ظهور حضرة بهاءالله المجلد الثاني
ظهور حضرة بهاءالله المجلد الثاني

ظهور حضرة بهاءالله المجلد الثاني

إلى تلكم النفوس النيّرة من المهاجرين والمبلّغين البهائيين

في أرجاء الأرض الذين أنفقوا حياتهم وكلّ ما لهم

في سبيل حضرة بهاءالله

تعريف

زينت متن هذا الكتاب مقتبسات من آثار حضرة الباب وحضرة بهاءالله ثبتت في “مسرد الكتب والمراجع” و”المصادر” في الصفحات الأخيرة من هذا المجلد. وهناك الكثير من المقتطفات الأخرى بالفارسية جاءت في المخطوطات قمت بترجمتها ما لم أشر إلى غير ذلك. أمّا الحواشي فهي في الغالب صياغتي وقد أشرت إليها منعًا للالتباس. والآيات البينات المقتبسة من القرآن الكريم ثبتت أرقامها كما وردت في الطبعة العربية. وكتبت الأسماء الفارسية والعربية كما وردت في المراجع البهائية، أمّا المقتطفات فقد وضعت كما جاءت في الأصل.

نادرًا ما رغب المؤمنون الأوائل في أن تؤخذ لهم الصور الفوتوغرافية الفردية، ولكن في بعض المناسبات أخذت لهم بعض الصور الجماعية، ومن هذه الصور الجماعية استخرجنا لهذا الكتاب بعض الصور الفردية. وإنني على يقين بأن أهميتها التاريخية تفوق كونها باهتة غير واضحة. وتجدر ملاحظة أن المجلد الأول يحتوي على صور عدد من الأشخاص الذين ذكروا أيضًا في هذا المجلد. وأدين بالامتنان لقسم السمعيات والبصريات في المركز البهائي العالمي لتزويدي بأغلب الصور الفوتوغرافية هذه، وللمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في إيران، وإلى السيد حبيب منوي والسيد إبراهيم خليلي، اللذين قدم كل منهما صورة واحدة. كما تكرمت مكتبة هولتون للصور في إذاعة “راديو تايمز” بتزويدي مشكورة بمنظر لمدينة أدرنة. وأود أن أشكر السيد روح الله شكيبائي للإخراج الممتاز لمعظم الصور المطبوعة في هذا الكتاب.

وأقدم شكري الجزيل للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في إيران ودار الطبع والنشر في كل من لندن وويلمت/ إيلينوي على تعاونهم والسماح لي بالاقتباس من منشوراتهم.

كذلك أرغب في الإعراب عن تقديري العميق للسيدة ماي باليريو (هوفمان سابقًا) وذلك لمجهوداتها التي لم تعرف الكلل في مساعدتي للإسراع بإعداد مسودة الأصل، وتنقيحها البارع؛ وأقدم شكري أيضًا للسيد مارك هوفمان لإعداده الفهرس. وأشكر كذلك السيدة روزماري أومارا لتدقيق وطباعة ما خططتُه بعجالة، بحيث غالبًا ما كان يصعب قراءة الكثير منها أو حتى تفسيرها؛ وأشكر الدكتورة مارگريت ماگيل والسيدة فرانسيس بيرد والآنسة إيثنا إيرلي للمساعدة في طباعة إضافية. أقدم امتناني أيضًا للسيد رستم ثابت، والسيدة سامي سميث، والسيد پادي أومارا للاعتناء بتمحيص النص النهائي عند الطبع.

أخيرًا أسجل امتناني لزوجتي لزلي لمساندتي وتشجيعي باستمرار حيث كنت قد أنجزت هذا المجلد، الذي استغرق إعداده وقتًا طويلاً نظرًا لعدم تيسر وقت كاف لي، خلال ساعات حياتي العائلية بالمنزل.

أديب طاهرزاده

توطئة

ينحو المجلد الثاني هذا من “ظهور حضرة بهاءالله” منحى المجلد الأول. فالهدف هو وصف محتويات بعض كتابات حضرة بهاءالله التي أنزلها في الآستانة وأدرنة. إلاّ أنه وجد من الضروري، لعرض خلفية نزول تلكم الآثار، التعرض بإيجاز لتاريخ حياته وحياة أصحابه خلال الأعوام الخمسة من مكوثه في هاتين المدينتين.

تمتاز ألواح حضرة بهاءالله التي نزلت في أدرنة بطابع خاص من حيث كونها أنزلت بُعيد إعلانه جهرًا عن مقامه وحقيقة دعوته. فغالبًا ما نجده يعرض سلوك أخيه الخائن، ميرزا يحيى، الناقض الأكبر لعهد حضرة الباب، وعند بلوغ الوحي ذروته، يعلن لعموم البشر إشراق فجر يوم الله ويبلّغ ملوك العالم ورؤساءه بظهوره.

بينما يعرض الكاتب في غالبية الأحوال أهم نقاط اللوح موضوع البحث، إلاّ أنه في بعض الحالات تطرق بإسهاب إلى بعض الموضوعات التي تشكّل الحقائق الروحية الأساسية لدين حضرة بهاءالله، كما أنه تعمد، في أحيان أخرى، التوغل في مواضيع أخرى تلقي مزيدًا من الضوء على المقصد الأصل، والتي قد تهم القارئ. تجدر التوصية هنا بأن يرجع القارئ للاطلاع على المجلد الأول من هذا المؤلَّف قبل الولوج في هذا ليتزود بفائدة استمرارية الموضوع وشمولية أعمق لتفاصيله.

إن دراسة ألواح حضرة بهاءالله ليست كدراسة مؤلَّف من المؤلفات الأدبية العادية، مهما بلغ هذا من عمق أو رفعة. ذلك لأن اللوح إنما هو مخزن كلمة الله، ولأجل تقديره حق قدره ينبغي لدارسه أن يحمل قلبًا صافي الفطرة، ونفسًا متجردة من حجبات العلوم المكتسبة. يخاطب حضرة بهاءالله أهل العالم: “يا عبادي إن مثل ظهور قدس أحديتي مثل البحر الذي سُتر في قعره وعمقه لئالئ لطيفة منيرة لا تُحصى، فعلى الطالب إذًا بذل الجهد والطلب للوصول إلى شاطئ ذاك البحر ليأخذ نصيبه المقدّر في الألواح المختومة المكنونة على قدر طلبه وجهده.”

ما كان لمؤلف الكتاب، وهو يؤلفه، إلاّ أن يتمعن فقط في سطح هذا البحر الأعظم لا غير.

توضيح

تم استخراج النصوص الأصلية العربية المتوفرة (وهي مطبوعة بخط عريض) بما فيها آيات القرآن الكريم والكتاب المقدس والأحاديث النبوية الشريفة. أمّا النصوص الفارسية فقد عربت من الأصل الفارسي مباشرة عندما لم يتوفر تعريب لها في الكتب الأمرية، ويشار إلى أرقام تلك المقتطفات في الحاشية أدناه([1]) مع رقم الفصل بين قوسين. وقد تم نقل النصوص والمقتطفات المتوفرة في المصادر المذكورة في بند “مسرد الكتب والمراجع” كما وردت دون تعديل يذكر.

تم الالتزام بتعريب متن الكتاب ونقل المقتطفات كما وردت في الطبعة الإنگليزية الأصلية، عدا بعض المواقع، عندما وجد أن ذلك يتناسب مع السياق.

وفي متن الكتاب تشير الأرقام الصغيرة (مرتفعة قليلاَ)، إلى الحواشي المبينة في أسفل الصفحة تحت خط. أمّا الأرقام الكبيرة في قوسين فتشير إلى المصادر والمراجع المقتبسة.

ونشير هنا إلى أن بعض النصوص من “سورة الملوك” في كتاب “ألواح حضرة بهاءالله إلى الملوك والرؤساء” تختلف قليلاً عن تلك التي ستصدر في كتاب “نداءات رب الجنود” بمعرفة المركز البهائي العالمي. ولكن أبقينا أرقام الصفحات لتلك المقتطفات في بند “المصادر” كما وردت في الكتاب الأول.

 

([1])  4 (1)؛ 13، 18 (2)؛ 11، 19، 23 (4)؛ 8، 18 (5)؛ 2، 7، 9، 10، 12، 13، 16، 17 (6)؛ 16 (8)؛ 2، 7 (10)؛ 6، 9، 10، 11، 29 (11)؛ 2، 3، 4 (12)؛ 10 (15)؛ 2، 19 (16)؛ 2، 20 (19).

كلمة الناشر

يسرنا أن نضع بين أيدي القراء الأعزاء الترجمة العربية للمجلد الثاني من كتاب “ظهور حضرة بهاءالله” لمؤلفه المغفور له السيد أديب طاهرزاده، وعرّبه المغفور له السيد فؤاد عبد الرزاق الذي وافته المنية قبل أن يصدر هذا المجلد الحالي. قام منسق تراجم مؤلفات السيد طاهرزاده بتدقيق وتنقيح الترجمة العربية وطباعتها واستخراج النصوص الأصلية، وعرّب بعض النصوص الفارسية التي لم تتوفر ترجمتها إلى العربية، ثم قام بإعداد الفهرس وتهيئة المجلد للطبع. ونود أن نشكر هنا كل من الأستاذ مصطفى صبري والأستاذة صباح الطحان لجهودهما الخيّرة في مراجعة اللغة العربية.

﴿ 1 ﴾ حضرة بهاءالله في الآستانة

قد تُعتبر فترة الأعوام الخمسة التي قضاها حضرة بهاءالله في الآستانة وأدرنة زاخرة بالأحداث الجسام أكثر من غيرها من فترات ولايته. ففي هذه الفترة القصيرة اعتلت شمس وحيه ذروة أبراجها، وأشعّت من بهاء ذاك المقام بأنوارها على البشرية بأسرها. في الوقت ذاته كانت هذه أشد الفترات اضطرابًا بما تحمّل فيها، بدرجة عالية من التسليم والثبات، الآلام والغدر والمصائب التي صبّها عليه أخوه الغادر ميرزا يحيى الذي نقض عهد حضرة الباب وقام شاهرًا سيف العصيان ضد مظلوم العالم.

كان وصول حضرة بهاءالله إلى الآستانة، عاصمة الإمبراطورية العثمانية، في 16 آب عام 1863م، مَعلمًا بارزًا من معالم تفتّح بعثته. فخلال إقامته القصيرة فيها ونتيجة للمكائد وتشويه الحقائق التي قام بها الحاج ميرزا حسين خان، مشير الدولة، سفير إيران، تحوّل موقف السلطات إلى عداء بعد أن تميّز قبل ذلك بشيء من الاسترضاء. كما أن الفترة الحافلة بالأحداث ذاتها شهدت أوائل مرحلة إبلاغ دعوة حضرة بهاءالله العلني لملوك العالم ورؤسائه وذلك في اللوح الذي أنزله موجّهًا للسلطان عبد العزيز ووزرائه وزجرهم فيه بحزم بما فعلوه مع أمر الله الناشئ وزعيمه.

ربما نفر قليل جدًا من أحبائه آنذاك أدرك بالبصيرة أن ذلك النفي لم يكن إلاّ حلقة أخرى من الإبعاد إلى الأرض المقدسة حيث، طبقًا للنبوءات، سيُظهِر رب الجنود، الآب الأبدي، مجده للبشر. فقد سبق وتنبّأ ميخا، نبي إسرائيل، منذ نحو ثلاثة آلاف سنة بظهور الرب بهذه الكلمات:

“يوم يأتي إليك من أشور ومدن مصر ومن مصر إلى النهر. ومن البحر إلى البحر. ومن الجبل إلى الجبل.”(1)

كم تحقّق صدق تلك النبوءة ودقّتها بنحو مدهش! فجاء حضرة بهاءالله من أشور، وكل من الآستانة وعكاء مدينة محصنة، والأخيرة قلعة، كما أنه ركب البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط وانتقل من جبال كردستان إلى جبل الكرمل.

ويشير عاموس، نبي آخر من أنبياء بني إسرائيل، إلى حضرة بهاءالله في الآستانة أيضًا بقوله:

“فإنه هو ذا الذي صنع الجبال وخلق الريح وأخبر الإنسان ما هو فكره الذي يجعل الفجر ظلامًا ويمشي على مشارف الأرض يهوه إله الجنود اسمه.“(2)

في أحد ألواحه النازلة في عكاء يصرّح حضرة بهاءالله بأن هذه النبوءة تشير إليه، وأنها تخصّ سنة ثمانين (1280ﻫ / 1863م)، وأن “مشارف الأرض” هي الآستانة والأرض المقدسة (جبل الكرمل). كما يضيف شارحًا بأن بسلطنته القاهرة أظلم الصبح، مشيرًا بذلك إلى غلبته على ميرزا يحيى الذي كان لقبه “صبح الأزل” حيث انكشف بطلان صبحه وأظلم تمامًا.(3)

وصل حضرة بهاءالله إلى الآستانة في جلال مبين، حيث استقبلته السلطات بتكريم عظيم عندما نزل من السفينة. ثم نُقل وكافة أفراد عائلته إلى منزل شمسي بيك، وهو موظف كان في استقباله في الميناء كلفته الحكومة برعاية ضيوفها. أمّا أصحابه فأسكنوا في أماكن أخرى من المدينة.

لكن سرعان ما تبيّن أن منزل شمسي بيك، المكوّن من طابقين والكائن قرب مسجد “خرقة شريف”، أصغر من أن يكون لائقًا لحضرة بهاءالله، فنقل بعد فترة قصيرة إلى منزل ويسي باشا، وهو مبنى من ثلاثة طوابق أرحب من المنزل الأول ويقع قرب مسجد السلطان محمد. لم يعد اليوم أي من هذين المنزلين على شكله الأصلي.

مثل غيره من المنازل في تلك الفترة، كان منزل ويسي باشا يتألف من قسم داخلي وآخر خارجي، يتكون كل منهما من ثلاثة طوابق. سكن حضرة بهاءالله في الطابق الأول من القسم الداخلي، بينما شغلت عائلته ما تبقّى. أمّا القسم الخارجي فقد أقام حضرة عبدالبهاء في الطابق الأول منه، بينما سكن بقية الأصحاب المؤمنين في الطابق الثاني، وجُعل الطابق الثالث مخزنًا ومطبخًا.

في صباح كل يوم كان شمسي بيك يأتي، نيابة عن الحكومة، ليرعى شؤون حضرة بهاءالله وأصحابه ويلبي احتياجاتهم ويطمئن على راحتهم. ونصبت في صحن المنزل خيمة لخادمَين مسيحيين أرسلتهما الحكومة للقيام بمهمة التسوق وغير ذلك من الواجبات.

حضر العديد من رجال الدولة البارزين، بمن فيهم الوزراء، لزيارة حضرة بهاءالله وأداء فروض الاحترام له. من بين أولئك كان رئيس وزراء سابق هو كمال باشا (الصدر الأعظم)، وحينذاك كان أحد وزراء السلطان. وكان يجيد عدة لغات ويفتخر بمقدرته تلك. تعليقًا على ذلك يذكر حضرة بهاءالله إحدى محاوراته معه:

“زار كمال باشا هذا المظلوم يومًا في الآستانة ودار حديثنا حول أمور تعود بالمنفعة على الإنسان. عندما ذكر بأنه يعرف عدة لغات أجبناه بقولنا: لقد ضيّعت عمرك، وكان الأجدر بك وبقية موظفي الدولة أن تجتمعوا وتختاروا في ذلك المجلس إحدى اللغات المختلفة، وكذلك خطًا من الخطوط الموجودة أو أن تبتكروا لغة جديدة وخطًا من الخطوط يدرّسان للأطفال في كل مدارس العالم. وبهذه الصورة يتعلمون لغتين إحداهما لغة الوطن، والأخرى اللغة التي يتكلم بها عموم أهل العالم. فلو تمسّك الناس وعملوا بما ذكرنا لتشاهد الأرض كلها كبلد واحد، ولوفّروا على أنفسهم عناء تعلّم اللغات المختلفة وتعليمها. أثناء وجوده بمحضرنا أبدى قبوله بذلك، بل أظهر فرحًا وسرورًا عظيمين. بعد ذلك أخبرْنا حضرته بأن يعرض الموضوع نفسه لدى موظفي الدولة ووزرائها حتى يجري حكمه في الممالك المختلفة. إلاّ أنه رغم زياراته المتكررة لنا فيما بعد من وقت لآخر لم يذكر قطّ هذا الموضوع، ولو أن ما اقتُرِح هو سبب اتحاد أهل العالم واتفاقهم.”(4)

توقّع الكثير من رجال السلطة البارزين ممن زاروا حضرة بهاءالله أن يقوم باستدرار عونهم وتوسّطهم لضمان تأييد الحكومة لنفسه ولدعوته، إلاّ أنهم سرعان ما اكتشفوا بأنه أبعد من أن يداهن القوم وفق الممارسات الجارية بينهم. وأن معاييره أسمى من مفاهيم السياسة البشرية والتي تستند على المصلحة الشخصية، وغالبًا ما تعتمد على الخديعة والنفعية الأنانية. كما وعت السلطات بما لديه من القوى الروحية الموهوبة من الله، وأُعجبوا باستقامته ووقاره. حتى أن بعضهم راحوا يلحّون راجين منه أن يطلب من السلطان إجراء تحقيق دقيق وعادل من أجل إزالة أي ريب قد علق بأذهان السلطان ووزرائه.

لكن قيل بأن حضرة بهاءالله أجاب على ذلك بقوله المبارك:

“لو كان القادة المتنورون (في بلدكم) يلتزمون الحكمة والجدّ فإنهم بلا شك سيتحرون الأمر ويطّلعون بأنفسهم على حقيقة الحال، وإلاّ فإن حصولهم على الحقيقة أمر ممتنع محال. وما دام الحال كذلك فما فائدة ترجّي الساسة والتماس الوزراء؟ إنّا خالون من أي قلق، ومستعدون ومتأهبون لما هو مقدّر لنا. قل كل من عند الله لهو برهان كاف وواف، وإن يمسّك الله بضرٍّ فلا كاشف له إلاّ هو لدواء ناجع”.(5)

في أحد ألواحه التي نزلت بعد وصوله إلى الأستانة بفترة قصيرة، يبدي حضرة بهاءالله تأسّفه على حال من قابلهم من أهاليها، مشيرًا إلى أن ترحيبهم به لم يعدُ كونه مجاملة رسمية، وبأنه وجدهم كالثلج ببرودتهم وبلا حياة كأنهم أشجار يابسة.(6) ففي “سورة الملوك” وفي فقرة يخاطب فيها سكان الآستانة يذكر حضرة بهاءالله أنه وجد رؤساءها “كالأطفال الذين يجتمعون على الطين” ثم يضيف هذه العبارات:

“وما وجدنا منهم من بالغ لنعلّمه ما علّمني الله ونلقي عليه من كلمات حكمة منيع. ولذا بكينا عليهم بعيون السرّ لارتكابهم بما نُهوا عنه وإغفالهم عمّا خُلقوا له وهذا ما أشهدناه في المدينة وأثبتناه في الكتاب ليكون تذكرةً لهم وذكرى للآخرين.”(7)

أما أصحاب حضرته، عشّاق بهائه المخلصين الذين سافروا معه إلى الآستانة، فقد منحوا شرف زيارة محضره من حين لآخر. كان عددهم أربعة وخمسين بمن فيهم آل بيته طبقًا لقائمة(8) تحمل ختم حضرته([1]) والتي يفترض أن تكون قد نظّمت بتوجيه منه إعدادًا لأسماء من سيرافقونه إلى الآستانة، لتقديمها للسلطات ببغداد. من أولئك مات طفل، بينما التحق بركبه أثناء السفر اثنان على الأقل من بينهم ميرزا يحيى.

اشتملت القائمة على الآتي:

ميرزا حسين علي (بهاءالله) 1؛ ابنه الأكبر 1؛ أخوة 2؛ من نساء آل بيته 12([2])؛ أطفال من مختلف الأعمار 12 (توفي أحدهم)؛ خدم 2([3])؛ آخرين مع بغالهم (ليعودوا فيما بعد) 7؛ خيول 6.

تجدر الإشارة إلى أن حضرة بهاءالله امتطى جوادًا عربيًا كميت اللون، لفترات معينة من الرحلة. بينما قضى معظمها داخل هودج بصحبة حرمه آسية خانم.([4]) قام حضرة عبدالبهاء بإدارة شؤون القافلة برمّتها وأشرف على واجبات من كُلفوا بمهام معينة. وتسهيلاً لتنفيذ دوره ذاك فإنه غالبًا ما كان يمتطي جواد حضرة بهاءالله ليكون على اتصال مع المجموعة كلها. عند الاقتراب من أي مدينة بمسافة ساعة تقريبًا، كان يأتي بالجواد لحضرة بهاءالله ليدخل المدينة راكبًا، بينما يحلّ هو مكانه في الهودج، وعند خروج القافلة من المدينة يقوم بالترتيبات هذه نفسها.

([1])       استعمل حضرته ختم اسمه (حسين علي) لأغراض المعاملات الرسمية.

([2])       من ضمنهم زوجات إخوانه بمن فيهم ميرزا يحيى.

([3])       بمن فيهم أصحابه.

([4])       انظر المجلد الأول، الصفحة 16.

"لوح الهودج"

في عدّة مناسبات حذّر حضرة بهاءالله أصحابه من المصير الذي ينتظرهم والبلايا التي سترد عليهم في المستقبل. ففي “لوح الهودج” المنزل في ميناء صامصون في الطريق صوب الآستانة تنبّأ بأفدح المصائب. أنزل ذاك اللوح بالعربية استجابة لالتماس كاتب وحيه ميرزا آقا جان، حال وقوع نظر حضرته على البحر الأسود من داخل الهودج. كان ذلك، حسب ما علم حتى الآن، أول لوح نزل منذ غادر حضرته بغداد. وفيه يشير إلى رحلة البحر القادمة ويذكر فيه كيف أنه سبق الإشارة إليها في “لوح ملاح القدس”. بذلك يربط بين اللوحين مبيّنًا بأن دراستهما من شأنها إطلاع المؤمنين على أسرار أمر الله، ويقوى بهما إيمانهم. زاد مؤكدًا عليهم بأن تنبؤات “لوح ملاح القدس” لا بد وأن تتحقّق، كما أن “عذاب فتنة عظيم” سيحيق بهم من كل صوب ليكون بمثابة محكّ إلهي يمحّص من خلاله إيمان كل واحد تمحيصًا شديدًا ويفرق بين الحق والباطل.

أغلب الاحتمال أن قليلاً من بين أصحابه فطنوا بأن تلك “الفتنة العظيمة” ستنبع من الأخ غير الشقيق لحضرة بهاءالله، ميرزا يحيى، وينجم عنها أزمة ذات أبعاد خطيرة داخل الجامعة، أو أنه -ميرزا يحيى- سيصبح رمزًا مجسدًا لتمرّد الإنسان، وقطبًا لكل قوى الظلام، والذي سيقوم على محاربة أنوار المظهر الكلي الإلهي.

لقد تعرّض أصحاب حضرة بهاءالله، بحكم قربهم من شخصه، لأقصى الامتحان في خلوص إيمانهم ذلك لأن من يتصل بمن تجسد فيه روح الله، وأصبح بؤرة أنوار صفاته واقتداره، فإنه ينبغي أن يتحلًى بأسمى درجات الإيمان والانقطاع([1]) وأيّ أثر للأنانية -لدى ذلك الشخص- قد يقضي على روح المؤمن. ناحية أخرى لذلك الاتصال تتعلق بالكيفية التي أثرّ فيها جلال حضرة بهاءالله المذهل فيمن التقى به. فعلائم السلطة التي كانت تبدو عليه، ونورانية طلعته والقوة المغناطيسية التي كانت تتميّز بها عيناه، بالإضافة إلى محبّته وعطفه اللذين أحاطا بكل الكائنات، كل ذلك كان له أثر مهيمن لكن بالوقت نفسه له تأثير من النشوة والسلوان لدى نفوس أتباعه بحيث عرجت بهم إلى عوالم الروح.

كان الحاج ميرزا حيدر علي من إصفهان([2]) من أخلص أتباع حضرة بهاءالله وحظي بشرف محضره مرات عديدة في كل من أدرنة وعكاء، وقد ترك بعض الأوصاف من ملاحظاته الشخصية والتي تلقي ضوءًا على هذه الناحية. يشير إلى ما كان يحدثه محضر حضرة بهاءالله في نفوس المؤمنين من أتباعه، بقوله:

من المستحيل وصف تجربة روحانية. فمثلاً قد يجتمع شخصان أو أزيد معًا في محضر حضرة بهاءالله، لكن كلاّ منهما، لدى غمرة العطف والرأفة والرحمة الرحمانية الربانية، يشعر بأن تلك العطايا كانت موجّهة إليه وحده دون الآخرين بحيث يودّ أن يعلن ’إنه ربّي‘. ولو أن جميعهم كانوا في محضره المبارك، وأن خطابه لم يوجه لشخص واحد، إلاّ أن أثر كلماته النافذة في عروق وشريان وقلب ووجدان كل واحد منهم يجعله يحسّ كما لو كان هو المقصود والمخاطب مما يبعث في أعماقه مشاعر روحانية يستحيل وصفها للآخرين. أخيرًا كل ما يمكن أن يقوله المؤمن لصاحبه هو: ’كنتُ في نشوة وحالة هيام‘. أمّا صاحبه، فقد يكون ملمًّا بتجربة مماثلة، فسيقدّر ذاك الإحساس تبعًا لدرجة استعداده… أعني بأن كل ما يمتّ بِصلة إلى الوجدانيات والروحانيات والنورانيات والرحمانيات وما ينسب إلى الإلهيات منزه عن الجسمانيات والطبيعيات والأمكنة والأزمنة والأعراض والماهيّات. مثلاً ما من أحد يمكنه شرح مراتب البلوغ والمدارك والمشاعر لدى شخص بالغ، لا يمكنه شرح ذلك لطفل لم يبلغ الرشد، رغم أن هذه تتعلّق بعالم الطبيعة. لأن الطفل لم يكتسب بعد قابلية الإدراك. فكم يصعب إذًا شرح أمور روحية، أو حالة الإنسان المعنوية.

فإذا ما استطاع شخص، بعناية الله ومطالع أمره وتوفيقات الله وتأييداته وإمداداته أن يكتسب الحس الروحي الباطني (نتيجة التشرف بمحضر حضرة بهاءالله)، ويدع هذا يتغلغل إلى بواطن الروح، شريطة ألاّ تمر خلاله كوميض عابر أو خيال موهوم، بل ينساب إلى صميم كيانه، فإن فوزًا كهذا من شأنه أن يفتح الطريق من جميع الجهات إلى الترقيات والصعود بمعارج الروحانيات شريطة ألاّ تمتزج معه نزعات تمجيد الذات والأنانية…

مقصد الحديث هو أنه يستحيل وصف إفاضات مكلم الطور([3]) أو تجليات أنوار ظهوره…(9)

وفيما يخصّ قوة حضرة بهاءالله وسلطنته يكتب الحاج ميرزا حيدر علي ما يلي:

طلب أحد أتباع أزل([4]) مرةً من المرحوم الحاج السيد جواد الكربلائي([5])…، من أوائل المؤمنين وأحد مرايا الدورة البابية، أن يصف طلعة حضرة الباب… وجمال محيّاه. قال: ’جميلاً مليحًا لا يُضاهى، رأيت فيه كل ما عُرف ونُسب إلى يوسف من طيبة وحُسن.‘

لكن لمّا كان السائل أزليًا وبعض الأزليين حاضرين، شعرت أنه قد يفهم هؤلاء من عبارة المرحوم الحاج السيد جواد بأن الأخير نفسه كان أيضًا من أتباع أزل. لذلك سألته أن يحدّثنا عن حُسن وجمال من سجد لساحة قدسه([6]) ملكوت الجمال وهلّل بفناء بابه جبروت العظمة والجلال. فأجاب: ’اعلم علم اليقين بأن أي شخص، سواء من الأحباء أو الأعداء، يدّعي بأنه تمكّن من النظر إلى الوجه المبارك مباشرة فإنه كاذب. فقد جربت أنا ذلك محاولاً مرةً بعد أخرى لكني لم أتمكّن من ذلك لأنه عندما يتشرّف المرء في بعض الأوقات بالمحضر المبارك، يجد نفسه والهًا متحيرًا منجذبًا بحيث يصبح كالمصعوق المدهوش من الخشية والخشوع ناسيًا نفسه والدنيا. وإن لم يكن المرء منجرفًا بتلك الحال، ثم يحاول عامدًا النظر لوجهه المبارك بشيء من التركيز، فسيكون كما لو نظر إلى الشمس. تمامًا كما تبهر الشمس بشعاعها عين الناظر فتنهمر منها الدموع، كذلك يحدث لمن يلحّ بالنظر في طلعة الجمال المبارك،([7]) وتسيل من عينيه الدموع بحيث يستحيل معها تشخيص ملامحه.‘

لقد مررت بهذه التجربة شخصيًا. ففي أثناء الأشهر السبعة التي قضيتها في أدرنة، حصل لي من الوله والانبهار (متأثرًا بمحضره) ما أنساني تمامًا شؤون نفسي بل وكلّ الدنيا، ثم بعد ذلك بأربعة أو خمسة عشر عامًا وصلت إلى البقعة المباركة النوراء، مطاف الملأ الأعلى،([8]) طور تجلّي موسى، أرض عكاء المقدسة. وتشرّفت بمحضر حضرة بهاءالله طيلة ثلاثة أشهر. كنت خلالها أريد التعرف على لون التاج([9]) المبارك الذي كان يلبسه، ولكنني في كل مرة أمثل في محضره كنت أنسى التفكير بذلك، حتى في يوم من الأيام شرّف بمحضره المنوّر المعطّر حديقة الرضوان([10]) بقدميه المباركتين. حينذاك سجدَت للرضوان حقائقُ جنان الفردوس الموعود في الغيب والشهود. كان وقتها يتناول وجبة غداء داخل غرفة، ما زال الزوار يؤمّونها، حيث وُضع فيها سرير وكرسي وبعض الأشياء الخاصة التي استعملها. وقف بداخلها شخصان أو ثلاثة بينما انتظر آخرون خارجها. كانوا جميعهم مسحورين بجماله اللامثال ذي العظمة والجلال. عندئذ فقط تمكّنت من رؤية التاج… إذ كنت أقف خلف جماعة من الأحباب والأصحاب… كان لونه أخضرًا.(10)

وفي مذكرات الحاج محمد طاهر المالميري([11]) نجد وصفًا آخر للطلعة الباهرة البهية لحضرة بهاءالله، وذلك حينما زار الحاج عكاء حوالي عام 1878م. وقد بقي هناك تسعة أشهر سُمح له فيها التشرّف بالمحضر المبارك بين يوم وآخر. أثناء تلك اللقاءات كان يتمنّى رؤية وجه حضرة بهاءالله والتمعن بمحياه، لكنه في كل مرة كان يجد نفسه مغمورًا بسحر جماله ومسحورًا ببيانه، حتى حصل يومًا أن وقعت عينه على وجه حضرته. فيما يلي ترجمة كلماته:

في أحد الأيام نلت شرف محضر الجمال المبارك حيث تلطّف وأمرني بالجلوس. وعندما جلست خاطب حضرته خادم الله([12]) قائلاً: ’احضر الشاي لآقا طاهر.‘ أتاني خادم الله بقدح الشاي وسلّمه لي. بينما كنت أتناوله بيدي وقع نظري على وجه الجمال المبارك وغبت للتوّ عن الوعي إذ شخصت عيناي ولم أستطع تحويلهما عن جمال طلعته الفائق. عندئذ تفضل مخاطبًا إياي: ’انظر ماذا فعلت! فقد سكبتَ الشاي على عباءتك ولوّثتها. عليك أن تعتني بعبائتك هذه لأنها ستكون رداءك الوحيد أثناء عودتك إلى إيران. نحن أيضًا كان لنا كساء واحد وآخر داخلي خلال رحلتنا في السليمانية.‘([13]) فأدركت من كلمات الجمال المبارك تلك بأنه لم يكن بيدي سوى الصحن إذ كان القدح قد سقط ساكبًا الشاي فوق عباءتي ونضح إلى ملابسي دون أن أشعر به على الإطلاق([14]).(11)

يروي الحاج ميرزا حيدر علي، الذي أشرنا إليه سابقًا، قصة موجزة يصف فيها ردّ فعل بعض موظفي الحكومة في عكاء عندما شاهدوا حضرة بهاءالله لأول مرة. يروي في كتابه “بهجة الصدور” ما يلي:

… في أحد أيام عيد الرضوان، أقيم احتفال في منزل حضرة الكليم([15]) حيث كنتُ مقيمًا في القسم الخارجي([16]) منه. وشغل بعض أقسامه أناس غير بهائيين، فأحدها كان مسكونًا من قبل شخص يحمل لقب بيك أو باشا والذي وصل لعكاء بوظيفة رئيس الجمارك والمكوس.

في عصر أول أيام الرضوان شرّف حضرة بهاءالله من حرم الدار الداخلي إلى القسم الذي جلس فيه رئيس الجمارك وموظفوه. وحالما وصل نهضوا قائمين تلقائيًا خلافًا لعاداتهم وانحنوا. وبقوا كذلك واقفين مبهورين. توجّه حضرته إليهم بعناياته وعطفه وخاطبهم بكلمات اللطف والمحبة مما زادهم سحرًا. ولما عاد حضرته إلى حرم الدار سأل المسؤولُ، وهو ما زال متحيرًا شارد الذهن: ’من يكون هذا الشخص السامي؟ هل هو روح القدس أم هو ملك الملوك؟‘ كان جوابنا: ’إنه والد عباس أفندي.‘(12)

تقدّم هذه الروايات انطباعًا بسيطًا عن هالة المجد والجلال المذهل الذي كان يشعّ من حضرة بهاءالله، وربما يفسر في الوقت ذاته سرّ عجز أتباعه عن كتابة وصف تصويري له. وبذلك يبقى المستشرق إدوارد گرانڤيل براون، الذي لم يكن بهائيًا، هو صاحب الصورة القلمية الوحيدة لدينا. فبهذه الكيفية وصف زيارته لقصر البهجة سنة 1890م حينما التقى بحضرة بهاءالله:

… انتظر دليلي لحظة من الزمن ريثما خلعت حذائي، وبحركة سريعة من يده سحب ستارة، وبمروري من الباب أعادها، فوجدت نفسي في غرفة كبيرة، في صدرها امتدّت أريكة منخفضة، ووُضع في مقابل الباب كرسيان أو ثلاثة كراسي. وإن كنتُ متصورًا تصورًا مبهمًا المكان الذي أنا ذاهب إليه، ومَن أنا قادم لرؤيته، إذ لم تعط لي إيماءة واضحة حول ذلك، إلاّ أنه قد مرت ثانية أو ثانيتان من الزمن، وأخذتني الرهبة والذهول، قبل أن أعرف معرفة تامة بوجود من فيها، وحانت مني إلتفاتة إلى الركن، وحيث تلتقي الأريكة بالجدار، كان يجلس هيكل عظيم، تعلوه المهابة والوقار، وتتوّج رأسه قلنسوة من الصوف، من النوع المسمّى عند الدراويش ﺒ”التاج”، تمتاز بطولها، وحول أسفل التاج عمامة بيضاء صغيرة. وإنما الوجه الذي رأيته، لا أنساه ولا يمكنني وصفه، مع تلك العيون البرّاقة النافذة التي تقرأ روح الشخص، وتعلو جبينه الوضّاح العريض القدرة والجلال، بينما أسارير وجهه وجبهته تنمّ عن عمر لا يصدقه الشعر الأسود القاتم، مع لحية كانت تتماوج بوفرة مألوفة لغاية وسطه، فلم أكن إذ ذاك في حاجة للسؤال عن الشخص الذي امتثلت في محضره، ووجدت نفسي منحنيًا، أمام من هو محطّ الولاء والمحبة التي يحسده عليها الملوك، وتتحسّر لنوالها عبثًا الأباطرة!

وسمعت صوتًا هادئًا جليلاً يأمرني بالجلوس، ثم استمر يقول: ’الحمد لله إذ وصلتَ!… جئتَ لترى مسجونًا ومنفيًا… نحن لا نريد إلاّ إصلاح العالم وسعادة الأمم، وهم مع ذلك، يعتبروننا مثيرين للفتنة والعصيان، ومستحقّين للحبس والنفي… فأيّ ضرر في أن يتّحد العالم على دين واحد وأن يكون الجميع إخوانًا، وأن تستحكم روابط المحبة والاتحاد بين بني البشر، وأن تزول الاختلافات الدينية وتُمحى الاختلافات العرقية؟… ولا بد من حصول هذا كله، فستنقضي هذه الحروب المدمرة والمشاحنات العقيمة، وسيأتي “الصلح الأعظم”… ألستم تحتاجون إلى ذلك في أوروپا أيضًا؟ أليس ذلك ما تنبّأ به السيد المسيح؟… ومع ذلك فإنّا نرى ملوككم وحكّامكم ينفقون خزائنهم على وسائل تدمير الجنس البشري، بدلاً من إنفاقها على ما يؤدّي إلى سعادته… ولا بد من زوال هذه المشاحنات والبغضاء وهذا السفك للدماء وهذا الاختلاف، حتى يكون جميع الناس جنسًا واحدًا وأسرة واحدة… فلا يفتخر الإنسان أنه يحب وطنه، بل يفتخر بأنه يحب جنسه…‘

هذه كانت على ما أتذكر بعض الكلمات التي سمعتها من بهاءالله مع غيرها من الكلمات، فلينظر الذين يقرؤونها، وليحكموا بأنفسهم هل هذه الآراء تستحق القتل والسجن؟ وهل ينتفع العالم بانتشارها أم يخسر؟(13) فيما يخص أولئك الذين رافقوا حضرة بهاءالله إلى الآستانة، نحن على علم بأن قلوب القليل منهم لم تكن طاهرة. وقد أبقى حضرته أولئك الرجال ضمن جماعة أصحابه ضمانًا للضبط والسيطرة على خبثهم. أمّا الذين فازوا، بفضل الله بنعمة التسليم التام لمشيئة المظهر الإلهي، منقطعين عن كل الأهواء، ثابتين على أمره وأظهروا منتهى الإخلاص والتواضع فإنهم وحدهم يستحقون أن يُدعوا أصحابه.

هؤلاء سوف تعترف الإنسانية بمقامهم في العصور القادمة، عندما يتم الاعتراف بمقام حضرة بهاءالله بنحو كامل، ويُنظر لتلك الأمثلة الحية التي تجسدت فيها روح الإيقان والانقطاع بمشاعر التبجيل والامتنان. ذلك لأن من خلال عمق إيمانهم وحبهم استحقوا نعمة الله وعطاياه نيابة عن البشر كافة. ولولا خلوصهم ونكرانهم التام لذواتهم في وجه الامتحانات والبلايا، لكان موقف البشر موقف نكران وجحود إزاء خالقهم من شأنه تأجيل تأسيس ملكوته الموعود في أرضه.

أولئك الحواريون، وكثير منهم استشهدوا في سبيل حضرة بهاءالله، كانوا ثمرات ظهور حضرة الباب. فهو الذي خلقهم خصيصًا لهذا اليوم. بل إن دعوة حضرة الباب لم يكن هدفها سوى إعداد أتباعه لكي يكونوا لائقين للقاء حضرة بهاءالله.

في إحدى كتاباته(14) صرّح حضرة الباب بأنه حين يوجد من هو مستعد وقابل لفهم الظهور التالي لظهوره، فإن الله يظهر نفسه ويكشف أمره دون آن من التأخير. وضرب حضرة الباب مثلاً لذلك بظهور نفسه مؤكدًا أنه لو أن الملاّ حسين، أول المؤمنين به، كان مستعدًا للاعتراف بدعوته قبل إعلانها بلحظات لقدّم ذلك الإعلان.

إن من اختصّه الله بأعظم مقدرة لفهم ظهور حضرة بهاءالله كان ابنه الأرشد حضرة عبدالبهاء، الذي عرف مقام والده تلقائيًا وهو في التاسعة من العمر. فبعد وصوله العراق بقليل كشف حضرة بهاءالله عن الرسالة التي أوحى بها الله إليه إلى حضرة عبدالبهاء الذي أقرّ توًّا بأحقية أمره، وسجد عند قدميه متوسلاً بكل تواضع ولهفة عسى أن يفوز بفخر الفداء في سبيل والده.

إن أحداثًا جسامًا كهذه لا تتأتّى جزافًا. فيد الغيب الإلهي كانت تعمل على خلق الوسائل لظهور نفسه للبشر. فلم يكتفِ بظهور حضرة الباب فقط للإعداد وتمهيد السبيل لمجيء حضرة بهاءالله بل خلق أيضًا حضرة عبدالبهاء خصيصًا من أجل تقبّل ظهور حضرة بهاءالله نيابة عن البشرية. كم هو ذو مغزى أن يولد حضرة عبدالبهاء، الذي قدّر له أن يكون أداة وأيّة أداة لظهور متعال كهذا، في الليلة نفسها التي أعلن حضرة الباب دعوته للملاّ حسين بادئًا بذلك عملية إعداد أتباعه لمجيء “من يظهره الله”.

علاوة على ذلك فإن تاريخ الدين البهائي يدلّل على أن القدرة الإلهية التي أقامت الشخصيتين الفريدتين المتمثلتين بحضرة الباب وحضرة عبدالبهاء، راسمة لكل منهما مهمته المقدسة، قد أحيت نفوسًا عديدة أخرى ممن اعترفوا بحضرة بهاءالله واعتنقوا دينه.

في كل دورة إلهية أصبح أولئك الفائزون بنعمة الإيمان بمظهر الله وأتباعه خلقًا جديدًا متحلّين بروح جديدة. هذا هو البعث الذي تشير إليه الكتب المقدسة. وفي أحد ألواحه(15) المتميزة بروعة رمزيّتها، يصوّر حضرة بهاءالله منظرًا بهيجًا من الأسرار الإلهية. ويروي بلغة الرمز بعضًا من الأحداث الروحية الخلاّبة في عوالم الله قبل الكشف عن ظهور بهائه. ولو يستحيل وصف هذه المناظر الساحرة، إلاّ أن مضمونها هو أنه لمّا لم يكن هناك من لائق لفهم هذا الظهور، فإن الله قدّر ولادة خلق جديد. هذا ويؤكد حضرة بهاءالله بأنه كشف عن بهائه للبشرية فقط بعد ظهور ذلك الخلق، واصفًا بعبارات وهاجة الطبيعة الرفيعة لهذا الخلق الجديد.

بعد تحذير أصحابه مما سينزل عليهم من الامتحانات الشديدة، يخاطبهم حضرته في “لوح الهودج” بكلمات الودّ والحنان. ويؤكد لهم العطايا الإلهية التي بواسطتها يمكنهم تخليص أنفسهم من الظنون والأوهام، وتطهير قلوبهم من الرغبات الدنيوية ويدعوهم للدخول في عوالم القرب من الله، ويذكّرهم بأن العلي القدير قد اصطفاهم من بين كافة خلقه، ومكّنهم من الإيمان بمظهر أمره، وخصّهم بالمِيزة الفريدة إذ جعلهم أصحابه، ورفع مقامهم فوق كل من على الأرض وأدخل أسماءهم في “اللوح المحفوظ”.([17])

يتناول موضوع بقية اللوح عظمة ظهور حضرة بهاءالله. وبينما يخاطب الخليقة كلها، فإنه يأمر الناس بالابتهاج إذ ظهر يوم النعيم، اليوم الذي فاز العباد فيه بلقاء الله.

إن الاعتقاد بيوم لقاء الناس ربهم نابع من صلب الكتب المقدسة القديمة. ففي القرآن الكريم عدة إشارات لهذا الموضوع. في الحقيقة إنه أوضح وأهم وعد أتى به نبي الإسلام. كما يصرح العلاّمة البهائي الكبير ميرزا أبو الفضل بأن كل ذي بصيرة ممن لديه معرفة حقيقية بالقرآن الكريم سيعترف بأن ما لا يقل عن ثلث حجمه ينبئ عن مجيء يوم الله العظيم.

فيما يلي بعض من كثير آياته: “والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يأسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم.”(16) “قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ إنّما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا.”(17) “الذين يظنّون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون.”(18) “الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخّر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمّى يدّبر الأمر يفصّل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون.”(19)

هناك نبوءات مماثلة عديدة جدًا وردت أيضًا في العهد الجديد من الكتاب المقدس. منها: “ولا تكون لعنة ما فيما بعد. وعرش الله والخروف يكون فيها وعبيده يخدمونه. وهم سينظرون وجهه واسمه على جباههم.”(20) “وسمعت صوتًا عظيمًا من السماء قائلاً هو ذا مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعبًا والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم. وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم والموت لا يكون في ما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت.”(21)

والعهد القديم من الكتاب المقدس أيضًا يزخر بوعود مجيء الرب الإله. فيما يلي بعضها: “تفرح البرّية والأرض اليابسة ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس. يزهر إزهارًا ويبتهج ابتهاجًا ويرنم. يدفع إليه مجد لبنان. بهاء كرمل وشارون. هم يرون مجد الرب بهاء إلهنا.”(22) “قولوا لخائفي القلوب تشدّدوا لا تخافوا. هو ذا إلهكم. الانتقام يأتي. جزاء الله. هو يأتي ليخلّصكم.”(23) “فيعلن مجد الرب ويراه كل بشر معًا لأن فم الرب تكلم.”(24) “الظلمة تغطي الأرض والظلام الدامس الأمم. أمّا عليك فيشرق الرب ومجده عليك يُرى.”(25)

في العديد من ألواحه يشرح حضرة بهاءالله امتناع إدراك الله من قبل الخلق إذ “أن غيب الهوية وذات الأحدية كان مقدسًا عن البروز والظهور، والصعود والنزول والدخول والخروج… لأنه لا يمكن أن يكون بينه وبين الممكنات بأي وجه من الوجوه نسبة وربط وفصل ووصل أو قرب وبعد…”(26)

لذا فإن الرأي القائل بمجيء الله شخصًا وذاتًا يتنافى تمامًا مع طبيعة الله. ذلك لأن حدثًا كهذا سيُهبط من شأن لامحدوديته ورفعتها وينزلها إلى عالم المحدودية. لكن بإمكان الإنسان الفوز بلقاء الله إذا فاز بالورود في محضر مظهر أمره([18]) وقد صرّح حضرة الباب بوضوح في “كتاب البيان” الفارسي (7:6) بأن أية إشارة في الكتب المقدسة لمحضر الله تعني “من يظهره الله”.

منذ بداية تاريخ البشرية المدوَّن تنبّأ أنبياء الله ورسله عن “زمن اكتمال” و”نقطة منتهى”. ورغم أن مجيء الرب([19]) كان محور رؤى الأنبياء ومصدر إلهام العديد من الشعراء والأولياء، إلاّ أن كافة أهل العالم فشلوا في عرفانه إلاّ فئة قليلة فازت بمشاهدة بهائه وإدراك مقامه. إذًا كم سنُذهَل لو نتفكر في تلك الأيام التي رافق فيها نفر من خمسين شخصًا ونيّف، ما بين رجل وامرأة وطفل، شخص مولاهم من بغداد، ثم حُشروا على ظهر سفينة بخارية تركية في ميناء صامصون متوجهين إلى الآستانة، بينما كان عموم الناس غافلين عن أهمية تلكم الوقائع وخطورتها. مرت عليهم نسمة السبحان وكانوا رقودًا في سبات عميق.

([1])       انظر المجلد الأول، الصفحتين 136-137.

([2])       انظر الملحق رقم 3، وأيضًا المجلد الأول.

([3])       حضرة بهاءالله.

([4])       ميرزا يحيى.

([5])       انظر المجلد الأول، الصفحات 237-241.

([6])       حضرة بهاءالله.

([7])       حضرة بهاءالله.

([8])       اجتماع الأرواح المقدسة في العالم الآخر.

([9])       قلنسوة طويلة من الصوف كان يلبسها حضرة بهاءالله.

([10])      حديقة خارج عكاء كان حضرة بهاءالله يزورها أحيانًا.

([11])      والد المؤلف. انظر المجلد الأول.

([12])      لقب منحه حضرة بهاءالله لكاتب وحيه ميرزا آقا جان.

([13]) كتب الحاج محمد طاهر بالتفصيل قصة تلك العباءة، وكيف سلبت كافة أمتعته أثناء عودته إلى وطنه. وكان كل ما تمكن من استرجاعه عباءته تلك ومغلّفين. فلبس العباءة، وهي من الحرير الخفيف، فوق قميصه وارتجف في برد الشتاء متذكرًا كلمات حضرة بهاءالله بأنها ستكون لباسه الوحيد في طريقه إلى إيران، وأدرك كم عانى حضرته من برد السليمانية.

([14])      كلمات حضرة بهاءالله هنا ليست نصًا وإنما تعبّر عن المضمون.

([15])      ميرزا موسى، شقيق حضرة بهاءالله الوفي.

([16]) كانت المنازل في تلك الأيام تتكوّن من قسمين، يقتصر القسم الداخلي على السكن الخاص، والخارجي يخصّص للزوّار والضيوف. أمّا الاجتماعات فكانت تقام في القسم الخارجي.

([17])      تعبير رمزي لعلم الله الذي “يعلم كل شيء ولا يعلمه أحد”.

([18])      انظر المجلد الأول، الصفحات 185-187، 196.

([19]) هناك عدة نبوءات في الإسلام والمسيحية واليهودية تجمع كلها على أن هذه “الواقعة” ستحدث سنة 1844م وهي سنة إعلان دعوة حضرة الباب.

"سبحانك يا هو"

بادئة للوح مليح بالعربية بخط يد حضرة بهاءالله أنزله في الآستانة عشية الخامس من جمادى الأولى 1280ﻫ (19 تشرين الأول 1863م) وهي ذكرى إعلان دعوة حضرة الباب. يُعرف هذا اللوح، استدلالاً من مطلعه، ﺒ”لوح الناقوس” وأيضًا لوح “سبحانك يا هو”. نزل تلبية لالتماس قُدّم بواسطة حضرة عبدالبهاء من قبل أحد أصحاب حضرة بهاءالله واسمه محمد علي تمباكو فروش الإصفهاني.([1]) كان إنزال اللوح في تلك المناسبة الكريمة مصدر سرور عظيم لقلوب المحتفلين بذلك العيد التاريخي. يفتتح حضرة بهاءالله اللوح بهذه الكلمات:

    “يا راهب الأحدية اضرب على الناقوس بما ظهر يوم الله واستوى جمال العز على عرش قدس منير.”(27)

من هذه الأسطر القليلة نستشف لمحة من جلال اللوح وسموّه. وكغيره من الألواح النازلة قرب إعلان دعوة حضرة بهاءالله، فإنه ينبض بقوة تتحدّى الوصف مما لا يمكن أن تصدر سوى من قلم المظهر الكلي الإلهي. ففيه يعجز المرء عن وصف ألفاظ حضرته التي لا تضاهى أصالة وعمقًا، إضافة إلى روعة جمالها وإيقاعها. إن صياغة ألفاظه تصلح لترديد الجماعة مما يساعد على خلق جو من الفرح والغبطة الروحية عند اشتراكهم بتلاوته.([2]) بعبارات جلية جليلة يعلن اللوح الذي نزل بعد مغادرة بغداد بفترة قصيرة، ارتقاء شمس ظهور حضرة بهاءالله إلى أعلى بروجها، مؤكدًا بأن الذي كان مستورًا([3]) خلف حجبات الغيب قد ظهر، ويمجّد قوة أمره وجلاله، ويصرّح بظهور يوم الله، ويدعو أهل الفردوس الأعلى ليعدّوا أنفسهم عسى أن يصبحوا لائقين للفوز بشرف لقاء الله،([4]) ويأمر أحباءه بأن يبتهجوا ويهللوا لمجيء المحبوب، ويدعو الممكنات لإبلاغ البشرية ببشرى هذا الظهور. وأخيرًا يدعو لأصحابه عسى أن ينقطعوا عما سواه، وتتّقد أفئدتهم بنار محبته وتتطهّر عن الهوى. يدعو لهم أيضًا، لو ثبتوا على الانقطاع لخدمة أمره، بالغلبة على كل من على الأرض.

يدلّل تاريخ الأمر الكريم دلالة كافية على تحقق ذلك الدعاء. فبعون الله تمكّن محبّوه، على ما واجهوه من اضطهاد وحرمان من أي نفوذ دنيوي، من الانتصار على قوى الظلام بل وحققوا مكتسبات خالدة لأمر مولاهم. وقد صمم ملكان مستبدان، هما ناصر الدين شاه والسلطان عبد العزيز، بروح من العداء الراسخ على اقتلاع سدرة الدين الوليد من جذورها. حاول الأول، وهو الذي في عهده استشهد حضرة الباب وذُبح أتباعه بالآلاف، قصارى جهده لإطفاء نور الأمر الإلهي بل حتى محو اسمه من صفحات التاريخ، في حين أن الآخر حبس مؤسس الدين وفرض أشد القيود عليه وعلى جماعته. مع ذلك فإن الدين البهائي اليوم منتشر ومستقر في كل أنحاء العالم، بينما أتباعه، وهم يمثلون شتى الألوان والأجناس والأمم يعملون على نشر دينه بسرعة وهمّة مدهشتين. فهم قاموا ولا زالوا يقومون بنحو متزايد على لفت انتباه البشرية المعذبة لحقائق الدين الأساسية وتاريخه وتعاليمه ومؤسساته المنتشرة حول العالم وقوته الفاعلة في إيقاظ الأرواح وإحياء النفوس.

في الدورات الإلهية السابقة، كما هو الحال في هذا اليوم، اختار الله لخدمة أمره نفوسًا، رجالاً ونساء، امتازوا بالوداعة والتواضع. عن أولئك يحدّثنا القرآن الكريم قائلاً: “ونريد أن نمنّ على الذين استضعِفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين.(28)

كذلك يردّد الإنجيل مثل هذا القول: “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض.”(29)

بإعلاء أمره ونصرته على يد أبسط خلقه وأدناهم، فإن الله قد أثبت سطوة مظاهر أمره وقدرتهم. إذ حينئذ لن يجرؤ أحد على اتهامهم بأنهم أسّسوا صرح الدين بتأثير المشهورين من الناس ونفوذهم. يكفي مثلاً أن نتذكّر بأن أول فئة قليلة من النفوس الذين اعترفوا بالسيد المسيح وآمنوا به لم يكونوا من البارزين في المجتمع. بل كانوا يعامَلون بازدراء ثم اضطهِدوا. كذلك كانت حال من سلك دربهم ومات الكثير منهم استشهادًا. إلاّ أنه رغم ضعفهم الظاهري شاعت رسالة السيد المسيح في أقطار الدنيا وتأسّس دينه. وهذا واحد من البراهين على أحقية دعوته.

في أوائل الدعوة المحمدية أيضًا لم يكن في صفوف أتباعه سوى أفراد من المستضعَفين والمنبوذين. ولذلك سخر القوم من النبي قائلين: “ما نراك إلاّ بشرًا مثلنا وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين.(30) وكان الرسول محمد r نفسه موضع اعتراض مرير بل واضطِهد من قبل أهل مكة ثم هاجر أخيرًا إلى المدينة طلبًا للأمان. مع ذلك ورغم ما كان فيه هو وصحابته من المظلومية والهوان، انتصروا بقوة الله على أعدائهم ونفخوا حياة روحية في جماهير عظيمة من الناس.

إلاّ أن الغرب ينتقد كثيرًا الكيفية التي تأسّس بها الإسلام. ومرجع ذلك كله تقريبًا إلى ما روّجه مسيحيون متعصّبون من تقارير مشوهة عبر القرون، ناكرين تعاليم الإسلام الروحية ومبادئه النبيلة، محوّرين تفسير معتقداته، مبالغين في نقل خلفياته غير المألوفة وناشرين المفتريات الشنيعة بحق مؤسّسه.

هناك رواية شيّقة حول هذا الموضوع تركها الحاج محمد طاهر المالميري في مذكراته، ينقل فيها فحوى لقاء طويل بينه وبين مبشر مسيحي في يزد كان يعرف الفارسية جيدًا وكان هدف اللقاء إثبات أحقية دعوة حضرة بهاءالله. ففي أثناء الحوار طُرح موضوع الإسلام. فيما يلي ترجمة لجزء بسيط من النقاش:

قال لي (المبشّر المسيحي): ’وما بال محمد؟‘ قلت: ’أعتقد من ناحية بأن نفوذ كلمة محمد كان أعظم من عيسى.‘ كان ردّه السريع: ’كيف يمكن أن يكون ذلك؟‘ فأجبت: ’تعلم بأن عيسى ولد ونشأ في الأرض المقدسة وهي من بلاد الشرق حيث أعلن رسالته وأمضى سنوات بعثته قبل صلبه أخيرًا. لكن رغم ذلك وبعد مرور ما يزيد على ستة قرون فإن دينه لم ينفذ في أي من البلدان الشرقية بنحو يستحق الاعتبار، بينما اليوم كل مسلم تلتقي به في الشرق يؤمن بأن المسيح روح الله وأن الكتاب المقدس كلمة الله. فالإيمان بعيسى والاعتراف بسماوية دعوته لم يبلغا أهل الشرق إلاّ بواسطة محمد. أليس كذلك؟‘ فأجاب: ’نعم هذا صحيح، لكنه تمّ بالسيف.‘ أضفت شارحًا: ’طيلة ثلاثة عشر عامًا عاشها محمد بعد بعثته في مكة لم يستعمل خلالها سيفًا رغم تعرّضه طوال تلك المدة لسخرية وظلم متزايدين. بلغ به الحال إثر اشتداد ضراوة الاعتداءات بحيث كان يلتجئ إلى كهوف الجبال، وأخيرًا اضطر للانتقال إلى المدينة طلبًا للأمان. أمّا المناوشات التي اشترك فيها محمد فكانت جميعها دفاعية في طبيعتها. مع ذلك دعنا نقبل صحة ما تدّعي. دعنا نفترض بأن محمدًا نشر دعوته بحدّ السيف في حين أن المسيح حقّق ذلك بعون روح القدس. تعلم بأن السيف أداة مميتة، فإنها تقتل، تدمر وتمزق. مع هذا فإنه تحول بيد محمد إلى بركة مستورة. فبفضلها حصل ثلاثمائة مليون نسمة على نعمة الحياة الروحانية، وتوحدت عدة فئات متحاربة وارتبطت شتّى المجتمعات برباط الوحدة والأخوة، ورفعت من شأن القبائل العربية المتوحشة إلى أرفع ذرى المعرفة والحضارة، أنصف الآن في حكمك، أيهما أصعب تحقيقًا وأدعى للعجب؟ بعث الحياة هكذا عن طريق السيف أم بالوسائل الروحية؟ بعبارة أخرى، أيهما أحذق، طبيب يشفي مرضاه حالاً بإعطائهم الدواء، أم آخر يخفف العلة بعقاقير مسكّنة؟‘

’حسن،‘ قال، ’لكن محمدًا كان شهوانيًا له عدة زوجات بينما المسيح لم يتزوج أصلاً.‘ أجبت: ’إن كنت تقصد بقولك، المسيح لم يتزوج، التأكيد على سمو فضائله السماوية فأخشى أن تكون مخطئًا. ذلك لأنه كان للمسيح جسد كأي إنسان آخر، وأما حقيقة أنه ما تزوّج فربما مردّها إلى أنه لم يجد مستقرًا له حيث إنه في فترة بعثته القصيرة كان دائم التنقل في البلاد. أم تريد أن تنسب افتقاد الدافع الجنسي الغريزي إلى المسيح مما يدلّ ضمنًا على نقص جسماني وليس فضيلة سماوية إذ إن رسل الله كاملو البنية روحيًا وجسديًا. هذا فضلاً عن أن المسيح نفسه لم يقل شيئًا ضد الزواج. لنسلّم جدلاً بمقولتك، ومع ذلك لا يمكن لأحد أن ينكر بأن محمدًا استطاع أن يبث في أتباعه أعلى درجات الطهر واستقامة الخلق، وينمي درجة رائعة من الاستقامة والوعي الروحي بين أفراد مجتمع بلغ من الانحطاط أدناه في تلك الأيام بحيث وصل إلى حضيض الهمجية والجهالة. واليوم بعد ما يزيد على 1300 سنة من دعوته فإن أثر قوته الروحية التي ما تزال تربط بين شتى المجتمعات العرقية يمكن مشاهدته واضحًا في كل مكان. إن الروحانية وغريزة الجنس ضدّان كالماء والنار. وبالنسبة لمحمد فإنه وفّق بين هاتين القوتين المتضادتين في داخل نفسه، بينما أنت تقول بأن المسيح كان ذا طبيعة روحانية فقط. أترك الآن لتقديرك المحايد كي تقرّر فيما إذا كانت طبيعة محمد كانت أكثر روحانية أم شهوانية. إلاّ أنه يجب ألاّ نضلَّل بمثل هذه الاعتبارات. فسبق للمسيح أن علّم: [ستعرفون الشجرة من ثمارها].‘ بعدها قال: ’وماذا عن حقيقة دعوة بهاءالله؟‘…(31)

في أغلب ألواحه النازلة في الآستانة وأدرنة، كما في “لوح الناقوس”، يحثّ حضرة بهاءالله أتباعه على تطهير قلوبهم من الشهوات الدنيوية، والتمسّك بأمره لئلاّ تمنعهم كلمات المريبين ووساوسهم عن صراط الحق. عندما ندرس الأحداث التي انتهت بعصيان ميرزا يحيى في أدرنة حينئذ سندرك أهمية هذه النصائح. وكما سنرى فإن عدة مؤمنين بارزين، كان بعضهم موجودًا فعلاً في الآستانة حين نزل “لوح الناقوس”، قد وقعوا في براثن هذه الأزمة التي ما فتئت أحاطت بجامعة الأحباء وراح ضحيتها عدد منهم تحت تأثير قوتها الشيطانية.

لكن رغم هذا، استمرت نصائح حضرة بهاءالله تنهمر على أصحابه بلا فتور. ذلك من أبرز مآثر حياته إذ شمل كل من اتصل به بواسع عطفه وعناياته، سواء كانوا من المؤمنين أو غيرهم. لم يستثنِ سوى من كاد أن يضر أمر الله، لأنه في هذه الحالة، كان يصرفه عن محضره المبارك. أمّا لأتباعه فكان ذراعًا تحميهم ويدًا ترشدهم في كل خطوة على دربهم. يبدو هذا جليًا في كل كتاباته. فهي تطفح نصحًا وحثًّا وتوجيهًا في المجالات الروحية والخلقية والاجتماعية. بل حتى في الأمور الشخصية لم يمنع حضرة بهاءالله عن أتباعه هديه وإرشاده. لنضرب مثلاً واحدًا يخصّ رحلته إلى الآستانة: قبيل الرحيل نصح حضرته أتباعه ممن سيرافقوه بأن يطلقوا شعر رؤوسهم على غرار ما تفعله طائفة البكطاشية.([5]) أشار عليهم بذلك ليحتموا بعض الشيء وينالوا ما كان لتلك الطائفة من مكانة وقدر كبيرين في تركيا. لكن ينبغي ألاّ تؤخذ هذه الحادثة على أنها دليل بأن حضرة بهاءالله كان قد سمح للرجال بإطالة شعر رؤوسهم، بل ما نصح به آنذاك كان بدافع جعلهم أقرب للانسجام مع التقليد الشائع في ذلك الزمن وبالتالي ضمن سلامتهم وراحتهم.

وفي إيران أيضًا كان للدراويش([6]) بعض الاحترام والتقدير. فلم يتعرض الناس لهم أو يضايقوهم بسبب اعتقادهم أو تقاليدهم. في تلك الأيام كان الفضول طبيعيًا لدى الناس لتحري هوية كل غريب يدخل مدينة ما، واستقصاء حقيقة مأربه من الزيارة. لكن لم تكن الحال كذلك بالنسبة لدرويش قادم، إذ كانوا يجوبون البلاد دومًا من مدينة لأخرى. لذا ألف الناس رؤيتهم قادمين من أطراف بعيدة، ولم يروا فيهم ما يوجب تحري أمرهم. في أوائل نشأة أمر الله استفاد من ذلك الوضع عدد من المبلّغين البهائيين في إيران بإطالة شعورهم وارتداء ملابس الصوفيين. وبذلك تمكّنوا من التجول في طول البلاد وعرضها دون مواجهة مضايقة أو اضطهاد.

في أيام حضرة الباب وحضرة بهاءالله آمن عدد من الدراويش الأصليين، من أشهرهم ميرزا قربان علي،([7]) أحد شهداء طهران السبعة. بطبيعة الحال استمر أولئك بهيأتهم كدراويش، حاملين بيدهم إناء العطية (الصدقة) وينشدون المدائح الإلهية في الأسواق والمحلات العامة. كان ترتيل الدراويش لتلك المدائح، وهي عادة قصائد لشعراء مشهورين، من أكثر أعمالهم لفتًا لسمع الجمهور. تجدر الإشارة إلى أن بعضهم راح يلهج بمدائح حضرة بهاءالله علنًا رغم نصحه أتباعه دومًا بلزوم التعقل والحكمة بعدم تبليغ أمره علنًا. ولما كان المصير الحتمي لذلك جلب نتائج وخيمة من الأذى والاضطهاد، اضطر أخيرًا إلى إرسال رسالة شديدة إلى بعض الدراويش يأمرهم بالكف عن تلك التصرفات والتقيد بالحكمة.

نظرًا لما اعتادوا عليه من طبيعة التسول والتقشف، فإن بعضهم ممن أصبحوا بهائيين بدأوا بتفسير أحكام الدين بما يتفق وأهواءهم. في أحد ألواحه يستنكر حضرة بهاءالله مواقف وممارسات أولئك الذين قصدوا حياة العزلة، ويصرّح بأن لا همّ لهم سوى الأكل والنوم.(32)

ولمّا كان حضرة بهاءالله قد أنزل “الوديان السبعة” لصوفي، وبيّن فيها الشروط الروحانية التي ينبغي توفرها لدى الإنسان لينال غاية مراده وبما أنه نفسه ذهب للسليمانية بهيأة درويش، فربما يتوهّم بعض الأشخاص بأن تعاليمه تتفق مع ممارسات التصوف أو تؤيدها. عند دراسة تعاليم حضرته سيثبت عدم وجود ذلك. فظهوره على هيأة درويش طيلة عامين في جبال كردستان يُعزى لظروف حياة العزلة التي عاشها آنذاك، ولا يمكن الاستنتاج منها على كونها إقرار أو قبول طريقة حياة المتصوفة. يقول المبدأ الأساسي للصوفية بأنه يمكن للإنسان أن تكون له تجربة شخصية مع الله بواسطة طلب الاتصال مع مصدر الكون والحقيقة، وبذلك ينال حرية روحية مطلقة تجد في رحابها حواسه الفطرية منتهى نشاطها، لكن دين حضرة بهاءالله لا يقرّ بإمكانية وجود علاقة مباشرة بين الخالق والخلق، بين اللامحدود والمحدود، إذ إن “أبواب عرفان ذات الأزل مسدودة على وجه الممكنات”.(33) والسبيل الوحيد لمعرفة الإنسان خالقه هو بمعرفة مظاهره. إن أحد المعتقدات البهائية الرئيسة هو أن تقدّم الإنسان الروحاني يعتمد على إقراره بالتعاليم الإلهية والعمل وفقها وليس نوازع حياته وأوامرها.

فرق جوهري آخر بين العقيدة الصوفية والبهائية هو أن حضرة بهاءالله منع الرهبنة والتسول. ذلك بأن أعطى لأتباعه مفهومًا جديدًا للانقطاع ونكران الذات يتعارض مع رأي المتصوفين عامة.

في أحد ألواحه يصرّح حضرة عبدالبهاء بأن “الوديان السبعة”([8]) ترشدنا عند الولوج في درب الانقطاع.(34) وهدفها تعليم السالك محبة الله. لكنها لا تتغاضى أو تبرر موقف كثير من الدراويش الذين يعتزلون الدنيا. هؤلاء يجولون في الأرض كالرحّالة، وهم مضطربو الفكر كسالى، يعيشون دون عمل عبئًا على الآخرين. وكما سبقت الإشارة في المجلد الأول (من “ظهور حضرة بهاءالله”)، فإن “الوديان السبعة” أنزلت إجابة عن أسئلة الشيخ محيي الدين، وهو رجل عالم ضليع بفلسفة الصوفية. في أحد ألواحه(35) يذكر حضرة بهاءالله بأنه كتب “الوديان السبعة” قبل إعلان دعوته بلسان القوم المعنيين. واستعمل فيها بحكمته الإلهية، المصطلحات الصوفية المتداولة آنذاك تسهيلاً لفهم السائل. كما يؤكد في اللوح ذاته بأن أي شخص في هذا اليوم أقبل إليه وعرف مقامه حقًا، فكأنما قطع فعلاً الوديان السبعة الواردة في الكتاب.

منع حضرة بهاءالله التنسك والتسول والرهبنة(36)، ويصرّح بأن هناك في بعض الجزر أناس يعيشون بين الوحوش في الأدغال معزولين عن العالم، لا يأكلون ويعيشون حياة نسك ويرون أنفسهم أئمة الناس. ولكن لن يقبل واحد من هذه الأعمال عند الله. يصف في اللوح نفسه ملاحظاته في بغداد عندما شاهد رجلاً في أحد أحياء الصوفيين يضرب نفسه بشدة حتى سقط أرضًا مغمىً عليه.

كان ذلك العمل الأحمق، الذي يفترض فيه أن ينمي السيطرة على النفس، يُعتبر في نظر جماعته أو طائفته عملاً جليلاً وخارقًا للعادة. إلاّ أن حضرة بهاءالله يؤكد بأن الله يضجر هؤلاء الناس.

في أحد كتبه قام العلاّمة البهائي الشهير ميرزا أبو الفضل بتقص دقيق لانحطاط الإسلام ناسبًا ذلك لنشأة التصوف ونموه. وبعد أن يصف إسهام الإسلام العظيم في حضارة البشرية في مجالات المعرفة كالطب والعلوم والرياضيات والفلك، يقول:

… وقد استنارت سائر بلاد الإسلام وممالكه من المشرق إلى المغرب بأنوار العلوم وأزهرت بها. ولكن يا للأسف فقبل أن تؤتي أشجار المعارف ثمارها، ظهرت أشواك التديّن في حدائق هذه الأمة المستنيرة (الإسلام). فحينما يتفشى مرض التصوف، الذي هو بمنزلة الفلج والشلل في الأعضاء السليمة لكل أمة، فإنه يزيل تمامًا نشاطها وتقدّمها وغلبتها ونفوذها. هذا هو الداء الذي حلّ بأمة الإسلام. فانشغل جمع كثير باسم الزهد وتصفية النفس، في المغالاة بالأذكار والعبادات… ولو أنه والحق يقال بأن من هؤلاء ظهر بعض من كبار الرجال وبسبب زهدهم الحقيقي انجلت مرايا بعض القلوب بأنوار الحقيقة، لكن مع ذلك لأن أغلبهم كانوا عبدة أهوائهم بدلاً من عبادة الله، وطالبي رئاسة لا دين، فإنهم غالبًا ما ابتدعوا طرق عبادات باطلة وأسسوا مصطلحات خارجة عن أصول الدين وأسسه. ثم استطاعوا بشتى أنواع الحيل تحويل قلوب الملوك والأمراء نحوهم. كان نتيجة ذلك فتور همّة أولئك الملوك وبرودة حماسهم في نشر المعارف، وأحلّت تبجيل علماء الدين وعبادتهم محل إشاعة المعارف والفنون. إلى أن غربت أنوار العلوم تدريجًا وحلّت ظلال التصوف مكانها.(37)

([1])  هو الشخص نفسه المشار إليه في المجلد الأول، الصفحة 304. انظر أيضًا الصفحة 361 من هذا المجلد.

([2])  هذا يختلف عن صلاة الجماعة التي لا يؤديها البهائيون (عدا في صلاة الميت). تتلى الألواح بلغتها الأصلية من قبل شخص واحد. وأحيانًا إذا وُجدت عبارة متكرّرة في اللوح، كان من المعتاد أن يشارك الآخرون في تلاوة العبارة إذا كان ذلك مناسبًا.

([3])       حضرة بهاءالله.

([4])       انظر المجلد الأول، الصفحة 316، الحاشية (1).

([5])       إحدى الطرق الصوفية المتنفذة جدًا حينذاك.

([6])       يطلق لفظ “درويش” في إيران على فرق أو طرق المتصوفين.

([7])       راجع “مطالع الأنوار”.

([8])       انظر المجلد الأول، الصفحة 101.

﴿ 2 ﴾ المثنوي المبارك

إحدى أجمل كتابات حضرة بهاءالله التي نزلت بالآستانة هي “المثنوي”. تعتبر تحفة رائعة من القصيد الفارسي، يلفت الانتباه جمالها وقوة تركيبها، كما اشتهرت بكونها من أكثر قصائده تحريكًا للروح. ما من قلم يستطيع وصف هذا الأثر العظيم وصفًا وافيًا حتى بلغته الأصلية. ذلك لأن كل بيت من أبياتها الثلاثمائة يعادل كتابًا بنفسه لعمق المعنى اللامحدود ولمغزاه العميق. فبقوة إعجازية يكشف قلم وحيه، كالبحر المتفجر من مخرج صغير، قدرًا يسيرًا من عظمة الله وقوته مانحًا بذلك لمحة من وحيه السماوي للبشرية. إن المعرفة التي يجود بها على ذوي الأفئدة الطاهرة، والأسرار التي يكشفها للمخلصين، والبصيرة التي ينيرها للطالبين، والحكمة التي يمنحها للحكماء، والنصائح والوصايا التي يسديها لأحبائه، كل ذلك يبرز في هذه المنظومة الإلهية كغايات يطمح الإنسان إليها ويأمل نيلها.

فقد كشف حضرته في هذه القصيدة، وفي إطار عالم محدود، أسرار ظهور ضخم لا نهاية له. وأظهر بعضًا من حقائق عالم الإنسان وأشار إلى كيفية بلوغه ذروة المجد والفضل. إن بعض الوصايا فيها جاءت على غرار تلك الواردة في “الكلمات المكنونة”.

رمز حضرة بهاءالله إلى نفسه في القصيدة بشمس الحقيقة التي تسطع بأشعتها على كل المخلوقات. فمثل الشمس الظاهرة التي هي مصدر الحياة الأساسي لهذا الكوكب، كذلك فإن المظهر الكلي الإلهي هو مصدر الحياة الروحية لعموم البشر. فبما يبعثه من طاقات روحية في العالم الإنساني، يرتقي بنو أدم ويتطورون.

يصرح حضرة بهاءالله في أحد ألواحه(1) بأن الهدف الأساسي للظهور الإلهي لا يختص فقط بتغيير الأحكام في المجتمع الإنساني أو بنشر المعرفة والعلم، بل الهدف حين الظهور هو هطول العنايات السماوية بحيث تصبح سائر المخلوقات محل نزول الفضل الإلهي وتكتسب قدرات جديدة.

في حين نزول “المثنوي” لم تكن طائفة البابيين قد عرفت بإعلان دعوة حضرة بهاءالله أو مغزاها بنحو تام. لذا يدعو حضرة بهاءالله نفسه في هذه القصيدة لكشف الحجبات كي تشرق شمس ظهوره بكل بهائها. كما يخاطب نفسه في موضع آخر ليلقي على هذا العالم الظلماني قدرًا من نوره، ويفتح أمام البشرية أبواب عرفان الله، ويمرر عليهم نسائم طيب رحمته عسى أن يستيقظ موتى الروح من قبور الجهل والغفلة.

في إشارة إلى انتشار نور أمره في عالم الغرب، يصرح حضرة بهاءالله ببيان لافت للانتباه. فيخاطب روح الله في أعماق نفسه ليكشف بهاءه حتى تشرق الشمس من الغرب. في ألواح أخرى تنبأ حضرته بأنه حتى لو ظهر أمر الله في الشرق لكن سيظهر أثره في الغرب.([1])

يصف حضرة بهاءالله مجيئه في “المثنوي” بأنه مجيء يوم الله وحلول الربيع. يتردد هذا الموضوع في كثير من ألواحه. فكما يبعث فصل الربيع الطبيعي حياة جديدة في سائر المخلوقات في هذا العالم، فإن ظهور حضرة بهاءالله يملأ القلوب بمحبته فتظهر منها أنبل ثمار الفضائل والكمالات. إذ إن هذه الخصال السماوية التي تظهر في المؤمن لا تنبع من ذاته بالكامل. فلولا ضياء الشمس لكانت العين عضوًا لا فائدة فيه، والبذرة كائنًا عديم النفع. على هذه الشاكلة لولا مجئ المظاهر الإلهية لما استطاع إنسان التحلي بسجايا النبل والتقوى. فبهدى أنوار شموس الحقيقة هذه أرشدت البشرية تدريجًا من الظلمة إلى النور.

إحدى موضوعات “المثنوي” هي أن الإنسان نفسه مظهر من مظاهر أمر الله، وأن قوى الله وصفاته مودعة فيه، وأن نور الله ينعكس فيه، لكنه رغم ذلك محجوب عن هذه المواهب ويمضي ساعات حياته الثمينة غافلاً عما يكمن فيه من قوى نبيلة. يحذّر حضرة بهاءالله الإنسان بأنه ما لم يجهد الإنسان ليطهر قلبه فإن هذه السجايا والصفات لن تظهر فيه. في “الكلمات المكنونة” يصرح حضرة بهاءالله بلسان الله:

“يا ابن الوجود

مشكاتي أنت ومصباحي فيك فاستنر به ولا تفحّص عن غيري لأني خلقتك غنيًا وجعلت النعمة عليك بالغة.“(2)

من تعاليم حضرة بهاءالله في “المثنوي” أن الإنسان في هذا اليوم لن يتنور بنور الله ما لم يتزود ببصر جديد. إذ إن الأعين التي تنظر إلى أغراض هذه الدنيا لن تشاهد بهاء ظهوره، والآذان الموجهة لأصوات الأشرار لن تستمع لألحان الملكوت. يقصد ﺑ”الأعين الجديدة” و”الآذان الجديدة” الأعين والآذان الروحية. فهو يصرح بأنه من المخجل أن يُسمح لعين الروح (عين البصيرة الفطرية) وهي التي تستمد نورها من الله، بالنظر إلى الغريب، مؤكدًا بأن هدف الله من خلق البصيرة هذه هو أن يستعين بها الإنسان للتعرف على جمال المظهر الإلهي حين طلوعه عن أفق هذه الدنيا. بهذا الصدد يكشف حضرة بهاءالله في “الكلمات المكنونة” عن ذلك بقوله:

“يا ابن التراب

كن أعمى ترَ جمالي، وكن أصمَّ تسمع لحني وصوتي المليح، وكن جاهلاً يكن لك من علمي نصيب، وكن فقيرًا تغترف من بحر غنائي الخالد قدرًا لا زوال له، أي كن أعمى عن مشاهدة غير جمالي وكن أصمَّ عن استماع كلام غيري، وكن جاهلاً بسوى علمي حتى تدخل ساحة قدسي بعينٍ طاهرةٍ وقلبٍ طيبٍ وأذنٍ نظيفة.”(3)

كما يؤكد في أحد ألواحه(4) بأنه لو كان لبصير عين باتساع السماء ويتوجّه ببصره “أقل عمّا يحصى” إلى غيره -أي غير حضرة بهاءالله- فإن شخصًا كهذا لن يليق للورود إلى “بساط” محضره. يمكننا تقييم عبارة حضرة بهاءالله هذه إذا ما تدبرنا في شأن من يبتغي الاستنارة من شمعة والشمس مشرقة من أسمى أبراجها.

في لوح آخر(5) يشرح حضرة بهاءالله بأن هذا اليوم هو يوم الله ولا يستحق ما سواه أن يُذكر. ثم يضيف بأن هذا يوم الأعين والآذان والأفئدة. لذا فإنه يدعو أحباءه للسعي والتزود بهذه المواهب الثلاث، مذكّرًا إياهم بأن “حجابًا رقيقًا” قد يمنع الأعين عن الإبصار والآذان عن الإصغاء والأفئدة عن الإدراك.

إن الحجبات التي تحول بين بصيرة الروح والمظهر الإلهي تنبع من عالم الإنسان. ففي عالمنا اليوم عدد غفير من الناس لا يمكنهم مشاهدة عظمة حضرة بهاءالله، المظهر الكلي الإلهي، لأنهم غلّفوا قلوبهم بحجبات عديدة. لعل أقساها حجاب التقليد. فالناس يولدون وسط تقليد ما ويجبلون على المضي فيه أُسراء مدى العمر. يسجل التاريخ بأنه كلما أظهر الله نفسه وأتى بمعايير وتعاليم جديدة للناس عارضه وقاومه أناس من هؤلاء اقتدوا بآبائهم ورؤساء دينهم السابق وآخرين من قومهم. ولعل خير مثال على ذلك ما وقع عند مجيء السيد المسيح حيث لم يؤمن به حقًا سوى ثلة ضئيلة من أنفس معدودة، بينما رفض أمره الآخرون ممن عبدوا التقليد. إن من بين أهم تعاليم حضرة بهاءالله هو أن يبتعد الإنسان عن تقليد غيره في مسائل الاعتقاد والدين، بل ينبغي له تحري الحقيقة دون قيود ويفتح بصيرته علّه يشهد بنفسه بهاء دين الله الوليد في هذا اليوم.

حجاب آخر غليظ حال بين الناس واعترافهم بالمظهر الإلهي هو المعرفة. فالذين أوتوا شيئًا من العلم غالبًا ما يغترّوا به، أحيانًا دون وعي منهم، فيحجب ذلك بصائرهم عن الحقيقة. هذا واحد من “سبحات الجلال” -التي يشير إليها الإسلام ويذكرها حضرة بهاءالله في العديد من كتاباته بما فيها “كتاب الإيقان”- حيث تصبح إحدى صفات الله أو أسمائه الحسنى حجابًا ومانعًا.([2])

ولو أن اكتساب العلوم والمعارف أمر ممدوح ينبغي للإنسان ابتغاؤه وأن حضرة بهاءالله، مثل الرسول محمد r من قبله، أمر أتباعه بتحصيله، لكنه يصبح من “سبحات الجلال” إذا ما قاد صاحبه إلى الغرور وتعظيم الذات.

في أوائل أيام أمر الله، كان هناك رجل ثري صاحب معرفة في كاشان ذهب مع أسرته قاصدًا زيارة المقامات المقدسة في النجف وكربلاء. وقد أجبرته الظروف على اتخاذ أحد البابيين دليلاً وقائدًا للقافلة اسمه هاشم خان ليوصلهم ويعيدهم. إلاّ أنه تردد باستخدامه لا لشيء إلاّ لكونه بابيًا، وكان من أشهر سائقي القوافل وأوثقهم في المنطقة علاوة على كونه قوي البنية طويل القامة. مع أنه كان قليل العلم، إلاّ أن قلبه انشرح بنور أمر الله الناشئ. بذلك وُهب من الفهم الفطري ما مكّنه من تبليغ الناس وإقناعهم بطريقته البسيطة بأحقية الدين الذي آمن به. كان معروفًا باسم هاشم البابي. خلال الرحلة تجنب التاجر وعائلته ذلك المؤمن. فلم يرغبوا بمعاشرة من كان في نظرهم قد آمن بعقيدة ضالة. في رحلة طويلة كهذه كان لزامًا أن تتوقف القافلة مرتين أو ثلاثًا يوميًا للراحة وإطعام الدواب. في إحدى المناسبات خلال استراحتهم عزم التاجر على التحدث مع هاشم محاولاً هدايته وإعادته إلى حظيرة الإسلام. فناداه ليأتي ويجلس معهم. بعد تقديم شكره وثنائه على إخلاصه وحرصه في خدمتهم ورعايتهم في الطريق، شرع يحاوره متسائلاً: ’ترى كيف إني مع كل علمي لم أستطع أن أقتنع وأعترف بأحقية رسالة الباب في حين أنك تكاد تكون جاهلاً أميًا تدّعي اهتداءك واعترافك بها؟‘

قبض هاشم بيده حفنة من الرمل وقال للتاجر: ’الناس من أمثالي لا شأن لهم في المجتمع. إنهم كرمال الصحراء بلا قيمة، لكن مع ذلك حينما تشرق الشمس في الصباح نجد أن أول من يستضئ بنورها هي هذه الرمال. أمّا الرجل المتعلم فمثله مثل الجوهرة الثمينة، محفوظة في صندوق داخل غرفة مقفلة وإذا طلعت الشمس فإنها تبقى في الظلام.‘ كان لجوابه أثر عميق في نفس التاجر بحيث صار يتعلّم من هاشم باستمرار طوال الرحلة حتى عودتهم، مما أدى إلى زوال الحجبات واستنارة جوهرة قلبه بنور الإيمان بأمر الله الجديد. إن جواب هاشم على بساطته فيه معنى عميق جدًا. إذ بينما يقرّ بمقام العلم ورفعته، يبرهن على ضرورة توجّه أهل العلوم لشمس الحقيقة عند ظهورها في العالم ثم الاجتهاد من أجل فتح قلوبهم وأرواحهم لسطوع أنوارها عليهم واستنارتهم بها.

من الحجبات الأخرى التي تمنع الناس من الإقبال على دين الله الجديد هي التعصبات بمختلف أنواعها، المادية والثروة والنفوذ وغيرها كثير مما أصاب المجتمع الإنساني في هذا العصر وهوى به في ظلام وحرمان تامّين.

([1])  كانت نشأة الدين البهائي وتأسيسه في الغرب أمرًا يثير الانتباه. للمزيد من المعلومات راجع “كتاب القرن البديع”، ومجلدات العالم البهائي (باللغة الإنگليزية).

([2])       انظر المجلد الأول، الصفحتين 45-46.

الانقطاع

يشير حضرة بهاءالله في “المثنوي” إلى قوة ظهوره مؤكدًا أن به يستطيع الإنسان العروج إلى أعلى ذرى الفضائل والروحانية. فيدعو أحباءه إلى السعي لبلوغ هذا المقام بالتوجّه إليه بقلوب طاهرة مخلصة، ثم بالانقطاع عن الشؤونات الدنيوية. يصرح حضرة بهاءالله في العديد من ألواحه بأن من أعظم مكتسبات الإنسان هو الانقطاع عما سوى الله. والروح لديها الاستعداد للإيمان ثم التقرب إلى الله على قدر يتناسب مع انقطاعها عن الدنيا. لكن غالبًا ما يساء فهم الانقطاع الذي يخلط بالعزلة والابتعاد عن الدنيا. فهناك عدة مذاهب وطوائف من الناس ممن يميلون لحياة التنسك والرهبنة في الأديرة وما شابهها من المؤسسات ظانّين أن ذلك المسلك سيرفع مقامهم الروحاني. لكن تعاليم حضرة بهاءالله ضد ذلك قطعًا. مثال ذلك ما خاطب به الرهبان في اللوح الثاني الذي وجّهه حضرة بهاءالله إلى ناپليون الثالث:

“قل يا ملأ الرهبان لا تعتكفوا في الكنائس والمعابد. أن اخرجوا بإذني ثم اشتغلوا بما تنتفع به أنفسكم وأنفس العباد كذلك يأمركم مالك يوم الدين. أن اعتكفوا في حصن حبي هذا حق الاعتكاف لو أنتم من العارفين. من جاور البيت إنه كالميت ينبغي للإنسان أن يظهر منه ما ينتفع به الأكوان، والذي ليس له ثمر ينبغي للنار.“(6)

يمكن للإنسان أن يمتلك كل طيبات الدنيا، ويعيش في رفاه وترف ومع ذلك يكون منقطعًا عن الدنيويات.([1]) فقد خلق الله هذا العالم وكل ما فيه ليستعمله البشر ويتمتعوا به، شرط أن يحيا الإنسان حياة تتفق وتعاليم الله وأحكامه.

يذكر حضرة بهاءالله في أحد ألواحه(7) بأن هذا العالم زاخر بعطايا الله المادية، وأن كل ما هو حسن وطيب من المخلوقات والأشياء إنما يحكي عن صفاته أو يعكسها وأن امتلاك هذه العطايا الإلهية ليس بحد ذاته تعلق بالدنيا. لكنه يحذّر في الوقت نفسه من الانغماس والتعلق بالدنيا إذ إن كل ما يتصل بها مؤقت وعابر وعلى الإنسان ألاّ يسمح لنفسه بأن يكون مملوكًا لها. ثم يشرح حضرة بهاءالله في اللوح نفسه معنى التعلق بالدنيا على أنه تعلق بمن أنكره وأعرض عن أمره. وفي لوح آخر(8) يصرح حضرته بأن هناك ثلاثة موانع تحول بين الله والإنسان. فيوصي المؤمنين باجتيازها عسى أن يحظوا بمحضره. أولها ما بحثناه توًا، وهو التعلق بهذه الدنيا الفانية. ثانيها التعلق بالعالم الآخر وما قدّر للإنسان فيه. والثالث هو التعلق ﺒ”ملكوت الأسماء”.

من أجل فهم مغزى المانع الثاني علينا أن نتذكر بأن الهدف من الحياة هو عرفان الله وعبادته. في حديث إسلامي نجد هذا التصريح (بلسان الله): ’كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق كي أُعرف.‘ وقد توفّق الإنسان، بالجهد والفطرة الروحية، إلى أن يعلم بوجود الله. توفّق بما منحه بارئه من القوى والسجايا من جهة، وبما استنار به من فيض المظاهر الإلهية من جهة أخرى، بأن يعرف خالقه([2]) ويعبده. يصرح حضرة بهاءالله في “الكلمات المكنونة”:

“يا ابن الإنسان

أحببت خلقك فخلقتك، فاحببني كي أذكرك وفي روح الحياة أثبّتك.”(9)

وفي الصلاة الصغيرة التي أنزلها حضرة بهاءالله ليتلوها أتباعه نقرأ: “أشهد يا إلهي بأنك خلقتني لعرفانك وعبادتك([3])…”(10)

هذا إذًا هو هدف الخلق. أمّا أعمال الإنسان فتكون ممدوحة بنظر الله إذا كانت محبة الله وحدها دافعها دون سبب آخر. يشهد بذلك حضرة بهاءالله في “الكتاب الأقدس”: “أن اعملوا حدودي حبًا لجمالي.”(11) حتى إذا كان الدافع لأعمال شخص طمعه بثواب الآخرة فإن ذلك يعتبر تعلقًا. فالانقطاع معناه أداء العمل خالصًا لوجه الله دون ابتغاء أجر أو ثواب عليه.

فأي فرق ما بين هذا الموقف وذاك السائد في مجتمع البشر في وقتنا الراهن، حيث كل عمل تقريبًا يستهدف منه منافع لصاحبه. لقد طغت نظرة النفعية والمصالح الذاتية على تفكير الإنسان في هذا اليوم بحيث نجده حتى في مسائل الروحانيات، كالإيمان بالله والاعتقاد به، غالبًا ما يبحث عن شيء يرضي حاجاته الخاصة بالدرجة الأولى. هناك كثير من الناس اليوم ينتمون لدين أو آخر أملاً بإشباع احتياج روحي أو انتفاع آخر مثل هدوء البال أو الخلاص. إلاّ أن هذا ليس بدافع صحيح لاعتناق الدين. لأن قواعد صرح كل دين يجب أن تُبنى على المحبة. فالمحب الصادق ليس له أغراض أو مصلحة أنانية تدفعه سوى هيامه بمحبوبه. كذلك الأمر يجب أن تكون العلاقة بين الإنسان والمظهر الإلهي حيث أن واجب كل شخص أن يعترف بالمظهر الإلهي ويحبه ثم يتبعه، إذ ما من أحد في العالم يستحق التعظيم والإجلال والحمد والتبجيل سواه.

إن الإنسان مخلوق أناني بسبب طبيعته الحيوانية. بدافع غريزة البقاء يسعى من أجل حصوله على الغذاء والكساء وغيره من ضروريات الحياة. بعد ذلك يسعى لضمان الأمن، فالثروة والسلطة وغير ذلك من المطامح. كل هذه إضافة إلى اهتماماته الفكرية والعاطفية والروحية، تدور حول محور ذاته وشخصه، وتستهدف ضمان راحته ورفاهيته وسعادته. بل هو يبحث دومًا عن أشياء يضيفها لمقتنياته طالما يمكنه استخلاص فائدة ما منها.

