رحلة من الإيمان إلى الإيقان
رحلة من الإيمان إلى الإيقان

رحلة من الإيمان إلى الإيقان

الإهداء

اهدي هذا الكتاب إلى روح صديقتي العزيزة وأمي الروحانية المرحومة السيدة سميّة الأميري، التي صحبتني وأسرتي خلال تلك الرحلة بكل محبة وصبر وإيمان، وأخذت بأيدينا حتى وصلنا إلى بر الأمان.

سوسن حسني

المقدمة

ما أعجب ذاكرة الانسان وما أعجب ما تكتنزه من أمور متنوعة، والأعجب من ذلك هو أنها تحفظه مرتباً ومقسماً من دون اختلاط، وفي الوقت ذاته يكون متسلسلاً ومرتبطة أحداثه كأنها قصة تروي رحلة الحياة أو تروي بعضاً منها، وإن تعجب أكثر لما تخفيه الذاكرة مما لا حاجة للإنسان به في الوقت الحاضر حتى لا تتزاحم الذكريات في ذهنه، ولكن سرعان ما تستدعيه في المواقف المتصلة به حيث يصبح التشبيه رابطاً بين الحاضر والماضي.

وقد تشرق الذكريات عليه في وسط مواقف حالكة لتنقذه ببعض ما تعكسه من صور الماضي الجميلة التي صاحبت إحدى رحلات عمره، وكأن من وظائفها أن تهوّن على الإنسان مصاعب الحياة ومصائبها، وقد تعيد الذاكرة إلى ذهنه، عند الحاجة، كيفية الوصول إلى الحاضر الذي يعيشه في الوقت الحالي، فتعينه على إدراك عدد المواقف الصائبة التي اختارها إبان رحلته والتي كانت سببا في الوصول إلى حاضره، وما طرأ على حياته من أمور بدلت نهجيها الروحي والمادي.

بالطبع فإن كل واحد منّا يبدأ رحلته أيا كان نوعها من موقف معين، يحدد بقدر المستطاع مسيرة حياته ووجهة آماله، فمنّا من يرث الطريق الذي طرقه آباءه وأجداده دونما حيد أو تغيير، وبلا تبديل أو تعديل، وحتى إن تساءلت نفسه عن جدوى هذا الإرث في زمن غير زمانه، بادر بقمعها، وإن همس إليه صوت العقل لحظات يثنيه عن مواصلة المسير في طريقِ هَجَرَه العلمُ والابتكارُ الحديثان فيسكته ضمانا للوصول إلى مبتغاه المأمون هو وذوه.

ومنّا من يسلك طريقاً محاذياً يراجع المألوف سهداً، ويبدأ بالتساؤلات التي تضج المضاجع وتكوى الروح بما تثيره في النفس من الشكوك، أو الرغبة في العناد أحيانا أو الزهو والتعالي أحيانا أخرى بل وأحايين.

إن طريق مراجعة المألوف محفوف دائما بالأشواك، طريق لا تطرقه سوى قلة نذرت نفسها من البداية للسير في سبل التأمل والتفكير، واعتادت على إكبار العقل وإعماله واهتمّت بالاستناد إلى نتائج البحث والتنقيب، وآمَنت بأن الله كرّم الإنسان بهذا العقل وميّزه على كل ما سواه من سائر مخلوقاته ليعرف به طريق الحق الذي هو نفسه طريق الله، وبذلك تكون تلك النفوس قد أوفت بعهدها لله أولا ثم لنفسها بعد ذلك، ومن ثمّ فمهما واجهت من المصاعب، ومهما نالت منها المصائب فلن تحيد قيد أنملة عن الحق أو تتخلى عن الحقيقة.

فالوصول إلى الحق لا يشترى بالغالي ولا بالثمين فحسب، بل يشترى بالنفس والنفيس، فهو ثمرة شجرة الروح والفكر بعد أن يتم نضجه بالبحث والصدق والصبر.

ويعلم هؤلاء المثابرون الصادقون بأن طريقهم محفوف بالمخاطر، ولكن هذا عين ما يجعل لرحلة الحياة قيمة وفائدة.

من هنا جاءت فكرة هذا الكتاب، وفيه مجموعة من الصور الواقعية لرحلة حياة أسرة مصرية أحبت أن تشارك بها لتكون الأيام شاهدة عليها ويكون الله شاهدا على مصداقية كل ما جاء فيها، كفى بالله العلي العظيم شاهدا ووكيلا.

 

سوسن حسني

الرحلة الأولي

وما حياة الإنسان في هذه الدنيا طالت أيامها أم قصرت إلا رحلة لها بداية معلومة، ونهاية مقسومة، ولكن من دون شك ليد الغيب دور في تحديد وجهتها ومسارها.

وبين طيات رحلة الحياة هذه تنطوي رحلات ورحلات، ومنها هذه الرحلة التي هي موضوع قصتنا اليوم.

كانت هذه الرحلة نقطة التحول في حياة أسرة صغيرة، ومن تلك الرحلة انبثقت رحلات ورحلات بل وجولات وصولات.

لم تكن أيام تلك الرحلة سهلة هينة ولا عسيرة ضنكة، ولكنها جمعت بين أيام سعيدة وأخرى كانت تشوبها مسحة من المصاعب والأحزان.

جلست في تلك الليلة الحالكة السواد أستعين بذاكرتي عساي أتوصل إلى ما أوصلني إلى هذا الحاضر المفزع الذي كنت أعيشه في تلك اللحظة.

بدأتُ تأملاتي في أحداث رحلتي هذه من زنزانة السجن حيث كنت أجلس في ركن من أركان تلك الغرفة الضيقة المظلمة وأنا في شبه ذهول تام أمعن النظر في كل ركن من أركانها، وأدقق الرؤية في وجوه من كانوا حولي لأستوعب حقيقة الوضع الذي كنت فيه.

هل كل ما تراه عيناي حقيقة؟

وهل هو واقع أعيشه أنا الآن؟

أم أنه كابوس مفزع يجثم على صدري وسأفيق منه بعد لحظات؟

لقد أفقت بالفعل على هذه الحقيقة في نهاية الأمر ولمستها بكل حواسي وجوارحي، ها أنا أجلس في زنزانة صغيرة مع عشر من الصديقات اللاتي تتراوح أعمارهن ما بين الثامنة عشرة والخامسة والستين، يا للهول ماذا حدث لهن إنني لاأرى سوى وجوها شاحبة يغلفها إعياء شديد، ماذا حدث؟

ولماذا نحن هنا؟

ولماذا كانت هذه التحقيقات التي استمرت لأكثر من ثمانية وأربعين ساعة في مقر نيابة أمن الدولة؟

بدأت أسترجع ذلك المشهد العبثي الذي بدأ عندما دخل بيتنا وبيوت آخرين عدد ممن يعرفون، في ذلك الوقت، بزوّار الفجر، جاءوا في الساعة الواحدة صباحا، وعلمنا، فيما بعد، أن تلك كانت ساعة الصفر المتفق عليها لاقتحام منازل تسعة وأربعين أسرة من الأسر البهائية الذين ينتشرون في مدن مصر وقراها من الإسكندرية وحتى أسوان. دخل زوار الفجر بضباطهم ومخبريهم، وكلابهم البوليسية إلى بيوت الأسر الآمنة ولم يخرجوا منها إلا في الساعات الأولى من فجر ذلك اليوم، خرجوا مظفرين بعد أن ضبطوا جسم الجريمة التي كانوا يبحثون عنها في تلك المنازل فحملوها بكل عناية لتحريزها كأدلّة إدانة دامغة على الجرم الذي ارتكبه أولئك المجرمون العتاة.

لماذا؟

وكيف؟

وبأي منطق؟

ووفقا لأي قانون؟

لا ندري ولا يدري اي واحد منا السبب الحقيقي وراء كل هذه الجلبة العجيبة إلا بعد مواجهتنا في مبنى مباحث أمن الدولة بالتهم التي اقتضت إلقاء القبض علينا في منتصف الليالي، ونحن في غفلة عن التهم الموجهة لنا، وعن الأحراز التي ضبطوها في بيوتنا جميعا والتي أقر كلٌّ منا بامتلاكها.

لقد كانت تُهمتنا جد مرعبة مثلما كانت مؤسفة ومضحكة في الوقت ذاته، كانت التهمة التي واجهوا كلّا منّا بها هي: اتّباع تنظيم يهدف إلى قلب نظام الحكم!!!!

يا إلهي أي تنظيم هذا الذي كنا نتّبعه من دون أن ندري؟

فنحن، بحكم أصول ديننا، ممنوعون من المشاركة في الأمور السياسية، وهذا معروف في كل دول العالم التي يعيش فيها بهائيون بأنهم لا يتدخلون بالمرة في الأمور السياسية، ولا ينتمون أو يشاركون في اي نوع من الأحزاب لأنّهم دعاة سلام، وعقيدتهم مثلها مثل كل العقائد، في الأصل، لا تحمل إلا الخير لكل الأنام، فما بالك باتباع تنظيم من التنظيمات السياسية كما يدّعون.  يا له من ادعاء، وما هذا الهراء؟

وأي حكم هذا الذي كنا نريد إسقاطه؟ وكيف؟

وإذا كان الأمر سياسي وتنظيمي كما يدّعون فلماذا استولوا على كتبنا الدينية؟

ولماذا كانت معظم الأسئلة التي طرحت علينا عن كيفية الصلاة ونظام الصوم وسائر العبادات الخاصة بديننا والتي نقيمها في داخل بيوتنا؟

وهل اختلاف أساليب العبادة عن غيرها من الأساليب المتبعة في الديانات الأخرى يكون من شأنه تقويض نظام حكم؟

أو يورط أصحابه في تهديد لأمن دولة كاملة وسلامتها؟

عجيب والله أمر هؤلاء الذين يلصقون التهم بالأبرياء، ويلقون بهم في غياهب السجون تحت ما يخترعونه من مسميات ما أنزل الله بها من سلطان، وهي الجرائم التي تسمى بجرائم الرأي!!!

منذ متى أصبح للرأي جريمة؟

وهل أصبح التفكير سبة في جبين من يشغّلون عقولهم؟

قد يجيب البعض على هذا السؤال بالنفي وقد يجيب البعض الآخر بالإثبات، لأننا نعيش في زمن أصبح فيه التفكير سببا للتكفير، وأن يكون للفرد رأي فهذه جريمة نكراء تستحق السجن والإقصاء، بل وخلق لها تصنيفا في علم الجريمة ليس موجودا إلا في بعض البلدان.

إذن وماذا كانت تلك الأحراز؟

ولماذا كنا نخفيها في بيوتنا؟

ما كانت تلك الأحراز المحرّمة سوى مجموعات من الكتب!!!

وأي نوع من الكتب تلك التي شكلت جسم الجريمة، ومن ثمّ استحقت أن تحرّز، ويساق أصحابها إلى السجن؟

لا لم تكن تلك الكتب بالكتب الصفراء، أو الكتب المخلّة بالآداب، كما لم تكن كتبا في السياسة أو كتبا محرضة على العصيان.

كانت كتبا تتناول مبادئ سامية، وتحضّ على مكارم الأخلاق. كتبا تحث على محبة كل البشر بغض النظر عن خلفياتهم وانتماءاتهم الدينية أو السياسية أو العرقيّة.

فما هي إلا كتب تشجع العمل الجاد والمتقن، وترقى به إلى درجة العبادة شريطة أن يؤدى بروح الخدمة. كتب تدعو إلى تأصيل مبدأ التعايش مع الآخرين والقيام على خدمتهم ومساعدتهم دون تمييز أو تفضيل.

كتب تشجع على مد يد العون لكل البشر، فقيرا كان أم غنيا، صغيرا كان أم كبيرا…

كتب تحث على طاعة الله وطاعة الحكومة التي يعيش البهائيون تحت ظلها مهما كان نوع تلك الحكومات، ومهما اختلفت أنظمتها لأن هذا هو السبيل إلى طاعة الله ورضائه.

كتب تحض على المعاشرة مع جميع الأديان بالروح والريحان.

كتب تحترم العقول وتمجدها.

كتب فيها الكثير والكثير مما يدعم الوحدة والوئام بين كل الأنام.

كتب تتغنى بالمحبة وتعززها.

كتب تؤكد على وحدة الجنس البشري وترسي دعائم السلام والأمان الذي يحلم به كل كائن حيّ على ظهر هذه الأرض.

فهل من المنطقي إذن، أو من المعقول أن تكون تلك الكتب هي أصل الجريمة التي زجّت بنا إلى غياهب السجون وجعلتنا نلقى في مثل هذه الغرفة الضيقة لننام على البلاط البارد حتى يأتي الصباح وتفتح مخازن السجن فيصرفون لنا أسرّة كما كانوا يدّعون!

بعد التحقيقات المضنية تم ترحيل السيدات إلى سجن النساء بالقناطر، وترحيل الرجال إلى سجن الاستئناف بالقاهرة.

لقد كان كل ما يشغل تفكيري، رغم الإعياء الشديد الذي كان ينتابني، ونحن في سيارة السجن الزرقاء مع زميلاتي في طريقنا إلى السجن هو نوع الجريمة التي نحن متهمون فيها، وتحت اي نوع من أنواع الجرائم المعروفة سيكون موقعنا في داخل؟

وما ذا وكيف سيكون رد فعل السجينات نحونا؟

بل في الحقيقة كان فزعي الأكبر هو مع اي نوع من السجينات سيكون مصيرنا؟

هل يا ترى سنسجن مع القاتلات؟

لا لا هذا سيكون فظيع جدا ولن أستطيع تحمله.

أم سنسجن مع اللصات والعاهرات والمتاجرات في المخدرات؟

يا إلهي أتوسل إليك أن ترحمنا، إلى اي جرم سينسبوننا؟

ومع اي نوع من السجينات ستكون إقامتنا؟

وإن قرروا حبسنا مع اي فئة من هذه الفئات فكيف لنا أن نتعامل معهن؟

وكيف سيقبلوننا في وسطهن؟

كنا إحدى عشر سيدة وآنسة كلهن متعلمات، وذوات مراكز مرموقة، وسمعة محترمة ولهن الكثير من الخدمات المعروفة خاصة في المجالات التربوية، والاجتماعية والعلمية، سواء أكان ذلك في مصر أو في خارجها.  فكان فينا المديرة والطبيبة، وفينا الأستاذة الجامعية وفينا المدرسة والطالبة الجامعية والمهندسة.

لذا كان السؤال الذي ظل يؤرقنا جميعا هو: تحت اي مصنف من الجرائم سيضعوننا وفي اي منقلب سيكون مصيرنا؟

لقد وصلنا إلى سجن النساء في القناطر مع الفجر بعد استكمال التحقيق مع كل واحد منا على مدار ثما نية وأربعين ساعة من لحظة القبض علينا، لذا عند وصولنا إلى تلك الزنزانة، وهنا لا أخفي عليكم سرا شعرت بسعادة كبيرة، وبدأت الطمأنينة تغمرني عندما لمحت اللافتة الموضوعة على باب الزنزانة المخصصة لنا لحظة دخولنا السجن، وقد كتب عليها بالخط العريض (جرائم الرأي)، ورأينا أننا وحدنا ولا يوجد أحد يشاركنا في الغرفة، لقد شعرت في تلك اللحظة بأن الله قد استجاب لدعائنا.

وبعد دخولنا الغرفة تساقطنا الواحدة تلو الأخرى على البلاط البارد من شدة الإعياء وتكوّمنا في وسط الغرفة يلتحف بعضنا ببعض طلبا للدفء في ذلك الزمهرير القارص في نهاية شهر فبراير عام1985.

نمنا بعد ساعات مضنية قضيناها في استجواب قاس ومرهق طال وكأنه الدهر، ولم نستيقظ إلا عند مداهمة الغرفة في الصباح الباكر، عندما فتحت الغرفة بعنف لم نكن نمنا سوى سويعات قليلة إلا أننا كنا نشعر براحة شديدة.

دخلت الغرفة سجّانتان سمينتان عابستان تفرستا في وجهونا وكأننا مخلوقات غريبة جاءت من كوكب آخر أو إحدى عجائب الدنيا السبع، ثم غادرتا الغرفة بدون اي حديث أو كلام.

لم يكن أحد يتخيل أبدا أن مجموعتنا هذه أخطر بكثير من اي نوع من المجرمين، وأن جريمتنا كانت أكثر خطورة من كل ما عرف على وجه الأرض من جرائم.

هذا ما سمعناه من السيد مأمور السجن عند استقبالنا صبيحة وصولنا، والذي رأى، جزاه الله خيرا، أنه من الضروري عزلنا في غرفة منفصلة والحمد لله، وتحت مصنف جديد من الجرائم يشير إلى مدي خطورتنا، وهو جرائم الرأي كما ذكرت آنفا.

ولا أبالغ حين أقول بأننا شعرنا جميعا بالراحة الكبيرة لهذا القرار الصائب من سيادته بعزلنا في غرفة منفردة، لأنه بذلك يجعلنا بمنأى عن جميع النزيلات الموقّرات على اختلاف جرائمهن وفظاعتها.

ولن أنسى ما حييت اللهجة الصارمة التي تحدث بها السيد المأمور، وكيف أخبرنا بأنه، مشكورا، قام بتوعية السجينات قبل وصولنا إلى ساحة السجن، وأنه أطلعهن على مدى خطورتنا، وحذرهن من الاقتراب من مجموعتنا العاتية في الإجرام، وحذرهن حتى من الحديث معنا وذلك حماية لهن من المخاطر.

في الوقت نفسه طلب منا بكل حزم الالتزام بالأوامر نفسها، وعدم الاختلاط بالسجينات، أو الحديث مع اي واحدة منهن مهما كانت الأسباب وذلك حتى لا تنتقل عدوى الرأي التي ابتلينا بها، والعياذ بالله، إليهن وهن البريئات الساذجات.

على الرغم من أنه، والحق يقال، كان يتحدث معنا بشيء من الاحترام المغلف بصرامة شديدة، إلا أنه استطرد متوعدا كل من تخالف النظام بتوقيع أشد العقوبات عليها، فقد قال لنا بالحرف الواحد: (نحن نتحدث معكن باحترام لأننا نعلم بأنكن سيدات متعلمات ومثقفات، ولكن على الرغم من ذلك فمن تخالف هذه الأوامر (هحش وسطها)!!

وسط تلك التأملات بدأ شريط حياتي يمر أمام عيناي التي دمعتا عندما تذكرت زوجي العزيز الذي تم ترحيله مع رفاقه فجر اليوم إلى سجن الاستئناف على ذمة التحقيق في الوقت نفسه الذي صدرت فيه الأوامر بترحيلنا إلى سجن النساء في القناطر على ذمة التحقيق أيضا.

تذكرت كيف بدأت رحلتي مع رفيق حياتي، وعشرتنا الطيبة والتي احتفلنا، قبل أيام قليلة بمرور عشرين عاما على ارتباطنا المقدس.

رحلة الأسرة الصغيرة

وجدتني في السجن أتذكر بدايات الرحلة التي أتت بي إلى هذا السجن بموجب تهمة لا يمكن تصورها ولا حتى في الخيال.  أنا الأستاذة الجامعية التي لا تستهويني السياسة وما يدور فيها، وليس لي منها إلا الاطلاع على الأخبار والاستماع إلى نشراتها أقف الآن مع زوجي المربي الفاضل الراقي الخلوق الورع كمتهمين بقلب نظام الحكم، يا إلهي أهكذا مرة واحدة!!!

لحسن الحظ أنقذتني الذاكرة من الهول الذي كنت أعيشه بدفء بيتنا الصغير، ورحلة زواجنا الذي تم بالصورة التقليدية وبالأساليب المتبعة في منتصف الستينيات، فعن طريق الأخوات تم التعارف بيني وبين زوجي، عندما أرادت إحدى شقيقاته مساعدته في اختيار الفتاة المناسبة له والتي تتحلى بالصفات التي كان اخوها المتدين يحلم بها في شريكة حياته المستقبلية.

كان معنى التدين في ذلك الوقت يختلف اختلافا كبيرا عما تعنيه اليوم هذه الصفة. لقد كانت أولى الصفات التي يأمل هذا الشاب أن تتوفر في شريكة حياته هي أن تتحلى بقدر من التدين الذي يسمح لهما أن يسيرا في طريق الله بدون تعصب أو مغالاة، وأن تكون هذه الصفة ذاتية نابعة من نفسها وليست نتيجة لأي ضغط من الضغوط أسريّا كان أم اجتماعيا، وألا يكون التدين نتيجة لنوع الدراسة التي تدرسها، ومن ثمّ كان اساس الاختيار روحانيّا في المقام الأول. وقد كان بالفعل شرطي الأول لزواجنا هو أن نعمل سويا من أجل إحياء الإسلام وتخليصه من كل ما علق به من أمور مادية وسياسية منعت الكثير من الوصول إلى جوهره العظيم.

وبالفعل بدأنا حياتنا الأسرية بهدف اتفقنا عليه منذ اللحظات الأولى وهو السعي سويا في رحلة الحياة من أجل التعمّق في ديننا، الذي ورثناه كأثمن هدية وأعظم موروث وصلنا عن طريق الآباء والأجداد. بالطبع لم يكن لنا إرادة في اختيار هذا الدين، شأننا في ذلك شأن معظم الناس، حيث يولدون على دين آبائهم إلا أننا كنا دائما نشعر بالاعتزاز والافتخار لأننا ولدنا على دين الفطرة، وأن رسولنا محمد (ص) هو آخر الأنبياء والرسل، وأن موعدنا الجنة وكل من هو سوى ذلك من البشر فهو في نار جهنم وبئس المصير.

إن تعمقنا في الدراسة والا تفاق على هدف مشترك جعلنا نشعر بعمق المسؤولية التي ألقيت على عاتقنا وأنه لا يكفي أن يولد الإنسان على دين والديه وأجداده، وقد يكون من حسن حظه، كما هو معروف، أنه ولد في أسرة مسلمة،بل يجب أن يتعمق أكثر وأكثر حتى يعرف أصول دينه ويكون قادرا على تطبيقه في حياته اليومية. فإسلام المرء وحده لا يكفي ولكن عليه أن يرقى بإسلامه هذا ويسمو إلى درجة أعلى وهي الإيمان ذلك الإيمان المذكور في الآية التالية:

“قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ[1].

كان لتأثير دراستنا وخلفياتنا الإسلامية أكبر الأثر في سلوكنا طريق التعمق في ديننا وتحقيق رغبتنا في ترقية إيماننا.

لقد حالفني الحظ فكنت واحدة من أول مجموعة فتيات التحقن بالدراسة في جامعة الأزهر بعد حصولي على الثانوية العامة في أوائل الستينيات، تلك الجامعة العريقة التي أنشئت منذ أكثر من ألف سنة، ولم يكن للفتيات من قبل الحظّ في التعمق في الدراسات الدينية، لذا كان هذا النوع من الدراسة يقتصر على الذكور فقط.

على الرغم من ان دخول الفتاة إلى الأزهر كان يلقي الكثير من المعارضة القوية على مدى العقود إلا أن تطوير الأزهر تحقق في خطوة شجاعة وغير مسبوقة قام بها بعض علمائه الأفاضل، فأنشئت في تلك السنة الكليات العلمية مثل الطب والهندسة والتجارة والعلوم، ليدرس فيها الطلبة الدراسات العلمية جنبا إلى جنب مع الدراسات الدينية واللغوية، ثم تُوِّجت هذه الخطوة التقدمية بافتتاح كلية البنات الإسلامية بشعبها الأربع والتي كانت كل شعبة منها نواةلكلية تخصصية مستقلة فيما بعد، كما أضيفت الكليات العلمية لهذه الكلية فيما بعد.

اقتصرت الدراسة في كلية البنات الإسلامية على شعبة الدراسات الإسلامية، وكان عدد طالباتها عشرين طالبة، وشعبة الدارسات العربية والإسلامية، قبلت أيضا عددا مماثلا وهو عشرين طالبة، والعدد نفسه تم قبوله في شعبة الدراسات الاجتماعية، أما شعبة المعاملات والإدارة (التجارة) فلقد قبلت ضعف عدد الطالبات وهو أربعين طالبة. وكانت المواد الإسلامية، من تفسير، وفقه وعقائد، ولغة عربية جزءا لا يتجزأ من المقررات الأساسية في الشُعب الأربع، كما كان يعقد امتحان سنوي في حفظ عدد من أجزاء القرآن الكريم، هذا بالإضافة إلى مواد التخصص لكل شعبة.

لقد كان افتتاح تلك الكليّة كما ذكرنا بمثابة حجر الأساس في مسار تطوير الأزهر. وبناء على ذلك تم تعيين أستاذة قديرة من جامعة عين شمس عميدة لتلك الكلية الوليدة، لقد كانت، رحمها الله، أستاذة ذات فكر تطوريّ وتنويريّ، كانت حقا مثالا يحتذى للمرأة المثقفة، المتفتحة والجادة في الوقت نفسه، كانت تبث الثقة في نفوس الطالبات، وتشجعهن دائما على أن يكنّ قدوة في سلوكهن حتى يؤكدوا أن المرأة جديرة بالاحترام. لم تكن ترتدي الحجاب، ولم يحدث أن فرضته يوما على الطالبات، في الوقت الذي كان الحجاب مفروضا على الفتيات الصغيرات اللاتي التحقن بمعاهد البنات الأزهرية الابتدائية والإعدادية والثانوية والتي افتتحت في السنة نفسها في أوائل الستينيات، كخطوة مكملة لدراسة الفتيات في الأزهر.

كنت قد حصلت على درجة الليسانس في شعبة اللغة العربية والدراسات الإسلامية، وكنت من المتفوقات، وشاركت في كثير من الأنشطة فانتخبت خلال سنوات الدراسة أول أمينة للاتحاد في كلية البنات الإسلامية، وانتخبت أكثر من مرة في اتحاد الجامعة، وشاركت في الندوات والمؤتمرات التي كانت تقيمها الجامعة وفي كثير من الأنشطة التي كان المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية يقيمها، ولقد شجعتني كثيرا نشأتي في اسرة معتدلة ومتفتحة تثق في قدراتي وتدفعني دائما إلى التفوق وتؤمن إيمانا راسخا بالمساواة بين الذكر والأنثى.

ونعود مرة أخرى إلى ما اتفقنا عليه منذ بداية زواجنا وهو العمل الدؤوب من أجل إحياء الإسلام، وهنا يجب التنويه بأن هذا العبارة “إحياء الأمة” و”إحياء الدين” ليست بغريبة على الآذان، فلقد نادى بها الأولون وخاصة في عصور الهبوط والانحطاط، وتعالت بها صرخات الآخرين في وقتنا الحالي، وذلك نظرا لما وصلت إليه أحوال الأمة من تدهور وانحدار، وما يبدو جليا وواضحا لكل ذي بصر، خاصة ما طرأ على الأمة من الازدواجية واللامبالاة، وما تبع ذلك من انحطاط أخلاقي، وابتعاد شاسع عن جوهر الدين، جوهر اي دين من الأديان، وليس جوهر الدين الإسلامي فحسب، وبالطبع فإن القارئ يعلم بان هذا التدهور الذي نتحدث عنه في الستينات لم يكن قد وصل إلى هذه الدرجة من السوء التي وصل إليها الحال في الوقت الراهن، فالبعد عن الله أصبح السمة التي ترسم معالم المجتمعات المختلفة بعد أن طالت الأعناق بالنفاق، وعمّ الكِبر، والرياء، وتفشت الأنانية، وأنتشر الحقد والكراهية، وأصبح الناس لا يميزون بين الخير والشر، ويأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ونسوا الله فأنساهم أنفسهم:

“الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”[2]

على الرغم من التحذير الإلهي الواضح في كتاب الله من مغبّة نسيانه والبعد عنه

“وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”[3]

لقد حاول كل منا أن يساعد الآخر في تطوره الروحاني والسعي إلى الله وذلك بالمثابرة على التطبيق الكامل والمعتدل لأركان هذا الدين الحنيف، وإظهار أثره في تطوير حياة الفرد.

فلقد كان لدينا اليقين الكامل بأن الله لم يرسل هذه الشرائع إلا لمحبتة الخالصة لخلقه ورحمتة الكاملة لعباده، وليس أبدا ليثقل عليهم أو يعذبهم ويتحكّم فيهم، فهو سبحانه أرحم الراحمين. لذا كنا نقوم بتطبيق ما أمرنا الله به على قدر المستطاع سواء في حياتنا اليومية، أو في عملنا، وما نقوم به مع طلابنا وطالباتنا من الأعمال التطوّعية.

ولا أبالغ حين أقر بأننا كنا في جهاد دائم ومحاولات مستمرة للتشبث بأنامل الرجاء في تقرّبنا إلى الله، ولم نفقد أبدا الثقة في سبل هدايته ما دمنا نجاهد فيه سبحانه فهذا ما وعد به في قوله:

“وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ”[4] فلقد كانت هذه الآية الكريمة وما زالت شعارنا في هذه الدنيا.

وفي بداية السبعينيات اي بعد سنوات قليلة من الزواج، وبعد أن رزقنا بطفلين، لبينا الدعوة التي وجهت إلينا، بعد اجتياز عدة اختبارات، للتدريس في إحدى دول الخليج الناشئة حديثا بمرتب كان يعتبر خياليا مقارنة بما كنا نتقاضاه في بلدنا. وبالفعل سافرنا مصطحبين طفلينا وكانت هذه هي المرة الأولى التي نسافر فيها خارج وطننا الحبيب مصر.

عملت مدرسة للغة العربية والدين في مدرسة البنات في إحدى المناطق النائية، وكذلك كان يعمل زوجي مدرسا للغة العربية والدين في مدرسة الأولاد المجاورة. لقد كانت التقاليد في تلك البلاد لا تسمح بالاختلاط بين الطلبة والطالبات، وهذا هو السبب في اشتراطهم أن يكون الزوجان يعملان بالتدريس.

لا يمكن أن أصف الصدمة التي منينا بها عند وصولنا إلى المدرستين اللتين تم تعيننا للعمل فيهما، لقد كانت هذه الدولة الخليجية في بداية تكوينها بعد ظهور البترول فيها، وكانت الحياة في تلك المناطق النائية شبه بدائية. لم أستطع أن أخفي صدمتي التي جعلتني أفكر في العودة إلى مصر في اللحظات الأولى من وصولنا ضاربة عرض الحائط بتلك الرواتب الكبيرة والتي كنا نحلم بها لتحلّ مشاكلنا المادية التي عانينا منها منذ زواجنا.

ولكن أسقط في أيدينا عندما علمنا من الزملاء والزميلات بأننا لا يمكن أن نعود قبل انتهاء السنة الدراسية، وذلك لأن السياسة التي وضعتها وزارة التربية والتعليم في تلك البلاد تجعل من المستحيل لأي مدرس العودة إلى بلاده قبل انقضاء السنة الدراسية كاملة، ولضمان ذلك يسحبون جوازات سفر العاملين وجوازات سفر أسرهم بمجرد وصولهم إلى المطار بحجة عمل الإقامة لهم، ولا يسمح لهم بالحصول عليها إلا قبل السفر في نهاية السنة الدراسية بيوم أو يومين فقط. لذا فما كان أمامنا من وسيلة سوى الرضوخ لما قدره الله لنا، وهو البقاء في تلك الدولة ومحاولة معالجة المشاكل والعقبات. وبالفعل بدأت هذه المشاكل الأولية تحلّ، وبدأنا نتأقلم تدريجيا مع الحياة الجديدة، وبالطبع لم يكن الأمر في أوله بالسهل أو بالهين ولكن الله كان يساعدنا ويعيننا.

