عبدالبهاء والبهائية
عبدالبهاء والبهائية

عبدالبهاء والبهائية

كلمة المؤلف تهافت الفهماء على مذهب البهاء

أنْ تدبّ إلى اعتقادك وسوسة الشيطان، فينثني منك العقل للغفلة، مطمئنًا إلى الوهم، متمشّيًا مع فساد التصوّر من حيث وجود الخالق العظيم وصنعه الدقيق المتقن الذي منه هذا الكون ما لا يخرج الإنسان عن كونه إحدى ذرّاته جحود للحقيقة وجهل بمنشئها وزيغ عن معرفة أصلها القديم من هو الحقّ الواحد تعالى سبحانه.

لهذا يسؤنا كثيرًا أنْ نرى بعض الذين يدّعون العلم أو ينتسبون إليه يرتكبون في بحثهم أو في نظرهم متن الشطط، حتّى لنرى ذاك البعض يفاخر في المجلس بإشهار مظاهر الجحود زاعمًا أنّه فضل الباحث المستقصي وجهد المفكّر المكدّ وثمار اليقين بعد التّحري والإمعان ولو أدرك أنّه في رأيه قاصر وفي علمه صغير وأنّ الأمر قد تشابه عليه دون أنْ يفطن لذلك لصان نفسه عن الوقوع في هذا الخطل المؤدّي بصاحبه إلى فقدان الحياتين معًا الدنيا والآخرة.

من المسألة ما يقف عنده العقل الراجح مواجهًا الحقيقة لمجرّد نظرة صائبة في هذا الكون وما اشتمل عليه من أسرار فإذا كانت الصنعة تدلّ على الصانع فهل يجوز لدى غير الباطل الممقوت أنّ العالم خُلق من ذاته بغير موجد له؟ وطالما رأينا عالمًا أو فيلسوفًا قد طار به التخبّط على أجنحة الإلحاد زمنًا ما حائرًا مضطربًا متعثّرًا زالًّا ساقطًا حتّى عاد في النهاية إلى الحقيقة وبلغ من أمر أخذه بها وتقديسه إيّاه أنْ تصوّف زاهدًا في هذا العالم مفضيًا إلى الحقّ يلاقيه بشدّة اليقين في الختام.

كلّنا يعلم من هو (ڤولتير). كان ڤولتير فيلسوفًا طائر الصّيت بل كادت تصل به الحال من عقائد الفرنسيين إلى المعبود البشري. قضى هذا الفيلسوف جلّ حياته في البحث في الأديان. إنّه لم يظفر من بحثه وتنقيبه في النهاية بغير الإلحاد. لكن في مؤلّفه الأخير أو ما قبله قال بالنّص ما معناه: نّه وإنْ لم يكن هناك إله إلاّ أنّه يجب افتراض وجود إله لاستقامة العالم. فكأنّ ڤولتير بعد مؤلفاته العديدة ومباحثه الطويلة العويصة وإنفاق نفيس العمر على البحث الدّيني قد عاد على إلحاده إلى الاعتراف بأنّ العالم لا يستقيم ولا ينتظم إلاّ بموجِد. وأمّا قوله بوجوب (افتراض) وجود إله فهو تخبّط يدلّ على أنّ ذاك الفيلسوف أمسى من الاعتقاد رغم إلحاده بمنزل محفوف في ذات نفسه بالشبهات والشكوك. فلمّا أراد الخروج من هذا المأزق لم يوفّق لأنْ يبصر برؤية الشمس التي تلسعه حرارتها فنطق بكلمته السابقة في باب الاعتراف، ولكن مع شيء ظاهر من مكابرة العاجز وقد فاته دون أنْ يشعر وهو في غيبوبة البحث أنّ ما أرغم عليه من اعترافه الأخير قد أتى على سائر مؤلفاته في الإنكار فضلًا عن كونه قد تركه والطفل من العقل في مستوى واحد، فما كان أغنى ڤولتير عن ذاك التكلّف الذي حرمه صحّة الاعتقاد وسلامة اليقين وإنْ كان قد دلّ من جهة أخرى أنّ ما جازف بحملته تلك في اعتقاده إلاّ بقوّة عزيزة موجدة لا يستقيم العالم بدونها هي التي أنطقته رغم أنف إلحاده بذلك التصريح الرهيب ما تركه بين أيدي التاريخ الديني باحثًاَ صغيرًا عقيمًا وهكذا يسعد الإنسان ويشقى بعقله والعاقبة للمتّقين.

لمّا أراد البابا تتويج ناپليون الكبير في أثناء مهرجانه عزّ على هذا وهو صاحب العظموت والجبروت والبطش في ذاك العهد أنْ يُتوّج بيد غيره فما كان منه إلاّ أنْ نزع التاج من يد البابا ووضعه بيده على رأس الملكة زوجته. ثمّ بعد ذلك بنحو شهر من الزمان أمر أنْ يؤتى بذات البابا ويلقى في السجن لأنّ ناپليون كاسر الجبابرة في ذاك العهد ما كان ليرى وراء عزّته الإمبراطورية عزّة أخرى حتّى ولا مجرّد كلمة للبابا أو سواه فكان محض غضبه لعزّته مثيراًَ لحقده على البابا بهذا المقدار.

لكنّه في ساعة احتضاره نظر وهو يردّد النفس الأخير فرأى بروح الحقّ عظمة قوة سماويّة رهيبة تتمثّل لدى عينيه، فرأى المشهد وتولاّه الفزع فنادى دون صرخة الموت بمن حوله أنْ يأتوا له بقسّيس يعترف لديه بخطاياه، فتأمّل!

إنّ الأديان غذاء أرواح البشر، وما جاء بينها من بعض التفريق لا يؤثّر في أنّ وجودها ما كان إلاّ للفضيلة وما ينطوي تحتها من الإرشاد والهداية وما يدخل فيهما من مطالب الإنسانية الّتي منها العدل والرحمة والإخاء والمساواة والتسامح والعطف والتضامن في السرّاء والضرّاء وغير ذلك ممّا تصبح معه الجمعية البشرية في مستوى واحد من الرفاه والطمأنينة والسلام.

وما فتئ باب الاجتهاد مفتوحًا للعقل المفكّر والنّفس الرحيمة فإنّ الفضيلة في هذا العالم لا تعدم من أنصارها في كلّ زمان ومكان حماة لها وأغيارًا يجاهدون في سبيلها وإعزاز مكانها وهو ما أعدّ له الله رجاله العاملين المخلصين فنقول:

بمنزل من جبل الكرمل (جبل بيت الرب) بمدينة حيفاء يوجد قبر عظيم يضمّ بين جوانبه نورًا فياضًا على الوجود هو روح ميرزا علي محمد الملقّب بالباب المبشّر بحضرة بهاء الله، وقد استقرّ إلى جانب ضريحه حضرة عبد البهاء عباس، الخليفة الوحيد لحضرة بهاء الله ناشر التعاليم البهائية ومؤيدها تلك الروح العظيمة القدسية سارت بمذهبها على الآفاق سير الشمس يحسّها الأعمى فدخل مذهب الفضيلة هذا على عقول أهل المعمور وقلوبهم في المشرق والمغرب بغير استئذان حتّى امتزج بالأرواح على الطهر فوق امتزاج الماء بالراح فانتشر نوره وعمّت شمسه ولا يزال تابعوه يتكاثرون بنسبة مدهشة إذ أنّ جوهر الفضيلة مكوّن على التحقيق مع الإمعان من أصوله التي وضعها مع التوجّه القلبي والفيض الروحاني مؤسّسه الأعظم البهاء ومؤيّده من بعده عبد البهاء.

وهذا المذهب الذي أقبلت عليه الأرواح ترتشف من ينبوعه العذب في القارتين القديمة والحديثة بلا استثناء قد عنيت بأنْ أضع بشأنه هذا المؤلَّف بعد غاية التنقيب والاستقصاء معتمدًا في ذلك على ما أحطت به من شيء كثير من جهة ما كان لرحلة خليفة البهاء في عواصم أوروپا وأميركا وما يتبع ذلك من خطبه النفيسة الرائعة وتعاليمه الخالدة التي كان يدعو فيها إلى مذهبه بالأدلّة السماوية الناصعة القاطعة من توحيد الأديان وتوحيد الحكومات وتوحيد اللغة.

وهنا كانت دعوة البهاء تصادف مزيد القبول وتلقى عظيم الإعجاب أينما حلّ ورحل.

وإذ أنّ مظاهر حقائق كلّ مذهب تدع آثارًا في نفوس تابعيه فحدّث أيّها القارئ عن الفضيلة بأجلى معانيها وأكمل خواصها في أنفس البهائيين فإنّ هذه الأنفس تكاد تكون لطالبي الفضيلة بمثابة كتاب مبسوط يقرأون بين سطوره من أسرار فياضة منقوشة على أجمل حلّة تكسو هذا العالم الإنساني.

بل لمّا كان أكثر من دوّنوا عن تاريخ البهائية والبهاء خاصًّا بهذا المذهب الرفيع الرائع قد هرفوا بما لم يعرفوا وكانوا فيما كتبوا بعيدين عن الحقيقة فأخذوا في بحثهم بالعرض دون الجوهر وقنعوا بالقشور عن اللّب ولم يعنوا العناية اللائقة بموضوع عامّ هامّ يعدّ من حيث حيويّته بالنسبة للبشر بمثابة انبثاق فجر العالم البشري لعصر جديد حتّى نعته تابعوه في أميركا وهم يعدّون بالملايين بمنحة جديدة من السماء ستبدّل سطح الكرة الأرضية من شقاء إلى سعادة ومن فساد إلى خير عميم.

لهذا رأيت أنْ أضع هذا الكتاب كما قدّمت مستعينًا إلى ما سبق بتناول مواده واستقاء موارده من المصادر الثّقة، وكذلك من المجلاّت الإنجليزية والصحف اليومية التي كانت توالي نشر خطب عبد البهاء في أثناء رحلته إلى أوروپا، وذلك مع الرسوم العديدة الخصّيصة بالموضوع، راجيًا أنْ ينال عملي هذا عناية وقبولًا لدى الشرقيين على الأخص.

فإنّ الكلمة الطيبة لا تلبث تدور في الفضاء، أنْ تجد قلبًا واعيًا تسكن إليه، والله وليّ التوفيق.

القاهرة في 21 فبراير سنة 1922

كتبه

سليم قبعين

مقدمة

من الأمور التي دعت إلى تهيئة هذا الكتاب ووضعه في متناول القراء بعد نفاد طبعته الأولى منذ وقت غير قصير، أن أهميته تتجاوز القيمة التاريخية لما جمعه من وثائق لها من الوزن والثِّقل ما يفرض على الأجيال الحاضرة إعادة تقييم الوجهة التي اتخذتها مجتمعاتنا منذ العقود الأخيرة للقرن التاسع عشر؛ تلك السنوات التي لاحت فيها أفاق روحانية جديدة تنادي بضرورة استبدال المعتقدات التقليدية الموروثة من الماضي بمبادئ توائم التغيير الجذري الذي طرأ على حياتنا المادية، وتكون كفيلة بحسن توجيهه حتّى لا يتحول التغيير المادي إلى خطر يتهددنا. كان نداء صادرًا من أعماق العقل والوجدان يستعجل اتخاذ هذه الخطوة الجريئة قبل أن يستفحل أمر التناقض الذي لابد وأن يقود مجتمعاتنا إلى المجابهة والصراع والعراك، ويلقي بها في جحيم الأزمات المتواصلة. وكان على رأس المنادين بذلك عباس أفندي أو عبد البهاء كما أحب أن يدعوه الناس. ولكن لم تُعِر الأجيال التي سبقتنا هذا النداء حقّه من اهتمامها فانتهت أمتنا إلى ما نراها عليه اليوم.

وكتاب عبد البهاء والبهائية يحوي آراء نخبة من رواد الفكر العربي ورجالاته في مجال العلم والأدب والدين، عبّروا فيها بصراحة عن تقديرهم الفائق لشخص عبد البهاء، وضمنا بتأييد ما يدعو إليه. فكلمات هؤلاء الرجال الصناديد هي في الواقع شهادة خالصة ينقلها الكتاب إلى أبناء الجيل الحاضر في عبارات متنوعة في صيغتها ولكنها تحمل إجماع الذين عرفوا عبد البهاء عن كثب بأنه كان رجلًا خارقًا للعادة ومثالًا للفضائل في كل من أطواره وأفكاره. وهذه في اعتقادي الفكرة الأساسية التي أراد الأستاذ سليم قبعين إبلاغها إلى جمهوره حين ألّف مواد هذا الكتاب، ليقدم شهادة مختصرة، ولكن صريحة وقوية، من أناس اشتهروا بالمعرفة والصدق يعلنون فيها بدون مواربة أن عبد البهاء كان رجلًا فذًّا لا نظير له بين كل من ذكرهم التاريخ من عظماء القادة والمفكرين الذين أخرجتهم الإنسانية إلى الوجود في عصورها المختلفة.

ووضْعُ ما شهد به نفر من الرّعيل الأوّل للنّهضة في بلادنا أمام أنظار أبنائهم وأحفادهم من الأجيال الحاضرة هو مسئولية من أحاطوا علمًا بمقاصدهم، وكانوا على بينة بما حطّ على أجيالنا من ارتباك، لأن تذكيرهم بهذه المقاصد عون، أيّما عون، للخلاص من أغلال التردد التي عرقلت مسيرة مجتمعاتنا، وهددت مستقبلها، وشلّت حركتها، فظلت في مفترق الطرق يشدها القديم الناضب تارة، ويجذبها الجديد الواعد تارة أخرى. واستحالة التوفيق بين الأمرين بيّنة، فأخذ الجديد يعني بالضرورة ترك القديم. وطالت الوقفة بطول الخلاف الذي احتوى المتفقهين في هذه المجتمعات بين قيمة القديم، ومزايا الجديد حتى تشابه الأمر وشقّ على الناس الخيار. وهنا تظهر أهميّة الشّهادة التي يقدمها هذا الكتاب أخذًا عن أئمة النّهضة في بلادنا.

فحذار أن يحمل القارئ الأوصاف السّامية التي تكررت على ألسن نخبة من أئمة الفكر على محمل التمجيد لشخص عباس أفندي – فمقامه أرفع من هذه النعوت – ولكن قَصْد أولئك القادة انصرف إلى أبعد من ذلك: لقد تكاتفوا لردّ البهتان الذي اصطنعه أولو الرّيب حول أهداف عبد البهاء، فأدلوا بشهادة ينطق كل حرف فيها بأنّ ذاك الذي حاكت سجيّته كمال الأنبياء، جانستها أيضًا بواعثه ونواياه، فمن بلغ مبلغ قدره يكون ظاهره وباطنه صنوان. وحرص الأستاذ قبعين كلّ الحرص على أن يأتى هذا التأييد من رجال تنزّهوا عن الشّبهات، لكي تقطع كلماتهم دابر الشّك، وتبعث الثّقة في وجدان أجيال غلب عليها التّوجّس لكثرة ما أصابها من خيبة الأمل.

فغاية الكتاب إذن ليست مجرد الاستدلال على علياء عبد البهاء، بل – وبالأحرى – غايته تركيز الانتباه على الرسالة التي شخّص عبد البهاء تعاليمها، وصان وحدتها، وأرسى مؤسساتها، وشرح فحواها، وأوضح أهدافها، ورفع ذكرها في أقطاب الأرض. وهي رسالة لبّها ولبابها التّوحيد: توحيد الله، وتوحيد الأديان، وتوحيد البشرية. وأقصد التوحيد بمعنى الإقرار بالوَحْدة أو كون المضاف إليه واحدًا.

ويقينًا أن أيّ دعوة لا تقوم أركانها على الإقرار بوحدة الأديان، ووحدة الإنسانية، لا أمل لها في القضاء على مصادر الحقد والشقاق والنزاع التي مازالت تحول دون أن تصبح الأرض وطنًا واحدًا لكل البشر، وأن يُظِلّ الأمن والسلام جميع الأمم، وأن يكون العيش الكريم حقًا لكل إنسان وواجبًا مقدسًا على المجتمع، رغمًا عن أن هذه الغايات عين ما تنادي به الدعوة البهائية، وهيكل العمران الذي تفصّله وتيسر سبيله تعاليمها، والهدف الثمين الذي تسهر على تحقيقه مؤسساتها، وكتاب عبد البهاء والبهائية يشهد على أن هذا هو ما دعا إليه عبد البهاء منذ أكثر من قرن، وحبّذه أعلام الفكر في بلادنا، واستقبلته صحافتها بالتبريك والترحاب، ومع كل ذلك مازال إلى يومنا هدفًا بعيد المنال، وما ذلك إلاّ نتيجة حتمية للتشبث بمبادئ استنفذت أغراضها ولم تعد تساير احتياجات أمتنا وإضاعة الجهد في تطويرها. فهلا استحث ظهور هذا الكتاب من جديد همّة الأجيال الحاضرة للبحث والتأمل المجردين عن التعصب والهوى في هذه المبادئ والتعاليم التي يعرضها هذا الكتاب عسانا نعوض ما فاتنا ونصلح ما فسد من شأننا؟

وقد أراد سليم قبعين أن يفصح كتابه عن المشابهة التي رآها بين المراحل التي مرت عبرها حياة عبد البهاء والأطوار التي مرّت بها البهائية ذاتها؛ فلمّا كان عبد البهاء رفيقًا في السّجن لوالده المبجّل كانت البهائية محاصرة بالمزاعم الظالمة بفعل طغمة من المفترين، حتى إذا ما دُعي عبد البهاء إلى بيروت انكشف جبين البهائية من خلف ستر الأوهام في برّ الشام، ولمّا انكسرت أغلال الطغيان وأمكن لعبد البهاء أن يخرج من وراء أسوار عكا إلى أرض الكنانة اشتهر أمرها في مشرق الأرض وبانت حقيقتها، حتى إذا ما نعم عبد البهاء بالقدرة على عبور البحار إلى أوروبا وأمريكا ارتفع ذكرها بين الخافقين.

وأراد سليم قبعين أن يُشهد العالم على القسوة التي عامل بها السلطان عبد العزيز ووزيره عالي باشا بتضامنهما مع ناصر الدين شاه في عام ١٨٦٨ على سجن عبد البهاء مع والده الجليل وأسرته الكريمة ونفر من أصحابه الأوفياء في بقعة خلت من كل ما ألفوه من ترف ورخاء في أيامهم السابقة. فبوصلوهم إلى مدينة عكا في الحادي والثلاثين من شهر آب/أغسطس، قادمين من أدرنة التي كانت منفاهم لخمسة أعوام سابقة، بعد أن أقلتهم السفينة النمساوية لويد التي أبحرت بهم من ميناء جليبولي على بحر مرمرة قاصدة ميناء حيفا مع توقف قصير بمينائي الأسكندرية وبورسعيد، ثم عبر بهم مركب شراعي خليج عكا إلى أن بلغوا ميناءها الضحل – وبوصولهم إليها يكون بلاء النّفي والسّجن الذي عانوه خلال الخمس عشرة سنة السابقة قد بلغ ذروته، ومع ذلك كان مقدّرًا له أن يدوم أربعين سنة أخرى. أجل لم تكن هناك في تلك الأيام حدودًا قصوى للعقاب، ولا كانت هناك حاجة لإجراء تحقيق، أو جمع أدلة، أو إجراء محاكمة، قبل الزّج بالأبرياء في غياهب السّجون، وكانت إرادة الحاكم المطلقة تغني عن كل ذلك.

واقتيد الجميع من ميناء عكا عبر أزقتها الضيقة متجهين غربًا إلى ثكنتها العسكرية تنفيذًا للفرمان الذي تُلي في مسجد أحمد باشا الجزّار فور وصولهم، وفيه حظّر السلطان على أهل عكا تحظيرًا شديدًا الاتصال بهؤلاء الفرس المارقين. فقد أرادها السلطان عبد العزيز ووزيره عالى باشا عزلة موحشة، وعذاباَ أليما لهؤلاء الأسارى ولهذا كان اختيارهما لعكا بنوع الخصوص. فعكا التي اشتهرت في الماضي كمدينة تاريخية من أقدم مدن العالم وتواصلت فيها الحياة من عهد الفراعنة إلى يومنا هذا، وكانت درّة من أهم موانيء البحر المتوسط، نالت للأسف حظًا وافرًا من الإهمال في ظلّ الحكم العثماني، وتردّت لتصبح مستعمرة للقصاص يوضع خلف أسوارها الحصينة اللصوص وقطاع الطرق والمغضوب عليهم لسبب أو لآخر، فتدهورت مرافقها، وشحّ عذب مائها، وتكدّست قذارتها، وأضحت لرداءة هوائها بؤرة لتوالد الأوبئة ومرتعًا للأمراض.

لذا كان هول المأساة على القادمين لتوّهم مضاعفًا؛ فقد كانوا – من جهة – أسرة سليلة مجد وشرف عريقين، على رأسها الميرزا حسين علي النوري الذي عُرف باسم بهاء الله، والذي بعد سجنه في مدينة طهران – مسقط رأسه – نُفي إلى بغداد، ومنها أُبعد إلى القسطنطينية ثم إلى أدرنة، وها قد انتهى به المطاف إلى هذه البقعة المزرية التي وصفها قلمه قبل وروده إليها: ومما يحكون أنها أخرب مدن الدنيا، وأقبحها صورة، وأنتنها هواء، وأردأها ماء، كأنها دار حكومة الصدى، لا يُسمع من أرجائها إلاّ صوت ترجيعه ([1])، وكانوا – من جهة أخرى – أهلا للبرّ ودعاة خير، وما أحاطت بهم هذه البأساء إلاّ لإعلان بهاء الله عن دعوته التي تؤذن بدخول البشرية إلى طور جديد في تطوّرها المادي والرّوحاني معًا؛ تطوّر يبشر باتحاد من على الأرض، وزوال المنازعات العقيمة من بينهم، ومجيء العدل الإلهي، والصلح الجامع لإنسانية مزقتها التعصبات والأحقاد أحقابًا طويلة.

كان يقين السلطان عبد العزيز ووزيره عالي باشا أن عزلة بهاء الله وعائلته في ثكنة عسكرية داخل مدينة موبوءة لا يزدهر فيها إلا الموت، ستؤدي في وقت قصير إلى فناء دعوته وفنائهم، فهذا هو المصير المحتوم لمن يُرسلون إليها، ودام مقام بهاء الله في عكا ومرجها، ثلاثة عقود تقريبًا صعدت بعدها روحه إلى بارئها في عام ١٨٩٢ ولكن أضحت روضته المباركة محجًا للزائرين من أطراف المعمورة.

وكان الابن الأرشد لبهاء الله عباس أفندي أو عبد البهاء عند وروده إلى عكا شابًا في الرابعة والعشرين من عمره، وقد أوتي نصيبًا وافرًا من الفطنة والرشد والوقار ورجاحة العقل وسعة العلم، على الرغم من بقائه في الأسر مع أبيه منذ بلوغه العام التاسع من عمره، فلم يجد فرصة للتردد على المدارس أو الجلوس إلى معلم، مكتفيًا بما نال من فيض أبيه وحكمته.

ولكن القدرة والحكمة والحصافة التي أظهرها عبد البهاء في صبر وجلد في أعقاب ورودهم إلى سجن عكا كان لها أثر المعجزات في إبدال ذلّتهم بالعزّة، وشدّتهم باليُسر، وعزوف المتوجّسين بالمودّة والإقبال، وقسوة الحكام بالعطف واللين. فتراخت من حولهم القيود المشدّدة شيئًا فشيئًا وتيسر لهم التجول في داخل عكا والحصول على ما تيسر لهم من قوت حوانيتها، وتبين أهل البلاد من خلال ذلك التّماس ما كان عليه هؤلاء القوم من عظمة القدر وعلوّ الشأن، فزالت الوحشة السّابقة كليّة.

لم يذكر سليم قبعين ظروف لقائه بعبد البهاء تفصيلًا، ولكن قد لا أكون مغرقًا في الخطأ إذا تكهّنت بأنه عرف عبد البهاء في مدينة الناصرة حيث شبّ سليم قبعين وحيث تزاور عبد البهاء مع مفتيها الشيخ يوسف الذي كان يُكِن له كثيرًا من المودة والإكبار حتى أنه كان يرسل أخاه وبعض عليّة قومه لاستقبال عبد البهاء على الطريق قبل بلوغه أطراف المدينة ببضعة أميال. وكانت الحفاوة التي يستقبل بها عبد البهاء هذا الشيخ الجليل عندما يحضر لزيارته مشهدًا لم يعهده أهل عكا. وقد توطدت روابط المودة ذاتها بين عبد البهاء والشيخ علي الميري مفتي عكا. وهذه من آيات القدرة، والخُلق العظيم، والأدب الجمّ، والعلم الغزير، والإيمان العميق الذي لمسه الفضلاء من أهل تلك البقاع متجليًا في شخص عبد البهاء بعد إقامته بين ظهرانيهم لوقت قصير.

وأراد سليم قبعين أن يشهد كتابه هذا على أنّ لا أسوار عكا الحصينة، ولا عزلة ثكنتها العسكرية، ولا فرمان السلطان وأوامر وزيره المشددة، ولا المعاملة المهينة التي عومل بها البهائيون في بداية ورودهم إلى عكا، قد حالت دون ذيوع شهرة دعوتهم إلى بلاد الشام واستحواذها على اهتمام أكابرها ومشاهير الناس فيها، فعندما قصد عبد البهاء مدينة بيروت في صيف عام ١٨٨٧ملبيًا دعوة حكمت باشا، بادر باستقباله العلماء والمفكرون في تلك المدينة العامرة من أمثال أمير البيان الأستاذ شكيب أرسلان، والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده – إبان سنوات نفيه من مصر – ولم يتحفظ أي منهم في إظهار الأثر العميق الذي تركه في نفسه لقاء هذا السجين الظليم.

من ذلك على سبيل المثال إعراب الأستاذ شكيب أرسلان عن عمق مشاعره نحو عبد البهاء عندما وصفه بأنه أعجوبة عصره، ونادرة دهره، وهو مسترسل في إبداء إعجابه بالجوانب المختلفة لشخصيته المثالية فقال في نعت أخلاقه: وكان آية من آيات الله بما جمع الله فيه معاني النّبالة، ومنازع الأصالة، والمناقب العديدة الّتي قلّ أن ينال منها أحدمناله، أو يبلغ فيها كماله… ([2]). كما وصف بعضًا من القدرات العقلية التي تحلّى بها عبد البهاء بقوله: سرعة الخاطر وسداد المنطق وسعة العلم ووفور الحكمة.… إستولى من المعقول على الأمد الأقصى، وأصبح في الإلهيات المثل الأعلى، وبلغ من قوّة الحجّة وأصالة الرّأي وبُعد النّظر الغاية الّتي تفنى دونها المنى… ([3]). وواصل هذا الأديب النابه وصف ما لمسه من سمات العظمة في شخصية هذا الرجل الفذّ وما تزيّن به من: وقار في رسوخ الجبال، ومهابة يقف عندها الرّئبال، وحشمة لا تُرى إلاّ في الملوك أو في صناديد الرّجال ([4]). هذا فضلا عن أعتراف شكيب أرسلان بأنه كان يتحمل مشقة الأسفار من بيروت إلى عكا، في أيام كان التنقل فيها ما زال بالاعتماد على الدواب، لمجرد ملاقاة عبد البهاء: مرارًا قصدت عكّا ولا غرض لي فيها سوى الاستمتاع بأدبه الغضّ والاغتراف من علمه الجمّ… ([5]).

ولم يقتصر الأثر العميق الذي كان يتركه لقاء عبد البهاء في نفوس أكابر من قابلهم من الرجال على الاستاذ شكيب أرسلان وحده بل أعرب كل من اتيحت له فرصة لقائه عن مشاعر فياضة لا تقل في رفعتها ورقتها عما جرى به قلم شكيب أرسلان، وقد زودنا هذا الأخير نفسه بالمنزلة الخاصة التي أفردها أيضًا الشيخ محمد عبده لحضرة عبد البهاء فقال: لم يكن يطرأ على بيروت أحد من معارفه أو من الأعيان المشهورين إلا وقام [الشّيخ محمد عبده] بسنّة السلام عليه، وقد يُجله ويحتفي به ولو كان مخالفًا له في العقيدة. ولم أجده احتفل بأحد أكثر من احتفاله بعباس أفندي، وكان يكرم في عباس أفندي العلم والفضل والنّبل والأخلاق العالية، وكان عباس أفندي يقابله بالمثل… ([6]). ولم تتأثر هذه المنزلة الخاصة التي احتفظ بها الشيخ محمد عبده لحضرة عباس أفندي بمرور الزمن فقد روى الشيخ رشيد رضا حوارًا دار بينه وبين الأستاذ الإمام بعد أن عاد إلى مصر، عندما سأله عن صحة ما بلغ سمعه عن عبد البهاء، وبراعة علمه وحكمته، فأجابه الإمام: إنّ عبّاس أفندي فوق هذا، إنّه رجلٌ كبير، هو الرّجل الّذي يصحّ إطلاق هذا اللّقب (كبير) عليه ([7]).

ولعل أقوى دليل على المنزلة الرفيعة التي احتفظ بها الشيخ محمد عبده في أعماق جنانه لشخص عبد البهاء عبر السّنين أنه كتب بقلمه بعد تسع سنوات من زيارة عبد البهاء لبيروت وصفًا لمشاعره نحوه ومقدار إجلاله له في مقال نشرته جريدة الأهرام جاء فيه: على أن المعروف من أحوال البهاء وبنيه الشّخصيّة، والمأثور عنهم من خلال التّرف ومزايا الكرم والتّحقّق بصفات التّهذيب والأدب هو غير متنازع فيه، ولا ينكره إلاّ كلّ مكابر. وحضرة ولده الأكبر عباس أفندي أشهر من أن يُعرّف بفضله وينبّه عن نبله، وهو المعروف عند أعيان البلاد وأولياء الأمور، وقد عرفناه رجلًا ظاهر النّجابة، بادي السّراوة، فصيح اللهجة، مهيب الطّلعة، كثير الوقار والحشمة، ذا أدب في غاية الغضاضة وخلق على جانب عظيم من الرّياضة… ([8]).

إلى جانب هذا التقدير البالغ الذي أعربت عنه الخاصة من رواد الفكر والزعماء الدينيين، لم يتوانَ رجل الشارع عن إظهار الاهتمام بذهاب وإياب هذا الرجل المرموق الذي نسى الناس أنه مازال سجينًا، وانعكس ذلك الاهتمام في تتبع الصحف والجرائد لحركته وسكونه. من ذلك ما ورد في جريدة بيروت: قدم من عكّا جناب العالم العلاّمة الفاضل السّيّد عبّاس أفندي، وقوبل من جانب العلماء والأهالي والوجوه بما يليق من الإكرام ([9]). ولم تُغفِل صحيفةُ ثمرات الفنون البيروتية هذه المناسبة فكتبت: قدم مدينتَنا معدنُ الفضل الكامل المكرّم حضرة عبّاس أفندي الإيراني، فاحتفل بقدومه أحبّاؤه ومعارفه، وأجَلَّ وجهاءُ القوم مثواه ([10]).

وبعد رحيل حضرته من بيروت نشرت جريدة بيروت: في أواخر الأسبوع الماضي سافر من ثغرنا حضرة العالم الفاضل والنّحرير الكامل فضيلتلو عبّاس أفندي الإيراني الشّهير قاصدًا عكّاء. وكان مدّةَ وجوده في بيروت موضوعًا لأحاديث أهل الفضل والأدب الّذين تقاطروا إلى زيارته لاستمداد السّمر في القمر. ولا غروَ في ذلك، فإنّ ما له من محاسن الصّفات قد استمال القلوب إليه وعقد خناصر الولاء عليه ([11]). أمّا جريدة لسان الحال البيروتية فقالت: أوحشَ ثغرَنا مساء الخميس حضرةُ العالم العلاّمة صاحب الفضل والفضيلة السّيّد عبّاس أفندي الإيراني بعد أن صرف بيننا نحوًا من شهر ونصف كأنّها لحظةٌ؛ فكان محورَ الكمال ومحطّ رحال الآداب، زاره كبارُ الثّغر وارتشفوا من سلسبيل معارفه. سهّل الله طريقَه كيفما سار وحيثما كان ([12]). وعادت ثمرات الفنون فنشرت: عاد إلى عكّا الأمجدُ الفاضل الكامل حضرة عبّاس أفندي الإيراني بعدَ أن أقام في بيروت مدّةً كان بها مكرّمًا محترمًا عند الكُبَراء والوجهاء وأهل الفضل. والحقّ يُقال إنّ حضرته استجمعت صفات الكمال والمروّة، حفظه الله ([13]).

وعقب نجاح حركة الإصلاح في تركيا وإكراهها السلطان عبد الحميد على التنازل، تحولت تركيا إلى دولة دستورية في عام ١٩٠٨ فتم الإفراج عن السجناء السياسيين – بمعنى السجناء الذين كبلهم السلاطين الطغاة بدون سبب قانوني – فاستعاد عبد البهاء حريته في التنقل خارج عكا وحيفا، وبرّ الشام عمومًا، فقصد حضرته بعد ذلك بعامين إلى مصر للاستشفاء. فكان موضع الحفاوة من كبار رجالاتها وحكّامها وعكست صحافتها الاهتمام نفسه الذي سبق أن أظهرته الصحافة اللبنانية حين زيارته لبيروت.

ومن أمثلة ذلك ما نشرته الأهرام عقب وصوله إلى بورسعيد بأيام معدودة تحت عنوان زعيم البابية في القطر المصري: وصل عباس أفندي زعيم البابية إلى بورسعيد منذ بضعة أيام تاركًا مقرّه في مدينة عكاء، فتوافد أتباعه الإيرانيون في القطر المصري إلى ثغر بورسعيد للتبرك برؤيته… وقد تضاربت الأقوال في سبب مجيئه فقال خصومه أنه ترك عكاء مخافة أن يناله أذى من الحكومة الدستورية… وينكر أتباعه هذه التهمة ويقولون أن ذلك مختلق… وهو قد جاء للتداوي بهواء مصر من ربو أصابه، ولابد أن تظهر الحقيقة من وراء جدال الفريقين وبحص الخصمين ([14]).

وكتب الشيخ الأزهري علي يوسف عميد الصحافة المصرية في جريدته المؤيد بعد أن استمتع بلقاء عبد البهاء مرتين: وصل الى ثغر الاسكندرية حضرة العالم المجتهد ميرزا عبّاس أفندي كبير البهائيّة في عكّاء بل مرجعها في العالم أجمع … وهو شيخ عالم وقور متضلّع في العلوم الشّرعية ومحيط بتاريخ الإسلام وتقلّباته ومذاهبه … وكلّ من جلس إليه يرى رجلًا عظيم الاطّلاع حلو الحديث جذّابًا للنّفوس والأرواح يميل بكليته الى مذهب وحدة الانسان … تدور تعاليمه وإرشاداته حول محور إزالة فروق التّعصب للدّين أو للجنس أو للوطن أو لمرفق من مرافق الحياة الدّنيوية… فنحن نرحب بحضرة هذا العالم الحكيم ونسأل الله أن يجعل مقامه في مصر محمودًا عائدًا عليه بالصحة والعافية، آمين ([15]).

ولكن مجيء عبد البهاء إلى مصر تميّز عن زيارته إلى بيروت في أنه لم يقتصر على مبادرة علية القوم بالاحتفاء بالزائر الكريم وإظهار الإعجاب بعلمه والإجلال لشخصه فحسب، بل أضاف إلى ذلك الاهتمام المتزايد للتعرّف على الأفكار الجديدة والمبادئ التي يدعو إليها عبد البهاء، فكان طبيعيًا أن يثور الخلاف بين المصريين تبعًا لتفاوت الأفهام ومدى استعداد القراء والسامعين لتقبل المفاهيم الدينية الجديدة، ودار جدل غير يسير على صفحات الجرائد بين المحبذين والمعترضين، تكشّف للناس من خلاله ما كانوا يجهلونه عن الدعوة البهائية، وأهدافها، والتعاليم التي تنادي بها.

فنشرت الأهرام كلمة بعنوان عباس أفندي رئيس البابية؛ شيء عن أخلاقه ومذهبه أقتطف منها ما يلي: لا يزال فضيلة عباس أفندي رئيس البابيين موضوع التجلة والاكرام في الأسكندرية، يزور ويزار من كبراء القوم والعلماء والأعيان فيها… إن عباس أفندي زائرنا الكريم، هو من عائلة عريقة في الحسب والنّسب في بلاد فارس، وهو ابن ساكن الجنان بهاء الله … وهو خليفة والده. أما أخلاقه وصفاته فهو مثال الرّصانة والشّهامة، وعنوان اللّطف وكرم الأخلاق، أبيّ النّفس، محبّ للخير والمبرّات، رقيق العواطف شريفها، يرأف بالفقير، ويواسي المسكين، ولا فرق عنده بين الأديان مهما تعدّدت فالمسلم، والمسيحي، واليهودي، والبرهمي، على السواء لديه ينظر إلى جامعتهم الإنسانية لا إلى مذاهبهم الخصوصية ([16]).

ولعل ما رواه الأستاذ عباس محمود العقاد بعد سنوات من ظهور كتاب عبد البهاء والبهائية عن لقائه مع عبد البهاء والحديث الذي دار بينهما يكشف عن اهتمام المصري المثقف في ذلك الوقت بالتحقق شخصيًا من صحة المبادئ التي تدعو إليها البهائية، لذا آثرت أن أطيل في الاقتباس مما رواه العقاد الذي كتب في مجلة الهلال عن اهتمام أهل الغرب بالبهائية فقال: ومن بين الأديان التي يتحدثون عنها ويكتبون في موضوعها كثيرًا في هذه الأيام دين البهائية الذي يضيف غرابة الجدة عندهم إلى الغرابة الشرقية، ويستقبل أحلام أفئدتهم بأمل لم يجربوه وقداسة عصرية تعجب الذين يهيمون بالقداسة ولا ينسون الهيام في هذا العصر بالمخترعات والعلوم. وقد اطلعت على مؤلف حديث في البهائية وقرأت بعض النبوءات التي يتنبأ بها كتابهم لهذا المذهب فأحببت أن أدون لقراء الهلال ذكرى قديمة تعلقت بخاطري من ذكريات زعيمه عباس عبد البهاء يوم أن كان في الاسكندرية قبل بضع عشرة سنة وكنت في بداية عهدي بدراسة الأديان والبحث في أمر العقائد.… وذهبت إلى الأسكندرية فلقيني صاحب مشغول بأمر الدين كان يتردد على عباس أفندي ويوده ويوشك أن يميل إلى عقيدته. فرغبني في زيارته وقال لي: إنك سترى بعينيك مبحثًا حيًا من هذه المباحث التي يسرك أن تطلع عليها في الكتب…

فلما دعينا إلى مجلسه إذا شيخ وقور أشيب يلوح عليه سمت الحنكة والعلم أكثر من سمت النسك والنبوءة، وإذا بحضرته كاتب قد انتحى بكرسيه جانبًا من الغرفة على مسافة خطوات يتلقى من عبد البهاء رسالة علمنا فيما بعد أنها مكتوبة إلى شوكت باشا وزير الحربية التركية. فحيانا تحية جميلة، وأشار إلينا بالجلوس فجلسنا ومضى يتم إملاء الرسالة حتى فرغ منها… وكانت السماء تمطر رذاذًا ثم تدفق المطر غزيرًا نحو نصف ساعة ثم همّ بالاقلاع، وكنا في غرفة – أو شرفة – مسورة بالزجاج مقفلة النوافذ نطل منها على حديقة الدار وننظر إلى الأشجار يتلاعب بها الهواء ويجلوها المطر فتزداد رواء ونضرة فنظر إليها عبد البهاء طويلًا ثم التفت إلينا وكأنه يفيق من سبات أو يوقظنا من سبات، وقال: سبحان الله! لكل شيء رزقه، فحيثما كان الشجر نزل إليه المطر

فقلت: أو حيثما كان المطر نبت هناك الشجر

فنظر إليّ متأملًا وقال: أو هو كذاك!

فقلت وفي نفسي عراك الآراء الكثيرة والأقوال المتضاربة يغريني بالجدل والاستقصاء: فأي القولين أقرب؟

فقال في نغمة لا تفارقها الأناة والسّكينة: كلاهما قريب، وكلاهما صحيح ثم صمت قليلًا وعاد يقول: ننظر إلى الأقوال من حيث تتفق لا من حيث تفترق، فنرى بين كل قولين صلة وإن ظهرا مختلفين متباعدين واسترسل في تلك النغمة التي لا تفارقها الأناة ولا يلوح عليها التعب: تعب الرجل الذي تكرر علمه بهذه الحقيقة مرات، وتكرر إرشاده الناس إليها مرات، فجعل يقول: كم من خلاف بين الناس هو أدنى إلى الوفاق! أليست الأديان كلها من معدن واحد؟ أليست الأمم كلها من عنصر واحد؟ ولكنهم يختلفون، لماذا؟ لأنهم لا يعرفون كيف يتفقون…وكأنه أحسّ نزعتي إلى التفسير الاقتصادي الذي كان غالبًا عليّ في تلك الفترة فقال: ولكن العالم الآن مستغرق في المادة ولا سبيل إلى السلام إلاّ من جانب الروح، العالم لا يطير إلاّ بجناحين جناح من المادة وجناح من الروح، وهو الآن بجناح واحد ويعوزه الجناح الآخر، فهو منقسم على نفسه لا يبلغ كماله حتى تتفق فيه المطالب المادية والمطالب الروحية، أمّا إذا سار حيث يسير الآن فستحل به وقانا الله وإياكم نكبة مرهوبة تزلزله حينًا وتفتح عينيه على الصراط المستقيم، ولكن بعد أهوال لا تطاق. ([17])

وكذلك نشرت مجلة العمران القاهريّة، بعد وفاة عبد البهاء مقالًا في تعداد أوصافه جاء فيه:

كان عباس أفندي ربعة القوام جليل المنظر مهيب الطلعة … يتدفق البِشر والحنان من أساريره، وتلوح الشّهامة والنّبل على سيماه، بحيث يشعر كلّ من واجهه بهيبة عظيمة وجلال باهر مع شدّة الذّكاء وتوقّد الخاطر، وحدّة الفؤاد ظاهرةً مشرقةً من مَرآه ومن كلماته وحركاته وقواه العقلية ومزاياه الادراكية وهيبة لا كسبية. عظيم الإخلاص نقيّ الضّمير. إبتسامته تسحر اللّبّ، ويجذب إليه القلوب. يمشي بخطىً واسعة كأنّه ملك عظيم أو راع بارّ في وسط رعيّته، بل أسد رابض في عرينه. وبالاختصار فقد كان قويًّا مقتدرًا متأنّيًا في عمله لطيفًا في معشره ليّنًا في خطابه كأنّه والد حنون في وسط أولاده. حركاته ومقابلاته وقيامه وجلوسه هي مظاهر القوّة والشّهامة والحرّيّة والاقتدار. فصيح اللسان عذب البيان مطيل الصّمت والتّفكير في مواضعه… وبالجملة فقد كان عظيمًا واسع الاطّلاع راقي الأفكار واقفًا على أفق يطلع من شرفاته العالية على ضعف العالم ومسكنته وقصوره بأسىً شديد وشغف يرفعه إلى أسمى درجات الشّعور الإنسانيّ بغير جدال ([18]).

وظهرت مجلة الأزهر في مارس ١٩٢٨ وعلى غلافها صورة عبد البهاء، وعلى صفحتها العاشرة الخاصة بالعلوم والمعارف مقال عن البهائية اقتطف منه فقرة وجيزة: ومن قول عباس أفندي أيضًا يحضّ على المكارم قوله: لا تسمحوا لأنفسكم أن تنم بكلمة على أحد ولو كان عدوًا لكم، ولتُسْكِتوا من ينم لكم على عيوب غيركم، وتحلوا بالصدق والوقار، ولتملأوا صدوركم بالآمال، كونوا مرهمًا لكل جرح، وماء عذبًا لكل ظامئ، ومائدة سماوية لكل جوعان، ومرشدًا لكل باحث، ونجمًا في كل أفق، ونورًا لكل مشكاة، ومبشرًا لكل نفس مشتاقة إلى ملكوت الله. ثم علّقت المجلة على تلك الوصايا بقولها: بهذه المبادئ سار المذهب البهائي وانتشر وأصبح له أنصار في كل قطر ومصر وأتباع تعدّ بالملايين. وقد مات عباس عبد البهاء في ٢٨ ربيع سنة ١٣٤٠ هجرية وترك وراءه تلك المبادئ السامية والتعاليم الإنسانية التي لو أخذ بها العالم لعاش في سلام دائم ووئام مستمر، تحدوه روح التعاون والإخاء. ([19])

ومن مصر سافر عبد البهاء إلى أوروبا وأمريكا وكندا تلبية لدعوة البهائيين في تلك البلاد ولإبلاغ أهلها حقيقة التعاليم التي جاءت بها البهائية، فلاقى فيها من جميع فئات الناس أضعاف أضعاف الترحيب والتبجيل الذي لقيه في بلاد الشرق، وتسابقت الجماهير للقائه والاستماع إليه في معالجته لمشاكل العصر ومستقبل الإنسانية ووحدة الأديان في اجتماعات خاصة وعامة، عقدت في البيوت والنوادي ودور العبادة والجامعات. وقد جاء وصف في جريدة الأهرام لاستقبال بلاد الغرب لحضرته بقولها تحت عنوان زعيم البهائية في أوروبا: بعد أن أقام حضرة الحبر عباس أفندي زعيم البهائية مدة غير قصيرة في القطر المصري وكتب عنه مراسلونا الشيء غير اليسير، سافر إلى أوروبا فقابلته صحفها بالفصول الطويلة وتوافد عليه الناس جماعات جماعات، وزاره العلماء ليعرفوا من هو، وقد تلقينا اليوم مع البريد الأوروبي رسالة من أحد كبار المستشرقين من تونون ننشرها بحروفها ليقف الرأي العام الشرقي على حال هذا الزعيم… ([20])

وعادت الأهرام بعد شهرين تقريبًا لتعلن إلى قرائها عن وصول عبد البهاء إلى العاصمة الفرنسية فقالت: وصل حضرة الزعيم الأكبر للطائفة البهائية السيد عباس أفندي إلى باريز عائدًا من لوندرة حيث صرف مدة وشغلت به صحافتها… ولما حل بباريز تكلمت صحفها الكبرى عنه كثيرًا وقد طالعنا في تلك الصحف أقوالًا شتى فيه وفي دعوته، ومما يستحق الذكر الخطاب الذي ألقاه في كنيسة سان جورج [وصحته كنيسة سان چان] الكبرى في لندرة ننشره هنا كما جاءنا من أحد الأدباء المستشرقين هناك… ([21])

أما تنقلاته بين مدن الولايات المتحدة وكندا والكلمات التي ألقاها في كل منها فهي تحتاج إلى كتاب خاص بها، ولكن الجدير بالإشارة إليه في هذه المقدمة المختصرة هو احتفاء الشباب العربي المقيم في تلك البلاد وعلى رأسهم الأساتذة جبران خليل جبران وجورج جريج وباقي أعضاء جمعية الحلقات الذهبية بعبد البهاء. وقد دعت الجمعية حضرته للتحدث في حفل أقامته تكريمًا له يوم ٢٦ أيار/مايو ١٩١٢ كتب سليم رستم وصفًا له قال فيه: عند الساعة التاسعة والدقيقة الثلاثين من صباح الأحد ٢٦ من الجاري غصت القاعة الكبيرة الواقعة تحت الرقم ٧٢٤ شارع وشنطون بجماهير السوريين والأميركيين، وإذ امتلأت المقاعد اضطر الكثيرون إلى الوقوف وكان عدد الواقفين يربو على الجالسين. ودخل القاعة عباس أفندي بصحبة ترجمانه الدكتور أمين أفندي فريد، والدكتور جورج أفندي جريج رئيس الكرسي بالنيابة عن جمعية الحلقات الذهبية، فعلا تصفيق الحاضرين فحياهم الإمام عند وصوله إلى دكة الخطابة. ثم وقف الدكتور جورج أفندي جريج وافتتح الحفلة مرحبًا بالإمام وتطرق إلى ذكر فذلكة من تاريخ المبدأ البهائي وخلاصة مراميه ومقاصده فقوطع مرارًا بالتصفيق، ثم قدم إلى الحضور خطيب الحفلة عباس أفندي فكان للإمام ضجة ترحاب واستحسان فوقف واندفع بفصاحته المعهودة ذاكرًا كيف أن حقيقة الأديان هي واحدة لم تختلف عن بعضها إلاّ بالتقاليد التي وضعها البشر لها، وعدّد فوائد الإخاء والسلام بين عموم البشر… ([22])

كما نشرت جريدة المهاجر مقالا للأديب توفيق أفندي مفرّج تحت عنوان كلنا بهائيون الذي أقرّ في بدايته أنه إبان سنوات دراسته شعر بالأسف لوجود طلبة بهائيين بينهم، ولكنه عاد في ختام المقال ليقول: بعد أن رأيت كل هذا – بعد أن شاهدت أعماله الفاضلة السامية كدت أن لا أصدق أن هذا هو عبد البهاء عباس أفندي الذي سجنه عبد الحميد أربعين سنة في عكا. أرجلٌ كهذا يُسجن؟ لا لعمري. ([23])

إنّ الأمثلة الّتي ذكرتُها آنفًا هي نزر يسير من جمّ غفير، جمع بعضًا منها الأستاذ سليم قبعين في كتابه الذي بين أيدينا الآن، وهو خير شاهد على أن الذي قلّب قلوب الناس من حوله في عكا وفلسطين أولًا، ثم في بقاع العالم الأخرى فأحال كثيرًا من أعدائه إلى أحباء مخلصين يدينون بالمودّة والولاء لشخصه ويكنون الاحترام والتقدير للمبادئ والتعاليم التي دعا إليها – هذا الإنسان لابد أن يكون مؤيدًا بشديد القوى.

أمّا الكاتب الذي جمع وثائق هذا السجل التاريخي والسفر العظيم – إن كان هناك من لم يعرفه – فهو كاتب وأديب ومترجم فلسطيني ولد في مدينة الناصرة في عام ١٨٧٠ وتخرج من دار المعلمين الروسية بتلك المدينة، واشتغل فيها بالتعليم، ولكن ولوعه بالاطلاع والقراءة جذبه إلى الأدب والصحافة فكان ينشر كتاباته في مجلة الجامعة التي أسسها آنذاك انطون فرح في مدينة الإسكندرية.

وانضم سليم قبعين في شبابه في ظل الحكم العثماني إلى حركة المعارضة العربية، وفي سنة ١٨٩٧ لجأ إلى مصر لأسباب راجعة إلى نشاطه السياسي، وعمل بتدريس العربية في عدد من المعاهد والمدارس المصرية بينما واصل نشر مقالاته في المقطم، والمؤيد، والأخبار، والمحروسة، وقدم في هذه المقالات إلى القارئ العربي لمحات من الأدب الروسي الذي كان أول من ترجمه إلى العربية مباشرة من اللغة الروسية. كما ترجم عدة كتب للأديب الروسي تولستوي الذي تأثر بأفكاره إلى حدّ بعيد. وأصدر في القاهرة عددًا من الصحف مثل الأسبوع، وعروس النيل، والإخاء. وعلاوة على هذا اشتغل سليم قبعين أيضًا بالتأليف، ومن مؤلفاته: كتاب الدستور والأحرار، والسلطان حسين بمناسبة توليه السلطة، والدعوة البهائية ومؤسسوها، وتاريخ الحرب العثمانية الإيطالية. وتوفاه الله بعد حياة غنية بالانتاج في سنة ١٩٥١.

ومن بين الكتب الّتي عني بتأليفها سليم قبعين كتاب عبد البهاء والبهائية الّذي نشرته أولًا مطبعة العمران بمصر عام ١٩٢٢، وهو هذا الكتاب الذي أصبح الآن في متناول قرّاء العربيّة في حلّته الجديدة. ومما يزيد من أهمية هذا الكتاب أن مؤلفه فاز بمعرفة عبد البهاء شخصيًا وعكف على دراسة المبادئ والتعاليم التي كان يدعو إليها، ولهذا فإن كلماته تعبّر عن مشاعر حقيقية. واهتمامه بتعريف القارئ العربي بشخص عبد البهاء ومبادئ الدعوة البهائيّة لاشك عندي أنه صادر عن نية صادقة خالصة، ورباط قوي بأبناء أمته، فما أشبه كتابه هذا بوصية أرادها أن تبقى مفتوحة للأجيال الآتية من بعده.

وفي ختام هذه المقدمة لا يسعني إلاّ أن أسأل الله تعالى الرحمة للكاتب الموهوب الذي ترك لأجيالنا هذا الأثر العظيم، وأن ألتمس العذرمن القارئ فيما يجده من أوجه القصور في تقديمي لهذه التحفة الثمينة، فأنّى لقلم بشري أن يعلو في تعبيره، ويصفو في وصفه، على نحو يناسب – ولو بأضعف وجوه المناسبة –مثالًا أعلى للكمالات الإنسانية، ويلائم شخصًا ملكوتيًا، نظير عباس عبد البهاء.

١٤ كانون أول/ديسمبر ٢٠٠٦

محسن عنايت

[1]        بهاء الله، آثار قلم أعلى، جلد أول، ط.٣ كتاب مبين (أوتاريو كندا، مؤسسة المعارف البهائية) ١٩٦٦،ص ٨٥.

[2]        شكيب أرسلان، حاضر العالم الإسلامي، تأليف لوثروب ستودراد، (القاهرة) ١٣٥١ هجري، المجلد ٢، الجزء ٣، ص ٣٥٨.

[3]        شكيب أرسلان، المرجع السابق.

[4]        شكيب أرسلان، المرجع السابق.

[5]        شكيب أرسلان، المرجع السابق.

[6]        محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (القاهرة) ١٩٣١، ص ٤٠٧.

[7]        محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام (القاهرة) ١٩٣١، ص ٩٣١.

[8]        محمد عبده، جريدة الأهرام، عدد ١٨ يونيو/ حزيران ١٨٩٦.

[9]        جريدة بيروت لصاحبها محمد رشيد الدّنا، عدد ٢٨ حزيران/ يونيو ١٨٨٧.

[10]       صحيفة ثمرات الفنون لصاحبها عبد القادر قبّاني، عدد ٢٨ حزيران/ يونيو ١٨٨٧.

[11]       جريدة بيروت عدد ٩ آب/ أغسطس ١٨٨٧.

[12]       جريدة لسان الحال لصاحبها خليل سركيس، عدد ١١ آب/ أغسطس ١٨٨٧.

[13]       صحيفة ثمرات الفنون، عدد ٩ آب/ أغسطس ١٨٨٧.

[14]       جريدة الأهرام، عدد ١٩ سبتمبر/ أيلول ١٩١٠.

[15]       جريدة المؤيد لصاحبها الشيخ علي يوسف، عدد ١٦ أكتوبر/ تشرين أول ١٩١٠.

[16]       جريدة الأهرام، شكري نصر، عدد ١٩ يناير/ كانون ثاني ١٩١١.

[17]       عباس محمود العقاد، ساعة مع عبد البهاء، مجلة الهلال، أول يناير/ كانون ثاني ١٩٣٠، ص ٢٧٢–٢٧٥.

[18]       عبد المسيح انطاكي بك، مجلة العمران، الجزء السادس، المجلد ١٢، يونيو سنة ١٩٢٢،

ص ٣٦١–٣٧١.

[19]       مجلة الأزهر، عدد ٥ مارس ١٩٢٨، ص ١٠–١١

[20]       جريدة الأهرام، عدد ٩ سبتمبر ١٩١١

[21]       جريدة الأهرام، عدد ٣ نوفمبر ١٩١١

[22]       نقلًا عن جريدة النهار عدد ١١ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٨٤

[23]       جريدة المهاجر، نيويورك أول أيار/ مايو ١٩12

الباب والبابية والبهاء والبهائية

بقلم العالم العلاّمة المرحوم ميرزا أبو الفضل رحمه الله([1])

لا يخفى أنّ المؤسس للبابية رجلان من أهل الشرق وهما الباب وبهاء الله. أمّا الباب فهو شريف من أهل شيراز عاصمة فارس، إسمه ميرزا علي محمد، ولد في غرّة محرم سنة 1235 هجرية، من عائلة معروفة بالسادة الحسينية من أهل التجارة. وتوفّي والده ميرزا محمد رضا قبل فطامه وربي في حجر خاله الحاج مير سيد علي التاجر الشيرازي، وكان منذ طفوليته مواظبًا على العبادات، مداومًا على الصلوات، فلمّا ترعرع وشبّ اشتهر بالتقوى والورع، وكان جميل الوجه كثير الوقار ظاهر المهابة بادي النجابة. واشتغل بالتجارة مع خاله المذكور في مدينة بوشهر وشيراز، وسافر قبل إظهار دعوته إلى العراق لزيارة مشاهد الأئمة كما هو معهود من الشيعة، ومكث في العراق أقلّ من خمسة أشهر وهناك كان أول اشتهار اسمه بين الجمهور.

فلمّا رجع إلى شيراز وبلغ سنّه الخامسة والعشرين ادّعى أنّه الباب([2])، وذلك في الخامس من جمادى الأولى سنة 1260هجرية. وأول من صدّقه وآمن به (ملاّ حسين) الشهير الملقّب عند البابية بباب الباب وهو من أهل بشرويه من بلاد خراسان. وهكذا تتابع عليه إقبال الرجال حتّى بلغ عددهم 18 نفسًا فسمّاهم بحروف حيّ([3])، وأمرهم بالتوجّه إلى بلاد إيران والعراق وتبشير العلماء بظهوره ودعوتهم إلى اتّباعه، وحثّهم على كتمان اسمه حتّى يعلنه هو بنفسه في وقته.

وتفنّن المفسرون لاسم الباب كلّ على ما توهمه رجمًا بالغيب كما يستفاد ممّا ذكرته الجرائد المصريّة حديثًا، فبعضهم فسّره بباب العلم وبعضهم بباب السّماء، وبعضهم بباب الحقيقة. ولكن المستفاد من كتبه أنّه هو القائم المبشّر بقرب نزول المنقذ المجيد. ودخول العالم في طور جديد ولهذا اشتهر أتباعه بالبابية وذاع صيتهم بهذا اللقب في الممالك الإسلامية.