حينما يتعرف الإنسان على أمر الله ويعترف بعظمته فإنه يميل تلقائيًا للاحتفاظ به، كما هي العادة، مع نفائسه الأخرى. أي أنه يضع دينه بمصاف اهتماماته الأخرى، متوقعًا بدافع أناني الانتفاع منه كما ينتفع من ممتلكاته الأخرى تمامًا. فهو ينتظر من دين الله أن يخدمه ويجلب له الفرح والرضى. إن هذا المفهوم وهذه الممارسة هما التعلق بالدنيا وضد سنّة الخليقة. ذلك لأن الله لم يظهر أمره من أجل إرضاء أو تلبية مصالح الإنسان الأنانية. بل ينبغي عكس ذلك، بحيث يُنتظر من الإنسان أن يرتّب حياته بكيفية تخدم أمر الله وتطوف حوله. فلو اتّبع المرء أمر الله بخلوص ونية طاهرة، فإن حياته ستبارَك بحيث تظهر آيات قوى الله وصفاته في باطن وجوده. أمّا إذا ابتغى تلك الكمالات من أجل إشباع هوى النفس، فهذه النية ستكون سببًا لحرمانه من فيوضات الفضل والعطايا الإلهية.

فالذين عرفوا حقًا مقام حضرة بهاءالله في هذا اليوم، ووُهبوا عطية الإدراك الحقيقي، إنهم لم يؤمنوا بدين حضرته بسبب اكتشافهم أن الإيمان يدخل عليهم السعادة، ويحل مشاكلهم الشخصية، ويرفع عنهم مصائبهم ويزيد حياتهم الروحية ثراء، بل لأنهم أقروا وأيقنوا أن حضرة بهاءالله هو المظهر الإلهي لهذا العصر فانجذبوا إليه كانجذاب الحديد إلى المغناطيس. بنظرهم إلى بهاء ظهوره انبهرت أعينهم، وبقوة كلمته شُدت أفئدتهم. فهم يعرفون سمو أمر الله الذي جاء به فوق كل الوجود وبأن خدمته علة خلق الإنسان. وهذا وحده فقط، ينبغي أن يكون الدافع لكل إيمان حقيقي بأمر الله.

عندما يتوجّه المؤمن بمحبة خالصة للمظهر الإلهي، فلا يسعه إلاّ نسيان مصالحه الشخصية وأهوائه ابتغاء مرضاة مولاه. في أثناء ذلك وكنتيجة لتوجّهه ذاك وحبه وخضوعه للمظهر الإلهي تنزل عليه نعم الفضائل والقوى السماوية. بل يمكن حقًا أن يقال بأن الفئة الوحيدة من الناس ممن يعرفون طعم السعادة الحقيقية في الحياة ولديهم أوفر حظ من الفضائل السماوية هم الذين أقبلوا خالصين واتّبعوا المظهر الإلهي منقطعين عن أجر الدنيا وثواب الآخرة.

من علماء أمر الله العظام ميرزا عزيز الله مصباح الذي ساهم بحياته وعلمه في إضفاء ومضات خالدة على صفحات تاريخ أمر الله خلال ولايتي حضرة عبدالبهاء وحضرة شوقي أفندي. بين مجموعة المناجاة الفريدة التي جمعها، هذه العبارة القصيرة ذات المعنى العميق:

من يبتغي أجرًا لأعماله تُكتب له الجنة، ومن يبتغي الله لا حاجة له بالجنة.(12)

المانع الثالث الذي يذكره حضرة بهاءالله هو التعلق ﺑ”ملكوت الأسماء”. في آثار قلمه هناك عدة إشارات لهذا الملكوت. مثلاً في أحد ألواحه يصرح حضرته:

“ينادي القلم الأعلى في كل حين ولكن أهل السمع قليلون. إن أهل ملكوت الأسماء منشغلون بألوان الدنيا المختلفة مع أن كل ذي بصر وذي سمع يشهد بفنائها.”(13)

إن الله في جوهره منزّه عن الأوصاف، إلاّ أنه يظهر صفاته في سائر عوالم ملكه وملكوته، الروحية والمادية. فكل كائن في الوجود يظهر صفات الله وأسماءه. لكن في عوالم الروح توجد هذه الصفات على نحو من الكثافة والقوة بحيث لن يقدر الإنسان أن يدركها في هذه الحياة. إلاّ أنه في حيز عالم الإنسان تظهر هذه الصفات داخل “ملكوت الأسماء” والإنسان غالبًا ما يتعلق بهذه الأسماء.

في “لوح نصير”([4])،(14) ينطق حضرة بهاءالله بصوت الحق، بأن اسمًا من أسمائه التي خلقها بكلمة من عنده ونفخ فيها حياة جديدة، قد قام ضده معترضًا على سلطانه. ويشهد أن بسبب التعلق بهذا الاسم أنكر بعض أهل “البيان” أمره وحرموا أنفسهم من بهائه. هنا يشير حضرته تلميحًا لاسم “أزل”([5]) وهو لقب ميرزا يحيى. حقًا أصبح هذا الاسم، وهو من صفات الله، مانعًا للعديد ممن اتبعوه تعلقًا أعمى بمقام سام. وقد ضل ميرزا يحيى نفسه بهذا الاسم. فبجّل مزايا ذلك الاسم وبقي متعلقًا به حتى نهاية حياته.

يوصي حضرة بهاءالله أتباعه في كثير من ألواحه ألاّ يكونوا عبدة “ملكوت الأسماء”. وللحديث الإسلامي المشهور، “إنما الأسماء تنزل من السماء”، مغزى متعدد الأبعاد. ففي هذا العالم كل صفة من صفات الله تتقمص اسمًا، وكل اسم منها يظهر مميزات صفته. مثلاً صفة الكرم من صفات الله وتظهر نفسها لدى بني البشر. لكن الذي يتحلى بهذه الصفة غالبًا ما يصبح مغرورًا بها ويحب أن يُعرف أو يشار إليه بها، بحيث إن اعترف الناس بكرمه سُر وانشرح، وإن لم يعترفوا حزن وتأثر. هذا واحد من أشكال التعلق ﺒ”ملكوت الأسماء”. ولو أن هذا المثال يخص اسم “الكرم”، لكنه ينطبق على سائر أسماء الله وصفاته التي تظهر في الفرد. في العادة ينسب الشخص هذه الصفات لنفسه هو دون الله ويستغلها إعلاءً لأنانيته. فمثلاً نجد شخصًا يستعمل صفة المعرفة ليصبح مشهورًا ويشعر بزهو وفخر لرؤية اسمه وقد شاع في كل مكان. أو المرء الذي يخفق قلبه بمشاعر الرضى والغرور لدى سماع ذكر اسمه فيجد نفسه ممدوحًا وموضع إعجاب الآخرين. هذه نماذج لمن تعلقت نفوسهم بهوى “ملكوت الأسماء”.

يفرض مجتمعنا في الوقت الحاضر نفوذًا ضارًا على نفس الإنسان. فبدلاً من أن يدعه يحيا حياة خدمة وتضحية للآخرين، نجده يحض الفرد على الاغترار بما اكتسب وأنجز. بل منذ الطفولة يتعلم الفرد ويُلقَّن تنمية أنانيته والسعي للتفوق والاستعلاء على الآخرين. هدفه الرئيس في الحياة نيل النجاح واكتساب القوة والاهتمام بالذات.

يستهدف ظهور حضرة بهاءالله قلب هذه المفاهيم وعكسها. فالنفس البشرية بحاجة لأن تُصقل وتُزيّن بفضائل التواضع ونكران الذات حتى تنقطع عن “ملكوت الأسماء”.

لقد برهن حضرة عبدالبهاء، وهو المثل الأعلى الحقيقي لتعاليم حضرة بهاءالله، على هذا المستوى من الانقطاع بأعماله وأفعاله. فطوال حياته لم يبتغ إعلاء اسمه ولم يسعَ لإشهار نفسه. مثال ذلك أنه كان لا يحب أن تؤخذ له صورة فوتوغرافية. تفضل في هذا الشأن قائلاً: “… أن يصوّر الإنسان نفسه يعني التأكيد على شخصيته…”(15) وفعلاً رفض السماح بالتقاط صور له خلال الأيام القليلة الأولى لزيارته للندن. لكنه نتيجة لإلحاح مراسلي الصحف، والتوسلات من الأحباء وافق على تصويره حتى يسعدهم.

لعل خير ما يدل ويشير إلى مقام حضرة عبدالبهاء السامي هو الألقاب الرفيعة التي أغدقها عليه حضرة بهاءالله. مع ذلك فهو لم يستغلها لشخصه. بل بدلاً من ذلك اختار لنفسه بعد صعود حضرة بهاءالله لقب عبدالبهاء وطلب من المؤمنين ألاّ يدعوه إلاّ بهذا الاسم. ذلك لأن العبودية الحقة لدى عتبة حضرة بهاءالله كانت منتهى أمانيه. وفيما يلي بعض كلماته التي وصف بها حقيقة مقامه في محوية ذاته البحتة:

“أمّا اسمي فهو عبدالبهاء، وكينونتي عبدالبهاء، وحقيقتي عبدالبهاء، وفخري عبدالبهاء، والعبودية لحضرة الجمال المبارك هي فخري وتاجي، وعبوديتي لجميع الجنس البشري هي ديني… ليس لي، ولن يكون لي اسم ولا نعت ولا ذكر ولا وصف غير عبدالبهاء. هذا أملي، وهذا غاية رجائي، وهذا حياتي، وهذا فخري الأبدي.”(16)

من الملامح المميزة لنظام حضرة بهاءالله العالمي الجنيني هو خلوّه من الشخصيات الأنانية المتنفذة في شؤونه ومصيره. فقد منح حضرته السلطة لمؤسسات نظمه، سواء كانت المحلية منها أو المركزية أو القطرية أو العالمية. لكن الفرد العضو فيها لا سلطة له. وخلافًا لما عليه أهل السلطة في عالم اليوم ممن ينشدون الشهرة والشعبية، فإن أعضاء المؤسسات البهائية لا يسعهم إلاّ إظهار التواضع ونكران الذات إن كانوا مخلصين لحضرة بهاءالله. أمّا أولئك القاصرين، بسبب قلة النضج أو الإيمان، عن بلوغ هذه المستويات فهم حقا ضحايا التعلق ﺒ”ملكوت الأسماء” وهم محرومون من عطايا الله في هذا العصر.

قد تكون أعسر مهمة للبهائي أن يحرر نفسه من علائق “ملكوت الأسماء”، وقد يدوم صراعه معها طوال العمر. فقط لو يدرك الإنسان بأن ما لديه من فضائل لا يرجع لذاته تلقائيًا، بل إنها مظاهر صفات الله، لتحرر من “ملكوت الأسماء” وأصبح متواضعًا حقًا. إن شخصًا كهذا سيهب الكمالات السماوية لعالم الإنسان. وهذه أعلى رتبة ومقام قدرهما الله للإنسان.

وصل بعض أتباع حضرة بهاءالله إلى هذه الرتبة بعدما وعوا واعتبروا بأن شرف فضائلهم إنما يأتي من عوالم الله وليس من أنفسهم. كان النبيل الأكبر([6]) واحدًا منهم، والذي قد يُعتبر من أعلم حواريي حضرة بهاءالله. لقد وصف الحاج ميرزا حيدر علي لقاء له في قزوين حيث كان هذا الرجل العظيم يتحدث مع بعض المؤمنين. فيما يلي بعض كلماته بخصوص النبيل الأكبر:

ما أوفر حظي بسماع بيان ذلك السيد الفاضل بحيث اقتطفت من كلماته في مجالس كثيرة في عديد من المناسبات. من جوانب عظمة هذا الفاضل كانت قدرته التي لا تضاهى في تبيان أي موضوع أو مسألة. مثلاً لو قال بأن الماء حار وجاف وأن النار باردة ورطبة، لما تمكن أحد أن يقاومه أو أن يثبت عكس ذلك. ومع ذلك فقد لاحظت وقت تلاطم بحر بيانه وحرارة خطابه أنه لم يكن قط ليذكر كلمة في غير موضعها أو يخوض في رأي غير صحيح، وإن ذكّره شخص بخطأ أو تنبّه إليه بنفسه، فإنه كان يظهر غفلته واشتباه الأمر عليه.

ومن الملاحظات المحكمة المتينة لذلك الشخص أن الإنسان بطبيعته عاجز جاهل ضعيف حقير كثير الخطأ، بينما القوة والقدرة والعلم والحكمة والغلبة والفضيلة والطيبة هي كلها من عند الحق، سبحانه وتعالى. لذلك على الإنسان في كل الأحوال أن يعتبر نفسه خاطئًا جاهلاً أسير النفس والهوى. فلا ينبغي له الشعور بالهمّ أو الألم إذا ما وصمه الناس بهذه العيوب التي هي في الواقع متأصلة فيه. بل على العكس ينبغي له أن يكون ممنونًا وشاكرًا ومسرورًا، ولكن في نفس الوقت يجب أن يشعر بعدم الرضى عن نفسه، وأن يطلب من الله أن يحميه من نفسه الأمّارة وميوله الطبيعية الدنيا.(17)

إن نفوسًا كهذه كانت بالفعل منقطعة حقًا عن “ملكوت الأسماء”. وليس من شك أنهم ممن كان حضرة بهاءالله يعنيهم عندما كتب:

“يا شيخ إن هذا الحزب قد اجتاز خليج الأسماء ونصب سرادقه على شاطئ بحر الانقطاع. يفدون بمائة ألف روح ولا يتكلمون بما أراده الأعداء. متمسكون بإرادة الله ونابذون لما عند القوم. ضحّوا برؤوسهم وما تفوهوا بكلمة غير لائقة.(18)

تدعم تعاليم حضرة بهاءالله أفكار النبيل الأكبر دعمًا كاملاً. يكفي الاستدلال بالأدعية والمناجاة العديدة النازلة من قلم حضرته حيث تزخر بفقرات يعترف فيها الإنسان بعجزه وجهله وفقره، وجبروت الله وحكمته وسلطانه.

([1])       انظر المجلد الأول، الصفحات 77-80.

([2])  لمّا كانت معرفة ذات الله أمرًا محالًا، فالإنسان يصل لمعرفته بمعرفة المظهر الإلهي. انظر المجلد الأول، الصفحات 185-187.

([3])  عبادة الله لا تنحصر بالصلاة والضراعة فقط، فقد رفع حضرة بهاءالله العمل الخالص لخدمة البشر إلى مقام العبادة لله.

([4])       انظر الصفحات 241-243.

([5])  “الأزل” من صفات الله. وقد مُنح هذا اللقب لميرزا يحيى الذي عُرف ﺒ”صبح الأزل”.

([6])       انظر المجلد الأول، الصفحات 95-100.

حجاب النفس

في “المثنوي” فقرات يوصي فيها حضرة بهاءالله الإنسان بخرق كل حجاب يحول بينه وبين الله. حينئذ فقط يستطيع مشاهدة جمال ربه وبهائه. والنفس إحدى هذه الحجبات. لأجل ذلك يدعو حضرته المرء لإيقاد نار في باطن نفسه لحرق كل أثر للنفس بحيث يختفي تمامًا مفهوم، بل وحتى لفظ “أنا” من وجوده. حقًا إن هذا واحد من أكثر تعاليم حضرته عمقًا. فالشخص الذي يسعى لإعلاء شأن نفسه والتبختر باسمه ويطمح لشهرته إنما يتصرف ضد مخطط الخليقة. مثل هذا الفرد يعرقل سريان عطايا الله إليه. قد يعتبر في الظاهر شخصًا أصاب كل النجاح في حياته، لكنه في الحقيقة أخفق بتحقيق الهدف الذي خلق من أجله. لأنه حينما يصل المرء للعظمة الحقيقية حينئذ يعترف بعجزه وعدم استحقاقه وضعفه. كما أنه يكتشف جهله عندما يصبح عالمًا حقًا. عندئذ تنعكس في باطنه صفات الله ويكون بوسعه منحها لغيره.

نجد بين تأملات عزيز الله مصباح العبارات التالية التي تتمثل فيها حياته الخاصة -حياة الانقطاع ونكران الذات:

أن يعرض الإنسان عن حب ذاته ويزيل كل أثر لأنانيته، فذاك برهان على إدراكه معنى الوجود والغاية من الحياة.(19)

إن الفرق بين المعرفة الحقيقية والتعلم المدرسي هو أن الأول يمنح النفس التواضع والوداعة، والآخر يدفع بِنَهَمٍ لا يمكن إشباعه لابتغاء المجد والتعالي.(20)

من بين أبرز الذين وصلوا إلى مقام العرفان الحقيقي كان ميرزا أبو الفضل، العلاّمة البهائي العظيم وأحد حواريي([1]) حضرة بهاءالله. اشتهر بعلمه الواسع ليس بين أفراد الجامعة البهائية فقط بل في الشرق عمومًا. كان حجّة معترفًا به في عدة مواضيع بينها التاريخ والفلسفة الإلهية، كما كان أستاذًا بارزًا في كل من الأدب العربي والفارسي. عُرِّف ذات مرة في الأوساط العلمية بمصر بأنه “سيد القلم، وعمدة التاريخ وحجر زاوية العلم والفضل.”

فيما يلي فقرة من مذكرات الدكتور حبيب مؤيد الذي عرف ميرزا أبو الفضل شخصيًا وكتب كثيرًا عن عظمته في تلك المذكرات:

سُئل مرة (أبو الفضل) عن كيفية حصوله على ذلك العلم والدراية الواسعة وكيف أصبح محط هذا العلم الموهوب من الله. فأجاب السائلين وقد بدت عليه علامات عدم الارتياح والغضب: ’من هو أبو الفضل؟ ما هو أبو الفضل؟ ما أنا إلاّ قطرة من المحيط الواسع لمدرسة حضرة بهاءالله. لو تدخلون أنتم أيضًا في هذه المدرسة، ستصبحون أستاذ أبو الفضل. إن كنتم لا تصدقوني اذهبوا إلى گلپايگان([2]) وتعرّفوا على أقاربي فيها وعندئذ سوف تفهمون.‘(21)

من القصة التالية يمكننا أن نحصل على لمحة من عظمته. في أوائل سنيّ هذا القرن كان حضرة عبدالبهاء قد أرسل ميرزا أبو الفضل إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتعميق أحباء الله المؤمنين بالأمر الإلهي. وعند عودته جلس هو والمؤمنون الزائرون الأمريكيون في محضر حضرة عبدالبهاء في عكاء، وبادر الزوار بالثناء على أبو الفضل لما قدّم لهم بأمريكا من عون مشيرين إلى أنه بلّغ أمر الله لعدة نفوس، ودافع عنه بكل كفاءة ضد خصومه وساعد في بناء جامعة بهائية قوية. ثم لمّا زادوا في إطرائهم واستمروا بالحديث عنه، ازداد ميرزا أبو الفضل غمًّا واكتئابًا، حتى انفجرت دموع عينيه وراح يبكي بصوت عال. فعجب المؤمنون الحاضرون واندهشوا دون أن يفهموا سبب ذلك، حتى ظنوا بأنهم لم يفوا بما يستحقه من إطراء!

بعدئذ بيّن حضرة عبدالبهاء بأنهم بمديحهم إياه قد سببوا له ألمًا مريرًا، إذ اعتبر أبو الفضل نفسه عدمًا صرفًا في أمر الله معتقدًا بكل خلوص بأنه لا يستحق أي ذكر أو ثناء.([3])

حقًا إن للبهائيين في ميرزا أبو الفضل أسوة حسنة يقتدون بها، إذ إنه طوال حياته كبهائي تجنّب إطلاقًا استعمال ضمير المتكلم “أنا” من أجل أن ينسب افتخارًا لنفسه.

([1])       يحتوي المجلد الثالث من الكتاب على معلومات أوفى عنه.

([2])       مسقط رأس أبو الفضل، حيث كان يعيش أقرباؤه. (أ. ط.)

([3])  توصّل المؤلف لهذه الرواية لصاحبها السيد هارلن ف. أوبر بواسطة أيادي أمر الله السيد جون روبرتس.

الشجاعة والتضحية

يبين حضرة بهاءالله في “المثنوي” عظمة أمره ويفصح بلغة فريدة عن شوق أنبياء الله ورسله للقائه والفوز بفيض ظهوره. ثم يثني على عشاق جماله الذين سرعوا بفداء حياتهم في سبيل الله، موصيًا إياهم بالثبات والاستقامة في ميدان الاستشهاد.

إن الذين عرفوا حقًا مقام حضرة بهاءالله ارتضوا بالاضطهاد والشدائد حبًا له. كانوا على علم بأن في إقبالهم إلى أمر الله خطر على حياتهم. بل في الواقع كانوا لا يضمنون سلامة عودتهم إذا خرجوا من منازلهم. ذلك لأن الأعداء كانوا دومًا متأهبين للانقضاض على كل من عُرِف بانتمائه للدين الوليد. لذا فإن الذين آمنوا بحضرة الباب وحضرة بهاءالله في أوائل أيام الظهور أدركوا بجلاء أنهم معرّضون في أي وقت للاستشهاد في سبيل الله. كان ذلك محكًا وامتحانًا لإيمانهم وقد بقيت الأغلبية العظمى منهم ثابتة راسخة حتى النهاية.

والوصف التالي لمشهد استشهاد أحد المؤمنين الأوائل، يبرهن على هذا الإيمان:

هذا هو أحد الذين فدوا حياتهم بنحو مؤثر بحيث بكى عليه الكثير ممن كانوا بين الجمهور الحاشد الذي حضر للميدان للسخرية من الضحية والتفكّه عليه قبل استشهاده. بل حتى قلوب الجلادين القساة الذين كلفوا باقتراف ذاك العمل الشنيع قد تأثّرت تأثرًا بالغًا.

كان البطل اللامع الذي ظهر في ذلك المشهد المأساوي علي أكبر الحكّاك، وهو شاب جذاب وسيم من مدينة يزد بإيران. كان نقّاشًا ماهرًا في حرفته، متزوجًا وله ولد في الرابعة من العمر اسمه حبيب الله. حالما وصلت يزد أنباء ملحمة نيريز هرع علي أكبر على الفور قاصدًا زيارة الموقع حيث حارب وسقط “وحيد” الشهير الذي لا يدانى مع عصبته من المجاهدين الأبطال. ولدى عودته إلى يزد ظهر عليه من السرور الروحي والحماس الجارف في تبليغ أمر الله ما أثار اعتراض الأعداء وحنقهم واستنكارهم فوصموه بأنه “بابي” وقبض الحاكم الجائر عليه بتهمة الكفر وأرسل تقريرًا إلى طهران طالبًا التعليمات بخصوصه.

ومرّ شهران تقريبًا دون وصول أية أنباء من طهران. فغُرّم السجين مبلغًا من المال وأطلق سراحه شرط أن يضع نفسه فورًا تحت تصرّف الحاكم لدى وصول القرار بشأنه.

ودون أن يعير المصير الوخيم الذي ينتظره أي اهتمام، انصرف علي أكبر إلى مزاولة عمله بروح من التسليم التام، إلى أن وردت رسالة من طهران بعد مرور ثلاثة أشهر تقضي بقتل كل من ينتمي إلى الدين البابي فورًا. وقد منح ذلك القرارُ الشائن الحاكمَ سلطات مطلقة لتنفيذ مآربه. وعليه قام مبكرًا في صباح يوم 15 تموز عام 1852م بإرسال رجاله للقبض على علي أكبر في منزله. وجيء به إلى مكتب الحاكم في الثكنات حيث جرى استجوابه.

ومع أن أهالي يزد عُرفوا بتعصبهم المتغلغل في أعماقهم ضد الدين الجديد واستعدادهم لأن يهبّوا ثائرين لمجرد رؤية شخص قد تميّز بأنه “بابي”، لكنهم رغم ذلك كانوا معجبين بعلي أكبر لما تحلّى به من مكارم الأخلاق النادرة وسحر المعشر. إضافة لذلك فإن شهرته كأحسن نقّاش قد حبّبته إلى قلوب كل من عرفه. حتى الحاكم والموظفون كانوا مترددين في تنفيذ إعدامه. فعملوا كل ما بوسعهم لإقناعه بإنكار عقيدته ولو شفويًا ليخلّص نفسه من الموت. ورغم كل ما اتّبعوه من وسائل الإقناع والتهديد والوعود فلم يستطع أحد أن يحمل هذا البطل الشجاع على الإنكار، أو كل أبهة الحاكم الجائر أو عزه أن يؤثر في هذا المؤمن رابط الجأش لكي يتخلى عن إيمانه ويشتري حياة زائلة. أثار ذلك غضب الحاكم إذ لم يحتمل أن يجد من يجرؤ على تحدي سلطته مصرًا على رأيه.

استبد بالحاكم الغضب بحيث استدعى القهرمان (فراش باشي-رئيس الشرطة) وأمره بتنفيذ إعدام هذا البابي العنيد بربطه إلى فوهة المدفع فورًا وإطلاقه، فأحيل الأمر حالاً إلى فرقة المدفعية وأخرجوا مدفعًا من الثكنات ونصبوه في الساحة العامة المجاورة. بعدها قاد القهرمان سجينه علي أكبر مصحوبًا بالجلاد إلى الساحة التي تجمّع فيها جمهور النظارة.

كل هذا والقهرمان لا زال يحاول ابتكار أحذق السبل لترهيب السجين وترغيبه أملاً بالعدول عن إصراره وبمحاولة يائسة لتحطيم روحه المعنوية وجعله يتخلى عن ولائه للدين الجديد.

كان المدفع الذي تقرر إطلاقه من طراز قديم يُعبأ من فوهته، وإذ كان القهرمان يعلم أن المدفع لم يُعبأ بعد، خطرت بباله فكرة تمثيل إعدام وهمي آملاً أن يتزعزع السجين تحت تأثير الرعب الذي يثيره مثل ذلك الموقف الرهيب عادة. فصاح بنبرة حادة ونظرة جادة آمرًا الجلاد أن يسرع بربط السجين وشدّه إلى فوهة المدفع وإطلاقه دون توان. وهكذا تم ربط علي أكبر إلى المدفع وترك في ذلك الوضع المخيف لفترة طويلة من الوقت بينما تظاهر طاقم المدفع من الجنود بحركات توحي بإعداده للإطلاق في أية لحظة.

في أثناء ذلك راح القهرمان يرقب علي أكبر عن كثب ويحثه على الإنكار. إلاّ أنه دهش عندما اكتشف عكس ما كان يأمل إذ إن علي أكبر لم يهتز ويرتعش خوفًا بل ظل ملازمًا هدوءه وثباته طوال الوقت. أدرك عندها بأن وسائل التخويف لم تجد نفعًا. فتوجّه نحو الجلاد طالبًا إيقاف عملية الإطلاق الوهمية ثم إطلاق سراح الضحية.

وفي ذلك الوقت (قرب الحادية عشرة قبل الظهر) امتلأ الميدان بجمهور حاشد من المتفرجين المترقبين بتبلّد وحيرة.

حالما فُكّ وثاق علي أكبر تقدّم إليه القهرمان معبّرًا له عن مشاعر المواساة بشيء من الخلق الطيب. ثم اصطحبه إلى غرفة عمومية مجاورة وأجلسه إلى جواره فوق منصة صغيرة. عاد مجددًا يحثه بكل جدية على إنكار عقيدته وإنقاذ حياته، ولكن باءت كل جهوده بالفشل. في وجه ذاك الامتحان الرهيب جلس علي أكبر كالصخرة ثباتًا وهدوءًا لا يتنازل بشيء عن موقفه. بينما كانت تلك اللحظات الأليمة تتتابع أيقن القهرمان بوضوح مرير أن ما من شيء يمكنه حمل هذا الشاب الذي لا يقهر على الإنكار. عندئذ عاد خائبًا مخذولاً إلى موقع الإعدام وأمر طاقم المدفع بحشوه بالبارود فورًا. مع ذلك راودته فكرة في تلك اللحظة أملاً في زعزعة عزيمة الضحية. فبعث برجاله لإحضار زوجة المحكوم عليه وطفله للحضور إلى عين المكان، وهو تحد عظيم وفتنة كبرى بلا شك. بعد لحظات وصلت الزوجة المسكينة بحالة فزع وهي تمسك بيد طفلها الذي بدا لطيفًا وسيمًا في أحسن ملابسه.

قابلت زوجها وهي تبكي بمرارة وحرقة متوسلة: ’تعال وارحم هذا الطفل، فما عساي أن أفعل بعدك؟‘ قالتها وهي تجهش بالبكاء، لكن علي أكبر لم يجبها، بل أدار ظهره لهما. مرة أخرى عادت الزوجة ومعها الطفل ووقفا أمامه. رمت بنفسها عند قدميه ترجو وتتوسل. لكن علي أكبر بقي ساكنًا وأدار ظهره ثانية. عندئذ تقدّم طفله وأمسك بذيل ردائه متوسلاً: ’أبتاه، أبتاه. لماذا تدير ظهرك لي؟ هل لم تعد تحبني؟‘

لا شك أن تلك الكلمات البسيطة المؤثرة كان لها وقع أعظم وأشد من أي شيء آخر في قلب علي أكبر. وربما لم يحتملها إذ شوهد يرفع رأسه إلى السماء وكأنه يناشد الحق قائلاً: ’أي رب أتوسل إليك بأن تجنبني مزيدًا من الافتتان.‘

بعد ذلك وصلت المأساة ذروتها عندما تأهب الجمهور في جو مشحون بالأسى والقلوب تعصر ألمًا وأسفًا للخاتمة، والدموع تنهمر حتى من عينيّ القهرمان.

أخيرًا زالت كل بارقة أمل لدى القهرمان بإقناع هذا البطل الشهيد بالتخلي عن عقيدته بعد أن أظهر لهم روح التجرد والثبات على الإيمان. فقام متثاقلاً تحت وطأة الخيبة المريرة وقرر إنهاء المشهد المأساوي حالاً بتنفيذ قرار الحاكم.

فأعيد ربط الضحية آنئذ حول فوهة المدفع على مرأى من زوجته الملتاعة وطفله. ولمّا تم ذلك أخليت الساحة المجاورة للموقع من الناس، إلاّ أن الطفل رفض الابتعاد عن أبيه وراح يبكي متوسلاً: ’خذوني قرب أبي، أريد أن أذهب بقربه!‘

حانت النهاية المروعة، وتملّك النفوس شعور بالتوتر مصحوب بالهلع والذهول التي عمّت كل الجمهور في الميدان.

بإشارة سريعة من القهرمان أشعل المدفعي فتيل البارود الذي وضع لينسف الضحية ويقذف به إلى السماء، قطعًا متناثرة بلمح البصر. لكن لشدة دهشة الجمهور فلم تنفجر العبوة! أعادوا إشعالها مرة أخرى وأخرى دون أن تنفجر. كادت أنفاس الجمهور تخمد وهم ينظرون بِحيرة وبلادة كأنهم مسحورون.

هرع القهرمان إلى الضحية وخاطبه باسمه قائلاً: ’إننا كما تعلم لا نريد قتلك، والآن يبدو أن الله أيضًا لا يريد ذلك. أفلا ترحم طفلك؟‘ لكنه لم يتفوه بكلمة، حتى عندما قدمت إليه زوجته التي كاد الفزع أن يصعقها وطفلها، بقي على هدوئه وعدم اكتراثه السابق.

في أثناء ذلك انصرف المدفعي لإعداد عبوة أخرى بينما توقف القهرمان متأملاً للحظة يحدوه الرجاء والتوقع، فلعل علي أكبر يستسلم الآن، ويدلي بكلمة الإنكار، أو لعل يحدث أمر ينقذ حياته.

لكن فيما يتعلق بعلي أكبر نفسه فإن التنازل أمر لا يخطر بباله ولا يمكن التفكير به… فإن روحه كانت متلهفة للتضحية بالجسد الضعيف حبًا لمولاه والعروج إلى مقر المحبوب. لقد أزف الوقت وحانت الفرصة لذلك… وقد كان في ثباته الفريد الذي تأخر واستطال ذاك النهار عبرة لكي تؤكد الفارق الكبير بين سمو تفكيره ونبله وبين ضآلة ما كان يدور بخلد القهرمان.

فلا بد أن روحه كانت أبعد ما تكون عن الاضطراب والهلع، بل على العكس كانت في غاية الاستبشار والرضى والاستقرار حينما أعطى القهرمان الإشارة مرة أخرى للإطلاق وهو في منتهى القنوط والبلبلة.

وهذه المرة وفي لحظة سريعة تناثر جسد علي أكبر في خضم فرقعة من النار والدخان وارتفع عاليًا في السماء ثم خر كشهب صغيرة مصحوبة برذاذ قرمزي وتناثرت أشلاؤه هنا وهناك على أرض الميدان.

أصدر الحاكم أمرًا بترك أشلاء جسده في مكانها حتى غروب الشمس لكي تطأها أقدام البشر والدواب.

جاءت حادثة الاستشهاد تلك كصاعقة لعموم أفراد المؤمنين الأوائل ولا سيما زوجة الشهيد نفسه حيث لم يكن لحزنها حدود وظلت تبكي وتضرب بكفيها على رأسها نائحة متفجعة.(22)

على نقيض ذلك النموذج البطولي كان هناك من كانوا يفرّون بعيدًا عن أتباع حضرة بهاءالله لئلا يوصموا بأنهم من أتباع أمره.

دوّن الحاج محمد طاهر المالميري في مؤلّفه المسهب، “تاريخ الأمر في إقليم يزد”، هذه الرواية المشوقة عن شخص اسمه السيد أبو القاسم بيضاء:

كان آقا سيد أبو القاسم تاجرًا وشاعرًا موهوبًا. أمّا لقبه الأدبي فهو “بيضاء”، وكان مواطنًا محترمًا جدًا يعاشر البارزين من التجار وأشراف المدينة. عرف أيضًا بشدة تمسكه بالإسلام وصدقه واستقامته. وكان حفيد الحاج الملا رضا، قارئ الروضة المشهور (القارئ الممتهن رواية مأساة كربلاء حيث استشهد الإمام الحسين بن علي) والذي كان من سكان محلة “مالمير” مجاورًا لهذا العبد([1]) عندما أراد السيد أبو القاسم زيارة جدّه كان طريقه من قبالة دار هذا العبد. ونظرًا لاشتهار دارنا بأنها دار “البابيين”، وخوفًا من تعرّضه وتأثّره بالمفعول “الخبيث” المنبعث من هذه الدار (حسب ما كان يعتقده العوام)، كنا نراه يمر راكضًا بسرعة كبيرة! لكن أخيرًا اعتنق هذا الرجل أمر الله وصار يحضر المجالس في دارنا، وغالبًا ما يستعيد ذكريات طفولته قائلاً: ’كلما مررت بهذه الدار كان يرتجف كل كياني بحيث أشعر بنفسي مضطربًا مهزوزًا طوال ذاك اليوم.‘(23)

يروي الحاج ميرزا حيدر علي قصة مماثلة نوعًا ما حينما كان مقيمًا في خان للمسافرين برفقة بعض المؤمنين بإحدى مدن إيران. ويصف كيف أن رجلين طرقا بابه ذات ليلة بدافع الفضول للتعرف على معتقدات البهائيين. بعد ساعات من الحوار آمن أحدهما بأمر الله، كما ترويه القصة التالية:

آمن أحدهما بأمر الله بينما أخذ الآخر، الذي كان مقيما في نفس الخان، “كتاب الإيقان” إلى غرفته ليتعرف على حقيقة أمر الله. حدّثني بقصته شخصيًا بقوله:

’كنت أجلس وأطالع ليلاً لكن سرعان ما تملكني خوف لئلا يدخل عليّ أحد ويكتشف عندي كتابًا للبابيين، وعندها ستكون نهاية حياتي وكل ما ملكت. لذا كنت أعمد لقفل الباب ثم الاستمرار بالقراءة. لكن هواجسي صارت توحي لي مجددًا بالخوف من أن بعض الناس قد يشك في أمري إذا قُفل باب غرفتي مبكرًا في الليل بينما أنتم البابيون([2]) ما زلتم في الخان مما قد يؤولونه بأني أقبع في غرفتي لأقرأ كتابًا من كتبكم. بل راحت الهواجس أبعد من ذلك حيث أوّلت عزلتي المبكرة في غرفتي بأن البابيين تركوا كتابهم عندي ثم رحت أنام مبكرًا حتى أستيقظ ليلاً لأطالعه بمزيد من الهدوء والاطمئنان. واختصارًا للقول فإني انتهيت إلى القرار بأخذ الكتاب إلى الإسطبل وتركه هناك. عدت بعدها لغرفتي وجلست متفكرًا متحيرًا، لا أدري كيف سأتمكن أخيرًا من قراءة هذا الكتاب…‘

عند ذاك قرر تلاوة القرآن الكريم وإقامة الصلاة. ثم استمر قائلاً:

’توجّهت إلى الله العليم الرحيم بقلب تختلج فيه مشاعر العجز والمسكنة ونكران الذات، سائلاً عونه ليهديني صراط الخلاص ويمنحني سلسبيل الحياة. في لحظة بارقة وعيت على أني كنت بدرجة من الهم والحذر والارتعاد خوفًا لمجرد الإقدام على قراءة هذا الكتاب! تساءلت في نفسي، ترى كم كانت شجاعة كاتبه وقوة قلبه حيث أخرج الكتاب إلى الوجود من قلبه ولسانه وعلمه! نفس ذلك يعتبر معجزة. ثم أية قدرة وقوة نفوذ لديه بحيث عمرت قلوب العديد من النفوس بمثل هذه الشجاعة والاقتدار ومكنتهم من الترحيب بالاستشهاد.‘(24)

يمضي الحاج ميرزا حيدر علي ليصف كيف اعتنق هذا الرجل أمر الله وبلغ من الشجاعة بحيث كان يستغل ما تيسر له من وقت أثناء عمله لاستنساخ “كتاب الإيقان” وتبليغ الناس جهرًا.

إن هذه الأحداث، وما أكثرها شيوعًا في تلك الأيام، تدلل بوضوح على أن من آمن بحضرة الباب وحضرة بهاءالله لم يؤمنوا بالدين كونه جديدًا مثيرًا، ولا طمعًا بمكسب شخصي أو بسبب العاطفة. بل إن هذا الأمر الإلهي قد عُمِّد بنار المحن والبلاء والاستشهاد، ونفوس الأبطال الذين اعتنقوه أقبلوا إليه بعد ما اعترفوا حقًا بعظمته وبهائه فانقلبوا خلقًا جديدًا بديعًا.

يشرح حضرة بهاءالله في أحد ألواحه(25) كيف أن كل ما مر على أحبائه من إنكار العلماء وإعراض الجهلاء واعتراضهم، قد صار كالمصفاة التي منعت النفوس غير اللائقة عن الدخول في أمر الله. في اللوح نفسه يدعو حضرته أتباعه ليعرفوا قدر هذه الأيام التي فيها اختار الله فئة قليلة فقط للإيمان به. ويصرح مبيّنًا أنه في أيام ارتفاع أمر الله وغلبته الظاهرة (في المستقبل)، فإن كثيرين من “النفوس المردودة” (غير اللائقة) سوف يدّعون الإيمان به.

عندما كان حضرة بهاءالله في بغداد بعث شخص من الطائفة الشيخية، اسمه ميرزا محيط الكرماني، رسالة إلى حضرة بهاءالله بواسطة الأمير كيوان ميرزا. وكان ميرزا محيط قد اجتمع بحضرة الباب من قبل واتخذ منه موقفًا معارضًا لكن بالخفاء. والتمس في رسالته ملاقاة خاصة مع حضرة بهاءالله في ساعة متأخرة من إحدى الأمسيات لئلا يطّلع أحد على اجتماعه ذاك سوى الأمير المذكور. كان السبب في مراعاة السرية هذه الحفاظ على مكانة ميرزا محيط في المجتمع المسلم، إذ لو أشيع خبر لقائه بحضرة بهاءالله لدى العموم لتزعزعت سمعته وسقط اعتباره. وقد طلب حضرة بهاءالله من الأمير مشاركة ميرزا محيط ببيتين من قصيدة ألّفها في كردستان، يبيّن فيها الشروط التي يجب أن تتوفر في من يريد لقاء حضرته. ويمكن ترجمة هذين البيتين بما يلي:

’إن أردت أن تتمتع بالحياة الدنيا فلا تقرب لساحتنا وإذا كان مرغوب فؤادك التضحية فاحضر واحضر غيرك معك فهذا هو سبيل الإيمان إن كنت تريد أن تسلك بقلبك مع البهاء وأمّا إذا كنت ترفض أن تتّخذ هذا السبيل فلماذا تتعبنا؟‘

نُقل عن حضرة بهاءالله أنه قال للأمير: ’اذهب إليه فإنه لو أراد لأسرع لمقابلتنا دون قيد ولا شرط وإلاّ فإني لا أريد أن أراه.‘(26)

عندما سمع ميرزا محيط بذلك، لم يجد لديه الشجاعة الكافية للذهاب والاجتماع بحضرة بهاءالله، وبعد بضعة أيام مات.

يتطرّق حضرة بهاءالله في “المثنوي” إلى مواضيع أخرى عديدة ويكشف عدة أسرار لا يستوعبها مجال هذا المجلد. ذلك لأن هذه القصيدة التي تنبض حيوية وتهز الروح عبارة عن مخزن عجيب للحكمة الإلهية، والتي يستحيل استنفادها.

([1])       الحاج محمد طاهر المالميري.

([2])  ظل البهائيون في إيران لمدة طويلة معروفين باسم “البابيين”، ويخلط بعض الناس بين الاثنين حتى الآن.

﴿ 3 ﴾ النفي إلى أدرنة

عندما نتأمل الظروف التي أدّت بالحكومة العثمانية لإبعاد حضرة بهاءالله عن بغداد، نستذكر كيف رفضت تلك الحكومة على الفور طلب تسليم حضرته إلى السلطات الإيرانية كما كانت مترددة في نفيه من بغداد. في رسالة كتبها حضرة عبدالبهاء لأحد أقربائه بإيران حينما كان في حديقة الرضوان قبيل الرحيل إلى الآستانة يذكر فيها أن السفير الإيراني، الحاج ميرزا حسين خان، بعد فشله في الضغوط والإلحاح على الحكومة العثمانية، بلغ به شعور الخيبة واليأس لدرجة أنه قطع كل علاقة بأصدقائه في الأوساط الحكومية، وقبع في داره مدة سبعة أيام رافضًا مقابلة أي من وزراء السلطان. لكن أخيرًا استجاب عالي باشا،([1]) الذي كان من أصدقاء السفير المقربين، ولم يجد بديلاً آخر سوى الرضوخ وأمر بإبعاد حضرة بهاءالله عن بغداد.

أمّا الآن، وقد وصل حضرة بهاءالله إلى الآستانة، فقد بذل سفير إيران جهده يائسًا في تشويه سمعة حضرته لتأليب السلطات ضده وتأمين موافقتهم على نفيه إلى جهة أبعد. في اليوم التالي لوصول حضرة بهاءالله إلى الآستانة أرسل السفير اثنين من أبرز رجال حاشيته، وهما الأمير شجاع الدولة والحاج ميرزا حسن الصفا، لزيارة حضرة بهاءالله نيابة عنه. كان يتوقع طبعًا أن يردّ حضرته الزيارة بنفسه، لكنه سرعان ما تبين له بأن ذلك لن يحدث. فقد جرى العرف في تلك الأيام بالنسبة لضيوف الدولة البارزين أن يقوموا بزيارة شيخ الإسلام([2]) ورئيس الوزراء وغيره من كبار الموظفين. في أثناء زيارات كهذه كان بعض الزوار يحصلون على مآربهم ويقضون مصالحهم بالتوسل لأهل النفوذ وعقد الصفقات معهم بقصد ضمان تأييد السلطات ودعمها لهم. لكن حضرة بهاءالله رفض عمل ذلك بل حتى لم يردّ زيارة بعض وزراء السلطان الذين زاروه من قبل لإبداء احترامهم وترحابهم به.

وقد قام كمال باشا وقليل آخرون بتذكير حضرة بهاءالله بذلك العرف الاجتماعي الجاري بينهم. كان رد حضرته هو أنه على دراية بذلك، ولكنه لم يكن لديه مطالب أو حوائج يسعى لنيلها من أحد ولا يريد حسنة منهم، وعليه فليس من سبب لزيارته لأحد. يشير حضرته إلى ذلك في “سورة الملوك” بما يلي:

“ثم ذكّر حين الذي وردتَ في المدينة وظنوا وكلاء السلطان بأنك لن تعرف أصولهم وتكون من الجاهلين. قل إي وربي لا أعلم حرفًا إلاّ ما علّمني الله بجوده وإنّا نقرّ بذلك ونكون من المقرّين.

قل إن كان أصولكم من عند أنفسكم لن نتّبعها أبدًا وبذلك أُمرت من لدن حكيم خبير وكذلك كنت من قبل ونكون من بعد بحول الله وقوّته.”(1)

استغل سفير إيران موقف حضرة بهاءالله المتجرد ذاك وعمد لاستعماله بهدف إبراز حضرة بهاءالله للبلاط السلطاني على أنه شخص مغرور متكبر يضع نفسه فوق كل قانون. حقق السفير ذلك بصفة رئيسة عن طريق نفوذ الحاج ميرزا حسن الصفا. كان الأخير رجلاً متعلمًا تنقّل كثيرًا في بلدان أفريقيا وآسيا وكان مقيمًا بالآستانة حينما وصل ميرزا حسين خان إليها بصفة سفير. بعد ذلك أصبح من أقرب أصدقائه المؤتمنين. وكان الحاج شخصية بارزة بين جماعة المتصوفة في الآستانة وله احترامه الكبير في الأوساط الحكومية، إذ كان للصوفية اعتبار عظيم في تلك الأيام في البلاد.

خلال فترة إقامة حضرة بهاءالله في الآستانة زاره الحاج ميرزا حسن أكثر من مرة. وبالرغم من أنه أصبح مدركًا لعلم حضرة بهاءالله اللدني وأظهر احترامًا وتواضعًا بَالِغين في محضره، إلاّ أنه في الخارج كان يعمل ضده. استغل السفير معرفته لمدى الاعتبار الذي يحمله الحاج لدى الباب العالي (رئاسة الوزراء) لترويج تقارير كاذبة في الأوساط الحكومية حول تصرف حضرة بهاءالله وطموحاته. وفعلاً تمكن هذا الرجل، وبكل كفاءة، من إعانة سفيره في حملة لتلطيخ اسم حضرة بهاءالله وتشويه سمعة أمره.

أخيرًا أثمرت دسائس ميرزا حسين خان. فقد رفع رئيس الوزراء، عالي باشا، تقريرًا إلى السلطان ضمّنه طلب الحكومة الإيرانية إبعاد حضرة بهاءالله إمّا إلى بورصة أو أدرنة. اقترح على السلطان نفيه إلى الأخيرة ومنحه مبلغًا قدره 5000 قرش شهريًا تصرف لحضرة بهاءالله للمعيشة، مضيفًا بأنه قد حل ضيفًا على الحكومة في الآستانة خلال إقامته بها. كما أنه أرفق تقريره بقائمة([3]) تضم أسماء أصحابه الذين رافقوه منذ مغادرة بغداد إلى الآستانة.

صادَقَ السلطان على مضمون التقرير حال استلامه وأصدر الفرمان في اليوم التالي. أوجز حضرة شوقي أفندي الأحداث التي انتهت إلى مرحلة النفي الجديد بهذه الكلمات:

وكلف صهر الصدر الأعظم المحترم، ولا أقل، بأن يحيط الأسير علمًا بالفرمان الصادر ضده. وهو فرمان أوضح طبيعته تعاون الحكومتين التركية والإيرانية ضد خصمهما المشترك، وكان له في النهاية أوخم العواقب على السلطة والخلافة وعلى آل قاجار. ورفض حضرة بهاءالله أن يأذن لهذا الرسول، وانتدب حضرة عبدالبهاء وآقاي كليم للقائه. فاكتفى الرسول بإبداء ملاحظاته الصبيانية وتصريحاته التافهة، وأخبرهما بأنه سوف يعود بعد ثلاثة أيام ليتلقى الجواب على الفرمان الذي كلف بإبلاغه.

وفي ذلك اليوم أنزل حضرة بهاءالله لوحًا شديد اللهجة وفي صبيحة اليوم التالي دفعه بغلاف مختوم إلى شمسي بيك، وكلّفه أن يسلّمه إلى عالي باشا، وأن يقول له إنه نزل من عند الله. وفيما بعد قال شمسي بيك لآقا كليم: ’لم أكن أعرف فحوى الكتاب إلاّ أن الصدر الأعظم ما كاد يتصفحه حتى شحب وجهه وامتقع قائلاً: (كأني به ملك الملوك يصدر أوامره إلى أصغر ولاته ويرشده إلى المسلك القويم). وساءت حاله إلى درجة أنني فضلت الانسحاب‘. ومما يروى أن حضرة بهاءالله علّق على تأثير ذلك اللوح بقوله: ’بعد وقوف وكلاء السلطان على مضمونه فإنه يمكن تبرير الأعمال التي مارسوها ضدنا وأمّا ما عملوا قبل وقوفهم على مضمونه فليس له أي مبرر.‘

كان ذلك اللوح طويلاً بصورة ملحوظة، على حد وصف النبيل، وكانت كلماته الأولى الموجهة إلى السلطان نفسه، تندد بوزرائه وتفضح عدم نضجهم وقلة اقتدارهم. واشتمل اللوح على فقرات موجهة إلى الوزراء أنفسهم، يتحداهم فيها بجرأة، ويعنّفهم على تباهيهم وتفاخرهم بزخارف الدنيا ومتاعها، وجريهم المحموم وراء المال والثروة التي لن يقر للدهر قرار حتى يسلبهم إياها.

وفي مساء الرحيل، الذي حدث بعد توقيع فرمان النفي مباشرة، أرسل حضرة بهاءالله مع الحاج ميرزا حسن الصفا سابق الذكر، أثناء جلستهما الأخيرة الخالدة، يقول للسفير الإيراني: ’ماذا استفدت أنت وأمثالك من قتلكم الكثير من المضطهدين كل عام وصبّكم البلايا على رؤوسهم، حين زاد عددهم مائة ضعف ووجدتم أنفسكم في حيرة من أمركم لا تدرون كيف تحررون رؤوسكم من هذه الفكرة الخبيثة… تعالى أمره تعالى عمّا تكيدون. ألا فاعلم هذا علم اليقين لو اتحدت كل حكومات الأرض وقضت عليّ وعلى كل من يحمل هذا الاسم لما خمدت هذه النار الإلهية. بل إن أمره ليحيط عندئذ كل ملوك الأرض، لا بل كل ما خُلق من ماء وطين… وما من شيء يصيبنا من بعد إلاّ كان سببًا لنصرتنا وخذلانهم.‘(2)

وليلة مغادرته متوجهًا لأدرنة أوعز حضرة بهاءالله إلى النبيل الأعظم([4]) وميرزا آقا الملقب ﺒ”منيب”([5]) بالتوجّه إلى إيران لنشر أخبار حضرته بين البابيين وتبليغ أمر الله والمساعدة في تفهّمهم واعترافهم بمقامه. إلى جانب هؤلاء أرسل تلك الليلة نفرًا آخر ممن كانوا حوله وهم: آقا محمد باقر الكاشاني، خياط باشي الكاشاني، آقا حسين النراقي، مير محمد المُكاري،([6]) وآقا سيد حسين الكاشاني. كان الأخير معروفًا بروح الفكاهة والمرح بحيث لم يتحرّج أحيانًا من الدخول بمحضر حضرة بهاءالله وإلقاء نكتة أو تعليق يضحك حضرته.

شهدت تلك الليلة اضطرابًا عظيمًا ذلك لأن مجرد التفكير بالانفصال عن محبوبهم جعل أتباع حضرة بهاءالله يجهشون بكاءً. إلاّ أن حضرته أبقى آقا محمد علي الصبّاغ من يزد في الآستانة نظرًا لأهمية وجود واسطة اتصال مع الأحباء المؤمنين في إيران علاوة على تقديم المعونة للذين يمرون بتلك المدينة. ظل المؤمن المذكور في موضعه نحو عامين لحين ورود آخرين حلّوا محله وتسلّموا واجباته. توجّه بعد ذلك لأدرنة والتحق بأصحابه المنفيين وعاد إلى جوار مولاه من جديد.

في يوم مغادرة حضرة بهاءالله الآستانة، وصل أحد المؤمنين المخلصين، واسمه ميرزا مصطفى، قادمًا من نراق بإيران وكان قد آمن بأمر حضرة الباب في أيامه الأولى. في أثناء إقامة حضرة بهاءالله بالعراق زار البلاد وحظي بلقاء حضرته هناك وبقي مقيمًا فيها لبعض الوقت، ورأى بهاء مولاه الذي كان ما زال مستورًا عن أعين العباد. أمّا في الآستانة فلم تتح له إلاّ مناسبة واحدة فاز فيها بمحضر حضرة بهاءالله عندما دعاه وأوعز إليه بالتوجّه إلى إيران لتبليغ أمره. صدع بالأمر وذهب إلى آذربيجان. فيما يلي كلمات حضرة عبدالبهاء في حق هذا المؤمن البطل:

… وما أن وضع (ميرزا مصطفى) قدمه في آذربيجان حتى أخذ في تبليغ أمر الله وكان لا يفتأ يتلو الأدعية ليل نهار ولعبت في رأسه صهباء الإيمان وهو في مدينة تبريز فهام من شدة الوله الروحي وانكبّ على التبيلغ بكل ما أوتي من قوة وما لبث أن حضر إلى آذربيجان حضرة الفاضل الكامل والعالم النحرير الشيخ أحمد الخراساني فاتصل به، وقاما معًا يدًا واحدة على خدمة أمر الله، وذلك بكل اشتياق ووله وهيام. ولم يتورعا عن التبليغ جهارًا بين القوم فأدى الحال إلى قيام أهالي تبريز ضدهما ومعاداتهما.

قام القهارمة بإلقاء القبض على آقا ميرزا مصطفى لأنهم عرفوه في أول الأمر بخصل شعره التي كانت غير ظاهرة لهم حال إلقاء القبض عليه فما كان من المذكور إلاّ أن رفع القبعة من على رأسه وقال ها هو شعري المجعد فلا يدخلكم شك في أنني ذلك الشخص الذي أنتم وراءه. فأخذوه هو وذلك الشيخ العظيم وقاموا بتعذيبهما بكل شدة وفي آهر الأمر أسقوهما الكأس الطافحة بصهباء الشهادة في مدينة تبريز فانتقلا إلى الأفق الأعلى. وحدث أن قال آقا ميرزا مصطفى للجلاد: ’أرجوك أن تقتلني أولاً حتى لا أشاهد استشهاد حضرة الشيخ.‘(3)

كان مألوفًا حين تنفيذ الإعدام أن يتوجّه الضحية نحو قبلة الإسلام.([7]) لكن ميرزا مصطفى استدار متوجهًا إلى أدرنة. وعندما ذكّر بتغيير وجهته نحو القبلة رفض قائلاً: ’هذه هي القبلة الحقيقية‘. ثم صاح ’يا بهاء الأبهى‘.

شهيد آخر ضحّى بحياته في المناسبة نفسها في سبيل الله كان الملاّ علي نقي النيشاپوري. نفذ إعدام أولئك الشهداء الثلاثة بأمر من السردار عزيز خان حاكم تبريز بقطع رؤوسهم في عام 1283ﻫ (1866-1867م) في الميدان الذي استشهد فيه حضرة الباب. لقد خص حضرة بهاءالله ميرزا مصطفى بعدة ألواح، كما أشار إلى استشهاده في بعض كتاباته.([8]) وسمّى حضرته ابن ميرزا مصطفى بعد استشهاده باسم والده. ثم أذن لذلك الابن وأمه بشرف الخدمة في البيت المبارك في عكاء. لكن بعد صعود حضرة بهاءالله انضم ميرزا مصطفى (الابن) إلى الذين نقضوا العهد وتمرد ضد حضرة عبدالبهاء.

تم ترحيل حضرة بهاءالله وعائلته –من ضمنهم أخواه المخلصان ميرزا موسى، الملقب بآقا كليم، وميرزا محمد قلي وكذلك ميرزا يحيى-([9]) إلى مدينة أدرنة في شهر كانون الأول الذي كان من أشد الأشهر برودة عرفتها تركيا لعدة سنوات. كان اسم الضابط المكلف بالرحلة علي بيك يوزباشي. استنادًا لبيان من ميرزا آقا جان، يبدو أن حضرة بهاءالله كان مصحوبًا باثني عشر من أصحابه(4) في تلك الرحلة. من بينهم كان السيد محمد الإصفهاني سيئ الصيت الذي صارت روحه الشريرة تلقي بظلالها باطراد في نفوس جماعة المنفيين. إذ جلب بنفوذه الشيطاني الكثير من الألم والعذاب لقلوبهم وأوقعهم في فتن وامتحانات شديدة.

يخاطب حضرة بهاءالله في “سورة الملوك” السلطان عبد العزيز، ويتحدث عن قدومه لمدينة الآستانة في جلال مبين، بينما رحل عنها “بِذلة التي لن تقاس به ذلة في الأرض“.(5) ويذكر كذلك بأي حال أبعدوا إلى أدرنة هو وأحباؤه وما تعرضوا له وتحملوه من مشقة وعناء في الطريق إلى تلك المدينة وحين الوصول إليها. فيما يلي بعض من كلمات وصفه لذلك: “ولم يكن لأهلي وللذين هم كانوا معي من كسوة لتقيهم عن البرد في هذا الزمهرير”، “بكت علينا عيون أعدائنا ومن ورائهم كل ذي بصر بصير…”(6)

لا شك في أن ظروف إبعاد حضرة بهاءالله كانت تحمل طابعًا مهينًا إلى جانب كونها مأساة بحد ذاتها. فلم تدع السلطات لحضرته أو لجماعته وقتًا كافيًا للإعداد لهذا السفر الطويل الشاق. من جهة أخرى تمت الرحلة في شتاء شديد البرودة تجمدت فيه عدة أنهر بحيث كانوا يضطرون لإشعال نار أثناء السفر لإذابة الثلج من أجل الحصول على الماء. أمّا المسافرون، وكان من بينهم نساء وأطفال، فلم تكن كسوتهم كافية لتقيهم شدة البرد، وقد حشر بعضهم في مركبات مخصصة لنقل البضائع بينما ركب الآخرون الدواب. فيما يلي ما كتبه حضرة شوقي أفندي عن تلك الرحلة:

سار المنفيّون المتعبون وسط الأمطار والأعاصير، وفي بعض الأحيان كانوا يسافرون ليلاً. وتوقّفوا فترات قصيرة في كوچك چكمچة وبويوك چكمچة وسَلوَري وبركاس وبابا إيسكي ثم بلغوا أدرنة غرة رجب سنة 1280ﻫ (الموافق للثاني عشر من كانون الأول سنة 1863م). ونزلوا أول الأمر في خان العرب وهو خان ذو طابقين يقع بجوار بيت عزت آقا. وبعد ثلاثة أيام خصص لحضرة بهاءالله وأهل بيته منزل صيفي يقع في حي المرادية بالقرب من التكية المولوية. وبعد أسبوع انتقلوا إلى منزل آخر يقع بجوار المسجد في الحي نفسه. إلاّ أنهم بعد ستة أشهر تقريبًا تحوّلوا إلى منزل أوسع يعرف ببيت “أمر الله”، يقع على الجانب الشمالي من مسجد السلطان سليم.(7)

إن المنزلين في المرادية متهدمان تمامًا حاليًا. وقد وصف شاهد عيان المنزل الثاني على أنه قصر ذو ثمانية عشر غرفة وحمام تركي. وبعد وصول أصحاب حضرة بهاءالله بفترة قصيرة، وجدت منازل لهم في مكان آخر. وشرعوا، كما وجههم حضرة بهاءالله، بمباشرة أعمالهم في الحرف والتجارة في المدينة.

سرعان ما ذاع صيت حضرة بهاءالله بعد وصوله لأدرنة ووعى سكانها عظمته ونفذت في أعماقهم بصمات حبه الحقيقي وسجايا شخصه السامية. فانجذب إليه عليّة القوم، بمن فيهم حاكم المدينة وكبار موظفيها، وأهل العلم والتحضر، وتبيّن لهم للتو بأنه كان مصدر كل علم ومعرفة وتجسيد كل فضيلة. من بينهم من أقبل إليه بخلوص نية جالسًا عند قدميّ حضرته مستنيرًا من فيوضات الروح بين يديه. بلغ التقدير والإجلال لحضرته بحيث حينما سار في الشوارع والأسواق وقف الناس وانحنوا أمامه. كان احترامهم وتبجيلهم له عميقًا وقلبيًا. لقّبه عامة الناس ﺒ”شيخ أفندي”، وهي تسمية تنطوي على احترام كبير في ذاك الوقت.

لم يظهر حضرة بهاءالله في المجتمع بأدرنة كما كانت الحال ببغداد. بدلاً عن ذلك ترك لحضرة عبدالبهاء تلك المخمة نيابة عنه. مع ذلك كان يزور من حين لآخر مسجديّ المرادية والسلطان سليم حيث أتيح لبعض الأعلام المتدينين من الناس التعرف عليه وصاروا من المعجبين به والمقرّين بعظمته. كانت تلك إحدى ملامح حياة حضرة بهاءالله المثيرة للانتباه، إذ رغم تسخير الحكومة الجائرة أجهزتها القوية ضده، وما تسبب له من معاناة شخصية واضطهادات تفوق الحصر، فقد أظهر من أمارات العظمة وما أسبغ على الناس من المحبة ما جذب الكثيرين نحوه ومس أعماق وجدانهم بشخصيته المتسامية التي لا نظير لها. أمّا وأن يتمكن مسجون منفي من إحداث أثر باق في نفوس شملت العالي والداني، فإنه مما يدل على قوته السماوية، كما أنه علامة لسلطته كمظهر كلي إلهي.

لكن رغم كل ما تعرّض له من صعاب وشدائد إثر ذلك النفي الآخر، فإن فيض وحي حضرة بهاءالله استمر دون انقطاع أو فتور في أدرنة. فقد شهد ميرزا آقا جان، في إحدى كتاباته بتاريخ 17 جمادى سنة 1281ﻫ (19 تشرين الأول 1864م)، بأن منذ أيام حضرة بهاءالله في العراق وحتى ذلك اليوم استمر نزول الألواح دون توقف من لدن سماء مشية الله.(8) بل إن ذلك الفيض الإلهي ازداد شدة في أدرنة. يتبين من مضمون تلك الألواح ولهجتها بأن ظهور حضرة بهاءالله كان قد وصل إلى مرحلة جديدة وأنه قد صار، بعد تلويحاته عبر السنين السابقة عن مقامه، يدعو المؤمنين الآن علنًا لنفسه على أنه هو المظهر الكلي الإلهي.

([1])       رئيس الوزراء العثماني. انظر الصفحة 405.

([2])       أعلى سلطة دينية في الدولة الإسلامية.

([3])       انظر الصفحة 5.

([4])       انظر المجلد الأول، الصفحات 213-218.

([5])       المصدر السابق، الصفحات 299-304.

([6])       انظر الفصل 14.

([7])  الكعبة المشرفة في مكة المكرمة. أمّا للبهائيين فهي شخص حضرة بهاءالله أينما كان أثناء حياته. ثم بعد صعوده حرمه الأقدس في عكاء.

([8])  على سبيل المثال انظر “لوح ابن الذئب”، طبعة ألمانيا، صفحة 49؛ طبعة مصر، صفحة 54.

([9])  في جواز سفره في بغداد انتحل اسم ميرزا علي، وهو لقب جديد عُرف به لدى السلطات في فترة الإقامة بأدرنة وفيما بعد بقبرص.

﴿ 4 ﴾ "سورة الأصحاب"

نزلت “سورة الأصحاب” في أوائل فترة أدرنة، وكان لها أثر هام في إماطة اللثام عن مقام حضرة بهاءالله للبابيين في إيران. وجّه هذا اللوح الطويل بالعربية، إلى ميرزا آقا منيب.([1]) خاطبه حضرة بهاءالله في هذا اللوح باسم “حبيب” وفي موضع واحد يذكره باسم “منيب”. يبدو أن ذلك أدى ببعض البحّاثة في أمر الله إلى التصريح بأن اللوح المذكور قصد به ميرزا حبيب المراغي وجاء فيه أيضًا ذكر منيب ضمنًا. إلاّ أن من يدرس اللوح بإمعان ويأخذ بالاعتبار حقائق تاريخية أخرى يخرج باستنتاج لا ريب فيه بأنه كان مُنزلاً لميرزا آقا منيب الذي خاطبه باسم “حبيب”. وقد قام الأخير لدى استلامه اللوح بكشف مقام حضرة بهاءالله للذين اعتبرهم من البابيين المخلصين.

لأجل تقييم أهمية “سورة الأصحاب” وغيرها من الألواح الأولى النازلة في أدرنة، يجب على المرء أن يلمّ بحالة الجامعة البابية في إيران قبل إعلان دعوة حضرة بهاءالله وبعدها. ذلك لأن الإلمام بهذه الخلفية تساعد على تفهّم أفضل لكتابات حضرة بهاءالله في الفترة المذكورة.

منذ أيام إقامة حضرة بهاءالله في بغداد أخذت غالبية المؤمنين في إيران تتجه إلى حضرته كقطب الجامعة البابية وبنحو متزايد. فإليه ذهبوا طلبًا للعون والاستنارة ومنه نالوا الهداية. بلغ في قدرته الروحانية ونفوذه أعلى مستوى بحيث أحس بقوتهما حتى أعداء أمر الله. فمثلاً كما سبق أن علمنا، حدث أن طلبت منه جماعة من علماء الشيعة بالعراق الإتيان بمعجزة، ولو أنه حتى ذاك الحين لم يكن قد أعلن أو ادعى مقامًا لنفسه. إذًا كان من الثابت المحقق بأن حضرة بهاءالله وحده كان يمسك بزمام الاقتدار والنفوذ الروحي، وكان منار الهداية للجامعة البابية بعد استشهاد حضرة الباب في عام 1850م.

كثير من المؤمنين الذين تشرفوا بمحضره في بغداد اعترفوا بمقامه في حين لم تزل شمس بهائه كانت مستترة خلف “ألف ألف حجاب من النور”.(1) وهناك آخرون اهتزّوا بقوة تأثير كل الدلائل الوفيرة على سلطنته العليا وعلمه اللدني. خلال السنوات العشر التي عاشها حضرة بهاءالله في العراق، أخذ صيته بالانتشار عن طريق عودة أولئك المؤمنين إلى إيران ووصفهم، كل على قدر فهمه، لعظمته ومدحهم وإعجابهم بفضائله وقدراته. إلى جانب تلكم الروايات الشخصية عن حضرة بهاءالله، كان هناك السيل الهادر من الألواح والكتب النازلة من قلمه مما مكن أكثرية المؤمنين من تقييم مكانته الفريدة العليا التي تقلدها بينهم.

([1])       للمزيد من المعلومات عنه راجع المجلد الأول، الصفحات 299-304.

حالة الجامعة البابية

حالة الجامعة البابية

لكن وا أسفاه على بني آدم إذ هم ليسوا صادقين أو مخلصين دومًا. فكانت هناك نفوس فاسدة أنانية تلهفت للزعامة. نفر قليل من أمثال أولئك في مختلف مدن إيران شرعوا ببث الفساد بين المؤمنين. ففي الظاهر اعتبروا أنفسهم من أتباع حضرة الباب، لكنهم في الواقع كانوا يعملون ضد أوامره ووصاياه. بعض منهم كان قد تشرف بالمحضر المبارك، فقط ليصبح بذلك غيورًا حسودًا من ارتفاع صيته وسلطانه. التفّ أولئك حول ميرزا يحيى لا اعترافًا بما كان لديه من صفات وقدرات بارزة، ولا حبًا له بل إعراضًا عن حضرة بهاءالله. فلم يخامر السيد محمد الإصفهاني، مثلاً، أدنى شك حول ضعف ميرزا يحيى وسطحية علمه. تأكد له ذلك عندما دحره مرارًا أثناء الجدال. في تلك المناسبات كان الأخير يغضب باستمرار أمام هزيمته. ذات مرة، قبل فترة أدرنة، استبد به الغضب إثر استهزاء واستخفاف السيد محمد به بحيث اشتكى لدى حضرة بهاءالله الذي دعا السيد محمد للحضور أمامه وأنّبه لسلوكه وطلب منه ترك ميرزا يحيى وشأنه.

مثال آخر على ذلك: كان الشيخ سلمان، الخادم الأمين لحضرة بهاءالله والذي سمّاه “رسول الرحمن”،([1]) قد سأل ميرزا يحيى أن يشرح معنى إحدى قصائد الشاعر سعدي. وافق ميرزا يحيى على الطلب واستلم الشيخ سلمان الجواب. لكن السيد محمد الإصفهاني، بعد إطلاعه على شرح ميرزا يحيى، أخبر حضرة بهاءالله بضعف ذلك الجواب وركاكته وسطحيته ملتمسًا من حضرته الإيعاز للشيخ سلمان بعدم نقل مثل تلك التصريحات المضلة للمؤمنين في إيران. زيادة على ذلك ذهب السيد محمد، بصحبة الحاج ميرزا أحمد الكاشاني،([2]) إلى منزل آقا كليم حيث برهن لميرزا يحيى بأن تفسيره خاطئ. مع ذلك فإن رجالاً كهؤلاء، منذ باكورة أيام حضرة بهاءالله في بغداد، كانوا ينشرون عن ميرزا يحيى ملاحظات فيها إطراء كبير له بين جماعة البابيين في إيران. فأشاعوا كذبًا روايات عن عظمته، مدعين بأنه كان خليفة حضرة الباب. وبأن كل ما كتبه حضرة بهاءالله يعود لميرزا يحيى، وبأن حضرة بهاءالله قد اغتصب مكانته وبذلك أرغمه على الانزواء بنفسه. إن دعايات كهذه دائمًا تبلبل عقول البسطاء من الناس، لا سيما إن كان أغلبهم لم يعرف شيئًا إطلاقًا عن ميرزا يحيى. ذلك لأنه إبان السنوات العشر من إقامته بالعراق كان قد أفلح في إخفاء هويته بحيث أن عددًا لا بأس به، حتى من المؤمنين المقيمين هناك لسنوات، لم يعرفوه. فمثلاً نجده عندما التحق بركب حضرة بهاءالله في الموصل استطاع أن يعرّف نفسه على أنه شخص غريب، ولم يعرف بعض أصحاب حضرة بهاءالله هويته الحقيقية. لكن بالنسبة لعامة المؤمنين فإن حقيقة كونه الخليفة الاسمي لحضرة الباب كان كافيًا لمنحه أهمية عظيمة.

إلاّ أن معظم البابيين الذين تمكنوا من لقاء ميرزا يحيى ذهلوا بما رأوا فيه من جهل وجبن. كما أن هؤلاء الرجال لم يساورهم شك في مقام حضرة بهاءالله وكانوا واثقين تمامًا بأن ميرزا يحيى كان مجرد رئيس رمزي عيّنه حضرة الباب بهدف تحويل الانتباه عن حضرة بهاءالله. أمّا بالنسبة لمن لم تتح لهم فرصة أو شرف المثول بمحضر حضرة بهاءالله فغالبًا ما بلبلتهم شائعات وخلافات فيما بين البابيين بشأن مكانة ميرزا يحيى.

لقد خلّف الحاج ميرزا حيدر علي للأجيال القادمة صورة جلية عن الجامعة البابية في بعض أجزاء إيران خلال الفترة الأخيرة من إقامة حضرة بهاءالله ببغداد، عقب نزول “كتاب الإيقان” بقليل. يوضّح هذا الوصف ما أحدثه مؤيدو ميرزا يحيى من بلبلة واضطراب، ويلفت الانتباه لما نشروه من تلفيقات. فيما يلي كلماته وهو يستعرض بذاكرته أوائل أيام اعتناقه الدين البابي:

بالرغم من تعرّضي للاضطهاد عدة مرات في إصفهان وكذلك الصدمات والأذى الشديد، لكنني كنت مسرورًا باشتعالي بحب الأمر وانجذابي وعشقي لألواح حضرة الباب وتواقيعه وعلى الخصوص “البيان” الفارسي الذي قمت باستنساخه مرتين. وكلما قرأته زاد تلهفي لقراءته من جديد. في تلك الأيام كان كل واحد موقنًا بأن مجيء “من يظهره الله” وشيك الوقوع. غالبًا ما كنت أقول لنفسي… لولا يأتي عهد “من يظهره الله” بعد ظهور حضرة الباب فلن تثبت صحة أي من كتابات حضرته أو ألواحه أو دلائله وتبقى دون تحقق ولا فائدة. أمّا شعوري تجاه أزل([3]) فلم يحمل قلبي له أي اعتبار. إذ كنت أردد معلّقًا: ’إذًا ما الفرق بين أزل الغائب والقائم([4]) الغائب؟…‘ بالإضافة إلى ذلك كنت أعتبر كتاباته هراء حقًا، عدا بطبيعة الحال ما ورد فيها من نصوص حضرة الباب والتي هي كلمات سماوية. إلاّ أن ضميري كان يعذّبني بسبب خيلائي وما كنت أتصوره من أن فهمي كان فوق فهم الآخرين. حدث بعد ذلك أن وصل لوحان مباركان من الجمال الأقدس الأبهى في حق زين المقربين([5]) وآقا محمد علي تمباكو فروش الإصفهاني. فسحرت بهما وشغفت ببياناته المباركة.

فيما بعد… جاء الحاج السيد محمد، خال حضرة الباب… في زيارة إلى إصفهان وجلب معه نسخة من “كتاب الإيقان”، الذي نزل إجابة عن أسئلته. وكانت نتيجة قراءتي لهذا الكتاب أني ازددت عشقًا ألف مرة ببيانات جمال القدم. بعدها صرت أصرح علنًا باعتقادي أن نبل حضرة بهاءالله، وحقيقته الفريدة التي لا تُدانى، وقوة بيانه، وسيطرة قلمه وحججه المقنعة من خوارق الأمور بل إنها أول وأعظم معجزاته. لكن بعض الناس لم يرتاحوا لآرائي وكانوا يسرّون لي بأن “كتاب الإيقان” قد كتبه أزل.

حتى مير محمد علي العطّار، أحد المؤمنين الأوائل، أتاني وأسرّ لي بأنه ’بما أن حضرة الباب قد بشّر دومًا بقدوم “من يظهره الله”، ولم يجعل لذلك شروطًا أو يحدد بالدقة موعد ظهوره. وفرض على الكل الاعتراف به والإذعان لأمره حالما يُظهِر نفسه، وحرّم السؤال والحيطة والتردد بقبوله، وأنذر المعرضين بنار جهنم، وحرّم بشدة طلب الدلائل منه، واعتبر نفسه مبشرًا وعبدًا ﻠ”من يظهره الله”، فإن كل هذه قد أغرت جناب بهاءالله ليدّعي هذا المقام لنفسه. فقد سجن أزل وأحيانًا قام بجلده ليجيب عن أسئلته. دوّن جناب بهاءالله هذه الإجابات ثم نشرها باسمه. لقد سافر السيد محمد([6]) مرتين من بغداد إلى إصفهان نيابة عن أزل وأسر للمؤمنين بما يعانيه من عزلة وإجحاف!‘

كانت دهشتي بلا حدود لدى سماعي بذلك. فقلت أنه محال ولم أسمع قط هراء أو ادعاءات باطلة كهذه. ذلك لأن كلمات “كتاب الإيقان” وعباراته تتميز بذاك الأسلوب المعروف بالسهل الممتنع، أي سهل الفهم ولكن صعب المحاكاة. أمّا كلمات أزل فتفتقر عمقًا وبلاغة…

ثم سرعان ما تبيّن بأني صرت معروفًا فضاقت أمامي مدينة إصفهان، وبات أصدقائي يتجنبونني.(2)

أخيرًا قرر الحاج ميرزا حيدر علي الابتعاد والعزلة لمدة أربعة أشهر. أخذ معه أربعة كتب هي “القرآن الكريم” و”المثنوي”([7]) و”البيان” و”الإيقان” وأقام في مكان بعيدًا عن الناس كافة. يواصل روايته بقوله:

وفي النهاية أدركت بأن الانزواء عمل وحشي وضياع للعمر. ومن ابتغى رضاء الله وهداية الخلق إليه يجب أن يضحّي بأنانيته. في تلك الأثناء كنت أترقب مجيء المظهر الكي الإلهي، باسم “من يظهره الله”، بينما تحققت لي بوضوح حركات التدليس والدسيسة والأكاذيب التي كان يقوم بها كل من مير محمد علي والسيد محمد. فقررت والحالة هذه مغادرة إصفهان.

ولو أني كنت متلهفًا للتشرف بمحضر نير الإشراق،([8]) إلاّ أني في الوقت ذاته كنت أخشى ملاقاة هذين المنافقين السيد محمد والملاّ رجب علي([9]) اللذين كانا موجودين بكربلاء وبغداد لئلا تتأثر روحي وضميري بكيفية ما بخبثهما. لذا بقيت لفترة خمسة أو ستة أعوام أطوف أرجاء إيران… تمكنت بصعوبات ومشاق جمة من زيارة عدة أماكن، راجلاً أحيانًا وراكبًا أحيانًا أخرى، لكني خلال كل ذلك كنت في غاية السعادة. تحدّثت عن ظهور حضرة الباب في كل مكان وبشرّت بقرب ظهور “من يظهره الله”. قمت بذلك رغم ما واجهته في عدة مدن من اضطهاد وضرب وسجن…

في شيراز التقيت بالحاج السيد محمد، خال حضرة الباب، وبعض المؤمنين الآخرين… وجميعهم كانوا مشتعلين بمحبة حضرته ومتلهفين لمجيء “من يظهره الله”. لم يرد ذكر أزل… كان المرحوم آقا سيد عبد الرحيم الإصفهاني قد جمع بعض المقتطفات من “البيان” وغيره من كتب حضرة الباب استند عليها في إثبات أن حضرة بهاءالله، جل جلاله، كان هو مقصود “البيان” وموعوده، وبأن أزل كان مجرد اسم بلا رسم، كالجسد بلا روح. لكن بعض الناس اعترضوا على تصريحاته تلك واستنكروا آراءه. اعتاد أن يلقي علينا الرواية التالية: ’بعد استشهاد حضرة الباب حينما أصبح أزل معروفًا، سافرتُ من إصفهان إلى طهران بهدف معين هو الاجتماع به. في السوق التقيتُ بحضرة بهاءالله، مشرق الوحي ومكلّم الطور… الذي زيّنت باسمه كتب حضرة الباب وألواحه. كان لقائي بحضرته حينما لم يزل كان بهاؤه مستورًا خلف سبعين ألف حجاب من النور. بادرني بالسؤال فيما إذا قدمت لزيارة أزل. فرددت بالإيجاب… هذا علمًا بأن سبق لي التشرف بمحضره سابقًا في بدشت. هناك تمكنت من الإقرار بما ظهر منه من جلال وعظمة ووحدانية وفردانية ونبل عن طريق الكيفية التي لاحظت القدوس والطاهرة ينحنون بها أمامه. علمت أيضًا بأعمال أزل وأفعاله، مع ذلك اعتبرت اللقاء به، نظرًا لأنه اشتهر بأنه خليفة اسمي لحضرة الباب، بمثابة تقرّب إلى الله. فذهبت بصحبة حضرة بهاءالله إلى منزله. طلب إحضار الشاي، فأتى أزل بالسماور وجهّز الشاي. ظل واقفًا في المحضر المبارك الذي كان يجري من لسانه سلسبيل الحكمة والعرفان. بعد شرب الشاي قام حضرة بهاءالله واستدار نحو أزل قائلاً: ’’لقد جاء للقائك‘‘، ثم توجّه إلى حرم الدار الداخلي. بعد أن جلس أزل انحنيت له وأبديت احترامي وولائي، إلاّ أنه لم يكن لديه ما يقوله لي.‘(3)

دام الخلاف بخصوص مكانة ميرزا يحيى طوال فترتيّ بغداد والآستانة. في أثناء ذلك لم يتحدّ منصبه أحد كرئيس اسمي بعد حضرة الباب، وظل يلازم حضرة بهاءالله ويقيم بقربه تأمينًا لسلامته هو. هذا ولم ينجلِ ضباب الشك عن بصائر بعض المؤمنين بسطاء القلب بصفة نهائية حول موقف أزل إلاّ بعد تمرّده ضد حضرة بهاءالله في أدرنة، ذلك الشك والبلبلة اللذين كانا يلازمانهم حتى ذلك الوقت.

أمّا إعلان حضرة بهاءالله في حديقة الرضوان فكان لنفر قليل من أصحابه فقط. ولم يطّلع معظم البابيين على أخبار ذلك الحدث التاريخي حتى وقت لاحق. وفي “سورة الأصحاب” وألواح أخرى تعود لأوائل الأيام هناك تتجلى بوضوح دعوة حضرته ومقامه علنًا. لقد شارك ميرزا آقا منيب هذه السورة الهامة مع عدة نفوس. كان من بينهم الحاج ميرزا حيدر علي، الذي ترك وصف مشاعره حين قراءته لتلك السورة للمرة الأولى بهذه العبارات:

… وصلت طهران عندما كان ميرزا آقا منير([10])… موجودًا فيها أيضًا. وكان قد استلم “سورة الأصحاب” التي نزلت من قلم رب الأرباب في حقه. استنادًا لمعرفته باعتقادي واطمئنانه إلى أن قلبي كان متوجهًا شطر جمال القدم… دعاني ثم سلّمني السورة بسرية لأقرأها. أحسست وأنا أتلو كل آية كأني أعرّج إلى عوالم من المسرة والاطمئنان وتتفتح في باطني أعماق جديدة من اليقين والتبصرة. بعد قراءة بضعة آيات مباركة بسرور عظيم، سألت ميرزا منير عما إذا كان السيد محمد قد خدع أزل أم أزل خدع السيد محمد، أم أنهما قد اتحدا لمجرد الإنكار والإعراض عن حضرة بهاءالله وبذلك سلكا درب العناد والعداء ضده. فرح ميرزا منير لدى سماعه ما قلت وعانقني قائلاً: ’إن عداءهما لجمال القدم هو سبب اتفاقهما. فكل منهما يخدع الآخر في سبيل قيامهما على البغضاء والعداء.‘

لقد أشعلت “سورة الأصحاب” نار العشق في أركاني، بحيث بقي أثرها حتى الآن بعد مضي خمسين عامًا ورغم تقدمي في العمر وظهور علاماته من خمول وتيبّس وبرودة، فإني متى قرأت هذه السورة المباركة أو تذكّرت مشاعري في ذاك اليوم، أجد نفسي وقد غمرت بسرور يجنح بي إلى حالة سكر وهيام وحيرة.(4)

يخاطب حضرة بهاءالله ميرزا آقا منيب في “سورة الأصحاب” بكلمات المحبة والتشجيع. ويذكّره بأيام رحيله مع مولاه، حينما استدل بخلوص قلبه وتفتّح بصيرته على حقيقة أمره والاعتراف به. ثم يأمره بأن يشكر الله الذي أخرجه من ظلمة الجهل وأنعم عليه بالغ الفضل والعطاء. وأخيرًا يدعوه قبل كل شيء لأن ينقطع عما في السموات والأرض. ثم القيام بعزم وثبات تامّين على توعية أهل “البيان”.

عندما ننظر إلى حالة الجامعة البابية في تلك الفترة، ندرك مدى جسامة المهمة التي أوكلها حضرة بهاءالله لمنيب وغيره من المبلّغين. ألا وهي توعية تلك الطائفة لإدراك ضرورة تغيير وجهتها بل وتحوّلها إلى جامعة عالمية مقدر لها مع حلول الوقت المناسب أن تضم البشرية كلها وتحتضنها. كان إعلان مقام حضرة بهاءالله على أنه هو “من يظهره الله” في مجالس الأحباب محور اهتمامهم وأكثر الأحداث إثارة وتحديًا منذ بزوغ فجر أمر الله قبل ذلك بعشرين سنة. لكن القيام بمواجهة العناصر المريضة داخل الجامعة البابية يتطلّب شجاعة كبيرة، وهداية النفوس الطيبة والقلوب النقية تتطلّب حكمة بالغة. لذا فقد منّ حضرة بهاءالله بهاتين العطيتين على رسله إلى إيران إذ أوحى لهم وزيّنهم بهاتين السجيتين.

فيما يلي شهادة بقلم الشيخ كاظم سمندر([11]) يروي فيها مشاعر الهياج واهتزاز العواطف لدى المؤمنين حينما تليت على أسماعهم “سورة الأصحاب”. كان هو ممن حظوا بمخاطبة حضرة بهاءالله لهم في تلك السورة، وعليه أرسل له منيب نسخة منها وصلته في مدينة قزوين مسقط رأسه.

… كان (منيب) قد رافق حضرة بهاءالله من بغداد وكان في الليالي يحمل سراجًا أمام هودج حضرته. استمر بمعيته حتى الآستانة حيث عاد منها وفق تعليمات حضرة بهاءالله إلى إيران. التزم منتهى الحكمة في تبليغه أمر الله، إلى أن وصلت “سورة الأصحاب” إلى طهران والتي نزلت باسمه. بعد ذلك وبإجازة حضرة بهاءالله رفع الحجاب تدريجًا عن أمر الله. سرعان ما انتشر النبأ كنفخة الصور وبعث في المؤمنين اهتزازًا وحماسًا متجددين. فقام كل واحد من رقاده ليعبر ذاك الصراط([12]) الدقيق مستعينًا بما يبذله من مجاهدة حقة واستقصاء جاد.

عندما وصلت نسخة من هذه السورة مدينة قزوين (وفيها ذُكِر هذا العبد القاصر ضمن غيره من المؤمنين)، أثارت هياجًا عظيمًا وخلقت اضطرابًا شديدًا (فيما بين أفراد الجامعة). فعُقدت عدة مجالس جرت فيها إيضاحات وشروح عن الموضوع. وبعد المناقشات والأحاديث والرجوع إلى الآثار المقدسة (الكتب والألواح)، تمكن كل واحد، بكيفية وطريقة ما، وبعون الله من الاهتداء (للحقيقة) والوصول لشاطئ الطمأنينة والثبات.(5)

وهكذا وبواسطة التأثير الخلاق ﻠ”سورة الأصحاب” والألواح الأخرى المنزلة في هذه الفترة، ونتيجة لما بذله بعض المبلّغين البارزين من جهود مخلصة متفانية، سارت الجامعة في طريق البرء والشفاء، عبر إيران كلها، مما أصابها من خبث وعلل أوجدها ميرزا يحيى وأعوانه. لقد تطلب الأمر جهدًا كبيرًا ووقتًا طويلاً قبل أن يتمكن أحباء حضرة بهاءالله وأبطال أمره الشجعان من إزالة ما تلوثت به أذهان البابيين ونفوسهم من تأثير شيطاني، وتلفيقات وأكاذيب ومفتريات طيلة عشر سنوات. استغرقت تلك العملية، التي بدأت في عام 1864م، ما بين عامين وثلاثة أعوام، انضم خلالها معظم البابيين في إيران إلى جامعة الاسم الأعظم.

للحاج ميرزا حيدر علي ملاحظة طريفة حول عدد البابيين الذين دخلوا في ظل أمر حضرة بهاءالله. فهو يشرح بقوله أن محمدًا r والأئمة الأطهار قد هدوا أمّة الإسلام ورعوها لمدة 260 سنة قمرية([13]) عسى أن تثمر وتؤتي أكلها بظهور القائم الموعود. ولمّا جاء حضرة الباب، الذي كان ثمرة الإسلام، في سنة 1260ﻫ ومع ذلك لم يؤمن به سوى واحد لكل مائة ألف مسلم تقريبًا، فإن حضرة الباب على نقيض ذلك، هدى أهل “البيان” لمدة ست سنوات. كما أنه بشّر باستمرار بمجيء “من يظهره الله”، وهيأ أتباعه لظهوره، وركّز انتباههم على عظمته وبهائه، وزرع بذرة حبه في قلوبهم وسقاها من سلسبيل كلماته. أخيرًا عندما أظهر حضرة بهاءالله أمره، دخل فيه وأقبل إليه قرابة تسعة وتسعين بالمائة من مجموع ملة حضرة الباب، وواحد بالمائة منعوا أنفسهم من دخول فسطاط بهائه بسبب طموحاتهم الأنانية.

كانت مهمة منيب والمبلّغين الآخرين الذين بعثهم حضرة بهاءالله إلي إيران إبان السنين الأولى لمكوثه في أدرنة، تهدف بصفة رئيسة إلى تبليغ الجامعة البابية. كما أن “سورة الأصحاب” نفسها خاطبت البابيين أساسًا، إذ خاطب حضرة بهاءالله عددًا منهم بالاسم في هذه السورة التي يكشف فيها عظمة مقامه وجلاله ويعلن عن نفسه بجلاء مظهرًا كليًا إلهيًا طبقًا لما بشّر به حضرة الباب. وفي السورة نفسها يعلن تحقق نبوءة حضرة الباب الخاصة بسنة التسع([14]) وذلك بقيامه وظهوره شخصيًا. كذلك يصرح أن بظهوره قد تحققت نفخة الصور.([15]) ثم يدعو منيب للقيام بتبليغ هذه البشارة بشجاعة وإيمان.

يبيّن حضرة بهاءالله في هذه السورة لأهل “البيان” بأنه في جوهر حقيقته كحضرة الباب، وأن حقيقة حضرة الباب عينها قد ظهرت من جديد. وعليه فإنه يؤنّبهم لعماهم عن عرفانه في ظهوره الثاني، ويلومهم لفشلهم في إدراك الإبداع والقوة التي تنبعث مما نزل من قلم وحيه في حين الذي يدّعون بأن كلمات حضرة الباب كانت بحد ذاتها حجة لإثبات أحقية رسالته، ويحذّرهم بأنهم طالما أعرضوا عنه فإنهم قد أعرضوا عن كل الظهورات السابقة بما فيها ظهور حضرة الباب.

يبلغ بيان قلم حضرة بهاءالله أوج روعته وتأثيره عند إشارته ووصفه لعظمة ظهوره. فإن جمال بيانه عند تمجيد مقامه يتحدى الوصف. بل إن مجرد تلاوة هذه الفقرات باللغة الأصلية كفيل حقًا بإيقاد نار في قلب أي إنسان مخلص طيب الفطرة، وتجعله يقر بأن ما من رجل مهما بلغ من العظمة، يستطيع أن يأتي بكلمات بمثل هذه القوة التامة والطبيعة السامية.

ففي بلاغة لا تُدانى يعلن حضرة بهاءالله بأن شمس ظهوره قد أشرقت في قطب الإمكان وتنير بضيائها كل العالم لكن معظم الناس عمي لا يبصرونها. كما يعرّف نفسه على أنه مالك الأمم ومظهر الله نفسه، ويعلن استقراره على عرش المجد، ويصرح مؤكدًا عجز كل الناس عن النيل من سلطنته، ويقرر بأن العالم ليس إلاّ حفنة تراب في تقديره، وأن كلمة واحدة منه أحلى مما نزل في ملكوت الأرض والسماء، ويثني على المؤمنين الحقيقيين الذين فازوا بالورود في محضره وشهدوا نزول آياته.

([1])       راجع المجلد الأول، الصفحات 115-120.

([2])       أحد الناقضين الذين اتّبعوا ميرزا يحيى. راجع الفصل 6.

([3])       ميرزا يحيى. (أ. ط.)

([4])  يعتقد غالبية الشيعة بأن القائم حي لكنه محجوب عن أعين الناس. وكان الأزل كذلك إذ عاش متخفيًا ولا يعرف مكان إقامته أحد!

([5])       انظر المجلد الأول، الصفحة 26.

([6])       السيد محمد الإصفهاني. (أ. ط.)

([7])       لجلال الدين الرومي.

([8])       حضرة بهاءالله. (أ. ط.)

([9])       أخ زوجة حضرة الباب الثانية، ومن أتباع الأزل.

([10])      منيب. (أ. ط.)

([11]) أصبح من المؤمنين البارزين وأحد حواريي حضرة بهاءالله. في المجلدات التالية مزيد من المعلومات عنه.