كانت تلك هي المرة الأولى التي بعدنا فيها عن بلادنا وأسرنا، وفي الغربة يلتقي الإنسان بألوان مختلفة وأشكال متنوعة من الناس والعادات والثقافات، ولأول مرة في حياتنا نتعامل مع زملاء من جنسيات عربية مختلفة، وفوجئنا بالكثير من العادات التي تختلف كثيرا عن عاداتنا، وحتى المصريين الذين التقينا بهم أو كنا نعمل معهم كانوا يختلفون عمن كنا نعرفهم أو نعمل معهم من قبل وممن كانوا في محيط اسرتينا. فكل واحد منهم كان له اسلوبه في تحقيق الهدف الذي جاء من أجله.

شعرنا في البداية كأنما انتقلنا إلى عالم آخر أو كوكب مختلف يحوي أنواعا جديدة من البشر لم يكن لنا معرفة بهم من قبل ولم يكن لدينا خبرة في معالجة كثير من الأمور في ديار الغربة. ولكن مع الأيام بدأنا نألف هذا العالم وتعلمنا الكثير، وقمنا بتكوين صداقات كثيرة، ونلنا الكثير من المحبة والتقدير من الجميع، وأصبحنا نحب هذا المجتمع الجديد، وتوّج الله ذلك بأن رزقنا في السنة الأولى من غربتنا بطفلنا الثالث، الذي اضاف للأسرة سعادة كبيرة، ومسؤوليات أكبر.

لقد ساعدتنا الحياة الجديدة وما وفرته لنا من الاستقرار المادي في سعينا لتحقيق الهدف الأسمى الذي رسمناه منذ بداية حياتنا الزوجية وهو العمل الدؤوب من أجل إحياء الدين في القلوب، ومساعدة النفوس على التقرّب إلى الله، وبالطبع كان لزاما علينا أن نبدأ بأنفسنا.

وعلى الرغم من الإغراءات المادية قررنا الاستمرار في السير نحو تحقيق هدفنا فقرر زوجي أن يعطي تطوعيا دروسا يومية بعد صلاة العصر في المسجد، وأحيانا أخرى بعد صلاة العشاء، هذا بالإضافة إلى إلقائه خطبة الجمعة حتى أصبح محبوبا ومعروفا في المنطقة، وكانوا يتسابقون في دعوته لإلقاء خطبة الجمعة في المساجد المحيطة.

أما أنا فقد كنت أعطي دروسا إضافية بدون مقابل للطالبات الضعيفات، وأساعد أعدادا لا بأس بها في حفظ القرآن الكريم وعمل بعض المشروعات الخيرية وغيرها من دروب المساعدة على تنشئة جيل يطبق تعاليم الإسلام السمحة في حياته والتي من شأنها أن تساعد في تغيير المجتمع، ولذا كنت أحصل دائما على التقدير العالي في التقارير الفنية والإدارية معا، وأحيانا كانت تصرف لي مكافآت تشجيعية.

[1]  سورة الحجرات، الآية 14.

[2]  سورة التوبة، آية 67.

[3]  سورة الحشر، آية 19.

[4]  سورة العنكبوت، آية 69.

رحلة الحج إلى بيت الله الحرام

كانت الرحلة التالية هي رحلة الحج إلى بيت الله الحرام، لقد رأينا أن إحدى الخطوات الهامة التي يجب تحقيقها استكمالا لأركان الإسلام الخمس هي أداء فريضة الحج، بعد أن استطعنا خلال السنة الأولى لغربتنا سداد كل ما كان علينا من الديون. فشرعنا في ادخار مبلغ من المال يساعدنا على أداء هذه الفريضة، وقررنا القيام برحلة العمر التي كنانحلم بها.

أثارت هذه الرغبة الكثير من الاندهاش من عائلاتنا وزملائنا وأصدقائنا، لأننا كنا في ذلك الوقت في سن الشباب، فأنا لم أكمل العقد لثالث من عمري وكان زوجي في بداية العقد الرابع، وكان الشائع في ذلك الوقت هو أن كبار السن أو من هم فوق الخمسين هم الذين يتحمسون لأداء هذه الفريضة. لكننا لم نتردد ولو للحظة في تقديم طلبات الحج إلى وزارة التربية والتعليم التي وافقت على الفور على منحنا إجازة لتأدية فريضة الحج، وهذه الموافقة لا تمنح للمدرس أو للمدرسة إلا مرة واحدة خلال فترة عمله في الوزارة، مهما طالت هذه المدة.

إن رغبتنا الشديدة في زيارة بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول الكريم دفعتنا لتذليل كل الصعوبات التي واجهتنا في ترتيب هذه الرحلة، فلم يكن مصرّحا لنا باصطحاب الأطفال لصغر سنهم وصعوبة الرحلة، فأكبرهم ابنتي التي كانت في السابعة من عمرها وأصغرهم كان لم يتجاوز الشهر الرابع من عمره بعد، وعلينا أن نتصور صعوبة الاختيار، فلم يكن اتخاذ مثل هذا القرار بسيطا أو سهلا فما زلت أرضع وليدي، وكنّا مُصرّين على اصطحاب الرضيع وحاولنا إتمام الإجراءات اللازمة ولكن في اللحظات الأخيرة فوجئنا برفض منحه تأشيرة دخول  إلى السعودية، وما تلى ذلك من الرسميات التي حالت دون اصطحابه معنا قبل بدء الرحلة بيومين أو ثلاثة أيام. فكان علينا أن نتخذ القرار، إما بإلغاء الرحلة والحرمان من الحج طوال فترة بقائنا في هذه الدولة، وبالتالي نخسر كل ما دفعناه من رسوم، الفرصة الثمينة لتأدية الفريضة والتي لا تأتي إلا مرة واحدة، لأن وزارة التربية والتعليم لن تسمح لنا مرة ثانية، وإما أن نرضخ للأمر الواقع ونذهب ونترك الأطفال الثلاثة في رعاية الله.

وبعد التفكير العميق والدعاء والاستخارة قررنا السفر بدون الأولاد وتركناهم مع شقيقة زوجي الشابة التي كانت تعيش معنا وتعمل بالتدريس، وجليسة الأطفال العجوز التي كانوا يتعودون عليها منذ سنوات. ولكم أن تتصورا كيف كان قلبي يتمزق بين الرغبة الجارفة في زيارة الحبيب المصطفي، والأراضي المقدسة، والخوف والقلق الشديد على أطفالي وخاصة طفلي الرضيع.

لقد أججت هذه الرحلة في نفوسنا الرغبة في الدعوة إلى الله على بصيرة وعدم التساهل ولو للحظات في تطبيق مبادئ ديننا. وقررت عن قناعة شخصية أن أرتدي الحجاب، الذي كان شيئا نادرا في بداية السبعينيات إذ لم تكن ظاهرة الحجاب هذه موجودة في ذلك الوقت وخاصة بين الشابات اللاتي لم يبلغن الثلاثين من عمرهن بعد. لذا قمت بحياكة ملابسي بنفسي وتفننت في إبداع بعض أغطية الشعر الأنيقة، لأنها لم تكن متوفرة في أكبر محلات المودة كما نراها الآن، وكانت غايتي في ذلك مزدوجة، فبالإضافة إلى التقرّب إلى الله بالطاعة كنت أريد أن أثبت للجميع بأن ارتداء الحجاب لا ينقص شيئا من أناقة المرأة بل على العكس من ذلك فهو يضفي عليها أناقة أكثر ووقارا أعمق. وبالفعل كانت هذه وسيلتي لتشجيع زميلاتي وطالباتي على ارتداء الحجاب. فصدق النية ونقاء الهدف غالبا ما يتوج بردود فعل إيجابية، وهذا ما تحقق بالفعل في وقت قصير نسبيا.

ومع مرور الوقت طالبتني وزارة التربية والتعليم بالتفرغ لتدريس مادة الدين والدراسات الإسلامية لطالبات الشهادات العليا على الرغم من أنني كنت أقوم بتدريس اللغة العربية والدراسات الإسلامية بنجاح كبير، كما طُلب مني تدريس الفكر الإسلامي لطالبات التأهيل التربوي (معهد إعداد المدرسات)، وتقديم الدروس النموذجية للمدرسات.

ونتيجة للتقارير الممتازة فنيا وإداريا، وتأثر الطالبات الكبير، تم تكليفي بالتوجيه الفني والتربوي على مدارس البنات المسائية بالرغم من صغر سني في ذلك الحين.

لقد واظبنا على التعمّق أكثر فأكثر، وازداد ذلك يوما بعد يوم ولم نتوقف بعد عند ما حصلنا عليه من درجات علمية في الدراسات الإسلامية، فكنا نعيد دراسة القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة، والسيرة النبوية والفقه والعقائد، وأصبح شغلنا الشاغل هو تكوين مكتبة كبيرة تحوي الكثير من أمهات الكتب الإسلامية المتوفرة والمراجع النادرة،حتى أصبحنا في وقت من الأوقات من أهل الثقة بين الموجهين والزملاء والأصدقاء، والطلاب. لذا تفرغت أنا للتوجيه في الدراسات الإسلامية أما زوجي فقد استمر في تدريس مادة اللغة العربية، وفي الوقت نفسه كان يزاول نشاطاته الدينية التطوعية بإمامة المصلين في الصلاة وإعطاء دروس في المسجد بعد صلاة العصر، أو بإلقاء خطبة الجمعة.

كنا كلما ازداد تعمقنا في آيات الله وكثر اطلاعنا على كتب التفسير الشهيرة، قديمها وحديثها كانت  تزداد حيرتنا وتكثر تساؤلاتنا بسبب ما كنا نراه من الاختلاف الواضح والتباين الكبير بين آراء المفسرين، ناهيك عما كنا نراه من تضارب أحيانا بين هذه التفاسير، فكنا نعجز في الغالب عن معرفة المقصود الرباني من تلك الآيات، وكان ذلك يشكل لنا بالفعل الكثير من التحديات التي تؤدي في الغالب إلى شيء من الشلل الفكري، وخاصة عندما يتجاوز التفسير الخلاف في الرأي، ويصل إلى التناقض المطلق بين الرأيين، ولو أن هذا الاختلاف اقتصر على الأمور  السطحية  لهان الأمر ولكن كثيرا ما يكون الخلاف في أمور جوهرية. فكنا عندما نقف أمام بعض هذه المعضلات التي لا يصل فيها القارئ العارف لعلوم الدين إلى إجابة شافيه كافية نتساءل في أنفسنا كيف إذن سيكون موقف الذين لم يدرسوا الدراسات الدينية ولم يتعمقوا فيها من هذه الأمور المحيّرة؟

وكانت تزداد حيرتنا ونتساءل في أنفسنا كيف يمكننا توصيل المعلومة الصحيحة إلى طلابنا الذين كانوا على أبواب الجامعة ولا يقنعون بأي تعليل أو تفسير يكون منافيا للمنطق أو يكون بعيدا عن السبب المعقول؟

وبالبحث والتأمل، توصلنا إلى حقيقة أساسية قد تكون غائبة عن عيون الكثير من العلماء والمفسرين سواء القدامى منهم أو المحدثين ، وهذه الحقيقة تكمن في الآية التالية:

هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأويلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أولُواْ الأَلْبَابِ”[1]

وهنا بدأنا بالتوقف عند هذه الآية الكريمة، وبعد تدبرها وإمعان النظر فيها، أدركنا أن هذه الآية تشير إلى أن آيات القرآن الكريم تشتمل على نوعين من الآيات:

النوع الأول هو الآيات المحكمات، وهي الأساسية الواضحة الظاهرة والتي لا تحتاج إلى من يفسرها لأنها واضحة المعنى ولا تحتاج إلى تأويل أو تفسير، ولذا وصفها الله بأنها أم الكتاب، وبالفعل عندما ننظر في كتب التفسير نجد أنها تقريبا متفقة كلها على معنى هذه الآيات، لأنها واضحة وضوحا كاملا.

أما النوع الثاني من آيات القرآن فهو الآيات المتشابهات والتي حذّر الله من تأويلها أو تفسيرها، وذكر أن الذين في قلوبهم زيغ يتبعون الآيات المتشابهات ويلوكون بألسنتهم فيها، وفضح الله الهدف الذي من أجله يتبعون المتشابهات وهو بصريح العبارة: الفتنة.

ومن ثم لو نظرنا إلى التفاسير المختلفة لوجدنا أن تفسير الآيات المحكمات لا خلاف فيه أما اختلاف التفاسير وتناقضها فنلاحظه في تأويل الآيات المتشابهات. لذا أدركنا من خلال تأملنا في هذه الآية الكريمة أن تفسير المتشابهات كان أحد الأسباب الرئيسية للفتنة وحدوث الانقسامات التي وقعت للأمة العزيزة منذ لحظة وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم. لقد لعب تأويل الآيات المتشابهات دورا كبيرا في إزكاء نار الفتنة التي تفشت وتفاقمت حتى وقتنا الحالي، وكلما كثر التأويل والتفسير للآيات المتشابهات كلما اتسعت الهوة بين الأقسام والمذاهب المختلفة، بل وتشعبت الأمة وتشيعت أكثر فأكثر، وذلك على الرغم من التحذيرات الشديدة التي وجهها الله للأمة في كتابه الحكيم حتى يكونوا على وعي كامل وحذر شديد من الوقوع في الفرقة والانقسام، وأوضح بكل جلاء مغبة ذلك، وسوء العاقبة كما هو واضح في الآية التالية:

“إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ”[2]

في تلك اللحظة فتح باب الزنزانة بعنف ودخلت كلتا السجانتين العابستين وفي يد كل منهما صينية بها طعام الإفطار لنا، ووضعنه على الأرض، ثم فتحتا باب الزنزانة لنا حتى نخرج لنستعمل دورات المياه إذا أردنا، فكانت فرصة لنا لنتحرك بعض الشيء ونقضي حاجاتنا على أن نعود إلى الغرفة في غضون نصف الساعة، ولحسن الحظ لم يكن في الطرقات أو الحمامات سوي مجموعتنا ويبدو أنهن حبسن السجينات الأخريات في غرفهن حتى لا يختلطوا بنا.

بعد العودة إلى الغرفة أغلقت الزنزانة مرة ثانية، وبعد أن تناولنا ما جاءوا لنا به من طعام جلسنا سويا وقمنا بقراءة الأدعية والمناجاة التي كنا نحفظها عن ظهر قلب، وفي لحظات تذكرت أسرتي وشعرت بأن أبي ينظر إلى وعلى وجهه نفس الابتسامة العريضة التي كانت تشجعني وخاصة في الأوقات العصيبة.

[1]  سورة آل عمران، آية 7.

[2]  سورة الأنعام، آية 159.

تذكرت أبي!

كنت على ثقة كبيرة بأن والدي هو أول من سيدعمني في موقفي فمن سواه كان يمنحني الثقة دائما؟

إنه رحمه الله لم يتوان يوما عن منحي المحبة والثقة أنا وأخوتي البنات وكان يعاملنا على قدم المساواة مع إخوتي الأولاد، مؤكدا في كل مناسبة أمام الجميع على مبدأ المساواة الكاملة بين البنات والأولاد في كل شيء، بل كان يميز البنات على الأولاد أحيانا، وكان يشجعني بصفة خاصة لأنني كنت الأخت الكبرى لثلاث شقيقات وأربعة أشقاء، فكان يدفعني لأكون القدوة. كان أسلوبه في تربيتنا يعتبر أسلوبا تربويا نادرا خاصة لأسرة تعيش في الخمسينيات. لقد كان متسامحا حريصا على أن يغرس هذه الصفة الرائعة في نفوس أبنائه عن طريق تطبيقها في حياته. ولن أنسى ما حييت تلك الحادثة التي تركت انطباعا عميقا في وجداني وذاكرتي وذلك عندما عدت يوما من المدرسة الإعدادية، وطلبت منه أن يصحبني إلى مسجد السيدة زينب كي أقرأ سورة الفاتحة وأشعل شمعة في ذلك المكان الطاهر مثل زميلاتي حتى أنجح في الامتحانات. فأضاءت وجهه ابتسامة عريضة ثم سألني: ولماذا نذهب بعيدا للدعاء وبجوار منزلنا تلك الكنيسة العظيمة ذات التاريخ العريق والتي يأتي إليها الناس من جميع أنحاء العالم لزيارتها والتبرك بها؟

كانت تلك الكنيسة لا تبعد كثيرا عن بيتنا ويمكن الذهاب إليها والدعاء فيها أكثر من مرة. فدهشت من هذه الإجابة غير المتوقعة، واعتقدت أنه يمزح معي أو يسخر من كلامي، فكيف لي وأنا المسلمة أن أذهب إلى الكنيسة؟؟؟

ألا يتناقض هذا تماما مع ما نتعلمه في المدرسة؟

وتذكرت ما كنت أسمعه أحيانا في حصص الدين عن المسيحين وكتابهم المحرّف وأساليب عبادتهم الغريبة، وأفكارهم المختلفة كل هذا من الأقاويل التي ليس من شأنها إلا أن تغرس في النفوس شيئا من المشاعر السلبية نحو إخواننا المسيحين وغيرهم من أصحاب الديانات المختلفة عن الدين الإسلامي. وبعد أن سادت لحظات من الصمت أجبته بشيء من الشجاعة بأن هذا لا يمكن لأنني مسلمة، وطبعا فإن الكنيسة تختلف عن المسجد ولن تكون مثله بأي حال من الأحوال. وهنا سألني بمحبة وحنوّ والابتسامة العريضة لم تفارق شفتيه: أليس الهدف من زيارتك لمسجد السيدة زينب هو التقرّب إلى الله بالدعاء، وإشعال بعض الشموع حتى يستجيب الله لدعائك؟

فأجبته بسرعة وبثقة كبيرة: نعم، فاستطرد الوالد متسائلا ألا ينطبق الشيء نفسه على الكنيسة أيضا؟

فأطرقت برأسي دون إجابة، واستمر الوالد في كلامه قائلا: أليس الله موجودا في كل مكان؟ أم في المساجد فقط؟

فأجبت بنعم، فاستطرد متسائلا: وهل نحن جميعا سواء كنا مسلمين أو غير مسلمين عباد لله سبحانه وتعالي، وهو يحبنا جميعا أم لا؟

لم أجب لأن مُدرستي أكدت في أكثر من مناسبة بأن الله يحب المسلمين فقط وبأننا نحن فقط سندخل الجنة لأننا مسلمون أما هم فطبعا لا، ولكن والدي لم ينتظر إجابتي وكأنه كان يقرأ ما يدور في خلدي من أفكار، فربت على كتفي وقال لي: وهل درجة القرب من الله ترتبط بدين معين أو برسالة محدّدة ام ترتبط فقط بالقلوب الطيبة النقية؟

ثم أكمل حديثه بقوله: فالكنيسة يا عزيزتي مكان طاهر مثل المسجد تماما، فوقع كلامه في نفسي موقعا حسنا وشعرتبسعادة غامرة، لأنني فطنت من كلام أبي إلى حقيقة كانت خافية عني، وخففت كثيرا ما كان يعتلج في نفسي من قلق وحزن على مدرستي المفضّلة أبله هدى شاكر، مدرسة الجغرافيا المحبوبة، والتي كان معظم الطالبات يحببنها، وكنت وزميلاتي نتحدث عن هذه المدرسة ونعدد صفاتها الجميلة فما كنت أسمع منهن إلا عبارة: بس يا خسارة مسيحية!! وكنت أتساءل في نفسي هل هذا ما يعيبها؟

وعلى الرغم من تكرار مثل هذه العبارات إلا أنني كنت أحبها كثيرا ولا أرى فيها أي عيب، لقد كانت من أكثر المدرسات إخلاصا، وعلما، وقدرة على التدريس، بل كانت أفضل كثيرا من بعض المدرسات المسلمات، كما كان لي أكثر من صديقة مسيحية، وكنت أحبهن كثيرا ولكن كان يمتزج حبي لهن هذا بكثير من الشفقة بل والخوف عليهن من دخول النار لأن ليس لهم ذنب سوى أنهن ولدن في أسر مسيحية وليس لهن اي اختيار، ولماذا أنا أكثر حظا وسعادة لأنني ولدت في أسرة مسلمة ولم يكن لي اي اختيار أيضا، فلماذا هم يذهبون إلى النار وأذهب أنا إلى الجنة؟

وهل من العدل أن يعاقب الإنسان على جرم لم يقترفه؟

انتهى الحديث عند هذا الحد ونمت تلك الليلة سعيدة لأن مدرستي العزيزة وصديقاتي الحميمات سيدخلن الجنة معي. وفي اليوم التالي اصطحبني أبي في زيارة الكنيسة لأول مرة في حياتي، ويبدو أن والدي شعر بالاضطراب الشديد الذي كنت أعانيه والذي كان يزداد كلما اقتربنا من الكنيسة فكانت تزداد ضربات قلبي، وشعرت وكأنني أكاد أسقط على الأرض وكأن ساقايا باتا لا يقويان على حملي، وعلى الرغم من تثاقل الخطوات، وكثرة الهواجس والأفكار إلا أنّني كنت أشعر بشيء من الطمأنينة والدفء يسريان إلي قلبي من خلال يد أبي الحنونة التي كانت تحتضن يدي الباردة من شدة التوتر، ومن ابتسامته العريضة المطمئنة التي لم تفارقه طوال الطريق، والتي اتسعت أكثر حين دخولنا من باب الكنيسة.

وبمجرد الدخول إلى القاعة لفت نظري تلك الصورة الكبيرة الرائعة للسيدة مريم العذراء وهي تحمل بحنو شديد وليدها الجميل المسيح بن مريم فشعرت بطمأنينة غامرة وهدوء وسعادة لا يمكن وصفهما، ورأيت وفود الزائرين وهم يصلون، ويشعلون الشموع في خشوع كامل وسكينة وورع وشعرت بأنني أحبهم جميعا، فبدأت أهمس من داخلي: صحيح ما قلت يا أبي العزير بأننا جميعا عباد لإله واحد، وهو يحبّنا جميعا، وبأن درجة القرب من الله لا ترتبط بدين معين أو برسالة محدّدة بل ترتبط فقط بالقلوب الطيبة النقية صدق الله العظيم حين قال:

“إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[1]

ثم بدأت أحذو حذو الزائرين فأخذت شمعة لأشعلها متمتمه بسورة الفاتحة في سري، ثم تلوت بعض آيات القرآن الكريم من السور الصغيرة التي كنت أحفظها عن ظهر قلب، راجية من الله، الموجود في كل مكان أن يوفقني في أداء الامتحان. وخرجت مع والدي وأنا أقفز من الفرح والسرور.

لم تكن بالطبع تلك الزيارة هي زيارتي الأولى والأخيرة لهذه الكنيسة الجميلة، بل كانت بداية لسلسة من الزيارات التي كنت أقوم بها كل عام خاصة قبل الامتحانات، لأن الله كان في كل مرة يوفقني في الامتحانات مما زاد من يقيني بأنه لا فرق بين كنيسة أو مسجد، بل وأي مكان للعبادة أو مكان يذكر فيه اسم الله. وبالطبع كانت مفاجأة لزميلاتي المسيحيات قبل المسلمات عندما عرفن بزيارتي للكنيسة وبتجربتي الروحانية في معرفة أن الله موجود في كل مكان وليس محدودا بمكان معيّن، وأن كلنا عباد له وكلنا بأمره قائمون.

قد تكون الحادثة المذكورة بسيطة ولكنها غرزت في نفسي قيما كثيرة، لا يمكن أن نشعر بها عن طريق الكلام الأجوف أو عن طريق الشعارات الزائفة التي تدعو إلى نبذ التعصب باللسان وتطبقه في كل لحظة، هذا التعصب الذي كان ولايزال آفة كل عصر، بل هو أحد الأسباب الرئيسة في معاناة البشرية وما تكابده من مآسي متنوعة تزداد حدتها يوما بعد يوم، وهو الوقود الذي يشعل نيران الحروب المدمرة ويؤججها إلى درجة لا يعلم عواقبها إلا الله،

هكذا كنا وعلى السماحة تربينا.

لقد ولدت في أسرة من الطبقة المتوسطة، كانت لفترة غير قصيرة مكونة من أربع بنات وولد واحد، وذلك قبل أن يولد ثلاثة أولاد على التوالي فيما بعد، إلا أن الوالد كما ذكرت كان يعامل البنات بإعزاز كبير، ويزرع في نفوسهن مبدأ المساواة الكاملة بين الجنسين، ويرفض التمييز حتى ولو كان بسيطا والذي يظهر أحيانا من الأم تجاه الولد الذي كان وحيدا لفترة من الوقت. وكنت الابنة الكبرى، لذا كنت أتمتع بمكانة خاصة في الأسرة، كما كان لي قدر من الاحترام مما ساعد على اعتزازي بأنوثتي وثقتي باستقلاليتي، فلم أغفل ولو للحظة عن دوري القيادي كأخت كبيرة يجب أن تكون مثلا لأخوتها الصغار وتكون جديرة بهذه الثقة الكبيرة التي منحها لي والداي. وقد كان لأسلوب أبي التربوي الراقي دور كبير في تشكيل شخصيتي.  لقد كنت في معظم الأحيان جادة في تصرفاتي ولم أكن كبقية الأطفال مولعة باللعب، لأن شعوري بالمسؤولية كان يدفعني إلى رعاية إخوتي الصغار أثناء لعبهم وضمان سلامتهم وسعادتهم. لقد كانت علاقتنا الأسرية مثار إعجاب للكثير من زميلاتي، وخاصة فيما يلمسونه من الاحترام والثقة الكاملة التي تتوفر بين أفراد أسرتنا.

أما زوجي فقد نشأ في أسرة ريفية متوسطة أيضا، متدينة، وكان هو الأكبر لأربعة أشقاء وثلاث شقيقات، انتقلت أسرته إلى القاهرة في بداية الستينيات من محافظة الشرقية، وتدرج والده الذي كان يعمل بوزارة التربية في مناصب تدريسية حتى أصبح ناظرا لإحدى المدارس في القاهرة إلى أن وصل إلى سن التقاعد، كانت هذه الأسرة معروفة بالمثالية والقيم الأخلاقية بين جيرانهم واختيرت والدته في إحدى السنوات الأم المثالية لمدينة القاهرة حيث كان الأبناء كلهم رغم كثرة عددهم متفوقين في مدارسهم ووفقوا في الحصول على أعلى الشهادات. والأمر الذي كان يحوز على أعجابي هو شعور زوجي بالمسؤولية نحو عائلته، فبات شريكا للأب المكافح في إعالة هذه الأسرة الكبيرة ومساعدتها في تحقيق طموحاتها التعليمية. وبعد تخرجه في الجامعية التحق بالدراسات العليا في معهد الدراسات الإسلامية وذلك رغبة منه في التعمّق أكثر في الأمور الدينية حتى يصقل قدراته في خدمة دينه ووطنه. ولذا كان له الكثير من الأنشطة الدينية مع طلابه في المدرسة، ومع أبناء الجيران، ليحببهم في طاعة الله، وخدمة مجتمعاتهم المحيطة.

وهكذا كان زواجنا زواج عقل وروح وسعى في سبيل الحق نتج عنه أبناء نفخر بهم ونزهو زهو البستاني الذي أحسن رعاية الزهور الثمينة في حديقته.

[1]  سورة الشعراء، آية 89.

اختلاف التفاسير وغموض التأويل

لقد استمرت حياتنا تدور حول الحصول على المعرفة الحقيقية لكلام الله سواء أكان ذلك بالتعمّق في القرآن أكثر، أو بالدعاء حتى يمن الله علينا بمعرفة وفهم شيئا من المقصود الإلهي من الآيات، وقررنا العزوف بالكلية عن الاعتماد على التفاسير التي كانت تزيد من حيرتنا، وتبعدنا عن غايتنا، فما زادتنا هذه الحيرة إلا إصرارا على الاستمرار في البحث، والجهاد من أجل المعرفة المجرّدة، فقررنا ألا نعمل كما يعمل غيرنا فنأخذ الطريق السهل، وهو طريق التقليد والتكرار، ونعتمد على ما قاله السابقون مع ما فيه من تضارب وتناقض. فمن هذه التفاسير كان هناك ما يقبله القلب أحيانا، ولكن العقل يرفضه بالكلية، وغيرها من التفاسير ما قد يكون منطقيا بعض الشيء، ولكن القلب لا يشعر به البتة، وأغلب هذه التفاسير كان مناقضا للعقل والقلب سويا، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر، مثل قصة عبس وتولى؛ وفيها يفسر المفسرون بأن الرسول (ص) عبس عندما جاءه الفقير الأعمى ويقصد به الكفيف ليسأله عن حاجة في الوقت الذي كان هو مشغولا مع مجموعة أخرى من علية القوم وأغناهم، ويؤكدون بأن هذه السورة أنزلت لتحمل عتابا قاسيا للرسول (ص) على هذا التصرف غير المناسب، فنرى أن مثل هذا التفسير للآية الكريمة لا يليق بمنزلة الرسول الكريم الذي مدحه الله بأنه على خلق عظيم، وجعله أسوة حسنة لمن يرجو الله واليوم الأخر، ونفي عنه الفظاظة والغلظة، وهذا التصرف الذي نسبه المفسرون للرسول لا يتأتى من طفل جاهل، أو من إنسان أحمق، فكيف يوصم الرسول الكريم بمثل هذا التصرّف غير المقبول بأي شكل من الأشكال دينا أو عرفا. أكيد هناك معان أخرى، فمثلا كلمة أعمى ماذا تعني؟

هل تعنى الكفيف الذي لا يبصر؟

أم تعنى أنه أعمى البصيرة؟

لذا فعلينا أن نتأمل الآيتين التاليتين فهما يوضحان بأن هذا الأعمي قد يرتقي ويؤمن بالله:

“ومَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أو يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى”[1]

ثم في الآية التالية التأكيد بأن العمى المقصود في آيات الله هو العمى الروحاني الذي يصيب القلوب وليس عمى الأبصار:

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أو آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ”[2]

ومن أمثال ذلك الكثير من الكلمات والعبارات المتشابهات مثل الانفطار، والقيامة، والتفسيرات الخاصة بالجنة والنار، وما فيهما، من اهوال، وناهيك عن عذاب القبر والثعبان الأقرع، ومشاهد يوم القيامة والعذاب المهول الذي يصوّر القسوة والوحشية في العقاب والتي تبعد كل البعد عن صفات الله سبحانه وتعالى بأنه هو الرحمن الرحيم.

ولننظر إلى تفسير الآيات التي تتحدث عن النساء، وكيف تسفه هذه التفاسير مكانة المرأة وتجعل منها مخلوقا ضعيفا خائنا دنيّا، ولو عددنا ما جاء عن المرأة من نواقص لوجدنا أنه كان من الأولى بان لا يخلق الله النساء لأن كيدهن عظيم. ولن نتطرق إلى قوامة الرجل، وحقه في تأديبها وإعادة تربيتها وتقويم نشوزها.

