فهم الدين البهائى
فهم الدين البهائى

فهم الدين البهائى

دار البديع للطباعة والنشر

هذا الكتاب هو تعريب لكتاب، Understanding the Bahá’í Faith فهم الدّين البهائي من تأليف وندي مؤمن و موجان مؤمن Wendi Momen and Moojan Momen وقد نُشر بالّلغة الإنجليزيّة ضمن سلسلة أشرف على تحريرها البروفسور فرانك والنغ Professor Frank Whaling تحت عنوان Understanding Faith (فهم العقائد الدينيّة)، وهي تشتمل على الأجزاء التالية: فهم المسيحيّة، غيلا سبويغ؛ فهم اليهوديّة، جرمي روسن؛ فهم السيخيّة، أون كول، فهم البوذيّة، بري شميدت لويكل؛ فهم الهندوسيّة، فرانك والنغ، فهم الاسلام، كفر ياران، فهم الدّين البهائي، وندي مؤمن وموجان مؤمن.

طبع هذه السلسلة ونشرها:

Dunedin Academic Press Ltd., Hudson House, 8 Albany Street, Edinburgh EH1 3QB, Scotland. ISBN 1 903765 50 1, ISSN 1744–5833, © 2006 Wendi Momen

*الكتاب: فهم الدّين البهائي

*المؤلف: وندي مؤمِن، وموجان مؤمِن

*المترجم: رمزي زين

*الطبعة الأولى: كانون الثاني 2009م

*الطبعة الثانية: طبعة مَزيدة ومعدلة ومنقّحة أيلول 2019م 

*جميع الحقوق محفوظة للمترجم

*الناشر:
دار البديع للطباعة والنشر
ص ب 90–1484
منصورية المتن – لبنان
dar–albadi@hotmail.com

© لا يجوز نشر أي جزء من هذا الكتاب أو اختزان مادّته بطريقة الاسترجاع، أو نقله، على أي نحو، أو بأي طريقة سواء كانت “الكترونية” أو “ميكانيكية”. أو بالتصوير، أو بالتسجيل أو خلاف ذلك، إلا بموافقة كتابية من المترجم مسبقًا.

تمهيد الطّبعة الثّانية

المعدّلة عام 2019

صدر كتاب فهم الدّين البهائي Understanding the Bahá’í Faith لمؤلفيه د. وندي مؤمن و د. موجان مؤمن باللّغة الإنجليزيّة عام 2006، وصدرت الطّبعة المترجمة إلى اللّغة العربيّة عام 2009. بعد نفاد الكتاب عام 2016، ارتأى المؤلّفان وجوب إدراج تعديلات على الطّبعة الثّانية نظرًا لتطوّر ونموّ الدّين البهائيّ تحت هداية “بيت العدل الأعظم“؛ السّلطة البهائيّة العليا، والّذي يعمل بموجب الصّلاحيات والمسئوليّات الّتي منحه إيّاها كتابيّا حضرة بهاء الله مؤسّس الدّين البهائيّ[1]. وقد أُدخل القسم الأكبر من التعديلات على الفصل الرابع، “الحياة في المجتمع“ والفصل السابع، “حياة المجتمع البهائي“. تُبيّن التعديلات في الفصل الرابع ذلك التغيير الذي طرأ على الموقف البهائي تجاه حياة المجتمع وعلى مفهوم التطور الاجتماعي بشكل عام. وتُظهر التغيرات في الفصل السابع التطور في حياة المجتمع البهائي وتبيّن أيضًا ما جرى من تعديل على التقويم البهائي. أما التعديلات في بعض الفصول الأخرى فهي قليلة للغاية وتهدف إلى توضيح المضمون.

تجدر الإشارة إلى أنّ ما يؤمن به البهائيّون، وما يقومون به من أعمال تُمثّل قيمًا روحانيّةً وأخلاقيّةً، ومنها التّمسّك بالصّلاة والصّوم والدّعاء والتّأمّل والسّعي الدّؤوب في خدمة الإنسانيّة دونما تمييز، وذلك انطلاقًا من ما تفضّل به حضرة بهاء الله بقوله: “كلّكم أثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد” وكذلك قوله: “عاشروا مع الأديان كلّها بالرّوح والرّيحان”؛ كلّ ذلك لا يتبدّل مع مرور الوقت، لكن قد يطرأ جديد في الحياة البشريّة لم يأت على ذكره حضرة بهاء الله، وهي أمور ترتبط بجوانب إنسانيّة واجتماعيّة تعكس متطلّبات وحاجات حضارة عالميّة دائمة التقدّم والتّطوّر، فيكون من الضّروري تمتّع الدّين بمرونة تمكّنه من مواكبة المستجّدات والتّأقلم مع روح العصر عبر الأزمنة، ولكنها تأتي بهداية إلهيّة عبر القنوات الّتي يكون مؤسّس الدّين قد حدّدها.

إنّ تحقيق وحدة العالم الإنسانيّ في ظلِّ سلام وازدهار هو الهدف الأساس لرسالة حضرة بهاء الله، وذلك انطلاقًا من الإيمان بما علّمه حضرته بأن الأديان كلّها منزلة من عند الله الواحد عزّ وجلّ، وهي في جوهرها الروحانيّ واحدة، أمّا الفروقات الحاصلة بينها فهي في بعض الأمور الدنيويّة الّتي يقتضيها التّغيير الّذي يطرأ على المجتمعات في كلّ زمان، وتظهر الفروقات أيضًا في ما أضيف إلى أصول الأديان من طقوس وتقاليد لا تمتّ لجوهر الدّين بأي صلة.

بروح من التفاعل مع الجميع بالمحبّة والتعاون، فإن النّشاطات الّتي يقوم بها البهائيّون متاحة لكلّ من يتوق إلى خدمة الإنسانيّة وإلى المساهمة في تطوّرها. لذلك، لا تكون أبواب المعابد البهائيّة، المعروفة باسم مشارق الأذكار، مفتوحة أمام أتباع جميع الاديان ومرحّبة بهم فحسب، بل تدعوهم للدّعاء فيها، كلٌّ حسب دينه وعقيدته، وهذا ما يجري في المعابد البهائيّة الموجودة في القارّات الخمس على النطاق القارّي والمركزي والمحلي، وتلك التي هي قيد البناء والمخطط لها مستقبلا في شتّى أنحاء العالم، حتّى تتأصّل ثقافة التّعبّد والعبادة الروحانيّة في جميع المجتمعات الإنسانيّة. على سبيل المثال، كانت الصورة على غلاف الطبعة السابقة من هذا الكتاب هي مجسّم لمشرق الأذكار في تشيلي بقارة أمريكا الجنوبيّة، والصورة على غلاف هذه الطبعة تبيّن مشرق الأذكار نفسه بعد اكتمال تشييده وفتح أبوابه أمام كلّ من يرغب في التّأمّل والتّواصل مع خالق الكلّ.

أن مصادر الصور المدرجة في هذا الكتاب مأخوذة بمجملها من أرشيف Bahá’í Media Bank الموجود على هذا الرابط:

https://media.bahai.org/

والقليل منها على موقع

Baha’i Houses of Worship

تجدر الإشارة إلى أن الموقع الرسمي للجامعة البهائيّة العالميّة باللغة العربيّة[2]، يتضمّن روابط إلى مواقع بهائيّة عالميّة رسميّة بثمانية لغات، ويتضمن أيضا روابط[3] إلى المواقع البهائيّة الرسميّة في ما يناهز المئتي دولة بما فيها دولٍ عربيّة.

يود المترجم أن يتوجه بجزيل شكره وامتنانه لجميع الذين ساهموا في صدور هذه الطبعة الجديدة للكتاب، ويخص بالذكر هنا السيّد مصطفى صبري الذي راجع الكتاب بكامله وقام بتنقيح نصّه، والسيد بيجن شهيد الّذي ساهم في مراجعته.

مترجم الكتاب

[1])   راجع فصل 7.

[2])   www.bahai.org/ar

[3])   http://www.bahai.org/ar/national-communities/

تمهيد الطّبعة الأولى

كانون الأول2009

يتميّز كتاب فهم الدين البهائي بتناوله جوانب هامة جدّا عن الدين البهائي الذي أسّسه حضرة بهاء الله في القرن التاسع عشر تحت ظروف من الاضطهاد والنفي والسجن، ويشرح انتشاره حول العالم رغم ما عاناه أتباعه ومازال بعضهم يعانيه اليوم. تشدد فصول الكتاب الأولى على إبراز حجر الأساس الذي يقوم عليه هذا الدين، والأديان العالميّة كافة، ألا وهو الإيمان بالله الواحد الذي لا شريك له، وبهدايته المستمرّة لخلقه عبر الأنبياء والرسل الأبرار، الذين دَعَوْا ودون استثناء إلى الحياة الروحانيّة بمعناها الأصيل، وأشادوا بدورها الحيوي في حياة الفرد والأسرة والمجتمع. أما الفصول التالية فتشرح قضايا اجتماعيّة وتشير إلى سعي البهائيين في تقديم الخدمات على أنواعها، من تربية وتطوير وإنماء واقتصاد وصحّة وغيرها، للإنسانيّة في شتى أنحاء الكرة الأرضيّة، من دون أي تمييز في العرق أو الجنس أو اللون أو الدين، كما تُبيّن للقارئ الكريم رؤية الدين البهائي لعالم متحد وكيفيّة العيش في مجتمع بهائي. ويوضح الفصل الثامن، وقد أضافه المؤلفان على هذه الطبعة، استقلاليّة الدين البهائي من جهة، وعلاقته بأديان أخرى من جهة ثانية، وينتهي الكتاب بفصل موجز عن تاريخ الدين وركائزه في يومنا هذا.

رغم أن مواضيع الكتاب تتّسم بسعة الأفق وشموليّة الطرح، انطلاقًا من تفاصيل لها علاقة بالفرد، ومرورًا بمتطلبات المجتمع المحلّي والدولي، إلا أن المؤلفين يشددان مرارًا، ويُذَكّران القارئ تكرارًا، أن كل هذه المواضيع مترابطة ترابطًا عضويًّا وتشكّل مسعىً متكاملاً يهدف إلى تحقيق وحدة العائلة الإنسانيّة، وأن الروحانيّة في حياة الفرد، هي الشريان الحيوي الذي عليه تعتمد الحضارة الإنسانيّة في تطوّرها عبر الزمن.

تُرجم هذا الكتاب بمعرفة مؤلفَيه الدكتورة وندي مؤمن والدكتور موجان مؤمن، اللذين أضافا إليه فصلاً جديدًا، وجرت استشارتهما كلما دعت الحاجة إلى ذلك. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن آثار حضرة بهاء الله الكتابيّة وكذلك آثار ابنه الأرشد حضرة عبدالبهاء الذي خلفه في رئاسة الدين البهائي، نزلت باللغة العربيّة والفارسيّة. وقد ترجم حضرة شوقي أفندي، وليّ أمر الدين البهائي من بعد حضرة عبدالبهاء، العديد منها إلى اللغة الإنجليزيّة، والذي أتت كتاباته في معظمها باللغة الإنجليزيّة. أما بيت العدل الأعظم، وهو السلطة البهائيّة العليا من بعد حضرة شوقي أفندي، فهو يُصْدر معظم كتاباته باللغة الإنجليزيّة. من هنا كان على المترجم أن يسعى لإيجاد الأصول العربيّة لأي مُقتَطف من تلك الكتابات حيثما أمكن، أو في ما تُرجم منها سابقًا إلى العربيّة ونُشر في كتب معتمدة. وفي حال عدم توفّر أيّ منها، فقد تُرجمت المقتطفات الواردة في هذا الكتاب من الإنجليزيّة أو الفارسيّة وعُرِّفت في الحواشي بعبارة “ترجمة مترجم الكتاب”. هذا وقد طبعت الأصول العربيّة بالخط العريض.

سيجد القارئ في سياق مطالعته للكتاب مصطلحات بهائيّة متعددة منها على سبيل المثال، “المحفل الروحاني المحلّي“، “حقوق الله“، “مشرق الأذكار“ وغيرها. إن شرحًا وتوضيحًا للعديد من هذه المصطلحات ورد في الفصلين السابع والتاسع ويمكن للقارئ مراجعتهما عند الضرورة.

وتسهيلاً لعمل الباحث الذي يودّ الاطّلاع على المزيد من المراجع البهائيّة، أضيف ملحق يتضمن عناوين مواقع على شبكة الإنترنت تشتمل على معلومات وكتب عديدة، ولا بدّ من الإشارة إلى أن المواقع البهائية الرسمية باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، وكذلك مواقع المكتبة البهائيّة باللغتين العربيّة والإنجليزية، تشكل خير مرجعيّة لمن يودّ التبحّر في التقصّي عن حقيقة الدين البهائي، خصوصًا وأن بإمكان الباحث تحميل ما يشاء من الكتب على حاسوبه الشخصي. تجدر الإشارة إلى أنّه قد تمّ ترقيم فقرات الكتاب تسهيلاً لدراسته.

إن الصور المنشورة في هذا الكتاب، مأخوذة من أرشيف Bahá’í Media Bank الموجود في الموقع الإلكتروني التالي:

http://media.bahai.org

ومن قرص الـ DVD الّذي انتجته الجامعة البهائيّة العالميّة بعنوان:
Attaining the Dynamics of Growth، ومن موقع:

http://denial.bahai.org/003.php

وقد قدم مؤلّفا الكتاب صورة الصفحة الأولى من كتاب “الكلمات المكنونة“ باللغة العربيّة.

يمكن الوصول إلى اصول العديد من الحواشي عن طريق البحث في مكتبة المراجع البهائيّة على شبكة الانترنت على العنوان الوارد في الملحق رقم 2.

يود المترجم أن يعبّر عن شكره وتقديره العميق للمصادر المذكورة أعلاه التي سمحت بنشر الصور، والتي تعود حقوقها إليهم. كما ويتوجّه المترجم بجزيل شكره وامتنانه لجميع الذين ساهموا بشكل أو بآخر في صدور هذه الترجمة العربيّة، ويخص بالذكر هنا السيّد بيجن شهيد الذي قام بجهد أساسي في ضبط أصول اللّغة والأسلوب، والأستاذ حسن عبدالرّحيم للتدقيق في سلامة النّص.

في عالم يئنُّ من آلام التفرقة والظلم وتتوق شعوبه إلى العدالة والسلام، يتمنى المترجم أن يساهم هذا الكتاب في إبراز صورة واضحة عن الدين البهائي لما في ذلك من مساهمة في تركيز دعائم التقارب والانفتاح بين البشر قاطبة حتى تتحد القلوب عملاً بنداء حضرة بهاء الله للبشريّة، “كلّكم أثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد”.

رمزي زين

 

مقدّمة

يرمي هذا الكتاب إلى بيان حقيقة دين حديث العهد في عمر البشرية، ولأنه كذلك، لم يتوفر له بعد، ذلك العمق التاريخيّ كما لأديان أخرى مثل المسيحية والإسلام. ولكونه ليس محصورًا في بقعة محددة من العالم، لم يتسنَّ له بناء ثقافة خاصة يمكن وصفها بكلمات، وذلك لا يعني أنه من السهل بمكان وصف الدين البهائي.

لا شك أنّ كلّ من يحاول التعرّف على هذا الدين بالبحث في مواقع على شبكة الإنترنت مثلاً، سيجد مِن المواقع المحافظة مَن يهاجمه وكأنه مرادف للشيوعية والعولمة والتحرّر المطلق، بينما مواقع أخرى تُظهره على أنه ضيّق الآفاق محافظ ورجعي. وهكذا يمكن أن يُعذَر مَن يبدو حائرًا تمامًا في محاولته تكوين فكرة عن ماهيّة هذا الدين.[1]

حاولنا هنا إيجاد طريقة لعرض الدين البهائي بأسلوب مبسّط حتى يفهمه مَن يجهله تمامًا، ولكن من دون الإفراط في تبسيط الألفاظ من قبيل “محافظ” و”متحرر” التي من شأنها أن تشوّه الصورة وتجعلها غير مفهومة حتى لأتباعه. وكما هو في أي عرض، خصوصًا ما يجب حصره في كلمات، فإنّ الضرورة تقضي بأن يُعرض الموضوع من وجهة نظر معيّنة تاركة وجهات نظر أخرى تراه من جوانب متعددة.

كما مرّ ذكره، ليس من السهل الإحاطة بالدين البهائي بكلمات تمنح القارئ صورة مبسّطة. فربما نجد إحدى الصعوبات الأساسية في شرح هذا الدين في حقيقة كونه يرتكز ويتمحور حول مفهوم الوحدة والاتحاد. وعليه، فإننا نجد مقوِّماته كافة مترابطة في وحدة شاملة متكاملة. فجوانبه الروحانية لا تنفصل عن هيكله الإداري؛ وتعاليمه التي تخصّ الفرد لها ارتباطها الوثيق بتلك التي تتناول المجتمع والوضع العالمي؛ ونظرته إلى المادية أو الروحانية، وإلى ما هو علمي أو ما هو ديني وشخصي واجتماعي، تعبّر عن جوانب لحقيقة واحدة مترابطة بكليّتها. لذلك فإن محاولة تحليل هذا الدين بتقسيمه إلى أجزاء سيؤدي إلى تشويهه إلى حدّ ما. مع ذلك، ومن أجل وضع كتاب عنه، فإنه من الضروري البدء من نقطة محددة مع الإقرار بأنه أينما كانت نقطة البداية سيجد الكاتب نفسه مضطرًا لأن يشير إلى نواح لم يأتِ على شرحها بعد.

هذا الاتّحاد والترابط بين أجزاء مقوّمات الدين، الذي يعتبر في أغلب الأدّيان من الأمور الشخصيّة من قبيل الدعاء والتعبّد، مرتبط في الدين البهائي ارتباطًا محكمًا بالتحوّل الذاتي personal transformation في حياة الفرد، الذي عليه أن يسعى سعيًا دؤوبًا لإنماء وتطوير صفات روحانية مثل المحبّة والعدالة والصبر والانقطاع، ويعكسها حتمًا في حياته الاجتماعيّة عند تفاعله مع الآخرين. وعلى المجتمع بدوره أن يعكس هذه الفضائل التي يجب أن تظهر جليّة على نطاق الدولة وصولاً بها إلى النطاق العالمي. إن جانبًا من أسباب الصعوبة الجمّة في تصنيف الدين البهائي، وانتشار الآراء المتباينة حوله، راجع إلى أن ما يرمي إليه إنما هو التغيير الجذري. إن الذين يصفونه بالمحافظ والتقليدي تكون نظرتهم إليه سطحية، ويرون أنه يتمسك بالعديد من القيم الأخلاقية الموجودة في الأديان التقليدية. والذين يصفونه بالتحرّر والعولمة هم أيضًا ينظرون إلى الجوانب التي تصور تلك الصفات. إلا أن الحقيقة هي أن التعاليم البهائية ترتئي تغيّرًا جذريًا في الحياة الإنسانية على الصُّعُد والمستويات كافة. فعلى المستوى الشخصي، على الفرد أن يوازن بداخله ذلك الجانب الروحاني مع الجانب الاجتماعي على شأن يغذّي كل منهما الآخر، الأمر الذي سيؤدي إلى تطويره وترقّيه. وعلى النطاق الاجتماعي يرتئي الدين البهائي تغييرًا جذريًا يؤدّي إلى هيكل اجتماعي يتميّز بدرجة أكبر من المساواة بين أفراده، وعلى النطاق الدولي يتطلع إلى مجتمع عالمي متطوّر يقوم فيه التفاعل بين الشعوب والدول على أساس من العدالة والانصاف بدل الثروة والقوّة.

بما أنّ هذا الكتاب قد صُمّم بطريقة تمكّن القارئ من قراءة فصوله حسبما يريد، فمن الضروري هنا في البداية أن نقدّم تعريفًا بالشخصيات الرئيسة الذين تمّ الاستشهاد بكلماتهم. وتجدون معلومات إضافية بشأنها في الفصل التاسع.

مؤسس الدين البهائي هو حضرة بهاء الله الذي عاش في القرن التاسع عشر. بدأ حياته في إيران (بلاد فارس) ولكنّ الجزء الأكبر من حياته، الذي خطّ فيه تعاليم رسالته، قد أمضاها منفيًا إلى أراضي ما كانت تُعرف آنذاك بالإمبراطورية العثمانيّة. كان نفيُه الأول إلى بغداد، ثم بعد ذلك إلى إسطنبول فأدرنه إلى أن انتهى به الأمر في عكّاء بفلسطين. إن أساس تعاليم حضرة بهاء الله هو أنّ أديان العالم قاطبة ما هي في جوهرها إلا سلسلة متصلة متواصلة، كانت هي الباعث الأساس للتطور الإنساني عبر الزمن، مستمدة وحيها الإلهي من مصدر واحد. دفع كل دين عجلة الإنسانية إلى الأمام في مراحل تطوّرها، ولكل دين مؤسسه الخاص الذي ارتبطت تعاليمه بحاجات البشرية في حقبة محددة من الزمن. يعلن حضرة بهاء الله أنّ رسالته هي أحدث الرسالات في سلسلة الأديان العالمية، وقد جاءت خِصّيصًا لتلائم حاجات الإنسانية في وقتنا الحاضر. تركيزها الأساسي منصبّ على وحدة العالم الإنساني، ذلك لأن حضرة بهاء الله يعلّمنا أن الإنسانية بتطوّرها قد بلغت الآن مرحلة يجدر بها أن تطرح خلافاتها جانبًا لتتقارب وتشكّل مجتمعًا عالميًا واحدًا.

عيّن حضرة بهاء الله ابنه حضرة عبدالبهاء من بعده ليبيّن ويفسر تعاليمه ويشرح سبل تطويرها. وبعد صعود حضرة بهاء الله عام 1892م حمل حضرة عبدالبهاء رسالة والده إلى الغرب، واستطاع خلال فترة ولايته التي امتدت حتى عام 1921م، من أن ينشر ويثبّت أركان الدين البهائي في مناطق متعددة من العالم. وقد دأب حضرة عبدالبهاء على شرح تعاليم والده على نطاق واسع وبيان ملاءمتها في حل المشاكل التي تواجه البشرية، وبدوره عيّن حضرة عبدالبهاء حفيده حضرة شوقي أفندي وليًّا للدين البهائي، والمبيّن المعتمد الوحيد لتعاليم حضرة بهاء الله، وراعي الجامعة البهائية في مسيرة تطوّرها. وفي أثناء ولاية حضرة شوقي أفندي، التي امتدت حتى عام 1957م، تأسس النظام الإداري البهائي وانتشر الدين في أغلب أنحاء العالم.

منذ عام 1963م تحوّلت إدارة شؤون الدين البهائي ومُجتمعه العالمي إلى هيئة عليا منتخبة عالميًا هي بيت العدل الأعظم. وقد حرص حضرة بهاء الله أن يضع لدينه إطارًا من الأحكام يُنظّم به أموره، وفي كتاباته لم يفوّض حضرته بيت العدل الأعظم في إدارة شؤون العالم البهائي ورعاية مصالح الدين فحسب، بل وفي استحداث قوانين فرعية جديدة تلبّي حاجات الإنسانية المتغيّرة عبر الزمن.

في العقود القليلة الأخيرة أكمل الدين البهائي انتشاره في جميع بلدان العالم، ويعمل البهائيون حاليًا على تطوير مضمون تعاليم حضرة بهاء الله داخل مجتمعهم البهائي وخارجه بما يختص بالشؤون العالمية على نطاق واسع. ظل الدين البهائي، منذ تأسيسه، يواصل مسيرته في التطوّر والنموّ. وكتاب بهذا الحجم لا يمكنه أن يعطي أكثر من صورة مختصرة عمّا هو عليه الآن من دون اللجوء إلى تفاصيل موسّعة عن كيفية وصوله إلى هذه المكانة. فالمبدأ الذي اعتمدناه في إعداد هذا الكتاب هو إظهار كيف يعيش البهائيّون دينهم في حياتهم الخاصة، وفي منازلهم، وفي مجتمعاتهم، وفي العالم الواسع.

[1])   بعض المواقع المعتمدة للدين البهائي مدرجة في الملحق رقم 2.

 

1 الحياة الرّوحانيّة

يُعَلّم الدين البهائي أنه يوجد ترابط، أو حتى ما يمكن تسميته تداخلاً، بين ما هو مادي وما هو روحاني. فهو يَنظر إلى كل ناحية من نواحي الحياة الإنسانيّة على هذا الكوكب على أن الروحانيّة متداخلة فيها. لذلك، عند النظر في تعاليم الدين البهائي بالنسبة لحياة الفرد الروحانية، من الضروري أخذ أمور بالاعتبار مثل الصلاة والمناجاة والتأمّل، وكذلك كيفيّة تأثير أحكام الدين البهائي، وهيكلية مجتمعه، وحتى أبنيته، على الروحانية.

السؤال الأول الذي يجب الإجابة عنه يبقى السؤال الأبدي: من أنا؟ يمتلك البشر، حسب التعاليم البهائية، طبيعتين، طبيعة مادية قوامها جسد الإنسان، وطبيعة روحانيّة قوامها الروح. في حياتهم اليومية، يميل البشر للإذعان لطبيعتهم الماديّة، لأنها تفرض احتياجاتها الفورية عليهم. يشعرون بالجوع، فيجدون طعامًا ليأكلوه؛ يشعرون بالتعب، فيلجؤون إلى النوم؛ يشعرون بالبرد، فيسعون إلى الدفء. المشكلة هي أنه مهما أشبعت هذه الرغبات، فهي لا تؤدي إلى سعادة أبديّة دائمة. فمهما أكثر الإنسان من أكل الطعام، فسوف يجوع بعد ساعات قليلة؛ ومهما أحاط نفسه بكماليات الدنيا، فسوف تطلّ عليه دائمًا كماليات أفضل عبر وسائل الدعاية؛ ومهما كانت ثيابه أنيقة، فستأتي أزياء جديدة. يُطارِد الناسُ باستمرارٍ سرابًا يَعِدُهم بالسعادة حتّى لو أنهم فقط يلبسون أحدث الأزياء، ويقودون السيارة المناسبة، ويُعَطرون أنفسهم بأطيب العطور، أو يذهبون في أجمل العطلات. تعتبر التعاليم البهائية أن هذه النشاطات تلاحق حاجات الجانب الحيواني من الإنسان التي لا يمكنها أبدًا أن تشبعه لفترة طويلة لأنها تهمل الجانب الآخر من طبيعته، ألا وهو الجانب الروحاني.

وفقًا لما تفضل به حضرة عبدالبهاء، فإن الحياة الروحانيّة هي حقيقة الإنسان الجوهريّة، وهي التي تميّز الإنسان عن الحيوان. إن المنبع الحقيقي لسعادة البشر الدائمة يكمن في تطوير الجانب الروحاني للحقيقة الإنسانيّة وتنميته. ولكن البشر لا يدركون هذا الجانب الروحاني حق الإدراك. يستطيع الناس اكتساب المعرفة عن العالم المادي بواسطة حواسّهم، ولكن كيف يمكن لأحد أن يكتسب معرفة عن العالم الروحاني؟ خلال تاريخ البشرية، دأبت تعاليم الدين على مد البشر بمعلومات عن العالم الروحاني.

من الممكن أن يمتلك الإنسان المستلزمات الماديّة كافة، وأن يكون محاطًا بجميع وسائل الراحة التي توفرها الحضارة الحديثة، ومع ذلك يبقى محرومًا من موهبة الروح القدس… التقدّم المادي هو فعلاً جيّد ومدعاة للمدح، ولكن بفعلنا هذا، يجب ألا نُهمل الترقّي الروحاني الذي هو الأهم، وألاّ نغمض عيوننا عن الشعاع الإلهي المشرق في وسطنا… فقط بالترقّي روحانيًّا وماديًّا يمكننا أن نحقق تقدمًا حقيقيًا ونصل إلى
الكمال.[1]

علّم مؤسّسو الأديان العظيمة أنه إذا قام الأفراد ببعض الأمور فسوف يؤدّي ذلك إلى نموّهم الروحاني، وإذا قاموا بأمور أخرى فسيؤدي ذلك إلى إيذائهم روحانيًّا. يقدّم مؤسّسو الأديان المعرفة والممارسات التي تساعد الأفراد على تطوير الجانب الروحانيّ لطبيعتهم الإنسانية. لذلك، بموجب التعاليم البهائية، على الناس أولاً وقبل كل شيء، أن يتوجّهوا إلى منابع الهداية هذه، وأن يطبّقوا ما جاؤوا به من ممارسات وأحكام.

الله والإنسانية والدين

تُصرّح التعاليم البهائيّة أن الهدف من حياتنا على الأرض هو عرفان الله وعبادته. ولكن كيف يمكن للإنسان أن يعرف الله عندما تعلن الكتابات البهائيّة المقدّسة بكل تأكيد أنه من المستحيل على الإنسان معرفة الله وأنه “لو أراد جميع أصحاب العقول والأفئدة معرفة أدنى مخلوقاته على ما هو عليه، سيجدون أنفسهم جميعا عاجزين وقاصرين، فكيف لهم بمعرفة شمس عزّ الحقيقة الإلهية ومعرفة ذات الغيب الذي لا يُدرك؟”.[2]

يخبرنا حضرة بهاء الله بأن أي تصوّر لدى الناس عن الله هو من اختلاق مُخَيّلتهم، وبالتالي فهو محدود بحدود عقولهم – ولا يمكن أن يكون مفهومًا صحيحًا عن الله الذي لا حدّ له. لذلك، فإن أي مفهوم للحقيقة الأزليّة، أكان “الرب” في اليهودية و المسيحيّة، أو “الله” في الإسلام، أو “برهما“ في الهندوسيّة، أو “دارماكايا” أو “نيرفانا” في البوذيّة، أو “تاو“ في الدين الصيني، يبقى محاولة إنسانية للإحاطة بما لا يمكن الإحاطة به.

يمكن للبشر أن يحصلوا على بعض المعرفة عن الله بواسطة التأمّل في العالم المادي الذي يُعَبّر عن بعض صفات الله. يتفضّل حضرة بهاء الله بأن الله أنعم ببعض من صفاته على كل ما خلق: “…وتجلّى على كينونة كلّ شيء وحقيقته باسم من الأسماء وأشرق عليه بصفة من الصفات…”[3]. لذلك بدراستهم للطبيعة، يتمكّن الأفراد من معرفة شيء عن الله، وقد أكمل حضرة بهاء الله العبارة السابقة بقوله: “…ما عدا الإنسان، الذي جعله الله مظهر كلّ أسمائه وصفاته ومرآةً لكينونته…”[4]. لذلك جاء في الآثار البهائيّة المقدّسة أن الإنسان “هو في نهاية المرتبة الجسمانيّة وبداية مرتبة الرّوحانيّات، يعني نهاية النّقص وبداية الكمال، في نهاية مرتبة الظّلمة وبداية مرتبة النّورانيّة، لهذا قالوا إنّ مقام الإنسان نهاية الليل وبداية النّهار، يعني أنّه جامع لمراتب النّقص، وحائز لمراتب الكمال، وله جانب حيوانيّ وجانب ملائكيّ. والمقصود بالمربٍي هو أن يربّي النّفوس البشريّة حتّى يتغلّب الجانب الملائكيّ على الجانب الحيوانيّ، فلو تغلّبت القوى الرّحمانيّة في الإنسان، الّتي هي عين الكمال على القوى الشّيطانيّة الّتي هي عين النّقص، لكان أشرف الموجودات، وفي حال تغلّبت القوى الشّيطانيّة على القوى الرّحمانيّة تحوّل إلى أسفل الموجودات، ولذا فهو في نهاية النّقص وبداية الكمال. ولا يوجد تفاوت وتباين وتضادّ واختلاف بين أيّ نوع من أنواع الموجودات كما هو في نوع الإنسان”.[5]

أشار حضرة بهاء الله في آثاره الكتابيّة إلى أنّ الله أوجد الإنسانية بفعل محبّة منه، وأنه أمدّ الروح الإنسانية بطاقة تعطيه إمكانية تنمية الصفات الإلهية كافة. هذه الصفات هي بمتناول يد كل إنسان ولكنها بحاجة إلى تنمية. يمكن للجميع أن يصبحوا محبّين، وعادلين، وصبورين، وحكماء، وكرماء، وغفورين، وما إلى ذلك، ولكن عليهم إطاعة أحكام مؤسّسي الأديان العالميّة، لتحويل هذه الطاقة إلى واقع. بينما سار عدد قليل من المتصوّفين في الأيام الغابرة على طريق النموّ الروحاني، أصبح اليوم هذا المسار امتيازًا للجميع وسلوكه واجبٌ عليهم.

ولكن يبقى أفضل سبيل للتوصل إلى معرفة الله هو بواسطة مؤسّسي الأديان العالمية لأنهم لا يتصرفون كوسائط فيما بين العالم المادي و العالم الروحاني ناقلين إلى الإنسانية التعاليم الإلهيّة فحسب، بل ويظهرون في أنفسهم وبشكل كامل الصفات الإلهية، مثل العلم، والمحبّة، والعدالة، والصبر؛ لذلك فإنهم يسمّون بالمظاهر الإلهية في الآثار الكتابيّة البهائيّة المقدّسة. وهم يُعتبرون، في تشبيه ورد في الكتابات البهائية المقدّسة، بمثابة مرآة تعكس للعالم الإنساني صورة الله ونوره، ومنهم حضرة إبراهيم، وحضرة موسى، وحضرة بوذا، وحضرة يسوع المسيح، وحضرة محمد (ص) وحضرة بهاء الله، وغيرهم.

هؤلاء المظاهر الإلهية هم مؤسسو الأديان العالمية. و الهدف من هذه الأديان أن تكون آليّة عمل لتهذيب وتنمية كيان الفرد الشخصي الداخلي الروحاني من ناحية، ومن ناحية أخرى العمل على تبديل transform حياة المجتمع الإنساني بمجملها. (يركز هذا الفصل على الموضوع الأول). بموجب الآثار البهائيّة، “غرض الدين هو نيل الخصال الحميدة، وتحسين الأخلاق، والترقّي الروحي للبشر، وهو أيضا عين الحياة والفضائل الربانية”.[6]

سبيل الكلّ لمعرفة ذات القِدم مسدود وطريق الكلّ مقطوع. وبمحض الفضل والعناية أظهر بين الناس شموسًا مشرقةً من أفق الأحديّة، وقرّ بأن عرفان هذه الأنفس المقدّسة هو بمقام عرفان نفسه[7]، مَنْ عَرَفهم فقد عرف الله ومن سمع كلماتِهم فقد سمع كلماتِ الله ومن أقرّ بهم فقد أقرّ بالله ومن أعرض عنهم فقد أعرض عن الله ومن كفر بهم فقد كفر بالله وهم صراطُ الله بين السّموات والأرض وميزانُ الله في ملكوت الأمر والخلق وهم ظهورُ الله وحُججهُ بين عباده ودلائلهُ بين بريّته…[8]

إن الرؤية البهائية هي أن العالم يجب أن يُكَوّن نظامًا عالميًا فاعلاً متمحورًا حول الله، وأن يكون متحدًا، ومسالمًا، حيث يتمكن كل فرد من تنمية طاقاته – المادية والروحانيّة والفكريّة والعاطفيّة – إلى أعلى مستوى، وحيث يُقَدَّر الناس كأفراد وكجماعات بسبب المساهمة المميزة التي بإمكانهم تقديمها لخير الجميع. فإذا تقاعس دين من الأديان عن ترويج هذا التوجّه، وأصبح مصدر كراهيّة وانقسام، عندئذ، تُصرح التعاليم البهائية أنه من الأفضل عدم وجود مثل هذا الدين.

بما أن هذه المظاهر الإلهية جميعها تؤدي نفس العمل الروحاني في العالم – إيصال الهداية الإلهية إلى البشر – فإنه يمكن النظر إليها على أنها نفس الحقيقة الروحانية التي جاءت إلى العالم في أزمنة مختلفة وأماكن مختلفة. يُعَلّم حضرة بهاء الله أن لكل من هذه المظاهر الإلهية طبيعتين، ماديّة وروحانيّة. على المستوى الروحاني، جميعهم متساوون، ولا فرق بينهم. ولكن على المستوى المادي، لكل منهم اسم مختلف وإطار تاريخي محدد. لذلك، في النبوءات الواردة في الكتب المقدّسة، عند استعمال كلمة “عودة”، – مثلا في عبارة “عودة المسيح“ أو “عودة كريشنا“ – القصد هو عودة تلك الحقيقة الروحانيّة التي تمّت الإشارة إليها. ولكن كل عودة تحدث تحت اسم مختلف، وفي ظروف تاريخيّة خاصة بها. من هذا المنطلق يعلن حضرة بهاء الله أنه يحقق الوعود الواردة في الكتب المقدّسة لدى جميع الأديان العالمية:

…فهو للعالم المسيحي عودة المسيح ‘في مجد أبيه’، وللشيعة من أمّة الإسلام رجعة الإمام الحسين، ولأهل السّنّة نزول “الرّوح“، وللزردشتيّة شاه بهرام الموعود، وللهندوس عودة كريشنا، وللبوذيّين بوذا الخامس.[9]

هنا يَرِد السؤال طالما أن تلك المظاهر الإلهية جميعها متساوية، وبما أنها أتت جميعها من مصدر واحد، الله، فلمَ إذًا هذا العدد الكبير منها مما أدّى إلى أديان مختلفة متخالفة أتباعُها وفي صدام؟ الجواب الذي يقدّمه حضرة بهاء الله لهذا السؤال هو أن كل مظهر من المظاهر الإلهيّة جاء بتعاليم مناسبة لوضع الإنسانية في مرحلة محددة من الزمان والمكان. تطوّرت الإنسانية اجتماعيًّا عبر العصور، والتعاليم التي تصلح لمرحلة من مراحل هذا التطوّر لا تصلح لمرحلة لاحقة، مما يستدعي تعاليم جديدة، عندها يظهر مظهر إلهي جديد. يُشَبّه هذا، في الكتابات البهائيّة، بالمعلّمين الذين يتعاقبون على تلميذ في المدرسة [حين انتقاله من صف إلى آخر أعلى منه]، وكلٌ منهم يبني على ما علّمه المعلّم السابق، وينقل التلميذ إلى المرحلة التالية من نموّه. يمكن أيضًا تشبيه هذا بفصول الكتاب المتتالية، أو بطبيب يصف في ظرف معيّن دواءً لمريض، ولكن في مناسبة أخرى، عندما يختلف المرض، يصف دواءً آخر. تعاليم المظهر الإلهي الأخير تساعد الإنسانية أكثر من تلك التي جاءت بها المظاهر السابقة لأنها أكثر تناسبًا مع الوضع الراهن وأوفر تلبية للحاجات.

يجب اعتبار أنبياء الله بمثابة أطبّاء هدفهم رعاية سلامة العالم وسكّانه حتى تتعافى الإنسانية من الأمراض التي تعتريها وأدّت إلى تقسيمها وذلك بجمع شملها بروح الاتحاد… فإذا كان العلاج الذي يصفه الطبيب في هذا اليوم ليس بعينه كالذي وصفه من قبل فلا عجب من ذلك… كيف يمكن أن لا يكون كذلك عندما يتطلب داء المتألم دواءً خاصًا في كل مرحلة من مراحل مرضه؟ وبالمثل، كلما أنار أنبياء الله هذا العالم بشعاع شمس العلم الإلهي، دعوا الناس إلى الله بما كان ينبغي لذلك اليوم.[10]

الممارسات الروحانيّة والتطور الروحاني

من واجب كل فرد أن يدرّب نفسه على السعي إلى النموّ والتطوّر الروحاني كل يوم. ومن الأحكام التي أنزلها حضرة بهاء الله أن على الفرد أن يصلّي كل يوم، وعلى البهائيين أن يختاروا صلاة واحدة من بين ثلاث صلوات، ويؤدونها يوميا. ولدى البهائيّين في كتاباتهم المقدّسة عدد كبير من المناجاة والأدعية التي يمكن للفرد أن يتوجّه بها في أي وقت يشعر أنه بحاجة للدعاء. ويؤمن البهائيون أن القوّة الروحانية لهذه الأدعية المنزلة تفوق تلك التي قد يرتجلها الفرد عفويًّا. يمكن قراءة أو تلاوة هذه المناجاة والأدعية في أي وقت يشعر فيه الفرد بالحاجة لذلك. يؤمن البهائيون أنه في حالة الصلاة والدعاء والتأمّل، يتحوّل انتباه الفرد من العالم المادي إلى العالم الروحاني، فهو يتكلم مع محبوبه، ويسعى للتواصل معه، وبذلك يعيد التوازن فيما بين الروحانيّة والمادية في حياته. يتفضل حضرة عبدالبهاء بأن الإنسان يوسع طاقاته الروحانيّة بواسطة الدعاء. ومن الطبيعي أن يتوجه البشر بالدعاء إلى الله للتأييد وطلب الغفران، ولجميع المناسبات أدعية في الكتابات البهائية المقدّسة، ولكن يبقى أسمى دعاء أو صلاة هو الذي يسعى فيه الفرد إلى التقرب من الله. وفيما يلي نصّ الصلاة الصغرى:

أشهد يا إلهي بأنّك خلقتني لعرفانك وعبادتك. أشهد في هذا الحين بعجزي وقوّتك وضعفي واقتدارك وفقري وغنائك. لا إله إلاّ أنت المهيمن القيّوم.[11]

من فوائد الحكم الإلهي الآمر بالسعي إلى معرفة الله بواسطة الدعاء وممارسات روحانيّة أخرى، أن ذلك يذكّر الناس حقًّا بهدف حياتهم،
ويوفّر لهم الهداية والاتجاه، ويثبّتهم ويشعرهم بمكانتهم بالنسبة
للخليقة بكاملها. إنه يمكّنهم من معرفة أنفسهم بشكل أفضل. “وكلّ ما أمرت به عبادك من بدايع ذكرك وجواهر ثنائك هذا من فضلك عليهم ليصعدن بذلك إلى مقرّ الّذي خلق في كينونيّاتهم من عرفان أنفسهم”.[12]

من واجبات البهائي أيضًا تلاوة الآيات في كل صباح ومساء. ليس في الدين البهائي رجال دين، لذلك فإن قراءة الكتابات البهائية المقدّسة هي إحدى الأساليب الكثيرة للحصول على الهداية من أعلى مصدر لها متوفر للبشر، ألا وهو الكلمة الإلهية. هذه القراءة، كما يتفضّل حضرة بهاء الله، يجب عدم إطالتها لدرجة تؤدي إلى الإرهاق، بل يجب أن تكون بحالة من التفكّر يليها تأمّل في مضمون ما قرئ. وقد جاء في التعاليم البهائيّة:

من الحقائق البديهيّة أنك عندما تستغرق في التأمّل meditation)) فإنك تتكلّم مع روحك، وفي تلك الحالة الفكريّة، أنت تطرح أسئلة معيّنة على روحك وهي تجيبك: ينقشع النور وتظهر الحقيقة… إنّ روح الإنسان بذاتها تَقْوى أثناء التأمّل الذي بواسطته تنكشف له أمور لم يعلم شيئًا عنها من قبل، وعن طريق التفكّر والتأمّل يتلقّى الإلهام الإلهي والغذاء السماوي.[13]

يؤكد حضرة بهاء الله بأن الحقيقة الروحانيّة ستتكشّف بهذه العمليّة: “لذا يجب التأمّل كثيرًا، حتّى تقف على أسرار الأمور الغيبيّة، وتستنشق رائحة الطّيب المعنويّ من الفردوس الحقيقيّ”.[14]

وقد ورد في الكتاب الأقدس أن أيّام الصوم هي:

… في الأساس أيّام للتعبّد والتّأمّل، وفترة لتجديد القوى الروحانية، وعلى المؤمن أن يسعى أثناءها لتقويم وجدانه، وإنعاش القوى الرّوحيّة الكامنة في ذاته. ولذلك فأهمّيّة هذه الفترة وغايتها في الأساس هي التنمية الروحانيّة، فالصّوم ذكرى للصّائم ويرمز إلى الكفّ عن الأنانيّة، والشّهوات الجسديّة.[15]

الصوم هو من الممارسات البهائية الأخرى التي لها دور أساسي في تنمية الروحانيّة. يمتنع البهائيون عن الأكل والشرب من شروق الشمس إلى غروبها لمدة 19 يومًا في السنة (يُعفَى من ذلك الذين هم دون سنّ الـ 15 وفوق الـ 70، المرضى، الحوامل، والمسافرون). توجد بيانات متعددة في الكتابات البهائية المقدّسة تشرح هدف ونتائج الصوم ومنها تطهير النفس، الانضباط الشخصي، إدراك آلام فقراء العالم والسيطرة على النفس والهوى.

يسعى البهائيون أيضًا إلى أن يذهبوا على الأقل مرّة واحدة في حياتهم لزيارة المقامات البهائيّة في أرجاء حيفا وعكا إذا كان بإمكانهم ذلك. بزيارتهم المقامات والأبنية المرتبطة بحياة حضرة بهاء الله والشخصيات الأساسية الأخرى للدين البهائي، يتوصل البهائيون إلى الشعور أنهم بالقرب منهم، وبالتالي، يعود الزائرون إلى بيوتهم منتعشين روحانيًّا بطاقات متجددة.

يصرّح حضرة بهاء الله أنّ غاية هذه الأحكام الإلهيّة ليست نوعًا من الممارسة الاعتباطية للقوّة من جانب الله، لكنها تهدف إلى هداية وتأييد البشر فيما يُمَكّنهم من تنمية حقيقتهم الروحانية على أحسن وجه. وكلما زادت ممارساتهم لهذه الأحكام، زاد اكتسابهم للصفات الروحانيّة. وكلما زاد اكتسابهم لهذه الصفات الروحانيّة زاد تقرّبهم ومحبتهم لله. ولكن بالنهاية، وبموجب التعاليم الإلهية، يجب ألاّ يطيعوا هذه الاحكام طلبًا للثواب أو خوفًا من العقاب، بل يجب أن تنبع من محبّتهم لله.

مع ممارسة الأفراد للأحكام الروحانيّة التي جاء بها حضرة بهاء الله، تصبح قدرتهم على الاستفادة من فرص الحياة لتطوير صفاتهم الروحانيّة أكثر. بواسطة هذه الممارسات الروحانية، سوف يتلون المناجاة متضرّعين إلى الله ليساعدهم ويؤيّدهم على تطوير صفات روحانيّة مثل المحبّة، والصبر، والعدالة وغضّ الطرف والعفو، وسوف يقرأون ويتفكّرون في فقرات من الكتابات البهائية المقدّسة حول هذه الصفات، وسوف يجدون في حياتهم اليومية فرصًا عديدة تمكّنهم من ممارستها وتهذيبها. فمن الضروري إذًا أن تكون حياة الإنسان اليوميّة متناسقة مع حياته الروحانيّة. الصلاة والصوم والدعاء والمناجاة قد تبقى لا معنى لها إذا لم تؤدِّ إلى التطوّر الروحاني، وعلى التطوّر الروحاني أن يظهر في حياة الفرد يومًا بعد يوم. من أهداف الدين البهائي الأساسية، لا بل هدف مجيء حضرة بهاء الله، هو تغيير أوضاع المجتمع ورفع مستواه إلى مستوى اكثر انصافا مبني على العدالة والمحبّة، والذي يقوم الحكم فيه ويتحرّك النشاط الاجتماعي على قيم الصدق والأمانة. وفي سبيل أن يظهر مجتمع كهذا الى الوجود، يجب أن يبرز أيضًا أفراد متطوّرون روحانيًّا يتحلّون بهذه الصفات.

تُعلّم العديد من العقائد الدينيّة أنه نظرًا لكون الحياة على الأرض سريعة الزوال، لا فائدة من محاولة اصلاحها أو حتى التفاعل معها، وعوضًا عن ذلك، على الناس أن يركّزوا أنظارهم على العالم الآخر ويحاولوا القيام بما يؤهلهم لذلك العالم. ويؤمن البعض انه عليهم الابتعاد عن المجتمع ليقضوا كامل أوقاتهم بالتأمل والدعاء. وبالنسبة لبعض الأديان، تتطلب الحياة التعبديّة انفراد المتعبد بنفسه وابتعاده عن حياة العالم اليوميّة. يُحرم حضرة بهاء الله نمط الحياة هذا، ويشجع، بدلاً منه، على الانقطاع عن زخارف هذه الدنيا التافهة.[16] وفي هذا التوجه فرق عن التوجه الآنف الذكر، قد يبدو لأول وهلة بسيطًا ولكنه بالغ الأهمية. يعيش البهائيون حياة العبادة، ولكنهم يعيشونها في هذا العالم. فهم يكسبون لقمة العيش بأعمالهم، التي ترتقي إلى مستوى العبادة، ويتعاونون مع الآخرين لبناء مجتمع تسوده العدالة والاتحاد والسلام حيث يمكن للجميع أن يزدهروا. ذكر حضرة بهاء الله في كتاباته أن هذا العالم المادي يشكل قسمًا حيويًا لتنمية الروحانيّة في الإنسان. حقًّا، خُلقت الدنيا خصّيصًا لهذه الغاية.

…يا ابن الجود، في بوادي العدم كنتَ، أظهرتك في عالم الملك بقوّة تراب الأمر ووكّلت جميع ذرّات الممكنات وحقائق الكائنات بتربيتك… وبمحض الجود نشأتك في ظلّ رحمتي، وبخالص الفضل والرحمة حفظتك وكانت الغاية من كلّ هذه المراتب أن تدخل جبروتنا الباقي وتصلح للآلائنا الغيبية.[17]

لذلك يشكل تفاعل الإنسان مع أسرته ومجتمعه وعالمه جزءًا مُهما من نموّه الروحاني.

إن الصلاة والمناجاة والتأمل عناصر مهمة للغاية من أجل تعميق حياة الفرد الروحانيّة، ولكن العمل وإعطاء المثل في الحياة يجب أن يسيرا بموازاتها لأنهما النتيجة الملموسة للممارسات الروحانيّة. فكلاهما ضروريّان.[18]

الامتحانات والبلايا

في سياق رحلة الإنسان الروحانية على هذه الأرض لا بدّ له من مواجهة الامتحانات والبلايا. يشرح حضرة بهاء الله أن هذا جزء لابدّ منه ملازم للتقدّم. إذا ركّز الإنسان توجُّهه على العالم المادي، فستُثقل الامتحانات كاهله بعبء فوق طاقته ويحول دون قدرته على التقدّم. ولكن، بدلاً من ذلك، إذا توجّهت قيم الإنسان نحو العالم الروحاني، يمكن النظر إلى هذه الامتحانات بمنظار مختلف، لأنه بمواجهة هذه الامتحانات والتغلّب عليها، وبالانقطاع [عمّا سوى الله]، يتطوّر الإنسان روحانيًّا. إن الآلام التي يختبرها الفرد في مسيرته الروحانية غالبًا ما تكون نتيجة التعلّق بأمور الدنيا إذ إنه من المؤلم أن ينقطع الإنسان عن هذه الأمور. ومن المؤلم أكثر أن ينقطع الإنسان عمّا وصفه حضرة بهاء الله بالظنون والأوهام. ومن فوائد الامتحانات والبلايا أنها تبرهن على إخلاص الإنسان، وتساعده على تنمية مزايا روحانيّة مثل الصبر والاستقامة، وتعلّمه ألاّ يعتمد على شؤون الدنيا بل على الله وحده. بالنهاية، فإن الامتحانات تساعد الفرد على اختراق حُجُب العالم المادي وتمييز العالم الروحاني بوضوح أكثر. إن كفاح الإنسان مع امتحاناته وبلاياه يؤدي إلى ترفّعه عنها وارتقائه إلى مستوى أعلى في تقدّمه الروحاني.

إن الذين لا يُعانون لا يصلون إلى الكمال. إن النبتة التي يُشذّبها البستانيون إلى أقصى درجة هي التي تتفتح أزهارها بمنتهى الجمال في موسم الصيف وتكون فاكهتها موفورة. يحرث العامل الأرض بمحراثه، فتعطي تلك الأرض حصادًا غنيًّا بسخاء. كلما أُدِّب الإنسان، زاد حصاد الفضائل الروحانيّة التي تظهر منه.[19]

عملية التطوّر والنموّ الروحاني تتطلب التضحية بأمور كثيرة منها: التضحية بعلائق الإنسان الدنيوية؛ وبالأفكار المولع بها وبظنونه العبثيّة؛ وبإرادته في سبيل إرادة الله؛ وبثروته طوعًا لمساعدة من هم أقلّ منه حظًا؛ وبمركزه الاجتماعي، إذا اقتضت الضرورة، وحتّى لربما بحياته، إثباتًا لما يؤمن به؛ إن تغييرا كبيرا في سلوك الانسان، والذي يوءدي الى التطور الروحاني، هو التضحية الضروريّة لخدمة آخرين، تلك الخدمة التي تساعد من هم بحاجة، الخدمة التي تعلّم وتربي الغير، والخدمة التي تنمي الاتحاد والسلام في العالم. ينهمك الكثيرون في عالم اليوم في هاجس البحث عن حقيقة أنفسهم. تشرح الكتابات البهائية: “كلما بحثنا عن أنفسنا، تضاءلت امكانيّة إيجادها، وكلما بحثنا عن الله، بغية خدمة إخواننا البشر، زاد فهمنا العميق بأنفسنا، وأصبحنا أكثر اطمئنانًا وثقة. هذه إحدى قوانين الحياة الروحانيّة العظيمة”.[20]

تُصرّح التعاليم البهائيّة أنه على الإنسان أن يتحلّى بروح الخدمة حتى في عمله اليومي، عند قيامه بحرفة يدويّة أو تجارة أو ما شابه، آنذاك يصبح عمله عبادة.

يرى البعض أن ما يُوَلّده عالم اليوم من ضغط وقلق إنما يُسيطر على حياتهم، بينما يقع غيرهم فريسة الاكتئاب. تشرح التعاليم البهائية أن لهذه المصاعب جانبًا روحانيًا وهي تنشأ بسبب اهمال هذا الجانب، إذ إنها تنتج عن إعطاء الأولويّة للقيم التي تعطي أمور الدنيا وشجونها أقصى درجة من الأهميّة والقيمة والاعتبار – فالناس بوجه عامّ لا يقتنعون أبدًا بما لديهم من تلك الأمور: مهما امتلك الفرد، يظل دائمًا يحسد الإنسان الذي لديه أكثر، وأكبر، وأحسن، أو أحدث الأشياء. ولكن إذا ما استُبدلت هذه الأولويّة للأمور الدنيويّة بأولويّة للأمور الروحانيّة، عندها يمكن حتى لأفقر إنسان أن يكون غنيًّا بالمحبّة، وبالصبر، وبالعدالة وبقيم روحانيّة أخرى. وكلما زاد انعكاس هذه الصفات الملكوتيّة على سلوك الفرد، زاد شعوره بسعادة عميقة يتوصل من خلالها إلى حالة من القناعة والرضى لا تزعزعها عواصف الحياة وبلاياها. طبعًا، لا بدّ لهذا التحوّل الروحاني أن يُظهر نفسه في تفاعل الفرد مع المجتمع، وإلاّ كان ذلك وهميًّا. لذلك تفضل حضرة بهاء الله بقوله: “بأعمالكم تزيّنوا لا بأقوالكم”.[21] إذا انعكس تطوّر الفرد الروحاني على تعامله مع الغير، لن يكون لذلك، مع مرور الزمن، تأثير يؤدي إلى حدوث تحوّل في الحياة الاجتماعيّة فحسب، بل سيبرز الارتباط فيما بين حياة الفرد والمجتمع.

…عالم الماديّات هو مصدر كل ما هو موجود من حزن وأسى – فالعالم الروحاني لا يهب إلا السعادة… إذا عانينا، كان ذلك بسبب الأمور الماديّة حيث إن جميع البلايا والمحن تأتي من عالم الأوهام هذا. على سبيل المثال، إذا فقد التاجر تجارته وقع في الاكتئاب، وإذا صُرف العامل من عمله واجهته المجاعة، وإذا فسد حَصَاد المُزارع انتابه القلق العميق… كل هذه الأمثلة ما هي إلا للتأكيد لكم أن المحن التي تترصّد كل خطوة من خُطانا، وكل ما يلمّ بنا من أسى وألم وحزن وهوان تولّد في عالم المادة؛ بينما الملكوت الروحاني لا يسبّب الحزن أبدًا. إن الإنسان الذي يحيا وأفكاره في هذا الملكوت يعرف السعادة الأبديّة، إذ إنّ العلل والآلام كافة التي تصيب الجسد تمرّ به مرور الكرام، ويقتصر تأثيرها عليه في أنها تلمس حياته لمسًا سطحيًّا فقط، بينما الأعماق في هدوء وسكينة.

ترزح الإنسانيّة اليوم تحت وطأة المتاعب، والأحزان والمآسي، ولا منجىً لأحد؛ إن هذا العالم مبلّل بالدموع؛ ولكن الحمد لله، أن العلاج على أبوابنا؛ لنبتعد بقلوبنا عن عالم المادة ونَعِشْ في عالم الروح، فهو وحده يعطينا الحريّة. إذا أحاطتنا المصاعب والبلايا فما علينا إلا أن نتوجّه إلى الله، ومن رحمته الواسعة، سيأتينا العون.

إذا أقبل علينا الحزن والبلاء ووقعنا في شدّة، فلنوجّه وجوهنا شطر الملكوت وستفيض علينا العنايات الإلهية. إذا أصابنا المرض والقلق، فلنلتمس البُرء من الله، وسوف يستجيب دعاءنا. عندما تمتلئ أفكارنا بمرارة هذا العالم، لنتوجّه بعيوننا إلى حلاوة رحمة الله ورأفته وهو يرسل إلينا الطمئنينة الملكوتية. فإذا وقعنا أسرى في عالم المادة، يمكن لأرواحنا أن تحلّق في السماوات وعندها سنكون فعلاً أحرارًا.

وعندما تقترب أيامنا من نهايتها، لنفكّر في العوالم الأبديّة، حينئذ ستغمرنا السعادة.[22]

الحياة بعد الموت

يُعَلّم الدين البهائي أن البشر هم في الجوهر حقيقة روحانيّة أبديّة، لذلك فإن استمرار نموّ وتطوّر روح الإنسان بعد موت الجسد المادي شيء طبيعي ومحتّم – وما ذلك إلا بداية لرحلة أبديّة. إنما يكون تقدّمه أسرع إذا “أعدّ الأمتعة الروحانيّة“ الضرورية له في تلك الرحلة وذلك في هذا العالم. هذه الأمتعة الروحانيّة مُكوّنة من فضائل وصفات روحانيّة مثل الأمانة، والكرم، واللطافة والصبر. وتنمية هذه الفضائل، بنظر البهائيين، هي من أهداف الفرد الرئيسيّة في حياته الدنيويّة. يجب أن تكون الغاية من حياة الإنسان في هذا العالم الماديّ الوصول إلى نهايتها بأسمى حالة ممكنة من التطوّر الروحاني. السبب هو أنه بعد الموت، بموجب التعاليم البهائيّة، ينتقل الإنسان إلى حياة أخرى هي روحانيّة بحته. بالتالي، فلا شيء مما جمعه الانسان وادخره في هذا العالم من ممتلكات مادية، أو شهرة أو مركز اجتماعي، يمكن أن يجديه نفعا في ذاك العالم. فقط المستوى الروحاني الذي طوّر نفسه إليه، في هذا العالم، سيعينه في العالم الآخر.

لا يمكن معرفة إلا القليل جدًّا عن حياة الإنسان بعد الموت. مفرداتنا اللغوية ومعلوماتنا كافة مرتبطة بخبرات من هذا العالم. عندما يتوفّى الإنسان يترك وراءه هذا العالم المادي ويدخل عالمًا روحانيًا غير محدّد بزمان أو مكان. لذلك، لا يمتلك الناس مفاهيم تمكّنهم حتى من البدء في تصوّر ذلك العالم. جاء في تشبيه ورد في الكتابات البهائية المقدّسة أن استحالة فهم العالم الآخر هي بقدر استحالة فهم الجنين في رحم أمّه لهذا العالم.

الإنسان في بدءِ حياتِه كان في عالمِ الرّحم وفي عالم الرّحم حصلَ على الاستعدادِ والقابليةِ للارتقاءِ إلى هذا العالم. أي إنه حصلَ في ذلك العالم على القوى التي يحتاج إليها في هذا العالم. ففي ذلك العالم حصلَ على العينِ التي يحتاجُ إليها في هذا العالم. وفي عالمِ الرّحم حصلَ على الأذُنِ التي يحتاجُ إليها في هذا العالم. وفي عالمِ الرّحمِ حصلَ على جميعِ القوى التي يحتاجُ إليها في هذا العالم فلما جاء إلى هذا العالم رأى أن جميع القوى التي يحتاج إليها مهيّأة له ورأى أن جميع الأعضاء والأجزاء التي يحتاج اليها للحياة في هذا العالم قد حصل عليها في ذلك العالم.

كذلك، يجب عليه أن يُهيِّئ لنفسِه في هذا العالمِ ما يحتاجُ إليه في العالم الآخر. وكلُّ ما يحتاج إليه في عالمِ الملكوت يجب أن يهيّئَهُ في هذا العالم. فكما أنّه حصلَ في عالمِ الرَّحم على القوى التي يحتاجُ إليها في هذا العالم فكذلك يجب عليه أن يحصُلَ في هذا العالم على كلّ ما يحتاج إليه في عالم الملكوت أي جميع القوى الملكوتيّة.

وبعد الارتقاء من هذا العالم إلى العالم الآخر، عالم الملكوت، إلى أي شيء يحتاج وإلى أية قوّة يفتقر؟ إن ذلك العالم هو عالم التقديس وعالم النورانيّة، ولهذا يجب أن نحصل على التقديس والنورانيّة في هذا العالم. وفي ذلك العالم نحتاج إلى الروحانيّة وتلك الروحانيّة يجب أن نحصل عليها في هذا العالم. وفي ذلك العالم نحتاج إلى الإيمان والإيقان ومعرفة الله ومحبته، ويجب أن نحصل عليها جميعًا في هذا العالم حتى يرى الإنسان في ذلك العالم الباقي، أنه حصل على جميع ما يحتاج إليه في تلك الحياة الأبديّة.

واضح أن ذلك العالم هو عالم الأنوار ولهذا فالمطلوب هو النورانيّة. وذلك العالم هو عالم محبّة الله فالمطلوب هو محبة الله. وذلك العالم هو عالم الكمالات فالواجب هو تحصيل تلك الكمالات في هذا العالم. وذلك العالم هو عالم نفثات الروح القدس ويجب في هذا العالم إدراك نفثات الروح القدس. وذلك العالم هو عالم الحياة الأبديّة ويجب في هذا العالم الحصول على الحياة الأبديّة. ويجب على الإنسان أن يبذل كل الجهود لينال هذه المواهب. ويجب عليه أن يكتسب هذه القوى الرحمانيّة بأعلى درجاتها من الكمال وهي: أولاً معرفة الله وثانيًا محبّة الله وثالثًا الإيمان ورابعًا الأعمال الخيريّة وخامسًا التضحية وسادسًا الانقطاع وسابعًا العفّة والتقديس. ومن لم يحصل على هذه القوى وهذه الأمور فلا شكّ أنه سيحرم من الحياة الأبديّة…[23]

مع ذلك، عرّف حضرة بهاء الله بعض معالم ذاك العالم.[24] أشار حضرته، على سبيل المثال، إلى أن الروح “يصعد حين ارتقائه إلى أن يحضر بين يدي الله… ويكون باقيًا بدوام ملكوت الله“[25]. ما إن يُدرك الفرد أنّ مغزى حياة الإنسان هو في كونها مقدّمة لحياة أبديّة حتى يغيّر نظرته إلى ما هو المهم وما ليس له أهميّة في حياته. وهكذا يبدأ الإنسان بتوجيه حياته باتجاه رؤية أبعد مدىً، فيغيّر سلوكه ليأخذ هذا المفهوم بعين الاعتبار.

في ضوء هذه التعاليم، يُلاحَظ أن النظرة البهائيّة للخلاص تختلف إلى حد ما عن مفهومها في أديان أخرى. إحدى التعديلات الأساسيّة التي تأتي بها التعاليم البهائيّة هي التخلّي عن فكرة اعتبار الخلاص حالة محدّدة – أي، بكلام آخر، أن الإنسان إما أنه نال الخلاص وذاهب إلى الجنّة، أو حرم منه ومحكوم عليه بالجحيم. عوضًا عن ذلك، ينظر الدين البهائي إلى الخلاص على أنه مسار أو رحلة. كل إنسان هو في مكان ما على هذا المسار. بعضهم متقدّم والبعض الآخر متأخّر. بعضهم يسير بسرعة والبعض الآخر متوقف تقريبًا. لذلك، فالتسميتان “الجحيم” و”الجنّة” هما عبارتان نسبيّتان. فالمتقدّمون كثيرًا على المسار هم في الجنّة بالنسبة للذين هم في المؤخّرة. الذين يسيرون ببطء هم في الجحيم بالنسبة للمتقدمين بسرعة. وما تفعله تعاليم مؤسّسي الأديان السماويّة هي أنها تساعد الناس على السير بسرعة أكثر على هذا المسار. وعلاوة على ذلك، لا يمكن لأحد أن يحكم فعليًا على السرعة أو المسافة التي قطعها الآخرون، ومن الصعوبة بمكان أن يصل الإنسان إلى مرحلة من النضج الروحاني يستطيع فيها أن يدرك مدى تقدمه هو، لذلك يجب على الأفراد ألاّ يُقيّموا الآخرين أو أن يَشعروا انّهم متفوّقون عليهم بأيّ وجه من الوجوه. إن ذلك الجزء من الفرد الذي يستمر بالحياة بعد الموت يطلق عليه الروح، ولكن بما أنه حقيقة روحانيّة، لا يمكن معرفة إلاّ القليل عنه، وقد جاء في آثار حضرة بهاء الله الكتابيّة:

واما ما سألت عن حقيقة النفس إنّها آية إلهية وجوهرة ملكوتيّة الّتي عجز كلّ ذي علم عن عرفان حقيقتها، وكلّ ذي عرفان عن معرفتها، إنّها أوّل شيء حكى عن الله موجده وأقبل إليه وتمسّك به وسجد له ففي هذه الحالة تكون منسوبة إلى الحق وترجع إليه وفي ما عدا ذلك تنتسب إلى الهوى وترجع إليه.[26]

وأمّا ما سألت عن الرّوح وبقائه بعد صعوده فاعلم أنّه يَصْعَدُ حين إرتقائه إلى أنْ يحضرَ بين يدي الله في هيكل لا تغيره القرون والأعصار ولا حوادث العالم وما يظهر فيه ويكون باقيًا بدوام ملكوت الله وسلطانه وجبروته واقتداره ومنه تظهر آثارُ الله وصفاتُه وعناية الله وألطافُه. إنّ القلم لا يقدر أنْ يتحرَّك على ذكر هذا المقام وعلوّه وسموّه على ما هو عليه وتُدخلُهُ يد الفضل إلى مقام لا يُعرَفُ بالبيان ولا يذكرُ بما في الإمكان.طوبى لروح خرج من البدن مقدّسًا عن شبهات الأمم إنّه يتحرّك في هواء إرادة ربّه ويدخل في الجنّة العليا.[27]

الحياة الروحانية والمجتمع البهائي

لا تقتصر هداية حضرة بهاء الله لنموّ الناس روحانيًّا على الصلاة والمناجاة والتعاليم، إذ إن بُنية المجتمع البهائي بكاملها ترتكز على الهدفين التوأمين اللّذين ذُكرا سابقًا: تهذيب وتنمية حياة الفرد الداخليّة وكيانه الروحاني، واستحداث تحوّل اجتماعي في حياة الإنسانية بكاملها. حتى الجمال المعماري لبيوت العبادة البهائية يهدف إلى إنعاش الروح. وبما أنه لا يوجد في الدين البهائي قساوسة، أو أئمة، أو غورو أي المعلم الروحي في الهندوسيّة، أو قادة دين آخرون ليقوموا بدور على المسار الروحاني، تحلّ هيكليّة المجتمع البهائي وطريقة عمله مكان هؤلاء.

يُصرّح حضرة بهاء الله أنه مهما كان الدور الذي لعبه قادة الدين في السابق مفيدًا، إلاّ أنهم تسبّبوا في رفض المظاهر الإلهية كلما جاء أحدهم إلى العالم. الآن وقد أصبح لدى الإنسانيّة إمكانية تثقيف الجميع على هذا الكوكب ليتمكّنوا من قراءة الكتابات المقدّسة بأنفسهم، لم تعد هناك حاجة لهذه المؤسسة. وقد أوجد حضرة بهاء الله بدلاً عنها النظام الإداري البهائي الذي لا يتبوّأ أي فرد فيه بصفته الشخصيّة مركزًا قياديًّا أو سلطة من أي نوع. وينتقد حضرة بهاء الله أولئك [من أتباع الأديان الأخرى] الذين يتبعون أو يقلّدون رجال دينهم أو مرشديهم بشكل أعمى، لأن هذا التقليد يؤدي إلى الركود الروحاني، حيث إن كل جيل يستمر بالمفاهيم والتوجيهات التي ورثها، ولا يوسّع آفاق الإنجازات الإنسانيّة الروحانيّة. عوضًا عن ذلك، يودّ حضرة بهاء الله من الجميع أن يتحرّوا الحقيقة لأنفسهم، ويأمر أتباعه: “اخرقوا باسمي الحجبات الغليظة التي أعمت بصيرتكم، وبقوّة إيمانكم بوحدانيّة الله، كسّروا أصنام التقليد”.[28]

بما أنه، كما ذكر أعلاه، يُدعى الجميع الآن لاتّباع المسار العرفاني mystic path للنموّ الروحاني، لذا لا يقتصر دور النظام الإداري البهائي على إدارة دين فحسب، بل يتحمّل أيضًا مسؤوليّة قيادة مجتمع عرفاني mystic community، وُيسدي الهداية الروحانيّة والمساعدة على النموّ الروحاني وهي أعمال قامت بها مجتمعات عرفانيّة في السابق أمثال المجتمعات الصوفيّة، والمرشدون الروحيون أمثال مشايخ الصوفيّة. كما ذكر أعلاه، يمكن الحصول على بعض الهداية الروحانية المطلوبة بالصلاة والمناجاة، ودراسة الكتابات المقدّسة، والتأمّل فيها. بالإضافة إلى ذلك، تُهيّئ التعاليم البهائيّة الفرص للإفادة من حكمة المجتمع البهائي الجماعيّة كمصدر للهداية. وتطبّق عمليّة التشاور المعمول بها في جوانب الحياة البهائيّة كافة للحصول على الهداية من النصوص المقدّسة أيضًا. لذلك، تتلاقى مجموعات بهائيّة معًا، وتتشاور في معنى مقتطفات من النصوص المقدّسة. كلٌ يعرض مفهومه بحريّة وصراحة ثم تُبحث الأفكار بجوٍّ تسوده المحبّة والصفاء الذي تولّده حالة المناجاة. إذا مورست عملية التشاور بأسلوب صحيح، تأتي النتيجة أسمى وأعلى من أفكار أفراد المشاركين. يعرّف حضرة بهاء الله إنّ المشورة هي: “سِرَاجُ الْهِدَايَةِ، إنَّهَا تَهْدِي السَّبِيلَ وتَهِبُ الْمَعْرِفَةَ“.[29] ويتفضّل حضرة عبدالبهاء قائلاً إنه: “من المؤكد أنّ وجهة نظر عدد من الأفراد افضل على وجهة نظر شخص واحد، كما أن قوّة عدد من الرجال هي أكثر من قوّة رجل واحد”.[30]

علاوة على توفير الهداية الروحانيّة، تساعد عملية التشاور بحدّ ذاتها على نموّ الفرد روحانيًّا. وأمّا الصفات المطلوبة ليشارك الفرد في مشاورة بهائيّة جيّدة، فهي بموجب الآثار البهائيّة المقدّسة: “خلوص النيّة، وبهاء الروح والانقطاع عمّا سوى الله والانجذاب بنفحاته والخضوع والخشوع بين أيدي أحبّاء الله والصبر والجلد في تحمّل البلايا وعبودية العتبة الإلهية السامية”.[31] وهي الصفات الروحانيّة بعينها التي يحاول البشر تنميتها. من هنا، كلما شارك الفرد بتفكُّر وجدّية في عمليّة التشاور التي تحدثُ في جميع نواحي حياة المجتمع البهائي كلّما تطور ونما روحانيًا.

لقد شجعت الشخصيات الرئيسيّة في الدين البهائي، وبشكل دائم، وجود أكبر قدر ممكن من التنوّع في المجتمع البهائي. فقد شُجِّع البهائيون ليتقبّلوا دخول أناس في المجتمع البهائي من كل عرق وإثنيّة وخلفيّة دينيّة وطبقة اجتماعيّة. بالتالي، وخلافًا لمجتمعات الأديرة التي تتشابه فيها خلفيّة غالبيّة الأفراد، فإن الكثير من المجتمعات البهائيّة متنوعة للغاية، وكل بهائي معرّض للتفاعل مع مؤمنين من خلفيات اجتماعيّة وثقافيّة متعددة فيمكن أن تنشأ الامتحانات والنزاعات بسبب تصادم الآراء أو الثقافات. يَذكُر البهائيون عادة أن أكبر الامتحانات التي يواجهونها تأتي من إخوانهم في الإيمان.

تُحَل الامتحانات والمشكلات التي تنشأ داخل المجتمع البهائي حيث توجد آليات متعددة في حياة المجتمع البهائي تساعد على ذلك. تُنَفّذ غالبيّة نشاطات المجتمع، بما فيها الإدارة، بجوٍّ من الدُعاء والتوجّه، ويُشجّع أفراد المجتمع عمليا لأن يتفاعل بعضهم مع بعض بجوٍّ من المحبّة والاتحاد، وهناك تحريم للغيبة التي، كما يتفضّل حضرة بهاء الله: “… تطفئ سراج القلب المنير، وتميت الحياة من الفؤاد”.[32]

على الرغم من النزعة الطبيعيّة التي تؤدي إلى انقسام مثل هذه المجموعة المتباينة من الأفراد، تضمن مؤسسة الميثاق بقاء المجتمع موَحَّدًا في سعيه لحلّ المشاكل التي تنشأ. باختصار، يسعى البهائيون لخلق مجتمع ديني مساند بعضه لبعض بدرجة كافية، تمكّن أفراده من تنمية أنفسهم روحانيّا في جوٍّ آمِن. وكما ذُكر أعلاه، فإنّ التغلّب على هذه الامتحانات والمشكلات هو بحدّ ذاته يؤدي إلى التطوّر الروحاني، وطبعًا، التعالي على ما يفرّق بين الثقافات والأجناس هو الذي يبني وحدة العالم انطلاقًا من المستوى المحلّي.

من فوائد عملية التشاور والتفاعل داخل المجتمع أنها تُصحّح أية تصوّرات غير صحيحة لدى الفرد بالنسبة لدرجة تقدمه الروحاني. من السهل أن يظنّ الإنسان أنّه محبّ وصبور عندما يكون محاطًا بأشخاص من خلفيته كما هي الحال في جوّ الرهبنة. بينما من الصعوبة أن يخدع الإنسان نفسه بمستوى المحبّة والصبر لديه عندما يتفاعل مع أشخاص تختلف إلى حد كبير خلفيّتهم عن خلفيّته. وتلازمًا مع ما حرّمه حضرة بهاء الله من إقامة مجتمعات رهبنة، شجّع أتباعه على المشاركة مشاركة كلّية في العالم فتفضّل قائلاً: “أن اهتمّوا اهتمامًا بالغًا بما يحتاجه عصركم، وركّزوا تدابيركم في متطلباته ومقتضياته”.[33] ولهذا يُشجّع البهائيون أينما عاشوا على المساهمة بمشاريع التطوّر الاجتماعي و نشاطات المجتمع.