([12]) يعتقد في الإسلام أنه في يوم الحساب سيُمدّ جسر طويل جدًا، ولن يتمكن من النجاة سوى من يتمكن من عبوره. وهذا الجسر حسب الاعتقاد الشائع أحدّ من السيف وأحرّ من النار وأدقّ من شعرة. وهذه كلها تدل على أنه بمجيء المظهر الكلي الإلهي سيُمتحن كل الناس بشدة والذين ينجحون في الامتحان سيتمكنون من الفوز بلقائه دون غيرهم.

([13]) بعد وفاة الرسول محمد r كان الأئمة هم قادة الإسلام الروحيون ومفسرو تعاليمه. توفي آخر إمام سنة 260ﻫ. وطبقًا للاعتقاد البهائي، هناك آية قرآنية أنبأت عن مجيء القائم المنتظر بعد ألف عام من ذاك التاريخ، أي 1260ﻫ (1844م). (القرآن الكريم، سورة السجدة، الآية 5)

([14]) 1852-1853م، عام بعثة حضرة بهاءالله بنزول الوحي في سجن سياه چال بطهران. راجع المجلد الأول، الفصل 1.

([15]) يُعتبر النفخ في الصور مرتين حسب النبوءات الإسلامية من أعمال يوم القيامة. وتفسر النبوءة بأنها ظهور حضرة الباب وحضرة بهاءالله.

مقام حضرة بهاءالله

هناك العديد من الألواح التي أعلن فيها حضرة بهاءالله عن مقامه بعبارات مماثلة. وقد أورد حضرة شوقي أفندي في بعض مؤلفاته العديد منها ونقتبس منها ما يلي:

“إنه هو [حضرة بهاءالله] الذي سُمّي في التوراة بيهوه وفي الإنجيل بروح الحق وفي الفرقان بالنبأ العظيم.”

“لولاه ما أرسل رسول وما نزل كتاب يشهد بذلك كل الأشياء.”

“كلام الله ولو انحصر بكلمة لا تعادلها كتب العالمين.”

“إن أكثر الناس لم يصلوا بعد إلى سن البلوغ، وإلاّ لفتحنا أمام وجه العباد بابًا من العلم على شأن يجد كل من في السموات والأرض أنفسهم بهذا الفضل الجاري من قلمنا أغنياء عن كل عرفان سوى عرفان الله ولاستووا على عرش الاطمئنان المقيم.”

“قل تالله قد رقم قلم القدس من رحيق المسك على جبيني البيضا بخط أبهى أن يا ملأ الأرض والسماء إن هذا لهو المحبوب الذي ما شهدت عين الإبداع مثله ولا عين الاختراع شبهه وإنه لهو الذي قرّت بجماله عين الله الملك العزيز الجميل.”

“لن يُرى في هيكلي إلاّ هيكل الله، ولا في جمالي إلاّ جماله، ولا في كينونتي إلاّ كينونته، ولا في ذاتي إلاّ ذاته، ولا في حركتي إلاّ حركته، ولا في سكوني إلاّ سكونه، ولا في قلمي إلاّ قلمه العزيز المحمود. قل لم يكن في نفسي إلاّ الحق، ولن يُرى في ذاتي إلاّ الله.”

“قل إن روح القدس قد خُلِق بحرف مما نزل من هذا الروح الأعظم إن أنتم تفقهون…”

“ولنا علم أخرى لو نلقي على الكائنات كلمة منه ليوقنن كل بظهور الله وعلمه ويطلعن بأسرار العلوم كلها ويبلغن إلى مقام الذي يشهدن أنفسهم غنيًا عن علم الأولين والآخرين. ولنا علوم أخرى التي لا نقدر أن نذكر حرفًا منها ولا الناس يستطيعن أن يسمعن ذكرًا منها كذلك نبّأناكم من علم الله العالم الخبير.”(6)

إن بيانات حضرة بهاءالله هذه لا يقدّرها سوى الذين عرفوا مقامه وأيقنوا بأن المظهر الإلهي وحده هو الذي يمثل الربوبية في هذا العالم. فهو يكشف عن الصفات الإلهية من كافة الوجوه ولذلك فإن مقامه أسمى بكثير من عالم الإنسان. كما إنه ليس هناك مجال للمقارنة بين الخالق والخلق. بل في الواقع إن عالم الإمكان عدم صرف بالمقارنة مع مجد المظهر الإلهي. فهو وحده أهل لثناء نفسه وتمجيد فضائله. أمّا ما سواه فليس من يستحق التمجيد. ذلك لأن مقام الإنسان هو العبودية، وعليه فهو غير مستحق لأن يُذكر في محضر مظهر قدرة الحق وجلاله. فكما أن جمال المخلوقات وألوانها وحياتها في هذا العالم مستمدة أصلاً من أثر أشعة الشمس، كذلك فإن كمالات الإنسان وفضائله تظهر وتسطع بفضل الله المظهر الإلهي.

مع أن ظهور حضرة بهاءالله من العظمة بحيث يفوق الوصف، ومقامه من الجلال والمجد بحيث لا يحد، إلاّ أنه ينبغي ألاّ يختلط ذلك مع الله، ذات الغيب المنيع. إيضاحًا لذلك كتب حضرة شوقي أفندي ما يلي:

فمظهر الألوهية المنعوت به ذلك الكائن العظيم (بهاءالله)، وكامل الأسماء والصفات الظاهرة في شخصيته الجليلة يجب أن لا يُساء فهمها، ولا أن تحرّف عن حقيقتها بأي حال من الأحوال. لأنه إذا كنا مخلصين لديننا فيجب علينا أن نعرف بأن الهيكل الإنساني الذي جُعل واسطة لحمل هذه الأمانة الثقيلة يظل دائمًا في مقام هو غير مقام (روح الأرواح) و(جوهر الجواهر) بمعنى أن ذات الحق الذي لا يُدرَك ولا يُرى والذي مهما أطلقنا ألسنتنا في ذكر ألوهية مظاهره على الأرض لا يمكن بأي حال أن تتجسد ذاته المنزهة، وأن الغيب البحت المنيع الذي لا يُدرَك لا يمكن أن يُحد في حيز كائنٍ فانٍ. ويقينًا أن الله الذي يكون على هذه الصورة من التجسد يجب على ضوء تعاليم بهاءالله أن لا يظل في الحال إلهًا، وإنه لمن السخف والوهم الواضح القول بتجسيد الألوهية الذي يغاير ويتنافر مع مبدأ العقيدة البهائية. ولا يقلّ هذا القول وهمًا عن القول بمبدأ ألوهية الكون غير المقبول. وهذان المبدآن –التجسد وألوهية الكون- قد دحضتهما بيانات بهاءالله وبينت فسادهما وبطلانهما. فالذي أعلن في مقامات متعددة وبيانات شتى أن كلامه (صوت الحق ونداء الله نفسه) تفضل في “كتاب الإيقان” بقوله الأعز: (بديهي لكل قلب بصير منير أن الله الجوهر الذي لا يُعرَف والكينونة المقدسة منزه عن كل نعت جسماني وعن الصعود والنزول والخروج والحلول… فإنه كان محتجبًا في أزلية جوهره، ويكون بمثل ما قد كان مخفيًا في حقيقته عن الأنظار… وإنه منزه عن الانفصال والاتصال والقرب والبعد… وكان الله ولم يكن معه من شيء- هذه شهادة عن هذه الحقيقة).

وفي مقام آخر عن الألوهية يتفضل بهاءالله بقوله عز بيانه (من الأزل الذي لا يُعرَف كان الله محتجبًا في حقيقة ذاته العليا، وأنه لا يزال مخفيًا إلى الأبد في سر جوهره الذي لا يُعرَف… فقد انصعق عشرات الآلاف من الأنبياء كلٌ كان موسى في سيناء البحث عن صوت الله الناهي، إنك لن تراني، بينما ربوات المرسلين كلٌ كان كالمسيح في عظمته قاموا على عروشهم المقدسة مرتاعين لصوت المنع (إن كينونتي لن تعرفها). ويتفضل بهاءالله في إحدى مناجاته بقوله الأحلى (ما أعظم حيرتي وأنا لست شيئًا مذكورًا، كلما أحاول أن أسبر عمق علمك وتذهب جهودي عبثًا عند تصور بدائع صنعك وقدرتك!) وفي مناجاة أخرى صدرت بخطه الشريف يتفضل قائلاً (يا إلهي إذا أنظر إلى نسبتي إليك أحب بأن أقول في كل شيء بأني أنا الله وإذا أنظر إلى نفسي أشاهدها أحقر من الطين!)(7)

من أجل إدراك دعاوى حضرة بهاءالله وتقديرها حق قدرها، فإنه من الضروري الإحاطة بمفهوم “المظهر الإلهي” وعرفان وظيفة ذلك المظهر الذي يأتي للعالم من عصر لآخر. لكن لسوء الحظ فنحن نعيش في عصر انتشر فيه الإلحاد عبر العالم كله مما جعل هذه المهمة صعبة. فنجد رؤساء الدين قد شوهوا جوهر الدين وكسفوا نوره بحيث باتت أعداد متزايدة من الناس، طيبو القلوب في غالبيتهم، متحررون من الوهم، يلتحقون بصفوف الغنوصيين والملحدين، بينما أغلب الذين يدّعون الإيمان بالله غير واثقين مما ينطوي عليه اعتقادهم. أمّا الله، كإله واحد قادر لا شبيه ولا ند له، الذي فاضت بحمده ومدائحه كافة الكتب المقدسة، فهو الآن إمّا منسيّ مغمور في الكنائس وأذهان الناس أو قد صار موضع جدل ونقاش، يحار في وصفه بشتى الطرق من قبل القلة الذين ما يزالون متمسكين بدياناتهم القديمة المنقسمة المتفرقة. وأصبحت كلمتا “الله” و”الدين” في عصرنا هذا تحملان مدلولات غريبة، وذلك نظرًا لحقيقة أن رؤساء الدين أنفسهم قد تسببوا في طمس نور الدين الحق بممارساتهم الفاسدة وتشويههم للحقائق. وكما قال عزيز الله مصباح،([1]) أحد علماء أمر الله الكبار، في بيت من أبيات شعره المتميز بالعمق والبساطة ضمن مجموعة أشعاره وتأملاته النفيسة:

“لو لم يدعُ المطارنة أوهامهم دينًا لما دعا الفلاسفة الدين وهمًا.”(8)

وفي موضع آخر كتب يقول:

“هناك من يعبد الله رغم تعلّق قلبه بصنم، وهناك من يسجد لصنم في حين أن قلبه ثمل بخمر وحدانية الله.”(9)

لقد حذّر حضرة بهاءالله في كثير من ألواحه من أن قوى الإلحاد واللادينية ستعم الدنيا قبل الاستتباب التام لأمره في الأرض. فيما يلي إحدى بياناته بهذا الخصوص:

“إن جوهر الإيمان يموت في كل بلد على شأن لا يعيده إلاّ دواؤه الناجع. إن صدأ الإلحاد ينخر في عظام البشر هل لغير إكسير أمره أن ينظّفه ويحييه؟”(10)

لم تنأ الإنسانية فقط عن صراط الإيمان وتهيم في ضلال الغي والكفر، بل قد قطعت حبل الوصل بالدين قطعًا تامًا.

إن لب الدين يتمحور حول المظاهر الإلهية،([2]) مؤسسي أديان العالم الكبرى. لكن إحدى أعظم العقبات التي تحول دون إقبال الناس واعترافهم بهم هو أنهم يظهرون كأناس عاديين خالين من العلوم المكتسبة والسلطة الدنيوية. فلما رأى الناس ضعفهم وذلتهم الظاهرة هذه جنح أغلبهم نحو إنكارهم والإعراض عنهم.

إلاّ الذين أوتوا بصائر روحانية تمكنوا من مشاهدة سر العظمة المستورة خلف هياكلهم البشرية. هذه سنّة الله التي بها يفرق بين الخير والشر في هذه الدنيا. إن أحد المبادئ المسيّرة في الخليقة هي أن الإنسان لن ينال عطايا الله ما لم يكتسب استعدادًا لذلك. وأعظم عطية هي عرفان المظهر الإلهي، وهذا ليس بعطاء يُمنح للإنسان دون مقابل، بل عليه أن يسعى لنيله بواسطة تطهير مرآة قلبه لتنعكس فيها شمس الحقيقة. إن الظروف الشخصية لمظاهر أمر الله، الذين ادّعوا، على عكس ما ظهروا عليه من افتقار لكل عظمة أو تفوق دنيوي، بأنهم خلفاء الله في الأرض، تصبح علة إعراض المنكرين عن الإيمان بهم.

يصرح حضرة بهاءالله في أحد ألواحه:

“إن سماء الحقيقة قادر ومقتدر أن يرسل كافة الناس من شمال البعد والهوى إلى يمين القرب واللقاء. لو شاء الله ليكون الناس أمة واحدة. ولكن مقصده تعالى صعود الأنفس الطيبة والجواهر المجردة التي وردت بفطرتها الأصلية على شاطئ البحر الأعظم حتى يفصل طالبي جمال ذي الجلال عن العاكفين في أمكنة الضلال والإضلال ويتميزون عنهم. كذلك قدّر الأمر من قلم عز منير

وكذلك فإن سبب عدم ظهور مظاهر العدل ومطالع الفضل بأسباب القدرة الظاهرية والغلبة الملكية، كانت شؤونات الفصل والتمييز، إذ إنه لو يظهر جوهر القدم على ما كان عليه وتجلّى بكامل بهائه لما كان هناك مجال لأحد للإنكار والإعراض ولانصعق جميع الموجودات من مشاهدة أنواره بل لأصبحت فناء محضًا. إذًا كيف يفصل في هذا المقام بين المقبل إلى الله والمعرض عنه؟”(11)

ويشهد حضرة بهاءالله في لوح آخر(12) بأن لو شاء المظهر الإلهي لتمكن بكلمة واحدة من قهر العالم وامتلاك قلوب كل سكانه. ولو حصل ذلك لأقرّ كل واحد بأحقيته، لكن لن يكون هناك فضل في اعتراف كهذا. يبيّن حضرته بأن الله يمتحن أفئدة عباده ليميّز الطيب من الخبيث ويفرق الحق عن الباطل.

وتحقيقًا لذلك يقوم مظاهره (رسله وأنبياؤه) أحيانًا بالكشف عن آيات عظمته ومجده واقتداره ويمسكون عن ذلك أحيانًا أخرى. فهناك دلائل تشير إلى حقيقة أن حضرة بهاءالله، في مناسبات عديدة، تعمّد إخفاء آيات وبراهين علمه وقدرته المحيطة بالعالمين وذلك كامتحان لمن كان يعنيه الأمر. وكأنه كان يسدل حجابًا أمام مجده وعظمته بحيث يبدو للذين عميت أبصارهم كإنسان عادي.

إن الامتحانات التي تصاحب مجيء المظهر الإلهي هي من الشدة والجسامة بحيث يجد حتى أولئك الذين اعترفوا به وادّعوا الولاء لأمره أنفسهم غير قادرين على مواجهتها وتحمّلها، فيذبل إيمانهم وينعدم في النهاية. وهناك آخرون يدفعهم الغرور والطموح ابتغاء ما للمظهر الإلهي من سطوة وغلبة. بعض الأشخاص المشهورين ممن اتصلوا بحضرة بهاءالله وشهدوا بعظمته، سعوا واهمين للارتقاء إلى مقامه. إن علة عماهم أنهم افتخروا بما حققوه من منجزات شخصية.

إن المقام الذي قُدّر للمظهر الإلهي ممتنع الإدراك من قبل الإنسان العادي. فهو (المظهر) يعيش في عالم أسمى من كل الكائنات. لكنه حين إظهار نفسه للبشر، لا مفر له إلاّ إبلاغ رسالته بلغة القوم (المرسل إليهم). إلاّ إنه بسبب قيامه بذلك يُنظر إليه كإنسان عادي خال من خوارق القوى السماوية.

يذكر حضرة بهاءالله في أحد ألواحه(13) بأن الناس مبتلون بعلة صعبة الشفاء، ألا وهي أن الذين اكتسبوا شيئًا يسيرًا من الفهم والمعرفة يعتبرون المظهر الإلهي مشابهًا لهم. فهم يقيّمونه وفقًا لمعاييرهم ولذلك يفشلون في تقدير مقامه. يؤكد حضرته أن هناك العديد من الناس في هذا اليوم مصابون بهذا الداء. ولذا فإنه يدعو الله ليزيل عن بصائرهم ذلك الحجاب حتى يعرفوا قدرهم ويتمكنوا من التمييز بين حقيقة أمره وشؤون غيره من العباد.

ففي “سورة الأصحاب” يصرح حضرة بهاءالله بأنه لن ينفع الإنسان في هذا اليوم سوى حبه إياه. لكن هذا الحب لا يمكن خلقه في أفئدة البشر إلاّ إذا تجردوا عن كل الأشياء. حينئذ فقط، يؤكد حضرته، تضيء قلوبهم أنوار جماله الساطعة. وفي “الكلمات المكنونة” يبيّن ذلك:

“يا ابن الروح

في أول القول املك قلبًا جيدًا حسنًا منيرًا لتملك ملكًا دائمًا باقيًا أزلاً قديمًا.“(14)

مخاطبًا البابيين في “سورة الأصحاب”، يحذّر حضرة بهاءالله بقوله أن ليس اليوم يوم السؤال، إذ قد جاء من كان مستورًا عن أعين الخلق منذ الأزل. كما يؤنّبهم لتوقّفهم عن الاعتراف بعظمته وقدرته. وفي إشارة للقوة الخلاقة المُوهَبة ﻠ”من يظهره الله” التي وردت ضمن كلمات حضرة الباب، يقرر حضرة بهاءالله أن كافة الممكنات قد خُلقت بكلمة من فمه ويؤكد بلغة تحدٍّ أن ليس في الوجود كله من يقدر على القيام والتفوّه بكلمة في محضره. ويشهد بأن كل نفس قد خضعت تلقاء ظهورات سلطنته. ثم يختم بهذا التحدي المثير:

“قد كُنز في هذا الغلام من لحن لو يظهر أقل من سَمّ الإبرة لتندك الجبال وتصفر الأوراق وتسقط الأثمار من الأشجار وتخر الأذقان وتتوجّه الوجوه لهذا المَلِك الذي تجده على هيكل النار في هيئة النور ومرةً تشهده على هيئة الأمواج في هذا البحر الموّاج ومرةً تشهده كالشجرة التي أصلها ثابت في أرض الكبرياء وارتفعت أغصانها ثم أفنانها إلى مقام الذي صعدت عن وراء عرش عظيم.”(15)

في ألواح أخرى توجد بيانات مشابهة. فمثلاً يعلن حضرة بهاءالله في “الكتاب الأقدس”:

“يا معشر العلماء هل يقدر أحد منكم أن يستن معي في ميدان المكاشفة والعرفان أو يجول في مضمار الحكمة والتبيان لا وربي الرحمن كل من عليها فان وهذا وجه ربكم العزيز المحبوب.”(16)

من الملامح الفريدة لظهور حضرة بهاءالله أن صاحب الرسالة قد اختار كتمان هويته وحقيقة مقامه عن أتباع حضرة الباب لعشر سنوات تقريبًا، في حين استمر الوحي بإنزال الآيات الإلهية دون انقطاع خلال تلك الفترة. فانجذب لشخصه كثيرون واستطاع أولو البصائر الروحية أن يقرّوا ويؤمنوا به على أنه موعود “البيان”، “من يظهره الله”. مع ذلك بقي دون أي ادعاء في تلك الفترة، مشيرًا على أولئك الذين عرفوا مقامه ألاّ يبوحوا بذلك لغيرهم.

يشرح حضرة بهاءالله في “سورة الأصحاب” سبب ذلك. فيصرح بأنه قد كشف عن أمره تدريجًا رحمة منه على العالمين. إذ لو قدر لإشراق ظهور على ما كان عليه من قوة عظمى أن يسطع فجأة على العالم، لانبهر بشدة نوره ضعفاء الروح وهلكوا.

في موقع آخر من السورة نفسها يذكر حضرة بهاءالله أن لو كشف عن كامل قدرات كلمته،([3]) فإن الأرض تتزلزل وتتشقق السموات. إلاّ أن الله قد ترحّم وتلطّف بالعباد عندما ستر ظهوره على النحو الذي فعل. ولدى تفحّص تاريخ الأمر الإلهي نلاحظ فعلاً أن حضرة الباب أيضًا قد رفع القناع عن مقامه العلي بنحو تدريجي أمام أعين الناس. فقد ارتضى في أوائل أيام بعثته، وهو “سلطان الرسل” وموعود الإسلام المنتظر و”النقطة الأولى” التي ذُوّت منها من ذُوّتْ، إظهارًا لرحمته على العالمين، بأن يُعرف باسم الباب، الذي اعتقد الشيعة بكونه الوسيط بين القائم الموعود وبين الناس.([4]) هذا علمًا بأن ذلك الادعاء لم يبلغ من التحدي مستوى ادعائه فيما بعد بأنه القائم نفسه. فيتضح بأنه قد كشف عن رتبة مقامه تدريجًا تبعًا للأهلية التي اكتسبها أصحابه واستعدادهم لقبول وتحمّل ثقل دعواه ورسالته.

([1])       انظر الصفحة 36.

([2])       انظر أيضًا المجلد الأول: “المظاهر الإلهية”.

([3])       في المجلد الأول شرح واف لأهمية “الكلمة الإلهية” وقوتها.

([4])  ولو أن حضرة الباب، في حقيقة ادعائه، كان يرمي من ذلك الاسم الذي اختاره ليعرف به إلى كونه      فاتحة وبشيرًا لظهور أعظم من ظهوره، إلاّ أن عامة الناس فهموه بمعنى كونه الواسطة بين القائم وبين الناس. وفي الواقع لم يحتمل بعض أتباعه لمّا سمعوا أنه هو القائم نفسه، فتخلّوا عن إيمانهم أو تزلزلوا. يمكن الرجوع إلى قصة “عظيم” كمثال على ذلك في كتاب “مطالع الأنوار”، الصفحة 248.

الأمر باجتناب الفتنة والفساد

        في “سورة الأصحاب” يوصي حضرة بهاءالله أتباعه بالقيام لخدمة أمره، محذرًا إياهم بأن نصرة أمر الله لا تعتمد على حد السيف أو تتأتى به. بل إن رفعة هذا الأمر وعلوه يتحققان بالأعمال الطاهرة، والانقطاع عن كل الشؤون الدنيوية، والثبات في حبه. وبهذا الصدد أمر حضرة بهاءالله أصحابه باتقاء هجمات المنكرين بنفوذ كلمته لا باللجوء إلى العنف والقوة.([1])

إن أحد أهم أحكام حضرة بهاءالله النازلة في هذه السورة وألواح أخرى عديدة هو اجتناب زرع الفتنة والفساد. يشكّل هذا الحكم الأساس الذي تقوم عليها الحياة البهائية وتخص الفرد كما تخص المجتمع. فهو يحمي النفس من الشرور، والمجتمع من الفساد. يتفضل حضرة بهاءالله في أحد ألواحه(17) أن على المؤمنين أن يمتنعوا عن المشاركة في أي عمل قد يشتمّ منه رائحة الفتنة أو الخلاف. بل عليهم أن يهربوا بعيدًا عن ذلك كما يهربون من الثعبان.

ويصرح في لوح آخر:

“يا أهل العالم إن فضل هذا الظهور الأعظم هو أننا محونا من الكتاب كل ما هو سبب الاختلاف والفساد والنفاق وأبقينا كل ما هو علة الألفة والاتحاد والاتفاق نعيمًا للعاملين.

كنا وما زلنا نكرر وصيتنا للأحباء وهي أن يتجنبوا كل ما يُستشم منه رائحة الفساد بل يفروا منه فرارًا. إن العالم منقلب وإن أفكار العباد مختلفة. نسأل الله أن يزينهم بنور عدله ويعرّفهم ما ينفعهم في كل الأحوال إنه هو الغني المتعال.“(18)

كلما ازدادت عتمة الفتن والفساد في العالم في هذا اليوم والإنسانية مدفوعة استسلامًا نحو هاوية الظلام، كلما تزداد صعوبة إيجاد أي أمر، سواء ديني، أم سياسي أم اجتماعي، يمكن أن يكون خاليًا من “رائحة الفساد”. من جهة أخرى فإن أمر حضرة بهاءالله، الذي ينادي بالاتحاد والألفة بين أمم العالم، يرفض تلقائيًا أية محاولة من قبل أفراد أو جماعات لإفساد نظمه البديع بالتأثير الضار للاختلافات والتفرقة والمشاحنة. فيما يلي كلمات حضرة بهاءالله من لوح موجّه لجمال البروجردي،([2]) وهو مؤمن ولكنه متكبر مغرور:

“يشهد الحق أن لا أشد ضررًا يصيب الأمر في هذا اليوم أعظم من الفساد والنزاع والجدال والكدورة والبرودة ما بين الأحباء. اجتنبوا بقدرة الله وسلطانه ثم ألّفوا بين القلوب باسمه المؤلّف العليم الحكيم.“(19)

إن الذين اعتنقوا دين حضرة بهاءالله، بينما يعاشرون أهل الأديان الأخرى بالمحبة والوفاق، لن يساندوا أو يشاركوا في أي نشاط يتنافى وروح هذا المبدأ من مبادئ دينهم. وخير مثال على ذلك عدم اشتراكهم، قولاً أو فعلاً، في الشؤون السياسية. قد يصح القول بأن ليس هناك اليوم بين المؤسسات ما هو فاسد كفساد المؤسسات السياسية. ففيها تجد أشر خصائص الإنسان تعبيرًا لها. ذلك لأن المبدأ المحض الذي يتحكّم في السياسة في هذا اليوم هو المصلحة والمنفعة الذاتية الشخصية، والأدوات والوسائل المستخدمة لتحقيق ذلك، في معظم الحالات، هي الكيد والتنازل عن المبدأ والخداع، والأثمار التي تنتج عنها هي الخلاف والفتن والدمار. فأنّى لأتباع حضرة بهاءالله العمل داخل إطار كهذا؟ وكيف يمكنهم المساهمة في السياسة مع الحفاظ والولاء لما أتى به حضرته من مبادئ عليا، مبادئ عالمية الجنس البشري ووحدته، الصدق والأمانة، الاستقامة والنزاهة والمحبة والألفة؟ كل هذه تتعارض مع ما تسير عليه النظم السياسية اليوم.

وعيًا منهم بالطبيعة الهدامة لنظم المجتمع الإنساني المعاصر، وإفلاس مؤسساته السياسية والدينية والاجتماعية، وعجزها عن توحيد الجنس البشري، ينصرف البهائيون على نطاق عالمي لتشييد هيكل نظم عالمي جديد يقوم على أسس تعاليم حضرة بهاءالله.([3])

من جملة ما كتبه حضرة شوقي أفندي –ولي أمر الدين البهائي- في وصف الجامعة البهائية العالمية ودورها في خلق نظم جديد للمجتمع البشري، ما يلي:

وبينما يشعرون بسمو دعوتهم ويطمئنون للقوة الإنسانية المختمرة في دينهم يتقدّمون بمجهوداتهم إلى الأمام غير وجلين ولا ممنوعين لتكوين وإحكام الأداة الضرورية التي فيها تنمو وتنضج بذرة نظام بهاءالله العالمي. هذا هو العامل الإنشائي الذي يلتصق به أهل البهاء في أنحاء العالم، وهو الرجاء الوحيد لهيئة اجتماعية مهدمة، لأنه انبعث عن قوة ونفوذ غاية إلهية واحدة لا يعتريها تغيير، وأنه لذلك يتشكل في قالب نظام دينه البديع. وفي عالم قد تصدع هيكل نُظُمه السياسية والاجتماعية، واستوحشت إحساساته، وتطرّق الجمود إلى نُظُمه الدينية بحيث فقدت خصائصها وكمالاتها نرى أداة الشفاء هذه والقدرة النافخة بروح النهضة والحياة، وقوة التماسك الشديدة تأخذ طريقها إلى التشكل في قالب أنظمة تحشد الآن قواها للتمهيد لنصر روحاني وخلاص للبشر خلاصًا تامًا كاملاً. ومع أن المجتمع الذي تتجسد فيه هذه الحقائق صغير، وأثمارها المباشرة المحسوسة لم تبلغ مقام الاعتبار بعد، إلاّ أن القوى التي تجلّت بها والتي من شأنها أن تجدد الفرد وتعيد بناء العالم المتهدم هي في ذاتها فوق الحصر…

ومع ما يغمرهم من عاطفة الولاء لحكوماتهم، وأنهم يسرّون بكل عمل يحقق طمأنينتها ويشتاقون للمساهمة فيما يروج مصالحها، فإنهم يعتقدون بأن دين بهاءالله الذي يقومون شهودًا له هو دين قد رفعه الله فوق العواصف والانقسامات والجدل المثار في ميدان السياسة فهو بعيد عن السياسة، وخاصيته فوق حدود القومية، ومبرأ عن الحزبية، ومنفصل تمامًا عن مطامع القومية وأساليبها ومقاصدها. فهو دين لا يعرف الانقسام ولا الحزبية، وإنه بغير تردد أو تضليل، يضع المصلحة الخاصة سواء أكانت شخصية أو إقليمية أو قومية، معلّقة بالمصالح الرئيسة للإنسانية، ويؤكد بأن في عالم ترتبط جميع شعوبه وأممه وتتماسك أجزاؤه أحرى بأن تتحقق منفعة الجزء عن طريق مصلحة الكل، وإنه لا يمكن تحقيق منفعة الفرع بإغفال مصالح الأصل…

إن البهائيين يعتقدون اعتقادًا راسخًا بأن دينهم فوق هذا ليس طائفيًا ولا هو شيعة من الشيع، بل منفصل تمامًا عن كل نظام طائفي أيا كان نوعه وأصله ومطلبه. لأنه، كما هو الحال في النظم السياسية القائمة وأحزابها وبرامجها، لا يمكن أن يقال عن أي تنظيم طائفي بطقوسه وتقاليده وحدوده ومظهره الخارجي أنه يتفق في مجموع مظاهره ونواحيه مع العقيدة البهائية المتينة. على أنه يمكن لكل مؤمن مخلص لدين حضرة بهاءالله أن يظهر بغير شك استعداده للمساهمة في بعض المبادئ التي تنفخ بروح الحياة في هيكل النظم السياسية والدينية، ولكن مثل هذا الاستعداد لا يمكن أن يعني الاندماج في تلك العقائد والمبادئ والبرامج التي تقوم عليها.

ولا يجوز أن يغرب عن الأذهان أن دينًا تأسست نظمه الإلهية في قلب ما لا يقل عن 40 مملكة مختلفة([4]) تتصادم سياسة حكوماتها وتتعارض مصالحها باستمرار، ويزداد ارتباكها يومًا بعد آخر، وإنه إذا جاز لأتباعه سواء أكانوا أفرادًا أو هيئات منظمة استشارية أن يتدخلوا في المسائل السياسية، كيف يمكنه الاحتفاظ بسلامة تعاليمه وحماية وحدة أتباعه، وكيف يمكن له ضمان تقدّم نظمه المترامية بمثل هذا التقدم السلمي الثابت القوي؟ كيف يمكن لدين امتدت فروعه بحيث وضعته موضع الاحتكاك بالنظم الدينية المتعارضة باستمرار، واحتكاك بالفرق والعقائد، وإنه إذا كان يسمح لأتباعه بالاندماج في الطقوس والمبادئ العتيقة، كيف يستطيع الاحتفاظ بحيويته في دعوته الصريحة للولاء والصفاء، والتي يوجهها للذين قد يضمهم إلى حظيرته ونظامه المقدس؟ ثم كيف يمكنه تفادي الاحتكاك المتواصل وسوء الفهم والتعارض الذي يحدثه بالتأكيد مبدأ الانتماء إلى بيئة خاصة وهو المبدأ الذي يتعارض مع عمومية الهيئة الاجتماعية؟(20)

([1])       راجع أيضًا المجلد الأول، الصفحتين 295-296.

([2])       راجع الصفحتين 114-115.

([3])  لدراسة أوفى في الموضوع راجع كتابات حضرة شوقي أفندي، لا سيما “نظام حضرة بهاءالله العالمي” و”قد جاء اليوم الموعود” (كلاهما بالإنگليزية).

([4])  كُتب في 1936م. لكن في نيسان 1977م كانت هناك مؤسسات بهائية في ما لا يقل عن 330 قطرًا وجزيرة ومحمية. (أ. ط.)

الأمر بالتبليغ

يدعو حضرة بهاءالله آقا منيب في معظم فقرات “سورة الأصحاب”، لأن يكون ثابتًا، ويتكل على الله وألاّ يخاف أحدًا ولو رفع عليه كل الناس سيوفهم من كل الجهات. وبقوة كلماته العليا ينفخ حضرته فيه روح القوة والاقتدار، ويوجّهه لتبليغ أمره دون خوف ولكن بالحكمة والتعقل بين البابيين، ويأمره بخرق الحجبات التي منعتهم عن عرفانه بنحو يخرق كل حجاب آخر عن وجه كل الكائنات، ويطمئنه بأن الله قد قدّر له حفظه وحمايته بالعناية الإلهية.

في كثير من المواضع يذكّر حضرة بهاءالله آقا منيب بتبليغ أمره للنفوس المخلصة فقط وأن يتجنب معاشرة من يحمل عداء نحو حضرته. بل ينصحه ألاّ يُطلِع من البابيين على “سورة الأصحاب” إلاّ الذين تنورت وجوههم بمحبة الله، وألاّ يُعلِم الآخرين بها.

منذ باكورة ظهور الدين شرع حضرة بهاءالله يأمر أتباعه بتبليغ الأمر. ويعتبر حكمه هذا، الذي هو موجّه لكل مؤمن به، أساس كل نشاط بهائي ويمثّل الأساس التي تقوم عليها صحة الفرد وعافيته الروحيتين. رغبة في تأكيد الأهمية القصوى لتبليغ أمره، يعلن حضرة بهاءالله، في لوح(21) موجّه لجمال البروجردي، بأن لو كان الأخير ساكنًا في غرب الأرض وعلم بوجود شخص في الشرق راغب في عرفان الله والإيمان بالمظهر الإلهي، فلزامًا عليه، إن توفرت لديه الوسائل، السفر ليمنح ماء الحيوان لذلك الطالب. في لوح آخر يكتب حضرة بهاءالله:

“قل يا ملأ البهاء بلّغوا أمر الله لأن الله كتب لكل نفس تبليغ أمره وجعله أفضل الأعمال لأنها لن يُقبل إلاّ بعد عرفان الله المهيمن العزيز القدير. وقدّر التبليغ بالبيان لا بدونه كذلك نزل الأمر من جبروت الله العلي الحكيم. إياكم أن لا تحاربوا مع نفس بل ذكّروها بالبيان الحسنة والموعظة البالغة إن كانت متذكّرة فلها وإلاّ فاعرضوا عنها ثم أقبلوا إلى شطر القدس مقر قدس منير.“(22)

في بداية ظهور أمر الله في مهده بإيران، كان التبليغ يجري بتفان وتضحية عظيمين. فاعتمد المؤمنون العمل المتضامن بشكل مجموعات. فمنهم الذين تولّوا الاتصال بالناس، وبعد اكتساب ثقتهم وتقييم دقيق لنواياهم وخلفياتهم يعرض الأمر لهم ثم يدعون إلى مجالس الأحباء. كان هناك من امتاز بمعلوماته وقدرته في الحديث أثناء الاجتماعات، بينما هناك فئة عُرف عنها توفير ضيافة ممتازة برعت بمهمة توفير جو مناسب للحديث ومناقشة ما تثيره ادعاءات أمر الله من التحديات. عمل كل أولئك الأحباء متكاتفين يدًا بيد. هكذا وباتحاد وتفان كرّس المؤمنون حياتهم لتبليغ أمر حضرة بهاءالله حتى أقبل إليه أعداد كبيرة ضحّى العديد منهم بحياته في سبيله.

يصح القول بأن خلال الأعوام السبعة والسبعين من العهد البطولي لأمر الله (الذي ضم عهد كل من حضرة الباب وحضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء)، فإن أخيار الشعب الإيراني كانوا قد استظلوا تحت سدرة أمر حضرة بهاءالله. ففي تلك الفترة كانت الصفوة النيّرة لتلك الأمّة قد انجذبت نحو جامعة الاسم الأعظم.

يعلن حضرة بهاءالله مؤكدًا في أحد ألواحه:

تالله الحق في هذا اليوم لو أن ذرة من جوهرة خلطت بين مائة ألف حجر وسُترت خلف سبعة أبحر فإن يد القدرة الإلهية سوف تظهرها وتفصلها.”(23)

حقًا فإن يد القدرة الربانية استطاعت في فترة قصيرة أن تنشئ أبطالاً من بين الشعب الإيراني، وحبتهم بفضل حضرة بهاءالله وموهبته.

لقد نصح حضرة بهاءالله أتباعه بأن أول ما ينبغي للمبلّغ عمله هو تبليغ نفسه. في هذا الخصوص يصرح في أحد ألواحه:

ومنكم من أراد أن يبلّغ أمر مولاه فلينبغي له بأن يبلّغ أولاً نفسه ثم يبلّغ الناس ليجذب قوله قلوب السامعين ومن دون ذلك لن يؤثّر قوله في أفئدة الطالبين. إياكم يا قوم لا تكونن من الذين يأمرون الناس بالبِر وينسون أنفسهم أولئك يكذبّهم كلما يخرج من أفواههم ثم حقايق الأشياء ثم ملائكة المقربين وإن يؤثّر قول هؤلاء في أحد هذا لم يكن منهم بل بما قدّر في الكلمات من لدن مقتدر حكيم. ومثلهم عند الله كمثل السراج يستضئ منه العباد وهو يحترق في نفسه ويكون من المحترقين.”(24)

وفي لوحه الثاني لناپليون الثالث، يخاطب حضرة بهاءالله أتباعه حاثًا إياهم على تبليغ أمر الله بهذه الكلمات:

قد كتب الله لكل نفس تبليغ أمره والذي أراد ما أمر به ينبغي له أن يتصف بالصفات الحسنة أولاً ثم يبلّغ الناس لينجذب بقوله قلوب المقبلين ومن دون ذلك لا يؤثّر ذكره في أفئدة العباد.”(25)

ينبغي هنا إيضاح نقطة هامة هي أن غاية التبليغ الأساسية ليست زيادة عدد أفراد الجامعة البهائية، ولو أن ذلك يحصل كنتيجة له. بل ينبغي أن يكون الدافع الحقيقي هو أن يعرف الفرد حضرة بهاءالله ويتقرّب إليه. ذلك لأن ليس في الكون كله ما هو أهم من انجذاب الروح لربها. على الصعيد الطبيعي نلاحظ هذه الجاذبية موجودة بين الكرة الرضية وكل ما يقع داخل مدارها. فالأرض دومًا تميل لجذب كل شيء إليها، ومن جهة أخرى فإن غاية الأجسام الوصول والاستقرار عليها. ونفس قانون الجاذبية هذا يربط الخلق بالخالق. فالروح تنجذب بعوالم الله، وإذا ما رفعت الحجبات الحائلة بين الاثنين فإن الفرد يصل في النهاية لغايته. إن تبليغ أمر الله بحد ذاته هو المزيل لهذه الحجبات وفي حالة إقبال النفس إلى حضرة بهاءالله فإنها تجد مستقرّها، وليس هناك ما هو أشرف لدى الله من تقرّب خلقه وإقبالهم إليه بخلوص تام.

يهدف المبلّغ البهائي إلى تمجيد الرسالة الإلهية وإعانة الفرد (الطالب) على الإقبال واتباع أمر الله، ورفع الحمد والثناء له والتقرب إليه. والتبليغ، أكثر من أي شيء آخر، يستجلب مرضاة الله. يصرح حضرة بهاءالله في أحد ألواحه(26) بأن شيئين يرضيان الله: دمع يذرف من خشية الله، ودم ينزف استشهادًا في سبيله. لكن لمّا نصح حضرة بهاءالله أتباعه بالامتناع عن إنفاق أرواحهم، فقد بدّل ذلك بتبليغ أمره.

في ألواح عديدة وصف حضرة بهاءالله خشية الله بأنها واسطة التقرب إليه. قد يصعب على بعض الناس فهم هذه العبارة. فَلِمَ ينبغي لإله حنون محب أن يُخشى؟ إن الخوف ينبعث في الإنسان حينما يشعر بعجزه عن مواجهة موقف أو حالة ما، وبالعكس يشعر بالوثوق عندما يكون مسيطرًا على زمام الأمور. فمثلاً إذا فشل المرء بالقيام بمسؤولية كُلّف بها في عمله فإنه يشعر بالخوف عند مواجهة رؤسائه، لعلمه بأنهم سيعاملونه بالعدل. كذلك الإنسان، في هذه الحياة، فإنه يقصّر في العمل وفق أحكام الله وسننه، مرتكبًا الخطايا وهاتكًا حرمة تلك الحدود السماوية. فأنّى له، والحالة هذه، أن يشعر بالطمأنينة وهو يعلم بأنه لا محالة سيقوم يومًا بالحساب على أفعاله. فعدم خشية الله يعني أحد أمرين: إمّا أن الإنسان خال من النقائص أو أنه لا يؤمن بالآخرة حيث يحاسب على سيئاته. في إحدى “الكلمات المكنونة” ينصح حضرة بهاءالله محذرًا الإنسان بقوله:

“يا ابن الوجود

حاسب نفسك في كل يوم من قبل أن تُحاسَب لأن الموت يأتيك بغتة وتقوم على الحساب في نفسك.”(27)

كلما تقرّب المرء إلى الله، ازداد وعيه بنقائصه وآثامه، وزادت خشيته من الله. فيما يلي فقرات منتخبة من كتابات حضرة بهاءالله تبيّن بجلاء كيف أن خشية الله هي الوسيلة التي تزوّد الإنسان بالصفات الروحانية وتقوّي إيمانه.

“حقًا أقول إن خشية الله الحفظ المبين والحصن المتين لعموم أهل العالم وهي السبب الأكبر لحفظ البشر والعلة الكبرى لصيانة الورى. نعم إن في الوجود آية تمنع الإنسان وتحرسه عمّا لا ينبغي ولا يليق. وهي المسمّاة بالحياء غير أنها مختصة بعدة مخصوصة. ولم يكن الكل حائزًا لهذا المقام ولن يكون. ينبغي للسلاطين وعلماء القوم في هذه الأيام التمسك بالدين إذ إنه عِلة ظهور خشية الله فيما سواه.”(28)

وكذلك يتفضل قائلاً:

“وصِّ العباد بتقوى الله تالله هو القائد الأول في عساكر ربك. وجنوده الأخلاق المرضية والأعمال الطيبة. وبها فُتحت في الأعصار والقرون مدائن الأفئدة والقلوب. ونُصبت رايات النصر والظفر على أعلى الأعلام.”(29)

وفي لوح “أصل كل الخير”، يتفضل قائلاً:

“أصل الحكمة

هو الخشية عن الله عز ذكره والمخافة من سطوته وسياطه والوجل من مظاهر عدله وقضائه.”(30)

كما سبق ذكره فإن العمل الآخر الذي يكون مقبولاً أكثر من سواه لدى الله هو إنفاق النفس والاستشهاد في سبيله.

إن من أعظم أسرار الوجود التضحية. ولن نستطيع تقديرها تمامًا في هذا العالم. مع ذلك يمكننا أن نلاحظ بسهولة كيف أن في عالم الطبيعة تجري عملية حيث يضحّي خلالها عنصر أو كائن ما بكيانه انتقالاً إلى كيان هو أرقى مما كان عليه في سلم التطور، فيصبح جزءًا من الكيان الجديد. إن أجلّ إنجاز للمرء في هذه الدنيا هو خدمة أمر الله. والذي يجلب مرضاة الله هو مدى التلهف والانقطاع اللذين بهما يقوم الفرد على الخدمة لا سيما استعداده للتضحية بمصالحه ووقته وممتلكاته وكل عزيز لديه في سبيل أدائها لمولاه. إلاّ أن الاستعداد للتضحية بالحياة لإعلاء أمر الله أو نصرته هو قمة التضحية ومنتهاها للمؤمن في هذه الدنيا، وهو أجلّ عمل في نظر الله. يبين ذلك حضرة بهاءالله في “الكلمات المكنونة”:

“يا ابن الإنسان

فكّر في أمرك وتدبّر في فعلك. أتحبّ أن تموت على الفراش أو تستشهد في سبيلي على التراب، وتكون مطلع أمري ومظهر نوري في أعلى الفردوس، فانصف يا عبد.”

“يا ابن الإنسان

وجمالي تخضّب شعرك من دمك لكان أكبر عندي عن خلق الكونين وضياء الثقلين، فاجهد فيه يا عبد.”(31)

لكن حضرة بهاءالله، بإحلاله تبليغ أمر الله محل الاستشهاد، قد منع أتباعه عن ابتغاء الاستشهاد. أمرهم، عوضًا عن ذلك، بتكريس كل حياتهم في سبيل تبليغ أمره للبشرية كافة.

بل في أحد ألواحه(32) يعلن حضرة بهاءالله بصراحة أن تبليغ الأمر بالحكمة في هذه الدورة لهو أفضل من الاستشهاد. استمر حضرة بهاءالله طوال فترة حياته ناصحًا أحباءه بتبليغ أمر الله ببالغ الحكمة. إلاّ أنه لم يوافق على تبليغ جمهور الناس مباشرة ودون تمييز. وقد نصح المؤمنين في إيران، خاصة بعد استشهاد بديع([1]) من أجل سلامتهم وحماية أمر الله بوجوب مراعاة مزيد من الحذر والتعقّل في تعاملهم مع الناس وتجنّب إثارة مشاعرهم أو عدائهم. في أحد ألواحه ينصح حضرة بهاءالله أتباعه فيتفضل قائلاً:

“في هذا اليوم ليس الخائف المستور محبوبًا ولا الظاهر المشهور. يجب العمل بالحكمة وقيام الكل على خدمة الأمر.”(33)

عمل معظم المبلّغين البهائيين في إيران بهذا النصح إذ بلّغوا أمر الله لمن كان يبتغيه جادًا، لا للمتعصبين ومثيري الفتن. لكن قلة ممن لم يتمكّنوا من ضبط أنفسهم عن ذكر الأمر الكريم في العلن أمام الناس، جلبوا في غالب الأحيان المعاناة الكبيرة بما فيها الاستشهاد على أنفسهم وبقية أفراد الجامعة. مثال بارز على ذلك ما حدث للملاّ محمد رضا من “محمد آباد”([2]) الذي جاهر بالحديث عن أمر الله بحماسة مطلقة. لكن بما فعل أثار حقد العوام المتعصبين ونتج عنه محنة كبرى واضطهاد تعرّض له المؤمنون. يقر حضرة بهاءالله في أحد ألواحه(34) بأن الملاّ محمد رضا لم يتصف بالحكمة، لكنه عفا عنه فضلاً ورحمة منه.

بينما نتعرّض لهذا الموضوع الهام، فلنتذكّر بأن ما أمر به حضرة بهاءالله من لزوم الحكمة في تبليغ أمره لم يكن مقصورًا على المؤمنين الأوائل الذين عاشوا في العهد البطولي لأمر الله. بل إنه يشمل عصرنا وسيظل شرطًا أساسيًا لنصرة أمر الله عبر هذه الدورة. حقًا إن الحكمة من أعظم مواهب الله للإنسان، ودونها فإن الفرد يضر نفسه وأمر الله.

لكن الحكمة بالتبليغ يجب ألاّ تؤدي إلى عدم المبالاة أو المساومة أو عدم النشاط. يبرهن تاريخ أمر الله على أن المؤمنين الأوائل في إيران قد بلّغوا أمر الله بحماس وشجاعة وعزيمة. وكرسوا حياتهم كلها بحثًا عن النفوس المستعدة ومن ثم تدعيمها في الإيمان بأمر الله. قاموا بذلك دون أن يثنيهم عن هذا الهدف الأسمى شاغل دنيوي مهما كان. وبذلك الاستقطاب الفكري الذي تميّزت به المرحلة البطولية كانوا يصرفون ساعات من النهار والليل في صلاة وإعداد ترتيبات اللقاء بأولئك الذين يمكن جذبهم نحو دين الله.

عقد المؤمنون في معظم مدن إيران وقراها اجتماعات دعوا لحضورها من كان ينشد الحقيقة. إلاّ أن تلك المجالس كانت تقام عادة في سواد الليل في أحد منازل المؤمنين. وتأمينًا لسلامة الأحباء، وحماية لأمر الله فإن المؤمنين احتاطوا كثيرا لئلا يلفتوا انتباه أحد حين ورود المنزل أو مغادرته. ولنفس السبب لم يسمحوا بدخول مستقص (عن أمر الله) حتى يثبت لهم إخلاصه. لكن بالرغم من كل تلك الحيطة وقعت أحداث تمكن الأعداء من خلالها من خداع المؤمنين بالولوج إلى تلك المجالس متنكرين بهيأة باحثين عن الحقيقة. فحالات كتلك كانت تؤدي إلى مصائب خطيرة، إذ حالما تُعرف هوية المؤمنين تصبح حياتهم في خطر.

من ناحية أخرى، حدثت مناسبات كثيرة كان على المؤمنين، لأسباب مختلفة، أن يبلّغوا أو يدافعوا عن أمر الله علنًا. وتبعًا للظروف، فإنهم غالبًا ما تعرضوا لاضطهادات شديدة نتيجة لذلك.

في الرواية التالية المنقولة والمترجمة عن مذكرات الحاج محمد طاهر المالميري ما يساعد على تصوير الكيفية التي استغل بها المؤمنون الأوائل كل فرصة لتبليغ أمر الله، وحينما دعت الضرورة برهنوا على أحقية دينهم جهرًا دون خوف وبشغف عظيم. فوقفوا وجه التحدي ببسالة وحنكة ومقدرة مع علمهم بأن عملهم قد يؤدي لعناء واضطهاد.

عقب عودته بقليل من عكاء حيث تشرف بمحضر حضرة بهاءالله، شرع الحاج محمد طاهر، كما أُمِر، بأعماله التبليغية في مقاطعة يزد باشتعال وتفان متناهيين. كان حضرة بهاءالله نفسه قد علّمه كيف يقوم بتبليغ أمره. ورغم كثرة الذين تكلم معهم وانضموا لصفوف المؤمنين نتيجة ذلك، إلاّ أنه لم يعز ذلك النجاح لنفسه أبدًا. بل كان مقتنعًا تمامًا بأن يد حضرة بهاءالله كانت هي المؤثرة دائمًا. من جملة الذين تعرّف إليهم الملاّ محمد المنشادي، أحد المجتهدين الأعلام وأحد كبار رجال الدين في مقاطعة يزد. نظرًا لصفاء قلبه وطيبته، فقد أقر هذا الرجل العظيم بأحقية أمر الله وفدى حياته فيما بعد في سبيل حضرة بهاءالله. وهذه قصته:

قصدتُ منشاد([3]) في الشتاء في زيارة حيث أقمت بمنزل رَضَى الروح.([4]) في أحد الأيام تحدّث أخوه، آقا ملاّ بابائي، الذي استشهد فيما بعد، عن عالم مسلم (الملاّ محمد المنشادي) قائلاً بأنه رجل طيب. ثم سألني رأيي فيما إذا ينبغي دعوته لأحدّثه عن أمر الله. فلم أجد ضَرًا في ذلك بشرط ألاّ يتسبب بمشاكل. ولمّا أكد لي الملاّ بابائي بأن الرجل ليس ممن يجلبون المتاعب… وافقت على المضي بدعوته.

أنبأني الملاّ بابائي بأن الملاّ محمد كان أعلم رجال الدين وبأن كافة علماء المسلمين في مدينة يزد يشاركون هذا الرأي، ذلك أن معظم علماء المدينة يقضون عادة عامين أو ثلاثة في النجف وكربلاء،([5]) في حين أن الملاّ محمد قد درس هناك لمدة إحدى وعشرين سنة ومُنح درجة الاجتهاد من قبل ثلاثة من أقطاب الرئاسة الشيعية. بما أنه مواطن من منشاد، فإن الملاّ محمد فضّل الإقامة بمنزله بالقرية على أن يكون مكتبه بالمدينة… كان حجة موثوقًا في الأمور الدينية بحيث اعتاد رجال الدين في يزد الرجوع إليه في كل ما اختلفوا فيه من مسائل.

أخيرًا جاء في إحدى الأمسيات. رغم أني لم أكن شخصيًا واسع المعرفة لكنني لم أشعر، مع ذلك، بضعف أو نقص بأي وجه من الوجوه، وذلك لأن الله، جل بهاؤه، كان في عوني. فتحدثت مع الملاّ محمد ذلك المساء لمدة أربع أو خمس ساعات. لكنه لم يتكلم كثيرًا. وعند مغادرته قال بأنه ينوي العودة مساء اليوم التالي ويحضر معه شخص باسم الملاّ علي أكبر. لكن الملاّ بابائي لم يشعر بأنه من الحكمة جلب الملاّ علي أكبر لزيارتهم إذ قد يثير المتاعب. فطمأنه الملاّ محمد قائلاً بأن ذاك الشخص لن يجرؤ على إثارة أية مشكلة في محضره.

وعليه حضر كلاهما في الأمسية التالية. كان الملاّ علي أكبر صهرًا للملاّ محمد. بالإضافة إلى أنه لم يكن على قدر كبير من العلم، كان الملاّ علي أكبر فضوليًا ومجادلاً يخلط المواضيع ببعضها أثناء المحاورة. فدخل معي ذاك المساء في نقاش طال حتى منتصف الليل. كان دأبه خلال الحديث تشويه الحقائق، لكن الملاّ محمد كان يفطن لذلك ويتدخّل مؤيدًا حججي…

في مساء اليوم التالي حضر الملاّ محمد وحده، ولكنه لم يكن حازمًا في موقفه تأييدًا أو رفضًا لكلامي وشرحي. عند مغادرته أعطيته “كتاب الإيقان” ليطالعه في منزله. لمّا جاء في المساء التالي قال لي: ’لم أتفهّم الشيء الكثير مما حدثتني عنه خلال هذه الفترة، لكنني بمجرد قراءة جزء من هذا الكتاب، تيقنت بأن الله قد أظهر نفسه، إذ إن هذه كلمات جديدة فريدة…‘ وهكذا رسخ إيمان الملاّ محمد نتيجة قراءته “كتاب الإيقان”…

في اليوم التالي اعتلى المنبر وأعلن البيان التالي: ’حتى الآن اعتدنا جميعًا أن نعتبر البابيين ضالين، لكنني في الأيام القليلة الماضية أدركت، وأنا الآن موقن، بأن القائم الموعود قد ظهر. وكل من يرغب بمعرفة هذا الأمر يمكنه أن يتحرى ويجد الحقيقة بنفسه.‘

كان الملاّ علي أكبر جالسًا بقرب المنبر، فصاح عاليًا: ’يا حضرة الملاّ! ماذا تقول؟ ألا تدرك أن بكلامك هذا قد تُمنع من دخول المسجد بعد الآن أو حتى الاستمرار في مركزك كإمام جمعة؟‘([6])

كان رد الملاّ محمد: ’لن أحضر إلى المسجد بعد اليوم‘. وفعلاً كان ذلك.(35)

أحدث خبر اعتناق الملاّ محمد لأمر الله ضجة في منشاد، فاغتمّ بعض الناس، وتحيّر آخرون، وغضب كثيرون. أمّا أعيان القرية الذين كانوا من المعجبين بالملاّ محمد وأصدقائه فطلبوا منه أن يساعدهم في مواجهة بلبلتهم واضطرابهم والتغلب عليها واستجابة لذلك رُتب مجلس يُعقد في منزل أحد الأعيان. وسأل الحاج محمد طاهر للذهاب معه والتحدث إليهم عن أمر الله.

يذكر الحاج محمد طاهر في مذكراته:

… جاءني حضرة الملاّ محمد وأخبر بما حدث. ثم قال أنه وعدهم (أعيان القرية) بالمجيء معي عصر اليوم التالي إلى منزل الحاج قربان علي… للتحدث عن أمر الله. فوافقت على الذهاب رغم علمي بأن ذلك لم يكن عملاً حكيمًا. ولكنه لمّا كان قد وعد بالحضور فقد شعرت أن عليّ الذهاب معه لئلا، كما خشيت، يؤثر ذلك في إيمانه ويزعزعه. في تلك الأثناء علم الملاّ علي أكبر بالترتيب المتفق عليه، وبادر بنصح الأعيان ألاّ يشاركوا في مناقشات الموضوع بمفردهم، وأخبرهم بأنه ينوي الحضور… ويأتي بعدد من رجال الدين معه.

ذهبنا في اليوم التالي للمكان المحدد حيث وجدنا خمسة وثلاثين شخصًا تقريبًا حاضرين. كان من بينهم عدد من العلماء ووجهاء منشاد، وجميعهم من المعارضين لأمر الله… وبعد برهة وجيزة اقترحوا بأن نبدأ النقاش. فقلت للجمع: ’لعل الأجدر بكم تعيين شخص منكم لإدارة النقاش بينما ينصت الآخرون.‘ فاختاروا الملاّ علي أكبر بالإجماع. كنت متأكدًا تمامًا أن ذلك الاجتماع سيتمخض عن شر مستطير لأنه لم يسبق انعقاد مثل هذا الاجتماع في يزد بل ربما في أي مكان آخر.(36)

وعلمًا منه بأن الناطق بلسان الفقهاء كان شخصًا جدليًا مغالطًا للحقيقة ولا اعتبار له لمنطق أو إنصاف، فإن الحاج محمد طاهر تناول الموضوع بكيفية زعزعت معنويات خصمه وحيّرته طيلة فترة النقاش. فقد تحدّث بما يزيد على أربع ساعات استعرض خلالها تاريخ الديانات السابقة وبرهن على أحقية أمر حضرة بهاءالله بدلائل عقلية واستدلالات نقلية من القرآن الكريم والأحاديث الإسلامية. يمضي الحاج محمد طاهر في وصف ذلك الاجتماع، فيقول:

شهد ذلك اليوم تأييدًا وغلبة بحيث أُعلن عن أمر الله وبُرهن على أحقيته للعموم. وفي ذلك اليوم تحوّل حضرة الملاّ محمد إلى كرة من نار. فكان منجذبًا بدرجة يصعب عليّ وصفها…

في نفس ذاك المساء، بعد أن انفضّ الاجتماع، حرر بعض الفقهاء وثيقة حملت أختامهم وأرسلوها للشيخ محمد حسن السبزواري([7]) في يزد. وقد شهدوا في تلك الوثيقة بأن الحاج محمد طاهر قد جاء لمنشاد وقلب (إيمان) الملاّ محمد الذي أعلن ذلك جهرًا… أي إيمانه بأحقية أمر حضرة بهاءالله والذي أعلنه من فوق المنبر، وقد اعتزل الآن المسجد نهائيًا. أضافوا أيضًا في بيانهم بأن الحاج محمد طاهر شوهد يبلّغ الدين البهائي علنًا في اجتماع عام بمنزل الحاج قربان علي. ثم خلصوا إلى التعبير عن رأيهم على أن الحالة في منشاد باتت دون سيطرة، وعليه فهم يطلبون التعليمات لمواجهة الموقف.

لدى استلامه هذا الخبر، كتب الشيخ محمد حسن فتوى الموت ضد هذا العبد، وأخذها مرفقة بالوثيقة الممهورة للحاج مُعَدِّل السلطنة، حاكم يزد. بناءً عليه أُرسل اثنان من مأموري السلطة لمنشاد لإلقاء القبض على هذا العبد. لكن بعناية إلهية مواتية كنت قد رحلت قبل وصولهما بيوم متجهًا لمهريز([8])… وعند علمهم بالخبر أرسل المؤمنون في منشاد رسولاً على عجل… ووصل إلى في مهريز في الوقت المناسب ليحذّرني. فانطلقت مع هذا المؤمن نحو المدينة (يزد)… وهناك بقيت لفترة… مختفيًا عن الأنظار… بمنزل الأستاذ علي عسكر شال باف [النسّاج]([9])…(37)

إبان الفترة التي بقي فيها في هذا المنزل وقعت حادثة ذات دلالة وأثر عظيمين. كتب عنها قائلاً:

في أحد الأيام قال لي الأستاذ علي عسكر: ’هناك شاب زرادشتي اسمه بهرام (عُرف فيما بعد بالملاّ بهرام) يأتي من حين لآخر لبيع الشمندر عند باب الدار. إنه شاب لطيف جدًا. فإذا وافقتَ سأدخله إلى المنزل في المرة القادمة عندما يأتي ليتحدّث معك.‘ فقلت: ’حسن جدًا‘… وبعد أيام قليلة جاء حضرة الملاّ بهرام… وأتى الأستاذ علي عسكر به إليّ.

حتى ذلك الحين لم يؤمن بأمر الله بعد أحد من الزرادشتيين (في يزد). بل حتى إن البهائيين لم يكونوا ليتصوّروا دخول هؤلاء في الأمر الكريم. إذ لم تكن لهم صلات بتاريخ أو أحداث المظهرين الإلهيين، كما لم يشتركوا في أية نقاشات تتعلق بأمر الله.([10]) إلاّ أنني في ذلك اليوم تحدثت عن الأمر المبارك مع الملاّ بهرام.([11]) عاد في اليوم التالي، وبعد بضعة أيام اعترف بأحقية أمر حضرة بهاءالله. وعلى أثر ذلك ظهر في شخصه من علائم الانشراح والشوق ما يصعب وصفه. فأصبح على غير طبيعته من عدم الاستقرار، بحيث كان يُلاحظ عليه كل مرة جاء فيها لزيارتنا بأنه أصبح أكثر رقة وحساسية لدرجة يأخذ بالبكاء بصوت عال. بعدئذ أتى بأحد من أصحابه الزرادشتيين وهو آقا رستم خورسند، والذي اعتنق أمر الله بعد أن حضر عدة مجالس.(38)

ما كاد الملاّ بهرام يؤمن بأمر الله حتى قام على تبليغ الزرادشتيين من طائفته بروح من البطولة والتفاني. كان الفضل لجهوده المخلصة في دخول أعداد غفيرة منهم حظيرة الأمر الكريم. وفيما بعد أسبغ عليه حضرة عبدالبهاء لقب “أختر خاوري” (نجم الشرق).

بعد قضاء ثلاثة أشهر في عزلة بمنزل الأستاذ علي عسكر، غادر الحاج محمد طاهر متوجهًا إلى قرية مهريز. إلاّ أن الأعداء اكتشفوا بكيفية ما مكانه وقاموا بمحاولة ثانية للقبض عليه وإعدامه. ولكن يد حضرة بهاءالله صانته، فتمكن من النجاة في الوقت المناسب. أخيرًا اضطر لمغادرة إقليم يزد حتى تبدّلت الأحوال هناك.

في هذه الأثناء كانت الحالة في منشاد قد وصلت مرحلة متأزمة نتيجة إيمان الملاّ محمد بأمر الله وإعلانه للرسالة الإلهية لرجال الدين. ثم بعد فشل السلطة الدينية في يزد في القبض على الحاج محمد طاهر، تآمر رجال الدين، يائسين، على إلقاء القبض على ستة بهائيين من منشاد. فأتوا بهم إلى المدينة وزجوهم بالسجن. من هناك أُرسلوا إلى إصفهان للمثول أمام الأمير مسعود ميرزا، ظِل السلطان، حاكم الولاية. رُبطوا معًا بسلسلة واقتيدوا مشيًا على الأقدام في الصيف الحار مسافة تقرب من 250 ميلاً، برفقة مأمورين مسلحين.

حدث أن مرض أحد هؤلاء عندما كانوا في السجن، واسمه آقا سيد محمد علي ﮔازُر. لكن رغم ذلك أمر مجتهد يزد سيئ الصيت، الشيخ محمد حسن السبزواري، بوضع الرجل المريض أمام جماعته ليقودهم نحو إصفهان حاملاً على كتفه الطول الزائد من السلسلة والشوكة الحديدية([12]) المعلقة بها. عندما سمعت بذلك فاطمة بگم، أخت آقا محمد علي وهي من البهائيات الثابتات، تطوعت لمصاحبة السجناء الستة في المشي على الأقدام وحمل الجزء الزائد من طول السلسلة.

عزمت فاطمة بگم، وكانت بنتًا عزباء في السابعة والعشرين من العمر، على المضي مع السجناء مشيًا، رغم ما كانت عليه حالة المرأة في المجتمع آنذاك ورغم حياة العزلة التي كانت تعيشها النساء داخل البيوت إضافة إلى عدم المشاركة بالحياة العامة. حاول المؤمنون جهدهم لإقناعها بالعدول عن الذهاب، وشرحوا لها مصاعب السفر ومخاطره، وحرارة الصيف ولا سيما في الظروف التي كانوا هم فيها. لكن لم يُجْدِ كل ترجيّهم نفعًا. يروى أنها قالت للمؤمنين: ’كيف أسمح لهم بأن يأخذوا أخي… وخمسة من أحباء الله الآخرين إلى إصفهان، بينما أبقى أنا هنا؟ لا بل إني ذاهبة مع هؤلاء الستة إلى إصفهان. وإذا قرروا قتلهم، فلهم أن يقتلوني أولاً قبل إعدام البقية… فليست حياتي بأعز من حياتهم.‘

وفي شجاعة وثبات حيّرا المسؤولين والنظارة من الناس، سارت فاطمة بگم وهي تقود رفاقها، حافية القدمين ومحجّبة، إلى إصفهان حاملة طرف السلسلة والشوكة على كتفها طول الطريق.

عند وصولهم إصفهان أُرسل الرجال إلى السجن. إلاّ أنه عن طريق استعطاف فاطمة بگم نيابة عنهم لدى الأمير ظِل السلطان أُطلق سراحهم وأُعيدوا إلى يزد. لكن الاضطهادات لم تتوقف عند هذا الحد. فبعد ذلك بسنوات نالت تلكم النفوس الجريئة كأس الشهادة. أمّا فاطمة بگم نفسها فسحبوها من بيتها وقتلوها بنحو مهين يأبى القلم وصفه. والفظائع الشنيعة التي ارتكبوها في جثمانها بعد الاستشهاد تشكّل أحد أبشع الأحداث في تاريخ أمر الله.

أمّا بالنسبة للملاّ محمد، ذلك المجتهد العظيم لمنشاد، الذي أثار باعتناقه دين حضرة بهاءالله تلك الزوبعة من الاضطهادات، فإنه تخلّى عن زعامة المسلمين بعد اعترافه بمقام حضرة بهاءالله. ونظرًا لافتقاره لأسباب الدنيا وموارد إعالته وإعالة أهله، اضطر لكسب الرزق بالاشتغال كعامل بناء. كان بمثابة قلعة من القوة للبهائيين وخدم أمر الله بمنتهى التواضع ونكران الذات، حتى فاز بكأس الشهادة مضحيًا بحياته في سبيل حضرة بهاءالله.

نعم، إن أولئك الناس أنفسهم الذين كانوا معجبين به وخادمين له، ولطالما انحنوا أمامه عند ظهوره في وسطهم، وتجمهروا في المسجد ليسمعوا كلماته وهو يقودهم في الصلاة، صاروا الآن متآمرين على حياته، وذلك لأنه اعتنق أمر الله. فقد استشهد الملاّ محمد خلال مذبحة البهائيين عام 1903م في يزد والقرى المجاورة، حيث سحب الغوغاء جسده في طرقات القرية ثم أحرقوه.

إن هذا المسلسل من الأحداث المتصلة ببعضها، يكفي للبرهان على أن تبليغ أمر الله في أيامه الأولى كان يستدعي كثيرًا من الشجاعة والحكمة. ويبين أيضًا أن الانتصارات التي سُجلت لأمر الله غالبًا ما تسببت في محن واضطهادات أدت بدورها إلى حث المؤمنين ودفعهم لتحقيق انتصارات أعظم لمولاهم.

([1])  شاب من شهداء الأمر اللامعين الذي سيتعرّض المجلد الثالث من هذا الكتاب لوصف استشهاده الفريد بشيء من التفصيل.

([2])       راجع سيرة حياته في المجلد الأول، الصفحات 87-95.

([3])  قرية كبيرة تبعد حوالي 40 ميلًا عن يزد. معروفة بسكانها البهائيين وشهدائهم. (أ. ط.)

([4])  أحد شهداء منشاد البارزين. تفضل حضرة بهاءالله مرة، أثناء وجود الحاج محمد طاهر في محضره،     بأنه يحب منشاد من أجل رَضى الروح. انظر المجلد الأول، وكذلك الصفحة 253 من هذا المجلد.

([5])       مدينتان مقدستان لدى الشيعة حيث يحصلون فيهما على درجة الاجتهاد. (أ. ط.)

([6])  كبير رجال الدين المسلمين الذي يقف إمامًا في صلاة الجماعة في المسجد.

([7])  كبير المجتهدين في يزد وأحد ألد أعداء أمر الله. حكم بالموت على كثير من شهداء يزد. (أ. ط.)

([8])       قرية تقع تقريبًا في وسط المسافة بين يزد ومنشاد. (أ. ط.)

([9])  أمر حضرة بهاءالله أن لا يقع الحاج محمد طاهر في يد الأعداء حتى يتمكن من نشر أمر الله. (أ. ط.)

([10]) هناك طائفة زرادشتية كبيرة في يزد. في تلك الأيام لم تكن لها تقريبًا أي صلات حضارية أو دينية مع المجتمع الإسلامي. أمّا اليوم فإن عددًا كبيرًا من البهائيين في إيران ينحدرون من أصل زرادشتي. وأول من آمن بحضرة بهاءالله منهم كان كيخسرو خداداد، ولو أن سهراب پوركافوس من كاشان هو أول من اعترف بالبابية خلال دورة حضرة الباب.

([11]) تجدر الملاحظة بأن الملاّ بهرام قد سبق له الاجتماع ببهائيين آخرين أخبروه عن أمر الله. (أ. ط.)

([12]) تُستعمل الشوكة لتثبيت السلسلة بالأرض عند التوقف للاستراحة أو أثناء النوم ليلًا.

﴿ 5 ﴾ "لوح أحمد" بالعربية

إن “لوح أحمد” من أكثر ألواح حضرة بهاءالله شهرة، وقد تُرجم إلى عدة لغات أخرى. كان قد نزل في حق أحمد أحد مواطني يزد حوالي عام 1282ﻫ (1865م). من خلال نظرة عابرة في اللوح الأصل، يتضح بأن حضرة بهاءالله أنزله قبل أن يسمّمه ميرزا يحيى.([1])

أمّا قصة حياة أحمد فمثيرة جدًا للاهتمام. هناك سرد لحياته مدوّن في سجل تاريخ الأمر وضعه بهائيو جامعة عشق آباد. استنادًا لهذا التاريخ عن أحمد أنه قد عاش لمائة عام وتوفي سنة 1320ﻫ (1902م). وكتب الحاج محمد طاهر المالميري أيضًا موجزًا عن حياة أحمد في “تاريخ الأمر في مقاطعة يزد”، الذي لم يُنشر بعد. وطبقًا لما جاء فيه فإن أحمد مات عن عمر يناهز مائة وثلاثة عشر عامًا!

يُحتمل أن أحد أسباب هذا الاختلاف (بالعمر) يرجع إلى أن الناس في المحيط الإسلامي لم يسجّلوا تاريخ مولدهم. فلم يكن هناك سجل عام للمواليد، لكن بعض الوالدين دأبوا على تسجيل تاريخ ميلاد أطفالهم بصفة شخصية، بينما الفرد لم يعر أهمية للتاريخ بصفة عامة. فلم يشغل اهتمامه أو يحتفل بعيد ميلاده. كان ذلك الموقف ناتجًا عن تعاليم الإسلام التي توصي الإنسان بنكران الذات وعدم تمجيدها أو التفاخر بالنفس. إن كان هناك من يستحق الاحتفال بمولده فهو رسول الله وحده.

وُلد أحمد لعائلة ثرية متنفذة في يزد. ومنذ أيامه الأولى عندما كان لا يزال سن المراهقة كان يشعر بانجذاب شديد نحو التنسك. في ذلك العمر كان غالبًا ما يعتزل بنفسه في الغرفة متأملاً ومناجيًا ربه. كان منتهى رجائه في الحياة ملاقاة القائم الموعود (موعود الإسلام المنتظر) وجهًا لوجه. فكان يستمع لأي شخص قد يدلّه على الطريق، وكثيرًا ما جلس عند أقدام الزهّاد والدراويش الذين ادّعوا أن النور الإلهي موجود في باطنهم.

لكن والده وأسرته، الذين كانوا من المسلمين الأصوليين، باتوا مهمومين مضطربين من أسلوب توجّهه نحو التنسك والزهد. ورغم المحاولات والضغوط من جانبهم لحمله على تغيير أفكاره، فإن التقليد الأصولي لم يفلح في تقييد روح أحمد المتحررة التي لا تُقهر. ويقينًا منه بأن بيئته لن توفر له طموحاته الروحية، قرر اتخاذ خطوة غير مألوفة، ألا وهي هجر موطنه. في تلك الأيام لم يكن أمرًا طبيعيًا أو مقبولاً أن يترك شخص موطنه في المدينة، لا سيما دون إذن والديه. لكن أحمد كان مدفوعًا بقوة لا تُقاوم بحثًا عن جوهر الحقيقة وأملاً بالورود في محضر القائم.

أصبح يومًا، وقد تظاهر بالذهاب للحمام العام، فحمل حزمة من الملابس واختفى. اتجه جنوبًا حتى وصل الهند حيث كان يأمل بالعثور على ما يدلّه لمحبوب روحه. كان ذلك حوالي عام 1242ﻫ (1826م)، أي قرابة عشرين عامًا قبل إعلان دعوة حضرة الباب.

استنادًا للحاج محمد طاهر المالميري، كان أحمد فوق سن العشرين عندما غادر يزد. كتب في مذكراته:

كنت معه (أحمد) لمدة تقرب من أربعة أعوام خلال آخر فترة من عمره عندما عاش في مُنج بَوانات (من إقليم فارس). كان في العشرين من عمره خلال عهد فتح علي شاه عندما كان الأمير خانلَر ميرزا حاكمًا ليزد. في ذاك الوقت كان يعيش حياة نسك، يقضي وقته متأملاً متعبدًا. كان يجب أن يعيش درويشًا، وعند مغادرته يزد إلى الهند كان يرتدي زي الدراويش. وفي طريقه عندما كان في ميناء بوشهر تعرّف على خبّاز، وبقي هناك بعض الوقت. كان يقص بعض القصص عن ذاك الخبّاز ويقول بأنه كان ذا مقام كبير في عوالم الروح وبأنه يحس بالوجود الإلهي كما أن لديه تجارب روحية. إلاّ أن أحمد رحل عن بوشهر إلى بومبى حيث واصل حياة الزهد مشتغلاً بالصلاة والتأمل.(1)

وقد روى أحمد بأنه التقى خلال تلك الأسفار بكثير من المتعبدين والمتصوفين وغيرهم من قادة الفكر. لكنه صار في حالة قنوط وخيبة أمل. إذ رغم ما فرضه على نفسه من رياضة النفس الصارمة، وتمارين عدة في الصلاة كالسجود وترديد آية قرآنية معينة اثني عشر ألف مرة، فإنه فشل في العثور على مبتغاه في الهند.

فلم يكن أمامه سوى العودة إلى إيران خائبًا قانطًا. اتخذ من كاشان مستقرًا له حيث تزوج واشتغل حائكًا يدويًا. فيما يلي مقتطف من روايته الشفوية لبعض المؤمنين:

مضى بعض الوقت، ثم بدأت تصل أنباء ظهور حضرة الباب لعدة مناطق بما فيها كاشان. خلق ذلك دافعًا قويًا داخل نفسي لتحري هذه الدعوة. فقمت بكل الوسائل لجمع المعلومات، حتى التقيت ذات يوم بمسافر([2]) في خان المسافرين. عندما استقصيت منه قال: ’إن كنت تبحث عن الحقيقة اذهب إلى مشهد([3]) حيث يمكنك الاتصال بالملاّ عبد الخالق اليزدي الذي باستطاعته مساعدتك في بحثك.‘

لم أكد أسمع ذلك حتى انطلقت في رحلتي في صباح اليوم التالي مبكرًا. وسرت ماشيًا كل الطريق إلى طهران، ومنها إلى مشهد. لكنني عند الوصول مرضت واضطررت للراحة واستعادة قواي لمدة شهرين في تلك المدينة. عندما استرجعت عافيتي قصدت دار الملاّ عبد الخالق وأخبرت الخادم برغبتي بملاقاة سيده. فقابلته وأخبرته بمبتغاي. عندما سمع ذلك ثار غاضبًا وطردني خارج المنزل. لكنني عدت إليه في اليوم التالي، وببكاء حار توسلت إليه أن يدلّني. فلما وجدني صادقًا جادًا في ابتغاء الحقيقة، طلب مني ملاقاته في مسجد گوهر شاد حيث سيعرّفني على من يخبرني بكامل الحقيقة.([4])

ذهبت إلى المسجد مساءً، لكن بعد انتهاء الصلاة والاستماع للخطبة لم أتمكن من الوصول إليه في غمرة الزحام. في صباح اليوم التالي قصدت منزله وشرحت ما حدث. فطلب مني الذهاب إلى مسجد “پير زن” عند المساء ووعد بأنه سيرسل أحدًا ليلتقي بي ويقودني إلى المكان المحدد. وبإرشاد ذلك الشخص الذي التقى بي في المسجد، وبعد أن سرنا مسافة مررنا خلال رواق بفناء أحد المنازل ثم صعدنا إلى غرفة في الطابق العلوي. هناك وجدت رجلاً وقورًا يحتل مقعد الشرف فيها. وعند باب الغرفة، حيث كان الملاّ عبد الخالق واقفًا، أسرّ إليّ قائلاً بأن ذلك هو الشخص الذي كان يريدني أن أقابله. كان ذلك الشخص هو الملاّ صادق الخراساني.([5])

بعد حضوري بضعة اجتماعات لم أجد بُدًّا من الإقرار والاعتراف بأحقية رسالة حضرة الباب. بعدئذ أشار عليّ الملاّ صادق بالعودة إلى زوجتي وأسرتي في كاشان ومواصلة عملي. بالإضافة إلى ذلك نصحني ألاّ أبلّغ الأمر إلاّ إذا وجدت أذنًا صاغية. وعليه، عدت إلى كاشان حيث اكتشفت بعد فترة قصيرة أن الحاج ميرزا جاني الكاشاني كان أيضًا من المؤمنين. كنا نحن الاثنين البابيين الوحيدين في المدينة.

عندما اقتيد حضرة الباب من إصفهان إلى طهران، كان الحاج ميرزا جاني قد دفع مبلغ مائتي تومان([6]) للمأمورين المرافقين له من أجل السماح لحضرة الباب بالنزول والمبيت في منزله حيث استضافه ليلتين.([7]) وكان الحاج ميرزا جاني قد دعاني أيضًا لنيل شرف الحضور بمحضر مولانا المحبوب.(2)

بعد ذلك يصف أحمد لقاءه مع حضرة الباب ويتحدث عن جلاله ووقاره وجماله بينما كان حضرته يتحاور مع بعض الفقهاء من كاشان. لكن سرعان ما ازداد عدد المؤمنين في كاشان بعد ذلك وبدأت الاضطهادات. يمضي أحمد في روايته فيقول:

في أحد الأيام تعرّض المؤمنون لهجوم من قبل بعض الغوغاء حيث نُهبت كل ممتلكاتهم وحتى الأبواب والنوافذ حُطّمت جميعها. فأخفيت نفسي داخل برج التهوية([8]) وبقيت فيه أربعين يومًا. كان الأحباء يزوّدوني سرًا بالغذاء والماء.

عند اشتداد قسوة الحياة في كاشان، توجّهت إلى بغداد. كان قد مضى نحو خمسة أعوام على إقامة حضرة بهاءالله في تلك المدينة. في الطريق تقابلت مع مسافر غريب. كان كلانا قد أعرب عن نيته بالتوجّه إلى كربلاء.([9]) وأثناء الرحلة قمنا بتأدية الشعائر الدينية الإسلامية المألوفة من صلاة وغيرها. وعند وصولنا بغداد سرت باتجاه بيت حضرة بهاءالله. سرعان ما لفت انتباهي أن صاحبي كان يسير في الاتجاه ذاته، بل اكتشفت أنه بابي أيضًا! وهكذا كتم كلانا عقيدته.([10])

وبعد أن أُدخلت بيت حضرة بهاءالله، وحظيت بمحضره. التفت إليّ وتفضل قائلاً: ’يا للرجل! يصبح بابيًا ثم يختبئ في برج التهوية!‘ بقيت في بغداد ست سنوات اشتغلت خلالها حائكًا. وفي تلك الفترة استفاضت روحي بجزيل عطاء محضره الأبهى. كما نلت شرف الإقامة في الصحن الخارجي لبيته المبارك.

في أحد الأيام ورد خبر موت السيد إسماعيل الزواري([11]) وقد تفضل حضرة بهاءالله قائلاً: ’لم يقتله أحد، بل أريناه قبسًا من بهائنا عن خلف ألف ألف حجاب من النور، فلم يتحمله ففدى بنفسه.‘ عندئذ قصد بعضنا ضفة النهر حيث وجدنا جثمان السيد إسماعيل ممددًا ولقد قطع حنجرته بموسى كانت لا تزال بيده. فنقلنا جثمانه وأودعناه الثرى.

إلاّ أني بقيت مستمتعًا بدفء أنوار شمس محضر حضرة بهاءالله حتى ورود فرمان السلطان باستدعاء حضرته إلى الآستانة. توجّه الجمال المبارك إلى حديقة نجيب باشا في اليوم الحادي والثلاثين بعد النوروز. في ذاك اليوم فاضت مياه النهر مما اضطر السلطات لفتح بوابات الأمان اتقاء الفيضان. في اليوم التاسع خفّت حدة المياه وغادرت العائلة المباركة البيت صوب الحديقة للالتحاق بحضرته. لكن حالما عبروا النهر عادت المياه للارتفاع مما استوجب إعادة فتح البوابات. في اليوم الثاني عشر غادر حضرة بهاءالله بغداد إلى الآستانة. وذهب في صحبته بعض المؤمنين بينما بقي الآخرون، بمن فيهم هذا العبد، ببغداد. عند مغادرة حضرته كنا كلنا في الحديقة. وقد وقف الذين تقرر بقاؤهم في جهة ثم توجّه حضرته إلينا وخاطبنا بكلمات مواساة. ذكر أنه كان من الأفضل بقاؤنا. وأنه سمح لبعض المرافقين بمصاحبته لمجرد اتقاء خبثهم وسوء تصرّفهم.

ثم أخذ أحد الأحباء ينشد بيتين من شعر “سعدي” بصوت مفعم بالعاطفة والحزن:

فلنسكب الدمع كأمطار الربيع      ها هو الحجر ينوح لفرقة الأحباب

فأجاب حضرة بهاءالله: ’حقًا كان مقصود الشاعر منها هذا اليوم([12]).‘(3)

هذه الروايات القليلة التي تركها أحمد عن حضرة بهاءالله للأجيال القادمة، تشكل مع هذه النبذة الموجزة عن حياته هو، الجزء الرئيس من تاريخه الذي رواه شفاهًا. لم يتعرض فيه لوصف مسهب لانطباعاته أو الأثر الذي أحدثه في نفسه لقاؤه بكل من حضرة الباب وحضرة بهاءالله. كما أنه لم يتحدث فيه عن تلكم الأعوام الستة المجيدة التي عاشها في كنف حضرة بهاءالله. لكننا نعلم بأنه كان هناك قليل من بين أصحاب حضرة بهاءالله في بغداد ممن شاركوا أحمد في إيمانه وتبصره الروحاني. لقد انتعشت روحه بقوة وحي حضرة بهاءالله، إذ كان مستعدًا ومستقًا لاقتباس جاذبية روحانية ونورانية من حضرته على شأن سيطرت على كيانه طوال عمره المديد.

كتب عنه الحاج محمد طاهر المالميري يقول:

مكث أحمد في بغداد بضعة أعوام تشرف خلالها بمحضر حضرة بهاءالله. لقد نال      من حضرته ما نال من البركات والأفضال. قال لي مرة بأنه قد شاهد باطن نور الجمال المبارك. وكان صادقًا بذلك، إذ إنه كان يملك لوحًا بخط يد حضرة بهاءالله يشهد فيه بأن أحمد قد رأى جماله المستتر.(4)

بعد مغادرة حضرة بهاءالله إلى الآستانة، بقي أحمد في بغداد وخدم أمر الله فيها بتفان عظيم. إلاّ أنه في سره كان يتلهف للتشرف بمحضر مولاه مرة أخرى. وبعد فترة من الوقت لم يعد يحتمل الفراق فتوجّه نحو أدرنة. عندما وصل الآستانة أرسل إليه حضرة بهاءالله اللوح الذي يُعرف الآن عمومًا باسم “لوح أحمد”. لمّا قرأه علم أحمد ما كان مطلوبًا منه. فسلّم إرادته لمشيئة حضرة بهاءالله، وبدلاً من المضي في سفره نحو أدرنة وملاقاة مولاه، عاد إلى إيران بهدف واحد هو تبليغ أمر حضرة بهاءالله ونشر رسالته بين جماعة البابيين.

إقتداءً بمنيب والنبيل الأعظم اللذين أرسلهما حضرة بهاءالله لتبليغ أمره، تنقّل أحمد في ربوع إيران كثيرًا مبشرًا بمجئ “من يظهره الله” للعديد من البابيين. بواسطة جهوده الصادقة اعترف عدد كبير بمقام حضرة بهاءالله وصاروا من أتباعه المخلصين. في تلك الفترة بلغت حالة البابيين من التقهقر والبؤس بحيث كان المبلّغون البهائيون يلقون تعنّتًا وعداء منهم. يشير أحمد في روايته الشفوية إلى حادثة من هذا القبيل في خراسان فيقول:

غادرتُ طهران إلى خراسان وتحدثت إلى كثير من الناس بشأن مجئ “من يظهره الله”. قصدت بلدة فروغ([13]) (مقاطعة خراسان) بزي درويش، وتكلّمت مع الملاّ ميرزا محمد([14]) وإخوته عن “من يظهره الله”. في أثناء الحديث تملّكهم الغضب بحيث اعتدوا عليّ ضربًا مبرّحًا وكسروا أحد أسناني. بعد أن اكتفوا بما حصل وسكنت العواطف الثائرة، واصلت حديثي مذكرًا إياهم بأن حضرة  الباب قد أشار إلى أن “من يظهره الله” سيأتي باسم “بهاء”. وعليه تعهدوا بقبول ادعاءات حضرة بهاءالله لو استطعت إثبات قولي. فطلبت منهم أن يأتوني بكتابات حضرة الباب. فعملوا فتحة في الجدار وأخرجوا منها كل الألواح والكتب المخبأة خوف وقوعها في يد الأعداء.([15]) وحالما فتحت إحداها وجدت فقرة تشير إلى أن “من يظهره الله” سيحمل اسم “بهاء”. فأقبلوا بسرور وآمنوا بأمر حضرة بهاءالله، فتركتهم متوجهًا إلى مدن أخرى.(5)

مما يثير الاهتمام أن نلاحظ بأن هؤلاء الأخوين من “فروغ” أصبحوا بهائيَين بارزين، لا سيما ميرزا محمود الفروغي، ابن الملاّ ميرزا محمد. فقد كان مؤمنًا بطلاً، ومثالاً للإيمان والشجاعة ومُدافعًا قويًا عن ميثاق حضرة بهاءالله.

أمّا عن أحمد وأواخر أيام حياته فقد كتب الحاج محمد طاهر المالميري ما يلي:

عاش أحمد واشتغل لفترة في كاشان. ونزل لوح أحمد في حقه (بالعربية) واعتاد أن يحمل معه النسخة الأصلية، بخط يد الجمال المبارك. بعد وفاة زوجته في كاشان تزوجت ابنته([16]) من رجل كان يعمل في نقل الماء إلى بلاط ناصر الدين شاه بطهران. وبعد فترة قصيرة ذهب أحمد إلى شيراز ثم نيريز حيث تزوج ثانية وعاش هناك نحو عشرين سنة. أمضى أيضًا فترة في سروستان (إقليم فارس). كان رجلاً بسيطًا جدًا طاهرًا صادقًا. كان سبب قدومه لبلدة “مُنج” رغبته في الذهاب إلى طهران. ذلك أن ابنته… كانت قد كتبت عدة رسائل لآقا بشير إلهي([17]) ترجوه عمل ترتيب لوالدها المسن كي يذهب إلى طهران كونها اشتاقت لرؤيته. لكن أحمد لم يكن يميل للذهاب. كان حينذاك في السادسة والتسعين عندما وصل إلى “مُنج”، لكنه كان في تمام الصحة والقوة. كان يقضي معظم أوقاته في قراءة الآثار المباركة، خصوصًا اللوح الخاص به والذي كان يتلوه مرارًا. أقام في “مُنج” أربع سنوات لحين سفره إلى طهران بترتيب من قبل أحد الأفنان([18]) الذي أرسله برفقة خادمه الموثوق. بقي في طهران لبعض الوقت ثم ذهب لزيارة قزوين.(6)

يتميز “لوح أحمد” بقوة خاصة، ولذلك غالبًا ما يلجأ المؤمنون إلى تلاوته في أوقات الشدة والضيق. رغم كونه لوحًا قصيرًا لكنه يحتوي كل حقائق أمر حضرة بهاءالله، ويمكن اعتباره كميثاق يفصّل مستلزمات الإيمان والخدمة للفرد المؤمن.

يشير فيه حضرة بهاءالله إلى نفسه ﺒ”ورقة الفردوس” و”المنظر الأكبر” و”شجر الروح“، ويعلن عن مقامه العليّ للمخلصين، وينادي بمجيء يوم الله مشيرًا بوضوح إلى أن من فاز بمحضره فقد فاز بلقاء الله.

يفتتح اللوح بإعلان علو طبيعة ظهوره. أمّا المصطلحات التي استعملها في اللوح في هذا المجال فلا تدع أتباع حضرة الباب في شك من أنه ينادي بلا لبس أو غموض أنه “من يظهره الله”، موعود “البيان”. كما يبين بجلاء بأن لن يقترب من فناء قدسه غير “المخلصين” و”المنقطعين” (عن شؤونات الدنيا).

إن مجرد حقيقة تأكيد حضرة بهاءالله، في هذا اللوح وعدة ألواح أخرى، على الإخلاص كشرط مسبق لعرفان مقامه لهو برهان بحد ذاته على أحقية رسالته. ففي محضر الله لا محل لوجود النفاق والمكر. وكما يبدد النور الظلام، يمحو الحق بقوته الضلال.

لكن الله برحمة منه، يمهل ويصبر عسى أن يغتنم الخائنون الفرصة لإصلاح حالهم. لعدة سنوات تحمّل حضرة بهاءالله رفقة بعض الرجال الخائنين المنافقين بنحو من النبل والفضل بحيث شعر جميعهم بالراحة والطمأنينة في محضره. لقد سجّل الحاج ميرزا حيدر علي في كتاب مذكراته المحرك للمشاعر (بهجة الصدور) ما تفضل به حضرة بهاءالله في هذا الشأن في عكاء:

… ثم تفضل حضرة بهاءالله بقوله: ’لو كان للناس عيون يبصرون بها، فإنهم لا تشتبه عليهم آثار الله وما سواه. فعند ملاحظة سوء تصرف بعض من يطوف حولنا، فإنه بإمكانهم أن يدركوا، بنحو أعظم، مجد الحق وجلاله وكبرياءه وقدرته وسطوته وتصرّفه وتسخيره وستره ورحمته ومغفرته وصبره وحلمه. فإنّا لو نسمع الكذب نسكت ونستر ونلوذ بالصمت. بعدئذ يظن الذين كذبوا بأنّا صدّقنا كذبهم وأنهم أفلحوا في تضليل الموضوع في محضرنا([19]).‘(7)

في لوح إلى شخص يُدعى محمد علي، أنزل حضرة بهاءالله الآتي:

“أقسم بجمال المحبوب هذه رحمة أحاطت كل الممكنات وهذا يوم فيه نفذ الفضل الإلهي إلى جميع الكائنات. يا علي إن عين رحمتي جارية وقلب شفقتي في احتراق لأني لا أحب أن يأخذ الحزن أحبائي أو يمسّهم الهمّ.