لم تتوقف الصعوبة على المتشابهات من الآيات، ولكن حتى في المحكمات، فهناك أمور استجدّت، وأصبح من الصعب معرفة حكمها، وتضاربت فيها الآراء، واختلفت فيها الإجابات، وعلى سبيل المثال فوائد البنوك، هل هي نوع من الربا؟

وكيف تكون تلك الفوائد ربا والنظام الاقتصادي العالمي بأسرة يقوم على هذه الفوائد؟

ثم ننتقل إلى موضوع أخر وهو نقل الأعضاء هل هو حلال أم حرام؟

الإجهاض، الموت الرحيم……الخ، حتى تحديد الشهر الهجري وما يترتب عليه من صيام أو إفطار، فعلى الرغم من التكنولوجيا الحديثة التي باستطاعتها الفصل في هذه الأمور، فلا يزال هناك اختلاف كبير بين الدول الإسلامية، فلا يبدأون صيامهم سويا، ولا يحتفلون بأعيادهم سويا.

قضايا كثيرة تحتاج إلى البت فيها، ولكن لا توجد جهة رسمية أو هيئة معتمدة ومطاعة في الوقت نفسه من جميع الدول الإسلامية يمكن الرجوع إليها في مثل هذه الأمور لتعطي القول الفصل، المدعوم بالحجة والبرهان من القرآن والسنة، ونؤكد هنا على أن يكون الرأي مدعوما بالحجة والبرهان وليس رأيا أجوفا خاليا من اي دليل نقلي مقدس أو عقلي معتمد ومقبول.

لم نكن وحدنا نعيش مثل هذه الحيرة والتخبط، فكثير من الناس تراودهم الأسئلة نفسها، وتنتابهم الحيرة ذاتها، وتضيق بهم السبل كلها لمعرفة الطريق إلى الله وما هو الحلال وما هو الحرام في هذا الزمان. وكان السؤال الذي يراودنا هو كيف يمكن أن تتحقق لنا الطمأنينة والسكينة والهدوء؟

وهل يمكن أن يتحقق ذلك بدون ذكر الله وفهم المقصود من الآيات حتى تحدث حرارة محبته، وتطمئن القلوب بذكره؟

“الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”[3]

كانت تراودنا دائما تلك التساؤلات، ويتردد علينا السؤال نفسه وهو إذا كان هذا هو حالنا وقد درسنا العلوم الدينية في أكبر الجامعات الإسلامية وأعرقها ونجد مثل هذه الصعوبات في الوصول إلى المعنى المراد من رب العباد، فكيف حال الإنسان العادي الذي لم يتلق اي تعليم ديني على الإطلاق؟

وماذا يفعل المسلم الذي يعيش في أقصى الشرق أو الغرب، والذي لا يعرف اللغة العربية ويريد أن يتقرب إلى الله بالدعاء والصلاة، التي لا تقبل بدون قراءة الآيات باللغة العربية، تلك اللغة التي لا يعرف منها حرفا واحدا؟

ولا أبالغ حين أقول بأن تضارب التفاسير وعدم خضوعها للمنطق السليم في كثير من الأحيان كان هو جُلّ المشكلة فحسب، بل الكثير والكثير من الأمور الغامضة سواء في التاريخ أو في الفقه أو في الأحكام التي يقف فيها الإنسان في كثير من الأحيان عاجزا وغير قادر على تبريرها وإقناع الطلاب بها، ومن ذلك على سبيل المثال، خروج السيدة عائشة رضي الله عنها، في موقعة الجمل لتحارب الإمام على رضي الله عنه، وهو الذي قال عنه الرسول

صلى الله عليه وسلم “من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه”[4]، فكانت الفتنة الكبرى التي لا يجد المؤرخون القدامى أو المحدثين لها من تفسير أو تبرير حتى الآن.

وموقف آخر يصيبنا بالدهشة وهو التباطؤ في خروج جيش أسامة في الموعد المحدد رغم إلحاح الرسول على ذلك حتى، وهو في مرضه الأخير، وانزعاجه من هذا التأخير، ورغبته وهو في تلك المرحلة الحرجة قبل وفاته مباشرة في أن يأتونه بورقة وقرطاس ليكتب لهم ما لن تضل به الأمة بعده، ورفض الصحابي الجليل عمر العادل تحقيق رغبة الرسول الكريم بقوله “اتركوه فقد غلبته الحمى”، وفي رواية أخرى “اتركوه إنه يهرف.”[5]في حين أنه هو نفسه الذي أصر على الاستماع إلى وصية أبي بكر عندما كان يعاني من سكرات الموت.

ناهيك عن الكثير من الأمور الفقهية التي ليس لها تبرير، أو التي لم يصلوا فيها إلى قرار واضح وخاصة تلك الأمور المستجدة والتي لم يجد الفقه الحالي حلولا حاسمة لها، ولم يجتمع عليها العلماء في الوقت الحالي.

وبالإضافة إلى ما ذكر من أمثلة هناك قضايا أخرى مثل النقاب، وحقوق المرأة، وتوليها لبعض المناصب مثل القضاء. وكلها أمور محيّرة.

حتى تاريخ الفقه الإسلامي الذي كان مقررا على طلبة الثانوية العامة في ذلك الوقت، كان يفتح أبوابا كثيرة للتساؤلات التي كان من الصعب تبريرها أو الرد عليها، ومنها تقسيم مراحل الفقه الإسلامي إلى أربعة عصور:

الأول هو عصر الرسول(ص) حتى سنة 11 هجرية

والثاني هو عصر الخلفاء الراشدين من سنة 11 هجرية إلى 41 هجرية

والثالث هو عصر الأئمة المجتهدين حتى سنة 241 هجرية

والرابع هو عصر الجمود والتقليد!!!!! وهو من سنة 241 هجرية حتى وقتنا الحالي

ألا يثير مثل هذا التقسيم الكثير من التساؤلات؟

ألا يجعلنا نشعر بمدى الجمود والتأخر الذي تعيشه الأمة بأن تطبق في القرن الحادي والعشرين قوانين اجتهد بها بعض المسلمين قبل عام 241هجريا اي منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان؟

بالطبع لا يجرؤ أحد على الاعتراض في اي وقت من الأوقات لأن أسلحة التكفير تسلط وبلا هوادة على كل من تسول له نفسه، التفكير أو التعبير أو الدعوة إلى التجديد. إذن على الأمة أن تبقى على جمودها مهما طال الزمان، أو تغيرت الأحوال!!!!!

كثير من علامات الاستفهام وكثير من التساؤلات التي ليس لها إجابات كانت تراودنا وتزعجنا بين الحين والآخر. لكن المشكلة الحقيقة كانت تساؤلات الطلاب والطالبات، تلك النفوس الذكية التي تبحث دائما عن إجابات لها مغزى عقلي ونقلي على السواء، وإلا فلن تكون مقبولة لهم، بالطبع في ذلك الوقت، لم يكن أحدهم يجرؤ على التصريح بذلك كما يحدث الآن، ولكن حيرتهم كانت لا تخفى على ذي بصر، تلك الحيرة وعدم الاقتناع التي توحي بها نظراتهم وهمهماتهم في بعض الأحيان كانت تؤرقنا ولا نجد سبيلا للإجابة عنها أو نجد من ردود مقنعة نقتنع بها نحن أولا قبل أن نقنعهم.

كان ذهني ما زال هناك في قاعة المحاضرات، أتذكر فيها نظرات العيون المتعطشة لإجابات تروى ظمأ القلوب الخضراء يؤرقني وكأنني ما زلت بينهم، فإذا بباب الزنزانة يفتح بعنف مرة أخرى وتدخل إحدى السجّانات ومعها مساعدين وعساكر للتفتيش المفاجئ!!!

التفتيش عن اي شيء؟

كان هذا سؤالنا، فكان الرد علينا هو الصمت ونظرات الاستهجان لنا على تلك الجرأة في السؤال، فما كان منّي ومن رفيقاتي إلا الإقرار بضرورة التسليم والاستسلام.

الحمد لله على كل حال فلم يجدوا ذلك الذي كانوا يبحثون عنه بجد وصرامة. وبعد خروجهم كانت كل منا تنظر إلى الأخرى بابتسامة يشوبها الدهشة والتعجب ثم انخرطنا جميعا في ضحك متواصل على هذه المشاهد المسرحية التي كانت تحدث لنا بين الحين والآخر في تلك الزنزانة الصغيرة، فهم يهبطون علينا فجأة وبدون مقدمات أو سابق إنذار، ويبحثون عن أشياء لا نعرفها، ولكن هذا هو النظام المتّبع وعلينا أن نرضخ له ونحترمه حتى وإن كنا لا نفهم أسباب مثل تلك الهجمات الدورية.

[1]  سورة عبس، الآيتين 3، 4.

[2]  سورة الحج، آية 46.

[3]  سورة الرعد، آية 28.

[4]  حديث صحيح رواه الترمذي.

[5]  أنظر كتاب حياة محمد للدكتور هيكل.

صديقتي العزيزة

عدت إلى تأملاتي مرة ثانية بعد أن خرج الزوار من الزنزانة وأمعنت النظر في وجوه من حولي متلمسة إجابة عن سبب ما نحن فيه، رأيت صديقتي العزيزة سمية تنظر إليّ بحنو وهي تحاول أن تستشف مدي قوتي في تحمل تلك الصدمات الكبرى وكأنها تقول في سرها مواسية لي سامحيني يا صديقتي العزيزة فهكذا يكون الطريق إلى الله محفوفا بالمكاره فيعاني فيه المؤمنون الأوائل، ويضحون بالكثير والكثير إلى أن ترتفع شمس الحقيقة في وسط السماء ويقرّ الجميع بأحقيتها، ذكرتني نظرتها بتلك الليلة الرهيبة والتي لا يمكن أن أنساها ما حييت.

لقد كانت سمية وأسرتها من بين الأسر التي وقفت بجوارنا منذ وصولنا إلى أرض الغربة لأول مرة، بل يمكن القول بأنها الأسرة الوحيدة التي ساعدتنا حتى نجتاز الشهور الصعبة الأولى في غربتنا.

كانت هي مدرسة التربية الفنية في المدرسة التي كنت أعمل بها، وزوجها كان أيضا يعمل مدرسا للتربية الفنية في مدرسة الأولاد ولديهما ولد وبنت في نفس عمر أولادنا، وقد كان صدقهما وإخلاصهما سببا في توطيد الصداقة بيننا وتبادل الثقة منذ اللحظات الأولى لوصولنا إلى تلك المنطقة النائية والبعيدة كل البعد عن اي عمران في ذلك الوقت.

كانت هذه السيدة متميزة بين بقية المدرسات اللاتي يعملن معي في المدرسة نفسها، سواء في أناقتها واهتمامها بنفسها، أو في قدرتها على أن تغمر الجميع بالمحبة، وكانت لا تبخل بمساعدتها لكل من يحتاج، هذا بالإضافة إلى تفوقها في عملها واحترام الجميع لها.

ومما زاد في تعميق الصداقة بيننا هو ما كان يدور معها من أحاديث شيقة عن الرسل والأنبياء، والقرآن الكريم والتفاسير المختلفة، وعلى عكس ذلك كانت أحاديث المدرسات في مدرسة البنات، والمدرسين في مدرسة البنين فقد كانت لا تتعدى الحديث عن الماديات، والمشتروات، بالإضافة إلى الغيبة والنميمة، والسخرية، والتعصب البغيض بين الجنسيات المختلفة، تلك الأمور التي كانت تقود في أغلب الأحيان إلى المشاجرات والخلافات.

أما سمية وأسرتها فكانت المثل الحي لدماثة الأخلاق، وسمو الروحانيات والمحبة المجردة عن اي هدف أو غرض، تساعد الآخرين بإخلاص ملفت للأنظار في مجتمع كانت تسيطر عليه الأنانية ولا ينظر كل فرد فيه إلا إلى نفسه وإلى مصلحته الذاتية حتى ولو كانت على أطلال مصلحة الآخرين. أناس كان همهم الأول والأخير هو جمع أكبر قدر من الأموال، وتكديس المدخرات، واللهث المحموم من أجل بناء العمارات والأبراج في بلدانهم.

لذا كانت هذه الأسرة نموذجا فريدا، نسعد ونستمتع بأحاديثهم الروحانية التي تظهر تقديسا كبيرا لرسل الله جميعا وعلى الأخص سيدنا محمد (ص). كانت هذه السيدة الجليلة تأتي بتفاسير منطقية لبعض الآيات القرآنية التي أشكل علينا فهمها، ونشعر بأنها تقنع العقل والقلب معا، بل كانت تلك التفاسير التي تذكرها تحل ببساطة ومنطقية الكثير من الألغاز والمعضلات التي اختلف فيها المفسرون.

ولكن على الرغم من إعجابنا الشديد بما كانت تدلي به من تفاسير وشعورنا بالراحة والطمأنينة لمثل هذه التفاسير إلا أننا كنا نخفي ما يعترينا من سعادة وانبهار، ولم يكن لدينا الشجاعة الكاملة لنسألها عن مصادر تلك التفاسير الجديدة والتي لم نطلع عليها في كتب التفسير المعروفة والتي درسناها مرارا وتكرارا، فكنا نخشى السؤال حتى لا نظهر جهلنا ببعض كتب التفسير ونحن الأساتذة المشهورين في الدراسات الإسلامية، أما هي فلا تعدو كونها مدرسة تربية فنية، ومن ثم يكون في ذلك تقليل من شأننا ومكانتنا.

وعلى الرغم من أننا كنا على يقين بأن هذه السيدة مسلمة من اسمها الذي يحمل اسم محمد، ومن تقديسها للرسول (ص)، إلا أن بعض الشكوك ظلت تنتابنا عن انتماءات هذه السيدة وهذه الأسرة.  فمرة راودنا الشك بأنها شيعية، وبالفعل حاولنا استدراجها لنعرف حقيقة هذا الانتماء ولكن كانت إجابتها دائما بليغة ومن القرآن الكريم حيث استشهدت بالآية الكريمة

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ”[1]

ومرة أخرى ظننا بأنها تتبع مدرسة معينة أو فرقة غير معروفة. ولكن مع تكرار الجلسات، والتعمق في المناقشات، كنا نتأكد بأنها بريئة من مثل هذه التهم التي كنا نحاول إلصاقها بها، بل وكنا نشعر في نهاية كل زيارة بالسعادة والراحة دونما إظهار لمثل هذه المشاعر حتى لا تعتقد بأنها تعرف أكثر منّا ونحن المشهود لنا بالعلم والتفوق في تدريس هذه المادة.

وعلى الرغم من استمتاعنا بتلك الأحاديث والحوارات إلا أن جلساتنا كانت في كل مرة تنتهي قبل أن يكتمل الموضوع لأن زوجي كان كثيرا ما يحتد في المناقشة بعد الاستماع إلى معظم الحديث فينقلب النقاش إلى نوع من الجدل العقيم فيجادل ويعارض بشيء من التكبر والتعالي مذكرا إياها بأنها مهما بلغت من العلم فهي لا تعدو أن تكون سوى مدرسة تربية فنية، وأنّى لها بالعلم الديني الذي يقتصر فقط على المتخصصين وخريجي الأزهر مثلنا، فكانت تتوقف وتعتذر عن استكمال حديثها عندما يصل الأمر إلى مرحلة الجدال، وكانت تنهي حديثها بعبارة تثير دهشتي أنا وزوجي وهي: أنا آسفة لن أستطيع الاستمرار في الحديث لأنه تحول إلى جدال ونحن ممنوعون عن الجدال، فكنا نتساءل فيما بيننا من تقصد بنحن؟ ومن الذي يمنعها؟ وكيف يمكن الوصول إلى نتائج بدون الجدال؟

وعلى الرغم من أن زوجي كان يحتد أحيانا ويعارض ما تدلي به من تفاسير، في الواقع، كانت تثير إعجابنا، الذي كنا نخفيه بشكل أو بأخر، إلا أنه كان يستفيد مما تقول ويستعمله في خطبه ودروسه التي كان يلقيها في المساجد تطوعاحتى أن ذلك كان سببا في ازدياد عدد المرتادين لهذه الدروس لأنه يتكلم بمنطقية يحترم فيها العقل مثلما يحترم النقل.

ظلت علاقتنا بهذه الأسرة سبع سنوات وكان هذا هو الحال في كل لقاء معهم. كنا على ثقة ويقين بأن هذه الأسرة طيبة ونقية تعيش بما يرضي الله بنزاهة وكرم، ولكن في الوقت نفسه كنا نعجب لأنه على الرغم من هذا الزخم الروحي والمعلومات العميقة التي لديهم فإن الزوج لا يذهب إلى المسجد لأداء الصلاة رغم تأكيده على أهمية الصلاة وتأكيده على أنه يؤدي الصلاة في البيت، وأما هي رغم الحشمة والوقار والأناقة لا تقتنع بارتداء الحجاب، وترى أن النقاء والطهارة لا تعتمد على زي معين أو شكل محدد.

كنا نلاحظ أنهم يقضون عطلة الصيف كل سنة في بلد من البلدان مثل أيران، أو بريطانيا، أو قبرص في الوقت الذي كان معظم الوافدين يعودون إلى بلادهم لقضاء العطلة مع أسرهم ونحن كنا مثل الأغلبية لا نقضي الصيف إلا في مصر، وكنا نشعر بشيء من الرهبة لفكرة السفر إلى اي دولة أجنبية خشية التعرض لأي مظهر من مظاهر الفساد والانحلال الشائعة عن الغرب.

[1]  سورة الأنعام، آية 159.

ليلة لا تنسى

مع توطّد الصداقة بين الأسرتين على مدى سنوات سبع قررنا خوض التجربة بالسفر لقضاء العطلة الصيفية في دولة أجنبية، على أن لا نذهب بمفردنا ولكن بصحبة هذه العائلة الموثوق بها والتي كان لها من التجارب في السفر ما قد يساعدنا على تجنب المشاكل التي قد تعترض طريقنا، فقمنا بزيارتهم وقررنا في تلك الليلة السفر معهم إلى إحدى جزر البحر المتوسط التي سبق لهم زيارتها، وقررنا السفر معهم خلال يومين، على أن يقوموا هم في اليوم التالي بشراء التذاكر لنا، ونعود نحن إلى بيتنا الذي كان يبعد عنهم بحوالي مائة كيلو متر لإحضار حقائبنا.

تناولنا العشاء معهم في بيتهم وبعد أن نام أولادنا وأولادهما جلسنا كالعادة للتحدث في بعض الأمور الروحانية، قبل أن نذهب إلى النوم، فقد تعودنا عندما نأتي لزيارتهم أو هم يأتون لزيارتنا ألا نعود في نفس اليوم لخطورة الطريق وكثرة الحوادث في الليل.

وأثناء تناول الشاي جاءت سمية بالمصحف وقدمته لي وطلبت منى بتواضع شديد أن أفسّر لها الآية التالية:

يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ”[1]

كنت على يقين بأنها تسألني لأنها تعرف المكانة المرموقة التي كنت قد وصلت إليها في حقل تدريس العلوم الإسلامية، فكنت أعمل موجهة للدراسات الإسلامية، وفي الوقت نفسه أستاذة للفكر الإسلامي لطلبة التأهيل التربوي التابع للجامعة الوحيدة والتي كانت قد استحدثت في السنوات الأخيرة، فبدأت بشيء من الثقة الزائدة في سرد نماذج من التفاسير التي جاء بها بعض المشهورين من المفسرين القدامى والمحدثين وذلك حتى تطلع على مقدار معرفتي بعلوم التفسير، فلا يكون منها إلا التسليم بما أقول، ثم ختمت كلامي بالعبارة المشهورة أ هـ (ألف هاء) والله أعلم كما يفعل عادة العلماء.

كنت أتوقع أنها ستكتفي بما ذكرت من تفاسير ولكنها فاجأتني بعدة أسئلة عن معنى تدبير الأمر، وفي كم سنة يتم تدبير الأمر هذا الذي بعده يعرج إلى السماء في يوم كان مقداره ألف سنة مما نعده في حسابنا العادي، وبالمناقشة تطرق الحديث  إلى النظام الإلهي في مدّة تدبير الأمر فمثلا كان النظام الإلهي أنه بعد مجيء كل رسول يقوم بعده عدد من الأنبياء لترويج الرسالة وفي الغالب يكونوا من أبناء ذلك الرسول كما هو مذكور في قصص الأنبياء، وكما جاء في رسالة عيسى عليه السلام الحواريون الاثني عشر الذين قاموا بترويج رسالته، وهنا قالت: ألا تكون هذه هي السنة الإلهية وهي أن يقوم مجموعة من المختارين بعد كل رسول لترويج الرسالة، وفي هذه الحالة تكون الحقبة الزمنية التي تولي فيها الأئمة الاثنا بمثابة فترة تدبير الأمر الإلهي بعد رسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؟

فقاطعتها بشدة قائلة بأن هذا هو الفكر الشيعي الذي يؤمن بالأئمة الاثني عشر والإمام الأخير محمد بن الحسن العسكري الذي اختفي وهو طفل في عام ٢٦٠هجريا، لذا فإن الشيعة يلقبونه بالإمام الغائب ويعتقدون بأنه لم يمت وبأنه سيعود في آخر الزمان ويكون هو المهدي المنتظر (عند السنّة) والقائم الموعود من آل محمد (ص) (عند الشيعة) والذي تحدث عنه الرسول (ص) في العديد من الأحاديث الخاصة بالشيعة والسنة على السواء.  واستطردت لأعلمها بأنه حتى في السنة فإن آخر الأئمة الأربعة هو الإمام أحمد بن حنبل توفي عام ٢٤١هـ.  وهنا سألتني ألا تكون هذه الفترة هي فترة تدبير الأمر الإلهي ثم بعدها يأخذ في العروج إلى السماء، وهنا شعرت بعدم الرغبة في الجدال وقررت أن أخذها (على قد عقلها) كما يقولون، ووافقت جدلا على أن تدبير الأمر تمّ في عام ٢٦٠ هـ ونضيف ١٠٠٠ سنة لعروج الأمر وبذلك يكون موعد مجيء المهدي في عام ١٢٦٠هـ.  فقلت لها: لنفرض جدلا بأن كلامك هذا صحيح، ماذا تريدين أن تقولي؟

ثم استطردت بشيء من التهكم والسخرية:  يا عزيزتي ما جدوى هذه المناقشة التي نحن بصددها ونحن الآن في عام ١٣٩٥هـ اي بعد مرور أكثر من 135 عام على هذا التاريخ الذي حددته ولم يأت أحد؟

ألا توافقين على أن هذا الكلام ما هو إلا نوع من السفسطة العقيمة التي لا تأتي بفائدة؟

بل هي في رأيي درب من النقاش الذي يبدأ بالكلام وينتهي بالكلام وما من جدوى منه.

كنت قد قررت أن أنهي هذا الحوار الماسخ في رأيي، وهنا ابتسمت صديقتي ابتسامة عريضة فقلت لها مازحة: لو أن كلامك هذا صحيح، لكان المهدي ظهر بل ومات وشبع موتا ولم يدري به أحد أليس كذلك؟؟

لقد كنت على يقين بأنها ستكمل الفكاهة وتوافقني وننتهي من هذه المزحة السخيفة، ولكنها نظرت إلىّ بجدية لم أعهدها فيها من قبل واتسعت عيناها بشكل ملحوظ مجيبة على سؤالي بكل حزم وإصرار: نعم لقد جاء في الموعد المحدد من عند الله!!

هنا عزيزي القارئ لك أن تتخيل كيف وقعت علىّ إجابتها وقوع الصاعقة وكدت أسقط من هول ادعائها، وثقتها بأن الطامة الكبرى قد وقعت، وتوالت عليها أسئلتي الإستنكارية

متى كان ذلك؟ ومن هو؟

وكيف ولا أحد يعلم بذلك؟

هل أنت فقط تعلمين والعالم بأكمله لا يعلم؟

وهنا تملكني الضحك وسألتها بشيء من السخرية والاستخفاف ماذا تقولين عزيزتي ولماذا تصمتين؟

حاولت بكل الطرق أن أخفي ما دار في خلدي من تساؤلات، فكيف يأتي المهدي ونحن لا نعلم؟ حتى إن كان بالفعل قد أتي فمن الأولى أن يعرف هذا النبأ هل هم العلماء والمتخصصون مثلنا أم هي وزوجها اللذان لا يتعديان أن يكونا سوى مدرسي تربية فنيّة؟

في تلك اللحظات القاتلة تملكتني رعشة الغضب، والتعجب في الوقت نفسه، وتساءلت في نفسي: من أين أتت تلك السيدة الجرأة لتدّعي شيئا خطيرا مثل هذا؟

ولمن؟ لنا ونحن أدرى منها بمثل هذه الأمور لأنها في صميم تخصصنا.

حاولت إخفاء هذه الانفعالات بالضحك فأثارها ذلك بشدّة واتسعت عيناها أكثر من شدة الانفعال وهي تنظر إليّ بشيء من الحسم المشوب بالغضب قائلة: هل تعجبين من قولي هذا، وتضحكين من كلامي كأنني مجنونة؟ لقد كان من الأولى بك أن تتريثي لتبحثي الأمر أولا! ثم دفعت إلىّ بالمصحف الشريف قائلة: افتحي كتابك وابحثي فيه لتتأكدي مما أقول!!

فذهلت من غضبها الغير مبرَر ودُهشت من مطلبها الذي شعرت أنه نوع من الهروب من أسئلتي وحتى تغيير الموضوع. فهي تعلم جيدا بأنني على علم تام بما جاء في كتابي، كما أنها على علم بأنني أقوم بتدريسه ليس فقط لطالبات الثانوية العامة بل أيضا لمدرسات التربية الإسلامية في المنطقة. توقفت للحظات ثم أخذت منها المصحف لأخفي بهوجهي حتى لا ترى سخريتي واستخفافي بكلامها المثير للضحك والدهشة، وحتى أحافظ على مشاعرها ولا أزيد فياستثارتها حفاظا على العشرة الطويلة بيننا، ونحن لم تر منها هي وزوجها إلا كل الخير.

ولإنهاء التوتر المسيطر على الأجواء فتحت المصحف إمعانا في إخفاء وجهي عنها، فوقعت عيناي على بعض الآيات، ويالهول ما رأيت في الصفحة التي كانت أمامي والتي فتحتها بالصدفة، لقد وقعت عيناي على الآيات التالية والتي كانت تصف حالتي، بل وكأنها تشرح هذا الموقف بالتفصيل:

أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ، وَأَنتُمْ سَامِدُونَ، فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا”[2]

طالعتني تلك الآيات الأخيرة من سورة النجم فتجمدت أطرافي وشعرت بأن الأرض تميد بي، وكأنما الله كان يعاتبني على تعجبي من هذا الحديث وضحكي وسخريتي منه.

ولا أخفي عليكم ما أصابني من ذعر يعجز القلم عن وصفه فلقد ألجمت هذه الآيات لساني، وتوقف تفكيري للحظات مرت علىّ كالدهور، وبدأت أتساءل كيف لم أقرأ تلك الآية من قبل، وأنا التي حفظت معظم آيات القرآن الكريم سواء أكان ذلك أثناء دراستي في الأزهر، أو خلال سنوات التدريس؟

ثم فجأة خيّمت على فكرة جنونية وهي أن هذا المصحف ليس بالمصحف الذي نعرفه فهو بالتأكيد يختلف عن المصاحف الموجودة بين أيدينا. وصعقت من هذا التفكير الخطير، وهنا تساءلت بفزع:

يا إلهي هل غيروا في آيات الله؟

وهل قاموا بتحريف الكتاب؟

يا ويلهم من يكون هؤلاء الناس؟

وكيف لم نكتشف حقيقتهم قبل ذلك؟

كلّ ذلك وزوجي يجلس بجواري لا يدري ما أنا فيه من هول وحيرة، ولكن عليّ أن أوثر الصمت فلن أخبر أحد بما رأيت، وتمالكت نفسي ولم أظهر شيئا من شكوكي حتى أخلو إلى زوجي وأخبره بما فعل هؤلاء.

كانت الساعة تقترب من الثانية صباحا، وكالمعتاد كنا نقضي الليلة في بيتهم لأن طريق العودة إلى بيتنا الذي يبعد أكثر من مائة كيلو متر، كما ذكرت من قبل، خطير في الليل، ولكنني قلت لزوجي على الفور هيا بنا نعود الآن، لأنني شعرت بالفعل بانقباض شديد وبأنني لا أطيق أن أبقي في بيت هؤلاء بعد أن اهتزت ثقتي بهم وبدأت تحوم حولهم الشكوك، ولكن زوجي الذي لم يكن يعرف ما حدث لي رفض العودة في ذلك الوقت بإصرار نظرا لخطورة الطريق في مثل هذا الوقت المتأخر.

وعلى الرغم من أن زوجي كان يأخذ الموضوع ببساطة إلا أنه وافقني في تصوري بأن هذه السيدة قد مسّها الغرور، أو بالأحرى الجنون الذي دفعها إلى مثل هذه الخزعبلات التي تدّعيها، وتريد أن تورطنا في أمور هيأتها لها أهواؤها وظنونها، على الرغم من أنها تعلم بأننا لسنا من السفهاء الذين يمكن أن يحتالوا عليهم بسهولة، فهي على علم كامل بالمستوى الذي وصلنا إليه في دراستنا، وخبراتنا الكبيرة في مجال الدراسات الإسلامية.

حاول زوجي تهدئتي للحظات قبل أن يغط في نوم عميق وتركني مع هواجسي ومخاوفي التي أطارت النوم من عيناي بالكلية، فلم يغمض لي جفن في تلك الليلة، وفي الصباح الباكر أيقظت أولادي الثلاث لنستعد للرحيل قبل أن نرى وجه هذه السيدة وأسرتها مرة ثانية، وبالفعل تحركنا نحن الخمسة بهدوء شديد وحاولنا الخروج من البيت قبل أن يستيقظ أهله، ولكننا فوجئنا ونحن نهبط إلى الطابق السفلي بأن الأسرة بأكملها مستيقظة، وقد أعدوا لنا إفطارا شهيا كعادتهم. فقفز الأولاد من على السلم يسبقهم زوجي ليتناولوا معهم الإفطار وكأن شيئا لم يكن، أما أنا فقد تثاقلت خطواتي حتى وصلت إلى المائدة، وجلست وأنا في شدة الإعياء والتعب، ولم يكن لدي اي رغبة في الطعام خاصة بعد ما حدث في الليلة السابقة، و جلست معهم  على المائدة مجاملة ولم أقرب الطعام، فدعتني لتناول بعض الطعام بلطف، وهنا توجست أنها ندمت على ما بدر منها من تهوّر وادعاءات كاذبة، لذا قررت في نفسي أن أعطيها فرصة أخرى لإنكار ماقالته  ليلة أمس، وحتى تعلم بأننا لا نسمح لأي إنسان مهما كان وضعه أن يعبث بأفكارنا، وأن ما تدّعيه هو شيء غير مقبول على الإطلاق، بل ويجب أن تحاسَب عليه، لأنها لا تتحدث مع أناس سذج أو بسطاء. فسألتها وأنا أتجمل بشبه ابتسامة: هل ما تحدثت عنه في الليلة الماضية هو دين أم هو مذهب؟

فاتسعت عيناها مرة ثانية وأجابت بمنتهى الثقة والقوة: طبعا هو دين!!!!

