صور من حياة حضرة عبدالبهاء
صور من حياة حضرة عبدالبهاء

صور من حياة حضرة عبدالبهاء

مقدّمةُ المترجم

شأني شأن كلّ البهائيّين في العالم، فإنّ عشقي لحضرة عبدالبهاء لا تحدّه الحدود، ولا تقيّده القيود. وشأني شأنهم أيضًا، أتمنّى أن أرى العالم غير العالم، أتمنّى أن أنظر فأرى عالَمًا واحدًا موحَّدًا، أمّةً واحدةً، وأسرةً إنسانيةً واحدةً، لا يسود فيها سوى المحبّة والسّلام والبهجة والنّور والرّحمة والتّعاون والأخوّة والتّسامح والعدل والإنصاف والخدمة، وسائر الكمالات والفضائل الإنسانيّة، تلك الكمالات والفضائل الّتي جسّدها عمليًّا حضرة عبدالبهاء، ربّما بشكلٍ غير مسبوقٍ في التّاريخ الإنسانيّ، وعلّمنا أيضًا كيف نجسّدها، وأوضح لنا أنّ تجسيد جميع الفضائل الإنسانيّة ليس فقط ممكنًا، بل حتميًّا. لا جِدال أنّنا أمام ظاهرةٍ إنسانيّةٍ فريدةٍ، ظاهرةٍ يصعب جِدًّا وصفها بما يليق، تلك الظّاهرة التي يجهد هذا الكتاب في تصويرها قدر الإمكان.

لقد نهل القارئ العربيّ كثيرًا من بحار العلوم النّفيسة الّتي لا تنضب لحضرة عبدالبهاء، وذلك من خلال ما صدر من يراع حضرته من كُتُبٍ ومؤلّفاتٍ، لكن يبدو أنّ ثمّة نقصًا في ما لدى القارئ العربيّ من كُتُبٍ ومؤلّفاتٍ تُلقي الضّوء على الحياة العمليّة لتلك الجوهرة الإنسانيّة الفريدة، وهو الأمر الّذي حدا بي إلى ترجمة هذا الكتاب الثمين، وذلك رغم الضّعف وعدم اللّياقة وقلّة البضاعة بما يليق لتلك الشّخصيّة الملكوتيّة الشّاملة.

إنّ الأسلوب الّذي انتهجته في عمليّة التّرجمة ينطوي على الالتزام الشّديد بنفَس الكاتب أو الرّاوي للقصّة، وبمفرداته، إلّا فيما يتعلّق بمتطلّبات اللّغة العربيّة ومتطلّبات التّرجمة إذا لزم الأمر، فالأولويّة في الصّياغة والمصطلحات هي للمؤلّف وليست للمترجم. هذا لا يمنع من إضافة كلمة “حضرة” قبل الأسماء المباركة، كونها عادةً أساسيّةً في الشّرق إظهارًا للاحترام والتّبجيل.

ولقد وجب التّنويه إلى أنّه، وأثناء استكشافي ما إذا كان الكتاب قد تمّت ترجمته من قبل، فقد التقيت كِتابًا عربيًّا قيّمًا صدر منذ وقتٍ غير بعيدٍ، وهو يسير على نفس المنوال، وهو كتاب “قبسات من حياة عبدالبهاء” لمترجمه الفاضل السّيّد/ مصطفى صبري، ووجدت أنّ الكاتب قد ضمّن كتابه العديد من القِصص نقلًا عن هذا الكتاب الّذي نحن بصدده، فوجدت أنّه من الملائم الاستعانة بما ترجمه الحبيب المذكور في كتابه بدلًا من إعادة ترجمتها، وذلك من منطلق التّوحّد المعرفيّ، ولذلك فقد سُقت عددًا غير قليلٍ من القصص نقلًا عن ذلك الكتاب كما هي، وعلى هذا وجب التنويه.

كذلك وجب التنويه أيضًا إلى أنّه إذا كان لهذه التّرجمة أن ترى النّور، وإذا كان لها أن تحوز رِضا القارئ واستحسانه، فإنّ الفضل في ذلك يرجع إلى الجمال المبارك أوّلًا، ثُمّ إلى الجهود الكبيرة والمخلصة لـ”هيئة المراجعة العربيّة” الّتي أبلت بلاءً حسنًا، ومدّت يد العون، سواءٌ عن طريق المساهمة الفعّالة في السّموّ بالصّياغة، أو عن طريق المساعدة في جمع المصادر العربيّة للمقتطفات أينما وجدت، أو عن طريق الإرشادات الاحترافيّة القيّمة.

والله وليّ التوفيق، وهو القادر والمستعان!

تمهيدٌ

صُوَرٌ من حياة عبدالبهاء” ليس سيرةً ذاتيّةً، بل مجموعة من القصص الملهِمة الّتي تعبّر عن أسلوب الحياة البهائيّة كما يجسّدها حضرة عبدالبهاء، نجل مؤسّس الدّين البهائيّ، حضرةِ بهاءالله، والمثال الكامل لتعاليمه. لقد كانت أقواله وأفعاله على درجةٍ كاملةٍ من الانسجام، وحياته، عندما نعرفها، فإنّها تخدم كثيرًا في تشجيع وتعضيد مريديه، صغارًا كانوا أو كبارًا، في دأبهم في اتّباع المثال الّذي قدّمه حضرته، ذلك المثال الّذي أشار إليه حضرة بهاءالله حين تفضّل أرشدوا النّاس وعلمّوهم طرق عبدالبهاء… سيروا على خُطى عبدالبهاء“.(1)

هناك عدّة أسبابٍ دعتني إلى كتابة هذا المصنّف. فكثيرًا ما شعرت بالحاجة الماسّة إلى كتابٍ مختصرٍ يبيّن الجوانب المختلفة لشخصيّة حضرة عبدالبهاء، وبدا لي أنّ هذا الهدف يمكن تحقيقه على أفضل وجهٍ من خلال عرض أحداثٍ واقعيّةٍ من حياته العمليّة. فعندما نبيّن كيف كان حضرته سخيًّا -على سبيل المثال- من خلال مواقفَ حيّةٍ، سيكون أفضل من مجرّد ذكر أنّه كان سخيًّا. وعندما نتأمّل أسلوب حياته العمليّ المقدّس السّعيد، فإنّ ذلك سيرشدنا إلى قدرٍ أكبرٍ من الرّضا في حياتنا ويملأ الفراغ الرّوحيّ اليوميّ بالهدف من وجودنا ويملؤنا يقينًا وبهجةً. حقًّا، كُلّما أسرعنا في اكتشاف حقيقة ماهيّة الحياة، انخرطنا سريعًا في اكتشاف دروب الحياة الحقيقيّة. كلّنا، سواءٌ كُنّا أطفالًا أو شبابًا أو كبارًا، بحاجةٍ أكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى مَثَلٍ أعلى جديرٍ بأن يُحتَذى به يستحقّ أن نحاكيه، وحضرة عبدالبهاء خير مَن يلبّي تلك الحاجة.

إذًا فهناك حاجةٌ كبرى إلى قصصٍ عن حضرة عبدالبهاء، فبشكلٍ عامٍّ يستمتع النّاس عادةً بسرد القصص والاستماع إليها، ولكنّ القصص البهائيّة متناثرةٌ في أدبيّاتٍ واسعةٍ ولا حصر لها، تعود إلى أكثر من قرنٍ من الزّمان، والكثير من هذه المنشورات لم تعد متاحةً اليوم. فبعد تصفّح عددٍ من الكتب الإنجليزيّة القديمة، وجدت نفسي راغبةً في تصنيف مجموعةٍ مختارةٍ من القصص الملهِمة في مخطوطةٍ واحدةٍ. هذه القصص ليست مقدَّمة بحسب التّرتيب الزّمنيّ لوقوعها، كما أنّها تخلو من كثيرٍ من التّفاصيل المبهجة الّتي تسهم في تحسين جوانب السّيرة الذّاتيّة.

نصح حضرة شوقي أفندي، وليّ أمر الله، المؤمنين الأمريكيّين أن يتذكّروا سلوك حضرة المولى: “فليتذكّروا بشجاعةٍ وإصرارٍ مثال وسلوك عبدالبهاء عندما كان بينهم. ليتذكّروا شجاعته، وحُبّه الصّادق، ومودّته التّلقائيّة الّتي لا تعرف التّمييز، ونفوره وانزجاره من الانتقادات الواهية الّتي كان يتعامل معها بغاية البراعة والحكمة. فليحيوا ويخلّدوا ذكرى تلك الأحداث والمناسبات التّاريخيّة الّتي لا تُنسى، والّتي أبرز فيها إحساسه الرّفيع بالعدل وتعاطفه الفطريّ والتّلقائيّ مع المظلومين، وإحساسه الدّائم بوحدة الجنس البشريّ، وحُبّه الفائض للجّميع، وعدم رضاه عن أولئك الّذين تجرّأوا واستهانوا برغباته وسخِروا من طُرُقه وتحدّوا مبادئه أو نقضوا أعماله”. (2)

كتب دكتور جوردان: “من خلال فهم عبدالبهاء كمثالٍ أو تجسيدٍ لكُلّ مثلٍ بهائيٍّ، يستطيع الكبار والصّغار، على حدٍّ سواء، أن يحوزوا بشكلٍ سريعٍ ذلك الإحساس بالحكم البهائيّ، ويطوّروا الإرادة الدّاخليّة لطاعته. والقصص الخاصّة بحضرة عبدالبهاء لها أهمّيّةٌ خاصّةٌ بالنّسبة للأطفال، لأنّها تبيّن لهم كيف كان حضرته يحيا الحياة البهائيّة وكيف كان مطيعًا للميثاق. فلو كنتَ في شكٍّ حول كيفيّة التّصرّف الصّحيح في موقفٍ ما، فما عليك سوى أن تتأمّل لحظةً ثُمّ تسأل نفسك: “ماذا كان سيفعل حضرة عبدالبهاء في موقفٍ كهذا؟”(6)

وهكذا فأهمّيّة القصص أمرٌ معترفٌ به، لأنّ روح هذه القصص لا تخطئ، وإذا كان هناك خطأٌ فقد يكون في تفاصيلَ زهيدةٍ. ولا بُدَّ من الاعتراف بأنّ ثمّة مشكلةً في توثيق أصالة القصص، ولذلك فإنّ المصادر المعطاة قد تساعد القارئ أن يكتشف ما إذا كانت القِصّة موثّقةً أم هي من رتبة مذكّرات الحجيج، “مجرّد انطباعاتٍ شخصيّةٍ لأقوال حضرة المولى…”. (7) من المعلوم أنّ الحدث الواحد إذا رآه اثنان من النّاس، فقد يعطيان نسختين مختلفين منه، كما أنّ التّفاصيل قد تحتجب بمرور الزّمن، ولكن لأنّ حضرة عبدالبهاء هو النّموذج الإنسانيّ لقرونٍ وقرونٍ قادمةٍ، فمن الجوهريّ أن نعرف كيف كان يعيش. فالقِصّة المدوّنة من المتوقّع أن تحتفظ بشكلها الأصيل أطول من مجرّد الرّوايات الشّفويّة عبر الأجيال. فلو أنّ حكايةً ما أثارت اهتمام القارئ، أو أنّ بعض النّصوص المقتبسة قد تبدو خارجةً عن السّياق، فإنّ المصدر المتاح قد يفتح الباب أمام فهمٍ أكثر عمقًا.

وثمّة صعوباتٌ أخرى. متى يتوقّف المرء عن عمليّة البحث الممتع والمبهج، لكي يبدأ عمليّة الكتابة بما فيها من ضجرٍ ومللٍ؟ إنّ المحيط شاسعٌ واللّالئَ وفيرةٌ، فكيف يختار الإنسان أجملها؟ لكن كان لا بُدَّ من بدايةٍ بينما المجال متاحٌ لذلك.

لقد احتاج الكتاب إلى تنسيقٍ، وكانت فكرة تصوير شخصيّة حضرة عبدالبهاء تحت ثلاثة عناوينَ رئيسيّةٍ “قلبه الطّاهر، وقلبه الطّيّب، وقلبه المنير” مستوحاةً من أوّل كلمةٍ مكنونةٍ من الكلمات المكنونة العربيّة، والّتي تقول “في أوّل القول املك قلبًا جيّدًا حسنًا منيرًا لتملك مُلكًا دائمًا باقيًا أزلًا قديمًا”. كما سوف يلاحَظ أنّ قِصّةً واحدةً قد تكون ملائمةً لمواضعَ مختلفةٍ، وذلك لأنّك عندما تريد إلقاء الضّوء على “الرّحمة” مثلًا فإنّ حضرته قد يصوّر الكرم أيضًا، فالتّصنيفات تتداخل. ولكنّ الشّيء المهمّ أنّ حضرته عاش بما كان ينادي به، وفي تطبيقه لذلك فقد أوضح لنا كيف نفعل الشّيء نفسه.

إنّ ضعف قدرات الكاتبة وعدم لياقتها كانا كفيلين بالإحباط والهزيمة التّامّيْن، ولكن ألم يُعلّمنا حضرة المولى نفسه بأنّه يجب علينا ألّا نركّز على ضعفنا؟ ونصحنا بأن “لا تنظروا إلى ضعفكم…”(8) إنّه لمن التّمادي فعلاً، بل ومن المستحيل حقًّا، لأيّ إنسانٍ أن يحاول أن يكون منصفًا تجاه عبقريّةٍ روحيّةٍ بمقام حضرة عبدالبهاء.

ومع ذلك فلعلّ هذا الكتاب ينشر العَبَق الإلَهيّ، لعلّه يخدم كطائفةٍ متاحةٍ بشكلٍ ميسورٍ لقصصٍ محبوبةٍ وغاليةٍ عن حضرة المولى عبدالبهاء، ولعلّه يثير الشّهيّة الرّوحيّة للباحث الجادّ لكيّ يتعمّق أكثر في المصادر البهائيّة الثّريّة الوفيرة، ولعلّه أيضًا يعِين البهائيّ المخلص، صغيرًا كان أم كبيرًا، عندما يواجه موقفًا مُحيّرًا أن يسأل نفسه “ماذا كان سيفعل عبدالبهاء؟” وأن يجد الجواب. فبقدر ما تتحقّق هذه الآمال بقدر ما يكون الكتاب قد حقّق هدفه، وهو أن نستحضر المولى في حياتنا اليوميّة ويلهمنا في اقتفاء آثار حضرته على طريق “النّهج الإلَهيّ للحياة”.

إنّ حُبّي لحضرة عبدالبهاء يدبّ في أعماقي. لقد باركني حضرته وبارك أختي مارجريت عندما تفضّل وأنزل دعاءً لنا لدى زيارة والديْنا للحجّ “الدّكتور والسّيّدة جاكوب كونز” عام 1921. تمنّى لنا حضرته أن نترعرع في “اللؤلؤة الأمّ للتّربية البهائيّة”. (9) هذه التّربية منحت حياتنا البهجة والقيمة على حدٍّ سواء. وإذ ينتابني إحساسٌ عميقٌ بالتّقدير، فإنّني أرجو لهذا الإسهام المتواضع أن يساعدنا جميعًا ونحن نجاهد من أجل غرس وتكريس المُثُل البهائيّة فيما بيننا وبين الآخرين.

ولا بُدّ أن أعبّر عن كامل اعترافي وامتناني لوالدتي – آنا كونز- الّتي قادتني إلى ميلادٍ روحيّ، وكذلك أُقدّر دور زوجي – جون- في تشجيعي على الدّخول في هذا العمل وتهيئة الظّروف أمامي لذلك، كما أشكر “جيرمي فوكس” و “ماريون هوفمان”، على مساهمتهما بخبرتهما القيّمة في إعداد هذا الكتاب للطّباعة والنّشر.

التّفاصيل الكاملة للعناوين المقتطفة، مع المؤلّفين والنّاشرين متاحةٌ في قسم المراجع، مع كُلّ امتناني لكُلّ من سمح باستخدامها، فمن دون هذه المصادر والمنشورات ما كان لهذا الكتاب أن يرى النّور. وكذلك أُعبّر عن عميق امتناني للكثيرين الّذين منحوا وقتهم ووهبوا حُبّهم لتسجيل خبراتهم الشّخصيّة للأجيال القادمة.

مقدّمة

فيما يلي خلاصةٌ مختصرةٌ عن بعض الجوانب الرّئيسة لحياة حضرة عبدالبهاء، وذلك بشكلٍ أساسيٍّ لأولئك القُرّاء الّذين ليس لديهم اطّلاعٌ كافٍ بتاريخ حياته، والّذين قد تفيدهم بعض المعلومات الإضافيّة في تفهّم وإدراك كيف تماشت هذه القصص مع المراحل المختلفة من حياته.

وُلِد حضرة عبدالبهاء في طهران قُبيل منتصف ليلة الثّاني والعشرين من مايو/أيَّار 1844، وهي اللّيلة نفسها الّتي أعلن فيها حضرة الباب(10) عن بعثته للمُلّا حسين البشروئي، أوّل المؤمنين بحضرته. وُلِد حضرته في أسرةٍ إيرانيّةٍ على قدرٍ كبيرٍ من الثّراء؛ فقد كان جدّه وزير دولةٍ.

بعد ميلاد حضرته بوقتٍ قصيرٍ تلقّى والده، حضرة بهاءالله، رسالة على شكل لُفافة ورقٍ من حضرة الباب، فبادر بالاعتراف بألوهيّة رسالته فور سماعه بها، وأصبح واحدًا من أشدّ المؤيّدين لها. هذا القرار أدّى إلى تحوّلٍ جذريٍّ في أحوال الأسرة بالكامل.

في أعقاب الاستشهاد المأساويّ لحضرةِ الباب عام 1850، وقعت محاولةٌ لاغتيال شاه إيران قام بها إثنان من البابيّين، مدفوعيْن بجنون الحزن وإحساسهما بأنّه هو المسئول عن إعدام حضرة الباب. هذا الحادث أطلق العنان لثورةٍ غير مسبوقةٍ من الوحشيّة والتعصّب في كُلّ أرجاء إيران ضدّ كُلّ من تحوم حوله الشّكوك بأنّه بابيٌّ. في ذلك الوقت، وعندما كان حضرة عبدالبهاء يبلغ من العمر تسعة أعوامٍ، تمّ اعتقال حضرة بهاءالله وأُلقي بحضرته في زنزانةٍ في طهران، بينما نُهب منزله المبارك واضطرّت العائلة إلى الانتقال للعاصمة في مكانٍ آمنٍ، وبعد ذلك لم تعُد حياتهم إلى حالها مرّةً ثانيةً.

خلال فترة السّجن هذه، مرّ حضرة بهاءالله بتجربةٍ روحيّةٍ علِم من خلالها أنّه هو الموعود الّذي أشار إليه حضرة الباب، والمقدّر له أن يكون مخلّص العالم. وذات يومٍ، أُخِذ حضرة عبدالبهاء لزيارة والده في زنزانته. ويخبرنا حضرته كيف أنّه “… ذات يومٍ سُمح له بالدّخول إلى ساحة السّجن ليرى والده المحبوب عند خروجه للرّياضة اليوميّة.  وكان حضرة بهاءالله قد تغيّر تغيّرًا فظيعًا، وكان مريضًا إلى درجة أنّه ما كان يقدر على المشي إلّا بغاية الصّعوبة، ولم يكن شعره ولا لحيته ممشّطًا، وقد انتفخ عنقه وتسلّخ جلده من أثر السّلاسل الحديديّة، وانحنى جسمه من أثر ثقلها وضغطها، فأثّر هذا المنظر على فكر الفتى عبدالبهاء وإحساسه المرهف بصورةٍ لا يمكن نسيانها”.(11) وخلال هذه الفترة، مرّ حضرة عبدالبهاء بأُولى تجاربه المباشرة مع الاضطهاد عندما تعقّبته صِبْيَة ورموه بالحجارة لأنّه بابيٌّ.

تمّ تبرئة حضرة بهاءالله، ولكن طُلب منه مغادرة وطنه وسائر أسرته، فاختار بغداد الّتي وصلها عام 1853، حيث قضوا هناك عشر سنواتٍ. كانت الرّحلة إلى بغداد شاقّةً ومضنيةً حيث تمّت في فصل الشّتاء، ولم تكن الأسرة المباركة مزوّدةً بملابسَ أو إمكانياتٍ لمواجهة البرد القارس، بينما كان حضرة بهاءالله ما زال يعاني من آثار السّجن، وبينما كانت والدة حضرة المولى في حملها، أمّا حضرة المولى فقد تجمّدت أصابع قدميه أكثر من مرّةٍ، وظلّ هذا يؤثّر عليه طوال حياته.

خلال الفترة الّتي أقاموا فيها في بغداد، حيث نشأت جامعةٌ بابيّةٌ كبيرةٌ غالبيّة أفرادها من البابيّين الفارّين من الاضطهاد في إيران، اعتزل حضرة بهاءالله، شأنه في ذلك شأن الكثيرين من مؤسّسي الدّيانات السّابقين، إلى برّيّة كردستان لمُدّة عامين دون أن يعرف مكانه أحدٌ. لعب حضرة عبدالبهاء في تلك الفترة، الّتي كان فيها طفلًا يافعًا، دورًا كبيرًا في تشجيع ومؤازرة والدته والأسرة وبعث الأمل فيهم.

وبحلول الوقت الّذي عاد فيه حضرة بهاءالله إلى بغداد، كان حضرته قد أصبح معروفًا وذائع الصّيت بقداسته وحكمته، فبدأت أعدادٌ متزايدةٌ من غير البابيّين تتوافد لرؤية حضرته؛ إمّا من منطلقٍ جادٍ، أو بدافع الفضول. بدأ حضرة عبدالبهاء، وبشكلٍ متزايدٍ، يقابل هؤلاء النّاس ولا يسمح إلّا للجّادّين بإخلاصٍ برؤية والده والفوز بمحضره المبارك. وراح حضرته يشارك في المناقشات مع رجال العلم، والّذين أبدوا اندهاشًا من علمه، وعندما كانوا يسألون حضرته من أين أتى بهذا العلم، كان جوابه البسيط: “… من أبي!”.

بعد الوصول إلى بغداد بفترةٍ قصيرةٍ، أخبر حضرة بهاءالله ابنه عبدالبهاء بشكلٍ خاصٍّ بنزول الوحي الإلَهيّ عليه، الأمر الّذي تقبّله حضرته على الفور. وفي عام 1863، وقُبيل النّفي إلى القسّطنطينيّة (الآن إسطنبول) مباشرةً، أعلن حضرة بهاءالله عن بعثته علانيةً لأتباع حضرة الباب المحتشدين في حديقة الرّضوان، إمّا لتوديعه أو لمرافقته في رحلة النّفي الثّانية. أعلن حضرته أنّه هو المخلّص للعالم، الموعود به في كُلّ الدّيانات السّماويّة، والمبشَّر به من قِبَل حضرة الباب.

بعد أربعةِ أشهرٍ فقط في القسّطنطينيّة، تمّ النّفي مرّةً أخرى إلى “أدرنة” لمُدّة خمس سنواتٍ، ومن هناك أعلن حضرة بهاءالله رسالته إلى زعماء العالم الدّينيّين والدّنيويّين في سلسلةٍ من الألواح الشّهيرة إلى الملوك والرّؤساء.

وأخيرًا، في عام 1868، تمّ النّفي للمرّة الرّابعة والأخيرة إلى عكّاء في فلسطين، تلك المدينة الّتي كانت موبوءةً بالحُمّى وشتّى الأوبئة. في عكّاء قضت الجماعة أوّل عامين في “السّجن الأعظم”، وبعدها قضوا سبع سنواتٍ داخل أسوار المدينة قيد الإقامة الجبريّة الافتراضيّة في المنازل، كسجناءٍ في مدينة السّجن. كانت هذه هي الفترة الّتي تزوّج فيها حضرة عبدالبهاء.

منذ لحظة وصولهم إلى عكّاء، بدأ حضرة بهاءالله يعتمد بشكلٍ متزايدٍ على حضرة عبدالبهاء الّذي أصبح يشير إليه بلقب “المولى”، وأسند إليه كافّة التّعاملات مع المسئولين والعامّة. وبحلول عام 1877، بلغ الاحترام والإعجاب بحضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء حتّى إنّهما-  وبرغم كونهما سجينيْن – إلّا أنّ الحاكم سمح لحضرةِ بهاءالله وأسرته بالانتقال إلى الرّيف، حيث صعدت روح حضرته في عام 1892 إلى الملكوت الأبهى في قصر البهجة.

في وصيّته، عيّن حضرة بهاءالله حضرة عبدالبهاء مركزًا للميثاق – الّذي يجب أن يتوجّه إليه جميع البهائيّين طلبًا للهداية. كان لحضرته أن يكون المبيّن الأوحد لتعاليم والده، و”المثل الأعلى لدينه”، و”راعي أغنامه”. فتوجّهت إليه الجامعة البهائيّة اليتيمة، ورأت فيه “… عزاءها وسلوتها ومرشدها وملاذها وحاميها”.(12)

وبكلّ أسفٍ، فقد غلبت الغيرة على الأخ غير الشّقيق لحضرةِ عبدالبهاء، ومعه لفيفٌ كبيرٌ من الأقارب، من مقامه ومن المكانة السّامية الّتي وُهبت لحضرته في وصيّة والده، على نحوٍ أثارت في نفسه أحقادًا “وبيلةً كتلك الّتي أشعلها تفوّق يوسف في صدور إخوته، راسخةً كتلك الّتي تأجّجت في صدر قابيل فدفعته إلى قتل أخيه هابيل…”.(13)  وبينما فشل كُلّ ذلك في إحداث شرخٍ دائمٍ بين صفوف الجامعة البهائيّة، إلّا أنّه تسبّب في حزنٍ شخصيٍّ ومعاناةٍ شديدةٍ لحضرةِ عبدالبهاء، كما هو مبيّنٌ في بعض القصص التّالية.

خلال تلك السّنوات القليلة الباقية من القرن التّاسع عشر، بدأ حضرة عبدالبهاء يبعث بالمبلّغين إلى أمريكا وكذلك إلى الشّرق، ومع انطواء ذلك القرن بدأ تدفّق الحجيج يتزايد من الغرب لزيارة حضرته، الأمر الّذي دام تقريبًا حتّى اندلاع الحرب العالميّة الأولى.

ثُمّ اندلعت ثورة تركيّا الفتاة عام 1908، مِمّا أدّى إلى تحرّر كُلّ السّجناء السّياسيّين والدّينيّين في الإمبراطوريّة العثمانيّة. مثّلت هذه الثّورة نقطة تحوّلٍ أخرى في حياة حضرة عبدالبهاء. فبعد أربعين عامًا من السّجن في فلسطين، تمتّع حضرته بحرّيّة الحركة، واستطاع أن يخطّط لرحلاته المدوّية قُبيل الحرب في الأعوام 1911 و 1912- 1913 إلى أوروبّا وأمريكا لينشر ويشرح رسالة أبيه.

يمكن قياس مدى الاهتمام الّذي أثارته زيارته إلى الغرب من الكلمات التّالية للّيدي بلومفيلد، الّتي أقام حضرة عبدالبهاء في منزلها في لندن: “آهٍ لهؤلاء الزّائرين والضّيوف والحجّاج! إنّ آذاننا لتمتلئ بوقع أقدامهم إذا ما نحن تذكّرنا تلك الأيّام وهم مقبلين من كُلّ بلاد العالم، وبتدفّقٍ في كُلّ يومٍ، وطوال اليوم، تيّارٌ مستمرٌّ ومشهدٌ متّصلٌ! وزراءٌ وسفراءٌ ومستشرقون ومهتمّون بالسّحر والتّنجيم ورجال أعمالٍ ومتصوّفون وأنجليكان وكاثوليك وأتباع المذاهب البروتستناتيّة المنشقّة عن الكنيسة الإنجليكانيّة وثيوصوفيّون وهندوس وعلماء مسيحيّون وأطبّاءٌ ومسلمون وبوذيّون وزرادشتيّون. وأقبل كذلك السّياسيّون وجنود جيش الخلاص، وآخرون من العاملين لصالح الجنس البشريّ، والمطالِبات بحقّ الانتخاب والصّحافيون والكتّاب والشّعراء والّذين لديهم خاصّيّة الشّفاء والخيّاطون وكرائم السّيّدات والفنّانون والصّنّاع والفقراء المتعطّلون والتجّار الأثرياء ورجال المسرح والموسيقى. أقبل هؤلاء جميعًا، وكان كُلّ واحدٍ منهم بلا استثناءٍ يتلقّى البركة والعطف من ذلك المنادي الإلَهيّ الّذي كان يهَبُ روحه لصالح الآخرين”.(14)

وهكذا في عام 1912، وبعد زيارة لندن وباريس، وبعد شتاءٍ في مصر، وبرغم صحّته المعتلّة وتقدّمه في العمر الّذي بلغ آنذاك ثمانيةً وستين عامًا، إلّا أنّه قام على تنفيذ برنامجٍ مماثلٍ لنشر رسالة حضرة بهاءالله في الولايات المتّحدة الأمريكيّة مسافرًا من شرقها إلى غربها وحتّى إلى كندا في الشّمال. “… ألقى في مدينة نيويورك وحدها من الخطابات العامّة وزار من الأماكن ما لا يقلّ عن خمسة وخمسين مكانًا مختلفًا زيارةً رسميّةً، ففاز بمحضره الحيويّ وامتاز بالاستماع إلى رسالة والده من شفتيْه جمعيّات السّلام والمجامع المسيحيّة واليهوديّة والكلّيّات والجامعات وهيئات البرّ والإحسان وأعضاء الهيئات الخلقيّة ومراكز حركة الفكر الجديد والجماعات الميتافيزيقيّة (الرّوحيّة) ونوادي السّيّدات والجمعيّات العلميّة ومجامع الإسبرانتو والثّيوصوفيّون والمسيحيّون المورمون واللّاأدريّون والمعاهد المنشأة لتقدّم الشّعوب الملوّنة وممثّلو الجاليات السّوريّة والأرمنيّة واليونانيّة والصّينيّة واليابانيّة، ولم تكن الصّحافة في تعليقاتها ونشرها لتقارير محاضراته بحالٍ من الأحوال بطيئةً في تقدير سعة أفقه أو طبيعة ندائه”.(15)  ولعلّ ما يجعل كُلّ هذا أكثر إثارةً للإعجاب، أن ندرك أنّ أوّل خطابٍ عامٍّ لحضرته على الإطلاق، كان قد قدّمه من منبر معبد المدينة في لندن في العام السّابق. كما أنّ حضرته كان عليه أن يعود إلى أوروبّا مرّةً ثانيةً في رحلةٍ ممتدّةٍ وأكثر شمولًا في طريق عودته إلى الأرض الأقدس. الكثير من القصص المحتواة في هذا الكتاب لها مصدرها في هذه الرّحلات التّاريخيّة إلى الغرب، وهناك عددٌ كبيرٌ من الأحاديث الّتي تفضّل حضرته بإلقائها خلال هذه الرّحلة تراها مدوّنةً في كتبٍ مثل “أحاديث باريس”، “عبدالبهاء في لندن”، “عبدالبهاء في كندا”، وكذلك في مجلّديْن بعنوان “ترويج السّلام العالميّ” الّذي يحوي مائة وتسع وثلاثين خطبةً تفضّل بإلقائها في الولايات المتّحدة وكندا.

وبعد الحرب وجد الحجّاج طريقهم ثانيةً لزيارة حضرة المولى في حيفا، حيث منزله المبارك عند سفح جبل الكرمل، غير بعيدٍ عن ضريح حضرة الباب.

في عام 1920، مُنِح حضرته لقب “فارس” من قِبل الإمبراطوريّة البريطانيّة، لجهوده في تخفيف المعاناة عن سكّان فلسطين خلال السّنوات الشّاقّة للحرب العالميّة الأولى.

كان لحضرةِ عبدالبهاء نظام مراسلاتٍ عالميٍّ مُذهلٍ، حيث كان يخطّ في اليوم الواحد أكثر من تسعين لوحًا، “ويقضي ليالي كثيرةً من مسائها إلى فجرها وحيدًا في غرفة نومه مستأنفًا كتابة المراسلات الّتي منعه ضغط مسئوليّاته المتنوّعة من أن يُعنَى بها خلال النّهار.”(16) يحتوي المركز البهائيّ العالميّ على ما يزيد عن تسعة عشر ألفًا من النّسخ الأصليّة والموثّقة من رسائل حضرته.

من الثّمار الهامّة لهذه الرّحلات إلى الغرب، كانت سلسلة الرّسائل الموجّهة إلى المؤمنين الأمريكيّين والّتي عُرفت باسم “ألواح الخُطّة الإلهيّة“، والتي تمثّل ميثاقًا لكافّة خطط التّبليغ المستقبليّة المقدّر لها تأسيس الأمر المبارك في أنحاء العالم.

في سياق حياةٍ عظيمةٍ وحافلةٍ كهذه، ما هي الإنجازات الرّئيسيّة لحضرة عبدالبهاء، بالإضافة إلى تلك الّتي سبق ذكرها؟ في المقام الأوّل حِفظ وحدة الجامعة البهائيّة في كُلّ أرجاء المعمورة، ليس فقط خلال مدّة حياته ولكن في المستقبل أيضًا، وذلك من خلال وضوح تعليمات حضرته في “ألواح وصاياه“، ذلك الدّستور بالغ الأهمّيّة “الّذي أخرج هذا النّظام الإداريّ إلى حيّز الوجود ووضّح معالمه وأطلق عمليّاته”(17) لكي يتطوّر هذا الهيكل الإداريّ للأمر المبارك بعد صعوده. ثُمّ إنّ حضرته قد تمكّن، رغم كُلّ المصاعب، من تنفيذ تعليمات حضرة بهاءالله بنقل الرُّفات المقدّسة لحضرة الباب من إيران إلى الأرض الأقدس ومواراتها الثّرى في ضريحٍ على جبل الكرمل، وفي ذات البقعة الّتي سبق أن حدّدها حضرة بهاءالله. كما بدأ حضرته في إنشاء أوّل مشرقيْن للأذكار، الأوّل في تركستان في روسيا، والثّاني في الولايات المتّحدة.  وحذّر حضرته بشكلٍ كاملٍ زعماء العالم ومفكّريه من أخطارٍ مُحدِقةٍ، ومن العوائق الّتي تحُول دون السّلام العالميّ، ووضّح الخطوات الّتي أعلنها حضرة بهاءالله لإحلال السّلام من خلال تأسيس “نَظمٍ عالميٍ جديدٍ”.

عند صعود حضرته في 1921، شيّعه أكثر من عشرة آلافٍ من النّاس يمثّلون تنوّعًا واسعًا من جنسيّاتٍ وطبقاتٍ ودياناتٍ مختلفةٍ أتوا جميعًا لإظهار إجلالهم وتقديرهم الأخير. كانت جنازته… جنازةً لم تشهد حيفا ولا فلسطين لها مثيلًا من قبل. كان الشّعور عميقًا حتّى إنّه ضمّ آلاف النّائحين معًا…

“كان المندوب السّامي البريطاني في فلسطين، وسير هربرت صامويل حاكم القدس، وحاكم فينيقيا وكبار الموظّفين في الحكومة، وقناصل الدّول المختلفة المقيمين في حيفا، ورؤساء الهيئات الدّينيّة المختلفة وأصحاب المقامات الرّفيعة في فلسطين، واليهود والمسيحيّون والمسلمون والدّروز والمصريّون واليونانيّون والأتراك والأكراد، وحشدٌ من الأحبّاء الأمريكيّين والأوروبّيّين وأحبّاء الشّرق، رجالًا ونساءً، من الشّريف والوضيع، بما لا يقلّ عددهم عن عشرة آلافٍ، ينوحون على فقدان المحبوب”.(18)

كانت حياته خدمةً لا تنقطع لله ولآخر مظهرٍ إلهيٍّ إلى الجنس البشريّ- حضرة بهاءالله– ، وللإنسانيّة، والّتي لم يتوقّف عن التّأكيد على مصيرها السّامي بلا حدودٍ. إنّ أعظم ما يميّز حياته على الإطلاق هو ذلك التّناغم الكامل بين أقواله وأفعاله. إنّ حياته ذات أهمّيّةٍ تاريخيّةٍ للعالم، ليس فقط بسبب الدّور الجوهريّ الّذي لعبه في تأسيسٍ مؤثّرٍ فعّالٍ لآخر تجلٍّ إلهيٍّ على هذا الكوكب، ولكن أيضًا لأنّ المثال الّذي قدّمه، وكذلك تعاليمه، ستظلّ حيّةً وتمارس تأثيرها على الحياة اليوميّة لتلك الملايين المتزايدة من البهائيّين حول العالم، أولئك الّذين يمثّل بالنّسبة لهم المثال الكامل لـ “النّهج الإلَهيّ للحياة” و”الملاذ لكل الجنس البشريّ”.(19)

لمزيدٍ من الشّموليّة عن حياة حضرة عبدالبهاء، نرجو القارئ الرّجوع إلى السّيرة الذّاتيّة لحضرةِ عبدالبهاء لـ”حسن بليوزي”، وكذلك إلى الفصول المتعلّقة بحضرته في كتاب “القرن البديع” لحضرةِ شوقي أفندي، وليّ أمر الله وحفيد حضرة عبدالبهاء. تفاصيل هذه الكتب وغيرها تجدها في قسم المراجع في نهاية الكتاب.

 

الفصل الأوّل قلبه الطّاهر

“اليوم، أعظم الأمور تطهير النّفس، وإصلاح الأخلاق، وتقويم السّلوك.”(20)

“القلب الطّاهر هو الّذي ينقطع كُلّيًّا عن النّفس، فأن تنقطع عن النّفس هو أن تكون طاهرًا.”(21)

إنكار الذّات

(1)

عند زيارته لسجن “وندسورث”، كتب حضرة المولى في سجلّ الزّائرين: “أعظم سجنٍ هو سجن النّفس”.(22)

(2)

عندما عبّر النّاس لحضرةِ عبدالبهاء عن مدى سعادتهم لأنّه أصبح حرًّا طليقًا، أجاب حضرته بما يلي: “الحرّيّة ليست مسألة مكانٍ بل مسألة حالةٍ. لقد كنت سعيدًا في ذلك لأنّ تلك الأيّام مضت في سبيل الخدمة.

“بالنّسبة لي كان السّجن حريّةً، والمتاعب راحةً، والموت حياةً، والمذلّة شرفًا، لذلك كنت في غاية السّعادة طوال فترة السّجن. عندما يتحرّر الإنسان من سجن نفسه، فتلك هي الحرّيّة الحقيقيّة لأنّ النّفس هي السّجن الأعظم.

“لا سجن للإنسان بعد هذا التّحرّر.

“ما لم يتقبّل الإنسان التّقلّبات الأليمة، ليس بتسليمٍ فاتر، بل برضا مشرقٍ، فلا يمكن له أن ينال الحرّيّة”.(23)

(3)

سُئل حضرة عبدالبهاء ذات مرّةٍ: ما هو الشّيطان؟ فأجاب بكلماتٍ ثلاث: “إنّها النّفس الأمّارة”.(24)

(4)

عندما زارت محرّرة في مجلّة “نيويورك جلوب – The New York Globe” حضرة عبدالبهاء في حيفا، حمّلها حضرته هذه الرّسالة: “أخبري أتباعي بأنّه ليس لهم أعداءٌ يخشونهم، ولا خصومٌ يبغضونهم، فالعدوّ الأوحد للإنسان هو نفسه.”(25)

(5)

تحدّث حضرة عبدالبهاء عن الأنانيّة فقال: “إن حُبّ الذّات سِمةٌ غريبةٌ، ووسيلةٌ لدمار الكثير من النّفوس الهامّة في هذا العالم، فلو تحلّى الإنسان بكلّ الصّفات الحميدة وكان أنانيًّا، فإنّ كُلّ الفضائل ستخبو أو تزول تمامًا، وفي النّهاية سيؤول الإنسان إلى الأسوأ.”(26)

(6)

نادرًا ما كان حضرة عبدالبهاء يستخدم ضمير المتكلّم “أنا” في أحاديثه، وقد أخبر بعض الأحبّاء في نيويورك ذات مرّةٍ، أنّ الكلمات “أنا” و” إيّاي” و “لي” ستكون من المحرّمات في المستقبل.(27)

تحكي “لوا جتسنجر” أنّها ذات يومٍ، كانت تقود السّيّارة هي و”جورجي رالستون” ومعهما حضرة المولى. أغمض حضرة المولى عينيه، وبدا كأنّه غطَّ في النّوم، بينما انهمكت “لوا” و “رالستون” في الحديث معًا ربّما في بعض الأمور الشّخصيّة، وفجأةً فتح حضرته عينيه وقال ضاحكًا: “أنا” و ” إيّاي” و “لي”… من كلمات الشّيطان.”(28)

(7)

في عام 1914، نقلت مجلّة “The Christian Commonwealth” هذه الكلمات في ثناء حضرة عبدالبهاء: “من المدهش أن ترى تلك القامة الموقّرة لذلك الزّعيم البهائيّ المبجّل، وهو يمرّ في الطّرقات الضّيّقة لهذه المدينة القديمة (عكّاء)، حيث قضى أربعين عامًا كسجينٍ سياسيٍّ، وأن تلاحظ ذلك الاحترام الكبير الّذي يبادره به المسؤولون وضبّاط الحامية التّركيّة، بدءًا من الحاكم إلى الموظّف البسيط الّذين كانوا يزورونه بشكلٍ دائمٍ، ويستمعون إلى أحاديثه بانتباهٍ عميقٍ. لم يقم حضرة المولى بتبليغ الأمر المبارك في سوريا كما فعل في الغرب، (كان حضرة بهاءالله قد وعد الحكومة التّركيّة بأنّ البهائيّين لن يبلّغوا الأمر المبارك للنّاس في فلسطين، فاحترم حضرة المولى هذا العهد، وكانوا يبلّغون عن طريق القدوة والمثال فقط(29))، ولكنّه كان يمضي في أعمال البِرّ والإحسان الّتي شملت المسلمين والمسيحيّين على حدٍّ سواء. غالبًا ما كان حضرته يعمل منذ شروق الشّمس حتّى منتصف اللّيل رغم صحّته الضّعيفة، ولم يدّخر نفسه أبدًا إن وجد خطأً يحتاج التّصويب أو معاناةً تحتاج التّخفيف عنها. بالنّسبة للمسيحيّين الّذين ينظرون إلى عبدالبهاء بعينٍ عاطفيّةٍ مجرّدةٍ ودّيّةٍ، فإنّ حياة نكران الذّات هذه لا يمكنها إلّا أن تذكّرهم بتلك الحياة ذات النّهاية المأساويّة على الصّليب، والّتي يتذكّرها العالم المسيحيّ بأسره.”(30)

(8)

ذات يومٍ، كان هناك اثنان من الحجّاج على طاولة الغداء مع حضرة المولى في عام 1908. تفضّل حضرته بسؤالهما عمّا إذا كانا سعيدَين بوجودهما في عكّاء ويشعران بالسّرور، فأجابا بأنّهما في غاية السّرور لكونهما مع حضرته، ولكنّهما يشعران بالتّعاسة عندما يفكّران في أخطائهما، فتفضّل حضرته: “لا تفكّروا في أنفسكم بل في فضل الله، وهذا سيجعلكم سعداءَ دائمًا”. ثُمّ أشار حضرته مبتسمًا إلى مَثلٍ عربيّ عن الطّاووس الّذي يشعر دائمًا بالرّضا لأنّه لا ينظر أبدًا إلى قدميه القبيحتيْن، بل ينظر دائمًا إلى ريشه الجميل.(31)

(9)

إنّ حضرة عبدالبهاء، الّذي يدرك المكانة الّتي وهبه إيّاها حضرة بهاءالله، هو وحده الّذي يحقّ له ن يقول: “انظروا إليّ، اتبعوني، كونوا مثلي، لا تفكّروا في أنفسكم أو في حياتكم، سواءٌ أكلتم أم نمتم، سواءٌ أكنتم في راحةٍ، سواءٌ أكنتم في صحّةٍ جيّدةٍ أم مرضى، سواءٌ أكنتم مع الأصدقاء أم مع الأعداء، سواءٌ نلتم التّقدير أم اللّوم؛ يجب ألّا تهتمّوا مطلقًا لكُلّ هذه الاشياء. انظروا إليّ وكونوا مثلي. يجب أن تنقطعوا عن أنفسكم وعن الدّنيا لكي تولدوا من جديدٍ وتدخلوا ملكوت السّماء. انظروا إلى الشّمعة كيف أنّها تنشر نورها! إنّها تذرف دموع  حياتها قطرةً قطرةً لكي تقدّم لنا شعلة ضيائها”.(32)

(10)

كانت حياة حضرة المولى تتمحور حول الله، لا حول ذاته، فكان شاغله الوحيد أن ينفّذ رادة الله وأن يكون خادمًا له. كان حضرته لا يحبّ أن تُلتقط له صورٌ، وإن سمح بذلك فلإرضاء الأحبّاء فقط. “ولكن أن يلتقط الإنسان صورةً لنفسه”، كما أوضح حضرته، “فمعناه التّركيز على النّفس وعلى الشّخصيّة الّتي لا تمثّل أكثر من هيكل المصباح، والّذى لا يحمل قيمةً في حدّ ذاته. فالشّيء الوحيد الّذي له قيمة هو الضّوء الّذي يشعّ منه.”(33)

(11)

لم يكن حضرة عبدالبهاء يخشى الصّمت، بل كان يدرك فضيلته. يذكر “هوورد كولبي آيفز: “كان حضرته يجيب السّائل بالصّمت – الصّمت الواضح. كان يشجّع دائمًا الآخر على التّحدّث وهو يستمع. لم يكن هناك أبدًا ذلك التّوتّر المتلهّف، أو التّململ الّذي كثيرًا ما يُظهر بوضوحٍ أن المستمع لديه الإجابة الجاهزة حالما تتاح له الفرصة لقولها”.(34)  يروي “آيفز” حكايةً جذّابةً عن قسٍّ مُوحِّدٍ آخر(35) كان يُجري مقابلةً مع حضرة عبدالبهاء لإعداد مقالةٍ عن الأمر المبارك، وحيث كانت أسئلته طويلةً، فقد كان حضرة المولى يستمع بانتباهٍ لا يملّ، ويجيب غالبًا بشكلٍ مقتضبٍ وهو مستريحٌ، ويُظهر الاهتمام. لقد أفاض حضرة المولى على القسّ بحُبٍّ غامرٍ حتّى نفِد الصّبر من آيفز وليس من حضرة المولى، حيث كان لا بُدّ أن يستمع إلى الضّيف بشكلٍ كاملٍ. وعندما توقّف السّائل أخيرًا ، وبعد برهةٍ من الصّمت، بدأ حضرة عبدالبهاء حديثه إليه بالحكمة والمحبّة مناديًا إيّاه “ابني العزيز”. في غضون خمس دقائق، أصبح القسّ في غاية الخضوع، في تلك اللّحظة على الأقلّ، بل تحوّل إلى مُريدٍ له يجلس عند قدميه. عند ذلك، نهض حضرة عبدالبهاء وعانق القسّ بمحبّةٍ واصطحبه إلى الباب، وعند العتبة، توقّف حضرته بعد أن وقعت عيناه على باقةٍ من الزّهور الأمريكيّة الجميلة. ضحك حضرته بصوتٍ مرتفعٍ، وانحنى وضمّ باقةَ الزّهور بأكملها ووضعها بين ذراعيْ ضيفه. لا يمكن أن أنسى أبدًا ذلك الرّأس الرّماديّ المستدير الّذي يرتدي نظّارةً وهو يعلو باقة الزّهور الجميلة. كم كان مذهولًا! وكم كان مشرقًا! وكم كان متواضعًا! وكم كان متحوّلًا!.(36)

(12)

ذات يومٍ، كان حضرة عبدالبهاء متوجّها من عكّاء إلى حيفا، فطلب أن يجلس على مقعدٍ في عربةٍ . نظر الحوذيّ إلى حضرته مستغربًا وقال: “من المؤكّد أنّ سموّك ترغب في عربةٍ خاصّةٍ! فأجاب حضرته: “كلّا”. وبينما كانت العربة تشقّ طريقها في حيفا، أقبلت إلى حضرته صائدة أسماكٍ حزينةً قضت يومًا كاملًا دون أن تصطاد شيئًا، ولا بُدّ لها أن تعود إلى أسرتها الجائعة. تفضّل حضرة المولى ومنحها “خمسة فرنكات”، ثُمّ نظر إلى السّائق مخاطبًا إيّاه: “لعلّك أدركت الآن سبب رفضي عربةً خاصّةً، لماذا أسافر في رفاهيةٍ بينما هناك الكثيرون يتضوّرون جوعًا؟”(37)

(13)

في إحدى المناسبات، تفضّل حضرة عبدالبهاء بالحديث عن يومٍ سعيدٍ قضاه في العراق: “ذات مرّةٍ، عندما كُنّا نعيش في بغداد، دُعيتُ إلى منزل رجلٍ فقيرٍ كان يعمل جامعًا للقشّ. كان الجوّ في بغداد أكثر حرارةً حتّى من سوريا، وكان هذا اليوم بالذّات حارًّا للغاية، لكنّني سِرت على الأقدام مسافة اثني عشر ميلًا حتّى أصل إلى كوخ الرّجل. قامت زوجته وأعدّت كعكةً صغيرة لتقدّمها لي كوجبة طعامٍ، إلّا أنّ الكعكة احترقت أثناء الطّهي وتحوّلت إلى كتلةٍ صلبةٍ متفحّمة. ومع ذلك كانت هذه أفضل وليمةٍ حضرتها في حياتي”.(38)

(14)

خلال أيّام حضرة عبدالبهاء الأخيرة في أمريكا، كان الأحبّاء شغوفين بإظهار أقصى ما لديهم من محبّةٍ وعرفانٍ لحضرته عن طريق مِنَحٍ وهدايا ماليّةٍ، لكنّ حضرته رفضها معلّقًا: “إنّني سعيدٌ بخدماتكم ومُمْتَنٌّ على ما فعلتموه من أجلي… والآن أنتم أتيتم بهذه الهدايا لأفراد أسرتي، ولقد قبلتها، إلّا أنّ أفضل الهدايا هي محبّة الله الّتي تبقى محفوظةً في خزائن القلوب، فالهدايا المادّيّة ربّما ستظلّ لوقتٍ ما، ولكنّ المحبّة ستدوم إلى الأبد. هذه الهدايا ستحتاج إلى صناديقَ وأرففٍ لحفظها، بينما المحبّة تُحفظ في خزائن القلوب والعقول، وتظلّ أبديّةً وخالدةً في العوالم الإلهيّة، ولذلك فسوف أحمل إليهم محبّتكم الّتي هي أثمن من كُلّ الهدايا. لا أحد يستخدم الخواتم الماسيّة في منزلنا، ولا أحد يريد الياقوت. هذه الأشياء لا مكان لها في منزلنا”.

“ومع هذا، فأنا أقبل هداياكم، ولكنّني سأتركها في أيديكم الأمينة راجيًا بلطفٍ أن تُباع وتُرسل قيمتها إلى صندوق مشرق الأذكار.”(39)

(15)

أرسل أحد الأحبّاء قطعةً من الفِراء لحضرةِ المولى ليصنع لحضرته منها مِعطفًا دافئًا جيّدًا. قام حضرته بقصّ قطعة الفِراء، وصنع منها عشرين طاقيّةً ووزّعها على المسنّين في المدينة.”(40)

(16)

كُلّما تناول حضرة عبدالبهاء موضوع تبليغ الأمر المبارك في حديثه، كان يركّز على مدى أهمّيّته. وفي “ألواح وصاياه” تفضّل حضرته بأنّ “التبليغ هو أعظم موهبةٍ إلهيّةٍ”.(41)

“لقد نسي حواريّو حضرة الرّوح أنفسَهم وجميعَ الشّئون الدّنيويّة كُلّيًّا؛ فتركوا الرّاحة والرّخاء وتقدّسوا وتنزّهوا عن الأهواء والشّهوات، ونبذوا كُلّ العلائق، وانتشروا في الممالك والدّيار، وقاموا على هداية مَن على الأرض حتّى بدّلوا الأرضَ غيرَ الأرض … فبمثل هذا فلْيَعْمَلِ العاملون“.(42)

التّواضع

(17)

كان تواضع حضرة عبدالبهاء يتجلّى في صُورٍ كثيرةٍ. لم يطمح حضرته في اسمٍ أو نعتٍ أو لقبٍ سوى “عبدالبهاء”. كان حضرته ينهى الحجّاج عن الانطراح على قدميه، وفي الأيّام الأولى في عكّاء، كان يقوم حضرته بإعداد الطّعام بنفسه لسائر السُّجناء، ولاحقًا، عندما كان يستضيف زائريه على مائدته، كان أحيانًا يقوم على خدمتهم بنفسه. ’وهذا ما كان يوصي بأن يمارسه المضيّفون الآخرون‘.(43)

(18)

عندما كان حضرة بهاءالله يقيم في قصر البهجة وحضرة عبدالبهاء في عكّاء، اعتاد حضرة المولى أن يزور والده مرّةً كُلّ أسبوعٍ، وكان يحبّ القيام بهذه الرّحلة مشيًا على الأقدام، وعندما سُئل حضرته لماذا لا يذهب إلى البهجة راكبًا، كان يجيب متسائلًا: “من أكون أنا لكي أركب بينما كان المسيح يمشي على قدميه؟”(44)

ومع ذلك فقد طلب منه حضرة بهاءالله أن يأتي راكبًا، ونزولًا عند رغبة حضرته قرّر أن يركب حتّى خارج عكّاء، ثُمّ يترجّل بمجرّد أن يلمح المنزل المبارك.

اعتاد حضرة بهاءالله أن يراقب قدومه من شُرفة الطّابق الثّاني عندما كان يقترب، وبمجرّد رؤيته كان قلبه يهتزّ فرحًا، داعيًا أفراد الأسرة للخروج لاستقباله.

(19)

أثناء الحرب العالميّة الأولى، هدّد الحصار حياة الكثير من المدنيّين في حيفا، فقام حضرة عبدالبهاء بانقاذهم من المجاعة؛ “فقد قام بنفسه بإدارة أعمالٍ زراعيّةٍ واسعةٍ بالقرب من “طبريّة”، وبذلك حصل على محصولٍ وافرٍ من القمح”.(45) تمّ تخزين الغلال في حُفَرٍ تحت الأرض، وفي أماكن أخرى، ثُمّ قام حضرته بتوزيعه على السّكّان بغضّ النّظر عن دياناتهم أو جنسياتهم. كان الطّعام يوزّع بانتظامٍ على شكل حصصٍ، ولأنّ حضرته بدأ هذا العمل مُبْكرًا في عام 1912، فقد كان هناك ما يكفي ويساعد على تجاوز الأيّام السّوداء في عامَيْ 1917/1918.

وبنهاية الحرب، سارعت الحكومة البريطانيّة إلى الاعتراف بإنجازاته الدّؤوبة المضنية، فكُرّم حضرته بلقب “فارس” في 27 إبريل/نيسان عام 1920، وذلك في احتفالٍ أقيم خصّيصًا لحضرته في مقرّ الحاكم البريطانيّ في حيفا.

حضر أصحاب المقامات الرّفيعة من البريطانيّين ورجال الدّين لتكريم حضرته في هذه المناسبة السّعيدة. فقد أكسبته أعماله المجرّدة عن الذّات حُبّ واحترام الرّفيع والوضيع على حدٍّ سواء.

وافق حضرة عبدالبهاء على قبول الوسام، ولكنّ حضرته لم يكن متأثّرًا بالتّشريفات والاحتفالات الدّنيويّة، فحتّى هذه الأمور الرّسميّة كان لا بُدَّ من تبسيطها. أُرسِلت سيّارةٌ أنيقةٌ لتقلّ حضرته إلى مقرّ الحاكم، ولكنّ السّائق لم يجد حضرته في المنزل. انتشر النّاس في كُلّ مكانٍ بحثًا عنه، وفجأةً ظهر حضرته… “وحيدًا يمشي مشية الملوك وببساطة العظمة الّتي كانت دائمًا ترافقه.”(46)

كان خادمه الأمين “إسفنديار”، الّذي قام على خدمته سنواتٍ طِوالًا، يقف على مقربةٍ. كثيرًا ما كان الرّجل يصحب مولاه في أعماله الخيريّة، ولكن الآن فجأةً، ومع تلك السّيّارة الأنيقة الجاهزة الّتي ستقلّ حضرة عبدالبهاء إلى الحاكم، شعر الرّجل بالحزن وأنّه لا حاجة إليه. لا بُدّ أنّ حضرة عبدالبهاء قد شعر بهذا بداهةً، فأعطاه إشارةً اندفع على إثرها نحو عربته وأحضر الحصان وجهّزها وركب فيها حضرة عبدالبهاء، وانطلق بحضرته نحو المدخل الجانبيّ لحديقة الحاكم. كان إسفنديار يهتزّ فرحًا، فقد دعت الحاجة إليه حتّى في هذه اللّحظات الحرجة. لقد وصل عبّاس أفندي في هدوءٍ ودونما أُبّهة وفي الوقت المناسب إلى المكان المناسب، وشرّف أولئك  الّذين جاءوا لتكريمه، عندما مُنِح لقب “السّير” عبدالبهاء عبّاس؛ لقبٌ ربّما لم يستخدمه مطلقًا.(47)

(20)

كان حضرة عبدالبهاء يتحاشى الإسراف قدر الإمكان؛ ففي أحد الأيّام خطّط بعض الأحبّاء الأثرياء من الغرب كي يقوم حضرته بغسل يده قبل إحدى الوجبات وفق مراسمَ فيها شيءٌ من الأبّهة، فجاءوا بغلامٍ يرتدي ثيابًا خاصّةً ويحمل إناءً فاخرًا فيه مياهٌ صافيةٌ بلّوريّةٌ، كما جهّزوا منشفةً معطّرةً ليستعملها بعد غسل يديه. وعندما رأى المولى كُلّ ذلك، ومجموعة الأحبّاء مع الصّبيّ والإناء والمنشفة تتقدّم نحوه عبر الباحة الخضراء، عرف مقصدهم. وبسرعةٍ لمح حضرته بعض الماء في مكانٍ قريبٍ، فغسل منه يديه وجفّفهما بقطعةٍ من القماش كانت لدى البُستانيّ، وبوجهٍ يشعّ إشراقًا توجّه نحو ضيوفه لاستقبالهم، وطلب منهم استعمال المياه المعطّرة لغسل أيديهم.(48)

(21)

قام حضرة عبدالبهاء بوضع حجر الأساس لمشرق الأذكار في “ويلميت – إلينوي” في الأوّل من مايو/أيَّار1912. تمّ نصب خيمةٍ مؤقّتةٍ على بقعةٍ خضراء تُطلّ على بحيرة ميتشغان. كان هناك أناسٌ من جنسيّاتٍ مختلفة متواجدين لوضع القليل من التّراب بأسلوبٍ احتفاليّ، وكان هناك رفشٌ عاديٌّ يستخدمه الجميع، ولكن عندما حان دور حضرة عبدالبهاء، تمّ استبدال الرّفش بمسطرين من ذهب. قام حضرته بإبعاد المسطرين عنه واستخدم نفس الرّفش الّذي استخدمه الآخرون، ثُمّ وضع حجر الأساس.(49)

(22)

ألهم حضرة عبدالبهاء الأحبّاء لتشكيل محفلٍ روحانيٍّ محلّيٍّ في مدينة نيويورك. تذكُر “لولي ماثيوز”- إحدى الحاضرات عندما التقى الأحبّاء لتشكيل محفلهم المحلّيّ الأوّل- تذكُر بأنّهم كانوا في ذلك الوقت لا يملكون سوى القليل من الأفكار للسّير في هذه العمليّة. جلسوا بدايةً متسمّرين على طول الحائط محاولًا كُلّ منهم إثارة انطباعٍ جيّدٍ لدى الآخرين. ثُمّ قالوا: لا بُدّ أن الجلوس بشكلٍ دائرةٍ سيكون أفضل، فكان ذلك. وفجأةً دقّ جرس الباب. فتحت “غريس كروج” الباب ثُمّ عادت وفي يدها برقيّةٌ من حضرة عبدالبهاء، جاء فيها بكُلّ بساطةٍ: “اقرأوا سِفر متّى إصحاح 19 آية 30.” بحث الأحبّاء عن إنجيلٍ، وأخيرًا وجدوه وفتحوا الصّفحة المطلوبة ليقرأوا: “لكن كثيرين من الأوّلين يصيرون آخرين وآخرين يصيرون أوّلين”. وفي الحال أصبحنا متواضعين كالفئران خائفين من أن نصبح الآخرين! لقد لقّننا حضرة عبدالبهاء درسًا مذهلًا ذلك المساء، فلو أنّنا انصرفنا ونحن لا نعلم كثيرًا عن كيفيّة تشكيل المحفل الرّوحانيّ، يكفينا أن تعلّمنا درسًا كيف نكون بهائيّين. وفي غمرة التّواضع خرج المحفل الرّوحانيّ إلى الوجود.”(50)

(23)

لم يكن التّواضع الّذي كان يجسّده وينشده حضرة عبدالبهاء هو ذلك التّواضع النّاجم عن أيّ ضعفٍ. حينما سأل صبيّ حضرته: “لماذا تصبّ كُلّ أنّهار الأرض في المحيط؟” أجاب حضرته: “لأنّ المحيط يضع نفسه في حيّزٍ أكثر انخفاضًا منهم جميعًا، وبذلك يجذبهم نحوه”.(51)

(24)

في “فيلادلفيا”، تحدّث حضرة المولى إلى الأحبّاء عن الضّيافة التّسع عشريّة، والّتي تُعدّ من أُسُس الحياة الرّوحانيّة والاجتماعيّة البهائيّة، والّتي تُعقد في بداية كُلّ شهرٍ بهائيّ. ركّز حضرته على أهمّيّة هذه المناسبة متفضّلًا: “يجب أن يفكّر كُلّ شخصٍ منكم كيف يجلب السّعادة والسّرور إلى سائر الحاضرين، وعلى كُلّ شخصٍ أن يعتبر جميع الحضور أفضل وأعظم منه، ويعتبر نفسه أقلّ منهم جميعًا. اعتبر الكلّ أعلى منك مقامًا. إذا سرتم طبقًا لهذه الوصيّة، فاعلموا بكُلّ تأكيدٍ أنّ تلك الضّيافة هي الغذاء السّماويّ وأنّ ذلك العَشاء هو العَشاء الرّبّاني… أنا خادم ذلك الجمع.”(52)

(25)

كتب “هوارد آيفز”: “في كُلّ فُرَصي العديدة الّتي فزت فيها باللّقاء والاستماع والتحدّث مع حضرة عبدالبهاء، كنت أتأثّر وأتأثّر بعمقٍ كبيرٍ بطريقته في تبليغ النّفوس… لم يكن حضرته ليجادل أبدًا بالطّبع، ولا كان يصمّم على نقطةٍ أبدًا، بل كان يترك الشّخص حُرًّا. لم يكن هناك أبدًا ادّعاءٌ بالسّلطة بل تجسيدٌ للتّواضع. كان يبلّغ وكأنّه يقدّم هديّةً لملكٍ. لم يقل لي مطلقًا ماذا عليّ أن أفعل، سوى تلميحُه بأنّ ما أفعله صوابًا. ولم يخبرني يومًا بما يجب عليّ أن أؤمن. كان يجعل الحقيقة والمحبّة جميلين بدرجةٍ تجبر القلب على قبولهما. لقد علّمني بصوته وخُلُقه وتحمّله وابتسامته كيف يجب أن أكون. تعلّمت منه أنّ ثمار الأفعال والأقوال الطّيّبة تخرج بالتّأكيد من تربة الكينونة الطّاهرة.”(53)

(26)

كان ميرزا أبوالفضل عالِمًا بهائيًّا مرموقًا، و”في أوائل سِنيّ هذا القرن، كان حضرة عبدالبهاء قد أرسل ميرزا أبو الفضل إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة لتبليغ الأمر المبارك وتعميق الأحبّاء. وعند عودته جلس هو وعددٌ من المؤمنين الزّائرين الأمريكيّين في محضر حضرة عبدالبهاء في عكّاء، وبادر الزّوار بالثّناء على (أبو الفضل) لِما قدّم لهم في أمريكا من عونٍ، مشيرين إلى أنّه بلّغ أمر الله لعدّة نفوسٍ، ودافع عنه بكُلّ كفاءةٍ ضدّ خصومه، وساعد في بناء جامعةٍ بهائيّةٍ قويّةٍ هناك. ثُمّ لمّا زادوا في إطرائهم واستمرّوا بالحديث عنه، ازداد ميرزا أبو الفضل غمًّا واكتئابًا، حتّى انفجرت دموع عينيه وراح يبكي بصوتٍ عالٍ. فعجب المؤمنون الحاضرون واندهشوا دون أن يفهموا سبب ذلك، حتّى ظنّوا بأنّهم ربّما لم يفوا بما يستحقّه من إطراءٍ!