كلما سمع اسمي الرحمن أن أحدًا من أحبائي تفوّه بحرف مغاير لرضائي رجع إلى محله مهمومًا مغمومًا. وكلما شاهد اسمي الستّار نفسًا منشغلة بهتك حرمة أحد عاد إلى مقر القدس بحزن بليغ وانشغل بالعويل والنواح. وكلما شاهد اسمي الغفّار ذنبًا من أحبائي ارتفع صياحه واندهش وارتمى على الأرض فحملته ملائكة الأمر إلى المنظر الأكبر. ونفسي الحق يا نبيل قبل علي إن احتراق قلب البهاء أشد من احتراق قلبك ونواحه أعظم من نواحك. فكلما ظهر عصيان نفس لدى ساحة القدس يود هيكل القدم من حيائه أن يستر جمال نفسه إذ لا زال كان ناظرًا للوفاء وعاملاً بشرائطه.”(8)

في لوح آخر(9) يفسّر حضرته كيف أنه، عملاً بصفته “الستّار”، قد ستر خطايا كثير من المخادعين وعيوبهم. أولئك الذين ظنوا، نتيجة لذلك، بأن المظهر الإلهي لا يعلم بسيئاتهم. لم يدرك هؤلاء بأن حضرة بهاءالله، بعلمه الإلهي، كان يعي سيئاتهم وعيًا تامًا، لكن عين الله الساترة لم تفضح مساوئهم. ولم يبعدهم عن محضره إلاّ عندما هدفت أذيّتهم أمر الله نفسه، عندئذ كان حضرته يتخلص منهم ويقذفهم خارج أهل البهاء. هكذا، على سبيل المثال، عامل حضرة بهاءالله السيد محمد الإصفهاني، والحاج ميرزا أحمد الكاشاني([20]) وآخرين غيرهما ممن عاشروه سنوات. كان عدم وفائهم من الوضوح بحيث كان أتباع حضرة بهاءالله على علم به. لكنه أخيرًا طردهم، وما كان من تلكم النفوس المريضة الخائنة إلاّ الانضمام إلى ميرزا يحيى.

كان هناك من بقي في ظل أمر الله عدة عقود من السنين، ولو أنهم عُرفوا منذ البداية بفسادهم وفسقهم بنحو واضح. أبرزهم في صيته السيئ هو جمال البروجردي الذي لقّبه حضرة بهاءالله ﺒ”اسم الله الجمال”، والسيد مهدي الدهجي الذي لقّبه ﺒ”اسم الله المهدي”. فكان هذان الرجلان الطموحان المخادعان في مقدمة مبلّغي أمر الله لعدة سنوات، وذاع صيتهما في أوساط جامعة الأحباء. إلاّ أن نفاقهما كان مكشوفًا لدى المقربين منهما. مع ذلك ستر حضرة بهاءالله أخطاءهما، وأنزل لهما عدة ألواح ناصحًا إياهما بالتزام الأمانة والنبل، وغاضّا عنهما الطرف بكل صبر وصفح وشهامة. إلاّ أنه أنّبهما لبعض أعمالهما الضارة بأمر الله.

مثلاً، حدث مرة أن توجّه اثنان من المؤمنين البارزين -عيّن حضرة بهاءالله أحدهما أياديًا لأمر الله- في طريقهما لزيارة الأحباء وتبليغ أمر الله في إقليم خراسان. لكن جمال البروجردي شعر بالغيرة الشديدة والحسد منهما. فقام سرًا وحذّر المؤمنين منهما ونعتهما بعبارة شائنة على أنهما نذيرا شؤم. أثار هذا العمل غضب حضرة بهاءالله. لذا فإن حجاب التستر، الذي حما جمال عدة سنوات أملاً بيقظة ضميره وتوبته، قد رٌفع الآن. وطرف العناية والستر الذي كان يحفظه من قبل قد مُنع عنه. فأرسل حضرة بهاءالله لوحًا قهريًا أدان فيه تصرف جمال وأعماله ووبخه بشدة. لكن جمال، وهو سيد النفاق، سرعان ما أفاق من تلك اللطمة التي أطاحت بسمعته لفترة بين المؤمنين، وعاد ليحتل مكانته كواحد من المبلّغين المشهورين لأمر الله في جامعة الأحباء.

إثر صعود حضرة بهاءالله، نقض جمال والسيد مهدي عهد الله وخالفا حضرة عبدالبهاء. وقاما ومؤيدوهما بكل مجهود ممكن لإحداث الثلمة في الدين، لكنهم باؤوا جميعهم بفشل ذريع أمام قوة الميثاق، ولم يمر وقت طويل قبل هلاكهم.([21])

في “لوح أحمد” يثني حضرة بهاءالله على حضرة الباب أبلغ ثناء يهز المشاعر ويقر بأنه “سلطان الرسل“. كان لهذه الشهادة، والتي تشكّل إحدى العقائد الأساسية لأتباع حضرة بهاءالله، مغزىً خاصًا بالنسبة للمبلّغين البهائيين في تلك الأيام. ذلك لأن مهمتهم الرئيسة كانت تبليغ دعوة حضرة بهاءالله بين أفراد الجامعة البابية.

إن الذين أنكروا واعترضوا على مظاهر أمر الله قد لجأوا دومًا لاستعمال سلاحيّ الضعيف، وهما الاضطهاد وإشاعة الأباطيل. وقد استعمل بعض البابيين المنكرين بالتأكيد السلاح الثاني فأذاعوا الاتهامات الكاذبة بأن البهائيين لا يقيمون اعتبارًا لحضرة الباب. كان الغرض من مثل تلك الأباطيل الشنيعة تسميم أذهان البسطاء من الناس. لذا فإن حضرة بهاءالله، في هذا اللوح وغيره من ألواح الفترة نفسها، قد أشاد بمقام حضرة الباب ووصف “البيان” بأنه “أم الكتاب” وأمر كل المؤمنين العمل بأحكامه. إلاّ أن حضرة بهاءالله نسخ معظم تلك الأحكام فيما بعد عندما شرّع أحكام دينه في “الكتاب الأقدس” الذي أصبح “أم الكتاب” لهذه الدورة.

فيما يلي إحدى أكثر فقرات “لوح أحمد” تنويرًا:

“قل يا قوم إن تكفروا بهذه الآيات فبأي حجة آمنتم بالله من قبل هاتوا بها يا ملأ الكاذبين.

لا فوالذي نفسي بيده لن يقدروا ولن يستطيعوا ولو يكون بعضهم لبعض ظهيرًا.”(10)

في هذا الإعلان المتحدي يؤكد حضرة بهاءالله مرة أخرى على أن أحد أقوى براهين أحقيته ومقامه السماوي هو كلمته. يصرح حضرة بهاءالله في كتاباته بأن أول دليل على أحقية المظهر الإلهي هو نفسه وذاته. وكما يقال أحيانًا أن دليل وجود الشمس نفسها. فيما يلي كلمات حضرة بهاءالله المنزلة في “لوح أشرف”([22]):

“قل إن دليله نفسه ثم ظهوره ومن يعجز عن عرفانهما جعل الدليل له آياته وهذا من فضله على العالمين.”(11)

إن المؤمنين الأوائل بحضرة بهاءالله، ممن صفت قلوبهم وكان لهم الامتياز الفائق بالتشرف بمحضره، كانوا كمن رأى الشمس بعينيه. لقد شهدوا مجد ظهوره فلا حاجة لهم إلى براهين. أمّا الذين في قلوبهم مرض فلا يُسمع من زوايا أوهامهم الظلماء سوى السؤال والجدال والإعراض والشكوك.

أمّا في هذا اليوم فإذا أردنا معرفة مقام حضرة بهاءالله فعلينا التوجّه إلى كلماته. لأن كلمة المظهر الإلهي مفعمة بقوى روحية تفوق إدراك الإنسان. ما من شخص، مهما بلغ تحصيله، لا بل لو اجتمع البشر كافة لما استطاعوا خلق ما ينبثق عن الكلمة الإلهية من قوة روحية. حقًا، إن إحدى الفروقات بين الكلمة الإلهية وكلمة الإنسان هي أن الأولى تستمد قوتها من عوالم الله، وهي خلاقة تنفذ إلى أعماق القلوب، بينما الأخرى تتعلّق بعالم الوجود. لذا فهي محدودة وقاصرة ضعيفة أساسًا. إن كلمة الإنسان ليس لها نفوذ في المجتمع ما لم تستمد قوتها من تعاليم الله.

إن في التاريخ برهان واف على قوة كلمة مظاهر أمر الله. فرغم ما رأى فرعون في موسى من فقر وضعف في الظاهر، إلاّ أن كلمته كان لها من الأثر ما غلب قوى القهر والطغيان، فقلب بني إسرائيل من العبودية إلى السيادة. كما أن السيد المسيح نفسه أُدين لمناداته برسالة جديدة. فانتهى الأمر بتكاتف سلطتيّ الدولة والدين معًا في الحكم عليه بالصلب للقضاء على أمره. لكن كلمته، بما فيها من قوة وخلاقية، نفذت في عالم الغرب، وقلبت ملايين القلوب، وكسحت رايات إمبراطورية الرومان وأقامت مكانها حضارة جديدة. وبنفس الكيفية أتى الرسول محمد r، الذي غالبًا ما أُسئ فهمه في الغرب، بالكلمة الإلهية كما نزلت في القرآن الكريم، وقوّمت تعاليمه وكلماته سلوك أمة متباينة الأعراق عبر قرون وما تزال، بعد انقضاء ألف عام، تُشاهد اليوم بين المجتمعات المسلمة آثار نفوذها وسيطرتها. كذلك الحال بالنسبة لحضرة الباب وحضرة بهاءالله فإن كلماتهما تؤلّف الكلمة الإلهية لهذا العصر. فقد بلغ أثر كلماتهما من القوة الهائلة بحيث سيق آلاف من أتباعهما، رجالاً ونساءً إلى ميدان الاستشهاد وقدّموا حياتهم قربانًا في سبيل نشر تعاليمهما.

إن التوراة والإنجيل والقرآن الكريم والكتب المقدسة لحضرة الباب وحضرة بهاءالله كلها كانت مصادر استوحى منه ملايين عديدة من البشر في إثراء حياتهم الروحية. ما من كتاب آخر، مهما سما موضوعه، -وهناك الملايين منها- قد كان له نفوذ في عقول ونفوس الناس يُقارن بما لهذه الكتب السماوية.

إن دراسة دقيقة لدين حضرة بهاءالله يثبت بأن كلماته قد تميزت بفاعلية وقوة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية. فبالإمكان أن نشهد الآن قوة كلمات حضرة بهاءالله الخلاقة داخل مجتمعنا الحالي. مثال واحد على ذلك: كتب حضرة بهاءالله بضعة أسطر في “الكتاب الأقدس” يفرض على أتباعه تأسيس بيت عدل([23]) في كل مدينة (يُعرف حاليًا باسم المحفل الروحاني). لمّا يمضِ على هذه الفريضة أكثر من قرن بقليل، والتي صدرت من سجين منفي بعكاء، حتى أحدثت من الأثر في أفئدة ألوف من الرجال والنساء من شتى المشارب والألوان والأصول ما جعلهم يتركون بيوتهم منتشرين في أرجاء المعمورة، مهاجرين إلى أقاصي الأرض الموحشة، يعانون مختلف المصاعب والشدائد، مضحين بما لديهم ومنفقين أموالهم في سبيل تأسيس هذه المؤسسات. وهم ما يزالون على ذلك قائمون حتى يكون في كل جهة ومركز في الأرض بيت عدل. هذه هي القوة الخلاقة لكلمة الله التي جرت من فم حضرة بهاءالله وقلمه! وينطبق الشيء نفسه على كل حكم وأمر صدر عن القلم الأعلى.([24])

في خطاب للأعراب المعرضين (عن الإسلام)، يصرح صوت الله في القرآن الكريم قائلاً:

“وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا([25]) فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين.”(12)

في حين نزول تلك الآية قام بعض الرجال المتعلمين من بين الكافرين بتأليف أبيات نشروها قائلين أنها أكثر فصاحة من كلمات محمد r. لكن الذي فاتهم إدراكه هو أن أقوالهم لم تستطع أن تؤثر في النفوس، بينما القرآن الكريم قلّب حياة الملايين من الناس عبر العالم، كما خلق في زمانه مدنية عظمى ضمت أممًا شتى.

نجد في هذه الكلمات لحضرة بهاءالله في لوح أحمد: “هاتوا بها يا ملأ الكاذبين“، صدىً لكلمات القرآن الكريم -آنفة الذكر- لكنها تزيد بتحدٍ أعظم للكافرين: “لا فوالذي نفسي بيده لن يقدروا ولن يستطيعوا ولو يكون بعضهم لبعض ظهيرًا.”(13)

برهان آخر على أحقية المظاهر الإلهية هو الكيفية التي أثّروا بها على المجتمع. هذه ظاهرة فريدة لا يمكن لإنسان أن يأمل أبدًا في مضاهاتها. فلنعتبر في بعض من الأمثلة العديدة من التاريخ نجد مثلاً أن حاكمًا طاغية يمكنه اللجوء إلى قوته للتسلط على ملايين البشر تحت زعامته، يلتف الناس حوله ما دام هو باق في السلطة. لكن حالما يختفي، ينهار كل نظامه، ويتشتت أتباعه. بنفس الكيفية قد يبرز زعيم لو تيسر له من الثراء والمال والاستعداد لصرفه على الناس. فما دام ينفق عليهم من ماله نراهم يتجمهرون حوله. من ناحية ثانية قد يجد شخص ذو شعبية ومكانة اجتماعية مرموقة، نفسه وقد أصبح وسط دائرة من المعجبين المنجذبين إليه. هناك رجل صلب الإرادة قادر على تحريك الدوافع الدنيا للإنسان، أو إثارة عواطف الجماهير، قد ينجح في إشعال هياج أو ثورة يصبح هو على رأسها. صنف آخر يجدر ذكره هو الرئيس الديني الذي يقود بواسطة مخاطبة جمهوره بما هم مؤمنون به أصلاً. لكنه حالما ينحرف ويقرر توجيههم وجهة جديدة ويصر على ذلك، فمن المؤكد عزله من منصبه.

في كافة هذه النماذج لا بد للزعيم من الاعتماد على بعض الوسائط الدنيوية في سبيل تحقيق طموحاته في السيطرة على الناس. هذه الواسطة قد تكون قوة أرضية، ثروة، مكانة اجتماعية أو سياسية، أو زعامة دينية أو كثير غيرها. إلاّ أن المظهر الإلهي يفتقر لكل هذه القوى المادية.

فلنتخذ مثالاً السيد المسيح. فحينما ظهر وأعلن أمره لليهود لم تكن لديه سلطة دنيوية أو ثروة تمكنه من التأثير على أتباعه. وبسبب ظروف مولده لم تكن عنده مكانة اجتماعية بين جماعته. لم يدعم أمره عن طريق استمالة غرائز الإنسان الدنيا. بل وما كان زعيمًا دينيًا يعظ مبادئ وقيم دين مستتب آنذاك، إنما عكس ذلك كان يدعو إلى دين جديد. في أثناء السنوات الثلاث لدعوته عانى الاضطهاد وانتهى الأمر بصلبه. مع ذلك اتسمت دعوته بقوة خفية نفذت إلى أعماق نفوس كثيرين أصبحوا أتباعه، والآن وبعد مرور ألفي عام تقريبًا، هناك ملايين من البشر يتوجهون إليه تبتلاً وحبًا. يثبت هذا قوة الروح القدس كما يبين الفرق بين الإنجاز البشري والوحي السماوي.

بنفس الكيفية ينتشر أمر حضرة بهاءالله ويتأسس في أرجاء العالم بتأييد من الله وحده. لكن بما أنه هو المظهر الكلي الإلهي، فقد حباه الله بقوة أعظم مما كان للأديان السابقة([26]) بالرغم من قضاء مؤسسه أربعين سنة من بعثته سجينًا منفيًا مضطهدًا تحت أشد الظروف قسوة، ومع أن قوى اثنين من طغاة السلاطين تكاتفت ضده، إلاّ أنه لم يبتغ قط، أثناء تلك الفترة، عونًا من أحد لنصرة أمره، ولم يسع إلى دعمه بواسطة مساومة أو وسائل نفعية أو مادية. فقد سلّم نفسه لأعدائه بنفس تلك الوداعة التي تميّز بها مظاهر أمر الله وتحمّل بكل صبر وتسليم ما سقوه من كؤوس الظلم والابتلاء. ورغم أشد الاعتراض فقد أعلن رسالته إلى أسماع أقوى حكام زمانه. كذلك وصل شعاع دينه، خلال حياته، إلى ثلاثة عشر بلدًا من بلاد آسيا وأفريقيا. أمّا الآن فقد عم ذاك النور سطح الأرض قاطبة، وصارت تعاليمه تمثل روح العصر بينما مؤسسات نظمه العالمي، المُنزل من أجل توحيد الجنس البشري في هذا العالم، في نماء مطرد في كل العالم.

حققت هذه الإنجازات التي تبشر بالنصر الآتي لأمر حضرة بهاءالله واستتبابه في تمام الوقت كدين شامل لعموم البشر، وتمت تلك المعجزات بقوة حضرة بهاءالله المنبعثة من الله بينما تتضافر قوى هذا العالم ضده.

إن لكل دين دورة نفوذ يكون له خلالها أثر عظيم على البشرية ويُحدِث فيها تطورًا روحيًا وماديًا لا سيما بالنسبة لأتباعه. يحدث ذلك من تأثير كلمة صاحب ذلك الدين في قلوب الناس وتطبيق ما جاء به من تعاليم. لكن عند مجيء مظهر إلهي آخر يصبح الدين السابق لاغيًا. لذا يضعف تأثيره وتأخذ قوته الخلاقة بالتلاشي. فلا تعود رسالته تحرك القلوب، وتصبح تعاليمه غير قابلة التحقيق واقعيًا. ذلك لأن الله قد أسبغ على الرسالة الجديدة النفوذ والإلهام والتأثير للأخذ بيد الإنسانية نحو مرحلة جديدة في مسيرة تطورها. في السورة التالية من القرآن الكريم دلالة واضحة على أن لكل دين زمان، أي بداية ونهاية:

“ولكل أمّة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.”(14)

في هذا اليوم تحيي قوة الله وظهوره العظيم أمرَ حضرة بهاءالله، وتمنحه روح الحياة، دون أي دعم دنيوي، فتنشر نوره في كل أرجاء الأرض، وتضع أسس نظم عالمي لتقدم البشرية كافة وتطورها الروحاني.

أنزل حضرة بهاءالله في “لوح أحمد” ما يلي:

 

“وإنك أنت أيقن في ذاتك بأن الذي أعرض عن هذا الجمال([27]) فقد أعرض عن الرسل من قبل ثم استكبر على الله في أزل الآزال إلى أبد الآبدين.(15)

إن هذا التصريح يؤكد إحدى حقائق دين الله الأساسية، ألا وهي تتابع الوحي السماوي. بحيث أن كل وحي جديد يختص الله به رسوله أو مظهره يضم جوهر ما سبقه من الرسالات. يشبه ذلك ما يحصل للإنسان إذ يشعر وهو يجتاز مختلف مراحل حياته بأنه ما زال يحمل في باطن سره كل الخصال والسمات التي اكتسبها من قبل.([28])

لقد بث حضرة بهاءالله، بقوة وحيه وكلماته، في روح أحمد قوة هائلة من الإيمان والانقطاع. وهبه القابلية والقدرة ليكون “كشعلة النار لأعدائه وكوثر البقاء لأحبائه”. للماء والنار خصائص متباينة. فالماء عصب الحياة، ويساعد الأشياء على النماء، بينما النار، في حين تحرق كل ما كان قابلاً للفناء، تبعث في الروح الدفء والتوهج في أكثر المواد صلابة. عندما يُقبِل الإنسان ويؤمن بحضرة بهاءالله فإن بذرة حبه في قلب المؤمن تحتاج إلى سقاية ورعاية. ومن الناحية الأخرى يجدر بالمؤمن الصادق أن يؤجج في قلبه نار محبة الله حتى تشع حرارتها منه وتحترق بها أعشاب وأشواك الكراهية والبغضاء المعشعشة في قلوب الأعداء. هذا ما قام به أحمد وغيره من المبلّغين البارزين خلال ترحالهم في البلاد آنذاك. فقد بثوا الحماس في قلوب المؤمنين ورفعوا من معنوياتهم وجددوا حيويتهم بكوثر أمر الله وفي الوقت نفسه بدوا لأعداء أمر الله “كشعلة النار“.

في كتابات أخرى أنزل حضرة بهاءالله نصائح مماثلة. على سبيل المثال نجده في “لوح أم عطّار”(16) ينصحها ألاّ تعاشر من أعرض عنه وقام ضده. لكنها إن صادف والتقت بهم فعليها أن تكون “نار الله” عسى أن يشعروا بحرارة حبها لمولاها. في لوح آخر(17) يحث أحد المؤمنين بأن يحرق، بحرارة الكلمة الإلهية، أفئدة الذين أعرضوا عنه وتولوا عن أمره.

إن بيانات كهذه لا ينبغي أن تؤخذ بظاهر حرفيتها. لأن حضرة بهاءالله لم يوصِ أتباعه أبدًا بالتصرف بعنف نحو الآخرين. لكن هناك قوة غيبية في أمر الله تكتسح أمامها كل عقبة وتدحر قوى الأعداء. بعض أتباع حضرة بهاءالله توفرت فيهم هذه القوة، وكانت ألسنتهم كالسيف ترهب قلوب الذين عادوا الجمال المبارك. وبقوة بيانهم وحرارته استطاع هؤلاء المؤمنون الأبطال هتك حجبات التعصب والكراهية والتغلب على قوى الخائنين الذين قاموا على هدم صرح أمر الله.

ينصح حضرة بهاءالله عباده بهذه الكلمات كما نزّلت في لوح بحق الحاج ميرزا أحمد من كاشان([29]):

“كونوا نارًا مشتعلة لتحرقوا الحجبات الغليظة وتحيوا الأجساد الباردة المحتجبة بحرارة المحبة الإلهية وكونوا هواءً لطيفًا حتى تدخلوا مكمن قدس ولايتي.”(18)

إن الإيمان بالله والثبات على صراطه مصطلحات نسبية. فقوة الضعيف تُعتبر ضعفًا بالنسبة لرجل قوي. كذلك بالنسبة للقديس فإن محبة المرائي وتعبّده لله ما هي إلاّ كفرًا. وعليه فإن معيار الإيمان يتباين تبعًا للأفراد. لقد دعا حضرة بهاءالله أحمدَ في اللوح لبلوغ أقصى درجات الإيمان. بل قصد في نصائحه له أن يدّله وغيره إلى أوج الثبات والشجاعة. ويصعب تصور مستوى أعلى في الاستقامة والإيمان يطلبه الله من ذلك الذي يطلبه حضرة بهاءالله في هذه الكلمات:

“وكن مستقيمًا في حبي بحيث لن يُحوّل قلبك ولو تُضرب بسيوف الأعداء ويمنعك كل من في السموات والأرضين.“(19)

قد تفيد كلمات حضرة بهاءالله كمعيار يمكن بواسطته أن يقرر المرء فيما إذا كان قد قرأ هذا اللوح “بصدق مبين“. إن علامة الصدق هي وصول المؤمن إلى مستوى من الإيمان والثبات بحيث لا يتزعزع قلبه ولو وجد نفسه مهددًا بالاستشهاد على يد الأعداء. إن مجرد حقيقة إقرار حضرة بهاءالله لهذا المستوى الرفيع للإيمان لدليل بحد ذاته على أنه يمكن بلوغه، وأن كثيرين سينالونه. ذلك لأن خلاقية كلمات حضرة بهاءالله قد نفخت، حال نطقها، روحًا من الشجاعة في قلوب الذين آمنوا به حقًا. لم يكن أحمد وحده الذي وُهب قوة الإيمان، بل بلغ آخرون كثيرون أعلى ذرى الإيقان والبطولة. لقد خلت قلوب أولئك من كل أثر للرهبة والشك، وبقوا ثابتين كالجبال في أمر الله وواجهوا جلاديهم بلا خوف.

دعنا نسوق مثالاً واحدًا على ذلك برواية الأحداث التي انتهت باستشهاد أحد أتباع حضرة بهاءالله البارزين، الحاج عبد المجيد النيشاپوري، الذي أصبح مثالاً للإيمان والانقطاع. كان والد آقا بزرگ المعروف ﺒ”بديع”، الذي تشرف بمحضر حضرة بهاءالله في السابعة عشر من عمره في ثكنات عكاء، وقام بعد ذلك بتسليم لوح حضرة بهاءالله إلى ناصر الدين شاه ثم قُتل على أيدي رجاله.

كان الحاج عبد المجيد، الذي خاطبه حضرة بهاءالله باسم “أبي بديع”، قد اعتنق أمر الله في عهد حضرة الباب، من ضمن أوائل المؤمنين في مقاطعة خراسان الذين بُلّغوا على يد الملاّ حسين البشروئي.([30]) اشترك في ملحمة الشيخ الطبرسي([31]) وكان من بين الناجين من تلك الموقعة الدموية.

في طريقه إلى ذلك الحصن كان أبو بديع، وهو رجل ثري، أول المؤمنين الذين استجابوا لنصح الملاّ حسين بالتخلص من ممتلكاتهم الدنيوية، وأن يتركوا كل شيء وراءهم عدا سيوفهم وخيولهم. قذف أبو بديع بسرج كدس بأحجار الفيروز على قارعة الطريق تقدر قيمتها بثروة كبيرة. عندما وصلت أخبار إعلان دعوة حضرة بهاءالله لأسماعه، استقبلها أبو بديع بانشراح معترفًا بمقامه وقضى أيامه في خدمة أمره بتفان عظيم. في سنة 1876م، وهو في سن متقدم ومتلهف للتشرف بمحضر حضرة بهاءالله، سافر إلى عكاء ونال بغيته حيث تنعم بأنوار شمس بهائه. ترك للأجيال القادمة هذا الوصف لإحدى مقابلاته الخالدة مع حضرة بهاءالله:

حظيت يومًا بشرف المثول في محضر الجمال المبارك وهو يتحدث عن بديع الذي كان قد تشرف بمحضره الأنور، وحمل لوحه المبارك إلى طهران (الموجّه إلى ناصر الدين شاه) حيث نال تاج الشهادة. بينما كان حضرته يتحدث، سالت دموعي بغزارة حتى ابتلّت لحيتي. التفت إليّ حضرة بهاءالله قائلاً: ’يا أبا بديع إن رجلاً قضى ثلاثة أرباع عمره ينبغي أن ينفق بقيته في سبيل الله…‘ فسألت: ’تُرى هل يمكن للحيتي المبتلة بدمعي أن تُخضّب يومًا بحُمرة دمي؟‘ أجاب الجمال المبارك: ’إن شاء الله([32])…‘(20)

عاد أبو بديع إلى أرض موطنه في خراسان، وقلبه متقد بنار محبة حضرة بهاءالله وروحه متوهجة بأنوار بهائه. واعتاد حضور مجالس الأحباء في مشهد حيث كان يبث فيهم روح الحماسة والاستقامة على أمر الله، ويقرأ لهم فقرات من “الكتاب الأقدس” الذي كان قد أتى بأول نسخة منه إلى خراسان. من المواضيع التي طالما تحدث بها ما كان مؤملاً تحققه قريبًا آنذاك ألا وهو سقوط السلطان عبد العزيز المذكور في “لوح الرئيس” و”لوح فؤاد”.([33]) وقد صرف أبو بديع أغلب أوقاته في استنساخ ألواح حضرة بهاءالله.

سرعان ما تسبب حماس أبي بديع في تبليغ أمر الله في إثارة بغضاء أعداء الدين. في مقدمة أولئك كان أخوه وأخته اللذان أخبرا أحد المجتهدين، الشيخ محمد تقي البُجنُردي، عن نشاطات أخيهما. أخبراه بأن أخاهم بابي منذ عدة سنوات، وقد كان من تلاميذ الملاّ حسين وقاتل في ملحمة الشيخ الطبرسي، وأن ابنه قد قُتل بأمر الشاه. وكشفا عن كل نشاطاته بما فيها رحلته مؤخرًا لزيارة حضرة بهاءالله وتبليغه العلني للدين البهائي. بعثت تلك التقارير الرعب في قلب المجتهد، فأرسل اثنين من رجاله ليستجوبا أبا بديع الذي حدثهما صراحة عن معتقداته وأعلن لهما رسالة حضرة بهاءالله. في اعترافه المكشوف ذاك لم تبق صعوبة في إصدار حكم الموت ضده. كان ذلك في سنة 1877م، أي عقب تشرف أبي بديع بمحضر حضرة بهاءالله بعام واحد في عكاء كان حينها في الخامسة والثمانين من عمره.

بينما كانت المكائد تُحاك من قبل رجال الدين والعوام وبدأت تظهر ثمارها، وصل إلى مشهد أحد ألد أعداء أمر الله من إصفهان، الشيخ محمد باقر، الذي لقّبه حضرة بهاءالله ﺒ”الذئب”. وقام بدور رئيس في هذه الجريمة النكراء. بادئ ذي بدء أمر أبا بديع بالحضور أمامه. عندما لم يلتفت الأخير لأوامره، تحالف مع الشيخ محمد تقي آنف الذكر وشيخ آخر اسمه عبد الرحيم الذي كان من أشهر فقهاء خراسان. أرسل هؤلاء المجتهدون الثلاثة عريضة إلى الأمير محمد تقي ميرزا، ركن الدولة، وأخو الشاه وحاكم خراسان، يطالبون فيها بإعدام أبي بديع. رغم كونه طيب الفطرة ومترددًا جدًا في إيذاء البهائيين، فإن الأمير لم يسعه مقاومة الضغوط الهائلة التي تعرّض لها من قبل الفقهاء. فأصدر أوامره بالقبض على أبي بديع الذي وضع رهن الاعتقال. لكن ركن الدولة ترك الأمر عند ذلك الحد دون متابعة إذ لم يشأ الإساءة للسجين أكثر من ذلك. أمّا رجال الدين الذين لم يصبروا على ما فعل فقد رفعوا شكواهم إلى ناصر الدين شاه. فأصدر السلطان أوامره بإطلاق سراح السجين شريطة إنكار ولائه للدين الجديد.

بعد هذا استمر الشيخ محمد باقر يلّح على الأمير لتنفيذ الإعدام. قام بزيارة منزل الحاكم وناقش نواياه وخططه الشيطانية معه. واقترح من ضمن ذلك ربط أبي بديع بمنطاد -كان قد جُلب حديثًا لمدينة مشهد كإحدى الأعاجيب الغريبة من الغرب- ثم إلقاءه من الجو ليسقط ويهلك. لكن شاء القدر أن يصل الخبر للأمير أثناء ذلك الحديث بأن ابنته الصغيرة، التي كان متعلقًا جدًا بها، قد سقطت في حوض ماء في منزله وغرقت. فترك الأمير الاجتماع مذعورًا، وما كان من الشيخ باقر إلاّ إيقاف ما كان بصدده من التخطيط. وبالنسبة لموقف زوجة الحاكم، فقد اعتقدت جازمة بأن موت ابنتها جاء عقابًا من الله بسبب سجن أبي بديع الطاعن في السن. لكن الشيء الوحيد الذي استطاع عمله في الموضوع هو نقل أبي بديع إلى ناحية أخرى حيث كان الضابط المسؤول هناك متعاطفًا مع البهائيين.

لم يصبر الشيخ محمد باقر على موقف الأمير السلبي وأسلوب المماطلة الذي اتّبعه، فأرسل شكوى أخرى للشاه. وللمرة الثانية وجّه الملك تعليمات تقضي بإطلاق سراح السجين إذا أنكر عقيدته، وإلاّ يطبّق بحقه حد الشرع. وإذ حرص الأمير على إنقاذ حياة أبي بديع، فقد أرسل إليه رجلين بارزين لإقناعه بالإنكار. كان أحدهما ميرزا سعيد خان، وزير خارجية سابق،([34]) والآخر الأمير أبو الحسن ميرزا، الشيخ الرئيس([35]) الذي كان من أتباع حضرة بهاءالله. توسل الرجلان، نيابة عن الحاكم، لإقناع أبي بديع بالإدلاء بتصريح مفاده أنه قد تخلى عن ولائه لأمر الله، وذلك من أجل إنقاذ حياته. عندئذ فقط يكون بمقدور الحاكم الدفاع عن قضيته وإنقاذ حياته إذ دون ذلك لا يمكنه عمل شيء.

لكن أبا بديع ظل ثابتًا على موقفه. فلم يشأ أن يبيع دينه لقاء دنيا فانية. لقد أخذه حب حضرة بهاءالله بحيث لم يبق في قلبه أثر لأي خوف. قال لهما بأن ينقلا لركن الدولة أنه لن ينكر دينه، وأنه على استعداد للتضحية بحياته إن تطلّب ذلك. لكن الحاكم لم ييأس. واستمر يحاول ليحمل أبا بديع على الإنكار. وقد نُقل بأنه بعث حوالي اثني عشر من أعيان مقاطعة خراسان على فترات متفاوتة لذلك الهدف عسى أن يقنعوه بتبديل موقفه، ولكن لا سبيل. قال أحدهم بأن أبا بديع، بدلاً من الاستجابة لنصح ركن الدولة، كان مشغولاً بتبليغه أمر حضرة بهاءالله. أخيرًا أزفت النهاية. فلم يكن للأمير بُد من أن يستجيب لرغبة رجال الدين، وبناء عليه أصدر أمره بإعدام أبي بديع.

في اليوم السابق لإستشهاده، طلب أبو بديع من إحدى المؤمنات، وهي سيدة اسمها خديجة خانم، كانت تزوره يوميًا في السجن وتعمل وسيطة بينه وبين باقي المؤمنين، ألاّ تأتي في الغد لأنه علم أن ذلك هو آخر يوم من حياته في هذا العالم. فقد رأى في المنام أنهم أحضروا له حصانًا ليأخذوه بعيدًا، ثم امتطى الحصان لكنه عندما وصل إلى ميدان “أرگ” (ميدان عام في مشهد) سقط من فوق الحصان. أخبر خديجة خانم بأن هذا الميدان سيكون مكان استشهاده.

قام السجّان في اليوم التالي بإخبار المؤمنين سرًا بأن الساعة المحتومة قد أتت وأن الإعدام سيقع في ذاك اليوم. اجتمع المؤمنون في دار “البابية”([36]) وهم في حزن شديد لتلاوة الأدعية وترقب ما سيكون. في أثناء ذلك تجمّع عدد من موظفي الحكومة والجلادون وعدد غفير من الناس خارج السجن. بعد ذلك ببضع ساعات ظهر الشيخ المهيب خارج السجن. وكان إشراق وجهه وبياض لحيته قد أضفيا عليه مزيدًا من الوقار، بينما السلسلة الثقيلة حول عنقه مَثَل حي للوداعة والتسليم. اقتيد إلى سراي الحاكم وسط جمهور يقذفه بالسباب والتشفّي. وأثناء سيره كان ينظر إلى الناس وعلى وجهه بسمة سرور وهو يردد بيتين من قصيدة فارسية شهيرة:

لمرضاة الله أسلمت وجهي                      ولا يشعر بالعار الأسدُ المكبّلُ

بعروة المحبوب لفّ عنقي                         وبيد مشيئته حيث يشاء أُنقلُ

وقف في سراي الحكومة أمام ثلاثة أشخاص: الحاكم، ميرزا سعيد خان الذي سبقت الإشارة إليه أعلاه، والشيخ محمد باقر. خاطب الأخير أبا بديع قائلاً: ’ليس لدينا شك بأنك بهائي، لكن إذا لم تكن كذلك يجب عليك الآن أن تشتم مؤسسي هذا الدين وتنكرهم.‘ أبى أبو بديع أن يفعل. فسأله الشيخ: ’أي خطأ وجدتَ في الإسلام حتى أصبحتَ بهائيًا؟‘ أجاب أبو بديع متحدثًا عن معتقدات أتباع حضرة بهاءالله وخلص للقول بأن جوهر الإسلام وحقيقته يكمن في هذا الدين. بعد ذلك تكلّم الحاكم داعيًا أبا بديع للاستجابة لأوامر الشيخ، لكنه رفض مجددًا تلبية ذلك الطلب. عاد الشيخ مصرًا على أنه لا محالة من الأمر بقتله ما لم يلعن حضرة بهاءالله. عندئذ تدّخل ميرزا سعيد خان، الذي سبق له أن أجرى تحقيقًا مع أبي بديع في السجن، وقد لاحظ بأنه ليس في بيانات المتهم ما يشير إلى كونه كافرًا أو مُلحدًا ليستوجب قتله. فغضب الشيخ عند سماعه تلك الملاحظات لكنه اكتفى بالقول لميرزا سعيد خان ألاّ يأمل بما أبداه من ملاحظات أن يضمن حرية السجين، ويوجّه بذلك ضربة لدين الإسلام. بعد ذلك خاطب الحاكم مؤكدًا على فتواه بقتله، ولم يبق أمام الحاكم سوى إصدار أمره إلى رجاله بتنفيذها.

فاقتاد الجلادون أبا بديع إلى ميدان “أرگ” حيث تجمّعت جماهير غفيرة لتشهد إعدامه. اخترق أحد المؤمنين صفوف الجماهير إلى أن اقترب من أبي بديع وترّجاه أن ينكر دينه في اللحظة الأخيرة معللاً ذلك بأنه سينقذ حياته ولن يضر به دينه. وردًا على ذلك ردد أبو بديع هذه الكلمات من قصيدة فارسية:

انصب فخّك لطير آخر                     هذا عنقاء وكره في الأعالي

أمّا الحاكم، الذي تردد وخشي أن يهرق دم رجل بريء، فكان يأمل أن يؤثر منظر الإعدام في أبي بديع ويحمله على الإنكار. فرتّب بحيث وصل إلى موقع التنفيذ وفد خاص من الحاكم ليحاول إقناعه لآخر مرة عسى أن ينقذ حياته، ولكن بلا جدوى. كان أبو بديع مثالاً بل تجسيدًا للاستقامة والثبات في أمر الله. فلم يروعه منظر الغوغاء ولغطهم، ولا سبابهم وهمجيتهم، بل ولا منظر الجلاد المرعب وهو واقف قريبًا منه حاملاً خنجره بيده، لم يرهبه شيء من ذلك أو يحول قلبه عن صراط الله. بل على الأرجح كان يناجي في ذاته حضرة بهاءالله وتتوق روحه إلى فراق هذا العالم والعروج إلى عوالم الروح. كذلك لا بد وأنه خطر بباله تلكم الساعات الخالدة التي قضاها في محضر مولاه بعكاء، واستشهاد ابنه العزيز وهو في سن السابعة عشر من شبابه وحظي بلقب “فخر الشهداء”.([37]) وقف هذا الشيخ المسن الصفيّ العظيم، وقد أحاط به ألوف من همج القوم الذين عميت بصائرهم وغشت قلوبهم سموم التعصب والبغضاء، وهم يقذفونه بأسوأ النعوت وبذيء القول، وقف متوهجًا بشعلة الإيمان واليقين. وقف بكمال الهدوء والسكينة، لا يعبأ بشرر الوحشية والقسوة المتطاير حوله من مضطهديه.

أخيرًا أعطى الضابط المسؤول إشارة التنفيذ للجلاد الذي تقدّم، بردائه الأحمر، نحو أبي بديع ورفع عن رأسه عمامته وعباءته وقدّم له كوبًا من الماء،([38]) وأداره صوب قبلة الإسلام([39]) ثم بطعنة قوية فتح جوفه من وسطه حتى حنجرته. بعدئذ وضع رأسه على قطعة مرمر مكشوفًا لأعين الناس، بينما سُحب جسده عبر الأسواق حتى تُرك عند صالة حفظ الموتى المدينة. وقف عدة أفراد من رعاع الناس قرب الجثمان ليمنعوا أهله من الاقتراب منه. في أثناء ذلك وقفت ابنته (أخت بديع) حاملة طفلها على يدها والدموع تنهمر من عينيها، وقفت ترقب الموقف مع زوجها انتظارًا حتى تتمكن من الدنو إلى بقايا جثمان أبيها الجليل. لكن الرعاع استمروا يمطرونهم بالحجارة وأرغموها على التراجع من المكان بحرقة ولوعة لا يحتملهما قلب ويعجز عن وصفهما اللسان. لكن المؤمنين الذين كانوا يرقبون الوضع بقلق بالغ، رتبوا خطة لأخذ جثمان أبي بديع. لمّا كانت الجثة قد وُضعت في صالة الموتى قبالة جامع السّنة، أصبح واضحًا أن شخصًا أو أزيد من المسلمين السّنة فقط يمكنهم إخراجها من ذلك المكان. فقام أحد المؤمنين وارتدى زي الأكراد بصحبة اثنين آخرين، واستطاع بهذه الطريقة نقل الجثمان وحمله خارج بوابة المدينة ثم دفنها في مقبرة مهجورة.

هكذا كانت خاتمة حياة من بقي، ثابتًا راسخًا كالطود في أمر مولاه حتى النهاية، وختم صحيفة يقينه بدم حياته. وهكذا برهن على قوة حضرة بهاءالله واقتداره إذ قد خلق بكلمة واحدة خلقًا جديدًا، رجالاً صاروا مثلاً حيًا في حياتهم ومماتهم مصداقًا لقوله الكريم: “وكن مستقيمًا في حبي بحيث لن يُحَوّل قلبُك ولو تُضرب بسيوف الأعداء ويمنعك كل من في السموات والأرضين”.

([1])       انظر الفصل السابع.

([2])       لا بد أن ذلك المسافر كان نفسه بابيًا.

([3])       تبعد مشهد عن كاشان حوالي 500 ميلًا.

([4])  في تلك الأيام التزم المؤمنون الحذر الشديد في إفشاء إيمانهم بلا تمييز، ولم يبلّغوا إلاّ الطالبين المخلصين.

([5])  أحد أتباع حضرة الباب وحضرة بهاءالله البارزين. لمزيد من المعلومات عنه راجع “تاريخ النبيل”         و”تذكرة الوفاء” و”ظهور حضرة بهاءالله”، المجلد الأول.

([6])       كان ذلك يُعتبر مبلغًا كبيرًا في تلك الأيام.

([7])  أقام حضرة الباب في الحقيقة ثلاث ليال في كاشان. ويعزي بعض المؤرخين أحد أسباب تقديم ذلك المبلغ للمسؤولين إلى كون حضرة الباب والحاج ميرزا جاني من التجار، وأن الأخير كان حريصًا على تسوية حساباته مع حضرته.

([8])  معظم البيوت القديمة في إيران كان يعلو سقفها قناة من الآجر على شكل برج يساعد في حر الصيف على خلق تيار هوائي إلى داخل الدار يلطّف الجو نسبيًا. هذه الأبراج التي كان الرحالة ماركو پولو قد تحيّر وعجب منها خلال مروره بتلك المنطقة من العالم.

([9])  مدينة مقدسة يزورها أتباع المذهب الشيعي. وحيث إن بغداد في تلك الأيام كانت موضع اهتمام البابيين، فكان الناس يشكّون في أمرهم، وإذا توجّه أحدهم إلى بغداد كان يُتّهم غالبًا أنه بابي.

([10]) التستر في العقيدة هو نوع من الإنكار باللسان وكان يمارسه المسلمون الشيعة لعدة قرون واعتُبر مشروعًا في أوقات الخطر. ومارسه البابيون أحيانًا أيضًا. إلاّ أن إنكار المرء لدينه مناف لتعاليم حضرة بهاءالله.

([11])      انظر المجلد الأول، الصفحات 106-108.

([12]) كلمات حضرة بهاءالله في الرواية ليست بالضرورة نص ما تفضل به ولكنها تنقل المضمون.

(أ. ط.)

([13]) أعطى حضرة بهاءالله أسماءً جديدة لبعض المدن والقرى بمقاطعة خراسان. “فروغ”(لمعان) ﻠ”دوغ آباد”، “مدينة الرضوان” ﻠ”نيشاپور”، “المدينة الخضراء” ﻠ”سبزوار”، “فاران”(پاران) ﻠ”تون”، و”جذباء” ﻠ”طبس”. وعليه استعمل المؤلفون البهائيون هذه الأسماء في مؤلفاتهم.

([14]) من البابيين الناجين من ملحمة الشيخ الطبرسي، والذي أصبح فيما بعد من أتباع حضرة بهاءالله         المتحمسين.

([15]) حفظًا للآثار الكتابية المباركة ولأنفسهم، غالبًا ما لجأ المؤمنون الأوائل إلى لفّها داخل أوعية وإخفائها داخل الجدران أو في باطن الأرض.

([16]) فقد أحمد ابنه الوحيد بعد اعتناقه الدين البابي والذي ترك بعده صبيًا اسمه جمال، وهو حفيد أحمد الذي تكفّل برعايته وحمايته فيما بعد. بقي جمال بهائيًا ثابتًا طوال عمره.

([17])      مؤمن ذائع الصيت في شيراز.

([18])      ميرزا محمد باقر الأفنان.

([19]) هذه ليست كلمات حضرة بهاءالله، إنما مذكرات للحاج ميرزا حيدر علي، إذ ما من أحد يخطر بباله تدوين أقوال حضرته في محضره، وعلى أية حال فإن ذلك كان يُعتبر عملًا غير لائق بوقار واحترام المناسبة والجو المقدس في محضره، هذا بالطبع باستثناء وقت تنزيل الألواح حينما يقوم كاتب الوحي بتدوينها.

([20])      انظر الفصل السادس.

([21])      لمزيد من تفاصيل حياتهما انظر الصفحتين 259، 269 على التوالي.

([22])      انظر الفصل العاشر.

([23])      لا يخلط مع بيت العدل الأعظم (أو العمومي)، الذي هو أعلى مؤسسة بهائية عالمية.

([24])      حضرة بهاءالله.

([25])      حضرة محمد r.

([26])      انظر المجلد الأول، الصفحات 67-70.

([27])      حضرة بهاءالله.

([28])      انظر المجلد الأول، الصفحة 68.

([29])      انظر الفصل السادس.

([30])      أول المؤمنين بحضرة الباب. انظر “مطالع الأنوار” لمزيد من التفاصيل.

([31])      انظر “مطالع الأنوار”.

([32]) ليست هذه كلمات حضرته بالنص، بل هي ذكريات أبي بديع وتنقل مضمون ما تفضل به حضرة بهاءالله من بيانات.

([33])      ستناقش هذه الألواح في المجلد الثالث.

([34])      انظر المجلد الأول، الصفحات 241-243.

([35]) كان شاعرًا ذا موهبة مرموقة، وأديبًا بالغ الفصاحة. نظرًا لمكانته الاجتماعية وشخصيته استطاع أن يجمع بين وظيفته العمومية واتصاله بالبهائيين. تشرّف بلقاء حضرة عبدالبهاء في الأراضي المقدسة وألّف عدة قصائد تمجيدًا بحضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء.

([36]) بيت تاريخي كان مركزًا لنشاطات عظيمة للبابيين في مشهد. انظر “مطالع الأنوار”.

([37])      لقب منحه حضرة بهاءالله لبديع.

([38]) من تقاليد شيعة الإسلام تقديم الماء قبل إعدام المحكوم عليه. مرجع هذا التقليد هو تذكّر الإمام الحسين الذي استشهد عطشانًا لأنه طلب الماء ومنعه عنه أعداؤه.

([39])      مكة المكرمة.

﴿ 6 ﴾ "لوح أحمد" بالفارسية

بخلاف “لوح أحمد” العربي، فإن هذا لوح مطوّل بالفارسية نزل للحاج ميرزا أحمد الكاشاني. كان أخًا غير شقيق للحاج ميرزا جاني والحاج محمد إسماعيل،([1]) والأخير لقّب من حضرة بهاءالله ﺒ”الذبيح” و”الأنيس”. كان الحاج ميرزا جاني أول مؤمن بحضرة الباب في كاشان. وقد حظي بلقاء حضرة الباب في مكة وأصبح من المؤمنين المشتعلين. عندما كان حضرة الباب في طريقه إلى طهران، تمكن الحاج ميرزا جاني من الحصول على إذن من المأمورين المرافقين لحضرة الباب لاستضافته بمنزله لثلاثة أيام. وقد استشهد فيما بعد في طهران.([2])

نتيجة لاتصالهما المستمر بهذا الأخ، فقد أصبح الحاج أحمد وأخيه غير الشقيق الآخر، الحاج محمد إسماعيل بابيين.

لكن الحاج ميرزا أحمد، بخلاف أخويه اللذين بقيا ثابتين على أمر الله، أظهر خيانته لحضرة بهاءالله وصار من جماعة ميرزا يحيى. كان أول لقاء له بحضرة بهاءالله في بغداد ثم انضم فيما بعد إلى من رافقه إلى الآستانة وأدرنة. كان واحدًا ممن سمح لهم حضرة بهاءالله بمرافقته درءًا لما قد يسببه من مشاكل. يشير حضرة بهاءالله في أحد ألواحه(1) إلى الحاج ميرزا أحمد بأنه فاز بمحضر مولاه وتشرّف بمعاشرته لكنه فشل في معرفة مقامه. كان قد سمع نداء الله مرة بعد أخرى لكنه لم

يستجب. نزل “لوح أحمد” في أدرنة لهدايته إلى صراط الإيمان. يبرهن هذا اللوح على مدى عناية حضرة بهاءالله وصبره. ذلك لأن الحاج ميرزا أحمد كان رجلاً خبيث الطوية، فظ السلوك وسليط اللسان. لم يعر اهتمامًا لنصائح حضرة بهاءالله. بدلاً من إصلاح أحواله أصر على تجاهله، وتحالف مع ميرزا يحيى مثيرًا الكثير من الخلافات والفُرقة بين الأصحاب. أخيرًا طرده حضرة بهاءالله من محضره وأمره بترك أدرنة والعودة للعراق. في أثناء إقامته بالعراق تعاشر مع فئة من الأشرار، وقُتل على أيديهم بسبب كلامه البذيء بصفة رئيسة.

قام حضرة شوقي أفندي، ولي أمر الله، بترجمة ثلثي هذا اللوح تقريبًا إلى الإنگليزية.([3]) فيه أفاض حضرة بهاءالله من واسع لطفه نصائح وتوجيهات على البابيين عمومًا وعلى أحمد بصفة خاصة. لأجل تقييم هذا اللوح علينا أن نتذكر بأنه نزل في أوائل فترة إقامة حضرته في أدرنة وقبل محاولة اغتيال حضرة بهاءالله من قبل ميرزا يحيى. كانت فترة ارتفعت فيها بعض رؤوس فاسدة من البابيين ابتغاء زرع بذور الفتنة والفرقة بين المؤمنين. فتمركزوا حول ميرزا يحيى، يوسوسون في صدره نفخة الغرور والكبر حتى جعلوا منه صنمًا في وسطهم. نتيجة انحرافهم عن جادة الحق، وخيانتهم تجاه حضرة بهاءالله انقلبت نفوس هؤلاء إلى كيان شيطاني. سبب ذلك يعود إلى أن الله قد خلق الإنسان من أجل “محبة الله وعبادته”. لكن الإنسان يتجاوز حدود الله ويرتكب كثيرًا من الخطايا الضارة به. إلاّ أن الله رحيم يغفر لعباده فضلاً منه. حقًا، لولا فضل الله لما خلق شيء في الوجود، ولما استطاع إنسان أن يتقدم في هذه الدنيا أو العالم الآخر. يتضح من دراسة الكتابات المباركة بأن رحمة الله وغفرانه اللذين أحاطا الممكنات يُحرم منهما الذين يقرّون بالمظهر الإلهي ولكن يقومون عن وعي وعلم بمعارضته، بفعلهم هذا إنما يحاولون في الحقيقة مساواة أنفسهم مع المظهر الإلهي ورفع مقامهم بمستوى مقامه. إن هذا العمل، الذي ينقض عهد الله، لا يغتفر ما لم يتوجّه الفرد الذي مات روحيًا، إلى الله طالبًا بكل صدق عفوه وغفرانه. هذا ويشير المسيح إلى ذلك ﺒ”خطية وتجديف على الروح القدس” (إنجيل متّى، الأصحاح 12، الآية 31) وأنه، أي هذا العمل أو الموقف، يستحق غضب الله ويعرقل مدد فضله من سماوات غيبه.

إن الفئة القليلة من البابيين، بمن فيهم الحاج ميرزا أحمد، الذين التفّوا حول ميرزا يحيى لا لسبب إلاّ لمعارضة حضرة بهاءالله، كانوا جميعهم من هذا القبيل فلم يكن في أفكارهم ولا كلامهم ولا أفعالهم شيء من الحق. وفي أدرنة قضوا أوقاتهم في خلق الخلافات، وتسميم أذهان المؤمنين وابتكار الخطط الشيطانية لاقتلاع شجرة أمر الله وتفريق صفوف أتباعه.

كانت غاية نزول “لوح أحمد” إرجاع أولئك الأشخاص إلى ربهم. يفتتح اللوح بحثّ أحمد على تطهير قلبه. فيما يلي جزء من الفقرة الافتتاحية:

“أيها المؤمن المهاجر أطفئ عطش الغفلة وظمأها بسلسبيل قدس عنايتي، واطرد ظلمة البعد بصبح القرب المنير. لا تخرب بيت المحبة الباقية بظلم الشهوة الفانية. ولا تُلبس جمال الغلام الروحاني حجاب غبار النفس والهوى. تردّى بالتقوى الخالصة ولا تخشَ سوى الله. لا تسدّ معين قلبك المنير بسدّادة الحرص والهوى، ولا تمنع تدفق عين قلبك الجارية. تمسّك بالحق وتوسل بحبل عنايته.”(2)

في هذا اللوح يعرّف حضرة بهاءالله الغاية الحقيقية وراء ما خلقه الله من قدرات ومواهب في الإنسان:

“بصرك وديعتي فلا تغشه بغبار النفس والهوى. وسمعك مظهر جودي فلا تشغله بأعراض مشتهيات النفس عن الإصغاء إلى كلمتي الجامعة. وقلبك خزينتي فلا تدع النفس السارقة والهوس الخائن تسلبه اللئالئ المكنونة التي أودعتُها فيه. ويدك آية عنايتي فلا تحرمها من التمسك بألواحي المستورة المحفوظة.”(3)

تعطينا هذه المفاهيم العليا لمحة عن مدى النبل والطهر اللذين سيكون عليهما الإنسان في ظل أمر حضرة بهاءالله. يتضح بجلاء من دراسة الكتابات المباركة أن الغاية التي يرمي إليها ظهور حضرة بهاءالله هي خلق إنسان بطراز جديد بحيث تنعكس في أفكاره وأفعاله ما يظهر في هذا العالم من أسمى الخصال والفضائل. لعل من المناسب هنا نقل رواية ممتعة للنبيل الأعظم بخصوص بعض البيانات التي أدلى بها حضرة بهاءالله لأمراء إيرانيين في بغداد بشأن موضوع مستقبل رقي الإنسان الخلقي. وهذه معروفة باسم “پنج كنز” (الكنوز الخمسة). فيما يلي ترجمة جزء منها:

… حدث يومًا أن اجتمع بعض الأمراء الإيرانيين في محضر حضرة بهاءالله. في أثناء الحوار الذي دار وسأل خلاله حضرة بهاءالله عمّا لديهم من أخبار بلدهم مبديًا عطفه ورقّة مشاعره بالموضوع، فتقدّم أحدهم وعرض ما يلي مستفهمًا: ’كيف تخص أصحابك بالحديث عن الروحانيات عندما يكونون في محضرك، بينما ونحن معك تحدثنا عن أخبار المدينة والسوق؟‘ أي أراد أن يقول: ’أنّى لهؤلاء البسطاء أن يحظوا منك بما مُنعنا عنه؟‘ فأجابه حضرة بهاءالله بقوله:

’… سأقول لك من هم الذين يستحقون استماع بياناتي والورود في محضري. تصوّر شخصًا أُخذ إلى سهل فسيح وُضع عن يمينه كل أمجاد هذا العالم ومسرّاته وراحته بالإضافة إلى سلطنة أبدية خالية من كل عناء وحزن وعن يسار هذا السهل جُمعت كافة المصائب والصعاب والآلام والعناء الشديد إلى أزل الآزال. تصوّر بعدئذ ظهور الروح القدس أمام هذا الشخص مخاطبًا إياه بهذه الكلمات: ’’لو اخترتَ كل الطيبات والمتعة الباقية أبدًا الموضوعة على جهة اليمين وفضّلتها على بلايا الجانب الأيسر، فلن ينقص ذلك شيئا من مقامك عند الله. ولو اخترت أن ينزل لك ما لا يحصى من البلايا التي على اليسار، فلن يرفع بذلك قدرك عند الله المقتدر المختار أو يزيده بشيء.‘‘

’لو أن ذاك الشخص حينئذ اختار تلقائيًا وبكامل الشوق والحماس ما في يسار الذلة بدلاً عن يمين العزة، فإنه عندئذ يكون لائقًا للفوز بمحضري واستماع كلماتي. وفي هذا الشأن يخاطب لسان العظمة([4]) السائلين ويقول:

’’إن أردت أن تتمتع بالحياة الدنيا فلا تقرب لساحتنا وإذا كان مرغوب فؤادك التضحية فاحضر واحضر غيرك معك فهذا هو سبيل الإيمان إن كنت تريد أن تسلك بقلبك مع البهاء، وأمّا إذا كنت ترفض أن تتخذ هذا السبيل فلماذا تتعبنا؟ اذهب عنّا!([5])…‘‘ ‘

للسائل نفسه أضاف حضرة بهاءالله قائلاً: ’إن الغاية من مجيئي لهذا العالم الفاسد حيث منع الطغاةُ والخائنون، بقسوتهم وتجبرهم، الناسَ من التنعّم بالسلام والسكينة، هي إرساء قواعد العدل والثقة والأمن والإيمان بحول الله وقوته. مثلاً لو أن امرأة (في المستقبل)…، في غاية الحسن ومزيّنة بأجمل وأندر الجواهر والحلي، ترحل لوحدها سافرة من شرق الأرض إلى غربها مارّة بكل أرض وخلال كل بلد من بلدانه، بحيث يكون في العالم مستوى من العدل والأمانة والإيمان من جهة، ويغيب عنه الغدر والرذيلة من جهة أخرى، بحيث لن يوجد من يودّ سلب جواهرها أو ينظر لجمال عفّتها بعين الشهوة والخيانة…!‘

بعد ذلك أكد حضرة بهاءالله قائلاً: ’بحول الله سوف أبدّل أهل العالم وأرفعهم إلى ذلك الرقي والاستعلاء وسوف أفتح هذا الباب الأعظم على وجه جميع البشر.‘(4)

في هذا الخصوص أنزل حضرة بهاءالله ما يلي بشأن أهل البهاء:

“هم عباد لو يردون واديًا من الذهب يمرّون عنه كمرّ السحاب ولا يلتفتون إليه أبدًا ألا إنهم منّي ليجدن من قميصهم الملأ الأعلى عرف التقديس… ولو يردن عليهم ذوات الجمال بأحسن الطراز لا ترتدّ إليهن أبصارهم بالهوى…“(5)

يواصل نبيل روايته للحوار الذي دار بين حضرة بهاءالله والأمراء:

فيما يتعلّق بسلامة النية وطهارة الأعمال، خاطبهم لسان العظمة بهذه العبارات:

’لو أن هناك رجلاً غنيًا ثروته لا تُحصى، ولنفترض بأنه أنفق من ثروته على مر الأيام تدريجًا على شخص فقير بحيث افتقر نهائيًا، بينما صار الآخر غنيًا جدًا… ولنفرض أنه في غمرات الفقر والضيق يضطر لاقتراض مبلغ زهيد. ثم بسبب عجزه عن أداء الدين يؤتى به إلى ميدان المدينة فيُهان ويعاقَب. وعلاوة على ذلك يقال له بأنه لن يطلق سراحه ما لم يدفع ذلك المبلغ. وبينما هو في هذه الحال لمح صديقه (الذي اغتنى بسبب كرمه) فخطر بباله فكرة الرغبة في أن يقوم ذلك الشخص، ردًا للجميل والفضل الذي بذمّته، بالعمل على إنقاذه من مصيبته، فإن كل أعماله (الحميدة) التي عملها ستذهب هباء، وسيُحرم من نعمة القناعة والرضاء وفضائل الروح الإنساني.

ينطبق الحال نفسه بالنسبة للرجل الآخر الذي أثرى (بواسطة إحسان صاحبه السجين وكرمه). أي لو شعر في قرارة نفسه بأنه ملزم بإرجاع ديون هذا الرجل، وفكّه من الحبس، وإعانته ليعيش بقية عمره مرتاحًا لأنه أبدى له سابقًا عطفًا وحبًا غير متناه، فإن دافعًا كهذا يدفعه لرد جميل صاحبه (بدلا عن دافع العطاء لوجه الإنسانية لا غير) سيكون سببًا لحرمانه من كأس الصدق والأمانة ويلقى به في عالم المذلة والهوان.

إن السبيل الوحيد لمرضاة الله هو أن يكون دافع الرجل الأول وراء أعماله الحسنة وَجوده مبادئ البر والخير لوجه الله وفي سبيله. كذلك بالنسبة للرجل الثاني الغني -من إحسان الأول- كان عليه التصرف في سبيل الله واستجابة لواجب الإنسانية بمعزل عن علائق الماضي والمستقبل وهكذا نزل قوله تعالى: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا)‘([6]).(6)

في “لوح أحمد” يعظ حضرة بهاءالله البشرية بهذه الكلمات:

“يا عبادي لا تمنعوا أنفسكم عن سراج القدس الصمداني المنير الذي اشتعل في مشكاة العز الرباني. أوقدوا سراج المحبة الإلهية بدهن الهداية في مشكاة الاستقامة في صدركم المنير، واحفظوه في زجاج التوكل والانقطاع عمّا سوى الله من هبوب أنفاس المشركين. يا عبادي إن مثل ظهور قدس أحديتي مثل البحر الذي سُتر في قعره وعمقه لئالئ لطيفة منيرة لا تُحصى، فعلى الطالب إذًا بذل الجهد والطلب للوصول إلى شاطئ ذاك البحر ليأخذ نصيبه المقدّر في الألواح المختومة المكنونة على قدر طلبه وجهده. فلو أن أحدًا لم يتوجّه إلى شاطئ ذلك البحر ولم يقم بطلب ما كُنز فيه، فلن ينقص ذلك شيئًا ممّا كُنز فيه من اللئالئ. فبئس ما توهمتم في أنفسكم وساء ما أنتم تتوهمون. يا عبادي تالله الحق إن هذا البحر الأعظم اللجّي الموّاج قريب جدًا بل لعله أقرب إليكم من حبل الوريد. إذًا أوصلوا أنفسكم إليه وفوزوا بذلك الفيض الصمداني والفضل السبحاني والجود الرحماني والكرم الأعز الأبهى. يا عبادي لو اطلعتم على ما أودعتُ في أنفسكم من بدايع جود فضلي لانقطعتم من جميع الجهات عن كل الكائنات ولعرفتم أنفسكم التي هي نفس عرفان نفسي ولاستغنيتم عمّا سواي.”(7)

ومثل هذه العبارة الأخيرة موجودة في الإسلام. فقد ورد في أحد الأحاديث النبوية: “من عرف نفسه فقد عرف ربه”. من جملة ما طلب ميرزا هادي القزويني، أحد حروف الحيّ،([7]) تفسيره من حضرة بهاءالله كان هذا الحديث. في لوح(8) مطوّل لميرزا هادي، يشرح حضرة بهاءالله مبيّنًا بأن نفس الإنسان التي يشير إليها باسم القوة العاقلة، هي نشء من عوالم الله. فإن كل حاسة في الإنسان، سواء جسدية أم روحية، هي مظهر للنفس. مثلاً كل واحدة من الحواس تستمد قوتها من النفس وكل صفة روحانية تعود إليها. مع هذا فإن مجموع كل هذه القوى أو القابليات لا يشكّل النفس أو يكوّنها. وعليه قد نتساءل ما هي النفس؟ يؤكد حضرة بهاءالله بأن النفس لا يمكن معرفتها. فلو تأمّل المرء هذا الموضوع أبد الدهر لن يقدر أن يعرف كنه ذاته، أو يكتشف ما تنطوي عليه من أسرار. ثم يضيف قوله:

“لمّا شاهدتم عجزكم وتقصيركم عن عرفانه([8]) كما هو حقه، ولمّا شاهدتم عجزكم وتقصيركم عن بلوغ عرفان الآية الموجودة في أنفسكم، إذًا لاحظوا بعين سر السر عجزكم وعجز الممكنات عن عرفان ذات الأحدية وشمس العز القِدَمية.”(9)

عندما يقر الإنسان بعجزه عن معرفة طبيعة ذاته، وكيف بطبيعة الله، فإنه قد نال أعلى مستوى العرفان والعلم. فيما يلي كلمات حضرة بهاءالله:

“فالاعتراف بالعجز في هذا المقام عن الإبصار هو منتهى مقام عرفان العبد ومنتهى بلوغ العباد…”(10)

يشرح حضرة بهاءالله لميرزا هادي بأن في سائر عوالم الله تتخذ هذه الآية معانٍ أخرى عديدة تفوق إدراك الإنسان. لكن ميرزا هادي، الذي كان أحد حروف الحيّ كما سبق ذكره، فشل في النهاية في البقاء مخلصًا لأمر حضرة بهاءالله. انضم إلى ميرزا يحيى وبذلك حرم نفسه من نعم الله وأفضاله. هذه الخاتمة المأسوية لواحد قدر له الامتياز الذي لا يثمّن بكونه أحد الثمانية عشر المؤمنين الأوائل بحضرة الباب، لدليل على كيفية امتحان الله لعباده. فكلما اقترب الشخص من المظهر الإلهي كلما أصبحت امتحاناته أشد.([9])

كان هناك بضعة آخرون من حروف الحيّ ممن فُتنوا وسقطوا في امتحانات الله لهم. من بينهم الملاّ حسن البجستاني الذي فاز بمحضر حضرة بهاءالله في بغداد. عبّر لحضرة بهاءالله عن شكوكه بخصوص ظهور حضرة الباب. كان أحد اعتراضاته هو أن حضرة الباب قد أفاض على حروف الحيّ بمديح وإطراء فوق ما يستحقون من فضائل ومقام، بينما هو نفسه كحرف الحيّ لم يجد في نفسه ما يبرر ذاك الإطراء والثناء، إذ كان مدركًا بافتقاره لهذه الخصال. فأجاب حضرة بهاءالله بأنه عندما يسقي المزارع حقله فإن الأعشاب أيضًا ترتوي. زاد في الشرح بأن ثناء حضرة الباب لحروف الحيّ ومديحه لهم إنما كان يُقصَد به الملاّ حسين، أول المؤمنين به، وقليل آخرين. أمّا الباقون فشملتهم هذه الهبات ضمنًا لا اختصاصًا.

لكن الغالبية العظمى من حروف الحيّ ثبتوا على أمر حضرة الباب بحيث فدى لا أقل من أثني عشر منهم بأنفسهم في سبيل مولاهم. كما أن أغلبهم كان قد فارق الحياة قبل مولد ظهور حضرة بهاءالله، إلاّ أنهم فازوا بشرف محضره في إيران حيث تمكّن بعضهم من عرفان مقامه.

كان الملاّ باقر التبريزي، آخر الأحياء من حروف الحيّ، وهو الوحيد الذي اعتنق أمر حضرة بهاءالله وظل وفيًا مخلصًا له. صاحَب حضرة بهاءالله إلى قلعة الشيخ الطبرسي وكان من الحاضرين في مؤتمر بدشت.([10]) كان حضرة الباب قد وجّه إليه الكلمات العليا التالية في مديح حضرة بهاءالله، أي “من يظهره الله”:

“وقد كتبتُ جوهرة في ذكره([11]) وهو أنه لا يُشار بإشارتي ولا بما ذُكر في البيان”… “إنه أجلّ وأعلى من أن يكون معروفًا بدونه أو مستشيرًا بإشارة خلقه وإنني أنا أول عبد قد آمنت به وبآياته وأخذت من أبكار حدائق جنة عرفانه حدائق كلماته. بلى وعزته هو الحق! لا إله إلاّ هو كل بأمره قائمون.”(11)

جوابًا على سؤال الملا باقر بشأن “من يظهره الله”، وعده حضرة الباب في لوح خاص بأنه سيفوز بمحضره إمّا في أوائل سنة “ثمانية”، 1268ﻫ (1852م) أو أواخرها.

بعد خروج حضرة بهاءالله من سجن سياه چال بطهران بمدة قصيرة، نال الملاّ باقر شرف المثول في محضر حضرة بهاءالله ببغداد وعندها تذكّر وعد حضرة الباب، واعترف بمقامه وانشرح صدره بعظمة ظهوره وبهائه. كان من المؤمنين والمبلّغين البارزين لأمر الله. إليه سلّم حضرة الباب قبل استشهاده بزمن قصير، صندوقًا أودع فيه كل ألواحه ووثائقه الهامة وأختامه وخواتيمه العقيق، وطلب إليه تسليمها ليد الملاّ عبد الكريم القزويني، الملقب بميرزا أحمد، الذي طلب منه تسليمه إلى حضرة بهاءالله.

قام الملاّ باقر، عقب إعلان دعوة حضرة بهاءالله بقليل، بتبليغ أمره بعزيمة ماضية وتفان بين أهالي بلده من مقاطعة أذربيجان. حرر رسالة دحض بها ادعاءات ميرزا يحيى وفنّد كتاباته. سافر مرتين إلى عكاء شوقًا لملاقاة مولاه. وفي آخر زيارة التمس الإذن من حضرة بهاءالله ليقيم في الآستانة حيث توفي حوالي عام 1881م.

في “لوح أحمد” يخاطب حضرة بهاءالله الذين قاموا على معارضته ويوبخهم، متفضلاً:

“يا عبادي لا تهدموا بنيان مصر إيقان حضرة السبحان بنقر الوهم والظنون التي لم تزل لا تغنيكم ولا تزال لا تهدي نفسًا إلى الصراط المستقيم. يا عبادي هل ظننتم أنكم غللتم يد قدرة سلطنتي المبسوطة الممدودة المرتفعة؟ أو قطعتم رحمتي المُنزلة السابقة المتصلة؟ أو منعتم سحاب جودي وكرمي المرتفعة المتعالية عن الهطول؟ هل فُقدت بدايع قدرة سلطان أحديتي، أو مُنع نفوذ مشيّتي أو إحاطة إرادتي على العالمين؟ إذا أجبتم بالنفي لِمَ منعتم جمال عز قدس أحديتي عن الظهور ولِمَ منعتم مظهر ذات عز الأبهى عن الظهور في سماء قدس البقاء؟ لو نظرتم بعين الإنصاف لترون جميع حقايق الممكنات باهرة في هذا الظهور البديع، وجميع ذرات الأشياء مشرقة منورة من إشراق أنواره. فبئس ما أنتم ظننتم وساء ما أنتم تظنون.”(12)

وكذلك يحذّر حضرة بهاءالله بأن الله في هذه الدورة سيأخذ الذين يعتدون على أمره ويعملون ضده. فيما يلي كلماته التحذيرية بهذا الشأن:

“يا عبادي الغافلين ولو أن بدايع رحمتي أحاطت جميع ممالك الغيب والشهود وظهورات جودي وفضلي سبقت كل ذرات الممكنات، ولكن سياط عذابي شديدة وظهور قهري في غاية العظمة.”(13)

في أحد ألواحه(14) يذكر حضرة بهاءالله بأن لولا فضل الله وحكمة قضائه، لأخذت يد القدرة الإلهية من يلحق أدنى أذى بالمؤمنين، ولما احتملتهم هذه الأرض لحظة واحدة. ينطبق هذا بحق الضعفاء والجهلاء. لكن حضرة بهاءالله يبيّن بأن مصير الذين يقومون على اضطهاد أحباء الله بمنتهى العداوة وهمّوا بكل قواهم لتدمير أمره، لن يكون غير الهلاك لأن الله في هذه الدورة سيمحقهم بكل تأكيد.

لقد برهن تاريخ أمر الله بجلاء هذه الحقيقة. فكل الذين عارضوا أمر الله ومصابيح نوره الثلاثة -حضرة الباب، حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء- قد باؤوا بعقاب شديد. وبخصوص عملية الجزاء هذه يكتب حضرة شوقي أفندي -ولي أمر الله- ما يلي:

إننا حين نستعرض سجل القرن العاصف بأكمله نرى الملوك والأباطرة والأمراء في كلا الشرق والغرب إمّا تجاهلوا نداء مؤسسيْه أو هزأوا برسالتهما أو أمروا بنفيهما وإخراجهما أو اضطهدوا أتباعهما اضطهادًا بربريًا أو اجتهدوا في نقض تعاليمهما. فحلّت بهم نقمة الله القدير وسخطه، فمنهم من ثُل عرشه، ومنهم من شهد انقراض أسرته وقليل منهم من اغتيلوا أو انحطت منزلتهم ووُصموا بالعار، بينما نجد بعضهم الآخر يعجزون عن تجنب الانحلال الجارف لممالكهم، وآخرين ينحطون وينزلون إلى دركات مهينة وهم في عقر دارهم. إليك الخلافة عدوة الدين الكبرى التي جرّدت السيف على مؤسسه وقضت بنفيه ثلاث مرات، تراها تنحط إلى الحضيض وتلاقي في تلاشيها المهين ما لاقى رجال الدين اليهود المضطهدون الرئيسون للسيد المسيح على أيدي سادتهم الرومان في القرن الأول من الدور المسيحي، أي منذ ألفي سنة تقريبًا. وإليك المذاهب الدينية المختلفة من شيعة وسنّة وزرادشتية ومسيحية تلك التي هاجمت الدين مهاجمة وحشية ووصمت أنصاره بالإلحاد، ولم تألُ جهدًا في تقويض بنيانه وهدم أساسه، ترى أعتاها وألدّها تُخلع أو تتفكك وتنحلّ، ثم ترى هيبة بعضها الآخر وتأثيرها يضمحلان اضمحلالاً سريعًا. على أن هذه المذاهب كلها ما زالت تعاني من تسلط سلطة دنيوية هجومية شرسة شديدة المراس قد صممت على أن تحد من امتيازاتها وتوطد أركان نفوذها هي وحدها. ثم إليك الرافضين والعُصاة والخونة والملاحدة الذين طفقوا يبذلون قصارى الجهد سرًا وعلانية في إفساد ولاء أتباع ذلك الدين وتصديع صفوفهم وانتهاك حرمة هيئاتهم ومؤسساتهم، تراهم يُفحمون واحدًا في أثر واحد، ويُدحضون وتتفرق كلمتهم وتذهب ريحهم ويُكتسحون ويُنسون، البعض تدريجًا والبعض الآخر في سرعة مؤثرة. هذا ولم يكن الذين سوّلت لهم أنفسهم أن يخرجوا عن ظله ويجرّوا عليه العار والشنار بفعالهم المخزية خزيًا لا يمكن أن يُمحى ويُحدثوا أزمات لم يشهد مثلها دين من الأديان السابقة، هؤلاء لم يكونوا بالنفر القليل من زعمائه النابهين وأصحابه الأول المخلصين وأقطابه المبرزين وزملاء مؤسسيْه في المنفى وكتّاب وحي حضرة بهاءالله ومركز ميثاقه الموثوق بهم وأمناء سرهما، لا بل من بين من كانوا يُعدّون من ذوي قربى المظهر الإلهي نفسه بمن فيهم من رُشّح أن يكون وصيّ حضرة الباب، وابن حضرة بهاءالله الذي ذكره في كتاب عهده. ولقد عجّل حدوث كل هذا الفساد بلا استثناء مراكزهم المحسودة التي احتلوها، ولقد عاش الكثير منهم ليرى بعينيه انهيار مساعيه، وانغمر البعض الآخر في حمأة الهوان والبؤس عاجزًا كل العجز عن إيذاء وحدة الدين الذي تخلّى عنه بلا حياء أو عن إعاقة تقدمه. ثم إليك الوزراء والسفراء وغيرهم من كبار رجال الدولة الذين طفقوا يجاهدون في الكيد له وقلب غايته ويحرضون على نفي مؤسسيْه نفيًا متواليًا ويحاولون في حقد أن يقوضوا أساسه، تراهم كانوا يبحثون بأمثال هذه المكائد عن حتفهم بظلفهم وهم لا يشعرون، ويفقدون ثقة ملوكهم ويشربون كأس الخزي حتى الثمالة، ويختمون على مصيرهم المحتوم ختمًا لا رجعة فيه.(15)

فيما يتعلّق بدور الإنسان في عالم الإمكان، يصرح حضرة بهاءالله في “لوح أحمد” بما يلي:

“يا عبادي كونوا أرض التسليم حتى تنبت فيكم رياحين عرفاني المعطرة الملونة المقدسة.”(16)

تمامًا كما تحتاج الأرض إلى أشعة الشمس ومطر الربيع لتنتج أثمارها، فكذلك الإنسان يجب أن يتوجّه لشمس الحقيقة،([12]) في هذا اليوم، إلى حضرة بهاءالله من أجل تحقيق الغاية التي خُلق لها، هذا من سنّة الخليقة وقانون الوجود، إذ لولا هذه العلاقة لبقي الإنسان مخلوقًا ماديًا ليس إلاّ. ودون حياة روحانية حقيقية يخلق الإنسان مجتمعًا يتمحور فيه التعصب والبغضاء والنزاع. أليست هذه هي محنة البشرية في هذا اليوم؟

يخاطب حضرة بهاءالله أحمدَ في هذا اللوح مرارًا ناصحًا إياه بالاستقامة في الخلق وطهارة القلب والإخلاص، ويحثه ألاّ يتبّع الضالين، ويرشده إلى الاستنارة بضياء ظهوره ويدعوه للورود في سبيله القويم.

يصرح بأن غاية ظهوره هي أن يتمكن ذوو الأفئدة الطاهرة والأهلية من الدخول في الإيمان والعروج إلى عوالم عظمة الله. وإلاّ، كما يؤكد، فإن عظمته منزهة وغنية عن عرفان كل العقول. يضرب بذلك مثل الشمس. فلو شهد كل ذي نظر بضيائها وأكد كل العُمي بظلامها، فلن تؤثر أي من الشهادتين على الشمس إطلاقًا. وهكذا يكون حال المدح أو الذم أمر يعود للناس أنفسهم، بينما تستمر الشمس مشرقة منيرة في السماء في غنىً عمّا يعتقد ويقول عنها الناس. أمّا عن عظمة ظهوره فيصرح حضرة بهاءالله في هذا اللوح:

“يا عبادي قد أخرجتُ لئالئ صدف البحر الصمداني من كنز علم الله وحكمته بالقوة الإلهية والقدرة الروحانية، وحشرتُ حوريات غرف الستر والحجاب في مظاهر هذه الكلمات المحكمات، وفتحتُ ختم إناء مسك الأحدية بيد القدرة لتفوح روائح القدس المكنونة فيه إلى جميع الممكنات، إذًا مع جميع هذه الفيوضات المنيعة المحيطة وهذه العنايات المشرقة اللامعة فلا يُلام أحد سواكم إذا منعتم أنفسكم عنها…

يا عبادي ليس في قلبي سوى تجليات أنوار صبح البقاء ولا أنطقُ إلاّ بالحق الخالص من لدن ربكم، فلا تتّبعوا النفس ولا تكسروا عهد الله ولا تنقضوا الميثاق. توجّهوا إليه بالاستقامة التامة بقلبكم ولسانكم ولا تكونوا من الجاهلين. إن الدنيا سراب لا حقيقة لها، فراغ عدم على هيأة وجود باقٍ فلا تعلّقوا قلوبكم بها ولا تقطعوا الحبل الذي يشدّكم إلى بارئكم ولا تكونوا من الغافلين. حقًا أقول! إن مثل الدنيا مثل سراب بقيعة على صورة ماء يبذل العطاشى في طلبه جهدًا بليغًا وعندما يصلون إليه يجدونه وهمًا بحتًا.”(17)

([1])       راجع الصفحتين 403-404.

([2])       انظر “مطالع الأنوار”.

([3])  توجد هذه الفقرات في “منتخبات من آثار حضرة بهاءالله”، الأرقام 152، 153 (بالفارسية).

([4])       حضرة بهاءالله.

([5])  بيتان من قصيدة “ساقي من غيب البقاء” بالفارسية أنزلها حضرة بهاءالله في كردستان، نقلت في “مطالع الأنوار”، الصفحة 109.

([6])       القرآن الكريم، سورة الإنسان، الآية 9.

([7])       أول ثماني عشرة مؤمن بحضرة الباب.

([8])       روح الإنسان. (أ. ط.)

([9])       انظر المجلد الأول، الصفحة 136.

([10])      للمزيد من المعلومات انظر “مطالع الأنوار”.

([11])      “من يظهره الله”. (أ. ط.)

([12])      المظهر الإلهي.

﴿ 7 ﴾ تعاظم قوى الشر

في الوقت الذي وصلت أخبار إعلان حضرة بهاءالله بأنه “من يظهره الله” إلى أسماع البابيين في إيران، وبينما انتشر بضعة مبلّغين بهائيين في البلاد مكرّسين حياتهم لترويج أمره المبارك ونشر ألواحه المنزلة أخيرًا، بدأت تتململ في أدرنة أزمة لم يسبق لها مثيل في مداها وشدتها سرعان ما عصفت بأصحاب حضرة بهاءالله في تلك المدينة. نشأت عن ميرزا يحيى وحاك تدابيرها السيد محمد الإصفهاني حتى اجتاحت الطائفة برمّتها مخلّفة المحن والبلايا الجسيمة لحضرة بهاءالله كما أحدثت صدعًا مؤقتًا في صفوف المؤمنين.

بعد وصوله إلى أدرنة بفترة وجيزة، أدرك ميرزا يحيى بأن الخطر على حياته قد زال. ذلك لأنه كان، منذ استشهاد حضرة الباب، في خوف من الاضطهاد والموت. هذا الخوف هو الذي دفعه إلى إخفاء نفسه في إيران والعراق طيلة ثلاثة عشر عامًا. عاش خلال تلك الفترة متنكرًا وفي معظم الأحيان دائم التنقل من مخبأ لآخر، بينما ظل على اتصال بحضرة بهاءالله تاركًا زوجاته وأسرته في حمى دار حضرته وآله. لكنه في أدرنة الآن عرف أن الوضع مختلف ولم يكن هناك اضطهاد. بعد ورود حضرة بهاءالله إلى أدرنة بفترة قصيرة كسب احترام أهل المدينة وإعجابهم بمن فيهم الحاكم وغيره من أعيان المجتمع فيها. كما اتضح جليًا وثبت حسن نية السكان وروح تعاونهم تجاه أصحاب حضرة بهاءالله بعد أن قام معظمهم بتوجيه منه، بالاشتغال في المدينة، كل حسب حرفته، والاندماج في المجتمع.

توقّدت في صدر ميرزا يحيى نيران الغيرة والحسد وهو يشهد ارتفاع صيت حضرة بهاءالله ونفوذه خصوصًا بعد علمه بالإعلان عن هويته بأنه “من يظهره الله”. فقرر بأن آن له الجهر بنيّته اغتصاب مركز من كان مرشده وملجأه طوال حياته، والذي ستر، بحلمه وعفوه، كثيرًا من سيئاته وأعماله المخزية. أقدم بعد ذلك، وقد شجعه حلم حضرة بهاءالله وحنانه وسماحه، بالإضافة إلى انخداعه بأماني السيد محمد المغرية، وجريًا وراء أطماعه الشخصية الأنانية في التمتع بالرئاسة، أقدم على ما هو حكر لأولياء الشيطان، ألا وهو التآمر على القتل. كان ذلك سبيله الوحيد، بعد أن أيقن بعجزه التام عن مواجهة حضرة بهاءالله. ومن الحقائق الثابتة المعروفة عنه أنه كلما وجد نفسه في محضر حضرة بهاءالله كان لا يجرؤ على التفوّه بشيء ويلوذ بصمت مطبق ذلك لأن لسانه كان ينعقد تلقاء جلال المظهر الكلي الإلهي وسلطنته بما كان له من هيبة وسطوة. من بين عدة شهود على ذلك كان ميرزا آقا جان الذي يذكر كيف أنه اكتشف منذ الأيام الأولى لفترة بغداد بأن ميرزا يحيى كان من قلة الشأن في محضر حضرة بهاءالله بحيث يعجز عن الكلام. بقي ميرزا آقا جان متحيرًا لذلك حتى تبيّن له فيما بعد بأن ميرزا يحيى لم يكن الوحيد في صمته بل كان ذلك شأن كل من يحضر للقاء حضرة بهاءالله. لكن حضرته طلب من كاتب وحيه ألاّ يبوح بملاحظاته تلك لأحد.

لم يكن مستغربًا لرجل كميرزا يحيى، الذي سبق له التسبب في عدة جرائم([1]) بما فيها الأمر باغتيال بعض تلامذة حضرة الباب البارزين وأحد أقرباء حضرته من طرف والده، أن يقوم بتدبيرات مُحكمة بهدف القضاء على حضرة بهاءالله. جرت المحاولة الأولى على يديه عندما دس له السم. أوجز حضرة شوقي أفندي هذه الفعلة المخزية بهذه الكلمات:

فقد بدأ يفكر تفكيرًا محمومًا في خطط يائسة ترمي إلى تسميم حضرة بهاءالله وأصحابه حتى يستعيد زعامته المتلاشية. وقد تملّكه هذا التفكير المحموم بعد سنة تقريبًا من وصولهم إلى أدرنة. ولمّا كان يعرف أن أخاه غير الشقيق، آقاي كليم، خبير بالعقاقير وخواصها فقد أخذ ينتحل المزاعم حتى يبين له تأثير بعض الأعشاب والسموم. ثم أخذ يلح في دعوة حضرة بهاءالله إلى منزله على مضض. وذات يوم نجح في أن يسمّه بأن لوّث فنجان الشاي بمادة سامة اصطنعها، فمرض حضرة بهاءالله مدة لا تقل عن شهر مرضًا شديدًا صحبته آلام مبرحة وحرارة شديدة، ونتج عنه أن يد حضرة بهاءالله ظلت ترتعش طوال ما بقي من حياته. ولمّا بلغ المرض حد الخطورة استدعي لفحصه طبيب أجنبي يدعى شيشمان، فلمّا رأى الطبيب شحوب لونه الشديد وأدرك خطورة مرضه اعتبر حالته ميؤوسًا منها، وركع عند قدميه وانسحب من محضره دون أن يوصي بأي دواء. وبعد أيام لزم شيشمان الفراش ومات. وقبل موته أخبر حضرة بهاءالله أن الطبيب شيشمان قد افتداه بحياته. أمّا شيشمان فقد ذكر لميرزا آقا جان الذي أرسله حضرة بهاءالله للاستفسار عن صحته أن الله قد استجاب لدعائه، وأنه ينبغي لهم بعد موته أن يستدعوا طبيبًا يثق به يسمى الدكتور شوپان، إذا لزم الأمر.

ولقد كشفت إحدى الزوجات التي هجرت ميرزا يحيى زمنًا عن تفاصيل تلك الفعلة فشهدت بأن ميرزا يحيى سمم البئر التي كان أهل حضرة بهاءالله وأصحابه يشربون منها. وكان من نتيجة ذلك أن ظهرت على جماعة المنفيين أعراض غريبة.(1)

رغم هذا فإن حضرة بهاءالله لم يرغب في إشهار قبائح أخيه على الملأ. بل نصح أصحابه ألاّ ينشروا الخبر. إلاّ أن أفعال ميرزا يحيى نفسه فيما بعد استوجبت إشهارها. ذلك لأنه بعد شفاء حضرة بهاءالله بقليل، ادعى ميرزا يحيى، دون حياء أو وخز ضمير، علنًا وتلميحًا بأن حضرة بهاءالله نفسه هو الذي يحاول تسميمه إذ كان من شأن ذلك الاتهام الشنيع الباطل ضد من كان منبعًا للمحبة والمغفرة، أن يرفع النقاب عن حقيقة ميرزا يحيى وعرّى طبيعته للأصدقاء والغرباء على حد سواء.

مرّت فترة من الزمن واستمر ميرزا يحيى يتحين الفرص لمحاولة أخرى على حياة حضرة بهاءالله. طبقًا لتدبيراته اختار الحمام العمومي([2]) مسرحًا مناسبًا لهجومه حيث اعتاد حضرة بهاءالله زيارته. واختار الأستاذ محمد علي سلماني (الحلاق) الذي كان خادم الحمام([3]) لحضرة بهاءالله واتصل به واستدرجه بالحديث بدهاء موحيًا إليه فضائل اغتيال حضرة بهاءالله، مشيرًا بجلاء إلى أن ذلك العمل سيكون خدمة لدين الله لو قام بتنفيذه أثناء وجوده في الحمام. وكما سنرى فيما بعد، انفعل الأستاذ محمد علي وحمي غضبه لدى سماعه ذاك الإيحاء بحيث شعر برغبة جامحة في قتل ميرزا يحيى على الفور.

كان الأستاذ محمد علي من أتباع حضرة بهاءالله وحظي بشرف خدمته كمرافق في الحمام منذ أيام بغداد، واستمر في خدمته تلك في عكاء. كان أحد خدام حضرة بهاءالله ورجلاً ذا شجاعة وإيمان عظيمين. لقد عرف مقام حضرة بهاءالله بدرجة من العمق والعقيدة بحيث عشق حضرة بهاءالله، عشقًا لم يعرف الحدود وغالبًا ما نقله إلى حالة الوله. يذكر المؤرخون بأنه كان أميًا ويدّعون بأن مذكراته قد أملاها (ولم يكتبها). لكن الشيء الواضح هو أنه ألمّ بقليل من مبادئ القراءة والكتابة، إلاّ أنه لم يكن متعلمًا.

مع ذلك فقد تفضل عليه حضرة بهاءالله بالعرفان الإلهي بحيث صار مستنيرًا بمواهب إلهية مكّنته على ما كان عليه من الأمية وبساطة النشأة، من تقديم إسهامات شعرية قيّمة في الأدب الفارسي. في تاريخ أمر الله نجد هناك عدة شعراء  بهائيين مميزين، كان أغلبهم رجال ثقافة ومعرفة. إلاّ أن هناك من يقول بأن لشعر الأستاذ محمد علي قوة موهوبة تبرزه بصفة خاصة. وشهد أولئك المتذوقون للشعر بجمال تعبيره ووضوحه وعمقه. من يتلو نظمه من المؤمنين غالبًا ما تلهمهم مشاعر الرفعة والسمو الروحي، والعروج إلى عالم الحقائق، بعمق معاني كلماته ومغزاها يحرّك مكنون الذات ويفتح أمام البصائر طيفًا من الحب والعشق لحضرة بهاءالله.

بالنسبة لمن لم يتأثروا بعد بقوة ظهور حضرة بهاءالله ونفوذه قد يصعب عليهم تصديق إمكانية بلوغ رجل كهذا، أمي غير متعلم، لمستوى يؤهله لتقديم إسهام ملحوظ في معرفة الإنسانية وأدبها. قد يكون لذلك ما يبرره خصوصًا إذا درسنا حياة الأستاذ محمد علي عن كثب، آخذين بعين الاعتبار طبيعة اتصالاته اليومية مع الناس، وما يفرضه ذلك عليه من أسلوب في التعامل والتكلم اللذين كانا أحيانًا يتسمان بالخشونة والغلظة، مما يجعلنا أن ندرك بأنه لم يكن غير مثقف فحسب بل كان أيضًا فظًا نوعًا ما.

