومذكور من يراعة حضرة شوقي افندي انها كانت في معية جمال القدم اينما نفى او حل، بل كانت شريكة معه في الاسر والكربة والغربة. دخلت معه قلعة عكا وشهدت وفاة اخيها الاصغر البار الميرزا مهدى غصن الله الاطهر، ورثت على حال والدتها اسيا خانم التي غرقت في بحر من الاحزان والالام نتيجة لهذا المصاب الجلل. واخيرا في عام 1886م توفيت والدتها وقد اثر ذلك كثيرا على قلبها الرؤوف والحنون.

صعود حضرة بهاء الله

لم يكد يلتئم جرحها من وفاة والدتها حتى ازداد حرقة وألما نتيجة وفاة والدها العظيم حضرة بهاء الله في عام 1892 بل وازداد حرقة نتيجة قيام اخيها الغير شقيق الميرزا محمد على بالعصيان والتمرد على مركز العهد والميثاق حضرة عبد البهاء. ظل الغصن الاعظم وحيداً فريداً لا يؤازره أحد أو يساعده سوى شقيقته الوفيه المجاهدة الورقة المباركه العليا. نعم ان حضرة عبد البهاء كان يعرف مقامها وشخصيتها وقدرتها، حيث وقفت كالبنيان المرصوص أمام وجه الناقضين، وقد وصف حضرة ولى امرالله تلك الفتره بهذه الكلمات المعبّره: (في بحبوحة طغيان الناقضين برز هذا الكنز الثمين الالهي ولاح مكانتها وقيمتها بين اهل البهاء. لم تخف من هجوم قائد الناقضين على مقدسات الدين البهائي ولم يأخذها الاضطراب أو اليأس. واثناء فترة المفتشين كانت الساعد والعضد الامين للغصن الفريد.)

عندما ثار الشباب الاتراك في اسطنبول عام 1908م انتقل حضرة عبد البهاء من عكا إلى حيفا وجاءت معه الورقة المباركة العليا ولكنها كانت أحيانا تذهب إلى عكا وتغيب عدة ايام. وفى إحدى ألواح الغصن الاعظم عبّر عن شدة علاقته ومحبته بشقيقته بهذه الكلمات:

يا شقيقتي المحبوبة الورقة العليا لقد ذهبت الى عكا لكي ترجعي خلال يومين ولكن طال غيابك وأنا الآن في حيفا، وحيد صعب عليّ فراقك … أرجو ان تأتي اليوم بأية وسيلة لأن صدري قد ضاق وعندما وصل العرش المطهر لحضرة الباب الى عكا وضع بداية في غرفة الورقة المباركه العليا بشكل سري وظل هناك حوالي تسع سنوات قبل أن ينقل إلى جبل الكرمل ليستقر في مقره الدائم. إن هذا دليل على الثقة الكبيره التي كان يوليها الغصن الاعظم لشقيقته في الحفاظ على هذا الكنز الثمين الالهي.

وأثناء رحلة مولى الورى إلى أوروبا وأمريكا خلال الاعوام 1910–1913 أوكل اليها إدارة شئون الامر المبارك على الرغم من وجود رجال من العائلة المباركه الذين كان بإمكانهم القيام بهذا العمل. وخلال الأعوام التي تلت ذلك وحتى الصعود، وعلى الاخص خلال اعوام الحرب العالميه الأولى كان حضرة عبد البهاء والورقة المباركه العليا يعملان سويا على مساعدة الفقراء المحتاجين واليتامى ويمدّون يد العون والمساعدة لهم وكان البيت المبارك مفتوحا لكل من يطلب الدواء والطعام واللباس ولهذا تم تكريم حضرة عبد البهاء بعد انتهاء الحرب من قِبَل الحكومة البريطانيه.

وفاة حضرة عبد البهاء ودورة الولاية العظمى

عندما توفى حضرة عبد البهاء يوم 28 نوفمبر عام 1921 أرسلت الورقة المباركة العليا في نفس اليوم البرقية التالية الى احباء الشرق والغرب (قد صعد عبد البهاء الى الملكوت  الابهى) وقامت بترتيب اجراءات مراسم تشييع جثمانه. وقد ذاع صيتها خلال هذه الفترة حيث كانت كبيرة العائلة المباركة، والحصن الحصين لأمرالله، حيث وقفت سداً متيناً أمام ادعاءات الناقضين وعلى رأسهم الميرزا محمد علي، بل ودعت جميع الاحباء إلى التوجّه الى مركز الأمر الجديد حضرة شوقي افندي، وكانت السند والعضد والساعد الأيمن له. وعندما فتحت   ألواح الوصايا لحضرة عبد البهاء وعرف الجميع المرجع الأعلى المنصوص عليه، بادرت فورا إلى إبلاغ البهائيين في الشرق والغرب عن تعيين حضرة شوقي افندي وليا للأمر الإلهي حيث ارسلت البرقية التالية إلى طهران في 7 يناير عام 1922 جاءت فيها: (تم إرسال كتاب الوصية المباركة، شوقي أفندي مركز الأمر).

من الميزات البارزة للورقة المباركة العليا قدرتها على هداية وتوجيه الجامعة البهائية وأيضا طاعتها لمركز الأمر والانقياد له وتواضعها وخشوعها ودماثة خلقها وسلوكها الرفيع. وعندما كان يغيب حضرة ولي أمر الله عن الأراضي المقدسة كان يوكل إليها ادارة شئون الجاليه سواء على المستوى المحلي أو الخارجي، وكان هذا واضحاً من الرسالة المؤرخة 5 ابريل 1922 التي أرسلها حضرة المولى إلى مندوب الحكومة في فلسطين الكولونيل سايمس Symes حيث ذكر فيها: نظراً لاضطراري مغادرة حيفا لأسباب صحية فإن مندوبتي اثناء سفري ستكون بهائية خانم شقيقة حضرة عبد البهاء.  كما جاء في الرسالة بأنه قد عين لجنة لمساعدة الورقة المباركة العليا في أداء مهامها سواء داخل فلسطين أو خارجها. وفور سفر حضرة شوقي أفندي قامت الورقة العليا بتشكيل اللجنة ثم ارسلت رسالة إلى المحفل الروحاني في طهران بتاريخ 28 نيسان/ ابريل 1922 جاء فيها:

يا أحباء جمال الأبهى وأعزاء عبد البهاء، على الرغم من ان قلوب أهل البهاء في أشد احتراق من هذه المصيبة العظمى، ووصل حنين وأنين الأحباء إلى سمع الملأ الأعلى وطلعات القدس في الجنة الأبهى، ولكن اليوم هو يوم الخدمة، والوقت وقت نشر النفحات. على أحباء الله أن يقوموا بكل همّة على خدمة أمرالله مثل الشعلة النورانية ويتسابقوا في هذا المضمار ويطاردوا الناقضين مثل الشهب الثاقبة، حتى يثبت أسماؤهم في اللوح المحفوظ الإلهي ويعتبروا في زمرة الذين وفوا بعهد الله وميثاقه. ونتيجة لهذه المصيبة الكبرى والفاجعة العظمى ونزول الأحزان فقد قرّر حضرة ولي أمرالله، الغصن الممتاز وسيد أهل البهاء ان يترك المكان لعدة ايام ويسافر إلى الخارج حتى يكتسب الصحة والراحة ومن ثم يعود إلى الاراضي المقدسة ويقوم على خدمة أمر الله ويؤدي وظائفه. وفي غيابه وطبقا للرسالة التي ارفقها اليكم فقد عين هذه المسجونة لكي تدير وتسيّر الأمور الأمرية بالمشورة مع العائلة المقدسة، ولهذا قامت هذه الفانية بالترتيب لعقد اللجنة التي قام حضرة شوقي أفندي بتعيين أعضائها وأتمنى أن يقوم الأحباء وأماء الرحمن أثناء غياب حضرته بالارتقاء بامر الله ونشره بشكل سريع. أنه بعباده رؤوف رحيم.

كما أرسلت رسالة اخرى خلال أيام عيد الرضوان لعام 1922 إلى الاحباء الأعزاء في أمريكا ونشرت في مجلة نجم الغرب  Star of the West أعربت الورقة المباركة العليا بالنيابة عن أسرة حضرة عبد البهاء عن شكرها العميق وتقديرها الوفير لكل من عزى الأسرة بفقيدها الكبير وركزت على أهمية التوجه والانقياد والطاعة لحضرة شوقي أفندي باعتباره مركز الأمر الجديد، حيث قالت في رسالتها: نأمل من أحباء الله وأماء الرحمن أن يدعوا ويصلوا لنا حتى نستطيع أن نساعد شوقي أفندي بكل ما نستطيع لكي ينجز المهام التي أوكلت إليه.

غاب حضرة ولي أمرالله عن الأراضي المقدسة مدة ثمانية أشهر للمرة الأولى أثناء ولايته وتولت الورقة المباركة العليا وبعض اعضاء العائلة المباركة مسئولية ادارة شئون الجامعة البهائية في شتى بقاع العالم، وكانت تشعر سموّها بعِظم المسئولية الملقاة على عاتقها حيث كانت مسئولة عن توجيه الأحباء وتشجيعهم وحل الخلافات والنزاعات إن وُجدت. وقد أرسلت عدة رسائل بهذا الخصوص إلى الأحباء والمحافل الروحانية في الشرق والغرب تحثهم على الإستقامة والثبات والتوجه لمركز الأمر وتبليغ أمرالله. ونظرا لوقوع بعض الحوادث بعد صعود حضرة عبد البهاء ورغبتها في أن يعرف الأحباء الحقائق فقد أرسلت رسالة إلى كافة احباء إيران من خلال المحفل الروحاني في طهران بتاريخ 27 مايو 1922 قالت فيها:

لا يخفى على الثابتين على الميثاق بأنه منذ صعود جمال القدم جل ذكره الأعظم فقد قام مركز النقض[1] وأعوانه بشتى أنواع الفتن والفساد. والآن بسبب حدوث المصيبة الكبرى أي صعود حضرة عبد البهاء، جواهر الأرواح لمرقده الأطهر فداء، فأنهم يسعون لنشر الأوهام والأراجيف حتى يفلحوا في إلقاء الشبهات ويصلوا إلى آمالهم الزائفة. ولكن هيهات ثم هيهات فسوف لن يحصلوا على شيء سوى خيبة الأمل والخسران ثم اليأس والاضمحلال، مثلما ذكر ذلك في ألواح الوصايا لحضرة عبد البهاء أرواحنا لمظلوميته الفداء الذي أخبرنا عن شقاق ونفاق وسوء نية تلك الفئة بكل تفصيل. لا شك بأن أنوار ثبات أهل الوفاء تدفع ظلمات شبهات قوم الجفاء بتأييدات الهية وتوفيقات صمدانية، كما أن الأشعة الساطعة من الوجوه النوراء تمحو ظلمات شكوك أهل الارتياب. على أي حال، قام أهل الفتور بمراجعة المراكز المختلفة لمدة من الزمن آملين بمساعدة من الحكومة أن يثبتوا حقهم الشرعي الوهمي، ولكن بحمد الله رجعوا خائبين وخاسرين، ولكن قبل أربعة أشهر أي بتاريخ 30 يناير إجتمع اهل الفتور في قصر البهجة ودعوا عدداً من أهالي عكا السيئين وتشاوروا وقرروا أن يذهبوا سوّيا إلى الروضة المباركة ويأخذوا مفتاح المرقد من خادمه الوفي ويسلّموه لمركز النقض ومحور النكث. أن هذا التعدي والتوهين قد صدر بالفعل من قطب الشقاق وزعيمهم الثاني حيث تجاسروا وأخذوا مفتاح الروضة المباركة عنوة من خادمه آقا سيد أبو القاسم. ونظراً لأنه لم يستطع مقاومة هجوم أهل الفتور فقد أرسل معاونه آقا خليل إلى حيفا ليطلع حضرة شوقي أفندي على ما حدث. وصل هذا الخبر لحيفا بعد مرور ساعتين من الليل وفوراً تم إبلاغ الحاكم عنه. صدرت الأوامر القطعية واسترجع المفتاح في نفس الليلة، ولكن بقى لدى الحكومة حتى يتحقق الأمر حول أحقية هذا المفتاح. والآن بعد أربعة أشهر أعلنت الحكومة عن رأيها بأن هذا الموضوع يتعلق بالبهائيين وكل ما يقرره البهائيون هو الصحيح والنافذ. فإذا رأى البهائيون أن الميرزا محمد على يعتبر ساقطاً وخارجاً عن الملة فبالطبع ليس له حق التصرف. ولهذا على الأحباء الأعزاء في كل قطر وأقليم ان يخبروا أعضاء المحفل الروحاني في منطقتهم وأن يرسلوا رسالة أو تلغراف وبتوقيع جميع الأعضاء بواسطة سفراء وقناصل حكومة بريطانيا العادلة إلى مقرهم في القدس الشريف بأن البهائيين وطبقا للنصوص الصريحة والقاطعة لحضرة عبد البهاء في وصيته التي كتبها بقلمه المبارك، فإن حضرة شوقي أفندي هو المرجع الأعلى، وهو ولي أمرالله، وليس لديكم أية ارتباط مادي أو معنوي بالميرزا محمد على ونعتبره ساقطاً وخارجاً عن الأمر البهائي طبقاً للنص الصريح لحضرة عبد البهاء. ولهذا أرجو من عموم أهل البهاء في جميع البلاد والمراكز الهامة في العالم رجالاً ونساءً أن يطلبوا من حكومة بريطانيا العظمى في فلسطين التي تقع مركزها في القدس الشريف أن يصدروا أوامرهم بتسليم مفتاح الروضة المباركة وهي قبلة البهائيين في العالم إلى حضرة الغصن الممتاز شوقي أفندي حتى يزداد البهائيون في الشرق والغرب غبطة وفرحاً وشكراً وتقديراً من حسن السياسة والعدالة لحكومة بريطانيا العادلة.

كتب أحد المؤمنين في إيران رسالة إلى الورقة العليا يستفسر عن معنى العهد والميثاق والمقصود من ألواح الوصايا لحضرة عبد البهاء، فردت الورقة العليا بالجواب التالي: واضح من مضمون رسالتكم بأنها كتبت قبل وصول وقراءة ألواح الوصايا المباركة لمركز الميثاق، ويقينا قرأتم هذه الألواح حتى الآن. إن تلك الألواح هي فصل الخطاب وحياة أولي الألباب وفيها وظائف جميع طبقات من في البهاء على نحو أكمل وأتم وأقوم، وفيها شرح وافٍ من قلم فضله وإحسانه. لقد قطع حضرته جذور شجرة النقض وأخذل مركز النكث وعيّن المرجع الخاص مركز توجه عموم أهل البهاء الا وهو الغصن الممتاز وولي أمرالله. أن هذا الفضل والموهبة من خصائص هذا الظهور الأعظم والدور الأفخم الأكرم. هنيئا للثابتين، بشرى للراسخين، وطوبى للفائزين.

وفي صيف عام 1923 غادر حضرة المولى حيفا للمرة الثانية وعاد إليها في نوفمبر من نفس السنة. وفي عام 1924 غادر الأراضي المقدسة للمرة الثالثة أيضا ورجع إليها بعد عدة أشهر، وخلال غيابه كانت الأمور تدار جميعا من قبل الورقة المباركة العليا، وقد شهدت بهائية خانم في عدة رسائل لها تحسّن صحة حضرة شوقي افندي الروحية والمعنوية كلما كان يعود من رحلاته بل وكان يباشر مهامه بكل شغف ونشاط، ويرسل بعشرات الرسائل الى الافراد والمحافل ويرد على استفساراتهم. بتاريخ 28 آذار / مارس عام 1924 واثناء غياب حضرة ولي أمرالله عن الأراضي المقدسة أرسلت الورقة المباركة العليا رسالة إلى عموم أحباء إيران جاء فيها:

[ … على كل نفس ثابتة راسخة أن تتذكر البلايا والرزايا التي وردت على تلك الطلائع القدسية وأن تترحم على مظلوميتهم، وعلى أمرالله، وشريعة الله، وبالدماء التي سفكت في سبيل الله. على الاحباء ان يضعوا المصالح الامرية فوق كل اعتبار ويرجّحوا عزّ أمرالله على كل عزّ ويتعاملوا مع كل حادثة سواء صغيرة أم كبيره بحسن نية وخلوص طوية، وأن لا تكون شريعة الله وسيلة للخلاف والنزاع، لأنها وجدت أساسا للألفة والإتحاد. تفضل حضرة عبد البهاء قائلا: إذا كان الدين سبباً للخلاف فيفضل اللادينية. وعلى أي حال، فإن اليوم حضرة الغصن الممتاز وولي أمرالله يأمل بل يتمنى من كل قلبه ان يظهر من كل فرد من الاحباء النشاط والفعالية التي تميّز أهل البهاء على الآخرين. من المعلوم بأنه حين أفلت شمس الميثاق ومركز عهد محبوب الأفاق، ارواحنا لرمسه الأطهر فداء، كان حضرة الغصن الممتازخارج البقعة النوراء وعندما وصل نبأ المصيبة الكبرى اليه، تأثر وتألم وحزن لدرجة لا يمكن وصفها. لقد رجع إلى البقعة المباركة مكسور القلب ومجروح الفؤاد، وفي ذلك الوقت كان أهل الفتور ينشرون الافتراءات سراً وجهاراً وبكل شدة وطغيان. هذه الأمور أضافت أحزاناً إلى الهيكل الأطهر، ولهذا قرّر الهجرة وأمضى بعض الوقت منفرداً في تسيير الأمور الامرية وترتيب مصالح المؤسسات الروحانية، والتضرع والدعاء والمناجاة للعتبة المقدسة الصمدانية. واثناء هجرته وبحمد الله ظهرت علائم الثبوت والرسوخ والاستقامة والوحدة والاتحاد والمحبة والانجذاب والألفة بين أحباء وإماء الرحمن في الشرق والغرب والارض الاقدس لدرجة أدى الى يأس مركز النقض والفتور وثلة الاشرار من ايجاد تمزق وتصدّع في أمرالله. ان كل ذلك بالإضافة إلى الصفات الممدوحة للأحباء كانتا سبباً في تسرير خاطره النوراني، ثم عاد الى البقعة النوراء  بعد ان استرجع صحته وقواه وهو في غاية السرور والحبور ثم قام على انجاز مهامه المقدسة. ونظراً لتراكم أمور مهمة كثيرة عليه، واستمرار تدفق عشرات الرسائل والمكاتيب من الافراد والجماعات ولهذا قرر عدم الرد عليها والاكتفاء بالرد على رسائل المحافل الروحانية بشكل عام موضّحاً فيها وظائف ومهام الأحباء في هذه الأيام. لقد وجد حضرته جوّاً من السرور والبهجة للأحباء. ومن بين الرسائل التي وردت عليه رسالتان يدل مضمونهما على حدوث حزن وكدر  بين بعض الأحباء، وأيضا عدم احترام واطاعة للمحفل الروحاني المقدس، وعليه تكدّر حضرة ولي أمر الله وتأثر قلبه الحنون. أصرّت وألحّت هذه الفانية وأهل الحرم والطائفون أن يغادر في الصيف الماضي الأراضي المقدسة للراحة والسكينة. وقد غادر فعلاً، وبعد رجوعه ثبت أن الرحلة كانت مفيدة له ولصحته. وكانت البشارات الروحانية التي تصل أرض الاقدس من أطراف وأكناف العالم تزيد من فرحه وسروره. هذه البشارات كانت من المحافل الروحانية و المنظمات الأخرى والأفراد، مما زاد معها حبّه للأحباء، وقام بالتحرير والكتابة وإرسال الرسائل عبّر فيها عن رضاه وشكره لعموم احباء جمال المبارك وعشاق حضرة عبد البهاء الأوفياء. ولكن للأسف وللمرة الثانية شعر حضرته بأن هناك عدم روح وريحان بين بعض الأحباء وعدم احترام البعض للمحفل الروحاني، لدرجة ان الهيكل الأطهر قد حزن وتأثر من ذلك وقرر الهجرة مرة أخرى. ولكن قامت هذه الفانية وأهل الحرم وعموم أوراق البيت المبارك ومن اجل إزالة الحزن والكدر من فؤاده اللطيف، بعرض البشارات الروحانية الأمرية التي تصل من كل الأطراف وأيضا أخبار ثبوت ورسوخ واستقامة ومحبة وتضحية عموم الأحباء في الشرق والغرب، لعل وعسى يغير رأيه ويترك الهجرة ولكن لم ننجح في كل ذلك بل قال لنا:

إن قلبي حساس وأشعر بحزن البعض وأجرح من ذلك ولكن أقدّر صفات وخصائل الأحباء الجيدة وأثمنها لدرجة لا أستطيع وصفها. بعد المصيبة الكبرى، فإن ما يفرح قلبي هو استقامة الأحباء ووفاؤهم ومحبتهم لجمال المبارك وحضرة عبد البهاء. حافظوا على هذه الصفات الحسنة. إني ممنون من كافة احباء الله وأماء الرحمن حول هذا الموضوع، ولكن هذا العشق والاشتعال غير كاف لإيصال أمرالله إلى ساحل المقصود أو إثبات إدعاء أهل البهاء للعالم. على الأحباء أن يتشبثوا بطرق فعالة من أجل حفظ وحماية وعزة دين الله، وان يكنّوا كل محبة وتقدير لبعضهم البعض، ولا تسري أية ضغينة في قلوبهم. واذا سأل الناس من الأحباء ما وجه تميزكم عن الآخرين ؟ وفي الجواب اذا قلنا اننا نفدى بأنفسنا وأموالنا في سبيل محبة مركز الامر، فإن العالم المتمدن سوف لن يقتنع بهذا الجواب، وسيقول بأن فداءكم من أجل شخص واحد سوف لن يعالج أمراض العالم المزمنة. وإن قلنا بأن ديننا يحتوى على تعاليم ومبادئ عظيمة لا يمكن لأهل العلم والفكر إنكاره، فسوف يقولون بأن المبادئ والتعاليم العالية تسري في عالم الإمكان وتشفى أمراض الهيئة الإجتماعية عندما يقوم بإجرائها اولئك المدّعون بها ويطبقونها في حياتهم اليومية. إن لم يحدث كل ذلك فلا يوجد ما يميزنا عن الآخرين، ولهذا قيل بأن أنظار أهل العالم اليوم متوجهة للأحباء، وعلينا أن نراعي ذلك ونزيل أية احزان محتقنة فينا، ونطيع قرارات المحافل الروحانية. وبمثل ما انعكس في قلبي من كدر بعض الأحباء وحزنهم، فإن محبة وصفاء وألفة الأحباء واتحادهم واطاعتهم للمحافل الروحانية سينعكس في فؤادي ايضا. وعندما اشعر بذلك الانعكاس سأرجع فورا إلى الأراضي المقدسة وأؤدّي وظائفي المقدسة. يرجى إبلاغ رسالتي هذه لعموم الأحباء. وبعد أن تفضل بهذه البيانات المؤثرة غادر ارض الأقدس قبل أسبوعين.

يا أحباء عبد البهاء الأعزاء لقد جاء في وصيته المباركة: يجب ان تحافظوا كل المحافظة على فرع الشجرتين المباركتين وثمرة السدرتين الرحمانيتين شوقي افندي – حتى لا يغبر خاطره النوراني بغبار الكدر والحزن. علينا ان نتذكر هذا البيان المبارك دوما وان تزداد المحبة والالفة والمودة الشهامة والكرامة. ان رجاء وطلب هذه الفانية ان يبذل الاحباء كل الهمة وان يشتعلوا بنار محبة الله حتى يضيء نوره العالم ويهتز قلب حضرة الغصن الممتاز من هذه المحبة، ومن ثم وان شاء الله يرجع فوراً الى موطنه قبل ان تودع هذه الفانية هذا العالم ويختم حياتها، حتى أستطيع ان أودع احباء الله بقلب فرح. إن سروري خلال ايام حياتي القليلة الباقية وسرور الحرم المبارك مرتبط بهمّتكم يا أعزاء عبد البهاء وعليكم البهاء الأبهى. ]

لقد كان واضحاً من رسائل الورقة المباركة العليا مقدار المحبة والاحترام التي كانت تكنّها لحضرة شوقي أفندي، حيث كانت عالمة بمقامه الرفيع في الأمر المبارك ومدى رقة قلبة وإحساسه المرهف والمكانة العظيمة التي تبوأها في الدين البهائي. كانت حريصة كل الحرص على ان لا يتكدر قلبه الحساس أو يعصف به أية حادثة حتى يستطيع أن يؤدي مهامة الكثيرة بكل جد ونشاط. تروي لنا أيادي امر الله روحية خانم في كتابها (الجوهرة الفريدة) The Priceless Pearl هذه العلاقة الوثيقة بين الورقة العليا وحضرة ولي أمرالله. تقول في كتابها ان هذه العلاقة قد استحكمت وتوثقت بعد وفاة حضرة عبد البهاء حيث أصبح شوقي افندي محور حياة الورقة العليا وجلّ اهتمامها. ثم تقول روحية خانم: في عام 1923 كنت مع والدتي مي ماكسويل في أول زيارة لي للأراضي المقدسة وكان هناك اجتماع كبير في منزل حضرة عبد البهاء. جلست والدتي ومعها السيدة/اديث ساندرسون بالقرب من حضرة ولي أمرالله في غرفة الرجال ولكن كنت في غرفة النساء، وهي غرفة تطل على غرفة الرجال، وبها باب مفتوح. فجأة اندفع رجل شرقي نحو حضرة شوقي افندي ورمى نفسه على قدميه. لم نستطع ان نعرف ماذا حدث تماماً ولكن سمعنا فقط هرجاً ومرجاً وضجيجاً في غرفة الرجال. كما رأيت الورقة المباركة العليا، وهي نحيلة وضعيفة، تندفع بشدة نحو حضرة ولي أمرالله وتصرخ خوفا من اصابته بمكروه. ولكنها هدأت عندما قيل لها ان حضرة المولى سليم ومعافى ولم يصبه مكروه. لقد ظل ذلك المشهد محفوراً في ذاكرتي.

كان للورقة المباركة العليا دور كبير في توجيه وهداية المحافل الروحانية أثناء غياب حضرة المولى. ففي الرسالة التالية المؤرخة 21 سبتمبر 1923 الموجهة إلى اعضاء المحفل الروحاني لمدينة شيراز أشارت سموّها إلى دور المحافل في ايجاد الوحدة والاتحاد بين الأحباء وفي تبليغ امر الله أيضا:

الحمد لله وبتأييدات من الملكوت الأبهى فأن الأحباء الأوفياء موفقون بحماية أمرالله وعزته ورفعته. هذا التوفيق يأتي من الوحدة والوداد في جميع الشؤون وتعزيز الألفة والاتحاد في كل الأمور والبعد عن الأمور السياسية. يجب ان لا نتحدث بسوء عن الأحباء أو الأصدقاء بوجه خاص لأن الغيبة والشكوى لا تخدمان الوحدة والاتحاد، وتكون علة الفتور في المحبة والألفة. ولهذا على أعضاء المحفل الروحاني أن يكونوا يقظين ولا يسمحوا بفتح باب التذمر والعتاب أو الغيبة والنميمة. ان كل من يفعل ذلك ولو كان تجسيداً لروح القدس فإنه يشق وحدة أهل البهاء ويرفع راية العناد. في هذه الأيام المتعطش فيها اهل العالم لتعاليم جمال الأبهى التي تعتبر كوثر الحياة لمن في الإمكان والمكلفون بترويجها، أليس مؤسفا ان ننسى هذه الوظائف والمهام ونبحث في أمور عقيمة تسبب الحزن والتشنج، وتؤدي إلى الخمودة والبرودة وتمنع سرعة نفوذ كلمة الله.

وعندما قام الميرزا عبد الحسين آواره بالمكابرة والعناد ونقض عهد الله وارتد وحارب أمرالله، كانت بهائية خانم السد المنيع لأراجيفه وهذيانه وادعاءاته، وقد حذرت الأحباء منه ومن خطورته، وقام حضرة ولي أمرالله بطرده من الجامعة البهائية فيما بعد، وكشف ادعاءاته الزائفة. في عام 1924 سأل أحد احباء طهران عن ادعاءات هذا الشخص ونظراً لسفر حضرة المولى اجابت الورقة المباركة العليا بتاريخ 29 ايار 1924 بالرسالة التالية:

بالنسبة لقضية آواره فلا شك انكم سمعتم عنه. لقد جاء هذا الشخص الى البقعة النوراء السنة الماضية للمرة الأولى، واظهرنا كل محبة وتقدير ورعاية ومساعدة له. ثم سافر الى اوروبا للتبليغ وكان محل عناية وتمجيد وتحسين حضرة ولي امر الله، ولهذا أظهر أحباء إنكلترا كل احترام وتبجيل له، واستضافوه جيداً لدرجة وصلت حد المبالغة. المقصود من ذلك اننا لم نقصر في حقه أبداً. بعد ذلك رجع الى القاهرة وقام بطبع كتابه، ومن ثم اتضح انه افسد العلاقة بين المحفل والاحباء وعاث فسادا وكتب الى بعض الجهات ان هناك خلافا في مصر. عندئذ حاول الغصن الممتاز حضرة ولي أمرالله ان يحلّ المشكلة في مصر بشتى الوسائل، ولكن لم ينجح لأن آواره لم يكن يرغب باعادة العلاقات الجيدة الودية بين الاحباء والمحفل الروحاني. ولهذا ضاق الهيكل الأطهر ذرعاً ولم يعد يتحمل كل ذلك، وهاجر البقعة المباركة متأثرا متأسفا كما هو واضح من رسالته حيث ان آثار حزنه واضحة ومعلومة. ومن ثم جاء آواره إلى أرض المقصود مرة اخرى. النقطة الهامة انه منذ ان غادر آواره مصر رفع سوء التفاهم بين الاحباء ورجعت الأمور الى مجراها الصحيح. لقد اتضح ان آواره كان مصدراً للخلاف بين الأحباء. كما قام بكتابة عدة رسائل ونشرها من هنا ايضا، وكلها تحتوى على اكاذيب وافتراءات وذكرها سيؤدي الى الحزن. وفي بيروت قام بعمل نفس شيء وأخبر البعض بان هناك خلافا بين الأحباء العياذ بالله، ولهذا حفظا وحماية لأمر الله ارسلتُ برقية الى بغداد ذكرتُ فيها بيان جمال القدم جل ذكره الأعظم: لا تطمأنوا من كل وارد ولا تصدقوا كل قائل. وعندما وصل بغداد حاول أن يُحدث فتنة جديدة ولكن الأحباء وبكل استقامة ومتانة منعوه من ذلك بل ابتعدوا عنه وتبرؤوا منه. المقصود ان هذه الأعمال والأقوال على الرغم من عدم اهميتها وتأثيرها ولكنها كانت سبب حزن هذه المحزونة التي اضطرت الى كتابة هذه السطور…

من السيدات الغربيات اللاتي تشرّفن بزيارة الورقة العليا السيدة/كيث رانسوم كهلر Keith Ransom Kehler وهى بهائية أمريكية جاءت الى حيفا عام 1926 والتقت بورقات العائلة المباركة، تروي لنا حكاية لقاءها بالورقة العليا بالعبارات التالية:

مرّت بهائية خانم، شقيقة حضرة عبد البهاء، منذ سن الخامسة بتجارب كثيرة وعانت من مشاكل عديدة لا يمكن لأي امرأة غربية أن تتصورها. رغم ذلك كانت شخصية رائعة، هادئة، واثقة، ذو عبير خاص تتحمل جميع ظروف الحياة القاسية وشظف العيش. وعندما يستمع ويلتقي الانسان بشخصيات مثل أخت وزوجة حضرة عبد البهاء فإن (ثباتنا) نحن يكون لا معنى له…. ان بنات حضرة عبد البهاء يعملون بكل جهد واجتهاد ليلاً ونهاراً على ازالة الجهل والتعصب والحقد والضغينة من خلال محبتهم وعطفهم، ويحرصون على توثيق أواصر المحبة والسلام. أرى في الورقة العليا إيماناً لا يتزعزع، وهدية لا تقدر بثمن، ومحبة لا تنتهي، وشخصية عظيمة تحمل على رأسها صرح الحضارة الجديدة.

ومن المهام التي تولتها الورقة العليا منذ زمن حضرة عبد البهاء واثناء فترة الولاية العظمى وحتى آخر أيام حياتها كانت المحافظة على المقتنيات والآثار الثمينة والمقدسة للرموز العظيمة في الدين البهائي مثل صورهم وملابسهم وأشيائهم النفيسة. لقد كانت تحتفظ بصورة حضرة الباب وصورة الجمال المبارك في غرفتها الخاصة وتحافظ عليها مثل محافظتها على الكنز الثمين وتعاملهم بكل احترام وتبجيل. يروي السيد علي نخجواني في مذكراته عن أيام طفولته في حيفا بالآتي: لقد ذهبت عدة مرات الى غرفتها وانحنيت وركعت أثناء مشاهدتي لصورتَي النقطة الاولى والجمال المبارك. وقد رأيت الورقة العليا كيف تكشف عن الصور المباركة بكل احترام وتقدير، وبعد انتهاء المشاهدة كانت تغلق الصندوق الخاص وتضعه  مكانه.

كانت الورقة المباركة العليا تحب الاستماع الى المناجاة والالواح باللحن والترنيم الفارسي الجميل، وكان السيد أبو القاسم فيضي (الذي أصبح فيما بعد ضمن كوكبة أيادى أمرالله) طالباًً في الجامعه الامريكية في بيروت، وقد زار حيفا عدة مرات اثناء العطلة الصيفية الدراسية مع طلبة آخرين. في احدى زياراته طلبت الورقة العليا من الطلبة الزائرين أن يقرأ كلّ منهم مناجاة. وكانت منيرة خانم حرم حضرة عبد البهاء حاضرة في ذلك الاجتماع وسيدات أخريات من العائلة المباركة. يروي السيد فيضي في مذكراته:

جلسنا نحن الطلبة أمام هذا المشهد الرائع، حيث الورقة العليا أمامنا تضع يديها الطاهرتين في حضنها، لقد كانت ملكة جالسة على عرشها تمنح الحب والاحترام لكل من يشاهدها. عيناها مليئتان بالمحبة والعطف، ولكنها لم تتحدث الينا، بل تحدثت منيرة خانم بالنيابة عنها، حيث رحّبت بنا في البداية ثم تليت عدة مناجاة وأدعية وأشعار وأغاني من قبل الطلبة وقد حاز على تحسين واعجاب الجميع. وفي النهاية أعربت منيرة خانم عن شكرها وشكر الورقة العليا لجميع الذين اشتركوا في البرنامج. وفي لقاء آخر سألت الورقة العليا من الطلبة إن كانوا يعرفون الاغاني التي يكررها العمال في ايران أثناء عودتهم من العمل. استغرب الطلبة من هذا السؤال، وتعجبوا كيف انها مازالت تذكرهذه الاغاني رغم مرور عشرات السنين عليها منذ أن غادرت موطنها الاصلي وهي طفلة. لربما الاشعار والاغاني التي قُرئت أمامها والعزف على التار ذكّرها بتلك الايام.

الورقة العليا ومشرق اذكار أمريكا:

اهتمت الورقة المباركة العليا منذ أيام حضرة عبد البهاء بتطور ونمو الجامعه البهائية في الغرب. وكانت تهتم بالزوار الاجانب الذين يأتون للاراضي المقدسة بقصد زيارة الاعتاب المقدسة والالتقاء بحضرة ولي أمرالله. وكان يُسعدها ويُفرح قلبها العطوف انجازات وانتصارات الاحباء في أمريكا الذين أطرى عليهم غصن الله الاعظم في عدة ألواح وأثنى على مجهوداتهم واقداماتهم حضرة ولي أمرالله. كما كانت الورقة العليا مهتمة بشكل خاص بمشرق أذكار شيكاغو وكانت تراقب عن كثب بناءه ونموه وتطوره. هذا البناء الذي وصفه حضرة شوقي أفندي بأنه: الصرح الفريد الذي هو أول ثمرة من ثمار النظام الادارى المتمهل في النضج والاكتمال، وأكرم بنيان أقيم في القرن البهائي الأول على الاطلاق ورمز الحضارة العالمية القادمة. كما تنبأ حضرة عبد البهاء بمستقبله فقال: اذا وُضِعت أسس مشرق الاذكار في أمريكا وتمت تلك المؤسسة الالهية ظهرت حركة مثيرة في عالم الوجود…. فمن نقطة النور هذه سوف يفيض روح التعاليم، ناشراً أمرالله مُعلّيا شأن تعاليم الله في كل أرجاء العالم.

هذا الصرح العظيم وضع حجر زاويته حضرة عبد البهاء بنفسه وبيده المباركه عام 1912 عندما كان في رحلته التاريخية الى الولايات المتحدة، ومن ثم بدأ البناء عام 1920 وشارك كافة الاحباء في العالم بتقديم التبرعات والاعانات لاتمام هذا المشروع الهام.

في عام 1928 قرّر المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة أن يستخدم سرداب مشرق الاذكار من أجل عقد مؤتمر الوكلاء المركزي لأول مرة، على الرغم من عدم اكتمال بناء المعبد. إن المؤتمر كان مهيجاً وتاريخياً لأنه أول مؤتمر يُعقد في مشرق الاذكار، وكانت أحداثه ووقائعه تذكرنا باهتمام الورقة المباركة العليا بهذا المشروع. جاء في تقرير أحد المشاركين ما يلي: في عام 1928 كانت السيدة كورين ترو Corine True في زيارة للاعتاب المقدسة والتقت بالورقة المباركة العليا التي أعطتها كمية من الشاي وقنينة من ماء الورد لاستخدامهما في المؤتمر. في البداية افتتح المؤتمر بتلاوة أدعية ومناجاة من آثار حضرة بهاء الله ثم جاءت كورين ترو وأبلغت الحضور بتحيات وأشواق الورقة العليا ثم قدمت كوباً من الشاى شخصيا لكل عضو من أعضاء المؤتمر، ثم قامت السيدة پروين بغدادي وهي ابنة ضياء بغدادي بتقديم قطرات من ماء الورد إلى المشاركين وقالت انهما هدية الورقة المباركة العليا للمؤتمر، مما زاد من بهجة وفرح المشاركين.

في عام 1929 قدّم حضرة ولي أمرالله سجّاده ايرانية فاخرة الى المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة وطلب بيعها لصالح صندوق مشرق أذكار شيكاغو. وفي رسالته حول هذا الموضوع أكد الهيكل الانور أهمية اتمام هذا المشروع الحيوي والهام وأشار الى التحديات الكبيرة التي تواجه الجامعه البهائية. كما أشار بأن اتمام مشرق الاذكار يعتبر الرغبة الحميمة للورقة العليا التي تقدمت بها السن وتتمنى أن يكتمل هذا الصرح المعماري الجميل قبل صعودها الى بارئها وخالقها. في عام 1931 اكتمل الشكل الخارجي لمشرق الاذكار وقد عقد مؤتمر الوكلاء المركزي السنوي جلساته في صالته ثم أرسل حضرة ولي أمرالله البرقية التالية:

انني ومعي الورقة المباركة العليا أطلب من الوكلاء المجتمعين تحت قبة مشرق الاذكار المقدس أن يبلغوا جميع الاحباء الاعزاء في أمريكا تهانينا القلبية وسعادتنا الوفيرة وشكرنا العميق لإتمام البنية الفوقية لهذا الصرح العظيم. انني أدعو جميع المشاركين في هذا المشروع المقدس أن يتمّوا اقداماتهم بواسطة ما يراه الوكلاء مناسباً لاتمام التزيين الخارجي للمبنى. لاشك بأن التأييدات الالهية ستحيط الجهود التي تبذل بكل تضحية في هذا السبيل.

وفور وصول هذه البرقية بدأ المحفل الروحاني المركزي بالترتيب لانجاز وإكمال التزيينات الخارجية للمعبد، وقد أرسل حضرة ولي أمرالله بتاريخ 10 يونيو 1932 برقية الى المحفل المركزي للولايات المتحدة يُعرب فيها عن سعادته وبهجته لهذا القرار وأيضا سعادة وسرور الورقة العليا التي كانت تنتظر دوماً اتمام هذا البناء العظيم. ولكن بعد شهر واحد انتقلت الى جوار ربها وبارئها لتكون في محضر جمال القدم والنقطة الاولى والغصن الاعظم.

وفاة الورقة المباركة العليا

توفيت الورقة المباركة العليا في 15 تموز من عام 1932 عن عمر يناهز السادسة والثمانين عاماً بعد عمر طويل من الفداء والتضحية والبطولة والمعاناة. ولم يكن حينها حضرة شوقي أفندي موجوداً في حيفا وانما كان في سويسرا ولهذا وصف هذه الفاجعه في احدى رسائله: فوا اسفاه علي بما مُنعتُ عن الحضور والوفود في ساحتها حين خاتمة حياتها وعروجها الى ربها ومولاها واستقرار جسدها اللطيف في مقرها ومقامها، اذا بقيتُ من هذا الفخر العظيم والشرف المبين ممنوعاً بعيداً محروماً مهجوراً

وفي نفس يوم صعودها أرسل حضرة المولى برقية الى المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة يعلن فيها هذا النبأ المحزن، ثم شرح علو مقامها وسموّ قدرها، وطلب من أحباء الشرق والغرب الحداد الرسمي لمدة تسعة أشهر. وفي نفس اليوم أرسل أيضاً رسالة الى عموم أحباء الشرق ينعي فيها  بقية البهاء ووديعته وثمرة الشجرة الازلية ومشعل الحب والوداد و معدن اللطف والحنان ومظهر الكرم والسخاء. ان حضرة المولى لم يكن متواجداً أثناء تشييع جنازتها ولكنه سبق أن أشار الى دفنها على سفح جبل الكرمل لتكون بالقرب من المقام الاعلى.

يروي السيد علي نخجواني الذي تشرف بلقاء الورقة العليا وقضى سنين من أيام طفولته وشبابه في حيفا، ثم عاد اليها بعد سنين طويلة ليستقر في حيفا عضواً في بيت العدل الاعظم الالهي، يروي لنا قصة وفاة بهائية خانم وتشييع جنازتها بالعبارات التالية:

[توفيت الورقة المباركة العليا يوم 15 تموز عام 1932 عن عمر ناهز السادسة والثمانين عاماً. انتشر الخبر في مدينة حيفا وعكا والقدس ونشر في الجرائد وتضمن الخبر بداية الكلمات المكنونة لحضرة بهاء الله التي تبدأ: يا ابن الروح، ببشارة النور أبشرك فاستبشر به والى مقر القدس أدعوك تحصن فيه لتستريح الى أبد الابد. ومن ثم جاء: تنعي أسرة المغفور له السير عبد البهاء عباس مع عميق الاسى والحزن بهائية خانم شقيقة السير عبد البهاء عباس التي توفت في تمام الساعه الواحدة صباحا يوم 15 تموز. ستبدأ مراسم تشييع جنازتها من منزلها في Persian Colony في تمام الساعه الرابعه والنصف من يوم السبت الموافق 15 يوليو. ان وفاة الورقة المباركة العليا يعتبر الحدث الاكثر أهمية منذ وفاة حضرة عبد البهاء عام 1921. جاء جم غفير من الناس للمشاركة في تشييع الجنازة حيث جاؤوا من عكا وأبو سنان ونابلس ويافا والقدس وسارت مئات السيارات خلف موكب الجنازة. من بين الشخصيات التي جاءت عمدة حيفا ومندوب المنطقة الشمالية لفلسطين، وبالطبع الاحباء المقيمون والزائرون. قُرئت صلاة الميت في بيت حضرة عبد البهاء في الصالة الرئيسية، ثم حُمِل الصندوق على أكتاف الاحباء والاصدقاء ونُقِل الى مقرها المعين مروراً بالمقام الاعلى. لقد عيّن حضرة ولي أمرالله مكان دفنها وقال لوالده الميرزا هادي الشيرازي بما يجب ان يفعله إن توفت بهائية خانم وكيف يجب أن تدفن. كما وصّى الاحباء بزيارة مرقدها الشريف يومياً لمدة تسعة أيام وقد حدث ذلك بالفعل.]

وفي يوم تشييع جنازتها أراد بعض الفلسطينيين قراءة رثاء في مدح الورقة العليا ولكن الوقت لم يسمح بذلك. وطلب البعض عقد جلسة عزاء في بيت حضرة عبد البهاء لتقديم العزاء ولقراءة الأشعار في رثائها ولكن حضرة شوقي أفندي لم يوافق، بل أقام بعد اسبوعين مأدبة عشاء للفقراء والمساكين وعامة الناس. عقدت هذه المأدبة يوم 25 أغسطس عام 1932 في حديقة منزل حضرة عبد البهاء في حيفا، وكان السيد على نخجواني حاضراً في ذلك الاجتماع التاريخي. إنشغل عدد كبير من الاحباء في الاعداد له من تنظيف وترتيب واعداد الطعام وتقديمه. ُوضِعت طاولة كبيرة في منتصف الحديقة لخدمة مائة شخص ولكن جاء حوالي ألف شخص، كما نُصبت خيمة في الحديقة لجلوس هذا العدد الكبير من الناس وحمايتهم من حرارة الشمس. تبرع حضرة شوقي أفندى بمبلغ مائة جنيه استرليني إلى بلدية حيفا باسم الورقة العليا لصرفها على الفقراء والمساكين، وكان يعد هذا المبلغ كبيراً آنذاك. وقد أعلن عن هذا التبرع في الجرائد وشكلت لجنة خاصة لاستقبال طلبات المحتاجين وصرف الاعانة لهم.

في ايران عقدت مجالس تأبين في كافة الجامعات البهائية المحلية والمناطق والمحافظات وشارك فيه عدد كبير من الاحباء. وفي طهران طلب المحفل الروحاني أن يكف الاحباء عن العمل يوم 21 تموز، وفي عيد النوروز عام 1933 أوقفت جميع مظاهر الاحتفال في ايران اعزازاً وتكريماً لذكراها العطرة. وفي طهران عقدت مجالس التأبين لمدة تسعة أيام متواصلة وكانت تقدم فيها الطعام للجميع، واستمرت جلسات التأبين بعد ذلك مرة واحدة على الاقل شهرياً لمدة تسعة أشهر متواصلة. في هذه الجلسات كانت تُقرأ الألواح والمناجاة وتُلقى الكلمات في رثاء الورقة المباركة العليا ومقامها الرفيع في الامر المبارك. وقد تصادف وجود السيدة/كيث رانسوم كهلر
Keith Ransom Kehler في ايران في مأمورية أمرية خاصة عندما توفت الورقة العليا، وهي التي كانت في حيفا قبل شهر واحد من وفاتها والتقت بها هناك وطلبت منها الورقة العليا أن تبلغ تحياتها وأشواقها الى أحباء ايران الاعزاء. ولهذا تحدثت السيدة كهلر عن حياتها وذكرياتها معها في العديد من جلسات التأبين التي عقدت في ايران وقالت ان لقاءها قبل شهر واحد معها ورسالتها لكم كان يشعرني بانها رسالة وداعية وان موعد رحيلها قد اقترب. كما شاركت السيدة كهلر في جميع جلسات التسع الاولى المتواصلة التي عقدت في مناطق مختلفة في طهران. وكانت جلساتها مهيجة ومؤثرة لدرجه أن الاحباء جددوا عهدهم مع الجمال المبارك أن يمضوا قدُماً في تشييد صرح النظام العالمي الجديد الذي كان عزيزاً على قلب الورقة العليا ومحط اهتمامها.

أقامت غالبية الجامعات البهائية في العالم جلسات تأبين على شرفها وشارك الصغير والكبير من الرجال والنساء فيها. فمثلا رتب الاحباء في استراليا جلسة تأبين خاصة وتكلم المتحدث عن الحياة المجيدة والسيرة العطرة لهذه السيدة الفاضلة في تاريخ الامر، والدور الهام الذي لعبته في حفظ وحماية الامر المبارك. أما الاحباء في نيوزيلند فقد عقدوا جلسة خاصة قُرئت فيها مقتطفات من الاثار المباركة ثم آثار حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء عنها، ثم تقدير وعرفان حضرة ولي أمرالله للورقة العليا، ثم تحدث بعض الحضور ممن كان لهم شرف لقائها والتحدث معها اثناء زيارتهم للاراضي المقدسة.

دفنت بهائيه خانم على سفح جبل الكرمل في المكان الذي حدده لها حضرة ولي أمرالله ُمسبقا، وبعد سبع سنوات أي في عام 1939 تم نقل الرفات الطاهرة للغصن الاطهر واسيا خانم من عكا الى حيفا ليستقرا على سفح جبل الكرمل وفي نفس المكان تقريبا ليحتضن جبل الكرمل رفات الرموز المقدسة في الدين البهائي (عدا حضرة بهاء الله) والنفوس المقدسة الثابته على العهد والميثاق الالهي والتي ضحت بالغالي والنفيس في سبيل امر مولاهم ومحبوبهم.

رثاء حضرة ولي امر الله

استخدم حضرة ولي أمرالله أجمل التعابير وأكثرها احساسا ورهفة في وصف الورقة المباركه العليا وفي التعبير عما يختلج في صدره من مشاعر وأحاسيس نحوها، ولم نجد في جميع التوقيعات الصادرة من قلمه المبارك تعابير وجُملاً بهذا الاحساس والروحانية لما كان لهذه السيدة الجليلة من مقام شامخ وعظيم في هذا الظهورالاعظم الالهي. وفي أول توقيع أصدره إلى أحباء الشرق يعلن فيها خبر صعودها جاءت هذه الكلمات: اين انتِ يا مشعل الحب والوداد، اين انتِ يا معدن اللطف والحنان، اين انتِ يا مظهر الكرم والسخاء، اين انتِ يا مطلع الانقطاع في الابداع، اين انتِ يا وديعة البهاء بين ملأ الانشاء وبقيته بين عباده ونفحة قميصه للخلايق اجمعين. وفي مكان اخر من نفس التوقيع المبارك: يا ورقة العليا انتِ التي صبرتِ في الله في حياتك منذ نعومة اظفارك وتحملتِ في سبيله ما لا تحمله الا الله بنفسه الغالبة على الممكنات ومن قبله مبشرّه الكريم ومن بعده غصنه المبارك المتعالي الممتنع الفريد. يستبركن بانفاسكِ اهل ملأ الاعلى ويطوفن حولك سكان رفرف البقاء وتشهدك بذلك ارواح القاصرات في سرادق العظمة وعن ورائهن لسان الله الصادق الظاهر البديع طوبى لك وحسن مآب وبشرى لك وخير اياب.[2]

واضاف حضرته: بعد صعود حضرة عبد البهاء الى الملكوت الابهى اخذ ذلك السراج للملأ الاعلى هذا الضعيف في كنف محبته، وشجعتني ودلتني بكل لطف وشفقه بما هو لازم للعبودية… ان قلمي ولساني عاجز عن شكرك، ولا استطيع أن أصف سجاياك الحميدة أو اقدّر رشحة من رشحات محبتك الفائضة أو أصف حادثة من حوادث حياتك الثمينه. ان روحك المقدسة في المحضر الالهي شفيع هذا العبد الضعيف، وفي هذا العالم الحالك فان ذكراك العطرة انيس وعضد هذا العبد. ان مُحياك الجميل منقوش على قلبي المجروح وابتسامتك العذبة مطبوع ومحفوظ في اعماق فؤادي الحزين. لا تنسيني في ساحة عز الكبرياء ولا تحرميني من امدادات الحي القدير واهديني في الملك والملكوت بما هو أنتِ اعلم بنوايا هذا العبد. وفي نهاية هذا التوقيع الكريم يأمر حضرة ولي أمرالله الاحباء قاطبة في الشرق والغرب يايقاف كافة الاحتفالات والاعياد الامرية لمدة تسعة اشهر اعزازاً لمقامها المتعالي المنيع ويطلب من الاحباء عقد مجالس تأبين وعزاء في كل مدينة وقرية ليذكروا تلك الوديعة الالهية بكل اكرام وتجليل ويمجّدوا سجاياها ونعوتها الملكوتيه. كما طلب حضرة المولى من الاحباء ان استطاعوا تأجيل افراحهم الخاصة لمدة سنة واحدة اظهاراً واثباتاً لحزنهم وكربتهم في هذا المصاب الاليم.

وبعد عدة اشهر ارسل حضرة ولي أمرالله توقيعاً  آخر الى احباء ايران مؤرخ 13 ديسمبر 1932م عبّر في بداية التوقيع عن مشاعره الجيّاشه وعواطفه القلبيه نحو فقدان هذا الكنز الثمين الالهي حيث تفضل بقوله المنيع:

يا سليلة البهآء، أبكى عليك في جنح الليالي كبكاء الفاقدين وفي الأسحار اناجيك بلسان قلبي وكل جوارحي واركاني، وأكرر إسمك المحبوب وأنوح على فقدانك ومظلوميتك وبلاياك وعظيم حبك إياي وما تحملت من البأساء والضراء والذلة والهوان والهم والغم خالصا لوجه مولاك وشغفا لحلفاء حبك بين الخلائق اجمعين. كلما أذكرك وأشاهد وجهك البسيم في منامي وأطوف حول رمسك الشريف في الليالي والايام يلتهب نيران الشوق في مهجتي واحشائي و ينصرم حبل اصطباري وتذرف دموعي وتظلم الدنيا في عيني وكلما اتذكر ما اصابتك في اواخر ايامك من الاتعاب والمحن والمكاره والأسقام واتصور ما يحيطك في هذا الحين في الحرم الاقصى في بحبوحة الفردوس حول خيام العز والكبريا من العزة والرخاء والنعم والمواهب والآلاء وما انت عليه من القدرة والمجد والجلال والفرح والظفر والابتهاج يتخفف ثقل احزاني وتنقشع غيوم أشجاني وتسكن حرارة لوعتي وينطلق لساني شكراً لأبيك ومولاك الذي خلقكِ وسواك واجتباكِ بين الأماء وسقاك من فمه الأعلى و كشف برقع الستر عن كينونتك وجعلك المثل الأعلى لذوي قرابتك ونفحة قميصه للخلائق اجمعين، حينئذ يتقوى عزمي للسلوك في منهجك والأستقامة في سبيل ولائك والاقتداء بك والتخلق باخلاقك واظهار ما كنت تتمناه لنصرة هذا الأمر الأوعر الأعز الأرفع المقدس البديع.

وفي أروع مثال للوفاء والتقدير يطلب حضرة ولي امر الله الشفاعة من الورقة المباركة العليا وهو أسمى ما يمكن ان يصدر من شخص هو آية الله على الارض وولي الامر والمرجع الاعلى ودليل على المحبة العميقة التى يكنها لها حيث قال جلت عظمته:

أن إشفعي لي تلقاء عرش الكبريآء يا شفيعة الورى في الملأ الأعلى، وانقذيني من غمرات الحزن والأسى وقدّري لي ولاحبتك في ناسوت الانشاء ما يكشف به كربنا وتطمئن قلوبنا ويخمد زفير حسراتنا وتقر اعيننا وتتحقق آمالنا في الدنيا والآخرة يا من اصطفاك الله بين طلعات فردوس الأبهى وجعلك عزيزة في ملكه، وذكَركِ في صحيفة الحمرآء بذكر فاح به اريج المسك وتعطر منه مشام العالمين.

ثم يتحدث حضرة شوقي افندي عن صفاتها وسجاياها الملكوتيه بهذه الكلمات:

يشهدك الملأ الاعلى وعن ورائهم نفس الله المهيمنة على الارضين والسموات بانك كنتِ مدى أيامك من بدوّ نشئتك إلى خاتمة حياتك مظهر صفات أبيك العزيز الفريد، وثمرة دوحته وسراج محبته وآية سكينته ومظلوميته وسبيل هدايته وواسطة فيوضاته ونفحة قميصه و ملاذ أحبائه وامائه ورداء كرَمِهِ وفضله. اما مشاعر حضرة المولى في هذا المصاب الجلل وأحاسيسه بفقدانها وما يمكن ان يوفيها حق قدرها، فقد عبّر عنها بهذه العبارات:

يا بقية الأنوار وثمرة امر ربنا المختار، بأفولكِ عن مغرب هذه البقعة الاحدية المباركه البيضاء قد بُدّل يومنا بالليل وفرحنا بالفزع الاكبر، بفقدانكِ ابيضّت أعيننا من الحزن بما تجددت تلك الفاجعة العظمى والرجفة الكبرى مصيبة اخيك الحنون ومولانا الشفوق وليس لنا من مهرب الا نفثات روحك الطاهرة النورآء ولا من مأمن الا شفاعتك لنا بأن يلهمنا صبرا من عنده ويقدّر لنا في النشأة الاخرى اجر لقائك والوفود في ساحتك والنظر الى محياك والاقتباس من انوارك.