وهذه المشاركة في العمليات الاجتماعيّة هي ناحية من التعاليم البهائيّة التي تبرز فيها أهميّة خدمة الإنسانيّة، حيث إنه توجد علاقة متبادلة فيما بين الدرجة التي يخدم من خلالها الفرد ومساره في تطوره الروحاني. كلما زادت خدمة الفرد، زاد نموّه الروحاني؛ وكلما زاد نموّه الروحاني زادت فرص الخدمة أمامه. فعندما يشارك الفرد بروح الخدمة في نشاطات اجتماعيّة تتولّد علاقة إيجابيّة متبادلة بينه وبين المجتمع تؤدي إلى نموّ صفاته الروحانيّة وتطويرها. لذلك على الفرد أن يطوّر، من ناحية، مزاياه الروحانيّة ليتمكّن من خدمة المجتمع خدمة بنّاءة ومفيدة، ومن ناحية أخرى فهو من خلال سعيه إلى مثل هذه الخدمات يتوصّل إلى اكتساب الفضائل الروحانيّة المرجوّة: يتوصّل الإنسان إلى تقدير أهميّة صفة الأمانة، وبالتالي يمتلكها، عندما يساهم في أية مناسبة تتطلّب قيادة المجتمع؛ ويتوصّل الإنسان إلى تقدير وامتلاك فضيلة العدالة عندما يساهم في نشاطات تسعى لتحسين حقوق الأقليات في المجتمع، أو يعمل على تخفيف الفقر حول العالم؛ ويتعلم الإنسان الصبر عندما يبدأ التعامل مع المتضررين والمعوزين في المجتمع. يؤدي هذا إلى بلورة مفهوم يوَضّح أن ما يعمل له البهائيون ليس خلاص الفرد بقدر ما هو خلاص اجتماعي جماعي. بكلام آخر، على الفرد أن يُركّز أفكاره وأعماله على ما يؤدي إلى خدمة الغير، ويطوّر الخير العام (والقصد هنا من الخير العامّ هو خير العالم بأسره وليس الجانب الذي يختص به فقط). إن مجهود الفرد في مضمار الخدمة يُغذي نموّه الروحاني، وبالتالي خلاصه مرتبط بشكل متداخل ومتلازم مع خلاص العالم.

[1])   عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1967, p. 63 (ترجمة مترجم الكتاب)

[2])   بهاء الله، منتخباتي… رقم 27 (كما وردت الترجمة في كتب روحي الأول)

[3])   بهاء الله، منتخباتي… رقم 27 (كما وردت الترجمة في كتب روحي الأول)

[4])   بهاء الله، منتخباتي… رقم 27 (كما وردت الترجمة في كتب روحي الأول)

[5])   عبد البهاء، من مفاوضات عبد البهاء 173، (مترجم)

[6])   عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1982, Promulgation, p. 152، (ترجمة مترجم الكتاب)

[7])   بهاء الله، منتخباتي…، فقرة 21، ص 40 (ترجمة مترجم الكتاب)

[8])   منتخباتي از آثار حضرت بهاء الله، رقم 21، ص 40

[9])   الكتاب الأقدس، شرح رقم 160

[10])  بهاء الله،  Bahá’u’lláh, 1983, p. 80(ترجمة مترجم الكتاب)

[11])  بهاء الله، الصلاة الصغرى، تتلى مرّة كل أربع وعشرين ساعة بين الظهيرة والمغيب، وهي واحدة من ثلاث صلوات على البهائي أن يختار احداها لإدائها يوميا، الكتاب الاقدس، ص 121

[12])  بهاء الله، منتخباتي…، فقرة 1

[13])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1967, p. 174، (ترجمة مترجم الكتاب)

[14])  كتاب الإيقان، ص 10 (مترجم)

[15])  الكتاب الأقدس، الشرح 25، ص 184 (مترجم)

[16])  راجع النص العربي في كتاب منتخباتي أز آثار حضرت بهاء الله، فقرة رقم 128

[17])  بهاء الله، ترجمة الكلمات المكنونة الفارسية رقم 29، (كما وردت في النسخة المترجمة)

[18])  شوقي أفندي، 1944، (ترجمة مترجم الكتاب)

[19])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1967, p. 51، (ترجمة مترجم الكتاب)

[20])  شوقي أفندي، 1954، (ترجمة مترجم الكتاب)

[21])  بهاء الله، الكلمات المكنونة الفارسية، رقم 5 (مترجم)

[22])  عبد البهاء، Paris Talks, 1967, pp. 110–11، (ترجمة مترجم الكتاب)

[23])  عبد البهاء، خطب عبدالبهاء…، ص 329–330 (مترجم)

[24])  راجع منتخباتي أز آثار حضرة بهاء الله، فقرة رقم 81

[25])  بهاء الله، منتخباتي… فقرة رقم 81

[26])  بهاء الله، منتخباتي… فقرة 82. الجملتان الأولى والأخيرة مترجمتان عن الفارسيّة [تأملات في حياة الروح، معهد روحي، ص 50–51] وسائر النص عربي الأصل

[27])  بهاء الله، منتخباتي…، فقرة 81

[28])  بهاء الله، Bahá’u’lláh, 1983, p. 143، (ترجمة مترجم الكتاب)

[29])  بهاء الله، مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله، (مترجم) ص 155، (طبعة 2006م)

[30])  عبد البهاء، كما استشهد به في كتاب 1991 ،Compilation of compilations 1, p. 81–97 (ترجمة مترجم الكتاب)

[31])  عبد البهاء، كتيب المحفل الروحاني المحلّي، ص 19، (مترجم)

[32])  بهاء الله، كتاب الإيقان، ص 163، (مترجم)

[33])  بهاء الله، منتخباتي…، فقرة رقم 106 (Gleanings, CV1) (ترجمة مترجم الكتاب)

 

2 الحياة الشخصيّة

الكائن البشري فريد من نوعه في عالم الخلق. يؤمن البهائيّون أن الإنسان في جوهره ذو طبيعة روحانيّة، وطالما أنه على قيد الحياة، تتداخل طاقاته الجسدية والعاطفيّة والفكريّة مع حياة الرّوح. هدف الحياة هو الإرتقاء الروحاني للنفس الإنسانية بالتقرب الى الله وعبادته.

بالتالي، أسوة بجميع الأديان، يركز الدين البهائي على حياة الفرد الروحانيّة. يؤمن البهائيون أن الرّوح ينوجد عند تكوّن الجنين ويستمرّ في علاقته مع الجسد طالما كان هذا الجسد حيًّا. وبينما روح الإنسان أبديّ، بالنهاية، يشيخ الجسد ويموت والاثنان يفترقان، فينحل الجسد ويعود إلى التراب، ويستمر الرّوح في رحلته الأبدية.

الصحّة

طالما أن الجسد على قيد الحياة، يرتبط مع الرّوح ارتباطًا وثيقًا وكل منهما يؤثر في الآخر. هدف الجسد هو أن يخدم كمركبة للروح على الأرض، وبالتالي يَكُون لأعمال وعادات الجسد اليوميّة مَعنىً، بالقَدْر الذي يساعد الرّوح في تطوّره. لذلك، بينما يركّز البهائيون على حياتهم الروحانيّة، يُعيروا الجسد العناية اللازمة ليبقى مُعافى ولا يُعرّضونه للخطر أو الأذى أو للتلوّث. إضافة إلى ذلك، تعبّر ممارسات وتمارين جسديّة عديدة عن حقائق روحانيّة أو ترمز إلى الحالة الروحانيّة. بالتالي، على سبيل المثال، فإن الامتناع عن الطعام أثناء فترة الصوم البهائيّة هو في آن معًا رياضةٌ روحانيّة تهدف إلى المساعدة على تنمية صفات روحانيّة، ورمزٌ ظاهرٌ يجسّدُه.

بما أنه من أهداف الدين تأسيس الوحدة بين البشر على كل مستوى، يعتقد البهائيون أن على البشر أن يُظهروا هذه الوحدة في أنفسهم أولاً، أي أنه يجب أن تترابط جميع مقومات النفس – الروحانية، الجسدية، العاطفية والفكرية – ويجب عدم إهمال أو التغاضي عن سلامة أي منها. وبالإضافة إلى ذلك فإن جميع ممارسات الفرد في حياته اليوميّة تتأثر بصحّته الروحانيّة، ويمكن لهذه الممارسات بدورها أن تؤثر على روح الفرد. بالتالي، تلك الأمور التي تؤثر سلبًا على عمل الجسد أو العقل، مثل الكحول والمخدّرات، محرّمة في التعاليم البهائيّة، بينما تُشجع الممارسات التي تحافظ على صحّة الجسد، مثل النظافة، وما ينعش الروح، مثل الموسيقى، وما ينشّط العقل، مثل الأبحاث العلميّة.

يعتبر البهائيون أن “الجسد هو هيكل الروح“[1]، وبالتالي يجب معاملته باحترام والمحافظة على صحّته وعافيته بصورة جيّدة، ليس فقط من باب الاحترام، بل لأن الجسد هو الذي يُمَكّن الفرد من خدمة الآخرين، ولأنه يجب المحافظة على وحدة الذات ليستطيع الإنسان أن يكون فعّالاً روحانيًّا. تهدف تعاليم حضرة بهاء الله العديدة حول سلامة الجسد إلى تحقيق هذه الغاية.

تركّز بعض تعاليم حضرة بهاء الله على نظافة الجسد والثياب والمنزل. يُطلب من البهائيين أن يكونوا “عنصر اللّطافة بين البريّة”[2] وأن يتصرفوا بما “يكون أقرب إلى اللّطافة”[3] وأن يتميّزوا باللطف. “كلمة اللّطافة هي لفظ له عدّة معان منها المعنويّ ومنها الماديّ. فمن معانيها الأناقة، والرقّة، والنظافة، والكياسة، والأدب، ودماثة الخلق، ورفاهة الحسّ، وكرم السجيّة، كما تعني أيضًا اللّباقة، والتهذيب والنقاء، والطهارة”.[4] لذلك، يفرض حضرة بهاء الله على الإنسان أن يغسل جسده كاملاً مرّة في الأسبوع على الأقل بمياه بٍكر ونظيفة، وأن يغسل رجليه كل يوم في فصل الصيف، وعلى الأقل كل ثلاثة أيام في الشتاء، وأن يغسل ثيابه، ويقلّم أظفاره، ويقُصّ شعره، ولكن لا يحلقه. يجب ألاّ يغمس البهائيّون أيديهم في وعاء مشترك للأكل. وقد حافظت هذه الإرشادات على سلامة صحّة المجتمع البهائي في زمن لم يُعرف فيه إلا القليل عن أسباب انتشار الأمراض وكانت في حينه التمديدات الصحيّة بدائيّة للغاية. إن النظافة والعادات الطاهرة هي من الأهميّة بمكان مما أدّى بحضرة عبدالبهاء أن يَخُطّ فيها دعاءً تَضَرّعَ فيه إلى الله ليحفظ البهائيين “من أي تلوّث ويُخلّصهم من كل إدمان” و “يحفظهم من ارتكاب أي عمل مهين” و أن يُحرّرهم من “قيود كل عادة خبيثة”.[5] على البهائيين أن يحافظوا على نظافة منازلهم وترتيبها، وأن يجدّدوا تأثيثها كل 19 سنة إذا سمحت لهم إمكانياتهم المادية بذلك.

يجب أن يكون للطهارة الأولوية في حياة الإنسان، وبعدها النقاوة والنظافة والروح المتحررة… في كل وجه من أوجه الحياة، تسمو الطهارة والقدسيّة والنظافة واللطافة بالحالة الإنسانيّة وتؤدي إلى تطور حقيقة الإنسان الداخليّة. حتى على المستوى المادي، تُفضي الطهارة إلى الروحانيّة، كما تذكر الكتابات المقدّسة بكل وضوح. رغم أن نظافة الجسد شيء مادي، إلا أن لها تأثيرًا قويًا على حياة الروح.[6]

على الوالدين أن يتأكدوا من نظافة أولادهم، وحسن آدابهم، ولطافة سلوكهم. يجب أن يلبس تلامذة المدارس ثيابًا نظيفة، وأن تبقى مدارسهم نظيفة، وأن يكون موقعها حيث الهواء نقيٌّ إذا أمكن ذلك.

يُدرك البهائيون أن الصحّة الجيدة تعني أكثر من غياب المرض وتشتمل على صحة وسلامة جميع مقومات الإنسان بما فيها الجسديّة، الذهنيّة، العاطفيّة والروحيّة، علمًا أن كلاً منها يؤثر على الأخر. يجب المحافظة على الجسد بنظام غذائي سليم، والراحة، والرياضة، واتّباع نصائح أطباء ذوي كفاءة معترف بها. أشار حضرة عبدالبهاء إلى أن حليب الأمّ هو الأفضل للطفل الرضيع، إذا كان بإمكانها أن تُرضعه.[7] ولفت النظر إلى أن الأسنان ليست مصمّمة لتمزيق اللحوم وإنما لطحن الحبوب وقطع الفاكهة وكسر البندق وما شاكل، قائلاً: “لا شك انه من الأفضل والأكثر استحسانًا إذا اكتفى الناس “بالحبوب والفاكهة والزيت والمكسّرات مثل الفستق (الحلبي)، واللوز وأمثالها”.[8] وقد تنبأ انه في المستقبل سَيتَحوّل الناس إلى نباتيين ولكنه أضاف أن البهائيين ليسوا ممنوعين من أكل اللحم، بما فيه لحم الخنزير، مضيفًا أن “اللحم مغذٍ وعناصره متوفّرة في اﻻعشاب، البذور والفاكهة، لذلك فهو ضروريّ في بعض الأحيان للمرضى ولاستعادة العافية. لا مانع في الأحكام الإلهية من أكل اللحم إذا كان ضروريًا. لذلك، إذا كانت بنية جسدك ضعيفة، ووجدت أن اللحم مفيد، يمكنك تناوله”.[9] يُنصح البهائيون بعدم الإفراط في الأكل وإنما تناول الطعام باعتدال، مع الاكتفاء بصنف واحد جيّد إذا كان ذلك ممكنًا. وعدم الأكل إلا بعد الجوع. ويَنصح حضرة عبدالبهاء بالمشي قليلاً بعد تناول وجبة طعام، وعدم ممارسة الرياضة عند امتلاء المعدة. وقد صرّح حضرته أن الرياضة بوجه عامّ جيّدة للعضلات.

يُشَجَّع البهائيون على المحافظة على صحّتهم بالحصول على درجة كافية من النوم والراحة[10] حتى إذا لزم الأمر، إجبار أنفسهم على “أخذ الوقت ليس فقط للدعاء والتأمّل، ولكن لنيل الراحة الحقيقية والاسترخاء”.[11] لكن الغاية من النوم ليست فقط حماية صحّة الفرد، وإنما “لإراحة الجسد حتى يعمل الإنسان بطريقة أفضل، ويتكلّم بأسلوب أفضل، ويشرح بطريقة أجمل، ويخدم عباد الله، ويثبّت الحقائق”.[12]

التعاليم البهائيّة حول سلامة العلاقات الجنسيّة قائمة على المبدأ القائل إنه يجب أن تقتصر العلاقات الجنسيّة فيما بين الزوجين فقط. هذا لا يعني أن على الفرد “كبت الدافع الجنسي، بل… ضبطه والسيطرة عليه”[13] بواسطة الزواج. من منظور الصحّة الشخصيّة، إن فائدة هذا النوع من الممارسة الجنسيّة الآمنة واضحة، كما أن فوائدها الاجتماعيّة واضحة أيضًا إذ تؤدي إلى إنشاء عائلات متماسكة، من ناحية، ومن ناحية أخرى تمنع انتشار الأمراض مثل أمراض نقص المناعة HIV/AIDS في المجتمع.

إن الوالدين مسؤولان منذ البداية عن حماية صحّة أولادهم والتأكد من أنهم يتناولون الغذاء السليم، ويُحفظون من الأمراض. دور الأمّهات محوريّ. فبما أنهن عادة أوّل من يقدّم العناية للأطفال، وأول من يلاحظ الأمراض التي تصيبهم أو تصيب أفرادًا آخرين في العائلة، لذلك، لهنّ أكبر الأثر في المحافظة على عافية العائلة، وفي تنمية عادات تضمن أسلوبا صحيحّا للحياة. لمساعدة الأمّهات في هذا الدور، تَحضُّ التعاليم البهائيّة على تعليم وتربية النساء، لأن النساء يمتلكن هذه الرؤية الثاقبة في العناية الصحيّة الأوليّة. ويحثّ البهائيون الحكومات على الاستنارة بآراء النساء عند اتخاذ القرارات حول سياسة الصحّة العامّة، ويؤيدون إشراك المرأة في هيئات صنع القرار.

وانسجامًا مع التأكيد الشديد الذي يضعه البهائيون على أهمية النساء والأمهات، فإنهم يروّجون بقوّة لبرامج تعتني بصحتهنّ، كونَهُنّ اللواتي تعتمد عليهن عائلات ومجتمعات كثيرة. يحبّذ البهائيون توجيه اهتمام خاصّ للتأكد من أن النساء يحصلن على التغذية السليمة، وخصوصًا البنات، اللاّئي هن، في مجتمعات متعددة، آخر من يتناولن وجبات الطعام. يعتقد البهائيون أنه يجب حماية البنات والنساء من تقاليد مضرّة تمارسها بعض المجتمعات كتشويه أعضائهنّ التناسليّة genital mutilation، خصوصًا في سنوات المراهقة. بما أن الناس يُعَمّرون أكثر من السابق، يجب توجيه الاهتمام أيضًا للمحافظة على الصحّة الجسديّة والذهنيّة والروحانيّة للنساء الكبيرات في السن، وخصوصًا الأرامل اللائي هن الأكثر عرضة للأذى في بعض المجتمعات.

يعتبر البهائيون أنّه من الأهميّة ضمان أن لا تضع الإعلانات الخاصة بالصحّة النساء في قالب الضحيّة، بل يجب التعامل معهنّ كمُشاركات في أخذ القرار في الأمور التي لها علاقة بصحّتهنّ. وقد وجد البهائيون أن الإفادة من وسائل إعلامية تقليدية محلّية، مثل الموسيقى والفولكلور الشعبي، تساعد على نقل أفكار مُستصعبة إلى جماهير مُعيّنة. وفي ترويجهم لهذه الأفكار والمشاريع، يرى البهائيون أن التوجيهات التي لها علاقة بصحّة النساء يجب توجيهها ليس فقط إلى النساء بل وأيضا إلى الرجال الذين يسيطرون على العائلات في مجتمعات عديدة، وإلى هيئات صنع القرار، والطاقات البشريّة والحكومات.

إن مقاربة البهائيين للشفاء من اﻻمراض هو بموجب ما علّمه حضرة بهاء الله عن وجوب اﻻنسجام بين الدين والعلم. لذا ويؤمن البهائيون أنه يمكن الحصول على أفضل النتائج بالجمع بين المسارين، المادي والروحاني.

حضّ حضرة بهاء الله البهائيين الذين يمرضون على السعي لاستشارة أطباء أكفّاء – “أطباء درسوا منهاجًا طبيًّا مبنيًا على أسس علمية”.[14] وأن ينفّذوا توجيهات الطبيب.[15] تجدر الإشارة إلى أنّه لا توجد علاقة بين الدين البهائي وأية مدرسة طبيّة مُعيّنة، أو أي أسلوب خاص للشفاء أو للتغذية، ولا يُرَوّج لأي منها. على الأفراد أن يقرّروا بأنفسهم أي طبيب يستشيرون، ولكن من واجبهم “أن يميّزوا بين الأطباء المؤهلين جيدًا في علوم الطب والذين ليسوا كذلك”.[16] يُشَجَّع البهائيون على دراسة مهنة الطب وممارستها، إذ تعتبر مهنة مُمَيّزة. وبنفس الوقت، من المعروف أن الطب ما زال في مراحله البدائية وبالتالي فهو غير كامل. يُحَثّ البهائيون بكل همّة على تطوير علم الطب إلى تلك الدرجة العالية التي تمكّنهم في المستقبل من شفاء المرضى بواسطة “الأغذية، الفاكهة العُطرية والخضار، وبأنواع متعددة من المياه الساخنة والباردة”.[17] كما يجوز للبهائيين التبرع بأعضائهم إذا أرادوا ذلك.

لا يوجد بهائيون يعملون على شفاء المرضى بأساليب غير مثبته علميًّا (healers)، وعلى سبيل المثال بالطريقة المتبعة لدى كريستيان ساينس Christian Science. ومع ذلك، من المفهوم أن لدى بعض الناس قدرة على مساعدة الآخرين للشفاء.[18] يدرك البهائيون انه من الممكن معالجة بعض الأمراض بأسلوب روحاني مثل التوجّه إلى الله بالدعاء، وأن “شفاء الجسد لا يكتمل ولا يدوم إلا إذا دعمه شفاء روحاني”.[19] إن التوجه البهائي واقعي إذ يعتبر أن “المرض نوعان: مادي وروحاني. خذ مثلاً جرحًا في اليد؛ إذا توجهت بالدعاء ليشفى الجرح دون أن تُوقف النزيف، لن يكون عملك هذا مفيدًا؛ فالمطلوب علاج مادي. أحيانًا، إذا شُلَّ النظام العصبي بسبب الخوف، تدعو الحاجة لعلاج روحاني… غالبًا ما يتسبب الحزن بمرض الإنسان، ويمكن شفاء هذا بالوسائل الروحانيّة“.[20] لا يُعتبر هذان النوعان من العلاج متناقضين. وعلى البهائيين أن “يتقبّلوا العلاجات الماديّة على أنها من رحمة الله وفضله” الذي “أظهر العلوم الطبيّة ليستفيد عباده من هذا النوع من العلاج”.[21] للبهائيين كامل الحريّة في اتّباع أنواع العلاج البديل alternative therapies اذا رغبوا في ذلك والبحث في علاجات جديدة اذا كانت ذات قيمة حقيقية.[22]

بالنسبة لأسئلتك عن حالة الروح أثناء المرض… الأمراض الجسمانية، مهما كانت شديدة، لا يمكنها تَغييِر حالة الروح الجوهريّة كما يتفضّل حضرة بهاء الله “الرّوح أبديّة وثابتة في مقامها. إن الإزار أو الحاجز الذي يفصل بين الروح والجسد خلال اعتلال الجسد هو المرض بحد ذاته”.[23]

يعتبر البهائيون أن الأمراض العقليّة مسألة طبيّة وليست مرضًا روحانيًا أو مؤثرًا على علاقة الإنسان الداخليّة مع الله. وكما هو الحال مع أي مرض منهك للإنسان، “قد يكون تأثير مثل هذه الأمراض معيقًا وعبئًا أمام تطوّر الفرد الروحاني”.[24] هنا أيضًا يجب اللجوء إلى الأطباء بمن فيهم أطباء علم النفس.

التعاليم البهائيّة “تشجب شجبًا قطعيًا أي نوع من أنواع العنف الجسدي”[25] بما فيه أي عنف يقوم به الإنسان تجاه نفسه. وبالمثل، فإن الموادّ التي تضر الجسد، تعيقه وتمنعه عن العمل بطريقة صحيحة، أو تضعف تماسك كيانه الجوهري، مثل الكحول والمخدّرات المسببة للادمان وكلها مُحَرّمة على البهائيين. فالهيروين والحشيش وغيرهما من مستخرجات القنب الهندي مثل الماريجوانا والمواد المسببة للهلوسة مثل (LSD) وPeyote وغيرهما تندرج تحت هذا التحريم.”[26] ويحرّم بشكل خاص الأفيون الذي، بالإضافة إلى آثاره المؤذية للصحة وكما يتفضّل حضرة عبدالبهاء، “اذ يستولي على النفس فيموت الوجدان ويزول الشعور ويتلاشى الادراك وينقلب الحي ميتا وتخمد الحرارة الطبيعية”.[27] يُسمح للبهائيين تدخين التبغ، ولكنه يُوصف بأنه “قذر، كريه الرائحة، مزعج، وعادة قبيحة” وبالتالي “بغيض من الناحية الصحيّة”، بناءً على ذلك “المُدخّن معرّض لأمراض متعددة”.[28]

الفنون

بعكس ما ورد أعلاه، هناك أمورٌ لها تأثيرٌ إيجابيٌّ ومفيد للجسد والروح. يمكن مثلاً، أن تتأثر صحّة البدن من انتعاش الروح بسبب محيط جميل أو من مزاولة الفنون.

من الطبيعي للقلب والروح أن يستمدّا المتعة والسرور من الأمور التي تُظهر التناسق، الانسجام والكمال. مثلاً، بيت جميل، حديقة مصمّمة جيدًا، خطّ متوازن، حركة رشيقة، كتاب جيّد، ثياب مبهجة – في الواقع، كلّ الأمور التي فيها بهجة وجمال تفرح القلب والروح.[29]

يقدّر البهائيون جمال الطبيعة ويُشَجّعُون على تنمية الجمال في بيوتهم وحدائقهم وفي المحيط الأوسع. وعلى سبيل المثال، يوجّه اهتمامٌ كبيرٌ لجمال الهندسة المعماريّة، وهندسة الحدائق، في مواقع المقامات والأبنية البهائيّة المقدّسة. وقد حثّ البهائيون العاملين في الأمم المتحدة على ترويج الجمال كمبدأ أساسيّ في التخطيط الاجتماعي.[30]

أما بالنسبة للفنون، فإن حضرة بهاء الله اعتبرها بحدّ ذاتها من الأهمية بمكان لدرجة أنه رفعها إلى مستوى العبادة.[31] وقد وصف الموسيقى على أنها سلّم لارتقاء الروح وأنها من أهم الفنون، وإنما ألحَقَ بيانه “إنّا حلّلنا لكم إصغاء الأصوات والنّغمات” بتحذير جاء فيه “إيّاكم ان يخرجكم الإصغاء عن شأن الأدب والوقار”.[32] وقد أشار حضرة عبدالبهاء إلى أن الموسيقى، رغم أنها مشتقّة من دنيا المادة، كونها ذبذبات هوائيّة، إلاّ أن لها تأثيرًا روحانيًّا هائلاً، تحرر المستمع من الهموم والأحزان،[33] وهي تُبهج الروح، وتدفعه للعمل.[34] لذلك، يُنصح البهائيّون على إعداد ألحان جميلة ومناسبة لكتاباتهم المقدّسة، وأن يتلوا أدعيتهم باللحن. وبالمثل، يمكن للشعر أن يؤثر على الرّوح أكثر من النثر. “فهو يحرّك الأعماق أكثر كونه منظومًا بشكل أدقّ”.[35] يُشجَّع الوالدان البهائيان على أن يعلّما أولادهما الغناء، والعزف على الآلات الموسيقيّة، وتنمية الذوق لهذه الفنون وغيرها.

العمل

منح حضرة بهاء الله الفنانين والحرفيين مرتبة عالية وصرّح أنه “يتوجب تقديرهم لأنهم يدفعون شؤون الإنسانية قُدمًا”. وشدّد حضرته على أن “سبل المعيشة تعتمد على أولئك الذين يعملون في حقل الفنون والحِرف”.[36] هذا التركيز على عطاء الفنانين والحرفيين للمجتمع يتماشى مع توجّه البهائية العامّ نحو العمل. فقد رفع حضرة بهاء الله منزلة العمل المنجز بروح الخدمة للإنسانيّة إلى مرتبة العبادة، وناشد الجميع – حتى المعاقين – على العمل. رغم أن التعاليم البهائيّة ذكرت اختصاصات ومهنًا مختلفة من علوم وفنون وحِرف على أنها مفيدة للمجتمع، يعود اختيار نوع العمل للفرد. ومن أنواع العمل الممدوحة والمسؤولة، العناية بالمنزل ورعاية الأطفال. مهما كان نوع العمل الذي يختاره البهائي، عليه أن يسعى للوصول إلى الكمال فيه، وفي أثناء قيامه به، أكان ربَّ عمل أو موظفًا، عليه أن يدلّل على تعلّقه بالمستوى الأخلاقي والأدبي العالي الذي وضعه حضرة بهاء الله. وقد طوّرت مؤسسات مثل “التجارة الأخلاقيّة تبني المستقبل“ “Ethical Business Building the Future” مجموعة من القيم الاساسية مستوحاة من التعاليم البهائيّة قد يجدها أربابُ العمل والموظفون ذات فائدة.

يُحَرّم الدين البهائي اعتماد التسوّل كأسلوب للحياة ويعتبر أن الحكومة هي المسؤولة للتأكد من تَوَفُّر الفرص كي يحصل الناس على التربية والتدريب والعلوم الضروريّة لإيجاد وظيفة، وأن لديهم الفرص لاستعمال مهاراتهم. لا يوفّر العمل للأفراد والعائلات مصدر رزق فقط، بل فيه فائدة ذاتيّة أيضًا إذ إنه يقرِّبهم من الله ويساعدهم على إدراك غايته لهم. لذلك، مجرّد امتلاك الثروة لا يعفي الناس من العمل اليومي، ولا العوائق الجسديّة تعفيهم. ولكن إذا كان الإنسان معاقًا بالكامل، أو في حالة من الفقر المُدقع، عند ذلك تصبح الدولة مسؤولة عن مدِّه بمدخول شهري. إلا ان البهائيّة ﻻ تأتي على ذكر سن التقاعد في تعاليمها.

الغنى، الفقر والعطاء الطوعي

إن موقف البهائيين تجاه العمل يعتبر مؤشرًا على موقفهم من المال، وبالتالي من الغنى والفقر. أحد أهداف حضرة بهاء الله الأساسيّة القضاء على أقصى درجات الغنى والفقر. هذا لا يعني أن البهائيين ينادون بالمساواة التامة في الغنى بين الأفراد أو العائلات – إن ذلك مستحيل وغير مرغوب فيه ولا يؤدي إلى حُسن سير أمور المجتمع. علاوة على ذلك، يدرك البهائيون أن طاقات ومهارات الناس تختلف وأنهم بالتالي سيقومون بأعمال مختلفة مما يوجب عليهم جني مدخول يعكس هذه الفروقات. لذلك يحثّ حضرة بهاء الله على مشاركة الثروة طواعيّة، أكان ذلك من طرف الأغنياء أو الذين هم أقل غنىً منهم، أو من الدول الغنيّة إلى الدول الفقيرة.

لتسهيل مثل هذا العطاء، ولتجنّب السلبيات المتعلقة بالمانحين ومتلقي المعونة، أنشأ حضرة بهاء الله مؤسسة ‘حقوق الله’ حيث يقدّم الفرد 19% من صافي ربحه سنويًّا إلى أعلى سلطة متولّية شؤون الدين البهائي – وهي اليوم بيت العدل الأعظم – لتُصرَف على فئات محددة من متلقي المعونة: الفقراء، المعاقين، المعوزين واليتامى، وعلى الاحتياجات الضرورية للدين البهائي ذاته. انها ليست مجرّد ممارسة اقتصاديّة ولكنها مسؤولية روحانيّة، وحق مميّز، ترتد نتائجه على المانح.

إن القرار الذي يتخذه الإنسان بكامل حريّته ليشارك الآخرين في بعض مما يملك هو من علامات نضج الفرد والبشريّة، وهو مؤشر إيجابي على الطريق باتجاه الازدهار العالمي، مما يؤدي بالنهاية إلى السلام. وقد يبدو أن السعي لإقامة نظام اقتصاديّ مبنيّ على المحبّة أمر مستغرب ولكن هذا هو فعلاً الموقف البهائي: إن الاعتراف بوحدة العائلة الإنسانيّة، وتجاذب القلوب، سيُلْهم الأفراد والعائلات والمجتمعات وأخيرًا الدول على تقديم المعونة للآخرين، بمثل ما يساعد أفراد العائلة الواحدة بعضهم بعضًا. على النطاق الفردي يُعتبر منح الهبة لأعمال خيرية عملاً جديرًا بالتقدير. يؤمن البهائيون بأن لا عار في الفقر –كما أن لا فضيلة في الغنى– وأنه على “أولي الغنى” أن يكون لهم “أقصى الاعتبار”[37] للفقراء.

المسؤوليّات الاجتماعيّة وخدمة الآخرين

إن الشعور بالمسؤوليّة الاجتماعيّة تجاه الآخرين هو من ميزات حياة الفرد البهائي، وهو مرتبط تمامًا بالتعاليم البهائيّة حول خدمة الإنسانية، كونه المبدأ المحرّك للبهائيين، ومرتبط بتحذير حضرة بهاء الله من اتّباع حياة النسّاك، أو الرهبان المنعزلين، أو الزاهدين المتقشفين أو المتصوّفين إلى الحياة في جمال الطبيعة. بما أن حضرة بهاء الله أعطى خدمة الآخرين مكانة عالية، وشبّهها بخدمة الله، من الطبيعي أن ينشغل البهائي في أنشطة وبرامج مجتمعه المحلّي والمركزي، ومن المرجّح أن يقدّم خدماته بلا مقابل لتحسين أوضاع المجتمع. لذلك، على سبيل المثال، سعيًا لتنفيذ بيان حضرة بهاء الله “إن الذي ربى ابنة أو ابنًا من الأبناء كأنه ربّى أحد ابنائي.”[38] قد يقرر البهائي أن يتبنّى طفلاً. كذلك، يشارك البهائيون في وضع وتنفيذ مشاريع إنماء وتطوير اجتماعيّة واقتصاديّة مستدامة ومتنوعة للغاية على مستوى القاعدة، بإدارة البهائيين المحلّيين. لذا قد يجد الفرد البهائي أنه يعمل في مثل هذه المشاريع، أو بحال عدم وجودها، من الممكن أن يتطوّع للخدمة في مشروع أو نشاط قائم بإدارة مجموعة أخرى.

مثل هذا النشاط الاجتماعي مرتبط بالمبدأ القائل إنّ على الإنسان أن يتحرّى الحقيقة دائمًا ويستمر في تثقيف نفسه. على البهائيين أن يكونوا على علم بالأحداث الجارية في العالم من حولهم وأن يسعوا لإيجاد ترابط بين تعاليم حضرة بهاء الله وتلك الأحداث، لكي يقدّموا ما هو ضروري ومناسب، وأن لا يكتفوا فقط “بالعمل الجيّد”. وكي يبقى الإنسان على اطّلاع بمجريات الأمور الراهنة، والترابط بينها وبين الدين البهائي، عليه أن يثقّف نفسه باستمرار، وعليه أن يعتمد على ثقته بقدرته على البحث عن الحقيقة والاستفادة من نتائجها. إن الإقدام بهذا التوجّه ما هو إلا دليل على الادراك بأن للوعي الإنساني الطاقة الفكرية، والأخلاقية، والروحانيّة والحسّ الجمالي مما يمكّنه من القيام بمثل هذا المجهود.[39]

إن الانخراط والمشاركة في الشوؤن اليوميّة التي تؤثر على حياة الناس وسعادتهم ما هو إلا جانب من جوانب الحياة الروحانيّة لكل بهائيّ. يتفضّل حضرة بهاء الله، “أن اهتمّوا اهتمامًا بالغًا بما يحتاجه عصركم وركّزوا مداولاتكم في متطلباته ومقتضياته”.[40] لا تعني هذه الهداية أن على البهائيين أن ينخرطوا في السياسة الحزبيّة كأسلوب للوصول إلى هذه الغاية لأنها تُحدث التفرقة وتُؤدي إلى إلغاء جوهر الوحدة الذي هو الهدف الأساسي للدين البهائي. لا يترشح البهائيون لمناصب سياسية ولا يروّجون لأحزاب سياسية أو لأفراد سياسيين. قد يشتركون في الانتخابات، إذا كان بإمكانهم القيام بذلك دون ارتباطهم بأي شكل من الأشكال بحزب سياسيّ معيّن، كما ويمكنهم العمل في وظائف حكوميّة طالما أن هذه الوظائف غير مرتبطة بتوجّهات حزبيّة.

كونوا للأيتام أبًا عطوفًا، وللمساكين ملجأً وملاذًا، وللفقراء كنز الغنى وللمرضى الدّواء والشّفاء. كونوا معين كلّ مظلوم، ومجير كلّ محروم. واحصروا فكركم في تقديم الخدمة لكلّ إنسان. ولا تلقوا بالاً إلى الإعراض ولا الإنكار ولا الاستكبار؛ ولا تأبهوا للظّلم ولا العدوان. بل على النّقيض! عاملوا النّاس وكونوا عطوفين عطفًا حقيقيًّا لا صوريًّا ولا ظاهريًّا. ويجب على كلّ فرد من أحبّاء الله أن يحصر فكره في أن يكون رحمة الرّحمن وموهبة المنّان، فما اتّصل بأحد إلاّ قدّم له الخير والمنفعة، وكان سببًا لتحسين الأخلاق وتعديل الأفكار حتّى يشعّ نور الهداية وتحيط بالعالم موهبة الرّحمن.

المحبّة نور يضيء في كلّ منزل، والعداوة ظلمة تأوي إلى كلّ كهف!.[41]

وفي نفس الوقت، يؤمن البهائيون أن أنجع وسيلة لحلّ المشاكل الاجتماعيّة هي تطبيق التعاليم البهائيّة على النطاق العالمي، وأنهم أيضًا بحاجة لبناء نظام بهائي يكون نموذجًا لكيفيّة تحقيق ذلك. من هنا، وبوجه عامّ، يشارك البهائي مشاركة فعالة في أنشطة وبرامج ومشاريع مجتمعه المحلّي، ويلتزم الترويج لها وإدارتها. يقدّم الكثير من البهائيين بيوتهم لهذه النشاطات. وبالمثل، فإن الضيافة هي من ميزات البهائيين وغالبًا ما تكون بيوتهم مفتوحة للأصدقاء والغرباء كأسلوب لإظهار الصداقة الحقيقيّة ونشر المبادئ البهائيّة.

التوازن في الحياة والعلاقات

قد يبدو من وجود مثل هذه الطموحات العالية لدى البهائيين، وسعيهم لتنفيذ جدول أعمال بنّاء، أنه لا يتبقّى لهم وقتٌ كافٍ لأنفسهم أو لعائلاتهم. ولكن الحقيقة هي أنّ على البهائي أن يحيا حياة متوازنة تتطوّر فيها جميع نواحي حياة الفرد – الروحانيّة، الفكريّة، العاطفيّة، والماديّة – وتجد لها تعبيرًا أسمى من خلال العائلة، العمل، النشاط الاجتماعي، الانخراط في المجتمع، الترفيه والنشاطات البهائيّة. من وجهة نظر البهائيين، إن بناء العلاقات بين الزوجين، وأفراد العائلة، والأصدقاء، والمجتمع الأوسع، وتوفير الوقت الكافي للمحافظة عليها، لهو ضرورة حيوية وصحيّة عامة ليس فقط للفرد بل ولكوكب الأرض، لأن هذه هي العلاقات التي تخلق الاتحاد الذي يجب أن يكون أساسًا لكل مجهود إنساني. وبنفس الوقت، من الضروري أن يكون للفرد الوقت الكافي للتأمّل الذاتي، التعلّم، الراحة، والاستجمام، وعلى الفرد أن يسعى للتوفيق بين جميع هذه الأمور في حياته بطريقة لا تؤدي إلى تعرضه للضغط أو للإرهاق الزائد.

أن يعيش الإنسان حياة متوازنة يعني أيضًا أن يحيا حياة تتسم بالاعتدال. أمر حضرة بهاء الله بـ ”الاعْتِدَالِ فِي جَمِيعِ الأُمُور”.[42] وبينما ترك حضرته الحريّة للأفراد في اختيار أسلوب حياتهم، وملابسهم، وسلوكياتهم، يتوقع منهم أن يدركوا أن هذه الحريّة تقع ضمن حدود مقاييس العفّة والقداسة اللّتين هما أساس الحياة الروحانيّة. لذلك فإنه يستلزم الاعتدال في جميع المراتب والأحوال: في الملبس ثم الألفاظ والكلمات وممارسة المواهب الفنية والأدبية والابتعاد عن المشتهيات النفسية وترك العادات و الأهواء السخيفة وأساليب اللهو الرذيلة… واجتناب المسكرات والأفيون وسائر العادات الضارة… والخيانة في العلاقات الزوجية.[43] “إن أحد مفاسد المجتمع كما نراه اليوم هو الاهتمام البالغ بالتّرفيه والمتعة والتّسلية والتّعطش إلى اللّهو والتّكريس المتعصّب للألعاب الرّياضيّة والابتعاد عن الجدّ بل والنّفور منه ونظرة الاستهزاء حيال العفّة والقيم الشّريفة.”[44]

وفي الوقت ذاته، “الحفاظ على مستوىً عال من التصرّف الأخلاقي لهذا يجب أن لا يُقْرَن أو يبدو وكأن له أية علاقة بأي نوع من أنواع الزهد، أو التزمّت المفرط والمتعصب. إن المستوى الذي وضعه حضرة بهاء الله لا يهدف، تحت أي ظرف من الظروف، إلى حرمان أي شخص من الحق الشرعي لاستمداد الحدّ الأقصى من الإفادة والتَنعّم بكل ما هو مُفرح وجميل ويؤدي إلى السعادة مما أغدقه الخالق المحبّ بسخاء على هذا العالم“.[45] “فالمرح والسّعادة من ميّزات الحياة البهائيّة الحقّة أما العبث فغالبًا ما يؤول إلى الملل والفراغ. فالسّعادة الحقيقيّة هي جزء من الحياة المتّزنة التي نرى فيها أيضًا ذلك التّفكير الجدّي والشّفقة والعبوديّة لله، إذ هي من أهم المزايا التي تضفي على الحياة بريقًا لامعًا وتغنيها بالسّعادة.”[46] إذًا، البهائيون ليسوا في حالة دائمة من الرزانة والجديّة، ولا هم ممنوعون عن الاستمتاع حتى بما هو تافه من مسرّات الحياة. التوازن الذي يسعى إليه الفرد هو مسار الاعتدال بين التعلّق المفرط بمثل هذه الملذّات، والتطرّف في التقوى مما يؤدي إلى الزهد والتقشف.

تحري الحقيقة

يجب أن تتمتع روح الإنسان بكامل الحريّة لتقصّي المعرفة. إن السعي لإدراك ذاتيتنا، وما هو سبب وجودنا، وكيف يجب أن نحيا حياتنا، ما هو إلاّ حافز أساسي في الضمير الإنساني. إن هذا البحث لمعرفة الذات ومعانيها، هو جوهر الحياة نفسها. والطموح المتأصّل في ذات الإنسان لتحرّي الحقيقة، حق لكل إنسان وواجب عليه. لهذا، تؤكد التعاليم البهائيّة أن “ضمير الإنسان مقدّس واحترامه واجب”[47].

إن البحث عن الحقيقة – أن يشاهد الإنسان “بعينيه لا بعيون الآخرين” – يقتضي المضيَّ في عمليّة استكشاف روحانيّة بإحساس حادّ من الإنصاف والانفتاح. ومن طبيعة هذه العمليّة أن تكون خلاّقة وتؤدي إلى تحوّل إيجابي. وإذا اتُّبِعَت بصدق وانفتاح، تمنح سالك سبيل المعرفة “عينًا جديدة، أذنًا جديدة، قلبًا جديدًا وعقلاً جديدًا”، وبذلك تتفتح الرّوح الواعية على طاقات اللطافة، الصبر، والشفقة الكامنة فيها. حقًا، لا يمكن تقييد شوق الإنسان لمعرفة الحقيقة، لأنه من دون الحرّيّة للمعرفة، تبقى الطبيعة الإنسانية سجينة الغرائز، الجهل والرغبات.[48]

تطوير الفكر: التربية والتعليم

أشار حضرة عبدالبهاء إلى أن “نعمة الله الكبرى للإنسان هي العقل“ لافتًا النظر إلى أن الإنسان وحده في عالم الوجود يمتلك هذه القوّة.[49] تفضّل حضرة بهاء الله بأن “العلم هو بمنزلة الجناح للوجود ومرقاة للصعود. تحصيله واجبٌ على الكل”.[50] لذا، كما أن من واجب الفرد أن يتطوّر وينضج روحانيًا، ويعتني بجسده، ويعيش باعتدال وبأخلاقية، كذلك، لا يمكن الاستغناء عن التعليم والتربية، وتطوير قدرة التفكر، وتنمية ميزة العقل الباحث، للوصول إلى إنسان متكامل مما هو ضروري للغاية لتأسيس مجتمع عالمي موحّد.

تُشير التعاليم البهائية إلى أن التربية ثلاثة أنواع: ماديّة تتعاطى مع تنمية الجسد؛ إنسانية تسعى لاكتساب مهارات الفنون ومدارك العلوم؛ وروحانيّة تهتم بتطوير الشخصيّة وامتلاك القيم. على البهائيين أن يسعوا إلى نيل تلك الصفات وتقديمها لأولادهم، عليهم التركيز على تلك العلوم والفنون التي تفيدهم وتفيد عائلاتهم، وتدفع بالمعرفة الإنسانية قُدُمًا، وتخدم مصلحة البشريّة جمعاء. ما يلفت النظر، بموجب ما تفضّل به حضرة شوقي أفندي، أنّ من بين الفوائد التي ستتأتّى من تأسيس السلام العالمي، توجيه المصادر الماليّة التي تُصرف حاليًا على الحرب، إلى “شحذ العقل وتهذيبه”.[51]

صنع القرار وحلّ المشاكل

يُطلب من كل إنسان أن يتخذ قراراتًا يوميًا، مهمة كانت أم غير مهمة. بهذا الصدد، يُشجَّع البهائيون على مشاورة الغير قبل اتخاذ القرارات، خصوصًا القرارات المهمة التي تؤثر على حياة الفرد وحياة الآخرين. إنّ التشاور يُمَكّن الإنسان من رؤية الأمور عبر منظار آخر، واكتساب البصيرة والنظر في نواحٍ من المسألة ربما غفل عنها لو تغاضى عن المشورة. بالمثل، على البهائيين أن يَحلّوا مشاكلهم – بما فيها الشخصيّة والعائليّة والتي لها علاقة بالعمل – بالتشاور. هدف المشورة هو تحرّي الحقيقة.

المعاناة

كما هو من حق الإنسان الطبيعي أن يطمح ويسعى للوصول إلى سعادته، يُدرك البهائيون أن ما من حياة إلا وتصاب بالمعاناة، مما يهذّب الطبيعة البشريّة. يُمكِن أن تكون تجارب الحياة ومحنها مفيدة، سواء للفرد إذ تساعده على تطوير صفاته الروحانيّة، أو للمجتمع العامّ حيث تُمَكّنه من إصلاح عناصر الحياة المسبّبة للمعاناة. هذا لا يعني أن على البهائيين أن يسبّبوا المعاناة لغيرهم ولأنفسهم، أو أن يقفوا مكتوفي الأيدي بينما غيرهم يعاني، أو أن لا يقوموا بكل ما في وسعهم لمنع المعاناة الواسعة الانتشار كما نراها في العالم اليوم. هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. إن أحد أهداف الدين البهائي الرئيسية أن يحول دون المعاناة الناتجة، باعتقاد البهائيين، عن الظلم الاجتماعي بسبب إهمال العالم لتعاليم حضرة بهاء الله. لذلك، فإن من أنجع الوسائل لمنع المعاناة على مستوى الفرد هو في نشر الدين البهائي، وممارسة تعاليم البهائية الروحانيّة والاجتماعيّة. وإضافة إلى ذلك، على أفراد البهائيين زيارة المرضى، وإظهار الكرم تجاه الآخرين، وبمحض اختيارهم إعطاء الآخرين نصيبًا ممّا يملكون، وتقديم الهبة لمشاريع خيريّة، والتحلي بحسن الضيافة. وحتى يتغلّبوا على معاناتهم، وعلى ضغوط الحياة، وكي يتكيفوا مع التغيير، على البهائيين أن يتوجهوا بالدعاء والمناجاة ومحاسبة النفس في كل يوم على أعمالها، والتأمل في الآثار البهائيّة الكتابيّة. وكذلك عليهم إدخال التعديلات الضرورية على حياتهم الشخصيّة. أشار حضرة عبدالبهاء إلى أن الأطفال والناس المعرَّضين للأذى الذين يعانون في هذا العالم، سيُعوَّض لهم في العالم التالي، وأن الحكمة وراء هذا ستعرف بالنهاية حتمًا.[52]

قد قُيد جمال القدم لإطلاق العالم وحبس في الحصن الأعظم لعتق العالمين واختار لنفسه الأحزان لسرور من في الأكوان قد قبلنا الذلة لعزّكم والشدائد لرخائكم يا ملأ الموحدين.[53]

الموت

عند انتهاء حياة الجسد، تنفصل عنه الروح وتستمر في العالم التالي ككائن روحاني. صرّح حضرة بهاء الله أن الله جعل “الموت بشارة”[54] للروح المتصاعدة، وهي صورة منسجمة تمامًا مع نظرة الدين البهائي للحياة التالية.

يجب أن يستمر الاحترام الذي يولى للجسد في أثناء حياته إلى ما بعد مماته. تفضّل حضرة الباب أنه يجب المحافظة على الجسد بعد الموت “إلى الحدّ المُمْكن”.[55] وتصرّح التعاليم البهائيّة أنه نظرًا لاستضافة الجسد للروح في الحياة الدنيويّة، يجب معاملته باحترام. إن أحكام الدفن والجنازة لمتوفٍ بهائي تعكس الاعتقاد أن الجسد كان مرّة “عرش الهيكل الداخلي”.[56] لذلك يجب ألا يُحرق أو يُهمل بكل بساطه، رغم أن حضرة بهاء الله أكّد أن الروح تقطع علاقتها بالجسد بعد الموت. لذلك وَجَبَ دفن البهائيين في الأرض، “بالروح والريحان في مكان قريب”.[57] حتّى تتحلّل أجسادهم بطريقة طبيعيّة وبالتدريج، يجب ألاّ تُحرق الجثة. كما يجب أن يُكَفّن الجسد بخمسة أثواب من الحرير أو القطن، والذين إمكاناتهم محدودة، بثوب واحد. يوضع في إصبع المتوفى خاتم نقش عليه “قد بدئت من الله ورجعت إليه منقطعًا عمّا سواه ومتمسكًا باسمه الرحمن الرحيم”.[58] يجب أن تصنع التوابيت من “البلّور أو الأحجار الممتنعة أو الأخشاب الصلبة اللطيفة”.[59]

يجب ألاّ ينقل الجثمان لمدة أكثر من ساعة من مكان الوفاة (حدود المدينة أو القرية[60])، بذلك مُنعت “قوافل الموت“ الطويلة التي كانت عادية للغاية في أيام حضرة بهاء الله، وكانت تنقل الجثث وهي في حالة انحلال إلى الأضرحة المقدّسة ليتمكن المؤمنون من دفنها قرب الأئمة المسلمين. بما أنه لا يوجد رجال دين في الدين البهائي، تُنَظّم المؤسسة البهائية المحلّية، المحفل الروحاني المحلّي، مراسيم الدفن، بالتشاور مع أعضاء العائلة والأصدقاء. تتلى صلاة الميت قبل الدفن بواسطة أحد الموجودين، بينما يقف الحاضرون باحترام. غالبًا ما يضيف البهائيون أدعية أخرى وقراءات من الآثار البهائيّة المقدّسة، وفي بعض الأحيان قد تُقرأ الأشعار أو تعزف موسيقى هادئة.

أن يكون الإنسان بهائيًّا

الفرد هو حجر الأساس للدين البهائي. رغم أن الدين يطالب بدرجات من الاتحاد تتعاظم باستمرار، بدءًا بالعائلة ووصولاً إلى العالم بكامله، مع ذلك، يبقى الفرد البهائي هو الذي ترتكز عليه بُنية الهيكل بكامله. “هو الذي يشكّل النسيج الذي تعتمد عليه نوعيّة ومثال المجتمع بكامله. هو الذي يشكّل حلقة واحدة في سلسلة عظيمة تحيط الكرة الأرضية… والتي من دون دعمه القلبي لها باستمرار وسخاء، ينتهي كل مشروع قيد الإنجاز، وتؤول كل خطة مُعَدّة… إلى فشل مقدّر”.[61] بالنظر إلى عدم وجود رجال دين في الدين البهائي، يعتمد عملُه على الأفراد المتطوعين، وتقع مسؤولية نشره وتطويره وحمايته على عاتق مؤمنين عاديين. يدرك البهائيون أنهم يتحمّلون مسؤوليّة ضخمة في دفع دينهم قُدُمًا– وإبلاغ الآخرين عنه، وإقامة وتمويل وصيانة مؤسساته. والجدير بالذكر أن البهائيين المسجّلين هم الوحيدون الذين يسمح لهم بالتبرّع للصناديق البهائية. وبعيدًا عن اعتبار هذه الخدمة عبئًا، فإن البهائيين يعدونها شرفًا روحانيًا مقدسًا، ومُدركين، حسب تعبير حضرة شوقي أفندي أنّ:

علينا إذًا، تقع المسؤوليّة المشرّفة للعمل ليلاً نهارًا، في خضمّ عواصف وضغوط هذه الأيام المفعمة بالقلق، أن نحيي حماس إخواننا البشر، نشعل جذوة آمالهم من جديد، نثير اهتمامهم، نفتح عيونهم على دين الله الحقّ، ونجنّد دعمهم الفعّال في تحمّل واجبنا المشترك من أجل سلام العالم وإعادة إحيائه.[62] في النهاية، فإن “أحسن مبلّغ” و “المؤمن المثالي“ ليس أكثر ولا أقل من بهائي عادي كرّس نفسه لخدمة الدين، عمّق معلوماته ومفاهيمه حول تعاليمه، وضع ثقته بحضرة بهاء الله، ونهض لخدمته بأفضل قدراته.[63]

أن يكون الإنسان بهائيًّا يعني أن يُسَيّر حياته بموجب مبادئ حضرة بهاء الله وأن يحيا حسب التعاليم البهائيّة. يُعَلّم حضرة بهاء الله أن “أوّل ما كتب الله على العباد” معرفة المعلّم الإلهي الذي أرسله الله، والواجب الثاني هو إطاعة أحكامه.[64] إن الصلاة اليومية، التأمل، تلاوة الكتب المقدّسة والصوم السنوي، ممارسات تهدف إلى تطوير حياة الفرد الروحانيّة. يعمل البهائيون بكل جهد ليُخَلّصوا أنفسهم من التعصّب، ليتحلّوا بالأمانة، لينبذوا العنف، وليطوّروا صفاتهم الروحانيّة. تُشَكل المساهمة في نشاطات المجتمع البهائي وفي إدارته تعبيرًا ظاهريًّا لولاء الفرد لدينه مما يساهم في تنمية قوّة المجتمع ووحدته. يروّج البهائيون للوحدة، للانسجام، للأخوة، للعدالة، وللسلام في عائلاتهم، ومجتمعاتهم، وأماكن عملهم وفي العالم.

لا تشكل بعض التقاليد والأحكام المعمول بها في أديان أخرى جزءًا من الدين البهائي. منها على سبيل المثال، الاعتراف بالخطايا، تقبيل الأيدي، السجود أمام إنسان آخر، اعتبار اشخاص أو أشياء انجاسًا، حظر بعض الأغذية، وممارسة طقوس مثل العمادة. كذلك، لا يُشجع البهائيون على ابتكار طقوس أو عادات جديدة.

أن يصبح الإنسان بهائيًّا

البهائي هو مًنْ يعترف أن حضرة بهاء الله هو المربّي العظيم، أو المظهر الإلهي لهذا العصر، ويكون على استعداد للعمل بموجب تعاليمه. إن مجرّد الاعتراف هذا بحضرة بهاء الله هو ما يجعل من الإنسان بهائيًّا – لا توجد أية طقوس كالمعمودية مثلاً. ولكن في سياق استقبالها للأفراد الجدد في المجتمع، تعمل الجامعة البهائيّة في غالب الأحيان على التأكد من أنهم حازوا معرفة جذريّة عن الأشخاص الأساسيين في الدين، وأنهم على علم بوجود أحكام عليهم تطبيقها، وإدارة عليهم إطاعتها. في بعض الأماكن، تطلب مجتمعات بهائيّة أن يوقّع الفرد على بطاقة تسجيل، أو أن يحرر رسالة بذلك حتى يكون لديهم عنوان للاتصال بالشخص وللتأكد من أن له الصّلاحيّة الكاملة للتبرّع للصناديق وللمشاركة بالانتخابات البهائيّة. وتَعْتَبر عدة مجتمعات بهائيّة مناسبة “إعلان” بهائي جديد عن إيمانه مناسبة سعيدة يحتفلون بها.

يترعرع الأطفال الذين يولدون في عائلات بهائيّة على معرفة التعاليم والمبادئ البهائيّة، وعلى محبّة حضرة بهاء الله، ولكن عند بلوغهم سن الـ 15 عليهم أن يقرّروا بأنفسهم فيما إذا كانوا يريدون أن يكونوا بهائيين.

بالنسبة لأولئك الذين يتعرّفون على الدين البهائي في سنّ مُتقدّمة من حياتهم، فإن اتخاذ القرار ‘لتغيير دينهم’ حتى يصبحوا بهائيين هو عادة قرار في غاية الأهمية ويؤثر على جميع نواحي حياة الفرد وعلى جميع علاقاته. القسم الأكبر من البهائيين اليوم اعتنقوا الدين البهائي بأنفسهم ولذلك يدركون تمامًا التحدّيات الناتجة عن إيمان شخص بالدين البهائي ويقومون بمجهود خاص لمساعدة البهائيين الجدد وعائلاتهم للتكيُّف مع نمط الحياة البهائية وليعمّقوا معلوماتهم بتعاليمه.

[1])   شوقي أفندي، a 1957(ترجمة مترجم الكتاب)

[2])   بهاء الله، الكتاب الأقدس، فقرة 74

[3])   المصدر أعلاه، فقرة 46

[4])   بيت العدل الأعظم، المصدر أعلاه، شرح رقم 74، ص 211

[5])   عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1978, p. 149، (ترجمة مترجم الكتاب)

[6])   عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1978, p. 146، (ترجمة مترجم الكتاب)

[7])   عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, in Compilation, 1991, vol. 1, p. 461، (ترجمة مترجم الكتاب)

[8])   عبد البهاء، المصدر أعلاه، ص 462 (ترجمة مترجم الكتاب)

[9])   عبد البهاء، المصدر أعلاه، ص 463 (ترجمة مترجم الكتاب)

[10])  أنظر مثلا، شوقي أفندي، 952b

[11])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1947، (ترجمة مترجم الكتاب)

[12])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, in Baha’i World Faith, 1976, p. 384، (ترجمة مترجم الكتاب)

[13])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1938، (ترجمة مترجم الكتاب)

[14])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1948، (ترجمة مترجم الكتاب)

[15])  عبد البهاء،  ،‘Abdu’l-Bahá, 1978, p. 156(ترجمة مترجم الكتاب)

[16])  بيت العدل الأعظم، Universal House of Justice, 1977، (ترجمة مترجم الكتاب)

[17])  عبد البهاء، ،‘Abdu’l-Bahá, 1981, p. 259 (ترجمة مترجم الكتاب)

[18])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1948، (ترجمة مترجم الكتاب)

[19])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1935b، (ترجمة مترجم الكتاب)

[20])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá quoted in ‘Abdu’l-Bahá in London, p. 65 (ترجمة مترجم الكتاب)

[21])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, in Bahá’í World Faith, 1976, p. 376، (ترجمة مترجم الكتاب)

[22])  شوقي أفندي، 952a , Shoghi Effendi، (ترجمة مترجم الكتاب)

[23])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1936b، (ترجمة مترجم الكتاب)

[24])  بيت العدل الاعظم، Universal House of Justice, 1982، (ترجمة مترجم الكتاب)

[25])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1939b، (ترجمة مترجم الكتاب)

[26])  بيت العدل الأعظم، Quoted in Baha’u’llah, 1992, note 170, p. 238 (الترجمة كما وردت في الكنوز الالهيّة، ص 519)

[27])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1978, p. 149، (الترجمة كما وردت في الكنوز الالهيّة
ص 519)

[28])  عبد البهاء، المصدر اعلاه، ص 147–148 (ترجمة مترجم الكتاب)

[29])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, quoted in Lucas, 1905, pp. 11–14، (ترجمة مترجم الكتاب)

[30])  الجامعة البهائيّة العالميّة، Bahá’í International Community, 1996a، (ترجمة مترجم الكتاب)

[31])  أنظر عبد البهاء، See ‘Abdu’l-Baha, 1967, p. 176 and Bahá’í World Faith, 1976, p. 377

[32])  بهاء الله، الكتاب الأقدس، فقرة 51

[3])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1978, p. 112، (ترجمة مترجم الكتاب)

[34])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá quoted in Lucas, 1905, pp. 11–14، (ترجمة مترجم الكتاب)

[35])  عبد البهاء، المصدر أعلاه، (ترجمة مترجم الكتاب)

[36])  بهاء الله، (Bahá’u’lláh, in Compilation, 1991, vol. 1, p. 3) (ترجمة مترجم الكتاب)

[37])  بهاء الله، منتخباتي…، فقرة 100 (ترجمة مترجم الكتاب)

[38])  بهاء الله، الكتاب الأقدس، فقرة 48

[39])  الجامعة البهائيّة العالميّة، Bahá’í International Community, 1993، (ترجمة مترجم الكتاب)

[40])  بهاء الله، Bahá’u’lláh, 1983, p. 213 (ترجمة مترجم الكتاب)

[41])  عبد البهاء، خطب…، ص ٢١

[42])  مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله نزلت بعد كتاب الأقدس، لوح مقصود ص 159 (مترجم)

[43])  العفّة والتّقديس مجموعة مقتطفات من الآثار المباركة جمعتها وأعدتها دائرة الأبحاث التّابعة لساحة بيت العدل الأعظم – أيلول 1988 ص ١٣

[44])  (من رسالة مترجمة كتبت بالنّيابة عن ساحة بيت العدل الأعظم لأحد الأحباء في 8/5/1979)، العفّة والتّقديس، ص 18

[45])  شوقي أفندي، 1990، ص 33 (ترجمة مترجم الكتاب)

[46])  من رسالة مترجمة كتبت بالنّيابة عن ساحة بيت العدل الأعظم لأحد الأحباء في 8/5/1979)، العفّة والتّقديس ص 18

[47])  الجامعة البهائيّة العالميّة، Bahá’í International Community, 2001b، (ترجمة مترجم الكتاب)

[48])  المصدر أعلاه، (ترجمة مترجم الكتاب)

[49])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1967, p. 41، (ترجمة مترجم الكتاب)

[50])  بهاء الله، مجموعة من ألواح، التجلي الثالث، ص 69

[51])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1991, p. 204، (ترجمة مترجم الكتاب)

[52])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, in Baha’i World Faith, 1976, p. 372، (ترجمة مترجم الكتاب)

[53])  بهاء الله، منتخباتي…، فقرة رقم 45

[54])  بهاء الله، الكلمات المكنونة عربي، رقم 32

[55])  الباب، The Báb, 1976, p. 95، (ترجمة مترجم الكتاب)

[56])  الباب، المصدر أعلاه (ترجمة مترجم الكتاب)

[57])  بهاء الله، الكتاب الأقدس، فقرة 130

[58])  بهاء الله، الكتاب الأقدس، فقرة 128

[59])  بهاء الله، المصدر أعلاه

[60])  الكتاب الأقدس، الشرح رقم 152

[61])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1965, pp. 130–1، (ترجمة مترجم الكتاب)

[62])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1968, p. 51، (ترجمة مترجم الكتاب)

[63])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1957b، (ترجمة مترجم الكتاب)

[64])  بهاء الله، الكتاب الأقدس، فقرة 1

3 البيت والعائلة

بيتي بيت السلام. بيتي بيت البهجة والسرور. بيتي بيت الضحك والغبطة. من يدخل من أبواب هذا البيت يجب أن يخرج بقلب سعيد. هذا هو بيت النور، ومن يدخله يجب أن يصبح منيرًا…[1]

هذا الوصف للبيت البهائي المثالي على أنّه الرابط فيما بين جميع العناصر الروحانية، الجسدية، العاطفيّة، الفكرية، التربوية، وتنمية حياة الفرد، العائلة والمجتمع إنّما يُمَثل التوجّه البهائي نحو الترابط فيما بين جميع عناصر الدين والحياة بحدّ ذاتها. إن المفهوم البهائي للدور الذي يقوم به البيت والقيّمون عليه بمن فيهم الأنثى والذكر معًا وسائر أفراد العائلة، له مكانة بالغة الأهميّة بالنسبة لإدراك هدف الحياة على النطاق الفردي والمجتمع بشكل أوسع. البيت المذكور هنا يسوده السلام ويساهم في سلام المجتمع. هذا البيت سعيد ويهب تلك السعادة للآخرين. هو مكان يتربّى فيه العقل والروح تربية حقيقية، ويكتسب من يعيش فيه وكل من له علاقة به الحكمة وينمو روحانيًّا. فيه طاقة حيويّة ونكهة الحياة نفسها، والسكن
فيه مبهج.

يُشكّلُ البيت البهائي مركزًا لنشاطات متعددة مرتبطة بحياة المجتمع البهائي بما فيها جلسات دعاء ولقاءات حيث يمكن للمستفسرين أن يتعرّفوا على الدين، كما وتنظّم فيه دروس للأطفال. وفي المجتمعات البهائيّة الصغيرة، تُعقد الضيافات التسع عشريّة والأعياد ومناسبات الذكرى السنويّة في البيوت. يُشجّع البهائيون على دعوة أناس من مختلف الخلفيات إلى بيوتهم إذ إن حسن الضيافة هو من مقوّمات الحياة البهائيّة الهامة.

يشكل البيت البهائي في آن معًا أساسًا ونموذجًا للمجتمع العالمي المتحد الذي ارتآه حضرة بهاء الله. فهو يعمل بمثابة أرض البذار وساحة لتدريب أولئك الذين سيروّجون للإتحاد على كل مستوى من مستويات المجتمع، والذين سيعرفون كيف يعيشون، ويشاركون ويديرون مثل هذه المجتمعات المتحدة. يدرك البهائيون أن تحفيز الاتحاد هو محرّك إلزامي لوضع الإنسانية الحالي، ووحدة العالم الإنساني هي الدافع الشامل لتعاليم حضرة بهاء الله. ليس من المستغرب إذًا، أن ينظر البهائيون بهذه الدرجة من الجديّة إلى الاتّحاد في الأسرة التي تشكّل الوحدة الأساسية في المجتمع، وأن يسعوا بجهد كي تسري في بيوتهم وأسرهم القيم الأخلاقية والمواقف والسلوكيات التي لا بدّ أن تصل إلى نطاق العمل، والمجتمع، وبالنهاية إلى الساحة العالمية.

قارنوا دول العالم بأعضاء العائلة الواحدة. فالعائلة هي دولة مُصغّرة. وبكل بساطة، وسِّعْ دائرة الأسرة تحصل على دولة. وسّع دائرة الدولة تحصل على الإنسانيّة بكاملها. الظروف المحيطة بالأسرة محيطة بالدولة. ما يحدث في العائلة يحدث في حياة الدولة. هل تترقى وتتقدّم العائلة إذا برز الخلاف بين أعضائها، الكل يتعارك، ينهب بعضهم بعضًا، يتفشى فيهم الحسد والانتقام، ويسعى كل منهم بأنانيّة ليتفوّق على غيره؟ لا بل إن هذه السلبيات تكون سبب طمس الرقيّ والتقدّم. هذه هي الحال في عائلة الدول الكبرى، إذ إنَّ الدول ما هي إلا مجموع العائلات. لذلك كما أن الخلاف والنزاع يهدمان العائلة ويمنعان تقدّمها، كذلك يؤديان إلى هدم الدول وتأخير تقدّمها.[2]

بداية الوحدة عند البهائيين هي وحدة الذات – أي الإدراك أن الإنسان بجوهره كائن روحاني؛ وأن الجوانب الجسديّة والعاطفيّة والفكريّة لذات الإنسان مرتبطةٌ بروحه؛ وأن الهدف من كل نواحي الحياة – الجسديّة والعاطفيّة والفكريّة – هو نمو الروح وسموّه قبل موت الجسد. لذلك، وبالنسبة للبيت والعائلة، فإن البهائي الذي يعيش في بيته وحده يريد أيضًا أن يُوجِد في بيته نفس الظروف المرَحّبة من اتحّاد وسلام وحيويّة وما ينعش الحياة، مما يميّز أعلى المُثُل البهائيّة. وفي الوقت ذاته، يحترم المجتمع البهائي الفرد ويقدّره، ويضمن وجود ترتيبات لنشاطات ملائمة وبمتناول الجميع، ويسعى لمساعدة الذين لديهم أطفال والأرامل واليتامى والمرضى والمعوزين.

الزواج

يحظى الاتحاد بالأهمية القصوى من اجل استمرار الحياة البشريّة وتقدمها بحيث إن كل علاقة انسانيّة لا بد أن تقوم عليه في أساسها. لذلك شجّع حضرة بهاء الله أتباعه على الزواج آمرًا إيّاهم بقوله “اتخذوه لأنفسكم معينًا”. وواصفًا إيّاه بقوله “…حصنًا للفلاح والنجاح”.[3] الزواج، بالنسبة للبهائيين، هو تعهّد فيما بين رجل وامرأة، أساسه المحبّة، الأمانة، الوفاء والإخلاص. فمن دون مثل هذا التعهّد والإخلاص تتعرض أسس المستويات العليا من الإتحاد في المجتمع، والدولة والعالم، للضعف والخطر. وعلى أساس هذه الأهمية القصوى لتحقيق الاتحاد في كل العلاقات يطلب حضرة بهاء الله من المقبلين على الزواج، مهما كان سنّهم[4]، أن يحصلوا على موافقة والديهما قبل الزواج، مما يضمن أن اتحاد الزوجين يُكرّس اتحاد العائلتين، وبالتالي يشكّل ترابطًا قويًّا في قاعدة هرم المجتمع.

يُعتبر الزواج رابطًا للعقول والقلوب في اتحاد جسدي وروحاني. فإذا أسس الزوجان رابطًا روحانيًا بينهما، فسوف يتجاوز اتحادهما مدة حياتهما الماديّة معًا، ويستمر حتى بعد وفاتهما. على الزوجين أن يساعد كل ّمنهما الآخر لتحسين حياتهما الروحانيّة وعلى إيجاد ظروف داخل زواجهما تُمكّن كلاً منهما المساهمة في العالم الأوسع.

إن المساواة بين المرأة والرجل هي من مبادئ الزواج البهائي الأساسيّة. تتجاوز أبعاد هذا المبدأ حدود البيت إلى المجتمع، ومن ثمّ إلى نطاق العمل وصولا إلى العلاقات الدوليّة. وهو لا يقتصر على كونه قاعدة تساعد الطرفين لتحديد ما يقوم به كل منهما في نطاق الأسرة، بل إن هذا المبدأ البهائي الأساسي هو محرّك كل مواقف وتصرفات وممارسات الشريكين في الزواج فيما بينهما وفيما بين أولادهما وكل شخص آخر.

من الغايات المهمّة للزواج البهائي إيجاد قناة “للتعبير عن الغريزة الجنسيّة بطريقة صحيحة”.[5] و”الطريقة الصحيحة” لممارسة الجنس هو ضمن الزواج فقط – وليس هناك من ظروف أخرى يمكن للبهائي أن يقيم فيها علاقات جنسيّة شرعيّة. مع أن هذا الموقف يجاري أولئك الذين يؤيدون “القيم التقليديّة” حيث إنه يرفض الحريّة غير المنضبطة، لا ينظر البهائيون إلى الجنس على أنّه ‘إثمّ’ أو ‘نجس’. البهائيون ليسوا نُسّاكًا ويعتقدون أن الممارسة الجنسيّة، في إطارها السليم، يمكن أن تأتي بالسعادة والرضى للشريكين في الزواج وتعزّز كثيرًا حياة الفرد.

للبهائيين كامل الحريّة للزواج بمن يختارون، أكان بهائيًّا أم لا، ومن معالم المجتمعات البهائيّة وجود اقترانات عديدة مع فئات إثنيّة، اجتماعية، حضارية، عرقية، وطنيّة، ودينيّة. توجد في المجتمعات البهائية عائلات متحدّرة عبر أجيال متعددة من زواج مختلط، وهي تدرك التحديات التي يواجهها الأفراد والعائلات والمجتمعات نتيجة ذلك. من صفات البهائيين المميّزة أنهم يسعدون لمثل هذا التنوّع وعادة يشجعون أولادهم ليسعوا إلى الزواج من خلفيات مختلفة أخرى.

وكما في كل مؤسسة داخل المجتمع البهائي، فإن التوصّل إلى قرارات فيما بين الزوجين يجب أن يتم بالتشاور، ويجب حلّ الخلافات بينهما بالأسلوب ذاته. لا يؤدي التشاور إلى اتخاذ القرار، والتحدث عن الخلافات بانفتاح وبأسلوب روحاني محترم ومهذّب فحسب، بل يولّد الاتحاد و يتطلب مواقف وسلوكيات مفيدة في مواقع أخرى أيضًا مثل مكان العمل.

وفي حال عَجِز الزوجان عن حلّ خلاف كبير بينهما، يمكنهما التشاور مع المؤسسة البهائيّة المحلّية، المحفل الروحاني المحلّي، فهو المسؤول عن مساعدة الطرفين للتغلّب على هذه المصاعب، وتشجيعهما على التحلّي بالصبر، ومساعدتهما على رأب الصدع، ومعاونتهما لإعادة تأسيس الوحدة والمحبّة والثقة. يدرك البهائيون أنه لا يمكن لكل زواج أن ينجح، خصوصًا في زمن لا تدعم ظروفه الاجتماعيّة الحياة العائليّة، ولم يتبنَّ المجتمع بعد المبادئ الاجتماعيّة التي تمكّنه من العمل بدرجة أعلى من الفعاليّة. لذلك، في حين أنّ الطلاق مذموم، يمكن للبهائيين أن يطلّقوا بعد سنة اصطبار وتشاور، ويمكن للبهائيين المطلقين الزواج ثانية.

الأولاد

من أهداف الزواج البهائي المهمّة إنجاب الأطفال الذين بدورهم سيُجَسّدون القيم البهائيّة. يتفضّل حضرة بهاء الله بقوله:

“تزوّجوا يا قوم ليظهر منكم من يذكرني بين عبادي”.[6]

أولئك الذين لا يستطيعون إنجاب الأطفال غالبًا ما يتبنّون أو يربّون أطفالاً، عملاً بما تفضّل به حضرة بهاء الله“ إنّ الّذي ربّى ابنه أو ابنًا من الأبناء كأنّه ربّى أحد أبنائي”.[7]

تُصَرّح التعاليم البهائية أن الأمّ هي “المربّي الأول والأساسي للأولاد” ويتحمل الأب “المسؤولية الأساسية لتوفير مدخول العائلة“، مع ذلك، يُتَوقَّع من الأب أن يلعب “دورا مميزا في تربية وتعليم الأطفال“. وفي بعض الحالات قد تكون الأم المصدر الأساسي لكسب رزق العائلة. الأدوار ليست جامدة ويمكن أن تتغيّر وتتعدّل لتناسب ظروف العائلات.[8] بالإضافة إلى ذلك، يمكن للعائلة الممتدة Extended family بكاملها، والمجتمع البهائي أيضًا، أن يكون لهم دورٌ في تربية وتنشئة الأولاد. على سبيل المثال، على المحفل الروحاني المحلّي أن يُزَوّد الأمهات ببرنامج خاص بتربية الأطفال.[9] يُكرّم المجتمع البهائي معلّمي الأطفال إلى درجة أن البهائيين مشجّعون على ذكرهم في وصيّتهم، وتعتبر تربية الأطفال من أشرف الأعمال. يجب تدريب الأطفال على القيم والسلوك الروحاني، وفي علوم القراءة والكتابة والفنون والحرف وجميع المواضيع التي تحقق مصلحة الإنسانية وتقدّم الحضارة. على الوالدين والمدرسة أن يعلّما الأطفال فنّ الغناء والعزف على آلات موسيقيّة، وينمّوا فيهم تقديرًا عميقًا لها. يُشَجَّع الأطفال البهائيّون على العناية بحيوانات البيت الأليفة وذلك ليتعلموا أهمية الرفق بالحيوان. أشار حضرة عبدالبهاء إلى أن سنوات الطفل الأولى هي الأكثر أهميّة، وأن التعليم الرسمي للأطفال يجب أن يبدأ في سنّ الخامسة.[10] من المفهوم طبعًا أن أفضل أسلوب يتعلم به الأطفال هو المثال الذي يشاهدونه في الآخرين، خصوصًا والديهم، لذلك على الوالدين أن يسعوا لتطبيق القيم والمثل البهائيّة دائمًا، وأن يوجدوا محيطًا يزدهر فيه الأطفال.