بعدئذٍ بيّن حضرة عبدالبهاء بأنّهم بمديحهم إيّاه قد سبّبوا له ألمًا مريرًا، إذ اعتبر أبو الفضل نفسه عدمًا صِرفًا في أمر الله، معتقدًا بكُلّ خلوصٍ بأنّه لا يستحقّ أيّ ذكرٍ أو ثناءٍ.”(54)

(27)

اعتاد الشّعراء والأدباء من أهل البهاء في إيران كتابة قصائد المدیح والثّناء والتّمجید بحقّ حضرةً عبدالبهاء.

لكنّ البهائیين من سكّان عكّاء، كانوا حذرین جِدًّا حیال التّفوّه بذكر السّلطنة والسّیادة لشخص حضرة عبدالبهاء المبارك، ذلك لأنّهم كانوا يعلمون جیّدًا بأنّه طالما نصح الشّعراء بأن یلتفتوا، بدلًا من ثنائه وتمجیده، إلى إعلاء مقام عبودیّته ومحویّة ذاته البحتة.

وذات يومٍ، وصلت رسالة مديحٍ موجّهة لحضرة عبدالبهاء سُطّر مضمونها بهیئة شِعرٍ، فقام يونس خان- الّذي كان في خدمة حضرته- بتسليمه الرّسالة بينما كان حضرته یهبط درجات البیت المواجه للبحر، ظنًّا منه أن اللّحظة كانت مواتیةً لتسلیمه إيّاها. لكنّه ما كاد یقرأ سطرًا أو اثنین حتّى استدار حضرة عبدالبهاء بوجهه فجأةً نحوه، وبملامحَ تعبِّر عن منتهى الحزن والكدورة قال: “والآن أنت تدفع إليّ برسائلَ كهذه؟ ألست تعلم مدى الألم والحزن الّذي ینتابني حینما أجد وأسمع البعض یخاطبني بألقابٍ رفیعةٍ كهذه؟ حتّى أنت لم تعرفني بعد!… والله الّذي لا إله إلّا هو إنّي أعتبر نفسي أقلّ من أيّ أحدٍ من أحبّاء الجمال المبارك.”

ظلّ حضرة عبدالبهاء یتكلّم غاضبًا في هذا الصّدد وبقوّةٍ بحیث كاد قلب يونس خان أن یتوقّف، وكأنّ بدنه أصيب بالتّخدّر، وودّ لو أنّ الأرض انشقّت وابتلعته لئلّا يشاهد مولاه مرّةً أخرى في مثل هذا الحزن والتّأثّر، ولم يُفِق إلّا على وقع أقدام المولى حینما واصل هبوط السّلالم، فمشى وراءه مسرعًا وسمعه یقول: “لقد قلتُ للنّاقضین بأنّهم كُلّما زادوا في إیذائي كُلّما بالغ الأحبّاء في إعلاء مقامي والمغالاة فیه.”

كان في اضطرابٍ شدیدٍ إذ جلب مثل هذا الحزن لقلب المولى ولم يعُد يدري ما ینبغي فعله. ثُمّ سمعه بعد ذلك یقول: “هذا لیس بأيّ حالٍ بسبب تقصیر الأحبّاء. فهم یقولون هذه الأشیاء بدافع ثباتهم واستقامتهم ومحبّتهم وإخلاصهم…” ثُمّ قال ليونس خان: “أنت عزیزٌ جِدًّا عليّ…”. عندها أدرك يونس من هذه العبارات والبیانات بأنّ طریقة المولى دومًا هي ألّا یترك نفسًا في ألمٍ أو حزنٍ. لقد مُنح ارتياحًا وتشجيعًا فزال عن قلبه ذاك الضّغط القاتم، وطفح قلبه بسرورٍ ونشوةٍ تتعدّیان الوصف بحیث تمنّى لو أنّ السّماء تفتح أبوابها وتدَعه يعرج إلى ملكوت اللّقاء”.(55)

البساطة

(28)

إحدى أواخر الحجّاج الّذين قاموا بزيارة حضرة عبدالبهاء في الأرض الأقدس في عام 1921، كانت السّيّدة “آنا كونز” وهي ابنة عالم لاهوت سويسريّ كان يعيش في زيوريخ بسويسرا. ذكرت السّيّدة فيما بعد: “عندما أفكّر فيه الآن فإنّي أحبّ أن أفكّر أوّلًا في بساطته العظيمة، وفي تواضعه الجليل الّذي لا يعرف للذّات وجودًا، وأخيرًا، لا بل أفضّل أن يكون أوّلًا، في حُبّه اللّامحدود”.(56)

(29)

كان حضرة المولى يحتفظ بملابسَ قليلةٍ، ربّما في بعض الأوقات بمعطفٍ واحدٍ، وكان يتناول القليل من الطّعام. كان حضرته معروفًا بأنّه يبدأ يومه باحتساء الشّاي وجبن الماعز وقطعةٍ من الخبز. وفي وجبة المساء كان يكفيه كوبٌ من الحليب وقطعةٌ من الخبز، وكان يعتبرها وجبةً صحّيّةً. ألم يعِش حضرة بهاءالله على الحليب في الغالب عندما كان في السّليمانيّة؟ (كان حضرة بهاءالله يتناول أحيانًا الأرز المطبوخ بالحليب.) كما كان حضرة عبدالبهاء يتناول في وجباته الخضار والبقول والزّيتون، ونادرًا ما كانت تحتوي وجباته على لحومٍ.

(30)

لاحظَت السّيّدة “ماري لوكاس” الّتي حجّت إلى عكّاء في عام 1905، أنّ حضرة المولى لا يتناول عادةً إلّا وجبةً واحدةً بسيطةً كُلّ يومٍ. لمُدّة ثمانية أيّامٍ كان حضرته يحضر أغلب الوجبات، وغالبًا ما كان يحضرها لمجرّد إضفاء البهجة والسّرور على تلك المناسبة، رغم أنّه لم يكن جائعًا. ولو سمع بأنّ إنسانًا لم يكن لديه ما يأكله ذلك اليوم، كان طعام عَشائه وأسرته يُلَفّ ويُرسل إليه.(57)

(31)

في مناسبة أوّل عَشاءٍ لحضرةِ عبدالبهاء في منزل السّيّدة (بلومفيلد) في لندن، كانت مضيّفته قد أعدّت أصنافًا تلو الأخرى، في رغبةٍ منها للاحتفاء بحضرته بقدر ما تستطيع. بعد ذلك علّق حضرته بلطفٍ: “كان الطّعام لذيذًا والفواكه والزّهور جميلةً، ولكن ليتنا نستطيع أن نشارك بعضًا من هذه الأصناف للفقراء والجوعى الّذين ليس لديهم حتى صنفٌ واحدٌ منها.(58) بعد ذلك تمّ تبسيط الوجبات بشكلٍ كبيرٍ، ولكن ظلّت الزّهور والفواكه متوفّرةً بوفرةٍ، فقد كانت تُقدَّم لحضرةِ المولى كرمزٍ صغيرٍ للحُبّ.

(32)

السيّدة (جوليا جراندي) إحدى الحاجّات الأوائل، وصفت عَشاءً جميلًا حضره العديد من الأحبّاء في ضيافة حضرة المولى نفسه في عكّاء. قام حضرته بتوزيع مناديلَ معطّرةٍ وأطمأنّ على أنّ الجميع وجد مكانًا للجّلوس، ثُمّ قدّم “البيلاو”، وهو طبق أرزٍّ إيرانيٍّ، لكُلّ ضيفٍ، كما كان هناك برتقال وبودنج الأرز. “طوال العشاء الّذي كان بسيطًا كان حضرته هو خادم المؤمنين، كان هذا حقّاً عيدًا روحانيًّا ساده الحُبّ. كان الجوّ العام كلّه حُبًّا وبهجةً وسلامًا”.(59)

(33)

قامت مَي بولز (ماكسويل) بزيارةٍ مبْكرةٍ إلى مدينة السّجن عكّاء، وتعلّمت هناك درسًا بأنّ الغذاء المادّيّ الّذي يتناوله الإنسان ليس بالأهمّيّة قياسًا بالغذاء الرّوحانيّ، ذلك لأنّ الأوّل مؤقّتٌ يزول بعد فترةٍ قصيرةٍ، أمّا الثّاني فإنّه هو حياة الرّوح ويدوم إلى الأبد.

سمعت مَي حضرة عبدالبهاء وهو يسرد قِصّة النّاسك التّالية: “بينما كان حضرة بهاءالله مسافرًا مع بعض الأحبّاء، مرّ في طريقه ببلدةٍ عُلِم من أهلها أنّ هناك ناسكًا يسكن وحيدًا في كهفٍ ليس ببعيدٍ وهو رجلٌ تقيٌّ وورِعٌ. سمع النّاسك بأنّ حضرة مولانا بهاءالله سيمرّ بهذا الطّريق، ولذلك أخذ يراقبه بكُلّ شغفٍ بانتظار قدومه، وعندما وصل حضرته جاء النّاسك وركع وقبّل غبار قدميه وقال له “يا سيّدى: إنّني رجلٌ فقيرٌ أقيم في كهفٍ قريبٍ من هنا، وسوف أعتبر نفسي أسعد إنسانٍ في الوجود لو تكرّمت وزرتني في كهفي ولو للحظاتٍ وباركته بحضورك”. أجابه حضرة بهاءالله بأنّه سوف يأتي ليس للحظاتٍ بل لثلاثةِ أيّامٍ، وأمر الأحبّاء أن ينصبوا خيامهم وينتظروه، فغلب الفرح والامتنان على الرّجل الفقير حتّى إنّه عجز عن الكلام، وسار في الطّريق بصمتٍ متواضعٍ إلى كهفه البسيط داخل صخرةٍ، وهناك جلس معه الجمال الأبهى، يحدّثه ويعلّمه، وفي المساء فكّر الرّجل أنّه ليس لديه ما يقدّمه لضيفه العظيم سوى بعض اللّحوم الجافة وبعض الخبز الدّاكن، والماء الّذي يجلبه من نبعٍ قريبٍ. ودون وعيٍ منه ارتمى على أقدام سيّده مبيّنًا له ما يشعر به من حرجٍ شديدٍ. نظر إليه حضرة بهاءالله مبتسمًا وأراحه بكلماته حين طلب منه أن يعدّ اللّحم والخبز والماء ليتناولا معًا طعام العشاء. وهكذا شاركه سيّد الوجود طعامه المتواضع بغبطةٍ وانشراحٍ وكأنّه وليمةٌ فاخرةٌ. ظلّ هذا طعامهم الوحيد طيلة الأيّام الثّلاثة وكان بالنّسبة للنّاسك ألذّ ما ذاقه في حياته، وبالنّسبة لحضرةِ بهاءالله كما تفضّل: “لم يُستقبل بضيافةٍ ومحبّةٍ أعظم من ذلك.” ثُمّ يشرح حضرة المولى في نهاية القِصّة: “هذا يبيّن لنا أنّ الإنسان لا يحتاج إلّا إلى القليل والزّهيد من الطّعام عندما يكون متغذيًّا بأشهى وأحلى الطّعام وهو حُبّ الله.”(60)

(34)

قبل يوم زفاف حضرته، قام حضرة عبدالبهاء بعمل التّرتيبات اللّازمة للضّيوف القلائل الّذين سيحضرون. قامت والدته المباركة وشقيقته بخياطة فستان الزّواج من قماش الباتيستا الأبيض، وزيّنت حضرة منيرة خانم شعرها بطرحةٍ بيضاءَ وضفيرتين كما جرت العادة.

وفي التّاسعة مساءً، توجّهت مع حضرة الورقة العليا إلى محضر حضرة بهاءالله لتلقّي البركة، ثُمّ توجّهت إلى غرفة زواجها لانتظار قدوم حضرة عبدالبهاء. كان الحفل في غاية البساطة، ففي حوالي العاشرة أتى حضرة عبدالبهاء بصحبة المدعوّين وقامت منيرة خانم بتلاوة لوحٍ لحضرةِ بهاءالله، وقد ذكرت زوجة عبّود فيما بعد أنّ حلاوة التّلاوة ما زالت ترنّ في أذنها.(61)

لم تكن هناك فرقةٌ موسيقيّةٌ ولا ديكورات ولا كيك بل فقط أكوابٌ من الشّاي، ولكن كان هناك من البهاء والحُبّ ما هو أكثر من كافٍ لمباركة الحدث السّعيد.

(35)

ترعرعت أسرة حضرة عبدالبهاء على أنّ ارتداء الملابس يجب أن يكون بطريقةٍ يكونون فيها “مثالًا للأغنياء وتشجيعًا للفقراء.”(62)

كانت الأموال المتاحة مخصّصةً لتغطية نفقاتٍ كثيرةٍ أبعد من احتياجات الأسرة. عندما تزوّجت إحدى بنات حضرته، لم تكن ترتدي فستانًا خاصًّا للزّفاف بل مجرّد فستانٍ نظيفٍ. سُئل حضرة المولى: لماذا لم يوفّرّ لها حضرته ثوبًا للزّفاف؟ فأجاب حضرته بشكلٍ صريحٍ وبكُلّ بساطةٍ: ابنتي ترتدي بشكلٍ جيّدٍ ولديها كُلّ ما تحتاجه لراحتها، بينما الفقراء لا يملكون شيئًا، فما يفيض عن حاجةِ ابنتي يجب أن أعطيه للفقراء وليس لها”.(63)

(36)

كان زوج “إميليا كولنز”، إحدى البهائيّات المخلصات، رجلًا اجتماعيًّا للغاية ولديه القدرة على المشاركة في أيّ حوارٍ بطلاقةٍ ويسرٍ، ولكن ذات مرّةٍ، وقبل دخوله إلى منزل حضرة المولى، كان منفعلًا جدًّا حتّى إنّه راح يُنسّق ربطة العنق أكثر من مرّةٍ، وراح يهندم ملابسه بشكلٍ متكرّرٍ، ثُمّ نظر إلى زوجته وسألها ماذا عليه أن يفعل عندما يصلون إلى هناك، قالت زوجته: “لا شيء، في أسرة عبدالبهاء تسود البساطة، ولا يُقبَل هناك شيءٌ سوى الحُبّ.”(64)

(37)

كانت لدى حضرة عبدالبهاء طريقةٌ سهلةٌ للدّخول في حوارٍ ذي مغزى، فكان حضرته يبدأ “بإشارةٍ بسيطةٍ إلى شيٍء طبيعيٍّ مثل الجوّ، الطّعام، الصّخور، شجرةٍ، الماء، السّجن، الحديقة، طائرٍ، قدومنا إليه، أو إلى عملٍ بسيطٍ من أعمال الخدمة، ثُمّ يصاغ هذا الأساس في صورة موعظةٍ أو تعليمٍ للحكمة والبساطة، مبيّنًا وحدة الحقيقة الرّوحيّة، وتسخيرها دائمًا لحياة الفرد وحياة الجنس البشريّ. كانت كُلّ كلماته موجّهةً نحو مساعدة النّاس على الحياة، ونادرًا ما كان حضرته يتطرّق لمسائلَ معقّدةٍ من قَبيل ما وراء الطّبيعة، أو العقائد، أو الفلسفات، ما لم يُسأل عنها بشكلٍ مباشرٍ. كان يتحدّث بسهولةٍ ووضوحٍ وبعباراتٍ مختصرةٍ تمثّل كُلّ واحدةٍ منها جوهرةً ثمينةً”.(65)

النّظافة

(38)

كان حضرة المولى يعتبر النّظافة على جانبٍ جوهريٍّ من الأهمّيّة. كان حضرته بصدقٍ “جوهر اللّطافة” كما علّم حضرة بهاءالله أتباعه. ولقد شهدت “فلورنس خانم” على ذلك، حيث وجدته مشرقًا بشكلٍ متألّقٍ وساطعٍ، من عمامته القماشيّة ثلجيّة البياض، إلى شعره الأبيض الثّلجيّ الّذي يتدلّى على كتفيْ حضرته، إلى لحيته البيضاء الثّلجيّة، وثوبه الطّويل الثّلجيّ… ورغم أنّ الوقت كان متأخّرًا من نهارٍ صيفيّ… إلّا أنّ ملبسه كان نضِرًا كأنّه لم يكن قد زار المرضى، وكأنّه لم يكن في سجنٍ، وكأنّه لم يكن كادحًا في خدمة النّاس منذ الصّباح الباكر. كانت في الغالب هناك زهرةٌ معلّقةٌ في حزامه القماشيّ”.(66)

(39)

لم يكن حضرته نظيفًا بنفسه فقط، بل بكُلّ ما كان يحيط به أيضًا. ذات مرّةٍ، عندما زاره ضيوفٌ اعتادوا أن يتشرّفوا بمحضره، طلب أن تُستَبدل زجاجة المصباح لأنّها لم تكن نظيفةً بشكلٍ كافٍ.(67)

الصّبر

(40)

كان هناك تاجرٌ مسيحيٌّ في عكّاء، وكان قليل الاحترام للبهائيّين كسائر المواطنين آنذاك. حدث ذات مرّةٍ، أن عثر هذا الرّجل على حمولةٍ من الفحم كان بعض البهائيّين قد سُمِح لهم بشرائها من خارج عكّاء، (مثل هذه المشتريات لم يكن مسموحًا لهم بشرائها من داخل المدينة). لاحظ التّاجر أنّ الفحم من النّوع الممتاز، فقرّر أن يأخذ الحمولة لنفسه، إذ كان يعتبر أنّ البهائيّين مارقين ولا مانع من مصادرة أموالهم. عندما سمع حضرة عبدالبهاء بذلك، توجّه حضرته إلى حيث يدير التّاجر أعماله لكي يطلب منه إعادة الفحم، وهناك وجد حضرته أُناسًا كثيرين لهم معاملات تجاريّه مع الرّجل، فلم ينتبه أحدهم إلى حضرته. جلس حضرته وانتظر. مرّت ساعاتٌ ثلاثٌ قبل أن يتوجّه التّاجر إلى حضرته قائلًا: “هل أنت أحد هؤلاء السّجناء بالمدينة؟” أجابه حضرة عبدالبهاء بنعم، فاستفسر التّاجر “ما هي الجريمة الّتي سُجنتم بسببها؟ فردّ حضرة عبدالبهاء “هي الجريمة نفسها الّتي اتُّهِم بها السّيّد المسيح”. تراجع الرّجل مندهشًا، فقد كان مسيحيًّا وأمامه رجل يتحدّث عن تشابهٍ بين فعلته وما فعله المسيح، فردّ بشكلٍ حادٍّ “وماذا تعرف أنت عن المسيح؟”. فراح حضرة عبدالبهاء يحدّثه بهدوءٍ، فبدأ غرور الرّجل يتلاشى أمام صبر حضرة عبدالبهاء. عندما نهض حضرته للانصراف نهض معه التّاجر وسار معه حتّى الشّارع معبّرًا عن وقاره لذلك الرّجل وهو ليس أكثر من واحدٍ من أولئك السّجناء المنبوذين، ومنذ تلك اللّحظة أصبح الرّجل صديقًا، بل مؤيِّدًا جسورًا.(68) أمّا بالنّسبة للفحم، فما كان من الرّجل إلّا أن قال “لقد بيع ولا أستطيع ردّه، فهاك ثمنه”.(69)

(41)

كانت فلورنس خانُم تسرد قوليْن سمعتهما من حضرة عبدالبهاء. فقد قال لها في إحدى المناسبات “كوني صبورةً… كوني مثلي”. والقول الآخر هو أنّه عندما كان أحدٌ يعبّر عن عجزه لحضرته ويقول إنّه لا يمكن أن يحوز الكمالات والفضائل الّتي يجب أن يحوزها البهائيّ، فكان حضرته يجيب: “شيئًا فشيئا، يومًا بعد يومٍ.”(70)

(42)

شهِد حضرة عبدالبهاء على صبره حينما انتظر بشوقٍ من البهائيّين أن يطوّروا الفضائل الرّوحيّة: “أيّها الأحبّاء! إنّ الوقت الّذي سأفارقكم فيه قد أمسى قريبًا، لقد فعلتُ كُلّ ما كان عليّ فعله، وخدمت أمر حضرة بهاءالله بكُلّ ما أوتيت من قوّةٍ. لم أهدأ ليلًا أو نهارًا طوال سِنيّ حياتي، وكم يحدوني الأمل أن أرى أحبّاء الله يتحمّلون مسئوليات الأمر المبارك، لأنّ اليوم هو يوم إعلان الملكوت الأبهى، والسّاعة هي ساعة الحُبّ والاتّحاد…

“آهٍ! إنّي أنتظر وأنتظر أن أسمع البشارات السّعيدة بأنّ المؤمنين هم التّجسيد الحقيقيّ للإخلاص والصّدق، هم التّجسيد الحقيقيّ للحُبّ والوئام، هم الرّموز الحيّة للوحدة والانسجام، فهلّا يسعدون قلبي؟ فهلّا يُرضون حنيني؟ فهلّا يستجيبون لرغبتي؟ فهلّا يحقّقون رغبة قلبي؟ فهلاّ يعيرون آذانهم لندائي؟ إنّي أنتظر، إنّي أنتظر صابرًا”.(71)

(43)

كتب “ستانوود كوب” أنّ حضرة المولى تحدّث في مناسبةٍ عن الحاجة إلى الصّبر الودود في مواجهة التّصرّفات الغاضبة من قِبل الآخرين: “ربّما يقول شخصٌ: ’حسنًا، إنّني سأتحمّل مثل هذا الشّخص أو ذاك طالما يمكن تحمّله.‘ ولكنّ البهائيّ يجب أن يتحمّل حتّى أولئك الّذين لا يمكن تحمّلهم”. ثُمّ أشار “ستانوود” إلى أنّ حضرته لم ينظر إلينا بجدّيّةٍ كما لو أنّه يكلّفنا بمهمّةٍ عسيرةٍ وشاقّةٍ، بل إنّ حضرته أشعّ بعينيه إلينا بسرورٍ كما لو كان حضرته يقترح أنّها متعةٌ لنا لو تصرّفنا بهذه الطّريقة!(72)

(44)

تحدّث البروفيسور “جاكوب كونز” وزوجته “آنا” مع حضرة المولى عام 1921. كانا يسألان حضرته كيف يمكن للإنسان أن يتعامل مع أولئك الّذين ينكرون الدّين، فأجاب حضرته: “يجب أن تكونوا متسامحين وصبورين، لأنّ مقام البصيرة هو مقام الفضل وليس مبنيًّا على الكفاءة. هؤلاء لا بُدّ من تهذيبهم.”(73)

(45)

كان هناك رجلٌ في حيفا يكره حضرة عبدالبهاء، وكُلّما رأى حضرة المولى كان يعبر الطّريق ليتفاداه. وأخيرًا، ذات مرّةٍ، اقترب من حضرة عبدالبهاء قائلًا :”إذًا أنت من يُطلَق عليه خادم الله! أجاب حضرة عبدالبهاء: “نعم هذا هو اسمي”. قال الرّجل بغرور: “حسنًا… أنا موسى”. أجاب حضرته: “حسنًا يا موسى، لتقابلني غدًا في هذه الزّاوية في السّابعة صباحًا، حتّى نذهب لخدمة النّاس كما كان يفعل موسى العظيم.”

وافق الرّجل، وعندما التقيا في الصّباح، اصطحبه حضرة عبدالبهاء إلى برنامجه المعتاد في خدمة البؤساء ومساعدة الفقراء والمحتاجين، والتّشاور مع النّاس وإسداء النّصح لهم. وفي السّادسة مساءً رجعا سويًّا إلى البقعة الّتي انطلقا منها، حيث كان الرّجل متعبًا للغاية، وقبل أن يفترقا قال له حضرة عبدالبهاء: “تذكّر يا موسى سنلتقي في السّابعة صباح الغد”. ثمّ التقيا ثانيةً في الصّباح التّالي، ومرّةً أخرى اصطحبه حضرة المولى في عمله المعتاد، وعند العودة في السّادسة مساءً كان الرّجل أكثر تعبًا، ولكنّ حضرة عبدالبهاء قال له بشكلٍ صارمٍ: “تذكّر يا موسى سألقاك هنا صباح الغدّ”.

التقيا في صباح اليوم الثّالث، واصطحبه حضرة عبدالبهاء في عمله المعتاد. عند العودة في المساء كان الرّجل قد أُنهِك تمامًا، وقبل أن يفترقا بادر الرّجل قائلًا: “يا عبدالبهاء!… في صباح الغد لن أكون موسى ثانيةً.”(74)

 

الجَلَد

(46)

فُتِحت أبواب سجن عكّاء أخيرًا أمام حضرة بهاءالله وأسرته المباركة ورفاقه بعد حبسٍ دام عامين وشهرين وخمسة أيّامٍ. كان العديد من الأحبّاء قد وضعوهم في نُزُل للقوافل يُدعى خان العواميد وهو غير صالحٍ للسّكن، وقد شغل حضرة عبدالبهاء إحدى غرفه.

“كانت حجرات خان العوامید رطبةً وقذرةً. فاضطرّ حضرة عبدالبهاء لبیع هدیّةٍ كانت قد أُعطیت له في بغداد وصرف عائدها في إصلاح غرف الأحبّاء وترميمها، مؤجِّلًا إصلاح غرفته إلى النّهاية. لكنّ النّقود نفِدت قبل انتهاء الإصلاحات، وكان نتیجة ذلك أنّ غرفته بقیت دون إصلاحٍ وبحالةٍ سیّئةٍ جِدًّا. فإلى جانب رطوبة الجدران والأرضیة التّرابیة كان السّقف يتسرّب منه الماء. في تلك الغرفة كان حضرة عبدالبهاء یجلس على حصیرةٍ وینام علیها ملتحفًا بجاعدِ خاروفٍ. ولمّا كانت الغرفة تعجّ بالبراغيث، فقد كان الكثير منها يتسرّب إلى الفروة ويبدأ بالقَرْص. لكنّ حضرة عبدالبهاء دبّر خطّة للحدّ من مضایقتها وذلك بقلب غطائه على فتراتٍ. فكان ینام حتّى یعرف البرغوث طریق عودته إلیه، أي الوجه الصّوفيّ الدّاخليّ للجّلد، ً فیقلبه خارجًا، وهكذا كُلّ لیلةٍ كان یلجأ لتلك الحیلة ما بین ثماني إلى عشر مرّاتٍ”.(75)

(47)

كان حضرة بهاءالله يعهد إلى حضرة عبدالبهاء بأصعب المهامّ، فكان يعلم بأنّه لا يعرف التّردّد. إحدى هذه المهامّ الجسام كانت عمليّة تشييد المقام الأعلى لحضرة الباب على جبل الكرمل في مدينة حيفا المطلّة على البحر المتوسّط. من بين العقبات العديدة الّتي برزت وتفاقمت هي أنّ مالك البقعة، وتحت تأثير الماكرين من ناقضي الميثاق، كان رافضًا أن يبيعها. لقد سُمع حضرته أكثر من مرّةٍ يقول: “رفعت كُلّ حجرٍ في ذلك البناء وكُلّ حجرٍ في تلك الطّريق بدموعٍ لا نهاية لها وجهدٍ لا حدّ له ووضعته في مكانه”. وروى شاهد عيانٍ أنّ حضرته قال: “ذات ليلةٍ، غرقت في مخاوفي حتّى لم يعد لديّ من عونٍ إلّا أن أتلو مرارًا وتكرارًا دعاءً لحضرةِ الباب كان بحوزتي، فأنزَلَت التّلاوة السّكينة والاطمئنان على قلبي، وفي صباح اليوم التّالي أقبل إليّ صاحب البقعة واعتذر ورجاني أن أشتريها”.(76)

(48)

في رحلة حضرة عبدالبهاء إلى أمريكا، سجّل أحد رفاقه لحظةً عبّر فيها حضرته عن قلقه على المستقبل. “إنّني أتحمّل مشقّات السّفر هذه لأجل أن يستمرّ أمر الله نقيًّا دون تلويثٍ، لأنّني مازلت قلقًا لِمَا سوف يحدث من بعدي. فلو كنتُ مطمئنًّا بهذا الخصوص لجلستُ مرتاحًا في زاويةٍ ما، ولَمَا غادرتُ الأرض الأقدس … وأخشى من بعدي أن يعكّر من يلهثون وراء تحقيق ذاتهم صفو وحدة الأحبّاء ومحبّتهم”.(77) وظلّ حضرته يتحدّث بنغْمةٍ حزينةٍ حتّى توقّفت السّيارة أمام فندقٍ بشيكاغو.

(49)

قامت السّيّدة “إيثل روزنبيرج” بحجّها الثّاني في بداية عام 1904 إلى الأرض الأقدس. كان حضرة المولى وأسرته المباركة لا يزالون قيد الإقامة داخل أسوار عكّاء، حيث أقامت معهم السّيّدة “روزنبيرج” مُدّة ثمانيّة أشهرٍ. كتبت تقول: “أن نجلس على طاولة عبدالبهاء في منزله البسيط مع المسيحيّين والمسلمين واليهود وأصحاب العقائد الأخرى، وكُلّ منهم يتنفّس روح الأخوّة الحقيقيّة، هو امتيازٌ لا يمكن نسيانه بسهولةٍ”.

أثناء زيارتها، كان أعداء الأمر المبارك أشدّ ضراوةً في هجومهم على حضرة عبدالبهاء، وتسبّبوا لحضرته ولأتباعه المخلصين بمتاعبَ وأحزانٍ لا يمكن وصفها. تأثّرت السّيّدة كثيرًا بذلك وسألت حضرة المولى لماذا عليه، وهو الإنسان الكامل، أن يكابد كُلّ هذه المعاناة، فأجاب حضرته: “كيف كان لهم (المعلّمون الإلَهيّون) أن يعلّموا ويرشدوا الآخرين إلى الطّريق القويم ما لم يكونوا هم أنفسهم قد خبروا كُلّ أشكال المعاناة الّتي يتعرّض لها سائر البشر؟”(78)

(50)

في وقتٍ كانت فيه والدة “جولييت تومسون” تعاني من حزنٍ شديدٍ لأنّ خطيبة ابنها الذّكيّة والجميلة لا ترغب في إقامة صداقةٍ مع أسرته، تلقّت دعوةً لزيارة حضرة عبدالبهاء. على الرّغم من أنّها كانت معارضة لخدمة جوليت للأمر المبارك، ورغم العاصفة الرّعديّة الشّديدة، إلّا أنّها انتعلت حذاءها المطّاطيّ وانطلقت نحو حضرة المولى. كان حضرته منهكًا للغاية ومستلقيًا على السّرير، فقد التقى ذلك اليوم بمئاتٍ من النّاس. ومع ذلك، فقد استُقبلت بترحابٍ حارٍّ وأخذ حضرته يريحها بكلماتٍ منها: “لقد سمعت عن حزنك وأريد أن أخفّف عنكِ، ثقي في الله، فالله عطوفٌ، والله أمينٌ، وهو لن ينساكِ أبدًا. لو كان الآخرون غير لطفاء، فماذا سيغيّرون من الأمر ما دام الله لطيفًا؟ عندما يكون الله معكِ فلا يهمّ ما يفعله النّاس لكِ”. في اليوم التّالي كانت “ماما” قادرةً أن تقول: “كُلّ مرارتي ذهبت”. لقد اعتبرت ذلك بمثابة معجزةٍ.(79)

النّزاهة

(51)

لاحظ “روي ويليام” _ وهو أحد الزّائرين الأوائل لحضرة عبدالبهاء في عكّاء _ ذلك التّبجيل الّذي يحظى به حضرته حتّى من غير البهائيّين. كتب روي: “كانت غرفتنا في مواجهة حديقةٍ صغيرةٍ بها نافورةٌ، وبالقرب هناك خيمةٌ يستقبل فيها حضرة عبدالبهاء الكثيرين من الّذين يأتون لزيارته. كانت حالة الكراهية بين أتباع الأنظمة الدّينيّة المختلفة متفاقمةً حتّى إنّه لم يكن معتادًا لأحدٍ أن يتحدّث باحترامٍ عن أحدٍ خارج نظامه الدّينيّ، إلّا أنّ حضرة عبدالبهاء كان يُنظَر إليه من قِبل الجميع على أنّه من الحكمة والعدل بحيث يتوافد عليه النّاس طلبًا لتفسير ما في كتبهم الدّينيّة، وطلبًا لتسوية خلافاتهم التّجاريّة بل وحلّ الخلافات الأُسريّة. كان السّائل يُعلَم بأنّ عبّاس أفندي لا يميّز بين النّاس، وبأنّ حضرته معنيٌّ باليهود والمسلمين والنّصارى على حدٍّ سواء”.(80) كان حضرته منصفًا في تعامله حتّى إنّ حاكمًا عادلًا من حكّام عكّاء وهو “أحمد بك توفيق” كان يرسل ابنه إلى حضرة عبدالبهاء بشكلٍ منتظمٍ طالبًا النّصيحة والإرشاد، وكثيرًا ما كان يلجأ الحاكم لحضرته من أجل النّصح، حرصًا منه على ممارسة العدالة والحكم الصّائب “.(81)

المصداقيّة

(52)

رَوى حضرة المولى، ذات مرّةٍ، لأحد الزّائرين الحكاية التّاليّة: “كان حضرته يختتم إحدى المقابلات بالحديث عن يومٍ كان حضرته مسافرًا مع جماعة ومعهم تاجرٌ. عندما توقّفت القافلة في إحدى القرى، تجمّع حولها قليلٌ من النّاس لمقابلة حضرته. تابع المسافرون رحلتهم، وعندما توقّفوا في مدينةٍ أخرى حدث الشّيء نفسه، ثُمّ تكرّر ذلك أكثر من مرّةٍ. لاحظ التّاجر ذلك الحُبّ والاحترام الواضحَيْن لحضرةِ عبدالبهاء. فما كان منه إلّا أن انفرد بحضرة عبدالبهاء جانبًا وأخبره برغبته أن يصبح بهائيًّا.

عندما سأله حضرة عبدالبهاء عن سرّ رغبته في ذلك، أجاب الرّجل دون أن يبدو عليه الخجل: “أنت بهائيٌّ، وحيثما تذهب تلتفّ حولك حشودٌ من النّاس للقائك، بينما لا يأتي أحدٌ للقائي، ولذلك فإنّي أرغب أن أصير بهائيًّا.” راح حضرة عبدالبهاء يتفحّص رغبته، فسأله عمّا إذا كان هذا بالفعل هو السّبب الحقيقيّ، فأجاب التّاجر بشكلٍ صريحٍ: “أعتقد أيضًا أنّ ذلك يمكن أن يساعدني في تجارتي، حيث يمكنني لقاء هذا العدد الهائل من النّاس”.

عندئذٍ أخبره حضرة عبدالبهاء بكُلّ صراحةٍ: “لا داعي لأن تصبح بهائيًّا. خيرٌ لك أن تظلّ كما أنت”.(82)

النّقاء

(53)

كتب حضرة المولى إلى إحدى السّيّدات ما يلي: “اسْعَي بكُلّ ما تستطيعين حتّى تكوني كالمرآةِ الصّافية العفيفة، منزّهةً ومطهّرةً من كُلّ غبارٍ حتّى تنهمر عليكِ أشعّة شمس الحقيقة دافقةً فتنيرين كُلّ من حولك”.(83)

(54)

في المؤتمر السّنوي الرّابع لـ “الرّابطة القوميّة للنّهوض بالملوّنين” (NAACB) أكّد حضرة عبدالبهاء: “كلّ من يتحلّى بالصّفات الرّبّانيّة، ويظهر بالأخلاق والكمالات الملكوتيّة، ويكون عنوانًا للخصال المثاليّة الحميدة، فهو فعلًا على صورة الله ومثاله… فحالة القلب وطهارته هي في غاية الأهمّيّة، والقلب المستنير بنور الله هو الأقرب إلى الله، والأعزّ لديه…”(84)

(55)

عندما سُئل حضرة عبدالبهاء، ذات مرّةٍ، عن أزياء النّساء أجاب حضرته ببساطةٍ: “نحن لا ننظر إلى ملابس النّساء، ولا يهمّ ما إذا كانت على أحدث الأنماط، نحن لسنا قضاةً للموضة، نحن بالأحرى قضاةٌ على لابسي الأزياء، فلو كنّ عفيفاتٍ ومهذّباتٍ ومتّصفاتٍ بالخُلُق الإلَهيّ، ولو كنّ مؤيَّداتٍ من الأعتاب الإلهيّة، فهنّ مقدّراتٌ ومشرّفاتٌ لدينا بغضّ النّظر عمّا يرتدينه من ثيابٍ. فلا علاقة لنا بعالم الأزياء المتغيّر باستمرارٍ”.(85)

 

الفصل الثّاني قلبه الطّيّب

 دع قلبك يشتعل حُبًّا ومودّةً لكُلّ من تصادفه في طريقك.(86)

عبدالبهاء

الطِّيبة

 إنّ كلمات حضرة عبدالبهاء المذكورة أعلاه، والّتي أطلقها حضرة المولى خلال زيارته لباريس، قد تجسّدت في حياته أكان سجينًا أو حُرًّا طليقًا، فكما كتب عنه حضرة شوقي أفندي وليّ أمر الله، فقد كان: “فائقًا لا قرين له في محبّته ورأفته الفطريّة الأصيلة الحارّة للحبيب والغريب، للمؤمن ولغير المؤمن، للغنيّ والفقير، للرّفيع والوضيع، لمن لقيه لقاءً خاصًّا أو لقاءً عابرًا، سواءٌ أكان ذلك على ظهر سفينةٍ أم أثناء سيره في الطّرقات أم في الميادين العامّة والمتنزّهات أم في الاحتفالات أم في الولائم أم في الأكواخ أم في القصور أم في اجتماعات أتباعه أم في مجامع المثقّفين، هو المظهر لكُلّ فضيلةٍ بهائيّةٍ، والنّموذج لكُلّ مثلٍ أعلى بهائيّ”.(87) وكما أشار أحد معجبيه الأوائل في الولايات المتّحدة… “لقد أظهر عمليًّا ما كان يتفوّه به الآخرون”.(88)

سُئل حضرة عبدالبهاء، ذات مرّةٍ، كيف يجب أن يعيش الإنسان، فكان جوابه: “كن عطوفًا لكُلّ إنسان”(89)، “يجب على الإنسان ألّا يحقّر من أفكار الآخرين”.(90) هذا العطف يجب أن يمتدّ حتّى إلى أولئك الّذين يعانون من مرضٍ نفسيّ، مثلما أبرز حضرة المولى ذلك بشكلٍ بديعٍ عندما عانى ميرزا أقاجان _ كاتب وحي حضرة بهاءالله _ من بعض الاضطراب، فعلى الرّغم من المشاكل الّتي كان يتسبّب فيها ذلك الرّجل المريض، فإنّ حضرة المولى رفض نفيه إلى اليمن بناءً على اقتراحٍ من عمدة عكّاء.(91)

تفضّل حضرة المولى للسّيّدة جوليت تومسون: “لا تسمحي لأيّ إنسانٍ أن يتحدّث عن إنسانٍ آخرٍ بسوءٍ في محضرك، فإذا فعل أحدٌ ذلك فأسكتيه، قولي لهم إنّ ذلك ضدّ أوامر حضرة بهاءالله الّذي أمر: “أحبّوا بعضكم بعضًا”. لا تتفوّهي بكلمة سوءٍ في حقّ أيّ إنسانٍ، ولو رأيتِ شيئًا خاطئًا، فدعي صمتك يكون التّعليق الوحيد…”(92)

(1)

عندما كان حضرة عبدالبهاء في أمريكا، حدث ذات يومٍ أنّ شابًّا اسمه “فْرِد مورتنسون” سافر من “كليفلاند” في المنتصف الغربيّ إلى “مين” في الشّرق ليرى حضرته، وبعد سنواتٍ كتب الرّجل حكايته. نشأ الرّجل في بيئةٍ قاسيةٍ، حيث كان ينتمي إلى عصابةٍ كان أسلوب حياتها يقوم على القتال والنّهب والتّخريب. وفي إحدى المناسبات هرب من السّجن إذ كان في انتظار المحاكمة، وأصبح طريدًا مُدّة أربع سنواتٍ. وذات يومٍ، حاول منع رجل شرطةٍ من القبض على شخصٍ آخر، وفي هذا الحادث فوجئ ببعض المخبرين السّرّيّين ينقضّون عليه فقفز من أعلى جدارٍ يبلغ ارتفاعه 35 قدما محاولًا الهرب فانكسرت ساقه.

قاده ذلك إلى لقاء “ألبرت هول”، وهو رجلٌ بهائيٌّ قام بالدّفاع عنه وساعده في نيل حرّيته بل وحدّثه أيضًا عن الأمر المبارك. رغم أنّه وجد المسالة شائكةً في البداية إلّا أنّه انجذب وراحت حياته تتغيّر رأسًا على عقب، وكما كتب: “وهكذا وهبتني الكلمة الإلهيّة ميلادًا جديدًا…”.

وعندما أتى حضرة عبدالبهاء في عام 1912 إلى أمريكا، شعر مورتنسون أنّه مدفوع بقوّة الرّوح القُدُس إلى القيام برحلةٍ لرؤية حضرته. كان عليه أن يحضر مؤتمرًا لأصحاب المطابع في “كليفلاند” ولكنّه شعر بقلقٍ متزايدٍ فقرّر المغادرة مهما حدث. كتب: “في اللّيلة الّتي سبقت الرّحيل من “كليفلاند”، رأيت في حُلمٍ أنّني كنت ضيفًا على حضرة عبدالبهاء، وأنّني جلست على طاولةٍ طويلةٍ مع أناسٍ كثيرين، وكيف كان حضرته يتمشّى ويروي قصصًا مؤكّدًا عليها بإشاراتٍ من يده. هذا الحُلم تحقّق فيما بعد وبدا حضرته تمامًا كما رأيته في “كليفلاند”.

كانت إمكاناتي الماليّة ضئيلةً، لذا لم يكن أمامي من خيارٍ في الذّهاب إلى “جرين إيكر” في ولاية “مين” إلّا بطريقة المتشرّدين، وكانت سكك حديد (نيكل بليت) هي ما استقرّ عليه اختياري للسّفر إلى “بافلو/نيويورك”، ومن هناك ركبت القضبان في منتصف اللّيل إلى بوسطن في رحلةٍ طويلةٍ لأصِلها في التّاسعة صباحًا. كان خطّ السّكك الحديديّة بين “بوسطن” و”مين” هو الحلقة الأخيرة بين حضرة عبدالبهاء والعالم الخارجيّ، هكذا بدا لي، وكم كنت سعيدًا حينما تمكّنت من التّسلّق إلى سطح قطار الرّكاب في “بورتسماوث، نيوهمبشير”، ثُمّ تابعت سفري بالقارب مرّةً وأخرى بالسيّارة إلى أن وصلت إلى أبواب الفردوس. تسارعت نبضات قلبي، ووطِئت قدماي تراب ذلك المركز، الذّي أصبح مشهورًا فيما بعد، متعبًا ومتّسخًا وحائرًا ولكنّني كنت سعيدًا.

كان وصول فْرِد متأخّرًا، فوجد نفسه بين العديد من الّذين أتوا لرؤية المولى. وكم كان تعجّبه بالغًا عندما أخبروه في اليوم التّالي بأنّ المولى يريد رؤية السّيّد “فرد مورتنسن”. كان قد بدا أنّ أوّل مقابلةٍ لحضرة المولى – مع دكتور – قد بدأت للتّوّ. لم يكن مهيّئًا أبدًا لا في لباسه ولا في نشاطه، إذ كان يتوقّع أن يتمكّن من مقابلة حضرته في وقتٍ متأخّرٍ.

سجّل ” فرِد مورتنسن” ما حدث بعد ذلك: “رحّب بي حضرته بابتسامته المشرقة وصافحني بقبضة يده الدّافئة، وطلب منّي الجلوس وجلس مقابلي. كانت أُولى كلماته لي: “أهلًا وسهلًا ويا مرحبًا، هل أنت سعيدٌ؟” وكرّرها ثلاث مرّاتٍ”. ثُمّ استفسر عن أمورٍ أخرى من بينها سؤالٌ ودّ فرِد أن يتجنّبه حضرته: “هل كانت رحلتك ممتعةً؟”

“من بين جميع الأسئلة كنت أتمنّى تجنّب هذا السّؤال. طأطأتُ رأسي ونظرتُ إلى الأرض ولم أُجِب. عاد وسألني السّؤال نفسه. رفعت رأسي ونظرت إلى عينيه البرّاقتين كالجوهرةِ المتلألئة وكأنّهما كانتا تنظران إلى أعماق نفسي، فأدركت عندها أنّه يعرف وأنّ عليّ أن أخبره. فأجبته: “لم آتِ إلى هنا كما أتى النّاس الّذين جاءوا لرؤية حضرتك”. سألنى: “كيف أتيت؟”

أجبته: “كنت أركب في أسفل القطار أو أتسلّق على سطحه”.

ثُمّ تفضّل: “اشرح لي كيف؟”

عندها نظرت إلى عينيْ حضرته ولاحظت أنّهما قد تغيّرتا، وبدا لي أنّ شعاعًا عجيبًا لمع منهما، إنّه شعاع الحُبّ، فشعرت عندها بالرّاحة والحيويّة والسّعادة الكبرى. شرحت لحضرته كيف ركبت القطارات، فما كان منه إلّا أنّ اقترب منّي وقبّل وجنتي، ثُمّ مدّ يده وأعطاني مزيدًا من الفاكهة وقبّل قبّعتي المتّسخة وقد صارت صلبةً جامدةً في طريقي إلى التّشرّف بطلعته المباركة.

وعندما عزم المولى على مغادرة “جرين إيكر”، كان “فرد مورتنسن” حاضرًا ليودّع حضرته، وكم كانت دهشته عظيمةً عندما دعاه المولى إلى سيّارته ليركب معه. فتمتّع “فرِد مورتنسن” ببركات حضرته مُدّة أسبوعٍ أثناء إقامة المولى في “مالدين وماساتشوستس”. فكتب يقول: “لا شكّ أنّ أحداثًا كهذه قد نُقشت في قلبي عميقًا، فأنا أعشق كُلّ لحظةٍ منها. إنّ كلمات حضرة بهاءالله هي طعامي وشرابي وحياتي، ليس لي من هدفٍ في حياتي سوى المِضيّ في خدمته، وأن أكون العبد المطيع الثّابت على عهده وميثاقه”.(93)

(2)

من أبرز الأحداث الّتي وقعت أثناء زيارة حضرة المولى إلى أمريكا كانت عمليّة تدشين الأرض الّتي سيقام عليها أوّل مشرق أذكار في نصف الكرة الغربيّ في “ويلميت _ إلينوي”. كانت السّيّدة “ميتي توبِن” تعيش على مقربةٍ من شيكاغو، وكانت تهفو إلى المساهمة بأيّ شيءٍ رغم أنّ ظروفها لم تكن على ما يرام. وفيما يلي تحكي كيف تعاملت مع المشكلة: “علمتُ أنّ حضرة المولى سيكون في موقع المعبد أوّل مايو/أيَّار، وفكّرت أنّه لا بُدّ أن يتوفّر لحضرته حجرٌ مناسبٌ ليكون حجر الأساس للمعبد، فذهبتُ إلى مبنى تحت الإنشاء بالقرب من منزلي، ورأيت كومةً من الصّخور بجوار حائطٍ، فسألت البنّاء ما إذا كان بإمكاني الحصول على حجرٍ! فأجاب: “بالتّأكيد لكِ ما تشائين، فهذه الأحجار مرفوضةٌ ولا حاجة إليها”، فتوجّهتُ إلى المنزل وأحضرت عربة أطفال قديمةً وصغيرةً، ووضعت عليها الحجر ورجعت إلى المنزل، وفي الصّباح الباكر في اليوم التّالي أخذتُ العربة إلى طريق السّيّارات بمساعدة حبيبٍ إيرانيّ، وتمكّنّا من وضع العربة في باصٍ رغم اعتراض السّائق. كان علينا أن نبدّل الباص مرّتين، وأخيرًا، وبعد طولِ تأخيرٍ، وصلنا إلى زاوية شارعي “سنترال” و “شريدان”. وهناك، عندما دفعنا العربة على رصيفٍ سطحه وعرٌ ومكسّرٌ، سقطت العربة وتهشّمت. وبينما نحن يائسَيْن فاقدَي الأمل في توصيل الحجر إلى أرض المعبد في الوقت المناسب، إذ إنّ موعد الاحتفال قد حان، فإذا بصبيّين يمرّان بسيّارتهما السّريعة حيث أقنعناهما سريعًا باستئجارها حتّى وصلنا أخيرًا إلى أرض المعبد. لك أن تتخيّل سعادتي عندما تفضّل حضرة المولى بقبول واستخدام الحجر الّذي رفضه البنّاء”.(94)

(3)

كان قلب حضرته الطّيّب يتوجّه إلى المرضى، وكُلّما كان بمقدور حضرته أن يخفّف ألمًا أو تعبًا لم يكن ليتردّد. رُوي أنّ حضرته تفضّل بزيارة زوجيْن عجوزيْن عشرين مرّةً في شهرٍ قضياه تحت المرض. وفي عكّاء، كان حضرته يرسل أحد الخدم يوميًّا ليطمئنّ على أحوال المرضى، ولمّا كانت عكّاء بلا مستشفى، فقد كان حضرته يدفع لأحد الأطبّاء مرتّبًا ثابتًا ليعتني بالفقراء من المرضى، وكان الطّبيب مأمورًا من حضرته ألّا يخبر أحدًا عن مصدر تلك الخدمة. كانت هناك سيّدةٌ فقيرةٌ ومقعدةٌ وكانت مصابةً بالحصبة المُعدية، فكانت تعيش منبوذةً في عزلةٍ بسبب ذلك. عندما أُبلغ حضرة المولى بذلك، قام فورًا بتكليف سيّدةٍ برعايتها، وجهّز لها غرفةً وضع فيها فراشه الخاصّ، واستدعى طبيبًا، وأرسل إليها الطّعام وكُلّ ما كانت تحتاج إليه، وذهب حضرته بنفسه لرؤيتها والتّأكّد أنّها تنال الرّعاية الكافية، وعندما فارقت الحياة في سلامٍ وراحةٍ، قام حضرته بنفسه بعمل ترتيبات جنازتها البسيطة ودفع كُلّ التّكاليف”. (95)

(4)

كان هناك رجلٌ مصابٌ بمرض السُّلّ، فكان أصدقاؤه يتحاشونه، وحتّى أفراد أسرته كانوا يخشونه ولا يجرؤون على الدّخول إلى غرفته إلّا نادرًا. لم يكن حضرة المولى بحاجةٍ سوى إلى سماع خبر الرّجل حتّى توجّه إليه وراح يتردّد عليه بشكلٍ يوميّ، يأخذ له ما تشتهيه نفسه ويقرأ له ويحادثه، وكان حضرته هو الوحيد في غرفته عندما فارق الحياة.(96)

(5)

عندما كان حضرة عبدالبهاء في “سان فرانسيسكو”، قام حضرته بزيارة مؤمنٍ أسمرٍ اسمه “تشارلز تينسلي”، كان طريح الفراش لوقتٍ طويلٍ بسبب كسرٍ في ساقه. قال له حضرة المولى: “عليك ألّا تحزن، هذا الهمّ سيجعلك أقوى روحيًّا فلا تحزن. افرح… الحمد لله… أنت عزيزٌ على قلبي”.(97)

(6)

تفضّل حضرة المولى بحديثٍ قصيرٍ في نيويورك تضمّن ما يلي: “علينا جميعًا أن نزور المرضى، فعندما يكونون في حزنٍ ومعاناةٍ، يغدو مجيء صديقٍ لزيارتهم عونًا ومنفعةً حقيقيّةً لهم. فالفرح علاجٌ عظيمٌ للمريض. ولقد جرت العادة في الشّرق أن يزور النّاس المريض كثيرًا ويقابلونه شخصيًّا. ويبدي أهل الشّرق غاية اللّطف والمودّة للمريض والمكروب. ولهذا العمل أثرٌ أعظم من العلاج نفسه. فعليكم دائمًا أن تظهروا هذا الشّعور بالمحبّة والمودّة عندما تزورون عليلًا أو مصابًا”.

وفيما بعد أكّد حضرة عبدالبهاء: “إنّ حضرة بهاءالله هو الطّبيب الحقّ، إذ شخّص أحوال البشريّة ووصف العلاج اللّازم. والمبادئ الجوهريّة لوسائل علاجه النّاجعة هي معرفة الله، ومحبّة الله، والانقطاع عمّا سوى الله، والتّوجّه بإخلاصٍ إلى ملكوت الله، والإيمان التّامّ، والثّبات والوفاء، والشّفقة مع كُلّ الخلائق، واكتساب الفضائل الرّبّانيّة المعنيّة بعالم الإنسان. هذه هي المبادئ الأساسيّة للتّقدّم والمدنيّة والسّلام العالميّ ووحدة بني الإنسان، وتلك هي أساسيّات تعاليم حضرة بهاءالله وسرّ الصّحّة الأبديّة وعلاج الإنسان وشفاؤه”.(98)

(7)

قرّرت السّيّدة “جوليت تومسون” وبعض الأحبّاء أن يقيموا حفل عيد ميلادٍ لحضرةِ المولى، ولذلك تمّ إعداد كعكةٍ مخصوصةٍ لهذه المناسبة. تقول السّيّدة: “استقلّينا مجموعةً من سيّارات الأجرة متّجهين نحو ال”برونكس” ومعنا حضرة المولى في أوّل سيّارةٍ، وبمجرّد أن وصلت السّيارة إلى هناك نزل حضرته وتمشّى نحو المنتزه في مقدّمتنا.

“تجمّع حول حضرته مجموعةٌ من الصِّبية وأخذوا يضحكون استهزاءً، بينما راح اثنان أو ثلاثةٌ منهم يلقون بالحجارة على حضرته. كان طبيعيًّا أن يهمّ الأحبّاء مسرعين نحو حضرته، لكنّه طلب منهم أن يظلّوا بعيدًا. اقترب الصِّبية أكثر من حضرة المولى وراحوا يسخرون من حضرته ويسحبون ثيابه. لم يتأثّر حضرة المولى، وكُلّ ما فعله أنّه ابتسم إليهم بوجهٍ مشرقٍ، ولكنّ الصِّبية تمادوا في سلوكهم. عندئذٍ استدار حضرته نحو الأحبّاء قائلًا “أحضروا الكعكة!”، مع العلم أنّ أحدًا لم يخبره أصلًا بأنّنا كُنّا قد أحضرنا معنا كعكةً. فقال بعضنا: “ولكن يا حضرة المولى الكعكة لعيد ميلادك”، فكرّر حضرته: “أحضروا الكعكة!”. فقام أحد الأحبّاء بإزالة الغطاء عن الكعكة الإسفنجيّة الّتي يعلوها الكريم الأبيض وقدّمها لحضرةِ المولى، وبمجرّد أن رأى الأولاد الكعكة هدأوا تمامًا ونظروا إليها بشوقٍ. “أخذ حضرته الكعكة بين يديه ونظر إليها بسعادةٍ بينما يقف الأولاد بهدوءٍ حول حضرته ثُمّ قال: “أحضروا سكّينًا!” فأحضر له أحد الأحبّاء سكّينًا. قام حضرة المولى بِعدّ الصّبية من حوله، ثُمّ قام بتقطيع الكعكة إلى عددٍ من القِطع يساوي عدد الصّبية، وتناول كُلّ صبيٍّ قطعته بلهفةٍ وأكلها بنهمٍ، ثُمّ انصرفوا سعداء”.(99)

(8)

كانت السّيّدة “جوليت تومسون” تقوم برسم بورتريه لحضرةِ المولى في أمريكا. أتت كُلّ من “لوا جيتسنجر” و”مَي ماكسويل” إلى المكتبة وتقدّمتا نحو الرّكن الّذي كانت تجلس فيه ووقفتا خلفها. نظر حضرة المولى إلى “مَي” وقال مبتسمًا: “سيّدة ماكسويل، أنتِ لديكِ قلبٌ طيّبٌ، ثُمّ استدار نحو لوا قائلًا: “وأنتِ يا لوا لديكِ قلبٌ حنونٌ”. ثُمّ ضحك حضرته قائلًا: “وماذا عن قلبك يا جوليت؟ أيّ قلبٍ لديك؟”

أجابت جوليت متسائلةً: “أوه! أيّ قلب لديّ أنا؟ أنت تعرف يا مولاي. أنا لا أدري”.

ضحك حضرته قائلًا: “قلبٌ عاطفيٌّ”. ثُمّ لفّ يديه حول بعضهما في إشارةٍ حماسيّةٍ وأضاف حضرته: “جوليت! سوف يكون لديكِ قلبٌ يغلي. الآن، لو أنّ تلك القلوب الثّلاثة توحّدت في قلبٍ واحدٍ يكون طيّبًا وحنونًا وعاطفيًّا، فكم سيكون قلبًا عظيمًا!”.(100)

الانضباط

(9)

يكمن اللّطف في صلب الانضباط الحبّيّ. كان حضرة عبدالبهاء يحبّ حفيده الصّغير “شوقي” حُبًّا جمًّا، لكن كان يجب على الصّغير أن يتعلّم كيف يواظب على مواعيده. تعلّم حضرة شوقي أفندي ذلك في وقتٍ مُبْكرٍ بعد أن تلقّى ضربةً تأديبيّة حبّيّة من يد جدّه لا من يد غيره.(101) بعد ذلك أصبح حضرة شوقي أفندي أوّل من يستيقظ لجلسة الدّعاء العائليّة وللإفطار.

(10)

كان حضرة المولى يحبّ تلميذته المخلصة “جوليت”. كانت “جوليت” تدوّن يوميّاتها عن زيارة لها مع حضرته إلى مدينة نيويورك في نوفمبر/تشرين الثّاني 1912. كتبت ذات يومٍ: “تصرّفت مع أمّي بشقاوةٍ في ذلك اليوم وأحزنتها. نشأت أمّي الغاليّة في بحبوحةٍ من العيش وعاشت في رفاهيةٍ حتّى رحيل أبي. لم تستطع والدتي أن تتغلّب على حساسيتها بخصوص حالة الفقر الواضحة الّتي آلت إليها حياتنا ولم ترغب في دعوة أحدٍ لتناول الطّعام معنا. رجوتها أن تستثني ميرزا “علي أكبر” الّذي وصل في تلك السّاعةِ المحرجة، وأن تسمح لي باصطحابه للغداء معنا، لكنّها لم تسمح مِمّا جعلني أفقد صوابي وأبلغها برأيي حول “كبريائها الزّائف” ثُمّ غادرتُ المنزل.

والآن وعند دخولي إلى منزل حضرة المولى ومعي الأحبّاء الثّلاثة الإيرانيّون، وبدلًا من أن أتلقّى ترحابًا من حضرته فقد تلقّيت توبيخًا أدبيًّا. إنّ حضرة المولى حتّى لم ينظر إلى وجهي، وكانت أُولى كلمات حضرته: “كيف حال أمّك؟” … “هل هي سعيدةٌ؟”. ثُمّ طلب منّي أن أعود إليها فورًا، على أن أعود إلى حضرته في اليوم التّالي، فعدت وهدّأت أمّي وأرضيتها بتعنيف حضرته لي”.(102)

(11)

في إحدى المناسبات دخل صبيّان إلى محضر حضرة عبدالبهاء، وهما حضرة شوقي أفندي وابن خالته “روحي أفندي”. نظر إليهما حضرة المولى نظرةً فاحصةً ثُمّ أشار حضرته نحو روحي أفندي قائلًا: “إذا لم تستطع أن تكسو وجهك بتعابيرَ سعيدةٍ وراضيةٍ مثل شوقي، فعليك المغادرة”.(103)

(12)

“بعد ورود السّجناء عكّاء بقلیل، زار الحاكم الثّكنات للتّفتیش والاطّلاع علیها شخصیًّا. فخرج حضرة عبدالبهاء برفقة نفرٍ قلیلٍ من الأصحاب لاستقباله. إلّا أنّ الحاكم لم یتصرّف معهم باحترامٍ وأدبٍ، بل تهجّم علیهم مهدّدًا بقطع إمدادات الخبز عن السّجناء إذا فرّ أحدهم، ثُمّ أمرهم بالعودة إلى حجرتهم. عند ذلك لم یستطع أحد مرافقي حضرة عبدالبهاء، أن یسكت ویضبط نفسه بعد تلك المعاملة المهینة، فردّ على الحاكم غاضبًا ببعض العبارات الجارحة.  لكن سرعان ما تدارك حضرة عبدالبهاء الموقف، وصفع مرافقه صفعةً قویةً على وجهه أمام الحاكم وأمره بالعودة إلى غرفته. أدّت تلك الصّفعة إلى تهدئة الموقف المتفجّر كما أنّها فتحت عین الحاكم أیضًا على وجود رئیسٍ حقیقيٍّ بین جماعة السّجناء یتصرّف بسلطةٍ وعدلٍ.