ولمّا أتى موسم الحج، توجّه إلى مكّة، وبعد فراغه من أعمال الحج أعلن دعوته في المجمع الكبير، فاشتهر اسمه وذاعت دعوته وعلا صيته. ورجع إلى إيران ونزل في مدينة بوشهر على خليج العجم، فقبض عليه والي فارس (حسين خان) الملقّب بنظام الدولة. وبقي محبوسًا في مدينة شيراز عدّة شهور حتّى حدث في بلاد فارس وباء شديد ففرّ أكثر الأهالي وغفلوا عن حراسته فرجع إلى بيته وسافر إلى إصفهان ونزل في بيت إمام الجمعة (مير سيّد محمد) الملقّب بسلطان العلماء. وكان والي إصفهان إذ ذاك الأمير الشهير معتمد الدولة (منوچهر خان) فانجذب من حسن بيانه ومال إليه واعتقد به. وكتب الباب كتابه الموسوم بالنبوّة الخاصّة في خصائص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بطلب منه. وكتب أيضًا كتابه الموسوم بتفسير سورة الكوثر بطلب سلطان العلماء. وكان الباب يرتجل في خطبه ورسائله حتّى قيل أنّه كان يكتب في أربع ساعات ألف سطر بالعربية أو الفارسية على غاية من جودة الخط وحسن الأسلوب. ووقعت بينه وبين العلماء مناظرات أكثرها مدوّن في الكتب التاريخية، فأدهشتهم بقوّة قريحته وسرعة قلمه وحسن بيانه. فحدث بين العلماء اختلاف كبير في أمره وهيجان شديد. منهم من صدّقه وآمن به مثل محمد تقي المدرس الهروي وحبيب الله العلويّ، ومنهم من حكم بجنونه مثل مير سيد محمد وأتباعه. والأكثرون أفتوا بتكفيره ووجوب قتله مثل محمد مهدي الكلباسي وأضرابه، فنقله الوالي من بيت سلطان العلماء إلى بيته وأخفاه وأظهر أنّه أرسله إلى طهران بأمر المرحوم محمد شاه، فبقي مختفيًا في بيت منوچهر خان حتّى توفّي وتولّى ابن أخيه (ميرزا گرگين خان) على إصفهان، فأرسل الباب بأمر المرحوم محمد شاه إلى طهران فلمّا صار على نحو مرحلة من طهران أرسلوه إلى آذربيجان وبقي محبوسًا في چهريق وماكو، وهما قلعتان من قلاع آذربيجان، حتّى توفّي المرحوم محمد شاه وجلس على تخت إيران جلالة ناصر الدين شاه.

وفي أثناء ذلك، اشتدّت الخصومة بين أتباع الباب وعلماء إيران وولاة الأمور فقاموا يدًا واحدة على البابيين واتفقوا على لزوم إبادتهم. فاشتبكت الحرب بينهم في بلاد مازندران وزنجان وتبريز.

وخلاصة هذه الوقائع أنّ ملاّ حسين المذكور آنفًا، سافر مع أصحابه من خراسان قاصدين كربلاء من بلاد العراق، ولحق بهم الحاج ميرزا محمد علي المازندراني الملقّب عند البابية بالقدّوس. وملاّ محمد صادق الخراساني الملقّب عند الشيعة بالمقدّس، وهما من العلماء المشهورين، فعقدوا أعلامًا سودًا ورحلوا. فلمّا وردوا إلى ساري عاصمة مازندران حكم ملاّ سعيد أكبر علماء البلد بوجوب محاربة البابيين وإبادتهم. فالتجأوا إلى مقبرة الشيخ طبرسي، أحد العلماء المشهورين، وحصّنوها وقاموا للمدافعة. وكان عدد البابيين 313 نفسًا. وحصل بينهم مناوشات كان الفوز فيها للبابيين. فصدر الأمر من الدولة لعباس قلي خان السردار اللاّريجاني بمحاربة البابيين، فحاربهم هو ومهدي قلي ميرزا والي مازندران بالمدافع والجنود المنظّمة، وأوقع بهم البابيون وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، فتتابعت عليهم العساكر والمدافع وامتدّ الحصار وقتل في أثنائها رئيسهم ملاّ حسين. واشتدّ عليهم الجوع، وأخيرًا أمّنهم الوالي والسردار وخرجوا وسلّموا أسلحتهم، فأحاطت بهم العساكر وقتلوهم بالرصاص جميعًا، إلاّ رئيسهم الملقّب بالقدّوس، وبعض خواصه فأرسلوا إلى مدينة ساري، وقتلهم ملاّ سعيد كبير العلماء، باتّفاق الطلبة وأحرق جثثهم.

وكذلك في مدينة زنجان، اشتدّ الخصام بين البابية وعلماء الشيعة، وكان زعيم البابيين الحاج ملاّ محمد علي الزنجاني أحد العلماء المشهورين وكان الوالي أمير أسلان خان، الملقّب بمجد الدولة خال ناصر الدين شاه المرحوم. فعمل الوالي بإغراء علماء الشيعة على إبادة البابية واشتباك القتال بينهم، واشتدّ الأمر على الوالي فأرسل إلى طهران، فأرسلت له العساكر والمدافع حتّى قتل زعيم البابيين، وفني رجاله عن آخرهم وأرسلت بقية منهم إلى طهران فقتلوا هناك.

وفي مدينة تبريز، من مدن فارس، اشتبكت الحرب بين الحزبين، وكان رئيس البابيين العالم الشهير السيد يحيى الدارابي بن السيد جعفر الكشفي، صاحب المصنّفات كسنا برق وتحفة الملوك وغيرهما، فآل الأمر إلى قتل السيد يحيى وأصحابه بعد تأمينهم.

فلمّا توفي المرحوم محمد شاه سنة 1848 ميلادية، وجلس على التخت جلالة ناصر الدين شاه في العاشر من سبتمبر من تلك السنة، كانت إيران إذ ذاك مصدر القلاقل والفتن بسبب سوء تصرّف أتراك الإيروان المستولين على المناصب في صدارة حاجي ميرزا آقاسي، وأعلن والي خراسان محمد حسن خان، الملقّب بسالار، العصيان على الدولة، وادّعى المُلك، وعقد صلحًا مع أمراء الأفغان وبخارى وتركمان. وازدادت هذه القلاقل بظهور البابية وما وقع بسببهم من المحاربات الدموية، فعزم ميرزا تقي خان، الصدر الأعظم على قتل الباب، وظنّ أنّه يتمكّن من إبادة البابية بقتل رئيسهم. فأصدر أمرًا بقتلهم إلى حشمة الدولة حمزة ميرزا والي تبريز وهو عمّ جلالة ناصر الدين شاه، فأبى هذا وقال ‘ساء ظنّي، وخاب أملي، فإنّي كنت آملًا من دولة إيران أنْ تأمرني بمحاربة دولة من الدول الكبيرة. وما ظننت أبدًا أنّها ستأمرني بقتل أحد أتقياء أولاد الرسول الذي ما فات منه نافلة من النوافل الدينية، ولا أدب من الآداب العالية الإنسانية.’ فأمر الصدر الأعظم أخاه ميرزا حسن خان رئيس عساكر آذربيجان بقتل الباب. فعلّق في ميدان تبريز وقتل بالرصاص في 28 شعبان سنة 1266 هجرية.

فلمّا قتل الباب زاد اشتهار تعاليمه، وكذلك زاد اضطهاد أتباعه. واشتهر من بعض رؤسائهم دعاوى مختلفة من قبيل النبوّة والوصاية والولاية والمرآتية وأمثالها. فاختلفت آراؤهم وتشتت أهواؤهم، وسقط كثير منهم في الضلالات، وانهمك بعضهم في المنكرات والموبقات، وزاد الطين بلّة، أنْ أطلق شاب إسمه محمد صادق التبريزي رصاصة على جلالة ناصر الدين شاه سنة 1268 هجرية، حينما خرج جلالته للصيد من قصره في قرية نياوران، وهي على ساعتين من طهران، فاشتدّ الأمر في طهران وسائر البلاد على البابيين. فقبضوا على المتّهم والبريء والمطيع والعاصي، وقتلوا كثيرين منهم بأشدّ أنواع القتل وأفظعها. ومن جملة من قتل في هذه الحادثة المرأة الشهيرة (قرة العين) وهي بنت حاجي ملاّ صالح أكبر علماء قزوين، وكانت أعجوبة عصرها في العلم والفصاحة وحسن البيان وطلاقة اللسان، وكانت منتمية إلى الشيخيّة، مكبّة على مطالعة الكتب الكلامية، فلمّا ظهر الباب وانتشرت رسائله، اعتنقت مذهبه وصارت من أعظم أنصاره، وكانت إذ ذاك في مدينة كربلاء، فناظرت علماءها فأفحمتهم بقوّة فصاحتها وغزارة علمها، فحدث هيجان عظيم بين علماء العراق، فاضطّرت أنْ تمضي إلى بغداد، ونزلت مع بعض خواصها وحاشيتها في بيت ابن الآلوسي الشهير مفتي بغداد (وهو مصنّف كتاب تفسير روح المعاني المطبوع ببولاق) ومكثت في بيته نحوًا من شهرين وناظرت علماء بغداد، فعرضوا حالها على الآستانة، فرجعت إلى إيران بأمر السلطان المرحوم عبد المجيد خان. فلمّا بلغت بلاد إيران ناظرت علماء كرمانشاه وهمدان، ووردت إلى قزوين وسكنت في بيت والدها حتّى قُتل عمها في قزوين، فمضت إلى طهران ونزلت في بيت الشارع الشهير (بهاء الله)، فقُبض عليها بعد مدّة وبقيت محبوسة في طهران حتّى حدثت حادثة سنة 1268 هجرية كما ذكرنا آنفًا، فقُتلت خنقًا وألقيت جثّتها في بئر في الجنينة المعروفة بباغ إيلخاني.

قال ابن الآلوسي: القرّتيّة أصحاب امرأة أسمها هند، وكنيتها أم سلمة، ولقبها قرّة العين، لقّبها بذلك السيّد كاظم الرشتي في مراسلاته لها، وهي ممّن قلّدت الباب بعد موت الرشتي، ثم خالفته في عدّة أشياء منها التكاليف، فقيل إنّها كانت تقول برفع التكاليف بالكلّيّة، وأنا لم أحس بشيء من ذلك مع أنّها بقيت في بيتي نحو شهرين. وكم من بحث جرى بيني وبينها، ورفعت فيه التقيّة والبين. وقد رأيت فيها من الفضل والكمال ما لم أره في كثير من الرجال. وهي ذات عقل واستكانة ومزيد حياء وصيانة. وقد ذكرنا ما جرى بيننا من المباحثات في غير هذا المقام، وإذا وقفت عليه تبيّن أنّ ليس في فضلها كلام، إلى آخر قوله.

وقد خلّف الباب رسائل كثيرة وكتبًا مدوّنة بالفارسيّة والعربيّة، منها ما ذكرناه ومنها الرسالة العدليّة في الفرائض الإسلامية، ومنها تفسير سورة البقرة، وأحسن القصص، وكتاب أسماء كلّ شيء، ومنها البيان الفارسي. وأورد عليه أعداؤه أنّ كلامه خارج عن الفصاحة وفيه ما يخالف القواعد النحويّة. وقيل أنّه لمّا انتقدوا عليه هذا الانتقاد أجاب بأنّ الكلمات كانت مقيّدة، فلمّا ظهر أطلقها من القيد… ولكنّي رأيت في كتاب البيان أنّه أجاب عن هذا الإيراد أولًا بأنّه ما قرأ النحو والصرف، وما تعلّم في المدارس، وما ادّعى أنّه من أهل العلم بل إنّه شاب فارسي أُمّيّ مأمور من ربّه ملتهم بمعارفه، وثانيًا بأنّ منكري القرآن انتقدوا على رسول الله عليه السلام بأمثال هذه الانتقادات، واستشهد ببعض الآيات القرآنية التي انتقدوا عليها بأنّ فيها ما هو مخالف للقواعد النحوية والأصول اللغوية. والحقّ يقال أنّ كتب الباب وبهاء الله ورسائل فرعه الكريم عباس ليست ممّا ينتقد عليها بأمثال ذلك.

وللباب حسابات دقيقة ليس هنا مقام تفصيلها، مثلًا عبّر عن العدد 19 بالواحد، تطبيقًا على حساب الأبجدية، وبحاصل ضربه في نفسه بعدد كلّ شيء، وبنى على هذا العدد تواريخ أيّامه وطبقات أصحابه وأبواب كتبه والسنين والآداب المنسوبة إلى طريقته. وله أحكام صعبة صارمة قلّما يمكن أنْ يُعمل بها، نقّحها وأصلحها بهاء الله كما سنبيّنه.

وأمّا بهاء الله، وإسمه ميرزا حسين علي، فولد في 2 محرّم سنة 1233هجرية، ووالده ميرزا عباس الملقّب بميرزا بزرگ النوري، كان من كبار وزراء دولة فتح علي شاه. والعائلة النوريّة من العائلات الشهيرة ببلاد إيران.

فلمّا قام الباب واشتهر ذكره، صدّقه بهاء الله، فاشتدّ به أزر البابيين، وعلت كلمتهم وكثرت جماعتهم وانتشرت تعاليمهم في طهران ومازندران. وكان بينه وبين الباب مراسلات سرّيّة، كان الواسطة فيها ميرزا عبد الكريم القزويني كاتب ألواح الباب، فلمّا حدثت حادثة سنة 1268، كما ذكرنا، قبض على بهاء الله، وسجن نحو أربعة شهور، وحوكم بمحضر جمع من الوزراء. وكان سفير روسيا يدافع عنه، فلمّا ثبتت براءته من تهمة الاتفاق مع الخارجين على الشاه، أمر الشاه بالإفراج عنه وإبعاده إلى العراق. فخرج من طهران مصحوبًا ببعض عساكر إيران، تراقبه بعض فرسان سفارة الروس حفظًا له من الاغتيال أثناء الطريق، حتّى ورد بغداد سنة 1269 هجرية. ولمّا أقام في بغداد، اشتدّ أزر البابيين به، وطابت مناهلهم بوروده. فإنّه كان على جانب عظيم من الوقار والمهابة والدعة، فأخذ في تهذيب ما فسد من أخلاقهم، وإصلاح ما انحرف من أعمالهم، وجمع كلمتهم، وأشهر دعوتهم، فطار صيته وانتشرت رسائله، وطالت إقامته في العراق نحو 12 سنة، حتّى ظهرت حزازات وضغائن في صدور بعض الإيرانيين المقيمين في العراق. واشتعلت بين الحزبين نار العداوة والشقاق، فآل الأمر إلى إرسال بهاء الله إلى الآستانة بأمر السلطان المرحوم عبد العزيز خان. وبعدما مكث فيها نحو أربعة أشهر، أُمر بالمسير إلى مدينة أدرنة من بلاد روملي، فتوجّه إليها وأقام فيها نحو خمس سنين. وجدّ في نشر تعاليم البابيين حتّى تكرّرت العداوة، وتكرّرت الشكاية، فصدر الأمر بنفيه إلى عكاء من بلاد الشام، فتوجّه إليها مع أهل بيته وخدّامه سنة 1285 هجرية.

ولم ينثن عزمه عن تقويم أتباعه، وتهذيب أخلاقهم مع ما لحقه من الاضطهاد، فسنّ لهم سننًا عادلة، وقرظ آذانهم بمواعظ حسنة، فوشّح رسائله التي زادت عن الألف عدة بأحسن المواعظ والنصائح، وزيّنها بأجمل الأمثال والشواهد، ففرض عليهم تربية الأطفال ذكورًا وإناثًا بالعلم والأدب والاهتمام بتعميم المعارف وتوسيع نطاقها حتّى قيل أنّه أدخل المعلمين في طبقات الورثة، وكذلك فرض عليهم الاشتغال بالصناعة والتجارة، ونهاهم عن الكسل والبطالة، وأمرهم بحبّ الخلق على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، وعلّمهم أنّ الأديان شرعت للمحبّة والوفاق، فلا يجعلنها سببًا للعداوة والافتراق، وحثّهم على إطاعة الملوك والرضوخ للقوانين الدولية ومنعهم من الدخول في الأمور السياسية، وصرّح في كتبه بأنّ سلطة الملوك سلطة سماوية ومنحة إلهية، ولذا منعهم عن التكلّم بسوء في حقّ الملوك والأمراء، وفرّق بين المعاملات والعبادات، فأرجع حكم العبادات إلى الكتاب، وحكم المعاملات إلى المجالس العدلية، ونهى عن تأويل الكتاب، وكذلك منعهم عن اللعن والسبّ والشتم والغيبة والافتراء والقتل والزنا وعن كلّ ما يخالف الإنسانية ويحدث القلق والاضطراب في الهيئة الاجتماعية، حتّى منعهم عن حمل الأسلحة إلاّ بإذن الدولة، ومنعهم عن المتعة والتّسرّي وأمرهم بالاكتفاء بزوجة واحدة، وأنْ لا يتجاوز اثنتين البتّة، وصعّب عليهم الطلاق، وعندهم الصوم والصلاة والحج والزكاة على حسب ما فصّل لهم في الكتب الدينية، فنجح في بثّ تعاليمه وتحسين أخلاق شعبه إلى أنْ توفّي في 29 أيار سنة 1892 ميلادية، موافقًا لثاني ذي القعدة سنة 1309 هجرية.

وأول من دوّن وقائع البابية هو ميرزا تقي المستوفي الكاشاني، الملقّب بلسان المُلك، مصنّف كتاب ناسخ التواريخ، فإنّه ذكر في تاريخه المخصوص بالقاجارية واقعة ظهور الباب وحوادثها، موافقًا لما اشتهر عنها عند البابيين فنسبهم إلى الفساد والإلحاد، وذكر عنهم أمورًا تنفر منها القلوب وتشمئز منها النفوس، لأنّه في أيام اضطهاد البابيين اجتهد المعاندون لهم في بث المفتريات عليهم، ورموهم بالإباحة وفساد الأخلاق، فما أبقوا قبيحًا إلاّ نسبوه إليهم، ولا رذيلة إلاّ وصفوهم بها، فكثرت الإشاعات وقلقت الأفكار، فأشكل أمرهم على الأوروپيين، فقام جماعة من أهل الفضل والإنصاف منهم لكشف عقائد البابية ومعرفة عاداتها، منهم العالم الفاضل مستر إدوارد براون معلّم اللغات الشرقية في جامعة كمبردج، سافر هذا العالِم إلى إيران سنة 1305 هجرية، وعاشر البابيين وأخذ شيئًا من كتبهم، وسافر من إيران إلى الشام، ودخل عكاء ولقي بهاء الله، فرجع إلى أوروپا ونشر ما رآه في المجلات العلمية، وكذلك الأستاذ براون روزن أحد الأساتذة في مدارس بطرسبرج، ترجم بعض رسائل بهاء الله ونشرها في بلاد روسيا وسائر أوروپا، ومنهم الكابتن الكسندر تومانسكي، أحد الضباط، سافر إلى مدينة عشق آباد، ومنها إلى إيران، وعاشر البابيين، وعرف عاداتهم وأخلاقهم وشرع في تأليف تاريخهم.

وكذلك قام بعض أفاضل الشرقيين لتدويين وقائعهم منهم ميرزا محمد حسين الهمذاني، صاحب كتاب التاريخ الجديد، وهذا سافر مع جلالة ناصر الدين شاه في سفره الأول إلى أوروپا، وعند عودته أتى الآستانة، وعرف شيئًا عن الطريقة البابية، فلمّا رجع إلى إيران، صنّف تاريخه المذكور، وترجم إلى الفرنسوية والإنجليزية في أوروپا. ومنهم المؤرّخ السائح أبو الفضل محمد بن محمد رضا الجرفادقاني نزيل بخارى، مصنّف كتاب فصل الخطاب. وأمّا لسان المُلك المذكور صاحب التاريخ الكبير ناسخ التواريخ فقد عدل لهجته نوعًا في هذا الكتاب عند ذكر حوادث البابية وما كتبه عن وقائع البابية في أصل ناسخ التواريخ أقرب إلى الحقيقة ممّا كتبه في المجلّد المخصوص بالقاجارية. وستكشف الأيام عن غرائب وقائع البابية ما سترته الأغراض السياسية، وفي هذا كفاية لمن أراد التحقيق. والله ولي الهداية والتوفيق.

[1]        نشرت بمجلة المقتطف الغراء.

[2](2)   الباب عند الشيعة نائب المهدي المنتظر.

[3]        لأن عددهما بالأبجدية 18.

عبدالبهاء عباس أفندي

نجل حضرة البهاء ومركز عهده وميثاقه

(بقلم حضرة الكاتب الفاضل توفيق أفندي غريب)

تنتهي هذه الحركة في زعامتها على عبد البهاء عباس أفندي فكان بعد صعود والده إلى جوار ربّه قطب دائرة البهائية، والوصيّ الأمين لحضرة بهاء الله الذي عهد إليه بتولّي أمر القيادة بعده، وأمر الطائفة بالرجوع إليه والإذعان إلى أوامره لذا كان مركز عهده وميثاقه، والقائم بنشر التعاليم البهية، وتوضيح ما غمض منها على الأفهام، وفضّ ختم ما استعصى فهمه على سائر الناس من معالي الكتب السماوية، ومرجع الخاصّ والعام، ورأس الدعاة إلى الألفة والوئام، ورافعي ألوية السلام العامّ بين الأنام.

ولد عباس أفندي بمدينة طهران عاصمة المملكة الإيرانية في ربيع سنة 1844 ميلادية، لمنتصف ليلة اليوم الذي أعلن الباب في مسائه دعوته، وإن زمن طفولية عباس أفندي وشبابه، كانا خارقين للمعتاد من كلّ الوجوه، وإنّه لم يكد يناهز العقد الأول من سني حياته حتّى بدا عليه من مخايل النجابة والفطنة الوقّادة، والشجاعة والثبات والشهامة ما لا يكاد يوجد في أبناء هذا السن، ولم يصبُ إلى اللعب والتسلّي كسائر الأولاد، ولم يذهب إلى المدرسة لطلب العلوم كسائر الناشئين، غير أنّه كان يهتم بركوب الخيل حتّى أتقنه. سألت الكونتيس كنفارو عباس أفندي عمّا كان شديد التّعلّق به حين الصباوة، فأجاب قائلًا: ‘كنت شديد الولوع بسماع وقراءة ألواح الباب، وكان من عادتي حفظها لفظيًا ومعنويًا بهذا كان غرامي في أيام الصغر’. ولمّا سُئل هل طلب تسلية أجاب: ‘ركبت الخيل في بغداد، وكان عزمي الاصطياد، فجمعتني الظروف على جماعة من الصيادين، ولكنّي لمّا رأيتهم يقتلون الطيور والحيوانات انتبهت إلى أنّ ذلك حرام، وخطر بذهني أنْ أقتنص أرواح العباد لتقريبها إلى الله أولى من اقتناص الحيوان، وعلى ذلك صمّمت وهذا أول وآخر تجارتي في الصيد، وهذا كلّ ما أخبرك به عن نفسي وهو أنّي أبحث عن الأرواح لإرشادها إلى الصراط المستقيم.’ تربّى حضرة عبد البهاء في أحضان العز والإقبال إلى أنّ حدث ما حدث من التّعدّي على حياة الشاه، واستئذان والده بهاء الله في الهجرة إلى بغداد، فسافر حينئذ في ركاب والده، واحتمل من أخطار الطريق ما لا يحتمل، وكان له من العمر ثماني سنوات فقط. وبعد رجوع والده من جبال السليمانية، لازمه ملازمة الظلّ للشخص، وقام بجميع خدمته حيث كان إذ ذاك في الثانية عشرة من عمره.

وفي بحر هذه السنوات، تعوّد عباس أفندي التّردّد على المساجد حيث كان يناظر الفلاسفة والعلماء، وكانوا يعجبون بعلمه وذكائه حتّى عُرف بالشاب الحكيم، وكانوا يسألونه: ‘من علّمك؟ ومن أين تتلقّى هذه الأشياء التي تلقيها؟’ فكان الجواب الذي يجيب به أنّ أباه هو الذي علّمه.

إنّ عباس أفندي لم يذهب ولا يومًا واحدًا إلى المدرسة ولكنه كان ماهرًا في كلّ ما كان يعرفه العلماء، الأمر الذي أحدث دهشة عظيمة عند كلّ عارفيه. وكان منظر عباس أفندي في ذلك الوقت منظر شاب حسن الشكل جدًا، وكان مشهورًا بأنّه من أجمل فتيان بغداد. وبعد أنْ قطن والده ببغداد نحو إحدى عشرة سنة، جرت أمور استدعت سلطان تركيا لاستقدامه إلى الآستانة.

ومنذ وصول هذا الإشعار لمدينة بغداد، ظهر على عباس أفندي أنّه أقام نفسه كخادم ملازم لأبيه، وحارس لجسمه، فكان يحرسه ليل نهار في هذه السياحة راكبًا بجانب عربته، ومراقبًا عند خيمته.

وبعد وصول والده بخمسة أشهر، صدر الأمر بنقله إلى أدرنة، فانتقل بهاء الله بمن معه من العائلة والأحباء إلى هذه المدينة، ومكث بها نحو خمس سنين، أخذ في خلالها يرشد الناس، وجمع حوله فئة عظيمة.

وفي هذه السنين الطوال، كان عباس أفندي سندًا كبيرًا وعزاءً للعائلة، إذ فطر بطبيعته من زمن طفولته على الجود والكرم والإيثار، وكان يجود بما في يديه لأخواته وإخوته غير مدّخر لنفسه شيئًا، يفعل ذلك بميله الذاتي. وكان مظهر اللطف والوداعة لم يغضب قط، ولا قابل الإساءة بمثلها، حتّى احتملت العائلة مرارة العيش في ذلك الزمان بكلّ رزانة وثبات لما حواه طبعه من الأخلاق الفاضلة والشيم الكريمة، وإنّ مساعيه المشكورة جعلت ذلك العيش المرّ محتملًا عند سائر أفراد العائلة. ومن رأفته العظيمة بالفقراء، أنّه كان في وقت الحاجة يبتدع بعض الوسائل للحصول على شيء يواسي من هو أكثر احتياجًا، حتّى أوقع هذا النوع الغريب من الجود والانعطاف على المساكين والدته في حيرة مدهشة، لأنّها كانت مع حرصها على تدبير معيشة عائلتها، تمدُّ العائلة بضروريات المعيشة بكلّ صعوبة.

وبعد الخمس سنين المذكورة، جرى من الأسباب ما دعى السلطان إلى إصدار منشور بنفي البهائية من أدرنة. في هذا الوقت كان عباس أفندي محبوبًا عند كلّ إنسان، كبيرًا كان أو صغيرًا، مؤمنأً ببهاء الله أو غير مؤمن، فإنّه بحسن سيرته، وعظيم رأفته جذب قلوب الجميع إلى محبته حتّى تسنّى له إرشاد كثيرين، وصار يطلق عليه اسم (السيّد)، وأصبح محافظ المدينة نفسه من أصدقائه.

وبعد أخذ وردّ، وقيل وقال، صار الأمر بنفي بهاء الله وخواصه وعائلته إلى عكاء، وقد كان، فنفوا إليها، بل كانت منفاهم الأخير. ومن يوم إقلاع سفينتهم من أدرنة، آمّة شطر عكاء، ومن وقت نزولهم بأرضها إلى وقت صعود بهاء الله إلى الرفيق الأعلى، لبث عباس أفندي ملازمًا لأبيه، مؤدّيًا له ولعائلته أجلّ الخدمات وأجمل الرعايات في كلّ أمر ذي بال، وفي كلّ شأن وحال. وإلى يوم صعود والده الكائن في سنة 1892، لم يفارقه لحظة واحدة، بل كان معه في كلّ الأحيان مشاطرًا له في آلامه وأشجانه، وأمينًا لكنوز عرفانه، وكان المرجع الوحيد لحلّ جميع المشكلات.

وفي بدء نزولهم بعكاء، كان أهل البلدة في حالة من سوء التفاهم بحيث كانوا يرون معاملة البهائيين بالجفاء أمرًا مقدّسًا، ولكن صبر عباس أفندي واحتماله وعذوبة مشربه الأخلاقي اجتذب قلوب الناس أجمع. وبمداومته على هذه الدماثة والوداعة، ومقابلته الجفاء بالوفاء، تسنّى له اكتساب ودّ الكلّ وإليك من شواهد ذلك:

كان الأحباء في حاجة إلى وقود، ولكن الناس أبوا أنْ يبيعوهم إيّاه (للعلّة السابقة)، فأرسل عباس أفندي من استحضر له حَمْل بَعير فحمًا، وبينما كان الرجل ذاهبًا بالفحم إلى طالبه، وإذ بأحد التجار المسيحيين قد اعتدى عليه، واغتصب منه الفحم دون أنْ ينقده الثمن، فجاء عباس أفندي إلى ذلك التاجر ليكالمه في هذا الشأن.

ولمّا أنْ رآه منهمكًا في أشغاله، انتظره ثلاث ساعات حتّى فرغ، وأخذ التاجر يكالمه فابتدره بهذا السؤال: ‘أأنت أحد المسجونين هنا؟’ فأومأ عباس أفندي بالإيجاب، فساق التاجر الحديث قائلًا: ‘ماذا كان ذنبكم حتّى سُجنتم؟’ فبدأ عباس أفندي جوابه على هذا السؤال قائلًا: ‘ما دمت تسألني، فإنّي أجيبك.’ ثمّ قال: ‘نحن لم نأت شيئًا أدًّا، ولكنّا مضطهدون كما كان السيد المسيح مضطهدًا.’ فقال التاجر: ‘وماذا تعرف عن السيد المسيح؟’ فأجاب عباس أفندي بما أدرك منه التاجر أنّه خبير بعيسى والإنجيل، فجعل يسأله عن الإنجيل، وعباس أفندي يأتيه بالشرح والبيان، حتّى طرب الرجل إذ سمع منه ما لم يسمعه من أحد قبله، ودعا عباس إلى الجلوس بجانبه تشريفًا له، واستمر الحديث بينهما ساعتين، وفي نهاية المحادثة ظهر على التاجر السرور والانشراح وقال: ‘الفحم قد نفد، فلا يمكنني ردّه إليك، ولكن ها هو ثمنه.’ ورافق عباس أفندي إلى الباب، ونزل معه إلى الشارع، وعامله بكلّ احترام ومن وقتئذ صار هو وعباس أفندي صديقين حميمين، وارتبطت العائلتان أيضًا بهذا الرباط المتين.

لقد كانت هذه الطريقة طريقة لين العريكة، ومقابلة السيئة بالحسنة، والرقّة والاحتمال والصبر هي الطريقة الوحيدة التي ثابر عليها عباس أفندي حتّى اكتسب ودّ أهل المدينة جميعًا، فإنّه كان بمحبته إيّاهم وانعطافه نحوهم يجتذب قلوبهم إليه حتّى أنّ الناس أجمع عجبوا وتساءلوا عن المسلك الذي سلكه حتّى اكتسب قلوب أعدائه، واتّخذهم أحبابًا له، فإنّ المحافظ والقضاة والضباط كانوا في البدء يحترمونه، ولكن أخيرًا حلّ حبّه من قلوبهم محل هذا الاحترام، وجلّ أهل المدينة إنْ لم نقل كلّهم، أصبحوا يحبّونه لا فرق في ذلك بين مسلم ومسيحي، ولا بين غني وفقير.

وما زال عباس أفندي وأمره أمره، حتّى صعود بهاء الله سنة 1892، حيث قضى من العمر خمسًا وسبعين سنة، ثم صعد إلى الرفيق الأعلى في تلك السنة، بعد أنْ صرّح مرارًا عديدة وفي مواضع كثيرة بأنّ عباس أفندي هو خليفته بعد وفاته، وأوصى بذلك في (كتاب الأقدس) حيث بيّن أنّ عباس أفندي مركز عهده وميثاقه، ومنحه لقب سمو السيد الذي كان يخاطبه به عادة وكان يأمر أهله بمعاملته بهذا الاحترام العظيم وترك وصية خاصّة كرّر فيها رغبته بمنحه دون سواه هذا الشرف الجليل.

كان من مزايا عباس أفندي أنّه كان مخلصًا لبهاء الله إخلاصًا دينيًّا فوق الإخلاص الأبوي الذي قد يشاركه فيه كلّ ابن بار بوالديه ومن شواهد ذلك: إنّه لمّا ردّت إلى بهاء الله حريته، وأجاز له محافظ المدينة بأنْ يسير في عكاء وضواحيها كيفما يريد. رأى أحباؤه سكناه بالخلاء أوفق بصحته، فاتخذوا له منزلًا بالخلاء حيث عاش هادئ البال مطمئن البلبال إلى حين الوفاة، وبقي عباس أفندي بمدينة عكاء مكتفيًا بزيارة والده في أكثر الأيام.

أجل، إنّ عباس أفندي كان كثيرًا ما يزور حضرة بهاء الله راجلًا على ما بالمسافة من طول وما بشمس الصيف من الحرارة التي لا تطاق. واعتاد أنّه إذا أصابه تعب أو آلمه الحرّ أنْ يفترش الأرض، ويتوسّد الحجر وينام، ففي يوم ما لامه بهاء الله على ذلك قائلًا: ‘يجب أنْ تمتطي جوادًا’. فأجاب عباس أفندي: ‘كيف أفد على مولاي راكبًا، يجب عليّ أنْ أعلن لك بأنّي أكثر العالم إذعانًا إليك. فإنّه لمّا خرج السيد المسيح سائحًا، مشى على قدميه، ونام في الحقول فمن أنا حتّى أزور مولاي بحال أكون فيها أكبر من السيد المسيح.’

وبعد صعود بهاء الله إلى الرفيق الأعلى، قبض على ناصية الأمر، ولبث يدبّر دفّة الأمور بأحسن حزم وأقوى مقدرة وعزم، وقام بكلّ ما يلزم الأمر وما يقتضيه من عظام الأعمال خير قيام ما بين أشغال تحريرية جوابًا على ما يرد إليه من عديد الرسائل وإلقاءات شفوية في جلائل المهمّات والمسائل إلى بثّ الدعاة في جميع آفاق العالم لتبليغ الدعوة وإذاعة صيت أمر الله ورفع شأنه ورسم الخطط القويمة المنتجة، وما بين قيام بأحياء الخيرات والمبرّات، وما يكون فيه مثالًا حسنًا لأحبائه وطلاب العلاء، إلى لقاء الوافدين من الأقطار النائية وإنجاز كلّ ما يلزم وما تقتضيه حسن الضيافة وكرم الوفادة من الآداب والواجبات الأدبية والمادية إلى غير ذلك من الأعباء التي اضطلع بها وبرهن على جليل كفاءته في تنظيمها وتدبيرها رغم ما كان يعتريه من مشاغل أرباب الفتن وتشويشاتهم وسعيهم في اضطراب حبل التدبير وإيجاد القلاقل والشوائب ورغبتهم في التعطيل ومعاكسة الأمر.

وقد انتجت إدارته ورعايته خير إنتاج وعادت مساعيه على الأمر بأحسن الثمرات حيث تكاثر أعداد المقبلين على الدين والأدب من كلّ فجّ وأصبحوا يعدّون بعشرات الألوف في كلّ نحو وشطر حتّى يصحّ أنْ يقال اليوم أنّ البهائيين أمّة كبيرة تضمّ تحت لوائها الملايين العديدة.

وقد بلغ من اهتمام عبد البهاء بالأمر أنْ طاف الأقطار الأوروپية والأمريكية، بعد إعلان الدستور العثماني وفكّه من قيود الأسر، لإعلاء كلمة الله وإسماع الآذان سمعة (مبادئه)، وهو في العقد السابع من سني حياته، وبعبارة أخرى وهو في دور الشيخوخة والضعف، وخطب فيها مئات الخطابات حاضًّا على الوحدة والإقبال على دين الله والاعتصام بالعروة الوثقى.

صفته

كان ربعة القوام، جليل المنظر، سامي الهيئة، يلبس جثمانه قفطانًا أبيض فوقه الجبة، وعلى رأسه العمامة، قوي البنية، مضيء الطلعة، يتدلّى شعره على كتفيه، وتارة يعقصه تحت عمامته، أقنى الأنف أشّمه تلوح على وجهه علامات الوداعة، خفيف الشارب واللحية، ذو عينين زرقاوين واسعتين مع نظر ثاقب معتدل كالسهم، عريض الجبهة، وضّاح الجبين، تظهر على جبهته العريضة آثار الغضون التي تدل على ما قاساه في حياته من المصاعب والمتاعب في سبيل إرشاد الإنسانية الضالة في بيداء الجهالة والانقسام، يتدفق البِشر والحنان من محياه وتلوح الشهامة والنبل على سيماه بحيث يشعر كلّ من واجهه بهيبة عظيمة، وجلال باهر، شدّة الذكاء وتوقّد الخاطر وحدّة الفؤاد ظاهرة مشرقة من طلعته، ومن كلماته وحركاته قواه العقلية ومزاياه الإدراكية وهيبة لا كسبية عظيم الإخلاص نقي الضمير، ابتسامته تسحر اللب ويجذب إليه القلوب يمشي بخطى واسعة كأنّه ملك عظيم أو راع بار في وسط رعيته، بل أسد رابض في عرينه.

وبالاختصار فقد كان قويًا مقتدرًا متأنيًا في عمله، لطيفًا في معشره، ليّنًاَ في خطابه، كأنّه والد حنون في وسط أولاده، حركاته ومقابلاته وقيامه وجلوسه هي مظاهر القوّة والشهامة والحرية والاقتدار، فصيح اللسان عذب البيان مطيل الصمت والتفكير في مواضعه.

زواره ومريدوه يبذلون له من الإكرام والاحترام ما لا يذكر به بجانبه خضوع رعية طائعة لملك مطلق السلطان عالي الشأن، وكلّ ما يلاقيه من الإجلال والإكرام والولاء والاحترام هو بمثابة اعتراف من مريديه بنفوذ روحانيته التي تنبثق منه لا بناء على رغبة له في ذلك إذ لا ميل له إلاّ معاملة الناس بكمال المودّة وخالص المحبة لا يضنّ بالاقتراب منهم، ولا يشير لأحد باحترامه أو إظهار هيئة الخشية منه بل يدعوهم لملاقاته ومؤانسته، ويتمنى أنْ يقوم بخدمتهم مباشرة ولو في الشيء الطفيف ولا يضع سدًّا في سبيل الوصول إليه، ويعمل في كلّ ما يظهره بين الملأ على منوال الأخوّة كأنّه الأخ الرشيد الذي ينظر لإخوته الصغار بعين العطف والحنان والسهر على مصلحتهم يواسي الفقراء، ويعطف على الضعفاء، يربّي اليتيم، ويحضّ على إطعام المسكين، يدعو الناس دائمًا لأنْ يكونوا أسرى المحبة وخدمة للهيأة الاجتماعية والجمعية البشرية.

وبالجملة فقد كان عظيمًا واسع الإطّلاع راقي الأفكار واقفًا على أفق يطلع من شرفاته العالية على ضعف العالم ومسكنته وقصوره بأسى شديد وشغف يرفعه من الوهدة التي سقط فيها وتحريره من القيود الثقيلة التي كبّل نفسه بها وإيصاله إلى مقام العرفان بالخالق الرحيم الذي يتدفّق فيض مكارمه في هذا العصر تدفّق السيل من أعلى قمم الجبال، يودّ من صميم فؤاده أنْ يلمّ شعث العالم المتفرّق ويجعله يشعر بالوحدة التي بدونها لا يطيب له عيش ولا تستتّب له راحة. يتطلّع بتلهّف إلى توحيد الأديان ويرى أنّه بدون ذلك التوحيد والتوفيق لا يتأتّى تحقّق وحدة العالم.

هذا الرجل العظيم وقف في أوروپا وأمريكا في وسط العالم المتحضّر، وخطب بين فلاسفة القوم وعلمائهم وأدبائهم ونادى بأعلى النداء هلمّوا إليّ أرشدكم إلى الصراط المستقيم وأهديكم إلى السبيل السويّ. هذا هو وقت الدخول في حظيرة القدس. طهّروا قلوبكم واعملوا على رفع غشاوة الجهل والتعصّب والتقاليد والأوهام من على أبصاركم حتّى تروا نفحات الله التي تهبّ معطّرة على كافة الأنحاء والأرجاء. وتعالوا بنا نتعاون على إزالة سوء التفاهم من بيننا بتأسيس لغة عمومية حتّى يصبح كلّ فرد منّا قابضًا على لغتين: لغته الأصلية واللغة العمومية. ضعوا أيديكم في يديّ لنعمل على إيجاد محكمة تحكيم دولية حتّى يسهل فضّ كلّ خلاف بقوّة القضاء العادل بين الحكومات كما هو حاصل بين الأفراد، وبذلك تحقن الدماء وتصان الإنسانية من الخراب والدمار الذي يصيبها من جرّاء الحرب والتحاكم إلى السيف والسنان. تعالوا بنا نرفع راية السلام العامّ ونؤسّس الصلح الأكبر. تعالوا بنا نحلّ معضلة العالم الاقتصادية ونعمل على هناءة الضعفاء من إخواننا في الإنسانية. حضّوا الآباء والأمهات على تربية أبنائهم وبناتهم تربية أخلاقية حقيقية.

وخطب في بلاد أمريكا وحدها نيّفًا وستمائة خطابة، ضمّنها أعلى التعاليم وأسمى المبادئ، وذلك كلّه بعد أنْ جاوز العقد السابع من سنيّ حياته. ولم يكتف بذلك، بل علّم الدعاة طريق اجتذاب القلوب إلى الرضوان وبثّهم في مشارق الأرض ومغاربها لإذاعة هذا المبدأ الجليل الذي تمخّض القرن التاسع عشر بحسناته ففتح بهم عيونًا عمياء وآذانًا صمّاء وقلوبًا غلفًا، وهم الآن عاملون على تنوير الأفهام وتربية النفوس في جميع الآفاق وربح العالم من حسن مساعيهم، حيث قد اهتزّت بهم أرض القلوب وربت وأنبتت من كلّ زوج بهيج.

وكان كلّ أتباعه ومريديه من كافة أقطار الأرض لا يقدمون على عمل ولا يشرعون في شيء قبل استشارته وتلقّي أمره، حتّى أنّ المكاتيب التي كانت تفد عليه تبلغ المئات يوميًّا، ولكن مع كثرتها ووفرة عددها كان يجيب عليها بهمّة لا تعرف الملل وبعزيمة لا يعتريها كلل.

قلنا أنّ عباس أفندي أقام نفسه مثالًا في أعمال البرّ وخصال الخير، وقدوة حسنة للمؤمنين والراغبين في سلوك سبيل السلامة، فلا بأس أنْ نلخّص لحضرات القرّاء ما مهّد به المستر فيليب المحامي بمدينة نيويورك بأمريكا تاريخه عن البهائية، من الكلمة التي كتبها عن عباس أفندي وجعلها طالعة كلامه قال:

نزلت في سياحتي الفلسطينية بمدينة عكاء في منزل عتيق يطلّ على شارع مبلّط قليل الاتّساع، بحيث يتسنّى للرجل النشيط أنْ ينظفه في لمحات قليلة، تعلوه شمس فلسطين اللاّمعة المضيئة. وعلى يمينه السور البحري القديم والبحر الأبيض المتوسط.

وفي ذات يوم (بعد شهر أقمته بذلك المنزل) بينما نحن جلوس، وإذا بجلبة عظيمة وضجّة وضوضاء على بعد ثلاثين قدمًا منّا، ففتحنا النافذة فوقع نظرنا على جملة أناس بأثواب بالية مرقّعة ممزّقة. ثمّ نزلنا لنرى من هؤلاء، فعلمنا أنّهم من البائسين الجديرين بالإحسان، إذ تراهم بين عميان ونحاف نحال صفر الألوان، وشيوخ طاعنين في السّن من ذوي العكازات العاجزين عن المشي والضعاف الذين لا يمشون إلاّ بشقّ الأنفس ومن بينهم نساء مقنّعات، وبانكشاف المقنّعات عرفنا أنّهن لم يسترن إلاّ البؤس المؤلم ومنهن من يحملن أطفالًا نحال الأبدان، صفر الألوان، ويبلغ هذا الجمع نحو مائة شخص سوى كثيرين من الأطفال وهم يكوّنون في مجموعهم جميع العناصر التي يراها المارّ في هذه الشوارع من شوام وعرب وزنوج وغيرهم. وما لبث هذا الجمع أنْ اصطفّوا منتظرين، فطفقنا ننظر ماذا ينتظر هؤلاء، وإذا بباب قد فتح وخرج منه رجل متوسّط القامة منتظم التركيب، يلبس قفطانًا أبيض وعلى رأسه العمامة ويبلغ من العمر نحو ستين سنة، ويتدلّى شعره المشوب بالشيب على كتفيه عريض الجبهة الوضاحة العالية، قاني الأنف خفيف الشارب واللحية المستديرة التي وخط شعرها المشيب ذو عينين زرقاوين واسعتين مع نظر ثاقب وهيئة بسيطة إلاّ أنّ في انتظام حركاته ما يدلّ على الجمال والجلال.

خرج هذا الرجل واتّجه نحو الجميع، وبوصوله إليهم أخذ يحييهم بألفاظ لا نفهمها، ولكن ما يرى من هيئته ينم عن رقّة وشفقة، ثمّ وقف في زاوية ضيّقة من الشارع، وأشار إليهم بالإقبال عليه، فالتفّوا حوله التفاف السوار بالمعصم، إلاّ أنّه كان يبعدهم عنه بلطف ويدعوهم بالمرور أمامه واحدًا واحدًا، وكلّما مرّ عليه رجل من القوم رأيت يده إليه ممدودة حيث يضع بعض النقود وهو يعرفهم جميعًا ويلاطفهم بوضع يده على وجوههم تارة وعلى أكتافهم ورؤوسهم تارة أخرى، ويوقف بعضهم ويستعلم عن حاله، ويحيّي بعض العبيد المتقدمين في السن بالاستعلام منه عن أمره ببعض عبارات رقيقة، فيبدو السرور على وجه الرجل وتظهر ثناياه البيضاء من وجهه الأبنوسي عند الجواب. وتارة يوقف بعض السيدات ويلاعب طفلها بشفقة عظيمة، وحين مرورهم عليه، وتقبيل بعضهم يديه يحيّيهم جميعًا بقوله (مرحبًا مرحبًا) وعلى هذا النحو يمرّ الجميع.

وقد كان الأطفال ملتفّين حوله وأيديهم ممدودة، ولكنه لم يعطهم شيئًا، وحين همّ بالرجوع، نثر قبضة من العملة النحاسية حيث كان الكلّ من أجل ذلك في نزاع.

وقد كان صاحبنا الملقّب بأبي الفقراء متبوعًا بجملة رجال يلبسون الطرابيش الحمر، ويظهر على وجوههم الحنان والبِشر، وكانوا وقوفًا بالقرب منه، ولهم يد في تنظيم هذا الجمع. فلمّا قفل راجعًا، تبعوه مع غاية الاحترام حيث يتأخرون عنه مسافة وكلّما أرادوا نداءَه دعوه بلفظ (المولى).

ويمكنك أنْ ترى هذا المنظر بشوارع عكاء في أيّ يوم من أيام السنة، وله نظائر مماثلة له، لكنّها لا تحدث إلاّ في ابتداء الشتاء حيث يتألم الفقراء. ويمكنك (لو دلّك إنسان على الزمان والمكان) أنْ ترى فقراء عكاء مجتمعين في أحد حوانيت بائعي الملابس ليستلم كلّ منهم رداء من (المولى) وهو يلبس أغلبهم بنفسه وخصوصًا العجزة والمقعدين ويقيسها عليهم بيديه قائلًا لهم (مبروك).

ويوجد بعكاء نحو خمسمائة أو ستمائة فقير يأخذ كلّ منهم رداء جميلًا منه كلّ عام. وفي أيام المواسم يزور الفقراء في بيوتهم ويسألهم عن حالهم وعن صحتهم وراحتهم ذاكرًا أسماء الغائبين منهم، ويترك هدايا للجميع. وليس فقط هؤلاء الشحاذون الذين يوجّه عنايته إليهم، بل ينتظم في سلك عنايته أيضًا أناس لا يمكنهم إراقة ماء وجوههم بذلّ السؤال، وإنّما يتألمون في نفوسهم كالذين لا يكفيهم مكسبهم اليومي ولا يعول عائلاتهم. لمثل هؤلاء يرسل الخبز سرًّا بحيث لا تعرف يمينه ما تصنعه شماله. الناس جميعًا يعرفونه ويحبونه غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم، حتّى الأطفال في أحضان أمهاتهم لو سمع أنّ أحدهم ألمّ به المرض مسلمًا أو مسيحيًا أو متدينًا بأيّ دين، كان يهتم بذلك كثيرًا وتراه عندهم بجانب فراشهم كلّ يوم أو يرسل رسولًا أمينًا. ولو كان العليل فقيرًا واقتضى الحال طبيبًا أرسل في طلب طبيب وفي استدعاء الإسعافات الضرورية من الدواء. وإذا وجد أنّ سقف المكان غير محكم أو زجاج بعض النوافذ مكسورًا وأنّ ذلك مهدّدًا للصحة أرسل في استحضار أحد العمال للإصلاح، ثم انتظر تمام العمل ليتأكد من حصول المطلوب.

وإذا تعب أحدهم أو أُلقي أحد أقاربه في أعماق السجون أو وقع تحت طائلة القانون أو حدثت له مشكلة نأى عن حملها، توجّه في الحال إلى (المولى) ليستنجده أو ليستمد منه النصيحة أو المعونة. نعم يحضر الجميع ليستمدوا منه النصيحة، غنيهم وفقيرهم، كاستمدادهم من أب شفوق لهم.

وأظن أنّ القارئ يتوهّم في رجل جواد كهذا يعطي بلا حساب أنّه غني، لا وعمر الحقّ، ولو أنّه كان من أغنى عائلة في الفرس، ومع هذا فإنّ الرجل جرى عليه ما جرى على الجليليين، ذلك أنّه منذ خمسين سنة نفي وسجن هو وعائلته، وصودر بعض أملاكه ونهب البعض الآخر، ولم يبق له إلاّ القليل. وحيث أنّ ما لديه اليوم كذلك فهو يقتصد من نفقاته كي يتمكّن من الإحسان. وملابسه عادة قطنية رخيصة الثمن، ولا يسمح لعائلته بعيشة الرفاهية ولا يأكل سوى مرّة واحدة في اليوم ويكفيه شيء من الخبز والزيتون والجبن، أمّا غرفته فصغيرة وعارية من الأثاث وليس فيها سوى حصيرة. ودائمًا يقول كيف أتمتّع بنوم الرفاهية بينما الكثير من الفقراء ليس لهم مأوى لذا ينام على البلاط ويلف نفسه بعباءته فقط.

ومنذ مدّة تربو على أربعة وثلاثين عامًا، سجن هذا الرجل بمدينة عكاء، ولكن سجّانيه أصبحوا من أحبائه، فحاكم المدينة وقائد حاميتها يحترمانه ويبجّلانه كأنّه أخوهما، ولا يعتبران إلاّ نصائحه، ولا يعملان إلاّ برأيه، وهو محبوب من جميع طبقات شعب هذه المدينة كبيرها وصغيرها، وهو طبعًا محب للجميع كيف لا وهو المحافظ الوحيد للقانون الذي قنّنه عيسى الناصري (أنْ تحسن إلى من أساء إليك) فهل سمع أحدكم للآن برجل في العالم يفتخر بأنّه يقتفي أثر السيد المسيح الذي كان يعيش تلك المعيشة. هذا السيد بسيط بقدر عظمة روحه، ولا يطلب لنفسه شيئًا من التسلية أو الاحترام أو الراحة، فثلاث أو أربع ساعات كافية لنومه، وباقي وقته مصروف في إغاثة أهل البؤس والعوز ودائمًا يقول أنا عبد الله وخادمه.

هذا هو عباس أفندي، سيد عكاء، وفي تقديم ترجمته إلى القارئ قد ذكرت أخلاقه الخارقة للعادة والتي تؤثّر في القلوب تأثيرًا عظيمًا. ولكن هذه الصفات لم تكن إلاّ أزهارًا يانعة ملائمة للطبيعة الكائنة في محتويات وجوده.

أمّا أحواله المتنوعة المختصّة بحياته، فإنّك تجده ثابتًا شديدًا، بينما تجده في حالة أخرى لين الجانب شفوقًا حنونًا وهو في عائلته المحور الذي تدور عليه والرأس المفكّر المدبّر والوالد الحنون والزوج الودود، وهو بين الرجال قوي جدّي ذو عزم ثابت وفراسة صادقة وفكرة متوقّدة وحكم مسموع نافذ وإدراك حقّ وبين أتباعه منوط بكلّ الأعمال يدبر وينظم مصالحهم.

البروفسور براون الذي زار عكاء سنة 1890 ميلادية وصفه وصفًا بليغًا كما رآه في ذلك الوقت بمقدمة كتابه (قصة السائح) صحيفة 36 قال: ‘لم أر أحدًا أثّر فيّ منظره أكثر من هذا الرجل المستقيم القامة القوي التركيب المعتدل كالسهم هذا الذي يلبس العمامة والملابس البيضاء، الأسود الشعر المتدلّي على كتفيه العريض الجبهة الوضّاء الجبين الدّالّ على شدّة الذكاء وصدق الفراسة ذو الإرادة الثابتة والعينين اللتين كعيني الصقر الدّالّتين مع ذلك على حسن الطوية. هذه هي أول رؤياي للمولى عباس أفندي كما يسمّيه البهائية وبمحادثة تلت هذه الرؤيا وقع اعتباره في نفسي وارتفعت منزلته عندي.’

عبدالبهاء عباس زعيم النهضة الدينية والحركة الروحية

(لحضرة الكاتب الفاضل الشيخ فرج الله زكي الكردي)

توفّي عبد البهاء عباس وعمره 77 سنة، قضاها في إرشاد الخلق إلى وحدة العالم وتأليف قلوب الأمم وترك التعصّبات الجنسية والدينية والمذهبية. وهو الابن الأرشد لحضرة بهاء الله من أبناء أحد وزراء الدولة الفارسية وصاحب التعاليم الشهيرة وزعيم النهضة الدينية والحركة الروحية.

ظهر حضرة بهاء الله من أفق إيران سنة 1280 هجرية، حينما كانت ظلمات الاختلافات المذهبية والتعصبات الجنسية والوطنية محيطة بالكرة الأرضية، لا سيّما الأمم الشرقية، إذ كان أكثر القبائل وأرباب الطرق والمذاهب يبيحون دماء بعضهم البعض ويشتغلون دائمًا بالمنازعات المذهبية والتعصبات الجنسية وإزهاق الأرواح البريئة الخ.

أتى حضرة بهاء الله بتعاليم جديدة وقوانين محكمة، منها وحدة العالم الإنساني، وإيجاد الألفة والمحبة والاتحاد بين البشر، وترك التعصبات الدينية والمذهبية والجنسية، وإيجاد حرّية الشعوب، وترك الحروب، والسلام العامّ بين العالم، والتعليم الإجباري، يتساوى في ذلك الذكور والإناث، وتطبيق العلم على الدين لتتم سعادة البشر، إذ أنّ الطير لا يطير إلاّ بجناحين، وإنشاء مجمع الأمم بحيث ينتخب أعضاؤه من جميع الملل والنحل، وتأسيس محكمة عليا لحلّ مشاكل العالم بأسره، وقد أخذ الدكتور ولسن في مبادئه المشهورة اثنتي عشر مادة منها.

وجاء بكثير من الإصلاحات العصرية التي لو تمسّك العالم بها، لتخلّص من جميع هذه المشاكل.

مع العلم بأنّ هذه التعاليم السامية لم تكن بارزة للعيان قبل ظهور حضرة بهاء الله، ولم تكن تسمع أصوات الحرية والاستقلال وتحرير الشعوب في كلّ ناحية ومكان كما هو الحاصل الآن بظهور حضرة بهاء الله تطوّر العالم تطوّرًا عمليًّا ونهض من الخمول الذي كان رازحًا تحته، وطالب بالحرية والمساواة البشرية.

وقد كان حضرة بهاء الله من وقت ظهوره تحت تضييق وسجن دولتيّ الفرس والترك إلى أنْ توفّي سنة 1309 هجرية.

وقبل وفاته عهد إلى ابنه الأرشد وخليفته الأوحد حضرة عبد البهاء بنشر تعاليمه، وإعلان دعوته وذلك بنصّ كتاب عهده.

قضى حضرة عبد البهاء مع والده معظم أيام حياته وزهرة شبابه وهي أربعون سنة في سجن عكاء إلى أنْ أعلن الدستور العثماني، فقام إذ ذاك بما عهده إليه حقّ القيام في نشر تلك التعاليم السامية بأنْ سافر إلى مصر ومنها سنة 1911 ميلادية إلى الأقطار الأوروپية، وخطب في أكثر الكنائس والمعاهد العلمية وحثّ الناس على الكمالات الإنسانية وتوحيد العالم البشري والرجوع إلى التعاليم الإلهية وترك التعصبات المذهبية والجنسية والسياسية وحضّهم على تحرّي الحقيقة ورفع سوء التفاهم من بين الأمم، وبيّن أنّ مطالب جميع الرسل واحدة، وكلّهم دعوا الناس إلى توحيد الباري ومعرفة الحقّ وأيجاد الألفة بين البشر والسلام العامّ بين الأنام.

وبعد جهاد نحو عام رجع إلى مصر ولم يلبث إلاّ قليلًا حتّى التمس منه أهل أميركا تشريف بلادهم بزيارته فسافر إليها سنة 1912، وهناك قوبل بما يليق بمقامه الجليل وعلمه الجزيل وغشي المجامع والكنائس بدعوة من رؤسائها وأثبت بلسان طلق فصيح وجود الذات الإلهية وحقّية جميع الرسل على السواء ببراهين مقنعة لجميع مفكّري الأديان من الطبيعيين والدهريين (راجع خطبته التي ألقاها في أكسفورد على الفلاسفة والطبيعيين) وقد ترجمت جميع تلك الخطب إلى جملة لغات سامية، ونشرت في الجرائد الأوروپية والأمريكية وغيرها.