تُشكّل القيم والسلوكيّات والتصرّفات والممارسات التي يُبنى عليها البيت البهائي مداميك البناء نفسها التي تُبنى عليها كافة مقوّمات المجتمع البهائي. فالقيم مثل المحبّة والإنصاف والصدق والأمانة والاستقامة، والسعي الدؤوب لتحقيق مساواة المرأة والرجل بكل جديّة وعلى أعلى المستويات، وكذلك، احترام العقل، والسموّ بالطهارة الروحانيّة، والانقطاع إلى أشرف ما يصبو إليه الإنسان، إن كل هذه الصفات وأمثالها ما هي إلا العمود الفقري الذي تقوم عليه علاقات الأفراد على كل مستوى. وفي نطاق الحياة الزوجيّة يسعى كل من الزوجين لتنمية هذه القيم في نفوسهم ومساعدة بعضهم بعضًا على المحافظة عليها. إن ما تشكّله هذه القيم هو الأرضيّة الأساسيّة لتربية الأطفال، وهو ما يميّز علاقات العائلة، بداية فيما بين أفرادها، ومن ثم مع الآخرين.

إن مبادئ أخلاقيّة كهذه تشكّل مواقف الأفراد، كما أن لِجوّ العائلة دورًا بارزًا في إيجادها. فمن المميزات التي ستتحلّى بها الأسرة، سعيها لخلق سلوكيّات وتوجّهات تؤدي إلى إيجاد فرص ثمينة لترويج الاتحاد، الإنصاف، والسلام على مستويات المجتمع كافة. لذلك فإن البهائيين متفائلون. فهم يعتقدون أن الناس يمكنهم أن يتغيّروا، وأن هدف الدين مساعدتهم على التحوّل. وعلاوة على ذلك، يشدّد البهائيون كثيرًا على دور التربية كأداة تؤدي إلى التحوّل ويعتبرونها عمليّة مستمرة مدى الحياة، وأن مسؤوليّة الوالدين هي المباشرة بتربية أطفالهم على أُسس سليمة منذ البداية.

“أنْظُرْ إلى الإنسان بِمَثَابَةِ مَعْدِنٍ يَحْوِي أَحْجَارًَا كَرِيمَةً تَخْرُجُ بِالتَّرْبِيَةِ جَوَاهِرُهُ إلى عَرْصَةِ الشُّهُودِ وَيَنْتَفِعُ بِهَا الْعَالَمُ الإنسانيُّ”.[11]

إن إحدى ميزات الدين البهائي الفريدة، إعطاء البنات الأولوية على الصبية في الدراسة في حال لم تسمح إمكانيات العائلة بتعليم كل أطفالها. ذلك لأن منزلة المرأة، خاصة بصفتها مربّية الجيل التالي، معزّزة في الدين، وتُعطى أهمية بالغة بالنظر لمسؤوليتها في تعليم قيم الدين الأساسية للأطفال ضمن المحيط العائلي. وبالتالي، فإن السلوك تجاه المرأة، الأطفال، بناء الأسرة، والتربية يستمد بُعدًا من القيم الملخّصة أعلاه، ويصبح منطلقًا لتحوّل المجتمع والأفراد أيضًا.

الحياة العائليّة

يؤمن البهائيون أن التحرّر من التعصّب هو من المواقف والتوجُهات الضروريّة لسلام العالم، وأن دور الوالدين لا يقتصر على تعليم هذا لأولادهم، بل وعليهم أن يطبّقوه في حياتهم الشخصيّة. بالنظر إلى تعاليم البهائية عن وحدة العالم الإنساني، ليس مستغربًا اهتمام البهائيين باستئصال التعصّب العرقي، كونه بنظرهم “الموضوع الأكثر أهميّة وتحديًا” الذي يواجه بعض البلدان.[12] يَعتبر البهائيون أن التَعَلُّم المنهجي يشكّل بحدّ ذاته عاملاً أساسيًا يُمَكّن الناس من التخلّي عن التعصّبات العنصريّة والعرقيّة والدينية إلى ما هنالك، ولابد أن يسعى الوالدان البهائيان للتأكد من أن المدارس والمؤسسات العلميّة التي يذهب إليها أولادهم تشجّع هذا التوجه. وإضافة إلى ذلك، تتخذ العائلة البهائيّة خطوات إيجابيّة لتوفير فرص يختلط فيها أفراد العائلة مع أناس من كل الخلفيات اجتماعيًا، وتُشجّع تواصلا عفويًّا معهم، وإقامةَ روابط صداقة حقيقية مع شريحة واسعة متنوعة من البشر. المثال الذي يجسّده الوالدان باستقبالهما الجميع في بيتهما وتقديم حسن الضيافة لهم يشكل أقوى آليّة لغرس هذه العادة في أولادهم.

كل هذه السلوكيّات وأمثالها مستمدة من المبدأ البهائي الأساسي القائل إن طبيعة الإنسان روحانيّة في جوهرها. إن أوصاف الناس الجسديّة تصبح ذات شأن فقط بالقدر الذي يساهم تنوّعُها في إبراز رونق وجمال الحديقة الإنسانية. لذلك، من أسمى ما يمكن أن تسعى إليه العائلة البهائيّة هو تطوير المزايا الروحانيّة لدى أولادها، تنمية المواقف الروحانية، ومساعدة الأولاد على النظر إلى الآخرين على أن طبيعتهم هي في الجوهر طبيعة روحانيّة، وأن يتفاعلوا مع الغير على هذا الأساس. لذلك من أهم المسؤوليات التي تتحمّلها العائلة البهائيّة، مُمارسة السلوكيات التي تعبّر عن هذه المواقف.

سلوك الإنسان يجب أن يعبّر عن القيم والمواقف التي يتمسّك بها في تصرفاته وبطريقة طبيعيّة. لذلك، فإن التمسّك بالمُثُل السامية، رغم ما في ذلك من فائدة، ليس، من وجهة النظر البهائيّة، كافيًا بحدّ ذاته. فلا يمكن أن يكون لهذه القيم والمواقف أي تأثير على العالم ما لم تُعبّر عن ذاتها عمليًّا في أفعال الفرد وعلاقاته على جميع المستويات، وليس فقط داخل العائلة. ولتحقيق هذا الهدف على الفرد أن يثابر في تحسين أدائه، وصقل توجّهاته بالممارسة المستمرّة. وبنفس الوقت، تُشكّل القيم والمواقف التي تُدَرَّس داخل الأسرة خطّ الدفاع الأول ضد السلوكيات المؤذية مثل الكحول وتعاطي المخدّرات.

من أهم السلوكيات الحيويّة من بين العديد من التصرفات التي تنبثق من القيم والسلوكيات التي نشأت في البيوت البهائيّة، هي تلك التي لها علاقة بأسلوب معاملة الآخرين. يُعامَل الناس باحترام لأن الفرد يفهم أن طبيعة الإنسان روحانيّة، ولذلك يُعطي قدْرًا وقيمة لكلّ شخص، كبيرًا كان أم صغيرا وتعامل الفتيات والنساء بالعدالة والمساواة. تُشَجِّع العائلات البهائيّة، المُقيمة في المجتمعات التي من تقاليدها حصر النساء في المنزل، الأمهات على المشاركة في المجتمع الأوسع، وربما على العمل خارج المنزل، أو ليصبحن ناشطات اجتماعيّات. تُعطَى الفتيات نفس فرص التربية والتعليم والتقدّم مثل الصبية، ويتّبعْن نفس المنهاج في المدرسة. وللأطفال حق الحصول على التربية والتعليم، وواجب الوالدين تأمينهما لهم. كما ذكر أعلاه، على العائلات التي لا يمكنها أن تُعَلّم إلا بعض أطفالها، أن ترسل البنات إلى المدرسة عوضًا عن الصبيان – وهذا عمل له نتائج بعيدة المدى. إنها مسؤوليّة الوالدين أن يتشاركا في تربية أولادهما، وأن يوفرا بيتًا لأسرتهما، وبهذا المعنى، أن يُدَبّرا المنزل معًا. أُعطيت الأمّ منزلة عالية في المجتمعات البهائيّة وهي، كما سبق ذكره، أول مربية للطفل في سنواته الأولى، بينما الأب الذي يقصّر في تربية وتعليم أولاده يكون قد فرّط في حق الأبوّة. وبنفس الوقت، يشجَّع الأبوان البهائيّان على إبراز تحديات لأولادهم، حتى “يُعوّدوهم على المصاعب” ويعلّموهم أهميّة العمل الذي ارتقي الى مكانة العبادة في الدين البهائي. يضع البهائيّون قيمة عالية على معرفة القراءة والكتابة خصوصًا أنها تُمَكّن الإنسان من التواصل مباشرة مع الكتابات المقدسة الأمر الذي يعتبر أساسيًّا في تحرّي الحقيقة التي أمر بها حضرة بهاء الله. وبالإضافة، على البهائيين تلاوة أو قراءة آثارهم الكتابيّة المقدّسة[13] كل صباح ومساء، والقدرة على القراءة مفتاح هذا النشاط.

علّمنا حضرة بهاء الله أن سَكينة العالم ونظامه يعتمدان على العدالة، وهي بدورها قائمة على المكافاة والمجازاة. لذلك، فإن بيوت البهائيين منضبطة وتسعى لتكون خالية من العنف. تتحاشى العائلات البهائيّة استعمال العنف أو حتى الكلمات القاسية. يُنتظر من جميع أفراد العائلة أن يتصرفوا بنبل، كياسة، إنصاف وهدوء تجاه الجميع وأن يعاملوا بالمثل.

على الجوّ العائلي في البيت أن يكون جوًا مُشجعًا ودافعًا نحو التفوّق. يجب تنمية حبّ الاستطلاع الفكري، ورغبة الاستكشاف وحالة من التساؤل والمهابة. على البيت أن يكون منظّمًا، جميلاً، نظيفًا، ومرتبًا، ويتحلّى الكبار والصغار بالأخلاق الحسنة.

… أشركوهم في كل حرفة وفن جديد ونادر ومُبْهِر. ربّوهم على العمل والجهد، وعوّدوهم على الشدة والضيق. علّموهم أن يكرّسوا حياتهم لأمور في غاية الأهمية، وألهموهم ليتجهوا إلى دراسات تفيد الإنسانية.[14]

ليس سهلاً على العائلات أن تصل إلى هذه القيم بمفردها، لذلك ينظر البهائيون إلى المجتمع الأوسع، البهائي وغير البهائي، طلبًا للمساعدة ولتوفير الدعم المعنوي وللحماية. مثلاً، في طور نموّ المجتمعات البهائية، يأخذ المحفل الروحاني المحلّي على عاتقه مسؤولية تربية الأطفال إذا عجز الوالدان عن ذلك. تُقدّم عادة المحافل الروحانية المحلّية لأطفال المجتمع صفوف تربية أخلاقية وغيرها لتكملة العلوم التي يكتسبونها في المدرسة، وبالإضافة، توجد أيضًا صفوف بسيطه مفتوحة لجميع الأطفال من عائلات بهائيّة وغيرها وهي تُعَد واحدة من النشاطات المحوريّة الأساسيّة core activities الأربعة المتّبعة لتطوير المجتمع البهائي. يمكن للعائلات البهائيّة أن تتباحث دائمًا في مواضيع ومسائل مع المحفل الروحاني المحلّي، وهي تُشجَّع على الاستعانة باختصاصييّن عندما تدعو الحاجة.

كما يشير المقتطف المذكور في بداية هذا الفصل، يشجّع المزاح والضحك في العائلات البهائيّة، وهي، بالإضافة إلى الدعاء والعبادة، ترطّب الأجواء وتهدّئ العلاقات عندما تصبح الأمور صعبة.

“أريدكم أن تفرحوا… أن تضحكوا، ابتسموا وابتهجوا لعلكم تكونون سببًا في سعادة الآخرين”.[15]

إن توطيد القيم والمواقف لدى الفرد وعند العائلة يتطلب فرصًا لممارستها، ولا مكان أفضل من العائلة نفسها لمثل هذه الممارسة. في بداية الأمر، تأسس الكثير مما يمارسه المجتمع البهائي داخل العائلة، حيث تم التدرّب عليها لتطبيقها في مجالات أخرى. وفي تحرّك مواز، تحاول عائلات كثيرة تطبيق ممارسات تعلّمتها في المجتمع البهائي، وهذا الاعتماد المتبادل مرغوب فيه ومُشجّع عليه.

إن التشاور هو من المهارات الأساسيّة التي يحاول كل بهائي أن يتعلمها، حيث إن له أبعادًا أسمى وأرفع من مجرد التباحث العادي للوصول إلى القرار. يتشاور البهائيون في مؤسساتهم الإداريّة، كما ويُشَجّعون للعمل بها عند اتخاذ قرارات شخصيّة أو عائليّة. رغم صعوبتها، يمكن حتى للأولاد الصغار أن يتعلموا أسس التشاور في البيت، ولدى الكثير من العائلات فترة “تشاور عائلي” رسميّة أو غير رسميّة ليتوصلوا إلى قرارات حول أمور مثل أيام العطلة، وقت النوم ومصروف الجيب. ومع نشأة الأولاد يمكن للعائلات التشاور في أمور أكثر تعقيدًا. يتشاور الزوجان كما ذكر أعلاه مع بعض التعديل في الأسلوب، لأنه لا يمكن أن توجد أكثريّة أو أقليّة لحل الخلاف بينهما. عندما لا يستطيع الطرفان الوصول إلى اتفاق، من المنتظر في بعض الأحيان أن يتنازل الزوج لزوجته، وفي أحيان أخرى تتنازل الزوجة له. يجب ألاّ يسيطر أي طرف على الآخر. وقد حضّ البهائيّون على التشاور في جميع الأمور، ويمكن لعائلة أن تطلب من أفراد آخرين من العائلة، أو من أصدقاء، أو من بهائيين آخرين التشاور معهم للوصول إلى قرارات في مواضيع تشكّل تحديًا خاصًا، أو التي لها علاقة بآخرين. التشاور مهارة يمكن نقلها للآخرين، وهي تُمَارَسْ في ظروف أخرى مثل إيجاد ترابط في المجتمع أو إعادة بناء أحياء سكنيّة بعد الكوارث.

وكما ذُكر أعلاه، فقد حدّد حضرة بهاء الله نموذجًا جديدًا للعمل مُصرّحًا أن العمل بروح خدمة الإنسانيّة مساوٍ للعبادة. وأبعد من ذلك فقد نصح البهائيين أن “يحصلوا على أرزاقهم بالعمل”[16] من وجهة النظر البهائيّة توجد علاقة واضحة بين التربية والتعليم والعمل من جهة، وبين العمل وازدهار الفرد، العائلة والمجتمع من جهة أخرى. وكما سبق ذكره، على الأولاد أن يتربّوا على العمل، ويمكن لوالديهم أن يعلّموهم هذا بطريقة فعلية في البيت. يمكن مثلاً أن تُخصّص لصغار الأطفال بعض الواجبات السهلة مثل تقديم الغذاء والعناية بالحيوانات المنزلية الأليفة، وبهذه الممارسة يتعلّمون المبدأ البهائي عن الرفق بالحيوان. بما أنّه على المنازل البهائيّة أن تكون مرتّبة، يشجّع الأطفال على أن يعتزوا ببيتهم منذ نشأتهم، وأن يتحملوا شيئًا من مسؤوليّة العناية به. هذا لا يساعدهم على تعلّم صفات الاهتمام والعناية بالأمور، والتحلّي بروح مساعدة الغير والأمانة فحسب، بل ويعطيهم أيضًا شعورًا بإنجاز عمل وتحقيق واجب، كما يتعلّمون تقدير العمل الذي يقومون به بأنفسهم – وهناك دروس أخرى سوف تُفيدهم وتُفيد غيرهم في مسيرتهم من نطاق العائلة إلى فضاء المدرسة، ومن ثم انخراطهم في العمل والمجتمع.

من الطموحات الأساسيّة لكل بهائي، تنمية حالة من الخشوع والتعبّد لله تعالى، وهو يسعى في ذلك على أكثر من صعيد. فعلى النطاق المحلّي يشارك البهائيّون في أنشطة متعددة لتنمية حالة التعبّد ومنها حضور الضيافة التسع عشريّة، وحيث توجد الإمكانيّة، يجتمعون في مشرق الأذكار. وعلى نطاق الأسرة، تُشجّع العائلات البهائيّة على تلاوة المناجاة معًا. على الوالدين، في سياق التربية، أن يُحَفّظوا أولادهم أدعية سهلة الحفظ وآيات من الآثار البهائيّة المقدّسة. ويتلو العديد من الآباء الأدعية مع أولادهم عندما يستيقظون صباحًا، وقبل النوم مساءً. بما أنه لا توجد أوضاع خاصة أو إيماءات معيّنة لتلاوة الأدعية، ما عدا في الصلوات المقررة يوميًّا، تُترك الحريّة للعائلات لإيجاد الأسلوب المناسب لهم للتعبّد معًا. وأما على نطاق المجتمع العامّ، ونظرًا لأهميّة الدعاء، كونه الغذاء المنعش لروح كل إنسان، تُوَجِّه العائلات البهائيّة الدعوة، وبنمط متزايد، إلى جيرانها والأصدقاء والأقارب ليشاركوا معها أسبوعيًّا أو شهريًّا في جلسات للدعاء. مثل هذه الجلسات لا تساعد على تنمية الحالة الروحانيّة فحسب، بل تُعَلّم أيضًا حسن الضيافة للأطفال وتعطيهم مثالاً عمليًا عن كيفيّة التخلّي عن التعصّب عند استقبال أشخاص من جميع الخلفيات والأديان في منزلهم والترحيب بهم، وتلاوة الآثار المقدّسة من الكتب البهائيّة وأيضًا من كتب الأديان الأخرى.

لا رجال دين في الدين البهائي، ولا أشخاصَ مسؤولين عن نشره إلاّ البهائيون العاديون أنفسهم. لذلك، كل بهائي يتحمّل واجب ‘تبليغ’ الدين للآخرين. توجد طرق عديدة للقيام بهذا الواجب ولكن يُشجّع البهائيون بشكل خاص على فتح منازلهم أمام الراغبين في اكتساب المعرفة عن الدين البهائي، وذلك لبحث بعض جوانب الدين معهم، فيستضيفونهم ويجيبون عن أسئلتهم. تعرف هذه اللقاءات باسم فايرسايد fireside، وهي تعقد مرّة كل 19 يومًا على الأقل. لا تُمَكّن هذه الممارسة أولئك المُهتمّين من معرفة المزيد عن الدين البهائي فحسب، بل وتوفر لهم الفرصة لمشاهدة كيف يعيش البهائيون حياتهم. يشارك البهائيون على نحو متزايد في حلقات دراسية يوسعون ويعمقون فيها معلوماتهم عن دينهم. تعقد حلقات دراسية كثيرة في المنازل الخاصة وقد ثبت أنها هي أيضًا تشكّل مدخلاً آخر يتعرّف من خلاله الناس على الدين البهائي. بالإضافة، يشهد الأولاد مثالاً قويًا عن التصرّف البهائي عندما يعقد آباؤهم لقاءات الفايرسايد والحلقات الدراسية في منزلهم. هذا يعزز تربيتهم الأساسيّة ضمن الدين البهائي ويساعد على إيجاد نمط لحياتهم البهائيّة.

يرى البهائيون وجود روابط مهمة بين العائلة وتربية الأطفال، والحياة المنزليّة، والعمل، ومنزلة المرأة، والمساواة بين المرأة والرجل، وتقدّم المجتمع. لذلك على سبيل المثال، يتحمّل الرجال والنساء مسؤولية نواحي تدبير المنزل وإيجاد الظروف التي تساند تربية الأطفال وتحفظهم في صحّة جيدة. هذا التعاون له تداعيات ليس فقط على مستوى العائلة بل وفي نطاق العمل والمجتمع العامّ، اللذين يجب أن يتغيّرا ليُمَكِّنا الوالدين من رعاية أولادهما ولإيجاد الجوّ الذي يمكّن العائلات من الازدهار. وبالمثل، يجب أن يتغيّر أيضًا موقف المجتمع العامّ تجاه النساء العاملات وتجاه الرجال الذين يعتنون بالأولاد. ومما يزيد من إمكانية حدوث هذه التغييرات انخراط الأطفال الناشئين في المجتمع وهم الذين سبق ومارسوا هذه المواقف في بيوتهم. إن حدوث مثل هذه التغيّرات في المجتمع سيؤدي، بنظر البهائيين،إلى مستوى متطوّر من رفاهية وازدهار الإنسانيّة عامة، ويعزز إمكانيّة الاستقرار السياسي والسلام طويل الأمد. وفي حين تبدو هذه التوجّهات والتوقّعات مبالغًا فيها، إلا أنها هي المحرّك للحياة البهائيّة على جميع المستويات.

[1])   عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, in Star of the West, 1918, p. 40، (ترجمة مترجم الكتاب)

[2])   عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1982, p. 157، (ترجمة مترجم الكتاب)

[3])   بهاء الله، الكتاب الأقدس، شرح رقم 88

[4])   شرط الزّواج ببلوغ الطرفين، وهو إدراك الخامسة عشر – الكتاب الأقدس – خلاصه الأحكام والأوامر، ج – الأحوال الشخصيّة (1–ج) ص 156

[5])   شوقي أفندي، ،Shoghi Effendi, 1938 (ترجمة مترجم الكتاب)

[6])   بهاء الله، الكتاب الأقدس، فقرة 63

[7])   بهاء الله، الكتاب الاقدس، فقرة 48

[8])   بيت العدل الاعظم،  ،Universal House of Justice, 1984c(ترجمة مترجم الكتاب)

[9])   عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1978, p. 138، (ترجمة مترجم الكتاب)

[10])  عبد البهاء، ،‘Abdu’l-Bahá, in Compilation, 1991, vol. 1, p. 280 (ترجمة مترجم الكتاب)

[11])  بهاء الله، مجموعة الواح…، لوح مقصود، ص 142 (مترجم عن الفارسيّة)

[12])  شوقي أفندي، see Shoghi Effendi, 1990, pp. 33–41، (ترجمة مترجم الكتاب عن الانجليزيّة)

[13])  يتفضّل حضرة بهاء الله: أتلوا آيات الله في كلّ صباح ومساء… – الكتاب الأقدس، آية 149

[14])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1978, p. 129، (ترجمة مترجم الكتاب عن الانجليزيّة)

[15])  عبد البهاء،  ،‘Abdu’l-Bahá, 1982, p. 218(ترجمة مترجم الكتاب عن الانجليزيّة)

[16])  بهاء الله، الكلمات المكنونة الفارسية رقم 82، (ترجمة المترجم عن الفارسيّة)

4 الحياة في المجتمع

كن في النّعمة منفقًا وفي فقدها شاكرًا
وفي الحقوق أمينًا وفي الوجه طلقًا.[1]

كما يسعى البهائيون جاهدين لتكوين عائلات متحدة، منصفة ومسالمة، يحاولون أيضًا ترجمة نفس القيم الأخلاقية والسلوكيات التي علّمها حضرة بهاء الله إلى سلوكيات وممارسات من شأنها أن تعزز الاتحاد والانسجام في القرى والبلدات والمدن حيث يُقيمون – إدراكًا منهم أنه من دون مثل هذا الاتحاد لا يمكن لأي مجتمع مهما كان مزدهرًا أو متقدمًا أن يدوم. يسعى البهائيون، على مستوى العلاقات الأساسية، أن يكونوا جيرانًا جيّدين ومواطنين صالحين، وأن يساهموا إيجابا لما فيه خير الأحياء المجاورة ووئامها.

كونهم بعيدين عن الانعزال، يشكّل البهائيون جزءًا فعّالاً في المجتمعات المحلّية التي يقيمون فيها. أحد الأهداف الرئيسيّة لمعهد التدريب البهائي المحلي حقًًا (راجع الفصل 7) مساعدة الأفراد على اكتساب بصائر روحانيّة ومهارات عمليّة يحتاجونها للعمل في مجتمعاتهم، خاصة على مستوى الحي، حيث يقدم البهائيّون صفوفًا في التربية الأخلاقيّة للأطفال، وبرامج تمكين روحاني للشباب النّاشئ، وجلسات دعاء. وبالإضافة الى مجهوداتهم المتواضعة فهم في العادة مساهمون نشطاء في برامج تهدف إلى زيادة التقارب في المجتمع، تنمية الانسجام بين الجيران، مناهضة العنصرية، وتقديم مساعدات إنسانية واجتماعيّة. يشارك العديد من البهائيين في مشاريع البيئة المحلّية، وبرامج تعمل على رفع منزلة المرأة، أو أخرى تُعنَى بالشباب حيث يقدّمون لهم نشاطات رياضيّة وترفيهيّة مفيدة. يساهم آخرون في حملات لمحو الأميّة، ويعملون عادة لتحسين مرافق العيش المحلّية. يؤازر البهائيون بحرارة نشاطات التقارب فيما بين الأديان. ويتطوّع العديد منهم لتقديم خدمات في السلك القضائي أو في هيئات الصحّة العامة. وحيثما تطورت طاقات مجموعة من البهائيّين للخدمة بما فيه الكفاية واكتسب أفرادها خبرات ضروريّة، قد تنشأ مشاريع إنمائيّة محليّة متواضعة. القسم الأكبر من مثل هذه المشاريع لها فترة زمنيّة محددة تنتهي عند تحقيق أهدافها التي تتعلق غالبًا بالصحّة أو بالصرف الصحّي أو بالتربية أو بالزراعة أو بحماية البيئة، وكلها تهدف الى تحسين جانب من جوانب حياة السكّان المحلييّن.

يعرض الدين البهائي رؤية لمجتمع عالمي موحّد قائم على مبادئ روحانيّة مثل المحبّة، والعدالة، ويعمل لخير العالم أجمع ومنفعته. يؤمن البهائيون أن عالمًا متحدًا كهذا ليس أملاً خياليًّا منبعه الورع والتقوى بل هو مصير حتمي يجب توجيه الخطى نحو تحقيقه – وهو فعلاً يأخذ مساره. من هذا المنطلق يَعتبرون أن تعاليم حضرة بهاء الله تُقَدّم الخطوات العمليّة التي تُمَكّن الإنسانيّة من التقدّم إلى هذه النقطة، ويؤمنون أن الوحدة العالمية بذاتها تُبنى على دول مسالمة، قويّة ومتحدة مما يتطلب مجتمعات هي بحدّ ذاتها مُعافاة، موحّدة ومزدهرة. تعتمد مثل هذه المجتمعات على مقوّماتها الأساسية – العائلات – لتحافظ على استمراريتها. وفي الوقت ذاته، يدرك البهائيون أن مسار المجتمعات للوصول إلى تحقيق هذه الرؤية طويل، وأنه، وعلى جميع المستويات، يعتمد التقدّم على إلتزام، ثم المواهب، وعمل الأفراد والحكومات المستمر والدؤوب.

الرؤية البهائيّة للمجتمعات المتماسكة

يرتئي البهائيون نشوء مجتمعات متماسكة حقًا “تُرَوّج للكرامة الإنسانية، وتحثُّ على إطلاق القدرات البشرية، وترعى بشكل فعّال النبل المتأصّل الذي يؤمن البهائيون أنه أساس الطبيعة الإنسانية”.[2] تضع تعاليم حضرة بهاء الله صورة لجامعات نسيجها الاجتماعي محكم، مبنيّة على قيم روحانيّة وأخلاقيّة مشتركة، يتعاون فيها جميع المواطنين الذين يتحلون باهتمام صادق لمصلحة بعضهم البعض.

يؤكّد البهائيون أن المفتاح لتأسيس مجتمعات قويّة، مسالمة، ومزدهرة، هو العمل على تطوير تلك العناصر التي تميل الى إيجاد ترابطٍ اجتماعي، والسعي للتغلّب على التعصّب، والمخاوف، وعدم الثقة، والظلم والحرمان، وكلها تعمل على تفكيك المجتمعات. حتى إن التعرّف على هذه العناصر يتطلّب جهدًا كبيرًا، بينما العمل المطلوب لمعالجتها يتطلّب الرّويّة، الحكمة، ومتابعة دؤوبة. كما أن تَعَلّم أفراد العائلة التعايش بانسجام يشكّل تحدّيًا لهم، كذلك يدرك البهائيون، أن المجتمعات والأحياء المجاورة ستجد أن سعيهم لإيجاد ترابط وانسجام مستمر فيما بينهم هو عمل صعب ودقيق.

يؤمن البهائيون أن على المجتمعات أن تكنّ التقدير لجميع أفرادها وتخدمهم وليس الميسورين والمثقّفين أو المميّزين منهم فقط. تتكوّن بلدان ومدن كثيرة في يومنا هذا من أناس متعدّدي الجنسيّة، الخلفيّة، الحضارة، التقاليد الدينيّة، والقوميّات، وعلى الأنظمة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتشريعيّة والسياسيّة أن تعكس هذا التنوّع وتحترمه. لا تستطيع القوانين وحدها، رغم أهميتها، أن تخلق جوًّا اجتماعيًا يُمَكّن الجاليات المختلفة من تقديم مهاراتها ومواهبها الخاصة للجميع. إنما قيام مجتمع متماسك ومنصف بكل ما في الكلمة من معنىً يتطلّب أناسًا يدركون أن مصالح الأفراد والمجتمع متداخلة، وأن تأمين الحقوق الإنسانية والمدنيّة يتطلّب التزامًا تجاه المسؤوليات المترتبة على ذلك، وأن الرجال والنساء، الاثنين معًا، يجب أن يشاركا مشاركة كاملة في صنع القرار والتخطيط.

الى جانب الحاجة لخلق مجتمعات متماسكة فإن ذلك يتطلب تطوير أنماط مستدامة للعيش بين مكوّنات المجتمع. يعتقد البهائيون أن البيئة الطبيعيّة تتطلب نفس العناية الدقيقة والحكيمة التي يبتغيها الناس لأنفسهم، وأن البيئة التي تكوّنت يجب أن تُعبّر ليس فقط عن حاجات المجتمع الماديّة، ولكن أيضًا عن حاجاته الروحانيّة والجماليّة. لذلك، يؤيد البهائيون وجوب إدراج الجمال والمنفعة الماديّة في مشاريع تنمية المجتمع.

مواجهة التحدّي

لتحقيق مجتمعات كهذه، يسعى البهائيون عمليًّا لإيقاظ الوعي والتقدير لدى الناس تجاه وحدة العائلة الإنسانية. بغياب مثل هذا المفهوم، لاحظ البهائيون أن محاولات الحكومات والجاليات للتغلب على أنواع التوتّرات والمخاوف التي تُوَلّد الاضطراب المدني، قد أعيقت. لذلك، يحثّ البهائيون الأفراد والعائلات على معاشرة أناس من أديان، وعادات، وتوجّهات، وخلفيات إثنية وعرقيّة مختلفة، حتى يتعلموا تقدير قيمة التنوّع في مجتمعهم، ويستبدلوا الجهل المخيف بالفهم والمعرفة. ويوصي البهائيون أيضًا أن تُقَدِّم أماكن العمل دورات تدريب في هذا المجال، ويعتبرون أنه من الضروري ألاّ تكتفي المدارس بإدراج برامج توفر مثل هذه الفرص لتلاميذهم، بل وأن تدرج في منهاج المدرسة العامّ، وكجزء متمّم له، تدريس موضوع وحدة العالم الإنساني، وتنمية الشعور بالمواطنة العالميّة. إن كافة النشاطات البهائيّة، عدا الضيافات التسع عشريّة والجلسات التي تجري فيها انتخابات أو حيث تتشاور المحافل الروحانيّة، مفتوحة للجميع – أكان الشخص بهائيّا أم لم يكن – وهي تشكّل نموذجًا للوحدة في التنوّع. يقدّم معهد التدريب إحدى المنابر التي يمكن فيها لأشخاص من كافة الخلفيّات المتنوّعة التعلّم وبناء طاقاتهم للخدمة سويّا. بالإضافة، وحيث أمكن، يسعى البهائيون أنفسهم للمشاركة والتأثير على مسار التطوّر الاجتماعي حتى تتمحور جالياتهم حول ذات القيم الروحانية؛ من محبّة وثقة، وإنصاف، ومساواة واستقامة، التي تشكل قاعدة الحياة البهائيّة.

يُدرك البهائيون أن تزايد التفاعل فيما بين أناس من خلفيات متعددة وازدياد وتيرة اعتماد بعضهم على بعض “يخلق تحدّيات جذريّة لأساليب التفكير والعمل التقليدية”، وأن الطريقة التي يواجه بها الأفراد والمجتمعات هذه التحدّيات “ستُحدد لدرجة كبيرة ما إذا كانت مجتمعاتنا ستتميز بروح من الرعاية والاحتضان والتماسك والتقدّم، أو تصبح غير مضيافة، مُنقسمة وغير مستدامة”.[3]

دور الدين

يعتقد البهائيون أن للدين دورًا مهما في خلق جاليات منسجمة ومتماسكة. ولكن غالبًا ما يصبح الدين نفسه سبب التوتر والاضطراب وينحرف عن هدفه الأصلي، ويُقَلّب الجار على جاره. وقد كان الدين مسؤولاً عن إشعال الحروب، سفك الدماء والكثير من معاناة
البشريّة.

لدى البهائيين القناعة أن التعصّب والتطرّف – وهما الوجه الفاسد للدين الحقيقي – قد دمرا التسامح وسمّما أجواء الجاليات، إذ لم يُشجّع بعض قادة الطوائف أتباعهم على التحقق من عقائد أخرى، أو قد جاهروا علنًا ضد أتباع أديان أخرى. يعتبر البهائيون أن مواقف كهذه لا تُنمي التعصب فحسب، بل وقد أدّت في بعض الأحيان إلى هجوم عنيف على مؤمنين تابعين لأديان أخرى، وبالتالي، تنسف القيم الروحانيّة بعينها التي يدّعي الدين أنّه يرفع لواءها.

يعتقد البهائيون أنّه إذا كان للحوار البنّاء حول دور الدين في إقامة العدالة الاجتماعيّة في الجاليات أن يتحقق، من الواجب الاعتراف بالأحداث الماضية، وعلى قادة الدين أنفسهم أن ينبذوا التعصّب، والعنف، والإرهاب، ويسعوا للتركيز على المبادئ الروحانيّة المشتركة في ما بين جميع الأديان. على قادة الأديان أن يعملوا بأنفسهم للتخلّص من التعصّب الأعمى والخرافات من داخل تقاليدهم الدينيّة، وعليهم تقبّلْ حريّة المُعتقد لجميع الناس بمن فيهم أتباعهم. من واجب قادة الأديان، باعتقاد البهائيين، أن يوضحوا لأتباعهم أنه لا مكان للتعصّب الأعمى والعنف في حياة الإنسان المتديّن. لا بل يتوقّع البهائيون من رجال الدين أن يذهبوا إلى أبعدَ من ذلك: “إن شجب [رجال الدين] للفلسفة المادية أو الإرهاب لن يوفر مساعدة حقيقية في مواجهة الأزمة الأخلاقيّة المعاصرة، إن لم يباشروا بخطاب صريح عن الفشل في تحمّل المسؤولية مما أدى إلى ترك جمهور المؤمنين دون حماية ومعرّضين لهذه التأثيرات”.[4]

إذا استطاع الدين أن يسترجع مكانته، يعتقد البهائيوّن أن بيده المفتاح لخلق جاليات تتمحور حول الروحانيّة وتحقّق الرؤية التي طرحها لهم حضرة بهاء الله: “الدين هو السبب الأعظم لنظم العالم واطمئنان من في الإمكان”.[5]

عندما كان (الدين) وفيًا لحقيقة ومشرق الطلعات القدسية (المظاهر الإلهية) الذين قدّموا للعالم أنظمته العقائديّة العظيمة، أيقظ في مجتمعات سُكانيّة بكاملها قُدُرات المحبّة، الغفران، الإبداع، الجرأة العظيمة، التغلب على التعصب، التضحية في سبيل المصلحة العامة، و ضبط الغرائز الحيوانيّة. مما لا شك فيه أن القوى المحرّكة لتهذيب الطبيعة البشريّة كانت نفوذ هذه المظاهر الإلهيّة المتتالية منذ فجر التاريخ المدوّن.[6]

بنظر البهائيين، من أهم الأساليب التي تُمَكّن قادة الأديان من تنمية الانسجام والحث على التعاون والحوار فيما بين أتباعهم هو تشجيعهم على تحرّي الحقيقة لأنفسهم. تُعلّم جميع الأديان أنه يجب عدم الخوف من الحقيقة. إذا “أيقن أهل الإيمان بأن الخالق أبدي، وأنه محور كل ما في الوجود، وجب عليهم أيضًا الإيمان بأن البحث الصادق عن الحقيقة، المُحَرّرة من القيود، سيؤدي إليها”.[7]

المشاركة في حوارات المجتمع

تجري في جميع المجتمعات وعلى كافة المستويات أحاديث – حوارات – بين السكان حول المواضيع التي تؤثر عليهم، من المساواة بين الجنسين الى موضوع السلام، من الإدارة الى الصحّة. يسعى البهائيّون للمشاركة مشاركة فعّالة في هذه الحوارات، وإيجاد أحاديث جدّيّة والتعلُّم من المشاركين الآخرين، وعرض رؤاهم الشخصيّة المستنيرة بالتعاليم البهائيّة. لا يسعى البهائيّون في هذا المنهج الى إقناع الآخرين بقبول موقفهم أو مفهومهم لموضوع ما، ولا يقدمون
حلولاً محددة.

التأثير على صانعي القرار

يرى البهائيون أن الاعتراف الشامل بوحدة العالم سيحقق “تغيرًا عُضويًا في بنية مجتمع اليوم”،[8] وهم يؤيّدون ويدعمون بفعّاليّة تلك المبادرات الاجتماعيّة التي تأتي بالمنفعة على المجتمع بأكمله. ولكن البهائييّن يعتبرون أن السياسة الحزبيّة أسلوب غير مفيد للوصول إلى هذه الغاية، لذلك لا ينتسبون إلى أحزاب سياسيّة، ولا يرشّحون أنفسهم للمقاعد السياسيّة، ولا يدعمون بأي شكل من الأشكال الأحزاب السياسيّة أو السياسيين. يمكنهم الانتخاب، وفعلاً ينتخبون، عندما يتمكّنون من ذلك دون انتساب لحزب سياسي معيّن، ويجوز لهم الخدمة في وظائف الدولة غير السياسيّة. يَكنُّ البهائيون الولاء والطاعة للدولة التي يعيشون فيها ولا ينتقدون أو يحاولون تقويضها. حيث توجد حكومات تطلب الاستماع إلى آراء المجتمع المدني، وحيث يُجيز التشريع تقديم طلبات إلى الدولة لتغيير سياسة أو قانون ما، يمكن للمحفل الروحاني المركزي في الدولة المعنيّة أن يقوم بذلك، إذا وُجدت المناسبة، وكان لديه وجهة نظر يعرضها. لذلك على سبيل المثال، استجاب المحفل الروحاني المركزي في المملكة المتحدة لطلبات من الحكومة البريطانيّة حول تقديم ملاحظات تخصّ مواضيع متنوعة مثل حقوق الإنسان والتربية.

وبالمثل، على النطاق المحلّي، يمكن للمحافل الروحانيّة المحلّية أن تقدّم آراءها حول مواضيع متنوعة، والكثير منها يتخذ مبادرات من هذا النوع منها مشاريع بيئيّة، السلامة في المجتمع، وتخفيض مستوى الجريمة. لا يلجأ البهائيون إلى أساليب تكتيكية كالمظاهرات في الشوارع أو أشكال أخرى من النشاطات الشعبية العنيفة للتعبير عن وجهة نظرهم.

إقامة مجتمعات متّحدة، روحانيّة، مستدامة

يضع البهائيّون السعي الى تطور المجتمع روحانيًّا ومادّيًا في صميم دينهم. هم يعتبرون أن مثل هذا التطور مطلوب في كل مجتمع أكان ذلك في مناطق العالم الغنيّة أو الفقيرة منها. كما يرون أن محاور العمل التي يقوم بتنفيذها كل مجتمع بهائي (راجع الفصل 7) إنما يولّد في كل مشارك القدرة على الخدمة والتشاور للوصول الى اتخاذ القرارات، مما يشكّل قاعدة لأي تطوّر اجتماعي واقتصادي في المجتمع. عندما تصل المجتمعات البهائيّة إلى مستوى عالٍ من النضج والمشاركة، وتزداد قدراتها على الخدمة نتيجةً لمشاركتهم في نشاطات محاور العمل، فإنها تتمكّن في أغلب الأحيان من تنفيذ برامج تنموية اجتماعية واقتصادية لخدمة الأحياء المجاورة أو المجتمع ككل، وتدعم بذلك رؤية حضرة بهاء الله حول حضارة عالميّة متّحدة، منصفة، مزدهرة ومسالمة. في السنوات الأخيرة قامت مؤسسات عديدة، تستوحي هدايتها من التعاليم البهائيّة Bahá’í Inspired Organizations، بالحثّ على مناقشة الأفكار البهائيّة والترويج على تطبيقها في مجالات اجتماعيّة، إنسانية، قانونيّة واقتصاديّة. وإضافة إلى ذلك، تُنَفِّذ مؤسسات كثيرة من هذا النوع أعمالاً ميدانية، مستمدة قيمها وأهدافها من التعاليم البهائيّة.

لا يمكن أن ينجح التطوّر المادي، من وجهة نظر البهائيين، إلا إذا ارتبط بتطوّر روحاني قائم على تطبيق القيم الأخلاقيّة. لذلك، تعمل المؤسسات والمشاريع التي تستوحي هدايتها من التعاليم البهائية، بموجب القيم الواردة في رسالة حضرة بهاء الله. إن للعديد من تعاليم الدين البهائي الاجتماعيّة أهمية محوريّة بالنسبة لقضايا التنمية منها: الحاجة للاتحاد والاعتراف بوحدة العالم الإنساني؛ نمو ثقافة عالميّة؛ مساواة النساء والرجال؛ إلغاء أقصى درجات الغنى والفقر؛ تحقيق العدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة؛ الحاجة إلى حكم يتسم بالأخلاقيات؛ والمشاركة الجماعيّة في النشاط الاجتماعي. من أكثر البرامج تأثيرًا على التنمية الاجتماعية تلك التي ترفع من منزلة المرأة وتُمكن النساء والفتيات من الحصول على التربية والتعليم، خصوصًا القراءة والكتابة. لقد برزت عدة مشاريع انمائيّة صغيرة قائمة على مبادئ بهائيّة، وهناك العديد من المؤسسات، التي تستلهم برامجها من التعاليم البهائية (Baha’i inspired programs)، تسعى إلى تطبيق التعاليم البهائيّة على مختلف القضايا الاجتماعيّة. والأمثلة المدرجة تاليًا ما هي إلاّ نماذج تُبيّن أنواعها المتعددة.

مؤسسة بارلي المهنيّة لنساء الريف في أندور، الهند

Barli Vocational Institute for Rural Women, Indor, India

تأسست سنة 1985م مؤسسة بارلي المهنيّة لنساء الريف، لتدريب نساء القبائل المقيمات في القرى حول أندور على المهارات والمعلومات التي هنّ بحاجة إليها لرفع مستوى حياتهنّ وحياة عائلاتهنّ ومجتمعاتهنّ، وذلك بطرح برامج تنموية تُحسّن مستوى الصحّة والغذاء، وترفع دخل الأسرة، وتعمل على محو الأميّة، وتحافظ على البيئة وتُحَسّنها. ‘بارلي’ كلمة محلّية تعني عمود المنزل الأساسي، والمؤسسة قائمة على المبدأ القائل بأنه كما يسند ‘بارلي’ هيكل المبنى، كذلك النساء يسندن هيكل العائلة والمجتمع. إن جميع برامج التدريب التي تمتدّ من ستة أشهر إلى سنة تُقدَّم مجّانًا للنساء اللواتي يأتي معظمهنّ من المناطق
القبليّة.

من الأمور الأساسية التي تركّز عليها المناهج، تغيير المواقف والسلوكيات التقليدية التي توْقف أو تعيق مساعي النساء والرجال ليحيوا حياة تمتاز بالمساواة والكرامة والأمان. وبالأخصّ، تسعى البرامج إلى التغلّب على العوائق التي أخّرت تطور المرأة، وتقدّم الفرص للنساء ليفكرن ويتأملن في علاقاتهن مع الآخرين، ومع مؤسساتهن الاجتماعيّة. تتدارس النساء التعصّب الطبقي والقبلي في ضوء المبادئ البهائيّة، ويُحدّدن العناصر الإيجابيّة في حضارتهن التي يجب المحافظة عليها وتدعيمها.

تُدَرّس برامج التدريب بشكل شمولي [holistically]، وتتضمن تعليم القراءة والكتابة، الخياطة، الزراعة، الأشغال اليدويّة، حقوق الإنسان، التوعية البيئية، احترام الذات وتنمية الشخصيّة، الالتزام الاجتماعي، التغذية المفيدة والعناية بالصحّة، والمهارات التي تؤمن دخلاً ماليًا. يحتوي المنهاج أيضًا على الفنون منها على سبيل المثال الموسيقى والفولكلور وما إلى ذلك. الهدف هو أنّه، ما إن تستمد النساء القوّة والقدرات من هذه التدريبات، حتى يعدن إلى بيوتهن في القرى ويصبحن الـ ”بارلي” لعائلاتهن ومجتمعاتهن، وعناصر لتغيير الجوّ الاجتماعي والمادي.

راديو بهائي، الإكوادور

Radio Bahá’í, Ecuador

أُسِّسَت محطة إذاعة “راديو بهائي“، إكوادور، التي تقع على مسافة 95 كيلومترًا شمالي كويتو (Quito) في أوتافالو (Otavalo)، لإيجاد التواصل بين أعضاء الجامعة البهائيّة المتسارعة في نموّها، ولكن سرعان ما تحّولت إلى محطة إذاعيّة للمجتمع، تُقدم الخدمة لسكان البلد الأصليين عبر مناطق شاسعة، وأصبحت الرابط الأساسي فيما بين أهل الريف، الكامبسينوس (Campesinos). تُعَبّر البرامج التي تذاع بلغة أل كويشوا (Quichua) المحلّية، واللغة الإسبانية، عن اهتمامات وحضارة الكامبسينوس، وتُركّز على تحسين أوضاعهم الروحانيّة والأخلاقية، وأيضًا على تنمية المنطقة اجتماعيًّا واقتصاديًا. بالتالي، تنشر الإذاعة التربية والتعليم وتوفر معلومات أساسية عن الصحّة، وقضايا اجتماعيّة، وما له علاقة بالتنمية.

أحد برامج “راديو بهائي“ المهمّة بثّ الأخبار حول النشاطات الجارية في المنطقة. ومن برامجه المفيدة بشكل خاصّ برنامج عنوانه ‘المفقود والموجود’ Lost and Found الذي يُفتّش عن أشخاص وحيوانات وممتلكات مفقودة ويُعلن عنها خِدمة لأصحابها.

إن شعبية “راديو بهائي“ تنبثق بالدرجة الأولى من دعمه لموسيقى الأندِيَن (Andean music) التقليدية، وأنواع أخرى من الفنون التقليدية والحرف والفولكلور المحلّي. وبينما غالبًا ما يطغى ما يَرِد من أوروبا وأمريكا الشماليّة على اللغات والثقافة المحلّية، فتُهمّشها بسرعة أو تقضي عليها بالكامل، يدعم “راديو بهائي” ويُبرز الجانب الإيجابي لثقافة شعب ألكويشوا المحلّية، وهكذا استطاع أن يعمل على عكس مسار اضمحلالها.

وبالإضافة، شكّل “راديو بهائي“ مجالاً لتدريب بعض السكان المحلّييّن، والكثير منهم أميون، لإدارة الإذاعة، وتحضير مُقدمات لبرامجها. وقد قام هؤلاء بدورهم في تدريب آخرين مما ساعد على توطيد شرعيّة المحطة في المنطقة ودعم شعبيتها.

أصبح “راديو بهائي“ إكوادور نموذجًا لمحطات إذاعيّة مماثلة في مناطق أخرى من العالم، بما فيها الولايات المتحدة وكذلك بوليفيا وتشيلي وبنما والبيرو.

مدرسة محيط النور الدولية، تونغا

Ocean of Light International School, Tonga

اشتهرت مدرسة محيط النور الدوليّة، الواقعة في ضواحي نوكوألوفا، تونغا Nuku’alofa, Tonga في جنوب المحيط الهادئ، بمستواها العالي في التربية الأخلاقيّة والعلميّة، وبالأسلوب الذي تعتمده في التعامل مع طلاّبها. انطلاقًا من الإيمان البهائي بأن التربية يجب أن تصنع أناسًا مستعدّين لخدمة الآخرين، وللسعي الدؤوب لخلق حضارة دائمة التقدّم، كرّست المدرسة نفسها لتطوير الطاقات الروحانيّة والفكريّة والبدنيّة في طلاّبها، لتنشئتهم على فكرة المواطنة العالميّة. بدأت المدرسة عام 1996م بتسعة أطفال ومعلميْن اثنين، وبعد عشرين سنة باتت تقدّم مناهج تعليم وتربية ابتداءً من الحضانة حتى الصفوف الثانوية لأكثر من 400 تلميذ. وهي أول مدرسة في تونغا تقدم امتحانات مُعتَرَفٍ بها عالميًا وهي امتحانات كامبردج العالميّة (International Cambridge Exams).

يعلّم الدين البهائي أن تنمية الشخصيّة أساس النجاح في الحياة، ويعتقد البهائيون أن الشخصيّة الجيّدة أكثر أهميّة حتى من الإنجازات في الحقل الأكاديمي. لذلك، ومنذ البداية، وبالإضافة إلى المنهاج الدراسي لدولة تونغا، علّمت المدرسة الفضائل لجميع التلامذة، ليس فقط بالكلمات اللطيفة بل وأيضًا كأدوات سلوك عملية للحياة اليوميّة. ونتيجة لذلك، اشتهرت المدرسة بحسن سلوك تلامذتها ومعلّميها الذين يشكّلون نموذجًا حسنًا يُقتدى به في الصدق، اللطف، حسن مراعاة الآخرين والعمل الدؤوب. تُنمي المدرسة نوعًا من العلاقة بين المعلّمين والتلامذة تختلف عن تلك الموجودة بوجه عامّ في مدارس تونغا الأخرى، وتتصف بالمبادئ الروحانيّة، والتي هي أقل استبدادًا، وأكثر مساواة، وقائمة على نظام التعاون المنضبط بدل العقاب الجسماني.

تهدف المدرسة إلى إعداد التلاميذ ليعيشوا في المجتمع العالمي الّذي يبرز حاليًّا والذي يؤمن البهائيون بأنه يتطلب قِيَمًا روحانيّة، مواقف، سلوكيات وممارسات مذكورة في التعاليم البهائيّة. وبالرغم من أن حوالي خُمس عدد التلاميذ فقط هم من عائلات بهائيّة، وغالبيّة المعلّمين ليسوا بهائيين، تلتزم المدرسة بتربية الأولاد حتى يكونوا قادرين على المساهمة في بناء نظام عالمي جديد كما إرتآه حضرة بهاء الله. للوصول إلى هذا الهدف، تسعى المدرسة إلى تنمية روح خدمة الآخرين في تلاميذها، بالإضافة إلى “القدرات، المهارات والمواقف الضروريّة التي تمكّنهم من إعالة عائلاتهم؛ ليساهموا بفعاليّة في توطيد السلام والازدهار وأمن الإنسانية وطمأنينتها؛ وليشاركوا في خلق مؤسسات جديدة، ومسارات وعلاقات ذات صلة، حسبما يتم تعريفها وإنشاؤها”.[9]

التجارة الأخلاقية تبني المستقبل
(سابقًا المنتدى البهائي الأوروبي للأعمال)

Ethical Business Building the Future
(formerly European Baha’i Business Forum EBBF)

مع نهاية الحرب الباردة عام 1989م وانفتاح أوروبا الشرقيّة والوسطى وبزوغ فجر الاقتصاد العالمي، تغيّر المشهد الاقتصادي العالمي كليا وبشكل مثير. عَقدت مجموعة من البهائيين العاملين في حقل الإدارة والأعمال، عام 1990م، اجتماعًا في فرنسا لبحث كيفيّة الاستجابة إيجابيًّا لمتطلبات محيط وبيئة متغيّرة، وكيفية العمل على عكس مسار انحدار الأخلاقيات والقيم في مجال العمل. ونتيجة لمشاوراتهم، انبثق المنتدى البهائي الأوروبي للأعمال، (الآن اسمه: التجارة الأخلاقيّة تبني المستقبل Ethical Business Building the Future) وهو شبكة مكوّنة من أشخاص يعملون في حقل الأعمال، يجمعهم توجّه فكري مشترك، شكّلوا المنتدى بهدف ترويج الحكمة الأخلاقيّة والروحانيّة، والمبادئ التي جاءت بها الأديان العالميّة العظيمة، بما فيها الدين البهائي. الآن وقد انتشر المنتدى في أكثر من خمسين دولة أصبح مؤسسة ذات نفوذ، يصدر مطبوعات متعددة، ويعمل بالشراكة مع شبكات أخرى ومؤسسات لها قيم مماثلة. إن نسبة ملحوظة من أعضائه ليسوا بهائيين.

كان عمل المنتدى الأساسي في البداية صياغة المثل البهائيّة الروحانيّة في إطار يتقبّله من هم في حقل الأعمال ويتعاملون معه بجديّة. وفي إصدارها الأول بعنوان “بزوغ قيم لإقتصاد عالمي”، ““Emerging Values for a Global Economy أظهرت كيف يمكن اعتماد المبادئ الأخلاقية في المحيط الاقتصادي الجديد. تؤيد الـ إي بي بي اف EBBF مجموعة من القيم الاساسيّة المستمدة من التعاليم البهائيّة – الاتحاد، الخدمة، المساواة بين الجنسين، العدالة، الاعتدال، الاستدامة، النبل الإنساني – ومفاهيم العمل – الأخلاق في العمل، أخلاقيّات جديدة للعمل، المشورة، التعاون، المرافقة، المسؤولية، تعلُّم دائم التقدّم، نموذج اقتصادي جديد، ومجتمع تعلّمي. يسعى أعضاء الـ إي بي بي أف EBBF الى إدماج هذه القيم الأساسيّة ومفاهيم عمليّة في حياتهم ويشجعون زملاءهم على تطبيقها أيضًا.

يروّج المنتدى لمجموعة من القيم الأساسية المستمدة من التعاليم البهائيّة: أخلاقيات العمل، المسؤولية الاجتماعيّة للشركات، التنمية المستدامة، الشراكة بين النساء والرجال، نموذج جديد للعمل، التشاور في صنع القرار وقيادة مبنيّة على القيم. يحاول أعضاء المنتدى أن يدمجوا هذه القيم الأساسيّة في حياتهم وأعمالهم ويشجعوا زملاءهم للعمل بها.

لقد اتسع دور المنتدى في أثناء تطوّره. ومن أعماله على سبيل المثال، تعاونه مع منظمة العمل الدوليّة لتحضير ورقة عمل مشتركة بعنوان “إعادة تنظيم المؤسسات بمسؤولية اجتماعيّة”، Socially ،Responsible Enterprise Restructuring وقد صدرت باللغتين الإنكليزية والروسيّة، مع نُسخ ملخّصة بالفرنسيّة، والإيطالية، والبولنديّة. حدث تطوّر لافت عام 2002م بمناسبة تأسيس كرسي لدراسة النظام العالمي الجديد في جامعة باري University of Bari بإيطاليا حيث يُدرّس منهاج في الاقتصاد والأعمال مستوحى من مبادئ المنتدى، إذ سرعان ما انتقل هذا المنهاج إلى جامعات إيطالية أخرى. ويقدم المنتدى الآن برنامج شهادة ماجستير ومناهج دورات دراسيّة للصفوف ما قبل التخرّج.

منذ باكورة تأسيسه ركّز المنتدى أعماله على أوروبا الشرقيّة والوسطى، ودأب على المشاركة في إحياء المؤتمر السنوي حول أخلاقيات العمل الذي يعقد في بلغاريا والمساهمة مع جريدة الاقتصاد الألبانية Albanian Economic Tribune بطباعة سلسلة من سبع مقالات حول ريادة الأعمال.

كما يركّز المنتدى دائما على الشباب، فيقدّم لأصحاب المهن برامج توجيهيّة، ولطُلابه نصائح تساعدهم على اختيار المهن وترشدهم إلى ممارسة القيم والأخلاق في ميادين العمل. وهو في شراكة مع منظمة الأعمال الطلابيّة AIESEC, The Business Student Organization، ومؤسسة “جاد” وهما مؤسّستان طلابيّتان للأعمال، ويقدّم المنتدى محاضرين في مواضيع لها علاقة بالقيادة القائمة على القيم. (أنظر www.ebbf.org)

زراعة حدائق الخضار في منغوليا

بعد انهيار الدولة المركزيّة في منغوليا عام 1993م، تدنى مستوى غذاء السكان المحلّييّن لدرجة أنه تبيّن من تقرير التنمية الإنسانية في منغوليا، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للتطوّر UNDP عام 1997م، أن فقدان الخضار ساهم إلى حدّ كبير في نقصان الفيتامين، وأدّى إلى تفشّي “أمراض واضطرابات” لا يمكن تفادي الكثير منها، مما أعاق نموّ الأطفال. وما ساهم في تقلّص استهلاك الفاكهة تقلصًّا كبيرًا، إلغاء دعم الدولة لهذا النوع من الغذاء بعد انحلال النظام السوفيتي، ومدة فصل الزراعة القصيرة للغاية، واقتصار غذاء البدو على طعامهم التقليدي المؤلّف من اللحوم ومنتجات الألبان. نتيجة لهذا الوضع، انتاب الحكومة المنغوليّة قلقٌ شديدٌ للغاية دفعها إلى تأسيس برنامج على نطاق الدولة يرمي إلى زيادة إنتاج القمح ومحاصيل أخرى.

وفي الوقت نفسه قررت الجامعة البهائيّة، المؤسسة حديثًا في قرية أردنبولغان Erdenbulgan النائية في شمال منغوليا، أنها تودّ القيام بعمل جماعي لمساعدة القرية انطلاقا من الفكرة أنه أيًّا كان المشروع الذي يأخذونه على عاتقهم، يجب أن يخدم المجتمع ككل ويساهم في تحسين أوضاعه. بناء عليه درس البهائيون إمكانيات متعددة، وبنتيجة التشاور، تقرّر أن المباشرة بزراعة حديقة خاصة بجاليتهم لإنتاج الخضار الطازجة، رغم أنهم لم يأكلوها ولم يشاهدوها سابقًا، تُشكّل خطوة عمليّة معقولة تُلبّي أكثر مما هم بحاجة إليه. بعد حصولهم على الإذن من الحكومة المحلّية، وضعوا سياجًا حول قطعة أرض وطلبوا من بهائي مقيم بالقرب منهم أن يساعدهم بخبرته في الزراعة لأنهم عديمو الخبرة في إنتاج الخضار.

إندمجت الجالية في المشروع بكل طاقتها، حتى صغار السنّ ساعدوا بحراسة الحديقة 24 ساعة يوميًّا، وغالبًا ما ظلّوا يقظين طوال الليل في غرفة المعدات الزراعية في الحديقة. أنتجت الحديقة مئات الكيلوغرامات من الخضار غير المعروفة لدى السكان المحلّيين سابقًا، وقد طوّروا لها مذاقًا ووضعوا لها وصفاتهم الخاصة.

بالإضافة إلى المساهمة في تحسين الوضع الصحي للسكان المحلّيين، سرعان ما أصبح مشروع أردنبولغان نموذجًا مثاليًّا للمنطقة حيث أظهر عمليًّا كيفية القيام بنشاطات اجتماعية. يعتمد المشروع على المشورة للوصول إلى القرارات والقيام بأعمال جماعية، وهو يُشرك المجتمع بكامله كي يعمل متحدًا بمن فيه من أطفال وكبار السنّ. وقد أدّى المشروع أيضًا إلى تغيير جذري في نمط التفكير التقليدي. فقد كانت الحدائق الزراعيّة ممنوعة تحت النظام الشيوعي لأنها اعتُبرت مشاريع خاصة، وكان في اعتقاد الناس الذين ما اعتادوا تقليديًّا على أكل الخضار تحت أي ظرف، أنه من الصعب جدًّا زرع وتنمية الخضار في مناخ وتربة منغوليا. أثبت مشروع أردنبولغان أنه بالتصميم والالتزام واتحاد الناس بالعمل معًا، أصبحت زراعة الخضار ممكنة وفي سياق هذا الاختبار تعلموا أيضًا مهارات التنمية الاجتماعية التي يمكن اعتمادها في مشاريع أخرى.

مركز طاهرة للعدالة، الولايات المتحدة

Tahirih Justice Center, United States

تأسس مركز طاهرة للعدالة، وهو منظّمة تستوحي توجّهاتها من التعاليم البهائية، في واشنطن العاصمة عام 1997م بعد انتهاء قضية ذاع صيتها حول طلب لجوء إلى الولايات المتحدة (راجع كاسيندجا و ميلر بشير Kassindja and Miller Bashir، 1998). آنذاك، ربحت المحامية ليلي ميلر-مورو Layli Miller-Muro، المؤهلة في حينه لممارسة المحاماة، قضّية محورية لمصلحة امرأة هاربة من نظام يطبّق تشويه الأعضاء التناسليّة genital mutilation على النساء في بلادها. أدّت هذه القضية إلى تعديل القانون في الولايات المتحدة حتّى تتمكّن النساء اللواتي يواجهن الاضطهاد بسبب جنسهن من طلب اللجوء ودخول الولايات المتحدة. بعد هذه القضية، تزايد عدد النساء اللواتي طلبن النصيحة والمساعدة من السيدة ميلر إلى درجة أنها قررت إقامة منظمة لا تبتغي الربح، تستوحي مسار أنشطتها من التعاليم البهائيّة، لتلبية حاجاتهن. تقوم هذه المنظّمة على مبدأ بهائي أساسي وهو القناعة المطلقة بأن تَقَدُّمَ الحضارة يعتمد على تفعيل المساواة بين النساء والرجال.

سُمّي مركز العدالة باسم طاهرة، العالمة والشاعرة الإيرانيّة التي اشتهرت في القرن التاسع عشر والتي كانت من أبرز أتباع حضرة الباب، المبشر بحضرة بهاء الله. كانت من أوائل المدافعات ببطولة عن حقوق المرأة، وقد أُعدمت بسبب معتقداتها عام 1852م وهي تقول للجلاّد “يمكنك أن تقتلني متى تشاء ولكن لا يمكنك أن توْقف تحرّر المرأة”.[10]

تأسس مركز طاهرة للعدالة لحماية النساء من التعدّي على حقوقهن الإنسانية، مثل الاتّجار بالنساء، وتشويه أعضائهن التناسليّة، وهدفه تمكين النساء والفتيات اللواتي يواجهن العنف والاضطهاد بسبب الجنس، من اللجوء إلى العدالة. يُرافع المركز أمام القضاء ليحقق هدفه، ولكنه أيضًا يدافع ويؤيّد تبنّي توجّه متكامل holistic approach يشمل السياسة العامة، التربية، والنشاطات الممتدة في أكثر من اتجاه على أساس القناعة أن “التحرر من الاضطهاد في ظل القانون ما هو إلاّ خطوة أولى في مساعدة النساء لنيل العدالة والحياة الكريمة”. يقوم متطوّعون بالقسم الأكبر من العمل مجانًا. كانت أعمار غالبيّة المتطوّعين، في البداية، دون سنّ الثلاثين وكانوا يعملون في سلك القانون بدوام كامل.

يدرك مركز طاهرة للعدالة، كما ورد في التعاليم البهائية، أنه فقط عن طريق إجراء تغيير جذري في المجتمع – وفي هذه الحالة، تغيير في المجال القانوني – يمكن ضمان حماية النساء والفتيات من العنف وتأمين حقوقهن الإنسانية على الأمد الطويل. لذلك، يسعى مركز طاهرة للعدالة، بدفاعه عن المرأة إلى التأثير على صانعي القرار والتركيز على تغيير سياسة التشريع العامّ.

توفر برامج مركز طاهرة للعدالة متعددة الاتجاهات العلاج الطبّي للنساء، والعناية النفسيّة والخدمات الاجتماعيّة، وهو يستعين بأطبّاء صحّة، وأطبّاء نفسانيين، وعاملين في الخدمات الاجتماعية وكلّهم متطوّعون لهذه الخدمة. يُدرّب المعهد أيضا أفراد الشرطة، والعاملين في ملاجئ النساء، وعاملين اجتماعيين.

أطلق المركز عام 2002م “حملة للقضاء على الاستغلال الذي تمارسه مكاتب الزواج العالميّة” بعد الاكتشاف بأن تُجّار الزواج بواسطة البريد يزوّجون نساءً “تقليديّات” إلى رجال متعسفين. هدفت الحملة إلى سنّ قوانين لضبط هذه التجارة، وإجازة ملاحقة العاملين فيها، كما تفرض عليهم الكشف عن سجلّ الرجل الإجرامي وإبراز خلفيته لعروسه المحتملة فيما إذا كان متزوجًا أو مطلقًا. نجحت الحملة. وفي عام 2005 تمت المصادقة على قانون عالمي يفرض التدقيق في خلفيّة التأشيرة التي لها علاقة بزواج شخص مقيم من اجنبيّة (IMBRA) International Marriage Broker Regulation Act ولكن القانون لم يطبق تطبيقًا كاملاً، فوسّع مركز طاهرة للعدالة حملته الضاغطة حتى يتم تطبيق القانون بالكامل.

قدم المركز عام 2016 خدمات قانونيّة مجانية الى 1314 امرأة وفتاة من المهاجرات، والى 1202 من أعضاء عائلاتهنّ، وهيّأ تواصلاً بين 715 من المتعاملين وأفراد عائلاتهم مع مؤسسات تقدّم خدمات اجتماعيّة اساسيّة بما فيها ملاجئ للأحوال الطارئة والطعام والملابس والخدمات الصحيّة. هذا وقد استجاب مركز طاهرة منذ عام 1997، وبمساعدة مجانية من أكثر من ألفي اختصاصي ومتطوع ومؤازر، استجاب لنداء أكثر من اثنين وعشرين ألفًا من نساء وفتيات يتعرّضن للخطر. (www.tahirih.org)

أبرودبيت، تشاد

APRODEPIT, Chad

أحد أهم أسباب قلق السكان المقيمين على ضفاف نهر شاير Chari River جنوبي تشاد انخفاض كميّة السمك على مرّ السنوات. فبينما كان السمك متوفرًا بغزارة سابقًا، مع حلول القرن الجديد كاد ينقرض. وبما أن مستويات المياه في الأنهار والبحيرات كانت قد هبطت هبوطًا مثيرًا للقلق، فقد لجأ السكان المحلّيون إلى الممارسات المضرّة كصيد السمك بالديناميت. ومما ساهم في تفاقم المشكلة الصيد المفرط واستعمال الشباك ذات الفتحات الصغيرة. وقد برزت في الوقت ذاته، حاجة السكان الماسّة لتناول المزيد من البروتين. لمعالجة هذه المسائل، تأسست منظمة بهائية غير حكومية أبرودبيت APRODEPIT واسمها الكامل هو: Action pour la Promotion des Ressources des Organisations de Défense de l’Environnement et de la Pisciculture integrée au Tchad على نطاق الدولة، تستوحي توجّهاتها من التعاليم البهائيّة، وتهدف إلى ترويج ممارسات تنموية بيئيّة سليمة يقوم بها المجتمع. مؤسس المنظمة كوسي مالا Kosse Malla، وهو بهائي قرر أن يمارس عمليًّا إيمانه بأهمية خدمة الآخرين.

تعتمد أبرودبيت على المعلومات المتوفرة محلّيًا وعلى السكان المحلّيين أنفسهم لمعالجة المشكلة بدلاً من اللجوء إلى منظّمات خارجيّة مُكلفة. هدفها الأساسي هو أن تُبيّن للجاليات الأخرى كيف يمكنهم تنمية أنفسهم. إن نظرتها إلى التنمية مبنيّة على أسلوب التشاور البهائي، والإيمان بضرورة المساواة بين النساء والرجال، وأهمية العناية بالبيئة. تتأسس مجموعات محلّية في جاليات متعددة – وهي تقرر عادة أن تؤسس مجموعة للرجال وأخرى للنساء – وتتشاور هذه المجموعات حول ما تحتاجه، وبعد ذلك تحاول أبرودبيت أن تعالج تلك الحاجة بإعطاء الناس القدرة على حلّ مشاكلهم. فهي تُدَرّب السكان المحلّيين على أساليب الصيد المستدام، وإقامة أحواض لتربية السمك، وحفظ السمك لمدة طويلة بتدخينه وتمليحه. وتُروّج أيضًا لصناعة السماد الطبيعي من أوراق الشجر composting وزراعة الأشجار والشجيرات، وإعادة التحريج، وحماية الحيوانات البرّية. ومع ذلك تدرك أبرودبيت أنه توجد أمور مهمّة أخرى تقلق السكان المحلّيين. وهي تعتبر أن هذه المسائل كافة مترابطة وتتطلّب علاجًا شموليًا. لذلك فهي تساعد أيضًا السكان المحلّيين على تربية وتعليم أولادهم، وتعلّمهم كيفية مواجهة مشاكل صحيّة، وتعمل على محو الأمّية، خصوصًا بين النساء.

باتّباع أساليب المشاركة الموجودة في التعاليم البهائيّة ساعدت أبرودبيت 200 قرية تقريبًا في المنطقة وبضواحي العاصمة. فقد روّجت لاستحداث عدد من الممارسات الأساسية والبسيطة جدًا منها على سبيل المثال ما له علاقة بشباك الصيد. فنظرًا لتدنّي كميّة السمك، كان الصيّادون المحلّيون قد صنعوا شباكًا ذات فتحات صغيرة للغاية لصيد السمك الصغير غير مكتمل النموّ، وذلك لقلّة الأسماك الكبيرة، مما أدى إلى خفض المخزون أكثر مما كان عليه، ولم تُتّخذ أية إجراءات وقائيّة. لمعالجة هذا الوضع قرّرت مجموعة مؤلفة من 70 صيادًا في إحدى الجاليات، التخلّي عن استعمال الشباك ذات الفتحات الصغيرة واستبدلتها بشباك تقليدية ذات الفتحات الواسعة، وكانت النتيجة أن مخزون السمك بدأ يتزايد.

في ولتاما Waltama، وهي قرية لديها مجموعة للتشاور منذ عام 1995م، أسس القرويون نظامًا للصيد المستدام، افتتحوا مدرسة، أنشأوا مخزنًا للحبوب، وأوجدوا صفوفًا لمحو الأميّة بين النساء. وقد أدّت إحدى الأفكار التي نتجت عن مشاوراتهم إلى إنشاء محميّة لفرس النهر hippopotamuses. فقد اكتشفوا أن السمك يتواجد بأعداد أكثر حيث يعيش فرس النهر، لذلك قرّروا أن من المهم حمايتها. يقوم القرويون الآن بحراسة قسم محدد من النهر ويطردون الصيّادين السارقين. أدى هذا إلى زيادة عدد فرس النهر من اثنين عام 1995م إلى حوالي 200، وزاد عدد السمك، والسبب هو أن براز فرس النهر يجذب الحشرات الصغيرة التي تقتات عليها الأسماك.

تشير الحكومة إلى مجموعات التشاور في الجاليات على أنها نموذج لكيفية تحقيق التنمية المستدامة، مع التنويه بالفرق الكبير الحاصل عندما تُعتبر المعلومات المحلّية ذات قيمة، بدلاً من إهمالها أو إلغائها. كما لاحظ المسؤولون في الحكومة أن الناس يعملون بفعّاليّة أكبر عندما يجدون أنفسهم شركاء في وضع خطة للتطوير والإنماء وليسوا فقط مراقبين.

[1])   بهاء الله، منتخباتي…، فقرة 130

[2])   المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في المملكة المتحدة، 2002 (ترجمة مترجم الكتاب)

[3])   الجامعة البهائيّة العالميّة، ،Bahá’í International Community, 1996b (ترجمة مترجم الكتاب)

[4])   بيت العدل الاعظم، Universal House of Justice, 2002، (ترجمة مترجم الكتاب)

[5])   بهاء الله، مجموعة من الواح حضرة بهاء الله، الكلمات الفردوسيّة، الورق التاني، (مترجم).

[6])   بيت العدل الاعظم، Universal House of  Justice, 2002، (ترجمة مترجم الكتاب)

[7])   الجامعة البهائيّة العالميّة، Bahá’í International Community, 2001b، (ترجمة مترجم الكتاب)

[8])   شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1991، (ترجمة مترجم الكتاب)

[9])   Ocean of Light website، (ترجمة مترجم الكتاب)

[10])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1995, p. 75، (ترجمة مترجم الكتاب)

5 قضايا اجتماعيّة

تَفَضَّلَ سَيِّدُ الْوُجُودِ قَائِلاً: يَا أَبْنَاءَ الإنسان
إِنَّ دِينَ اللهِ وَمَذْهَبَهُ لأَجْلِ حِفْظِ الْعَالَمِ وَاتِّحَادِهِ وَاتِّفَاقِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَأُلْفَتِهِ.[1]

هدف الدين هو اكتساب الفضائل الممدوحة،
تحسين الأخلاق، تنمية الإنسانيّة روحانيًّا، توفير الحياة الحقيقيّة ومنح العنايات الإلهيّة.[2]

“أن اهتمّوا اهتمامًا عظيمًا بمقتضيات زمانكم وركّزوا مداولاتكم حول مطالبه وحاجاته الملحّة.”[3]

المُراد من الدين، كما يؤمن البهائيّون، هو أن يكون وسيلة لتحقيق هدفين، فهو من ناحية يحوّل ويطوّر ويهذّب الفرد روحانيًا، ومن ناحية أخرى يُصْلح ويُحَسّن ويرقّي الإنسانية ككل. وهذان الهدفان متداخلان. يعتقد البهائيون، أنه من جهة لا يمكن للأفراد الوصول إلى أسمى درجة من نموّهم الروحاني في جو معادٍ لهذا المسار، ومن جهة ثانية، يتمتع الفرد، المتطوّر روحانيًا حقًا، بقدرة تأثير بالغة على ترقية المجتمع. وبالمثل، يعتمد تقدّم المجتمع بأكمله على الترقّي الروحاني لأفراده، وأن الأفراد يترقّون روحانيًّا في المجتمعات التي تساند نموّهم الروحاني.

بناءً عليه، يعتبر البهائيون أن قَدَر ومصير الإنسانية مرتبط بمساعي الأفراد الروحانيّة وإنجازاتهم. أي أن خلاص الفرد مرتبط بخلاص العالم، ويتحمل الأفراد مسؤوليّة المساهمة في تقدّم العالم بالإضافة إلى ترقّي أنفسهم.

يتوقّع البهائيون، نشوء مجتمع عالمي غنّي بتنوّع مواطنيه، متّحد، مسالم، منصف ومزدهر، ويعملون على تحقيق ذلك. ويفترضون أن حكومة فدراليّة منتخبة ديمقراطيًّا ومرحليًّا على المستويات المحلّية، المركزية والعالمية، ستحكم العالم. وبعيدًا عن الحطّ من أهميّة الفرد في عالم متّحد كهذا، فهو سينال كل تقدير واحترام لعطاءاته الفريدة وستحفظ حقوقه، وسيتمكن كل إنسان من تنمية طاقاته روحانيًّا، فكريًّا وعاطفيًّا – إلى أسمى الدرجات.