وفي الختام يطري ويعطّر عليها بأجمل الكلمات ويمجّد مقامها الشامخ ويطلق عليها لقب  حورية البهاء بل ويبارك من يقتدي بها ويزور مرقدها الشريف ويطوف حوله حيث قال قوله المنيع:

يا حورية البهآء، عليك من الثنآء اطيبها وازكاها ومن الصلوات اكملها وابهاها، يا قرة عيني ومحبوبة فؤادي، فضلك علىّ كبير لا يُخفى، وحبّك اياي عظيم لا يُنسى، طوبى ألف طوبى لمن يحبك ويقتبس من أنوارك ويثنى سجاياك ويعظّم قدرك ويقتفى اثرك ويشهد لمظلوميتك ويقصد مضجعك ويطوف حول رمسك الشريف في الليالي والايام، والويل والعذاب لمن يجاحد شأنك وينكر خصالك وينحرف عن منهجك الواضح اللائح المستقيم.

مقام الورقة المباركة العليا

تحتل الورقة المباركة العليا مقاما خاصا ورفيعا في هذا الظهور وقد حدّده حضرة ولي امر الله بأنه أعلى وأرفع من مقام حضرات أيادي أمرالله وحروف الحي، وجاء في أحد الواح حضرة بهاء الله:

يا أيتها الورقة المباركة النوراء، غني وتغني على أفنان دوحة البهاء هذه الكلمة العليا انه لا اله الا هو رب الاخرة والاولى، قد جعلناك من خيرة الاماء واعطيناك مقاما لدى الوجه الذي ما سبقته النساء كذلك فضلناك وقدمناك فضلا من لدن مالك العرش والثرى. قد خلقنا عينك لمشاهدة أنوار وجهي واذنك لاستماع آياتي وهيكلك للقيام لدى العرش، ان اشكري ربك مولى الورى. ما أحلى شهادة السدرة لورقتها والدوحة الاحدية لثمرتها، بذكرى اياها تضوع رائحة المسك، طوبى لمن وجد وقال لك الحمد يا ربي البهي الابهى وما احلى حضورك لدى الوجه ونظري اليك وعنايتي اليك وفضلي عليك وذكري اياك في هذا اللوح الذي جعلناه آية عنايتي لك في السر والاجهار.

وهناك الواح عديدة صادرة من يراعة حضرة عبد البهاء الى شقيقته العزيزه وعلى الاخص عندما كان بعيداً عنها يعرب فيها عن شوقة واشتياقه لها وحنينه للقائها، فقد جاء في أحد الألواح: يا شقيقتي الشفيقه انك في ذكراي ليلا ونهاراً ولا أستطيع أن أنساك، في الحقيقة لا أتأسف أو أتحسر عليك، بل كلما أتذكر ما ورد عليك من المحن والالام فان الدموع تسرى طواعية من عيوني. وفي لوح اخر تفضل الغصن الاعظم بما يلي: يا شقيقتي الشفيقة الروحانيه، بفضل عناية الله العلي القدير أرجو ان تكوني في ظل حفظ وحماية الجمال  المبارك. إن مُحياك أمام وجهي ليلا ونهاراً وأنت في خاطري دوما. وايضا: يا شقيقتي بل شفيقتي العزيزه لقد اقتضت الحكمة الالهيه أن أفترق عنك مؤقتا ولكنني مشتاق اليك إلى حد بعيد وعليّ الصبر والتحّمل والتوّسل. طالما انتِ هناك فانني مرتاح تماماً، وبمشيئة الله أرغب في زيارة مصر هذه الايام. بالنيابة عني ضعي رأسك على العتبة المباركه وعطّري شعرك ووجهك بترابه واطلبي منه تاييدي في الخدمة حتى اوفق انشاء الله بأداء قطرة من بحر العبودية مقابل الطاف حضرة الرحمن اللامتناهيه.

وفي رسالة أخرى لحضرة عبد البهاء عندما كان في حيفا، يبدو ان الورقة العليا قد غادرت الى عكا ومكثت برهة من الزمن، يُعرب لها حضرة عبد البهاء عن مشاعره وشوقه وحنينه لها فيقول: ايتها الشقيقة الروحية، انني على سفح جبل الكرمل وعند مقام ايليا واذكر الورقة العليا وأحباء الله وامائه. اقضي الايام بالكتابة، وفي الليالي بتلاوة المناجاة وأحياناً في الفراش للراحة والشفاء. وعلى الرغم من بعدنا ظاهريا ولكن أذكرك في جميع الاوقات. لا أنساك ولو لدقيقة واحدة وعلى الرغم من بعدنا ولكن نحن قريبين. اننا في محفل واحد ومنزل واحد وفي ظل الخيمة الالهية وقباب عناية حضرة المولى اللامتناهية.

وهناك رسالة لحضرة عبد البهاء موجهة للحاج ميرزا حسن الخراساني يقول فيها: من يوم الصعود كانت الشقيقة من شدة حزنها وألمها عليلة وضعيفة ونحيفة لدرجة كادت أن تنتهي. وعلى الرغم من أن غاية أملها كان العروج والصعود للعوالم الالهية ولكنني تأثرت من مشاهدة هذا الوضع، ثم عرفت انني ولله الحمد لدي صديق جيد مثل جناب الحاج يمكنني أن أشاركه هذه المشقة. ومن أجل تغيير الجو، قررت أن ارسلها الى مصر، على الرغم من أن ذلك سيكون متعباً وشاقاً ولكن أدعو الله أن يكون علة للروح والريحان…

وعندما قام حضرة عبد البهاء بأسفاره التاريخيه إلى أوروبا وأمريكا كان دائماً يفكر بشقيقته الماجده ويخبرها عن احواله ورحلاته بل وكان دائم السؤال عن حضرة شوقي افندي الذي لم يكن قد تجاوز عمره الخمسة عشر ربيعاً، فعندما وصل نيويورك ارسل البرقية التاليه للورقة العليا: ايتها الورقة الرحمانية العليا، وصلتُ نيويورك وانا في صحة جيدة، وانني دوما أفكر فيكِ واتضرع الى ساحة جمال القدم بكل عجز وانكسار أن يحفظك في كهف حفظه وحمايته. اننا في كل روح وريحان وآمل ان تكوني محفوظة ومصونه في ظل عنايته. يرجى ابلاغي بالسرعة الممكنه وبالتفصيل عن حال روحا خانم وشوقي افندي دون اخفاء أي شيء وهذا أفضل. بلغي اشواقي الى الجميع.

وفي رسالة اخرى يبدو ان حضرة عبد البهاء كان في عكا وقد سافرت الورقة العليا الى حيفا للراحة والاستجمام وقد ارسل لها مولى الورى الرسالة التاليه: يا شقيقتي الروحيه وشفيقتي الوجدانيه انشاء الله كان جو حيفا طيباً وجيداً وإني آمل من فضل ولطف جمال القدم أن يمنحك الصحة والراحة. انك في خاطري ليلا ونهاراً، وقد رغبت خلال هذه الايام ان آتي الى حيفا لزيارتكم ولكن كثرة المشاغل والمتاعب لم تسنحا لي الفرصة … قبّلي شوقي افندي الوردة الجديده في حديقه الملاحة.

أما بالنسبة لتوقيعات وآثار حضرة ولي أمرالله فقد سبق ان نقلنا اجزاء مختلفه عنها تبين المكانة المرموقة التي احتلتها هذه السيدة الفاضله في الامر المبارك وقد وصفها حضرة ولي أمر الله في آثاره وأعطاها القابا مختلفه مثل: الثمرة الازلية لسدرة المنتهى – التذكار الوحيد لشجرة طوبى – معدن الوفاء – بقية البهاء ووديعته – مشعل الحب والوداد – مظهر الكرم والسخاء – مطلع الانقطاع في الابداع – ورقة دوحة البقاء – الورقة البهية النوراء – الكوكب الدرّي لأفق العزة الابدية – سليلة البهاء – حورية البهاء – شفيعة الورى في الملأ الاعلى – سيدة أهل البهاء. إن كل هذه الالقاب التي أسبغت عليها لم يكن غريبا حيث ان الورقة المباركه العليا تعتبر اول امرأة في تاريخ الاديان التي يوكل اليها ادارة وزعامة مجتمع ديني عالمي مثل الدين البهائي وقد انجزت ذلك بكل قدرة واقتدار خلال غياب حضرة عبد البهاء عن الاراضي المقدسة وعلى الاخص عندما سافر الى مصر وأوروبا وامريكا حيث اوكل اليها جميع امور العائلة المباركة والامور الاخرى المتعلقة بحفظ المركز العالمي من الناقضين. وفي المرة الاخرى في دورة الولاية العظمى عندما غاب حضرة ولي امرالله عدة مرات عن حيفا كانت المرجع الاعلى للجميع، وقد ارسل حضرة ولي امر الله الرسالة التاليه الى احباء الشرق بتاريخ ابريل 1922: ان هذا العبد بعد وقوع المصيبة العظمى صعود حضرة عبد البهاء الى الملكوت الابهى قد ابتلي بشده من حملات اعداء امر الله وغالبه الحزن والاسى لدرجه ان وجودي في هذا الوقت وفي هذا المحيط لا يوافق انجاز وظائفي المقدسة الهامه ولهذا اضطر ان اضع الامور الامرية سواء في الداخل او في الخارج بيد العائله المقدسة المباركه التي ترأسها حضرة الورقة العليا روحي لها الفداء حتى بمنه تعالى اكتسب الصحة والقوة والاطمئنان والنشاط الروحاني ومن ثم استطيع حسب رغبتي ومرامي أن أمسك بحبل الخدمه بشكل كامل وأفوز بآمالي الروحانيه العاليه.

فلا عجب اذا أن تحتل هذه السيدة الفاضله مقاماً  هو أرفع من حضرات أيادي أمرالله وحروف الحي، ولا عجب ان يأمر حضرة ولي أمرالله الاحباء في الشرق والغرب بايقاف جميع مظاهر الفرح والسرور والاحتفالات لمدة تسعة شهور إعزازاً لمقامها الشامخ الرفيع، وأن يذكروا تلك الوديعة الالهية بكل خضوع وخشوع. ولا عجب ان يكتب ويرسل حضرة شوقي افندي عشرات الرسائل إلى أحباء الشرق والغرب باللغات الفارسيه والعربيه والانجليزية في رثاء من طلب منها الشفاعة وسماها شفيعة الورى في الملأ الاعلى ويمجّد كل من يقتدي بها ويعظّم قدرها ويقتبس من انوارها ويطوف حول رمسها الشريف. لقد اختارت لنفسها الا تتزوج خدمة لدينها العزيز ورغبة في خدمة أمر مولاها الكريم.

وفي كتاب القرن البديع شبّه حضرة ولي أمرالله شخصيتها ومقامها بالبطلات الخالدات في الظهورات السابقة مثل: ‘سارة وآسيا ومريم البتول وفاطمة الزهراء والطاهرة’ اولئك اللائي فُقن كل بنات جنسهن في الدورات السابقة.

في إحدى توقيعات حضرة ولي امر الله الانجليزية الى احباء الغرب مؤرخة 17 تموز 1932 جاءت هذه العبارات: ان الاجيال القادمه، والاقلام الاكثر اقتداراً من قلمي هي وحدها القادرة على وصف وتقدير وعرفان عظمة وجلال حياتها الروحانية وايضا تعريف الدور المميز الذي لعبته خلال المراحل المضطربة من التاريخ البهائي والى البيانات الكثيره التي صدرت من يراعة حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء في اطرائها وتمجيدها وهي اثار لم يتم نشرها بعد بين احباء الشرق والغرب.

كما جاء في توقيع دورة بهاء الله Dispensation of Baha’u’llah لحضرة ولي امر الله الى احباء الله واماء الرحمن في الممالك الغربيه المؤرخ 8 شباط 1934 ما يلي:  ومع صعود حضرة عبد البهاء وعلى الاخص وفاة شقيقته اللامعة العزيزه حضرة الورقة المباركة العليا، الباقيه الاخيرة من العصر البطولي المجيد يكون قد إنطوى أول فصل مهيج من التاريخ البهائي واختتم العصر الرسولي من دين حضرة بهاء الله. وعلى ذلك فإن وفاة الورقة العليا تعتبر نهاية للعصر الرسولي الذي ابتدأ عام 1844م وانتهى عام 1932 وبداية لعصر التكوين او عصر الانتقال الذي يمتد الى فتره غير معلومة تماماً وتنتهى مع بداية العصر الذهبي لدين حضرة بهاء الله.

آثار الورقة المباركة العليا

تركت لنا بهائية خانم العشرات من الرسائل والرقائم التي جادت بها قريحتها بأجمل ما يكون من التعبير الفارسي او العربي وكتبت باسلوب روحاني بديع لا يقل روعة وجمالا عما نزل من الرموز المقدسة في الدين البهائي. وفي عام 1982 وبمناسبة مرور خمسين سنه على صعودها أصدر المركز البهائي العالمي كتاباً يضم العشرات من الآثار الكتابيه التي تركتها لنا بقية البهاء ووديعته. غالبية هذه الرسائل صدرت اثناء غياب حضرة ولي أمرالله عن الاراضي المقدسة حيث كانت تتولى هداية وتوجيه الاحباء والمحافل وترد على رسائلهم وتدعوهم الى التوجه والانقياد للغصن الممتاز وولي الامر، ونظرا لكثرة هذه الرسائل نكتفي بالاشاره الى الرسائل التي كتبتها الورقة العليا باللغة العربيه اصلا وبعض التراجم لرسائلها الفارسيه.

في رسالة مؤرخه 12محرم 1307هجري مطابق سبتمبر 1889ميلادي جاء مايلي: غب اهداء ما بقلبي من الاشواق واظهار ما حواني من آلام الفراق الابدى، انني تناولت بايدى التشكر والممنونيه النميقة الودادية التي اعربت عن لطائف اخلاق تلك الذات الحميدة الصفات، وجوهر حبك، اني لم ازل ذاكرة محاسن سجاياك وشائقة مشاهدة محياك متذكرة بايام كنت في ارغد عيش بلقيا حضرتك. متفكهة بفواكه فكاهتك لعل ايام الوصال تعود بفضل من له الكرم والجود. أرجوه عز وجل بقائك بالعزة والاقبال حائزة جميع الآمال وأسئله تعالى ان يرزقني لقياك قريبا انه قريب مجيب. هذا وانني اهدى التحيات الفائقة والتسليمات اللائقه لحضرة السّت ادام الله وجودها. من هذا الطرف كل يسئلن شريف الخاطر ويهدين الثناء والتسليم ادام الله وجودكن. وفي رسالة اخرى موجهة الى رئيسة مجلس اماء الله في شيكاغو جاءت هذه الكلمات: يا اختي العزيزه ان نميقتك اورثتني فرحاً وسروراً بما دلت على خلوصك وشدة حبّك واستغراقك في بحر محبة الله واتحاد امآء الله وأئتلافهن الذي اعظم موهبة من الله، فالأنس والألفة والحب من انوار الملكوت وموهبة عظيمة من رب الجبروت فنشكره على هذه النعمة العظمى وبلغي اشواقي المتكاثرة الى امة الله مس بارني المحترمة، واني ادعو الله ان يؤيدك واياها على الوصول بأعظم مواهبه في ملكوته العظيم واني بلغت تحياتكن وخضوعكن لمن اراده الله مركز عهده القديم.

(الأمة المسجونه. بهائيه)

 

وفي رسالة مؤرخه شوال 1340 هجري قمري مطابق 28مايو 1922 الى احباء خوسف جاء مايلي:

إلهي إلهي تراني خائضا في لجج الحزن والأسى مستغرقاً في بحار الكآبة والجوى محترق الكبد من شعلة الفراق ومضطرم الأحشاء بلظى نيران الاشتياق، ترى عبراتي منسجمة كالسيل المنهمر وزفراتي متصاعدة كالدخان المستمر وضجيجي لا يزول وصريخي لا ينقطع وحنين فؤادي لا يفنى فإن شمس السرور قد غربت عن الأفق الادنى وانوار السلوة والاصطبار غابت عن قلوب الأبرار، فيا داهية دهماء ورزية عظما قد تفتت فيها الأكباد وتأججت القلوب فما بقى الا الهموم والكروب، وترى يا آلهي في بحبوحة تلك المصيبة الكبرى واثناء هذه الواقعة العظمى فلا زال المخلصون في الثياب السوداء ومع دوام النياح والبكاء، فاذاً  العصبة العنود والثلة الحقود قد هجموا بكل بأس وشدة على احبائك الثابتين في عهدك وميثاقك هجوم الذئاب على الاغنام ويسعون بجهد تام في هدم بنيان عهدك المتين وتخريب حصنك الحصين وانحراف المهتدين عن الطريق الواضح المبين.

فيا الهي انما أشكو اليك وأبث همّي وغميّ وابتلائي لديك واتضرع بباب احديتك وابكى واناديك واناجيك يا ربي الحنون بعدما اخذت العهد الصريح والميثاق المنصوص المحكم لا بإيماء وتلويح ان يتوجه الكل الى مركز عهدك والقائم بامرك حتى لا يبقى شك وريب للمرتابين والمبغضين وبعدما قام عبدك الوحيد على نصرة أمرك وارتفاع رايتك ثلاثين سنة يدعوا الناس اليك خفيا وجهارا ويبث تعاليمك واصولك في وجه الأرض اكنافا واقطارا ويربى احبائك في مهد العلم والحكمة الالهيه والاخلاق والفضائل الرحمانيه ليلا ونهارا ويتحمل من هؤلاء كل ظلم وبغي وافتراء متوالياً  ومراراً وهم كانوا يرصدون كل مرصد ويهجمون عليه بأي ما شاؤا وقدروا عتواً واستكباراً ولكن بنصرتك القوية وتأييداتك الشديدة قد خسروا وضل سعيهم في الحياة الدنيا، وما ربحوا الا تباراً ودماراً  فيا الهي بعدما اصعدته واقمته في جوارك وبذلك تزلزلت اركان السرور واندهشت قلوب المخلصين واحاط دخان الهموم والغموم سطح الأرض وارجائها. فحينئذ اولو البغضاء اغتنموا الفرصة وخرجوا من كل الطرق وهم من كل حدب ينسلون، ولعرش عهدك وميثاقك يثلون، ولاصفيائك يضلون، ولكنهم لبنيان انفسهم يخربون ولا يشعرون ما يفعلون.

 فهيهات هيهات إن مركز عهدك الاوفى والقائم مقام عبوديتك في أمرك الاعلى الابهى قد كتب بارادتك وقوتك كتاباً لا يضل ولا ينسى، وقدّر فيه بتقديرك العزيز العليم كل ما يجب ويفرض لأعلاء امرك في هذا الحيز الادنى كتاباً فيه تفصيل كل شي بحيث لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها وأقام مقام نفسه بمشيتك غصنا من دوحة تقديسك خضلا نضراً طرياً  ثابتاً  نابتاً  قائماً  دائما في غيضة فردانيتك وحديقة صمدانيتك وهو بوجهك الكريم وعونك القديم يدعوالناس اليك والى عهدك وميثاقك القويم ويبث اوامرك وتعاليمك في مملكتك ويهدي عبادك الى سواء طريقك المستقيم.

 فيا الهي اسئلك بالايام التي صرفها نورك المبين ومركز عهدك المتين في نشر نفحاتك وبالليالي التي ما استراح فيها الهيكل النحيف اللطيف وكان ساهراً فيها مناجياً  ومسامراً منك ساعياً في حفظ أمرك واوليائك، مجدّاً  في بسط بساط فضلك وعطائك وأولو البغضاء في المهاد مستريحون وعلى الوسائد متكئون وبالمصائب والبلايا التي قاسيها وتحملها من المعرضين والمشركين والمارقين في اعلاء كلمتك بان تحفظ احبائك من سهام المفترين وشبهات المغلين والمضلين وثبتهم في غياض عهدك ورياض ميثاقك وتدخلهم في جنة رضائك وتحفظهم في كهف حمايتك وتشملهم لحظات عين عنايتك وتصونهم من الشقاق والنفاق وتوفقهم على الاتحاد والاتفاق وتؤيدهم على خدمة امرك ونشر آياتك وكلماتك انك انت الحي الدائم الناظر المقتدر العليم الحكيم.

….. اخذنا بيد التكريم كتابكم الكريم المرسل وتلوناه بكل فرح وانبساط وانشرحنا صدرا بمعانيه الدالة على الصدق الخالص والثبوت الكامل على امر الله والرسوخ التام على عهد مولى الانام وشكرتُ الله محبوبي الابهى على جزيل عطائه وعظيم احسانه وبديع انعامه بما خلق تلك الكينونات الروحانيه والحقايق النورانيه المستفيضة من شمس الحقيقه والمستنيره من انوار القدسية الواقفة للأسرار الخارقة للاستار الهاتكة لحجبات اهل الاشارات، وبعث نفوسا زكية طيبة لا تمنعهم في دين الله لومة لائم ولا تروّعهم في اثبات كلمة الله شماتة شاتم، تلك نفوس رويت غليلهم وشفيت عليلهم وطابت سرائرهم وصفت ضمائرهم وانشرحت صدورهم واستبشرت ارواحهم وقرت عيونهم بمشاهدة نور الجمال وتتابع فيض الكمال من افق الجلال، فهنيئا لهم من تلك الرغائب وطوبى لهم من حصول تلك المواهب واني مع عِظم ما اعتراني من البلايا وشدة ما انا فيه من الرزايا لم تكن لي سلوة في هذه المصيبة التي داهمتني والرزية التي اصابتني الا انشراح صدور الأحباء واستنشاق طيب الولاء من رياض قلوب الاوداء ومشاهدة بوارق انوار الاتحاد والوئام بين الاصفياء، ونشر نفحات المحبة والمودة بين ثلة الاخيار وعصبة الأبرار، وانتشار تعاليم الله في تلك الأقطار وبث وصايا حضرة عبد البهاء في تلك الاشطار مع مراعاة الحكمة المسطورة في الآثار وهذا ما أمر به الله العزيز المختار.

وأرجو الله وأتضرع اليه بكل عجز وانكسار وخضوع وخشوع وافتقار أن يمدّكم بامداداته الغيبيه ويفتح على وجوهكم ابواب الفضل والرحمة ويهيأ لكم ما تتمنونه من الألطاف الصمدانية حتى تبلغوا المنى وتدركوا الغاية القصوى في خدمة امر ربكم البهي الأبهى ويسهل لكم الامور انه لهو العزيز الغفور.

وبمناسبة حلول عيد الرضوان المبارك في عام 1922 ارسلت الرسالة التالية الى الاحباء في الولايات المتحدة الامريكية:….نشكر الله العلي القدير انه ترك لنا قائدا حيث تم تعيين حضرة شوقي أفندى لتوجيه الشؤون الادارية لأمر الله. نأمل أن يتلو احباء الله واماء الرحمن الادعية والمناجاة حتى نستطيع جميعا مساعدة شوقي أفندي بكل ما نملك من قوة لكي ينجز المهام الملقاة على عاتقه.

وفي رسالة جوابية لاحباء كاوكان في اذربيجان بتاريخ 16 سبتمبر 1922 كتبت ما يلي: لقد أظهرتم الشكر للعتبة الرحمانية وأعربتم عن الامتنان والروحانية من تعيين مركز الامر الالهي وولي العهد الرباني. في الحقيقة لا يوجد في عالم الوجود رحمة أعظم من هذا ولا فيض أو موهبة أكبر من هذا. لقد وهبنا حضرة عبد البهاء أرواحنا لرمسه الاطهر فداء فضلا عظيما وعناية وفيرة حيث وضح لنا الطريق المستقيم وعيّن لنا مرجع أهل البهاء وكتب لنا ما هو سبب السعادة الابدية والفلاح والنجاح السرمدي. والان وقت القيام على الخدمة بكل قوة حتى تزداد السعادة يوماً  بعد يوم ويكتمل الروح والريحان….

وفي رسالة الى المحفل الروحاني لمدينة همدان مؤرخه 27 ايار/مايو 1924 جاء ما يلي:  …. المقصود انه ولله الحمد صراط الامر مستقيم وبنيان شريعة الله محكم وقويم. ان مرجع أهل البهاء ومركز توجه أهل الوفاء ومبيّن كتاب الله طبقا للنص القاطع الواضح هو حضرة ولي أمرالله الغصن الممتاز شوقي أفندي رباني. ان شريعة الله وأحكامه والتعاليم المقدسة والوظائف العامه كلها أصبحت واضحة كالشمس في وسط النهار. لم يظل رمزا أو سراً مخفيا ولا مجال للتأويل أو البحث أو الترديد. حان وقت التبليغ والخدمة والان وقت الاتحاد والاتفاق والاخوة والهمّة. في الاعتاب المقدسة الرحمانية ندعو الله أن يشملنا التأييد والتوفيق. يصلنا دوماً  أنباء سعيدة عن صحة وسلامة حضرة ولي أمرالله ونأمل أن ينتهي هذا الفراق قريبا وينقضي هذا الهجر ويرجع الوجود المبارك الى البقعة المباركة بكل سرور وروحانية. ان هذه الفانية وجميع الورقات المباركة يبعثون بتحياتهم الى أحباء الله وإماء الرحمن في تلك البقاع وعليكم البهاء الابهى.

مرقد الورقة المباركة العليا

حدّد حضرة ولي أمرالله مكان دفن الورقة العيا وأشار الى ضرورة وجوده بالقرب من المقام الاعلى، وأوعز إلى والده الميرزا هادي الشيرازي إلى ما يجب أن يفعله ان توفت في غيابه. كما أثنى وأطرى على من يزور تربتها العطرة ومرقدها الشريف حيث تفضل بقوله المنيع: طوبى ألف طوبى لمن يحبك ويقتبس من أنوارك ويثني سجاياك ويعظم قدرك ويقتفي أثرك ويشهد لمظلوميتك ويقصد مضجعك ويطوف حول رمسك الشريف في الليالي والايام، والويل والعذاب لمن يجاحد شانك وينكر خصالك وينحرف عن منهجك الواضح اللائح  المستقيم. أما بالنسبة للنصب التذكارى الذي وضع على مرقدها الشريف فقد صممه حضرة ولي أمرالله شخصياً واشترى الرخام والجرانيت الخاص به من ايطاليا. وحول هذا النصب التذكارى يقول حضرة المولى في رسالة مؤرخه 6 آذار/مارس 1945: يمكن تشبيه درجات مرقدها المبارك بالمحافل الروحانية وليس بالافراد، اما الاعمدة القائمة يمكن تشبيهها بالمحافل الروحانية المركزية، وقبة المرقد التي تقع فوق الاعمدة بمثابة بيت العدل الاعظم وهي المؤسسة التي ستنتخب بواسطة بيوت العدل الخصوصية أي المحافل الروحانية المركزية في الشرق والغرب.

وعلى ذلك فإن تصميم هذا النصب التذكارى على قبرها يرمز الى العناصر الرئيسية في النظام الادارى البهائي واشارة الى تأسيس بيت العدل الاعظم الالهي في المستقبل. وكما سبقت الاشارة ففي عام 1939 نقلت الرفات الطاهرة للغصن الاطهر وآسيا خانم (شقيق ووالدة حضرة عبد البهاء) من عكا الى حيفا ليستقرا بالجوار من بقية البهاء ووديعته على سفح جبل الكرمل. وقد أعلن ذلك حضرة ولي أمرالله الى أحباء الشرق في رسالة مؤرخه 25 ديسمبر 1939 حيث قال: يا أحباء البهاء، ان هذين الكنزين الثمينين[3] والتذكارين المنسوبين لجمال الاقدس الابهى قد انضما للوديعة الثالثة أي سليلة البهاء وبقيته[4] تذكار حضرة عبد البهاء واستقرا في نقطة مرتفعه بالجوار من مطاف الملأ الاعلى ومقابل قبلة أهل البهاء بالمدينة المنورة عكا حيث الروضة المقدسة المطهرة النوراء. وفي ظل هذه المراقد الشريفة دفن الرمس الشريف لحرم[5] من طاف حوله الاسماء. ان الكرم الالهى مهتز من هذا الشرف العظيم، وكوم الله مشتعل من هذه الموهبة الكبرى.

كما أشار حضرة شوقي أفندي الى الورقة العليا ومقامها الشامخ ومرقدها الطاهر في كتاب القرن البديع بهذه العبارات: (ويمكننا أن نذكر شاهداً آخر على تقدم المشروع الرائع الذي بدأه حضرة بهاء الله على هذا الجبل المقدس وتوطيد دعائمه توطيداً مستمراً ألا وهو اختيار جزء من أرض المدرسة الواقعة في نطاق مقام حضرة الباب وجعله مرقداً دائماً للورقة العليا شقيقة حضرة عبد البهاء العزيزة، الورقة التي تورقت من هذا الاصل القديم وعرف قميص حضرة بهاء الله المنير التي رفعها الى مقام ما سبقته النساء والتي تقارن في المنزلة بالبطلات الخالدات من أمثال سارة وآسية ومريم البتول وفاطمة الزهراء والطاهرة، أولئك اللاتي فقن كل بنات جنسهن في الدورات السابقة.)

 

 

 

 

[1]       المقصود ميرزا محمد علي.

 

[2]         من توقيع مؤرخ 3 شهر الكلمات 89ب ( 15 تموز 1932م)

 

[3]         الكنزان الثمينان هما الرمس المطهر للغصن الاطهر وآسيا خانم

 

[4]         الورقة المباركة العليا

 

[5]         المقصود منيرة خانم حرم حضرة عبد البهاء .

 

أيادى أمرالله ميس مارثا روت 1872–1939

تعتبر ميس مارثا روت من أشهر المبلغات من الديار الغربيه التي أعطت عمرها وحياتها وشبابها من أجل الامر المبارك، ونذرت حياتها له، ولم يثنِها شيء عن السفر والترحال والتجول في شتى انحاء العالم من أجل ابلاغ أمر حضرة بهاء الله إلى كل وضيع وشريف. ولم يثبط من عزيمتها كل ما عانته في سبيل محبوبها الابهى ولهذا سميت بفخر المبلغين والمبلغات وآية الانقطاع وأمة الله المنقطعة ومشعل الحب والوداد ومثال الشجاعة والوفاء لقد كانت حقاً نموذجاً من التفاني وانكار الذات والعشق لأمر مولاها العظيم وسيسطّر التاريخ اسمها بأحرف من نور لما قدّمته لدينها العزيز وقد استحقت بجداره تبوءها لمقام ايادي أمرالله بعد وفاتها، عرفاناً وتقديراً لما انجزته و قدمته للامر المبارك.

لقد حققت الوعد الالهي الذي أشار اليه حضرة عبد البهاء في أحد ألواحه الى احدى إماء الرحمن في الغرب حينما قال تبارك قوله: يا أمة الله اني أدعو الله أن يبعث نفوساً مقدسة منزهة روحانية في الاقطار الغربية والاقاليم الشمالية حتى تكون تلك النفوس آيات الهدى ورايات الملأ الاعلى وملائكة الملكوت الابهى، عند ذلك تجدين الغرب أفق الشرق….. فاطمئني يا أمة الله ان هذا الفضل سيشرق أنواره على الغرب ويبعث الله تلك النفوس بقوى روحانية وتأييدات ملكوتية وهمم عالية ووجوه نورانية وقلوب رحمانية وأرواح سبحانية وسنوحات وجدانية، ان ربك لمقتدر قدير.

نعم، ان مارثا روت هي واحدة من تلك النفوس التي بعثها حضرة بهاء الله بقوى روحانية وتأييدات ملكوتية وهمم عالية لتجوب العالم وتنشر أمره العزيز بكل شجاعة واقتدار.

ولدت مارثا روت في 10 اغسطس عام 1872 بولاية اوهايو بالولايات المتحده الامريكيه ثم انتقلت مع اسرتها للسكن في مدينة كمبردج سبرنج  Cambridge Springs في ولاية بنسلفانيا، وعندما بلغت سن السابعه عشر كانت قد انهت دراستها الثانوية ثم انتقلت الى كليه اوبرلين كلية العلوم الاجتماعيه واللغات في ولاية اوهايو لدراسة الفنون واللغه واخذت دورات في اللغات اللاتينيه والفرنسيه والالمانيه وايضا الادب الانجليزي وقضت هناك خمس سنوات من عام 1889 حتى 1894 وعلم النفس والرياضيات والانجيل ثم اكملت دراستها في جامعة شيكاغو وتخرجت من هناك عام 1895 عملت مارثا بالصحافة مدة من الزمن وارتبطت بعدد من المجلات والصحف الامريكيه.

وشاءت الاقدار ان تكون مارثا حاضرة في اجتماع لمختلف المذاهب والاديان في مدينة بيتسبرغ بولاية فيلادلفيا عام 1908 وفي ذلك الاجتماع إلتقت بأحد البهائيين الامريكان وهو روي ويلهلم Roy Wilhelm وقد تحدث معها عن الامر المبارك وكانت هذه اول مرة تسمع مارثا روت عن الدين البهائي. وبعد ذلك الاجتماع كان يرسل لها روي العديد من النشرات والكتيبات لمدة سنة دون ان تعير اهتماما ولكن بعد سنه اخذت تهتم بالموضوع تدريجيا وانشرح صدرها لأمر حضرة بهاء الله واشتعل قلبها بنار محبة الله واحاطها جنود الملأ الاعلى من كل الجهات حيث آمنت بالامر المبارك عام 1909م.

وعندما وصل حضرة عبد البهاء الى امريكا عام 1912 شاركت مارثا في غالبية الجلسات العامه التي عقدها حضرته في مدينتي نيويورك وواشنطون. ثم لحقت مارثا بحضرة المولى في رحلته الى شيكاغو عندما وضع حجر الاساس لمشرق الاذكار هناك في 1/5/1912 الذي يعتبر ام المعابد في الغرب تأثرت مارثا كثيرا من احاديث وخطب وشخصية حضرة   عبد البهاء. في يوم 7/5/1912 وصل حضرة عبد البهاء الى بيتسبرغ وهناك استطاعت مارثا ان ترتب جلسة كبيره في الفندق الذي اقام به حضرته وحضرها حوالى اربعمائه شخص. في هذا الاجتماع استطاعت مارثا ان تلتقى بحضرة غصن الله الاعظم بصفة شخصية وقد اهداها حضرته ورده بيضاء جميله اعتبرتها مارثا اجمل ما اعطى لها في حياتها. اما الاجتماع الاخر الذي تذكره دوما بكل محبة هو الاجتماع الذي عقد يوم 29 يونيو 1912 في ضيافة السيد روي ويلهلم في ولاية نيوجرسي وبحضور حضرة عبد البهاء وتعتبره نقطة تحول اساسيه في حياتها وبعدها في شهر ديسمبر رجع حضرة عبد البهاء الى اوروبا ومنها الى حيفا.

ومنذ مغادرة حضرة المولى امريكا بدأت مارثا بدراسة الاثار المباركه والخوض في التعاليم البهائيه اكثر من قبل وبدأ انجذابها يزداد وقد اشتعلت بنار محبة الله وقررت في عام 1914 ان تطوف العالم وتبشر الناس بالرسالة الالهية وظهور الملكوت. ولهذا قررت في البداية ان تذهب الى حيفا وعكا وتزور المقامات المباركه وتقضي بعض الوقت في محضر حضرة عبد البهاء.

غادرت مارثا نيويورك يوم 30/1/1915 وفي طريقها وقفت في ايطاليا واليونان واسبانيا ثم وصلت ميناء بورسعيد في مصر ولكنها لم تستطع ان تكمل رحلتها الى فلسطين لأن الاراضي المقدسة كانت في حالة حرب وقد احتلها الالمان والاتراك وكان غير مسموح بدخول أحد فيه. وكان حضرة عبد البهاء قد أمر الاحباء بمغادرة فلسطين ومنهم السيده/ لوا كتينسغر، مبلغة امر الله الشهيره، التي وصلت مصر من حيفا. للاسف لم يتحقق حلم مارثا بزيارة الاماكن المقدسه ولقاء حضرة عبد البهاء. ولكنها وصلت الاسكندرية والتقت بأحد المؤمنين وهو محمد سعيد. من الحوادث المثيرة لها اثناء اقامتها في مصر هو ما حدث آنذاك عندما قامت السلطات العثمانيه بابعاد حوالي اربعه الاف يهودي من يافا وحيفا الى الاسكندرية بمساعدة من السفينه الامريكيه تينسي حيث ذكرت مارثا: (لقد قام سيدنا موسى عليه السلام باخراج اولاد بني اسرائيل من مصر الى فلسطين والان السفينة الامريكية تينيسي تقوم باعادتهم الى مصر) كما التقت ببعض هؤلاء اليهود وأجرت مقابلات معهم. مكثت مارثا في مصر ستة اسابيع وزارت عدة مدن ومن ثم غادرت من خلال البحر الاحمر الى الهند. وفي الهند زارت الاحباء في مدينة بومبي وبونا وهناك وبواسطة السفينة وصلت الى بورما وعاصمتها رانجون وتعتبر مارثا اول امريكيه تزور بورما.

إلتقت مارثا بالسيد مصطفى رومي في ماندلاي mandalay في بورما ويعتبر هذا الشخص من مؤسسي الامر المبارك في تلك المناطق كما التقت بمجموعة كبيرة من احباء بورما الذين اعجبوا بشخصيتها وشجاعتها في القيام بأسفار عالميه كهذه. أعجبت مارثا ببورما كثيراً وباحبائها وسكانها وطقسها ومحيطها وكان الناس يتدفقون يوميا وبمعدل اربعين شخص لزيارتها وقد غرست ثلاثة شجيرات في حظيرة القدس الجديده في ماندلاي mandalay، ومن هناك كانت مارثا تتابع اخبار الحرب العالميه الاولى وما اذا كان بامكانها ان تعود الى مصر ومن ثم إلى عكا وحيفا للقاء مولاها العظيم. في يونيو عام 1915 سافرت الى كلكتا ومن ثم الى  نيودلهي. وعندما علمت ان نار الحرب مازالت مستعره ولا تستطيع العودة الى فلسطين قررت السفر الى اليابان. تعتبر الآنسه أغنِس ألكسندر من المبلغات الامريكيات الشهيرات التي كانت مقيمة في طوكيو آنذاك وقد دعت مارثا لزيارة اليابان من قبل. وهناك التقوا معا وقاموا بكتابة بعض المقالات في الصحف اليابانية ونشر صور حضرة عبد البهاء فيها كما نشروا صورهم أيضا ومعهم السيد / فوكوتا  Fukuta الذي يعتبر اول مؤمن ياباني. ومن اليابان غادرت الى جزر الهاواي في المحيط الهادي واستقبلت باعتبارها صحفية عالميه شهيره وعملت عدة مقابلات وتحدثت عن هجرة اليهود إلى فلسطين. ومن هاواي وفي 29 اغسطس 1915 ابحرت الى سان فرانسيسكو حيث استقبلها الاحباء بحفاوة بالغة. حتى ان والدها تيموثي Timothy  الذي كان يبلغ من العمر آنذاك سبع وسبعين سنه جاء من مدينته البعيده ليستقبل ابنته العزيزه التي افتقدها كثيرا.

في الوطن مرة اخرى

وما ان عادت مارثا الى وطنها الولايات المتحده حتى عملت صحفية وكاتبه في جريدة    Index of Pittsburgh Life  في مدينه بيتسبرغ وايضا انشغلت بالانشطه الامرية والاهتمام باسرتها. في 30 نوفمبر عام 1916 انتقلت والدتها نانسي الى جوار ربها ورحلت عن هذا العالم مما زاد من حزنها وألمها وعندها قررت ترك العمل في الجريدة والانتقال الى مدينتها كمبريدج سبرنجز  Cambridge Springs لتكون بجانب والدها وقد بلغت مارثا من العمر انذاك 44 سنة. في 30 ابريل عام 1917 عقد مؤتمر الوكلاء المركزي التاسع للبهائيين في الولايات المتحده في مدينة بوسطن وكانت مارثا عضوة فاعلة فيه. في هذا المؤتمر قرئت خمسة ألواح من ألواح الخطه الالهيه لحضرة عبد البهاء الموجهة للاحباء في امريكا الشماليه وعلم الجميع بما يجب عليهم ان يعملوه. وهنا ازدادت شعلة الايمان في قلب مارثا واشتدت عزيمتها على المضي قدُما في ترويج رسالة حضرة بهاء الله. في 7 نوفمبر 1918 ارسلت رسالة الى حضرة عبد البهاء تبدي فيها رغبتها بالسفر الى شتى بقاع العالم لاعلان نداء الملكوت وقد رد عليها حضرة المولى بالكلمات التاليه:

(ايّتها المشتعلة بنار محبة الله، استلمت رسالتك المسهبة المؤرخه 7 نوفمبر 1918. إن مضمونها كانت سبباً للسرور والحبور لأنها دالة على خلوص النية وعلوّ الهمة والتجول في أطراف العالم. ان نشر تعاليم حضرة بهاء الله هو منصوص الكتاب وروح هذا العصر وسبب لحصول التأييد والتوفيق. وان تمسّكتِ بذلك فإن أبواب القوة والقدرة ستُفتح أمامك. أملي من ألطاف حضرة بهاء الله أن تفدى نفسك في سبيله، وأن تنسي الراحة والرخاء وتقطعي المسافات البعيدة مثل الطير، وفي كل اقليم تنشدى لحن الملكوت. العالم الآن مستعد لسماع نداء الملكوت الابهى، ومن الحرب الاخيرة وُجدَ استعداد عجيب بين الناس، لأن أساس التعاليم الالهية ايجاد الراحه والطمأنينة لأهل العالم وتأسيس الصلح العمومي. إن الآذان مترصدة لاستماع نداء الصلح الاعظم، ولهذا يفضّل، ان استطعتي، أن تطوفي العالم وترفعي نداء الملكوت الالهي وستحصلين على نتائج عظيمة، وتأييدات غير عادية، حيث تفضل حضرة بهاء الله قائلا: ونراكم من افقي الابهى وننصر من قام على نصرة أمري بجنود من الملأ الاعلى وقبيل من الملائكة المقربين. ولهذا فان نشر نفحات الله اليوم من أهم الامور. أتمنى أن تأتي الى أرض الاقدس ويحصل اللقاء، ولكن التبليغ من أعظم الامور.)

لقد تحقّقت رؤية حضرة عبد البهاء وما تفضل به، فقد تركت الراحه والهدوء وطارت الى السماء وأعلنت عن ظهور الملكوت وغرّدت بأجمل بل بأبدع الالحان بشكل لم يشهد له مثيل في تاريخ أمرنا العزيز. 

إلى أمريكا الجنوبيه

في 12 حزيران / يونيو عام 1919 لبّت نداء حضرة المولى وقامت بكل عشق وانقطاع برحلة تاريخية الى امريكا الجنوبيه واثقة من بيان جمال المبارك عندما تفضل بقوله المنيع: ان الذين هاجروا من اوطانهم لتبليغ الامر يؤيدهم الروح الامين ويخرج معهم قبيل من الملائكة من لدن عزيز عليم.[1] وطوال رحلتها هذه، التي كانت على متن سفينة، ولم يهدأ لها بال حتى بلّغت الامر للمسافرين وركابها. من الدول والمدن التي زارتها في أمريكا الجنوبيه: بهيا، ريودي جانيرو، ساو باولو، سانتوس، اورغواي، بيونس ايرس، بنما، شيلي وبيرو وكوبا. وفي جميع هذه المدن ألقت مارثا خطباً شيقة في شرح التعاليم المباركه والتقت بكافة طبقات المجتمع وبشرتهم بظهور حضرة بهاء الله ومجيء اليوم الموعود ووزعت آلاف المنشورات البهائيه. وما أن إنتهت رحلتها ورجعت امريكا حتى ارسل لها حضرة عبد البهاء لوحا جاء فيه: الحمد لله ان نداء الملكوت قد وصل امريكا الجنوبيه، وبذور الهداية قد زرعت في تلك البلاد والاقاليم. يقيناً سترويها شمس الحقيقة وأمطار الرحمة الابدية ونسيم المحبة الالهية، اطمئني. وفي لوح آخر تفضل حضرة مولى الورى: انه واضح وثابت ان قوة الملكوت قد ساعدتك وان عين عنايته قد احاطك وان جنود الملأ الاعلى قد أيّدك وان قوة روح القدس عاضدتك. قريبا ستلوح نتائج هذه الرحلة وتظهر آثارها أمام الجميع.

الى الوطن ثم المكسيك:

رجعت مارثا روث الى موطنها في الولايات المتحده وتزامن رجوعها مع مجيء جناب فاضل مازندراني في شهر ابريل عام 1920 الى الولايات المتحدة لتشجيع وحث الاحباء وايضا لتبليغ الامر. رافقت مارثا روث جناب فاضل في الكثير من رحلاته ودوّنت العديد من احاديثه واستفادت من معلوماته وخبرته. وبعد انتهاء رحلته سافرت الى العديد من الولايات الامريكية و الى كندا لتبليغ أمرالله ومن ثم سافرت الى المكسيك وامريكا الوسطى. في المكسيك امضت ثلاثة اسابيع وتحدثت عن الامر المبارك في المدارس والمعاهد واتصلت بالصحافة والجرائد واعطتهم كتيبات عن الدين البهائي. وكانت الجماعة الثيوصوفيه في المكسيك اكثر تجاوبا واستعدادا لقبول الامر الالهي. ومن هناك ذهبت الى غواتيمالا وكان من المقرر لها ان تلتقي برئيس الجمهورية كارلوس هيريرا ولكن قبل يوم واحد من لقائها معه حدث انقلاب عسكري وعزل رئيس الجمهورية ووضع في السجن وبعد يومين غادرت مارثا روت الى نيواورلينز وهناك استطاعت ان تتصل بالمجلات والجرائد والمكتبات العامه واعطتهم كتيبات تعريف بالامر المبارك باللغات الفرنسية والايطالية والاسبانية كما كتبت الصحف والجرائد عن الدين البهائي ونقلت خبر وصول مارثا الى البلاد.

استغرقت رحلتها الى امريكا الجنوبيه شهرا واحدا (من 10 نوفمبر حتّى 9 ديسمبر 1921) وتقول مارثا روت في مذكراتها بان أسوأ ما حصل لها خلال هذه الفتره هو وصول نبأ وفاة حضرة عبد البهاء اليها عندما توفي الغصن الاعظم يوم 28 نوفمبر عام 1921م. وفي 3 نوفمبر 1922 توفى والدها السيد /تيموثي روث عن عمر ناهز الخامسة والثمانون عاماً مما أحزن مارثا كثيراً وظلت تذكره دوماً بالمحبة والتقدير، باعتباره كان أبا وصديقا حميما لها طيلة أيام عمرها.

العودة الى اليابان ثم الى الصين وهونغ كونغ

ومع وفاة والدها قررت مارثا ان تقضي ما تبقى لها من عمر في رحلات عالميه لرفع نداء حضرة بهاء الله وتبليغ امره العزيز في شتى أنحاء المعمورة، ولهذا اختارت ان تسافر الى اليابان مرة اخرى. ففي يوم 10 ابريل 1923 أبحرت الى ميناء يوكوهاما ووصلتها بعد ثلاثه اسابيع، وكانت بانتظارها صديقتها العزيزه أغنِس ألكسندر (وقد أصبحت ضمن أيادى أمرالله فيما بعد) التي التقت بها في زيارتها الاولى قبل ست سنوات. من أهم حوادث رحلتها هذه، الكلمه التي القتها في مدينة طوكيو امام مجموعة كبيره من الطلاب الصينيين الذين يدرسون في الجامعات اليابانيه. لم تستمر رحلتها هذه اكثر من اسبوعين ثم غادرت الى الصين. وفي الصين كانت لها تجربة فريدة من نوعها بين شعب فريد من نوعه، وتراث وحضارة غريبة عليها ولكن نداء حضرة عبد البهاء الى السفر للصين كان حافزها الرئيسي للقيام بمثل هذه الرحله. والجدير بالذكر ان النظام الملكي قد انتهى في الصين في عام 1912 وحلّ مكانه النظام الجمهوري وكانت هناك صراعات داخليه عنيفة حتى عام 1928 عندما استقر النظام الشيوعي في البلد. باشرت مارثا منذ وصولها بالاتصال بالصحافة وكتابة مقالات مختلفه عن تعاليم حضرة بهاء الله في الجرائد التي تصدر باللغة الانجليزية، وقد تُرجِمت ونُشِرت بعض مقالاتها باللغة الصينية. عشقت مارثا الصين وقضت الكثير من وقتها في تعلم اللغة الصينية وأيضا دراسة تراث وحضارة الصين. كانت ايضا تراسل بعض الاحباء في الولايات المتحدة وتحثهم للسفر الى بكين والاقامة فيها وكانت ترسل نسخاً من هذه المراسلات إلى حضرة ولي أمرالله. انضمت لها في وقت لاحق السيده / أغنِس ألكسندر وشاركتها في فعالياتها. سافرت مارثا ومعها أغنِس الى شانغهاي وظلت هناك لمدة شهرين ونصف وكانت مريضة لمده من الزمن ولكنها قضت معظم اوقاتها في كتابة المقالات ونشرها في الصحف هناك. ألقت محاضرات في جمعية كونفوشيوس وثيوسوفت حول الامر المبارك واصبحت صديقة للعديد من الكتاب والصحفيين وكانت مقالاتها تُنشر في جريدة شانغهاي تايمز وهي اشهر جريدة في تلك المدينه. ولكن اعتلال صحتها منعها من الاستمرار في هذا المجال وفجأه استلمت رسالة قصيره من الورقة المباركه العليا، شقيقة حضرة عبد البهاء، كُتبت  باللغة الانجليزيه بواسطة أحد الزائرين في حيفا مما أنعش روحها وأعطتها دفعة ونشاطاً جديداً. في هذه الرسالة القصيرة أكدت لها الورقة العليا بالدعاء والمناجاة في الاعتاب المقدسة لتوفيقها في خدماتها وأيضا لصحتها وعافيتها. وقد بلغ عدد المدن التي زارتها في الصين تسع عشرة مدينة.

ومن الصين سافرت الى هونغ كونغ التي وصلتها بحرا في اوائل شهر ابريل عام 1924 وبدأت في الفور بالاتصال برؤساء الجامعات والكُتّاب والمكتبات وتعريفهم بالامر المبارك واعطائهم الكتيبات اللازمة وخلال فترة قصيرة انتشر الامر الالهي في هونغ كونغ. وما لفت الانظار حقا الترحيب والتقدير الذي حظيت به من قبل جريدة Hong KongTelegraph  بقدومها الى بلدهم واظهار اعجابهم بالدين البهائي. من اهم المحاضرات التي القتها كانت في جامعة هونغ كونغ وقد نُشِر ذلك في اليوم التالي في الجرائد اليوميه. ان بقائها في هونغ كونغ لم يدُم أكثر من شهرين ولكن اقامتها في الصين ربما وصل الى سنة كاملة استطاعت خلالها فخر المبلغين والمبلغات أن توصل النداء الالهي الى الملايين من أبناء الشعب الصيني وتعطيهم أغلى هدية لهم في حياتهم، وتحمل في قلبها عشقهم ومحبتهم أينما رحلت. لقد كانت مصداقاً لهذه المناجاة الصادرة من يراعة حضرة عبد البهاء: الهي الهي تراني والهاً منجذباً الى ملكوتك الابهى ومشتعلاً بنار محبتك بين الورى ومنادياً بملكوتك في هذه الديار الشاسعه الارجاء، منقطعاً عما سواك متوكلاً عليك، تاركاً الراحة والرخاء بعيداً عن الاوطان، هائماً في هذه البلدان غريباً طريحاً على التراب خاضعاً الى عتبتك العليا خاشعاً الى جبروتك العظمى مناجياً في جنح الليال وبطون الاسحار متضرعاً مبتهلاً في الغدوّ والآصال حتى تؤيدني على خدمة أمرك ونشر تعاليمك واعلاء كلمتك في مشارق الارض ومغاربها….[2]

 

استراليا ونيوزيلندا وتسمانيا:

في رحلة شاقة ومتعبة استغرقت ثمانية وعشرين يوما، ومارثا مريضه في اغلبها، وصلت السفينه التي نقلتها الى ميناء ملبورن في شهر يونيو عام 1924. لقد استُقبِلت بكل حفاوة وترحيب من قبل العدد القليل من الاحباء المقيمين هناك حيث كانوا على علم برحلاتها حول العالم وعشقها وشغفها بتبليغ أمر حضرة بهاء الله. تجدر الاشاره الى تواجد الساده/كلارا وهايد دَنْ في استراليا حيث انهما جاءتا من الولايات المتحده عام 1920 كمهاجرتين تلبية لنداء حضرة عبد البهاء في ألواح الخطة الإلهية. ومنذ وصول مارثا الى مدينة ملبورن كانت هناك رسالة من كلارا وهايد دَنْ تطلبان منها المجيء الى مدينة برث حيث كانتا تقطنان فيها والتي تقع على الجزء الاخر من استراليا. وصلت مارثا مدينة برث ومكثت هناك شهراً واحداً في ضيافة كلارا وهايد دَنْ وألقت ثمانية وثلاثين محاضرة في عدد من الاندية والجمعيات وتحدثت أيضاً في الاذاعة المحليه عن الامر المبارك. رجعت مارثا الى مدينة ملبورن والقت خمسة وعشرين محاضرة هنا وهناك وطُلِب منها الحديث في الاذاعة أيضا. ونظرا لان نيوزيلندا كانت قريبه من استراليا وأشار اليها حضرة عبد البهاء في ألواح الخطه الالهية فقد قررت مارثا السفر إلى هناك. وقضت مدة اسبوعين القت خلالها اثنتى عشرة محاضرة في كل من اوكلاند وويلنغتون ثم رجعت الى سيدني.

وفي سيدني التي تزورها أول مرة قضت تسعة ايام تلقى المحاضرات مرتين يوميا في الاندية والجمعيات. ومن هناك ذهبت الى مدينة أديلايد Adelaide لزيارة السيده دن Dunn التي كانت تكنّ لها كل احترام للمرة الاخيرة قبل ان تغادر الى جنوب افريقيا. قضت مارثا في استراليا ونيوزيلندا خمسة اشهر أوجدت خلالها روحاً جديداً في تلك القارة الواسعة واوصلت النداء الالهي الى سمع كل وضيع وشريف وقد عشقها الاحباء وغيرهم واغدقوا عليها بالهدايا وقدم لها البعض مالا لمساعدتها في رحلاتها العالميه حيث كانت تقبله بكل تواضع.

جنوب افريقيا ثم فلسطين

في 13 نوفمبر 1924 ابحرت مارثا من ملبورن Melbourne  باتجاه كيب تاون في جنوب افريقيا وقد استغرقت الرحلة ثلاثة اسابيع وكانت خلالها مرهقه ومتعبه ولكنها استطاعت من القاء محاضرتين على متن السفينة وتعريف المسافرين بالامر المبارك. التقت مارثا في كيب تاون بالانسه / فاني نوبلوج المهاجرة الامريكيه المقيمة هناك وعملا معاً على ترويج امر الله. ورغم حرارة الجو وعدم وجود مكيفات فقد عملت مارثا دون كلل والقت ثلاثين محاضرة، اربعة منها خلال الراديو. في 10 يناير 1925 قامت برحلة مدتها خمسة ايام الى منطقه ترانسفال حيث تقع فيها جوهانسبرغ وبريتوريا واستُقبِلت في كلتي المدينتين بكل حفاوة وترحيب ثم رجعت الى مدينة ديربان Durban لتغادرها الى الاراضي المقدسه. لقد اعجبت مارثا بضيافة الناس لها في جنوب افريقيا وشعرت بمحبتهم الحقيقية وقالت انها من اجمل الدول في العالم.