مرت لحظات من الصمت ثم استطرَدَت: أنا أيضا عندما كنت مسلمة كنت أعتقد…

فقاطعتها بشدة كنت ماذا؟؟

عندما كنت مسلمة؟؟

دارت بي الدنيا في تلك اللحظة الرهيبة، وشعرت أنني أهبط إلى سابع أرض وصرخت في وجهها متسائلة ألست بمسلمة؟

فأجابت على الفور ولكن بشيء من التلعثم: طبعا مسلمة وموحدة بالله، وأنا أشهد بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم حاولت التبرير والتوضيح، ولكنني لم أتقبل كلماتها وشعرت بأن هناك سرّا خطيرا تخفيه تلك السيدة بين جنبيها، يا خسارة لقد فقدت صداقة سبع سنوات في لحظات، ماذا أصابها بعد هذه السنوات؟

وما هو هدفها من هذه الخرافات التي تدعيها؟

حاولت أن أشير إلى زوجي حتى يلغي فكرة السفر معهم بعد أن خاب ظننا فيهم، ولكنه لم يلتفت إلى كلامي وأكمل الاتفاق مع زوجها وترك له النقود حتى يشتري لنا التذاكر معهم.

وعدنا لإحضار حقائبنا على أن نلتقي بهم في اليوم التالي في المطار لنبدأ الرحلة في ذلك الجو المشوب بالغموض والشكوك والحيرة.
وفي طريق العودة إلى البيت حاول زوجي أن يقنعني بأهمية السفر معهم حتى نتمكن من اكتشاف حقيقتهم واعتقد أنهم قد يكونوا متورطين في شيء وعلينا أن نساعدهم لأنهم من خلال معاشرتنا لهم طوال تلك السنوات وجدناهم أناسا مخلصين وطيبين، لذا فمن واجبنا ألا نتركهم ونساعدهم على تصحيح معلوماتهم الدينيّة.

وكم كانت المفاجأة عند وصولنا إلى البيت، إذ كان أول شيء قمت به هو فتح المصحف الخاص بنا للتأكد من وجود تلكالآيات الصادمة التي قرأتها في كتابهم أمس، وبسرعة قلّبت صفحات المصحف إلى أن وصلت إلى سورة النجم ثم الآيات الأخيرة، يا إلهي هي الآيات نفسها “أفمن هذا الحديث…”  وما زاد من دهشتي هو أن سورة النجم واحدة من أحب سور القرآن الكريم إلى قلبي والتي أحفظها عن ظهر قلب، فكيف نسيت هذه الآيات؟

ولماذا شعرت في تلك اللحظة وكأنني أقرأها لأول مرة؟

لم أستطع أن أتمالك نفسي فبكيت بحرقة خاصة بعد أن ارتفع صوت المؤذن من المسجد القريب بالصدفة في تلك اللحظة رافعا الأذان. وشعرت بالأرض تغوص تحت قدمي وكأنها تسحبني إلى أعمق أعماق الأرض، وتصورت وكأن الرسول محمد قد مات في تلك اللحظة، فأصابتني حالة شبه هيستيريّة وأخذت ألقي بالكتب الكثيرة الموجودة على أرففمكتبتنا الخاصة على الأرض.

كان زوجي قد ذهب لتأدية صلاته في المسجد كعادته، وعند عودته ذُهل من هذا الانهيار الذي أصابني، واشتط غضبا لأنني أعطيت اهتماما لهذيان تلك السيدة التي كان يصرّ على أن ينعتها بالمخرّفة بعد أن ادعت هذه الفرية في رأيه، وعاد يكرر بأننا يجب أن نلقنها درسا لن تنساه على ما تدعي، فالقرآن الكريم مليء بالآيات الدالة على ختم النبوة وانتهاء الرسالات برسالة سيدنا محمد، وعلينا أن نلفت نظرهم إلى هذه الآيات، وظل يقنعني بأن الله رتب لنا هذه الرحلة معهم من أجل مساعدتهم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.

[1]  سورة السجدة، آية 5.

[2]  سورة النجم، الآيات من 59 إلى 62.

وبدأت الرحلة الجديدة

بدأت الرحلةّ. وكما هو معهود في مثل تلك الرحلات كان من الضروري تدبير أمور السكن والمواصلات، وعن طريق بعض الوكالات التي كانوا يعرفونها من قبل تم تأجير شقة مفروشة وسيارة لكل أسرة حتى نتمكن من قضاء عطلة صيفية سعيدة مع الأولاد. وفي الوقت نفسه قررت أنا وزوجي أن نبدأ بحثنا في القرآن الكريم وكنا قد أعددنا العدة لذلك وحملنا معنا أكثر من نسخة من القرآن الكريم، كما حملنا بعض الملابس المتبركة بماء زمزم حيث كنا قد استعملناها في العمرة الرمضانية التي كنا قد قمنا بها في السنة الماضية.

ووضعنا عدة أسس لبحثنا هذا وهي أن نقتصر البحث على القرآن الكريم فقط على الرغم من أيماننا الكامل بالسنة النبوية. وقررنا أن يدور بحثنا عن الآيات التي تجيب على الأسئلة التالية:

  • ما الآيات التي تؤكد الخاتمية للرسول (ص)؟
  • ماذا تعني كلمة إسلام وما هو الإسلام؟
  • هل رسالات الله مستمرة أم أنها انقطعت بنزول الرسالة المحمدية؟
  • كيف يمكننا أن نفرّق بين الرسالات الحقيقية والرسالات الكاذبة؟

وبعد الوصول إلى نتائج يمكننا أن نقرر إذا كان ما تتحدث عنه صحيحاً أم خطأ وإن كنا على يقين في ذلك الوقت بأنها مخطئة مائة بالمائة، ولكن كان لزاما علينا أن نكون محايدين في بحثنا حتى نصل إلى الحقيقة وقد كان رائدنا في هذا البحث بعض الآيات الرئيسة وهي:

” وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[1]

وفيها تحقق الرحمة الإلهية بهداية السبيل إلى كل من يحاول أن يجاهد في سبيلة وأعظم أنواع الجهاد هي جهاد النفس لمعرفة طريق الله، وفيها أيضا الوعد الإلهي بهداية السبيل لكل من جاهد في سبيله، وإن وعد الله حق.

“…وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[2]

لقد كان للآيات السابقة دور كبير في حيادية بحثنا وعدم الخوف من النتائج التي قد تكون في غير صالحنا ظاهريا، مادام هدفنا هو الله، وطريقنا هو تحري الحقيقة بغض النظر عما تأتي به النتائج، لذا سنتحدث عن تأثير كل آية من الآيات الكريمة في رحلتنا هذه.

بدأنا رحلة البحث بعد اليوم الأول لوصولنا واستقرارنا، فعلى الرغم من أن زوجي كان قد أخذ الموضوع باستخفاف كبير في أول الأمر وكان على يقين بأنه لا يستحق أن نضيع وقتنا فيه إلا أنه قرر أن يساعدني في إثبات ذلك لهم، وخصوصا بعد أن رأى إصراري على البحث وتأثير ذلك الموضوع على حياتي اليومية.

سامحك الله يا صديقتي، لقد طار النوم من عيناي منذ تلك الليلة، وشغلني هذا الموضوع بشدة وضغط على أعصابي بشكل واضح، وما زاد من إصراري على عدم تجاهله هو إيماني العميق بضرورة تحري الحقيقة عملا بما جاء في الآية التالية:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ”[3]

فهذه الآية تؤكد على ضرورة الالتزام بتحري الحقيقة في كل الأحوال بغض النظر عن حامل النبأ ومصدره، حتى لو كان هذا المصدر فاسدا، والعياذ بالله، فذلك لا يثنينا عن تتبع الحقيقة والوصول إليها، وحتى لا نكون من النادمين. لذا كان جُلّ اهتمامي هو أن أثبت لها ولزوجها بالبحث الجاد أن الرسالات الإلهية قد ختمت بسيدنا محمد (ص)، وبأن الله لن يرسل رسولا آخر على الرغم من إحساسنا بمدى حاجة البشرية إلى ذلك في زمن ضاعت فيه الحقيقة وشاعت فيه الفتاوى الغريبة وانتشرت فيه الخرافات، بحيث أصبح من الصعب على الإنسان أن يعرف حقيقة الأمور، ناهيك عن اتساع هوة الخلاف، وتعدد المذاهب والطرق، حتى أصبحت كلمة الكفر هي السيف المسلط على رقاب العباد. بالطبع لم تكن تلك الحالة المزرية التي وصل إليها التعصب والظلامية الفكرية في ذلك الوقت بالدرجة التي نراها في أيامنا هذه فقد كان هناك بعض آثار للتنوير والتفكير.

قررت أنا وزوجي أن نكون أقوياء أمام هذه السيدة حتى نأخذ بيدها إلى طريق الصواب، لذا كنا نقضي اليوم من أوله سواء في شقتنا أو في شقتها لنبدأ بحثنا بعد الإفطار، تجلس هي معي أنا وزوجي وفي يد كل منا نسخة من المصحف الشريف، ونقرأ الآيات وتوضح بعض المعاني بالمنظور الجديد، ونجادل ونحتد وتتوقف هي عن الحديث ثم نعود للاستمرار، أما زوجها الكريم فقد كان الجندي المجهول الذي يقوم بإعداد الطعام لنا جميعا وتدبير كل الأمور الخاصة بالبيت والأولاد حتى يوفر لنا الاستقرار في بحثنا، وكان الأطفال الخمس يقضون أوقاتهم في اللعب ومشاهدة التليفزيون في إحدى الغرف وليس لديهم الفرصة للخروج إلى الشاطئ لأننا كنا في حالة لا تسمح لنا بالخروج للنزهة قبل أن نجد الحقيقة عن طريق هذا البحث المصيري.

مرت أيام عدة ونحن على هذا المنوال من البحث والمناقشات والجدال في بعض الأحيان، وبدأ زوجي يستدرجها للتعرف على الدين الجديد الذي تدعي مجيئه، وأن به تحققت الوعود الإلهية الموجودة في القرآن الكريم وما سبقه من الكتب السماوية.

تحدثت عن الدين البهائي باختصار شديد وكيف أن المهدي المنتظر وهو السيد على محمد من العترة النبوية أعلن رسالته في مكة وهو بين الركن والحجر، وكيف انتشرت دعوته انتشار النار في الهشيم وتم إعدامه واستشهد معه أكثر من عشرين ألفا من أتباعه في إيران.

وجاء بعده الميرزا حسين على الملقب ببهاء الله وأعلن دعوته في بغداد وتم نفيه وسجنه أربعين عاما إلى أن توفي في عكا في عام 1892. وهنا سألها زوجي بشيء من السخرية: هل هناك من يعرف هذا الموضوع سوانا نحن الأربعة، فأجابته بحسم قائلة: إنه لا يوجد بقعة من بقاع الأرض لا يوجد فيها أتباع لهذا الدين، وهذا مسجل في دوائر المعارف العالمية ومنها دائرة المعارف البريطانية التي ذكرت بأن الدين البهائي هو ثاني أكثر الأديان في الانتشار جغرافيا بعد المسيحية! ثم أردفت بأنها لو بحثت في هذه الجزيرة الصغيرة التي نحن فيها لوجدت عددا من البهائيين من بلاد مختلفة وخلفيات متنوعة، فابتسمنا وكلنا يقين بأنها تبالغ كثيرا في حديثها، وعلى الرغم من ذلك لم نعلق والتزمنا الصمت حتى لا يزداد الجو توترا.

وبناء على ما أدلت من معلومات جديدة بالنسبة لنا تجرأت وسألتها عن التفاسير الرائعة التي كانت تدلي بها أحيانا وتحلّ بها الإشكاليات التي كان لا يستطيع كثير من المفسرين حلّها، بل كانوا يزيدونها تعقيدا واختلافا، فأجابت بشيء من التواضع المشوب بالثقة:

هذا هو التأويل الذي وعد الله بإرساله لفك غموض الآيات المتشابهات ليس في القرآن فحسب، بل في الكتب السماوية السابقة، لأن الله وعد بأن يأتي تأويل الآيات المتشابهات في التوراة والإنجيل أيضا، بالضبط كما وعد في القرآن. تساءلت بدهشة:

وهل وعد الله في القرآن بأنه سيؤوّل الآيات المتشابهات؟

قالت نعم يا عزيزتي الم تقرئي قوله تعالي:

هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأويلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأويلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أو نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ”[4]

أجبتها بسرعة أنا أحفظ هذه الآيات عن ظهر قلب، قالت: أعرف يا عزيزتي لذا فإن الله وعد بأن هناك يوم سيأتي فيه تأويل الآيات، ألم ينه في الآية السابعة من سورة آل عمران[5] عن تأويل المتشابهات وبأن الذين في قلوبهم مرض يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله؟

قلت: نعم! فالمفروض إذن هو أن نكتفي باتباع الآيات المحكمات لأنه سيأتي في يوم من أيام الله تأويل المتشابهات كما هو مذكور في الآية وفي ذلك يدرك الذين نسوا القرآن بأن رسل الله قد جاءت بالحق. واستطردت بدهشة متسائلة:

ألا تشعرين بأن هذا الكلام غير واضح بعض الشيء فمن يقصد بالذين نسوه؟

قالت وهي تبتسم بذكاء: إذن فَمَن يا عزيزتي غير الذين يؤمنون به ولكنهم مع الوقت نسوه؟ قلت لها هل تقصدين المسلمين مثلنا؟

فحاولت التهرّب من الإجابة قائلة: لا أدري علينا أن نفكر، ثم استطردت بسرعة انظري في سورة يونس أيضا:

بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأويلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ”[6]

وأردفت قائلة: وفي سورة القيامة وعد صريح ببيان القرآن، فتحت المصحف الذي كان رفيقنا الدائم في جلسات البحث هذه على سورة القيامة:

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ[7]

قلت: عجيب هل هذا يعني أنها مراحل متوالية، مرحلة الجمع والقراءة، واتّباع ما جاء فيه من أحكام وهي واضحة في الآيات المحكمات التي هي أم الكتاب، ثم يأتي بيان الآيات المتشابهات من الله في يوم آخر، وهو الذي ذكره بيوم يأتي تأويله في سورة الأعراف؟

قالت مبتسمة: بارك الله فيك، ولكن كيف سيأتي هذا البيان وهذا التأويل الذي وعد الله به؟

أليس برسول منه يحمله إلينا أم سينزل كتابا من السماء بدون رسول؟

وهنا انتفض زوجي مبديا استياءه الشديد من الحوار السابق، ثم نظر إلىّ بغضب شديد وترك مجلسنا دون اعتذار أو حتى استئذان.

شعرت منذ تلك اللحظة بعداء شديد من زوجي لصديقتي، وبالفعل حاول أن يتجنبها على الإطلاق، بل وصار يرفض لقاءها، فعندما حضرت في اليوم التالي إلى بيتنا كما تعودنا لمواصلة المناقشة والبحث لم يخرج حتى للسلام عليها أو تحيتها، وحاول أن يشعرها بتجاهله لها عن قصد مما أوقعني في الحرج الشديد.

ففي اليوم التالي عندما جاءت لزيارتنا كالمعتاد لنبدأ جلستنا المعتادة في البحث لم يخرج لمقابلتها، فطلبت منه الخروج لمقابلتها حتى نبدأ في مناقشاتنا أجابني بحسم بأنه لا يريد مقابلة هذه السيدة مرة أخرى أو حتى الحديث معها، ودارت بيننا مناقشة حادة اتهمني فيها بأنني ضعفت امام أدلتها، وبالغت في مجاملتها ومسايرتها في ترّهاتها، قلت له على أثر ذلك:

إنني أعمل عقلي وأحاول الوصول إلى الله مهما كانت الصعوبات، وأننا يجب أن نستمر في تحري الحقيقة، وبالتأكيد فإن الله معنا ما دمنا صادقين في رغبتنا لمعرفة طريقه، ولا تنسى بأن ثقتنا فيه سبحانه هي التي سوف تحمينا من الزلل وتعصمنا من أن نسلك طريق الضلال. ثم أعربت له عن ليس فقط أسفي الشديد، بل وخيبة أملى فيه لأنه ليس بقوة إيمانه وصلابته في دينه التي تعوّدتها منه في مجابهة مثل تلك الأمور، بل يتهرّب منها بل ويخافها بعد أن قويت حجتها.

وهنا احتدم الخلاف وصرخ في وجهي: نعم أخاف منها على ديني الذي ورثته عن آبائي وأجدادي لذا أريد أن أتجنبها وأبعدها عن طريقنا، وهنا اشتط غضبي أكثر وسألته:

هل تعتقد أننا على حق أم على باطل؟

فأجاب بسرعة وهو يرمقني بغضب: طبعا نحن على حق.

فقلت له بتحدّ: إذن لماذا تخاف منها ولا تواجهها؟

قال: لا أستطيع لأنها تأتي بأدلة قوية وأنا أحتاج إلى وقت لأدحض أدلتها، لذا سأبقى في غرفتي أصلي وأطلب من الله العون حتى يغلّبني عليها وعلى ادعاءاتها.

فأنهيت مناقشتي بالتعبير عن استيائي من فكرة الهروب منها وعدم مواجهتها وذكرته بالآية التالية عن الهروب وعدم مواجهة الحقيقة مهما كانت صعبة:

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ، فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ”[8]

استأذنت صديقتي لتعود إلى بيتها متعللة بالصداع الذي أصابها، لقد فطنت، بلا شك، بالتوتر الشديد الذي كان يبدو علىّ، ومحاولاتي المتكررة لدعوة زوجي لحضور جلستنا دون جدوى، فأخذت أولادها وعادت إلى بيتها، وكنت في غاية الخجل منها.

[1]  سورة العنكبوت، آية 69.

[2]  سورة الطلاق، الآيات 2، 3.

[3]  سورة الحجرات، آية 6.

[4]  سورة الأعراف، آية 53.

[5]  “…فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ”

[6]  سورة يونس، آية 39.

[7]  سورة القيامة، الآيات من 16 إلي 19.

[8]  سورة المدثر، الآيات من 49 إلى 51.

رحلة البحث الجاد لدحض الحجج

في ذلك اليوم بعد انصرافها قرر زوجي بأن يعمل مثلي ويأخذ الموضوع بجدية أكثر، ورأينا ضرورة إنجاز بحثنا هذا بسرعة حتى نثبت لها بطلان زعمها على الرغم من قوة أدلتها، ونغلق هذا الموضوع الذي قلب حياتنا رأسا على عقب.

جلسنا سويا وحاولنا الإجابة على الأسئلة الأربعة السابقة فقط من القرآن الكريم، فلم ننم تلك الليلة، لأننا بعد كل المحاولات والقراءات المصحوبة بالصلاة والدعاء كنا قد توصلنا إلى حقيقة أساسية، وهي أن هذا القرآن لا يمكن فهمه إلا بالقرآن نفسه، أي بمقارنة الآيات التي تتحدث في موضوع معين، وإن تفرقت في السور المختلفة، وبمقارنة الآيات المجموعة يمكن التوصّل إلى شيء من المقصود الإلهي من هذه الكلمات. كما أننا كنا على قناعة كاملة بأن هذا الكتاب ليس مرسلا إلى فئة معينة دون أخرى وبأن الله يخاطب الناس على قدر عقولهم، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون علماء الدين ورجاله هم فقط القادرون على الفهم وهم المسؤولون عن توصيل هذا الفهم للعامة أو للبسطاء، فليس من العدل أن تكون مصائرنا جميعا معلقة على فهمهم للآيات أو على تفاسيرهم المختلفة، ولو كان الأمر كذلك لماذا حذرنا الله في آيات عدة من عدم التبعية وتحمّل كل منا مسؤولية اعتقاده وأعماله فعلى سبيل المثال قال سبحانه:

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأواْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ”[1]

كان هذا واللهِ فصل الخطاب فما من صغيرة أو كبيرة إلا ذكرت في هذا الكتاب العظيم، وأيضا قول جل جلاله:

وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا”[2] 

للتأكيد على أن علاقة الإنسان بربه هي علاقة شخصية بحتة هو الذي يقررها وهو وحده المسؤول عنها، فقمنا بمقارنة الآيات التي تحدثت عن الموضوع نفسه حتى نحصل على شيء من المعنى الذي أراده الحق جلّ جلاله. وقد يتصور البعض أن هذا لن يكون سهلا إلا على من يحفظون القرآن عن ظهر قلب، ولكن التقدم العلمي الذي نعيشه الآن يسّر لكل فرد وسائل البحث العلمي الحديثة، ومن ذلك “كتاب المعجم المفهرس لألفاظ القرآن” والذي أصبح متوفرا الكترونيا، لقد كان لهذا الكتاب دور كبير في رحلة بحثنا في آيات القرآن الكريم، وكان بالفعل العون والوسيلة لتذوق معنى اللفظ القرآني الجميل. فما عليك إلا أن تذكر كلمة واحدة فيأتي بكل الآيات التي اشتملت على هذه الكلمة وأرقامها والسور التي جاءت فيها، ومن ثمّ يمكنك الوصول إلى المعنى المراد من هذه الكلمات.

وبعودتنا للبحث في المصحف في تلك الليلة كانت الصدمة الأولي ونحن بصدد الإجابة على السؤال الأول عن الآيات التي بنيت عليها نظرية ختم النبوة وختم الرسالة، لقد فوجئنا أنه لا يوجد في القرآن الكريم بأكمله اي آيات عن قضية ختم الرسالات والنبوات بالرسول محمد (ص) سوى الآية الأربعين من سورة الأحزاب:

“مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا.”[3]

وما زاد من تعجبنا أنه لا يوجد في المصحف بأكمله كلمة خاتم سواء بفتح التاء أو بكسرها إلا في تلك الآية، إذن على اي أساس بنيت فكرة ختم النبوة وانتهاء الرسالات؟

ولماذا أخذنا تلك القضية المصيرية الخطيرة على أنها شيء مسلم به، ولا تحتاج إلى تفكير أو مراجعة دقيقة؟

هنا شعرنا بضرورة التعمق أكثر في البحث للتعرف على ملابسات هذه الآية فقررنا ألا نتأمل في الآية منفردة فحسب بل نتأمل بكل دقة في هذه الآية المصيرية من خلال السياق لأن المعنى لن يتكشف إذا درست أي آية مقطوعة عما جاء قبلها وما جاء بعدها من الآيات، كما يجب أن لا نتجاهل أسباب النزول لأنها توضح الظروف المحيطة وتساعد على فهم أعمق للحدث.

لذا كان لابد لنا من دراسة سورة الأحزاب كاملة ونتفهم علاقة كل آية بما سبقها من آيات وما جاء بعدها من الآيات، ثم نتعرف على المحتوى العام للسورة ككل مع الرجوع إلى أسباب النزول.

لقد وجدنا أن سورة الأحزاب بآياتها الثلاث والسبعين تدور حول بيان مقام الرسول (ص) مع كلّ من آل البيت ومجتمع المؤمنين فعلى الرغم من أنّها سمّيت باسم إحدى غزوات الرسول (ص) إلا أنّ الحديث عن الغزوة نفسها لم يتجاوز التسع عشرة آية بدءا من الآية التاسعة. ولعلّ الحكمة الإلهيّة من وراء ذلك هي قوّة دلالة هذه الغزوة على بيان مقام الرسول (ص).

أمّا فيما يتعلّق بالحديث عن لفظة “خاتَم” فلقد جاء في أسباب النزول بأنّ هذه الآية نزلت من أجل تطبيق حكم جديد من أحكام الأحوال الشخصيّة في الإسلام، وهو ليس إبطال حكم الميراث للابن المتَبَنّى فحسب، بل وإبطال حكم التبنّي نفسه والذي كان سائدا في الجاهليّة فكانوا يطبّقون الأحكام الخاصّة بالابن الشرعيّ على الابن المتبنّى بالكامل.

لذا كان التطبيق العملي لإبطال هذه العادة الجاهلية هو زواج الرسول (ص) من مطلقة زيد (الأبن بالتبني للرسول) الذي كان صادما للقوم، لذا فبعد أن بيّنت الآيات بأنّ الرسول يجب أن يبلّغ أوامر الله من دون حرج، وبأنّ هذه هي سنّة الله ومشيئته. يأتي الحكم القاطع والنفي البات في أن يكون محمّد (ص) أباً لأحد من رجال هذه الأمّة مع التأكيد على صفته ومكانته بأنّه رسول الله وخاتم النبيّين.

وهنا تساءلنا؛ لماذا ذكر الله عبارة “وخاتم النبيّين” في هذا السياق؟

وما علاقة هذه العبارة بالموضوع الذي تتحدّث عنه السورة بأكملها، وعلى وجه الخصوص الآيات التي مهّدت لهذه الآية؟

بل ما علاقة ختم النبوّة بتنزيه الرسول عن كونه أبا لأحد من أبناء هذه الأمّة في الآية نفسها؟

وما علاقة إبطال عادة التبنّي بموضوع عقائديّ بل ومصيريّ وهو الختم للرسالات والرسل؟

وبدأنا نلاحظ السياق في السورة بترتيبه المنطقيّ فوجدنا أنه يشتمل على النقاط التالية، وهي:

  • رفع الحرج عن الرسول في تبليغ ما أمره الله به.
  • تنزيه الرسول عن تمييزه بمقاييس التفاخر القبليّ وهي الذرية من الذكور.
  • ولفت النظر إلى ما يتميّز به مقامه بأنّ الله اصطفاه دون سائر البشر ليكون رسول الله المؤيّد بالسلطنة الإلهيّة التي تفوق أيّ سلطان، لذا لن يكون أبا لأحد من رجال هذه الأمّة، فكما هو معروف أنّ أبناء الرسول الذكور قد توفّاهم الله قبل أن يبلغوا الحُلُم لذا عايره بعض الكفار ونعتوه بلقب “الأبتر” بسبب عدم بقاء أحد من أولاده الذكور كي يحمل اسمه. وقد جاء الرد الإلهيّ على هذه المعايرة في سورة الكوثر:

إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ.”[4]

وهنا قلت لزوجي عجيب أننا لم نكن نفكر بهذه الصورة في الآيات من قبل، وكنا نأخذها على علاتها دون تفكير أو تدبر على الرغم من أننا ختمنا القرآن عدة مرات، كان آخرها في العمرة التي قمنا بها منذ عدة شهور فختمناه مرة في الكعبة ومرة أخرى في الروضة النبوية الشريفة بالمدينة!

فقال زوجي: هل نسيت يا عزيزتي بأننا كنا في كل مرة نختم فيها القرآن قراءة فقط حتى تحسب لنا ونثاب عليها، ولكن لم نتدبر القرآن ونتمعن في معانيه مثل هذ المرة.

فأجبته بشيء من التفكير: صحيح!! فعلا فهناك أكثر من آية تدعو لتدبر القرآن مثل:

“أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا”[5]

وفي سورة محمد أيضا:

“أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا”[6]

وهنا تحمس زوجي قائلا: هل تعرفين كم مرة طلب منا الله أن نعمل عقولنا وأن نستعين بتلك المنحة التي ميّز الله بها الإنسان عن غيره من المخلوقات؟

واستطرد قائلا: طبعا أنت تعلمين أنني مولع بفكرة الأرقام، ومن إعجاز هذا الكتاب العظيم أن الأرقام فيه تثير الإعجاب، والتساؤل في الوقت نفسه؟

فقلت له بسرعة: أرجوك لا تخرجنا عن موضوع بحثنا بالحديث عن الأرقام فنحن نريد أن ننتهي من هذا البحث حتى نحدد مصيرنا.

فقال بشيء من الاستياء: أنت دائما هكذا تكرهين موضوع الأرقام هذا مع أنه سيساعدنا على التعمق أكثر، أتعرفين كم مرة جاءت آيات في القرآن تحث على إعمال العقل عند تلاوتنا للقرآن، وعلى التفكر لفهم ما جاء فيه، وتؤكد بأن هذه الآيات لقوم يعقلون، وقوم يتفكرون، وليس لقوم يقرءون فقط بدون فهم أو تدبر؟

ثم استطرد: طبعا المعجم المفهرس ساعدني كثيرا في التعرف على ذلك، فكلمة يعقلون جاءت 22 مرة ومنها ما ينعت القوم بالإثبات (يعقلون) ومنها ما ينفيه (لا يعقلون)، جاءت كلمة (تعقلون) نفيا وإثباتا 24 مرة أما كلمة (تتفكرون) 11 مرة وكلمة (يتفكرون) 3 مرات، و(يتفكروا) مرتين، ثم كلمة (يفقهون) 13 مرة، وكلمة (الألباب) 16 مرة

فقلت له: من فضلك هذا يكفي، لقد وصلت الرسالة وفطنت إلى ما تريد أن تقول بأن الله دعانا لتدبر القرآن وفهمه حتى نكون من الفائزين، وليس كما كنا نعمل من قبل وهو التسابق في ختم القرآن تلاوة بدون تدبر أو تفكر.

[1]  سورة البقرة، الآيات 166، 167.

[2]  سورة الإسراء، آية 13.

[3]  سورة الأحزاب، آية 40.

[4]  سورة الكوثر، آية 3.

[5]  سورة النساء، آية 82.

[6]  سورة محمد، آية 24.

فكرة الختم

بناء على الحوار السابق الذي دار بيننا قررنا أن نعود إلى التأمل في تسلسل الآيات في السورة فوجدناه واضحا كل الوضوح وشعرنا بجمال السياق وتماسكه، ولكن استوقفنا برهة نص الآية محل البحث “مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا.”[1]وهو الاستدراك بلفظة “لكن” “…من رجالكم ولكنرسول الله …”  هل جاء هذا الاستدراك للتنبيه إلى مقام الرسول ومكانته العظيمة بينهم وهي أنّه رسول الله. كما تأملنا في وأو العطف على عبارة “رسول الله” بعبارة أخرى وهي “وخاتم النبيين” فلو أن الختم للنبوة والرسالة في آن واحد كان يكفي قوله وخاتم المرسلين، ولكننا نعرف الدقة الإلهية في التعبير ومن ثم كان من الواجب علينا التفكر والتأمل حتى نصل إلى شيء من حكمة الترتيب بهذا الشكل، وبدأ كل منا يسأل الآخر بعض الأسئلة التي تراودنا وأردنا أن نناقشها بموضوعية وإيجابية، وبدون الانجراف عن الحيادية التامة:

فما الفرق بين النبي والرسول؟

ولماذا فرّق الله بين رسول ونبيّ، وذكر الختم للنبيّ ولم يذكره للرسول؟

وما هو الهدف من هذه الآية؟

وهل فجأة أراد الله أن يخبرنا بموضوع مهم وخطير وهو انقطاع الرسالات وتوقّف الوحي بعد الرسول الكريم؟

وإن كان الأمر كذلك فلماذا خرج عن السياق المتماسك ليفتح موضوعا جديدا؟

ألا يوحي هذا بتجاهل أسباب النزول لهذه الآية والتطرق لقضية مصيرية جديدة؟

وهل بمثل هذا الاختصار الشديد والاقتضاب الحاد يُعلن الرحمن الرحيم عن انتهاء الرسالات السماوية وانقطاع الوحي الإلهيّ وإغلاق أبواب الرحمة وانقطاع الصلة الأبديّة بين الخالق والمخلوق والاكتفاء بما نزل في القرآن الكريم؟

وهل بمثل هذه البساطة والغموض في الوقت نفسه يخبرنا الله بهذا التغيير الجذريّ في سنّته التي أكّد في كثير من الآيات بأنّها باقية وليس لها من تبديل أو تحويل وكأنّما يخبرنا بموضوع عابر؟

اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا[2]

ولماذا جاءت “خاتَم” بالفتحة وليس “خاتِم” بالكسرة؟

تساؤلات كثيرة كانت تتوارد على أذهاننا الواحدة تلو الأخرى، فوقعنا في حيرة شديدة لأننا لا نجد لها من إجابات كافية شافية. وهنا سألت زوجي:

ألا يكون ذكر عبارة الختم هذه تأكيداً ضمنيّاً بأنّه لن يكون للرسول ابن ذكر ليس فقط من صلبه بل ولا حتى بالتبني؟

قال زوجي: صحيح قد ينسجم هذا المعنى مع سياق الآية والموضوع الذي نتحدث فيه. إن ما ذكره الزمخشريّ في تفسيره لهذه الآية أنّه قال لو عاش لمحمد ابن لورث النبوّة كما كان معروفاً ومتّبعاً من قبل، وبذلك لن يكون محمّد هو خاتم النبيّين، لأنّ النبوّة كانت تورّث لأبناء الرسل كما نرى في أنبياء بني إسرائيل. وهنا تذكرنا بأن النبيّ (ص) أكد على هذه النقطة عند وفاة ابنه إبراهيم وهو طفل.