إن سعي الأفراد والمجتمعات لتأسيس مثل هذا العالم يُمَكّنهم من اكتساب المواقف والمهارات والسلوكيات المطلوبة للعيش فيه. ومجرّد العمل مع الغير تجاه تحقيق هذا الهدف يمنح الناس البصيرة والقدرات التي ستفيدهم لاستدامة مثل هذا المجتمع. والجدير بالذكر أن هذه البصائر هي نفسها التي يحتاجها الفرد لنموّه الروحاني. من هنا نرى أن عُنصُري التطوّر اللازمين للإرتقاء الفردي، والتقدّم الجماعي، قد تداخلا أيضًا. لهذا السبب فإن الاعتقاد البهائي بأن الممارسات الشخصيّة مثل الدعاء والتعبّد، والتي هي مرتبطة بتحوّل حياة الفرد عن طريق تنمية الصفات الروحانيّة مثل المحبّة، الإنصاف، الصبر والانقطاع عمّا سوى الله، يجب أن تنعكس على تفاعل الفرد مع الآخرين وأنه، بالنهاية، على هذه الصفات أن تظهر أيضًا على صعيد كل من المجتمعات المحلّيّة والدولة والعالم.

وفي الوقت نفسه، يُدرك البهائيون وجود تفاعل عميق بين جوانب الحياة الماديّة والروحانيّة[4] وأن التقدّم في أبعاد الحضارة اجتماعيًا واقتصاديًا يعتمد على القيم التي يتأسس عليها. يُمكن توجيه هذه القيم نحو منفعة الآخرين، ومنها – الإنصاف، الصدق، الأمانة، وأمثالها – أو يمكن توجيهها نحو المصالح الشخصيّة الضيّقة المتمثلة بعبارة “أنا أوّلاً”، بما في ذلك تكديس الثروة الشخصيّة، وممارسة القوّة، والاندفاع بالطمع، وأمثال ذلك. من وجهة النظر البهائيّة، فإن “الروحانيّة تتقدّم على الماديّة”[5] ذلك يعني أن الأفراد يتنوّرون بالتعاليم الروحانيّة أولاً، وهي تُلهمهم وتُعطيهم القدرة لإحداث تغييرات ماديّة مفيدة في مجتمعاتهم. من نتائج هذا التوجّه اعتقاد البهائيين أنه لا يمكن حلّ المشاكل الاجتماعيّة التي تواجه العالم باللجوء فقط إلى الوسائل الاجتماعيّة والاقتصاديّة. على سبيل المثال، لا يمكن التغلب على التفاوت بين البلاد الغنيّة والفقيرة بإعادة توزيع الثروة، وتوفير مستوى أفضل من التعليم والتربية، ومعاملات تجاريّة أكثر إنصافًا، أو بإدارة الموارد الطبيعيّة بجدارة أرفع، رغم أن جميعها مرغوبة. المشاكل الاجتماعيّة التي تواجه العالم اليوم، كما يعتقد البهائيون، هي في أساسها مشاكل روحانيّة ولذلك فإن الحلول لها يجب أن تكون روحانيّة أيضًا. الطمع، البغض، التكبّر، الخداع، والاستخفاف بالآخرين تشكّل جميعها أساسًا لمشاكل العالم الاجتماعيّة، وهي بجوهرها مشاكل روحانيّة ولن تنجلي إلا بحلول روحانيّة.

إن الحلّ الروحاني الأساسي الواجب تطبيقه هو التوافق على مفهوم وحدة مَرتبةِ ومقام جميع الناس، والسلوكيات المنبثقة عن هذا المفهوم. إن الفكرة أن جميع الناس متساوون، صعبة الإدراك وتطبيقها صعب المنال. والسبب في هذا هو أن العالم قائم على مبدأ مخالف تمامًا – الناس ليسوا متساوين في المرتبة والمقام – وبالتالي تشكل الطبيعة الهرميّة للمجتمع الذي نعيش فيه أساسًا لمشاكل العالم الاجتماعيّة. تسيطر الهيكليّة الهرميّة على جميع جوانب حياتنا الإنسانية: الحكومة، الأعمال، غالبيّة المهن، عالم التربية والتعليم، حتى عالمنا الترفيهي، وغالبًا حياتنا العائليّة. عاش الناس، لأكثر من 6000 سنة، في أنظمة هرميّة مسيطرة، فتأصّل هذا المنحى بعمق في جزء من تفكيرنا. بكلام آخر، أصبح هذا التوجّه جزءًا من مفهومنا للحقيقة – أي أنّه من العادي والطبيعي أن نعيش في مجتمعات ذات هيكليّة هرميّة.

تعبّر القيم التي تدعم الهيكليّات الهرميّة عن طبيعة الطبقيّة، وهي طبيعة تسودها روح المنافسة إلى درجة عالية، فتُكافئ الرابحين والواصلين إلى القمّة، وأما الفاشلون، فلا يحصلون إلا على القليل أو لا شيء. تتصدّر القوّة، الثروة والانتصار، قمّة هذه القيم كونها أقصى مقياس للنجاح في هيكليات كهذه، بينما تُوجّه نظرات الازدراء تجاه الضعف، الفقر والفشل. يَستمع الناس إلى من يقبضون على زمام القوّة والثروة، فتُلبّى حاجاتهم، ويُسمح لهم أن يحققوا قُدراتهم الكامنة، وتُدَوّن أفعالهم في الجرائد والكتب. وأما الذين لا يمتلكون القوّة والثروة يتعرضون للإهمال، فلا تُلبّى حاجاتهم، ولا تُنمّى قدراتهم، ولا تُدوّن أفعالهم، بل تُنْسى. ويسود في العائلات التي تتمسك بمِثل هذا التوجّه مفهوم تفوّق الرجال وتظهر فيها طبقيّة ذكوريّة حيث يتخذ الأب جميع القرارات، ويطلب الطاعة الكاملة، ويُسيطر على مصادر العائلة. من هنا تشق هذه القيم طريقها إلى العالم وتظهر بمفهوم ‘الحق للقوّة’، ويسود الأقوياء، بينما يحيا الضعفاء، المرضى، المعاقون، والأقليات فقط لأجل تقديم العمالة، واستهلاك منتجات وخدمات المعامل والأعمال التي تخصّ الأغنياء والأقوياء. تُفرِز هذه المواقف والقيم على المسرح العالمي، نظامًا تُمْلي فيه الدول القويّة شروط التجارة، والنظام الاقتصادي، بأسلوب تُبقي فيه الدول الأكثر فقرًا فقيرة. فتؤدي هذه المواقف إلى وجود أنواع من الأعمال التجاريّة التي تتنافس تنافسًا شرسًا بغضّ النظر عن الثمن البشريّ أو البيئيّ، وإلى وجود حكومات همّها الوحيد البقاء في السلطة بدلاً من خدمة شعوبها، ومؤسسات تبدو أكثر اهتمامًا بتوسيع دورها وتحقيق الأهداف التي وضعتها إدارتها، من خدمة الشعب. ويؤدي هذا إلى قيام دول ومجتمعات تسيطر وتستبيح دولاً ومجتمعات أخرى مما يسبب الإحباط، والاستنكار والعصيان وحتى الإرهاب. وهذا يعني أنه في مجتمعات كهذه تبقى المرأة دائمًا في وضع سيّئ مسلوبة الحقوق بسبب وجودها في مجتمعات ذكوريّة، يسيطر فيها الذكور ضمن إطار هرمي. بالنهاية، تُفرز هذه القيم بيئة تُبرّر اضطهاد الأقليات والذين أوضاعهم سيّئة، وحتى إنها تبرّر العُنف في المنزل. تبقى هكذا مجتمعات – والعائلات – الهرميّة، غير مستقرة تتفجّر عواطفها وأوضاعها بسرعة، وهي أبعد ما تكون عن مجتمع رزين، إذ إنها مُتَقلّبة، كونها قائمة على علاقات غير طبيعيّة وظالمة مما يدفع الناس بالنهاية ليثوروا عليها بالغضب والتمرّد. فمن مواصفات الأنظمة الهرمية تأصل الإكراه وتجذّر القوّة في كيانها، ولجوئها إلى العنف إذا لزم الأمر للمحافظة على استمراريتها.

لأن هذه الهيكليات الهرميّة متأصّلة للغاية في أنماط تفكيرنا، تظهر وكأنها جزء من الواقع، ويخاف الناس من الفوضى التي قد تحدث فيما إذا تخلّوا عنها. يدّعي البعض أن من طبيعة البشر أن تسعى مجموعة للسيطرة على مجموعة أخرى، وأن تقع حروب، وأن توجد درجات قصوى من الفقر والغنى. وبشكل عام ترى المؤسسات التي تتولىّ إدارة شؤون الهيكليّات الهرميّة أنها عاجزة عن إصلاح أو تغيير الوضع بسبب عدم مقدرتها على رؤية البديل. ولكن هناك أسباب أخرى قد ظهرت خلال السنوات المئةَ الأخيرة وهي قيام حركات وعدت بإحداث انقلاب في المجتمع البشري، ولكنها أساسًا لم تغيّر شيئًا. الثورات الشيوعيّة المتعددة، مثلاً، وعدت بطرح نظام جديد أكثر عدالة وأكثر مساواة ولكنها انتهت بمجتمعات فيها نفس القدر من الهرميّة، وتمارس نفس المستوى من الاضطهاد على الذين هم في قاعدة الهرم الذي مارسته الأنظمة التي حلّت محلّها. ومن الأسباب الأخرى لعدم وجود أية حركة لإحداث تغيير، الطبيعة الهدّامة للقوّة بحد ذاتها. كيف يمكن لأحد التغلب على حكومة بهذه القوّة إلا بأن يصبح أكثر قوّة منها، بالتالي، تبقى القوّة دائمًا هي المحور المحرّك للمجتمع مهما كانت هويّة صاحب السلطة. فتُعبّر القوّة الهدّامة التي ذُكرت أعلاه عن مظاهر سلبيّة متأصّلة في هذه المجتمعات الهرميّة، ولا يمكن تفاديها.

من بين تعاليم حضرة بهاء الله التي تؤدي إلى إحداث تغيير جذري كبير دعوته لإنماء مجتمع على أسس جديدة لا تقوم هيكليّته على قاعدة القوّة ولا بنيته على نظام هرمي. انطلاقًا من المفهوم الشامل للوحدة، الذي يحيط بجميع جوانب الدين البهائي، يُصرّح حضرة بهاء الله أن مظهرًا من مظاهر هذه الوحدة هو أنه على الناس جميعًا أن ينظروا إلى أنفسهم على أنهم متساوون مع الآخرين، وليس لأحد أن يتكبّر على أي شخص آخر. إن التشبيه المذكور في الكتابات البهائيّة المقدّسة يرمز إلى مقوّمات الكائن الحيّ، حيث ورد أن الحيوان يمتلك أعضاءً مختلفة ولكنها جميعها ضروريّة ومُهمّة ليعمل بطريقة صحيحة. فالكبد هو بنفس أهميّة القلب أو الكليتين أو الجلد، حتى إن الدماغ لا يعمل من دون الكليتين أو الرئتين. فكلها مترابطة ويعتمد بعضها على بعض وكلها مهمّة؛ هناك اتحاد شامل للعمل مما يُمَكّن الكائن الحيّ من أن يكون موجودًا. ينطبق هذا التشبيه على كيان المجتمع، إذ إنه لا يوجد لأي جزء منه أو لأي فرد أهميّة أكثر من غيره.

يَعمل هذا الهيكل الاجتماعي غير الهرمي للبهائيين على جميع المستويات. فتبنى العلاقات في العائلة على أساس مبدأ مساواة النساء والرجال، ويُشجّع الوصول إلى القرارات بواسطة التشاور. وتكمُن القيادة والسلطة في المجتمع مع المؤسسات المنتخبة في أثناء قيامها بدورها كمؤسسة، ولكن ليس للأعضاء المنتخبين أي مقام أو سلطة، كما ليس للقيادة الفردية ضمن الجالية البهائيّة بذاتها من وجود. تُتّخذ القرارات بأسلوب التشاور الذي يعمل بطريقة تضمن لكل عضو من أعضاء المجتمع – النساء، الأقليات، الشباب، الفقراء، وجميع الذين لا صوت لهم في مجتمعنا اليوم – مجالاً للمساهمة في التشاور.

فعلاً، تتحول معاني بعض الكلمات التي تدفع إلى التنافس والتي تُعَبّر عن الصفة المميزة للمجتمعات الهرميّة، تتحوّل في الدين البهائي وتكتسب معاني مغايرة للغاية عن معناها الشائع حاليًّا. وعلى سبيل المثال، يكتب حضرة عبدالبهاء أنه بمفهوم الدين البهائي، فإن “النصرة” تعني “استسلام القلب وخضوعه”[6] وهو يستشهد بقول حضرة بهاء الله، “إذًا فليس معنى النصرة أن يظفر أحد بآخر اليوم في جدال أو جلاد، بل المراد هو فتح مدائن القلوب التي هي تحت سلطة النفس والهوى بسيف البيان والحكمة والتبيان”.[7] وبالمثل، فإن حضرة عبدالبهاء يغيّر مفهوم المنافسة من دورها المعهود في مجتمع ذكوري هرمي – وهو اكتساب القوّة – وبدلاً من ذلك يروّجها كمدخل في حقل الخدمة: “تنافسوا في خدمة الله ودينه. هذا ما ينفعكم حقا في هذا العالم والعالم الأخر”.[8] في تقدير حضرة عبدالبهاء، إن هدف الطموح الشخصي ومصدر المجد الأعظم لا ينتميان إلى من ينشد السلطة والنفوذ، بل مَنْ يتفوّق في خدمته من أجل “رفع شأن الإنسانية ورفاهها”[9] و”قضية الصلح الأعظم”.[10]

لذلك يعمل البهائيون بموجب الافتراض الأساسي وهو أنه لو كان لهذا الهيكل غير الهرمي للمجتمع أن يتحقق، ستُحَلّ كثير من المشاكل التي يواجهها العالم، منها: الحروب العنيفة التي تقع بسبب رغبة دولة ما في السيطرة على أخرى؛ والشروط التجاريّة والترتيبات المالية غير المنصفة التي تفرضها الدول الغنيّة على الفقيرة؛ والاستياء والمرارة الناتجان عن سيطرة مجموعة على أخرى، مما يؤدي إلى الإحباط، العنف والإرهاب؛ وتلوّث البيئة ووجود الظروف السيّئة للعمل بسبب المنافسة الشرسة، والرغبة في النجاح مهما كلّف الأمر. كما سيؤدي اعتماد الهيكل غير الهرمي إلى إنجاز تقدمٍ كبيرٍ باتجاه تحقيق بعض التعاليم البهائية الأساسية الأخرى، منها على سبيل المثال: إيجاد المساواة بين النساء والرجال؛ وتحرير المجتمع من الكثير من التعصّبات التي تَحطُّ من شأن مجموعات كثيرة وتعيق تطوّرها؛ كما أنها ستُقلّص من الفقر في المجتمع.

هذا المفهوم للتغييرات الجذريّة المطلوبة في المجتمع والقيم التي تدعمها هو بمثابة مصدر معلومات للمواقف البهائيّة بالنسبة لكثير من القضايا الاجتماعيّة التي تتصدّى لها الإنسانية. على سبيل المثال، من الواضح أن مجتمعًا مبنيًّا على مفهوم المساواة بين جميع الناس سيكون خاليًا من التمييز العنصري، والجنسي، والرهبة من الغرباء، والتعصّب الطبقي، والتعصّب الديني الأعمى، والتطرّف في الانتماء القومي، وكافة مواقف بغض الأجانب التي تُفرّق، والتي تنشأ نتيجة عدم الاعتراف بوحدة العالم الإنساني. وفي نفس الوقت يُدرك البهائيّون أن العالم الذي نعيش فيه لم يُحقق بعد هذه التغييرات في بنيته الأساسية ولذلك من الأهمية الحيويّة بمكان العمل الآن على إجراء تغيرات محددة. وبكلمات أخرى، تزامنًا مع تطوير القيم الروحانيّة التي ستُحدث هذه التغييرات، ومع انتشار التعاليم البهائيّة من اجل أن تتبنّاها أعداد كبيرة من الناس حتى يُلقوا بثقلهم دعمًا لإنجاز التغييرات المطلوبة، من الضروري العمل مع هيئات اجتماعيّة أخرى وحكومات لتحقيق تغييرٍ مرحليٍّ في هذا الاتجاه العامّ. لذلك يعمل البهائيون على النطاق العالمي بالشراكة مع مؤسسات كالأمم المتحدة ووكالاتها لتطوير إجراءات عمليّة لمحاربة العنصريّة، ويسعون للتأثير على مُشَرعي القوانين ليضمنوا أن مثل هذه الاجراءات تشتمل على القيم الروحانيّة والأخلاقية الضروريّة لتأتي الخطوات المتَّخَذة مؤثرة. وعلى المستوى المحلّي يتعاون البهائيون مع المنظمات غير الحكوميّة، والمجموعات العاملة فيما بين الأديان، والمنظمات النسائيّة وما إلى ذلك من العاملين في هذه القضايا، ويشاركون في مبادرات محلّية مثل أجندا 21 (Agenda 21) ومنتديات المساواة العرقيّة التي تُروّج وتنفّذ برامج تهدف إلى تغيير المواقف والهيكليّات الاجتماعيّة. وعلاوة على ذلك، يقدم البهائيون مجتمعاتهم كنماذج تُبيّن كيفية إحداث تغييرات في المجتمع. مثلاً، إن نتيجة تطبيق مبادئ وحدة العالم الإنساني ونبذ التعصّبات تظهر في المجتمع البهائي من ظاهرة كثرة التزاوج الذي يشمل الأصول العرقيّة والثقافيّة والجنسيّة والقوميّة والدينية، بينما تُقَدّم المشورة كأداة لصنع القرار إلى كل من العائلات والحكومات وأصحاب الأعمال على السواء.

إدراكًا منهم أن المسائل الاجتماعيّة متداخلة وأن التقدم في معالجتها يجب أن يبدأ من مكان ما، تُركَّز الجهود البهائيّة في الوقت الحاضر على أربعة قضايا عامة مترابطة هي: حقوق الإنسان، مكانة المرأة، ازدهار البشريّة، والترقي الأخلاقي.

حقوق الإنسان

سبق أن عُرضت الخطوط الرئيسيّة للموقف البهائي تجاه حقوق الإنسان منذ شباط 1947م عندما قدّمت الجامعة البهائيّة العالميّة “إعلانًا بهائيًا حول التزامات وحقوق الإنسان” إلى أول جلسة عقدتها لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في ليك سَاكْسس Lake Success في نيويورك. “إن مصدر حقوق الإنسان هو ما أنعمه الله على الإنسانيّة من صفات وفضائل وقوى دون تمييز بين الجنس والعرق والعقيدة أو القوميّة. إن هدف الوجود الإنساني هو تحقيق الإمكانيات الموجودة في هذا العطاء”. ولكن ممارسة هذه الحقوق تعتمد على وجود نظام اجتماعي تترأسه حكومة شرعيّة. لذلك، “فإن حقًا من حقوق الإنسان هو التعبير عن هبة إلهيّة مُنحت شرعيّة اجتماعيّة من قبل كيان ذي سيادة وتوجّه أخلاقي”.[11]

يدرك البهائيون أن توطيد حقوق الإنسان وممارستها بشكل كامل لا يتطلب إجراء عمل حكومي وتشريع دولي فحسب، بل هو بحاجة أيضا إلى بناء النوع الجديد من النظام الاجتماعي الذي طُرحت عناوينه العريضة أعلاه. وعلاوة على ذلك، فإن أساس حقوق الإنسان، بنهاية المطاف، هو اعتراف الأشخاص العاديين بحقيقة الوحدة الإنسانية. هذا يعني، من ناحية الفرد، التمسّك بحقوق أعضاء المجتمع الآخرين.

غالبًا ما تُوضع حقوق الإنسان، من المنظور العامّ، نظيرًا للعدالة الاجتماعيّة وحدها فقط. أي أنها تعني توسيع نطاق الفوائد الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي تنعم بها فئات معيّنة من المجتمع، لتشمل الأفراد والفئات الذين لا امتيازات لهم. وأما من المنظور البهائي، فإن مفهوم حقوق الإنسان له جذور وأسس أعمق عدا هذه المفاهيم، حيث تُشير التعاليم البهائيّة إلى مجال واسع تتعدد فيه أنواع حقوق الإنسان، وهي مترابطة بعضها مع بعض. وأهمّ هذه الحقوق، حق كل فرد في التحرّي عن الحقيقة لنفسه. والقناعة التي تدعم هذا التوجّه هي أن جميع الأفراد يتمتعون بالقدرة لأخذ مثل هذا البحث على عاتقهم. ولكن كي يمارس الناس هذا الحقّ عليهم بتحصيل العلم، من هنا، فإن حقّ الأطفال بالعلم متأصّل في التعاليم البهائيّة، كما هو حقّ كل إنسان الحصول على المعلومات. وما يتبع حقّ الفرد في تحرّي الحقيقة لنفسه، هو حقّه في حرّية التفكير وما يرادف ذلك من حريّة العقيدة، حيث تنبع منها حريّة الإيمان بما يختاره. وترتبط بهذه الحقوق حريّة التعبير عن الرأي وحريّة الحركة.

من وجهة نظر البهائيين، فإن منح “الحقوق” لا يعطي الفرد “الرخصة” تسمح بالانحراف. مثلاً، حقّ الفرد بحريّة العمل لا تعني حقه التطرف في ملاحقة مصالحه الشخصيّة مما يُقوّض المسؤولية الاجتماعيّة ويُعرّض مَصالح الآخرين للخطر. وبالمثل، حرّية الكلام والتفكير تتضمن المفهوم أن الفرد سيُعَبّر عن رأيه بأسلوب لائق. كما وتمتّع الفرد بحقوق الإنسان لا يعني أن المجتمع أو الحكومة ستمنح كل شخص الخدمات الاجتماعيّة كافة دون مقابل، إلا أنه على الأفراد أن يكونوا أهلاً للاعتماد على مجتمعهم وحكوماتهم لتوفر لهم محيطًا يعيشون فيه بأمان ويمارسون حقوقهم وامتيازاتهم بطريقة مسؤولة.

بما أن عالم الإنسان يشكّل وحدة لا تتجزأ، فكل فرد من أفراد الجنس البشري يوُلد في هذا العالم يعتبر أمانة في عنق الكل. تمثل هذه الأمانة الأساس الأخلاقي لغالبيّة الحقوق الأخرى – مبدئيًّا الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة – والتي بشكل مماثل تحاول أجهزة الأمم المتحدة أن تضع تعريفًا لها. إن سلامة الأسرة والبيت، وحقّ الملكيّة، وحقّ المحافظة على خصوصيات الفرد، كلها تتضمنها هذه الأمانة. فواجبات المجتمع يتسع مداها لتشمل التوظيف، العناية بسلامة العقل والجسد، الضمان الاجتماعي، تأمين رواتب منصفة، الراحة والترفيه، ومجموعة أخرى مقبولة ومنصفة مما يحق لأفراد المجتمع أن يتوقّعوه من مجتمعاتهم.[12]

يدرك البهائيون أن من العوائق الأساسية التي تقف في وجه حماية حقوق الإنسان، القناعة المنتشرة بشكل واسع لدى بعض الحكومات التي ترى أن ممارسة السلطة لصلاحياتها تسمح لها أن تمنع هذه الحقوق عن بعض أو جميع رعاياها. فموقف كهذا، بالنسبة للبهائيين، يعطي دفعًا متزايدًا لضرورة وضع الأسس لقيام حكومة عالميّة فدراليّة قادرة، بالإضافة إلى وظائف أخرى، أن تراقب امتداد حقوق الإنسان إلى جميع البشر.

أمّا بالنسبة للخطوات العمليّة التي هي قيد الإجراء، فإن الأفراد البهائيين والمجتمعات البهائيّة المحلّية والمركزيّة والعالميّة تنشط بفعاليّة في مجالات مثل: حقوق الإنسان في التربية والتعليم، برامج ضد العنصريّة، الحوار بين الأديان، والنشاطات التي ترفع من شأن المرأة. وبالإضافة، فإن تصرّف الأفراد البهائيين، وسلوكياتهم داخل أسَرِهم و أسلوب عمل الجامعة البهائية العالميّة بحدّ ذاتها هي طرق عمليّة يُظهِر فيها البهائيون وعيهم بالنسبة لحقوق الإنسان وسعيهم لنشرها وتحقيقها.

مكانة المرأة

ان التقرب الى الله لا يعتمد على الجنس بل على طهارة القلب ونورانيته. فالفضائل الإنسانية تتعلق بالجميع على السواء.[13]

إنّ العالم الإنسانيّ كالطّير يحتاج إلى جناحين أحدهما الإناث والآخر الذّكور ولا يستطيع الطّير أن يطير بجناح واحد وأيّ نقص في أحد الجناحين يكون وبالاً على الجناح الآخر[14] وما لم يتساوَ عالم النساء مع عالم الرجال في تحصيل الفضائل والكمالات، فإن الوصول إلى ذاك المستوى المبتغى من الفلاح والنجاح يكون أمرًا ممتنعًا ومحالاً.[15]

ليس فقط من الواجب امتداد حقوق الإنسان لتشمل المرأة، وإنما من المقوّمات الأساسية لازدهار البشريّة هو تقدّم المرأة. وعلاوة على ذلك، يعتقد البهائيون أن سلام العالم بحدّ ذاته يعتمد على إدراك عميق للمساواة بين النساء والرجال وعلى تطبيق هذا الإدراك على التفاعلات الإجتماعيّة كافة.

إِنَّ قضية تحرير المرأة، أي تحقيق المُساواة الكاملة بين الجنسَيْن، هي مطلبٌ مُهِمٌّ من مُتطلبات السلام، رغم أَنَّ الاعتراف بحقيقة ذلك لا يزال على نطاقٍ ضيِّق. إنَّ إنكار مثل هذه المساواة يُنزل الظلم بنصف سكان العالم، ويُنمِّي في الرجل اتِّجاهات وعادات مؤذية تنتقل من محيط العائلة إلى محيط العمل، وإلى محيط الحياة السياسية، وفي نهاية الأَمر إلى ميدان العلاقات الدولية. فليس هناك أي أَساسٍ خُلُقِيّ أو عمليّ أو بيولوجيّ يمكن أن يبرّر مثل هذا الإنكار، ولن يستقرّ المناخ الخلقي والنفسي الذي سوف يتسنَّى للسلام العالمي النُّموُّ فيه، إلاّ عندما تَدْخُل المرأة بكل تَرحاب إلى سائر ميادين النشاط الإنساني كشريكةٍ كاملةٍ للرجل.[16]

في الخطب التي ألقاها في أثناء أسفاره في أمريكا الشماليّة عام 1912م، شدّد حضرة عبدالبهاء على دور المرأة في تأسيس السلام العالمي. وكانت النساء الأمريكيات آنذاك يسعين للحصول على حقّ المشاركة في الانتخابات، فربط حضرة عبدالبهاء بين حصول المرأة على حقّ الانتخاب والسلام العالمي قائلاً إن: “السلام العالمي مستحيل ما لم يحصل الجميع على حقّهم الانتخابي”،[17] وتابع قائلاً: “وهكذا سيكون، فعندما تشارك النساء بشكل كامل ومتساو في شؤون العالم، ويدخلن بثقة وقدرة مسرح تشريع القوانين والسياسة العظيم، ستتوقف الحروب لأن المرأة ستكون عائقًا أمام إشعالها”.[18] على هذا الأساس ينتظر البهائيون أن تتحمّل المرأة مسؤوليات مدنيّة بالإضافة إلى تلك التي تركّز على المنزل.

إن المنزل هو الذي يعلّم، في البداية، القيم، المواقف، السلوكيات والممارسات التي تُمكّن الفتيات والنساء من تحمّل المسؤوليات داخل البيت وخارجه. إن الاحترام الذي تعامل به النساء، ومعاملتهن بالمساواة، هما من الأسس التي تُعطيهن القدرات، بينما مشاركتهن بالتشاور ضمن محيط البيت يعطيهنّ مهارة بإمكانهنّ نقلها إلى مجال العمل والميدان السياسي. تُقَدّم المجتمعات البهائيّة للنساء فرصًا إضافيّة ليتقدمن ويستعملن طاقاتهنّ، مثلاً، كمشاركات في صناعة القرار داخل المؤسسات المنتخبة التي يخدمن فيها، وكمستشارات في الهيئات المعيّنة، وكمدرّبات لمنسّقي المعهد التدريبي وكمبلّغات الدين البهائي للآخرين.

يعتبر البهائيّون أن للنساء دورًا أساسيًّا في الكثير من أعمال ونشاطات المجتمع ويتوقعون منهن أن يكنّ لاعبات أساسيات في مجالات مثل الفنون، والعلوم وعلى الأخصّ في علوم الصناعة والزراعة، والصحّة وترويج الممارسات الصحيّة. وعلى سبيل المثال، بالنظر لدورهن في تقديم العناية الأولى للأطفال وكبار السنّ والعجزة، لا يقتصر دور النساء على كونه أساسيًّا في المحافظة على صحّة أفراد عائلاتهن فحسب، بل لا يمكن الاستغناء عن معلوماتهن في الكثير من المجتمعات حول العالم لتأمين صحّة المجتمع العامّ. ولكن بسبب تهميش دور النساء في مجتمعات كثيرة، أو إبقائهن في المنزل، نادرًا ما يعطى أي اعتبار لحكمتهن ومهارتهن، ولا يطلب منهن بشكل عامّ المشاركة في صناعة القرار الذي يرسم السياسة المتبعة في تلك المناطق.

يسعى البهائيون إلى ترويج توجّه هو عكس التوجّه السابق ذكره، أي إلى رفع مكانة النساء حتى يتمكّن المجتمع ككلّ من الإفادة من بصيرتهنَّ ومهارتهنَّ، ولتوفير الفرص لهنّ ليتقدّمن. لذلك، ومن أجل تمكين المرأة على تحمّل مهمّات على نطاق أوسع، والتأكد من أنها تنجز بطريقة مسؤولة، يَحُثّ البهائيون الحكومات على إعطاء أعلى درجة من الأهميّة لتربية وتعليم الفتيات والنساء. يعطي البهائيون أنفسهم الأولوية لتربية وتعليم الفتيات على الفتيان، عندما لا يتمكنون من تربية وتعليم جميع أولادهم. يدرك البهائيون أنه يجب تنظيم التربية والتعليم والتدريب المهني والاحتراف بطريقة تمكّن المزيد من الفتيات والنساء من الاستفادة منها. وتركّز عدة مشاريع إنماء وتطوير بهائيّة على تأهيل النساء كمعلمات، وكمقدّمات للعناية الصحيّة الأوليّة، وكأخصائيات في حقل التغذية. مثلاً أسّس البهائيّون منهاجًا نموذجيًا لتدريب متطوّعين عاملين في مجال الصحّة في المجتمع، والمنهاج قيد الإعداد ليتم تطبيقه حول العالم. وبهذا الصدد، تروّج مؤسسات تستوحي مسارها من التعاليم البهائيّة Bahá’í-inspired organizations مثل التجارة الأخلاقية تبني المستقبل Ethical Business Building the Future لإقامة شراكة بين النساء والرجال في نطاق العمل، وتطرح برامج تمكّن النساء من القيام بريادة الأعمال.

وعلى المستوى العالمي، شارك البهائيون منذ زمن بعيد بمؤتمرات القمّة والمؤتمرات الأخرى التي تنظمها الأمم المتحدة عن مكانة المرأة، وقدموا دراسات قيّمة لمداولاتها. وبالإضافة إلى ذلك، يوجه البهائيون في مؤتمرات الأمم المتحدة التي تركز على مواضيع أخرى مثل حقوق الإنسان، الصحّة والتطوّر الاجتماعي، اهتمامًا خاصًا في الأوراق التي يقدمونها إلى دور وحاجات المرأة. وعلى الأخص، ساهم البهائيون بشكل لافت في المداولات الخاصة بتربية الفتيات، مع الإشارة مرارًا إلى أنه، “ليس فقط على الفتيات في طفولتهن أن ينلن الغذاء الملائم، والعناية الصحيّة، والتربية والتعليم بل وأيضًا يجب إعطاؤهنّ كل الفرص الممكنة ليُظهرنّ طاقاتهن. إن النساء، مع حصولهنّ على التربية والتعليم ودخولهنّ في مجالات المساعي الإنسانية كافة، سيساهمن بعطاءات فريدة من نوعها لخلق نظام عالمي عادل”.[19]

إزدهار العالم الإنساني

إن التحدّيات التي تواجه الإنسانيّة معقّدة ومترابطة. ولا يقلّل البهائيون من شأن المجهود الجماعي والفردي المطلوب إذا كانت لهذه التحديات أن تواجه بشكل فعّال. نشأ الكثير من هذه التحديات لأن المجتمع العالمي فشل في الوصول إلى سلام عالمي دائم من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنه لم يعترف بوحدة العالم الإنساني مما يمَكّن ذلك السلام من أن يتأسس. لذلك، مع إيمان البهائيين أن “…السلام العالمي ليس ممكنًا وحسب، بل إِنّه أمر لا بدَّ أن يتحقق”،[20] يتفضّل حضرة بهاء الله قائلاً: “لا يمكن تحقيق إصلاح العالم وراحة الأمم إلاّ بالاتّحاد والاتّفاق”.[21]

إن الفشل في معالجة القضايا التي تواجه البشريّة يؤدي ليس إلى مآسي إنسانية مثل الفقر، والمجاعة والمرض وبالنهاية إلى موت ألوف بل وملايين الناس فحسب، بل سيؤدي أيضا إلى تحويل هذه المآسي إلى بؤر تُفرز العُنصريّة، الاضطراب الاجتماعي، العنف، الإرهاب والحرب، مما يساهم في المزيد من الفقر والمجاعة والمرض والموت. لا يمكن، بنظر البهائيين، كسر هذه الحلقة بمعالجة كل قضيّة بمفردها، رغم الأهمية الملحّة لذلك. إن المطلوب هو عمل جماعي تتخذه حكومة فدراليّة عالميّة. ولكن، إدراكًا منهم أنه يجب القيام بالعمل المترافق مع السعي لإقامة مثل هذه الحكومة، يدعم البهائيون بشدّة برامج التنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة، واستئصال الفقر، والترابط الاجتماعي، وترويج نشر مبادئ الصحّة والسلامة، والتربية والتعليم، والشؤون الاجتماعيّة. يوجد الآن أكثر من ألفي منظمة ومشروع بهائي تستوحي مسارها من التعاليم البهائيّة Bahá’í-inspired projects من أجل معالجة هذه القضايا.

يُدرك البهائيّون أن الفقر هو من أكثر المشاكل التي تواجه الإنسانية تعقيدًا في القرن الحادي والعشرين. ويحتلّ موضوع استئصال الفقر مكانة عالية على جدول أعمال المجتمع الدولي، ولكن الجهود المبذولة للتعامل معه بفعاليّة لم تنجح نجاحًا باهرًا بعد. والسبب في ذلك، بنظر البهائيين، هو الإخفاق في معالجة المشكل الأساسي الناتج عن عدم اتحاد العالم، والعجز عن توجيه الموارد إلى الأماكن التي هي بأقصى حاجة إليها، لأن الهيكلية السياسية العالميّة التي يمكنها القيام بذلك ليست موجودة في الوقت الحاضر. وعلاوة على ذلك، كل من الجهتين المانحة للمساعدة والمستلمة، لديها تحفظات على أخلاقيات وأمانة الطرف الأخر، وقد أدّت حالات الفساد إلى تعكير العلاقات وتقويض الثقة بينهما. أصبح من الواضح أن تقديم “المعونة” وإعادة البنية الاقتصاديّة، وحتى إلغاء الديون، ما هي إلا حلول قصيرة الأمد، وفي بعض الأحيان قد تؤدي إلى تفاقم المشكلة عوضًا عن حلّها. يعتقد البهائيون أن العمل على عدة جبهات في آن واحد – بما فيه تربية وتعليم النساء، تطوير القيادة الأخلاقية، خلق فرص للعمل، توعية الشباب على قدراتهم، والمشاركة الطوعيّة، بالإضافة إلى المساعي لتأسيس بنية الحكم العالمي – كلها ضروريّة لمعالجة هذه المشكلة الشائكة.

البيئة هي من القضايا الاجتماعية الأخرى التي تحتاج إلى انتباه عاجل. إن الانحطاط في مستوى البيئة، التغيير في المناخ، الاستثمار غير المنضبط واستنزاف مصادر الكرة الأرضيّة مواضيع تحوز على انتباه أناس كثيرين، ومنظّمات غير حكوميّة، ومؤسسات تجاريّة، وأيضًا على اهتمام حكومات ومنظمات دوليّة مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. قد يقلق الناس ما تؤول إليه أوضاع البيئة ولكنهم يشعرون بالعجز حيال عمل أي شيء مجدٍ. ورغم أنه بالحقيقة تقع مسؤولية معالجة الكثير من المسائل البيئيّة على كاهل الحكومات، ومؤسسات تجاريّة، ومنظّمات عالميّة تعمل معًا، يعتقد البهائيّون أن الأفراد يتحمّلون بعض المسؤوليّة ولهم دور مهمّ ليؤدّوه. فالأفراد هم الذين بإمكانهم أن يُنمّوا في نفوسهم ونفوس عائلاتهم القيم الروحانيّة والبصيرة الموجودة في التعاليم البهائيّة التي تلقي الضوء على علاقة الإنسانية بالطبيعة.

ليست نظرة البهائيين تجاه الطبيعة نظرة عاطفيّة، ذلك لأنّهم يعتقدون أن الطبيعة تعكس القدرة الإلهية. لذلك، يخصُّ الدين البهائي كل مظاهر الحياة بالإجلال، وينظر البهائيون إلى الطبيعة بغاية الاحترام. علّم حضرة بهاء الله أن الطبيعة في جوهرها تمجد اسم الله، “وَهِيَ الإِرَادَةُ وَظُهُورُهَا فِي رُتْبَةِ الإِمْكَانِ” وحثّ أتباعه قائلا “فَانْظُرِ الْعَالَم وَتَفَكَّرْ فِيهِ” لأن ذلك يُمَكّن العالم من أن “يُرِيكَ كِتَابَ نَفْسِهِ وَمَا سُطِّرَ فِيهِ وَيُخْبِرُكَ بِمَا فِيهِ وَعَلَيْهِ” وأن “َيُفْصِحُ لَكَ عَلَى شَأْنٍ يُغْنِيكَ عَنْ كُلِّ مُبَيِّنٍ فَصِيحٍ”.[22] من هنا يستطيع الأفراد أن يُطوّروا مفهومًا عن عالم الطبيعة كنظام موحّد وأن يُنمّوا تقديرًا عميقًا للعلاقة فيما بين البيئة والبشر. وعلى المستوى العملي، يمكن للأفراد أن يتفحصوا قِيَمِهم ونمط حياتهم الذي انبثق منها، ومن ثم أن يحدّدوا أين يمكن إدخال التعديل عليها. على سبيل المثال، يمكنهم اتخاذ خطوات متواضعة كأن يسعوا للإفادة من تدوير المواد (recycling) أو يقوموا بتحويل نفاياتهم إلى سماد (composting)، ويخففوا من استعمال سياراتهم، ويطفئوا الأضواء غير الضرورية. ويمكنهم أن يعدّلوا تقييمهم للأمور الماديّة والراحة الجسديّة ووسائلها، ويغيّروا أنماط استهلاكهم للمواد. وقد تبدو هذه الإجراءات على أنها جهود صغيرة للغاية ليست ذات أهمية تذكر بالنسبة للتعامل مع المشاكل البيئية الكبيرة، ومع ذلك، فهي تُظهر العلاقة بين القيم والتطبيق، وتبيّن نوعيّة التصرف الفردي الذي سيروّج تطوير مجتمع أكثر استدامة.

تشكّل الزراعة وإنتاج الغذاء بوجه عامّ قضايا اجتماعيّة مرادفة لموضوع البيئة. وهي ليست مرتبطة بأوضاع بيئية مقلقة فحسب، بل ولها علاقة بأمور صحيّة في اتجاهات متعددة، امتدادًا من أخطار المبيدات والمواد الملوّثة للطعام وصولاً إلى اختيار أنواع الأغذية غير الصحيّة، والتي تؤدي إلى البدانة خصوصًا لدى الأطفال. إن عددًا كبيرًا من البلدان الغربيّة قلّلت من أهمية الاعتناء بالزراعة أو أنها عرقلت إنتاج بعض المحاصيل الزراعية، علمًا بأن حضرة بهاء الله أنذر ونبّه إلى ضرورة “الإعْتِنَاءُ الْكَامِلُ بِأَمْرِ الزِّرَاعَةِ“[23] مشددًا على أنها “سَبَبُ رُقِيِّ الْعِبَادِ وَعَمَارِ الْبِلاَدِ”.[24] وقد سمّى حضرة عبدالبهاء الزراعة و”حراثة الأرض الأساس الأول للمجتمع”،[25] وطرح الخطوط العريضة لكيفيّة عمل مخزن للقرية والمخزن المرادف له في المدينة.[26] لذلك وعلى النطاق العالمي، يساند البهائيون استراتيجيّة الأمم المتحدة لتحسين مستوى تطوّر الزراعة وزيادة تأمين الغذاء. على سبيل المثال، عقدت الجامعة البهائيّة العالميّة مؤتمر “المدافعون عن سلامة الطعام الإفريقي: تخفيف أعباء النساء“ Advocates for African Food Security: Lessening the Burden for Women وهو ائتلاف منظّمات غير حكوميّة. يطلب من البهائيين على النطاق الفردي، أن يدعموا “تطوّر الزراعة”[27] بينما على المحافل الروحانيّة المحلّية أن “ينمّوا تطبيق المقاييس الزراعيّة الصحيحة ومهارات أخرى في حياة الناس” بواسطة التشاور وتطبيق “مبادئ بهائيّة مثل توافق العلم والدين، أهميّة التربية، وأن العمل هو شكل من أشكال العبادة”.[28]

ومن المواضيع التي لها علاقة بالطبيعة، حقوق الحيوان. فمن العقائد الأساسية للدين البهائي وجوب إظهار العطف والرأفة تجاه الحيوانات. من واجب البهائيين أن “يظهروا منتهى المحبّة والشفقة لكل كائن حيّ”، “وكلما زاد ذلك كان أفضل”، ولأن الحيوانات لا تستطيع أن تحتجّ على القساوة في معاملتها، تفضّل حضرة عبدالبهاء قائلاً: “لذلك من الضروري أن تُظهر منتهى الاعتبار تجاه الحيوان، حتى إن عليك أن تعامله بدرجة من الحنان واللطافة أكثر مما تعامل أخاك الإنسان“.[29] يجب أن يُكرّس جزء من المسعى في تربية وتعليم الأطفال لتثقيفهم على المعاملة الحسنة والصحيحة تجاه الحيوان.

ربّوا أطفالكم منذ صغر سنّهم بحيث يعاملون الحيوان بمنتهى الرأفة والرحمة، فيسعون في شفائه إذا كان مريضًا، ويطعمونه إذا كان جائعًا، ويروون ظمأه إذا كان عطشانًا، ويعملون على راحته إن كان تعبًا.[30]

يُسمح للبهائيين أن يمارسوا الصيد لأجل الطعام على ألاّ “يُسرفوا في ذلك”،[31] ومن المتوقّع أن يصبح الناس نباتيين في المستقبل. وأما بالنسبة لاستعمال الحيوانات للأبحاث، فقد أكد حضرة عبدالبهاء في رسالة له على ضرورة الرأفة بالحيوانات، وأوضح أنه “يمكن إجراء عمليّة جراحيّة على حيوان حيّ بهدف البحث العلمي حتى ولو قُتل الحيوان نتيجة ذلك، ولكن يجب تخدير الحيوان بطريقة جيّدة وممارسة أقصى درجات الانتباه حتى لا يتعذّب”،[32] وعلاوة على ذلك، وفي الوقت الحاضر، يُترك القرار في هذا الموضوع إلى ضمير الأفراد ليتوصلوا إليه على ضوء التعاليم البهائيّة العامة حول حُسن العناية والتصرّف مع الحيوان. (يجوز لبيت العدل الأعظم أن يُشَرّع مستقبلاً حول مسائل أخلاقيّة لم يرد ذكرها صراحة في الكتابات البهائيّة).

يجب أن يُنظر إلى هذه الاعتبارات في ضوء التعاليم البهائيّة حول الصحّة والاستشفاء، وتأمين العناية الصحيّة، وممارسة الأخلاق المهنيّة في مهنة الطب، وجميع القضايا الأساسية التي تواجه الإنسانية اليوم. إن التعاليم البهائيّة حول الصحّة متداخلة مع وجهة النظر البهائيّة بأن طبيعة الإنسان روحانيّة في جوهرها. لذلك، تعتبر الصحّة بنظر البهائيين، أكثر من مجرّد غياب المرض، وهم يدركون أن ليس للصحة جوانب بدنيّة وفكريّة واجتماعيّة فحسب، بل ولها أيضًا أبعاد روحانيّة. يُنظَر إلى الجسد الظاهري بأنه “عرش للجسد الباطني”،[33] ويجب إبقاؤه معافىً ويجب حمايته. ويتضمن هذا ليس فقط كيفيّة تعاطي الفرد مع جسده من ناحية الغذاء والرياضة والامتناع عن المخدّرات والكحول والممارسات المؤذية والمُهينة، ولكنه يعتبر أيضًا من مسؤوليّات الحكومة والمؤسسات الاجتماعيّة توفير وسائل الوصول إلى العناية الصحيّة وتَرويج ما يؤدي إلى المحافظة على الصحّة. ولهذا التوجّه أثره أيضًا على الأدوار التي يقوم بها المتخصّصون في حقل الصحّة، والمجتمعات والعائلات، والنساء في قيامهن بالعناية الصحيّة الأولية للمحافظة على صحّة العائلة والمجتمع. وعليه، تكون الصحّة، من ناحية، مسألة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار كل مستوى من مستويات المجتمع، ومن ناحية أخرى، هي بنفسها تؤثر على كل مستوى
من مستوياته.

يساند البهائيون مجهودات الأمم المتحدة ومساعي حكوماتهم بغية تأمين حصول جميع الناس على الخدمات الصحّية والأدوية المناسبة، وتُقدّم مجتمعات ومؤسسات بهائيّة عديدة خدمات مرتبطة بالصحّة كمشاريع تنمويّة اجتماعيّة. يركز الكثير من هذه المشاريع على التربية والتعليم، خصوصًا تربية وتعليم النساء كونهن يشكّلن الخط الأمامي لتقديم الغذاء السليم، والممارسات الحياتيّة الصحيّة، والعناية الصحيّة لعائلاتهنَّ ومجتمعاتهنَ. وعلاوة على ذلك، يسعى البهائيون إلى نقل الأشخاص العاديين، وخصوصًا النساء، من المشاركة الهامشية في صنع القرار حول الأمور الصحيّة إلى المشاركة الفعّالة، وذلك بمساعدتهنّ على امتلاك مهارات مثل مهارة التشاور التي تمكّن الناس من المساهمة في اتخاذ القرارات حول مسائل تؤثر على حياتهم بهذه الدرجة من العمق. ويدرك البهائيون في الوقت نفسه أن مقدرة الحكومات على تقديم خدمات صحيّة ملائمة تعتمد إلى حدّ كبير على كل المسائل التي تحيط بالفقر والتنمية، والتي، بنهاية المطاف، يمكن لحكومة عالميّة أن تعالجها معالجة شموليّة على أحسن وجه.

من المواضيع الصحيّة التي أثارها البهائيون في بيانات لدى حكوماتهم أو لدى الأمم المتحدة، تشويه أعضاء النساء التناسليّة genital mutilation، ومرض نقص المناعة المُكتسَبة HIV/AIDS، والموضوعان بنظر البهائيين يتّسمان بالتعقيد وقد برزا لأسباب منها عدم المساواة المزمن بين الجنسين، وتقبل الثقافات لممارسة عدم المساواة في المجتمع. إن الحلول للمسألتين معقّدة أيضًا، ويصعب تحديدها. يعمل البهائيون بنشاط مع منظّمات ووكالات أخرى لترويج العمل على الحدّ من ختان النساء، ويدركون أن التقدّم في الطبّ والوصول إلى أدوية ملائمة ضروري للسيطرة على مرض نقص المناعة واستئصاله تمامًا بنهاية المطاف. بينما تدعوا إلى اتخاذ خطوات فوريّة وعمليّة لتقليص الآفتين، يجب تفعيل حلول طويلة الأمد أيضًا، وعلى الأخص في التربية والتعليم، من شأنها أن تغيّر المواقف وتؤدي إلى التصرّف بمزيد من المسؤولية في السلوكيات الجنسيّة. لدى البهائيين القناعة أن “التحوّل الروحاني هو السبيل الوحيد الذي بإمكانه دفع الرجال – والنساء – إلى التخلّي عن التصرّفات” التي تساهم في استمرار انتشار مرض نقص المناعة المُكتسَبة.[34] وفي الوقت نفسه، طلب البهائيون من قادة الأديان والشعوب من جميع الأديان أن يعاملوا أولئك المصابين بالإيدز باللطف وأن يمارسوا قيادة تتّسم بالأخلاقيّة وذلك بالتخلّي عن مواقف الإدانة وأن يوجدوا جوًّا من المحبّة والتفهّم.

أدى التقّدم في مجالات العلوم خلال السنوات الأخيرة إلى نشوء عدد كبير من المسائل الأخلاقية التي أبرزتها وسائل الإعلام، وشكّلت تحدّيًا للأفراد والحكومات، منها على سبيل المثال، التعديل الجيني للغذاء بواسطة الأشعة، والهندسة الجينيّة، والغربلة الجينيّة، والاستنساخ، والأبحاث في جذور الخلايا، والموت الرحيم. يدرك البهائيون أن هذه المواضيع وغيرها معقدة ولديهم القناعة انه “يمكن الوصول إلى الرأي السليم حولها بعدما تتقدّم المفاهيم العلمية أكثر بكثير مما هي عليه حاليًّا وتصبح الضرورات الاجتماعيّة أكثر وضوحًا”. لذلك فالبهائيون [في الوقت الحاضر] “أحرار في الوصول إلى استنتاجاتهم الخاصة على أساس معلوماتهم عن التعاليم البهائيّة حول طبيعة الحياة وغايتها”. وبالإضافة إلى ذلك يُطلب من البهائييّن على ألاّ يُدلوا بتصريحات جازمة عن هذه القضايا وألاّ يَعرضوا آراءهم الشخصيّة على أنها تعاليم
الدين البهائي.[35]

وفي نفس الوقت، يعي البهائيون وعيًا تامًا الأخطار الأخلاقيّة والمجازفات الصحيّة الناتجة عن تعاطي المخدّرات والمتاجرة بها، وما تُفرزه من إجرام. يُعَرِّض أشخاص من كل الخلفيات نفوسهم لمضارّ المخدّرات والكحول لأسباب متعددة انطلاقًا من الرغبة في اللذة والترفيه ووصولاً إلى الفضول والبحث عن سبل لمعالجة الضغوط النفسيّة والأحزان الشخصية. وقد زاد استعمال المخدّرات والكحول خلال السنوات الأخيرة زيادة ملحوظة حتى وصل إلى مستوى الوباء في بعض مناطق في العالم، مما أثّر على المراهقين والأولاد – وهم الهدف الأكثر عُرضةً لتجّار المواد المضرّة. يرى البهائيون أن العائلات والمدارس والمؤسسات الدينيّة ووسائل الإعلام والمجتمعات يشكلون خط الدفاع الأول ضد زيادة استعمال هذه المواد. عليهم أن يكونوا المثال الصالح وأن يُظهروا التصرف النموذجي، وأن يطرحوا نوعًا من التربية والتعليم يُمَكّن الناس من النموّ روحانيًّا مما يساعدهم على تبنّي مواقف إيجابيّة تجاه أنفسهم والآخرين ومحيطهم. وفي الوقت نفسه، يعتقد البهائيون أن على السلطات والمسؤولين عن تطبيق القانون أن يضاعفوا من مساعيهم لتخفيض إمدادات المخدّرات وإيجاد سبل تُمَكّن المدمنين وكذلك مسبّبي هذا الفساد من معالجة إدمانهم. وعلى النطاق العالمي، من واجب الحكومات أن تعمل معًا على كبح جماح إنتاج المخدّرات والمتاجرة بها. إن العائلات والمجتمعات البهائيّة تسعى جاهدة لمواجهة هذه المسألة عن طريق برامج تربويّة ترعى تطوير مواقف وسلوكيات روحانيّة عبر امتناعهم عن استعمال الكحول والمخدّرات ليغدوا مثالاً يحتذى به.

يتخذ البهائيون موقفًا مماثلاً تجاه المتاجرة بالبشر. في كتابه الأقدس، حرّم حضرة بهاء الله الرق والاستعباد[36] وفي رسالة وجّهها إلى الملكة فكتوريا أثنى عليها لمنعها “بيع الغلمان والإماء”.[37] إن المتاجرة بالنساء للدعارة – وهو ظلم فادح وخطير تجاه المرأة ومظهر مُخزٍ من مظاهر عدم المساواة – هو عمل مُدان أقصى الإدانة. يحثُّ البهائيون الحكومات والهيئات الدوليّة لكيّ تُشرّع قوانين تمنع الاتّجار بالرقّ، وأن تتخذ إجراءات في غاية الشدة ضد المتاجرين به، وأن توفر الحماية اللازمة لضحايا هذه الظاهرة.

وفي الوقت نفسه، أدت الحروب الأهلية، والاضطهاد الدينيّ والسياسيّ، والمجاعة، والفقر إلى ازدياد أعداد اللاجئين زيادة كبيرة. تجهد بلدان حول العالم في سعيها للتعامل مع تدفق أعداد كبيرة من الناس المجبرين على النزوح عن منازلهم سعيًا وراء الأمن، الغذاء، المأوى أو فقط طلبًا لحياة أفضل. لا يُلقي وضع كهذا بثقل كبير على سكان البلد المضيف فحسب، بل وأيضًا يمزق نسيج المجتمع، يدمر عائلات، ويحطّ من كرامة الروح الإنسانية لدى أولئك الذين أجبروا على إخلاء منازلهم. لقد توقع البهائيون أن يكون مثل هذا التهجير ألقسري من النتائج التاريخيّة لعدم رغبة الحكومات في تحسين إدارتها لشؤون بلادها من ناحية، ومن ناحية أخرى عدم توصّلها إلى طرق فعّالة للتعاون على النطاق العالمي. يرى البهائيون أنّ من المُلِحْ الآن أن لا تكتفي الحكومات بمعالجة الحاجات الآنيّة لطالبي اللجوء، بل وعليها أيضًا معالجة الأسباب الكامنة وراء حصوله.

إن التأثيرات التي أحدثتها العولمة على المجتمعات حول العالم واضح، ويبدو أن نتائجها السلبيّة تفوق الإيجابيّة مما أدى إلى المزيد من الفقر بدلاً من الازدهار. ينظر البهائيون إلى العولمة [من جانبها الإيجابي] على أنها النتيجة الحتميّة للدافع الذاتي تجاه اتحاد العالم وتحقيق السلام، وهو الدافع الذي نشأ عند ظهور حضرة بهاء الله وتعاليمه الخاصة بالقضاء على أقصى درجات الغنى والفقر كأساس لاقتصاد عالمي مزدهر. وهم يدركون أن أنجع وسيلة للتحكّم باتجاه العولمة هو الحكم الرشيد good governance على النطاق الدولي. ومن وجهة النظر البهائيّة، على الدول والمجتمعات والأفراد ومؤسسات الأعمال أن تتعاون ضمن هيكليّة عالميّة تكبح جماح نزعة أية جهة من الوصول إلى نفوذ زائد أو ثروة أو موارد تخصّها لنفسها، وتحمي آخرين ضمن هذا النظام من الاستغلال. ومن العناصر الأساسية في هذه العمليّة مسؤوليّة مؤسسات الأعمال لتتصرف بأخلاقيّة آخذة مصلحة الإنسانية الشاملة بعين الاعتبار. يدرك البهائيون مقدرة مجتمعات أصحاب الأعمال على توليد الثروة ومن ثم الازدهار. ولكنهم يعتقدون أنه يتوجّب ضبط طاقاتها لمصلحة الإنسانية وليس فقط لشريحة واحدة منها. وعلاوة على ذلك، يجب ألاّ تمارس الأعمال خارج نطاق الحدود القانونيّة والأخلاقية. يدعم البهائيون بقوّة قيام اقتصاد عالمي تحت إدارة حكومة عالميّة فدراليّة تعمل لمنفعة جميع الشعوب والدول، ويدعمون أيضًا إيجاد عملة عالميّة موحّدة.

إن أساس كل مجتمع فعّال هو نظام قائم على العدالة، وما يتبعه من هيكليّة تُشرّع القوانين وتسهر على تطبيقها، وهذا النظام قائم بدوره على مفاهيم للعدالة، وعلى القيم التي يتمسّك بها المجتمع بالنسبة لقدسيّة الحياة، وحماية الفرد والممتلكات. يعتقد البهائيون أن أنظمة العدالة يجب أن ينبع أصلها من احترام طبيعة الإنسان الروحانيّة، وعليها أن تتفهّم ردود فعل البشر على المُكافاة والمُجازاة. يساند البهائيون بقوّة تطبيق القانون وهم يطيعون ويكنّون الولاء للحكومات التي يعيشون في ظلّها. إنّ العدالة هي أهم القيم الاجتماعيّة التي جاء بها حضرة بهاء الله، وعليها يعتمد قيام نظام اجتماعي وتحقيق وحدة العالم الإنساني.[38] من واجب المجتمع أن يسنّ قوانين عادلة على كل المستويات، تحمي حقوق الأفراد والجاليات، وخصوصًا الأقليات، وأن يُعاقب المذنبون. لذلك، فإن إحدى مؤسسات الحكومة الفدراليّة العالميّة، كما إرتآها حضرة بهاء الله، هي محكمة دوليّة، وقد ناصرت الجامعة البهائيّة تأسيس محكمة الجرائم الدوليّة في لاهاي.

من المهم، بنظر البهائيين، معالجة هذه الأمور من جوانبها كافة، من القاعدة صعودًا، ومن القمة نزولاً، كلاً منها على حدة، وأيضًا كجزء من برنامج متكامل. إن الإخفاق في القيام بهذا لا يزيد من تفاقم أضرار المشكلة الواحدة فحسب، بل وتتضاعف آثارها عبر المجتمع بكامله. بما أنه كان هدف حضرة بهاء الله أن يؤسس وحدة العالم على جميع المستويات، من العائلة إلى الكرة الأرضية بكاملها، يستحسن البهائيون كل مجهود لخلق ترابط اجتماعي وازدهار على أوسع نطاق، ويؤيدون كل مسعى لِمنع التفرقة، التي غالبًا ما تؤدي إلى اضطراب اجتماعي، أعمال شغب، وبالنهاية، الحرب.

لا يمكن فصل هذه النظرة الموجزة لبعض القضايا الاجتماعيّة التي تعالجها التعاليم البهائيّة عن مفهوم البهائيين تجاه طبيعة الإنسان، وكونها روحانيّة في جوهرها، وتصوّرهم لقيام المجتمعات والأنظمة القادرة على تلبية حاجات الناس، وإيمانهم بالقيم والمواقف والسلوكيات والممارسات التي تحقق ذلك.

التطوّر الاخلاقي

“الدين هو السبب الأعظم لنظم العالم واطمئنان من في الإمكان”.[39]

يرى البهائيون السبب الرئيسي لـ ”انحراف الطبيعة الإنسانيّة وإنحطاط سلوكيات الإنسان وفساد وانحلال المؤسسات الإنسانيّة”،[40] هو تدني تأثير الدين كقوّة اجتماعيّة فاعلة، مما أدى إلى العديد من العلل والأخطار التي تواجه المجتمع اليوم، والممتدة من التصرّفات المخالفة للأعراف الاجتماعيّة إلى الإرهاب، ومن التعصّب الديني والكراهيّة العنصريّة إلى الخداع والإجرام. يعتقد البهائيون أن بعض الظواهر الاجتماعيّة المنظورة اليوم تُمثل شذوذًا لطبيعة الإنسان، سببها التشويه الحاصل في الجوّ الاجتماعي نظرًا لفقدان القيم الروحانيّة، وأن هذه الأمور ستُحلّ عندما يتحسن المحيط الاجتماعي وتتجدد القيم الروحانية. لذلك يشدد البهائيون على أنّه من الأهميّة بمكان استعادة القيم الروحانيّة التي ستحمي وتُنمي ما هو في مصلحة الأفراد ومجتمعاتهم. وبنظرهم، من الضروري اكتساب دعم البشريّة بشكل عامّ لمقاييس التصرّف الإنساني المستمدة من تقدير عميق للمبادئ الروحانيّة وتطبيقها.

لا يقصد البهائيون بكلمة “روحاني“ أفكارًا مبهمةً وأمالاً ورعةً أو عاطفيّة، والتي من المتوقع، إذا ما تم الالتزام بها، أن تقضي على جميع العلل. وإنّما تشير الكلمة إلى مجموعة من الفضائل والقيم العمليّة المنبثقة من الرؤية والمفهوم تجاه إرادة الله للإنسان، والتي تمثل القاعدة الأساسية لعلاقات بعضنا مع البعض على كل مستوًى: شخصي، عائلي، اجتماعي، دَوْلي أو عالمي. يمكن تعريف بعض من هذه الفضائل على أنّها حتميّة للغاية من أجل التمهيد لحسن مسار أية وحدة اجتماعيّة، أكانت العائلة أو العالم، ومنها: العدالة، الأمانة، الصدق، الأدب، الصبر، المحبّة، نكران الذات، إلى ما هنالك. وجود هذه الفضائل – أو عدم وجودها – يشكّل أساسًا لنظام القيم الذي نعمل به والذي بدوره يؤثر على مواقفنا ويحدد تصرّفاتنا وممارساتنا. رغم أن البشر روحانيّون في الجوهر إلاّ أن وجود أعضاء في مجتمع يسعون إلى خدمته ويساهمون في بنائه ويقدّمون مصالح الآخرين على مصالحهم، يقتصر على تلك المجتمعات التي تعطي الأولويّة لإنماء وتطوير أفرادها من الناحية الأخلاقيّة والأدبيّة والعاطفيّة والفكريّة.

إن المسؤوليّة في خلق بيئة تسودها القيم الأخلاقيّة، والمحافظة عليها، إنما تشمل العائلات، والمجتمعات والحكومات. إن التعاليم البهائية تَذْكر ثلاثة أنواع من التربية: جسمانية – وهي لنشوء الجسم ونموّه؛ إنسانيّة – وهي لدراسة الفنون والعلوم؛ وروحانيّة – وهي لتنمية الشخصيّة واكتساب القيم. يجب أن يُركّز تعليم وتربية الأطفال في البيت والمدرسة على هذه الأنواع الثلاثة، مع التأكيد على ضرورة تربية الأطفال على تقدير أهميّة وحدة العالم الإنساني من جهة، ومن جهة أخرى، على التحلّي بالفضائل وتطبيقها. هذه التوجّهات معًا توفر الرؤية، القيم، السلوكيات والمهارات التي تُمكّن الشباب من مقاومة العادات المضرّة والسيئة مثل تعاطي المخدّرات، وترشدهم إلى رفض توجهات العنصريّة والتعصّب، وتدفعهم للمساهمة في إقامة مجتمعات آمنة وسليمة وأكثر اتحادًا. وفي الوقت نفسه، تساعد التربية الأخلاقية الشباب على إدراك أنهم أعضاء في عائلة إنسانية واحدة حيث لديهم حقوق وعليهم واجبات، ويُنتظر منهم أن يحترموا حقوق الآخرين. لدفع هذا المبدأ قُدُمًا، طوّر البهائيون عبر السنوات صفوفًا لدروس الأخلاق يُرَحّب فيها بجميع الأطفال [من بهائيين وغيرهم].

لذلك، يؤمن البهائيون أن بناء مجتمعات مستدامة والوصول إلى الازدهار يتوقفان على تطبيق القيم الروحانيّة أو الأخلاقيّة، التي تعكس مبادئ وأولويات روحانيّة. بهذا الصدد، اختار حضرة عبدالبهاء، من بين جميع الفضائل التي على الناس أن يكتسبوها، فضيلة الأمانة وأكّد:

… إن الأمانة عند الله أساس الدين الإلهي وهي ركن جميع الفضائل والمناقب، لو حُرِم أحد منها حُرم من جميع الشؤون، فما هو الثمر والأثر والنتيجة والفائدة لو كان ثمّة تقصير في الأمانة؟[41]

فقدان الأمانة يشوّه العلاقات الإنسانيّة، يُنمي الشّك ويؤدي إلى إفشال المعاملات البسيطة بين البشر. إن اسوأ مظاهر فقدان الأمانة – الفساد – الّذي يؤدي إلى شلل قدرةَ القيادة ومنعها من العمل بشكل سليم وعلى كل مستوى، ويُرَوّج الظلم. لذلك، يمتدح البهائيون تنمية الأمانة في الفرد، في العائلات، وفي المجتمعات، وخصوصًا لدى أولئك الذين هم في مراكز السلطة والمسؤوليّة – الحكومة، موظفي الحكومة، وأصحاب الأعمال والقادة على جميع المستويات. وبالإضافة، تكمُنُ القيادة الأخلاقية، بالنسبة للبهائيين، على جميع المستويات – إنطلاقًا من الوالدين في العائلة، وصولاً إلى الحكومة المركزيّة – تتجلّى في التوجه نحو خدمة الآخرين.

خدمة الإنسانية هي خدمة الله.[42]

ستجد القيادة الأخلاقية، قيادة المستقبل، أسمى تعبيرًا لها في خدمة الغير والمجتمع بالكامل، وستدعم أسلوب اتخاذ القرارات بالمساهمة الجماعيّة وتؤازر العمل الجماعي، وستتحرك بدافع الالتزام بالعدالة، بما فيها المساواة بين النساء والرجال، وازدهار الإنسانية. وستعبّر القيادة الأخلاقيّة عن نفسها بالتقيُّد بمقياس أخلاقي واحد في الحياة الاجتماعيّة والخاصة، يعمل به القادة والمواطنون على السواء.[43]

هذا التوجّه له علاقة وثيقة بموقف البهائيين تجاه العمل، “إن العمل بروح الخدمة هو أسمى تعبير للعبادة”.[44] من دواعي سعادة البهائيين على النطاق العالمي، مشاريع الأمم المتحدة التي تعترف بوجود بُعدٍ روحانيٍّ لبني البشر، وما لذلك من أهميّة بالنسبة لخير الإنسانيّة. فعلى سبيل المثال، صرّح إعلان كوبنهاغن الصادر عن قمّة عام 1995م في موضوع التنمية الاجتماعية أنه “يجب على مجتمعاتنا أن تستجيب بفعّاليّة أكبر لحاجات الفرد الماديّة والروحانيّة وحاجات عائلاتهم والمجتمعات التي يعيشون فيها… ليس هذا من باب الضرورة الملحّة فحسب، ولكن أيضًا كالتزام مستدام لا يتزعزع خلال السنوات القادمة”.[45] كما في مقدّمة البيان الصادر بعد القمّة الثانية للمستوطنات الإنسانية Human Settlement والمعروف بأجندة الإسكان Agenda Habitat، أن حكومات العالم أخذت على عاتقها العمل على “تحقيق عالم أكثر استقرارًا وسلامًا، مبنيًّا على رؤية أخلاقيّة وروحانيّة”.[46] إن تصريحات كهذه تُشكّل تقدّما بارزًا في التفكير العالمي، وينتظر البهائيون السياسات والأعمال التي ستحوّل هذه الأماني إلى نتائج عمليّة.

إن التقدّم في جميع المجالات المذكورة أعلاه يعتمد، بالنسبة للبهائيين، على المعرفة، الإرادة، والعمل. من دون المعرفة، تكون الجهود الموجّهة لتغيير الناس والمجتمعات موجّهة توجيهًا خاطئًا، وفي أحسن الأحوال تكون غير مؤثرة، وفي أسوئها تكون مُضرّة. ومن دون تضافر إرادة الفرد والمجتمع والقرار السياسي، لا تكون هذه المفاهيم سوى تصوّرات مثاليّة ومواضيع مشوّقة للبحث. ولكن من دون العمل الجدّي للإنتقال من الأقوال إلى الأعمال، لا تؤدي النوايا الحسنة إلاّ الى مخططات تُكدّس على رُفوف الإهمال. إن قيم الأفراد، مواقفهم، سلوكياتهم وممارساتهم وثيقة الارتباط بتجلّيها في المجتمع على جميع المستويات. يعتمد استحداث أي تغيير إيجابي وبنّاء في المجتمع، بنظر البهائيين، على تطبيق القيم والأولويات الروحانيّة.

إننا في حاجة إلى تغيير في القلوب، وإعادة تشكيل جميع مفاهيمنا، وإلى توجيه جديد لنشاطاتنا. يجب إعادة تشكيل حياة الإنسان الداخليّة ومحيطه الخارجي إذا كان لخلاص البشريّة أن يتحقق.[47]

الجامعة البهائيّة العالميّة

إن العمل على تحقيق المبادئ المذكورة أعلاه وتأييدها هو من مسؤولية أفراد البهائيين والمجتمعات المحلّية والمحافل الروحانيّة على النطاق المحلّي والمركزي. على النطاق الدولي، تقوم الجامعة البهائيّة العالميّة Bahá’í International Community (BIC) بهذه المسؤولية بالنيابة عن المجتمع البهائي حول العالم. أسّس حضرة شوقي أفندي الجامعة البهائية العالميّة عام 1948م كمنظّمة عالميّة غير حكوميّة مسجّلة لدى مكتب الأمم المتحدة للمعلومات العامة. وقد أصبحت اليوم هي المنظمة التي يتواصل عبرها بيت العدل الأعظم مع كل المؤسسات العالميّة.

نادى الدين البهائي منذ البداية بوجوب تطوير مؤسسات دوليّة، وأقام علاقات معها عند تأسيسها. وقد طالب حضرة بهاء الله بنفسه قادة العالم أن يعقدوا قممًا عالميّة للتباحث في تأسيس السلام العالمي وإبرام المعاهدات لضمانه،[48] بينما وضع حضرة عبدالبهاء جدول أعمال لمثل هذه القِمم وحثَّ على تشكيل مؤسسة عالميّة دائمة لتُحافظ على السلام وتضع إطارًا لتطبيق القانون على النطاق العالمي.

أشاد حضرة عبدالبهاء بعصبة الأمم عندما تأسست، ولفت النظر إلى نقاط الضعف فيها. وفي سنة 1926م تأسس مكتب بهائي عالمي في جنيف Geneva، مركز عصبة الأمم، بُغية تنمية العلاقات معها وتوفير مكان لاجتماع البهائيين المشاركين في جلساتها. وقد شارك البهائيون بشكل خاص في مداولات عصبة الأمم حول نزع السلاح. ناشد البهائيون في العراق عام 1928 عصبة الأمم من أجل حماية بيت حضرة بهاء الله في بغداد، وبينما جاء القرار لصالح البهائيين إلا أنّه لم ينفذ. بقي المكتب البهائي قائمًا حتى بعد فشل عصبة الأمم.

عندما تأسست الأمم المتحدة، شجّع حضرة شوقي أفندي البهائيين حول العالم على تأييدها ودعم نشاطها، وقد قام الكثير منهم بذلك حيث شكّلوا أو شاركوا ضمن جامعاتهم في جمعيّات تابعة للأمم المتحدة. وعندما صيغ دستور الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو عام 1945م، أرسل المحفل الروحاني المركزي في الولايات المتحدة وكندا مراقبين رسميين لحضور المناسبة، وبعد ذلك سجّل المحفل الروحاني المركزي نفسه رسميًّا كعضو مراقب. وفي عام 1947م استفسرت لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين من حضرة شوقي أفندي عن وجهة النظر البهائيّة بالنسبة لمستقبل فلسطين. في إجابته، عبّر حضرة شوقي أفندي عن رغبة الجامعة البهائيّة بإرساء السلام العالمي والعدالة، والمصالحة بين اليهود والمسلمين، ولكنه شدّد أيضًا على الموقف غير السياسي للدين البهائي.

باشرت الجامعة البهائيّة العالميّة دفاعها عن حقوق الإنسان عام 1947م بتقديم بيان إلى الأمم المتحدة عن واجبات الإنسان وحقوقه، وصادقت فيما بعد على معاهدة منع الإبادة البشرية. وقد استمرّت الجامعة البهائيّة العالميّة عبر السنين بعرض الموقف البهائي تجاه حقوق الإنسان من خلال مداولاتها وبياناتها الرسميّة. عندما هُدِّدَت حقوق البهائيين في إيران (1955م) ومرّاكش (1962م) اتخذت الجامعة البهائيّة العالميّة خطوات للفت نظر الأمم المتحدة إلى هذه التطوّرات. فيما بعد، أبرزت الجامعة البهائيّة العالميّة ما آلت إليه أوضاع البهائيين في إيران الذين، ومنذ عام 1979م، يعانون الاضطهاد من حكومتهم.

طرحت الجامعة البهائيّة العالمية عام 1955م اقتراحها لتعديل دستور الأمم المتحدة، والذي أعيدت كتابته عام 1995م بمناسبة الذكرى السنويّة الخمسين لتأسيسها.[49] وفي عام 1969م أسست الجامعة البهائيّة العالميّة مكتبًا دائمًا لها في نيويورك، ومُنحت عام 1970م صفة استشاريّة (فئة 2) مع المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، United Nations Economic and Social (ECOSOC’s) Council، مما مكّن الجامعة البهائيّة العالميّة من تقديم وجهات نظرها في الجلسات الرسميّة التي تعقدها الوكالات التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي. وفي عام 1976م مَنح الصندوق العالمي للطفولة United Nations Children’s Fund صفة استشاريّة للجامعة البهائيّة العالميّة. وفي عام 1989م أنشئت علاقة عمل مع المنظّمة العالميّة للصحّة (WHO – World Health Organization).

منذ عام 1970م والجامعة البهائيّة العالميّة تُقَدّم إلى جلسات الأمم المتحدة ووكالاتها وجهة نظر الدين البهائي تجاه عدد كبير من القضايا والمواضيع التي وردت في التعاليم البهائيّة. وقد ركّزت بشكل خاص على النواحي الأربعة الأساسيّة لحقوق الإنسان، مكانة المرأة، ازدهار الجنس البشريّ، والتطوّر الأخلاقي، وعلى مواضيع ذات العلاقة مثل التنمية الاجتماعيّة، العائلة، الشباب والأطفال، المعاقين، المسنين، السكّان، المراكز السكانيّة، البيئة، مصادر الطاقة الممكن تجديدها، الزراعة، العلوم والتكنولوجيا، قانون البحار، منع الجريمة، المخدّرات، نزع السلاح واستعمال الفضاء الخارجي لأغراض سلميّة.

منذ تأسيسها، والجامعة البهائيّة العالميّة من أكثر المنظّمات الإستشاريّة غير الحكوميّة نشاطًا داخل هيكليّة الأمم المتحدة، وهي محترمة للغاية من قبل حكومات ومنظّمات غير حكوميّة أخرى على السواء. وهي اليوم مُمَثلة ليس فقط على المستوى المحلّي، بل الإقليمي أيضًا ولها مكاتب في جنيف وباريس، ومكاتب متخصصة في نيويورك مكرّسة للبيئة وتقدّم المرأة مما يضمن توجّهًا مُركّزًا على هاتين القضيتين.