في فبراير عام 1925 غادرت مدينه ديربان في جنوب افريقيا بحراً متجهة الى بورسعيد في مصر عبر البحر الاحمر. خلال هذه الرحلة توقفت السفينة في ثمان مدن افريقية وقامت مارثا باهداء كتب بهائيه الى مكتباتها. في زنجبار مثلا استطاعت ان تعطي كتيبا عن الامر المبارك الى السلطان. بعد شهر وصلت سفينتها الى ميناء بورسعيد وكانت مشتاقه لزيارة حيفا وعكا حيث المراقد المطهرة للطلائع المقدسة الباب وبهاء الله وعبد البهاء. لقد ارادت تحقيق حلمها الذي لم يتحقق قبل عشر سنوات عندما أتت الى مصر ولم تستطع دخول فلسطين التي كانت في حالة حرب. كما انها كانت توّاقه لزيارة حضرة ولي امر الله والورقة المباركه العليا – سيدة اهل البهاء – والان بعد ان سافرت من الولايات المتحده الى اليابان ثم الصين ثم هونغ كونغ ثم سايغون وكمبوديا ثم استراليا ونيوزيلندا ثم مدن جنوب افريقيا واستفادت من كل فرصة لإبلاغ امر الله وتوزيع الكتيبات والمنشورات والتحدث عن وحدة الجنس البشري والسلام العالمي ومجيء بهاء الله وفي كل مدينة وقرية من هذه الدول اوصلت صيت امر الله الى سمع كل وضيع وشريف، والان دخلت رحلتها مرحلة جديدة حيث اتت الى المركز العالمي لدين حضرة بهاء لله حيث تقع المراقد الشريفه للمظهرين الالهيين العظيمين.

خلال رحلتها التي استغرقت شهراً قامت بتوزيع كتيبات في تعريف الامر المبارك الى المسافرين معها على نفس السفينة وفي 8 مارس 1925 وصلت السفينة الى ميناء بورسعيد حيث كانت هناك مجموعة من الزائرين الذين أتوا من استراليا والولايات المتحده منهم السيدة/كورين ترو، وفي يوم 13 مارس 1925 وصلوا جميعا الى حيفا ومكثوا في بيت الزائرين  الغربي. كان البرنامج المعدّ لهذه المجموعة هو زيارة المقام الاعلى في البداية ولهذا قامت المجموعة في اليوم التالي بالتوجه للمقام الاعلى حيث دفن فيه مظلوم العالم حضرة الباب يصطحبهم شخص بهائي ايراني. قبل دخول المقام وعند الباب خلع الجميع احذيتهم ثم دخلوا الى الغرفة التي سُجِّي فيها جثمان حضرة الباب. وبكل خضوع وخشوع، توجّهوا الى المقام المبارك، وانحنوا عند العتبة المقدسه وسجدوا عندها وقبّلوها ثم تليت عدة ادعية ومناجاة والجميع في سكون ووقار يذكرون فداء وتضحية حضرة الاعلى في سبيل بقية الله المنتظر حضرة بهاء الله. تذكر أمة الله المنقطعه مارثا روت في مذكراتها بانهم توجهوا بعد ذلك الى مقام حضرة عبد البهاء وسجدوا أمام عتبته المباركه واضافت قائله: تخيل لي ان حضرة مولى الورى كان واقفا معنا ويقول لي، كوني سعيده، يمكنك ان تتصلي معي دوما، انني معك دائما سواء كنت حيا أو ميتا.

التقت مارثا روت اثناء اقامتها في حيفا عدة مرات مع حضرة ولي امر الله، وقد دعاها احدى المرات للدعاء والمناجاة في الاعتاب المقدسه، وقد ذهلت من حجم الاعمال التي يقوم بها حضرة المولى مع وجود موانع متعدده، منها الوقت والمساعدين، ولكنها اعجبت بما يقوم به الدكتور جون اسلمنت الذي كان متواجداً حينها في الاراضي المقدسة والذي اتى من بريطانيا خصيصاً ليساعد حضرة شوقي افندي في اعماله. في احدى مذكراتها وصفت مارثا روت لقاءها بحضرة ولي امر الله بالاتي:

كان روحانياً، وكلما التقي به كنت سعيدة، وكان مصدراً للسعادة والمحبة لكل فرد. إن فكره شامل وواسع الادراك انه يفهم ويستوعب المشاكل الكبيره ويعرف كيف يتعامل معها. كما ان ترجماته عظيمة ويقضي الكثير من وقته في كتابه الرسائل لشتى بقاع العالم، ان كل ذلك يأخذ من قوته بشكل كبير … ان سعادته هو سماعه للاخبار الامرية ولكن تجاوب الاحباء هو ما كان يقلقه.

قضت مارثا روت في حيفا اكثر من شهر واحد استعادت فيها نشاطها الروحي واشتد أزرها لخدمة أمر الله بشكل متواصل. ومن أجمل ذكرياتها التي ترويها هو لقاءها بالمجاهده بهائيه خانم، الورقة المباركه العليا وسيدة اهل البهاء وبقية البهاء ووديعته التي شاركت حضرة بهاء الله في السجن والنفي وعانت معه شتى انواع الصعاب والمشاق. وقد عبّرت مارثا في احدى مذكراتها عن لقائها مع الورقة المباركه العليا بالكلمات التاليه: كانت تهتم برعايتي من كل الجوانب وكانت حريصة على تعليمي كيفيه مواجهة الحياة بروحية وشجاعة وسعادة. انك تشعر بها حقا هدية ثمينة، انها تعلمك كيف تعيش الحياة بكل سعادة وسرور في عالم مليء بالمشاكل والصراعات.

كما التقت مارثا في هذه الرحلة بالسيده روحا خانم كريمة حضرة عبد البهاء التي تحدثت عن علو وسمّو مقام والدها وما كان يقوم به في حيفا من مساعدة للفقراء والمساكين وبالذات اثناء الحرب. والتقت ايضا عدة مرات بالدكتور جون اسلمنت الذي كان مريضاً بشدة وتباحثا معا حول كتاب بهاء الله والعصر الجديد الذي اثنت عليه مارثا كثيراً نظراً لانه كتاب شامل حول مباديء وتعاليم وتاريخ واحكام الدين البهائي. في احدى زياراتها لحضرة ولي أمرالله اكد لها حضرة المولى بضرورة تكريس جهودها لتبليغ أمر الله واطلعها على بعض بيانات حضرة  عبد البهاء حول مستقبل ايران. غادرت مارثا الى بورسعيد حيث سكنت في فندق لعدة ايام ثم انتقلت الى منزل منوّر خانم زوجة احمد يزدي وهي أصغر بنات حضرة عبد البهاء وظلت هناك أربعة أيام وأثنائها وصلتها رسالة وفي حاشيتها كتب لها حضرة شوقي أفندي مايلي:

عزيزتي  مارثا، إن نفحات زيارتك قد أثّرت فينا كثيراً. ومع مرور الوقت فاننا نشعر بقوة محبتك النافذة وخلوصك لخدمة أمره العزيز. بالاصالة عن نفس وبالنيابة عن الاسرة التي تحبّك كثيراً فانني أعرب لكم عن خالص شكرنا لجهودك العظيمة وتقديرنا القلبي لانجازاتك الكبيره. كما ندعو لصحتك وسلامتك وسعادتك وتوفيقك الروحي. انكِ دائما معنا اينما كنتِ.

غادرت السفينه المقلّة لمارثا روت ميناء بورسعيد يوم 15 ايار / مايو عام 1925 متجهة إلى سويسرا في أول رحلة لها إلى أوروبا. وصلت السفنية ميناء جنوى  Genoa في ايطاليا ثم غادرت براً إلى فرنسا ومنها الى سويسرا. استقرت في مدينه جنيف واخذت شقة بقيمة 54 دولار بالشهر. وعندما كانت في مصر اهدى لها الاحباء قِدر نحاس خاص بالقهوة (دلة القهوه) مع سته فناجين صغيره واهدى لها الاحباء في استراليا قِدر شاي وكانت تستخدمها في هذه الرحله. خلال ايام اتصلت مارثا بالاحباء وبأعضاء منظمة اسبرانتو. كانت حريصة مارثا على اتقان لغة الاسبرانتو ايمانا منها ان هذه اللغة هي الاكثر تداولا في أوروبا وتستطيع بواسطتها تبليغ امر الله بشكل اوسع ولهذا شاركت في عدد من دروس لغة الاسبرانتو. كما شاركت ومعها السيده جوليا كلفر من الولايات المتحده كمندوبتين عن الدين البهائي في المؤتمر السابع عشر للغة الاسبرانتو العالميه الذي حضره ثمانمائة مندوب من شتى بقاع العالم بالاضافة الى الالوف من متكلّمي الاسبرانتو الذين اشتركوا في المؤتمر. القت مارثا كلمة في المؤتمر حول طبيعة الدين البهائي واهدافه ومبادئه وتاريخه والقى الدكتور ألبرت مولشليگل من احباء المانيا – شتوتغارت كلمة حول اللغة العالميه المساعدة التي تحدث عنها حضرة بهاء الله وقد اصبح الدكتور مولشليگل فيما بعد ضمن كوكبة ايادي امر الله الذين عيّنهم حضرة ولي امرالله. والملفت للنظر ان صورة حضرة عبد البهاء وصورة الدكتور زامنهوف الذي اوجد لغة الاسبرانتو قد علقتا في الصالة الرئيسيه للمؤتمر. كما ان ابنتي الدكتور زامنهوف كانتا ضمن حضور المؤتمر.

قضت مارثا في جنيف مدة ستة اشهر ولم تكن صحتها عندئذ على ما يرام ثم غادرت الى زوريخ ووصلتها في اكتوبر 1925 وهناك على الرغم من اعتلال صحتها القت محاضرة بالاسبرانتو وكانت ناجحة. ثم غادرت سويسرا متجهة نحو شتوتغارت في المانيا ثم فرانكفورت ثم مدينة فيينا في النمسا. في كل محطة من هذه المحطات كانت تلتقي برجال الفكر والمعرفة والمدرسين ورجال الاعمال وتحدثهم عن الدين البهائي وتعاليمه. وما كان يسعدها في هذه الرحلة لقاؤها بالافراد الذين تشرفوا بحضور حضرة عبد البهاء قبل اكثر من ثلاثة عشر سنه والتحدث من نفس المكان الذي تحدث فيه حضرته. في اواخر شهر ديسمبر 1925 وصلت مارثا مدينة بودابست في هنغاريا وسكنت لمدة تسعة ايام في نفس الفندق الذي سكن فيه حضرة عبد البهاء اثناء زيارته لبودابست وتحدثت في عدة منظمات واندية عن الامر المبارك وقد تجمع جمهور غفير من الناس اينما تواجدت شوقا للاستماع اليها، والكثير دعوها لزيارة منازلهم وقد لبت دعوة البعض منهم فقط ولكن الكثير اتوا الى الفندق لمعرفة المزيد من تعاليم حضرة   بهاء الله. في اواسط شهر يناير 1926 غادرت هنغاريا بواسطة القطار الى بلغاريا ثم صربيا ثم وصلت الى بوخارست عاصمة رومانيا حيث كان لها وقفة تاريخية هناك.

في رومانيا:

كانت رومانيا دولة ملكيه دستوريه يحكمها الملك فرديناند الاول وزوجته الملكه ماري منذ عام 1914 وقد عانت هذه الملكيه من صراعات سياسية في العشرينات من القرن العشرين. الملكه ماري تنحدر من سلالة ملكية بريطانيه حيث انها حفيدة الملكة فكتوريا من جانب والدها ومن جانب والدتها تعتبر حفيدة الكسندر الثاني قيصر روسيا. والملفت للنظر ان كلا الملكين فكتوريا والكسندر الثاني إستلما لوحاً من حضرة بهاء الله واحترما ما جاء به ولم يعارضا الامر المبارك. كانت مارثا توّاقه لتبليغ أمرالله الى الملكه ماري ولكن كانت الملكه آنذاك في حالة حداد ولم تكن باستطاعتها استقبال أي شخص. لم تيأس مارثا وقامت بكتابة رسالة اليها ومعها صورة حضرة عبد البهاء وكتاب بهاء الله والعصر الجديد. جاءها الرد من قصر الملكه في اليوم التالي بان الملكه ترغب باستقبالها. التقت مارثا بالملكه يوم 31 يناير 1926 في قصرها خارج بوخارست وقد رحبت بها بكل حرارة وتقول مارثا روت ان هذا اللقاء هو الاكثر اهمية في حياتها بعد لقائها بالورقة المباركه العليا. اخذت معها لوح الوديان السبعة وكتابين بلغة الاسبرانتو بالاضافة الى زجاجة عطر. تصف مارثا روت لقاءها بالملكه بالكلمات التاليه: طلبت مني ان اكلمها عن المباديء البهائيه وقالت انها علاج لمشاكل العالم وانها قرأت الكتاب الذي سبق ان ارسلته لها. لقد عشقت هذه الملكه وشعرت بمحبة وسعادة شديدة اتجاهها. كانت زيارة ناجحه وموفقه.

قرأت الملكه ماري الكتب البهائيه المهداة اليها وانجذبت للتعاليم المباركه واعربت عن ايمانها بحضرة بهاء الله، وقد انتشر الخبر في الدول المجاورة كما وصل الخبر الى مدينة كمبردج سبرنجز في بنسلفانيا موطن مارثا الاصلي ونشر الخبر في الجرائد المحليه وعلى صفحات كبيره كما نشر الخبر في المجلة البهائيه Star Of the West (نجمة الغرب). كما قامت الملكه نفسها بكتابة مقالات عديدة حول الامر المبارك تشرح فيها التعاليم البهائيه وتدعو الناس الى دراستها وفحصها. نشرت اول مقالة لها في شهر مايو عام 1926 كما تم ترجمة مقالاتها الى اللغات الصينيه واليابانيه ونشرت في تلك الدول. جاء في احدى هذه المقالات ما يلي: جاءتني امرأه في أحد الايام وقدمت لي كتابا. لقد كان كتابا عظيما لانه يتحدث عن المحبة والخير والقوة والجمال … الصفحات كانت تتحدث عن السلام وكيف يمكن الوصول اليه … وكانت تتحدث عن نبذ الاحقاد والنزاعات والشكوك والتعصبات … ان رسالة بهاء الله وابنه عبد البهاء هي الحقيقة التي لا يمكن لها الا ان تترسخ وتنتشر… اذا وصل الى اسماعكم اسم بهاء الله وعبد البهاء لا تتجاهلوا اثارهما وكتاباتهما. ابحثوا في كتبهم ودعوا كلماتهم العظيمة والسلميه المليئة بالمحبة تنفذ الى اعماق قلوبكم وعقولكم. قد يكون الانسان مشغولا في يومه ولا وقت لديه لدين، او عنده دينه الخاص ولكن تعاليم هاذين الشخصين العظيمين منسجم مع جميع الاديان ومؤيد لهم …

إن إيمان الملكه ماري ملكة رومانيا بالامر المبارك يعتبر حدثا تاريخيا هاما بالنسبة للدين البهائي، فهي اول ملكة تعرب عن اعجابها بل وايمانها بما جاء به حضرة بهاء الله، وقد اسعد هذا النبأ حضرة ولي أمرالله كثيراً وذكر محامدها ونعوتها في العديد من توقيعاته ورسائله الصادره الى البهائيين في الشرق والغرب. جاء في توقيع نوروز 101 بديع الصادر بمناسبة مرور قرن واحد على اعلان دعوة حضرة الباب الكلمات التاليه:

[ تزامن اعلان انفصال شريعة حضرة بهاء الله مع ايمان الملكة الخيرّة ذات الخصال الحميدة الى الامر المبارك مما زاد معه شهرة الامر الالهي. لقد انجذب القلب الصافي لتلك الملكة الميمونة حفيدة ملكة بريطانيا وامبراطور الروس اللذين ارسل لهما جمال القدم عندما وصل السجن الاعظم توقيعا كريما وفخيما، انجذب قلبها الى التعاليم السماوية نتيجة لمطالعتها الكتب الامرية والتحدث والتباحث مع تلك النفس المنقطعه الزكيه وقبسة نار محبة الله حيث اشرقت اثارها البهية في العالم وانتشرت على بسيط الغبراء. ولم يمض طويلا حتى قامت هذه الملكه وبمبادرة من نفسها على نشر الامر المبارك في جرائد وصحف الاقاليم الشرقيه والغربية على الرغم من نفوذ رجال الكنيسه وارتباطهم بالبطرك الاعظم في عاصمة بلدها. فقد قامت بالحديث باسلوب بديع وبيان فصيح وشجاعة لا نظير لها عن المقام الشامخ لجمال القدم ورسالة الرسول الاكرم وعلو وسمو الامر المبارك. كما ارسلت مكاتيب متعدده الى اصدقائها واحبائها والى أمها الروحانية تعبّر فيها عن اعجابها بالتعاليم الالهية وطلبت كتبا أمرية من لندن وانشغلت خلال سنين عديده بمطالعتها والتفحص في تلك الاثار النفيسه وحصلت على قدر وافر من ماء الحياة. ثم شدت الرحال مع ابنتها لزيارة وطواف المقامات المقدسة واعلنت ذلك في جرائد وصحف الشرق والغرب. وصلت مدينة حيفا المباركه ولكنها مُنِعت من تحقيق مقصدها ومرامها نتيجة لنفوذ السياسيين وقد عبرت في رسالة عن استيائها واسفها لذلك. وفي رسالة كتبتها هذه الملكه الاديبه الفاضله جاءت هذه العبارات الراقيه: احدثت رسالة حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء نورانية عظمى في وجودي. ان هذه البشارة … مثل البذره قد نبتت في قلبي. اما ابنتي الصغيره فانها تشعر بتقويه روحها وراحة نفسها من تعاليم هذين الشخصين العزيزين العظيمين. انني ومعي ابنتي نعمل على نقل هذه الرسالة الى كل وضيع وشريف وكلما ابلغنا شخصا الرسالة فان الانوار تسطع من وجهه بكل ضياء … بعض الزملاء يتعجبون مني ولا يوافقون على شجاعتي في اعلاء هذه الكلمات لانها ليست من عادة الملوك في العالم ولكن روحي قد تحرك بطريقه لا استطيع بها مقاومة نفسي من هذا الاقدام في اعلانها الاول لأهل العالم تحدثت هذه الملكة السعيده بهذه النصيحة العظيمة: كلما وصل الى سمعكم اسم حضرة بهاء الله أو عبد البهاء لا تغفلوا عن التمعّن في آثارهما بل تعمقوا في آثارهما وكتبهما واجعلوا كلماتهما وتعاليمهما الجاذبة للسلام والمحبة تتمكن في اعماق قلوبكم مثلما هي راسخة في قلبي وفي بياناتها الاخرى جاءت هذه الشهادة الكبرى: ان الدين البهائي ينادي بالصلح والسلام ويروّج حسن التفاهم بين الانام … رسالته هي تصديق للاديان السماويه، ومبادئه توافق المعتقدات السابقة. أنه لا يسدّ أيّ باب بل يفتح كل السّبُل. وفي الوقت الذي يحزن فيه قلبي من الخلافات والنزاعات المتماديه للمذاهب المتعدده وروحي تعب ومجروح من الحمية الجاهليه لأتباع هذه المذاهب فانني اتوجه الى التعاليم البهائيه حيث تلوح في هذه التعاليم الروح الحقيقية للسيد المسيح الذي لم يعرفه ولم يدركه العديد من الناس  … من أجل هداية النفوس الباحثه عن النور فإن التعاليم البهائية مثل النجم الدرّي الذي يرشد للمعرفة الكاملة والاطمئنان والسلام وخير الانسان … ان الدين البهائي يطمئن الروح ويعطي الامل للقلب وان كلمات الآب السماوي هي، بالقياس الى الباحثين عن الطمأنينه، كالنبع في الصحراء القاحلة من بعد هيمان طويل.]

كانت مارثا روت تقول ان لقاءها بالملكه ماري ثم ايمان هذه الملكه بامر حضرة بهاء الله قد اصابها بالفرح والبهجة لدرجة انها نسيت كل الصعاب والمشاق التي واجهتها طيلة السنوات الماضية. ان كل ذلك حصل خلال اسبوع واحد من وصولها لبوخارست وحتى انها رفضت دعوة وزير الخارجية الروماني لالقاء محاضرة في جامعة كارول حول التعاليم الالهية امام اربعمائه مدعو، وبدلا من ذلك اقترحت مارثا روت ان تقوم الملكه بالقاء المحاضرة ولكن لم يتحقق ذلك. ثم علمت بعد ذلك حساسيه وضع الملكه بالقيام بمثل هذا العمل.

باقي دول اوروبا:

غادرت مارثا روت رومانيا ووصلت مدينة صوفيا في بلغاريا في الاسبوع الاول من شهر شباط/فبراير عام 1926 وامضت اثنى عشر يوما هناك كانت غالبيتها في الجامعات وبين طلبتها وألقت محاضرة بلغة الاسبرانتو. ارسلت كتابا عن الامر المبارك ومعها رسالة الى الملك بوريس الثاني ملك بلغاريا الذي كان في الثانية والثلاثين من العمر ولكن الاستجابة لم تكن مرضية مثلما حدث في رومانيا. ثم غادرت بلغاريا ووصلت فيينا عاصة النمسا يوم 18 شباط/فبراير 1926 وقد اصابها التعب والارهاق ثم استراحت عدة ايام وواصلت سفرها الى مدينة جنيف في سويسرا وهناك التقت بابنتي الدكتور زامنهوف مؤسس لغة الاسبرانتو واستطاعت الحديث معهما بشكل اعمق حول رسالة حضرة بهاء الله. ومن هناك سافرت الى وارسو عاصمة بولندا ووصلتها يوم 11 ابريل 1926م وقضت حوالي اسبوعين مع الانسه/ليديا زامنهوف وهي البنت الصغرى للدكتور زامنهوف وشرحت لها العناصر المشتركه بين البهائيه وحركه اسبرانتو التي كانت رائجة آنذاك في اوروبا. كما شاركت في اجتماع كبير في وارسو حول الاسبرانتو وتحدثت فيه مارثا عن الدين البهائي والاسبرانتو.

المحطة التاليه لمارثا روت كانت تشيكوسلوفاكيا حيث اخبرت سابقا رئيسها عن مجيئها وأرسلت له عدة كتيبات عن البهائيه ولكن رئيس الجمهورية كان عندئذ خارج المدينه ولكنه أوصى بأن يرسل لها سياره لكي تأتي الى قصر الرئاسة. وبالفعل اتت مارثا روث الى القصر وتحدثت لمدة ساعتين مع سكرتير رئيس الجمهورية وامين المكتبات. والجدير بالذكر انها اشارت في حديثها الى مسألة اضطهاد البهائيين في ايران وكانت تحاول الحصول على تعاطف ودعم المسئولين لها في هذه القضية.

إعتبرت مارثا روث إن سكان بلغاريا وتشيكوسلوفاكيا اكثر شعوب اوروبا روحانية وكانت تأمل أن يقوم الاحباء بتبليغ سكان هذه الدول. تعتبر السيده لوزي كريغوري، البهائيه البريطانيه التي تزوجت البهائي الامريكي لويس كريغوري اول من لبّت نداء مارثا روت للتبليغ في هذه الدول، وانضمت لها فيما بعد المبلغه / ماريون جاك من كندا. تابعت مارثا رحلاتها ووصلت مدينة (The Hague) لاهاي في هولندا ولكنّها مرضت بشده ولازمت الفراش ولم تستطع مقابلة أي شخص رغم ذلك ارسلت الى ملكه هولندا لوح هيج وكتاب بهاء الله والعصر الجديد تأليف الدكتور اسلمنت. المحطة التاليه لها كانت بريطانيا.

في بريطانيا

وعلى الرغم من اعتلال صحتها ولكنها قالت ما ان وصلت لندن حتى تحسنت صحتي قليلا، ان ذلك كله من تاثير الدعاء والمناجاة. كانت تؤمن مارثا بتأثير الدعاء على قيام الافراد بترويج الامر المبارك. ان التأييدات الالهية كانت تحيط بها اينما رحلت وحلّت تصديقا للبيان المبارك من حضرة بهاء الله في الكتاب الاقدس: ونراكم من افقى الابهى وننصر من قام على نصرة امري بجنود من الملأ الاعلى وقبيل من الملائكة المقربين.[3]

وصلت مارثا روت بريطانيا في اوائل شهر يونيو عام 1926 وكانت ضيفة على أني وهاري رومر وهما من احباء نيويورك كانا يقيمان في لندن. بعد عدة ايام غادروا سويا الى مدينتي مانشستر وبورتموث حيث قابلوا الاحباء وتحدثت مارثا معهم وحثتهم على خدمة أمر الله. ان ما يميز خدمات فخر المبلغين والمبلغات الانسه مارثا روت هو التنوع والشجاعة التي قلما نجدهما في شخص واحد. في بريطانيا قامت بارسال اكثر من مائتي رسالة الى الصحف والمجلات والاندية والمنظمات حول ما يتعرض له الاحباء في مهد امر الله من مضايقات ومشاكل. هذه الرسائل كانت لها وقع ايجابي في الكثير من الحالات.

من المؤتمرات الهامة التي حضرتها مارثا اثناء زيارتها لبريطانيا هو مؤتمر الاسبرانتو الذي عقد يوم 31 يوليو عام 1926 واستغرق اسبوعا. عقد هذا المؤتمر في ادنبره باسكتلندا وحضره حشد غفير من اتباع الحركات الدينيه والسياسيه والاجتماعيه المتنوعة من شتى بقاع العالم. في هذا المؤتمر وثّقت مارثا روت علاقاتها مع قسيس كاثوليكي من رومانيا اسمه ابي اندريوجي وهو أحد مشاهير العالم في الاسبرانتو واصبح فيما بعد من المحبين والمعجبين بالدين البهائي. سمح للبهائيين بالقاء محاضرتين في المؤتمر وكلاهما كانا في كنيسة فري Free Church في اسكتلندا وهي نفس الكنيسة التي تحدث فيها حضرة عبد البهاء عام 1913م. في المحاضرة الاولى تحدثت مارثا روت عن الاثار الايجابية للدين العالمي ثم جاوبت على اسئلة الحضور. بعد ذلك عرضت صوراً لمدينتي عكا وحيفا حيث سُجّي فيهما الجسدان الطاهران لحضرة الباب وحضرة بهاء الله. المحاضرة الثانيه ادارتها مارثا روت وتحدث فيها البروفسور ارنست روجرز الاستاذ في احدى الجامعات الامريكيه عن الدين البهائي واهدافه وتعاليمه ومبادئه وتاريخه. من بين الحضور كانت السيدة ليدي بلومفيلد، احدى المؤمنات البريطانيات التي استقبلت حضرة عبد البهاء في منزلها عام 1911 وايضا من بين الحضور كان ابنتي الدكتور زمنهوف وهما ليديا وصوفيا.

رجعت مارثا من اسكتلندا الى لندن وبدأت بالتبليغ ليلا ونهارا وقابلت السيد/ماونتفورت ملز Mountfort Mills الذي جاء من باريس لمساعدتها في التبليغ طبقا لتوصية من حضرة ولي أمرالله. قاما معا بزيارة مدينة اكسفورد التاريخية، المكان الذي درس فيه حضرة شوقي افندي وتحدثا مرتين في احدى كلياتها وقدّما كتباً بهائيه الى مكتبتها. وفي وقت لاحق انضم إليهما جورج تاونزند الذي كان قسّيسا في كاتدرائية سانت باتريك في دبلن وايضا لورا وهيبوليث دريفوس بارني من فرنسا. كانت لهذه المجموعة لقاء هام مع المستشرق البروفسور نيكلسون من جامعة كمبردج الذي كتب عن البابية والبهائية، تاريخها ونشأتها وتطورها واضطهاد اتباعها. تحدثوا عن البهائيه ايضا في لجنة الاديان التابعة لعصبة الامم.

رجع السيد مونتفورت ملز الى باريس واستمرت مارثا روت في تنقلاتها من مدينة الى اخرى في بريطانيا. زارت مانشستر ومكثت هناك ثمانية ايام ثم عادت الى لندن وباشرت انشطتها التبليغية. قامت بطباعة بطاقة تحتوى على دعوة عامة للاستماع الى مارثا روت وهي تحكي عن الحركة البهائيه وعلاقتها بالمسيحية والحياة بعد الموت والسلام العالمي وقامت بتوزيعها في عشرات الاندية والجماعات.

تقول مارثا في مذكراتها بأن البريطانيون شعب محافظ وبطيئ في استيعابه للتعاليم البهائيه ولكن ان آمنوا يصبحون بهائيين جيدين. كانت تشعر بالفخر وهي تبلغ امر الله للشعب البريطاني وتعلم جيدا بان ارضهم قد تشرفت بقدوم حضرة عبد البهاء وحضرة ولي امر الله وبالتالي لها مستقبل عظيم. كانت تقول ان استقبال الشعب البريطاني للدين البهائي لم يكن حارا وشديدا مثلما كان في باقي الدول الاوروبية ولكن ان عرفوا حقيقته وامنوا به فانهم سيقومون بكل شجاعة وعشق بتوصيله الى ابعد نقاط العالم بنفس الروحية التي نشروا بها المسيحيه. في شهر اكتوبر عام 1926 اجرت الاذاعة البريطانيه BBC مقابلة مع مارثا روت وسألتها عن وجهة نظرها حول المستعمرات البريطانيه المنتشره في شتى انحاء العالم وكيف يمكن التعامل مع هذا الاختلاف والتنوع الكبير في الثقافة والنوع والجنس والاصل. كان الرد ايجابيا متضمنا بعض التعاليم الالهيه.

دول اخرى في اوروبا:

أمضت مارثا روت خمسة اشهر في بريطانيا وغادرتها الى اسبانيا والبرتغال بعد أن استأذنت من حضرة ولي امر الله. وصلت مدريد عاصمة اسبانيا في اوائل شهر نوفمبر 1926 وارسلت رسالة الى الملك الفونسو الثالث عشر. استدعيت الى القصر الملكي وقابلت سكرتير الملك وقدمت له نسخه من كتاب بهاء الله والعصر الجديد ووعد السكرتير بتقديم الكتاب الى الملك فور وصوله. كما قدمت كتاباً الى القائد العسكري بريمو دي ريفيرو ولكن التجاوب في اسبانيا بشكل عام كان ضعيفاً، ولهذا قررت الذهاب الى مدينة شتوتغارت في المانيا لتمضية عطلة الكريسمس بناء على دعوة من صديقتها السيدة/جوليا كلفر التي كانت تملك منزلا على سفح الجبل مطلا على مدينة شتوتغارت. جاءت مارثا الى هذا المنزل وأمضت فتره للراحة والاستجمام والعلاج. من الذكريات العاطفية المثيره لهذه الرحلة هو المنام الذي رأته مارثا في احدى الليالي في هذا المنزل المتواضع حيث رأت في المنام ان أمر الله العزيز في حالة تقدم وازدهار في كل مكان وأبعد من كل التصورات. وعندما استيقظت من النوم صممت ان تقضي ما تبقى لها من عمر في خدمة أمر الله ونشره وترويجه.

المحطة التالية لها في المانيا بعد انتهاء عطلة الكريسماس كانت مدينة برلين العاصمة التي وصلتها في يناير عام 1927 وتحدثت في اول يوم من وصولها في إحدى اندية الاسبرانتو عن الدين البهائي وتعاليمه واحكامه ولقيت استحسانا من الجمهور. كانت مارثا روت تعتبر حركة الاسبرانتو وسيلة جيده لنشر التعاليم المباركه وقد نجحت في ذلك الى حد كبير. كما قامت احدى المجلات المعروفة في برلين بعمل مقابلة مع مارثا روت والبهائيه وقد نشر ذلك في الصفحات الاولى منها. قابلت مارثا احباء برلين وتذكروا ايام وصول حضرة عبد البهاء الى المدينة ووضعت لهم تسجيلا صوتياً لحضرة مولى الورى وهو يقرأ مناجاة باللغة الفارسية حيث استمتع الجميع بالصوت الملكوتي العذب لحضرته. القت مارثا بعض المحاضرات في عدة اماكن من برلين وكان برفقتها الحبيبان هاري واني رومر من احباء برلين.

كانت لها وقفة لبضعة ايام في مدينة هامبورج أيضا. ومما هو جدير بذكره هنا انها تلقت رسالة من لندن اثناء وجودها في هامبورج تفيد بأن البهائيين في مدينة مَشْهَد الايرانية قد أرسلوا لها هدية وهي عبارة عن لوح من حضرة بهاء الله ومعه خصلة من شعره المبارك وأيضاً سجاده للصلاة. فرحت مارثا روت كثيراً لهذه الهدايا الجميلة وانشرح قلبها بالمحبة والسعادة لهذا التقدير من احباء مَشْهَد وأرسلت لهم الرسالة التالية: لقد تأثرت بشدّه ولم يفرحني منذ مدة طويلة شيء بقدر هذه الاشياء المرسلة من المحفل الروحاني لمشهد. لقد شجعتني على المضي قدماً، لا أستطيع أن أعبّر عن شكري وتقديرى لهذا اللوح من حضرة بهاء الله وخاصة انه تزين حوله شعراته المباركة. انني على يقين بأن هذا اللوح سيؤثر على نمو الامر المبارك في اوروبا. أشكركم من صميم قلبي. ولكن فيما بعد اضطرت بيع السجادة لتسديد نفقات رحلاتها.

غادرت مارثا برلين ووصلت كوبنهاغن عاصمة الدانمرك يوم 28 فبراير 1927 واستقبلتها السيده يوهانا سورنسن من احباء الدانمرك التي كانت تفتخر باستضافة مارثا روت. قامت مارثا ويوهانا معاً بزيارة ثلاث جرائد معروفة في الدانمرك وقدمتا لهم صُوَراً لحضرة  عبد البهاء وعدداً من المقالات الامرية باللغتين الانجليزية والدانمركيه. بعد ذلك كتبت مارثا روت رسالة الى ملك وملكة وولي عهد الدانمرك وسلمت الرسالة الى القصر الملكي ومعها ثلاثة كتب بهائيه. وبعد يومين تم نشر المقالات في الجرائد ووصل اسم الامر المبارك الى شرائح كبيره من المجتمع. كما ألقت محاضرة بعنوان الحركه البهائيه وعلاقتها بالمسيحيه. امضت مارثا بعض الوقت في كوبنهاغن كانت خلالها مشغولة باستقبال الضيوف وتوضيح الحقائق عن الامر الاعظم وشرح رسالة حضرة بهاء الله للعديد ممن سمعوا وقرأوا عنها في الصحف والمجلات. واثناء وجودها سمعت عن انعقاد مؤتمر في براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا حول السلام بلغة الاسبرانتو واعدت نفسها له. وصلت براغ يوم 17 ابريل وشاركت في هذا المؤتمر والتقت اثناء وجودها في العاصمة بوزير الخارجيه الدكتور ادوارد بنس الذي افتتح المؤتمر ودعاها في وقت لاحق الى مكتبه، وعلمت فيما بعد ان وزير الخارجيه سبق ان قرأ بعض الكتب البهائيه واعجب بها. وتجدر الاشارة الى ان الشاب فوك اشتنر Vuk Echtner  يعتبر من المؤمنين الاوائل في تشيكوسلوفاكيا وهو من الذين استوعبوا التعاليم البهائيه بشكل جيد وادركوا اهميتها لإيجاد عالم جديد تسوده المحبه والسلام، هذا الشاب كان يتحدث خمس لغات وعمره لم يتجاوز الواحد والعشرين سنه وقام اثناء المؤتمر بالتحدث عن الدين البهائي وتعاليمه وأحكامه، كما إنه كان عضواً في رابطة الاسبرانتو.

الى شمال اوروبا:

المحطة التاليه لمارثا روت كانت دول البلطيق وهي: ليتوانيا ولاتفيا واستونيا. هذه الدول الثلاث كانت جزءا من روسيا البيضاء حتى عام 1918 وبعد ذلك أصبحت مستقلة حتى اواخر العشرينات ولكن الثورة البلشيفيه ضمتها بالقوة واصبحت جزءا من الاتحاد السوفييتي حتى اوائل التسعينات عندما تفكك الاتحاد السوفييتي واستقلت الجمهوريات التابعة. اول توقف لها كان كوفنو Kovno عاصمة لاتفيا حيث التقت بوزير الخارجيه ومن خلاله ارسلت عدة كتب الى رئيس الجمهوريه. زارت ايضا جامعة لاتفيا والتقت بأحد الاساتذه الذي كان خريجا من جامعة شيكاغو والتقت ايضا باعضاء نادي الاسبرانتو الذين اعدوا لها محاضرة عامة. كان توقفها في لاتفيا قصيرا وبعد ذلك قررت السفر الى مدينة ريفال Reval عاصمة استونيا التي وصلتها في بداية شهر مايو عام 1927. التقت فور وصولها بأربعة من رواد الاسبرانتو حيث جاؤوا الى فندقها لاجراء مقابلة معها. بعد ذلك ارسل لها وزير الخارجيه سياره خاصة لتكون تحت تصرفها وفي المقابل ارسلت مارثا روت بعض الكتب الامرية له وايضا للقنصل الامريكي. أعد نادي الاسبرانتو جلسة عامه كبيره لها في العاصمة ريفال تحدثت فيها عن الامر الالهي. كانت مارثا روت تضع هذا البيان المبارك دائماً نُصب أعينها: ان انصروا ربكم الرحمن بسيوف الحكمة والبيان وان هذا شأن الانسان ومن دون ذلك لا ينبغي، لله الملك السبحان.[4]

بعد دول البلطيق قررت مارثا السفر الى النرويج والسويد اللتان تقعان في اقصى شمال اوروبا. في الطريق توقفت في مدينه بروكسل Brussels وكان ذلك في اواسط شهر يوليو عام 1927 وقد أصابتها وعكة صحية اضطرّتها ان تلازم الفراش لعدة ايام مع حرارة الصيف. بعد تماثلها للشفاء تم ترتيب مؤتمر لها في بروكسل حيث تحدثت عن مبادئ وتعاليم الدين البهائي وايضا ابلغت الحضور تحيات حضرة ولي امر الله. كان حديثها باللغة الانجليزيه وكانت هناك ترجمة فورية الى اللغة الفرنسيه. بعد ذلك غادرت الى مدينة دانزج Danzig التي كانت ضمن المانيا انذاك ولكنها اليوم تقع في بولندا وتعتبر من مدنها الرئيسية. كان هدفها الرئيسي من زيارة دانزج هو المشاركه في المؤتمر التاسع عشر العالمي للاسبرانتو في الفتره ما بين 28 يوليو حتى 3 اغسطس عام 1927. كان لمارثا روت دور هام وفعال في الاعداد لهذا المؤتمر وقد اخذ الكثير من وقتها وخاصة ان المؤتمر سيحتفل باليوبيل الفضي للاسبرانتو، أي مرور خمس وعشرين سنة على تأسيسه وستغرس شجره بهذه المناسبة. طلبت مارثا روت من حضرة ولي امر الله ان يرسل لها بعضا من تراب العتبة المقدسة لكل من حضرة بهاء الله وحضرة الباب وحضرة عبد البهاء وايضا طلبت من السيد روي ويلهلم بعضا من تراب الحديقة التي تحدث فيها حضرة عبد البهاء في مدينة وست انجلوود بولاية نيوجرسي عام 1912.

هذا المؤتمر هو ثالث مؤتمر للاسبرانتو تشارك فيه مارثا روت وثالث مرة تتحدث فيه عن الامر المبارك بشكل رسمي. في جلسة الافتتاح قرأت رسالة حضرة ولي امر الله للمؤتمر وتحيات واشواق الهيكل الاطهر للمشاركين، ثم كانت جلستين في المؤتمر خاص للحديث عن البهائيه. الجلسة الاولى تحدث فيها الدكتور ارنست كليمك رئيس منظمة الاسبرانتو في المانيا الذي آمن حديثا بالامر المبارك وقد أدارت هذه الجلسة مارثا روت بنفسها وشعرت بغبطة كبيره من حديث الدكتور كليمك. أما الجلسة الثانية فقد تحدثت مارثا عن الدلائل البهائيه العلمية حول الحياة بعد الموت.

هذا وقد اجرى مراسم الاحتفال الخاص بغرس الشجرة بمناسبة اليوبيل الفضي في حضور عدد من الاحباء وغيرهم وتم وضع التراب المقدس الذي وصل من حيفا وايضا من الولايات المتحده مع تراب تلك الشجره وكان احتفالا جميلا وبديعاً مشحونا بالروحانيه. ان المشاركه في مؤتمرات مثل هذه كانت تعتبر بالنسبة لمارثا فرصة ثمية للتعرف على اكبر عدد من الناس، من خلفيات ثقافيه واجتماعيه مختلفه، وتعريفهم بالدين البهائي ومبادئه واحكامه الساميه، وايضا فرصة للقاء الاصدقاء والاحباء وتجديد أواصر المحبه والالفة بينهم. لم يكن همّها في أي يوم سوى تبليغ امر الله الى شريحة اكبر من المجتمع، ولم يفرحها شيء سوى انجذاب عدد اكبر من الناس الى الكلمة الالهية الخلاقه لحضرة بهاء الله.

غادرت مارثا روت دانزج فور الانتهاء من المؤتمر وذهبت بالقطار الى جنيف بدعوة من صديقتها العزيزه جوليا كلفر Julia Culver في الطريق توقفت لمدة يوم واحد في مدينة برلين لزيارة الاحباء. وفي هذه الزيارة التقت بالحبيب / بديع الله محمود زاده من الاحباء الايرانيين المهاجرين في روسيا الذي شجعها على المجيء الى روسيا ولكن الظروف السياسية والاجتماعية لم تكن مواتيه لزيارة ذلك البلد وعلى الاخص ان الاحباء هناك بدأوا يعانون من مضايقات السلطات السوفيتيه. وصلت مارثا جنيف، هذه المدينة التي تضم اكثر من ثلاثمائه منظمة دولية ويأتيها الزائرين من شتى بقاع العالم وكانت فرصة لها لتعريف الامر المبارك الى اكبر عدد من الناس ومن كافة الجنسيات. اقامت في منزل صديقتها جوليا كلفر والتقت بعدد من الاحباء من الولايات المتحده وقضت شهر اب / اغسطس في كتابة المقالات وفي شهر سبتمبر القت عدة خطب ومحاضرات في المركز البهائي والتقت بعدد كبير من الاحباء وغيرهم وكانت فرصة جيده لتعريف الامر المبارك.

ومما جدير بذكره هنا ان فخر المبلغين والمبلغات السيدة العزيزة مارثا روت اعطت خلال جميع رحلاتها مئات الكتب والنشرات والكتيبات البهائيه الى العديد من النفوس، كما ذكر سابقا، وبالطبع فإن مخزونها من هذه الكتب كان ينفد وكانت تشتري من مالها الخاص ومن مساعدة البعض احيانا ولكن اولويتها كان تأمين أكبر قدر من الكتب معها حيثما رحلت وتواجدت ومع ذلك فقد كانت دوما تعاني من نقص في الكتب وعندما علم حضرة ولي امر الله بهذا الموضوع ارسل الرسالة التالية الى البهائيين في الغرب يناشدهم مساعدتها، حيث جاء في الرسالة: انني اناشد جميع افراد المؤمنين والمحافل الروحانيه ان يساعدوا بكل امكانياتهم هذه النفس الثمينه ويؤازروها ويتجاوبوا بسرعة لكل ما تطلبه بين الحين والاخر من الاحباء في كل مكان وأن يسعى الاحباء أن يصلوا إلى مستواها العالي الذي وصلت اليه، وأن يدعوا لها من أعماق قلوبهم حتى تستمر في خدماتها النبيله للامر المبارك. تجاوبا مع هذا النداء تم ارسال عشرات الكتب لها اينما تواجدت في العالم.

اللقاء الثاني مع ملكة رومانيا:

غادرت مارثا روت جنيف يوم 17 سبتمبر عام 1927 وتوجهت الى بوخارست عاصمة رومانيا لتلتقي للمرة الثانيه بالملكه ماري. وصلت مارثا بوخارست وقد علمت فور وصولها بان الملك فرديناند زوج الملكه ماري قد توفي يوم 20 يوليو عام 1927 وبالتالي كانت الملكه في حالة حداد ولم تكن تستقبل أحدا سوى افراد اسرتها. كان محل اقامة الملكه هو قصرها الصيفي في منطقه سيناي الجميلة والخلابة Sinaia التي تقع في منطقة جبلية وتبعد حوالي اربع ساعات بالقطار من بوخارست. قررت مارثا السفر لمقابلتها وذهبت الى محطة القطار ومعها حقيبتين. وفي المحطة وبصوره مفاجأه سرق أحد اللصوص أحدى حقيبتيها وفرّ هارباً. كان بامكانها مطاردة اللص ولكنها فكّرت إن فعلت ذلك فسوف يفوتها القطار وبالتالي يفوتها اللقاء مع الملكه وهو الاهم، ولهذا قررت نسيان الموضوع والاتكال على الله العلي القدير، فهو المعين والحافظ والمعطي في جميع الاحوال.

وصلت مارثا منطقة سيناي وتوجهت نحو قصر الملكه الذي كان يقع في منطقة جميلة جدا ذات طبيعه ساحرة وبجانبه كنيسة عادة ما كانت افراد الاسرة الحاكمه يذهبون اليها للصلاه والعباده. لقد كانت مارثا تواقه للقاء اول ملكه آمنت بالامر المبارك وأول ملكه كتبت في الصحافة عن المبادئ والتعاليم السامية لحضرة بهاء الله. كانت تعلم مارثا جيدا ان التاريخ سيخلد اسم هذه الملكه باعتبارها اول من آمنت من ملكات العالم ولهذا كانت حريصة على اشعال نار الايمان والايقان والعرفان في قلبها كلما استطاعت ذلك.

دخلت مارثا روت قصر الملكه وكان بانتظارها عدد من السيدات يلبسن الاسود ورحبوا بها ثم اخذوها الى غرفة الملكة الخاصه التي رحبت بمارثا روت أجمل ترحيب واعربت عن سعادتها برؤيتها لها بعد سنتين من أول لقاء بينهما. تصف مارثا روت هذا اللقاء بالكلمات التالية: ان عيونها كانت تشع بالنور وابتسامتها الرقيقة تجذب القلب ولا يمكنني ان انساها. تحدثت الملكه ماري عن رحلتها في العام الماضي الى الولايات المتحدة الامريكية وكيف ان البهائيين الامريكين ارسلوا لها باقات ورود اينما سافرت من مدينة الى اخرى وكيف اظهروا محبتهم وسعادتهم بزيارتها لبلدهم وهي التي تحتل مكانة خاصة في قلوب البهائيين الامريكان. طلبت الملكه من السيدة / مارثا روت ان تبلغ شكرها وتقديرها لكل الاحباء في الولايات المتحدة اللذين ارسلوا اليها باقات ورود او اظهروا محبتهم بشكل أو اخر. قدمت مارثا روت هدية للملكه ماري وهي عبارة الهدية التي ارسلها احباء مشهد في ايران اليها وهي لوح من حضرة بهاء الله مع خصلة من شعره المبارك. سعدت الملكه كثيرا من هذه الهدية الثمينة وقررت أن تضعها في برواز على شكل لوحة جميلة تضم اللوح المبارك مزينا بالشعرات المقدسة.

اما بالنسبة للاميرة إلينا ابنة الملكه فقد كانت لها اهتمامات بالدين البهائي وكانت تقرأ وتبحث في الاثار البهائيه منذ اول زيارة لمارثا لوالدتها. في هذه المره دعت مارثا الى شقتها التي تقع في الدور الثالت من القصر الملكي واثناء حديثها مع مارثا قالت: كيف يمكن للانسان ان يصبح بهائيا؟ وجدت مارثا الجمال والصفاء وحسن الطوية في هذه الاميرة الرومانيه التي كانت مثل والدتها تحب الزهور والورود وتحتفظ بها بكميات كبيره في شقتها. والملاحظ ان شقتها كانت تضم ايضا صورة لحضرة عبد البهاء مع اثار حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء المنشوره باللغة الانجليزية. قالت الينا انها اعطت العديد من الكتب البهائيه لصديقاتها كما قامت هي بنفسها بترجمة احدى الكتيبات الى اللغة الرومانية.

ويمكن اعتبار هذه الزيارة تعميق لروابط المحبة التي كانت تربط مارثا روت بالملكه وكانت نتائجها جيده ومثمره وفي ختام الزيارة قبّلت الملكه مارثا روت مرتين وتمنت لها التوفيق في رحلاتها القادمة.

رجعت مارثا الى بوخارست وقامت بطباعة ألفين نسخه من كتيب تعريف عن الدين البهائي باللغة الفرنسية وأعدت الخطه أيضا لطباعة الكتيب باللغات البلغارية والصربيه واليونانيه. كانت تؤمن ان الشعوب الاوربيه بحاجة ماسة الى تعاليم حضرة بهاء الله العلاجية وعلى الاخص ان المنطقة كانت مشحونه بالفتن والاضطرابات السياسيه والاجتماعيه والعرقيه. كان لديها احساس إن أوروبا وشيكه على حرب طاحنه وإن الاضطرابات والقلاقل في ازدياد ولهذا عبّرت عن قلقها الى حضرة ولي امر الله الذي بعث اليها بالبرقيه التالية: بالنسبة الى الحرب التي ستنشب عاجلا أم آجلا في أوروبا بصوره فجائيه، لا تقلقي يا عزيزتي مارثا … فإن التصور بعيد حالياً وإن خطر وقوعه في المستقبل القريب يكاد لا يذكر. ولكن ان حدثت مشاكل وأزمات واصبح السفر في أوروبا محفوفاً بالمخاطر، فاطمئني ان العائله المباركه سيرحبون بك وان جنة جبل الكرمل سيكون ملجأ ومأوى لك. لا تقلقي في الوقت الحاضر، ركزي جهودك على اداء المهام العظيمة التي تقومين بها بقلب مطمئن وعقل راجح. ان عين عناية جمال القدم يلاحظك والملأ الاعلى يؤيدك … ان كلمات حضرة شوقي افندي كانت خير دواء لقلقها، فتوكلت على أمر مولاها العزيز ومضت قدُما الى بلغاريا.

بلغاريا واليونان ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا :

وصلت صوفيا عاصمة بلغاريا يوم 14 اكتوبر 1927 وعلمت ان هناك مؤتمراً مركزياً للنساء منعقد لمدة ثلاثة ايام. استغلت مارثا وجود هذا المؤتمر للمشاركة به والتحدث عن الامر المبارك ولكن بلغة الاسبرانتو. كان حديثها ناجحاً وأدى الى اتصال العديد بها لمعرفة المزيد عن الدين البهائي. عملت عشرات المقابلات الصحفيه وعشرات طلبوا المزيد من المعلومات. وفي منطقه ساموكوف Samokov كانت هناك مدرسة امريكيه وقامت زوجة مدير المدرسة بترتيب جلسه لها حضرها حوالي اربعمائه شخص. وايضا في مدينة فراتسا Vratza التي تبعد أربع ساعات بالقطار عن صوفيا القت مارثا روت كلمة عامة في حضور خمسمائه شخص وبحضور عمدة المدينة وعدد من المسؤولين. وهذه تعتبر أول مرة يقوم شخص أمريكي بإلقاء كلمة في هذه المدينة البلغارية. وما كان ملفتاً للنظر في هذه الجلسة أن هناك أفراداً جاؤوا من القرى المجاورة ومشوا خمسة وعشرين ميلا سيراً على الاقدام ومع هطول امطار غزيرة من أجل الاستماع الى مارثا روت. كما تحدثت ايضا في جامعتين وهما الوحيدتين في بلغاريا وهما جامعة Free وجامعة Sofia. كما زارت مدينة بلوفديف Plovdiv والقت محاضرة في نادي الاسبرنتو. أرسلت مارثا روت كتب امرية الى الملك بوريس الثاني ملك بلغاريا والى شقيقته الاميره يودوكس، ولكن للاسف لم يكن هناك أي رد فعل منهم. اعتبرت مارثا بلغاريا دولة فيها مجال واسع للتبليغ حيث ان النفوس مستعدة، والعقول متفتحه، والارض خصبة، ولكن التطورات السياسية فيما بعد حالت دون التوسع المرتقب.

قررت مارثا ان تتوقف لعدة ايام في اسلامبول وهي المدينة التي نفى اليها حضرة بهاء الله بعد بغداد، فمكثت فيها أسبوعاً واحداً وهو الاسبوع الاخير من شهر ديسمبر 1927 ونظراً للغالبية الاسلامية لهذه المدينة فلم تستطع أن تبلغ أمرالله بالشكل المطلوب أو القاء محاضرات عامه أو توزيع كتب ولهذا قررت السفر الى اليونان.

في اليوم الاول من السنة الجديدة عام 1928 وفي أثينا، ألقت محاضرة عامة أمام ستمائة شخص مما أدى بالصحافة الى الكتابة عن الامر المبارك بشكل مكثف وملفت للنظر. نشرت احدى الصحف اليوميه اليونانية ثلاث مقالات بشكل متسلسل يومي وقد استفادت من هذه المقالات في توزيعها على الاخرين الطالبين لمعرفة الحقيقة. وفي 10 يناير 1928 وصلت لمدينة سالونيكا Salonika وألقت محاضرة في جامعتها بعنوان: مبادئ بهاء الله حول التعليم العالمي.  بعد عدة أيام غادرت مارثا اليونان متوجهة الى بلغراد عاصمة يوغوسلافيا. وصلت مارثا روت بلغراد يوم 18 يناير 1928 ودعيت الى القصر الملكي في 21 يناير. والجدير بالذكر هنا ان ملكة يوغوسلافيا الملكة ماري ميغنون Marie Mignon تعتبر ابنة ملكة رومانيا ماري وقد رزقت بطفل يوم 19 يناير أي بعد مرور يوم واحد من قدوم مارثا الى يوغوسلافيا ولهذا اتت ملكة رومانيا الى بلغراد مع ابنتها ايلينا لحضور هذا الاحتفال. في يوم 21 يناير تواجدت مارثا روت في القصر الملكي وبحضور غالبية الاسرة الحاكمه وقد سعدت مما قالته الملكه بأن الافكار البهائيه فيها من القوة والرؤية ما يمكن اعتبارها أملا للباحثين عن الحقيقة. كان اللقاء عصراً وودياً وفيه تم تناول الشاي وانضم اليهم ولي العهد اليوغوسلافي الامير بيتر الذي لم يتجاوز عمره أربع سنوات. وفي يوم الأول من شهر فبراير التقت مارثا مع الأمير بول والأميره أولغا من الأسره الحاكمه وقد أعربوا عن استعدادهم لمساعدة مارثا روت في ايجاد من يمكن ان يترجم الاثار البهائيه الى اللغة الصربيه وقد قدموا لها البروفسور بوغدان بوبوفتش  Popovitch من جامعة بلغراد وهو المدرس السابق للامير بول واستاذ كبير في اللغة الصربية الذي أعرب عن سعادته القيام بذلك. اعجب البروفسور بوبوفتش بشخصية مارثا روت وعلى الاخص ما كانت تتحلى به من روحانية وطهارة وصفاء، وبعد الانتهاء من الترجمة قام شخصيا بزيارة مارثا روت في الفندق الذي كانت تقيم فيه، رغم اعتلال صحته، وقدم لها الترجمة مع باقة من الورود والشموع.

وتجدر الاشارة ايضا الى البروفسور ستيتش Staitch الذي كان صديقا للبروفسور بوبوفتش حيث قام هو ايضا بترجمة بعض الاثار الامرية الى اللغة الكرواتيه وقد استفادت مارثا روت من ترجمته عندما قامت بزيارة الى زاغروب في منطقة كرواتيا التابعة ليوغوسلافيا. في مدينة زاغروب ألقت خمس محاضرات عامة منها محاضرة في نادٍ خاص للسيدات حضرتها أكثر من ألفين امرأة وكانت محل ترحيب كبير من قبل عامة الشعب. والجدير بالذكر ان كلا الاستاذين بوبوفتش و ستيتش كانا من اصدقاء الدكتور أوغست فورل الذي ارسل اليه حضرة  عبد البهاء لوحه الشهير بهذا الاسم.

رجعت مارثا روت الى براغ العاصمة واستطاعت هذه المرة ان تلتقي برئيس الجمهورية السيد/ماسارايك Masaryk مع العلم بانها لم تستطع ان تلتقي به في زيارتها الاولى لتشيكوسلوفاكيا. في يوم 20 مارس 1928 التقت به في قصره حيث أعرب عن سعادته برؤيتها. تحدثوا عن السلام والطرق المؤدية اليه والمعوقات التي تقف امامه ثم قال الرئيس: ان نجاة وخلاص البشرية لا يأتي عن طريق السياسيين او الاقتصاديين او الاشتراكيين  … ان عصبة الامم شيء جيد ولكن يجب ان يكون مدعوماً من قبل الشعوب … انشري تعاليم دينك فانها الطريق نحو السلام العالمي … بلغي الناس، السياسيين، الاشتراكيين، المدارس، الجامعات والكنائس. ان الشعوب هي التي ستحقق السلام العالمي. كتبت الجرائد والصحف حول زيارة مارثا روت لبلدهم ونشرت مقالات عن الدين البهائي وتعاليمه واحكامه وايضا نشرت صوراً لحضرة عبد البهاء.