لقد تبدّل موقف الحاكم تجاه حضرة عبدالبهاء بسبب هذا التّصرّف. ذلك لأنّه أدرك بانّ حضرة عبدالبهاء وأسرته، خلافًا لِما أشیع في عكّاء وتناقلته الألسن من إشاعاتٍ هوجاءٍ، كانوا من أصلٍ نبیلٍ ولیسوا مجرمین كما أُفهِم خطأً. وعلیه صار الحاكم یتصرّف بنحوٍ إنسانيٍّ أكثر حیال المسجونین. ومع مرور الوقت وافق على استبدال ما یحقّ لهم من مخصّصات الخبز الیوميّ بمقدارٍ من المال، وسمح لجماعةٍ صغیرةٍ من السّجناء بالذّهاب، في صحبة حرّاسٍ، إلى السّوق لشراء ما یحتاجون من الزّاد.(104)

(13)

ذات يومٍ، في عام 1912، في نيويورك، بدت ملامح حضرة المولى حازمةً. أمسك حضرته بكتاب “الكلمات المكنونة” وراح يخطو ذهابًا وإيابًا ثُمّ رفع الكتاب عاليًا وقال بصوتٍ جهورٍ: “من لا يحيا مصداقًا لهذه الكلمات فإنّه ليس مِنّي”.(105)

 

العفو

(14)

معلومٌ أنّ حضرة عبدالبهاء وُلِد في اللّيلة نفسها الّتي أعلن فيها حضرة الباب عن بعثته في يوم 22 مايو/أيَّار1844 في شيراز، ولذلك فقد تحدّث حضرته في ذلك اليوم من عام 1906 عن حضرة الباب، وآثاره ورسالته. وبهذه المناسبة كان هناك أكثر من مائتي ضيفٍ يتناولون الغَداء على مائدة حضرة المولى. كان حضرته مشغولًا منذ الفجر في المساعدة بنفسه في أعمال هذا اليوم، فكان يجهّز العجينة ويضعها في الفرن “بروحٍ بشوشةٍ ليُلهم ويسلّي ويرفع معنويّات مساعديه”، بعد ذلك ساعد في توزيع الأطباق… والأرز… واللّحم … وفواكه المنطقة (ذات الحجم الكبير والألوان السّاحرة والرّائحة الزّكيّة الّتي لا تستطيع إلّا أشعّة شمس الشّرق أن تنتجها وتصبغها بلونها). وبينما كان حضرته يتجوّل بين ضيوفه، وأثناء قيامه على خدمتهم، كان حضرته يتحدّث إليهم بهذه الكلمات السّماويّة المفعمة بالحُبّ والعَبَق الإلَهيّ: “لو أنّ أحدكم جُرِح قلبه بكلمات أو أفعال شخصٍ آخرَ، خلال العام الّذي مضى، فلْيعْفُ عنه الآن حتّى يتمكّن بنقاء القلب وتسامُح المُحبّ أن يعيش العيد في سعادةٍ، وينهض متجدّد الرّوح”.(106)

(15)

يُنسب إلى “الشّيخ محمود” من أهل عكّاء أنّه كان يكره البهائيّين، فبينما بدأ الكثيرون من أهل المدينة يتأكّدون تدريجيًّا أنّهم كانوا مخطئين كثيرًا وراحوا يتحدّثون عن السّجناء بشيءٍ من التّقدير والثّناء، فقد ظلّ الشّيخ محمود على عناده وحقده. وذات يومٍ، كان الشّيخ محمود حاضرًا في جمعٍ من النّاس كانوا يتغنّون بمحامد حضرة عبدالبهاء كرجلٍ ممتازٍ وشخصيّةٍ بارزةٍ. لم يستطع الشّيخ محمود أن يتحمّل كثيرًا، فاشتاط غيظًا وصرّح بأنّه سوف يُعرّف عبّاس أفندي هذا من هو. وفي فورة غضبه اندفع نحو المسجد حيث علم أنّ حضرة عبدالبهاء يُحتمل وجوده هناك في تلك السّاعة، وهناك أمسك بحضرة عبدالبهاء بخشونةٍ. نظر إليه حضرة المولى في سكونٍ ووقارٍ لا يستطيع سواه في هذا العالم أن يدّعيه وذكّره بحديث الرّسول: “أكرم ضيفك ولو كان كافرًا”.

انصرف الشّيخ محمود وانصرف عنه غضبه وحقده، ولم يتبقَّ في داخله إلّا إحساسٌ عميقٌ بالخزي والنّدم المرير، ففرّ إلى بيته وأغلق الباب على نفسه. بعد عدّة أيّام توجّه مباشرةً إلى محضر حضرة عبدالبهاء ليجثو على ركبتيْه أمام حضرته ناشدًا العفو وهو يردّد: “أيّ بابٍ غير بابك أنشد، وأيّ جودٍ غير جودك أرجو!”.

اعتنق الشّيخ محمود الأمر المبارك وصار بهائيًّا مخلصًا.(107)

(16)

في عام 1911 قضى حضرة عبدالبهاء بضعةَ أيّامٍ هادئةٍ في جبال الألب بفرنسا، لينال على ما يبدو قسطًا من الرّاحة، قبل التّوجّه إلى لندن. وهنا وقع لقاءٌ لافت للنّظر يبيّن عالميّة الحُبّ الّذي كان يغمر قلب حضرته حتّى تجاه أولئك الّذين امتلأت قلوبهم بالعداء لحضرته ولأمر والده. تروي “جوليت تومسون” ما يلي عن هذه المناسبة الّتي عايشتها شخصيًّا: “بقدر ما كانت الإساءة بالغةً في حقّه، بقدر ما كان عظيمًا في التّمسّك بحقّه في العفو. بيديه المنزّهتين عن القسوة، وبروعةٍ لا توصف كان يتجاهل تلك القسوة، فكأنّ حضرته كان يعلن “ما العفو إلّا لله.”

من الأمثلة على ذلك كان لقاء حضرته الّذي لا يُنسى بالأمير الملكيّ “ظلّ السّلطان” أخو شاه إيران “محمّد على شاه”. لم يكن حضرة عبدالبهاء وحده، بل أعدادٌ هائلةٌ من أتباعه، ومجموعةٌ تلو الأخرى من الشّهداء البهائيّين الّذين عانوا ما هو أسوأ من الموت على أيدي هذين الأميرين. عندما سقط الشّاه بالتّزامن مع سقوط السّلطان التّركيّ، تحرّر حضرة عبدالبهاء وبدأ رحلته إلى أوروبّا بالذّهاب أوّلًا إلى “ثونون لو بين” على بحيرة جنيفا. في ذلك الوقت كان الشّاه المنفيّ في مكانٍ ما في أوروبّا، بينما كان “ظلّ السّلطان” في المنفى أيضًا مع ابنيه هاربًا إلى جنيف. وهكذا، فإنّ حضرة عبدالبهاء المُبرّأ والحرّ و”ظلّ السّلطان”، الهارب، هما الآن على مرمى حجرٍ من بعضهما البعض.

كان في صحبة حضرة عبدالبهاء رجلٌ أوروبّيٌّ متميّزٌ سبق له أن زار إيران حيث تعرّف هناك على “ظلّ السّلطان”. وذات يومٍ، كان هذا الرّجل واقفًا في شرفة الفندق في “ثونون”، بينما كان حضرة عبدالبهاء يتمشّى ذهابًا وإيابًا على مسافةٍ قريبةٍ، فإذا بـ “ظلّ السّلطان” يقترب من الشّرفة. كان حضرة عبدالبهاء كعادته يرتدي العمامة والقفطان الطّويل ذا الحزام الأبيض والعباءة الإيرانيّة الطّويلة، كما كان شعر حضرته يتدلّى على كتفيه حسب العادة القديمة لنبلاء إيران. بعد أن قدّم التّحيّة للرّجل الأوروبّيّ، سأل ظلّ السّلطان فورًا

: من هذا النّبيل الإيرانيّ؟

: عبدالبهاء.

: خذني إليه.

وفي وصف ذلك المشهد فيما بعد قال الرّجل الأوروبّيّ: “آهٍ لو كنتَ سمعتَ همهماته المسكينة وهو يُقدّم اعتذاراته البائسة! لكنّ حضرة عبدالبهاء عانق الأمير قائلًا: كُلّ هذا أصبح من الماضي…لا تفكّر فيه ثانيةً، أرسل ابنيك لزيارتي، أريد أن أرى ابنيك”.

أتى الابنان بعد ذلك واحدًا تلو الآخر، حيث قضى كُلٌّ منهما يومًا مع حضرة المولى. كان الأوّل رغم أنّه لم يزل صبيًّا صغيرًا إلّا أنّه أبدى وقارًا كبيرًا لحضرةِ المولى، أمّا الثّاني الّذي كان أكبر سنًّا وأكثر حساسيةً، فقد غادر غرفة حضرة عبدالبهاء، حيث كان قد استقبله حضرته وحيدًا، وهو يبكي بلا سيطرةٍ على نفسه ويقول: “ليتني أولد من جديدٍ في عائلةٍ غير عائلتي”.

ما فعلته هذه الأسرة لا يقف عند استشهاد الكثير من البهائيّين أثناء حكم عمّه وبتحريضٍ من أبيه، ولا عند حياة حضرة عبدالبهاء الّتي كانت مهدّدةً أكثر من مرّةٍ، بل إنّ جدّه “ناصر الدّين شاه” كان قد أمر بإعدام حضرة الباب وبتعذيب وموت الآلاف من البابيّين.

هذا الأمير الصّغير وُلِد ثانيةً بالفعل” – بهائيّ.(108)

(17)

متحدّثًا إلى جماعةٍ من الأحبّاء في لقاءٍ في شيكاغو عام 1912، قال حضرته: “كونوا في كمال الاتّحاد. فلا يغضب أحدكم من أحدٍ أبدًا. ولتكن أعينكم ناظرةً إلى ملكوت الحقّ لا إلى عالم الخلق. أحبّوا الخلائق لوجه الله لا من أجل أنفسهم. فإذا ما أحببتم الخلائق لوجه الله، فلن تغضبوا ولن يَعيل صبرُكم. البشريّة ليست كاملةً، فهناك قصورٌ في كُلّ كائنٍ بشريٍّ، وستحزنون دومًا إذا ما نظرتم إلى النّاس أنفسهم. أمّا إذا توجّهتم إلى الله، فسوف تحبوّنهم وتترفّقون بهم، لأنّ عالم الله هو عالم الكمال والرّحمة التّامّة. فلا تنظروا إذًا إلى عيوب أحدٍ، بل انظروا بعين المغفرة”.(109)

(18)

يُقال إنّ اسمًا واحدًا كان ذكره يجلب السّعادة دائمًا إلى مُحيّا حضرة بهاءالله، فقد كانت تعابير وجه حضرته تتبدّل عندما يُذكر أمامه اسم “مريم المجدليّة”.(110) تلك المرأة الّتي تحوّلت من معشوقة “نوفاتوس” اللّطيفة إلى حواريّةٍ قدّيسةٍ ليسوع المسيح.(111)

قال حضرة المولى لـ “إيثل روزنبرج”، أوّل سيّدة إنجليزيّة تعتنق الأمر البهائيّ في وطنها: “يُحكى أنّ مريم المجدليّة خرج منها سبعة شياطين، وهذا يعني خروج سبع صفاتٍ شرّيرةٍ طردها عنها المسيح عندما علّمها الحقيقة. لم تكن هذه السّيّدة امرأةً سيّئةً قبل تحوّلها كما يظنّ البعض، لكنّ العجيب أنّ هذه القدّيسة ومعجزة الطّهارة والخير هذه قد خُلِقت بالولادة الجديدة. إنّها كانت أعظم حواريّي السّيّد المسيح لأنّها وقفت ثابتةً بمفردها ولم تتزعزع بعد موت حضرته”.(112)

 

الإحساس

(19)

ذات يومٍ، عندما كان حضرة عبدالبهاء في لندن، نُظّم لقاءٌ خاصّ لبعض الشّخصيّات المرموقة مع حضرته، حيث وُضِع البرنامج وحُدِّدت المواعيد بدقّةٍ واقتربت ساعة الحضور. بذل القائمون على الاجتماع جهدهم أن تسير الأمور حسب نظامٍ لا يجب الإخلال به، لكنّ حضرة عبدالبهاء هو الإنسان الّذي علّمنا الاعتدال في كُلّ الأمور، وأنّ مراعاة مشاعر النّاس هي فوق كُلّ اعتبار.

لقد حضرت سيّدةٌ للقاء حضرته دون سابق موعدٍ، فكان طبيعيًّا أن يخبروها باستحالة السّماح لها بالمقابلة، حيث إنّ حضرته مشغولٌ في الحديث مع شخصيّاتٍ هامّةٍ، فنزلت السّيّدة خائبة الأمل عبر درجات السّلّم، وفجأةً ولدهشتها خرج شخصٌ مسرعًا أرسله حضرة عبدالبهاء ليخبرها برغبة حضرته في رؤيتها. عادت السّيّدة مجبورة الخاطر بينما يُسمع دويّ صوت حضرته ينادي بنفوذٍ وسلطانٍ: “إنّ قلبًا قد جُرح! إليّ بها سريعًا…أسرعوا.(113)

(20)

سعدت سيّدتان من إسكتلندا سعادةً غامرةً بقبول طلبهما بقضاء أمسيةٍ بمحضر حضرة عبدالبهاء في لندن؛ حيث استقبلهما حضرته بحفاوته المعهودة، فكيف تذوّقت السّيّدتان حلاوة تلك الأمسية!

بعد مضيّ نصف ساعةٍ في محضره الدّافئ، أُصيبت السّيّدتان بحالةٍ من الذّعر عندما اقتحم الجلسة صحفيٌّ متطفّلٌ وأخذ لنفسه مقعدًا في وسطهم، حيث كان يريد معلوماتٍ عن حضرة المولى. أُصيبت السّيّدتان بحالةٍ من الوجوم إزاء أسلوبه غير اللّائق الثّرثار، فهذا التّطفّل من شأنه أن يفسد تلك الأمسية الثّمينة!

فجأةً، نهض حضرة عبدالبهاء من بينهم مشيرًا إلى الصّحفيّ أن يتبعه إلى غرفته. لقد تخلّصت السّيّدتان من المتطفّل ولكنّهما فقدتا حضرة عبدالبهاء أيضًا، فما العمل!

بعد قليل ذهبت المضيّفة إلى سكرتيرة حضرة عبدالبهاء، وطلبت منها أن تبلِغ حضرته بأنّ السّيّدتين في الانتظار.

لم يمضِ الكثير من الوقت حتّى سُمعت كلمات التّوديع اللّطيفة، ثُمّ عاد حضرة المولى وتوقّف بجوار الباب ونظر إلى السّيّدتين بهيبةٍ وقال: “لقد جعلتما هذا المسكين يشعر بعدم الارتياح وتمنّيتما رحيله بشدّةٍ، لقد أخذته بعيدًا حتّى أجعله يشعر بشيءٍ من السّعادة”.(114)

(21)

كانت السّيّدة “ماريا آيوس” تتوق إلى أن تتلقّى زهرةً من حضرة عبدالبهاء، فنصحها البعض أن تطلب من الحجّاج الرّاحلين إلى عكّاء أن يُحضروا لها زهرةً من هناك لو كان بإمكانهم، لكنّ السّيّدة رفضت هذا الاقتراح إذ كانت تشعر بأنّها ستحصل على الزّهرة متى رغب حضرته في ذلك بشكلٍ تلقائيٍّ. وعندما وصل حضرته إلى شيكاغو، أسرعت السّيّدة لرؤية حضرته، فتوجّهت إلى فندق “بلازا” مصطحبةً أحد صغارها، وذلك في أوّل يومٍ لوصول حضرته. لم يكن حضرته هناك حينئذٍ، فكان عليها الانتظار طوال فترة بعد الظّهيرة، ولدى وصول حضرته وأثناء خروجه من المصعد رآهم وحيّاهم بلطفٍ، ثُمّ تقدّم نحو جناحه مشيرًا إليهما أن يتبعاه. تردّدت السّيّدة ولكنّ حضرته ألحّ: “تفضّلوا… تفضّلوا!”، فتبِعا حضرته حتّى صالة استقباله، وبعد برهةٍ خرج حضرته من غرفته الخاصّة حاملًا بعض الزّهور، وتفضّل بإهداء السّيّدة واحدةً منها.(115)

(22)

عندما كان حضرة عبدالبهاء في سان فرانسيسكو، كانت السّيّدة مضيّفته قد رتّبت لقاءً لحضرته مع عمدة “بيركلي”. الكثيرون من أصحاب المقامات الرّفيعة وأساتذة الجامعات سيحضرون هذا اللّقاء، ولأنّ ساعة المغادرة من الفندق إلى اللّقاء قد أوشكت فقد صعدت المضيّفة لتنبيه حضرته أنّ الموعد قد أوشك، ولكنّ حضرته ابتسم ولوّح لها قائلًا: “حالًا… حالًا”، انصرفت المضيّفة بشيءٍ من القلق، حيث لم يكن ثمّة ما يوحي بأنّ حضرته مستعدٌ للمغادرة. بعد قليلٍ ذهبت ثانيةً لأنّ السّيّارة كانت تطلق صفّارتها عند الباب، ويبدو أنّ عمدة المدينة سيُترك في حالة انتظارٍ، ولكنّها قوبلت ثانيةً بابتسامة حضرته قائلاً: “حالًا… حالًا”. وأخيرًا نفد صبرها تمامًا لأنّها شعرت بأنّه ربّما لا يمكنهم الوصول في الوقت المحدّد، وفجأةً، دقّ جرس الباب، وفي الحال سُمعت خطوات حضرته على الدّرَج، وعندما فُتِح الباب كان حضرته بجوار الخادمة يمسكان معًا عند العتبة برجلٍ أشعث الشّعر منهكًا ومتّسخًا لم يكن أحدٌ قد سمع بقدومه من قبل، ولكنّ حضرة عبدالبهاء عانقه كصديقٍ غائبٍ منذ زمنٍ طويلٍ. لقد قرأ هذا الرّجل عن حضرته في الصّحف وشعر بشيءٍ يدفعه لرؤيته، ولأنّه لا يمتلك مالًا لركوب سيّارةٍ فقد كان على المسكين أن يمشي على قدميه خمسة عشر ميلًا إلى سان فرانسيسكو. لو كان حضرة عبدالبهاء قد غادر في الوقت المحدّد فربّما لن يلتقيا، ولكنّ حضرته أحسّ بقرب وصوله، وما كان لحضرته أن يغادر حتّى يستريح الضّيف على مائدةٍ عليها بعض السّندويشات والشّاي، والآن فقط استطاع حضرة المولى أن يقول: “والآن عليّ أن أذهب، ولكن بعد أن تنتهي من طعامك انتظرني في غرفتي في الأعلى حتّى أعود، وبعد ذلك سنحظى بحديثٍ رائعٍ”.(116)

(23)

في لندن، لوحظ أنّ المستفسرين كانوا في الغالب لا يودّون أن يبرحوا المكان، فلو صادف أنّ منهم من ظلّ حاضرًا وقت تقديم الغداء أو العشاء فحتمًا سوف يُدعى إلى تناول الطّعام. ولتبديد أيّ شعورٍ بالإحراج، كان حضرة عبدالبهاء يمدّ يده المباركة إلى أبسط النّاس ويأخذه بنفسه إلى غرفة الطّعام ويُجلسه عن يمينه ويحادثه بحرارةٍ، حتّى يشعر الضّيف المذهول بكامل الأُنس والرّاحة. كان العدد يصل أحيانًا إلى ثمانية عشر ممّن كان يخدمهم حضرة المولى بنفسه، ومع ذلك فقد كان ينزع دائمًا إلى مواصلة حواراته المتقطّعة وسرد الطّرائف وهو متألِّقٌ بمرحه في الغالب.(117)

(24)

تفضّل حضرة بهاءالله بقوله الأحلى: “حكماء العباد هم من لا يتكلّمون إذا لم يلقوا أذنًا صاغيةً، كالسّاقي لا يقدِّم كأسًا إذا لم يجد طالبًا“.(118)  ثَمّة قِصّةٌ ملهمةٌ عن الآنسة “ليتيتيا” الّتي جاءت من أسرةٍ فقيرةٍ في حيفا كي تقيم في بيت حضرة عبدالبهاء بعكّاء بغرض تعليم الصّغار اللّغة الفرنسيّة. كانت “ليتيتا” سعيدةً هناك رغم أنّها كاثوليكيّةٌ، وكانت مراقَبةً من رهبان الدّير. وذات يومٍ، وعند قدوم حاجٍّ فرنسيٍّ للزّيارة دعت الحاجة إلى خدماتها كمترجمةٍ حيث هي الوحيدة الّتي تجيدها. شعرت الآنسة بالحرج حتّى إنّها اعترفت للرّهبان بذلك فيما بعد، وبدت كئيبةً لعدّة أيّامٍ. عندما لاحظ حضرة المولى ذلك طلبها وطمأنها قائلًا: “ليتيتيا! أخبري الرّهبان المحترمين أنّه لا داعي لهم للخوف. لقد طلبت منك أن تقومي بالتّرجمة فقط لأنّه لم يكن هناك أحدٌ آخر يجيد الفرنسيّة، وليس بغرض تبليغك بشيءٍ عن ديننا، نحن لدينا بهائيّون كثيرون يأتون إلينا من كُلّ مكانٍ راجين من كُلّ قلوبهم وبكُلّ محبّتهم النّصح والتّوجيه، ونحن لا نهَب تعاليمنا الثّمينة إلّا لهؤلاء. يجب عليكِ أن تترجّي وتترجّي وتترجّي حتّى أعطيك تعاليمنا، وحتّى حينئذٍ قد لا أعطيكِ، لأنّ تعاليمنا ليست رخيصةً لكي تُعطى لمن لا يريدها”.

“فإذا رغبتِ فظلّي في البيت أو ارحلي إذا لم تكوني سعيدةً، نحن نسعد ببقائك معنا لو كنت تودّين البقاء، ولكن عليكِ أن تنقّي قلبك من كُلّ خوفٍ من أنّنا قد نجعل منك بهائيّةً”.(119)

التّشجيع

(25)

في باريس، وفي إحدى المناسبات، قال رجلٌ هنديٌّ لحضرةِ عبدالبهاء بشكلٍ صريحٍ: “إنّ هدفي في الحياة هو أن أنقل إلى العالم رسالة كريشنا كما هي محفورةٌ في قلبي”. ردَّ حضرة عبدالبهاء بأسلوبه المحبوب: “رسالة كريشنا رسالة حُبّ، وكُلّ أنبياء الله أتوا برسالة حُبٍّ. لم يُفكّر أحدهم على الإطلاق أنّ الحرب والبغضاء شيءٌ طيّبٌ. كلّهم اتّفقوا على أنّ الحُبّ والعطف هما الأفضل”.(120)

إنّ موقفًا سلبيًّا كان من شأنه أن يؤذي الرّجل، وحضرة المولى لم يدخل معه في أيّ جدالٍ، بل إنّ حضرته أظهر له التّقدير، وبذلك شجّع هذا التّابع المخلص لكريشنا.

(26)

عندما كان حضرة عبدالبهاء في لندن، تصادف أن التقى حضرته بشكلٍ عابرٍ مع عاملٍ كان قد فقد صندوق معدّاته في إحدى الصّالات. عندما تصادف الرّجل مع حضرة المولى المبتسم، لم يتحدّث في شيءٍ إلّا عن ورطته قائلًا بأسى: “أنا لا أعرف كثيرًا في الأمور الدّينيّة لأنّني لا أملك وقتًا لشيءٍ سوى عملي”.

كان ردّ حضرة المولى على هذا النّحو من الطّمأنة: “وهذا شيءٌ حسنٌ، حسنٌ جِدًّا. فعمل اليوم الّذي يؤدَّى بروح الخدمة هو في حدّ ذاته لونٌ من العبادة. مثل هذا العمل هو صلاةٌ لله”.(121)

(27)

عندما كان حضرة المولى على سطح السّفينة البخاريّة “سيلتك”، دنت منه سيّدةٌ تسوق مشكلةً تعاني منها، وهي أنّها تخشى الموت. تفضّل حضرته قائلا: “إذًا قُومي بعمل شيءٍ يحفظك من الموت بل يبعث فيكِ الحياة يومًا بعد يومٍ، ويهبَك الحياة الأبديّة. فبحسب ما قاله المسيح فإنّ أولئك الّذين يدخلون ملكوت الله لا يموتون أبدًا. إذًا ادخلي ملكوت السّماء ولن تخشي الموت بعد ذلك”.

ثُمّ راح حضرته يحادثها عن المحيط الأطلنطيّ حيث كان هادئًا بشكلٍ مؤقّتٍ، نصح حضرته بالقول: “يجب على الإنسان أن يركب سفينة الله لأنّ هذه الحياة بحرٌ هائجٌ، وسيغرق كُلّ سكّان الأرض- الّذين يبلغون أكثر من ملياري شخصٍ – في هذا البحر قبل مضيّ مائة عامٍ. الجميع سيغرقون ما عدا أولئك الّذين سيركبون سفينة الله، أولئك سيُنقذون!”.(122)

(28)

أوضح حضرة عبدالبهاء جليًّا أنّ النّاس، وعلى اختلاف كفاءاتهم، مؤهَّلون لتبليغ هذا الأمر العظيم كُلٌّ بطريقته الخاصّة. كان “جون ديفيد بوش”، الّذي حضر من سويسرا إلى أمريكا، كان يشعر أنّه لا يستطيع أن يكون متحدّثًا مفوّهًا، وعِوضًا عن ذلك كان الرّجل يقوم بتوزيع النّشرات والكتب. شجّعه حضرة المولى قائلًا: “أنت تقوم بعملٍ جيّدٍ للغاية، أنت تعمل أفضل مِمّا تتكلّم، بك لا تتحدّث الكلمات أو حركات الشّفاه، بل بك يتحدّث القلب، وفي حضورك يتحدّث الصّمت ويتألّق”.(123)

(29)

أخبر حضرة عبدالبهاء “جوليت تومسون”، البهائيّة المخلصة وفنّانة نيويورك، أخبرها بأنّها تبلّغ بشكلٍ جيّدٍ، قال لها حضرته بصراحة المُحبّ: “قابلتُ كثيرًا من النّاس الّذين تأثّروا بك يا جولييت، أنتِ لست فصيحة اللّسان أو بليغةً ولكنّك تبلّغين بقلبك. أنتِ تتحدّثين بعاطفةٍ وأحاسيسٍ تجعل النّاس يسألون: ما هذا الشّيء الّذي تمتلكه!”.(124)

(30)

في عام 1919، كانت “مارجريت راندال”- الّتي عُرفت فيما بعد باسم “بهيّة” – تبلُغ من العمر ثلاثة عشر عامًا عندما ذهبت إلى حيفا مع والديها وآخرين لزيارة حضرة عبدالبهاء. ذكرت “بهيّة” فيما بعد بعضًا من خبراتها: “كنّا ذات ليلةٍ جالسين على المائدة مع حضرة المولى حيث كان حضرته يُجلسني دائمًا على يساره، ابتسم لي حضرته وقال: “اسمك بهيّة، و “بهيّة” تعني “النّور”، لكن ما لم يكن هناك شيءٌ في جوهرك فلن يكون هناك نورٌ”. لقد أدركتُ التّحدّي الّذي وضعه على عاتقي حينئذٍ. وفي مرّةٍ أخرى علِمنا أنّ بإمكاننا أن نلتقي مع حضرته فذَهَبَت معي أُمّي. سألتُ حضرته: “ماذا يمكن أن أفعل لخدمة الأمر المبارك؟” راح حضرة المولى يخطو ذهابًا وإيابًا داخل الغرفة ثُمّ تفضّل: “ادرسي! ادرسي! ادرسي!” كان حضرة المولى كثيرًا ما يكرّر الكلام مرّاتٍ ثلاثٍ. تلك كانت رسالةً لي. كان حضرة المولى يعرف الشّيء الّذي يجلب أقصى درجات النّموّ لحياة الفرد، ومتى سُئل حضرته فسرعان ما يهدي الإنسان إليه”.(125)

(31)

منحتنا السّيّدة “جوليت تومسون” صورةً جميلةً عن حضرة المولى في عكّاء: “أرسل حضرته ذلك المساء في طلبنا كي نلتقي السّيّد “سبريج” والمؤمنين الإيرانيّين. ولأنّني لم أكن جاهزةً فقد ارتديت فستانًا بسيطًا يمكن ارتداؤه بسهولةٍ وبشكلٍ سريعٍ. وعندما مررت بحضرة المولى عند بابه قلت: “أخشى ألّا أكون قد ارتديت ما يليق من ثيابٍ!”.

لمس حضرته ذراعي بمنتهى اللّطافة وقال مبتسمًا: “المؤمنون الإيرانيّون لا ينظرون إلى الثّياب يا صغيرتي. هم ينظرون إلى القلب”.(126)

 

الحِلم واللّطف

(32)

بعد رفع التّضييق على حضرة بهاءالله في السّجن الأعظم في عكّاء، وخلال إقامة حضرته داخل أسوار المدينة، حدث أنّ تاجرًا مصريًّا يدعى”عبدالكريم”، وقد اشتعل قلبه بالرّسالة الإلهيّة، قد رغب في زيارة حضرة بهاءالله. كتب الرّجل طالبًا الإذن بالحجّ، ولكنّه فوجئ كثيرًا عندما أتى الرّدّ بهذه الصّيغة: “يمكنه الحجّ ولكن ليس قبل سداد ديونه”.

كان الرّجل يعمل بالتّجارة منذ سنواتٍ، وكانت قوافله تعبر الصّحراء ببضاعةٍ ثمينةٍ، وكان اهتمامه منصبًّا على التّوسّع في تجارته، أمّا الآن فقد أصبح همّه الوحيد ألّا يكون مُدانًا لإنسانٍ، وهكذا فكلّما كان يتلقّى أموالًا كان يسدّد ما عليه من ديونٍ بدلًا من إعادة استثمارها، واستمرّ به الحال على هذا المنوال لمُدّة خمس سنواتٍ حتّى تحرّر تمامًا من كُلّ ديونه.

تقلّصت تجارته ولم يعد يهمّه حُبّ الثّروة، وبعد أن سدّد كُلّ ديونه، لم يعد باقيًا معه سوى ما يكفي حاجة أسرته في غيابه، وما يكفي لنفقات الرّحلة إلى حيفا عبر البحر.

كان الرّجل في السّابق يسافر في الدّرجة الأولى الفاخرة، والآن هو لا يملك غرفةً ولا سريرًا. لا يهمّ فهو ذاهبٌ إلى حضرة بهاءالله، وأثناء سيره على المعبر إلى السّفينة سقط شاله في الماء، سوف تكون ليلةً قارسة البرودة، لكنّ قلبه كان سعيدًا وكان يشعر بالحياة من خلال الصّلوات والدّعاء.

أخبر حضرة بهاءالله أسرته أنّه بانتظار ضيفٍ كريمٍ، وأُرسلت عربةٌ إلى حيفا لاستقبال التّاجر، ولكنّ الشّخص المكلّف باستقباله لم تكن لديه أيّة أوصاف لذلك الضّيف المميّز، وعند نزول الرّكّاب راح يراقبهم بعنايةٍ واثقا أنّه سوف يتعرّف على شخصٍ مميّز، لكنّ الرّكّاب كانوا عاديّين وليس بينهم شخصٌ مميّزٌ، فرجع إلى عكّاء قائلًا إنّ ضيف حضرة بهاءالله لم يصل.

كان التّاجر يتوقّع أن يكون أحدٌ بانتظاره، ولم يعد لديه من مالٍ يستأجر به عربةً، فشعر بخيبة أملٍ مريرةٍ وجلس على مقعدٍ يائسًا محرومًا.

لكنّ حضرة بهاءالله كان على علمٍ بأنّ ضيفه الكريم قد وصل حتّى لو لم يتمّ التّعرّف عليه، وفي هذه المرّة أوفد حضرة عبدالبهاء الّذي تعرّف على الرّجل البائس المستلقي على المقعد في وقت الشّفق، وبسرعةٍ قدّم حضرة المولى نفسه وشرح للرّجل ما حدث، وسأله ما إذا كان يرغب في السّفر إلى عكّاء في تلك اللّيلة أم يفضّل الانتظار حتّى الصّباح.

كان الرّجل قد قضى ساعاتٍ طوالًا في الصّلاة والدّعاء للإعداد لهذا اللّقاء مع حضرة بهاءالله، لكنّه الآن وجد أنّ المرارة قد تسلّلت إلى قلبه. شعر أنّه تُرك منسيًّا ووحيدًا لدى وصوله حيفا حتّى إنّه بدأ يتحيّر في حقيقة مقام حضرة بهاءالله. من أجل ماذا ضحّى بكُلّ ثروته؟ كان الرّجل في حالة عذابٍ روحيٍّ، ولكن بعد حضور ذلك الرّجل اللّطيف تبددت كُلّ الشّكوك من نفسه، ولكنّه شعر بالحاجة إلى كثيرٍ من الدّعاء لكي يشعر أنّه مستعدٌّ روحيًّا للقاء المبعوث الإلَهيّ.

وكما تُروى القِصّة، فإنّ عبّاس أفندي عرف بالغريزة أنّ صديقه الجديد لن يرغب في البحث عن فندقٍ على حساب حضرته، لذا عندما علم حضرته أنّه يفضّل الانتظار حتّى الصّباح للسّفر إلى عكّاء، فكّ أزرار عباءته الطّويلة وجلس بجوار الحاجّ ولفّه معه داخل العباءة وقضيا معًا اللّيلة في الدّعاء حتّى غرقا في نشوته”.

وفي الصّباح توجّها إلى مدينة السّجن عكّاء. وها هو المصريّ وبعد طول انتظارٍ أمام حضرة بهاءالله بقلبٍ منشرحٍ ومنقّى بعد اختبارٍ وامتحانٍ دام خمس سنواتٍ”.(127)

(33)

كانت “مَي بولز ماكسويل” واحدةً من خمسة عشر حاجًّا حظوا بشرف الاستقبال في مدينة السّجن من ديسمبر/كانون الأوّل، عام 1898 إلى أوائل عام 1899. سجّلت “مَي” خبراتها في كتابها “الحجّ المُبْكر” – قِصّة حُبٍّ سماويّةٍ.

في الأرض الأقدس، حيث نسيمها الّذي يسري فيه عبق الورود وأزهار البرتقال، وجدتْ حضرة عبدالبهاء الّذي اخترق حُبُّهُ وحكمتُه ولطفُه أعماق الرّوح. لقد أخلى أفراد العائلة المباركة حجراتهم الخاصّة في عكّاء من أجل راحة الحجّاج، وفي الصّباح الباكر في كُلّ يومٍ كان حضرة المولى يستفسر عن صحّة الجميع وسعادتهم، وفي المساء يتمنّى لهم نومًا هنيئًا وأحلامًا سعيدةً. على مدى ثلاثة أيّامٍ وليالٍ ثمينةٍ، لم يسمعوا شيئًا سوى ذكر الله، ولم ترَ في أيّ مكانٍ قَطّ مثل هذه السّعادة، ولا سمعت مثل هذا الضّحك. فالمولى لا يريد دموعًا في بيته، لقد طلب حضرته، ذات مرّةٍ، من بعض الحجّاج  الّذين سالت دموعهم تأثّرًا أن يكفّوا عن البكاء إكرامًا لخاطره، فحضرته لا يستطيع تعليم الأحبّاء إلّا عندما تكون كُلّ النّفوس منشرحةً وراضيةً.

كتبت تقول: “تعلّمنا أنّ مع حضرة عبدالبهاء تكون الحياة الحقيقيّة ويكون الفرح والسّعادة بأجلى صورةٍ، وتعلّمنا أيضًا أنّ محضره بمثابة النّار المطهّرة للنّفوس، وأنّ الحجّ إلى الأرض الأقدس ليس إلّا بوتقةً لاختبار النّفوس حيث يُصفّى الذّهب ويهلك الخَبَث. لا يبدو أنّ شيئًا سوى الحُبّ بمقدوره أن يتحكّم في أقوالنا وأفعالنا مرّةً أخرى. ومع ذلك، ذات مساءٍ، وأنا في غرفتي مع اثنين من الأحبّاء، تحدّثت ضد أخٍ في الحقّ وعن أخطائه، ونفّست بكلماتي عن الشّرّ الّذي في قلبي. وبينما نحن هكذا عاد حضرة المولى حيث كان في جولته اليوميّة إلى الفقراء والمرضى، وفي الحال أرسل في طلب أُمّي الرّوحيّة السّيدة “لوا” الّتي كانت معنا، وأخبرها حضرته بأنّ في غيابه تحدّثت إحدى إماء الله بشكلٍ غير طيّبٍ عن شخصٍ آخرٍ، وأنّ قلبه يحزن عندما يرى المؤمنين لا يحبّون بعضهم بعضًا، أو يتحدّثون عن أيّ نفسٍ بطريقةٍ لا تليق، ثُمّ طلب منها ألّا تتحدّث في الموضوع، وعليها أن تكتفي فقط بتلاوة المناجاة. بعد قليلٍ توجّهنا جميعًا إلى غرفة الطعام، حيث لم يكن قلبي القاسي قد فطن بعد إلى الخطأ حتّى غاصت عيناي في وجه مولاي المحبوب، وجابهت نظرته المليئة باللّطف والرّحمة حتّى كاد قلبي أن ينفطر. لقد تحدّثت عيناه إليّ بشكلٍ مذهلٍ، وفي تلك المرآة النّقيّة الكاملة شاهدت نفسي التّعيسة وأجهشت بالبكاء. لم يلتفت إليّ حضرته لبرهةٍ، وظلّ كُلّ واحدٍ من الحضور مشغولًا في تناول العشاء، بينما جلست في محضره الغالي أغتسل من بعض جريراتي بالدّموع، وبعد لحظاتٍ قليلةٍ توجّه نحوي وابتسم ونطق اسمي عدّة مرّاتٍ وكأنّه يدعوني إليه، وفي لحظةٍ واحدةٍ انسابت السّعادة الغامرّة في نفسي واستراح قلبي بأملٍ لا نهائيّ حتّى أدركت أنّ حضرته سينقّيني من كُلّ خطاياي”.(128)

(34)

ذات يومٍ، كان حضرة عبدالبهاء ومترجمه والسّيّد “كولبي آيفز”- الّذي كان قِسًّا موحّدًا في ذلك الوقت – كانوا يتحدّثون سويًّا في غرفة استقبالٍ. كتب آيفز فيما بعد قائلًا: “كان حضرة عبدالبهاء يتحدّث عن العقيدة المسيحيّة، وكان تفسيره لكلمات السّيّد المسيح مغايرًا جِدًّا للتّفاسير المعهودة حتّى إنّني لم أستطع أن أقاوم ما بداخلي من امتعاضٍ مِمّا أسمع، وأذكر أنّني سألت حضرته بشيءٍ من الحِدّة: “كيف يمكن أن تكون واثقًا إلى هذا الحدّ؟ لا أحد يستطيع أن يدّعي بالتّأكيد علمه بمغزى السّيّد المسيح بعد تلك القرون من الصّراعات وسوء التّفاسير”. ولكنّ حضرته أشار إلى أنّ ذلك ممكنٌ تمامًا.

إنّ ما دلّ على اضطرابي الرّوحيّ وحماقتي وعمى قلبي عن مقام حضرته أنّه بدلًا من أن تؤثّر فيَّ رصانته ونغمته السّماويّة، فقد دُفعتُ إلى مزيدٍ من نفاد الصّبر وقلت متسائلًا: “لا يمكن أن أصدّق هذا”.

“لن أنسى أبدًا نظرة التّعقيب المهيبة الّتي ألقاها عليّ المترجم كما لو أنّه يقول: “من أنت لكي تعارض أو حتّى تسأل حضرة عبدالبهاء؟”.

ولكنّ حضرة عبدالبهاء لم يفعل ما فعله المترجم، وكم أحمد الله على أنّه لم يفعل! نظر إليّ حضرته برهةً طويلةً قبل أن يتحدّث. لقد اخترقت نفسي عيناه البهيّتان الهادئتان بما حملتاه من حُبٍّ وتفهّمٍ حتّى تبخّرت حدّتي المؤقّتة. ابتسم حضرته ابتسامة المُحبّ لحبيبه، وبدا كما لو أنّ ذراعي روحه تعانقني برفقٍ وهو يقول بأنّ عليّ أن أحاول بطريقتي وله أن يحاول بطريقته”.(129)

التّعاطف والتّفهّم

إنّ تعاطف حضرة عبدالبهاء وفهمه العميقيْن للحالة الإنسانيّة بضعفها واحتياجاتها قد أفرزا الرّغبة الطّبيعيّة لدى حضرته للمساعدة بأفضل ما يمكن أن يكون.

(35)

لم تكن غرفة حضرة المولى في عكّاء تحتوي على سريرٍ في الغالب، لأنّ حضرته كان يتبرّع دائمًا بسريره لمن هو أكثر منه حاجةً إليه. كان حضرته يلتفّ ببطّانيّةٍ ويستلقي على الأرض أو حتّى على سطح منزله. لم يكن بالإمكان شراء سريرٍ لحضرته من عكّاء، فتمّ طلب سريرٍ من حيفا استغرق وصوله ما لا يقلّ عن ستٍ وثلاثين ساعةً، وحتمًا عندما ذهب حضرة المولى في جولته الصّباحيّة للزّيارات ووجد شخصًا محمومًا ومصابًا بالسّعال راقدًا على الأرض، قام حضرته فورًا بإرسال السّرير إليه، ولم يتلقَّ حضرته سريرًا جديدًا حتّى اكتُشَف وضعُه صدفةً، بفضل أحد الأحبّاء الطّيّبين.(130)

(36)

في ساعاته الأخيرة في هذه الدّنيا، كان حضرته يلازم الفراش بسبب الحُمّى، وكان لا بُدّ من تغيير الثّوب الّذي ينام فيه، ولكن لم يكن ثمّة بديلٌ لأنّ حضرته كان قد منح كُلّ أثوابه.(131)

(37)

عندما فقد رجلٌ تركيٌّ منصبه في حيفا، صار في حالةٍ من البؤس الشّديد هو وزوجته وأولاده. قصد الرّجل حضرة عبدالبهاء طلبًا للمساعدة وكان طبيعيًّا أن يتولّاهم حضرته برعايته، وعندما أُصيب الرّجل بالمرض نهض حضرة المولى مستعدًّا للمساعدة، فأمدّه بطبيبٍ ودواءٍ وبعض المؤن، وعندما شعر الرّجل أنّه على وشك أن يفارق الدّنيا طلب حضرة عبدالبهاء وأخبر أطفاله: “هذا أبوكم الّذي سيرعاكم عندما أرحل”.

وذات صباحٍ، حضر الصّغار الأربعة إلى منزل حضرة عبدالبهاء ينادون “نريد أبانا”. عندما سمع حضرة المولى أصواتهم عرفهم. أخبر الأطفال حضرته أنّ والدهم قد توفّي، وراحوا يبثّون إليه أحزانهم.

احتضنهم حضرة عبدالبهاء وقدّم لهم مشروباتٍ وحلويّاتٍ، ثُمّ توجّه معهم إلى منزلهم حيث وجد أنّ الرّجل لم يمت بعد، بل إنّه فقط في حالة إغماءٍ، ولكنّه رحل في اليوم التّالي.

قام حضرة المولى بعمل ترتيبات الجنازة وإمدادات الطّعام والملابس وتذاكر السّفر للأسرة للذّهاب إلى تركيّا. لقد كان قلبه العطوف يتّسع للكون بأسره.(132)

(38)

عندما وصل حضرة عبدالبهاء إلى الغرب، واجه وضعًا آلمه كثيرًا، لأنّه كان فوق طاقته أن يخفّف البؤس الّذي كان يراه بشكلٍ دائبٍ. فعندما شاهد حضرته مستوى المعيشة الفخمة في “كادوجان جاردنز” في لندن حيث أقام حضرته، كان يعلم أنّه وعلى مرمى حجرٍ من مكانهم هناك أناسٌ قد لا يجدون قُوت يومهم، كما أنّ في نيويورك أيضًا هناك الحالة نفسها. حزن حضرته بشدّةٍ إزاء ذلك التّناقض وعلّق بقوله: “سوف يأتي يومٌ في المستقبل القريب تصبح فيه البشريّة أكثر إحساسًا من الوقت الحالي، بحيث إنّ الإنسان ذا الثّروات الطّائلة لن يستمتع بما لديه من رفاهيةٍ عندما يقارن بما حوله من فقرٍ مدقع. سوف يضطرّ، ومن أجل سعادته الشّخصيّة، أن ينفق ثروته لتوفير أوضاعٍ أفضل للمجتمع الّذي يعيش فيه”.(133)

(39)

كان حضرة عبدالبهاء حسّاسًا ومتعاطفًا إزاء المعاناة الإنسانيّة حتّى إنّه كان يندهش من تجاهل الآخرين لها. عبّر حضرته عن مشاعره في باريس كالآتى: “أخبروني للتّوّ أنّ حادثًا بشعًا وقع في هذا البلد، أخبَروني أنّ قطارًا سقط في النّهر وراح ضحيّته عشرون شخصًا على الأقلّ، وهذا الأمر سيكون موضوعًا للنّقاش في البرلمان اليوم، حيث سيُستدعى مدير السّكك الحديديّة لسماع أقواله واستجوابه حول حالة السّكك الحديديّة وحول أسباب الحادث، وسيكون هناك جدلٌ محتدمٌ. إنّني في كامل الدّهشة والعجب أن ألاحظ كُلّ هذا الاهتمام وتلك الإثارة الّتي تفجّرت في كُلّ أرجاء القُطر بسبب وفاة عشرين شخصًا، بينما يبدو الجميع باردًا وغير مكترثٍ أمام حقيقة أنّ الآلاف من الإيطاليّين والأتراك والعرب يُقتلون في طرابلس! إنّ الرّعب الّذي تُحدثه تلك المذابح الجماعيّة لم يقلق الحكومة على الإطلاق، مع أنّ أولئك البؤساء بشرٌ أيضًا”.(134)

الكرم

كان حضرة عبدالبهاء يعطي بلا حدودٍ من كُلّ ما لديه من حُبٍّ ووقتٍ ورعايةٍ واهتمامٍ وطعامٍ ومالٍ وملابسَ وزهورٍ وسريرٍ وسجّادةٍ، … إلخ! كان واضحًا أنّ شعار حضرته هو “التّقشّف على نفسه والسّخاء على الآخرين”.

إنّ قصص إنكار الذّات لدى حضرة المولى لصالح رفاهية الآخرين لا حصر لها؛ فقد كان حضرته…”كريمًا كالغيث في سخائه على الفقير”.(135)  ولأنّه وأسرته كانوا أغنياء بحُبّ الله، فقد تقبّلوا الحرمان المادّيّ بسعادةٍ. ومن ناحيةٍ أخرى، كان حضرته إذا علم بنافذةٍ مكسورةٍ أو سقفٍ به تسريبٌ مِمّا يشكّل خطرًا على الصّحّة،  يبادر إلى إجراء الإصلاحات اللّازمة ويؤكّد على ضرورة إتمامها.(136)

لم يكن حضرته يحتاج أو يسعى إلى رفاهيةٍ، وكان هذا واضحًا في رحلته إلى أمريكا، فبعد أن قضى أيّامًا قليلةً في غرفٍ فاخرةٍ كان الأحبّاء قد حجزوها لحضرته في إحدى المدن، انتقل إلى شقّةٍ بسيطةٍ. وهذا لا يمنع أنّ حضرته كان يدفع في الفنادق بقشيشًا سخيًّا يلفت الأنظار. وفي المنازل الّتي كان يُستقبل فيها حضرته كان يترك الهدايا الثّمينة للمضيّفين والخدم، ولا بُدّ من التّركيز على أنّ حضرته تنقّل من الشّاطئ إلى الشّاطئ ليتحدّث دون أيّ مقابلٍ أو تعاقداتٍ ذات فوائد.

(40)

كان كرم حضرة عبدالبهاء فطريًّا منذ نعومة الأظفار. عندما ذهب الصّغير “عبّاس أفندي” إلى الجبل ليرى آلاف الأغنام الّتي يمتلكها والده، رغب الرّعاة في الاحتفال بضيفهم الصّغير، فأعدّوا له وليمةً على شرفه، وقبل مغادرته للعودة إلى المنزل بنهاية اليوم، نصحه كبير الرّعاة أنّ العادة جرت على أنّ الزّائر لا بُدّ أن يترك هديّةً للرّعاة. قال له عبّاس أفندي إنّ حضرته لا يملك شيئًا، ولكنّ الرّجل ألحّ بأنّ حضرته لا بُدّ أن يقدّم شيئًا، فتفضّل حضرة المولى بمنحهم الأغنام بأكملها.

قالوا إنّه عندما سمع حضرة بهاءالله بما جرى ضحك حضرته وعلّق قائلًا: “يجب أن نحمي عبدالبهاء من نفسه…. يومًا ما سوف يهَبُ نفسه”.(137)

(41)

يُحكى أنّه كانت في منزل حضرة بهاءالله سجّادةٌ جميلةٌ كان حضرته يجلس عليها عادةً، وذات يومٍ أحضر عربيٌّ فقيرٌ حمولةً من الأخشاب إلى المنزل، وهناك شاهد الرّجل السّجّادة فانجذب بشدّةٍ إلى جمالها وراح يتلمّسها بيده بتقديرٍ كبيرٍ، وتساءل: “كم يكون رائعًا أن يكون لديك مثل هذه السّجّادة الرّائعة للجّلوس عليها!”. سمعه حضرة عبدالبهاء وقال بمنتهى البساطة: “إن كانت تعجبك فخذها”.

لم يصدّق الرّجل أنّها كانت هديّةً بالفعل، ومن خوفه على فقدانها فقد وضعها على كتفه وراح يجري وهو ينظر خلفه خشية أن يأتي وراءه من يأخذها منه. وبمرحٍ غامرٍ قال حضرة عبدالبهاء: “اذهب… لن يأخذها منك أحدٌ”.(138)

(42)

مثالٌ آخرٌ على كرمه يتعلّق بسجّادةٍ أخرى. كانت السّجّادة من أفخر ما أنتجت إيران. كانت مصنوعةً من أفخر أنواع الحرير، ومزخرفةً على هيئة حديقةٍ من الزّهور، ومبروزةً بحبلٍ ثقيلٍ مجدولٍ من الذّهب الخالص. تمّ شراء هذه السّجّادة من بعض التّجّار بعد الحرب العالميّة الأولى، وأُحضرت بمشقّةٍ بالغةٍ إلى حيفا عن طريق أفغانستان والهند بسبب مشاكل السّفر والنّقل آنذاك.

عندما وصل الحاجّ المِعطاء الكريم بعد أسابيعَ مضنيةٍ، أخذ السّجّادة إلى بيت الحجيج المتاخم لضريح حضرة الباب وبسطها على الأرض، وعند وصول حضرة عبدالبهاء سأل حضرته في الحال راعي البيت عن صاحب هذه السّجّادة، وعندما أُخبر حضرته، صرّح بأنّها قطعةٌ فنّيّةٌ قيّمةٌ ولا يجب أن تُوضع على الأرض خشية التّراب، وأصدر تعليماته بطيّها وأخذها بعيدًا. حينئذٍ أخبر الحاجّ حضرة عبدالبهاء أنّ السّجّادة قد أُحضرت لحضرته، فأجاب حضرته بأنّ مثل هذه الهديّة القيّمة لا تُوضع إلّا في ضريح حضرة بهاءالله وأنّه سيضعها بنفسه.

في غضون أيّامٍ قليلةٍ توجّه حضرة عبدالبهاء والمؤمنون القاطنون والحجّاج قاصدين قصر البهجة، سافروا بالقطار من حيفا إلى عكّاء، ومن عكّاء انتقل الأحبّاء المسنّون إلى قصر البهجة بعربةٍ، وركب حضرة عبدالبهاء على أتانه البيضاء المعروفة آنذاك، بينما ذهب الشّباب منهم مشيًا على الأقدام.

قدّم الحاجّ الشّرقيّ بعض الشّيكولاتة لحضرةِ المولى تقاسمها حضرته مع بعض المؤمنين. ثُمّ يروي الحاجّ أنّه طلب الإذن من حضرة المولى للأحبّاء بالنّشيد، فتفضّل وسمح لنا ورحنا ننشد. لا أذكر ماذا أنشدنا، هل هي الأناشيد الخاصّة بنا أم أناشيدَ أخرى، ولكن ما لا أنساه أنّني لم أشعر بتلك السّعادة في حياتي ونحن ننشد في حضور حضرة المولى، وأثق أنّ الآخرين كان ينتابهم الشّعور نفسه. بعد وصولنا إلى البهجة تناولنا العَشاء وقام حضرة عبدالبهاء ببسط السّجّادة(139) في المرقد المقدّس، وهكذا تحقّق رجائي”.(140)

(43)

دُعي حضرة عبدالبهاء للحديث أمام المؤتمر السّنويّ الثّامن عشر للتّحكيم الدّوليّ الّذي عُقد في منزلٍ جبليٍّ في مدينة “موهنك”، وهو عبارة عن منتجعٍ جبليٍّ محفوفٍ بالغابات على بحيرة موهنك جنوب نيويورك. يحضر هذا المؤتمر عادةً العديد من الشّخصيّات ذات النّفوذ.

ختم حضرته حديثه بقوله: “الرّوح القُدُس هو الّذي يضمن سلامة البشريّة لأنّ الأفكار البشريّة تختلف والقابليّات الإنسانيّة تتفاوت. لا يمكن أن تكون القابليّات البشريّة موحّدةً إلّا عن طريق قناة الرّوح القُدُس”.(141) كان التّصفيق حادًّا لحضرةِ عبدالبهاء في ذلك الخطاب، وكانت الحفاوة بالغةً، إلّا أنّ حضرته كان متعبًا، فلم يستطع الاستمرار في الخطاب.

وفي اليوم الّذي سبق مغادرة حضرته، أبدى رغبته في تقديم هديّةٍ لرئيس المؤتمر، وهي عبارة عن سجّادةٍ إيرانيّةٍ مُختارةٍ كانت موجودةً، لسوء الحظّ، في شقّةِ حضرته في نيويورك. رغم أنّ المسافة كانت بعيدةً، فقد استطاع الدّكتور ضياء البغدادي تنفيذ المهمّة الّتي كان يبدو أنّها مستحيلةٌ، حيث أحضر السّجّادة من مسافةٍ طويلةٍ في ليلةٍ واحدةٍ، ووصل في الوقت الّذي كان حضرة عبدالبهاء يتصافح مع السّيّد “سمايلي” استعدادًا للمغادرة. من المؤكّد أنّ السّيّد “سمايلي” فوجئ مندهشًا إذ قال: “لماذا؟ … هذا بالضّبط ما كنت أبحث عنه منذ سنواتٍ! لقد كانت لدينا سجّادةٌ مثل هذه تمامًا، ولكنّها فُقدت في حريقٍ، فحزنَت عليها زوجتي كثيرًا. من المؤكّد أنّ هذه السّجّادة ستسعدها كثيرًا”.(142) على حدّ علم المؤلّفة فإنّ السّجّادة ما زالت تستخدم في المنزل الجبليّ.

(44)

كان حضرة عبدالبهاء يرفض المبالغ الماليّة السّخيّة الّتي كانت تُقدَّم لحضرته، ولكنّه كان يقبل رموز المحبّة الصّغيرة كمنديلٍ مثلًا. قالت له إحدى السّيّدات في لندن: “لديّ شيك من صديقٍ يرجو قبوله لشراء سيّارةٍ لأعمالك في إنجلترا وأوروبّا”، أجاب حضرته: “أقبل هديّة صديقك بكُلّ امتنانٍ”. ثُمّ تناول حضرته الشّيك بكلتا يديه وكأنّه يباركه ثُمّ تفضّل: “إنّني أعيده ليُستخدم كمِنحٍ للفقراء”.(143)

وفي مناسبةٍ أخرى، رغبت سيّدة أمريكيّة أن تتبرّع ببعض المال لحضرةِ المولى لاستخدامه الشّخصيّ أو لخدمة الأمر المبارك. أجاب حضرته أنّه لا يمكنه قبول هدايا لنفسه، ولكن إذا رغبت أن تفعل شيئًا من أجله، فلها أن تتكفّل بتعليم فتاتيْن مسيحيّتيْن صغيرتيْن لناظر مدرسةٍ في حيفا فَقَد زوجته حديثًا وهو يعاني من عَوَزٍ شديدٍ ومن مشكلاتٍ كثيرةٍ، وعلى هذا تفضّلت السّيّدة الأمريكيّة بإرسال الفتاتين إلى مدرسةٍ في بيروت.(144)

وأراد بهائيّو أمريكا أن يساهموا بمبلغ 18 ألف دولارٍ لرحلة حضرته إلى بلادهم، وعندما بدأت المبالغ تصل إلى حضرته، تفضّل بإعادتها، طالبًا منهم أن يتبرّعوا بها للجّمعيّات الخيريّة.

(45)

عندما وصل حضرة عبدالبهاء إلى إنجلترا، نزل ضيفًا عند أحد الأحبّاء في قريةٍ لا تبعد كثيرًا عن لندن. كان الفقر الواضح من حوله يثير أحزانه كثيرًا في ذلك البلد الثّريّ. كان حضرته يتمشّى في البلدة، بعمامته البيضاء وعباءته الإيرانيّة، فكانت كُلّ الانظار تتركّز على هذا الزّائر الغريب الّذي عُرف هناك بأنّه “رجلٌ مقدّسٌ من الشّرق”. كان طبيعيًّا أن ينجذب نحوه الأطفال، ويتبعونه في سيره ويسحبون ثيابه أو يده المباركة، فكان حضرته يأخذهم بين ذراعيه ويعانقهم وكان هذا يسعدهم كثيرًا. لم يكن الأطفال يخافون من حضرته، ولكن ما كان يزيد من سعادتهم ودهشتهم، أنّهم عندما يتركون حضرته كان كُلّ منهم يجد في يده “شلنًا” أو “ستّ بنساتٍ” من الجيب الطّويل للمعطف الفضفاض للرّجل المقدّس، تلك القِطع الفضّيّة كانت تمثّل قيمةً بالنّسبة لهم، فكانوا يهرعون إلى منازلهم فرحين ليحكوا حكاية الغريب الكريم من بلاد الشّرق، الّذي يملك على ما يبدو مخزونًا لا ينضب من البنسات البرّاقة.

“بدأ الأطفال يتزاحمون على حضرته، وبالتّالي بدأ صرف المزيد من البنسات حتّى إنّ الأحبّاء الّذين كانوا يستضيفون حضرته قلقوا ونقلوا قلقهم للآنسة “روبرتس” الّتي كانت أيضًا ضيفةً في المنزل. قال الأحبّاء معبّرين عن عدم ارتياحهم: “يا للأسى! يأتي إلينا ولا يقبل مِنّا شيئًا ويعطي أهلنا كُلّ الوقت؟ هذا لا يمكن أن يستمرّ!”.

وفي ذات اليوم، كان حضرته قد منح قدرًا كبيرًا من البنسات، حيث بدأ النّاس يتوافدون من القرى المجاورة ومعهم أطفالهم لتلقّي البركة من “الرّجل المقدّس”، وبالطّبع لتلقّي البنسات! وفي التّاسعة مساءً، قرّرت السّيّدات منع المزيد من النّاس من رؤية حضرته في تلك اللّيلة، وأثناء انتظارهم خارج الكوخ، أتى رجلٌ يحمل طفلًا رضيعًا، ويمسك بأطفالٍ آخرين في يده، وعندما سأل عن الرّجل المقدّس، أُجيب بحدّةٍ أنّه لا يمكن رؤيته الآن لأنّه متعبٌ كثيرًا وذهب لينام، فتنهّد الرّجل وقال: “أوه! لقد مشيت ستّة أميالٍ لرؤيته… واأسفاه!

ردّت عليه المضيفة بقسوةٍ، وهي تشعر أنّ رغبة الرّجل في البنسات هي الّتي دفعته إلى هذه الرّحلة وليس حماسه الدّينيّ، فتنهّد الرّجل ثانيةً واستدار ليولّي الأدبار، لولا أن ظهر فجأةً حضرة عبدالبهاء من إحدى زوايا المنزل. إنّ الطّريقة الّتي احتضن بها حضرته الرّجل والأطفال كانت من الرّوعة والتّأثير حتّى إنّ قلوب الأحبّاء كادت أن تذوب، وعندما ودّع حضرته الضّيوف مجبوري الخاطر، وقلوبهم ملأى بالفرحةِ الغامرّة وأيديهم تنفجر من البنسات، عندها نظر الأحبّاء إلى بعضهم البعض وقالوا: “ماذا فعلنا! كم كُنّا مخطئين! لن نتدخّل أبدًا في إدارة شئون عبدالبهاء”.(145)

(46)

بالنّسبة لحضرة عبدالبهاء، فإنّ الملابس رخيصة الثّمن تفي بالغرض. ذات يومٍ، كان حضرته على موعدٍ مع حاكم عكّاء، وشعرت حرمه المبارك أنّ معطفه قد لا يليق لهذه المناسبة، فذهبت قبل الموعد المقرّر بوقتٍ كافٍ إلى الخيّاط وطلبت منه معطفًا جيّدًا معتقدةً أنّ حضرته، نظرًا لعدم اكتراثه بالأمور الشّخصيّة، لن يلاحظ بالتّأكيد غياب معطفه القديم، فما كان يهمّ حضرته عمومًا أن يكون الشّيء نظيفًا تمامًا وكفى. أخرجت حضرتها المعطف الجديد في الوقت المناسب، ولكنّ حضرة عبدالبهاء ذهب يبحث عن معطفه القديم، سأل حضرته عن معطفه القديم، وهو مصمّمٌ على أنّ المعطف الموجود بالخارج ليس معطفه. حاولت حرمه المبارك أن تشرح له وتقنعه بالمعطف الجديد، ولكنّ حضرته رفض بشكلٍ تامٍّ قائلًا: “عليكِ أن تفكّري في هذا.. بثمن هذا المعطف يمكن شراء خمسةٍ من النّوع الّذي أستخدمه عادةً، وهل تعتقدين أنّني سأنفق كُلّ هذا المال من أجل معطفٍ أرتديه أنا وحدي؟ لو كنت تظنّين أنّني أحتاج إلى معطفٍ جديدٍ فهذا جيّدٌ، ولكن أعيدي هذا المعطف، واطلبي من الخيّاط خمسة معاطفٍ بدلًا منه من النّوع الّذي أستخدمه. عندئذٍ، لن يكون لديّ معطفٌ جديدٌ فحسب، بل أيضًا أربعةٌ أخرى أستطيع أن أمنحها للنّاس”.(146)

(47)

قِصص المعاطف والعباءات المتعلّقة بحضرة عبدالبهاء لا حصر لها. ذات مرّة، كانت حرمه المبارك بصدد السّفر، فقامت قبل سفرها بإيداع عباءةٍ احتياطيّةٍ لحضرةِ المولى عند إحدى بناتها، حيث كانت تخشى أن يقومَ حضرته بالتّبرّع بعباءته ويظلَّ بلا عباءةٍ طوال فترة غيابها. ما كان للابنة المباركة أن تخبر أباها بالعباءة الثّانية، لكنّه، وبشكلٍ غريبٍ، سألها بعد وقتٍ قصيرٍ عمّا إذا كانت لديه عباءةٌ ثانيةٌ، فأجابته بالحقيقة. وكما هو متوقّع قال: “كيف يهدأ لي بالٌ بامتلاكي عباءتين وأنا أعلم أنّ هناك من لا يملك شيئًا؟” وعلى الفور تبرّع حضرته بالعباءة الثّانية.(147)

(48)

كان لدى حضرة المولى عباءةٌ من الصّوف الإيرانيّ كانت قد أُهديت لحضرته. وذات يومٍ، طلب منه رجلٌ فقيرٌ شيئًا من الملبس فأرسل حضرته لإحضار تلك العباءة وقدّمها للرّجل، أخذ الرّجل العباءة وراح يشكو لأنّها بنظره من القطن.

أكّد له حضرة المولى أنّها من الصّوف، ولإثبات ذلك أشعل حضرته عُودًا من الكبريت وأحرق قطعةً ضئيلةً كنوعٍ من الاختبار، ولكنّ الرّجل ظلَّ متذمّرًا مؤكّدًا أنّها ليست من النّوع الجيّد. “انزعج حضرة المولى منه على سوء تقديره للهديّة، ولكنّه أنهى اللّقاء بتوجيهٍ من حضرته إلى أحد الحاضرين أن يعطي الرّجل “مجيديّة”- وهي عملةٌ معدنيّةٌ تعادل أربعة فرنكات آنذاك. كان معروفًا أنّه إذا قام أحدٌ بتكدير خاطر حضرة المولى، فإنّ حضرته يقابله بهديّةٍ”.(148)

(49)

كتب “ميجور ويلزلي تيودور بول” في يوميّاته في 1918 أثناء زيارته لحضرةِ المولى: “أعطيت لحضرته العباءة المصنوعة من وبر الإبل الإيرانيّ، وسعِد بها كثيرًا لأنّ الشّتاء قد حلّ، وكان حضرته قد منح العباءة الوحيدة الّتي يمتلكها. حصلت على وعدٍ من حضرته أن يحتفظ بهذه العباءة خلال الشّتاء على الأقلّ وأثق أنّه سيفعل”.(149)

(50)

قبل أن يحلّ برد الشّتاء في عكّاء، كان حضرة المولى يتوجّه إلى محلٍّ للملابس حيث يرتّب لعددٍ من الفقراء الّذين سيأتون ويتسلّمون عباءاتهم السّنويّة. كان حضرته يختار لباس كُلّ فقيرٍ حسب قياس كتفيه،  ويعطي لمن يشعر بأنّه محتاجٌ، ويدوّن أسماء المستلمين. كان حضرته يرغب ألّا يغشّه أحد، ولكن حتّى لو حدث ذلك، فقد كان معلومًا أنّه سيلقى كُلّ العطف من يديه الكريمتين.(150) فلا عجب أنّ العرب أطلقوا على حضرته “ملك الكرم”(151) بينما صار البهائيّون مشتعلين من رؤية أفعاله وتواصل عطفه، وأحبّوه على أنّه “خادم الله”.