فقد جاء في فتح الباري لشرح صحيح البخاري: قوله: (ولو قضي أن يكون بعد محمّد نبيّ لعاش ابنه إبراهيم ولكن لا نبيّ بعده) هكذا جزم به عبد الله بن أبيّ، وفي مثل هذا لا يقال بالرأي، وقد توارد عليه جماعة: فأخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: ” لمّا مات إبراهيم ابن النبيّ (ص) صلّى عليه وقال: إنّ له مرضعات في الجنّة ولو عاش لكان صدّيقاً نبيّاً، ولأعتقت أخواله القبط.” [3]

من الحوار السابق تبين لنا أنّ عبارة “خاتم النبيّين” جاءت في مكانها من السياق، بعد أن بينّ الله الحقيقة الكبرى وهي عدم أبوّة الرسول لأحد وأنه لو كان الله يريد أن يورّث النبوّة بعد الرسول (ص) لما توفّي أبناؤه الذكور من قبل أن يبلغوا الحلم، ولاستمرت النبوّة في أبنائه الذين من صلبه.

وبذلك يكون قد ردّ الله على تساؤلات اليهود في ذلك الوقت عن توريث النبوّة لزيد الابن المتبنّى، والتي أكّدها في الآيتين 4 و5 من السورة نفسها وهو النفي الواضح لهذا الادّعاء.

ومَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا[4]

ولنتأمل أيضا الحديث التالي الذي يبيّن فيه الرسول السبب في ختم النبوّة:

حدّثني محمّد بن بشّار حدّثنا محمّد بن جعفر حدّثنا شعبة عن فرات القزاز قال: سمعت أبا حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدّث عن النبيّ(ص) قال:

“كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلّما هلك نبيّ خلفه نبيّ وإنّه لا نبيّ بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون قالوا: فما تأمرنا قال: أفوا ببيعة الأول فالأول أعطوهم حقّهم فإنّ الله سائلهم عما استرعاهم.” [5]

وهنا أدركنا قانون التقدّم والتطوّر الذي تكتسبه البشريّة بمرور الأزمان، وشعرنا بمدى الرقيّ الفكريّ الذي يحدث مع مجيء كلّ رسالة سماوية، ومن دون ذلك فإنّ البشريّة ستغرق في الفَناء والركود إذا ما توقّف هذا القانون. فحتى وقت بني إسرائيل كان هناك حاجة ماسّة إلى الأنبياء ليسوسوا البشر بعد كل رسالة ويساعدونهم على التحوّل الروحانيّ الذي يحتاج إلى أزمان وأزمان. ولكن مع تطوّر البشريّة في زمن مجيء الرسول (ص) وما سيليه من أزمان سيقوم الخلفاء بعمل أنبياء بني إسرائيل.

واستكمالا لتلك النقطة بدأنا بالبحث في القرآن الكريم بأكمله عن فكرة ختم الرسالات واعتقاد كل أمة بأن رسولها هو آخر المرسلين وليست الأمة الإسلامية فقط، فوجدنا بعض الآيات التي ساعدت على توضيح الأمور لنا ومنها:

” وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدهِ رَسُولاً كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب”[6]

هنا صاح زوجي متعجبا: أنظري إلى هذه الآية إنها جد خطيرة لقد وصفت حالة البشر في كلّ دورة من الدورات الإلهية وصفا دقيقا ففي قصّة سيدنا يوسف عليه السلام هناك تصوير رائع لحالة كل أمة عند مجيء المبعوث الإلهيّ الجديد، وردود الفعل المتكررة دائما من تكذيب والتشكيك واتهامات في بداية الرسالة، ولكن بعد إيمان الكثير من البشر وتأسيس ملكوت الله على الأرض، ومرور الدعوة بمراحلها المختلفة إلى أن يأتي أجل الأمّة، ويظهر المبعوث الإلهي الجديد فينكرون ظهوره ويحاربون رسالته الجديدة.

ففي الآية السابقة كانت الرسالة الجديدة تتمثّل في ظهور موسى عليه السلام، وهنا ادعت الأمّة السابقة وهي أمة يوسف عليه السلام بأنّ رسولها هو خاتم المرسلين وذلك إمعانا في تكذيب الرسول الآتي من الله بعد رسولهم ورفضه رفضا باتا.

حقا لقد هالنا الرّدّ الإلهيّ على من يدّعون على الله ادعاءات جائرة بإغلاق أبواب السماء، وانقطاع الرحمة الإلهية، وتوقف الغيث الرباني مبينا بأنّ هذا هو طريق الضلال الذي يهيم فيه كلّ مسرف في الأوهام ومغال في الظنون التي ليس لها أساس من الصحّة “كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب”[7].

وفي التو تذكرت الآية الكريمة التي تبين جزءا من عمل الرسل وهي:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا[8]

فكلّ رسول يأتي يكون شاهدا على من جاء من قبله، ويكون مبشرا بمن سيأتي من بعده، ويكون نذيرا لأمّته من عاقبة التكذيب بمن يظهره الله في حينه ووقته.

قال زوجي: هناك الكثير من التحذيرات جاء بها كل رسول من الرسل ولم يبخلوا قط على أقوامهم بها حماية لهم وحتّى لا يصبحوا من المغضوب عليهم ومن الضالين عن الصراط المستقيم ساعة قيام الرسول التالي.

بدأنا ندقق أكثر في مفهوم الخاتمية الذي تدّعيه الأمم وأدركنا أنه مفهوم مخالف شرعيّا للمقصود منها، بل وبعيد كلّ البعد عن المفهوم المذكور في الآيات. وأنّ الظنّ بأنّ الله لن يبعث الرسل هو ظن مضادّ تماما للمشيئة الإلهيّة في التواصل مع العباد وإرسال الرسل، تلك السُنّة التي وعد الله أنه لن يكون لها من تبديل أو تحويل.

“ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لّا يُؤْمِنُونَ”[9]

وكانت الآية التالية تأكيدا لهذا المعنى:

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا”[10]

أيّ أنّ رجالا من الجن ممن يقولون على الله الكذب قد ظنّوا بتأويلاتهم الشيطانيّة كما ظننتم يامن تتقوّلون على الله كذبا بأن الله لن يبعث احدا.

قلت لزوجي بتعجب شديد: أيّ صراحة ووضوح أكثر من هذا؟

لقد بينت الآية كيف أنّ الجنّ أيضا ظنوا، والظن هنا يشير إلى أنهم بنوا حكمهم على وهم محض، ثم يأتي التعقيبالإنكاري بعبارة “كما ظننتم” أنتم أيّها الإنس بأنّ الله لن يبعث أحدا. وبعبارة أخرى أنّهم بنوا حكمهم بانقطاع الوحي الإلهيّ على الظنّ المنافي للإرادة الإلهيّة، بل وتبدو جرأتهم في استعمال أداة النفي “لن” التي تفيد النفي المطلق في المستقبل وفي هذا جرأة كبيرة على الله. لقد تكرّرت العبارة نفسها واستعملت أداة النفي عينها من قوم يوسف في سورة غافر بقولهم “لن يبعث الله من بعده رسولا.”

فصحت وكنت لا أصدق مثل هذا التطابق العجيب في تفكير الأمم رغم اختلاف العصور واختلاف مستويات التفكير، وقلت: أنظر كيف تكررت عبارة “لن يبعث الله ” مرتين، في المرة الأولى في سورة الجن كانت مطلقة بقولهم “أحدا” أما في المرة الثانية في سورة غافر كانت محددة وذلك بقولهم “رسول“.

في تلك اللحظة، في تلك اللحظة فقط شعرنا بضرورة إعادة التفكير فيما نشأنا عليه من أفكار ومعتقدات، والبحث عن الدلائل العقلية والنقلية التي اعتمد عليها من يجزمون بتوقف الوحي الإلهي، في الوقت الذي نحن في أشد الحاجة إلى مجيء الرحمة الإلهية، أليس إرسال الرسل هو الرحمة بعينها لكل العباد؟

أليس من المؤسف أن نجد ادّعاء الخاتميّة وتكبيل المشيئة الإلهيّة وإغلال يد الرحمة الربّانيّة من الإنس والجنّ منذ أقدم العصور؟

ألا يدعونا إتمام الله لنوره واستمرار سنّته في إرسال الرسل في ميقاتها على الرغم من ادّعاء آل فرعون الخاتميّة بعد يوسف عليه السلام واستمرار مجيء الرسل مثل موسى ومن تلاه من الرسل الكرام لليقين بأنّ سنّة الله لا تتبدّل ولا تتغيّر؟

وهنا بدأنا نفكر فيما قالته اليهود من قبل

“وقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا…”[11]

قال زوجي أنظر إلى العبارة التي جاءت في وسط الآية “ما أنزل إليك من ربك” وما هذا الذي أنزل من ربك سوى الوحي الذي أنزل على الرسول، والتأكيد على أن هذا الوحي سيزيد كثيرا من اليهود طغيانا وكفرا بدلا من أن يزيدهم تقوى وإيمانا لأنّهم يرفضون قبول هذا الوحي الجديد بالتدّبر والتعقّل والتفكّر.

[1]  سورة الأحزاب، آية 40.

[2]  سورة فاطر، آية 43.

[3] صحيح البخاري، الحديث ٥٧٢٦.

[4]  سورة الأحزاب، الآيات 4، 5.

[5] صحيح البخاري، الحديث ٣١٩٦.

[6]  سورة غافر، آية 34.

[7]  سورة غافر، آية 34.

[8]  سورة الأجزاب، آية 45.

[9]سورة المؤمنون، آية 44.

[10]  سورة الجن، الآيات 5، 6، 7.

[11]  سورة المائدة، آية 64.

ما الإسلام في القرآن؟؟؟

وبعد أن أوضحت لنا الآيات فكرة الخاتمية بدأنا نفكر في معنى الإسلام ما المعنى المقصود في الآيات التالية:

وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[1]

“حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”[2]

كما هو ملاحظ في الآية السابقة فإن الرسول (ص) يلخص لهم بعض الأحكام مؤكدا على ما يجب تحريمه ومخبرا لهم بتمام الرسالة ويتضح بصورة جلية في قوله “دينكم” في الآية الأولى، ومن ثم قررنا الرجوع إلى كلمة إسلام في آيات القرآن لنتأمل في السياق الذي جاءت فيه علّها تضفي بعض الضوء وتقودنا إلى شيء من المقصود الإلهي.

فالمعروف لنا جميعا هو أن الإسلام اسم للرسالة السماوية التي جاء بها سيدنا محمّد (ص) في مستهلّ القرن السابع الميلاديّ. والّذي انتقلت به البشريّة جمعاء في خطوات واسعة من بؤرة الجاهليّة إلى مراتب عليا من الرقيّ والمعرفة والمدنيّة. ونحن الآن لسنا بصدد التعريف بالدين الإسلاميّ، وهو غنيّ عن التعريف، ولكن قررنا التأمّل في بعض الآيات القرآنيّة الّتي اشتملت على لفظتي “الإسلام” و “المسلمين” وكما سبق أن ذكرنا من قبل بضرورة مقارنة الآيات التي تناولت الموضوع نفسه حتى نتعرف على ما تنطوي عليه من معان قد يكون من شأنها أن توصّلنا إلى شيء من المراد الإلهيّ، وتفتح على وجوهنا أبوابا لم نكن لنطرقها من قبل. اقترح زوجي أن نتأمل أولا في الآية التالية

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.[3]

إن روعة هذه الآية في الدعوة الموجّهة إلى أهل الأديان للتفاهم على أن يركّزوا أبصارهم على ما هو مشترك بينهم وما سيكون سببا في وحدتهم، وهو تلك الكلمة السواء المشتركة بين جميع الديانات؛ أليست هذه الكلمة هي كلمة التوحيد والإقرار بأنّه لا إله إلا الله الفرد الواحد الصمد، وأنّ كلّ ما عداه محو صرف؟

حقا فهذا هو أسّ أساس جميع الرسالات السماوية، وممّا لا شكّ فيه أنّه بوحدانيّة اللّه المطلقة تتحقّق أيضا وحدة رسله تعالى لأنّهم جميعا مرايا الحقّ الّتي تعكس الأنوار الإلهيّة بكمالها وجلالها، وبهم تتحقّق وحدة الكتب السماوية لكونها من مصدر واحد، كما تتحقّق أيضا وحدة الدين الّتي لا تنفصم عراها مهما تعدّدت الأسماء ومهما تنوّعت شرائعها. فدين اللّه كان ولايزال واحداً، وسيبقى دائما واحدا، وهذه هي الشهادة التي انتهت بها الآية السابقة: “… فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[4]

ويالها من مساعدة عظيمة قدمها لنا المعجم المفهرس في تجميعه لكل الآيات الّتي تكرّر فيها هذين اللفظين، وسهل علينا كثيرا المقارنة بينها للوصول إلى المعنى القرآنيّ المقصود لكلمة “إسلام” وكلمة” مسلم“فقد قال تعالى:

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفي لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ.[5]

قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.”[6]

“وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ.”[7]

وحتّى فرعون ادّعى زورا وبهتانا أنّه آمن بالله وأصبح من المسلمين لإرادة إله بني إسرائيل.

“وَجَاوزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.”[8]

“فلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.”[9]

“الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ،  وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ[10]

وهذا ما أخبر به الرسول الكريم أمته بأن يسلموا لله وذكّرهم بأنّ الإسلام هو دين الفطرة وسار عليه كلّ من جاء من الرسل والنبيين:

“وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَمِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ”[11]

وفي هذا سيكون الرسول شهيدا على المسلمين. ومن ثمّ سيكون المسلمون شهداء على الناس في الامتثال والتسليم بأنّ الإسلام هو دين الله الواحد الذي لا يتغيّر.

وهكذا فهمنا من الآيات السابقة أنّ الإسلام هو مطلب كلّ رسالة إلهيّة وهو شرط الاستجابة لكلّ ّدين سماوي، اي أنه هو التسليم بالإرادة الإلهيّة، والقبول بما ارتضاه الله لعباده المخلصين. فما من رسول أتى إلا دعا إلى الإسلام، وما من رسالة أوحيت إلا وكانت إسلاما وتسليما إلى الله، وما من وصيّة نزلت لأتباعهم إلا وكانت أن لا يموتوا إلا وهم مسلمون.

وفي النهاية وجدنا في الآية التالية تحديدا صريحا وواضحا لمعنى الدين ومعنى الإسلام بشكل عامّ وهو ملّة إبراهيم حنيفا.

وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا…”[12]

إنّ إسلام المؤمن وجهه إلى اللّه يعني خضوعه الخالص لإرادته بتمام الإيمان والثقة، وكمال الإذعان والاطمئنان إلى كلّ ما يرسله الله رحمة من عنده على لسان مبعوثيه ورسله المصطفين، وبأنّ الإسلام هو جوهر دين اللّه وأساسه. وبناء على ذلك فهو يطلق على جميع الرسالات الإلهيّة الّتي هي في حقيقتها دين اللّه الواحد الّذي دعا إليه جميع المرسلين وأوصوا به أتباعهم. ويطلق اسم مسلم على كلّ من أسلم وجهه لله كما يطلق في الوقت ذاته على كلّ من آمن بالرسالة المحمّديّة.

بدأت بعض الحقائق تتكشف لنا بوضوح على الرغم من محاولاتنا البائسة لفهمها بشكل عكسي يخدم غرضنا في دحض فكرة استمرارية الرسالات، لأن استمرارها سيكون خسارة كبيرة لنا ولأسرتنا، بل سيكون تهديدا لمستقبلنا ومستقبل أولادنا. فنحن الآن في مراكز مرموقة، وأنا أصبحت في مستوى وظيفي متميّز، وتضاعف راتبي وبدأنا نستثمر أموالنا بشكل جيد، وأصبحت حياتنا مستقرة، وأولادنا يعيشون في رفاهية ويتعلمون في أحسن المدارس…أفكار كثيرة كانت تراودنا.

وعلى الرغم من أننا كنا في صلاة دائمة ودعاء متواصل نرجو من المولى الكريم أن يكون ادعاء هذه السيدة بوجود رسالة جديدة باطل، إلا أن الحقيقة بدأت تظهر أمام عيوننا بشكل جليّ، لذا قررنا الاستمرارية وعدم التوقف عن البحث بجدية وفي خشوع وخضوع للمشيئة الإلهية مهما كانت عواقبها الظاهرية علينا، مع استمرارية التوسل إلى الله القوي القدير أن يأخذ بأيدينا فنحن في جميع الأحوال لا نريد إلا وجهه الكريم، وهو سبحانه الذي يعلم نيتنا وهدفنا. ولكن في الوقت نفسه نخاف على مستقبلنا ومستقبل أولادنا الثلاث الذين كانت أكبرهم فتاة في الثانية عشرة من عمرها في ذلك الوقت، ثم ولد في التاسعة من عمره وكان أصغرهم لا يزال طفلا في السادسة من عمره.

حقا لم يكن الطريق سهلا، ولكننا على الرغم من ذلك كنا نشعر في كل لحظة بيد القدرة الإلهية تساعدنا، وتربت على اكتافنا، وتمسح دموعنا، وكان ينازعنا شعوران قويان، الأول هو الخوف من المستقبل المجهول، والثاني هو مسؤوليتنا في تحري الحقيقة والبحث عنها حتى وإن كانت على عكس إرادتنا ورغبتنا، وكل ذلك كان يتطلب جهدا جهيدا، ومعاناة مريرة، ويحتاج إلى ثقة غير محدودة بالله تعالى الذي وعد بأن يهدي كل من جاهد فيه وفي حبه سواء السبيل.

[1]  سورة آل عمران، الآية 85.

[2]  سورة المائدة، الآية 3,

[3]  آل عمران، آية 64.

[4]  آل عمران، آية 64.

[5]  سورة البقرة، آية 132.

[6]  سورة البقرة، آية 133.

[7]  سورة يونس، 84.

[8]  سورة يونس، آية 90.

[9]  أل عمران، آية 52.

[10] سورة القصص، الآيات 52، 53.

[11]  سورة الحج، آية 78.

[12]  سورة النساء، آية 125.

العودة إلى الحوار

قررنا في اليوم التالي زيارة السيدة وأسرتها، وكنا على استعداد كامل للحوار معها بعد ليلة عاصفة وبحث مضني في كتاب الله. فاستقبلونا كعادتهم بالترحيب، وبدأت تتحدث معنا عن بعض الأمور الدنيوية البحتة مثل المشتريات، والملابس والأطعمة على خلاف ما تعودناه منها من أحاديث، وكنت في دهشة من أمرها، ماذا دهاها؟

وما الرسالة التي تريد أن تقولها من خلال هذ الحديث الغير مألوف بيننا؟

ولكنني آثرت الصمت حتى نرى إلى اي منحى سيأخذنا الحديث الغير شيّق في رأييّ.

أمّا زوجي فقد بدا عليه الانزعاج وأخذ يتأفف مبديا عدم ارتياحه لمثل هذه الأحاديث التي لم نتعود عليها خاصة في جلساتنا الأخيرة معهم، فنظر إليها زوجي قائلا: يا سيدة سمية ما هذه الأحاديث التي لا تودّي ولا تجيب؟

أين الكلام الجميل الذي كنت تتحدثين معنا به؟

فردت عليه بحزم وكأنها أرادت أن تعاقبه على عزوفه عنها وسوء استقباله لها في اليوم السابق: أنا آسفة يا أستاذ عبد العزيز لقد قررت أن لا أتحدث معكم في هذا الموضوع مرة ثانية !!… ولكن زوجي لم يمهلها حتى تكمل عبارتها حتى قال لها بغضب شديد:

ماذا تقولين؟

قررتِ ماذا؟

من أنت حتى تقررين؟

أنت ليس لك الحق في التقرير، الله أمرك أن تخبرينا وما عليك إلا الانصياع لأوامره،

من تكونين أنت حتى تحرمينا من الوصول إلى الحقيقة؟

بُهتت السيدة ولم تستطع التفوه ببنت شفه وغلب عليها البكاء وهي في ذهول تام، ثم بدأت تردد، معك حق يا أستاذ عبد العزيز، معك حق… أنا آسفة أنا آسفة. أما أنا فقد أصابني الذهول والهلع من تصرّف زوجي ورد فعله القاسي والغير مألوف منه حتى أنني فقدت النطق للحظات، لقد أخبرني فيما بعد بأنه لم يشعر بنفسه وهو يرد عليها بهذه الغضب والجفاء.

على العموم فمنذ تلك اللحظة بدأ الهدوء يخيم على جلساتنا بعد هذه الحادثة، وتوقف الجدال الذي كان يحدث أحيانا بين زوجي وبينها، واستمرينا في بحثنا من القرآن الكريم فقط ولكن بموضوعية وحيادية ورغبة جدية للوصول إلى الحقيقة.

في إحدى الأمسيات عندما انتهينا من العشاء بعد يوم طويل من البحث المضني في القرآن الكريم اقترحت صديقتي أن ننهي لقاءنا بتلاوة بعض الآيات من القرآن الكريم، على أن تقرآ ابنتها شيئا من آياتهم المنزلة (كما يقولون)، وكنا نجلس في الشرفة الكبيرة في شقتنا المؤجرة تحيطنا الخضرة والزهور ورائحة الياسمين تعطر مشامنا مضفية جوا من الشاعرية والصفاء على جلستنا الروحانية، فقرأ كل واحد من أولادنا سورة من السور القصار، وكان منها سورة البينة، وقرأت جزءا من سورة الكهف كنت أقرأه دائما كل يوم حتى ييسر لي ربي كل الأمور، ثم قرأت ابنتها بصوت ملائكي بعضا من آياتهم المنزلة، كانت هذه هي المرة الأولى في حياتنا التي نستمع فيها إلى بعض من كتابهم.

“يا ابن التّراب كن أعمى تَرَى جمالي، وكن أصمّ تسمع لحني وصوتي المليح، وكن جاهلاً يكن لك من علمي نصيب، وكن فقيراً لتغترف من بحر غنائي الخالد قدراً لا زوال له، اي كن أعمى عن مشاهدة غير جمالي وكن أصمّ عن استماع كلام غيري، وكن جاهلاً بسوى علمي حتى تدخل ساحة قدسي بعينٍ طاهرةٍ وقلبٍ طيِّبٍ وأذنٍ نظيفةٍ”[1].

كان لهذه الكلمات الجميلة وقع على نفوسنا، ولكن الكبر جعلنا نمتنع عن التعليق، إلا أن ابني الصغير صاح متأثرا فور انتهائها من التلاوة: الله القرآن الذي قرأته سيرونا جميل جدا جعلني أبكي وأخذ يبكي فاشتط أبوه غضبا ونظر إليه بحدة طالبا منه الصمت.

فعلى الرغم من أن هذا النوع من النصوص يختلف عما تعودنا عليه في القرآن الكريم إلا أنني شعرت بتأثيره في نفسي وقلبي، واحسست كأنما الله يتحدث معي ويريد مني أن أنقطع عن كل ما يبعدني عنه، وذلك بتنزيه السمع والبصر والفؤاد عن كل ما سوى الله، بالطبع لم أفض بشعوي لزوجي أو لأحد، ولكنني ظللت في اليوم التالي أردد بعض ما تذكرت من كلمات من ذلك النص في نفسي من شدة تأثري به.

بعد انصرافهم وعلى الرغم من أن الوقت كان متأخرا إلا أن زوجي أخذ يتفحص المصحف ويطلب مني أن نراجع سويا بعض الآيات القرآنية التي تلوناها في حضورهما في تلك الليلة، الأولى كانت سورة البينة والثانية الآيات التي تلوتها من سورة الكهف.

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ، وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ

قلت لزوجي: ما المقصود من هذه الآيات؟ إن ما فهمته من ظاهر الآيات يبين الاستمرار في الخلافات بين أهل الكتاب، وهم الذين كفروا برسول الله (ص)، حتى تأتيهم البينة وذلك في المستقبل كما أوضحه لفظة (حتى)، ثم توضيح للبينة التي ستأتي بأنها رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة، وأن هذه الفُرقة التي استمرت بينهم كانت نتيجة لمجيء البينة الأولي وهي رسول الله محمد (ص) ثم سألته هل هذا ما فهمته أنت أيضا؟

قال زوجي بشيء من التردد: هذا هو المعنى الواضح، وبالتالي فقد تكون هذه إشارة إلى استمرارية الرسالات بدليل أن هناك رسولا سيأتي ويحمل رسالة تشتمل على كتب قيمة وليست كتابا واحدا!

فاستطردت في دهشة، إذن من أين جاء الجزم بختم الرسالات الإلهية؟

قال لي زوجي افتحي المصحف على الآية التي قرأتِ من سورة الكهف لأنها لفتت نظري أيضا، وأريد أن أعرف ما هو المقصود بها

فقرأت:

“قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا”[2]

قال زوجي بعد شيء من الصمت: كلمات الله لا تنفد أبدا وهي مستمرة ولكن ما المقصود بكلمات الله، هل هي الكلمات الموجودة في القرآن والإنجيل والتوراة وبقية الكتب السماوية؟ فقلت له بحماس دعنا نبحث عن الآيات التي جاء فيها لفظ كلمة أو كلمات، فوجدنا الكثير من الآيات التي جاء فيها لفظ كلمة منها آيتان في سورة أل عمران شعرنا أنهما ذواتا صلة بمجال بحثنا في الآية السابقة من سورة الكهف، في الآية الأولى تبشر الملائكة عمران بأن الله يبشره بمجيء يحي الذي كان مصدقا بكلمة…وفي الثانية أن الملائكة قالت لمريم إن الله يبشرها بكلمة من الله هذه الكلمة هي المسيح عيسى عليه السلام

فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ”[3]

“إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ”[4]

ماذا تعني الكلمة في الآية الأولى وماذا تعني في الآية الثانية؟

هل هناك فرق بين الكلمة الأولى والكلمة الثانية؟

وهل المسيح برسالته هو كلمة من كلمات ربي؟

وهل الكلمة الأولي تعني أن يحى سيكون مصدقا بكلمة من الله تعني رسالة أم تعني المسيح بن مريم الذي جاء مبشرا به وبرسالته حتى ضحّي بحياته من أجل تهيئة البشرية لهذا المجيء الإلهي؟

ولو كان الأمر كذلك فهل توحي الآية السابقة من سورة الكهف بأن رسالات الله مستمرة ولا تنقطع بفرض أنه لو كان البحر مدادا لكلمات الله لنفد البحر ولو جاء الله بمثله مددا قبل أن تنفد كلمات الله؟

وتذكرت بأنه توجد آية أخرى تؤكد المعنى نفسه

“وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”[5]

هنا بدأت رأسي تدور وقلبي يخفق بشدة، وزوجي يزداد شحوبا وهو يتصبب عرقا، وقررنا أن نتوقف عند هذا الحد وعلينا أن نستريح بعض الشيء بعد أن أنهكنا التفكير. ويعلم الله أنني لم أستطع النوم إلا سويعات قليلة وتلك الآيات تراودني وتدور في ذهني حتى بزوغ صباح اليوم التالي.

جاءت الأسرة في الصباح ورأيت صديقتي تنظر إلى بشيء من الشفقة بعد أن لاحظت ما يساورني من الحيرة والخوف وما ينتابني من إعياء نتيجة لعدم النوم المستمر، فقالت بابتسامة مشجعة وبحماس: ما رأيكم أن نبدأ العمل في هذا الصباح المشرق الجميل، وبالفعل بدأنا جلستنا وكان زوجي أكثر هدوءا وسكينة، فكل هذه الآيات التي كانت تدور في أذهاننا والأمور التي كانت تتكشف  لنا يوما بعد يوم جعلتنا ندرك بأن اي جدال ومعارضة بعد ذلك ستكون دربا من الكبر والهراء، وخاصة بعد أن بدأت الحقيقة تنكشف بوضوح، وتبين لنا أنه ما دام هناك خالق واحد أحد فلن يترك خلقه يهيمون في الظلمات دونما يأخذ بأيديهم، فنحن نصلي وندعو ونحافظ على أركان الإسلام الخمس، ونطبق ديننا الحنيف في حياتنا بقدر المستطاع، وتدبرنا القرآن كما طلب منا، وحاولنا فهمه بعقولنا ووجداننا، وفي تلك اللحظة فاجأتنا سمية بأنها قالت ما عندها، ولقد حان الوقت الذي يجب أن نقرر فيه مصائرنا، وعليها أن تتوقف عن زيارتنا لأنها لن تأتي بفائدة تذكر، وما علينا الآن إلا أن نتوجه إلى لله سبحانه وحده بقلوبنا وأرواحنا وندعوه ليل نهار ليساعدنا على معرفة الحقيقة وتلت الآية التي كنا نتمسك بها منذ بداية البحث، وهي “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا..” وطلبت منا التفرغ في الأيام الثلاثة التالية للدعاء والصلاة وطلب العون من الله سبحانه وتعالي، ثم أردفت بحسم يجب ألا نتزأور في الأيام الثلاثة التالية وبعدها أرجو أن تكونا قد توصلتما إلى قرار إما أن هذا حق فنكمل المسيرة وإما أن هذا يجافي الحقيقة في رأيكما، وبالطبع فإن قراركما مهما كان فلن يؤثر على صداقتنا، وعلينا أن نستمتع نحن وأولادنا برحلتنا التي جئنا من أجلها على شواطئ هذه الجزيرة الجميلة.

[1]  بهاء الله، الكلمات المكنونة الفارسية (مترحم).

[2]  سورة الكهف، آية 109.

[3]  سورة آل عمران، آية 39.

[4] سورة ألا عمران، آية 45.

[5]  سورة لقمان، آية 27.

هل نزل الكتاب بالفطرة؟

قل إنها في الحيرة!!