العلم والدين

أحد التعاليم الأساسية لحضرة بهاء الله والذي يشكّل أساسًا للتفكير البهائي في قضايا المجتمع والتطوّر هو أن العلم والدين هما وجهان متباينان لحقيقة واحدة. اعتاد الناس في العالم الحديث أن ينظروا إلى الدين والعلم على أنهما وجهان متعارضان في حياة الإنسان. نشأ هذا التوجه منذ أن اضّطهدت الكنيسة غاليليو Galileo وعارضت نظريّة داروين عن التطوّر. بالنظر لنجاح العلم في وصف الحقائق، وفي إيجاد تقنيّات عملت على تغيير العالم، اتجه الناس نحو إهمال الدين كأداة لوضع سياسة اجتماعيّة والتفاعل مع العالم، وافترضوا أن العلم سيقدّم جميع الحلول للمشاكل الإنسانية.

ولكن، مع دخول الإنسانية القرن العشرين، اتضح أمران: الأول هو أن العلْم بحد ذاته ليس على ذلك القدر من الدقّة التي قد ظُنّ بها في البداية. وانطلاقًا من مبدأ هايزنبرغ للشك Heisenberg Uncertainty Principle، الذي زاد وضوحًا مع نظريّة كودل Gödel’s Theorem ونظريّة الفوضى Chaos theory، تبيّن أن مشروع القرن الثامن عشر والتاسع عشر المبدئي الذي افترض أنّ بالإمكان تطوير العلم إلى درجة أنه يتوصّل إلى تفسير كل شيء، ما هو إلا مشروع مستحيل الإنجاز. لقد استطاع العلم أن يتوصّل إلى معرفة دقيقة للغاية ولكن عن جانب محدد من الحقيقة، لا عن الحقيقة بأكملها. إذًا، العلم متمم للدين الذي يقوم بالدور المقابل. يبدع لنا الدّين معرفة الحقيقة بكاملها، ولكنها معرفة غير دقيقة جدًا. تُشكّل تعاليم مؤسسي الأديان، حسب تعاليم حضرة بهاء الله، وصفًا كاملاً للحقيقة، ولكنّه وصف مجازي للغاية، غير متسلسل في عرضه.[50] الأمر الثاني الذي أصبح واضحًا والناتج عن الأول، هو أنه عند انتقال الفرد من التدقيق في العلوم المادية “القاسية” إلى العلوم الإنسانية “الليّنة”، يجد أن قُدرة العلم على الشرح والتنبؤ تتضاءل. في علوم الفيزياء مثلاً، تشرح المعادلات العلميّة مضمونها، وهي دقيقة للغاية في ما تتنبّأ به. أما في علم النفس وعلم الاجتماع، رغم العمل فيهما لأكثر من قرن، لا يُقدّم العلم إلا شرحًا ضعيفًا، ونبوءاته بعيدة كل البعد عن الدقّة. هذا مماثل للقول إنه خلال انتقالنا من العالم المادي باتجاه العالم الإنساني (والذي يتكوّن، حسب التعاليم البهائيّة الخاصة بطبيعة الإنسان، من جزء روحاني وجزء مادي) تتضاءل قوى العلم في الشرح والتنبّؤ. يؤمن البهائيون أنه مع انتقالنا إلى هذا الحقل من العالم الإنساني، تتزايد قُدرة الدين على الشرح والتنبؤ. هنا يستطيع الدين أن يُعطينا وصفًا دقيقًا عن الحقيقة، ولكنه ليس وصفًا حسابيًّا متسلسلاً. بإمكانه التنبؤ عن احتمال الوصول إلى نتائج مفيدة عند القيام بأعمال في اتجاه معيّن، والوصول إلى نتائج مضرّة نتيجة العمل باتجاه معاكس.

إذا كان للإنسان، كما تُبيّن التعاليم البهائيّة، طبيعتان مادّية وروحانيّة، لابد من الاستنتاج المنطقي أن كل بحث، أكان من وجهة نظر الطبّ، علم النفس، علم الاجتماع، الاقتصاد، التخطيط المدني أو أية وجهة نظر أخرى، يقتصر على نواحي الإنسان الماديّة، هو بحثٌ ينظر إلى جانب واحد من الصورة، ولن يكون مفيدًا كالتحليل الذي يأخذ الجانب الروحاني أيضًا في الحسبان.

الدين والعلم جناحان يحلّق بهما ذكاء الإنسان إلى الأعالي، وبهما تتمكن الروح من السير قُدمًا. لا يُمكن الطيران بجناح واحد فقط. إذا حاول الإنسان الطيران بجناح الدين وحده، سرعان ما يقع في مستنقع الخُرافات، وبالمقابل، لن يتقدّم على جناح العلم وحده بل يقع يائسًا في أوحال الماديّة. وقعت أديان يومنا هذا كافة في ممارسات خُرافيّة، لا تنسجم لا مع المبادئ الحقيقية للتعاليم التي تُمثلها ولا مع الاكتشافات العلميّة المعاصرة… وقد تولّد من هذه المتعارضات والمتناقضات، التي هي من صنع الإنسان، الكثير من نزاعات العالم ما أدّى إلى عدم اتحاده. لو كان الدين منسجمًا مع العلم، وسارا معًا، لكان الكثير من البغض والمرارة، المسبّبيَن لتعاسة الجنس البشري، في حكم الزوال.[51]

إذًا، وبشكل عامّ، ترى التعاليم البهائيّة أن الدين والعلم مُكمّلان بعضهما لبعض. كل منهما ينظر إلى جانب من جوانب الحقيقة ليتوصّل إلى مفهوم معمّق لها، وعلى البشر أن ينهلوا من كليهما معًا. كلاهما مصدر صحيح لمعرفة جانب من الحقيقة. العلم يعطي نوعًا واحدًا من المعرفة، المعرفة الدقيقة المحدّدة والواضحة عن وحَدات يمكن مُراقبتها. تتدرّج هذه المعرفة من المحدّد إلى العامّ والشامل، دون إمكانية الإحاطة بها إحاطة كاملة أبدًا. ويعطي الدين معرفة عن مبادئ مجازيّة لا تتسلسل في خط واحد، وهي معرفة تخلق رؤية متكاملة عن الحقيقة، ولكنّها لا تبيّن بالتفصيل كيفيّة تطبيقها.

التعاليم البهائيّة تذهب أبعد من التأكيد فقط على أن العلم والدّين مكملا لبعضهما البعض، إذ تُشدد أيضًا على أن العلم والدّين بحاجة لبعضهما البعض. الدّين بحاجة للعلم إذا أراد أن يتجنّب الانغماس في الخُرافات. والعلم بحاجة لهداية الدين كي لا يُصبح مصدر شرّ في العالم، عوضًا عن مصدر للخير. تُصوّر الآثار البهائيّة العلم والدين على أنهما جناحان، يحلّق بهما طير الإنسانيّة صعودًا نحو الازدهار. ولكن لن يصل هذا الطير إلى هدفه إلاّ إذا كانت قوّة الجناحين متساوية وعَمِلا معًا بتناسق وانسجام.

تطوّر الإنسانية على النطاق الاجتماعي

يرى البهائيون أن التعاليم التي جاء بها حضرة بهاء الله تُمثل ذروة تاريخ البشريّة الديني والاجتماعي. لقد تطوّر البشر اجتماعيًّا من خلال مراحل تزايد فيها مستوى اتحادهم؛ مراحل تكوين القبيلة، وبعدها إقامة المدينة-الدولة city-state، وصولاً إلى تأسيس الدولة. والذين وجّهوا هذا التطوّر وحقّقوه هم مؤسّسو الأديان العالميّة الذين تعاقبوا على العالم. لذلك، يُنظر إلى هؤلاء المؤسسين على أنهم مرشدوا الإنسانية في تطوّرها. إن التعاليم التي جاء بها كل منهم كانت مناسبة لوضع الإنسانيّة في حينه. وكل منهم بنى على تعاليم من سبقه، كما يبني المعلّمون المتعاقبون الذين يقابلهم التلميذ في المدرسة على ما علّمه المعلّم السابق. السبب الرئيسي لوجود أديان متعددة، لكل منها مؤسّسها، في تاريخ الإنسانية، هو حقيقة أن حاجات البشر تتبدّل. دعوة حضرة بهاء الله ورسالته هي أنه هو آخر هؤلاء المعلّمين الإلهيين وأنه جاء بتعاليم مناسبة لمرحلة تطوّر الإنسانية في الوقت الحاضر. لقد تطوّرت الإنسانية خلال مراحلها البدائيّة المشتركة، الطفولة، والمراهقة وصولاً، كما يصرّح حضرة بهاء الله، إلى مرحلة النضج. السّمة المميّزة لهذا النضج الذي تكاد تصل إليها لإنسانية الآن، هي إدراك وحدة العالم الإنساني، ونشوء الوعي بالشموليّة العالميّة، والتوصّل إلى تقدير الترابط فيما بين كل نواحي الحياة، والوعي بجوانب الحقيقة الماديّة والروحانيّة. إن التعاليم التي جاء بها حضرة بهاء الله تهدف كلّها إلى إعطاء هذه الوحدة الروحانيّة، والتي كانت دائمًا موجودة، شكلاً ماديًّا مُكَوّنًا من مؤسّسات إنسانية تعكس مساواة ووحدة البشر، وفي الوقت نفسه، تعمل هذه التعاليم على إيجاد رابط في ما بين جوانب الحقيقة الماديّة والروحانيّة.

[1])   بهاء الله، مجموعة من الواح حضرة بهاء الله…، ص 155 (مترجم)

[2])   عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1982, p. 152، (ترجمة مترجم الكتاب)

[3])   بهاء الله، ظهور حضرة بهاء الله، 2009، ص 277 (مترجم)

[4])   بيت العدل الاعظم، Universal House of Justice, 1984b، (ترجمة مترجم الكتاب)

[5])   بيت العدل الاعظم، ،Universal House of Justice, 1984a (ترجمة مترجم الكتاب)

[6])   عبد البهاء،  ‘Abdu’l-Bahá, 1978, p. 256(ترجمة مترجم الكتاب)

[7])   بهاء الله، كما استشهد به عبد البهاء في مقالة سائح، ص 80 (مترجم)

[8])   عبد البهاء،‘Abdu’l-Bahá, quoted in Shoghi Effendi, 1990, p. 83 ، (ترجمة مترجم الكتاب)

[9])   عبد البهاء، ،‘Abdu’l-Bahá, 1982, p. 353 (ترجمة مترجم الكتاب)

[10])  عبد البهاء، المصدر أعلاه، ص 123 (ترجمة مترجم الكتاب)

[11])  الجامعة البهائيّة العالميّة، ،Bahá’í International Community, 1947 (ترجمة مترجم الكتاب)

[12])  الجامعة البهائيّة العالميّة، 1995a Bahá’í International Community,، (ترجمة مترجم الكتاب)

[13])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1967, p. 162، (ترجمة مترجم الكتاب)

[14])  خطب حضرة عبدالبهاء، ص 316

[15])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1978, p. 302، (ترجمة مترجم الكتاب)

[16])  بيت العدل الاعظم، السلام العالمي وعد حق، ص 25 (مترجم)

[17])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1982, p. 134، (ترجمة مترجم الكتاب)

[18])  عبد البهاء، المصدر أعلاه، ص 135 (ترجمة مترجم الكتاب)

[19])  الجامعة البهائيّة العالميّة، ،Bahá’í International Community, 1992 (ترجمة مترجم الكتاب)

[20])  بيت العدل الاعظم، السلام العالمي وعد حق، ص 7 (مترجم) طبعة 1996

[21])  الكتاب الأقدس، وصف الكتاب الأقدس، صفحة ق (مترجم)

[22])  بهاء الله، مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله…، ص 121

[23])  بهاء الله، المصدر أعلاه، ص 107 (مترجم)

[24])  بهاء الله، المصدر أعلاه، ص 106 (مترجم)

[25])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1982, p. 217، (ترجمة مترجم الكتاب)

[26])  عبد البهاء، ،‘Abdu’l-Baha, 1945, pp. 39–41 (ترجمة مترجم الكتاب)

[27])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1926، (ترجمة مترجم الكتاب)

[28])  بيت العدل الاعظم، ،Universal House of Justice, 1976 (ترجمة مترجم الكتاب)

[29])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1978, pp. 158–9، (ترجمة مترجم الكتاب)

[30])  عبد البهاء، التربية والتعليم، ص 54 (مترجم)

[31])  بهاء الله، الكتاب الأقدس، فقرة 60

[32])  بيت العدل الاعظم، ،Universal House of Justice, 1978 (ترجمة مترجم الكتاب)

[33])  الباب، The Báb, 1976, p. 95 (ترجمة مترجم الكتاب)

[34])  الجامعة البهائيّة العالميّة، Bahá’í International Community, 2001a، (ترجمة مترجم الكتاب)

[35])  بيت العدل الاعظم،  ،Universal House of Justice, 1997(ترجمة مترجم الكتاب)

[36])  بهاء الله، الكتاب الاقدس، فقرة 72

[37])  بهاء الله، ألواح حضرة بهاء الله إلى الملوك والرؤساء، ص 59

[38])  أنظر بهاء الله، Baha’u’llah, 1988b, pp. 66–7، (ترجمة مترجم الكتاب)

[39])  بهاء الله، Bahá’u’lláh, cited in Shoghi Effendi, 1991, p. 186، (ترجمة مترجم الكتاب)

[40])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1991, p. 187، (مترجم)

[41])  عبد البهاء، الحياة البهائيّة، ص 41 (مترجم)

[42])  ‘Abdu’l-Bahá, 1982, p. 8، (ترجمة مترجم الكتاب)

[43])  الجامعة البهائيّة العالميّة، Bahá’í International Community, 1998، (ترجمة مترجم الكتاب)

[44])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, in Compilation, 1991, vol. 1, p. 313، (ترجمة مترجم الكتاب)

[45])  إعلان كوبنهاغن، 1995 (ترجمة مترجم الكتاب)

[46])  Habitat Agenda, 1996، (ترجمة مترجم الكتاب)

[47])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1932، (ترجمة مترجم الكتاب)

[48])  بهاء الله، ،Bahá’u’lláh, 1988a, pp. 30–1 (ترجمة مترجم الكتاب)

[49])  الجامعة البهائيّة العالمية، Baha’i International Community, 1995b

[50])  راجع هاتشر، Hatcher, 2002, pp. 9–12

[51])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1967, pp. 143–4

6 رؤية الدّين البهائي لعالم متّحد

تفضل حضرة بهاء الله بأن “الإنسانية خُلقت لتحمل حضارة دائمة التقدّم“.[1] يؤمن البهائيّون أن نوع الحضارة التي قصدها حضرة بهاء الله ليست تلك الحضارة الماديّة الموجّهة بالملذات، الظالمة، المثقلة بالفقر، القاسية، الممزّقة بالحروب، المفرطة في اتجاهاتها والتي نعيشها اليوم. مما لا شك فيه أن في حضارتنا عناصر كثيرة تتسم بالجمال، والثقافة الرفيعة، والفائدة، والنبل، والجديرة بأن تسير قُدمًا. والحق يقال إن الحياة اليوم، وبطرق متعددة، باتت أفضل بكثير لأعداد كبيرة من البشر. ولكن الواقع هو أن الهوّة بين الأغنياء والفقراء تتسع باضطراد، وأن الكثيرين يعانون نتيجة سيرهم في عملية العولمة، وبينما يبدو أن الإنسانيّة قد خفّضت من إمكانيّة نشوب حرب نووية شاملة، إلاّ أن العالم يواجه ما يبدو وكأنه مصير مروّع أكثر – إرهاب لا اسم له، ولا تعريف له، جَسُور، يُحَوّل الصغار إلى مرتكبي جرائم قتل، ويمجّد الانتحار طالما أنه يقتل ويشوّه آخرين. إلا “أن الخطر الأكبر للأزمة الأخلاقيّة والمظالم المرتبطة بالعولمة” هو وجود “منظومة فكريّة [أو إيديولوجية] مسيطرة على الكرة الأرضيّة دون منازع تحت عنوان “الحضارة الغربيّة“. ورغم أن لهذا النظام فوائد مثل “… الحريّة الفرديّة والإزدهار الإجتماعي والتقدّم العلمي”، تنعم بها شريحة صغيرة من الإنسانيّة، إلاّ أنه “مفلس أخلاقيًّا وفكريًّا” و”عاجز عن تلبية حاجات” عالم اليوم.[2] من هذا المنظور تبدو الإنسانية وكأنها فقدت التبصُّر في جانب الحضارة الذي يؤدي الى التمدن، وهو البُعد الروحاني للحياة الذي يمنح الإنسانيّة كرامتها ويسبغ عليها سعادة حقيقيّة.

طرح الدين البهائي رؤية مستقبليّة لرابطة شعوب عالميّة تسعى نحوها البشريّة، والتي سوف تتحقق لا محالة نتيجة تطبيق التعاليم والأحكام التي جاء بها حضرة بهاء الله. في عالم كهذا، سوف يتأسس السلام بشكل دائم، وسيشمل الازدهار الجميع، وتعمُّ العدالة، وستزدهر أيضًا الفنون وتتفتّح حضارة عالميّة جديدة. ورغم المظاهر التي نشاهدها يؤمن البهائيّون أن الإنسانيّة تنطلق حاليًّا في مسار يؤدي إلى اتحاد سياسي، اجتماعي، وروحاني، كان منذ القدم في صلب رؤية تعاليم الأديان كلها، والذي اقتصر وصفه حتى الآن على مؤسّسيّ الأديان العالميّة، والشعراء، وأصحاب الرؤى. ويعتبر البهائيّون أن تطوّر مجتمع عالمي ناضج كهذا، ليس مرغوبًا فيه فقط، بل سيتحقق حتمًا، وليس مُمكنًا فقط، بل إن إنجازه مؤكّد.

غالبًا ما تُنْتَقد مثلُ هذه الادعاءات المثيرة للاهتمام، وتُسَفّه، ويَصْرُف غير البهائيين النظر عنها بحجة أنها مثاليّة (utopian) ومتفائلة إلى أقصى الحدود، بل وحتى خطيرة. ويتساءلون وهم يشيرون إلى الحروب والكراهيّة والانقسام في العالم، كيف يمكن للبهائييّن أن يوفّقوا بين هذه الحقائق الواقعيّة وبين إدعاءاتهم؟

يشير البهائيون إلى الطبيعة التطوّريّة لتقدّم العالم الإنساني، وإلى التطوّرات السياسيّة والاجتماعيّة في القرن الماضي، وإلى طبيعة التغييرات المرتقبة، تغييرات هي اجتماعيّة وروحانيّة في آن واحد، وتحدُث على نطاق المجتمع الشامل وعلى نطاق الفرد أيضًا. وكما هي الحال في جميع مستويات العلاقات الإنسانية الممتدة من الأسرة إلى الدولة، يرى البهائيون أن القيم الأخلاقيّة والتوجهات والسلوكيات والممارسات التي جاء بها حضرة بهاء الله تتأسس تدريجيًا على نطاق الكرة الأرضيّة بكاملها.

الخلفيّة الاجتماعيّة، الاقتصادية والسياسيّة

إن رؤية الدّين البهائيّ للمستقبل قائمة على خلفيّة التطور السياسيّة والاقتصاديّة والعلْميّة والاجتماعيّة التي أخذت طريقها منذ نهاية القرن التاسع عشر واستمر في القرن العشرين. نشأ الدين البهائي في زمن تغييرات اجتماعيّة هائلة، وتوسّع أوروبا والإمبريالية، وتحوّل بلدان الشمال إلى النهضة الصناعيّة. وتزامنت السنوات المئة الأولى من وجوده مع مجاعة البطاطا في أوروبا؛ وهجرة الملايين من أوروبا إلى أمريكا الشماليّة؛ وانقلابات في أوروبا؛ وتقلّص سلطة البابا الدنيويّة؛ والانفجار السكاني؛ واستكشاف غالبيّة مناطق العالم بما فيها القطبان؛ والاندفاع إلى أفريقيا؛ وسقوط نظام التحالفات في أوروبا؛ واندلاع حربين عالميتين؛ وانقلاب في وسائل الاتصالات والمواصلات؛ ونهوض حركات سياسيّة لدى كل من اليمين واليسار؛ وامتداد الامتيازات على أنواعها، خصوصًا لتشمل النساء؛ ونشوء “المجتمع المدني”؛ وانتشار نظريات علميّة أساسية مثل نظريّة التطوّر، ونظرية “الانفجار الكبير” the big bang theory ونظريّة النسبيّة؛ وتقدّم هائل في مجال العلوم والطبّ (بما فيه اكتشاف البنسلين)؛ والتغيير في أنماط العمل واتساع نشاطات الترفيه؛ ودخول الفنون في حقل الإعلام؛ والكساد الاقتصادي الكبير the Great Depression والبطالة الجماعيّة؛ واكتساب العُمال قُدرات سياسيّة؛ وخلق مؤسسات دوليّة مثل عصبة الأمم ومحكمة التحكيم الدوليّة. وبعد ذلك، تزامنت بداية القرن البهائي الجديد عام 1945م، مع تطوّر واستعمال الأسلحة الذريّة، وبداية الحرب الباردة، وتأسيس الأمم المتحدة. في هذه الفترة تحوّل التركيز السياسي من أوروبا إلى أمريكا الشماليّة، وتغيّر نسيج المجتمع بكامله، واستُبدل الدين بثالوث مؤلّف من نظريات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسية وعلميّة. وأما التغيير الذي حصل خلال الحرب الباردة وبعدها فكان أيضًا مثيرًا، حيث حاول الدين أن يستردّ المساحة التي خسرها وذلك بإطلالة أصوليّة، وأصبح الرعب من الإرهاب أكثر من ذي قبل.

يرى البهائيّون التاريخ السياسي للمجتمع العالمي في محاولته لتطوير أشكال من الحكم تتزايد شموليّته باطراد – ابتداء من الأسرة، وهي الأساس المُكوّن للمجتمع، مرورًا بمرحلة تكوين القبائل والعشائر، ثم الدولة والولاية، وصولاً إلى محاولات لجمع الولايات في وحدات إقتصاديّة أو شبه سياسيّة. المرحلة النهائيّة، حسب الكتابات البهائيّة، هي الوصول إلى مُجَتمع واحد على نطاق الكرة الأرضيّة تحت إدارة حكومة عالميّة. يعتقد البهائيّون أن هذه خطوة حتميّة في التطوّر الاجتماعي لهذا الكوكب، وينظرون إلى تاريخ العالم السياسي خلال العصر الماضي على أنه محاولات ناجحة باطراد لتأسيس مثل هذا النظام. لذلك، وباختصار، وبعرض مبسّط، فقد انهار نظام تحالفات القرن التاسع عشر وأدّى إلى قيام الحرب العالميّة الأولى. وبنهايتها، برزت محاولات أوليّة لتنظيم الشؤون السياسيّة الدوليّة بواسطة عصبة الأمم. هذه المحاولة الضعيفة انهارت ولم تتمكّن من منع قيام الحرب العالميّة الثانية. بنتيجة هذه الحرب قامت محاولة أكثر جديّة لتأسيس نوع من المراقب السياسي على العالم وذلك في شكل الأمم المتحدة، منظّمة لديها من “الأنياب” أكثر من عصبة الأمم والتي يمكن أن ينتمي إليها المزيد من الدول. لم تستطع الأمم المتحدة تلبية احتياجات المجتمع الدولي في كفاحه للتوصّل إلى تعامل إيجابي مع الطبيعة الشمولية لما يهمّه ويُقلقه بشكل كامل حتّى الآن، وقد تفشل هذه المحاولة أيضًا، رغم أن البهائيين داعمون لمساعيها لحفظ السلام والتنمية بقوّة. هذه الرؤية البهائية لتاريخ السياسة الدوليّة تعطي البهائيين سببًا محفّزًا للإيمان بأن تأسيس حكومة عالميّة أمر محتوم.

من منظور آخر، يُمكن فهم القرن العشرين على أنه العصر الذي طُرح فيه الدين جانبًا باعتبار أنه غير كفؤ، وجُرّبَت أيديولوجيات متعددة – أيديولوجيات ادّعت أنها “علميّة”، لأن العلم، كما روّجت له، أصبح الآن كفيلاً للتوصل إلى الحقيقة بدلاً من الدين، وادّعى أنه بإمكانه حل المشاكل التي تواجه الإنسانية، وأن يعطي الإنسانية صورة حقيقيّة عن نفسها، ورؤية عمّا يجب أن تسعى بشموليتها إلى تحقيقه. تمحورت هذه الأيديولوجيات حول ثلاثة آلهة مضلّلة كما عرّفها حضرة شوقي أفندي: القوميّة، والعنصريّة، والشيوعيّة.[3] وبالتالي، ارتبط القسم الأكبر من تاريخ القرن العشرين بنهوض وسقوط هذه الأيديولوجيات والتي يُنظر إليها كمصدر كبير لمآسي الإنسانية. في الغرب مثلاً، تسببت القوميّة في نشوء الحرب العالميّة الأولى التي دمّرت القارّة الأوروبية وأسقطت القوى الأوروبية الغربيّة من مركزها المتفوّق بين دول العالم. وآلت أيديولوجيّة ألمانيا النازيّة العنصريّة إلى إبادة ملايين الناس وهجّرت ملايين آخرين، وتسببت في نشوب الحرب العالميّة الثانية، مما أدى إلى دمار أكبر [من الحرب العالميّة الأولى] في أوروبا وآسيا، وفي المحيط الهادئ بعد دخول اليابان الحرب. شهدت نهاية القرن العشرين سقوط الشيوعيّة، وهي أيديولوجية ماديّة بالكامل، اعتبرت أن الدولة أهم من شعبها، وخلّفت اقتصادًا مُدمرًا وبيئة مُلوّثة على مساحات شاسعة من أوروبا وآسيا.

هذا التاريخ، من المنظورين [المذكورين أعلاه] تسبب في نوع من فقدان الثقة تجاه الرؤى العظيمة التي تدّعي الإحاطة بمشاكل وظروف الإنسانية بكاملها. لذلك، يكتفي عالم اليوم بمحاولة حل مشاكله بتجزئتها إلى أجزاء متفرقة، معالجًا كل مشكلة على حدة دون وجود أية رؤية شاملة أو سعي لتوجيه هذه المحاولات توجيهًا شموليًّا مثمرًا. ولا عجب في أن يؤدي هذا المنحى إلى وضع حلول يبدو أنها تعالج مشاكل في مجال معيّن ولكنها في نفس الوقت تخلق مشاكل في مجالات أخرى.

يدرك البهائيّون أن البشر هم من نوع المخلوقات الاجتماعيّة ولكنهم بحاجة إلى بعض الأسس ليشكلوا مجتمعات فاعلة. فهم بحاجة إلى قاعدة وهيكليّة مشتركة ليتفاعلوا بموجبها بعضهم مع بعض، وإلى رؤية واضحة لما يسعون لإنجازه، ومعرفة الاتجاه الذي يسير فيه مجتمعهم. سعى الدين، قبل القرن العشرين، لتلبية هذه الحاجات. أما خلال القرن العشرين، فقد حاولت بعض الأيديولوجيات تلبيتها ولكنها فشلت. ونجد اليوم فراغًا في مركز غالبيّة المجتمعات. فلا توجد قواعد مشتركة متّفق عليها، ولا هيكليّة للتفاعلات الاجتماعية، ولا رؤية لما يحاول المجتمع إنجازه سوى بعض الأهداف السياسيّة قصيرة الأمد.

يبدو أن هناك في الوقت الحاضر بديليْن يضغطان لتقبّلهما كأيديولوجيات المستقبل. الأول هو الأصوليّة الدينيّة المتطرفة، والثاني هو سوق رأس المال الحرّ والديمقراطيّة الغربيّة.

تُعلن الأصوليّة الدينيّة أنه، بعد فشل النظريات الحديثة التي صنعها الإنسان، فإن الحل هو العودة إلى الزمن الذي كان فيه الدين التقليدي محور أيديولوجيّة المجتمع. وتؤكد [هذه الأصوليّة] أن القسم الأكبر من عيوب المجتمع الحديث – الفساد، فقدان العفّة والتقديس وممارسة الجنس خارج حدود الدين، والجريمة، والمخدّرات، إلى ما هنالك – ستزول عند تطبيق قواعد الدين بصرامة أكثر. وليست هذه حركة مقتصرة على العالم الإسلامي فحسب، بل لقد صاغت أيضًا التفكير السياسي، وربطت نفسها بأحزاب سياسيّة في، على سبيل المثال، الولايات المتحدة، ومناطق في أمريكا اللاتينيّة، إسرائيل، الهند، سريلانكا وغيرها.

ولكن ليس بالإمكان إعادة عقارب الساعة الى الوراء وخلق وضعٍ اجتماعيّ ساد منذ مائتي سنة عندما لم يكن الدين أيديولوجية المجتمع فحسب، بل لم يكن بالإمكان تصوّر أية أيديولوجيّة أخرى غيره. في ذاك الزمن، كانت الصورة التي كوّنها الدين عن الحقيقة هي الحقيقة الوحيدة للجميع. ولكن ما إن شاهد الناس أنه توجد خيارات أخرى للحقيقة، وأن تلك الخيارت تُقدِّم تحسينات تقنيّة باتوا يعتمدون عليها في حياتهم اليوميّة، أصبح من المستحيل إعادة خلق وضع لا توجد فيه خيارات حقيقيّة. وعلاوة على ذلك، فإنّ الأصوليّة الدينية أخفقت في معالجة السبب الذي أدى بدايةً إلى رفض الدين: وهو حقيقة أنه لم يعد مواكبًا لمشاكل العصر ولا لتوجُّهات العالم الحديث. يضاف إلى هذا أنه لا توجد أية دلائل على نجاح هذا التوجّه. إن المجتمعات التي تبنّت الأصوليّة الدينيّة كهيكل لنظامها الاجتماعي والسياسي لا تُعْرَف بحسن تطبيقها لحقوق الإنسان، أو بتقدّم شعوبها اجتماعيًّا، أو حتى في قدرتها على علاج المشاكل الإجتماعيّة مثل تعاطي المخدّرات معالجة فعّالة.

الحركة الثانية التي يظن البعض أنها تَصْلُح كأساس لمستقبل العالم هي بجوهرها نظريّة اقتصاديّة، هي سوق الرأسمالية الحر ومعها الديمقراطيّة الغربيّة. هناك ادعاء أنه يمكن لهذه المعطيات أن تُكَوّن أساسًا لسياسة اجتماعيّة، وأن تقدّم رؤىً عن الهدف الذي يجب أن تسير إليه مجتمعاتنا. وقد تبنّت بلاد كثيرة الرأسماليّة في سياستها الاقتصاديّة، حتى عندما لم تلحق بها الديمقراطيّة. ولكن، ليس بإمكان الرأسماليّة أن تشكّل بديلاً لأيديولوجيّة اجتماعيّة كونها تعتمد على فلسفة الفردانيّة individualism التي تعارض بالمطلق جميع المفاهيم الاجتماعيّة. إن الفردانيّة التي يقوم عليها سوق الرأسماليّة الحر تفرض رفع القيود الاجتماعيّة للسماح للقوى التي تحرّك السوق أن تعمل بحريّة. تعتمد هذه الفلسفة على القوّة الدافعة التي يولّدها طمع الأفراد ورغباتهم. حتى إن البعض من أكثر المؤيّدين لها أكّدوا انه لا يوجد شيء اسمه مجتمع، بل هناك فقط أفراد ينافسون بعضهم بعضًا. تتمتع الديمقراطيّة بإمكانيات أكثر بكثير مما يُعمل به حاليًّا والتي تُمكًنها من أن توفر إطارًا اجتماعيًا فعّالاً. ولكن من الواضح أن العديد من الأنظمة السياسيّة التي تدعي الديمقراطيّة ليست كذلك، وغالبًا ما اقتصر التعبير عن الديمقراطيّة على إجراء الانتخابات وعلى مظاهر نظام متعدد الأحزاب. إن الانتخابات نفسها معرّضة لسوء الاستعمال والتلاعب من قبل أصحاب المصالح الخاصة، وتوفر أشكالاً غير مشرّفة من التراشق بالتُهم المهينة وتحوير الحقائق لمكاسب سياسيّة.

من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، بناء أي شكل من أشكال التماسك الاجتماعي على مثل هذه الفلسفة. بالفعل، فقد شاهدت المجتمعات، التي تبنّت منطق السوق الرأسماليّة الحرّة والديمقراطيّة الغربيّة بحماس، تفككًا في روابطها الاجتماعيّة مما تسبّب في سيادة الاستياء والسخط والتنافر، كما يُشاهَد من خلال ازدياد الإدمان على المخدّرات، وارتفاع عدد الجرائم، والتصرّف غير الاجتماعي، وتطوّر ثقافة السلاح وحروب العصابات. إن الإنسان كائن اجتماعي تشده الحاجة للإنتماء إلى مجتمع ولكن إذا تبنّى مجتمعه أيديولوجيّة تؤدي إلى التفكّك، عندها، سيُعَبّر المُهَمَّشون على أطراف المجتمع عن سخطهم وخيبتهم بتخريب متعمّد للممتلكات، وبالإجرام، ويشكّلون مجموعات هدّامة خاصة بهم كالعصابات.

وبالتالي، يبدو أن هناك رؤيتين فقط لمستقبل الإنسانية: إحداها أيديولوجيّة ماديّة هادمة للمجتمع رغم أن لديها بعض الميزات الإيجابيّة، مثل تأكيدها على أهميّة حقوق الإنسان والحرّيات، وأهميّة العقلانيّة والعلم، ورفع شأن المرأة؛ والأخرى أيديولوجيّة دينيّة تسعى إلى العودة بنا إلى الماضي ولكن لديها أيضًا بعض القيم الإيجابيّة بالغة الأهميّة، مثل الأهميّة المحورية للدين في المجتمع، وأهميّة الأسرة وما إلى ذلك.

يعرض الدين البهائي رؤية ثالثة. إن بعض ما يقوله الدين البهائي هو أن الإنسانيّة بحاجة إلى إعادة النظر في رؤيتها للإطار الذي تقوم عليه مجتمعاتها. تَصوّر البشر خلال القرن العشرين، أن دولتهم تشكّل إطارهم الاجتماعي. ولكن لم يعد هذا الأمر يشكّل أساسًا ملائمًا لنظرة عالميّة. على الجنس البشري الآن أن يؤسس نفسه على رؤية “العالم كوطن واحد” وأن يعتبر أن شعوبه هم مواطنو هذا العالم.

يؤمن البهائيّون بأن حضرة بهاء الله قد أعطى هيكليّة لنظام اجتماعي مترابط، مسالم، مزدهر، متطوّر ومنصف يمكنه العمل على جميع المستويات، المحلّية، المركزية، والعالميّة. صفته المميّزة هي أنه لا يعرض رؤية لهذا المجتمع فحسب بل وأيضًا لنُظُم تُمَكن من بناء هذا المجتمع واستدامته لمدة طويلة.

ستتحقق رابطة الشعوب العالميّة في المستقبل عبر مرحلتين أساسيتين، وصفهما حضرة بهاء الله بـ ”الصلح الأصغر“ و”الصلح الأكبر“. الأولى لها علاقة بمرحلة من مراحل تطوّر المجتمعات البشريّة التي سيتمّ فيها “اتحاد سياسي بين قسمي العالم، الشرقي والغربي” و”بروز حكومة عالميّة“. يؤمن البهائيون بأن هذه الحقبة من الزمن لم يتنبّأ بها حضرة بهاء الله فحسب بل قد جاءت نبوءتها أيضًا في سفر أشعيا[4] ومن ناحية أخرى يؤمنون بأن أسس الصلح الأصغر وُضعت في القرن العشرين، والعالم يعمل على تطبيقها في الوقت الحاضر. ليس الصلح الأصغر مرحلة يُثمر فيها نظام حضرة بهاء الله العالمي بكامل ثماره، إذ إنّه محدود بحدود “اتحاد سياسي يَتَحَقّق بقرار من دول متعددة”[5] ومع ذلك، سيُمثّل الوصول إلى الصلح الأصغر “خطوة تاريخيّة بالغة الأهمية” في تاريخ البشريّة وسيتطلب “إعادة بناء العالم الإنساني نتيجة الإقرار بوحدته وتكامله”.[6]

عرض حضرة بهاء الله في أيامه الصلح الأصغر على قادة العالم كبديل للصلح الأكبر – وهو “صلح لا بدَّ من أن يَتْبع كنتيجة عمليّة لروحانيّة العالم وانصهار جميع أجناسه، عقائده، طبقاته ودوله [في وحدة متكاملة]” – وقد رفضوه: “لمّا نبذتم الصلح الأكبر عن ورائكم تمسَّكوا بهذا الصلح الأصغر لعلَّ به تصلح أموركم والذين في ظلّكم على قدر يا معشر الآمرين”.[7] إن حقبة الصلح الأكبر ستختلف عن عالمنا الراهن إلى درجة يتردد البهائيّون حتى في وصفها: “إن أية محاولة لتخيّله [الصلح الأكبر] بكامل إمكانياته، أو لتقدير منافعه المستقبليّة، أو لتصوّر بهائه، ستكون سابقة لأوانها حتى في مرحلة متقدّمة كهذه من تاريخ تطوّر الإنسانيّة. كل ما يمكن أن نحاول عمله ضمن المعقول هو السعي للحصول على لمحة تُبيّن أوّل خيوط شعاع يوم الفجر الموعود الذي عليه، مع نضوج الزمن، أن يطرد الظلمات التي تحيط بالإنسانيّة”.[8]

الصلح الأصغر

ينظر البهائيون إلى العالم على أنه قد تطوّر ببطء وبالتدريج في مراحل متعددة من الوحدة الاجتماعيّة بِدءًا بتوحيد العائلة، إلى القبيلة، وثم المدينة-الدولة city-state، وصولاً إلى الدولة. وعلى خط مواز يعتبرون أن العالم يمر بطريقة مماثلة في مراحل متعددة من التنمية الاجتماعية، شبيهة بالمراحل التي يمر بها الفرد أثناء تطوّره من الحضانة إلى الطفولة ثم المراهقة وهكذا إلى مرحلة البلوغ. ويعتبر البهائيون أن الإنسانيّة قد مرّت في مرحلتي الحضانة والطفولة وهي تصل إلى نهاية مرحلة المراهقة وستدخل الآن في مرحلة البلوغ. تتزامن وتتساوى هذه المرحلة من بلوغ الجنس البشري مع الإقرار الشامل بوحدة العالم الإنساني، وتأسيس وحدة الكرة الأرضية، وإقامة الصلح الأصغر، وهي تمثل آخر وأعلى مرحلة من تطوّر الحياة الإنسانيّة بأجمعها على هذا الكوكب، وهو أبعد حدود النظام الذي يستطيع المجتمع الإنساني أن يصل إليه.[9] كما مرّت الإنسانية في مراحل سابقة من تطوّرها، كذلك سيتدرّج الصلح الأصغر بحدّ ذاته عبر مراحل، تتحقق في كل منها درجات أعلى وأعظم من الاتحاد والعدالة الاجتماعيّة. في المراحل الأولى، “ستتصرف الحكومات من تلقاء نفسها” ولكن فيما بعد سيبدأ الدين البهائي بالتأثير على عملياتها.[10] وكما تُمَثّل مرحلة المراهقة أكثر المراحل اضطرابًا في تطوّر الفرد، كذلك تواجه الإنسانية بأكملها في هذه المرحلة اضطرابات مماثلة نتيجة الحروب، والأزمات على أنواعها، ومحاولات عديمة الجدوى للتفاعل بشكل إيجابي مع التغيير والتحديث. ولأن الناس لم يمتلكوا بعد القُدرات، والإستراتيجيات، والآليات الضرورية للتعامل مع مثل هذه التغييرات الجذريّة وبالغة الخطورة، فقد لجأوا إلى ردود فعل فوريّة غير ناضجة مثل العنف والإرهاب من ناحية، والمزيد من الضوابط الحكوميّة من جهة أخرى. وباعتقاد البهائيين أنَّ عمليّة نضج الإنسانية تتطلب تغييرًا عضوّيًا شاملاً في كل مؤسسة اجتماعيّة وفي هيكليّة المجتمع نفسه[11] وعلاوة على ذلك، تتطلب ابتكار آليّة قادرة على إدارة عالم موحّد بطريقة فعّالة. إن الإخفاق في التطور نحو النضج، وفي خلق مثل هذه الآليّة، يشكّل خطرًا على بقاء الإنسانية، كما أن تصرّف المراهق بغباء وتهوّر قد يعرّض مستقبله وحتى حياته إلى الخطر ما لم يصبح أكثر حكمة وهدوءًا ونضجًا.

في عام 1931م وصف حضرة شوقي أفندي ما هو المطلوب للسير قدمًا نحو الرؤية البهائيّة لمجتمع عالمي ناضج، يعمل بسلاسة، متّحد، مزدهر، يتميز بالعدالة، ومسالم. وقد وضع حضرته الخطوط العريضة للعناصر الأساسيّة الكامنة في أولى مراحل تأسيسه، مُدركًا تمام الإدراك المجهود الجبّار المطلوب، ومن دون التقليل أو التغاضي عن الحواجز الواجب تخطّيها.

إن أساس هذه العمليّة بكاملها هو الاعتراف بوحدة العالم الإنساني.[12] هذا المفهوم بحدّ ذاته يشكّل حاجزًا للكثيرين من المستحيل تخطّيه. يَرُدُّ النُقاّد بحدّة أن الناس فعلاً لا ينظرون بعضهم إلى بعض بهذا التوجّه، وأن هناك نفورًا بالغريزة بين الأجناس والثقافات، وسيبقى هكذا دائمًا. يقول البهائيّون إن الاعتراف بوحدة العالم الإنساني يأخذ مجراه فعليّا الآن. لقد أدى تطوّر وسائل المواصلات والاتصالات السريعة خلال السنوات المئة الأخيرة إلى إحداث تغييرات في المجتمعات حول العالم، وحوّلتهم من مجتمعات غالبًا ما افتقرت إلى التنوّع، إلى مدن وبلدات متعددة الثقافات، الأعراق، والأديان الأمر الذي أصبح من ميزات جميع البلدان. رغم أن المشاكل ما زالت متأصلة في حالات كثيرة، حيث تتمسك بعض المجموعات بذهنيّة انطوائيّة منغلقة، إلاّ أنه مع مرور الزمن، ومع استمرار اختلاط التلاميذ في المدارس، وعمل الناس معًا، وتزاوجهم عبر الخطوط العرقيّة والإثنيّة، نراها تتزايد باستمرار صعوبة المحافظة على الحواجز التي ميّزت مرحلة سابقة من مراحل تطوّر الإنسانيّة. يقدّم البهائيّون أنفسهم، من بين آخرين، كنموذج يُظهر كيف يُمكن لأُناس من خلفيات وأجناس دينيّة، قوميّة، لغويّة، ثقافيّة، وأعمار مختلفة بمن فيهم الرجال والنساء أن يحترم كل منهم تراثه وفي الوقت نفسه يعترفون بإنسانيتهم المشتركة. إن مفهوم “الوحدة في التنوّع” يُجسد للبهائيين “تنوّع الخلفيّة الإثنيّة، المناخ، التاريخ، اللغة والتقاليد، التفكير، والعادات التي تُميّز شعوب ودول العالم” والتي لا يجوز تجاهلها أو إخمادها نتيجة التوجه نحو إنتماء أوسع يشمل الإنسانيّة بكاملها”.[13]

إن إنجاز هذه المرحلة الحيويّة والصعبة سوف يؤدي إلى إعادة هَيْكَلَةِ نَواحٍ عديدة من الحياة الإنسانية، وتطوير الآلية الدوليّة الضروريّة لتنظيم وصيانة مجتمع عالمي. يرى البهائيّون أنه في المستقبل سيتطوّر إلى “نوع من الدولة العالميّة” [14]world super-state بقيادة حكومة عالميّة، و”اتحاد فدرالي”.[15] ولكن لن يكون هذا تطوّرًا عشوائيًّا، وإنما هو تطوّر طبيعيّ لمجتمع إنساني قطع مراحل من النموّ الاجتماعي بدءًا من العائلة وصولاً إلى الدولة، ويتابع طريقه الآن نحو مجتمع على نطاق عالمي شامل.

يَجْفل النُقاد من مجرد فكرة الحكومة العالميّة، ويستشهدون بمحاولات هتلر وستالين لفرض حكومة غير إنسانيّة على شعوب بكاملها، ويُشيرون إلى القصص الخياليّة الكثيرة التي تُصوّر حكومة عالميّة على أنها حكومة مستبدّة مع ما يرافقها من قيود على الحريّات. ومع ذلك، يرى البهائيّون أن حكومة عالميّة هي نتيجة حتميّة ومُرحب بها لتحرّكات وعمليات تحصل حاليًّا في العالم، وهي حكومة ستُنَمّي الوعي تجاه الوحدة والاتحاد مما سيدعم مشاعر التعاون على النطاق الدولي، ويُمَكِّن السلام الشامل من أن يتحقق مع تجنّب أخطار المركزيّة السياسية المفرطة. وسيكون لهذه الحكومة دستور فدرالي يشتمل على عدة عناصر ديمقراطيّة؛ وعلاوة على ذلك، ستتشكل بإرادة سياسية – أي بقرار من حكومات الدول – وستتأسس بموجب معاهدة. لن تأتي هذه الحكومة نتيجة لعمل عسكري، أو اقتصادي، أو بالإكراه. إن البهائيّين هم على يقين بأن حكومة كهذه لن تَفرضها دولة واحدة قويّة على جميع الآخرين، ويلفتون النظر إلى أن المحاولات كافة لفرض مثل هذه السيطرة قد أثبتت أنها مستحيلة المنال لأنها تفتقد موافقة الإنسانيّة جمعاء من ناحية، والمتطلبات الروحانيّة للاتحاد من ناحية أخرى. أفضل وسيلة لمنع مساعي الإرهابيين والأشخاص ذوي الميول الهتلريّة للسيطرة على العالم ودحرهم، تعاون حكومات راغبة فيه والعمل معًا بروح الأمن الجماعي.

إضافة إلى ذلك، يجب أن تؤدي ميزات الحكومة العالميّة التي يتصوّرها البهائيون إلى تبديد المخاوف الطبيعيّة التي يولدها مثل هذا النظام غير المألوف. لذلك، وعلى سبيل المثال، تبقى الدول في هذا النظام ذات سيادة، إلاّ أنّه يجب التضحية ببعض عناصر السيادة، بما فيه تنازل الدول عن القيام على المسرح العالمي بعمل عدواني، ظالم، غير مسؤول، أُحادي الجانب، مستقلّ عن أي أطراف أخرى، كي تتمكن الحكومة العالميّة من أن تعمل بفعّاليّة.

إن قيمة مثل هذه الحكومة العالميّة واضحة من المنظور البهائي. فهي ستضمن الاستقرار السياسي والسلام في العالم، مما يُمَكّنها من التركيز على استئصال الفقر، والتنمية المستدامة وحماية البيئة، والتغلب على الكوارث الطبيعيّة، وترويج مواقف وسلوكيات على نطاق الفرد والمجتمعات تؤدي إلى نبذ الإجرام والتصرّفات المضرّة بالمجتمع مثل تعاطي المخدّرات والاتّجار بالرقّ. ويعتقد البهائيّون أن الأدوات الضروريّة لابتكار الآليات التي ستحقق السلام يمكن تحويلها أيضًا إلى علوم وفنون تفيد الإنسانيّة. حالما يتحقق الاتحاد والسلام بشكل مستقرّ، وتتشكّل حكومة فاعلة، سيتغير الاقتصاد العالمي، كما تشير الكتابات البهائيّة، إلى درجة تتقلص فيها الهوّة بين الأغنياء والفقراء على نطاق الأفراد والدول، وسيتحوّل مدخول الضرائب الذي يصرف حاليّا على الدفاع وآلة الحرب، إلى التنمية مما يزيد في ازدهار الإنسانيّة بوجه عام.

يرى البهائيّون أن الخطوة الأولى باتجاه إقامة حكومة عالميّة هي الدعوة إلى عقد قمّة عالميّة لبحث السلام العالمي. يتوقع البهائيّون أن قادة الدول أنفسهم سيوجّهون الدعوة لمثل هذه القمّة ويشاركون فيها، ويوقّعون على المعاهدة الضروريّة لإنشاء الحكومة العالميّة، رغم أنه ليس ضروريًا، من المنظور البهائي، أن توافق جميع دول العالم على تشكيل حكومة عالميّة: يكفي فقط أن يوافق “عدد منهم” على ذلك.[16] من المُمكن أن تُدعى مثل هذه القمة، في البداية، لهدف إصلاح الأمم المتحدة، أو لبحث تطوّر آخر في مجال المؤسسات على النطاق العالمي. وفي أية حال، فإن حضرة عبدالبهاء، مع نهاية القرن التاسع عشر، وضع بنودًا لجدول أعمال القمّة منها: تأسيس “إتحاد الدول”، تخفيض مستوى السلاح لدى الدول، ترسيم الحدود، إقرار طريقة تفعيل الأمن الجماعي، ووضع مبادئ القانون الدولي الذي يرسم الإطار السليم لعلاقات الدول بعضها مع بعض.[17] وسيصادق على المعاهدة الناتجة عن هذه القمّة، بموجب ما يراه حضرة عبدالبهاء، “الجنس البشري بكامله”[18] ربما بواسطة استفتاءات دوَليّة أو بأسلوب انتخابي آخر. من هنا يعتقد البهائيّون أن الحكومة العالمية ستتكوّن من القاعدة إلى القمّة، لا من القمّة إلى القاعدة؛ وستُشكّل، ولن تُفرض فرضًا؛ وستكون لديها سلطات تمنحها إيّاها الحكومات لا أن تنتزع منها. وعلاوة على ذلك، ستَمنحها الدول التي تؤسسها سلطات محدودة تتزايد مع الزمن. مع ذلك، وفي طبيعة عمل كافّة المنظّمات الفدراليّة فإن مبدأ التبعيّة هو الذي سيطبّق، والذي يعني، بكلمات أخرى، أن للسلطة العليا أن تتصرّف فقط في المهام التي لا يمكن للمستويات الأدنى القيام بها بفعاليّة.

من الخطوات المهمّة باتجاه انشاء مثل هذه الحكومة العالميّة المفيدة، بموجب ما قاله حضرة شوقي أفندي، “حتميّة تقليص السيادة غير المحدودة للدولة”.[19] المفتاح هنا هو قيام الدول بهذا العمل [بكل طِيب خاطر]، لأن فرض مثل هذه الخطوة بالقوّة لن يؤدي إلى تأسيس الحكومة العالميّة التي يرتئيها البهائيون. إن رغبة الدول في اتخاذ مثل هذه الخطوة ستستمد قوّتها من ناحية، نتيجة إدراكها لمصالحها الذاتيّة – وهي الرؤية الواضحة بأن سلامة وبقاء الدولة يعتمد على تعاونها في تأسيس حكومة عالميّة– ومن ناحية أخرى، الدفع الحاصل من تشرّب حكومات الدول المتعاونة في هذا المضمار شيئًا على الأقل من القيم الأخلاقيّة والمواقف والممارسات التي أشار إليها حضرة بهاء الله على أنها من متطلبات إدارة شؤون الدولة بنضج
سياسي Statesmanship.

أما بالنسبة لمعالم السلطة التي يجب أن تُقَلّص فهي:

  •  كل حق في إعلان الحرب،
  •  ”بعض الحقوق المحددة للدولة في فرض الضرائب”
  •  ”كل الحقوق في الاحتفاظ بالسلاح ما عدا الضروري منها للمحافظة على الأمن الداخلي والنظام ضمن حدود سيادة الدول”.[20]

قد يكون موضوع الحدّ من السلاح هو أكثر الحقوق البديهيّة التي يجب على حكومات الدول أن تضعها تحت سيطرة حكومة عالميّة. إن فوائد عالم خال من الحروب واضح. وما زالت بعض البلدان تحاول منذ عقود أن تحدّ من حقوق دول أخرى لإقامة الحرب، وقد فرضت ضوابط تحدّ من إمكانياتها في إعلان الحرب بطريقة شرعيّة. يُشير البهائيون إلى أن عدم نجاح هذه المحاولات بالشكل المرتجى، هو تحديدًا السبب الذي يتطلب تفعيل إجراءات أكثر صلابة. فقد استنكر كلٌّ من حضرة بهاء الله وحضرة عبدالبهاء، ثقل الضرائب المرهقة التي يفرضها على شعوبهم حكّام مسرفون ومتعطشون للحرب، لذا ليس مستغربًا أن نجد عناصر السيادة الوطنية هذه ضعيفة ومجتزأة. قد يكون لتحديد تكديس الأسلحة وتقليص فرص اشعال الحروب فائدة إضافيّة في تخفيض الضرائب. وفي الوقت نفسه، لا شك أن الحكومة العالميّة سوف تكون بحاجة لموارد ماليّة، ومن المحتمل أن تُفرض ضرائب لهذه الغاية.

مع أن هذا قد يبدو إنجازًا بعيد المنال، فلابد من الإشارة، على سبيل المثال، إلى أن عناصر السلطة التي ذكرت أعلاه هي نفسها التي تنازلت عنها كل ولاية من الولايات المتحدة الأمريكيّة على حدة لمصلحة حكومتها الفدراليّة. وفي مقابل هذا التقييد لسلطتها، تحصل الولايات الأمريكيّة على حماية الحكومة الفدراليّة من أي غزو أو حرب تشنّها ولايات أخرى أو دول أجنبيّة عليها، وهي تحررت من الحاجة إلى تكديس كميّات كبيرة من الأسلحة وتدريب أعداد كبيرة من الجنود. كما تحررت أيضًا من الحاجة لإصدار عملات خاصة بها، والتفاوض مع حكومات أخرى حول استيراد وتصدير منتجاتها. ينتقل الأمريكيون بكامل الحريّة عبر حدود الولايات، ويستطيعون العمل في الولايات المتحدة أينما كانت الوظيفة، ويسكنون في أية ولاية تناسبهم، مستفيدين من الفرص والتسهيلات التي تقدّمها تلك الولاية. البهائيون يتصورون وضعية مماثلة كهذه في عالم فدرالي.

وتجدر الإشارة إلى عدد من الميزات الديمقراطيّة للحكومة العالميّة المنتظرة. سيكون لها أولاً دستورٌ فدراليّ. وبالتالي، فإن الولايات المُكَوِّنة للفدراليّة ستَمنح حقوقًا ومسؤوليات للحكومة العالمية غير قابلة لإبطالها، وثانيًا، سيكون هناك فصل بين سلطات الحكومة القضائية، والتشريعية، والتنفيذية. وسيكون للحكومة العالميّة الفدراليّة ثلاثة مقومات:

  •  هيئةٌ تنفيذية عالمية تستطيع أن تفرض سلطتها العليا، التي لا ينازعها فيها أحد، على كل عضو معاند من أعضاء المجتمع الدولي؛
  •  برلمانٌ عالميٌ ينتخب أعضاؤه من بين شعوب الأقطار وتصادق على انتخابهم حكومات الأقطار ذاتها؛
  •  محكمة عدل عليا تكون أحكامها مُلزِمة للفرقاء المعنيين حتى في الحالات التي يمتنع فيها أولئك الفرقاء عن عرض قضيتهم عليها طوعًا.[21]

إن الهيئة التنفيذيّة العالميّة “مُرادفة للرئيس أو المجلس التنفيذي في حكومات الدول في يومنا هذا”،[22] وعلى الدستور أن يوضّح فيما إذا وجب انتخاب أو تعيين هذه الهيئة أو الفرد. وأمّا مركز السلطة العليا، فهو بيد الهيئة التشريعيّة المنتخبة، لا الهيئة التنفيذيّة، خصوصًا وأن أعضاءها يُعتبرون “أمناء الرحمٰن لمن في الإمكان” والقصد هو أنها “بالنهاية ستسيطر على كافة موارد جميع الدول المشاركة”[23] وسينتخب أعضاء الهيئة القضائيّة “شعوب وحكومات جميع الدول”،[24] والهيئة “ستتشكل من أعضاء منتخبين من كل بلد وحكومة” وهكذا “ستمثّل جميع الحكومات والشعوب”.[25] ويقدم حضرة عبدالبهاء بعض التفاصيل عن كيفيّة إجراء هذا الانتخاب.[26]

هذه الحكومة العالميّة “ستُدعم بقوّة دوليّة”[27] – قوة من الشرطة أو الجيش – وستعمل ضمن نظام من الأمن الجماعي:

…أَنِ اتَّحِدُوا يا مَعْشَرَ المُلُوكِ بِهِ تَسْكُنُ أَرْياحُ الاخْتِلافِ بَيْنَكُمْ وَتَسْتَرِيحُ الرَّعِيَّةُ وَمَنْ حَوْلَكُمْ إِنْ أَنْتُمْ مِنَ العارِفِينَ، إِنْ قَامَ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى الآخَرِ قُومُوا عَلَيْهِ إِنْ هذا إِلاَّ عَدْلٌ مُبِينٌ…[28]

من معالم الديمقراطيّة الأخرى التي ستعمل بها الحكومة العالميّة: الحكم الذاتي للدول الأعضاء؛ حق الانتخاب للجميع؛ حريّة الفرد؛ حريّة التصرف و”اتخاذ المبادرة الفرديّة”؛[29] تحرير الصحافة “من تأثير الحكومات والشعوب المتنافسة”،[30] مساواة الناس أمام القانون؛ مساواة النساء والرجال؛ المحافظة على حقوق الأقليات؛ حريّة الضمير؛[31]حريّة التفكير؛ حريّة التعبير؛[32] وحريّة الدين.[33]

تتَطلبُ هذه الحكومة من أعضائها المنتَخبين مُستوىً عاليًا من الحنكة السياسيّة Statesmanship والسلوك الأخلاقي. وفي إشارته إلى أعضاء المحكمة العالميّة، بيّن حضرة عبدالبهاء أنّ الذين يمكن أن يخدموا فيها هم فقط “نخبة”[34] الأفراد، على أن يتم “اختيارهم من بين أكثر الرجال حكمة وحصافة في دول العالم كافة”.[35] وقد عرّف حضرته الصفات الضروريّة لأولئك الذين يعملون في خدمات الحكومة على أنها “الاستقامة والأمانة”، “الاعتدال وضبط النفس”، “العفّة والطهارة”، “العدالة والإنصاف“.[36] وهذه الصفات القياديّة مرادفة للفضائل التي على كل فرد أن يطورها لذاته.

أشاد البهائيون بتأسيس كلٍّ من عصبة الأمم وبعدها الأمم المتحدة معتبرين أنها خطوات باتّجاه تأسيس حكومة عالميّة، مع إدراكهم بجوانب الضعف والخلل فيهما. يساند البهائيّون اليوم الأمم المتحدة، ولكنهم يعتبرونها بأمسّ الحاجة إلى الإصلاح وإلى حيويّة جديدة، وقد قدّموا اقتراحات متعددة لهذا الغرض.[37] لا يَصرف البهائيّون النظر عن إمكانيّة إعادة صياغة كيان الأمم المتحدة لتصبح حكومة فدراليّة، أو إصلاحها إلى درجة تُمكّنها من القيام بمهام حكومة عالميّة عوضًا عن البقاء كمكان لاجتماع الدول المستقلّة – رغم أهميّة ذلك. إن ما يراه البهائيّون بوضوح هو أنه يجب أن تكون الحكومة العالميّة قادرة على التعامل بشكل مؤثر مع التغييرات الهائلة التي ستحصل خلال المرحلة التي يحوّل فيها العالم ذاته إلى مجتمع متّحد، وعليها أن تمتلك تلك الدرجة من القوّة التي تُمكّنها من مجابهة التحدّيات التي ستواجه عمليّة الاتحاد من أطراف سياسيّة وفرديّة تعارضها باستياء.

وصف حضرة شوقي أفندي، عام 1936م، معالم المجتمع العالمي الذي توقّع أنه سيتكوّن تدريجيًّا خلال الاعتراف الشامل بوحدة العالم الإنساني:

“سيتم اختراع تقنية لتبادل الاتصالات عالميًّا تغطي جميع أنحاء هذه المعمورةِ، متحررة من أية عوائق وقيود قومية، وتعمل بسرعة عجيبةٍ ودقة مُتناهِية”.[38] وستعمل عاصمة عالمية بمثابة العصب النابض لحضارة عالميّة تتوجه إليها جميع القوى المُوحّدة للحياة، ومنها تشعّ طاقاتها المؤثّرة والمُحرّكة. وسيتم ابتكار لغة عالميّة، أو اختيارها، من بين اللغات الموجودة، وستُدَرّس في مدارس جميع الدول المنتمية إلى الفدراليّة العالميّة، كلغة إضافية على لغة الأمّ. وما سيؤدي إلى تبسيط وتيسير العلاقات والتفاهم فيما بين دول العالم وما فيه من أجناس بشريّة هو وجود خط عالمي، أدب عالمي، ونظام موحّد للعملة والأوزان والمقاييس.[39]

وقد وصف حضرة شوقي أفندي أيضًا الفوائد والإنجازات التي ستتحقق عندما يتقدّم المجتمع العالمي ويتكامل أداؤه:

في مثل هذا المجتمع العالمي، سيتّفق الدين والعلم وهما القوّتان ذات الفاعليّة القصوى في حياة الإنسان، وسوف يتعاونان ويتطوّران بانسجام. وفي ظل هذا النظام ستتحرر الصحافة، وهي التي تُعَبّر عن جميع ما لدى البشر من آراء وقناعات مختلفة، من عبث أهواء المصالح الخاصة، الشخصيّة منها أو العامة، ومن ضغوط حكومات وشعوب العالم المتنافسة والمتنازعة. وستُنظّم موارد العالم الاقتصاديّة، وتستثمر مصادر مواده الأوليّة وتستخدم بشكل كامل، وتنسق أسواقها التجاريّة، وسينضبط توزيع وتسويق إنتاجها إنضباطًا عادلاً. وستتوقف المنافسة، الكراهيّة، الخداع والتآمر بين الدول، وسيحلّ مكان العداوة والتعصب العرقي الوفاق والتفاهم والتعاون فيما بين الأجناس البشريّة. وستُرفع نهائيًّا أسباب النزاع بين الأديان، وستلغى الحواجز والقيود الاقتصادية إلغاءً كاملاً، ويزول التمييز المجحف بين الطبقات. وسيختفي الفقر المدقع من ناحية والملكيّة المفرطة من ناحية أخرى. وستكرّس الطاقات الهائلة المبدّدة والضائعة على الحروب، اقتصادية كانت أو سياسيّة، على اتّساع دائرة الاختراعات الإنسانيّة والتطوّرات التقنيّة، وذلك بهدف زيادة إنتاج البشريّة، القضاء على الأمراض، اتساع الأبحاث العلميّة، رفع مستوى العناية بالصحّة الجسديّة، تنمية عقل الإنسان وتهذيبه، استثمار موارد الكرة الأرضيّة غير المستعملة والتي لم تكن في الحسبان، إطالة أمد حياة الإنسان، ولدعم أية هيئة تعمل على تنشيط حياة الإنسانيّة الفكريّة، والأخلاقيّة والروحانيّة بكاملها.[40]

آليات الصلح الأصغر

مع تقدم الإنسانية نحو المراحل الأولى من الصلح الأصغر، وولوجها فيه، سيُطوّر المجتمع الآليات ويخلق المؤسسات والعمليات التي تعمل في اتجاهين هُما، المساعدة في إرساء قواعد الصلح الأصغر، وحث المزيد من التقدم نحو إنجازه. عرّف حضرة بهاء الله عددًا من هذه القواعد ومنها؛ اختيار أو ابتكار لغة عالمية مساعِدَة مع خطّها، تحديد معايير عالميّة للأوزان والمقاييس، صكُّ عملة عالميّة واحدة وتأسيس “مخازن إيداع” أو أمكنة لإيداع الأموال في المجتمعات.

دعا حضرة بهاء الله الإنسانيّة في كتابه الأقدس لتتبنّى لغة عالميّة مع خطّها “هذا سبب الاتّحاد… والعلّة الكبرى للاتّفاق والتّمدن”.[41] توجد مرحلتان لهذه العمليّة: الأولى هي اختيار حكومات العالم للغة أو ابتكارها، ليتعلمها الأطفال حول العالم كلغة إضافيّة مساعدة للغة الأمّ؛ وثانيًا إعتماد لغة وخط واحد للجميع في وقت لاحق.

وبالمثل، فإن تبنّي نظام واحد للأوزان والمقاييس سيُبسط التصنيع وعمليّات صناعيّة أخرى ويسهّل التجارة والأعمال على النطاق الدولي. وفي وقت أصبحت فيه الأسواق الماليّة الدوليّة أكثر عُرضة للتقلّب بسبب الأوضاع العالميّة، وأصبحت الحدود الدوليّة قابلة للاختراق أكثر من ذي قبل، ويتنقل المال حول العالم بسرعة متزايدة، وفي الوقت الذي وضع فيه الإتحاد الأوروبي عملة خاصة به، وتفشى تبييض الأموال لدعم الإرهاب، أصبح نداء حضرة بهاء الله لوضع نظام نقدي موحّد ليس فقط ممكنًا، بل عمليًّا ومنطقيًّا. إن وجود عملة عالميّة واحدة لن يقضي على المضاربة في أسواق النقد فحسب، بل سيسهّل إلى حدّ كبير المعاملات التجاريّة ويقلّص الهوّة بين الدول الغنيّة والفقيرة.

طَرَحَ حضرة عبدالبهاء فكرة تأسيس ما وصفه بأنه “مخازن” في كل قرية وبلدة ومدينة حتى “يتمكّن كل فرد في المجتمع أن يعيش بارتياح وسعادة ودون مِنّة أحد”.[42] إن فكرة المخازن، أو مخازن المال، هي أن كل فرد ذي مدخول، يساهم فيها كضريبة صغيرة. وللمخزن مصادر تمويل أخرى: من موارد الزراعة والحيوانات والمناجم، ومن ممتلكات المتوفين الذين لم يكتبوا وصيّة، ومن اكتشاف الكنوز الدفينة في الأرض. يُشرف على إدارة المخازن أُمناء منتخبون، ويستفيد منه أولئك الذين هم بحاجة إلى مساعدة طارئة؛ اليتامى والمعاقون والفقراء والكبار في السنّ. وما يتبقى في المخزن بعد العناية بالجميع، وتسديد المصاريف، يُحوّل إلى خزينة الدولة. وسيعمل نظام أكثر تعقيدًا في المدن الكبيرة. هذا الإجراء هو أسلوب من الأساليب للقضاء على أقصى درجات الغِنى والفَقر التي تضرّ وحدة المجتمع وتماسكه.

الصلح الأكبر

إن أولى مراحل الصلح الأصغر تتمثّل في “اتحاد سياسي يتحقق بنتيجة قرار تتخذه حكومات دول متعددة”.[43] وهم يُقْدِمون على هذا العمل بمفردهم، من دون أية مشاركة متعمّدة أو مباشرة من قبل بهائيين، أو أية خطة أو مجهود من قبل المجتمع البهائي. البهائيون يساندون العمليّة – حيث جعل حضرة بهاء الله من واجبات بيت العدل الأعظم ترويج الصلح الأصغر[44] – ولكنّهم لا ينخرطون مباشرة في تطويرها. يرى البهائيّون دورهم في هذه المرحلة على أنه تمهيد لتحضير الأرضيّة للسلام عن طريق ترويج مبادئ دينهم، وبناء مؤسساته، وبذلك يُوجِدون، من ناحية، المحيط الذي يمكن للسلام أن يتأسس ويستديم فيه، ومن ناحية أخرى يُطَّوّرون هيئات تَكون نموذجًا للمجتمع العالمي في المستقبل.

بينما يتبلور الصلح الأصغر، ويزداد المجتمع العالمي رسوخًا، سيكون للدين البهائي ولتعاليم حضرة بهاء الله دورٌ مباشرٌ وتأثير أكبر من ذي قبل على تطويره، وسيُقدّم النصح للحكومات ويعرض عليهم نموذج الإدارة البهائيّة التي ستُشكّل نمط الحكم على الكرة الأرضية كما يعتقد البهائيّون.[45]

يرى البهائيون أن مسار المجتمع الإنساني في تحوّله من وضعه الحالي مرورًا بالصلح الأصغر ووصولاً إلى الصلح الأكبر سيكون مسارًا طويلاً وتدريجيًّا. وبينما يسير العالم في هذه العمليّة، يسير الدين البهائي بنفسه في مراحل مختلفة من تطوّره داخليًّا وخارجيًّا: مراحل من “المجهولية المطلقة ثم القمع المُركّز ثم التحرير التام والذي سيؤدي بدوره إلى الإعتراف به كدين مستقل يتمتع بالمساواة التامة مع باقي الديانات، ليتبع ذلك ترسيخه والإعتراف به كدين دولة، والذي سيؤدي بدوره إلى حصوله على تلك الحقوق والامتيازات المرتبطة بالدولة البهائية، بحيث يبدأ بالعمل بكامل طاقته، وهي مرحلة ستؤدي في النهاية إلى بزوغ رابطة الشعوب البهائيّة لتعمل في انسجام تامّ مع روح أحكام ومبادئ حضرة بهاء الله“.[46] يتزامن تأسيس رابطة الشعوب البهائيّة مع “العصر الذهبي” للدين البهائي، والوصول إلى الصلح الأكبر و”تَفَتُّح” حضارة عالميّة، “مُلهَمة بإلهامات غيبيّة، فريدة في معالمها، محيطة بالعالم في مداها، وروحانيّة في جوهرها”.[47]

المجتمع المميّز بالروحانيّة

يعتقد البهائيّون أن طريق التحوّل من الوضع الفوضوي الحالي للمجتمع العالمي إلى قيام رابطة شعوب عالميّة فاعلة بشكل كامل سيكون معقّدًا وطويلاً وشاقًا. في أثناء هذا المسار الطويل ستظهر أخطار وتحدّيات كثيرة ومن المنتظر حدوث نكسات. ومن المتوقّع أن لا تكون المراحل الأولية خالية من الصدام – لذلك تبرز الحاجة إلى قوى عسكريّة أو شرطة دوليّة، وإلى وجوب تحديد مستوى التسلّح على المستوى الوطني، وضرورة العمل بمبدأ الأمن الجماعي. ومع ذلك، وبينما يجتاز المجتمع هذا المسار، على أعضائه أن يُبقوا تركيزهم على تطوّرهم الرّوحاني بالإضافة إلى تقدّمهم الاجتماعي. على المجتمع بذاته أن يبقى روحانيًّا خلال هذه الرحلة الطويلة. لقد حذّر حضرة بهاء الله بنفسه “أن التمدّن… لو يتجاوز حدّ الاعتدال… إنه يصير مبدأ الفساد في تجاوزه كما كان مبدأ الإصلاح في اعتداله”،[48] كما ذكّر الإنسانيّة بأن هدفها هو “المضي قُدُمًا بحضارة دائمة التّقدم” وأن الفضائل التي يحتاجها الأفراد على هذا المسار هي “التسامح، الرأفة، الشعور مع الغير واللطافة المُحبّة تجاه جميع سكان وشعوب الأرض”،[49] وهي نفس المقوّمات الضروريّة لكل مرحلة من مراحل حياة الفرد. يحتاج المجتمع الروحاني إلى أُناس روحانيين يَعرفون أنفسهم ويَعرفون خالقهم.

[1])   بهاء الله، Bahá’u’lláh, 1983, p. 215، (ترجمة مترجم الكتاب)

[2])   Century of Light, p. 135، (ترجمة مترجم الكتاب)

[3])   شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1980, p. 113

[4])   شوقي أفندي، 1965، ص 33: الإصحاح الثاني الآيات 2–4 الإصحاح التاسع الآيات 6–7 الإصحاح الحادي عشر الآيات 1–10

[5])   بيت العدل الاعظم Universal House of Justice, 1985a، (ترجمة مترجم الكتاب)

[6])   شوقي أفندي،  ،Shoghi Effendi, 1980, p. 122(ترجمة مترجم الكتاب)

[7])   بهاء الله، الواح حضرة بهاء الله إلى الملوك والرؤساء…، ص 61

[8])   شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1991, pp. 34–5، (ترجمة مترجم الكتاب)

[9])   شوقي أفندي، المصدر أعلاه،   p. 163

[10])  بيت العدل الاعظم، Universal House of Justice, 1985b، (ترجمة مترجم الكتاب)

[11])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1991, p. 43

[12])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1980, p. 122

[13])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1991, p. 42، (ترجمة مترجم الكتاب)

[14])  شوقي أفندي، p. 40 (ترجمة مترجم الكتاب)

[15])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1982, p. 167، (ترجمة مترجم الكتاب)

[16])  عبد البهاء، Abdu’l-Bahá, 1990, p. 64’، (ترجمة مترجم الكتاب)

[17])  عبد البهاء، المصدر أعلاه، pp. 64–5

[18])  عبد البهاء، المصدر أعلاه، p. 64 (ترجمة مترجم الكتاب)

[19])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1991, p. 40، (ترجمة مترجم الكتاب)

[20])  شوقي أفندي، المصدر أعلاه، p. 40، (ترجمة مترجم الكتاب)

[21])  شوقي أفندي، من كتاب بهاء الله والعصر الجديد، ص 329–330 (مترجم)

[22])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1934، (ترجمة مترجم الكتاب)

[23])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1991, p. 203، (ترجمة مترجم الكتاب)

[24])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1967, p. 155، (ترجمة مترجم الكتاب)

[25])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1978, p. 249، (ترجمة مترجم الكتاب)

[26])  عبد البهاء، المصدر أعلاه   p. 306

[27])  شوقي أفندي، ،Shoghi Effendi, 1991, p. 203 (ترجمة مترجم الكتاب)

[28])  بهاء الله، الواح حضرة بهاء الله إلى الملوك والرؤساء، ص 61

[29])  عبد البهاء،  ،‘Abdu’l-Bahá, 1978, p. 302; Shoghi Effendi, 1991, 203(ترجمة مترجم الكتاب)

[30])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1991, p. 204، (ترجمة مترجم الكتاب)

[31])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1934; ‘Abdu’l-Baha, 1980, p. 87))

[32])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1982, p. 197

[33])  عبد البهاء، Shoghi Effendi, 1980, p. 86

[34])  عبد البهاء،‘Abdu’l-Bahá, 1978, p. 306 ، (ترجمة مترجم الكتاب)

[35])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, in Star of the West, 1914, p. 117، (ترجمة مترجم الكتاب)

[36])  عبد البهاء،  ،‘Abdu’l-Bahá, in Compilation, 1991, vol. 2, p. 342)(ترجمة مترجم الكتاب)

[37])  راجع الجامعة البهائيّة العالميّة، Baha’i International Community, 1995b

[38])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1991, p. 203، (ترجمة مترجم الكتاب)

[39])  شوقي أفندي،  ،Shoghi Effendi, 1991, p. 203(ترجمة مترجم الكتاب)

[40])  شوقي أفندي، المصدر أعلاه ص 203–4 (ترجمة مترجم الكتاب)

[41])  بهاء الله، الكتاب الأقدس، فقرة 189

[42])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1945, p. 41، (ترجمة مترجم الكتاب)

[43])  بيت العدل الاعظم، Universal House of Justice, 1985a، (ترجمة مترجم الكتاب)

[44])  بهاء الله، 1988b, p. 89 Bahá’u’lláh,

[45])  بيت العدل الاعظم، Universal House of Justice, 1983

[46])  شوقي أفندي، ظهور عدل الهي ص 32 (ترجمة مترجم الكتاب)

[47])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1971, p. 75، (ترجمة مترجم الكتاب)

[48])  بهاء الله، منتخباتي…، فقرة رقم 164، ص 220

[49])  بهاء الله، المصدر أعلاه،  p. 215(ترجمة مترجم الكتاب)

7 حياة المجتمع البهائي

تهدف تعاليم حضرة بهاء الله، كما ورد ذكره في الفصل الخامس، إلى إجراء تغيير جذري في المجتمع: أي تغيير المجتمعات الحاليّة ذات الهيكليّة الهرميّة إلى مجتمعات تسود فيها، وإلى درجة أكبر، المساواة بين الجميع، والتي تعترف بوحدة العالم الإنساني، وتتحرّك بموجب قيم روحانيّة. لقد وُضع كيان الدين البهائي وأسلوب نظامه بطريقة تؤدي إلى تحويل هذه الرؤية إلى حقيقة. فبينما تطوّرت مجتمعات معظم الأديان تدريجيًّا وغالبا دون منهجيّة مبرمجة مسبقًا، عبر قرون عديدة، وهي تتفاعل مع قوى المجتمع المُتغيّر، خُلِقَ المجتمع البهائي نتيجة تصميم متعمّد نُفِّذَ تحت الإشراف المباشر لمؤسس الدين البهائي ومن خَلَفَه، ليُجسد عمليًّا تعاليم الدين.