تلقت مارثا روث ايضا دعوة من ابنة رئيس الجمهورية الدكتوره أليس  Alice للقائها في القصر الجمهوري، وقد تم اللقاء وكان مثمراً وناجحاً، وشجعت مارثا ابنة الرئيس على قراءة الكتب البهائيه الموجوده لدى والدها.

إن القاده السياسيين كانوا متجاوبين معها الى أبعد الحدود، وكانت مارثا روت سعيده جداً بهذا التجاوب وخاصة من رئيس الجمهورية ووزير الخارجيه الذين سمحا لها بزيارة اثنتى عشرة مدينة ومكان في تشيكوسلوفاكيا و كانت تشعر بأن أبواب التبليغ قد فتحت لها بشكل كبير في هذا البلد وخاصة الدعم الذي شعرت به من رئيس الجمهورية ومن وزرائه وشعبه، كما ان مدينة براغ قد احتلت مكانه خاصة في قلبها. والجدير بالذكر هنا ان أول مؤمن بالامر المبارك في تشيكوسلوفاكيا هو ميلوش وورم Milosh wurm الذي توفى اثناء الحرب العالميه الاولى وهو اول من طبع كتابا بهائيا بلغة التشيك، ولكن والدته كانت على قيد الحياة وقامت مارثا روت بزيارتها في بلدتها برنو Brno بعد ذلك قامت بزيارة لاثنتى عشرة مدينة الواحدة تلو الاخرى بكل عزيمة وشجاعة ومثابرة، قلما نجدها في امرأة أو رجل اخر. كان حياتها الامر المبارك، مؤمنه بما تفضل به جمال القدم: بلغ أمر مولاك الى كل من في السموات والارض، إن وجدت مقبلا فاظهر عليه لئالي حكمة الله ربك فيما ألقاك الروح وكن من المقبلين. وان وجدت معرضاً فاعرض عنه فتوكل على الله ربك ورب العالمين.[5] لقد كانت تشعر بتأييدات الملكوت الابهى أينما سافرت وأينما رحلت.

المانيا:

مدينة درسدن Dresden الالماينة كانت المحطة التالية لها ثم انتقلت الى ليبزغ Leipzig  وجيرا Gera وقضت شهر مايو 1928 في هذه المدن الثلاث لتبليغ امر الله والقاء الخطب وتبشير الناس بظهور الملكوت. أما أشهر الصيف فقد كانت وقت انعقاد المؤتمرات الدولية وفرصة ذهبية لها للمشاركه وتبليغ امر رب العالمين. بعد هذه المؤتمرات غادرت الى سويسرا وامضت هناك ثلاثة اشهر حتى اكتوبر من عام 1928. من المؤتمرات التي شاركت فيها في سويسرا مؤتمر خاص لحوار الاديان ومؤتمر للاسبرانتو ومؤتمر للسلام العالمي. ومن أهم لقاءاتها في هذه الرحلة لقائها بالبروفسور أوغست فورال الذي سبق ان كتبت عنه وعن ابحاثه العلمية العظيمة التي يقوم بها واثره على العلماء والمفكرين في أوروبا والدول الاخرى.

رجعت مارثا الى المانيا مرة اخرى وقضت هذه المرة سبعة اشهر كاملة تجوب وتجول كافة مدن واقاليم المانيا العظمى من نوفمبر 1928 حتى شهر يونيو عام 1929. ويمكن اعتبار هذه الفتره اكثر الفترات التي قضتها في دولة واحدة اثناء رحلاتها التاريخية حول العالم. لقد زارت جميع مدن المانيا دون استثناء وشاركت في كل مؤتمر كان يعقده نادي الاسبرانتو للحديث عن الدين البهائي. أما المدن التي كانت بها جامعات ومعاهد فقد كانت تتسارع بوضع الكتب البهائيه في مكتباتها والحديث مع اساتذه الجامعات والترتيب لالقاء محاضرة ان سمحوا لها ذلك. كان عنوان حديثها دوما الحركة البهائية.  إن أغلب الجامعات الالمانية رحبت بها وبافكارها وبالكتب الامرية.

الى دول اخرى:

في اواخر شهر يونيو 1929 ودعت مارثا المانيا وسافرت الى سويسرا وتوجهت فوراً إلى جامعة زيوريخ التي دعتها لالقاء محاضرة. قضت شهر يوليو في مدينة زيوريخ الجميله وشاركت في المؤتمر العالمي حول التربية والتعليم. في اوائل شهر آب/اغسطس غادرت الى فيينا عاصمة النمسا وشاركت في معرض الاسبرانتو ثم استطاعت ان تلتقي برئيس الجمهورية ووعدت بارسال كتب له. كانت لها وقفه قصيرة ايضا في بودابست عاصمة هنغاريا وفيها استطاعت ان تتحدث عن الامر المبارك في نادي الصحفيين. كما ان رئيس هذا النادي قد اعجب بشخصية مارثا وقام بزيارتها في الفندق.

بعد ذلك كله وبناء على توصية من حضرة ولي أمرالله أخذت تعدّ العدة لزيارة تاريخية طويلة نحو الدول الشرقيه وتحديداً: البانيا – تركيا – مصر – فلسطين – العراق – ايران – الهند – بورما – الصين ثم اليابان. ان الاعداد والتخطيط لهذه الرحلة بدأت من برلين وخاصة كيفية الحصول على خمس عشرة فيزا لدخول هذه الدول. نعم هذه هي مارثا روت، فخر المبلغين والمبلغات وقد صدق هذا البيان المبارك من حضرة عبد البهاء في حقها عندما تفضل: يا أمة الله المشتعله بنار محبته، لا تحزني من العسرة والعناء ولا تفرحي من الراحة والرخاء في هذه الدنيا لأن كليهما يزولان، وانما حياة الدنيا كسراب أو عباب أو ظلال، وهل يتصور أن السراب يؤثر تأثير الشراب لا ورب الأرباب….. اعلمي أن الملكوت حقيقة الوجود وأن الناسوت ظله الممدود.[6]

في اواخر شهر اغسطس 1929 وصلت فخر المبلغين والمبلغات مارثا روث الى البانيا بحراً بعد ان قضت خمسة ايام في يوغوسلافيا. تعتبر البانيا دولة فقيرة ولازالت قياسا بباقي الدول الأوروبية حتى ان القطار لم يكن متواجدا فيها بعد ووسائل المواصلات بدائية وعدد السيارات قليل. ومنذ وصولها قامت بنشر عدة مقالات في الصحف والجرائد اليومية عن الامر المبارك وزارت المكتبة العامة وقدمت عدة كتب. استطاعت ان تلتقي برئيس الوزراء الذي رتب لقاءا لها مع الملك زوك Zog في القصر الملكي في العاصمة تيرانا. في الاول من شهر سبتمبر وصلت القصر الملكي الذي كان يحتفل ايضا بمرور سنتين على تولي الملك زمام الحكم في البانيا. كانت مارثا محل ترحيب الجميع وعلى الاخص نساء الاسرة الحاكمه البالغ عددهم تسعة عشر امرأه وقد استمعوا اليها بكل شغف، ثم ذهبت لتلتقي بالملك في غرفة الاستقبال. تروي مارثا روث لقاءها بالملك زوك Zog ملك البانيا بالكلمات التالية: لا يمكنني ان انسى هذه اللحظات، لقد كان واقفاً مرتدياً زيه العسكري وحوله وزرائه يرتدون لباساً اسوداً. صافحت الملك وقلت له باللغة الالبانيه Besa – besem أي سمعاً وطاعةً  يا جلالة الملك. بعد لقاءها بالملك ذهبت لزيارة والدته ثم شقيقاته وايضا والدة الملكة.

إن السفر إلى البانيا كانت فكرة مخيفة في مخيلة مارثا روت نظراً لموقع ألبانيا الحساس في منطقة البلقان وامكانية نشوب صراعات سياسية واقتصادية فيها واشعال المنطقه بأسرها ابتداءاً من هذه الدوله. في رسالة كتبتها الى روي ويلهلم قالت: الوضع السياسي خطير في البانيا، ان الملك لا يجرأ على الخروج وحياته تحت حراسه مشدده. ولهذا طلبت مارثا من الاحباء الدعاء لهذه الدولة. لقد تحقق هدفها من الزيارة وهو ايصال اسم حضرة بهاء الله الى أكبر عدد من الناس سواء الذين على مستوى القمة، مثل الملك والملكة أو إلى أدنى المستويات من عامة الشعب. وعلى الرغم من ان البانيا تعتبر دولة اسلامية اليوم ولكن في عام 1929 لم يكن الاسلام يعني شيئا أساسياً  في حياة الناس، وخاصة انه في السنوات التالية انضمت البانيا الى المحور الاشتراكي حتى تحررها في اوائل التسعينات من القرن العشرين، وتأسيس محافل روحانية فيها.

والان بعد مضى أربع سنوات في دول أوروبا المسيحية قررت مارثا السفر الى الدول الاسلامية وهي الاكثر صعوبة في تبليغ امر الله.

مدينة استانبول كانت المحطة الاولى في هذه الرحلة. هذه المدينة لها عراقة تاريخية من الناحية المسيحية والاسلامية، كما نفي اليها حضرة بهاء الله ومكث فيها حوالي خمسة أشهر  قبل ان يغادرها الى ادرنه. كانت لمدة طويلة مركزا للخلافة الاسلامية ايام الحكم العثماني وقد انتهت هذه الخلافة مع نهاية الحرب العالمية الاولى وظهور كمال باشا اتاتورك وتاسيس الجمهورية بشكل رسمي في عام 1924. كانت تعلم مارثا بانها لا تستطيع ان تتحدث عن  الدين البهائي بشكل علني في دولة اسلامية، ولهذا ذهبت الى العاصمة انقرة والتقت بوزير الخارجية توفيق رشدي بك الذي رحب بها واستمع اليها بحذر ولكن إطمأنّ قلبه بأن وجود مارثا روت في تركيا سوف لا يشكل تهديداً  للاسلام أو الدولة، ولهذا دعاها الى الاحتفال الخاص الذي عقد يوم 29 اكتوبر بمناسبة تأسيس الجمهورية التركيه. رجعت مارثا الى استانبول وتوقفت لمدة يومين ثم اخذت قطارا الى مدينة أضنه التي تقع في جنوب تركيا التى وصلتها بعد رحلة متعبه مدتها خمسة ايام، وكانت تختار دائما الركوب في الدرجة الثالثة من القطار حتى توفر ما لديها من مال لرحلاتها القادمه. التعب والمشقة والغربة لم يكن يعنيها بشيء مادام ذلك كله من أجل محبة جمال القدم، وحتى الهدايا التي كانت تتلقاها بين الحين والاخر كانت تبيعها حتى توفر مصاريف رحلاتها ونشراتها وكتبها. لقد وهبت حياتها لأمر سام وهدف نبيل.

من أضنه ذهبت بحراً الى جزيرة رودس التركيه، ومن هناك الى قبرص ومن ثم الى الاسكندرية والقاهرة. تعتبر هذه الزيارة للشرق الاوسط الثالثة من نوعها لمارثا روت وكانت تتطلع لها دوما نظرا لاهمية الشرق الاوسط للامر المبارك وارتباطه الوثيق بالرموز المقدسة في الدين البهائي. في يوم 14 نوفمبر استطاعت ان تلتقي في القاهرة بالامير محمد على باشا في قصر النيل ويعتبر هذا الامير ابن أخي الملك فؤاد وايضا كاتب ومفكر ومن عظماء الاسرة الحاكمة ومن الافراد الذين التقوا بحضرة عبد البهاء واعجبوا بشخصيته وهو ايضا شقيق عباس حلمي باشا خديوي مصر. كما التقت ايضا بالسيدة هدى شعراوي من النساء الناشطات في مجال تحرير المرأه الداعين لتساوي حقوقها ورفع مقامها وهي ابنة محمد سلطان باشا أول رئيس مجلس نيابي في مصر.

وتجدر الاشارة الى ان مترجمة مارثا روث في هاتين الزيارتين كانت شابة بهائيه مصرية اسمها بهية فرج الله زكي كردي، وقد عرف عن والدها بانه قام باعداد وطبع ونشر كتاب مفاوضات لحضرة عبد البهاء وايضا مجموعة ادعية حضرت محبوب التي تضم مجموعة الواح ومناجاة لحضرة بهاء الله وهي مجموعة واسعة التداول بين البهائيين اليوم. كانت بهية فرج الله، واسمها اليوم بهيه كيوليك فرحة جداً لهذه المهمة التي لم تتصور يوماً  بانها ستنجح في ادائها بكفاءة وخاصة أمام أمير مصري في القصر الملكي. تحكي بهيه عن لقائها بمارثا روت بأنّها كانت شخصية فريده من نوعها ومتواضعه ولبسها بسيط وجميل وتجذب الناظرين.

من الشخصيات الاخرى التي التقت بمارثا روت في مدينة بورسعيد السيد عزيز يزدي وهو مشاور سابق وعضو سابق في دار التبليغ العالمية. يروي السيد يزدي ذكرياته بهذه العبارات: كنتُ شاباً عندما التقيت بها في بورسعيد اثناء مرورها للاراضي المقدسة. عرفتني بالاسبرانتو وساعدتني على تأسيس أول مجموعة للاسبرانتو في مصر. خلال وجودها في مصر ذهبت مارثا الى القاهره بالقطار للقاء الامير محمد على ابن اخي الملك فؤاد. اثناء رحلتها في القطار ركبت الدرجة الثالثه وعند وصول القطار الى القاهرة كان في المحطة مندوبين من قبل الامير لاستقبالها. قاموا أولا بالبحث عنها بين ركاب الدرجه الاولى فلم يجدوها ثم ذهبوا الى ركاب الدرجه الثانيه ولم يجدوها ايضا، واثناء مرورهم بركاب الدرجة الثالثة رأوا امرأة تحمل حقائبها بنفسها وعرفوها، لقد كانت محل احترام وتقدير الامير. هذه هي مارثا روت.

غادرت مارثا القاهرة في اواخر شهر نوفمبر 1929 متوجهة الى القدس. وفي طريقها توقفت لعدة ساعات في الاسماعيليه والقناطر والتقت بالاحباء المصريين. كانت مارث قد بعثت ببرقيه الى المفوض البريطاني السامي في فلسطين تطلب مقابلته واثناء ورودها القدس التقت بمحافظ المدينه ثم المفتي العام والمشرف على المساجد ثم توجّهت الى مدينة حيفا حيث يقع المركز الروحي والاداري العالمي البهائي، ومحل توجه قلبها وفؤادها وما كانت تنتظره وتواقة اليه لعدة سنوات.

حيفا ودمشق وبغداد:

وصلت مارثا روت حيفا يوم 25 نوفمبر 1929 وتعتبر هذه ثاني زيارة لها للاراضي المقدسه. وفور وصولها استدعيت الى بيت حضرة عبد البهاء حيث كان السيده منيرة خانم الحرم المبارك بانتظارها مع ورقات العائلة المباركه. قامت احدى البنات وعمرها اربع عشرة سنه بالترحيب بها باللغة الانجليزية مما تأثرت معها مارثا بشده وهي التي كانت تشعر دوما انها لا تستحق كل هذا الاطراء والتبجيل وخاصة من المنتسبين للشجره المباركه. استقبلها حضرة ولي امر الله في اليوم التالي ورحّب بها كثيراً وأثنى على كل ما قامت به حتى الان في سبيل تبليغ أمرالله ثم قال لها: تذكري مارثا ما قلته لك، أرجو ان تهتمي بصحتك ثم تناول الحديث بينهما حول ما قامت به من انشطة امرية في أوروبا. ثم ذهبا معاً الى المقام الاعلى وتلا حضرة المولى مناجاة بلحن ملكوتي جميل رقت له قلب مارثا روت. كانت ترغب مارثا المكوث في الارض الاقدس لمدة تسعة ايام فقط ولكن نظراً لمرض حضرة المولى، بقيت هذه المرة اربعة اسابيع كانت تقيم في بيت الزائرين الغربي الذي بني حديثا باهداء من السيد هاري راندال Harry Randall. في رسالة لمارثا كتبتها الى روي ويلهلم Roy Wilhelm قالت مارثا: في حيفا تذكرت حضرة عبد البهاء حياته ومماته، وأيضا أبي وأمي ووالدك انت يا روي، وانا الان في بيت هاري للزائرين وتصور مدى فرحي وشكري عندما ارى شرشف الطعام المهداه من والدتي على الطاولة  …

من لقاءاتها الهامة كان لقاؤها بالورقة المباركة العليا، سيدة اهل البهاء وشفيعتهم التي كانت تبلغ انذاك اثنتين وثمانين سنة وتعانى من التهاب في الرئه وقد لازمت الفراش لاكثر من شهرين. تقول مارثا روت انها استقبلتنا وهي جالسة في الفراش، ولكنها كانت تفيض  بالمحبة والمودة وتشع منها الروحانيه. قالت لي انها تدعو الله ان اوفق في خدماتي، وقد أجبتها أرجوك ان تدعو الله أن أوفق في تبليغ كل شخص اقابله. وكان هذا لقائها الاخير بها حيث توفت سيده اهل البهاء في يوليو من عام 1932م. وقبل ان تغادر الغرفة أهدتها الورقة العليا خاتماً أحمراً جميلاً ، تعبيراً عن محبتها وتقديراً لخدماتها الجليله.

في يوم من الايام طلبت من حضرة ولي أمرالله ان تساعده في أعماله الكتابيه الكثيره ولكنه قال لها: عليك بالراحة هنا ولكنها قامت باعداد حفلة شاي لخدام العتبة المباركه والاحباء وقد حضر الحفله اربعة مسئولين عن الاعتاب المقدسه على جبل الكرمل وعشرون زائراً من الدول الشرقيه. كما أعدت حفلة شاي أخرى في عكا قرب قصر البهجه حيث المقام المبارك لحضرة بهاء الله، ودعت اليها الاحباء الساكنين قرب ذلك المقام المقدس بالاضافة الى بعض الاحباء الذين جاؤوا من حيفا.

أخذت مارثا تستعد لرحلتها التاريخية الى العراق وايران مروراً بسوريا. قبل مغادرتها بثلاثة ايام استقبلها حضرة المولى وحثها على الاقامة فتره اطول في الاراضي المقدسة، ولكنها فضلت المضي قُدُما لرحلتها الى الدول الشرقية. وفي يوم 25 ديسمبر 1929 غادرت حيفا بعد اقامة شهر واحد انتعشت روحانيا واشتعل قلبها بنار العشق الالهي مرة اخرى لتمضي الى الامام في نشر الكلمة الالهية.

المحطة الاولى لها كانت مدينة دمشق عاصمة الامويين، حيث معالم الحضارة الاسلامية مازالت واضحه وثقافتها وتراثها مازال عربيا رغم حكم العثمانين لها لمئات السنين. اتصلت بالصحافة ودور النشر فور وصولها واعطتهم مقالات عن البهائيه حيث تم نشرها. كما عقدت مؤتمراً صحفياً في محل اقامتها بالفندق وتحدثت بكل شجاعة عن التعاليم المباركه ووزعت صوراً لحضرة عبد البهاء على الصحفيين. وتجدر الاشارة إلى أن مرافقها ومترجمها في هذه الرحلة كان شخصاً بهائياً يدعى رفعت تعرفت عليه اثناء اقامتها في حيفا. ونظرا لمحدودية الفعاليات الامرية في دولة اسلامية عربية مثل سوريا فقد قررت بعد ثلاثة ايام السفر الى بغداد مدينة الله وموطن حضرة بهاء الله، ولهذا اعد لها رفعت كرفانا خاصا لهذا الغرض. وفي رحلة طويلة وشاقة وفي وسط الصحراء تحرك الكرفان منذ الصباح الباكر تجاه الحدود العراقيه وسط طريق وعر غير معبّد، وبعد ساعات وصلوا الى محطة فيها بئر ماء ومحطة سيارات وفندق صغير كان البريطانيون قد بنوه. وبعد استراحة قصيرة استمروا في المسير لساعات طويلة حتى وصلوا الحدود العراقية السورية حيث كان بانتظارهم على الحدود سيارتان تضمّان بعض أعضاء المحفل الروحاني لمدينة بغداد. رحّب الاحباء بقدومها المبارك ثم ذهبوا سويا الى فندق في العاصمة بغداد.

في اليوم التالي ذهبت ومعها السيد رفعت الى الصحف والجرائد واعطتهم مقالات عن الدين البهائي حيث تم نشرها مع خبر وصول صحفية امريكيه الى العراق. كانت مارثا روت تعلم انها في دولة اسلامية عربية يناهض غالبية سكانها أمر حضرة بهاء الله لدرجة ان المحكمة الجعفرية في بغداد كانت قد استولت على بيت الجمال المبارك في عام 1922 وكان كل أملها ان يرجع هذا البيت المقدس، وهو مزار البهائيين ومركز حجهم، الى قبضة البهائيين انفسهم. بعد سقوط الامبراطورية العثمانية تم تأسيس دولة العراق في عام 1921 وعين الملك فيصل بن الحسين ملكا دستوريا عليها وقد بايعه غالبية الشعب العراقي وقبلوه ملكا عليهم. الملك فيصل هو ابن الشريف الحسين بن علي، شريف مكة وملك الحجاز وسليل الدوحة المحمدية. استطاعت مارثا روت ان تحصل على موعد لمقابلة الملك وقد تحدد يوم 2 يناير عام 1930 م حيث قابلته في مكتبه المطل على نهر الدجله. يقع المكتب وسط حديقه كبيره وجميله تضم اشجار النخيل وألوف من الزهور والورود المختلفه وقد بنى من دور واحد ذي تصميم غربي يحتوى على عدة أعمده ضخمة من الرخام الموصلي، و قريب من حديقه الرضوان التي أعلن فيها حضرة بهاء الله دعوته العلنيه عام 1863م. استقبل جلالة الملك فيصل بن الحسين مارثا روت في تمام الساعة 9,45 صباحا بوجه بسيم وبشوش ورحّب بقدومها للعراق.

نقلت مارثا روت تحيات واشواق حضرة ولي امرالله والعائلة المباركه الى سموّه ثم قالت: ماهو انطباعك عن عبد البهاء ؟ فرد جلالة الملك: لقد كان شخصاً عظيماً وذكيا وحكيماً . انني مُعجب به وأحترمه كثيراً لانه كان يعمل لصالح الانسانيه، لقد قابلته قبل عشر سنوات في حيفا. ثم اضافت: ان البهائيين في شتى انحاء المعموره سمعوا ان جلالتكم ترغبون في إنهاء موضوع بيت حضرة بهاء الله بكل عدالة، ان البهائيين يقدّرون ويثمّنون ذلك. فرد الملك: ستأخذ العدالة مجراها، لقد شكلنا لجنه لدراسة الموضوع بحيث تصل لنتيجة تكون مرضية لكافة الاطراف. فرحت مارثا روت لسماع ذلك، ثم قال لها الملك: انني اؤمن بالتسامح والتعاون بين الاديان ويمكن لذلك ان يتحقق في العراق أكثر من أي دولة اخرى. ان مبدأ وحدة العالم الذي تتحدث عنه البهائيه يمكن له ان يبدأ من هنا وبسرعة كبيره. وعن السلام العالمي قال: ان العراق حاليا لا يستطيع ان يلعب دوراً هاماً  في السلام العالمي ولكن الشيء الهام الذي يستطيع أن يعمله، أن يحافظ على وحدة اراضيه ويحافظ على علاقات جيدة مع الجيران ويعمل حثيثا لتطوير وتقدم شعبه ثقافياً وروحياً.

واثناء وداع مارثا روت لجلالة الملك أعربت له ان: ألوفا من البهائيين من أوروبا والولايات المتّحدة وامريكا الجنوبية واستراليا ومن الدول الشرقية سيأتون يوما الى بغداد لزيارة بيت بهاء الله عندما تسنح لهم الظروف وعندما يكون البيت مستعداً لاستقبال الضيوف. ان  بغداد كان لها ماضياً مشرقاً وسيكون لها مستقبلاً عظيماً لأن حضرة بهاء الله اعلن فيها دعوته، وسمّاها مدينة الله.

وصفت مارثا روت الملك بانه كان لطيف المعشر ودودا ورجلا وسيما مهيبا ملؤه الحيوية والنشاط ويعمل جاهدا على تنمية شعبه وخدمتهم. ويعتبر هذا اللقاء من اهم الاحداث التاريخية في الامر المبارك. ولكن للاسف لم يتخذ الملك فيصل قراراً جريئاً بأحقية البهائيين للبيت المبارك، ولم يعتنِ بكل الاعتراضات التي أثيرت في عصبة الامم حول هذا البيت وظل الامر كما هو عليه حتى يومنا هذا. وعن عظمة البيت المبارك صدر هذا البيان من قلم حضرة بهاء الله: يا بيت الله ان هتك المشركون ستر حرمتك لا تحزن، قد زينك الله بطراز ذكره بين الارض والسماء وانه لا يهتك أبدا، انك تكون منظر ربك في كل الاحيان ويسمع نداء من يزورك ويطوف حولك ويدعوه بك انه هو الغفور الرحيم.

من الشخصيات التي التقت بهم في بغداد ايضا المندوب السامي البريطاني ووالي بغداد كما زارت حديقة الرضوان المكان الذي اعلن فيه حضرة بهاء الله دعوته العلنيه قبل نفيه الى استانبول، وتقع الحديقه على ضفة نهر الدجلة ولكنها لم تستطع زيارة البيت المبارك. هذه الزيارة كانت وقفة تأمل كبير لها، حيث تذكرت محبوب العالم ومقصود الامم وما عاناه في سبيل دعوته، لقد سبحت في بحر من الروحانية والايمان.

أثناء إقامتها في العراق قامت بزيارة قصيرة الى البصرة التي تقع في الجنوب وتعتبر ثاني المدن العراقية. من طرائف هذه الزيارة ان العراقيين في البصرة انذاك لم يتعودوا رؤية امرأة غربية هناك ولهذا فان وجودها في الفندق وفي الشارع كان ملفتاً للنظر لدرجة ان الناس كانوا ينتظرونها خارج الفندق حتى تخرج ومن ثم يتبعونها ويسيروا خلفها بالمئات في شوارع البصرة. لم تمكث في هذه المدينة اكثر من ثلاثة ايام وكان تبليغها محدوداً وقد انحصر على الساكنين في الفندق ولهذا رجعت الى بغداد ومن ثم وفي اليوم التالي الموافق 9 يناير 1930م استأجر المحفل الروحاني في بغداد سيارة اجره لتنقلها الى الحدود الايرانية لتصل الى مهد امر الله وموطن حضرة بهاء الله.

الى ايران مهد أمر الله:

وصلت السيارة المقلة لمارثا روت الى الحدود الايرانية، وقام مفتشو الجمارك بتفتيش حقائبها بدقة بعد ان عرفوا انها بهائيه ولكنها قالت لهم إنني لم أجلب كتب بهائيه ولكن تأكدوا أن البهائية تؤكد حقّانية الاسلام وعلو مقام سيدنا محمد (ص)… إن المسيحيين لا يؤمنون بالاسلام ولكنكم تسمحون لكتبهم بدخول اراضيكم. اننا نؤمن بالاسلام ومع ذلك لا تسمحون لكتبنا بالدخول. كانت معاملة رجال الجمارك لها بكل لطف واحترام، وقد علمت منذ اليوم الاول لورودها الاراضي الايرانية أن سكانها غير سكان الدول الاخرى التي زارتها في العالم. فالتعصب والجهل مازالا مسيطرين على غالبية الشعب؛ وعلى أرض هذا البلد المقدس وُلد ونشأ حضرة الباب وحضرة بهاء الله، وفدى الالوف من أتباعهما بانفسهم وأموالهم في سبيل محبتهم ولم تتغير الاوضاع كثيرا منذ ذلك الحين، ولهذا تذكرت ما قاله حضرة ولي أمر الله بأن عليها أن ترافق أحد الاحباء اينما ذهبت ورحلت في ايران. كانت تحمل رسالة تعريفيه كتبها حضرة شوقي افندي بخط يده باللغة الفارسية الى الاحباء والمحافل الروحانية في ايران يعرّفهم هذه الشخصية التاريخية العظيمة والمكانة الخاصة التي تتبوءها، والمهام الملقاة على عاتقها ولهذا كانت محل احترام وتبجيل الجميع اينما حلت ورحلت. جاء في رسالة حضرة ولي أمرالله الى المحفل المركزى لايران والمحافل المحلية ما يلي:

يا أمناء الرحمن وأودّائه، ان أمة الله المشتعله ميس مارثا روت فخر المؤمنين والمؤمنات وطليعة المبلغين والمبلغات ستأتي الى بلاد ايران المقدسة. على جميع أحباء الله واماء الرحمن في ذلك الاقليم المقدس أن يستقبلوها بكل سعة وترحاب، ويعتبروا ذلك فرضاً وواجباً عليهم. كما عليهم أن يستضيفوها بكل محبة واحترام ويعقدوا الاحتفالات بكل حكمة ومتانة إعزازاً لأمر الله ويعدّوا المجالس والمحافل ويظهروا إعجابهم وافتخارهم فعلاً  وقولاً لتلك المنتخبة من قبل حضرة الكبرياء ورافعة صيت أمر البهاء، لأن هذه المؤمنة الفريدة رفعت نداء يا بهاء الابهى في أعلى المقامات بقوة محيرة للعقول وشجاعه واستقامة لا مثيل لها وأوصلت لمسامع أقوياء الارض من الامراء والوزراء والعلماء والسلاطين اسم الامر المقدس الالهي ورفعت وعززت مقام المظلومين والمجاهدين في تلك البلاد لدى أنظار عظماء العالم. إنها تستحق كل محبة وتقدير ويليق بها كل إجلال وإكرام. على أمناء الله وحفظة الشريعة السماوية، أعضاء المحافل الروحانية في كل الاحيان أن يراعوا مقتضيات الوقت والمكان حتى لا تثار فتنة أو يتحرك الحسّاد والجهّال وتبقى الجامعه محفوظة من الاشرار. أيدكم الله على إجراء ما يليق لتلك الأمه المقربة الناطقة بذكر ربها بين الخلائق أجمعين.

عبد عتبته شوقي

ديسمبر 1929

 

إنتشر خبر وصولها بين كافة الاحباء كالنار في الهشيم، وفي شتى البقاع، ولهذا تسابق الاحباء الى رؤيتها والالتقاء والترحيب بها، كما هو عادة الشرقيين في إكرام الضيف والترحيب به. كان لها توقف قصير في قصر شيرين وكرمانشاه، ومن ثم خلال رحلة طويلة بين الجبال واثناء البرد القارس وصلت ومعها المرافقين الى مدينة همدان. كانت هناك عشرون سيارة في همدان ترافق مارثا روت وكأنها ملكة تجوب شوارع المدينة. قضت ثلاثة ايام في همدان التقت بالاحباء وألقت خطب عامة ألهبت نار العشق والمحبة في قلوب عشاق أمر نيّر الافاق والتقتطت صورة جماعية مع اعضاء محفل همدان. بعد ذلك وصلت الى قزوين، البلدة التي ولدت فيها قرة العين الطاهرة الزكية الشريفة، وكان يرافقها حوالي خمسة وأربعين سيارة بل ان بعض الاحباء جاؤوا من تسعين ميلا لزيارتها في هذا البرد الزمهرير.

في قزوين كانت ترغب بزيارة بيت الطاهرة التي ولدت فيه وترعرعت ولكن قال لها الاحباء ان ذلك فيه خطر كبير عليك ولكنها أصرّت وذهبت للبيت، وعندما دخلت غرفة قرة العين انحنت وركعت بكل تواضع واجلال، ثم جلست في الغرفة بكل هدوء وقرأت مناجاة. إن قوة الايمان وحدها القادرة على ان تأتي بإمرأة من الولايات المتحدة الى هذه الغرفة لتؤدي واجب الطاعة والخضوع والخشوع للمرأة التي ضربت اروع الامثلة في التضحية والفداء في سبيل أمر مولاها ومحبوبها وفي سبيل تحرير المرأة.

طهران كانت المحطة التالية لها في مهد أمرالله حيث العاصمة، وحيث يتواجد أكبر جامعة بهائية في ايران. في البداية جاء خمسة من اعضاء المحفل الروحاني لطهران الى قزوين ليرافقوا مارثا روت في سفرها الى طهران. في اخر لقاء لها مع حضرة ولي امر الله وعندما علم حضرته عن رغبتها للسفر الى ايران، كان قد اعطاها عدة ارشادات وتوجيهات خاصة منها الحذر الشديد وعدم السفر انفرادياً في بلد مازال يعانى غالبية سكانه من التعصّب الديني الشديد حيث اضطهد الاحباء بل سُفكت دماؤهم البريئه في سبيل هذا الظهور الاعظم الالهي. ولهذا قرر المحفل تعيين أربعة من أفراد الشرطة البهائيين لحراسة مارثا حتى اثناء تواجدها في الفندق الذي أعد خصيصا لها. من عادة الشرقيين نشر الاخبار والاشاعات بسرعة لدرجة ان قبل وصول مارثا روت إلى إيران نشرت احدى الصحف الخبر التالي: قريبا ستأتي ابنة عبد البهاء الى ايران ولكنها ستكون مرتدية لباساً امريكيا وتتحدث الانجليزية وهدفها تضليل الناس. التقت في طهران بالمسئولين الرسميين في الحكومة منهم وزير الماليه وسألتهم عن معاملتهم للبهائيين وكيفية التعاطي مع الامر الالهي. يبدو ان النتيجة كانت طيبة ومرضية وكتبت عدة مقالات بهذا الخصوص وارسلتهم الى واشنطن والقاهرة والى الصحف الامريكية وكأنها كانت تحاول توثيق العلاقات مع الدولتين. حاولت ان تلتقي بشاه ايران رضا شاه بهلوي من خلال وزير المحاكم السيد/تيمور تاش ولكنها لم توفق بذلك ولهذا ارسلت للشاه رسالة شرحت فيه بعض التعاليم المباركه وايمان البهائيين بالرسول محمد (ص) وان رغب جلالته بالاطلاع عن المزيد عن حقائق الامر المبارك فانها مستعدة لارسال بعض الكتب اليه، ولكن لم يرد الشاه على رسالتها.

لم تيأس مارثا من محاولة الاتصال بالشاه واظهار محبتها له فقد ارسلت له قاموس لغة فارسي / اسبرانتو وايضا شارة الاسبرانتو لولى العهد الامير محمد رضا بهلوي الذي اصبح شاه ايران فيما بعد، وأطاحت به ثورة شعبية اسلامية عارمة في عالم 1979م. ان المرء يمكن له ان يفكر ويتأمل في حجم الشجاعة والبطولة والتضحية التي اظهرتها مارثا روت في نشاطها هذا عندما حاولت الوصول الى أعلى شخص في السلطة، في بلد يسوده التعصّب والجهل ولكنها تشبثت بالطاف وعنايات جمال القدم وتأييده الحتمي. ان رحلتها لايران – كما ذكر – لم يكن خالياً من المخاطر فقد استلمت عدة رسائل فيها تهديد ووعيد ولكنها كانت تقول ان جمال المبارك حفظني دوما. لقد عشق الاحباء في ايران هذه السيدة الفاضلة وثمنوا ما تقوم به من خدمات عالمية من أجل أمر حضرة بهاء الله، لدرجة انها عندما قامت بزيارة لاحدى منازل الاحباء تأثرت طفلة صغيرة من حديثها ووجودها، وقامت باعطائها قرط اذنها المصنوع من الذهب لتبيعها ويكون ريعه لمشرق اذكار شيكاغو.

في الاسبوع الاول من شهر نيسان/ابريل عام 1930 قامت بزيارة الى مدينة تبريز حيث استُشهِد فيها حضرة الباب عام 1850م. استطاعت ان تزور محل استشهاد حضرته وتذكرت بكل خضوع وخشوع يوم 9 يوليو 1850م ذلك اليوم العصيب في تاريخ البشرية الذي فيه أفل كوكب الهداية الالهية واصبح يوما للاحزان والالام يذكره البهائيون سنويا عندما سالت فيه الدماء البريئة لحضرة الباب من أجل محبوبه حضرة بهاء الله ومن أجل الانسانية.

ومن المفارقات العجيبة للزمن ان رئيس الشرطة في تبريز قد دعا مارثا روت الى حفلة عشاء في حديقة تقع بالقرب من المكان الذي سجن فيه حضرة الباب، كما شارك بالحفلة قائد الجيش في المدينة. ان القوى الروحانية التي انبعثت من هذا المكان أدت بهذين القائدين الى الاهتمام بالدين البهائي وطلبا بعض الكتب للقراءه. وقد تعجبا من امرأة بهائية من الولايات المتحدة تتخطى كل هذه المسافات الطويلة للمجيء الى هذا المكان والتبرّك به.

من المدن الاخرى التي زارتها مارثا روت: قم وكاشان واصفهان ويزد وكانت دوما محل حفاوة وترحيب الاحباء بشكل لا يُتَصوَّر. في مدينة كاشان قدّم الاحباء لها سجادة صلاة منقوش في وسطها الاسم الاعظم، ثم تقدم أحد الشباب وقد أصابته الانفلونزا الشديده وطلب منها الدعاء في حقه. استجابت مارثا لطلبه وقامت بالدعاء له مستخدمة سجادة الصلاة المهداه اليها، وفي اليوم التالي تحسّنت صحة الشاب بشكل كبير واخذ بالتعافي. والجدير بالذكر ان هذه السجادة قُدِّمت فيما بعد الى امبراطور اليابان، ووضع في القصر الامبراطوري الياباني.

من المناطق التي زارتها مارثا روت في ايران قرية اسمها (آباده) تقع على الطريق المؤدي الى اصفهان. يروى أحد أحباء هذه القرية واسمه عطا آگاه الذي كان طفلاً  حينها ذكرياته بالكلمات التالية:

[ كنت طفلاً  عندما زارتنا مارثا روت في قريتنا، لا أذكر تاريخ ويوم ورودها تماماً، وكنا نسميها (مارسا روس) وعندما علمنا بقرب مجيئها ركبنا نحن مجموعه من الشباب الدراجات الهوائية وذهبنا الى الطريق المؤدي الى اصفهان لنكون في استقبالها. أما والدي فقد كان من شخصيات القرية وراكباً حماره ليكون على رأس المستقبلين وقال لي لربما تركب مارثا روت هذا الحمار لتذهب الى أزقة القرية التي لا تستطيع سيارتها دخولها. بعد ساعات طويلة من الانتظار في الشارع لاحت من بعيد السيارة المقلة لمارثا روت وقمنا بتحيتها بنداء الله أبهى بصوت جماعي مرتفع ومن ثم اندفعت السيارة الى القرية ونحن وراءها على الدراجات الهوائية. كنت اتصور أن مارثا روت ستكون ذات جسم طويل وعريض مثل الشخصيات التي كنا نسمع عنها في التاريخ، ولكن ما ان فتح باب السيارة حتى نزلت منها سيدة ذات جسم نحيف وقصير، عندئذ أدركت بأن العظماء لا يقاسون بأحجامهم.

كان على رأس مستقبليها والدي الذي رحّب بها بكلمات لم أكن واثقاً ان فهمتها ولكن لغة المحبة لا تحتاج الى لسان. ثم تناول الجميع الشاي وبعض الفواكه وتحركنا الى منزلنا. وكانت والدتى قد أعدّت لها منذ فترة غرفة خاصة وحاولت أن تضع فيه جميع وسائل الراحه الاولية التي كانت متوفرة في القرية. في الطريق الى منزلنا كان هناك جم غفير من الاحباء حولها وكنا نحن الاطفال في المقدمة راكبين الدراجات الهوائية وكأنه موكب رسمي يرحب برئيس دولة. مررنا على مسجد وحسينية القرية أمام أنظار الناس الذين لم يتعودوا هذا المشهد من قبل وكانوا يحيّونها عن بعد. وكان والدي أيضاً يرحب بهم ويستفسر عن صحتهم حيث انه كان طبيب القرية ويعرف الجميع. سمعت واحداً من الجمهور يتساءل، يا ترى من هذه المرأة ؟ والآخر يرد عليه: انها رسول البابيين. الاول يرد عليه: أستغفر الله هل يمكن للمرأة أن تكون  رسولة ؟ وعندما وصلنا المنزل قدّمت الشاي والحلوى لكل الحضور ومن ثم انصرف الجميع الى منازلهم تدريجياً. ذهبت مارثا روت الى غرفتها وبعد عدة دقائق جاءت تسأل عن مكان الحمام للاستحمام. والدتي التي كانت قد أعدت كل شيء لم تفكر بأن مارثا روت يمكن ان تستحم وخاصة ان الناس في ذلك الوقت لم يتعودوا على الاستحمام باستمرار، ولم يكن الحمام موجوداً في المنازل، بل كان الناس يذهبون الى حمام عام مخصص يوماً للرجال ويوماً آخر للنساء. في ذلك اليوم كان الحمام العام خاصاً للرجال وبالتالي قام والدي باحضار حوض كبير من النحاس كان يتواجد في كل منزل تقريبا ويستعمل لغسل الملابس، ووضعه في غرفة مارثا روت مع كمية من المياه الساخنه والصابون والفرشاة.

بعد الحمام والاستراحه من وعثاء الطريق لبست مارثا لباساً جديداً وجاءت الى غرفة أخرى كان الاحباء بانتظارها. ألقت كلمة بالانجليزية وكان هناك من يترجم لها ولا أذكر ما قالته ولكني لاحظت سعادة وفرح الاحباء، ومازال ذلك المشهد واضحاً في ذهني. في اليوم التالى ذهبنا لزيارة قبر جدّي المرحوم سراج الحكماء الذي يعتبر أول بهائي في آباده وقرأنا مناجاة على روح المرحوم ثم انتقلنا الى جلسة أخرى تم ترتيبها مع الاحباء. وهنا أصّر والدي على السماح لأي فرد غير بهائي بالحضور ان شاء حتى يتعرف على حقائق الامر الاعظم ويعرف الناس ان البهائية ليست منظمة سرية وليس لدينا ما نخفيه. ونتيجه لذلك حضر الكثير من الاحباء وغيرهم الجلسة واستمعوا الى كلمة مارثا روت. لا أذكر ما قالته ولكن أتذكر أن حديثها أثار الفرح والسرور في قلوب المشتركين.

أقامت مارثا روت في قريتنا ثلاثة أيام وفي أغلب الاوقات كانت تلتقي بالاحباء وتستمع اليهم وترفع من معنوياتهم، وظلت رحلتها محفورة في ذاكرة أهل القرية وظلوا يجددون ذكرياتهم معها لسنوات عديدة. ولأول مرة عرف سكان القرية من بهائيين وغيرهم ان الدين البهائي ليس ديناً خاصاً بالايرانيين، وانما دين عالمي هناك من يحتضنه من شتى الجنسيات، وان صيته قد وصل لسمع الناس في أوروبا وأمريكا. لقد أدركتُ بأن مارثا روت، هذه المرأة النحيفة الضعيفة هي في الواقع شخصية عظيمة وقوية حيث استطاعت ان توضّح لاحباء القرية عالمية الدين البهائي وعظمة أمر جمال القدم. غادرتنا الى شيراز ومازلت أشعر بالآم فراقها.]

في اواخر شهر نيسان/ابريل عام 1930 وصلت الى المدينة الطيبه شيراز، مكان ولادة حضرة الباب ومهد أمره. بعد أربع ايام زارت البيت المبارك لحضرة الاعلى الذي اعلن فيه دعوته التاريخية يوم 23 مايو عام 1844. يروي الشخص الذي رافقها بانها عندما وصلت البيت المبارك، إنحنت خضوعاً وخشوعاً، ثم أخذت تبكي وتتنهد وتذكرت تلك الشخصية العظيمة التي أعلنت عن نفسها من هذا المكان المتواضع الصغير، وكل الالام والمتاعب التي تحملها في سبيل دعوته.

في مدينة شيراز عامل المسؤولون الحكوميون مارثا روت كأميره محترمه وامرأة غربية تريد ان تعرف عن الشرق. استطاعت ان تلقي عدة خطب في عدة حدائق عامه عن الامر المبارك وبكل شجاعة، وقد تزاحم الناس لمشاهدتها لدرجة ان في احدى الجلسات بلغ عدد الحضور أكثر من ألف شخص. واثناء زيارتها للبيت المبارك التقت بعدد من الاحباء المنتمين لعائلة الافنان المباركه وهي الاسرة المنتسبة إلى حضرة الباب ولها احترام خاص في المجتمع البهائي، بالاضافة الى لقائها بجد حضرة ولي أمرالله وهو ايضا من سلالة الافنان.

بعد ذلك قررت زيارة مدينة بوشهر الساحلية في الجنوب، المكان الذي توقف فيه حضرة الباب اثناء رحلته الى مكة المكرمة. نصحها الاحباء باستخدام الطائرة للسفر نظراً لوعورة الطريق وعدم الامان. وتعتبر هذه أول مرة تستخدم فيها مارثا روت الطائرة في رحلاتها حول العالم. وقد وصلت بوشهر وذهبت إلى بيت إمرأة بهائيه يعتبر بيتها مركزاً للانشطة والفعاليات، وقد جاءها عشرات الاحباء لزيارتها، وألقت عدة خطب وكلمات مشجعة وأطلعتهم عن تطورات الامر المبارك في الغرب، كما التقت بعدد من غير البهائيين والباحثين عن الحقيقة وشرحت لهم الكثير عن حقائق الأمر الأعظم. أحد العسكريين في الجيش ويحمل رتبة رائد دعا مارثا روت الى زيارة إحدى المستشفيات وتصادف ان بعض موظفي المستشفى كانوا بهائيين، وفي مساء ذلك اليوم كانت مارثا روت وهذا العسكري مدعوَّين لحفل عشاء اقامه حاكم المدينة.

لقد تحقق حلمها في زيارة ايران مهد امر الله وموطن الجمال المبارك، الرحلة التي طالما كانت تواقه اليها، لقد استغرقت أربعة اشهر وأخذت نهايتها تقترب. حول هذه الرحلة كتبت مارثا في مذكراتها: بلاد فارس موطن بهاء الله لقد عشت فيها اربع اشهر، لحظات لا تنسى … لقد شكرت الجمال المبارك عدة مرات على نعمه وآلائه وعلى حمايتي اثناء هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر، كما ان الخوف انتابني بعض المرات.

أما مرافقها ومترجمها السيد رفعت فقد كتب عنها: أعربت عن لطفها ومحبتها للايرانيين…. التقت بعائلات الشهداء والمضطهدين من الاحباء، وأعربت عن تضامنها وتعاطفها الشديد تجاههم….. لقد كانت رقيقه ولطيفة ورزينة… انني احترمها كثيرا، انها من القديسين.

 

الى الهند وبورما:

وصلت مارثا روت الى بومبى في اواخر شهر مايو عام 1930 بعد خمسة عشر سنة من اول زيارة لها، وكان الجو حاراً ورطباً ولكنها أجرت عدة مقابلات صحفية وألقت محاضرات عن الامر المبارك ومن ثم توجهت الى بونه poona لزيارة أسرة خسرو التي كانت تربطها علاقة حميمة بها. والجدير بالذكر ان مهاتما غاندي الزعيم الروحي للهنود اخذ نجمه بالبزوغ في تلك الايام وازداد اتباعه بشكل كبير، وكان حينها قابعاً في السجن ويبعد هذا السجن ثلاثه اميال في الشمال من بونه ولهذا قامت مارثا روت بزيارة السجن بهدف لقاء غاندي وتعريفه بالدين البهائي ولكن لم يسمح لها باللقاء وأخذ مشرف السجن الكتب منها، ووعدها بتقديمه لغاندي.

من بومبي ذهبت الى حيدر اباد التي تقع في وسط الجنوب من الهند، وكانت محل ترحيب خاص من الحاكم ومن هناك ذهبت الى سرات Surat حيث استطاعت ان تلقى عدة خطب عامه. ان حرارة الجو لم تكلّ من عزمها في تبليغ امر رب العالمين، ولكنها للأسف مرضت لعدة ايام ولازمت الفراش. وما ان تعافت حتى ذهبت الى منطقة السند حيث تبلغ الحرارة فيها 125 درجة (فارنهايت) بعد ذلك وصلت كراتشي، ومن هناك ذهبت الى لاهور وكان يرافقها في هذه الرحلة السيد/اسفنديار بختياري. تقول مارثا ان اهالى لاهور فيهم طاقات روحانية عالية حيث وجدت تجاوباً من سكانها، وتم إلقاء عدة محاضرات وعقد لقاءات متعددة في اطراف وأكناف المدينة. ومن ثم ذهبت ومعها السيد/بختياري الى منطقة سيملا هل Simla Hill مقر الحكومه الصيفي وتقع في جبال الهملايا وتبعد خمسين ميلا. هناك التقت بالمهراجا وكانت ضيفة عزيزة عنده ومن ثم غادرت الى دلهي ثم لكناو Lucknow ثم بينارس Benares ثم بتنا Patna ثم بولبور Bolpur ثم كلكتا Calcutta. في كل هذه المدن أمضت يومين أو ثلاثة وألقت عدة محاضرات عن الامر المبارك في اندية الثيوصوفية، وكان التجاوب جيداً. في مدينة كلكتا استطاعت ان تلتقى بصاحب السمو المهراجا حاكم ولاية مايورباني وشخصية جذابة ذات نظرة عالمية. أما آخر محاضرة ألقتها في الهند فكانت يوم 21 تموز 1930 في معبد البوذيين بمدينة كلكتا وقد حضرها حوالي 150 شخصا.

في يوم 22 تموز غادرت فخر المبلغين والمبلغات مارثا روت الهند متجهة الى بورما ووصلت قرية ماندلاي حيث غالبية سكانها من البهائيين، ثم ذهبت الى رانجون العاصمة وكانت محل ترحاب خاص. تحدثت في احدى جامعات رانجون أربع مرات عن الدين البهائي واجرت عدة مقابلات صحفية، وتم نشر احاديثها ومقابلاتها في الصحف اليومية. في يوم 7 اغسطس سافرت بحراً الى سنغافورة وامضت خمسة ايام هناك، ثم غادرت الى هونج كونج التي وصلتها يوم 22 اغسطس.

هونغ كونغ والصين واليابان:

مع وصولها هونغ كونغ ركزت مارثا جهودها على كتابة المقالات المختلفة عن مبادئ وتعاليم الامر المبارك وتوزيعها على الصحف والمجلات للنشر. نشرت الصحف حوالي ثلاثين مقالة ومعها صور لحضرة عبد البهاء. في مدينة كانتون نشرت الجريدة المحلية صفحتين مطولتين عن الامر المبارك ونقلت ما قالته مارثا روت في الاذاعة واهتمت بالموضوع بشكل خاص. من نتائج رحلتها هذه للصين هو جنى ثمار رحلتها الاولى عام 1923 فقد لاحظت ان هناك الكثير من الصينيين قد آمنوا بالأمر المبارك وخاصة رجال الفكر والأدب، ومنهم رئيس احدى الجامعات واسمه تساو Tsao الذي قام بترجمة كتاب بهاء الله والعصر الجديد الى اللغة الصينية. في شانغهاي التقت مارثا روت بالسيدة/اكنس الكسندر والسيد اسكولي والسيد سليماني والسيد توتي والسيد تساو وحرمه. تقول مارثا: كانت ايام جميلة ورائعة فقد عملنا جميعا من اجل امر حضرة بهاء الله.

في يوم 16 اكتوبر قامت مارثا روت بزيارة لمدينة نانكنج Nanking وهناك وفي صالة الجامعة تحدثت امام ألفَي شخص، وكان حديثها يدور حول التعليم العام واهميته وايضا عن المراة ومقامها في الدين البهائي. لقد كان التجاوب جيدا ولكن للاسف في السنوات التالية بدأت المشاحنات السياسية بين الشيوعيين وغيرهم وازدادت معها الاضطرابات السياسية مما أدى إلى إنشغال الناس بهذه الامور وتلاشت معها ما سمعوه من مارثا روت أو ما آمنوا به.

في يوم 22 اكتوبر أبحرت إلى اليابان ووصلت طوكيو حيث التقت بالسيدة أكنس الكسندر (التي أصبحت ضمن ايادى أمرالله فيما بعد) ورتبت لعدة محاضرات في المدارس والجامعات واماكن اخرى يتواجد فيها الشباب. من لقاءاتها الهامة في هذه الرحلة لقاؤها بالسيد/نوما رئيس تحرير احدى الجرائد المعروفه في اليابان ومعروف انه (رئيس المجلات). أعد هذا الشخص مؤتمراً حول البهائيه دعا فيها مارثا روت للتحدث، بالاضافة الى ثلاثة اشخاص آخرين. شارك حوالي ألفي شخص في المؤتمر وبنجاح كبير، حيث وصل اسم حضرة بهاء الله ورسالته السامية الى سمع كل وضيع وشريف. من انجازاتها الهامة في اليابان ايضا، المقابلة التي اجرتها مع الاذاعة اليابانية حيث بُثَّت هذه المقابلة في كافة ارجاء اليابان بالاضافة الى نشر نص المقابلة في جريدة يابان تايمز Japan Times وقد اهدتها الاذاعة قماشا فاخرا من الحرير تقديرا وعرفانا لها.

كان هدفها الكبير من هذه الزيارة لقاءها بالامبراطر هيروهتيو وابلاغه أمر حضرة بهاء الله، وعلى الاخص إنها استلمت يوم 9 نوفمبر برقيه من حضرة ولي امر الله يقول فيها تحياتي الى الامبراطور ولكن ذلك لم يكن يسيرا حيث ان التقاليد اليابانيه لا تجيز لعامة الناس من يابانيين او غيرهم بمقابلة الامبراطور او حتى وزير البلاط، وكان ذلك يعتبر ضرباً من الخيال. ولكن مارثا روت توسلت بذيل الدعاء وطلبت العون والمساعدة من الجمال المبارك. اتصلت بأحد المحامين واسمه الدكتور ماسوما وسبق لهذا الشخص ان توسط في تسليم الامبراطور عدة كتب بهائيه بالنيابة عن مارثا روت، استطاع هذا الشخص ان يوصل مارثا الى وزير البلاط الامبراطوري. وفي يوم 9 ديسمبر وصلت مارثا الى مكتب الوزير ومعها الدكتور ماسوما وسلمت الوزير ألواحاً مباركه فيها اشارة الى اليابان وبرقية حضرة ولي امر الله وايضا سجادة الصلاة التي أُهدِيت لها في كاشان بايران. من الهدايا الاخرى الثمينة التي اهدتها الى الامبراطور، خاتم أهداه حضرة عبد البهاء إلى سيد مصطفى رومي المقيم في بورما. هذا الخاتم أهداه سيد مصطفى إلى زوجته يوم زواجه، ومن ثم اهدت الزوجة هذا الخاتم الى مارثا روت في اول زيارة لها لبورما قبل عدة سنوات. تصوروا ثمن هذا الخاتم وقيمته، ولكن رأت مارثا روت بأنها قد تكون وسيلة للخير والبركة لامبراطور اليابان.

وعلى الرغم من إنها لم تلتقِ بامبراطور اليابان هيروهيتو شخصيا، ولكن الوصول إلى وزير البلاط الامبراطوري كان في حد ذاته إنجازاً كبيراً لها لأن الاخير قال لها: يمكنك في المستقبل الاتصال بي مباشرة دون وسيط، ويمكنك ارسال ما تشائين للاسرة المالكه من خلال مكتبي وحسب قراري.