لا أخفي سرا بأنني شعرت بارتياح شديد لاقتراح صديقتي، فقد كنا بالفعل في أشد الحاجة إلى أن نخلو إلى أنفسنا وننقطع عن كل شيء سوي الله لنختار طريقنا إليه بأنفسنا، وقبل أن ينصرفوا همست في إذني وهي تودعني والدموع في عينيها: أنا أخاف عليك يا صديقتي من هذا الانتظار الطويل قبل الوصول إلى قرار، فلو، لا قدر الله، حدث وتوفيت هذه الليلة فستكونين من الذين كفروا لأنك عرفت بمجيء الرسول ولم تؤمني به. نزلت عليّ هذه الكلمات نزول الصاعقة وانتابتني رعشة شديدة وشعرت وكأنني أسقط من قمة جبل عال إلى أعماق حفرة سحيقة، وقلت لها سامحك الله، سامحك الله فاحتضنتني وهي تتأسف قائلة: اعذريني يا عزيزتي يعلم الله أنني أحبكما وأخاف عليكما ثم خرجت وهي تبكي بتأثر شديد.وهنا تذكرت الحديث الذي كان يُقرأ في التليفزيون بعد صلاة العشاء كل يوم، وكان الكثير من زملائنا يسألوننا عن معنى هذا الحديث وهم في انزعاج شديد:

عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى لله عليه وسلم: (فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ)[1] 

كان هذا الحديث مسار حوار وجدل بيننا وبين الزملاء الذين كانوا يشعرون بكثير من بالرهبة والخوف عند تلاوة ذلك الحديث بشكل دائم عقب الأذان، ويسألونني كمرجع ديني كيف أن الله الرحمن الرحيم يعامل عباده بهذه القسوة فيعمل الإنسان طوال حياته بما يرضي الله ثم لا يكون بينه وبين الجنة سوى بضع خطوات فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها والعكس فيمن لم يعمل بما يرضي الله…تذكرت كيف كنت أهدئ من روعهم وأحاول أن أؤكد الرحمة الإلهية وأن هناك أمورا غير واضحة لنا وأطمئنهم بالآية التالية:

“قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”[2]

بالتأكيد فإن العمل الذي يحول دون دخول الجنة بعد حياة طاهرة هو ليس بالإثم البسيط والدليل على ذلك هو تلك الرحمة الإلهية الغامرة التي تبينها الآية الكريمة والتي تؤكد بأن الله يغفر الذنوب جميعا. ولكنني لم أكن أعرف ما هو هذا العمل الخطير الذي يزلّ أقدامنا عن الصراط المستقيم.

جلست أنا وزوجي لنراجع هذا الحديث مرة ثانية ونتأمل في معانيه، فعلى الرغم من أننا اتفقنا أن يكون جُلّ بحثنا من القرآن إلا أننا نحتاج إلى بعض الأحاديث الصحيحة لتساعدنا في بحثنا.

فاستوقفتنا كثيرا عبارة فيسبق عليه كتابه، ما المقصود هنا بكلمة يسبق؟

وأي كتاب بالضبط الذي سيسبق؟

وما المطلوب منا عندما يسبق الكتاب علينا؟

ولماذا ينحرف مسارنا من طريق الأمان إلى طريق الهلاك؟

وعلى عادتنا رجعنا إلى المعجم المفهرس لنرى السياق الذي جاءت به لفظة الكتاب حتى نفهم ما المفهوم القرآني لها، وكانت المفاجأة بأن لفظة الكتاب المعرفة بـ “أل” جاءت 230 مرة في القرآن الكريم، والمقصود منها جميعا كتاب من الله اي الرسالة السماوية، وحتى عندما يشير إلى أهل الكتاب، يقصد بها أهل الرسالات السماوية السابقة.

وفي الحديث: “بادروا بالأعمال، فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مسلماً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا”[3]

هل يكون المقصود معرفتنا برسالة جديدة والإعراض عنها أو عدم تحري الحقيقة والإيمان بها إن شعرنا بصدقها؟

توقفت للحظات وتذكرت دعاءنا الحار في الأيام الماضية بأن يكون هذا النبأ الذي علمناه من سمية نبأ خاطئا وأنه مجرد ادعاء لأن في مجيء دين جديد تهديد سافر لمستقبلنا ومستقبل أولادنا، فعملنا الذي نعيش عليه هو تدريس الدين الإسلامي، ومؤهلاتنا العلمية التي حصلنا عليها كانت لتدريس الفكر الإسلامي وما وصولنا إلى هذه المكانة إلا نتيجة لمؤهلاتنا وخبراتنا في هذا المجال، لذا حصلنا على هذه الرواتب العالية التي حققت استقرارا وحياة مرفهة لنا ولأولانا، وقمنا بالتوسع في شراء الممتلكات التي نضمن بها مستقبلا باهرا لأولادنا.

لاحظ زوجي صمتي الذي طال للحظات ويبدو أنه هو أيضا أصيب بنفس الحالة من الحيرة والخوف، وقال لي بقلق شديد:

هل تعتقدين أن إعراضنا عن معرفة هذا الدين الذي جاءت به صديقتك يعتبر بيعا لديننا بعرض الدنيا؟

وهل الخوف على مستقبلنا ومستقبل أولادنا هو عرض الدنيا؟

وهل رفضنا لفكرة استمرارية رسالات الله من أساسها سببه الخوف من فقدان وظائفنا المرموقة التي وصلنا إليها بعد جهد جهيد؟

فقلت له: تصدّق! هذا ما كنت أفكر فيه بالضبط، ولا أدري ماذا نفعل؟

ليتها لم تخبرنا بهذا النبأ، فقد كنا نعيش في سلام وأمان قبل أن نعرف هذا الأمر، لأننا كنا كسائر الناس على الرغم من الحيرة الشديدة في معرفة الحلال من الحرام، وعلى الرغم من الفتاوى المتناقضة التي تطالعنا كل يوم، وكل ما نراه من كذب ونفاق وفساد في كل شيء، وذلك الانهيار الأخلاقي الذي يزداد يوما بعد يوم حتى أتي على الأخضر واليابس، وانعدام الثقة بين الناس، وكل ما نراه من مظاهر الانحلال والدمار إلا أننا كنا نعيش، كما يعيش سائر البشر، اما الآن وقد فرض علينا أن نتخذ القرار فماذا نفعل؟ هذه حقا مسؤولية كل واحد فينا. قال زوجي: صحيح فكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ولكن هل هذا بالأمر السهل أو البسيط يا عزيزتي؟ هذا صعب جدا بل وكلمة صعب لا تصف مقدار المسؤولية الملقاة على عاتقنا، فقلت له:

هل يكون هذا هو الصراط المستقيم الذي ندعو الله أن يهدينا إياه في اليوم الواحد سبعة عشر مرة في الصلوات المفروضة:

فقال زوجي مكملا لسورة الفاتحة: “…صراط الذين أنعمت عليهمولا الضالين

أجبت بقلق شديد: يا إلهي هل هذا هو المقصود؟

وهل لذلك جاء وصفه بأنه أحدّ من السيف وأدق من الشعرة؟

ألا يكون هذا الوصف تجسيد لمدى الصعوبة والخطورة والدقة في اتخاذ مثل هذا القرار؟

كانت تلك هي تساؤلاتي التي توقفت عندها بعد أن بدأت نسمات الفجر المنعشة تداعب وجوهنا ونحن نجلس في تلك الشرفة الجميلة وكان الإرهاق قد بلغ ذروته، فقمنا لنصلي الفجر سويا جماعة كما تعودنا، تاركين الأمور على حالها لنستريح بعض الوقت. وما هي إلا لحظات إلا وكان زوجي، في سابع نومة، كما كانت تقول جدتي أما أنا فلم أصل حتى إلى النومة الأولي، ولم يغمض لي جفن ولو للحظة واحدة، فأمور كثيرة كانت تدور في ذهني، وخواطر متنوعة تتشابك أمام عيناي، وقلق شديد يملأ قلبي، كل هذا أطار النوم، ولكن أشد ما كان يرعبني ويسيطر على فكري هو تلك العبارة الأخيرة التي قالتها صديقتي في الليلة السابقة معبّرة عن خوفها من أن يأتيني الموت فجأة قبل أن أتخذ قراري وأحسب في تلك الحالة عند الله من الذين كفروا.

يا إلهي أرجوك لا تتركني بنفسي وساعدني فأنا لا أريد سوى وجهك الكريم يا ذا الفضل العظيم، في تلك اللحظة الصادقة ما شعرت بنفسي لأنني كنت أغط في النوم ويبدو أنني وصلت إلى  سابع نومة أيضا.

بعد ساعات قليلة استيقظنا وشرعنا في مهمتنا الرئيسة، فتناولنا قليلا من الطعام ودبرنا أمور الأطفال الثلاثة حتى لا يقطعوا علينا لحظات بحثنا المصيرية. وقال زوجي لقد فكرت كثيرا وجاءتني فكرة قد تساعدنا على تحديد موقفنا، ما هي؟ أجبت مسرعة

قال: ما رأيك في أن ندرس قصص الأنبياء السابقين التي اشتمل عليها القرآن ونرى ماذا كان موقف الأمم السابقة عند مجيء رسالة جديدة ونتعلم من ذلك؟

فقلت له ولكن هذه القصص مكررة في عدة سور، وأنّي لنا أن نقرأها جميعا في هذه الفترة القصيرة، على العموم فيه كتاب عن قصص الأنبياء ولكن لم نحضره معنا، فأجابني بشيء من الحدة: سوسن نحن لا نريد أن نقرأ القصص نفسها ولكننا نريد أن نطلع على الأسلوب القرآني في سردها ونقارن الآيات حتى نفهم المعاني المخفية بين السطور، أليس هذا هو أسلوب بحثنا الذي اتفقنا عليه منذ البداية؟ فمن خصائص القصص أنها تترجم المعاني المجرّدة إلى الواقع وتصبّها في أحداث ملموسة، ويكون سرد هذه الأحداث للمعنى الإجمالي وبين طيّاتها تفصيل للمعاني المجرّدة في شكل مجسّم.

وهنا قلت له: معك حق، فالبعض يعتقد بأن هذه القصص التي وردت في الكتب السماوية ما جاءت إلا لسرد أحداث الماضي أو لرواية التاريخ فحسب، وهذا في رأيّ تصور سطحي وقد يكون ساذجا، فالمواقف الواردة في تلك القصص تدعو إلى التّفكّر والتّأمّل واستخراج العبرة من معاني أحداثها سواء أكانت هذه الأحداث حقيقية أم مجازية وذلك لنستفيد منها في الحاضر. ولعلّ هذا يبرر تكرار أحداث القصّة الواحدة أكثر من مرّة في القرآن الكريم.

يا سلام صاح زوجي: ثم استطرد أليس هذا دلالة على عظمة المربّي الأكبر ورحمة المعلّم الأعظم ومحاولاته المتواصلة لإفهامنا مغزى كلماته وذلك باستخدامه مختلف الأساليب التعليمية لإبلاغ رسالته لأولي الألباب، ورعايته لهداية الأجيال المتعاقبة إلى حقائق لا بدائل لها، ففبها وحدها تتحدّد أحوالهم ومصائرهم فعلا؟

اجبت مكملة ما بدأه: فأحداث مثل هذه القصص ليست إلا خطاب من الله ليرى أبناء كلّ جيل القوانين والنّاموس الذي تحكم قواعده وجودهم ومآلهم. وهذا، على ما يبدو لنا أنّه مراد اللّه منها:

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[4]

فأكمل مستطردا: فعلا، هذا واضح جدا، انظري إلى بداية الآية التي تبين السبب في تواتر نزول قصص الأنبياء السابقين وتكرارها بأنها عبرة لأولي الألباب، وهنا نضع تحت عبارة أولي الألباب خطين، ثم تكمل الآية الكريمة الأسباب الأخرى لسرد تلك القصص بأنها ليست فقط تصديق وتفصيل فحسب، بل هي هدى ورحمة للمؤمنين.

فتساءلت بشيئ من الدهشة: ألا يكون ذكر هؤلاء الأنبياء وقصصهم أيضا إشارة ودليلاً على تواتر الأديان من دون توقّف في خطّة إلهيّة محكمة ترمي إلى إظهار الطيف الإلهي الذي يمكن أن نرى فيه أسماء اللّه الحسنى في عالم الوجود؟

ألا تعكس الصور العديدة في صفاته سبحانه وتعالى كلّ في حدود إمكاناتها وقدراتها التي فطرت عليها؟

وبقراءة بعض السور مثل سورة يونس وغيرها وجدنا أن كثيرا من المعاني تعرضها الكتب السماوية بصور شتّى ونماذج مختلفة ورددتها في قصص عن رسل الله وأنبيائه. ومن ثمّ شعرنا بأن الدرس الأساسيّ الذي يمكن استخلاصه من مجرى أحداث كلّ هذه القصص هو تكرار نمط التكذيب الذي تُقابَل به كلُّ رسالة سماوية، واعتراض الناس عليها لأنّ أحكامها ومبادئها لا تتفق مع ما نشأوا عليه وما وجدوا عليه آباءهم من جهة، ولأنّهم لا يجدون فيها ما يحقق أهواءهم ومصالح دنياهم العاجلة من جهة أخرى.

وليس عجيبا أن تتكرر نفس الاعتراضات المستندة إلى حجج واهية في كل دورة، فيلجؤون إلى اتّهام الرسل والأنبياء بنفس التهم وهي الكذب والسحر والجنون والضلال. حتّى يكاد يكون هذا النمط من السلوك قاعدة لا استثناء لها، وقانوناً ثابتاً يميّز الرسالات السماوية عن غيرها من الأفكار البشريّة والنظريّات العلميّة التي يسهل على الناس قبولها بقليل من التدقيق والتحليل. وفي الآية التالية يفند الله هذا السلوك المتكرر في كل دورة على الرغم من اختلاف البشر وتباين مستويات النضج والمعرفة من مرحلة إلى أخرى:

“وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ”[5]

وهنا هتف زوجي: سبحان الله الحجج نفسها تتكرر، والتهم بعينها تطلق على كل رسول، ولكن ما السبب في ذلك؟

قلت له بسرعة الاستكبار يا عزيزي وما أدراك ما الاستكبار؟  كما جاء في الآية السابقة بوضوح، وهو الاعتراض على المشيئة الإلهية.

فقال زوجي بشيء من الحزن: نعم الاستكبار!!

قلت له معقبة: فعلا لو نظرنا إلى الأحداث التي وصفتها الآيات سندرك أن القرآن الكريم حلل هذه الظاهرة تحليلاً موضوعيّاً في أكثر من موضع، وأوضح بجلاء شديد السّر الذي يكمن وراء هذه الإشكاليّة ألا وهو الاستكبار والرغبة في الجدال. هذان، وبلا أدنى شكّ، هما الدافعان الأساسيّان وراء اعتقاد كلّ أمّة بأبديّة شريعتها وختم رسالتها لكلّ ما سبق من الرسالات. لذا يكون الإعراض والتكذيب لمن يظهره الله من عباده المختارين هما وسائل دحض هذه الدعوة الجديدة ووأدها في مهدها، ولكن هيهات فنور الله لا يطفأ لو كان حقيقيا، فالطريق الذي يسلكونه مسدود، وما يطلبونه مردود، وهو اتّباع سنن الأولين التي توضحها الأية التالية:

“يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ”[6]

قال زوجي بشيء من الحماس: ما السبب في أنهم يريدون إطفاء نور الله؟ أليس هو الا ستكبار؟

قلت: صحيح، ضع تحت هذه الصفة الخطيرة مائة خط.

فأكمل زوجي كلامه: إنّ آفة الاستكبار كانت هي نفسها السبب في عدم امتثال إبليس للإرادة الإلهيّة واعتراضه على الأمر الإلهيّ بالسجود لآدم لأنّ آدم كان بشرا.

“وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ”[7]

قلت لزوجي بتعجب: أنظر إلى هذا الحوار الجدليّ الذي أراد إبليس به تبرير عصيانه للمشيئة الإلهيّة لسبب يعتقد في قرارة نفسه بأنّه سبب منطقيّ حيث إنّ الله خلق آدم من طين وخلقه هو من عنصر أقوى وأعظم وهو النار.

فقال زوجي: لقد كبر عليه أن يتواضع ويسجد لآدم وهو بشر.

فقلت: يا إلهي انظر كيف أوضحت الآية كيف كانت عاقبة هذا الاستكبار الذي منع إبليس المبلس من الامتثال للأمر الإلهيّ في الحال، والتسليم للإرادة الإلهّية، والخضوع للمشيئة الأوليّة. وهذا هو الفرق بين إبليس وبقيّة الملائكة الذين امتثلوا للأمر الإلهيّ في الحال ومن دون جدال أو حوار. وبناء على ذلك الاستكبار والعصيان انتقل إبليس كما بيّنت الآية من صفوف الملائكة وأصبح في زمرة الكافرين فصار من الضالين المغضوب عليهم إلى أبد الآبدين.

قال زوجي: فعلا إن آفة الضلال هي ذلك الاستكبار، والاستكبار هو الإعراض عن المشيئة الإلهية. اللهم احفظنا من تلك الآفة الضالة المضلة.

قلت له بشيء من القلق: أليس ادّعاء كلّ أمّة بأنّها الأمّة الخاتمة، ورسولها هو الذي لن يكون من بعده رسول يُعتبر نوعاً قاتلاً من الاستكبار الذي حدّده الله في أكثر من آية من آيات كتابه الكريم؟

قال زوجي بحزم: بالتأكيد فهناك الكثير من الآيات التي تبيّن أنّ آفة الكفر سببها هو الاستكبار.

تذكرت في تلك اللحظة الآية الكريمة التالية وبدأت أتلوها بكل خضوع وخشوع:

“فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرً”[8]

فقال زوجي بشيء من التواضع الشديد: حقاً إنّ في قصص الأنبياء لعبرة، لذا فقد تكرّرت كلّ قصّة من هذه القصص مراراً وتكراراً وفي كلّ واحدة منها يلفت الله النظر إلى عناد الأمم السابقة وتكبّرهم ورفضهم التسليم أو الخضوع لتلك الحقيقة الإلهيّة، فطبع الله على قلوبهم فكان جزاؤهم أقصى درجات المقت والغضب نتيجة لهذا التكبّر، وما يتبعه من إسراف وإبلاس وتشكيك في الحقيقة الثابتة بأنّ كلمات الله ما لها من نفاد ورسالاته ما لها من انقطاع.

قلت له وأنا أبكي خوفا ووجلا من استكباري على الله ورفضي أن يكون هناك رسول بعد رسولنا الكريم محمد (ص): إذن ماذا علينا أن نفعل الآن؟

قال: أنا أشاركك نفس الشعور بالذنب لعنادي واستكباري على هذه السيدة التي ما أرادت إلا أن تساعدنا على معرفة الحقيقة.

قلت له أنظر هذه الآية التي توضح عاقبة المستكبرين والمكذبين بوضوح شديد:

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِين”[9]

وهكذا أدركنا أنّ مفهوم الخاتميّة الذي تدّعيه الأمم هو مفهوم مخالف شرعيّاً للمقصود منها، وبعيد كلّ البعد عن المفهوم المذكور في الآيات. وأنّ الظنّ بأنّ الله لن يبعث الرسل مضادّ تماماً للمشيئة الإلهيّة في التواصل مع العباد والتي لن يكون لها من تبديل أو تحويل.

والجدير بالذكر أن هذه المعانٍ تواردت في كثير من السور، ومنها كما ذكرنا من قبل عن سورة هود وسورة يونس وسورة نوح، أو كما توجزها قصّة إبراهيم الذي ألقاه قومه في النار فكانت برداً وسلاماً بأمر ربّها، كما تصدق على ما ترويه سيرة موسى مع فرعون وعيسى بن مريم مع قومه وعلى اليهود بوجه خاص.

وبعد أن بدأنا نشعر بنزول الرحمة الإلهية والغيث الصمداني الذي لا ينقطع في اي وقت من الأوقات قررنا أن نتأمل في سورة القمر، فعلى الرغم من أنّ عرض القصص فيها كان موجزاً للغاية إلا أنّ جميع القصص المذكورة ركّزت بكل وضوح على الإشكاليّة الرئيسيّة وهي؛ جريمة التكذيب التي تتكرّر في كلّ رسالة. فاستهلّت كلّ قصّة بفعل التكذيب (كذّبت)، كما ذكرت التهمة الشائعة التي يُنعت بها كلّ رسول وهي تهمة الجنون.

فالقصّة الأولى المذكورة في سورة القمر هي قصّة نوح مع قومه:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ* فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ… وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ* فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ* وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدكِرٍ[10]

لقد كان واضحا لنا بأنّ الهدف الرئيس وباختصار من ذكر هذه القصّة هو التأمّل في عاقبة المكذّبين في كلّ دورة وفي كلّ رسالة. وتتوالى في السورة بعد ذلك الأنباء الّتي وصلتهم عدّة مرّات وكان من المفروض أن تكون رادعا ومزدجراً لهم، فتناولت السورة قصص عاد، وثمود، ولوط، وآل فرعون وكل منها تبدأ بكلمة كذبت، وتنتهي بعبارات التحذير نفسها “أنظر كيف كان عذابي ونذر….”

وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ[11]

وعلى الرغم من إرساله سبحانه وتعالي قصصا رائعة تقرّب الأوامر الإلهيّة، وتدعو إلى الاستسلام إلى المشيئة الإلهيّة والتسليم بها، ولكن يكون رد الفعل المعهود على الرغم من الآيات البينات يكون التكذيب واتباع الأهواء، ولكن لا غرو لأنّ كلّ أمر مستقر، وهذا الاعتراض لن يغير شيئا من المشيئة الإلهية.

وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ[12]

تتكرر القصص ببلاغة وإيجاز مع التعقيب بسؤال تقريريّ عن كيفية العذاب الّذي وقع على كلّ امّة كنوع من التأكيد الضمنيّ حتّى لا يغيب الهدف عن ذهن القارئ فلا تتكرّر المأساة في الدورات التالية. سبحانه يختم القصّة بسؤال آخر مضمّناً الإجابة عليه بأنّ كثيراً من النّاس لن يعتبروا ولن يتذكّروا.

فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدّكِرٍ

والبداية نفسها في قصّة ثمود الّتي كذّبت أيضا بالنذر ثمّ سرد القصّة. ويأتي السؤال التنبيهيّ وهو كيف كان عذاب اللّه لهؤلاء المكذبين. وتنتهي القصّة بتكرار السبب نفسه الّذي من أجله جعل الله القرآن ميسّرا للتذكر والتأمل في عاقبة المكذبين.

وبتأملنا في سورة القمر شعرنا بأن جلّ التركيز على لفت نظر القارئ إلى خطورة التكذيب واتباع سنن الأولين، فلخص لنا في هذه السورة خمس قصص بإيجاز شديد وجاءت كلمة التكذيب 6 مرات يقابلها 6 مرات توضيح كيفية العقاب، ويطلب من القارئ أن يتأمل كيف كان عذاب الله لهؤلاء المكذبين، ثم جاء توضيح سبب تيسير القرآن بأنه للذكر 4 مرات، وجاء السؤال التقريري والاستنكاري في الوقت نفسه “فَهَلْ مِن مُّدَّكِر”

ما من مبعوث إلهي أتى إلّا وقام الملأ بتكذيبه واتّهامه بالجنون والسحر وافتروا عليه وعلى من اتبعه بالإفك والبهتان.

إن العقاب الإلهيّ الواقع بلا هوادة على كلّ أمّة كذّبت رسولها، وإن اختلفت صنوف العذاب من أمّة لأخرى. وأدركنا في تلك اللحظة بأنه ما من أمّة إلا وقد خلت، فلا خلود لأمّة دون أخرى: توالت الآيات البينات وكانت تنزل علينا مثل الصفعات إلى درجة لم أستطع تحملها، فكلها تدل على الرحمة الإلهية واستمرارية الرسالات، ولو كان الله قد رفع رحمته عن العالمين وأوقف رسله عن إرشادنا سواء السبيل، فلماذا يكرر هذه القصص عدة مرات وفي سور مختلفة؟ ويحذرنا من مغبة التكذيب التي هي آفة الآفات والتي تأتي على الشعوب والأمم فتنقلهم من درجات الإيمان إلى منحدرات الكفر والعياذ بالله، وهذا ما تؤكده الآيتين التاليتين.

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ[13]

قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ[14]

[1]  رواه البخاري (3208) ومسلم (2643

[2]  سورة الزمر، آية 53.

[3]  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، رقم 165. ورواه الترمذي  في كتاب الزهد رقم 2228.

 

[4]  سورة يوسف، آية 111.

[5]  سورة البقرة آية 87.

[6]  سورة التوبة، آبة 32

[7]  سورة البقرة، آية 34.

[8] سورة النساء، الآية ١٧٣.

[9]  سورة الأعراف، الآية 40.

[10]  سورة القمر، الآيات من 9ـ15.

[11] سورة القمر، آية 4.

[12] سورة القمر، الآيات 2، و3.

[13]  سورة الأعراف، آية 34.

[14]  سورة يونس، 49.

فاعتبروا يا أولي الألباب

بعد فترة ليست قليلة من الصمت سادت بيننا سألت زوجي:

ألم يذكر القرآن الكريم بأن سيدنا عيسى سيأتي؟

فقال زوجي ليس القرآن الكريم فقط بل في الإنجيل والتوراة وغيرهم من الكتب المقدسة كلها بشرت بهذا المجيء، ولكن هذا في آخر الزمان.

قلت ومن يدريك أننا لسنا في آخر الزمان؟

فابتسم وقال: دعينا نقرأ ماذا ذكر الله عن مجيء عيسى عليه السلام، فقلت أعتقد في سورة الزخرف:

ولَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ، إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ[1]

فقال زوجي: إذا عندما قال الرسول في أكثر من حديث عن مجيء بن مريم لم يكن المقصود به المسيح نفسه ولكن هذا فقط مثلا يضربه للمجيء التالي.

قلت هذا ما تبينه الآية على حد فهمي فهو لم يقل عيسى بل قال بن مريم وهذا بالطبع إشارة إلى سيدنا عيسى عليه السلام.

فقال زوجي انظري الآية التالية فهي تؤكد سنة البشر في استقبال اي رسول جديد وهي الصد والاعتراض والتكذيب، عجيب إنه يقول قومك

قلت في دهشة: يقصد من بكلمة قومك؟

فقال زوجي: أعتقد أنه يقصد قوم محمد لأنه يخاطبه صلى الله عليه وسلم

قلت: هل يعني بقومه المسلمين؟

قال زوجي بسرعة: إذن فمن؟

فصحت بخوف شديد: يا إلهي هل هذا يعني نحن يعني أنا وأنت؟

وهنا فتح زوجي المصحف وبالصدفة البحتة فوجد الآية التالية فشعرنا وكأنما أراد الله سبحانه أن يخاطبنا نحن الإثنين فقط حتى لا نقنط من رحمته، وأنه لا يترك عباده الذين يجاهدون فيه وليس لهم من غرض سواه، فيأخذ بأيديهم ويهديهم سبيله، إنه نعم المولى ونعم النصير.

“أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ”[2]

عند ذلك أجهش زوجي بالبكاء، وبالطبع أسقط في يدي أنا أيضا وانهرت باكية من وقع هذه الآية في تلك اللحظة الفاصلة ولفترة ليست بالقصيرة فقدت قدرتي في السيطرة على نفسي أو التحكم في مشاعري، وظللت أبكي بشدة وأنا أردد سبحانك يا إلهي، سبحانك يا ربي، سبحانك يا سيدي، سبحانك يا منقذي، سبحانك يا مالكي… في الحقيقة أنا لم أر أبلغ من هذا الرد الإلهيّ على من يدعي أبديّة الشريعة في كلّ دورة، وردد زوجي الكلام نفسه، وتساءل قائلا: أليس في هذا الخطاب الإلهيّ الموجّه للمؤمنين ” الذين آمنوا” لخير دليل على حتميّة استمرار الرسالات الإلهيّة؟

وهل الاستفهام التعجبيّ الذي انطوى عليه قوله تعالي “ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم” يتضمن الدعوة إلى الإيمان بمن يأتي بعد الرسول الكريم؟

ألا توحي الآية بالدعوة الرحيمة للذين آمنوا بأن يتبعوا الدين الحقيقيّ وهو إسلام الوجه لله والخضوع لإرادته، وما نزّل من الحقّ؟ وأكملتُ: ومَن يقصد بالمؤمنين الذين يوجّه الخطاب إليهم، سواء في هذه الآية أو حتىّ في كلّ آيات القرآن؟

ألا ينفرد الذين آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام بهذا اللقب ولا يطلق أبدا على من سواهم؟ ألا يتضح من عبارة “لا يكونوا” تحذير صريح من أن يتّبعوا الأمم السابقة، فيحيدوا عن الصراط المستقيم؟

وهل في عبارة “طال عليهم الأمد” إشارة إلى رغبة أهل الكتاب في إضفاء الأبديّة على شريعتهم، وفي ادعائهم بصلاحيتها لكلّ زمان ومكان؟

وهنا لفت زوجي نظري إلى الآية التالية في النص السابق

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

قائلا: انظري إلى عظمة التنبيه الإلهي وقوته بقوله أعلموا! من الذين يجب أن يعلموا؟

بالطبع نحن الذين آمنوا، ماذا نعلم؟ أن الله يحي الأرض بعد موتها

فقلت ولكن هذا شيء معروف، فلماذا يطلب منا الله هنا أن نعلمه في هذا السياق؟

فاستطرد زوجي مسترسلا في تأملاته:

هل تعتقدين أن الله يقصد هذه الأرض التي نعيش عليها؟

فقلت: بالطبع لا، وإلا فإن السياق سيكون مقطوعا، لذا فإن الأرض الميتة هنا هي أرض القلوب التي يحيها الله بماء الحياة بتجديد الرسالة الإلهية وما ينزله من الحق كما ذكرت الآية السابقة عليها.

فقال زوجي مؤكّدا: إن ما نراه الآن من مظاهر الفساد في الأرض، وتطويع الدين لأمور شخصية وسياسية، وانعدام الرحمة بين بني البشر وغيبوبة الضمائر إلا في قلة قليلة هي من مظاهر موت القلوب التي طال عليها الأمد وتحتاج إلى أحياء جديد بنزول الفيض الإلهي الذي لا غنى عنه حتى تعود الحياة إليها، فقلت مؤكدة:

بالفعل فإنّ حياة الأمم إذا استنفدت أغراضها واكتملت مهامّها وبلغت قواها المعنويّة إلى منتهاها يسودها الوهن وتضعف عزيمتها، ويختلط عليها أمر الدين فتهجر جوهر تعاليمه وتنشغل عن روح أحكامه، وتتشبّث بظاهرها على نحو يفوّت المقصود منها، ويتحوّل همها إلى المهاترات الدينيّة والخلافات المذهبيّة، وتتكالب عليها النوائب ويحيطها اليأس من كلّ جانب، وتفتنهم الماديات، ويعزفون عن الروحانيّات.

فاستطردت مؤكّدة: أنه عندما تصل الأمم إلى حضيض هبوطها يكون ذلك إيذاناً بمرحلة تجدّد حياتها المعنويّة وتبعث قواها الروحانيّة فلا ينصلح حال الأمم في أواخرها إلاّ بما صلحت به في أوائلها، وتلك هي سنّة الله التي لن تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً.

فقال زوجي: أصبتِ يا عزيزتي، والآن فلننظر حولنا ونتساءل هل بلغ بنا الحال إلى هذا المآل؟

فأجبته: طبعا وأكثر من ذلك، ثم استطردت: إن الله سبحانه وتعالي يختم الآية بتأكيده على أنه يبين الآيات لنا لعلنا نعقل معناها وندرك مغزاها فيقول: “لآيات لقوم يعقلون“، تلك الآية التي تكررت ثمان مرات في القرآن الكريم، وهنا نظرت إلى زوجي متسائلة بحنو:

يا تري هل سنكون نحن من القوم الذين يعقلون بعد كل هذه التأكيدات الإلهية؟

حقا إن أفكارا كثيرة وتساؤلات جمة أثارتها هذه الآية الجامعة المانعة، التي أذابت قلوبنا الغلف وساعدت على إخراجها من أكنّتها وأغلفتها التي بنيت على الظنون والأوهام، فبدأت تبدد ما يُغلّفها من ضبابية الظنون وكثافة الأوهام التي أحاطت عيوننا وغشت عقولنا، وتظهر لنا ما شعرنا بأنه حقيقة واضحة.