إن القيم والتوجّهات والتصرّفات والممارسات والسلوكيات التي تدعم وتحرّك المجتمع البهائي، هي نفسها القيم التي، في أحد جوانب الطيف الاجتماعي، تصوغ معالم العائلة البهائيّة المترعرعة بهدايتها، وفي الجانب الآخر تشكّل أساسًا لرؤية الدين بالنسبة لمجتمع عالمي شامل فعّال. بناءً على هذا، وتماشيًا مع التوجّه البهائي تجاه الترابط فيما بين كافة نواحي الدين والحياة نفسها، فليس المجتمع البهائي مجرّد هيكل اجتماعي هدفه تنظيم شؤون البهائيين، ولكنه يوفّر موقعًا آخر خارج المنزل حيث تُنمو فيه كل العناصر الروحانيّة والجسمانيّة والعاطفيّة والذهنيّة والتربويّة التي يحتاجها الفرد للفرد وللعائلة والمجتمع البهائي، وتطوّر إلى درجة أسمى. وتُعتَبَر الجامعة البهائية مكان، عدا عن البيت، يُمكن فيها اليوم، وبسهولة، ممارسة وتطبيق القيم والمواقف والسلوكيات التي يروّجها الدين البهائي. إن التأكيد على ممارسة القيم والتوجّهات والسلوكيات في المجتمع هو نفس التركيز على ممارستها في البيت: ومنها قيم مثل الانصاف والاتحاد، وتوجهات من قبيل أهميّة الروحانيّة والتعبّد، وأخلاقيات مثل خدمة الغير، وممارسات مثل التشاور.

هذه المواضيع الرئيسيّة تعطي المجتمع البهائي بعض الصفات المميّزة، من أهمها المساواة فيما بين جميع الأفراد في المجتمع، وأسلوب إدارة هذه المجتمعات، وعلى الأخص نظام الانتخابات وطريقة ممارسة عمليّة اتخاذ القرار بالتشاور، والعهد والميثاق البهائي الذي هو محور تماسك الدين البهائي وهو الذي يُوْسس ويَدعم وحدته.

لا يمكن إيفاء موضوع الحياة البهائيّة الاجتماعيّة حقه في كتاب صغير كهذا كونه واسعًا للغاية. لذلك يكتفي هذا الفصل بعرض رؤوس أقلام أساسيّة عن هيكلية وطريقة عمل المجتمع البهائي، ليطّلع القارئ على مؤسساته ويتعرّف على بعض الاصطلاحات ومعانيها، والتي سيصادفها في ما يقرأه مستقبلاً عن هذا الموضوع. وللحصول على معلومات إضافيّة عمّا ورد ذكره باختصار في هذا الفصل يرجى مراجعة المواقع على شبكة الإنترنت والكتب عن الدين البهائي المدرجة في الملحقين رقم 2 و 3.

المساواة والسلطة والنفوذ

المبدأ الأول في تنظيم الجامعة البهائيّة هو أن جميع الأفراد متساوون. لا يُعطى لأي فرد مركز يخوّله ممارسة القوّة أو السلطة على الآخرين. وبما أنه لا يوجد اختصاصيون ذوو مركز في الدين، ولا قادة مجتمع يتولّون بصفتهم الشخصيّة مسؤوليّة رئاسة وإدارة شؤون المجتمع البهائي، تَكْمن السلطات بكاملها في يد الهيئات المنتخبة. يعمل البهائيون بطريقة المشورة، وهو أسلوب يمارسه كُلٌّ من الأفراد في المجتمع البهائي والهيئات المنتخبة. تُتّخذ جميع القرارات بواسطة التشاور، لذلك، تُشكِّل عمليّة المشورة نشاطًا رئيسيًّا، وفهم هذا النشاط هو المفتاح لفهم طريقة عمل المجتمع البهائي.

كما ذكر سابقًا، ليس للدين البهائي رجال دين، ولا يوجد إختصاصيّون في الدين، ولا لاهوتيّون لهم رواتب. يضاف إلى هذا أن لا سلطة للأفراد في المجتمع البهائي، حتى أولئك الذين يُنتخبون لعضويّة مؤسسات بهائيّة، أو يُعَيّنون كمستشارين، فهم لا يمتلكون أي نفوذ أو سلطة كأفراد ولا يُميَّزون بأيّ نوع من الملابس الخاصة. وعلى سبيل المثال، فإن أعضاء المحفل الروحاني المركزي يخضعون لسلطة المحفل الروحاني المحلّي في مجتمعاتهم المحلّية عندما يشتركون في نشاط على النطاق المحلّي. يقدّم الأفراد المُعَيّنون ضمن النظام الإداري اقتراحاتهم وآراءهم إلى المؤسسات المنتخبة، ويساعدون على انتشار الدين وحمايته.

بينما تنحصر السلطة بيد المؤسسات المنتخبة، تَكمُن قوّة تنفيذ مشاريع هذه المؤسسات بوجه عامّ مع جماعة المؤمنين بالدين البهائي، إذ إنّ المؤسسات لا تمتلك إلا قوّة محدودة للغاية في إجبار البهائيين على تنفيذ مشاريعها وتعليماتها (تمارس المؤسسات قوّتها عادة فقط في الحالات التي يتصرف فيها الأفراد تصرّفًا بعيدًا كل البعد عن حدود ما يعتبره البهائيون تصرفًا مقبولاً). هذا يعني أنه، وبوجه عامّ، على المؤسسات البهائية أن تكسب دعم وتعاون عامة البهائيين لتنفيذ مشاريعها. لذلك تقام علاقة قريبة ومتبادلة فيما بين المؤسسات البهائيّة وعامة البهائيين حيث يتشاور البهائيون ويقدّمون اقتراحات وتوصيات إلى مؤسساتهم التي بدورها تتشاور قبل اتخاذ القرار. إن ما يدفع البهائييّن لتنفيذ المشاريع التي تضعها المؤسسات هو محبّتهم لدينهم، والوحدة التي خُلقت بينهم، ورغبتهم في رؤية دينهم يتقدّم، وإخلاصهم “لعهد وميثاق” حضرة بهاء الله، وكونهم كان لهم دور في وضع هذه المشاريع بأنفسهم.

يضاف إلى هذا، كما ورد ذكره في الفصل الأول، أن المجتمع البهائي هو مجتمع ذو سمة روحانيّة mystic community كما يعبر عن ذلك هيكل نظامه الإداري. لذلك، فإن طريقة عمل المجتمع البهائي مصمّمة بشكل يساعد الفرد على نموّه الروحاني. إن عمليّة التشاور، التي تساهم في إيجاد مجتمع يسود فيه مستوىً أعلى من المساواة بين أفراده، حيث يشعر الجميع أن بإمكانهم إبداء الرأي والمشاركة في اتخاذ القرار، من شأنها أن تُعزز لدى الفرد تطوره الروحاني أيضًا. من هنا، فإن الركائز الإدارية والاجتماعيّة والروحانيّة جميعها معتمدة ومترابطة بعضها مع بعض.

العهد والميثاق

الاتّحاد هو السمة المميزة لتعاليم حضرة بهاء الله، إذ ينادي حضرته بإتحاد العالم الإنساني، والاعتراف بوحدانيّة الله ومظاهر أمره، والمساواة بين الجنسين، والعمل كَيَدٍ واحدة بعد التوصل إلى قرار بالتشاور. إن “العهد والميثاق“ هو الذي يضمن وحدة الدين البهائي.

المعنى الأساسي لعبارة “العهد والميثاق“ هو أنها اتفاقيّة، ميثاق أو عقد مُلزم. وقد أشارت الكتابات الدينيّة العالميّة المقدّسة إلى اتفاقيّة روحانيّة فيما بين الله والناس. يعترف الدين البهائي بوجود ميثاقين: الأول هو الميثاق الأكبر بين الله، المُمَثَّل بمظهر أمره من جهة، والإنسانية من جهة أخرى، حيث يتعهد الله أن يستمر في إرسال الهداية إلى العالم، بينما على الناس، من ناحيتهم أن يتعهّدوا بأن يطيعوا هذه التعاليم ويعملوا بموجبها حالما تأتي. جزء من هذا الميثاق الأكبر هو الأمر الذي يفرضه كل مظهر إلهي على أتباعه لقبول المظهر الإلهي التالي. ويتمثّل الميثاق الأكبر في، على سبيل المثال، وعد السيّد المسيح أنه سيعود، ووعد حضرة بهاء الله أنه لن يظهر مظهر إلهي آخر قبل ألف سنة.

على أنه يوجد في التعاليم البهائية ميثاق ثانٍ، ميثاق أصغر، يَفرض على البهائيين إطاعة من عَيّنه حضرة بهاء الله ليخلفه، وإطاعة مؤسسات الدين البهائي الإدارية. وبسبب الأهمية القصوى المعطاة في تعاليم الدين البهائي لوحدة العالم الإنساني، من الواضح والضروري بقاء المجتمع البهائي متّحدًا بذاته. لذلك يركّز هذا الميثاق [الأصغر] على موضوع القيادة والسلطة في المجتمع البهائي، وهو محور اتحادها والضامن لاستمراره. هدفه الأساسي هو منع الانقسام والنزاع.

رغم أنه قد يوجد مثل هذا النوع من الميثاق في أديان أخرى، أكّد حضرة شوقي أفندي أنّ موضوع الخلافة لم يُعط في أية ديانة سابقة هذه الدرجة من الأهميّة، كما لم يُعيَّن الخلف للمظهر الإلهي بهذه الدرجة من الوضوح. إن حقيقة التعاقب على السلطة وعلى المؤسسات الرئيسيّة للدين البهائي قد دُوّنت في وثائق مكتوبة لقطع السبيل عن الشكّ فيها مستقبلاً وهي حقيقة شدّد حضرة شوقي أفندي على أنها “الصفة المميّزة” لدين حضرة بهاء الله.[1]

بما أنه نشأت في السابق خلافات عميقة وانقسامات بسبب المعتقدات، حيث كان كل واحد يأتي بفكرة جديدة وينسبها إلى الله، فقد شاء حضرة بهاء الله ألاّ توجد أية أرضيّة أو سبب لنشوء الخلاف بين البهائيين. لذلك خطّ بيده كتاب عهده [وصيّته] مخاطبًا فيه أقرباءه وجميع شعوب العالم بقوله ما مضمونه “حقًّا، إني قد عيّنت شخصًا ليكون مركز عهدي وميثاقي. على الجميع أن يُطيعوه؛ على الجميع أن يتوجّهوا إليه؛ هو مبيّن كتابي وهو يَعْلَم ما هي غايتي. توجهوا اليه جميعًا. كل ما يقوله عين الصواب، لأنه حقًّا، يعلم نصّوص كتابي. ولا يعلم كتابي أحد غيره” والغاية من هذا البيان ألاّ يحصل خلاف أو فُرقة بين البهائيين على الإطلاق وعليهم أن يكونوا متّحدين ومتّفقين دائمًا.[2]

فوّض حضرة بهاء الله في كتاب وصيّته المكتوبة ابنه حضرة عبدالبهاء للقيام من بعده بمسؤولية السلطة المركزيّة للدين البهائي، وبالتالي عُرِف بأنه مركز العهد والميثاق. وعُيّن حضرة عبدالبهاء أيضًا ليكون المبيّن والمفسّر المفوّض لأثار حضرة بهاء الله الكتابيّة. وفيما بعد، منح حضرة عبدالبهاء في وصيّته المكتوبة المعروفة باسم [ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء]، هذه السلطة المركزيّة، والمُبيّن المفوّض للكتابات البهائيّة المقدّسة، إلى حضرة شوقي أفندي [حفيده]، وفوّضه بتأسيس بيت العدل الأعظم، وهي هيئة وضع معالمها حضرة بهاء الله في كتاباته. لقد أمضى حضرة شوقي أفندي كامل فترة ولايته في تأسيس المحافل الروحانيّة المحلّية والمركزيّة، وإرشادها إلى ذلك المستوى من العمل الذي يُمَكّنها من انتخاب بيت العدل الأعظم. صعد حضرة شوقي أفندي إلى الرفيق الأعلى عام 1957م، وفي عام 1963م انتُخب بيت العدل الأعظم الذي ما زال منذ ذلك الحين السلطة المركزية العليا للمجتمع البهائي. وقد مَنَحَ حضرة بهاء الله أيضًا السلطة لبيت العدل الأعظم ليُشرّع في الأمور التي لم يرد بشأنها تعليمات خاصة في الآثار البهائية الكتابية.

إنّ مصدر سلطة بيت العدل الأعظم ووظائفه ونطاق أعماله كلّها منبعثة من الآيات المنزّلة من يراعة حضرة بهاء الله، فهذه الآيات الباهرات وما بيّنه ووضّحه مركز الميثاق وحضرة وليّ أمر الله، الذي هو المبيّن الوحيد المنصوص عليه بعد حضرة عبد البهاء، كلّ ذلك يعتبر مرجعًا مطاعًا لبيت العدل الأعظم وأسّ أساسه. إنّ سلطة هذه النّصوص المباركة سلطة مطلقة وقاطعة وهي المرجع الثّابت الذي لن يتغير حتى يظهر في العالم مظهر أمر إلهيّ جديد بمشيئة الله ويوضع يومئذ زمام الأمر والحكم في قبضة قدرته.[3]

إن الثبات على هذا العهد والميثاق هو، إذًا، واحد من أهم الفضائل الدينيّة البهائيّة، وهو لا يتضمن فقط قبول شرعيّة المؤسسات البهائيّة، بل سلوكيّات أعمّ بكثير من الولاء والتكريس القلبي الكامل للدين البهائي والمجتمع البهائي. إن توجيه التحدّي إلى سلطة الدين البهائي المركزيّة هو أخطر عصيان روحاني يمكن أن يقترفه فرد بهائي. وهو يعتبر مرضًا روحانيًا ويجازى بالطرد من المجتمع إذا أصرّ صاحب العلاقة على موقفه بعد الكثير من النصح والإرشاد. وأما في معناه العامّ، فإن الثبات على العهد والميثاق يعني العمل بموجب أحكام وتعاليم الدين البهائي.

ينبغي أن تتصرفوا بسلوك يُميّزكم ويُظهركم مشرقين كالشمس بين الآخرين. إذا دخل أحدكم مدينة، عليه أن يُصبح محطّ انجذاب الآخرين بفضل إخلاصه، واستقامته ومحبته، وأمانته ووفائه وصدقه ولطفه تجاه جميع أمم العالم… لا يمكن أن يقال عنكم إنكم كنتم أوفياء لعهد وميثاق الله إلاّ بعد أن تصلوا إلى هذا المقام. وذلك لأنه، بآثاره الكتابيّة القطعيّة، دخل [حضرة بهاء الله] مع كل منّا بميثاق ملزم، يتطلب منّا العمل بموجب تعاليمه المقدّسة وهدايته.[4]

وبمعنى أدقّ، الثبات على الميثاق إشارة إلى قناعة الفرد الداخليّة أن هداية مركز الدين البهائي (أكان ذلك حضرة عبدالبهاء أو حضرة شوقي أفندي فيما مضى، أو بيت العدل الأعظم في الوقت الحاضر) تمثل إرادة الله: “كل ما يُقَرّرانه من عند الله”.[5] وقد ربط حضرة شوقي أفندي نجاح الدين البهائي وانتشاره إلى هذا:

لن تحرز، لا الإدارة، ولا مجهودات تبليغ أمر الله، تقدّمًا ولن تتمكّن من تحقيق شيء إلا إذا كان المؤمنون ثابتين راسخين حقًا وبهائيين موقنين روحانيًا… فعندما يمتلك البهائي قناعة راسخة بأن السلطة الإلهيّة المُناطة بالمظهر الإلهي، والمحوّلة إلى حضرة عبدالبهاء، ومنه إلى أولياء الأمر البهائي، والتي تسري عبر المحافل، وتخلق نظامًا قائمًا على الطاعة – أي بعد أن يمتلك البهائي هذا، لا يمكن لأيّ شيء أن يزعزعه.[6]

يمكن إدراك أهميّة الإقرار بالميثاق من حقيقة أن هوّية البهائي مرتبطة بها: أن يكون الإنسان بهائيًّا يعني التوجّه إلى بيت العدل الأعظم على أنه مصدر السلطة العليا في الدين البهائي. ادّعى بعضهم أن هذا الإيمان بالعهد والميثاق يقود إلى نظام سلطوي في الدين البهائي (حتى إن كلمة “دكتاتوري” قد استعملت)، الذي هو عكس المجتمع الذي تسوده المساواة، والخالي من أنظمة هرميّة كما هو هدف الدين البهائي. يجب النظر في ناحيتين لإدراك سبب عدم صحّة هذا التقييم. والناحيتان مرتبطتان بحقيقة أن في المجتمع البهائي، وخلافًاعن أيّ مؤسسة إنسانية أخرى تقريبًا، يوجد فصل بين السلطة والقوّة authority and power.

الناحية الأولى مرتبطة بحقيقة أنه، رغم سلطة المؤسسات البهائيّة المُنتخبة لإدارة شؤون المجتمع البهائي – ومن الناحية النظريّة، فإن الإقرار بالميثاق يمنح المؤسسات، وخصوصًا بيت العدل الأعظم سلطة كبيرة للغاية – على هذه المؤسسات السعي لتحقيق أهدافها عن طريق اكتساب دعم أفراد البهائيين. ومع أنه يخاطب، من الناحية المبدئيّة، المؤسسات البهائيّة، يتفضل حضرة شوقي أفندي قائلاً:

لنتذكر أن محور أمر الله ليس السلطة الدكتاتوريّة بل الألفة المتواضعة، وليس استخدام القوّة الغاشمة بل تطبيق روح المشورة الصريحة الوديّة. فما من شيء سوى روح البهائي الحقيقي يمكنه أن يأمل بالتوفيق بين مبادئ الرحمة والعدالة وبين الحريّة والطاعة، وبين قدسيّة حق الفرد كفرد وبين قدسيّة التفاني، وبين اليقظة والحكمة والرزانة من جهة، والتآلف والنزاهة والشجاعة من جهة أخرى.[7]

بالمقارنة مع سلطة المؤسسات المركزيّة لدى أديان أخرى تبقى قدرة المؤسسات البهائيّة المنتخبة لفرض سلطتها فعليّا في مجالات متعددة قليلة للغاية. فليس لها قوّة عقائديّة؛ بمعنى ان لا سلطة لديها لتحديد الاعتقاد الصحيح أو لخلق معتقدات أو تعاليم لاهوتيّة جديدة، ولا لتفسير نصوص الكتابات المقدسة. بالتالي، ليس لديها السلطة في العديد من المجالات التي تمتعت فيها القيادات الدينيّة تقليديًا بالقوّة والسلطة. لدى المؤسسات البهائيّة المنتخبة السلطة لتوجيه المجتمعات البهائيّة عن طريق وضع خطط عمل للبهائيين، ولكنها لا تملك عقوبات أو وسائل أخرى لإجبار البهائيين على تنفيذ هذه الخطط. على سبيل المثال، إذا أراد أحد البهائيين أن يتجاهل تمامًا مشروع السنوات الخمس الحالي الذي وضعه بيت العدل الأعظم فهو حرٌّ في ذلك دون أي خوف من أيّة عقوبات تفرض عليه. لقد اختصرت كلمات بيت العدل الأعظم هذا الوضع العام بما يلي: “تنساب السلطة والتوجيهات من المحافل الروحانيّة بينما تبقى قوّة تنفيذ المهام مبدئيّا لدى مجموع المؤمنين”.[8]

وتبرز الناحية الثانية، وكأن فيها تناقضًا، من حقيقة أن الإقرار بالميثاق، وإذ تبدو أنها تمنح سلطات كبيرة لمؤسسات الدين البهائي، فهي تمنح في الوقت ذاته حريّة كبيرة للفرد البهائي. يتمتع الأفراد البهائيون بحريّة كبيرة للغاية في مجالات متعددة شريطة الإلتزام بمعطيات الميثاق. فهم أحرار في قراءة الكتابات المقدّسة وتفسيرها لأنفسهم (بشرط ألا يحاولوا استحداث انقسامات طائفيّة بادّعاء السلطة لتفسيراتهم). وهم أحرار في تقرير مدى رغبتهم في المشاركة في نشاط المجتمع البهائي. ولهم الحريّة في تقرير قيمة التبرّع المالي للصناديق البهائيّة، ولهم الحريّة في تقرير مدى إطاعتهم للأحكام البهائيّة في مواضيع مثل الصلاة والصوم، وهم أحرار في تقرير مدى اتباعهم للتوجيهات الأدبيّة والأخلاقيّة المعطاة في الآثار البهائيّة الكتابيّة (ولكن يجوز محاسبة من يرتكب عملاً لا أخلاقيًا فاضحًا يسيء لسمعة المجتمع البهائي).

أسلوب الحكم: الإدارة البهائيّة

يُسمي البهائيّون أسلوب الحكم عندهم “النظام الإداري“ أو “الإدارة البهائيّة“. ولقد وضع حضرة بهاء الله بنفسه الخطوط العريضة لهذا النظام في الكتاب الأقدس وفي كتاباته الأخرى، وقد طوّرها ونفّذها على أرض الواقع كل من حضرة عبدالبهاء وحضرة شوقي أفندي. إن النظام الإداري هو جزء لا يتجزأ من الدين البهائي ولا يمكن فصله عنه:

أما بالنسبة للعلاقة فيما بين الدين البهائي والإدارة؛ إن الدين البهائي، كما كرر ذلك حضرة ولي أمرالله[9] وشدد عليه، لا يمكن حصره في أسلوب من التنظيم، مهما كانت مفصّلة في سماتها وعالمية في إطارها. إن التنظيم ما هو إلا وسيلة للوصول إلى أهدافه ومُثُله، وليس غاية بحدّ ذاته. إنما الفصل بين الإثنين هو تشويه للدين بذاته، كونهما متصلين برابط لا يمكن فصله، وهي علاقة مشابهة للغاية لتلك القائمة بين الروح والجسد في الوجود الإنساني.[10]

هدف الإدارة البهائيّة “هو أولاً دعم العمل التبليغي وتوجيهه، والعمل على الترويج لتأسيس الدين. يجب ألاّ تُعتبر أبدًا على أنها غاية بحدّ ذاتها، ولكنها فقط وسيلة توجّه وتعطي الفعّاليّة للحيوية الروحانيّة التي ولّدتها الكلمة الإلهية في قلوب المؤمنين”.[11] يعتقد البهائيّون أن المؤسسات التي يوجدونها، والتي ما زالت في طور الجنين، ستتطوّر في المستقبل وتصبح نظام الحكم لمجتمع أوسع.

إن هذا الدين هو دين أنزله الله للإنسانيّة جمعاء وقد صُمّم ليكون ذا نفع للجنس البشري قاطبة، والسبيل الوحيد الممكن إلى ذلك هو إعادة تشكيل حياة المجتمع البشري مع العمل على تجديد حياة الفرد. إن الإدارة البهائيّة ما هي إلا باكورة تشكيل ما سيكون عليه مستقبل الحياة الاجتماعيّة بما فيها من حدود وأحكام حياة المجتمع.[12]

تعمل الإدارة البهائيّة في خطين متوازيين يكمل كل منهما الآخر. فمن جهة هناك المؤسسات البهائيّة المنتخبة التي عرّفها حضرة بهاء الله بـ ”الأمراء”، وهي تشمل بيت العدل الأعظم والمحافل الروحانيّة المركزيّة والمحافل الروحانيّة المحلّية، وقد أجاز بيت العدل الأعظم تأسيس مجالس اقليميّة بهائيّة Regional Baha’i Councils في بعض البلدان (أنظر أدناه). ومن جهة أخرى، هناك المؤسسات المُعيّنة، وقد لَقّب حضرة بهاء الله المنتسبين إليها بـ ”العلماء” وهم: وليّ أمر الله، أيادي أمر الله، المشاورون في دار التبليغ العالمية، هيئات المشاورين القاريّة، أعضاء هيئات المعاونين ومساعديهم. وقد فُوّض هؤلاء بمسؤوليّة مؤازرة مساعي نشر الدين البهائي وحمايته، وهم يقدّمون النصح للمؤسسات المنتخبة، وإلى أفراد البهائيين حيثما كان مناسبًا.

بيت العدل الأعظم

وضع حضرة بهاء الله مقوّمات تأسيس بيت العدل الأعظم في الكتاب الأقدس، وقد انتُخبت هذه الهيئة العليا للدين البهائي لأول مرّة عام 1963م. إن بيت العدل الأعظم هو الرئيس الأعلى للدين البهائي وعليه تقع المسؤولية النهائيّة للمحافظة على وحدته وتقدمه.

يمارس بيت العدل الأعظم عددًا من السلطات والواجبات التي جاء تلخيصها في دستوره، ومنها “سَنّ الأحكام والقوانين التي لم يرد نص عنها صراحة في الآثار البهائيّة المقدّسة؛ إلغاء ما شَرّعه بنفسه من قوانين وأحكام حسب مقتضيات ومتطلبات الزمن؛ التشاور واتخاذ القرارات في جميع المشاكل التي أدت إلى الاختلاف؛ توضيح المسائل الغامضة والمبهمة؛ حماية الحقوق الشخصيّة وحريّة ومبادرات الأفراد”.[13]

إنَّ أُمُورَ الْمِلَّةِ مُعَلَّقَةٌ وَمَنُوطَةٌ بِرِجَالِ بَيْتِ الْعَدْلِ الإِلَهِيِّ. أُولَئِكَ أُمَنَاءُ اللهِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَمَطَالِعُ الأَمْرِ فِي بِلاَدِهِ… وَبِمَا أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَقْتَضِي أَمْرًَا وَكُلَّ حِينٍ يَسْتَدْعِي حِكْمَةً فَلِذَلِكَ تَرْجِعُ الأُمُورُ إلى بَيْتِ الْعَدْلِ لِيُقَرِّرَ مَا يَرَاهُ مُوافِقًَا لِمُقْتَضَى الْوَقْتِ… وَقَدْ فُرِضَ عَلَى الْكُلِّ إِطَاعَتُهمْ.[14]

يؤمن البهائيّون بأن بيت العدل الأعظم كهيئة معصوم عن الخطأ في قراراته. لقد صرّح حضرة عبدالبهاء في كتاب وصيّته (وهو يعرف باسم ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء)، أن حضرة ولي أمر الله وبيت العدل الأعظم “كليهما تحت حفظ وصيانة الجمال الأبهى (حضرة بهاء الله)، وتحت حراسة الهداية المعصومة من حضرة الأعلى (حضرة الباب)”.[15] ولقد شرح حضرة عبدالبهاء طبيعة هذه العصمة:

…إن العصمة الذاتيّة محصورة في المظاهر الكليّة، والعصمة الصفاتيّة موهوبة لكل نفس مقدّسة، مثلاً لو يتشكل بيت العدل الأعظم بالشروط اللازمة… أي بانتخاب جميع الملّة فإنه يكون تحت عصمة الحق وحمايته، وكل ما لم ينص عليه في الكتاب ويقرره بيت العدل باتفاق الآراء أو الأكثريّة، فإن ذلك القرار والحكم يكون محفوظًا من الخطأ، والحال إنه ليس لكل فرد من أعضاء بيت العدل العصمة الذاتيّة، ولكن هيئة بيت العدل تحت حماية الحق وعصمته، وهذه تسمى بالعصمة الموهوبة.[16]

تقتصر عضويّة بيت العدل على الرجال وعددهم في الوقت الحاضر تسعة. يُنتخب أعضاء بيت العدل الأعظم كل خمس سنوات في مؤتمر عالمي يعقد خلال فترة الرضوان.

المحافل الروحانيّة المركزيّة

أسس حضرة عبدالبهاء في كتاب وصيّته “بيوت العدل الخصوصيّة” والتي تسمى اليوم بالمحافل الروحانيّة المركزيّة، أو، في المناطق التي يتولون فيها إدارة منطقة أوسع، المحافل الروحانيّة الإقليميّة. انتُخب أعضاء أولى المحافل الروحانيّة المركزيّة في الجزر البريطانيّة وألمانيا والنمسا والهند وبورما عام 1923م. ويوجد حين كتابة هذه السطور أكثر من 180 محفلاً روحانيًّا مركزيًّا.

يُشْرِف المحفل الرّوحاني المركزي على إدارة المجتمع البهائي والأنشطة التي يقوم بها ومساعي التبليغ، وقراراته ليست معصومة. يُنتَخب أعضاؤه التسعة في مؤتمر مركزي يعقد سنويًّا خلال فترة عيدالرضوان، ويخدم لمدة سنة واحدة، ويجوز انتخاب الأعضاء مرّات عديدة للخدمة في هذه الهيئة.

المحافل الروحانيّة المحلّية

نادى حضرة بهاء الله إلى تأسيس بيوت عدل محلّية في كل بلدة أو مدينة يوجد فيها تسعة بهائيين بالغين سنّ الرشد أو أكثر:

قد كتب الله على كلّ مدينة أن يجعلوا فيها بيت العدل ويجتمع فيه النّفوس على عدد البهاء، وان ازداد لا بأس، ويرون كأنهم يدخلون محضر الله العلي الأعلى ويرون من لا يرى، وينبغي لهم إن يكونوا أمناء الرّحمٰن بين الإمكان ووكلاء الله لمن على الأرض كلّها، ويشاوروا في مصالح العباد لوجه الله كما يشاورون في أمورهم، ويختاروا ما هو المختار، كذلك حكم ربّكم العزيز الغفّار.[17]

تسمّى هذه المؤسسات في الوقت الحاضر محافل روحانيّة محلّية، مما يعبّر عن كونها نواة لها صلاحيات محدودة في هذه المرحلة من تطوّرها. تأسّست أولى المحافل الروحانيّة المحلّية في نهاية القرن التاسع عشر. ويوجد منها عند كتابة هذه السطور أكثر من 10300 محفل في أنحاء العالم.

يُنتخب الأعضاء التسعة للمحفل الروحاني المحلي مباشرة من بين جميع المؤمنين البالغين سنّ الرشد في المجتمع المحلّي خلال فترة عيد الرضوان، ليخدموا سنة واحدة، علمًا بأنه يجوز إعادة انتخابهم سنة بعد سنة. يُشرف المحفل الروحاني على مجهود التبليغ وأمور أخرى تعود إلى المجتمع البهائي، ويُحيي الضيافات التسع عشريّة وينظّم الإحتفال بالأعياد ومناسبات الذكرى السنويّة، ويتولّى إدارة مناسبات الزواج والدفن، ويوفّر التربية والتعليم للأطفال، ويقدّم النصح والهداية والمساعدة لمن يواجهون الصعوبات. تُتّخذ كل قراراتهم بعد المشورة، ولكن قراراتهم ليست معصومة. يحق لأفراد البهائيين أن يستأنفوا قرارات محفلهم المحلّي لدى المحفل الروحاني المركزي وحتى قرارات محفلهم المركزي لدى بيت العدل الأعظم. ولكن بعد أن يقرر بيت العدل الأعظم في موضوع ما، فإن الإقرار بالعهد والميثاق يتطلب من جميع البهائيين الإطاعة التامة لقراره.

المجالس البهائيّة الإقليمية

دعا بيت العدل الأعظم البلاد التي يكثر فيها عدد البهائيين والمحافل الروحانيّة المحليّة أو حيث تكون إدارة المجتمع البهائي المركزي معقدة والمؤسسات البهائيّة ناضجة، المحفل الروحاني المركزي أن يفوّض بعضًا من مهامه الى مجالس بهائيّة اقليميّة تخدم مناطق جغرافيّة محددة داخل البلد. يمكن لمسؤوليات المجالس الإقليميّة أن تشتمل على تنفيذ مقررات المحفل الروحاني المركزي، ومراقبة التقدّم في خطط ومشاريع محددة، واتخاذ خطوات لتنشيط وتنسيق نمو الجامعة البهائيّة في المنطقة. يتمتع المجلس بقدر من الاستقلاليّة في اتخاذ القرارات ضمن نطاق عدد من القضايا التي فوّضها اليه المحفل الروحاني المركزي. يستمر دور المجالس الإقليميّة في التطوّر، ويزداد عدد المجتمعات المركزيّة التي تقوم بتأسيسها.

المجموعات الجغرافيّة Clusters

حدث تطور جديد في تنظيم المجتمعات البهائية هو تأسيس “مجموعات جغرافيّة“ التي هي مناطق جغرافيّة تضمّ قرى معًا أو ربما بلدات صغيرة أو مدينة كبيرة مع ضواحيها، وغالبًا ما تضم في الوقت الحاضر عددًا من المجتمعات البهائيّة الصغيرة. في هذا المحيط يتعاون الأفراد والعائلات والمؤسسات البهائيّة على بناء قُدُراتهم لخدمة مجتمعاتهم. هم يطوّرون ويأخذون على عاتقهم تنفيذ مشاريع تهدف إلى نهضة الدين البهائي ونموّه في مجموعتهم الجغرافيّة، ويتولون تأسيس أنشطة محاور العمل الأربعة حتى يتمكن عدد متزايد من النّاس من مشاركتهم في مسارهم لإنماء وتحسين المجتمع.

يتألف النشاط السنوي في المجموعة الجغرافيّة من أربع دورات كل منها لمدة ثلاثة أشهر ويمارس في كل منها تخطيط جماعي وعمل وتأمل ودراسة. إن “جلسة التقييم” هي القلب النابض لكل دورة من دورات المجموعة الجغرافيّة، وهي جلسة يشارك فيها جميع المقيمين في الوحدة الجغرافية بما فيهم الأطفال والشباب النّاشئ، والشباب، وأيضًا غير البهائيين من الذين يشاركون في أي جانب من جوانب حياة المجتمع البهائي. يتأمّل المشاركون في جلسات التقييم حول ما تعلّموه بعد تنفيذ الخطط التي وضعت في جلسة التقييم السابقة، يتدارسون الهدايات، ويتشاورون لوضع خطط جديدة تأخذ بعين الاعتبار ما تعلّموه، ثم يقومون على تنفيذها في المجتمع الأوسع خلال الثلاثة شهور اللاحقة، وبعدها يجتمعون مجددًا لمتابعة هذا المسار. تختلف حاليًّا مستويات النمو في الوحدات الجغرافيّة حول العالم ومدى التعقيد الذي تواجهه كل وحدة، وذلك بسبب التفاوت في عدد المنخرطين في عمل بناء المجتمع ومدى فعّاليتهم وتأثيرهم.

ولاية أمر الدين البهائي

أسس حضرة عبدالبهاء ولاية أمر الدين البهائي في كتاب عهده وميثاقه، وعيّن حضرة شوقي أفندي ليكون أوّل وليّ أمر للدين البهائي. كان على وليّ الأمر أن يكون المبيّن الوحيد للكتابات البهائيّة المقدّسة وأن يكون الرئيس الدائم لبيت العدل الأعظم. وكان لابنه البكر، أو لأي من الذكور المنحدرين من سلالة حضرة بهاء الله، أن يخلفه. ولكن حضرة شوقي أفندي صعد إلى الرفيق الأعلى عام 1957م ولم تكن له ذُرّية، ولا ذكور في السلالة ليختار أحدهم في حياته، لذلك لا يوجد أولياءُ أمر آخرون للدين البهائي. صحيح إن حضرة عبدالبهاء هو الذي عيّن حفيده حضرة شوقي أفندي ليكون أول وليّ لأمر الدين البهائي، إلاّ أن حضرة بهاء الله كان قد تنبّأ بتطوّر الأمور على هذا النحو في كتاباته.

كونه على رأس الدين البهائي آنذاك، كان حضرة شوقي أفندي مسؤولاً عن تطوّر الدين ونشره. وبما أن بيت العدل الأعظم لم يكن قائمًا خلال أيام حياته، كانت من أولويات أعماله زيادة عدد البهائيين حول العالم ومساعدتهم على انتخاب المحافل الروحانيّة المحلّية والمركزيّة التي شكّلت الأساس لانتخاب بيت العدل الأعظم. فأطلق حملات ومشاريع على النطاق العالمي أدت إلى انتشار الدين في كل أنحاء العالم وحافظ في نفس الوقت على وحدة الدين البهائي وعمل على حمايته من الهجوم والاضطهاد.

أخذ حضرة شوقي أفندي على عاتقه مسؤولية كبيرة للغاية عند إقدامه على ترجمة الكثير من كتابات حضرة بهاء الله [من اللغة العربيّة والفارسيّة] إلى اللغة الإنكليزية بما فيها 184 من مناجاته وتأمّلاته والتي جمعها في مجلّد واحد، وكذلك ترجم مجموعة مؤلفة من 165 مقتطفًا من كتابات حضرة بهاء الله وأخرجها في مجلّد واحد بعنوان Gleanings from the Writings of Bahá’u’lláh. وترجم أيضًا التاريخ الذي كتبه النبيل الأعظم عن الدين البابي “مطالع الأنوار”، ومقتطفات من خطب حضرة عبدالبهاء. ورغم أنه كتب كتابًا واحدًا فقط [باللغة الإنكليزية] God Passes By وهو تاريخ القرن الأول للدين البهائي، فقد طُبعت ونشرت مجموعات من رسائله التي كتبت غالبيّتها باللغة الإنجليزيّة أو الفارسيّة، والمتضمّنة التوجيه والهداية في عدة كتب، وجاءت بعض رسائله، على سبيل المثال، The Advent of Divine Justice، ظهور العدل الإلهي بحجم كتاب. كما طبعت له عدة مجلّدات من المناجاة جاء الكثير منها باللغة العربيّة.

وفي نفس الوقت، طوّر حضرة شوقي أفندي المقامات البهائيّة والممتلكات في الأرض الأقدس، وشيّد مقام حضرة الباب على جبل الكرمل وخطّط بنفسه الحدائق المحيطه به وجمّلها. بعد صعود حضرة شوقي أفندي إلى رحاب الله، أخذ أيادي أمر الله على عاتقهم مسؤوليّة توجيه وقيادة المجتمع البهائي إلى حين أصبح بالإمكان انتخاب بيت العدل الأعظم.

أيادي أمر الله

عيّن حضرة بهاء الله أيادي أمر الله، وهم بهائيّون مميّزون، وفوّضهم بمسؤولية حماية الدين ونشره. وقد عيّن حضرة عبدالبهاء أيضًا أيادي أمر الله وطوّر مؤسستهم في كتاب وصاياه (ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء)، وأوضح أنه على وليّ أمر الدين البهائي أن يُعيّن أيادي في المستقبل. وقد عيّن حضرة شوقي أفندي عددًا من الأيادي ولكن بعد صعوده لم يعد بالإمكان تعيين أيادي جُدُد. لقد فارق الحياة أخر عضو من أعضاء أيادي أمر الله عام 2007.

دار التبليغ العالمية

أسس بيت العدل الأعظم دار التبليغ العالمية عام 1973م كثمرة لأعمال أيادي أمر الله، ولتأمين استمرارية هذه الأعمال في المستقبل. إن دار التبليغ تنسّق، وتهدي وتُوجّه أعمال هيئات المشاورين القاريّة وتقدّم اقتراحات إلى بيت العدل الأعظم بالنسبة لمسار التبليغ على النطاق العالمي. يُعيّن بيت العدل الأعظم أعضاء دار التبليغ العالمية للخدمة مدة خمس سنوات، وبهذا التعيين يعتبر كل منهم مشاورًا على النطاق الدولي.

هيئات المشاورين القاريّة

أوجد بيت العدل الأعظم سنة 1968م هيئات المشاورين القاريّة لتأمين استمرارية عمل أيادي أمر الله في حماية وترويج الدين البهائي في المستقبل. ليس للمشاوَرين أيّة سلطة تشريعيّة أو تنفيذية أو قضائيّة وإنما عليهم تشجيع العمل وتنمية المبادرات الفرديّة، وترقية التعلّم في المجتمع البهائي ككل، كما ويقدمون النصح للمحافل الروحانيّة.

كما تشتمل مهمات المشاورين على توجيه عمل هيئات المعاونين، والتشاور والتعاون مع المحافل الروحانيّة المركزيّة، وإبلاغ بيت العدل الأعظم ودار التبليغ عن أوضاع الدين في بلادهم. يعمل المشاوَرون مع معاونيهم ومساعدي المعاونين على تحفيز نمو وحيويّة المجتمع البهائي وتنمية تطوّره الروحاني والفكري وحياته الاجتماعيّة.

من مسئوليات المشاوَرين الأساسيّة رفع قدرات المجتمع البهائي لوضع برامج عمل منتظمة، وتنفيذها بنشاط، والتعلّم من الخبرات سعيًا للمساهمة في بناء الحضارة العالميّة التي ارتآها حضرة بهاء الله.

يُعيّن المشاوَرون لمدة خمس سنوات وينحصر نطاق عملهم فقط في القارات التي عُينوا فيها، حيث يشكّلون هيئة استشاريّة قارّيّة. تعمل هذه الهيئات تحت هداية دار التبليغ العالمية القائمة في المركز البهائي العالمي.

هيئات المعاونين ومساعديهم

أوجد حضرة شوقي أفندي هيئات المعاونين عام 1954م ليقوموا بمساعدة أيادي أمر الله. وفي عام 1968م وضعهم بيت العدل الأعظم تحت إدارة هيئات المشاورين القاريّة، الذين يُعَيّنونهم من بين بهائيي مناطقهم الجغرافيّة. لكل منطقة هيئتان للمعاونين: هيئة الحماية، وهي تحمي الدين من الهجوم عليه وتشجّع المؤمنين على التعمّق في دراسته وعلى ترسيخ الاتحاد فيما بينهم، وهيئة الترويج، وهي تشجّع على التبليغ وتؤازر عمليّة معاهد التدريب. يمكن أن تُعَيّن هيئات المعاونين مساعدين لها ليعملوا مع المجتمعات المحلّية أو شرائح من المجتمع مثل الشباب. لا يتخذ أعضاء هيئات المعاونين ومساعدوهم قرارات إداريّة ولا يصدرون أي حكم، وإنما يقتصر عملهم على تقديم النصح والاستشارة.

الانتخابات البهائيّة

بينما تتسم غالبيّة العمليات الانتخابيّة في عالم اليوم بتنافس عنيف ويسودها في أكثر الأحيان جوٌّ من التلاعب لإبقاء فئات معيّنة في مراكز القوى، تجري الانتخابات البهائيّة بأسلوب مغاير تمامًا، حيث إنها لا تدعم طبيعة المجتمع الهرميّة وتحترم القيم الروحانيّة التي يتأسس عليها الدين. يعتبر البهائيّون أن انتخاباتهم جزء من السياق الإلهي الذي سيؤدي بنهاية المطاف إلى تأسيس العدالة في العالم. وتعتبر المشاركة في عمليّة الانتخابات البهائيّة مسؤوليّة مقدّسة، وحتى الذين لا يَنتَخبون، يُشجّعون على المساهمة في العمليّة بالدعاء لهداية الناخبين.

تُجرى الانتخابات البهائيّة بأسلوب لا يشجّع الانقسام والمنافسة، فهي تُدار بالاقتراع السري، ودون ترشيح أو أي سعي لاكتساب أصوات الناخبين، أو القيام بدعاية انتخابيّة مباشرة أو غير مباشرة. لا أحد “يترشّح”، وبالتالي لا يوجد مُرَشَّحون، ولا أحزاب سياسيّة، أو تعهدات انتخابيّة، وتجمّعات شعبيّة، وبيانات، ومنابر انتخابيّة، ومواقف سياسيّة، أو حملات انتخابيّة. وبالفعل، لا يوجد بتاتًا أي نقاش حول الشخصيّات، ولا تبحث آراء الأفراد وأفكارهم وعقائدهم أو مواقفهم من أي موضوع. البحث الوحيد المسموح به هو “الصفات الضرورية التي يجب توفّرها في الشخص المراد انتخابه” وبالتالي، كما يتفضّل حضرة شوقي أفندي، فإن علينا: “أن نأخذ بعين الاعتبار ودون أدنى شائبة من شوائب التعصّب أو العاطفة، وبغضّ النظر عن أي اعتبار مادي أسماء أولئك الذين تندمج فيهم على أتم وجه الصفات الضروريّة وهي: ولاء لا شك فيه، إخلاص يتصف بالتفاني، عقل راجح، مقدرة معترف بها، خبرة ناضجة”.[18] ولكن مع هذا، لا يُسمح بنقاش فيما إذا كان شخص معيّن يتحلّى بهذه الصفات أم لا.

وبالإضافة إلى ذلك، لا يقتصر هدف الانتخابات البهائيّة على انتخاب أولئك الذين سيتولّون إدارة شؤون المجتمع البهائي خلال السنة المقبلة [على النطاق المحلّي والمركزي] فحسب، بل يسعى أيضًا لتنمية “روح المسؤوليّة”[19] لدى أفراد الناخبين. وبالتالي على البهائيين أن يكونوا على اطلاع جيّد بمجريات الأمور، وأعضاء فعّالين في مجتمعهم وعلى معرفة كافية بكل من فيه ليتمكنوا من اتخاذ القرار بأنفسهم [فيما يختص بمن ينتخبونهم] عمّا إذا كانوا يتمتعون بالصفات الضروريّة ليُنتخبوا في عضويّة المؤسسة قيد الانتخاب. وهذا فعلاً يشكّل تحدّيًا للذين يدلون بأصواتهم في انتخابات مركزيّة أو عالميّة، ولكنه يبقى من واجب كل بهائيّ “أن يصبح ناخبًا فطنًا ومسؤولاً وعلى اطلاع جيّد”.[20]

تُجرى الانتخابات عادة في جلسة خاصة تُعقد لهذا الغرض. تُجرى انتخابات بيت العدل الأعظم والمحافل الروحانيّة المركزيّة والمحافل الروحانيّة المحلّية في أثناء فترة عيد الرضوان (انظر تاليًا). وأما المحافل الروحانيّة المحلّية فيُنتخب أعضاؤها في اليوم الأول من رضوان، أي من غروب الشمس في 20 نيسان إلى الغروب في 21 منه إذا سمحت الظروف، ويُنتخب أعضاء المحافل الروحانيّة المركزية في وقت مناسب خلال 12 يومًا من عيد الرضوان في مؤتمر مركزي. في الوقت الحاضر ينتخب بيت العدل الأعظم مرّة كل خمس سنوات خلال عيد الرضوان في مؤتمر عالمي يعقد في حيفا. كانت ظروف الشرق الأوسط في عام 2003م من الخطورة بمكان مما منع انعقاد المؤتمر العالمي، وجرى انتخاب بيت العدل الأعظم بإرسال أوراق الاقتراع بالبريد. تُنتخب المجالس الإقليمية في الوقت الحاضر في فصل الخريف في جلسة خاصة أو بالبريد.

إن الروح التي يتّصف بها الناخبون تساوي بأهميتها حُريّتهم في الاختيار من بين البهائيين المؤهلين والمقيمين ضمن نطاق مناطقهم الإدارية. تُعقد الانتخابات في جوٍّ من الوقار يُقْدِم فيه الناخبون “بروح من المناجاة والإخلاص، وبعد التأمّل والتفكّر” على انتخاب فقط أولئك النفوس “المخلصة، الصادقة، ذوي الخبرة، الكفؤة، المقتدرة والجديرة بالعضويّة”.[21]

يكتب الناخب، عند ممارسته عمليّة انتخاب أية مؤسسة من المؤسسات المذكورة أعلاه، أسماء أولئك الأفراد (في الوقت الحاضر تسعة لكل من المحافل الروحانية المحلّية والمركزيّة، والمجالس الإقليميّة، وبيت العدل الأعظم، وعدد متفاوت للوكلاء المُنتَخَبين لحضور المؤتمرات المركزيّة طبقًا لتفاوت عدد البهائيين في كل منطقة انتخابيّة) الذين يعتبرهم الأكثر ملاءمة للخدمة في المؤسسة قيد الانتخاب، وتُشكّل الهيئة المنتخبة من الحائزين على أكبر عدد من الأصوات.

على الرغم من حريّة الناخب لينتخب أي شخص مؤهّل، بغضّ النظر عن الخلفيّة أو الجنس أو العِرْق، إلاّ أنّه من سِمات الإنتخابات البهائيّة اللافتة، مبدأ التمييز الإيجابي الذي يُطبّق عند تساوي الأصوات للعضو التاسع مع غيره: فإذا انتمى أحدهم إلى فئة الأقليّة، “يجب، ودون أي تردّد، إعطاء الأولويّة لمن يُمَثّل الأقليّة”.[22]

يحق لكل بهائي بالغ سنّ الرشد المشاركة في العمليات التي ترعاها مؤسسات الدين المنتخبة. يحق لجميع البهائيين الحائزين حق الانتخاب في منطقة معيّنة أن يَنتخبوا ويُنتخبوا لعضويّة المحفل الروحاني المحلّي. إن جميع البهائيين البالغين المقيمين في المنطقة التي يشملها المجلس الإقليمي مؤهّلون لأن يُنتخبوا لعضويته؛ تُنتخب المجالس الإقليمية بواسطة أعضاء المحافل الروحانيّة المحلّية الموجودة في منطقته الإدارية. وأمّا بالنسبة للوكلاء الذين عليهم حضور المؤتمر المركزي لانتخاب المحفل الروحاني المركزي، فيجري انتخابهم في وحدات انتخابيّة يشارك فيها جميع البهائيين البالغين المقيمين ضمن مناطق وحداتهم الانتخابيّة، وجميعهم مؤهلون ليَنتَخبوا ويُنتَخبوا كوكلاء. كل بهائي راشد مقيم في أي بلد مؤهّل ليُنتخب في عضويّة المحفل الروحاني المركزي، إذ لا يقتصر هذا فقط على الوكلاء. يَنْتخب أعضاء المحافل الروحانيّة المركزيّة أعضاء بيت العدل الأعظم من بين جميع البهائيين الذكور في المجتمع البهائي العالمي، وقد أثبت هذا الإجراء الأخير أنه ميّزة محيّرة للعديد من الذين ينظرون إلى تعاليم المساواة بين الرجل والمرأة في الدين البهائي. على البهائيين في الوقت الحاضر أن يؤمنوا أن الحكمة وراء هذا الإجراء ستتّضح في المستقبل “كالشمس في رابعة النهار”.[23]

تَنتخب المحافل الروحانيّة المحلّية، والمركزيّة والمجالس الإقليمية هيئاتها العاملة من بين أعضائها بنفس الطريقة التي تجري فيها الانتخابات البهائيّة الأخرى، إلاّ أنّ على الفرد أن ينال خمسة أصوات على الأقل ليتولى المسؤوليّة المعيّنة. ليس لبيت العدل الأعظم هيئة عاملة أي ليس لديه من يتولى منصب الرئيس، أمين السر، أمين الصندوق وغيرها.

أكّد حضرة عبدالبهاء أن المحافل الروحانية المنتخبة هي “تحت حماية الله وهدايته” ولكن الأفراد الذين يشكّلونها هم أناس “كغيرهم من أعضاء الجامعة التي ينتمون إليها، ويرزحون تحت وطأة نفس الصفات الإنسانية المحدودة”. لهذا السبب يجب انتخابهم كل سنة – حتى يُمنح المجتمع “فرصة طيّبة لمعالجة أي نقص أو خلل” ويستطيع بواسطة الانتخابات “تحسين نوعيّة عضويّة المحافل البهائيّة ورفع مستواها باستمرار”.[24]

المشُورة

حدّد حضرة بهاء الله المشورة كأسلوب للوصول إلى القرارات والتباحث وتبادل الأفكار. على البهائيين أن يتوصّلوا إلى جميع قراراتهم، كبيرة كانت أم صغيرة، في بيوتهم، مجتمعاتهم، ومؤسساتهم الإدارية، عن طريق المشورة. والجدير بالذّكر أنه بسبب أسلوب ممارستها بشكل عامّ في المجتمع [غير البهائي]، فقدت المشورة مصداقيتها كطريقة للوصول إلى القرار لأنها تبدو في الظاهر أنها تأخذ بعين الاعتبار آراء الآخرين، بينما تُستعمل في الواقع كغطاء لدفع وتبنّي جداول أعمال ومصالح مقررة مُسبقًا. ليس هذا المقصود بكلمة “المشورة” في الدين البهائي، لذلك ينظر إلى هذا الموضوع بشيء من العمق في هذا الفصل.

تمسّكوا بالمشورة في جميع الأمور فهي سراج الهداية، إنها تهدي السبيل وتهب المعرفة.[25]

يَرى البهائيّون في المشورة عمليّة روحانيّة لها أبعاد تتجاوز بكثير الوصول إلى قرارات، رغم أهميّة ذلك. فهي، من جهة، أسلوب ديناميكي يهدف إلى بحث المسائل وتبادل الآراء. ومن جهة أخرى، تعمل على مساعدة الناس في حلّ المشاكل والتعامل مع المصاعب الشخصيّة. وهي توفر أيضًا للأفراد، العائلات، والمجتمعات أسلوبًا لوضع خطط العمل ولإيجاد الموارد لتنفيذها. وأكثر من هذا، تؤمّن المشورة أسلوبًا يوجِد الإتحاد، وبنفس الوقت تُوجد المكان الذي تمارس فيه بكل وضوح القيم والمواقف والسلوكيات بالغة الأهميّة لدى البهائيين. وإضافة إلى ذلك، إن عمليّة المشورة مُخططة بطريقة تضمن لكل فرد في المجتمع – النساء وأعضاء الأقليات والفقراء وجميع الذين لا صوت لهم في عالم اليوم – حق المشاركة في العمليّة.

تشكّل المشورة، من وجهة النظر البهائيّة، مدخلاً أساسيًّا لدعم هيكلٍ اجتماعيٍ غير هرمي كما إرتآه حضرة بهاء الله. وهي تعكس مبادئ الدين الاجتماعيّة التي تنادي بالعدالة، المشاركة، مساواة الجميع، المسؤولية الاجتماعيّة وتحرّي الحقيقة، ومعها القيم الروحانيّة مثل الأمانة، المحبّة، الصبر، اللطافة والعناية بالغير. المشورة، كما يؤكد البهائيّون، هي أسّ الأساس لمجتمع يُدار بطريقة صحيحة، وهي قلب الحكم الجيّد.

على الذين يشاركون في المشورة أن يأتوا إليها بعدد من المزايا والمهارات الروحانيّة، وبإمكان عمليّة المشورة أن تُذْكي هذه المزايا وتساهم في تهذيبها. يتفضّل حضرة عبدالبهاء قائلاً إنّ: “أول فريضة” للذين يتشاورون “هي اتّصافهم بخلوص النيّة وبهاء الروح والانقطاع عمّا سوى الله، والانجذاب بنفحات الله، والخضوع والخشوع بين يدي أحبّاء الله، والصبر والجلد في تحمّل البلايا، وعبوديّة العتبة الالهيّة السامية”.[26] هذا يستدعي الاستماع بدقّة، والانتباه إلى جميع وجهات النظر، وعرض وجهة النظر الشخصيّة بصدق وأدب ووقار، وبأسلوب هادئ، منفتح الذهن، مناصرٍ لحريّة الفكر، ومتقبّلٍ تقبّلاً قلبيًّا قرار الأكثريّة. وأما الجوّ الذي يحصل فيه كل هذا، فهو من الناحية المثاليّة، جوٌّ تسوده المحبة والانسجام حيث يتَوجّه جميع المشاركين إلى الله بالدعاء طالبين تأييده. يتفضّل حضرة عبدالبهاء إنّ على الذين يتشاورون “أن يباشروا أعمالهم بمنتهى الإخلاص والأدب والوقار والطمأنينة ويخاطبوا المحفل الروحاني معبّرين عن آرائهم بمحض الأدب والهدوء، وعليهم أن يتحرّوا الحقيقة في كل مسألة دون أن يتشبّثوا بآرائهم، ذلك لأن التشبّث بالرأي يؤدي إلى النزاع والخصام، فتبقى الحقيقة مستورة… لا يجوز أبدًا أن يُحَقِّر أحد رأي الآخر…”[27]

تَصِفُ الكتابات البهائيّة الخطوات التي يجب إتّباعها في المشورة على هذا النحو: جمع الحقائق حول الموضوع وتصنيفها؛ تحديد المبادئ الروحانيّة التي تنطبق على الموضوع؛ البحث في الآثار البهائيّة لإيجاد البصيرة والهداية؛ التشاور بتفكّر وذهن منفتح؛ الوصول إلى استنتاج؛ اتخاذ القرار – بالتصويت إذا كان ذلك ضروريًّا – ثم تنفيذ القرار. من الناحية العمليّة، أصعب خطوة هي جمع المعلومات وتصنيفها، ذلك أن تحديد ما له علاقة بالموضوع، وما لا علاقة له، يشكّل جانبًا مهمًا من العمليّة.

إن الأسلوب الذي تُقَدّم فيه الاقتراحات وتُعرض الأفكار هو الذي يُحافَظ على جوِّ المشورة الروحاني. ومن الصفات المميّزة للبحث، انقطاع الفرد عن التعلّق باقتراحه فورًا بعد تقديمه – أي أن هذا الاقتراح يصبح أحد الاقتراحات المقدّمة للتشاور بهدوء وبموضوعيّة، حتى من جانب الشخص الذي قدَّمه. فإذا لم تأخذ المجموعة المتشاورة بالاقتراح، لا يستمر المُقتَرِح بالإصرار عليه بل يسير قُدُمًا مستمعًا بدقّة إلى وجهات نظر أخرى. المقصود هو أن تُقدّم كل فكرة، وتُستقبل، بتواضع وبروح من المساهمة في مجمل الموضوع. من طبيعة عمليّة التشاور أن الفكرة ستُعَدّل ويَبني عليها المتكلّمون بالتوالي. من البديهي والمفهوم أن لا يتوقع أحد من المشاركين في المشورة أن تسود أفكاره، ومن المنافي لروح المشورة أن يحاول أحد التأثير على الآخرين بنحو غير ملائم، بالتهديد، أو بالإبتزاز العاطفي، أو بالتشبُّث بأفكاره.

مع استمرار البحث الهادئ تتّضح المسائل، وتُحدّد المبادئ الروحانيّة ذات العلاقة، وغالبًا ما يظهر توجُّه وفاقي لدى الأعضاء. عند ذلك يمكن لأحد المشاركين أن يقترح صيغة قرار مبدئي. فإذا تمَّ التوافق عليه بالإجماع، يُتخذ القرار وينتهي البحث بالموضوع، وإلاّ، يستمر البحث بموجب المبادئ المذكورة أعلاه حتى التوصّل إلى إجماع حوله، أو، إذا تعذّر ذلك، يجري التصويت عليه.

إن اللجوء إلى التصويت هو الملاذ الأخير. فالمُفَضَّل هو توافق الجميع وفي حال تعذَّر ذلك تؤخذ الأصوات. لكل مشارك صوت واحد؛ لا يتمتّع الرئيس بصوت مُرجّح، وهذا تأكيد آخر على عدم وجود طبيعة هرميّة لدى المجتمع البهائي. تُعدّ الأصوات الموافقة على الاقتراح فقط. لا يوجد تصويت “ضد” الاقتراح ولا امتناع عن التصويت – يُعتبر الذي لا يصوّت لمصلحة الاقتراح أنه فعلاً صوّت ضده. تكفي أكثريّة بسيطة لاعتماد القرار. ليس لأحد حق الفيتو.

بعد اتخاذ القرار، حتى ولو كان بأكثريّة الآراء، يُعتبر قرارًا اتخذه جميع الأعضاء والمُنتظر من الجميع تأييده، حتى الذين لم يؤيدوه إلى لحظة اتخاذه. لا يوجد رأي أقليّة [ولا يُسجَّل أي تَحَفُّظ أو اعتراض في وقائع الجلسة]، ويجب ألاّ يَنْتقد أحد القرار، لا في الجلسة ولا خارجها. يَعتبر البهائيّون أن مثل هذا الانتقاد يقوّض تنفيذ القرار. بما أن الاتحاد هو أسمى ما يسعى إليه البهائيّون، أشار حضرة عبدالبهاء إلى أن قرارًا متَّخذًا ومنفَّذًا بروح الاتحاد، حتى ولو كان خطأً، أفضل من قرار متّخذ ومنفّذ بطابع الاختلاف. يمكن ملاحظة العلّة فورًا في قرارٍ خاطئ ومنفَّذ بروح الاتحاد، ويتم إصلاحه، بينما عندما يُنتقد القرار ولا يدعمه الجميع، من المستحيل التبيّن عما إذا كان القرار بحدِّ ذاته خاطئًا، أو لم يأتِ بالنتائج المرجوّة لأنه لم ينل دعم الجميع.

إن تنفيذ القرار هو جزء من عمليّة المشورة. والقرار، مهما كان بحثه شاملاً، والاتفاق حوله كاملاً، لا فائدة منه إذا لم ينفَّذ.

من وجهة النظر المثاليّة، تُوَفّر المشورة البهائيّة جوًّا آمنًا ومشجعًا ليُعبر الناس عن آرائهم. وفي جوّ التعاون الناتج عن عمليّة المشورة، يشعر الناس الذين طالما هُمِّشوا في المجتمع ككل بارتياح، وأن لهم اعتبارًا وقيمة في عرض أفكارهم. وهكذا، فإن النساء، على سبيل المثال، في مجتمعات عديدة حيث لا يَقُمن بدور نشيط في إدارة الأمور، أو لا يشاركن في مداولات أخذ القرار، بإمكانهنّ أن يلعبن دورًا أساسيًا في المجتمعات البهائيّة.

يمارس البهائيّون المشورة في مواقع وظروف متعددة، وبناءً عليه تعمل جميع المؤسسات البهائيّة بأسلوب المشورة للوصول إلى قراراتها كافة: فعلى نطاق المجتمع يلتقي أعضاء المجتمعات البهائيّة المحلّية مرّة كل شهر [بهائي] في الضيافة التسع عشريّة التي يكرّس ثلثها للتشاور؛ وعلى نطاق العائلة يتشاور الزوجان للوصول إلى قرارات ووضع الخطط، ولكن بما أنه يوجد شخصان فقط، من الواضح أن التصويت غير ممكن، فإذا استمر الاختلاف بين الطرفين، يجب أن تسود وجهة نظر أحدهم في بعض الأوقات، على أن تسود وجهة نظر الآخر في أوقات أخرى. تُشجع العائلات البهائيّة على المشورة حسب الحاجة وعلى تعليم الصفات الروحانيّة، والمواقف والمهارات الضرورية لأولادهم. على الأفراد أن يتشاوروا مع العائلة، الأصدقاء أو المؤسسات البهائيّة قبل التوصل إلى القرارات المهمّة؛ وفي نطاق العمل على “أعضاء كل مهنة، مثل الصناعة، أن يتشاوروا. وبالمثل، أولئك الذين هم في التجارة عليهم التشاور في أمورهم أيضًا”.[28] وحتى الذين يقومون بدور قيادي في مختلف نشاطات المجتمع ولديهم السلطة والمسؤوليّة لأخذ القرارات بمفردهم أمثال مُدراء الشركات ورؤساء المدارس، فهم غالبًا ما يتشاورون مع آخرين قبل اتخاذ القرار والعمل به.

الحياة الإجتماعيّة

يشكّل أفراد البهائيين والأسر البهائيّة جزءًا من شبكة مجتمعات بهائيّة ممتدة حول العالم، لها إدارة على النطاق المحلّي والمركزي والعالمي مرادفة للهيئات الإدارية المنتخبة في كل منها. تتمحور حياة المجتمع بغالبيّته حول لقاءات بقصد إحياء ذكرى معينة، ونشاطات ومناسبات في الحي، ثم محليّا وعلى مستوى الوحدة الجغرافيّة، رغم أن البرامج قد تنظّم في بعض الأحيان على المستوى المركزي أو حتى العالمي. إن الوحدة والترابط في المجتمع البهائي العالمي هما بدرجة تمكّن البهائيين من الاطلاع اطلاعًا جيّدًا على النشاطات الجارية في أماكن أخرى من بلادهم وغيرها من البلدان، ويسافرون، إذا كان بإمكانهم ذلك، للمشاركة في بعض هذه النشاطات. يصف البهائيّون أنفسهم على أنهم أعضاء في مجتمعات تنتمي إلى بُلدان مُعيّنة ويفاخرون في كونهم جزءًا من مجتمع بهائي عالمي واحد. ولكن في سياق الحياة اليوميّة يُعَرّف البهائيون أنفسهم بانتمائهم إلى مجتمعهم المحلّي، وعندما يتكلمون عن “مجتمعهم” يقصدون بشكل عام مجتمعهم المحلّي.

إن جوانب الحياة البهائيّة، الروحانيّة والاجتماعيّة، مندمجة ومرتبطة بالتحوّل الذاتي personal transformations في حياة الفرد، حيث تنعكس نتيجة نموّ صفاته الروحانيّة على حياته الاجتماعيّة وعلى تعامله مع الغير. وبالمثل، فإن المجتمع الناضج روحانيًّا يعكس هذه الصفات ويُنمّيها في الأفراد المنتمين إليه.

يمارس الأفراد في المجتمع البهائي القيم والمواقف attitudes التي تعلّموها في البيت، كما يمارسون في البيت وفي نطاق العمل ومجالات أخرى القيم والمواقف وأساليب التصرّف التي تعلّموها من التفاعل مع بهائيين في المجتمع.

يتعلّم الفرد ويمارس، على مستوى المجتمع المحلّي، مجموعة كبيرة من القيم والمواقف والسلوكيات التي، كما يتوقّع البهائيّون، تُشكّل المفتاح لتَحَوّل المجتمع العالمي. من هنا، على سبيل المثال، بمجرّد المشاركة في الضيافة التسع عشريّة، أو في جلسة تأمُّل في وحدة جغرافيّة، لا يشارك الفرد في حياة المجتمع البهائي فحسب، بل يُعطَى الفرصة ليتعلّم كيف يتشاور ويتفاعل مع أشخاص من خلفيات وثقافات مختلفة، مما يساعده على التخلّص من أي تعصّب قد يكون لديه. فهو يشارك في اتخاذ قرارات تؤثر عليه وعلى غيره، مما يفرض عليه تبني موقفًا مُنفتحًا، ويشجِّعه على توسيع آفاق رؤيته أكثر من ذي قبل، ويساعده في مساعيه للإنقطاع عن أية أفكار تشوبها الأنانيّة لأنه مُجبر على التفكير بالغير. لهذه المهارات فائدة في المنزل (حيث يمكن للفرد أن يتعلمها أيضًا ومن ثم ينقلها إلى المجتمع البهائي) وفي نطاق العمل. وفي نفس الوقت فإن مجموعة من الناس، مترعرعة على هذه المهارات، تنشأ ليس فقط في موقع واحد، بل وفي آلاف المواقع حول العالم. تدل الخبرة البهائيّة على أنه حيثما وُجد عدد لا بأس به من المجتمعات التي تمتاز بهذه الرؤية والمهارات، تبدأ بالتأثير على الأحياء السكنيّة التي تقطنها، وعلى بلداتها، وفي المجال الاجتماعي والسياسي. يتوقع البهائيّون انه، مع تطوّر هذا المسار، ستتأثر المدن وحتى بلاد بكاملها بعطاء هؤلاء الأفراد والمجتمعات المتنوّرة. وبالنهاية، يرى البهائيّون أن قضايا مثل التجارة العالميّة وحتى الحكم على النطاق العالمي (global governance) ستتحوّل، لأن المجتمع يَكُون قد تشرّب هذه الأفكار بواسطة تزايد عدد الذين يفكّرون ويعملون بموجبها. سيشكّل أمثال هؤلاء الناس، مع مرور الزمن، نسبة ذات شأن من السكان، ويصبحون القوّة الدافعة للقرارات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي ستُصاغ بموجب القواعد والمقاييس التي وضعها حضرة بهاء الله. ورغم أن توقُّع تَحوّل المجتمع على هذه الشاكلة، قد لا يبدو بعيد المنال فحسب، بل مُستحيلاً، إلا أنه يبقى جزءًا لا يتجزأ من الإيمان والعمل البهائي.

نمط حياة المجتمعات البهائيّة

تشكّل المجتمعات البهائيّة محورًا لنشاطات متنوّعة تؤثر على كل جانب من جوانب الحياة البهائيّة. فبالإضافة إلى الضيافات التسع عشريّة وإحياء الأعياد ومناسبات الذكرى السنويّة الأخرى التي ينظمها المحفل الروحاني المحلّي، توجد أربعة نشاطات عمل محوريّة أساسيّة core activities – لتنمية الموارد البشريّة – هي: مَعاهد تدريبيّة، جلسات الدُّعاء، صفوف الأطفال ودروس الشباب الناشئ التي غالبًا ما يقدّمها أفراد في المجتمع. ويقوم المعهد التدريبي بتطوير موارد المُجتمع البشريّة لهذه النشاطات – ومنها على سبيل المثال تدريب “مرشدين Tutors-للحلقات الدراسيّة، ومعلمين لصفوف الأطفال، ومحرّكين Animators لدروس الشباب الناشئ – وتوجد أيضًا جلسات تَعَمّق، أو جلسات دراسيّة، ولقاءات غير رسميّة لإعطاء المعلومات، والتي تعرف باسم فايرسايد Fireside. ومع نموّها ونضوجها، تساهم المجتمعات البهائيّة والمجموعات الجغرافيّة في مجالات متعددة منها المشاريع الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تقدّم لأفراد البهائيين الخبرات والاستراتيجيات والمبادئ البهائيّة لحل القضايا المحلّية، أو لتحسين أوضاع المجتمع الأوسع.[29]

يشكل التقويم البهائي للمجتمعات البهائيّة نمط حياتهم، ويُعرف أيضًا بالتقويم البديع، وقد وضعه حضرة الباب وأقرّه حضرة بهاء الله، وثبّت بداية التاريخ البهائي بعام 1844م، وهي السنة التي أعلن فيها حضرة الباب دعوته.

تبدأ السنة البهائيّة عندما يحصل الإعتدال الربيعي في النصف الشمالي من الكرة الأرضيّة، وهو يرادف الاعتدال الخريفي في نصف الكرة الجنوبي. يدعى هذا اليوم بـ ”نوروز” أو نيروز، (أي اليوم الجديد) ويقع عادة في 21 آذار تقريبًا. ولكن إذا حدث الاعتدال بعد غروب الشمس يوم 21 آذار يُحتفل بعيد النوروز يوم 22 أذار (وقد يقع أيضًا في 20 آذار). بُني التقويم البهائي على أساس السنة الشمسيّة المؤلفة من 365 يومًا وخمس ساعات وخمسين دقيقة تقريبًا. تُقَسم السنة إلى 19 شهرًا كل منها 19 يومًا. وبما أن السنة البهائيّة مرتبطة بحَدَث شمسيّ (الاعتدال) فيتم التعديل تلقائيًا، وقد حدد حضرة بهاء الله أربعة أو خمسة أيّام تُعرَف بـ ”أيّام الهاء“ ويجب ان تُدرج قبل الشهر التاسع عشر، وبذلك يتوافق التقويم البهائي مع السنة الشمسيّة.

لقد أعطى حضرة الباب أسماء الشهور البهائيّة في التقويم البديع بموجب أسماء الله التسعة عشر كما وردت في أحد أدعية الشيعة. يبيّن الجدول التالي التاريخ الوارد في التقويم الغربي الغريغوري على افتراض أن النوروز يقع في يوم 21 آذار:

1 البهاء   21 أذار/ مارس – 8 نيسان/ أبريل

2 الجلال 9 نيسان/ أبريل – 27 نيسان/ أبريل

3 الجمال 28 نيسان/ أبريل – 16 أيار/ مايو

4 العظمة 17 أيار/ مايو – 4 حزيران/ يونيو

5 النور   5 حزيران/ يونيو – 23 حزيران/ يونيو

6 الرحمة 24 حزيران/ يونيو – 12 تمّوز/ يوليو

7 الكلمات         13 تموز/ يوليو – 31 تموز/ يوليو

8 الكمال 1 آب/ أغسطس – 19 آب/ أغسطس

9 الأسماء         20 آب/ أغسطس – 7 أيلول/ سبتمبر

10 العزّة  8 أيلول/ سبتمبر – 26 أيلول/ سبتمبر

11 المشيئة       27 أيلول/ سبتمبر – 15 تشرين الأول/ أكتوبر

12 العلم
16 تشرين الأول/ أكتوبر – 3 تشرين الثاني/ نوفمبر

13 القدرة
4 تشرين الثاني/ نوفمبر – 22 تشرين الثاني/ نوفمبر

14 القول
23 تشرين الثاني/ نوفمبر – 11 كانون الأول/ ديسمبر

15 المسائل
12 كانون الأول/ ديسمبر – 30 كانون الأول/ديسمبر

16 الشرف         31 كانون الأول/ ديسمبر – 18 كانون الثاني/ يناير

17 السلطان        19 كانون الثاني/ يناير – 6 شباط/ فبراير

18 الملك  7 شباط/ فبراير – 25 شباط/ فبراير

19 العلاء 2 آذار/ مارس – 20 آذار/ مارس

أيام الأسبوع البهائيّة هي:

1– الجلال      السبت

2– الجمال      الأحد

3– الكمال      الاثنين

4– الفضّال     الثلاثاء

5– العِدال       الأربعاء

6– الاستجلال الخميس

7– الاستقلال   الجمعة

 

ولكل يوم من أيام الشهر أسماء من أسماء صفات الله، وهي نفس أسماء الشهور التسعة عشر. لذلك، يسمّى يوم النيروز، وهو اسم اليوم الأول في الشهر الأول، “يوم البهاء من شهر البهاء”. فإذا صادف وقوعه يوم السبت، اليوم الأول من الأسبوع البهائي، يمكن اعتباره “يوم الجلال” أيضًا.

يوم الراحة البهائي هو يوم الاستقلال (الجمعة)، ويبدأ اليوم البهائي عند الغروب وينتهي عند غروب اليوم التالي.

الضيافة التسع عشريّة

يعقد البهائيّون الضيافة التسع عشريّة في اليوم الأول من كل شهر بهائي، وهي تشكّل أساس حياة المجتمع. تفضّل حضرة بهاء الله في الكتاب الأقدس قائلاً: “قد رقم عليكم الضّيافة في كلّ شهر مرّة واحدة ولو بالماء إن الله أراد أن يؤلّف بين القلوب ولو بأسباب السّموات والأرضين”.[30] أضاف حضرة عبدالبهاء فترة روحانيّة إلى فترة اللقاء الاجتماعي الأساسية، كما أضاف حضرة شوقي أفندي فترة إداريّة للمشورة، مُكَمّلاً بذلك الشكل النهائي لمؤسسة الضيافة التسع عشريّة. تُشكّل الضيافة التسع عشريّة في يومنا هذا اللقاء الرئيسي للبهائيين في مناطقهم المحلية (Locality)، والتي يحق لجميع أعضاء المجتمع البهائي بمن فيهم الأطفال والزائرين (البهائيين) في منطقتهم الحضور إليها. هدف الضيافة تنمية الاتحاد، التأكيد على تقدم الدين البهائي، وإيجاد السعادة، وهي تُعْتَبر “واسطة هامة للمحافظة على روابط قويّة ومستمرّة بين المؤمنين أنفسهم وأيضًا بينهم وبين هيئة ممثليهم المنتخبة في المجتمع المحلّي”.[31] وعلاوة على ذلك:

فبالضيافة يتم ربط الأفراد بتطورات جماعية تصبح سببًا في بناء وتجديد المجتمع فمثلا تعتبر الضيافة مكانا لممارسة الديمقراطية على مستوى جذور المجتمع حيث يلتقي المحفل الروحاني المحلي مع أعضاء الجامعة حول قاعدة مشتركة وعندها يكون للأفراد الحرية في عرض أفكارهم وآرائهم سواء كانت جديدة أو انتقادات بناءة من أجل ايجاد حضارة متقدمة، ولهذا يمكن الملاحظة بأنه علاوة على المغزى الروحاني للضيافة التسع عشرية فانها تتكون من عناصر اجتماعية معينة تقوم باعداد المشاركين فيها ليصبحوا أعضاء مسؤولين في الجامعة.[32]

حضور الضيافة التسع عشريّة ليس إلزاميًا وإنما مهم جدًا. بوجه عام، يسمح للبهائيين فقط بحضور الضيافة، وهي تُعقد بجوٍ من الوقار، المحبّة والاتحاد، وهي تخاطب نواحي الفرد والمجتمع كافة بما فيها الروحانيّة، الفكريّة، الإدارية والاجتماعيّة.