وممّا ألقاه على مسامعهم أنّ النار مخبأة تحت أطباق بركان أوروپا، فستشتعل إنْ لم تدركوها وأخيرًا أخبرهم وأنذرهم بوقوع هذه الحرب الأخيرة وما يترتّب عليها من الخراب والدمار.

وقد كتب كتبًا هامّة ورسائل عديدة في جواب مسائل مختلفة للعلماء من جميع الأقطار، حلّ بها رموز المسائل المتنازع فيها، وكشف الآيات المتشابهات وأزال معضلات ومشكلات المطالب العالية.

وطبع منها في مصر وغيرها جملة مجلدات بالفارسية والعربية وترجمت إلى الإنكليزية والتركية والألمانية والفرنساوية واليابانية والأرمنية والروسية وغيرها من اللغات الحيّة.

وناهيك ببلاغة تلك الخطب وفصاحة تلك الرسائل التي سنذكر لكم طرفًا منها لتعلموا أنّ الشرق كما إنّه مطلع الشمس الظاهرة، كان ولم يزل مطلع شمس الحقيقة ومنبع العلوم ومشرق الأنوار ومطلع الأسرار.

وأمّا مقدار نفوذ تعاليمه الروحية، وتأثير خطاباته العلمية الأدبية فحدّث عنه ولا حرج.

وممّا كان يقوله دائمًا أنّ ضعف الدين يزيد في غرور الأشرار وتجاسرهم على الأبرار إذا لم تسدّ المحبة وتملأ الرحمة والشفقة الدينية قلوب البشر يحصل الهرج والمرج ويختلّ نظام العالم وانتظام الأمم.

وقد كثر المعجبون بتعاليمه، والمحبّذون لتأثير خطاباته. ولا سيما في الولايات المتحدة بلاد العلم والحرية.

وممّا قاله بعض عظماء الأمريكيين في أثناء إحدى خطاباته إنّنا كنّا نريد أنْ نبعث العلماء إلى الشرق لتعليم الشرقيين، ولكن ظهر الآن أنّا كنّا مخطئين فإنّ الشرق لم يزل مشرق التعاليم الروحية ومنبع الأسرار الإلهية الخ.

وقام أحد اليهود أثناء بعض خطاباته التي أثبت فيها حقيقة سيدنا عيسى وسيدنا محمد عليهما السلام وقال: ‘اعلموا أيّها الناس انّني من اليوم لست يهوديًا، بل آمنت بجميع الأنبياء على السواء.

واعترف رؤساء الأديان عمومًا بفضل عبد البهاء.

وممّا قاله الحاخام ميارحين في تعريف السامعين بحضرته قبل الشروع في خطابته العظيمة في مجمع اليهود في سان فرانسيسكو: إخواني أفراد هذا المجمع. من حسن حظنا وهو لا شك حظ سعيد أنْ نرحب هذا الصباح بعبد البهاء المعلم العظيم الشرقي في عصرنا هذا. إنّ قلب الشرق ديني محض إلى قوله ومن وقت لآخر ينبغ من قلب الشرق من يعلّم ويعيد التعاليم الإلهية. فعبد البهاء هو من هؤلاء الناصرين للدين في هذه الحياة. ثم قام حضرة عبد البهاء وألقى عليهم خطبة عظيمة استهلّها بقوله الدين أول موهبة من الله للعالم الإنساني، ثم بيّن لهم فيها مزايا الدين وحقّيّة جميع الأنبياء والمرسلين، وقد ترجمت هذه الخطبة إلى العربية وطبعت في المهاجر التي تصدر بنيويورك عدد 858، وقد كتب القس رورند الفرد هيلز من مشيكان بأمريكا إلى حضرة عبد البهاء رسالة متضمّنة بعض تعاليم بهاء الله بدون نسبتها إليه، فأجابه حضرة عبد البهاء بما معناه: إنّ هذه التعاليم من تعاليم بهاء الله، وإنّ تعاليمه قد انتشرت بقوّة روح القدس، لا بمجرّد البيان في الرسائل. فكلّ أحكام تحتاج إلى قوة إجرائية وإلاّ تكون عبارة عن الأفكار والأفكار كأمواج البحر تأتي وتذهب ولا تستقر.

وإنّ حضرة بهاء الله أثبت هذه التعاليم في القلوب كالنقش في الحجر بقوّة قدسيّة وقدرة إلهية بحيث فداها المستمعون بأرواحهم وذاق في هذا السبيل عشرون ألف نفس كأس الشهادة الكبرى، وقال للقس المذكور ‘إنْ أردت خدمة العالم الإنساني فلا بد أنْ تدخل في ظل بهاء الله وتدعو كنيستك كنيسة بهائية حتّى تؤيدك القوة القدسية.

وبعد وصول هذا الجواب إليه، دخل في ظل البهائية، وكتب على كنيسته الكنيسة البهائية، فصار له شأن عظيم في توحيد الدين ونفوذ الكلمة ولم يزل يرشد الخلق إلى رب العالمين.

وأمّا مقدار ثمرة تعاليمه الروحية ونفوذها في قلوب أتباعه البهائيين، فهذا لا يذكر بالألسنة ولا يخط بالأقلام، بل يعرف بمعاشرة البهائيين وتَتبُّع كتبهم ورسائلهم.

وقد رأيت جملة محافل للبهائيين تضم شمل العديدين من سائر الملل والأجناس والأديان، جمعتهم البهائية على مائدة الإيمان بربّ واحد وحقّ واحد فلم يبق عندهم تعصب جنسي أو مذهبي أو ديني… الخ الخ.

وكلّ من ينظر إليهم يراهم كأنّهم ولدوا من أب واحد وأم واحدة وتربّوا على مائدة واحدة، يساعد غنيهم فقيرهم، ويعطف قويهم على ضعيفهم ويحنو كبيرهم على صغيرهم، كما أنّ صغيرهم يبجّل كبيرهم وإنّ جميعهم يطلبون الخير والسعادة الأبدية لعموم الخلق.

ما أعرفه عن عباس أفندي

من قلب آسيا مهبط الوحي، ووطن الأنبياء وأم سوريا وجدة عكاء معًا، إنبعث من خصب هذه الطاهر ينبوع حيوي قد اجتمعت أسبابه وتوحدت أصوله إلى شيء واحد عظيم لا يتجزّأ ولا يتعدد، هو خيال رائع في مبناه، وحسّ آخذ بالألباب في معناه، حتّى كان ذاك الينبوع الروحاني الفياض على العالمين بادية آثار سريانه في الأنفس على وجوه مستبشرة تقرأ في ثنايا العالم انتعاشها القدسي آيات من البراءة من شرور العالم ناطقة بالتهاب الفضيلة غيرة على خطر الإنسان من دنياه.

ذاك الينبوع الروحاني الفياض يستمدّ من ذاته أو من المصدر العالي المتصلة به تلك الذات إلى غاية الفناء في الحقّ أجناسًا من الهدى لا تتوافر إلاّ لنفس خصّت بلذة احتمال الجهاد لنشر الدعوة إلى تعميم كلمة الله الحقّة في البشر.

بعدئذ سلْ طائفة الأدباء من الكتاب والشعراء والخطباء عن الأدب وحاله في الشرق يجيبوك أو يناجوك حتّى من أقصى الحواضر وأعماق المجاهل أنّ للأدب في الشرق تاجًا رائعًا عليه من تهاويل الصنعة الباهرة الشيء الخلاب الذاهب بالألباب محمول ذاك التاج اليتيم على رأس خالد تفنى على بابه كنوز الدهر. يقول بعضهم مثلًا أنّ فلانًا ركن الأدب وعماده، وملجأ الأدباء ومعينهم، وهو بجانب ما يلزم من الوصف والتعريف لبعض قدر الإمام الأعظم عباس أفندي يسير تافه لا يذكر.

كان الإمام البهائي فوق ما سبق أشبه بسياج منيع يحوط الأحرار الأبرياء من عبث المستبدين الظالمين الذين كان يجاهدهم طول حياته بسيف الحقّ ردًّا للظلم وذودًا عن حرمة العدل وصونًا لمقام الحرية والرحمة المكوّنتين لجوهر الفضيلة أو يأتي عليهم بذات الحق فيجعل مصرع الظلم شديدًا.

وهكذا كواكب الأرض من قادة الأمم مصابيح الدعوة ونباريس الهدى، فإنّهم قد ينالهم من صنوف الاستبداد بقدر ما يكون لطريقتهم من فعل كبير الأثر عظيم الخاتمة.

على قدر أهل العزم تأتي العزائم                           وتأتي على قدر الكرام المكارم

أمّا الحاجة فقد كانت تزول لدى ساحة كرم الإمام عباس أفندي حتّى صار أكثر الناس بؤسًا في ظلّه محسودًا على النعمة، إنّ الإمام كان يضم في رفيع خلقه إلى المجد ازدراء المال إلاّ أنْ ينفق عن سعة وسخاء في وجوهه المشروعة فكانت الفاقة لعظيم رحمة جانب الإمام يائسة أبدًا من أنْ تفتش عن فريسة لها مهما كان إمعانها في قاموس البؤس والشقاء.

كانت أندية حيفاء وعكاء إذا أشرقت عليها أنوار السيد عباس إمتلأت علمًا وأدبًا وفلسفة وحكمة تستقي منها العقول وترتشف النفوس وتروى القلوب فتذهب المشاعر بين هذه الأضواء العباسية والأنوار الروحية، مأخوذة بجلال الحقيقة بريئة من شائبة الوجود الذاتي الذي طالما تجمّدت عنده الأفهام على الباطل قبل أنْ تشرق شمس الإمام عباس أفندي على الكون فتذكّيه بحرارة الحقّ السرمدي.

كانت داره العامرة من مدينة عكاء كعبة القصّاد يؤمّها الخلائق من سائر الأصقاع وجميع الملل والنحل، باحثين متفهمين مستفسرين سائلين ممعنين، فما هي إلاّ ساعة الإجابة القاطعة المنتزعة من عقل راجح ونفس فياضة وقلب كبير وحسّ حال في سبيل الحقّ إلى عاطفة مؤثرة من نور حتّى تنقلب تلك النفوس الظامئة وقد بللها القطر بعد أنْ تذوقت من سلسبيل مبادئ البهائية فتشعّبت بأنّ المذهب البهائي كتلة من نور قد صاغها الخالق من عناصر الإخاء والتسامح والمحبة وأخواتها.

سُعدت مرّة بزيارته بمدينة عكاء فكان مجلسه حافلًا بعلية القوم غاصًّا بالعلماء والأدباء والفضلاء وكان الحديث جامعًا بين التالد والطريف من العلوم والفنون، فكان صدر الإمام حاويًا علم ما اشتملت عليه جميعًا مع سرعة الخاطر ودقّة النظر الممزوج بالتحديد المنطقي الصحيح عند أعظم المسائل وأدقّها.

قدم رحمه الله القاهرة سنة 1911 وحلّ ضيفًا مبجّلًا مكرّمًا على عين من عظماء البهائيين، فتقاطر العظماء والفضلاء لزيارته والتيمّن بطلعته وقد كتب عنه إذ ذاك المرحوم كامل أفندي دياب الكاتب المعروف مقالة ضافية في جريدة وادي النيل الغرّاء الصادرة يوم الأربعاء الموافق 22 مارس 1911، نقتطف منها الفقرة الآتية: ‘وما البهائية سوى أنموذج الفضيلة، جوهرها وحدة الإنسان وتعاليمها إزالة فروق التعصب للدين أو للجنس أو للوطن أو لمرفق من مرافق الحياة الدنيوية.’ إلى أنْ قال: ‘كنت يومًا مع حضرة عباس أفندي البهائي الرجل العظيم فمررنا على المدرسة العلمانية الدمقراطية في الشاطبي، فسألني عنها فقلت أنّها مدرسة حرّة تعلّم كافة العلوم والمعارف الصحيحة لجميع التلامذة دون تمييز في الجنس والدين حيث لا يتطرّق إلى تعاليمها غير العلم الصحيح دون غيره.’

فأبرقت أسرته وتلفظ بكلمات رضاء عنها وثناء على مؤسسيها الأفاضل وقال ما أذكره حرفيًا في هذه المناسبة: ‘قد كان فيما مضى أهالي حيفاء من مسلمين ومسيحيين على غاية الحب والتودّد والوفاق فنكبهم الله بجحش وتيس فأوقعا البين والتفريق في هؤلاء الأخوة البسطاء فقام الخصام محل الوئام وحل العداء في مكان الولاء وأصبحنا نسمع بكلمة مسلم ومسيحي في عهد هذين الجاهلين.’ فقلت لحضرته: ‘ومن هما الجحش والتيس؟’ فقال بسكونه المعتاد: ‘هما فلان وفلان…’ واستطرد قائلًا: ‘لقد مات رجل بليموتي المذهب ولم تقبل إحدى الطوائف المسيحية دفنه في مقبرتها، وعندنا نحن جبّانة لنا فاستدعيت القسيس وقلت له إنّي اقتطعتك قطعة من جبّانتنا فاضرب عليها سورًا وأدفن فيها ميتك المسكين!’

ثم استطرد الكاتب الكلام فقال: ‘وليعلم القارئ مبلغ احترام الناس له ولمبادئه لا تقديسه لحد العبادة كما قيل، فإن مريديه يجلسون إليه بغاية الحرص والتحفّظ فوق شيمتهم من توقير الإيرانيين عادة لمن هو أكبر منهم وأجلّ شأنًا وأسمى إدراكًا وحضرته لا يعطي راحته للتقبيل ولا يرضى خنوع أحد لمقامه، ويأنف سماع كلمة تعظيم وترفيع قائلًا إنّي عبد الله مثلكم واسمي (عبد الله) عباس فقط، وعلى ظنّي إنّه يريد غرس اللطف والوداعة في تربة تلك القلوب الطيبة لتزهر وتثمر جني الفضيلة والصلاح لأنّني عاشرت ذويه ومريديه فرأيتهم أنموذج الإنسانية والأدب والحبّ الصريح للقريب والبعيد ولعلّ هذا بعض ثمار تعاليمه فسقيًا لها من حسنات طيبات’ آه.

وعند قدومه القطر المصري تلقّته الصحف الكبرى كالمؤيّد والمقطّم والأهرام ووادي النيل بالترحاب والتبجيل والإعجاب. ونعتته بالعلاّمة العظيم والمصلح الكبير والحكيم العليم غير أنّ بعض الصحف لأمر ما ذكرت عنه عبارات مفتراة لا أصل لها ممّا جعلني وقتئذ أنْ أردّ عنه تلك الفرية بجريدة المقطّم الغرّاء. ثم تشرّفت بزيارته في رمل الإسكندرية، ولمّا بلغت المنزل المقيم به، وكانت الساعة الثامنة مساءً ولديه جمهور عظيم من وجهاء القوم أرسلت إليه بطاقتي فخرج لمقابلتي وأدخلني معه إلى المجلس وقدّمني إلى الجالسين بهذه العبارة: ‘هذا صديق الأدبار وصديق الأدبار خير من صديق الإقبال.’ وقال: ‘هذا صديق الشِّدّة والحقّ وعند الشدائد تظهر الأخلاق.’

ولما قدم القاهرة بعد ذلك نزل بفندق عزبة الزيتون فتوافد لزيارته الكبراء والعلماء والأفاضل وكنت معه في أثناء زيارته العالم المرحوم جورج بك زيدان منشئ الهلال وحضرات الدكاترة العلماء أصحاب المقطّم والمغفور له الشيخ علي يوسف صاحب المؤيّد وجرت بينه وبينهم أحاديث طويلة وقعت من نفوسهم موقع التأثر والإعجاب.

ولمّا فتح الإنكليز حيفاء في 23 سبتمبر (أيلول) سنة 1918 بادر قائد الحامية لزيارة سيادة عبد البهاء عباس أفندي بناءً على أشارة سابقة له، وبالغ في إسداء الشكر له لما بذله من الجهد الإنساني المأثور في أثناء الحرب الأخيرة الدالّ على ما تكنّه أسمى نفس من أرحم العواطف نحو البائسين والمنكوبين بشرور تلك الحرب من سائر بني الإنسان بدون تمييز بين دين ودين وجنس وجنس حتّى أنّ القائد، برهانًا على جلائل أعماله وتقديرًا لمنزلته من نفوس أمراء وملوك العالم إذ ذاك، وافى سيادته بعد ذلك، وإظهارًا لقدره الرفيع قدّم إليه وسام العضوية الإمبراطورية البريطانية من درجة فارس ممنوحًا من لدن صاحب الجلالة ملك الإنكليز، فمن باب أدب المجاملة وحسن تبادل العواطف الإنسانية التي هي غاية عبد البهاء الأولى قَبِل ذاك الوسام بالحمد والثناء تشجيعًا منه لغيره من الذين وقفوا نفوسهم على العمل لخير البشر. وإنّه لعمل محمود في باب التنافس المباح إذ فيه يتجلّى المثل الأعلى في موضوع القدوة الحسنة في عظيم الأعمال.

وقبل عودته إلى عالم الأرواح بثلاثة أيام، أحسّ انحرافًا فلازم إحدى غرف منزله حيث تكاثر الزائرون وعند الساعة الخامسة من ليلة الوفاة زاره اثنان من عيون حيفاء فأشار عليه بتبديل تلك الغرفة فأجابهما قائلًا: ‘رأيت رؤيا كأنّما هاتف يناجيني بملازمة غرفتي هذه وعدم الاستعاضة عنها بغيرها إذ شعرت من نفسي أنّ ساعات الرحيل دوان، وأن زيادة المرء في دنياه نقصان. فالعمار والحياة جميعًا كلاهما إلى نفاد وفساد، ولم يعد لي سوى أنْ أعمر في جوف الأرض بعد سطحها، سنّة الله القديمة في البشر ولن تجد لسنّة الله تبديلًا.’

وعندما همّ الوجيهان بالانصراف سار يشيعهما المولى إلى الباب الخارجيّ، فتوسّلا إليه أنّ يعود حتّى لا يستهدف للهواء، فأجابهما: ‘لا بأس’.

ولدى عودته لغرفته، كاشف من حوله بأنّه يردّد الأنفاس الأخيرة من الحياة، وعند منتصف الساعة الثانية من مساء ليلة الإثنين الواقع في 28 نوفمبر سنة 1921، فاضت روحه الطاهرة بهدوء وطمأنينة، وهي الروح التي تعارفت بالفطرة مع المنزل الأعلى، بل هي الروح التي ذهبت إلى ربّها راضية مرضية جزاء ما أدّت له تعالى قسطها كاملًا ممّا على رجال الله المختارين من الواجب الأعظم في هذه الحياة.

سلالة عبدالبهاء الطاهرة

أنجب ذخر العالم عبد البهاء عباس أربع نيّرات وكوكبًا ما كاد يبدو في سماء البهائية الطاهرة أنْ عاجله الأفول.

وأمّا كريماته المصونات الطاهرات اللاّتي لا زلن مشرقات على الوجود فقد حُظي حضرة صاحب السيادة السيد محسن بالتزوج من الأولى، والسيد ميرزا هادي والد السيد شوقي أفندي خليفة عبد البهاء ومبعث فيوضاته الروحانية من النيّرة الثانية، وحظي السيد ميرزا جلال من التأهّل بالثالثة وبالنيّرة الرابعة حضرة العزّة أحمد بك يزدي قنصل دولة إيران العلية في بورت سعيد.

وأولًا وأخيرًا أقول أنّ وجوه الوصف الشافي قد تفنى عليها متون البلاغة دون أنْ يتسنّى لقلم ما في الوجود أنْ يوفّي المولى عباس حقّه من الواجب، وقد يكون الشعور بالعجز في بعض الأحايين التي تستدعي الإسهاب رعاية المقام الموصوف من أجلى وأفصح ألسن البيان وفي مثل هذا المقام العزيز فليتنافس المتنافسون.

المخلص

سليم قبعين

مبادئ البهائية

(1) وحدة عالم الإنسانية

أنتم جميعًا أوراق شجرة واحدة وثمرات غصن واحد. أتعرفون لماذا خلقناكم جميعًا من طينة واحدة؟ لكيلا يفتخر أحد على أحد. فكّروا دائمًا في كيفية خلقتكم.

(2) الاستقلال في تحرّي الحقيقة

لا يجوز لأيّ إنسان أنْ يقتفي أثر أسلافه ويقلّدهم تقليدًا أعمى، بل الواجب عليه أنْ ينظر بعين نفسه لا بعين أحد من أجداده وأسلافه. ويجب عليه أنْ يتحرّى الحقيقة حتّى يفوز بها، وحيثما يرى أنّ ديانة الأسلاف مبنيّة على التقليد الأعمى، فغرضه أنْ يفحصها وأنْ لا يتلقّاها قضية مسلّمة من غير اختبار، إذ الواجب عليه أنْ لا يحترم المشهور أو لأنّه المجمع عليه لدى القوم، بل يجب عليه أنْ يتحرّى الحقيقة حتّى يفوز بالوصول إليها.

(3) أساس الأديان واحد

الأساس الذي وضع لعموم الأديان والدعامة التي ترتكز عليها سفراء الرحمن حقيقة واحدة، والواحد لا يتعدّد ولكنّا نرى من الأسف بعض الطقوس والتقاليد قد دخلت فيها وبدخولها أوجدت التفريق والانقسام بين الأديان. فهي عوامل لتفريق شملها فابحثوا عن الحقيقة تلقوها ظاهرة للعيان بارزة لكلّ من كان، فالدين واحد لا أديان متفرّقة.

(4) الدين سبب الألفة بين البشر

جميع الأديان هي أسطع الأنوار الإلهية وهي المثال الحيّ لبقاء النوع الإنساني، ووسيلة التآلف بين بنيه، ولو كانت الأديان سببًا في العداء والبغضاء والظلم والجفاء لكان عدمها خيرًا من وجودها، ولكان هجرها خطوة في سبيل الوحدة.

(5) اتفاق الدين مع العلم والعقل

يجب أنْ يكون الدين أمرًا معقولًا وأن يتّحد إتحادًا تامًّا مع العلم حتّى لا يتنافر ولا يباين أحدهما الآخر. ويلزم أنْ يكونا أخوين صنوين ولقد جرى، حتّى أيامنا هذه، أنْ يقبل الإنسان كلّ ما يقال له ويلقى عليه على أنّه الدين ولو كان ذلك الملقى مخالفًا لكلّ عقل بشري وهذا لا يسوغ في شرعة الدين الحقيقي.

(6) حل المسائل الاقتصادية

لا يوجد كتاب ديني من الكتب المقدسة تناول هذا المبحث ولكنه حلّ حلًا شافيًا وافيًا بمرام الهيئة الاجتماعية في تعاليم حضرة بهاء الله، فكما أنّ الغني يتمتّع باللّذات كذلك الفقير يجب أنْ يكون له مأوى حسن يأوي إليه وأنْ لا يكون في فاقة وإذا لم يتحقق ذلك فلا تذوق الإنسانية طعم الهناء إذ الكلّ في نظر الله سواء.

(7) اللغة العمومية

سينتخب العالم جماعة منهم لاختيار لغة عمومية تدرّس في كافة مدارس العالم وتلقّن للمبتدئين من كلّ الأمم حتّى لا يحتاج الإنسان إلاّ إلى لغتين فقط: لغته الأصلية واللغة العمومية التي سيتعلّمها العموم.

(8) المحكمة العمومية

منذ نيف وخمسين عامًا وضع حضرة بهاء الله هذه المبادئ، وأمر بتأسيس محكمة دولية عمومية تحت حماية الله ورعاية كلّ البشر ويجب على الكلّ أنْ يخضع ويطيع لكلّ ما تقرّره هذه المحكمة حتّى يمكن حلّ مشاكل كلّ الأمم بواسطتها ولا شك أنّ هذه المبادئ هي روح هذا العصر ونور كلّ مصر.

(9) التساوي بين الرجال والنساء

هذا مبدأ خاصّ بتعاليم حضرة بهاء الله بخلاف الأديان القديمة السابقة، فإنّها كانت دائمًا تضع الرجل في مرتبة أعلى من مرتبة المرأة والبنون والبنات في هذا الدور يجب أنْ يتساويا في أمر التعليم والتهذيب وبذلك يتحقق اتحاد الجنس البشري.

(10) نبذ التعصبات بالكلّية

لقد بعث عموم الأنبياء من أجل إيجاد الألفة بين البشر، ولم يبعثوا لبذر بذور الشقاق في الآفاق بل جاؤوا ليلقوا على الناس دروس المحبة والولاء لا البغضة والقلى على هذا فالواجب على جميع المتدينين أنْ ينبذوا كلّ التعصبات وراءهم ظهريًا سواء كانت جنسية أو وطنية أو دينية أو سياسية. يجب علينا أنْ نكون سببًا في غرس جذور المحبة بين الأنام.

(11) الصلح العمومي

يجب أنْ تعيش الناس والأمم في سلام واطمئنان، وبعدئذ سيتحقق السلام العامّ بين مختلفي الأديان والأجناس والأقوام. ومسألة المسائل في هذا العصر هي مسألة السلام العامّ وتحقيق هذا المبدأ العظيم هو من ضروريات هذا العصر وعقد جميل سيتحلّى به جيد هذا الدهر.

(12) تعميم التربية بين جميع البشر

يجب أنْ يأخذ كلّ كائن نصيبه من العلم والتربية وذلك من أهم ضروريات الدين، فيجب أنْ يكون التعليم إجباريًا، وإذا لم يكن للطفل والدان فالجمعية البشرية ملزمة بالقيام على تربيته، إذ لا يصح أنْ يوجد مخلوق لم ينل قسطه من العرفان.

خطب عبدالبهاء في أوروپا وأميركا

شخص ساكن الجنان، الطيب الذكر، عبد البهاء عباس أفندي وفد إلى أوروپا وأميركا لِبثّ دعوته فيها فقوبل في كلّ مكان بالإجلال والإعظام والتبجيل والاحترام، وجرت له محادثات دينية اجتماعية مع العلماء والفلاسفة والصحافيين وكبار رجال الدين، فبهرتهم مبادؤه وخلبت تعاليمه ألبابهم، وبلغ من اهتمام الصحافيين الغربيين أنّهم كانوا يحفرون لخطبه سواء كانت بالعربية أو الفارسية كليشيهات ويطبعونها في جرائدهم ثم ينشرون تعريبها أيضًا بلغاتهم.

وخطب مئات من الخطب في المحافل والمعابد والكنائس، وكان الصحافيون ينقلون خطبه بالاختزال والفائز منهم من كان يسبق غيره بنشرها، وكان القرّاء يتخاطفون الصحف لتلاوة تلك الخطب النفيسة التي كانت تنعش النفوس بمحتوياتها الصادرة من عقل فياض ينثر الدر والغرر ويحيي ميت القلوب التي رسخت فيها المعتقدات القديمة وقيّدتها الطقوس والفروض وجعلتها ضمن دائرة ضيقة لا تستطيع تجاوزها.

رأى الغربيون وغيرهم في تعاليم عبد البهاء مبادئ صحيحة واضحة خالية من الغموض والإبهام وليس فيها ما يقصر الإدراك عن فهمه فدخلت الآذان بدون استئذان، وحلّت النفوس من تلك الأغلال التي رسفت فيها أعوامًا طوالًا. أبان عبد البهاء في خطبه أنّ الأديان ما وجدت لإلقاء بذور الشقاق بين الناس وبثّ الضغائن والأحقاد في نفوسهم بل إنّها وجدت لتوطيد دعائم السلام وبث المحبة والوئام وإنّها وجدت رحمة للعالمين.

ولو أردت أنْ أنشر جميع خطبه لاقتضى لذلك مجلّدات ضخمة، ولكن لمّا كان ما لا يؤخذ كلّه لا يترك جلّه، فقد جمعت نخبة من تلك الخطب النفيسة والقليل يدلّ على الكثير.

عباس أفندي في لندن

قوبل حضرة عباس أفندي عبد البهاء في لندن بما يليق بمقامه الروحاني، وكان أينما حلّ وسار قبلة الأنظار ومطمح الأبصار وتوافد العلماء والفلاسفة والقساوسة لزيارته والتيمّن بطلعته واستماع أقواله واستيضاح مبادئ البهائية التي كانوا متعطشين لسماعها، وجرت بينه وبينهم أحاديث طويلة وخطب عدة خطب باللغتين العربية والفارسية كانت تعرّب في الحال إلى لغة القوم.

وقد قابل المولى عباس أفندي أحد مشاهير الكتاب في لندن عند زيارته لها سنة 1911.

ونشرت الجريدة المسماة ذي كرستشن كومنولث أيّ الجمهورية المسيحية، (وهي لسان حال الحركة الأمامية في الديانة المسيحية والآداب الاجتماعية) صورة ذلك الحديث في عددها الذي صدر في 13 سبتمبر سنة 1911. وممّا جاء في الحديث قول الكاتب:

ومن عادة أنصار كلّ نبي أو قائد ديني كبير أنْ يعزوا إليه أمورًا خارقة وقوة فوق قوة البشر. وقد قلت لعبد البهاء في ذلك فأنكر أنّ له قوة فوق قوة سائر الخلق بل أنكر تسميته بالنبي وقال إنّه لم يقل في زمانه كلمة يشتمّ منها أنّه يدّعي قوة النبوّة. قال: لست إلاّ خادم الله، ولا أريد أنْ أدعى بغير هذه اللقب.

ومما قاله لي: إن أساس البهائية أساس جميع الأديان، فإن تعاليم أنبياء إسرائيل ويسوع المسيح وغيرهم من معلّمي الأديان نُسيت، فقامت البهائية تجدّدها وتذكّر الناسين بها. لذلك يحب البهائيون أهل الأديان الأخرى حبًّا جمًّا لأنّهم يعلمون أنّ ابني آدم أكفاء من جهة التمثال ومن جبلة واحدة.

وبهاء الله يسعى إلى تمكين روابط الصداقة والاتحاد بين الناس، ويوجّه خطابه إلى العالم كلّه، لا إلى نحلة واحدة أو ملّة معينة منه. قال لي: ‘نحن كلّنا فروع أصل واحد وأعشاب في حقل واحد، وإنّ ما أفضى إلى ما بيننا من الاختلاف والانقسام سوء التفاهم. فلو جيء بالحقّ إلى الخلق لعلموا أنّهم كلّهم واحد، ولقال كلّ منهم على حدة هذا هو الحقّ الذي كنت أنشده. ذلك بأنّ التعاليم التي علّمها الأنبياء الصادقون واحدة لا فرق بينها.’

قلت: ‘ما هي الميزة التي تتميّز البهائية بها، وما هي الصفة الخاصّة التي تضيفها إلى أديان العالم؟’

قال: ‘إعلان إتحاد بني البشر، وبالتالي السلام بين الأمم وتجديد تعاليم الأنبياء الذين بعثهم الله نورًا وهدى للعالمين وبسط تلك التعاليم وإفراغها في قالب ملائم لروح العصر. فإنّه لما ظهر بهاء الله في الشرق مناديًا بوحدة الخلق، قامت قيامة إيران كلّها
عليه ولكنه نشر رسالته هذه رغم كلّ مقاومة، وكانت نتيجة سيرته وتعاليمه أنّ ملل إيران ونحلها المختلفة أخذت تصير عائلة واحدة لله، وترى المسلمين والنصارى واليهود والمجوس الذي انتحلوا البهائية على أعظم وفاق ووئام لا خصام بينهم ولا حرب، فالمسلمون يجلّون موسى والمسيح، والنصاري يجلّون محمدًا وموسى، واليهود يجلّون المسيح ومحمدًا. وقد تعلموا حبّ بعضهم البعض وأخذوا يصيرون واحدًا، واعلم أنّ الوحدة هي الحياة نفسها هي موهبة إلهية. وكلّ ما يفضي إلى الانقسام والبغضاء إنّما هو رجس من أعمال الشيطان، فالواجب أنْ ترشد الأديان إلى الاتحاد…’ الخ.

وقال الكاتب فلا عجب والحالة إذا رأينا الناس يقبلون على البهائية أفواجًا لآدابها السامية وبساطة تعاليمها وسلامتها من الأوامر والنواهي ضيقة الحدود قليلة التسامح. وليس لها نظام خاصّ بها ولا طقوس تجري عليها ولا طغمات يتوارثون رتبها وألقابها، ولا أماكن خاصّة للعبادة ولا كتاب موقوت للصلاة بل هي بالاختصار روح وحياة وليس من مبادئها إقناع الناس بترك أديانهم والانضمام إليها، فقد تكون بهائيًا مع بقائك مسيحيًا أو يهوديًا أو مسلمًا.

وبعد انتهاء حديثي معه دخل علينا القس كمل المشهور، فوقف عبد البهاء وتقدّم لمقابلته باسمًا باسطًا إليه ذراعيه وحيّاه أحسن تحيّة ودار بينهما الحديث الآتي بواسطة ترجمان إنكليزي يعرف الفارسية.

كمل: ‘طالما تقت إلى هذه الفرصة لمقابلتك.’

عبد البهاء: ‘هذا دليل صادق على أنّ قلبينا واحد.’

كمل: ‘هذا صحيح والقلوب شواهد.’

عبد البهاء: ‘عندنا مثل يقول أنّ القلوب المتوحدة تجد سبيلًا بعضها إلى بعض.’

كمل: ‘لا أظن هذا المثل خاصًّا بإيران وحدها.’

عبد البهاء: ‘كثيرًا ما نرى أهل بيت واحد مفترقين لا وحدة بين قلوبهم. ولكن هنا رجلين الواحد يعيش في الشرق والثاني في الغرب، وقد جعل قلباهما يجتمعان منذ زمان طويل، فقد كانا منفصلين الواحد عن الآخر في العالم المادي والشقة فيما بيننا بعيدة، ولكننا كنّا على الدوام متقاربين في العالم الروحاني، والقرب الحقيقي إنّما هو قرب القلب لأقرب جسد.’

كمل: ‘الروح لا تعرف جنسية دون أخرى.’

عبد البهاء: ‘الحمد لله إنّ بيننا الآن رابطة مادية فوق الرابطة الروحية والوحدة تامّة.’

كمل: ‘أعرف كثيرين من أصدقائك هم أصدقائي أنا أيضًا.’

عبد البهاء: ‘قرأت مواعظك وخطبك.’

كمل: ‘وكذلك قرأت مواعظك وخطبك.’

عبد البهاء: ‘هذا برهان على الاتحاد.’

وبعد أنْ شرح عبد البهاء البهائية له، قال المستر كمل ما أشبه منشأها بالمسيحية، فإنّ اليهود حاولوا منعها من الانتشار كما حاول قومكم منع البهائية من الانتشار بينهم.

وكان بين الحضور سيدة فقالت لعبد البهاء إنّ حركة المستر كمل الإصلاحية في الدين المسيحي تساعد العالم الإسلامي، فإنّها حركة يفهمها المسلمون في حين أنّهم لا يفهمون ما بين الطوائف المسيحية من الاختلافات الكثيرة.

ودعاه المستر كمل قبل إنصرافه لزيارة معبده الخاصّ في لندن ففعل، وحضر صلاة أقيمت في مساء الأحد، فوعظ المستر كمل عظة موجزة وقدّم عبد البهاء إلى المصلّين، وتكلّم عن البهائية باختصار، وكان عبد البهاء جالسًا في كرسي على المنبر، فلمّا فرغ المستر كمل من عظته، خطب عبد البهاء بالفارسية خطبة وجيزة دامت ثماني دقائق، ثم صلّى صلاة طويلة بالفارسية ترجمت للسامعين بالإنكليزية.

وبعد نهاية الصلاة كتب عبد البهاء بالفارسية الكتابة الآتية ترجمتها في توراة الكنيسة، وأمضاها بإمضائه:

هذا الكتاب هو كتاب الله المقدّس الموحى به من السماء، وهو توراة الخلاص والإنجيل الشريف، وسرّ المملكة ونورها والكرْم الإلهي علاوة إرشاد الله. عبد البهاء عباس

وقرأت في العدد الذي صدر في 20 سبتمبر سنة 1911 من جريدة ذي كريستشن كومنولث المذكورة آنفًا أنّ عبد البهاء حضر الصلاة في كنيسة سان جورج في وستمنستر، فرحّب به رئيسها الأرشديكون ولبرفورس، وقدّمه إلى الجمهور فخطب حضرة عبد البهاء بالفارسية خطبة ضافية قرئت ترجمتها على السامعين بعد الانتهاء منها وقد عثرت على ترجمة هذه الخطبة النفيسة في جريدة وادي النيل الغراء الصادرة يوم السبت الموافق 23 ديسمبر سنة 1911 فأنقلها بحروفها وهي:

أيّها المحترمون! اعلموا أنّ النبوّة مرآة تنبيء عن الفيض الإلهي والتجلّي الرحماني، وانطبعت فيها أشعة ساطعة من شمس الحقيقة وارتسمت فيها القوة العالية ممثلة لها تجلّيات أسماء الله الحسنى ما ينطق عن الهوى إنْ هو إلاّ وحي يوحى. فالأنبياء معادن الرحمة ومهابط الوحي ومشارق الأنوار ومصادر الآثار وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين. وأمّا الحقيقة الألوهية فمقدّسة عن الإدراك ومنزّهة عن أنْ تنسج عنّاكب الأفكار بلعابها حول حماها، فكلّما يتصوّره الإنسان من أدق المعاني إنّما هو صور للخيال وأوهام ما أنزل الله بها من سلطان، وتلك المعاني إنّما لها وجود ذهني وليس لها وجود عيني، فما هي إلاّ محاط لا محيط، ومحدود ليس ببسيط حقيقي والله بكلّ شيء محيط.

والحقيقة الإنسانية أعظم من ذلك حيث لها الوجود الذهني والوجود العيني ومحيط على تلك التصورات الذهنية ومدرك لها والإدراك فرع حالة الإحاطة، فالألوهية التي تحت الإدراكات الإنسانية إنّما هي تصوّرات خيالية، وليست بحقيقة الألوهية لأن حقيقة الربوبية محيطة بكلّ الأشياء لا محاطة بشيء ومقدسة عن الحدود والإشارات، بل هي وجود حقيقي منزّه عن الوجود الذهني، ولا تكاد العقول تحيط به حتّى تسعه الأذهان لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. وإذا أمعنّا النظر بعين الحقيقة نرى حتّى تفاوت المراتب في الوجود مانعًا عن الإدراك حيث أنّ كلّ مرتبة دانية لا تكاد أنْ تدرك ما فوقها مع أنّ كلتيهما في حيز الإمكان دون الوجوب، فالمرتبة الجمادية ليس لها خبر عن المرتبة النباتية لأنّ الجماد لا يدرك القوة النامية والمرتبة النباتية ليس لها خبر من عالم الحيوان.

ولا يكاد النبات أنْ يتصوّر السمع والبصر والحركة الإرادية ولو كانت في أعلى درجة من النبات، والحيوان لا يستطيع تصوّر العقل والنفس الناطقة الكاشفة لحقائق الأشياء لأنّه فاقد الوجدان وأسير المحسوسات وذاهل عن كلّ حقيقة معقولة فكلّ حيوان لا يكاد يدرك حركة الأرض وكرويتها ولا يكاد تنكشف له القوة الجاذبة والمادة الأثيرية الغائبة عن الحواس وهو حال كونه أسير الأثير ذاهل عنه فاقد الإدراك، فإذا كانت حقيقة الجماد والنبات والحيوان والإنسان حال كونها كلّها من حيز الإمكان ولكن تفاوت المراتب مانع أنْ يدرك الجماد كمال النبات والنبات قوى الحيوان، والحيوان فضائل الإنسان، فهل من الممكن أنْ يدرك الحادث حقيقة القديم ويعرف الصنع هوية الصانع العظيم؟ أستغفر الله عن ذلك، ضعف الطالب وجلّ المطلوب نهاية أقدام العقول عقال فما بقي أدنى شبهة أنّ الحدوث عاجز عن إدراك القديم كما قال عليه السلام: ما عرفناك حقّ معرفتك ولكن الإمكان من حيث الوجود والشؤون يحتاج الفيض من حضرة الوجوب.

وعلى ذلك إنّ الغيب المنيع المنقطع الوجداني تجلّى على حقائق الأشياء من حيث الأسماء والصفات وما من شيء إلاّ وله نصيب من ذلك الفيض الإلهي والتجلّي الرحماني وإنّ ما من شيء إلاّ يسبّح بحمده، وأمّا الإنسان فهو جامع للكمال الإمكاني وهو الجسم الجمادي واللطف النباتي والحسّ الحيواني وفضلًا عن ذلك حائز لكمال الفيض الإلهي، فلا شك أنّه أشرف الكائنات وله قوة محيطة بحقائق الممكنات كاشفة لأسرارها وآخذة بنواصي خواصها والأسرار المكنونة في كمونها، وتخرجها من حيز الغيب إلى حيز الشهود وتعرضها للعقول والأفهام هذه هو سلطان الإنسان وبرهان الشرف الاسمي فكلّ الصنائع والبدائع والعلوم والفنون كانت يومًا ما في حيز الغيب السرّ المكنون، فهذه القوة الكاشفة المؤيدة بها الإنسان قد أطلع بها وأخرجها من حيز الغيب إلى حيز الشهود وتعرضها للعقول والأفهام. هذا هو سلطان الإنسان وبرهان الشرف الأسمى فكلّ الصنايع والبدايع والعلوم والفنون كانت يومًا في حيز الغيب السر المكنون فهذه القوة الكاشفة المؤيد بها الإنسان قد اطّلع بها وأخرجها من الغيب إلى حيز الشهود، وعرضها على البصائر والأبصار، فثبت أنّ الحقيقة الإنسانية ممتازة عن سائر الكائنات وكاشفة لحقائق الأشياء لا سيّما الفرد الكامل والفيض الشامل والنور الباهر كلّ نبي كريم ورسول عظيم فهو عبارة عن مرآة صافية لطيفة منطبعة فيها الصور العالية تنبيء عن شمس الحقيقة المتجلّية عليها بالفيض الأبدي ولا يرى فيها إلاّ الضياء الساطع من شمس الحقيقة وتفيض به على سائر الأمم وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم. وإذا قلنا أنّ شمس الحقيقة أشرقت بأنوارها على المرايا الصافية فليس مرادنا أنّ الشمس الحقيقية المقدسة عن الإدراك تنزلت من علو تقديسها وسمو تنزيهها ودخلت وحلّت في المرآة الصافية أستغفر الله عن ذلك وما قدّروا الله حقّ قدره، بل نقصد بذلك أنّ شمس الحقيقة فاضت أنوارها على المرايا لا يُرى فيها إلاّ ضياؤها وما ينطق عن الهوى إنْ هو إلاّ وحي يوحى. إنّ النزول والصعود والدخول والخروج والحلول من لوازم الأجسام دون الأرواح فكيف الحقيقة الربانية والذاتية الصمدانية إنّها جلّت عن تلك الأوصاف فلا يكاد أنْ ينقلب القديم حادثًا ولا الحادث قديمًا فقلب الماهية ممتنع ومحال هذا هو الحقّ وما بعد الحق إلّا الضلال المبين.

فغاية ما يكون الحادث يستفيض الفيض التام من حضرة القديم فلننظر إلى آثار رحمة الله في المظهر الموسوي وإلى الأنوار التي سطعت من الأفق العيسوي وإلى السراج الوهاج اللاّمع في الزجاج المحمدي عليه الصلاة والسلام وعلى الذين بهم أشرقت الأنوار وظهرت الأسرار وشاعت وذاعت الآثار على ممر الأعصار والأدهار.

ترجمة الخطبة التي ألقاها عباس أفندي في جامعة أكسفورد بلندن على جمهور من الأساتذة والفلاسفة

هو الله

لا يكاد الإنسان أنْ يطّلع بالسر المكنون في غيب الإمكان إلاّ بعد الخوض في غمار البحار، والفوز بعمق الأسرار، عند ذلك يرى الآيات الباهرة، والدلائل الساطعة، والبراهين القاطعة، والحجج اللاّمعة. انظر إلى سرّ الوجود، والبرهان المشهود، إنّ ربّك الودود قد جعل كلّ ممكن الوجود أسيرًا لأحكام الطبيعة وذليلًا لقوانينها كما ترى أنّ الأشياء كلّها تحت سلطة ناموس الطبيعة ومخذولة تحت صولتها، ومحسورة عند ظهور قدرتها ودولتها، حتّى الشمس النير الأعظم لا تكاد أنْ تنحرف رأس شعرة من قوانينها بل هي مطيعة لحكمها، ذليلة عند ظهور سطوتها، فلا تتعدى مدارها، وهذا المحيط الموّاج مع عظمته واتساعه لا يكاد يتخلّص من شرّها ولا يتحرّر من سلاسلها، وكذا كلّ الأجسام العظيمة المتلألئة المتحركة الدرهرهة([1]) في هذا الفضاء الذي لا يتناهي كلّها تحت حكم الطبيعة بأسرها وأذلاّء عند ظهور قدرتها، ضعفاء عند بروز قوتها، ولا تكاد تتعاطى حركة دون أمرها، إلاّ هذا الإنسان الصغير الجسم، الوسيع الفكر، العظيم النهى، الشديد القوى، إنّه يحكم على الطبيعة ويخرق قوانينها، ويهدم مبانيها ويكسر شوكتها، ويخذل دولتها، ويقطع صولتها، ولا يعتني بأحكامها، ويزدري بأصولها ونواميسها، كما ترى أنّ الإنسان بمقتضى قوانين الطبيعة هو حيوان دباب، على التراب، ولكنه يكسر نواميس الطبيعة ويطير في الهواء ويخوض في غمار البحار، ويطارد على صفحات الماء. وترى القوة البرقية الخارقة للجبال العاصية العاتية بقانون الطبيعة أنّها أسيرة حصيرة بيد الإنسان في زجاجة صغيرة ولاشك أنّ هذا خرق لقانون الطبيعة. والصوت الحرّ المنتشر في هذا الفضاء يحصره الإنسان في آلة صماء وهذا أيضًا خرق لقانون الطبيعة. والظل الزائل يجعله الإنسان ثابتًا على صفحات الزجاج وهذا خرق أيضًا لقانون الطبيعة.

وإذا نظرت بنظر دقيق ترى أنّ كلّ هذه الصنايع والبدايع والعلوم والفنون والاكتشافات والاختراعات يومًا ما كانت من الأسرار المكنونة، والحقائق المصونة في غياهب الطبيعة ولكن الإنسان اكتشفها وهي في حيز الغيب وأخرجها إلى حيز الشهود وهذا خرق عظيم لقوانين الطبيعة. إذًا لا شبهة أنّ الإنسان خارق لشرائع الطبيعة هادم لصولتها، كاسر لشوكتها، ناسخ لقوانينها، فاسخ لنواميسها. مع هذا البرهان اللاّمع، والحقيقة الساطعة الدالة على قوة قدسية للإنسان وراء الطبيعة كيف يتخاذل الإنسان ويتنازل الجاهل ويتعبد للطبيعة ويسجد لها من دون الله ويعتقد أنّها هي الحقيقة الجامعة، والدرة البيضاء الساطعة، والكينونة الحائزة للمعنى التام، بل إنّ الهوية الخارقة للطبيعة وأحكامها، الكاشفة لأسرارها، الكاسرة لقوانينها ونظامها هي الإنسان وهذا أعظم برهان وأقوم دليل لعلوّ الإنسان وسموّه على الطبائع كلّها.

فأمعن النظر حتّى ترى البرهان الذي أنزله الرحمن في القرآن. خلق الإنسان علّمه البيان، إنّما البيان عبارة عن الحقيقة الساطعة والأسرار المودعة في حقيقة الإنسان. تعالى الرحمن الذي خلق هذا النور المبين، المؤيد بالفكر والذكر العظيم، وامتازه الله من الكائنات حتّى عن الطبيعة التي يعبدونها من دون الله. وإذا نظرنا إلى النواميس المرتبطة بها جميع الكائنات في حيز الطبيعة نرى بوضوح البيان أنّ الإنسان بقانون الطبيعة أسير للسباع الضارية ولكنه بقوة معنوية مودعة فيه طالما أسر السباع الضارية، وطالما ذلل وقهر الذئاب الكاسرة، وهذا خرق عظيم أيضًا لنواميس الطبيعة وأنّ الإنسان يدع آثار القرون الخالية والفنون الحاضرة مواريث للقرون الآتية وهذا خرق أيضًا لنواميس الطبيعة وأنّ الإنسان له آثار باهرة بعد غيابه من هذه النشأة الحاضرة. والحال أنّ الآثار تابعة للمؤثر حيث الأثر والمؤثر توأمان ولا يجوز وجود الأثر المستمر مع فقدان المؤثر وهذا خرق، وأنّ الإنسان يجعل للأشجار الفاقدة الثمار قطوفًا دانية وهذا خرق، وأنّ الإنسان يجعل السموم المهلكة بقانون الطبيعة سببًا للشفاء والعافية وهذا خرق، وأنّ الإنسان يستخرج المعادن التي هي كنوز الطبيعة وأسرارها المكنونة المصونة في باطنها ولا يجوز ظهورها بحسب قانونها وهذا خرق، وأنّ الإنسان بقوة معنوية يمزق قوانين الطبيعة كلّ ممزق ويغتصب السيف الشاهر من الطبيعة ويضربها ضربة دامغة وهذا خرق بل تمزيق لقانون الطبيعة، ثم انظر أنّ الإنسان كاشف لأسرار الطبيعة والطبيعة غافلة عنه وعنها، وأنّ الإنسان يخابر الشرق والغرب طرفة عين وهذا خرق، وأنّ الإنسان مستقر في مركزه ويشاهد ويكالم ويخابر النواحي القاصية وهذا خرق، وأنّ الإنسان حال كونه في حيز الثرى له اكتشافات في السماء وهذا خرق، وأنّ الإنسان مخيَّر والطبيعة مجبورة، وأنّ الإنسان مستشعر والطبيعة فاقدة للشعور، أنّ الإنسان حيّ مريد والطبيعة فاقدة الحياة والإرادة، أنّ الإنسان يكتشف الحوادث الآتية والطبيعة عاجزة عنها، وأنّ الإنسان بقضايا معلومة يستدل على القضايا المجهولة والطبيعة جاهلة عنها. إذًا ثبت بالبرهان الساطع أنّ في الإنسان قوة قدسية والطبيعة محرومة عنها، وأنّ في الإنسان صفة جامعة لكمالات شتّى من حيث السمع والبصر والفؤاد والفضائل التي لا تتناهى والطبيعة فاقدة لها. وأنّ الإنسان له الترقي المستمر ولا يتراخى والطبيعة لا زالت على الحالة الأولى أزلًا أبدًا، وأنّ الإنسان مؤسس للفضائل والطبيعة داعية للرذائل والمفاسد التي هي منازعة البقاء والخصائل المذمومة التي جُبل الحيوان عليها، وأنّ الإنسان يتصرف بقانون العقل والنهى، وأنّ الطبيعة تتصرف بقانون الظلم والجفاء، فالخير والشر متساويان عندها. وأمّا في عالم الإنسان الخير ممدوح والشر مكروه، وأنّ الإنسان يبدّل ويغيّر القوانين المؤسسة باقتضاء الزمان والمكان والطبيعة لا تكاد تنفك عن قوانينها لأنّها مجبورة عليها، وهذه الآفات والمخاطر كلّها اعتساف الطبيعة وسبب للهلاك والدمار، وأمّا الإنسان فإنّه جامع للفضائل كلّها المنبعثة من القوة المعنوية الوديعة الإلهية، وإنّها ما وراء الطبيعة لأنّها كاسرة لشوكة الطبيعة وقوانينها، ومع هذه البراهين الواضحة، والدلائل الساطعة، والحجج البالغة، ما أغفل الإنسان وأجهله إذا خرَّ ساجدًا للطبيعة وشؤونها وعبدها من دون الله ومع ذلك يعد نفسه فيلسوفًا نفيسًا أستغفر الله بل هو متغافل خسيس. إنّ الإنسان لأعظم شأنًا، وأقوم سلطانًا، وأجل برهانًا من الطبيعة التي ما أنزل الله بها من سلطان، يا لله ما هذه الغفلة؟ ما هذه البلادة الكبرى؟ أنْ يذهل الإنسان عن الحيّ القدير ويتعامى عن الوديعة الإلهية المودعة فيه بفيض مقدس من الرب الجليل ويدع عقله أسيرًا للطبيعة وذليلًا لها. إنّ هذا ليعمي القلوب التي في الصدور والصمم الحقيقي الذي يورث النفور، صُمّ بُكم عمي فهم لا يعقلون. إذا قيل أنّ الإنسان جزء من أجزاء الطبيعة فنقول لا يكاد الجزء يحتوي على فضائل وكمالات لا تتناهى والكلّ محروم عنها هذا أمر مستحيل والله يهدي إلى صراط مستقيم.

[1](1)   الكوكبة الوقادة.

خطاب عبدالبهاء عباس أفندي

في المجمع اليهودي في سان فرنسيسكو([1])

ننشر هنا خطاب عبد البهاء عباس أفندي في المجمع اليهودي في سان فرنسيسكو – كاليفورنيا بالنظر إلى ما جاء فيه من العبارات الصائبة ولشجاعة عبد البهاء في ذكر المسيح في مجمع يهودي وفي الخطاب صورة حقيقية للتعاليم البهائية كما أنّه يحوي دروسًا مفيدة في فلسفة الأديان.

وقبل الخطاب ننشر ترجمة الكلمة التي قالها الحاخام ميار في تعريف السامعين به وهي:

‘إخواني أفراد هذا المجمع!

من حسن حظنا – وهو لا شك حظ سعيد – أنْ نرحب هذا الصباح بعبد البهاء المعلم العظيم في عصرنا هذا.

إن قلب الشرق ديني محض بقطع النظر عمّا إذا كان يوجد غير الدين فيه وفي كلّ مدة بعد أخرى، ينبغ من قلب الشرق من يعلّم ويعيد التعاليم الدينية، فعبد البهاء هو ممثل أحد المذاهب الدينية في هذه الحياة وهذا يجيء عند ميلنا نحن اليهود لأننا نحن اليهود نشعر بأنّنا امتلكنا هذه التعاليم في سائر أجيال الإنسان.

وفي هذا الصباح سيتكلّم بلغته الوطنية بواسطة ترجمانه الدكتور أمين فريد في أصل اتحاد المذاهب الدينية وأنا لا أشك في أنّ ما سيقوله يهمّنا وسلفًا نشكره على كلامه لأنّه لبّى دعوتنا ورضي بالتكلّم هذا الصباح، وهذا هو الخطاب ترجمه إلى العربية الدكتور رضا أفندي بغدادي’:

الدين هو أول موهبة من الله للعالم الإنساني لأنّ الدين عبارة عن التعاليم الإلهية ولا شك بأنّ التعاليم الإلهية تفوق سواها بل هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الغاية القصوى. الدين يهدي الإنسان إلى حياة أبدية. الدين هو المعوّل عليه في تهذيب الأخلاق. الدين يهدي إلى السرور الدائم. الدين هو سبب السعادة الأبدية في عالم الإنسان والواسطة الكبرى لترقية الملل وتنوير العالم. فينبغي أنْ نتحرى الحقيقة ونترك التقاليد العتيقة التي ما أنزل الله بها من سلطان لأنّ التقاليد تجعل كلّ فرد يرجّح ما يعتقده من دون برهان، فالبعض يقولون بأنّ الدين هو سبب السعادة العظمى والآخرون يقولون بأنّ الدين هو سبب الشقاوة الكبرى. بناء على ذلك ينبغي أنْ تتفحص عمّا إذا كان الدين سبب الارتقاء أم الانحطاط وهل هو سبب العزّ أم الذل حتّى تزول الشكوك فلنذكر الأنبياء وما جرى في أيامهم من الوقائع وكذلك النتائج المسلّم بها عند العموم والتي لا يمكن إنكارها ولندع الروايات التي تحسب بعيدة عن الصواب ولا يعترف بها العموم فنقول: أنّ ابراهيم كان نبيًا من الأنبياء دعا الناس للإيمان بوحدانية الله وتفرّده وترك عبادة الأوثان فقاموا عليه بمنتهى الأذية وأخرجوه من بلاده مظلومًا مقهورًا ولكن الحقّ أظهره على العموم وتمّ نوره ولو كره المشركون، فإنّ ابراهيم قد أخلف عائلة بارك الله فيها. ومن بركة الدين ظهرت الأنبياء من هذه العائلة وبعثوا مثل يعقوب ويوسف وهارون وموسى فملكوا الأرض المقدسة، وأسسوا المدنية الكبرى وهذا التأسيس كان بسبب الدين الإلهي. إذن إنّ الدين مسبب العزّ والارتقاء والتمدن وسعادة العالم الإنساني كما إنّا حتّى يومنا هذا نرى أفراد سلالة ابراهيم منتشرين في جميع الدنيا. وأعظم من هذا أنّ بني إسرائيل الذين كانوا أسرى في مصر تحت اعتداءات الأقباط وفي نهاية الذلّ والهوان، فيضادونهم ويتغلبون عليهم حيث كانوا يشغّلون السبطي في جميع الأشغال الشاقة وكانوا بمنتهى الفقر والذلّ والتوحش والجهالة فبعث الله بينهم موسى الكليم وبقوة الدين أظهر عظمةً واقتدارًا عجيبين. فشاعت في العالم نبوّته واشتهرت في الآفاق شريعته ومع أنّه كان وحيدًا فريدًا لكنه بقوة الدين استطاع أنْ يخلّص بني إسرائيل من أسر العبودية وأخذهم إلى الأرض المقدسة. وأسس مدنية العالم الإنساني وهذب بني إسرائيل وأوصلهم إلى أسمى درجات العزّ ورفعهم من حضيض العبودية إلى أوج النجاح وإلى أرقى الكمالات الإنسانية وقد ارتقوا في التمدّن والعلوم والفنون والحكم والصنايع، وبالاختصار ارتقوا إلى درجة أصبح معها فلاسفة اليونان يذهبون إلى الأرض المقدسة ليتعلّموا الحكمة من بني إسرائيل وهذا أمر معلوم مسلّم به بحسب التاريخ، حتّى أنّ سقراط الحكيم ذهب إلى الأرض المقدسة وتعلّم الحكمة من بني إسرائيل، ولمّا رجع إلى بلاد اليونان، أسس وحدانية الألوهية ونشر مسألة بقاء الأرواح بعد الموت، وهكذا فعل بقراط الحكيم. والخلاصة أنّ أكثر الفلاسفة تعلّموا الحكمة من بني إسرائيل في الأرض المقدسة ولمّا رجعوا نشروها في بلادهم. هذا وإنّ بني إسرائيل كانوا ملة ضعيفة ذليلة فتقوّت وخرجت من أسر العبودية إلى السلطنة ومن الجهالة إلى مقام العلم والحكمة والنجاح والترقي والفلاح في جميع المراتب والشئون. فيتضح من هذا بأنّ الدين هو الواسطة العظمى لارتقاء العالم الإنساني وسعادته الكبرى وهو أساس السعادة الأبدية، أما التقاليد التي وجدت بعد المظاهر الإلهية صارت سببًا للخراب، مسقطة للهمم، مانعة للرقي، وكما هو مذكور في التوراة والتواريخ بأنّ الغضب الإلهي استولى على اليهود لسقوطهم في التقاليد وتركهم الأساس الإلهي. والله سلط عليهم بختنصر الذي قتل رجالهم وأسر أطفالهم وخرّب بيت المقدس وأخذ سبعين ألف أسير إلى العراق وأحرق التوراة. إذن عرفنا بأنّ الدين هو سبب العزّ والرقي والتقاليد هي علّة الذلّ والانحطاط، ولهذا السبب استولت دولتا اليونان والرومان على اليهود وألقتاهم تحت الخسف والظلم. ومنهم طيطس قائد الرومان الذي حاصر الأرض المقدسة وأفنى اليهود وقتل جميع الرجال ونهب الأموال وخرب بيت المقدس وإلى الآن تشتيت بني إسرائيل مشهود. إذن الدين الإلهي المؤسس بواسطة موسى عليه السلام كان سببًا للعزّ الأبدي والتربية والرقي والحياة لبني إسرائيل، ولكن بعد ذلك نشأت التقاليد فصارت سببًا للذلّ والاضمحلال فأخرجوا كلّهم من الأرض المقدسة وتفرقوا في جميع العالم.