(51)

وجدت السّيّدة “ماري لوكاس” الّتي حجّت إلى عكّاء عام 1905، أنّ حضرة المولى قد تبرّع بجميع الهدايا الّتي أُرسِلت لحضرته. من بين ذلك يُحكى عن طاقم سُفرةٍ فضّيٍّ جميلٍ كان قد أُهدي إليه، ولكنّ حضرته حتّى لم ينظر إليه، بل وزّعه كهدايا قطعةً بعد أخرى إلى أن انتهى.

ومن بين الأحداث البارزة أنّ سيّدةً ميسورةً كانت قد قدّمت لحضرته مبلغًا من المال قبل أن تغادر عكّاء، ولكنّ حضرته رفض استلامه، ولمّا تضرّعت السّيّدة إلى نيل شرف وضع الهديّة في يده المباركة، تفضّل قائلا: “أنا لا أقبل أيّ شيءٍ لنفسي على الإطلاق، ولكن إذا رغبت فبإمكانك أن تهَبي هذا المال لرجلٍ فقيرٍ من أجل تعليم ابنه”. وعليه، فقد استُخدم المال لهذا الغرض.(152)

 

الأعمال الخيريّة

لقد بدأ إنشاء صناديق الإغاثة فِعليًّا في أيّام حضرة عبدالبهاء، حيث شجّع حضرته على إنشاء “صندوق إغاثة الأطفال”، كما تمّ إنشاء “صندوق حيفا للإغاثة”، بغرض تخفيف المعاناة عن السّكّان المحلّيّين، وتفضّل حضرته بالمساهمة في هذا الصّندوق مرّتين بمبلغ “خمسين جنيهًا مصريًّا” في كُلّ مرّةٍ. بعد المساهمة الأولى، تمّ وضع اسم حضرته الأوّل في قائمة المساهمين، وبعد تسلّم المساهمة الثّانية، كتب الحاكم العسكريّ “جي. إيه. ستانتون” لحضرته خطاب امتنانٍ وشُكرٍ قال فيه: “نرجو أن تقبلوا بالنّيابة عن مجلس الإدارة أسمى آيات الشّكر على هذا البرهان الكبير على كرمكم ذائع الصّيت، ورعايتكم للفقراء الّذين سيباركونكم إلى الأبد على جهودكم الكريمة لصالحهم”.(153)

(52)

من بين أكثر اللّقاءات المؤثّرة لحضرةِ المولى مع الفقراء في الغرب، كانت بالتّأكيد زيارات حضرته لمقرّ جيش الخلاص في لندن، ولإرساليّة “باوري” في نيويورك.

في ليلة عيد الميلاد عام 1912، قام حضرة عبدالبهاء بزيارةٍ لأحد ملاجىء جيش الخلاص في لندن، حيث كان هناك ألفٌ من المشرّدين يتناولون عشاءً خاصًّا بمناسبة عيد الميلاد. تحدّث إليهم حضرة عبدالبهاء وهم يتناولون الطّعام، مذكّرًا إيّاهم أنّ السّيّد المسيح كان فقيرًا، وبأنّ الفقراء كان أيسر عليهم دخول ملكوت السّماوات من الأغنياء. جلس الرّجال مفتونين، وتأثّر بعضهم بشدّةٍ حتّى نسوا الطّعام رغم الجوع ورغم العَشاء الفاخر، وعند مغادرة حضرته، تفضّل ومنح المراقب بعض المال لشراء عَشاءٍ مماثلٍ في ليلة رأس السّنة الجديدة. نهض الحضور جميعًا على أقدامهم لتحيّة حضرته، ملوّحين بما في أيديهم من شُوَكٍ وسكاكين في الهواء. لم يدركوا أنّ هذا الرّجل قد تكبّد المحاكمات والمصاعب والمعاناة بشكلٍ أعظم بكثيرٍ مِمّا ألِفوه.(154)

وقبل أن يتوجّه حضرته إلى إرساليّة باوري، طلب من الأحبّاء أن يُصرّفوا لحضرته ورقةً نقديّةً من فئة ألف فرنك إلى أرباعٍ، وفي مقرّ الإرساليّة في أبريل/نيسان 1912، تحدّث حضرته بمحبّةٍ فائضةٍ إلى المئات العديدة من الحاضرين: “عليكم أن تكونوا ممتنِّين لله سبحانه وتعالى كونكم فقراء، إذ إنّ يسوع المسيح تفضّل قائلًا: “طوبى للفقراء” ولم يقلْ أبدًا “طوبى للأغنياء”. كما تفضّل حضرته أيضًا بأنّ الملكوت للفقراء، وأنّ دخول الجمل في ثقب الإبرة أيسر من دخول الغنيّ في ملكوت السّموات”. ثُمّ قال حضرته: “ولمّا ظهر يسوع المسيح، كان أوّل من آمن به هم الفقراء لا الأغنياء”. وقال أيضًا: “الأغنياء في الغالب غافلون، غير عابئين، غارقون في أمور الدّنيا، متّكلون على أسبابهم، في حين أنّ الفقراء متوكّلون على الله، وكُلّ اعتمادهم عليه سبحانه وتعالى لا على أنفسهم. فالفقراء إذًا هم الأقرب إلى عتبة الله وعرشه”.(155)

ختم حضرة المولى زيارته بتواضعه المميّز، طالبًا منهم أن يقبلوه كخادمٍ لهم، وبعد الحديث، وقف عند مدخل صالة الإرساليّة وراح يضع بعض النّقود في يد كُلّ واحدٍ، ما يكفي لأجرة سريرٍ في ليلةٍ واحدةٍ. احتفظ واحدٌ منهم على الأقلّ بما ناله من حضرة المولى من مالٍ قائلاً: “هذا رجلٌ سماويٌّ، وهذا الرُّبع ليس ككُلّ الأرباع، ربعه سوف يجلب لي الحظّ”.(156) وبعد أن وزّع حضرته عليهم جميعًا، تبقّى مع حضرته ثمانون ربعًا تقريبًا. عندما وصل إلى شقّته، وجد الخادمة الّتي سبق وأن تلقّت منه باقةً من الزّهور حيث منحها كُلّ الأرباع الباقية وانصرف، وعندما علمت السّيّدة عن عطايا حضرته في الإرساليّة، نذرت هي الأخرى هذا المال للإنفاق. ذكرت “جوليت تومسون”: “فيما بعد، وبينما كُنّا نجلس حول حضرة المولى حيث كان يقول مداعبًا وهو يردّ على سؤالٍ حول الإحسان، “بلا شكّ أعطوا الفقراء، فلو أعطيتموهم كلامًا فقط، فقد لا يجدونكم أغنى منهم عندما يضعون أيديهم في جيوبهم”. وأثناء هذا الحديث سمعوا طَرْقًا خفيفًا على الباب، فنظروا ليجدوا الخادمة الصّغيرة تقف على العتبة وعيناها تفيض بالدّموع، ثُمّ تقدّمت مباشرةً باتّجاه حضرة المولى وقالت بخجلٍ وانكسارٍ: “أتيت لأقول إلى اللّقاء يا سيّدي، ولأشكرك على كُلّ الخير الّذي قدّمته لي. لم أكن أتوقّع كُلّ هذا الخير، وأطلب منك أن تدعو من أجلي!” ثُمّ طأطأت رأسها وخفت صوتها وذهبت مسرعةً”.(157)

(53)

في عام 1907، كانت “كورين ترو” في عكّاء مع حضرة المولى. كانت واحدةً من بين الكثيرين الّذين تأثّروا بعمقٍ بمحبّة حضرة عبدالبهاء الفائضة، والّتي كانت تظهر بشكلٍ عمليّ في أعمال الخير المعتادة صباح كُلّ يوم جمعةٍ، حيث كانت تشاهد من نافذتها “ما بين مائتين إلى ثلاثمائةٍ من الرّجال والنّساء والأطفال يحتشدون عند المنزل المبارك. لا يمكن رؤية مثل هذا الحشد المتنوّع إلّا في هذه المناطق، كان هناك الأعمى والأعرج والمعاق وآخرون في غاية الضّعف، مجموعةٌ من البشر ربّما هم الأفقر على وجه الأرض. تجد رجلًا يرتدي ثيابًا خيطت من قطعة لحافٍ قديمةٍ أو امرأةً ترتدي عباءةً من الخيش، أو أطفالًا عليهم ملابسٌ رثّةٌ لا تغطّي كُلّ أجسامهم”.

“كان هناك اثنان أو ثلاثةٌ من المؤمنين مع حضرة المولى، وكان يُطلَب من النّاس أن ينظّموا أنفسهم في صفّين على جانبيّ الفِناء، ثُمّ يبدأ حضرة المولى بجوار الباب بوضع قطعةٍ من النّقود في كُلّ يدٍ. كان مشهدًا لا يمكن نسيانه، عندما تشاهد حضرة المولى يذهب من شخصٍ إلى آخر متحدّثًا ببعض كلمات الثّناء والعطف والتّشجيع. كان يتوقّف أحيانًا مع البعض ليسأل عن صحّتهم ويربّت بيده على ظهرهم، هؤلاء الفقراء المُعدَمين المتّسخين في مظهرهم، وبين حينٍ وآخر نراه يصرف أحدهم خالي اليدين مع شيءٍ من التّوبيخ على كسله. كم كان صوته نقيًّا وموسيقيًّا وهو ينتقل من شخصٍ إلى آخر يمنح ويمدح! كان الرّجال المساعدون لحضرةِ المولى يحفظون النّظام بعطفٍ ولكن بحزمٍ، ويتأكّدون أنّ كُلّ من أخذ حصّته قد انصرف. فأين يمكن أن يتكرّر ذلك المشهد على وجه الأرض كما يتمّ كُلّ صباح جمعةٍ في فِناء حضرة المولى، الّذي كان نفسه مجرّد سجين دولةٍ لدى الحكومة التّركيّة، والّذى عاش في السّجن والمنفى منذ أن كان عمره تسع سنواتٍ!”(158)

فيما بعد، وأثناء الاستراحة، راح حضرة المولى يتحدّث مع السّيّدة “ترو” عن أصدقائه: “هؤلاء أصدقائي… أصدقائي… وبعضهم أعدائي ولكنّهم يعتقدون أنّني لا أعرف ذلك، لأنّهم يبدون ودودين، وأنا بالنّسبة لهم في غاية اللّطف، لأنّ الإنسان يجب أن يحبَّ أعداءه ويحسن إليهم”. ثُمّ راح حضرته يشرح سبب الفقر في عكّاء، موضّحًا أنّها ليس بها ما يكفي من أعمالٍ، فالنّاس هناك يعملون في نوعين من الأعمال المتاحة: إمّا صيد الأسماك، والمشكلة أنّ البحر كان عاصفًا وهائجًا مؤخّرًا، وإمّا أنّهم حمّالون يضعون الأشياء على ظهورهم، وهو أمرٌ يحتاج إلى قوّةٍ كبيرةٍ. أمّا من كانوا يخدعونه فقد كان يزجرهم ويرشدهم إلى مكانٍ يجدون فيه عملًا.(159)

(54)

كذلك يصف “روي”، وهو أحد الحجّاج الأوائل ما شاهده: “في أيّام الجُمَع، وفي السّابعة صباحًا، هناك صورةٌ أخرى. بالقرب من الخيمة داخل الحديقة تشاهد حشدًا يبدو في فقرٍ مدقعٍ- الأعرج والمُقعد والأعمى. نادرًا ما كان يقلّ العدد عن المائة، وحين مرور حضرة عبدالبهاء بينهم، تشاهده يمنح كُلًّا منهم قطعةً صغيرةً من النّقود مضيفًا إليها كلمة عطفٍ أو مرحٍ أو سؤالٍ عن الّذين في بيوتهم، مع إرسال شيءٍ لبعض الغائبين، ثُمّ ينصرف الجمع ببطءٍ في غاية الحزن على الافتراق، على أمل العودة في الزّيارة القادمة. قيل وبحقٍّ إنّ هذه المعونة كانت تمثّل القوام الرّئيسيّ لحياة بعضهم. وبعد ذلك ترى حضرته في كُلّ صباحٍ تقريبًا يقوم بجولاته في المدينة للمرور على الضّعفاء والمرضى، فينير بحضوره العديد من تلك المساكن البائسة”.(160)

 

التّضحيّة

ربّما يتساءل المرء: كيف كان لذلك السّجين أن يمنح المحتاجين في عكّاء صباح كُلّ جمعةٍ؟ ألم تصادَر بالكامل كُلّ ثروة وممتلكات أسرته المنفيّة؟ شاهد أحد الحجّاج أنّ “كُلّ ما كان يعطيه حضرة المولى ليس إلّا تضحياتٍ حقيقيّةٍ يتمّ توفيرها من اقتطاع ما يعتبره أغلب النّاس من الضّروريات”.(161)

ما كان يؤثّر في “روي” كثيرًا هو روح التّضحيّة الّتي وجدها بين البهائيّين في السّجن الأعظم. يقول “روي”: “لم أرَ في حياتي مثل هذا الحُبّ وذلك الانسجام الكامل. كانت أمنية هؤلاء السّجناء أن يخدم كُلٌّ منهم الآخر”.(162)

تحدّث إليه حضرته بالفارسيّة بواسطة مترجمٍ. بعد أن قال حضرته “إنّ أمر الله كالشجرة، وثمارها الحُبّ”، سأل حضرته عن الأحبّاء، وعندما أُجيب بأنّهم صاروا أكثر اتّحادًا، فرِح وردّ قائلًا: “ذلك الخير سبب سعادتي، لأنّه كُلّما كان الأحبّاء متّحدين كُلّما صاروا مستحقّين لتلقّي التّأيّيدات الإلهيّة. يجب أن يحبّوا بعضهم البعض، يجب أن يُخلصوا ويضحّوا بأنفسهم وبما يملكون من أجل الآخرين، أنا نفسي أضحّي بحياتي من أجل الجميع”.(163)

(55)

كان حضرة عبدالبهاء يعرف كيف يمنح – ليس فقط تلك الأشياء الّتي لا يريدها أو لم يعد في حاجةٍ اليها. ذات مرّةٍ، في مونتريال، وعندما كان حضرته يستعدّ للعودة إلى منزل ماكسويل لحضور اجتماع هناك، رجاه الأحبّاء أن يُحضِروا لحضرته عربةً خاصّةً، لكنّ حضرته استقلّ السّيّارة العموميّة قائلًا: “ليس هناك فرقٌ كبيرٌ، إنّها توفّر المصروفات فهناك فرق دولارٍ في الأجرة”. ولدى وصول حضرته تفضّل بمنح جنيه لكُلّ واحدٍ من الخدم.(164) وبعد قضاء ليلتين في ضيافة “فويب هيرست”، جمع حضرته كُلّ الخدم ومنح كُلًّا منهم عشرة دولاراتٍ.

(56)

شاهدت إحدى السّيّدات مشهدًا مؤثّرًا في “دبلن” بالولايات المتّحدة، حيث كانت هذه السّيّدة تنزل في الفندق نفسه الّذي ينزل فيه حضرة المولى. بينما كان حضرته واقفًا خارج الفندق مع سكرتيره، وإذا برجلٍ  عجوزٍ فقيرٍ يمرّ أمام الفندق، فطلب حضرته من سكرتيره أن يناديه. كان الرّجل رثّ الثّياب وقذرًا للغاية في مظهره، ولكنّ حضرة المولى أخذه من يده وابتسم له ثُمّ تحدّثًا لبرهةٍ. لم يكن بنطال الرّجل يكاد يؤدّي الغرض منه، إذ كان رثًّا ومهلهلًا للغاية. ابتسم حضرته وذهب إلى زاويةٍ مخفيّةٍ. ولمّا كان الشّارع خاليًا من المارّة فكّ حضرته الحزام القماشيّ عن وسطه، فسقط سرواله من تحت قفطانه، ثُمّ أعاد الحزام إلى مكانه وشدّه، وأمسك بالسّروال وقدّمه للرّجل الفقير وودّعه قائلًا: “الله معك”.(165)

الشّهامة

لم تكن شهامة حضرة عبدالبهاء بالطّبع مقتصرةً على أحبّائه وأصدقائه فقط، بل كان الأعداء يلمسونها أيضًا. لم يعرف حضرته حقدًا على أحدٍ، وكان يضفي جمالًا وعذوبةً على حياة كُلّ من يلتقي بهم،  ويقابل الجفاء بالوفاء. ومَن سوى حضرته لديه القدرة على أن ينصح أحبّاءه قائلًا: “ينبغي ألّا يهزمهم عناد الخلق وجدالهم وعدوانهم وبغضهم مهما كان شديدًا، فلو رشقوهم بالسّهام فليقدّموا لهم اللّبن والشّهد، ولو أعطوهم سُمًّا فليمنحوهم سكّرًا، ولو أنزلوا بهم داءً فليكونوا لهم دواءً، ولو جرحوهم فليكونوا لجرحهم مرهمًا، ولو لدغوهم فليسقوهم ماءً سلسبيلًا.”(166)

“وإذا حاربتكم نفسٌ اسعوا لمصالحتها، وإذا طعنكم أحدٌ في القلب كونوا لجرحه مرهمًا، وإذا استهزأ بكم فقابلوه بالحُبّ، ولو كال عليكم اللّوم فامدحوه، ولو قدّم لكم السّمّ القاتل فاعطوه الشّهد الخالص، وإذا كان لكم شوكًا كونوا له وردًا وريحانًا”.(167)

(57)

تمكّن فيما بعد أحد أعضاء بعثة تقصّي الحقائق سيّئة الطّالع الّتي أُوفدت من القسطنطينيّة للبتّ في مصير حضرة عبدالبهاء– تمكّن من الفرار إلى مصر، ولكنّ خادمه سلبه كُلّ متاعه أثناء الطّريق، واضطرّ آخر الأمر إلى أن يلتمس المعونة الماليّة من البهائيّين في القاهرة، وهو التماسٌ لم يُرفض، وبعد هذا التمس المعونة من حضرة عبدالبهاء الّذي طلب إلى الأحبّاء على الفور أن يقدّموا له باسمه مبلغًا من المال، وهو مطلبٌ لم يستطيعوا تنفيذه نظرًا لاختفائه المفاجئ”.(168)

(58)

في أحد الأوقات قام ناقضو الميثاق بمنح ملابس حضرة بهاءالله وبعض أغراضه الشّخصيّة لموظّفي الحكومة، كنوعٍ من الرّشوة من ناحيةٍ، وكوسيلةٍ لإذلال حضرة عبدالبهاء من ناحيةٍ أخرى. وبتحريضٍ منهم قام نائب حاكم حيفا، وأثناء زيارته لحضرةِ عبدالبهاء، بارتداء عباءة حضرة بهاءالله واستخدام نظّارة حضرته بكُلّ تباهٍ ووقاحةٍ. لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتّى تمّ طرد ذلك الرّجل من منصبه، وراح يواجه أيّامًا سوداء، فذهب إلى حضرة عبدالبهاء وطلب العفو واعتذر الرّجل متعلّلًا بأنّه تصرّف بهذا السّلوك بإيعازٍ من أقارب حضرة عبدالبهاء. على أيّة حالٍ، فقد عامله حضرته بمنتهى العطف والكرم”.(169)

(59)

قِصّةٌ مماثلةٌ تتعلّق بحاكمٍ قاسٍ لعكّاء، والّذي حاول القضاء على سُبل عيش أصحاب المتاجر البهائيّين الأمناء والمسالمين من خلال إغلاق متاجرهم، إلّا أنّه عندما تمّ اكتشاف الخطّة، طلب حضرة عبدالبهاء من هؤلاء البهائيّين عدم فتح متاجرهم، فأصيب الحاكم بالإحباط، وبعد فترةٍ قصيرةٍ، تلقّى أمرًا يفيد بعزله من منصبه، وأنّه ينبغي ترحيله بمعرفة الشّرطة إلى دمشق. ذهب إلى منزله للاستعداد لهذه الرّحلة غير المتوقّعة وهو قلقٌ جِدًّا. سمع حضرة المولى بالخبر، فذهب إليه يعرض خدماته. كان الحاكم السّابق قلِقًا على أسرته، ويتمنّى أن يتمكّنوا من اللّحاق به إلى دمشق، فطمأنه حضرة عبدالبهاء أنهم سيُرسَلون إليه، وأعدّ حضرته مرافقًا موثوقًا به وبغالًا وكُلّ ما هو مطلوبٌ لرحلةٍ مريحةٍ. لم يقبل المرافق عند وصوله إلى دمشق المال ولا الهديّة – لم يكن يرغب سوى في إطاعة تعليمات حضرة المولى. لم يكن متاحًا أمام الحاكم إلّا أن يكتب رسالةً إلى حضرة عبدالبهاء، فقام على الفور وكتب رسالةً تقول: “يا عبدالبهاء، أدعو الله أن تصفح عنّي، لم أكن أفهم ولم أكن أعرفك. لقد جلبت لك شرًّا عظيمًا، وكافأتني بخيرٍ عظيمٍ.(170)

(60)

حاكم آخر لعكّاء طُرد من منصبه وأُرسل إلى منصبٍ آخر في بيروت. كان هذا الحاكم قاسيًا ولم يكن يسمح للبهائيّين بزيارة حضرة المولى، لكن وبقلبه الكبير، عندما علم بفصله من عمله في بيروت، أرسل له حضرة عبدالبهاء رسولًا ومعه هديّةٌ عبارة عن خاتمٍ ثمينٍ مع أمنياته الطّيّبة. عبدالبهاء الّذي كان سجينًا عرض ما بإمكانه أن يقدّمه لمساعدته.(171)

(61)

عندما كان حضرة المولى في منطقة شيكاغو، تفضّل حضرته بزيارة قبر “ديفيز ترو” في مقبرة “أوك وودز” ، وكان في صحبته “كورين ترو” وآخرون، وعلاوةً عن تلاوة المناجاة لأجل روح المتصاعد، تلا حضرته أيضًا الدّعاء من أجل كُلّ المتصاعدين في المقبرة.(172)

(62)

ذات مرّةٍ، سمعت “جوليا جراندي” حضرة المولى وهو يروي قِصّةً قد لا يعرفها الكثيرون: “كان حواريّو المسيح يمرّون عبر الطّريق، حيث شاهدوا كلبًا ميّتًا فعبّروا عن استيائهم من منظره المقزّز، فنظر إليهم السّيّد المسيح وقال: “نعم ولكن انظروا إلى أسنانه، ما أجملها وأنصع بياضها”. وهكذا علّمهم بأنّ ثمّة شيئًا جميلًا في كُلّ شيءٍ”.(173)

وهكذا كان حضرته أيضًا يعلّم أنّ الإنسان يجب دائمًا أن ينظر إلى الشّيء الحسن وليس إلى القبيح، يجب أن نُقبل إلى الحياة بشكلٍ إيجابيٍّ.

 

مراعاة المشاعر

(63)

في زيارتها للأرض الأقدس، أدركت “مَي ماكسويل” أنّ كُلّ كلمةٍ وكُلّ حركةٍ لحضرةِ عبدالبهاء لها معناها ومغزاها.

دُعي الأحبّاء الزّائرون يومًا للاجتماع بحضرة عبدالبهاء تحت أشجار السّرو على جبل الكرمل بحيفا، وهو المكان الّذي اعتاد حضرته أن يجلس فيه مع والده حضرة بهاءالله.

تقول السّيّدة “ماكسويل” إنّه في صبيحة ذلك (الأحد) استيقظ الجميع فرحين جِدًّا لأنّهم سيتشرّفون بلقاء حضرة عبدالبهاء. كنتُ في ذلك الصّباح لا أزال أرقد في الفراش أُعاني من وعكةٍ صحّيّة عندما رأيت حضرته يدخل غرفتي في وقتٍ مُبْكر قبل موعد الاجتماع مقتربًا منّي، نظر إليّ متفحّصًا أحوالي، ثُمّ لمس جبيني بيده المباركة، وأمسك بيدي ليفحص نبضات قلبي، وبعد ذلك التفت إلى مَن حوله من الأحبّاء وتفضّل قائلًا: “سوف لا يكون اليوم اجتماعٌ على جبل الكرمل، لا نستطيع أن نذهب ونترك واحدةً من أحبّاء الله تعاني المرض والوحدة، فهل يمكن لأحدنا أن يشعر بالسّعادة ما لم يكن جميع الأحبّاء سعداء؟

يا للدّهشة والعجب! اجتماعٌ هامٌّ في تلك البقعة المباركة يجب أن يُلغى لأنّ أحد الأحبّاء مريضٌ ولا يستطيع الحضور! إنّه أمرٌ ما اعتاد عليه الإنسان في تفكيره وعمله، وهو على خلاف ما تجري عليه أمور الحياة المادّيّة، حيث الأحداث اليوميّة والظّروف المادّيّة أعلى وأجلُّ في الأهمّيّة من أيّ شيءٍ آخر، لدرجةٍ هزّ كياننا عجبًا واستغرابًا، وبدت معه أسس النّظام القديم وقد بدأت تتزعزع وتتهاوى.

لقد فتحت كلماته الباب واسعًا نحو عالم ملكوت الله، ومنحتنا رؤيةً لذلك العالم الواسع اللّامحدود الّذي لا يُرى فيه سوى شريعة الحُبّ والوفاء. كانت هذه واحدةً من مرّاتٍ عديدةٍ رأينا فيها حضرته يضع المحبّة والعطف والتّعاطف والرّحمة تجاه كُلّ فرد فوق كُلّ اعتبارٍ. حقًّا، عندما نتذكّر ثانيةً ذلك الوقت الثّمين الّذي قضيناه بمحضره الأنور، ندرك تمامًا بأنّ الهدف من زيارتنا للأرض الأقدس هو أن نتعلّم _ ولأوّل مرّةٍ في الحياة_ ما هي المحبّة، وأن نشاهد نورها في كُلّ وجه، ونشعر بحرارتها في كُلّ قلب، وأن نشتعل بذلك اللّهب السّماويّ الآتي من شمس الحقيقة. إنّها المحبّة… المحبّة… جوهر كُلّ الوجود.(174)

مراعاة الظّروف

(64)

كتبت أسرةٌ أمريكيّةٌ لحضرةِ المولى طالبين السّماح لهم بزيارة حضرته في حيفا، فردّ عليهم حضرته الّذي يدرك عناء السّفر قائلًا: “عندما تدركون أنّ بإمكانكم المجيء بشكلٍ مريحٍ، فبإمكانكم الحضور”. وهكذا في عام 1919، وبعد الحرب العالميّة الأولى، تمّ عمل التّرتيبات لأسرة “راندال” وآخرين للسّفر إلى حيفا في فلسطين.(175)

(65)

تحت بستانٍ من الأشجار قرب بحيرة ميتشغان في شيكاغو، تفضّل حضرة عبدالبهاء بنصيحةٍ حميمةٍ ودودةٍ للأحبّاء: “ربّما لاحظ بعضكم أنّني لم أُشِر أبدًا أو ألفت الانتباه إلى أيٍّ من أخطائكم الفرديّة، فأقترح عليكم أنّكم لو كنتم مراعين لبعضكم البعض في تعاملكم مثلما فعلت معكم، فسيؤدّي ذلك بشكلٍ كبيرٍ إلى تناغم علاقاتكم مع بعضكم البعض”.(176)

الرّحمة

(66)

في إحدى المناسبات ذكّر حضرة المولى أحبّاءه بما يلي: “علينا تنفيذ الأوامر الإلهيّة. يتفضّل الجمال المبارك بالقول: “أَظْهِرُوا مَا عِنْدَكُم فَإِنْ قُبِلَ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ وَإِلاَّ فَالتَّعَرُّضُ بَاطِلٌ. ذَرُوهُ بِنَفْسِهِ مُقْبِلِينَ إلى اللهِ الْمُهَيْمِن الْقَيُّومِ“.(177)

(67)

ذات يومٍ، في لندن، بينما كان هناك عدّة أشخاص يتحدّثون إلى حضرة عبدالبهاء، سُمع صوت رجلٍ عند الباب. لقد كان ابنًا لرجل دينٍ من الرّيف، لكنّه بدا الآن وكأنّه متشرّدٌ عاديٌّ، وكان منزله الوحيد على طول ضفاف نهر التّايمز. كان الرّجل قد مشى ثلاثين ميلًا ليرى حضرة عبدالبهاء. تمّ اصطحابه إلى غرفة الطّعام، وقدّموا له طعامًا، وبعد أن استراح لفترةٍ، قال: “في اللّيلة الماضية قرّرت أن أنهي حياتي البغيضة، غير المجدية، عديمة الفائدة لله وللإنسان! وفي بلدةٍ ريفيّةٍ صغيرةٍ بالأمس، بينما كنت أتمشى وفي نيّتى أن يكون هذا مشواري الأخير، رأيت وجهًا في نافذة متجرٍ لبيع الصّحف. وقفت أنظر إلى الوجه كما لو كنت متسمّرًا في البقعة. بدا أنّه يتحدّث معي ويدعوني إليه! … قرأت أنّه هنا، في هذا المنزل. قلت لنفسي، “إذا كان هذا الشّخص موجودًا على هذه الأرض، فسأحمل عبء حياتي مرّةً أخرى.” … قولي لي: هل هو هنا؟ هل سيراني؟ حتّى أنا؟ أجابت السّيدة: “بالطّبع سوف يراك…”.

حينها فتح حضرة عبدالبهاء الباب بنفسه، ومدّ يديه كأنّه يمدّها لصديقٍ عزيزٍ كان ينتظره. ‘”أهلًا بك! بكُلّ سرورٍ! أنا مسرورٌ جِدًّا لأنّك أتيت. تفضّل بالجلوس.” غرِق الرّجل الفقير في كرسيٍّ وهو يرتجف بجوار حضرة المولى الّذي شجّعه قائلًا: “كن سعيدًا! كن سعيدًا! … لا تمتلئ بالحزن… “إنّك وإن كنت فقيرًا، إلّا أنّك قد تكون غنيًا في ملكوت الله.”

تفضّل حضرة عبدالبهاء بهذه الكلمات وغيرها من كلمات الرّاحة والقوّة والشّفاء، فبدا أنّ سحابة بؤس الرّجل راحت تتلاشى في دفء حضور المولى الودود. وقبل أن يغادر الرّجل، قال إنّه ذاهبٌ للعمل في الحقول، وأنّه بعد أن يوفّر القليل من المال، سوف يشتري قطعةً من الأرض لزراعة البنفسج وبيعه في الأسواق.(178)

 

الاهتمام بالآخر

(68)

امتدّ اهتمام حضرة المولى بالآخرين حتّى آخر لحظةٍ من حياته الأرضيّة. ففي مساء يوم 27 من نوفمبر/تشرين الثّاني 1921، أرسل حضرة عبدالبهاء الأحبّاء إلى المقام الأعلى لحضرة الباب للاحتفال بذكرى إعلان الميثاق، واستقبل، بحفاوته المواتية ورقّة حاشيته، مفتي حيفا ورئيس بلديّتها ورئيس شرطتها في عصر ذلك اليوم رغم شعوره بالإعياء المتزايد، …”(179) في ذلك المساء اطمأنّ حضرته على صحّة كُلّ فردٍ من أفراد الأسرة المباركة والحجّاج والأحبّاء في حيفا. وعندما أُخبر أنّ الجميع بخير كان يقول: “حسنًا…حسنًا”. وكانت هذه الكلمات آخر ما نطق به بخصوص الأحبّاء.(180)

اللّطف والإحسان

(69)

ذات يومٍ، كان حضرة المولى يسير ومعه إحدى بناته، مقتربَين من سيّدةٍ من أهل المدينة كانت تبدو عليها مظاهر الاتّساخ والبداءة. كانت حياتها صعبةً بحكم عمل أبيها في الصّحراء. ورغم أنّها لم تكن بهائيّة إلّا أنّها كانت تحبّ حضرته. عندما اقتربا منها، تمهّلت قليلًا ثُمّ انحنت لتحيّة حضرة المولى الّذي تفضّل بردّ تحيّتها بلطفٍ، ولمّا كان حضرته يدرك حاجتها، فقد وضع في يدها قطعةً من النّقود، وبدى عليها جليًّا شعورها بالامتنان والتّقدير.

روت إحدى بنات حضرة المولى لأحد المراقبين أنّ السّيّدة، في ذلك اللّقاء القصير، قالت لحضرةِ المولى”إنّها سوف تدعو له”، فتفضّل حضرته وشكرها بامتنانٍ.(181)

(70)

قام أعداء حضرة المولى، وهم ناقضو الميثاق الّذين كانوا يعيشون في القصر بجوار الضّريح المبارك، قاموا ذات مرّةٍ، بمنح حاكم حيفا عباءة حضرة بهاءالله ونظّارته المباركتيْن، وحثّوه على زيارة حضرة عبدالبهاء وهو يرتدي النّظّارة وواضعًا العباءة على كتفه. وبحضوره أدرك حضرة عبدالبهاء على الفور أنّه يرتدي أشياءَ تتعلّق بوالده المبارك وحزن حُزنًا عميقًا، إلّا أنّه لم يتفوّه بكلمةٍ واحدةٍ، وعامله كعادته بمنتهى الحُبّ واللّطف، ومضى ذلك اليوم، ولكن أتى الوقت الّذي وُضِع فيه الحاكم في السّجن وقُيّد بالأغلال، وكان حضرة عبدالبهاء هو الّذي سارع إلى مساعدته وتحريره من سجنه. بعد أن تلقّى الحاكم ذلك العطف غير المتوقّع، طلب الصّفح متوسّلًا وهو يقول: “لم يكن خطأي، لقد ضلّلني أعداؤك وقادوني إلى ارتكاب هذه الفِعلة الشّنعاء”.(182)

(71)

ذكر “هوَارد كولبي آيفز”: “تحدّثت من قبل عن لطفه الّذي لا يخطئ أبدًا، هذا التّعبير في الحقيقة يحمل مضمونًا أسمى من نظرة العقل الغربيّ إليه، فتلك الكلمة الفارسيّة نفسها تستخدم للاحترام والتّبجيل معًا. كان حضرة المولى “يرى وجه أبيه السّماويّ في كُلّ وجه”، فكان يبجّل النّفس تبعًا لذلك. كيف يمكن للإنسان ألّا يكون موقّرًا وهو ينظر إلى النّاس بهذه الطّريقة”.

“كان زوج مضيّفة حضرة عبدالبهاء في دبلن قد أُتيحت له فرصٌ عديدةٌ للقاء حضرة المولى والحديث معه رغم أنّه لم يصبح بهائيّا بشكلٍ رسميّ. عندما سُئل أن يلخّص انطباعه عن حضرته، أجاب بعد برهةٍ من التّفكير: “أعتقد أنّه أعظم وأكمل جنتلمان عرفته في حياتي”.(183)

حُسن الضّيافة

(72)

كان يعيش في منزل حضرة عبدالبهاء بالإضافة إلى حضرته وحرمه، وشقيقته وابنتين متزوّجتين مع زوجيهما وأطفالهما وابنتيّ حضرته الصّغيرتين، كان يعيش بالإضافة إليهم بعض الأطفال اليتامى، وأرامل الشّهداء. لاحظت ماري لوكاس أنّ “الحُبّ والمساواة المسيطرة على كُلّ أفراد ذلك المنزل لهي مثالٌ حيٌّ للعالم، كُلّ شيءٍ كان يتمّ بروح الحُبّ”.(184)

(73)

لدى زيارتها للأرض الأقدس، كتبت أمة الله “كورين ترو” ما شاهدته في منزل حضرةِ عبدالبهاء في حيفا:

“استيقظتُ في الصّباح الباكر، وذهبتُ إلى الغرفة الّتي يجلس فيها المولى مع عائلته كُلّ يوم بين السّاعة السّادسة والسّابعة صباحًا. شاهدت أرملة أحد الشّهداء تجلس على الأرض، وبجانبها السّماور يغلي فيه الماء حيث اعتادت أن تعدّ الشّاي للجّميع في كُلّ صباحٍ.

كان زوجها قد سُجن مع أخويه في إيران لأنّهم بهائيّون، وانقطعت أخبارهم مُدّةً طويلةً، إلى أن جاء يومٌ سمعت فيه أمّهم جلجلةً وضجّةً كبيرةً في الشّارع، فخرجت لتستطلع الخبر، وإذا بها ترى ثلاثة رؤوسٍ بشريّةٍ، وقد فُصلت عن أجسادها موضوعةً على أعمدةٍ من الخشب، ويجرّها في الشّارع بعض الغوغائيّين وهم يصيحون فرحين، وعندما اقتربوا من منزلها فتحوا الباب وألقوا بالرّؤوس داخل المنزل. عرفت الوالدة أنّها رؤوس أولادها الثّلاثة، فقامت بكُلّ هدوءٍ وغسّلتها بالماء، ثُمّ فتحت الباب وألقت بالرّؤوس خارجًا في الشّارع وقالت: “ما وهبته لله لن أستردّه.”

تلك المرأة الجالسة على الأرض كانت متزوّجةً من أحدِ هؤلاء الإخوة الشّهداء، ولم يمضِ على زواجها إلّا سنةٌ واحدةٌ، كما أنّها فقدت جميع أقاربها في موجة اضطهاد البهائيّين في ذلك الوقت بإيران، ولذلك طلب منها حضرة عبدالبهاء أن تأتي وتعيش في منزله المبارك، فاعتادت منذ ذلك الوقت أن تُعدّ الشّاي كُلّ يومٍ وتقدّمه للجّميع.

أيّ بيتٍ مباركٍ رائعٍ هو ذلك المكان! إنّه يضمّ أكثر من أربعين نفرًا يعيشون في بيتٍ واحدٍ. فمنهم الأسود والأبيض والعربيّ والإيرانيّ والبورميّ والإيطاليّ والرّوسيّ والآن الإنجليزيّ والأمريكيّ. لا تسمع فيه ما يدلّ على إصدار الأوامر، أو أيّ كلمةٍ تنمّ عن نزاع أو فيها ذكرٌ لعيوب الآخرين. الكلّ يتحرّك وكأنّه يمشي على رؤوس أصابع رجليه، وعندما يريد أحدهم أن يدخل غرفتك كان يخلع حذاءه ويقف بالباب إلى أن تأذن له بالدّخول والجلوس.(185)

(74)

لاحظ حاجٌ آخرُ من الزّوّار الأوائل للأرض الأقدس حالة العداء المريرة الّتي كانت تسود بين أتباع الأنظمةِ الدّينيّة المختلفة. “فمثلًا كان اليهوديّ والمسلم يرفضان الجلوس مع بعضهما، وكان الهندوسيّ يرفض استخدام الماء من بئر أيٍّ منهما. أمّا في منزل حضرة عبدالبهاء، فقد وجدنا اليهوديّ والمسلم والمسيحيّ والهندوسيّ والزّردشتيّ يجتمعون سويًّا كأبناء إلهٍ واحدٍ، ويعيشون في غاية المودّة والانسجام”.(186)

 

الرّقّة

(75)

كانت “بهيّة راندال” (187) تبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا عندما ذهبت إلى حيفا لزيارة حضرة المولى. تذكر: “كان هناك شخصٌ في كامل الرّوعة يجلس دومًا على يمين حضرة عبدالبهاء أثناء العشاء، كان اسمه “حيدر عليّ” وهو كان من أتباع حضرة بهاءالله وكان رجلًا وديعًا وجميلًا للغاية. كانت يداه ترتعشان، فلم يكن قادرًا على تناول الطّعام لأنّه كان عجوزًا للغاية، فكان حضرة عبدالبهاء يُطعمه بيده بكُلّ رقّةٍ، وذات يومٍ رأيته جالسًا في الحديقة، وسألته ماذا كان يفعل طوال حياته. لم يكن يجيد الإنجليزيّة، ولا أنا أُجيد الفارسيّة، ولكنّنا فهمنا بعضنا البعض، ثُمّ تقدّم نحونا مترجمٌ فأعدت السّؤال: “ماذا فعلت لخدمة الأمر؟”

نظر جناب حيدر عليّ إلى السّماء وقال: “لم أفعل أكثر مِمّا تفعله نملةٌ في سبيل الله”. ثُمّ أخبرني المترجم أنّ جنابه قد وُضع في كيسٍ ورُبط إلى جملٍ وسُحب عبر الصّحراء، وأنّ حياته بأكملها كانت سلسلةً من الاستشهاد ورغم ذلك يقول: “لم أفعل أكثر مِمّا يمكن أن تفعله نملةٌ في سبيل الله!”.(188)

 

الحُبّ

لسنا في حاجةٍ إلى الاستفاضة في الحديث عن حقيقة أنّ كُلّ فعلٍ من أفعال حضرة عبدالبهاء كان يعبّر عن الحُبّ لكُلّ كائنٍ بشريٍّ، ولكلّ ما خلقه الله. كان حُبّه الغامر العامّ والسّماويّ متجاوزًا لحدود الحُبّ الأنانيّ المبنيّ على العِرق أو الدّين أو اللّون أو الوطن أو الأُسرة أو الصّداقة. ولأنّ حُبَّه لله ولحضرة بهاءالله كان عميقًا فقد كان كذلك حُبّه للكائنات البشريّة طبيعيًّا وصادقًا. كان حضرته يدري مغزى ما تفضّل به حين قال: “عندما تحبّ فردًا من أفراد أسرتك أو مواطنيك فدع قلبك يتجلّى بشعاع الحُبّ اللّامحدود. دع حبّك يكون في الله ولله”.(189)

نصح حضرته الزّائرة آنا كونز وزوجها في عام 1921: “كونا حنونين إلى الجميع كما أنّ الرّاعي يكون حنونًا إلى كُلّ أغنامه دون اختلافٍ أو تمييزٍ. لا تنظروا إلى نقائصهم. اعتبروا أنّهم خُلقوا من إلهٍ واحدٍ يحبّهم جميعًا”.(190)

(76)

عندما سُئل حضرة عبدالبهاء: “من هو البهائيّ؟” أجاب حضرته: “لكي تكون بهائيًّا يلزمك أن تحبّ العالم، وتحبّ الإنسانيّة، وأن تجتهد في خدمتها، وأن تعمل للسّلام والأخوّة العامّة”.(191)

(77)

شرحت لنا أمة الله “جلوريا فيضي” عن الحُبّ الكبير الّذي يملأ قلب حضرة عبدالبهاء، فقالت: “عندما ينجذب قلب المؤمن إلى الله بواسطة المظهر الإلَهيّ، يكون قد أقام رباط حُبٍّ مع خالقه، وكُلّما قوي هذا الرّباط، نما هذا الحُبّ وفاض من قلب المؤمن على جميع مخلوقات الله دون استثناءٍ، وقد أعطانا حضرة المولى مثالًا، فحدّثنا عن رسالة حُبٍّ وصلت إلى حبيبٍ من محبوبه في مكانٍ بعيدٍ، وكانت الرّسالة متّسخةً ومجعّدةً. هذه الرّسالة لم تكن أقلّ قيمةً نظرًا لحالتها لدى وصولها، إنّها عزيزةٌ وغاليةٌ لأنّها وصلت من المحبوب”، وبالمِثل فإنّ بإمكاننا أن نتعلّم كيف نحبّ كُلّ إنسانٍ بغضّ النّظر عمّن يكون لأنّه من خلق الله”.(192)

(78)

ذات يومٍ، في لندن، كان حضرة عبدالبهاء في رحلةٍ في سيّارةٍ مع اللّيدي بلومفيلد والسّيّدة ثورنبرج كروبر، وهي أوّل بهائيّةٍ بريطانيّةٍ.

سألت السّيّدة “كروبر” حضرته: “مولاي! ألم تشتق بعد للعودة إلى حيفا لتكون مع أسرتك المحبوبة؟”. أجاب حضرته مبتسمًا: “أرجو أن تفهمي أنّ كليكما ابنتاي العزيزتان حقًّا، وأنّكما محبوبتان إلى قلبي مثل الّذين تتحدّثين عنهم تمامًا”.(193)

(79)

سُئل حضرة عبدالبهاء يومًا: “لماذا يخرج كُلّ الضّيوف الّذين يزورونك وطلعتهم مشرقةٌ؟” أجاب حضرته بابتسامةٍ جميلةٍ: “لا أستطيع أن أقول لكم، ولكنّني لا أرى إلّا وجه أبي في كُلّ من أنظر إليه”.(194)

(80)

كان حضرة المولى يتجاوب دائمًا مع الحُبّ بالحُبّ. في أثناء مأدبة غداءٍ في لندن وصلت إلى حضرته هديّةٌ من إيران، حيث أتى مسافرٌ كان قد مرّ عبر عشق أباد في تركستان الرّوسيّة. وأثناء مروره هناك، اقترب منه عاملٌ فقيرٌ كان يعلم أنّه ذاهبٌ إلى حضرة عبدالبهاء، وتوسّل إليه أن يرسل معه هديّةً لحضرته. لم يكن يملك شيئًا سوى عَشائه الّذي لفّه في منديلٍ قُطنيٍّ.

استلم حضرة عبدالبهاء المنديل بلطفٍ وفكّه بسرعةٍ. كان الخبز أسودًا وجافًّا والتّفاحة يابسةً، ولكنّ حضرة المولى لم يلمس الغذاء الفاخر المُعدّ لحضرته، وراح يتناول من هذا الطّعام المتواضع مشاركًا ضيوفه وهو يقول: “كلوا معي من هديّة الحُبّ المتواضع هذه”.(195)

(81)

تروي “إلّا كوانت”: “في إحدى المناسبات، خرجت خادمةٌ بسيطةٌ من جناح حضرة عبدالبهاء ويداها محمّلتان بالزّهور الجميلة المهداة لحضرةِ المولى من الأحبّاء. بشعورها أنّنا جميعًا أصدقاء حضرة المولى، زال الشّعور بالرّسميّة في التّعامل وراحت تصيح في لفتةٍ مؤثّرةٍ: “انظروا ماذا أعطاني! انظروا ماذا أعطاني!” ربّما لم تكن تعرف هذه السّيّدة شيئًا عن مقام حضرة عبدالبهاء كمركزٍ للميثاق ومبيّنٍ لتعاليم حضرة بهاءالله لعالمٍ في أمسّ الحاجة إليها، بل ربّما لم تكن تعرف اسمه أو لقبه ولكنّ حضرته أغدق عليها من حُبّه.(196)

(82)

أتى قِسٌ للقاء حضرة المولى في منزل ماكسويل في مونتريال، فقدّم له حضرة المولى باقةً كبيرةً من الزّهور الأمريكيّة الجميلة، مودّعًا إيّاه وهو في دهشةٍ ومهابةٍ إزاء تلك الإطلالة الملكيّة والمجاملة اللّطيفة من ذلك السّجين القادم من الشّرق.(197)

(83)

“ليروي إيواس” (198) الّذي كان صبيًّا صغيرًا في عام 1912، حظي بلقاء حضرة المولى في زيارته لشيكاغو. ذات يومٍ، وفي طريقه إلى فندق “بلازا” للاستماع لحضرة عبدالبهاء، قرّر أن يشتري له بعض الزّهور، وعلى الرّغم من أنّه لم يكن لديه سوى القليل من المال، فقد تمكّن من العثور على باقةٍ كبيرةٍ من الزّهور الّتي كان يحبّها بشكلٍ خاصّ – القرنفل الأبيض! لكن لدى اقترابه من الفندق، تبدّل رأيه: قال لوالده إنّه لن يقدّم تلك الزّهور لحضرة عبدالبهاء، مِمّا جعل والده في حيرةٍ من أمره، لماذا، إنّ حضرة المولى يحبّ الزّهور؟ أعطى “ليروي” الصّغير إجابته: “لقد أتيت إلى حضرة المولى لأقدّم له قلبي، ولا أريده أن يعتقد أنّني أرغب في أيّ معروفٍ. إنّه يعرف ما في قلب الشّخص، وهذا كُلّ ما لديّ لتقديمه”.

بهذا الجواب صعد والد “ليروي” إلى الطّابق العلويّ وقدّم الزّهور لحضرة عبدالبهاء، الّذي استمتع بها كثيرًا، وسعِد بعبيرها، ودفن وجهه في وسطها كما كان يميل أن يفعل.

أثناء الحديث، جلس “ليروي” عند أقدام ذلك المعلّم العظيم، مفتونًا تمامًا. تلك العيون دائمة الحركة! تلك “الحركات المهيبة”! ذلك السّحر!

بعد الحديث وقف المولى وصافح كُلّ ضيفٍ، وأهدى لكُلٍّ زهرةً من القرنفل الأبيض حتّى لم يعد يتبقّى سوى عددٌ قليلٌ. كان “ليروي” يقف خلف حضرة عبدالبهاء وراح يفكّر، “ليته يستدير ويصافحني قبل أن تنفد الزّهور جميعها!” وبينما هو في هذه الفكرة، استدار المولى ورآه، وكانت هناك وردةٌ حمراءُ جميلةٌ في معطفه سحبها وأهداها للصّبيّ. لقد عرف “ليروي” أنّ المولى كان مدركًا أنّه في الواقع هو من أحضر ذلك القرنفل.(199)

(84)

كان حضرة المولى يحبّ الأطفال ويجد معهم بهجةً عظيمةً. كان حضرته يدرك أنّهم أقرب من الكبار إلى ملكوت الله.(200)

شُوهد أنّ حضرته استمع بانتباهٍ عميقٍ لإحدى حفيداته، وتعامَل مع أخطائها بجدّيّةٍ. رغم أنّها لم تكن تبلغ من العمر سوى عامين فقد قامت بتلاوةِ لوحٍ في حضوره، وعندما كانت تُخطئ أو تنسى كلمةً كان يقوم بتصويبها بغاية اللّطف، ثُمّ فازت من حضرته بابتسامةٍ عظيمةٍ لقاء مجهودها، بينما كان حضرته جالسًا في الزّاوية لتناول الشّاي.(201)

(85)

ذات مساءٍ، في يوليو/تمّوز عام 1919، أقام أحد الحجّاج مأدبةً باذخةً في البهجة. قام حضرة عبدالبهاء بنفسه بخدمة حوالي أربعين ضيفًا، كما كان للبدو الّذين ينصبون خيامهم على مقربةٍ نصيبٌ سخيٌّ من تلك المأدبة، وعندما أتى أطفالهم، منح حضرة المولى كُلّ طفلٍ قطعةً من النّقود. وفي الصّباح أتى آباؤهم إلى حضرة المولى الّذي كان جالسًا في الحديقة بجوار ضريح حضرة بهاءالله يكتب بعض الألواح – حضروا ليعبّروا عن تقديرهم لحضرته طالبين منه البركة.(202)

(86)

ذات يومٍ، بينما كان حضرة المولى خارجًا في عربةٍ مع مجموعةٍ من الأحبّاء بالقرب من بحيرة جنيفا في فرنسا، توقّفوا لتناول بعض المرطّبات في فندقٍ قديمٍ بين مرتفعين. جلس حضرته في رواقٍ مفتوحٍ، فشاهده مجموعةٌ من الصِّبية كانوا يبيعون باقات البنفسج، ثُمّ راحوا يتجمّعون حول حضرته مركّزين أنظارهم عليه. قام حضرته بشكلٍ تلقائيٍّ بوضع يده في جيبه وأخرج بعض الفرنكات لإرضاء صغاره.(203)

(87)

حدثت القِصّة المبهجة الآتية في أثناء وجود حضرة عبدالبهاء في نيويورك، وهي تجسّد كيف أنّ حضرته لم يكن يعاني من مرض عمى الألوان، بل كان يعتبر أنّ الاختلافات العِرقيّة واللّونيّة مصدرًا من مصادر الجمال. عندما كان حضرته في الطّريق إلى إرساليّة “باوري” للحديث إلى مئاتٍ من البشر، كان مع حضرته عددٌ من الأحبّاء الإيرانيّين والأمريكان، وكالعادة لفت مشهدُهم نظر مجموعةٍ من الصّبية، بملابسهم الفضفاضة وعمائمهم فراحوا يتبعونهم، ثُمّ ما لبثوا أن بدأوا يصيحون ويصيحون، ما أدّى إلى أنّ إحدى السّيّدات المرافقات انزعجت من سلوكهم غير اللّائق، فتأخّرت قليلًا ثُمّ توقّفت لتتحدّث معهم وتخبرهم قليلًا عن ماهيّة حضرة عبدالبهاء، وقامت يائسةً بتوجيه دعوةٍ إليهم إلى منزلها وتركت لهم العنوان، قائلةً إنّها سترتّب لهم لقاءً مع حضرته إذا رغبوا في الحضور يوم الأحد.

وفي ذلك اليوم، وعلى غير المتوقّع، بدأ يظهر أمام البيت ما بين عشرين إلى ثلاثين من الصّبية بشكلٍ غوغائيٍّ، ولكن يبدو أنّهم مستعدّون للّقاء. وهناك بالأعلى ظهر حضرته أمام غرفته وبدأ يُحيّي الصّبية، واحدًا تلو الآخر، بالمصافحة تارةً وبالمعانقة تارةً، مبتسمًا إليهم بحرارةٍ، ولكنّ ترحابه الأكثر حرارةً كان لذلك الصّبيّ ذى الثّلاثة عشر ربيعًا الواقف في نهاية الصّفّ. كان ذلك الصّبيّ أسمر البشرة وهو لم يكن واثقًا أنّه سيرحَّب به، ولكنّ حضرة المولى اشعّ إليه بوجهه وقال بصوتٍ مرتفعٍ: “يبدو أنّ هنا زهرةً سوداءَ”. أشرق وجه الصّبيّ بالسّعادة والحُبّ، ودبّ الهدوء في الغرفة بينما ينظر الأولاد إلى رفيقهم نظرةً جديدةً.

لم يتوقّف حضرة المولى عند هذا، فبمجرّد وصولهم، طلب حضرته صندوقًا من الشّيكولاتة الفاخرة، وأمسك حضرته بالصّندوق وراح يتجوّل في الغرفة يوزّع على الأولاد بملء يده لكُلّ واحدٍ، وفي النّهاية حيث لم يتبقّ إلّا القليل في العلبة، التقط حضرته قطعةً سوداء وتمشّى خلال الغرفة وأمسكها بجوار وجنة الصّبيّ الأسود، ووضع ذراعه على كتِفَيّ الصّبيّ بمحبّةٍ، ونظر إلى سائر الأولاد نظرةً ثاقبةً ومرحةً دون أيّ تعليقٍ.(204)

(88)

السيّد “روبرت ترنر”، كبير الخدم لسيّدة البِرّ والإحسان السّيّدة “فويب هيرست”، ميّز نفسه بكونه أوّل غربيٍّ أسودَ يعتنق الأمر البهائيّ. ذكرت السّيّدة “مَي ماكسويل” فيما بعد: “في صباح وصولنا إلى الحجّ، وبعد أن أنعشنا أنفسنا، استدعانا حضرة المولى في غرفةٍ طويلةٍ تطلّ على البحر المتوسّط. جلس حضرته في صمتٍ محدّقًا من النّافذة ثُمّ نظر سائلًا ما إذا كُنّا جميعًا حاضرين، وعندما رأى أنّ أحد المؤمنين غائبٌ قال حضرته: “أين روبرت؟”… وفي لحظةٍ ظهر روبرت بوجهه المشرق بينما نهض حضرة المولى لتحيّته وأجلسه بجواره قائلًا: “روبرت! إنّ ربّك يحبّك. لقد منحك بشرةً سوداءَ، ولكنّه منحك قلبًا أبيضَ كالثّلج…”(205) “وقد بلغ من رسوخ إيمانه أنّ سيّدته المحبوبة تنكّرت، فيما بعد، للدّين الّذي اعتنقته، فلم يؤثّر ذلك فيه بأيّة حالٍ، ولم يقلّل من عمق المشاعر الّتي أثارها في صدره ما حباه به حضرة عبدالبهاء من الرّأفة والمحبّة.”(206)

(89)

كان في عكّاء رجلٌ يكره حضرة عبدالبهاء لدرجة أنّه كان يدير وجهه بعيدًا عندما يرى حضرته، خشية أن تؤثّر رؤيته لحضرته على كراهيته. وذات يومٍ، التقيا في شارعٍ ضيّقٍ مِمّا اضطرّ الرّجل أن يلتقي بحضرته وجهًا لوجه. عندئذٍ ربّت حضرته على كتفيه وقال: “انتظر لحظاتٍ قليلةً حتّى أتحدّث! مهما كانت درجة كراهيتك لي عظيمةً، فلن تكون أقوى من حُبّي لك”، فانكمش الرّجل واستيقظ وشعر لأوّل مرّة بقوّة الحُبّ الّتي لا يمكن هزيمتها.(207)

(90)

في عام 1909، قامت السّيّدة “إيثل روزنبرج” بالحجّ إلى الأرض الأقدس. لم يكن حضرة عبدالبهاء قد غادر عكّاء إلى حيفا بعد، رغم أنّ حضرته كان قد نال حرّيّته. سألت إيثل حضرته ماذا يستطيع أن يفعل الأحبّاء كي يزيدوا من أعدادهم وكي يجعلوا عملهم أكثر تأثيرًا! أجاب حضرته: “إنّ أعضاء الجامعات الصّغيرة يجب أن يحبّوا بعضهم البعض بكُلّ قوّةٍ، ويجب أن يكونوا أحبّاءَ مخلصين، فكلّما أحبّوا بعضهم البعض، كُلّما كانت لقاءاتهم قادرةً على اجتذاب الآخرين، وكُلّما أحبّوا بعضهم البعض، كُلّما أحسّ النّاس بتأثيرهم… أقول أيضًا بالإنجليزيّة حتّى تستطيعوا أن تفهموا… الحُبّ أساس كُلِّ شيء”.(208)

(91)

قال حضرة المولى لـ “ماري هانفورد فورد”، مُلمّحًا إلى القيود الّتي عانى منها وأسرته المباركة في عكّاء: “نحن جميعًا سعداءُ لأنّ في قلوبنا حُبّ الله. عندما يكون القلب عامرًا بحُبّ الله، فإنّه يفقد إحساسه بالجسد، فيتحوّل بذلك الألم إلى متعةٍ، والظّلام إلى نورٍ، ولو حُبس إنسانٌ كهذا في سجنٍ، فلن تكون حوله جدرانٌ ولن يشعر بالوحدة، ولن يعرف السّجن”.(209)

(92)

كتبت حضرة منيرة خانم عن صحبتها مع زوجها حضرة عبدالبهاء:

“لو أردتُ شرح تفاصيل مُدّة خمسين عامًا من تشرّفي ولقائي بمحبوب الآفاق، وأذكر آيات محبّته وحنانه وجوده، لاحتجت لخمسين سنةٍ أخرى من الوقت والفرصة لأجل تدوين كُلّ ذلك، ولتطلّب أن تتحوّل أبحر العالم إلى مدادٍ وأشجار الإمكان إلى أقلامٍ، ومع ذلك فلن أستطيع إيفاء الموضوع حقّه.”(210)

الخدمة والالتزام والمشاركة

خدمة الله وخدمة بهاءالله وخدمة الأسرة وخدمة الأحبّاء والأعداء والجنس البشريّ بأكمله – كان هذا هو نمط حياة حضرة عبدالبهاء. لم يكن يرغب إلّا في أن يكون خادمًا لله وللإنسان، فالخدمة عنده كانت هي الشّرف الرّفيع والفرح والرّضا. كانت الخدمة هي المحرّك لحضرةِ عبدالبهاء طوال اليوم من الفجر حتّى منتصف اللّيل، كان دائمًا يقول: “ليس هناك شيءٌ صعبٌ طالما أنّ هناك حُبٌّ، وهناك دائمًا متّسعٌ من الوقت”.(211)

(93)

تحدّث “هوارد كولبي آيفز” عن ذكرياته “عن وجبةٍ كان يتناولها، وكان حضرة عبدالبهاء يخدمه بيده بمنتهى الكرم ويحثّه بقوله: “كُلْ… كُلْ… افرح”. هو نفسه لم يكن يأكل، بل كان يتمشّى حول المائدة مشية الملوك ويتحدّث ويبتسم ويخدم”.(212) ثُمّ كتب آيفز فيما بعد: “كان معروفًا أنّ حضرته يدخل المطبخ ويعدّ الوجبات لضيوفه، لم يخطئ أبدًا في أدقّ التّفاصيل عندما كان يتأكّد من أنّ غرفة زائريه تحتوي على كُلّ وسائل الرّاحة، مع أنّه كان لا يعير بالًا لراحته الشّخصيّة”. عندما طُلب من حضرته ذات يومٍ، أن يكون ضيف الشّرف لتجمُّعٍ بهائيّ، كان جوابه البسيط: “عبدالبهاء خادم”.(213)

(94)

عندما كانت “لوا جتسنجر” في عكّاء، أخبرها حضرة المولى أنّه مشغولٌ جِدًّا اليوم، ولا يستطيع زيارة أحد أصدقائه وهو شخصٌ مريضٌ وفقيرٌ، وأنّ حضرته يرجو منها أن تقوم بالزّيارة بدلًا منه، وطلب منها أن تعدّ له الطّعام وتعتني به كما يفعل حضرته، وأخبرها كيف تذهب إلى الرّجل. فذهبت السّيّدة بمنتهى السّرور وهي فخورةٌ بأنّ حضرة عبدالبهاء يعهد إليها بهذه المهمّة الشّخصيّة.

ثُمّ ما لبثت أن رجعت مسرعةً وهي تقول: “مولاي… مؤكّدٌ أنّ حضرتك لا تدرك فظاعة المكان الّذي أرسلتني إليه، لقد أوشكت على الإغماء من الرّائحة الكريهة والغرف النّتنة والحالة المزرية لذلك الرّجل ولبيته، فهربت خشية الإصابة بمرضٍ فظيعٍ”.

نظر إليها حضرته بأسى وبحزمٍ وهو يقول: “ألا ترغبين في خدمة الله؟ اخدمي الرّجل لأنّ فيه يمكنك رؤية صورة الله ومثاله”. وأمرها أن تعود إلى بيت الرّجل، فلو كان المنزل قذرًا فعليها تنظيفه، ولو كان أخوك هذا متّسخًا فحمّميه، ولو كان جائعًا فأطعميه، ولا تعودي حتّى إتمام كُلّ هذا”. لقد قام حضرته بفعل كُلّ هذه الأشياء مرارًا للرّجل، أفلا تستطيع هي أن تفعله مرّةً واحدةً؟(214)

(95)

كتبت “أنيس ريداوت” ما يلي في “المجلّة البهائيّة”: “كان امتيازًا عظيمًا لي أن أكون في نيويورك خلال الأيّام الأخيرة الّتي قضاها حضرة عبدالبهاء في أمريكا. كان لديّ سؤالٌ تطلّعت كثيرًا إلى أن أسأله لحضرته ولكنّني تردّدت في سؤاله، خشية أن يكون الجواب هو أنّ عليّ أن أتحدّث إلى النّاس في كُلّ مكانٍ. وأخيرًا وفي اليوم الأخير بل ربّما في اللّحظة الأخيرة لبقائي مع حضرته شعرت أنّه من الجبن أن أتردّد أكثر من ذلك. في ذلك اليوم وعندما تشرّفت بالمثول أمام حضرته تفضّل على الفور قائلًا: “هل هناك أسئلةٌ؟”. وفي الحال سألت: “ما هي أفضل طريقة لتبليغ الرّسالة البهائيّة؟”.