المحفل الروحاني المحلّي مسؤول عن الدعوة إلى الضيافة التسع عشريّة، تحضير البرنامج للفترة الروحانيّة، وضع جدول الأعمال لفترة المشورة وتقديم المرطّبات. إذا كان لدى المجتمع البهائي مركزًا بهائيًا أو حظيرة قدس كبيرة بما فيه الكفاية، من المرجح أن تُعقد الضيافات هناك. في الوقت الحاضر، حيث ما زالت [معظم] المجتمعات البهائيّة قليلة العدد، تعقد الضيافات في أكثر الأحيان في بيوت المؤمنين. حسب المعتاد، يختار المضيف الأدعية والقراءات للفترة الروحانيّة، ويقدم المرطّبات. وفي المجتمعات الكبيرة قد تقوم لجنة بهذه المسؤوليات بالنيابة عن المحفل الروحاني المحلّي.

يتألف برنامج الضيافة من ثلاثة أقسام: فترة روحانيّة، فترة للتشاور وفترة اجتماعيّة. تشتمل الفترة الروحانيّة في أكثر الأحيان على تلاوات يتم اختيارها مبدئيًّا من كتابات حضرة بهاء الله وحضرة الباب وحضرة عبدالبهاء، وأحيانًا تشتمل أيضًاعلى مقتطفات مختارة من كتابات الأديان العالميّة الأخرى.

ان النظام العالمي الجديد لحضرة بهاء الله يشمل جميع عناصر المجتمع الانساني، انه يوحّد ويدمج العمليات الروحانية والادارية والاجتماعية لعالمنا ويوجّه آمال البشرية بشتى أنواعها واشكالها نحو تشييد حضارة جديدة. ان الضيافة التسع عشرية تحتوي على جميع هذه العناصر باعتبارها قاعدة المجتمع وتعمل هذه المؤسسة في القرية والمدينة، انها المؤسسة التي تضم كافة أهل البهاء وتهدف إلى ترويج الوحدة وتأكيد النمو وتطور واشاعة المحبة والمودة.[33]

ليس في الدين البهائي من يقود الصلاة أو الدعاء، أو قارئون مُعَيّنون، أو أشخاصٌ مُفوّضون رسميًّا للتلاوة، ولم يُحدّد حضرة بهاء الله كيفية إجراء برنامج الدعاء والمناجاة، تاركًا هذه الأمور للمجتمع المحلّي. يتناوب المؤمنون في مجتمعات متعددة على قراءة (أو تلاوة) فقرات مختارة سابقًا، أو قد يختارونها بأنفسهم. وفي المجتمعات الكبيرة، يمكن للجنة أن تختار الأدعية والقارئين. يجوز أن يشتمل البرنامج على الموسيقى، خصوصًا في تلاوة المناجاة.

الفترة الثانية من الضيافة التسع عشريّة تُكرّس للمشورة حول مسائل وقضايا لها علاقة بالمجتمع، وتبادل المعلومات بين مؤسسات الدين وجميع المؤمنين في المجتمع. من أهداف الضيافة الأساسية “إتاحة المجال للمؤمنين كي يقدّموا اقتراحاتهم إلى المحفل الروحاني المحلّي الذي بدوره سيرفعها [إذا لزم الأمر] إلى المحفل الروحاني المركزي“.[34]

تشكّل الفترة الثالثة، الفترة الاجتماعيّة، جزءًا لا يتجزّأ من الضيافة التسع عشريّة، ومن دونها لا يُعتبر انعقاد الضيافة انعقادًا صحيحًا. الهدف منها أن تَكون فترة تقوية أواصر الألفة واستكشاف التنوّع الغَني في المجتمع البهائي. تُقدَّم فيها المرطّبات التي يمكن أن تُقتصر في أبسط حالاتها على أكواب من المياه، أو أن تصل إلى وجبة طعام كاملة. يجدد أفراد المجتمع روابط الصداقة، ويقابلون أشخاصًا جددًا، ويتبادلون الأفكار ويتجاذبون أطراف الحديث. يقوّي الأطفال هُويّتهم البهائيّة، وقد يعزفون الموسيقى، ويمكن أن يلقي الأطفال والشباب[35] كلمات في مواضيع مفيدة. رغم أن نمط الضيافة التسع عشريّة محدّد، إلاّ انه يوفر مجالات لا حدود لها للتعبير عن التنوّع في المجتمع، من الموسيقى إلى أنواع الطعام الذي يُقدّم.

الضيافة التسع عشريّة مبنيّة أساسًا على حسن الضيافة والوفادة مع كل ما يتضمنه ذلك من معاني الصداقة والمحبّة والخدمة والكرم وحسن العشرة والمرح. إن مجرّد اعتبار أن حسن الضيافة هو الروح المؤازرة لمؤسسة بهذه الأهميّة، يوَلّد توجّهًا جديدًا يؤدّي إلى تغيير جذريّ في أسلوب إدارة الأمور الإنسانية على جميع المستويات، وهو توجّه ضروري إلى أقصى حد بالنسبة لتحقيق… وحدة العالم الإنساني… حقًا، توضع في هذا الحفل الإلهي الأسس لإنجاز هذه الحقيقة غير المسبوقة إطلاقًا.[36]

الأعياد ومناسبات الذكرى السنويّة

يحيي البهائيون أحد عشر عيدًا ومناسبةً تُعبّر كل منها عن ذكرى سنويّة ذات مغزى بالنسبة للشخصيات الرئيسيّة في الدين البهائي، ومناسبات مهمة أخرى، وقد ادرج تاريخ هذه المناسبات في الجدول التالي بموجب ما يرادفها في التايخ الغربيّ الغريغوريّ على فرض أن النوروز يقع يوم 21 آذار (أنظر ما مرّ ذكره):

وهي:

عيد النوروز (رأس السنة البهائيّة)    21 آذار (مارس)

عيد الرضوان

إعلان دعوة حضرة بهاء الله           21 نيسان (أبريل) – 2 أيار (مايو)

عيد بعثة حضرة الباب                23 أيار (مايو)

صعود حضرة بهاء الله                 29 أيار (مايو)

استشهاد حضرة الباب                 9 تموز (يوليو)

مولد حضرة الباب
تشرين الأول (أكتوبر) – تشرين الثاني (نوفمبر)

مولد حضرة بهاء الله
تشرين الأول (أكتوبر) – تشرين الثاني (نوفمبر)

يوم الميثاق                     26 تشرين الثاني

صعود حضرة عبدالبهاء      28 تشرين الثاني (نوفمبر)

يصادف ميلاد حضرة الباب وحضرة بهاء الله في يومين متتالين ويتم حسابهما على أنهما اليوم الأوّل والثاني لظهور القمر لثامن مرّة من جديد بعد النوروز.

لا يعمل البهائيّون، ولا يذهب الأولاد إلى المدارس أيام الأعياد ومناسبات الذكرى الواردة أعلاه ما عدا المناسبتين المذكورتين في آخر اللائحة والمرتبطتين بحضرة عبدالبهاء. أثناء عيد الرضوان، تُعلّق الأشغال في اليوم الأول والتاسع والثاني عشر. لا يُحيي البهائيون المناسبات المرتبطة بحضرة شوقي أفندي.

لا طقوس محددة للاحتفال بالأعياد ومناسبات الذكرى الأخرى، فتعقد مجتمعات بهائيّة متعددة جلسات دعاء، أو تَجمع بين المناسبة المعيّنة وبين لقاءات لزيادة الألفة ونشاطات اجتماعيّة ملائمة. يُرَحَّب بحضور الجميع، بهائيين وغير بهائيين كبارًا وصغارًا، في هذه المناسبات.

أيّام الهاء

تُعرف الأيام الأربعة (خمسة في السنة الكبيسة) قبل الشهر البهائي الأخير في السنة البهائيّة بأيام الهاء وهي تُكَرّس للتحضير الروحاني للصيام، وتتميز بتقديم الضيافة، الولائم، وأعمال الخير، والهدايا وتبادل الزيارات. بينما لا توجد نشاطات محددة، غالبًا ما تُحيي العائلات والمجتمعات البهائيّة احتفالات أثناء هذه الفترة، فيتزاورون، ويقدّمون تبرّعات خيرية خاصة، ويقومون بالخدمات في المجتمع الأوسع، ويوزعون الهدايا على أطفالهم.

المعاهد التدريبيّة

خلال العقد الأخير من القرن الماضي دعا بيت العدل الأعظم إلى تأسيس معاهد تدريبيّة في جميع البلاد ولهذا الغرض تبنّى المجتمع البهائي العالمي المواد التي عمل على تطويرها معهد روحي في كولومبيا خلال عدة سنوات. لقد تأسّس هذا المعهد على مبدأ أنه “في سبيل بناء عالم أفضل فإن الأمر يستوجب مجموعة من الناس متنامية باستمرار وقادرين على المساهمة في تحقيق الحاجات الضروريّة التي لا تعد ولا تحصى”. إن هدف المعهد التدريبي هو “مساعدة الافراد على التعمّق في فهمهم للتعاليم البهائيّة واكتساب الرؤى والمهارات العمليّة التي يحتاجونها للقيام بالعمل في المجتمع.” يقدم المعهد سلسلة من الدورات التي تساعد على التطور المنهجي للموارد البشريّة ضمن المجتمع البهائي. ففي “الحلقة الدراسيّة” تقوم مجموعة صغيرة من الأصدقاء يدعمهم مرشد Tutor بالاجتماع مرّة في الأسبوع تقريبًا يتدارسون فيه بعض المواد المبنيّة على الكتابات البهائيّة التي تزودهم ببصائر روحانيّة وبالمعرفة التي يكتسبونها نتيجة تطبيق التعاليم البهائيّة عمليّا في معترك الحياة. يتباحث المشاركون حول الخبرة التي اكتسبها المجتمع البهائي في مساعيه للمساهمة في تقدّم الحضارة، وفي الوقت نفسه يكون الأفراد منخرطين في عملية التعلّم ويشارك بعضهم بعضًا بالمعرفة ويقدمون الخدمات التي تحسّن الحياة التعبّديّة في حيّ من الأحياء، كما يقدمون دروس الأخلاق للأطفال، وبرامج التمكين الروحاني للشباب النّاشئ، ويوجِدون الظروف الملائمة ضمن أسرهم التي من شأنها أن تنمّي الازدهار المادي والروحاني. إن عقد دورات معهد روحي هو أحد نشاطات محاور العمل الأربعة المعمول بها في كل مجتمع بهائي. ومن المؤمّل إضافة دورات الى منهاج المعهد التدريبي بحيث تغدو حياة الفرد البهائيّ بكاملها زاخرة بالخبرة التعلّمية المستمرّة.

جلسات الدعاء

جلسات الدعاء هي إحدى نشاطات المحاور الأربعة التي تقوم بها المجتمعات البهائيّة حيث يجتمع البهائيون وعائلاتهم وأصدقاؤهم، عادة في منازلهم، وتقرأ أو تتلى فيها الأدعية والمقتطفات من الكتابات المقدسة. تكون الموسيقى في أحيان كثيرة جزءًا من البرنامج ويمكن تزيين الغرفة بالأزهار والشموع لخلق جوّ روحانيٍّ منعش. جلسات التعبُّد هذه مفتوحة لكل من يرغب في المشاركة ولها ارتباط وثيق بتطوّر مشرق الأذكار. ليس هناك من برنامج أو نمط محدد لهذه الجلسات ويمكن تكرار إحيائها حسب رغبة المضيف. يُشجَّع جميع البهائيين وعائلاتهم على عقد جلسات التعبّد في منازلهم إذا كان بإمكانهم ذلك، وفي أماكن متعددة يستضيف أشخاص لا ينتمون للبهائيّة مثل هذه الجلسات. تساعد جلسات التعبّد هذه على تنمية روح المشاركة الجماعيّة في العبادة ضمن الحي، وتخلق روابط من الصداقة، وتدعم المساعي الجماعية للمجتمع.

صفوف الأطفال

تربية وتعليم الأطفال هما من أولى أولويات المجتمع البهائي، وكما هو معروف بوجه عامّ، أن من دواعي نجاح المجتمع البهائي قدرته على إيصال تعاليم حضرة بهاء الله إلى الأجيال المتعاقبة. لذلك، لا تقع مسؤوليّة تعليم وتربية الأطفال المُهمّة للغاية على العائلة فحسب، بل ويشارك فيها المجتمع البهائي بكامله بما فيه مؤسساته التي تشجع عقد صفوف الأطفال وهي من النشاطات المحوريّة الأساسيّة الأربعة التي يسعى فيها المجتمع البهائي. تُفتح صفوف الأطفال أمام جميع الأطفال، والمعلّمون هم من الشباب أو الأهلِ البهائيين. يتفاوت برنامج الصفوف من منطقة إلى أخرى ولكنها عادة ما تعقد على مستوى الحي، وهي تعرّف الأطفال بالكتابات البهائيّة وتركز على تنمية الصفات الروحانيّة، والعادات والسلوكيات والأعمال الخدمية بمثل ما تعرّفهم أيضًا بالتعاليم البهائيّة الاجتماعيّة. والهدف هو أن يصل الأطفال الى مرحلة من الفهم والإدراك وتحمّل مسؤوليّة تطورهم الروحاني والمساهمة في خير ورفاهة مجتمعاتهم. يقوم المعهد التدريبي بتأهيل معلمي صفوف الأطفال، ويطبّقون متطلبات حماية الأطفال بكل حزم. يُشجع افراد البهائيين، وخاصة الشباب منهم، على الاشتراك بالتدريب الضروري حتى يصبحوا معلّمين.

الشباب النّاشئ

يعتبر عدد كبير من النّاس أن سنوات المراهقة الفتيّة بين 12 و 15 سنة هي فترة ارتباك وأزمات وتصرفات سيئة وتقلّبات في المزاج. يعتقد البهائيون أن أفكارًا كهذه إنما تنمي هذه الحالات بالذات، ولديهم نظرة مغايرة وهي أن هذه الفترة الانتقاليّة من مرحلة الطفولة الى مرحلة الشباب هي مرحلة لا يعاني فيها الأشخاص الصغار تحوّلاً جسديًّا وفكريًّا سريعًا فحسب، بل وتوسعًا في قدراتهم الروحانيّة واهتمامًا متزايدًا بالأسئلة العميقة والمسائل الاجتماعيّة بالإضافة الى الشكوك والقلق مما قد يسبب تصرفًا غير متزن. وحيث إن هذه الفترة من الحياة تؤثر بكل تأكيد على باقي حياة الانسان، يسعى البهائيون بشكل خاص الى تمكين الشباب النّاشئ من توظيف مهاراتهم وتوجيهها الى حياة من الخدمة المتفانية للإنسانية وتقدّم الحضارة. يشكل برنامج التمكين الروحاني للشباب النّاشئ محورًا من محاور العمل الأربعة في المجتمع البهائي، ويوجهه إجمالاً “محرِّكون” (animators) من الشباب الذين يساعدون الشباب النّاشئ على تنمية قدراتهم وتفحُّص العالم من حولهم والمساهمة في تحسين المجتمع. يدرس الشباب النّاشئ مواضيع تشتمل على قصص عن شباب ناشئ حول العالم يمكنهم بدورهم أن يصبحوا جزءًا من هذه القصص التي من شأنها أن تنير لهم مفاهيم معينة يمكنهم أن يتعلموا كيفية تطبيقها في حياتهم الخاصة. ويتحلون بشكل خاص بالقدرة على التمييز، وتقوية قدرتهم على التعبير مما يمكّنهم من طرح أفكارهم وآرائهم بوضوح، ويبتكرون أساليب لخدمة الآخرين وبالتالي يصبحون قادرين على تولي مسئوليّة نموّهم الأخلاقي والفكري بينما يساهمون في رفاه أحيائهم. وهناك أيضًا برامج أخرى متعددة تشتمل على الرياضة والفنون والموسيقى والألعاب ونشاطات مبتكرة.

الشباب

كثيرًا ما يُعَرّف الدين البهائي على أنه دين الشباب. فكان عمر حضرة الباب، المبشّر بحضرة بهاء الله، 25 سنة عندما أعلن دعوته، و31 سنة عندما استشهد. وكان العديد ممن أقبلوا على الدين البهائي، خاصة خلال السنوات من عام 1960 إلى عام1970، من الأشخاص دون سن الثلاثين.

يُشدد البهائيّون على التعليم ودور الشباب “الذين بإمكانهم المساهمة مساهمة حاسمة في حيويّة وطهارة الجامعة البهائيّة، ويشكّلون القوّة الدافعة لحياتها، إذ عليهم يعتمد توجّه الدين في المستقبل وقَدَرُهُ، وتَفَتُّح كل الطاقات التي أنعمها الله عليه تفتّحًا كاملاً”.[37] رغم أنه ليس بإمكانهم الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات البهائيّة أو أن يخدموا في المؤسسات المُنتخبة إلى أن يصلوا سنّ الحادية والعشرين، يُعَيَّن الشباب البهائي في اللجان والهيئات الإداريّة الأخرى، ويُشكّلون العمود الفقري لبرامج سنة الخدمة. وخلال انخراطهم في هذه الخدمات، يزيد الشباب البهائي معلوماتهم حول القيم، والمواقف، والسلوكيّات والمهارات الضرورية ليس فقط لإدارة الجامعة البهائيّة نفسها في المستقبل، بل لأهميتها لهم في أعمالهم وكمواطنين.

يُوصَف الشباب على أنهم “رأس حربة” النشاط الساعي لنشر الدين البهائي وتوسيع مداه. وهم في مقدّمة عمليّة المعهد، ويعملون في ميدان تربية الأطفال، وتحريك برامج التمكين الروحاني للشباب النّاشئ وتقديم الخدمات للغير وعقد جلسات الدعاء والـ ”فايرسايد“، ويُشَجّعون على إكمال دراساتهم العليا، وليتعمّقوا في مجال بحث ودراسة الدين البهائي، وليُدَرّبوا أنفسهم على مخاطبة الجمهور. وينتظر منهم، في نفس الوقت، التمسّك بذات المقاييس الأخلاقيّة المفروضة على جميع البهائيين.

أشار حضرة بهاء الله إلى أن الإنسان يصل إلى النضج الروحاني عند بلوغه سنّ الخامسة عشر. لذلك، يبدأ الشباب البهائي منذ هذه السنّ القيام بواجباتهم الروحانيّة مثل الصوم والصلاة وتحمّل مسؤولية قدرهم الروحاني. من واجبات كل محفل روحاني محلّي “العمل بكل ما لديه من الوسائل على تنوير الشباب بمتطلبات الحياة الماديّة والروحانيّة”.[38]

رغم افتقارهم للخبرة وقلّة الموارد، إلا أن ما يمتلكونه من روح المغامرة، والحيويّة والنشاط، واليقظة، والتفاؤل الذي ما زال يظهر منهم بشكل متواصل، يؤهلهم [الشباب البهائي] للعب دورٍ نشيطٍ في إثارة اهتمام، وجذب ولاء الشباب أمثالهم في تلك البلاد. لا يمكن إعطاء شعوب القارتين إثباتًا على الحيويّة الفتيّة والقوّة النابضة المحرّكة للحياة ولمؤسسات دين حضرة بهاء الله الحديث النشأة، أكبر من المساهمة المثابرة الذكيّة للشباب البهائي من كل جنس وقوميّة وطبقة في كلا المجالين، التبليغ والإدارة البهائيّة.[39]

إن تشكيل صفوف للشباب الناشئ هو النشاط المحوريّ الأساسيّ الرابع الذي توليه الجامعة البهائيّة غاية الأهميّة.

فترة (أو سنة) الخدمة

لدى البهائيين شعورٌ قويٌ بواجب خدمة الغير، ويعتبرون ذلك خدمة للإنسانية وبنهاية المطاف خدمة لله. إن خدمة الآخرين والمجتمع ما هو إلا تطبيق المثل والقيم التي وضع خطوطها العريضة حضرة بهاء الله تطبيقًا عمليًّا على أرض الواقع، مما يؤدي بمن يُقَدّم مثل هذه الخدمات إلى اكتساب صفات التفاني والانقطاع وهي صفات روحانيّة سامية. يُربّىَ الأطفال على امتلاك روح الخدمة، وغالبًا ما تأخذ العائلات والمجتمعات البهائيّة على عاتقها تقديم خدمات بشكل منتظم.

من أجل فتح القنوات للخدمة، طوّرت المجتمعات البهائيّة ‘فترة الخدمة’ أو سنة الخدمة حيث يمكن للبهائيين، وخصوصًا الشباب، تكريس بعض أوقاتهم بشكل رسمي لمشاريع الخدمة. تؤخذ هذه الفترة عادة في المرحلة ما بين نهاية الدراسة الثانويّة ومباشرة الدراسات العليا، أو قبل الدخول في مجال التوظيف للعمل. ومن المهام التي يتعهد الشباب القيام بها مساعدة البهائيين المحليين للاندماج أكثر في مجتمعاتهم وتفعيل التعاليم البهائيّة، وفي الخدمة كمحرّكين لبرامج الشباب النّاشئ، وتعليم صفوف الأطفال، والمساعدة في دور الأيتام والبيوت المخصصة للمتقاعدين، وتقديم مساعدات إداريّة لمجتمعات بهائيّة، وصقل مهارات شباب آخرين في الموسيقى والرقص، وتعليم القراءة والكتابة، وتفعيل برامج المعهد التدريبي، وبوجه عام عمل كل ما هو ضروري.

المرأة

إن العالم الإنساني أشبه بطير له جناحان أحدهما الذكور والآخر الإناث، وما لم يكن الجناحان متساويين في قوتهما لا يمكن لهذا الطير أن يطير. لذلك، ما لم تتوصل المرأة إلى نفس مستوى الرجل، وما لم تنعم بنفس مجالات النشاط، لن تحقق الإنسانيّة انجازات خارقة؛ ولن تحلّق في طريقها نحو التطوّر الحقيقي.[40]

يدرك الدين البهائي أنه خلال القسم الأكبر من تاريخ الإنسانية، عانت النساء من الحرمان: لم يكن العلم بمتناولهنّ؛ لم تصرف الجهود على تنميتهنّ بشكل عامّ؛ لم تُقدّر مهاراتهنّ وبصائرهنّ ولم تُكافـأن، كما لم تكن لهن الحماية القانونيّة. وقد أدى التفكير التقليدي عن دور النساء في أكثر الأحيان إلى دفعهنّ إلى مركز في غاية الضعف، خصوصًا عندما كنّ في سنّ الشباب أو أرامل، وكنّ عرضة للتعدّي الجسدي وإساءات أخرى. يُفرض عليهنّ في بعض أنحاء العالم تحمّل الألم الشديد وممارسات تحطّ من كرامتهنّ وإنسانيتهنّ مثل تشويه أعضائهنّ التناسليّة. لقد تحمّلن، بشكل عامّ، عبء الأمومة والمسؤوليات المنزليّة دون مساعدة، وإلى يومنا هذا، وفي مجتمعات متعددة، لا يستطعن الحصول على قرض لشراء بيوتهنّ ولا يحق لهنّ الإرث من الأقرباء الذكور. حتى فيما تُسمّى المجتمعات المتقدّمة، يبقى الانطباع السائد انه ليس للنساء دورٌ في “المراكز العليا”، مهما يعني ذلك في مجتمع معيّن. لذلك، وحتى مع وجود هيكليّة قانونيّة، فإن أجورهنّ غالبًا ما تكون أقل من أجور الذكور في المراكز المماثلة، وفرصهنّ للتقّدم في درجات المهنة بموازاة مستوى الرجال تبقى ضئيلة.

يسعى البهائيّون إلى تغيير هذه المواقف على جميع المستويات – في العائلات، في المجتمع، في نطاق العمل، على مستوى الحكومة، وعلى المستوى الدولي. ويهتم البهائيّون بشكل خاص بتربية الفتيات كون ذلك هو الطريق إلى الأمام، ويهتمّون أيضًا بالنساء الكبريات سّنًا واللواتي دخلن في مرحلة الشيخوخة. إن المبادئ الأساسيّة التي تدفع الموقف البهائي قدمًا هي: إدراك وحدة العالم الإنساني؛ مساواة النساء والرجال والتي من دونها لن يتحقق السلام في العالم؛ ضرورة الترويج لتقدّم المرأة والتي بفقدانها لن يتحقق الاستقرار الاجتماعي ولا العدالة ولا الازدهار؛ إعادة صياغة المفهوم الشائع لأهميّة الأمهات والعائلات بشكل عامّ؛ والحاجة لإيجاد الشراكة بين الرجال والنساء في المجالات كافة؛ والقناعة أنه يمكن أن يتغيّر الرجال وسيتغيّرون.

تتجذّر هذه المبادئ والقيم في سلوكيات مُهمّة. مثلاً، للفتيات الأولوية في التعليم على الصبيان عندما لا يكون بوسع العائلة تعليم جميع أولادها، والمتوقع أن تشارك النساء بأنفسهنّ في شؤون المجتمع، وصنع القرار، والمشاركة في الحكم. كان حضرة عبدالبهاء هو الذي، في أثناء أسفاره في أوروبا وأمريكا الشماليّة بين عامي 1911م و1913م، عبّر عن المبادئ البهائيّة حول المساواة بين الرجال والنساء وفوائد تقدّم المرأة. وفي حديث في لندن عام 1911م مع سيّدة بريطانية ناشطة في طلب حق المرأة في المشاركة في الانتخاب، شرح الموقف البهائي حول مشاركة المرأة في صنع القرار وتولّي المسؤوليات في سدّة الحكم، ومما قاله، “لدى المرأة شجاعة أخلاقيّة أكثر من الرجال؛ لديها أيضًا مواهب خاصة تمكّنها من التحكّم في الأمور في لحظات الخطر والأزمات”.[41]

لنشر هذه الأفكار عن أهميّة تحقيق المساواة بين النساء والرجال، لا يعمل البهائيون في مجتمعاتهم فحسب بل أيضًا مع مؤسسات أخرى مثل UN WOMEN وUNICEF، ويؤيدون منبر بكين (بيجنغ) للعمل Beijing Platform for Action. ومع ذلك يدرك البهائيّون أن أفضل وسيلة لترويج هذه الأفكار هي تطبيقها داخل المجتمع البهائي نفسه، وبطَرْح المجتمع البهائي كأنموذج للغير. من هنا تُشجّع النساء البهائيّات على أن “يصبحن ماهرات في الفنون والعلوم”، وأن يدخلن في حقول “العلوم الصناعيّة والزراعيّة”[42] وأن يقمن بدور نشط في حياة مجتمعاتهن البهائيّة. يسعى البهائيّون إلى دفع طاقات النساء قدمًا في مجالات القيادة وتحمّل المسؤوليات بتنمية مهارتهن في المشورة – بشكل رسميّ بواسطة التدريب والإعلام التقليدي (بالمشاركة مع UNIFM)، وبشكل غير رسمي بالممارسة في المؤسسات البهائيّة والضيافات التسع عشريّة؛ وبتوفير التعليم للفتيات، وخصوصًا بواسطة مشاريع تربويّة غير رسميّة، بما فيها مدارس توجيهيّة، ومؤسسات لمحو الأميّة وحضانة الأطفال – ويوجد الآن حوالي ألف مركز من هذا النوع في العالم، أكثر من نصفهم في آسيا والمحيط الهادئ. ويسعى البهائيّون لرفع شأن الأمهات بتثقيف الرجال على فهم دورهنّ وبتدريب الأمهات على مهارات الحياة، خصوصًا القراءة والكتابة، والتغذية، والنظافة للمحافظة على الصحّة، والإسعاف الأوّلي وما إلى ذلك؛ وبتعليمهنّ ممارسة المشاريع التي تدرّ مدخولاً بما فيها الاستفادة من مشاريع التمويل الصغيرة والحرف؛ وبالعمل مع جمعيّات أخرى للتخفيف من العنف ضد النساء، خصوصًا في العائلة؛ وباللجوء إلى وسائل الإعلام المحلّية للتركيز على عدم صواب تشويه الأعضاء التناسليّة بهدف القضاء على هذه الآفة؛ وبتوفير التدريب على إدارة الأموال للنساء والرجال. توجد مشاريع بهائيّة لتقدّم المرأة في غالبيّة البلاد التي فيها مجتمعات بهائيّة عاملة – أكثر من 170 مشروعًا حتى تاريخه.

إن أفضل تلخيص للموقف البهائي تجاه النساء ومساهمتهنّ في تحقيق السلام العالمي لربما هو ما تفضّل به بيت العدل الأعظم:

إِنَّ قضية تحرير المرأة، أي تحقيق المُساواة الكاملة بين الجنسَيْن، هي مطلبٌ مُهِمٌّ من مُتطلبات السلام، رغم أَنَّ الاعتراف بحقيقة ذلك لا يزال على نطاقٍ ضيِّق. إٍنَّ إنكار مثل هذه المساواة يُنزل الظلم بنصف سكان العالم، ويُنمِّي في الرجل اتِّجاهات وعادات مؤذية تنتقل من محيط العائلة إلى محيط العمل، ومنها إلى مجال الحياة السياسية، وصولاً في نهاية الأَمر إلى ميدان العلاقات الدولية. ليس هناك أي أَساسٍ خُلُقِيّ أو عملي أو بيولوجي يمْكن أن يُبرّر مثل هذا الإنكار، ولن يستقر المناخ الخُلقي والنفسي الذي سوف يتسنَّى للسلام العالمي النُّموُّ فيه، إلاّ عندما تَدْخُل المرأة بكل تَرحاب إلى سائر ميادين النشاط الإنساني كشريكةٍ كاملةٍ للرجل.[43]

البحث والدراسة Scholarship

شجّع حضرة بهاء الله روح البحث والتحقُّق. “إن أول مبدأ من مبادئ حضرة بهاء الله“، كما تفضّل حضرة عبدالبهاء، “هو أن يتحرّى الفرد الحقيقة بنفسه”.[44] يرتبط مفهوم بحث الفرد عن الحقيقة بنفسه، كما ورد في كتابات حضرة عبدالبهاء وحضرة شوقي أفندي، مع إدراك وحدة العالم الإنساني وتأسيس السلام العامّ، لأنه يُمَكّن البشريّة من عدم الاستمرار في تكرار أخطاء الماضي. المبدأ المرتبط بهذا التوجّه هو أن الدين والعلم مدْخلان للنظر إلى حقيقة واحدة ولذلك عليهما أن يُكملا بعضهما بعضًا. بالتالي، من الضروري البحث في كليهما والاستفادة من النتيجة لرفع شأن الإنسانيّة. بناء عليه، فإن توفير العلم على قاعدة عريضة للأطفال والشباب، بما يشتمل على العلوم والآداب، منحى يدعمه البهائيّون.

إن دراسة التعاليم البهائيّة، تاريخها وأحكامها، مسؤولية كل فرد. من أهم أعمال البحث والدراسة البهائيّة Bahá’í scholarship تطبيق تعاليم الدين على المشاكل المعاصرة. ومن الطبيعي أن البعض قد يرغب في الذهاب أبعد من ذلك إلى دراسة تاريخ وتعاليم الدين على مستوى أعمق، والمجتمع البهائي يوفر الفرص لذلك. مثلاً، تأسست جمعيّة الدراسات البهائيّة The Association of Bahá’í Studies بهدف تنمية دراسة منهجيّة للدين ولإيجاد الفرص لعرض التعاليم البهائيّة في الجامعات ومؤسسات الدراسات العليا.

المدارس البهائيّة الموسميّة

من أجل إفساح المجال أمام الناس لدراسة الدين البهائي دراسة مستفيضة وللإستجابة إلى رغبتهم في التعمق فيه أكثر مما يستطيع الفرد وحده، أوجدت مجتمعات مركزيّة كثيرة مدارس ومراكز تربويّة للبهائيين وعائلاتهم وأصدقائهم وأشخاص آخرين لديهم الاهتمام بالموضوع. لدى بعض المجتمعات المركزيّة ممتلكات تفتح أبوابها طوال السنة تقريبًا وفيها مكتبات، وسائل الاتصال والإنترنت، وأماكن للإقامة. ويمكن للمجتمعات في بلاد أخرى إستئجار مثل هذه الأماكن وإحياء مدارس بهائيّة لمدة أسبوع تقريبًا تقام عادة أثناء فترات العطلات الموسميّة. توفر المدارس التي فيها وسائل للسكن فرصة لإقامة البهائيين معًا لمدة قصيرة بموجب المُثُل البهائيّة.

يمكن دراسة مواضيع متعددة في مثل هذه المدارس بما فيها جوانب من التاريخ البهائي، وتعاليم بهائيّة اجتماعية وروحانيّة وممارساتها، والإدارة والأحكام البهائيّة. يمكن أيضًا أن تُقدَّم برامج المعاهد التدريبية أو تدريب للمعلمين. يلعب الفن بوتيرة متزايدة دورًا ملحوظًا كأداة تربوية ومادة للدراسة، وأيضًا لتقديم التسلية والعروض الثقافيّة. وبشكل عامّ، يكون لكل من الكبار والشباب والأطفال برامجهم المستقلّة أحيانًا والمشتركة أحيانًا أخرى. وقد قال حضرة شوقي أفندي إن هذه المدارس ستتطوّر إلى جامعات المستقبل.

حيث توجد مجتمعات بهائيّة ناضجة بما فيه الكفاية، وتوجد الحاجة، تُنشئ هذه المجتمعات مدارس تُقدّم مِنهاجًا تربويًا عامًا لجميع الأطفال مبنيًا على المتطلبات التربوية التي وضعتها الحكومة، مع تطبيق القيم والمبادئ البهائيّة، وقد افتُتِحت جامعاتٌ تستوحي توجُّهها من التعاليم البهائيّة في عدد قليل من البلاد.

مشارق الأذكار – بيوت عبادة بهائيّة

أسس حضرة بهاء الله في كتابه الأقدس مشرق الأذكار ليكون المحور الروحاني والاجتماعي لحياة المجتمع:

طوبى لمن توجّه إلى مشرق الأذكار في الأسحار ذاكرًا متذكّرًا مستغفرًا وإذا دخل يقعد صامتًا لاصغاء آيات الله الملك العزيز الحميد، قل مشرق الأذكار إنّه كلّ بيت بني لذكري في المدن والقرى كذلك سُمّي لدى العرش إن أنتم من العارفين.[45]

تُشير عبارة مشرق الأذكار إلى مؤسسات روحانيّة وإنسانيّة وأنشطة متنوعة ومترابطة. فمن حيث المبدأ تَعني العبارة مُجَمّع أبنية ومؤسسات مكرّسة لحسن سير المجتمع روحانيًّا واجتماعيًّا ولتوفير حاجاته التربوية والتدريب العلمي، بما فيها بيت للعبادة في وسطها، وجامعة، وفندق للمسافرين، ومستشفى وصيدليّة، ومدرسة للأيتام، ودار للعجزة.[46] وتُستعمل العبارة للإشارة إلى بيت العبادة نفسه، “الصرح الأساسي” الذي هو “القلب الروحاني للمجتمع”.[47] وبالإضافة، تستعمل العبارة “لأي مبنى أو غرفة مكرّسة للتعبّد، أو لجلسات الدعاء، وبالأخص الدعاء عند الفجر؛ وإلى قلب المتعبد المخلص نفسه”.[48]

في الوقت الحاضر هناك ثمانية مشارق أذكار قارية أو دور للعبادة – واحد في كل قارة وآخر في ساموا، وقد أطلق بيت العدل الأعظم برنامجًا لتشييد مشارق أذكار مركزيّة ومحلّية، أوّلهم في باتانمبانغ، كامبوديا Battambang, Cambodia والذي اكتمل بناؤه. وكان أوّل مشرق أذكار في (عشق آباد) في تركمنستان الرّوسيّة قد تضرّر بسبب زلزال وتمّ هدمه. ولم تُبنَ لتاريخه إلاّ مبان قليلة من تلك التي تحيط ببيوت العبادة. تفتح مشارق الأذكار أبوابها أمام جميع الناس وهي، أسوة بجميع المؤسسات والنشاطات البهائيّة، مُصمّمة لتنمية الوحدة. طوّر حضرة عبدالبهاء هذه الفكرة عام 1912م عندما وضع حجر الأساس لمشرق الأذكار الذي بني بالقرب من شيكاغو:

هدف المعابد وبيوت العبادة الأساسي هو ببساطة الوحدة – فهي أماكن تجتمع فيها معًا شعوب متنوعة من أعراق مختلفة وأشخاص لديهم كل أنواع الإمكانات لتَظهر المحبة ويسود الاتفاق بينهم… حتى تجتمع جميع الأديان والأعراق والمذاهب وتستظل في حمايته الشاملة.[49]

أشار حضرة عبدالبهاء إلى أنه يجب أن تكون مشارق الأذكار مستديرة الشكل، لها تسعة أطراف، ومحاطة بتسعة حدائق فيها ممرات[50] وأضاف حضرة شوقي أفندي أنها يجب أن تكون “بهيّة الطّلعة” مع “هندسة معماريّة جميلة ومرهفة”.[51] رغم أن جميع مشارق الأذكار التي بنيت لتاريخه لها قبب وتسعة أبواب، إلا أن هذا ليس مطلبًا في تشييد هذه الأبنية.

إن مشرق الأذكار هو مكان للدعاء، وقراءة وتلاوة الكتابات المقدّسة وترتيلها ترتيلاً وقورًا، وتأمُّل وتفكّر هادئ. لا تقام فيه أية نشاطات أخرى إطلاقًا، وهذا حظرٌ يتضمن أيضًا إلقاء المواعظ والخطب، ومناسبات الزواج ومراسم الدفن. لا تُعزف فيه أية آلات موسيقيّة، ولكن تُشجَّع جوقة على ترتيل الكتابات المقدّسة بلحن مناسب. ويجب أن تنعكس الأدعية في مشرق الأذكار على خدمة للإنسانيّة في تأثيرها، كما هي الحال في المؤسسات الإنسانيّة حولها. يتوقّع البهائيون أنه عندما يمتلك كل مجتمع مشرقًا للأذكار في المستقبل، ستكون إحدى سمات حياة المجتمع اجتماعَ الناس كل يوم بين الفجر وساعتين بعد شروق الشمس للدعاء معًا قبل مباشرة أعمالهم ونشاطهم اليومي.

المراكز البهائيّة – حظيرة القدس

يوجد عادة المركز الإداري الرئيسي لجامعة بهائية في دولة ما في حظيرة القدس [المركزيّة] حيث يجتمع المحفل الروحاني المركزي، ويتواجد أمين سر المحفل الروحاني. بالإضافة لمهامّه الإداريّة “يجب أن تُقام فيه نشاطات اجتماعيّة وفكريّة، محلّية ومركزيّة تعبّر عن طبيعته كمركز تثقيفي وإداري رئيسي للأمر البهائي في البلاد”.[52]

يمكن لمجتمع محلّي، إذا كان عدد أفراده كبيرًا بما فيه الكفاية، أن يمتلك حظيرة قدس محلّية لتكون مركزًا للمحفل الروحاني المحلّي، وتعمل كما تعمل حظيرة القدس المركزيّة. وتعقد في حظائر القدس أيضًا نشاطات اجتماعيّة، مثل الضيافات التسع عشريّة، مناسبات الأيام المقدّسة، صفوف الأطفال، جلسات الدعاء، حلقات دراسيّة ونشاط الشباب، ويمكن أيضًا أن تقام فيها مناسبات الزواج ومراسم الدفن.

موارد الأموال البهائيّة

تُموّل المشاريع البهائيّة من التبرعات التي يقدّمها البهائيون بكامل حريّتهم. فمن سمات الدين المميّزة أن يُسمح فقط للبهائيين بالتبرّع للصناديق، حيث إن التبرّع يعتبر “إمتيازًا روحانيًا ليس مُجازًا للذين لم يؤمنوا بحضرة بهاء الله“ والتبرّع “مسؤوليّة ومصدر للبركة”. ويعتبر البهائيّون أن العطاء للصناديق البهائيّة “يجذب التأييد الإلهي ويرفع من كرامة واحترام الذّات للأفراد والمجتمع”.[53]

مبلغ التبرّع ليس محددًا، ولا هو ذو أهمية. المهم، بالنسبة للبهائيين، هو مستوى تضحية المتبرّع، والمحبّة التي بها يُقدّم التبرّع، وإتّحاد البهائيين في العطاء.[54]

توجد صناديق بهائيّة متعددة. فلكل محفل روحاني محلّي ومركزي صندوقه لتغطية مصاريفه. الصندوق القارّي يدعم عمل هيئات المشاورين القاريّة، وأعضاء هيئات المعاونين ومساعديهم، بينما يدعم الصندوق العالمي، بإدارة بيت العدل الأعظم، العمل البهائي على المستوى العالمي. صندوق المركز البهائي للأوقاف يغطي مصاريف المقامات [الأضرحة] البهائيّة في الأرض الأقدس والأبنية والحدائق على جبل الكرمل. توجد أيضًا صناديق لمشاريع متعددة مثل بناء حظيرة قدس جديدة محلّية أو مركزيّة، بناء مشرق أذكار جديد، تمويل سفر مبلّغين جوّالين أو مهاجرين. يشجّع البهائيّون للتبرع إلى كل صندوق بأنفسهم. لا تعلن أسماء الذين يتبرّعون للصنايق البهائيّة.

حقوق الله

يؤمن البهائيون أن الله خلق كل ما في الوجود وبالتالي فهو مُلْكه. اعترافًا بهذا، يقدم البهائيّون إلى الله بعضًا من قيمة ممتلكاتهم كواجب روحاني وكإنعام. بهذا العمل، أشار حضرة بهاء الله، يتطهّر ما تبقّى للفرد من ثروة وممتلكات، ويمكنه التصرّف بها لأي غرض وكما يشاء.

إن إعادة قِسم من ثروة الفرد إلى الله يعرف باسم “حقوق الله“، وقد وضع حضرة بهاء الله متطلبات هذا الحكم في الكتاب الأقدس. باختصار، يقدّم البهائيّون إلى من يتولّى رئاسة الدين، وهو اليوم بيت العدل الأعظم، 19 بالمئة مما زاد على ثروتهم من السيولة النقديّة منذ الدفعة الأخيرة. تُستثنى بعض أنواع الممتلكات من هذا الاعتبار مثل البيت الذي يملكه الفرد، وتلك الأمور التي يعتبرها “ضرورية وأساسية”، فلا يدفع حقوق الله عنها. يُترك للفرد القرار في تحديد ما يعتبره ضروري وأساسي من ممتلكاته.

إن دفع حقوق الله فرض إلهي، ويجب أن يتم بروح إيجابيّة “برضاء النفوس العادلة العاملة بروح وريحان.”[55] لا يُجبر البهائيّون على دفع حقوق الله، ويجب ألاّ يشعروا بأنهم مُجْبَرُون على ذلك – لا يجوز التوجه إلى أي فرد مباشرة بطلب الدفع. ولإيضاح جوانب هذا الموضوع، يُقدّم مجلس أمناء حقوق الله إرشادات حول كيفيّة إجراء الحسابات، ويعرض أيضًا برامج توجيهيّة لهذا الغرض.

يختلف دفع حقوق الله عن تقديم التبرّعات للصناديق البهائيّة. إن حقوق الله، من وجهة النظر البهائيّة، هي ملك لله في الأصل بينما التبرعات الطوعيّة هي من ممتلكات الفرد.

حدّد حضرة بهاء الله الفئات التي من واجب رأس الدين البهائي أن يوزّع عليها المال الذي جُمع من حقوق الله، وهم: الفقراء، المعاقون، المحتاجون واليتامى، وأيضًا تلبية حاجات الدين البهائي الضروريّة. إن دفع حقوق الله ليس مجرّد عمليّة اقتصاديّة، بل يعتبره البهائيّون مسؤولية روحانيّة وامتيازًا يأتي بالفوائد على المانح والمجتمع الأوسع أيضًا.

نشر الدين البهائي

أمر حضرة بهاء الله أتباعه بتبليغ دينه. ويعتبر البهائيّون أن تبليغ الدين للآخرين هو أعظم العنايات الإلهيّة وهو واجب كل فرد بهائي.

ينتشر الدين البهائي بوجه عام بواسطة الحديث عنه وبالمثَل الذي يعطيه البهائيّون أنفسهم. يجب أن يمارَس التبليغ بروح اللطافة والنيّة الطيبة وأن يُعمل به بالحكمة والتواضع، كمثلِ خادمٍ يقدم هديّة لملك. على المُبَلّغ البهائي أن يكون “متخلِّقًا بالأخلاق الممدوحة والصفات الرحمانيّة”.[56] وعلى الوالدين البهائيين أن يُعَلّما الدين لأولادهما بنفس الروح الذي يُعلّمانه للغير.

لا أساليب محددة للتبليغ. يَفتح العديد من البهائيين بيوتهم لجلسات “الفايرسايد”، وهي جلسات غير رسميّة تُعرض فيها معلومات أوليّة لمن يرغب في التعرّف على الدين البهائي، وتُقدّم فيها الضيافة، وتُبحث بعض جوانب الدين ويتمّ الردّ على الأسئلة. زكّى حضرة شوقي أفندي هذا النوع من التبليغ وأوصى بوجوب عقد الفايرسايد على الأقلّ مرّة كل 19 يومًا. يُشجَع البهائيّون على تبليغ أفراد عائلاتهم، والأصدقاء، والزملاء في العمل، والأفراد ذوي الأفكار المتطابقة، ولكن لا يسمح لهم بالتبشير بمعنى استخدام أي نوع مباشر أو غير مباشر من الضغط (proselytizing)، أو الجدال مع أحد أو استعمال أي نوع من أنواع الإكراه.

يشارك أصدقاء وعائلات البهائيين بشكل متزايد في الحلقات الدراسيّة التي تقدّم سلسلة كتب وضعها معهد روحي، وقد تبيّن أن هذه طريقة ناجعة للتعريف بالمبادئ البهائيّة الروحانيّة وجوانب أخرى من الدين مثل التاريخ، الإدارة وتربية الأطفال، لأعداد كبيرة من الناس.

يأتي آخرون بأولادهم إلى صفوف الأطفال أو يشاركون في جلسات الدعاء، ومن هنا نشأ “مجتمع مهتم” كبير حول المجتمع البهائي والذي منه ينجذب عدد كبير من البهائيين الجدد.

لا يوجد بهائيّون “محترفون” للتبليغ، مع أن أناسًا كثيرين يكرّسون أقسامًا كبيرة من حياتهم لإخبار الآخرين عن الدين ومشاركة رسالته معهم، وفي بعض الأحيان ينتقلون من أماكن سكنهم – ”كالهجرة” – إلى بلدة أخرى أو حتى إلى بلد آخر ليقوموا بهذا العمل. يمكن لأي بهائي أن يصبح مهاجرًا، وبشكل عامّ لا توجد شروط خاصة، مع أن بعض الأماكن تتطلب مهارات خاصة كمعرفة اللغة أو أن يكون قد تدرّب كمحرّك للشباب النّاشئ. يتشاور بيت العدل الأعظم، على النطاق الدولي، مع المحافل الروحانيّة المركزية لتحديد الأماكن التي هي بحاجة للمهاجرين ويطلب من مجتمعات مركزية مختلفة أن ترسلهم. المهاجر، على النطاق المركزي والمحلّي، هو البهائي الذي ينتقل إلى مكان آخر في بلده أو إلى بلد آخر بقصد التبليغ.

لا يوجد مبشّرون بالمعنى المعهود للكلمة. بوجه عامّ، يستقر المهاجرون في منطقة ما، يؤسسون منزلاً ويبدأون في العمل والتكسُّب ويعيشون ويبلّغون الدين البهائي كما يفعلون في أي مكان آخر. في بعض الحالات، يواجه المهاجرون صعوبة كبيرة في إيجاد عمل، عند ذلك تغطي صناديق بهائيّة بعض مصاريفهم الحياتيّة [إلى أن يتمكّنوا من إعالة أنفسهم]. يُتخذ مثل هذا القرار لكل حالة على حدة.

وبالمثل، فإن البهائيين الذين يسافرون لفترة مؤقته لتبليغ الدين يُعْرَفون بالمُبلّغين الجوّالين. وكما هي الحال مع المهاجرين، يمكن لأي بهائي أن يصبح مبلّغًا جوّالاً، ولا توجد لذلك أية متطلبات أو برامج تدريبة، رغم أن دورات المعهد التدريبي تقدم الهداية والبصائر لكل من يرغب في مشاركة الدين مع الآخرين. يسافر العديد من البهائيين لفترات قصيرة للتبليغ، أسبوع أو أسبوعين، وهي فترة عطلتهم. غالبًا ما يموّل المبلّغون الجوّالون أنفسهم، وأحيانًا يوجد بعض التمويل لمشاريع معيّنة. وفي أغلب الأحيان ينظم البهائيون برامجهم، ولكن توجد في مجتمعات مركزيّة كثيرة لجان تساعد المُبَلّغ الذي يود السفر إلى خارج بلاده، إذا طلب ذلك.

[1])   شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1991, pp. 21–2، (ترجمة مترجم الكتاب)

[2])   عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1982, pp. 322–3، (ترجمة مترجم الكتاب)

[3])   مجموعة نصوص صادرة عن دائرة الأبحاث التابعة لبيت العدل الأعظم، أعدّ هذه النسخة العربيّة روشن مصطفى، ص 25 (دار نشر في البرازيل نيسان 2007).

[4])   عبد البهاء،‘Abdu’l-Bahá, 1978, p. 71 ، (ترجمة مترجم الكتاب)

[5])   عبد البهاء، وصايا حضرة عبد البهاء، العهد الأوفى، ص 27 (مترجم)

[6])   شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1949، (ترجمة مترجم الكتاب)

[7])   شوقي أفندي، من رسالة موجهة من حضرة شوقي أفندي إلى البهائيين في أمريكا بتاريخ شباط/فبراير عام 1924م – مقتبس من كتاب الكنوز الإلهية ص 423

[8])   بيت العدل الاعظم، Universal House of Justice, 1969، (ترجمة مترجم الكتاب)

[9])   ولي أمر الله هو لقب محدد وأساسي لحضرة شوقي أفندي في الدين البهائي وترجمة واقعية لكلمة Guardian

[10])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1939a، (ترجمة مترجم الكتاب)

[11])  بيت العدل الاعظم، Universal House of Justice, 1973، (ترجمة مترجم الكتاب)

[12])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1941، (ترجمة مترجم الكتاب)

[13])  بيت العدل الاعظم، Universal House of Justice, 1972، (ترجمة مترجم الكتاب)

[14])  بهاء الله، لوح الاشراقات، الاشراق الثامن، مجموعة من الواح حضرة بهاء الله…، ص 39–40 (طبعة 2006م) (مترجم ما عدا سطر واحد)

[15])  عبد البهاء، وصايا حضرة عبد البهاء، العهد الأوفى، ص 27 (مترجم)

[16])  عبد البهاء، من مفاوضات عبد البهاء، ص 116 (مترجم)

[17])  بهاء الله، الكتاب الاقدس، فقرة 30

[18])  شوقي أفندي، المحفل الروحاني المحلّي، ص 12 (مترجم)

[19])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1935a، (ترجمة مترجم الكتاب)

[20])  شوقي أفندي، المصدر أعلاه، (ترجمة مترجم الكتاب)

[21])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1943، (ترجمة مترجم الكتاب)

[22])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1990, p. 35، (ترجمة مترجم الكتاب)

[23])  عبد البهاء،  ،‘Abdu’l-Bahá , 1978, p. 80(ترجمة مترجم الكتاب)

[24])  شوقي أفندي، المحفل الروحاني المحلّي، ص 13 (مترجم)

[25])  بهاء الله، مجموعة من الواح حضرة بهاء الله، لوح مقصود، ص 155 (مترجم)

[26])  عبد البهاء، المحفل الروحاني المحلّي، ص 17 (مترجم)

[27])  المصدر أعلاه، ص 19–20 (مترجم)

[28])  شوقي أفندي، ‘Abdu’l-Bahá, cited in Shoghi Effendi, 1922، (ترجمة مترجم الكتاب)

[29])  توضيح من المحرر، ويسعى البهائيون إلى دعوة أصدقائهم ومعارفهم وزملائهم في مجتمعاتهم إلى مشاركتهم في روح الخدمة والسعي لتحسين أوضاع المجتمعات المحلية في كل مكان

[30])  بهاء الله، الكتاب الأقدس، فقرة 57

[31])  شوقي أفندي، مقتطف استشهد به بيت العدل الأعظم في رسالة مؤرخة 1989، (ترجمة مترجم الكتاب)

[32])  المصدر أعلاه، (كما وردت الترجمة في الكنوز الالهيّة ص 325–326)

[33])  بيت العدل الاعظم، 1989 (الترجمة كما وردت في الكنوز الالهيّة ص 322–323)

[34])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1933b (ترجمة مترجم الكتاب)

[35])  ملاحظة المحرر: وكبار السن أيضًا

[36])  بيت العدل الأعظم، من رسالة مؤرخة 1989 (الترجمة كمت وردت في الكنوز الإلهية ص 327)

[37])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1990, p. 22، (ترجمة مترجم الكتاب)

[38])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1968, p. 38، (ترجمة مترجم الكتاب)

[39])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1990, pp. 69–70، (ترجمة مترجم الكتاب)

[40])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1982, p. 375، (ترجمة مترجم الكتاب)

[41])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá in London, 1982, p. 103، (ترجمة مترجم الكتاب)

[42])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1982, p. 283، (ترجمة مترجم الكتاب)

[43])  بيت العدل الأعظم، رسالة السلام العالمي وعد حق، ص 25 (مترجم)

[44])  عبد البهاء،Japan Will Turn Ablaze, p. 35  (ترجمة مترجم الكتاب)

[45])  بهاء الله، الكتاب الأقدس، فقرة 115

[46])  المصدر أعلاه، انظر الشرح رقم 53

[47])  بيت العدل الاعظم، Universal House of Justice, 1984a، (ترجمة مترجم الكتاب)

[48])  مؤمن، Momen, 1989, pp. 149–50 (ترجمة مترجم الكتاب)

[49])  عبد البهاء،  ،‘Abdu’l-Bahá, 1982, p. 65(ترجمة مترجم الكتاب)

[50])  المصدر أعلاه ص 71 (ترجمة مترجم الكتاب)

[51])  شوقي أفندي، Shoghi Effendi, 1982, pp. 245–6، (ترجمة مترجم الكتاب)

[52])  شوقي أفندي، Directives from the Guardian, p. 36، (ترجمة مترجم الكتاب)

[53])  بيت العدل الاعظم، Universal House of Justice, 1985d، (ترجمة مترجم الكتاب)

[54])  بيت العدل الاعظم، Universal House of Justice, 1985d، (ترجمة مترجم الكتاب)

[55])  بهاء الله، حقوق الله، مجموعة من النصوص المباركة، فقرة رقم 4

[56])  عبد البهاء، ‘Abdu’l-Bahá, 1930, p. 19، (ترجمة مترجم الكتاب)

8 الدين البهائي وأديان أخرى

ذُكِرت العلاقة بين الدين البهائي وأديان أخرى في الفصل الأوّل باختصار. وكما جاء ذكره في ذلك الفصل، فإن الدين البهائي يؤكد مبدأ وحدة الأديان، ومن الضروري فهم هذا المبدأ كأساس لفهم وحدة العالم الإنساني وأيضًا لفهم الفكرة العامة من الاتحاد التي تشكّل قاعدة التعاليم البهائيّة والتي أشار إليها هذا الكتاب باستمرار. سنبحث في هذا الفصل وبعمق أكثر وجهة النظر البهائيّة تجاه بعض الأمور المشتركة، وأخرى المختلفة بين الأديان العالميّة، وسنجيب عن سؤال ربما راود أذهان البعض: كيف يمكن أن يكون الدين البهائي دينًا مستقلاً وفي الوقت نفسه يؤمن بأن الأديان كلها دين واحد؟

يجب التأكيد منذ البداية أن الدين البهائي هو دين مستقلّ. فهو ليس طائفة من الإسلام، ولا هو مشتق من أية مجموعة دينيّة أخرى. وكما ورد ذكره في الفصل الأوّل من هذا الكتاب، يَعتبر الدين البهائي أن جميع الأديان العالميّة الرئيسيّة هي أديان حق وأن كلاً منها هو جزء من خطة الله عزّ وجلّ وهدفه للإنسانية. وكما ذُكر في الفصل الأول، يؤمن البهائيون أن مؤسسي الأديان العالميّة هم في الجوهر مظاهر لحقيقة واحدة. وبالتالي، إن الأديان هي أصلاً تهدي بني البشر إلى صراط واحد – وهو الصراط الذي يضمن وصولهم إلى أسمى النمو الروحاني، صراط السلام والوحدة.

تُرشد الآثار البهائيّة المقدّسة البهائيين إلى التوجّه بأجلّ الاحترام ومنتهى التقدير تجاه مؤسسي الأديان العالميّة وكتبهم المقدّسة. وعن النبيّ محمد (عليه سلام الله وبركاته) كتب حضرة بهاء الله:

وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَن ابْتَسَمَ بِظُهُورِهِ ثَغْرُ الْبَطْحَاءِ وَتَعَطَّرَ بِنَفَحَاتِ قَمِيصِهِ كُلُّ الْوَرَى الَّذِي أَتَى لِحِفْظِ الْعِبَاد ِعَنْ كُلِّ مَا يَضُرُّهُمْ فِي نَاسُوتِ الإِنْشَاءِ. تَعَالى تَعَالى مَقَامُهُ عَنْ وَصْفِ الْمُمْكِنَاتِ وَذِكْرِ الْكَائِنَاتِ. بِهِ ارْتَفَعَ خِبَآءُ النَّظْمِ فِي الْعَالَمِ وَعَلَمُ الْعِرْفَانِ بَيْنَ الأُمَمِ.[1]

وقد وُصف النبيّ محمد (ص) في كتاب الإيقان، وهو من أهم آثار حضرة بهاء الله الكتابيّة، على أنه “رسول الله“[2]، “جوهر الصدق”[3]، “الجمال الأزلي”[4]، “النور الإلهي”، و”شمس النبوّة”.[5] وفيما يلي فقرة من كتاب الإيقان تصف مُهمّته:

ومن جملة ذلك السّلطنة الّتي ظهرت عن شمس الأحديّة محمّد عليه الصّلاة والسّلام. …كما تلاحظ أيضًا أنّه من جهة أخرى قد وصل وألّف بينهم، إذ قد شوهد أنَّ جمعًا من النّاس كان شيطان النّفس والهوى قد بذر فيما بينهم في سنين عديدة بذور العداوة والبغضاء، وبسبب الإيمان بهذا الأمر البديع المنيع صاروا متّحدين ومتّفقين بدرجة كأنّهم أتوا من صلب واحد. كذلك يؤلّف الله بين قلوب الّذين انقطعوا إليه… وعلاوة على ذلك، كم من أناس مختلفين في العقائد، ومتباينين في المذاهب، ومتفاوتين في المزاج، قد لبسوا قميص التّوحيد الجديد من هذا النّسيم – نسيم الرضّوان الإلهي وربيع القدس المعنوي. وشربوا من كأس التّفريد.[6]

وفي الكتاب ذاته فقرة تشرح بإسهاب المظالم التي تحمّلها محمد (ص) على أيدي شعوب زمانه وتضحياته وصبره:

لهذا قال حضرة الرّسول: “ما أوذِي نبيٌّ بمثل ما أوذيت” فهذه المفتريات الّتي ألصقوها بحضرته، وذلك الإيذاء الّذي حلّ به منهم، كلّ ذلك مذكور في الفرقان. فارجعوا إليه لعلكم بمواقع الأمر تطّلعون. واشتدّت عليه الأمور من كلّ الجهات بدرجة أنه ما كان يعاشره أحد، ولا يعاشرون أصحابه مدة من الزمان. و كلّ من كان يتشرّف بحضرته ويتّصل به كانوا يؤذونه غاية الأذى.[7]

وقد خطب حضرة عبدالبهاء، وهو الابن الأرشد لحضرة بهاء الله الذي خلفه في رئاسة الدين البهائي، مرّات عدة أمام الجماهير في الغرب، وحتى في الكنائس والكنيس، مادحًا إنجازات الرسول الكريم وعلى سبيل المثال، قال أمام حشد من المسيحيين عام 1912م في الولايات المتحدة:

“لقد كان العرب في أسفل دركات الانحطاط وكانوا همجًا متعطّشين للدّماء، وبلغوا في وحشيّتهم وانحطاطهم حدًّا كان يدفع الأب في أغلب الأحوال إلى دفن ابنته حيّة. فتأمّلوا: هل هناك بربريّة أحطّ من ذلك؟ وكان قوام تلك الأمّة أهل القبائل المتحاربة المتعادية الّلذين كانوا يقطنون شبه جزيرة العرب الواسعة، ولم يكن لهم من همّ سوى الاقتتال وسلب ونهب بعضهم البعض، آسرين النساء والأطفال ومهلكين بعضهم البعض. في قوم كهؤلاء ظهر حضرة محمد، فربى تلك القبائل المتوحّشة ووحد فيما بينها، ووضع حدًّا لسفكهم الدّماء. وبيمن تربيته بلغوا في المدنيّة شأوًا تسيّدوا فيه وحكموا القارات والأمم. ويا لها من حضارة تلك الّتي أسّسها المسلمون في الأندلس! وما أبدع المدنيّة التي أسسها المغاربة البربر في مراكش! وما أقوى تلك الخلافة التي شُيدت في بغداد! وكم خدم الإسلامُ مسألة العلم ورقّاها!”[8]

وفي لندن عاد حضرة عبدالبهاء إلى هذا الموضوع في مقالة كتبت لمجلّة مسيحيّة، ‘ذا كريستيان كومنولث’ The Christian Commonwealth:

…وهذا ما حصل مع القبائل العربيّة التي كانت آنذاك غير متحضّرة ترزح تحت الحكم الفارسي واليوناني. فعندما أشرقت الشمس المحمديّة ابتهجت شبه الجزيرة العربيّة بكاملها. وتنوّرت هذه الشعوب المضطهدة وتثقفت إلى درجة أن تشرّبت دول أخرى حضارتها من بلاد العرب، وكان هذا برهانًا عن مهمّة سيدنا محمد الإلهية.[9]

وأما القرآن الكريم، فغالبًا ما يُستشهد بآياته المباركة في الآثار الكتابيّة البهائيّة المقدّسة فهو يعتبر كلام الله المعتمد. وتوصف كلمات القرآن في الآثار البهائيّة على أنها “ما أنزله الرّحمن في الفرقان”.[10] و”هذا هو الدّليل الّذي علّمه سلطان الأحديّة لعباده، مع ذلك، هل من الجائز أن يعرضوا عن هذه الآيات البديعة الّتي أحاطت الشّرق والغرب، ويَعُدّوا أنفسهم من أهل الإيمان؟”[11] وبالنسبة للهداية التي يحملها القرآن لشعوب العالم، يتفضّل حضرة بهاء الله قائلاً:

حيث إنَّ جميع ما تحتاج إليه تلك الأمّة من أحكام الدّين، وشريعة سيّد المرسلين، موجودٌ ومعَيَّنٌ في ذاك الرّضوان المبين. وإنّه لهو الحجّة الباقية لأهله من بعد نقطة الفرقان. إذ إنَّ حكمه مسلّم، وأمره محقّق الوقوع… وبه يصل الطّالبون إلى رضوان الوصال، ويفوز المجاهدون والمهاجرون بسرادق القرب. وإنّه لدليل محكم وحجّة عظمى. وما عداه من الرّوايات والكتب والأحاديث ليس لها ذلك الفخر، لأنّ الحديث وأصحاب الحديث، وجودهم وقولهم مثبوت بحكم الكتاب ومحقّق به.[12]

ويشير حضرة عبدالبهاء إلى حقيقة أن القرآن استبق العلم فيكشف بعض الحقائق من أمثال تلك التي لها علاقة بعلم الفلك:

فمن ذلك تعلموا أنّه في القرون الأولى والوسطى وحتّى القرن الخامس عشر الميلادي … اتّفق جميع الرّياضيّين في العالم على مركزيّة الأرض وحركة الشّمس، … ولكن نزلت في القرآن آيات تخالف رأي بطلميوس وقواعده، ومن ذلك الآية الكريمة (والشّمس تجري لمستقرّ لها)[13] المتضمّنة ثبوت الشّمس وحركتها على محورها، وكذلك الآية (وكلّ في فلك يسبحون)[14] فقد صرّح بأنّ الشّمس والقمر وسائر النّجوم متحرّكة، فلمّا انتشر القرآن استهزأ الرّياضيّون بهذا الرّأي ونسبوه إلى الجهل، حتّى إنّ علماء الإسلام لمّا رأوا مخالفة هذه الآيات لقواعد بطلميوس اضطرّوا إلى تأويلها…

…وذلك حتّى القرن الخامس عشر الميلادي أي بعد ظهور حضرة محمّد بنحو تسعمائة سنة تقريبًا حيث رصد رياضيّ شهير رصدًا جديدًا واختُرعت الآلات التّلسكوبيّة وحدثت الاكتشافات المهمّة فثبتت حركة الأرض وسكون الشّمس، وكذلك عرفت حركة الشّمس حول محورها، وصار من المعلوم أنّ صريح الآيات القرآنيّة يطابق الواقع وأصبحت القواعد البطليموسيّة محض أوهام”.[15]

وفي كتاباته الموجّهة إلى المنتمين إلى الحضارة الغربيّة المسيحيّة، دافع حضرة عبدالبهاء عن الإسلام والنبيّ محمد (ص). وقد دحض بشكل خاص التهم التي يوجهها القادة المسيحيّون تقليديًّا ضد الإسلام مثل الفكرة أن الإسلام متسم بالحرب وأنه انتشر بالسيف وأن الإسلام حطّ من شأن النساء.[16] وفي دفاعه عن الإسلام، لفت نظر المسيحيين إلى أن السيد المسيح قد ذُكر في القرآن باحترام وإجلال عظيم:

“أودّ الآن أن أُلفت اهتمامكم الى نقطة هي في غاية الأهمّيّة. فكلّ المسلمين يعتبرون القرآن كلام الله. في هذا الكتاب القدسيّ نصوص صريحة غير منقولة من مصدر آخر تنصّ على أنّ حضرة المسيح هو كلمة الله، وأنّه روح الله، وأنّه جاء إلى هذا العالم بنفحة محيية من الرّوح القدس، وأن السيّدة مريم أم حضرته كانت امرأة مباركة طاهرة. ولقد خصّص القرآن سورة كاملة لسيرة حضرة عيسى، وهي تسجّل أنّ حضرته في صباه كان يعبد الله في هيكل أورشليم، وأنّ الله أنزل عليه المنّ من السماء قوتًا له، وأنّه تكلّم في المهد فور ولادته. والخلاصة أنّ في القرآن مديحًا وثناء لحضرة المسيح لا تجدونه
في الإنجيل.”[17]

وعلاوة على ذلك، أشار حضرة عبدالبهاء إلى أن محمد (ص) ذاته عامل المسيحيين بالكثير من اللطف والاعتبار وكانت هذه هي السياسة المتبعة في بداية الإسلام. وقد نشأت فيما بعد الكراهيّة بين بعض معتنقي الإسلام والمسيحيّة:

إنّ حضرة محمّد لم يحارب النّصارى بل كثيرًا ما شملهم برعايته ومنحهم كامل الحرّيّة، وكانت في نجران طائفة من المسيحيّين فقال حضرة محمّد إنّي خصم لكلّ من يعتدي على حقوق هؤلاء وعليه أقيم الدّعوى أمام الله. وصرّح في أوامره بأنّ أرواح النّصارى واليهود وأموالهم في حماية الله، فلو كان الزّوج مسلمًا والزّوجة مسيحيّة لا يجوز أن يمنعها عن الذّهاب إلى الكنيسة أو يرغمها على التّحجّب، وإذا ماتت وجب عليه أن يسلّم جثمانها إلى القسّيس، وإذا أراد المسيحيّون بناء كنيسة فعلى المسلمين إعانتهم.[18]

وفضلاً عن ذلك، صرّح حضرة عبدالبهاء أن الحضارة التي يفتخر بها الأوروبيون ويتبجّحون بها على غيرهم من شعوب العالم قد نشأت بفضل الإسلام، ويؤكد أن الدوافع والأفكار التي جاءت بالنهضة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر في أوروبا انبثقت من جذور في العالم الإسلامي. وقد وصلت إلى أوروبا نتيجة التفاعل فيما بين المسيحيين والمسلمين في الأندلس (اسبانيا والبرتغال) كما حملها الصليبيون إلى أوروبا بعد تفاعلهم مع العالم الإسلامي لمدة مائتي سنة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر.

وكانت جميع طوائف أوروبّا تكتسب الفضائل ومبادئ المدنيّة من المسلمين القاطنين في ممالك الأندلس في عصور الإسلام الأولى، ولو أمعن النّظر في الكتب التّاريخيّة لاتّضح أنّ أكبر جانب من تمدّن أوروبّا مقتبس من الإسلام، حيث قام علماؤها بجمع كل كتب حكماء المسلمين وعلمائهم وفضلائهم شيئًا فشيئًا، وأخذوا يطالعونها في المعاهد والجامعات العلميّة ويناقشونها بكمال الدّقّة مطبّقين ما كان مفيدًا منها… وأنّ أكثر القوانين السّارية والأصول المعمول بها في كلّ ممالك أوروبّا وربّما جميع مسائلها فمقتبسة من الكتب الفقهيّة الإسلاميّة وفتاوى علمائها…

وخلاصة القول إنّه منذ سنة تسعين وأربعمائة للهجرة حتّى سنة ثلاث وتسعين وستّمائة للهجرة كان ملوك أوروبّا وقوّدها ووجهاؤها يتردّدون بلا انقطاع على بريّية الشّام ومصر، فلمّا عادوا جميعهم نهائيًّا، نقلوا إلى أوروبّا ما شاهدوه طوال مئتي سنة ونييّف من السّياسة والمدنيّة والمعارف والمدارس والمكاتب وعادات الممالك الإسلاميّة المستحسنة ورسومها وكان ذلك بداية تمدّن أوروبّا.[19]

وقد أكد حضرة شوقي أفندي أيضًا، وهو ثاني من خلف حضرة بهاء الله في قيادة الدين البهائي على حقيقة الإسلام، وأكد بشكل خاص حقيقة أنه عن طريق التعاليم البهائيّة، أعلنت الملكة ماريا ملكة رومانيا، وهي ملكة مسيحيّة أوروبية، ومن سلالة الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا، حقيقة الإسلام جهارًا. وقد قدّم هذا على أنه برهانٌ يوجب اعتبار الدّين البهائي صديقًا حقيقيًا للإسلام وداعمًا له. وبهذا الصدد كتب حضرة شوقي أفندي:

وأما بالنسبة لمحمد رسول الله، فيجب ألاّ يفكر أي من أتباعه الذين يقرأون هذه الصفحات، ولو لدقيقة، أن الإسلام أو نبيّه أو كتابه… أو أيًّا من تعاليمه الأصيلة، تَعَرَّضت أو ستتَعرَّض وبأي شكل من الأشكال، وبأي درجة مهما كانت طفيفة، لأي استخفاف أو عدم تقدير… إن الإجلال والاحترام الذي عبّر عنه حضرة بهاء الله في كتاب الإيقان تجاه محمد (ص)… والحجج التي قدّمها حضرة عبدالبهاء بقوّة وجرأة وعلانية في الكنائس وكنيس (اليهود) ليثبت أحقيّة الرسول العربي، وأخيرًا وليس آخرًا شهادة ملكة رومانيا الخطيّة، وهي التي وُلدت في الدين المسيحي الإنجيلي، وبالرغم من التحالف الوثيق بين حكومتها والكنيسة الأرثوذكسية اليونانيّة، وهو الدين الرسمي للدولة التي تبنّتها، تلك الشهادة التي خطتها نتيجة دراستها لخطب حضرة عبدالبهاء العامة، والتي أعلنت فيها اعترافها بنبوّة محمد (ص) – كل ذلك يظهر بوضوح لا شك فيه الموقف الحقيقي للدين البهائي تجاه الدين الإسلامي الذي نشأ في ربوعه.[20]

أكد حضرة شوقي أفندي على إصرار حضرة عبدالبهاء على أنه ما كان للحضارة الغربيّة الحديثة أن تقوم لولا تأثير وانتشار الأفكار من العالم الإسلامي:

إن ما يسمّى بالحضارة المسيحيّة والتي كان عصر النهضة الأوروبية من أبرز معالمها، انبعثت في جوهرها من جذور وأسس إسلامية. فعندما كانت أوروبا في العصور الوسطى غارقة في ظلمات البربرية، كان العرب، وقد تجدّدوا وتحوّلوا نتيجة الروح التي أطلقها دين محمد (ص) منهمكين في تأسيس حضارة من النوع الذي لم يشهده معاصروهم المسيحيون من قبل. وبنهاية المطاف دخلت الحضارة إلى الغرب بواسطة العرب. وعن طريقهم وجدت الفلسفة والعلوم والثقافة التي طوّرها اليونانيون القدماء طريقها إلى أوروبا. وكان العرب أقدر المترجمين واللغويين في عصرهم، وبفضلهم أصبحت كتابات مفكرين معروفين من أمثال سقراط، أفلاطون وأرسطو بمتناول يد الغربيين. من غير الإنصاف بتاتًا أن يُنسب ازدهار الثقافة الأوروبيّة خلال فترة النهضة إلى تأثير المسيحيّة. لقد حصل ذلك [الازدهار] نتيجة القوى التي أطلقها الدور المحمدي.[21]

وبشكل مماثل يوجد في كتابات حضرة بهاء الله تمجيد عظيم للسيد المسيح:

إعلم بأنّ الابن حين الّذى أسلم الرّوح قد بكت الأشياء كلّها، ولكن بإنفاقه روحه قد استعدّ كلّ شىء كما تشهد وترى فى الخلائق أجمعين. كلّ حكيم ظهرت منه الحكمة وكلّ عالم فصّلت منه العلوم وكلّ صانع ظهرت منه الصّنايع وكلّ سلطان ظهرت منه القدرة كلهاّ من تأييد روحه المتعالي المتصرّف المنير، ونشهد بأنه حين الّذي أتى فى العالم تجلّى على الممكنات، وبه طهّر كلّ أبرص عن داء الجهل والعمى وبرء كلّ سقيم عن سقم الغفلة والهوى وفتحت عين كلّ عميٍ وتزكّت كلّ نفس من لدن مقتدر قدير.[22]

كذلك مجّد حضرة عبدالبهاء السيد المسيح، وفي خطبة ألقاها في الولايات المتحدة قال:

لقد كان حضرة المسيح شمسًا للحقيقة أشرقت من أفق المسيحيّة السّماويّ، مرّبية وحامية ومؤِّيدة للعقول والنّفوس والأرواح إلى أن تناغمت مع الملكوت الرّبّانيّ واكتسبت القابليّة والاستعداد لنزول المواهب الإلهيّة غير المتناهية، ولولا ظهور مجد حضرته لبقيت جميعها في ظلام النّقائص والبعد عن الله. ولكن بما أنّ شمس الحقيقة أشرقت وغمرت عالم العقول والنّفوس والأرواح بضيائها، فقد أصبحت بدورها مشعّةً، إذ وهبها حضرة المسيح حياة أبدّية جديدة.[23]

وفي خطبة ألقاها حضرة عبدالبهاء عن المسيحيّة في باريس قال:

“كانت الحضارة المسيحيّة الأفضل والأكثر تنورًا في العالم. وكانت التعاليم المسيحيّة مستنيرة من شمس الحقيقة الإلهية، لذلك تعلّم أتباعها محبّة الجميع كإخوان لهم وأن لا يخافوا من شيء، ولا حتى من الموت، ومحبة جيرانهم كأنفسهم، ونسيان مصالحهم الأنانية الشخصيّة، وأن يسعوا لمصلحة وخير الإنسانية. وكان الهدف الكبير لدين المسيح جذب قلوب الناس جميعًا إلى التقرّب من الحقيقة الإلهيّة الساطعة”.[24]

وقد دافع حضرة بهاء الله عن نص الإنجيل المقدّس وأي ادّعاء أنه محرّف. وتكلّم أيضًا حضرة عبدالبهاء عن القوّة الروحانيّة في الأناجيل الأربعة:

كانت النبوءة في أيام السيد المسيح أن الذئب والحمل سيشربان من نبع واحد، وقد تحقق هذا في المسيح. النبع المذكور هو الإنجيل المقدّس الذي تدفقت منه مياه الحياة. والذئب والحمل يرمزان إلى الأجناس المتعددة التي تعارض بعضها بعضًا، وكان تلاقيها وتعاشرها مستحيلاً، ولكن بعد إيمانها بالسيد المسيح توحّد أولئك الذين كانوا سابقًا ذئابًا ونعاجًا بواسطة كلمات الإنجيل.[25]

الدين الحقيقي

في أولى فقرات كتاب الإيقان الذي هو من أهم كتبه، يصرّح حضرة بهاء الله أنه على أولئك الذين يسعون في حياتهم للوصول إلى الإيمان والإيقان أن يحرّروا أولاً أنفسهم من شؤون الدنيا؛ آذانهم من القيل والقال؛ عقولهم من الظنون والأوهام؛ وقلوبهم من التوق إلى أمور الدنيا. ويشدد أيضًا على أنه لن تُكشف لنا أسرار العالم الروحاني إلاّ بعد أن نكفّ عن اعتبار أقوال وأعمال الرجال والنساء العاديين ميزانًا لمعرفة ذاك العالم.