مع ذلك فإن القلب، لو كان سليمًا صادقًا في محبته لحضرة بهاءالله، يصبح مخزنًا لعرفان الله ومصداقًا لقول إسلامي بأنه “نور يقذفه الله في قلب من يشاء”(2). والأستاذ محمد علي كان مثالاً لذلك. يمكن وصفه بأنه شعلة حب لحضرة بهاءالله. كذلك قصائده عبارة عن ترنيمات عشق وتولّه بحيث لا يمكننا إيجاد حتى سطر واحد تخلّى فيه عن هذا الاتجاه. إن مقصود ذاته لم يكن سوى حضرة بهاءالله وهذا ما أظهرته قصائده جليًا. فهو يبجله ويمجده بلغة جميلة ويفصح عمّا يختلج في فؤاده من نار العشق. كان ينظُم معظم قصائده ارتجالاً وهو يقوم بقص شعر حضرة بهاءالله وترتيبه. حينما يكون قريبًا وملامسًا لمولاه ومحبوبه كان ينقطع عمّا يجري حوله ويعرُج إلى عوالم الروح ناسيًا كل شيء آخر. وهو في هذه الحالة، نظرًا لجهله في الثقافة، كان أحيانًا يتساءل عن معاني بعض الكلمات التي استعملها، مثال ذلك ما يرويه الحاج ميرزا بزرگ أفنان، من المؤمنين المتميزين الذي عمل لسنين طويلة خادمًا لبيت حضرة الباب في شيراز، في القصة التالية:

كان لسلماني حانوت حلاقة صغير في عكاء بنى فيه منصة صغيرة من آجر مفخور بالشمس لجلوس زبائنه. جلستُ عدة مرات على تلك المنصة لحلاقة شعري. كان رجلاً أميًا وقد سألني في بعض المناسبات عن معاني بعض الكلمات التي وردت في قصائده دون أن يعرف معناها.(3)

كان الأستاذ محمد علي من أهالي إصفهان. أرسله والده إلى حانوت حلاق وهو في التاسعة من عمره. لمّا بلغ الخامسة عشر من عمره بدأ يعمل لحسابه بمفرده. بعد اتصاله بالبابيين في إصفهان بفترة قصيرة، وعقب استشهاد حضرة الباب بثلاث سنوات تقريبًا اعتنق الدين البابي. تعرض هو وآخرون للاضطهاد في إصفهان بسبب عقيدتهم. استشهد اثنان من رفاقه المؤمنين في إحدى الساحات العامة. كانا آقا محمد جواد والملاّ علي، الذي سار راقصًا إلى موقع الاستشهاد. اقتيد هذان البابيان المتفانيان إلى الميدان وأُمرا بالانبطاح على الأرض حتى وصل الجلاّد وحزّ رأسيهما. بعدئذ جاء دور الأستاذ محمد علي والأستاذ عبد الكريم الخرّاط([4]) (نحّات خشب). لكن الحاكم أصدر أمرًا بتعذيبهما وإيداعهما السجن. وفيما بعد دفع أقرباؤهما مبلغًا من المال إلى السلطات كفدية وتمكنوا من تخليصهما. وبعد إطلاق سراحهما غادرا إصفهان وتوجّها إلى بغداد حيث فازا بمحضر حضرة بهاءالله. فيما يخص الأستاذ محمد علي فإنه اشتغل في بغداد حلاقًا وبذلك نال شرف خدمة حضرة بهاءالله عند زيارته للحمام، بالإضافة لذلك كان يخدم، في حدود مهنته، أخوة حضرة بهاءالله، وحضرة عبدالبهاء وبعض المؤمنين الآخرين.

كان موقف أصحاب حضرة بهاءالله حيال ميرزا يحيى في بغداد وأدرنة، والذي اتسم دومًا بالاعتبار والتقدير، نابعًا من رغبتهم في إعزاز وإكرام حضرة بهاءالله وأمره، إذ إنه علينا ألاّ ننسى أنه كان خليفة حضرة الباب الاسمي من جهة وأخو مولاهم من جهة أخرى. إلاّ أن هذا الموقف، الذي لم يتخذوه إلاّ من أجل إعلاء أمر الله، قد أساء ميرزا يحيى فهمه وتفسيره إذ تخيل بأنه تعبير عن ولائهم واستعدادهم للانصياع وتلبية كل ما قد يأمرهم أو يشير به بصرف النظر عن فحواه. لكن سرعان ما اكتشف جسامة سوء تقديره وذلك بطلبه من الأستاذ محمد علي، أحد أخلص خدام حضرة بهاءالله، القيام بتنفيذ مخططه الشائن.

في مذكراته عرض الأستاذ محمد علي تفاصيل الحدث المخزي والأمور التي أدت إليه. فيما يلي ترجمة لجزء مما روى:

كنت يومًا أنتظر وردود الجمال المبارك إلى الحمام. لكن أزل([5]) وصل أولاً. باشرت بخدمته وخضّبت شعره. بدأ يتحدث إليّ. سبق له منذ بعض الوقت محاولاً جهده أن يجعلني من أتباعه، لكنه كان يعمل ذلك بطرق سرية. قال لي: ’رأيت في المنام بالأمس شخصًا يحمل بيده مكنسة ويكنس المكان حولي([6]).‘ فهمت من كلامه أنه يقصد بهذا الشخص الجمال المبارك. فهمت من نبرة حديثه أيضًا بأنه كان يشير عليّ من طرف خفي لأعمل شيئًا ما من أجله، لكنه لم يفصح لي بأي شيء وغادر الحمام سريعًا.

بعد ذلك دخل الجمال المبارك. كانت هناك مرآة على الحائط رأيته فيها وهو يدخل وكان يتلو هذا البيت من الشعر: ’حقًا أنت عظيم وأعظم من أن تحكي المرآة عن جمالك.‘

بقيت متأملاً بصمت في كلمات أزل عاجزًا عن فهم مقصده من أن حضرة بهاءالله يكنس ما حوله من الأرض. لكن من الواضح جدًا أنه أراد مني أن أعمل شيئًا وأقوم له بمهمة خاصة. في نفس الوقت لاحظت أن الحاج ميرزا أحمد([7]) كان يسعى من أجل ضمّي لزمرة أزل. حاول ذلك خلال عدة أيام وألح في كسبي لجانبهم.(4)

وقف الأستاذ محمد علي تجاه ذلك وقفة ثابتة كالصخر. رفض حجج الحاج ميرزا أحمد وفي النهاية اضطر لاستعمال ألفاظ فظة وأسلوب جارح بحيث شكاه خصمه لحضرة بهاءالله. في اليوم التالي قام ميرزا آقا جان، بتعليمات من حضرة بهاءالله، بجمع المؤمنين وتلاوة بعض الألواح بما فيها “لوح أحمد” الفارسي الموجّه لميرزا أحمد نفسه، وذلك لمساعدتهم في تسوية الخلافات بينهم.

يمضي الأستاذ محمد علي بمذكراته فيقول:

بينما كنتُ يومًا أنتظر وصول حضرة بهاءالله إلى الحمام جاء أزل أولاً. ولمّا شرع بالغسل وخضاب الشعر جلست في خدمته وبدأ يحدّثني قائلاً: ’كان هناك حاكم سابق لنيريز اسمه ميرزا نعيم قام بقتل عدة مؤمنين وارتكب جرائم كثيرة ضد أمر الله.‘ بعد ذلك صار يثني على الشجاعة والإقدام بعبارات رنانة. قال إن هناك شجعانًا بالطبع وعندما يحين الوقت المناسب يظهرون شجاعتهم بأعمالهم. ثم راح يواصل الحديث عن قصة ميرزا نعيم. ’من إحدى عائلات المضطهدين بقي على قيد الحياة صبي في العاشرة أو الحادية عشرة. عندما ذهب ميرزا نعيم يومًا إلى الحمام، دخل ذاك الصبي وراءه حاملاً سكينًا. وإذ خرج من الماء طعنه الصبي وفتح بطنه. صرخ ميرزا نعيم وهرع إليه خدامه الجالسون في مدخل الحمام. قبضوا أولاً على الصبي وضربوه ثم أسرعوا صوب سيدهم ليروا ما حل به. لكن الصبي رغم جراحه نهض وطعنه مرة أخرى.‘ عاد أزل يمتدح الشجاعة وقال: ’كم يستحق الإعجاب الرجل الشجاع! أرأيت ماذا يصنعون الآن لأمر الله؟ كل واحد يؤذيه، وكل واحد قام ضدي، حتى أخي. فلا راحة لي وقد صرت في حالة بائسة.‘ كان مفاد كلامه ومضمون قوله أنه هو، خليفة حضرة الباب، كان هو المظلوم بينما أخوه (أعوذ بالله) كان المغتصِب المعتدي. كرر مرة أخرى صفة الشجاعة وقال بأن أمر الله بحاجة إلى العون. لم يعد غامضًا من كل كلامه، ونبرة ملاحظاته، ومن قصة ميرزا نعيم، ومدح الشجاعة وتشجيعه الضمني لي، بأنه في الحقيقة كان يقول أو يحثني على القيام بقتل حضرة بهاءالله.

كان وقع كل هذا في نفسي أن جعلني بدرجة من الارتباك لم أشعر بمثلها في حياتي. فقد صُعقت كما لو أن المبنى كله قد انهار على رأسي. تملّكني الرعب، وبدون التّفوه بكلمة خرجت إلى مدخل الحمام. كنت في أشد حالة من الهياج المعنوي. خطر ببالي في تلك اللحظات العودة إلى داخل الحمام وقطع رأسه دون اعتبار للنتائج. عدتُ وفكرتُ بأن من السهل قتله، لكني ربما سأغضِب الجمال المبارك. والشيء الذي منعني من تنفيذ ما فكرت بعمله هو ما كنت سأجيب حضرة بهاءالله لو حضرت أمامه، بعد القتل، ويسألني لِمَ قتلته؟

رجعت إلى الحمام وقد أخذ الغضب مني كل مأخذ، فصرخت بحدة: ’هيا اذهب إلى جهنم… واترك المكان!‘ فارتجف هلعًا وطلب مني صب الماء عليه. لبّيت ذلك. فنهض وغادر، أكمل حمامه أم لم يكمل، وهو في غاية الخوف، وكان ذلك آخر لقاء لي به.

بلغ حالي الفكري من الهياج والاضطراب بحيث ما من شيء يمكنه تهدئتي. شاءت الصدف ذاك اليوم أن الجمال المبارك لم يأت إلى الحمام، ولكن جاء أخاه المخلص، آقا ميرزا موسى كليم. أخبرته بأن أزل قد أشعل في كياني النار بما أشار من نواياه الشريرة. قال آقا ميرزا موسى: ’هذا ما كان يفكر به منذ سنوات، هذا الرجل ما فتئ دومًا يفكر بهذا النحو. لا تعره انتباهًا.‘ ثم نصحني بتناسي كل الموضوع ودخل إلى الحمام.

بعد انتهائي من العمل في الحمام، ذهبت إلى المولى([8]) ونقلت إليه ما حدّثني به ميرزا يحيى، وكيف تفجرت بذلك غضبًا وهممت بقتله… فتفضل المولى قائلاً: ’هذا أمر لا يعرفه سواك. فلا تخبر به أحدًا، والأفضل أن يبقى سرًا.‘ بعد ذلك ذهبتُ إلى ميرزا آقا جان وحدّثته بتفاصيل الخبر طالبًا منه أن ينقله إلى حضرة بهاءالله. عاد وقال: ’إن حضرة بهاءالله أمر بأن قل للأستاذ محمد علي ألاّ يذكر ذلك لأحد.‘

في مساء ذلك اليوم جمعتُ كل كتابات أزل وأحرقتها في موقد غرفة الشاي([9]) الكائنة في منزل حضرة بهاءالله. قبل أن أفعل ذلك أريتها لسبعة أو ثمانية من المؤمنين الحاضرين. تحقق جميعهم من أن الكتابات تعود لأزل. اعترضوا جميعهم عليّ وسألوا سبب قيامي بذلك. قلت: ’حتى اليوم كنت أقدّر أزل كثيرًا، لكن الآن هو أحقر من الكلب في نظري.‘(5)

أخيرًا وجد الأستاذ محمد علي نفسه غير قادر على كتم الحدث في نفسه. سرعان ما انتشر النبأ وخلق كثيرًا من الخوف والجزع في قلوب المؤمنين في أدرنة.

كان على إثر ذلك الحادث أن قرر حضرة بهاءالله إبلاغ ميرزا يحيى دعوته رسميًا بأنه صاحب وحي سماوي وأنه “من يظهره الله” إذ إن ميرزا يحيى كان خليفة حضرة الباب الاسمي. ولو أن ميرزا يحيى كان على علم مسبق بإعلان حضرة بهاءالله وكان مطّلعًا بادعائه من خلال ألواحه، إلاّ أن لهذا الإعلان مغزىً كبيرًا، من حيث أنه لم يترك لميرزا يحيى مجالاً أو عذرًا لأي غموض في هذا الشأن. فقد دعاه حضرة بهاءالله رسميًا لإبداء ولائه لأمره، وإلاّ فإن إعراضه سيفرق بينهما كلية.

قام حضرة بهاءالله بذاك الإعلان بواسطة إنزال لوح خاص عُرف ﺒ”سورة الأمر”. عرض فيها بجلاء دعوته وبيّن طبيعة رسالته. وكلف ميرزا آقا جان، كاتب وحيه، بتسليم السورة شخصيًا لميرزا يحيى، ثم قراءتها بصوت عال أمامه ومطالبته بالإجابة عليها بنحو قاطع. طلب ميرزا يحيى مهلة من الوقت ليتمكن فيها من التأمل قبل الإجابة، فأعطي له ما أراد. في اليوم التالي أجاب بأنه هو أصبح صاحب وحي سماوي، ويتعين على كل سكان العالم إتباعه والولاء لشخصه.

إن ادعاءً كهذا من جانب شخص كان تجسيدًا للخداع والباطل استحق غضب الله، واعتُبر بشكل واضح علامة الافتراق النهائي بين حضرة بهاءالله وميرزا يحيى. يجب علينا التذكر بأن أغلب المؤمنين في أدرنة كانوا موالين لحضرة بهاءالله ويدينون له بإخلاص متفان. أمّا القلة الباقية فكانوا نفرًا قليلاً من الأشرار مثيري الفساد والفتن، وآخرين من ذوي النفوس الضعيفة المتذبذبة. كان الاتصال والمعاشرة بينهم وثيقًا بحيث سرعان ما ولّد فتنًا وامتحانات كبرى خلال تلك الفترة. ذاق أصحاب حضرة بهاءالله مر العذاب والأحزان منذ إبعادهم إلى أدرنة نتيجة لحركات ميرزا يحيى وزمرته وتصرفاتهم. بنزول “سورة الأمر” وردّ فعل ميرزا يحيى عليها وما تلاها، دخل الخلاف والصراع بين قوى النور والظلام مرحلة الافتراق والفصل. كما فعل باعتزاله في كردستان عندما انصرف المتشككون (البابيون) إلى أفعال وتصرفات مخزية هادمة لأمر الله، قام حضرة بهاءالله، الذي كان مقيمًا حينئذ في بيت “أمر الله”، بالانسحاب مع أسرته إلى دار مجاورة لبيت رضا بيك. كانت قد استؤجرت بأمره، ورفض مقابلة أي شخص. كان ذلك في العاشر من آذار سنة 1866م. أمّا سبب اعتكافه، والذي استمر لفترة قصيرة لحسن الحظ، فكان مماثلاً للذي دفعه لعزلته في كردستان قبل ذلك بعقد من السنين، ألا وهو تخفيف التوتر وتهدئة مشاعر العداء التي كانت بذرت في قلوب بعض الأتباع من قبل ميرزا يحيى وأججت نيرانها بما فعله مؤخرًا.

كان لعزلة حضرة بهاءالله في تلك المناسبتين أثر عنيف في نفوس المخلصين والمعرضين. فقد تُركت عصبة المنفيين أمام وضع يلزمهم الاختيار بينه وبين ميرزا يحيى. بالنسبة للمؤمنين المخلصين الذين تغذّت أرواحهم بمدد فضله الدائم فإنهم وجدوا أنفسهم وقد مُنعوا فجأة عن منبع الحياة، وانطفأ النور من وسطهم تاركًا أرواحهم هائمة في عالم الظلمة والحرمان. بغتة وجد تلاميذ حضرة بهاءالله الحقيقيون، وعشاق جماله، أنفسهم كالنبت الذابل المحروم من الماء والنور، وقد هبطت معنوياتهم وما من سلوى لمواساتهم حتى أنهم لم يكونوا ليترددوا بفداء أرواحهم وما ملكوا لو كان فيه عودة الوصل بمحبوبهم.

فيما يلي وصف موجز بخصوص عزلة حضرة بهاءالله في بيت رضا بيك نقله النبيل عن آقا كليم، الأخ المخلص الوفي والنصير القوي لحضرة بهاءالله، والذي حمل مع حضرة عبدالبهاء شتى الأعباء والمسؤوليات إبان فترات الشِدة والافتتان، لا سيما خلال فترة عزلة حضرة بهاءالله في بيت رضا بيك:

’شهد ذلك اليوم الفزع الأكبر. فقد ناح الأصحاب جميعًا على احتجاب الجمال المبارك عنهم.‘(6)

كلمة أخرى تركها للأجيال أحد أصحاب حضرة بهاءالله الموجودين وقتئذ يصف فيها مشاعر بقية الأحباء في تلك المحنة:

’تلك الأيام امتازت بالهرج والمرج. فقد غلبتنا الحيرة واعترانا الخوف العظيم من أن نُحرم على الدوام من نعمة محضره.‘(7)

حتى الأعداء والنفوس المتذبذبة الذين انحازوا مع ميرزا يحيى، وغالبًا ما تشرفوا بمحضر حضرة بهاءالله، فكانوا في خيبة وخسران نتيجة لعزلته. كيف لا وقد وجدوا أنفسهم محرومين من يد حضرة بهاءالله التي وجدوا في ظل هديها كل حماية ورعاية وعطف رغم غدرهم وعدم وفائهم. لقد وجدوا أنفسهم في وسط فتنة تسوقهم سراعًا صوب مصيرهم المحتوم وليس ما يعتمدون عليه سوى جهودهم الشخصية. بمرور الزمن استمر حبل مكرهم وكيدهم يلتف حول أعناقهم حتى هلكوا هلاكًا مخزيًا.

عندما انتقل حضرة بهاءالله من بيت “أمر الله” إلى بيت رضا بيك، أمر أخاه آقا كليم بتقسيم كل أثاث المنزل بما فيه لوازم الفِراش وأدوات المطبخ إلى قسمين متساويين وإرسال قسم إلى منزل ميرزا يحيى، وكذلك ضمان استلام الأخير استحقاقه من إعانة الدولة المالية المخصصة للمنفيين. أشار أيضًا بتسليمه عدة أشياء خاصة بحضرة الباب مثل خواتيمه وأختامه وبعض المخطوطات. ذلك لأن ميرزا يحيى كان يتوق دومًا لامتلاك هذه الآثار العائدة لحضرة الباب والتي كان حضرته قد بعث بها، قبل استشهاده، خصيصًا لحضرة بهاءالله.

عقب اعتكافه في بيت رضا بيك، أخذ حضرة بهاءالله خادمًا واحدًا فقط لنفسه وأسرته. أمر آقا كليم أيضًا باتخاذ واحد من الأصحاب لخدمته، وتعيين أي واحد من المؤمنين قد يختاره ميرزا يحيى خادمًا لأهل بيته. اختار الأخير الدرويش صدق علي،([10]) أحد أكثر أصحاب حضرة بهاءالله إخلاصًا. لمّا أُخبر بهذا، وجّه حضرة بهاءالله آقا كليم ليخبر الدرويش بالذهاب إلى ميرزا يحيى والقيام على خدمته بكمال الإخلاص والأمانة، مبيّنًا له بأن ما من أحد من المنكرين بقادر أن يسلبه ما يكنّه بقلبه من حب للجمال المبارك. كما أوصى الدرويش بتلاوة “لوح ليلة القدس”([11]) النازلة في حقه، مطمئنًا إياه بأنه عند قراءته هذه المرة سيتمكن من فهم ما خفي من معانيه.

ما كاد آقا كليم يخبر الدرويش بتعليمات حضرة بهاءالله حتى خر ساجدًا تعبيرًا عن خضوعه وامتنانه لمولاه، وقال بأن هذه الرسالة (الشفوية) من حضرة بهاءالله ولطفه كانا كافيين لرفع معنوياته، وأنه سيظل سعيدًا ولو قدّر له العذاب والعناء طيلة حياته. خلال فترة خدمته لميرزا يحيى، عرض الأخير عليه مبلغًا من المال لكن الدرويش رفضه قائلاً له بأن حضرة بهاءالله ضمن له رزقه، وبأنه قَبِلَ خدمة ميرزا يحيى فقط تلبية وإطاعة لأمر حضرة بهاءالله وليس في سبيل المال. لكن لم يقدّر للدرويش أن يبقى طويلاً في خدمة ميرزا يحيى، إذ تدخلت سلسلة من الأحداث والأمور لإنقاذه من تلك المهمة المقيتة. وكما سنرى فيما بعد، بعد اعتكاف حضرة بهاءالله في بيت رضا بيك بقليل، امتنع كافة أتباع حضرة بهاءالله عن معاشرة ميرزا يحيى امتناعًا تامًا وتطهروا من خبث شيطنته.

([1])       انظر المجلد الأول، الفصل 15.

([2])  في أيام حضرة بهاءالله كان الحمام العمومي ضروريًا لمعظم الناس إذ لم تتوفر الحمامات في كل المنازل في الشرق الأوسط. كان السائد أن يخصص للرجال ما يعرف بالحمام التركي في أيام معينة وللنساء في أيام أخرى. اعتاد الناس دخوله مرة في الأسبوع حيث يستمتعون بالغسل والاسترخاء لبضع ساعات في دفء بخاره. كذلك كان تجمّع الناس فيه فرصة اجتماعية لتبادل الآراء والحديث في عدة أمور. غالبًا ما كان يقصده أصدقاء معًا لقضاء بضعة ساعات هناك. كان فيها مستخدمون يلبّون احتياجات الزبائن مثل المساعدة في الغسل وتخضيب الشعر أو الحلاقة. كان لمشاهير الناس والشخصيات البارزة خدمهم الخاص بهم.

([3])       كان مألوفا للحلاق أن يعمل أيضًا كخادم في الحمام.

([4])  أصبح ناقضًا لأمر الله، وكان الناقضون يُعرفون باسم “خَرَاطين” (دود الأرض).

([5])       ميرزا يحيى.

([6])  يعني ذلك بالفارسية أن حضرة بهاءالله –أستغفر الله- كان خادمًا متواضعًا لميرزا يحيى!

([7])       الذي نزل له “لوح أحمد” بالفارسية.

([8])       حضرة عبدالبهاء. (أ. ط.)

([9])  كان المؤمنون يجتمعون في هذه الغرفة عادة للتحدث فيما بينهم ولشرب الشاي. (أ. ط.)

([10]) للمزيد من قصة حياته راجع “تذكرة الوفاء”؛ والمجلد الأول من “ظهور حضرة بهاءالله”، الصفحة 306؛ والصفحات 321-324 من هذا المجلد.

([11])      انظر الصفحة 184.

يوم الفصل الأكبر

كان اعتكاف حضرة بهاءالله في بيت رضا بيك وامتناع التقاء المنفيين من المؤمنين بحضرته، قد خلق جوًا سمح لبعض النفوس الخبيثة من المنكرين بالانقلاب علنًا ضد حضرته والانضمام إلى ميرزا يحيى. فقام السيد محمد الإصفهاني، الذي ما فتئ حتى ذلك الحين على اتصال بحضرة بهاءالله ومعاشرة أتباعه من الأحباء، بالانضمام جهرًا إلى ميرزا يحيى، الناقض الأكبر لعهد حضرة الباب وميثاقه، وقد شجعه على ذلك غياب حضرة بهاءالله فخيّل للسيد محمد بأن الساحة قد خلت له ليفعل ما يشاء. تلا ذلك فترة من النشاط المكثف لعب الدور الرئيس فيها كل من ميرزا يحيى والسيد محمد. وبعون من حلفائهما ورفاق السوء حرروا رسائل محشوة بالمفتريات والأباطيل ضد حضرة بهاءالله وأرسلوها لتنشر بين المؤمنين في إيران والعراق.

سببت هذه الرسائل كثيرًا من الحيرة والخلاف لدى بعض البابيين في إيران. أثّر ذلك القذف والافتراء في بعض الأفراد وفقدوا إيمانهم تمامًا. هناك من البابيين من كتبوا لحضرة بهاءالله راجين الهدي والاستنارة. جوابًا على ذلك نزلت عدة ألواح في تلك الفترة. ولكن بعضًا آخر من الأحباء بلغوا مرحلة الإيقان في دينهم. هؤلاء النفوس أقدموا، تأثرًا من انتشار تلك الرسائل الشريرة، على اتخاذ إجراء مضاد وذلك بمؤازرة آخرين كان حضرة بهاءالله قد اختارهم خصيصًا، مثل النبيل، للقيام على نصرة أمره. فتمكنوا من الدفاع عنه بكل جدارة ضد تلك النفوس الأنانية بين أفراد الجامعة البابية ممن عقدوا العزم على إحداث الفُرقة وتمزيق أمر الله.

لقد كشف ميرزا يحيى عن نفسه، بأفعاله، أمام الجامعة البابية عن عصيانه ونقضه للعهد المكين الذي أخذه حضرة الباب بحق “من يظهره الله”، ذلك العصيان الذي حرص حضرة بهاءالله كثيرًا على كتمانه والتستر عليه. بدأت الآن تنزل على المؤمنين الفتن والامتحانات التي أنبأ بها حضرة بهاءالله في ألواحه. لقد خلقت أخبار عصيان ميرزا يحيى وإعراضه، ذلك الذي كان خليفة حضرة الباب الاسمي، اضطرابًا عظيمًا بين البابيين، وعملت على إعلان الافتراق التام والفصل بينه وبين أخيه اللامع.

في هذه الفترة عهد ميرزا يحيى إلى أحد أصحابه بمجموعة وثائق لينشرها بين البابيين في إيران. لكن عندما علم هذا الرجل بمحتواها رفض تلبية الطلب وقام بدلاً من ذلك بإطلاع بعض المؤمنين المخلصين (لحضرة بهاءالله) عليها. احتوت هذه الأوراق على عدة أقاويل باطلة ومفتريات تتهم حضرة بهاءالله بالأفعال المنكرة والجرائم نفسها التي ارتكبها ميرزا يحيى. أخيرًا قدّر لها أن تقع في أيدي أتباع حضرة بهاءالله في أدرنة فدهشوا لدى رؤيتها من سلوك ميرزا يحيى المخزي.([1])

كأن لم تكفه أعمال الخيانة هذه، فقد قرر ميرزا يحيى توسيع نطاق تمرده إلى دوائر لم يطأها من قبل. واعتقادًا منه أن حضرة بهاءالله سيظل متحملاً كل تهمة باطلة وكل قدر من سوء المعاملة بالصبر والتسليم، فقد بعث عريضة إلى خورشيد باشا، والي أدرنة، ونائبه، عزيز باشا. دبج تلك المراسلة، التي شارك الوالي بها حضرة بهاءالله، بلغة وأسلوب متذلل وتضمنت ادعاءات باطلة ضد حضرة بهاءالله تهدف النيل منه بنظر الوالي الذي كان من أشد المعجبين بحضرته. إحدى اتهامات ميرزا يحيى الباطلة كانت أنه حُرم من استلام حصته من معونة الحكومة المخصصة لحضرة بهاءالله وجماعته من المنفيين. دعمًا لذلك الادعاء أرسل إحدى زوجاته لمقابلة الوالي والشكوى لديه بأن مخصصات زوجها من الإعانة قد منعها حضرة بهاءالله عنهم مما أدى إلى اقتراب أطفاله من المجاعة.

كما سبق أن ذكرنا، فإن الحقيقة هي أن حضرة بهاءالله كان دومًا يعيل ميرزا يحيى وعائلته. حتى عند اعتزاله في بيت رضا بيك، كان قد رتّب لميرزا يحيى ليستلم كامل حصته من معونة الحكومة.

وصل الحاج ميرزا حيدر علي إلى أدرنة عقب هذه الأحداث الشائنة ببضعة أشهر وفاز بمحضر حضرة بهاءالله عدة مرات، وقد كتب بخصوص عريضة ميرزا يحيى هذه الكلمات:

وكذلك عندما قام أزل على الإعراض والاعتراض والعناد والاتهامات والمفتريات على جمال المقصود([2]) بكل قوى إبليس، كتب عريضة إلى والي أدرنة… رأينا جميعنا([3]) تلك الرسالة. افتتحها بهذه العبارة: ’روحي وجسمي لك الفداء.‘ ثم مضى يقول: ’يا أيها العزيز([4]) قد جئناك ببضاعة مزجاة أوفِ لنا الكيل.‘ ثم يستمر في اتهامه الباطل لجمال القدم بقطع معاشه عنه.

كان عنوان عريضته ومقدمتها وشكواه تبرهن كلها على أن الحق لا يمكن أن يشتبه على الإنسان، وليس هناك شبه بينهما. نرى الفرق، على سبيل المثال، بين الاثنين في هذه الكلمات النازلة من قلم جمال القدم والاسم الأعظم مخاطبًا السلطان عبد العزيز([5]): “يا رئيس اسمع نداء الله الملك المهيمن القيوم. إنه ينادي بين الأرض والسماء ويدعو الخلق إلى المنظر الأبهى”.

في هذه السورة المباركة ينبئ بزوال مُلك السلطان من يده وسقوطه عن عرش سلطنته… ولنعد لحديثنا: لقد أثبت حضرة بهاءالله للوالي، بواسطة مندوب كلّفه بالمهمة، بأن مفتريات ميرزا يحيى كانت باطلة وشرح له في رسالته، كيف كان الهدف منها أذيّته والمسّ بمقامه…(8)

انتشرت اتهامات ميرزا يحيى إلى أرجاء واسعة قاصية. كتب حضرة شوقي أفندي بهذا الخصوص:

… وسرعان ما بلغه (حضرة بهاءالله) أن ذلك الأخ نفسه (ميرزا يحيى) قد أرسل إحدى زوجاته إلى سراي الحكومة تشكو من أن زوجها قد اغتُصبت حقوقه، وأن أولادها على وشك الهلاك جوعًا، وهو اتهام ذاع أمره وشاع طولاً وعرضًا حتى بلغ الآستانة، وأصبح مصدر حزن شديد لحضرة بهاءالله لأنه صار موضوعًا للقيل والقال ومثارًا للتعليقات اللاذعة في الأوساط والدوائر التي تأثرت من قبل بمسلكه النبيل الوقور الذي سلكه في تلك المدينة.(9)

في لوح نزل في حق الشيخ سلمان،([6]) يصف حضرة بهاءالله لوعة قلبه نتيجة ما اقترفته يدا ميرزا يحيى من شنيع الأعمال. ويعدد فيه مفترياته بشأن حصته من المعونة الحكومية، مقررًا بأن هذه كانت دومًا توزع بين المنفيين، ويذكر بأنه لولا مسؤوليته تجاه أصحابه من المؤمنين لما قبل نفسه باستلام معونة الحكومة رغم ما كان سيؤدي ذلك العمل من مصاعب وضيق. كما سنرى فيما بعد، فإن حضرة بهاءالله، خلال فترة اشتداد حملة المفتريات، قد رفض استلام هذه المعونة المالية واضطر لبيع بعض ممتلكاته لتوفير قوت معيشته.

إن إحدى ملامح حياة حضرة بهاءالله أنه رغم ولادته في إحدى أغنى الأسر في إيران، وعاش عدة سنوات في محيط باذخ، إلاّ أنه قضى أربعين عامًا من بعثته في تقشف لم يعهده قط في أوائل عمره. في مدة العامين التي عاشها في عزلته معتكفًا في جبال كردستان، كان في منتهى الفقر بحيث لم يكن لديه غير الحليب غذاء لأيام عديدة. كذلك الحال في أيامه في بغداد التي عاش فيها حياة بسيطة اضطر خلالها أن يتحمل كثيرًا من الضيق والحرمان. يؤكد ذلك في أحد ألواحه: “أتى على جمال القدم في العراق حين من الدهر… لم يكن له فيه سوى قميص واحد، يُغسل ويُجفف ويُلبس من جديد.”(10) وكذلك في أدرنة وعكاء قبل بروح التسليم ما فرضه عليه عدو قاس من مصاعب وحرمان.

مع أن كثيرًا من المؤمنين قدّموا لحضرته الهدايا، بدافع من حب متفان، وغالبًا بتضحية ما هم بحاجة له، إلاّ أنه دأب على توزيع مثل تلك الهبات على الفقراء بينما عاش نفسه في منتهى البساطة. فمثلاً ترك حسين آشچي، الشاب الكاشاني الذي تطوع لخدمة حضرة بهاءالله كطباخ في أدرنة ثم عكاء فيما بعد، هذا الوصف للأيام التي قضاها في بيت “أمر الله” في أدرنة:

كان ذلك البيت (أمر الله) كبيرًا جدًا وفخمًا. في جزئه الخارجي الواسع اعتاد أحباء حضرة بهاءالله على الاجتماع واللقاء في انجذاب ونشوة من فيض جمال قدسه الفريد… لكن أسباب العيش كانت ضئيلة لضيق الحال وقلة المال. ففي معظم الأحيان لم يكن هناك ما يقدّم لحضرة بهاءالله من طعام غير الخبز والجبن. كنت أجمع كل يوم شيئًا من اللحم والزيت وأحفظه في مكان خاص حتى يكون لديّ مقدار منه يكفي لطبخ وجبة. عند ذاك كنت أدعو حضرة بهاءالله لتناول الطعام وهو جالس على عشب الحديقة. استطعنا بعد فترة توفير بعض المال لشراء بقرتين ومعزاة. كان الحليب واللبن منها يقدّم لأهل البيت المبارك…

في الشتاء كان هناك موقد([7]) في كل غرفة وكنت مسؤولاً عن إيقاد الفحم. وللتوفير في الاستهلاك كنت أزن مقدار الفحم لكل موقد. لمّا أوصل أحدهم خبر ذلك لحضرة بهاءالله بعث في طلبي وتفضل قائلاً: ’سمعت بأنك تعدّ قطع الفحم عدًّا عند تزويد كل موقد!‘ قالها مبتسمًا وقد سرّ بما سمع، وعبّر عن موافقته بأن التوفير كان ضروريًا في منزل كبير.(11)

بسبب أفعال ميرزا يحيى والسيد محمد الضارة، اضطر حضرة بهاءالله لإنهاء اعتكافه الذي دام قرابة شهرين، والخروج لحماية أمر الله من هجمات الخائنين. في هذا الوقت قام حضرة بهاءالله بطرد السيد محمد من مجلس أتباعه وسرعان ما تبعه “الفصل الأكبر” الذي كان الانفصال الواضح ما بين أتباع حضرة بهاءالله وأتباع ميرزا يحيى، ذلك الافتراق الذي أصبح علنيًا. أحدثت فترة انزواء حضرة بهاءالله لمدة شهرين أثرًا أشبه بفراغ روحي لجماعة المنفيين في أدرنة. فقد خلقت امتحانًا عظيمًا كان نتيجته أن أظهر كل واحد ما كان عليه من الإخلاص والإيمان. فلمّا وقع الفصل عرف كل شخص موقعه والجانب الذي ينتمي إليه. على أية حال، فإن الغالبية العظمى من المنفيين ثبتوا في ولائهم لحضرة بهاءالله وأمره. لم يطرد غير عدد ضئيل ممن تبعوا ميرزا يحيى من محضر حضرة بهاءالله. وانحازت عدة

نفوس من ذوي المطامع والشخصيات الأنانية في إيران إلى ميرزا يحيى. بذلك أمدّوه بمزيد من الدعم، وكما سنرى لاحقًا، فإنه بتحريض من السيد محمد، كثف من نشاطاته الشريرة وبذر بذور الفُرقة والفساد لدى السلطات في عاصمة الإمبراطورية العثمانية.

([1])  بالرغم من علمه بمحتوياتها، أشار حضرة بهاءالله على حاملها بتنفيذ تعليمات ميرزا يحيى وتسليمها.

([2])       حضرة بهاءالله.

([3])       يعني هو نفسه وعدد من أتباع حضرة بهاءالله.

([4])       عزيز باشا، نائب والي أدرنة.

([5])       هذه السورة موجهة في الواقع إلى عالي باشا، الصدر الأعظم (رئيس الوزراء).

([6])       انظر الفصل الثالث عشر وكذلك المجلد الأول، الصفحات 115-120.

([7])       وعاء متنقل من الحديد يوقد فيه فحم الخشب للتدفئة في الشتاء.

﴿ 8 ﴾ موعود "البيان": بعض الألواح

"لوح البهاء"

أحد الألواح التي أنزلها حضرة بهاءالله في هذه الفترة هو “لوح البهاء”. من المحتمل أنه نزل مباشرة قبل انتقال حضرة بهاءالله إلى بيت رضا بيك. ذلك لأن حضرة بهاءالله يشير فيه إلى كرب قلبه ويصرح بنيّته اعتزال كل من في حوله. نزل اللوح باللغة العربية، وفيه مقاطع بالفارسية ترجمها حضرة بهاءالله بنفسه، وقد نزل في حق خاتون جان، كبرى بنات الحاج أسد الله الفرهادي([1]) من مواطني قزوين.

كانت خاتون جان مؤمنة مخلصة. وكان والدها، الحاج أسد الله، أحد أتباع السيد كاظم الرشتي. ولمّا كانت الطاهرة من تلاميذ السيد كاظم أيضًا، فقد نمت صداقة قوية بينها وبين بنات الحاج أسد الله. حينما أظهر حضرة الباب نفسه كانت الطاهرة وقتها في كربلاء، فاعترفت برسالته وأصبحت من حروف الحيّ. بعد ذلك بقليل وصلت أنباء إعلان دعوة حضرة الباب إلى قزوين. كان الحاج أسد الله وأسرته من أوائل المؤمنين في تلك المدينة. ولدى عودة الطاهرة إلى قزوين، اشتدت رابطة الألفة والمحبة بينها وبين عائلة الفرهادي قوة ومتانة. أصبحت خاتون جان بالذات شديدة الإعجاب بالطاهرة. وكانت تجلس عند قدميها مسحورة بهيام الطاهرة وعشقها لكل من حضرة الباب وحضرة بهاءالله.

عقب عودة الطاهرة إلى قزوين بقليل بدأت الاضطهادات ضد البابيين. بالنسبة للحاج أسد الله، والد خاتون جان، فقد أُخذ من سرير المرض، وهو في سن متقدم، ليساق مع مؤمنين آخرين من رفاقه، مكبلاً بالسلاسل، مشيًا على الأقدام مسافة لا تقل عن مائة وسبعين كيلومترًا إلى سجن في طهران. فيما يلي وصف لمصيرهم كما دوّنه النبيل:

وما كاد هؤلاء الأشرار يستلمون المعتقلين حتى أخذوا يشفون غليلهم ويصبّون عليهم جام انتقامهم. وفي أول ليلة للمسجونين أعدموا الحاج أسد الله أخ الحاج الله وردي عم محمد هادي ومحمد جواد الفرهادي وكان تاجرًا في قزوين اشتهر بالصلاح والتقوى بدرجة عظيمة لا تقل عن تقوى أخيه الشهير ولعلمهم بعدم إمكانهم إيقاع العقاب عليه في بلدته كما أرادوا عزموا على قتله في طهران بطريقة تبعد عنهم شبهة اقتراف جريمة القتل. ففي منتصف الليل ارتكبوا فعلهم الشنيع وفي صباح اليوم التالي ادّعوا أنه توفي بمرض ألمّ به. وأمّا معارفه وأصحابه الذين هم من قزوين فلم يتمكنوا من كشف الجريمة التي قضت على حياة مثل هذا الشخص العظيم فدفنوه بالاحترام اللائق به.(1)

إن مأساة استشهاد الحاج أسد الله وغيره كان إيذانًا بالمزيد من الاضطهاد في قزوين. فنُهب منزل الفرهاديين وصودرت كل ممتلكاتهم. على أثر ذلك اضطر محمد هادي الفرهادي، ابن أخ الحاج أسد الله وزوج خاتون جان، للهرب من المدينة إلى طهران طلبًا للأمان.

في أثناء ذلك كانت الطاهرة قد وُضعت، بأمر عدو لدود شرس، تحت حراسة منزلية في بيت والدها بحيث لا تبرح غرفتها إلاّ في أوقات الوضوء وتحت مراقبة بعض النساء باستمرار. عند اشتداد تأزم الحالة، بدأ العدو بتخطيط إنهاء حياة الطاهرة. وقد كتب النبيل بهذا الخصوص:

ولمّا عجز الشاه وحكومته عن إيقاع العقاب على المعتدين ازدادوا جرأة وأخذوا يبحثون عن وسائل جديدة لصبّ كأس انتقامهم وإشباع أحقادهم التي لا تتوانى وظمئهم لسفك دماء خصومهم، فالتفتوا إلى الطاهرة نفسها وعزموا على أن يذيقوها نفس الكأس التي شربها أقرانها. فلمّا علمت الطاهرة بقصدهم وهي في حبسها كتبت الرسالة الآتية إلى الملاّ محمد الذي ورث مقام أبيه وأصبح إمام الجمعة المعروف في قزوين وقالت له (إنهم عبثًا يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون.)([2]) فإذا كان الأمر الذي أتّبعه هو الحق وكان الرب الذي أعبده هو الإله الواحد الحق فإنه قبل مرور تسعة أيام يخلّصني من ظلمكم وإن لم يفعل تكونون أحرارًا في أن تعملوا فيّ ما تشاؤون وتكونون أثبتّم فساد اعتقادي). واختار الملاّ محمد أن يتجاهل هذه المباهلة لأنه لا يقدر أن يقبلها وسعى في الاحتيال بكل وسيلة وخداع أن يتمم مقصده.(2)

مما يثير الاهتمام والاستغراب أن الملاّ محمد، الذي ذكره النبيل وكان عدو البابيين الأكبر في قزوين، هو ابن عم الطاهرة وزوجها. إلاّ أنه بعد أن أصبحت الطاهرة من أتباع السيد كاظم بفترة قصيرة حدثت هوة بينهما. فتركته الطاهرة وسكنت في منزل والدها. وعندما آمنت بحضرة الباب ازداد الشق بينها وبين زوجها اتساعًا. لدى عودتها إلى قزوين، وقد أصبحت من أنصار حضرة الباب، دعاها الملاّ محمد للعودة إلى منزله. لكنها أرسلت له هذا الرد:

قولوا لهذا القريب الأحمق المغرور لو كان قصدك حقًا أن تكون رفيقًا لي وزوجًا لكنتَ أسرعتَ لمقابلتي في كربلاء ولسرتَ على قدميك لحراستي وحراسة هودجي طوال الطريق إلى قزوين وإذ ذاك كنت أثناء سفري معه أقدر أن أوقظه من نوم غفلته وأظهر له طريق الحق ولكن ذلك لم يُقدّر له وقد مر على فراقنا ثلاث سنوات فلا يمكن له في هذه الحياة ولا في الحياة الآخرة أن أجتمع به فقد طرحته كليًا من حياتي للأبد.(3)

خلال الفترة التي وُضعت فيها الطاهرة تحت الإقامة الجبرية في منزلها، كانت خاتون جان الشخص الوحيد الذي بقي على اتصال معها. فكانت تذهب إلى بيتها كل يوم تقريبًا، فيومًا تذهب متنكرة كفقيرة متسولة، ويومًا آخر بصفة غاسلة ملابس حيث تقوم بذلك في مجرى الماء العمومي المجاور. وبهذا الاتصال المستمر تمكنت من نقل الأخبار ما بين الطاهرة والعالم الخارجي. أثناء زياراتها استطاعت أيضًا أن تزودها بالغذاء في حين وطد الأعداء العزم على القضاء عليها، وقد كان محتملاً أن يدس السم في طعامها. أخيرًا لعبت دورًا هامًا حاسمًا، بالمشاركة مع زوجها محمد هادي، في إنقاذ سيدتها المحبوبة من حبسها.

في الوقت ذاته تقريبًا عندما ردت الطاهرة على الملاّ محمد بشأن إطلاق سراحها، وتحدّته كما ذكر أعلاه، دعا حضرة بهاءالله في طهران محمد هادي الفرهادي لمحضره، بعد أن قدم الأخير هاربًا من قزوين، فأشار عليه بالعودة حالاً لتنفيذ عملية إنقاذ([3]) لها دبّرها حضرته. يروي النبيل فيما يلي هذا الحدث:

فدعا (حضرة بهاءالله) محمد هادي الفرهادي وأوكل إليه أمر نقلها إلى منزله في طهران ودفع إليه خطابًا مختومًا ليسلّمه إلى الطاهرة بواسطة زوجته خاتون جان. وأمره أن يطلب منها أن ترتدي لباس متسولة لتدخل إلى المنزل الذي حُبست فيه الطاهرة وتدفع لها الخطاب وأن ينتظر هو عند باب المنزل حتى تأتي إليه ويحضرها عنده. وتفضل حضرة بهاءالله قائلاً للرسول: ’بمجرد أن تأتي إليك الطاهرة قم توًا إلى طهران. وفي نفس الليلة سوف أرسل إلى باب قزوين رسولاً ومعه ثلاثة جياد فتستلمها وتودعها مكانًا أمينًا خارج السور ثم تأخذ الطاهرة إلى هذا المكان وتركبون معًا الجياد وتسيرون في طريق غير مطروق وتجتهدون أن تصلوا قبل طلوع النهار إلى ضواحي العاصمة. وبمجرد فتح الأبواب تدخلون المدينة وتتقدمون إلى منزلي. واحترس جدًا لئلا ينكشف أمركم. والله يهديكم ويسدد خطاكم ويحفظكم في كنف حفظه وحمايته التي لا تُضام‘.(4)

فيما يلي يصف الشيخ كاظم سمندر([4]) بالتفصيل الكيفية التي نفّذ بها محمد هادي عملية الإنقاذ بمعاونة خاتون جان:

كانت الطاهرة محاصرة ومحددة الإقامة في دار أبيها. حاول الملاّ محمد، ابن عمها وزوجها، أن يسمّمها ولكن لم يتيسر له سبيل لذلك. من بين كل الأصحاب الأوفياء حقًا لم يكن هناك، باستثناء كبرى بنات الحاج أسد الله (خاتون جان)، من استطاع الاتصال بها. فبادرت الأخيرة بتدبير عدة خطط وتنكرت بشتى الأزياء، مرة كغاسلة ملابس وأخرى كفقيرة متسولة، وهكذا أفلحت في إبقاء الاتصال مع الطاهرة وإيصال الطعام لها. كانت الطاهرة تمرّ بظروف غاية في الخطورة والصعوبة بحيث احتاطت حتى من تناول ما يُقدّم لها من طعام في الدار.

كان آقا هادي([5])… قد فر إلى طهران. قابل هناك “وحيدًا” وكان يزوره إذ سبق أن عرفه في الماضي. اصطحبه “وحيد” إلى الجمال المبارك وقدّمه له. حينئذ سطر حضرة بهاءالله رسالة إلى الطاهرة وأشار على آقا هادي لنجدتها وإحضارها إلى طهران. رجع آقا هادي إلى قزوين متنكرًا. واستطاع بمعاونة زوجته… التي استعملت طرقها المعروفة في الاتصال، لتسليمها الرسالة. بعد قراءتها الرسالة أفادت بأنها ستهيئ نفسها لمغادرة الدار قريبًا، وبعد حوالي ساعة التحقت بهم، ثم قام آقا هادي وزوجته فورًا باصطحاب الطاهرة إلى منزل جار لهم، اسمه حسن النجار، والذي كان صديقًا يعتمد عليه ولا يثير أي شك باحتمال إيوائها بمنزله.

لكن سرعان ما اكتشف أقاربها اختفاءها. فبحثوا عنها في كل مكان دون جدوى، وما كاد الخبر ينتشر حتى أخذ يتجمّع تلاميذ الشريعة مع جماعات الرعاع في الأزقة وبدأوا بإثارة هياج كبير من جديد…

في تلك الليلة هرع آقا هادي، يعاونه شخص اسمه آقا قُلي،([6]) بنقل الطاهرة خارج المدينة عبر بوابة شاهزاده حسين. ركبوا الجياد التي كانت تنتظرهم في مسلخ خارج سور المدينة… وتوجّهوا إلى طهران. فوصلوا أولاً إلى حدائق إمام زاده حسن.([7]) تولّى آقا قُلي الاهتمام بالجياد بينما أخذت الطاهرة قسطًا من الراحة، وقصد آقا هادي المدينة للإخبار عن موقع وجودهم. في تلك الأثناء علم تاجر قزويني اسمه كربلائي حسن بقدوم الطاهرة فتوجّه لاستقبالها. عند وصوله منعه آقا قُلي من الدخول لمقابلتها لظنه بأنه رجل غريب إذ لم يدرِ بأنه من المؤمنين ومن معارفها. لكن الرجل دخل مبتسمًا ففوجئ بلطمتين شديدتين على وجهه من آقا قُلي. عندئذ أدركت الطاهرة ما حدث فهرعت وأمرته بالتوقف عن العنف ودعتهما للجلوس معها واستلمت من كربلائي حسن ما أتى به من بعض الفاكهة وقدّمت منها لكل منهما. عند حلول الليل وصل عدد من الخيالة واصطحبوا الطاهرة بإجلال مع رفاقها إلى بيت جمال القدم (حضرة بهاءالله). عندما حان وقت النوم وأخذوه إلى فراشه، اعتذر آقا قُلي في البداية رافضًا أن ينام بملابسه الرثة في ذلك السرير الوثير. قال للطاهرة وهو يشير إلى ملابسه: ’كيف أجرؤ على النوم على هذا الفراش وأنا في هذه الحال؟‘ لكنها أقنعته بالعدول عن موقفه ذاك مؤكدة ومطمئنة إياه بأن الله سيفتح عليه قريبًا ويمتلك فراشًا بمثل تلك الأبهة.

في اليوم التالي خرجت الطاهرة، برفقة آقا هادي (تاركة آقا قُلي) وتوجّها إلى قرية([8]) خارج طهران حيث كان يقيم عدد من المؤمنين. غادر حضرة بهاءالله منزله ثم عاد بعد قليل مع خادم يحمل محفظة نقود ضخمة أخليت من محتوياتها على الأرض([9]) وطلب حضرته إحضار كيس (خاص للدراهم) وأشار على آقا قُلي بوضع النقود بداخله. لكنه طلب منه أن يفرّق النقود بحيث يضع العملة الفضية في جانب من المحفظة والذهبية في جانب آخر. إلاّ أن آقا قُلي قرر أن يفعل غير ذلك فوضع الذهب أسفل الكيس والفضة فوقه! لمّا رأى حضرة بهاءالله ذلك سأل: ’لِمَ فعلت هذا؟ قلنا لك أن تضع الذهب في جانب والفضة في جانب آخر.‘ أجاب آقا قُلي: ’فعلت ذلك لسبب بسيط وهو أنه لو سقطت بعض النقود خلال السفر أو عند تحميلها على الجواد أو رفعها عنه، فستسقط الفضة لا الذهب.‘ فلم يطل حضرة بهاءالله أكثر من ذلك. وسلّم الكيس ومفتاحه إلى آقا قُلي الذي حمله وشدّه على ظهر الجواد وركب. امتطى حضرة بهاءالله جواده وتبعه آقا قُلي وتوجّها إلى القرية حيث كانت تقيم الطاهرة. بات حضرة بهاءالله والضيوف الآخرون تلك الليلة هناك.

في الصباح أيقظت الطاهرة آقا قُلي بهدف إقامة الصلاة، ثم أخبرته آسفة بأن لا حظ له بالبقاء هناك أكثر من ذلك إذ آن له الرجوع إلى مدينته قزوين، وإلاّ ستقع لهم مشاكل كبيرة. كانت الطاهرة جالسة تحرر رسائل تحت شجرة. وبعد أداء صلاته جاء آقا قُلي ووقف بجانب آقا هادي قبالة الطاهرة. حضر حضرة بهاءالله آنذاك، وانتهت الطاهرة من الكتابة. طلب حضرة بهاءالله إحضار كيس النقود. فتحه ونادى على آقا قُلي طالبًا منه التقدم إليه. بعد ذلك طلب منه أن يمسك بطرف ردائه للأمام، كي يضع حضرة بهاءالله فيه شيئًا من النقود. تردد آقا قُلي، أدبًا وحياء (كما هو العُرف الشرقي)، بتلبية طلب حضرة بهاءالله. لكن صاحبه آقا هادي أقنعه بالامتثال لأمر حضرة بهاءالله. عندها رفع آقا قُلي طرف ردائه وبدأ حضرة بهاءالله يغرف بيده ويفرغ من الكيس ملء كفه من النقود في طرف العباءة الممدود. وبينما كان حضرة بهاءالله يقوم بذلك، خطر لآقا قُلي أمنية للحظة خاطفة تمنى فيها لو كان ذلك النقد ذهبًا! وعلى الفور أجاب حضرة بهاءالله قائلاً: ’نعطيك ما يكفيك حتى تصل قزوين، ولحفل زواجك مبلغًا سيصل إليك في حينه. وعلى أية حال إنها غلطتك، إذ وضعت الذهب في أسفل الكيس!‘(5)

رجع آقا قُلي لأهله وسلّم رسائل الطاهرة. فلو إنه تأخر في عودته لتسبب في مشكلة كبيرة، إذ كان أهله قد بدأوا لتوّهم يشكّون في أمره واستعلموا عنه من خاتون جان. إن إخلاص آقا قُلي وأمانته في خدماته التي قام بها في سبيل نجدة الطاهرة قد أسرّت حضرة بهاءالله، وكما وعده فإن الله فتح عليه بعد ذلك بقليل من الرزق والجاه. فقد أصبح أحد رجال قزوين المتنفذين. انتقل فيما بعد إلى طهران وبقي حتى نهاية حياته صديقًا للمؤمنين بأمر الله.

بعد استشهاد الطاهرة غرقت خاتون جان في حزن وفزع، كيف لا وهي التي قامت بكل ما قامت به من مهام بطولية إخلاصًا في تفانيها لمثلها البطلة الحبيبة. بعد ذلك بفترة فقدت أيضًا زوجها، محمد هادي. مع ذلك لم تطفئ هذه البلايا نيران الإيمان المشتعلة في صدرها. فاستمرت تخدم أمر الله بحماس واشتعال. كانت بذرة محبة حضرة بهاءالله قد غُرست في قلبها على يد الطاهرة التي عرفت مقامه منذ الأيام الأولى. نتيجة كل ذلك توجّهت خاتون جان إلى حضرة بهاءالله طوال حياتها بإيمان وولاء اتسما بالنقاء والصفاء. تبعتها أخواتها وبعض أفراد أسرتها في الإيمان والرسوخ في أمر الله. منذ أيام بغداد وخاتون جان تنعم بألواح من حضرة بهاءالله في حقها. استمرت هذه العطية والنعمة الكبرى حتى في أدرنة، في فترة من أعظم الأزمات وأشدها، حينما كان حضرة بهاءالله يتعرض لهجمات غاية في الشراسة على يد المنكرين، أنزل حضرة بهاءالله في حقها “لوح البهاء” وأفضى لها فيه بمكنون قلبه.

في هذا اللوح يستنكر أفعال ملأ “البيان” ممن حاولوا قتله وسببوا له كثيرًا من العذاب. فيتألم ويحزن لنقضهم ميثاق الله، مشبهًا إياهم بملة الفرقان الذين عذبوا حضرة الباب، يلقبهم بملأ الشيطان، ويؤاخذهم لأنهم تجاهلوا أوامر الله، ويوبخهم لأنهم جعلوا عين الله تبكي. شبّه نفسه بإبراهيم بين يدي نمرود، والمسيح وسط اليهود، ويوسف بين أخوته الذين تآمروا عليه وألقوه في الجب.

في هذا اللوح نجد حضرة بهاءالله يشير إلى أتباعه باسم “أهل البهاء”. ويدعوهم للورود في “سفينة الله” التي تمخر “البحر الأحمر”، سفينة مقدّرة لهم وحدهم. في ذلك إشارة إلى كلمات حضرة الباب النازلة في “قيوم الأسماء” والذي يشير فيه إلى “أهل البهاء” بأنهم “أصحاب السفينة الحمراء”. والسفينة في الآثار المباركة ترمز عادة لأمر الله والميثاق. وتدل عبارة “أهل البهاء” على أتباع حضرة بهاءالله تمييزًا بينهم وبين ملأ “البيان” وهم أتباع حضرة الباب، كانت استعملت لأول مرة في أدرنة في وقت وقوع “الفصل الأكبر”. فالذين أوفوا بعهد حضرة الباب ميزوا أنفسهم بجلاء كبهائيين والذين نقضوا عهده واتبعوا ميرزا يحيى سُمّوا بابيين وأحيانًا أزليين. بناءً على ذلك استُبدلت تحية “الله أكبر” التي كان يستعملها البابيون بتحية “الله أبهى“.

يؤكد حضرة بهاءالله بأن كل كلمة نزلت في “لوح البهاء” يمكن أن تكون حجة وافية وبرهانًا على أحقية أمره للناس أجمعين. ويضيف مصرحًا بأن من أفق الكلمات التي نزلت في ذلك اللوح قد أشرقت شموس لا تعد من المجد اللامع، شموس تنير عوالم الله ولا يعلم عدتها إلاّ الله. ويوصي أهل البهاء بتوجيه مرايا قلوبهم شطر شعاعها والاستنارة بها.

لطالما تمنّت خاتون جان، التي نزل “لوح البهاء” في حقها، أن تبلغ محضر مولاها. أخيرًا تحقق مراد دعواتها وصلاتها. ذلك عندما توجّهت لعكاء برفقة ابنتها وزوج ابنتها، الحاج حسن زرگر (الصائغ)، حيث مكثت فترة تنعم بدفء شمس محبة مولاها وحمايته.

أمّا بيت الحاج أسد الله، والد خاتون جان، فهو أحد المواقع التاريخية في قزوين. فقبل ظهور حضرة الباب كان مركزًا لنشاط الشيخية في تلك المدينة.

ولا عجب لو علمنا بأن الشيخ أحمد الأحسائي([10]) نفسه كان قد نزل مرة في ذلك البيت. فيما بعد تحوّل إلى مركز لمجالس البابيين ثم البهائيين. كم من ضيف وشخص مرموق من أبطال أمر الله، كالطاهرة والقدوس ووحيد وكثيرين غيرهم، استقبلوا بين جدرانه وأكرموا. في إحدى حجراته السفلية (سرداب) كان آقا محمد هادي قد صنع سيوفًا للمدافعين عن قلعة الشيخ الطبرسي([11]) والتي يقال بأن القدوس ووحيد قد اختبراها عندما اجتازا تلك البلدة. ثم قامت خاتون جان وأختاها، اللواتي ورثن ذلك البيت، بالتبرع به لأمر الله. وعبّرن في رسالة إلى حضرة بهاءالله عن رغبتهن أن يُستعمل البيت كمشرق أذكار.([12]) فقبل حضرة بهاءالله تقدمتهن ووافق على اقتراحهن.

([1])       انظر “مطالع الأنوار”.

([2])       القرآن الكريم، سورة التوبة، الآية 32.

([3])  أدى آقا محمد هادي عدة خدمات أخرى للطاهرة. على سبيل المثال قام بمرافقتها وآخرين عند حضورها مؤتمر بدشت، وتكفّل خلاله بحراسة بوابة الحديقة التي نزلت بها وخصصها لها حضرة بهاءالله. انظر “مطالع الأنوار” لمعرفة المزيد عن مؤتمر بدشت.

([4])  أحد حواريي حضرة بهاءالله. هناك تفاصيل أوفى عن حياته في المجلد الثالث من هذا الكتاب.

([5])       آقا محمد هادي الفرهادي، زوج خاتون جان. (أ. ط.)

([6])  لم يكن بابيًا، لكنه كان صديقًا مخلصًا لآقا هادي وأمين سره. كان تاجرًا في السوق، ورغم علمه بطبيعة المهمة السرية تبرع بتنفيذها رغم ما في ذلك من أخطار. (أ. ط.)

([7])       على مشارف طهران. (أ. ط.)

([8])       قد تكون قرية كوچ حصار التي كان يملكها حضرة بهاءالله. (أ. ط.)

([9])  لم تتوفر في تلك الأيام سوى العملة المعدنية إذ لم تبتدع العملة الورقية كما لم يكن هناك بنوك. كان الأغنياء عادة يحملون أكياس نقودهم في الأسفار على الجياد. عبر جولاته بإيران لتبليغ أمر الله اعتاد حضرة بهاءالله، مصحوبًا بالمؤمنين والخدم، تحمّل مصاريف كل من معه والضيوف. (أ. ط.)

([10])      مؤسس فرقة الشيخية في الإسلام. انظر “مطالع الأنوار”.

([11]) ميدان عدة معارك بين 313 بابيًا مُدافعًا عن القلعة، وبين قوات الجيش. وهي معارك فُرضت على البابيين ونتج عنها هزيمة جيش قوي. وفيما بعد استشهد معظم المدافعين عن القلعة. للمزيد من المعلومات راجع “مطالع الأنوار”.

([12])      بيت العبادة البهائي.

"لوح الروح"

أحد الألواح الذي يبدو أن حضرة بهاءالله أنزله خلال الشهرين اللذين أمضاهما في بيت رضا بيك معتزلاً كان “لوح الروح” النازل بالعربية. كغيره من الألواح العديدة لهذه الفترة يتميز بموضوعين: الأول إعلان دعوته وكشف عظمة مقامه، والآخر إعراض أولئك البابيين الذين مالوا لجانب ميرزا يحيى وخيانتهم وشرورهم، والذين غالبًا ما أشار إليهم حضرة بهاءالله بكلمة “المشركين”.

بينما يستنكر القبائح الشنيعة التي ارتكبها هؤلاء، يصف حضرة بهاءالله بعبارات رقيقة كرب فؤاده في ذلك البيت الموحش. ويوبخهم بما أنزلوا من البلايا على نفس الله بما جعله يستر بهاء طلعته بعد إظهارها للناس. ويؤكد بأن “ضُيّعت حرمتي بين الناس” بما “فعلوا بنفسي المقدس العزيز المنير“. يذكر أيضًا الحادثة المهينة عندما “أراد رئيس المدينة أن يحضر بين يديّ الغلام وجد الباب مغلوقة وإذا فتحنا الباب على وجهه ما كان عندنا من أحد ليخدمه“، ذلك اليوم الذي “بكت الأشياء كلها وتقطّعت أكباد المقربين” لتلك الذلة.([1])

يعاود حضرة بهاءالله في “لوح الروح” ذكر شرور ميرزا يحيى هو ومن حوله. يخاطب مؤمنًا مخلصًا اسمه علي، مشيرًا لمحاولة أولئك قتله رغم عونه وحمايته لهم طيلة عقد من الزمن ويزيد، مما جعل صيتهم معروفًا على نطاق واسع. لكنهم عندما وجدوا عجزهم عن تنفيذ مآربهم وكيدهم، تبرّأوا مما فعلوا وأشاعوا تهمًا باطلة ضده إذ نسبوا جرائمهم إلى شخصه. فقد وصمهم بأنهم “عبدة الأسماء” بحيث “تفتخرون بها على مقاعدكم“، وأنبأهم بأن الله سيجعلهم “هباء بحيث لن يبقى منكم على الأرض من أثر“.

وكانت كلمات حضرة بهاءالله هذه قد تحققت بالفعل. فبينما كان كثيرون قد سقطوا في ضلال ميرزا يحيى في أوائل أيام أمر الله ورفعوا رايات العناد والتمرد ضده، إلاّ أنهم اليوم أصبحوا مجرد شرذمة لا وزن لها.

يتنبأ حضرة بهاءالله في هذا اللوح بغلبة أمره عندما يُظهر الله قريبًا خلقًا جديدًا في ظل أمره. وفي فقرة أخرى يؤكد بأن “ينزل الله من غمام الأمر جنودًا بشهاب من القدرة والقوة وينصرون الغلام بنصر الذي ما شهدت مثله عيون الخلائق أجمعين ويبعث بسلطانه حقايق النبيين والمرسلين.”

ونجد في ألواح أخرى بيانات مماثلة لهذه. في إحدى كتاباته المباركة(6) يعلن حضرة بهاءالله، وهو يبيّن عظمة ظهوره وما يقترن به من امتحانات، بأن هذا اليوم قد امتحنت فيه حقائق النبيين والمرسلين. وإذ نستعرض تاريخ أمر الله، تواجهنا بعض الحقائق المذهلة للخيال. فقد صرح حضرة الباب، الذي وصف حضرة بهاءالله ظهوره بأنه “نفس ظهوري”، بأن لحروف الحيّ([2]) نفس مقام أئمة الدورة الإسلامية.(7) وفي أحد ألواحه(8) يصرح حضرة الباب، في معرض ذكره لصفات “من يظهره الله” ومقامه الأعلى، بأن في يوم ظهوره كل من قد يعتبره نبيًا فهو كذلك من أول الذي لا أول له إلى آخر الذي لا آخر له. بل يزيد ويصرح بأن إرادة الله سوف لن تتحقق إلاّ من خلال إرادة “من يظهره الله”.

إن هذه البيانات قد تذهل الخيال فعلاً. إلاّ أنه لو نتأمل في أمر الله لندرك بأن حضرة بهاءالله قد افتتح بظهوره “يومَ الله”، اليوم الذي اشتاق كافة رسل الله وأنبياؤه لبلوغه. فظهوره هو ظهور الله نفسه، الآب السماوي الذي أخبر السيد المسيح عنه. دعنا للحظة نبحث مقام حضرة بهاءالله في ضوء ما جاء في العهد الجديد من “الكتاب المقدس”. أولاً فيما يتعلق بالسيد المسيح فإنه ظهر بمقام البنوة (ودُعي ابن الله). لكن هذا لا يعني بأن الله، الغيب المنيع، قد اتخذ أو كان له ابن من البشر. ذلك لأن تأويلاً أو مفهومًا كهذا سيهبط مقام الله ومفهومه من عالم اللامحدود إلى المحدود. لكن الله مقدس فوق كل شيء، حتى عن صفاته، وعليه، لمّا تكلّم السيد المسيح عن مقامه كابن الله فإنما كان يريد بذلك إظهار علاقة ورابطة (بينه وبين الله). فقدّم نفسه على أنه ابن، والله الآب السماوي. كذلك الحال بالنسبة لأي ولد يتحدث نيابة عن أبيه في المجتمع ينبغي أن تكون له علامتان رئيستان. يجب أولاً أن يمتلك سلطة من أبيه، وثانيًا يبدي سمات وخصائص مماثلة ورثها عنه. لأجل إثبات مصدر سلطته، اختار السيد المسيح أن يصف نفسه أو يوصف بابن الله وشبّه الله بالأب. هذا ولفظتا “الآب” و”الابن” في العهد الجديد هما اصطلاحا مجاز وتشبيه كذلك بيّن السيد المسيح بوضوح أن الآب هو الذي أرسله.

لأني لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا        أتكلم.”(9)

وبيّن كذلك بجلاء أنه سيعود بمجد الآب:

“فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته…”(10)

من هذه وغيرها من البيانات الكثيرة نستطيع أن نستنتج بأن الآب السماوي الذي أرسل السيد المسيح هو الذي سيأتي نفسه.

لقد أعلن حضرة بهاءالله في عدة ألواح وبجلاء أن مقامه هو مقام الآب. ففي خطابه لرؤساء الدين المسيحي يعلن ذلك متفضلاً:

“قل يا ملأ الأساقفة قد أخذت الزلازل كل القبائل والرب الأبدي ينادي بأعلى النداء بين الأرض والسماء طوبى لأذن سمعت ولعين رأت ولقلب أقبل إلى قبلة من في السموات والأرضين…”(11)

وفي لوح آخر يعلن هذه البشارة:

“… قد أتى بملكوته وتنادي الذرات قد ظهر الرب بمجده العظيم، قد أتى الأب والابن في الواد المقدس يقول لبيك اللهم لبيك والطور يطوف حول البيت والشجر ينادي بأعلى النداء قد أتى الوهّاب راكبًا على السحاب.”(12)

كما لاحظنا من قبل، فإن الحقيقة الإلهية غير قابلة للتجزئة والتعدد. ففي عالم الخلق يُستدلّ على ظهور الله من خلال صفاته. لكن بالنسبة لعالمه فإن جوهره وصفاته هي شيء واحد. لو وُصف بأية صفة فإن في ذلك تنزيله إلى عالم المحدودات. فيما يلي كلمات حضرة بهاءالله في تمجيد الله وعظمة غيبه المنيع:

سبحانك من أن تصعد إلى سماء قربك أذكار المقربين أو أن تصل إلى فناء بابك طيور أفئدة المخلصين. أشهد أنك كنت مقدسًا عن الصفات ومنزهًا عن الأسماء لا إله إلاّ أنت العلي الأبهى.”(13)

نحن نعلم بأن الله أصل كل الأشياء وخالقها، إلاّ أننا لا نستطيع أبدًا أن نعلم كيف يحقق ذلك في عالم ذاتيته. حتى المظاهر الإلهية لا يعلمون ذلك، إذ لا سبيل لهم لعرفان حقيقته. ومع ذلك هناك في هذا العالم أنموذج للخلق تتكون بموجبه كل الأشياء عن طريق وسيلة أو سبب ما. فالإنسان مثلاً يأتي لهذا العالم بوساطة والديه، لكن القوة المسببة لخلقه ومولده، والتي تنبعث من عوالم الله، تظل غير قابلة للمعرفة. فلو نفترض أن هذه القوة تنبعث من ذات الله نفسه، فإن إقرارًا كهذا يكاد، كما لاحظنا من قبل، يفرض المحدودية عليه. هذه هي النقطة التي ندرك عندها بأن عقولنا لن تستطيع أبدًا معرفة كنه هذه الحقائق. ذلك لأن السبيل مقطوع تمامًا أمام المحدود ليعرف اللامحدود بشكل مباشر.

يبدو من كتابات حضرة بهاءالله المباركة بأن كل القدرات والصفات التي يمدها الله لعالم الإمكان إنما تنبعث من “ملكوت أمره”. فبواسطة هذا الملكوت تُمنح الحياة، مادية وروحانية لكافة الكائنات، ومن هذا الملكوت نفسه انبعث كل وحي سماوي وجاءت المظاهر الإلهية. يشرح حضرة بهاءالله في أحد الألواح(14) كيف أنه ولو ظاهريًا يكون للمظهر الإلهي عدة حدودات، لكنه باطنيًا يقيم في عالم الحقيقة (المطلقة)، مجردًا عن كل الحدودات. إلاّ أن هذا العالم المطلق يختلف عن عالم الله نفسه وبالمقارنة به له حدوداته.

إن رب “ملكوت الأمر” هو حضرة بهاءالله، المظهر الكلي الإلهي والذي سبق أن بُشر بمجيئه بمقام الآب في الكتب السماوية. ينبغي في الوقت نفسه ألاّ يُساء تفسير هذه العبارة بحيث تناقض المبدأ الأساسي لوحدة المظاهر الإلهية. لقد سبق الإشارة لهذا الموضوع في المجلد الأول من الكتاب.([3]) فالمظاهر الإلهية لا فرق بينهم في جوهرهم لكنهم يختلفون في شدة النور المقدر لكل ظهور من ظهوراتهم، أو الوحي الهابط عليهم. يشبه ذلك شعور الفرد واحتفاظه بهويته الذاتية خلال مختلف مراحل العمر رغم نموه وتطور قدراته وقابلياته باطراد.

يعلن حضرة بهاءالله في “لوح الروح” بأن “لن ينفع نفسًا إيمانها إلاّ بعد عرفان ربها“، أي الدخول في ظل أمره ولن ينفع تلك النفس شيئًا مما خلق “في السموات والأرضين“. ثم يشهد بأن قيمة الإنسان ونفعه في هذا اليوم مُعلّقان بعرفان حضرة بهاءالله والاستنارة من أنوار ظهوره. تمثيلاً لذلك يستعمل تشبيه المشكاة المظلمة التي لا تؤدي غرضها لأنها عديمة القيمة ولو كانت مصنوعة من “بلور ألطف لطيف“. إذا تأملنا بهذه الكلمات فلعلنا نستنتج بأن خلاص الإنسان في كل عصر يعتمد على إقباله وعمله وفق هدي الله المُنزَل لتلك الحقبة من التاريخ.

هناك بيانات مماثلة لحضرة بهاءالله في ألواح أخرى. ففي سبيل المثال في الفقرة الافتتاحية من “الكتاب الأقدس” يعلن حضرة بهاءالله بلغة جلية لا لبس فيها بأن أول واجب للإنسان تجاه الله هو عرفان مظهر أمره.

إن أول ما كتب الله على العباد عرفان مشرق وحيه ومطلع أمره الذي كان مقام نفسه في عالم الأمر والخلق من فاز به قد فاز بكل الخير والذي مُنع إنه من أهل الضلال ولو يأتي بكل الأعمال. إذا فزتم بهذا المقام الأسنى والأفق الأعلى ينبغي لكل نفس أن يتّبع ما أُمر به من لدى المقصود لأنهما معًا لا يُقبل أحدهما دون الآخر هذا ما حكم به مطلع الإلهام.”(15)

في أجمل فقرات “لوح الروح”، يعلن صوتُ الروح في عالم الملكوت المقامَ الأعلى لحضرة بهاءالله، ملقبًا إياه، بلغة تهز المشاعر، بأنه: “جمال المعبود“، “أمانة الله بينكم“، “نفس الله بين عباده“، “كنزه لمن في السموات والأرضين“، “كتاب الله فيكم“، “ضياؤه في ملكوت الأمر والخلق“، والذي “ستر فيه كنوز من الأسرار التي لو يظهر حرف منها لتنفطر السماء“. ألقاب كهذه وكثير غيرها نُسبت لحضرة بهاءالله من القلم الأعلى. يمضي صوت الروح في الثناء على مقامه بحيث يريد منعه من أن يكشف المزيد، لكنه يجد ذلك مستحيلاً إذ كان موهوبًا بقوة من الله.

في “لوح الروح” منظر خلاب آخر يلعب فيه قلم حضرة بهاءالله دورًا هامًا. في هذا الحوار يبدأ القلم بالضجيج وهو بين أصابع حضرة بهاءالله متوسلاً بمولاه أن “ارخ زمامي لألقي على الممكنات حرفًا من أسرار المحجّبة المكنونة المخزونة لعل أهل العماء يعرفون ما لا عرفه أحد من العالمين.” ثم يرجو من أنامل حضرة بهاءالله ألاّ “تمنعني عن إسقاء الممكنات عن كوثر العذب الذي أجريته في سري قبل خلق الموجودات.” فهو يتلهف لكي يُسمح له بشق “ستر الحجاب عن وجه الممكنات لعل يستشعرن في أمرك… لأنهم عُمياء في السر وصُمّاء في الجهر.” يسجّل القلم حسرته إذ يرى حضرة بهاءالله بدون مُعين (في الأرض) “بما ابتليتَ بين هؤلاء“، فيرجو الإذن لمد يد العون له وذلك باستعمال القوة التي أودعها الله فيه، تلك القوة التي تنطق بمجرد حركته والتي يمكنها إخضاع من في الأكوان. يعبّر أيضًا عن عجبه وتحيّره من صبر حضرة بهاءالله بعد قدرته، ومن حلمه بعد علمه، مع عرفانه بأنه لو أراد، لجعل الكائنات، بكلمة واحدة، يقومون على خدمة أمره الغالب البديع. يمضي القلم في توسلاته بهذا الشأن بكل جد وإخلاص حتى يتوجّه إليه لسان العظمة([4]) بأن “يا قلم فأمسك زمامك ثم اصبر واصطبر… فاقلع ما رشح من غمام علمك ثم ابلع ما ظهر من لئالئ أسرارك لأن الناس لن يعرفوا الشمس عن الظل ولا الخزف عن لؤلؤ عز ثمين…”

يشير حضرة بهاءالله على أحبائه، في “لوح الروح”، بأن يتحدوا حتى يهزموا أعداءهم فيتفضل قائلاً: “أن اتحدوا على حب الله وأمره وكونوا كنفس واحدة هذا أحب عند ربكم عن كل أمر محبوبًا وبذلك تضطرب أركان المشركين وينكسر ظهر كل فاجر مبغوضًا.” وينهي عباد الله عن “كل ما لا يحبه رضاه” ويحذّرهم بشدة: “إياكم إياكم عن الفساد والاختلاف لأن بذلك يرجع الضرّ إلى سدرة قدس مرفوعًا.”

([1])  يمكننا أن نقدّر بشكل أفضل مغزى بيانه لو تأملنا مدى الإهانة التي تلحق بالملكية لو أن ملكًا قام باستقبال زواره شخصيًا. بالإضافة إلى كونه المظهر الكلي الإلهي، وكان أتباعه على استعداد دومًا للقيام على خدمته، فإن أعراف المجتمع وقتها تفرض على أن يكون لشخصية مميزة عدد من الخدم في منزله. بل لن يخطر على البال أو يُعقل أن شخصًا ذا منصب عال يتدخل بنفسه في إدارة شؤون منزله.

([2])       أول ثمانية عشر مؤمنًا بحضرة الباب.

([3])       الصفحات 67-69.

([4])       حضرة بهاءالله.

"لوح ليلة القدس"

لوح يؤكد على الموضوع -آنف الذكر- ويثبّته، وقد نزل في أدرنة([1]) في حق الدرويش صدق علي، ويركّز على ضرورة اتحاد المؤمنين. يوصي حضرة بهاءالله أتباعه فيه بأن يتّحدوا على شأن لا يبقى بينهم أي أثر للفُرقة والبرودة. فيما يلي فقرات منه مقتطفة من كتاب “منتخبات من آثار حضرة بهاءالله”:

“أقسم بالاسم الأعظم إنه لمن الخسران المبين في هذه الأيام أن تنظر نفس إلى الشؤونات العرضية. قوموا على خدمة أمر الله واسلكوا مع بعضكم بعضًا بكمال المحبة. أحرقوا بنار الأحدية الحجبات النفسية خالصًا لوجه المحبوب، وعاشروا بعضكم بعضًا بوجوه ناظرة مستبشرة. قد شاهدتم كل سجايا الحق بعينكم وعلمتم أنه لم يكن محبوبًا لهذا الغلام أبدًا أن يدع أحد أحباء الله محزونًا منه ولو لليلة واحدة.

قد اشتعل قلب العالم بالكلمة الإلهية فاشتعلوا أنتم أيضًا بها. نأمل إن شاء الله أن تعتبروا هذه الليلة المباركة ليلة الاتحاد وتتّحدوا مع بعضكم بعضًا وتتزينوا بطراز الأخلاق الحسنة الممدوحة وأن تبذلوا الهمة في هداية غرقى الفناء إلى الشريعة الباقية. عاشروا العباد بالأخلاق التي تظهر منها آثار الحق لأنكم أول الوجود وأول العابدين وأول الساجدين وأول الطائفين. فوالذي أنطقني بما أراد إن أسماءكم في الملكوت الأعلى لأشهر من ذكر أنفسكم في حق أنفسكم. لا تحسبن أن هذه الكلمات مجرد وهم. يا ليت أنتم ترون ما يرى ربكم الرحمن من علو شأنكم وعظمة قدركم وسمو مقامكم. نسأل الله بأن لا تمنعكم أنفسكم وأهواؤكم عمّا قدّر لكم…”(16)

إن مجرد فكرة الاختلاف والشقاق كانت مبعث همّ وحزن لحضرة بهاءالله بحيث أفاض في هذا اللوح بما يجيش به قلبه، فيتمنى مزيدًا من البلايا كل يوم على أن يرى برودة أو جفاء بين المؤمنين.

من أبرز نصائح حضرة بهاءالله في هذا اللوح ما يحكي عن كيفية سلوك الشخص وتعامله مع الآخرين. إن المبدأ الذي تنبع منه نصيحة حضرة بهاءالله هذه تشكل إحدى الحقائق الأساسية التي تتحكم بخُلق الإنسان. فيصرح حضرته بأن ليس هناك في هذا العالم ما يمكنه أن يضر أو يؤذي المرء البصير. فلن ينال من استقامته وعلو مقامه كل ما قد يقع له في حياته. فعندما يحب شخص إنسانًا  ويتواضع له في سبيل الله، كأنما أحب الله وتواضع له. بذلك يجلب لنفسه بركات الله وعطاياه وسوف يُجازى على أعماله. أمّا لو عامل الشخص الآخر صاحبه بازدراء وتكبّر، فإن ذلك لن يؤثر أبدًا على مقام الشخص الذي يحقّره، بل سيعتبر كأنه أبغض الله واستكبر عليه، وبذلك تحق عليه السيئة وينال عقابه.

يصرح حضرة بهاءالله في أحد ألواحه(17) بأن الله قد أدان في هذه الدورة الذين يثيرون الفتنة ويتعاملون بخبث مع الناس. فكل من يميل لأذية أحد أو ضره، كأنما قام بالعمل ذاته نحو الله.

إن مبدأ حضرة بهاءالله هذا يلقي ضوءًا جديدًا على العلاقات البشرية، ويفتح آفاقًا مدهشة أمامها. فهو يسبغ على الإنسان تبصّرًا أعمق وأعظم في عالم الحقائق، ويعينه على نبذ الكراهية بشكل فاعل، وكذلك التعصب وغيره من النقائص التي غالبًا ما تتبدى من البشر عند تعاملهم أو معاشرتهم لبعضهم البعض. مثلاً، يشعر المرء بمرارة وألم عندما يوجُّهُ له انتقاد ليس بمحله وتُستنكَر أعماله. في الموقف والأحوال العادية في الحياة غالبًا ما يؤدي هذا إلى برودة وجفاء وشعور بالمرارة وحتى الكره بين الناس. فالنقد الظالم والاتهامات الباطلة عوامل ضاغطة على الإنسان قد تؤدي به إلى التحطيم التام والانهيار الكامل. لكن إذا ما آمن الشخص بحضرة بهاءالله وكلماته واتبع تعاليمه السامية بإخلاص، فإن موقفه تجاه الآخرين سيتغير تمامًا وسيكتسب مناعة ضد هذا الخطر. لأنه صار يعلم بأن النقائص، مثل البهتان والعداء والحقد لن تتمكن من التأثير فيه ما دام يتوكل على الله، بينما سيئات المذنبين موجهة -طبقًا لهذا المفهوم الجديد- إلى الله الذي سيعاقبهم على أفعالهم.

حينما يبلغ المرء هذه المرحلة من النضج والتبصر، فلن يُثبطه نقد لا مبرر له، كما لن يسرّه مديح وتعظيم. في الحالتين نجد “الذات” هي التي تنفعل بمرارة إذا أزعجت وبانشراح إذا أرضيت. والمفهوم آنف الذكر، كما يفسره حضرة بهاءالله، يساعد الإنسان على كبح أنانيته والسيطرة عليها. فإن مجرد الوعي بحقيقة أن الشخص في هذه الحالة، يتصرف ضد الله عندما يدين أو يتهجم على غيره، يكفي لردعه عن الاستمرار بهذا السلوك الذي يؤاخَذ عليه. كما يمكّنه أيضًا من الإدراك بأنه ما دام متوجهًا إلى الله، فلن تستطيع قوى الشر أن تضره أبدًا بأي نحو كان.

فيما يلي كلمات تبعث على التأمل كتبها المفكر الورع ميرزا عزيز الله مصباح، العلاّمة الكبير الذي وردت الإشارة إليه في الفصول السابقة:

لن يُضر من له عينان إذا نُسب له العمى، كما لن ينفع الأعمى شيئًا لو مُدحت حدة بصره. ذلك لأن ما يُعتبر مستحق المدح أو القدح في الحقيقة هو امتلاك البصر أو فقده على التوالي وليس تعليق الناس، إيجابًا أو إثباتًا، على الأمر. يستنتج من ذلك بأن العلامة الوحيدة على حدة البصيرة تُعرف عندما لا يعبأ ذاك الشخص بمديح أو ذم الناس.(18)

يصرح حضرة عبدالبهاء(19) بأنه إذا ما ذكر أحد في محضر حضرة بهاءالله عن وجود خلاف طفيف فيما بين المؤمنين في مكان ما، فإن الجمال المبارك يغرق في حزن شديد بدرجة تبدو على محياه علامات عميقة من الألم والغضب. في عدة مناسبات أكد حضرة بهاءالله لمن كان في محضره بأنه لو علم أن أمر الله صار مصدر فُرقة بين اثنين، لاستغنى عنه.

إن تأسيس الاتحاد فيما بين المؤمنين هو حجر الزاوية لتعاليم حضرة بهاءالله. بدونه لا يمكن لأمر الله أو مؤسساته أن تقوم بوظائفها، كما لا يمكن للفرد أو المجتمع أن يتقدما روحيًا أو ماديًا. إن الوحدة بين المؤمنين، وعند تمام الأجل، بين البشر أجمعين، لا يمكن تحقيقها بإجراءات نابعة من دوافع مصلحية، بخطط من صنع الإنسان، أو حتى بتوفر نية طيبة وتفهمّ من قبل كل البشر. إذ بهذه وأشباهها من السبل والوسائل قد يفلح البشر بتأسيس اتحاد سياسي، لا الوحدة التي أتى بها حضرة بهاءالله، وحدة تتخطى كل حدودات البشر، وتؤلّف بين أفئدة الناس وأرواحهم بروح الأخوّة الحقة وتستمد قوتها الموحّدة من حضرة بهاءالله نفسه.

إن الإنسان لقادر على تحقيق إنجازات عظيمة في كافة ميادين النشاط الإنساني. فبوسعه كسر قوانين الطبيعة، والسفر بسرعة ما فوق الصوت في الفضاء، ويقدر أن يخلق ويسيطر على مصادر طاقة مهولة ويستغلها. بل ما من حدود لما يمكنه بلوغه في المستقبل. لكن الذي لا قدرة له على تحقيقه هو التأثير في قلوب الناس وجعل خصمين يحب أحدهما الآخر. فإذا ما حاول، بنفسه فقط، أن ينفق كل ما لديه من قدرات مادية لتوحيد نفسين روحيًا، فإنه فاشل لا محالة. فتوحيد قلوب الناس وتآلفها من شأن المظاهر الإلهية ومهامهم. يشهد بذلك حضرة بهاءالله في أحد ألواحه:

ولا تجادلوا للدنيا وما قدّر فيها بأحدٍ لأن الله تركها لأهلها وما أراد منها إلاّ قلوب العباد وإنها يُسخّر بجنود الوحي والبيان كذلك قدّر الأمر من أنامل البهاء على لوح القضاء من لدن مقضيٍ عليم.”(20)

وكذلك قوله المبارك في لوح آخر:

أن افتحوا يا قوم مصاريع القلوب بمفاتيح الذكر من هذا الذكر الحكيم. ما أراد الله من الأرض وما عليها إلاّ قلوب عباده وجعلها عرشًا لظهور تجليّاته. إذًا قدسوها عن دونها ليرتسم عليها ما خُلقت لها وإن هذا لفضل عظيم.”(21)

عند مجيء المظاهر الإلهية، فإن أفئدة أتباعهم تتآلف وتتحد، بتأثير الكلمة الإلهية، في رابطة من الوحدة. حتى وإن كان أولئك أعداء من قبل، فإنهم يصبحون أحبابًا أوداء. فتراهم ينقلبون خلقًا جديدًا وقد حلّت فيهم قوة تؤثر في غيرهم وتبدل قلوبهم. هذه كانت قصة كل الأديان وشأنها. إن كلاً من حضرة موسى وحضرة عيسى وحضرة محمد فعل ذلك في أيامه. واليوم فإن كلمات حضرة بهاءالله فقط هي القادرة على تبديل قلوب الناس. فقد تمكن أتباع حضرة بهاءالله، متسلحين بقوة الكلمة الإلهية الخلاقة، من توحيد قلوب ملايين من البشر كانوا من قبل أعداء. فلقد اعترف في هذا اليوم وأقرّ بأمر حضرته يهود ومسيحيون ومسلمون وبوذيون وأتباع أديان أخرى، ووثنيون وغنوصيون وملحدون في كل قارات الأرض، يمثلون كافة الأجناس والقبائل تقريبًا، ورغم اختلاف لغاتهم ومشاربهم، اعترفوا وأقروا بمقام حضرة بهاءالله على أنه الآب الموعود وأصبحوا أتباعه. وبفضل تأثير كلمته حلّت في قلوبهم نزعة اتحاد روحي وحب عالمي لبني الإنسان، محل البغض والتعصب اللذين لم يعد لهما مكان في جوارحهم. هذه الجامعة العالمية الواسعة المتنامية باستمرار والقائمة بوظيفتها بتوافق وانسجام، هي ظاهرة وحدث فريدان في تاريخ البشر. فهي تشكل النمط، وتدلل على مجد ووعد ما سيتمخض عنه المستقبل في تكوين الرابطة البهائية العالمية. هذا وقد لا يجد المراقب المنزّه عن التعصب والباحث عن أدلة أحقية رسالة حضرة بهاءالله، صعوبة في الاقتناع بأن قوة أواصر الاتحاد التي تربط جامعة البهائيين اليوم ببعضها، لهي إحدى أوضح العلامات على عظمة مؤسسها وعلى أصلها السماوي.

([1])  أثناء حبس حضرة بهاءالله في ثكنات عكاء، أنزل في إحدى الليالي لوحًا وأشار إلى تلك الليلة ﺒ”ليلة القدس”. ولكن “لوح ليلة القدس” النازل في أدرنة يجب ألاّ يخلط مع ذلك اللوح المُنزل لاحقًا.

﴿ 9 ﴾ لفيف من أوائل الزوّار

لدى سماع المؤمنين نبأ وصول حضرة بهاءالله إلى أدرنة، تاق الكثير منهم للسفر إلى تلك المدينة والتشرّف بمحضره الأنور. في البداية لم يفز بذلك إلاّ القليل، لكن بمرور الزمن، ولا سيما عقب وقوع “الفصل الأكبر”، حضر عدة مؤمنين من إيران لزيارة بيت من أعلن هويته بجلاء لا يقبل الشك بأنه “من يظهره الله”، مظهر الله نفسه، وموعود كل الدهور والعصور. سمح حضرة بهاءالله لبعض أولئك الزوار بالبقاء في أدرنة بينما أرسل أغلبهم إلى إيران أو البلدان المجاورة لنشر أمره بين الناس.

الحاج ميرزا حيدر علي

من أشهر الذين قصدوا أدرنة للتشرف بمحضر مولاهم كان الحاج ميرزا حيدر علي، أحد ألمع تلاميذ حضرة بهاءالله. في كتابه “بهجة الصدور”، دوّن الحاج ميرزا حيدر علي بعض ذكرياته عن حضرة بهاءالله وأحداث شهدها في أدرنة ثم عكاء فيما بعد وكذلك في إيران والعراق. سافر إلى أدرنة سنة 1283ﻫ (1866-1867م) وأذن له حضرة بهاءالله بالبقاء فيها حوالي سبعة أشهر. خلال تلك الفترة كان يتشرف بمحضر حضرة بهاءالله كل يوم تقريبًا. نتيجة ذلك اللقاء الشخصي، توقّدت في صدر الحاج ميرزا حيدر علي روح مشتعلة جديدة. فكان تجسيدًا للانقطاع والتواضع ونكران الذات. فاز بعرفان سمو مقام حضرة بهاءالله عرفانًا حقًا، فسرى في ذرات وجوده كله وهيمن عليه حبه وولهه.