والحاصل أنّ المقصد الوحيد من بعثة الأنبياء هو لسعادة نوع البشر وتربية العالم الإنساني والأنبياء هم المعلّمون للعموم. وإذا أردنا أنْ نعلم مَن مِن مشاهير الأنبياء كان معلمًا إلهيًا فينبغي علينا بأنْ نتحرى الحقيقة فإذا وجدنا أنّهم أنقذوا النفوس من أحطّ دركات الجهل وأوصلوها إلى أعلى مقام العرفان حتّى حازوا النجاح والفلاح فمن اليقين أنّهم أنبياء حقيقيون. وهذا البرهان لن يقدر أحد أنْ ينكره ولا يحتاج إلى ذكر معجزة يوجد غيره من ينكرها. نعم إنّ أعمال موسى الكليم هي البرهان الكافي ولا تحتاج إلى دليل آخر. فلو وجد إنسان خالٍ من الأغراض ومنصف يتحرّى الحقيقة لا شك أنّه يشهد بأنّ موسى عليه السلام كان مربيًا جليلًا ومعلمًا عظيمًا. والحاصل أنّ الشيء المهم هو أنّ السامع يلزمه الإنصاف وتحرّي الحقيقة واجتناب التعصّب. وأنّ المراد من وجود الأديان الألفة بين البشر وهي أساس الأديان الإلهية وهي الحقيقة الساطعة والحقيقة لا تقبل التعدّد ولا التقسيم. فإذًا ثبت أساس الأديان الإلهية حقيقة واحدة كلّ دين مقسوم إلى قسمين: قسم له تعلّق بعالم الأخلاق وذلك لارتفاع مقام الإنسان وترقية البشر ومعرفة الله وكشف حقائق الأشياء هذا هو الأمر المعنوي والأساس الأصلي الإلهي الذي لن يتغير أبدًا وهو أساس الأديان الإلهية كلّها بناء على ذلك إنّ الأديان الإلهية من حيث الحقيقة والأصول كلّها واحدة.

أمّا القسم الثاني فله تعلّق بالمعاملات وذلك فرع يتغير باقتضاء الزمان والمكان. مثلًا في زمان نوح اقتضى تحليل أكل الحيوانات البحرية كلها وفي زمان إبراهيم اقتضى تزويج العم بابنة أخيه وفي زمان آدم الأخ بالأخت كما فعل هابيل وقابيل ولكن هذه الأحكام بعضها اقتضى تحريمها في التوراة باقتضاء الزمان والمكان. وكذلك موسى الكليم لعدم وجود سجن للمجرمين في الصحراء قال ‘السنّ بالسّنّ والعين بالعين’. أمّا الآن فهل يمكن إجراء هذا أم إجراء أحكام القتل العشرة المذكورة في التوراة؟ والحال أنّ جميع العقلاء في هذا اليوم يتباحثون في مسألة عدم جواز قتل القاتل وتكليف أحكام العلماء العشرة في التوراة. نعم إنّ تلك الأحكام كلّها حقّ لكنها كانت لمقتضى ذلك الزمان. وكان ذلك الزمان يوافق أنْ تقطع اليد لسرقة ريال واحد، فهل يا ترى في يومنا هذا يمكن قطع اليد لسرقة مائة ألف ريال؟ فإنّ أحكامًا كهذه تتغير في كلّ دورة لاقتضاء الزمان والمكان لأنّها فرع. أمّا القسم الأول أيّ أساس الأديان الذي له علاقة بعالم الأخلاق ورقّة الاحساسات فلن يتغير لأنّه أساس واحد لا تعدد فيه ولا تقسيم ولا مبدل له قد أسسه موسى والمسيح ومحمد وجميع الأنبياء. فجميع الأنبياء دعوا إلى الحقيقة ومقاصدهم كلّها واحدة وهي سعادة العالم الإنساني والمدنية السماوية التي تتعلق بعالم الأخلاق.

وبالاختصار قلنا بأنّ الدليل على حقيقة النبوّة وبرهان الوحي هو نفس الأعمال من كلّ نبي، فإذا كانت سببًا لرقي العالم الإنساني فهي لا شك دليل على حقيقته. وإذا نظرنا بعين الإنصاف نرى أنّ أمّة اليهود وقعت في أسر العبودية ومحتها دولة اليونان والرومان وذهبت من بينهم شريعة الله وانهدم أساس دين الله. فظهر المسيح عليه السلام وأول شيء فعله كان إعلان نبوّة موسى وأنّ التوراة كتاب الله وأنّ أنبياء بني إسرائيل جميعهم كانوا على الحقّ ونشر نبوّة موسى في العالم وأشهر اسمه في أقاليم الدنيا. وقبل ظهور السيد المسيح ما كان لموسى ذكر في سائر أقطار الدنيا ولا التوراة في تلك الجهات ولكن المسيح كان واسطة لترجمة التوراة إلى أكثر اللغات وهو الذي رفع أعلام بني إسرائيل وجعل أكثر ملل العالم مؤمنة بهم وآل إسرائيل كان شعبًا إلهيًا مقدسًا مباركًا وأن أنبياءهم كانوا مشارق للوحي والإلهام ومنهم النجوم اللاّمعة في الأفق الأبدي. لذلك ثبت أنّ المسيح أذاع أمر موسى وما أنكر نبوّته بل أيّدها وما محا التوراة بل كمّلها، وجلُّ ما هناك من التغييرات هو أنّه غيّر بعض الأحكام التي كان لها تعلّق بالمعاملات وذلك لاقتضاء الزمان وهذا ما لا أهمية له ولكنه قد أظهر تعاليم موسى بقدرة فائقة وبنفوذ كلمة الله وجمع أكثر ملل الشرق والغرب المتجادلة المتقاتلة في ظل خيمة هي وحدة العالم الإنساني وهذا أمر مهم، حتّى أنّه جعل ملل الرومان واليونان والسريان والكلدان والآشوريين والمصريين كلّها متحدة ومتفقة وأسس المدنية السماوية. فنفوذ هذه الكلمة والقوة السماوية الخارقة للعادة لا شك أنّها برهان كاف على حقيقة المسيح فانظروا كيف أنّ سلطنته السماوية لم تزل إلى الآن موجودة ومستقرة، هذا هو البرهان القاطع والدليل الواضح.

وأمّا محمد عليه السلام فأول خطابه إلى قومه أنّ موسى نبي الله والتوراة كتاب الله، وأوجب عليهم الإيمان بموسى والتوراة وجميع أنبياء بني إسرائيل والاعتقاد بالمسيح والإنجيل الجليل، وكرر سبع مرات تاريخ موسى في القرآن في كلّ مرة أثنى عليه وفي عدة مواضع صرّح بأنّ موسى كان من أنبياء أولي العزم وصاحب شريعة مستقلة، وسمع النداء الإلهي في الصحراء، وكلّم الله تكليمًا وأنزلت له ألواح الوصايا العشر. ولكن اعترض على محمد عليه السلام الجهلاء وقاوموه وكانت النتيجة أنّ الله نصره نصرًا مبينًا لأنّ الحقّ هو الغالب على الباطل. فانظروا بأنّ محمدًا عليه السلام ولد بين قبائل العرب المتوحشة وعاش بينهم وهو رجل أميّ ليس له خبرة بالكتب المقدسة الإلهية. أمّا قبائل العرب فكانت بغاية الجهالة والهمجية حتّى كانوا يدفنون بناتهم أحياء تحت التراب ويحسبون ذلك غيرة وحميّة. وعيشتهم كانت بغاية الذلّ والأسر تحت حكومتي إيران والرومان متشتتين في بادية العرب والحرب والقتال مستديمان بينهم. ولمّا طال النور المحمدي زالت ظلمات الجهالة من تلك البادية والأقوام المتوحشة وفي زمن قليل وصلت إلى منتهى المدنية والعلوم والفلسفة وتوسعوا في جميع الكمالات حتّى أنّ أهل أوروپا استفادوا من مدنيّتهم. فأيّ برهان أعظم من هذا بل هذا دليل واضح وبرهان لامع على نبوّته عليه السلام. ولكن إذا غضّ الإنسان الطرف عن الإنصاف وقام بنهاية الاعتساف لا يرى ذلك بل يعتسف على الحقيقة، وبالاختصار إنّ المسيحيين مؤمنون بنبوّة موسى وكذلك المسلمون يذكرونه بأعلى الثناء فهل يا ترى حصل من هذا المدح ضرر على المسيحيين والمسلمين؟ كلاّ بل بالعكس، قد ثبت إنصافهم بمدحهم وتثبيتهم التوراة. حال كونهم كذا فما الضرر يا ترى لبني إسرائيل إذا كانوا أيضًا يثنون على المسيح ومحمد عليهما السلام حتّى أنّ عداوة وقتال ونزاع ألفي سنة تذهب من بينهم ويزول الفساد. فما الضرر في هذا؟ فالنصارى والإسلام يقولون بأنّ موسى كان كليم الله، فماذا يضرّ اليهود إذا كانوا يقولون بأنّ المسيح روح الله ومحمد رسول الله؟ عندئذ لا يبقى نزاع ولا جدال ولا حرب ولا قتال. وإنّني أعترف وأشهد بذاتي وقلبي وروحي والآن أقول بأنّ موسى كليم الله ونبي الله وصاحب شريعة إلهية ومؤسس سعادة العالم الإنساني فهل في هذا ضرر لاعتقادي حيث أنّني بهائي؟ لا والله بل بالعكس فيه غاية الفائدة. ولا شك في أنّ بهاء الله يرضى عنّي ويقول لي يا منصف لقد تحرّيت الحقيقة بدون تعرض وآمنت بنبي الله وبكتابه. فإذا كان هذا هو الإنصاف يمكننا أنْ نرفع الحرب والتنازع والقتال والحصول على الألفة بين جميع الأديان، فماذا يضرّنا أنْ نفعل ذلك؟ كما أنّ النصارى والمسلمين يثنون على موسى فليمدح اليهود سائر أنبياء أولي العزم من بعد موسى حتّى تحصل السعادة الكبرى، ووحدة العالم الإنساني، والسرور الأبدي، والألفة بين العموم. طالما أنّ الله خالق الكلّ، حافظ الكلّ، رازق الكلّ وحنون على الكلّ، لماذا نحن لا يشفق بعضنا على بعض بل نجادل وننازع؟ والحال أنّ هذا القرن قرن العلم، إنّ هذا القرن قرن اكتشاف أسرار الطبيعة، إنّ هذا القرن قرن خدمة العالم الإنساني، هل يليق بنا أنْ نتمسك بالتعصبات والتقاليد؟ هل يليق بنا أنْ نجعل الخرافات القديمة والأفكار السقيمة سببًا للمنازعة والمقاتلة؟ وأنْ يبغض ويلعن بعضنا بعضًا. أليس الأفضل اعتناق الألفة والمحبّة؟ أليس الأحسن أن يحب بعضنا بعضًا حتّى يرتفع منّا ضجيج وحدة العالم الإنساني إلى عنان السماء بنغمات الملأ الأعلى؟ ونمجد الأنبياء في المحافل العمومية والمجامع الكبرى حتّى يصير العالم جنّة عليا ويتحقق اليوم الموعود الذي يشرب فيه الذئب والحمل من معين واحد، والباز والحجل يعيشان في عش واحد، والأسد والغزال يرعيان في مرعى واحد، بمعنى أنّ الأقوام المختلفة والأديان المتعددة الذين كانوا يتخاصمون مثل الذئب والحمل صار يعاشر بعضهم بعضًا بالألفة المتناهية والمحبة والاتحاد. هذا هو المقصد من بيان أشعياء. وليس من المستحيل حصول الائتلاف والمؤانسة بين الذئب والغنم والأسد له أنياب وأسنان عوجاء بدون طواحن، فلا يمكنه قطع الحشيش أو تنعيم الحبوب لذلك هو مضطر لأكل اللحم.

إذن المقصد من هذه البشارات حصول الألفة بين الملل والأقوام التي توجد بينهما المشكلات مثل الذئب والغنم حتّى أنّها في اليوم الموعود تتحد وتجتمع.

وخلاصة القول أنْ قد أتى ذلك القرن الذي تأتلف فيه جميع الملل ويحصل السلم العامّ بين العالم فتصبح الأقاليم إقليمًا واحدًا لنوع البشر يعيش رغدًا بوحد العالم الإنساني.

[1](1)   نقلًا عن جريدة المهاجر التي تصدر في مدينة نيويورك الصادرة بتاريخ 4 دسمبر سنة 1912.

نزل بلازا واشنطون

ليلة الخميس 2 مايو 1912([1])

لو تفرّسنا في جبين التكوين، وطالعنا سفر الكون، وسرحنا الطرف في رياضه أو نزّهنا الفكر في غياضه، لأتيح لنا أنْ نكشف تنسيق الطبيعة وهندامها وهندستها ونظامها وحسنها ورونقها وانتظامها. ولأبصرنا جمال الإبداع والترصيف، ونضرة الترتيب والتأليف، وأحكام البناء والصنع، وجودة السبك والوضع، ولنمتّع نظرنا بتعرّف سبائك طبقاتها ومحتوياتها، واستطلاع قلائد صورها وصيغ مشتملاتها، وبراعة الصوغ، وإجادة التصوير والصبغ. هاكم السباع والآساد التي تحتجب عن الإبصار وقت طفولتها ونشأتها الأولى، ولا تكاد العيون تلمحها في أخريات أيامها، وهاكم السيارات باعتبار أنّها ركن من كيان الخليقة الفخيمة، فانظروا وتدبروا في ملكوت هاتيكم الحقائق العظام، ومغازي روضات الكوائن الفخام، تروا الكلّ قد رضخ وانصاع لناموس كلّي شامل، وقانون محكم كامل، لا يماثله تجديد، ولا يباريه إحكام. هذا ما أنطق أحد أساطين الفلسفة العظام، ونوابغ الحكمة والدراية والعرفان، بقوله (ليس في الإمكان أبدع ممّا كان) والناس بإزاء ذلك الإبداع والسبك، شتّى في الرأي والتفكير، منهم أبناء المادة وفريق الجحود والجمود، نسبوا هذا التنظيم والتطريز والتنسيق، والقانون البديع الرائع الأنيق، المتجلي على منصة الطبيعة، إلى الطبيعة نفسها، واندفعوا إلى البتّ والحزم، بأنّ هذا النظام والتكوين وهذا العقد والحلّ، وهذا التكوين والفساد، كلّ ذلك من تخريج الطبيعة وإنشائها وكسب يدها ونتاج قوّتها وتمخّضها. فهي في رأيهم المليك الوحيد في مملكة الكون ذات النفوذ الفعّال، وصاحبة الكلمة والشأن، والقوة والسلطان، في جميع دوائر تلك المملكة الكبرى والإمبراطورية العظمى. قالوا وما ذلك الكون إلاّ مرض ظاهري، مقهور أسير في يد ذلكم الأمير، حتّى الإنسان نفسه من نتائج ذلك الأصل الخطير، فهذا حكم الماديين الطبيعيين وجملة رأيهم. ويرى جمهور آخر غير ذلك الرأي، ويذهبون مذهبًا آخر في الإسناد والتعليل، بعد إجماع العموم قاطبة على أنّ العالم بالعيان والشهود، خاضع لقانون مضبوط، وناموس محكم وثيق. فالكلّ يتصالحون على هذا القدر من الحكمة، ويدينون به، وما وراء ذلك تختلف فيه مذاهبهم وآراؤهم، أو يتساءلون بينهم هل هذا القانون الكلّي العامّ، والتناسب والتآلف التامّ، المتجلي في ضمائر الطبيعة، المتشخص على مرسحها، ناجم عن الطبيعة نفسها راجع إليها، أو عائد إلى قانون إلهي. فالطبيعيون قالوا بأنّ ذلك ليس إلاّ بمقتضى الطبيعة ووليدها، وأثر سيرتها، فلولا سقوط قطرات المطر على حقول الأرض ومزارعها ما كانت يومًا غضّة نضرة، ولولا الغمام يجود بمكارمه، ويهطل بغيثه ومآثره، ويتبرّع بفيوضاته ومبرّاته، ولولا الشمس ترسل حرارتها، وتبعث بأشعتها لما اهتزّت الأرض وربت، وأنبتت من كلّ زوج بهيج، تحت فعل تلك القوانين والمؤثرات الطبيعية. إذن ملكة النبات خاضعة لحكومة الطبيعة وحياته حسنة من حسناتها، من خواص النار الكامنة فيها، الإحراق والإتقاد، فالذي يحرق هو النار وإذا كان الإحراق من خصائص ولوازم النار، فمن رابع المستحيلات أنْ تجد جذوة من نار، أو قبسًا من حار، دون هذه الخاصّية والمزية. وإجابة على كلّ ذلك نقول: نتيجة تلك المقدمات هي أنّ كلّ الفضائل والكمالات، والمزايا والآثار والصفات حسنات الطبيعة ومواهبها، وأرباح رأس مالها، وأنّها هي المسيطر الوحيد، والحاكم النافذ الأمر على كلّ شيء، وأنّها هي الأصل وهي الكلّ. وعلى ذلك الإنتاج نقول: لو كانت الطبيعة أصلًا وكلاًّ، وما سواها من سائر الأشياء والأكوان فرعًا وجزءًا، لكان الإنسان أحد أفنانها، ولصح أنْ يكون جزءًا من أجزائها ولو كان الإنسان بإزاء الطبيعة والطبيعة بإزائه على ذكر، لكانت (وهي الأصل والكلّ فرضًا)، محرزة لمزايا الإنسان. وبعبارات أوسع شمولًا، لو كانت هي الأصل لأحرزت كلّ شيء، وكلّ شرف في أيّ غصن من أغصانها، حتّى الإنسان فكانت مالكة لمزاياه، لكنّا بالشهود والعيان والفحص والاستقراء، نجد الأمر على خلاف ذلك الاستلزام والاقتضاء، فإنّ الإنسان يحوي فضائل مخصوصة ويتحلى بمزايا وحلى، الطبيعة خلاء قفر عنها. فانظروا إلى الإنسان تروه حائزًا لقوة اختيار وإرادة تخلو عنها الطبيعة فالشمس تضيء وترسل أشعتها، وتجود بإضاءتها وإنارتها، لا بقصد ومشيئة منها، بل باضطرار والتزام. والطبيعة عندما تصل إلى طور التركيب المعروف بالكهرباء تبعث بضوءها، وتنشر علم نورها، وقبل بلوغها هذا الشكل الكمالي، قاصرة عن ذلك. والماء يمتاز بالإرواء ولا يعرف عاطلًا عنه ولا مشيئة له ولا إرادة. وكذلك سائر أعضاء برلمان الطبيعة، تلفونها ذات وظائف وخصائص طبيعية، والكلّ في ذلك متحدون سواسية ومن ثم أقر واعترف الفلاسفة بفقدان الطبيعة لقوة الإرادة والإدراك الغريزي وعلى هذا المبدأ نتفق مع شيعة الماديين، ونقرر نظير ما قرروا ونقول حسبما أسلفنا أنّ للإنسان مزايا وكمالات لا توجد في الطبيعة: منها قوة الاختيار والإرادة ومنها مزية العقل والفهم.

فالإنسان هو صاحب ذلك العقل واللب السامي الذي لا تجد الطبيعة حاصلة على مثله. الإنسان هو مالك وجدان وإدراك وفهم، ليس في خزائن مملكة الطبيعة نظائرها وأشباهها، ألم يكشف الإنسان مخبئات الطبيعة وأسرارها من حيث لا تشعر الطبيعة بذلك؟ فهل يتفق هذا المبدأ القاضي بامتلاك الإنسان لثروة الإدراك والإرادة وإقفار الطبيعة منهما، مع الهوى الطبيعي القائل بأنّ ذلك المثري فرع من هذا الفقير المعدم؟ أو هل يعقل أنْ تكون القطرة مصبوغة بألوان منقوشة بنقوش يحرم منها الأوقيانوس، مع أنّ هذا كلّ لذاك؟ أو هل يمكن أنْ يفوز هذا الشعاع الظاهر من المزايا بما لا يكون في ملك ذلك الكوكب الرفيع أعني الشمس؟ وهل يتصور إحراز الحجر من الخصائص لما يكون عالم الجماد صفر اليدين منه؟ أو يحوي ظفر الإنسان وهو جزء بدنه خلايا وأنسجة يعدمها مخه؟ فبيّنٌ إذًا أنّ القصور المادي فرض ناقص، واعتبار عليل لا ينطبق على أكثر القضايا اليقينية وبرح الخفاء، وانكشف الغطاء، ولاح في سما البرهان، أنّ الكيان الإنساني يتضمن جنبتين ويحيط بطرفين: أحدهما الجانب الحيواني الخاضع للطبيعة، والآخر الجانب الروحاني الذي يفوقها، فبينما هو من حيث جنبته السفلى وجانبه الطبيعي الحيواني جزء من الطبيعة خاضع لأحكامها ونواميسها. إذًا هو من حيث جنبته العليا والجانب الروحاني قد قهر الطبيعة وتغلب عليها بفضل ارتقائه وأشرفيّته وتميّزه عنها إذ أنّه يحوي من تحف الفضائل، وطرف الفواضل، ما ليس في خزائنها مشاكله، ويحوي أيضًا ما أحاطه بها وقهرها… ولكونه موضوع تلك الودايع السامية، والمنح والأمانات السنية العالية أصبح وفي مكنته واستطاعته أنْ يبرز أسرار الطبيعة إلى أسرة الوجود، ويستخرجها إلى ميدان التحقق والشهود. فهذه الصناعات الشائعة الآن، المنتشرة اليوم في عالم الإمكان، لبثت ردحًا من الدهر الغابر سرًا من الأسرار، وكذلك ما بين أيدينا من العلوم والمعارف كان خبايا في زوايا الطبيعة ومكنونًا في طيات جناحها. والإنسان في كلّ ذلك الاستخراج والاستنباط قد ترأس الطبيعة وسادها وتغلب عليها وأدارها، وأخرج مكنوناتها من سرائر الغيب إلى أسرة العيان والبروز، وكان مقتضى شأن الطبيعة أنْ تظل هذه الأسرار رمزًا من الرموز ولغزًا من الألغاز. خذ مثلًا القوة الكهربائية كان مقتضى الطبيعة أنْ تلبث كنزًا مخفيًا لكن الإنسان بما أوتيه من القدرة الخارقة والقوة الفائقة، اكتشفها وأخرجها من مكامن الطبيعة وضمائرها إلى ساحات الشهود، وحظائر البروز والوجود، وإنّه إنْ كان صاحب هذا الفضل الباهر، والامتياز الظاهر الفاخر. لكن جسمه أسير الطبيعة محكوم لها فالطبيعة تقتضي النوم والرقود، فلا بد له أنْ ينام، ويحتاج إلى طعام وشراب فهو يتناولهما لا محالة، فتراه من حيث الجثمان أسير الطبيعة، بيد أنّه بفضل الروح أصبح حاكم الطبيعة، وما أوتيه من منحة الذكاء مكّنه من القبض على ناصية الكون، وخوله الاستواء على عرشه والاستيلاء على مقاليده وهذا من الثبوت والاتضاح والإسفار كالشمس في رابعة النهار. وإذا كان حكم الإنسان على الطبيعة أمرًا مسلمًا ثابتًا فمن العجب أنْ يقول قائلون أو يذهب ذاهبون إلى آراء هي مع تلك القضية البرهانية على طرفي نقيض، فيزعمون أنّ الإنسان بكلّيته فرع الطبيعة أو جزؤها ولا يرونه إلاّ أثرًا من آثارها، وغاب عنهم أنّهم في هذا الزعم كمن يقول بأنّ الجهل أفضل من العلم، والظلام خير من الضياء أو أنّ الناقص يلحق شأو الكامل أو أنّ التلميذ أكمل من أستاذه فهل هذا ممكن؟

إنّنا متى علمنا أنّ ذكاء الإنسان الوضّاء، وعقله الكشّاف، وفكره الثاقب أكبر بمقدار بعيد من كلّ مضامين الطبيعة، كيف نسلّم بخضوعه وانقياده لها وسيادتها عليه؟ هذا ما لا يقبله عقل طفل. وإذا كان لذلك القول مدلول فهو إنّما يدل على نقصان قائليه وتجردهم من المكارم والفيوضات الإلهية، ونكوصهم على أعقابهم إلى دركات الحيوانية. ووقوف دولاب ذكائهم الخارق عن الحركة والأثر وتجرّده عن الثمرة والجدوى. وتعاميمهم عن الفوارق الفارقة بين الإنسان والحيوان.

وقع لي ذات يوم محادثة بمدينة الإسكندرية مع فيلسوف مادي مشهور وكان متعصبًا في هذه النقطة مصرًّا على أنّ الإنسان وكلّ ما اختص به خاضع للطبيعة وأنّه ليس إلاّ حيوانًا اجتماعيًا، وباعتبار آخر حيوانًا محضًا. ولمّا غلب على أمره في هذه المجادلة أسرع فقال بغتة (إنّي لا أرى فرقًا ما بيني وبين الحمار. ولا أجد ما يميزني عنه. وعلى ذلك فلا أقبل هذه المميزات) فقلت لا. إنّي لأعتبرك متميزًا تمام التمييز فها أنا أدعوك رجلًا بينما الحمار حيوان فقط، وأوقن بأنّك ذو عقل وإدراك، بينما الحمار عارٍ عن ذلك، واعلم أنّك ملم بالفلسفة والحمار خلو منها بالكلّية وعلى ذلك فلا أقبل ما قررته (وهنا ضحك عبد البهاء من كلّ قلبه).

دعنا نضرب لذلك مثلًا كتابًا صغيرًا. نزعم أنّ كتابته عمل يسير. فإننا وإنْ زعمناه كذلك لكن العقل يرشد إلى وجود كاتب أفاد هذا الأثر السهل القليل قائلًا: لا يمكن للكتابة أنْ تتكون من تلقاء نفسها ولا للحروف أنْ تجتمع بلا جامع لها. فلا بد لها إذًا من كاتب، هذا في عمل صغير وأثر يسير كهذا. فهل يمكن أنْ يوجد أثر غير متناه أو ينشأ بناء على أنّ لا أول له ولا آخر بلا صانع قادر؟ أو هل يتأتّى أنْ يكون خالق هذا الكون العظيم عاريًا عن صفة الذكاء والفهم؟ أو يخامرنا ريب في أنّ الخالق خبير بما يتجلّى في الخلق؟

الإنسان وهو خلق ذو إرادة ومشيئة محرز لفضائل ومزايا عديدة. فكيف يكون الخالق محرومًا من هذه الكمالات والمفاخر. هل هذا ممكن؟ ذلك ما لا يقبله عقل طفل.

ومّما هو في غاية الظهور والجلاء أنّ الإنسان لم يهب لنفسه الوجود، لأنّه لا يملك ذلك. فكيف يتاح له على حين ضعفه أنْ ينشيء مثل هذا الكون الواسع الفسيح؟ وعلى هذا فالباريء الذي برأه وسوّاه لا بدّ أنْ يكون أعلى كمالًا وأسمى اقتدارًا. ولو كان خالق الإنسان في مستوى واحد مع الإنسان لتسنّى لهذا الإنسان أنْ يبتدع مثل هذا الكون الكبير الخطير. ولكنّا على دراية ويقين بضعف الإنسان وقصوره وعجزه عن أنْ يخلق ولو واحدًا على مثاله. وعلى هذا فلا بد وأنْ يكون خالقنا سبحانه أرفع منّا وأقدر، بما لا يدرك ويتصور، وهو في كلّ الأوصاف والنعوت يتعالى عنّا علوًا كبيرًا، فنحن ضعاف وهو قوي، فقراء وهو غني، جهلاء وهو فهيم ذكي، أضف إلى تلك البراهين الساطعة والأنوار المتألقة اللاّمعة. أنّ الأشياء تعرف غالبًا بأضدادها، فلولا الديجور ما فهم معنى النور ولولا الموت ما فقهنا حديث الحياة ولولا الجهل لما أدركنا حقيقة العلم والانتباه، فكلا الضدين متلازمان وجودًا أو إدراكًا. ولا بد لليل من نهار ولا بد للنهار من ليل، حتّى يمكن التمييز بينهما فالليل في ذاته دليل النهار الذي يعقبه. والنهار نفسه آية الليل الذي يتبعه. ولولا الليل ما كان النهار ولولا الممات ما كانت الحياة -وبضدها تتميز الأشياء- وإذا كان ذلك كذلك أفلا يدل ضعفنا على ثبوت القوة والقدرة؟ وجهلنا على حقيقة العلم والخبرة؟ وفقرنا على الغنى والثروة؟ فلولا الغنى ما كان الفقر، ولولا العلم ما كان الجهل، ولولا الوجود ما فُهِمَ العدم، وإذا تجلّى لنا ثبوت هذه الصفات والشمائل فلا محالة أنّها تنمّ على موصوفها ومركزها، إلاّ أنّه لهو الله الذي منه كلّ الفيوضات والمكارم والخيرات والمآثر.

[1]        معربة عن الإنكليزية بقلم محمد أفندي توفيق غريب

رقي الروح

خطبة ألقاها المولى عباس أفندي في پاريس([1])

قال الخطيب لجمهور كبير من علماء الفرنسيس وفلاسفتهم وقادة الأفكار فيهم سأتكلّم في هذا المساء عن رقي الروح.

الإنسان يسعى ليدرك الطمأنينة القلبية. والراحة المطلقة الحقيقية. وليس في إمكان شجرة الطبيعة أنْ تأتي بهذه الثمرة الثمينة. وهل في ذلك شك؟ والناس كلّهم يشهدون أنّ هذا العالم الطبيعي كلّه حركات تنتهي بإعدام وسكنات، على إني أفيض في البيان بأطول من هذا البرهان. إنّ كلّ كائن من كائنات الطبيعة لقرين حركة صاعدة، متلوّة بأخرى هابطة مختومة بفناء وموت وزوال. وهذا أمر معلوم لدى العموم. كيف لا وشاعر القوم يقول:

إذا تم شيء بدا نقصه                      ترقب زوالًا إذا قيل تمّ

وقد استفاض هذا المقال، حتّى ضربت به الأمثال، فقد ثبت إذًا أنّ كلّ شيء بين أنْ يرقى وأنْ ينزل إلى حضيض الضعف والوهن. ثم يسقط أخيرًا في هوة التلاشي والعدم. ولا يخرج عن هذه الأحوال مولود من مواليد الطبيعة فهل سلم من هذا الحكم الهائل جثمان حقيقة الإنسان لا وربّك! فإنّ هذا الحكم ليسري إلى طبيعة جثمانه. إذ يتكون ثم ينشأ صاعدًا حتّى إذا ما تمّ نضجه بدا نقصه ثم لا يلبث أنْ تنشب المنية فيه أظفارها وتعبث به يد المنون. فتختطف حياته وما أسرع أنْ تختطف.

الناس في غفلاتهم                               ورحى المنية تطحن

فمثل الجثمان الإنساني مثل الكائن النباتي يكون في البدء قوة محضة في عالم الحبّة. ثم يأخذ في النمو شيئًا فشيئًا حتّى يبلغ نهاية الكمال. ثم إنّ هذه النهاية تنذره بالنهاية الأخيرة التي ليس بعدها من نهاية متهددة لبنائه بالثبور والانهدام والمحو والانعدام. أشبه بحال عصفور طار حتّى بلغ المنتهى فهوى راجعًا وسقط.

ما طار طير وارتفع                                     إلا كما طار وقع

فالأمر واضح والخطب مبين. إنّ الحركة جوهرية في جميع الموجودات الطبيعية وإنّ ارتقاءها شأن محدود. ونزولها في بئر الردى قدر محتوم فأنّى الانصراف؟ وكيف الفرار؟ وأين المهرب من هذا المطلب؟ والطالب حثيث وربّ الحقل يرتقب حصد زرعه ويترقب من آنٍ لآخر قطف ثمره. ولعلّ قاصفًا يهبّ على عجل لقصف زهرته. إذًا فماذا عساه يكون قلبنا بإزاء هذه المحنة؟ وما الحال وما الشأن؟ وما الغصص التي يعرب عنها بعد إلقائه في هذا المأزق؟… أليس قصور نظره على هذه الأحوال المزعجة المرعدة وضلاله في طريق المخلص من هذه الأحكام القاسية المرعبة، يلقيه في سجن الشقاء يلتمس الخلاص ولات حين مناص.

[1]        معربة عن الإنجليزية بقلم الكاتب الأديب محمد أفندي توفيق غريب

(المخلص أو ماء الحياة)

دع عنك هذا كلّه خلف قاف، وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف. فقد آن لنا أنْ نبحث عن الروح فلننظر هل كلّ ما به قوام الإنسان يوزن بعين هذا الميزان؟ وهل نجري عليه بنود هذا القانون دون نقصان؟ إنّ البراهين وشهود الصدق والآيات البينات لتتلو علينا آية البقاء الروحي ناطقة بأنّ الساري على الروح من هذه البنود إنّما هو بند الرقي فقط. أمّا الذبول والعدم فتأباهما طبيعتها كلّ الإباء. فالروح ممنوحة بمنحة الترقي الدائم ومختصة بخاصّية الدوام والبقاء وبعبارة أخرى لمّا كان الكمال الإلهي غير متناه والروح ذات نسب بذلك الجناب كان لها اللاّتناهي أيضًا ومذ يحيا الإنسان تأخذ روحه بالظهور والارتقاء وإدراكه في التقوى والنماء ومعارفه في الزيادة بلا انتهاء وما هو بجائز أنْ يقتضي نفاد الحياة المادية الجسدية فناء هذه الحياة الإدراكية المعنوية. وإنّما الذي يجري من الأحكام على هذه هو حكم اللاّتناهي والأبدية، وإنْ لم يكن ذلك ممكنًا في الكوائن الطبيعية.

(خلود الروح إحدى القواعد الأساسية للدين)

إن الاعتقاد بخلود الروح اعتقاد سائد في الأديان عمومًا وأهلوها مقتنعون بذلك فهذه الدعوات والصلوات والصدقات الجارية من أقارب ومعارف الأموات لأجلهم لدلائل شاهدة بذلك ناطقة باعتقاد الرقي الروحي بعد الانفصال عن هذه الأجساد وإلاّ فما معنى طلب الغفران للمعدوم وكذلك الوعود والإيعادات والبشائر والإنذارات الواردة في الكتب السماوية، فقد ورد أنّ ما تزرعه اليوم ستحصده غدًا. فلولا وجود نشأة أخرى غير هذه النشأة. لما كان لذلك من معنى أصلًا. أليس في انعطافنا الروحاني (الذي لن يضيع سدى) نحو خلاص أحبابنا الذين أمضوا دور هذه الحياة المادية دليل ناطق بوجود المبدأ الديني المتضمن بخلود الروح.

وبالجملة نقول أنّ لدينا قانونين: قانونًا جسميًا ماديًا، وقانونًا روحيًا معنويًا. فأمّا القانون المادي فمقتضاه أنّ الماديات أسراء الحركات المختلفات. الآيلات إلى المحو والدثور والسقوط والثبور. وأمّا القانون الروحي فمقتضاه أنّه لا تقهقر في عالم الروح ولا رجوع. وإنّما كلّه ارتقاء، وكلّه اتجاه جهة الكمال. بل العبارة التي نجدها هنا ونحن في عالم المادة للتعبير عن جوهر الروح. هي كلمة الرقي ويتبع ذلك ترقيها في كلّ شؤونها الروحية، من إدراك وقوة بحث وسائر الأعمال المعنوية العلمية. وأنّه لا يصح فساد على الروح بأيّ وجه كان. وأمّا عالم الأدب والمعنى فهو عالم سعة، لا تزاحم فيه ولا تنافر، ولا تقاطع ولا تدابر. فأكتفي الآن بهذه الإشارة برهان على ذلك. فخلود الروح إذًا أمر حتم، وقول جزم، لا شبهة فيه، ولا ريب يعتريه.

أيّتها الأمم الراقية في عالم الترف والرفاهية. بدارِ بدارِ إلى توسيع نطاق الترقي الروحي توسيعًا لا يحتف به حصر ولا تحديد كما توسعتم في هذه الشؤون المادية. وحذارِ حذارِ من الجمود على السعي المادي والغرور برغد العيش الجثماني. فالجمود منبيء عن الرجوع والقهقرى، منذر بالهلاك والبلى. وأنّ الرقي الروحي الذي هو عالم اللاّتناهي لهو الحري بتوجيه الهمة، وإعارة الالتفات، على أنّ سواه ليس شيئًا إلاّ في عالم الأوهام، ودولة المنام. وإلاّ فسل وجدانك عمّا يرتجيه من شؤون وأحوال وأمور منتهاها البوار ومآلها الخراب والدمار. فضلًا عن تشبّعها بضروب المصائب وصنوف الأكدار. أليست هذه الماديات المجتمعات أعضاؤها الذرات وقد اجتمعت بواسطة التجاذب والتماسك؟ وإنّ ذلك الاجتماع وهذا التماسك حادثان مؤقتان؟ ولا تلبث هذه الذرات أنْ تنفصم؟ وقوة التماسك أنْ تنعدم؟ وحينئذ يحيق بالجسم كارثة الفساد والموت. وينمحي من صفحة الوجود، ويأفل نجم هذا البدن، والعاقل لا يحب الآفلين. ولماذا لا يحب الآفلين؟ أليس لأنّ الأفول مناف لطبيعته، مناقض لحقيقته. فحقيقته إذًا ليست من عالم الأفول فهذا شأن الجسم والجسمانيات، وقيمتها عند النظر والاعتبار. أمّا عالم الروح فلم يكن منسوجًا على هذا المنوال، ولا حوذي فيه حذو هذا المثال، لأنّ الروح جوهر بسيط غير مؤلف من ذرات وأقسام، ولا هو بقابل للتجزء والانقسام، فهي خارجة عن حدود الخلقة الطبيعية، ولذلك كانت خالدة باقية أبدية. أمّا كون الشأن في البسيط ملازمة البقاء والدوام فهو من مباديء الفلسفة العلمية، حيث أنّ جوهر الروح غير مركب من عناصر ولا مؤلف من ذرات وجواهر، فهي غير قابلة لقسمة ولا فساد ولا بمحتملة لتحليل ولا نفاذ.

(نبذة من براهين البقاء الروحي)

كلّ ما ثبت لنا وجوده، فإمّا أنْ يكون ثبوته على يد شاهد العيان، أو على يد بينة الدليل والبرهان. أمّا الثبوت بمقتضى العيان، فهو أمر بديهي البيان، وأمّا الثبوت بالبرهان فلأنّ قيام برهان على شيء مع عدم وجوده حكمان متناقضان ونقيضان لا يجتمعان. وإن دلائل وجود الروح لتتجلى أمامنا ساطعة إلى الأبد. هذه آثار التعاليم الإلهية، التي أفادها روح حضرة المسيح عيسى عليه السلام، مشهورة لنا اليوم. فكيف يتأنّى التسليم بوجود هذه الآثار دون وجود مؤثرها ومفيضها؟ أليس هذا كالقول بكتابة دون كاتب، وهل المحال إلاّ هذا؟ فمهما دلّت الكتابة على وجود الكاتب، فقد دلّت الكتابات المقدسة ووجودها باقية في العالم على وجود الروح وبقائها.

(برهان ثان)

تبصروا في غرض الكون. هل من الممكن أنْ كلّ هذه الكائنات قد خلقت بالنشوء والإرتقاء، لأجل أنْ تعيش هذه الأزمنة المعدودة فقط؟ وهل من المعقول أنّ الإنسان قد خلق لهذا الغرض الصغير في رأيكم. وهو أنْ يعيش حيًا على الأرض هذا العدد القليل من السنين؟ أليس ممّا لا يتصور أنْ تكون هذه هي النتيجة الختامية للوجود؟

وبعبارة أجلى من ذلك أقول: إنّ المعدن يرتقي حتّى ينعدم في حياة النبات، والنبات يرتقي حتّى ينهضم في كيان الحيوان، والحيوان يتكون فيصير صالحًا لغذاء الإنسان، فيتغذى به الإنسان وينهضم فيه وبذلك يُرى أنّ الإنسان هو مجموع جميع المخلوقات. وأنّه الغرض الأخير الذي يرمي إليه القائم بأمر التكوين فهو أشرف الكائنات وأفضل الأنواع. ثم إنّه يعمر الأرض عائشًا عليها نحو تسعين عامًا. فهل ينمحي من الوجود بعد فناء هيكله؟ إذا فرض ثبوت هذا المفروض، فقد كانت كلّ هذه الترقيات والتكونات عبثًا وكلّ هذا العمل عملًا ضائعًا وفعلًا باطلًا. فهل يمكن لأحدكم أنْ يبحث ليرى غرضًا آخر أسمى من هذا الغرض للخليقة؟ ولعلّ هذا الغرض هو أبدية الروح وخلودها. يقول الماديون أين هي الروح؟ وما هي؟ وكيف تكون موجودة ولا يمكننا أنْ نراها أو نلمسها؟ وهكذا يجب أنْ نجيبهم:

مهما ارتقى المعدن فإنّه لا يقتدر على فهم حقيقة النبات، وليس في نقصه هذا الدليل على عدم الحقيقة النباتية. ومهما ارتقى النبات فإنّه عاجز عن فهم حقيقة الحيوان، وجهله هذا لا يكون برهانًا على عدم الحقيقة الحيوانية. وكذلك الحيوان بالنسبة إلى الإنسان. فإنّه مهما كمل وترقّى في حيوانيته فإنّه قاصر عن البلوغ إلى فهم حقيقة الإنسان. ومعرفة روحه الخالدة. ولكن هذا القصور لا يقوم حجة على تجرّد الإنسان من خاصّته وروحانيته، ولا يدل على أكثر من القانون العامّ. وهو عجز عن كلّ نوع عن إدراك حقيقة ما فوقه من الأنواع. فهذه الزهرة (وأشار إلى زهرة كانت موضوع أمامه) لا تشعر بالوجود الإنساني ولكن خلوها من هذا الشعور لا يقتضي إنتفاء حقيقة الإنسانية. وبناء على هذا البيان نقول: إذا كان الطبيعيون لا يعتقدون بوجود الروح فإنكارهم هذا لا يدل على عدم وجود مملكة الروح. نعم ربما دلّ على خلوّهم من الروح حين أنكروا وجود الروح على حدّ قول الشاعر:

والعين تنكر ضوء الشمس من رمد                   والفم ينكر طعم الماء من سقم

 

وقول الآخر:

ومن يكُ ذا فم مرّ مريض                                يجد مرًا به الماء الزلالا

(برهان ثالث)

إنّ هذه المسألة مسألة البقاء لتكاد أنْ تكون من الأمور البديهية لا القضايا الفطرية. فإن الظلمة نفسها دليل على وجود النور حيث لا تعقل بدونه. ألا ترى أنّ الظلمة هي عدم النور. وعلى هذا القياس حقيقتا الفقر والجهل. فإذا كانت الظلمة والفقر والجهل أدلة على وجود النور والغنى والعلم. فالفناء آية البقاء لأنّه منهاج معرفة الحياة الدنيا فهو إذًا معرفة الحياة الأخرى لمن عقل.

(برهان رابع)

إذا لم يكن الإنسان ذا روح خالدة. فكيف احتمل مهابط الوحي ومشارق الأنوار هذه المحن والتجارب المزعجة؟ وكيف أمكن للمسيح أنْ يحتمل القتلة الشنيعة على الصليب؟ ولِمَ صبر محمد على ما لقيه من ضروب الاضطهاد والإهانة والتثريب؟ ولمَ قدّم الباب نفسه (ونفس الإنسان أعزّ شيء لديه) ضحية في سبيل الجهر بالحقّ لإرشاد الخلق؟ وعلامَ قضى بهاء الله حياته سجينًا منفيًا؟ وبالجملة فلماذا هذه المتاعب والمصاعب؟ وعلامَ احتمال كلّ هذه التجارب والمصائب، إذا لم يكن الإنسان ذا نفس خالدة؟ وعلى التحقيق لو أمعن الإنسان في التأمل لعجب كيف يسير الكلّ من أدنى درجة إلى هذه الدرجة العليا؟ ولأدرك أهمية المسألة – مسألة الرقي الروحي – ما هذا الجهل؟ وما هذا السهو؟ بعد هذه العبر والبينات حقًّا إنّ الإنسان الذي يمر على كلّ هذه الآيات، ثم يقول أنّ مشروع الكون يقف بغتة عن الرقي، وأنّ نتيجة كلّ هذا التقدم الطويل هي هذه الخاتمة الشنعاء، لهو إنسان خالٍ من العقل والإدراك.

(القيمة الحقيقية للطبيعيين)

فالطبيعيون الذين يعللون الكون بهذه العلل ويزعمون إنّا عاجزون عن رؤية العالم الروحاني، أو أنْ تغمرنا رحمة الله وبركاته، لا يعربون بذلك إلاّ عن حالهم فقط. فهم بذلك يدلوننا على أنّ مثلهم مثل الحيوانات السائمة الخالية من العقل والإدراك، لهم عيون ولكن لا يبصرون، وآذان ولكن لا يسمعون، وأفئدة ولكن لا يفقهون. فتجرّدهم من البصر والسمع والفؤاد لا يدلّ على شيء غير سفالتهم التي أعرب عنها القرآن بقوله (صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون)، أي لا يرون آيات حقيقة الروح الجليلة. ولو شاؤوا لرأوا آية الروح عيانًا. فإنّهم ما رزئوا بهذا الرزء الذي دهمهم فأصمّهم وأعمى أبصارهم إلاّ لأنّهم نبذوا الموهبة العظمى الموهوبة من الله لهم، (قوة الفهم) وراءهم ظهريًا، وعطّلوها حتّى تبدلت. وهل بعد تعطيل قوة العقل إلاّ البلادة والنزول إلى البهيمية؟ ولعمر الحقّ إنّهم لو استعملوا هذه الهبة العظمى لأمكنهم أنْ ينظروا بعين الروح، ويسمعوا بأذن روحية، ويفهموا بقلب إلهي مضيء. ألا فليقف الطبيعيون موقف الأناة والتدبّر، وليعرجوا هنيهة على جهة التفكير والتبصّر، وليعلموا أنّ نقصهم ليس بدليل على نقص جميع الوجود، وأنّ إنكارهم للروح ليس بدليل على انتفاء الروح، وأنّهم متى أرادوا أنْ يصلوا إلى فهم حقيقة الروح فليأتوا إلى الروح من طريق الروح.

(نصيحة ختامية)

وفي نهاية القول أدعوكم جميعًا إلى أنْ تسيروا إلى الأمام سيرًا مستمرًا في مواهبكم الروحية. وألاّ تجعلوا لإحساساتكم المادية سبيلًا إلى حجب أعينكم عن عظمة الأنوار الإلهية.

(خطبة ألقاها حضرة عبدالبهاء بمدينة تونون بسويسرة)

من بعد استعطاف الأنظار الكريمة وتقديم الاحترامات الفائقة أحببت أنْ أبث لكم حديثًا غريبًا، وهو أنّني في أثناء تنزهي في شواطيء بحيرة جنيفا بسويسرا صادف مروري بمدينة تونون الواقعة على شاطيء البحيرة المذكورة ودخلت نزل البستان (أوتيل دوبارك) من المدينة المذكورة في طبقاتها فإذا جمّ غفير من أجناس مختلفة على مائدة ممدودة بعضهم من أبناء الفرس ذوو عمامة بيضاء وبعضهم بقبعة سوداء وثلة من الأهالي المختلفي الأجناس من فرنسا وإنكلترا وأمريكا وإيطاليا. محفل مرتب في غاية الانتظام وفي نهاية السكون والوقار وكمال الألفة والوداد. في بهرتهم رجل في عقد السبعين من الحياة مبيض الشعر متوسط القامة مرتد برداء أبيض يتكلّم مع الجماعة بغاية التأنّي باللغة العربية والكتبة يكتبون والمترجمون يترجمون بعدة لغات سامية في أوروپا والجميع يسمعون أقواله بأذن صاغية وقلوب واعية وأبصار شاخصة وهو يقول:

هو الله

أيّها الحاضرون إلى متى هذا الهجوع والسبات؟ وإلى متى هذا الرجوع القهقرى؟ وإلى متى هذا الجهل والعمى؟ وإلى متى هذه الغفلة والشقاء؟ وإلى متى هذا الظلم والاعتساف؟ وإلى متى هذا البغض والاختلاف؟ وإلى متى الحمية الجاهلية؟ وإلى متى التمسّك بالأوهام الواهية؟ وإلى متى النزاع والجدال؟ وإلى متى الكفاح والنزال؟ وإلى متى التعصب الجنسي؟ وإلى متى التعصب الوطني؟ وإلى متى التعصب السياسي؟ وإلى متى التعصب المذهبي؟ ألم يأن للذين آمنوا أنْ تخشع قلوبهم لذكر الله هل ختم الله على القلوب أم غشت الأبصار غشاوة الاعتساف؟ أولم تنتبه النفوس إلى أنّ الله قد فاضت فيوضاته على العموم؟ خلق الخلق بقدرته ورزق الكلّ برحمته وربى الكلّ بربوبيته. لا ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فتور؟ فلنتبع الرب الجليل في حسن السياسة وحسن المعاملة والفضل والجود، ولنترك الجور والطغيان ولنلتئم إلتئام ذوي القربى بالعدل والإحسان، ولنمتزج امتزاج الماء والراح، ولنتحد اتحاد الأرواح. ولا نكاد أنْ نؤسس سياسة أعظم من سياسة الله ولا نقدر أنْ نجد شيئًا يوافق عالم الإنسان أعظم من فيوضات الله ولكم أسوة حسنة في الرب الجليل. فلا تبدلوا نعمة الله وهي الألفة التامّة في هذا السبيل. عليكم يا عباد الله بترك الخلاف وتأسيس الائتلاف والحب والإنصاف والعدل وعدم الاعتساف.

أيّها الحاضرون قد مضت القرون الأولى وطوي بساط البغضاء والشحناء حيث أشرق هذا القرن بأنوار ساطعة وفيوضات لامعة وآثار ظاهرة وآيات باهرة والأنوار كاشفة للظلام دافعة للآلام داعية للإئتلاف قامعة للاختلاف. ألا إنّ الأبصار قد قرّت وإنّ الآذان قد وعت وإنّ العقول قد أدركت أنّ الأديان الإلهية مبنية على الفضائل الإنسانية. ومنها الألفة والوداد بين العموم والوحدة والاتفاق بين الجمهور. يا قوم ألستم من سلالة واحدة؟ ألستم أفنانًا وأوراقًا من دوحة واحدة؟ ألستم مشمولين بلحظات أعين الرحمانية؟ ألستم مستغرقين في بحار الرحمة من الحضرة الوحدانية؟ ألستم عبيدًا للعتبة الربانية؟ هل أنتم في ريب أنّ الأنبياء كلّهم من عند الله وأنّ الشرائع قد تحققت بكلمة الله؟ وما بعثهم الله إلاّ للتعليم وتربية الإنسان وتثقيف عقول البشر والتدرّج إلى المعارج العالية من الفلاح والنجاح؟ وقد ثبت بالبرهان الساطع أنّ الأنبياء اختارهم الله رحمة للعالمين وليسوا نقمة للسائرين، وكلّهم دعوا إلى الهدى وتمسّكوا بالعروة الوثقى حتّى أنقذوا الأمم السافلة من حضيض الجهل والعمى إلى أوج الفضل والنهى. فمن أمعن النظر في حقيقة التاريخ المنبئة الكاشفة لحقائق الأسرار من القرون الأولى يتحقق عنده بأنّ موسى عليه السلام أنقذ بني إسرائيل من الذل والهوان والأسر والخذلان وربّاهم بتأييد من شديد القوى حتّى أوصلهم إلى أوج العزة والعلى ومهد لهم السعادة الكبرى. ومنّ الله عليهم بعد ما استضعفوا في الأرض وجعلهم أئمة من ورثة الكتاب وحَمَلَة لفصل الخطاب حتّى كان منهم عظماء الرجال وأنبياء أسسوا لهم السعادة والإقبال. وهذا برهان ساطع واضح على نبوّته عليه السلام. وأمّا المسيح الجليل كلمة الله وروح الله المؤيد بالإنجيل فقد بعثه الله بين قوم ذلّت رقابهم وخضعت أعناقهم وخشعت أصواتهم لسلطة الرومان، فنفخ فيهم روح الحياة وأحياهم بعد الممات وجعلهم أئمة في الأرض خضعت لهم الرومان وخشعت لهم اليونان وطبق الأرض صيتهم إلى هذا الأوان. وأمّا الرسول الكريم محمد المصطفى عليه الصلاة والتسليم قد بعثه الله في واد غير ذي زرع لا نبات به بين قبائل متنافرة وشعوب متحاربة وأقوام ساقطة في حضيض الجهل والعمى لا يعلمون من دحاها ولا يعرفون حرفًا من الكتاب ولا يدركون فصلًا من الخطاب. أقوام مشتتة في بادية العرب يعيشون في صحراء من الرمال بلبن النياق وقليل من النخيل والأعناب فما كانت بعثته عليه السلام إلاّ كنفخ الروح في الأجساد أو كإيقاد سراج منير في حالك من الظلام فتنورت تلك البادية الشاسعة القاحلة الخاوية بتلك الأنوار الساطعة على الأرجاء، فانتهض القوم من رقدة الضلال وتنورت أبصارهم بنور الهدى في تلك الأيام، فاتسعت عقولهم وانتعشت نفوسهم وانشرحت صدورهم بآيات التوحيد فرتلت عليهم بأبدع الألحان. وبهذا الفيض الجليل قد نجحوا ووصلوا إلى الأوج العظيم حتّى شاعت وذاعت فضائلهم في الآفاق. فأصبحوا نجومًا ساطعة الإشراق فانظروا إلى الآثار الكاشفة للأسرار حتّى تنصفوا بأنّ ذلك الرجل الجليل كان مبدأ الفيض لذلك القوم الضئيل وسراج الهدى لقبائل خاضت في ظلام الهوى وأوصلهم إلى أوج العزة والإقبال ومكّنهم من حياة طيبة في الآخرة والأولى. أما كانت هذه القوة الباهرة الخارقة للعادة برهانًا كافيًا على تلك النبوّة الساطعة؟

لعمر الله إنّ كلّ منصف من البشر يشهد بملء اليقين أنّ هؤلاء الرجال كانوا أعلام الهدى بين الورى ورايات الآيات الخافقة على صروح المجد في كلّ الجهات وتلك العصبة الجليلة استشرقت فأشرقت واستضاءت فأضاءت واستفاضت فأفاضت واقتبست الأنوار من حيز ملكوت الأسرار وسطعت بأنوار الوحي على عالم الأفكار. ثم إنّ هذه النجوم الساطعة من أفق الحقيقة ائتلفت واتحدت واتفقت وبشّر كلّ سلف عن كلّ خلف، وصدق كلّ خلف نبوّة كلّ سلف. فما بالكم أنتم يا قوم تختلفون وتتجادلون وتتنازعون ولكم أسوة حسنة في هذه المظاهر النورانية والمطالع الرحمانية ومهابط الوحي العصبة الربانية وهل بعد هذا البرهان يجوز الارتياب والتمسك بأوهام أوهن من بيت العنكبوت وما أنزل الله بها من سلطان؟

يا قوم البدار البدار إلى الألفة. عليكم بترك البغضاء والشحناء، عليكم بترك الجدال، عليكم بدفع الضلال، عليكم بكشف الظلام، عليكم بتحري الحقيقة في ما مضى من الأيام. فإذا ائتلفتم اغتنمتم وإذا اختلفتم اعتسفتم عن سبيل الهدى، وغضضتم النظر عن الحقيقة والنهى وخضتم في بحور الوهم والهوى إنّ هذا لضلالة مهلكة للورى. وأمّا إذا اتحدتم وامتزجتم وائتلفتم فيؤيدكم شديد القوى بصلح وصلاح وحب وسلام وحياة طيبة وعزة أبدية وسعادة سرمدية. والسلام على من اتّبع الهدى.