لقد كانت هذه الآية الكريمة لنا بمثابة خلاصة القول حقا بما فيها من إيجاز مبدع لجوامع الكلم، لقد وجدنا فيها الدعوة إلى الإيمان، والتحذير من السير في طريق الشيطان، وفيها التحليل الموضوعيّ لأسباب رفض السابقين وهو اعتقادهم بأبديّة الشريعة وصلاحيّة الدين لكل زمان وكل مكان، وقدرة الله على إحياء أراضي القلوب وبعثها من قبور الأبدان.

وهنا بدأنا ندرك ونسلّم بأنّ بعث الإسلام كدين جديد في وقته لم يكن لنقص فيما سبقه من الأديان. ولكن يعود ذلك إلى ما طرأ على قلوب أهل تلك الأديان من قسوة وتحجّر لطول الأمد ومرور الزمان، وعزوفهم الجزئي في بعض الحالات والكلي في كثير من الحالات عن تعاليم الدين، متبعين ما تزيّنه لهم أهواؤهم. وهذا أمر يصدق على أتباع كلّ الأديان، وبالطبع لا يستثنى منه المسلمون. فلا مبرّر إذن للظّن بأنّنا كمسلمين نختلف عمّن سبقونا من البشر، ولقد ذكرني زوجي بما جاء في الحديث النبوي التالي:

قال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا أبو غسان، قال: حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد أن النبي   قال:

“لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه”

فقلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟

قال النبي: فمَن؟ [3]

قلت لزوجي: صحيح فليس أدعى إلى اليأس والقنوط من التضارب والاختلاف في التأويل لآيات الله على نحو يؤدي إلى ضلالة الأجيال المعاصرة من كثرة تنوّعها واختلافها مع الحقائق التي يكتشفها العلم العلوم الحديثة يوما بعد يوم. إن مثل هذه التفاسير، وجلّ ما بين أيدينا اليوم من تأويل يحجب المعاني السامية الكامنة في أصداف الآيات الإلهيّة، ومن ثم أودت بكثير من الناس إلى حالات متفاقمة من اليأس عن فهم الكلمات الإلهيّة ولم ينصرفوا عنها فحسب بل عزفوا بالكلّيّة عن كلّ ما يمتّ إلى الدين بصلة، فزادت موجات الإلحاد في كثير من البلاد.

وهنا عبر زوجي عن اندهاشه مما كنا نعتقد على الرغم من أنّ آيات القرآن الكريم التي كرّرت في أكثر من موضع أنّ هناك تأويل للمتشابهات وأنه آت لا محالة، والغريب أننا لم نفكر كيف سيأتي من دون أن يرسَلَ به رسولٌ مُطاعٌ ثمّ أمين.

لذا قلت له: علينا أن نترك ما فات عنا وليكن همّنا الآن هو الوقوف على هذا التأويل الإلهيّ المعبّر عن مراد الله بيقين لا يتطرّق إليه وهن أو تردد. وفي ذلك بشارة للمؤمن بأنّ الله باعث، بكلّ تأكيد، من يبلّغ إلى الناس مغزى هذا التأويل ومعناه، والله لا يخلف الميعاد، فيكون التأويل آية صدق هذا المبعوث، ودليلا قاطعا على رسالته الموعودة. وهذا ما جاء في عدد من آيات الكتاب التي يبشر فيها الله بمجيء البيان الحقّ للآيات المتشابهات على لسان من يصطفيه الله من خلقه لإبلاغها إلى بني الإنسان. تلك الآيات التي تتلوها أجيال بعد أجيال على مدى قرون طوال وتبقى معانيها خافية في عالم الغيب إلى أن يأتي ميقاتها ويكشف الله سرّها الذي لابدّ وأن يكون على قدر عظيم من الأهمّيّة للحياة البشريّة.

وبتذكرنا لهذا القانون الكونيّ، وطرح هذه السنّة الإلهيّة التي لا مبدّل لها شعرنا بالأمل في رحمة الله. فكما تحيا الأرض الهامدة بنزول غيثه، فتلين القلوب التي قست بنزول كلماته، وتحيا الأرواح التي أماتها طول الهجر بنزول نوره المبين. فقسوة القلوب كما نرى حولنا مظهرها الخارجي هو الفسق والاستهتار بالالتزام الدينيّ واللامبالاة من ناحية، أو المغالاة في التمسك بالقشور والمظاهر السطحية والبعد عن الجوهر، وعلّة هذه الحالات مرور الوقت الطويل الذي ينسي الإنسان مسئولياته وواجباته الدينيّة بل والدنيوية الصحيحة كذلك.

أليس هذا ما علّمه القرآن لقوم يعقلون؟

ألا يكون هذا واحدا من الأسباب الداعية لتتابع الأديان؟

وهل يقبل اليوم إنكار سنّة من سنن الله التي لا تتغيّر بعلل واهية تنسجها عناكب الظنون والأوهام  من دون أدلة قاطعة واضحة يأتي بها الله سواء في القرآن؟

أو حتى في الكتب المقدسة السابقة، مثل اليهودية والمسيحية والتي تدّعي كل منها ختم الرسالات برسالتهم وتصرّ على ذلك على الرغم من تواتر الرسل بعد رسلهم.

ولعلّ غاية أخرى من الغايات العديدة لتتابع الأديان أنّها وسيلة سماوية لتحرير الإنسان من ربق العالم الماديّ الذي تحكمه الطبيعة بفضل ما وهبته الفطرة من وجدان متميّز بالإدراك والمعرفة، ومن ثمّ السموّ به إلى معارج العالم الروحانيّ اللامتناهية.

إذن فتسلسل الأديان يمثّل منهاجا تعليميّا للرقيّ الروحانيّ والتربية الإنسانيّة، فكلّ دين لاحق يزيد في تقدّم ورقيّ الإنسان نحو الكمال الذي لا نهاية له. وشُبهة صلاحية دين معين لكلّ زمان فهي بمثابة إيقاف للخطّة الإلهيّة وإنكار للناموس السماوي الذي وضعته المشيئة العليا لدنوّ عباده من أعتاب الصفات والكمالات الإلهيّة، وهو أمر لا يقبله الوجدان ولا يجد العقل له مبرّراً.

وعندما أدركنا تلك المفاهيم المحيية للأرواح والأبدان قلت لزوجي وأنا في شدة التأثر: لقد تواصلت ظاهرة الأديان المتتابعة من دون توقّف منذ الأزل، ولا يوجد اليوم جديد يرجّح منطقيّا أو علميّا انقطاع هذا التسلسل المنتظم. ولقد أخطأنا بتصديق الافتراض بأن تغيّرا مفاجئا قد طرأ على سنن الله ومناهجه من دون دليل حاسم يستند إليه المروّجون لهذا الافتراض وبدون أن يقدّموا مبررات مقنعة له.

فاستطرد زوجي مؤكدا: صحيح فالكتب المقدّسة مملوءة بذكر الرجعة أو العودة وتدعو أتباعها للانتظار. وحتى في الإسلام فهناك اتفاق على المجيء التالي فالسنة ينتظرون المهدي المنتظر وعودة سيدنا عيسى عليه السلام، والشيعة ينتظرون القائم الموعود وعيسى عليه السلام.

فقلت له: ولكن عند مجيء سيدنا عيسى سيكون هناك اعتراض من المسلمين كما ذكرنا من قبل.

فقال زوجي بشيء من السخرية، طبعا، هل سمعت يا عزيزتي عن رسول من رسل الله أتي وقابله قومه بالترحيب والتكريم؟ ألم يذكر الله سبحانه

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ”[4]

فقلت: طبعا فعلى الرغم من أنّ كلّ أمّة تنتظر مجيء مبعوث إلهيّ، إلا أنها كانت تضع شروطا لهذا المجيء أهمّها ألا يكسر شريعتها على الرغم من صعوبة تطبيقها، وانقضاء وقتها مع اختلاف الزمان وتقدمه. وعلى الرغم من عزوف الناس عن تطبيق الشريعة القائمة لصعوبة القيام بها في ظروف تختلف كثيرا عن الوقت الذي نزلت فيه فيحاولون التغيير فيها، وهذا من العجب العجاب فهم يحرّمون التغيّر على الله باعث الرسل بينما يسمحون لأنفسهم بتغيّر القوانين والأحكام وتعديلها لتتناسب مع العصر وتتماشى مع الزمان. وكأنّهم يعلمون أكثر من المشرّع الأعظم نفسه سبحانه بما يحتاجه الزمان ويتناسب مع المكان كأنهم يعلمون الله بدينهم كما شرحت الآية الكريمة التالية:

“قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”

صحيح أجاب زوجي واستكمل حديثه: وبذلك تظلم كلّ أمّة نفسها، بل وتظلم أكثر الأجيال التالية بعدها بالادعاء بأن رسالات الله قد ختمت في كل دورة، وصدق الله في قوله:

“أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ”[5]

صدق الله العظيم فما كان الله ليظلمنا ولكن ظلمنا أنفسنا بالظن بأن الله يتركنا ويمنع عنا رحمته في الوقت الذي نحن في أمس الحاجة إليها، فهل ما نعيشه اليوم هو الإسلام الذي جاء به سيد المرسلين؟

وهل ما نقوم به من عبادات وإن امتلأت المساجد ينهانا عن الفحشاء والمنكر؟

وهل ما يرتكب من أبشع الجرائم باسم ديننا الحنيف يدعو إلى سبيل الله؟

وفي تلك اللحظو أسقط في أيدينا ولم نطلق العنان لأفكارنا وتساؤلاتنا الكثيرة، وتذكرنا رحمة الله بنا ومعرفتنا بهذا الأمر عن طريق البحث الدؤوب والتفكير العميق.

فقال زوجي: أصبتِ يا عزيزتي، والآن فلننظر حولنا ونتساءل هل بلغ بنا الحال إلى هذا المآل؟

وهنا طلبت من زوجي، بعد أن شعرت بأنه بدأ يقتنع بفكرة استمرارية الرسل، وقلت له: دعنا نتريث بعض الشيء وبشكل موضوعي بعيدا عن العواطف والروحانيات، ونقوم بعملية حسابيّة بسيطة لنعرف مقدار الربح والخسارة في حالة الاعتراف بمجيء دين جديد، أو في حالة عدم الاعتراف به، وخصوصا أن هناك حرية في اعتناق هذا الدين الجديد ويمكن للفرد أن يتركه في اي وقت إذا شابه اي شكوك، فلا يوجد عقاب لمن يؤمن بالدين البهائي ثم يتراجع عن إيمانه لأي سبب من الأسباب، لأنهم يعتقدون بأنه لا يوجد من يحق له أن يحاسب إنسانا على علاقته بالله.

فقال زوجي بشيء من الدهشة: ماذا تقصدين بعملية حسابيّة؟

وما دخل الدين بالحساب في موضوعنا هذا؟

فقلت: بعد كل تلك الأدلة سواء العقليّة منها أو النقليّة والتي أكدت سنة الله التي لا تتبدل ومنها إرسال الرسل، فنقول لو نحن آمنا بهذا الدين وبدأنا في تطبيق شريعته فماذا ستكون خسارتنا؟

قال زوجي على الفور: طبعا ما دامت الشريعة مختلفة فستكون العبادات مختلفة، مثل الصلاة والصيام وباقي أركان الإسلام.

قلت: كما نعرف بأن أركان الإسلام خمسة وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، والحمد لله نحن نشهد بذلك بل ونؤمن به إيمانا كاملا، ولن تتغير هذه الشهادة وهذا الإذعان طيلة حياتنا، ثم الصلاة، والصيام، والزكاة، وتلك الأركان الثلاثة موجودة في كل الأديان ولكن تختلف طريقتها

فقال: لذا لو اتبعنا الطريقة الجديدة في تطبيق العبادات فستكون مختلفة ويكون الحكم بأننا من تاركي هذه العبادات الثلاث في الإسلام. فقلت له: أليس من يترك أداء هذه العبادات يكون مسلما عاصيا؟

قال: نعم وما أكثر العصاة في وقتنا الحالي.

فاستطردت: أما فريضة الحج على الرغم من أنها لمن استطاع إليه سبيلا مرة واحدة في العمر، والحمد الله قمنا بها.

قال: صحيح

قلت: ولكن إذا نظرنا إلى الجانب الثاني وهو رفض الرسالة الجديدة أو تكذيبها والعزوف عنها، ثم مع الوقت تتضح صحتها في تلك الحالة سنكون من الذين كفروا، أليس كذلك؟

صرخ زوجي بانفعال شديد: وقال أعوذ بالله من هذا القول، ما هذا الهراء والتخريف؟

أجبته بانفعال أكثر: هذا بالفعل ما ذكره الحديث الذي ذكرناه آنفا بأن الإنسان يكون بينه وبين الجنة خطوات فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وأي عمل هذا الذي ينقل الإنسان هذه النقلة الخطيرة سوي الكفر؟

في تلك اللحظة تذكّر الآية 150 من سورة النساء وبدأ يتلوها بصوت متهدج جعلني أبكي بحرقة وخوف شديد من سوء عاقبتنا

“إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا”[6]

ثم أردف بعد تلاوتها قائلا:

هل تعرفين بأن هذه هي الآية الوحيدة التي ذكرت فيها عبارة “الكافرون حقا” وهم كما توضحها الآية أولئك الذين يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون بالبعض الآخر.

قلت: وكأنني أسمع هذه الآية لأول مرة، فكثير من الناس يعتقدون أن الكفر هو إنكار وجود الله، ولكن في الحقيقة هو إنكار الرسل، فالذين ينكرون وجود الله هم الملحدون، فكما جاء في الآية الأولي من سورة البينة “لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين…”

سألته معقبة: وهل هناك آية تشتمل على عبارة “المؤمنون حقا”؟

قال زوجي: نعم، جاءت تلك العبارة مرتين في سورة الأنفال فقط:

“الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ”[7]

“وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ أوواْ وَّنَصَرُواْ أولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ”[8]

[1]  سورة الزخرف، الآيات 57، 58، 59.

[2]  سورة الحديد، الآيات 16، 17.

[3]  رواه الشيخان

[4]  سورة البقرة، آية 87.

[5]  سورة التوبة، آية 70.

[6]  سورة النساء، الآيات 150، 151.

[7]  سورة الأنفال، آية 4.

[8]  سورة الأنفال، آية 74.

 

انفطار السماء وتصدع الجبال وانهيار السدود

في تلك اللحظات كان الليل قد أرخى سدوله وبلغ بنا التعب والإرهاق مبلغة، وكان الناس حولنا في تلك الجزيرة الصغيرة يغطون في نوم عميق، إلا أننا شعرنا في تلك اللحظات بقوة فياضة توقظ كينونتنا وتزيل الغشاوة عن عيوننا وتمسح دموعنا وتربت على أكتافنا بل تشملنا بحنو لا يمكن أن يصفه إنسان، فتبدل ما كنا نعانيه من حيرة وخشية من العصيانإلى شعور منعش من التسليم والاطمئنان، يا إلهي الشعور نفسه الذي وصفه الله في آياته:

“…وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ”[1].

في تلك اللحظة الحاسمة فقط قررنا بكل خضوع وخشوع وتوسل وابتهال الإذعان لإرادة الله العزيز المنان وأن تخشع قلوبنا لذكر الله وما نزل من الحق، وأن نعلن إيماننا ونسلم وجوهنا لله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

وفي تلك اللحظة تساءلت كيف سنعلن أيماننا، وما هي الطقوس المتبعة في الدين الجديد لهذا الإعلان؟

كان الوقت متأخرا في الليل، وكان من الصعب أن نخرج السيارة لنذهب إلى أصدقائنا لأن صاحب المنزل يضع سيارته خلف سيارتنا في مدخل العمارة التي كنا نسكنها، ولا يمكن أن نوقظه من النوم كي نخرج سيارتنا، وليس في الشقة تليفون لنتصل بسمية لنسألها فما هو الحل؟

فأجاب زوجي بكل بساطة، كعادته في تبسيط الأمور: لا بأس نذهب إليهم في الصباح لنعرف ماذا يجب أن نفعل؟

فصرخت فيه بانزعاج شديد: لا لن أنتظر حتى يأتي الغد بل سأعلن إيماني الآن وقبل أن توافينا المنية ونحشر مع القوم الكافرين.

فنظر إليّ زوجي بحنو شديد وربت على كتفي وقال معك حق فالأعمار بيد الله وردد:

“… وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[2]

لذا قررنا أن نعلن إيماننا على غرار الإسلام فاغتسلنا وارتدينا ملابسنا التي نتبارك بها لأننا غسلناها بماء زمزم في العمرة التي قمنا بها منذ فترة قصيرة، وذهبنا إلى شرفتنا الجميلة وأعلنّا بصوت عال ولكنه كان متهدجا من شدة البكاء:

(أشهد أنّ لا إله إلا الله وأنّ سيّدنا محمدا رسول الله وأن حضرة الأعلى المبشر رسول الله، وأن حضرة بهاء الله رسول الله)

في تلك اللحظات المصيرية انتابتنا رعشة شديدة، وأجهشنا بالبكاء بصوت مرتفع، ونسينا بأن لنا جيرانا قد يصيبهم الهلع أو الانزعاج عندما يسمعون أصواتنا.

لقد كانت جد لحظات مهيبة، وكأنما السماوات كادت أن تنفطر من حولنا، والأرض رجت رجا وكأنها تميد من تحت أقدامنا، ومرت الجبال مرور السحاب، وكأن الكون بأسره يتجاوب معنا مرددا لصدي أصواتنا، وكأنه كان شاهدا معنا على انبثاق روح الإيمان في قلوبنا وإعادة الحياة لأرواحنا، شعور رهيب مهيب ولكنه رائع في الوقت نفسه، ولا يمكن لأي كلمات أن تفي بوصفه، ولا توجد عبارات في اي لغة من اللغات يمكنها أن تسبر غوره، نغمات سماوية وترنيمات إلهية جعلتنا نحلق في السماوات الطباق، ونفحات ربانية أسبغت علينا شعورا غامرا بالاطمئنان وسكونا وهدوءا وسلاما، وشملتنا فرحة الوصول إلى بر الأمان،  فما كان والله مرادنا إلا أن نستظل بظل الله يوم لا ينفع ظل إلا ظله لنستريح في جوار رحمته الكبرى بعد أن كنا تائهين في بيداء الحيرة والهجران.

لقد غمرتنا نسائم الطمأنينة والسلام التي كنا قد افتقدناها، وأدركتنا الرحمة الإلهية التي لم ولن تتركنا أبدا، حتى لو كنا مخطئين، فهو سبحانه يعلم أننا ما أردنا إلا وجهه الكريم، وليس لنا مطلب سوى رضاءه في هذا المشهد العظيم.

وفي ذلك الحين ذهبنا إلى الفراش مغبوطين، ونمنا قريرين نوما عميقا لم تشهده عيوننا منذ سمعنا أول مرة ذلك النبأ الذي أطار النوم من عيوننا وسلب الراحة من حياتنا.

شعرنا بأنه لا خوف على مستقبلنا أو على مستقبل أولادنا، ورددنا الآية التي كانت شعارنا في الحياة ولا تزال، فنحن نؤمن بها من أعماق قلوبنا، ونثق بتحققها وهي:

” وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا”[3]

بعد أن تأكدنا من القرآن الكريم فقط بأن سنة الله ليس لها من تبديل ولا تحويل، فهو مرسل الرسل لهداية عباده قررنا التعرّف على الدين الجديد وهو الدين البهائي، وبدأنا في تحري حقيقته ومبادئه التي جاء بها، ومدى حاجة البشرية إلى مثل هذه المبادئ، وتاريخه، وماذا حقق هذا الدين منذ مجيئه؟ وما تأثيره في نفوس العباد؟ وما التغيير الذي أحدثه في هذا العالم؟ وهل هناك تطبيق لهذه المبادئ على أرض الواقع أم لا؟

سوف أتطرق إلى بعض التفاصيل في الصفحات التالية، وكيف قمنا بالبحث للتأكد من حقيقة الدين البهائي وأحقيته، وإلا ما كنا اتبعناه، ويكفينا اليقين الذي غمر قلوبنا وجعل الدنيا بكل ما فيها من مال وجاه وشهرة وغيره تصغر في عيوننا، ذلك اليقين الذي جعلنا نتحمل القهر والحرمان، والسجن والهوان، حقا إن فترة السجن لم تكن طويلة فقد أخرجونا بعد عشرة أيام، بعد أن ثار بعض الكتاب المنصفين وكتبوا في الجرائد بشجاعة عن انزعاجهم الشديد للزج في السجن بفنان كبير مثل الفنان حسين بيكار، رحمه الله، ذلك الفنان المعروف بدماثة أخلاقه ونبل مبادئه، والحائز على جوائز عالمية ووطنية ومنها جائزة الدولة التقديرية، الزج به في السجن من أجل عقيدته وإيمانه، لذا كنا من المحظوظين فأفرج عنا جميعا بعد أن علت صيحات المنصفين من أبناء هذا الوطن العظيم. وتم الحكم في هذه القضية بالبراءة من التهم المنسوبة إلينا.

إنني أكتب هذه القصة بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما على خروجنا من السجن.

وبالعودة إلى قصة رحلتنا من الإيمان إلى الإيقان، فبعد أن وصلنا إلى حقيقة قاطعة وحاسمة بتأكيد القرآن الكريم والكتب السماوية السابقة بأن رسالات الله لا تنقطع أبدا ولها ميقات مسطور، وبأن رحمته الواسعة تشمل عبادة في كل وقت وفي كل حين.

بعد وصولنا إلى الحقيقة واعترفنا باستمراية الغوث الإلهي، كانت الخطوة التالية هي التعرف على الدين الجديد، الدين البهائي، وهل هو حق من عند الله أم لا؟

وهل حقا أن حضرة بهاء الله هو موعود جميع الأديان؟

وهل هذا هو يوم الله الجديد والنبأ العظيم الذي تنتظره البشرية جمعاء تحدث عنه القرآن الكريم في أكثر من موقع؟

بالطبع لم نحاول التعرّف بعمق على هذا الدين الجديد إلا بعد أن تأكدنا من القرآن الكريم فقط بأن سنة الله هي توالي إرسال الرسل، وأنه ليس لسنته سبحانه من تبديل او تحويل، فهو مرسل الرسل لهداية عباده وبناء على ذلك كانت مسؤوليتنا الأولي هي التعرّف على الدين الجديد، وضرورة تحري حقيقته ومبادئه التي جاء بها، ومدى حاجة البشرية إلى مثل تلك المبادئ الجديدة، وتاريخ الدين وأحداثه من المصادر الموثوق بها، ثم ماذا حقق هذا الدين منذ مجيئه؟

وما هو تأثيره في نفوس العباد؟

وما التغيير الذي أحدثه في العالم منذ نزوله؟

وهل هناك تطبيق لهذه المبادئ على أرض الواقع أم هي مجرّد شعارات؟

لقد فوجئنا بأن هناك صلوات أخرى وصياما آخر، وباختصار شديد فهي شريعة جديدة تتناسب مع الزمن الذي نعيش فيه، فالعبادات والمعاملات هي الجزء المتغير في جميع الديانات وهنا تذكرت قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[4].

كما فوجئنا بأن القبلة تغيرت وعادت إلى ما كانت عليه من قبل، فساورنا القلق بعض الشيء ولكن سرعان ما تذكرنا قصص تغيير القبلة وزرنا بأنفسنا المسجد ذي القبلتين في مكة، وتذكرنا ما أصاب المؤمنين من حيرة وما أثاره اليهود من لغط آنذاك، وهنا لمعت في أذهاننا الآية المباركة:

لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[5]

في تلك اللحظات الحاسمة في حياتنا كان علينا أن نفكر في أمور كثيرة خاصة بعد عودتنا إلى مكان إقامتنا في الخليج انتهاء الإجازة، نفكر كيف سيكون موقفنا بالنسبة لعملنا، وبالنسبة لعلاقتنا بأسرتي وأسرة زوجي، وخاصة من كانوا يعيشون في البلد نفسه التي نعيش فيها.

كان أبي وأمي وأختي يسكنون في شقة منفصلة في المبنى الذي كنا نسكنه، وأخي وأسرته وأخو زوجي وأسرته كانوا يسكنون على مسافة ليست بعيدة عن بيتنا. وكنا نسكن أمام المسجد حتى يتمكن زوجي من الذهاب إلى المسجد في الصلوات الخمس وخاصة صلاة الفجر.

لقد كنا بلا شك نشعر باضطراب شديد عند عودتنا إلى البيت وكنا نشعر وكأننا خلقنا من جديد، ولن أنسى أبدا تلك اللحظات الرهيبة التي مررنا بها بعد وصولنا  من المطار إلى باب منزلنا في نفس اللحظة التي ارتفع فيها الآذان لصلاة المغرب …الله أكبر الله أكبر….وإذا بزوجي يلقي بالحقائب التي كانت في يده ويستدير متجها إلى المسجد، فتوقفت في دهشة وذهول تام ولم انبس ببنت شفة، ورأيته يمشي ببطيء شديد بضع خطوات ثم توقف وانهار باكيا، فاحتضنته وأنا أجهش بالبكاؤ ودفعته بسرعة إلى داخل المنزل قبل أن يرانا أحد، ويتساءل ما هو الخطب؟ أو ماذا دهانا؟

ثم بدأ زوجي يحكي لي ما شعر به، فذكر أنه عندما سمع الأذان لأول مرة  بعد عودتنا نسي كل شيء ووجد نفسه ذاهبا إلى المسجد كما كان يفعل، ولكن بعد لحظات مرت عليه كالدهور ارتسمت أمامه قصة سيدنا إبراهيم عندما رأي في المنام بأن الله أمره ان يذبح ابنه إسماعيل،  وعلى الرغم من صعوبة الموقف إلا أنه عليه السلام انصاع لأمر الله وهم بذبح فلذة كبده، فإذا بالرحمن الرحيم يفدي إسماعليل عليه السلام بذبح عظيم، وهذه هي العبرة التي يجب أن نأخذها وهي الطاعة والتسليم كما توضح الآية التالية أهمية الإسلام لله:

“وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً[6]

ونظر إلىّ زوجي ومن بين دموعه وأخذ يقول: فمن خلال القرآن الكريم وصلنا والحمد لله إلى الحقيقة التي سأظل أرددها ما حييت بأن الله لن يترك الإنسان بدون إرشاد ورعاية، وبأن رسالات الله لا تنقطع، وبأن لكل أمة أجل ولكل أجل كتاب، وقد جاء الميقات لبزوغ يوم جديد من أيام الله وأن لهذا اليوم كتاب جديد وشرع جديد لذا كان لزاما علينا أن نستسلم للإرادة الإلهية ونسلم وجهنا إلى الله ونحن محسنين.

ولن أستطيع ما حييت أن أصف تأثير النص المقدس التالي في نفوسنا فقد كان عونا لنا في فهم مغزى هذا اليوم الجديد إذ وضع النقاط على الحروف، وساعدنا على إدراك عظمة هذا اليوم.

” أَيُّهَا الْمُتَوَجِّهُ إِلَى أَنْوَارِ الْوَجْهِ قَدْ أَحَاطَتِ الأوهَامُ عَلَى سُكَّانِ الأَرْضِ وَمَنَعَتْهُم عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى أُفُقِ الْيَقِينِ وَإِشْرَاقِهِ وَظُهُورَاتِهِ وَأَنْوَارِهِ. بِالظُّنُونِ مُنَعُوا عَنِ الْقَيُّومِ يَتَكَلَّمُونَ بِأَهْوَائِهِم وَلاَ يَشْعُرُونَ. مِنْهُم مَنْ قَالَ هَلْ الآيَاتُ نُزِّلَتْ قُلْ إِي وَرَبِّ السَّمَواتِ وَهَلْ أَتَتِ السَّاعَةُ بَلْ قَضَتْ وَمُظْهِرِ الْبَيِّنَاتِ. قَدْ جَاءَتِ الحَاقَّةُ وَأَتَى الحَقُّ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ. قَدْ بَرَزَتِ السَّاهِرَةُ وَالْبَرِيَّةُ فِي وَجَلٍ وَاضْطِرَابٍ. قَدْ أَتَتِ الزَّلاَزِلُ وَنَاحَتِ الْقَبَائِلُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ الْمُقْتَدِرِ الْجَبَّارِ. قُلِ الصَّاخَّةُ صَاحَتْ وَالْيَوْمُ للهِ الوَاحِدِ المُخْتارِ. وَقَالَ هَلِ الطَّامَّةُ تَمَّتْ قُلْ إِي وَرَبِّ الأَرْبَابِ. وَهَلِ الْقِيَامَةُ قَامَتْ بَلْ الْقَيُّومُ بِمَلَكُوتِ الآيَاتِ. هَلْ تَرَى النَّاسَ صَرْعَى بَلَى وَرَبِّي الْعَلِيِّ الأَبْهَى. هَلْ انْقَعَرَتِ الأَعْجَازُ بَلْ نُسِفَتِ الْجِبَالُ وَمَالِكِ الصِّفَاتِ. قَالَ أَيْنَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ قُلْ الأولَى لِقَائِي وَالأُخْرَى نَفْسُكَ يَا أَيُّهَا الْمُشْرِكُ الْمُرْتَابُ. قَالَ إِنَّا مَا نَرَى الْمِيزَانَ قُلْ إِي وَرَبِّي الرَّحْمَنِ لاَ يَرَاهُ إِلاَّ أولُوا الأَبْصَارِ. قَالَ هَلْ سَقَطَتِ النُّجُومُ قُلْ إِي إِذْ كَانَ الْقَيُّومُ فِي أَرْضِ السِّرِّ فَاعْتَبِرُوا يَا أولِي الأَنْظَارِ. قَدْ ظَهَرَتِ الْعَلاَمَاتُ كُلُّهَا إِذْ أَخْرَجْنَا يَدَ الْقُدْرَةِ مِنْ جَيْبِ

الْعَظَمَةِ وَالاقْتِدَارِ. قَدْ نَادَى الْمُنَادِ إِذْ أَتَى الْمِيعَادُ وَانْصَعَقَ الطُّورِيُّونَ فِي تِيهِ الْوُقُوفِ مِنْ سَطْوَةِ رَبِّكَ مَالِكِ الإِيجَادِ. يَقُولُ النَّاقُورُ هَلْ نُفِخَ فِي الصُّورِ قُلْ بَلَى وَسُلْطَانِ الظُّهُورِ إِذِ اسْتَقَرَّ عَلَى عَرْشِ اسْمِهِ الرَّحْمَن. قَدْ أَضَاءَ الدَّيْجُورُ مِنْ فَجْرِ رَحْمَةِ رَبِّكَ مَطْلِعِ الأَنْوَارِ. قَدْ مَرَّتْ نَسَمَةُ الرَّحْمَنِ وَاهْتَزَّتِ الأَرْوَاحُ فِي قُبُورِ الأَبْدَانِ كَذَلِكَ قُضِيَ الأَمْرُ مِنْ لَدَى اللهِ الْعَزِيزِ الْمَنَّانِ. قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَتَى انْفَطَرَتِ السَّمَاءُ. قُلْ إِذْ كُنْتُمْ فِي أَجْدَاثِ الْغَفْلَةِ وَالضَّلاَلِ. مِنَ الْمُشْرِكينَ مَنْ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَيَنْظُرُ الْيَمِينَ وَالشِّمَالَ قُلْ قَدْ عَمِيتَ لَيْسَ لَكَ الْيَومَ مِنْ مَلاذٍ. مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَلْ حُشِرَتِ النُّفُوسُ قُلْ إِي وَرَبِّي إِذْ كُنْتَ فِي مِهَادِ الأوهَامِ. مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَلْ نُزَّلَ الْكِتَابُ بِالْفِطْرَةِ قُلْ إِنَّهَا فِي الْحَيْرَةِ اتَّقُوا يَا أولِي الأَلْبَابِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَحُشِرْتُ أَعْمَى قُلْ بَلَى وَرَاكِبِ السَّحَابِ. قَدْ زُيِّنَتِ الْجَنَّةُ بِأورَادِ الْمَعَانِي وَسُعِّرَ السَّعِيرُ مِنْ نَارِ الْفُجَّارِ. قُلْ قَدْ أَشْرَقَ النُّورُ مِنْ أُفُقِ الظُّهُورِ وَأَضَاءَتِ الآفَاقُ إِذْ أَتَى مَالِكُ يَوْمِ الْمِيثَاقِ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ ارْتَابُوا وَرَبِحَ مَنْ أَقْبَلَ بِنُورِ الْيَقِينِ إِلَى مَطْلِعِ الإِيقَانِ”[7]

 

لحسن الحظ أن أبي وأمي وأخو زوجي كانوا يقضون إجازتهم الصيفية ولم يعودوا إلا بعد أسبوع من عودتنا، فكانت هذه فرصتنا الذهبية لننقل في شقة أخرى بعيدة عنهم، حتى لا يلاحظون التغيير الجذري الذي أصابنا، فنحن لا نريد أن نخبرهم بما وصلنا إليه قبل أن نتأكد أولا عن حقيقة ذلك الدين، وأن نكون واثقين به تماما وليس لدينا ذرّة شك في أي جانب من جوانبه، وثانيا فنحن لا نعرف ماذا سيكون رد الفعل عندما يعلمون بأننا نؤمن بدين جديد وخصوصا لأنهم يثقون بنا ثقة تامة ويعتبرون أننا المرجع الدينيّ لهم.