التمس رجل دين مسلم مرة من الحاج ميرزا حيدر علي أن يروي له انطباعاته عن حضرة بهاءالله. قال أنه لم يرد الخوض في مجال إثباتات وأدلة أحقية دعوته، بل كان مهتمًا فقط في الاستماع لبعض روايات الحاج ميرزا حيدر علي والتي شهدها بعينه. فيما يلي ما كتبه الحاج عن حوارهما:

مهما حاولت أن أشرح له (رجل الدين) بأنه خلافًا للظواهر الفيزيائية التي يمكن أن تفسر، فإنه يصعب نقل أو وصف تجربة روحية، ولكنه لم يستطع أن يفهم. لذلك قلت له: ’قبل بلوغي لمحضره كنت آمل برؤية عدة معجزات طبيعية وعقلية وروحية بالإضافة لذلك كنت أعددت عدة أسئلة في ذهني رغبت في تلقّي إجاباتها. لكنني عندما نظرت إلى نور طلعته البهية، وجدت نفسي قد ملت إلى حالة أخرى من الوعي بحيث اندثرت في زاوية الإهمال والتفاهة كل المعجزات التي رجوت رؤيتها وكذلك كل الأسرار المادية والروحانية التي كنت أتوق لفهمها. فقد بدت جميعها لي كسراب يسعى العطشان نحوه وليس الماء الزلال الذي يروي العطش ويبعث الحياة.‘ بعدها سألني (رجل الدين): ’ما الذي رأيته وجعلك في الوضع الفكري والعاطفي الذي صرت عليه؟‘… قلت: ’ولو أن شخصه المبارك كان بهيئة إنسان، لكن نفس حركاته وتصرفه وكيفية جلوسه ووقوفه، أكله وشربه، بل حتى نومه ويقظته، كل منها معجزة بالنسبة لي. ذلك لأن ما رأيت فيه من كمالات وخلق رفيع وجمال وعظمة وأرفع الألقاب وأسنى الصفات كان قد كشف لي بأنه لا شبه له ولا ند. بل كان بلا مثيل ولا شريك له، فريد لا نظير له، واحد فرد أحد صمد. هو الذي (لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوًا أحد).‘(1)

قال (رجل الدين): ’لكن والد بهاءالله كان واحدًا من الوزراء البارزين (في الحكومة) وابنه عباس أفندي، معروف في كافة أنحاء العالم بأنه أكمل إنسان في الدنيا.‘ أجبته: ’ما كان أبوه ولا ابنه جالسًا على عرش مكلّم الطور،([1]) ولم يكونا مؤسسّي دين ولا مُنزلي كتاب. بهاءالله وحده هو العرش الذي يستقر عليه جلال ظهور الله، والمرآة التي تنعكس فيها أنواره، هو الذي “لم يلد ولم يولد”. فلو وقفت أمام مرآة وصرحت بهويتك، فإن المرآة تفعل ذات الشيء، لكن في الحقيقة إنها منفصلة عنك([2]).‘ فسُرّ رجل الدين كثيرًا من هذا الجواب وقال لي بأنه كان ردًا مقنعًا كشف عن جملة حقائق. ثم رجاني أن أحدّثه أكثر. قلت: ’… رأيت شخصًا كان كأي إنسان آخر من الناحية البشرية. لكن لو استطعنا جمع حب كل الناس في العالم ورحمتهم وشفقتهم لكانت مثل قطرة بالمقارنة مع محيط رقيق رحمته وألطافه. بل أستغفر الله بهذه المقارنة. كذلك لو أمكن جمع كل المعارف والعلوم والصنائع والفلسفة والتاريخ الطبيعي واللاهوت لدى كل البشر جميعهم، فإنها ستبدو، بالمقارنة مع علمه وإدراكه، كذرّة مقارنة بالشمس. كذلك لو أمكن حصر عزة الملوك والحكام والأنبياء والرسل وقوتهم جميعهم مقابل قدرته وسيادته وعظمته وجلاله وملكه ومجده، فإنها تبدو بصغر قطرة تجاه مياه البحر… وكلما راقبت كل واحدة من صفاته، أدركت عجزي عن تقليدها، وتيقنت بأن كل أهل العالم لن يقدروا أبدًا بلوغ كمالاته.‘ عندها أقرّ رجل الدين بأن كل هذه كانت معجزات وتشكّل علامات وآيات لقوة الله جل جلاله.(2)

قد يبدو لبعض الذين لم يعرفوا مقام حضرة بهاءالله أن تصريحات الحاج ميرزا حيدر علي، آنفة الذكر، مُبالغ فيها. لكن الحقيقة هي لو أمكن، فرضًا، لشخص منصف أن يصف لقاءه مع الله فعلاً إن كان هذا ممكن التحقيق فإنه سيقص تجربته على نحو مماثل ويمتدحه بذات الأسلوب. إن محاولة وصف قدرات مظهر الله وصفاته شيء خارج عن مقدرة الإنسان وكفاءته. ذلك لأن وسيلته في التعبير عن أحاسيسه ونقلها تكمن فقط في استعمال الكلمات، والأخيرة أداة غير كافية للتعبير عن ظواهر أو تجارب روحية أو تفسير صفات سماوية. لهذا السبب فإن الحاج ميرزا حيدر علي، شأنه شأن عدة كتّاب بهائيين آخرين فازوا بمحضر حضرة بهاءالله، قد لجأ إلى استعمال أكثر ما تيسر لديه من صفات التفضيل والتعظيم في وصف مولاه وثنائه بإخلاص تام وبأفضل جهد مستطاع لديه. عندما يقرأ المرء كتابه يمكنه تلمّس وتقدير مدى تواضعه ونكران ذاته أمام حضرة بهاءالله، وكذا تبصّره ونبله وطهارة روحه.

يكتب قصة ممتعة عن تيقّظه الروحي ومجاهداته:

في أوائل أيام انتشار أمر الله في إصفهان، عندما بدأتُ بدراسة ألواح حضرة الباب وكتاباته والاستماع لشروحات الأحباء، تبين لي أن براهين دعوته مقنعة وقاطعة، والأدلة سليمة تامة. لذا تيقنت في نفسي بأن الأمر أمر الله وظهور عظمة الله وأنه إشراق شمس الموعود، كما وعد “ابعثه اللهم مقامًا محمودًا“. لكنني عندما أجد نفسي وحيدًا بلا صاحب أبادله الحديث، غالبًا ما كانت تنتابني الشكوك. فأوهام حياتي الماضية وظنونها، والوساوس الشيطانية كانت تغويني… ويعلم الله كم ذرفت من الدمع، وكم من ليل سهرته حتى الصباح. مرت أيام نسيت فيها طعامي لشدة انجرافي في التفكير والتأمل. سعيت بكل وسيلة لتخليص نفسي من هذه الشكوك. تثبّت عدة مرات في إيماني وعقيدتي، لكني أعود بعدها فأتردد وأصبح مضطربًا متزلزلاً.

حدث بعد ذلك أن رأيت ذات ليلة في النوم مناديًا في… إصفهان يهتف: ’أيها الناس، إن خاتم النبيين هنا في أحد البيوت وقد أذن لمن يرغب بالورود في محضره بالذهاب إلى هناك. تذكروا بأن مجرد النظر إلى طلعته لخير عن عبادة الثقلين‘. حالما سمعت ذلك أسرعت ودخلت في تلك الدار. لم أر قط مبنى مثله. صعدت إلى الطابق العلوي ودخلت في بهو مسقوف تحيطه غرف وصالات. كان مظهر ذي الجلال يخطو جيئة وذهابًا بينما وقف بعض الناس بلا حراك. لمّا وصلت سجدت تلقائيًا عند قدميه. أمسك بي بلطف ورفعني بيديّ رحمته ثم قال بعد أن وقفت: ’إن شخصًا قد يدّعي بأنه جاء هنا لله وفي الله وخالصًا لوجه الله، وأقبل حقًا إلى محضر مولاه بحيث لم يمنعه قيام أهل العالم بسيوف مسلولة يبتغون قتله لإقباله على أمر الله.‘

لدى سماعي تلك الكلمات، أفقت من منامي لأجد نفسي مطمئنًا مسرورًا شاكرًا. فقد زالت كل شكوكي تمامًا. عرفت أسرار الاستشهاد والاضطهاد والأذى الذي عومل به المؤمنون في كل ظهور. تملكتني الدهشة وأنا أنظر للوراء إلى الشكوك التي ساورتني، وجهلي وصغر عقلي، وضعف إيماني وتفاهة تفكيري. كنت أضحك ساخرًا أيضًا من نفسي لأني في ساعات يقظتي كنت قد سمعت بيانات مماثلة وكذلك مرّت عليّ في الآيات الرحمانية والكتب والصحائف السماوية السابقة، لكنني لم أبلغ اليقين والاطمئنان بها. أمّا الآن، وبواسطة ذلك الحلم، فقد آمنت وأيقنت…

مرّت الأيام وبعد حوالي أربعة عشر عامًا كنت في أرض السر([3]) حيث أقمت فيها سبعة أشهر. خلالها كنت كل يوم، جودًا وفضلاً منه، أفوز بمحضر حضرة بهاءالله مرة أو مرتين وأحيانًا أكثر. لكنني في تلك الفترة لم يخطر ببالي قط حُلُمي (آنف الذكر). في مساء أحد الأيام، بعد الغروب بأربع أو خمس ساعات كنت جالسًا مع آقا ميرزا محمد قلي([4]) وآقا محمد باقر القهوجي([5]) في غرفة الشاي (غرفة خُصصت لأصحاب حضرة بهاءالله والزوار). في ذلك اليوم لم أتشرف بالمحضر المبارك لحضرة بهاءالله وكنت بغاية الشوق للفوز بذلك. لم أكن أجرؤ على السؤال بالإذن للتشرف لكن في سري كنت أناجيه متوسلاً منحي ذلك الشرف. كيف يمكن ذلك، كنت أتساءل، وكان الوقت متأخرًا بحيث لم يبق لي أمل. فجأة فتح الباب ودخل حضرة غصن الله الأعظم روحي وروح الوجود لعطوفته الذاتية الأولية الفداء، والذي كان في تلك الأيام يُعرف ﺒ”سر الله”، فأشار عليّ أن أتبعه. عندما خرجت من الغرفة رأيت جمال القدم والاسم الأعظم يتمشّى في الجزء المسقوف من المنزل. كان سلسبيل البيان في جريان بينما وقف بعض الأشخاص. سجدت عند قدميه، لكنه رفعني بيديه المباركتين، ثم استدار نحوي قائلاً:

’إن شخصًا قد يدّعي بأنه جاء هنا لله وفي الله وخالصًا لوجه الله، وأقبل حقًا إلى محضر مولاه بحيث لم يمنعه قيام أهل العالم بسيوف مسلولة يبتغون قتله لإقباله على أمر الله.‘ كانت تلك عين الكلمات التي كنت سمعتها (في حُلُمي) قبل أربعة عشر عامًا، وأمامي كان نفس ذاك الجمال الذي لا يُضاهى ونفس المبنى الذي شاهدته في المنام. وقفت جامدًا مكاني قرب الحائط مصعوقًا بلا حراك. بعدئذ عدت تدريجًا لحالة الوعي الكامل وتشرفت بالوقوف في محضره. إن غرضي من رواية هذه القصة لم يكن، أستغفر الله وأتوب إليه، أن أنسب المعجزات([6]) (لحضرة بهاءالله)، بل مجرد سرد الحقائق كما حدثت…

في ذلك المساء سُمعت أنباء حول مغادرتي. فبعث حضرة بهاءالله شخصًا يسألني عمّا كنت أنوي عمله (عقب زيارتي). فتوسلت لحضرة من أراده الله (عبدالبهاء) راجيًا منه أن يتوسّط لي عسى ألاّ أقرر أنا شؤون حياتي ورغباتي بل الأحرى أن أتّبع ما يحب حضرة بهاءالله أن يوجّهني إليه فأقوم به. رجوته أن يقدّر لي تأييده وعونه حتى أتمكن من تنفيذ المطلوب مني. عرضت أيضًا بأني كنت وحيدًا في هذه الدنيا، بلا بيت أو أسرة أو ملجأ لي سوى كنف رحمته. وهكذا بوساطة حضرة سر الله قُبلت تضرعاتي وأُخبرت أن حضرة بهاءالله تلطّف عليّ بشرف امتياز خدمة أمر الله وأنه سينزّل عليّ تأييداته ومدده لإعانتي.

وعليه أُشير عليّ بالتوجّه إلى الآستانة والإقامة فيها كناظم اتصال بين المؤمنين الداخلين إلى المدينة والخارجين منها، ووسيط مراسلة لتأمين إرسال الخطابات والألواح إلى مختلف الجهات… وصلت الآستانة حاملاً معي مجموعة من الكتب والألواح المنسوخة بخط آقا كليم وحضرة سرّ الله وآخرين. كنت برفقة ميرزا حسين([7]) وكلانا شعرنا بالسرور والتوفيق في خدماتنا. كنا نتسلّم كل أسبوع عددًا من الألواح لإرسالها إلى شتى الأطراف مما أتاح لي فرصة قراءتها. كما أتيحت لي فرصة الالتقاء بالمؤمنين الوافدين بنيّة الزيارة إلى أدرنة. كان يترتب على هؤلاء البقاء في الآستانة بضعة أيام استعدادًا لمواصلة الرحلة أو انتظارًا لإذن حضرة بهاءالله باستقبالهم. كانوا يبقون أيضًا أيامًا معدودة عند عودتهم.

كنت أستلم تعليمات من المرحوم آقا محمد علي تمباكو فروش الإصفهاني بخصوص الأمور والحاجات الدنيوية مثل شراء التجهيزات والاحتياجات الأخرى، وأستلم من آقا كليم ما يتعلق بالأمور الروحانية. أرسل آقا محمد علي مرة طلبًا لتجهيز كمية من الشاي. اشتريت مقدارًا منه وبعثته إليه. ونظرًا لعدم رضائه على نوعيته بعث إليّ برسالة لطيفة جدًا ملفتًا نظري بأسلوب وديّ إلى أنه كان من المفروض أن أستنتج مسبقًا بأن الشاي سيقدّم لحضرة بهاءالله وأسرته، وكان عليّ أولاً تجربة ذاك الصنف بنفسي والاهتمام باختيار صنف جيد.([8])

لكن هذه النصيحة من مشاور دمث وصديق مخلص لم تقع موقعًا حسنًا في نفسي. ذلك لأن غروري وجهلي لعبا دورًا رئيسًا. فلم أعبأ بلطفه ومحبته ومكانته، بل أزيد من ذلك بعثت له جوابًا كان بعيدًا عن الصحة والإنصاف. بعد وصول رسالتي بقليل استلمت لوحًا مباركًا من قلم فضّال العالمين ستّار العالمين رحمن العالمين. كان اللوح موجّهًا لي، أنا الفاني الجسور العاصي المغرور. يؤكد لي فيه بأنه يقبل أعمالي وأفعالي ويشملني بلطف عنايته ورضائه.

عند قراءة هذا اللوح أدركت ذنبي وخطئي وجرمي وأدركت بأني ارتكبت خطًا فادحًا وقمت بمخالفة وتجاوز خطيرين. أقول هذا لأن خلال الشهور السبعة التي تشرفت فيها بمحضره، ومن خلال دراستي للألواح المقدسة المباركة ومن ملاحظاتي في تلك الفترة (بأدرنة) عرفت، رغم جهالتي وغرور شبابي، الأسلوب الذي يتصرف الله به في هذا الظهور الأعظم الأقدم… ألا وهو أن حضرة بهاءالله يهذّب ويربي الخطاة ويجلي أرواح الأشرار ويعلّمهم الفضائل الإنسانية وسبيل العبودية عن طريق نوع جديد من القصاص وذلك بإغراقهم في لجج رحمته وعنايته ولطفه وفضله. فهو يُظهر لهم رحمته وستره ومغفرته وجوده.

لهذا السبب تملّكني الندم والاضطراب والرعب. بالدموع والتوسل توجّهت إلى الله ملتمسًا قبول استغفاري. عدت مرة أخرى أسأل حضرة سر الله، ليتوسط لي. كلما زادت شدة إشراقه من أفق اسمه “ستار العيوب”، وكلما عظم هياج بحر رحمته، واشتد هطول أمطار عطفه ورحمته، زادت خشيتي وارتعاشي. باختصار أحسست بدرجة من الخزي والخجل بحيث نأتْ عني الراحة. فالتمست بأن عطف حضرة بهاءالله وعنايته الفياضة كادت تقضي عليّ. عرضت راجيًا منه أن يشير عليّ بوضوح ما ينبغي أن أقوم به خدمة للأمر بحيث يستجلب رضاءه وعنايته.

فأشار عليّ حضرة بهاءالله هذه المرة بالتوجّه إلى مصر لتبليغ أمر الله هناك بالحكمة والبيان، وحسن الأعمال والأخلاق. عندئذ علمت بأن ذنوبي قد غفرت، فعاد لي النشاط والانبساط والمسرة…(3)

ألقي القبض على ميرزا حيدر علي في مصر. حدث ذلك نتيجة عدم تقيّده بالحكمة في تبليغ أمر الله ولأنه عُرف بكونه بهائيًا. فأبعد إلى السودان سجينًا حيث أمضى تسع سنوات قبل استرداد حريته.([9])

([1])       أحد ألقاب حضرة بهاءالله.

([2])  يقصد الحاج بأن حضرة عبدالبهاء انعكاس لحضرة بهاءالله، وبأن هناك فرق هائل بين الاثنين وبأن الصورة ليست كحقيقة الأصل المنعكس فيها. (أ. ط.)

([3])       أدرنة.

([4])  الأخ غير الشقيق الأصغر لحضرة بهاءالله والذي كان وفيًا له، انظر المجلد الأول، الصفحة 16. (أ. ط.)

([5])       انظر الصفحات 321-322. (أ. ط.)

([6])       انظر المجلد الأول، حاشية الصفحة 308.

([7])  عُرف بميرزا حسين الخرطومي الشيرازي. رافق الحاج ميرزا حيدر علي إلى مصر. سجنا فيها مع خمسة آخرين وأرسلوا إلى السودان. لكن هذا الرجل أصبح من الناقضين فيما بعد.

([8])  كان عمل الشاي وتقديمه عنصرًا حيويًا في مجتمع ذاك الزمن وله متعته أيضًا. لم تكن ناحية جودته مهمة فحسب بل طريقة تحضيره أيضًا تتطلب اهتمامًا ومهارة كبيرين. كان الشاي يقدّم في فناجين صغيرة، ولا يضاف إليه شيئًا سوى قطع من السكر الصلد لأجل التمتع بنقاء عطره الطبيعي. كان هناك المختصون البارعون بتحضيره. في أدرنة كان آقا محمد باقر القهوجي المسؤول عن إعداده لحضرة بهاءالله وصحبه. (أ. ط.)

([9])  انظر الملحق رقم 3، والمجلد الأول، الصفحتين 30-31، لموجز حياته العامرة بالأحداث.

ميرزا محمد علي النهري

مؤمن متميز آخر قصد أدرنة لزيارة حضرة بهاءالله وفاز بمحضره هو الرجل الورع ميرزا محمد علي النهري، الذي سبق أن تشرف بمحضره في بغداد. انتسب إلى أسرة معروفة في إصفهان بوركت بالغنى المادي والمواهب الروحانية. قضى مع أخيه ميرزا هادي بضع سنين في كربلاء حيث انضما إلى الشيخية وطالما جلسا لساعات عند قدميّ السيد كاظم الرشتي طلبًا للاستنارة الروحانية.([1])

التقى هذان الأخوان في كربلاء بحضرة الباب لأول مرة. حصل ذلك عندما لفت انتباههما منظره وهو يصلي في مرقد الإمام الحسين حيث انجذبا بشدة نحو شخصه، مدركين ما فيه من قوى غير عادية. سرعان ما أحسا أيضًا بمدى التوقير العميق والتقدير البالغ الذي كان السيد كاظم يحيطه به. فلا عجب أن يميّزا هويته([2]) حالما علما بخبر ادعاء شاب من شيراز أنه الباب.

امتثالاً لرغبة حضرة الباب، توجّه ميرزا محمد علي وأخوه إلى إصفهان. وفي طريقهما إلى تلك المدينة التقيا بالملاّ حسين الذي أطلعهما بنحو واف على أمر الله. إن حماس الملاّ حسين واندفاعه ورسوخ إيمانه واشتعال حبه لحضرة الباب، كان له عميق الأثر في جذب الأخوين وتيسير اعترافهما بأحقية الدعوة الإلهية الوليدة. فازا بمحضر حضرة الباب في شيراز حينما كان رهن الإقامة الجبرية في المنزل بأمر من حاكم الولاية.([3]) خلق ذلك اللقاء فيهما روحًا جديدًا من العزم والتفاني واليقين مما جعل كلاً من ميرزا محمد علي وميرزا هادي منذ ذلك الحين في مقدمة صفوف التلاميذ الأوائل لحضرة الباب.

غادر ميرزا هادي شيراز متجهًا إلى كربلاء بينما عاد أخوه ميرزا محمد علي إلى إصفهان. بعد عودة الأخير لتلك المدينة بقليل علم بوفاة زوجته في كربلاء. فتزوج ثانية وبقي في إصفهان لحين وفود حضرة الباب إليها في طريقه إلى طهران. حتى ذلك الوقت لم يُرزق ميرزا محمد علي بأطفال. ذلك لأن زوجته الأولى التي توفيت بعد بضع سنين من زواجهما لم تنجب أطفالاً. كذلك زوجته الثانية لم تحمل طفلاً حتى وقوع حادثة كان لها مغزى عظيم.

في وصف هذه الحادثة السعيدة يروي النبيل ما يلي:

وقبل انتقال الباب إلى منزل المعتمد كان ميرزا إبراهيم وهو والد سلطان الشهداء([4]) وأخ ميرزا محمد علي النهري الأكبر قد دعا الباب ذات ليلة إلى وليمة في منزله وكان ميرزا إبراهيم صديقًا حميمًا لإمام الجمعة ويقوم بكل طلباته وأعماله. وكانت المائدة التي أعدت للباب في تلك الليلة من أفخر الموائد ولم يسبق أن أعد مثيلاً لها أي من الموظفين أو الأعيان في العظمة والفخامة وكان سلطان الشهداء وأخوه محبوب الشهداء([5]) يخدمان على المائدة وهما طفلان في سن العاشرة والإحدى عشرة سنة ويرعاهما الباب بعنايته. وفي تلك الليلة أثناء تناول الطعام طلب ميرزا إبراهيم من الباب قائلاً: إن أخي ميرزا محمد علي لا ولد له فأرجوك أن تهبه مرغوب فؤاده. فأخذ الباب بيده بعضًا من الطعام ووضعه في صحن وطلب منه أن يعطيه لميرزا محمد علي وزوجته وأن يتقاسماه فيتمّ لهما مرادهما. وحصل فعلاً بسبب اقتسامهما المأكول الذي اختاره الباب أن حملت زوجة ميرزا محمد علي وولدت بنتًا اقترنت فيما بعد بالغصن الأعظم([6]) وكان هذا القران منتهى آمالهما.(4)

سُمّيت الوليدة فاطمة من قبل والديها، لكن حضرة بهاءالله، أسماها فيما بعد منيرة. وافق مولدها الوقت الذي كان فيه والدها وعمها ميرزا هادي قد رحلا للمشاركة في مؤتمر بدشت.([7]) مما يثير الاهتمام هو أنه في ذلك المؤتمر كان هذان الأخوان بين الذين امتعضوا واضطربوا أشد الاضطراب عندما ظهرت الطاهرة في المؤتمر سافرة الوجه. فكان رد فعلهما أن خرجا من المؤتمر وقصدا أطلال حصن بائد. لكن حضرة بهاءالله بعث من أعادهما، ثم هدّأ من روعهما وبيّن لهما أن هجرهما لبقية الأصحاب لم يكن ضروريًا. بعد انتهاء المؤتمر تعرض المؤمنون في قرية نيالا للاعتداء وقد توفي ميرزا هادي على أثر ذلك وهو في طريق العودة لبلده، بينما تمكن ميرزا محمد علي من العودة لإصفهان. هناك، وبفضل قوة إيمانه، أصبح من أنصار أمر الله في تلك المدينة. كما كان لعونه وهدايته أثر كبير في تثبيت إيمان ابنيّ أخيه بأمر الله، واللذين أشار إليهما النبيل، والملقبين ﺒ”سلطان الشهداء” و”محبوب الشهداء”. وقد أصبحا من ألمع شهداء أمر الله.

لمّا كان حضرة بهاءالله في بغداد، أخذ ميرزا محمد علي ابنيّ أخيه الشابين معه إلى تلك المدينة حيث تشرّفا بمحضره المبارك. هناك شاهدا بهاءه مستترًا خلف ألف حجاب وانجذب روحاهما بحبه وانقلبا خلقًا جديدًا. فانقطعا عن هذا العالم انقطاعًا حقيقيًا وعادا لموطنهما بروح مستبشر وإيمان ثابت راسخ.

بعد ذلك ببضع سنوات قصد ميرزا محمد علي أدرنة. وحظي مرة أخرى بامتياز التشرف بالمحضر المبارك وبلوغ منتهى رجاء قلبه. لكنه لم يقدّر له العيش ليشهد الشرف الذي وُهب لابنته منيرة خانم عندما أصبحت زوجة حضرة عبدالبهاء.

كانت قد حدثت بعض الأمور إبان فترة أدرنة والتي من شأنها أن مهدت السبيل لزواج حضرة عبدالبهاء في عكاء بعد سنوات قليلة. كانت عادة مألوفة خصوصًا لدى طبقة النبلاء أن يرتبوا مسبقًا لتزويج أولادهم وبناتهم ولمّا يزالوا أطفالاً. فكانت معظم الزيجات يتفق عليها داخل الأسرة دون أن يكون للطرفين المعنيين خيار في الموضوع. شمل ذلك حضرة عبدالبهاء، وهو ما زال طفلاً فاختيرت له شهربانو، ابنة عمه، وتمت خطبتها له. وهي ابنة ميرزا محمد حسن، أخ غير شقيق أكبر لحضرة بهاءالله.([8]) وعندما نفي حضرة بهاءالله وأسرته إلى العراق، بقيت شهربانو في إقليم نور في مازندران حتى عام 1285ﻫ (1868م) حيث أوعز حضرة بهاءالله لعمه الملاّ زين العابدين([9]) بأن يوصل شهربانو إلى طهران ثم يرتب من هناك رحلتها إلى أدرنة.

ما كادت تصل أنباء ذلك لأسماع شاه سلطان خانم([10]) (أخت غير شقيقة لحضرة بهاءالله ومن أتباع أزل)، حتى قامت بكل عداء لتمنع حدوث الزواج. فأخذتها إلى بيتها في طهران وأرغمتها على الزواج بميرزا علي خان النوري، ابن رئيس الوزراء. أشار حضرة بهاءالله لذلك في “لوح ابن الذئب”.([11]) أدى هذا الزواج الذي فُرض عليها بوقاحة أن غمرتها حالة دائمة من الحزن والبؤس. طبقًا لمذكرات سطرها أخوها الأصغر، ميرزا نظام المُلك، وهو من المؤمنين المخلصين لحضرة بهاءالله، فإن شهربانو كانت قد تضرعت إلى الله بحرارة بعد زواجها لإنقاذها من كارثتها المأساوية. يبدو أن تضرعها قد استجيب، إذ راحت بعد ذلك بقليل ضحية مرض السل الرئوي وماتت.

أمّا منيرة خانم فقضت طفولتها وشبابها في إصفهان برعاية والديها وابنيّ عمها اللامعين وحمايتهم. بعد وفاة والدها بفترة من الزمن قررت الأسرة، ومن ضمنها “سلطان الشهداء” و”محبوب الشهداء”، بأنه قد حان الوقت لها للزواج. فجرت الترتيبات على أن يُعقد زواجها بميرزا كاظم، الأخ الأصغر ﻟ”سلطان الشهداء”.

لكن عند حلول يوم الزفاف الذي أقيمت فيه وليمة فاخرة وشاع فيه جو بهيج حتى نهايته وعقد قرانهما، وقع ما لم يخطر ببال أحد بحيث انقلبت الأفراح بالأتراح. ذلك أن العريس، رغم تمتّعه حتى تلك اللحظة بصحة ممتازة، وعند دخوله باب منزله شعر بوعكة فجأة رجّت كيانه وكأنه صُعق بقوة لا سبيل لتفسيرها، بحيث استوجبت معاونته لإنهاضه على قدميه لكنه أصبح بحالة خطيرة من المرض ومات بعدها بمدة وجيزة.

وقد أثرّ ذلك الحدث على منيرة خانم فجعلها تعتزل التفكير في أمور هذه الدنيا وتنصرف إلى مزيد من التأمل والتعبد. إن قصة ظروف زواجها بحضرة عبدالبهاء تثير الاهتمام حقًا. فيما يلي وصف، معظمه بكلماتها، يعبّر عن الإثارة والسرور اللذين تكتنف حياة بهذا المستوى الرفيع:

’تنفيذًا لأمر جمال القدم [حضرة بهاءالله] وصل السيد مهدي الدهجي إلى إيران، ومرّ فيما بعد بإصفهان لتبليغ أمر الله. فأقيمت وليمة عظيمة له، احتشد المؤمنون فيها ليستعلموا بشغف عن أنباء الأرض المقدسة، وكل التفاصيل الخاصة بالعائلة المباركة وأخبار المؤمنين السجناء في ثكنات عكاء. من بين المستفسرين كانت شمس الضحى، زوجة عمي، ومن أهل بيت “سلطان الشهداء“. سألت السيد مهدي: [عندما كنتَ في محضر حضرة بهاءالله، هل سمعتَ ذكر اسم بنت تمّ اختيارها أو جرى الحديث عنها لتكون زوجة للمولى حضرة عبدالبهاء؟] أجاب: [لا، لكني أذكر أن الجمال المبارك كان في أحد الأيام يتمشّى في صالة الرجال ثم استدار نحوي وتفضل قائلاً: ’’آقا سيد مهدي! لقد حلمت عجبًا الليلة الماضية. رأيت وجه البنت القاطنة في طهران، والتي سبق أن طلبنا يدها من أخي ميرزا حسن للتزوج من الغصن الأعظم، وقد غشته الظلمة وصار مغمورًا. في نفس اللحظة ظهر وجه بنت أخرى وجهها منير وقلبها منير. لقد اخترناها لتصبح زوجة الغصن الأعظم.‘‘ وفيما عدا تلك الكلمات والخطاب المبارك، لم أسمع شيئًا آخر.]‘

’لمّا عادت عمتي إلى المنزل ورأتني، هتفت مقسمة بالله الواحد الأحد بأن في اللحظة التي كان آقا سيد مهدي يروي تلك الحكاية، خطر في ذهنها اعتقاد جازم لا شك فيه بأنني كنت البنت المعنية، وبأنه سيتأكد صدق حدسها أو إحساسها ذاك قريبًا. اهتزت مشاعري وقلت لها باكية: [أستغفر الله، فإني لست لائقة لمثل هذه العطية. فأرجوك ألاّ تدعي حرفًا واحدًا حول الموضوع يجري على لسانك أو تذكريه.]‘

تمضي منيرة خانم فتقص كيف سافرت للأرض المقدسة بفضل الإرشادات المتواصلة التي وجّهها حضرة بهاءالله إلى أقربائها (الذين رافقوها في السفر). في أثناء الرحلة التقوا بكثير من المؤمنين الذين حاولوا منعهم عن متابعة السفر إلى وجهتهم، قائلين بأن زيارة الأحباء قد مُنعت في تلك الأيام إلى عكاء بسبب وقوع حوادث مؤسفة أدت إلى سجن بعض الأحباء، ومنع السلطات أي بهائي من دخول مدينة عكاء. ’أدخلت هذه الأخبار كثيرًا من الاضطراب والبلبلة في نفوسنا إذ تحيرنا فيما كان ينبغي لنا عمله، لكن الشيخ سلمان طمأننا بأن تلك الأمور لا تنطبق علينا، وبهذا جعلنا نشعر بثقة بأننا سندخل أرض المقصود بكمال الراحة والاطمئنان، حتى وإن زُج بكل المؤمنين في السجن أو وُضعوا تحت السلاسل.‘ أخيرًا وبعد كثير من المشاق والصعاب وصلوا عكاء.

’… جاء بعض أفراد العائلة المباركة لاستقبالنا والترحيب بنا. عدت معهم، ووجدت نفسي لأول مرة في محضر الجمال المبارك. لا يمكن وصف مدى سروري واغتباطي العميق الذي تملّك كل حواسي. كانت أولى كلمات حضرة بهاءالله هي: [لقد أتينا بكم إلى السجن في وقت كان فيه باب اللقاء مسدودًا في وجه كل الأحباء حتى يكون اقتدار الحق واضحًا مشهودًا لكل إنسان.] بقيتُ في بيت آقا كليم حوالي خمسة أشهر. تشرفتُ بمحضر حضرة بهاءالله عدة مرات خلالها وكنت أعود بعدها إلى مسكني. وكلما عاد آقا كليم من محضر الجمال المبارك كان يروي لي عن مواهب حضرته اللامتناهية ويأتي لي بهدية من حضرته. جاء ذات يوم وفي وجهه انشراح بالغ. قال: [جئتكِ بهدية رائعة جدًا وقد مُنحتِ اسمًا جديدًا هو منيرة].‘

’أخيرًا… أزفت ليلة الوصال. ارتديتُ ثوبًا أبيض حاكته أنامل الورقة المباركة العليا، والذي كان أثمن من ألف استبرق وسندس من الجنة. وفي حوالي الساعة التاسعة… أُذن لي بالمثول في محضر حضرة بهاءالله. وبرفقة حضرة الخانم [الورقة المباركة العليا]، أصغيت لكلمات الجمال المبارك… تفضل قائلاً: “مرحبًا مرحبًا يا ورقتي ويا أمتي إنّا اخترناكِ وقبلناكِ لخدمة غصني الأعظم وهذا من فضلي الذي لا يعادله كنوز السموات والأرضين… في أمان الله!”‘(5)

عن حياتها مع حضرة عبدالبهاء، كتبت منيرة خانم هذه الكلمات:

’لو أردتُ شرح تفاصيل مدة خمسين عامًا من تشرّفي ولقائي بمحبوب الآفاق، وأذكر آيات محبته وحنانه وجوده، لاحتجت لخمسين سنة أخرى من الوقت والفرصة لأجل تدوين كل ذلك، ولتطلّب أن تتحول أبحر العالم إلى مداد وأشجار الإمكان إلى أقلام، ومع ذلك فلن أستطيع إيفاء الموضوع حقه.‘(6)

([1])       فيما يخص مذهب الشيخية وزعيمها السيد كاظم، انظر “مطالع الأنوار”.

([2])  بعد إعلان دعوته بقليل أوصى حضرة الباب تلاميذه بنشر النبأ دون كشف هويته حتى يحين وقت إعلان ذلك فيما بعد.

([3])       انظر “مطالع الأنوار”.

([4])       منح حضرة بهاءالله هذا اللقب لميرزا حسن. (أ. ط.)

([5])  منح حضرة بهاءالله هذا اللقب لميرزا حسين. في مجلدات قادمة تفاصيل أوفى عن حياتهما. (أ. ط.)

([6])       إشارة إلى زواج منيرة خانم بحضرة عبدالبهاء.

([7])       راجع “مطالع الأنوار” للمزيد من التفاصيل.

([8])       انظر المجلد الأول، الصفحة 17

([9])  كان لحضرة بهاءالله أربعة أعمام بلّغ بعضهم أمر الله فاعترض اثنان منهم على دين الله وقاوماه بقوة. وكانا الشيخ عزيز الله وصافي قلي بيك. لكن اثنين آخرين، الملاّ زين العابدين والكربلائي زمان، أصبحا مؤمنين متحمسين. رافق الأول حضرة بهاءالله إلى قلعة الشيخ الطبرسي، وعندما قُبض على حضرة بهاءالله في آمل وجُلد -على قدميه- رمى عمه بنفسه على قدميه فانهالوا عليه بالضرب حتى أغمي عليه. لمزيد من تفاصيل حادثة آمل انظر “مطالع الأنوار”.

([10])      انظر المجلد الأول، الصفحة 52.

([11])      “لوح ابن الذئب”، طبعة مصر، الصفحة 126؛ طبعة ألمانيا، الصفحة 110.

ميرزا علي السيّاح

لقد أوقعت خيانةُ ميرزا يحيى لعهد حضرة الباب أمرَ الله في أزمة كبرى كان من شأنها وجسامتها أن شقّت وحدة جامعة المؤمنين وتضامنهم مما جلب عذابًا وآلامًا لا حد لها لحضرة بهاءالله وأحبائه. وبدون الإلمام بمعرفة تامة بكل ما قام به ميرزا يحيى وأعوانه من مكائد ومؤامرات وأعمال منكرة، فلا يمكن استيعاب مدى الأذى الذي ألحقوه بحضرة بهاءالله وأمره. لكن ليس في وسع هذا المجلد أن يضم وصفًا كاملاً لتأثيرهم الخبيث وأعمالهم الدنيئة. لعل يكفي القول هنا بأن عصيان ميرزا يحيى قد سبّب لحضرة بهاءالله من الألم والكرب ما لا يقارن به من الاضطهاد الذي عاناه على يد أعدائه من خارج جماعة البهائيين.

بقي حضرة بهاءالله في بيت رضا بيك حوالي عام واحد ثم انتقل إلى بيت “أمر الله” حيث أقام فيه قرابة ثلاثة أشهر. في كل لوح تقريبًا نزل في أدرنة في هذه الفترة، يشير حضرته إلى خيانة ميرزا يحيى وغدره وما ألحقه من ضرر بأمر الله.

أحد ألواحه المنزلة في هذه الفترة هو “لوح السَيّاح” الذي نزل بحق الملاّ آدي گُزال، المعروف باسم ميرزا علي السيّاح، وهو لقب منحه إياه حضرة الباب. كان من مواطني مراغة، وحصل على تعليم فيها كفقيه (ملاّ). كان قد فاز بلقاء حضرة الباب في أوائل أيام ظهوره، فاعترف بمقامه وعُدّ من أتباعه. ما كاد يُقبل على دعوة حضرة الباب، حتى صار في خدمة مولاه بجدّ وتفان عظيمين. عندما حُبس حضرة الباب في قلعتيّ ماه كو وچهريق، كرس السيّاح جهوده في الخدمة كمراسل أمين لحضرته. حظي في تلك الفترة بالتشرف بمحضره عدة مرات في هاتين القلعتين وكان من قادة صحابته، فكان ينطلق من هناك حاملاً رسائل حضرة الباب إلى شتى أطراف إيران، ويعود برسائل أتباعه إلى حضرته. في إحدى المناسبات حمل معه ألواحًا بخط يد حضرة الباب وعلبة أقلام جميلة كهدية من حضرة الباب إلى القدوس.

من جملة خدماته الخالدة لحضرة الباب أثناء الفترة التي عصف بها الحزن إثر وصول نبأ استشهاد عدة أبطال في مازندران، كانت الزيارة التي قام بها، نيابة عن حضرته للبقعة التي سقط فيها شهداء الطبرسي.([1]) في هذا الخصوص يروي النبيل ما يلي:

وما كاد([2]) يتمم نشر فضائل وتأبين الشهداء الذين خلدوا اسمهم في الدفاع عن القلعة حتى نادى في يوم عاشوراء([3]) الملاّ آدي گزال أحد أحباء مراغة الذي كان يشتغل في خدمته مدة شهرين بدلاً من السيد حسن أخ السيد حسين عزيز. وقابله بكل لطف ولقّبه بالسيّاح وسلّم إليه ألواح الزيارة التي دونها في ذكرى شهداء الطبرسي وأمره أن يزور تلك البقعة وحرضه قائلاً (قم وسِر بانقطاع تام وفي لباس السائح إلى مازندران وهناك زُر بالنيابة عني المكان الذي يحوي أجساد هؤلاء الأحباء الذين طبعوا بخاتم دمائهم لوح منيتهم لأجل أمري وما أن تقترب من نواحي تلك الأرض المقدسة اخلع نعليك واركع احترامًا لذكراهم ونادهم بأسمائهم ودُر حول مقامهم بخضوع. ثم أرجع لي قبضة من تلك الأرض المقدسة التي تغطي بقايا أجساد أحبائي القدوس والملاّ حسين لتكون تذكارًا لزيارتك. واجتهد أن ترجع في يوم عيد النوروز حتى نحتفل سويًا بهذا العيد وهو العيد الوحيد الذي ربما لا أحضر خلافه في هذا العالم).

وقام السيّاح للزيارة في مازندران ونفذ تعليماته بالدقة. ووصل إلى المقر المعهود في أول يوم من ربيع الأول سنة 1266ﻫ (15 كانون الثاني سنة 1850م) وفي اليوم التاسع من ذلك الشهر (23 كانون الثاني سنة 1850م)، وهو الذكرى الأولى لاستشهاد الملاّ حسين قام بالزيارة وأتم المأمورية التي عهد له بها ثم سافر توًا إلى طهران.

وسمعت من آقا كليم الذي قابل السيّاح في منزل حضرة بهاءالله في طهران يحكي الرواية الآتية: ’كان الشتاء أتى بقضّه وقضيضه حين عاد السيّاح من حجّه ليقابل حضرة بهاءالله. ورغمًا عن نزول الثلج واشتداد البرد في شتاء قارس، كان يرتدي عباءة كالدراويش وثيابه رثة وحافي القدمين أشعث الشعر وقد اشتعل قلبه من حرارة الزيارة. وما كاد السيد يحيى الدارابي الملقب بالوحيد الذي كان ضيفًا عند حضرة بهاءالله يعلم بمجيء السيّاح من قلعة الطبرسي، حتى تناسى العظمة والمركز الذي يشغله رجل مثله وأسرع إليه وارتمى تحت أقدامه وأمسك بقدميه اللتين كانتا ملوثتين بالطين للركبة، وحضنهما بين ذراعيه وأخذ يقبّلهما بكل شوق. وكنت أندهش في ذلك اليوم من العناية التي كان حضرة بهاءالله يظهرها لوحيد. وكانت طريقة محادثتي معه لم تدع شكًا في أنه في يوم من الأيام سيمتاز وحيد بأعمال لا تقل عظمة وإجلالاً عن أعمال الشهداء الخالدة في قلعة الطبرسي.‘

وكان السيّاح قد أمضى بضعة أيام في ذلك المنزل. ولم يكن يشاهد تلك القوة التي كانت مخبوءة في مضيفه كما شاهدها وحيد. ومع أنه كان موضع عناية حضرة بهاءالله عناية فائقة، ولكن لم يفقه معنى لهذه البركات التي كانت تنزل عليه، وكنت سمعت منه عن أعماله وسياحته في فماغوستا. ومما قاله ’إن حضرة بهاءالله أغدقني بكرمه أمّا وحيد فمع علو مقامه كان يفضلني على نفسه أمام مضيفه. وفي يوم حضوري جاء وقبّل قدميّ ودهشت من تلك المقابلة التي أسداها إليّ. ولو أني كنت غريقًا في بحر الكرم واللطف إلاّ أني في تلك الأيام ما كنت أقدّر ذلك المقام الذي كان حضرة بهاءالله يتمتع به ولم أتمكن من الإطلاع ولو جزئيًا على طبيعة الرسالة التي كان سيضطلع بها.‘(7)

بعد استشهاد حضرة الباب، أمضى السيّاح برهة قصيرة في آذربيجان. توجّه بعدها إلى كربلاء حيث أقام فيها فترة طويلة نسبيًا. في أثناء استجوابه في الآستانة عام 1868م،([4]) صرّح بأنه كان مقيمًا بكربلاء لمدة اثني عشر عامًا. تزوج ابنة الشيخ حسن الزنوزي، أحد تلاميذ حضرة الباب البارزين والذي كان حضرة الباب قد بشره وأكد له لقاءه قريبًا ﺒ”رجعة الحسين”([5]) بكربلاء. وكان السيّاح أيضًا قد وعد من قبل حضرة الباب بالفوز بمحضر “من يظهره الله”.

سافر السيّاح إلى أدرنة في أوائل عام 1284ﻫ (1867م) وهناك تشرف بمحضر حضرة بهاءالله وأخبر المؤمنين في أحد مجالسهم كيف تحقق له ما وعده حضرة الباب من لقائه ﺒ”من يظهره الله”. ثم كتب ذلك وأرسله إلى ميرزا يحيى. كان من أخلص أتباع حضرة بهاءالله. بعد مرور ثلاثة أشهر([6]) على إقامته بأدرنة، أرسله حضرته مع مشكين قلم([7]) وجمشيد الگرجي إلى الآستانة في مهمة خاصة. ستأتي الإشارة فيما بعد إلى طبيعة تلك المهمة وسجنهم في تلك المدينة.

يكشف حضرة بهاءالله في “لوح السيّاح” عن مجد مقامه، مقرًّا بأنه جمال القدم الذي بأمره بُدئت الموجودات، ومؤكدًا بأنه هو الذي يتوجّه إليه العباد ويتشبثون بأذيال فضله ولو أنهم غفلوا عن عرفانه والاعتراف بظهوره البديع. يشير إلى ملأ “البيان” الذين أنكروه واعترضوا على أمره، ويسميهم “أهل الفساد” و”أصحاب الشياطين”، مذكرًا إياهم بأنه قد عاشرهم لعدة سنين لكنه ستر بهاءه عن أنظارهم لئلا يعرفه أحد، إلاّ أنهم قاموا ضده بعداء عظيم. عندئذ كشف جمال طلعته وأشرق جمال وجهه على الكائنات. يعلن أن يوم الافتتان قد حان ووُضِع الميزان الذي فيه توزن أعمال الناس بالعدل. يعلن فيه لأهل العالم بأنهم لو أرادوا أن يسمعوا صوت الله فليستمعوا إلى طلاوة نغماته، وإن أرادوا مشاهدة وجه الله فلينظروا إلى جمال طلعته. لكنه يحذّرهم من أنهم لن يبلغوا ذلك ما لم يطهروا قلوبهم من كل الظنون والأوهام منقطعين عن العالم وما فيه.([8])

في هذا اللوح يتنبأ حضرة بهاءالله، تلميحًا بالاستعارة، عن إبعاده إلى منفاه الأخير في عكاء مشيرًا إليها ﺒ”وادي النبيل”.([9]) يستعمل لغة الرمز في وصف وصوله لتلك المدينة بهذه الكلمات:

“وجدنا قومًا استقبلونا بوجوه عز دريًّا… وكان بأيديهم أعلام النصر… إذًا نادى المناد فسوف يبعث الله من يُدخل الناس في ظلل هذه الأعلام.”(8)

في هذا اللوح فقرات تلقي الضوء على شدة الامتحانات التي تواجه المؤمن وهو يطرق سبيل الإيمان. في إشارة لملأ “البيان”، يذكر حضرة بهاءالله بعض الذين كانوا من أشد الناس تقوى ووُهبوا بصيرة غاية في الحدة، مع ذلك عندما مرت عليهم نسائم ظهوره، بدوا كأنهم محجوبين عنه بحجاب. رغم أنه عاشرهم لمدة طويلة وكشف عن بهائه لأعينهم وينسب قصورهم هذا للغرور والتعلق بالنفس الأنانية ويعرب عن حزنه لأن تقواهم وأعمالهم أصبحت سببًا للكِبَر والغرور ومنعتهم عن فضل الله.

يتكرر موضوع الانقطاع في ألواح عديدة. بل يمكن القول ربما هناك بين وصايا حضرة بهاءالله القليل، إن وجدت، مما أكد عليها بهذا النحو مثل الانقطاع عن هذه الدنيا وكل رغبة نفسانية. لقد أشرنا مسبقًا لهذا الموضوع الهام في فصول سابقة. يبدو بكل جلاء من مطالعة “لوح السيّاح” بأن ما كان لأصحاب حضرة بهاءالله، نظرًا لقربهم من شخصه، أن يظلوا مخلصين لأمر الله لو لم يستطيعوا أن يتخلصوا تمامًا من شرور النفس. فأي أثر للتعظيم الذاتي، مهما صغر، كان قاتلاً بالنسبة لهم. وفي محضره المبارك لا يمكن لغير محوية الذات التامة أن تبقى.

كان بين تلاميذ حضرته من استطاع أن يخضع أنانيته. استطاع أولئك بأقوالهم وأفعالهم أن يبرهنوا على محوية ذاتهم عندما يكونون وجهًا لوجه أمام مولاهم. أولئك أصبحوا العمالقة الروحانيين لهذه الدورة، وبإيمانهم أفاضوا على أمر الله بريقًا لا يدركه الزوال. بشأن رجال كهؤلاء، في فترة بغداد، يكتب النبيل ما يلي:

كم من ليلة لم يزد فيها طعام العشرة منهم عن حفنة من التمر تُشترى بفلس. ولم يكن أحدهم يدري على وجه التحقيق شيئًا عمّا يجده في بيته من الأحذية والعباءات والملابس أهي ملكه هو أم ملك غيره. ولكن كل من ذهب إلى السوق ادعى أن الحذاء الذي ينتعله حذاؤه، وكل من يحظى بمحضر حضرة بهاءالله يؤكد أن الثوب الذي يلبسه هو ثوبه! أمّا أسماؤهم فقد نسوها، أمّا قلوبهم فقد فرغت من كل شيء إلاّ ذكر محبوبهم وتقديسه! فآه آه لهاتيك الأيام الغوالي ولحلاوة تلك السويعات العجيبة.(9)

أمّا أن قليلاً من النفوس تمكنوا من بلوغ امتياز كهذا، والعروج إلى عوالم الانقطاع، والتواضع أمام مولاهم، ليعتبر بشرى طيبة للبشرية التي قُدر لها، في الوقت المناسب، أن تحذو حذوهم. في هذا اليوم لا يمكن لأتباع حضرة بهاءالله الفوز بلقائه في هذا العالم. وعليه فإن الامتحانات التي اتصلت بصفة خاصة بشخصه لم تعد في الظاهر تؤثر فيهم. إلاّ أن متطلبات الإيمان والسبيل نحو حضرة بهاءالله باق دون تغيير. فيتعين على المؤمن اليوم، كما كان في أيام حضرة بهاءالله، أن ينقطع عن كل الشؤون الأرضية ويطهر قلبه من إشارات النفس والهوى وحب الذات، من أجل أن يتمكن من التقييم الحقيقي لمقام حضرة بهاءالله المذهل، فيصبح خادمًا لائقًا لأمره. لو قصّر وفشل في عمل ذلك فإنه، ولو لم يواجه نفس المخاطر (الامتحانات) التي أحاطت أصحاب حضرة بهاءالله (في أيامه)، لا محالة فإنه سيشعر بشيء من الشك في أعماق قلبه تجاه أمر الله وقد يعاني فكريًا من تناقضات شديدة. فمع أنه قد يعترف بحضرة بهاءالله كمظهر إلهي وقد يكون مطلعًا إطلاعًا جيدًا على آثاره الكتابية، لكنه لن يكون بمقدوره التمتع بذاك اليقين الذي يُكسب الإنسان صفات إلهية ويمنحه قناعة وسكونًا وسعادة دائمة.

إن اكتساب إيمان حقيقي لهو أعظم منجزات الإنسان. فالإيمان يمنح الإنسان قوى لا تدانيها أية وسيلة أو مصدر دنيوي. وبقوة إيمانهم استطاع المؤمنون التغلب على عوائق كانت تبدو كأداء وحققوا انتصارات خالدة لأمر حضرة بهاءالله. لأجل أن يحصل المرء على الإيمان يتوجب عليه إزالة كل أثر للوهم والهوى. لنتفحص السبيل لبلوغ هذه الغاية العليا ونتحرى المآزق والعوائق الكثيرة التي تعترض الروح في رحلة البحث.

هناك مركزان لقوى هائلة داخل الإنسان. أحدهما الدماغ، مركز الذكاء والتفكير ومخزن معلوماته ودراساته. بواسطة هذه المقدرة يمكن أن يُظهر الإنسان القوى الفريدة العاقلة التي تميزه عن الحيوان. إن العقل أعظم هبة من الله للإنسان. لكن الإنسان، بناء على كونه صاحب إرادة ذاتية حرة، قد يدفعه عقله إلى الإيمان والاعتقاد بالله، أو إلى الإلحاد.

المركز الآخر هو القلب (الفؤاد) وهو مصدر الدفء والحب. إن قلب الإنسان يهوى الدنيا ويحب ذاته. لكنه في ذات الوقت هو المنزل الذي يحتضن صفات الله ويعكسها. ويتفضل حضرة بهاءالله قائلاً:

“يا ابن الوجود

فؤادك منزلي، قدّسه لنزولي…“(10)

إن شرارة الإيمان تظهر أول ما تظهر في فؤاد الإنسان. لكن هذا لا يمكن أن يحدث إلاّ عندما يتحرر القلب من التعلّق بشؤون الدنيا. يعلن حضرة بهاءالله في “الكلمات المكنونة”:

“يا ابن التراب

قدّرت لك جميع ما في السموات والأرض! إلاّ القلوب فقد جعلتها منزلاً لتجلّي جمالي وإجلالي، وأنت قد تركتَ منزلي لغيري. فما أراد ظهور قدسي في كل زمان أن يقصد مكانه إلاّ وجد فيه غيره ورأى فيه غريبًا، فأسرع إلى حرم المحبوب في اللامكان، ومع ذلك سترتُ أمرك ولم أفضح سرك ولم أرضَ أن أخجلك.”(11)

لقد خلق اللهُ الإنسانَ بكيفية بحيث يكمل كل من هذين المركزين أحدهما الآخر. فالعقل بدون قلب مستنير بالإيمان لا يمكنه اكتساب المقدرة على التحري، أو اللغة ليفهم ويعقل بها حقيقة أمر الله. مثل ذلك مثل العين الباطنية المحرومة من النور فهي عاجزة عن استكشاف عالم الروح. بدلاً من ذلك فهي تنمي قدراتها في المجالات المادية وترفض بطبيعة الحال فكرة أو مفهوم الله والدين. وهكذا تصبح مانعًا بالغ الفاعلية لحصول المرء على نعمة الإيمان. في ظروف كهذه يمتلئ القلب بحب الدنيا وحب ذاته، لأن من مميزات القلب أن يحب. فإذا لم يسمح له بأن يحب، فإنه ينقلب ليحب ذاته وممتلكاته الدنيوية. وهذا هو أحد معاني “الغريب” الذي يشير إليه حضرة بهاءالله في “الكلمات المكنونة”:

“يا حبيبي بالقول

تأمّل قليلاً: أسمعتَ قط أن الحبيب والغريب يجتمعان في قلب واحد؟ فاطرد الغريب حتى يدخل الحبيب منزله.”(12)

للحصول على الإيمان يجب على المرء أولاً إجلاء “الغريب” من قلبه. وعلى قدر نجاحه في ذلك يكون اكتسابه للإيمان. فعند حدوث شرارة الإيمان داخل القلب يجب رعايتها وتنميتها لتصبح لهبًا. وإلاّ قد تنطفئ بسبب التعلق بالدنيا. مثلاً حينما يصل شخص إلى مستوى من الوعي بحيث يعترف بحضرة بهاءالله على أنه مظهر إلهي، فإن قلبه يصبح لاقطًا لأنوار دين الله لهذا العصر. وإذا انغمس منذ البداية ببحر ظهور حضرة بهاءالله، بقراءة كتاباته يوميًا ليس فقط من أجل توسيع المعلومات بل لتغذية الروح، وبمعاشرة الأخيار، والقيام على خدمة حضرته بإخلاص وانقطاع، فإنه قد يزداد إيمانًا باطراد ويصبح نفسًا نورانيًا متحمسًا. وقد يحصل على تفهّم أعمق للآثار المباركة ويصل إلى مستوى من الوعي بحيث أن عقله وقلبه يعملان معًا بانسجام. إن مؤمنًا كهذا سيجد أخيرًا أن ليس ثمة تناقض بين تعاليم حضرة بهاءالله وبين تفكيره. إضافة لذلك سوف يكتشف في كلمات حضرة بهاءالله أزيد من حكمة بينما يقرّ في الوقت نفسه بمدى محدودية عقله وقصوره.

لكن إذا فشل المؤمن، بعد اعترافه بحضرة بهاءالله، في مواصلة السير في هذا السبيل، فقد يجد نفسه بعد قليل في تناقض مع عدة نواح من دين حضرة بهاءالله. فقد لا يستطيع فكره تفهّم الحكمة وراء كثير من تعاليمه، بل قد يرفض بعضها ثم أخيرًا يفقد إيمانه نهائيًا. يجاهد بعض الناس سنوات في سبيل التغلب على هذه المشكلة توقًا لترسيخ إيمانهم. غالبًا ما يمكن لمثل هذا الشخص أن يتلقى العون لبلوغ تفهّم حقيقي لأمر الله من قبل أولئك الذين وصلوا لمستوى الإيمان الحقيقي بحضرة بهاءالله وانقطعوا عن هذا العالم.

إذا ما فشلت كل الوسائل، فالعلاج الوحيد للشخص الذي لا يزال فيه بصيص من شعلة الإيمان، ولكن لديه شكوك في أمر الله، هو أن يقرّ بأن علم حضرة بهاءالله منبعث من الله، وأن يسلّم مشاعره وأفكاره له تسليمًا تامًا. حالما يسلّم نفسه بهذه الكيفية ويستقيم عليها بإخلاص وأمانة، تتفتح أمامه أبواب الفضل الإلهي ويصبح قلبه محلاً لاستلام نور العرفان الحقيقي. وسوف يكتشف في وقت ما في حياته، فطريًا أو بالصلاة والتأمل، الجواب عن كل إشكالاته واعتراضاته. بل إن كل أثر من التناقضات سيزول من فكره. علاوة على ذلك سوف يتفهّم آنيًا ما استعصى عليه وحيره من تلك المبادئ والتعاليم وسيجد كثيرًا من الأسرار مكنونة في كلمات حضرة بهاءالله، أسرارًا لم يعها إطلاقًا من قبل.

إن كلمات حضرة بهاءالله التالية، في إحدى “الكلمات المكنونة”، تبيّن كيف أن الإنسان لا يمكنه بلوغ عرفان ظهوره إلاّ إذا فوض أمره لله:

“يا ابن التراب

كن أعمى ترَ جمالي، وكن أصمَّ تسمع لحني وصوتي المليح، وكن جاهلاً يكن لك من علمي نصيب، وكن فقيرًا تغترف من بحر غَنائي الخالد قدرًا لا زوال له، أي كن أعمى عن مشاهدة غير جمالي وكن أصمَّ عن استماع كلام غيري، وكن جاهلاً بسوى علمي حتى تدخل ساحة قدسي بعينٍ طاهرةٍ وقلبٍ طيبٍ وأذنٍ نظيفةٍ.”(13)

في الرواية التالية عن حياة ميرزا أبو الفضل، العلاّمة البارز والمُدافع الشهير عن أمر الله، شهادة على أن قراءة الكلمة الإلهية بعين العقل فقط يمكن أن تضل (وتبعد عن الإيمان). فيروي كيف أنه عقب اتصاله بالمؤمنين (البهائيين) أعطوه “كتاب الإيقان” ليقرأه. لكنه قرأه من موقف استعلاء فكري ولم يتأثر به. حتى أنه علّق (في حينه) بأنه لو كان “كتاب الإيقان” برهان ادعاءات حضرة بهاءالله، فإنه نفسه كان باستطاعته تأليف كتاب أفضل منه.

كان آنذاك مديرًا لمدرسة دينية في طهران. في اليوم التالي جاءت امرأة ذو مكانة بارزة إلى المدرسة وطلبت من بعض طلابها تحرير رسالة هامة لها.([10]) لكن الطلاب أحالوها إلى ميرزا أبو الفضل مشيرين لها بأنه كاتب بارز، وسيد البلاغة ورجل لا يبارى في فن التأليف الأدبي. أمسك ميرزا أبو الفضل بالقلم ليكتب، لكنه وجد نفسه غير قادر على تسطير الجملة الافتتاحية. ورغم جهد متواصل لم يتحرك قلمه. ظل يحاول دون جدوى بينما راح قلمه يعبث برسم خطوط في زاوية الورقة وحتى فوق ظفر إصبعه، إلى أن أدركت المرأة بأن الكاتب القدير لم يقدر أن يكتب. نهضت لتغادر المكان وقد فقدت صبرها فقالت لأبو الفضل مستهزئة: ’إذا كنت نسيت كيف تكتب رسالة بسيطة، لِمَ لَم تقل ذلك بدلاً من إبقائي هنا منتظرة بينما أنت تخطّ خطوطًا لا معنى لها؟‘

يقول ميرزا أبو الفضل أنه أحس بخزي وعار إثر تلك الحادثة، ثم تذكر فجأة كلماته التي علق فيها الليلة السابقة بخصوص مقدرته على تأليف كتاب أفضل من “كتاب الإيقان”. لذلك فإن قلبه الطاهر جعله يعترف بأن تلك الحادثة لم تأت إلاّ ردًا واضحًا على موقفه المتغطرس حيال ذلك الكتاب المقدس.

على أية حال استغرق اقتناع ميرزا أبو الفضل بأحقية أمر حضرة بهاءالله عدة سنين. وصل خلالها إلى مرحلة بحيث آمن بأمر الله إيمانًا عقليًا، دون قناعة قلبية. الشيء الوحيد الذي جعله يعترف بأحقية أمر الله بعد صراع طويل هو تسليمه نفسه وما وُهب من معارف وملكات عقلية إلى الله. ذات ليلة قصد حجرته وناجى الله مصليًا والدموع تنهمر من عينيه، سائلاً الله عسى أن يفتح أبواب قلبه. عند الفجر شعر بغتة بأن قلبه قد غمر بالإيمان بحيث لن يبالي لو فدى حياته في سبيل حضرة بهاءالله.([11]) نفس الشخص الذي قال مرة أنه يستطيع تأليف كتاب أفضل من “كتاب الإيقان”، طالع الكتاب عدة مرات من خلال عين الإيمان فوجده بحرًا من العرفان لا حدود له. وفي كل مرة يقرأه يجد فيه لئالئ حكمة جديدة مدخرة فيه، ويكتشف أسرارًا جديدة لم تخطر على باله من قبل.

إن الإيمان يتأتى للإنسان من خلال تسليمه لله. ذلك لأن تسليم النفس بكل مكتسباتها يحرر الروح من تعلقها بهذا العالم الفاني. وبذلك يُطرد “الغريب” خارج القلب ويمكّنه من إدخال “الحبيب” إلى حرمه. يصرح حضرة بهاءالله:

“يا ابن الإنسان

كن لي خاضعًا لأكون لك متواضعًا…”(14)

وفي فقرة أخرى يتفضل قائلاً:

“يا ابن البشر

إن تحب نفسي فاعرض عن نفسك وإن ترد رضائي فاغمض عن رضائك لتكون فيّ فانيًا وأكون فيك باقيًا.”(15)

([1])       انظر “مطالع الأنوار.

([2])       حضرة الباب.

([3])  يوم العاشر من محرم، ذكرى استشهاد الإمام الحسين، والذي صادف في تلك السنة يوم 26 كانون الأول عام 1849م.

([4])       انظر الصفحتين 321-322.

([5])  استنادًا لنبوءات شيعة الإسلام فإن بعد مجيء القائم يظهر الإمام الحسين. وحضرة بهاءالله اسمه حسين علي. في صيف 1851م التقى حضرة بهاءالله بالشيخ حسن في كربلاء وأسرّ له بمقامه. راجع المجلد الأول، الصفحتين 219-220. فمنذ ذاك الوقت عرف الشيخ حسن مقام حضرته وأقرّ بأنه “من يظهره الله”.

([6])       عند استجوابه في الآستانة، أقر “السيّاح” بأنه أقام في أدرنة مدة ثلاثة أشهر.

([7])       انظر المجلد الأول، الصفحتين 28-29.

([8])       انظر المجلد الأول، الصفحات 198-200.

([9])       القيمة العددية ﻠ”نبيل” تساوي القيمة العددية ﻠ”عكاء”.

([10]) كان مألوفًا في تلك الأيام أن يدفع الناس مبلغًا بسيطًا من المال لرجل متعلم ليحرّر لهم الرسائل. أمّا المتطلبات الأساسية لكتابة رسالة جيدة فكانت حسن الإنشاء وجمال الخط.

([11])      في المجلد التالي من الكتاب سيرة لحياة ميرزا أبو الفضل.

﴿ 10 ﴾ شهداء لامعون

آقا نجف علي الزنجاني

من المؤمنين المخلصين الذين وفدوا إلى أدرنة في أوائل سنيّ نفي حضرة بهاءالله إليها كان آقا نجف علي الزنجاني. كان من المعجبين بالملاّ محمد علي “الحُجّة”. وكان من أصحابه خلال موقعة زنجان.([1]) في أعقاب تلك المذبحة الفظيعة سنة 1851م، أُرسل أربعة وأربعون من الناجين، من ضمنهم آقا نجف علي، إلى طهران. هناك أُعدم الأسرى جميعهم عدا آقا نجف علي الذي تعطّف عليه أحد ضباط الجيش وأنقذ حياته. ذهب إلى بغداد فيما بعد وأذن له حضرة بهاءالله بالبقاء في العراق. كان من أصحاب حضرة بهاءالله المخلصين الذين عرفوا مقامه أيامَ بغداد.

يذكر حضرة عبدالبهاء(1) بأن آقا نجف علي كان يساعد ميرزا محمد قُلي (أصغر أخوة حضرة بهاءالله) طوال الطريق ما بين بغداد وصامصون في نصب خيمة حضرة بهاءالله، كلما توقفت القافلة للاستراحة في مختلف المدن والقرى. في إحدى المناسبات حدثت لهم مشكلة وذلك عندما أصر حاكم المدينة، الذي كان حاضرًا، على أن ينصب الخيمة بيده شخصيًا تعبيرًا عن مدى احترامه وتعظيمه لحضرة بهاءالله.

في عام 1283ﻫ (1866-1867م) كان آقا نجف علي في أدرنة. فأرسله حضرة بهاءالله إلى إيران حاملاً معه بعض الألواح. عند وصوله إلى طهران قُبض عليه وسُجن بتهمة الانتماء إلى أتباع حضرة بهاءالله. عذبوه لإجباره على كشف هوية الأشخاص الذين وُجّهت إليهم الألواح. لكن آقا نجف علي لم يكشف أي اسم. حينما جاء وقت إعدامه كان جسده مثخنًا بجراح قاتلة نتيجة تعذيبه السابق. أشار حضرة بهاءالله لاستشهاده بهذه الكلمات:

“أخذوا حضرة نجف علي الذي قصد مقام الشهادة بكمال الانجذاب والشوق ونطق بهذه الكلمات ’قد حفظنا البهاء ودم البهاء‘ وبهذه الكلمات أسلم الروح.”(2)

كتب حضرة شوقي أفندي هذه الأسطر الموجزة المؤثرة في وصف استشهاد آقا نجف علي:

ويمكن أن نخصّ بالذكر من بينهم نجف علي الزنجاني الشجاع، أحد من شهدوا معركة زنجان وخلّده “لوح ابن الذئب” لأنه وهب لجلاده كل ما كان يملك من الذهب، وسمعه الناس يصيح بصوتٍ عالٍ “يا ربي الأبهى” قبل أن يُضرب عنقه.(3)

([1])       راجع “مطالع الأنوار”.

السيد أشرف وأبو بصير

من النفوس اللامعة من زنجان والذي فاز بمحضر حضرة بهاءالله في أدرنة وتجرع كأس الشهادة فيما بعد في مدينة نشأته، كان الشاب السيد أشرف.([1]) كان والده، آقا مير جليل، رجلاً جريئًا ذا نفوذ معتبر في المدينة، ومن أصحاب “الحُجّة” في ملحمة زنجان وقد استشهد فيها. أمّا أمّه أنبر خانم، المعروفة في الآثار المباركة بأمّ أشرف، فهي إحدى بطلات أمر الله الخالدات.

وُلد السيد أشرف أثناء حصار زنجان في حصن علي مردان خان.([2]) رغم كل المصاعب والمصائب التي فرضتها تلك الملحمة، واستشهاد زوجها المحبوب فإن عزيمة أمّ أشرف وثباتها لم يَهِنا. بل على العكس، فإن ذلك كله زاد من صلابة إيمانها وقوّى قدرة تحمّلها البدني. ومع كل ذلك تمكنت، وسط الضيق والشدائد، من تنشئة ذاك الوليد وابنتين صغيرتين بمنتهى المحبة والرعاية.

عندما وصلت رسالة حضرة بهاءالله إلى زنجان، آمنت بها أمّ اشرف وأطفالها، معترفين بمقامه ومتوجّهين إليه بتفان تام. قصد أشرف، ولمّا يزال في شبابه، أدرنة توقًا للقاء مولاه وجهًا لوجه، حيث فاز بمراد فؤاده، وتنعم في دفء شمس عطايا حضرة بهاءالله، ممتلئًا بروح جديد ثم عاد لموطنه بحماس متجدد. بعد فترة دفعته نيران حب حضرة بهاءالله المتأججة في قلبه للرحيل ثانية لزيارة مقر المحبوب. هذه المرة كان بصحبة الحاج إيمان، أحد الذين نجوا من مذبحة زنجان، وأخذ معه إحدى أخواته إلى أدرنة. هناك أغدق عليهم حضرة بهاءالله من ألطافه وعطاياه، وبعد إقامة قصيرة أشار عليهم حضرته بالرجوع إلى زنجان.

وصفت إحدى حفيدات أمّ أشرف الظروف التي صُرفوا بها من محضر حضرة بهاءالله. فعندما غادر السيد أشرف وأخته زنجان راجت أقاويل كثيرة بخصوص غيابهما، لا سيما بين أخوالهما الذين لم يكونوا بهائيين. سعى هؤلاء كثيرًا لمنع أشرف وأخته من الاهتمام بأمر الله، ولذا ضغطوا على أمهما بشدة لهذا الغرض. طالما لاموها لدورها الفاعل في نشاطات زوجها مما أدى إلى استشهاده، ثم دورها بعده في تشجيع أولادها بالاهتمام بأمر الله. بعد مغادرة المجموعة زنجان بحوالي أربعة أشهر، أتى ثلاثة أخوال في إحدى المناسبات ليعاتبوا أمّ أشرف بسبب إرسالها أبنائها للتشرف بمحضر حضرة بهاءالله. كان عتابهم قاسيًا عدائيًا بحيث ألمحوا إلى أن ابنتها قد استهدفت غرضًا لا أخلاقيًا خلال سفرها. عندئذ لم تحتمل أمّ أشرف سماع إفكهم وإشاراتهم الشريرة فغادرت الحجرة باكية بمرارة، ثم رفعت يديها متضرعة لحضرة بهاءالله سائلة منه أن يعيد أولادها إليها.

بعد فترة من الزمن -عقب عودته- تأكد لأشرف، بمراجعة تواريخ ما حدث مع أمه، من أن حضرة بهاءالله قد أرسل لمقابلته مع أخته والحاج إيمان ونصحهم بالرجوع لموطنهم كان في الصباح التالي لذلك اليوم الذي استغاثت فيه إلى حضرته لكي يرجعهم إليها. في ذلك اليوم تشرفوا بمحضره المبارك وأخبرهم أن أمّ أشرف قد ناجته داعية بإعادتهم. وعليه استوجب رجوعهم فورًا. في صباح ذلك اليوم أفاض على أمّ أشرف بصفة خاصة بمديحه وعناياته. يروى عن أشرف أنه قال لحضرة بهاءالله: ’كان آدم قد أكل الفاكهة المحرمة وطرد من الجنة، وفي حالتنا هذه فإن أمّنا قد فعلت بنا ذلك.‘

في طريق العودة بدا واضحًا لكثير من الناس بأن أشرف قد تبدل خلقًا جديدًا. كما شهد الحاج إيمان، فإن كافة رفاق السفر في القافلة قد لمسوا وتأثروا بما رأوا في أشرف من نورانية وجذب روحاني. كان يرتل طوال السفر بصوت جميل بعض أشعار حضرة بهاءالله وألواحه مما حفظه غيبًا. وكان كلما أراد التلاوة يعمد إلى حل عمامته الخضراء، علامة نسبه الشريف، ويسدلها على كتفيه. في تلك الأوقات كان يبدو مشعًا بمحبة وقوة وجاذبية، إضافة لصوته المليح، بحيث لم يسع أدلاء القافلة إلاّ التريث بالسير والمشي بقربه. حدث مرة أن طلب الحاج إيمان من أحدهم الانصراف لعمل واجبه كي لا يبطئ سير القافلة. فأجابه الدليل: ’كيف أستطيع الذهاب، ألا تسمع الصوت الساحر لسليل الرسول؟ إنه بلا شك من أولياء الله. إني لم أشاهد وجهًا نيرًا كهذا من قبل.‘

تلبية لنصح حضرة بهاءالله، تمّ زواج أخت أشرف بالحاج إيمان بعد عودتهم. وطوال حياته المديدة، صار الحاج إيمان هدفًا لصنوف عدة من الاضطهادات وأمضى بضعة سنوات في السجن بطهران. في وقت ما شارك كلاً من ميرزا محمد ورقاء([3]) وابنه روح الله، اللذين استشهدا فيما بعد، قيود سجن طهران وسلاسله. لكن شاءت العناية الإلهية أن يبقى الحاج إيمان على قيد الحياة. عاش بعد ذلك سنين طويلة، وخدم أمر الله بتفان عظيم. سافر إلى عكاء عام 1330ﻫ (1913م) حيث فاز بمحضر حضرة عبدالبهاء. وقضى بقية عمره في عشق آباد حيث توفي هناك.

أمّا السيد أشرف، فقد كلّفه حضرة بهاءالله بتبليغ أمره للمخلصين من ملأ “البيان”. شرع بهذه المهمة باندفاع وحماس لا يعرفان الحدود. فشيد غرفة في أرض يمتلكها خارج المدينة جاعلاً منها مركزًا للنشاطات البهائية كقراءة الآثار المباركة والاجتماع بالأحباء. كان نتيجة ملاقاته مع مصدر الوحي والقوة السماوية، أن تحوّل إلى كتلة روحانية مشتعلة مشعة بمحبة حضرة بهاءالله تنعكس على أحبائه، أدى بدوره إلى اعتراف العديد منهم بأن حضرة بهاءالله هو موعود “البيان”.

جاءت جماعة من البابيين للتحدث مع أشرف عقب رجوعه من أدرنة بقليل. كانوا ممن أضلهم ميرزا يحيى. سأل أحدهم أشرف عن مقام ميرزا يحيى. أجابه ببساطة أن حضرة بهاءالله هو شمس الحقيقة المشرقة الساطعة ببهائه، بينما ميرزا يحيى كغمامة غليظة قاتمة أمامها. بهذه الكلمات البسيطة فصل بين المعرضين المنكرين وبين أتباع حضرة بهاءالله المخلصين في زنجان.

تلقى السيد أشرف في خدماته التبليغية دعمًا كبيرًا من أبو بصير الذي سيرتبط اسمه دومًا باسمه. كان اسم أبو بصير سابقًا آقا نقد علي وكان أبوه، الحاج محمد حسين، ممن استشهد في ملحمة زنجان. وُلد آقا نقد علي ضريرًا لكنه وُهب من العقل الراجح ما جعل حضرة بهاءالله يهبه لقب “بصير”. كان من أكثر أتباع حضرة بهاءالله ثباتًا في زنجان. وعندما تبين لأسرته اعتناقه دعوة حضرة بهاءالله وقيامه على التبليغ بنشاط طردوه من المنزل. بعد ذلك الحدث ذهب أبو بصير ليعيش مع السيد أشرف. ثم ازدادت الرابطة الروحية بينهما وثوقًا بزواج أبو بصير من أخت الحاج إيمان، زوج أخت السيد أشرف، واستقر في ذلك المنزل بصفة دائمة. بالرغم من فقدانه البصر، كان لأبو بصير قابليات ذهنية عظيمة. فقد لاحظ الكثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث، وكان له من عمق الفهم لمعانيها ما جعل أكثر من طالب من طلاب الشريعة يبتغون الاستنارة به.

أثارت نشاطات أشرف وأبو بصير وآخرين غيرهما في مجال ترويج أمر حضرة بهاءالله، مخاوف عدو ما زال يذكر جيدًا الملحمة الدامية، منذ عقدين من الزمن في زنجان حيث حارب فيها آلاف من الرجال والنساء وقُتلوا في سبيل عقيدتهم بشجاعة وبطولة. إن مشاعر العداء ونار البغض والتعصب، التي بقيت خامدة كامنة لفترة ما، بدأت الآن تتأجج وتتوقد من جديد مهددة بإهلاك خيرة النفوس النشطة من الأتباع المتفانين لدين بُعث من جديد. فأصدر العلماء (رجال الدين) فتوى بقتل كل من أبو بصير وأشرف وسلموها لحاكم زنجان للتنفيذ. نتيجة لذلك صدرت أوامر تخطرهما بأنه ما لم يرتدا وينكرا عقيدتهما فسينفذ فيهما حكم الموت. بناء عليه، قُبض عليهما واقتيد أبو بصير إلى مجلس من العلماء حيث طلب منه إنكار دينه. وبدلاً من عمل ذلك قام بالحديث عن أمر حضرة بهاءالله بمنتهى البلاغة وأثبت أحقيته على أنه رسالة إلهية. لكن تلك المواجهة الجريئة إن حققت شيئًا فإنها ألهبت غضب الفقهاء الذين طالبوا دون تردد بإعدامه.

ساق الجلاد أبو بصير إلى الميدان العام أمام سراي الحكومة وقام بقطع رأسه بينما كان راكعًا يصلي، وآلاف المواطنين من حوله، رجالاً ونساء، احتشدوا لرؤيته وهو يُقتل. في أثناء ذلك المشهد الدامي، كان السيد أشرف في السجن يتعرض للتعذيب القاسي. مع ذلك كان هناك من سعى لإنقاذ حياته، ومنهم السيد عبد الواسع، إمام الجمعة في المدينة وأحد أقربائه، ذلك لكونه عزيزًا على كثير من الناس لصفاته الممتازة وسيرته الحسنة. حاولوا جاهدين إقناعه بالإنكار وعندما فشلوا في تحقيق غايتهم أرسلوا من يُحضر والدته عسى أن تفلح في حمله على الإنكار.

وتعالت أصوات العلماء مطالبة بقتل أشرف. فضُرب ضربًا أجرى الدم من تحت أظفاره، ثم أخذوه إلى نفس الميدان الذي ما زال جسد أبو بصير مسجىً تحت أنظار المتفرجين. حالما رأى جسد صاحبه مبتور الرأس اندفع نحوه وأحاطه بذراعيه. وصلت أمّ أشرف وابنها ملطخ بالدم. ويروي أحد أقرباء أسرة أشرف بأنها اندفعت نحوه، وطوقته بذراعيها، ثم قبلت وجنتيه، ومسحت عن وجهه العرق والدم، وأخذت غطاء رأسه الملطخ بالدم ليبقى تذكارًا عندها، وحثته من جديد ألاّ يبيع إيمانه الثمين لقاء أيام معدودة لحياة زائلة. هتفت أمه عندما أتوا بها وجهًا لوجه مع ولدها: ’إني أبرأ إلى الله أن تكون ولدي إذا كان قلبك يميل إلى مثل هذه الوساوس الشريرة وتمكّنهم من أن يصدوك عن الحق.‘(4)

ولو أن أمّه ناشدته لأن يستقيم في إخلاصه لأمر الله، فإن أشرف، الذي حظي بشرف لقاء حضرة بهاءالله مرتين، كان بنفسه قلعة من الإيمان منيعة. إذ بلغ من الإيقان في عقيدته درجة لا يستطيع فيها مجرد التفكير في التذبذب أو التراجع.

بينما تجمّع حوله أصدقاؤه يضغطون عليه بإلحاح، يروى أن إمام الجمعة آنف الذكر اقترب من أشرف واحتضنه، وهمس ببضع كلمات في أذنه ثم تقدم نحو الجماهير معلنًا بصوت عال وهو على المنصة المرتفعة بيانًا كاذبًا عن لسان أشرف مفاده أن الأخير قد أنكر عقيدته ولا ينبغي بعد اعتباره بهائيًا. حالما سمع ذلك الإعلان الكاذب، رفع أشرف يديه وهتف بأعلى صوته استنكارًا لمّا أُعلن على الناس مؤكدًا بأنه لم ولن ينكر أبدًا عقيدته. وهكذا ظل مستقيمًا في حبه لحضرة بهاءالله حتى تقدم الجلاد نحوه وسدد له طعنة قاتلة. بعد ذلك قطع رأسه بينما كان مطوقًا جسد أبو بصير بذراعيه.

يروي النبيل ما يلي بخصوص أشرف وأمه:

وقابل أشرف موته بكل سكون واطمئنان باتباعه لنصيحة والدته. ومع مشاهدتها آلام وأعمال القسوة التي تقع على ابنها فإنها لم تجزع ولم تدمع عينها. وأظهرت هذه الأم العجيبة شجاعة وثباتًا أدهش نفس الذين كانوا يعذبون ابنها بهذا العذاب القاسي وحين نظرت إلى جثة ابنها لآخر مرة صاحت قائلة: ’لم يزل يتغلغل في قلبي ذلك القسم الذي أقسمته يوم ولادتك إذ كنت محصورة في قلعة علي مردان خان وإني أبتهج الآن أن الولد الوحيد الذي أعطانيه الله قد حقق آمالي بالوفاء بالنذر.‘(5)

لقد أنزل حضرة بهاءالله لوح زيارة مشتركًا في حق أشرف وأبو بصير وآقا ميرزا محمد علي الطبيب الذي فدى حياته أيضًا في سبيل حضرة بهاءالله في مدينة زنجان. في ألواح أخرى أيضًا أثنى على مقام أشرف وأمه. في أحدها أنزل هذه الكلمات السامية بخصوص أم أشرف وابنها:

أن اذكري ما ظهر من أم الأشرف الذي فدى نفسه في أرض الزاء ألا إنه في مقعد صدق عند مقتدر قدير.

إذا أراد المشركون أن يقتلوه بالظلم أرسلوا إليه أمّه لتنصحه لعل يتوب ويتّبع الذين كفروا بالله رب العالمين.

إذا حضرت تلقاء وجه ابنها تكلمت بما ناحت به قلوب العشاق ثم أهل ملأ الأعلى وربك على ما أقول شهيد وعليم.

قالت ابني ابني أن افدِ نفسك في سبيل ربك إياك أن تكفر بالذي سجد لوجهه من في السموات والأرضين. يا بنيّ أن استقم على أمر ربك ثم أقبل إلى محبوب العالمين. عليها صلواتي ورحمتي وتكبيري وبهائي وإني بنفسي لأكون دية ابنها وإذًا في سرادق عظمتي وكبريائي بوجه تستضئ منه الحوريات في الغرفات ثم أهل الفردوس وأهل مدائن القدس لو يراه أحد يقول إن هذا إلاّ مَلكٌ كريمٌ.”(6)

في “لوح ابن الذئب”، يشير حضرة بهاءالله إلى أشرف وأمه بهذه الكلمات:

“تفكروا في جناب أبو بصير والسيد أشرف الزنجاني، إذ أحضروا أم أشرف لتنصح ابنها ولكنها رغّبته إلى أن فاز بالشهادة الكبرى.”(7)

([1])  لا يخلط بآقا ميرزا أشرف آبادي، شهيد إصفهان والذي أشار إليه حضرة بهاءالله في “لوح ابن الذئب” بهذه الكلمات: “من قبلهم واحد اسمه كاظم… ومن بعدهم حضرة أشرف، جميعهم تجرّعوا كأس الشهادة.”

([2])       للمزيد من المعلومات عن أحداث زنجان، راجع “مطالع الأنوار”.

([3])  كان ورقاء شاعرًا مرموقًا وأحد أصحاب حضرة بهاءالله المقربين. سنعرض لحياته في مجلدات تالية. تزوج ورقاء ابنة الحاج إيمان. لكن أبناء ورقاء كانوا من زواج آخر.

"لوح أشرف"

لمّا كان السيد أشرف في أدرنة، أنزل حضرة بهاءالله لوحًا بالعربية في حقه معروف ﺒ”لوح أشرف”. ترجم حضرة شوقي أفندي جزءًا منه إلى الإنگليزية.([1]) يبدو من محتواه أن هذا اللوح قد نزل بعد محاولة ميرزا يحيى النيل من حياة حضرة بهاءالله. يدعو فيه أشرف ليشكر الله إذ مكّنه من الفوز بلقائه ورؤية بهائه. يأمره أن يأخذ اللوح معه عند عودته لموطنه ويشارك به الذين آمنوا بأمره. يشير عليه بأن يخبر المؤمنين بمصائبه التي سببتها أيدي الخائنين، وأن ينقل إليهم بشائر إعلان ظهوره. ويحث المؤمنين المخلصين على القيام على نصرة أمره، ويشير عليهم بأن يجودوا على الذين يؤمنون بالله كما يجود المطر على الأرض، ويحذرهم ألاّ يتأثروا بمفتريات أتباع ميرزا يحيى، أولئك الذين عادوا الله، وأنكروا برهانه وأظهروا من العناد والصلف ما جعلهم يقفون في وجهه ويتآمرون على حياته.

يعاتب حضرة بهاءالله أتباع “البيان” في “لوح أشرف” بهذه الكلمات:

“… ولكن أكمه البيان تالله لن يعرف الشمس ولا أثرها وضياءها ولو تطلع في مقابلة عينه في كل حين.

    قل يا ملأ البيان إنّا اختصصناكم لعرفان نفسنا بين العالمين. وقربناكم إلى شاطئ الأيمن عن يمين بقعة الفردوس المقام الذي فيه تنطق النار على كل الألحان بأنه لا إله إلاّ أنا العلي العظيم. إياكم أن تحجبوا أنفسكم عن هذه الشمس التي استضائت عن أفق مشية ربكم الرحمن بالضياء الذي أحاط كل صغيرٍ وكبيرٍ. أن افتحوا أبصاركم لتشهدوها بعيونكم ولا تعلقوا أبصاركم بذي بصرٍ لأن الله ما كلف نفسًا إلاّ وسعها وكذلك نزل في كل الألواح على النبيين والمرسلين…”(8)

يدعو حضرة بهاءالله في هذا اللوح أشرف للاستماع إلى “لسان القِدم”. فيعلن بأن “جمال القِدم قد تجلّى على كل الأشياء بكل الأسماء في هذه الأيام المقدس العزيز المنيع“. وينصحه متفضلاً: “فاسع في نفسك بأن تكون محسنًا في أمر ربك وخالصًا لحبه ليجعلك من أسمائه الحسنى.”

يتضمن “لوح أشرف” عبارة هامة بخصوص قوة أثر الدعاء المنزه عن الهوى. فيصرح بأن “لو يُرفع اليوم أيادي كل الممكنات خالصًا عن الإشارات إلى شطر الرجاء من مليك الأسماء ويسألنّه خزائن السموات والأرض ليعطينّهم بفضله العميم قبل أن يرجعُنّ أياديهم إليهم…” حقًا إن مفتاح الولوج في هذا الفضل المكنوز يكمن في كلمة “الانقطاع”. يتبيّن من دراسة الآثار المباركة بأنه ما لم يصل الإنسان إلى حالة العبودية الصرفة التي يفنى فيها عن نفسه ولا يكون له مراد إلاّ ما أراده الله، فإنه لن يعرج إلى هذه المرتبة العليا.

إن أكثر الصلوات نقاء ما تنزّهت عن الهوى. فبها تتنزل بركات السماء على الروح، ومع ذلك فإن لبني البشر حاجات متعددة في هذه الدنيا سواء حين الشدة أو الألم أو الحزن، فإنهم يتوجّهون إلى الله سائلين العون. لذلك أنزل كل من حضرة الباب وحضرة بهاءالله أدعية ومناجاة مخصوصة لمختلف المناسبات والحاجات، يتلوها الشخص عند الضرورة. إن كان لا بد للإنسان من رغبة -وهذا شئ طبيعي لدى كل شخص- فينبغي لدعائه أن يكون بحيث يعلّق نهاية أمره برضاء الله. ذلك لأن أية رغبة أو أمنية أخرى، وإن كانت خدمة لأمر الله، على ما هي عليه من قيمة وأهمية، سوف لا تؤدّي بالضرورة إلى خلاصه. فقد كان هناك بعض ممن قدموا خدمات مرموقة لأمر الله ومع ذلك انتهت حياتهم روحانيًا بمأساة. يجدر بنا أن نتذكر هذه الكلمات لحضرة بهاءالله:

“إذ كم من عاصٍ يتوفّق حين الموت إلى جوهر الإيمان ويذوق خمرة البقاء ويسرع إلى الملأ الأعلى. وكم من مطيعٍ ومؤمنٍ ينقلب حين ارتقاء الروح ويستقر في أسفل دركات النيران.”(9)

على أية حال، فإن حمد الله وثناءه من أفضل أشكال المناجاة. فمن خلاله تُفتح أبواب العناية الإلهية ويسبغ على عبده ما يشاء من قدراته وبركاته. وإذا ما توجّه الإنسان في نجواه خالصًا لتمجيد اسمه تعالى وثناء صفاته فإن هذا من أكثر الأمور الطبيعية اللائقة بالإنسان والمفروض به عمله تجاه خالقه. وهو موقف أشبه ما يكون بالنبات في توجّهه نحو الشمس. ففي الوقت الذي تنشر الأخيرة طاقاتها دون تخصيص أو تمييز، إلاّ أن الشجرة، بحكم طبيعة خلقها، لا يمكنها إلاّ أن تنشر أغصانها وأفنانها باتجاه الشمس. وإن لم تفعل ذلك لكان علامة ودليلاً على موتها. مثال آخر هو صراخ الرضيع طلبًا للغذاء قبل أن تلبي أمه طلبه. أمّا إذا توقف عن طلبه الغذاء، فهو عليل ولو أن أمه قد تمده بالغذاء رغمًا عنه. هذه العلاقة الثنائية المتبادلة هي أساس النمو وقاعدته. على غرار ذلك فإن الله يفيض على الكائنات بمدد وعطايا لا متناهية، لكن يجب على الإنسان بدافع ذاتي أن يتوجّه إليه متعبدًا مسبّحًا لأجل أن يفوز بها. إذا قصّر في عمل ذلك، يصبح محرومًا روحيًا. يؤكد ذلك حضرة بهاءالله في الكلمات المكنونة إذ يتفضل قائلاً:

يا ابن الوجود

        أحببني لأحبك إن لم تحبني لن أحبك أبدًا فاعرف يا عبد.“(10)

إن علامة الحياة الروحانية الحقة في الإنسان هي حنينه إلى الله وشوقه لعبادته وتمجيده. ولنا خير أسوة بكل من حضرة الباب وحضرة بهاءالله في هذا المجال إذ إن معظم مناجاتهم وأدعيتهم في حمد الله وثنائه. هذه الأدعية تبعث في الروح مشاعر نكران الذات والفقر البحت، بينما تخضع الذات لقوة الله ومجده اللذين يصبحان الأثر المحرك لهدايتها وإمدادها طوال حياتها.

إن القوة التي يمكن أن تتولّد في قلب المؤمن عندما يتحرر من كل هوى ويتوجّه إلى الله مرتّلاً حمده وتمجيده، يَقْصُرُ الإنسان عن إدراكها. يكفي القول بأنها هي التي استمد منها العديد من أبطال الأمر قوّتهم واستقامتهم. يليق في هذا المقام الاستشهاد بإحدى مناجاة حضرة بهاءالله في تسبيح الله وتعظيمه:

“سبحانك اللهم يا إلهي كيف أذكرك بعد الذي أيقنت بأن ألسن العارفين كلّت عن ذكرك وثنائك ومُنعت طيورُ أفئدة المشتاقين عن الصعود إلى سماء عزك وعرفانك.

لو أقول يا إلهي بأنك أنت عارفٌ أشاهد بأن مظاهر العرفان قد خُلقت بأمرك. ولو أقول بأنك أنت حكيمٌ أشاهد بأن مطالع الحكمة قد ذوّتت بإرادتك. وإن قلت بأنك أنت الفرد ألاحظ بأن حقايق التفريد قد بُعثت بإنشائك. وإن قلت أنك أنت العليم أشاهد بأن جواهر العلم قد حققت بمشيّتك وظهرت بإبداعك.

فسبحانك سبحانك من أن تشير بذكرٍ أو توصف بثناءٍ أو بإشارةٍ لأن كل ذلك لم يكن إلاّ وصف خلقك وبُعث بأمرك واختراعك وكلما يذكرك الذاكرون أو يعرج إلى هواء عرفانك العارفون يرجعنّ إلى النقطة التي خضعت لسلطانك وسجدت لجمالك وذّوتت بحركةٍ من قلمك.

بل استغفرك يا إلهي عن ذلك لأن بذلك يثبت النسبة بين حقايق الموجودات وبين قلم أمرك فسبحانك سبحانك من ذكر نسبتهم إلى ما يُنسب إليك لأن كل النسبة مقطوعة عن شجرة أمرك وكل السبل ممنوعة عن مظهر نفسك ومطلع جمالك.

فسبحانك سبحانك من أن تُذكر بذكرٍ أو تُوصف بوصفٍ أو تُثنى بثناءٍ وكلما أمرت به عبادك من بدايع ذكرك وجواهر ثنائك هذا من فضلك عليهم ليصعدنّ بذلك إلى مقر الذي خلق في كينوناتهم من عرفان أنفسهم.

وإنك لم تزل كنت مقدسًا عن وصف ما دونك وذكر ما سواك وتكون بمثل ما كنت في أزل الآزال. لا إله إلاّ أنت المتعالي المقتدر المقدس العليم.”(11)

([1])       انظر “منتخبات من آثار حضرة بهاءالله”، المقتطف رقم 52.