إن الإخفاق في العمل بموجب الشروط المذكورة أعلاه أدى إلى منع الإنسان من النموّ والتقدّم الروحاني، ولتقديم أمثلة على هذا، يستذكر حضرة بهاء الله تاريخ الدين، ويشير إلى حقيقة أن الناس في كل عصر من العصور عبّروا عن توقهم لقدوم المخلّص المذكور في كتبهم المقدّسة. ومع ذلك، كلما جاء فعلاً من كانوا بانتظاره أنكروه، وانفضّوا عنه، وأهانوه، واضطهدوا أتباعه. وقد دوّنت جميع الكتابات المقدّسة العالميّة مثل هذه الأحداث.

يصرّح حضرة بهاء الله أن السبب الأساسي لنكران ورفض أنبياء الله هو عقول الناس المغلقة وغرورهم، وحقيقة أنهم يتّبعون قادة أديانهم إتّباعا أعمى. فلو أنهم طهّروا قلوبهم وحكموا بإنصاف، ما كانوا عارضوا مُرَبّي البشر الإلهيين. ولكن بدلاً عن ذلك، اعتمدوا على المفاهيم الضيّقة للكتابات المقدّسة التي تعلموها من قادة أديانهم، وعندما وجدوا أن الإثباتات التي جاء بها النبي الجديد تختلف عن مفاهيمهم المحدودة، قاموا على معارضته.

يشدد حضرة بهاء الله على أن الذين مَنعوا الناس من قبول النبي الجديد والإفادة من تعاليمه هم قادة الدين في كل عصر. هؤلاء القادة هم الذين يمسكون بزمام السلطة في قبضتهم. فبعضهم كان جاهلاً، ولم يدرك معاني الكلمات في كتاباته المقدّسة التي تتنبّأ بقدوم نبيّ جديد. والبعض الآخر، رغبة منهم بالتمسك بالسلطة، أضلّوا أتباعهم. وهم الذين أمروا باضطهاد الأنبياء وأتباعهم. لذلك أدانت جميع الكتب المقدّسة رجال الدين هؤلاء.

يعطي حضرة بهاء الله مثلاً عن السيد يسوع المسيح الذي عندما جاء، قام عليه كل الشعب الإسرائيلي. قالوا إنهم يعلمون عن المسيح الذي تنبّأت به كتبهم المقدّسة، ولكنه سيأتي ويحقق أحكام موسى، بينما هذا الشاب الذي يدّعي أنه المسيح هو من الناصرة، وقد كسر حكم الطلاق والسبت، وهما من الأحكام اليهوديّة المهمة. وعلاوة على ذلك، لم تتحقق أية علامة من العلامات المفروض أن تظهر مع قدوم المسيح، خصوصًا أنهم كانوا بانتظار مسيح يقودهم إلى النصر على الإمبراطورية الرومانية ويؤسس الدولة اليهوديّة.

وقد جرى تسلسل مماثل للأحداث، كما تفضّل حضرة بهاء الله، عند قدوم الإسلام والمعارضة التي واجهها من اليهود والمسيحيين. ويمكن أن يقال بوجه عامّ أن الناس أخفقوا في فهم المعاني الحقيقية للكلمات في كتاباتهم المقدّسة مرارًا وتكرارًا. لذلك، عندما وجدوا أن المعاني الحرفيّة لتلك الكلمات لم تتحقق رفضوا الأنبياء واضطهدوهم، وتمسكوا بتصوّراتهم المغلوطة بدلاً من أن يطلبوا من النبيّ أن يشرح بنفسه المعنى الحقيقي لكتاباتهم المقدّسة. وهكذا حرموا أنفسهم من فوائد التعاليم الإلهيّة الجديدة.

يشرح حضرة بهاء الله إنّ هذا هو المعنى الحقيقي ليوم القيامة المذكور في كتابات هذه الأديان المقدّسة. فكلما ظهر نبيّ جديد، فإنه يمثل “نهاية العالم“ للدورة الدينيّة السابقة، ويوم القيامة لأتباع ذلك الدين: فإذًا كانوا مؤمنين مخلصين للجوهر في دينهم، لاعترفوا بالتعاليم الجديدة من الله؛ ولكن إذا كانوا يتبعون مظاهر دينهم الخارجيّة فقط، يصبحون كمن أصابه العمى تجاه التعاليم الجديدة.

النواحي المشتركة والنواحي المختلفة

يشرح حضرة بهاء الله أن ما يبدو من فروقات بين هؤلاء الأنبياء أو، كما يدعونهم البهائيّون، المظاهر الإلهيّة، مؤسّسي الديانات العالميّة، سببه أن لكل منهم مقامين. المقام الأول هو جوهر حقيقتهم الروحانيّة، وفي هذا المقام ينظر إلى جميع هذه المظاهر الإلهية على أنها كيان واحد لا فرق بينهم إطلاقًا. هذا هو “مقام صرف التّجريد وجوهر التّفريد”.

وفي هذا المقام لو تدعو الكلّ باسم واحد وتصفهم بوصف واحد فلا بأس في ذلك، …لأنَّهم جميعًا يدعون النّاس إلى توحيد الله، …وكلّهم فائزون بخلعة النّبوّة، ومفتخرون برداء المكرمة…لو يقول أحد من هذه المظاهر القدسيّة، إنّي رجعة كلّ الأنبياء فهو صادق.[26]

ولكن تختلف المظاهر الإلهيّة في طلعاتهم الخارجيّة، أسمائهم، أشكالهم الجسدية، والزمن الذي يظهرون فيه، والرسالة الخاصة التي يأتي بها كل منهم. وهذا هو مقامهم الثاني، “مقام التمييز” الذي “يخصّ عالم الخليقة وهو محدود بحدودها”.

ففي هذا المقام لكلّ واحد منهم هيكل معين، وأمر مقرّر، وظهور مقدّر، وحدود مخصوصة. بمثل ما أنّ كلّ واحد منهم موسوم باسم، وموصوف بوصف، ومأمور بأمر بديع، وشرع جديد.[27]

يشبّه حضرة بهاء الله ذلك بالشمس. فإن الناس تعطي لكل يوم اسمًا مختلفًا بغية الإشارة إلى مرور الزمن. فإذا قيل إن جميع هذه الأيام هي بمثابة يوم واحد لكان ذلك صحيحًا لأنه يعبّر عن حقيقة واحدة وهي ظهور الشمس في كل منها: وإذا قيل إنه بالنسبة لأسمائها فهي تختلف، هذا أيضًا صحيح.[28] ويجب النظر إلى وحدة أنبياء الله وما بينهم من فوارق بهذا المنظار. فهم جميعًا ظهور نفس الحقيقة على الأرض، ولذلك فهم جميعهم كمظهر واحد؛ ومع ذلك، وبالنسبة لعالمنا الإنساني، فكل منهم ظهر في زمن مختلف وتحت اسم مختلف.

وبالنظر لوحدتهم في الجوهر، يؤكد حضرة بهاء الله أن من الخطأ تفضيل واحد من هؤلاء الأنبياء المؤسسين للأديان السماويّة على الآخر.

“لا نفرق بين الرسل لأن أمرهم واحد وغايتهم واحدة… لا يجوز تفضيل أو تمجيد أي منهم على الآخر. إن الرسول الصادق يدعو نفسه بإسم الرسول السابق و من لم يدرك سر هذا البيان يبادر بالاستهزاء ولكن العالِم البصير لا يَضَلُ من كلامه.”[29]

ولكن ما أدى إلى إرباك الإنسانيّة وظهور ما يبدو أنه بعض المتناقضات المتأصلة فيما بين الأديان العالميّة، هو مقام المظاهر الإلهية الثاني، وهو مقام التمييز والاختلاف:

إذًا أصبح معلومًا أزلاً وأبدًا، أنَّ جميع هذه الاختلافات في الكلمات هي من اختلافات المقامات. …ولما لَمْ يطّلعْ أكثر النّاس على المقامات المذكورة، لهذا يضطربون، ويتزلزلون من الكلمات المختلفة الصّادرة من تلك الهياكل المتّحدة”.[30]

وعلى نفس المنوال، فإن النواحي الأخلاقية والروحانيّة في رسالة كل من هؤلاء المظاهر الإلهية هي شاملة وأبديّة، وقد تفضل حضرة بهاء الله قائلاً:

هذا دين الله من قبل ومن بعد من أراد فليقبل ومن لم يرد فإنّ الله لغنيّ عن العالمين.[31]

ولكن يوجد أيضًا ما هو مختلف فيما بين تعاليم كل من هؤلاء الأنبياء مؤسسي الأديان السماوية وهو ناتج عن مجيئهم في مناطق مختلفة من العالم حيث توجد ثقافات مختلفة. وبالتالي، كان عليهم أن يطرحوا رسالتهم بشكل مختلف لتلائم حاجات كل ثقافة. وهناك سبب أكثر أهمية لوجود الفوارق وهو حقيقة أن حاجات الإنسانية تغيّرت عبر العصور. فوضع العالم اليوم يختلف كل الاختلاف عن وضعه قبل ألف أو ألفي سنة، ولذلك فالرسالة الإلهية تتغيّر لتناسب هذه التغييرات. إن رسالات هؤلاء المظاهر الإلهية تعالج أوضاع العصر الذي تظهر فيه.

يتطلب كل عصر دفعًا جديدًا من نور الله. وقد أنزلت كل رسالة إلهية على قدر يتناسب مع ظروف العصر الذي تظهر فيه.[32]

لقد سار كل من الأنبياء الذين توالوا على الأرض بالبشريّة إلى الأمام في تطوّرها الاجتماعي ونموّها الروحاني. فقد ساعدوا الإنسانية “على السير قدمًا بحضارة دائمة الترقّي”،[33] وبنى كل منهم على رسالة سلفه وانتقل بالإنسانية إلى مرحلة أكثر تقدمًا. كان هذا ضروريًّا لأن الإنسانية لا تستطيع أن تتقدّم أكثر من خطوة تلو الخطوة. وكما أن أشعة الشمس عند إشراقها تكون ضعيفة وتشتدّ تدريجيًّا إلى أن تصل إلى أقصى قواها في وسط النهار، وإلاّ لأضرّت حرارتها الأشياء[34] ضررًا كبيرًا، كذلك تفضّل حضرة بهاء الله ما معناه أنه من المضر أن يقدّم مظهرٌ من المظاهر الإلهية رسالةً متطوّرة أكثر من تلك التي أعطاها فعلاً. إن الرسالة التي يأتي بها كل من هذه المظاهر الإلهية تناسب طاقة البشريّة على استيعابها.

…كُلُّ ما نَزَّلْتُ عَلَيْكَ مِنْ لِسانِ الْقُدْرَةِ وَكَتَبْتُهُ بِقَلَمِ القُوَّةِ قَدْ نَزَّلْناهُ عَلى قَدْرِكَ وَلَحْنِكَ لا عَلى شَأْنِي وَلَحْني”.[35]

أعلن حضرة بهاء الله أنه مظهرٌ إلهي في خطّ تعاقب الأنبياء المؤسسين للأديان العالميّة، ومهمّته هي الانتقال بالإنسانية إلى المرحلة التالية من تطوّرها. إن وجهة النظر البهائيّة تجاه تاريخ الأديان وتعاقبها على العالم ترى أنه مع ورود كل دين يتوسّع مفهوم المؤمنين بالنسبة لمن يمكن اعتبارهم داخل المجتمع الديني – أي أن كلمة “نحن” تشمل المؤمنين بدين، وكلمة “هم” تحدد أولئك الذين لا يُعتبرون مؤمنين. وبهذا الصدد:

جاء في التوراة أن “نحن” هم الشعب المختار، قبيلة إسرائيل.

وفي حقبات كثيرة من تاريخ المسيحيّة، اقتصر مفهوم “نحن” على التابعين لطقوس وتقاليد الطائفة التي ينتمي إليها الفرد. وأما الآخرون فهم هراطقة أو كفّار.

وقد وسّعت أحكام الإسلام مفهوم كلمة “نحن”. فالحدّ الذي كان في اليهوديّة حدًا قبليًّا، وتوسّع في المسيحيّة فأصبح طائفيًّا (تجاوز الحدود القبليّة)، زاد اتساعًا في الإسلام وشمل مفهوم الأمّة، ويضمّ مجتمع المؤمنين بكامله (متجاوزًا حدود القبيلة والطائفة). ويعتبر جميع المسلمين تقريبًا أنهم “نحن”. وإلى حدّ كبير، امتدت اعتبارات أخلاقية لتشمل اليهود والمسيحييّن كونهم “أهل الكتاب” شرط أن يخضعوا لحكم الإسلام ويعملوا ببعض الشروط.
وبقيت فئتان خارج حدود الاعتبارات الأخلاقية للإسلام – المشركون (وهم باقي الأديان ما عدا اليهوديّة والمسيحيّة) والمرتدّون.

وفي الدين البهائي توسّع مفهوم كلمة “نحن” حتى شمل جميع شعوب العالم دون النظر إلى حدود دينيّة أو غيرها.

يتفضل حضرة بهاء الله ما معناه أن التعاليم الاجتماعيّة والروحانيّة التي جاء بها ستوحّد العالم وتحقق النبوءات الواردة في كتب جميع أديان العالم بالنسبة لليوم العظيم الذي يظهر فيه عصر الإنسانية الذهبي.

عبارات تجزم بالانتهاء

لقد ادّعى أتباع كل دين أن الوحي الذي أعطي لمؤسسه هو الوحي الأخير من الله ولن يظهر وحيٌ إلهيٌ بعده. فعندما جاء السيد المسيح، أشار اليهود إلى فقرات في كتاباتهم المقدّسة تقول إن أحكام التوراة أبديّة ولن تنسخ[36] لذلك رفضوا المسيح. وبالمثل، عندما جاء محمد عليه السلام، أشار المسيحيون إلى آيات مثل: “اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ”.[37]

بناءً على هذه المنطلقات، رفض كل شعب الرسول الجديد الذي أرسله الله إليهم. واليوم، وقد جاء حضرة بهاء الله بالإثباتات عينها وهي كتاب وأحكام وتعاليم من الله، فيرفضه اليهود الذين يقولون عنه ما قالوه عن السيد المسيح والنّبي محمد (ص) ويرفضه المسيحيون الذين يقولون عنه ما قالوه عن النّبي محمد (ص). ويرفضه أيضًا المسلمون الذين يشيرون إلى بعض الآيات من القرآن الكريم ويتساءلون “إذا كان محمد (ص) قد وُصف في القرآن على أنه خاتم الأنبياء،[38] كيف يمكن أن يكون بهاء الله رسولاً آخرَ مرسلاً من الله؟”.

إن مفتاح الأجوبة عن هذه الأسئلة هو وحدة المظاهر الإلهية في الجوهر كما ورد ذكره في هذا الفصل. فإذا كانت حقيقة المظاهر الإلهية الروحانية الجوهريّة هي فعلاً واحدة؛ وإذا كانت في السماء الروحاني شمس واحدة فقط، وهي تظهر بين الحين والآخر على الأرض؛ وإذا كان كل من هؤلاء المظاهر الإلهية يبشّر “بدين الله الذي لا يتغيّر”؛ عند ذلك فإن كل ما يقال عن أحدهم يصحّ على جميعهم؛ فالكلمة التي يبشّرون بها هي أبديّة، وكلهم “الأول” و”الآخر”؛ كلهم “أمير المرسلين” و”خاتم الأنبياء“. إن إعطاء أجوبة مسهبة لهذه النقاط التي أثارها اليهود والمسيحيّون والمسلمون في كتبهم موضوع طويل يتجاوز حدود كتاب مختصر كهذا. لذلك يُلْفَت نظر القارئ الكريم إلى مصادر أخرى[39] ذكرت في الملاحق رقم 2 و3.

لا يَعتبر حضرة بهاء الله نفسه على أنه خاتم المظاهر الإلهية. فمع مرور الزمن ستتغير الظروف مرة أخرى وتستدعي الضرورة رسالة إلهية جديدة، ولكن كما كتب حضرة بهاء الله، لن يحدث هذا قبل ألف سنة على الأقل.

الانسجام والاتفاق بين أديان العالم

كما ذكر أعلاه، يؤمن البهائيون أن جوهر التعاليم الروحانيّة والاخلاقيّة لدى أديان العالم هو واحد، وعلى سبيل المثال فإن موضوع وحدانيّة الله هو من التعاليم الروحانيّة المشتركة بين الأديان كما تُبيّن المقتطفات التالية:

اليهوديّة:

أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِلهَ سِوَايَ. نَطَّقْتُكَ وَأَنْتَ لَمْ تَعْرِفْنِي. لِكَيْ يَعْلَمُوا مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَمِنْ مَغْرِبِهَا أَنْ لَيْسَ غَيْرِي. أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ.[40]

المسيحيّة:

فجاء أحد الكتبة و…سأله “أية وصيّة هي أوّل الكل؟” فأجابه يسوع إن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا ربٌّ واحد…”[41]

الإسلام:

…لا إله إلاَّ هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم.[42]

البهائيّة:

“إن المؤمن الحقيقي بوحدانيّة الله هو الذي، مبتعدًا عن الخلط فيما بين الازدواجيّة والوحدانيّة، لا يسمح لأي فكرة تعددية أن تشوش مفهومه عن وحدانيّة الله، وهو يعتبر أن الذات الإلهية تعلو بطبيعتها، وتتسامى فوق حدود الأرقام”.[43]

إن أفضل مثال يدل على وحدة الجوهر في التعاليم الأخلاقيّة لدى جميع الاديان هو ما يعرف بالقاعدة الذهبيّة أو مبدأ التعامل بالمثل، ومنها ما يلي:

اليهوديّة

ما تبغضه أنت لا تصنعه لقريبك.[44]

المسيحيّة

وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضًا بهم هكذا.[45]

الإسلام

لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه.[46]

البهائيّة

وَلا تَحْمِلُوا عَلَى النَّاسِ مَا لا تَحْمِلُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُم وَلَنْ تَرْضَوا لأَحَدٍ مَا لا تَرْضَوْنَهُ لَكُمْ وَهَذا خَيْرُ النُّصْحِ لَوْ أَنْتُمْ مِنَ السَّامِعِينَ.[47]

غنيٌّ عن القول إنه في ضوء هذه الوحدة الأساسية للأديان، يحث حضرة بهاء الله أتباعه أن يتحلّوا بروح الوفاق الديني والانسجام: “عَاشِرُوا مَعَ الأَدْيَانِ كُلِّهَا بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ”[48] وقد عبّر حضرة عبدالبهاء عن هذه الفكرة بحزم أكثر في كتاب وصيّته التي تعرف بـ ”ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء”:

“عاملوا جميع الملل والطّوائف والأديان بكمال الصّدق والأمانة والوفاء والمودّة والمحبّة ملتمسين الخير لهم، حتّى ينتشي عالمُ الوجود من كأس فيض البهاء، ويزولَ الجهلُ والعداوة والضّغينة والبغضاء عن وجه الغبراء، فتتبدَل ظُلمةُ التّباعُد بين جميع الشّعوب والقبائل بأنوار الاتّحاد. لو أبْدَتِ الطّوائفُ والمللُ الأخرى لكم الجفاء أظهروا لهم الوفاء، ولو ظَلموكم قابلوهم بالعدل. إنِ اجتنبوكم فاجتذِبوهم، وإنْ عادوكم فأحبّوهم، ولو أعطوكم سمًّا امنحوهم شَهْدًا، وإنْ أصابوكم بجُرح كونوا لجرحهم مرهمًا، هذا صفةُ المخلصين وسِمةُ الصّادقين”.[49]

وأخيرًا، حثّ حضرة بهاء الله البشر على أن لا يتنازعوا ويختلفوا حول المسائل الدينيّة. وقد صرّح أن هدف الدين هو إيجاد الوحدة في العالم ولذلك حث أتباع الأديان المختلفة أن يضعوا خلافاتهم جانبًا:

يَا أَبْنَاءَ الإنسان إِنَّ دِينَ اللهِ وَمَذْهَبَهُ لأَجْلِ حِفْظِ الْعَالَمِ وَاتِّحَادِهِ وَاتِّفَاقِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَأُلْفَتِهِ لاَ تَجْعَلُوهُ سَبَبًَا لِلنِّفَاقِ وَالاخْتِلاَفِ وَعِلَّةً لِلضَّغِينَةِ وَالْبَغْضَاءِ.[50]

الخلاصة

ورد في الفصل الأول مثال يُشبّه الأديان بصفوف مدرسيّة متعاقبة، وأن الإنسانية بحاجة للحضور في هذه الصفوف للترقي. هذا يعني أن البهائيين ينظرون إلى أديان العالم الأخرى على أنها مراحل متتالية في تطوّر الإنسانية الروحاني. كل مرحلة منها أساسية وكل منها ضروريّ قبل الانتقال إلى تعاليم المرحلة التالية. لذلك يرى البهائيون أن تعاليم حضرة بهاء الله تُبنى على التعاليم السابقة. من هنا يرى الدين البهائي أنه، من ناحية، يُكَوّن جزءًا من تاريخ البشريّة الروحاني دائم التطوّر الذي يشتمل على اليهوديّة، المسيحيّة، الإسلام، البوذية والهندوسيّة، ومن ناحية أخرى فهو أيضًا دين مستقل إلى جانب هذه الأديان ولديه، كما ذكر في الفصل الأول، صلواته الخاصة التي تؤدّى باتجاه قبلته (الاتجاه هو مقام حضرة بهاء الله)، وفترة صوم كل سنة (في آذار) وأحكام معيّنة بالنسبة للزواج، الدفن، والميراث والتي تختلف عمّا تتبعه أديان أخرى.

ومع ذلك، فإن اعتناق الدين البهائي ليس مشابهًا لاعتناق بعض الأديان الأخرى. فعندما يتحوّل الإنسان من المسيحيّة إلى البوذيّة، فهو يتغاضى كلّيا عن وجهة النظر التي يدعها وراءه، ويتبنّى وجهة نظر جديدة. وبما أنه يبدو وكأن عقائد كل دين تناقض عقائد الأخرى، تتطلب المسألة اعتماد دين منهما والتخلّي كلّيا عن الدين الثاني. ولكن هذا لا يحدث عند اعتناق الدين البهائي إذْ ليس مطلوبًا من الذي يصبح بهائيًّا أن يرفض بشكل قطعي ما يعتبر جوهر دينه السابق، وهذا لعدة أسباب منها:

بالنظر إلى المبدأ البهائي بأن الأنبياء، مؤسسي جميع الأديان السماويّة، هم عودة الحقيقة الجوهريّة الواحدة إلى العالم، ليس مطلوبًا من الذي يعتنق البهائيّة أن يرفض مؤسس دينه السابق.

من وجهة النظر البهائيّة، أن يصبح الإنسان بهائيًّا يعني أنه مخْلِص لرسالات مؤسسي هذه الأديان بالنسبة لوعودهم عن مجيء مُخَلّص في المستقبل، وهو كما يؤمن البهائيون وعد قد تحقق بظهور حضرة بهاء الله.

لقد طرحت الإنسانية عبر آلاف السنين وجهات نظر مختلفة حول مسائل دينيّة. وقد طوّر أهل العرفان والبصائر في الأديان المتعددة، بُغية التوصّل إلى الروحانيّة، سُبلاً كثيرة تهدي إليها. لا يسعى الدين البهائي إلى رفض تراث الإنسانية الغني هذا، واستبداله، بل يسعى إلى المحافظة عليه مجردًا عمّا يؤدي إلى التفرقة، وضمن هيكليّة شاملة للوحدة. وأكثر من هذا، يسعى الدين البهائي إلى نشر هذا التراث على نطاق عالمي حتى يساهم أفضل ما في كل دين وثقافة في تقدم الإنسانية بشكل عامّ.

46)  لذلك، يمكن النظر إلى علاقة البهائيّة مع أديان العالم الأخرى على أنها ناحية أخرى من رؤية حضرة بهاء الله الموحّدة للإنسانية، فهي تجمع عناصر الحياة كافة على هذا الكوكب في إطار تتفاعل فيه على أساس الوحدة والاحترام المتبادل. إن هدف حضرة بهاء الله والجامعة البهائيّة في كل هذا هو أن “يُزيلوا الاختلافات ويطفئوا نار الضغينة والبغضاء، ليُنظر إلى الأرض بكاملها على أنها وطن واحد”.[51]

[1])   مجموعة من الواح حضرة بهاء الله، لوح مقصود، ص 150 (طبعة 2006م)

[2])   كتاب الإيقان، ص 168 (مترجم)

[3])   كتاب الإيقان، 124 (مترجم)

[4])   كتاب الإيقان، 137 (مترجم)

[5])   كتاب الأيقان، 45 (مترجم)

[6])   كتاب الإيقان، ص 85 (مترجم)

[7])   كتاب الإيقان، 83 (مترجم)

[8])   عبد البهاء، ترويج السلام العالمي، Promulgation of Universal Peace ص 375–376

[9])   عبد البهاء، مترجم عن الانكليزيّة Christian Commonwealth, 29 September 1911; see ‘Abdu’l-Bahá, ‘Abdu’l-Bahá in London, pp. 4243 (ترجمة مترجم الكتاب)

[10])  بهاء الله، الكتاب الاقدس، ج 14

[11])  بهاء الله، كتاب الإيقان، ص 185 (مترجم)

[12])  بهاء الله، كتاب الإيقان، ص 169 (مترجم)

[13])  القرآن الكريم، سورة يس، الآية 38

[14])  القرآن الكريم، سورة يس، الاية 40

[15])  عبد البهاء، من مفاوضات عبد البهاء، ص 29 (مترجم)

[16])  عبد البهاء، من مفازضات عبد البهاء، ص 23–24 (مترجم)

[17])  عبد البهاء، ترويج السلام العالمي، Promulgation of  Universal Peace ص 226 (مترجم)

[18])  عبد البهاء، من مفاوضات عبد البهاء، ص 22 (مترجم)

[19])  عبد البهاء، الرسالة المدنيّة، ص 56–57 (مترجم)

[20])  شوقي أفندي، The Promised Day is Come, pp. 108–109 (ترجمة مترجم الكتاب)

[21])  من رسالة كتبت بالنيابة عن شوقي أفندي بتاريخ 27 نيسان/ ابريل 1936 إلى أحد الاحباء، Lights of Guidance, p 495 (ترجمة مترجم الكتاب)

[22])  بهاء الله، منتخباتي…، رقم 36، ص 62

[23])  عبد البهاء، ترويج السلام العالمي، Promulgation of Universal Peace، ص 297 (مترجم)

[24])  عبد البهاء، Paris Talks, pp. 3132 (ترجمة مترجم الكتاب)

[25])  عبد البهاء، Promulgation of Universal Peace, p. 20، (ترجمة مترجم الكتاب)

[26])  بهاء الله، كتاب الإيقان، ص 148–149 (مترجم)

[27])  بهاء الله، كتاب الإيقان، ص 149 (مترجم)

[28])  بهاء الله، كتب الإيقان، ص 17 (مترجم)

[29])  بهاء الله، منتخباتي…، فقرة 34، ص 58 (ترجمة مترجم الكتاب)

[30])  بهاء الله، كتاب الإيقان، ص 149

[31])  بهاء الله، الكتاب الاقدس، آية 282

[32])  بهاء الله، Gleanings، فقرة رقم 34 ص 81 (ترجمة مترجم الكتاب)

[33])  بهاء الله، Gleanings، رقم 109 (ترجمة مترجم الكتاب)

[34])  بهاء الله، منتخباتي أز آثار حضرت بهاء الله، رقم 38

[35])  بهاء الله، الكلمات المكنونة عربي، رقم 30

[36])  انظر على سبيل المثال: الخروج 14:12، 17، 21:27؛ 43:28؛ 31: 13–17؛ اَللاَّوِيِّينَ 6: 18، 22، اَلْمَزَامِيرُ 111: 7–8؛ 119: 44

[37])  متى 24: 35، مرقس 13: 31، لوقا 21: 33

[38])  القرآن، سورة الاحزاب، 40

[39])  من هذه المصادر: كتاب الإيقان؛ كتاب من مفاوضات عبد البهاء؛  كتاب بهاء الله النبأ العظيم المذكور في كتب الله؛ كتاب ملكوت الأب السماوي الموعود، والكتب متوفرة على شبكة الإنترنت؛ راجع الملحق رقم 3. ويمكن أيضًا مراجعة الموقع بعنوان الإسلام والدين البهائي بموجب العنوان المدرج في الملحق رقم 2

[40])  اشعيا، 45: 5–6

[41])  مرقص، 29:12

[42])  القرآن، سورة آل عمران، 18

[43])  بهاء الله، Gleanings، فقرة رقم 84، ص 166–167 (ترجمة مترجم الكتاب)

[44])  قول هلال في تلمود بابل، شبت 131

http://www.paulfeghali.org/index.php?page=books&chapter_id=647&page_id=2043

[45])  انجيل لوقا 6–31

[46])  صحيح البخاري: كتاب الإيمان، رقم 13، صحيح مسلم (1/67 رقم 71)

http://www.shuraym.com/main/?articles=topic&topic=11

[47])  بهاء الله، الواح حضرة بهاء الله الى الملوك والرؤساء، سورة الملوك، ص 116 (طبعة 1983)

[48])  بهاء الله، مجموعة من الواح حضرة بهاء الله…، ص 104 (مترجم)

[49])  كتاب عهدي المنزل من قلم حضرة بهاء الله، والواح وصايا حضرة عبد البهاء، دار البديع للطباعة والنشر، لبنان، 2014، ص 39 (مترجم)

[50])  بهاء الله، مجموعة من الواح حضرة بهاء الله نزلت بعد كتاب الاقدس، ص 148 (مترجم)

[51])  بهاء الله، Epistle to the Son of the Wolf، ص 123 (ترجمة مترجم الكتاب)

9 تاريخ

يتمحور التاريخ البهائي حول أربعة شخصيّات رئيسيّة، والأهم فيهم هو حضرة بهاء الله، الذي يقوم الدين على تعاليمه. وكان المبشّر به، حضرة الباب، قد أسس دينًا مستقلاً، الدين البابي، وتنبّأ أيضًا أن دوره يقتصر على تحضير الطريق لشخص آتٍ يفوقه أهميّة بكثير. عَيّن حضرة بهاء الله ابنه حضرة عبدالبهاء ليخلفه وخوّله ليكون المبيّن الرسمي لتعاليمه. بدوره، عيّن حضرة عبدالبهاء حضرة شوقي أفندي ليخلفه وليكون المبيّن الرسمي للتعاليم البهائيّة.

حضرة الباب (1819–1850م)

أعلن حضرة الباب دعوته عام 1844م في مدينة شيراز في جنوب بلاد فارس (إيران). وبعد أن أكمل إرشاداته إلى أتباعه الثمانية عشر الأوائل، حروف “حي”، داعيًا إياهم للانتشار في المنطقة وإعلان رسالته، شدّ حضرة الباب رحاله إلى مكّة المكرّمة حيث أعلن دعوته في قلب العالم الإسلامي، وفي وسط موسم الحج. أثارت دعوته معارضة شرسة في أوساط قادة الدين الإسلامي في إيران والعراق. فاجتمع القادة الرئيسيّون من طائفتي السنّة والشيعة في بغداد وأصدروا إعلانًا مشتركًا شجبوا فيه التعاليم الجديدة. رغم هذا، انتشر الدين بواسطة حروف “حي” في إيران والعراق وصولاً إلى الهند، وجذب إليه الآف الناس بمن فيهم العديد من علماء الدين. واستطاعت امرأة من بين حروف “حي”، الطاهرة، رغم العوائق الاجتماعيّة التي تتعرض لها اللواتي هنّ من جنسها، إلى إعلان رسالة حضرة الباب في العراق واجتذاب الكثيرين إليه بمن فيهم عدد من العلماء.

ومع أن حضرة الباب اعتُقل عند عودته من مكّة المكرّمة وعُومل معاملة قاسية على يد حاكم شيراز، إلاّ أنه تصرّف بذاك المستوى من النبل والوقار مما جذب العديد من سكان المدينة إليه. بعد ذلك، في عام 1846م، غادر حضرة الباب شيراز وتوجّه شمالاً نحو مدينة إصفهان. هنا، تصرّف الحاكم على نحو ودّي، وأقام حضرة الباب في منزل أحد القادة الدينيّين في المدينة. في هذه الأثناء سمع شاه إيران، محمد شاه، عن الضجّة التي أحدثها حضرة الباب، وأبدى رغبة في لقائه. إلاّ أن رئيس وزرائه، حاجي ميرزا آقاسي، خشي أن يتهدد مركزه ويضعف نفوذه على الشاه فيما إذا قابل حضرة الباب، لذلك عمل ما بوسعه ليمنع لقاءهما. توفي في هذا الحين، أوائل عام 1847م، حاكم إصفهان، فأمر رئيس الوزراء أن يُسجن حضرة الباب في قلعة نائية شمالي غربِ إيران، آملاً أن يعزله بهذه الطريقة ويقضي على نفوذه.

لم يمنع ذلك أتباع حضرة الباب من سفر العديد منهم إلى القلعة. وسرعان ما انجذب حارس القلعة إلى قضيّتهم وسمح لهم بمقابلة حضرة الباب. نظرًا إلى فشل خطّته، أمر رئيس الوزراء عام 1848م بنقل حضرة الباب إلى قلعة نائية أخرى أيضًا في شمالي غرب إيران، ولكنها بدورها لم تنجح عمليّة السجن هذه في عزل الباب عن أتباعه. أخيرًا، قرّر رئيس الوزراء أن ينقل حضرة الباب إلى تبريز، عاصمة المقاطعة الشماليّة الغربيّة في إيران ليُحاكم أمام الأمير ناصر الدين، وليّ العهد، آملاً بتخويف حضرة الباب وإهانته بواسطة استجواب يقوم به عدد من رجال الدين البارزين. لكن المحاكمة وفّرت لحضرة الباب الفرصة ليعلن دعوته جهرًا على العموم، بأنه المهدي المنتظر، المخلّص الموعود لكل المسلمين.

وكانت أنذاك الطاهرة، التي سبق وطُردت من العراق نتيجة نجاحها في نشر دعوة حضرة الباب، قد تعرّضت لهجوم في بلدتها قزوين ولجأت إلى طهران. ومن هناك سافرت إلى مكان اسمه بدشت على الطريق بين طهران وشمال غرب البلاد، وكان حضرة الباب قد دعا جميع حروف “حيّ” وأتباعه الآخرين للاجتماع هناك. في هذا المؤتمر الذي تزامن انعقاده تقريبًا مع محاكمة حضرة الباب في تبريز، أُعلنت حقيقة أن الباب أسّس دورة دينيَّة جديدة تمثّل هذا بنسخ احكام الإسلام وذلك بخروج الطاهرة أمام جمع الأصحاب دون حجاب والذي كان مفروضًا بموجب أحكام الإسلام.

توفي محمد شاه عام 1848م وخلفه الأمير وليّ العهد، الذي أشرف على محاكمة حضرة الباب في تبريز، وأصبح ناصر الدين شاه. أُقصي الحج ميرزا أقاسي عن رئاسة الوزارة وعُيّن مكانه الميرزا تقي خان، ولكن لم يأت هذا التعديل بأية فائدة على حضرة الباب بل بالعكس زاد وضعه سوءًا، إذ باشر رئيس الوزراء الجديد بحملة ضد الباب وأتباعه. وعندما هُوجمت مجموعة من البابيين في مقاطعة مازندران الشماليّة، وحوصرت في ضريح الشيخ طبرسي نتيجة لتحريض رجال الدين المحلّيين، أرسل رئيس الوزراء قوّات من الجيش الملكي ضدهم. استمر حصار الجيش الملكي المؤلف من حوالي عشرة إلى إثني عشر ألف جندي مدجّجين بالسلاح والمدافع، لعدد من البابيين يتراوح بين 400 و 600، في مكان خالٍ من أية تحصينات طبيعيّة، لمدة سبعة أشهر. رغم التفوّق الهائل لقوّات الجيش الملكي، لم يستطيعوا التفوّق على البابيين الذين كانوا بقيادة اثنين من حروف “حيّ”. أخيرًا اضطر الأمير الذي كان يقود الجيش الملكي إلى اللجوء للحيلة والخداع، فأقسم على القرآن الكريم أنه سيسمح للبابيين، الذين كانوا يعانون في حينه من جوع شديد لمنع الطعام من الوصول إليهم، بالخروج بأمان. ولكن، عندما خرجوا من وراء التحصينات التي كانوا قد شيّدوها، انقضّ عليهم الجيش الملكي وقضى عليهم في مجزرة.

لم يكن بالإمكان الشك في إخلاص حضرة الباب الشديد لأنه قدّم حياته في سبيل إيمانه. ولا بد من وجود شيء في رسالته ما جذب الرجال وأشبع أرواحهم كما ثبت ذلك من استشهاد الآلاف في سبيل دينه … فإذا كان بإمكان شابّ خلال ولاية مدتها ست سنوات فقط، وبإخلاصه لهدفه وبجاذبيّة شخصيته، أن يُلهم أغنياء وفقراء ومثقفين وأمييّن على السواء، بالإيمان به وبتعاليمه إلى درجة استقاموا فيها رغم مطاردتهم وتعرّضهم لحكم الإعدام دون أية محاكمة، فنُشرت أجسادهم قِطَعًا، وقُتلوا خنقًا وضربًا بالرصاص، وقيّدوا على فوّهات المدافع التي أطلقت في أجسادهم، وحيث إن رجالاً من الوجهاء في بلاد فارس وتركيّا ومصر وبأعداد كبيرة ما زالوا إلى يومنا هذا متمسكين بتعاليمه؛ فلا بد من أن تشكل حياته حدثًا من حوادث المئة سنة الأخيرة الجديرة حقًا بالدراسة.[1]

بعد موقعة الشيخ طبرسي حصلت مواقع مشابهة. ففي مدينة نيريز الواقعة جنوب إيران، وليس بعيدًا عن شيراز، كان وحيد، وهو رجل دين ذو أهميّة على نطاق المملكة، قد أصبح بابيًّا. فهاجمه حاكم البلدة، كما أرسل حاكم شيراز جيشًا ضد البابيين. مرّة أخرى انتهى حصار البابيين بالغدر والخيانة حيث إنهم وُعِدوا بالعفو ولكنهم تعرضوا لمجزرة عند خروجهم من مراكزهم. وفي بلدة زنجان على الطريق بين طهران وتبريز أصبح أحد قادة الدين، وهو حجّة زمانه، بابيًّا، فهاجمه رجال دين آخرون. مرّة أخرى، استُدعي الجيش الملكي لمحاربة البابيين واستمر الصدام ثمانية أشهر إلى أن تم القضاء عليهم بالنهاية.

تلازمت مع هذه الوقائع الكبيرة والتي شملت مئات البابيين وآلاف القوّات الملكيّة، وقائع عديدة أخرى أصغر حجمًا في كل أنحاء البلاد. أخيرًا، قرر رئيس الوزراء أن أفضل وسيلة لإنهاء هذا الهيجان الشعبي هو إعدام حضرة الباب، فأصدر أمرًا لأخذ الباب إلى مدينة تبريز وإعدامه. ولكن بالنظر لما تأتّى، حتى هذا العمل أدّى إلى زيادة شهرة حضرة الباب، لأنه، وكما شهد بذلك مصدر محايد مستقل[2]، ما إن انقشع دخان الطلقات الناريّة التي أطلقتها [فرقة عسكريّة] في المرّة الأولى حتى تبيّن أن حضرة الباب قد اختفى، وقد وُجد وهو يتمّم املاء بعض الأمور على أمين سرّه. فجيء به أمام فرقة عسكريّة أخرى التي نجحت هذه المرّة بإطلاق النار عليه وإعدامه.

حضرة بهاء الله (1817–1892م)

ولد حضرة بهاء الله في طهران، عاصمة بلاد فارس، الواقعة على مسافة قليلة إلى شمالي وسط البلاد. وكان ابن مسؤول كبير في الدولة وترعرع في رفاهيّة. ولكن ما إن علم برسالة حضرة الباب حتى قبلها فورًا وصار من مناصريها الأساسيين، فأصبح منزله في طهران مركزا للنشاط البابي، وكان هو مُنَظّم مؤتمر بدشت. ونتيجة لهذه النشاطات، أصبح حضرة بهاء الله محطّ الاضطهاد وخسر شيئًا فشيئًا مركزه وثروته.

وقع حادث عام 1852م كانت له مضاعفات بالغة الأهميّة على حضرة بهاء الله وجميع البابيين، إذ قامت مجموعة صغيرة من البابيين بمحاولة اغتيال الشاه، انتقامًا لإعدام محبوبهم حضرة الباب. وإثباتًا على خُبل عقلهم كان التخطيط للمحاولة رديئًا وفاشلاً، فكانت العواقب بالغة الخطورة. بعد المحاولة الفاشلة، أمر الشاه بمذبحة عامة تطال جميع البابيين، ورغم أنه لم يكن لحضرة بهاء الله أية علاقة بمحاولة الاغتيال، إلاّ أنه اعتقل وسجن في قَبْوٍ تحت الأرض لمدة أربعة أشهر.

أثناء فترة سجنه حدث له تجربة في عالم الرؤيا اعتبرها بداية مهمّته، ومما قاله: “…شاهدت حوريّة ذكر اسم ربي معلّقة في الهواء…واشارت بإصبعها الى رأسي وخاطبت من في السموات والأرض ‘تالله هذا لمحبوب العالمين… وأمر الله وعزّه…”[3] عند إطلاق سراحه حُكم عليه بالنفي وقد رفض عرضا من السفير الروسي للجوء الى روسيّا واختار الذهاب الى بغداد التي كانت حينها عاصمة اقليميّة للإمبراطورية العثمانيّة. هنا برز تدريجيّا كقائد الجامعة البابيّة التي كانت معنويّاتها منهارة بالكامل وقد دُفعت للاختباء بسبب اضطهادات السنوات السابقة. أرسل حضرة بهاء الله سيلاً من الرسائل ومبعوثين الى البابيين في إيران حيث ارتفعت معنويّاتهم تدريجيّا.

واجه حضرة بهاء الله معارضة من أخيه غير الشقيق صبح أزل الذي إدعى قيادة الجامعة البابيّة. تحاشيا ليكون سببًا في انقسام الجامعة البابيّة غادر حضرة بهاء الله بغداد متوجها الى جبال كردستان حيث ارتدى ملابس درويش متجوّل آخذًا معه كشكولا وبدل تغيير ملابس فقط، وقد عرّف نفسه بالدرويش محمّد. عاش مدة في جبل سَرْغَلو، بعض الوقت في مأوى حجري والبعض الآخر في مغارة. “آنست طيور الصحراء وجالست وحوش العراء… فكم من ليالٍ لم أجد قوتًا وكم من أيّام لم أجد للجسد راحة… كنت مشغولاً بنفسي نابذا ورائي العالم وما فيه”.[4] أخيرًا أتصل به الشيخ إسماعيل، قطب الطريقة الخالديّة في السليمانيّة، ودعاه للإقامة في تكيّة مولانا خالد في السليمانيّة. اثناء فترة وجوده في كردستان انزل حضرة بهاء الله عددا كبيرا من المناجاة والأشعار باللغتين الفارسيّة والعربيّة مشاركا رؤاه العرفانيّة مع الصوفيين في المدينة. فأسر قلوب اقطاب الصوفيين في السليمانيّة، القادريّة والنقشبندية. وقد انزل حضرة بهاء الله فيما بعد للشيخ عبد الرحمن، قطب القادريّة، كتاب “الوديان السبعة” وهو أعظم آثاره العرفانيّة. أخيرا اكتشف اتباع حضرة بهاء الله في بغداد مكان اقامته وحاولوا إقناعه بالعودة. تردد في البداية، ولكن بسبب الحالة المؤسفة التي تردت اليها الجامعة البابيّة في بغداد تحت قيادة أخيه غير الشقيق أزل، ورغبته تكريم ذكرى حضرة الباب، وافق على مغادرة كردستان.

في كتاب الإيقان، الذي هو من بين الكتب التي أنزلها حضرة بهاء الله اثناء وجوده في بغداد، وضع حضرته المبادئ الأساسيّة لفهم الكتابات المقدّسة وشرح أيضًا مبدأ استمراريّة الهداية الإلهيّة وطبيعة تطوّرها بواسطة مؤسسي الأديان العالميّة. ومن آثاره الكتابية الأخرى، الكلمات المكنونة، وهو يتضمن مجموعة رائعة من العبارات الدرّية في مواضيع روحانيّة وأخلاقيّة…

بالنهاية، دفع انبعاث حيويّة المجتمع البابي الحكومة الفارسيّة إلى طلب إبعاد حضرة بهاء الله من هذا المكان القريب من حدودها [بغداد]. فطلبت الحكومة العثمانيّة من حضرة بهاء الله القدوم إلى العاصمة إسطنبول. وقبل سفره مباشرة، أعلن حضرة بهاء الله للبابيين الذين كانوا برفقته أنه هو الذي تنبّأ بقدومه حضرة الباب. حدث هذا الإعلان في حديقة الرضوان، وهي مناسبة يُحيي ذكراها البهائيون باعتبارها أقدس أعيادهم.

بعد أقل من أربعة اشهر من وصول المنفيين إلى إسطنبول، نُفي حضرة بهاء الله مرّة أخرى في زمهرير شتاء قارس إلى أدرنه، التي هي الآن في القسم الأوروبي من تركيا، فوصل إليها في كانون الأول/ديسمبر 1863م ومكث فيها خمس سنوات. خلال هذه الفترة، وصل عداء يحي أزل لحضرته أوجه عندما حاول قتله بدسّ السمّ له.

أيضا خلال هذه السنوات بدأ حضرة بهاء الله بإرسال مجموعة من الألواح الى ملوك ورؤساء العالم أبلغهم فيها أنّه موعود جميع أديان العالم. فهو يعلن في هذه الالواح دعوته ومهمّته ويدعو الملوك والقادة إلى أن يتمسكوا بالعدل ويعتنوا بالفقراء بينهم وإلى تسوية خلافاتهم حتى يتمكنوا من خفض اسلحتهم. في لوحه الى الملكة فكتوريا يشيد حضرة بهاء الله بها لمنعها تجارة الرقيق ولممارسة الديمقراطيّة.[5]

وفي عام 1868م وبسبب تُهم باطلة أطلقها أزل، وقلق العثمانيين حول مصير مقاطعاتهم الأوروبيّة، نُفي حضرة بهاء الله إلى عكاء في فلسطين التي كانت آنذاك مقاطعة من سوريا في الإمبراطوريّة العثمانيّة. سجن حضرته في بداية الأمر في قلعة المدينة وفيما بعد وضع تحت الإقامة الجبريّة في منزل في البلدة. وقد أنزل حضرته عام 1873م أهم كتبه، الكتاب الأقدس، كتاب حدوده وأحكامه.

انتقل حضرة بهاء الله إلى خارج أسوار عكاء عام 1877م، واستقرّ أخيرًا في قصر البهجة، بضعة أميال شمالي عكاء، حيث مكث فيها حتى صعوده إلى الرفيق الأعلى عام 1892م. وقد أنزل في هذه الفترة العديد من آثاره الكتابيّة بيّن فيها تعاليم دينه الاجتماعية. يُعتبر مرقده ومقامه في البهجة في ضواحي مدينة عكاء أقدس مكانٍ للبهائيين على الكرة الأرضيّة. وقد انتشر الدين البهائي في أثناء حياة حضرة بهاء الله إلى أن وصل بتاريخ صعوده إلى مصر وسوريا، والأناضول والقوقاز وآسيا الوسطى والهند.

عانى حضرة بهاء الله طوال أيام حياته الآلام التي يتحمّلها العديد من فقراء العالم اليوم. فعانى هو وعائلته من إمدادهم بمياه رديئة، والازدحام الشديد في المنازل [الضيّقة] التي خُصصت لهم، وعدم وجود وسائل صحيّة، وفقدان الطعام الطازج، والبطالة، وحُكم غير فعّال. وكان حضرة بهاء الله وعائلته سجناء ولاجئين، ضحايا التعصب، والمعلومات المغلوطة، وعدم اهتمام الآخرين، وتخوفهم منهم. وكان أولاد العائلة يتعرّضون للرشق بالحجارة من أولئك الذين أثيرت في قلوبهم كراهية البابيين والبهائيين، ومن أناس كانوا جهّالاً ويخافونهم.

زار المُستشرق المشهور إدوارد كرانفيل براون حضرة بهاء الله في البهجة عام 1890م ودوّن الخاطرات التالية:

انتظر دليلي لحظة من الزمن ريثما خلعت حذائي، وبحركة سريعة من يده سحب ستارة، وبمروري من الباب أعادها، فوجدت نفسي في غرفة كبيرة، في صدرها امتدت أريكة منخفضة، ووضع في مقابل الباب كرسيان أو ثلاثة كراسي. وإني وإن كنت متصورًا تصورًا مبهمًا المكان الذي أنا ذاهب إليه، ومن أنا قادم لرؤيته، إذ لم تعطَ لي إيماءة واضحة حول ذلك، إلاّ أنّه مرّت ثانية أو ثانيتان من الزمن، وأخذتني الرهبة والذهول، قبل أن أعرف معرفة تامة بوجود من فيها، وحانت مني إلتفاتة إلى الركن. وحيث تلتقي الأريكة بالجدار، كان يجلس هيكل عظيم، تعلوه المهابة والوقار، وتتوّج رأسه قلنسوة من الصوف، من النوع المسمّى عند الدراويش “بالتاج” تمتاز بطولها، وحول أسفل “التاج” عمامة بيضاء صغيرة.

وإنما الوجه الذي رأيته، لا أنساه ولا يمكنني وصفه، مع تلك العيون البرّاقة النافذة التي تقرأ روح الشخص. وتعلو جبينه الوضّاح العريض القدرة والجلال، بينما أسارير وجهه وجبهته تنمّ عن عمر لا يصدّقه الشعر الأسود القاتم، مع لحية كانت تتماوج بوفرة مألوفة لغاية وسطه، فلم أكُ إذ ذاك في حاجة للسؤال عن الشخص الذي امتثلت في حضوره، ووجدت نفسي منحنيًا، أمام من هو محط الولاء والمحبّة التي يحسده عليها الملوك، وتتحسّر لنوالها عبثًا الأباطرة!

وسمعت صوتًا هادئًا جليلاً يأمرني بالجلوس، ثم استمر يقول: ‘الحمد لله إذ وصلت، …جئت لترى مسجونًا ومنفيًّا… نحن لا نريد إلا إصلاح العالم وسعادة الأمم، وهم مع ذلك، يعتبروننا مثيرين للفتنة والعصيان، ومستحقين للحبس والنفي… فأي ضرر في أن يتّحد العالم على دين واحد وأن يكون الجميع إخوانًا، وأن تستحكم روابط المحبة والاتحاد بين البشر، وأن تزول الاختلافات الدينيّة وتمحى الاختلافات العرقيّة؟…

ولا بد من حصول هذا كلّه، فستنقضي هذه الحروب المدمّرة والمشاحنات العقيمة، وسيأتي (الصلح الأعظم) … ألستم تحتاجون إلى ذلك في أوروبا أيضًا؟ أليس ذلك ما تنبّأ به السيد المسيح؟… ومع ذلك فإنّا نرى ملوككم وحكامكم ينفقون خزائنهم على وسائل تدمير الجنس البشري، بدلاً من إنفاقها على ما يؤدي إلى سعادته… ولا بد من زوال هذه المشاحنات والبغضاء وهذا السفك للدماء وهذا الاختلاف، حتى يكون جميع الناس جنسًا واحدًا وأسرة واحدة… فلا يفتخر الإنسان أنه يحب وطنه، بل يفتخر بحب جنسه…[6]

عندما رست الباخرة التي تقلّ حضرة بهاء الله، سجينًا منفيًّا، مع عائلته وبعض من أتباعه على شاطئ عكّاء في 31 آب/أغسطس 1868م، واجه حضرته السكان المحلّيين الذين غُبِّئوا كرهًا ضده ما لبث سلطان الإمبراطوريّة العثمانيّة بنفسه أن زادهم إثارة وشحنهم عداوة إلى أقصى الحدود. كتب حضرة شوقي أفندي:

أصدر السلطان ووزراؤه أوامرهم الصريحة والصارمة بأن يُحبس المنفيّون المتهمون بالضلال البعيد والانحلال الشديد، أشد أنواع الحبس والانفراد. وكانت آمال هؤلاء معقودة على أن حكم السجن المؤبّد الصادر ضد المنفيين سوف ينتهي آخر الأمر بانقراضهم وزوال ريحهم. ذلك أن الفرمان[7] الذي أصدره السلطان عبد العزيز في الخامس من ربيع الثاني 1385هـ (الموافق لليوم السادس والعشرين من تموز سنة 1868م) لم يقتصر على الحكم عليهم بالنفي الدائم، بل وقضى بضرورة حبسهم وعزلهم عزلاً شديدًا. وحرّم عليهم أن يتصل أحدهم بالآخر أو أن يتصل أحدهم بالأهالي. وإنذارًا وتحذيرًا للأهالي، قُرئ الفرمان، في مسجد المدينة الرئيسي عقب وصول المنفيين.[8]

ومع ذلك، وبعد سنوات قصيرة، ومع تعرّف السكان على حقيقة رسالة حضرة بهاء الله، وتواصلهم المستمر مع حضرة عبدالبهاء، تبدلت عداوتهم بمشاعر تنمّ عن أقصى درجات الوقار والاحترام تجاهه. وأما الفرمان، فبالرغم من أنّه “لم يُلْغ بصفة رسميّة إلاّ أنّه أصبح آنذاك في خبر كان”.[9]

بعد صعود حضرة بهاء الله إلى الرفيق الأعلى، عبّر سكان مسلمون ومسيحيّون من ذوي المكانة المرموقة، وكذلك علماء مسلمون محترمون، وغيرهم من أصحاب القلم ممن قابلوا حضرته، عن مشاعر الإعجاب والاحترام تجاهه بمناسبة تأبينه وبعدها، وفيما يلي مقتطفات للبعض منها:

كتب ملاّ محمد علي:

دخل حضرة بهاء الله مدينة عكّاء سجينًا، وبقي فيها سجينًا زهاء ربع قرن بأمر من السلطان العثماني، واتُّهم بالكفر، وتقويض أركان الدّين، وادّعاء الألوهيّة، وتضليل النّاس؛ فحذرته أهالي عكّاء أوّل الأمر، ثم تتبّع النّاس حركاته، وتحرّوا أمره، واطّلعوا على دعوته، وتفحّصوا أقواله وأفعاله خلال تلك الفترة الطويلة التي قضاها بينهم، فتبيّنوا كذب كلّ ما أشيع عنه. بذلك شهدت كلماتهم وعباراتهم حين تشييعهم جنازته وتأبينه.[10]

كتب الأستاذ جاد عيد من أهالي عكّاء راثيًا[11] حضرة بهاء الله:

… فلا محاسن فضله تدرك، ولا مآثر عدله تعدّ، ولا فيوض مراحمه توصف، ولا غزارة مكارمه تحصر، ولا كرم أعراقه ككرم أعراق النّاس. فإنّ كلّ هذه الصّفات الّتي كان فيها آية الله في خلقه لم تكن لتفي بوصف بعثته الشّريفة، فهو الإمام المنفرد بصفاته، والحَبْر المتناهي بحسناته ومبرّاته، بل هو فوق ما يصف الواصفون وينعت النّاعتون…

ومن رثاء نظمه الشّيخ عبد الملك الشّعبي:

لقد كان ربّ الفضل والعلم والتّقى

وبحر النّدى والجود والحلم والمجد

ومصباح جود في الدّجى يهتدي به

بلا غاية الرّاجي وأكرم من يسدي

ومن رثاء نظمه المعلّم أمين فارس من كفر يسيف:

قد كان كهفًا للبرايـا كـلّ مـن

وافاه كان ينال ما يستنظر

قد كان شمس هدى وبدر فضائل

ومفاخر ومآثـر لا تنكـر

ومن رثاء رشيد أفندي الصّفدي من عكّاء:

إمام قد حوى علمًا وفضلاً        ورشدًا منه قد ظهر البهاء

بتحقيق اليقين على صلاح        وزهد لا يشوبهمـا ريـاء

ومن رثاء أمين زيدان:

يا إمام الهدى ونور البهـاءً    أيّ لفظ يفيك حقّ العزاء

ليت شعري من لي بلفظ نبيًّ    فيه أرثي علامة الأنبياء

كما كذّب المؤرخ الإسّلامي، الأمير شكيب أرسلان، الافتراءات الموجّهة إلى حضرة بهاء الله، فكتب موضحًا:

“وممّا لا جدال فيه أن البهاء وأولاده بمقامهم هذه المدّة الطّويلة بعكّاء أصبحوا بأشخاصهم معروفين لدى أهالي بلادنا المعرفة التّامة، بحيث صفا جوهرهم عن أن تَعْتَوِرَهُ الجهالة، وامتنعت حقيقتهم عن أن تتلاعب بها حصائد الألسنة. أمّا البهاء فقد أجمع أهل عكّاء على أنّه كان يقضي وقته معتزلاً معتكفًا، وأنّه ما اطّلع له أحد على سوء، ولا مظنّة نقد، ولا مدعاة شبهة في أحواله الشّخصيّة كلّها…”[12]

وكتب محمود خير الدّين الحلبي، صاحب جريدتي وفاء العرب والشّورى الدّمشقيّتين:

“…وانتقل حضرة بهاء الله إلى (البهجة) وواصل جهاده حتى أصبح كعبة الورّاد من جميع الجهات. وبدأت الهبات ترد عليه بكثرة من الأتباع والمريدين. ومع ذلك فما كان يتجاوز حدود البساطة وكان ينفق على الفقراء والمساكين، ويقضي معظم أوقاته بالصّلاة والعبادة…”[13]

كان حضرة بهاء الله وعائلته، والعديد من البهائيين، ضحايا الظلم والحكم الفاسد، والتعدّي على حقوقهم الإنسانية. وقد وجهت التهم الباطلة إلى حضرة بهاء الله بنفسه، وضُرب وجُرّد من ممتلكاته بكل تعسّف. لذلك، عندما يكتب حضرته عن الحاجة للعدالة الاجتماعيّة، ومحو الفقر، ومنع التهجير بالقوّة، والحاجة للمياه النظيفة للغسيل، وتربية الأمهات والفتيات والأطفال، وضرورة تحلي القادة بمستوى أخلاقي عالٍ، وتطبيق المبادئ الأخلاقيّة في نطاق العمل، والتمسك بالقانون، فهو يكتب عن أمور اختبرها شخصيًا وكانت محور اهتمامه البالغ.

حضرة عبدالبهاء (1844–1921م)

في “كتاب عهدي”، وهو كتاب وصيّة حضرة بهاء الله، وفي الكتاب الأقدس، عيّن حضرته ابنه الأرشد، حضرة عبدالبهاء، ليترأس الدين البهائي من بعده وليكون المبيّن المفوّض الوحيد لتعاليمه. وهكذا أصبح حضرة عبدالبهاء مركز العهد والميثاق الذي أقامه حضرة بهاء الله مع أتباعه، ليتوجهوا إلى حضرة عبدالبهاء من أجل حل أي معضلة أو خلاف ينشأ بينهم. وحضرة عبدالبهاء هو أيضًا المثل الأعلى الذي جسّد في سيرته التعاليم البهائيّة. وكما أن حضرة بهاء الله واجه معارضة من أخيه غير الشقيق، كذلك واجه حضرة عبدالبهاء معارضة من أخيه غير الشّقيق. ورغم أن بعض البهائيين البارزين انشقّوا عن حضرة عبدالبهاء عندما خلف والده، إلا أن القسم الأكبر منهم استمرّوا في ولائهم له.

بعد انتشار التعاليم البهائيّة في أمريكا الشماليّة عام 1894م حدث تطوّر مهم وهو أن الدين البهائي انتشر من هناك إلى أوروبا، وعبر جزر المحيط الهادئ إلى هاواي، اليابان وأستراليا. وبعد أن تحرر حضرة عبدالبهاء من القيود التي فُرضت عليه بموجب شروط النفي، سافر إلى أوروبا وأمريكا الشماليّة عام 1911م وعاد عام 1913م، زار خلال جولته الطويلة تلك المجتمعات البهائيّة حديثة التكوين، وألقى الخطب في جمعيات، وكنائس، وجلسات خاصة أينما ذهب. وخلال العديد من الخطب التي ألقاها في الكنائس والكنيس، مجّد حضرته، وبكل جرأة، فضائل النبي محمد (ص) بأسلوب لم يختبره اطلاقًا جمهور غربي من قبل. وكان لأسفاره الأثر الكبير في دفع تطوّر ونموّ المجتمعات البهائيّة في هذه المناطق.

تواصل حضرة عبدالبهاء في حياته مع الكثيرين، خصوصًا مع أفراد بهائيين، بسيل من الرسائل طُبع الكثير منها في مجلدات متعددة. ومن بين أهم آثاره الكتابيّة “الرسالة المدنيّة” حيث يعرض منهاجًا للنموّ الاقتصادي والاجتماعي في الدولة؛ و”مقالة سائح” وهو تاريخ الدين البهائي، وكتاب آخر يُحيي فيه ذكرى عدد من أتباع حضرة بهاء الله ويلقي الضوء على صفاتهم الروحانيّة عنوانه “تذكرة الوفاء”؛ والواح الخطة الإلهيّة التي بيّن فيها مستقبل العالم البهائي؛ و”مِنْ مفاوضات عبدالبهاء” وفيه يجيب عن أسئلة فلسفيّة ودينيّة تهم المسيحيين بالدرجة الأولى؛ و”خطب عبدالبهاء في أوروبا وأمريكا” التي يركّز فيها بوجه عامّ على قضايا اجتماعيّة، و”ترويج السلام العالمي” مجموعة خطب حضرة عبدالبهاء في أميركا.

قابل حضرة عبدالبهاء العديد من المفكّرين والمصلحين وقادة الدين في الشرق الأوسط ودوّن بعضهم انطباعاتهم عنه. وكان هو على اتصال مع الكثير من المصلحين الكبار في العالم الإسلامي بمن فيهم قادة تركيا الفتاة من أمثال نامق كمال و بركتزاد إسماعيل حقّي أفندي، ومصلحين آخرين من أمثال مدحت باشا والسيد جمال الدين الأفغاني. وقد التقى العالم الكبير الشيخ محمد عبده (1849م–1905م) بحضرة عبدالبهاء في بيروت في الثمانينيات من القرن التاسع عشر.

وفيما يلي نص حوار جرى عام 1897م بين الشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ محمد رشيد رضا (1865م–1935م)، وهو من كبار علماء المسلمين، عن حضرة عبدالبهاء، وهم يَعْرِّفونه باسم عباس أفندي، وهو الاسم الذي يُعْرَف به حضرة عبدالبهاء بشكل عامّ:

رضا: (وثم سألته عن عبّاس أفندي [عبدالبهاء]) أسمع أنه بارع في العلم والسياسة وأنه عاقل يرضي كل مجلس.

عبده: نعم، إن عبّاس أفندي فوق هذا، إنه رجل كبير، هو الرجل الذي يصح إطلاق هذا اللقب (كبير) عليه.[14]

وكتب العالم الأزهري الشهير الشيخ علي المؤيد صاحب جريدة المؤيد واسعة الانتشار بعد مقابلته لعبّاس أفندي ورجوعه إلى القاهرة بوقت وجيز مقالاً نُشر في “المؤيد” في يوم الأحد، 16 أكتوبر/ تشرين الأول 1910م وعنوانه “الميرزا عبّاس أفندي”. وقال الشيخ علي المؤيد في مقاله:

“وصل إلى الإسكندرية… ميرزا عبّاس أفندي كبير البهائية في عكّاء بل مرجعها في العالم أجمع… وهو شيخ عالم وقور متضلّع من العلوم الشرعية ومحيط بتاريخ الإسلام وتقلّباته ومذاهبه… وأتباعه يحترمونه إلى حد العبادة والتقديس… وكل من جلس إليه يرى رجلاً عظيم الاطلاع حلو الحديث جذابًا للنفوس والأرواح يميل بكلّيته إلى مذهب “وحدة الإنسان“ وهو مذهب في السياسة يقابل مذهب “وحدة الوجود” في الاعتقاد الديني، تدور تعاليمه وارشاداته حول محور إزالة فروق التعصّب للدين أو للجنس أو للوطن او لمرفق من مرافق الحياة الدنيوية”.[15]

وكتب [عبد المسيح الانطاكي] صاحب مجلة العمران، المطبوعة في القاهرة، مقالة طويلة نشرت في تلك المجلة بشهر يونيو/ حزيران 1922م، تحت عنوان “عباس أفندي عبدالبهاء” يصفه فيها قائلاً:

“يتدفق البِشْر والحنان من أساريره وتلوح الشهامة والنبل على سيماه، بحيث يشعر كل من واجهه بهيبة عظيمة وجلال باهر مع شدة الذكاء وتوقد الخاطر وحدة الفؤاد – ظاهرة مشرقة من مرآه ومن كلماته وحركاته وقواه العقلية ومزاياه الإدراكية وهيبتة، عظيم الإخلاص، نقي الضمير ابتسامته تسحر اللب ويجذب إليه القلوب يمشي بخطى واسعة… وبالاختصار فقد كان قويًا مقتدرًا متأنيًا في عمله لطيفًا في معشره لينًا في خطابه كانه والد حنون في وسط أولاده. حركاته ومقابلاته وقيامه وجلوسه هي مظاهر القوّة والشهامة والحريّة والاقتدار فصيح اللسان عذب البيان مطيل الصمت والتفكير في مواضعه”.[16]

وما لا شك فيه أن أبلغ ما خُطّ في العربية عن حضرة عبدالبهاء كان بقلم الأمير شكيب أرسلان نفسه، حيث كتب:

…وكان (عبدالبهاء) آية من آيات الله بما جمع الله فيه من معاني النبالة ومنازع الأصالة والمناقب العديدة التي قلّ أن ينال مناله أو يبلغ فيها كماله من كرم عريض وخلق سجيح وشغف بالخير وولوع بإسداء المعروف وإغاثة الملهوف وتعاهد المساكين بالرفد دون ملل وقضاء حاجات القاصدين دون برم، هذا مع علوّ النفس، وشغوف الطبع، ومضاء الهمة ونفاذ العزيمة وسرعة الخاطر وسداد المنطق وسعة العلم ووفور الحكمة، وبلاغة العبارة، حتى كان فصاحته صوب الصواب، وأقواله فصل الخطاب، وكتاباته الديباج المحبّر، وفصوله الوشى المنمنم، يفيض بيانه جوامع كلم، وتسيل عارضته سيل عارض منسجم، ويود اللبيب لو أقام العمر بمجلسه يجني من زهر أدبه البارع ويرد من منهل حكمته الطيبة المشارع، استولى من المعقول على الأمد الأقصى، وأصبح في الإلهيات المثل الأعلى، وبلغ من قوّة الحجة وأصالة الرأي، وبُعد النظر، الغاية التي تفنى دونها المنى حتى لو قال الإنسان إنه كان أعجوبة عصره ونادرة دهره، لما كان مُبالغًا ولو حكم أنه كان من الأفذاذ الذين قلّما يلدهم الدهر إلاّفي الحقب الطوال، لكان قوله سائغًا… وكان عبّاس أفندي… ذا وقار في رسوخ الجبال ومهابة يقف عندها الرئبال، وحشمة لا ترى إلاّ في الملوك أو في صناديد الرجال، ومع هذا كله كانت مجالس حكمته مطرزة باللطائف، ومحاضر جدّه مهلهلة بالرقائق، وكانت رسائله على كثرتها تتلى وتؤثر، وتحفظ حفظ النفائس في الخزائن وتدّخر، …وكانت له مع العاجز مراسلات متصلة باتصال حبل المودة، وعمران جانب الصداقة، ومرارًا قصدت عكّاء ولا غرض لي فيها سوى الاستمتاع بأدبه الغضّ والاغتراف من علمه الجمّ.[17]

حضرة شوقي أفندي (1897–1957م)

صعد حضرة عبدالبهاء إلى الرفيق الأعلى عام 1921م تاركًا وصيّة عيّن فيها حفيده حضرة شوقي أفندي ليكون وليّ أمر الدين البهائي، وهو مركز خوّله ليكون المبيّن الرسمي للكتابات البهائيّة. أمضى حضرة شوقي أفندي السنوات الخمس عشرة الأولى من ولايته في بناء الإدارة البهائيّة والتأكد من حسن عملها بموجب مبادئ روحانيّة. وقد أُنشِئت محافل روحانيّة محلّية ومركزيّة أينما وجدت مجتمعات بهائيّة.

ما إن تأسست الإدارة البهائيّة في تلك البلاد التي وجدت فيها مجتمعات بهائيّة كبيرة العدد حتى باشر حضرة شوقي أفندي بتنفيذ مجموعة من المشاريع لنشر الدين البهائي في كافة مناطق العالم التي لم تُفتح للدين آنذاك. خصّص في البداية مشاريعه إلى بعض المجتمعات البهائية، كل منها على حدة، وبعد ذلك في عام 1952م أطلق مشروعًا عالميًا. نجح هذا المشروع نجاحًا باهرًا وأدى إلى أولى بوادر تسجيل أعداد كبيرة من البهائيين. صعد حضرة شوقي أفندي إلى الرفيق الأعلى عام 1957م وتلى ذلك فترة انتقاليّة كان فيها الدين البهائي تحت إدارة مجموعة من الأفراد يعرفون باسم “أيادي أمر الله“.

بيت العدل الأعظم

في عام 1963م أصبح بإمكان ستة وخمسين محفلاً روحانيًّا مركزيًّا، قائمًا حول العالم آنذاك، أن ينتخبوا بيت العدل الأعظم، وهي مؤسسة عُيّنت في كتابات حضرة بهاء الله على أنها سلطة الدين البهائي العليا. باشرت أعمالها بمتابعة العمل على انتشار الدين البهائي الذي خطط له حضرة شوقي أفندي. وفي السنوات الأخيرة، أضاف بيت العدل الأعظم إلى أولويّاته تنمية وتطوير المجتمع البهائي، وذلك بتأسيس معاهد تدريبية وتطوير نشاط محاور العمل الأربعة وهي: جلسات الدعاء، حلقات دراسيّة، صفوف للأطفال ودروس للشباب الناشئ، والتي على كل مجتمع بهائي السعي لتنظيمها.

[1])   يونغهزباند، Younghusband, 1923, p. 184 (ترجمة مترجم الكتاب)

 

[2])   قد يظن البعض ممن يطالعون هذا الكتاب [All Things Made New] أن قصة استشهاد حضرة الباب أسطورة يصعب تصديقها. يحال هؤلاء المشككون إلى وثيقة رقم E.O. 60/153/88 في أرشيف الخارجيّة  Foreign Office لدي مكتب السجلات العامة Public Records Office في لندن. هذه الوثيقة هي رسالة رسميّة مؤرخة 22 تموز/ يوليو 1850، موجهة من السر جوستين شيل، Sir Justin Sheil موفد الملكة فكتوريا فوق العادة والوزير المطلق الصلاحية،في طهران، إلى أمين سر وزارة الشؤون الخارجيّة، لورد بالمرستون، جاء فيها، لقد أعدم مؤسس الطائفة في تبريز. وقد قتل بوابل من طلقات البنادق، ولكن كان موته على وشك الإضفاء على دينه بريق شهرة  تؤدي إلى زيادة المؤمنين به زيادة كبيرة. فعندما علا دخان البنادق وانقشع الغبار، لم يكن الباب ليُرى، وادعى الجمهور أنه صعد إلى السماء. وكان الرصاص قد قطع الحبال التي قُيِّد بها، ولكن جيء به من الموضع المنعزل الذي اكتشف فيه بعد البحث عنه وأُطلق الرصاص عليه مرة أخرى. إن موته، بموجب عقيدة المؤمنين به، لن يُحدث أي تغيير لأن الباب يجب أن يكون موجودا دائما. من كتاب تأليف جون فرابي عنوانه: All Things Made New Ruskin House, George Allen & Unwin Ltd.، طبع وتوزيع بريطانيا، 1957، ص 199 (ترجمة مترجم الكتاب)

[3])   شوقي أفندي، القرن البديع، من منشورات دار النشر البهائيّة في البرازيل، 1986، ص 129

[4])   شوقي أفندي، كتاب القرن البديع، ص 148

[5])   نشرت مجموعة الألواح في كتاب عنوانه نداء القلم الاعلى دار البديع للطباعة والنشر، ٢٠١٧

[6])   مقابلة مع البروفسور ادوارد براون سنة 1890 في البهجة، منتخبات من كتاب بهاء الله والعصر الجديد ص 56–58 (مترجم)

[7])   أنظر نص الفرمان باللغة الاصليّة – التركيّة – في:

  1. M. Balyuzi’s, Bahá’u’lláh the King of Glory, George Ronald, Oxford, 1980, p. 284

[8]2) شوقي أفندي، القرن البديع، ص 226–227

[9])   المصدر أعلاه، ص 236

[10])  ملا محمد علي زرندي، مثنوي، المطبعة العربية بمصر، ١٩٢٤.

[11])  الرثاء وأبيات الشعر التي تليه مقتبسة من:

http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D9%87%D8%A7%D8%A1_%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87

[12])  الأمير شكيب أرسلان، حاضر العالم الإسلامي، المجلد ٢، الجزء ٣ ص ٣٥٨.

[13])  محمود خير الدّين الحلبي، عشر سنوات حول العالم، الجزء ١، ص ٤١، مطبعة ابن زيدون، دمشق، ١٩٣٧

[14])  تاريخ الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، تأليف محمد رسيد رضا – القاهرة 1931 ص 407

[15]عبد البهاء والبهائيّة، تأليف الاستاذ سليم قبعين، مطبعة العمران، مصر، 1922، صفحة 141

[16])  المصدر أعلاه

[17])  حاضر العالم الإنساني، تأليف لوثروب ستودراد (الترجمة العربية) المجلد الرابع، القاهرة 1352 هجرية ص 358–359. وأيضًا المجلد الثاني، القاهرة 1351 هجرية