جواب عبدالبهاء إلى جمعية لاهاي

هولاند لاهاي در محلّه ترزها استرات نمرۀ 51 (عنوان الجمعية)

هيئت مركزي براي اجراي صلح دائمي (الهيئة المركزية لإجراء الصلح الدائم)

دكتور ﻫ. سي دِر سلهويس (رئيس)

ث. بارون آولسوارد

پرفسور. ر. آلتاميرا

ميس فاني فِرن أندروز

گ. لوس ديكنسون

دكتور آ. كيسو اين

پرفسور دكتور ﻫ. كُهت

پرفسور دكتور ﻫ. لاماش

پرفسور دكتور أشيل لوريا

پول أوتلت

ج. شيرر فولمان

پرفسور دكتور والتر سنوكينگ

ث. ستونينگ

دكتور بدِ جونگ وآن بيك إن دونك

از هولاند

از سويد

از اسپانيا

از ممالك متحدۀ امريكا

از انكلستان

از هونگري

از نرويج

از اطريش

از ايتاليا

از بلژيكا

از سويسرا

از آلمان

از دانمارك

منشي عام از لاهاي

(من هولندا)

(من السويد)

(من إسپانيا)

(من الولايات المتحدة الأمريكية)

(من إنكلترا)

(من المجر)

(من النرويج)

(من النمسا)

(من إيطاليا)

(من بلجيكا)

(من سويسرا)

(من ألمانيا)

(من الدانمارك)

(السكرتير العام من لاهاي)

(أسماء أعضاء محكمة لاهاي)

هو الله

أيّها المحترمون السابقون في محبة الخير للعالم الإنساني لم تصل خطاباتكم التي أرسلتموها أثناء مدة الحرب. وفي هذه الأيام وصل مكتوب بتاريخ 11 فبراير سنة 1916 وفورًا أحرر الجواب. ولمّا كان قصدكم خدمة العالم الإنساني فهو لذلك مستحقّ لألف مدح وثناء لأنّه سبب الراحة والاطمئنان لعموم بني الإنسان. وقد أثبتت هذه الحرب الأخيرة للعالم والعالمين أنّ الحرب خراب والصلح العمومي عمران، وأنّ الحرب ممات والصلح حياة، وأنّ الحرب وحشية وسفك دماء والصلح مودة وإنسانية، وأنّ الحرب من مقتضيات العالم الطبيعي والصلح من أساس الدين الالهي، وأنّ الحرب ظلمة في ظلمة والصلح نور سماوي، وأنّ الحرب هادمة للبنيان الإنساني والصلح حياة أبدية للعالم الإنساني، وكأنّ الحرب ذئب ضاري والصلح ملاك سماوي. وفي الحرب منازعة البقاء وفي الصلح التعاون والتعاضد بين الملل في هذا العالم، وهو سبب رضاء الحقّ في عالم السماء. وما من إنسان إلاّ ويشهد له وجدانه بأنّه لا يوجد اليوم في العالم الإنساني أمر أعظم من الصلح العمومي. يشهد بذلك كلّ منصف ويقدس جمعيتكم المحترمة لأنّ نيّتكم أنْ تتبدل هذه الظلمة بالنور، وهذا الكفاح بالمودة، وهذه النقمة بالنعمة، وهذه المشقة بالرحمة، وأنْ ينقلب هذا البغض والعداوة بالألفة والمحبة، ولذلك كانت همّتكم أيّها المحترمون مستحقّة لكلّ مدح وإطراء.

إلاّ أنّه من المعلوم عند أولي الأبصار والمطلعين على الروابط الضرورية المنبعثة من حقائق الأشياء أنّ الأمر الواحد لا يستحكم نفوذه في حقيقة الإنسان كما يليق وينبغي. ولا يتحقق أيّ أمر عظيم إلاّ بأنْ تتحد العقول البشرية فالصلح العمومي في هذا اليوم أمر عظيم ولكن لا بد لتأسيس مثل هذا الأمر العظيم من اتحاد الوجدان ليكون الأساس متينًا والبنيان رزينًا. ولذلك بيّن حضرة بهاء الله مسألة الصلح العمومي منذ خمسين سنة في وقت كان فيه مسجونًا في قلعة عكاء مظلومًا محصورًا وكتب لجميع الملوك بيان هذا الأمر العظيم يعني الصلح العمومي وأسس قواعده في الشرق بين أحبائه وبينما كان أفق الشرق في ظلام حالك وكانت الملل في نهاية البغض والعداوة مع بعضهم البعض وأهل الأديان ظمأى لدماء بعضهم وبينما كان العالم ظلمة في ظلمة إذ طلع حضرة بهاء الله من أفق الشرق كالشمس المشرقة وأضاء بلاد إيران بتعاليمه.

فكان من جملة تعاليمه إعلان (الصلح العمومي). والذين اتبعوه من كلّ ملة ودين ومذهب أصبحوا مجتعين على نهاية المحبة وبلغت الدرجة أنّهم شكّلوا محافل عظيمة مكونة من جميع الملل والأديان في الشرق بحيث كلّ من دخل محفلهم كان يراهم ملّة وحدة ويرى تعليمهم تعليمًا واحدًا ومسلكهم مسلكًا واحدًا وترتيبهم ترتيبًا واحدًا لأنّ تعاليم حضرة بهاء الله لم تكن منحصرة في تأسيس الصلح العمومي وحده بل له تعاليم كثيرة في سبيل تأييد ومعاونة الصلح العمومي.

فمن جملة هذه التعاليم (تحرّي الحقيقة) لينجوا العالم الإنساني من ظلمة التقاليد ويصل إلى الحقيقة فيخلع هذا الثوب الرثيث الذي ارتداه آلافًا من السنين ويمزقه ويلقيه ويلبس القميص الذي هو في نهاية التقديس والتنزيه والذي نسج بأصابع الحقيقة. ولمّا كانت الحقيقة واحدة فهي لا تقبل التعدد ولذلك تنتهي الأفكار المختلفة إلى فكر واحد.

ومن جملة تعاليم حضرة بهاء الله (وحدة العالم الإنساني). لأنّ جميع البشر أغنام الله أو الله هو الراعي الرؤوف فهو محب لجميع أغنامه لأنّه خلق الكلّ وربّاهم ورزقهم رزقًا حسنًا وحفظهم فلا شك أنّ هذا الراعي رؤوف بجميع أغنامه. فإذا كان بين الأغنام جهلاء وجب تعليمهم أو أطفال وجبت تربيتهم حتّى يصلوا إلى درجة البلوغ. ولو كان منهم مرضى فينبغي معالجتهم ولا ينبغي بغضهم أو معاداتهم بل يلزم معالجة المرضى الجهلاء كما يعالج الطبيب الرؤوف.

ومن جملة تعاليم حضرة بهاء الله أنّ (الدين يجب أنْ يكون سبب الألفة والمحبة) فإذا كان الدين سب الكلفة فلا لزوم له.

ومن جملة تعاليم حضرة بهاء الله أنّ (الدين يجب أنْ يطابق العلم والعقل) حتّى يكون له نفوذه في قلوب البشر ويكون ذا أساس متين فلا يكون عبارة عن التقاليد.

ومن جملة تعاليم حضرة بهاء الله أنّ (التعصب الديني والتعصب الجنسي والتعصب السياسي والتعصب الاقتصادي والتعصب الوطني كلّها هادمة للبنيان الإنساني). وما دامت هذه التعصبات موجودة فلا راحة للعالم الإنساني فتاريخ العالم الإنساني يخبرنا أنّه في مدة ستة آلاف سنة الماضية لم يفرغ العالم الإنساني من الحرب والضرب والقتل وسفك الدماء. ففي كلّ وقت وفي كلّ إقليم قامت الحروب وتلك الحروب انبعثت من التعصبات فإمّا من تعصب ديني أو تعصب جنسي أو تعصب سياسي أو تعصب وطني. فأصبح إذًا من الثابت المحقق أنّ جميع التعصبات هادمة للبنيان الإنساني وما دامت هذه التعصبات موجودة فإنّ منازعة البقاء تستولي على النفوس وتستمر أعمال الافتراس والكفاح، فلا ينجو إذًا العالم الإنساني من ظلمات الطبيعة ولا يستنير إلاّ بترك التعصب والتحلّي بالأخلاق الملكوتية. فكما ذكرنا من قبل لو كان التعصب تعصبًا ملّيًا فجميع نوع البشر ملّة واحدة والجميع نبتوا من شجرة آدم وآدم أصل الشجرة والشجرة واحدة. وهؤلاء الملل إنّما هم بمنزلة الأغصان وأفراد الإنسان بمنزلة الاوراق والأزهار والأثمار.

فتشكيل الملل المتعددة إذًا وقيامهم على بعض بالكفاح وسفك الدماء وهدم البنيان الإنساني بهذه الأسباب ناتج من جهل الإنسان ومن الأغراض النفسانية. وأمّا التعصب الوطني فكذلك جهل محض لأنّ وجه الأرض وطن واحد وكلّ إنسان يمكنه أنْ يعيش في أيّ بقعة من بقاع الأرض فجميع الأرض إذًا وطن للإنسان، وهذه الحدود والثغور أوجدها الإنسان ولم تتعين في أصل الخلقة حدود ولا ثغور. فأوروپا قطعة واحدة وآسيا قطعة واحدة وأفريقيا قطعة واحدة وأمريكا قطعة واحدة وأستراليا قطعة واحدة. إلاّ أنّ بعضًا من النفوس نظرًا لمقاصد شخصية ومنافع ذاتية قسّموا كلاًّ من هذه القطعات واحتسبوا هذه الأقسام وطنًا لهم فلم يخلق الله أيّ فاصلة بين فرنسا وألمانيا بل كلتاهما متصلة بالأخرى. نعم حصل في القرون الأولى أنّ بعضًا من النفوس من أهل الغرض عينوا لهم حدودًا وثغورًا نظرًا لمصالحهم الذاتية وازدادت يومًا فيومًا أهمية حتّى صارت في القرون التالية سببًا في العداوة الكبرى والنزاع والقتال والافتراس وستكون كذلك إلى ما شاء الله. وإذا بقيت هذه الأفكار الوطنية محصورة ضمن هذه الدائرة فإنّها تكون أول عامل في خراب العالم. ولا يذعن بمثل هذه الأوهام عاقل ولا منصف. أفهل نجعل كلّ قطعة محصورة وطنًا خاصًّا ونسميه بأوهامنا أمًّا لنا مع أنّ كرة الأرض هي أمّ الكلّ لا تلك القطعة المحصورة؟

و خلاصة القول أنّنا نعيش فوق هذه الأرض بضعة أيام ثم نتوارى فيها في التراب وتكون لنا قبرًا أبديًا. أفهل يليق بنا أنْ نقوم على بعضنا بالكفاح وسفك الدماء بسبب هذا القبر الأبدي؟ حاشا وكلاّ إنّ الله لا يرضى بذلك ولا يذعن لهذا العمل إنسان عاقل. انظروا إلى الحيوانات المستأنسة إنّها ليس عندها نزاع وطني بل تعيش مع بعضها مجتمعة بنهاية الألفة والوفاق. مثلًا إذا اجتمع بالتصادف حمام شرقي وحمام غربي وحمام شمالي وحمام جنوبي في آن واحد فإنّها جميعًا تتآلف على الفور وكذلك جميع الحيوانات المستأنسة من الدواب والطيور ولكن الحيوانات المفترسة بمجرد تقابلها تتقاتل وتتحارب وتقطع بعضها إربًا فلا يمكن أنْ تعيش مع بعضها البعض في بقعة واحدة فهي دائمًا متفرقة متهورة متحاربة متنازعة.

وأمّا التعصب الاقتصادي فمن المعلوم أنّه كلّما ازدادت الروابط بين الملل وتكررت مبادلة الأمتعة فإنّ كلّ مبدأ اقتصادي يتأسس في أيّ إقليم لابد وأنْ يسري في النهاية إلى سائر الأقاليم ويصبح من المنافع العمومية فأيّ فائدة اذًا في ذلك التعصب.

وأمّا التعصب السياسي فيجب اتّباع السياسة الإلهية لأنّه من المسلّم أنّ السياسة الإلهية أعظم من السياسة البشرية، فعلينا أنْ نتّبع السياسة الإلهية لأنّها على السواء بالنسبة لجميع أفراد الخلق بدون تفاوت وهي أساس الأديان الإلهية.

ومن جملة تعاليم حضرة بهاء الله (ايجاد لسان واحد) يكون عامًّا ين البشر وقد صدر هذا التعليم من قلم حضرة بهاء الله منذ خمسين سنة حتّى يكون هذا اللسان العمومي سببا لإزالة سوء التفاهم بين جميع البشر.

ومن جملة تعاليم حضرة بهاء الله (وحدة النساء والرجال). فللعالم الإنساني جناحان أحدهما الرجال والآخر النساء وما لم يتساوَ الجناحان لا يقدر الطير على الطيران وإذا ضعف أحد الجناحين امتنع الطيران، وما لم يتساوَ عالم النساء بعالم الرجال في تحصيل الفضائل والكمالات فالفلاح والنجاح كما يليق وينبغي ممتنع محال.

ومن جملة تعاليم حضرة بهاء الله (المواساة بين البشر) وهذه المواساة أعظم من المساواة وهي أنْ لا يرجّح الإنسان نفسه على غيره بل يفدي نفسه وماله للغير، ولكن بشرط أنْ لا يكون ذلك بطريق الجبر والعنف حتّى يكون قانونًا يجبر عليه الإنسان بل أنْ يكون فداء المال والروح للغير عن طيب خاطر وخلق فطري، فينفق على الفقراء بغير أنْ يكون مجبورًا بل بمحض رغبته كما هو الحال في إيران بين البهائيين.

ومن جملة تعاليم حضرة بهاء الله (حرية الإنسان) ليتخلص وينجو من أسر عالم الطبيعة بقوة معنوية لأنّ الإنسان متى كان أسيرًا للطبيعة فهو حيوان مفترس لأنّ منازعة البقاء من خصائص علم الطبيعة ومسألة منازعة البقاء هذه هي ينبوع جميع البلايا وهي النكبة الكبرى.

ومن جملة تعاليم حضرة بهاء الله (أنّ الدين هو الحصن الحصين) فإذا تزلزل بنيان الدين ووهنت قوائمه انفتحت أبواب الهرج والمرج واختل كلّية نظام الأمور. لأنّه يوجد في العالم الإنساني رادعان يحفظانه من ارتكاب الرذائل أحدهما القانون القاضي بعذاب وعقاب المجرم، ولكن القانون يمنع ارتكاب الجرائم الظاهرة المشهودة ولا يردع عن الجرائم الخفية. وأمّا الدين الإلهي الرادع المعنوي فيردع عن ارتكاب الجريمة الظاهرة والجريمة المخفية كلتيهما ويربي الإنسان ويهذب أخلاقه ويجبره على الفضائل وهو أعظم جهة جامعة تكفل سعادة العالم الإنساني، ولكن المقصد من الدين هو الدين التحقيقي لا الدين التقليدي وهو أساس الأديان الإلهية لا التقاليد البشرية.

ومن جملة تعاليم حضرة بهاء الله أنّ المدنية المادية ولو كانت من وسائط ترقّي العالم الإنساني لا ينتج منها السعادة البشرية ما لم تنضم إليها المدنية الإلهية. انظروا إلى هذه السفن المدرعة التي تخرب مدينة في ساعة واحدة إنّها من نتائج المدنية المادية وكذلك مدافع كروپ وكذلك بنادق ماوزر وكذلك الديناميت وكذلك الغواصات تحت البحر، وكذلك التورپيد وكذلك السيارات المدرعة والطيارات التي تقذف النيران. فجميع هذه الآلات من سيئات المدنية المادية أمّا لو كانت المدنية الإلهية منضمة إلى المدنية المادية فما كان يوجد أيّ نوع من هذه الآلات الجهنمية بل تتحول جميع القوى البشرية إلى الاختراعات النافعة وتنحصر في الاكتشافات الفاضلة. فالمدنية المادية كالزجاج والمدنية الإلهية كالسراج فالزجاج لا يضيء دون السراج والمدنية المادية كالجسد مهما كان في نهاية الطراوة واللطافة والجمال إنّه ميت، ولكن المدنية الإلهية كالروح وبهذه الروح يحيا هذا الجسم وإلاّ يصبح جيفة. إذًا صار من المعلوم أنّ العالم الإنساني محتاج لنفثات روح القدس وبدون هذه الروح يكون العالم الإنساني ميتًا وبدون هذا النور يكون العالم الإنساني ظلمة في ظلمة لأنّ عالم الطبيعة علم حيواني. وما لم يولد الإنسان ولادة ثانية من عالم الطبيعة، أي ما لم ينسلخ من عالم الطبيعة فهو حيوان محض، فالتعاليم الإلهية هي التي تجعل هذا الحيوان إنسانًا.

ومن جملة تعاليم حضرة بهاء الله (تعميم المعارف) فيجب على قدر اللزوم تعليم كلّ طفل (أنواع) العلوم وإذا كان الأبوان مقتدرين على مصاريف التعليم فبها وإلاّ فتلزم الهيئة الاجتماعية على تهيئة الوسائط اللازمة لتعليم ذلك الطفل.

ومن جملة تعاليم حضرة بهاء الله (العدل والحقّ) وما لم يتحقق ذلك في حيز الوجود تختل جميع الأمور ويتعوّق سيرها ويكون العالم الإنساني عالم الظلم والعدوان وعالم التعدي والبطلان.

والخلاصة إنّ أمثال هذه التعاليم كثيرة. وهذه التعاليم المتعددة التي هي الأساس الأعظم لسعادة العالم الإنساني والتي هي من السنوحات الرحمانية يجب أنْ تنضم إلى مسألة الصلح العمومي وتمتزج به حتّى تظهر نتيجتها وإلاّ فتحقُّق مسألة الصلح العمومي بمفردها في العالم الإنساني مستصعب. ولمّا كانت تعاليم حضرة بهاء الله ممتزجة مع مبدأ الصلح العمومي فهي بمنزلة المائدة التي فيها من كلّ أنواع الأطعمة النفيسة وفي مائدة النعمة الأبدية هذه تجد كلّ نفس مشتهياتها. وأمّا إذا انحصر الأمر في مسألة الصلح العمومي فلا تحصل النتائج العظيمة كما هو المأمول والمقصود. فلا بد إذًا من ترتيب دائرة الصلح العمومي بحيث يجد فيها جميع فرق العالم وأديانه آمالهم ورغائبهم. والآن تحتوي تعاليم حضرة بهاء الله على جميع آمال ورغائب فرق العالم سواء كانت دينية أو سياسية أو أخلاقية وسواء كانت من الفرق القديمة أو الحديثة فالجميع يجدون في تعاليم حضرة بهاء الله منتهى آمالهم ورغائبهم. فمثلًا يجد أهل الأديان في تعاليم حضرة بهاء الله تأسيس دين عمومي في غاية الموافقة للحالة الحاضرة وفيه على الحقيقة علاج فوري لكلّ مرض مستعص وفيه دواء لكلّ داء وهو ترياق أعظم لكلّ سم نقيع، لأنّه إذا أردنا أنْ ننظم العالم الإنساني ونرتّبه ونؤسس سعادة العالم الإنساني على مقتضى التقاليد الحاضرة للأديان لوجدنا ذلك غير ممكن بل مستحيلًا. مثلًا يستحيل اليوم إجراء أحكام التوراة وهكذا سائر الأديان بسبب التقاليد الموجودة، ولكن الأساس الأصلي لجميع الأديان الإلهية المتعلقة بفضائل العالم الإنساني والذي هو سبب السعادة للعالم البشري موجود في تعاليم حضرة بهاء الله على نحو أكمل وكذلك الملل التي تنشد الحرية يجدون في تعاليم حضرة بهاء الله تلك الحرية المعتدلة الكافلة لسعادة العالم الإنساني والضابطة للروابط العمومية بكمال الوسعة والقوة. وكذلك الأحزاب السياسية تجد في تعاليم حضرة بهاء الله أعظم سياسة للعالم الإنساني بل يجدون فيها السياسة الإلهية. وكذلك أحزاب المساواة وطلاب الاقتصاد. فللآن جميع المسائل الاقتصادية التي جاء بها كلّ حزب غير قابلة للتنفيذ والإجراء ما عدا المسألة الاقتصادية الموجودة في تعاليم حضرة بهاء الله فإنها وحدها هي القابلة للإجراء على مقتضاها ولا يحدث منها أيّ اضطراب للهيئة الاجتماعية وكذلك سائر الأحزاب. فإنّكم لو دققتم النظر لوجدتم أقصى رغائب تلك الأحزاب موجودًا في تعاليم حضرة بهاء الله. فهذه التعاليم هي القوة الجامعة بين جميع البشر وهي التي تقبل الإجراء على مقتضاها. ولكن بعض التعاليم السابقة كأحكام التوراة يستحيل اليوم السير على مقتضاها قطعيًا. وهكذا الحال في سائر الأديان وأفكار الفرق المختلفة والأحزاب المتنوعة.

مثلًا حضرة بهاء الله يقول في مسألة الصلح العمومي أنه يلزم تشكيل محكمة كبرى لأنّ جمعية الأمم مهما تشكلّت لا تقدر أنْ تقوم بمأمورية الصلح العمومي. وأمّا المحكمة الكبرى التي بيّنها حضرة بهاء الله فيمكنها الوفاء بهذه الوظيفة المقدسة بغاية القدرة والقوة. وذلك بأنْ تنتخب المجالس الملّية في كلّ دولة وملّة أيّ البرلمانات شخصين أو ثلاثة بحسب كثرة أو قلة تعداد الملّة ويكون هؤلاء المنتخبون من نخبة تلك الأمّة ومن المطّلعين على جميع القوانين والحقوق الدولية والملّية ومن المتفننين في الفنون والواقفين على احتياجات العالم الإنساني الضرورية في هذه الأيام. ويكون انتخاب هؤلاء الأشخاص بمعرفة المجالس الملّية أيّ البرلمانات ويصادق على انتخابهم أيضأ مجلس الأعيان ومجلس الشيوخ وهيئة الوزراء ورئيس الجمهورية أو الإمبراطور حتّى يكون هؤلاء الأشخاص منتخبين من عموم الملّة والدولة. ثم تتشكّل المحكمة الكبرى من هؤلاء المنتخبين فيشترك بذلك فيها جميع العالم البشري لأن كلّ واحد من هؤلاء المندوبين يمثّل الملّة بتمامها. فإذا حكمت هذه المحكمة الكبرى في مسألة من المسائل بين الملل إمّا بالاتفاق أو بالأكثرية فلا تبقى هناك حجة لمدّع ولا اعتراض لمدّعى عليه. ومتى تعللت دولة من الدول أو ملّة من الملل أو تراخت في إجراء تنفيذ حكم المحكمة الكبرى يقوم العالم الإنساني ضدها لأنّ جميع الدول وملل العالم تكون مؤيِّدة وظهيرة لحكم هذه المحكمة الكبرى. فانظروا ما أمتن هذا الأساس ولكن الجمعية المحدودة المحصورة لا يحصل منها الغرض المطلوب كما هو المأمول وهذا هو بيان حقيقة الحال.

والآن انظروا إلى تعاليم حضرة بهاء الله ما أقواها! فبينما كان حضرته في سجن عكاء وتحت تضييق وتهديد ملكيْن سفاحيْن، انتشرت تعاليمه بكمال القوة في إيران وسائر البلدان. مع أنّ أيّ تعليم من التعاليم أو أيّ مبدأ من المبادئ أو فرقة من الفرق إذا وقعت تحت تهديد سلطنة قاهرة سفاحة فإنّها تضمحّل في أقل زمان. وقد مضى الآن خمسون عامًا والبهائيون في إيران في أكثر الديار تحت التضيق التامّ وتهديد السيف والسنان واستشهد الآلاف منهم في مشهد الفداء وقُتلوا بسيف الظلم والعدوان واقتلع بنيان آلاف من العائلات المحترمة وتيتّمت آلاف من الأطفال وأصبح آلاف من الرجال فاقدي الأبناء وصاحت آلاف من الأمهات بالعويل والصياح في جنائز أبنائهن الذين ذُبحوا. وجميع هذا الظلم والعدوان والوحشية وسفك الدماء لم تؤثر في انتشار تعاليم حضرة بهاء الله ولم يحصل منها أيّ فتور بل ازدادت يومًا فيومًا في الانتشار وفي ظهورها بالقوة والاقتدار.

(ولعلّ بعضًا من الإيرانيين) من حديثي المطامع يأخذ مضامين ألواح حضرة بهاء الله أو مفاهيم مكاتيب عبد البهاء وينسبها إلى نفسه ويرسلها باسمه إلى تلك الجمعية المحترمة فعليكم أنْ تنتبهوا إلى هذه النكتة(*). لأنّ أيّ إيراني يطلب بزعمه الشهرة أو لمقصد آخر يأخذ مضامين ألواح حضرة بهاء الله بتمامها وينشرها باسمه أو باسم فرقته كما وقع ذلك في مؤتمر اتحاد الأجناس الذي انعقد في لندن قبل الحرب. فإنّ شخصًا إيرانيًا أخذ مضامين ألواح حضرة بهاء الله وورد في هذا المؤتمر وألقى خطابة باسمه ونشرها مع أنّها كانت عينًا عبارة حضرة بهاء الله. والبعض من أمثال هؤلاء النفوس سافروا إلى أوروپا وصاروا سببًا في تخديش أذهان أهالي أوروپا وتشويش أفكار البعض من المستشرقين. فعليكم أنْ تلاحظوا هذه النكتة،(*) لأنّه قبل ظهور حضرة بهاء الله لم يُسمع من هذه التعاليم كلمة واحدة في إيران فحققوا ذلك ليتضح ويظهر لكم هذا الأمر. وإنّ بعضًا من النفوس كأنّهم الببغاء يتعلمون كلّ نغمة ويرددونها وهم بأنفسهم غافلون عمّا يقولون. ويوجد فرقة الآن في إيران عبارة عن أنفس معدودة يدعون بالبابيين وينسبون أنفسهم لحضرة الباب ولكن ليس عندهم خبر بالكلّية عن حضرة الباب ولهم تعاليم خفية مخالفة بالكلّية لتعاليم بهاء الله وهي معروفة في إيران ولكنهم عندما يذهبون إلى أوروپا يخفون تعاليمهم ويتظاهرون بتعاليم حضرة بهاء الله لعلمهم بأنّ تعاليم حضرة بهاء الله نافذة فيشهرون تعاليم حضرة بهاء الله هذه باسمهم، أمّا تعاليمهم الخفية فيقولون أنّها مستفادة من كتاب البيان وكتاب البيان من حضرة الباب وإنّكم إذا تحصّلتم على ترجمة كتاب البيان الذي ترجم في إيران تطّلعون على الحقيقة. وتعلمون أنّ تعاليم بهاء الله مباينة بالكلّية لتعاليم هذه الفرقة فإيّاكم أنْ تغفلوا عن هذه النكتة(*) وإذا أردتم زيادة التحرّي عن الحقيقة فاستفسروا من إيران.

(وبالجملة) إنّ الإنسان إذا سافر وسار في جميع العالم فكلّما يراه معمورًا فهو من آثار الألفة والمحبة وكلّما يراه مطمورًا فمن نتائج البغض والعداوة، ومع ذلك فأنّ العالم البشري لم ينتبه ولم يصحُ من نوم غفلته هذه، وإلى الآن مستمر في أفكار الاختلاف والنزاع والجدال. فهو يهيئ صفوف القتال ويجول في ميادين الحرب والجدال وكذلك من ينظر في أحوال الكون والفساد والوجود والعدم يرى أنّ كلّ كائن من الكائنات مركّب من أجزاء متنوعة متعددة وأنّ وجود كلّ شيء فرع من تركيبه. يعني إذا تركّبت العناصر البسيطة فإنّه يتشكّل من كلّ تركيب كائن، ووجود الموجودات سار على هذا المنوال. وإذا حصل اختلال في ذلك التركيب وتحللت وتفرقت أجزاؤه فإنّ ذلك الكائن ينعدم يعني أنّ انعدام أيّ شيء عبارة عن تحليل عناصره وتفريقها. إذًا كلّ ائتلاف وتركيب فيما بين العناصر يكون سببًا للحياة وكلّ اختلاف وتفريق يكون سببًا للممات وبالجملة. إنّ تجاذب الأشياء وتوافقها سبب حصول الثمرة والنتيجة المستفادة، وأمّا التنافر والتخالف في الأشياء فهو سبب حصول الانقلاب والاضمحلال. فمن التآلف والتجاذب تتحقق جميع الكائنات ذات الحياة كالنبات والحيوان والإنسان. ومن التخالف والتنافر يحصل فيها الانحلال ويبدو عليها الاضمحلال. ولهذا كلّما كان سبب الائتلاف والتجاذب والاتحاد بين البشر فهو حياة العالم الإنساني وكلّما كان سبب الاختلاف والتنافر والتباعد فهو علة ممات النوع البشري. فإذا مررت على مزرعة ووجدت فيها الزرع والنبات والورد والريحان مرتبًا مؤنقًا تزدهي من كلّ الألوان، فذلك دليل على أنّ هذه المزرعة وهذا البستان نبت وترتب بتربية بستاني كامل، وأمّا إذا وجدته متفرقًا خاليًا عن الترتيب والنظام فذلك دليل على حرمانه من البستاني الماهر، بل هو حشائش وأعشاب طبيعية. فأصبح إذًا من الواضح أنّ الألفة والالتئام دليل على تربية المربي الحقيقي وأمّا التفرق والتشتت فبرهان التجرد والحرمان من الترتيب الإلهي.

فإذا اعترض معترض بأنّ الطوائف والأمم والشعوب والملل في العالم مختلفة الآداب والرسوم والأذواق والطبائع ومتباينة في الأخلاق والأفكار والعقول والآراء وأنّه مع هذا الاختلاف والتباين كيف تحصل الوحدة الحقيقية والاتحاد التامّ بين البشر، فنقول له جوابًا على ذلك أنّ الاختلاف على نوعين: الأول اختلاف يكون سببًا في الانعدام كاختلاف الملل المتنازعة والشعوب المتبارزة التي تمحي بعضها بعضًا وتهلك الحرث والنَسل وتسلب الراحة والهناء وتشتغل بسفك الدماء والافتراس وهذا مذموم، وأمّا الاختلاف الآخر الذي هو عبارة عن التنوع فهذا هو عين الكمال وسب ظهور موهبة ذي الجلال. انظروا إلى أوراد الحدائق فمهما اختلفت أنواعها وتفاوتت ألوانها وتباينت صورها وأشكالها، ولكن لمّا كانت تسقى من ماء واحد وتنمو من نسيم واحد وتتربى من حرارة وضياء شمس واحدة لهذا يكون اختلافها وتنوعها سببًا في ازدياد البهجة والرونق لبعضها البعض. وهذا الاختلاف في الآداب والرسوم والعادات والأفكار والآراء والطبائع سبب لزينة العالم الإنساني وهذا أمر ممدوح. وكذلك هذا التنوع والاختلاف كالتفاوت والتنوع في أجزاء وأعضاء الإنسان فهو سبب لظهور الجمال والكمال، لأنّه لمّا كانت هذه الأعضاء والأجزاء المتنوعة تحت نفوذ سلطان الروح وكانت الروح سارية في جميع الأعضاء والأجزاء وسلطانها في جميع العروق والشريانات فإنّ هذا التنوع والاختلاف مؤيد للمحبة والائتلاف. وهذه الكثرة أعظم قوة للوحدة. ولو كانت أوراد حديقة من الحدائق ورياحينها وأثمارها وأزهارها وأوراقها وأغصانها وأشجارها من نوع واحد ولون واحد وتركيب واحد وترتيب واحد فلا يكون لها لطافة ولا حلاوة بأيّ وجه ولكنها لمّا كانت من حيث الألوان والأوراق والأزهار والأثمار مختلفة الأشكال، لذلك كان كلّ منها سببًا للزينة والبهجة لسائر الألوان وأصبحت الحديقة أنيقة ظاهرة بنهاية اللطافة والطراوة والحلاوة. كذلك التفاوت والتنوع في الأفكار والأشكال والآراء والطبائع والأخلاق في العالم الإنساني، لو يكون في ظل قوة واحدة ونفوذ كلمة الوحدانية فإنّه يظهر في نهاية العظمة والجمال والعلو والكمال. فاليوم لا يمكن جمع العقول بغير قوة كلمة الله المحيطة على حقائق الأشياء والأفكار والقلوب والأرواح في العالم الإنساني تحت ظل شجرة واحدة فهي النافذة في كلّ الاشياء. وهي المحركة للنفوس وهي الضابطة الرابطة للعالم الإنساني. فنورانية كلمة الله مشرقة والحمد لله على جميع الآفاق في هذا اليوم وورد في ظلها من كلّ الفرق والطوائف والملل والشعوب والقبائل والأديان والمذاهب حتّى أصبحوا مجتمعين متحدين متفقين بنهاية الائتلاف تحت ظل كلمة الوحدانية.

إلى عالم العلم

وهي عنوان خطبة ألقاها حضرة عبد البهاء في جامعة ستانفورد
بمدينة يالو ألطو بأميركا في 8 أكتوبر سنة 1912.([1])

بحضور جمّ غفير من الطلبة والأساتذة في صالة الخطابة لسماع النبي البهائي الفارسي يشرح تعاليم تعد فاتحة عصر جديد للأخوة العامّة والسلام الدولي والوحدة الدينية. قضى العالِم الشرقي وبمعيته تسعة وعشرون من الإيرانيين يومًا في جامعة ستانفورد واستضيفوا في يالو ألطو.

اجتمع نحو ألفي شخص في ردهة فسيحة يوم الثلاثاء الماضي وكانوا ينتظرون بشوق زائد طلعة حضرة عبد البهاء عباس أفندي زعيم الحركة البهائية في العالم. فما رأينا هذا النبي البهائي الموقر بلباسه الفارسي وعمامته البيضاء ولحيته التي جللها المشيب والمسترسلة على صدره حتّى تمثل لنا أنه رجعة أنبياء المشرق الماضين وقد تكلّم بالفارسية وترجم أقواله واحد من حاشيته.

إنّ حضرة عبد البهاء مجد في تغيير ديانة آسيا يوحّد بين المسلمين والنصارى واليهود ويجمعهم على أصول نواميس موسى الذي يؤمنون به جميعًا. وله أتباع عديدون وقد لفت إليه الأنظار واستمال إليه القلوب أثناء سياحته الأخيرة بإنجلترا وأميركا حيث أيقظ فيهم ميلًا عظيمًا إلى تعاليمه البهية، وانجذب إلى منهلها العذب ألوف من الناس ظمأى إليها. والذين اعتنقوها يواصلون الليل بالنهار مجدين في نشرها. وفي سواحل أميركا الغربية أرض خصبة لغرس بذور السلام واجتناء ثماره وعلى الأخص مدينة ستانفورد. فالميل للسلام العامّ عظيم فيها بسبب مجهودات الدكتور غردون أحد النظار على وقفية كارنجي المخصص دخلها لنشر رايات السلام العامّ.

قدّم الرئيس غردون حضرة الخطيب للحضور قائلًا:

كان من حسن حظنا أنْ عرَّفنا أحد الفرس بأحد أكابر المعلمين الدينيين وأحد خلفاء أنبياء بني إسرائيل الأقدمين – وقد ينعته بعض الناس بأنّه مؤسس ديانة جديدة يتبعه نيف وثلاثة ملايين من النفوس ولكن هذا غير صحيح فديانة الأخوة العامّة والمحبة التامّة بين الأمم قديمة منذ كانت النيّة الحسنة والحياة الطيبة ويمكن أنْ يقال عنها من بعض الوجوه أنّها أقدم ديانة. ولي الشرف العظيم بأنْ أقدم لكم حضرة عبد البهاء.

[1](1)   مترجمة عن الإنكليزية بقلم حضرة محمد أفندي توفيق غريب.

خطابة حضرة عبد البهاء

أعظم رقي وصلت إليه الإنسانية كان من طريق العلم باكتشاف حقائق الكائنات وإنّي أشعر بسرور عظيم لوجودي في معهد علمي فهذه من أكبر جامعات أميركا وقد حازت شهرة واسعة في خارجها.

أشرف طائفة من الناس مَنْ كرست حياتها ووقفت مواهبها على خدمة العلم وأشرف معهد تخصص لتدريس العلوم والفنون تشرق منه الأنوار على العالم الإنساني فالعلم فخر أبدي للبشر وسيادته فوق سيادة الملوك لأنّ هذه تزول بسبب ما وتلك تخلد إذ لا نهاية للعلوم.

انظروا إلى فلاسفة العصور الأولى تروا سيادتهم ما فتئت تظللنا في حين أنّ إمبراطورية الرومان مع عظمتها واتساع سلطانها قد طويت معالمها واندثرت آثارها، وكذا سيادة اليونان أصبحت أثرًا بعد عين ولم يبق من ملوك الشرق الأقدمين إلاّ سوانح ذكراهم، بينما سيادة أفلاطون وأرسطو تزيدها الأيام عظمة وتقديسًا. ففي جامعات العلم وكلّياته يسبّحون بذكرهم بينما أسماء الملوك الأقدمين قد دفنت في وادي النسيان.

لا جرم أنّ سيادة العلم فوق سيادة الحكام والأمراء. أغار الملوك على الأمصار وفتحوا البلاد بإراقة الدماء أمّا العلماء فقد أغاروا على أودية الجهل وبددوا جحافله وافتتحوا ملكوتيّ العقل والروح فهذه الفتوحات والاكتشافات العلمية هي الخالدة.

وعليه فإنّي أشعر بسرور عظيم لوجودي في هذا المعهد العلمي وأدعو لكم بالعناية والتوفيق حتّى تصلوا إلى أوج النجاح في أعمالكم العلمية وحتّى تصيروا أنوارًا ساطعة تكشف ظلمة الجهل وتبدد غياهبه.

ولمّا كان أعظم وأكبر شيء في الوجود واحدًا بالنسبة للوحدة الإنسانية فإنّي أريد أنْ أتكلّم لكم عن الوحدة الأساسية للظواهر الطبيعية وهذا موضوع خفي الماهية مرتبط بالفلسفة اللاّهوتية. وموضوع هذه الوحدة أنّ كلّ الكائنات تمر بدرجات واحدة وأنّ كلّ ظاهرة تمثل الظواهر الأخرى كما جاء في المثل العربي الفلسفي (كلّ شيء في كلّ شيء).

ولا بد أنّكم توافقوني على أنّ كلّ الظواهر الطبيعية (حسب تعاليم حضرة بهاء الله) لا تزيد ولا تنقص في أساسها عن مجموع اختلاط عناصر أولية وكلّ عنصر مركب من ذرات تمر في سيرها بأدور الحياة المختلفة التي تفوق الحصر. فمثلا الخلايا الأولية المركب منها جسم الإنسان كانت مرة في عالم النبات وأخرى في عالم الحيوان وقبل ذلك في عالم الجماد في تغير دائم وتحول من حالة كينونية إلى أخرى فمرّت بملايين الأشكال والأوجه. وفي كلّ شكل كانت تؤدي وظائف مخصوصة، وهذا التحول في الحياة مستمر. فكلّ ظاهرة ترونها تدلّ على الظواهر الأخرى والفرق بينهما في وجه التحوّل وطول الزمان اللازم لإحداث ذلك.

فمثلًا الخلايا المركبة منها هذه اليد لزم لها زمن لتمرّ في درجات التحوّل المختلفة فمرّة كانت هذه الخلية في عالم الجماد فتقلبت في أشكال مختلفة ثم انتقلت إلى عالم النبات وفيه دارت في درجاته وأشكاله المختلفة حتّى وصلت إلى عالم الحيوان وفيه ظهرت أشكال عضوية حية متنوعة ثم دخلت العالم الإنساني مركبة في جسم البشر. فهكذا مرّت بأدوار تغيّراتها ثم تعاد ثانية نشأتها العنصرية الأولى إلى حالة إلى حالة الجماد. وتعيد سيرتها الأولى مستمرة في سيرها ورحلاتها اللاّنهاية لها تجرب كلّ وجه وشكلّ من درجات الحياة وأشكالها. ففي عالم الجماد كانت لها بعض صفاته. وفي عالم النبات أخذت صفاته وفي عالم الحيوان وجد فيها قواه فصارت تحسّ. وفي عالم الإنسان تشرّبت الصفات الخاصّة بالجنس البشري.

فيتّضح من ذلك أنّ كلّ ذرة من أجزاء المظاهر الطبيعية قابلة للتحوّل إلى ملايين الأشكال وفي كلّ شكل تكتسب صفات خاصّة. فثبت من ذلك أنّ المظاهر الطبيعية أساسها واحد. وبعبارة أخرى أنّ الممكنات الكائنات كلّها واحد باعتبار الأصل. فإنْ كان بين مظاهر الوجود هذه الوحدة فأحرى بالإنسان أنْ تكون له هذه الوحدة في حالات كماله. إذًا نستدل من ذلك على أنّ وحدة الكمال إنّما تظهر في عالم الإنسان.

لا جرم أنّ أصل الحياة المادية أو الكائنات هذه الوحدة ومرجعها إلى ذات هذه الوحدة فهل يليق – وهذا الاتحاد هو الأساس بين كلّ المظاهر – أنّ العالم الإنساني (وهو واحد) يشهر حربًا أو يضمر عداء؟

الإنسان أشرف كائن في جسمه صفات الجماد وله خواص النبات أي القوى النامية. وله من عالم الحيوان بعض الصفات والوظائف الخاصّة بهذا العالم من قوى الحواس ويزداد الصفات الإنسانية والعقل الراجح فهل يليق بالإنسان مع هذه الوحدة العظيمة أنْ يفكر في الجهاد والفساد؟ بل هل يليق أنْ يشهر حربًا وظواهر الوجود كلّها في سلام مرتبطة ومتعلقة ببعضها؟ وإذا كانت جميع العناصر في سلام وسكينة فهل يجوز للإنسان وهو أشرف الكائنات أنْ يبقى على قساوته الوحشية؟ فلا رعى الله هذا الحال.

انظروا إلى هذه الكائنات حينما تكون في حالة وفاق وائتلاف وتركيب تنتج منها الحياة والجمال والراحة والسكينة. هذه مقومات الحياة وتلك دواعيها. فالآن هذه الظواهر المتفرقة في الوجود كلّها في سلام فالشمس على وئام وسلام مع الأرض التي تشرق عليها والنسيم على سلام مع الأشجار التي يهب عليها والكلّ في سكينة. فإنْ أصابها أقل ضرر أو اعتراها أدنى اختلاف أو تنافر أفتعلمون ماذا تكون النتيجة؟ تكون زلزال سان فرنسيسكو وحريقها. هذه هي نتيجة الحرب بين العناصر فإنّ أقل تنافر يلتهب شرره نارًا حامية كالتي أحرقت سان فرنسيسكو حديثًا وأنتم أدرى الناس بما أنتجته من الخسائر والمصائب. هذا في عالم الجماد فلننظر ماذا تكون نتيجة التنافر والتنازع والحرب في عالم الإنسان أرقى عوالم الكائنات. كم تكون مصائبها خصوصًا إذا تصورنا ما خصّ الله به الإنسان من موهبة العقل والإدراك.

حقًّا إنّ العقل أشرف موهبة للإنسان -ضياء من الله تعالى- وهذا من الاتضاح والبيان بحيث لا يحتاج إلى برهان. ألا ترون كلّ الكائنات ما خلا الإنسان خاضعة لقوانين الطبيعة لا تحيد قيد شعرة عن أوامرها. فهذه الشمس الكوكب العظيم أسيرة يد الطبيعة القاهرة لا تحيد عن نواميسها قيد شعرة وكذلك كلّ الكواكب العظيمة أسارى قوى الطبيعة لا تخرج عن نواميسها. وهذه الأرض كغيرها خاضعة ذليلة. وعالم الجماد كلّه خاضع للطبيعة، وكذا عالم النبات بما له من قوة النمو، ومثله عالم الحيوان فالفيل على كبره لا يحيد قيد شعرة واحدة عن نظام الطبيعة. أمّا هذا الإنسان الصغير بجسمه النحيف بسبب عقله الذي هو شعاع من نور الحقيقة الإلهية أمكنه أنْ يكشف سرّ قوانين الطبيعة وأنْ يخترقها. فمثلًا وجد الإنسان حسب قوانين الطبيعة ليسكن الأرض ولكنه بما أوتي من موهبة العقل خرق هذا القانون وصار عصفورًا يحلق في الفضاء وأصبح كالسمك يغوص في الماء. وبنى المراكب واخترق بها عباب الماء خارقًا لكلّ قوانين الطبيعة. وكلّ العلوم والفنون التي تدرسونها الآن كانت مخبوءة في ضمائر الطبيعة بمقتضى ناموسها فالعقل خرق هذه النظامات الطبيعية واكتشف حقائق الكائنات وأبرز الأسرار من مكمن الغيب إلى حظائر الشهود والعيان وهذا مناف لمقتضيات الطبيعة. هذه الكهرباء كانت سرًّا مكنونًا اكتشفها العقل الإنساني وأخرج هذه القوة من حيز الغيب إلى ساحة العيان والشهود.

فهذا الإنسان مع صغره يتسلط على قوى الكهرباء الشديدة العاصية العاتية النافرة ويحبسها في زجاجة فتتأجج من شدة حرارتها. فيا عجبًا لهذه القوة التي فاقت قوى الطبيعة نفسها. في بضع دقائق يتخاطب الشرق مع الغرب. هذه معجزة تعجز الطبيعة. أخذ الإنسان الصوت وحبسه في آلة تحكيه. فالصوت الذي هو تموجات هوائية على حسب القوانين الطبيعية حبسه الإنسان في صندوق صغير وهذا ضد قانون الطبيعة. جميع الأشياء يغيرها الإنسان. وما جميع الاكتشافات إلاّ أسرار تخفيها الطبيعة فيظهرها العقل الذي هو أعظم فيض إلهي ولايزال يبرز لنا كلّ يوم سرًّا على منصّة الطبيعة. أفيجدر بنا وقد مُنحنا تلك الموهبة الإلهية العظمى التي هي أعظم قوة في العالم أنْ نبقى جامدين كالحيوانات المفترسة نحارب بعضنا ونعتدي على إخواننا؟

إذا كانت الحيوانات متوحشة فإنّما هي تضطر إلى ذلك بحكم طبيعة معاشها، ثم إنّها محرومة من نعمة العقل فلا تستطيع أنْ تميز بين العدل والظلم ولا بين الخير والشرّ ولا فارق عندها بين الحلال والحرام. أمّا إذا صدرت من الإنسان هذه الوحشية فلا تكون للحصول عل معاشه بل لسد مطامعه وأشعبيته. فهل يليق بالإنسان الذي هو أشرف الكائنات حيث خلقه الله في أحسن تكوين وإبداع ووهبه عقلًا ساميًا وفكرًا راجحًا أنْ يريق دماء بني جنسه مع ما وصل إليه من الرقي العلمي وما أبرزه من الاكتشافات والاختراعات العظيمة وما أظهره من البراعة في الفنون الجميلة الجليلة؟ الإنسان في هذا العالم هيكل الله لا هيكل إنساني فقط وإذا هدم أحد هيكل غيره فكم يتأثر المالك لذلك وكم يغضب؟ فكيف إذًا بالإنسان يهدم هيكلًا بناه الله؟ لا شك أنّه يستحقّ غضبه ومقته.

خلق الله الإنسان وشرّفه وفضّله على جميع المخلوقات وخصّه ببعض العنايات بأنْ منحه عقلا وحسًّا وذاكرة تمييزًا ووهبه الحواس الخمس بدرجة فائقة. فكلّ ما خصّه الله به من الفضائل ممّا يجعله مظهرًا للكمالات ومصدرًا للحياة وقوة أخلاقية فهل له أنْ يهدم هذا الجسم الاجتماعي العظيم؟ إذا تخلصنا من أسر الطبيعة وحكمنا أنفسنا فهل نرجع بعدئذ أسارى لها ونعمل وفق مقتضياتها؟

في الطبيعة ناموس بقاء الأنسب فإذا لم تترق الإنسانية وتعلو على القوانين الطبيعية فلابد من خضوعها لهذا الناموس ومن ثم فما هي الفائدة من المدارس والكلّيات وما هو الغرض من الجامعات؟ الغرض منها تخليص الإنسان من مقتضيات الطبيعة ومن نقائصها وتجهيزه بالقوة اللاّزمة للاستفادة منها.

انظروا لو تركنا قطعة الأرض هذه التي نحن واقفون عليها والطبيعة لتفعل بها ما تشاء لأنبتت حسكًا، ولو زرعناها واعتنينا بها لأنبتت ثمرًا. ولو تركنا هذه الجبال على حالتها الفطرية لصارت غياضًا كثّة الأشجار عديمة الأثمار أمّا إذا زرعناها تحولت حدائق غلباء تحمل فروع الأثمار والأزهار. وكذلك عالم الإنسان لا يجب أنْ يُترك للطبيعة بل يحتاج إلى تربية وتهذيب ويجب أنْ يربى تربية إلهية. فمظاهر أمر الله المقدسون كانوا معلمين ومربين، كانوا قوامين على حدائق الله ليحولوا هذه الغياض إلى حدائق غلباء تنبت فاكهة شهية. ثم ما وظيفة الإنسان؟ وظيفته أنْ يطهّر نفسه من نقائص الطبيعة ويتحلّى بفضائل الكمالات. فهل يجوز لنا أنْ نضحّي فضائل الكمال ونحوّل عنان أفكارنا عمّا قدر لنا من ممكنات الرقي وقد منحنا الله تعالى قوة نسود بها قوانين الطبيعة؟ قوة نستل بها سيف الطبيعة من يدها ونحاربها به فهل يليق بعد هذا أنْ نبقى أسارى لها ونعمل بمقتضى مستلزماتها بينما أهم مقتضياتها الخضوع لناموس بقاء الأنسب؟ فما الذي يميّزنا عن الحيوان المتوحش ونحن مثله متوحشون؟

لا شك أنّ الحالة الوحشية أحطّ الحالات فهي أدنى ما تدلى إليه البشر وليس أدنى من ميدان الحرب الذي أنشأه الإنسان. إنّه سبب غضب الله وعلّة تزلزل أركان الإنسانية.

الحمد لله الذي جمعني بهذا الجمع المكوّن من محبّي السلام العامّ والمحامين عنه وأفكارهم متّجهة إلى وحدة الإنسانية وغرضهم خدمتها. وإنّي أضرع إلى الله أنْ يؤيدكم ويوفقكم حتّى يصبح كلّ منكم أستاذًا عالمًا وسببًا لنشر العلوم وحتّى يرفع كلّ منكم علم السلام ويكون عروة وثقى يؤلف بين قلوب البشر. فحضرة بهاء الله منذ خمسين عامًا أعلن ضرورة السلام العامّ بين الأمم ووجوب الحرية في شكل التسامح بين الأديان.

أعلن ضرورة السلام العامّ بين الشعوب والممالك وقال أنّ الأساس الأصلي للأديان واحد وأنّ الغرض من الدين أنْ يكون رابطة يؤلّف بين بني الإنسان وأنّ الخلافات التي نشأت كان سببها التقليد الأعمى، وأنّ النظامات والطقوس بدع خارجة عمّا أسسه الأنبياء فهذه الخلافات والتحزبات نشأت عن التقليد الأعمى. ولكن إذا بحثنا عن الحقيقة المنطوية تحت التعاليم الدينية لتوحّدت الديانات وظهر أنّ الدين مصدر الاتحاد والوفاق وسبب تآلف القلوب. وممّا قاله أنّ الدين إذا صار سبب تفرق ونزاع فأحرى بنا أنْ ننبذ هذا الدين كلّية لأنّه يكون مجلبة للضرر فعدمه خير من وجوده. وأمّا الدين فهو دواء من الله لكلّ داء يعتري الإنسانية ومرهم لكلّ جرح ولكن سوء فهمه وفساد استعماله وعدم معرفة تطبيقيه قد سبّب هذا الخراب وأوجد الحرب وأراق الدماء ونكّل بالعباد فعدم الدين خير من ذلك الدين الذي يؤدي إلى هذه النتائج الوخيمة.

وقد أكد ضرورة السلام الدولي وقال أنّما الإنسانية أمّة واحدة بنو رجل واحد هو آدم. عائلة واحدة ولكنها كبرت وتفرعت حتّى خفي علينا أنها عائلة واحدة.

يجب ألاّ نتصور شعوبًا مختلفة أو أشكالًا متباينة في عائلة واحدة. فلو أنّ بعض هذه العائلة سلالة رجل والبعض الآخر سلالة رجل آخر وبعبارة أخرى كان هناك آدمان أبوا البشر لقلنا بين الصنوين بعض الخلاف ولكن لمّا كنّا سلالة واحدة وعائلة واحدة لا عدة عائلات متباينة فلا محل لهذه الأسماء التي تميز بعضنا عن بعض كقولنا هذا إيطالي وذاك ألماني وذا فرنسي أو روسي. هذا كلام لا معنى له لأنّنا جميعًا بشر عبيد الله من ذرية آدم فما هذه الخزعبلات وما تلك الأوهام؟ كلّ هذه الميزات وتلك الحدود أوجدها أهل البغي والعدوان يبتغون عرض الحياة الدنيا من الفتح والمجد ليحرّكوا هذه العواطف الوطنية وهم في قصورهم مترفون يتمتعون بكلّ أسباب الراحة ويتدثرون بالديباج يأكلون أفخر الطعام ويتوسدون ريش النعام ويلهون ويلعبون لعب الصبيان وراء الجدران، ويقولون للفقراء من رعيّتهم والفلاحين والعملة والجند (هيّا إلى الحرب) فإنْ دعوهم معهم قالوا لا نحن قواد وضباط وأنتم الجند هيّا إلى الحرب. فإنْ قال المحاربون ما لكم تخربون علينا الديار أجابوهم (هؤلاء ألمان ونحن فرنساويون)، وأمّا الذين أضرموا هذه النار ففي قصورهم لاهون وعن مسراتهم لا يتزحزحون ودماء الأبرياء يريقون. ولِمَ ذلك؟ لخزعبلات العقائد، هذا ألماني وذاك فرنسي مع أنّ كليهما بشر أبناء آدم من عائلة واحدة.

ولا غرو أنّ هذا الحقد سببه الوطنية المحدودة في حين أنّ الوطنية العامّة تشمل كلّ الأوطان وبذلك يسود السلام بين جميع الأمم.

خلق الله أرضًا واحدة وبشرًا واحدًا وجعلها مسكنه فقمنا الآن نتصور حدودًا وهمية تفصلنا عن بعضنا ونقول هذه ألمانيا، هذه مظهر الوطنية. هذه أمّة عظيمة يلزمنا أنْ نساعدها ونقول عن غيرها لتسقط ولتهلك لأنّها أمّة خاملة فيجب إبادتها ولِمَ ذلك؟

إنّ الحدّ الفاصل بين الأمم وهمي مطلقًا فهل يليق إهراق دماء البشر الثمينة وضرب أعناقهم من أجل هذه الحدود الوهمية؟ ومهما يكن فإنّ المطالبة بالأراضي مطالبة بالتراب وعنوان على محبته والتمسك بأهدابه، فهلاّ فكرتم في أنّنا نعيش على هذا اتراب أيامًا معدودات ثم نرقد تحته ما كرّت الدهور والأعوام؟ لأنّ الأرض أعدت لأنْ تكون مقبرتنا الأبدية فهل يليق بالإنسان أنْ يتقاتل على المقابر وهي فاغرة فاها لتبلعه؟ قتل الإنسان ما أجهله! يحارب أخاه ويسفك دمه من أجل مقبرة تضم جسديهما معًا فأيّ غفلة؟ وأيّ عمى من الإنسان أكبر من هذا!

إنّي أتمنّى أنْ تكونوا أعقل من ذلك وأرفع من أنْ تتقاتلوا على أجداثكم وأرجوا أنْ تعيشوا كأفراد عائلة واحدة أخوة وأخوات، آباء وأمهات. تمضون دور هذه الحياة في سكينة وسلام – آه.

وعلى أثر ذلك اعتلى الرئيس غردون منبر الخطابة وقال: إنّنا مدينون لحضرة عبد البهاء بهذا البيان الرائع عن أخوّة البشر ومعنى السلام العامّ ومبنى الاتحاد والوئام وخير ما يعرب عن تقديرنا لهذا البيان رفع أصواتنا بالشكر الجزيل لمولى الأنام.

(البهائية في الولايات المتحدة)

اختبارات شخصية

بقلم حضرة الأستاذ الفاضل فيليب أفندي حتّي

هو الله

أيّها المؤمنون! أيّها المخلصون! إنّ عبد البهاء يناجي ربّه في جنح الليالي ويدعوه بقلب طافح بالتضرع والابتهال أنْ ينزل عليكم المواهب الإلهية والمائدة السمائية حتّى تستبشروا بفضله وجوده وفيض نوره وتستضيئوا من شمس حقيقته الساطعة الفجر على الشرق والغرب. يا أحباء الله! الأمر عظيم عظيم والفوز جليل جليل والقرن مجيد مجيد والأنوار أحاطت الأقطار. قوموا بقوة إلهية ونيّة رحمانية وهمّة ملكوتية وأخلاق رحمانية وعزم شديد والتوكّل على الرب الفريد اسعوا في خدمة أمر الله وانطقوا بثناء الله وانشروا نفحات الله وتخلقوا بأخلاق الله وتجللوا بحلل الملائكة وتزينوا بفضائل هي زينة الحقيقة الإنسانية. كونوا معالم الفضل وشعائر الكمال ومنار العلم والعرفان ورايات التوحيد وآيات موهبة الرب المجيد. هذا ما تتنور به وجوهكم في الملأ الأعلى وتنشرح به صدوركم من ألطاف ربّ السموات العلى. وإذا أحببتم أنْ ترتّبوا محفل الشّور والتبليغ فيجوز عضوية القانتات الثابتات الموقنات اللاّئي لهنّ همّة الرجال وربّات الكمال ومحللاّت بحلل الفضل والعرفان وعليكم التحية والثناء.  ع ع

نيويورك احباي الهي عليهم بهاء الله

بهذه الرسالة أو اللوح، كما يسميه البهائيون، واجهني ذات يوم أحد الأمريكيين في نيويورك وطلب إليّ ترجمته. تفرست الكتاب وإذا به بالخط الفارسي الأنيق على ورق صقيل بسيط مائل إلى الإصفرار، وهو بتوقيع (ع ع) عبد البهاء عباس، وممهور بختم ضمنه هاتان الكلمتان يا صاحبي السجن (سورة يوسف:40). ويستنتج من العبارة الأخيرة الواردة فيه أنّ عباس افندي كتبه جوابًا على استفتاء كان قد رفعه إليه أتباعه الأميركيون بشأن جواز عضوية النساء في اللجان البهائية. ذلك هو أول حادث وجّه انتباهي لدرس البهائية الأميركية.