والان حال الوقت للعودة الى الوطن، بعد غياب دام ثمانية سنوات، زارت فيها عشرات المدن والقرى والدول. استقلت باخره من ميناء يوكوهاما يوم 30 ديسمبر 1930 ووصلت الى جزر الهاواي ومكثت هناك تسعة ايام كانت خلالها تلقى محاضرات عن الامر المبارك يومياً في الاندية والمدارس وأجريت معها أربعة لقاءات عبر الراديو. هذه هي مارثا روت، نعم لقد كانت فخر المبلغين والمبلغات وكانت مصداقاً لما تفضل به حضرة بهاء الله:

أن يا أحباء الله لا تستقروا على فراش الراحة، اذا عرفتم بارئكم وسمعتم ما ورد عليه قوموا على النصر ثم انطقوا ولا تصمتوا اقل من آن، وإن هذا خيرٌ لكم من كنوز ما كان وما يكون لو انتم من العارفين.[7]

الى الولايات المتحدة، موطنها الاصلي

وصلت الباخرة المقلة لمارثا روت الى ميناء سان فرانسيسكو يوم 22 يناير من عام 1931 وفي اليوم التالي ألقت كلمة في نادي بيركلي، وفي الايام التالية القت خطب في مدن ولاية كاليفورنيا المختلفة منها لوس انجلوس وباسادينا وجيسرفيل. كما ذهبت الى جامعة ستانفورد الشهيره، وألقت خطبة هناك، والتقت بالرئيس الفخري لها السيد/ديفيد جوردان وهو الشخص الذي قابل حضرة عبد البهاء في عام 1912 عندما القى حضرته خطبة في الجامعة. ومن ثم ذهبت الى مدينة ايجين في ولاية اوريغون حيث يتواجد افراد الاسرة. التقت بأخيها الاصغر كلود Claude وابنته انا Anna البالغة 24 سنة التي كانت تقدّر وتثمّن ما تقوم به عمتها العزيزه. لقد كانت فرصة لتوثيق روابط المحبة بين افراد عائلة مارثا روت وتجديد الزيارة، وكانوا يعلمون جيداً الشهرة التي حظيت بها مارثا على مستوى العالم. ألقت كلمة في جامعة اوريغون، ومن ثم ذهبت الى مدينة بورتلاند ومكثت هناك اسبوعين عند أحد البهائيين ألقت فيها العديد من الخطب. ومن ثم ذهبت الى مدينة دنفر بولاية كلورادو ولمدة عشرة ايام كانت منشغلة بنشر النفحة المسكية الالهية.

وفي يوم 26 مارس 1931 توجّهت الى موطنها الاصلي مدينة كمبردج سبرنجز بعد غياب دام ثمان سنوات. كانت محل ترحاب وضيافة أخيها كلارنس وزوجته دونا. مارثا كانت حريصة على توثيق روبط المحبة والالفة بين كافة اعضاء اسرتها، بل كانت تصلّي وتدعو لهم حتى يوفقهم الجمال المبارك للايمان والهداية. وعلى الرغم من عدم ايمانهم بالامر المبارك ولكن كانوا يعتبرون مارثا شخصية فريدة من نوعها، من حيث المحبة والاخلاص والتفاني وخدمة البشرية ونكران الذات والخضوع والخشوع، لقد كانت سراجاً وهاجاً للجميع. نقلت الصحف المحلية خبر ورودها إلى مدينتها وأقيمت لها حفلة عشاء عامة حضرها العشرات ممن يعرفونها واستمعوا الى كلمتها في تلك الليلة. لقد كانت أشهر شخصية في تلك المدينة.

بعد ذلك ذهبت الى ولاية إلينوي وقضت فيها اربعة ايام، ألقت خلالها كلمة في جامعة إلينوي، ثم ذهبت الى شيكاغو يوم 13 ابريل وشاركت في مؤتمر الوكلاء المركزي وكانت ضيفة شرف المؤتمر والنجمة البازغة ومحل ترحاب خاص، والتقت بالعديد من البهائيين الذين اتوا من شتى أرجاء البلاد للمشاركه في المؤتمر. بعد انتهاء المؤتمر وفي يوم 7 مايو غادرت الى مدينة ماديسون بولاية وسكنسن وأمضت ستة ايام، ثم ذهبت الى ولاية بنسلفانيا ومن ثم ذهبت الى نيويورك للالتقاء بلجنة التبليغ المركزية التابعة للمحفل الروحاني المركزي من اجل المشورة حول رحلاتها التبليغية داخل الولايات المتحدة، وكانت محل ترحيب خاص من قِبَل اللجنة.

يعتبر السيد روي ويلهلم Roy Wilhelm وزوجته من اصدقاء مارثا المقربين، وكانت هناك علاقة محبة وود شديدين بينهما، ولهذا قامت مارثا بزيارتهم في منطقة وست انجلوود
West Englewood بولاية نيوجرسي ومكثت عندهم مدة اسبوعين. والجدير بالذكر هنا ان مارثا روت كانت تحتفظ بقطع حجرية من كل دولة أو مدينة هامة تزورها في العالم، وترسل هذه الاحجار بين الحين والاخر الى روي للاحتفاظ بها للذكرى. من هذه الاحجار مثلا: احجار من حائط المبكى في فلسطين ومن الحديقة الملكيه في اليابان ومن الاماكن المقدسة البهائية في حيفا وعكا وايران والعراق. كما كانت ترسل اليهم بعض الهدايا التي كانت تقدم لها بين الحين والاخر في العديد من الدول التي زارتها.

التقت مارثا روت بالمحفل الروحاني المركزي يوم 12 يونيو في مدينة إفرغرين كابن Evergreen Cabin وشاركت بالاحتفال الذي اقيم بمناسبة مرور حضرة عبد البهاء لهذه المدينة عام 1912م. تلقت فخر المبلغين والمبلغات العديد من الدعوات من الاحباء لزيارة مدنهم وعائلاتهم ولكنها كانت تعتذر للعديد منهم سوى البعض القليل الذين كانت تربطهم علاقات خاصة بها.

المحطة التالية لها كانت گرين ايكر Green Acre هذه المدينة العزيزه على قلبها حيث تحمل ذكريات جميله منذ زيارة حضرة عبد البهاء لها عام 1912. مكثت في گرين ايكر اسبوعين زارت خلالها المدارس والجامعات المتواجدة هناك، ثم ذهبت الى نيويورك وألقت عدة محاضرات في جامعة كولومبيا وفي كليه هنتر. ذهبت بعد ذلك الى مدينة بتسبرغ Pittsburgh التي عاشت فيها مدة من الزمن، وقابلت الاحباء هناك وعقدوا معها جلسة خاصة للاستماع اليها. من الجمل المعبرة التي قالتها مارثا روت في هذه الجلسة: انني اعتمد على الدعاء وقوته وتأثيره اينما اذهب … كلما ادخل مدينة من اجل تبليغ امر الله اقرأ لوح احمد عشر مرات.

في نهاية شهر اكتوبر 1931 أمضت مارثا بعضاً من الوقت في ولاية فيلادلفيا ثم ذهبت الى واشنطن دي سي، وهناك في كلية هافر فورد وجامعة تمبل ألقت محاضرات عن السلام العالمي وأهميته. تقول مارثا روت رأيت المعجزة بعيني، ان قوة روح القدس كانت  موجوده.  وأثناء وجودها لمدة خمسة اسابيع في واشنطن استطاعت ان تلتقي بالرئيس الامريكي هوفر Hover وفي معيتها السيده/اكنس بارسونس وتحدثت معه عن الامر المبارك وسبق أن أخبرت حضرة ولي أمر الله بهذا الموضوع ولهذا ارسل لها حضرة المولى البرقيه التاليه: يرجى ابلاغ الرئيس هوفر بالنيابة عن البهائيين في العالم باننا نصلى وندعو الله ان ينجح في الجهود الحثيثه التي يبذلها في سبيل ترويج السلام والاخوة العالميه وهو ما دعا اليه البهائيون قبل حوالي قرن من الزمن.

قضت مارثا روت ايام الكريسمس في كامبرج سبرنجز Cambridge Springs ولكن جاءها الزوار من البهائيين وغيرهم من كل الجهات للاستماع اليها وعن رحلاتها التاريخية حول العالم. وخلال الاسبوع الاول من شهر يناير عام 1932 القت عدة محاضرات في جامعتي بوسطن وهارفارد الشهيرتين، ومن ثم رحلت الى مونتريال في كندا وكانت ضيفة عزيزة على السيد ساثرلاند ماكسويل وزوجته مي وفي نفس المنزل الذي استضافا فيه حضرة عبد البهاء عام 1912م. وبعد رحلة قصيرة الى كندا رجعت الى نيويورك وفي يوم 23 يناير عام 1932 استقلت باخرة من ميناء نيويورك لتغادر إلى أوروبا بعد إجازة حوالى سنه واحدة في بلدها وموطنها.

إلى أوروبا مرة اخرى:

وما أن وصلت مارثا روت فرنسا حتى ذهبت فوراً الى جنيف في سويسرا للمشاركة في مؤتمر نزع السلاح. انعقد المؤتمر في شهر فبراير عام 1932 وكانت فرصة جيده لابداء وجهة النظر البهائية حول نزع السلاح والسلام العالمي، وقد اوجدت مارثا علاقات جيده مع مندوبي الدول المشاركه وقدمت لهم نسخة من توقيع حضرة ولي أمرالله المسمّى The Goal Of a New World Order وفي اوائل شهر مايو ذهبت الى تشيكوسلوفاكيا لترتيب ترجمة كتاب (بهاء الله والعصر الجديد) الى لغة التشيك، ومن ثم غادرت إلى وارسو عاصمة بولندا للقاء صديقتها ليديا زامنهوف. ومن هناك قامتا معا بزيارة المكتبات العامة والجامعات وتحدثتا عن الامر المبارك، ولكن الاستجابة لم تكن جيده حيث ان سيطرة الكنائس كانت واضحة. من لقاءاتها الهامة في بولندا، لقاؤها برئيس جامعة لوبلن Lublin وهو قسيس سبق ان التقى بحضرة عبد البهاء عام 1914 وتأثر به. في اوائل شهر يونيو رجعت الى براغ ومن هناك ذهبت الى رومانيا للقاء الملكه ماري وابنتها إلينا اللتان اعتنقتا الدين البهائي بواسطتها وكانت فرصة جيده لاظهار الود والمحبة ممن كان لها الشرف في هذا الانجاز العظيم في تاريخ الامر المبارك.

في يوليو 1932م توفيت الورقة المباركة العليا ووصل هذا الخبر الى سمعها وتاثرت بشدّه وحزنت لصعود هذه الورقة الزكيه التي عانت الكثير في سبيل أمر محبوبها ومولاها وكانت الدرع الواقي للامر الالهي بعد صعود حضرة عبد البهاء، وكانت تعلم ما كان ذلك يعني لحضرة ولي امر الله ومقدار حزنه وألمه من هذه الفاجعة الكبرى. ارسلت برقية تعزية لحضرة المولى وجاءها الرد التالي:

يسرني أن أعربَ لكِ شخصياً عن تقديري الشديد وإحساسي الثابت لما تقومين به من جهود حثيثه في سبيل نشر وترويج امر الله العزيز. لقد كنتُ غارقا في بحر من الاحزان خلال الاسابيع الماضية من هذا المصاب الجلل، ولهذا لم استطع الرد. إنني أقدّر كلماتك البهيجة والمتعاطفة حق تقدير، لانها صدرت ممن كان لها دور كبير في جلب الطمأنينة والرضا لقلب الورقة المباركه العليا. ان قلبي مملوء بالمحبة والتقدير لخدماتك الفذه التي ستكون مثالا يُحتَذى به لاتباع حضرة بهاء الله في شتى بقاع العالم. (شوقي)

في شهر اغسطس شاركت في المؤتمر العالمي للاسبرانتو الذي عقد في باريس ثم رجعت مرة اخرى الى براغ وظلت هناك حتى صدرت ترجمة كتاب بهاء الله والعصر الجديد بلغة التشيك بواسطة السيده/بافلا مودرا Pavla Moudra ومن ثم بدأت هذه السيده بترجمة كتاب الايقان الى لغة التشيك ايضا. وصلت مارثا الى بودابست عاصمة بلغاريا اواسط شهر فبراير 1933 ومعها صديقتها مرضية كارنتبر وقامتا معا بالتحدث في عشرات الاندية والمجالس عن الامر المبارك في شتى مدن بلغاريا، ثم ذهبتا سويا الى بلغراد عاصمة يوغوسلافيا وسألت عما اذا كانت ترجمة كتاب (بهاء الله والعصر الجديد) قد أنجز حسب ما طلبت في زيارتها الاولى عام 1928م وفعلا اتضح أن الترجمة قد انجزت الى لغة الصرب بواسطة سيدة بهائيه اسمها دراغا اليش على الرغم من أن نصف جسمها كان مشلولا. وما أن علم الامير بول والاميرة اولغا بوجود مارثا في يوغوسلافيا حتى دعوها الى حفلة شاي في منزلهم لتجديد اللقاء والود بعد غياب دام خمسة اعوام.

رجعت مارثا مرة أخرى إلى بودابست ومكثت هذه المرة شهرين ألقت العديد من المحاضرات واشرفت بنفسها على اصدار كتاب (بهاء الله والعصر الجديد) بلغة الهنغار. ومع حلول الصيف رجعت الى يوغوسلافيا للمشاركة في مؤتمر حول الاسبرانتو والتقت بالاميره اولغا مرة اخرى. كانت مارثا روت حريصة في رحلاتها بين الدول ان تنجز شيئا ما. وأن تستغل الفرص في تبليغ امر الله والتحدث في الاندية والمجالس والمعاهد والجامعات وفي أي حدب وصوب عن الرسالة التي عشقتها بكل وجودها.

كانت لها وقفة قصيرة لمدة خمسة ايام في البانيا بعد أول زيارة لها عام 1929م والتقت بالبهائي الامريكي المقيم هناك السيد/ريفو جاباري ثم سافرت الى بلغاريا وشاركت في مؤتمر الاسبرانتو العام الذي عقد هناك بين 14–18 يوليو 1933م. وبعد ذلك ذهبت الى رومانيا ومن هناك رجعت الى بلغراد في اوائل اغسطس ثم ذهبت الى اليونان وباشرت فورا في الترتيب لترجمة كتاب د. اسلمنت (بهاء الله والعصر الجديد) الى اللغة اليونانية.

أدرنه:

كانت تتطلع مارثا دوما لزيارة أدرنه، المدينة التي نُفي اليها حضرة بهاء الله عام 1863م وسكن فيها قرابة الخمس سنوات، وفيها أنزل العديد من الالواح والاثار المباركه وأعلن دعوته الى الملوك والسلاطين وكافة الناس وسمّاها ارض السر. رافقتها في هذه الزيارة السيده/ماريون جاك وهي بهائيه كندية كانت تقيم في صوفيا عاصمة بلغاريا. وصلت مارثا وماريون الى ادرنه يوم 17 اكتوبر 1933. كان الهدف الرئيسي من هذه الزيارة تحديد المنازل التي سكن فيها حضرة بهاء الله ورسمها او تصويرها. استطاعت ان تتصل ببعض البهائيين في المدينة الذين التقوا شخصيا بحضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء وقد وصفوا لها المنازل واماكنها بعد بحث دام اسبوعين. كما قامت بزيارة مسجد مرادية وهو المسجد الذي كان يصلي فيه حضرة بهاء الله وكانت لها وقفة تاريخية في هذا المسجد، حيث يروي حارس المسجد ما رآه بعينه: لقد جاءت هذه المرأة وجلست على ارض المسجد وسجدت وكانت تصلي وتدعو وتتلو المناجاة طول اليوم، ولكن عندما حل الليل كان عليّ ان أقفل المسجد وادعوها للمغادرة. لم أرى في حياتي خضوعاً وخشوعاً وانقطاعاً مثل هذا … لا يمكنني أن انساها… انها امرأة رائعة، يبدو انها نسيت نفسها اثناء الدعاء والمناجاة.

وبعد البحث استطاعت تحديد موقع منزلين سكن فيهما حضرة بهاء الله وايضا الكاروانسرا وهو المحل الذي استراح فيه الجمال المبارك عندما ورد للمدينة احدى هذين المنزلين يقع بالقرب من مسجد السلطان سليم وهو المسجد الذي صلى فيه جمال القدم بعض المرات. وفي هذا المنزل استطاع أخوه يحيى ازل ان يضع السم في طعام جمال الكبرياء مما اثر على صحته واخذت الرعشة يده حتى اخر حياته.

قامت مارثا روت ومعها ماريون جاك بتصوير هذه المنازل وايضا رسمها. كما قامتا بالاتصال بالمحافظ وعمدة البلدية ورئيس الشرطة وتعريف نفسيهما. أرسلت مارثا مقالا الى الصحف وتم النشر تحت عنوان أدرنه بعيون من نيويورك إهتم المسئولون الحكوميون بما تقوم به مارثا، ووعدوها بارسال ما بحوزتهم من تاريخ وجود بهاء الله في مدينتهم اليها. وتجدر الاشارة الى ان رهينة العشق الالهي السيدة الفاضله مارثا روت تعتبر اول زائرة بهائيه الى هذه المدينة. هذه الزيارة بالنسبة لها تعتبر حدثا هاما لانها زارت الارض التي تشرفت بقدوم جمال القدم والاسم الاعظم واستفاضت من فيوضات وجوده المقدس، وقد حان الرحيل بعيون دامعة حيث ودعت ارض السر يوم 6 نوفمبر 1933م.

العودة الى أوروبا:

رجعت مارثا الى بلغاريا ومعها صديقتها ماريون ومن هناك ذهبت الى رومانيا للاشراف على طباعة كتاب (بهاء الله والعصر الجديد) واستغلت مارثا وجودها لزيارة الملكه ماري التي استقبلتها في قصرها يوم 16 فبراير 1934 وقد اعربت الملكه عن سعادتها لصدور كتاب الدكتور اسلمنت باللغة الرومانيه. في هذا اللقاء قالت لها الملكه: مارثا انت تقدمين الهدايا للاخرين والان جاء دوري لاقدم لك هدية. قدمت الملكه مجموعة من المجوهرات النفيسه لها كرمز للمحبة والالفة التي تربط بينهما. ولكن الذهب والمجوهرات لم تكن تعني شيئا هاماً لمارثا روت، ولهذا قامت فيما بعد ببيعها الى أحد الاحباء وقدمت ريعه لصالح بناء مشرق اذكار ويلمت بالولايات المتحده. وبعد سنوات وصلت هذه المجوهرات الى دار الاثار العالميه وعرضت هناك باسم مجوهرات ملكيه مهداه الى مارثا روت.

رجعت بعد ذلك الى اليونان للاشراف على اتمام ترجمة كتاب الدكتور اسلمنت وطباعته حيث قام بالترجمة السيد / ديونيسوس ديفارس وهو صحفي يعمل في احدى الجرائد وقد انجذب إلى الامر المبارك وقام بكتابة عدة مقالات عن التعاليم المباركه واهميتها. وما ان تأكدت من طباعة الكتاب حتى غادرت الى ليتوانيا للمشاركة في مؤتمر الاسبرانتو المركزي ومن ثم شاركت ايضا في مؤتمر الاسبرانتو العالمي الذي عقد في استوكهولم في اواخر شهر يوليو 1934م.

جميع هذه الانتصارات والانجازات والفتوحات كانت تصل الى سمع حضرة ولي امر الله المحبوب وكانت تفرح قلبه المبارك وتخفف متاعبه الكثيره. في 9 سبتمبر ارسل حضرة المولى البرقيه التاليه لها: انني أقدّر وأثمّن جهودك العظيمة المبذولة في خدمة أمرالله عندما كنت في ليتوانيا واثناء زيارتك دول البلقان ودول أوروبا الوسطى والان في اسكندنافيا. انك تحملين روحاً نباضاً عالياً وحماساً متقداً، ومثالاً للوفاء والولاء لامر حضرة بهاء الله. انك تضيفين لأمره فخراً وجلالاً ابدياً وتعطين مثالاً حيّاً لاتباعه. انك تشيدين قصرا للخير والسعاده في ملكوته الابهى. ان قلبي طافح بالشكر والامتنان لما تقومين به من انجازات بإرادة وطيده وفي ظروف صعبه  … أرى بأن عليك ان تركزي جهودك في الدول الاسكندنافيه التي هي بحاجة ماسه الى مبلغين بهائيين مثلك.

أخوك الحقيقي والممنون – شوقي

 

ومع هذه البرقيه ارسل إليها حضرة المولى ثلاث جنيهات، كانت مارثا سبق ان ارسلت هذا المبلغ لحضرة ولي امر الله وهو عبارة عن حصيلة بيع كتاب بهاء الله والعصر الجديد وقد طلب منها ان تصرف ايرادات بيع الكتاب على اسفارها وعلى ترويج امر الله. مكثت مارثا في استوكهولم بالسويد لغاية اواسط ديسمبر 1934م كانت خلالها تكتب المقالات وتوجد صداقات وحاولت ان تلتقي بالملك والاسرة الحاكمه ولكن دون جدوى. ومن حوادث القضاء والقدر ان تسقط مارثا في الفندق الذي كانت مقيمه فيه مما اضطر مسئولو الفندق ان يأخذوها الى المستشفى للعلاج ولكن تم الافراج عنها في نفس اليوم ولكن كانت تتابع العلاج يوميا مع الطبيب لعدة ايام. في 19 ديسمبر غادرت الى اوسلو بالنرويج واتصلت بالسيده/جوهانا جوبارت التي كانت تترجم كتاب د. اسلمنت الى اللغة النرويجية ولكن للاسف اخذتها انفلونزا حاده اضطرتها ان تلازم الفراش لايام عدة. وما ان علم حضرة شوقي افندي بمرض مارثا حتى ارسل لها برقيه يطلب منها الراحة التامه. ومع تحسن صحتها تدريجيا بدأت تصاب بحالات من الاغماء نتيجة ضعفها. أثنت مارثا على صديقتها جوهانا للاهتمام بها اثناء مرضها في اوسلو حيث قالت: قرأت جوهانا دعاء الشفاء تسعة مرات وفي الليالي كانت تمسك بيدي وهي تقول الله ابهى.

علمت مارثا اثناء مرضها ان السيد/ريتشارد بيكر موجود في اوسلو. هذا الشخص بريطاني الاصل وله اهتمامات واسعة بالدين البهائي وطلبت مقابلته وقد اتاها فوراً بعد ان علم انها مريضة. كان ريتشارد يكن لها احتراماً كبيراً نظراً لتفانيها وعشقها لخدمة البشرية. اثناء اللقاء طلبت مارثا منه ان يذهب الى ستوكهولم ويقدم كتاب بهاء الله والعصر الجديد هدية لملك السويد. قام ريتشارد فورا بالسفر الى السويد وذهب الى القصر الملكي واستطاع مقابلة جلالة الملك شخصيا واهداه نسخة من الكتاب المذكور وقال له انها من قبل مارثا روت قال الملك انه سيقرأ الكتاب باهتمام كما قام باعطاء رسالة الى مارثا روت وايضا الى حضرة شوقي  افندي.

رجع ريتشارد فورا الى اوسلو في النرويج وابلغ هذه الاخبار السارة إلى مارثا روت. فرحت مارثا لما سمعته ودعت الله ان ينور قلب الملك بنور الايمان. والجدير بالذكر هنا ان ريتشارد عندئذ لم يكن بهائيا ولكن عندما رجع إلى لندن اعلن عن ايمانه بأمر حضرة بهاء الله في فبراير عام 1935م. وما ان طبع كتاب بهاء الله والعصر الجديد باللغة النرويجية حتى قام الناشر بارسال نسخة منه الى كل جريدة ومجلة في النرويج. كما قامت مارثا وجوهانا بارسال نسخة من الكتاب الى كل جريدة نرويجيه موجودة في الامريكتين وعددها حوالى ثلاثين جريده. كما ان رحلتها للنرويج تكللت بالنجاح الكامل عندما استطاعت يوم 9 مايو 1935 ان تلتقي بجلالة الملك هاكون ملك النرويج King Haakon. تأثرت مارثا من تواضع وخضوع الملك الذي اعرب لها عن اعجابه بالتعاليم بالاجتماعية للامر المبارك. طبعا الحديث مع الملوك عن دين غير عقيدتهم يحتاج الى نوع من الحيطة والحذر نظراً لكون الملوك يحتلون مقام رئاسة الدين ايضا ولكن مارثا نجحت في مسعاها لان تأييدات الملأ الاعلى كانت محاطة بها اينما ذهبت ورحلت.

وصلت مارثا روت ومعها صديقتها جوهانا جو بارت الى الدانمرك في اوائل شهر يونيو 1935 وبعد شهر اقامة في الدانمرك قررت السفر الى جزيره ايسلند التي تقع في شمال الكرة الارضية حيث كانت معجبة بهذه الدولة المعروفة بالحيادية في المسائل السياسية وايضا لا وجود للفقر فيها بالاضافة الى نسبة عاليه من التعليم لكافة فئات المجتمع. وما ان وصلت مارثا ايسلند حتى قامت بنشر العديد من المقالات في الصحف والمجلات وعملت عدة مقابلات صحفية واجرت مقابلتين مع الاذاعة. كما قامت بزيارة المتاحف والمكتبات العامة وقابلت الناس وشعرت بوجود روحانية خاصة في هذا الشعب. ويعتبر يوم 14 يوليو 1935 أول يوم ينشر فيه اسم الامر المبارك في الصحف الايسلندية.

وبعد إقامة شهر في ايسلند، أبحرت أمة الله المنقطعة مارثا روت الى النرويج ومنها الى فنلند. تقول مارثا روت في مذكراتها بان الشعب الاسكندنافي مثل الورد الذي سيتفتح فيما  بعد، ولكن ان تفتح سيكون معطراً وطيباً. وان طبقت شعوب هذه المنطقة مبادئ حضرة بهاء الله حول السلام العالمي فان هيئة الامم المتحدة العالمية ستبدأ من هنا. لقد تحقق بما تنبأت به مارثا فقد تأسست الامم المتحدة عام 1945 وقدر ان يكون أول امين عام لها من النرويج وهو السيد/تريگفي لاى Trygve Lie

ومن هلسنكي عاصمة فنلند كتبت رسالة الى حضرة ولي امر الله حول خطتها التالية في أوروبا لمدة سنه، وجاءها الجواب بالموافقة ولكن عليها بعد ذلك ان ترجع الى الولايات المتحدة لتعزيز وتقوية المحافل الروحانية. أمضت مارثا عشرة شهور أخرى في كل من جمهورية استونيا ولاتفيا وليتوانا بما في ذلك شهرين في فنلند. تعتبر هذه ثالث زيارة لها للجمهوريات السوفيتية وكانت لها نتائج طيبة وايجابية وخاصة فيما يتعلق مع الكُتّاب والمفكرين والصحفيين.

في شهر نوفمبر عام 1935 وصلت الى براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا وتذكرت رئيس الجمهورية السيد / ماسارايك Masaryk الذي زارته اخر مرة عام 1928 وتقبله للافكار البهائيه. ولكن هذه المرة لم تستطع مقابلته ولهذا ارسلت له باقة ورد بالاضافة الى نسخة من كتاب العالم البهائي وايضا كتاب Gleanings وهو عبارة عن مجموعة من اثار حضرة  بهاء الله قام حضرة ولي امر الله بترجمتها الى الانجليزية وقد صدر مؤخراً. في ايام عطلة الكريسمس من عام1935 كانت مارثا روت في بلغراد عاصمة يوغوسلافيا حيث أمضت العطلة مع صديقتها دراغا إليش Draga Ilich كما زارت ايضا الاميرة اولغا. بعد ذلك توجهت الى رومانيا وزارت الملكه ماري للمرة الثامنه. في شهر فبراير عام 1936 كانت مارثا روت في اليونان وبدأت آثار الضعف تظهر عليها. حاولت ان تصل الى الملك جورج الثاني ملك اليونان ولكنها لم تنجح. ونظرا لتعبها أمضت عدة ايام في الفراش للراحة وكانت فرصة لها ان تقرأ كتاب Gleanings الذي صدر من حضرة شوقي افندي وقد اعجبت بالواح حضرة بهاء الله المنقولة والعمق الروحي لها. لقد كان البلسم الشافي لها في شدتها.

في نهاية شهر فبراير ارسل حضرة ولي امر الله برقية لها يطلب منها زيارة شمال أوروبا قبل شهر اغسطس ومن ثم الى الولايات المتحده. لم تتردد مارثا في اطاعة امر مولاها العزيز وقامت فورا بالرجوع الى بلغراد ومن ثم الى فيينا. وفي النمسا امضت عيد النوروز السعيد مع الاحباء ثم رجعت الى براغ واستطاعت مقابلة رئيس الجمهورية الجديد السيد/ادوارد بنيس الذي خلف السيد/توماس ماسارايك الذي كانت مارثا ضيفة في قصره عام 1926م. ويبدو ان رئيس الجمهورية الجديد لتشيكوسلوفاكيا قد سار على نفس نهج سلفه، فقد كان معجبا بالافكار والمبادئ البهائية حول الصلح والسلام. ولكن للاسف الاوضاع السياسيه في أوروبا انذاك كانت تسير عكس ذلك، حيث سيطر النازيون على الحكم في المانيا وقاموا بحل المحفل الروحاني المركزي لالمانيا عام 1937 وحظروا الانشطة البهائية وبدأت طبول الحرب تدق حيث قام هتلر بغزو تشيكوسلوفاكيا عام 1938 وفر الرئيس بنيس الى لندن حتى رجع اليها بعد انتهاء الحرب عام 1945م.

وطبقا لتوصية حضرة ولي امر الله سافرت مارثا شمالا حتى وصلت فنلند في اوائل شهر يونيو وظلت هناك حتى 12 يوليو ثم ذهبت الى استوكهولم واوسلو في زيارة قصيرة،  ومن ثم وبتاريخ 18 يوليو ومن ميناء برجن Bergen النرويجي استقلت باخرة لتأخذها الى نيويورك.

الى الولايات المتحدة:

ومع ابحار السفينة المقلة لمارثا روت الى الولايات المتحدة، أرسل حضرة ولي أمرالله برقية الى المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة وكندا يبلغهم فيها سفرها الى ديارهم، وان على الاحباء ان يرحبوا بها اجمل ترحيب حيث انها النجمة الساطعة لامر حضرة بهاء الله. ان مارثا روت لم تكن إمراة عادية في تاريخ أمرنا العزيز، حيث لم نشهد أي رجل أو امراة قد فعلوا بما فعلته هذه السيدة المجاهدة والماجدة، لقد كانت مصداقا لهذا البيان المبارك من جمال القدم: من أراد التبليغ ينبغي له أن ينقطع عن الدنيا ويجعل همّه نصرة الامر في كل الاحوال، هذا ما قدّر في لوح حفيظ. واذا أراد الخروج من وطنه لأمر ربه يجعل زاده التوكل على الله ولباسه التقوى كذلك قدّر من لدى الله العزيز الحميد.[8] وأيضاً : يا أمتي هناك رجال كانوا بانتظار الظهور في القرون والعصور الماضية وعندما أشرق النور من أفق العالم اعترض الجميع سوى نفوس قليلة. ان كل من فاز من اماء الرحمن بعرفان مالك الاسماء انهن من الرجال في الكتاب المذكور، ومسطور اسمه من القلم الاعلى. احمدي الله بانه ايدك لعرفان مطلع الايات ومظهر البينات، ان هذا الفضل عظيم وهذه العناية كبيرة احفظيها باسم الحق.[9]

ومع وصولها لنيويورك يوم 27 يوليو قامت مجموعة كبيره من الاحباء باستقبالها في الميناء منهم: روي ويلهلم، ماونتفورت ملز، ماريون ليتل، ميلدرد ومافي متحدة. والجدير بالذكر ان عدد حقائب مارثا روت في هذه الرحلة بلغ سبعة عشر حقيبة، منها اثنتان فقط تخصها شخصيا والباقي عبارة عن حقائب تحمل صوراً من المقالات التي نشرتها في الصحف والمجلات، وكتب بهائيه وبعض الهدايا التي حصلت عليها خلال رحلتها في أوروبا التي استغرقت أربع سنوات.

بعد استراحتها في نيويورك لمدة اسبوعين غادرت الى مدينتها كامبردج سبرنجز Cambridge Springs التي علمت بقدومها الى موطنها قبل مدة. كانت فرصة لزيارة عائلتها وهم لوس ويلسون ودوريس ماكي ثم كان لها لقاء عام مع الاحباء للاستماع الى ما قامت به هذه السيده اللامثيل لها في تاريخ امر الله العزيز. في هذه الرحلة بدأت عوارض التعب والمرض يظهر عليها كما بدا أول مرة عندما كانت في أوسلو. ولهذا وصى حضرة شوقي افندي ان يقوم ثلاثة من اعضاء المحفل الروحاني المركزي برعايتها والاهتمام بصحتها وهم تحديداً: روي ويلهلم ماونتفورت ملز وهوراس هولي.

في شهر اغسطس شاركت في المدرسة البهائيه الصيفية التي عقدت في گرين ايكر وانتعش روحها من جديد، حيث قابلت الاحباء وعلى الاخص اصدقائها القدامى. ثم، وبدعوة من روي ويلهلم ذهبت الى مزرعته الصيفية في لوفل بولاية مين Maine للراحة والاستجمام. مكثت في هذه المزرعة شهرين، وكانت فرصة لها للعلاج وتجديد النشاط وكانت بعيده تماما عن المقابلات والقاء الكلمات وحتى زيارة الاصدقاء منع عنها، ولم يُسمح لاحد مقابلتها سوى  السيده/بهية وينكلر وزوجها حيث ان مارثا كانت على علاقه طيبة بوالد بهية السيد هاري راندل. سألت بهيه عن السبب بعدم رغبتها في مراجعة الطبيب، فأجابت مارثا: سيقول لي الاطباء لا تسافري، وأنا لا استطيع. وعندما سألتها عن سبب عدم زواجها حتى الان قالت: إن الزواج كان سيمنعني من السفر والعمل والتبليغ. كانت مارثا روت رهينة العشق الالهي ولم يكن يسعدها شيء في حياتها سوى خدمة أمرالله واعلان أمر حضرة بهاء الله الى كل وضيع وشريف. ولم تنشد في حياتها عظمة سوى عظمة أمر جمال القدم، لقد لبّت نداء أمر مولاها عندما قال: قم على خدمة الله ونصره ثم انطق بذكر نفسه بين العالمين ولا تخف من أحد، تالله الحق روح الاعظم يؤيدك في أمر مولاك وروح القدس ينطق على لسانك.[10]

وبعد أن تحسّنت صحتها في مزرعة روي ويلهلم، أمضت شهر اكتوبر في التنقل بين بعض الولايات وزيارة العائلات والقاء الكلمات. وفي اوائل شهر نوفمبر 1936 رجعت الى نيويورك وألقت كلمة لطلبة جامعة كلومبيا ثم ذهبت الى الولايات: فيلادلفيا وواشنطن وبالتيمور وبتسبرغ وبنسلفانيا ثم رجعت الى نيويورك. بتاريخ 12 ديسمبر 1936 ألقت كلمة في حظيرة القدس بنيويورك قالت فيها: انني سعيدة بتواجدكم. لاحظوا ان الطائر المغرّد عندما يطير في السماء يبدأ بالغناء ثم يغنّي ويغنّي. انه شيء رائع أن أعمل مع الاحباء الطيور الروحانيين… اذا نظفنا قلوبنا فسوف تصبح مثل المرآه حيث تسطع النور عليها، واذا عملنا سويا وتعاونا معاً نستطيع ان نجعل العالم مثل حديقه الزهور. أمضت مارثا عطلة الكريسمس مع اقربائها في كمبردج سبرنجز وحاولت توثيق علاقاتها مع كل فرد منهم علما بأن غالبيتهم لم يكونوا بهائيين. ولكن خلال هذا الاسبوع عملت بقدر المستطاع ان توصل هدفها من الحياة اليهم وان تعرفهم ولو بقدر بسيط عن عظمة الامر الالهي وعن السبب الذي من أجله تركت وطنها وسافرت الى شتى بقاع العالم.

مع اطلالة عام 1937 أمضت مارثا الايام الاولى منها في مدينة جيمس تاون بولاية نيويورك حيث اخذت بالرد على مئات الرسائل التي وصلتها من شتى انحاء العالم. في هذه المدينة التقت مارثا بالسيدة/دوروثي بيكر الناشطة والمبلغة البهائيه وعضوة المحفل الروحاني المركزي في الولايات المتحدة وكندا والتي ارتقت الى مقام ايادي امر الله بعد وفاتها مثلها مثل مارثا روت. في يوم 19 يناير 1937 ذهبت الى مدينة بفالو  Buffalo على الحدود الكندية للقاء الاحباء ولكن للاسف اصابتها انفلونزا حادة في عز الشتاء مما اضطّرَتها ان تلازم الفراش لعدة ايام، ولم تستطع ان تغادر الفراش سوى الاسبوع الاول من شهر فبراير. وبعد فترة نقاهة مدتها اسبوعين رجعت الى جيمس تاون.

وسبق ان ذكرنا ان المحفل المركزي للولايات المتحدة قد عين هيئة ثلاثية لرعاية حال مارثا روت والاهتمام بصحتها وهم روي ويلهلم وماونتفورت ملز وهوراس هولي. دعت الله ان تسمح هذه الهيئة ان تتم اسفارها ورحلاتها لابلاغ أمر حضرة بهاء الله. كتبت صديقتها العزيزة دوريس ماكي Doris Mckay عنها فقالت: يوماً رأيت مارثا تبكي بحرقة لأن المحفل المركزي لم يسمح لها بالسفر بعد، وما ان استلمت رسالة من المحفل المركزي يجيز لها السفر حتى طارت من الفرح مثل الطير الذي خرج من قفصه. نعم، لقد صدق هذا البيان المبارك من جمال القدم في حقها عندما تفضل لاحدى إماء الرحمن: يا أمتي يا ورقتي، قد شهد لكِ القلم الاعلى بإقبالك وحبّك وتوجهك الى وجه القدم اذ أعرض عنه العالم الا من شاء الله العلي العظيم….. طوبى لكِ بما زينت نفسك بطراز المحبة الالهية وفزتِ بذكره وثنائه.[11]

وما أن أجاز المحفل المركزي لها السفر حتى تحركت فوراً يوم 24 فبراير الى الشاطئ الغربي. وما كان مؤثراً حقاً ان صديقتها العزيزه دوريس جاءت الى محطة القطار لوداعها وقد بكت بحرقه، وذرفت الدموع وهي تضع برأسها على كتفها وكأنه اللقاء الاخير. وفعلا كان اللقاء الاخير.

في طريقها ذهبت الى موطنها كمبردج سبرنجز لتوديع اسرتها واقربائها واصدقائها، ثم ذهبت الى مدينة ليما في ولاية اوهايو للقاء دوروثي بيكر التي أعجبت باصالة وطهارة وخلوص وخضوع وخشوع أمة الله المنقطعة مارثا روت. كتبت دوروثي بيكر في احدى رسائلها ما يلي: ان مارثا روت تعتبر من اعظم المبلغين في العالم الذي قلما نجد مثلها. بتاريخ 9 مارس 1937 اخذت القطار الى شيكاغو ثم ذهبت لزيارة مشرق الاذكار الذي مازال تحت البناء وقد وصفت مشاعرها بالكلمات التالية: انه من اجمل المباني التي رأيتها  … لقد شعرت بالروحانية  … وقد صلّيت تحت قبتها وكأني في محضر حضرة بهاء الله. تم إعداد جلسة عامة لها حضرها العديد من اصدقائها القدامى وقد امتلأت الصالة بالحاضرين وكانت فرصة لتجديد الصداقة معهم. من الشخصيات التي التقت بهم السيدة/اميليا كولنز التي شجعتها دوماً للمضي قدماً في ترويج امر الله بشتى الطرق و الوسائل. في تلك الايام تم اذاعة الخبر عن زواج حضرة ولي امر الله بالانسة/ماري ماكسويل مما أفرح قلب مارثا روت كثيرا.

في أواسط شهر إبريل توجهت الى سان فرانسيسكو ومن ثم ذهبت الى بورتلاند بولاية اوريغون حيث مكثت خمسة ايام استطاعت ان تلقى كلمة للاحباء الذين جاؤوا من مسافات بعيده للاستماع اليها، ثم رجعت الى سان فرانسيسكو. ان الهيئة الثلاثية التي عينها المحفل المركزي لمراقبتها طلبت منها الراحة التامه بقدر المستطاع وعدم بذل الجهد الجهيد في الحركة والتحدث ولكن مارثا لم تستطع ان تلبي طلبات الهيئة، ان نار العشق الالهي كان مشتعلا فيها، لأنها خلقت لخدمة أمرالله، وكان يدور بخلدها دائما هذا البيان الرفيع من جمال المبارك في الكتاب الاقدس: قوموا على خدمة الأمر في كل الأحوال، انه يؤيدكم بسلطان كان على العالمين محيطا.[12]

ومع اقتراب موعد رحيلها من الولايات المتحدة كانت مارثا روت قد اقتربت من الخامسة والستين عاما وقد إبيض شعر رأسها وأصبح وجهها شاحباً والنظارة عليها ولكن نورانيتها مازالت مشعة، ونفسيتها مازالت عالية. كانت خادمة مخلصة للامر الالهي بكل المعايير. قامت السيدة/لوسي مارشال بمساعدتها في الترتيب لسفرها وتم إعداد السبعة عشر حقيبة التي ضمت غالبيتها على كتب ونشرات امرية بالاضافة التي امتعتها الشخصية، وعند ميناء سان فرانسيسكو ودّعها حوالي خمسون شخصا وهم يلوّحون بالورود ويرددون  الله ابهى.

الى اليابان والصين:

أبحرت السفينة المقلة لمارثا روت ميناء سان فرانسيسكو متجهة الى اليابان. في الطريق توقفت لعدة ساعات في جزر الهاواي ومن ثم استمرت في السير. في السفينة القت مارثا كلمة امام الركاب عن الدين البهائي بعد أن استأذنت قائد السفينة وبالصدفة كان من بين الركاب مبشرين مسيحيين الذين اعترضوا عليها. تعتبر زيارتها لليابان هي الرابعة من نوعها ولكن هذه المرة لم تكن اكنس الكسندر موجودة حيث ذهبت لزيارة الاماكن المقدسة في حيفا وعكا.

أمضت هذه المرة ثلاثة اسابيع في اليابان قضتها في عقد اللقاءات المختلفة والقاء الكلمات في كل من كبوتو و اوساكا و نارا ثم كوب كما اتصلت بالاسبرانتو وزارت غالبية البهائيين الذين تواجدوا في اليابان انذاك. من النفوس التي كانت تواقه لزيارتها السيد/توري وهو بهائي ياباني ضرير سبق ان التقى بها عام 1930 م. التقت مارثا به وبزوجته وكان اللقاء فرصة جيدة لاشعال نار العشق والايمان فيهما لدرجة انهما اتيا الى الميناء لوداع مارثا روت عندما غادرت اليابان يوم 26 يونيو 1937 الى شانغهاي بالصين.

في شانغهاي اتصلت بالاحباء وبدأت نشاطها في توزيع الكتب والنشرات ولكن ذلك لم يدم طويلا حيث كانت الاجواء السياسية بين الصين واليابان ملبّده بالغيوم وبدأت طبول الحرب تدق. تقول مارثا روت في ذكرياتها انه: في يوم 8 اغسطس هاجمت الطائرات اليابانية  مدينة شانغهاي واخذ الاف الناس في الفرار وجاء الكثير منهم الى المنطقة التي كنت اسكن.

وما أن هدأت الاجواء، حتى استطاعت مارثا ان تلتقى بالاحباء يوم 10 اغسطس وتطمئن على صحتهم، ولكن يوم 14 اغسطس أعادت الطائرات اليابانية غاراتها بشده على شانغهاي وبالقرب من مكان سكنها وبدأت تقرأ دعاء يا اله المستغاث وكانت الضربات شديدة لدرجة ان كل المنطقة كانت تسمع اصوات القنابل والفزع ولكن لله الحمد انتهى ذلك اليوم على خير. ولكن في يوم 16 اغسطس اغارت الطائرات اليابانية مرة اخرى مما بدى ان شبح الحرب سوف لن ينتهى في القريب العاجل، وبالتالي اخذت مارثا تفكر في الرحيل عن الصين.

وما ان ذهبت الى الميناء لشراء تذكرة حتى رأت ان الوف الاجانب اخذوا يتدافعون للحصول على أي مكان وعلى اقرب باخرة للهروب من الصين. وبصعوبة بالغة استطاعت الحصول على مكان في اول باخره كانت تغادر الى الفليبين. وقد تركت خلفها في شانغهاي حقائبها التي كانت تحتوي على عشرات الكتب والنشرات. وفي الباخرة تحدثت مع شخص امريكي كان يجلس بجوارها. وبالصدفة اتضح ان هذا الشخص كان يعرفها وقال لها: انا اعرف الدين البهائي جيدا، لقد استمعت اليك عندما تحدثت عن البهائيين في جامعة ميتشغن. وبعد رحلة طويلة وشاقه وصلت الى مانيلا عاصمة الفليبين. وما ان وصلت العاصمة حتى اصابتها زلزال هو الاسوأ من نوعه، وكان الناس في ذعر وخوف، ولهذا قررت السفر إلى الهند حيث تستطيع ان تخدم الامر الالهي بشكل أسهل وافضل.

الى سيلان والهند:

وصلت السفينة الحاملة لآية الحب والانقطاع مارثا روت الى كولومبو عاصمة السيلان (تعرف اليوم باسم سيريلانكا) في اواسط شهر سبتمبر عام 1937 أمضت حوالي شهر في كولومبيا وانشغلت بفعالياتها التبليغية ثم توجّهت الى بومبي بالهند حيث رحب بها الاحباء اجمل ترحيب، وهي ثاني رحلة لها بعد رحلتها الاولى عام 1930. في بومبي قابلت الصحف المحلية والمسئولين الحكوميين وتحدثت معهم عن الامر المبارك، ثم ذهبت الى سرات وبونه ومن هناك الى كلكتا في شرق الهند ومن ثم الى رانجون عاصمة بورما.

في بورما أعادت ذكرياتها الماضية عندما زارتها اول مرة عام 1930 وألقت يومياً محاضرات في اماكن متفرقة في كل من رانجون وماندلاي وتونغو وديداناو. في ماندلاي حظيت بلقاء سيد مصطفى رومي من أشهر المبلغين البهائيين في تلك المنطقة لفتره طويلة من الزمن، وقد بلغ عمره الان 94 سنة وقد تأثر هذا الرجل من خلوص وانقطاع وعشق ومحبة مارثا روت لدرجة انه عندما ودعها في محطة القطار كانت عيناه دامعة لفراقها.

في 23/11/1937 رجعت الى كلكتا وشاركت في المؤتمر الهندي الثاني للثقافة وايضا مؤتمر الاديان. في مدينة تريفاندروم شاركت بالمؤتمر التاسع للشرق الهندي الذي عقد ما بين 20  – 22 ديسمبر 1937 ثم مؤتمر الثيوصوفيين في مدراس. وقد رافق مارثا في هذه المؤتمرات السيد اسفنديار بختياري عضو المحفل الروحاني المركزي للهند وبورما وهو نفس الشخص الذي رافقها اثناء رحلتها عام 1930م. كانت مارثا روت تؤمن بان في شبه القارة الهندية هناك الوف النفوس المستعده والارض خصبة جدا لتبليغ امر الله فيجب الاستفاده من هذه الفرص وكانت تحث الاحباء ايضا على ذلك.

في مدينة اجمر Ajmer تعرفت على الدكتور فوزدار وزوجته شيرين، ومن هناك قرّروا السفر سويا الى السيلان للتبليغ. وصلوا كولومبو بحرا يوم 5/1/1938 وامضوا عشرة ايام في السيلان وهي ثاني رحلة لها خلال اربعة اشهر. في كولومبو العاصمة ألقى الثلاثة محاضرات في جامعتها وفي مدرسة راماكريشنا وفي نادي النساء وفي اندية الروتاري. تحدثت مارثا في الاذاعة وايضا السيده شيرين فوزدار التي تحدثت عن الشاعرة طاهرة. رجع الدكتور فوزدار الى عمله في المستشفى في الهند ولكن مارثا وشيرين ذهبتا الى مدراس. في 31/1/1938 تم الترحيب بهما رسمياً كضيوف شرف لحكومة حيدر اباد في ديكان Deccecn ثم ذهبتا الى بونه المدينة التي سمتها مارثا الجنة البهائية وقد رتب لها الاحباء هناك استقبالا حافلاً. استطاعت في بونه ان تلتقي بالصحفيين والمدرسين والقضاة والمحامين، وقد تحدثت معهم جميعاً عن التعاليم المباركه واهميتها لهذا اليوم. كانت لها زيارة الى المدرسة البهائية في بونه حيث استُقبِلت بحفاوة بالغة وتحدثت مع اطفال المدرسة الذين تذكروها فيما بعد لسنوات طويلة. في يوم 9 فبراير عام 1938 رجعت مارثا وشيرين الى بومبي وهناك اكتشفت مارثا ان حقائبها التي تركتها في شانغهاي بالصين بسبب الحرب قد وصلت الى بومباي بواسطة مسافر وقد فرحت من ذلك وخاصة ان هذه الحقائب تحتوي على عشرات الكتب والنشرات البهائية. ومن بومبي ذهبت لوحدها الى سرات Surat لانهاء بعض كتاباتها، وفي سرات أقامت في منزل السيد / وكيل وهو اول هندوس يؤمن بالامر المبارك. وفي منزله انهت كتابها (الطاهرة) وهو عبارة عن قصة حياة قرة العين الطاهرة، تلك السيدة العظيمة في التاريخ البابي. بعد سنوات عديدة جاءت دوروثي بيكر الى هذا المنزل وتذكرت مارثا روت بكل محبة وتقدير.

في 15 مارس 1938 رجعت مارثا الى بومبي وكان أمامها برنامج مزدحم من المحاضرات واللقاءات، وقد طلبت من فتاة اسمها مِهْرانگيز لم يتجاوز عمرها الثالثه عشر ربيعا ان تساعدها في لقاءاتها. هذه الفتاة أصبح إسمها فيما بعد مِهْرانگيز منصف، وقد التقت فيما بعد بحضرة ولي امر الله وقامت بفتح احدى المناطق في خطة العشر سنوات. تصف مِهْرانگيز مارثا بالكلمات التالية: كانت قصيرة القامة ضعيفة الشكل وعيناها زرقاوتين متلألئتين مع شعر ابيض قصير … كانت تقضي وقتها في الفندق في تلاوة الادعية والمناجاة سواء حفظاً او من الكتاب … كانت ذات روحانية عالية وكأنها على اتصال مباشر مع حضرة بهاء الله. في احدى المرات قالت مارثا لمِهْرانگيز: انني ادعو الله ان تكوني مبلغة شهيرة وتسافري الى شتى بقاع العالم. ردت عليها مِهْرانگيز بصورة عفوية: لا اعتقد ذلك … ان امكانياتي محدودة ولكن شاءت الاقدار ان تصبح مهرانگيز منصف من فرسان أمر حضرة بهاء الله وتسافر الى اكثر من مائة بلد وقطر وجزيرة ومنطقة بالعالم، وسطر اسمها في اللوحة الذهبية.

في 18 ابريل عقد مؤتمر حول حوار الاديان في مدينة اندور وقد شاركت فيه مارثا روت بالقاء كلمة حول دور البهائية في القضاء على الفقر، وتم توزيع سبعة الاف نسخة من خطبتها الى الصحف والمجلات. شارك في هذا المؤتمر حوالي الف وخمسمائة مفكر وزعيم ديني من مختلف الاديان والطوائف والمذاهب.

ومن الاحداث المثيرة في هذا المؤتمر ان أحد المتحدثين قدم بحثاً حول ضرورة اختيار دين عالمي واحد تتبناه البشرية، ومن ثم قام احد المشاركين الهندوس وقال: لقد سمعنا كثيرا عن الدين البهائي، انه عالمي وجيد ويمكن ان يصبح عالميا. كان هذا احد نتائج مشاركة مارثا بالمؤتمر.

في 25 ابريل وصلت مارثا روت ومعها شيرين فوزدار الى كراتشي للمشاركة بالمؤتمر السنوي المركزي للهند وبورما، وكانت فرصة جيدة للتعرف على عدد اكبر من الاحباء والاستماع الى اقتراحاتهم ووجهات نظرهم وتشديد ازرهم للمضي قدما في خدمة أمر حضرة بهاء الله. بعد ذلك امضت مارثا روت ثلاثة اشهر في كراتشي للاشراف على طباعة كتابها حول قرّة العين الطاهرة وهو الكتاب الذي باشرت بكتابته منذ عام 1930 واكملته اثناء تنقلاتها المختلفة حول العالم.كانت مارثا روت معجبة بقرّة العين وتاريخها الحافل بالتضحية والفداء، ولهذا قررت كتابة تاريخها وتعريفها للغرب. وفي النهاية صدر الكتاب وطبع منه ثلاثة الاف نسخة ووزع لمختلف الدول والاقاليم. وخلال مدة قصيرة ترجم الكتاب الى اللغات اليابانية والتشيك والأردو والفارسية واستلمت مارثا رسائل شكر وتقدير كثيرة لكتابها هذا.

في 4 اغسطس 1938 غادرت كراتشي الى شمال الهند في رحلة طويلة ومعها مئات النشرات عن الامر المبارك وبصحبة السيد / اسفنديار بختياري. وصلت مارثا مدينة لاهور ومن هناك غادرت الى كشمير عبر جبال هملايا في رحلة متعبة ومليئة بالمخاطر واخيرا وصلت مدينة سريناغر Srinager عاصمة كشمير الصيفية. من الفرص التي اتيحت لها في المدينة هو التحدث في حفل عيد ميلاد الحاكم يوم 19 اغسطس في اجتماع حضره حوالي اربعة الاف شخص على الرغم من اعتلال صحتها ومرضها. ومن كشمير سافرت الى بيشاور ومن هناك الى مقاطعة كوجرات Gujrat حيث قامت بتوزيع مئات المنشورات ومن ثم القت خطابة في قاعة المحاضرات للعاصمة وتسمى Town Hall وحضرها المحافظ وخمسمائة شخص. من المشاهد المؤثرة لهذه الرحلة ان رجلا انجذب كثيراً الى كلمة مارثا روت واشتعل قلبه بمحبة حضرة بهاء الله جاء الى محطة القطار لوداعها ومعه سرير نوم هدية لها لترتاح اثناء رحلتها. ومن هناك ذهبت الى سميلا Simla حيث شاركت في المدرسة البهائية الصيفية التي انعقدت من 19 حتى 30 سبتمبر 1938. أرسل حضرة ولي امرالله برقية الى المشاركين في هذه المدرسة وطمأنهم بنجاحها نظراً لوجود مارثا روت بينهم. بعد ذلك رجعت مارثا الى لاهور والقت عدة محاضرات في جامعاتها ومن ثم تنقلت بين المدن التالية: امريتسار – جولوندر – لوديانا – باتيليا – دلهي – على جاره – اكرا – رامبور – لكنو – كونبور – الله اباد – بينارس – باتنا وكلكتا. وفي كل مدينة كان تتحدث عن الامر المبارك في صالتها الرئيسية او في جامعتها المعروفة وكان عدد الحضور بالمئات وبالالاف أحيانا. فقد كانت مصداقاً لما تفضل به جمال القدم : إياكم أن يمنعكم الدنيا وما فيها عما قدّر لكم في سماء عز رفيعاً. فأشدد ظهرك لنصر الله وأمره ثم لخدمة الله وعزّه وكذلك يامرك قلم العز من جبروت  عزّ منيعا. [13]

بتاريخ 16 ديسمبر 1938 وصلت الى بومبي لتبدأ بتوديع الهند لاخر مرة. أمضت اسبوعين في بومبي ودعت فيها اصدقائها وصديقاتها واعضاء المحفل الروحاني المركزي الذين جاؤوا من شتى انحاء الهند لتوديع مبلغة امر الله الشجاعة والفذة مارثا روت. كان الوداع الاخير للجميع. ومن بومبي استلمت البرقية التالية من حضرة المولى: ان الهند في هياج ويقدمون لك الشكر والحمد والاعجاب. ان انجازاتك في تلك الخطة، تاريخية وعظيمة.

أعدّ لها الاحباء حفلة وداع يوم 27 ديسمبر والقت فيها مارثا كلمة رقيقة تاثر معها الجميع حيث قالت في نهاية كلمتها: اذا صعدت قبلكم الى الملكوت الابهى، سوف أطلب من بهاء الله ان يسمح لي بالدعاء لكم واذا اتيتم الى ذلك الملكوت عسى أن أكون موجودةً لأرحّب بكم أجمل ترحيب مثلما رحبتم بي عندما أتيت الى بلدكم الجميل وبعد اقامة خمسة عشر شهراً في الهند أبحرت فخر المبلغين والمبلغات يوم 29 ديسمبر 1938 متجهة الى استراليا ونيوزيلندا وكانت تخطط للسفر بعد ذلك الى جزر الهاواي ومن ثم الى بلدها الولايات المتحدة.