﴿ 11 ﴾ بعض الألواح الهامة

"سورة الدم"

هذا اللوح، النازل بالعربية، موجّه إلى النبيل الأعظم وتشهد عدة فقرات مشهورة فيه بعظمة ظهور حضرة بهاءالله، إضافة إلى توجيهات ونصائح للنبيل. يبدو أنه نزل في وقت كان النبيل قد عاد إلى إيران بتوجيه من حضرة بهاءالله بعد أن فاز بمحضره في أدرنة.

في هذا اللوح يوجّه حضرةُ بهاءالله النبيلَ ليعود ويجول في شتى أنحاء البلاد، ويلتقي بالنفوس المخلصة في جامعة الأحباء، ويخرق حجبات الأوهام التي منعتهم عن التعرف على وجه ذي الجلال. كما بيّنا سابقًا أن مهمة النبيل وغيره من تلاميذ حضرة بهاءالله في هذه الفترة كانت أساسًا لتبليغ أمره إلى أفراد الجامعة البابية. لكنه حذّره من معاشرة الذين يظهرون الغل لحضرته، وأن يفر عنهم. وذلك إشارة بصفة رئيسة إلى البابيين المعرضين عن أمر الله الذين اتبعوا ميرزا يحيى.

إن هذا النصح والتحذير بالابتعاد كلية عن الذين يعارضون صاحب الأمر من داخل الجامعة لهو عنصر فريد في تاريخ الديانات. والهدف منه حماية المؤمنين من التأثير الضار للعناصر الأنانية والمغرورين والمنافقين الذين يسعون لتمزيق دين الله وإحداث الشقاق بين صفوف أتباعه. في الأدوار السماوية السابقة لم تكن هناك إجراءات أو تحذيرات شرعية تحمي الدين من الانقسام. والذي حدث في حالات عديدة هو أن أتباع الدين فسروا كلمات رسولهم بما يناسبهم مما أدى إلى قيام عدة مذاهب داخل الديانة الأصلية.

لكن في هذه الدورة سن حضرة بهاءالله تشريعًا محكمًا يمنع وقوع ذلك. فلم يمنح لأحد غير مركز عهده وميثاقه، حضرة عبدالبهاء، الذي عيّنه واختاره، حق تفسير كلماته بسلطة مشروعة،([1]) وبيّن بجلاء أنه لو اختلف اثنان في ما بينهما بشأ فهمهما لموضوع في أمر الله، فكلاهما خاطئ. وهذه من جملة الأحكام التي يقوم عليها هيكل العهد والميثاق، والتي تصون وحدة الجامعة البهائية.

أقام حضرة الباب عهدًا مع أتباعه بشأن “من يظهره الله”. نقض ميرزا يحيى ومؤيدوه هذا العهد، وعوضًا عن إظهار إخلاصهم وولائهم لحضرة بهاءالله قاموا بمعارضته وسعوا بكل قواهم لتقويض أمر الله. وخلافًا لمظاهر الله السابقين، لم يسمح حضرة بهاءالله لهذه العناصر السامة بالبقاء داخل هيكل الأمر وإفساده. فطرحهم خارج جامعة الأحباء ومنع أتباعه من معاشرتهم.([2])

أبرم حضرة بهاءالله عهدًا مع أتباعه بأنه ينبغي عليهم، بعد صعوده، التوجّه إلى حضرة عبدالبهاء. أمّا الذين نقضوا هذا العهد وقاموا ضد مركزه، كانوا ما زالوا يعتبرون أنفسهم بهائيين. لكن حضرة عبدالبهاء، إقتداء بسيرة حضرة بهاءالله، لفظ أولئك العناصر الخبيثة من وسط الجامعة، وبذلك طهّر أمر الله من تلويثهم، وحذّر المؤمنين بأن يجتنبوهم من أجل حفظ أنفسهم.

يصرح حضرة عبدالبهاء في أحد الألواح(1) بأن بعض الناس ممن فازوا بالإيمان واليقين وقاموا على خدمة أمر الله وتبليغه، انتهوا إلى حال من الاضطراب والخيبة. سبب هذا أنهم عصوا أوامره وعاشروا المشركين. فقد نصح حضرة بهاءالله أتباعه بوضوح بأن يجتنبوا معاشرة الأشرار. وفي “الكلمات المكنونة” يوصي بما يلي:

“حذار يا ابن التراب

لا تألف الأشرار ولا تأنس إليهم فإن مجالسة الأشرار تبدّل نور الروح بنار الحسبان.”(2)

يصرح حضرة عبدالبهاء في أحد ألواحه:

“باختصار فإن المقصود هو هذا: إن عبدالبهاء عطوف للغاية، لكن عندما أجد أن الداء (لدى بعض المدّعين) هو الجذام، فما عساي أن أفعل؟ مثلما يجب عمله في الأمراض الجسمانية من قبيل عزل المصابين عن الأصحّاء لمنع العدوى ثم تطبيق قوانين حفظ الصحة لأن الأمراض السارية الجسمانية تقضي على البنيان البشري، كذلك يجب حفظ النفوس المباركة وصيانتها من الروائح الكريهة والأمراض الروحانية المهلكة، وإلا فسيصبح النقض، كالطاعون، وباءً ساريًا ويُهلك الجميع.”(3)

وقعت أحداث مماثلة خلال فترة ولاية حضرة شوقي أفندي. لكن أولئك الذين رفعوا رؤوسهم لإثارة الفتن والشقاق داخل الأمر طُرحوا خارجه، كأسلافهم، وهلكوا واندثروا. إن مبدأ تطهير الجامعة من هذا التأثير الضار للناقضين، حفاظًا على وحدتها ونقاء أمر الله، كان من الأمور ذات الأهمية القصوى في الماضي وسيبقى كذلك في المستقبل.

في “سورة الدم” ينصح حضرةُ بهاءالله النبيلَ بأن “كن متخلّقًا بأخلاقي“، “كن بين الناس كتلال المسك لتفوح منك روائح القدس بينهم“، “أن اصبر فيما يرد عليك” ويحضّه أيضًا على التوكل على الله وتفويض أمره إليه حين الشدائد، مذكّرًا إياه بأن التوكل والتفويض هما من صفاته هو ويؤكد “بأن تأوّه المظلوم حين اصطباره لأعز عند الله عن كل عمل” كما يحث النبيل على معاشرة أحباء الله حيثما ذهب، وينصحه: “فاقتد في كل الأمور بالله ناصرك ثم امشِ بين الناس بوقاره وسكينته ثم بلّغهم أمر مولاك على قدر الذي يقدرون أن يسمعون“، وأن يتوكل على الله في طلب العون والتأييد.

في هذه السورة يسهب حضرة بهاءالله في تبيان طبيعة ظهوره الأعلى وما تعرّض له من عذاب واضطهاد على يد جيل منحرف. في ما يلي مقتطف من “سورة الدم”:

“أي رب لك الحمد على بدايع قضاياك وجوامع رزاياك مرةً أودعتني بيد النمرود ثم بيد الفرعون وورد عليّ ما أنت أحصيته بعلمك وأحطته بإرادتك ومرةً أودعتني في سجن المشركين بما قصصت على أهل العماء حرفًا من الرؤيا الذي ألهمتني بعلمك وعرّفتني بسلطانك ومرةً قطعتَ رأسي بأيدي الكافرين ومرةً أرفعتني إلى الصليب بما ظهرت في الملك من جواهر أسرار عز فردانيتك وبدايع آثار سلطان صمدانيتك ومرةً ابتليتني في أرض الطّف بحيث كنتُ وحيدًا بين عبادك وفريدًا في مملكتك إلى أن قطعوا رأسي ثم أرفعوه على السنان وداروه في كل الديار وحضروه على مقاعد المشركين ومواضع المنكرين ومرة علّقوني في الهواء ثم ضربوني بما عندهم من رصاص الغل والبغضاء إلى أن قطعوا أركاني وفصلوا جوارحي إلى أن بلغ الزمان إلى هذه الأيام التي اجتمعوا المغلّون على نفسي ويتدبرون في كل حينٍ بأن يدخلوا في قلوب العباد ضغني وبغضي ويمكرون في ذلك بكل ما هم عليه لمقتدرون… فوعزتك يا محبوبي أشكرك حينئذ في تلك الحالة وعلى كل ما ورد عليّ في سبيل رضائك وأكون راضيًا منك ومن بدايع بلاياك…”(4)

أنجز النبيل بأمانة ما أرشده إليه حضرة بهاءالله. فجاب شتى أنحاء إيران وثبّت على الإيمان عددًا غفيرًا من النفوس التي دخلت في ظل أمر الله.

([1])  وبدوره عيّن حضرة عبدالبهاء حضرة شوقي أفندي وليًا لأمر الله، مخولًا إياه نفس حق التفسير المقصود.

([2])       انظر المجلد الأول، الصفحات 136-144، 254-257.

"سورتا الحج"

أنزل حضرة بهاءالله في هذه الفترة “سورة الحج” بشأن زيارة بيت حضرة الباب، وأرسلها إلى النبيل وأمره بالذهاب إلى شيراز.

في هذه السورة يسنّ حضرة بهاءالله الشعائر الواجب اتباعها عندما يزور الحجاج بيت حضرة الباب. أوعز للنبيل بالقيام بها نيابة عنه. وحينما نفّذها النبيل، وهي شعائر مطوّلة تبدأ خارج المدينة وتستمر طول الطريق نحو البيت ثم داخله، لفت انتباه الكثير من المارة بحيث علّق بعضهم بأن الرجل لا محالة فقد صوابه!

بعد قيامه بتنفيذ تعليمات حضرة بهاءالله في شيراز، تسلّم النبيل لوح زيارة آخر هو “سورة الحج” الخاصة ببيت حضرة بهاءالله في بغداد، وأمر بالتوجّه إلى تلك المدينة لإجراء ما تضمّنته السورة من شعائر نيابة عن حضرته. قام النبيل، مرة أخرى، وأتمّ تلك المهمة بنجاح وتفان وحماس رغم أنظار المجتمع الفضولية من حوله.

ثبّت حضرة بهاءالله هذه الشعائر المقدسة فيما بعد في “الكتاب الأقدس” وسيجري تنفيذها في المستقبل عند استتباب أمر الله في الأرض وتبدّل الأحوال بنحو جذري.([1])

([1])       انظر المجلد الأول، الصفحات 224-226.

حكاية البلبل والغراب

حوالي الوقت الذي طُرد فيه أتباع ميرزا يحيى خارج جامعة الاسم الأعظم، أنزل حضرة بهاءالله لوحًا بديعًا بالفارسية مُصاغا بعبارات الرمز والتشبيه. يصف فيه حقيقة العلاقة بين حضرة بهاءالله وميرزا يحيى. يرمز حضرة بهاءالله في هذا اللوح لنفسه بوردة معنوية نابتة في جنة الفردوس.(5) تنادي الوردة على محبوبها -وهي معشوقة البلبل- للمجيء والفوز بوصال جمال المحبوب الباقي الأبدي.

تقترب من الوردة بعد ذلك مجموعة من طيور شبيهة بالعندليب، دون أن تنجذب بعطرها أو سحر جمالها. يتلو ذلك حوار بين الطرفين في منتهى الروعة والإثارة الروحية. تدّعي الطيور بأن تلك لم تكن وردة حقيقية إذ إنهم على معرفة بالأوراد الأخرى، ولأنها (الوردة) تنبت في حديقة أخرى. تحاول الوردة بلغة الودّ الصافي مخاطبة قلوبهم وتذكّرهم بأن ليس هناك سوى وردة واحدة، ظهرت مرة في مصر، وفي وقت آخر في أورشليم والجليل، وفي عصر تال برزت في الحجاز من جزيرة العرب، ثم في شيراز والآن قد تفتّح جمالها في أدرنة. ثم تلومهم من أجل حصر محبتهم في محيط الطبيعة بدلا من النظر إلى الحبيب الحقيقي، وتصفهم بأنهم مظاهر الشر ولكن في شكل بلابل فقط.

تمضي الوردة في حوارها وتقص عليهم حكاية: تبدأ بتشبيههم بالبوم([1]) الذي جادل مرة مدّعيًا بأن نعيق الغراب كان أعذب نغمًا من تغريد العندليب. في تحديه لذلك الادعاء، طالب البلبل بالدليل ودعا البوم لتحري الحقيقة بالاستماع لنغمة كل من الطيرين عسى أن تميّز مليح نغمات الطير الفردوسي من نعيق الغراب. لكن البوم رفض وقال: ’من وسط حديقة الأوراد طرق سمعي غناء طير، وعندما استعلمت عن مصدره، قيل لي إنه صوت الغراب، وتصادف أنه في ذات الوقت رأيت غرابًا يطير قادمًا من تلك الحديقة فاتضح لي من كان صاحب الصوت.‘

’لكن ذلك كان صوتي‘، قال العندليب للبوم، ’ولأثبت ذلك يمكنني الآن أن أغنّي مثل ذلك النغم أو أجمل منه.‘ ’لا رغبة لي لسماع نغمك‘، أجاب البوم، ’إذ إني رأيت الغراب وأكد لي الآخرون بأن الصوت من داخل الحديقة كان صوته. ولو كان هذا النغم السماوي منك، فكيف كنت مخفيًا عن أنظار الناس ولم تصل إليهم شهرتك؟‘ ’بسبب جمالي‘، أجاب العندليب، ’كرهني أعدائي. بل اعتزموا إنهاء حياتي، ولهذا السبب نُشرت نغماتي بعيدًا باسم الغراب. أمّا ذوو الأفئدة الطاهرة والآذان المقدسة فاستطاعوا أن يميّزوا صوت العندليب الحقيقي من صوت الغراب.‘([2])

هنا تنتهي قصة البوم، بينما تستمر الوردة في حوارها مع الطيور المتشبهة بالبلابل. تقول لهم بأنهم أيضًا من نفس طبيعة البوم إذ يرجّحون أوهامهم على الأدلة والحجج الوافية التي تساند ادعاء المحبوب المتجلي بجمال الورد. ثم تدعوهم لتمييز الورد الحقيقي من عطره وجماله وليس بما عرفوه وما عندهم من معايير. بينما تصل هذه النصائح إلى ذروتها، يدخل إلى الحديقة بلبل([3]) جميل مصدحًا بنغم مليح. سرعان ما ينجذب بسحر جمال الوردة ويبدأ بالطواف حولها. ثم يخاطب الطيور الشبيهة بالعنادل قائلاً: ’ولو أنكم ظاهريًا تشبهون البلابل، لكن بمعاشرتكم الغراب قد تعلّمتم طرقه، واكتسبتم صفاته.‘ بعد ذلك أشار إلى الوردة قائلاً: ’إن هذه الوردة الفردوسية لهي محبوبة بلابل الجنة ومعبودتهم، وهذه الحديقة مأواهم. إنها ليست مأوى طيور الفناء. الأجدر بكم أن تخلوا المكان وترحلوا.‘([4])

بهذه اللغة الرمزية يتوجّه حضرة بهاءالله بالنصح لأتباعه لكي يشدوا أزورهم في خدمة ربهم وحماية أمر الله من فساد الخائنين. يشير عليهم أيضًا بأن يزينوا أنفسهم بطراز الأعمال المنزهة والأخلاق الحميدة، ويؤكد لهم بأنه من خلال حياة فاضلة فقط يمكنهم نصرة أمر الله وحمايته من هجمات الأعداء.

في ألواح لا حصر لها حض حضرة بهاءالله المؤمنين على استقامة الخلق، والصدق والإيمان والقداسة والأعمال النبيلة. وفي إحداها يدعو أحباءه للقيام بمساعدته بأن يعيشوا حياة قدسية. فيما يلي بعض وصاياه:

“إن عملاً طاهرًا واحدًا له من القدرة ما يرفع التراب إلى أوج الأفلاك ويحطم كل قيدٍ ويبعث كل قوةٍ من جديد…

يا حزب الله التقديس التقديس. التقوى التقوى… قل يا حزب الله إن ناصر الحق ومعينه وجنوده، كما جاء في الزبر والألواح، بمثابة الشمس الظاهرة اللائحة، وهذه الجنود كانت ولا تزال الأعمال الطيبة والأخلاق المرضية. كل نفس قامت اليوم على نصرة الله بجنود الأخلاق والتقوى وقامت على الخدمة لله وفي سبيل الله ستظهر آثارها في الأشطار ظاهرةً باهرةً…”(6)

يحذّر حضرة بهاءالله في هذا اللوح أتباعه من أن يجلبوا بسوء أفعالهم الخزي لأمر الله. يزيد مبيّنًا بأن أي ذنب يقترفونه سيكون بمثابة عذاب شديد موجّه إليه وسوف يعمل في صالح أعداء أمر الله.

إن دراسة آثار الأمر المباركة قد أثبتت بجلاء على أن ما تحمّله حضرة بهاءالله من عذاب كان قد أتى معظمه وأشده من فئتين: الأولى، أولئك الذين خانوه، ونقضوا عهد حضرة الباب واتبعوا ميرزا يحيى، والأخرى، بعض أتباع حضرته الذين بأعمالهم الفاسدة شوهوا سمعة أمر الله أمام الناس، وسببوا لحضرته كثيرًا من الكرب والألم.

في أحد ألواحه يكشف عن مكنون قلبه بهذه الكلمات:

“ليس حزني سجني ولا ذلتي ابتلائي بين أيدي الأعداء لعمري إنها عز قد جعلها الله طراز نفسه إن أنتم من العارفين. بذلتي ظهرت عزة الكائنات وبابتلائي أشرقت شمس العدل على العالمين. بل حزني من الذين يرتكبون الفحشاء وينسبون أنفسهم إلى الله العزيز الحميد. ينبغي لأهل البهاء أن ينقطعوا عمّن على الأرض كلها على شأن يجدنّ أهل الفردوس نفحات التقديس من قميصهم ويرون أهل الأكوان في وجوههم نضرة الرحمن ألا إنهم من المقربين. أولئك عباد بهم يظهر التقديس في البلاد وتنتشر آثار الله العزيز الحكيم. إن الذين ضيّعوا الأمر بما اتبعوا أهوائهم إنهم في ضلالٍ مبينٍ.”(7)

وفي موضع آخر:

ليس ذلتي سجني لعمري إنه عز لي بل الذلة عمل أحبائي الذين ينسبون أنفسهم إلينا ويتّبعون الشيطان في أعمالهم ألا إنهم من الخاسرين.“(8)

([1])       يرمز البوم في الأدبين الفارسي والعربي للقدر المشؤوم والخراب.

([2])  تشير قصة البلبل والبوم هذه بوضوح إلى حضرة بهاءالله وميرزا يحيى على التوالي. فمن أجل حماية حضرة بهاءالله من كيد عدو لدود، عيّن حضرة الباب ميرزا يحيى رئيسًا للطائفة البابية تحويلًا لاهتمام ومراقبة الجمهور لحضرة بهاءالله وفي الوقت ذاته من أجل منح حضرة بهاءالله واسطة تيسّر له القيام بتوجيه شؤون البابيين دون أن يبرز دوره الشخصي أثناء ذلك حتى يحين وقت إعلان مقام ظهوره للملأ. (انظر “مقالة سائح”، الصفحة 64؛ والصفحة 243 من هذا المجلد؛ والمجلد الأول، الصفحات 55-57). بقي حضرة بهاءالله مدة طويلة يقوم بذلك الدور فيملي مختلف التعليمات على ميرزا يحيى الذي قام بدوره وحمل بأمانة ما كُلف بنقله إلى الجامعة (البابية) أصالة عن نفسه. لكن خيانته لحضرة بهاءالله بدأت عندما وقع تحت تأثير سيئ السمعة والصيت، السيد محمد الإصفهاني في العراق.

([3])       يرمز هذا إلى أحد أتباع حضرة بهاءالله المخلصين الذين عرفوا مقامه حقًا.

([4])       هذه إشارة إلى أتباع ميرزا يحيى الذين طُردوا خارج جامعة المؤمنين.

"لوح نصير"

نزل “لوح نصير” في حق الحاج محمد نصير، من أهالي قزوين. إن القسم الأكبر من هذا اللوح، المطوّل نسبيًا، قد نزل بالفارسية. وقد ترجم حضرة شوقي أفندي مقطعًا صغيرًا منه إلى الإنگليزية ضمن كتاب “منتخباتي از آثار حضرت بهاءالله”.([1])

كان الحاج نصير تاجرًا معروفًا له مكانة محترمة جدًا لدى إخوانه المواطنين لحين اعتناقه الدين البابي. منذ ذلك الوقت بدأت تنهال عليه الاضطهادات ومعارضة الناس المريرة له. كان قد اعترف بأن دعوة حضرة الباب رسالة سماوية وذلك عندما التقى بالملاّ جليل الأرومي، أحد حروف الحيّ.([2]) ويروى أنه عندما أقر الحاج نصير بأحقية دعوة حضرة الباب، حذّره الملاّ جليل بأن مجرد اعترافه ذاك ليس كافيًا في هذا اليوم، إذ ليس بوسعه الادعاء بأنه بابي ما لم يكن مستعدًا للفداء بحياته طوعًا في سبيل الله إذا قام الأعداء ضده. فطلب إليه الذهاب إلى منزله والتفكير مليًا للتأكد من أن إيمانه كان من العمق والقوة بحيث سيثّبته أمام التعذيب والاستشهاد. فإن كان كذلك فهو بابي، وإلاّ فلن يكون. استجاب الحاج نصير لطلب الملاّ جليل وسهر الليل كله مستغرقًا في الصلاة والتأمل. وعند الفجر شعر بأنه يمتلك من الإيمان والانقطاع ما جعله مستعدًا للتضحية بحياته في سبيل محبوبه. فبين عشية وضحاها توقدت في أعماقه شعلة جديدة من الحماس والتوهج استمرت تمده طوال حياته المليئة بالأحداث.

سرعان ما بدأت الاضطهادات، وذلك عندما وقع الحاج نصير هدفًا لهجمات الغوغاء المتعطشين للدماء في قزوين. فنهبوا كافة ممتلكاته وأرغم على ترك مدينته مؤقتًا. لكنه عاد إليها بعد هدوء الحال. من هناك، وتلبية لتوجيه تلّقاه من حضرة الباب، غادر إلى خراسان. تشرف بالمشاركة في مؤتمر بدشت حيث، استنادًا لأقوال بعض المؤمنين، عمل كحارس عند مدخل الحديقة المخصصة لإقامة حضرة بهاءالله. من بدشت توجّه إلى مازندران وانضم إلى المؤمنين المدافعين عن دينهم في قلعة الشيخ الطبرسي.([3]) كما تشير سجلات التاريخ، ذُبح هناك مئات من رفاقه المؤمنين لكن يد القدرة الإلهية شاءت أن تحفظ الحاج نصير ومكّنته من تقديم خدمات أخرى لأمر الله.

رجع إلى قزوين وزاول مهنته من جديد، لكن سرعان ما عصفت بالمؤمنين زوبعة اضطهاد أخرى إثر محاولة الاعتداء على حياة ناصر الدين شاه عام 1852م([4]) مما عرّض البابيين لموجة عارمة من العداء والتنكيل. فاعتقل الحاج نصير وأودع السجن في قزوين. لكنه بعد فترة أفرج عنه. وسجن مرة أخرى في سجن طهران وقيّد بالسلاسل. لمّا خرج منه وجد أن كل ممتلكاته قد نهبت. ومن خلال مساعدة الشيخ كاظم سمندر([5]) وتعاونه، تمكن الحاج نصير من كسب عيشه رغم كثير من المضايقات من قبل الأعداء، لكنه اضطر لنقل سكناه إلى مدينة رشت.

أمّا تاج فخر حياته فكان فوزه بمحضر حضرة بهاءالله في عكاء. كان بصحبته في زيارته تلك الشيخ كاظم آنف الذكر. فأغدق عليه حضرة بهاءالله عطاياه وأكد له عناياته ورضاءه. قضى أواخر حياته في مدينة رشت منشغلاً بتبليغ أمر الله ليل نهار. ألقى به الأعداء في السجن مرة أخرى. وفي تلك السن المتقدمة، وقد لاقى ما لاقى من اضطهاد وعذاب، لم يحتمل مشاق حياة السجن فعرجت روحه إلى ملكوت المحبوب الأعلى. فمات شهيدًا في سجن رشت سنة 1300ﻫ (1883م).

عندما وصل نبأ موت الحاج نصير إلى أعداء أمر الله توجّه العديد منهم، بمن فيهم الأطفال، نحو جثته ورشقوها بالحجارة. وما أن نقل جثمانه إلى منزله حتى اقتحمه بعض الهمج الرعاع وهجموا على جسده بنيّة قطع أوصاله. لا يمكن وصف مشاعر الرعب والفزع اللذين أحاطا أسرته ومحبيه وقد وقفوا عاجزين يشاهدون ما يقترفه الغوغاء من المتعصبين القساة. فقد قطعوا أنف الحاج نصير وقلعوا عينيه قبل أن يتدخل الجيران ويمنعوهم عن الاستمرار، والذين حملوا الجثمان بنحو مهين وألقوا به في فرن مهجور لصنع الآجر وغطوه بالحجارة.

أنزل حضرة بهاءالله رثاء وهّاجًا للحاج نصير لاستقامته على أمر الله، إضافة إلى لوح زيارة خاص في حقه. فيشير إلى ذكراه في “لوح ابن الذئب” بهذه الكلمات:

“ومن جملتهم حضرة الحاج نصير الذي كان في الحقيقة نورًا مشرقًا من أفق سماء التسليم. وبعد استشهاده قلعوا عينيه وقطعوا رأسه وبلغ الظلم مقامًا بحيث بكى الغرباء وناحوا وقاموا بالسر على إعانة زوجته وأطفاله.”(9)

كان تنزيل “لوح نصير” في أدرنة استجابة لالتماس من الحاج نصير بشأن توضيح مركز ميرزا يحيى. فما زال يحاول لفترة من الزمن الاهتداء لمعرفة هذه الحالة الغامضة واكتشاف مقام حضرة بهاءالله. لمّا وصلته أنباء عصيان ميرزا يحيى في أدرنة، كتب يعرض على حضرة بهاءالله التماسًا بالاستنارة حول الموضوع. في هذا اللوح يكشف حضرته عن مسألة تعيين حضرة الباب لميرزا يحيى رئيسًا للطائفة البابية ويذكر بأن شخصين([6]) فقط قد أحيطا علمًا بالظروف الحقيقية لتعيينه. فهو يدين أعماله الخيانية، ومحاولته القضاء على حياة حضرة بهاءالله، واتهاماته المخزية بإلصاق جرائمه بحضرته.

يخاطب حضرته في قسم كبير من هذا اللوح ملأ “البيان”. يذكّرهم حضرة بهاءالله فيه بالعديد من نبؤات حضرة الباب وتحذيراته الخاصة بعلو مقام من سيأتي بعده. يعلن لهم بلغة لا تقبل اللبس بشارة ظهوره، وينصحهم بأسلوب يحرك العواطف بأن يطهّروا قلوبهم من “الحجبات الوهمية والسبحات الغليظة التي كانت سدًا محكمًا ما بين الناس وسلطان العز القديم”. ويدعوهم بمنتهى الود والرحمة للإقبال إلى أمره، ويبدي حزنه لأن كثيرًا منهم قد قاموا على معارضته.

وُجّهت الفقرة التالية من “لوح نصير” إلى ملأ “البيان”:

“مزّقوا الحجبات الغليظة باسمي واكسروا أصنام التقليد بقوة التوحيد وادخلوا فضاء رضوان قدس الرحمن. طهروا النفس عن كل ما سوى الله، واستقروا في موطن الأمر الأكبر مقر العصمة العظمى. لا تحتجبوا بحجاب النفس لأني خلقت كل نفس خلقًا كاملاً حتى يُشاهد كمال صُنعي. إذًا بهذه الصورة كان كل نفسٍ قادر بنفسه أن يدرِك جمال السبحان ولا يزال يكون، فلو لم يكن قادرًا على ذلك يسقط التكليف عنه. وإذا سُئل نفس في محضر الحشر الأكبر بين يدي الله (لِمَ لَمْ تؤمن بجمالي وأعرضت عن نفسي؟)، ولو تمسّك بجميع أهل العالم وقال (لأنه لم يقبل أحد وشاهدتُ الكل قد أعرض فاقتديتُ بهم وبقيتُ بعيدًا عن الجمال الأبدي)، لو أتى أي إنسانٍ بهذا العذر فلن يُقبل منه، لأن إيمان أي نفس لم يكن معلّقًا بسواه.”(10)

يؤكد حضرة بهاءالله في هذا اللوح بأنه لو فُتحت أبواب الفضل الإلهي على وجه كل إنسان، لا يناله إلاّ من كان أهلاً وكفوًا وذا قلب طاهر. يمثّل ذلك بالحبّة التي تنتجٍ أشجارًا مثمرة لو زُرعت بأرض طيّبة، بينما لو كانت الأرض “جُرُزة” (قاحلة) فلن ينبت شيء إلى الوجود. ويقر بأنه حتى لو “حرمت كل الممكنات أنفسها من بدايع الفضل الإلهي ومنعت أنفسها من تربية سلطان الأحدية فلن يؤثر ذلك شيئًا في استمرار هبوب أرياح الفضل الإلهي”. لذا يحضّ الحاج نصير أن “يجهد ليكون في ظل السدرة الربانية ليُرزَق من أثمار الفضل اللامتناهي”.

مشيرًا لنفسه ﺒ”الغلام الروحي”، يكشف حضرة بهاءالله، عبر هذه الآيات المنزلة في “لوح نصير”، عن مقام الذين اعترفوا به ويمجّد مراتبهم:

“يا نصير يا عبدي تالله الحق إن الغلام الروحي في هذا اليوم قد رفع فوق كلّ الرؤوس كأسَ رحيق الأبهى وينظر واقفًا ليرى من يشاهد جماله ومن غير إشارةٍ يأخذ الكأس من كفّه البيضاء ليشرب منه. لكن لم يفز أحد بعد بهذا السَلْسَال اللامثال من يد السلطان الأبدي إلاّ عددٌ محدودٌ وهُم في جنة الأعلى فوق الجنان على سرر التمكين هُم مستقرون. تالله لن يسبقهم المرايا ولا مظاهر الأسماء ولا كل ما كان وما يكون إن أنتم من العارفين.

يا نصير لم يدرك فضل هذه الأيام عرفانُ العارفين ولا إدراكُ المدركين فكيف الغافلون والمحتجبون. فإذا طهّرت بصرك عن الحجبات الكبرى ترى من الفضل ما ليس له شبهٌ أو مثلٌ أو ندٌ أو نظيرٌ أو مثالٌ من أول الذي لا أول له إلى آخر الذي لا آخر له.”(11)

في القرآن الكريم آية نصّها: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم…”(12) في هذه الآية إشارة إلى التأثير الذي يحدثه كل مظهر إلهي في الكون. فبظهوره يطلق في العالم موجة من القدرة الروحانية. في نفس الوقت يشرق عن آفاق أفئدة العباد بأنوار آيات فضله. يؤكد حضرة بهاءالله في “لوح نصير” بأنه قد تحقق كل من هاتين الآيتين في هذا اليوم. فيصرح بأن آيات قدرته وسطوته قد أحاطت العالم، وأن كل الممكنات قد وهبت قابليات جديدة. بل إنها أثّرت في قلوب الخلق ولو أن الناس لا يعونها ولا يبصرونها.

حينما أنزل حضرة بهاءالله آياته هذه إلى نصير، لم يكن تأثير حضرته في العالم الإنساني مشهودًا بالوضوح الذي هو عليه اليوم. فبوسع أي مراقب منصف أن يشهد بأن الطاقات التي انطلقت إلى العالم بظهوره قد ولدت عملية انبعاث وإحياء ما تزال حاليًا تؤثر في صميم البنية الاجتماعية البشرية كلها. فمن جهة نرى أن القوة الغالبة المنبثقة عن ظهوره قد نوّرت أفئدة الملايين ممن عرفوا مقامه واتبعوا تعاليمه واحتضنوا أمره وصاروا من أنصار نظمه العالمي وبُناته. ومن جهة أخرى نجد بقية جماهير البشرية، الذين لم تستضئ قلوبهم بعد بنور أمره، وهم مغمورون بتيار قوي من روح العصر المنبعث والمدعم من قبل كل مبدأ من مبادئ حضرة بهاءالله وتعاليمه. تُدفع هذه الجماهير من الناس داخل قوى إعصار دوّار لا يُقاوَم. في عجز وبلبلة نجدهم يعترفون بأنه لا يمكنهم الاستمرار بالتشبث بأنظمتهم العتيقة الموروثة والتي كانت ملجأهم وحصنهم لعدة قرون، نراهم يبذلون كل جهد لإيجاد سبيل لتجديد الماضي وإحياء القديم عسى أن يتعايش وينسجم مع الحاضر الجديد. لكن بمرور الزمن فإنهم يدركون تدريجًا عدم جدوى هذه الجهود. فيحاول بعضهم تحرير المؤسسات القديمة لكي تُجاري أو تساير روح العصر، لكن مع كل مساومة يضعف أمرهم باطراد. وآخرون فقدوا الأمل، تحرروا من الوهم وأصبحوا سلبيين، بل حتى اعتزلوا المجتمع نهائيًا.

تتسارع عملية الاندماج والتماسك التي يتميز بها نمو الجامعة البهائية يومًا بعد يوم مستمدة حيويتها مباشرة من ظهور حضرة بهاءالله. وليس من قوة في الكون، قبل مجيء المظهر الإلهي المقبل،([7]) يمكنها إيقاف تقدم أمر الله ومسيرته إلى الأمام أو تغيير المسار الذي قدّره الله لانفتاح تشكيلاته الإدارية السماوية وتأسيسها. بل على العكس، كما أثبت التاريخ بجلاء، فإن كل حدث، سواء بَنّاءً كان أم هدامًا، قد كان سبب تقدم أمر حضرة بهاءالله وسيظل كذلك في المستقبل. إن مجهودات أتباعه الثابتين المتسمة بنكران الذات، والمعارضة والاضطهاد من عالَم غافل غير مؤمن، سيعملان يدًا بيد على خدمة مصالح أمر الله بحيث يحيط بالبشرية جمعاء.

أمّا عملية التفكك، من جهة أخرى، والناجمة عن الغفلة أو المعارضة لأمر حضرة بهاءالله، فإنها ماضية في هدم النظم القديم بلا هوادة. إن روح العصر التي أطلقها حضرة بهاءالله يمكن تشبيهها بتيار من القوى يضغط على البشرية دافعًا إياها صوب أفق العالمية ووحدة بني الإنسان. فعندما يعارض أناس، عن وعي أو دون وعي، هذه القوى، فإنهم يحدثون توترات داخل مجتمعاتهم. مثل ذلك مثل المد (البحري) وهو يستجمع الزخم، فإن عِظم القوى التي أطلقها حضرة بهاءالله يتزايد كل يوم، وعليه سيأتي وقت تصل فيه هذه التوترات إلى نقطة الانهيار أو الانكسار.

إن كل حرب أو فجيعة تقريبًا وقعت في كوكبنا هذا خلال القرن الماضي سببتها معارضة الإنسان لقوى العالمية والوحدة التي كانت تغلغلت في أركان العالم منذ ظهور حضرة بهاءالله. إن التعصب العرقي والديني والوطني وغيرها يتعارض تمامًا مع تعاليم حضرة بهاءالله. فكل قوم إذًا، تنطبع أفعالهم بطابع التعصب والكراهية والأنانية والطمع وفوق كل ذلك معارضة مبدأ وحدة الجنس البشري، سيتسببون في خلق عدم الاستقرار، والتوتر وسفك الدماء في العالم ثم، عاجلاً أم آجلاً، يختمون بأنفسهم على نهايتهم.

بعد النظر بإيجاز في ظهور هذه “العلامة”، أي مجيء حضرة بهاءالله، في آفاق العالم الإنساني عمومًا، كما سبق الإشارة إليه في الآية القرآنية سالفة الذكر وفي “لوح نصير”، دعنا نفحص “العلامة” الأخرى المشار إليها في الآية نفسها، أي ظهور آثار عنايات الله في أنفس العباد. لقد بعث حضرة بهاءالله في كل نفس قدرات متجددة ونفخ في هياكل([8]) الموجودات روحًا جديدًا منذ إعلان ظهوره في حديقة الرضوان كما ورد من قلمه الأعلى:

“قد قبضنا الأرواح بسلطان القدرة والاقتدار. وشرعنا في خلقٍ بديعٍ فضلاً من عندنا وأنا الفضّال القديم.”(13)

وكما تنبأ حضرة الباب:

“إن نطفة الظهور القادم كانت وستكون أقوى من جميع أهل البيان.”(14)

فأبناء البشر اليوم في كل مكان، بِغضّ النظر عن العرق أو اللون أو الجنسية، لديهم القدرة للوصول إلى معرفة الله واكتساب الصفات الروحانية، كما أنهم أثبتوا من جهة أخرى قابليتهم للتعلم ويصبحون ماهرين بنحو مماثل في الفنون والحضارات والعلوم سواء أكانوا من الشرق أو الغرب. هذا لم يكن ممكنًا من قبل حينما كان أغلب الناس في العالم متخلفين، وكان الرق (العبودية) شائعًا بكثرة، واستكانت جماهير غفيرة لسطوة أقلية صغيرة. لكن عالمية رسالة حضرة بهاءالله وما أطلقه من قوى بعث جديد في باطن الإنسان أنجبت خلقًا جديدًا من الإنسان الذي رُزق برؤيا وبصيرة جديدة وعزيمة للتفكير بنحو مستقل والعمل وفق غاية وهدف.

نتيجة لفشل الإنسان في عرفان حضرة بهاءالله، فإن قدراته الجديدة، بدلاً من أن يستعين بها ويستغلها للاهتداء إلى سبيل الحقيقة، قد خلقت صراعًا واضطرابًا هائلين في ذهنه. من أجل أن نقدّر هذه المسألة، علينا أن نتدبر فترة ما قبل ظهور حضرة بهاءالله مباشرة. كان يسود الناس آنذاك، في معظم أنحاء العالم، شعور بالقناعة والرضى من الحياة إلى حد معقول. لم يكن بين الناس من الخلاف والنزاع كما هو الآن. كان أغلب الناس مقتنعين بعقائدهم الدينية الموروثة. ولم يكن بينهم الكثير من اللاأدريين والملحدين كما عليه الحال اليوم، كما لم يكن هناك من المذاهب الدينية المتعددة بالكثرة الموجودة حاليًا. لكن بظهور حضرة بهاءالله تبدّلت الأحوال جذريًا.

من أجل توضيح ذلك، دعنا نستعين بمثال النور والظلمة. فلو تواجد عدد من الأشخاص في غرفة مظلمة، لا يبقى مبرر لجدالهم حول أشياء (موجودة في الغرفة) لا يمكنهم رؤيتها. أمّا إذا أنيرت الغرفة، فسيرى كل واحد بنفسه ويحكم بشأن ما يراه حوله. عندئذ يمكن حدوث اختلافات حول شكل وتنسيق تلك الأشياء.

هكذا كانت حال البشرية قبل مولد دين حضرة بهاءالله في ظلمة حالكة. فقد كان الناس متمسكين بما ورثوه من عقائد كأمر مسلّم به، ونادرًا ما كانوا يخوضون تلقائيًا وباستقلالية في التفكير بأمور مثيرة للجدل. كان الحكام ورؤساء الدين بصفة رئيسة هم الماسكون بزمام قيادة الجماهير وقادوهم إلى ما اعتبروه صوابًا. لكن عندما أشرقت شمس الحقيقة استنارت عقول الناس، فصاروا ذوي بصر وعقلية جديدة وأصبحوا يفكرون من تلقاء أنفسهم. بدأ الناس يتساءلون عن صلاح وأحقية دياناتهم، وخلال فترة قصيرة حدثت اختلافات عظيمة.

فقد انقسمت الأديان وبرزت وتشعبت عدة مذاهب مع مرور الزمن. وتخلى عدد كبير منهم عن دياناتهم نهائيًا وتزايدت بذلك ونمت صفوف اللاأدريين والملحدين. قام ملايين البشر مطالبين بحقوقهم. وقعت ثورات في عدة بقاع من العالم وصار يُروج لعقائد ونُظم جديدة. تفجرت الفنون والعلوم فجأة عن عصر جديد من طفرات تكنولوجية لم يسبق لها مثيل، تمخضت عن تأسيس نظام مدهش للاتصالات عبر العالم.([9])

لم تأت كل هذه التطورات خلال المائة وخمسين سنة الماضية عفويًا ولا تصادفًا. بل إنها ترجع إلى نفخ قدرات جديدة في روح كل مخلوق. يعلن حضرة بهاءالله في أحد ألواحه:

“قد نُفخت بحركةٍ من القلم الأعلى روحٌ جديدٌ للمعاني في أجساد الألفاظ بأمر من الآمر الحقيقي. وآثارها ظاهرة لائحة في جميع أشياء العالم.”(15)

بالإضافة إلى الصنفين من “العلامات” سالفيّ الذكر، يعلن حضرة بهاءالله بأن غزارة وحيه النازل يشكل علامة أخرى، ودليلاً على أحقية دعوته السماوية لهذا اليوم. ويخبر حضرة بهاءالله نصيرًا بخصوص هذه الغزارة في نزول الوحي متفضلاً:

“إن غمام فضل الأمر وسحاب فيض الأحدية هاطل لدرجة أنه ينزل ما يعادل ألف آية في الساعة الواحدة.”(16)

كما سبق ذكره، فإن كثيرًا من تلاميذ حضرة بهاءالله ممن كانوا بمحضره ساعة نزول آيات الله، قد ذهلوا لدى رؤيتهم الآثار الظاهرة لعظمته وجلاله.([10]) يشير حضرة بهاءالله في “لوح نصير” إلى هذا مؤكدًا بأن “لولا ضعف العباد وفساد من في البلاد”، لأجاز للكل الحضور ساعة نزول الوحي ليشاهدوا نفحات روح القدس بظاهر بصرهم وينظروا عظمة منزل كلمات الله وجلاله.

يكشف حضرة بهاءالله في هذا اللوح عن علو مقام “الموقنين والواردين” ويصف شقاء المعرضين. يصرح بأن كل إنسان في هذا اليوم تنطوي في كينونته كل القوى والصفات المودعة في الكون المادي. ويوجد في كل ذات (إنسان) ما يقابل الأشجار والأثمار والأوراق والأغصان والأفنان والبحار والجبال. يظهر ذلك كشؤنات قدسية عند المؤمنين، ورذائل شيطانية عند المشركين. مثلاً، تتجلى في المؤمنين سماء العلم، أشجار التوحيد، أوراق الإيقان، أزهار حب جمال الرحمن، بحور العلم وأنهار الحكمة. بينما لدى المشركين نجد سماء الإعراض، أرض الغل، أشجار البغضاء، أفنان الحسد، أوراق البغي وأوراد الفحشاء.

لكن المؤمنين ينفسمون إلى قسمين: قسم ستر عن العناية الإلهية، إذ منعوا أنفسهم عن رحمته بما فعلوا من أعمال غير لائقة وبذلك احتجبوا عن رؤية روعتها العظمى. والقسم الآخر ممن فتحت أبصارهم بعناية الرحمن، يشهدون بلحاظ الله المودعة فيهم، وجودَ آثار القدرة الإلهية وبدايع ظهورات الصنع الربانية في ذات أنفسهم. هذه هي حال الفرد التي يكون فيها غنيًا عمّا سوى الله، ويرى نفسه محيطًا على كل شيء. بل سينطوي في ذاته كل ما خُلق في هذا الكون. يصرح حضرة بهاءالله بأنه لو قام نفس مه هذه النفوس، واعيًا بما لديه من هذه القوى، على خدمة أمر الله بعزم ثابت فإنه سيوطد سطوته على كل أهل هذا العالم ولو قاموا عليه بكل قواهم.

إن تاريخ أمر الله حافل بقصص بطولة رجال ونساء وبشجاعتهم بلغوا هذه المرتبة العليا. إن أسماء كل من الملاّ حسين، القدوس، الطاهرة، وحيد، الحُجّة وبديع أمثلة قليلة من بين العديد غيرهم. فقد بلغ هؤلاء من السطوة والنفوذ في عوالم الله بحيث صارت كلمتهم خلاقة. فعندما واجهوا الأعداء أثبتوا أن لديهم من القوة والقدرة ما هو فوق قدرة البشر.

ترك الملاّ حسين، أول من آمن بحضرة الباب، هذه الشهادة بشأن تحوّله الكامل ليلة إعلان حضرة الباب دعوته:

وجاءتني هذه الرسالة على غرّة كالصاعقة التي خدّرت جميع قواي وقتًا ما وكان بهاء إشراقها يخطف بالأبصار وأخذتني قوتها الساحرة وحركت أعماق قلبي بشدة الفرح وفرط التعجب والدهشة والخوف وكان الحبور هو الغالب عليّ من جميع هذه الاحساسات وكذلك القوة فإنهما أخذا بمجامع قلبي واستوليا على هيكلي ولبّي فكم كنت أحس بالضعف والإهمال والجبن قبل ذلك. وما كنت أقدر على الكتابة ولا على المشي وكانت يداي ورجلاي ترتعشان على الدوام ولكن معرفة أمره بعد ذلك كهربت جسمي وأحسست بوجود قوةٍ وشجاعةٍ لا يقدر العالم بأجمعه على مقاومتها بل لو اجتمع أهل الأرض وما عندهم من قوةٍ لرأيت في نفسي من الجسارة ما أقاوم به هجومهم وحدي فكان الوجود أمامي كقبضة من تراب في يدي وكأن جبريل قد تجسّد فيّ وهو ينادي العالمين: “تنبهوا أيها الأقوام فقد انبلج نور الصباح ولاح الأمر وفتحت أبواب الرحمة لتدخلوا فيها لأن الموعود الذي وعدتم به قد ظهر.”(17)

عقب تلك الليلة الخالدة ظل الملاّ حسين مشعشعًا بما وُهب من شجاعة وثبات خارقين. يكفي برهانًا على هذا كل حادثة تتصل بحياته المفعمة بالخدمة والتضحية في سبيل أمر الله الوليد. ينطبق ذات الشيء على العديد من تلاميذ حضرة الباب وحضرة بهاءالله.

إن الحدث التالي في حياة وحيد،([11]) على سبيل المثال، يبرز نموذجًا للقوة الإلهية التي تميزت بها أمثال العديد من هذه الأعمال البطولية. ففي سنة 1850م قامت في مدينة يزد جماعة كبيرة من الناس، بتحريض من نوّاب رضوي، أحد شخصيات المدينة المتنفذين، بمهاجمة وحيد. هكذا يروي النبيل قصة ما حدث:

وفي هذه الأثناء نجح نوّاب في إثارة الغوغاء وأخذوا يستعدون للهجوم على منزل وحيد إذ نادى السيد وحيد من يُدعى السيد عبد العظيم الخوئي الملقب بالسيد خالدار الذي كان قد اشترك بضعة أيام في الدفاع عن قلعة الطبرسي والذي ذاعت جاذبية طلعته البهية في أنحاء البلاد وأمره أن يمتطي جواده ويخطب في الناس علنًا في الشوارع والأسواق ويحرّض جميع السكان والأهالي على اعتناق أمر صاحب الزمان وزاد بقوله: ’عرّفهم أني لا أنوي أن أثير حربًا دينية عليهم فليحذروا أنهم إذا أصروا على حصار منزلي واستمروا في أعمال الهجوم عليه منكرين حرمة مقامي وشرفي فإني أكون مضطرًا للدفاع وأن أقاومهم وأشتت شملهم وإذا لم يسمعوا لنصحي وأرادوا أن يستمعوا لدسائس نوّاب الماكر فإني آمر سبعة من أتباعي صد هجماتهم وسحق آمالهم وإرجاعهم خائبين.‘

فقام السيد خالدار وامتطى الجواد وسار محروسًا بأربعة من إخوانه المنتخبين ومشى وسط السوق وتفوه بالإنذار الذي كلّف به بجلال وعظمة ولم يقتنع بذلك بل زاد عليه من عنده بما رأى أنه يزيد في قوة الدعوة التي وجّهها فكان ينادي ويقول: ’الويل لكم إذا احتقرتم حجّتنا فأحذّركم أن ارتفاع صوتي وحده كافٍ لأن يجعل أسوار قلاعكم تهتز وأمّا قوة ساعدي فتقدر أن تسقط أبوابها.‘

وكان صوته الجهوري يدوّي كالرعد وأوقع الفزع في قلوب الذين سمعوه. وعزم الأهالي الخائفون بالاتفاق على ترك أسلحتهم والامتناع عن إيذاء وحيد وقالوا إنهم سيعترفون له بنسبه واحترامه.(18)

لكن بعد ذلك بوقت قصير، وفي تطورات أخرى، عاد جمهور من الناس إلى محاصرة منزل وحيد والتهيؤ للهجوم عليه وأصحابه الذين كانوا منذ عهد قريب قد اعتنقوا أمر الله. بهذا الخصوص يكتب النبيل:

وتبعه (أحد الأحباء المدعو محمد عبد الله) العدو إلى ذلك المنزل وهو عازم على أخذه وذبحه وكان ضجيج الغوغاء حول المنزل قد أجبر وحيد أن يأمر الملاّ محمد رضا المنشادي من أكابر علماء منشاد والذي خلع العمامة وقدّم نفسه بصفة بوّاب للمنزل أن يقوم هو وستة من أصحابه من الذين يختارهم ويشتت القوات المهاجمة وأمرهم قائلاً: ’على كل واحد منكم أن يرفع صوته الله أكبر سبعًا وفي السابعة يتقدّم مع إخوانه ويصدّون المهاجمين.‘

وكان الملاّ محمد رضا الذي سمّاه حضرة بهاءالله رَضى الروح([12]) قد قام هو وأصحابه لتنفيذ الأوامر التي أمر بها وحيد. ومع أن أصحابه كانوا ضعفاء جسمًا ولا خبرة لهم بصناعة الحرب والطعن إلاّ أن أرواحهم كانت مشتعلة بإيمان جعلهم رعبًا لأعدائهم. وقتل في ذلك اليوم سبعة من أشد الأعداء وهو اليوم السابع والعشرون من شهر جمادى الآخرى (10 أيار سنة 1850م) ومما رواه الملاّ محمد رضا: ’ما كدنا نشتت شمل الأعداء ونرجع إلى منزل وحيد حتى وجدنا محمد عبد الله مطروحًا أمامنا وهو جريح.‘(19)

من الجدير ملاحظة أنه خلال فترة تاريخهم القصير الحافل بالأحداث لجأ البابيون إلى استعمال القوة دفاعًا عن أنفسهم ضد أعدائهم.([13]) في هذه المعارك الدفاعية غالبًا ما كانوا يرسلون ثلة قليلة من رجالهم ليهاجموا جيشًا ضخمًا يحاصرهم، وفي كل حالة تقريبًا أفلحوا في إلحاق هزائم مهينة بأعدائهم.

عندما كان أعداء حضرة بهاءالله في العراق يتآمرون لقتله والقضاء على أمر الله، بدأ علماء الدين في ذلك البلد يتدبرون أمرهم في إعلان الجهاد ضد البابيين.([14]) في أحد الأيام بينما اجتمع عدد من الأصحاب بمحضر حضرة بهاءالله في باحة بيته، وهو يتخطى فيها جيئة وذهابًا، اندس بينهم اثنان من المنافقين المفسدين كانا على اتصال وثيق بهؤلاء العلماء لكنهما تظاهرا بأنهما من أنصار أمر الله. يروى بأن حضرة بهاءالله كان يتحادث مع المؤمنين في تلك المناسبة فتفضل قائلاً: ’إن العلماء قد أرسلوا في طلب بعض المجاهدين من النجف وكربلاء لإعلان حرب ضدنا.‘ بعد ذلك استدار حضرته نحو المنافقين الاثنين وتفضل قائلاً: ’قسمًا بالله العظيم، لن يكلّفني سوى أن أبعث اثنين من أصحابي ليهزماهم ويلاحقاهم حتى الكاظمين([15]).‘(20)

تبرهن هذه الأمثلة القليلة على القوة التي يحدثها الإيمان الصادق بالله لدى المؤمنين. وهذه القوة هي التي حركت بحيويتها تلاميذ حضرة الباب وحضرة بهاءالله وهي نفس القوة التي أشار إليها السيد المسيح بقوله:

“… فالحق أقول لكم لو كان لكم إيمان مثل حبة خردلٍ لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل ولا يكون شيء غير ممكن لديكم.”(21)

يعد حضرة بهاءالله في أحد ألواحه(22) “… تالله الحق من يخرج منه اليوم نَفَسٌ في حب مولاه وانقطاعه عمّا سواه ليجعله الله مؤثرًا في حقايق الأشياءوإذا فزت بذلك المقام لتطلبن ما تشاء باسمي العلي العظيم ولتفعلن ما تريد باسم ربك الرحمن الرحيم. فوعمري من بلغ إلى هذا البلوغ لن يتكلم إلاّ بالله ولن يتحرك إلاّ بالله ولن يسكن إلاّ بأمره ولن يمشي إلاّ في سبيل رضائه ولن بشهد إلاّ جماله ولن يخاف من أحد ولو يجتمع عليه الخلائق أجمعين.”

([1])       الفقرتان 53، 75.

([2])       لمزيد من المعلومات انظر “مطالع الأنوار”.

([3])       لمزيد من التفاصيل. انظر “مطالع الأنوار”.

([4])       انظر “مطالع الأنوار”.

([5])       أحد حواريي حضرة بهاءالله. سنعرض إلى المزيد عن حياته في المجلد الثالث.

([6])       ميرزا موسى (آقا كليم) والملاّ عبد الكريم القزويني.

([7])       انظر المجلد الأول، الصفحة 296.

([8])       انظر المجلد الأول، الصفحات 293-294، 296.

([9])       انظر المجلد الأول، الصفحة 231.

([10]) لمزيد من المعلومات عن كيفية نزول الوحي وقوة الكلمة الإلهية وغزارة الكتابات المقدسة، راجع المجلد الأول، الفصل 3.

([11])      انظر “مطالع الأنوار”، وكذلك المجلد الأول، الملحق رقم 3.

([12])      انظر المجلد الأول، والصفحة 94 من هذا المجلد. (أ. ط.)

([13]) منع حضرة بهاءالله أتباعه من اتباع هذا السبيل الذي كان يمارسه البابيون. لكن رغم توصية حضرته لأتباعه بأن لا يلجأوا للقوة عند مواجهة الاضطهاد، فإن هذا لا يعني أن عليهم الوقوف بلا حراك أو دفاع عن أنفسهم إذا تعرض فرد لهجوم شخصي. انظر المجلد الأول، الصفحتين 295-296، لمزيد من التفاصيل.

([14])      انظر المجلد الأول، الصفحة 151.

([15])      الكاظمية، قرب بغداد (آنذاك).

"لوح خليل"

كما ذكرنا سابقًا فإن وقع أنباء إعلان حضرة بهاءالله من جهة وتمرد ميرزا يحيى وعصيانه من جهة أخرى، قد سببا اضطرابًا وتشككًا في أذهان بعض المؤمنين في إيران. من بين الذين كتبوا يستوضحون من حضرة بهاءالله ويلتمسون الاستنارة (بهذا الشأن) كان الحاج محمد إبراهيم القزويني، الذي خاطبه حضرة بهاءالله باسم “خليل”. مما زاد في بلبلة هذا المؤمن استلامه لبعض سطور بالعربية كتبها ميرزا محمد علي([1]) (أحد أبناء حضرة بهاءالله وكان وقتها في سن المراهقة) ادعى فيها أنها آيات من وحي الله نزّلت كما نزّلت آيات والده. وادعى فيها بأنه موحى إليه بكلمة الله، وبأنه قد افتتح به أعظم ظهور، ومن خلال كلماته خلقت الأكوان!

كان ميرزا محمد علي قد أرسل كتاباته سرًا من أدرنة إلى قزوين. تأثر بها بصفة خاصة ثلاثة رجال أصبحوا أكبر مؤيديه، وهم: ميرزا عبد الله والحاج حسن وأخوه آقا علي.([2]) نشأت عن ذلك خلافات شديدة في قزوين بين زمرة مؤيدي ميرزا محمد علي قليلة العدد، والذين رأوا في منافسهم اليافع من يتمتع بمقام مساو لأبيه، وبقية المؤمنين في قزوين. فكانت هناك نقاشات وجدال ساخن في الجامعة مما حدا بالشيخ كاظم سمندر إلى أن يصرح بشدة بأن كتابات ميرزا محمد علي لم تكن أكثر من سلسلة جمل عربية لا تمتّ بِصلة لكلمات الله. بسبب ما ثار من خلاف حول ذلك بصفة رئيسة كتب خليل لحضرة بهاءالله ملتمسًا الإيضاح لمقامه ومقام أبنائه. كان ذلك في فترة انتقال حضرة بهاءالله إلى بيت رضا بيك تقريبًا حيث يشير إلى أسئلة خليل في “لوح الروح”.([3])

وبخ حضرة بهاءالله ميرزا محمد علي بشدة لادعاءاته الخرقاء وعاقبه بيده. ثم أنزل حضرته لوحًا(23) إلى خليل إجابة عن أسئلته وصرّح فيه بمقامه وشرح مكانة أبنائه. وهكذا زالت الشكوك التي بلبلت بال خليل، فأصبح مؤمنًا ثابتًا وحظي بألواح أخرى.([4])

يصرح حضرة بهاءالله بأنه ما دام أبناؤه مؤمنين به، عاملين بأوامر الله، ولم ينحرفوا عن الدين أو يحدثوا انقسامات في أمر الله، فهم يُعتبرون أغصان سدرته وأوراقها ومن آل بيته المبارك. من خلالهم تظهر رحمة الله وينتشر نوره. ولم تتوفر هذه الشروط في محمد علي. فإلى جانب دعواه المستحقة للسخرية، فقد ألحق بأمر الله أضرارًا أخرى خلال حياة حضرة بهاءالله، وبعد صعوده نقض ميثاقه وتمرد على حضرة عبدالبهاء.([5])

في “لوح خليل” يشير حضرة بهاءالله تلميحًا إلى حضرة عبدالبهاء بعبارات تميزه تمييزًا فائقًا عن غيره. مثلاً يشير إليه بقوله إنه أحد أبنائه الذي على “لسانه سيجري الله آيات قوته”، وبأنه هو الذي “اختاره الله لأمره.”(24) مع ذلك فإن حضرة عبدالبهاء، وطوال حياة حضرة بهاءالله، ظل حريصًا على الامتناع عن إطلاق قلمه في تحرير أي شيء([6]) لدرجة أن المؤمنين، في مرحلة ما، اشتكوا وضجّوا. في رده على ذلك أخبرهم بأنه ما دام صرير القلم الأعلى يُسمع من كل الجهات فمن غير الجائز أو اللائق لغيره أن يكتب.

في لوحه(25) الموجّه لاسم الله السيد مهدي الدهجي، يوبخ حضرة بهاءالله بعض المؤمنين لحماقتهم في اعتبار ابنه شريكًا له في مقام ظهوره. يصرح حضرة بهاءالله في هذا اللوح، ذاكرًا محمد علي بالاسم، “إنه عبد من عبادي… إن انحرف عن ظل الأمر لحظة واحدة لأصبح عدمًا صرفًا.”(26)

هذا ويؤكد حضرة بهاءالله بلغة لا غموض فيها بأن مظهر الله مقدس عن كل البشر ولا شريك له. ويقرر ذات الشيء في كتاباته الأخرى أن الله هو الذي قدّر العصمة لمظاهره، ويدعوها بالعصمة الكبرى والتي هي هبة يتميز ويختص بها مظاهر نفسه فقط دون سواهم، ولا ينبغي أن يُشتبه بينها وبين العصمة المكتسبة التي منحها لحضرة عبدالبهاء.

([1])       أصبح فيما بعد ألد أعداء حضرة عبدالبهاء والناقض الأكبر لعهد حضرة بهاءالله.

([2])  طلب حضرة بهاءالله خصيصًا من الأخوين الحضور من إيران. وعند لقائهما بحضرته أدركا فداحة خطئهما وسوء تقديرهما.

([3])       انظر الصفحة 178.

([4])  بعض المقتطفات من ألواحه مترجمة إلى الإنگليزية ونشرت في “منتخبات من آثار حضرة بهاءالله”، الفقرات 33، 38، 77، 127.

([5])  لمزيد من التفاصيل عن حياة ميرزا محمد علي وعصيانه انظر “كتاب القرن البديع”، و”ظهور حضرة بهاءالله”، المجلد الأول.

([6])  طلب حضرة بهاءالله من حضرة عبدالبهاء الكتابة حول بعض المواضيع من حين لآخر.

"لوح سراج"

من ضمن المؤمنين الذين كتبوا لحضرة بهاءالله وعرضوا بعض الأسئلة حول مركز ميرزا يحيى ومكانته، كان الملاّ محمد علي سراج من مواطني إصفهان. آمن بحضرة الباب منذ الأيام الأولى لدعوته وفاز بمحضره في تلك المدينة. مما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن أخته، فاطمة،([1]) كانت الزوجة الثانية التي اتخذها حضرة الباب بعد إلحاح شديد من منوچهر خان، حاكم إصفهان. لكن الملاّ محمد سراج أصبح من أنصار ميرزا يحيى، وبالرغم من شرح حضرة بهاءالله في هذا اللوح كل ما يلزم شرحه بشأن أمر الله، إلاّ أنه ظل متحديًا واستمر، مع أخيه، الملاّ رجب علي قاهر، يدعم نشاطات ميرزا يحيى الشريرة.

إن “لوح سراج” من الألواح المطوّلة،([2]) وكالعديد من الألواح المنزلة في هذه الفترة يتناول موضوع دحض مفتريات ميرزا يحيى ومؤيديه. يعلن فيه حضرة بهاءالله، بعبارات رقيقة تحرّك الوجدان، أن غايته من تنزيل هذا اللوح كانت تبليغ أمر الله، عسى أن يُقبل ويؤمن به بعض النفوس ليقوموا على نصرة أمره. ثم يصرح بأن ما من ظلم في الدنيا أشد من أن يجد الجمال المبارك نفسه بحاجة لإثبات أحقية رسالته، رغم حقيقة كونه ظاهرًا لائحًا كالشمس، وأن فيوضات ظهوره قد أحاطت العالم. يؤكد أيضًا بأن أمر الله غني عن الإثبات والبرهان ولا ينبغي أبدًا التحقق منه والقياس بغيره من المعايير. لكنه مع ذلك، ومن أجل هداية نفوس قليلة وافق على تبيان الحقائق وإثباتها والتي ينطوي عليها دينه.

كان السؤال الذي عرضه سراج يدور أساسًا حول الألقاب العليا والمركز الذي منحه حضرة الباب لميرزا يحيى فأراد أن يعرف كيف يمكن لشخص كهذا أن يدعوه حضرة بهاءالله بأنه الشيطان مجسّدًا وقطب النفي.

يتميز شرح حضرة بهاءالله بالعمق والبساطة في آن معًا، ويستند بصفة رئيسة إلى كتابات حضرة الباب. لن يكون أمرًا يسيرًا وصف توضيحاته في غياب ترجمة لها. كما أنه لأجل فهمها يلزم المرء أن يكون ملمًا بالمصطلحات الإسلامية والبابية. مع ذلك، يمكن القول بأن شرح حضرة بهاءالله في جوهره هو أنه ما دام إنسان ما في ظل أمر الله فهو متحلٍّ بالفضائل والصفات الحميدة، ولكنه عندما يحجب نفسه عن ذلك الفضل ويعترض على أمر الله، تنقلب حسناته إلى سيئات ويتحوّل نوره إلى ظلمة.

في العديد من ألواحه يسهب حضرة بهاءالله ببياناته حول هذا الموضوع. فمثلاً نجده يصرح في “لوح سلمان”([3]) المنزّل في أدرنة، بأن من كان مؤمنًا إيمانًا صادقًا بأمر الله تظهر منه فضائل سماوية. يظهر ذلك منه انعكاسًا لما تستفيض به ذاته من فيوضات شمس الحقيقة نتيجة توجّهه الخالص لله. فتبقى صفاته الحميدة ظاهرة لا يمكن نكرانها، وهي صفات صدرت أصلاً عن الله ووهبت فضلاً وجودًا منه، ما دام الشخص ثابتًا في هذه الحال من الإيمان الخالص.

أمّا إذا أعرض ذاك الشخص فيما بعد وأنكر أمر الله، فإن كافة فضائله ترجع إلى مقرها بينما تصبح مكتسباته وحسناته باطلة. بحرمانه من الصفات الإلهية فإنه لا ينبغي اعتباره نفس الشخص. بل يصرح حضرة بهاءالله حتى ملابس ذلك الشخص، ولو من الناحية المادية هي نفس ملابسه السابقة، تختلف في الحقيقة. ذلك لأن ما زال الشخص مؤمنًا صادقًا، فإن رداءه ولو كان قطنًا وضيعًا، يكون عند الله محسوبًا من حرير الجنة. بينما ينقلب بعد نكرانه ولا يستحق سوى أن يُلقى به في نار الجحيم.([4]) ولتصوّر ذلك يضرب حضرة بهاءالله مثلاً بالشمعة. فعندما يشعل فتيلها تضئ ما حولها، وإذا أطفأتها ريح، ذهب نورها.

هناك عدة أشخاص ممن قدّموا خدمات مرموقة لأمر الله ودخلت أسماؤهم في سجلاته، لكنهم عند هبوب أرياح الافتتان فشلوا في كبح جماح أنانية ذواتهم. إن أولئك لم يخسروا إيمانهم فقط بل خسروا أيضًا طيبتهم وفضائلهم. فقد هبطوا من علو المجد إلى أسفل دركات الذلة والهوان.

لعل أبرز مثال على هذا هو جمال البروجردي الذي سبقت الإشارة إليه.([5]) فقد كان خلال عهد حضرة بهاءالله في مقدمة مبلّغي أمره. وأينما حلّ كان يتجمهر المؤمنون حوله للاستفادة من علمه.

رغم ما كان عليه حال جمال من مكر ودهاء ولهف للرئاسة والتمجيد، إلاّ أن غالبية المؤمنين كانوا غافلين عن ذلك. فقد اعتبروه من أتقياء الله وأبدوا له احترامًا عظيمًا.

وفي المجتمعات الإسلامية يبدي الناس احترامًا عظيمًا لأهل العلم. وكذلك نصح حضرة بهاءالله أتباعه بتوقير العلماء من أهل البهاء ممن لم ينته بهم علمهم ومعارفهم إلى الغرور وتمجيد الذات. إن العالِم حقًا في هذا الظهور هو من يبلغ مرتبة من الانقطاع يعتبر فيها، مخلصًا، بأن ما لديه من علم ومعرفة لا يعدّ شيئًا بالمقارنة مع حقائق أمر الله، فيصبح تجسيدًا للتواضع ونكران الذات. خير مثال على ذلك هو ميرزا أبو الفضل، الذي أشير إليه سابقًا بإيجاز.([6]) فقبل إيمانه بأمر الله، غالبًا ما كان أبو الفضل يؤكد على علمه وتحصيلاته الشخصية. لكنه بعد اعترافه بأمر الله، أصبح متواضعًا لدرجة أنه كبهائي لم يفضّل نفسه على غيره طوال سنيّ حياته، كما أنه لم يستعمل أبدًا ضمير المتكلم (أنا) للإشارة أو حتى التلميح إلى إنجازاته الشخصية. لم يكن سر عظمته في امتناعه عن استعمال (أنا) بقدر ما كان اعتقاده الصادق في أنه لم يكن مستحقًا أو أهلاً لاستعمال كلمة (أنا).

ما من شك في أنه لأمثال هذا الرجل أنزل حضرة بهاءالله في “الكتاب الأقدس”:

“طوبى لكم يا معشر العلماء في البهاء تالله أنتم أمواج البحر الأعظم وأنجم سماء الفضل وألوية النصر بين السموات والأرضين. أنتم مطالع الاستقامة بين البرية ومشارق البيان لمن في الإمكان طوبى لمن أقبل إليكم ويل للمعرضين.”(27)

في أوائل تاريخ أمر الله، أثبت أمثال جمال ممن اعتبروا أنفسهم بمرتبة أعلى من غيرهم معرفة ومقامًا، وتظاهروا كأنهم الأعلون، أثبتوا دومًا على كونهم مصدر الخلاف والفساد. لهذا فإن حضرة بهاءالله قد منع أمثال هؤلاء من نيل القوة والسلطة. كما جرّد كل التصريحات والآراء الصادرة عن أي فرد من أي نفوذ معتبرًا إياها تفاسير شخصية، ولو كان هؤلاء في اعتبار المؤمنين من أعلى علماء أمر الله. بدلاً من ذلك شرّع بأن تُردّ كل الأمور إلى الهيئات المنتخبة وعلى رأسها بيت العدل الأعظم الذي تكفّل بهدايته.

بقي جمال البروجردي معروفًا كواحد من أقدر المبلّغين لمدة تناهز الأربعين سنة. تمكّن خلالها من إخفاء حقيقته عن جمهور المؤمنين. لكن، كما ذكرنا، كان هناك بعض المؤمنين ممن وهبوا البصر الثاقب والذين وجدوا بأنه لم يكن سوى سيد النفاق والخداع. من هؤلاء كان الأستاذ محمد علي سلماني (الحلاق)([7]) الذي التقى بجمال في أدرنة عندما كان الأخير قاصدًا التشرف بمحضر حضرة بهاءالله. يروي سلماني في مذكراته القصة التالية:

في أحد الأيام بينما كنت أجلب الماء للفناء الخارجي لمنزل حضرة بهاءالله علمت بوصول آقا جمال البروجردي. دخلت ديوان الاستقبال فوجدته جالسًا في زاوية، لابسًا العباءة وعلى رأسه عمامة ضخمة.([8]) لاحظت أن يديه كانتا بوضع توحي بتوقّعه أن يقبّلهما من أراد ذلك.([9]) هذا ولم يكن بعد قد تشرّف بمحضر حضرة بهاءالله. كان يبدو لي ذلك المخلوق رجل دين غريب الشكل.

كنت أعتبر نفسي ذا دهاء ورجل حيلة. وهكذا دخلت، ملقيًا تحية “الله أبهى” بنحو عفوي، وبلا اهتمام به جلست في الجهة الأخرى من الغرفة. بعد ذلك استلقيت على الأرض لبعض الوقت ثم عدت وجلست. قمت بكل ذلك قاصدًا جرح كبريائه لأنه كان رجلاً متفاخرًا مغرورًا وقد جلس في صالة الاستقبال الخاصة بالجمال المبارك بكل خيلاء وزهو أناني. بعد كل قلة احترامي له نظرت إليه سائلاً: ’كيف حالك؟‘ فاكتفى بإيماءة من رأسه. قمت وتركته منصرفًا لواجباتي حتى العصر حينما دُعي لدخول محضر حضرة بهاءالله. دخلت وناديته ليتبعني. قدته إلى داخل حرم الدار ثم صعدنا إلى الطابق العلوي ودخلنا غرفة حضرة بهاءالله. كان الغصن الأطهر([10]) واقفًا في محضره المبارك.

وقفتُ عند مدخل الغرفة. ودخل جمال متظاهرًا بأنه يرتجف من رأسه لقدميه ثم سقط أرضًا، لم يكن ذلك إلاّ تمثيلاً. كان الجمال المبارك جالسًا بينما هرع الغصن الأطهر لمعاونة جمال على النهوض. لكن حضرة بهاءالله أوقفه قائلاً: ’دعه وشأنه، سينهض بنفسه.‘ بعد قليل قام وجلس، ثم وقف مرة أخرى. بعد ذلك صرفه حضرة بهاءالله من محضره ولم يقل شيئًا. أمّا جمال… فبقي بضعة أيام، ثم أرسله حضرة بهاءالله عائدًا لإيران، كان هذا الرجل فاسدًا من البداية، ولم يكن هدفه سوى الرئاسة…(28)

إن هذا الظمأ تلهفًا للرئاسة هو الذي قضى على جمال في النهاية. لأن دين حضرة بهاءالله لا يسمح لعناصر ضارة مريضة كهذه بالبقاء داخل حظيرته فهو يلفظ تلقائيًا أهل الغرور والأنانية. إنه كالبحر المحيط يأتي مع مدّه بكل ما يحمله من جثث ويطرحها على الشاطئ ويتطهّر بذلك من دنسها. في أوائل سنيّ ولاية حضرة عبدالبهاء، قبل شيوع عصيان ميرزا محمد علي علنًا، خلق جمال وضعًا مضطربًا في جامعة الأحباء بطهران من خلال سعيه وراء الرئاسة هناك. فمع أنه تحالف مع ميرزا محمد علي، لكنه ظل يبدي إخلاصًا لحضرة عبدالبهاء. في أثناء هذه الفترة سبّب حيرة الكثير من النفوس وشوش أذهانهم، وتجادل علانية مع أيادي أمر الله([11]) في نضاله لضمان مكانة خاصة لنفسه داخل أمر الله. عندما أعلن ميرزا محمد علي عصيانه علانية، صار جمال من كبار مؤيديه. فطرد خارج حصن أمر الله بقوة الميثاق. وقد صرّح حضرة عبدالبهاء بأن جمال كان سمًا للجامعة، وبطرده من الأمر تطهّرت من رجسه. كان سقوط جمال مثيرًا كما كان اشتهاره. عندما ثار ضد حضرة عبدالبهاء، المركز المعيّن لميثاق أمر حضرة بهاءالله، مات روحيًا وسرعان ما هلك بعدها. قضى أواخر أيام حياته نادمًا معوزًا. انفضت من حوله جماهير المؤمنين الذين طالما التفّوا حوله بحماس ليستمعوا إلى كلماته، لأن روح الإيمان قد فارق روحه. حتى أحد أبنائه، ميرزا لطف الله، الذي بقي مخلصًا للميثاق، تبرّأ منه. كان الأخير، الذي اتخذ اسم “موهبة” لقبًا لعائلته، فنانًا بارز الموهبة، وقدّم خدمة فريدة لأمر الله في نطاق فنّه بالقيام بتزيين الكثير من الألواح وزخرفتها والتي حُفظت في محفظة الآثار البهائية. تشهد زخارفه الجميلة هذه على عبقريته الفنية وكذلك إخلاصه المتفاني لأمر الله.

يذكر حضرة بهاءالله في “لوح سراج” ما روّجه أتباع ميرزا يحيى في أدرنة من أنه كما لا يمكن للذهب أن ينقلب إلى معادن رخيصة، كذلك من بلغ مقامًا عاليًا (إشارة إلى ميرزا يحيى) لا يمكن أن يفقده. ردًا على ذلك أنزل حضرة بهاءالله الكلمات التالية:

“ومن جملة الشبهات التي ألقاها المشركون في هذه الأرض مسألة تحوّل النحاس إلى ذهب. قل إي وربي ولكن عندنا علمه نعلّم من نشاء بعلم من لدنا ومن كان في ريب فليسئل الله ربه بأن يشهده ويكون من الموقنين. وفي تحوّل النحاس إلى ذهب هناك دليل واضح لعودة الذهب إلى حالته الأولى لو هم يشعرون. ويمكن تحوّل جميع الفلزات بوزنها وصورتها ومادّتها إلى فلزات أخرى ولكن علمه عندنا في كتاب مكنون.”(29)

شغلت مسألة الخيمياء -الكيمياء القديمة- عقول الناس لقرون. في عهد حضرة بهاءالله كانت ما تزال موضوعًا حيًا وكان عدة مؤمنين مرتبطين بها إلاّ أن حضرة بهاءالله حثّهم على عدم السعي لتحصيله في ذلك الحين. مع ذلك فإنه أكد على أن تحويل معادن خسيسة إلى ذهب، وهو حلم الكيمياويين القدماء، أمر ممكن. بل إنه وعد أن العملية ستتحقق، وبأن تحققها سيكون إحدى علامات بلوغ البشرية. إضافة لذلك تنبأ بأن كارثة كبرى تنتظر العالم بعد اكتشاف سر ذلك ما لم يدخل البشر في ظل أمر الله.(30) بإمكان علماء الفيزياء الآن، وبواسطة عمليات نووية خاصة، تحويل مختلف العناصر إلى عناصر أخرى.

في “لوح سراج” يشير حضرته بإسهاب إلى آثام ميرزا يحيى وخيانته، ويرمز لنفسه بيوسف، ويصف عذابه على يد أخيه الذي ينصحه متوددًا لكي يتوب ويرجع إلى الله ربه.

بخصوص نزول الوحي والكلمة الإلهية الملهمة، يخبر حضرة بهاءالله سراجًا بأن كلمة الله العليا قد نزلت بغزارة بحيث “عجز الكتّاب عن تحرير ما نزل في هذه الأرض (أدرنة) فظل أكثره بلا تحبير.”(31) ويؤكد أنه رغم إلقاء مقدار كبير من كتاباته في النهر (دجلة) ببغداد بتعليماته شخصيًا،([12]) إلاّ أنه لم يزل موجود ما يعادل مائة ألف آية في أدرنة، لم يستنسخ واحد منها حتى الآن. يصرّح بأن عدة أشخاص قد التمسوا الإذن للقيام بتصنيف ما كان موجودًا من آثاره وترتيبها في كتب تنشر للمؤمنين، لكنه لم يأذن بذلك. إلاّ أنه بدلاً من ذلك طمأنهم بأن الله سيقيم رجالاً مكرمون في المستقبل يجمعون كتاباته ويصنفونها على خير وجه. يصرّح بأن التنزيل وظيفة مظهر أمر الله، والجمع والنشر من عمل العباد. يضرب لذلك مثلاً بالقرآن الكريم حيث جُمع وصُحّف بعد وفاة الرسول r، كما كانت حال الأناجيل بعد السيد المسيح.

ويشهد اليوم أتباع حضرة بهاءالله تحقق هذه الكلمات. فقد صنفت عدة مجلدات من ألواح حضرة بهاءالله حتى الآن باللغتين الفارسية والعربية الأصليتين وبضعة مجلدات بلغات أخرى. والعملية هذه ماضية الآن في توسع ونمو مطرد، وسيتوفر بمرور الوقت المزيد منها. إلى جانب هذا، فإن بيت العدل الأعظم، المرجع الروحي والإداري الأعلى لأمر الله، قد أوكل إلى نفسه، منذ أوائل أيام تشكيله،([13]) مهمة جمع الآثار المباركة وتصنيفها، وهي مهمة تلعب دورًا هامًا في انتشار رسالة حضرة بهاءالله نظرًا لأهميتها القصوى.

([1])       انظر المجلد الأول، الصفحة 264.

([2])  ترجم حضرة شوقي أفندي أجزاء قصيرة منه نشرت في “منتخبات من آثار حضرة بهاءالله”، الفقرتين 50، 97.

([3])       انظر الفصل 13.

([4])  من تعاليم حضرة بهاءالله أن الجنة والنار ليستا بمكانين (ماديين) بل حالتان للروح. فالقرب من الله هو حالة تجعل الروح في الجنة، والبعد عن الله حالة تجعلها في النار.

([5])       انظر الصفحة 114.

([6])       انظر الصفحة 41.

([7])       انظر الصفحات 150-156 لقصة حياته.

([8])  طوال حياته في ظل أمر الله حافظ جمال على زي علماء المسلمين ولم يتخل عنه.

([9])  أظهر المسلمون احترامًا بالغًا لعلماء الدين الذين اعتادوا مد أيديهم للعموم لتقبيلها. وقد حرّم حضرة بهاءالله تقبيل الأيدي.

([10]) ميرزا مهدي، أصغر أخوة حضرة عبدالبهاء والذي توفي فيما بعد في عكاء. اعتبر حضرة بهاءالله وفاته بمثابة تضحيته هو. سنعرض في المجلد التالي لهذا الابن اللامع.

([11]) يختص أيادي أمر الله بصفة أساسية، وفق نصوص وصية حضرة عبدالبهاء، بوظيفتيّ حماية الدين ونشره. والذين ما زالوا على قيد الحياة كان قد عيّنهم ولي أمر الله حضرة شوقي أفندي.

([12])      انظر المجلد الأول، الصفحة 72.

([13]) تشكّل أول بيت عدل عمومي بانتخاب من قبل المحافل الروحانية المركزية في العالم في 21 نيسان 1963م، المصادف للذكرى المئوية الأولى لإعلان دعوة حضرة بهاءالله.

﴿ 12 ﴾ افتتان الإيمان

تساقط النجوم

في شهر تشرين الثاني سنة 1866م، حينما كان حضرة بهاءالله يسكن في بيت رضا بيك تزينت السماء بمشهد أخاذ لوابل من الشهب. فقد اندلعت آلاف من النيازك تنير السماء حين عبورها غلاف الكرة الأرضية. لقد راقب هذه الظاهرة، التي سميت ﺒ”تساقط النجوم” عام 1866م، ملايين البشر في الشرق والغرب وبالنسبة للعديد من الناس كانت تجربة مرعبة.([1])

طبقًا للإنجيل فإن إحدى علامات مجيء السيد المسيح بمجد الآب هي تساقط النجوم.([2]) يشير حضرة بهاءالله لهذا في أحد ألواحه التي يقتطف منها في “لوح ابن الذئب”:

“يا أيها المتوجّه إلى أنوار الوجه. قد أحاطت الأوهام سكان الأرض ومنعتهم عن التوجّه إلى أفق اليقين وإشراقه وظهوراته وأنواره. بالظنون مُنعوا عن القيّوم. يتكلّمون بأهوائهم ولا يشعرون. منهم من قال… هل سقطت النجوم قل إي إذ كان القيّوم في أرض السر فاعتبروا يا أولي الأنظار. قد ظهرت العلامات كلها إذ أخرجنا يد القدرة من جيب العظمة والاقتدار.”(1)

مع أن هذا العرض الساحر من وابل الشهب جاء تحقيقًا ماديًا ﻟ”تساقط النجوم” الوارد ذكره في النبوءات القديمة، إلاّ أن أهميته الحقيقية يمكن الاطلاع عليها في كتابات حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء حيث جاء فيها تفاسير كلمات الأناجيل. فيشرح حضرة بهاءالله، مثلاً، أن المقصود الحقيقي من سقوط النجوم هو سقوط مكانة العلماء ونفوذهم، أولئك الذين، بإعراضهم عن دعوة حضرة بهاءالله، قد فقدوا سلطتهم على الناس. في أحد ألواحه التي يخاطب فيها أساقفة المسيحيين، يعلن حضرة بهاءالله:

“يا ملأ الأساقف! أنتم أنجم سماء علمي. فضلي لا يحب أن تتساقطوا على وجه الأرض ولكن عدلي يقول هذا ما قُضي من لدى الإبن،([3]) ولا يتغير ما خرج من فمه الطاهر الصادق الأمين.”(2)

ويعلن كذلك:

“قد سقطت أنجم سماء العلم الذين يستدلّون بما عندهم لإثبات أمري ويذكرون الله باسمي فلمّا جئتُهم بمجدي أعرضوا عنّي ألا إنهم من الساقطين.”(3)

بقدر ما تبينه سجلات التاريخ، فإن كل دين قد كان له رؤساء. فقد كان لرجال الدين والكهنة دور رئيس في الأدوار السابقة في تصريف شؤون الدين. أصبحوا أكثر عناصر المجتمع الإنساني حيوية، ومارسوا نفوذًا قويًا في حياة العامة. حصلوا على سلطة كبيرة لم تضعف قط حتى مجيء حضرة بهاءالله حينما جرّدهم، بجرّة من قلمه الأعلى، من قوة تمتعوا بها منذ بدء الزمن. أنزل في أحد ألواحه:

“رُفعت العزة عن طائفتين: الأمراء والعلماء.”(4)

إن النفوذ الخلاق لكلمات حضرة بهاءالله في هذا وغيره من البيانات المباركة قد ولّد عملية تفكك المؤسسات الدينية مقرونة بسقوط رؤسائها الذين أصبحوا واعين بنحو متزايد لعجزهم عن الاحتفاظ بسيطرة ذات بال على طوائفهم.([4])

في هذه الدورة ألغى حضرة بهاءالله نظام الكهنوت (رجال الدين). بدل ذلك عهد بإدارة شؤون دينه إلى مؤسسات أسماها “بيوت العدل”.([5])

([1])       انظر الملحق رقم 1.

([2])       انظر إنجيل متّى، الأصحاح 24، الآية 29.

([3])       السيد المسيح.

([4])       من أجل دراسة أوسع لهذا الموضوع انظر كتاب “قد أتى اليوم الموعود” (لم تنشر ترجمته العربية    بعد).

([5])  إلى جانب بيت العدل الأعظم، الهيئة الدينية الأعلى، شرّع حضرة بهاءالله تأسيس بيوت عدل محلية في كل مدينة أو قرية. هذه المؤسسات تعمل حاليًا في شكلها الجنيني- المحافل الروحانية المحلية.

"سورة العباد"

نزلت “سورة العباد” باللغة العربية في أدرنة بحق السيد مهدي الدهجي. لقد سبق الحديث عن السيد مهدي، والذي لقّبه حضرة بهاءالله ﺒ”اسم الله المهدي”، في فصل سابق.([1]) كان من مشاهير مبلّغي أمر الله خلال ولاية حضرة بهاءالله، إلاّ أنه مثل جمال البروجردي، الذي لُقب أيضًا “اسم الله”، كان رجلاً مغرورًا طموحًا نقض في النهاية عهد حضرة بهاءالله وعصى حضرة عبدالبهاء.

كان السيد مهدي من سكان بلدة دَهَج في مقاطعة يزد. فاز بشرف محضر حضرة بهاءالله في بغداد وأدرنة وعكاء وشمله بفيض عطاياه الدائم. جال كثيرًا، كما فعل جمال، في أنحاء إيران حيث أحاطه المؤمنون أينما حلّ وارتحل ببالغ التكريم والتقدير. مع ذلك وجده بعض أصحاب البصيرة الروحانية بأنه لم يكن من المخلصين، بل محبًا للذات وشديد التعلق بأمور الدنيا. من أبرز الذين كتبوا انطباعاتهم عنه كان الحاج ميرزا حيدر علي، الذي كتب أيضًا عن جمال البروجردي. من مطالعة عابرة لمذكراته يتضح بأن هذين الرجلين اشتركا على الأقل في صفة واحدة، ألا وهي ظمأ لا يُروى للرئاسة. كان السيد مهدي يدخل دائمًا مجالس البهائيين بكبرياء مصطنع ظاهر. كان يودّ رؤية حاشية من المؤمنين تمشي خلفه، وفي الليالي كان عدد من المؤمنين يمشون أمامه لينيروا دربه بالفوانيس.([2]) كان ذلك مشهدًا مثيرًا في تلك الأيام، إذ كان من المعتاد أن يصحب خادم واحد أو صديق أي شخص بالفانوس ليلاً. لكن في حالته كان عدد من المؤمنين يتنافسون للقيام بتلك الخدمة للسيد مهدي، ويذكر الحاج ميرزا حيدر علي أمسية سار فيها ما لا يقل عن أربعة عشر شخصًا في صحبته إلى اجتماع، يحملون الفوانيس!

إن رجالاً كهؤلاء ينتهون دومًا إلى السقوط. فدين حضرة بهاءالله لا يؤوي أناسًا أنانيين يسعون وراء تعظيم الذات. لأن شعاره الخدمة، والمعيار الذي ينشده طهارة النية والإخلاص. فلا عجب إذًا أن يسقط كل من السيد مهدي وجمال البروجردي إلى الحضيض عند هبوب أرياح الافتتان. فكلاهما نقض عهد حضرة بهاءالله وطمعًا في بلوغهما منصبي زعامة في إيران، فإنهما انضما إلى ميرزا محمد علي([3]) في تمرده ضد مركز أمر الله المعيّن (حضرة عبدالبهاء). عندما علم المؤمنون في إيران بما وقع، تركوهما وشأنهما وسرعان ما انقلب عزهما إلى ذلة. حاولا في البداية إحداث ضجة كبيرة داخل الجامعة. فحيروا أفكار الكثيرين، لكن قوة الميثاق جرفتهم إلى أسفل دركات الهوان مطهرة الدين من رجسهم.

دأب حضرة بهاءالله خلال فترة ولايته على أن يستر أخطاء السيد مهدي وذنوبه. وفي ألواحه أنعم عليه من عناياته وألطافه ناصحًا إياه بالتزام الإخلاص والطهر والانقطاع. يكاد لا يوجد لوح منزّل في حقه خاليًا من تأكيد هذه الشؤون. عندما غادر حضرة بهاءالله بغداد إلى الآستانة، أشار على السيد مهدي أن ينتقل إلى بيته المبارك([4]) وأوكله برعايته.

في أثناء إقامته بهذا البيت وقعت حادثة بسيطة تكشف ضعف إيمانه وتدلل على مدى تعلقه بالأمور المادية. فقد دخل بعض اللصوص البيت وسرقوا بعض ممتلكاته الشخصية. بلغ به التأثر والحزن لفقدان بضعة مواد تافهة بحيث اشتكى إلى حضرة بهاءالله. في جوابه، نصحه حضرة بهاءالله في لوح أنزله في حقه بالانقطاع عن شؤون الدنيا مذكرًا إياه بأن ما نزل به يعتبر لا شيء بالمقارنة مع ما نزل بحضرة بهاءالله من عذاب وما تحمّله من شقاء في سبيل الله.

نزلت “سورة العباد” في أوائل أيام ورود حضرة بهاءالله إلى أدرنة عندما كان السيد مهدي ما يزال حارسًا للبيت الأعظم ببغداد. يحضّه فيه أن “اجهد في ذاتك لتكونن من الصالحين”، وأن “طهّر عيناك عن كل ما سواه ثم دع كل ما في أيداك ثم قدّس نفسك عن كل من في الأرضين والسموات”. يثني حضرة بهاءالله على ذاته ويبيّن كيف أنه ظل عدة سنوات ينزّل كلمات الله بنحو غزير فياض بينما ستر بهاءه “خلف ألف حجاب فلمّا تم الميقات” أظهر “نورًا من أنوار وجه الغلام أقل من سم الإبرة” وبذلك “انصعقت أهل ملأ العالين“.([5])

يروي جزء كبير من هذا اللوح أحداثًا تتّصل بالرحلة من بغداد إلى أدرنة. من جهة أخرى أدى اللوح مهمة وسيط اتصال وربط بين حضرة بهاءالله وأحباء العراق إذ يوجّه خطابه لهم عمومًا وإلى بعضهم خصوصًا. ينصحهم بحسن السلوك والاستقامة على حبه والاتحاد فيما بينهم.

ولو أن سيرة السيد مهدي في أمر الله انتهت بالعار والموت الروحي، فقد كان له ابن أخ، هو الحاج السيد علي أكبر الدهجي، مثال المؤمن الخدوم وقد فاز بمحبة كبيرة من حضرة بهاءالله. بخصوص هذا المؤمن يكتب الحاج محمد طاهر المالميري ما يلي في مذكراته غير المنشورة عن “تاريخ الأمر في مقاطعة يزد”:

كان المرحوم الحاج السيد علي أكبر الدهجي من المؤمنين الأوائل. يندر وجود نفس تضاهي ما كان عليه من امتياز وتقوى. كان ابن أخ السيد مهدي اسم الله… من حيث الهيأة كان وسيمًا جدًا وصوته مليح. عندما يتلو كلمات الله يخيل للمرء بأنه لا بد من أن يطرب لسماعه الملأ الأعلى ويستعذب نغماته سكان الملكوت الأبهى… شخصيًا لم أسمع أبدًا من يتلو بعذوبة صوته. فاز بمحضر الجمال المبارك عدة مرات وحظي بعنايات وعطايا لا حدود لها. تميزت علاقته بحضرته بطابع علاقة عاشق حقيقي بمحبوبه (الأعلى). هناك ألواح عديدة نزلت بحقه. من أبرزها “لوح الاحتراق”([6])… توفي الحاج السيد علي أكبر في طهران عند عودته من الأراضي المقدسة بعد آخر تشرّف له بمحضر حضرة بهاءالله. بعد وفاته أشار حضرة بهاءالله بأنه كان متعلّقًا بذكرى الحاج السيد علي أكبر لدرجة أنه يرغب في سماع اسمه يُذكر في محضره المبارك. وعليه أمر بعد ذلك بتسمية عمّه السيد مهدي اسم الله، ﺒ”سيد علي أكبر”.(5)

شخص آخر يمكن اعتباره قرينًا بالسيد مهدي وجمال البروجردي هو محمد جواد القزويني، ولو أن الأخير لم يكن لديه علم يماثل الاثنين الأولين. لقبّه حضرة بهاءالله ﺒ”اسم الله الجواد”. أصبح هو الآخر من الناقضين وسبّب عذابًا بالغًا لشخص حضرة عبدالبهاء. في شبابه تشرّف جواد بمحضر حضرة بهاءالله في بغداد. في عام 1867م قصد أدرنة برفقة النبيل الأعظم وكان ضمن الذين سُمح لهم بمرافقة حضرة بهاءالله إلى عكاء.