على أنّي كنت أتشوّق لاستطلاع أسرار الحركة البهائية في الولايات المتحدة من قبل ذلك، لا سيما وأنّي كنت قد سمعت أنّ الذي نشر الدعوة في أميركا هو أحد متخرجي كلّيتنا الأقدمين، وذلك حوالي عام 1892، وأنّ الذي عاونه على بثّها هو متخرج آخر من الكلّية السورية الإنجيلية. وكان عباس أفندي قد زار الولايات المتحدة عام 1912 قبيل دخولي إليها وخطب في جامعة كولُمبيا وغيرها من المراكز المهمة، الأمر الذي كان يذكره إليّ الكثيرون من التلامذة والأساتذة حالما كنت أتعرف بهم.

وبعد اطلاعي على اللوح عنيت باستكشاف حقائق الحركة البهائية، وتعرفت بعدد من احباي الهي في مدينة نيويورك، وحضرت اجتماعاتهم، ودرست بعض مطبوعاتهم. وآخر مؤتمر وطني عقدوه في نيويورك -وهو المؤتمر السنوي الحادي عشر- أقيم في فندق من أهم فنادق البلدة وذلك في أواخر نيسان من عام 1919، وتليت فيه ألواح عديدة من عبد البهاء. ويحصّل من وقائعه أنّ عدد أعضاء اللجان التي تدبرت أمر المؤتمر تناهز المئة، وأنّ عدد المتكلمين لم يقلّ عن الخمسين، بينهم أفراد من القسس المسيحيين.

ولدى البحث تبيّن أنّ للبهائيين في نيويورك غرفًا للقراءة، ومجلة باللغة الإنكليزية وأنّهم يعقدون اجتماعاتهم الأحدية في إحدى كنائس المسيحيينMarks-in-the Bouwerie وغير الأحدية في مركز خاصّ بهم على شارع مَديسون. وفي الخريف الأسبق قصدت هذا المكان مع صديق لي وكان الوقت مساءً وحضرنا الاجتماع وإذا به اجتماع عادي لا يفرق كثيرًا عن سائر الاجتماعات الأدبية إلاّ بظهور روح الإخاء والائتلاف بين المجتمعين وبالتحية التي كان بعضهم يتبادلها – أو يحاول تبادلها – بالغة العربية وهي: عليكم بهاء الله. وكان خطيب الحفلة يومئذ جورج غراي بارنار Barnard النحّات الأميركي المبدع صاحب تمثال لنكلن الذي أهداه الأميركيون منذ عامين مدينة لندن. وكان في جملة الحضور الرسام بورجوا Bourgeois واضع رسم المسجد العظيم مشرق الأذكار الذي ينوي البهائيون إقامته في شيكاغو. ويقول العارفون أنّ هذا البناء متى تمّ يصبح من أجمل البنايات الأميركية هندسة وإتقانًا. وكان القوم لم يزالوا يتحدثون بقصة بورجوا وكيف أنّه انزوى أشهرًا طوالًا في قرية من أعمال نيوجرزي بجوار مدينة نيويورك وكرّس وقته وماله ومواهبه في سبيل تحقيق فكرته في رسم هذا المسجد. وكان في أثناء ذلك يعتاش من دكان حقير كانت تديره زوجته.

بَيْدَ أنّ نيويورك على أهميتها ليست المركز الرئيسي للحركة البهائية بل مدينة شيكاغو. وفيها تصدر المجلة نجمة الغرب The Star of the West التي هي لسان حال الدعوة البهائية في أميركا. وهنالك عدا عن شيكاغو ونيويورك لا أقل من ست عشرة بلدة فيها مراكز كبرى للبهائيين – منها بوسطن وفيلادلفيا وبلطيمور وكليڤلاند ومنياپولس وسان فرنسيسكو وغيرها ولطالما اتّخذ الباحثون أمر نجاح الدعوة في أمريكا دليلًا على صحتها وموافقتها لروح العصر وعلى أهليتها لأنْ تكون ديانة عامّة للعالم بأسره. أمّا المطبوعات التي ظهرت إلى الآن باللغة الإنكليزية فأرجّح أنها تفوق مطبوعات كلّ لغة أخرى.

و مما يدل على انتشار البهائية العجيب أنّي دُعيت مرة للكلام في جامعة هوارد Howard في عاصمة البلاد واشنطن وهي أكبر جامعة للزنوج، فقلت في جملة ما قلته أنّ لكلّ شعب، أبيض أم أسود شرقي أم غربي، ميزة خاصّة به لا يجوز أنْ يتنازل عنها أو يستبدلها بغيرها، وأنّ كلّ قوم، رفيع أم وضيع، غني أم فقير، يمكنه أنْ يتحف العالم والمدنية بشيء لا يقدر أحد سواه على الإتيان به. وما لبثت أنْ أنهيت الكلام حتّى تقدّم إليّ أحد أساتذة الجامعة – وهو زنجي – وقال أنّه تأكّد من منطوق كلامي أنّي مثله من الأحباء – وهو استنتاج لم يدر قط بخلدي – ثم دعاني لحضور جلسة كان بهائيو واشنطن ينوون عقدها في تلك الليلة.

وكنت يومًا جالسًا في مكتب التلامذة الأجانب في نيويورك وإذا بشاب ياباني قصير القامة جاء يطلب غرفة للإقامة. وذكر أنّه طالب في إحدى كلّيات الهندسة في مدينة شيكاغو. وحانت مني التفاتة إلى صدره وإذا بزرّ ذهبي عليه شارة البهائية وهي يا بهاء الأبهى. فاعتراني الذهول. وما عتم أنّ لحظ ذلك حتّى أفادني أنّه ممن قبلوا الدعوة لدى زيارة عباس أفندي لشيكاغو، وأنّه عائد لحيفا أولًا ومنها لبلاده اليابان للتبشير بمبادئه الجديدة.

ومنذ ثلاث سنوات انتقل من شيكاغو المبشر الأول بالبهائية المذكور آنفًا وهو من متخرجي جامعتنا وجعل إقامته في بروكلين ولقد تسنّى لي أنْ جالسته مرارًا فوجدته مخلصًا لمبدأه مؤمنًا بمعتقده وهو الآن من مشايعي محمد علي بعد أنْ انقلب على أخيه عباس أفندي.

وكان في عداد تلامذتي في جامعة كولُمبيا أفراد من البهائيين الأميركيين حادثتهم مرارًا وفهمت منهم أنّهم لا يعتبرون البهائية دينًا جديدًا أو مذهبًا مستقلًا بل فلسفة اجتماعية تفضي بوجوب الإخاء والسلام وتعلّم مبدأ وحدة الجنس البشري ووحدة أصول الأديان، فالمسيحي منهم مسيحي، واليهودي يهودي، والكلّ تجمعهم رابطة البهاء. ومن هؤلاء التلامذة سيدة تغيبت عن صفوفها في شتاء 1919 لتحظى بزيارة  المولى The Master في حيفا. ومن أشهر الذين شايعوا عباس أفندي وزاروه في عكاء مسز هرست Mrs Hearst والدة وليم رندولف هرست ملك الصحافة الأميركية ونورثكلف الولايات المتحدة. ولمّا توفيت هذه السيدة في كليفورنيا منذ بضع سنوات صلّى على جثمانها الإكليروس الإپسكوپالي ودفنت كغيرها من أتباع الكنيسة المسيحية.

وكان تلامذتي يأتوني بتحارير – ألواح – من عبد البهاء بقصد الترجمة وكنت أستأذنهم بنقلها ونشرها وهي ممّا لم ينشر مثلها من قبل بالعربية على ما أعلم. وهذه أمثلة منها:

1 هو الله

أيّها المستبشر ببشارات الله،

هنيئًا لك بما تجرّعت من كأس محبة الله. وشربت من صهباء العرفان. وأخذتك نشوتها حتّى انجذبت وجذبت القلوب إلى ملكوت الله. فعليك في كلّ حين بذل الجهد الجهيد في إعلاء الكلمة وتنوير القلوب والأبصار وكشف الظلام الحالك المنبعث من الضلال بنور هداية الله. وإذا أمكنك ألّف كتابًا في هذا الأمر البديع. وأقم كلّ البرهان القاطع والدليل الواضح على إثبات ظهور ملكوت الله في هذا القرن المجيد. وإنّي أرجو الله أنْ يؤيدك بنفثات من روح القدس. ويلهمك الحجج القاطعة والبراهين الواضحة على استقامة هذه الحجة البيضاء وصحة هذه التعاليم المقدسة السمحاء. وعليك التحية والثناء. ع ع

ويؤخذ من هذه الرسالة أنّ المخاطَب كان قد سبق أنْ طلب رخصة لطبع مؤلف بشأن الدعوة.

2 هو الله

أيّتها المنجذبة بنفحات الله،

إنّي قرأت تحريرك الأخير الدّال على تسعّر نار محبة الله في قلبك. وزاد فيَ سرورًا قيامك على خدمة أمر الله بكلّ قواك. وإنّي أرجو الله أنْ يقربك إلى عتبة قدسه حتّى ترافقي عبد البهاء في عبودية الحضرة الرحمانية وعبادة الربّ الكريم وليس لي شأن إلاّ التضرع إليه والتبتل إلى ملكوته البديع. يا أمة الله كوني سهمًا لي في عبودية الله الحقّ. وتضرّعي وتبتّلي إلى جبروته العظيم. وعليك التحية والثناء. ع ع

3 هو الله

أيّتها المهتزة بنسيم محبة الله،

إنّي سمعت كلّ الثناء عليك من أحد أحباء الله فتحركت وتموجت عواطفي الروحانية وتهيجت محبتي الرحمانية فابتدرت إلى تنميق هذه النميقة مخاطبًا لك وداعيًا إلى الله أنْ يجعلك نفسًا زكية عن شؤون الإمكان، طيبة بفيض الرحمن، راضية مرضية مطمئنة من فضل ربّك المتعال. فبلّغي أباك تحية منّي واحترامًا وافرًا وقولي له أنّ شمس الحقيقة إشراقها أعظم من أنْ يغيب خلف سحاب الشبهات، وبحر فيوضات ربّك أوسع من أنْ يغطيه زبد الشكوك في عالم العيان. انظر إلى زمن المسيح وكيف اعترضوا على ذلك الوجه الصبيح وأنكروه بسبب الشكوك الطارئة على القلوب، وحرّموا على أنفسهم ذلك الفيض العظيم. وهل سمعت أو قرأت أمرًا أعظم من أمر ربّك الرحمن الرحيم؟ كلاّ إنّ الأمر عظيم عظيم، والربّ كريم كريم، والفيض جليل جليل. وعليك التحية والثناء. ع ع

4 هو الله

أيّتها المنجذبة بنفحات الله،

إنّي أخاطبك بلسان روحي وبيان قلبي وأقول لك أبشري بفضل مولاك بما أسمعك النداء وانطبع في قلبك مثال عبد البهاء وأسأل الله بأنْ يوفّقك على الحضور في هذه البقعة النوراء، وإنّي أسمع ضجيجك بسمع الروح وأدعو لك أنْ يكشف الله الغطاء عن أبصار كلّ الإماء حتّى ترى كلّ أمة من إماء الله أنوار الجمال الساطعة على كلّ الآفاق. ثم اعلمي أنّ روح القدس يؤيد كلّ انسان منجذب إلى الجمال الأبهى ومتوجّه إلى ملكوته العظيم، ولا تحزني من البلاء والمشقات التي تتابعت عليك قد زالت وتزول ويبقى لك الفرح والسرور إلى أبد الآباد. إنّ ربّك يحفظك في كلّ الشؤون والأحوال. يا أمة الله افرحي بموهبة ربّك التي شاعت وذاعت في الآفاق واختُصّت بها نفوس اختارهم الله في يوم الميعاد. وعليك التحية والثناء. ع ع

ويلوح من هذه الرسالة أنّ المخاطَبة كانت قد أشعرت عباس أفندي باضطهاد أهلها لها وتعاقب المصائب عليها.

5 هو الله

يا من أذكرك في هذه الليلة الدهماء ليلة الصعود التي اشتدّت (بها) الأحزان على عبد البهاء. لعمر الله إنّ هذه الليلة تبكي أعين الملأ الأعلى وتتقطع فيها قلوب الأصفياء وتذوب كبد أهل البهاء، فلا أبتغي إلاّ البكاء، ولا أتمنّى إلاّ أجيج نار الاحتراق بين الضلوع والأحشاء، وأنوح نوح الورقاء وأحنّ حنين الحمام وأضجّ ضجيج الثكلاء. مع ذلك اشتغلت بذكر الأحباء وأقول يا من تردّى برداء الهدى ابْتهِلْ إلى الملكوت الأبهى وتقرّب إلى العتبة المقدسة الفيحاء وشمّ رائحة الوفاء من رياض الملكوت الأبهى وقم على ذكر الحيّ القيّوم وارفع صوتك من ربوات تلك الناحية القصوى حتّى يسمع عبد البهاء حنينك وأنينك وصريخك وضجيجك إلى ملكوت السماء. وعليك التحية والثناء. ع ع

6 هو الله

أيّتها المنجذبة بنفحات رياض الملكوت،

قد أتاني تحريركِ الأخير وأدركت من معانيه ما يختلج في قلبك المنير من هواجس محبة الله التي التهبت في شجرة سيناء. الحقّ أقول لك إذا تسعرت تلك النار بين الضلوع والأحشاء لا يتمنّى الإنسان إلاّ سرّ الفداء فيركض إلى ميدان الشهادة الكبرى وينادي ويقول ربّ وإلهي أنلني تلك الكأس الطافحة بصهباء المواهب كلّها. ويتهلل وجهه عند صعود روحه إلى الملأ الأعلى. وإذا قدّر لي ربّي هذه المنحة العظمى أخاطبك من ذلك العالم الأعلى وأرسل لك تحارير روحه التي (هي) عن نفحات القدس المعطرة للآفاق وإنّي رأيت تصويرك الشمسي ودعوت الله أنْ يجعل شبحك الروحاني منطبعًا في مرآة الإمكان بواسطة نور حقيقي ساطع على الآفاق وكلّ المؤمنين والمؤمنات في هذه البقعة المباركة وبالأخص الورقات الرحمانية يهدونك التحية والثناء ويتمنون لقائك في يوم ما. وأرجو الله أنْ يعمّدك في كلّ حين بماء الحياة ونار محبة الله. وعليك التحية والثناء. ع ع

7 هو الله

يا أمة الله المنجذبة،

قد فرح قلبي وانشرح صدري واستبشر روحي بما دعوتِ الله أنْ يقدر لعبد البهاء الشهادة الكبرى والفداء في سبيل البهاء أحسنتِ أحسنتِ يا أمة الله بما دعوتِ أنْ يقدّر لي أعظم المُنى في هذه النشأة الأولى أسأل الله أنْ يستجيب دعاك إنّه لطيف مجيب لمن دعاه. الحقّ أقول لك إنّي أتمنّى تلك الكأس تمنّي الظمآن لأعذب الفرات. وأرجو رجاء المريض للشفاء وحبّ الجريح للإضماد والغريق للحياة. وعليك التحية والثناء. ع ع

عبدالبهاء عباس أفندي زعيم البهائيين

وكتب حضرة الباحث المدقق الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي صاحب مجلة البيان مقالة في عدد مجلته الصادر في شهري شوال وذي القعدة سنة 1331ﻫ تحت هذا العنوان ما يأتي:

بين ظهراننيا الآن وبمرأى منّا ومسمع رجل من نوابغ القرن العشرين بل من نوابغ العالم جميعًا وبحسبه أنّه زعيم طائفة كبيرة تعد بالملايين منشورة في مصر والفرس والهند وأوروپا وأميركا وأكثر أنحاء المعمورة تقدّسه تقديس الأنبياء والمرسلين وبحسبه كذلك أنّ الجرائد والمجلات في أوروپا وأميركا. بله([1]) الكتب والأسفار وقفت له صفحات تنوّه به وتنشر دعوته وتجلّه إجلال الأبطال ذلكم هو مولانا عباس افندي الملقب بعبد البهاء زعيم البهائيين وبطل الإصلاح الديني في هذا العصر بل سيد المصلحين.

منذ ثماني سنين سمعنا بأنّ في القاهرة عالمًا فارسيًا يسمّى أبا الفضل هو قبلة طلاّب العلم وكعبة يحجّ إليها روّاد العرفان. فبحثنا عن هذا الرجل حتّى اهتدينا إلى منزله فوجدنا ثمة رجل مخطف البدن نحولًا ربعة لم يبلغ قِصرًا ولا طولًا كهلًا ينيف على السبعين، ولكنه كابن الثلاثين قوة ونشاطًا وحدة وذكاء، ورأينا بين برديه روحًا لو كنّا ممن يقول بتناسخ الأرواح لقلنا أنّ تلك روح المأسوف عليه جمال الدين الأفغاني تناجينا بين أثوابه وتخلب عقولنا بسحر بيانه وحلو خطابه. فملك الرجل علينا أمرنا وصار لا يحلو لنا الجلوس إلاّ إليه ولا الحديث والسمر إلاّ معه وكلّما زدناه خلطةً وامتحانًا زادنا أدبًا وعرفانًا. وفي أثناء ذلك سمعنا بالباب والبابيين والبهاء والبهائيين ولكن لا من ناحية أبي الفضل أفندي بل من ناحية بعض المصريين الذين رأيناهم يذكرون البهائيين على غير هدى ويقذفونهم بما هم منه براء شأن الحمقى الممرورين الطائري العقول الذين لا يستطيعون الصبر على البحث والاستقصاء والتنقيب فلفتنا ذلك إلى النظر في أمر هؤلاء البهائيين من وقتئذ. ثم ضرب الدهر من ضرباته وسافر أبو الفضل أفندي إلى أمريكا وأخذنا نحن نفتّش عن كتاب عربي تعرّض للقول على البهائيين إلى أنْ عثرنا بتلك النبذة الصغيرة التي كتبها البستانيون في دائرة معارفهم تحت عنوان (البابية)، ثم بكتاب تاريخ البابية للدكتور مهدي، ثم بما كتبه المستشرقون مثل العالم الإنكليزي (براون) في كتابه تاريخ آداب الفرس وفي كتاب له كبير وضعه باللغة الفارسية خصيصًا بالقول على البهائيين ثم ما كتبته الصحف والمجلات الإنكليزية والأمريكية فما زادنا ذلك إلاّ شغفًا بمعرفة أمرهم من مصدره الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنّ الناس في الغالب الكثير إمّا مفرّط وإمّا متعصّب لك أو متعصّب عليك.

وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة                  ولكن عين السخط تبدي المساويا

وما زلنا بهذه الحال من الشغف والاستهتار (الولوع بالشيء لا يتحدث بغيره) إلى أنْ ابتسمت لنا الأيام وأديل لنا اليسر من الإعسار وقدم حضرة زعيم البهائيين الأكبر عبد البهاء عباس أفندي المترجم به إلى وادي النيل وقطعت جهيزة قول كلّ خطيب.

فكدنا نخرج من جلودنا فرحًا واغتباطًا بقدوم الرئيس الأكبر إلى بلدنا وشغفنا الشغف كلّه بلقياه حتّى أتاح لنا القدر أنْ حظينا بزيارته في الشهر الماضي بمنزله برمل الإسكندرية وقبل أنْ نصف هذه الزيارة المباركة وما جرى من الحديث بيننا وبين جنابه، نمهد لذلك بذكر ما كتبته جريدة الكرونكل الإنجليزية عن حضرة عباس أفندي إذ زار إنجلترة في هذا العام واحتفل به علماء الإنجليز وأدباؤهم الاحتفال اللاّئق بمقامه الكريم – قالت الكرونكل:

نحن في زمان اشتد فيه الضجيج وعلت الضوضاء من كلّ مكان فلا تكاد تسمع فيه دعوة للكمال إذ أصبحت الشعوب المتحضرة رهينة الهزاهز والاضطراب يقدح في ساقها الجهاد في سبيل الحياة وتصميها سهام الخلافات ونبال المناقشات وتنقض ظهرها أثقال الاستعدادات الحربية ويؤودها جهار القتال. وترى الأمم المتجاورة يرمق بعضها بعضًا شذرًا وتنظر خشية وحذرًا. وعالم الصناعة كشجار الديكة ذاهلة أربابه. تدمدم من حوله الاضطرابات. وتؤاذنهم بوعيدها الثورات. وفي بهرة هذا العراك وذاك الصراع اللجب يسمع نداء المعلم الروحاني يدعو إلى السلام العامّ.

ذلكم عباس أفندي الملقب بعبد البهاء قد لفت الأنظار بسياحة في إنجلترا إلى تلكم الحركة السريعة الانتشار التي تزداد نفوذًا وتنمو قوة لما جمعت بين كثيرين من أتباع الطوائف المتباينة ووصلت بينهم على مبدأ الإخاء العامّ تؤلف بينهم عروة وثقى لا انفصام لها.

فالبهائية – كما شرحها المستر (آرك هَمُنْد) فأبدع في شرحها في كتاب صغير من سلسلة كتب (الحكم الشرقية) – هي كما هي _ هي الكاثوليكية الصادقة يتبعها المسلمون والنصارى واليهود والبوذيون وليست مذهبا منفردًا بل هي مستجمع المذاهب ومستجمها تردّها إلى أصول وتحيلها إلى صادق مبادئها. كمالها أنّ الله واحد إله كلّ شعب وربّ كلّ دين ودعواهم فيها سلام.

وبعد أنْ ذكر تاريخ عباس افندي قال تحت عنوان:

[1](1)   أي دع الكتب والأسفار.

 

أغراض البهائيين

ذلكم عباس أفندي وتلكم مكانته أمّا تعليم البهائية فهي عملية ظاهرة وصوفية باطنة في آن واحد ولا جرم أنّها تشبه من وجوه كثيرة ما كان ينبعث في العصور الوسطى من فرنسيس أُف أسيسي من جمال الإحسان والخدمة العامّة والنور. فهاكم اليوم شيئًا من ذلك التأليف الغريب بين الصفات الإلهية والخضوع الإنساني العظيم والقيام على الخدمة. فعباس أفندي ينهج في طليعة أتباعه طريقة تسمى عند بعض الناس طريقة صوفية. لكنهم أنّى ذهبوا يسيرون على طرق عملية وإليكم مثلًا منها.

إنّ هذا المعلم لا يدعو إلى الرهبنة بل يأمر أتباعه أنْ يتعلم كلّ حرفة كما كان بولص يصنع الخبز ويحضّهم على النظافة والصناعة والاقتصاد فآمالهم تسمو إلى ما في السماء وعقولهم لا تلهو عمّا في الأرض وإنّنا نجتزىء بقول من أقوال حضرة عباس أفندي نفسه في أغراض البهائيين.

لا تسمحوا لأنفسكم أنْ تنمّ بكلمة على أحد ولو كان عدوًا لكم، ولتُسكِتوا من ينمّ لكم على عيوب غيركم، وتتحلّوا بالصدق والوقار. ولتملأ صدوركم بالآمال، كونوا مرهمًا لكلّ جرح، وماءً عذبًا لكلّ ظامئ، ومائدة سماوية لكلّ جوعان، ومرشدًا لكلّ باحث، وغيثًا لكلّ حارث، ونجمًا في كلّ أفق، ونورًا لكلّ مشكاة، ومبشرًا لكلّ نفس مشتاقة إلى ملكوت الله.

هذا مبدأ من المبادىء البهائية السامية فلا تطرّف في الزهد ولا تعذيب للنفس أملًا في أوهام التنعم في الآخرة بل حال سرور ورياضة للنفس على الخدمة والمساعدة والتضحية وآخر دعوى البهائيين قولهم اللهم ارحمني من نفسي.

السياحة الروحانية

أمّا الطريقة الصوفية فيجب الأخذ بها وهذا يفسر بالسياحة في الأودية السبعة التي شرحها وفسرها المستر هَمُنْد وهذا العدد الرمزي عامّ. فكما أنّنا نصعد مع دانتي درجات الطهارة السبعة ونخلف في كلّ درجة إحدى خطايانا المميتة فأنّنا كما يرشدنا بهاء الله في كتاباته نمر في سير ترقّينا بالأودية السبعة التي أوّلها (وادي البحث) يركب فيه السائح مطيّة الصبر باحثًا عن الله جل شأنه فيجب أنْ ينشده في كلّ مكان حتّى في التراب فهو في كلّ شيء. ثم يصل إلى (وادي الحبّ) ومطيّته التضحية فيلزمنا أنْ نتناسى أنفسنا ونطرحها ظهريًا. فالحب الأناني لا يعدّ حبًّا. وهكذا نستمر فوق تلال هذا الوادي المفرّقة حتّى (وادي المعرفة الإلهية) فنخرج من الشك إلى اليقين، من تيه الآمال الدنيوية إلى الحكمة الربانية. فهذه الأودية الثلاث درجات يعرفها كلّ من سار في الرحلة الروحانية في كلّ زمان. أمّا الوادي الرابع فيتميز بائتلافه مع آمال البهائيين (وادي الوحدة الإلهية). فلمّا كانت أغراض الناس مختلفة متباينة حقّ علينا أنْ نعترف بالوحدة الإلهية الموجودة في كلّ الوجود وأنْ نتحقق بمجرد وجودنا اتحادًا إنسانيًا وهذه الوحدة الإلهية وإذا تمّ ذلك استنارت أمامنا ظلمات الطرق وسهل حزنها فيصل السائح إلى (وادي الرّضا) حيث كلّ شيء سارّ جميل ويجد طالب السعادة فيه ثوابه ويلي ذلك (وادي الحيرة) حيث تتجلى فيه المظاهر الأولى على حقيقتها وتخلص الأفكار من الأوهام والخرافات التي كانت تحوطها وينبلج الحقّ فنعترف به مع الخشوع والذهول اللذين يظهران على الطفل ولو أوتي عقلنا فينظر إلى معجزات القول التي عميت عنها أبصارنا على تقدم أعمارنا ثم نبلغ أخيرًا (وادي الفقر) حيث نوقن أنّ كلّ مجد دنيوي تالد وطريف وكلّ شرف وفخار وحلية ونعمة ما هي إلاّ أسماء سميناها وأبدعناها ما أنزل الله بها من سلطان، وفي ذلك أيضًا تظهر روح البهائية قريبة جدًا من روح فرنسيس. إذن فلا شك في أنّ العقائد البهائية ليست جديدة في ذاتها ولا حديثة في تفاصيلها بل هي أقدم عهدًا من شمّ الجبال ولكن تطبيقها في هذه الأيام المضطربة الكثيرة الضوضاء واللجب والجلبة تجعلها جديدة فهلاّ يسمع العالم ذلك الصوت العالي المنادي بالمساواة المطلقة والمؤذن بالأخوّة الروحانية العامّة؟ هلاّ سمع العالم نداء الأنبياء؟

أقوال العظماء والعلماء

عن البهائية وعبد البهاء

قال دولة الأمير الجليل محمد علي باشا حفيد محمد علي باشا الكبير في رحلته إلى أميركا الشمالية الصفحة 414:

في صباح يوم الإثنين (22 يوليو) ركبنا عربة وذهبنا لشراء كتب هندسية وعند عودتنا إلى الفندق أُخبِرت أنّ فضيلة العالم الشرقي الجليل عباس أفندي زعيم البهائيين يريد مقابلتي فضربت له موعدًا في الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم إلى أنْ قال دولته:

حضر بعد ذلك عباس أفندي فقابلته مرحبًا به معظّمًا له. ولم تؤثر الشيخوخة في ذكائه المفرط فإنّه مكث معي نحو ساعة من الزمان وهو يحدّثني في موضوعات شتّى مفيدة جدًا دلت على سعة اطلاعه وكثرة اختباره. فهو إذًا رجل العلم وعظيم من عظماء الشرق.

ثم قال دولته: أمّا خطاباته الكثيرة المؤثرة فإنّها أخذت دورًا عظيمًا في أميركا وقد كانت إذ ذاك حديث الجرائد ينشرونها ويعلّقون عليها أراء علمائهم الدينيين وبالجملة قد توصل باقتداره إلى بلوغ الدرجة التي يحسده عليها الحاسدون وقد مكثت معه زمنًا أحادثه ويحادثني فيطربني بلذّة كلامه. ثم انصرفت من عنده وأنا أحفظ له في قلبي المودة والاحترام.

وقال المرحوم السيد علي يوسف في المؤيد عدد 6194 الموافق يوم الأحد 17 أكتوبر 1910 تحت هذا العنوان:

الميرزا عباس أفندي

وصل إلى ثغر الإسكندرية حضرة العالم المجتهد ميرزا عباس أفندي كبير البهائية في عكاء بل مرجعها في العالم أجمع. وقد نزل أولًا في نزل ڤكتوريا بالرمل بضعة أيام ثم اتخذ له منزلًا بالقرب من شتس (صفر) وهو شيخ عالم وقور متضلع من العلوم الشرعية ومحيط بتاريخ الإسلام وتقلباته ومذاهبه. يبلغ السبعين من العمر أو يزيد على ذلك.

ومع كونه اتخذ عكاء مقامًا له فإنّ له أتباعه يعدّون بالملايين في بلاد فارس والهند بل في أوروپا وأميركا. وأتباعه يحترمونه إلى حد العبادة والتقديس حتّى أشاع عنه خصومه ما أشاعوا ولكن كلّ من جلس إليه يرى رجلًا عظيم الاطلاع، حلو الحديث، جذابًا للنفوس والأرواح يميل بكلّيته إلى مذهب (وحدة الإنسان) وهو مذهب في السياسة يقابل مذهب (وحدة الوجود) في الاعتقاد الديني. تدور تعاليمه وإرشاداته حول محور إزالة فروق التعصب للدين أو للجنس أو للوطن أو لمرفق من مرافق الحياة الدنيوية.

جلسنا إليه مرّتين فأذكرنا بحديثه وآرائه سيرة المرحوم جمال الدين الأفغاني في إحاطته بالمواضيع التي يتكلّم فيها وفي جاذبيته لنفوس محدثيه إلاّ أنّ هذا يتسع حلمًا ويلين كنفه لحديث مخاطبيه ويسمع منهم أكثر ممّا يسمع السيد جمال الدين.

وقالت جريدة الجريدة التي كان يديرها الأستاذ المفضال أحمد لطفي السيد بتاريخ 2 يونيو سنة 1910 بعنوان البهائية والإسلام مترجمًا عن الجرائد الإنكليزية:

خطب المستر تمبل في إيران وتجدد الإسلام على جمعية الفنون الإنكليزية التي عقدت جلستها في 25 مايو 1910 برئاسة الأستاذ براون أستاذ الفارسية في كلّية كمبردج.

وممّا قاله في خطبته: إنّ أوروپا غير مبالية الآن بنشوء الحركة الدينية الجديدة في ايران والمسماة بالبهائية (نسبة إلى بهاء الله مُنشئها) فقد بلغ عدد البهائيين في الدنيا منذ ابتداء هذه الحركة مليونين أو أكثر مع أنّ مؤسسها كان حيًا في أواخر القرن الماضي.

والناس يقبلون عليها أفواجًا من غير المسلمين وهي تنتشر في روسيا وألمانيا وفرنسا وإنكلترا وعدد البهائيين في لندن كثير ولهم دوائر صغيرة في منشستر وليفربول وإدنبرا وغلاسكو.

وينتظر أنْ تصبح الولايات المتحدة الأمريكية مركزًا كبيرًا للبهائية. والاعتقاد الشائع أنّ البهائية دين يراد به أنْ يكون دين للعالم كلّه كلغة الإسبرانتو التي يراد جعلها لغة عمومية ولكنه ليس في واقع الأمر دينًا بل حركة دينية. وقد جيء به لتجديد آسيا وأهلها، وروحه مضادة للبابوية وللكنيسة الإنكليزية ولسائر الإكليروس. وهو عامل قوي ينتظر أنْ يكون ذا تأثير عظيم في التطهير والتجديد. آه

نشرت جريدة الإجبسيان غازيت التي تصدر في الإسكندرية عدد 24 سبتمبر سنة 1914 تحت عنوان (الأستاذ ڤامبري والبهائية) مقالًا للسيدة ستنارد العالمة الإنكليزية المشهورة التي كانت تلقي محاضرات جليلة حول علم النفس في دار الجريدة هذا نصه . قالت مسز ستنارد:

لمّا كانت وفاة ذلكم البحّاثة المشهور والمستشرق الكبير الأستاذ أرمينياس ڤامبري، لم يمض عليها إلاّ أيام قلائل، رأيت أنّ خطابه الذي بعث به قبل وفاته ببضعة أسابيع إلى عبد البهاء عباس أفندي قد أصبح رسالة تدوّن في التاريخ، وكتابًا مأثورًا ذا مكانة عظيمة وأثر كبير. ويسرّني أنْ قد أذن لي في نشر ذلكم الخطاب ولم يكن قد نشر بعد للناس.

وإنّ في حسن أسلوبه وأدب عباراته لدليلًا واضحًا على تمكّن ذلكم الأستاذ المبدع من فهم قلب المشرق المتدين، وبرهانًا جليًا على توفره على تعضيد كلّ مقصد نبيل حقّ ومطلب شريف صدق. ولعلّ كثيرين لم يروا في ڤامبري إلاّ عالمًا طبيعيًا لا يفترّ عن البحث ولا يرهقه الاستقصاء، وبحّاثًا مكتملًا يبحث في أصل الحيوان والإنسان. وآخرون يعلمون ما يجري في الشرق الأدنى من مشاكل في الحياة ورقي الفكر، ويرون في الأستاذ رجلًا أعظم شأنًا مما يظنّ هؤلاء، وأطول باعًا ممّا عرفوا وأسمى شأوًا ممّا عهدوا. وأنّ حياته المتّقدة نشاطًا وهمّة وعزمًا، تجمع خبرة أوسع، وعلمًا أكبر وأحفل، استمدّ من تجاربه، واستخرجه من مشاهده وكان نصيبه منها يربي على أنصبة ثلاثة من الساسة مجتمعين. وكانت معرفته باللغات عجيبة الشأن. فقد كان عليمًا بخمسة عشر لغة كتابةً وقراءةً ومن ثم كان حكمه على الرجال والأشياء يعتدّ به، ويرجع إليه، لقيامه على نظر ثاقب، ونصفة نافذة. وقد لبث في بطانة عبد الحميد السلطان المخلوع أربع سنين، كان في خلالها مستشاره الخصوصي، وقد قضى شبابًا له عسرًا في أوساط غريبة مثل تركيا وفارس والبلقان أكسبته فرصًا لم تسنح لأحد وقد فرغ فيها إلى البحث والاستقراء.

أمّا عن الفلسفة الدينية فقد كان يخبر أحسنها، ويبحث عن أسماها، وكان يتكلّم في المذاهب الإسلامية سواء العربية منها أو الفارسية، عن خبرة واسعة، وعلم صميم. فكان فيها موضوع احترام علمائها.

وكثيرًا ما كتب عن ترجمة حياة ذلكم العبقري النادرة في المجالات الغربية من حين إلى حين. وسيُكتب عنه أكثر مما كتب. على أنّنا لا نستطيع أنْ نصدق أنّ ما كتب أو يُكتب عنه سيكشف لنا عن روح ذلكم العالم البحّاثة. ويبدي لنا قرارة نفسه ومواهبه السامية في زمان شيخوخته، كما تكشف لنا عبارات خطابه الآتي وكأنّي بنا نشهد منه ضوء مشكاة سطع من قلب رجل كان يبحث أبدًا ويجدّ ليهتدي إلى حقيقة كبيرة. واتقاد يتنازعه، حتّى ظفر أخيرًا بطلبته من الحقّ والخبرة وكان بها راضيًا.

وكان اللقاء المأثور الذي جرى بين عبد البهاء والأستاذ ڤامبري في بودابست في أبريل الماضي، وقد لقي الزعيم البهائي العظيم عصبة من العلماء والبحّاثة المستشرقين والمصلحين الاجتماعيين حفاوة وترحيبًا. فلمّا عاد عبد البهاء إلى مصر كتب إلى ڤامبري كتابًا وبعث إليه بهدية. فكان جوابها الخطاب الآتي، ولكي يعلم من لم يبق له علم بالأساليب الكتابية في الشرق أقول أنّ أسلوب الخطاب لا يكتب به في الإسلام إلاّ علماء الدين. ولا يستعمل إلاّ في مراسلة معلم عظيم المكانة أو زعيم جليل القدر.

وإلى القراء ما كتب ڤامبري إلى عبد البهاء:

أرفع هذا العرض الحقير إلى حضرة عبد البهاء عباس أفندي. وسدّته الطاهرة المقدسة. إلى قطب العلم الذائع الذكر في الخافقيْن والمحبوب من الناس جميعًا.

أي صديقي الكريم، وهادي الناس إلى سواء السبيل، لو أنّ حياتي تروح لك فدى.

إنّ الرسالة التي تنزّلت لكتابتها إلى خادمك، والبساط الذي حبوته به قد وصلا إليَ سالميْن، فعاودتني ذكرى لقائي بفضيلتك، وتبرّكي بحضرتك، وإنّي لأحن إلى لقائك، وأشتاق إلى رؤيتك. وقد جبت كثيرًا من ممالك الإسلام وبلدانه، فما رأيت خُلقًا ساميًا مثل خلقك، ولا شخصية عالية مثل شخصيتك، وإنّي لأشهد أنّه ليس من الممكنات أنْ يقع المرء على نظيرك، وإنّي آمل أنْ تكون مبادؤك الكمالية وأعمالك قد توّجت بالفوز والنصر، أثمرت على أية حال، فإنّي ألمح من وراء مراميك الكمالية وأفعالك الخير الأبدي والنعيم المقيم لعالم الإنسانية.

إنّ خادمك أراد أنْ يجتني العلم والخبرة من مصدرهما فدخل في أديان كثيرة فصار في مظهره يهوديًا ومسيحيًا وزرادشتيًا، على إنّي رأيت أنّ المتمسكين بهذه الأديان لا همَّ لهم إلاّ التباغض والتنافر والتباهل والتلاعن، وأنّ هذه الأديان قد أصبحت آلات للظلم والطغيان في أيدي الولاة والحكّام، وأنّها أسباب تعمل على خراب العالم الإنساني وفنائه. وتفاديًا من شر هذه النتائج كان حقًّا على كلّ إنسان أنْ يكتب اسمه في سجل أنصارك. ويرضى مبتهجًا بمقصدك، إلى تأسيس قاعدة ينهض عليها دين عامّ. وكنت أنت واضع أساسه بمجهوداتك وأعماك. لقد رأيتُ عن بعد أبا فضيلتك. ثم شهدت كرم نفس ابنه وشجاعته وتضحيته فرحت بكما معجبًا.

وإنّي أقدم احترامي الأكبر واخلاصي الأشد إلى مبادئك ومراميك وإذا مدّ الله تعالى في عمري وتنفست بي السنّ استطعت أنْ أخدمك على كلّ حال. وإنّي أدعو الله وأضرع إليه من أعماق فؤادي أنْ يحقق أمنيتي.

خادمك ڤامبري

الفرقة البابية

وكتب نابغة الشرق وفيلسوف مصر الأستاذ المرحوم الطيب الذكر الشيخ محمد عبده في جريدة الأهرام الغرّاء وكانت تصدر إذ ذاك بمدينة الإسكندرية بعددها الصادر يوم الخميس الموافق 18 يونيو سنة 1896 مقالًا طويلًا تحت العنوان الآنف الذكر قال فيه بعد أنْ ذكر تاريخ ظهور الباب ما يأتي:

ويقال أنّ الباب يزعم كونه هو المهدي المنتظر في آخر الزمان وأصحابه يرون أنْ مذهبه هذا هو السعادة الأبدية وأنّ فيه من الكمالات والفضائل ما ليس في المذاهب كلّها وأنّ جميع ما ينسب إليهم هو من وضع الحساد وافتراء الأعداء. سنة الله في الملل والنحل وشنشنة الخلق في كلّ شارعٍ وداعٍ وقائمٍ ببدعة.

ولعمري إنّ هذا القول شبيه بالصواب ولا نظن أنّ نحلة أو شيعة اتّبعها من له عقل أو قلب إلاّ من لا نعلمه إلاّ وهي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

ثم إنّ الباب نفي بعد ظهوره من شيراز إلى أصبهان ومن أصبهان إلى تبريز وهناك بعد أنْ حكموا بقتله صلبوه وحيث أنّه منسوب إلى الشرف اجتنبوا قتله جلدًا بالسيف حرمة لبيت النبوّة واستبدلوا ذلك بإطلاق الرصاص وهو مصلوب، فلما أطلقت عليه الرصاصة الأولى أصابت الحبل الذي كان معلّقًا به فانقطع وأفلت الباب وازداد اعتقاد جماعته به وعدوها آية أو كرامة. ثم أمسكوه وقتلوه ووضعوا نعشه خارج البلدة في خندق وأتباعه يقولون أنّهم سرقوا جثته واحتملوها إلى طهران حيث دفنوها وله هناك قبة ومزار وكان مقتل الباب في 28 شعبان سنة 1244ﻫ([1]) ومات عن شيعة وافرة وأنصار أقوياء وتركة دينية عظيمة لكنها الآن قلّت جدًا وضعفت شوكتها وقلّ أنصارها.([2])

و كان ممن مال إلى المذهب ميرزا يحيى أزل وأخوه بهاء الله نسبتهما نوري من نور إحدى قرى مازندران بقرب طهران وهما من أبناء البيوتات وسلائل وزراء تلك البلاد ويقال أنّ التقدم كان ليحيى وإنّ أخاه البهاء كان يتبعه ويقال خلاف ذلك والله أعلم.

وإنّما الذي شهد به العيان من تعظيم أتباعه له الذين بصحبته منهم في عكاء نحو 150 رجلًا هو أقصى ما يقدر من تعظيم تابع لمتبوع لهم من مررهم تجاه قصره من خشوع الأبصار وعنوّ الوجوه ما يقضي بالعجب ويلجّ بالمشاهد في معرفة السبب. ويقال أنّ اعتقادهم فيه أنّه ركن الباب وأنّ الباب ما فتح إلاّ لأجله ولا جاء إلاّ مبشرًا به ولا كان ظهوره إلاّ ارهاصًا بين يدي مظهره. على أنّ المعروف من أحوال البهاء وبنيه الشخصية والمأثور عنهم من خلال الترف ومزايا الكرم والتحقق بصفات التهذيب والأدب هو غير متنازع فيه ولا ينكره إلاّ كلّ مكابر. وحضرة ولده الأكبر عباس أفندي أشهر من أنْ يُعرّف بفضله وينبّه عن نبله وهو المعروف عند أعيان البلاد وأولياء الأمور وقد عرفناه رجلًا ظاهر النجابة، بادي السراوة، فصيح اللهجة، مهيب الطلعة، كثير الوقار والحشمة، ذا أدب في غاية الغضاضة، وخلق على جانب عظيم من الرياضة – آه.

[1]        والحقيقة أنّه قتل في 28 شعبان سنة 1266 الموافق 9 يوليو سنة 1850. (المؤلف)

[2]        والحقيقة أنّه ليس للباب ضريح في طهران بل إنّ أتباعه لمّا أخذوا جثته أخفوها بأمر حضرة بهاء الله مدة طويلة ثم نقلت بأمر حضرة عباس أفندي عبد البهاء إلى جبل الكرمل وكان ذلك سنة 1898 الموافق 1316ﻫ حيث أقيم له ضريح عالي الأركان رائع البنيان. (المؤلف)

رسائل حضرة عباس عبدالبهاء إلى عظماء المصريين

كتب المرحوم الطيب الذكر الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية كتابًا إلى الحضرة القدسية حضرة بهاء الله فأشار إلى غصنه الأعظم حضرة عباس أفندي أنْ يرد عليه فأرسل إليه الرسالة الآتية:

هو الله

الحمد لله الذي أنطق الورقاء بأحسن اللغى في حديقة الرحمن على الأغصان بأبدع الألحان. فاهتزت وابتهجت وانتعشت وانجذبت من نفحاتها الحقائق القدسية المجردة الصافية التي انطبعت من أشعة ساطعة عن شمس الحقيقة واشتعلت بالنار الموقدة من السدرة الربانية في الحقيقة الإنسانية. عند ذلك هتفت بالتهليل والتكبير في ذكر ربّها العزيز القدير وأطلقت اللسان وقالت سبحان من أنطقها بثنائه في حديقة الوجود بمزامير آل داود. وعلّمها حكمه وأسراره وجعلها مهبط إلهامه ومشرق أنواره ومطلع آثاره وذلّ كلّ رقبة بقوة بيانه. وخضع كلّ عنق بظهور برهانه. وأصلّي وأسلّم على الحقيقة الكلّية الفائقة في بدء الوجود الفائضة على كلّ موجود المبعوث في المقام المحمود المنعوت بالظلّ الممدود في اليوم المشهود الوسيلة العظمى والواسطة الكبرى صلوات الله عليه وآله في الآخرة والأولى.

أيّها الفاضل الجليل ذو المجد الأثيل إنْ شئت الصعود إلى الأوج الأعلى من دائرة الوجود فعليك ببصر حديد في هذا العصر المجيد. حتّى ترى نور الهدى ساطعًا من الأفق الأعلى وأشرقت الأرض بنور ربّها وتعرض لنفحات الله فإنّها من رياض القدس جنة الفردوس. واقصد وادي طوى بقلب منجذب إلى العلى تجد الهداية الكبرى على النار الموقدة في الشجرة المباركة الناطقة في طور سيناء. وأخرج يدًا بيضاء تتلألأ بالأنوار بين ملأ الأخيار. لعمرك أيّها النحرير لمثلك الناقد البصير يليق العروج إلى أعلى فلك البروج. فاخلع هذا الثوب البالي الرثيث والبس حلل التقديس وانشر أجنحة العرفان واقصد ملكوت الرحمن واسمع ألحان طيور القدس في أعلى فروع السدرة المنتهى. لعمرك تحيي العظم الرميم وتشفي صدورًا انشرحت لمحبة الله ولها حظ عظيم. دع الحياة الدنيا وشؤونها التي تؤول إلى الفناء وربّك الأعلى إنّها أحلام بل أوهام عند أولي النهى. أنّما الحياة حياة الروح متحليًا بالفضائل التي توقد وتضيء مصباحها في ملكوت الإنشاء. ولله المثل الأعلى فإنْ شئت حياة طيبة فانثر بذر الحكمة في أرض طيبة طاهرة تنبت لك في كلّ حبة سبع سنابل خضر مباركة، وإنْ قصدت البنيان في صقع الإمكان فانشأ صرحًا مجيدًا مشيد الأركان أصله ثابت في النقطة الجاذبة الوسطى في الحضيض الأدنى وأعلى غرفاتها في أوج الأثير الأسمى واشرب رحيق المعاني من الكأس الأنيق في الرفيق الأعلى مركز دائرة الموهبة العظمى. وقطب فلك المنحة الكبرى ومشرق الهدى ومطلع أنوار ربّك الأعلى. قسمًا بشوقي إليك ما دعاني لبث هذا الحديث إلا جذبة حبّك وشدّة ولائك وشغف ودادك واختر لنفسك أعظم آمالي التي قصرت يدي عن نوالها ولا تؤاخذني في كشف الغطاء عن وجه عطاء ربّك وما كان عطاء ربك محظورًا. وانظر نظرة ممعن في القرون الأولى وشؤونها وآثارها وأطوارها وأعيانها وما طرأت فيها من عجائب أحوالها وغرائب أسرارها واختلاف مشارب رجالها وتفاوت أذواق أعلامها. فإنّ أخبار الأسلاف تذكرة وعبرة للأخلاف. ثم اختر لنفسك ما شئت فعليك بثبات أمتن بنيانًا وأجلى تبيانًا وأعظم برهانًا وأقوى سلطانًا وأظهر نورًا وأكمل وأتمّ حبورًا وأحلى رزقًا وأشدّ شوقًا وأسرع علاجًا وأقوم منهاجًا وأنور سراجًا وأعظم موهبة وأكمل منحة بل أقوى قوة حياة وروح نجاة لجسد الإمكان لعمرك كلّ من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام. إنْ استطعت أنْ تظلّ في ظلّ الوجه أمنت الفناء وحظيت بالبقاء وتلألأت في الأفق المبين بنور أضاء منه ملكوت السموات والأرضين. وينطوي بساط القبول ويمتد فراش الخمول. ولا تذر السيول إلاّ الطلول. ويهوي المترفون من القصور إلى القبور وتأخذهم السكرات. وتشتد بهم الحسرات. ولات حين مناص. ولا تسمع لهم صوتًا إلاّ ركزًا. فأمّا الزبد فيذهب جفاء. وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر.

وإنْ كنتَ أيّدك الله في الرأي السديد والحذق الشديد تفكّر فيما تعود به هذه الملّة البيضاء إلى نشأتها الأولى ومنزلتها السامية العليا. قسمًا بعاقد لوائها وشمس ضحاها ونور هداها ومؤسس بنيانها ليس لها إلاّ قوة ملكوتية إلهية تجدد قميصها الرثيث وتنبت عرقها الأثيث وتنقذها من حضيض سقوطها وهاء هبوطها إلى ميم مركزها وأوج معراجها. إلاّ هي لها إلاّ هي لها هي لها والسلام على من اتبع الهدى.

وأرسل حضرة عبد البهاء عباس أفندي الرسالة التالية بواسطة حضرة الشيخ فرج الله لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الفاضل الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية سابقًا.

هو الله

حمدًا لمن أشرق أنواره وانكشف أسراره وشاع وذاع آثاره واستمرت فيوضاته ودامت تجلياته من الأزل إلى الأبد لا بداية لها ولا نهاية. والتحية والثناء على الكلمة الجامعة والحقيقة الساطعة ديباج كتاب الوجود وفصل الخطاب في اللوح المحفوظ والرق المنشور من أسس هذا البنيان العظيم ورفع العلم المبين يتموّج في الأوج الأعلى والذروة العليا الهادي إلى الصراط المستقيم والدالّ إلى المنهج القويم فاهتزّ بذكره يثرب وسالت البطحاء. نبي الرحمة وكاشف الغمّة وماحي ظلام الضلال فأشرقت الأرض بنور ربّها. خاتم النبيين المخاطب وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين عليه التحية والثناء إلى أبد الآبدين.

وبعد أيّها النحرير الجليل والفاضل النبيل إنّي رتلت آيات حبّك في كتابك المبين وذقت حلاوة تلك العبارات بأدق المعاني الناطقة بما يختلج في القلوب من عواطف الوفاء وصدق الولاء فانشرح بها صدور المخلصين وانجذب بها قلوب الموحدين فاستحكم بها روابط الوثوق التي لا انفصام لها. وتلك الروابط هو استغراق القلوب في عين اليقين والخلوص في الدين والتعطّش إلى حقّ اليقين في زمن أحاط الغبار المثار البصائر والأبصار ولم يبق من الدين إلاّ التقاليد التي ما أنزل الله بها من سلطان وزلزلت الأرض زلزالها وتزعزعت أركان الشريعة السمحة البيضاء واتخذوا هذا القرآن مهجورًا.

أين النشئة الأولى؟ أين العروج إلى أوج العلا؟ أين السعادة الكبرى؟ أين الظهور على الدين كلّه؟ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات وهذه من سنّة الكون ولن تجد لسنّته تبديلًا لأنّ كلّ شيء ما سوى الله يعتريه الفتور ويتغير بمرور القرون والعصور. ما عدا فيض الربّ الغفور المستمر على ممر الأعصار والدهور وقالت اليهود يد الله مغلولة غلّت أيديهم. فترى الآن أنّ الشمس قد كورت والكواكب انتثرت وآفاق الوجود أظلمت ووقعت الأمّة في سبات شديد. غريقة في غمار بحار التقليد. نسأل الله أنْ يبلج صبح الهدى ويجدد الحياة بنفخة أخرى حتّى يرجع الفروع إلى الأصول. ويتبدل الهبوط بالصعود. وينتعش به العظم الرميم ويحيي به من الموت الأليم (أو كالذي مرّ على قرية) وكانت الأمّة قبلًا تقلّد العلماء الصالحين وأصبحت الآن تقلّد المارقين. إنّ هذا لكفران مبين لا تصلح أواخر هذه الأمّة إلاّ بما صلح به أوائلها من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا. ربنا إنّنا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أنْ آمنوا بربّكم فآمنّا. وعليك التحية والثناء.

(الداعي عباس)

وأرسل الرسالة الآتية بواسطة الشيخ فرج الله لحضرة صاحب السعادة المفضال عثمان باشا مرتضى:

 

مصر الروضة

هو الله

أيّها الشهم الجليل أمير الوفاء وشهير الولاء أيّدك الله،

لا أكاد أشرح ما تخلل في خلدي من بشائر الانشراح عندما تلوت نميقتك الغرّاء جوابًا على التحرير المتقدم منّي. والآن بما هاج نسيم الوفاء وهاج بحر الولاء باشرت بتنميق هذه الذريعة لعلّي أبثّ ما تختلج في قلبي من عواطف الاشتياق لمشاهدة ذلك الحبيب الثابت على الميثاق. وإنّني لا أكاد أنسى الأيام التي قضيتها مع شهامتكم في تلك العدوة القصوى بكلّ سرور وفرح لا يتناهى وما كنت أجد نفوسًا يفقهون القول ولا يضلون عن المعنى إلاّ حضرتكم المتصفة بدقّة النظر والخوض في العمق الأكبر.

إنّي تركت راحتي وسكوني وقراري في هذه البقعة النوراء. وهجرت ذوي القربى وخضت البحار وطويت القفار حال كوني ابيضّ الشعر مني واشتعل الرأس شيبًا لأرفع ضجيجي في المحافل الكبرى والمجامع العظمى في قارة أميركا وإقليم أوروپا وأخاطب الناس بما في ضميري بأعلى الصوت وأقول أيّها العقلاء! أيّها الفضلاء! أيّها الفلاسفة وأساطين الحكمة! إنّ براكين النار من المواد الملتهبة مدفونة تحت أطباق أوروپا. وستنفجر بأدنى شرارة ويجعل عاليها سافلها. وتتجاوز إلى قارّات أخرى فيصبح وجه الأرض سعيرًا وجحيمًا والقوم كانوا يسمعون لهذا الخطاب بأذن صاغية ويدرجونه في بطون الجرائد ويعدونها خرائد ويذيلون الخطاب بالتقاريظ المعجبة ويقولون هذا هو الحقّ وما بعد الحقّ إلاّ الضلال. والأوراق المطبوعة منشورة في تلك الأنحاء وموجودة معنا. فأصبح في أميركا بهمّة بعض الأغنياء تتشكّل محافل عظمى ترويجًا للصلح العمومي ومنعًا للحرب الطاحن والسيل الجارف مع ذلك كان الحرب قدرًا مقدورًا. فوقع ما وقع وأصبحت كلّ معمورة مطمورة. كم من مدائن قلبت عاليها سافلها؟ وكم من أطفال يتّمت؟ وكم من نساء أيّمت؟ وكم من أمهات ارتفع منهن النياح وشققن جيوبهن بقلوب مضطرمة ودموع منسجعة؟ وكم من آباء أنّوا أنين الثكلاء من المساء إلى الصباح فظهر ظهور الشمس في رابعة النهار. وتحقق ما أنبأ به بهاء الله منذ خمسين سنة وفي الكتب المطبوعة المنتشرة في سائر الدّيار منذ ثلاثين أو خمسة وعشرين سنة. بناء على ذلك نرسل لحضرتكم بعض ما أنبأ به ضمن هذا المكتوب لتطّلع به وفي كتاب الملوك في أنباء أخرى ستطّلع بها. وفي ذلك لعبرة لأولي الألباب فانظر إلى آثار رحمة الله. وعليك التحية والثناء.

17 تشرين أول سنة 1919                                          عبد البهاء عباس

وأرسل بواسطة الشيخ فرج الله زكي الكردي إلى حضرة النحرير الشهم الجليل سعادة خليل بك ثابت المحرر بالمقطّم الرسالة الآتية:

هو الله

أيّها الفاضل الجليل المحترم، إنّي لا أزال لا أنسى ذكرى الأيام التي سلفت وأنا متلذذ باللقاء متمتع بحديث من هو معدن الوفاء، وأدعو الله ليلًا ونهارًا وأتمنى له التأييد سرًا وجهارًا. فهذا الذي دعاني إلى تحرير هذا المرسوم وإظهار ما هو مضمر في الضمائر والقلوب.

إنّ في الزبر والألواح من بهاء الله منصوص، أنّ الجرائد مرايا للحقيقة الساطعة، كاشفة لحقائق الأمور تنثر الفرائد تهدي الجمهور إلى الحقائق، اللهم إذا كان مبدؤها ومنشؤها عدلًا لا تأخذه في الله لومة لائم، تنبيء بالحوادث التي لم يطّلع أحد عليها صدقًا وعدلًا فيترنح المخلصون من معانيها الرحيق المختوم، وإذا أنبأت وحدّثت وأخبرت بالحقيقة اللاّمعة إنّها لشمس ساطعة الفجر بأنوار الحقيقة على الأقطار الشاسعة وكاشفة للظلام الديجور عن جميع الأمور في الرقّ المنشور، ألم ترَ أنّ الكائنات كلّها لم تتجلّ في حيز الشهود إلاّ بطلوع الشمس عليها في كلّ أصيل وبكور واسأل الله أنْ يجعلك مروّجًا للحقيقة المتجلية في الوجود بأحسن معانيها في عالم الشهود. وعليك التحية والثناء.