استراليا ونيوزيلندا الرحلة الاخيرة:

وما أن أبحرت الباخرة المقلة لآية الانقطاع وقرة عيون اهل البهاء مارثا روت حتى بدأت تأخذ قسطا من الراحة على السفينة على غير عادتها. لقد وصل سنها الى ستة وستين عاما وبدأت اعراض المرض والالم واوجاع الظهر تظهر عليها أكثر من قبل، ولكن كانت فرصة للتأمل والتفكر والعودة للذات. تذكرت شريط حياتها المليء بالانجازات والانتصارات وما تخلله من انتكاسات، وايضا تاييدات الملأ الاعلى التي نزلت عليها اينما ذهبت وحلت. كانت واثقة دوماً من هذا البيان المبارك في الكتاب الاقدس: انا معكم في كل الاحوال وننصركم بالحق انا كنا قادرين. من عرفني يقوم على خدمتي بقيام لا تقعده جنود السموات والارضين.[14] تذكرت ان الملكه ماري قد توفيت في يوليو عام 1938 وانها الان في رحاب الملكوت الابهى وفي محضر جمال القدم ولربما ستلتحق بها قريبا. وعبر المحيط الهندي كانت تنصت الى رقرقة الامواج بكل هدوء وتتأمل المستقبل وعظمة أمر حضرة بهاء الله، ومتى ستلبي جموع البشرية نداءه العظيم ؟ ان الامر المبارك كان حياتها وشرفها وعزها. لم تكن تألوا جهدا في نشر النفحة المسكية الالهية الى كل وضيع وشريف. هذا الايمان كان وحده قادراً على تخفيف الامها الجسمية وكأن حضرة ولي أمرالله يخاطبها بهذا البيان الاحلى: نعمَ العزم هذا العزم، ونِعمَ القيام هذا القيام، بهما استفرحت أرواح الملأ الاعلى واهتزت هياكل الصافين والكروبين في الافق الابهى وارتفع صوت التهليل والتكبير في بحبوحة الفردوس خلف حرم الكبرياء.[15]

حطت سفينتها ميناء برث Perth في غرب استراليا في يناير عام 1939 وأُرسِلَت لها عشرات الرسائل الترحيبية. وما ان وصلت حتى بدأت بالقاء الكلمات والخطب يوميا وكان لها مقابلة اذاعية ايضا. وبعد اقامة اسبوعين في برث اخذت نفس السفينة وغادرت الى مدينة ادليد Adelaide التي وصلتها يوم 28 يناير عام 1939م. بعد القاء محاضرة واحدة انتابتها الام شديدة في الظهر مما اضطَرتها ان تلغي باقي برنامجها وتراجع طبيباً متخصصاً. وعلى الرغم من ان مارثا روت كانت لا تحب الاطباء وتخاف منهم لانهم  – وكما تقول – كانوا عثرة امام برامجها التبليغية، ولكن هذه المرة وافقت على مراجعة الاطباء والاستماع اليهم وخاصة ان الطبيب الذي سيعالجها جاء من مسافة 1200 ميل على حسابه لعلاجها وكان اسمه الدكتور ستانلي بولتن. جاء هذا الطبيب ومعه اجهزته الخاصة واستطاع خلال عدة جلسات ان يخفف من الام ظهرها ويعطيها الراحة التي كانت بحاجة اليها. عندها قالت مارثا روت: انها معجزة حضرة بهاء الله ان ياتي بهذا الطبيب لكي يعالجني واستطيع بعدها ان اكمل سفري الى استراليا وتسمانيا ونيوزيلندا. وما ان سمع البهائيون نبأ مرضها حتى بدأوا بالدعاء لها بالشفاء. وفعلا تحسنت صحتها بشكل كبير واستطاعت العودة لنشاطها.

في محطة الاذاعة لمدينة ادلايد القت كلمة حول قرة العين الطاهرة باعتبارها من عظماء النساء في ايران وقد استمع اليها ألوف الناس وتعرفوا على جناب الطاهرة التي لم تكن معروفة في استراليا. ومن ثم ذهبت الى هوبارت Hobart ولونسستن Launceston وتسمانيا Tasmania  وخلال اسبوع واحد ألقت ستة عشر محاضرة. وفي شهر مارس وصلت الى سيدني اشهر مدن استراليا ومركزها التجاري. أقامت مارثا شهراً واحداً في هذه المدينة وألقت خلالها أربعين محاضرة في اماكن مختلفة منها بالاضافة الى عدة لقاءات اذاعية. شعرت بعدها ان قواها قد استنزفت في سيدني بعد هذا الجهد الكبير ولكنها كانت دوما سعيدة لانها كانت تحمل رسالة عظيمة تستحق كل هذا العناء والتعب.

بعد ذلك غادرت بحراً الى نيوزليندا ومعها السيده / شارلوت موفت Charlotte Mofitt   ووصلت العاصمة اوكلاند يوم 26 ابريل عام 1939 وسكنت في احدى فنادقها. جاءها الكثير من الاحباء لزيارتها والاستماع اليها. من ضمن زائريها كان بعض الاحباء الذين التقت بهم عام 1925 في حيفا. وما أن استجمعت قواها حتى بدأت فورا واعتبارا من 27 ابريل بالقاء الخطب في الاندية والكنائس والمنظمات والجامعات بمعدل خطبتين في اليوم الواحد. قال احد المستمعين اليها: ان روحها كان نباضاً ومشعاً بالايمان والحيوية وكان مسيطراً على جسمها النحيل الذي اخذ بالذبول تدريجيا.

من آخر الخطب التي القتها كانت بعنوان الدلائل البهائية حول الحياة بعد الموت وقد القتها في حظيرة القدس بأوكلاند وحضرها جمّ غفير من الاحباء وغيرهم وعلى الاخص اولئك الذين فقدوا أقرباءهم أو أعزاءهم. استحسن الجميع الخطبة وتأثروا بها. وكانت مارثا روت نفسها اكثر المعجبين بكلمتها وقد تأثرت لدرجة انها قالت: هذه الخطبة كانت اكثر الخطب التي أعجبت بها في حياتي. وكأن الله قد اوحي اليها بانها ستدخل قريبا الى ذلك الفضاء اللامتناهي والملكوت الالهي. وقبل يوم واحد من رحيلها عن اوكلاند تحدثت في كنيسة خاصة للصينيين وكانت سعيدة ان عدداً كبيراً منهم جاؤوا للاستماع اليها. وفي نهاية الجلسة ردّت على اسألتهم وصافحت كل واحد منهم، وتحدثت معهم بعضا من اللغة الصينية التي تعلمتها عندما كانت بالصين. وفي يوم الرحيل كان لها لقاء وداعي مع أحباء أوكلاند في المركز البهائي وتم تسجيل صوتها وهي تتلو لوح احمد. وبعد انتهاء اللوح قالت للجميع: الله ابهى.

الى هاواى  الرحلة الاخيرة

وفي يوم 29 مايو 1939 ركبت السفينة المتجهة الى سان فرانسيسكو وفي معيتها الدكتور ستانلي وماريت بولتن وهما متخصصان في امراض الظهر والاعصاب ليكونا معها عند الحاجة، حيث أن الامها في الظهر والرقبة والساق اخذت بالتزايد. تحركت السفينة المقلة لمشعل الحب والوداد مارثا روت لتشق عباب البحر في المحيط الهادي متجهة الى الولايات المتحدة الاميريكية وبعد حوالي اسبوع وصلت السفينة الى ميناء هونولولو عاصمة جزر هاواي. كان المحفل الروحاني لهنولولو قد أعدّ لها برنامجاً حافلاً من اللقاءات والمقابلات. وجاء عدد من الاحباء الى الميناء لاستقبالها، وبعد انتظار طويل تفاجأ الاحباء ان رأوا مارثا روت تنزل من السفينة بصعوبة بالغة حيث انها لم تستطع المشي سوى بمساعدة شخصين، وكان آثار التعب والمرض واضحاً عليها. من الاشخاص الذين استقبلوها وساعدوها في الميناء السيدة/هنريت فرم حيث اخذت مارثا بسيارتها الى منزل كاثرين بالدوين ووضعتها في الفراش فوراً، وتم الغاء العديد من برامجها. استدعى أحد الاطباء للكشف على حالتها واتضح انها تعاني من مشكلة في العصب الوركي الذي يتحكم في اعصاب الانسان. استطاع الطبيب أن يخفف من الامها بواسطة الادوية ونوع خاص من العلاج وطلب منها الراحة التامة. وخلال راحتها استطاعت مارثا ان تكتب رسالة الى روي ويلهلم تشرح فيها حالتها. والجدير بالذكر ان مارثا روت كانت تعاني من ورم سرطاني في ثدييها منذ اكثر من عشرين سنة ويبدو ان هذا الورم قد اثر في عظامها وظهرها ورجلها في الاونة الاخيرة بالاضافة الى مشكلتها في الاعصاب مما تسبب في الامها واوجاعها.

كانت مارثا روت تأمل أن تتحسن صحتها بسرعة وتتشافى حتى تكمل رحلتها الى سان فرانسيسكو ثم أوريغون ثم نيواورلنيز ثم الى امريكا الجنوبية تحقيقا لرغبة حضرة ولي امر الله. ولكن صحتها بدأت بالتدهور السريع بين الحين والاخر وكانت صديقتها هنريت على علم بخطورة صحتها، وما كان يخفف آلامها هي جرعات من المسكن مورفين طبقا لتوصية طبيبها الدكتور لارسن.

في يوم 10 اغسطس عام 1939 صادف ذكرى ميلادها السابع والستون وبهذه المناسبة استلمت عشرات رسائل التهنئة والبرقيات وباقات الورد والهدايا من شتى بقاع العالم. كما قدم لها كيكة عيد الميلاد عليها تسعة شموع استطاعت اطفائها ولكن لم تستطع أكل الكيك. كانت كاثرين بالدوين Katherin Baldwin تشعر بالسعادة الغامرة لوجود مارثا روت في منزلها حيث كانت تعرف جيداً المقام العالي والرفيع لهذه المبلغة الفذة في تاريخ الامر المبارك. لربما شعرت مارثا روت ان أيامها الاخيرة قد دنت وكانت دوما تتجة في صلاتها لحضرة بهاء الله طالبة العون والعناية والرحمة والمغفرة منه. من الادعية التي كانت تتلوها بينما كانت هنريت تضع يدها على جبينها الوضاح الدعاء التالي: من انهار كافور صمديتك فاشربني يا الهي ومن اثمار شجرة كينونتك فاطعمني يا رجائي، ومن زلال عيون محبتك فاسقني يا بهائي وفي ظل عطوفة ازليتك فاسكني يا سنائي، وفي رياض القرب بين يديك سيرني يا محبوبي، وعن يمين عرش رحمتك فاجلسني يا مقصودي…. والى سماء عنايتك عرجني يا باعثي …[16]

في الايام الاخيرة من حياتها المجيدة استطاعت مارثا روت ان تكتب رسالة بمساعدة هنريت الى اقربائها واصدقائها. وتعتبر هذه الرسالة اخر كلمات صدرت عنها اعربت فيها عن شكرها العميق لكل من ساعدها على اداء مهامها طيلة هذه السنوات. وكانت تتحدث عن عظمة وجلال الحياة بعد الموت وكأنها ستدخل ذلك الرحاب اللامتناهي قريبا.

في عصر يوم 28 سبتمبر عام 1939م وبكل هدوء وسكينة عرج روحها الطاهر الى رحاب الملكوت الابهى لتنضم الى ثلة الاولياء والاصفياء وتكون في محضر جمال الاقدس الابهى.

وصل خبر وفاتها الى حضرة ولي أمرالله، وتأثر الهيكل الانور بشدة من هذا المصاب الجلل حيث لم يكن متوقعاً، وقد أرسل برقية إلى أحباء الدول الشرقية باللغة العربية، وقليلاً ما كان حضرته يرسل برقيات باللغة العربية جاء فيها: الورقة الزكية، المبلغة الشهيرة، آية الانقطاع، مشعل الحب والوداد، مثال الشجاعة والوفاء، قرة عيون اهل البهاء، مارثا روت قد َصعدت الى أعلى رفارف الخلد. استقبلها اهل الملأ الاعلى بنداء، مرحى بكِ يا فخر المبلغين والمبلغات، أحسنتِ أحسنتِ يا من أنفقتِ بكليتكِ انجذاباً إلى ملكوت رب الايات البينات، طوبى الف طوبى لكِ من هذا المقام المشعشع المتعالى الباذخ المنيع. بلغوا عموم الاحباء لزومية انعقاد اجتماعات خصوصية في عموم الولايات مدة اسبوعين كاملين إعزازاً لمقامها الكريم.

وإلى أحباء امريكا أرسل حضرته برقية بالانجليزية، وفيما يلي ترجمتها:

إن الاف المعجبين بمارثا روت في شتى بقاع العالم البهائي ينوحون ويندبون معي من النهاية الدنيوية لحياتها البطولية. إن جنود الملأ الاعلى يهتفون بقدومها وتبوّئها المقام الرفيع الذي يليق بها. لقد انضمت الى كوكبة الخالدين. ان اجيال المستقبل سيضعونها في طليعة ايادي امر الله المبعوثة بارادة حضرة عبد البهاء في القرن الاول البهائي. كما ان الجيل الحالي من المؤمنين والمؤمنات سيعتبرونها أول وأينع ثمرة لعصر التكوين لدين حضرة بهاء الله. يرجى ترتيب جلسة تأبين لائقة في مشرق الاذكار على شرف من أعطت مجداً خالداً للجامعة البهائية الامريكية. سأشارك المحفل المركزي بتكاليف بناء ضريحها الذي يقع في مكان يعتبر ملتقى الشرق بالغرب حيث امضت في هاتين الجهتين (الشرق والغرب) كل حياتها وصرفت جلّ طاقاتها في تبليغ أمره العزيز.

ومع رحيل مارثا روت من عالم الناسوت يكون المجتمع البهائي العالمي قد فقدَ عنصراً هاماً من عناصره، ومبلغاً شهيراً شجاعاً فذاً قلما يلد التاريخ مثلهم، وستذكرها الاجيال القادمة على انها خير من فدت نفسها في سبيل حضرة بهاء الله وكرّست حياتها لتبليغ أمره الكريم. لقد كانت مثالا للشجاعة والوفاء، و شعاعاً من النور اضائت تلك الفترة من تاريخ أمرنا العزيز. لقد دخلت التاريخ من أوسع ابوابه، وحقاً ما كان يليق بها تبوّؤها لمقام أيادي أمرالله بعد وفاتها واستحقاقها لقب قرة عيون اهل البهاء وفخر المبلغين والمبلغات وآية الانقطاع ومشعل الحب والوداد. لقد أطرى حضرة ولي أمرالله على المهاجرين والمبلغين في سبيل الله أمثال مارثا روت بهذا البيان:

التكبير والبهاء والتحية والثناء عليكم وعلى الذين سمعوا وأجابوا نداء ربهم ومحبوبهم وتركوا أوطانهم ونسوا أوكارهم وفدوا راحتهم ورخائهم وسرعوا إلى الاقاليم القاصية والاقطار الشاسعه في مشارق الارض ومغاربها حباً لله وخالصا لوجهه واتباعاً لأمره وإعزازاً لدينه الأعز الاوعر الافخم الاقدس الخطير.[17]

 

 

[1]         منتخباتي از آثار حضرت بهاء الله – فقرة 157 ص 215

 

[2]         مكاتيب عبد البهاء – المجلد 3، ص 26

 

[3]       الكتاب الأقدس، الآية 53.

 

[4]         منتخباتي از آثار حضرت بهاء الله – فقرة 136 ص 190

 

[5]         منتخباتي از آثار حضرت بهاء الله فقرة 129 ، ص 179

 

[6]         من مكاتيب عبدالبهاء – صفحة 140

 

[7]         من كتاب ( ظهور عدل الهي ) صفحة 17

 

[8]         منتخباتي از آثار حضرت بهاء الله، فقرة 157 ، ص 215

 

[9]         المجموعه المستندية ، مقام المرأة في الامر الالهي

 

[10]       آثار قلم أعلى ،  مجلد 4 ، ص 131

 

[11]       من المجموعه المستندية – مقام المرأة في الامر الالهي

 

[12]       الكتاب الاقدس – الآية 74

 

[13]       لئالئ الحكمة، مجلد 1، ص 34

 

[14]       الكتاب الاقدس، الآية 38

 

[15]       من توقيع نوروز 110 بديع

 

[16]       مناجاة، فقرة 165، ص 173.

 

[17]       من توقيع نوروز 110 بديع

 

أيادي أمرالله دوروثي بيكر 1898–1954

في لوح لحضرة عبد البهاء مخاطباً إحدى إماء الرحمن تفضل بقوله المنيع: سترين قريباً ظهور نساء قانتات مشتعلات، يكونن مصدراً للفخر والاعجاب، بل حيرة الاخرين، يصبحن مثل الشمعة المضيئة وينطقن بالحجة والبرهان.  نعم ان دوروثي بيكر Dorothy Baker هي إحدى هذه النساء القانتات التي كانت آية الانقطاع ومشعل الحب والوداد ورمزاً للخلوص والتفاني في خدمة أمر رب العالمين، ومبلّغة قديرة ومروّجة شهيرة ومن ايادي أمرالله المميّزين التي اعتبرت أمرالله حياتها ومماتها وشرفها وعزّها.

في شهر فبراير عام 1954 كانت السيدة لولي ماثيوس Loulie Mathews وهي من المؤمنات الامريكيات في محضر حضرة ولي امرالله في حيفا وقدّمت له كتاباً بعنوان ليست كل البحار فيها لئالئ عندئذ، فجأة تأثر الهيكل المبارك، وتغيّر وجهه، ونظر الى البحر، وجال ببصره نحو الافق البعيد ثم قال: ولكن البحر المتوسط متبرك بوجود لؤلؤه هي دوروثي. حقا كانت دوروثي بيكر لؤلؤة ثمينة وجوهرة فريده عشقت الامر المبارك وفدت نفسها في سبيله عندما سقطت طائرتها في البحر يوم 10 يناير 1954 واستقر جسمها النحيف في قعر ذلك البحر المتلاطم، وبذلك تحقق أملها ورغبتها في الفداء في سبيل حضرة بهاء الله. لقد كان أملا أعربت عنه في عدة مراسلات، منها رسالة كتبتها في عام 1952 الى أيادي أمرالله اغنس الكسندر Agnes Alexander قالت فيها: أرجو منك أن تدعو الله أن يفديني في سبيل مولانا في حيفا، وأن يساعدني الله في أية خدمة يعيّنه لي مولاي حتى أوفق في تخفيف العبء الثقيل الملقاه على عاتقه. وفي رسالة اخرى الى أمة البهاء روحية خانم كتبت تقول: عندما تقومين بزيارة ضريح الجمال المبارك ادعي الله ان يفديني في سبيل ولي امره العزيز.

ولادتها وطفولتها:

ولدت دوروثي بيتشر بيكر في مدينة نيووارك بولاية نيوجرسي في 21 ديسمبر عام 1898 عن والدين هما هنري ولويلا بيتشر ولم يكونا بهائيين عند ولادتها ولكن جدتها الن بيتشر وتسمى ايضا ماما بيتشر Mother Beecher كان لها دور كبير في تربيتها وغرس الروحانية في وجودها. عندما كان عمرها في اواخر العشرينات حلمت جدتها (والدة والدها) بظهور شخص عظيم سيحقق السلام والعدالة في العالم. وبعد اربعين سنة عندما سمعت عن أمر حضرة بهاء الله ورسالته وقرأت بعض الالواح والمناجاة، تذكرت ذلك الحلم الذي راودها منذ زمن طويل وتيقنت ان جمال القدم هو الموعود ثم امنت بالامر المبارك وكرّست حياتها في سبيله. راسلت حضرة عبد البهاء، وفي عام 1897م استلمت أول لوح بافتخارها من حضرة المولى ثم استلمت بعد ذلك عشرة الواح على الاقل. وعندما شعرت إلن بيتشر إن حفيدتها دوروثي لها استعداد روحاني وقابلية لسماع كلام الحق، قامت بتربيتها والتركيز عليها. في احدى المناسبات قالت: سوف أدرّب دوروثي لتصبح ابنتي الروحية. سوف لن أكون وفيّه لحضرة بهاء الله اذا لم تتلقّ حفيدتي التعاليم البهائيه الحقيقية. لقد كانت هناك رابطة روحية متينة وقوية بين  الجدة وحفيدتها. واثناء تواجد حضرة عبد البهاء في نيويورك عام 1912 قامت إلن بيتشر بزيارته ومعها حفيدتها دوروثي. كانت دوروثي عمرها اربعة عشر ربيعا وخجولة ومحرجة في اجتماع يضم الكبار ودوماً تذكر عندما دخلت الغرفة التي كان يتحدث فيها حضرة المولى ومدى توترها وحرجها. ولكن ابتسم لها حضرة المولى واشار اليها بالمجئ الى جانبه. كانت في البداية دوروثي خائفة لربما يتحدث معها حضرة عبد البهاء وتشعر بالاحراج ولكن ما ان تجاهلها حضرة المولى حتى شعرت بارتياح. تقول دوروثي: انني لا اتذكر ما قاله حضرة عبد البهاء في تلك الليلة، ولكن تلك الليلة كانت ليلة ولادتي الروحية. ومنذ ذلك الحين اعتبرت نفسها بهائية. تركت دوروثي الغرفة دون ان تتحدث مع حضرة عبد البهاء ولعدة ايام كانت خواطر تلك الليلة الميمونة ماثلة امام عينيها. أخيراً كتبت رسالة الى حضرة المولى اعربت فيها عن رغبتها في خدمة الامر المبارك، وقد ردّ عليها برسالة كتبت بخط يده المباركه وقد ترجمها أحد امناء سره الى الانجليزية اعرب فيها الغصن الاعظم بأنه سيدعو الله ان يحقق لها رغبتها. هذه الرسالة موجودة الان في دار الاثار التابعة للمحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة.

بعد عدة ايام من ذلك اللقاء في نيويورك طلب حضرة المولى لقاء إلن بيتشر وقد جاءت فورا للاجتماع بحضرته. وما ان دخلت الغرفة حتى رأت الغصن الاعظم يتحدث الى جمع من الناس ولكن قطع حديثه ونظر اليها بصوره مفاجئة وقال لقد طلبتك لاقول لك ان حفيدتك هي ابنتي، عليك ان تدربيها من اجلي. ومع هذا التأكيد من حضرة المولى قامت إلن بيتشر بتربية دوروثي بيكر بكل ما تملك وزرعت بذور الايمان في قلبها، وسقتها بمحبتها ورأفتها طوال السنوات القادمة وكانت حقا الام الحقيقيه لها.

فترة الصبا والشباب والزواج

أمضت دوروثي فترة دراستها الابتدائية والمتوسطة في ولاية نيوجرسي وكانت دائما متفوقه في دروسها وتميل الى الادب وحفظ الشعر وترغب بدراسة الحقوق في الجامعة مثل والدها، ولكن والدها هنري بيتشر كان يعتقد بإن عمل المحاماة لا يتناسب مع طبيعة المرأة ولهذا نصحها بالانضمام الى كلية المدرسين نظرا لطبيعة دوروثي المليئة بالمحبة وصفاء السريرة. واخيرا انصاعت لرغبة والدها ودخلت كلية المدرسين وكانت تسمى  Montclair Normal School. وفي الكلية تعزز ايمانها بحضرة بهاء الله والامر المبارك على الرغم من ان والديها لم يكونا مؤمنين بعد، كما تعمقت اكثر واكثر في فهم وادراك المبادئ والتعاليم  الالهية. الجدير بالذكر ان دوروثي كان لها شقيق اسمه ديفيد ويكبرها سنّا ولكنه كان في وادٍ اخر وذي مزاج متغير وبعيد كل البعد عن المسائل الروحانية وكان يستهزأ مما تؤمن به دوروثي. تقول لويلا والدة ديفيد ودوروثي بأن على الرغم من ان ديفيد كان الابن البكر في الاسرة ولكن كنت اعتبر دوروثي الابنه الاولى حيث كانت تعلوه في الاخلاق والروحانية والخصائل الحميدة. في عام 1919 تخرجت من كلية المدرسين.

في صيف عام 1920م استطاعت دوروثي المشاركه في المدرسة الصيفية التي اقيمت في گرين إيكر  Green Acre وكانت محظوظة بلقاء العديد من الاحباء المميزين والمشهورين في الولايات المتحدة انذاك، وقد ازداد اشتعال قلبها بنار محبة الله وانقلب فؤادها شوقا وانجذابا للآثار المباركة والامر الالهي. في 18 اغسطس من نفس السنة وقد بلغت احدى وعشرين سنة كتبت رسالة الى حضرة عبد البهاء في الاراضي المقدسة طلبت منه الاذن لزيارته في حيفا وزيارة الاماكن المقدسة التي طالما كانت تتمناه وتحلم به. ولكن عندما أرسلت الرسالة لم تتلقَّ الرد حتى جاءها الخبر الحزين في السنة التاليه بوفاة حضرة المولى مما أغرقها في بحر من الاحزان والآلام.

في شهر يونيو عام 1921 تزوجت من شخص يدعى فرانك بيكر Frank Baker وكان يكبرها بتسع سنوات وله طفل وطفله من زوجته التي توفيت نتيجة مرض عضال وكان يعمل مديراً لمصنع ينتج الخبز ومشتقاته ولم يكن حينها بهائياً ولكنه أعجب بشخصية وروحانية دوروثي، وقد قبلته حيث وجدت فيه الوعي والبلوغ والسكون والطمأنينة. كانت واثقة ان حضرة بهاء الله سوف ينور قلبه بنور الايمان والايقان وهذا ما حدث فعلا فيما بعد. استطاعت دوروثي ان تسكن قلب زوجها وكانت سعيده بزواجها، وقد قبلت تربية الطفلين وهما ساره وكونراد بصدر رحب وكانت تقرأ لهم اجزاء من تاريخ النبيل وتثير الروحانية والبطولة والفداء في قلوبهم. كما استطاعت تدريجياً ان تزرع شجرة الايمان في قلب زوجها وتسقيها بحكمتها ومحبتها وكانت تشجعه على خدمة الانسانية من كل لون وعرق ودين. كما كانت تعقد جلسات تبليغ في المنزل وتسعى جاهدة لنشر وترويج الكلمة الطيبة الالهية.

بعد سنة من زواجها انتقلت من مونتكلير في نيوجرسي الى منطقة بافالو Buffalo في نيويورك. وفي شهر مايو عام 1922م رزقت بأول طفله لها وسميت وينفرد لويز Winifred Louise وفي شهر نوفمبر من عام 1923 رزقت بطفل اخر اسمته وليام William او بل Bill كما يسمى، وكانت تقضي وقتها في تربية اربعة اطفال في منزل كبير نسبياً وبه دوران وخمس غرف. والجدير بالذكر ان جدتها ماما بيتشر Mother Beecher كانت تشغل وقتها في التبليغ والتجول في مناطق مختلفه من الولايات المتحده وكندا ففي عام 1925 شاركت بالمؤتمر السابع عشر الذي عقد في گرين ايكر Green Acre واستمرت في السفر في انحاء متفرقة من الولايات وهي في سن الخامسة والثمانين وكانت تحكي عن ذكرياتها مع حضرة  عبد البهاء.

من المآسي التي وقعت خلال السنوات الاولى من اقامتها في بافالو بنيويورك هي وفاة سارة ابنة فرانك نتيجة مرض سرطان الدم عام 1926 وكان عمرها آنذاك ثلاثة عشر عاما. هذه الفاجعة كانت لها الاثر الكبير في نفسية والدها وفي دوروثي ايضا حيث غرقا في بحر من الالام والاحزان، علماً بأنه قبل عدة اشهر من وفاتها قالت لدوروثي انها بهائيه وتؤمن بالجمال المبارك. من المعجزات التي رأتها دوروثي بعينها بعد عدة ايام من وفاة سارة تروى لنا حكاية تقول فيه بأنه كان الوقت منتصف الليل واثناء نومها في منزلها نفذ نورٌ شديد الضياء لغرفتها فاستيقظت بينما كان فرانك نائما. ذهبت لتبحث عن مصدر النور فوجدته يأتي من نافذة الغرفة فذهبت لتغطيته بالستائر ولكنها فوجئت بسارة تأتيها من خلال هذا النور المضيء وهي في غاية السرور والحبور، والابتسامة تعلو شفتيها، وهي في حالة رقص وعلى رأسها اكليل من نبات الكرمة واللبلاب وفي يدها سلة بها ورود وأزهار. نظرت سارة الى دوروثي وقالت: أنا سعيده جداً، انظرى لدي كل الزهور التي اردتها. ثم نظرت الى والدها الذي كان نائما وقالت لدوروثي: قولي له انني سعيدة جدا.  ثم استدارت ورجعت الى الخلف وهي ترقص و ذهبت في نفس مسير النور المضئ ثم اختفت. أيقظت دوروثي زوجها فرانك فوراً وقالت له ما رأت وهي في حالة ذهول، وتيقنا بأن الله العلي القدير سيشمل سارة العزيزة برحمته وعفوه وإحسانه وهي الان لا شك في بحبوحة الفردوس في الملكوت الابهى مع المقربين والمخلصين.

هذه الحادثة أدّت الى تمسك وانجذاب دوروثي وزوجها فرانك بالروحانية بشكل اكبر والايمان بقدرة الله وقوته وجبروته في جميع مناحي الحياة. قاما بإعداد وعمل جلسات تبليغ   (فاير سايد) في منزلهم بصورة منتظمة. وفي نوفمبر عام 1926 انتخبت دوروثي عضوه بدلا من عضو آخر في المحفل الروحاني لمنطقة بافالو في نيويورك ويعتبر هذا اول منصب اداري تتبوّؤه وعمرها لم يتجاوز الثامنه والعشرين عاماً.

تطورها الروحاني وفعالياتها:

كانت لوفاة سارة ابنة فرانك صدمة كبيره على نفسيته، وهو الذي سبق ان فقد زوجته الاولى ووالدته، ولهذا أراد ان يتخطى ويبتعد عن المكان الذي يحمل فيه ذكريات مؤلمة. قام لعدة اسابيع بالبحث عن مكان مناسب يستطيع فيه ان يبني مصنعا لانتاج الخبز ومشتقاته وأخيراً اختار مدينه ليما  lima بولاية اوهايو Ohio وانتقل اليها بعد تسعة اشهر من وفاة ابنته. خلال السنة الاولى من اقامتهم في ليما لم تكن هناك جامعة بهائيه في تلك المدينة ولهذا انضمت دوروثي الى جمعية المعلمين واستغلت وقتها في فعاليات هذه الجمعية وكان لها دور فعال في اعادة تنظيمها وتحريك فعالياتها. انتخبت دوروثي رئيسه لهذه الجمعية وقد نظمت عدة اجتماعات لاولياء الامور وأمهات الاطفال والمدرسين لتبادل وجهات النظر نحو افضل طريقة لتعليم ابنائهم.

وخلال السنة الاولى من اقامتهم في ليما جاءتهم ماما بيتشر Mother Beecher وقد بلغت الثامنة والثمانين عاما وظهرت عليها علامات الضعف والهرم. طلبت منها دوروثي الاقامة معها في المنزل وقد فرحت ماما بيتشر من هذا الطلب وخاصة انها ستكون بالقرب من حفيدتها وستعمل على تشجيعها للقيام بالخدمات الامرية وتنمية القوى الروحانية المكنونة فيها. في بداية عام 1929م ذهبت دوروثي الى الطبيب للفحص العام، وبعد الكشف على الصدر قال لها الطبيب إنها تعاني من مرض السل. كان الخبر كالصاعقة لها ولكنها تمالكت نفسها نتيجة ايمانها الراسخ بالارادة الالهية وبالقضاء والقدر ولم تبح بهذا الخبر لزوجها. ومع حلول ايام الرضوان ذهبت الى شيكاغو للمشاركة في مؤتمر الوكلاء السنوي وايضا للتأمل والتفكر ولتجديد الروحانية. شاركت بكل عزيمة في جميع جلسات المؤتمر خلال الايام الثلاثة ودعت الله العلي القدير ان يمنحها الصحة والعافية. ويروى بانه في إحدى الجلسات دعيت للحديث وقد تقدمت بعد أن تم تعريفها بأنها حفيدة ماما بيتشر، لقد إنسابت منها الكلمات بشكل جميل وطلق وقد أعجب الجميع بمقدرتها على الحديث والتعبير والروحانية التي كانت منبعثة منها ويمكن اعتبار هذه اول مرة تتحدث فيها دوروثي في اجتماع بهائي عام على الرغم من عدم اعدادها له.

عادت دوروثي الى ليما وهي مصممة على ان تقضي ما تبقى لها من عمر في سبيل محبة جمال القدم وخدمته وعبوديته. كانت ترغب بكتابة قصص للاطفال حول تاريخ الامر المبارك ولكن مراجعها في هذا الخصوص كانت شحيحه، ولهذا قامت بكتابة رسالة الى حضرة ولي امر الله لأول مرة طالبة الهداية والتوجيه وقد جاء الرد من حضرة المولى بتاريخ 6 يونيو 1929 حيث ذكر :

زميلتي العزيزة، هناك تاريخ شامل وموثق للامر المبارك تم إعداده باللغة الفارسية وأعتقد انه بالمستقبل القريب سيتم ترجمته. انني واثق بانه حالما يتم طباعته فسوف تحصلين على ما تريدين الى حد كبير. سأتلو الدعاء والمناجاة في العتبات المقدسة حتى توفقي في أداء خدمات مميزه للامر العزيز الالهي. أخوك الحقيقي شوقي.

بداية قامت بترتيب جلستين للتبليغ وكانت الدعوة مفتوحه للجميع وشارك فيه عدد قليل استمعوا لأول مرة الى رسالة حضرة بهاء الله وتعاليمه واحكامه ولكن التجاوب لم يكن مشجعا ولهذا قررت دوروثي ان تقضي اوقاتها بدراسة الاثار المباركة مع جدتها ماما بيتشر. كانت تقضي يوميا ساعة كاملة بقراءة ودراسة الواح جمال المبارك والغصن الاعظم ومعها جدتها وكانت تستمتع بقراءة لوح أحمد تحديداً.

ومع مرور الوقت بدأت صحتها تتحسن، وشعرت بالنشاط والقوة تعودان لأطرافها، ويبدو ان مرض السل الذي شخّصه الطبيب قد تلاشى. لا شك ان الادعية والمناجاة وعناية ورحمة حضرة بهاء الله كانت شاملة لحالها، وان الله العلي القدير قد استجاب لرغبات العديد من الذين تلوا الادعية لصحتها وعافيتها.

في اكتوبر عام 1929م بدأ الاقتصاد الامريكي بالتراجع والانحسار، ثم بدأ الكساد يعم جميع الولايات وهو ما عُرفَ بالكساد العظيم في تاريخ الولايات المتحدة. العديد من الشركات والمؤسسات اعلنت افلاسها، وفقد الاف الناس وظائفهم، ولكن وضع فرانك كان أفضل نسبيا من غيره حيث حافظ على مخبزه الذي كان شريكا فيه ولم يفقد وظيفته بل ساعد الاخرين في محنتهم وقدم لهم العون والمساعدة مما أكسبه سمعة طيبة بين الناس. استمرت دوروثي في دراسة الاثار المباركة والتاريخ البهائي بكل شغف ورغبة كانت تعد نفسها لخدمات في المستقبل. من أولى المدارس البهائيه الصيفية التي شاركت فيها كانت المدرسة التي عقدت في شهر اغسطس عام 1931 بمنطقة لوهلن وقد القت محاضرة عن تاريخ النبيل لاقت استحسان المشاركين لما كانت تتميز به من طلاقة اللسان وسعة المعرفة رغم صغر سنها، ولهذا طُلِب منها التدريس للسنتين التاليتين. وفي عام 1933م عملت كمرشدة وموجّهة للشباب في لوهلن حيث كانت تحث الشباب وتشجعهم على القيام بالخدمة من خلال قراءتها ودراستها معهم لكتاب مطالع الانوار، ومن خلال شرحها لحياة الصناديد والابطال الاوائل في التاريخ البابي والبهائي كانت تلهب مشاعر الشباب وتجعلهم يفتخرون بانتمائهم الديني ويتمنون التضحية في سبيل محبوبهم الابهى.

في شهر اغسطس عام 1932 توفيت جدتها ماما بيتشر Mother Beecher عن عمر ناهز الواحد والتسعين عاماً  وقد أرسل حضرة ولي امر الله رسالة تعزية لدوروثي عبّر فيها عن حزنه الشديد بوفاة جدتها، وأشار الى مناقبها وإيمانها والخدمات الجليلة التي ادتها للامر الالهي ودعاها الى الاقتداء بها. كانت ماما بيتشر المشجعة الرئيسية لدوروثي في اداء خدماتها، وكانت تعتبرها مثالا يحتذى بها ولهذا تركت بصماتها في حياتها حتى ايامها الاخيرة.

استمرت دوروثي في ممارسة حياتها العادية في مدينة ليما Lima بولاية اوهايو وكانت تركز نشاطها على تربية الاطفال والشباب والتبليغ حتى بلغ عدد الاحباء البالغين تسعة وعشرين شخصا ولهذا قرروا تأسيس محفل روحاني وقد تأسس المحفل في رضوان عام 1934 وكانت جهود دوروثي واضحة في لمّ شمل الاحباء وترغيبهم وتشكيل المحفل. خلال عامي 1934 و 1935 بدأت دوروثي بالتحرك خارج مدينتها ليما Lima وكانت مدينة ديترويت Detroit اول محطة لها حيث القت سبع محاضرات ثم ذهبت الى مدن اخرى مثل: كليفـلاند Cleveland وميلواكي Milwaukee وديتون Dayton وبتسبرغ Pittsburg وكانت محل ترحاب الجميع نظراً لما كانت تتمتع به من روحانية مميزة، ونفاذ بصيرة، وطلاقة لسان وخاصة انها الان قد تعمّق فهمها للامر المبارك، وحصلت على المعاني الثمينة المكنونة في الاثار المباركة. في شهر نوفمبر عام 1935 رغبت بزيارة العتبات المقدسة وارسلت رسالة بهذا الخصوص الى حضرة ولي امر الله وجاءها الجواب التالي:

اشكرك كثيراً على خدماتك المميزة للامر الالهي خلال السنوات الاخيرة. انك حقا تستحقين زيارة حيفا لتضعي جبين الشكر على العتبة المقدسة الالهية. ولكن أعتقد يقيناً بأنه اذا قدّمتِ جزءا من مصاريف السفر الى الصندوق المركزي لتغطية العجز الموجود فيه سيكون خدمة للمصالح الامرية وفيه ثواب كبير. ساتلو الدعاء والمناجاة نيابة عنك في العتبات المقدسة. اطمئني. شوقي.

وعلى الرغم من خيبة أملها في زيارة أشرف بقاع الارض، ولكن سعادتها كانت غامرة في مساعدة الصندوق المركزي حيث كانت الحاجة ماسة انذاك لاتمام مشرق اذكار ويلمت في شيكاغو، وقد ثمّن حضرة المولى في رسالة اخرى موقفها، وأكد لها بأدعيته المستمرة في الاعتاب المنورة العليا حتى يشملها الطاف وعنايات جمال القدم. في صيف عام 1936 شاركت مرة اخرى في المدرسة البهائية في لوهلن، وهذه المرة تحدثت عن أهمية التوكل على الله والانقياد لاوامره، مشجّعة الشباب في الاقتداء بالابطال الاوائل في الظهور البابي والبهائي. كانت تثير المشاعر وتُلهب الافئدة بما تملكه من فصاحة اللسان وقوة التعبير ممزوجة بوقار وهيبه هي من سمات المؤمنين. كما كانت تؤمن إيماناً شديداً بما تقوله وتعتقد به، ولهذا كان يتأثر كل من يستمع اليها. وفي نفس السنة شاركت ايضا في المدرسة البهائية في گرين ايكر، وألقت عدة محاضرات لاقت استحسان الجميع. من المشاركين في هذه الدورة كان لويس جريجوري Louis Gregory الذي منح لقب أيادي أمر الله بعد وفاته عام 1951 وقد استحسن خطب السيدة دوروثي بيكر وأطرى عليها كثيراً. وتجدر الاشارة أيضاً ان في بداية عام 1937 تم لقاء في نيويورك بين دوروثي بيكر ومارثا روت على مائدة افطار وكلتا الشخصيتين كانتا من نخبة المؤمنات القانتات اللاتي ضربن أروع الامثلة في الخدمة والتفاني وانكار الذات بل وخدمة البشرية، واللاتي اشار اليهنّ حضرة عبد البهاء في لوحه المبارك: فاطمئني يا أمة الله ان هذا الفضل سيشرق انواره على الغرب ويبعث الله تلك النفوس بقوى روحانية وتأييدات ملكوتية وهمم عالية ووجوه نورانية وقلوب رحمانية وارواح سبحانية وسنوحات وجدانية، ان ربك لمقتدر قدير.

في اواسط شهر مارس عام 1937 كتبت دوروثي مرة اخرى رسالة الى حضرة المولى شرحت فيها الفعاليات التي قامت بها والاوضاع السائدة في مدينتها ليما Lima حيث ان رجال الدين المسيحيين بدأوا بالمعارضة وايجاد جو غير ودّي معها وقاموا ايضا بتحريك مجموعة من الناس ضد الفكر البهائي وطلبت في نهاية رسالتها الدعاء لها في الاعتاب المقدسة، وأيضا السماح لها بالزيارة إن أمكن. جاءها الرد بتاريخ 3 ابريل 1937 من سكرتير حضرة ولي أمر الله الذي أعرب بالنيابة عن حضرته عن عميق فرحه وسروره من تقدم وتطور الامر المبارك في منطقتها، وأيضا عن جزيل شكره وامتنانه عن الخدمات العظيمة التي تؤديها والتي تعتبر تاريخية وسوف تأتي أكلها في الوقت المناسب. كما أكدّ حضرة المولى بانه سيتلو الدعاء  المناجاة في الاعتاب المقدسة حتى يشملها حضرة بهاء الله بالطافه وعنايته وتأييده وتوفيقه. وأشار بأنه سيذكر أحباء مدينة ليما في أدعيته ويطلب لهم التأييد والتوفيق. وفي نهاية الرسالة رحّب سكرتير حضرة ولي امر الله بالنيابة عن حضرته بقدومها الى الاراضي المقدسة خلال الخريف القادم. وقد كتب حضرة المولى بقلمه المبارك في نهاية الرسالة سطرين أعرب فيها عن ترحيبه بقدومها للاراضي المقدسة وتقديره لخدماتها العظيمة.

رسالة حضرة ولي أمر الله وسكرتيره كانتا لهما أشدّ التأثير في معنويات دوروثي ونشاطها، فقد شدّت العزم على المضي قدماً في تبليغ أمرالله ونشر النفحة المسكية الالهية والاستعداد لزيارة الاعتاب المقدسة، على الرغم من قيام رجال الدين ضدها ومحاولة إيذائها. من مظاهر هذا الايذاء انهم قاموا بإيعاز الناس في كل مكان بعدم الشراء من مخبزهم الذي كان يعرف باسم Blezol Bakery لأن صاحبها بهائي. هذه المقاطعة من قبل الكثير من المواطنين كان لها الاثر على الوضع المالي للمخبز وفي أسرة بيكر مما استدعت دوروثي ان تعيد النظر في زيارتها لحيفا وعكا. كما سرت الشائعات في ليما بأن أسرة بيكر من مناصري النازية الالمانية وأحيانا انهم شيوعيون. الجدير بالذكر أن في رضوان عام 1937 وفي وسط هذه المشاكل انتخبت دوروثي بيكر عضوة في المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة وكندا وكانت مفاجأة لها حيث انها لم تكن تتوقعه. والان عليها ان تسافر لكي تحضر جلسات المحفل المركزي وتبلغ امر الله، وتذهب إلى حيفا ووضعها المادي لا يسمح لها بكل ذلك، ولهذا شرحت الوضع لحضرة ولي امر الله وفضّلت تأجيل سفرها الى العتبات المقدسة الى أن يتحسّن وضعها المادي وجاءها الرد بتاريخ 17 سبتمبر 1937 حيث أشار سكرتير حضرة المولى وكان عندئذ حسين رباني (شقيق حضرة المولى)، الذي نقض العهد فيما بعد، بما يلي: ان حضرة شوقي افندي قد قرأ رسالتك المؤرخة 12 اغسطس وتأسف للمشاكل المالية التي أحاطت بالسيد بيكر مما أدى الى تأجيلك لسفرك للاعتاب المقدسة. كما انه مدرك تماماً بحجم الضغوط عليك والتزاماتك المتنوعة….. إن ولي أمر الله يأمل ان تجدي الوقت والوسيلة في المستقبل لتحقيق رغبتك القلبية بزيارة العتبات المقدسة، وفي نفس الوقت عليك ان تركزي على الفعاليات الامرية في امريكا وتساهمي بشكل فعال في تحقيق خطة السبع سنوات  … ان حضرة المولى يدعو في المقامات المقدسة حتى تشملك التأييدات الالهية، وطلب مني أن أخبرك وأخبر السيد بيكر بتحياته القلبية. وفي نهاية الصفحة كتب حضرة ولي امر الله بخط يده: لقد تأسفت من وقوع المشاكل المختلفة التي منعتك من تحقيق رغبتك القلبية. إن قرارك حكيم وفي محلّه وأدعو الله أن يوفقك في خدماتك في حقلي التبليغ والادارة الامرية والذي سيهبك الالطاف والبركات التي تضاهي زيارتك للاعتاب المقدسة. وعندما تسنح لك الظروف فإنك مرحب بك لزيارة البقاع التي تعتبر عزيزة ومقدسة على قلب كل فرد بهائي.

وعودة مرة اخرى الى ليما، مدينة دوروثي بيكر، نرى ان الكثير من سكانها قد أساؤوا فهم حقيقة الدين البهائي وخاصة بعد ان ذاع صيت أسرة بيكر انها بهائيه وتعتنق ديانة تخالف في اصولها وفروعها الديانة المسيحية. ولهذا في مبادرة من دوروثي لرفع سوء الفهم هذا اتصلت بمسئول الاذاعة المحلية وطلبت منه السماح بالحديث في الراديو لفترة وجيزة عن حقائق الدين البهائي و تعاليمه وأحكامه. كان الرد ايجابياً، حيث تمت الموافقة على إعطاء البهائيين خمس عشرة دقيقة ثلاثة ايام بالاسبوع للتحدث عن دينهم. ومع اذاعة أول برنامج بدأ الناس يتساءلون ويطرحون اسئلة متنوعة، واستلمت الاذاعة اسئلة كثيرة عن الامر المبارك واخذ الاحباء بالرد عليها بكل حكمة وكياسة. كما قامت دوروثي بنفسها بكتابة مقالات امرية متنوعة وقراءتها في الاذاعة منها البشارات الانجيلية حول اليوم  الادعية واستعمالاتها  الحياة الروحية للانسان وقد ادى كل ذلك الى رفع سوء التفاهم حول الامر المبارك لدى سكان ليما وتخفيف وطأة العداء.

فعالياتها اثناء عضويتها في المحفل المركزي:

كما ذكرنا، في رضوان عام 1937 انتخبت دوروثي بيكر لعضوية المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة وكندا، وقد تزامن ذلك مع طرح اول مشروع للسبع سنوات لحضرة ولي أمرالله. كانت حريصة في جلسات المحفل المركزي أن يكون المشروع هدفها، وتعمل جاهدة على تنفيذه، بل إنها كانت في الطريق الى جلسة المحفل المركزي واثناء قيادة السيارة او في القطار تقرأ لوح أحمد تسع مرات وتؤمن بتأثير الدعاء في حل المشاكل ونزول التأييد الالهي. إن إنتخابها لعضوية المحفل المركزي كان حدثاً لم تكن تتوقعه ولكنه كان حافزاً لها في بذل المزيد من الهمة في خدمة أمر حضرة بهاء الله، وخاصة إن صيتها قد ذاع، وشهرتها قد اتسع بين عموم الاحباء، قامت خلال الاعوام 1937–1938–1939 بالسفر الى ولايات متعددة والقاء خطب مهيجة ومؤثرة. مثلا في ولاية نيويورك كان لها لقاءات في كل من: جنيفا – جامستون – بفالو – روشستر – الباني – وبرمنجهام. ومن الولايات التي زارتها وكان لها جلسات تبليغ مع الاحباء وغيرهم ولايات واشنطن واوريغون وكاليفورنيا ونيومكسيكو وتكساس واريزونا وميسوري وكانساس وإيلينوي ووسكانسن ومتشيغن وبنسلفانيا ونيوجرسي وميريلاند وفلوريدا وجورجيا وكنتكي وتينيسي ومين وكونكتكت وماساشوتس. كما كان لها زيارة إلى كندا حيث زارت كل من: كيوبك وانتاريو ونيوبرونزويك وبريتش كولومبيا.

والجدير بالذكر انه خلال النصف الاخير من عام 1939 مرض ابنها بل Bill مرضاً شديداً ألزمه الفراش مما جعلها تقطع رحلاتها التبليغية في الولايات المختلفة وترجع مدينتها لتكون بالقرب منه. كانت تقرأ له دعاء الشفاء وتُحمّمه يومياً، فكانت الام الحنون لابنائها حتى تماثل ابنها للشفاء في اكتوبر عام 1939.

بتاريخ 31 مارس 1939 وللمرة الثالثة كتبت الى حضرة ولي أمرالله تطلب زيارة الاعتاب المقدسة، جاءها الجواب من سكرتير حضرة  المولى (حسين رباني) بتاريخ 2 يوليو 1939 أعرب فيه عن تقديره وشكره للخدمات العظيمة التي تؤديها للأمر الالهي وعلى الاخص تعليم الاطفال. اما بالنسبة لزيارتها لحيفا وعكا، فقد أعرب حضرة شوقي افندي عن ترحيبه وايضا شوقه وشغفه للقائها، ولكن نظراً للاضطرابات السياسيه التي سادت الاراضي المقدسة آنذاك والمناوشات بين العرب واليهود فقد رأى حضرة المولى تأجيل السفر حتى تستقر الاوضاع. وفي نهاية الرسالة، خطّ حضرة ولي أمرالله بيده المباركه بعض الكلمات أعرب فيها عن تقديره لخدماتها في مجالي التبليغ والادارة، وعن أسفه لان الظروف الحاليه غير مواتية للزيارة ولكن طمأنها بأن هذه الغيوم ستنقشع وتستقر الاوضاع وستتحقق رغبتها وأملها بإذن الله.

ومع بداية الأربعينيات استمرت دوروثي في فعالياتها التبليغية والادارية ولكن يبدو ان عضويتها في العديد من المؤسسات واللجان البهائية قد أثّرت في فعالياتها التبليغية. هذه العضوية تمثلت في: المحفل الروحاني المحلي لمدينة ليما، المحفل الروحاني المركزي، لجنة الطفل المركزية، لجنة بين الامريكتين، لجنة وحدة الاجناس المركزية، لجنة المدارس الصيفية المركزية، لجنة التبليغ الاقليمية لولاية اوهايو وانديانا وبنسلفانيا ولجنة الجلسات العامة المركزية.

كانت لها جولات وصولات تبليغية في الكليات والمعاهد الجامعية والمدرسية حيث إتضح لها إن ذلك مؤثر في الطلبة والجامعيين وهم يمثلون شريحة كبيره من المجتمع الامريكي ويتقبلون الافكار والعقائد الجديدة. زارت جميع الجامعات في ولاية نورث وساوث كارولينا وفي ولاية جورجيا والمدارس في وست فرجينيا وفلوريدا وايضا في كليات ولاية كنتاكي وتينسي. وبتشجيع من حضرة ولي أمرالله سافرت دوروثي في خريف عام 1941 الى جنوب غرب الولايات المتحدة وتحدثت بكل شجاعة وطلاقة وروحانية في سبعة وعشرين مدرسة في ولايات: كانساس، اوكلاهوما، تكساس ونيومكسيكو وقد تضمنت مدارس بعض الاقليات. شرحت للجميع حقائق أمرالله وتعاليم ومبادئ جمال القدم السمحة ودعوته لتأسيس السلام العالمي وتحقيق العدالة الالهية. بشّرت الجميع بمجئ اليوم الموعود وتحقق الوعود الالهية. كانت شخصية مميزة ومحبّبه أمام كل من قابلها وتحدثت معها. كانت واثقة من بيان جمال المبارك: بلغ أمر مولاك إلى كل من في السموات والارض. إن وجدت مقبلا فأظهر عليه لئالي حكمة الله ربك فيما ألقاك الروح وكن من المقبلين … تالله الحق من يفتح اليوم شفتاه في ذكر اسم ربه لينزل عليه جنود الوحي عن مشرق اسمي الحكيم العليم وينزلن عليه اهل ملأ الاعلى بصحاف من النور وكذلك قدر في جبروت الامر من لدن عزيز قدير.[1]

ويمكن القول بانه خلال الاعوام 1940–1941–1942 بلغ عدد الكليات والمعاهد والمدارس التي زارتها وتحدثت فيها اكثر من مائة كلية ومعهد. كانت لها ردود فعل مختلفة في هذه الكليات والمعاهد، فمنهم من أطرى عليها واثنى على كلماتها وافكارها ومنهم من لم يعتن بكل ذلكِ. قال مدير كلية كنتاكي Kentucky State College بانه خلال ادارته للمعهد لثلاثة عشر سنه لم يؤثر فيه متحدث ويلهب مشاعره بقدر الكلمة التي القتها دوروثي بيكر، بل ان غالبية المستمعين أعجبوا حقاً بما قالتها والافكار التي طرحتها. جاءها نفس الاطراء ايضا من مدير جامعة Bowling Green Business ومن مدير جامعة Vanderbilt.

تروي لنا السيدة/هلن ارشامبولت وهي بهائيه تسكن مدينة بوسطن والتقت بدوروثي عدة مرات بأن دوروثي قالت لها مره بانها عندما كانت تواجه الناس والمستمعين في جلسة كانت ركبتاها ترتشعان من رهبة اللقاء والحديث ولكن قبل الشروع كانت تقرأ لوح احمد عدة مرات طالبة التأييد والعون من الجمال المبارك. وبعد انتهاء حديثها كانت تشعر بان هناك قوى روحانية تحيط بها من جميع الجهات وتسرى في جسمها وخاصة عندما تشاهد الجمهور يقف لتحيتها والثناء عليها. كانت مؤمنة بان حضرة بهاء الله هو الذي وهبها قوة الكلمة والنطق.

تقول دوروثي إن أهم خطبة القتها في حياتها كان في ليلة 22 ايار عام 1944 في صالة مشرق اذكار شيكاغو اثناء الاحتفال بذكرى مرور مائة عام على اعلان دعوة حضرة الباب. وقد دعيت لهذا الاحتفال مع اخرين للتحدث عن الدين البهائي وكانت الصالة قد امتلأت بالحضور ومن بينهم زوجها فرانك. كانت دوروثي اولى المتحدثات في الجلسة واعقبها السيد/هوراس هولي Horace Holley الذي كان عضوا بالمحفل الروحاني المركزي انذاك ثم الدكتور هاري الن Harry Allen. كلمة دوروثي كانت مميزة بكل المعايير، حيث اعدت لها جيداً نظراً لاهمية الحدث التاريخي بالاضافة الى بلاغتها وطلاقتها بالحديث مما اضفى جوا من الروحانية على المؤتمر حاز على استحسان الجميع. كلمتها كانت عن تتابع الظهورات السماوية وتحقق الوعود والبشارات الالهية بظهور حضرة الباب وحضرة بهاء الله، كما تحدثت عن حياة انبياء أولي العزم العظام في العالم وكيف ان دعوتهم كانت سببا في تأسيس حضارات ومعالم ظلت عبر الدهور والاعصار. نشرت كلمتها في مجلة World Order التي توزع في الولايات المتحدة وطبعت ايضا في نشرة اخرى. بعد الاحتفالات ذهبت الى الفندق التي كانت تقيم فيه أميليا  كولنز Amelia Collins وهي فرحة ومستبشرة وفي غاية السعادة لهذا الحدث التاريخي بهدف التعبير عن فرحتها الغامرة لاميليا. هذا هو حال عشاق الجمال الابهى، مشاعل حبه وحملة امانته. وفي يوليو عام 1944 تحدثت دوروثي ايضا في مؤتمر اخر اعد لنفس الهدف لمندوبي خمس دول من امريكا الجنوبية لم يستطيعوا المشاركة في المؤتمر الاول.