خلال فترة ولاية حضرة بهاءالله تمتّع جواد بامتيازات قربه من حضرته وقد أغدق عليه عناياته وعطاياه باستمرار رغم نقائصه الكثيرة التي سترها حضرته. لكن بعد صعود حضرة بهاءالله انضم إلى زمرة ميرزا محمد علي، الناقض الأكبر لميثاق حضرة بهاءالله مدفوعًا بطموحاته وأمانيه، مسبّبًا كثيرًا من الحزن والألم لحضرة عبدالبهاء، ومهاجمًا إياه بكتاباته المسمومة الحافلة بشتى الأكاذيب والمغالطات والمفتريات. وهكذا كانت المأساة التي آلت إليها سيرة واحد أنعم عليه حضرة بهاءالله بإعلاء مقامه جودًا وفضلاً منه. ولم يمض زمن طويل قبل أن تحبط خططه وآماله، ومات، مثل جمال والسيد مهدي، ميتة غير مشرّفة.

([1])       انظر الصفحة 114.

([2])  في تلك الأيام لم تكن هناك إنارة عمومية، فكان الناس يحملون الفوانيس ليلًا. بالنسبة للأشخاص البارزين جرت العادة أن يحمل خادم فانوسًا أمامهم.

([3])       انظر المجلد الأول، والصفحة 256 من هذا المجلد.

([4])  يعرف هذا البيت ﺒ”بيت الله الأعظم”. انظر المجلد الأول، الصفحات 224-226.

([5])       معشر أرواح المقدسين في ملكوت الله.

([6])  يعرف هذا اللوح أيضًا بالآية الافتتاحية “قد احترق المخلصون“. سنعرض له في المجلد التالي.

امتحان العباد بالذهب

بعد سرد سقوط جواد القزويني، نأتي على سرد قصة أخيه الأكبر، الحاج محمد باقر القزويني الذي كانت سيرته الأمرية غير اعتيادية، إذ أنه فقد حظوته ولكنه نجا قرب نهاية حياته. لقد تشرّف الحاج محمد باقر بمحضر حضرة بهاءالله ببغداد. في أثناء وجوده هناك التمس حضرة بهاءالله ليبارك له بنعمة الثراء (المادي). وافق حضرة بهاءالله على طلبه وطمأنه بأن الله سيحقق أمنيته. فعلاً صار غنيًا بعد زمن قصير، لكن في الوقت ذاته زاد ابتعاده عن أمر الله.

في سياق وصف الحاج ميرزا حيدر علي لما يبدو أول لقاء له بحضرة بهاءالله في أدرنة، نجد القصة التالية عن الحاج محمد باقر. بعد إقراره بالعجز عن التعبير بالكلمات عن مشاعر الإثارة والذهول والعجب التي اعتملت في قلبه خلال وجوده بمحضر حضرة بهاءالله، يكتب الحاج ميرزا حيدر علي ما يلي:

نظرًا لأنها كانت أوائل أيام ظهور إشراق نير الآفاق،([1]) بادر حضرة بهاءالله يسألني أن أصف له حال المؤمنين وإيمانهم وإقبالهم في كل من طهران وقزوين وزنجان وتبريز، وهي المدن التي كنت قد مررت بها. التزمت السكوت دون جواب.([2]) بعد ما صُرفنا (أي الحاج ميرزا حيدر علي وصاحباه) من محضره المبارك، أرشدونا إلى المكان الذي هُيئ لإقامتنا. بعث حضرة بهاءالله إلى هناك شخصًا لكي أنقل إليه أحوال المؤمنين. فأخبرته بكل ما عرفته عن كل شخص منهم، من ضمنهم المرحوم الحاج محمد باقر الذي كان في حينه تاجرًا مشهورًا، في مقدمة المؤمنين إيمانًا وإيقانًا واشتعالاً، وكان يخدم أمر الله بتفان وتضحية.

غادر المبعوث ثم رجع بعد دقائق ومعه لوح مبارك كان قد نزل في حق الحاج. صرّح (نيابة عن حضرة بهاءالله): ’لقد فاز هذا الرجل بمحضر حضرة بهاءالله في بغداد. هناك كتب رسالة إلى حضرته يرجو الغنى والرفاه. فنزل هذا اللوح المبارك جوابًا له. يصرح حضرة بهاءالله فيه بأن طلبه سوف يستجاب وسوف تُفتح على وجهه أبواب الرزق والثروة من كل الجهات. لكنه حذّره بأن يحترز لئلاً يدع الغنى يصبح عائقًا ويجعله من الغافلين المبعدين.

أمّا الآن وأنت هنا للتشرّف بمحضر حضرة بهاءالله فإنك سترى في المستقبل بأن هذا الرجل (الحاج محمد باقر) سيأخذه الخوف بدرجة يتخلى عن الله وأمره. فلن يطول الزمن قبل إصابته بخسارة كبيرة، يضطر على أثرها أن يكتب لحضرة بهاءالله رسالة استغفار. بعدئذ سوف يحوّل الله خسارته ربحًا ويستعيد من جديد نجاحه بتجارته ويبرز كأكبر تاجر في الآستانة وتبريز. إلاّ أنه هذه المرة سيعود أكثر تكبرًا من قبل وأكثر غفلة وابتعادًا… هذه المرة سيفقد كل ممتلكاته، ولن يعود قادرًا على مواصلة حرفته ويكون عاجزًا عن تدبير شؤونه. عندئذ سيعود ويستغفر، ويقنع بالعيش كرجل فقير. سيقضي بقية أيام حياته في خدمة أمر الله. وستكون عاقبة حياته مباركة وينال التأييد الإلهي العظيم.‘ بعد ذلك قال لي: ’احفظ في ذاكرتك كل هذه الأشياء، لأنها لا محالة ستتحقق، وسوف تشهدها بنفسك.‘

كنّا في أدرنة عند وصول أخبار القبض على جواد، الأخ الأصغر للحاج، وحبسه. اضطر الحاج محمد باقر لدفع ألف تومان([3]) لإطلاق سراح أخيه وغادر تبريز على عجل متوجهًا إلى الآستانة. عند الوصول ذهب لزيارة المرحوم مشير الدولة، السفير الإيراني، حيث أنكر عقيدته أمامه. صرّح حضرة بهاءالله أن في هذا بداية امتحاناته، وأصدر تعليماته بأن على المؤمنين المارّين بالآستانة اجتناب معاشرته.

فيما بعد غادرتُ أدرنة وذهبتُ إلى الآستانة حيث أقمتُ لمدة أربعة عشر شهرًا. سمعت هناك بأن الحاج قد اشترى كميات هائلة من القطن وبسبب هبوط حاد في أسعاره، فإنه لم يخسر كافة ممتلكاته فحسب، لكنه لم يتمكن من دفع ديون دائنيه… عند وقوع هذا كتب يتضرع لحضرة بهاءالله طالبًا المغفرة والتوبة. نزل في حقه لوح مبارك بشّره فيه حضرة بهاءالله بأنه قريبًا سيحصل على أرباح هائلة. وعندما ذهبتُ لمصر، سمعتُ بأن سعر القطن قد ارتفع كثيرًا ونتيجة لذلك تضاعفت ثروة الحاج عشرة أضعاف.(6)

أصبح الحاج محمد باقر هذه المرة غنيًا جدًا وذا نفوذ. فصار في مقدمة تجار الآستانة ونال شهرة عظيمة. لكن ثروته أصبحت مرة أخرى حجابًا بينه وبين الله. ومرة أخرى تخلّى عن أمر الله، وقطع كل علاقة مع حضرة بهاءالله. بعد عدة سنوات سأل حضرة بهاءالله الحاج أبا الحسن أمين([4]) كي يتّصل به ويسأل عن حاله. ذهب الحاج أمين إلى الآستانة لرؤيته. وجده في معزل تام وغير مبال بحضرة بهاءالله أو أمر الله. فقد استهوته الدنيا ومباهجها بحيث أشار خلال حديثهما إلى خزانة (النقود) في محلّه وقال: ’إن ربي في هذه الخزانة!‘

لقد ذكر الحاج أمين بأنه لمّا أخبر حضرة بهاءالله بهذا، حزن حضرته كثيرًا. وبينما كان يسير جيئة وذهابًا، توقّف، ومد يده بكف مفتوح وتفضل قائلاً: ’بهذه اليد أعطيناه الغنى‘، ثم بحركة سريعة سحب يده قابضًا كفه، وتفضل قائلاً: ’والآن بنفس اليد نأخذه منه.‘

وفي وقت قصير خسر الحاج محمد باقر كل ممتلكاته. عاد مرة أخرى يطلب الصفح والغفران وكتب لحضرة بهاءالله. هذه المرة أنزل حضرة بهاءالله لوحًا صرّح له بجلاء بأن الله أخذ عنه أمواله حتى يعود إليه ويستقيم في حبه. فأشار عليه بمغادرة الآستانة والانشغال باستنساخ الكتابات المباركة.

عقب هذه الحادثة، قضى الحاج محمد باقر بقية عمره في منتهى الفقر. لكنه أصبح قويًا في إيمانه وكرس وقته لخدمة أمر الله. كتب الحاج ميرزا حيدر علي، الذي التقى به بعد هذه الواقعة، يقول:

… التقيت به (الحاج محمد باقر) في تبريز. قال: ’بعد نزول لوح حضرة بهاءالله، بدا وكأن المسامير في الجدران، وستائر الحجرة وكل شيء آخر… قد سمعت وقامت على تنفيذ أمر حضرة بهاءالله. فقد خسرتُ كل ما كسبته. الدار التي أسكنها الآن تمتلكها زوجتي، وملابسي يخيطها لي أولادي.‘(7)

لم يكن الحاج محمد باقر الوحيد الذي سأل حضرة بهاءالله أن يهبه الغنى بحول الله وإرادته. كان هناك آخرون، انقلب بعضهم وأداروا ظهرهم تمامًا لأمر الله بعد نجاحهم وتوفيقهم في الحياة. إن انجذاب الإنسان إلى الأمور المادية وتعلّقه بها شيء طبيعي. لكنه إذا سمح للثروة الدنيوية أن تمتلكه وتتحكم فيه، فإنه سيحرم نفسه من عطايا الله، ويعرّض نفسه للتهلكة الروحية. إن في الثراء والتعلق المادي أعظم الامتحانات لروح الإنسان. يصرح حضرة بهاءالله في “الكلمات المكنونة”:

“يا ابن الوجود

لا تشتغل بالدنيا لأن بالنار نمتحن الذهب وبالذهب نمتحن العباد.”(8)

كما سبق أن ذكرنا،([5]) فليس في كتابات حضرة بهاءالله ما يدين الثراء ما دام ذلك لا يحجب صاحبه عن الله. بل العكس فإنه يكرم ويمجّد مقام الغني الذي لم يمنعه غَناؤه عن الإقبال إلى أمره وخدمته بإخلاص. إن الرأي القائل بأن الإنسان يجب أن يكون فقيرًا لكي يتقرب إلى الله أو يصبح تقيًا ليس بالضرورة صحيحًا. ذلك لأن معيار القرب إلى الله هو الانقطاع، ولو أن نيل هذا المقام أكثر صعوبة على الغني، لكن الفقير غالبًا ما يضطر إلى خوض عدة معارك داخل نفسه قبل أن يصبح منقطعًا عن الدنيا.

يوضح حضرة عبدالبهاء في أحد ألواحه(9) بأن من متطلبات نظام الخليقة الأساسية وجود غني وفقير في المجتمع الإنساني.([6]) وإذا تساوى كل الناس فإن توازن العالم هذا يختل، ويتوقف تقدم البشرية.

في الطبيعة أيضًا تأييد لشرح حضرة عبدالبهاء وإثبات بطلان ما تدعو إليه تلك النظريات العقائدية الساعية لتأسيس المساواة في المجتمع الإنساني وتعميمها، وتأكيد عدم واقعيتها. إن مساواة كافة البشر في الحقوق والامتيازات يعتبر من تعاليم حضرة بهاءالله الأساسية. لكنه في نفس الوقت يبين بجلاء أن الناس غير متساوين في استعدادهم وذكائهم وإنجازاتهم. وعليه يجب أن يحتوي المجتمع في تركيبه على أناس من كل المراتب والمناصب في ترابط يجمع فيما بين وظائفهم المختلفة.

يصرح حضرة عبدالبهاء، في اللوح سالف الذكر، بأن الفقر محمود عند الله إذا حصل في سبيل الله. يستشهد لذلك بالذين اضطهدوا وفقدوا كل ممتلكاتهم لاتباعهم أمر الله. هناك عدة ألواح من قلم حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء ينصحان فيها المؤمنين بالصبر والقناعة عند الفقر والكرم عند الرخاء. أنزل حضرة بهاءالله في “الكلمات المكنونة” ما يلي:

“يا ابن أمتي

في الفقر لا يجمل بك الاضطراب، وفي الغنى لا ينبغي لك الاطمئنان، فإن لكل فقر غنىً يعقبه وإن بعد كل غنىً زوالاً يليه أمّا الفقر عمّا سوى الله فنعمة عظيمة لا تحقّرها لأن في نهايتها يبدو الغنى بالله، وفي هذا المقام يستتر قوله أنتم الفقراء‘ وتبرز كلمته المباركة والله هو الغني‘ وتتجلى من أفق قلب العاشق كتجلي الصبح الصادق وتظهر وتبرز وتستوي على عرش الغنى وتستقر.”(10)

في حديث مع أصحابه،(11) يصرح حضرة عبدالبهاء بأن “رجلاً فقيرًا صابرًا خيرٌ من غني شاكر. أمّا الفقير الشاكر فهو خير من الفقير الصابر. لكن أفضلهم جميعًا الغني المنفق الذي نجح في الامتحان وعمل بما ينتفع به الإنسان.”

يبدو جليًا من تعاليم حضرة بهاءالله أن الارتزاق في هذه الحياة واجب مفروض على كل الناس وذلك بمزاولة الأعمال والمهن المختلفة. يتفضل حضرة بهاءالله في “الكلمات المكنونة” قائلاً:

“يا عبادي

أنتم أشجار رضواني فلتتحلّوا بالأثمار البديعة المنيعة حتى تنتفعوا وينتفع غيركم. لهذا وجب عليكم جميعًا أن تشتغلوا بالصنائع والاقتراف. هذه هي أسباب الغنى يا أولي الألباب وإن الأمور معلّقة بأسبابها وفضل الله يغنيكم بها أمّا الأشجار غير المثمرة فإنها كانت وما زالت خليقة بالنار.”

“يا عبادي

خير الناس الذين يحصلون على أرزاقهم بالعمل، وينفقون منه على أنفسهم وعلى ذوي قرباهم حبًا لله رب العالمين.”(12)

إلاّ أن إحدى أهم الخصال لمن يكسب عيشه هي القناعة والتسليم بما قدّره الله له. يصرح حضرة بهاءالله مؤكدًا ذلك بقوله المبارك: “أصل كل الخير هو الاعتماد على الله والانقياد لأمره والرضاء بمرضاته.”(13)

([1])       حضرة بهاءالله.

([2])  لم يكن من غير المألوف أو الطبيعي بالنسبة للمؤمنين أثناء وجودهم بحضور حضرة بهاءالله أن يلوذوا بالصمت عند سؤاله إياهم. فإنهم قبل كل شيء يكونون بعيدين لا شعوريًا عن وعيهم الاعتيادي بحيث لا ينبسون ببنت شفة في محضره. وأيضًا، كان كثيرون يعتبرون التكلّم نفسه يتعارض مع روح التواضع ونكران الذات أثناء التواجد بحضوره المبارك.

([3])       مبلغ ضخم جدًا في ذلك الوقت. (أ. ط.)

([4])  أمين الحقوق في أيام ولاية حضرة بهاءالله. سنعرض مزيدًا من المعلومات عنه في المجلد الثالث.

([5])       انظر المجلد الأول، الصفحات 77-79.

([6])  من المهم أن يُلاحظ بأنه في الوقت الذي تقرّ التعاليم البهائية بتعدد طبقات المجتمع، فإنها تؤيد وتدعو أيضًا لمحو الغنى الفاحش والفقر المدقع.

﴿ 13 ﴾ "لوح سلمان"

أحد آثار حضرة بهاءالله الكتابية الذي يتميّز بعمقه وثراء محتواه بصفة خاصة هو “لوح سلمان([1]) المُنزّل بأدرنة في حق الشيخ سلمان. لقد تعرّضنا إلى جزء من هذا اللوح سابقًا.([2]) كان الشيخ سلمان، الذي وردت سيرة حياته في المجلد الأول،([3]) مؤمنًا مخلصًا لحضرة بهاءالله كرس حياته للأسفار من أجله. فقد كان يحمل كتاباته إلى المؤمنين في إيران ويعود برسائلهم وأخبارهم إلى حضرته. قام بخدمته هذه بعناية قصوى بحيث لم تقع ألواح حضرة بهاءالله أبدًا في يد الأعداء. وفي رواية موثوقة أنه ذات مرة عندما أدرك بأنه على وشك أن يُفتش من قبل سلطات إحدى المدن بإيران، ابتلع مجموعة الألواح التي كانت بحوزته حرصا على حماية أمر الله والمؤمنين الذين أرسلت الألواح إليهم!

كان سلمان رجلاً بسيطًا ذا قلب طاهر. وكان المؤمنون دومًا يرتاحون لوجوده بينهم لكن بعضًا منهم من ذوي المناصب (الاجتماعية) العليا كانوا يبدون حرجًا وأحيانًا خوفًا من لقائه بسبب بساطته وصراحته. يكتب الحاج ميرزا حيدر علي حول هذا في مذكراته “بهجة الصدور” ما يلي:

أمضيت بعض الوقت في شيراز حيث اعتدت زيارة سلمان ذائع الصيت… في صحبته كنت أشعر بمنتهى السرور، إذ كان من النفوس النيّرة حقًا. في ظاهره يجد المرء شخصًا أميًا بسيطًا للغاية، لكنه في الباطن كان جوهر الحكمة والمعرفة وكان بوسعه أن يحل مشاكل عسيرة ويفسر مسائل غامضة معقدة بلغة سهلة. كان سلمان جوهر النكران للذات، فهو خال من الغرور فلم يكن قادرًا بأية حال على تملق ومدح الآخرين أو التعامل بمكر معهم. لهذا السبب فإن البسطاء وأنقياء القلب من المؤمنين كنّوا له حبًا حقيقيًا. لكن أولئك المتحضرين والتقليديين لم يأنسوا له. ذلك لأنهم كانوا يخشون أن ينال من نفوذهم وسمعتهم في مجامع الأحباء. من المعروف (لدى الأحباء) وهو صحيح مؤكد، بأن جمال القدم أوصى مرة سلمان باحترام الشخصيات المرموقة في المجالس، وألاّ يمسّهم بكلام قارص. أجاب سلمان:’في نظري ليس هناك من هو عظيم وهامّ سوى جمال القِدم والمولى (حضرة عبدالبهاء). أمّا من يُسمّون بالعظماء فليسوا سوى رجال مغرورين.‘ سَرَّ حضرةَ بهاءالله هذا التعليق.(1)

في “لوح سلمان” يأمره حضرة بهاءالله بالتجوال في أطراف البلاد بقدميّ الاستقامة، وبجناحيّ الانقطاع وبقلب مشتعل بنار محبة الله، بحيث تعجز قوى الشر عن منعه من قيامه بمهمته.

بما أنه نُزّل إبان عصيان ميرزا يحيى العلني ضد حضرة بهاءالله، فإن هذا اللوح كذلك يضم عدة فقرات بشأن غدر ميرزا يحيى وخيانته وفسقه ونشاطاته المخزية بما فيها خططه لقتل حضرة بهاءالله. يخبر سلمان، بلغة مؤثرة، بما يفيض به قلبه من كرب وألم وما يتحمّله من عذاب على يد من كان قد رعاه بكل عناية ومحبة. يعيد للذاكرة كيف كان ميرزا يحيى لفترة يقوم ليلاً ونهارًا على خدمته، واقفًا في محضره بتواضع وخشوع وهو يستمع لكلمات الله تتنزّل بتمام القوة والعظمة. لكنه لمّا رأى ارتفاع أمر الله ونموّه، استحوذ عليه الكِبر وأغرته شهرته. فقد تشرّب كل كيانه بحب الرئاسة بحيث تخلى عن مولاه وعصاه. يبوح حضرة بهاءالله في هذا اللوح للشيخ سلمان بما أحاطه من حزن وغم بحيث مُنع قلمه من إفاضة عرفان الله للناس وكشف بعض أسرار أمره.

يجيب قسم كبير من “لوح سلمان” عن استفسار لمعنى بيت من قصيدة للمولوي.([4]) لأجل تقييم شروحات حضرة بهاءالله العميقة، يجب على المرء أن يكون مُلمًا إلمامًا جيدًا بالفلسفة الإسلامية ومعاني المصطلحات الباطنة، وإلاّ لن يكون سهلاً فهم هذا القسم من اللوح. زيادة على ذلك فإن حضرة بهاءالله يصرّح بأنه لا يحب أن يفسر ما قاله علماء الماضي وعرفاؤه. لأنه يُعلن أن بظهوره قد أشرقت شمس الحقيقة وتلاطمت أمواج بحار العلم. فلا حاجة ولا ضرورة للحديث أو الخوض في الكلام القديم والتعاليم الماضية. فطلاب المعرفة والعارفون يجب عليهم التوجّه إليه كمصدر للعرفان وينالون منه استنارتهم.

يدعو حضرة بهاءالله سلمان لملاقاة عباد الله ونصحهم نيابة عنه. عليهم تطهير قلوبهم عسى أن يتمكنوا من تمييز جمال طلعته، والسير في سبله، والتدبر في كلماته، ويعرفوا بأن لو كانت عوالم الله مقصورة على هذا العالم وحده، لما رضي حضرة الباب أبدًا أن يقع بيد أعدائه، ولا ضحّى بحياته في سبيل الله. في لوح آخر(2) يصرّح حضرة بهاءالله بأنه لو كان في هذه الدنيا الفانية خيرًا، لكان نفسه اختار الجلوس على أعلى العروش وامتلك كافة ثرواتها وكنوزها. إن حقيقة صرف خالق هذه الدنيا رغبته عنها لبرهان على وجود عوالم روحانية أسمى وأعظم منها. ولهذه العوالم تعرج روح المؤمن بعد انفصالها عن الجسد.([5])

يعد حضرة بهاءالله في “لوح سلمان” بأن نفوسًا ستقوم بتأثير ظهوره، وتقبل إليه بكلّيتها منقطعين عن الدنيا ومتفانين في ولائهم وإخلاصهم له، ويعتبرون الفداء بحياتهم في سبيله من أسهل الأمور. يؤكد بأن هؤلاء قد اختصهم الله لنفسه، وأن الملأ الأعلى يتمنون الفوز بمحضرهم.

يحتفظ تاريخ أمر الله بسجل سِير أمثال هؤلاء المؤمنين بكل فخر، فهم الذين أضافوا الألق اللامع على دين حضرة بهاءالله. إن شجرة أمر الله في هذا اليوم قد نمت وترعرعت بصورة رئيسة نتيجة عاملين: الأول، فيض ظهور حضرة بهاءالله الذي أمدّه، كما تمدّ الشمس بشعاعها الكائنات بالطاقات المحيية، والثاني، دماء شهدائه الذين فدوا حياتهم طوعًا لسقايتها ورعايتها.

يعطي حضرة بهاءالله في هذا اللوح مقامًا ساميًا لروح المؤمن. يصرّح في هذا الشان بأنه لو كشف في هذا العالم عن عظمة مثل هذا المقام، ولو بقدر سم الإبرة، لينصعق كل نفس شوقًا إليه. لذلك سُتر مقام المؤمن الحقيقي ولم يُكشف في هذا العالم. في لوح نزل في عكاء، يؤكّد حضرة بهاءالله هذا بتصريح مشابه:

طوبى لروحٍ خرج من البدن مقدسًا عن شبهات الأمم إنه يتحرك في هواء إرادة ربه… لو يطّلع أحد على ما قدّر له في عوالم الله رب العرش والثرى ليشتعل في الحين شوقًا لذاك المقام الأمنع الأرفع الأقدس الأبهى…”(3)

يشرح حضرة بهاءالله في “لوح سلمان” أحد أكثر أسرار القرآن الكريم إثارة للاهتمام، سرًّا ظلّ حتى يومه غير ملحوظ. فهو يشير إلى العبارة (الإسلامية) الشهيرة، “لا إله إلاّ الله”. وهي الركن الأساس في الإيمان بالإسلام والتي يجب على كل مؤمن أن يشهد بها، وهي أساس الدين الإسلامي نفسه.

كما أسلفنا،([6]) فإن للكلمة الإلهية معان وتفاسير عدة لا يفقهها الإنسان. هناك معان باطنية تنطوي عليها الكلمة الإلهية لا يعقلها إلاّ مظهره ومَن هداهم. يشرح حضرة بهاءالله مبيّنًا بأن العبارة المذكورة، “لا إله إلاّ الله”، سبق حرف النفي فيها شهادة الإثبات – إثبات ألوهية الله وحده. وبناء عليه فإنه نتيجة الأثر الخلاق لمضمون هذه العبارة، منذ نزولها تسلّط مخالفو أمر الله، والممثلون لحرف النفي، على المؤمنين في الماضي. أي بعبارة أخرى فإن كل ما اقترفت أيدي ناقضي عهد الله من تعذيب وبطش بالمؤمنين الراسخين (على العهد) وغلبتهم الظاهرة عليهم، إنما جرت تحقيقًا للكلمات التي نطق بها الرسول محمد r. فقد شاءت حكمة الله بأن يقدّر للفاسقين المتمردين التسلط على المؤمنين المخلصين حقًا.

من المعتقدات البهائية أن الذين اغتصبوا حق الإمام علي، خليفة الرسول محمد  rومبيّن كلمته، إنما كانوا يعملون ضد رغبات نبيّهم الجلية المعلنة. فبالإضافة إلى تجاهلهم وصايا الرسول محمد  rبخصوص خلافته، صاروا المسبب الأول في انشقاق الدين الإسلامي، فقتلوا الأئمة الأطهار واضطهدوا أتباعهم. فكانوا حروف النفي وتسلطوا على أتباع الرسول محمد r المخلصين حتى نهاية دورته.([7])

يثبت التاريخ على أن خلافات عظيمة وقعت بين أتباع كل دين بعد وفاة مؤسسه بقليل. ثم أدت هذه الخلافات إلى انقسامات وتشعبات ازدادت بمرور الزمن. لكن هذه الظاهرة يجب ألاّ يُساء فهمها بدرجة تقودنا للاعتقاد بأن مؤسسي أديان العالم الرئيسة لم يكونوا قادرين على إيجاد الطرق والوسائل الكفيلة باتحاد مللهم، أو ردع الخائنين عن إفساد دين الله.

إن انقسام الأديان إلى مذاهب لا يرجع إلى تعاليم مؤسّسيها، بل بالأحرى إلى عدم نضج أتباعها. وكما لا يجوز تحميل أطفال صغار مسؤولية الحفاظ على ملابسهم نظيفة أثناء اللعب خارج المنزل، كذلك فإن الإنسانية لم تكن قد اكتسبت نضجًا كافيًا في الدورات الدينية السابقة تمكنها من حماية دين الله من التجزئة والخلاف.

حتى في الإسلام، أقرب الأديان القديمة تاريخًا، لم يكن أتباعه من النضج بحيث يتقبّلون من محمد r عهدًا قاطعًا، على غرار ما أقامه حضرة بهاءالله، عهد يلزم أتباعه بالعمل وفق شريعته بصرامة وبدون خلق انقسام بداخله. بل على عكس ذلك كما سبق أن لاحظنا في موضوع العبارة القرآنية آنفة الذكر، فإن محمدًا r كان يعلم بأن أتباعه لن يستطيعوا الحفاظ على الوحدة فيما بينهم من بعده. كذلك كان يعلم بأنه حتى لو وضع عهدًا مكتوبًا، ما كان المسلمون بوضع من النضج والمقدرة آنذاك يمكّنهم من مراعاة بنوده روحًا ونصًا. لكن هذا لا يُعتبر تقصيرًا أو نقصًا في الإسلام، أو الأديان الأقدم التي انقسمت بنفس الكيفية. كان من الطبيعي بالنسبة لبشرية لم تبلغ رشدها أن تهمل في واجبها وتتصرف دون مسؤولية. لكن بفضل عدل الله وحلمه فقد استنار أهل الأديان السابقة من فيوضاتها الروحية رغم انقسامها إلى مذاهب.

على سبيل المثال، رغم ثبوت علو مكانة بطرس في الإنجيل، إلاّ أن اختلافات نشأت وتفرق أتباع السيد المسيح شيعًا. لكن مع ذلك رُزقت كل فرقة بقدر من مواهب السيد المسيح وبركاته. وكالشجرة، ازدهرت المسيحية حتى بعد تفسّخها وظل كل من فروعها مخضرًا يانعًا حتى ظهر الإسلام عند انتهاء دورة السيد المسيح. وبنحو مماثل، بقي فرعا الإسلام الرئيسان جزءًا من ذلك الدين. حتى أولئك الذين خالفوا رغبات النبي r فإنهم لم يُبتروا من شجرة الإسلام، بل تزوّد جميعهم منها حتى ظهر حضرة الباب في نهاية دورة الإسلام.

أمّا دورة حضرة بهاءالله فقد افتتحت يومًا جديدًا. وبقوة ظهوره قُدّر للبشرية بلوغ رشدها، وعلى هذا الأساس قلّدها حضرة بهاءالله المسؤولية. فقد أقام عهدًا لا يمكن نقضه أو زعزعته مع أتباعه، بتعيينه مركزًا له، هو حضرة عبدالبهاء، موصيًا المؤمنين باتّباعه ومبيّنًا بجلاء أن في هذه الدورة لم يعد هناك مجال للتفرقة والانقسام. إن أمر الله واحد لا يقبل الانقسام، ويتعين على الإنسان الآن، وقد اجتاز مراحل الطفولة والمراهقة، أن يلعب دورًا مسؤولاً في إدامة وحدة الدين، وتدعيم هيكله العالمي وحماية مؤسساته الوليدة من الخائنين.

يعلن حضرة بهاءالله في “لوح سلمان”، في إشارة للعبارة السابقة، “لا إله إلاّ الله”، وبلغة تنبض قوة وعظمة، بأنه قد رَفع حرف النفي الذي كان قد وضع قبل الإثبات. وعليه فإن هذه العبارة، التي جعلها نبي الإسلام، بحكمته المحيطة بالأشياء، ركنَ دينه الأساسي، قد قُلبت، في دورة حضرة بهاءالله، بعبارة إثبات “هو الله”، بمعنى أن مُنزّل أمر الله يقبض بيده زمام السلطة، وخلافًا للدورات السابقة، ما من أحد له القوة لانتزاعها منه. وكما أظهر التاريخ، فإن الذين نقضوا وخانوا عهد حضرة بهاءالله وميثاقه، قد عجزوا وفشلوا تمامًا في إحداث انقسامات داخل دينه، أو إيقاف مسيرته التقدمية أو السيطرة على مصيره المجيد.

فكم باهرة هي دلائل قوة كلمات حضرة بهاءالله وآثارها الخلاقة، إذ بحركة من قلمه فقط قلب عملية دامت قرونًا طويلة انقسمت خلالها أديان ووضع فيها أنصار دين الله الحقيقيين تحت سطوة المعارضين الملحدين. بعد صعود حضرة بهاءالله، واجه حضرة عبدالبهاء عصيان أخيه ميرزا محمد علي وإعراضه. حاول ابن حضرة بهاءالله هذا، خلافًا لمضمون وصية والده وعهده، وبمساندة عدد من مبلّغي الأمر البارزين، أن يقوّض المقام الرفيع الذي منحه حضرة بهاءالله لحضرة عبدالبهاء. في النهاية جرفت قوة ميثاق حضرة بهاءالله ميرزا محمد علي إلى أسفل دركات الهوان وهلك ذليلاً بعاره. وبفعل نفس القوة، تقرر مصير ناقضي العهد في فترة ولاية حضرة شوقي أفندي.

من الأهمية بمكان ملاحظة أن الذين عصوا حضرة عبدالبهاء وتمردوا عليه ونقضوا العهد لم يكونوا أغبياء. على العكس، كان معظمهم رجالاً أذكياء قديرين، بعضهم كانوا مبلّغين ذوي إطلاع ومعرفة واسعة ولهم احترامهم العظيم لدى الجامعة. مثال ذلك جمال البروجردي الذي كان مجتهدًا بارزًا ذا ذهن وقّاد، بينما كان السيد مهدي الدهجي رجلاً واسع المعرفة وخطيبًا قديرًا. إلى جانبهم كان آخرون كثيرون مثلهم من أتباع حضرة بهاءالله البارزين، الذين خدموا أمر الله بامتياز لكن في النهاية راحوا ضحية النفس الأمّارة بالكِبر والغرور. إن النقض مرض روحاني مميت. كان موجودًا في الدورات السابقة، لكن كما سبق شرحه، خلف انشقاقًا وانقسامات. وهذا المرض مُعد، ما لم يُقيّد، بإمكانه هدم قواعد الدين نفسها. لهذا السبب فقد حذّر كل من حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء المؤمنين من معاشرة الناقضين. بتأثير هذا الحكم الحيوي، والذي هو فريد من نوعه في تاريخ الأديان، قد خرج أمر الله، الذي خانه وغدر به عدة رجال من عبدة الذات وأهوائها مرات كثيرة، وتعرّض مركزه المُعيّن كل مرّة إلى المعارضة من قبل فئات من الأتباع الأنانيين، خرج ظافرًا منتصرًا من هذه الأزمات العنيفة العاصفة، وهو سالم الوحدة وقد تدّعم أكثر من ذي قبل.

لو تذكّرنا طبيعة العصر المضطرب الذي نعيش فيه الآن وروح التمرد الذي يهز المجتمع الإنساني اليوم، لندرك بأن أمر حضرة بهاءالله، لولا قوة عهده وميثاقه وقوة كلماته الخلاقة التي نجد فيها الطمأنينة الأكيدة من أن “يوملن يعقبه الليل“،(4) لانقسم إلى مائة مذهب.([8])

([1])  في قائمة أشهر آثار حضرة بهاءالله المعروفة التي أعدّها حضرة شوقي أفندي، في مجلدات “العالم البهائي” ذكر هذا اللوح باسم “لوح سلمان” الأول. نزل بالفارسية في معظمه.

([2])       انظر الصفحة 258.

([3])       الصفحات 115-120.

([4])       جلال الدين الرومي، صاحب المثنوي.

([5])       هناك ألواح كثيرة حول الحياة بعد الموت. في المجلدات التالية ستبحث بعضها.

([6])       انظر المجلد الأول، الفصل 3.

([7])       انظر المجلد الأول، الفصل 3.

([8])  انظر المجلد الأول، الصفحات 135-144، 254-257 لمزيد من الإيضاح حول الموضوع.

﴿ 14 ﴾ المواجهة مع ميرزا يحيى

في مقدمة حروف النفي الذين أشار إليهم حضرة بهاءالله في “لوح سلمان” كان ميرزا يحيى، الذي تصدّت له عاجلاً وبطشت به يد القدرة والاقتدار.

خلال العام الذي أقام فيه حضرة بهاءالله في بيت رضا بيك ثم عودته إلى بيت “أمر الله”، لم ير بتاتًا أيًا من ميرزا يحيى أو السيد محمد الذي سبق أن طرده من محضره. كان ميرزا يحيى يسكن آنذاك مع أسرته في دار منفصلة، بينما أقام السيد محمد وسط المسلمين في المدينة. بعد حوالي ثلاثة أشهر من سكناه في بيت “أمر الله” تحوّل حضرة بهاءالله للسكن في بيت عزت آقا الواقع في نفس الحي من المدينة. وبقي فيه حتى انتهاء فترة إقامته في أدرنة.

بعد انتقاله إلى هذا المنزل بقليل، وقعت حادثة ذات مغزى بعيد الأثر كان من شأنها الإطاحة بمكانة ميرزا يحيى والتعجيل بافتضاحه في نظر مؤيديه وكذلك السلطات في أدرنة. حدث ذلك في شهر جمادى الأولى سنة 1284ﻫ (أيلول 1867م). قام السيد محمد الإصفهاني، اقتناعًا منه بأن حضرة بهاءالله الذي تحمّل صنوف المفتريات والدّس على يد أخيه بكمال الصبر والحلم، ولعلمه بأن حضرة بهاءالله لم يسعَ للظهور في المجتمع بشكل عام من جهة، ومفترضًا بأن حضرته لن يضع في اعتباره مواجهة أخيه الخائن وجهًا لوجه، قام دعمًا لمكانته، بالإعراب لبعض الإيرانيين المسلمين بأدرنة عن استعداده هو وميرزا يحيى لمواجهة حضرة بهاءالله علنًا لتأكده بأن حضرته لن يستجيب لتحديهما.

هذا النوع من التحدّي، المعروف باسم “المباهلة”، حصل في الإسلام. مثلاً عندما عزم وفد من مسيحيي نجران بالمدينة المنورة على تحدّي الرسول محمد r ، كان المفهوم أن تكون مواجهة بشكل مباهلة. وهذا تحد ونزال بين الحق والباطل، يلتقي خلاله الطرفان، ويبتهل كل منهما إلى الله بأن ينزل اللعنة والغضب على الآخر ويبيده. في ظروف كهذه من المتوقع أن يزهق سلطان الحق قوى الباطل.

أمّا الشخص الذي عمل كواسطة لتسوية هذا الموضوع فكان مير محمد المُكاري من شيراز، الذي كان يعمل دليلاً للقوافل، وكان قد رافق حضرة الباب في رحلة الحج إلى مكة، وفيما بعد رافق حضرة بهاءالله من بغداد إلى الآستانة.([1]) مع أنه لم يكن متعلمًا، لكن مير محمد كان رجلاً ذا عقل راجح وحكيمًا شجاعًا. كان بابيًا ممن حيّرتهم الخلافات التي نشأت داخل أمر الله، فسافر خصيصًا إلى أدرنة لتحري الحقيقة بنفسه. أثناء إقامته بتلك المدينة، قام بالاتصال والاختلاط مع أصحاب حضرة بهاءالله ومؤيدي ميرزا يحيى على السواء.

بعد وصوله إلى أدرنة بقليل سمع بحملة السيد محمد لمجابهة حضرة بهاءالله. أثار ذلك اهتمامًا عظيمًا لدى مير محمد الذي حض السيد محمد على حمل ميرزا يحيى لملاقاة حضرة بهاءالله في مكان عام للمباهلة. من ناحيته، وعد شخصيًا بدعوة حضرة بهاءالله لقبول التحدي. فيما يلي وصف حضرة شوقي أفندي لهذه الحادثة الهامة:

وتفصيل ذلك أن أحد البابيين من شيراز، ويسمّى مير محمد، كان يكره مزاعم ميرزا يحيى ودعاويه ويمقت عزلته وتستّره مقتًا عظيمًا، نجح في أن يغري السيد محمدًا بأن يقنع صاحبه بأن يلتقي بحضرة بهاءالله وجهًا لوجه حتى يتبيّن للناس الحق من الباطل بصورة علنية وحاسمة. وزعم ميرزا يحيى أن أخاه العظيم لن يقبل هذه الدعوة. فعيّن مسجد السلطان سليم مكانًا للاجتماع. وما كاد هذا الخبر يبلغ مسامع حضرة بهاءالله حتى بادر بالسير على قدميه، في قيظ الظهيرة، يصحبه مير محمد هذا إلى المسجد المذكور في حيّ بعيد من أحياء المدينة. وكان حضرة بهاءالله يرتل الآيات أثناء سيره في الأسواق والطرقات بصوت أدهش كل من سمعه، وعلى نحوٍ تعجب منه كل من رآه.

ومن الكلمات التي نطق بها في تلك المناسبة الفريدة، والتي شهد بها هو نفسه في أحد ألواحه قوله “يا محمد! خرج الروح عن مقره، وخرجت معه أرواح الأصفياء ثم حقائق المرسلين. إنك إذًا فاشهد أهل منظر الأعلى فوق رأسي، ثم في قبضتي حجج النبيينقل لو يجتمع كل من على الأرض من العلماء والعرفاء ثم الملوك والسلاطين إنني لأحضر تلقاء وجوههم وأنطق بآيات الله الملك العزيز الحكيم. أنا الذي لا أخاف من أحد، ولو يجتمع عليّ كل من في السموات والأرضينهذا كفّي قد جعله الله بيضاء للعالمين. وهي عصاي لو نلقيها لتبلع كل الخلائق أجمعين.”([2]) أمّا مير محمد فقد أرسل ليعلن عن قدوم حضرة بهاءالله، ولكنه سرعان ما عاد ليقول إن الذي تحدى سلطانه يرغب في أن يؤجل الاجتماع يومًا أو يومين لظروف خاصة طارئة. فعاد حضرة بهاءالله ولدى عودته إلى بيته أنزل لوحًا يسجل فيه ما حدث، ويضرب موعدًا للقاء المؤجل. وختم اللوح بختمه وسلّمه للنبيل، وأمره بأن يودعه عند أحد المؤمنين الجدد، وهو الملاّ محمد التبريزي، لكي يخبر به السيد محمدًا الذي اعتاد أن يغشو حانوت ذلك المؤمن. وقبل تسليم اللوح للسيد محمد تقرر أن يشترط عليه أن يحصل مقدمًا من ميرزا يحيى على إقرار كتابي مختوم ببطلان مزاعمه إذا هو لم يحضر إلى مكان اللقاء. فوعد السيد محمد بالحصول على هذا الإقرار المطلوب في اليوم التالي. ورابط النبيل في الحانوت ثلاثة أيام بطولها انتظارًا للإقرار. ولكن السيد محمد لم يظهر ولم يرسل الإقرار. وبعد انقضاء ثلاثة وعشرين عامًا على هذه الحادثة يروي النبيل أن ذلك اللوح الذي لم يسلمه ما زال في حوزته جديدًا كيوم حبّره الغصن الأعظم، حضرة عبدالبهاء، وزيّنه مهر جمال القدم، شاهدًا ماديًا ملموسًا على انتصار حضرة بهاءالله على خصمه المهزوم.(1)

يروي ميرزا آقا جان(2) أنه لمّا غادر حضرة بهاءالله منزله متوجّهًا إلى المسجد مع مير محمد، لم يكن موجودًا وقتها في الدار، لأنه ذهب لقضاء حاجة في المدينة. لكنه لمّا سمع الخبر أسرع عائدًا. في طريقه لاحظ جمعًا كبيرًا من الناس على جانبيّ الطريق أخبروه بأن حضرة بهاءالله قد توجّه لتوّه إلى مسجد السلطان سليم. قصد ميرزا آقا جان المسجد فورًا حيث وجد حضرة بهاءالله مستغرقًا بإنزال الآيات بلحن الكبرياء وبغزارة عظمى. لم يأذن حضرة بهاءالله لأحد من أصحابه بالذهاب معه إلى المسجد سوى مير محمد وميرزا آقا جان الذي تبعهما. أمّا الجمهور داخل المسجد فكان يشهد ما يحدث بتعجب وحيرة. فقد بلغت كلمات حضرة بهاءالله من القوة بحيث اهتز لها رجل إيراني رهبةً لدى استماعه لها، وراح يرتجف كيانه وانهمرت دموعه. في لحظة من اللحظات أمر حضرة بهاءالله مير محمد بالذهاب إلى ميرزا يحيى ودعوته للحضور مع كل خطاياه ومعاصيه لملاقاة ربه.(3) بقي حضرة بهاءالله في المسجد حتى قرب الغروب، لكن ميرزا يحيى والسيد محمد لاذا بمنزلهما منتحلين الأعذار لمير محمد لعدم الحضور.

فيما يلي ترجمة لقسم من مذكرات الحاج ميرزا حيدر علي في وصف ذلك اليوم، إذ كان يومها موجودًا بأدرنة:

اتفق على أن يتم الاجتماع يوم الجمعة في مسجد السلطان سليم وقت صلاة الجماعة حيث يتواجد المسلمون بأعداد كبيرة… كان مير محمد المُكاري بابيًا من شيراز… لكنه لم يستطع تخيل أزل ناقضًا للعهد. لذا توسل بالجمال المبارك لتنويره بالموضوع. أخبره حضرة بهاءالله أنه لو تجرأ أزل لمقابلته وجهًا لوجه في اجتماع عام، عندئذ يمكنه (أي مير محمد) اعتبار ادعاءات أزل صائبة. فقبل مير محمد هذا البيان على أساس أنه المعيار الفاصل بين الحق والباطل، فسعى لتحقيق هذا اللقاء.

وانتشر نبأ المجابهة وموعدها بين طوائف المدينة من مسلمين ونصارى ويهود. جميعهم كانوا يعلمون بمعجزات موسى وقصة لقائه مع فرعون. والآن صاروا يتوقّعون لقاءً وجهًا لوجه في المسجد بين حضرة الشيخ أفندي، وهو اللقب الذي أطلقه الناس على حضرة بهاءالله إجلالاً وتعظيمًا، وميرزا علي الذي أنكره (كان ميرزا يحيى قد استعمل هذا الاسم لنفسه تنكرًا لئلا تُعرف هويته). وبناء عليه، ومنذ صباح الجمعة وحتى قبل الظهر تجمهر الكثير من أتباع هذه الأديان الثلاثة في المنطقة الكائنة بين بيت “أمر الله”… ومدخل المسجد. بلغ حشد الناس حدًا بحيث صعب العبور والمرور.([3]) طلع جمال ذو الجلال (حضرة بهاءالله) وحده من بيت “أمر الله”… وسار بين الناس الذين أبدوا لحضرته من الاحترام والتبجيل ما يصعب وصفه. فمنهم الذي حيّاه، ومنهم الذي انحنى له وأفسح الطريق أمامه، وآخرون خرّوا وقبّلوا قدميه. بادلهم حضرة بهاءالله، طلعة ذي العظمة والجبروت، التحية برفع يديه، كما كان العُرف عند العثمانيين، معبّرًا عن تمنياته الطيبة وتبريكاته بعبارات مثل مرحبًا بكم وبارك الله لكم‘. واستمر هذا طوال الطريق حتى المسجد. حالما دخل حضرته، وكان الخطيب ما يزال في صدر خطبته، توقّف الأخير عن الكلام أو، من يدري، لعله نسي ما يقوله. مضى حضرة بهاءالله سائرًا إلى الأمام، جلس ثم أذن للخطيب بمواصلة الخطبة. أخيرًا انتهت الصلاة والخطبة، ولكن أزل لم يحضر. سمعنا فيما بعد أنه تحجج بالمرض واعتذر.

في كل مدينة من مدن الإمبراطورية العثمانية كانت توجد هناك مولوية، وهم دراويش من أتباع المولوي،([4]) مؤلّف المثنوي. وكانوا يجتمعون في كل يوم جمعة لإقامة مراسيمهم في تكيّاتهم حيث يدورون حول سيدهم مرددين بعض العبارات سوية. في بعض غرفات التكيّة قد يوجد من يعزف الأنغام على آلة ويرتّل تراتيل شجية اللحن. عندما أوشك حضرة بهاءالله على مغادرة المسجد تفضل قائلاً: ’نحن مدينون للمولويين بزيارة. يجدر بنا الذهاب إلى تكيّتهم.‘ بينما تأهب للذهاب، انتهز الفرصة كل من والي أدرنة وشخصيات أخرى، بالإضافة إلى علماء الدين، للتبرّك بمحضره ومرافقته. مشى الوالي وشيخ الإسلام،([5]) والعلماء والحكماء والأمراء، خلف جمال القدم بأربع أو خمس خطوات([6]) أدبًا وخضوعًا وخشوعًا بينما كان سلسبيل بيان حضرته جاريًا. أحيانًا كان الجمال المبارك يقف، تفضلاً وتلطفًا، ويومئ للوالي وغيره بالتقدّم والاقتراب، لكنهم لم يكونوا ليفعلوا ذلك. بهذا الجلال والعظمة الإلهية، وصل حضرة بهاءالله إلى التكيّة. في ذلك الحين كان شيخ المولويين واقفًا في الوسط والدراويش يطوفون حوله ويرددون الذِكر. لكن حالما وقع نظرهم على حضرته، توقفوا جميعًا عن متابعة طقوسهم دون سبب. انحنوا باحترام له وظلوا صامتين. جلس حضرة بهاءالله ثم أشار للشيخ ليستمروا بالذكر وعقد الحلقة.

ذاعت في أدرنة بشكل واسع أخبار دخول الشيخ أفندي إلى المسجد وكيف أن الخطيب نسي كلمات خطبته، وعندما دخل التكيّة، نسى الشيخ والدراويش كلمات الذكر. في مساء اليوم التالي كان بعض المؤمنين بالمحضر المبارك وكنتُ منهم… عندما تفضل حضرة بهاءالله بهذه الملاحظات: ’عندما دخلنا المسجد المزدحم، نسي الخطيب كلمات خطبته، ولمّا دخلنا التكيّة أخذ العجب والحيرة بغتةً كل الدراويش، لكن لمّا كان الناس قد نشأوا في الظنون والأوهام، فإنهم يعتبرون أمثال هذه الأحداث من خوارق العادات!([7])‘(4)

بعد هذا يصف الحاج ميرزا حيدر علي مدى تأثره بكلمات حضرة بهاءالله هذه. إذ أصبح يرى من خلالها بوضوح الفرق بين طرق الله وطرق العباد. فيصف لقاءاته بكبار الرجال ورؤساء الدين وشخصيات بارزة، ممن دأبوا، بلا استثناء، على الحرص لإشهار أصغر مكتسبات لهم واستغلال كل فرصة يمكنهم بها إعلاء صيتهم وتوطيد مراكزهم. لكن ليس هذا هو الحال بالنسبة لمظاهر الله. إذ إن حضرة بهاءالله، في هذه المناسبة، برفضه ادعاء الناس الذين نسبوا إليه المعجزات، أراد أن يبرهن على أن عظمته لا تتعلق ولا تعتمد على إعجاب الناس ومديحهم له ولأعماله. لأنه نفسه مقدس عن عالم الإنسان وأرفع شأنًا منه والذي هو سلطانه المسيطر عليه.

أمّا أخبار المباهلة بتفاصيلها وعجز ميرزا يحيى عن مواجهة حضرة بهاءالله، فقد نقلها شخص اسمه ميرزا هادي الشيرازي إلى المؤمنين في إيران. وكتب وصفًا كاملاً لهذه الحادثة مستشهدًا بما أنزله حضرة بهاءالله من ألواح خصيصًا بشأنها. فانتشر تقريره ذاك انتشارًا واسعًا بين المؤمنين. إن هذه الحادثة، التي وطدت غلبة حضرة بهاءالله، في نظر الجمهور، على من وُصم من قِبله ﺒ”أصل الانحراف”، قد رفعت الحجاب عن أبصار العديد من أتباع حضرة الباب ومكّنتهم من اعتناق أمر حضرة بهاءالله.

قد يكون مثار اهتمام دارس الكتاب المقدس ملاحظة أنه، استنادًا لحضرة شوقي أفندي، ولي أمر الدين البهائي، فإن ارتفاع مكانة ميرزا يحيى وسقوطها، كان قد أنبأ عنهما القديس بولص بوضوح في الفقرات التالية:

“لا يخدعنّكم أحد على طريقة ما. لأنه لا يأتي إن لم يأتي الارتداد أولاً ويستعلنّ إنسان الخطيّة ابن الهلاك المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا حتى إنه يجلس في هيكل الله كإله مُظهرًا نفسه أنه إله…

وحينئذ سيُستعلّن الأثيم الذي الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه…”(5)

لقد صاحب سقوط ميرزا يحيى بذاك النحو السريع المثير تجلٍّ فيّاضٌ لم يسبق له مثيل لوحي حضرة بهاءالله والذي سرعان ما توّج بإعلان رسالته إلى ملوك العالم ورؤسائه.

في كتاباته العبقرية الفذة، وصف حضرة شوقي أفندي الاندلاع الهائل لوحي حضرة بهاءالله في الكلمات التالية:

وطُرد “الصنم الأعظم” بأمر ينبوع العدل الأعظم، وبهيمنته واقتداره من صفوف جامعة الاسم الأعظم، وأُفحم وافتُضح وتحطّم. فلمّا تطهّر دين الله الجديد من هذا الرجس الشنيع وتخلص من هذا المسّ الفظيع استطاع أن ينمو ويتقدّم، وأن يبدي، رغم الفتنة التي هزّته هزًّا، قدرته على أن يدخل في معارك أخرى، ويصل إلى قمم أعلى، ويحرز انتصارات أعظم وأسمى.

نعم، حدث في صفوف أتباعه صدع مؤقت لا جدال فيه، وكٌسف مجده، وتلوّث تاريخه إلى الأبد. إلاّ أن اسمه لم يُمحَ من صفحة الوجود، وكانت روحه أقوى من أن تُقهر أو تتحطم، كما لم يستطع هذا الذي يقال له صدع أو انشقاق أن يشقّ نسيجه أو يمزق كيانه. أمّا ميثاق حضرة الباب، الذي سبقت الإشارة إليه، فقد دافع، بحقائقه الصريحة ونبؤاته الناصعة وإنذاراته المتكررة القاطعة، عن هذا الدين وأمّن سلامته، وأدام نفوذه وتأثيره، وأظهر عدم قابليته للفساد.

وبالرغم من أن حضرة بهاءالله أمضّه الحزن وأضناه، وحنى ظهره الألم والكمد، وظل يعاني من آثار محاولة اغتياله، وبالرغم من أنه كان على علم باحتمال حدوث نفي آخر في القريب العاجل إلاّ أنه نهض بقوة لا مثيل لها، وحتى قبل أن تنتهي الأزمة، ليعلن لكل من جمعوا في قبضتهم زمام السلطة في الشرق والغرب الرسالة التي أوكلت إليه، دون أن تعوقه الضربة التي تلقّاها أمره ولا الأخطار التي أحدقت به من كل جانب. وبهذا الإعلان قُدّر لشمس ظهوره أن تتألق في دارة المجد، وقُدّر لدينه أن يُظهر جلال قوته الإلهية.

وتلت ذلك فترة من النشاط العجيب فاقت في صداها سنوات الربيع من ولاية حضرة بهاءالله. كتب شاهد عيان فقال: ’كانت الآيات الإلهية تنهمر كالغيث الهاطل ليل نهار. وكان ميرزا آقا جان يكتبها حين تملى عليه، في حين كان الغصن الأعظم يستغرق في استنساخها. ولم يكن ثمة لحظة واحدة نضيّعها‘. وشهد النبيل ’بأن عددًا من الكتبة انهمكوا ليل نهار في هذه المهمة، ومع ذلك لم يستطيعوا أن ينهضوا بها. وكان من بينهم ميرزا باقر الشيرازي… الذي كان يستنسخ وحده ما لا يقل عن ألفي آيةٍ كل يوم. واستمر على ذلك ستة أشهر أو سبعة. وكان في كل شهر يستنسخ ما يوازي عدة مجلدات ويرسلها إلى إيران. وترك وراءه ما يقرب من عشرين مجلدًا تذكارًا منه لميرزا آقا جان كتبها كلها بخطه الجميل.‘ وإلى تلك الآيات أشار حضرة بهاءالله بقوله: “إن غمام فضل الأمر وسحاب فيض الأحدية هاطلٌ لدرجة أنه ينزل ما يعادل ألف آيةٍ في الساعة الواحدة”، “بلغ اليوم من الفضل أنه لو استطاع أحد الكتبة أن ينجز مهمته لنزل في اليوم والليلة من سماء القدس الربانية ما يعادل البيان الفارسي”. وفي مقام آخر يؤكد: “تالله لقد نزل في تلك الأيام ما يعادل كل ما أنزل على النبيين من قبل”. وأشار مرة أخرى إلى غزارة آثاره فقال: “عجز الكتّاب عن تحرير ما نزل في هذه الأرض (أدرنة) فظل أكثره بلا تحبير.”(6)

([1])       انظر الصفحة 401.

([2])  جزء من “لوح المباهلة” موجّه إلى الملاّ صادق الخراساني. انظر المجلد الأول، وكتاب “تذكرة الوفاء”.

([3])  إن تصريح الحاج ميرزا حيدر علي بتجمهر الناس في الشوارع لرؤية حضرة بهاءالله ذاهبًا إلى المسجد لا ينبغي أن يُنظر إليه أنه يتناقض مع بيان حضرة شوقي أفندي القائل بأن حضرة بهاءالله غادر المنزل فور إعلامه بما تمّ ترتيبه متوجهًا إلى المسجد. علينا أن نتذكر بأن سبق للسيد محمد أن أعلن لبعض المسلمين عن استعداد ميرزا يحيى للمباهلة. بديهيًا كان حضرة بهاءالله يعلم بهذه الدعاية. ولمّا عيّن ميرزا يحيى مسجد السلطان سليم، انتشر الخبر المثير بسرعة كبيرة بين الناس. يبدو أن مير محمدًا، الذي كان قد تولّى من البداية قضية المجابهة وعمل كحجريّ رحى لها، قد ذهب إلى بيت حضرة بهاءالله في يوم الجمعة وأخبره بالترتيبات التي أعدت، عندها قام حضرة بهاءالله في الحين وغادر معه صوب المسجد. (أ. ط.)

([4])       جلال الدين الرومي.

([5])       رئيس رجال الدين المسلمين في المدينة.

([6])  جرى العُرف عندما يسير شخص ذو مقام رفيع فإنه من غير اللائق ولا من الأدب أن يسير أتباعه أمامه أو بمحاذاته إلاّ ليلًا حيث تملي الضرورة على من يحمل الفانوس أن يسير أمامه لينير الدرب لسيده. في غير ذلك يقتضي الأدب أن يسير الآخرون على بضع خطوات خلفه. هكذا، على سبيل المثال، كان المؤمنون يتصرفون حين السير مع حضرة بهاءالله، أو حضرة عبدالبهاء، أو حضرة شوقي أفندي.

([7])       هذه ليست كلمات حضرته بالنص، لكنها تفيد بمضمونها. (أ. ط.)

﴿ 15 ﴾ "سورة الملوك"

إن هطول فيض وحي حضرة بهاءالله الذي لم يسبق له مثيل والذي جرى عقب افتضاح ميرزا يحيى وسقوطه مباشرة، بلغ ذروته بنزول “سورة الملوك”. ففي هذه السورة، وهي أكثر كتابات حضرته جسامة وأهمية، يخاطب بصورة رئيسة ملوك العالم مجتمعين. أنزلت باللغة العربية، حيث تعلن بعبارات لا غموض فيها عن ما يدعو إليه صاحبها وعن مقامه بلغة القوة والاقتدار.([1]) لأي ملاحظ أمين محايد، فإن الفقرة الافتتاحية وحدها لتفصح عن سلطان وجلال من يعلن عن كونه مطلع ولاية الله في الأرض ويدعو ملوك العالم وحكامه لينبذوا ما عندهم من متاع ويقبلوا إلى أمره:

“أن يا ملوك الأرض اسمعوا نداء الله من هذه الشجرة المثمرة المرفوعة التي نبتت على أرض كثيب الحمراء بريّة القدس وتغنّ بأنه لا إله إلاّ هو العزيز المقتدر الحكيم... اتقوا الله يا معشر الملوك ولا تحرموا أنفسكم عن هذا الفضل الأكبر فألقوا ما في أيديكم فتمسّكوا بعروة الله العلي العظيم وتوجّهوا بقلوبكم إلى وجه الله ثم اتركوا ما أمركم به هواكم ولا تكوننّ من الخاسرين.”(1)

كشف حضرة بهاءالله عن مقامه تدريجًا وعلى مراحل. فتمّ إعلانه في حديقة الرضوان سنة 1863م.([2]) وفي تلك المناسبة التاريخية، التي يمكن اعتبارها المرحلة الأولية في إعلانه ظهور يوم الله، كشف عن جلال مقامه ورفعته إلى نفر قليل من أصحابه. فلم يعلم كثير من البابيين الذين تجمّعوا في تلك الحديقة للإعراب عن إجلالهم وولائهم في يوم رحيله إلى الآستانة، عن ذلك الإعلان، ولم يسمعوا عنه إلاّ بعد بضعة أشهر. يذكر ميرزا أسد الله الكاشاني هذه الحقيقة في روايته الشفوية. تجدر الإشارة إلى أنه كان قد عيّن نفسه حارسًا خاصًا لحضرة بهاءالله في بغداد، وكان من خدامه المخلصين ويحمل، خلافًا لنصح حضرته ورغم كونه قصيرًا جدًا، خنجرًا مستورًا تحت عباءته كلما مشى خلف حضرته في المدينة. فيما يلي وصفه لمغادرة حضرة بهاءالله حديقة الرضوان وحالة المؤمنين الذين تركهم في بغداد:

رغم أن حضرة بهاءالله كان قد أمر الأحباء ألاّ يتبعوهم (حضرته ومرافقيه)، فلم أحتمل رؤيته وهو يغيب عن أنظاري فأخذت أجري خلفه لمدة ثلاث ساعات.

رآني حضرته ونزل عن جواده، منتظرًا وصولي ثم تفضل بذاك الصوت المليح الممتلئ محبةً وحنانًا بأن أرجع إلى بغداد، وبتعاوني مع الأحباء، نمضي قدمًا بعملنا بهمة ونشاط دون تقاعس أو خمول:

’لا تدع الحزن يستولي عليك. إني تارك ورائي ببغداد أحباء أعزاء عليّ. بكل تأكيد سوف أرسل لهم بشارات أحوالنا الطيبة. كن ثابتًا في خدمة الله الذي يفعل ما يشاء. لتحيا في السلام المقدّر لك.‘([3])

بقلوب كسيرة يعتصرها الحزن بقينا نراقبهم وهم يختفون في ظلمة الأفق. فإن أعداءهم قساة أقوياء! ولم نكن لندري إلى أين سيقودونهم.

إلى وجهة مجهولة!

استدرنا ونحن نجهش بالبكاء المرير، شطر بغداد مصممين على أن نحيا وفق أمره.

لم نكن بعد، في ذلك الحين، قد أُخبرنا بالنبأ العظيم للإعلان، بأن محبوبنا المبجّل حضرة بهاءالله كان هو الموعود -“من يظهره الله”- لكن رغم ذلك سرعان ما غمرنا ذاك الإحساس بالسرور الذي يصعب وصفه، والذي ينبعث من أعماقنا، وحلّ محل الحزن مفيضًا علينا بنورانية خفية عجيبة.(2)

بعد ذلك يصف ميرزا أسد الله كيف أتى أحد المؤمنين بعد مدة، بلوح من أدرنة تمكّن أحباء الله بالعراق من خلاله من الاطمئنان على أحوال حضرة بهاءالله، وعلموا بإعلانه في حديقة الرضوان ثم إعلانه العمومي في أدرنة.

تمثّلت المرحلة الثانية في الكشف عن مقام حضرة بهاءالله باعلانه بصفة رئيسة إلى أفراد الجامعة البابية، وذلك عن طريق إنزال ألواح لا حصر لها من أدرنة بالإضافة إلى الإقدامات التبليغية لبعض تلاميذه البارزين.

أمّا المرحلة النهائية فكانت إعلانه المهيب المجيد للعالم أجمع متمثّلاً بملوكه ورؤسائه، الذين كانوا يتمتّعون بسلطة زمنية عظمى وبسطوا نفوذهم، بالاشتراك مع السلطة الدينية، على عقول رعاياهم.

قبل ذلك بعدة قرون، كان الرسول محمد r قد بعث برسل إلى حكام بعض البلاد المجاورة معلنًا رسالته وداعيًا إياهم للإيمان بها. أمّا الذين سجل مؤرخو الإسلام، أنهم دُعوا من قبل حضرته فكانوا: ملك الفرس ونجاشي الحبشة وإمبراطور بيزنطية ووالي مصر وحاكم دمشق وإمام اليمامة.([4])

كما بعث حضرة الباب لوحين إلى ملكين فقط في وقته هما محمد شاه، ملك الفرس والسلطان عبد المجيد، سلطان تركيا. إلاّ أنه كان قد خاطب سابقًا “معشر الملوك وأبناء الملوك” في “قيوم الأسماء” ودعاهم لإبلاغ رسالته إلى أهل العالم.

أمّا حضرة بهاءالله، المظهر الكلي الإلهي، الذي جاءت مهمته لتوحيد الجنس البشري تحت راية دين عالمي واحد، فقد أرسل دعوته المدوية لملوك العالم أجمع، معلنًا رسالته، داعيًا إياهم للإقبال إلى أمره، وحاثًا إياهم للعمل بنصحه وبنفس الوقت منذرًا إياهم بأخطر العواقب إذا ما اختاروا الإعراض عن نصائحه.

إن دراسة “سورة الملوك” وألواحه التالية إلى أفراد ملوك العالم، تلقي ضوءًا على ملامح رائعة تلفت الانتباه لروح حضرة بهاءالله التي لا تقهر، وشجاعته وموقفه الذي لا يعرف المساومة في كشف الحقائق التي ينطوي عليها ظهوره. أي رجل، قبل أزيد من قرن، خاطب ملوك وسلاطين العالم، لا سيما أمثال الطغاة ناصر الدين شاه، ملك الفرس، وعبد العزيز، سلطان تركيا، كان عليه أن يتقن فن الدبلوماسية ويصوغ كلماته بعبارات لا تخطئ في تمثيله وتقديمه كعبد لدى عتباتهم. إن أبهة وفخامة الملوك كانت تبعث الرهبة بحيث في معظم الحالات تجعل المرء قوي القلب يشعر بالتردد في الاقتراب منهم أو الإعراب عن آرائه إذا كانت لا تتفق وتلك الآراء التي يؤيدها أولئك الملوك. ما من رجل سوي العقل كان ليجرؤ على أن يحاول، قبل قرن، مخاطبة الملوك بلهجة آمرة متسلّطة خصوصًا إذا كان أسيرًا سجينًا في قبضة حاكم طاغية.

مَن غير مظهر الله في أرضه كان بوسعه مخاطبة الملوك بقوة وسلطنة على غرار ما فعل حضرة بهاءالله من عكاء وبأسلوب مثل ما جاء في “الكتاب الأقدس”:

“يا معشر الملوك قد أتى المالك والملك لله المهيمن القيوم. ألاّ تعبدوا إلاّ الله وتوجّهوا بقلوب نوراء إلى وجه ربكم مالك الأسماء هذا أمر لا يعادله ما عندكم لو أنتم تعرفون…

يا معشر الملوك أنتم المماليك قد ظهر المالك بأحسن الطراز ويدعوكم إلى نفسه المهيمن القيوم. إياكم أن يمنعكم الغرور عن مشرق الظهور أو تحجبكم الدنيا عن فاطر السماء قوموا على خدمة المقصود الذي خلقكم بكلمة من عنده وجعلكم مظاهر القدرة لما كان وما يكون.”(3)

([1])  ترجم حضرة شوقي أفندي أجزاء من هذا اللوح إلى الإنگليزية. نشرت بصفة رئيسة في “منتخبات من آثار حضرة بهاءالله” بالأرقام 65، 66، 113، 114، 116، 118، وكذلك في “The Promised Day Is Come” الصفحتين 20-21.

([2])       انظر المجلد الأول، الفصل 16.

([3])  هذه ليست كلمات حضرة بهاءالله نصًا ولكنها تفيد بمضمون ما تفضل به من بيانات. (أ. ط.)

([4])  أسماؤهم على التوالي هي: خسرو برويز (كسرى الثاني)، أجامي أبجور، هرقل، المقوقس، الحارث ابن أبي شمر وحوضة ابن علي.

بعض المواضيع الهامة في "سورة الملوك"

مسؤولية الملوك

في “سورة الملوك” يعاتب حضرة بهاءالله الملوك لفشلهم وقصورهم عن الالتفات إلى رسالة حضرة الباب، ويخاطبهم بهذه الكلمات:

“أن يا عبد([1]) فاذكر لهم نبأ عليّ إذ جائهم بالحق ومعه كتاب عز حكيم، وفي يديه حجة من الله وبرهانه ودلائل قدسٍ كريمٍ، وأنتم يا أيها الملوك ما تذكّرتم بذكر الله في أيامه وما اهتديتم بأنوار التي ظهرت ولاحت عن أفق سماء منير، وما تحسسّتم في أمره بعد الذي كان هذا خير لكم عمّا تطلع الشمس عليها إن أنتم من العالمين، وكنتم في غفلةٍ عن ذلك إلى أن أفتوا عليه علماء العجم وقتلوه بالظلم هؤلاء الظالمين، واسترقى روحه إلى الله وبكت من هذا الظلم عيون أهل الفردوس ثم ملائكة المقربين، إياكم أن لا تغفلوا من بعد كما غفلتم من قبل فارجعوا إلى الله بارئكم ولا تكوننّ من الغافلين...“(4)

تعطينا هذه الكلمات مفهومًا جديدًا لحقيقة أن حضرة بهاءالله توقّع أن يكون الملوك، وكثير منهم لم يكنوا مطّلعين على رسالة حضرة الباب، قد تحرّوا ادعاءاته وتمسّكوا بأمره. فحضرته لا يسلّم بفكرة أن معظمهم قد لا يكون مطّلعًا بمجيئه أو يجهلون دعوته. بل على عكس ذلك فإنه يلومهم لجهلهم ذاك ويرسل إليهم الآيات دون اعتبار لحقيقة أن معظمهم لم يألف أو يطّلع على مصطلحاته. ففيما وجّه إليهم من خطابات للإقبال إلى أمره لم يبدّل أسلوبه المعتاد وطريقة تعبيره لملاءمة فهم قرّائه. هكذا كتب حضرته: “أن يا عبد فاذكر لهم نبأ علي إذ جاءهم بالحق…” مما يفترض أن الملوك لا بد وأنهم كانوا يعلمون من كان عليًّا. لأن واجب الإنسان الإقبال إلى كلمة الله، وفهمها وترقية مداركه من خلالها. وبما أن تلاميذ حضرة بهاءالله تمكّنوا من بلوغ ذلك، فيتوقع أن يكون كل الناس، بغضّ النظر عن خلفياتهم ومعارفهم -الملوك لا يستثنون من ذلك- قادرين على فهم بيانات حضرة بهاءالله والتي تشكّل في مجموعها كلمة الله لهذا العصر.

يوبخ حضرة بهاءالله الملوك كذلك لعدم عرفانهم ظهوره هو. وينصحهم بالتوجّه إليه بهذه الكلمات:

وقد ظهر الوجه عن خلف الحجبات واستنار منه كل من في السموات والأرضين، وأنتم ما توجّهتم إليه بعد الذي خلقكم له يا معشر السلاطين، إذًا اتّبعوا قولي ثم اسمعوه بقلوبكم ولا تكوننّ من المعرضين…”(5)

في فقرة أخرى، يذكّر حضرة بهاءالله الملوك بفشلهم في منع أعدائه من اضطهاده هو وأتباعه، ويوبخهم بقوله:

“أن يا أيها الملوك قد قضت عشرين من السنين وكنّا في كل يوم منها في بلاءٍ جديدٍ وورد علينا ما لا ورد على أحد قبلنا إن أنتم من السامعين بحيث قتلونا وسفكوا دمائنا وأخذوا أموالنا وهتكوا حرمتنا وأنتم سمعتم أكثرها وما كنتم من المانعين. بعد الذي ينبغي لكم بأن تمنعوا الظالم عن ظلمه وتحكموا بين الناس بالعدل ليظهر عدالتكم بين الخلايق أجمعين.

إن الله قد أودع زمام الخلق بأيديكم لتحكموا بينهم بالحق وتأخذوا حق المظلوم عن هؤلاء الظالمين وإن لن تفعلوا بما أُمرتم في كتاب الله لن يذكر أسمائكم عنده بالعدل وإن هذا لغبن عظيم. أتأخذون حكم أنفسكم وتدعون حكم الله العلي المتعالي القادر القدير. دعوا ما عندكم وخذوا ما أمركم الله به ثم ابتغوا الفضل من عنده وإن هذا لسبيل مستقيم.”(6)

وكذلك:

وإن لن تمنعوا الظالم عن ظلمه ولن تأخذوا حق المظلوم فبأي شيء تفتخرون بين العباد وتكوننّ من المفتخرين أيكون افتخاركم بأن تأكلوا وتشربوا أو تجتمعوا الزخارف في خزائنكم أو التزيّن بأحجار الحمر والصفر أو لؤلؤ بيضٍ ثمينٍ. ولو كان الافتخار بهذه الأشياء الفانية فينبغي للتراب بأن يفتخر عليكم لأنه يبذل وينفق عليكم كل ذلك من مقدّرٍ قديرٍ وقدّر الله كل ذلك في بطنه ويخرج لكم من فضله إذًا فانظروا في شأنكم وما تفتخرون به إن أنتم من الناظرين.

لا فوالذي في قبضته جبروت الممكنات لم يكن الفخر لكم إلاّ بأن تتّبعوا سنن الله في أنفسكم ولا تدعوا أحكام الله بينكم مهجورًا وتكوننّ من الراشدين.”(7)

([1])       حضرة بهاءالله.

نصائح عامة للملوك

تتمثل بعض الملامح البارزة من “سورة الملوك” في النصائح التي وجهها حضرة بهاءالله إلى الملوك. فيوجز لهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها كل رأس متوّج. فيما يلي بعض من نصائحه لهم:

“اتقوا الله يا أيها الملوك ولا تتجاوزوا عن حدود الله ثم اتّبعوا بما أمرتم به في الكتاب ولا تكوننّ من المتجاوزين. إياكم أن لا تظلموا على أحد قدر خردل واسلكوا سبيل العدل وإنه لسبيل مستقيم.

ثم أصلحوا ذات بينكم وقللوا في العساكر ليقلّ مصارفكم وتكوننّ من المستريحين. وإن ترتفعوا الاختلاف بينكم لن تحتاجوا إلى كثرة الجيوش إلاّ على قدر الذي تحرسون بها بلدانكم وممالككم اتقوا الله ولا تسرفوا في شيء ولا تكوننّ من المسرفين.

وعلمنا بأنكم تزدادون مصارفكم في كل يومٍ وتحمّلونها على الرعية وهذا فوق طاقتهم وإن هذا لظلم عظيم. أعدلوا يا أيها الملوك بين الناس وكونوا مظاهر العدل في الأرض وهذا ينبغي لكم ويليق لشأنكم لو أنتم من المنصفين.

إياكم أن لا تظلموا على الذينهم هاجروا إليكم ودخلوا في ظلكم اتقوا الله وكونوا من المتّقين. لا تطمئنوا بقدرتكم وعساكركم وخزائنكم فاطمئنوا بالله بارئكم ثم استنصروا به في أموركم وما النصر إلاّ من عنده ينصر من يشاء بجنود السموات والأرضين.

ثم اعلموا بأن الفقراء أمانات الله بينكم إياكم أن لا تخانوا في أماناته ولا تظلموهم ولا تكوننّ من الخائنين ستسئلون عن أمانته في يوم الذي تنصب فيه ميزان العدل ويعطى كل ذي حق حقه ويوزن فيه كل الأعمال من كل غنيٍ وفقيرٍ.”(8)

تبعات الإعراض

بعد توجيه النصح لرؤساء العالم وحكامه، أصدر حضرة بهاءالله إنذارًا رهيبًا:

“وإن لن تستنصحوا بما أنصحناكم في هذا الكتاب بلسان بدعٍ مبينٍ يأخذكم العذاب من كل الجهات ويأتيكم الله بعدله إذًا لا تقدرون أن تقوموا معه وتكوننّ من العاجزين. فارحموا على أنفسكم وأنفس العباد.”(9)

لقد وقع نداء حضرة بهاءالله ودعوته إلى الملوك على آذان صمّاء. كان نتيجة ذلك أن وقعت الإنسانية ضحية ويلات حروب مدمرة بنحو متزايد وتقويض للنظام في كل مكان. فقد انزلق العالم في فوضى ونزاعات بحيث ليس هناك من بين رؤسائه، سواء من السياسيين أو الدينيين، ممن له القدرة على إنقاذه من مصيره المحتوم وسقوطه. إن المعاناة والمصائب التي حلّت بالإنسان، كما تنبأ حضرة بهاءالله، تتكاثر بازدياد يومًا بعد يوم، كما أن عملية تداعي النظم القديمة هي الأخرى في تسارع بمرور الزمن.

بقدر ما هي خطيرة محنة البشرية، فالذي هو أشد خطورة هو عجز عموم البشر ورؤسائه وعقلائه عن اكتشاف سبب محنتهم ومعاناتهم والسبب وراء مثل هذه المنازعات والفوضى في العالم. والذين اعترفوا بمقام حضرة بهاءالله وحدهم واعتنقوا دينه يعلمون بأن هذه الكوارث والبلايا هي التبعات المباشرة لإنكار دعوة حضرة بهاءالله من قبل الجنس البشري عامة وملوك ورؤساء العالم خاصة. فهم يؤمنون إيمانًا راسخًا بأن ليس للإنسان اليوم ملجأ ولا مفر إلاّ بالورود في ظل أمر الله.

لم يقتصر تحذير حضرة بهاءالله للبشرية من مغبّة الإعراض عن دعوته على “سورة الملوك” فقط، بل في العديد من ألواحه النازلة فيما بعد تنبأ منذرًا بما ينتظر بشرية جاحدة من عذاب وابتلاء، بشرية أعرضت عن خالقها وأنكرت مظهره الأعظم. تُصوّر الفقرات التالية المقتبسة من آثار حضرة بهاءالله الحالة التي تنتظر عالمًا غارقًا في الانحراف والغفلة:

قد آن أوان فناء العالم وأهله” “سرعان ما يظهر الانقلاب الأكبر” “جاء اليوم الموعود، يوم تدمدم عليكم المحن والبلايا فوق رؤوسكم وتحت أقدامكم وهي تقول: ’ذوقوا ما قدّمت أيديكم!‘” “عمّا قريب ينفخ فيكم صرصر الغضب الإلهي ويحيط بكم لهيب جهنم.وإذا تم الميقات يظهر بغتة ما يرتعد به فرائص العالم” “سوف تحترق المدن من ناره([1]) وينطق لسان العظمة الملك لله العزيز الحميد”(10)

ولو أن يومنا الحاضر والمستقبل القريب، كما تنبأ حضرة بهاءالله محفوف بالبلايا وحالك الظلمة، إلاّ أن وعود حضرته تطمئننا بأن المستقبل البعيد ناصع مجيد بحيث ليس بمقدور أحد أن يتخيّله الآن. يصرح حضرته متنبًا:

“عمّا قريب سوف تتغير كل حكومات الأرض ويعمّ الظلم العالم وبعد الشدة العامة تشرق شمس العدل من أفق ملكوت الغيب.”(11)

وفي موضع آخر:

“تُرى الأرض اليوم حاملة وعمّا قريب تشاهَد أثمارها المنيعة وأشجارها الباسقة وأورادها المحبوبة ونعمها الجنية.”(12)

ثم يخاطب لسانُ العظمة([2]) حضرةَ بهاءالله بالكلمات التالية بعد أن تمّ إطلاع الملوك على رسالته في “سورة الملوك” وأنذرهم بعواقب وخيمة تنتظرهم إن هم لم يستجيبوا لندائه:

أن يا عبد ذكّر العباد بما ألقيناك ولا تخف من أحدٍ ولا تكن من الممترين فسوف يرفع الله أمره ويعلو برهانه بين السموات والأرضين فتوكّل في كل الأمور على ربك وتوجّه إليه ثم أعرض عن المنكرين فاكف بالله ربك ناصرًا ومعين إنّا كتبنا على نفسنا نصرك في المُلك وارتفاع أمرنا ولو لن يتوجّه إليك أحد من السلاطين.”(13)

([1])       أي نار التمدن.

([2])       صوت الله يكلّم مظهر أمره، حضرة بهاءالله.

خطابه للمسيحيين

فيما يلي نداؤه المتحدي الذي وجّهه لملوك المسيحية في “سورة الملوك”:

“أن يا ملوك المسيحية أما سمعتم ما نطق به الروح بأني ذاهبٌ وآتٍ فلمّا أتى في ظلل من الغمام كما صعد أول مرة لِمَ ما تقرّبتم به لتفوزوا بلقائه وتكوننّ من الفائزين. وفي مقام آخر يقول فإذا جاء روح الحق الآتي فهو يرشدكم وإذا جائكم بالحق ما توجّهتم إليه وكنتم بلعب أنفسكم لمن اللاعبين وما استقبلتم إليه وما حضرتم بين يديه لتسمعوا آيات الله من لسانه وتطّلعوا بحكمة الله العزيز الحكيم وبذلك منعت نسمات الله عن قلوبكم ونفحات الله عن فؤادكم وكنتم في وادي الشهوات لمن المحبرين فوالله أنتم وما عندكم ستفنى وترجعون إلى الله وتسئلون عمّا اكتسبتم في أيامكم في مقر الذي تحشر فيه الخلائق أجمعين...“(14)

خطابه لسلطان تركيا

إن الملك الوحيد المخاطب شخصيًا في “سورة الملوك” هو السلطان عبد العزيز سلطان تركيا والذي بموجب الفرمانات التي أصدرها تم إبعاد حضرة بهاءالله إلى أدرنة -التي دعاها حضرته “السجن البعيد”، ثم عكاء “السجن الأعظم”، فيما بعد. يدلل مطلع الفقرة الافتتاحية على عظمة حضرة بهاءالله، إذ إن كلماته الناطقة بسلطان مهيمن، تصف المَلك بأنه ليس إلاّ مملوكًا:

أن يا أيها السلطان اسمع قول من ينطق بالحق ولا يريد منك جزاءً عمّا أعطاك الله وكان على قسطاس حقٍ مستقيمٍ ويدعوك إلى الله ربك ويهديك سبل الرشد والفلاح لتكون من المفلحين.“(15)

يؤنّب حضرة بهاءالله الملك لأنه أودع مسؤولياته بأيدي وزراء غير أمناء لا يتّقون الله. فقد كان من شأن الفساد الذي شمل بلاط السلطان، مقرونًا بحكم استبدادي، أن سبّب عذابًا لا يطاق لحضرة بهاءالله وأصحابه. أمّا قطبا الظلم والطغيان ومصدره في البلاد فكانا عالي باشا، رئيس الوزراء، وفؤاد باشا، وزير الخارجية، بمؤازرة زمرة رجال آخرين. فلا عجب أن يخصص حضرة بهاءالله، مظهر الله الحاكم والناصح للعالمين، جزءًا من خطابه للسلطان ناصحًا ومحذرًا بهذه الكلمات:

إياك يا أيها الملك لا تجمع في حولك من هؤلاء الوكلاء الذين لا يتّبعون إلاّ هواهم ونبذوا أماناتهم وراء ظهورهم وكانوا على خيانة مبين. فأحسن على العباد كما أحسن الله لك ولا تدع الناس وأمورهم بين يدي هؤلاء اتّق الله وكن من المتقين. فاجتمع من الوكلاء الذين تجد منهم روائح الإيمان والعدل ثم شاورهم في الأمور وخذ أحسنها وكن من المحسنين…

إياك أن لا تدع زمام الأمور عن كفك ولا تطمئنّ بهم ولا تكن من الغافلين. إن الذين تجد قلوبهم إلى غيرك فاحترز عنهم ولا تأمنهم على أمرك وأمور المسلمين ولا تجعل الذئب راعي أغنام الله ولا تدع محبّيه تحت أيدي المبغضين. إن الذين يخانون الله في أمره لن تطمع منهم الأمانة ولا الديانة وتجنّب عنهم وكن في حفظٍ عظيمٍ لئلا يرد عليك مكرهم وضرّهم فأعرض عنهم ثم أقبل إلى الله ربك العزيز الكريم.”(16)

في سياق خطابه، يلفت حضرة بهاءالله نظر السلطان إلى أحد أكثر البيانات إثارة للتأمل في تلك السورة حيث يؤكد:

فاعلم وأيقن بأن الذي لن تجد عنده الديانة لن تكن عنده الأمانة والصدق وإن هذا لحق يقين ومن خان الله يخان السلطان ولن يحترز عن شيء ولن يتّق في أمور الناس وما كان من المتقين.”(17)

لأجل تقدير هذا البيان علينا أن نتذكّر بأن هناك كثيرين من الناس الملحدين الذين قد يكونون أمناء صادقين في الأحوال الاعتيادية. لكن معيار الأمانة والصدق الحقيقي لإنسان هو موقفه أمام المغريات. فعند حلول المحن والامتحان ليس ثمة ما يبقي الإنسان صادقًا غير إيمانه بالله. وإن لم يكن مؤمنًا بالله، فقدَ الهمة لمقاومة المغريات.

ويستمر حضرة بهاءالله يفيض بالنصح والإرشاد على السلطان بلسان الرحمة والشفقة. في الفقرات التالية المختارة من بين نصائحه هذه برهان كاف على مدى عناية حضرة بهاءالله وسلطنته كذلك:

وإنك لو تسمع قولي وتستنصح بنصحي يرفعك الله إلى مقام الذي ينقطع عنك أيدي كل من على الأرض أجمعين. أن يا ملك اتّبع سنن الله في نفسك وبأركانك ولا تتّبع سنن الظالمين…

ولا تطمئن بخزائنك فاطمئن بفضل الله ربك ثم توكل عليه في أمورك وكن من المتوكلين. فاستعن بالله ثم استغن من غَنائه وعنده خزائن السموات والأرض…

ولا تفرّط في الأمور فاعمل بين خدامك بالعدل ثم أنفق عليهم على قدر ما يحتاجون به لا على قدر الذي يكنزونه ويجعلونه زينة لأنفسهم وبيوتهم ويصرفونه في أمور التي لن يحتاجوا بها ويكوننّ من المسرفين. فاعدل بينهم على الخط الاستواء بحيث لن يحتاج بعضهم ولن يكنز بعضهم وإن هذا لعدل مبين. ولا تجعل الأعزّة تحت أيدي الأذّلة ولا تسلّط الأدنى على الأعلى كما شهدنا في المدينة وكنّا من الشاهدين. وإنّا لمّا وردنا المدينة وجدنا بعضهم في سعةٍ وغَناءٍ عظيمٍ وبعضهم في ذلةٍ وفقرٍ مبينٍ وهذا لا ينبغي لسلطنتك ولا يليق لشأنك…

ثم انصب ميزان الله في مقابلة عينيك ثم اجعل نفسك في مقام الذي كأنك تراه ثم وزّن أعمالك به في كل يومٍ بل في كل حين وحاسب نفسك قبل أن تُحاسَب في يوم الذي لن يستقر فيه رجل أحد من خشية الله وتضطرب فيه أفئدة الغافلين. وينبغي للسلطان بأن يكون فيضه كالشمس يرّبي كل شيء ويعطي كل ذي حق حقه وهذا لم يكن منها بل بما قدّر من لدن مقتدر قدير.

ويكون رحمته كالسحاب ينفق على العباد كما ينفق السحاب أمطار الرحمة على كل أرضٍ بأمرٍ من مدبرٍ عليمٍ…

إنك ظل الله في الأرض فافعل ما يليق لهذا الشأن المتعالي العظيم. وإنك إن تخرج عمّا ألقيناك وعلّمناك لتخرج عن هذا الشأن الأعز الرفيع. فارجع إلى الله بقلبك ثم طهّره عن الدنيا وزخرفها ولا تدخل فيه حب المغايرين…

اسمع يا سلطان ما ألقينا على حضرتك ثم امنع الظالمين عن ظلمهم ثم اقطع أيديهم عن رؤس المسلمين.”(18)

خطابه لوزراء السلطان

في “سورة الملوك” يخاطب حضرة بهاءالله وزراء السلطان خطابًا عنيفًا يوبخهم فيه على سوء تصرفهم وأفعالهم. فيما يلي بعض الفقرات:

“قل يا أيها الوكلاء ينبغي لكم بأن تتّبعوا أصول الله في أنفسكم وتدعوا أصولكم وتكوننّ من المهتدين وهذا خيرٌ لكم عمّا عندكم إن أنتم من العارفين. وإن لن تتّبعوا الله في أمره لن يقبل أعمالكم على قدر نقير وقطمير. فسوف تجدون ما اكتسبتم في الحيوة الباطلة وتجزون بما عملتم فيها وإن هذا لصدقٌ يقين…

قل أتأخذون أصولكم وتضعون أصول الله وراء ظهوركم وإن هذا لظلم على أنفسكم وأنفس العباد لو تكوننّ من العارفين. قل إن كان أصولكم على العدل فكيف تأخذون منها ما تهوى به هواكم وتدعون ما كان مخالفًا لأنفسكم ما لكم كيف تكوننّ من الحاكمين. أكان من أصولكم بأن تعذّبوا الذي جائكم بأمركم وتخذلوه وتؤذّوه في كل يوم بعد الذي ما عصاكم في أقل من آن ويشهد بذلك كل من سكن في العراق ومن ورائه كل ذي علمٍ عليمٍ.”(19)

هذا ويطمئن حضرة بهاءالله الوزراء بأنه ما بُعث ليستولي على كنوزهم وممتلكاتهم الدنيوية، مؤكدًا انقطاعه عمّا سوى الله ومبينًا بأن كافة كنوز الأرض لم تكن في نظره ونظر أحبائه إلاّ ككف من الطين. ذلك لأن كل شيء سيفنى ولن يبقى غير عزة أمر الله. ثم يحذّر الوزراء من عاقبتهم قائلاً:

فاعلموا بأن الدنيا وزينتها وزخرفها سيفنى ويبقى المُلك لله الملك المهيمن العزيز القدير. ستمضي أيامكم وكل ما أنتم تشتغلون به وبه تفتخرون على الناس ويحضركم ملائكة الأمر على مقر الذي ترجف فيه أركان الخلائق وتقشعرّ فيه جلود الظالمين وتُسئلون عمّا اكتسبتم في الحياة الباطلة وتجزون بما فعلتم وهذا من يوم الذي يأتيكم والساعة التي لا مرد لها وشهد بذلك لسان صدقٍ عليمٍ.”(20)

خطابه لأهل الآستانة

وجّه حضرة بهاءالله نصائحه وتحذيراته إلى سكان الآستانة أيضًا. فيوصيهم بتقوى الله والاستماع لندائه واجتناب الغرور والانقطاع عن هذه الدنيا. هذه بعض وصاياه:

“أن يا ملأ المدينة اتّقوا الله ولا تفسدوا في الأرض ولا تتّبعوا الشيطان ثم اتّبعوا الحق في هذه الأيام القليل. ستمضي أيامكم كما مضت على الذينهم كانوا قبلكم وترجعون إلى التراب كما رجعوا إليه آباؤكم وكانوا من الراجعين…

اسمعوا ما ينصحكم به هذا العبد لوجه الله وما يريد منكم من شيء ويرضى بما قضى الله له ويكون من الراضين. يا قوم قد مضت من أيامكم أكثرها وما بقت إلاّ أيام معدودة إذًا دعوا ما أخذتم من عند أنفسكم ثم خذوا أحكام الله بقوة لعل تصلون إلى ما أراد الله لكم وتكوننّ من الراشدين…

إياكم أن لا تستكبروا على الله وأحبائه ثم أخفضوا جناحكم للمؤمنين الذين آمنوا بالله وآياته وتشهد قلوبهم بوحدانيته وألسنتهم بفردانيته ولا يتكلّمون إلاّ بعد إذنه كذلك ننصحكم بالعدل ونذكّركم بالحق لعل تكوننّ من المتذكّرين ولا تحملوا على الناس ما لا تحملوه على أنفسكم ولن ترضوا لأحد ما لا ترضونه لكم وهذا خير النصح لو أنتم من السامعين.”(21)

في خطابه لسكان الآستانة، يبيّن حضرة بهاءالله لهم موقفه بجلاء:

ثم اعلموا بأنّا ما نخاف من أحدٍ إلاّ الله وحده وما توكّلي إلاّ عليه وما اعتصامي إلاّ به وما نريد إلاّ ما أراد لنا وإن هذا لهو المراد لو أنتم من العارفين. إني أنفقت روحي وجسدي لله رب العالمين. من عرف الله لن يعرف دونه ومن خاف الله لن يخاف سوا