1 شباط سنة 1920                                                  عبد البهاء عباس

ولمّا توفي الطيب الذكر الجليل الأثر الأستاذ العلاّمة والبحر الفهّامة والمؤرخ المدقق الشيخ ميرزا أبو الفضل أحد أقطاب البهائية في القاهرة رثيته بمقالة في جريدة المقطّم الغرّاء وأرسلت لحضرة المولى عباس أفندي رسالة تعزية بذلك الفقيد الجليل فتلطّف المولى وأرسل إليّ الرسالة الآتية وهي:

هو الله

أيّها الحبيب الوفي والصديق الحميم المحترم سليم أفندي قبعين،

إنّي اطّلعت بمضامين كتابكم تعزية بوفاة الرجل الجليل أبي الفضائل، ونعم الخصال ثبوتكم على المحبة والوفاء والمودة والولاء. نعم إنّه ليس بالعزيز على يراعتك الناضجة أنْ تصطفي من أروع وجوه البلاغة أسنى مظاهر الوفاء في رثاء أبي الفضائل حامل السراج النوراني. وإنّما الأعز في نفسك سريان ينبوع الإخلاص من بحر وجدانك. وأنت عليم بأنّ خير ما تمتزج عنده الأنفس وتناجي لديه الأرواح سباق القلوب حوالي ذكرى روح نازلة بين سماكي الأرواح. لا تعي بطون الدفاتر تعديد مآثرها وترديد مفاخرها. وإنّ للدهر صدراَ عميقًا يحمل لأهله نصيبهم من حسنات وسيئات. ولقد كنت أحسن منقب عن الأولى في كنه ضميره بما قلدت به رثاءك من جواهر يتيمة لا توجد في غير خزانة روح أبي الفضائل العامرة التي لا تفنى على إنفاق. أنت برثائك الذي زينت به جيد المقطّم عن أبي الفضائل تحيي ذكر الأفاضل وتضع المثل الأعلى للأماثل وبه تزري الأغماد بالحمائل ويفاخر الأواخر الأوائل. فاهنأ بأنّ أقلّ ما فيك أنّك نصير الحقائق، ومبدئ الدقائق، وصحيفة ناصعة من لبّ الوفاء لمذهب العاملين المخلصين. ومنّي عليك التحية والثناء.

عبد البهاء عباس

(الجمعية العلمية الأدبية البهائية في القاهرة)

عاش في القاهرة قطب من أقطاب البهائية وعلم من أعلامها هو عالم كبير ومؤرخ مدقق وبحّاثة ممعن صادق يدعى ميرزا أبو الفضل. وكان لهذا الفاضل تلاميذ كثيرون بثّ في نفوسهم روح الفضائل والآداب الباهرة. ولمّا أفل نجم حياته أرسل تلاميذه البهائيون وكلّهم أديب فاضل ولوذعّي بارع خطابًا إلى حضرة عباس أفندي عبد البهاء يخبرونه فيه أنّهم تخليدًا لذكر ذلكم الفقيد العظيم عزموا على تأسيس جمعية علمية أدبية فأتاهم ردّ من عباس أفندي هذه صورته.

هوالله

أيّتها التلامذة الجليلة لذلك الأستاذ الكامل النحرير الفاضل قدّس سره الجامع.

قد وردني تحريركم المنيرالدالّ بما في الضمير وهو نيتكم تأسيس جمعية علمية لكشف أسرار الحقيقة وحظوت جدًا بنواياكم المفيدة ومقاصدكم الجميلة التي هي أنْ تتبعوا ذلك الرجل الإلهي وتضيئوا سراجه النوراني وتبقوا ذكره على ممر القرون والأعصار. لله درّكم على هذا المقصد الجليل وإنّي أسأل الله أنْ يجعلكم فروعًا مباركة نابتة من تلك الدوحة العليا حتّى يكون الأخلاف سرورًا وحبورًا للأسلاف. وذلك السلف المترنّح من سلاف موهبة الله يفتخر بكم في الملكوت الأبهى وعليكم التحية والثناء.

حيفا في 11 ذي الحجة سنة 1339                                                                      عبد البهاء عباس  

أمّا الجمعية المومى إليها فالآن قد نمت وأزهرت وأثمرت وأنتجت ومكان اجتماعها بالقاهرة بشارع العباسية نمرة 30 وهي لا تألُ جهدًا في نشر الفضائل تباعًا بلسان البهائية حتّى أنها تضع من حين لآخر كتبًا قيمة في البهائية تنشرها في الناس بمختلف اللغات العربية والفارسية والعبرانية والأرمنية وغيرها.

وأعضاء الجمعية الأخيار يديمون عقد الاجتماعات العلمية والأدبية النافعة. فإذا رجحت كفة إخلاصهم وتفوقوا في موضوعهم على سواهم فلا غروّ فهم تلاميذ ذلك الكوكب المنير على مدى الزمان أبي الفضائل وخلفاء تلك الروح السماوية الباهرة والأمناء على آثار أسرارها العالية الناسجين على منوالها وإنّه ليغنيهم في ذلك بعد علمهم الساطع أنْ يشهد لهم بالسعي وراء نشر لواء الفضيلة على الآفاق منظم البهائية ورافع رايتها الخفاقة في الوجود حتّى قيام الساعة القطب الأسمى والغصن الأعظم عبد البهاء (عباس).

القصيدة البهية

(في خلاصة المبادئ البهائية)

أطلعت حضرة صديقي الفاضل الشاعر المطبوع نقولا أفندي بدران على رسالة عنوانها مبدأ البهائية فأعجب بها اعجابًا شديدًا وجذبت نفسه المفطورة على حبّ الحقيقة ففاضت قريحته الوقادة وجادت بهذة القصيدة الخريدة التي لم ينسج على منوالها شاعر وهي:

الحمدلله الذي هداني                         أحمدهُ في السر والإعلانِ

وبعدُ يا قومي ويا إخواني                 أنا الذي أخلص في البيانِ

ولم يحد عن سنّة الرحمنِ

أنا البهائي سليلُ آدِمِ                         نظيركم أسعى لخير العالمِ

قد قمت بالعقل الصحيح السالمِ                      أجلو دجى ليل الحياة القاتمِ

بقوة الحقّ الذى دعاني

وا عجبًا منّا بني الإنسانِ                   نحن دعاة العلم والعرفانِ

لم نتخذ من حكمة الأديانِ                   ولم نجد من حكمة الزمانِ

غير سبيل الشر والعدوانِ

نحن جميعًا من تراب الأرضِ          لا فرق بين بعضنا وبعضِ

سنّ لنا الإله خير فرضِ                يدعو به للحبِ لا للبغضِ

تبارك الله العلي الشانِ

نزلتُ يا قومي إلى الميدانِ            وجُلْتُ في معترك الأديانِ

وزنتها في كفة الميزانِ                 فبان لي منها الذي نعاني

من هذه الهموم والأحزانِ

جميعها تدعو جميع الناسِ             أنْ يحكموا بالعدل والقسطاسِ

ففصّل الناس بلا قياسِ                 واختلفوا في ذلك النبراسِ

فحوّلوا النور إلى نيرانِ

وا عجبًا من هذه الخليقة                            كم مذهب تنحو وكم طريقة

أيبحث الناس عن الحقيقة              وهي لهم مشرقة أنيقة

تقول ما للناس لا تراني

العقل والعلم مع الدين إذا                         ما اجتمعا زال الشقاءُ والأذى

يا حبّذا يا حبّذا يا حبّذا                  لو تمّ للإنسان ذا وذا وذا

إذن لزالت علّة الإنسانِ

الناس ساروا في طريق النقلِ        وخالفوا في النقل حكم العقلِ

قد أخذوا التبر بغير صقلِ            فاختلط الصحيح بالمعتلِ

وامتزج الصدق مع البهتانِ

العقلُ وهو الناصحُ الأمينُ            والقائدُ المحنكُ الرزينُ

لولاه لا يجدي هدًى ودينُ             لا يفلح الإنسان لا يزين

بعقله الأمور كالميزانِ

نثير حربًا ثم نشكو الحربا             كأنّنا لم نكُ نحن السببا

وا عجبًا وا عجبًا وا عجبًا             من مبصرعنه الضياءُ احتجبا

فراح يمشي مشية العميانِ

قالوا وصلنا الأرض بالسماءِ                    بالعلم والتدبير والذكاءِ

فقلت أنّ الأرض في شقاءِ                      تكاد لا تقوى على البقاءِ

من شرّ هذا العلم والعرفانِ

تفرّق الناس إلى أصنافِ                           كلٌ له وصف من الأوصافِ

واستسلموا للحقد والتجافي            وخالفوا الوداد والتصافي

كالوحش في الأدغال والوديانِ

إذا التقى الإنسانُ بالإنسانِ            أعجزه التعبير باللسانِ

فذاك تركيٌ وذا يماني                  لا يحسنان الخوض في البيانِ

إلاّ إذا جاءا بترجمانِ

ما أحوج الإنسان في التخاطبِ                  في مشرق الأرض والمغاربِ

إلى لسان ناطق وكاتبِ                يدعو إلى الوداد والتقاربِ

يدعى بحقّ لغة الإنسانِ

يا أيّها الناس الذين اغتمنوا                       من فرص الزمان ثم احتكموا

وخزّنوا المال الذي قد غنموا                   إنّ الفقير قد غدا بينكمُ

يشكوا إلى الله الذي يعاني

كبا به الجواد في السباقِ              فبات لا يقوى على اللحاقِ

ما ذنبه والدهر يا رفاقي             رمى به في هوة الإملاق

واحتاطه بالذّل والهوانِ

ما بين جنبيه فؤاد يخفقُ              يحنّ مثل قلبكم ويشفقُ

ومسمع يصغي وعينٌ ترمقُ          لا فرق في التكوين إذ نحققُ

فهو أخٌ كسائر الإخوانِ

لا يستريح الناسُ والفقيرُ             يحارب الدهرُ ويستجيرُ

ليس له من دهره مجيرُ                 ولا يعمّ الصفوُ والسرورُ

حتّى يُرى الفقير في أمانِ

يا أيّها الناس افتحوا الكنوزا          وأبرزوا الفضة والإبريزا

وعززوا العلم به تعزيزا              وعلّموا الجاهل والمعوزا

تثّبتوا دعائم العمرانِ

وعلّموا النساء كالرجالِ             فضيلة الأفعال والأقوالِ

حتّى يُرى الليث مع الغزالِ          كلاهما في شرف الخصالِ

فإنّما الإثنان فرقدانِ

إنّي رأيت المذهب البهائي           يلوح مثل البدر في السماءِ

يجلو عن الناس دجى الظلماءِ        ويدفع الأرض إلى الهناءِ

فهل لنا أذنان أو عينانِ

                                                                                                                        نقولا بدران

كلمة أمير

كلمة أمير

في صيف 1921 سافر حضرة النبيل الجليل الأمير جورج بك لطف الله إلى سوريا فما وصل حيفاء حتّى كان في استقباله وجوهها وعيونها على اختلاف أجناسهم وأديانهم وفي مقدمتهم فضيلة مفتي حيفا ورؤساء الدين المسيحي على اختلاف مللهم بما يليق بمقامه السامي إقرارًا منهم بفضله وتقديرًا لخدماته الجلّى لشرف الوطن وعزّه. فمن ضمن ذلك أنْ أقام له حضرتا صاحبيّ العزّة إبراهيم بك وتوفيق بك نجليّ المرحوم الطيب الذكر مصطفى باشا خليل حفلة عامّة شائقة دعوا إليها أعيان المدينة.

وكان حضرة الطيب الذكر عباس أفندي عبد البهاء عازمًا على السفر في ذلك اليوم إلى مدينة عكاء فلمّا بلغه خبر قدوم الأمير وأمر ذلك الاحتفال آثر التخلّف عن السفر لحضور الاحتفال والتعرّف بالأمير المحتفل به. وإذ مدّت موائد الطعام جلس الأمير على المائدة في الصدر وإلى شماله الجنرال السير جاك فوستر نيولند وعن يمينه حضرة عباس أفندي عبد البهاء وجلس أمامه فضيلة مفتي حيفا.

وكنت قد طالعت خبر ذلك الاحتفال وقتئذ في جرائد حيفا وبمناسبة تدوين كتابي عبد البهاء والبهائية رأيت لوجوب إحقاق الحقائق باستقائها من مصادرها أنْ أقصد إلى الأمير جورج لطف الله وعرضت عليه السؤال الآتي:

أيّ تأثير يا ترى أبقت في نفس الأمير مقابلة حضرة عباس أفندي عبد البهاء؟ فكان جواب الأمير ما يأتي:

قلّما وقعت عيني على رجل جليل بهّي الطلعة وضّاح الجبين حادّ البصر يحفّه الوقار وتكسوه المهابة والجلال مثل عباس أفندي وإنّ الشيخوخة لم تؤثر على ذكائه المفرط فكأنّه شعلة ذكاء، وقد حدّثني طويلًا بشأن موضوعات شتّى كبيرة الفائدة جزيلة العائدة دلّت على واسع اطّلاعه وعظيم اختباره فهو عالم كبير يفيض حديثه الطلي الشهي علمًا وحكمة وفلسفة تستأثر لبّ السامع ويأخذ على حواسه أخذًا ببيانه الساحر بعذوبة ألفاظه، بل إنّ السامع بما يملك على نفسه من جاذبية الحديث تراه يهيم بالاستكثار منه فكلّما طال حديثه زاد طلاوة وحلاوة.

وقد أهدى حضرة عباس أفندي رسمه إلى الأمير جورج وكتب عليه بخط يده ثلاثة أسطر ومنه يعلم القارئ أنّه آخر رسم لعباس أفندي حيث يرى أنّ تاريخه سنة 1921 كما ترى ذلك.

انتقال عبدالبهاء عباس

ولد سنة 1844 وتوفي سنة 1921

عند الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف ليلة الإثنين الموافق 28 تشرين ثاني (نوڤمبر) سنه 1921 الموافق 28 ربيع أول سنة 1340ﻫ. لفظ عباس أفندي عبد البهاء النفس الأخير من تلك الحياة المجيدة الملأى بخالد الأعمال وطيب الفعال. تلك الحياة التى يقرأ القارئ فيها آيات باهرة من المجد والفضل والكرم والنبل، والعمل لخير الإنسانية واتحاد أبنائها ودعوتهم ليعيشوا بسلام وطمأنينة – تلك الحياة التى رسمناها في كتابنا هذا رسمًا جليًا ليستضيء بها كلّ انسان ويستمد منها نور العرفان بل نور الإنسانية الحقيقية التي لم يدرك كنهها البشر.

وما انفجر صبح الإثنين حتّى أذاعت الأسرة البهائية النشرة الآتية:

أسرة حضرة عبد البهاء عباس خاصّة والبهائيون كافة ينعونه إليكم وقد انتقل البارحة ويشيع غدًا الساعة التاسعة قبل الظهر من منزله إلى داره على طريق جبل الكرمل.

وبعد ظهر الإثنين أذاعت الجمعية الإسلامية في حيفاء نشرة ثانية وهي:

إنّا لله وإنّا إليه راجعون. الجمعية الإسلامية تنعى بمزيد الأسف وفاة العلاّمة المفضال والمحسن الكبير

عبدالبهاء عباس

وسيحتفل بجنازته الساعة التاسعة صباح غد الثلاثاء فالرجاء اعتبار هذه كدعوة خاصّة للاحتفال بجنازة الفقيد. تغمّده الله برحمته ورضوانه. وألهم آله وذويه الصبر الجميل.

وما ذاع النبأ الأسود حتّى اصطكت المسامع، وهمت المدامع، وانحنت الأضالع، وهلعت القلوب، وشقّت الجيوب. وشحبت الوجوه فزعًا. واهتزت الأعصاب جزعًا.

وما وافت الساعة المضروبة حتّى أخذ القوم يتوافدون زرافات زرافات وفرقًا وجماعات إلى داره فضاقت بهم على سعتها واكتظت الشوارع بالجماهير من علية القوم والوجوه والأعيان على اختلاف النحل والمذاهب والملل وفي مقدمتهم فخامة المندوب السامي في فلسطين السير هربرت صموئيل ورجال بطانته وقد قدم من القدس خصيصًا لتشييع الجنازة. ثم جناب حاكم فينيقيا المستر سايمس وقناصل الدول والرؤساء الروحيون للطوائف الإسلامية والمسيحية والإسرائيلية وأحاط أفراد أسرته وأتباعه بالنعش وهم يكادون يذوبون حزنًا ويحترقون أسى. ثم حمل نعشه على الأعناق وكان من الخشب البسيط موشحًا بشال من الكشمير النفيس وسار الموكب يحفّه الجلال وتكتفنه العظمة والوقارعلى هذا الترتيب:

ثلّة من رجال الشرطة بقيادة ضابطها. فيسقجبة قناصل الدول. فالكشافة الإسلامية والمسيحية تتقدمهم موسيقاهم وأعلامهم. فمشائخ الطرق الإسلامية ينشدون الأناشيد المحزنة. فنعش الفقيد. ووراءه فخامة المندوب السامي وبطانته وحاكم المقاطعة وأسرة الفقيد فجمهور لا يحصى له عدد.

مشهد الفقيد

من السهل أنْ يقال في باب الوصف أنّ الطريق من شارع أللِنْبي إلى سفح جبل الكرمل حيث مقام مدفن الباب عند الساعة التاسعة من صباح يوم الثلاثاء الموافق 29 تشرين الثاني سنة 1921 كان على طول مداه جسمًا بشريًا ممتزجًا مندمجًا مائجًا بالأشباح هائجًا بالأرواح أو كأنّما كان الطريق على شكله الرائع الذاهب بالأبصار يحكي جسرًا بالغًا في عرضه وطوله من صنوف الخلائق المتراصّة المتكظّة إذ كنتَ لا ترى ساعتئذ سوى وجوه شاحبة اضطربت من دونها لفرط الأسى المشاعر. فتنوعت ألوانها وجف ماء نضارتها فاعتمدت لهول المصاب في مظهرها على الزوال واعتصمت برجاء الفناء في روح الفقيد فرارًا من هذا الظلام. وخلاصًا من هذا الفساد إلى الطمأنينة بالسكون في ظل الحقيقة الخالدة.

جسر من الخلائق يحدّ بحسب الاعتبار الإنساني فضاء من الأرض يمتليء بركة وسعادة بجسم طاهر في نعش محمول على العنق إلاّ أنّ هذا الجسر على اتساعه وازدحامه لا يسعه أنْ يحوط نورًا ذاتيًا فإنْ ظنّه ممكنًا من جهة أداء واجب التكريم وحقّ التعظيم فكيف إذًا به إذا شعر بموقفه إزاء سرّ سار في الأسماء والصفات، لا شك في أنّه يحسّ أنّه جسم صغير محدود إزاء ذاك السرّ البهائي الكبير ما لا حدّ له.

لا نعود فنقول في الوصف أنّه بعد تلك الوجوه الشاحبة لبلوغ الأسى كنت تحسّ من الوجدان شواظًا من نار، وتسمع من تهامس الأرواح مناجاة القلق والحيرة وتصغي إلى أفئدة ألهبها الوجل واشتمل عليها التفزّع، بل يستقي المداد من ماء العيون أجلّ آيات الرثاء، كأنّ أهل ذاك اليوم المشهود كانوا مأخوذين بشيء بلغ من العظمة أنْ لا يسمّى ولا يفسّر بأكثر من كونه:

مصاب جليل حيث جلّ مصاب                    وخطب به ماء العيون خضاب

حقًّا إنّ الإنسان صغير، وحقًّا إنّه لعظيم، وما الفارق بين المرتبتين إلاّ بقدر ما بين الروحين من مسافة العمل. ولذا لا يغلو من يقول أنّ نفس عبد البهاء عباس أفندي قدّر لها قديمًا أنْ تشيع إلى عليين محمولة على الأرواح، محوطة بالأفئدة لمكان صاحبها من قلوب جميع البشر في كلتا القارّتين القديمة والحديثة.

كان نعش عباس أفندي بحيفاء كأنّه نعش الحسين بكربلاء. كان نعش عبد البهاء يختال في سيره بين بكاء البائسين والمعوزين، وبين حنان اليتامى والأرامل.

نور جاء إلى الوجود وذهب منه، ولكن بعد أنْ أدّى للخالق العظيم ما عليه. هو من الحقّ العظيم أداء ولكن وا أسفاه، قد ترك الفضيلة الحقّة بعده تندب حظّها، وإنّ كان لم يضنّ عليها في حياته، بأنْ جعل لها عمادًا لا يبلى. وأنشأ لها بعمله وجهاده وإخلاصه مملكة رفيعة الجانب يفنى على عزّتها الزمان.

لبث الموكب سائرًا مدة ساعة ونصف بلغ في نهايتها مكان الضريح، فوضع النعش وسط ساحة فسيحة، على منصّة عالية أقيمت إلى جانب المقام المؤيد الأركان الشاهق البنيان. فأحاط به فخامة المندوب السامي ورجال معيته، وحاكم فينيقيا، والعلماء والرؤساء الروحانيون، وجمع كبير من النّاس، كأنّ على رؤوسهم الطير، وقفوا بين تصعيد الزفرات، وترديد الحسرات، ودقّات القلوب. ولمّا أنْ التأم عقدهم نهض حضرة الشاب الأديب يوسف أفندي الخطيب وارتجل خطبة أثارت الأشجان، وأهاجت العواطف قال:

يا معشر العرب والعجم!

ما لي أراكم اليوم مجتمعين؟ وعلامَ تتآمرون؟ وبِمَ تفكّرون؟ أعلى الموت ولأجل الميت الحي، وفي كلّ يوم تمرّ أمامكم قوافل الموتى فلا تأبهون بها.

على من تبكون؟ أعلى من كان بالأمس عظيمًا في حياته، فأصبح اليوم أعظم في مماته. أعَلى من أجللتموه بأنْ يلقّب فيلسوفًا أو إمامًا – إنّ الذي ينتقل إلى دار البقاء لا يُبكى عليه. فابكوا على الفضل والأدب. اندبوا العلم والكرم. ابكوا لأجل أنفسكم لأنّكم أنتم الفاقدون. وما فقيدكم إلاّ راحل كريم من عالمكم الفاني إلى دار الأبد والأزل. ابكوا ساعة لأجل من بكى لأجلكم ثمانين عامًا.

انظروا يمينًا وشمالًا، شرقًا وغربًا، واصدقوني الخبر أيّ فراغ في النبل والوجاهة قد حدث، وأيّ ركن من أركان السلام قد هدم، وأيّ لسان حرّ طلق فصيح قد سكت وصمت، أواه ليس للمصيبة قلب يصدع وعين تدمع فقد تركتكم شبابًا، تبكون شيخكم وشيوخًا تندبون فتاكم. تبّ المساكين أنّ الخير فارقهم، تبّ الأيتام أنّ الأب الشفوق قد بعد عنهم.

حبّذا لو كان يفتدى السيد عبد البهاء عباس بالنفوس العالية، لتضحّت لأجله، ولكن هو الأجل، ولكلّ أجل كتاب، فلا مردّ لحكم الله. ماذا عساني أذكر لكم من مآثر رجل الإنسانيّة، وهي أعظم من أنْ تُذكر وأكثر من أنْ تُعدّ. فيكفيه أنّ له في كلّ قلب أثرًا جليلًا، وفي كلّ لسان ذكرًا جميلًا ومن ترك حسن الأحدوثة والذّكر الخالد فهو ليس بميت.

تعزّوا آل البهاء بالصبر والسلوان، فليس بإمكان أحد شرقيًا كان أو غربيًا، أنْ يعزّيكم إلاّ ويرى نفسه أولى بالتعزية.

يوسف الخطيب

وعقبه حضرة الفاضل السري إبراهيم أفندي نصّار فقال:

بكيت على الدنيا وقد مات سيدي                  ومثلي من يبكي إذا مات سيده

 

أي علام هذه الصعقات؟ ما هذا النوح والبكاء؟ ماذا بين الورى؟ أطود هوى أم زلزلت الأرض زلزالها؟ لا هذا ولا ذاك، إنّما مات عباس البهاء، رجل الفضل العظيم، وقد

خرجوا به ولكلّ باكٍ حوله                           صعقات موسى يوم دكّ الطور

فيا للداهية من هول هذا المصاب الأليم، إنّها لخسارة وطنية وفاجعة عموميّة تتقطّع في مثلها أوصال القلوب، وفي مثل هذا الموقف الرهيب تشقّ الجيوب. فوا حرّ قلباه!

قضى السيد الكبير عباس البهاء، فهوى طود البرّ والإحسان، ودوى صدى مصرعه في أرجاء المعمور، فتألّمت الإنسانيّة، وردّدت الألسنة ذكر مبرّاته الوافرة، فبكت العيون وهلعت القلوب فوا حسرتاه!

عاش عباس إلى ما فوق الثمانين، وآية حياته مثل حياة المرسلين. هذّب وعلّم وأحسن، وأغاث وأرشد إلى سواء السبيل، فأنال قومه المجد الأثيل، وسيكون جزاؤه من ربّه ثواب خير المحسنين. أيّها الناس اسمعوا لم يمت عباس، لا ولا انطمس نور البهاء حاشا. إنّ شعاعه سيظل نيّرًا إلى ما شاء الله. – عاش عباس نبراس البهاء حياة انبعثت منها معاني الحياة الأبدية، فتجلّت فيها الحياة الروحية، فانتقل من دنياه إلى جنان ربّه ملاكًا نقيًا محفوفًا بمبرّاته الطيبة وصفاته العزيزة.

أجل قومي – تشيّعون رفات الفقيد العظيم إلى مثواه الأخير، إنّما تيقّنوا أنّ عبّاسكم سيدوم أبدًا حيًّا بينكم، روحيًا بأعماله وأقواله وصفاته، وفي جميع جوهريات حياته – نودع عباسنا المادي وتغيب مادته عن أنظارنا، ولكن عباسنا الحقيقي الروحي، سوف لا يفارق عقولنا وأفكارنا وقلوبنا، وسوف لا ينقطع ذكره من أفواهنا.

أيّها الراقد العظيم الكريم، أنت أحسنت إلينا وأرشدتنا وعلّمتنا – عشت بيننا عظيمًا بكلّ ما تعنيه كلمة العظمة، وقد تفاخرنا بأعمالك وأقوالك – أنت رفعت منزلة الشرق على أعالي ذروة المجد، قد أصلحت وهذّبت، أتممت السعي فنلت إكليل المجد. نم سعيدًا تحت ظلّ رحمة ربّك، وهو يجزيك خير الجزاء.

ويا أغصان شجرة البهاء، أتقدّم إليكم أنا الأسيف، وأسأل ربّي أنْ يهبكم جميل التعزية، ويجعل تعزيتنا نحن وسلواننا بحفظكم ورعايتكم، وأن يجزي أسرتكم الكريمة، جزاء الخير بدلًا من مبراتها الوطنية، إنّه سميع مجيب.

إبراهيم نصّار

وتلاه حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ محمد مراد أفندي مفتي حيفا قائلًا:

إنّ الأمم إذا فقدت عظيمًا من عظمائها، سواء كان عظيمًا في علمه، أو عظيمًا في فضله، أو عظيمًا في سياسته، أو عظيمًا في مبادئه ومبرّاته، فهي تتسلّى بأنّها لا بدّ وأنْ تُخرج من بين أبنائها من يخلف ذلك العظيم. ولكن مصيبة العالم الإنساني في هذا الفقيد لا تقاس على غيرها، لأنّ الفراغ الذي أحدثه الراحل الكريم، لا يملأه أحد من بني طائفته.

لا أودّ أنْ أبالغ في تأبين هذا الرجل العظيم، فإنّ أياديه البيضاء في سبيل خدمة الإنسانيّة ومآثره الغرّاء في عمل البرّ والإحسان، لا ينكرها إلًا من طمس الله على قلبه.

كان عبد البهاء عظيمًا في جميع أدوار حياته. كان عصاميًا، أبيًّ النفس، شريف العواطف، سامي المبادئ، كان رضيّ الأخلاق، حسن السيرة، اشتهر ذكره في مشارق الأرض ومغاربها، وهو لم يحرز هذه المرتبة العالية إلاّ بجدّه واجتهاده، ولم ينل في القلوب تلك المنزلة العالية، وذلك المكان الرفيع، إلاّ بمساعدته للبائس وبإغاثته للملهوف، وبتسليته للمصاب.

كان رحمه الله واقفًا على دقائق الشريعة الإسلاميّة. كان عالمًا كبيرًا، وأستاذًا نحريرًا.

ولئن غاب عن العيون شخصه، فإنّ أعماله الخالدة، لا تغيب عن الأذهان، ولئن مات عباس، فإنّ اسمه لا يزول.

وأنت أيّها الراحل الكريم،

عشت عظيمًا، ومتَّ عظيمًا، وما هذا المشهد الكبير، والموكب المهيب، إلاّ برهانًا ساطعًا على عظمتك حيًّا وميّتًا.

ولكن من للفقير بعدك أيّها الفقيد؟ ومن للجائع الملهوف؟ بل من للأرامل واليتامى بعد فقد رجل الإنسانيّة؟ – رجل الخير والمعروف.

فنم هنيئًا في مرقدك، وَثِقْ أنّ من كانت تلك مناقبه، وهذه خاتمة حياته، فإنّه حيّ في أعماله، خالد في آثاره، ألهم الله آلك وذويك الصبر الجميل على هذا الخطب الجسيم، وتغمّدك برحمته ورضوانه. إنّه السميع المجيب.

ثم تلاه حضرة الأستاذ اللوذعي، صديقنا عبد الله أفندي مخلص بما يلي:

أرأيتم كيف تغرب الشمس ويأفل البدر ويهوي النجم؟ أسمعتم كيف تثلُّ العروش، وتدكّ الأطواد، وتتغيّر المعالم؟

أشعرتم بما تخلفه مثل هذه المرئيات والمسموعات من عظيم الدهشة، وأليم الوحشة، وبليغ الرعشة في النفوس والقلوب والأجسام؟

إن كلّ هذه النوازل ليست بالشيء المذكور، إذا قيست بمصيبتنا الفادحة، وخطبنا الجلل، وكارثتنا الكبرى التي يجدر أنْ نشق عليها القلوب لا الجيوب، وأن تنفطر دونها المرائر بدل الستائر.

أجل إنّ شمس العلم قد غربت. وبدر التّقى قد أفل. ونجم المكارم قد هوى، وعرش الفضيلة قد ثلّ. وطود الإحسان قد دكّ. ومعالم الهدى قد تغيّرت بانتقال هذا الراحل الكريم من الدار الفانية إلى الدار الباقية. لا أراني بحاجة إلى بيان فضل فقيدنا العظيم، وفضائله وتعداد مناقبه الغرّ الميامين. فكلّكم شهود عدول على ما حباه الله من جمال الخَلق وجميل الخُلُق، وسعة الصدر وزخارة البحر والكرم الحاتمي. فمن للجائع بعده يطعمه؟ ومن للعاري يكسيه؟ ومن للملهوف ينجده؟ ومن للضّال يهديه؟ ومن للأرملة يسعفها؟ ولليتيم يواسيه؟ ومن لرواد العلم يورّدهم منهله الصافي وروضه الأنف؟ بل من للمحافل والمنابر والطروس والمحابر؟

لقد خلت كلّها من علمها الأوحد، وبطلها المفرد، وفحلها المعروف وبدرها المشرق. وإني أستميح منكم عذرًا، إذا لم أحسن القيام بواجب الوفاء، ولم أستطع أنْ أفي الراحل الكريم ما يستحقّه من حسن الثناء، والوصف الجليل، والنعت الجميل. فإنّ ما بدر على لساني لم يكن إلاّ نتاج قريحة مقروحة وفؤاد مفؤود. فهي في الحقيقة كلوم لا كلمات، وعبرات لا عبارات.

وأنتم أيّها السادة البهائيون، ليست المصيبة مصيبتكم وحدكم بل هي مصيبة الإسلام بأسره، ونكبة العالميْن القديم والحديث. فتعاليم البهاء المحمديّة منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها، وأتباعه الكثيرون يردّدون معنا هذا النعي. وكأنّي بهم اليوم، وقد حملت إليهم أسلاك البرق هذا النبأ المريع، قد أصبحوا في تباريح يبحثون عن الصبر فلا يهتدون إليه، ويتساءلون عن العزاء، فلا يقعون عليه، ويفتّشون عن السلو فلا يجدون إليه سبيلًا. من أجل ذلك فإنّ الحجاز ومصر والشام، وهي مهد الإسلام والعتبات العاليات، التي تضمّ أعظم الرفات، وأرض فارس التي أخرجت هذه الجوهرة الثمينة، والدرّة الغالية تشترك مع بيت المقدس، في الأسى والحزن على الراحل الكريم، الذي يرقد الآن بسلام في سفح الكرمل. موطن اليشع وإيليا وإخوانهم من الأنبياء.

أجزل الله لنا ولكم الأجر والثواب، وأنالنا وإيّاكم الصبر على هذا المصاب الذي كأنّما عناه الشاعر بقوله:

تلك المصيبة أنست ما تقدّمها                       وما لها مع طول الدهر نسيان

عبد الله مخلص

وقد ارتجل حضرة فضيلة الشيخ يونس أفندي الخطيب الأبيات الآتية:

حكم الإله بموت عباس البها            ربّ التّقى والفضل والعرفانِ

كلّ الأنام بكت وطال نحيبها                        لفراق من هو عين كلّ زمانِ

غرس الفضيلة في رياض علائه            فنمت وكان قطوفها متداني

فالخلق أجمع شاهد لفضائل             ومآثر جازت على كيوانِ

يا آل عباس البها لكم البقا               الله باق والخليقة فاني

 

وتلاه قدس الأب الخوري باسيليوس، رئيس روحي طائفة الروم الكاثوليك، بكلمة كان مضمونها الثناء على كرامة وجلالة شيخوخته، وعلى بعض أعماله الخيّرة للفقراء.

رثاء

وتلاه حضرة الشاعر الناثر اللوذعي المطبوع السيد وديع أفندي البستاني فقال:

لك في النفوس وفي العقول بقاء           فالموت عندك والحياة سواءُ

والمرء مثلك شيمة وسجيّة              ومزيّة ما رامهن فناءُ

ولو أنّ حيًّا لا يموت بيومه              ما مات آدمنا ولا حواءُ

والعمر بين اثنين من مهد إلى          لحد فذا ألف وهذا الياءُ

نقضي وقد يبكون من جزع وفي       تلك القلوب تعلّة ورجاءُ

ولئن تكن عبد البهاء بعينهم             فبعينهم أيضًا أبوك بهاءُ

ضمّته عكاء ببهجتها وقد                فتحت لقبرك صدرها حيفاءُ

عباس يا عبدالبها بن البها               مات الرجال وعاشت الأسماءُ

عباس يا عبدالبها بن البها               نفسي لمثلك في الزمان فداءُ

عباس يا عبدالبها بن البها               أنت الحكيم ودونك العلماءُ

عباس يا عبدالبها بن البها               ماذا تقول بيومك الشعراءُ

أشرقت في غرب فلاح صباحه        والشرق شرقك والصباح مساءُ

أتراهم ببعيد نورك أبصرو              ك ونحن يبهرنا السنا الوضاءُ

عباس يا عبدالبها بن البها               كن ما يشاء الله لا ما شاؤوا

قد متّ في أرض مباركة بها                       عاش المسيح ومريم العذراءُ

أرض أتاها في سراه محمد             أرض ثراها نعمة وثراءُ

أرض نقدّسها لنا وطنًا وإنْ              جارت ففيها جنّة وسماءُ

نحمي حماها لا تهان قبورها                       وفدى قبور الصالحين دماءُ

ونذود عن هذا الضريح ومن به                    والعهد ود بيننا وولاءُ

وتلاه حضرة الشاب الأديب والخطيب القدير الخواجه سلامون بوزاكلو، وارتجل التأبين الآتي باللغة الفرنسية وهذا تعريبه:

في عصر انتشر فيه الإلحاد وعدم الإيمان، إلاّ بما هو حسيّ مختبر، في عصر انتشرت فيه الماديّة المطلقة العنان إنّه لعجيب ونادر أنْ يوجد فيلسوف باسط الجناح نظير المأسوف عليه عبد البهاء عباس، الذي يتكلّم مع القلوب والعواطف، ويشرّب النفس بتعالميه ومبادئه المعروفة، أحسن أساس لكلّ ديانة… وقد عُرف ببيانه وأقواله ومحادثاته ومباحثاته مع نبغاء العصر المتمسكين بمبادئهم كيف يقنعهم… أمّا حياته فكانت مثالًا حيًّا للتضحية وتفضيل نفع وسعادة الغير على نفعه الخاصّ، وقد أحيت أمامنا أرسطو طاليس وسقراط. فسعدائهم الذي كانوا إليه متقرّبين فلقد قرأوا فيه صفحة كبيرة من الفلسفة الدينية والاجتماعية.

منذ أرسطو طاليس إلى أيامنا كان الفلاسفة الذين اتخذوا على عاتقهم تعاليم النفس البشرية، يتعصّبون بمبادئهم، ويتمسّكون بكلّ خير يعرفونه مرتكزًا على فلسفتهم الخصوصيّة والويل لمن يخالفهم.

أمّا هنا فلا حقد ولا تعصّب، ولا هوى بل الجميع أخوة. هنا وجدت الإنسانيّة حامي حماها العظيم الذي يجمع أحسن المبادئ الموجودة في كلّ الديانات ويعلّمها وكلّنا عليها متّفقون…

فأنبياء اليهود والمسيحيين والإسلام الذي طلبوا هذه الأخوّة، يمدّون أيديهم اليوم ويصافحون هذه المبادئ الشريفة مبادئ النبي عباس.

فلسفة عباس بسيطة سهلة، ولكنها كبيرة شاملة، تنطبق على طبائع البشر. تكاد تفقد محاسنها الأوهام والتعصّبات. تقولون أيضًا أن فلسفته غير شخصيّة لأنّه بناها على أغلاط الغير.

فكثيرًا ما تظهر لنا المسائل البسيطة بأحسن المظاهر، إذا عرف الإتيان بها في وقتها، كما أنّ الأفكار التي لغاية شريفة، ولو كانت لا قيمة لها تُعطى حقّها من الإكرام والقوّة.

فلسفته مبتكرة ظاهرة، وفي عصرنا هذا المرتكز على كلّ ما هو منطقي عقلي، راجع إلى ما اكتشفه العلم رغمًا من ارتياح عقلنا إلى الاكتشافات والاختراعات والعلوم على اختلافها فالقلوب تنشد السلام المعزي…

فعباس ووالده من قبله قد أخذا على عاتقهما هذه المهمّة الجليلة.

وبهذه المناسبة نقول أن عاملين كانا دائمًا يفرّقان بين الشرق والغرب، فينما نرى الغرب مهتمًّا بكشف أسرار الطبيعة، وإعلان المخبآت وإنماء العلم، بما يصل إليه من العلوم والاكتشافات.

نرى الشرق مهبط الأنبياء العظام والمشترعين المبشرين بديانات تروّج وتمتد وتملأ القلوب والنقوس تحت سماء زرقاء رائقة الأديم.

فالشرق والغرب إذا يتباريان الأول يعلو بدياناته والثاني يعلو باختراعاته واكتشافاته، وكلا الحالين ضروريان لحياتنا الاجتماعيّة.

عباس مات في حيفا، في فلسطين الأرض المقدسة، التي ظهر فيها الأنبياء منذ أجيال وأجيال وقد مثلت اليوم في الفقيد دورها من جديد.

ونحن لسنا الوحيدين الباكين الفقيد، المفتخرين به، بل هنالك في أوروپا وأمريكا وفي كلّ العالم المتعطّش إلى مثل المبادئ الاجتماعية الدّاعية إلى الأخوّة يبكون عباسًا.

مات عباس بعد أنْ لاقى الأمرّين في عكاء، باستيل تركيا، وكانت له سجنًا مدة لا تقل عن العشر سنوات، وبغداد عاصمة العباسيين، شهدت أيضًا سجنه وسجن والده، أمّا بلاد الفرس المهد القديم للفلسفة العذبة الإلهية فقد نبذت أولادها.

ألا يرى في هذه الأمور حكمة ربانيّة تختصّ بها الأراضي المقدسة التي كانت وستكون دومًا منبع الأفكار السامية؟

فالذي ترك بعده ماضي فخر ومجد لم يمت. الذي كتب وعلّم مثل هذه المبادئ الشريفة قد أعلى مقام عشيرته بين الأمم وانتقل إلى السعادة المكلّلة بالخلود…

سلامون بوزاكلو

ثم ارتجل صاحب الفضيلة العالم العلاّمة والبليغ والخطيب المفوه الشيخ أسعد أفندي شقير ما يلي:

عوّل العرب في جاهليتهم وإسلاميّتهم على الرثاء والتأبين، ولم يكن ذلك منهم إلاّ عن جملة مقاصد، منها وعظ الحاضرين المستمعين وإيقاظهم، وقد أشار إلى ذلك خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلّم بقوله: كفى بالموت واعظًا يا عمر. ومنها تشويق المستمعين إلى التخلّق بالأخلاق الحسنة والأعمال الطيّبة، إقتفاء لأثر المرثي ومنها تطييب ورثته وشيعته بذكر مفاخر عميدهم، فتعطف القلوب عليهم ويخفف عنهم شيء من ألم المصيبة، ومنها ما يراه كلّ مفكّر ومعتبر بمقتضى مسلكه ونقطة نظره وليعلم الحاضرون أن كلّ مخلوق يسرح ويمرح في هذا العالم، ويفكّر ويدبّر ويظهر ويضمر ويتصرّف اختيارًا، ويتحرّى لظهور كماله مرارًا بإذن من خالقه، وعناية منه جلّ وعلا. حتّى إذا جاء الوقت المعلوم تجلّى عليه خالقه بصفة القهر، فأصبح لا يملك لنفسه ضررًا ولا نفعًا ولا موتًا، ولا حياةً ولا نشورًا، ولهذا خاطب الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم في القرآن الكريم بقوله ( وهو القاهر فوق عباده).

إنّي ليحزنني الرثاء والتأبين، لأنّ التجلّي القهري مانع لي من الاسترسال فيه إلاّ أنّ السيد عباس البهائي معدود من العكاويين، لأنهم عاشوا معه أكثر من أربعين سنة كانت مجالسه فيها مجالس علم. يتكلّم فيها بتفسير الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية ويجمع بفلسفته وتدقيقه بين آراء المفسرين والمحدثين، وبين آراء العلماء العصريين والفلاسفة المتقدمين والمتأخرين، وله صدقات متوالية على الأرامل والأيتام والمساكين. وكان إذا مات صديق لا ينسى آله وورثته من البرّ والإحسان، وكان له جاه عظيم لا يبخل به على كلّ مستغيث به. وكان في موسم الشتاء يجتمع مع علماء المدينة وكبارها في منزل أستاذنا الكبير السيد الشيخ علي ميري نوّر الله مرقده وفي فصل الصيف يكون الاجتماع في عرصة حول منزله الكائن بمحلّة الفاخورة، وفي هذين الاجتماعين لا يجد الجالس فيها غير كتاب من تاريخ أو تفسير أو فلسفة أو رسالة، في أوراق الحوادث مختصّة بالمباحث العلميّة أو الفنية. ثم اتخذ حيفا مقرًا له، وسافر إلى أوروپا فأمريكا، ونشر فيها وعظًا ونصحًا وخطبًا حافلة بليغة يريد بها التأليف بين أرباب الأديان والمذاهب وإزالة الجدال العنيف من أفئدتهم وألسنتهم، وتحريضهم على التمسّك بالجوهر والإعراض عن الفروع والعوارض، وكان ذلك بالأساليب العلميّة الخاصّة بمسلكه، وقد انتقده واعترض عليه جماعة من الفارسيين وغيرهم وندّدوا بمسلكه وآرائه بمدونات ورسائل طبعوها ونشروها ومع ذلك فقد كان مجدًّا في السير غير مهتم ولا مكترث بانتقادهم واعتراضهم، ولا متألّم من عداوتهم وبغضهم على أن كلّ ذي مبدأ لا يخلو من موافق مادح ومخالف قادح. سنّة الله في خلقه، ولن تجد لسنّة الله تبديلًا.

أنا أذكّر الناس الآن بقوله صلّى الله عليه وسلّم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له والسيد العباس نشر علومه في الغرب نشرًا واضحًا، وأظن أنّه كان يلاحظ هذا المقصد المصرّح به في الحديث النبوي. وقد وفّى وظيفته وما فوقها أيضًا في هذا العالم وذهب إلى ربّه. فلا محل للبكاء والنوح عليه ولأهله وشيعته ومحبيه أنْ يشنفوا الأسماع بذكر فضائله ومناقبه.

ولقد نظم حضرة محمود أفندي الصفدي القصيدة الآتية وقدّمها إلى أسرة الفقيد وهي:

هو الحي الباقي

في ليلة الإثنين قد فتح السما                   وسرت لها روح البها ببهائها

صفّت لها كلّ الملائكة التي                    فيها وقام الأنبيا بولائها

وتزيّنت تلك الطباق لروحه                     حيث استحال لها فكان ضيائها

يا طالما حسدت عليه الأرض من            عهد الخليقة ثم زاد بكائها

الله أكبر يا سموات لقد                           بردت غلا كان فيه روائها

مهلًا فإن الأرض قد ضمّت له                ناسوت قدس لا يزال بهائها

من كوثر الفردوس كان غسيله                وهو المطهر أودعته حشائها

ومشت له كلّ الأنام بخشية                     حتّى الملوك ولاتها وزارئها

يا كرملًا أصبحت تنتطح السما                فخرًا وصرت اليوم من عظمائها

أصبحت فوق الشامخات مكانة                وغدوت أشرف بقعة أرجائها

عبدالبها عباس أوحشت اللآلي                أحييت علّتهم وكنت دوائها

فلأبكينك ما حييت بأدمع                                    يا طالما مسحت يداك بكائها

ولئن بكتك الخلق جاز لها البكا                فقدوا بفقدك بدرها وذكائها

بالغيب كم حللت كلّ قضية                     حارت بها البلغاء مع علمائها

ولآدم ننعيك أم نوح وهل                       ننعى إلى موسى الكليم بلائها

أم ننعى للروح المقدس أم إلى                 طه الأمين لكي يقيموا عزائها

الله أكبر كلّهم فوق السما                                    هتفوا لروحك راجين لقائها

هذا مقام جاز عن حد الصفا                    ت وحاز ما لا ينبغي لسوائها

ولو أستطيع نظمت من درر النجوم                      ثنا على آل البها وعلائها

في 30 تشرين ثاني سنة 1921                           محمود لطفي الصفدي

ولم تنته حفلة الرثاء قبل الساعة الحادية عشرة فتقدّم فخامة المندوب السامي أمام النعش، ورفع قبعته حانيًا هامته متجهًا نحو مقام الباب، ولحقت به حاشيته وحاكم المقاطعة، وأتباعه ثم الوجهاء، والأهالي والكلّ آسف على هذا المصاب العظيم، والكارثة المفجعة والخسارة الفادحة، والفراغ المؤلم الذي فقدته حيفا في مقدمة ما يليها من الأقطار.

يوم الأربعين لانتقال عبدالبهاء عباس

مفسّرَ آي الله بالأمس بيننا                قم اليوم فسّر للورى آية الموتِ

هو الدهر ميلاد فشغل فمأتم                        وكلّ عزاء أو هناء إلى فوتِ

أربعون ليلة على وفاة عبد البهاء، منظم المذهب البهائي، وناشر لوائه في العالمين، بل الغصن الأعظم لمذهب الفضيلة الوضاء في الوجود. كان بعض تلك الليالي الأربعين كافٍ لاندلاع لسان الفاجعة البهائية العظمى إلى أعماق القلوب، بما يذكيها من حرارة الحزن على بدر الليلة البشرية الليلاء. من كان يسترشد به الضال، وينظر بنوره الأعمى، ويرى فيه العالم الإنساني المثل الأعلى لخير البشر وسعادة الخاتمة.

في ضحى يوم الأربعين المشهود الموافق يوم الجمعة 6 يناير سنة 1922، بدأ ينسلّ من أطراف العالم أهله حاجيّن إلى عرفات حيفاء حيث دار عبد البهاء بيت البهائيين على الإطلاق، ومبعث شمس البهاء إلى الوجود، يشاطرون أهل بيت الفقيد الأعظم واجب العزاء، نحو كبرى مأساة تفزّع لها قلب الدهر، وتهدّم لوقعها أمنع ركن كان للفضيلة سندًا، وأرفع حصن كان للإنسانيّة ملاذًا.

انبرى في مجال التأبين من فطاحل الأدب، وفحول البلاغة ومالكي أعنّة النظم والنثر وأعلام الفصاحة والبيان، الخطباء الذين لم يذروا قولًا من بعدهم لقائل، وإنْ كانت صفات الفقيد ينتهي دون وصفها وتقديرها أروع ما تنجب البلاغة وأعز ما تلد الفصاحة.

فإنْ صحّ أنْ تكون هدية التأبين على قدر مهديها، فهيهات أنْ يبلغ ذلك وأضعافه من قدر المهدى إليه إمام البهائيين وفقيد العالمين.

إن مبادئ الديانة البهائية هي قبضة من نور السماء، قد أتيح لعبد البهاء أنْ يقبضها بإذن ربّه. إذ نشرها على الخلائق عبيرًا تستنشق منه الأنفس، فتنتعش الأرواح، إذ تثبت العقائد على اليقين، وترسخ على التوحيد، فتتجلّى في خشوعها وانثنائها أمام هيبة الخالق الصمدانية، وهل عُرف من قبل حصن عزيز للفضيلة فوق هذه العقيدة البهائية؟

مذهب البهاء يدعو بحقّ إلى توحيد الأديان، باستئصال شأفة الخلافات، ما دام أنّ مصدرها جميعًا واحد هو الله، وهي نظرية صحيحة ملموسة يقرّها العقل إذ لا منافاة بين الدين والعقل، كما يتوهم البعض بعد أنْ قال سبحانه أنّه بالعقل عُرف.

فإذا ما توحّدت الأديان وانقطع دابر الخلاف كما قدّمنا بادت الشرور النفسيّة، واستؤصلت المناظرات الجنسية، وتلاشت الأحقاد البشرية، ومدّ السلام يد الأخوّة إلى العالم، وصارت النتيجة المعقولة الواقعة، أنْ يتسغنى عمّا تؤدي إليه الأغراض الماحقة، والمطامع الساحقة، بمحكمة دولية من جميع الأجناس تباشر شؤون جميع الأجناس. والإدراك الجامد الذي يرى استحالة هذه الوحدة أولى به أنْ يلين فيسيغ تحقيقها رحمة بالخلق وتخليصًا لهم من التهلكة.

فالحقيقة المشرقة التي لبث يفتش عنها عبد البهاء جلّ حياته، وجدها بحقّ في توحيد الأديان مدللًا على رأيه الروحاني الناضج بأنّ الأديان ما جاءت إلاّ لسعادة البشر ولم تكن أبدًا لشقائه. وهي لا تكون كذلك على التحقيق إلاّ بالوحدة كما يعرضه المذهب البهائي الساطع.

قد يجوز أنْ يظن بعضهم أنّ مذهب البهاء الرائع جاء على صحته وصدقه سابقًا لأوانه، وهذا معناه أن المذهب يقابل بأساسه المكين وأحكامه العالية السعادة وجهًا لوجه. وإن العالم البشري لم ينته بعد من شروره، فهو لا يزال في حاجة لزمن يكفيه للتطهير من تلك المفاسد. وهذا القول يعد شهادة قاطعة واعترافًا بيّنًا بسمو مذهب عبد البهاء وتنزهه عن أقل ما يصيب غيره من المذاهب من شائبة الاعتقاد، أو شبهة العقيدة.

هذا هو فقيد العالمين العباس، فهو الآن في ذمة الله بجوار ربّه. وأمّا عن مآثره وآثاره في هذا العالم الدنيوي، فاقرأ له أنقى صحيفة في الوجود. منقوشة على قلوب أهله بيد التاريخ الديني والأدبي معًا، واعلم أنّ الفضيلة لتناجي ربها بنفس الفقيد أبد الآبدين.

وعندما انتظم عقد المدعوّين ضاقت بهم دار الفقيد على رحبها وسعتها، وكان في مقدمتهم حاكم المقاطعة الإنكليزي وكبار موظفي الحكومة، وقناصل الدول، والرؤساء الروحيون، ووجوه البلاد وأعيانها، وشعراؤها وأدباؤها ومحاموها. ما رأت حيفا وغيرها من البلاد الشرقية حفلة فخمة مثل هذه. ثم مدّت للجميع الموائد الفاخرة الحاوية ألذ وأشهى ما طهاه الطهاة، وكانت على جانب عظيم من حسن التنسيق وسلامة الذوق. جلس على تلك الموائد، ما ينيف على ستمائة مدعو، ووضعت في مكان آخر مائدة أخرى جلس عليها ما يزيد على مائة وخمسين فقيرًا، تناولوا أفخر الأطعمة وأشهاها.

وبعد أنْ فرغ المدعوون من تناول الطعام، قصدوا قاعة شاسعة الأطراف، مترامية الأكناف، أقيمت في صدرها منصّة للخطابة يعلوها رسم الفقيد الكريم. وعند الساعة الثانية تمامًا وقف حضرة اللوذعي الأديب والألمعي الأريب صديقنا السيد عبد الله أفندي مخلص وافتتح الحفلة فقال:

لقد غشينا هذه الدار التي كانت محجّ الفضلاء ومصدر الفضائل، أكثر من مرّة. فكنّا نجدها زاهية زاهرة، تتعطّر أرجاؤها بما يتضوع من أريج أزهارها، وتغرّد أطيارها على باسقات أشجارها، ويترقرق في وجوه أحيائها ماء الحياة ونضرة العيش، فما بالنا نلقاها اليوم خاوية العروش، كاسفة البال، عابسة الوجه؟ أكمدت أزهارها، وتناثرت أوراقها، وسكتت أطيارها، وغشيها من الهمّ ما غشيها فتساوى فيها الجماد والنبات والأحياء!

لقد تناولنا الطعام غير مرّة على هذه المائدة الحاتميّة، فكنّا نأكل طعامها سائغًا ونشرب كأسها دهاقًا. فما بالنا نغصّ اليوم بكلّ لقمة ونشرق بكلّ جرعة؟!

لقد ضمّنا هذا السقف تحته في جملة مجالس علم وأدب، كانت مجالي الأنس والطرب تتعاطى فيها الأصوات، ويكثر فيها اللجاج والحجاج، فما بالنا لا ننبس اليوم ببنت شفة، كأنّ على رؤوسنا الطير؟ وقد انقلب ذلك الفرح ترحًا والسرور كدرًا، والحوار سكونًا وسكوتًا!

ألئن الدهر أناخ بكلكله، وداهمها الويل بخيله ورجله أو أحاطت بها الأرزاء من كلّ جانب؟!

لا هذا ولا ذاك، بل لأنّ رب هذه الدار وسرّها الساري وروحها وريحانها العباس قد فارق هذا العالم الفاني فوقفت حركتها وتغيرت سحنتها.

لقد عاصرناه وعاشرناه عشرات من الأعوام دون أنْ يعترينا السأم أو يتولانا الملل، بل كنّا نضنّ بلحظة نقضيها دون أنْ يكون لنا من إرشاده نصيب. فلم ندرِ كيف تصرمت السنون؟ فما بال أيّامنا تطول؟ وصبرنا يقص، وأسفنا يزداد واحتمالنا يقلّ؟ في حين لم يمض على انتقاله أربعون يومًا ختمت بهذا اليوم الأزهر وليلة العزاء!

لقد خبرناه وبلوناه كلّ هذه المدة فلم نرَ فيه إلاّ المذلّ للدنيا بإدباره عنها، المعزّ للآخرة بإقباله عليها، الحامل راية العلم، الناقل آيات التوحيد، الداعي لمعرفة الله، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، المؤيد لأركان السلام، الساعي لإقامة الوئام مقام الخصام.

قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لو كان العلم في الثريا لتناوله رجال من فارس ولقد صدق فيما قاله. فإن الإسلام أكثر من دوّن فرضه وسنّته وفقهه وحديثه، بل ولغته وآدابه هم رجال فارس، الذين كان فقيدنا العزيز خاتمتهم على التحقيق.

ولذلك يشترك اليوم في حفلة تأبينه العربي والأعجمي والشرقي والغربي، والمسلم والمسيحي واليهودي، لأنّ فقده كان رزء العالمين، فبكاه أهل المشرقين والمغربين.

ومع أنّ مصيبتنا من أجلّ المصائب، فإنّ فيها ما يحملنا على الصبر والتأسّي، فإنّ ربع الفقيد ولله الحمد لم يصفرّ وفي بقاء أسرته أعظم عوض لنا.

ثم وقف سعادة حاكم حيفا، وأبّن الفقيد باللغة الإنكليزية، وهاك تعريب تأبينه:

كلّفني فخامة المندوب السامي، بأنْ أنوب عنه بإبداء أسفه الشديد لعدم تمكّنه من الحضور معنا في هذا النهار، واشتراكه معنا بسبب تغيّبه الوقتي عن فلسطين.

كذلك السكرتير المدني السير ديدس قد أعرب عن عظيم أسفه لاضطراره البقاء في القدس، بسبب تراكم الأعمال، وقد عهد إليّ جنابهما أنْ أقرئكم تحياتهما، وأعبّر عن شعورهما العميق واشتراكهما بالعواطف مع أقارب الفقيد العظيم الذي اجتمعنا لإكرامه.