رحلاتها خارج الولايات المتحدة

كانت دوروثي منذ صغرها مشتعلة بنار محبة الله، وكان العشق الالهي ومحبة جمال القدم مسيطراً على وجودها وكيانها، ولهذا كانت تستغل أي فرصة في سبيل خدمة امره العظيم. وعلى الرغم من زواجها وانجابها للاطفال ومشاغل الحياة اليومية ولكن مع كل ذلك لم يثنها شيء عن هدف أسمى وغاية أعلى. استطاعت أن تربى ابنتها لويز Louise وابنها بل Bill احسن تربية حيث غرست بذرة الايمان في قلوبهما واصبح شغلها الشاغل خدمة امر جمال القدم مثل والدتهما. في عام 1940 بلغت لويز ثمانية عشر ربيعا، وبدلا من ان تذهب الى الجامعة قررت ان تخدم امر الله وتذهب الى امريكا الجنوبية وخاصة ان لجنة الهجرة المركزية قد اعلنت عن حاجتها الى مهاجرين الى تلك المناطق. كان قرارها هذا محل دهشة وسعادة والديها اللذين رأيا ان ابنتهما قد تحولت فجأة من طفلة مراهقة إلى إمرأة ناضجة تضع خدمة أمر الله نصب عينيها.

كانت لويز على دراية باللغة الاسبانية الى حد ما، ولكن عليها ان تقوّي لغتها قبل السفر حتى تخدم الامر المبارك بشكل افضل. ولهذا شرعت بالانضمام الى دروس التقوية وايضا دراسة السكرتارية لربما يفيدها في امريكا الجنوبية. في اوائل شهر يناير عام 1943 سافرت لويز الى مدينة بوغوتا Bogota في كولومبيا واستقرت هناك ولم يمض وقت طويل حتى لحقتها والدتها دوروثي في شهر ديسمبر، وقبل وصولها كولومبيا استلمت برقية من حضرة ولي امرالله يطمأنها بادعيته الحارة لتوفيقها. ويبدو ان لغة لويز الاسبانية قد تحسنت بشكل كبير، أما دوروثي فكانت معرفتها باللغة الاسبانية محدودة، ولهذا بدأت لويز بترجمة كلمات وخطب والدتها في الجلسات العديدة التي عقدت في بوغوتا واماكن اخرى. وبعد عدة اشهر في بوغوتا سافرت دوروثي ومعها ابنتها لويز الى مدينة بارانغويلا Barranguila في كولومبيا لزيارة الاحباء وقبل مغادرتهما كولومبيا الى فنزويلا ارسلت رسالة الى لجنة الهجرة تلخص فيها فعالياتها حيث أشارت إلى وجود ستة أحباء في بوغوتا وتنظيم جلستي تعمّق معهم بمشاركة من إبنتها لويز وايمان شخصين جديدين ودراسة توقيع حضرة ولي امر الله (دورة بهاء الله).

في فنزويلا أمضت خمسة اسابيع أجرت خلالها عدة لقاءات واجتماعات مع الاحباء والصحافة وغيرهم، وكانت النتيجة إيمان ثمانية أشخاص وتعريف شريحة أكبر من المجتمع الفنزويلي بالامر المبارك. رجعت دوروثي وابنتها الى الولايات المتحدة وفي عام 1945 قررت السفر الى المكسيك تلبية لنداء حضرة المولى لتوسيع واستحكام الامر الالهي هناك. بدأت رحلتها من محطة قطار شيكاغو وكان في معيتها في هذه الرحلة السيدة/كايل ولسن Gayle Woolson التي تروي في مذكراتها ان السيدة اميليا كولنز جاءت الى محطة القطار لتوديعهما وتشجيعهما على القيام بمهامهما العظيمة وقبل الوداع قرأت اميليا لوح الزيارة لحضرة عبد البهاء عن ظهر قلبها بكل خضوع وخشوع مما كان له الاثر البليغ عليهما خلال الرحلة. واثناء الرحلة الطويلة تحدثت مع دوروثي عن (كتاب القرن البديع) God Passes By الذي صدر حديثا من يراعة حضرة ولي أمرالله وتناولا أجزاءاً منه وأعجبا بعظمة وجلال قلم آية الله على الارض وغصنة الممتاز. وصلت دوروثي وكايل الى مدينة المكسيك يوم 21 سبتمبر عام 1945 وكان لها عدة لقاءات مع الاحباء وكانت كلماتها دوما تزيد من روحانية المستمعين وتلهب مشاعر المؤمنين. كان لها دور كبير في لمّ شمل الاحباء وخاصة الذين أعلنوا عن إيمانهم ولكنهم قليلو الحضور. وبعد العاصمة توجهت الى ولاية بويبلا Puebla ثم ولاية فيراكروز Vera Cruz حيث امضت فيهما عدة ايام ثم رجعت الى موطنها. في ابريل عام 1945 جاءت لويز لوحدها الى كاراكاس عاصمة فنزويلا للمساعدة في تأسيس اول محفل روحاني محلي في فنزويلا وقد وفقت في ذلك وظلت هناك حتى فبراير عام 1946 عندما جاءتها والدتها العظيمة ومعها زوجها فرانك لزيارة ابنتهما والاحباء في كاركاس. وكانت الابنة خير مترجمة لوالدتها. ومن ثم سافرت مع زوجها الى جامايكا وكوبا حتى رجعا الى الولايات المتحدة في ابريل عام 1946 مع بداية طرح خطة السبع سنوات الثانية. وما ان اطلع حضرة ولي امر الله على رحلتها هذه حتى ارسل لها رسالة تقدير وثناء وطمأنها بأدعيته القلبية في الاعتاب المقدسة. وبعد عدة اشهر طلبت من حضرة المولى الدعاء لاشخاص معينين في الاعتاب المقدسة، وقد ردت سكرتيرة حضرة المولى روحية خانم بانه سيتلو المناجاة في الاعتاب المقدسة للذين ذُكِرت اسماؤهم وعلى الاخص ابنتها العزيزة لويز حتى تقتدي بوالدتها وتحذو حَذوها. وفي نفس الرسالة كتب حضرة ولي أمرالله بيده المباركة الكلمات التالية:

ايتها الزميلة العزيزة والقيمة: ان اتساع حجم فعالياتك نتيجة طرح الخطة الجديدة سيؤدي الى الكشف عن قدراتك العظيمة التي ميزت خدماتك لأمر حضرة بهاء الله. انني فخور بك وممنون لخدماتك. استمري في اداء مهامك الرائعة التاريخية واطمئني بانني ساستمر في الدعاء لك من أعماق قلبي. أخوك الحقيقي والممنون – شوقي.

تعتبر أمريكا الجنوبية من المناطق التي استهدفت في خطة السبع سنوات الثانية التي طرحها حضرة ولي أمرالله لاحباء امريكا حيث كانت بأمسّ الحاجة الى المهاجرين لتوسعة وتمكين الامر الالهي. يمكن اعتبار مارثا روت ودوروثي بيكر من اوائل الذين زاروا تلك القارة وكان لهم الفضل في اقبال بعض النفوس للامر المبارك. قامت دوروثي بيكر بتشجيع الاحباء على الهجرة، ومن اوائل المؤمنين الذين لبوا نداء الهجرة هما ادموند وميوريل ميزلر Ed & Muriel Miessler  حيث غادرا الولايات المتحدة الى البرازيل بحرا يوم 25 سبتمبر عام 1946 وعاشا هناك بقية ايام عمرهم، وكانا مصدراً لخدمات عديدة في تلك المناطق. في عام 1952 اصبح ادموند عضوا في هيئة معاوني ايادي امر الله لامريكا الجنوبية وفوكلاند. في عام 1947 انضم اليهما مارجوت وبوب Margot & Bob ثم سافرا هذين الاخيرين في عدة رحلات تبليغية الى اوروغواي وبورتوريكو وهندوراس وأصبحا فيما بعد اعضاء في المحفل الروحاني المركزي للبرازيل. لقد كانوا جميعا عشاق جمال الابهى ومن حملة راية التوكل والانقطاع.

في اوائل عام 1947 عاد دوروثي وفرانك الى المكسيك مرة اخرى وانضما الى ابنتهما التي مازالت منشغلة بفعالياتها التبليغية. ذهبوا جميعا الى ولاية Vera Cruz والتقوا بمجموعة من الاحباء هناك ثم ذهبوا الى Puebla ومن ثم الى Jalapa وCoatepec وكثفوا جهودهم في ترويج امر الله حتى استطاعوا في رضوان عام 1947 من تأسيس محفلين في كل من بويبلا
Puebla وكواتبك Coatepec. ومن ثم كتبت دوروثي رسالة الى حضرة ولي امر الله تطلب منه الهداية حول الخطوة التالية وجاءها الجواب من أمة البهاء روحية خانم بتاريخ 21 يونيو 1947 قالت فيه ان حضرة المولى يقدّر ما تقومين به من خدمات… اما بالنسبة لخطتك المستقبلية، البقاء هناك يمكنك الذهاب الى البرتغال … وفي اخر الرسالة وكعادته ذيّل حضرة شوقي افندي الرسالة بعدة جمل جميلة قال فيها: ان الاجيال القادمة ستتذكر وتثني على ما قدمتيه في حقلي التبليغ و الادارة، كما ان الاحباء يقدّرون إخلاصك وإمكانياتك وحماسك المبذول من اجل ترويج المصالح الامرية … ان الامر المبارك في أوروبا بحاجة الى خدّام أمثالك. سأدعو الله ان يؤيدك وابنتك في هذا الميدان الجديد. إطمئني ان المولى شاهد وناظر على اعمالك وسعيد بانجازاتك. شوقي.

حبّاً وعشقا لارادة مولاهم العزيز، وتنفيذاً لرغبته السامية، قامت دوروثي وابنتها لويز بالاعداد للسفر الى اسبانيا واضعين نُصبَ اعينهم ما قاله جمال القدم:

ان الذين هاجروا من أوطانهم لتبليغ الامر يؤيدهم الروح الامين ويخرج معهم قبيل من الملائكة من لدن عزيز عليم. طوبى لمن فاز بخدمة الله لعمري لا يقابله عمل من الاعمال الا ما شاء ربك المقتدر القدير. انه لسيد الاعمال وطرازها كذلك ُقدرّ من لدن منزل قديم.[2]

ونظراً لأن حنين زيارة الاراضي المقدسة مازال نابضاً في قلب دوروثي ورغبتها وشغفها لزيارة مولاها العزيز مازال ساكناً في فؤادها فقد كتبت هي وابنتها رسالة بهذا الخصوص الى حضرة المولى بتاريخ 19 ديسمبر 1947 وجاءها الرد من أمة البهاء روحيه خانم بتاريخ 4 يناير 1948 نيابة عن حضرة ولي امر الله قالت فيه: انه سَعُدَ بقيامها هي وابنتها لتبليغ امر الله في أوروبا وانه سيتلو الدعاء لتأييدها. أما بالنسبة لطلبها بزيارة الاعتاب المقدسة فإنه يفضل ان يؤجل  هذا الموضوع حتى تستقر الاوضاع في فلسطين، وانه سيأتي اليوم الذي فيه تستطيعون المجئ الى الاراضي المقدسة.

وعليه قامت لويز Louise في شهر يناير عام 1948 بالسفر والهجرة الى البرتغال بينما قامت والدتها الماجدة دوروثي بالسفر والترحال في جميع الدول الأوروبية التي ذكرها حضرة ولي امر الله في مشروع خطة السبع سنوات الثانية مثل: بريطانيا، ايرلندا، فرنسا، النرويج، السويد، الدانمرك، هولندا، بلجيكا، لوكسمبرج، سويسرا، ايطاليا، اسبانيا والبرتغال. في جميع هذه الدول عقدت مؤتمرات صحفية تحدثت فيها عن الامر المبارك بشكل مسهب وردت على اسألة الصحفيين ونشرت مقالاتها في الصحف والجرائد. كما التقت بالاحباء والمهاجرين وكانت مشجعة ومحفزة لهم في الاستقرار والاستمرار في خدمة امر حضرة بهاء الله. في شهر مارس/اذار عام 1948 جاءت دوروثي الى البرتغال لزيارة ابنتها العزيزه. والجدير بالذكر ان شابا المانيا كان يسكن ليسبون Lisbon عاصمة البرتغال اسمه هيوبرت ماثايس Hubert Mathias كان قد تعرف على الامر المبارك بواسطة مي ماكسويل وابنتها ماري (روحية) عندما كانت في المانيا قبل اربعة عشر عاماً. في النهاية امن هيوبرت بالامر المبارك وذهب الى البرتغال للسكن. وقد اشادت روحية خانم في رسالة لها الى دوروثي بيكر بوجود هذا الشاب في البرتغال، وعندما جاءت بحثت عنه ووجدته وتعرفت عليه. وشاءت الاقدار ان يعجب هذا الشاب بلويز ويُحبّها من كل قلبه، لِمَا رأى فيها من روحانية وعشق ومحبة وخدمة وصفاء قلب، ونية صادقة، كان يتمناها في المرأة التي سيتزوجها. تم الزواج في شهر مايو عام 1948 وقد فرحت أمة البهاء روحية خانم لدى سماعها الخبر وتمنت للعروسين حياة سعيدة. اول محطة لها في أوروبا كانت اسكتلندا حيث امضت بعض الوقت هناك وكان لها لقاء مع السيدة ايزابل صبرى التي اصبحت فيما بعد عضوة في دار التبليغ العالمية ومن المشاورين العالميين. تروي ايزابل ذكريات جميلة اثناء لقائها معها في أدنبره في شتاء عام 1948م. تقول ان اول شخصين اسكتلنديين آمنا بالامر المبارك هما السيد والسيدة وود Mr. & Mrs Wood وكان ذلك بفضل لقاء دوروثي معهم عدة مرات، حيث أعجبا بشخصيتها وروحانيتها المميزة. واثناء رحلة دوروثي من ادنبرة الى غلاسغو كانت ايزابل معها في القطار وطوال مدة الرحلة كانت دوروثي تتلو الدعاء والمناجاة عن ظهر قلبها وقد دهشت ايزابل من الكَمّ الهائل من الادعية التي تحفظها. بالاضافة إلى أن أكثر أمتعتها كانت عبارة عن كتب ونشرات امرية للاستفادة منها في التبليغ. بعد اسكتلندا ذهبت إلى مدينة برمنغهام في انجلترا للمشاركة في مؤتمر التبليغ المركزي وعندما تحدثت في المؤتمر أعجب الجميع بكلمتها التي لاقت استحسان الحضور حيث شجعتهم على المضي ُقدُماً في خدمة امر حضرة بهاء الله وتحقيق اهداف مشروع خطة السبع سنوات الثانية. بعد ذلك سافرت الى بلجيكا وأمضت أسبوعاً في العاصمة بروكسل أُعِدّ لها لقاء كبير في احدى الفنادق حضره حوالى اربعمائة شخص كان اغلبهم من غير البهائيين. تقول إحدى إماء الرحمن اللاتي حضرن الجلسة بانها (دوروثي) عندما دخلت القاعة كانت تسير كالملكة بكل هيبة ووقار، باسمة الثغر والروحانية تشع منها، ومميزة حتى بلباسها. ثم تحدثت عن مواضيع مختلفة مثل وحدة العالم الانساني والحياة بعد الموت وشرحت التعاليم والعقائد البهائية حول هذين المفهومين بشكل جيد لاقى استحسان الجمهور.

انضم جون روبارتس John Robarts الى دوروثي في وقت لاحق في بلجيكا وشارك معها في بعض الجلسات العامه وكان جون حينها عضوا في المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة وكندا مثل دوروثي. وفي احدى الجلسات العامة كانت دوروثي تدير الجلسة والمتحدث هو جون روبارتس. والجدير بالذكر ان جون روبارتس وزوجته اصبحا فيما بعد من فرسان حضرة بهاء الله Knights of Bahau’llah عندما قاما بفتح بتسوانا التي تقع في جنوب افريقيا. وفي عام 1957 عينه حضرة ولي امر الله ضمن كوكبة ايادي امر الله. كانت لرحلة دوروثي بيكر لبلجيكا نتائج جيدة حيث ترتبت عليها ايمان العشرات بالامر المبارك وتأسيس عدة محافل روحانيه محليه وتوسيع دائرة الخدمات الامرية في هذه الدولة الأوروبية الصغيرة.

بعد الجولة الأوروبية وفي عام 1949 شاركت دوروثي في المؤتمر العالمي للتبليغ الذي عقد في غواتيمالا بامريكا الجنوبية وقد أرسل حضرة ولي امر الله برقية الى المؤتمر اشار فيها إلى أمرين يجب التركيز عليها وهي: توسعة الانشطة التبليغية وإستحكام المحافل الروحانية. وكانت النتيجة طرح خطة لمدة سنتين وتحديد اهداف معينة وتعزيز ثقة المشاركين بولي امر الله وتثبيت حبّهم وولائهم له. وفي إبريل عام 1950 شاركت دوروثي بيكر مندوبة عن المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة في المؤتمر الخاص بدول امريكا الوسطى الذي عقد في السلفادور. وفي شهر مايو من نفس السنة شاركت أيضا في المؤتمر الخاص بدول امريكا الجنوبية الذي عقد في ليما عاصمة جمهورية بيرو. في جميع هذه المؤتمرات كانت تتحدث بلغة ملؤها الحب والروحانية، وفي نفس الوقت واثقة ومصممة في اقوالها واهدافها، وكانت تجذب كل من يستمع اليها. حقا كانت عَلمًا ناصع البياض خفاقاً  يرفرف فوق كل قلاع الحب ويصدق بحقها ما تفضل به جمال القدم بقوله المنيع: قم على خدمة الله ونصره ثم انطق بذكر نفسه بين العالمين ولا تخف من أحد، تالله الحق روح الاعظم يؤيدك في أمر مولاك وروح القدس ينطق على لسانك.[3]

جميع هذه المؤتمرات والانتصارات كانت تصل الى سمع حضرة ولي امر الله في حيفا وكانت تسعد قلبه العطوف وتدمل جراحه وآلامه التي سببها الناقضون للامر المبارك في تلك الفترة من تاريخ امرنا العزيز. بتاريخ 18 فبراير عام 1951 كتبت روحيه خانم رسالة الى دوروثي بيكر بالنيابة عن حضرة المولى أعربت فيها عن تقدير وعرفان حضرته عما تقوم به من خدمات تاريخية فذه في أمريكا الجنوبيه. وفي نهاية الرسالة كتب حضرة شوقي افندي بخط يده المبارك الكلمات التالية: ليبارك الله جهودك الحثيثة والمخلصة ويؤيدك حتى توفقي في اداء خدمات متعددة وتحرزي انتصارات عظيمة لأمرنا العزيز ومؤسساته.

خلال الاعوام من 1943 حتى 1952 زارت دوروثي بيكر خمس عشرة دولة في امريكا اللاتينية هي: المكسيك – غواتيمالا – هندوراس – السلفادور – كوستاريكا  – بنما – كوبا – جامايكا – بورتاريكو – فنزويلا – كولومبيا – بيرو – الارجنتين – بارغواي والبرازيل. كما زارت ثلاث عشرة دولة أوروبية هي: بريطانيا – اسكتلندا – النرويج – السويد – دانمرك – هولندا – بلجيكا – لوكسمبرج – فرنسا – سويسرا – ايطاليا – اسبانيا والبرتغال بالاضافة الى زيارتها لولاية اونتاريو وكيوبك ونيوبرونزويك في كندا.

وعلى الرغم من جميع هذه الرحلات التي تمت في أقل من عشر سنوات فقد كانت ايضا عضوة في المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة وأصبحت رئيسة للمحفل المركزي لمدة اربع سنوات ونائبة للرئيس لسنوات اخرى بالاضافة الى عضويتها في العديد من اللجان مثل: لجنة مدرسة لوهلن – لجنة تربية الطفل – لجنة الراديو – لجنة وحدة الاجناس – لجنة التبليغ المركزية – لجنة البرامج المركزية. ان المتأمل في حياة هذه الماجدة يدرك مدى القدرات والمواهب التي انعم الله عليها والالطاف والعنايات الالهية التي احاطتها اينما ذهبت واينما تواجدت. لم تنشد دوروثي في دنياها عظمة سوى عظمة الامر المبارك، ولم تهدف شيء سوى رفعة وعزة أمر جمال القدم. هذا هو حياة عظماء هذا الظهور الارفع الاقدس الالهي.

دوروثي بيكر أيادي أمرالله:

على الرغم من انشغال هذه الامة الموقنه بالامر المبارك طوال حياتها، ولكنها لم تنسى يوماً عائلتها وعلى الاخص زوجها العزيز فرانك وابنها بل وابنتها لويز. كما ذكرنا تزوجت لويز من هيوبرت ماثياس في البرتغال عام 1948 ولكن ابنها بل Bill كان أعزباً ومقيماً في الولايات المتحدة. دخل جامعة يال Yale لمدة سنة واحدة ثم استدعى للخدمة العسكرية اثناء الحرب العالمية الثانية وقضى ثلاثة اعوام ونصف في الخدمة حتى رجع الى مدينته ليما Lima بولاية اوهايو بعد انتهاء الحرب ليعمل مع والده في المخبز. كانت تتمنى دوروثي ان يتزوج ابنها بأمراة بهائيه، ودعت الله العلي القدير ان يحقق لها هذه الامنية. واخيراً تعرف بِلْ على فتاة جميلة ومهذبة اسمها انا ماري ماتون Anna Marie Mattoon وأعجب بها وتزوجها في ويلمت يوم 23 ديسمبر عام 1947م. وفي شهر اذار / مارس 1949 رزق منها بولد ملأ حياتهما سعادة وبهجة واصبحت دوروثي جدة لأول مرة. أما بل فقد قرر إتمام دراسته ولهذا انضم الى جامعة إيلينوي Illinois وحصل على درجة البكالوريوس في العلوم ثم درجة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية. تقول زوجته بأن بل كان موفقاً في دراسته وفي بيته كزوج وكأب، وايضا كان مشغولا بفعالياته الامرية بحيث كان يعقد جلستي تبليغ اسبوعيا في المنزل.

نعود الى كونراد Conrad وهو ابن فرانك من زوجته الاولى التي توفيت من مرض عضال فقد استطاع دخول جامعة Yale العريقة وتخرج من كلية الطب عام 1934 ثم تزوج بفتاة اسمها مارجوري Marjorie في يوليو عام 1935 ثم عمل في مستشفى بولاية ديترويت ثم رزق بطفل في ديسمبر عام 1937 وسُمّي دوايت. وبعد سنة ذهبا الى ليما حيث تسكن دوروثي وفرانك وعمل كونراد بمستشفى عام ورزق بطفل اخر في فبراير عام 1939 سميت مارجوري ان. وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية استُدعي كونراد للخدمة في الجيش وارسل الى بريطانيا وفرنسا وبلجيكا ثم المانيا. وبعد انتهاء الحرب رجع الى الولايات المتحدة وعمل بمستشفى حكومي بولاية كونكتيكت وفي عام 1948 انتشر مرض رئوي في المنطقة واصيب الكثيرون بهذا المرض منهم كونراد. ومع انه كان طبيبا يعالج الاخرين ولكنه لم يستطع علاج نفسه نتيجة عدم وجود الدواء الكافي. ونتيجة لذلك توفى كونراد يوم 13 نوفمبر عام 1948 عن عمر ناهز التاسع والثلاثين تاركاً والده وأسرته ودوروثي في بحر من الاحزان والالام.

مع وفاة كونراد وقبله شقيقته ساره يكون فرانك قد فقد اولاده من زوجته الاولى، ونظراً لايمانه المطلق بالارادة الالهية وبوجود زوجة مثالية في الاخلاق والسمو والرفعة فقد تحمل كل ذلك، وما كان يسعد حياته وجود ابنته لويز وابنه بل وزوجة وفيه وقديرة هي دوروثي بيكر.

في صيف عام 1951 سافرت دوروثي بحراً الى البرتغال لزيارة ابنتها لويز التي ستضع مولودها الاول. وفي مدينتها ليما كانت عروستها انا ماريا ايضا على وشك الولادة. ويبدو ان المولودين قد رأيا النور في نفس الشهر تقريبا. الاولى ابنة لويز وسميت كريستال لويز والاخرى ابنة بل وسميت دوروثي اليزابيث، وبالتالي اصبح لديها ثلاثة احفاد. وفي نهاية عام 1951 رجعت الى الولايات المتحدة. وخلال غيابها لعدة اشهر عن موطنها توفى زميلها العزيز والخادم المخلص لامر جمال القدم لويس جريجوري وقد وصفه حضرة ولي امر الله بالشخص: العزيز ذو العقل المتفتح والقلب الصافي كما منحه لقب ايادي امر الله بعد وفاته مثله مثل فخر المبلغين والمبلغات مارثا روت.

ومع عودتها الى موطنها يبدو ان هناك حدثاً كبيراً كان بانتظارها. ففي يوم 24 ديسمبر عام 1951 اعلن حضرة ولي امر الله لأول مرة عن تعيين أول كوكبة من أيادي أمر الله وكان عددهم اثني عشر شخصاً ومن ضمنهم دوروثي بيكر. وكانت إدنا ترو Edna True اول من ابلغتها الخبر. لم تصدق في البداية دوروثي واعتقدت أن إدنا تمزح معها وما ان تحققت من النبأ حتى اذعنت للارادة الالهية وقررت ان تصرف وتقضي ما تبقى لها من عمر في سبيل محبة وخدمة جمال القدم.

وقد ضمّت هذه الكوكبة كُلاً من: ساثرلاند ماكسويل – مايسون ريمي – اميليا كولنز – ولي الله ورقا – طراز الله سمندري – على اكبر فروتن – هوراس هولي – دوروثي بيكر – ليروي ايواس – جورج تاوزند – هرمان كروسمان ويوغو جياكري. تروي السيدة/روز ماري سالا عضوة المحفل المركزي لكندا بان السيد هوراس هولي بعد تعيينه كايادي أمرالله قام بزيارة المحفل المركزي لكندا وعندما دخل المحفل: إتجهت الانظار اليه، إنه أول أيادي يدخل محفلنا وكأنه من كوكب اخر. ثم نظر إلينا والدموع في عينيه وقال: لا تنظروا إلىّ   هكذا، كنا نعتقد ان ايادي أمرالله هم اناس عظماء واجلاء ويجب ان نحني برؤسنا امامهم، ولكننا وجدناهم أناس عاديون كما هو حالي. ثم انهمر في البكاء.

ويلاحظ من أول كوكبة أيادي أمرالله ان بينهما امرأتين فقط هما: اميليا كولنز ودوروثي بيكر وفي المجموعة الاخرى التي اعلنت بتاريخ 29 فبراير عام 1952 وكان عددهم سبعة ايادي كان هناك امرأتان فقط ايضا هما كورين ترو وكلارا دَن. ان هؤلاء النساء الماجدات كانوا شعاعاً من النور أضاء تلك الفتره من تاريخ امرنا العزيز، وسُراجا وهّاجةً انارت طريق البشرية نحو الهداية والاصلاح. لقد بذلوا النفس والنفيس وقدموا تضحيات سيذكرها التاريخ على انهم حقا كانوا من عشاق جمال الاقدس الابهى وحملة راية الحب والوفاء، وقد صدق بحقهم هذا البيان المبارك في الكتاب الاقدس: انا معكم في كل الاحوال وننصركم بالحق انا كنا قادرين. من عرفني يقوم على خدمتي بقيام لا تقعده جنود السموات والارضين.[4]

زيارة أرض الاقدس والرحلات العالمية

ومع تعيين دوروثي بيكر ايادي امر الله دخلت حياتها وخدماتها مرحلة جديدة من البذل والعطاء، ولهذا قرّرت السفر الى شتى بقاع العالم لنشر الكلمة الطيبة الالهية كلما سنحت لها الظروف. المحطة الاولى لها كانت المشاركة في مؤتمر الوكلاء المركزي السنوي لامريكا الوسطى الذي عقد في بنما في رضوان عام 1952 وبعد ذلك المشاركه في مؤتمر الوكلاء المركزي لامريكا الجنوبية الذي عقد في بيونس ايرس بالارجنتين من نفس السنة. كان وجودها في كلا المؤتمرين مؤثراً وعَطِراً حيث فاح منها عبق الايمان، وأطلق جمال القدم لسانها في وصف عظمة ظهوره وكلماته، كيف لا وهي التي تبوّأت الان مقام ايادي امر الله. تروي لنا السيده موريل ميسلر Muriel Miessler التي كانت صديقه لدوروثي في بلدتها ليما وقد هاجرت مع زوجها الى امريكا الجنوبيه حباً وعشقاً لجمال المبارك واطاعة لتوجيهات حضرة ولي امر الله، تقول هذه السيدة الفاضله: لم أكن عضوة في المؤتمر المركزي في بيونس ايرس ولكن يبدو ان الجو كان عاصفاً وكنت في غرفة قريبة من صالة المؤتمر تضم هذه الغرفة أشياء ثمينة مثل قطعة شعر من حضرة بهاء الله وُضعت في إطار جميل وأيضا أشياء تتعلق بحضرة عبد البهاء ومجموعة من الاثار المباركة.

فجأة دخلت دوروثي بيكر وكانت مهيّجة ومضطربة، ودارت في انحاء وأطراف الغرفة وبدأت بتلاوة مناجاة بصوت مرتفع وبدأت الدموع تذرف من عينيها. وعندما رأت الشعرات المقدسة انحنت بكل خضوع وخشوع ثم ضمتها الى حضنها وبكت بُكاءً مُرّاً. يبدو ان معاناتها كان من اجل الامر المبارك ومن أجل وحدة واتحاد الاحباء. لقد شعرت بعظمة وسمو هذه المرأة لدرجة لا استطيع وصفها. واخيرا رأيت دوروثي واقفة بكل جلال تمسح دموعها وقد عادت الابتسامة اليها، ثم غادرت الى صالة المؤتمر.

بناء على طلب المحفل المركزي لامريكا الجنوبية مكثت دوروثي عدة اشهر للتبليغ والتجّول في دول امريكا اللاتينية ومن الدول والمدن التي زارتها هي: باراغواي ومدينتي ريودي جانيرو وساوباولو في البرازيل – بورتوريكو – جامايكا – كوستاريكا وكوبا. كما قامت بزيارة لمرقد السيده مي ماكسويل والدة أمة البهاء روحية خانم في الارجنتين وكانت لها عدة لقاءات مع الاحباء في هذه الدول والمدن وكانت خير مشجّعة ومشوقه لهم في خدماتهم الامرية.

في نوفمبر عام 1951 أعلن حضرة ولي أمرالله عن السنة المقدسة التي ستبدأ في اكتوبر عام 1952 وحتى اكتوبر 1953 وبهذه المناسبة الميمونه أعلن حضرته عن عقد أربع مؤتمرات قارية في كل من كامبالا باوغندا، وفي ويلمت بالولايات المتحدة، وفي استوكهولم بالسويد، وفي نيودلهي بالهند. شاركت ايادي امر الله دوروثي بيكر في جميع هذه المؤتمرات، وكانت أولها مؤتمر كامبالا في اوغندا ولكن قبل المؤتمر طلبت دوروثي بيكر زيارة الاعتاب المقدسة وقد جاءتها الموافقة من حضرة المولى، وبالتالي تحقق أملها التي كانت تنشده من زمن طويل. ولهذا قررت الزيارة أولا ثم الذهاب للمؤتمر.استقبل حضرة ولي امر الله دوروثي بيكر بهذه الكلمات: مرحباً مرحباً، مرحباً بك الف مرة ايتها الزائرة الشهيدة. تروي السيده إلسي اوستن Ellsie Austin التي رافقت دوروثي اثناء زيارتها للاراضي المقدسة ان حضرة ولي امر الله قد دعاهم الى تناول العشاء في أحد الايام وعلى مائدة الطعام تفضل حضرة المولى: ان الارض الاقدس هو قلب العالم وموطن الانبياء والرسل ومكان لتلاقي ثلاث قارات. وفي الارض الاقدس يقع جبل الرب، كرم الله وفيه مقام ايليا وعلى جبل الرب يقع المقام الاعلى الذي يحتضن اللؤلؤ الثمين، قدس الاقداس، الضريح المطهر الذي وصفه حضرة عبد البهاء بانه النقطة التي تدور حولها ارواح الملأ الاعلى. ومن ثم تطرق حضرة شوقي افندي بالحديث عن علاقة هذا العالم بالعالم الاخر وعن معنى الملأ الاعلى حيث قال: هناك علاقة وثيقة بين الارواح في هذا العالم والعالم الاخر. هذه العلاقة والارتباط لهما علاقة بأمور صعبة معينة مثل صفاء القلب وخلوص النية ويمكن الاتصال بين الارواح ولكن لا داعي للمحاولة. ان الانسان احيانا يشعر بوجود هذه الارواح. قال حضرة عبد البهاء: عندما افتح رسالة، أشم منها رائحة ونفسية الكاتب.  لا نستطيع ان نتصور اهل الملأ الاعلى ولكن يمكن ان يضموا النفوس الشريفة المخلصة وكلما كانت هذه النفوس عظيمة يكون لها تأثير اكبر. انهم يقومون بمساعدة النفوس المخلصة التي تعمل الان في هذا العالم.

لا توجد مصادر أو مراجع كثيرة حول لقائها بحضرة ولي أمر الله وتفاصيل زيارتها وما قاله حضرة المولى لها أو أسئلتها له ولكن تروي لنا أمة البهاء روحية خانم ما يلي: عندما وصلت إلى الاراضي المقدسة تحقق حلمها القديم وكانت مدة الزيارة سبعة ايام فقط ولكن كانت تتمنى أكثر من ذلك، حيث اضطرت ان ترضى بهذه المدة القصيرة من أجل تنظيم رحلة عودتها عبر عدة دول. عبّرت دوروثي عن مشاعرها وقالت: إن الزائرين عندما يأتون إلى هنا منهم مثل الاسفنجة الناشفه وعندما يستمتعون بالزيارة وتنتعش روحانياتهم يصبحون مثل الاسفنجة التي تغمس بالماء فتمتليء. ان عينيها كانتا تلمعان عندما قالت ذلك، وقد تأثرت بشده من كلامها.    كما التقت دوروثي اثناء تواجدها في حيفا ببعض الزائرين من الدول الاخرى وتحدثت معهم عن اهمية الدعاء والمناجاة في الحياة اليومية للانسان وتجربتها بهذا الخصوص.

سافرت دوروثي بيكر إلى كمبالا بأوغندا وإنضمّت الى الجموع المشاركة في أول مؤتمر بهائي بين القارات من نوعه في تاريخ الامر المبارك. جاء المشاركون من تسع عشرة دولة واقليم وعقد بين 12 الى 18 فبراير 1953 وكان أيادي أمر الله ليروي أيواس ممثلا عن حضرة ولي أمرالله في هذا المؤتمر وحاملا لصورة حضرة الباب، كما شارك تسعة ايادي اخرون هم: موسى بناني – شعاع الله علائي – ميسون ريمي – طراز الله سمندري – ذكر الله خادم – ليروي ايواس – هوراس هولي وعلي اكبر فروتن.

بعض هؤلاء الايادي لم يلتقوا ببعض سابقاً وكان لقاؤهم لأول مرة. يصف جناب فروتن الذي التقى بدوروثي لأول مرة شخصيتها بعد ان قامت بالقاء كلمتها في المؤتمر بالاتي: ما لفتني لها هو روحانيتها ووجهها الطلق وعينيها ونظرتها للاخرين. لقد أعجبتُ بالطريقة التي كانت تتكلم بها. انها كانت تحب الناس، ويمكن ان تعرف ذلك من عينيها وسلوكها. تكلمت بداية عن معتقدات الناس وتاريخهم واديانهم وكتبهم المقدسة ثم تدريجيا بدأت بالتحدث عن الامر المبارك. وما كان لافتاً للنظر أنها بدأت كلمتها بتلاوة مناجاة، ثم أنهت كلمتها بمناجاة ايضا، مما أضفى روحانية مميزة على خطبتها. لقد شعرت وكأنى احلق في السماء، ان صوتها واسلوبها كان مميزاً حقا.

يروي مشارك آخر إسمه أفشار وهو مهاجر ايراني في افريقيا انطباعاته عنها بما يلي: اعتقد انها لم تكن من هذا العالم. لم أرَ مثلها في حياتي سوى القلائل. وعندما كانت تتحدث بالانجليزية كنت افهم بعض كلماتها، ولكن من نبرتها وسلوكها ودون وعي بدأتُ بالبكاء. ان كلماتها كانت حقا كلمات الله. لم أعتقد إن الانسان يمكن له أن يفعل ذلك، كانت تهزّ العالم. اما السيد علي نخجواني وهو شخصية غنية عن التعريف فقد كان حاضراً أيضا في هذا المؤتمر حيث هاجر إلى أوغندا قبل المؤتمر بسنتين تلبية لنداء حضرة ولي أمرالله للقيام بالهجرة، يروي لنا خواطر عن دوروثي بيكر عندما التقى بها في المؤتمر فيقول: دوروثي كانت ثابته على العهد والميثاق. لابد هناك من علّمها الميثاق. كانت مؤمنه بكل كلمة قالها او كتبها حضرة شوقي افندي. كانت نيّتها خالصة وتعلم بما يجب عمله وبما يجب ان يفعله الافارقه. لقد سحرت الجمهور، ليس فقط بكلماتها وحكاياتها بل بوقارها وسكينتها وأسلوبها المميّز. ان شخصيتها كانت مزيجاً من المحبة والفصاحة والحكمة.

المؤتمر الثاني للتبليغ بين القارات عقد في شيكاغو بين 3 حتى 6 مايو عام 1953 وحَضَره اثنى عشر أيادي لأمرالله وحوالي 2500 شخصاً وكانت أمة البهاء روحية خانم مندوبة حضرة المولى في المؤتمر. وفي الرسالة التي وجهها حضرة شوقي افندي للمؤتمر اشار ان هذا المؤتمر هو الاكثر تميّزاً عن باقي المؤتمرات الثلاث. وقد ترأست أيادي امر الله دوروثي بيكر احدى جلسات المؤتمر، وكانت كعادتها طلقة اللسان، بشوشة الوجه، ذو روحانية مميزة، وقد طلبت من الذين يرغبون بالهجرة طبقا لخطة الجهاد الكبير الاكبر الروحاني ان يأتوا الى مسرح الصالة، وقام حوالي مائة وخمسين شخصاً بالذهاب الى المسرح ملبّين نداء حضرة المولى بالهجرة. كما تحدث أيادي أمرالله موسى بناني عن تجربته في الهجرة الى افريقيا. وفي اليوم الثاني تحدثت أمة البهاء من كل قلبها الى الاحباء وما يجب ان يعملوه في هذه السنة المقدسة وخلال مشروع العشر سنوات. ثم قام أيادي أمرالله ميسون ريمي بعرض نموذج لمبنى مشرق الاذكار الذي صممه بنفسه وسيبنى في المستقبل على جبل الكرمل، كما تحدث جناب فروتن عن النظام العالمي لحضرة بهاء الله. وتحدث أيضا أيادي أمرالله جناب طراز الله سمندري عن لقائه بحضرة بهاء الله عندما كان في الخامسة عشر من العمر، مما ألهب مشاعر الحضور وزادهم عشقاً وشغفا بالامر الاعظم. في أحد أيام المؤتمر قامت أيادي أمرالله كورين ترو التي كانت تبلغ الواحد والتسعين عاماً بدعوة جميع حضرات الايادي وازواجهم وزوجاتهم وبعض الاحباء الى مائدة غذاء في منزلها. واثناء الغذاء سأل جناب فروتن السيد فرانك زوج دوروثي عن حياتهم الشخصية وكيفية تعامله مع الرحلات العديدة التي تقوم بها زوجته العزيزة. قال فرانك للسيد فروتن: اولا انها ليست زوجتي فحسب بل انها َملكه. لا استطيع أن أساوي نفس بها. انني اساعدها في الاعداد لرحلاتها وعندما تاتي البيت ونكون معا فإنها أسعد لحظات عمري.

المؤتمر الثالث للتبليغ بين القارات الذي دعا حضرة المولى الى عقده تم تنظيمه في استوكهولم عاصمة السويد. ُعقدَ هذا المؤتمر من 21 حتى 26 يوليو عام 1953 بحضور أربعة عشر أيادي أمرالله وهم حضرات السادة والسيدات: أميليا كولنز – ميسون ريمي – دوروثي بيكر – هرمان كوسمان – البرت مولشليگل – ولي الله ورقا – شعاع الله علائي – طراز الله سمندري – علي اكبر فروتن – يوغو جياگري – موسى بناني – هوراس هولي – ذكر الله خادم وجورج تاوزند. وكان السيد يوغو جياگري مندوبا عن الهيكل المبارك، وقام بنفسه بقراءة رسالة حضرة المولى الموجهة للمؤتمر. حضر المؤتمر 377 شخصاً من عدة دول في العالم ويمثلون أصول عرقية مختلفه، وتشرّفوا جميعاً بمشاهدة صورة حضرة الباب، وهي الهدية الثمينة التي أرسلها حضرة ولي أمرالله الى المشاركين في المؤتمر. في رسالته للمؤتمر حدّد حضرة المولى ثلاثة عشر هدفاً  لأحباء أوروبا خلال خطة العشر سنوات منها: بناء اول مشرق اذكار في أوروبا في مدينة فرانكفورت بالمانيا، ثم شراء قطعتي ارض لبناء مشرق اذكار في المستقبل تقع في كل من استوكهولم بالسويد، وفي روما عاصمة ايطاليا. وايضا فتح ثلاثين منطقة جديدة في أوروبا، وتأسيس ثلاثة عشر محفلاً روحانياً مركزياً جديداً  في أوروبا، وتأسيس مؤسسة طبع ونشر بهائية في ألمانيا وترجمة الاثار الامرية الى عشر لغات أوروبية.

تحدث حضرات الايادي جميعهم تقريبا خلال ايام المؤتمر عن مواضيع شتى، من أهمها الاهداف التي حدّدها حضرة المولى في رسالته للمؤتمر وكيفية تحقيقها، مما كانت سبباً في تشجيع الاحباء وتعميق جذور الايمان في قلوبهم، وقيامهم على الخدمة. من المتحدثين ايضا كان الدكتور زين نورالدين زين الاستاذ في الجامعة الامريكية في بيروت وابن جناب زين سكرتير حضرة المولى لفترة معينة، حيث تحدث عن إعادة بناء المجتمع الانساني قالت دوروثي بيكر في كلمتها: لقد بدأت أفهم لماذا تعتبر أوروبا نبض العالم، وان استطعنا تحريك هذا النبض، لربما نفتح العالم.

بعد انتهاء المؤتمر قامت دوروثي وزوجها فرانك برحلة تبليغية الى فنلندا ثم قررا الهجرة الى جزيزة جرينادا في البحر الكاريبي، ولهذا أرسلا برقية الى حضرة ولي امر الله وجاء الجواب يوم 7 اغسطس 1953 بالموافقة.

وفي موقف مشرّف يدل على نكران الذات، والانقطاع حبّاً  وعشقاً  لمولاهم العزيز قام خمسة من اعضاء المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة بتقديم استقالاتهم بهدف الهجرة وفتح المناطق النائية، مُلبّين نداء المولى حين قال: قوموا على النصر بكليتكم، ودعوا الدنيا وزخرفها عن ورائكم، واتركوا أوطانكم وأوكاركم وذوي قرابتكم، وشدوا ظهوركم وبلغوا الناس ما بلغكم ربكم وبارئكم وبشّروهم بما وعدكم مقصودكم ومحبوبكم.[5] هؤلاء الخمسة هم: إلسي اوستن Elsie Austin وقد سافرت الى المغرب وماثيو بولوك Matthew Bullock إلى جزر هولندا الغربية وكينيث كريستيان الى جنوب روديسيا وقد تم تسمية هؤلاء الثلاثة بفرسان حضرة بهاء الله. كما سافرت مامي سيتو Mamie Seto الى هونغ كونغ ودوروثي بيكر الى جرينادا. والجدير بالذكر ان حضرة ولي امر الله قد احتفظ بصورة من اعضاء المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة لعام 1953 في غرفته الخاصة في قصر البهجه.

أما المؤتمر الرابع والأخير من سلسلة المؤتمرات في السنة المقدسة الحافلة بالأحداث والوقائع، فقد إنعقد في نيودلهي بالهند من 7 حتى 15 اكتوبر 1953 وحضره حوالي خمسمائة شخص جاؤوا من واحد وثلاثين بلد، وكان مندوب حضرة ولي أمرالله في المؤتمر هو أيادي أمرالله ميسون ريمي. افتتح المؤتمر السيد/عباس علي بوت رئيس المحفل الروحاني المركزي للهند ورحب بالحضور ثم قرأ ميسون ريمي رسالة حضرة ولي أمرالله الموجّهة للمؤتمر. في هذه الرسالة حدّد الهيكل الانور ثلاثة عشر هدفاً للمحافل المركزية في آسيا منها: بناء مشرق الأذكار في أرض الطاء (طهران) – شراء أراض لبناء ثلاثة مشارق اذكار في المستقبل في كل من بغداد ونيودلهي وسدني – تأسيس أحد عشر محفلاً روحانياً مركزياً في آسيا – فتح احدى وأربعين منطقة جديدة في آسيا – ترجمة الآثار الأمرية إلى أربعين لغة جديدة – تأسيس حظيرة قدس مركزية في كل دولة فيها محفل مركزي – تأسيس محاكم بهائية في ايران والعراق وباكستان وأفغانستان… الخ. تبرّع المشاركون بمبلغ 45 الف دولار لشراء اراضي مشارق الاذكار المنوّه عنها في الرسالة وتشرّفوا جميعاً بزيارة الطلعة المباركة لحضرة الباب، وهي الهدية الثمينة التي أرسلها حضرة ولي أمرالله المحبوب للمؤتمر. وفي عصر اليوم الأول للمؤتمر أرسل حضرة المولى رسالة اخرى أعلن فيها عن ثلاثة انتصارات هامة وهي: اتمام بناء المقام الأعلى وقيام تسعة عشر مهاجراً جديداً للهجرة والاستقرار في مناطق هجرتهم وأخيراً أعلن حضرته عن شراء قطعة ارض خاصة لبناء مشرق اذكار على جبل الكرمل وذلك بواسطة التبرّع السخي لقيمة الارض من قبل ايادي أمر الله السيدة أميليا كولنز.

تحدث في المؤتمر عدد من حضرات الأيادي وهم: هوراس هولي – دوروثي بيكر – يوغو جياكري – علي اكبر فروتن – كلارا دن – اغنس الكسندر – موسى بناني. كما تحدثت أيضا السيدة ميلدرد متحدة التي كانت تمثل الجامعة البهائية العالمية في الامم المتحدة. كلمة دوروثي بيكر كانت عن خطة العشر سنوات أو خطة الجهاد الكبير الاكبر كما سمّاه حضرة ولي أمرالله وما يجب ان يعمله الاحباء في هذه المرحلة الحساسة في تاريخ الامر المبارك. كعادتها كانت دوروثي بيكر شعلة من النشاط وقمة في التواضع. يروى لنا السيد بشير الهي وهو أحد المشاركين في المؤتمر انطباعه عن دوروثي بيكر بالعبارات التالية: خلال المؤتمر كانت دوروثي شعلة مضيئة. اذكر انّها كانت تتحدث كل يوم بكلمات تهيّج الجميع وتسعدهم. كانت تتحدث عن أهداف المؤتمر وتشرح رسالة حضرة ولي أمرالله إلى المؤتمر. الكل كان ينصت لها باهتمام وشغف. كما كانت مسئولة عن الاتصال بالسلطات الهندية لتعريف الامر المبارك لهم وشرح اهداف المؤتمر. تم ترتيب عدة جلسات عامة لغير البهائيين وقد تحدثت دوروثي بيكر فيها بكل ثقة واقتدار، ونقلت الصحف والجرائد الهندية وقائع الجلسات على صفحاتها.

كما تروي ايضا السيدة / ايما رايس Emma Rice خواطرها عن دوروثي بيكر بالآتي: كنت مع دوروثي في رابع مؤتمر تبليغي بين القارات في الهند، وكانت منهكة من شدة الحرارة والرطوبة. كانت تأتي الى المؤتمر وهي تركب عربة بدولابين يجرّها حمار وكومة من القش خلف العربة، وتضع أزهار حول رقبتها وعلى رأسها. لم تكن تعلم معنى المقام السامي الذي تبوّأته وهو أيادي أمرالله، وكانت أيضاً رئيسة للمحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة الامريكية، وأعلنت رغبتها مؤخراً للهجرة إلى جرينادا. بعد المؤتمر طلبت مني ان أرافقها في زيارتها لاحدى مدارس البنات حيث ستلقي كلمة. في ذلك اليوم كانت تعاني من التهاب في الرئة ولم تكن تستطيع الحديث ولكنها ذهبت لمسافة طويلة عبر الصحراء الى تلك المدرسة دون مراعاة لصحتها، ودخلت المدرسة وحيّت الطلبة والابتسامة ترتسم على وجهها، ثم صعدت إلى المنصة وألقت كلمة رائعة بكل ثبات وعزيمة، وأخذت صورة جماعية مع الطلبة. هذه هي دوروثي بيكر، راية من رايات الحب والوفاء لأمر حضرة بهاء الله، إن ملائكة التأييد كانت محاطة بها أينما ذهبت وأينما حلت، لم يُثنِها شيء عن القيام لخدمة امر جمال القدم لأنها وهبت حياتها له.

قام بعض حضرات الايادي المشاركين في المؤتمر بزيارة رئيس وزراء الهند آنذاك السيد/جواهر لال نهرو، وكان اللقاء ودّياً وجيداً وكانت دوروثي إحدى المتحدثات في تلك الجلسة. بعد ذلك طلب حضرة ولي أمرالله من كل من هوراس هولي وميسون ريمي ودوروثي بيكر البقاء في الهند لمدة شهر آخر لتبليغ الأمر وزيارة الاحباء وتشجيعهم. قامت دوروثي بالسفر والتجوّل في أكثر من عشرة مدن هندية برفقتها السيدة شيرين بومان عضوة المحفل المركزي للهند والتي أصبحت فيما بعد عضوة في هيئة المشاورين القارية في آسيا. وفي بعض اسفارها في الهند كان يرافقها السيد إسفنديار بختياري عضو المحفل المركزي في الهند واصبح فيما بعد عضواً في المحفل المركزي لباكستان وقد رافق هذا الشخص فخر المبلغين والمبلغات مارثا روت عندما كانت في شبه القارة الهندية لمدة سنة كاملة. كما رافقت دوروثي كل من منيرة وبهية سهيلي لبعض المدن التي زارتها. تروي منيرة ذكرياتها عن رحلتها مع دوروثي بيكر وتقول:

[المحطة الأولى التي توقفنا فيها كانت سرات Surat التي تعيش فيها عائلة الوكيل وقد توفى الاب الذي كان مخلصاً ومكرّساً نفسه للامر المبارك. أخذتنا زوجته الى منزل الضيوف للإقامة، وعند مدخل المنزل توقفت دوروثي فجأة، وأخذت تفكر عميقاً ونظرت إلينا وقالت: إن مارثا روت العزيزة كانت هنا في هذه الغرفة. استغربنا كيف انها عرفت المكان. نعم لقد كانت في نفس هذه الغرفة عندما كتبت جزءاً من كتابها عن حياة الطاهرة. استغرقت دوروثي بالتأمل والتفكير، وكأنها حقاً  كانت ترى مارثا روت جالسة في الغرفة. بعد ذلك ركبنا القطار وذهبنا في رحلة طويلة الى مدينة بارودا Baroda وما ان وصلنا حتى ذهبنا الى حظيرة القدس ولم نجد أحداً ولكن دوروثي قالت: في هذا المكان ستكون هناك جلسة عامة. استغربنا من كلامها هذا وقلنا كيف يمكن ان نعقد ذلك في يوم واحد ؟ قالت إن الوسيلة الوحيدة أن نطبع نشرات عن الجلسة ونوزّعها في الشارع وندعو الناس اليها. قمنا بعمل ذلك ووزعنا مئات الدعوات في الشارع ولاحظنا استجابة كبيره من الناس. وفي المساء تدفق عشرات الافراد الى حظيرة القدس وقد امتلأت الكراسي عن آخرها، وبدأت دوروثي بالحديث، وازداد دخول الناس للحظيرة ولم يكن هناك مكاناً حتى للوقوف. كانت سعيدة لاستجابة الناس لدعوة الحق وقالت: سأكتب الى حضرة ولي أمرالله وأخبره عمّا تم إنجازه هنا. واثناء الرحلة قالت لنا دوروثي عدة مرات انها تتطلع ان ترجع الى زوجها فرانك ليذهبا معاً الى الهجرة، ولكن تلبية لرغبة حضرة ولي أمرالله مكثت في الهند مدة أطول، وهذا دليل على اطاعتها لمركز الامر وولائها لحضرة شوقي افندي. كانت مخلصة في أعمالها، تذكر حضرة ولي أمرالله دوماً بالتقدير والعرفان. وفي إحدى المرات قالت: فديتك بروحي يا مولاي العزيز شوقي افندي. كثيراً ما قالت لنا كيف يمكن تبليغ الهنود من الخلفية الهندوسية. وفي إحدى المرات قالت: عليكم ان تحبّوا هؤلاء الهندوس من كل قلبكم حتى تحصلوا على نتائج طيبة. إن الهندوس يؤمنون بالدعاء والتأمل والتفكر ولهذا فهم يشاركونا في هذا الموضوع، وليس صعباً ايمانهم بالامر المبارك. وأخيراً ودّعنا دوروثي والدموع تملأ عيوننا وقالت لنا: إن لم أرَكم مرة أخرى في هذا العالم سنلتقي في الملكوت الابهى.]

بعد ذلك ذهبت الى مدينة اكرا Agra الواقعة في ولاية اوتر براديش وبرفقتها شيرين بومن وتحدثت في ثلاث كليات هناك، ثم ذهبت الى مدينة كواليور Gwalior ووصلتها يوم 20 نوفمبر 1953 واستقبلت في محطة القطار بالزهور والرياحين. وفي نفس اليوم ذهبت الى كلية فكتوريا وألقت محاضرة عن العولمة، ثم غادرت الى كلية بنات كمال راجا Kamalraja حيث تحدثت مع الطلبة عن الدين البهائي. وفي المساء تم ترتيب لقاء لها في غرفة التجارة وألقت محاضرة عامة كانت شيقة حيث تحدثت عن تاريخ الامر المبارك وبعض التعاليم والاحكام وايضا اجزاء من لوح الوديان السبعة لحضرة بهاء الله. كل ذلك حدث في يوم واحد.

في اليوم الثاني التقت دوروثي بيكر بالصحفيين وأجرت معهم مؤتمرا صحفيا تحدثت فيه عن تاريخ الأمر المبارك. وفي عصر اليوم ذهبت وفي معيتها السيدة شيرين بومن إلى قصر الأميرة مهاراني سنديا Maharani Scindia حيث ألتقت بها لأكثر من ساعة تحدثت فيها دوروثي عن تعاليم ومبادئ الدين البهائي. كان اللقاء ودّياً وأخوياً، وفي ختام الجلسة أُخِذت عدة صور تذكارية، وقدّم لسمّو الأميرة ثلاثة كتب من طرف المحفل الروحاني لكوالير. وفي عصر ذلك اليوم ذهبت إلى كلية الزراعة في المدينة وألقت محاضرة جميلة إستحسنها الجمهور ثم جاوبت على أسئلة الحضور ثم ذهبت إلى حظيرة القدس حيث تم دعوة عدد من سيدات المجتمع للقائها وتعريفهم عن البهائيه. بعد الجلسة تم ترتيب لقاء خاص مع الأحباء حيث تحدثت إليهم عن حضرة ولي أمر الله وشخصيته الفذة ودوره القيادي الهام في الامر المبارك. هناك عشرات المدن والقرى زارتها دوروثي بيكر في الهند، ولكن للأسف لا توجد مستندات أو مراجع حول تفاصيل هذه الزيارات، ولكن هناك تقرير عن زيارة قامت بها دوروثي يوم 5 ديسمبر 1953 إلى مدينة كانبور Kanpur أرسلها المحفل الروحاني لتلك المدينة إلى حضرة ولي أمر الله جاء فيه: جاءت دوروثي إلى مدينتنا ومكثت فيها يومين فقط، لا يمكن أن ننساها وتحدثت في حوالي عشرين مكان دون كلل أو تعب. تركت بصماتها الروحانية على الأحباء وعلى أهالي كانبور، وعندما غادرتنا جئنا إلى محطة القطار لوداعها والدموع مِلْء عيوننا. نشرت الصحف المحلية خبر مجيئها ومقتطفات عن أحاديثها وصورها مع الأحباء وغيرهم.