تحوّل وجه حضرته إلى الجدّيّة وراح يجيب بصوتٍ مرتفعٍ بما يلي:

“الشّيء الأوّل الّذي يجب القيام به هو الوصول إلى حالة الظّمأ الرّوحيّ، وبعد ذلك عيشي الحياة… عيشي الحياة … عيشي الحياة! وطريقة الحصول على هذا الظّمأ الرّوحيّ هي التّأمّل في الحياة وفي الآخرة. ادرسي الكتب المقدّسة، اقرأي الإنجيل وسائر الكتب المقدّسة، وبشكلٍ خاصٍّ عليك بآثار حضرة بهاءالله وخصوصًا الأدعية والمناجاة، استغرقي طويلًا فيهما. حينئذٍ ستعرفين الظّمأ العظيم، وعندئذٍ فقط يكون بإمكانك أن تعيشي الحياة!

أن تعيشي الحياة معناه أنّه يجب عليكِ أن تكوني الأطيب والأطهر بين النّساء، وأن تكوني صادقةً بشكلٍ غير محدودٍ، وأن تعيشي حياةً أخلاقيّةً سليمةً وكاملةً.

“قومي بزيارة الجيران عند مرضهم أو عند حدوث أيّ مشكلاتٍ معهم وقدّمي لهم خدماتك، حاولي أن تُظهري لهم أنّكِ ترغبين بصدقٍ في خدمتهم.

“أطعمي الفقراء وشاركيهم فيما تملكين، وكوني راضيةً بما قسم الله لكِ. كوني مخلصةً في رعايتك لأولئك الّذين عهِد الله إليك برعايتهم، ولا تتردّدي أبدًا. أظهري من خلال ممارساتك العمليّة في حياتك أنّ لديك شيئًا مختلفًا حتّى يراه الجميع، ويسألون ما هو الشّيء الّذي يملكه هذا الإنسان ولا أملكه أنا!

أظهري للعالم أنّه على الرّغم من المعاناة الكبيرة والفقر والألم والمرض، فإنّ لديك شيئًا يمنحك السّكينة والقوّة والسّلام، وأنّك سعيدةٌ وهادئةٌ وراضيةٌ بكُلّ شيءٍ في حياتك.

“عندها ستجدينهم يرغبون هم أيضًا في اقتناء ذلك الشّيء الّذي تمتلكينه – ولن يكونوا بحاجةٍ لمزيد من التّبليغ- بعد أن تخبريهم بذلك الشّيء الّذي تمتلكينه”.(215)

(96)

أخبَرَنا “جناب فاضل” بالقِصّة التّالية أثناء المؤتمر البهائيّ السّنويّ عام 1923 في شيكاغو:

ذهبت سيّدة إلى حضرة عبدالبهاء وقد آمنت بالأمر المبارك، لتطلب منه أن يحدّد لها مهمّةً خاصّةً تؤدّيها، فأجابها حضرته: “انشري شريعة الحُبّ، عيشي طبقًا لقانون الحُبّ، وكوني مشاركةً متعاونةً”. فأجابت: “إنّه شيءٌ مطلوبٌ من جميع البهائيّين، وأنا أطلب شيئًا خاصّاً”.

أجابها: “حسنًا! تعالي صباح الغد، وسأعيّن لك مهمّةً خاصّةً”.

غمرتها السّعادة في ذلك اليوم وطوال اللّيل بانتظار ما ستسمعه في اليوم التّالي، وجاءت في الصّباح فرِحةً متحمّسةً. قال لها حضرته: “سأعهد بابني إليكِ حتّى تقومي بتربيته ورعايته جسديًّا وفكريًّا وروحيًّا”. سُرّت كثيرا لهذه الثّقة، ولكنّها بدأت تفكّر وتقول لنفسها متعجّبةً: “ليس لحضرته ولدٌ، فماذا يعني من قوله هذا!؟ وبينما هي غارقةٌ في حيرتها سمعت صوت حضرته يضيف: “هل تعرفين ابني هذا؟ هناك في بلدتك رجلٌ يُعَدّ أسوأ عدوٍّ لكِ، وقد توفّي وترك ابنًا ليس له من يعتني به، وأريدك أن تعتني به وهذه هي مهمّتك الخاصّة”.

غمرتها المشاعر وشعرت بأنّها وُلِدت من جديدٍ روحانيًّا، دمعت عيناها وقالت: “عرفت الآن يا مولاي ماذا يعني الدّين البهائيّ”.(216)

(97)

قام حضرة عبدالبهاء بزيارةٍ للسّيّدة “اليزابيث جيبسون تشاين” وزوجها “تي. كي. تشاين” النّاقد الكبير، وذلك في أكسفورد بانجلترا. كان دكتور تشاين مريضًا وقواه خائرةً تمامًا. تأثّر حضرة عبدالبهاء كثيرًا بالرّعاية الإنسانيّة الجميلة الّتي كانت تقوم بها الزّوجة المخلصة تجاه زوجها الضّعيف حتّى سالت الدّموع من عينيه المباركتين، وفي طريق العودة إلى لندن تحدّث حضرته إلى رفاقه قائلًا: “إنّها امرأةٌ ملائكيّةٌ! إنّها مثالٌ للحُبّ المجرّد عن الذّات! نعم هي امرأةٌ كاملةٌ… إنّها ملاكٌ”.(217)

(98)

سافر حضرة عبدالبهاء ذات يومٍ في أوائل شهر مايو/أيَّار1912 بالقطار من بطرسبورج، في بنسلفانيا، إلى واشنطن العاصمة في رحلةٍ استغرقت اثنتي عشرة ساعةً متواصلةً. توسّل إليه الأحبّاء أن يحجزوا لحضرته مقصورةً خاصّةً في القطار، ولكنّه رفض قائلًا: “إنّني لا أُنفق الأموال إلّا في مساعدة النّاس وفي خدمة الأمر المبارك، وأنا لا أحبّ التّمييز منذ طفولتي…”(218)

 

العدل والإنصاف

إنّ الحُبّ العارم لحضرةِ عبدالبهاء لكُلّ النّاس لم يكن ليقف حائلًا بين حضرته وبين العدل، بل على العكس كان مساعدًا للسّموّ بوعيه بتلك الفضيلة، ألم يعلّمه حضرة بهاءالله أنّ: “أحَبّ الأشياء عندي الإنصاف”؟(219)

وعن العدل أعلن حضرة عبدالبهاء بدوره: “لا بُدّ من تطبيقه على كُلّ الطّبقات من الرّفيع إلى الوضيع، يجب أن يكون العدل مقدّسًا، ولا بُدّ من مراعاة حقوق كُلّ النّاس. أحبّوا للآخرين ما تحبّونه لأنفسكم.”(220)

(99)

“توماس بريكويل” – أوّل مؤمنٍ إنجليزيّ- تشرّف بزيارة مدينة السّجن عكّاء كحاجٍّ. في حوارٍ جرى بينه وبين حضرة المولى تحدّث عن مركزه في محالج القطن في جنوب الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وفي معرض حديثه أوضح أنّ الأطفال هم عماد العمالة هناك. نظر إليه حضرة المولى نظرة أسى ثُمّ قال: “أبرق إليهم باستقالتك!”. أسرع بريكويل إلى تلبية أمر مولاه بكامل الارتياح.(221)

(100)

كانت العدالة الاقتصاديّة ذات أهمّيّةٍ لدى حضرة عبدالبهاء حتّى في الأمور الصّغيرة. حدث ذات مرّةٍ في مصر، أن استأجر حضرته عربةً ليصطحب بها أحد كبار الباشوات لحضور حفل غداءٍ أقامه حضرته، وعندما وصلوا طلب صاحب العربة أجرةً باهظةً، ولمّا كان حضرة المولى يدرك أنّ الأجرة الّتي طلبها الرّجل كان مبالغًا فيها فقد رفض أن يدفع للرّجل ما طلبه. كان السّائق ضخمًا وخشنًا، فقام بانتزاع وشاح حضرة المولى، وراح يهزّ حضرته مصمّمًا على أجرته غير العادلة، ولكنّ حضرة المولى ظلَّ ثابتًا على موقفه حتّى أفلته الرّجل، وتفضّل حضرته بدفع الأجرة الحقيقيّة، وأخبره أنّه لو كان أمينًا لحصل على بقشيشٍ سخيٍّ إلى جوار أجرته، ثُمّ انصرف حضرته.

كان حضرة شوقي أفندي حاضرًا في تلك المناسبة، ولقد أعرب حضرته فيما بعد عن حرجه الشّديد لهذا الحدث وخصوصًا أنّه حدث أمام الباشا، أمّا حضرة عبدالبهاء فإنّه لم يضطرب على الإطلاق بل صمّم بكُلّ بساطةٍ على ألّا يغشّه أحدٌ.(222)

المساواة

خلال القرن العشرين قيل الكثير وكُتِب الكثير عن أهمّيّة حقوق الإنسان، ولكنّ حضرة عبدالبهاء كان قد كتب مبكرًا في عام 1875: “يجب مراعاة حقوق الآخرين”(223) لقد رسّخ دين والده مبدأ وحدة الجنس البشريّ، والقضاء على ألوان التّعصّب، والمساواة بين الرّجال والنّساء.

(101)

عندما كان حضرة عبدالبهاء مقيمًا في أحد فنادق باريس كان من بين من تردّدوا على زيارته رجلٌ فقيرٌ أسودُ، لم يكن بهائيًّا ولكنّه كان يحبّ حضرته كثيرًا. حدث ذات يومٍ، عند قدوم ذلك الرّجل للزّيارة أن أوقفته إدارة الفندق، وأبلغوه بعدم رغبتهم في حضوره إلى الفندق كونه فقيرًا وأسودَ، حيث إنّ ذلك لا يتّسق مع مستوى الفندق، فانصرف الرّجل. عندما سمع حضرة المولى بذلك طلب المسئول في الفندق، وأخبره أنّه لا بُدّ من إحضار صديقه، وأعرب له عن امتعاضه الشّديد مِمّا حدث، وقال حضرته: “لم آتِ إلى هنا لمشاهدة الفنادق الفخمة ولا الأثاث الفاخر، أتيت فقط لرؤية أحبّائي، لم آت إلى باريس لأتقيّد بعادات باريس وبروتوكولاتها، بل أتيت لرفع راية حضرة بهاءالله“.(224)

(102)

في مناسبةٍ خاصّة في أمريكا، أعلن حضرة عبدالبهاء عن رغبته في إقامة عيدٍ للوحدة لأحبّائه. قامت اللّجنة المشرفة على تنظيم الحدث بترتيب إقامة الحفل في أحد الفنادق المميّزة بالمدينة والمعروفة بالتّمييز اللّونيّ، فقرّر الأحبّاء السّود عدم الحضور، حيث إنّهم كثيرًا ما عانوا من الإهانات والتّفرقة العنصريّة. عندما علم حضرة عبدالبهاء بذلك، أصرّ على أنّ الجميع لا بُدّ أن يكون حاضرًا. أُقيم الاحتفال بحضور جميع الأحبّاء، يجلس الأبيض منهم والأسود جنبًا إلى جنب في منتهى السّرور دون أن يحدث ما يكدّر الصّفو.(225)

(103)

في أواخر شهر مايو/أيَّار عام 1912 في نيويورك، “طُلِب من حضرة عبدالبهاء مغادرة الفندق وذلك، كما ذكر محمود ]زرقاني[، بسبب “مجيء وذهاب مجموعاتٍ كثيرةٍ ومتنوّعةٍ”، وبسبب “الأعمال والمتاعب الإضافيّة” الملقاة على عاتق العاملين، وبسبب “الاستفسارات المتواصلة” الموجّهة إلى إدارة الفندق. ولكن “عندما رأت إدارة الفندق عطفه العظيم واحترامه أثناء المغادرة كانوا في غاية الخجل، وتوسّلوا إلى حضرته أن يظلَّ بالفندق، ولكنّ حضرته لم يقبل”.(226)

(104)

كان كُلّ ما يفعله حضرة المولى له معناه ومغزاه، ففي إحدى المناسبات السّعيدة في واشنطن العاصمة عام 1912، أظهر حضرته ما يمكن للعدل والمحبّة أن يفعلاه. حدث أن رتّب القائم بأعمال المفوّضيّة الإيرانيّة في المدينة مأدبة غداءٍ على شرف حضرة عبدالبهاء، وأعدّ المضيّف وزوجته قائمةً بالمدعوّين من الوسط السّياسيّ والاجتماعيّ في المدينة وبعض الأحبّاء.

وصادف في ذلك اليوم أن كان السّيّد “لويس جريجوري” مدعوًّا لزيارة حضرة عبدالبهاء، وهو موظّفٌ حكوميٌّ خلوقٌ- أصبح فيما بعد أوّل أيادي أمر الله من ذوي البشرة السّوداء.

تعجّب السّيّد لويس في نفسه من الموعد الّذي حُدّد للزّيارة لعلمه المسبق بإقامة مأدبة غداءٍ في نفس الموعد، ومع ذلك حضر في الوقت المحدّد. أمّا حضرة المولى فيبدو أنّه تعمّد إطالة حديثه مع المدعوّين حتّى يصل ضيفه. أُعلن أخيرًا بأنّ الغداء جاهزٌ، وعلى حضرات الضّيوف أن يتوجّهوا إلى مقاعدهم حول المائدة.

نهض حضرته ومشى وتبعه الحاضرون، أمّا السّيّد جريجوري فقد تردّد قليلًا وبقي واقفًا في مكانه، فهل عليه أن يغادر القاعة حالًا أو ينتظر حضرة عبدالبهاء لحين عودته بعد انتهائه من تناول الطّعام!

جلس المدعوّون كُلٌّ في المقعد المخصّص له، وفجأةً نهض ضيف الشّرف ونظر حوله وسأل بالإنجليزيّة: “أين صديقي السّيّد جريجوري؟ صديقي السّيّد جريجوري يجب أن يتناول الغداء معي”. لم يكن اسمه مذكورًا في القائمة، ولهذا السّبب ظلّ واقفًا في الخلف. فما كان من القائم بالأعمال إلّا أن أسرع نحو جريجوري ليصطحبه بينما كان حضرته يُعدّ له مكانًا للجّلوس على يمينه على المائدة متجاهلًا جميع البروتوكولات والمراسيم الرّسميّة. وبعد أن جلس جريجوري على مقعده بدأ الجميع في تناول الطّعام.

ثُمّ، وبطريقةٍ طبيعيّةٍ للغاية، وكأنّ شيئًا غير عاديّ لم يحدث في مناسبةٍ رسميّةٍ كهذه وفي تلك العاصمة السّياسيّة، “ألهب حضرة المولى حماس المدعوّين المذهولين” بحديثه عن وحدة الجنس البشريّ.(227)

(105)

تشرّف “لويس جريجوري” بالحجّ إلى الأرض الأقدس، وفي نهاية حجّه قام حضرة عبدالبهاء باستدعائه، وكذلك باستدعاء السّيّدة “لويزا ماثيو” وهي حاجّةٌ إنجليزيّةٌ بيضاءُ، حيث عبّر لهما حضرة المولى عن رغبته في زواجهما من بعضهما البعض، فاستجابا لحضرته، وأتمّا الزّواج، وأرسلهما ليكونا رمزًا للوحدة الرّوحيّة والتّعاون وكرامة العلاقات والخدمة، تلك الأمور الّتي كان ينشدها حضرته للجّنس البشريّ. واجه هذا الزّواج تحدّياتٍ جمّةً، ولكنّه دام لأنّ الرّوحين اللّتين ربطتهما كانتا محاطتيْن بمحبّةٍ فوق نفسيهما وفوق العالم. كانت علاقتهما تمثّل إعلانًا للحُبّ الّذي تزكّيه معرفة الله وينعكس على الرّوح. لقد رأى كُلّ منهما في الآخر جمال الله، واعتمادًا على هذا فقد تحمّلا الامتحانات والأحداث العارضة للحياة وتحوّلات الخبرة الإنسانيّة.(228)

(106)

كان إحساس حضرة عبدالبهاء بالعدل والمساواة متغلغلًا أيضًا في صميم العلاقة بين الرّجل والمرأة. حينما كان يتحدّث حضرته إلى مجموعةٍ من المستمعين في أمريكا نظر مبتسمًا إلى السّيّدات وقال: “في أوروبّا وأمريكا يعمل الكثير من الرّجال من أجل رفاهية زوجاتهم”، ثُمّ ذكر حضرته، والابتسامة تعلو وجهه، قِصّةً عن زوجٍ وزوجةٍ قاما بزيارة حضرته. كان حذاء الزّوجة عليه بعض التّراب، فأمرت زوجها بشكلٍ حادٍّ أن يقوم بتنظيفه، فقام الرّجل بتنفيذ أمرها، ثُمّ تساءل حضرته: “فهل فعلت هي الشّيء نفسه لزوجها؟ بالطّبع لا، بل كانت تغسل له الملابس. إلّا أنّ هذا ليس مساواةً. والآن أيتها السّيّدات عليكنّ أن تدافعن عن حقوق الرّجال”.

كان كُلّ هذا يُساق في إطارٍ من المرح، ولكنّ الدّرس كان واضحًا وهو “الاعتدال في كُلّ الأمور”.(229)

 

الاعتدال

أكّد حضرة عبدالبهاء مرارًا على أهمّيّة الاعتدال، سواءٌ بالنّسبة للفرد نفسه أو في علاقته مع الآخرين.

(107)

علم حضرة عبدالبهاء ذات يومٍ أنّ سيّدةً قامت بقصّ شعرها الجميل للمساهمة في بناء مشرق الأذكار في ويلميت. كتب إليها حضرته بتقديرٍ ومحبّةٍ قائلًا: “من ناحيةٍ، لقد تأثّرت بشدّةٍ، لأنّك قصصت خصلات شعرك الجميلة بمقصّ الانقطاع عن هذه الدّنيا، والتّضحية بالنّفس في سبيل ملكوت الله. ومن ناحيةٍ أخرى، كنت مسرورًا جِدًّا، لأنّ تلك الابنة الحبيبة قد أظهرت روحًا عظيمةً من التّضحية بالنّفس، لدرجة أنّها ضحّت بجزءٍ عزيزٍ منها في سبيل أمر الله. لو سألتيني، ما كنت سأوافق بأيّ حالٍ من الأحوال أن تقُصّي شعرةً واحدةً من شعراتك النّاعمة الجميلة؛ بل، أنا بنفسي كنت سأساهم بالنّيابة عنك في مشرق الأذكار، ومع ذلك، فإنّ فعلك هذا شهادةٌ بليغةٌ على تضحيتك اللّامتناهية”.(230)

(108)

كتب “جورج لاتيمر” عن زيارة قام بها لحضرةِ المولى مقتبسًا من حضرته ما يلي: “يجب أن تكون معتدلًا وتضع الذّوق العامّ بعين الاعتبار. تلك أفضل طريقةٍ… الاعتدال… الاعتدال. يجب أن تكتب وتتحدّث بأسلوبٍ لا يُغضبُ أحدًا، لقد خاطب الله موسى وهارون وأمرهما أن يذهبا إلى فرعون قائلًا لهما: “وقولا له قولًا ليّنا“.(231)

(109)

عندما كانت “آنا وجاكوب كونز” في الحجّ عام 1921، قال لهما حضرة المولى: “كُلّ شيءٍ يجب عمله باعتدال، فالإفراط ليس محمودًا، حتّى في التّفكير لا تبالغوا بل كونوا معتدلين”.(232)

(110)

في جانبٍ من رحلة حضرة المولى في شرق الولايات المتّحدة، رفض حضرته مرّةً أخرى أن يسافر في وسيلة مواصلاتٍ فاخرةٍ رغم إلحاح الأحبّاء على حضرته، قائلًا إنّه يجب عليهم ألّا يعتمدوا على الرّاحة البدنيّة: “يجب أن نكون متساوين في مشقّات السّفر، كالجندي الّذي يجاهد في ميدان الحقّ، لا أن نكون عبيدًا لليُسر والرّاحة الجسديّة”.

وفي اللّيلة التّالية لم يقترح الأحبّاء الخمسة المرافقين لحضرته ركوب البولمان الفاخر، فهل تعلّموا أن يسافروا كجنودٍ في طريق الحقّ؟ على أيّة حال، فقد طلب منهم حضرة المولى أن يحجزوا ستّ قُمراتٍ لتلك اللّيلة لأنّ التّقشّف الزّائد ليس مرغوبًا. اقترح الأحبّاء الاكتفاء بقُمرةٍ واحدةٍ لحضرته فردّ عليهم: “يجب أن نتشارك بشكلٍ عادلٍ ومتساوٍ”.(233)

الصّدق

كانت مصداقيّة حضرة عبدالبهاء طبيعيّةً وتلقائيّةً كالتّنفّس، لم يتحدّث حضرته من أجل الشّهرة ولا ليُسمع النّاس ما يريدون أن يسمعوه، كانت كلماته موجّهةً لخدمة السّامع وتعليمه متى رغب في الاستماع. دعنا نسوق أمثلةً قليلةً على ذلك:

(111)

ذات مرّةٍ، سأل مسئولٌ كبيرٌ في الحكومة الفيدراليّة الأمريكيّة حضرة عبدالبهاء عن أفضل طريقةٍ لخدمة شعبه وحكومته، وكان لدى حضرة المولى الجواب الجاهز: “يمكنك أن تخدم وطنك بأفضل وجه إذا سعيت جاهدًا كمواطن عالميّ للمساعدة في التّطبيق التّامّ لمبدأ الفيديراليّة، الّذي تقوم عليه حكومة بلادك، في العلاقات الّتي تربط بين شعوب العالم وأممه في الوقت الرّاهن”.(234)

(112)

عندما التقى حضرة عبدالبهاء بالأدميرال “بيري” مكتشف القطب الشّماليّ قال له: “آمُل أن تكتشف خبايا الملكوت”.(235)

(113)

قال حضرة عبدالبهاء في نهاية خطابٍ مطوّلٍ في جامعة “ليلاند ستانفورد جونيور”: “إنّنا نعيش بضعة أيّامٍ فوق هذا التّراب، وبعد ذلك نرقد تحته إلى الأبد، فهو قبرنا الأبديّ. فهل يليق بالإنسان أن يتقاتل من أجل قبرٍ سيبتلعه في جوفه، من أجل قبره الأبديّ؟ أيّ جهالةٍ أعظم من أن يقتتل الإنسان على قبره، ويقتل غيره من أجل هذا القبر! فأيّ غفلةٍ هذه؟ وأيّ ضلالةٍ هذه؟”(236)

(114)

كانت كلمات حضرة عبدالبهاء تحمل الكثير من المفاجآت منها السّار ومنها غير السّار، فمن بين كتاباته: “لو أنّ هذه الحياة قدّمت للإنسان كأسًا حلوًا ذات مرّةٍ، فسوف يتلوه مئاتٌ من الكؤوس المُرّة، ذلك هو شأن الدّنيا”.(237)

“ربّوا أولادكم على العمل والكفاح وعوّدوهم على المصاعب”.(238)

“تفضّل حضرة الباب بالقول، إنّ على أهل البهاء أن يطوّروا علوم الطّبّ إلى درجةٍ يعالجون بها الأمراض عن طريق الطّعام”.(239)

“عندما يتوقّف الأحبّاء عن السّعي لنشر الرّسالة، فإنّهم يفشلون في ذكر الله بشكلٍ لائقٍ”.(240)

لقد نثر حضرة المولى خارجًا بذور الحقيقة – بذورًا تنمو ببطءٍ، وبالتّدريج تحمل حصادها السّعيد والمُربح.

 

المعرفة والحكمة

(115)

حاز حضرة عبدالبهاء على المعرفةِ والحكمةِ قولًا وعملًا. إنّ المرء ليعجبُ من علومه الحاضرة عن الحقائق الغامضة، كعِلم حضرته مثلًا عن أنّ: “قبر السّيّد المسيح ظلَّ مخفيًّا ومجهولًا مُدّة ثلاثمائة عام حتّى جاءت أمة الله هيلين، أم قسطنطين، واكتشفت ذلك القبر المقدّس”.(241)

(116)

لا يستطيع بشرٌ أن يزعم أنّه كان معلّمًا لحضرةِ عبدالبهاء، فقد كان عِلمه دقيقًا وشاملًا. عندما استقرّ حضرة بهاءالله في قصر البهجة في ختام حياته الأرضيّة، ظلَّ حضرة المولى في عكّاء للإشراف على تفاصيلَ لا حصر لها، وذلك حتّى لا يشغل حضرة بهاءالله عن كتاباته. ولكنّه كان ينقل الأخبار بانتظام لحضرة بهاءالله، وكان يُعلم حضرته بالمسائل الدّينيّة الّتي كانت تواجهه. ولوحظ أنّ حضرة بهاءالله كان يستفسر عن إجاباته ومن ثمّ يؤيّدها ويصفها بأنّها “جيّدةٌ جِدًّا”.

كذلك كانت حكمته مذهلةً مثل علمه، فقد كانت حكمة حضرة المولى العميقة، إلى جوار حُبّه الشّامل وعطفه، قادرةً على إحداث ثورةٍ في الحياة الدّاخليّة لأولئك الّذين قُدّر لهم أن يكونوا على اتّصالٍ بحضرته. هذه الثّورة كانت عبارة عن عمليّة “تحوّلٍ قلبيٍّ”. يقول “هوراس هولي” إنّه أصبح مدركًا لنوعٍ جديدٍ من التّعاطف تجاه النّاس، وسلسلةٍ جديدةٍ من الرّوابط تربط كُلّ النّاس بمصيرٍ واحدٍ”. اكتشف الرّجل أنّ “حضرة عبدالبهاء يعيد الإنسان إلى حالته الطّبيعيّة، وهي عبارةٌ عن حالةٍ تنقص قليلًا عن حالة الملائكة”.(242)

 

(117)

عندما كان حضرة عبدالبهاء في شتوتجارت بألمانيا عام 1913، وبينما هو في لقاءٍ مع الأحبّاء هنا، رجع بذاكرته إلى الوراء وتذكّر أيّام طفولته وتفضّل قائلًا:

“كم هو جيّدٌ أن تكون مبلّغًا لأمر الله وأنت طفلٌ. كُنت مبلّغًا عندما كنتُ بعمر هذا الطّفل (ثماني أو تسع سنوات)، وهذا يذكّرني بالقِصّة التّالية:

“عرفت شخصًا كان على درجةٍ عاليةٍ من العِلم، وكان عليّ أن أبلّغه أمر حضرة بهاءالله، وذات يومٍ أحضره لي أخوه. جلست وأخذت أتكلّم معه عن الدّين وتعاليمه، فقال: “أنا لست مقتنعًا ولا راضٍ”. فقلت له: “إذا قدّمنا الماء لشخصٍ ظمآنٍ فسوف يشرب ويكون راضيًا، أمّا أنت فلست ظمآنًا، لأنّك لو كنت كذلك لارتويتَ ولشعرتَ بالرّضا. الإنسان العاديّ يرى الأشياء من حوله بعينيه، وأستطيع أن أكلّمه عن الشّمس وأقول له بأنّها علامة طلوع النّهار، أمّا الشّخص الأعمى فلن يقتنع لأنّه لا يرى الشّمس، ولو طلبت من شخصٍ سمْعه جيّدٌ أن يستمع إلى قطعةٍ موسيقيّةٍ جميلةٍ لاستمع إليها واستمتع، أمّا إذا عزفت أجمل الألحان أمام شخصٍ أصمّ فلن يسمع أو يستمتع. والآن اذهب واحصل على آذانٍ للسّمع وعيونٍ للبصر حتّى أستطيع أن أتكلّم معك في تلك المسألة.”

ذهب الرّجل وغاب مُدّةً من الوقت ثُمّ رأيته يعود ثانيةً، وجدته في هذه المرّة مستمعًا جيّدًا، فأدرك كُلّ ما قلته له وآمن بالأمر المبارك بعد ذلك وأصبح بهائيًّا جيّدًا. هذا ما حدث في طفولتي المبكرة.”(243)

 

(118)

في وقتٍ مبكرٍ من أيّام سجن حضرة عبدالبهاء في الثّكنات بعكّاء، انتشرت أخبار حكمة حضرته من أحد محلاّت الجزارة. كان حضرته وبعضٌ من أتباع حضرة بهاءالله قد غادروا الثّكنات لشراء الطّعام وبعض مستلزماتهم من الأسواق، وفي محلٍّ للجّزارة، حيث كان حضرة المولى بانتظار قضاء طلبه، كان هناك شخصان أحدهما مسلمٌ والآخر مسيحيٌّ، كانا يتناظران وكُلٌّ يعمل على إبراز مزايا دينه، وكان واضحًا أنّ المسيحيّ متفوّقٌ في الحوار، عندئذٍ تدخّل حضرة عبدالبهاء وبكُلّ بساطةٍ وبلاغةٍ دافع عن الدّين الإسلاميّ، وأقنع المسيحيّ بأصالة هذا الدّين العظيم. انتشرت أخبار هذا الحدث وأشعلت قلوب الكثيرين من أهل عكّاء نحو حضرة المولى، حيث كانت تلك بدايةً لشعبيّته وشهرته الواسعة بين سكّان المدينة.(244) حتّى وصلت الأمور إلى أنّ حاكم عكّاء “أحمد بك توفيق” أرسل ابنه لحضرةِ عبدالبهاء لتلقّي العِلم والتّنوير.

(119)

في عام 1914 كتب حضرة المولى للأحبّاء في مدينة دنفر موضّحًا لهم كيف يجب أن يكون عليه المبلّغ في تقديمه رسالة حضرة بهاءالله، فتفضّل قائلًا:

“على المبلّغ أن تتوفّر فيه أمورٌ ثلاثةٌ حتّى ينجح في تبليغ أمر الله: مقدرةٌ على معاشرة النّاس والاختلاط بهم وكسب صداقتهم، وأفعالٌ طيّبةٌ طاهرةٌ، ولسانٌ دافئٌ حلوٌ لطيفٌ. آمُل أن يتحلّى كُلٌ منكم بهذه المواهب والصّفات.”(245)

كان حضرته قد تحدّث في وقتٍ سابقٍ إلى الأحبّاء في نيويورك بخصوص ذهابهم إلى “جرين إيكر” في ولايّة “مين” لحضور مدرسةٍ صيفيّةٍ بهائيّةٍ هناك، وتفضّل قائلًا:

“عليكم أن تبلّغوا الرّسالة الإلهيّة قولًا وعملًا، لا بالأقوال وحدها. فيلزم الكلمة أن تكون مصحوبةً بالعمل. عليكم أن تحبّوا أصدقاءكم أكثر مِمّا تحبّون أنفسكم، بل عليكم أن تكونوا مستعدّين للتّضحية بأنفسكم. فلم يتجلّ أمر حضرة بهاءالله بعد في هذه الدّيار. أريد أن يكون كلّ واحدٍ منكم مستعدًّا للتّضحية بكُلّ شيءٍ من أجل الآخر، حتّى لو كان ذلك هو الحياة بعينها، وعندئذٍ أوقن أنّ أمر حضرة بهاءالله قد تأسّس. وسأدعو لكم حتّى تصيروا سبب انتشار الأنوار الإلهيّة، ولكي يشير كُلّ شخصٍ إليكم بالبنان قائلًا: ’لماذا يكون أولئك النّاس بتلك السّعادة؟‘ فأنا أريدكم أن تكونوا سعداءَ في غرين إيكر، وأن تضحكوا وتبتسموا وتبتهجوا حتّى يسعد الآخرون منكم”.(246)

وكتب حضرته في المسألة نفسها: “ونبلّغَ أمرَ الله، لكنْ بالحكمة المذكورة في الكتاب وليس بخَرْق الأستار”.(247)

على المبلّغ أن يراعي الاحتياجات المادّيّة للمستمع، هذا التّوجّه العمليّ كان واضحًا في كلمات حضرته: “لا تتحدّثوا عن الله لشخصٍ معدته خاويةٌ. عليكم أن تطعموه أوّلًا”.(248)

(120)

سُئل حضرة عبدالبهاء ذات مرّةٍ: “ماذا سأقول للمسيحيّ الّذي يقول بأنّه مقتنعٌ بدينه وليس بحاجةٍ إلى أن يؤمن بدينٍ جديدٍ؟” فأجاب حضرته بكُلّ وضوحٍ: “دعه وشأنه، ماذا سيفعل النّاس لو أنّ ملِكًا جديدًا قد اعتلى العرش؟ بالطّبع سيعترفون بالملك الجديد، ولو أنكروه لن يكونوا رعايا صالحين ومخلصين للمملكة. لقد كان هناك ربيعٌ في العام الماضي، فهل بإمكان أحدٍ أن يقول “لست بحاجةٍ إلى ربيعٍ جديدٍ، فربيع العام الماضي يكفيني؟ كلّا، فالرّبيع الجديد يجب أن يأتي ليملأ الأرض بالجمال والإشراق.”(249)

(121)

كان نهج حضرة عبدالبهاء الإيجابيّ في حياته وفي تعامله مع النّاس الدّافع الأعظم للأحبّاء كي يبذلوا كُلّ جهدهم حتّى يكونوا أفضل وأفضل دائمًا، فليسوا هم الّذين ينظرون إلى سيّئات الآخرين وأخطائهم، ولا حتّى إلى سيئاتهم ونقائصهم الشّخصيّة إلّا بالقدر الّذي يشجّعهم على التّرقّي الرّوحيّ. تفضّل حضرته قائلًا: “لا تنظروا إلى ضعفكم بل إلى قوّة الله الّتي أحاطت الآفاق”.(250) فهي نصيحته الّتي ردّدها عدّة مرات: “لا تنظروا إلى ضعفكم بل توكّلوا على تأييدات الرّوح القُدُس، إنّها تجعل الضّعيف قويًّا، والوضيع عظيمًا، والطّفل ناضجًا، والرّضيع بالغًا، والصّغير كبيرًا”.(251) وأضاف قوله: “ثقوا في فضل الله، ولا تلتفتوا إلى قدراتكم، فالموهبة الرّبّانيّة قادرةٌ على أن تقلب القطرة بحرًا، وتجعل البذرة الضّئيلة سدرةً باسقةً”.(252)

كان حضرة عبدالبهاء طبيبًا نفسيًّا ساميًا، فقد علّمنا: “ألّا ننشغل بضعفنا وخذلاننا، بل يجب أن نركّز اهتمامنا على إرادة الله ومشيئته حتّى تتدفّق من خلالنا فتشفي العالم من علله وأمراضه”.(253)

(122)

قامت السّيّدة “كورين ترو” بإحدى رحلات الحجّ التّسع الّتي قامت بها إلى الأرض الأقدس في فلسطين في الوقت الّذي كانت هناك لجنة تقصّي الحقائق التّركيّة، حيث أُعيد حبس حضرة عبدالبهاء في عكّاء بأمرٍ من السّلطان التّركيّ. في تلك الزّيارة كانت السّيّدة “ترو” تحمل معها طلبًا لحضرةِ المولى من أحبّاء أمريكا بالسّماح لهم بالبدء في التّخطيط لبناء مشرق الأذكار، كان هذا الطّلب مقدّمًا لحضرةِ المولى في صورة مخطوطةٍ موقّعٍ عليها من أكثر من ألفٍ من المؤمنين الأمريكيّين. تروي السّيّدة كيف أنّها وضعت المخطوطة خلفها على الأريكة، وبدأت أوّلًا بتقديم بعض الهدايا البسيطة لحضرته من الأحبّاء، ولكنّ حضرته هَمّ بخطواتٍ واسعةٍ عبر الغرفة حتّى أمسك بالمخطوطة، ورفعها عاليًا في الهواء وقال: “هذا هو الشّيء الّذي سيمنحني السّعادة العظمى، عودي… عودي… وابدأوا فورًا في إنشاء المعبد، إنّه عملٌ عظيمٌ”. كم كانت تتطلّع السّيّدة إلى هذا العمل ولكن يبدو أنّها مهمّةٌ أعظم مِمّا كانت تظنّ. نظر إليها حضرة عبدالبهاء بعمقٍ وقال: “كرّسوا أنفسكم لهذا المشروع، ضعوا البداية وبعدها سيأتي كُلّ شيءٍ”. ثُمّ راح حضرته يعطي التّعليمات الأساسيّة عن التّصميم، مبيّنًا أنّ البناء لا بُدّ أن يكون له تسعة جوانبَ وتسع حدائقَ وتسع نافوراتٍ وتسعة أبوابٍ وتسعة ممرّاتٍ…” وهكذا وُلِدت رؤية بناء أوّل مشرق أذكارٍ في نصف الكرة الغربيّ.(254)

(123)

كان حضرة عبدالبهاء في كاليفورنيا في عام 1912، وكان هذا العام عام انتخاباتٍ رئاسيّةٍ أمريكيّةٍ، وذات صباحٍ من شهر أكتوبر/تشرين الأوّل، أُثيرت مسألة الانتخابات أمام حضرته فعلّق بالقول: “يجب أن يكون الرّئيس رجلًا غير باحثٍ عن الرّئاسة، يجب أن يكون شخصًا منزّهًا عن كُلّ فكرةٍ عن الاسم والشّهرة، يجب أن يعتبر نفسه غير جديرٍ بهذه المنزلة ويجب أن يعبّر عن عدم لياقته لهذه المكانة، وأنّه لا يستطيع تحمّل تلك المسئوليّة الثّقيلة. لو كان الهدف هو الصّالح العام، فعلى الرّئيس أن يكون منشغلًا كلّيّةً بالمصلحة العامّة وليس بالمصلحة الأنانيّة والبحث عن الذّات”.(255)

(124)

خلال السّنوات الأخيرة من حياة حضرة المولى كان هناك “سيلٌ من الزّائرين الّذين كانوا ينقلون رسائل المولى السّاهر الشّفهيّة وإرشاداته وتعليماته الخاصّة”.(256) إلّا أنّ هذه الرّحلات السّماويّة توقّفت باندلاع الحرب العالميّة الأولى.

“من الأمثلة الرّائعة الدّالة على بُعد نظر حضرة عبدالبهاء ما ظهر منه في الأشهر الّتي سبقت الحرب مباشرةً.  ففي زمن السّلم، كان يحضر إلى حيفا عادةً عددٌ وفيرٌ من الزّائرين من إيران ومن جميع أطراف العالم.  وقرابة ستّة أشهرٍ قبل نشوب الحرب، طلب أحد البهائيّين القدامى المقيمين في حيفا إذنًا لكثيرين من أحبّاء إيران لزيارة المولى، ولكنّ حضرة عبدالبهاء لم يأذن بذلك، بل بدأ منذ ذلك الوقت يطلب بصورةٍ تدريجيّةٍ من الزّائرين الموجودين في حيفا مغادرتها، إلى أن لم يبقَ أحدٌ منهم في نهاية شهر يوليو (تمّوز) سنة 1914.  وعندما فاجأ العالم نشوب الحرب العظمى في أوائل أغسطس (آب)، ظهرت حكمة احتياطات حضرته الاحترازيّة”.(257)

(125)

بعد نهاية الحرب، استؤنفت رحلات الحجّ ثانيةً. كان من بين آخر الحجّاج الفائزين بزيارة حضرة المولى أفراد أسرة “إدوين موتون” الّذين كانوا يتطلّعون بشوقٍ للوصول إليه فطلبوا الإذن بالقدوم من الولايات المتّحدة “ولو ليومٍ واحدٍ”، فسمح لهم حضرته. أبحرت الأسرة بمنتهى البهجة مصطحبين ابنتيهم الصّغيرتين “فلورنس” و “أناماري” الّتي كان عمرها ثلاثة أشهرٍ آنذاك. كان قد طُلب من الأسرة أن تأخذ معها بعض قِطع الغيار لإصلاح سيّارة حضرة المولى الّتي كان قد أرسلها له الأحبّاء الأمريكان. كانت لدى الأسرة رغبةٌ في زيارة قبر السّيّد المسيح.(258) ذكرت “آني موتون” فيما بعد أنّ حضرة عبدالبهاء قال لهم: “لا تنسوا المسيح”. ومن خلال تشجيع حضرته لهم فقد شملت زيارتهم الأماكن المقدّسة المسيحيّة أيضًا. (في هذه الأيّام أيضًا يقوم البهائيّون عادة بـ “الحجّ الأوسع”).

(126)

كتبت أمة الله “لوا جتسنجر” في مذكّراتها عن زيارتها للأرض الأقدس، أنّه ذات يومٍ، بينما كانت تسير على شاطئ البحر مع بعض الأحبّاء بصحبة حضرة عبدالبهاء في عكّاء، لاحظت آثار أقدام حضرته على رمال الشّاطئ البيضاء النّاعمة. اقتربت منه أكثر وأخذت تمشي واضعةً أقدامها على أثر أقدامه تمامًا. وفجأةً قال لها حضرته بنبرةٍ جادّةٍ ودون أن يلتفت إليها: “ماذا تفعلين؟” أجابته بكُلّ فرح: “أنا اتبع خطواتك.” صَمَت حضرته قليلًا وهو مستمرّ في سَيره ثُمّ سأل بنبرةٍ أكثر حدّةٍ: “ماذا تفعلين يا لوا؟” فأجابت: “أنا أتبع خطواتك يا مولاي”. لم يُجب حضرته بل أخذ يسير بخطواتٍ أوسع، وبعد مسافةٍ قصيرةٍ بدأت لوا تشعر بالبرد والقشعريرة عندما أدركت كم هو عبثٌ مطلقٌ وتمادٍ من قِبلها أن تجرؤ على تتبّع خطوات من هو سِرّ الله وهي تلك الإنسانة الضّعيفة.

وهي على هذا الحال إذا بها تشعر بألمٍ فُجائيٍّ في كاحلها، نظرت فرأت أنّ عقربًا قد لسعها، فصرخت عاليًا. لم يلتفت حضرته إليها وتابع سيره ولم يخفّف من خطواته الواسعة، بينما تابعت لوا سيرها بصعوبةٍ بالغةٍ، ثُمّ أخذ كاحلها ينتفخ ويتورّم بسرعةٍ، واشتدّ عليها الألم، إلّا أنّها تمالكت وواصلت السّير، وعندما وصل الألم إلى حدٍّ لا يطاق، وقف حضرته ورجع إليها، ولمس رأسها بيده المباركة بكُلّ ما فيه من عطفٍ، ثُمّ نظر إليها بعيونه الحانية وقال: “هذا هو ما يعنيه أن تتبعي خطواتي”. كانت عيناها مغرورقةً بالدّموع، لقد فهمَت الدّرس تمامًا، ثُمّ استدار حضرته وتابع سيره ولوا تسير خلفه بأقصى ما فيها من قوّةٍ وهي تعرج. أـخذ الألم يزول بالتّدريج، بينما هي تحاول تتبّع خطوات مولاها المحبوب.(259)

الفصل الثّالث قلبه المنير

“عندما يولّي المرء وجهه شطر الله، يجد النّور في كُلّ مكان”.(260)

“خلق الله الإنسان ليعكس النّور الإلَهيّ ويضئ العالم بأقواله وأفعاله وحياته”.(261)

“ما لم يتقبّل الإنسان التّقلّبات الأليمة، ليس بتسليمٍ فاتر، بل برضا مشرقٍ، فلا يمكن له أن ينال الحرّيّة”.(262)

“حضرة عبدالبهاء”

———–

كان حضرة عبدالبهاء على إدراكٍ تامٍّ بمعنى كلمات حضرة بهاءالله الّتي تقول: “إيّاك أن لا يحزنك شيءٌ عمّا خلق بين الأرض والسّماء.(263)  لقد خبِر حضرته الأحزان، وكثيرًا ما كانت تنهمر منه الدّموع عندما كان يتحدّث عن المصاعب والأزمات الّتي تحمّلها حضرة بهاءالله وأسرته المباركة وأتباعه الّذين رافقوه في رحلة النّفي. كما كانت تبدو على حضرته أحيانًا علامات الحزن بسبب قلّة المتقبّلين لدعوته إلى دين حضرة بهاءالله، ولكنّ حضرته كان يحيا بالفعل طبقًا لِما قاله عن الملكوت الرّوحي بأنّ “الإنسان الّذي يحيا بأفكاره في هذا الملكوت يعرف السّعادة الأبديّة، ولا تتمكّن منه العلل الّتي تصيب الأجساد، بل تؤثّر فيه تأثيرًا سطحيًّا فقط، أمّا الجوهر فيظلُّ هادئًا وساكنًا”.(264)

 

السّعادة

(1)

كتب “ستانوود كوب” المربّي الشّهير: “كانت فلسفة السّعادة هي أساس كُلّ تعاليم عبدالبهاء. كانت تحيّته لزائريه هي “هل أنت سعيدٌ؟”، “كن سعيدًا!”.

عندما كان يبكي بعض التّعساء كان حضرة عبدالبهاء يبتسم كما لو أنّه يقول: “نعم، ابكوا فبعد الدّموع هناك الإشراق”.

وأحيانًا كان يقوم حضرته بمسح الدّموع بيديه عن الخدّين فيغادرون محضره وقد تبدّلت أحزانهم”.(265)

لوحظ في كاليفورنيا أنّه على الرّغم من تعب حضرته في بعض الأوقات، وبالرّغم من اعتلال صحّته، إلّا أنّه كان يرحّب بكُلّ شخصٍ بابتسامةٍ مشرقةٍ، وبصوته الرّقيق النّابض بالحياة كان يسأل: “هل أنت سعيدٌ؟”.(266)

(2)

زارت إحدى السّيّدات حضرة المولى في حيفا في مايو/أيَّار1910، وكتبت فيما بعد ما يلي عن هذه الزّيارة: “عندما كان يحدّثني كنت أشعر أنّ قلبي يرقُّ تحت تأثير عطفه وطيبته، فكانت الدّموع تنزل من عيني. سألني عن نفسي وعمّا إذا كنت بخيرٍ وعمّا إذا كنت سعيدةً، فأجبته بخصوص النّقطة الأخيرة: “كنت أعاني الكثير من الأحزان”، فقال: “انسي كُلّ أحزانك! عندما يمتلئ قلبك بحُبّ الله فلن تكون به مساحةٌ للحزن بل سيكون هناك السّعادة والحُبّ فقط”.

ثمّ تقول: “لا يمكنني أن أخبركم عن العطف اللّذيذ في صوته عندما قال لي هذه الكلمات الجميلة والمريحة. بعد ذلك طلب حضرته قدحَيْن من الشّاي، قدحًا لحضرته وآخرَ لي، فشربنا سويًّا وكلانا يرجو للآخر الصّحّة والسّعادة، ثُمّ قال لي إنّه يأمل أن يتناول الشّاي معي في ملكوت السّماء. أعجبني الشّاي فأثنيت عليه، فقال حضرته إنّه شايٌ إيرانيٌّ نقيٌّ، وتفضّل حضرته بإهدائي عُلبةً من الشّاي”.(267)

(3)

إنه لأمرٌ يضعك في سعادةٍ داخليّةٍ غامرّةٍ، وإلهاماتٍ للرّوح بليغةٍ عندما تقرأ كلمات حضرة عبدالبهاء حول هذا الموضوع وتغوص في معانيها الرّوحانيّة اللّامتناهيّة، ويغمرك دفؤها. فيما يلي بعض الأمثلة عليها:

“السّرور يمنحنا أجنحةً، ففي أوقات السّرور تزداد قوّتنا، وتشتدّ فطنتنا، ويصفو ذهننا، ونبدو أفضل قدرةً على التّكيّف مع العالم وتبيّن مجالات الاستفادة منّا. أمّا عندما يتملّكنا الحزن، تضعف قوانا بل ونفقدها أحيانًا وتخبو قدرة استيعابنا وتتلاشى مقدرتنا على التّفكير. سنفقد السّيطرة على كُلّ ما هو واقعيّ في الحياة، وستفشل بصائرنا في اكتشاف الأسرار المقدّسة ونصبح كائناتٍ ميّتةً.”(268)

“لا تحزنوا أبدًا.”(269)

“لا يريد حضرة عبدالبهاء أبدًا أن يكدّر خاطر إنسان، ولا أن يكون سببًا في حزن قلب أحدٍ؛ فليس هناك من موهبةٍ أعظم من أن يكون الإنسان سبب سرور القلوب.”(270)

“… كما قال: إنّ الحجّ الأكبر هو تطييب خاطر القلب الحزين.”(271)

أمّا أصول التّبليغ، اعلمي أنّ التّبليغ إنّما بالأعمال الملكوتيّة والأخلاق الرّحمانيّة والبيان الواضح المبين والبشارات الواضحة السّاطعة من وجه الإنسان عند النّطق والبيان.”(272)

“إذًا عليك أن تُفهِم هؤلاء الأطفال- بقدر ما استطعت- بأنّ البهائيّ هو الإنسان الجامع لجميع الكمالات، وأنّ عليه أن يكون مضيئًا كالشّمع وأن لا يكون ظلماتٍ في ظلماتٍ ولكن اسمه بهائيّ.”(273)

“سوف تفسد الأخلاق العامّة كثيرًا في المستقبل. يجب تربية الأطفال تربيةً بهائيّةً كي ينالوا سعادة الدّاريْن وبغير ذلك سيُبتلون بالمحن والمشقّات، لأنّ سعادة العالم الإنسانيّ هي في التّحلّي بالأخلاق الرّحمانيّة.”(274)

“إن السّعادة الرّوحانيّة هي الرّكيزة الحقيقيّة الّتي تقوم عليها حياة الإنسان، لأنّ الحياة وُجدت من أجل السّعادة لا من أجل التّعاسة، للفرح لا للحزن. فالسّعادة هي الحياة بينما التّعاسة هي الموت، السّعادة الرّوحانيّة هي الحياة الأبديّة وهي النّور الّذي لا يعقبه ظلام… إنّ هذه البركات العظيمة والمنحة الكُبرى لا تُعطى للإنسان إلّا بالهداية الإلهيّة…” “وما تلك السّعادة إلّا محبّة الله.”(275)

“لا شيء يجلب السّعادة للإنسان كالمحبّة.”(276)

(4)

السّيّدة سميث، بهائيّةٌ جديدةٌ تنتمي إلى أسرةٍ متميّزةٍ في “فيلادلفيا” كانت ذات مرّةٍ تعاني من الصّداع فقال لها حضرة المولى: “يجب أن تكوني سعيدةً دائمًا. يجب أن تُحسَبي من أهل الفرح والسّعادة وأن تتحلّي بالصّفات الإلهيّة. فالسّعادة تحفظ صحّتنا بشكلٍ كبيرٍ، بينما تجلب كآبة الرّوح الأمراض. إنّ أساس السّعادة الأبديّة هو الرّوحانيّة والخُلُق الإلَهيّ الّذي لا تعقبه أحزان”.(277)

(5)

قال حضرة عبدالبهاء في نيويورك: “ولكيّ يشير كُلّ شخصٍ إليكم بالبنان قائلًا ’لماذا يكون أولئك النّاس بتلك السّعادة؟‘ فأنا أريدكم أن تكونوا سعداءَ… وأن تضحكوا وتبتسموا وتبتهجوا حتّى يسعد الآخرون منكم”.(278)

(6)

في شيكاغو، وبناءً على طلبٍ من أحد محرّري الصّحف، أنزل حضرة عبدالبهاء واحدًا من أكثر ألواحه بهجةً:

“افرحوا! افرحوا! قد أشرقت شمس الحقيقة.

افرحوا! افرحوا! قد أحاط العالمَ نورُ الرّوح.

افرحوا! افرحوا! قد فُتِحت أبواب الملكوت.

افرحوا! افرحوا! قد ارتفع نشيد الملأ الأعلى.

افرحوا! افرحوا! فإنّ نفثات الرّوح القُدُس تهَبُ الحياة، وعالم الإنسان يحيا وينتعش”.(279)

هذه الكلمات تذكّرنا بمقطوعةٍ أخرى لحضرته تقول:

“بشرى لكم!

فالحياة الأبديّة هنا.

أيها النّائمون! استيقظوا!

أيها الغافلون! تعلّموا الحكمة!

أيها العُميُ! أبصروا!

أيها الصّمّ! اسمعوا!

أيها البُكم! تكلّموا!

أيها الموتى! انهضوا!

افرحوا!

افرحوا!

امتلئوا فرحًا وبهجةً!(280)

(7)

لأنّ حضرة عبدالبهاء كان يتوق بشغفٍ إلى إسعاد الآخرين وإلى تنزيههم عن القلق والحزن واليأس فقد ترك حضرته الكثير من الأدعية لهذا الغرض. المناجاة التّالية من بين هذه الأدعية: “أَيْ رَبِّ أَنْعِشْ رُوحِي وَفَرِّحْ فُؤادِي، وَطَهِّرْ قَلْبِي وَأَنِرْ بَصَرِي، إِلَيْكَ فوّضتُ أَمْرِي، فَأَنْتَ مُرْشِدِي وَمَلاذِي، لَنْ أَكُونَ حَزِينًا بائِسًا بَعْدَ الْيَوْمِ بَلْ مَسْرُورًا مُبْتَهِجًا، رَبِّ لَنْ أسمح لِلاضْطِرابِ بَعْدَ الْيَوْمِ أن يتملّكني وَلا لِلْمَتاعِبِ أَنْ تُضَايِقَنِي، وَلا لِمَكارِهَ الدّنْيا أَنْ تُشْغِلَنِي. فَأَنْتَ الرّفيقُ الأقربُ لي مِنِّي، وَإِلَيْكَ وَهَبْتُ نَفْسِي رَبِّ”.(281)

(8)

كان حضرة المولى يتوق إلى أن يهب الآخرين تلك السّعادة الّتي اهتدى إليها وعرفها من خلال حضرة بهاءالله. تذكر إحدى الزّائرات الأُوَل لـــعكّاء من الغرب ما حدث في آخر لقاءٍ لها مع حضرة عبدالبهاء: “في جلال محضره وهيمنته تحوّل خوفنا أمنًا، وضعفنا قوّةً، وأسفنا أملًا، وفنينا في محبّتنا له. وبينما نحن جُلوس بين يديه ننتظر أن نستمع إلى كلماته أجهش بعض الأحبّاء بالبكاء فأمرهم أن يكفكفوا عَبراتهم، إلّا أنّهم لم يستطيعوا ذلك حتّى لحظةً واحدةً فعاد يرجوهم ألّا يبكوا وإلاّ فإنّه لن يتحدّث إلينا ولن يعلّمنا حتّى تجفّ العَبَرات جميعًا…”.(282)

(9)

كان اثنان من الحجّاج قد وصلا لتوّهما إلى عكّاء في يناير/كانون الثّاني، 1908، بعد رحلةٍ طويلةٍ في قلب الشّتاء. وصف الحاجّان لقاءهما الأوّل بحضرة

عبدالبهاء بعد دقائقَ قليلةٍ من دخولهما منزل حضرته:

“أتى حضرته في الحال ولكنّنا كُنّا نسمع الرّنين المبهج لصوت حضرته حتّى قبل أن نراه وهو ينادي “مرحبًا…مرحبًا. كم أنا سعيدٌ بكما!”

كانت مصافحته الحارّة والقويّة مصحوبةً بترحابٍ أعظم من عينيه المذهلتيْن وابتسامته السّماويّة. أجلسنا حضرته معه، وراح في الحال يسأل عن المؤمنين في أمريكا… عندما ذكرنا لحضرته أسماء الّذين بعثوا معنا بتحيّةٍ خاصّةٍ لحضرته أشرق وجهه الجميل وشعّ بالسّعادة”.(283)

(10)

ذات يومٍ، أُحضرت فتاةٌ يهوديّةٌ، متّشحةٌ بالسّواد من رأسها إلى أخمص قدميها، إلى محضر حضرة عبدالبهاء وقد غلب عليها الجزع والاكتئاب. كلّمته والدّموع تنهمر من عينيها وهي تسرد مصائبها المتلاحقة، قائلةً إنّ أخاها يقبع في السّجن منذ ثلاث سنواتٍ ظُلمًا، وعليه أن يقضي أربع سنوات أخرى، ووالداها مكتئبان غارقان في حزنهما العميق. زوج أختها، وهو المعيل الوحيد لهم، قد توفّي. وقالت بأنّه كُلّما فوّضَت أمرها إلى الله كُلّما صارت الأمور أسوأ. تنهّدت، ثُمّ تابعت شكواها قائلةً: “… إنّ والدتي تقرأ المزامير المقدّسة باستمرارٍ ولا تستحقّ أن يتخلّى عنها الله. أنا نفسي كنت أقرأ المزمور الحادي والتّسعين والثّالث والعشرين في كُلّ ليلةٍ قبل أن أنام، ومداومةٌ على الصّلاة.”

واساها حضرة عبدالبهاء ونصحها قائلًا:

“الدّعاء ليس معناه أن تقرأي المزامير. الدّعاء يعني الوثوق باللّه والخضوع والتّسليم له في كُلّ شيءٍ. سلّمي أمرك لله وستتغيّر الأمور بعد ذلك، اتركي عائلتك في ظِلِّ رحمة الله، واقبلي إرادته وأحبّيها. السّفن القويّة لا يهزمها البحر الهائج لأنّها بطبيعتها تستطيع أن تركب الأمواج، فكوني إذًا سفينةً قويّةً لا سفينةً محطّمةً.”(284)

(11)

كانت السّيّدة “سي” من المؤمنين الأُوَل الّذين زاروا عكّاء، وكانت من طبقةٍ اجتماعيّةٍ ثريّةٍ وعصريّةٍ تعيش في نيويورك. كانت حياتها تقليديّةً وغير مُرضيةٍ إلى حدٍّ ما. كانت في السّابق مسيحيّةً مخلصةً متمسّكةً بالتّقاليد الدّينيّة، ومع ذلك لم تشعر يومًا بالرّاحة والسّعادة والرّضا، مِمّا سبّب لها شيئًا من الكآبة والحزن. وفي إحدى سفراتها سمعت عن حضرة عبدالبهاء ثُمّ آمنت بالأمر المبارك بكُلّ شغفٍ، وبعدها توجّهت إلى مدينة السّجن عكّاء لزيارته ورؤيته. بعد وصولها، فتنها كُلّ شيءٍ هناك لا سيّما المولى نفسه؛ إذ لاحظت أنّ حضرته كان دومًا يحيّيها شخصيًّا بعبارة “كوني سعيدةً” بخلاف باقي الزّائرين. فكّرت في هذه العبارة كثيرًا بشيءٍ من القلق على نفسها. لم تشعر بالجُرأة أن تسأل حضرته لماذا يخاطبها وحدها بهذه العبارة، فطلبت من أحد الأحبّاء أن يسأله.

وبوجهه البشوش المنير أجاب: “أنا أطلب منكِ أن تكوني سعيدةً لأنّه من المُحال علينا أن ندرك الحياة الرّوحانيّة ما لم نكن سعداء.”

بعد ذلك تبدّدت حيرتها، وذهب عنها خجلها من حضرته، مِمّا دفعها أن تسأله: “أخبرني ما هي الحياة الرّوحانيّة؟ كنت أسمع بها منذ أن وُلدت، ولم يستطع أحدٌ أن يشرح لي كيف تكون!” نظر إليها المولى مرّةً أخرى بابتسامته الرّائعة وقال بلطفٍ: “هي اتّصاف المرء بصفات الله، وعندها فقط سوف يدرك الحياة الرّوحانيّة.”

كلماتٌ كانت قليلةً ولكنّها كافيةٌ شافيةٌ. بدأت السّيّدة “سي” تتساءل عمّا قصده حضرة عبدالبهاء. صفات الله!؟ لا بُدَّ أنّها فضائل من قَبيل المحبّة والجمال والعدل والكرم… مرّ عليها يومٌ بليله ونهاره وعقلها مشغولٌ بهذا اللّغز السّماويّ، إلّا أنّها كانت غارقةً في نشوة السّعادة. لم يشغل فكرها أبدًا واجبها اليوميّ في المنزل، ومع ذلك عندما جاء المساء وجاء وقت الحساب، لم تستطع أن تتذكّر أنّها لم تفعل شيئًا.

وأخيرًا بدأت تتفهّم المعنى المطلوب فأيقنت أنّه إذا أغرقت نفسها كلّيًّا بالفضائل الإلهيّة فإنّها ستتحوّل معها إلى أفعالٍ بالضّرورة، وستُضاء حياتها كُلّها ليلًا نهارًا بذلك النّور الإلَهيّ. ومنذ تلك اللّحظة لم تنس تلك النّصيحة الإلهيّة الّتي مُنحت لها: “اتّصفي بصفات الله.” بذلك أدركت ما هي الحياة الرّوحانيّة.(285)

 

الرّوحانيّة

كان “جورج تاوزند” في وقتٍ من الأوقات كاهن كاتدرائيّة “سانت باتريك” في دبلن بإيرلندا، والأرشيديكون في كاتدرائيّة “كلونفورت”، وقد أصبح بعد ذلك بهائيًّا مخلصًا نشطًا. كتب لنا ما يلي:

“لقد علّم السّيّد المسيح أنّ أفضل إنجازات الإنسان ليس في عملٍ أو فكرٍ مميّزٍ، بل في علاقته مع الله حتّى يفيض قلبه وروحه وفكره بحُبّ الله. هذا هو المثل الأعظم وتلك هي الوصيّة العظمى.”

“إن الرّوحانيّة هي الصّفة المميزة لشخصيّة حضرة عبدالبهاء، وكُلّ ما هو ممدوحٌ في حياته لا يرجعه إلى فضيلةٍ يتّصف بها شخصيًّا بل إلى قدرة الله ومواهبه. كان هدفه الأوحد عبوديّته لله، وكانت سعادته الحقّة تتجلّى في التّجرّد من الشّؤون الدّنيويّة والاغتناء فقط بحُبّه لله، واضعًا حرّيّته في عبوديّته لخالقه، فاستطاع أن يعلن في أواخر أيّام عمره أنّه كرّس كُلّ طاقته في تثبيت دعائم أمر الله. وبالنّسبة له كان الله محور وجوده في هذا العالم وما بعده، لأنّ كُلّ ما في الوجود إنّما يعكس فضل الله وقدرته”.(286)

كتب حضرة عبدالبهاء يقول: “إنّ الأرواح كالمرايا، وفضل الله مثل الشّمس. فكُلّما كانت المرآة صافيةً نظيفةً ومقابلةً للشّمس انعكس فيها أنوارها ومجدها بأجلى ما يمكن، وعندها سوف لا يقيم الإنسان وزنًا لتلك المرآة بل لقوّة نور الشّمس الذّي تعكسه وتعكس معه المجد السّماويّ.”(287)

وكتب أيضًا: “… بحُبّنا لله يتحوّل الحنظل إلى سكّر، وكُلّ موهبةٍ تغدو ثمينةً وقيّمةً.”(288)

إنّ الإنسانيّة يزداد اهتمامها اليوم بمستوى الحياة المادّيّة وهذا أمرٌ مشروعٌ، إلّا أنّ حضرة عبدالبهاء عاش الحياة بشقّيها المادّيّ والرّوحانيّ، وهو يدرك تمامًا أنّ حياة الإنسان الرّوحانيّة، إذا ما تطوّرت، تحسّنت لديه الحياة المادّيّة، فالحياة الظّاهريّة تعكس ما في جوهر الإنسان. إنّ حضرته يعرف تمامًا أنّنا ماضون في رحلة الرّوح نحو تقرّبها إلى الله، ويريد من الجميع أن يعوا هذه الحقيقة الهامّة، وعندها سوف يحقّقون قدراتهم الكامنة الحقيقيّة في هذا العالم والعالم الآخر.

وفي باريس ضرب حضرة عبدالبهاء مثلًا للسّيّدة “ماري هانفورد” وآخرين كانوا حاضرين. أمسك حضرته بقصاصةٍ من الورق الرّقيق ووضعها أمام عينه وقال: “انظروا كيف أنّ شيئًا صغيرًا يمكنه أن يحجب عنّا الرّؤية. وهكذا فإنّ عملًا طائشًا أو كلمة سوءٍ، أو انتقادًا في غير محلّه قد يكون لبصيرتنا حجابًا وحاجزًا”.(289)

(12)

في عام 1911، في ميدفورد، إحدى ضواحي بوسطن الصّغيرة، جاءت سيّدةٌ بهائيّةٌ قادمةٌ من لندن لتتحدّث عن شهداء الأمر الأوائل. كان “ويليم راندال” من بين الضّيوف المدعوّين إلى منزل السّيّدة “ماريان ويليمز كوننت”.