وإنّي لعلى ثقة تامّة، بأنّنا نحن المجتمعون هنا نعرف السير عبد البهاء عباس معرفة تامّة ونتصور شخصه الجليل، سائر سير المفكّر في شوارعنا، كما نتصور رقّته ودماثة أخلاقه، ولطفه ومحبّته للأولاد الصغار والأزهار، كما نتصور أيضًا، كرمه وعنايته بالفقراء وعطفه على البائسين والمنكوبين.

ولقد كان على جانب عظيم من اللطف والدّعة والبساطة، لدرجة فائقة ينسى منها جليسه، أنّه كان مرشدًا عظيمًا، وأنّ كتاباته وأحاديثه، كانت موضوع تعزية وإلهام لمئات وألوف من أهالي الشرق والغرب.

أمّا تعاليمه فيمكن النظر إليها من وجهات نظر متعددة. فالبعض يعتبرونها مجرّد إثبات للعقائد التي بنيت عليها كلّ التعاليم الدينية، والبعض يقولون أنها جاءت سابقة لأوانها، وممّا لا يمكن العمل به. ولكن الكلّ متّفقون في تقدير جمال معتقده السامي، ويسلمّون دون جدل أنّه إذا تمّ السير على عقيدة الإخاء العام، فإنّ العالم يكون أفضل وأسعد ممّا هو عليه الآن.

أمّا نحن الذين خرجنا حديثًا من أشد الحروب في تاريخ البشرية، وعقولنا وحياتنا ما زالت مضطربة، فإنّ كلمات السلام وحسن النيّة، تكاد تكون غريبة على مسامعنا، ونجد صعوبة في قبولها والسير بموجبها، ولكن في كلّ مكان رجالًا من أمم مختلفة، ومذاهب متباينة، يصرّحون بشدّة لزوم السلام. إن ضمائر وتصورات الناس قد أزاغت واضطربت غير أن هناك رجاءً عامًّا، بأنّ المصالح المتفاوتة لأسباب سوء التفاهم التي توجد النزاع والبغضاء ستزول الواحدة تلو الأخرى وتتوثق بعدها بين جميع الأمم عرى علاقات وحسن تفاهم الأديان وبين الجماعات وبين الأفراد.

وحينما تحل تلك الأزمنة المباركة نؤكد أنّ هذا الشيخ الجليل الذي عاش بيننا هنا في حيفا سيخلد ذكره بالثناء الخالد ويعرف العالم قدره.

ثم تلا حضرة الشاعر اللوذعي السيد وديع البستاني القصيدة الآتية:

فلسطين تدري ما دهاها وتعلم                     ولكن بها عيّ فما تتكلّمُ

كأنّي بها الخنساء من بعد صخرها                كأنّي بها قلب كأنّي لها فَمُ

وقد ألهمتني أرضها وسماؤها                      وما الشعر إلاّ ما أحسّ وألهمُ

ومالي ونثر الدمع درًا على الثرى                وعقد الدراري في الثريا منظّمُ

وعبدالبها لم يحجب الموت نوره                  وعباس في أفق البها يتبسّمُ

أحيّي ذويه ما بكوا وتفجعوا                         وقاموا بيوم الأربعين وأولموا

كأنّي بهم والفجر لاح تسحروا                      فصاموا وصلّوا بعد هذا وسلّموا

*  *  *

وقالوا بهائيّ وما ذا يضيره                          وقد هام فيه عيسويّ ومسلمُ

سلوا الغرب عنه فهو في الشرق سيد                          عليّ عظيم وهو في الغرب أعظمُ

سلوا عنه غليومًا سلوا عنه قيصرًا                             سلوها عروشًا بالملوك تهدمُ

وأين أساطين الورى ودهاته                                     سلوهم يحاروا في الجواب ويفحموا

سلوهم لماذا قامت الحرب عندكم                               وعلّمكم سلمًا فلم تتعلّموا

أشاق نساء من بعول ترمل                                      وشاق بنات أو بنين تيتّموا

وما بالكم والعلم للحين يبتغي                                    بغيتم به شرًا أم الجهل أسلمُ

أتلكم غواصاتكم أم أبالس                            تسيرها في البحر وهو جهنّمُ

وتلكم طيّاراتكم أم عفارت                           تحلّق في أفلاك بالنار ترجمُ

وقتلى بني الإنسان للحوت مأكل                    وللطير قوت في الفلاة ومطعمُ

وهل لصليب أم هلال مقالة                          وملفوظ أفواه البنادق دمدمُ

ضرائب تجبى للمعدات بعدها                       إعانات جرحى – بئس سيف ومرهمُ

تبدى لكم وجه السلام فلم يرق                                   وراقكم للحرب وجه ملثّمُ

فأنتم عليكم قد جنيتم جناية                           وأنتم علينا قد جنيتم وأنتمُ

وقد مات عباس ولم ير ما جرى                           ويا ليت كلّ الناس عمّا جرى عموا

وقالوا نصوغ السيف والرمح منجلًا                           وما صدقوا والمنجل اليوم يخذمُ

وتلك خلايا النحل لا عسل بها                                   ولكن رصاص في الخلايا مكتمُ

أعباس من يهديهم من ضلالهم                                  وقد خبطوا العشواء والليل أدهمُ

أعباس من للناس والظلم شيمة                                  ومن لضعيف بينهم يتظلّمُ

لنا الله قيّوم إليه أمورنا                                            يرد فيقضي مايشاء ويحكمُ

وما ضرّ أرضًا خيل فيها كأنّما                                 تضرّج عيسى أنْ يخضبها الدمُ

على أنّها أمّ السلام وأنّها                                         لأمثالها – أمٌ تحنّ وترأمُ

تحبّ بنيها الخلّص الحبّ كلّه                                    وفيهم تشقى ما تشاء وتنعمُ

ويا حبذا ذكرى فتى السلم بيننا                                  ويا حبذا عهد بذكراه يبرمُ

ويا حبذا الإنصاف والعدل سُنّة                                 نسير عليها علّنا نتقدّمُ

فيا ذاكري عباس أقواله اذكروا                                 ويا ذاكري عباس أفكاره افهموا

سلامًا سلامًا بئست الحرب بعده                                فحيّوا سلامًا والسلام عليكمً

وديع البستاني

 

وقال حضرة الكاتب الأديب يوسف أفندي الخطيب:

عباس… عباس…

يخيّل إليّ بأنّي مهما أجلت الفكر فلن أجد سبيلًا إلى التعبير عمّا يكّنه الضمير كما وإنّه مهما تعمّد القول أيّ شاعر أو خطيب فهيهات هيهات أنْ يفصح عمّا ينطق به سكوتكم وخشوعكم، لعمري كلّ هذا يجعلني أعتقد اعتقادًا جازمًا بأنّ صاحب الذكرى بعد أنْ أقام في هذا العالم ثمانين عامًا واعظًا بلسانه مرشدًا بقلمه قدوة صالحة في جليل أعماله قد اختار أخيرًا الوعظ والإرشاد بالسكون والسكوت ولهذا وجب تأبينه اليوم بالتأمّل والتفكّر ولكني أبكيتكم بالأمس أمام منزله الكريم فقد وجب عليّ اليوم أنْ أدعوكم إلى تناسي الأحزان وأسألكم أنْ تحفظوا من زفرات الضلوع وتكفكفوا تلك الدموع. نعم إنّ السير عباس قد بعد عنّا بجسمه ولكنه حيّ بمآثره الخالدة وأعماله المجيدة. إنْ رحل فقد ترك لنا من بنات أفكاره السامية عظات بيّنات ومن تعاليمه القويمة آيات وعظات ومن حسناته الوافرة أحسن المبّرات ومن حياته النفيسة أمثلة عالية في علو الهمّة وقوة الإرادة والصبر والثبات إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق وأسمى الصفات.

من الناس أيّها السادة من يحيون بين ملذاتهم، ومنهم من يعيشون في نفوس أسرهم ومواطنيهم وبني جنسهم أو أبناء دينهم أمّا فقيد فلسطين فقد عاش وسيعيش في نفوس الشرقيين والغربيين في العالم القديم والجديد. أجل، سيردد اسمه على ممر الليالي وكرّ الأيام ملايين من بني الإنسان لا فرق في ذلك بين عربي وعجمي فإنْ كان ثمة من يجحد فضل الفقيد وينكر مكانته ويتناسى جميله فليذكر أنّ عباس البهاء كان محبًا ولوعًا ومجاهدًا كبيرًا لإحياء الجامعة الإنسانية العامّة التي ترتكز وتعتمد عليها الجوامع الأهلية والقومية والجنسية واللغوية والدينية فهو الذي أبلى بلاء حسنًا في ضرورة تحويل السجون إلى دور الفنون وساحت الحروب والأحزاب إلى ميادين العمل والصواب أمّا وقد علمنا رحلته عنّا أنّ تحقيق غاياته السامية في هذا العالم الظالم أهله ضرب من المحال فقد وجب على الناسك في دينه والوطني في وطنه واللغوي في لغته أنْ يقول وا رحمتا عباس وا شقاء الإنسان الضعيف من أخيه القوي. إلهي الرحمة نلتمس فذلك أعظم العزاء والهناء ثم الهناء لعبد البهاء.

يوسف الخطيب

نجوى العباس

مرفوعة إلى أسرة عبد البهاء خاصّة والبهائيين عامّة

يا روح عباس البهاء سلامُ                          لك عندنا بعد الحياة ذمامُ

حومي علينا من علائك واسطعي                              وأجلّي المكان ففي المكان ظلامُ

أو فاهبطي من حالق وترأسي                                  تذكار يوم الأربعين يقامُ

فبعاد عباس فراغ هائل                                          هيهات أنْ يملى الفراغ إمامُ

لك في الخلود مكانة علوية                                      وبدارك الأسمى هناك مقامُ

ومزارك الزاهي يلأليء نوره                                  في العالمين تؤمّه الأقوامُ

ومحلك الأعلى يجلله البها                                      فبها كما للعالمين سلامُ

*  *  *

عباس فخر الشرق في جيل به                                 زهت العلوم وزالت الأوهامُ

بلغت به العلياء أرفع منزل                                     وتسابقت للقائه الأعلامُ

وهلاله في أفق فارس قد بدا                                                فتلألأت من نوره الأفهامُ

وتعددت أبراجه حتّى انتهى                                     في أفقنا والبدر فيه تمامُ

خرّت له الأقوام صاغرة كما                                   شغفوا بتعليم البهاء وهاموا

*  *  *

ومشى تحف به المهابة والتقى                                         تعنو العظام له ويعنو الهامُ

وأقام بين ربوعنا فبلادنا                                                تفدى بها الأرواح والأجسامُ

*  *  *

يا أسرة العباس لاتبكي على                                           عبدالبها إنّ البكاء حرامُ

من كان كالعباس في أيامه                                             لا شك تحيي ذكره الأيامُ

وإذا بكى الأصحاب عباس البها                                      حقّ فإنّ بكاءهم إكرامُ

فلتبكه وليبكه أبناؤنا                                                      ولتبكه حيفاء والأيتامُ

عباس كان أبا الجميع فكلّنا                                 نبكيك يا عباس يا مقدامُ

لك في المشارق والمغارب منزل                        عال وفي كلّ القلوب مقامُ

وبرأس حيفاء الجميلة مضجع                             وبذمة العرب الكرام ذمامُ

الدكتور قيصر غوري

وقال حضرة الكاتب الأديب أحمد أفندي الإمام:

صوت لفظته طهران فردده العراق ودوّى في بلاد الروم وحنت إليه فلسطين ففتحت له صدرها فنما وكبر وامتد صداه إلى مصر فجاز البحار إلى الغرب فالعالم الجديد.

صوت خرج ليدعو العالم إلى المحبة والاتحاد والسلام.

صوت لو لم يكن مصدره حسن النيّة لما انتشر في العالمَيْن وسرى فيهما سريان الكهرباء.

وما الفضل في بثّ هذه التعاليم ونشرها في العالمين إلاّ لصاحب هذا البيت الشريف الذي يحتفل بتأبينه هذا الجمع الحزين.

ليس الموقف بالمساعد للبحث في مذهب الفقيد وتعاليمه لأنّنا اجتمعنا هنا لتعداد مناقب المحتفل به وذكر مزاياه الحميدة.

ومتى ذكرنا العباس فإنّما نذكر علوّ الهمّة ومضاء العزيمة، نذكر سلامة القلب وحسن السريرة، نذكر الذكاء الخارق والنبوغ الشرقي.

أجل، إذا ذكرنا عبد البهاء فإنّما نذكر الأخلاق الفاضلة والمبادئ السامية والعواطف الشريفة، نذكره لأنّه كان محبًا للفقير كمحبته للأمير، نذكره لأنّه كان يؤانس الكبير والصغير، نذكره لأنّه كان يعطف على اليتيم ويؤاسي البائس والغريب.

ألا وإنّ من كانت هذه مناقبه الغُرّ لجدير بأنْ يُحتفل بتأبينه ورثاه.

أفلا يحقّ للأردن أنْ يتدفق حزنًا، ولبردى والنيل أنْ يسيلا دمًا، ولدجلة والفرات أنْ يفورا أسىً، ولبني السين والتاميز أنْ تشق جيوبهم ولأبناء مسيسپي والأمازون أنْ تمزق قلوبهم هلعًا وأسفًا على فقد من قام يدعو الناس إلى التساهل والتآخي والوئام، ليعيش هذا العالم في راحة وأمان وسلام.

ولئن بكاه بني الإنسان فيما وراء البحار وفيما وراء الأنهار فما ذلك إلاّ ليوفوه قسطه من النيّات الحسنة والأعمال الصالحة.

ولئن رثاه المشرقان وانتحب عليه المغربان فليس ذلك إلاّ اعترافًا بفضل نابغة العصر الذي عاش عزيزًا ومات كريمًا شريفًا.

به يعزّي بنو الشرقيْن في حزن                                له جميع بني الغربيْن مكتئب

وأنت ياروح عبد البهاء

نحن لا نظن أنّ فقيدنا الكبير خشي الموت أو هابه، فليس والله للموت من زعجة إذا كانت الحياة فاضلة.

وإنّ من كانت هذه مناقبه وتلك آثاره وفضائله لا يموت ذكره بين العالمين بل يخلد اسمه إلى يوم الدين.

فسلام عليك يا روح الفقيد الزكية ورحمة الله تهطل على جثمانك.

وعزاءً بني الإنسان وصبرًا على هذا الخطب الجسيم وتشبهًا بحياة الراحل الكريم الذي قضى وهو يقول:

إنّما المرء حديث بعده                                       فكن حديثًا حسناَ لمن روى

أحمد الإمام

 

وقال حضرة الكاتب الأديب محمود أفندي الحبال:

أيّها السادة،

كلّكم تعلمون ما كان عليه فقيدنا الأعظم من طهارة الأخلاق والصفات الكمالية وحسن السيرة التي قلَّ أنْ يضارعه بها مضارع ألا وهو

السيد عباس أفندي البهائي

أعلى الله منزلته في فراديس الجنان

لأنّه قد عاش بينكم نصف قرن وهي مدة كافية لحسن الاختبار وبما أنّ لي معه صداقة صميمة قديمة يمتد زمنها أكثر من ثلاثين سنة. أريد أنْ أذكر عنه جملة صالحة في هذا الحفل المهيب على سبيل التذكار والتآسي فأقول:

كانت صفات فقيدنا الكمالية أكثر من أنْ تُحصى وأوفر من أنْ تُستقصى. كيف لا وقد كان شمس عصره، ووحيد دهره، فضله ظاهر، وإحسانه متظاهر لا يتغالى بنفسه، ولا يتعالى على أبناء جنسه وأهل أنسه، كان يستدّل بأسارير الوجوه على أسرار القلوب. يرى بأول رأيه آخر الأمور ويهتك عن مبهماتها ظلم الستور.  يستنبط دفائن القلوب، ويستخرج ودائع الغيوب. وكان بماله متبرعًا، وعن مال غيره ورعًا. وكانت يده فوق أكف الفقراء، وتحت شفاه الأغنياء. فاعترف الأعداء بفضله. واغترف الأولياء من بحره. ومما يذكر له بمزيد الفخر أنّه كان أوفى من السموأل وبيان ذلك هو أنّه من مدة ثلاثين سنة تقريبًا أبعد إلى عكاء أحد أشراف صنعاء اليمن واسمه عبدالله باشا الضلعي اليمني وبعد مدة مرض ولمّا يئس من حياته استدعى إليه السيد عباس أفندي وسلّمه مبلغا جسيمًا من النقود قدره سبعون ألف قرش وأوصاه بأنّه إنْ أبل من مرضه أنْ يردّه إليه، وإنْ هو مات فلينفق منه خمسة آلاف قرش على تجهيزه ودفنه، ويرسل الباقي إلى ابنته خارج صنعاء اليمن. وذكر له اسمها ومحل إقامتها ولم يكن له وارث غيرها. فما كان من السيد عباس أفندي إلاّ أنّه امتنع من تسلّم ذلك المبلغ بصورة سرّية كما أحبّ صاحبه فخرج من عنده ثم عاد إليه فورًا ومعه شاهدان وتسلّم المبلغ بحضورهما وحرّر به سندًا على نفسه وأشهدَا على ذلك. وبعدها توفي صاحب تلك الأمانة فجهّزه فقيدنا المحسن الكبير ودفنه وأنفق عليه من ماله الخاصّ مبلغًا أكثر ممّا أوصى به. وأيضًا كان للمتوفى عند الحكومة عشرة آلاف قرش معاشه شهرين فقبضها السيد عباس أفندي بعد مشقّة عظيمة وأضافها على تلك الأمانة فبلغت ثمانين ألفًا وأرسلها بأجمعها إلى ابنة المتوفى مع رسول مخصوص استأجره من ماله الخاصّ بمائتين وخمسين ليرة عثمانية ذهبًا فأوصلها الرسول إلى صاحبتها بعد مشقّة كبيرة ثم عاد إلى عكاء وسلّم فقيدنا شهادة من المحكمة الشرعية في صنعاء اليمن ومضبطة من مجلس إدارتها وبلديتها ناطقة بوصول ذلك المبلغ إلى وارثه الشرعي وهذه من بعض صفات فقيدنا ذلك المحسن الكبير والوفي الذي ليس له نظير. فلا بِدع إذا قلنا أنّه كان أوفى من السموأل.

ومن جملة صفاته الكمالية وأخلاقه الرضية أنّه كان يحسن لمن أساء إليه وهم كثيرون ومن جملتهم أحد كبار مأموري حكومة عكاء قديمًا فإنّه كان يسيء إلى فقيدنا كلّ الإساءة ظلمًا وعدوانًا. وكان السيد عباس أفندي يحسن إليه كلّ الإحسان لا طمعًا بخيره ولا خوفًا من ضره بل مجاراة لخلقه العظيم وطبعه الكريم.

وبعد مدّة عُزِل ذلك المأمور من وظيفته وخرج من عكاء وهو في حالة يرثى لها لا يملك قوت يومه فضلًا عن أنْ يصحب معه عياله فما كان من جملة مكارم أخلاق فقيدنا ذلك المحسن الكبير إلاّ أن أعطاه من النقود كفاية وصار ينفق على عياله مدة طويلة وأخيرًا أرسلهم إلى الآستانة على نفقته مرفهين معزّزين مكرّمين وله حسنات كثيرة أمثال هذه وما فقيدنا إلاّ حسنة من حسنات والده بهاء الله تغمدهما الله برحمته وأعلى منزلتهما في علّيّين.

ثم ذكر حضرته مبادئ البهائية التي فصلّناها في كتابنا وشرحها شرحًا وافيًا ثم قال:

فالبهائية إنّما هي طريقة أخوية عمومية سلمية تهذيبية أخلاقية وهذا مايتمناه كلّ لبيب ويجتهد للوصول إليه كلّ عاقل أديب والله الموفق لما يشاء – هذا – وقد كنت أسمعت فقيدنا الأعظم وهو حيّ قصيدة لأحد أكابر الصوفية في وصف حال الأموات السعداء نقلها الشيخ الأكبر في بعض مؤلفاته وأثنى على ناظمها كلّ الثناء فأعجب بها فقيدنا العظيم وكأنّي الآن بروحه العالية الطاهرة تخاطبنا بها من أعلى علّيّين وهي:

قل لإخوانٍ رأوني ميّتا                               فبكوني اذ رأوني حزنا

أتظنون بأنّي ميّتكم                                                لست ذاك الميّت والله أنا

أنا عصفور وهذا قفصي                             كان جسمي وقميصي زمنا

أنا في السور وهذا جسدي                          كان سجني إذ ألفت السجنا

أنا كنز وحجابي طلسم                               من تراب قد تخلّى للفنا

فاهدموا البيت([1]) ورضوا قفصي                              وذروا الكلّ دفينًا بيننا

وقميصي مزّقوه رمما                                واجعلوا الطلسم بعدي وثنا

لا ترعكم هجمة الموت فما                         هو إلاّ نقلة من هَهُنا

فحياتي وسنٌ في مقلتي                               خيبة الموت تُطيّر الوسنا

لا تظنوا الموت موتًا إنّه                             لحياة هي غايات المُنى

فاخلعوا الأجساد عن أنفسكم                                    تبصروا الحقّ جهارًا بيننا

حسّنوا الظّنّ بربّ راحم                             تشكروا السعي وتأتوا أمنا

ما أرى نفسي إلاّ أنتمُ                                 واعتقادي أنّكم أنتم أنا

عنصر الأنفس شيء واحد                           وكذا الجسم جميعًا عمّنا

فمتى ما كان خيرًا فَلَنا                               ومتى ما كان شرًّا فَبِنا

قد ترحّلت وخلفتكم                                    لست أرضى داركم لي وطنا

فخذوا في الزاد جهدا لا تنوا                                    ليس بالعاقل منّا من وَنى

أشكر الله الذي خلّصني                              وبنى لي في المعالي رُكنا

فأنا اليوم أناجي ملأً                       وأرى الحقّ جهارًا علنا

عاكف في اللوح أقرأ وأرى                                    كلّ ما كان ويأتي وَدَنا

وطعامي وشرابي واحد                              وهو رمز فافهموه حسنا

ليس خمرًا سائغًا أو عسلا                           لا ولا ماءً ولكن لبنا

فهو مشروب رسول الله إذ                           كان يسري فطره مع فطرنا

فافهموا السرّ ففيه نبأ                                 أيّ معنى تحت لفظ كمنا

أسأل الله لنفسي رحمة                                رحم الله صديقًا أمّنا

وعليكم من سلامي صيّب                           وسلام الله بدءً وثنا

محمود محمد الحبال

 

وقال حضرة الأديب ديمتري أفندي حبايب:

لا أدري ما أقول ولا بِدع إذا ارتجّ عليّ الكلام في مثل هذا المقام المهيب الحافل بوفود الأمراء والوزراء وأشراف القوم وعليتهم ذلك المقام الذي أتشرف الآن بالمثول فيه مؤبّنًا احتفالًا بالأربعين لانتقال مولاي عبد البهاء عباس إلى رفيقه الأعلى.

وماذا عساي أنْ أقول في تعداد مناقب يتيمة هذا الدهر وشمس هذا العصر من استظهر بحكمته الباهرة على جور الأيام وأعلى منار قومه بحسن تدابيره السامية فأرضى الملوك والأمراء واجتذب محبة واحترام الجميع لأقنومه الشريف دون أنْ يتساهل بشيء من واجب الغاية التي أتى لأجلها. أجل ساداتي. وهل يقف إمرء على تاريخ حياة هذا الرجل العظيم، علم المحبة والسلام عنوان الفضيلة والتقوى بل ربّ الرحمة والإحسان إمام البهائيين ورئيسهم ولا يقول أنّ فقده يعدّ خسارة عامّة للإنسانية والعمران والهيئة الاجتماعية طرًا؟

أي معشر هذا الجمهور الكرام! إنّا بصورة صاحب هذه الحفلة الرهيبة عبد البهاء عباس ذلك الغصن الأعظم للسدرة البهائية العليا من نحتفل اليوم بانتقاله إلى دار الخلود حيث ينضم الغصن إلى فرعه والفرع إلى جذعه. عرفنا الأسد العظيم الذي أنس بزئيره القاصي والدّاني وما زئيره إلاّ حِكَم وفضائل. عرفنا الملاك السماوي الذي قدّم حياته الأرضية قربانًا على مذبح الإنسانية بل الكبير الذي طابت به نفوس ذوي البأساء والمساكين، بل الزاهد الذي انحنت له الجباه إجلالًا واحترامًا، وخطبت مودته أكابر البلاد وعظماؤها، وعرفه العالَم الجديد بشير الخير ورسول السلام فأكبروا شأنه ودُهشوا بحكمته السامية وانصاعوا لآرائه السديدة وأقرّوا بأنّه ملاك بصورة بشر إنّما جاء دار الشقاء ليهدي الناس سبل الهداية والفضيلة. ولاعجب فهو صورة البهاء ووجه البر وشمس الإحسان مثال الوداعة والحكمة، كانت حياته على الأرض كلّها طهارة وإنكار الذات يأمر بالخير ويجبر القلوب المنكسرة، فضائل تفرّد بها، لا يدانيه فيها أحد. أمّا عظاته الشائقة وخطبه الرنانة فقد طأطأت لسماعها إجلالًا رؤوس العلماء والفلاسفة وفي مقدمتهم فلاسفة الأمريكان وعلماؤهم فمالوا إليه وقبلوا دعوته حتّى أصبح أتباعه هناك يعدّون بالألوف المؤلفة، وكفى بها وصفًا أنّها كانت نورًا للجاهل ورجاءً للبائس وتعزيةً للمسكين. هذه أيّها الجمهور صفات هذا المنتقل العظيم الذي تحتفل اليوم الأسرة البهائية الشريفة بتذكار أربعينه المجيد.

إنّه لحريّ بنا والحقّ وضّاح بأنْ نقرن هذه الذكرى بذكرى حياته الطاهرة التي سوف يبقى صدى تأثيرها السعيد يرنّ في أنحاء المعمور يوحي بترقية النفوس ويُلهم بتهذيب الأخلاق مزيتان كانتا دعامة دعوته وغاية أمانيه. وأنّى لي أنْ آتي على ذكر مناقبه السامية وفضائله الروحانية وبرقيات تعازي الملوك والأمراء والأشراف والعظماء للأسرة البهائية الفاضلة إثر فقده هذا الذي أحدث في الكون رنّة أسف شديد لأعظم برهان وأصدق شاهد على ما للسيد عبد البهاء عباس من الإجلال والاحترام في عيون أمم المعمور. فلا بِدع إذا ندب العالم رجل العصر ومؤيد النظام الألفي السامي.

فسلام عليكِ يا روح عبد البهاء حيث أنتِ الآن سواء كنتِ حاضرة بيننا أم أنتِ مقيمة في فراديس الجنان. في عالم النور الأعلى حيث تلتقي الأرواح خالدة بعد الانتقال من عالم الفناء. بل سلام عليك يامولاي أبا الفقراء والبائسين. بل ألف سلام عليك يا من

هيهات أنْ يأتي الزمان بمثله                                   إنّ الزمان بمثله لضنين

ديمتري حبايب

ثم أبّنه باللغة الفرنسية حضرة الخطيب الذكي المسيو سلمون بوزاكلو فأجاد كلّ الإجادة.

وقال حضرة القس الورع والواعظ المشهور صاحب الإمضاء:

سادتي،

لا أعدّ نفسي سعيدًا كما يجب لو اكتفيت بأنْ أكون من الحضور أو الشهود في هذه الحفلة الحافلة. كلاّ بل أرى من الواجب أنْ اشترك مع الخطباء في شعوري وعواطفي مقدّرًا وهاتفًا بعظيم من الاعتبار لمن أقيمت هذه الحفلة التذكارية لأجله مرددًا صدى ألطافه الجّمّة ألا وهو المنتقل إلى رحمة ربه عبد البهاء عباس.

لا معنى للخوض في تقديم المدح والثناء لعباس البهاء فإنّ ذلك من قبيل طلاء الذهب الممحّص أو محاولة تغطية لون الزنبق الطبيعي أو التشبث بنشر رائحة الزهرة الزكية. أجل جرأة منّي أنْ أقف لأقول شيئًا في هذا المحفل الحافل الذي يشفّ عن عظمة وحسن خلق ذلك الفقيد الكبير لأنّكم عاشرتموه سنينًا، أحببتموه، أكرمتموه، بل ذكراه غمرت حياتكم بعبيرها الزكي. بَيْد أنّه يمكنني أنْ أقول اختباراتي الشخصية منذ عرفته لغاية هذه السنة حيث حلّت قدماي جبل الكرمل ولم يكن مسكنه الشريف بعيدًا عن مسكني بل كنّا جيرانًا (والجار يشرف قدره بالجار). والحقّ أقول بأنّه كان لي الحظ بالسعيد لتمكّني من التشرّف بصداقته التي جاد بها عليّ فضلًا منه ولطفًا. وذلك لعمري ليس بالغريب لأنّه جذب الألوف إلى محبته، الأمر الذي كان من ثمرات صفاته الشريفة وطبعه الجميل. ولقد ترك الفقيد في قلبي أثرًا جميلًا من بساطته ورِقّة طبعه وحسن خلقه وإنّي لن أنساه ما دمت حيًا.

في صباح يوم بهيج من فصل الربيع بينما كانت الغزالة تلقي أشعتها الفضية والطبيعة تتجلّى بجمالها وتعطّر الكون برائحة زهورها الزكية، زارني الفقيد وشاركني في طعام الصباح.

حديثه العذب وهيئته الرضية مملوئان نعمة طبيعية دون أقل ادّعاء بل كان مثال التواضع والعظمة.

لا أتجاسر أنْ أخوض أكثر من ذلك لأنّي أرى أنّه يوجد كثيرون من الحاضرين الذين اختبروه وألفوه أكثر منّي لا سيّما العازمون على إظهار عواطفهم تجاهه.

ما أعجب هذه الشهادة ونحن المجتمعون نمثل أديانًا متعدّدة من إسلامية ومسيحية ويهودية وغير ذلك من الأديان السماوية ومع ذلك لا تتلعثم ألسنتنا إذا ادّعينا صداقة مَنْ جئنا نعزّز ذكراه ألا وهو عبد البهاء عباس.

فها إنّي أختم كلماتي مُظهرًا عواطفي شاكرًا من صميم الفؤاد فرصة نلت بها التشرّف بصداقته ومؤكّدًا إحساساتي وعواطفي الودّية لأسرته البهائية الكريمة سائلًا الحقّ سبحانه وتعالى بأدعيتي الحارّة أنْ يغمرهم بنعمته ويعزّيكم جميعًا ويملأ قلوبكم فرحًا وسلامًا أبديًا.

القس روهلد

وقال حضرة الكاتب الأديب صاحب الإمضاء:

سادتي أسرة عبد البهاء عباس المحترمين،

إنّ مرضي حال دون تشرفي يوم الجمعة في داركم لأتلو ما نظمته على مسامع الحاضرين وهي الأبيات الآتية:

يا أيّها الدار عهدي فيك مشرقة                    وبدر تمك في أعلى السماك سما

يا مهبط الوحي أين البدر محتجب                 أين السراج الذي أبهى لنا الظلما

فرد تعود جميع المشكلات له                       يحلّها ببيان حيّر الحكما

وقفت أنظر فيها أو أناشدها                         عن سيد كان للاجين معتصما

فلليتامى أبًا قد كان ينعشها                          بِرًّا شفوقًا رحيمًا لم يدّعِ ألما

يا عاذلي لا تلم جهلًا ولا حسدًا                                 ولا سفاهة لا وقيتَ شرّهما

هذا هو الفضل أنْ تبكي العيون على                         فقيدها عوض الدمع الجمان دما

مولىً غدا الكعبة الغرّاء مرقده                                وقد ثوى في الثرى نجم السما فسما

وقد تمنى على الله الصعود إلى                                أفق العُلى حيث مأواه الذي قَدِما

ليلا فسبحان من أسرى به سحرًا                               إلى مقام علا قد خصّه قدما

محمود لطفي الصفدي

وقال حضرة الأديب الأستاذ صاحب التوقيع:

سادتي،

إنّ انتقال الزعيم الأكبر ورجل الإنسانية السيد الجليل السير عبدالبها عباس يعدّ خطب جلل للآداب والحكمة باحتجاب عالمها وأعظم خسارة للعلم والفضل بفقد ركنهما. فوجب على كلّ من ورد منهل العلوم ورشف من سلسبيلها ولو قطرة أنْ يوفي العالم الكبير والحكيم الشهير حقّه ولو بكلمة. ولا أرى أنسب من وضعها في يوم أربعينه العظيم فأقول:

يموت كلّ يوم ألوف من الناس. يلحد عشرات من الرجال المعروفين ومع ذلك لا يؤثّر موتهم على المحيط الذي عاشوا فيه ولا يحدث انتقالهم فراغًا محسوسًا بين أمّتهم. ذلك لأنّ الرجل الذي يموت لنفسه لا يؤثّر سوى على نفسه والرجل الذي يموت لأجل عائلته تتوجع عليه عائلته. أمّا الرجل الذي يموت لأجل الإنسانية فإنّها بمجموعها تتألّم وبكامل أفكارها تجدّد فكرته.

كم من الناس دفنوا بهذه السنة ولم يحدث لهم من التأثير مقدار جزء من ألف ممّا أحدثه انتقال عبد البهاء – ذلك لأنّ فقيدنا عرف أنْ يعيش لنفسه ولغيره. عاش رجل المبدأ ومات رجل المبدأ، ورجال المبدأ نادرون وأندرهم من طبّق أعماله على علمه وجعل حياته مثالًا لمبادئه. وبفضل أعماله خلّد ذكره بين أصحابه ومحبيه. فللإنسان مدة حياته ثلاثة أصدقاء: أحدهم يتركه حالًا بعد موته وهي ممتلكاته وعقاراته والثاني يتبعه إلى القبر وهم أقاربه وأصدقاؤه والثالث يتبعه إلى ما وراء اللحد وهو الصيت الطيب والاسم الحسن.

وندر من حصل على الصديق الثالث. أمّا فقيدنا فقد اكتسب بأعماله البارّة وحسن سيرته وسريرته اسمًا خلد ذكره إلى ما بعد الأجيال.

الموت قوة. الموت انتصار. الموت حياة. وهو النهاية للناظرين إلى نفوسهم والمشبعين بمشتهياتهم الجسدية لكنه البداية للمكرسين حياتهم وأموالهم لمنفعة الغير وفقيدنا المبتعد عنّا بالحواس فقط لم يمت بأعماله ومآثره التي خلّفها خالدة في الأرض، وبحياته الطاهرة خالد في السماء. حيث لا شك بأنّ كلّ ما هو مادي ومتعلق بالمادة زائل لا محالة. التماثيل والبنايات والعقود مصيرها إلى العدم لكن المبادئ القويمة الأخلاق والنفوس الكبيرة أبدية لا نهاية لها ولله درّ من قال:

ما للزمان على النفوس تسلط                                   إنّ الزمان يقيّد الأجساد

فارقد أيّها الراحل العزيز رقاد الهناء فحياتك خالدة بيننا بأعمالك. إنّ يوم انتقالك ليس بيومك الأخير. إنّه مولد خلودك أنْ فقدانك من بيننا، وإنْ أحدث فراغًا فأعمالك تسدّ هذا الفراغ. لأنّ الأعمال العظيمة لا تأخذ شكلها الباهر إلاّ بالتذكار، فالفكر هو الذي يقدّرها قدرها وليس العين المجردة. فالعظيم في حياته عظيم في موته… ينتهي الحلم عند اليقظة وهناك تثبت الحقيقة ويزول الخيال. والحياة كحلم تنتهي عند الموت وهناك تبتدئ حياة الرجال العظام وتظهر حقيقة الأبطال الذين كافحوا في هذا الكون وجاهدوا في معترك الحياة لينالوا إكليل المجد عند موتهم. وهل رأيتم أجمل من إكليل نسج من تأوّهات الفقراء والمحتاجين على المنتقل مقرونة بزفرات الأصدقاء والمحبين الكثيرين على الراحل؟ ولكن هذا الإكليل يفوق بهاء يبهر الأبصار إذ زيّنته دموع الأرامل والأيتام فهي أشبه بحجارة ثمينة يقدّمها المساكين جزاء ما أنالهم المنتقل من الإحسان، وإليك ما قيل:

الجسم يفنى ويبقى الذِّكر والأثر                    فاعمل لأخُراك ما يبقى ويذدكر

تسمو الحياة بما تأتيه من عمل                     جمّ الفوائد منه يجتنى ثمر

كم مات قوم وما ماتت لهم شيم                    وذكرهم أبدًا يعلو وينتشر

تحية يا بهاء الله عاطرة                               تهدى اليك ودمع العين ينحدر

أبقيت للشرق آثارًا مخلدة                            يفنى الزمان ويبقى ذكرها العطر

سادتي! طلبًا لتخليد الذكر وسعيًا وراء إكليل المجد دوّخ إسكندر المقدوني ويوليوس قيصر وشارلمان وناپليون البلاد بحروبهم. شادوا دولًا واسعة شاسعة بالقوة والجبروت وأتوا ما أتوا من الأعمال التي نعدّها عظيمة فخلّد التاريخ اسمهم. ولكن فرعون ونيرون وتيمورلنك لم يكونوا أقل ذكاء منهم لأن هؤلاء أيضًا خلّدوا لهم ذِكرًا على أشلاء القتلى، فلعمري أيّ فرق بين مطامع الفريقين ونتائج أعمالهم.

تبًّا لتخليد ذِكر يُكتسب بخطف الأرواح. فإنّ إكليل المجد لا يناله من دمر البلاد بل من عمّرها ولا يستحقه من يتّم الأطفال وثكّل الأمهات ورمّل الزوجات وطوّع بحدّ السيف وقتل الأرواح البريئة. بل إكليل المجد لمن كان لليتيم أبًا، وللأرملة مساعدًا، وللمسكين نصيرًا. المجد لا يأتي بالحروب الدامية ولا بالفتوحات ولا بقتل النفوس بل بحفظها. فما يحرزه الفاتح من المجد لا يساوي حياة إنسان واحد من إخوانه. المجد الحقيقي بنشر المبادئ الحسنة وتعميم العلم والسام والمحبة، أركان الإنسانية الجديدة ودعائم الفخر الدائم. الذاكرة أهم جزء من الإنسان الروحاني والقلب أهم عضو من الإنسان المادي. فالفاتحون أبقوا ذكر أعمالهم في ذاكرة كل من طالع سيرتهم فقط، ولكن ما قولكم بمن ليس فقط جعل كلّ ذاكرة مسكنه بل وكلّ قلب أصبح مثواه؟ فقيدنا استحق محبة الكلّ وسعى لخير الكلّ ففضله عظيم.

الإنسان مادة وروح الفضل بالنسبة لكلّ منهما. ففضل من اهتم للروح يمتاز عن فضل من يهتّم للمادة والجسم. والراحل عنّا لم يكتفِ بالإحسان للفقير وسدّ رمقه من الوجهة المادية بل كان من أعظم من سعوا لترقية الروح بالعلم عماد المجد الحقيقي وبتعاليمه العالية كان يهتمّ لإسعاد النفس وراحة الإنسانية ببثّ السلام والمحبة.

أحَبّ الطبيعة فشاءت الطبيعة أنْ تضع قبره في أجمل مكان من صدرها في صدر الكرمل في النقطة المشرفة على أجمل المناظر الطبيعية. هناك تحيا روح المنتقل في مثواه الطاهر كما يحيا شخصه في صدر كلّ منّا وفي القلب صورة ملاك السلام. فسلام على تلك النفس الزكية الكبيرة وتلك الأخلاق النزيهة والشمائل المصفّاة والطبائع السامية. سلام على ذلك القلب الطاهر المملوء من الحكمة وأنموذج الانعطاف والإخلاص. سلام على تلك الحياة التي لم يستطع الموت أنْ يقلل من تأثيرها والتي لا تزال تنبثق من وراء القبر وترسل أشعتها ممزقة عناصر هذا الوجود ومستولية على العقول والنفوس. وعلى روحك يا عبد البهاء حيثما كنت وعلى ذراتك كيف تحولت سلام بل ألف سلام.

موسى أيوب

وقال حضرة الفاضل الأديب ميشيل أفندي كبابة الصيدلي القانوني يرثي الفقيد العظيم عبد البهاء عباس بهذه الأبيات:

يا دهر ما هذا المصابُ الموجعُ                               منه غدت هاماتنا تتصدعُ

عنا نأى عباسنا عبدالبها                             من كان بدرًا في سمانا يطلعُ

هو في النعيم ممتعٌ وقلوبنا                          من بعده كادت أسىً تتقطعُ

من للهداية مثله من للملا                            يرجى حبيبًا أو شفيعًا يشفعُ

داعي الأنام إلى المحبة والإخا                                 ما كان مثلك في المقابر يوضعُ

حق علينا أنْ تكون صدورنا                        لك مدفنًا فيها تقيم وترتعُ

فلأنت في كلّ القلوب مصوّر                                   يفنى الزمان ولست منها تنزع

عمّت مبادئك الحميدة في الورى                              حتّى بدت لذوي البصيرة تسطع

ففؤادنا يدمى عليك تحسّرًا                           والعين طول الدهر بعدك تدمع

وعزاؤنا في ذي المصاب يقيننا                                طوباك أنّك في النعيم ممتع

وقال حضرته مؤرخًا وفاته:

خطب أصاب البهائيين في الكبدِ                               مولاهمُ ابن البها قد مات وا كبدي

لقد أضاعوا هداهم حين ما فقدوا                              ذاك الحبيب أبا الأفهام والرشدِ

هذا الذي في الملا عمّت مبادؤه                               حبّ الجميع وحبّ الواحد الأحدِ

لولا بشارة ربّي حينما فُجعوا                                   لكاد يقضي علينا الرزء من كمدِ

فأرخوا قال جبريل لنا أبدًا                                      عباس عبدالبها في جنة الخلدِ

 

1921-131 245 81 8

133 76 39 90 453 665

[1]        أي السجن

شوقي أفندي

لمّا فُتحت وصية عبد البهاء عباس وجد بها أنّه قد اختار من بعده لرئاسة البهائية ابن كريمته ومبعث نوره الغصن الممتاز للشجرة البهائية الكبرى المظلة شوقي أفندي. فهو شريف النسب، عظيم الحسب، عريق الأصل من الجهتين معًا: من جهة اتصاله بجدّه عبد البهاء واتصاله من جهة أبيه بذات (الباب) فهو كوكب البهائية الساطع وليد الشمس والقمر معًا.

أمّا نشأته العالية فقد درج في حجر جده المقدس فتغذّى من روحه وتلقّن من مبادئه السامية حتّى استمدّ من فيض جدّه أيّما استمداد فكان الأَولى والأوحد بعده بتقلّد هذا المكان الروحاني لمباشرة السعي وراء إتمام وإنهاء ما وضع وبسط عبد البهاء.

تلقّى شوقي أفندي العلوم بكلية بيروت وأتمّ الدروس بجامعة أكسفورد فنبغ وتفوّق حتّى جمع في خلقه بين العظمة والعصمة ولا غروّ فهو سليل عبد البهاء وشبل ذاك الأسد الروحاني الذي كرّس حياته لخدمة البشر بالتبشير بمبادئ الفضيلة بينهم وبثّ أصولها في نفوسهم حتّى أثمر الغراس وطاب الجني وأكلت أرواح البهائيين من كلّ فاكهة زوجين ونِعم الختام.

الخاتمة

وإنّي أختم كتابي بمناجاة دبجها يراع الطيب الذكر عبد البهاء عباس سنة 1330 هجرية وهي:

هو الله

إلهي إلهي! قد أحاطت الليلة الدلماء، كلّ الأرجاء، وغطّت سحاب الاحتجاب كلّ الآفاق، واستغرق الأنام في ظلام الأوهام، وخاض الظلام في غمار الجور والعدوان، ما أرى إلاّ وميض النار الحامية، المتسعرة من الهاوية، وما أسمع إلاّ صوت الرعود المدمدم من الآلات الملتهبة الطاغية النارية، وكلّ أقليم ينادي بلسان الخافية (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه).

قد خبت يا إلهي مصابيح الهدى، وتسعّرت نار الجوى، وشاعت العداوة والبغضاء، وذاعت الضغينة والشحناء على وجه الغبراء، فما أرى إلاّ حزبك المظلوم ينادي بأعلى النداء: حيّ على الولاء، حيّ على الوفاء، حيّ على العطاء، حيّ على الهدى، حيّ على الوفاق، حيّ على مشاهدة نور الآفاق، حيّ على الحبّ والفلاح، حيّ على الصلح والصلاح، حيّ على نزع السلاح، حيّ على الاتحاد والنجاح، حيّ على التعاضد والتعاون في سبيل الرشاد.

فهؤلاء المظلومون يفدون كلّ الخلق بالنفوس والأرواح، في كلّ قطر بكلّ سرور وانشراح، تراهم يا إلهي يبكون لبكاء خلقك ويحزنون لحزن بريتك ويترأفون بكلّ الورى، ويتوجعون لمصائب أهل الثرى.

ربّ أنبت أباهر الفلاح في جناحهم حتّى يطيروا إلى أوج نجاحهم، واشدد أزورهم في خدمة خلقك، وقوّ ظهورهم في عبودية عتبة قدسك، إنّك أنت الكريم، إنّك أنت الرحيم، لا إله إلاّ أنت الرحمن الرؤوف القديم. ع ع

(المرحوم ميرزا أبو الفضل الكلپايكاني)

ولد المرحوم العلاّمة ميرزا أبو الفضل سنة 1844 بقرية گلپايگان وهي قرية صغيرة أسستها الأميرة هماي كريمة الملك دارا الأول وهو ينتمي إلى عائلة عريقة في المجد معروفة منذ القدم إلى الآن بتبوء كثير من أهلها لصدر العلم وكان والده المرحوم ميرزا رضا الذي توفي سنة 1871 من نوابغ علماء الشيعة الذين يشار إليهم بالبنان.

ولقد سيّر المرحوم صاحب الترجمة والدهُ في أيام صباه شطر إصفهان فالعراق بنيّة تتميم معارفه لِما بدا عليه منذ نعومة أظفاره من مخايل النجابة وتوقّد الذهن وحِدّة الفؤاد. وقبل أنْ يبلغ الثانية والعشرين من عمره كان قد تضلّع من العلوم العربية بكافة فروعها وكان ذا قدم راسخ فيها ولو أنّها كانت غير لغة قومه وبناء على رغبة المرحوم والده قد تبحّر في درس العلوم الشرعية.

وبالنظر لعلوّ همّته ورغبته الشديدة في الاستزادة من العلوم قد درس على الطبيعة ودرس من العلوم الرياضية الحساب والجبر والهندسة والفلك على الطريقة البطليموسية الشائعة في البلاد الإيرانية وكذلك ألمّ بفلسفة أرسطو والفلسفة الإسلامية العقلية المؤسَّسة على البرهان لا على الدليل النقلي.

ولمّا بلغ هذا المقام من الدراية والعلم سافر في أكتوبر سنة 1873 إلى طهران عاصمة بلاده حيث عيّن بعد وصوله إليها بقليل أستاذًا للغة العربية في كبرى جامعاتها المدعوة بجامعة (حكيم هاشم) وهناك التفّ حوله جمع حافل من الطلبة لاستماع دروسه والاستفادة من معارفه.

وكان قد تعوّد الجلوس بحانوت تاجر يدعى أغا عبدالكريم الإصفهاني بعد الفراغ من إلقاء دروسه في الجامعة وكان هذا التاجر ممن يدينون بالبهائية ويذعنون لتعاليمها.

ولمّا كان المرحوم صاحب الترجمة لبييًا ذكيًا وغير مقيد بقيود الأوهام والأغراض عرض عليه صاحب الحانوت أنْ يعتنق هذا المبدأ الجديد وكان ذلك سنة 1875 وبدأ يناظره ويحاجّه بحذق وبأدلة منطقية أدهشته لأنّه يعلم أنّ هذا التاجر لم يتعلّم في المدارس بل هو من طبقة العوام. ولم يكتفِ هذا الصاحب بنفسه بل سهّل له الاتصال بين صاحب الترجمة وبين حضرة النبيل أعلم علماء قائين والحاج محمد إسماعيل الكاشاني الملقب بالذبيح وأغا ميرزا حيدر علي الأردستاني وغيرهم من علماء البهائية والمطلعين على دقائق تعاليمها. وهؤلاء أتمّوا معه ما بدأ به هذا التاجر من المحاجة والمجادلة الدينية والعلمية حول ثمانية أشهر وبعد هذه المناقشات الطويلة والمجادلات المتعبة وجد المرحوم ميرزا أبو الفضل نفسه غير قادر على دحض أدلّتهم ووجدها منطقية منطبقة على ما تلقّاه من العلوم والمعارف فاعتنقها في شهر سبتمبر سنة 1876.

وممّا أقنعه باعتناق هذا المبدأ ما رواه بنفسه وهو قوله أنّ حوادث عزل وذبح السلطان عبد العزيز سلطان تركيا التي حصلت في شهر مايو سنة 1876 وكذلك كلّ التفصيلات التي حدثت في الحرب الروسية التركية كانت قد قيلت لنا في أوائل شهر أكتوبر سنة 1875 بواسطة الحاج محمد إسماعيل ذبيح وذلك بناء على نبوءات حضرة بهاء الله. وكان معنا إذ ذاك أغا عبدالكريم الإصفهاني وأغا محمد هادي الإصفهاني وأغا ميرزا أحمد الإصفهاني وقد قرأ لنا الحاج ذبيح بعض ألواح حضرة بهاء الله ومن بينها لوح سمندر (وهو خاصّ بأغا الشيخ كاظم القزويني وهو من أكابر مبلغي البهائية في قزوين). وهذا اللوح يحوي تفصيلات دقيقة لكلّ ما وقع للسلطان عبدالعزيز وما وقع في الحرب الروسية العثمانية فقال المرحوم صاحب الترجمة لأغا عبدالكريم الإصفهاني (إذا كان ما كتب عن السلطان عبدالعزيز وعن الحرب الروسية العثمانية سيحصل كما هو مذكور في النبوءة بالضبط فهذا أكبر برهان على صدق حضرة بهاء الله) وصدقه في هذا الأمر يفوق عندي ما أتى به سائر المرسلين من الآيات والمعجزات.

وليس هو وحده الذي سمع بهذه النبوءات بل سمعها يومئذ كلّ طلبة العلم في مدينة طهران لانتشار تلك التعاليم بين النابهين من أهل البلاد رغمًا عن عظيم اضطهادهم والتغالي في سفك دمهم واستئصال شأفتهم. ولم يكن يوجد في طول البلاد وعرضها من يجسر على التلفّظ باسم واحد منهم أو استصواب عمله لئلا يصيبه ما يصيبهم. ولكن بما أنّ صاحب الترجمة كان من العلماء الأجلاّء – ومقام العلم في ايران يقي الإنسان كلّ شرّ وضر- فقد ذكر هذه النبوءات بمزيد الدهشة والاستغراب على مسمع من تلاميذه حين إلقائه لبعض المحاضرات التي كان يلقيها عليهم مع أنّه كان إلى ذلك الوقت لم يعتنق البهائية ولم يظنّ بأنّ أحدًا يفكر أنّ أيّ بهائي يستطيع التغلب عليه في الجدل أو أنْ يتفوقه في المناظرة أو يغيّر عقيدته.

ولمّا أيقن ميرزا أبو الفضل وأذعن لهذا المبدأ الجديد في سنة 1876 لم يستطع أنْ يخفي ايمانه لا سيّما وأنّه كان موصوفًا بالاستقامة معروفًا بالصدق. فأخذ يدلي بالحجج والبراهين لتلاميذه على صحة هذا الأمر فاتّخذ أعداؤه وخصومه ذلك ذريعة للإيقاع به والعمل على إيذائه. وبدأوا يقدحون فيه لدى رجال الدين والقابضين على أزمّة الحكم في مدينة طهران. فشهّر هؤلاء به ثم قُبض عليه أخيرًا في شهر ديسمبر من تلك السنة وكبّل بالحديد وزجّ في أعماق السجون بأمر من نائب السلطنة الپرنس كامران ميرزا ثالث أنجال المرحوم ناصر الدين شاه والذي كان يومئذ حاكمًا لطهران وجيلان ومازندران. ولبث سجينًا نحو خمسة أشهر ونشأ عن ذلك أنْ نُهبت أملاكه التي ورثها عن أبيه، وأخيرًا أطلق سراحه مع فئة من البهائيين الذين سجنوا لا لذنب جنوه سوى إذعانهم لأمر حضرة بهاء الله. وكان إطلاق سراحه بمسعى الحاج ميرزا حسين خان وزير الحربية وقتئذ والملقب بمشير الدولة في الوساطة في فك اعتقالهم. وعندما أطلق سراحه نبّه عليه العلماء بأنْ لا يجاهر بعقيدته ويظهر تصديقه بالبهائية علنًا، فلم يذعن لحكمهم هذا وظلّ يتحمّل من جرّاء ذلك أقسى الاضطهاد ويلاقي من ضروب العذاب وصنوف البلاء شيئًا كثيرًا في سبيل تمسّكه بما كان يراه صوابًا.

ولمّا ضاقت به السبل بعد عزله من وظيفته ومصادرة أملاكه احترف الكتابة ولبث يتعيّش من نفثات يراعه ويسعى لنشر مبادئ البهائية حتّى سنة 1300 هجرية الموافقة لسنة 1882 ميلادية حيث حدثت مصيبة عظمى دوّنت في بطون التواريخ ألا وهي القبض على كلّ بهائي في كافة أنحاء البلاد الإيرانية والقوقازية حيث قد اعتنق هذا المبدأ كثير من أفاضل المسلمين واليهود والزرادشت والنصارى وغيرهم ورفضوا جميعًا أنْ ينكروا عقيدتهم وهم تحت براثن الموت الزؤام مع علمهم بأنّ مجرد انكارهم بألسنتهم يرفع عنهم سوء العذاب.

ولمّا أعيتهم الحيل في أمر هذه الطائفة اتّفق رجال الدين مع رجال السياسة على اضطهاد هذه الطائفة وتشتيت شملها واستئصال شأفتها وذلك بموافقة الپرنس كامران ميرزا. وعليه فقد اتهموهم لدى جلالة الشاه بما هم براء منه وقبضوا على عدد عظيم منهم وكان المرحوم صاحب الترجمة من بين المقبوض عليهم واعتقل شهرًا في بيت الأمير حيث عقدت عدة اجتماعات لتمحيص هذا المبدأ بحضور العلماء والأمير.

وقد بذلت مجهودات عظيمة لتنفير قلب الشاه منهم واستصدار فرمان منه باستئصالهم وذبحهم عن آخرهم ولكن الشاه كان موقنًا ببرائتهم ما داموا خاضعين لأوامر الحكومة ولم يشقّوا عليها عصا الطاعة. ولكنه إرضاء للعلماء أذن بتكبيلهم وإيداعهم غيابات السجن الملوكي وعلى ذلك فقد لبث المرحوم ميرزا أبو الفضل وكثيرون غيره في السجن إثنين وعشرين شهرًا يذوقون مرّ العذاب وفراق الأهل والأحباب. وكان كلّ أربعة وعشرين منهم في غلّ واحد وكان ينالهم يوميًا ما يدبّره لهم أعداؤهم من المكائد حتّى أنّهم كانوا ينتظرون الإعدام بين آن وآخر، وأخيرًا سلّموا الأمر لله بعد أنْ يئسوا من النجاة. على أنّه بعد انقضاء الإثنين والعشرين شهرًا ثبت لدى الشاه براءتهم مما عُزي إليهم فأمر باطلاق سراحهم فأطلقوا. ثم اختار صاحب الترجمة أنْ يعيش في بلدة (قولوهاك) وهي إحدى مصائف مدينة طهران ولبث سبعة أشهر في الدرس والتحبير حتّى قبض عليه أخيرًا للمرة الثالثة بالتهمة المتقدمة ولبث في السجن الحربي ستة أشهر ثم أطلق سراحه في 5 فبراير سنة 1885 فسافر إلى جميع أنحاء إيران وتركيا والقوقاس والتتار وروسيا والصين والكاشكار وسوريا والقطر المصري وغرب أوروپا وأمريكا وفي كلّ مكان حلّ فيه خلّد لنفسه أجمل الذكرى وترك أحسن أثر.

وقد كتب كثيرًا من الكتب القيّمة أذكر منها كتاب الدرر البهية وكتاب الحجج البهية الذي ترجم إلى الإنجليزية وانتشر بين عارفيها انتشار الضياء في الآفاق وكتاب الفرائد وهو كتاب ضخم كتب خصيصًا للرد على كتاب شيخ الإسلام في عشق آباد ضد البهائية فلمّا اطّلع الأخير على كتاب الفرائد كتب مقالًا ضافيًا في كبرى صحف تلك البلاد قال فيه (إنّ مثل أبو الفضل مثل النخل نرميها بالحجارة فترمينا بالثمار الشهية). وعلى كلّ حال فكتبه تشهد له بعلو الكعب في الكتابة الفارسية والعربية كما وأنّ أفاضل هذه البلاد وغيرهم ممن عاشره أو عرفه يعلمون أنّه حجة في التاريخ لا تفوته شاردة ولا واردة فيه إلاّ أحصاها في ذاكرته.

وليس الغرض من كتابة هذه النبذة ذكر فضائل المرحوم صاحب هذه السيرة بل لاظهار ما لقيه من الاضطهاد في سبيل الثبات على مبدئه إذ لا يمكن لعجالة مثل هذه أن تضم بين دفتيها ما عرف به لدى العموم من جليل المرايا الأدبية والفكرية كالشهامة والوداعة والدماثة والجنوح إلى حرية الرأي والاستقلال في فهم الأمور الدينية والغوص في أعماقها.

ولم يزل مصدر إفادة وإرشاد وقدوة حسنة في المبرات والخيرات والاخلاص حتى استأثر الله بروحه في يوم الأربعاء 21 يناير 1914 بمصر القاهرة فأسف لوفاته كل من كان يقصده للاستفادة من بحر معارفه ومن التلذذ بمعاشرته وبحلاوة حديثه وكان ناديه نادي أدب جم وكان يتحدث بمحاسن الناس ويتحاشى بل ولا يسمح لأحد معاشريه بذكر مساوئهم.

محمد توفيق قريب