هناك تقرير آخر عن زيارة قامت بها إلى مدينة اندور Indore يوم 23 ديسمبر 1953 ومعها السيدة شيرين بومن، حيث ألقت فور وصولها محاضرة عن الروح ورحلتها في إحدى صالات المدينة وقد إستحسن الجمهور كلمتها. وفي 24 ديسمبر ألقت كلمة لأعضاء نادي الروتاري في إحدى فنادق المدينة عن الحياة وكيف يمكن أن نعيشها بسعادة وننتصر فيها. في اليوم التالي كان لها مؤتمر صحفي في نفس الفندق حيث تجمع الصحفيون حولها واستفسروا عن الدين البهائي وسبب مجيئها إلى الهند. في يوم 26 ديسمبر القت محاضرة في كلية كوجرات Gujrat أمام الطلبة عن الحضارة الجديدة التي أتى بها حضرة بهاء الله للبشرية. وفي عصر ذلك اليوم ذهبت إلى مركز العناية بالطفل وإلتقت بالأطفال وتعرفت على مشاكلهم وعرضت بعض الحلول ووزعت الحلوى عليهم. وفي يوم 27 ديسمبر 1953 تحدثت دوروثي بيكر في مركز الثيوصوفية عن فكرة تجسيد الالهة في الفكر المعاصر.  وفي ظهر ذلك اليوم كانت ضيفة عند المهراجا في قصره، وتناولت طعام الغداء مع الأميرة اوشاراجا وأفراد آخرين من العائلة المالكة، وقدمت لهم بعض الكتب الأمرية. وفي عصر ذلك اليوم ألقت كلمة عامة عن الأمر المبارك في قاعة غاندي بالمدينة.

في يوم 28 ديسمبر كانت دوروثي بيكر مدعوة لإلقاء كلمة أمام طلبة كلية هولكر
Holker College وعنوان حديثها كان الفخر والتعصب حضره حوالي أربعمائة شخص. وفي عصر ذلك اليوم تحدثت في مركز شباب المدينة عن المسيح الأبدي وقد شدّ حديثها إنتباه الحضور وسألوا الكثير عن الأمر المبارك وتعاليمه وأحكامه. في يوم 29 ديسمبر ذهبت إلى منطقة يوجان وفي الفندق تحدثت أمام 25 شخص. وفي يوم 30 ديسمبر تحدّثت في إحدى مدارس يوجان، وقامت السيدة شيرين بومان بترجمة حديثها إلى اللغة الهندية. ثم ذهبتا معاً إلى مدينة ماكشي Makshi وتحدثت أمام مائتي شخص. ثم  ذهبتا إلى مدينة شاجابور
Shajapur حيث كان لها أكبر لقاء مع الجمهور أثناء كل رحلتها في الهند. ففي هذه المدينة حضر جلستها الذي عقد بمركز المدينة حوالي ألفي شخص، وأدار الجلسة مسئول كبير في المدينة، حيث قام بتعريف دوروثي بيكر والدين البهائي للجمهور أولا، ثم تحدثت دوروثي بفصاحة بليغة ولسان عذب ألهبت مشاعر الناس الذين كانوا ينصتون لها باهتمام بالغ، وقامت السيدة شيرين بومن بترجمة حديثها إلى اللغة الهندية، وفي يوم 31 ديسمبر 1953 غادرت إلى نيودلهي. أن بصمات رحلتها لهذه المدن ظلت ومازالت عالقة في أذهان أولئك الذين ألتقوا بها. الكل كان يعشق حديثها وينجذب لها. إن إسمها كان ولازال عَلماً ناصعَ البياض خفاقاً يُرفرف فوق كل قلاع الحب والوفاء، ولقاؤها كان دوماً مُمتعاً عابقاً بالرائحة المُعطرة لمشام المؤمنين والمؤمنات. وقد صَدق هذا البيان المبارك من حضرة ولي امر الله في حقها عندما قال:

إن ثبتم أقدامكم على هذا الصراط، فوعزة ربكم وجلاله وعظمته وعلائه، روح القدس ينفث في فمكم، وروح الأمين يلهمكم في قلوبكم، وروح الأعظم يحيط بكم عن يمينكم،ويساركم وخلفكم وقدامكم. أن استَبِقوا في خدمة ربكم، هذا خيرٌ لكم عما تطلع الشمس عليها ان أنتم بأمره موقنون.[6]

تروي السيدة شيرين بومن التي رافقت دوروثي بيكر لمدة ثمانية عشر يوماً في رحلاتها لكل من اكرا – كواليور – اندور – يوجان – ماكش – شاجابور، تحكي لنا هذه السيدة الفاضلة بعضاً من السمات البارزة والصفات الممتازة لأيادي أمر الله دوروثي بيكر فتقول: كانت منقطعة عن الشئون الدنيوية، وكانت تتقبل الأفراد والأماكن التي تزورها رغم كل الفقر والتخلف الذي كانت تراه. وخلال الرحلة لم تكن صحّتها على ما يرام، وبدأت تضعف يومياً ولكنها لم تعتنِ بكل ذلك، حيث أن التبليغ كان هدفها الرئيسي وهمّها الأول. عندما رجعنا إلى نيودلهي في نهاية الرحلة، تفاجأنا بأن هناك من سَرَق أمتعتها التي كانت موجودة في بيت الضيافة وقد غَضِبتُ بشدة من ذلك، وطلبت منها أن نذهب ونقدم شكوى حول هذه السرقة، ولكن دوروثي قالت: يبدو ان هناك من كان محتاجاً لهذه الأمتعة أكثر مني، دَعيه يستفيد منها.  هذه هي دوروثي بيكر، آية الإنقطاع ورأس التوكل.

وفي رواية أخرى تقول شيرين بومن: هناك شيئان قالتها دوروثي بيكر، لعلني أقوم بتنفيذهما، والآن أتأسف كل الأسف بإنني لم أقم بهما وهما: أن أقوم بزيارة حضرة ولي أمر الله في حيفا، والأخرى ان نتعلّم كيف نبلّغ في القرى.  وفي إحدى زياراتها لإحدى القرى الهندية التقت دوروثي بيكر بالسيد هوشمند فتح اعظم المهاجر الإيراني في الهند، وأعجبت بثبات واستقامة وانقطاع هذا الشاب وعائلته. ومرّت الايام وأصبح السيد فتح اعظم سكرتيراً للمحفل الروحاني المركزي للهند. وعندما أجريت أول إنتخابات لبيت العدل الأعظم الإلهي في رضوان عام 1963 انتخب السيد فتح اعظم عضواً في هذه المؤسسة الالهية.

وكما سبق ان ذكرنا كانت دوروثي بيكر قد التقت بالأميرة مهاراني سنديا في قصرها بمدينة كواليور Gwalior وبرفقتها السيدة شيرين بومن. وعند مدخل القصر قالت دوروثي: سترتفع راية الإسم الأعظم يوما ما على بوابة هذا القصر.  ومرت السنوات وتوفّت دوروثي بيكر وتأسس بيت العدل الاعظم، ثم طُرحت خطة التسع سنوات، ثم السبع سنوات، ثم الخمس سنوات. وخلال خطة الخمس سنوات عُقِد مؤتمر بهائي مركزي في كواليور، وعبر بوابة القصر مرّ حوالي تسعمائة شخص بهائي من خلاله في نفس المكان الذي وقفت فيه دوروثي بيكر قبل ثلاثة وعشرين سنة. قالت الدكتورة پروين اوليائي وهي ابنة شيرين بومن، وكانت حاضرة في المؤتمر، بأن دوروثي بيكر قد تنبأت بوقوع هذا الحدث، ولكنها لم تستطع أن تتنبأ بمصيرها المحتوم بعد عدة أيام.

رحلة العودة والفاجعة:

في رحلة عودتها من الهند، توقفت دوروثي بيكر في كراتشي عاصمة باكستان يوم 8 يناير 1954 وما أن سَمَع الأحباء خبر وصولها، حتى قاموا بترتيب جلسة لها في اليوم التالي من وصولها في حديقة حظيرة القدس. حَضر الإجتماع جمّ غفير من الأحباء، تحدثت فيه دوروثي بيكر عن لقائها مع حضرة ولي أمرالله، وما يجب أن يفعله الأحباء في ظل خطة العشر سنوات. ثم تحدثت عن والدتها، التي كانت لاتزال على قيد الحياة وتبلغ الثمانينات من العمر. ثم تطرقت الى موضوع الهجرة وأهميتها، وطلبت من الأحباء أن يقوموا بالهجرة وتحدثت عن قيام الأحباء الأمريكان وتضحياتهم في هذا المضمار، ودَعت على الأخص الأحباء من الخلفية الزردشتية أن يقوموا بالهجرة إلى المناطق التي حدّدتها خطة العشر سنوات. ونتيجة لذلك، تعهد تسعة عشر شخصاً بالقيام على الهجرة، وعندما وقفوا هؤلاء الاعزاء وجّهت لهم دوروثي بيكر نداءً حاراً من كل قلبها وقالت لهم: ليس عندي شيء أقدّمه إليكم، ولكن أقدم لكم حياتي وحبي، ستشملكم التأييدات الإلهية. نعم بعد يومين قدّمت حياتها فداء لهؤلاء الأبطال الذين لبّوا نداء الحق.

في عصر ذلك اليوم الموافق 9 يناير 1954 تم إعداد جلسة عامة لها في نفس المكان حضرها محافظ المدينة وعدد من القضاة والأعيان وبعض الصحفيين. تحدثت دوروثي حوالي نصف ساعة، ثم جاءها شخص عادي يعمل مأمور ضرائب في الدولة وقال لها: نظرا لإيمانك الشديد بما تقولينه فإنني على يقين بأن البهائية دين حق. وكان هذا اللقاء آخر لقاء عام لها.

يوم 10 يناير كانت بداية رحلة العودة إلى موطنها الذي تاقت له طويلا. جاء جمّ غفير من الأحباء والأصدقاء والصحفيين إلى مطار كراتشي لتوديعها، حاملين باقات الورود والدموع تملأ عيونهم، وكان الوداع الأخير لهم. ركبت أيادي أمر الله دوروثي بيكر الطائرة البريطانية من نوع كومت Comet المتجهة إلى لندن عبر بيروت وروما. توقفت الطائرة في بيروت للتزود بالوقود، ثم غادرت إلى روما، ومن هناك نزلت دوروثي بيكر من الطائرة أثناء توقفها وأرسلت آخر تقريرها عن رحلتها إلى حضرة ولي أمرالله في حيفا، ثم ركبت الطائرة كي لا تعود أبدا. يروي أحد صيادي الأسماك الطليان الذي كان في قاربه في البحر، بأن الطائرة حلقت بالسماء واختفت من خلال الغيوم الملبّدة، ثم سُمعَ دوّي ثلاثة انفجارات ضخمة الواحدة تلو الأخرى، بصورة سريعة، وبعدها رأى جسماً مضيئا يضيء في السماء ويخرج منه الدخان ثم يرتطم بالبحر. يبدو أن الطائرة قد إنفجرت في السماء لأسباب مازالت مجهولة وسقطت في البحر وتوفى جميع ركابها وطاقم الطائرة البالغ عددهم ثمانية وعشرون شخصاً  لتنتهي بذلك حياة دوروثي بيكر بهذا الشكل المفجع والمؤلم وتعرج روحها الطاهرة إلى رحاب الملكوت، لتكون في محضر جمال الأقدس الأبهى.

وهكذا إنتهت الحياة البطولية لأمراة كانت من خير إماء الرحمن الذين لبوا نداء الحق، ونطقوا بإسم الحق، ورفعوا إسم الحق، وقد صدق هذا البيان المبارك من جمال القدم في حقها عندما تفضل بقوله المنيع: يا أمتي يا ورقتي، قد شهد لك القلم الأعلى بإقبالك وحبك وتوجهك إلى وجه القدم إذ أعرض عنه العالم الا من شاء الله العلي العظيم….. طوبى لك بما زينت نفسك بطراز المحبة الإلهية وفزتِ بذكره وثنائه.[7]

بعد أيام من وقوع هذه الكارثة، وُجدَت حقيبة يد على ساحل البحر وبها كتيبات ونشرات عن الدين البهائي، ويبدو انها كانت تخص أيادى أمرالله دوروثي بيكر، ودلالة على أن تبليغ أمرالله كان شغلها الشاغل، وهدفها الأول، وقد فدت نفسها في سبيله.

عندما كانت دوروثي بيكر في الهند، أخبرت السيد ديفيد هوفمان وزوجته ماريون الساكنين في بريطانيا عن تفاصيل رحلة عودتها إلى الولايات المتحدة عبر لندن. ولهذا كان السيد ديفيد هوفمان وزوجته في المطار في الموعد المحدد لوصول الطائرة من روما حيث كانت ستتوقف لمدة خمس ساعات. ونظرا لعدم وصول الطائرة تم إبلاغ المنتظرين في مطار لندن عن سقوط الطائرة في البحر ووفاة جميع الركاب. كان هذا الخبر مثل الصاعقة للسيد هوفمان وزوجته، ثم قاما بإبلاغ حضرة ولي أمر الله بهذا المصاب الجلل.

غرق الجميع في بحر من الأحزان والآلام، ونقل الكثير من الأحباء حكاياتهم عما شاهدوه في الأحلام قبل وبعد صعودها. تقول إحدى أماء الرحمن، أنها رأت دوروثي بيكر في منامها بعد الكارثة تقول لها: إنني لم أذهب إلى قاع البحر وإنما ذهبت إلى ربي ومولاي. وفي جامايكا كان الأحباء في غاية الشوق والإنتظار لورود دوروثي كما وعدتهم بالسابق وعندما سمعوا بالنبأ الحزين تأثروا كثيرا لدرجة أن أحد الشباب وإسمه هوبتون Hopeton الذي كان تواقاً لرؤيتها، حَلِمَ بها حيث جاءته في المنام وقالت له: لا تحزن يا هوبتون، لم أكن في تلك الطائرة، لقد أخذت طائرة أخرى وذهبت للجمال المبارك.

يروي السيد صلاح جراح، الخادم الوفي لحضرة ولي أمرالله في عكا، بأن الهيكل الأطهر لم يتناول طعام العشاء في تلك الليلة، وكانت آثار الحزن والهم ظاهرة على طلعته المباركة وجبينه الوضاح، وعندما جاء بالسيارة إلى قصر البهجة أخذ يتمشى في حديقة الروضة المباركة، ثم دخل غرفته الخاصة وقال لصلاح: لقد جئت هذه الليلة خصيصاً لأتلو الدعاء والمناجاة من أجل دوروثي بيكر. وفي يوم 13 يناير 1954 أرسل حضرة المولى البرقية التالية إلى المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة:

إن القلوب قد حزنت من الوفاة المفاجئ لدوروثي بيكر أيادي أمر الله الممتازة والشارحة القديرة للتعاليم المباركة، والمؤازرة القوية لمؤسسات الأمر الأعظم، والمدافعة الشجاعة لمبادئه وتعاليمه. أن خدماتها المميّزة الطويلة قد أثْرَت سجلات تاريخ أمرنا العزيز وعلى الأخص السنوات البطولية من العهد الأول لعصر التكوين من الدور البهائي. سأتلو الدعاء والمناجاة لارتقاء روحها الطاهرة في الملكوت الأبهى، وأقدّم أحرّ التعازي القلبية لأسرتها وأقربائها. أن روحها النبيلة مستغرقة في بحر من الألطاف والعنايات الإلهية. يرجى إعداد جلسة تأبين لائقة في مشرق الأذكار بما يتناسب ورتبتها العالية وخدماتها الخالدة الأبدية.

في رسالة لحضرة شوقي أفندي بتاريخ 8 فبراير 1954 موجهة إلى أيادي أمرالله السيد هرمان گروسمان ذكر حضرته: أن الوفاة المفاجئ للعزيزة دوروثي بيكر يعتبر في الحقيقة خسارة كبيرة للأمر الإلهي، وفقدانها يترك فراغاً كبيراً بين حضرات الأيادي. كانت إنسانة نموذجية في أمور شتى، وما كان يمكن أن نستغني عن خدماتها في هذه المرحله الهامة من التاريخ البهائي. لا شك بأن هناك حكمة من هذه المصيبة، ومن خلالها لربما يمكن للآخرين أن يكرّسوا جهودهم لخدمة أمرالله. وبالتأكيد فإن نفوذ روحها وتأثيره سيستمر في هذا العالم.

وما أن وصل خبر وفاتها الى سمع زوجها العزيز فرانك ووالدتها لويلا Luella وابنتها لويز وابنها بل وعائلاتهم، حتى غَرقَ الجميع في بحر من الاحزان والالام. كانت دوروثي بيكر هي فخر الاسرة ورايتها الخفاقة. كان الجميع يعتز بوجودها ويعتبرها مكسباً  كبيراً لهم. كانت دوروثي بيكر ضمن كوكبة أيادى أمرالله، وإحدى أول إمرأتين عُينتا لهذا المنصب ضمن الكوكبة الاولى، ولهذا فإن فقدانها كانت كارثة كبيرة على الجميع، وعلى الاخص عندما ذكر حضرة ولي أمرالله في رسالته الى السيد گروسمان بأن: فقدانها قد ترك فراغاً كبيراً بين حضرات الايادي.

وتنتهي بذلك حياة إمرأة ماجدة وسيدة عظيمة، إعتبرت الامر المبارك هدفها وغايتها. لم تنشد في حياتها عظمة، سوى عظمة أمر جمال القدم ولم تعشق يوماً شيئاً سوى تبليغ أمره العزيز، وقد وضعت هذا البيان المبارك من حضرة بهاء الله نصب عينها دوماً: بلّغ أمر مولاك الى كل من في السموات والارض، إن وجدت مُقبلا فاظهر عليه لئالئ حكمة الله ربك فيما ألقاك الروح وكن من المقبلين. وإن وجدتَ مُعرضاً فاعرض عنه، فتوكل على الله ربك ورب العالمين.[8]

ولكن فرانك، الزوج العزيز، لم ينس آمال وأحلام زوجته الغالية في نصرة أمرالله. كانت دوروثي ترغب فور رجوعها من الهند أن تهاجر الى جرينادا مع زوجها ولهذا قدّمت استقالتها من المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة. وشاءت الاقدار أن لا يتحقق هذا الحلم في حياتها. ولكن وفاءً لرغبتها السامية وتحقيقاً لأملها هاجر فرانك ومعه لويلا والدة دوروثي الى جرينادا ومكثا هناك سنوات عديدة وحققا أمنية دوروثي التى لم تستطع تحقيقها في حياتها. وعندما قام فرانك بابلاغ حضرة المولى بسفره واستقراره في جرينادا، أرسلت امة البهاء روحية خانم نيابة عن حضرته الرسالة التالية بتاريخ 9 ديسمبر 1954:

السيد فرانك بيكر:استلم حضرة ولي أمرالله رسالتكم المؤرخه 19 نوفمبر 1954 وطلب مني أن أردّ عليكم نيابة عن حضرته. ان خبر وصولكم الى جرينادا ومعكم السيدة لويلا بيتشر (والدة دوروثي بيكر) قد أسعد الهيكل الانور، إنه يأمل ان تجدوا منزلا مناسباً في أقرب وقت حتى تستقروا هناك. كما ان حضرة المولى على ثقة بأنكم لو بذلتم الجهد في تبليغ أمرالله وثابرتم في هذا المجال فسوف تنجحون في جذب النفوس المستعدة للامرالمبارك. إن كل من يقوم على تبليغ الامر بروح الخلوص والانقطاع سيشمله التأييد الالهي بشكل كبير. إطمئنّا بأن العزيزة دوروثي تنظر اليكم من العوالم الاخرى وتوجّه جهودكم في حقل التبليغ. لاشك إنها ومن عالم الملكوت تفتخر بكما لانكما قمتما بالهجرة لتلك المنطقة البعيدة لنشر أمرالله، حيث كانت هي الشارحه الجيدة لتعاليمه وكرّست حياتها له. يرجى ابلاغ تحيات حضرة ولي امرالله الى السيدة لويللا بيتشر واطمئنوا جميعاً بأدعيته القلبية في الاعتاب المقدسة النوراء حتى تحيطكم التأييدات الالهية لإنجاح جهودكم المبذولة في سبيل أمره العزيز.

مع اجمل التحيات البهائية

روحية رباني

 

وقد ذيّل حضرة ولي أمرالله بيده المباركة الرسالة بهذه الكلمات: ليشملك الله العلي القدير بفضله وعنايته، ويؤازرك، أنتَ والسيدة بيتشر، وُيسعد قلبكَ ويُهديكَ ويجعلكَ تفوز بانتصارات عظيمة، وُيفرح روح زوجتك العزيزة في الملكوت الابهى.

أخوك الحقيقي – شوقي

[1]         منتخباتي أز آثار حضرت بهاء الله، فقرة 129، ص 179

 

[2]         منتخباتي أز آثار حضرت بهاء الله، فقرة 157، ص 215

 

[3]         آثار القلم الاعلى – مجلد 4 – ص 131

 

[4]         الكتاب الاقدس – الآية 38

 

[5]         توقيع نوروز 111 بديع

 

[6]         توقيع نوروز 111 بديع

 

[7]         من المجموعه المستندية (مقام المرأة في الامر الالهي)

 

[8]         منتخباتي أز آثار حضرت بهاء الله – فقرة 129 ص 179

 

أيادى أمر الله اميليا كولنز 1873–1962

جاء في لوح لحضرة عبد البهاء مؤرخ 6 ديسمبر 1919 الى المنجذبة بنفحات الله أمة الرحمن اميليا كولنز هذه العبارات: يا سيدة الملكوت، مُجمل القول ان أملي من ألطاف وعنايات حضرة بهاء الله ان تتقدمي وتتطوري يومياً في ذلك الملكوت، حتى تصبحي نفساً ملكوتيه يؤيدك نفثات روح القدس وتشيدي صَرْحاً يظل ثابتا قائماً لا يتزعزع.

كانت هذه الكلمات استجابة لرغبة اميليا كولنز في خدمة العتبة المقدسة وقد حقق لها حضرة مولى الورى هذه الرغبة الساميه حيث انها كانت آملة من ألطاف وعنايات حضرة بهاء الله ان تتقدم وتتطور روحانيا وتصل الى اعلى مراتب الخدمة والعطاء والفناء في أمر حضرة بهاء الله.

ولدت أميليا انجلدر كولنز Amelia Engelder Collins في 7 يونيو 1873م في بتسبرغ بولاية بنسلفانيا الامريكيه، والدتها كانت تسمى كاترين كروف وقد ولدت هي ايضا في الولايات المتحدة ووالدها كان اسمه كونراد انجلدر وهو مهاجر من المانيا ثم اصبح من رجال الدين البروتستانت اتباع لوثر. ترعرعت اميليا كولنز في بيئة بروتستانيّة لوثرية شديده وفي عائلة تضم تسعة صبيان وخمس بنات وكان ترتيبها السابع بينهم. تزوجت اميليا السيد توماس كولنز وعاشت فتره في ولاية ميتشغان ثم اريزونا. بعد وفاة زوجها باعت بيتها في كاليفورنيا ثم كرست حياتها لخدمة الامر المبارك.

سَمِعَت اميليا عن الدين البهائي من صديقتها نلي ستيفن فرنش وآمنت بالامر المبارك في العام 1919 م وبعد ايمانها طلب منها الاحباء كتابة رسالة إلى حضرة عبد البهاء تطلب منه العون والتأييد. قامت اميليا بكتابة الرسالة على مضض ولم تكن مرتاحة منها، وفي الصباح عندما قامت من النوم فتحت ستائر النافذة ورأت الشمس تسطع منها، فكرت قليلاً وقالت لنفسها: ان الشمس العظيمة تدل على نفسها ولا تحتاج لرسالة. ثم مزقت الرسالة وهي مطمئنة من أن روح حضرة المولى سيساعدها ويعاضدها اينما كانت.

زارت اميليا الاراضي المقدسة لأول مرة في اوائل عام 1923م برفقة زوجها توماس كولنز Thomas Collins الذي لم يكن بهائيا، وكانت تتحدث معه عن لطف ومحبة حضرة شوقي افندي. ويروى عن زوجها عندما أراد أن يتوجّه في أحد الايام الى بيت حضرة عبد البهاء في أول زيارة له، لبس أحسن ثيابه ووضع ربطة عنقه بكل دقة وإتقان، ولما إطمأن تماماً الى حسن مظهره سأل زوجته: كيف يجب أن نتصرف عندما نصل الى البيت المبارك؟ وكانت دهشته كبيرة عندما أجابته: لا شيء يا عزيزي، لن تجد عند العائلة المباركة سوى البساطة المتناهية ولن يكون مقبولا لديهم الا المحبة القلبية الخالصة. وعندما توفى عام 1937 أرسل لها حضرة ولي امر الله برقية عزاء عبّر فيها عن عميق حزنه وطلب من المدرسة الصيفيه المنعقده في مدينة جيسرفيل عقد جلسة تأبين خاصة له. وفي نفس سنة وفاة زوجها أي عام 1937 قامت بزيارة ثانيه للاراضي المقدسة، وفي هذه الزيارة تعرفت أكثر على حضرة ولي أمرالله من خلال أمة البهاء روحيه خانم التي ارتبطت بها ارتباطاً وثيقاً. وبعد انتهاء الزياره أرسل لها حضرة ولي امر الله الرسالة التالية:

ان الايام التي قضيتها في ظل المقامات المقدسة ستذكر دوما بكل محبة وسرور. انني ُمعجَب ومثمّن للاخلاص الشديد والحماسة المتقده والمحبة والمودة العميقه التي ظهرت منكِ في سبيل خدمة الامر المبارك. احمدى الله على هذه السجايا النبيله وانني لواثق بان الثمار ستأتي أكلهُا وستكون ثمينة وقيمة وستذكر دوماً . اطمئني وكوني سعيده.

بعد ثلاث سنوات أي عام 1940 ارسل لها حضرة ولي امر الله الرسالة التاليه: يا لها من سعاده سيفرح بها المولى، ويالها من فخر واعتزاز سيشعر بها من اقداماتك العظيمة. لا شك ان روح المرحوم كولنز سعيد وبهيج في الملكوت الابهى. ثابري وكوني سعيده.

وفي نفس السنه أرسل حضرة شوقي افندي الرسالة التالية: زميلتي العزيزه، لقد تأثرت بشده من تبرعاتك السخيه المستمره لمؤسسات أمرنا العزيز في الولايات المتحدة والاراضي المقدسة… بكل شكر وسرور سوف اصرف التبرعين الاخيرين للتخفيف من وطأة المعاناة وايضا لطرح فعاليات جديده وتأسيس مؤسسات ومشاريع جديده في الارض الاقدس والدول المجاوره. ليباركك المولى ألف مرة للمساعدة القوية التي تقدّمينها للامر المبارك في ميادين متعدده ويمنحك العون لتحقيق امالك الكبيره في خدمة عتبته المقدسه.

انتخبت اميليا كولنز لعضوية المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتحده وكندا في عام 1924م. وكانت عضوة في ذلك المحفل الجليل طيلة السنوات المتعدده عدا بين الاعوام 1933و 1938 حين استدعاها حضرة شوقي افندي للخدمه في المركز العالمي. كانت ايضا عضوة فاعلة في لجنة التبليغ المركزية ولجنة تطوير المحافل واللجان المشتركه بين امريكا الشماليه والجنوبيه خلال خطتي السنوات السبع الاولى والثانيه بين الاعوام 1937 – 1953 زارت العديد من المراكز البهائيه في الولايات المتحدة وكندا للمساعده في الاستحكام والتمكين وزارت ايضا المراكز البهائيه في امريكا الجنوبية والوسطى لترويج انشطتها التبليغية. هذه الفعاليات كانت محل تقدير وإعجاب حضرة ولي أمرالله وقد عبّر عنها من خلال هذه الرسالة التي كتبها سكرتيره:

انه لمن دواعي سرور الهيكل الانور ان يعلم بانكم تعملون على رعاية وحماية مصالح الامر الكريم والاحباء. ان ما تمتازون به من رجاحة عقل، وإيمان كبير، وإخلاص شديد، كلها تعتبر في الوقت الحاضر من الموجودات الغنيه للامر المبارك. في عام 1937م ارسل حضرة ولي امر الله من خلال السيده اميليا كولنز هدية ثمينة الى الجامعة البهائيه الامريكيه. جاء في البرقيه الموجهة الى مؤتمر الوكلاء المركزي لعام 1938 مايلي: رمزاً للتعبير عن شكري وتقديري لهذه الجامعة، فانني أرسل اليكم من خلال السيدة اميليا كولنز خصلة من شعر حضرة بهاء الله الثمين الذي أعد ورتب وحفظ بالايادي الرقيقة للورقة المباركة العليا ليوضع تحت قبة مشرق الاذكار الذي شيده احبائنا الاعزاء في القارة الامريكيه.

وضعت اميليا كولنز هذه الهدية الثمينه في علبة خاصة فضية وقدمتها الى مؤتمر الوكلاء المركزي. هذا الاثر المقدس يعتبر أول ما يقدّمه حضرة ولي امرالله الى المحفظة البهائية الامريكيه المركزية. بعد الحرب العالميه الثانيه دُعيت إميليا كولنز لتأتي إلى ايسلند  وقد طلبت هداية وتوجيه حضرة ولي أمرالله الذي أشار الى بقائها في الولايات المتحده حيث ان الجامعة البهائيه هناك بحاجة ماسة لها، وان وجودها لتعزيز وتقوية المحافل الروحانيه لها الاولوية على اية امور اخرى. قامت اميليا بكل شجاعة ومثابرة على تبليغ الهنود الحمر في أمريكا طبقا لما هو مذكور في الواح الخطة الالهية لحضرة عبد البهاء. وخلال اعوام متعددة قامت بارسال بهائيين لتبليغ الهنود الحمر في منطقه ماس بولاية نبراسكا وكانت تزورهم هي شخصيا وفي عام 1948 تم تأسيس أول محفل روحاني من الهنود الحمر في القارة الامريكيه. عاشت اميليا كولنز حياة بسيطه ومتواضعه، وحرمت نفسها من الكثير مما يعتبره البعض هاماً  في الحياه لأن هدفها ومرامها كان خدمة أمرالله وتبليغ امره وتشييد المؤسسات الامرية. كانت سخية جدا في التبرعات، ونادراً ما كانت تتحدث عنه، ولم يكن يعلم حضرة ولي أمرالله عن تبرعاتها سوى عن طريق محاضر المحفل الروحاني المركزي أو تقرير أمين الصندوق. والكثير من تبرعاتها كانت استجابة لنداء حضرة المولى حول الحاجة الى الدعم المالي من اجل نمو الامر المبارك، وعندما ناشد حضرة شوقي افندي الاحباء التبرع لبناء المقام الاعلى قامت بارسال تبرّع سخي للمركز العالمي وقد ارسل سكرتير حضرة المولى البرقية التاليه: طبقا لتعليمات حضرة المولى أرسل اليكم وصل استلام المبلغ الذي قمتم بالتبرع به بكل كرم وسخاء ليستخدم في بناء المقام الاعلى على سفح جبل الكرمل واضاف قائلا: يريد حضرة شوقي افندي ان يعلمكم بان هذا التبرع هو اول تبرع نستلمه لهذا المشروع الجليل ولا يستغرب وصوله منكم. انكم قدوة حسنه في الاخلاص والولاء والتضحيه في مجالات شتى من الخدمات الامرية وما يعزز مكانتكم عند حضرة المولى هو روح الاخلاص والعطاء للامر العزيز الالهي وحرصكم على مصالحه.

ان الله وحده يعلم الخدمات العديدة التي انجزتها وقدمتها لمحبوبها الابهى، وقد اشاد حضرة ولي امرالله مرات عديده بخدماتها وتبرعاتها السخيه المتنوعه في رسائله وبرقياته ونذكر منها على سبيل المثال: شراء عقار على سفح جبل الكرمل في عام 1926 – تطوير وتوسعة المدرسة الصيفيه في مدينة جيسرفيل بولاية كاليفورنيا عام 1936 والمدرسة الصيفيه في مدينة دافيسون بولاية ميتشغن – أول تبرع لصندوق بهائيه خانم من اجل تشييد ام معابد الغرب في امريكا عام 1939م – التبرع لصندوق مشرق اذكار ايران عام 1939 – تغطيتها لنفقات طبع اربعة اعداد من كتاب العالم البهائي – التبرع المستمر للفعاليات التبليغية ولمشرق اذكار شيكاغو – التبرع لشراء تسع عشرة قطعة أرض في أمريكا الجنوبيه وأوروبا وآسيا من اجل بناء مشارق اذكار في المستقبل – المساهمة في تجميل الاراضي الواقعة حول الروضة المباركه في البهجه والتبرع لتشييد وبناء وتأثيث دار الاثار العالميه على سفح جبل الكرمل.

في عام 1956 ارسل حضرة ولي امرالله الرسالة التاليه الى اميليا كولنز: زميلتي العزيزه والغاليه، سوف أخصّص جزءاً من تبرّعك السخي لشراء عدة خزائن صينيه ويابانيه وقطع خشبيه وزخارف لدار الاثار العالميه الذي اقترب من نهاية بنائه، والذي ارتبط قوامه الداخلي والخارجي الى حد كبير بدعمك السخي لمؤسسات الامر المبارك في المركز العالمي. انني واثق بانك ستكونين سعيده من ذلك، وان روح المرحوم كولنز سيكون سعيداً ومبتهجاً في الملكوت الابهى.

أما هديتها المميّزه التي عبّر عنها حضرة ولي أمرالله بانها: العطاء الكبير للامر المبارك فهي شرائها للارض المخصصة لبناء مشرق اذكار على جبل الكرمل في المستقبل، والذي اشار اليه حضرة المولي واشاد بما قامت به هذه الامه المشتعله بنار محبة الله في رسالته المؤرخة اكتوبر 1953 وايضا في رسائله الى اثنى عشر مؤتمر وكلاء مركزي عقد في عام 1955م. ففي هذه الرسائل الاخيره أشاد حضرة المولى ايضا الى مساعدة اميليا كولنز السخيه في شراء العديد من حظائر القدس المركزية والاوقاف الامرية في القارات الخمس. تتويجا لجميع هذه الخدمات والفعاليات والتضحيات اطلق حضرة شوقي افندي اسمها على البوابة الرئيسيه التي تؤدي الى مقام حضرة بهاء الله في قصر البهجه وسميت بوابة كولنز.  لقد وعد حضرة بهاء الله هذه النفوس بالبيان التالي: فسوف يجزي الله الذين آمنوا ثم أنفقوا أحسن الجزاء من عنده فيدخلهم في رضوان قدس قديما.[1]

قامت اميليا كولنز برحلات متعدده وواسعة طيلة ايام حياتها من اجل الامر المبارك والبعض من هذه الرحلات كانت بطلب من حضرة ولي امر الله. ان تاريخ حياة اميليا كولنز مليء بالعشق والفداء والتضحية، ولم يكن يسعدها شيء في حياتها سوى خدمة أمر ربها ومولاها وسيسطّر التاريخ باحرف من نور ما قامت به هذه المنجذبة بنفحات الله من اجل تبليغ وترويج وحماية الامر الكريم. اوكل اليها حضرة شوقي افندي مهاماً معينة وخاصة كان يعلم بانها افضل وأقدر من يستطيع ان ينجزها بكل خلوص واقتدار.

في عام 1942 مثلت المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتحدة وكندا في مراسم وضع النصب التذكاري لقبر السيده مي ماكسويل والدة روحيه خانم في بيونس ايرس بالارجنتين. هذا النصب التذكاري قام بتصميمه السيد ساثرلند ماكسويل بطلب من حضرة ولي امر الله. ان رحلتها للارجنتين كانت محفوفة بالمخاطر حيث ان الحرب العالميه الثانيه كانت مشتعله ووسائل المواصلات صعبة والات الحرب الجهنميه تأكل الاخضر واليابس. ولكن عندما وصلت الى محل اقامتها بالفندق في بيونس ايرس استلمت البرقيه التاليه من حضرة المولي: ان الدعاء والمناجاة يرافقك دوما وفي كل مكان. تحياتي الحارة القلبيه. شوقي.

ظلت اميليا في بيونس ايرس حتى تم اعداد النصب التذكاري ووضع على القبر في مقبرة كلمس. اشرفت بنفسها على اختيار النحات المناسب والرخام الجيد والحجم المناسب وقد انجزت كل ذلك بدقة وعناية تامه بما تليق للمكانه الساميه للمرحومه مي ماكسويل ثم سافرت الى ميامي بالولايات المتحده. وبمناسبة انجاز هذا العمل الهام ارسل لها حضرة شوقي افندي الرسالة التاليه:

الزميله العزيزه والغاليه، ان رحلتك الى امريكا الجنوبيه في هذه الاوقات الحرجة والجهود التي بذلتها من اجل اعداد ووضع النصب التذكاري على مقام السيده مي ماكسويل في الواقع جهود مميزه ولا تنسى وتضيف الى رصيدك الغني بالخدمات لأمر حضرة بهاء الله ومؤسساته على المستويات المحلية والمركزية والعالمية. ان البهائيين في الشرق والغرب وفي الشمال والجنوب معجبون وشاكرون لكم هذه الخدمات… كوني سعيده واستمري في خدماتك التاريخيه المثاليه. بكل محبة، شوقي.

بعد هذه الرحلة الاولى قامت اميليا كولنز برحلتين لامريكا الجنوبيه. الاولى في شهر يناير من عام 1946 عندما شاركت في اول مؤتمر تبليغي في قارة امريكا الجنوبيه في بنما كممثلة للمحفل الروحاني المركزي للولايات المتحدة وكندا والاخرى للمشاركة في لجنة التبليغ الامريكيه. في يناير عام 1949 شاركت في ثالث مؤتمر تبليغي لامريكا الجنوبيه عقد في ساوباولو بالبرازيل بمشاركة سبع دول من امريكا الجنوبيه.

كان حضرة ولي أمر الله يعرب دائما عن إعجابه وتقديره وشكره للخدمات الفذه التاريخيه التي تؤديها هذه السيده الفاضله للامر الالهي وقد أرسل لها رسالة في يناير عام 1947 كتبها سكرتيره جاء فيها ما يلي:

ان حضرة المولي يود ان يوضح لكم بان ما كان يعنيه في برقيته الاخيره بان خدماتك لا يضاهيها سوى هيئة ايادي امر الله مكونه من تسعة افراد من الذين سينتخبون في المستقبل لاداء مهام ولي الامر، هو انه نظرا لطبيعة الخدمات التي تأدونها للامر المبارك وارتباطها الجوهري بولي الامر فان ذلك لا يعادله سوى خدمات واحد من هؤلاء الايادي التسع. وعليه فإنك لست فقط مستحقه أن تصبحي أيادي أمرالله، وإنما ما قمتِ به من خدمات لا تؤديها سوى هذه الهيئة المكونة من تسعة أفراد. عليك ان تدركي بان منحك هذا المقام هو ليس تشجيع لك لانجاز خدمات في المستقبل وانما تقدير وعرفان لما قدمتيه وانجزتيه حتى الان. وقد ذيّل هذه الرسالة حضرة ولي امرالله بالكلمات التاليه:

ايتها الزميلة العزيزه والغاليه: بقلوب ملؤها الشكر والامتنان، اكتب اليك هذه الاسطر للتأكد على المشاعر الجياشه التي عبّرتُ عنها في عدة مناسبات وفي عدة برقيات وايضا إعجابي بخدماتك الرائعه التي أنجزت في ظروف استثنائيه وصعبة، وستكون ثوابها مضاعفا عند الله العلي القدير. لقد أبليت بلاء حسناً مما يدفعني أن أثمّن ما قمتِ به وهو لا شك سيجلب تأييدات الملأ الاعلى. ان الرتبة العاليه التي تحتلينها الان والتي لم تسبغ على أي فرد بهائي ايام حياته حتى الان، هذه الرتبة مُنحت لك تقديراً وعرفاناً لخدماتك المتعدده المتنوعه للامر العزيز الالهي ولا يعتبر باي حال حافزاً أو تشجيعاً لك للخدمة. في الواقع، ان طبيعة الخدمة التي ادّيتيها مؤخراً تضعكِ ضمن الهيئة المكونة من تسعة افراد الذين دون غيرهم من أيادي أمرالله سيكونون على ارتباط مباشر ووثيق مع مسئوليات ومهام ولي أمرالله. انني فخور بكِ وأشعر بالقرب ِمنكِ ومُعجب أكثر من أي وقت مضى من الروح النباضة التي تحركك. ليجزى الله عملك في هذا العالم والعالم الاخر لما قدمتيه من انجازات رائعة.

بكل محبة وامتنان – شوقي

 

وطبقا للرسالة السابقه فقد عيّن حضرة ولي أمرالله السيده اميليا كولنز لتكون أيادي أمر الله في عام 1947 ولكنه ارتأى عدم الاعلان عن ذلك حتى يحين الوقت المناسب. وفي وقت لاحق من نفس السنه كتب حضرة المولي هذه الرساله اليها:

أيتها الزميلة العزيزه الغاليه، ان الخدمات والمساعدات والدعم الذي قدمتيه لي خلال ايامي العصيبة والمجهده في هذا الوقت من السنة الماضية مازال محفوراً في ذاكرتي مما يثير اعجابي وتقديري. ان خدماتك في مجالات اخرى وعبر سنوات عديدة أدت الى تعميق شعور المحبة والامتنان لك، حيث انك من اماء الرحمن المميزات ومن ايادي أمره … مع الشكر والموده  – شوقي.

بعد انتهاء الحرب العالميه الثانيه سافرت اميليا كولنز عدة مرات الى أوروبا وقد كتب لها حضرة ولي امر الله في اكتوبر عام 1949 الرسالة التالية: انني سعيد للفرصة الكبيره التي سنحت لك في تقديم الدعم والمساعدة للامر العزيز الالهي وتطوره وتثقيف الاحباء في بريطانيا العظمى وبولندا وسويسرا والمانيا. لقد ابلغت المحافل الروحانية المركزية في كل من المانيا وبريطانيا وانني واثق بان الاحباء سيسعدون بلقائكم وستكونين سببا في حثهم وتشجيعهم عن طريق الاخبار السعيده التي ستنقلينها اليهم نتيجة لخبراتك الواسعة وايضا ستكون روحك النباضة التي تدفعك للخدمه في سبيل الامر المبارك وسيلة لتشجيع وتحفيز الاحباء. ان هذه الرحلة الاخيره التي ستقومين بها لتبليغ وتمكين الامر الالهي في مراكز أوروبية هامه ستمثل فصلاً آخراً من خدماتك العالميه البارزه في سجلك الحافل والمميّز … أخيك الممنون والحقيقي. شوقي.

أرسل حضرة ولي امرالله السيده اميليا كولنز في ديسمبر عام 1951 الى كل من تركيا ومصر لانجاز مهام معينة. وعندما حان سفرها الى تركيا اصبحت مريضة ولكن لم يمنعها المرض من المضي قُدُما في رحلتها الطويلة والشاقه في منتصف الشتاء. في القاهرة خاطبت الاحباء في جمع غفير في حظيرة القدس، وكانت مرهقة ومريضة وحتى وقوفها امام الاحباء كان صعباً لانها كانت مصابة بمرض التهاب المفاصل، وكأنه كان اختباراً لها بأن عليها من الان فصاعداً أن تنسى أمراضها بل تتحمل المصاعب في سبيل أمر مولاها العظيم ولكنها كانت تتذكر هذا البيان المبارك من جمال القدم في الكتاب الاقدس: قوموا على خدمة الامر في كل الاحوال، انه يؤيدكم بسلطان كان على العالمين محيطا.[2]

في شهر يناير عام 1951 عينها حضرة شوقي افندي لتكون نائبة رئيس الهيئة البهائيه العالميه وطلب منها المجئ الى حيفا والسكن هناك. وقد فعلت ذلك ولكن في الصيف سافرت الى الولايات المتحدة بموافقة من حضرة المولى لعلاج مفاصلها واتمام امورها الشخصيه والتجارية. في ديسمبر من العام نفسه عين حضرة المولى أول كوكبة من حضرات أيادي أمرالله وكان عددهم اثنى عشر شخصا وكانت اميليا كولنز واحدة من هؤلاء النفوس الفعاله والمميزه والمقتدره التي اعتبرت خدمة الامر المبارك مرامها وهدفها وغايتها في الحياة. ومع تعيينها ايادي امر الله اصبحت اكثر قدرة على العطاء والخدمة والعبودية للعتبة الساميه. ان تعيينها ضمن أول كوكبة ايادي امر الله كان تاجاً  وفخراً  لخدماتها الفذه التاريخية للامر المبارك، ولا عجب في ذلك وهي التي سميت بايادي امرالله قبل اربع سنوات من الاعلان العام، وهي التي اطلق عليها حضرة ولي امر الله القابا وتعابير مثل: روحية لا تقهر من الايمان والعشق  خدمات لا تعرف الكلل شخصية مستقله واخلاص قلبي ان ما تمتازون به من رجاحة عقل وايمان كبير واخلاص شديد كلها تعتبر في الوقت الحاضر من الموجودات الغنية للامر المبارك انكم قدوة حسنة في الاخلاص والولاء والتضحية في مجالات شتى من الخدمات الامرية.

عندما أعلن حضرة ولي أمرالله عن طرح خطة مشروع العشر سنوات التي سمّيت بالجهاد الكبير الاكبر الروحاني في عام 1953 أعلن حضرته عن إنعقاد أربع مؤتمرات تبليغية قارية في العالم بهذه المناسبة التاريخية، بحيث تعقد في كل من شيكاغو واستوكهولم ونيودلهي وكمبالا. وقد مثل الهيكل الاطهر بعض حضرات الايادي في هذه المؤتمرات. وبالنسبة لمؤتمر شيكاغو الذي عقد ما بين 3 – 6 مايو 1953م فقد كانت ايادي امر الله روحيه خانم ممثلة حضرة المولى وبمعيتها أيادي أمرالله اميليا كولنز.

في منتصف خطة السنوات العشر دعا حضرة ولي أمرالله مرة اخرى الى عقد خمس مؤتمرات تبليغية قارية احداها في القارة الأوروبيه لتعقد في فرانكفورت بالمانيا في شهر يوليو 1958 وقد عين ايادي امر الله اميليا كولنز لتكون مندوبته. ولكن للاسف وكل الاسف ان حضرة المولى قد صعد الى الملكوت الابهى قبل انعقاد المؤتمر، ولكن انعقد المؤتمر في الموعد المحدد له والقت اميليا كلمة مؤثرة قالت فيها:

اننا جميعا بشكل ما من ورثة حضرة ولي امر الله. لقد ورثنا عمله، ان خطته مفصله ومطروحه ومن واجبنا تطبيقه والعمل به وعلى كل واحد منا اتمام دورنا في خطة الجهاد الكبير الاكبر الروحاني، هذا ما يجب علينا ان نعمله تخليدا لذكراه العطره. لتزداد محبتنا اليه اليوم اكثر من أي يوم مضى، ومن خلال محبتنا اليه نجذب حبّه وعشقه الينا حتى تصل عناياته وبركاته الى اعمالنا ومجهوداتنا. علينا ان لا نخيب امله مثلما هو لم يخيب املنا قط، وعلينا ان لا ننساه حيث انه لم ينسنا اطلاقا.

عينها حضرة المولى لتكون مندوبته في مراسم وضع حجر الاساس لبناء مشرق الاذكار في فرانكفورت بالمانيا وقد تحقق ذلك في 20 نوفمبر 1960م عندما وضعت حجر الاساس ووضعت فيه بعض التراب المقدس من الروضة المباركه لحضرة بهاء الله.

بعد الايام الحزينة والعصيبه التي أعقبت وفاة حضرة ولي امر الله عام 1957 كان عزاء أميليا كولنز الوحيد هو الكلمات النافذة التي قالها حضرة المولى لها قبل أن يغادر حيفا في حزيران عام 1957،  ففي ذلك اليوم امسك بيدها ونظر اليها بنظرة ثاقبه وقال لها: لا تحزني يا ميلي.  قالت اميليا بأن هذه الكلمات كانت ترن في اذنها دوماً ، وكان محيا الهيكل الاطهر في خاطرها، وابتسامته لا تفارقها، ولم يكن ذلك سوى عضدا وساعدا لها في الاستمرار في خدماتها للامر العزيز الالهي ولم تكن تعلم بان الحزن سيأتيها في القريب العاجل وان مفارقتها له ستكون ابدية في هذا العالم.

بعد شهر عاد حضرة المولى الى حيفا ومن ثم في يوم 20 اكتوبر 1957 غادر الى لندن لتكون اخر رحلة له دون ان يرجع منها. كانت اميليا كولنز في حيفا وتمارس عملها كأيادي امر الله ونائبة لرئيس الهيئه البهائيه العالميه التي اسسها حضرة المولى عام 1951م. ولم تكن تعلم بانها سوف لن تلتقى بمولاها العزيز بعد الان. توفى حضرة المولى يوم 4  نوفمبر 1957 وقد أرسلت أيادي أمرالله روحيه خانم برقيه من لندن الى حيفا بهذا الخصوص وتم اخبار المجتمع البهائي العالمي بهذا المصاب الجلل. هذا الخبر كان صدمة كبيره لاميليا كولنز التي لم تستطع ان تتحمل حيث غادرت فورا الى لندن لتكون الى جانب روحيه خانم في حزنها. وقد شاركت في مراسم تشييع جثمان حضرة ولي أمرالله وعادت الى حيفا مع باقي حضرات الايادي ليقرروا ما يجب عمله في هذه المرحلة الحساسة والحرجة من تاريخ الامر المبارك.

فور وصول حضرات الايادي الى حيفا قاموا بتعيين خمسة افراد من بينهم ليقوموا بمعاينة مكتب وخزينة وأمانة سر حضرة ولي أمرالله ويقفلوا المكان بالشمع الاحمر عليه ليعرفوا فيما بعد ان كان حضرة المولى قد ترك وصية ام لا ؟ وكانت اميليا كولنز من بين هؤلاء الخمسة وقاموا باصدار بيان رسمي بتاريخ 15 نوفمبر 1957 اعلنوا فيه عن ادائهم للمهام الموكولة اليهم ووقعوا عليه.

وفيما بعد قام حضرات الايادي بتعيين تسعة فيما بينهم لفتح الاختام والبحث عن وصية حضرة شوقي افندى والاعلان عنها. وكانت اميليا كولنز واحدة من هؤلاء التسعة الذين قاموا بهذه المهمة وهم: روحية خانم – يوغو جياكري – هوراس هولي – ماسون ريمي – لوري ايواس – موسى بناني – اميليا كولنز – حسن باليوزي – علي محمد ورقا.

في 19 نوفمبر 1957 اعلنت الهيئة عن عدم وجود اية وصية لحضرة ولي امرالله وفي 25 نوفمبر 1957 اصدر جميع حضرات الايادي بياناً تاريخياً أعلنوا فيه لقاطبة البهائيين في العالم عن عدم وجود وصية أو ذرية لحضرة ولي أمرالله وعدم امكانيته من تعيين من هو بعده نظرا لأن حضرات الاغصان (المنتسبين لحضرة بهاء الله) كانوا قد توفوا وعدد منهم نقض العهد والميثاق فاصبحوا من الناقضين وبالتالي لم يكن باستطاعة حضرة المولى تعيين من يخلفه ولكن هذا الامر متروك لبيت العدل الاعظم لكي يقرر في شأنه عندما يتأسس في المستقبل. قام جميع حضرات الايادي السبعه والعشرون بالتوقيع على هذه الوثيقة التاريخية، ثم قاموا بتعيين تسعة أيادي فيما بينهم لادارة شئون الجامعة البهائيه العالميه لحين تأسيس بيت العدل الاعظم، وكانت اميليا كولنز واحدة من هؤلاء التسعة وهم: روحيه خانم – اميليا كولنز – ميسون ريمي – علي اكبر فروتن – جلال خاضع – البرت مولشليگل – لوري ايواس – جون فارابي – يوغو جياكري.

خلال فتره عضويتها لهيئة أيادي أمرالله المقيمة في الارض الاقدس كانت أميليا دؤوبة ونشطه كعادتها في ادارة شئون الجامعة البهائيه العالميه وحريصة على لقاء الزائرين والمهاجرين وتشجيعهم على الخدمة والعطاء على الرغم من اعتلال صحتها احيانا، وكان محط نظرها دوماً  البيان التالي الذي كتبه لها حضرة المولى في عام 1924: … ان من واجبنا بل ومما نمتاز به ان نترجم ما نكنّه لامرنا العزيز من محبة واخلاص الى افعال واعمال تؤدي الى خير البشرية وسعادتها …

ومع كبر سنّها ازدادت صحتها سوءاً، ولكنها كانت حريصة على حضور جميع اجتماعات الهيئه التي كانت تعقد في البهجه وبالذات فيما يتعلق بطريقه انتخاب بيت العدل الاعظم الالهي. وما كان مثيراً انها شوهدت على كرسي متحرك تذهب وتأتي للاجتماعات. وفي آخر يوم في حياتها أرسلت برقية الى المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحده تقدم فيه المساعدة لأحد المهاجرين وعليه فقد كانت مصداقاً لبيان حضرة بهاء الله: اياكم ان يمنعكم الدنيا وما فيها عما قدّر لكم في سماء عز رفيعا، فاشدد ظهرك لنصر الله وأمره ثم لخدمة الله وعزّه وكذلك يأمرك قلم العز من جبروت عز منيعا.[3]

في ظهيرة اليوم الاول من شهر يناير عام 1962 وبينما كانت تحتضن أمة البهاء روحيه خانم صعدت روح اميليا كولنز إلى بارئها لتستقر إلى الابد في رحاب الملكوت الابهى مع الاولياء والصّدّيقين من حملة راية المحبة والوفاء لأمر حضرة بهاء الله. أُجري لها مراسم تشييع جنازة جميل ورائع بما يليق بمكانتها السامية وقد دفنت في المقبرة البهائيه على سفح جبل الكرمل. عليها رضوان الله وبهائه.

ومع صعودها ارسلت هيئة ايادي امر الله البرقية التالية الى المحفل الروحاني المركزي للولايات المتحده الامريكيه:

بقلوب ملؤها الحزن والاسى يرجى اطلاع قاطبة البهائيين في العالم عن وفاة المحسنة اللامعة أيادي أمرالله العزيزه اميليا كولنز. إن دعمها المستمر ومحبتها واخلاصها لولي أمرالله خلال احلك الفترات من تاريخ حياته أدت إلى شمولها لالطاف وعنايات الهية فريده ومحبة قلبيه عميقه من حضرة المولى واحترامه وثقته لما قامت به من خدمات للمركز البهائي العالمي. لا يمكن ان ننسى كل خدمة قدمتها في كل مجال من الفعاليات البهائيه. من ضمن تبرعاتها الكبيرة شراء أرض مشرق الاذكار على جبل الكرمل، وتبرعها السخي للاسراع في بناء ام المعابد في أربع قارات، وحيازة حظائر القدس المركزية والاوقاف الامرية ودعمها المستمر لمشاريع التبليغ المحلية والعالمية. يرجى دعوة كافة المحافل الروحانية المركزية لعقد جلسات تأبين على شرفها في كافة مشارق الاذكار تخليداً لهذه القدوة الحسنه، وتمجيداً لخدماتها المستمرة التي واظبت عليها حتى آخر نفس في حياتها.

 

 

 

[1]         نقلا عن توقيعات مباركة، جزء 1 ص 236

 

[2]         كتاب الاقدس، الآية 74

 

[3]         لئالئ الحكمة، مجلد 1، ص 34

 

المصادر والمراجع الرئيسية

1)        بهائية خانم – اعداد دائرة مطالعة النصوص والالواح

2)        كتاب القرن البديع – حضرة شوقي أفندى – ترجمة الدكتور محمد العزاوي

3)        التوقيعات المباركة – نوروز 101 بديع – ترجمة عبدالحسين فكرى

4)        الكنوز الالهية – اعداد وترجمة عبدالحسين فكرى

5)        Prophets Daughter by Janet A.Khan

6)        Martha RootLioness at the threshold by M.R.Garis

7)        From Copper to Gold by Dorothy Freeman Gilstrap

8)        The Bahai World 1928–1930

9)        The Bahai World 1950–1954

10)      The Bahai World 1954–1963