لم يسبق له أن سمع عن الأمر المبارك، ولكنّه حضر بشيءٍ من الاهتمام المعتدل، وعندما انتهت السّيّدة من حديثها ومن عرض صور الشّهداء تقدّم منها وصافحها شاكرًا. نظرت إليه وقالت: “يا سيّد “راندال”، أنت الوحيد في هذه الغرفة الّذي عاش في روح هذه الأمسية. سأرسل إليك شخصًا ليخبرك بالمزيد عن الدّين البهائيّ.

فوجئ السّيّد “راندال” من عرضها هذا وشكرها وغادر. في صباح أحد الأيّام بعد عدّة أسابيع فوجئ  راندال عندما رأى “هارلان أوبر” يقف أمام مكتبه. تأثّر فورًا من نظراته ولطفه ودعاه للجّلوس، ثُمّ أخذ “هارلان” يحدّثه عن الأمر المبارك.

لطالما كان السّيّد راندال مهتمًّا بالدّين، فقد وُلِد كاثوليكيًّا ثُمّ أصبح عضوًا في الكنيسة الأسقفيّة وبعدها اعتنق الثّيوصوفيّة (جماعةٌ تؤمن بالكشف الصّوفيّ مع التّأمّل الفلسفيّ) ثُمّ درس العلوم المسيحيّة وحركات الفكر الجديد والأديان السّابقة، ولذلك كان يشعر بأنّه يعرف كُلّ ما يجب معرفته عن الدّين، ولم يكن لديه أيّ اهتمامٍ الآن في دراسة دينٍ جديدٍ، إلّا أنّ السّيّد “أوبر” استمرّ في حديثة عن الأمر المبارك بكُلّ مثابرةٍ، ومع مرور أشهرٍ داوم أوبر على التّردّد إلى منزل راندال لتزويده بالمزيد من المعلومات، وحثّه على الدّراسة والتّفكّر. عندما قَدِم حضرة عبدالبهاء إلى بوسطن عام 1912، توجّه هارلان إلى تلميذه المتردّد وقال له: “أعتقد بأنّ عليك أن تذهب وترى حضرة عبدالبهاء…” لم يكن راندال راغبًا في الذّهاب، إلّا أنّه وافق في النّهاية وقرّر أن يسمع محاضرة حضرة عبدالبهاء في بوسطن. وبعد أن استمع إليها أقرّ في نفسه بأنّ حضرته رجلٌ عظيمٌ جِدًّا وهو في الحقيقة قدّيسٌ.

في ختام المحاضرة، وبينما كان راندال يهِمّ بالخروج، سمع أحد سكرتيري المولى يسأل: هل هناك من يتكرّم بشراء عصير الجريب فروت لحضرةِ عبدالبهاء لأنّه مغرمٌ به ويرغب في شرب القليل منه بعد محاضرته؟ فما كان من راندال إلّا أن أجاب تلقائيًّا: يسعدني أن أحضره له. فذهب وأحضر ستّ زجاجاتٍ من العصير المطلوب من متجرٍ يقع في زاوية الطّريق، وحملها إلى الفندق الّذي ينزل فيه حضرته ودخل المصعد إلى الطّابق العلويّ. تمنّى في نفسه أن يعطيها لغيره حتّى يوصلها لأنّه لا يريد أن يقحم نفسه في الأمر، وحالما خرج من المصعد سرعان ما وجد نفسه يدخل في حديثٍ مع مجموعةٍ من الأحبّاء يقفون بالقرب منه،  ودون أن يدرك ما الّذي كان يفعله أعطى الزّجاجات لأحد سكرتيري المولى.

وما هي إلّا لحظاتٌ حتّى وجد السّكرتير يعود إليه حاملًا كوبًا من العصير ويقول له: “بما أنّك كنت لطيفًا جِدًّا وصاحب الفضل في إحضار هذا الشّراب فأنت الأولى، يا سيّد راندال، أن تقدّم هذا الكوب بنفسك لحضرةِ عبدالبهاء الجالس في غرفته. تردّد ولم يقبل الفكرة في البداية، وفي الوقت نفسه لا يريد أن يظهر بمظهر الشّخص غير اللّبق والمهذّب، لذا وافق ولكنّه صمّم أن يضع الكوب على أوّل طاولةٍ قريبةٍ من الباب داخل الغرفة ثُمّ يغادر بسرعةٍ.

أزاح السّتارة عن الباب ورأى الطّاولة المناسبة فتقدّم بعض الخطوات ووضع الكوب عليها، وبينما هو يخرج مسرورًا بتنفيذ خطّته كونه لم يزعج المولى الّذي كان لوحده في الجانب البعيد من الغرفة ويبدو مغمض العينين نائمًا، إذ بالمولى يفتح عينيه وينظر إليه ويقول: “اجلس!”. شعر بأنّه محرجٌ إذا رفض، فجلس على أريكةٍ موضوعةٍ في منتصف الغرفة، ورأى حضرته يستقيم في جلسته ويغمض عينيه ثانيةً. بقي ويليم راندال على هذه الحالة بضع دقائق، وبدأ يشعر بالانزعاج ثُمّ الغضب في داخله وتساءل: “ماذا يعني أن أجلس في محضر هذا الرّجل الكهل وهو غارقٌ في نومه!” فكّر أن ينهض ويغادر، ولكنّه عدل عن فكرته لأنّ حضرته طلب منه أن يجلس، ولا يريد أن يكون فظًّا، فبقي جالسًا في مكانه. بدأت قدماه تتخدّران، بل وإنّ جسمه أيضًا وكُلّ شيءٍ فيه آخذٌ في الخدران. حتّى إنّ ياقته، الّتي كانت منشّاةً وصلبةً، والّتي اعتدّ دائمًا بأنّها لم ترتخِ وتتدلّى أبدًا أمام النّاس، ارتخت وتدلّت. وبينما كان الغضب والغيظ يعتملان في نفسه أكثر وأكثر سمع صوتًا من داخله يقول له: لقد درست كتب الدّيانات العظمى في العالم، فأيّ خيرٍ جنيته من تلك الكتب وها أنت لا تستطيع الجلوس في محضر رجلٍ كبيرٍ في السّنّ مدّة عشرين دقيقةٍ بكُلّ هدوءٍ ورباطة جأش!؟

وبينما كانت كُلّ هذه الأفكار تدور في خَلده وتتحدّى روحه، فتح عبدالبهاء عينيه وقال: “إنّ العقل شيءٌ طيّبٌ، ولكنّه يظلُّ ذا فائدةٍ ضئيلةٍ ما لم يصبح خادمًا للقلب”. ثُمّ ابتسم حضرته وسمح لضيفه بالمغادرة. لم يكن حضرة عبدالبهاء نائمًا. لم ينس السّيّد راندال كلمات حضرته الّتي كانت له بمثابة نقطة التّحوّل في حياته.(290)

(13)

“فيسكاونت أراواكا”، السّفير اليابانيّ لدى إحدى العواصم الأوروبّيّة (مدريد) كان موجودًا لبعض الوقت في فندق “ديجينا” في باريس. علِم هذا الرّجل النّبيل وزوجته بوجود حضرة عبدالبهاء في باريس وكانت الزّوجة تشتاق إلى شرف مقابلة حضرته. قالت سعادتها: “كم أنا حزينةٌ. يجب ألّا أخرج هذا المساء لأنّي أعاني من نوبة بردٍ حادّةٍ، وسوف أغادر في الصّباح الباكر إلى إسبانيا. آهٍ لو أنّ هناك إمكانيّةً لرؤيته!”.

نُقِل هذا الحديث لحضرةِ المولى الّذي كان قد عاد لتوّه من يوم عملٍ طويلٍ وشاقٍّ. قال حضرته: “أخبروا السّيّدة وزوجها أنّني ذاهب إليهما طالما أنّها لا تستطيع الحضور”.

وهكذا وبرغم أنّ الوقت كان متأخّرًا، وبرغم الجوّ الممطر البارد، فقد حضر حضرته بمجاملته المبهجة ليحلّ الفرح على الجميع ممّن كانوا في انتظاره في صالة الفندق.

تحدّث حضرة عبدالبهاء مع السّفير وحرمه عن أحوال اليابان، وعن الأهمّيّة العالميّة لهذا القُطر، وعن الخدمة العامّة للجّنس البشريّ، وعن ضرورة العمل على نبذ الحروب، وعن الحاجة إلى تحسين أحوال العمّال، وعن ضرورة تعليم الأولاد والبنات على حدٍّ سواء. “إنّ المثال الدّينيّ هو روح كُلّ الخطط الهادفة لصالح الجنس البشريّ، ولا يجب أن يستخدم الدّين كأداةٍ في يد الأحزاب السّياسيّة. إنّ سياسات الله قويّةٌ أمّا سياسة الإنسان فهي ضعيفةٌ”.

وتحدّث حضرته عن الدّين والعِلم كجناحين عظيمين يُحلّق بهما العالم الإنسانيّ. ومن بين ما قاله حضرته: “إنّ الاكتشافات العلميّة قد رفعت مستوى الحضارة المادّيّة، وهناك قوّةٌ في الوجود لم يهتدِ إليها الإنسان بعد لحسن الحظّ. لنبتهل إلى الله ألّا يكتشف العلم هذه القوّة قبل أن تسود الحضارة الرّوحيّة وتتبوّأ عقل الإنسان، فمتى وصلت هذه القوّة إلى أيدي النّاس وهم على طبيعتهم المادّيّة السّفلى فسوف تُدمّر الأرض بأكملها”.(291)

كانت هذه الكلمات مليئةً بالتّنبّؤات الخطيرة ولكنّها لم تُفهم بشكلٍ صحيحٍ قبل مرور عقودٍ من الزّمن.

(14)

كتب “ستانوود كوب” أنّ “أكثر لقاءاته أهمّيّة” مع حضرة المولى كان في باريس عام 1913. كتب “كوب”: “كنت واحدًا من العاملين في مدرسة “بورتر سيرجنت ترافيل” للأولاد، وفي زيارتي الأولى لحضرته تفضّل بالاستفسار عن المدرسة، وسألني عن المواد الّتي أقوم بتدريسها. قُلت إنّني أُدرّس الإنجليزيّة واللّاتينيّة والجبر والهندسة، ثُمّ نظر إليّ نظرةً دقيقةً من عينيه المتوهّجتين وقال: “هل تُعلّمون الأمور الرّوحيّة؟”

هذا السّؤال أحرجني، فأنا لا أعرف كيف أشرح لحضرته أنّ الطّبيعة الغالبة على المناهج هي ضرورة إعداد الطّلّاب لامتحانات الالتحاق بالجامعة، ولذلك أجبته ببساطةٍ: “لا، ليس هناك وقت لذلك”.

لم يُعلّق حضرته على هذه الإجابة، وفي الحقيقة هو لم يكن بحاجةٍ إلى تعليقٍ، لأنّني بنفسي ومن فمي أدنتُ نفسي وأدنتُ التّعليم الحديث. “لا وقت لتعليم الأمور الرّوحيّة!” هذا بالطّبع هو الخطأ في حضارتنا المادّيّة الحديثة، هي حضارة لا وقت لديها توليه للأمور الرّوحيّة.

لكنّ سؤال حضرة عبدالبهاء وإجابته الصّامتة كانت تدلّ ومن وجهة نظره على أنّ الأمور الرّوحيّة يجب أن تأتي في المقام الأوّل”.(292)

(15)

كان حضرة المولى يحبّ الأطفال، ولقد لوحظ أنّ كثيرًا من أحاديثه كان يدلي بها وهو يحوط بذراعه على أحد الأطفال. تحدّث حضرته إلى الآباء بما يلي: “امنحوا الأطفال تعليمًا حسنًا! ابذلوا ما في وسعكم من أجل حصولهم على أفضل ما تستطيعون توفيره لهم حتّى يكونوا قادرين على التّمتّع بمزايا هذا العصر المجيد. افعلوا ما تستطيعون لإذكاء الرّوحانيّة في نفوسهم!”.(293)

(16)

في أحد أيّام شهر يونيو/حزيران في نيويورك، كان حضرة عبدالبهاء مرهقًا، فنام طويلًا بينما كان النّاس في انتظاره، وبعد أن استيقظ قال للأحبّاء: “أثناء النّوم كنت أتحاور معكم وكأنّني أتحدّث بأعلى صوتي حتّى صحوت من النّوم على أثر هذا الصّوت، وفي لحظة استيقاظي كانت هناك كلمةٌ على شفتي، وهذه الكلمة هي كلمة “امتياز”، ولذلك فسوف أتحدّث اليكم في هذا الموضوع هذا الصّباح”.

كون حضرته خطيبًا مرتجِلًا موهوبًا، فقد راح حضرته يقدّم واحدةً من أحبّ وأشهر خُطَبه. أشار حضرته إلى أنّه لم يكن راغبًا للأحبّاء أن يحقّقوا امتيازًا دنيويًّا عاديًّا، وبنهاية الخطاب خرجت الكلمات الجديرة بأن يتبعها الإنسان لقرونٍ قادمةٍ: “… إنّ ما أريده لكم هو الامتياز الرّوحيّ، بمعنى أنّ عليكم أن تشتهروا وتمتازوا في الأخلاق، وأن تتميّزوا عن سائر النّاس في محبّة الله، عليكم أن تكونوا ممتازين بحبّكم للإنسانيّة، وبالاتّحاد والوفاق، وبالمحبّة والإنصاف. وبالاختصار عليكم أن تكونوا ممتازين في كافّة فضائل العالم الإنسانيّ؛ أي ممتازين بالوفاء والصّفاء، بالإنصاف والإخلاص، بالثّبات والاستقامة، بالأعمال الخيريّة وخدمة عالم الإنسان، بالمحبّة لكُلّ إنسانٍ، بالاتّحاد والوفاق مع كافّة النّاس، وبإزالة التّعصّبات وترويج السّلام العالميّ. وفي النّهاية يجب أن تكونوا ممتازين بالاستنارة الملكوتيّة، وبنوال المواهب الرّبّانيّة، هذا هو الامتياز الّذي أرجوه لكم …”(294)

(17)

ذات يومٍ، في لندن، قدّم حضرة المولى لمستمعيه صورةً عن حوارٍ غير عاديّ وخياليّ بين الأنبياء وبين البشر، وإن كان في حقيقته حوارًا واقعيًّا: “دائمًا يواجه النّاس الأنبياء بقولهم: كُنّا مستمتعين بأنفسنا، ونحيا تبعًا لآرائنا ورغباتنا. كُنّا نأكل وننام ونغنّي ونرقص، لم يكن لدينا شيءٌ اسمه الخوف من الله أو الأمل في الجنّة، كُنّا نحبّ ما نفعله ولدينا طريقتنا في الحياة، ثُمّ أتيتم فاختلستم منّا بهجتنا. لقد أخبرتمونا عن غضب الله وعن الخوف من العقاب والأمل في الثّواب، لقد قلبتم طريقتنا الحسنة في الحياة!

أمّا أنبياء الله فقد كانوا دائمًا يجيبون: كنتم راضين أن تظلّوا في عالم الحيوان، وأردنا أن نجعلكم كائناتٍ بشريّةٍ! كنتم ظلمانيّين وأردناكم نورانيّين! كنتم أمواتًا وأردنا لكم الحياة! كنتم دنيويّين وأردنا لكم أن تكونوا سماويّين!”.(295)

(18)

ذات يومٍ، وأثناء زيارة حضرة المولى لمدينة نيويورك تفضّل حضرته بزيارة “سنترال بارك”. قضى حضرته بعض السّاعات في متحف التّاريخ الطّبيعيّ ثُمّ خرج يستريح تحت الأشجار، فأتى إليه حارسٌ عجوزٌ وسأل حضرته: هل ستعود إلى المتحف بعد أن تنال بعض الرّاحة؟ ما زالت هناك الأحافير والطّيور! ابتسم حضرة عبدالبهاء ثُمّ أجاب: “كلّا! لأنّي متعبٌ من رؤية أشياءٍ تتعلّق بهذه الدّنيا. أريد أن أُحلّق إلى أعلى لأشاهد العوالم الرّوحيّة، ما رأيك في هذا؟”. حكّ الرّجل رأسه واندهش، ثُمّ سأله حضرته: “ماذا تفضّل أن تمتلك، العالم المادّيّ أم العالم الرّوحيّ؟ أعتقد أنّك ستفضّل العالم المادّيّ… ولكنّك لن تخسر هذا العالم إذا حصلت على العالم الرّوحيّ، فعندما تصعد إلى الطّابق العلويّ في منزلك فأنت لم تغادر البيت. الطّابق السّفليّ تحت قدميك”… يبدو أنّ الرّجل رأى النّور فجأةً.(296)

(19)

ذات يومٍ، طلب حضرة عبدالبهاء السّيّدة “جوليا جراندي”، إحدى أوائل الحجّاج البهائيّين إلى الأرض الأقدس. كانت كلمات حضرته إليها مفعمةً بالحُبّ والإلهام: “أرجو أن تحملي معك من عكّاء سلام وسعادة الحياة الرّوحيّة”(297) المتعة الحقيقيّة والسّعادة الحقيقيّة تعتمد على الإدراك الرّوحيّ والسّعادة الرّوحيّة. لقد منح الله الإنسان قوّة العقل لكي تقوده نحو السّعادة الرّوحيّة. أعظم موهبةٍ في الإنسان هي محبّة الله؛ فمحبّة الله ومعرفته هي السّعادة الحقيقيّة الوحيدة لأنّها هي القرب من الله. هذه هي مملكة الله، أن تحبّي الله يعني أن تعرفيه، وأن تعرفيه يعني أن تدخلي ملكوته وتكوني بجواره. هذا ما أرجوه لكِ… أن تسيري في هذا الطّريق”.(298)

(20)

في وقتٍ مبْكرٍ من عام 1909، ذهب “تشارلز وماريام هاني”- والدا أيادي أمر الله بول هاني- للتّشرّف بمحضر حضرة المولى في عكّاء. في عيدٍ سماويّ سجّلا بعض البيانات الّتي سمعاها من حضرة المولى خلال تلك الأيّام التّسعة. ذات يومٍ، سأل حضرته السّيّد تشارلز عن حالته الصّحّيّة فقال الرّجل بكُلّ صراحةٍ: “حالتي الصّحّيّة على ما يرام ولكنّني أتلقّى في كُلّ يومٍ هنا الكثير من الغذاء الرّوحيّ حتّى إنّني أخشى أن أُصاب بحالةٍ من عسر الهضم الرّوحيّ”. ولكنّ حضرة المولى أكّد له: “كلّاسوف تهضم كُلّ غذاءك الرّوحيّ، لأنّ الّذي منحك إيّاه سوف يمنحك أيضًا القدرة على هضمه”.(299)

في تلك الزّيارة أضاف إليهم حضرة المولى قوله: “تذكّروا أنّ الصّحّة الأساسيّة هي الصّحّة الرّوحيّة لأنّ بهذه الصّحّة يمكن الحصول على الحياة الأبديّة، بينما لا نحصل من الصّحّة العضويّة إلّا على نتائجَ مؤقّتةٍ”.(300)

(21)

أرسل حضرة المولى لوحًا إلى سيّدةٍ كانت تتوق إلى الملكوت السّماويّ. كتب حضرته في جزءٍ من هذا اللّوح: “اتلي الاسم الأعظم كُلّ صباحٍ وولّي وجهكِ شطر الملكوت الأبهى حتّى تستطيعي أن تعي أسراري”.(301)

(22)

كانت “لوا جتسنجر” – الأمّ الرّوحيّة لكُلٍّ من مسز “هيرست” و “مَي بولز ماكسويل” – كانت ضمن فوج للحجيج في أواخر عام 1898، حيث تكرّرت زياراتها بعد ذلك إلى عكّاء وحيفا على مدار الثّمانية عشر عامًا التّالية. عهَد إليها حضرة عبدالبهاء بمهمّاتٍ تبليغيّةٍ هامّةٍ، وكان يرشدها دائمًا في طريق الحُبّ الإلَهيّ.

خلال إحدى زياراتها إلى الشّرق الأوسط قال لها حضرة المولى: “يجب أن تكوني ثابتةً وراسخةً في هدفك، ولا تدَعي أبدًا أيّ ظروفٍ خارجيّةٍ تشغلك. سوف أرسلك إلى الهند لتحقيق نتائجَ محدّدةٍ وواضحةٍ. يجب أن تدخلي هذا البلد بروحانيّةٍ لا تُخفق أبدًا، وإيمانٍ مشرقٍ وحماسٍ أبديّ وشعلةٍ لا تنطفئ وقناعةٍ ثابتةٍ حتّى تستطيعي تحقيق تلك الخدمات الّتي أُرسِلُك من أجلها. لا تدَعي فؤادك يضطرب. إذا ذهبت على هذه الحالة الرّاسخة وغير المتبدّلة، فسترين أنّ أبواب التّأييد قد فُتحت أمام وجهك، وأنّ حياتك ستكون إكليلًا من الزّهور السّماويّة، وستجدين نفسك في أعلى مقامات الانتصار.

اجتهدي ليلًا ونهارًا لتحقيق هذه الحالة السّامية. انظري إليّ! أنت لا تعرفين واحدًا على الألف من المحن والمصاعب الّتي تبدو مستعصيةً، والّتي تلوح أمام وجهي في كُلّ يومٍ وأنا لا أبالي بها، بل أسير في طريقي الّذي اخترته”.(302)

كانت “لوا” غير صبورةٍ على نموّها الرّوحيّ فقد كانت متهوّرةً بطبيعتها، وكانت تنشد الكمال الفوريّ لتكون لائقةً لخدمة عبدالبهاء. لكنّ حضرته علّمها أنّها لا تستطيع تحمّل هذا، وأنّ الكمال هو عمليّةٌ تطوّريّةٌ تدريجيّةٌ بطيئةٌ.

كانت عاطفتها نحو إيمانها وحبّها لحضرةِ المولى بلا حدودٍ. أصبح العالم المادّيّ غير ذي قيمةٍ لها أمام تطوّرها الرّوحيّ. حتّى أسلوبها في الملبس تغيّر في الفترة الّتي سبقت وفاتها السّابقة لأوانها في عام 1916. لقد أهملت السّيّدة أناقتها المعهودة، واستبدلتها بلباسٍ محافظٍ فضفاضٍ أزرق اللّون. في أعوامها الأخيرة كانت تعيش فقط في عالم الرّوح ومن أجله.

 

الانشراح

إنّ طلعة حضرة المولى المشرقة سوف تلهم النّاس لقرونٍ مديدةٍ لم تولد بعد. كان حضرته يبدو مبتهجًا ومسرورًا في ظروفٍ لو يمرّ بها أغلب النّاس لامتلأت قلوبهم بالأحزان. كان يقول: “الحزن مثل الثَلَم، كُلّما كان عميقًا كُلّما كان الثّمر أوفر”.(303)

(23)

في “مينيابوليس”، جاء حَبرٌ يهوديٌ إلى حضرة عبدالبهاء بطلبٍ لحضرته للحديث في الكنيس التّابع له، فدار بينهما حوارٌ يبرز في بعض أجزائه الانشراح والتّسليم المشرق لحضرته في وقت المحن.

بدأ حضرة المولى الحديث بقوله: “لقد أتيت من بلدكم الأصل- القدس. قضيت خمسةً وأربعين عامًا من حياتي في فلسطين، ولكنّني قضيتها سجينًا…”. ردّ الحَبر: “كلّنا في سجنٍ في هذه الدّنيا”. ردّ حضرته: “نعم! كنتُ سجينًا في سجنيْن”. فعلّق الحبر: “سجنٌ واحدٌ كان يكفي”. فقال حضرة عبدالبهاء: “ولكنّني كنت منشرحًا حتّى في تلك الأوقات. لقد كنت في غاية السّعادة”.(304)

الورع

علّمنا حضرة عبدالبهاء الكثير عن الدّعاء؛ ذلك اللّون من العبادة الّذي نتوجّه فيه إلى الله؛ إمّا طلبًا للعون وإمّا للثّناء عليه. قال حضرته: “في أسمى ألوان الدّعاء فإنّك تدعو فقط حُبًّا لله.(305)  كذلك تَحدّثَ حضرته عن الصّفات الرّوحيّة الّتي تمثّل الأساس الحقيقيّ للدّعاء: “يجب على العابد أن يدعو بنفسٍ منقطعةٍ، وتسليمٍ غير مشروطٍ، وانتباهٍ مركّزٍ، واشتعالٍ روحانيٍّ “.(306)

كما أقرّ حضرة المولى بأنّ: “في أثناء الدّعاء، يجب على الإنسان أن يركّز على هدفٍ في عقله”.(307)  ثُمّ تابع حضرته: “عندما أدعو فإنّي أركّز أفكاري وأولّي وجهي صوب الجمال المبارك”.(308)

(24)

كان ورع حضرة عبدالبهاء مساعدًا له على الهدوء والسّكينة حتّى في أوقات الآلام الرّهيبة والأحزان المفجعة. كان حُبّه لله هو أساس وعلّة هدوءٍ وسكينةٍ لا يهزّها أيّ ظرفٍ، وسعادةٍ داخليّةٍ لا تؤثّر فيها التّقلّبات…(309)  في الأوقات العسيرة الّتي اعتكف فيها حضرة بهاءالله في برّيّة السّليمانيّة، وكذلك عندما وقع حضرة المولى تحت الخطر في عكّاء بفعل الاتّهامات الفاحشة التّي أُلصِقت بحضرته، كان يتوجّه إلى الصّلاة والمناجاة والتّراتيل طوال اللّيل. كان صعود حضرة بهاءالله له أثرٌ عميقٌ على حضرته حتّى إنّه فقد الحياة تقريبًا، ولكنّه سرعان ما تماسك وتحمّل بقوّة التزامه بحُبّ الله. لقد نُقل عن حضرته أنّه كان يُصلّي كثيرًا ويدعو الله أن تصبح أحواله أكثر قسوةً لكي تزداد قوّته لمواجهتها”.(310)

(25)

بعث حضرة عبدالبهاء بلوحٍ إلى إحدى المؤمنات الأمريكيّات كانت قد سألته لماذا ندعو؟ وما حكمة ذلك ما دام الله قد قدّر كُلّ شيءٍ، وينفّذ كُلّ الشّئون بأحسن نظامٍ، ويضع كُلّ شيءٍ في مكانه بأعظم ترتيبٍ؟ وما هي حكمة التّضرّع والابتهال وبيان الإنسان لحاجاته والتماسه العون… أجاب فيه قائلًا: “إعلمي أنّ شأن الضّعيف أن يبتهل إلى القويّ ويليق للمُستفيض أن يتضرّع إلى الفيّاض الجليل.  وإذا ناجى ربّه وتوجّه إليه واستفاض من بحره فنفس هذا التّضرّع نور لقلبه وجلاء لبصره وحياة لروحه وعلوٌ لكينونته.

فلذلك أنظري عند مناجاتك إلى الله وتلاوتك (اسمك شفائي) كيف يهتزّ قلبك ويترنّح روحك من روح محبّة الله وينجذب فؤادك إلى ملكوت الله. فبهذه الانجذابات تزداد السّعة والاستعداد. وإذا اتّسع الإناء زاد الماء، وإذا زاد العطش عذب في ذوق الإنسان فيض الغمام. هذا سرّ المناجات وحكمة طلب الحاجات.”(311)

وفي مقامٍ آخر يقول: “فاللّه يجيب دعاء كُلِّ عبدٍ من عباده إذا كان الدّعاء مُلحًّا”.(312)

(26)

كتب حضرة عبدالبهاء إلى أحد المراسلين الصّحفيّين: “سألتَ عن حكمة الصّلاة، اعلم أنّ الصّلاة فرضٌ وواجبٌ، ولا عذر للإنسان بأيّ حالٍ من الأحوال في عدم إجرائها، إلّا إذا كان معتوهًا أو منعه عنها مانعٌ طارئٌ قهريٌّ. أمّا حكمتها فهي أنّ الصّلاة توجد علاقةً بين الإنسان وربّه، وفيها يتوجّه بقلبه وروحه إلى الله سبحانه وتعالى، ويناجي ربّه بكُلّ محبّةٍ وألفةٍ. لا توجد لذّةٌ أعظم للعاشق من المكالمة مع المعشوق أو للطّالب أن يؤانس مع المطلوب، ولهذا فإنّ كُلّ شخصٍ منجذبٍ إلى الملكوت الإلَهيّ تكون كُلّ آماله أن يفرّغ وقته للتّضرّع والدّعاء إلى محبوبه ويطلب اللّطف والعناية منه ويستغرق في بحر بيانه ولطفه وكرمه. إنّ الصّلاة والصّوم سببٌ لتذكّر وتنبّه الانسان وحفظه وحمايته من الامتحان”.(313)

(27)

عندما كان حضرة عبدالبهاء في نيويورك نادى أحد الأحبّاء وهو يبدو عليه الغيرة والحماس وقال له: “إذا جئتني غدًا عند الفجر سأعلّمك كيف يكون الدّعاء والصّلاة”.

استيقظ السّيد “إم” مبتهجًا في السّاعة الرّابعة، وعَبَر شوارع المدينة حتّى وصل في السّادسة. فبأيّ بهجةٍ فائقةٍ اغتنم هذه الفرصة الجليلة!

دخل الضّيف المنزل فوجد حضرته جالسًا على الأرض قُرب السّرير يقرأ المناجاة، فجلس في مقابله كما يجلس حضرته. وحيث إنّ المولى كان مستغرقًا في صلاته بغاية الهدوء وكأنّه ليس في هذا العالم، أخذ الضّيف يدعو ويتلو المناجاة بصمتٍ من أجل أحبّائه وأسرته وكُلّ من خطر بباله. قرأ جميع الأدعية الّتي يحفظها غيبًا وكرّرها مرّتين وثلاثًا، ولا يزال السّكون سائدًا وحضرته مستمرٌّ في الدّعاء. تحرّك الضّيف قليلًا وعدّل من جلسته على الأرض، ثُمّ أخذ يلتفت حوله وبدأ يسرح في تفكيره، أخذ يفكّر في تغريد العصافير الّتي يسمعها في الخارج، نظر من النافذة وشاهد خيوط الفجر وهي تبدّد الظّلام. مرّت ساعةٌ ثُمّ ساعتان والضّيف ساكنٌ بلا حراكٍ وكأنّه فقد الحسّ بجسده. أخذ يجول بنظره على الحائط أمامه، هناك شَقٌّ كبيرٌ فيه تتبّعه بنظراته، مدّ يده ولمس الحائط بإصبعه تعبيرًا عن عدم ارتياحه. وبينما هو يجول بنظره وقعت عيناه على حضرته. نظر إليه بتمعّن فأسَرته حالة الانجذاب الكُلّيّ الّتي كان غارقًا فيها، ثُمّ شعر فجأةً أنّ عليه أن يبدأ الدّعاء كما يفعل حضرته. نسي رغباته الشّخصيّة، ولم يعد هناك وجود للحزن أو الخلاف والنّزاع، بل والأمور المادّيّة من حوله قد تلاشت تمامًا، كان واعيًا لشيءٍ واحدٍ لا غير: “رغبةٍ شديدةٍ وحارّةٍ في التّقرّب إلى الله”. أغمض عينيه مرّةً أخرى، وبكُلّ تصميمٍ وضع العالم جانبًا وانقطع عن الدّنيا وما فيها، وأخذ يدعو بقلبه بكُلّ شغفٍ وسرورٍ وحماسٍ. شعر بالمحويّة الصّرفة والاستسلام التّامّ ثُمّ بالأمان والاطمئنان يغمران قلبه وروحه. لقد علّمه حضرة المولى كيف يتوجّه بالدّعاء.

بعد ذلك نهض حضرته من مكانه واقترب من ضيفه، وبعينيه الثّاقبتين نظر إليه وتفضّل: “عندما تقرأ المناجاة فإنّك لا تفكّر في جسدك الفاني ولا في الطّيور بالخارج ولا في الشّقوق في الحوائط.” وبلهجةٍ جادّةٍ أضاف: “عندما تريد الصّلاة عليك أن تدرك أوّلًا أنّك جالسٌ أمام ربّ العظمة والكبرياء.”(314)

(28)

سأل أحد الأحبّاء حضرة المولى: “كيف يجب علينا أن نتطلّع إلى الموت؟”

فأجاب حضرته: “كيف يتطلّع الإنسان إلى نهاية رحلةٍ من الرّحلات؟ بالشّوق والأمل. وهكذا الحال أيضًا بالنّسبة لنهاية الرّحلة الأرضيّة. ففي العالم الآخر يجد الإنسان نفسه متخلّصًا من كثيرٍ من المتاعب الّتي يعانيها الآن. والّذين رحلوا عنّا بالموت لهم عالمٌ خاصٌّ بهم، ولكنّه ليس منفصلًا عن عالمنا. فإنّ عملهم الملكوتيّ هو عملنا، ولكنّه مقدّسٌ عمّا نسمّيه بالزّمان والمكان. الزّمان بالنّسبة لنا يقاس بواسطة الشّمس، وعندما يختفي شروق الشّمس وغروبها، فهذا النّوع من الزّمن لا يكون له وجودٌ. إنّ الّذين صعدوا إلى الله لهم أوصافٌ تخالف صفات الّذين لم يلحقوا بهم، ولكن لا يوجد انفصالٌ حقيقيٌّ بين العالَميْن. ففي الصّلاة يحصل الاتّصال بهم اتّصالًا حقيقيًّا، فَصَلُّوا لأجلهم كما يصلّون لأجلكم… “.(315)

(29)

لاحظت إحدى الحاجّات للأرض الأقدس بأنّ دعاء الشّكر لا يُتلى قبل الطّعام، الأمر الّذي دفعها إلى أن تتوجّه إلى حضرة عبدالبهاء سائلةً عن السّبب، فأجابها بقوله: “إنّ قلبي في شكرٍ دائمٍ للمولى القدير، وإنّ أولئك الّذين اعتادوا تلاوة دعاء الشّكر غالبًا ما يردّدون الكلمات بأفواههم، أمّا قلوبهم فإنّها بعيدةٌ عن كونها شاكرةً.”(316)

إلّا أنّه من المثير للاهتمام أنّ “ثورنتون تشيس” – أوّل مؤمنٍ بهائيٍّ في أمريكا- ذكر أنّ حضرة عبدالبهاء، الّذي كان دومًا المضيف المثاليّ، اعتاد، أثناء وجبة الغداء، أن يكون آخر من يبدأ في تناول الطّعام مع ضيوفه، وأشار إلى أنّ تناول الطّعام كان يجب أن يستهلّ دائمًا بالقول “بسم الله البهيّ الأبهى”.

ويُحكى عن لوا جتسنجر أنّها عندما كانت في زيارتها للأرض الأقدس وفي منزل حضرة عبدالبهاء، جاءت مستعجلةً ذات صباح لتناول الإفطار، فجلست دون أن تتلو دعاء الصّباح كالمعتاد. نظر إليها حضرة المولى بنظراته الثّاقبة وتفضّل قائلًا: “لوا! لا تتناولي أبدًا الطّعام المادّيّ في الصّباح قبل الطّعام الرّوحيّ”.(317)

(30)

في إحدى المناسبات أوضح حضرة المولى أنّ الدّعاء قد ينطوي على شيءٍ من الأنانيّة، وروى حضرته الحكاية التّالية: “يُحكى أنّه في ذات يومٍ كان هناك رجلٌ مسلمٌ وآخرٌ مسيحيّ وآخرٌ يهوديّ في مركبٍ واحدٍ، وفجأةً هبّت عاصفةٌ شديدةٌ فألقت بالمركب في خضمّ الأمواج وتعرّضت حياتهم للخطر. راح المسلم يدعو قائلًا: “اللّهمّ أغرق هذا المسيحيّ الكافر”، بينما راح المسيحيّ بدوره يتضرّع إلى الله قائلًا: “أبانا الّذي في السّماء! أرسل هذا المسلم إلى أسفل الأعماق”. ثُمّ لاحظ كلاهما أنّ اليهوديّ لم ينطق بأيّ دعاءٍ فسألاه: “لماذا لا تدعو الله أن ينجيك؟” فأجاب: “إنّني أدعوه بالفعل، أنا أسأل الرّبّ أن يستجيب لدعائكما”.(318)

 

السّكينة ورباطة الجأش

(32)

خلال فترة حكم السّلطان عبدالحميد، كانت الحياة في عكّاء وحيفا محفوفةً بالتّوتّرات والمخاطر. كانت فلسطين عبارةً عن صندوقٍ من البارود، وكانت القبائل دائمة التّشاجر فيما بينها، والجريمة تنتشر بشكلٍ فاحشٍ. كانت شوارع عكّاء ضيّقةً، الأمر الّذي كان يقلّل من خطر قُطّاع الطّرق هناك حيث لا يستطيعون التّجوّل بسهولةٍ، ولكنّهم كانوا يمثّلون خطرًا حقيقيًّا ودائمًا في حيفا. كانت طلقات الرّصاص تُسمع كُلّ ليلةٍ، بينما المجرمون أحرارٌ لا يتعرّض لهم أحدٌ. عندما كان حضرة عبدالبهاء يذهب إلى حيفا كان الأحبّاء يخشون على حياته فكانوا يراقبون تحرّكاته. كان حضرته دائم الزّيارة للفقراء بمفرده ليلًا رافضًا أن يصطحب معه مرافقًا أو حتّى شخصًا يحمل له مصباحًا. على أيّة حالٍ، فعلى مسافةٍ محدّدةٍ كان أحد الأحبّاء يراقب تحرّكات حضرته سِرًّا حتّى وصوله إلى باب المنزل.

“ذات ليلةٍ، كان دور “يونس خان” في متابعة حضرة المولى وكان حضرته عائدًا إلى منزله بعد منتصف اللّيل، وفي جُنح الظّلام سُمع دويّ ثلاثة أعيرةٍ ناريّةٍ منطلقةٍ من شارعٍ جانبيّ. لم يُلقِ يونس خان بالًا بالرّصاصةِ الأولى لأنّه أمرٌ اعتياديٌّ، ولكنّ وميض الرّصاصة الثّانية جعله ينقضّ بكُلّ سرعته نحو حضرة المولى. وصل خان إلى المفترق مع انطلاق الرّصاصة الثّالثة بينما رأى رَجُلين يفرّان، ولكنّه كان على مسافة خطوةٍ واحدةٍ خلف حضرة المولى. واصل حضرته المشي دون أدنى تغييرٍ في خطواته وحتّى دون الالتفات برأسه، كانت خطواته ثابتةً وجليلةً، ولم يُعر حضرته أيّ انتباهٍ لِما حدث، وكُلّ ما كان يفعله أنّه كان يهمهم بالدّعاء. وعند وصول حضرته إلى باب المنزل أحسّ بوجود “يونس خان”، فنظر خلفه وقال ببساطةٍ: “في أمان الله”.(320)

 

(33)

من أبرز الأمثلة على رباطة جأش حضرة عبدالبهاء كان رَدُّ فعل حضرته تجاه كارثةٍ شخصيّةٍ محتملةٍ، ممثّلةً إمّا في نفيٍ أبعد أو في إعدامٍ. كانت متاعب حضرته تنبع في أغلبها من ناقضي الميثاق، أولئك البهائيّين الّذين أبوا تقبّل ميثاق حضرة بهاءالله لأتباعه بأنّ يتوجّهوا بعد صعوده نحو حضرة عبدالبهاء “الغصن الأعظم” كرئيسٍ للدّين البهائيّ والمبيّن الأوحد لتعاليمه. كان هؤلاء ينشدون الزّعامة لأنفسهم، ومن أجل بلوغ هذه الغاية ما كانوا يتورّعون في إثارة التُّهَم الفادحة والباطلة ضدّ حضرة عبدالبهاء. كان من بين محاولاتهم الماكرة أنّهم أشاعوا أنّ حضرة المولى كان بصدد بناء حصنٍ فوق جبل الكرمل، حيث كان حضرته يشيّد ضريح حضرة الباب في البقعة نفسها. كما بلغت صفاقتهم إلى ادّعائهم بأنّ حضرته قد كوّن بالفعل جيشًا يتألّفُ من ثلاثين ألفًا للإطاحة بالسّلطان عبدالحميد نفسه.

“لم تعجز هذه الاتّهامات الخطيرة الواردة في التّقارير العديدة عن إقلاق عاهلٍ يملؤه الخوف بالفعل من اقتراب تفشّي العصيان بين رعاياه، فانتدب لجنةً لتحرّي الأمر وكتابة تقريرٍ بما يصل إليه التّحرّي من نتائجَ. وقد عنيَ حضرة عبدالبهاء حين استُدعي إلى ساحة القضاء بأن يفنّد في قوّةٍ، وبلا وجلٍ كُلّ تهمةٍ من هذه الاتّهامات ويبيّن سخافتها، ويوقف أعضاء اللّجنة على مواد وصيّة حضرة بهاءالله تأييدًا لدفاعه، وأبدى استعداده للخضوع لأيّ حكمٍ يقرّره القضاء. وأكّد ببلاغةٍ أنّهم إن أوثقوه بالأغلال أو سحلوه في الطّرقات أو لعنوه أو سخروا منه أو رجموه أو بصقوا في وجهه أو صلبوه في ميدانٍ عامٍّ ومزّقوا جسده بالرّصاص، فإنّه يُعدّ ذلك شرفًا رفيعًا وأنّه بذلك يقتدي بحضرة الباب زعيمه المحبوب ويشاطره أحزانه.

ولا تسل عن خطورة الموقف الّذي جابهه حضرة عبدالبهاء، الأمر الّذي حمل حضرته على إيقاف رحلات الحجّ مؤقّتًا، وصدرت تعليماتٌ خاصّةٌ بأن يُسلّم بريده إلى مندوب في مصر بدلًا من حيفا، كما أوصى المؤمنين وأمناء سرّه بأن يجمعوا كُلّ ما بحوزتهم من آثارٍ بهائيّةٍ ويضعوها في حرزٍ أمينٍ. وتوقّفت التّجمّعات في منزله، فقد ظلّت الجواسيس تضرب حوله نطاقًا من التّجسّس الظّاهر والخفيّ، حاسبين عليه كُلّ حركةٍ من حركاته.”

وكتب حضرة شوقي أفندي، وليّ أمر الله: “وفي ذلك الحين العصيب والفترة العنيفة من عهده نهض حضرة عبدالبهاء في أوج الحياة وعزّ الرّجولة وإقبال القوّة لينفّذ الأعمال المختلفة المقترنة بذلك العهد ويتعهّدها بعزيمةٍ لا تفلّ وقوّةٍ لا تنضب وثقةٍ لا تتزعزع وإقدامٍ عجيبٍ”.(321) وخلال تلك السّنوات، ورغم أنّه كان ما زال حبيس أسوار مدينة السّجن عكّاء، وحتّى في خضمّ أخطر الصّعاب الّتي واجهته، لم يسمح أبدًا بأن تتعطّل أعمال تشييد مقام حضرة الباب. وحول مراسلات حضرته كتب حضرة وليّ أمر الله: “ولقد شهد شهود العيان أنّهم رأوا حضرة عبدالبهاء في خلال هذه الفترة المضطربة الخطيرة في حياته يكتب بيده ما لا يقلّ عن تسعين لوحًا في اليوم الواحد، ويقضي ليالي كثيرةً من مسائها إلى فجرها وحيدًا في غرفة نومه مستأنفًا كتابة المراسلات الّتي منعه ضغط مسئوليّاته المتنوّعة من أن يُعنى بها خلال النّهار”.(322)

إذا طالعت كتاب وليّ أمر الله “القرن البديع”- الفصل السّابع عشر- فسوف تجد فكرةً عن النّطاق المذهل والمتنوّع لأنّشطة حضرة عبدالبهاء وإنجازاته في تلك الفترة.

“وكانت سكينة حضرة عبدالبهاء مِمّا لا يزعزهها مزعزعٌ، وممّا أثار دهشة أصدقائه وسخرية أعدائه، أنّهم كانوا يشاهدونه وهو يزرع الأشجار والكروم في حديقة بيته، على حين ترجف الشّائعات من حوله بأنّه قد يُقذف به إلى البحر أو يُنفى إلى فيزان في طرابلس الغرب أو يُشنق. وبعد انتهاء العاصفة كان يأمر بستانيه الأمين إسماعيل آقا أن يقطف من ثمار تلك الأشجار والكروم ويقدّمها لهؤلاء الأصدقاء والأعداء لدى زيارتهم له”.(323)

لقد كان حضرة عبدالبهاء يعلم ما يقول عندما كتب حضرته: “وأنتم يا احبّآء اللّه ثبّتوا اقدامکم علی أمر اللّه ثبوتًا لا يزلزله أعظم حوادث الدّنيا ولا تضطربوا من شیءٍ في حالٍ من الأحوال“.(324)

الشّجاعة

(34)

“بعد ثلاثة أيّامٍ من وصول حضرة بهاءاالله وأصحابه إلى عكّاء، قُرئ في المسجد فرمان السّلطان بالحكم على حضرة بهاءالله  بالحبس المؤبّد، ووُصِف السّجناء بأنّهم مجرمون أفسدوا أخلاق النّاس. وذُكر فيه أنّه حُكم علیهم بالحبس وعدم مخالطة أو معاشرة أحدٍ.

… وصف حضرة عبدالبهاء وقائع استدعائه من قِبَل حاكم عكّاء لیستمع إلى مضمون المرسوم السّلطانيّ. ولَمّا قُرئ أمامه بأنّه قد حُكم علیهم بالسّجن المؤبّد، علّق حضرة عبدالبهاء على تلك العبارة بقوله إنّ بنود المرسوم لا معنى لها ولا أساس لها. اغتاظ الحاكم لدى سماعه تلك الملاحظة وأجاب بأنّه مرسومٌ من السّلطان، وطلب منه تفسیرًا لوصفه بأنّه لا معنى له. عندئذٍ كرّر حضرة عبدالبهاء تعلیقه شارحًا بأنّه ليس منطقيًّا وصف سجنهم بالأبديّ، ذلك لأنّ الإنسان يعيش في هذا العالم سنواتٍ معدودةً، وسيغادر السّجناء هذا السّجن عاجلًا أم آجلًا، أحياءً كانوا أو أمواتًا. ترك ذلك البیان انطباعًا قویًّا لدى الحاكم وضبّاطه ودهشوا لعمق رؤیته للأمور، مِمّا جعلهم یشعرون بارتیاحٍ في محضره.

من المثیر ملاحظة أنّه في وقتٍ لاحقٍ، عندما أصبح المولى أشهر شخصیّةٍ محبوبةٍ في عكّاء وما جاورها، عندما كان یقصده كُلّ واحدٍ من سكّان عكّاء تقریبًا طلبًا للعون، وعندما كان الحكّام ودونهم من كبار المسئولین یلتمسون مشورته ونصحه جالسین عند قدمیه للاستنارة في شتّى الأمور، في ذلك الوقت رفعت من ملفّات الحكومة المرسوم السّلطانيّ وغیره من الوثائق المتعلّقة بحبس حضرة بهاءالله وأصحابه وسُلّمت لید حضرة عبدالبهاء من قِبل موظّفٍ حكوميّ.”(325)

 

(35)

في أحد الأوقات الجسيمة والمحفوفة بالأخطار والأزمات، عرض القنصل الإسبانيّ سفينةً إيطاليّةً لتكون تحت إمرَة حضرة عبدالبهاء حتّى يتمكّن من النّجاة بنفسه ليلًا إلى مكانٍ يأمن فيه على حياته، ولكنّ حضرته أبى الهروب رغم توسّلات الأحبّاء لحضرته أن يغادر بعيدًا. أرسل حضرته إلى قبطان السّفينة يقول: “حضرة الباب لم يهرب، وحضرة بهاءالله لم يهرب، وأنا لن أهرب…”(326)  وبعد أيّامٍ ثلاثةٍ بلياليها، غادرت السّفينة من دون حضرة المولى.

 

(36)

في عام 1907، قدِمت من تركيّا عن طريق البحر لجنةٌ ثانيةٌ للتّقصّي، مؤلَّفةٌ من أربعة ضبّاطٍ. “وقبل قدومها بأيّام قلائل، رأى حضرة عبدالبهاء في منامه رؤيا رواها للأحبّاء، رأى فيها كأنّ سفينةً قد رست بعيدًا عن عكّاء، وكأنّ بعض الطّيور الّتي تشبه أصابع الدّيناميت قد طارت منها وحلّقت حول رأسه وهو واقفٌ بين جمعٍ خائفٍ من سكّان المدينة، ثُمّ عادت إلى السّفينة دون أن تنفجر”.(327)

ظلّ أعضاء اللّجنة في عكّاء لمُدّة شهرٍ تقريبًا، حيث توجّهوا لمعاينة البناء الحجريّ على قمّة الجبل، وطلبوا من حضرة عبدالبهاء الظّهور إليهم، ولكنّ حضرته رفض ذلك. صرّح حضرته في لندن فيما بعد: “كان رئيس اللّجنة الغاضب يريد أمرًا من السّلطان بشنقي على أبواب عكّاء”.(328) كانت السّفينة تقف متأهّبةً لحمل حضرة عبدالبهاء مع أعضاء اللّجنة ولكنّ حضرته ظلَّ هادئًا وواثقًا. حتّى إنّه أخبر من تبقّى من المؤمنين في عكّاء “إنّ تأويل رؤياي الّتي رأيتها واضحٌ مبينٌ وهو أنّه لن ينفجر هذا البارود بمشيئة الله”.(329)

وذات يومٍ وبشكلٍ سرّيٍّ، بدأت السّفينة تغادر ميناء حيفا باتّجاه عكّاء. كان البهائيّون وأسرة حضرة المولى قد اكتنفهم الحزن الشّديد عندما علموا بذلك خشية أن يؤخَذ مولاهم بعيدًا عنهم. بينما كان حضرته “يُرى في تلك السّاعة المحزنة وهو يذرع فِناء بيته وحيدًا صامتًا”.(330)  لكن وفي الغسق وللعجب العُجاب لوحظ أنّ السّفينة قد غيّرت وجهتها واتّجهت بشكلٍ مباشرٍ نحو القسّطنطينيّة حيث جرت هناك محاولةٌ لاغتيال السّلطان. عندما سلّمت اللّجنة تقريرها إليه لم يُنظر إليه، حيث كان السّلطان وحكومته مشغولين للغاية. بعد بضعة أشهرٍ اندلعت ثورة تركيّا الفتاة في عام 1908، تلك الثّورة الّتي حرّرت جميع السّجناء السّياسيّين والدّينيّين وهو الأمر الّذي انطبق على حضرة عبدالبهاء أخيرًا في عام 1908…! وفي عام 1909 تمّ خلع السّلطان نفسه.

(37)

عندما كان في باريس، تلقّى حضرة عبدالبهاء رسالةً تحذّره من أنّ حياته ستكون في خطرٍ لو قام بزيارة بلدٍ ما. عندما سمع حضرته بذلك أشار إلى اللّيدي بلومفيلد مبتسمًا وهو يقول: “يا بُنيّتي! ألم تدركي بعد أنّني لم أقضِ يومًا واحدًا في حياتي بعيدًا عن الخطر، وأنّني سأكون سعيدًا لو فارقت هذه الدّنيا وذهبت إلى أبي؟”

اضطربت اللّيدي بلومفيلد وانتابها الحزن والرّعب، فتابع حضرته: “لا تقلقي! هؤلاء الأعداء لا سلطان لهم على حياتي إلّا بمشيئة الله. فلو أنّ إلهي المحبوب شاء أن يراق دمي فِداءً في سبيله فسوف يكون هذا يومًا مجيدًا أصبو إليه بكُلّ إخلاصٍ”.(331)

الهدوء والسّكينة

عندما كانت السّيّدة “إيثل روزنبرج”- أوّل مؤمنةٍ إنجليزيّةٍ تعتنق الأمر المبارك في وطنها- عندما كانت في حجّها إلى الأرض الأقدس في عام 1901، قال لها حضرة عبدالبهاء: “يجب أن نجاهد من أجل تغيير صفاتنا السّيّئة إلى صفاتٍ حسنةٍ، يجب أن نبدّل سرعة الغضب إلى هدوءٍ، والغرور إلى تواضعٍ، والزّيف إلى حقيقةٍ، والخداع إلى صراحةٍ والكسل إلى نشاطٍ…”.(332)

(38)

ذات مرّةٍ، ساعد حضرة المولى في حمل نعش رجلٍ إلى مثواه الأخير. كان حضرته يحبّ ذلك الرّجل الّذي مات منتحرًا. تفضّل حضرته قائلا: “لا يجب على أحدٍ أن يجرح نفسه متعمّدًا، ولا يجوز له أن يسلب نفسه الحياة”. ثُمّ شرح حضرته مشجّعًا: “لا يكلّف الله نفسًا إلّا وسعها، وكُلّ عبءٍ نتحمّله فهو لخيرنا ولصالحنا، فإذا صادف إنسانٌ في أيّ وقتٍ أيّامًا قاسيةً، فعليه أن يقول لنفسه “كُلّ هذا سوف يمضي”. وأضاف حضرته: “عند المصاعب سأقول لنفسي: “هذا سوف يمضي” وبعدها سأصبح هادئًا”.(333)

(39)

كان حُبّ حضرة عبدالبهاء لله ولــحضرة بهاءالله جالبًا للسّكينة والهدوء بشكلٍ لا تزعزعه المحن القاسية، سواءٌ أكانت إطلاق رصاصٍ باللّيل أو أغلالًا أو جرادًا أو قصفًا في حيفا أو التّهديد بالموت. مثلًا كان حضرته لا يخفي السّلاسل الّتي كان مقيّدًا بها بينما يقتاده بعض الجنود الودودين في الشّوارع.(334) وفي عام 1915، قامت أسرابٌ من الجراد بتدمير البيئة الزّراعيّة، كما ظلّ حضرته شهورًا طوالًا دون أن تصل إليه أخبارٌ عن العالم البهائيّ، كما قُصفت حيفا ثلاث مرّاتٍ. كتبت لوا جتسنجر: “كم كان مذهلًا أن تشاهد الجلال الهادئ لحضرةِ المولى وهو يذوب وسط النّاس الّذين كان حضرته أملهم وعونهم الوحيد”.(335)

(40)

لم يكن حضرة عبدالبهاء ليسمح لضغوط سفره أن تزعجه، ففي ذات مرّةٍ، في بريطانيا العظمى، وبينما كانوا على وشك السّفر، حيث كان طاقم السّكرتارية والأحبّاء يعدّون للمغادرة إلى محطّة القطار، ظلَّ حضرته “يكتب بكُلّ هدوءٍ، وعندما ذكّروه بأنّ وقت الرّحيل قد حان، ردّ حضرته بهدوءٍ: “هناك أمورٌ أهمّ من القطارات” وتابع الكتابة. “وفجأةً، أتى رجلٌ منقطع النّفَس من السّرعة يحمل في يده إكليلًا جميلًا من الزّهور البيضاء زكيّة الرّائحة. انحنى الرّجل أمام حضرة المولى وقال: “أشهد باسم تلاميذ زرادشت الطّاهر أنّك أنت شاه بهرام الموعود”.(336)

“ثم قام الرّجل بتقليد حضرته إكليل الزّهور، وراح يدهن كُلّ فردٍ من الأحبّاء المذهولين بزيتٍ ثمينٍ يحمل عبق الزّهور الطّازجة”.

“ثم اختتم هذا الاحتفال القصير المؤثّر، فقام حضرة عبدالبهاء وخلع إكليل الزّهور بعنايةٍ، ثُمّ رحلوا إلى محطّة القطار”.(337)

(41)

ذات يومٍ، في سبتمبر/أيلول، 1912، كان حضرة عبدالبهاء مسافرًا من شيكاغو إلى كينوشا، وكان مقرّرًا أن يغيّر الأحبّاء القطارات في الطّريق لكي يلتقوا جميعًا في مكانٍ محدّدٍ، ولكنّ حضرته لم يلحق بقطاره، ففقد الاتّصال بهم. قال حضرته لمن معه من الأحبّاء: “لا يهمّ! من المؤكّد أنّ هناك حكمةً في الأمر”. استقلّ حضرته القطار التّالي ليجدوا في طريقهم أنّ القطار الّذي فاتهم قد اصطدم بقطارٍ آخر، وأُصيب كُلّ من كان فيه من ركّاب. كان حضرته على علمٍ بالحماية الإلهيّة، وحدّث الأحبّاء أنّه عندما كان مسافرًا من الإسكندريّة إلى أمريكا، كان هناك اقتراحٌ على حضرته أن يستقلّ الباخرة الجديدة “تيتانيك” من لندن، والّتي بدورها غرقت في تلك الرّحلة. أكّد حضرته أنّ الأقدار كانت قد سيّرته إلى أن يسافر إلى أمريكا مباشرةً من الإسكندريّة.(338)

(42)

حتّى خلال تلك الأيّام المزدحمة في لندن لم تبدُ على حضرة المولى إشارات التّوتّر والإحباط، فكان المرء يتعجّب كيف يستطيع حضرته القيام بكُلّ ما يُطلب منه. كان حضرته يعرف هدفه جيّدًا، ولذلك فقد كان كُلّ شيءٍ يوضع في منظوره الصّحيح. قبل أن يغادر لندن في عام 1913 في ختام رحلته الثّانية، أدلى حضرته بحديثٍ في حديقة “كادوجان” ذكر فيه بكُلّ وضوحٍ أنّ تبليغ الأمر المبارك يستدعي “الاهتمام غير المجزّأ”. “بلّغ الأمر لمن لا يعرفه. مضت ستّة أشهر والسّيّد “سيّد أسد الله” يناشدني أن أكتب سطورًا قليلةً لشقيقتي وبناتي، ولم أفعل ذلك لأنّني أرى أنّ عليّ أن أُبلّغ. فأنا أدخل الاجتماعات وكُلّ الكنائس حتّى ينتشر أمر الله. عندما يكون أمامنا “الأهمّ” فلا داعي لعمل “المهمّ””.(339)

(43)

دام حضرة عبدالبهاء على هدوئه حتّى آخر لحظةٍ من حياته الأرضيّة. عندما علِم حضرته أنّ ساعته قد حانت، بدأ يرفض الطّعام قائلًا: “أنتم تريدون منّي تناول الطّعام وأنا ذاهب!” ألقى حضرته نظرةً جميلةً إلى ابنتيه، كان وجهه ساكنًا وتعابيره هادئةً حتّى إنّهم اعتقدوا أنّه كان نائمًا.(340)

الثّقة

(44)

كان حضرة المولى يعلم بأنّ الله بيده مقاليد الأمور، وكُلّ ما يريده حضرته هو أن يتحرّك كما يشاء مولاه. وضع حضرته كُلّ أموره بيد الله وتجنّب الإحباطات وحالات الغضب الّتي يمرّ بها أغلب النّاس. من الأمثلة على ذلك أنّه عندما تشرّف بزيارة حضرته الحاكم العسكريّ للقدس والحاكم العسكريّ لدمشق ووجّها إليه الدّعوة لزيارة القدس، كانت إجابة حضرته: “إن شاء الله”.(341) لم يكن حضرته أبدًا عجولًا ولا متعجّلًا. كانت خططه قائمةً على “إن شاء الله” – تعبيرٌ غالبًا ما كان يستخدمه.

(45)

ذات مرّةٍ، سألت “جوليت تومسون” حضرته عن حال ابنته المريضة “روحا خانم”، فقال حضرته: “تركتها في يد الجمال المبارك ولم أعُد أقلق عليها”.(342)

 

التّسليم

(46)

في مناسبةٍ حاول حضرة عبدالبهاء أن يواسي امرأةً فقدت طفلها قبل أكثر من واحدٍ وعشرين عامًا. طلب منها ألّا تبكي وقال لها: “كان لديّ ابنٌ عمره أربع سنواتٍ، وعندما توفّي لم أُغيّر موقفي من الحياة. وهبته وديعةً عند الله ولذلك لم أحزن على موته”.(343)

 

الإخلاص

(47)

يذكر “ستانوود كوب”، وهو مربٍّ بهائيٌّ، آخر لقاءٍ له مع حضرة المولى في الولايات المتّحدة. كان قلبه مفعمًا بالمشاعر لدرجة أنّه بالكاد يمكنه أن يتذكّر ما قيل. يذكر أنّ حضرة المولى عانقه وقال له ثلاث مرّاتٍ: “كن مشتعلًا بحُبّ الملكوت”. تحيّر مستر “كوب” من المغزى الفعليّ لهذه الكلمات ثُمّ علم أنّها تلخّص جوهر التّعاليم السّماويّة لحضرةِ عبدالبهاء.(344)

(48)

قبل أن تغادر السّيّدة “سي” منزل حضرة عبدالبهاء في عكّاء في نهاية حجّها، تفضّل حضرته بالقدوم إلى غرفتها لتوديعها. جلس حضرته بجوار النّافذة ونظر إلى البحر في صمتٍ مُدّةً طويلةً حتّى ظنّت ضيفته أنّه نسي وجودها.

ثُمّ نظر إليها وقال في خطابٍ جذّابٍ يُعدُّ واحدًا من خصوصيّاته: “سيّدة سي! عندما تعودين إلى نيويورك تحدّثي مع النّاس عن حُبّ الله؛ فالنّاس في العالم لا يتحدّثون عن الله بما يكفي. حوارات النّاس مليئةٌ بالتّفاهات وهم يتجاهلون المسائل الأكثر أهمّيّةً، ومع هذا فلو تحدّثتِ إليهم عن الله تجدينهم سعداءَ وسرعان ما يفتحون قلوبهم إليك. في الغالب قد لا تستطيعين ذكر هذا الظّهور الأعظم لأنّ ذلك من شأنه أن يثير أحقادهم وتعصّبهم وبالتّالي فلن يستمعوا، لكن ستجدين أنّ بإمكانك دائمًا أن تحدّثيهم عن حُبّ الله”.(345)

“ثُمّ انصرف حضرته بينما جلست السيّدة “سي” طويلًا في الظّلام، بينما تسقط أشعّة الشّمس على صفحات الماء المتلألئ في البحر المتوسّط. كانت الظّلال العطرة تبدو وكأنّها تدوي بهمسٍ بآخر كلمات حضرة عبدالبهاء: “ستجدين أنّ بإمكانك دائمًا أن تحدّثيهم عن حُبّ الله!”.(346)

(49)

أخبر حضرة عبدالبهاء السّيّدة “لوا جتسنجر” أنّها يجب أن تنشغل بنشر الأمر الإلَهيّ ليلًا ونهارًا. عندما أتى شخصٌ ليشكو “لوا” لحضرةِ عبدالبهاء، توجّه حضرته إلى ذلك الشّخص الّذي قام بانتقادها وبابتسامةٍ كريمةٍ قال: “ولكنّها تحبّ مولاها!”.(347)

القناعة والرّضا

تعلّم حضرة عبدالبهاء القناعة منذ الطّفولة. لقد وُلدت قناعته من المشقّات. في وقتٍ لاحقٍ كان لحضرته سببٌ وجيهٌ في أن يكتب، فيما يتعلّق بالأطفال: “عوّدوهم على المشقّات”.(348)

(50)

في أوروبّا وفي إحدى المناسبات، تذكّر حضرته الأيّام العسيرة في طهران عندما سُجن حضرة بهاءالله ونُهِب منزلهم وصودرت ممتلكاتهم وقال حضرته: “إنّ الانقطاع لا يتطلّب قلّة الوسائل، ولكنّ علامته هي تحرّر القلب. في طهران كُنّا نملك كُلّ شيءٍ في المساء، وعندما أصبح النّهار كُنّا قد جُرّدنا من كُلّ شيءٍ حتّى إنّنا لم نعد نملك ما نتقوّت به. كنت جائعًا ولم يكن لدينا خبزٌ، فوضعت أمّي بعض الدّقيق في راحة يدي وتناولتُه بدلًا من الخبز، ومع هذا كُنّا راضين”.(349)

(51)

لم تستطع أسوار السّجن أن تحجب السّعادة عن قلب حضرة عبدالبهاء. كتب في السّجن قائلًا: “لا تحزن من سجني وبلائي، لأنّ السّجن جنّتي العُليا وحديقتي الغنّاء وعرش عزّي بين العالميّن، وإنّ بلائي في سجني هو تاجي الّذي به أفتخر بين ملأ الأخيار.”(350)

وفي مناسبةٍ أخرى يقول: “إنّ كُلّ إنسان يستطيع أن يكون مسرورًا في حال الرّاحة واليُسر وفي أوقات الصّحّة والنّجاح والسّرور والانشراح، ولكنّه إذا أمكنه أن يكون مسرورًا راضيًا في وقت الضّيق والمصائب والأمراض، فهذا هو دليل النّبل وعنوان الشّرف.”(351)

جميل أن ندرك أنّ تقلّبات الحياة بمرارتها ومنغّصاتها لم تغيّر حضرته في شيءٍ. فإصابته بمرض السّلّ في السّابعة من عمره، وابتلاؤه بالفقر والنّفي، وبُعده عن والده، ثُمّ سجنه وموت أولاده، كُلّ ذلك عاناه وأكثر منه، فظَلّ متفائلًا مبتهجًا مسرورًا في جميع مراحل حياته، فاجتاز كُلّ المصائب والملمّات بكُلّ نبلٍ وعظمةٍ.”

(52)

في ألواح وصاياه الّتي خطّها حضرة عبدالبهاء في وقتٍ تفاقمت فيه الأخطار والمصاعب توجّه حضرته إلى الله مناجيًا: “ربِّ ورجائي ومغيثي ومنائي ومجيري ومعيني وملاذي، تراني غريقًا في بحار المصائب القاصمة للظّهور والرّزايا المضيّقة للصّدور والبلايا المشتّتة للشّمل والمحن والآلام المفرّقة للجّمع. وأحاطتني الشّدائد من جميع الجهات وأحدقت بي المخاطر من كُلّ الأطراف خائضًا في غمار الطّامّة الكبرى، واقعًا في بئرٍ لا قرار لها، مضطهدًا من الأعداء، ومحترقًا من نيران البغضاء من ذوي القربى الّذين أخذت منهم العهد الوثيق والميثاق الغليظ أن يتوجّهوا بالقلوب إلى هذا المظلوم…”.(352)

ومع هذا تراه يدعو: “إلهي إلهي إنّي أُكبّ بوجهي على تراب الذّلّ والانكسار وأدعوك بكُلّ تضرّعٍ وابتهال أن تغفر لكُلّ من آذاني، وتعفو عن كُلّ من أرادني بسوءٍ وأهانني وتبدّل سيّئات كُلّ من ظلمني بالحسنات وترزقهم من الخيرات وتقدّر لهم كُلّ المسرّات وتنقذهم من الحسرات وتقدّر لهم كُلّ راحةٍ ورخاءٍ وتختصّهم بالعطاء والسّرّاء إنّك أنت المقتدر العزيز المهيمن القيّوم”.(353)

هذا هو حضرة عبدالبهاء الّذي نصح أحبّاءه بأنّ يُقدّموا الشّهد لمن قدّم لهم السّمّ… هو الّذي عرف جيّدًا أنّ الرّضا والسّعادة غالبًا ما يجب أن يشكّلهما الحزن والآلام.

كم كان واضحًا أنّ حضرة عبدالبهاء لم يكن أبدًا يشتهي حياةً يسيرةً، بل إنّه تقبّل المحن الجسام برحابة صدرٍ. إنّه لم يُحجم أبدًا عن إنجاز المهامّ الصّعبة وكان يعمل بروح الخدمة عالِمًا أنّ العمل بهذه الرّوح لونٌ من العبادة. كانت الشّكوى والتّذمّر أمورًا غريبةً على طبيعة عبدالبهاء، بينما كان الرّضا بمشيئة الله هو التّوجّه الطّبيعيّ لنفسه.

(53)

ذات مرّةٍ، مرّ رجلٌ من أمام منزل حضرة عبدالبهاء في حيفا وهو يحمل سلّةً على كتفه، وعندما رأى حضرته أنزل السّلّة على الأرض قائلًا إنّه لم يستطع أن يجد أحدًا يحمل له السّلّة مِمّا اضطرّه أن يحملها بنفسه. أشار حضرة عبدالبهاء إلى أنّ الإنسان لا يجب أن يشعر بالخزي من أداء أيّ عملٍ فيه فائدةٌ.(354)

(54)

روت أمة البهاء رَوحيّة خانم ما يلي في رحلتها إلى الهند: “كان حضرة عبدالبهاء يسير على قدميْه مسافة ميلين في الحرّ، حاملًا على كتفيْه المباركتيْن أُصص الزّهور، في الوقت الّذي كان فيه شيخًا عجوزًا بشعرٍ أبيضَ ولحيةٍ بيضاءَ، ولكنّه اعتاد أن يحمل هذه الأصص إلى ضريح حضرة بهاءالله من إحدى الحدائق البعيدة لزراعتها قرب المرقد المطهّر لوالده. وكانت هناك مضخّة ماءٍ على أحد جوانب جدار المرقد في الأيّام الأولى، ذلك النّوع من المضخّات الّتي تعمل يدويًّا. سمعتُ أنّ حضرة عبدالبهاء كان يقف وهو طاعنٌ في السّنّ ليضخّ الماء بيده المباركة حتّى يتجمّد جسمه من الوقوف مستندًا على الجدار ومن العمل، فلا يستطيع أن يمشي. وذات مرّةٍ، أتى البعض ورفعوه من جانب الجدار وراحوا يُدلّكون قدميه حتّى عادت إليهما الدّورة الدّمويّة، ثُمّ سألوه¨لماذا تُنهك نفسك هكذا يا حضرة المولى؟ فكان يقول: “وماذا يمكنني أن أفعل لــحضرة بهاءالله!”(355)

(55)

كان حضرة المولى ينقل ما يريد أن ينقله أحيانًا بالأسلوب القصصيّ. سجّلت “جوليا جراندي” القِصّة التّالية على لسان حضرته: “كان هناك سيّدٌ له عبدٌ مخلصٌ له بشكلٍ كاملٍ، وذات يومٍ أعطاه بطّيخةً. عندما فتحها العبد وجدها ناضجةً وشهيّةً فتناول قطعةً ثُمّ أخرى وأخرى وهو يتلذّذ بنهمٍ؛ فقد كان اليوم حارًّا، وهكذا حتّى أوشكت البطّيخة على النّفاد. ثُمّ التقط السّيّد آخر شريحةٍ وتذوّقها فوجد أنّها شديدة المرارة ولا يمكن أكلها، فسأل الخادم: “لماذا؟ إنّها مُرّة! ألم تلاحظ ذلك؟” فأجابه العبد: “نعم سيّدي، إنّها مُرّةٌ وغير سائغةٍ على الإطلاق، ولكنّني تذوّقت من يدك حلاوةً كثيرةً للغاية، حتّى إنّ بطّيخةً واحدةً مُرّةً لا تستحقّ الذّكر”.

(56)

ذات مرّةٍ، كان حضرة عبدالبهاء يتمشّى فاقتربت منه سيّدتان وقدّمتا نفسيهما إليه ثُمّ سألتاه عن الأمر المبارك. كانت السّيّدتان تعتقدان أنّ حضرته لا بُدّ وأن يكون ثريًّا ثراءً فاحشًا ولم تتردّدا أن تسألاه في ذلك، فردّ حضرته: “ثرائي ليس في هذا العالم ولكن في الملكوت… رغم أنّني لا أملك شيئًا فأنا أغنى من العالم بأسره”.(356)

 

الابتهاج

كان حضرة المولى يطلب من النّاس أن يكونوا مسرورين ومبتهجين ليس فقط لأنّ بهذا يمكنهم أن يفهموا الحياة الرّوحيّة، ولكن أيضًا لأنّ بهذه الحالة يكون بمقدورهم أن يُسعدوا الآخرين أيضًا.(357)

ذات مرّةٍ، كانت إحدى بناته المباركات بصدد السّفر مع عمّتها، فأوصاها حضرته بأنّ تكون رفيقةً فرِحةً بشوشةً.

(57)

“هوراس هولي”، الّذي أصبح كاتبًا وإداريًّا بهائيًّا مشهورًا، أتى من إيطاليا لرؤية حضرة عبدالبهاء حين كان يقضي وقتًا قصيرًا في فندق “دي بارك” في “ثونون لو بين” على بحيرة جنيفا في فرنسا. يذكر السّيّد هولي خبرته عن عَشاءٍ ذات مرّة: “كانت مجموعتنا تجلس على طاولتين متلاصقتين، وكان العشاء بأكمله مفعمًا بالفرح والحيويّة. أجاب حضرة عبدالبهاء على الكثير من الأسئلة، وأبدى ملاحظاتٍ متتاليةً عن الدّين في الغرب. كان يضحك من قلبه من وقتٍ لآخر. إنّ فكرة العبوس أو البؤس عديم الجدوى من أيّ لونٍ لا يمكن أن تجد طريقها إلى تلك الشّخصيّة الّتي بلغت مداها من النّضج الكامل. إنّ العنصر السّماويّ بداخله لا يتغذّى على حساب العنصر الإنسانيّ، بل على العكس فإنّه يثريه ويجعل له قيمةً كما لو أنّ حضرته قد حقّق نضجه الرّوحيّ عن طريق تحقيق علاقاته الاجتماعيّة وتوصيلها إلى أبهى صورها”.(358)

الضّحك

كان حضرة عبدالبهاء يحبّ الضّحك الّذي كان في الغالب يمثّل مصدرًا للسّلوى. لاحظ أحد الكتّاب، ذات مرّةٍ، أنّ حضرته ضحك من كُلّ قلبه على بعض الملاحظات والأسئلة الّتي وُجّهت إليه، حتّى إنّ عمامته المباركة فقدت تناسقها، فرفع يده المباركة لتسويتها وهو منشرحٌ مبتسمٌ. لم تُذكر أمامه دعابةٌ إلّا وابتسم.(359)

وعندما كان حضرة المولى في أمريكا قامت بزيارته كُلٌّ من “مَي ماكسويل” ومعها صغيرتها “ماري”(360) وثالثتهم “جوليت تومسون”. قضوا زيارةً مبهجةً مع حضرته ولكنّ جولييت سرعان ما قلقت على حضرته فسألته: “ألا نُزعجك بوجودنا؟ ألا يجب علينا أن نتركك لتستريح؟”

فأجاب حضرته: “كلّا! بل ابقوا معي! أنتم تريحونني… أنتم تجعلونني أضحك”.(361)

وفي إحدى المناسبات كان حضرته مسرورًا وهو يفكّر في دعابةٍ كانت تدور في فكره، وكان يبدو أنّ حضرته على وشك أن يرويها للأحبّاء الّذين كانوا يتوقون إلى سماعها من حضرته، ولكنّه تراجع قائلًا: “لا…لا أستطيع، لأنّني كُلّما أحاول أن أقولها يغلبني الضّحك، فلا أستطيع مقاومته فلا أستطيع الكلام”.(362)

(58)

في لندن كانت هناك مقابلةٌ لحضرةِ عبدالبهاء مع محرّرٍ من مجلّة Weekly Budget، تحدّث حضرته عن أوّل صيفٍ قضوه في عكّاء: “عكّاء مدينةٌ موبوءةٌ بالحُمّى. كان يُقال إنّه لو طار طيرٌ فوقها لسقط ميّتًا. كان الطّعام رديئًا وغير كافٍ، وكان الماء يُجلَب من بئرٍ موبوءٍ بدوره بالحُمّى، وكذلك كان المناخ، حتى إنّ أغلب سكّان المدينة كانوا غالبًا يسقطون مرضى. تُوفّي العديد من الجنود ومات ثمانيةٌ من عشرةٍ من حرّاسنا. وعندما تشتدّ الحرارة كانت الملاريا والتّيفود والدّوزنتاريا تهاجم المساجين، وهكذا حتّى صار كُلّ الرّجال والنّساء والأطفال مرضى في وقتٍ واحدٍ. لم يكن هناك أطبّاءٌ ولا أدويةٌ ولا طعامٌ مناسبٌ ولا أيّ نوعٍ من العلاج”. ثُمّ أشار مازحًا وضاحكًا: “كانت عادتي إذ ذاك أن أقوم بإعداد الحساء للنّاس، كنت أطهو منه الكثير حتّى صرت طاهٍ ماهرًا للحساء!”.(363)

(59)

في وقتٍ ما كان حضرة عبدالبهاء مقيّدًا بالأغلال وكان الحرّاس مندهشين لأنّ حضرة المولى كان ساعتها يغنّي ويضحك، وأخبرهم أنّهم فعلوا فيه جميلًا لأنّه كان يريد أن يعرف كيف يكون إحساس الإنسان عندما يكون مقيّدًا”. وها هو قد عرف”.(364)

(60)

في يومٍ من أيّام الصّيف أُقيمت مأدبة غداءٍ في دبلن- نيوهامبشير في منزل السّيّدة بارسونز، الّتي دعت حوالي عشرين من الشّخصيّات البارزة والهامّة في مجالات الحياة المختلفة للقاء حضرة عبدالبهاء. كانوا شخصيّاتٍ من خلفيّاتٍ علميّةٍ وثقافيّةٍ وفنّيّةٍ واقتصاديّةٍ وسياسيّةٍ وغيره.(365) كان أغلب هؤلاء الحضور لا يعرفون إلّا القليل عن تاريخ حياة حضرة عبدالبهاء، ومن المفترض أنّهم يتوقّعون من حضرته أن يقدّم عرضًا عن الأمر المبارك. كانت المضيّفة قد اقترحت على حضرته أن يتحدّث في مسألة الخلود. بدأ الغداء بعد ذلك، وفي أثنائه كانت الأحاديث المتداولة على المائدة لا تخرج عن تلك الأحاديث الرّسميّة الأرستقراطيّة الّتي تهتمّ بها المجتمعات الرّاقية. ثُمّ قامت المضيّفة بعمل مقدّمةٍ لحضرةِ عبدالبهاء كيما يتفضّل حضرته بالحديث في أمورٍ روحيّةٍ.

كان جواب حضرة المولى بعد هذه المقدّمة وإزاء ما رآه من تجمّد الموقف أنّ حضرته يودّ أن يروي لهم قِصّةً. وراح حضرته يروي لهم إحدى القصص الشّرقيّة الّتي يقتني منها حضرته مخزونًا لا ينضب، وفي نهاية القِصّة ضحك الجميع بشِدّةٍ.

لقد انكسر الحاجز الجليديّ! بدأ الآخرون يضيفون حكاياتٍ تذكّروها من القِصّة الّتي رواها حضرته، ثُمّ أضاف بدوره حكايةً ثانيةً وثالثةً، ووجهه يُشعّ بالسّعادة. كانت ضحكات حضرته تدوّي في الغرفة. ثُمّ تفضّل حضرته وقال: “إنّه شيءٌ حسنٌ أن نضحك، فالضّحك يمثّل لونًا من الاسترخاء الرّوحيّ. قال حضرته إنّه عندما كانوا في السّجن، وتحت أقسى ظروف الحرمان، كانت عادتهم في ختام كُلّ يومٍ، أن يروي كُلّ واحدٍ منهم أطرف موقفٍ صادفه خلال اليوم. كانوا أحيانًا لا يجدون موقفًا مضحكًا، ولكنّهم كانوا يضحكون حتّى تجري الدّموع من عيونهم. وقال حضرته إنّ السّعادة لا تعتمد على الوسائط المادّيّة، وإلاّ فإنّ أيّامهم في السّجن كان من المفترض أن تكون في غاية البؤس والشّقاء. فعلى أيّة حالٍ كانت تلك الأيّام، إلّا أنّهم كانوا في غاية الفرح والسّعادة”.

كان هذا أقرب ما ذهب إليه حضرته في حديثه عن الرّسالة البهائيّة، ولكنّ الأثر على الحضور كان بلا شكٍّ أعظم من أيّ طرحٍ رسميٍّ علميٍّ.

وفي الختام وبعد أن انصرف الضّيوف وهمّ حضرته بالمغادرة إلى الفندق، اقترب حضرته من مضيّفته وسألها بابتسامةٍ حزينةٍ كالطّفل الّذي ينشد استحسان الكبار ما إذا كانت مسرورةً منه!”(366)

(61)

تشرّف الدّكتور “جون إسلمونت”، كاتب كتاب “بهاءالله والعصر الجديد”، بزيارة حضرة عبدالبهاء في حيفا. كان ذلك في شتاء عام 1919-1920م حيث دامت زيارته شهرين ونصف. لاحظ الدّكتور أنّ حضرته “كان يدعو الأحبّاء عادةً لاجتماع المساء في بهوه، ويضيف طائفةً كبيرةً من الزّائرين والأحبّاء، ويُتحفهم بالأحاديث الفكهة بالإضافة إلى أحاديثه الرّوحانيّة القيّمة في مواضيعَ متنوّعةٍ جِدًّا.  وكان يصرّح: “إنّ منزلي منزل السّرور والانشراح”، وحقيقةً، كان الأمر كما يقول، فقد كان يبتهج بجمعه الكثيرين من النّاس من أجناسٍ مختلفةٍ وألوانٍ وأديانٍ مختلفةٍ بالمحبّة والوفاق التّامّ على مائدة كرمه”.(367) وفي إحدى المناسبات أخبرنا بقوله: “بيتي بيت السّلام والطّمأنينة، بيتي بيت البهجة والسّرور، بيتي بيت الضّحك والحبور. فمن أيّ بابٍ دخلتموه ستخرجون منه بقلبٍ مسرورٍ.”(368)

(62)

حظيت سيّدتان بهائيّتان بمقابلة حضرة عبدالبهاء في نيويورك. كتبت “إلّا كوانت” عن تلك المناسبة قائلةً: “أخبر حضرته مارجريت بأنّه قد دعا لوالديها اللّذين توفّيا قبل عدّة أشهر. فاغرورقت عيناها بالدّموع وسالت على خدّيها وكذلك أنا، فما كان من المترجم إلّا أن التفت إلينا وهزّ رأسه وأخبرنا بصوتٍ خافتٍ بأنّ علينا ألّا نبكي في محضر حضرته لأنّ ذلك سيجعله حزينًا. وبالفعل عندما رفعت رأسي لأراه، وجدته حزينًا من أجلنا وليس حزينًا في نفسه. وبيدين حانيتين أحاطنا كما يحيط الطّائر فراخه في العشّ بجناحيه وتفضّل بالإنجليزيّة قائلًا: “اضحكا… اضحكا.”

“لن أنسى في حياتي ذلك الصّوت الرّنّان. كان قويًّا ينبض بالحياة. رأيت في ذلك الصّوت قوّة السّماء وهي تهزم كُلّ القوى السّلبيّة في الوجود. إنّ في طاعتنا لأمر حضرة بهاءالله سنجد سرور الحياة الأبديّ.(369) إنّ المولى المحبوب يدعونا إلى الضّحك حتّى في وقتٍ كهذا – ولا عجب في ذلك إذا أدرك الفرد بأنّ حضرته قد وجد في الموت رسول البهجة والسّرور.”

(63)

فازت إحدى المؤمنات الأمريكيّات بشرف الحجّ إلى عكّاء أكثر من مرّةٍ عندما كان حضرة المولى في منفاه. ساقت تلك السّيّدة الموقف التّالي الّذي وقع على مائدة حضرته. كان يجلس معها أشخاصٌ من جنسيّاتٍ مختلفةٍ، كان بعضهم أعداءً تقليديّين وها هم الآن صاروا يحبّون بعضهم البعض على نحوٍ تبدو معه الحياة والثّروة بلا قيمةٍ إذا ما دُعوا لتقديمها. كُلّما كانت محبّتهم تلوح لها أكثر فأكثر، كان يولد بداخلها شعاع المعرفة بحالة الحُبّ والمودّة الّتي تربط المقرّبين في العالم الآخر. ومع نهاية الطّعام بدأ حضرة عبدالبهاء يتحدّث عن العوالم الأبديّة. تذكُر السّيّدة من بين ما قاله حضرته: “لقد جلسنا مع بعضنا كثيرًا من قبل، وسوف نجلس سويًّا كثيرًا في الملكوت. سوف نضحك كثيرًا وسوف نتحدّث عن الحوادث الّتي واجهتنا في سبيل الله. في كُلّ عالمٍ من عوالم الله هناك عَشاءٌ ربّانيٌّ للمؤمنين”.(370)

الدُّعابة- (النّكتة)

كان حضرة عبدالبهاء يتنعّم بحسٍّ مبهجٍ من روح الدّعابة. كان حضرته يجد المتعة في المواقف والقصص. بعض النّماذج قد توضّح ذلك.

(64)

حدث في الأرض الأقدس ذات يومٍ أن طلب حضرة عبدالبهاء من بهائيٍّ أمريكيٍّ اسمه “هارلان أوبر” أن يتوجّه إلى الهند. كان أوبر قد سافر بطول الأرض وعرضها في خدمة الأمر، ولكنّه في هذه المرّة بالذّات لم يكن محبّذًا القيام بهذه الرّحلة ولم يكن متحمّسًا لها. بعد بضعة أيّامٍ طلب منه حضرة المولى أن يذهب إلى أمريكا. فقال لحضرته: “… ولكن يا مولاي… كنت أعتقد أنّني مسافرٌ إلى الهند”. فأجابه حضرته: “وهذا ما اعتقده كريستوفر كولومبس”.(371)

(65)

ذات مرّةٍ، كان أحد محرّري الصّحف يحاور حضرة عبدالبهاء واستفسر من حضرته عن خططه في الغرب، فاندهش أنّ حضرته قام بالرّدّ عليه بالإنجليزيّة. علّق المحرّر على حسن لفظه ونطقه للكلمات، فيما نهض حضرته يخطو عبر الغرفة وقام بنطق بعض الكلمات الإنجليزيّة المعقّدة مثل كلمة hippopotamus وغيرها ثُمّ علّق حضرته ضاحكًا: “تراني أتحدّث بكلماتٍ إنجليزيّةٍ صعبةٍ للغاية!”.(372)

(66)

ساقت اللّيدي بلومفيلد مثالًا آخر على دعابته المبهجة للنّفوس: “ذات يومٍ وبعد انتهاء لقاء لحضرته وكالعادة، احتشد حوله جمعٌ غفيرٌ من النّاس للنّقاش والسّؤال وغيره، فعاد إلى المنزل وهو في غاية الإرهاق. كُنّا في منتهى الأسى أنّ حضرته على هذه الحالة من التّعب، وكان يؤلمنا أكثر أنّه ما زال أمام حضرته عددٌ غير قليلٍ من الدّرجات صعودًا حتّى يصل إلى شقّته، وفجأةً، أُصبنا بحالةٍ من الذّهول عندما فوجئنا بحضرته يصعد الدّرجات بأقصى سرعةٍ ولم يتوقّف حتّى وصل إلى آخرها.

ثمّ نظر إلينا من أعلى ونحن نتبعه مشيًا، وقال بابتسامةٍ برّاقةٍ اختفت على أثرها كُلّ مظاهر التّعب: “أنتم مسنّون للغاية وأنا ما زلت شابًّا”، ثُمّ أضاف: “بفضل قوّة حضرة بهاءالله يمكن فعل كُلّ شيءٍ، وأنا استخدمت الآن تلك القوّة”.(373)

(67)

من خلال سفر حضرة المولى إلى الغرب فقد كانت لديه فرصة أن يقارن بين الشّرق والغرب وكان يسعد كثيرًا بما بينهما من تناقضاتٍ واختلافاتٍ.

وفي فندق “رتنهاوس” في فيلادلفيا تجمّع أكثر من خمسين شخصًا في غرفةٍ صغيرةٍ للقاء حضرته، ونظرًا لقلّة المقاعد جلس بعض الحضور على الأرض مِمّا أسعد حضرته كثيرًا وعلّق بقوله: “هذا سببٌ من أسباب الوحدة. أنظروا! الغربيّ يجلس على الأرض مثل الشّرقيّ بينما يجلس الشّرقيّ على المقاعد مثل الغربيّ”، ثُمّ ضحك حضرته مسرورًا وبدأ يُلقي كلمته.(374)

(68)

ذات يومٍ في لندن، سمع حضرته الضّحك قادمًا من المطبخ فانضمّ حضرته إلى أولئك السّعداء وهو في غاية السّرور: “كان يبدو أنّ الخادم الإيرانيّ قد قال: في الشّرق ترتدي النّساء الحجاب ولكنّهنّ يقمن بعمل كُلّ شيءٍ”. فردّت الوصيفة الإنجليزيّة تقول: “في الغرب لا ترتدي النّساء حجابًا ولكنّهنّ يتلقّين رعايةً كاملةً حتّى إنّ الرّجال يشاركونهن في بعض الأعمال، فأفضل لك أن تنظّف هذه الأواني”. فضحك معهما حضرة المولى.”(375)

(69)

عندما كان حضرته ضيفًا على اللّيدي بلومفيلد جلس حضرته لتناول عَشاء عيد الميلاد وهو يقول مازحًا أنّه لم يكن جائعًا، ولكنّه اضطرّ للجّلوس على مائدة الطّعام لأنّ اللّيدي بلومفيلد كانت مصرّة للغاية… “لم يستطع اثنان من أعتى ملوك الشّرق المستبدّين أن يأمراني ويجعلاني أثني إرادتي، بينما نساء أمريكا وأوروبّا يُلقين عليّ الأوامر… لأنّهنّ يتمتّعن بالحرّيّة”.(376)

(70)

في مدينة نيويورك سأل حضرته شابٌّ كان يؤيّد ضرورة إصلاح النّظام الضّريبيّ- سأل حضرته: “ما الرّسالة الّتي يجب أن أحملها إلى أصدقائي؟”. ضحك حضرته وأجابه مداعبًا: “قل لهم أن يأتوا إلى الملكوت الإلَهيّ، فهناك سيجدون أراضي فسيحةً ولا ضرائب عليها”.(377)

(71)

في “أدنبره” تحدّث حضرة عبدالبهاء إلى “الاسبرانتيّين”، وهم أصحاب دعوةٍ جادّةٍ لإنشاء لغةٍ عالميّةٍ مساعدة. ساق حضرته الدّعابة التّالية للتّأكيد على أهمّيّة التّواصل الصّحيح بين النّاس: “أذكر حادثًا وقع في بغداد. كان هناك صديقان لا يعرف كُلّ منهما لغة الآخر، وسقط أحدهما مريضًا، فقام الآخر بزيارته ولكنّه لا يستطيع أن يواسيه بالكلمات فاستخدم الإشارات وكأنّه يريد أن يسأل: “كيف الحال؟ بماذا تشعر؟” فردّ المريض بإشارةٍ يريد أن يقول من خلالها: “سوف أموت حالًا”. ظنّ الزّائر أنّ تلك الإشارة معناها أنّه يشعر بتحسّنٍ فقال: “الحمد لله”.(378)

 

(72)

ساق حضرته قِصّةً أخرى تشير إلى ضرورةِ وجود لغةٍ عالميّةٍ واحدةٍ يفهمها كُلّ البشر: “وقف على أبواب المدينة أربعةٌ من المسافرين أحدهم إيرانيّ وآخر تركيّ وآخر عربيّ وآخر يونانيّ. كانوا جائعين ويريدون تناول العشاء، فاختاروا من بينهم شخصًا لكي يشتري لهم العشاء ولكنّهم اختلفوا حول الشّيء الّذي يجب أن يشتروه. قال الإيرانيّ “أنجور” وقال التّركيّ “أوزوم” وقال العربيّ “عنب” أمّا اليونانيّ فقد طلب “ستافيليون” أخضر وأسود. تشاجروا وتنازعوا وكادوا يتبادلون الضّربات واللّكمات ليثبت كُلّ منهم أنّ ما يريده هو العشاء الصّحيح. وفيما هم على هذا، فإذا بحمارٍ يمرّ بجانبهم وهو يحمل عنبًا، فنظروا إليه جميعًا وأشار كُلّ واحدٍ بيده. قال التّركيّ: انظروا الأوزوم! وقال العربيّ: انظروا العنب! وقال الإيرانيّ: انظروا الأنجور! وقال اليونانيّ: انظروا الستافيليون! ثُمّ اشتروا عنبهم وعادوا في سلام”.(379)

(73)

بينما كان حضرة المولى في القطار مسافرًا من “ساكرامنتو” إلى “دنفر”، مرّ بائعٌ يجوب عربات القطار ليبيع أعلامًا لمدارسَ مختلفةٍ. قال حضرة المولى لأحد مرافقيه مازحًا: “قل له أن يُحضر عَلَم السّلام العالميّ لو كان عنده! نحن نريد عَلَمًا يستطيع العالم كلّه أن يجد تحت ظِلّه الرّاحة والسّلام”. سمع الرّكّاب حضرة عبدالبهاء فتجمّعوا في ممرّات القطار حتّى يستطيعوا أن يسمعوه ويتحدّثوا إليه”.(380)

ختام -- أثر كلمات حضرة عبدالبهاء وأفعاله

(1)

نقل أحد الكتّاب أنّ حضرة عبدالبهاء قد شبّه الأمر المبارك بالحديقة حيث يتفضّل حضرته: “هناك عند باب الحديقة ترى البعض واقفًا ينظر إلى ما بداخلها غير عابئٍ بالدّخول، وآخرين يدخلون ويشاهدون جمالها دون أن يُكلّفوا أنفسهم عناء التّعمّق والتفحّص لِما فيها، وآخرين يتجوّلون في ثناياها ويستنشقون عبيرها ويستمتعون بجمالها الفتّان، ثُمّ ما يلبثون أن يمرّوا خارجًا عبر الباب الّذي دخلوا منه. ولكن هناك دائمًا من يدخلها ويثمل ويُفتن من روعة ما يراه فلا يفارقها ويقضي حياته بداخلها يرعاها”.(381) لقد فتح حضرة عبدالبهاء باب حديقة الله ومهّد الطّريق أمام كُلّ من يرغب في أن يقتفي أثره ويتبعه إلى الدّاخل. لا شكّ أنّه ليس بمقدور بشرٍ كان أن يقيّم الأثر الكُلّيّ الّذي أحدثه حضرته كمثلٍ أعلى في حياته على أعدادٍ كبيرةٍ من النّاس سواءٌ أكانوا بهائيّين، أو أصدقاءً، أو أعداءً.

ذات مرّةٍ، نظر حضرة بهاءالله إلى السّيّد/علي محمّد ورقا وتفضّل قائلًا: “انظر عبدالبهاء، المولى، يا لعظمة وروعة تأثير كلماته وأفعاله على العالم! انظر كيف يتحمّل كُلّ الرّزايا والمحن بصبرٍ ولطفٍ!”.(382)

كثيرون وكثيرون هم الّذين وصفوا حضرة عبدالبهاء وقدّموا آيات الثّناء والتّبجيل. كتبت “جوليت تومسون” الحواريّة المخلصة: “عندما يتمشّى بين النّاس، خالدٌ في عالمٍ أقلّ من أن يكون عالمًا إنسانيًّا، بجمال طلعته الأخّاذة وبعظمته الغريبة الّتي لا تنتمي إلى عالم الأرض، وجبروته النّافذ، تتبعه كُلّ الأنظار وهي في حالةٍ من الذّهول”.

وقال الشّاعر “جبران خليل جبران”: “عندما نظرت رأيت للمرّة الأولى شخصيّةً فيها من النّبل ما يجعلها وبحقٍّ محلًّا لتجلّي الرّوح القُدُس!”.

وذهب ملحدٌ يومًا إلى الكنيسة ليستمع إلى حضرته ثُمّ راح يبحث عنه بشوقٍ حتّى رآه في وقتٍ لاحقٍ في منزل حضرته. وعندما سُئل الملحد: هل شعرت بعظمة عبدالبهاء؟ أجاب ساخطًا: “وهل بإمكانكم أن تشعروا بعظمة شلّالات نياجرا؟”

إن كُلّ من تشرّف برؤية حضرته كان يتلقّى منه على قدر طاقته. تساءلت سيّدة مجتمعٍ: “لماذا كُلّ هذا الجمال- جمال القوّة! ولماذا كُلّ هذه الجاذبيّة؟ لماذا؟ لأنّه هو الإنسان الكامل في هذا العالم!”.

وقالت سيّدة مجتمعٍ أخرى تشرّفت بالحديث طويلًا مع حضرته: “ليس بإمكانك أن تخفي عنه شيئًا! لقد اخترقت عيناه كُلّ أعماقي وكشفت كُلّ ما بها من أسرارٍ”.

وقالت سيّدةٌ كانت تمرّ بتجربةٍ أليمةٍ: “لقد انتزع كُلّ المرارة من قلبي”. بينما صرّح كاتبٌ مسرحيٌّ شهيرٌ وهو خارجٌ من غرفة حضرة المولى: “لقد كنت في محضر الرّبّ”. أمّا “لي ماكلونج”، والّذي كان أمين خزينة الولايات المتّحدة آنذاك، فبعد لقائه بحضرته راح يبحث عن كلماتٍ يصف بها تجربته من اللّقاء حتّى صرّح: “شعرت كأنّني في محضر نبيٍّ عظيمٍ- إشعياء- إيليا-لا… ليس كذلك! إنّه محضر المسيح- لا! ولا هكذا. إنّه محضر أبي السّماويّ”.

أمّا السّفير التّركيّ “ضياء باشا”، وقد كان مسلمًا مخلصًا، فعندما أخبروه بظهور حضرة بهاءالله، سخِر من فكرة رسولٍ جديدٍ، إلّا أنّه عندما كان حضرة عبدالبهاء في واشنطن، قابله في السّفارة الإيرانيّة بدعوةٍ من “علي قُلّي خان” وزوجته، وفي وقتٍ لاحقٍ دعا ضياء باشا بعض الشّخصيّات إلى عَشاءٍ بالسّفارة التّركيّة على شرف حضرة عبدالبهاء، وأثناء العشاء نهض السّفير وهو يقابل حضرته والدّموع في عينيه واصفًا إيّاه بأنّه “نور العصر، الّذي جاء لينشر بيننا مجده وكماله”.(383)

وتركت لنا الفنّانة “جوليت تومسون” صورًا حيّةً بالكلمات كما ترى حضرته بنظرها في الغرب: “عبدالبهاء بقوّة سلامه في الغرب التّعيس”، “عبدالبهاء في الغرب المعقّد بقوّة بساطته”، “عبدالبهاء بجماله النّبيل والمنير في الغرب بحضارته الشّكليّة”، – معروفٌ بكماله في مقابل نقصنا وعدم نضجنا!

“وهذا الجمال المشرق- وتلك الكرامة الّتي لا تنتمي إلى هذا العالم- وجلال تلك الرّوح الّتي تتوِّجُهُ ملِكًا بين النّاس، لم يمضِ كُلّ هذا هباءً، لأنّه أينما كان يمضي فقد كانت تتبعه العيون وتنحني أمامه الحشود مدفوعةً إلى تبجيله”.(384)

وذات مرّةٍ في بوسطن، اندفعت سيّدةٌ سوريّةٌ واخترقت الصّفوف المتجمهرة من النّاس حتّى وصلت وألقت بنفسها على أقدامه وقالت: “أشهد أنّني عرفت فيك روح الله والسّيّد المسيح نفسه”.(385)

ونقلًا عن اللّيدي بلومفيلد: “إنّ طبيبًا رأى حضرة عبدالبهاء في الإسكندريّة، وشهد حياته الّتي تشبه حياة المسيح، أخبرني بأنّ تلك هي المرّة الأولى الّتي استطاع أن يفهم من خلالها كيف كان السّيّد المسيح، وقال: “والآن أستطيع أن أؤمن”.(386)

ورأت سيّدةٌ من سويسرا صورة حضرة عبدالبهاء لأوّل مرّة فحملتها بين يديها وراحت تصرخ: “يا إلهي! إنّه وجه الرّبّ”(387) وانهمرت الدّموع من عينيها(388). لم يكن حضرة عبدالبهاء بالطّبع إلهًا ولا نبيًّا، وهو لم يزعم ذلك على الإطلاق، إنّ مقامه مقامٌ فريدٌ – إنّه سرّ الله- ولمس النّاس فيه شيئًا خارقًا للعادة.

(2)

من أعظم التّجمّعات الاستثنائيّة الّتي حدثت مع حضرة المولى بلا شكٍّ في رحلاته عبر قارّة أمريكا عام 1912، كان ذلك التّجمّع الّذي حدث في “بالو التو” – كاليفورنيا. هنا وفي جامعة “ليلاند ستانفورد جونيور” احتشد ألفان من الطّلّاب وهيئة التّدريس في صالة اجتماعاتٍ كبرى للاستماع إلى ذلك الحكيم العظيم القادم من الشّرق.

دكتور “دافيد ستار جوردان”، العالِم والبراجماتي، والّذى كان أستاذًا لـ “هربرت هوفر” وهو الآن رئيسًا لهذه الجامعة العظيمة، استقبل حضرة عبدالبهاء بكرم ضيافةٍ عظيمٍ أنتج واحدةً من أهمّ المحاضرات الّتي قدّمها حضرته في ذلك القطر. دكتور جوردان الّذي عُرف بقوله: “إنّ عبدالبهاء سوف يوحّد بالتّأكيد الشّرق والغرب لأنّه يسير على الطّريق الصّوفيّ بأقدامٍ عمليّة”.(389) قدّم الخطيبَ العظيمَ إلى هذا الجمهور العريض بقوله: “نصيبنا أن يكون بيننا اليوم واحدٌ من أعظم المعلّمين الإلَهيّين في العالم، أحد الخلفاء الطّبيعيّين لأنّبياء بني إسرائيل… فلي عظيم الشّرف أن أُقدّم لكم عبدالبهاء”. فتقدّم حضرته إلى الأمام وقدّم خطابًا بارعًا يناسب الجمهور ويناسب الوقت.(390)

وبعدها قامت صحيفة “بالو التان” في 1 نوفمبر/تشرين الثّاني بإبراز هذا الحدث في صفحةٍ كاملةٍ. اعتبرت الصّحيفة حضرة عبدالبهاء نبيًّا جليلًا، بلحيته البيضاء الطّويلة وعباءته وعمامته الإيرانيّة، وقالت الصّحيفة: “عبدالبهاء يحمل رسالة الدّين، ودكتور جوردان يحمل رسالة العِلم، وكلاهما يهدف إلى النّتيجة العظيمة نفسها. بما أنّ كُلّ النّاس أبناءُ إلهٍ واحدٍ، فهم إذًا إخوة، ونحن نعيش في فجر يومٍ جديدٍ سوف يشهد تحقيق علاقة الأخوّة الإنسانيّة العالميّة…”.(391)

(3)

قال “لودويج زامنهوف” مؤسّس الإسبرانتو: “إنّني أقدّر بكُلّ إجلالٍ شخصيّة عبدالبهاء وأعماله، وأرى فيه واحدًا من أعظم المحسنين الّذين أنتجتهم البشريّة”.(392)

(4)

في مقدّمة كتاب “مقالة سائح” الّذي ترجمه من الفارسيّة إلى الإنجليزيّة المستشرق الكبير “إدوارد براون” من جامعة كامبريدج، نقرأ ما يلي فيما يخصّ حضرة عبدالبهاء: “واحدٌ هو الأفصح في الخطاب، والأكثر حضورًا في الحوار، والأكفأ في التّصوير، والأعلم بالكتب المقدّسة اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة، حتّى أعتقد أنّه لا نظير له حتّى بين الفصحاء والحذّق من أبناء جنسه، فإذا أضفت إلى هذا ما هو عليه من جلالٍ ولطفٍ معًا، فإنّني أتوقّف وأتعجّب من الأثر والتّوقير الّذي تمتّع به حتّى من خارج دائرة أتباع والده. إنّ عظمته وجلاله لا يشكّ فيها أيّ إنسانٍ قُدّر له أن يراه”.(393)

(5)

كتب “إدوارد براون” في صحيفة Journal of the Royal Asiatic Society في عددها الصّادر في يناير/كانون الثّاني، 1922: “إنّ وفاة عبّاس أفندي والّذي عُرف بعبدالبهاء منذ أن خلف أباه منذ ثلاثين عامًا – تحرم إيران من واحدٍ من أبرز أبنائها، كما تحرم الشّرق بأكمله من شخصيّةٍ بارزةٍ امتدّ أثرها ليس فقط في الشّرق ولكن في الغرب أيضًا بشكلٍ لم يسبق لأيّ مفكّرٍ آسيويٍّ أن فعله في العصر الحديث… من النّتائج العمليّة البارزة للتّعاليم الأخلاقيّة البهائيّة في الولايات المتّحدة، وطبقًا لشهادة مراقبٍ منصفٍ ومؤهّل، أن تأسّست في الدّوائر البهائيّة في نيويورك أُخوّةٌ حقيقيّةٌ بين السّود والبيض، وانهيارٌ غير مسبوقٍ لحاجز اللّون وُصف عن طريق المراقب نفسه بأنّه “يكاد أن يكون معجزةً “.(394)

(6)

علّق الأمير “محمّد علي باشا” أخو الخديو عبّاس حلمي بقوله: “لقد اعتبرتُه أهمّ رجلٍ في هذا القرن. إنّ رجلًا مثل عبّاس بابا لا يمكن تعويضه بحالٍ من الأحوال، هذا رأيي، فهو ذو روحٍ عظيمةٍ وعقلٍ قديرٍ وتمكُّنٍ من الحقائق”.(395)

(7)

كانت صورة عبدالبهاء وحدها لها سلطانٌ على فتاةٍ صغيرةٍ. كانت هناك تجربةٌ غير عاديّةٍ لإمرأةٍ أصرّت ابنتها الصّغيرة على أنّ السّيّد المسيح موجودٌ في هذا العالم، وأنّها رأته في الحُلم.  فلمّا رأت صورة حضرة عبدالبهاء معروضةً في واجهة محلٍّ لبيع المجلّات، قطعت بأنّها هي صورة السّيّد المسيح الّذي رأته في رؤياها، فاضطرّت أمّها أن تبحر في السّفينة التّالية إلى أوروبّا بعد أن قرأت أنّ حضرة عبدالبهاء في باريس وتُسرع للفوز بلقائه”.(396)

(8)

حتّى اللّصوص وقُطّاع الطّرق تأثّروا بحضرة المولى. في عام 1972 كتبت “مارجريت روحي” من حيفا أنّ العزيز كبير السّنّ السّيّد “آفرون” قد وصل حديثًا إلى الحجّ من إيران. كان جنابه قد أدّى حجّه الأوّل في عام 1919، حين قضى سبعةً وخمسين يومًا في رحلته حيث كان ضمن أوّل فوجٍ يُدعى إلى الحجّ بعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى. استغرقت رحلته من طهران ثلاثة أشهرٍ وقتها متنقّلًا عبر القطارات والمراكب وأخيرًا بالعربات. كان الأحبّاء في إسطنبول قد أعطوه بعض القطع النّقديّة الفضّيّة لحضرةِ عبدالبهاء في حيفا، وعندما مرّوا عبر عكّاء اعترضتهم جماعةٌ من اللّصوص وفتحوا حقائبهم وسرقوا بعض ما فيها. عندما رأوا القِطع الفضّيّة وهمّوا ليأخذوها، قال لهم السّيّد آفرون: “هذه الفِضّة لعبدالبهاء”، فصمت اللّصوص فجأةً ثُمّ قالوا: “عبدالبهاء أطعمنا وألبسنا وآوانا، فخُذ معك فِضّة عبدالبهاء”. ثُمّ أضافت السّيّدة مارجريت أنّ هذا يذكّرنا بأنّ حضرة عبدالبهاء عاش في عكّاء أكثر من أربعين عامًا، وكان هو المواطن الأكثر أهمّيّة في المدينة، وكان هو المجاهد الاجتماعيّ العظيم الّذي خدم النّاس بطُرقٍ لا حصر لها ليلًا ونهارًا لسنواتٍ طوال”.(397)

(9)

في إحدى المناسبات شاهدت فلورنس خانم حضرة المولى وهو “يرفع وجهه المحبوب إلى السّماء وراح يُحدّق في بهاء القمر وهو بدرٌ كاملٌ. لا يمكن أن أنسى لحظات الجمال هذه، فالقمر الّذي يمثّل تحفة الله في السّماء يتلقّى نظرة إعجابٍ وتأمّل من تحفة الله على الأرض… عبدالبهاء”.(398)

(10)

أصبح حضرته أاااااكتب “لويس ويت”: “عندما نقبل مقام عبدالبهاء فلا جدوى من تنغيص عقولنا بالبحث والاستفسار ولماذا وكيف… لأنّ المسألة حينئذٍ مَثلها كمثل مسافرٍ ضلّ الطّريق، ثُمّ أتت إليه سيّارة وعرض عليه سائقها أن يحمله إلى المدينة، فركب السّيّارة سعيدًا، ولكنّه ظلَّ يحمل أمتعته الثّقيلة على ظهره! في عكّاء لم أتوقّف عند حدّ تسلّق مركب الحقيقة، ولكنّني إلى جوار ذلك ألقيت جانبًا أعباء نفسي الثّقيلة وآرائي وأفكاري المحيّرة، وأنا مطمئنٌ بأنّ ذلك القائد السّماويّ سيحملني بأمانٍ إلى المدينة. لقد منحنا الله حقًّا سفينة النّجاة في عبدالبهاء. عبدالبهاء سرّ الله! من باستطاعته فهم ذلك السّر؟ بالتّأكيد ليس بالعقل المحدود ولا عن طريق الذّكاء، فقط عن طريق القلب يمكننا أن نلتقط لمحةً باهتةً عن مقامه”.(399)

(11)

تذكّر “هوراس هولي”، الّذي خدم فيما بعد كسكرتير للمحفل الرّوحانيّ المركزيّ للبهائيّين في الولايات المتّحدة الأمريكيّة لسنواتٍ عديدةٍ، تذكّر رؤيته الأولى لحضرةِ المولى. كان النّاس يجلسون على طاولاتٍ خارجيّةٍ في فندق “ثونون لو بان” على بحيرة جنيفا في فرنسا، وكان آخرون يتجوّلون تحت الأشجار والأوركسترا تعزف. ولكن كُلّ هذا لا يهمّ”. كان هوراس هولي قويًّا متمرّسًا من النّاحية العقلانيّة ولم يكن من السّهل عليه أن يبرز عواطفه، لكنّ مشاعره هاجت بشكلٍ عميقٍ. كتب هوراس في وقتٍ لاحقٍ من ذلك العام: “… رأيت بينهم رجلًا كبيرًا مهيبًا يرتدي عباءةً كريميّة اللّون، بينما يلمع شعره ولحيته البيضاء في ضوء الشّمس. كان يعرض جمالًا في القامة وتناسقًا لا يخطئ بين التّوجّه وبين الملبس، ذلك التّناسق الّذي لم أره أبدًا، ولا أعتقد أنّه قد يكون متاحًا لدى أحد الرّجال. لم أكن قد رأيت حضرة المولى من ذي قبل، ولكن ما أراه الآن لا يُعْقَل إلّا أن يكون هو. لقد أُصيب جسدي كُلّه بصدمةٍ، وراح قلبي يخفق ورُكبتاي ترتعشان وانتابتني مشاعرٌ أخّاذةٌ فاضت من رأسي حتّى قدميّ. بدا كما لو أنّني تحوّلت بكُلّي إلى أكثر أعضاء الحواس حساسيةً، من حيث أنّ العيون والآذان يبدو أنّها لا تكفي لهذا الانطباع الفائض. وقفت بكُلّ أعضائي وكياني أشعر بوجود عبدالبهاء، حتّى كدت أصرخ من فرط النّشوة، حيث بدا لي أنّ الصّراخ أنسب تعبيرٍ عن النّفس في هذه اللّحظات. بدأت شخصيّتي تنسحب منّي وكائنًا جديدًا راح يدُبّ في أوصالي، وشعرت كما لو أنّ بهاءً من أسمَى آيات الطّبيعة الإنسانيّة راح ينساب بداخلي، وكنت على وعيٍ بأقوى نبضةٍ في عروقي. لمست في عبدالبهاء المحضر المهيب لحضرة بهاءالله. وبعد أن بدأت أفكاري تعود إليّ، بدأت أدرك أنّني اقتربت كثيرًا مِمّا يجب أن يكون عليه الإنسان من روحٍ طاهرةٍ وكينونةٍ نقيّةٍ. هذه التّجربة الرّائعة احتوتني بعيدًا عن إرادتي. لقد دخلت إلى محضر المولى وأصبحت خادمًا لإرادةٍ عُليا لهدفٍ يخصّها وليس يخصّني. حتّى ذكرياتي عن هذا التّحوّل المؤقّت لكينونتي لها سلطانٌ عليّ. أنا أعرف ماذا يمكن للإنسان أن يصير، ولكنّ هذه اللّحظة الفريدة الفائضة الّتي تشعّ من ظلام الماضي تثبت أنّ التّحوّل الحقيقيّ الّذي احتواني ينتمي إلى قيمةٍ لها ذكاءٌ أنقى من ذكائي”.(400)

(12)

عنما قرأ “جورج تاوزند” كلمات حضرة عبدالبهاء الّتي وصلت إليه في مذكّرةٍ أو مذكّرتين من أمريكا، اعترف: “عندما نظرت إلى هذه الكلمات كانت هي البداية والنّهاية بالنّسبة لي”.(401)

(13)

ذات مرّةٍ، قال حضرة عبدالبهاء لـ “إيدا بولتر سلاتر”: “لقد بحثتِ عن الملكوت الإلَهيّ في بقاعٍ كثيرةٍ. كان ذلك شيئًا حسنًا، ولكن الآن أنتِ وصلتِ المنزل”. كان رَدُّ فعلها: “عرفت أنّني وصلت المنزل بعد أن دخلت في محضر عبدالبهاء”.(402)

(14)

إحدى القصص المشرقة والثّمينة عن كيفيّة تحوّل حياة الباحث بعد أن يلتقي بالمعلّم الإلَهيّ الكبير حضرة عبدالبهاء يخطّها قلم “هوورد كولبي آيفز”، الّذي يُعَدّ كتابه “أبواب الحرّيّة” من الكنوز النّفيسة لدى البهائيّين. كولبي آيفز ذلك القِسّ الموحّد البالغ من العمر ستةً وأربعين عامًا، خبَر تلك الحالة التّعيسة الّتي يصاب بها الإنسان عندما تبحث نفسه عن الله، ولكنّها تبحث دون جدوى. نعم! لقد عشق الرّجل السّيّد المسيح وأحبّ تعاليمه، ولكنّه لم يكن يجد حوله سوى القليل والقليل جِدًّا من المسيحيّين الحقيقيّين، ورغم أنّه كان قسًّا ناجحًا وكان يتمتّع بمستوىً كريمٍ من العيش، إلّا أنّ كُلّ هذا لم يكن كافيًا حقًّا.

ذات يومٍ، وجد آيفز مقالًا في صحيفة “كُلّ النّاس” عن حضرة عبدالبهاء، قرأ فيه أنّه رجلٌ يمتلك الحقيقة العظمى وأنّه “أعجوبة العجائب” وأنّه لا يقبل إطلاقًا أيّ مقابلٍ دنيويّ لقاء خدمته لله. كان آيفز من جهته شغوفًا توّاقًا إلى خدمة الإنسانيّة، ومن ثَمّ فقد أسّس كنيسة “الأخوّة” في مدينة “جيرسي”، إلى جوار قيامه بأعمال الوعظ في كنيسةٍ موحّدةٍ أخرى. التقى آيفز في “مجلس الأوصياء” بصديقٍ ودودٍ ومتواضعٍ ولطيفٍ إلى أبعد حدٍّ، هذا الصّديق هو الّذي كان همزة الوصل بين آيفز وبين البهائيّين في مدينة نيويورك. عندما تلقّى دعوةً إلى لقاءٍ بهائيّ، شعر أنّه مدينٌ لهذا الصّديق، وعندما وصل إلى هذا اللّقاء وجد بدلًا من البهرجات الكلاميّة الدّينيّة المعتادة روحًا لا تقاوم، وهناك شعر أنّ عليه أن يدعو أحد هؤلاء البهائيّين للحديث في كنيسة الأخوّة، وهذا ما فعله. ثُمّ مرّت ثلاثة أشهرٍ حافلةٍ. تأثّر آيفز بشكلٍ خاصٍّ بـ “الوديان السّبعة” لحضرة بهاءالله. وعندما حضر حضرة عبدالبهاء إلى هذه المدينة، رغب في لقاءٍ منفردٍ مع حضرته حتّى دون مترجمٍ، ولفرط دهشته فقد حدث ذلك بالفعل. في حالةٍ من الصّمت المطبِق نظر إليه حضرة المولى، فبدا الأمر كما لو أنّ هذه هي المرّة الأولى الّتي يراه فيها أحدٌ. كان هناك لقاءٌ للأرواح ينطوي على فهمٍ وحُبٍّ قلبيّ دفع الكاتب إلى أن تسيل منه الدّموع… دموع مسحتها أنامل حضرة عبدالبهاء بمحبّةٍ وحنانٍ. قال له حضرة المولى إنّ الإنسان لا بُدَّ وأن يكون سعيدًا دائمًا، وأطلق حضرته ضحكةً غضّةً. لم تعد الحياة إلى ما كانت عليه ثانيةً بالنّسبة لمستر آيفز.

وفي الأسابيع الّتي تلت وصول حضرة عبدالبهاء إلى الولايات المتّحدة في عام 1912، انجذب نحوه آيفز كما تنجذب النّحلة إلى العسل. راح في وقتٍ لاحقٍ يطارد تلك الشّخصيّة الجذّابة المفعمة بالحكمة السّماويّة الّتي أذهلته. شعر أنّه مدفوعٌ إلى المحضر الوهّاج لشخصٍ عظيمٍ يبدو أنّه يقول دائمًا: “هلمّوا واصعدوا بأنفسكم إلى ما هو أعلى وأسمى”.(403) وذات مرّةٍ، ذهب آيفز خلف حضرة عبدالبهاء على السّلّم نحو غرفة حضرته، وكان الوقت متأخّرًا، ثُمّ طرق الباب فظهر حضرته فسأله آيفز: “هل تسمح وتتفضّل بأن تدعو معي؟ فأشار إليّ فركعت ووضع يده المباركة على رأسي وراح يرتّل مناجاةً قصيرةً بالفارسيّة. استغرق الموقف ثلاث دقائقٍ لكنّ هذه اللّحظات جلبت إليّ سلامًا لا عهد لي به من قبل”.(404)

كان آيفز يلاحظ بشكلٍ جيّدٍ ويتعلّم بسرعةٍ. لقد أصبح تابعًا لحضرةِ عبدالبهاء مدى حياته. لقد تبع حضرة عبدالبهاء إلى الباخرة “سيلتيك” في نيويورك في 5 ديسمبر/كانون الأوّل، عام 1912 في سَفر حضرته. كان آيفز ذات مرّةٍ، يتعجّب من أمر أولئك الّذين يتخلّون عن الدّنيا، ولكنّه سمع حضرة المولى يقول: “هذا يوم المهام العظمى… يوم المهام العظمى للغاية”. لم يمض وقتٌ طويلٌ حتّى تخلّى عن كُلّ أعماله الطّائفيّة ليصبح بهائيًّا.

وفي عام 1921، اتّخذ آيفز وزوجته “قرارًا عظيمًا”. ذكرت زوجته: “كانت خطّتنا أن نكسب مبلغًا ماليًّا كبيرًا بأسرع ما يمكن، مبلغًا يكفي لأن نكون مستقلّين حتّى نتمكّن من أن نهَب ما تبقّى من حياتنا لنشر الأمر المبارك، ولكن ثبت أنّ هذا كان مجرّد وهمٍ، ولم يكن حلمنا في السّفر والتّبليغ قريبًا من تحقّقه. وذات يومٍ أدركنا أنّ بإمكاننا أن نقضي ما تبقّى من حياتنا في محاولة تأمين مستقبلنا حتّى نتمكّن من الخروج في مجال التّبليغ، دون أن نتمكّن في النّهاية من تحقيق شيءٍ سوى أن نعمل ونحلم بهذا المستقبل؛ لذلك قرّرنا، ونظرًا لاستحالة المهمّة بسبب نقص المال، قرّرنا أن نسافر ونبلّغ.

ومن هنا بدأت ملحمتنا الطّويلة. لقد بعنا أو وزّعنا كُلّ ما نملك من الدّنيا وخفّضنا أمتعتنا إلى حقيبتين. عندما اشترينا تذاكر القطار إلى بيتسبرغ كان كُلّ ما تبقّى معنا هو سبعة دولاراتٍ.(405)

بدأ السّيّد آيفز يكتب في عام 1934 وهو في عامه السّابع والسّتّين. لم يمضِ الكثير حتّى بدأ بصره في التّدهور وكذلك صحّته، ولكنّه كان يريد أن يسجّل ذكرياته الرّوحيّة، ولذلك فقد بدأ في كتابة “أبواب الحرّيّة”. وعندما حُرم من نعمة البصر فإنّه لم يبالِ. “لقد تعلّم نظام اللّمس على الآلة الكاتبة وأكمل كتابه”.(406)

(15)

عندما أتى حضرة عبدالبهاء إلى أمريكا، كان “إتش. إس. فيوجيتا” يدرس الطّبّ في جامعة ميتشغان. ولأنّه قصير القامة فقد صعد أعلى شجرة جمّيز لرؤية المولى. وبعد أن سمع صوت حضرته مثل القيثارة وهو ينادى: “انزل يا زاكياش لأنّي سأتناول معك العشاء اليوم”، تنازل فيوجيتا عن كُلّ ما يربطه بالدّنيا وتبع حضرة المولى إلى جبل الكرمل ليعمل مساعدًا في العتبات المقدّسة.(407) فيوجيتا الّذي رحل عام 1976، قضى أغلب عمره منذ عام 1912، في الأرض الأقدس.

(16)

“دوروثي بيكر” أصبحت أيادي أمر الله. ولكن: “… في عام 1912، حيث كانت تبلغ من العمر أربعة عشرة عامًا، أخذتها جدّتها إلى نيويورك لرؤية حضرة المولى. كانت طفلةً خجولةً للغاية وحسّاسةً لدرجة المعاناة في حضور الكبار. كانت من الخجل حتّى إنّها ظلّت تتذكّر حالة التّوتر الّذي شعرت به عندما دخلت الغرفة الّتي كان يتحدّث فيها حضرته. ابتسم حضرته لها ودون كلامٍ منه إليها مباشرةً أشار إليها أن تجلس إلى جواره. في البداية كانت خائفةً من أن يتحدّث إليها، ولكن نظرًا لأنّ حضرته لم يُعر لها مزيدًا من الانتباه فقد بدأت تشعر بالارتياح تدريجيًّا. لم تستطع دوروثي أن تتذكّر ما تحدّث به حضرته في ذلك اليوم، ولكنّها كانت لحظة ميلادها كبهائيّة؛ فقد اعتبرت نفسها بهائيّةً منذ ذلك الوقت. رغم أنّها غادرت المكان دون الحديث مع حضرته إلّا أنّها لم تستطع التّفكير في أيّ شيءٍ آخرَ لأيّامٍ بعدها. وأخيرًا كتبت خطابًا لحضرته تعبّر فيه عن رغبتها في خدمة الأمر المبارك”.(408) تطوّرت بعد ذلك وأصبحت متحدّثةً بهائيّةً بارعةً ومؤثّرةً.

(17)

أصبحت “كارول لامبارد جيبل” ممثّلةً شهيرةً. كتب أستاذها البهائيّ: “كارول الّتي تطلّعت إلى لقاء مولاها عبدالبهاء ومعرفته، كارول الّتي خطّطت لرؤيته، كارول الّتي تحدّثت مع الكاتبة عن الخدمة الّتي تريد أن تسديها لمولاها، كارول هذه ربّما لا يعرفها إلّا القليل من النّاس”. حضرت كارول الفصول الّتي كانت تعقدها مسز لويس في منزل أمّها مسز بيترز، وفي الرابعة عشر من عمرها كتبت لحضرةِ المولى عن حُبّها لحضرته وعن طموحاتها وتطلّعاتها وقالت: “لو أنّه يوافق فلن أفشل”. أتى لوح حضرته يدعو لها بالنّجاح. كتبت السّيّدة لويس: “لم تخفق كارول أبدًا في الاعتراف بفضل مولاها”. أصبحت كارول وأمّها بهائيّتين بسبب حُبّهما العظيم لحضرةِ عبدالبهاء.(409)

(18)

في اليوم الأربعين لصعود حضرة عبدالبهاء، أقيم حفل تأبينٍ كبيرٍ تحدّث فيه حاكم فينيقيا إلى مئاتٍ من الضّيوف وقال: “أعتقد أن لدى الكثيرين منّا صورةً واضحةً للسّير عبدالبهاء عباس، لهامته الجليلة وهو يمشي مفكّرًا في شوارعنا، لمسلكه اللّطيف الرّقيق، لشفقته، لحُبّه للأطفال والأزهار، لكرمه وعنايته بالفقراء المساكين، وقد بلغ من لطفه وبساطته أن كان المرء ينسى أنّه بمحضر معلّمٍ عظيمٍ، وأنّ كتاباته وأحاديثه ما زالت عزاءً وإلهامًا لمئاتٍ وألوفٍ من النّاس في الشّرق والغرب”.(410)

(19)

أحد الشّخصيّات المميّزة في الحياة الأكاديميّة في جامعة أوكسفورد، وهو أستاذٌ وعالمٌ شهيرٌ كتب بالأصالة عن نفسه وعن زوجته: “إنّ الصّعود وراء الحجاب إلى حياةٍ أكمل وأتمّ لا بُدّ أن يكون عجيبًا ومباركًا على نحوٍ خاصٍّ بالقياس إلى من سما بأفكاره وجاهد في أن يحيا حياةً ساميةً هنا على الأرض”.(411)

(20)

كانت الملكة ماري ملكة رومانيا واحدةً من بين كثيرين ممّن وجدوا السّعادة العميقة في الرّسالة السّماويّة للعصر الجديد. في رسالةٍ إلى حضرة شوقي أفندي كتبت تقول: “حقًّا لقد أتاني نورٌ عظيمٌ مع رسالة حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء. لقد أتت كما تأتي عادةً الرّسالات العظمى في ساعةٍ من الحزن العميق والصّراع الدّاخليّ والضّيق، ولذلك فقد غاصت البذرة عميقًا”.

كما قالت أيضًا في مقال لها في صحيفة Toronto Daily Star في 4 مايو/أيَّار1926: “إنّ ما صدر من قلم حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء نداءٌ عظيمٌ إلى السّلام يتردّد وراء كُلّ الحدود ويسمو فوق كُلّ نزاعٍ حول الطّقوس والعقائد المتعسّفة. إنّه دينٌ مبنيٌّ على روح الله، مبنيٌّ على حقيقةٍ عظمى وهي أنّ الله محبّةٌ. إنّه دينٌ يعلّم أنّ كُلّ أشكال الكراهية والمكائد والشّكوك والكلمات الشّرّيرة وأشكال الوطنيّة العدائيّة، كُلّ هذا خارج القانون الأساسيّ لله وأنّ العقائد الخاصّة ما هي إلّا أشياءٌ سطحيّةٌ، بينما القلب الّذي يخفق بحُبّ الله لا يعرف قبيلةً ولا جنسًا”.

إنّها رسالةٌ عجيبةُ تلك الّتي منحنا إيّاها حضرة بهاءالله وابنه حضرة عبدالبهاء، إنّهما لم يقيماها بشكلٍ ينطوي على عداءٍ، عِلمًا منهما بأنّ أصل الحقيقة الخالدة الكامنة في لبابها ليس لها إلّا أن تضرب بجذورها وتنتشر.

“هناك حقيقةٌ واحدةٌ عظيمة فيها وهي: الحُبّ، منبع كُلّ طاقةٍ، والتّسامح تجاه بعضنا البعض، والرّغبة في فهم بعضنا البعض، ومعرفة بعضنا البعض، ومساعدة بعضنا البعض، والعفو عن بعضنا البعض.

“إنّها رسالة السّيّد المسيح بُعثت بشكلٍ جديدٍ بالكلمات نفسها تقريبًا، إلّا أنّها تعدّلت بما يلائم فوارق الألف سنةٍ أو يزيد، تلك الّتي تفصل بين السّنة الأولى لظهوره ويومنا الرّاهن”.

“إن استرعى انتباهكم اسم حضرة بهاءالله واسم حضرة عبدالبهاء في يومٍ من الأيّام فلا تبعدوا آثارهما عنكم، بل فتّشوا عن كتبهما ودعوا كلماتهما ودروسهما المجيدة الحاملة للسّلام الخالق للمحبّة تهوي في سويداء قلوبكم كما هوت إلى أعماق قلبي… فتّشوا عنها وكونوا أسعد حالًا”.(412)

وورد في أحد مدائحها الأخيرة للدّين البهائيّ قولها: “إنّ التّعاليم البهائيّة تجلب السّلام والإدراك. إنّها كصدرٍ واسعٍ يضمّ إليه كُلّ أولئك الّذين طال بهم البحث عن كلمات الرّجاء”.(413)

(21)

إنّ ما قاله أحبّاء حضرة عبدالبهاء عن حضرته لهو شيءٌ ملهمٌ بلا شكٍّ. فحياته وأفعاله وأقواله قد تركت أثرًا عميقًا على آلافٍ لا تعدّ ولا تُحصى ممن بوركوا برؤيته أو الاستماع إليه. بل إنّ تأثير حضرة المولى سيشعر به الملايين ممّن لم يولدوا بعد، طالما أنّ حياته المحرّكة للنّفوس تمسّ قلوبهم. سوف يكافح كُلّ هؤلاء أيضًا من أجل أن يصيروا مثله وسوف يعتزّون، كما نعتزّ نحن، بقِصّة الحُبّ الإلَهيّ، الحجّ المبكر، الّتي اقتبست فيها “مَي بولز ماكسويل” بكُلّ محبّةٍ قول حضرة عبدالبهاء: “صلّوا لأجل أن تتحرّر قلوبكم من أنفسكم ومن الدّنيا، ومن أجل أن تؤيَّدوا بالرّوح القُدُس وتمتلئوا بنار محبّة الله.(414) “… أقول لكم إنّ كُلّ من يقوم اليوم على أمر الله فسوف يمتلئ من روح الله الّذي سيرسل جنوده من الملأ الأعلى من أجل عونه، ولن يكون هناك شيءٌ مستحيلٌ عليكم لو كنتم تؤمنون. والآن أوصيكم بأمرٍ هو عهدٌ بيني وبينكم، أن تمتلكوا الإيمان وأن يكون إيمانكم راسخًا كالصّخرة الّتي لا تحرّكها العواصف ولا يزعزعها شيءٌ وأن يدوم إلى النّهاية. فبقدر ما لديكم من إيمانٍ بقدر ما يكون لديكم من قوّةٍ وبَركةٍ. هذا هو الميزان! هذا هو الميزان! هذا هو الميزان!”.(415)

“كما أوصيكم بأن تحبّوا بعضكم بعضًا مثلما أنّي أحبّكم أيضًا. إنّ شعبكم موعودٌ بعظيم الرّحمة والبركات ولكن بشرطٍ واحدٍ: أن تكون قلوبهم مشتعلةً بنار الحُبّ، وأن يعيشوا بكمال العطف والانسجام كنفسٍ واحدةٍ في أجسادٍ مختلفةٍ. فلو أخفقوا في هذا الشّرط فلا مفرّ من تأجيل البركات العظمى. لا تنسوا هذا؛ انظروا إلى بعضكم البعض بعين الكمال! انظروا إليّ، اتبعوني، كونوا مثلي، لا تفكّروا في أنفسكم أو في حياتكم، سواءٌ أكلتم أم نمتم، سواءٌ أكنتم في راحةٍ، سواءٌ أكنتم في صحّةٍ جيّدة أم مرضى، سواءٌ أكنتم مع الأصدقاء أم مع الأعداء، سواءٌ نلتم التّقدير أم اللّوم، يجب ألّا تهتمّوا مطلقًا لكُلّ هذه الاشياء. انظروا إليّ وكونوا مثلي. يجب أن تنقطعوا عن أنفسكم وعن الدّنيا لكي تولدوا من جديدٍ وتدخلوا ملكوت السّماء. انظر إلى الشّمعة كيف أنّها تنشر أنوارها. إنّها تذرف دموع حياتها قطرةً قطرةً لكي تقدّم لنا شعلة ضيائها”.(416)

المراجع

  • ‘Abdu’l-Bahá. ‘Abdu’l-Bahá in Canada. Toronto, Ontario, Canada: National Spiritual Assembly of the Bahá’í’s of Canada, 1962.

— Abdul Baha in London. Addresses and Notes of Conversations. Chicago: Baha’i Publishing Society, 1921.

— Messages from Abdul Baha to the Honolulu Bahais. Honolulu: National Spiritual Assembly of the Bahá’í’s of the Hawaiian Islands (no date).

— Paris Talks. London: Bahá’í Publishing Trust, 11th edn 1969.

— Promulgation of Universal Peace, The. Discourses by Abdul Baha Abbas During His Visit to the United States in 1912. vol. I, Chicago: Executive Board of Bahá’í Temple Unity, 1922. vol. II, Chicago: Baha’i Publishing Committee, 1925.

— Secret of Divine Civilization, The. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1957.

— Selections from the Writings of ‘Abdu’l-Bahá. Compiled by the Research Department of the Universal House of Justice. Haifa: Bahá’í World Centre, 1978.

— Some Answered Questions. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1981.

— Tablets of Abdul-Baha Abbas, vol. I, New York: Baha’i Publishing Committee, second printing, July 1930. vol. II, Chicago: Baha’i Publishing Committee, second printing, July 1930. vol. II, Chicago: Bahá’í Publishing Society, 1915. vol. Ill, New York: Baha’i Publishing Committee, second printing 1930.

— Tablets of the Divine Plan. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1959.

— Will and Testament of ‘Abdu’l-Bahá. New York: Bahá’í Publishing Committee, 1935. Also Bahá’í World Faith (see listing below).

  • Austin, Elsie. Above All Barriers: The Story of Louis G. Gregory. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1976.
  • Bahá’í News (USA). National Spiritual Assembly of the Bahá’ís of the United States, Aug. 1962, Sept. 1970, Apr. 1973, Feb. 1974, Sept. 1977.
  • Bahá’í Prayers. A selection. London: Bahá’í Publishing Trust, rev. edn 1975.
  • Bahá’í Scriptures. A selection from the Bahá’í Holy Writings. New York: Bahá’í Publishing Committee, 2nd edn 1928.
  • Bahá’í World, The. vol. II, 1926–8. New York: Bahá’í Publishing Committee, 1928. vol. IV, 1930–2. New York: Bahá’í Publishing Committee, 1933. vol. VI, 1934–6. New York: Bahá’í Publishing Committee, 1937. vol. IX, 1940–4. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Committee, 1945. vol. XI, 1946–50. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Committee, 1952. vol. XII, 1950–4. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1956. vol. XIII, 1954–63. Haifa, Israel: The Universal House of Justice, 1970.
  • Bahá’í World Faith. A selection from the Bahá’í Holy Writings. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1976.
  • Bahá’u’lláh. Gleanings from the Writings of Bahá’u’lláh. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1976.

— The Hidden Words of Bahá’u’lláh. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1982.

  • Baker, Dorothy. The Path to God. New York: Bahá’í Publishing Committee, 1937.
  • Balyuzi, H. M. ‘Abdu’l-Bahá, The Centre of the Covenant of Bahá’u’lláh. Oxford: George Ronald, 1973.

— Edward Granville Browne and the Bahá’í Faith. Oxford: George Ronald, 1980.

  • Blomfield, Lady (Sitárih Khánum). The Chosen Highway. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1967.
  • Blomfield, Lady and Shoghi Effendi. The Passing of ‘Abdu’l-Bahá. Stuttgart: 1922.
  • Brown, Ramona Allen. Memories of ‘Abdu’l-Bahá. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1980.
  • Chase, Thornton. In Galilee. Chicago: Baha’i Publishing Society, 1921.
  • Child’s Way. July-Aug. 1973. Published by an editorial committee of the National Spiritual Assembly of the Bahá’ís of the United States.
  • Cobb, Stanwood. Memories of Abdu’l-Bahá. Washington, D.C.: Avalon Press (no date). Reprinted from Bahá’í News, July and Aug. 1962.
  • Compilation on Bahá’í Education, A. Compiled by the Research Department of the Universal House of Justice. Oakham, England: Bahá’í Publishing Trust, 1976.
  • Divine Art of Living, The. Compiled by Mabel Hyde Paine. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, i960.
  • Esslemont, J. E. Bahá’u’lláh and the New Era. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1976.
  •  Faizí, Abu’l-Qásim. Milly – A Tribute to Amelia E. Collins. Oxford: George Ronald, 1977.
  •  Faizi, Gloria. The Bahá’í Faith – An Introduction. Lebanon: 1971.
  • Fathea’zam, Hooshmand. The New Garden. New Delhi, India: Bahá’í Publishing Trust, 5th edn 1971.
  • Ferraby, John. All Things Made New. A Comprehensive Outline of the Bahá’í Faith. London: Bahá’í Publishing Trust, 1975.
  • Freeman, Dorothy. From Copper to Gold: The Life of Dorothy Baker. Oxford: George Ronald, 1984.
  • Ford, Bahíyyih. ‘Notes of Bahíyyih Ford’ (unpublished).
  • Ford, Mary Hanford. The Oriental Rose. New York: Broadway Publishing Co., 1910.
  • Gail, Marzieh. The Sheltering Branch. Oxford: George Ronald, 1978.
  • Garden of the Heart, The. Compiled from the Writings of Bahá’u’lláh and ‘Abdu’l-Bahá by Frances Esty. Buffalo, New York: 1930.
  • Garis, M.R. Martha Root: Lioness at the Threshold. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1983.
  • Goodall, Helen S. and Cooper, Ella Goodall. Daily Lessons Received at Acca January, 1908. Chicago: Bahai Publishing Society, 1908.
  • Grundy, Julia M. Ten Days in the Light of ‘Akká. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1979.
  • Haney, Charles and Miriam. A Heavenly Feast. Some Utterances of Abdul-Bahá. 1909 (no details).
  • Haydar-‘Alí, Hájí Mírzá. Stories from the Delight of Hearts. Translated and abridged by A. Q. Faizi. Los Angeles: Kalimát Press, 1980.
  • Hofman, David. The Renewal of Civilization. Oxford: George Ronald, rev. edn 1969.
  • Holley, Horace. Religion for Mankind. Oxford: George Ronald, 1976.
  • Ives, Howard Colby. Portals to Freedom. Oxford: George Ronald, 1976.
  • Jordan, Daniel C. The Meaning of Deepening. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1973.
  •  Kaufman, Ben. Recollections told to the editor.
  • Lucas, Mary. A Brief Account of My Visit to Acca. Chicago: Bahá’í Publishing Society, 1905.
  •  McDaniel, Allen Boyer. The Spell of the Temple. New York: Vantage Press, Inc., 1953.
  •  Magazine of the Children of the Kingdom, The. Article by Ella M. Robarts. June 1924, vol. V. no. 3. Boston, Mass.
  • Mathews, Loulie Albee. Not Every Sea Hath Pearls. Portsmouth, Hampshire: Loulie Albee Mathews, 1951.
  • Mattoon, Annie. ‘We Went to Haifa’. Unpublished article.
  • Maxwell, May. An Early Pilgrimage. Oxford: George Ronald, 1953.
  • Nakhjavani, Violette. Amatu’l-Bahá Visits India. New Delhi: Bahá’í Publishing Trust (no date).
  • National Programming Committee. Story supplement for God Passes By. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Committee, 1948.
  • Pattern of Bahá’í Life, The. A compilation from Bahá’í Scripture with some passages from the writings of the Guardian of the Bahá’í Faith. London: Bahá’í Publishing Trust, reprinted 1970.
  • Pemberton, L. B. A Modern Pilgrimage to Palestine. Philadephia: Dorrance and Company, 1925.
  • Phelps, M. H. Abbas Effendi, His Life and Teachings. Introduced by E. G. Browne. New York: G. P. Putnam’s Sons, 1912.
  • Rabbani, Rúhíyyih. The Priceless Pearl. London: Bahá’í Publishing Trust, 1969.
  • ‘Report of the Eighteenth Annual Lake Mohonk Conference on International Arbitration.’ Lake Mohonk Conference on International Arbitration, 1912.
  • ‘Roy’ and M. J. M. Knock and It Shall Be Opened Unto You (No details).
  • Ruhe, David. Door of Hope. A Century of the Bahá’í Faith in the Holy Land. Oxford: George Ronald, 1983.
  • Ruhe, Margaret. Heard from Hand of the Cause A. Q. Faizi.
  • Rutstein, Nathan. He Loved and Served: The Story of Curtis Kelsey. Oxford: George Ronald, 1982.
  • Sears, William, and Robert Quigley. The Flame. Oxford: George Ronald, 1982.
  • Shoghi Effendi, Advent of Divine Justice, The. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1971.

— Bahá’í Administration. New York: Bahá’í Publishing Committee, 1933.

— God Passes By. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1974.

— World Order of Bahá’u’llah, The. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1980.

— The Bahá’í Life. Extracts from the Guardian’s writings published by the National Spiritual Assembly of the Bahá’ís of Canada, 1973.

  • Star of the West. The Bahá’í Magazine, vols. II, III, IV, V, VI, VII, VIII, IX, X, XI, XIII, XIV, XV, XVI, XVII, XIX and XXIII. Published in USA between 1911 and 1933. vols. I–XIV reprinted in Star of the West. Oxford: George Ronald, 1978.
  • Taherzadeh, Adib. The Revelation of Bahá’u’lláh. vol. 2. Oxford: George Ronald, 1977. vol. 3, 1983.
  • Thompson, Juliet. ‘Abdu’l-Bahá, The Center of the Covenant. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Committee, 1948.

— Abdul Baha’s First Days in America. New York: The Roy-crofters (no date).

— The Diary of Juliet Thompson. Los Angeles: Kalimát Press, 1983.

  • Townshend, George. The Mission of Bahá’u’lláh. Oxford: George Ronald, 1973.
  • True, Corinne. Notes Taken at Acca. Chicago, Illinois: Baha’i Publishing Society, 1907.
  • Universal House of Justice. Messages from the Universal House of Justice, 1968–1973. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1976.
  • Universal House of Justice. Wellspring of Guidance. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1970.
  • Vajdi, K. H. Human Happiness. India: K. H. Vajdi (no date).
  • Ward, Allan L. 239 Days: ‘Abdu’l-Bahá’s Journey in America. Wilmette, Illinois: Bahá’í Publishing Trust, 1979.
  • Whitehead, O. Z. Some Bahá’ís to Remember. Oxford: George Ronald, 1983.

— Some Early Bahá’ís of the West. Oxford: George Ronald, 1976, RP 1977.

  • World Order. Wilmette, Illinois: National Spiritual Assembly of the Bahá’ís of the United States, Fall 1971.

المراجع العربية

**

  • أديب طاهر زاده، “ظهور بهاءالله”، المجلّد الثّاني، دار البديع للطّباعة والنّشر، ص ب 1484-90

بيروت – لبنان، كانون الثّاني 2008م.

  • “ظهور بهاءالله”، المجلّد الثّالث. دار البدیع للطّباعة والنّشر ص ب ١٤٨٤–٩٠ بیروت – لبنان شباط ٢٠٠٩م.
  • اسلمونت، “بهاءالله والعصر الجديد”. طبعة جديدة منقّحة، نوروز 159 بديع، آذار 2002م، من منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل.
  • بهاءالله، “مجموعة من ألواح بهاءالله – نزلت بعد الأقدس”. من منشورات دار النشر البهائيّة في بلجيكا.
  • بهاءالله، منتخباتي أز آثار حضرة بهاءالله، لجنهء نشر آثار امري بلسان فارسي وعربي، لانكهاين- آلمان، نشر أوّل- 141 بديع
  • شوقي أفندي، “القرن البديع”. من منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل، طبعة جديدة منقّحة، نوروز 159 بديع، آذار 2002م.
  • “كتاب عهدي المنزل من قلم حضرة بهاءالله وألواح وصايا حضرة عبدالبهاء”. دار البديع للطّباعة والنّشر، ص.ب. 193، منصوريّة المتن-لبنان، كانون الأوّل 2014م، الطّبعة الأولى.
  • عبد البهاء، “ترويج السّلام العالميّ- من خطب حضرة عبدالبهاء في الولايات المتّحدة وكندا”. دار البديع للطّباعة والنّشر، ص. ب. 193، منصوريّة المتن_لبنان، 2017، الطّبعة الأولى.
  • عبدالبهاء، منتخباتي أز مكاتيب عبدالبهاء، جلد أوّل.
  • عبد البهاء، “الرّسالة المدنيّة”. من منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل، نيسان 1986.
  • كتيّب “الحياة بعد الموت”. المحفل الرّوحانيّ المركزيّ للبهائيّين بالقطر المصريّ والسّودان.
  • روحيّة ربّانيّ، “الجوهرة الفريدة”. دار البديع للطّباعة والنّشر، ص.ب. 193، منصوريّة المتن- لبنان، تشرين الأوّل 2014م، الطّبعة الأولى.
  • كتيّب “التّربية والتّعليم- مقتطفات من الآثار المباركة”. من منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل، تشرين الأوّل 1981.
  • الدّعاء والحياة التعبّديّة، مجموعة مقتطفات من الآثار المباركة لحضرة  بهاء الله وحضرة عبد البهاء، ورسائل حضرة شوقي أفندي، وبيت العدل الأعظم أعدّتها دار الأبحاث ودراسة النّصوص التّابعة لبيت العدل الاعظم، شباط/فبراير 2019

 

 

فهرس القصص

أوّلًا: قلبه الطّاهر

إنكار الذّات

  1. النّفس، أعظم سجنٍ.
  2. الحرّيّة، ليست مسألة مكانٍ.
  3. الشّيطان، النّفس الأمّارة.
  4. النّفس، عدوّ الإنسان الوحيد.
  5. حُبّ الذّات صفةٌ غريبةٌ.
  6. أنا، إيّاي، و لي.
  7. عبدالبهاء، إنكار الذّات لدى المسيح.
  8. الطّاووس – فكّروا في فضل الله لا في أنفسكم.
  9. انظروا الشّمعة.
  10. التّصوير الشّخصي – الضّوء مهمّ وليس المصباح.
  11. مستمعٌ جيّدٌ.
  12. لا يرغب في عربةٍ خاصّةٍ.
  13. جامع القشّ.
  14. لا جدوى من خواتم الماس.
  15. قبّعات الفِراء العشرين.
  16. نسي تلاميذ المسيح أنفسهم.

التّواضع

  1. الطّهي وتقديم الطّعام للآخرين.
  2. زيارة بهاءالله.
  3. موقفه من لقب “فارس”.
  4. مراسمٌ لا داعي لها.
  5. ويلميت، من دون رفشٍ ذهبيّ.
  6. الأوّلون آخرون – تشكيل المحفل الرّوحانيّ المحلّيّ.
  7. لماذا تصبّ الأنهار في المحيط.
  8. الضّيافة التّسع عشريّة – اجعل الآخرين سعداء.
  9. كان يُبلّغ كما لو كان يقدّم هديّةً لملك.
  10. العالِم الّذي يتألّم من الثّناء.
  11. المديح أحزن حضرة عبدالبهاء.

البساطة

  1. البساطة والحُبّ.
  2. غذاؤه البسيط.
  3. أرسل العشاء للمحتاجين.
  4. عَشاء لندن البسيط.
  5. خدمة الضّيوف.
  6. النّاسك وحضرة بهاءالله.
  7. زفافٌ بسيطٌ.
  8. لا ثوب للزّفاف.
  9. البساطة تسود في عائلة المولى.
  10. البساطة في التّبليغ.

النّظافة

  1. النّظافة الشّخصيّة.
  2. محيطٌ نظيفٌ.

الصّبر

  1. الفحم المسروق.
  2. شيئًا فشيئًا، يومًا بعد يومٍ.
  3. أنا أنتظر بصبرٍ.
  4. تحمّل ما لا يحتمل.
  5. الصّبر على من ينكر الدّين.
  6. قِصّة موسى.

الجَلَد

  1. ​​هزيمة البراغيث.
  2. بناء مرقد حضرة الباب.
  3. تحمّل مشقّات السّفر.
  4. لماذا يتألّم المربّون الإلَهيّون؟
  5. الله طيّبٌ.

النّزاهة

  1. اعترف بها أهل عكّاء.

المصداقيّة

  1. التّاجر الّذي أراد أن يصبح بهائيًّا.

النّقاء

  1. كن كمرآةٍ صافيةٍ.
  2. طهارة القلب.
  3. الموقف من الموضة.

 

ثانيًا: قلبه الطّيّب

الطّيبة

  1. ركب القضبان.
  2. ويلميت – الحجر الّذي رفضه البنّاء.
  3. رعاية المرضى.
  4. الرّجل المصاب بالسُّلّ.
  5. كسرٌ في السّاق.
  6. السّعادة – دواءٌ عظيمٌ.
  7. عيد ميلادٍ في “برونكس”.
  8. ثلاثة قلوبٍ اتّحدت في قلبٍ واحدٍ.

الانضباط

  1. الاستيقاظ في الصّباح.
  2. “كيف حال والدتك؟”
  3. ليكن وجهك سعيدًا.
  4. عقاب الغضب.
  5. العيش وفق “الكلمات المكنونة”.

العفو

  1. اعفُ عنه الآن.
  2. الشّيخ محمود – اغفر لي.
  3. الأمراء الإيرانيّون.
  4. انظر بعين المغفرة.
  5. مريم المجدليّة.

 

الإحساس

  1. لقد جُرِح قلبٌ.
  2. سيّدتان من اسكتلندا.
  3. زهرةٌ من المولى.
  4. عبدالبهاء، ستتأخّر!
  5. ضيوف غير متوقّعين.
  6. بلّغوا فقط من يرغبون في الاستماع – الفتاة الفرنسيّة.

التّشجيع

  1. رسالة كريشنا هي المحبّة.
  2. العامل البريطانيّ – العمل عبادةٌ.
  3. اركبي في سفينة الله.
  4. قد يتحدّث القلب أفضل من الكلام.
  5. جولييت تومسون – قلبك يبلّغ.
  6. ادرسي، ادرسي، ادرسي.
  7. انظر إلى القلب.

الحِلم واللّطف

  1. مع التّاجر المصريّ.
  2. لا تتكلّمي بسوءٍ (مَي ماكسويل).
  3. حاول بطريقتك الخاصّة!

التّعاطف والتّفهّم

  1. تنازل عن سريره.
  2. لا بديل لثوب النوم.
  3. نريد أبانا.
  4. الفقر في لندن ونيويورك.
  5. الاستغراب والدّهشة من قلّة التّعاطف.

الكرم

  1. الغنم للرّعاة.
  2. سجّادةٌ لعربيٍّ فقير.
  3. سجّادةٌ لمرقد حضرة بهاءالله.
  4. بساطٌ لـ “موهونك ماونتن هاوس”.
  5. المولى يرفض المال.
  6. الكرم تجاه الأطفال.
  7. ​​مِعطفٌ باهظ الثّمن.
  8. العباءة الثّانية.
  9. هديّةٌ منتقدةٌ.
  10. تيودور بول يعطي عباءةً.
  11. عباءاتٌ للفقراء.
  12. منح الهدايا.

الأعمال الخيريّة

  1. جيش الخلاص وإرساليّة باوري.
  2. صباح الجمعة في عكّاء.
  3. الأعرج والكسيح والأعمى.

التّضحية

  1. بقشيشٌ سخيّ.
  2. تخلّى عن سرواله.

 

الشّهامة

  1. لا حقد تجاه أحدٍ.
  2. إلى من حاولوا إذلاله.
  3. العطف على الحاكم القاسي.

60- هديّةٌ للحاكم المخلوع.

  1. الدّعاء من أجل المتصاعدين.
  2. كن إيجابيًّا – يسوع والكلب الميّت.

مراعاة المشاعر

  1. الاجتماع مؤجّلٌ – شعور الحاجّة بالمرض.

مراعاة الظّروف

  1. السّفر براحةٍ.
  2. تجاهل أوجه القصور الفرديّة.

الرّحمة

  1. الموقف عند التّبليغ.
  2. من أفكار الانتحار إلى الأمل.

الاهتمام بالآخر

  1. من أجل صحّة الآخرين.

اللّطف والإحسان

  1. إلى ابنة مُشرف الصّحراء.
  2. لبس عباءة حضرة بهاءالله ونظارته.
  3. الرّجل الأكثر كمالًا.

حُسن الضّيافة

  1. أسرة المولى.
  2. منح المأوى لأرملة شهيدٍ.
  3. تلتقي جميع الأديان في بيته.

الرّقّة

75- حيدر عليّ.

الحُبّ

  1. ماذا يعني أن تكون بهائيًّا؟
  2. الرّسالة المتّسخة والمهشّمة.
  3. الحُبّ العميق للأحبّاء.
  4. في الكلّ رأى وجه أبيه.
  5. خبزٌ أسودٌ وتفّاحةٌ ذابلةٌ.
  6. الزّهور مع الحُبّ.
  7. الورد للقِسّ.
  8. وردةٌ لطفل.
  9. حُبّ الأطفال.
  10. أبناء البدو.
  11. البنفسج من الأطفال.
  12. الفروق العرقيّة جميلةٌ.
  13. قلبٌ أبيضُ كالثّلج.
  14. الحُبّ يمكن أن يقهر الكراهية.
  15. الحُبّ هو الأساس.
  16. ما يمكن أن تفعله محبّة الله.
  17. خمسون عامًا من الحُبّ الدّائم.

 

الخدمة والالتزام والمشاركة

  1. لم يفشل أبدًا في الاهتمامات الصّغيرة.
  2. اخدم رفيقك الإنسان.
  3. عيشي الحياة.
  4. شيءٌ خاصٌّ.
  5. إنّها امرأةٌ مثاليّةٌ.
  6. لا لمقصورةٍ خاصّةٍ في القطار.

العدل والإنصاف

  1. ضدّ عمالة الأطفال.
  2. لا يغشّ ولا يُخدَع.

المساواة

101- التّكامل الفندقيّ.

  1. عيدٌ للوحدة.
  2. استبعادٌ من الفندق.
  3. إقامة مأدبة غداءٍ بواشنطن.

105- تشجيع الزّواج بين الأعراق.

106- المساواة بين الرّجل والمرأة.

الاعتدال

  1. السّيّدة الّتي منحت شعرها لمشرق الأذكار.
  2. عبّر عن نفسك باعتدال.
  3. حتّى في التّفكير كن معتدلًا.

110- الإفراط في التّقشّف ليس بالأمر الجيّد.

 

الصّدق

111- مبدأ الفيدراليّة.

112- اكتشف خبايا الملكوت.

  1. هل يقاتل الإنسان من أجل قبرٍ؟

114- حقائقُ مذهلةٌ.

المعرفة والحكمة

  1. والدة قسطنطين.
  2. بهاءالله مسرورٌ.
  3. عيونٌ ترى وآذانٌ تسمع.
  4. إثبات صحّة الإسلام.
  5. كيف تبلّغ.
  6. هل ربيع العام الماضي كافٍ؟
  7. لا تنظر إلى ضعفك.
  8. ابدأوا، وسيصير كُلّ شيءٍ على ما يرام.
  9. لا يجوز لرئيس الجمهوريّة أن يتوق إلى الرّئاسة.

124- توقّف الحجّ قبل الحرب العالميّة الأولى.

  1. لا تنسَ المسيح أبدًا.

126- السّير على خُطى عبدالبهاء.

 

ثالثًا: قلبه المنير

السّعادة

  1. هل أنت سعيدٌ؟ – كن سعيدًا!
  2. انس أحزانك.
  3. كلماته السّعيدة تلهم.
  4. السّعادة والصّحّة.
  5. لماذا سعيدةٌ جِدًّا؟
  6. بشرى سعيدة .
  7. اللّهمّ أنعش روحي…
  8. جفّف دموعك.
  9. ابتسامته السّماويّة.
  10. كوني سفينةً قويّةً.
  11. لماذا تكون سعيدًا؟

الرّوحانيّة

  1. العقل جيّدٌ، ولكن…
  2. مع السّفير اليابانيّ.
  3. هل تُعلّمون الأمور الرّوحيّة؟
  4. إذكاء الرّوحانيّات عند الأطفال.
  5. أرغب لكم في التّميّز الرّوحيّ.
  6. كنت أرضيًّا، أردناك سماويًّا.
  7. العالم المادّيّ أم الرّوحانيّ؟
  8. السّعادة تعتمد على الإدراك الرّوحيّ.
  9. عُسر الهضم الرّوحيّ.
  10. اتلُ الاسم الأعظم.
  11. الكمال الرّوحيّ يتطوّر ولكن ببطءٍ.

الانشراح

  1. مسجونٌ في سجنين.

الورع

  1. الدّعاء والصّلاة في وقت الشّدة.
  2. لماذا الدّعاء؟
  3. الصّلاة أمر لا غنى عنه.
  4. سأعلّمك الدّعاء والصّلاة.
  5. الدّعاء من أجل المتصاعدين.
  6. دعاء ما قبل الوجبات.
  7. الدّعاء يمكن أن يكون أنانيًّا.
  8. الخدمة عبادةٌ.

السّكينة ورباطة الجأش

  1. طلقاتٌ ناريّةٌ في اللّيل.
  2. زراعة الكروم والأشجار.

الشّجاعة

  1. السّجن لن يدوم إلى الأبد.
  2. لن أهرب.
  3. أصابع الدّيناميت.
  4. لا ينزعج من خطرٍ.

الهدوء والسّكينة

  1. هذا أيضًا سوف يزول.
  2. في الأغلال.
  3. هادىءٌ في السّفر.
  4. التّايتانيك – فيها حكمةٌ.
  5. الأهمّ قبل المهمّ.
  6. صعود حضرة عبدالبهاء.

الثّقة

  1. إن شاء الله.
  2. في يد حضرة بهاءالله.

التّسليم

  1. ​​لاحزن على وفاة الابن.

الإخلاص

  1. كن مشتعلًا بحُبّ الملكوت.
  2. تحدّثي مع النّاس عن محبّة الله.
  3. “لكنّها تحبُّ مولاها”.

القناعة والرّضا

  1. الدّقيق بدلًا من الخبز.
  2. برهان النّبل.
  3. قدّموا لهم الشّهد.
  4. لا حرج من العمل المفيد.
  5. العمل يؤدّى بكُلّ سرور.
  6. البطّيخة المُرّة.
  7. أغني من العالم كُلّه.

الابتهاج

  1. عَشاءٌ مبهجٌ في “ثونون– لو – بين”.

الضّحك

  1. إعداد الحساء.
  2. الضّحك مع الأغلال.
  3. الضّحك – استرخاءٌ روحيٌّ.
  4. بيته بيت الضّحك.
  5. الموت بشارةٌ.
  6. سنضحك معًا في الملكوت.

الدّعابة

  1. وهذا ما اعتقده كريستوفر كولومبوس.
  2. كلماتٌ إنجليزيّةٌ صعبةٌ للغاية.
  3. أنا صغيرٌ جِدًّا.
  4. مقارنةٌ بين الشّرق والغرب.

68- المرأة في الشّرق والغرب.

  1. سيّدات أمريكا وأوروبّا.
  2. لا ضرائب في ملكوت الله.
  3. أهمّيّة الاتّصال السّليم.
  4. العنب – وضرورة وجود لغةٍ مشتركةٍ.
  5. راية السّلام العالميّ.

الخاتمة

  1. عبدالبهاء – بعض التّحيّة والثّناء.
  2. السّير على الطّريق الصّوفيّ بأقدامٍ عمليّةٍ.
  3. لودويج زامنهوف مؤسّس الإسبرانتو.
  4. البروفيسور أي جي براون – تحيّةٌ.
  5. “تأثيرٌ أعظم… من أيّ مفكّرٍ ومعلّمٍ آسيويٍّ في العصر الحديث.
  6. أهمّ رجلٍ في قرننا.
  7. صورة حضرة عبدالبهاء.
  8. اللّصوص والمولى.
  9. القمر وحضرة عبدالبهاء.
  10. سرّ الله.
  11. هوراس هولي بجانب بحيرة جنيف.
  12. جورج تاوزند – كلمات حضرة عبدالبهاء.
  13. منزلٌ في ملكوت الله.
  14. كان قسًّا موحّدًا، ثُمّ مهاجرًا.
  15. “تعالَ يا زاكياس.”
  16. فتاةٌ في الرّابعة عشرة من عمرها.
  17. كارول لومبارد جابل.
  18. حاكم فينيقيا – مصدر إلهامٍ لمئاتٍ وآلاف.
  19. تحيّةٌ وثناءٌ من أستاذٍ بجامعة أكسفورد.
  20. الملكة ماري، ملكة رومانيا – “نورٌ عظيمٌ”.
  21. انظروا إليّ، اتبعوني، كونوا مثلي.

 

الهوامش

(1) ‘Abdu’l-Bahá, Selections from the Writings of, pp. 245–6.

(2)  Shoghi Effendi, The Advent of Divine Justice, p. 29.

(3) Universal House of Justice, Wellspring of Guidance, p. 97.

(4)  Universal House of Justice, Messages from the Universal House of Justice, p. 25.

(5)  Universal House of Justice, Bahá’í News, No. 517, April 1974, p. 2.

(6)  Jordan, The Meaning of Deepening, p. 58.

(7)  Shoghi Effendi, The World Order of Bahá’u’lláh, p. 5.

(8)  ‘Abdu’l-Bahá, Tablets of ‘Abdu’l-Bahá, vol. I, p. 190.

(9)  The Magazine of the Children of the Kingdom, June 1924, p. 50.

(10)  An independent Manifestation of God in His own right, the Báb was at the same time the ‘Prophet-Herald’ of Bahá’u’lláh’s Revelation. The     Báb’s declaration of His mission marks the first year of the Bahá’í calendar.

(11)  جون اسلمنت، بهاء الله والعصر الجديد، ص. 72-73

(12)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 286-287

(13)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 288

(14)   شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 331-332

(15)   شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 340

(16)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 314

(17)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 383

(18)  Blomfield and Shoghi Effendi, The Passing of ‘Abdu’l-Bahá, p. 10.

(19)  Shoghi Effendi, God Passes By, p. 243.

(20)  ‘Abdu’l-Bahá, Selections from the Writings of, p. 10.

(21)  Abdul Baha in London, p. 110.

(22)  Hofman, The Renewal of Civilization, p. 33.

(23)  Blomfield, The Chosen Highway, p. 166.

(24)  Bahá’í World, vol. XIII, p. 1187.

(25)  Holley, Religion for Mankind, p. 229.

(26)  The Pattern of Bahá’í Life, p. 18.

(27)  Ives, Portals to Freedom, p. 71.

(28)  Thompson, Diary, p. 362.

(29)  Blomfield, The Chosen Highway, p. 136.

(30)  Star of the West, vol. V (1913–1914) , p. 40.

(31)  Goodall and Cooper, Daily Lessons Received at Acca, January 1908, pp. 73–4.

(32)  Maxwell, An Early Pilgrimage, p. 42.

(33)  Bahá’í World, vol. IV, p. 384.

(34)  Ives, Portals to Freedom, p. 194.

(35)  Mr Ives himself was at that time a Unitarian minister.

(36)  Ives, Portals to Freedom, pp. 47–9.

(37)  Phelps, Abbás Effendi, His Life and Teachings, pp. 101–2.

(38)  Thompson, Diary, p. 171.

(39)  Ward, 239 Days: ‘Abdu’l-Bahá’s Journey in America, p. 190.

(40)  Garis, Martha Root, p. 214.

(41)  ألواح الوصايا، كتاب عهدي المنزل من قلم حضرة بهاءالله وألواح وصايا حضرة عبدالبهاء، ص. 52

(42)  ألواح الوصايا، كتاب عهدي المنزل من قلم حضرة بهاءالله وألواح وصايا حضرة عبدالبهاء، ص. 35

(43)  Bahá’í World, vol. IV, p. 340.

(44)  Bahá’í World, vol. IV, p. 340.

(45)  جون اسلمنت، بهاء الله والعصر الجديد، ص. 88

(46)  Blomfield, The Chosen Highway, p. 214.

(47)  Ferraby, All Things Made New, p. 237.

(48)  Bahá’í World, vol. IV, p. 339.

(49)  Child’s Way, July–August 1973, pp. 9–10.

(50)  Mathews, Not Every Sea Hath Pearls, pp. 39–40.

(51)  Bahá’í World, vol. IV, p. 340.

(52)  Star of the West, vol. IV, p. 120.

(53)  Ives, Portals to Freedom, pp. 39–40.

(54)  أديب طاهر زاده، ظهور حضرة بهاءالله، المجلّد الثّاني، ص. 42

(55)  أديب طاهر زاده، ظهور حضرة بهاءالله، المجلّد الثّالث، ص. 412-414

(56)  Star of the West, vol. XIII, p. 141.

(57)  Lucas, A Brief Account of My Visit to Acca, pp. 28–9.

(58)  Blomfield, The Chosen Highway, p. 156.

(59)  Grundy, Ten Days in the Light of Acca, p. 73.  The Master’s recipe for pilau: Lamb – cut in very small pieces – cutting away all fat, bone, gristle. Put butter in frying pan and when it bubbles, stir in the meat and continue to stir constantly until the meat is done. Season with salt. Raisins – look them over and wash them. Cook with equal amount of Syrian Pine nuts – in another frying pan in same manner as lamb – in butter – stir nuts and raisins constantly. When ready to serve, mix most of nuts and raisins with the meat, using more meat than nuts and raisins. Place this mixture in the center of a serving platter and arrange a border of cooked rice around it, using the remaining nuts and raisins as decoration, according to taste.

(60)  Maxwell, An Early Pilgrimage, pp. 23–5.

(61)  Ruhe, Door of Hope, Ch. 4.

(62)  Bahá’í World, vol. IV, p. 339.

(63)  Phelps, Abbás Effendi, His Life and Teachings, p. 103.

(64)  Faizí, Milly – A Tribute to Amelia E. Collins, p. 7.

(65)  Chase, In Galilee, pp. 33–4.

(66)  Gail, The Sheltering Branch, p. 75.

(67)  Gail, The Sheltering Branch, p. 101.

(68)  Balyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, pp. 32–3.

(69)  Phelps, Abbás Effendi, His Life and Teachings, p. 78.

(70)  Bahá’í World, vol. XII, p. 704.

(71)  Blomfield and Shoghi Effendi, The Passing of ‘Abdu’l-Bahá, pp. 30–1.

(72)  Cobb, Memories of ‘Abdu’l-Bahá, pp. 5–6.

(73)  Star of the West, vol. XIII, p. 143.

(74)  Ben Kaufman’s recollection of a story we both heard.

(75)  أديب طاهر زاده، ظهور حضرة بهاءالله، المجلّد الثّالث، ص. 226

(76)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 323

(77)  Bahá’í News, September 1977, p. 6. from The Wondrous Annals, MírzáMahmúd-i-Zarqání.

(78)  Whitehead, Some Early Bahá’ís of the West, p. 57.

(79)  Thompson, Diary, pp. 237–8.

(80)  Bahá’í World, vol. IX, p. 806.

(81)  Balyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, p. 37.

(82)  Adapted from Pemberton, A Modern Pilgrimage to Palestine, pp. 99–100.

(83)  ‘Abdu’l-Bahá, Tablets of Abdu’l-Bahá, vol. II, p. 303.

(84)  عبدالبهاء، ترويج السّلام العالميّ، ص. 93

(85)  Star of the West, vol. IV, p. 207.

(86)  ‘Abdu’l-Bahá, Paris Talks, p. 16. Also, Divine Art of Living, p. 115.

(87)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 330

(88)  Ives, Portals to Freedom, p. 84.

(89)  Marzieh Gail, Preface to Thompson, Diary, p. ix.

(90)  Shoghi Effendi, Bahá’í Administration, p. 22.

(91)  Haydar-‘Alí, Stones, p. 145.

(92)  Thompson, Diary, p. 144.

(93)  Star of the West, vol. XIV, pp. 365–7.

(94)  McDaniel, The Spell of the Temple, pp. 16–17.

(95)  Blomfield, The Chosen Highway, p. 101.

(96)  Phelps, Abbás Effendi, His Life and Teachings, p. 107.

(97)  Star of the West, vol. IV, p. 205.

(98)  عبدالبهاء، ترويج السّلام العالميّ، ص. 229-230

(99)  Whitehead, Some Early Bahá’ís of the West, pp. 75–6.

(100)  Thompson, Diary, pp. 308–9.

(101)  روحيّة ربّاني، الجوهرة الفريدة، ص. 9

(102)  Thompson, Diary, pp. 363–4.

(103)  Reported by Margaret Ruhe, heard from Hand of the Cause A. Q. Faizi in 1980.

(104)  أديب طاهر زاده، ظهور حضرة بهاءالله، المجلّد الثّالث، ص. 16-17

(105)  Thompson, Diary, p. 387.

(106)  Gail, The Sheltering Branch, pp. 70–1.

(107)  Balyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, pp. 33–4.

(108)  Thompson, ‘Abdu’l-Bahá – The Center of the Covenant, pp. 19–20.

(109)  عبدالبهاء، ترويج السّلام العالميّ، ص. 16-117

(110)  Thompson, Diary, p. 321.

(111)  Whitehead, Some Early Bahá’ís of the West, pp. 82–3.

(112)  Whitehead, Some Early Bahá’ís of the West, p. 56.

(113)  Blomfield, The Chosen Highway, p. 159.

(114)  Blomfield, The Chosen Highway, pp. 162–3 (adapted) .

(115)  Bahá’í World, vol. XII, p. 689.

(116)  Star of the West, vol. VIII, p. 6.

(117)  Blomfield, The Chosen Highway, pp. 161–2.

(118)  بهاءالله، الكلمات المكنونة الفارسيّة، رقم 36

(119)  Goodall and Cooper, Daily Lessons Received at Acca, pp. 67–8.

(120)  ‘Abdu’l-Bahá, Paris Talks, p. 35.

(121)  Blomfield, The Chosen Highway, p. 152.

(122)  Bahá’í World, vol. XIII, p. 1187.

(123)  Bahá’í World, vol. XI, p. 491.

(124)  Thompson, Abdul-Baha’s First Days in America, p. 19.

(125)  Bahíyyih Ford, Notes of (unpublished, see reference 89) .

(126)  Thompson, Diary, p. 85.

(127)  Ford, The Oriental Rose, pp. 94–9.

(128)  Maxwell, An Early Pilgrimage, pp. 25–6.

(129)  Ives, Portals to Freedom, pp. 36–7.

(130)  Star of the West, vol. VIII, p. 4.

(131)  Vajdi, Human Happiness, p. 54.

(132)  Blomfield, The Chosen Highway, pp. 211–12 (adapted) .

(133)  Star of the West, vol. VIII, pp. 4–5.

(134)  ‘Abdu’l-Bahá, Paris Talks, pp. 114–15.

(135)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 330

(136)  Balyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, p. 100.

(137)  Star of the West, vol. XV, No. 3, p. 74. Also vol. XIII, pp. 271–2.

(138)  Star of the West, vol. XV, No. 3, p. 74. Also vol. XIII, pp. 271–2.

(139)  This exquisite rug – ‘the most valuable ornament of Bahá’u’lláh’s Shrine’ – was eventually donated by Shoghi Effendi to the Bahá’í House of Worship in Wilmette, Illinois.

(140)  Bahá’í World, vol. IV, pp. 208–10.

(141)  Report of the Eighteenth Annual Lake Mohonk Conference on International Arbitration, pp. 42–4 (note) .

(142)  Bahá’í News, April 1973, p. 6.

(143)  Blomfield, The Chosen Highway, p. 157.

(144)  Phelps, Abbás Effendi, His Life and Teachings, pp. 108–9.

(145)  Star of the West, vol. VIII, p. 5.

(146)  Ford, The Oriental Rose, p. 165.

(147)  Phelps, Abbás Effendi, His Life and Teachings, p. 7.

(148)  Phelps, Abbás Effendi, His Life and Teachings, (adapted) , pp. 103–4.

(149)  Star of the West, vol. IX, pp. 193–4.

(150)  Phelps, Abbás Effendi, His Life and Teachings, p. 5.

(151)  Blomfield, The Chosen Highway, p. 101.

(152)  Lucas, A Brief Account of My Visit to Acca, p. 29.

(153)  Star of the West, vol. X, pp. 218–19.

(154)  Ferraby, All Things Made New, p. 236.

(155)  عبدالبهاء، ترويج السّلام العالميّ، ص. 55

(156)  Star of the West, vol. VIII, pp. 5–6.

(157)  Thompson, Abdul-Baha’s First Days in America, p. 11.

(158)  True, Notes Taken at Acca, pp. 22–3 (adapted) .

(159)  True, Notes Taken at Acca, p. 24 (adapted) .

(160)  Roy, Knock and It Shall Be Opened Unto You, p. 7.

(161)  Lucas, A Brief Account of My Visit to Acca, p. 28.

(162)  Roy, Knock and It Shall Be Opened Unto You, p. 1.

(163)  Roy, Knock and It Shall Be Opened Unto You, pp. 5–6.

(164)  Ward, 239 Days: ‘Abdu’l-Bahá’s Journey in America, p. 134.

(165)  Ives, Portals to Freedom, p. 129.

(166)  عبدالبهاء، منتخباتي أز مكاتيب عبد البهاء، رقم 8، ص. 22

(167)  عبدالبهاء، منتخباتي أز مكاتيب عبد البهاء، رقم 16، ص. 32

(168)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 374

(169)  Balyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, pp. 92–3.

(170)  Blomfield, The Chosen Highway, pp. 137–9.

(171)  Blomfield, The Chosen Highway, p. 142.

(172)  Bahá’í News, September 1977, p. 5.

(173)  Grundy, Ten Days in the Light of Akká, p. 103.

(174)  Maxwell, An Early Pilgrimage, pp. 14–16.

(175)  Based on typed notes sent by Bahíyyih Randall Ford (Winckler) from S. Africa.

(176)  Star of the West, vol. III, No. 4, p. 29. Quoted in Bahá’í News, September 1977, p. 6.

(177)  ألواح الوصايا، كتاب عهدي المنزل من قلم حضرة بهاءالله وألواح وصايا حضرة عبدالبهاء، ص. 28

(178)  Blomfield, The Chosen Highway, pp. 159–60 (adapted) .

(179)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 367

(180)  Blomfield and Shoghi Effendi, The Passing of ‘Abdu’l-Bahá, p. 8.

(181)  Gail, The Sheltering Branch, p. 43.

(182)  Haydar-‘Alí, Stories, p. 144.

(183)  Ives, Portals to Freedom, p. 116.

(184)  Lucas, A Brief Account of My Visit to Acca, p. 15.

(185)  True, Notes Taken at Acca, pp. 29–30.

(186)  Roy, Knock and It Shall Be Opened Unto You, p. 1.

(187)  Bahíyyih Randall Ford Winckler. See anecdote 30.

(188)  Based on typed notes sent by Bahíyyih Randall Ford (Winckler) from S. Africa.

(189)  ‘Abdu’l-Bahá, Paris Talks, p. 38.

(190)  Star of the West, vol. XIII, No. 6, p. 144.

(191)  جون اسلمنت، بهاءالله والعصر الجديد، ص. 98

(192)  Faizi, The Bahá’í Faith – An Introduction, pp. 55–6.

(193)  Blomfield, The Chosen Highway, p. 171.

(194)  Ford, The Oriental Rose, p. 6.

(195)  Blomfield, The Chosen Highway, pp. 161–2.

(196)  Bahá’í World, vol. XII, p. 920.

(197)  ‘Abdu’l-Bahá, ‘Abdu’l-Bahá in Canada, p. 57.

(198)  Later appointed a Hand of the Cause by the Guardian in 1951.

(199)  Child’s Way, July–August 1973, pp. 7–9.

(200)  Balyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, p. 390.

(201)  Lucas, A Brief Account of My Visit to Acca, p. 16.

(202)  Balyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, p. 437.

(203)  Star of the West, vol. II, No. 14, p. 11.

(204)  Ives, Portals to Freedom, pp. 64–7 (adapted) .

(205)  Maxwell, An Early Pilgrimage, p. 20.

(206)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 303

(207)  Star of the West, vol. XIV, p. 69.

(208)  Whitehead, Some Early Bahá’ís of the West, p. 58.

(209)  Whitehead, Some Bahá’ís to Remember, p. 146.

(210)  أديب طاهر زاده، ظهور حضرة بهاءالله، المجلّد الثّاني، ص. 207

(211)  Ives, Portals to Freedom, pp. 52.

(212)  Ives, Portals to Freedom, p. 53.

(213)  Ives, Portals to Freedom, pp. 242–3.

(214)  Ives, Portals to Freedom, pp. 84–5.

(215)  Star of the West, vol. XIX, No. 3.

(216)  Star of the West, vol. XIV, pp. 69–70.

(217)  Blomfield, The Chosen Highway, p. 169.

(218)  Ward, 239 Days: ‘Abdu’l-Bahá’s Journey in America, p. 64.

(219)  بهاءالله، الكلمات المكنونة العربيّة، رقم 2

(220)  ‘Abdu’l-Bahá, Paris Talks, p. 159.

(221)  Whitehead, Some Early Bahá’ís of the West, p. 68.

(222)  Nakhjavani, Amatu’l-Bahá Visits India, p. 129.

(223)  عبدالبهاء، الرّسالة المدنيّة، ص. 29

(224)  Star of the West, vol. XVI, p. 528.

(225)  Austin, The Story of Louis G. Gregory, p. 12.

(226)  Ward, 239 Days: ‘Abdu’l-Bahá’s Journey in America, p. 74.

(227)  Austin, The Story of Louis G. Gregory, pp. 11–12. Also, Bahá’í World, vol. XII, p. 668. (Versions differ slightly.)

(228)  Austin, The Story of Louis G. Gregory, pp. 7–8.

(229)  Balyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, pp. 317–18.

(230)  عبدالبهاء، منتخباتي أز مكاتيب عبدالبهاء، رقم 62، ص. 94

(231)  Star of the West, vol. V, p. 216.

(232)  Star of the West, vol. XIII, No. 6, p. 143.

(233)  Ward, 239 Days: ‘Abdu’l-Bahá’s Journey in America, pp. 175–6.

(234)  Shoghi Effendi, The World Order of Bahá’u’lláh, p. 37. (نقلًا عن ترجمة معتمدة لم تنشر بعد)

(235)  National Programming Committee, Story Supplement for God Passes By, p. 57.

(236)  عبدالبهاء، ترويج السّلام العالميّ، ص. 384

(237)  ‘Abdu’l-Bahá, Selections from the Writings of, p. 200.

(238)  ‘Abdu’l-Bahá, Selections from the Writings of, p. 129.

(239)  ‘Abdu’l-Bahá, Selections from the Writings of, pp. 153–4.

(240)  ‘Abdu’l-Bahá, Selections from the Writings of, p. 267.

(241)  عبدالبهاء، منتخباتي أز مكاتيب عبدالبهاء، رقم 231، ص. 301

(242)  Holley, Religion for Mankind, p. 236.

(243)  Star of the West, vol. IX, p. 201.

(244)  Bahá’í News, September 1970, p. 7.

(245)  Star of the West, vol. XII, No. 11, p. 177.

(246)  عبدالبهاء، ترويج السّلام العالميّ، ص. 243

(247)  ألواح الوصايا، كتاب عهدي المنزل من قلم حضرة بهاءالله وألواح وصايا حضرة عبدالبهاء، ص. 52

(248)  Star of the West, vol. XI, p 43.

(249)  Grundy, Ten Days in the Light of ‘Akká, p. 40.

(250)  The Divine Art of Living, p. 9.

(251)  ‘Abdu’l-Bahá, Tablets of Abdu’l-BaháAbbás, vol. II, p. 274.

(252)  عبدالبهاء، ترويج السّلام العالميّ، ص. 155

(253)  Grundy, Ten Days in the Light of ‘Akká, p. 13.

(254)  Bahá’í World, vol. XIII, p. 847.

(255)  Ward, 239 Days: ‘Abdu’l-Bahá’s Journey in America, p. 168.

(256)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 303

(257)  جون اسلمنت، بهاءالله والعصر الجديد، ص. 87-88

(258)  Mattoon, ‘We Went to Haifa’ (Mimeographed copy) , p. 9.

(259)  Sears and Quigley, The Flame, pp. 115–16.

(260)  ‘Abdu’l-Bahá, Paris Talks, p. 15.

(261)  ‘Abdu’l-Bahá, Paris Talks, p. 113.

(262)  The Divine Art of Living, p. 70. AlsoBahá’í World, vol. IV, p. 384.

(263)  بهاءالله، منتخباتي أز آثار حضرة بهاء الله، رقم 139

(264)  ‘Abdu’l-Bahá, Paris Talks, p. 110.

(265)  Cobb, Memories of Abdu’l-Bahá, p. 6.

(266)  Brown, Memories of ‘Abdu’l-Bahá, p. 38.

(267)  Messages from Abdu’l-Bahá – To the Honolulu Bahais, pp. 3–4.

(268)  ‘Abdu’l-Bahá, Paris Talks, pp. 109–10.

(269)  عبدالبهاء، منتخباتي أز مكاتيب عبدالبهاء، رقم 185، ص. 206

(270)  عبدالبهاء، منتخباتي أز مكاتيب عبدالبهاء، رقم 174، ص. 198

(271)  عبدالبهاء، منتخباتي أز مكاتيب عبدالبهاء، رقم52، ص. 89

(272)  عبدالبهاء، منتخباتي أز مكاتيب عبدالبهاء، رقم 146، ص. 171

(273)  التّربية والتّعليم، ص. 30

(274)  التّربية والتّعليم، ص. 30

(275)  The Divine Art of Living, p. 18.

(276)  Brown, Memories of ‘Abdu’l-Bahá, p. 47.

(277)  Ward, 239 Days: ‘Abdu’l-Bahá’s Journey in America, p. 94.

(278)  عبدالبهاء، ترويج السّلام العالميّ، ص. 243-244

(279)  Bahá’í News, September 1977, p. 7.

(280)  Fathea’zam, The New Garden, p. 81.

(281)  Bahá’í Prayers, pp. 75–6 (UK edn) .(نقلًا عن الترجمة المنشورة في كتاب روحي 6)

(282)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 302

(283)  Goodall and Cooper, Daily Lessons Received at Acca, January 1908, pp. 8–9.

(284)  Star of the West, vol. VIII, p. 38.

(285)  Ford, The Oriental Rose, pp. 211–12.

(286)  Bahá’í World, vol. IV, p. 338.

(287)  Bahá’í World Faith, p. 367.

(288)  Bahá’í World Faith, p. 366.

(289)  Whitehead, Some Bahá’ís to Remember, p. 149.

(290)  Adapted from notes from Mr Randall’s daughter, Bahíyyih Ford (Winckler) .

(291)  Blomfield, The Chosen Highway, pp. 183–4.

(292)  Cobb, Memories of ‘Abdu’l-Bahá, pp. 16–17.

(293)  ‘Abdu’l-Bahá, Abdul-Baha in London, pp. 115–16.

(294)  عبدالبهاء، ترويج السّلام العالميّ، ص. 215-216

(295)  Bahá’í World, vol. XIII, p. 1187.

(296)  Thompson, Abdu’l-Baha’s First Days in America, pp. 39–40.

(297)  Grundy, Ten Days in the Light of ‘Akká, p. 38.

(298)  Grundy, Ten Days in the Light of ‘Akká, pp. 38–9.

(299)  Haney, A Heavenly Feast, p. 18.

(300)  Haney, A Heavenly Feast, p. 11.

(301)  ‘Abdu’l-Bahá, Tablets of Abdu’l-BaháAbbás, vol. III, p. 674.

(302)  Star of the West, vol. IV, No. 12, p. 208.

(303)  Shoghi Effendi, The Bahá’í Life, p. 3.

(304)  National Programming Committee, Story Supplement, p. 72.

(305)  Freeman, From Copper to Gold, p. 148.

(306)  نشرة الدّعاء والحياة التعبّديّة، شباط 2019، مقتطف 34

(307)  Thompson, Diary, p. 90.

(308)  Thompson, Diary, p. 91.

(309)  Townshend, The Mission of Bahá’u’lláh, p. 48.

(310)  Grundy, Ten Days in the Light of ‘Akká, pp. 85–6.

(311)  نشرة الدعاء والحياة التّعبّديّة، شباط 2019، المقتطفان 27 و 77

(312)  عبدالبهاء، ترويج السّلام العالميّ، ص. 274

(313)  ‘Abdu’l-Bahá, Tablets of Abdu’l-Bahá, vol. III, pp. 683–4.

(314)  Baker, The Path to God, pp. 13–17.(وردت أيضًا في كتيب الحياة بعد الموت، ص 8-10)

(315)  ‘Abdu’l-Bahá, Abdul-Baha in London, p. 97.

(316)  Lucas, A Brief Account of My Visit to Acca, p. 31.

(317)  Freeman, From Copper to Gold, p. 147.

(318)  Star of the West, vol. XI, p. 210.

(319)  جون اسلمنت، بهاءالله والعصر الجديد، ص. 109

(320)  World Order, Fall 1971, p. 83.

(321)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 314

(322)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 314

(323)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 316

(324)  عبدالبهاء، منتخباتي أز مكاتيب عبدالبهاء، رقم 199، ص. 233

(325)  أديب طاهر زاده، ظهور حضرة بهاءالله، المجلّد الثّالث، ص. 17-18

(326)  ‘Abdu’l-Bahá, Abdul-Baha in London, p. 124.

(327)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 316-317

(328)  ‘Abdu’l-Bahá, Abdul-Baha in London, p. 123.

(329)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 318

(330)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 318

(331)  Blomfield, The Chosen Highway, p. 184.

(332)  Whitehead, Some Early Bahá’í’s of the West, p. 56.

(333)  Rutstein, He Loved and Served, p. 82.

(334)  Townshend, The Mission of Bahá’u’lláh, p. 49.

(335)  Star of the West, vol. VI, pp. 90–1.

(336)   In fact, according to Bahá’í teachings, the ‘Sháh Bahrám’ promised by Zoroaster was Bahá’u’lláh (see Shoghi Effendi, God Passes By, p. 94), not ‘Abdu’l-Bahá, who made it abundantly clear that He was not a Manifestation of God.

(337)  Blomfield, The Chosen Highway, pp. 173–4.

(338)  National Programming Committee, Story Supplement, pp. 58–9.

(339)  Blomfield, The Chosen Highway, p. 177.

(340)  Blomfield and Shoghi Effendi, The Passing of ‘Abdu’l-Bahá, p. 9. AlsoBalyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, p. 462.

(341)  Star of the West, vol. IX, p. 122.

(342)  Thompson, Diary, p. 243.

(343)  Thompson, Diary, p. 102.

(344)  Bahá’í News, August 1962, p. 3.

(345)  Ford, The Oriental Rose, pp. 212–13.

(346)  Ford, The Oriental Rose, pp. 212–13.

(347)  Star of the West, vol. VII, p. 29.

(348)  ‘Abdu’l-Bahá, Selections from the Writings of, p. 129.

(349)  Balyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, p. 9.

(350)  عبد البهاء، مدرج في بهاءالله والعصر الجديد، ص. 82

(351)  عبدالبهاء، مدرج في بهاءالله والعصر الجديد، ص. 82

(352)  ألواح الوصايا، كتاب عهدي المنزل من قلم حضرة بهاءالله وألواح وصايا حضرة عبدالبهاء، ص. 42

(353)  كتاب عهدي المنزل من قلم حضرة بهاءالله وألواح وصايا حضرة عبدالبهاء، ص. 44 ألواح الوصايا،

(354)  Balyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, p. 415.

(355)  Nakhjavani, Amatu’l-Bahá Visits India, p. 159.

(356)  Ward, 239 Days: ‘Abdu’l-Bahá’s Journey in America, p. 101.

(357)  عبدالبهاء، ترويج السّلام العالميّ، ص. 239-240

(358)  Holley, Religion for Mankind, pp. 234–5.

(359)  Brown, Memories of ‘Abdu’l-Bahá, pp. 78–9.

(360   Mary Maxwell later became Amatu’l-Bahá Rúhíyyih Khánum.

(361)  Thompson, Diary, p. 254.

(362)  Thompson, Diary, p. 314.

(363)  ‘Abdu’l-Bahá, Abdul-Baha in London, pp. 120–1.

(364)  Thompson, ‘Abdu’l-Bahá, the Center of the Covenant, p. 10.

(365)  Balyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, p. 31.

(366)  Ives, Portals to Freedom, pp. 119–20.

(367)  جون اسلمنت، بهاءالله والعصر الجديد، ص. 90

(368)  Star of the West, vol. XII, No. 13, p. 214.

(369)  Bahá’í World, vol. XII, p. 919.

(370)  Bahá’í World, vol. XII, p. 899.

(371)  Balyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, p. 155.

(372)  Balyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, p. 155.

(373)  Blomfield, The Chosen Highway, p. 169.

(374)  Star of the West, vol. V, p. 86.

(375)  Bahá’í World, vol. IV, p. 383.

(376)  Balyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, p. 350.

(377)  Thompson, Abdul-Baha’s First Days in America, p. 7.

(378)  Star of the West, vol. IV, p. 35.

(379)  Star of the West, vol. IX, p. 211.

(380)  Ward, 239 Days: ‘Abdu’l-Bahá’s Journeys in America, p. 173.

(381)  The Garden of the Heart, p. 14.

(382)  National Programming Committee, Story Supplement, p. 36.

(383)  Thompson, ‘Abdu’l-Bahá, the Center of the Covenant, pp. 21–2.

(384)  Star of the West, vol. II, No. 14, p. 9.

(385)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 343

(386)  Star of the West, vol. XVII, p. 354.

(387)  ‘Oh! It is the face of the (good) Lord!’

(388)  Bahá’í World, vol. II, p. 272.

(389)  Bahá’í World, vol. XIII, p. 822.

(390)  Bahá’í World, vol. IV, p. 515.

(391)  Bahá’í World, vol. IV, p. 515.

(392)  Bahá’í News, February 1974, p. 19.

(393)  Bahá’í World, vol. XIII, p. 808.

(394)  Balyuzi, Edward Granville Browne, pp. 119–120.

(395)  Balyuzi, ‘Abdu’l-Bahá, p. 515.

(396)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 342

(397)  Letter to the author.

(398)  Gail, The Sheltering Branch, pp. 25–6.

(399)  Bahá’í World, vol. VI, pp. 626–7.

(400)  Holley, Religion for Mankind, pp. 232–3.

(401)  Bahá’í World, vol. XIII, p. 842.

(402)  Bahá’í World, vol. IX, p. 626.

(403)  Ives, Portals to Freedom, p. 55.

(404)  Ives, Portals to Freedom, p. 128.

(405)  Bahá’í World, vol. IX, pp. 618–19.

(406)  Bahá’í World, vol. IX, p. 612.

(407)  Bahá’í World, vol. II, p. 129.

(408)  Bahá’í World, vol. XII, p. 671.

(409)  Bahá’í World, vol. IX, pp. 635–6.

(410)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 370

(411)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 368

(412)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 465

(413)  شوقي أفندي، القرن البديع، ص. 467

(414)  Maxwell, An Early Pilgrimage, p. 39.

(415)  Maxwell, An Early Pilgrimage, p. 40.

(416)  Maxwell, An Early Pilgrimage, pp. 41–2