وهنا تحققت الآية:

“يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[8]

لقد تم الفرار بديننا الجديد من الأخ والأم والأب حتى نتحقق ونتأكد من أنه دين صحيح من عند الله.

لقد فوجئ الجميع حين عودتهم بانتقالنا إلى منزل بعيد عنهم، وبالطبع بررنا لهم ذلك برغبتنا في أن يكون السكن قريبا من مقر عملنا ومن مدارس أولادنا. وعلى الرغم من أن هذا النقل تسبب في زيادة الأعباء علينا، حيث كانت أمي تساعدني كثيرا في إعداد الطعام ورعاية الأولاد حتى أعود من عملي، ولكن من أجل الوصول إلى الحقيقة كان لزاما علينا أن نتحمل ذلك حتى نستكمل بحثنا ونصل إلى اليقين الكامل بأن هذا الدين من عند الله.

بدأنا نلتهم الكتب البهائية التهاما ليلا ونهارا، وكان ذلك في سرية تامة حتى يأتينا اليقين قبل أن نخبر الأهل بهذا البعث الجديد، وعملنا بالنصيحة التالية من كتاب الله

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[9]

لقد كان التحدي الذي يواجهنا في تلك المرحلة هو التأكد كما ذكرت آنفا من حقيقة هذا الدين الجديد، لذا قررنا ألا نتحدث مع أي إنسان على الأرض عما توصلنا إليه في بحثنا عن الحقيقة، إلا بعد أن نكون قد وصلنا إلى درجة كافية من اليقين بأن الدين البهائي هو دين الحق وأنه من عند الله، وأنه هو الذي وُعدنا به ليس في القرآن الكريم فقط، بل في الكتب السماوية السابقة.

ومن ثمّ وصعنا فرضيات كثيرة وأسئلة أكثر لنصل إلى نتائج سليمة من خلال البحث والدراسة المتعمقة إلى حقيقة هذا الدين.

بالطبع  لقد أخذ ذلك منّا وقتا ليس بالقليل، وكان كل يوم يمر علينا نزداد يقينا، حقا فما أعظم تأثير الكلمة الإلهية في القلوب والنفوس، فهي الكلمة الخلاقة التي تبدّل الظلمات بالنور، والحيرة باليقين والضعف بالقوة والخوف بالطمأنينة والسلام.

لقد وضعنا أنا وزوجي النتائج التي توصلنا إليها من خلال بحثنا في الكتب المقدسة وفي كتب الدين البهائي لتكون عونا لكل باحث عن الحقيقة في كتاب بعنوان “جنة الكلمة الإلهية”[10]. احتوى هذا الكتاب علي بابين، وخمسة ملاحق، اشتمل كل باب على خمسة فصول.

الباب الأول بفصوله الخمس تم فيه معالجة الموضوعات التالية:

الكلمة الإلهية؛ سماتها، وتأثيرها، وأساليبها، وصورها، والعقبات التي تحول دون فهمها.

والتأويل، والخاتمية، وأبدية الشريعة.

أما الباب الثاني فقد تم فيه معالجة الموضوعات التالية:

أيام الله ولقاؤه، الدين وحاجة البشر إليه، المباديء البهائية، ومضات من تاريخ الدين البهائي، نبذة عن المجتمع البهائي العالمي والتطبيق العملي للدين ومبادئه في العالم.

[1]  سورة الحج، آية 5.

[2]  سورة لقمان، آية 34.

[3]  سورة الطلاق، الآيات 2، 3.

[4]  سورة البقرة، آية 183.

[5]  سورة البقرة، آية 177.

[6]  سورة النساء، آية 125.

[7]  بهاء الله، الإشراقات، الألواح المنزلة بعد الكتاب الأقدس.

[8]  سورة عبس، الآيات 34، 35، 36، 37.

[9]  سورة الحجر، الآيات 98، 99.

[10]  كتاب جنة الكلمة الإلهية، ، الطبعة الأولي، دار الفرات، بيروت، 2011.

الطبعة الثانية، دار الساقي، بيروت، 2014.

مسك الختام

المصارحة

بعد تعمق كبير وبحث مستفيض وبعد أن شعرنا بالطمأنينة واليقين بأننا نسير في طريق الله، بدأنا نفكر في مصارحة عائلاتنا. وكانتت البداية مع أولادنا الثلاثة؛ ابنتنا الكبرى حنان التي كانت في الثانية عشرة من عمرها، وقد اعترضت في أول الأمر، أما حازم فكان في التاسعة من عمره، وحاتم كان في السادسة من عمره.

ثم تحدثنا مع والدي والدتي، ثم بقية أفراد الأسرتين من الأخوة والأخوات، ثم الأصدقاء.

لقد تباينت ردود الفعل فكان البعض ما بين مكذّب وبين مصدّق، والبعض الآخر كان إما صامتا أم غاضبا، والبعض الثالث ما بين شبه موافق أو معارض. ومنهم من آثر القطيعة والبعد عنا حتى يهدينا الله مرة ثانية ونعود إلى ما كنا عليه من قبل وهو دين الآباء والأجداد الذي ولدنا عليه ويجب أن نموت عليه أيضا.

لذا طلبت من بعض أفراد العائلة سواء من أسرتي ومن أسرة زوجي كتابة بعض السطور عن رحلتهم الإيمانية باختصار، وليعبر كل منهم فيها بقلمه عن أحاسيسه ومشاعرة، وأفردت لك واحد منهم فصلا في الصفحات التالية

قد يجد القاريء بعض الأمور التي تكررت في أكثر من قصة لأن كل منهم كان يحكي عن رحلته بكل صدق وأمانة، ويشرح أحاسيسة ومشاعرة في رحلة عمر غيرت مجرى حياة كل واحد منهم.

رحلة حنان الابنة الكبرى

عندما طلبت مني أمي أن أكتب عن تجربتي الإيمانية، شعرت بالحيرة. فأنا لم يكن لدي قصة لأرويها، ولكن في ذاكرتي أحداث دارت ومشاعر جاش القلب والوجدان بها.

إن ذكرياتي تبدأ من منزل جدي الحبيب والذي انطبع في ذاكرتي بابتسامته البشوشة التي كانت تملأ دنياي وأنا طفلة صغيرة وصوته الرخيم عندما كان يقرأ القرآن الكريم في آناء الليل وحتى آذان الفجر. لا زلت أذكر صوت تلاوته للقرآن الكريم والذي ما إن سمعته إلا وقمت أركض إليه لأتربع في أحضانه وأضع رأسي على صدره لأنعم بالدفء والحنان والسكينة التي لا يضاهيها اي شعور. لقد كنت أتوق دائما لمثل تلك اللحظات وعندما كنت أسأله لماذا لا ينام؟ كان يقول لي أنه يحب أن يخاطب الله في سكون الليل، فكنت أحبّ أن أكون معه في تلك اللحظات وأنعم معه بالتخاطب مع الله.

منذ صغرنا، حرص والدانا الحبيبان أن يزرعا فينا حب الله وحب تلاوة القرآن، والتسابق إلى حفظ الأجزاء ومن ثم ترتيلها أمام جدي الحبيب الذي كان يسعد بذلك ويغمرنا بالتشجيع والإطراء.

إنني أتعجب أحيانا وأتساءل أحيانا أخرى: كيف استطاعت أمي وأبي أن يغرسوا فينا هذا الحب للصلاة وقراءة القرآن.

وكيف كنا نتطلع لشهر رمضان الذي كانت متعتنا فيه أن نذهب للمسجد عقب الإفطار لإقامة صلاة التراويح، فقد كان أبي يصطحب أخويي وأنا أذهب مع أمي.

وأعجب أيضا كيف كنا نهبّ بطريقة طبيعية لآداء الصلاة فور سماعنا للآذان أثناء مشاهدتنا لبرامج التلفزيون مقلدين لوالدي حتى أخي الطفل الصغير كان يفعل ذلك.

لقد غرسا فينا هذا الوازع الديني المبني على التحبيب في الدين وفي المناسك، وليس على الترهيب أبدا، وهذا يجعلني أشعر بالامتنان الشديد، والاعتراف بعجزي الكامل عن أداء الحمد والشكر لله جلّ وعلا، وأنني لو عكفت عمري كله على توحيده وتنزيهه فلن أوفيه حقه بما مَنّ علينا بنعمة حبه سبحانه حبا لذاته وابتغاء لمرضاته وليس طمعا في جنته أو خوفا من ناره، بل حب شريف طاهر لأنه هو أهل لذاك.

كم فرحت عندما أخبرتني أمي أننا سنسافر مع أصدقائنا الذين كبرنا معهم وتربينا في صحبتهم إلى إحدى جزر البحر المتوسط وكان هذا بمثابة تجربة فريدة بالنسبة لي ولأخوي لأنه لم يسبق لنا السفر إلى أية بلد أجنبية من قبل.

وأثناء إعداد الحقائب أكد والدي علينا أن لا ننسى أخذ نسخنا من القرآن حيث كان لكل منا أنا وأخوي اللذين يصغراني بعدة أعوام نسخته الخاصة من القرآن الكريم، بالإضافة إلى سجادة الصلاة الخاصة به أيضا، وقد أوضح لنا أبي أن علينا أن نغتنم هذه الفرصة للعبادة سويا كعائلة، وعلينا أن نستعد لاستقبال شهر رمضان المبارك في هذه البلد الغير إسلامية، فعلى الرغم من أننا ذاهبون للتمتع بهذه العطلة في هذه الجزيرة ولكن علينا أن لا ننسى حق ديننا وحق عبادة الله.

كان عمري في ذلك الوقت اثنتي عشرة عاما وكنت دوما في غاية الإعجاب بزي الحجاب الذي ترتديه أمي ولطالما ألححت عليها أن تسمح لي أن أرتدي الحجاب لأكون في جمالها وأناقتها ولكنها كانت تقول لي أن الوقت لم يحن بعد، وكم كانت سعادتي عندما قالت لي أمي وأنا أعد حقيبتي: ضعي كل ما تحبين من ملابسك الحالية لأنك لن تحتاجيها بعد رجوعنا من هذه العطلة، فقد آن الأوان لأعد لك ملابس جديدة للبنات الكبار، ونظرت إلى وهي تبتسم وتقرأ انفعالاتي عند سماع هذا الكلام ثم احتضنتني وغادرت الغرفة. لقد كنت بالفعل أتطلع شوقا لهذا اليوم الذي يمكنني أن أحتذي بوالدتي الجميلة وأرتدي الحجاب مثلها.

أثناء تلك الرحلة كنا نرى أمي وأبي يقضون الساعات والساعات في شرفة شقتنا التي استأجراها، يقرآن آيات القرآن مع طنط سمية ويتناقشان معها ويتبادلان الآراء أحيانا بغضب وأحيانا بسخرية وأحيانا بالدموع. وكنا نحن الأطفال نحاول أن نشغل أنفسنا ببعض الألعاب إلا أننا كنا نشعر بالملل الشديد أحيانا، فلم يكن أبدا في مخيلتنا أن هذه الرحلة ستكون على هذا المنوال. كنا ننتظر أن نذهب إلى شواطئ البحر والأماكن الترفيهية التي وُعِدنا بها قبل سفرنا، ولكن طال انتظارنا بغير جدوى ولا ندري ما هو ذلك الأمر الجلل الذي أصبح يشغل والدينا إلى هذه الدرجة، بل ما كنا نعلم أنهم من الممكن أن ينسونا بالكلية هكذا، فعلى الرغم من أن أبي كان يوقظنا يوميا قبل صلاة الفجر لنقرأ شيئا من القرآن، ثم يؤمنا لصلاة الفجر حاضراً كعائلة، ثم يتركنا لننامذ، أما هو وأمي كانا يقضيان الساعات والساعات في قراءة القرآن وكتابة الأوراق استعدادا لزيارة طنط سمية والتي كانت تطول فتستمر يوميا حتى الليل، حتى أننا كنا نخلد للنوم وهم لا زالوا يتكلمون، ويتحاورون، تتعالى أصواتهم أحيانا ثم يصمتون، آنا كانوا يبكون، وآنا آخر كانوا يضحكون. وكنت أتساءل في نفسي، ماذا دهاهما ياتُرى؟ وما الخطب الذي أصابهما؟

وفي أحد الأيام دعتني أمي وسألتني: حنان من الذي علمك القرآن؟

ومن الذي علمك الصلاة والصيام؟ قلت: أنت وأبي.

فقالت لي: هل لديك شك في أننا مخلصين لله ونحبه ونبحث عن طريقه دوما؟

فقلت لها بدون تفكير: طبعا لا.

فقالت لي: أذا قلت لك أننا جاهدنا في الله طوال سنين حياتنا ولم نرد سوى رضاءه في كل خطوة من خطوات حياتنا فهل توافقين على ذلك؟

قلت لها: نعم بالطبع

فاستطردت: وإذا قلت لك أن الله قد استجاب لدعائنا وأنعم علينا بالهداية إلى طريقه وعرّفنا أن رسالاته مستمرة ولا تنقطع أبدا فهل تصدقين ذلك؟

قلت: نعم، فنظرت إلىّ وعيونها مملوءة بالدموع ثم قالت بعد لحظات صمت خلتها الدهر:

لقد عرفنا بعد بحث طويل بأن هناك رسالة جديدة جاء بها رسول جديد بعد سيدنا محمد وعلينا أن نتبع شريعته. فهل تثقين فيما توصلنا إليه في بحثنا؟

نظرت إلى أمي وكلي حيرة وشعرت أنني لم أستوعب ما تقول فقلت لها بشيء من الانزعاج: ولكنكم على دين سيدنا محمد؟

فأجابت بسرعة: طبعا يا حبيبتي نحن على دين سيدنا محمد وكتابنا القرآن ولأننا نتبع كل ما جاء في القرآن فقد توصلنا أن هناك رسالة جديدة بشريعة جديدة ورسول جديد بعد سيدنا محمد!!!!؟؟؟،

وبعد لحظات أطول من السكون والصمت استطرَدَت: وعلينا أن نتبعه كجزء من طاعتنا لسيدنا محمد، ولما جاء في القرآن.

فجأة شعرت بأن رأسي يدور وانتابني شعور شديد بالذعر بل بالهلع وانتفضت قائلة:

رسول آخر غير سيدنا محمد؟

فانتابتني رجفة شديدة، فتركت أمي وذهبت إلى غرفتي وجلست على سريري، وبدأت أحاول أن أستجمع بعض الآيات القرآنية التي علمني أبي أن أقرأها عندما أشعر بالرهبة أو الخوف الشديد.

فجاءت والدتي وقد شعرت بما أنا فيه من الصدمة وجلست بجواري ثم قالت: أنت الأخت الكبرى وسيكون عليك مسئولية كبيرة تجاه أخويك الصغيرين، فإن كان لديك أي أسئلة أو مشاعر شاركيني فيها، أنا أمك وأنت ابنتي الوحيدة، لا يوجد من يحبك في هذا الكون أكثر مني، ثم أخذتني في أحضانها وهي تجهش بالبكاء، وكنت أنتفض وأنا أبكي من شدة خوفي وقلقي عليهما.

ثم استجمعت شجاعتي ونظرت إليها قائلة بكل تحدي: ما قلتيه ليس صحيحا!! لا يوجد رسول آخر وأنا سأظل على دين سيدنا محمد مهما قلتم لي، ولن أترك دين سيدنا محمد حتى لو قتلوني.

فنظرت إلىّ بكل حب وقالت: يا ابنتي الحبيبة من هم الذين سيقتلونك؟

أنا لم أقل لك أن تتركي دين سيدنا محمد بالعكس أنا أريد منك البحث وتحري الحقيقة ودراسة القرآن لتتبيني صحة ما أقول. فإن لم يكن صحيحا فعليك أن تنبهينا وتثبتي لنا أننا على خطأ. إقرئي القرآن واطلبي من الله العون وهو لن يخذلك أبدا إذا ما كانت نيتك صادقة وبالفعل لا تريدين إلا طريقه سبحانه.

كانت هذه الكلمات هي بداية طريقي للتعرف على القرآن والتبحر في معانيه بدلا من الحفظ بدون فهم. بدأت أقرأ وأسأل وأجادل أحيانا وأقتنع أحيانا أخرى. في خلال تلك السنة كنا نذهب أسبوعيا إلى منزل طنط سمية التي كانت تعطينا دروسا عن التاريخ البهائي والمفاهيم والمبادئ والقيم التي جاء بها حضرة بهاء الله.

كانت مهمتي دائما هي محاولة تصيّد الأخطاء لها، أما إخوايا فكانا أصغر مني سنا، لذا كنت أشعر أنني مسئولة عن عدم وقوعهما في الفخ نفسه الذي وقع فيه والدانا، فكنت أحاول حمايتهما. كما كنت على ثقة بأن الله معي وسيعطيني الدلائل والبراهين لأنقذ أبي وأمي من هذه الورطة التي وقعا فيها.

دائما أتذكر كيف أن والدايا كانا يشجعاني على تقصي الحقائق وتوجيه الأسئلة حتى أصل إلي حقيقة ما أريد معرفته، كما كانا يرافقاني لأصل بنفسي للمعلومة بدلا من أن يفرضاها علي. والغريب أنه في كل مرة كنت أتصيد معلومة لتثنيهم عما يعتقدون أصل معهم بالحوار والإقناع إلى أنها تدعم ما يعتقدون به.

خلال سنة كاملة كنت أواظب فيها على الصلاة والدعاء وأجد نفسي منجذبة إلى التفسير الذي أنزله حضرة بهاء الله ومنبهرة بكلماته الإلهية التي تمس شغاف القلوب، إضافة إلى ذلك كان إعجابي الشديد بكل من قابلتهم من البهائيين وتعرفت عليهم. إلا أنه كان هناك شيء ما يعيق إيماني الكامل بعد أن توصلت إلى نتيجة محددة هي أن حضرة بهاء الله هو شخص مصلح وولي من أولياء الله الصالحين، ولكن لا يمكن أن يكون رسولا، وأن كل ما قرأت وفهمت من آيات قرآنية تبشر بمجيئه تدل على أنه قد درس القرآن جيدا واستخرجها جميعا ثم بدأ يقنع الناس أنها تنطبق عليه. كنت على يقين بأن سيدنا محمد هو خاتم النبيين والمرسلين وأن الله لن يبعث من بعده رسولا.

وفي أحد الأيام، كنا في زيارة لطنط فاطمة، رحمها الله، إحدى الصديقات المقربات لأمي والتي كنت أحب حديثها الذي لا يمل وأثناء حديثها مع أمي التفتت إلىّ وسألتني:

هل قرأت الإنجيل من قبل يا حنان؟

فقلت لها بسرعة: لا طبعا ولن أقرأه لأنه محرّف.

فقالت لي: وكيف يكون محرّفا ولا يزال به دلائل على مجيء سيدنا محمد؟

فتعجبت وقلت لها أن هذا غير معقول لأنني أعرف أنهم حرّفوا الإنجيل حتى يخفوا الآيات الدالة على مجيء سيدنا محمد، فأحضرت طنط فاطمة الإنجيل على الفور وبدأت تقرأ:

«ثُمَّ رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِينًا وَصَادِقًا، وَبِالْعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ. وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِّلاَ هُوَ. وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ كَلِمَةَ اللهِ. وَالأَجْنَادُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْل بِيضٍ، لاَبِسِينَ بَزًّا أَبْيَضَ وَنَقِيًّا. وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ الأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ اسْمٌ مَكْتُوبٌ مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ.»[1]

قلت: عجيب!! إن كل هذه الأوصاف تنطبق على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ثم سألتها:

وكيف إذن لم يؤمن المسيحيون به؟ إن الآيات واضحة جدا؟

فقالت لي: هذه هي سنة البشر، كل أمّة تعتقد أن رسولها هو الأخير ولن يبعث الله من بعده رسلا برغم أن الآيات في كل الكتب السماوية واضحة وضوح الشمس.

وهنا بدأت أتساءل: إذا ما أفعله أنا هو ما فعلته كل أمّة كذبت بما أرسل الله وتمسكت بكتابها. وشعرت بأنني أرى كل شيء فجأة بمنظور آخر. وتجلت أمامي الآية الكريمة:

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وشهيد لقد كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[2]

وقتها فقط شعرت بأنني بلا شك على دين سيدنا محمد وأفديه بروحي ونفسي ولا شك أنني أقرأ وأتبع القرآن “فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ[3] وأؤمن أن تأويل القرآن سيكون عن طريق رسوله ” ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ[4] ومن المحال أن أكون ممن تنطبق عليهم الآية الكريمة: “أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ”[5]

ووجدت نفسي أحطّم أوثاني وأكسّر حجباتي وأعترف بنور الحق الذي حرمت منه نفسي لمدة سنة كاملة، وكنت حقا من الظالمين. وأخذت أغني من كل قلبي طوبى لي ثم طوبى لي بهذا الفضل العظيم. وشعرت في هذه اللحظة برغبة شديدة إلى أن ألقي بنفسي في حضن جدي الحبيب وأضع رأسي على صدره مرة أخرى بعد أن بدأت أشعر بالسكينة والدفء والحنان.

[1] رؤيا يوحنا ١٩: ١١-١٦.

[2]  سورة ق، آية 20.

[3]  سورة القيامة، أية 18.

[4]  سورة القيامة آية 19

[5]  سورة البقرة، آية 85

رحلة الوالدين

بعد حوالي ستة أشهر من عودتنا ومن خلال بحثنا المتواصل، والقراءة المستدامة، والدعاء والصلاة آناء الليل وأطراف النهار، وصلنا بالعناية الإلهية إلى اليقين بأن دين الله واحد وأنه لا يوجد تعدد للأديان بل هو تعدد للشرائع التي هي القانون الإلهي الذي يتناسب مع الزمان والمكان

“…لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ[1]

لذا قررنا أن نفاتح الوالدين في الأمر ونرى ماذا سيكون تأثير هذا الكلام عليهما، وكان رد فعل والدي مذهلا عندما قلت له بأن الله قد يرسل رسولا آخر، فقال وبمنتهي الثقة طبعا فإن الله لا يمكن أن يترك عباده هكذا بدون رسول وخصوصا في هذه الأيام التي فيها اختلط الحابل بالنابل وضاعت الحقيقة.

صحيح أن والدي كان مفكرا معتدلا ومنفتحا على العالم ولكنني لم أكن أتصور أنه ممكن أن يأخذ مثل هذا الأمر الخطير بهذه البساطة والسماحة، وهذا شجعني كثيرا على أن أحكي لهم القصة من البداية، وأشاركهم فيما توصلنا إليه من نتائج بعد بحث مضني.

كانت أمي تستمع باهتمام شديد لكل كلمة أقولها، وكنت أرى في عينيها الخوف والقلق بشكل واضح، وكأنها لا تستوعب ما أقول، كانت تستوقفني أكثر من مرة وتقول: لو أن أحدا غيرك يقول مثل هذا الكلام ما كنت لأصدقه على الإطلاق، ولكن لثقتي بك ومعرفتي بك وبتعمقك في الدين، وورعك وخوفك من أن تعصى الله في اي صغيرة أو كبيرة اشعر بأن هذا الكلام قد يحتمل شيئا من الصحة، كذلك ثقتي بزوجك التقي الورع الذي لا يوجد شيء في حياته أهم من الصلاة في وقتها والخضوع والخشوع لله جلّ جلاله خير دليل على أنكما صادقان.

طلب منى أبي كتابا ليقرأه أما أمي فلم تكفّ عن الأسئلة وأخبرتني بأنها لم تستطع النوم في أول ليلتين على الرغم من أنها كانت تشعر بالطمأنينة لأنها واثقة بأن الله لن يتركني أنا وزوجي نسير في طريق غير صحيح، فهي تثق بأنه يحبنا كما نحبة ونتقيه.

فجأة قالت لوالدي بشيء من الحسم المشوب باللطف بأنها تحترمه وتعرف رأيه السديد في كل أمور الدنيا والحياة، أما في الدين فإن كل ثقتها في لأنني أنا التي رافقتها في الطريق إلى الله حتى ذهبت لأداء فريضة الحج وأصبحت ملتزمة بصلاتها وبكل ما أمر الله به المؤمنين من واجبات وفروض.

كان أبي رحمه الله متفهما ورزينا، فقال لها بأن علاقة الإنسان بربه هي علاقة خاصة جدا، وكل واحد مسؤول عن نفسه، ومن ثم فهي التي تقرر إذا شعرت بأن هذا حق، وليس من حق أي إنسان أن يقف في طريقها. ثم ذكّرها بالآية الثالثة عشر من سورة الإسراء:

وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا

كانت أمي في حيرة تصلي وتدعو الله أن يريها طريق الحق، ولكن حدث شيء بسيط في ظاهره إلا أنه كان ذا مغزى عميق عندها، فبعد ثلاثة أيام من سماعها لهذا الحديث، كانت في طريقها لزيارتي لتناقش ما يتوارد على ذهنها من أسئلة ليطمئن قلبها، وعندما همّت بركوب السيارة مع والدي لفت نظرها، عند باب العمارة التي كانوا يسكنون فيها، نبتة صغيرة بجوار الرصيف، فقالت لأبي باستغراب شديد:

كيف تنبت مثل هذه البذرة في هذه الصحراء؟

فقال لها أبي: وما الغرابة في ذلك؟

من أين يأتيها الماء؟

وعندما نظرت إلى أعلى اكتشفت أن الماء يأتي من ماسورة شرفة غرفتها في الطابق الثاني، وهذا الماء هو عبارة عن القطرات التي تنزل من التكييف فتمر من الماسورة لتسقط فتسقي هذه النبتة،

وهنا صاحت أمي: هذا دليل على أن ما قالته ابنتي صحيح، وبأن هذه الرسالة حق من عند الله.

فقال لها ضاحكا: وما العلاقة يا عزيزتي بين هذه النبتة وما سمعته من ابنتك؟

فقالت بشيء من الثقة هذه النبتة عمرها ثلاثة أيام تقريبا اي أن نموها بدأ في الوقت الذي سمعت فيه عن الرسالة الجديدة!!!!

وقالت باكية: لقد طلبت من الله كثيرا أن يظهر لي دليلا يؤكد لي إن كان هذا الأمر حقا أم باطلا، فأنا لا يمكنني قراءة الكتب مثلك، ولكنني أثق برحمة الله وحمايته لي، لذا عندما رأيت هذه النبتة الصغيرة شعرت بأنها استجابة لصلاتي وعلامة دالة على الحقيقة.

فقال أبي سبحان الله هل سمعت الآية التي تقول:

“ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ”[2]

وعندما وصلا إلى بيتي طلبت مني وهي تجهش بالبكاء أن أكتب لها الصلاة الجديدة بخط كبير حتى تتمكن من حفظها وأدائها في وقتها مع الصلاة الإسلامية التي تعودت أن تصلي فروضها الخمس كل يوم إلى أن يطمئن قلبها تماما.

عجبت كيف أن الله برحمته يساعد كلا منا على معرفة طريقه ما دام هناك قلب سليم ” إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ”[3]وكلما كان الإنسان بسيطا ويريد الله يبسط الله له الطريق ويمنحه الراحة والطمأنينة ويصحبه إلى برّ الأمان، ويظهر له علامات قد يراها البعض بسيطة، ولكنها تكون عميقة وذات مغزي يشعر به فقط ذلك المتوجه إلى الله.

ظللت أكتب لأمي بعض الآيات بخط كبير وتقوم بقراءتها فتشعر بجمالها ويطمئن قلبها. لقد ظل إيمانها راسخا حتى بعد أن علم إخوتها بذلك وحاولوا إبعادها وإرجاعها عن معتقداتها، فوقفت أمامهم جميعا، ولأول مرة ترفض وصايتهم التي كانوا يفرضونها عليها أحيانا لأنها كانت الأخت الصغرى التي تحتاج إلى الرعاية والنصح حتى بعد أن أصبحت جدّة واشتعل رأسها شيبا. ولم تتأثر بكلامهم رغم من مقاطعتهم التامة لها حتى تعود إلى رشدها.

لقد أصاب القائل: بأن من ذاق عرف، فعلى الرغم من بساطتها ذاقت حلاوة الإيمان فصغرت الدنيا في عينيها.

أما أبي فقد انتهى من قراءة الكتاب وفي خلال أسبوع واحد كان موقنا بأن هذا حق لا ريب فيه وأن كتبه جاءت من نفس المصدر الذي جاء منه القرآن الكريم والكتب السماوية السابقة والموجودة في أيدينا، واستطرد والدموع تتساقط من عينيه: لقد شعرت بالعدل الإلهي الذي لا يترك الإنسان ألعوبة لكل من نصّب نفسه وصيّا من الله ومندوبا عنه بدون حق أو سلطان أتاه. فالتبعية مرفوضة في جميع الأديان وكل أنسان مسؤول عن نفسه فقط، وأخذ يتلو بعض الآيات التي تؤكد ذلك ومنها:

“إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأواْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ”[4]

وظل أبي ثابتا قانتا إلى أن توفاه الله بعد سنوات من إيمانه رحمه الله رحمة واسعة فقد كان نعم الأب الودود المتسامح المحب لكل من حوله من البشر.

[1]  سورة المائدة، آية 48.

[2]  سورة إبراهيم، الآيات 24، 25.

[3]  سورة الشعراء، آية 89.

[4]      سورة البقرة، الآيتين 166، 167.

رحلة مديحة شقيقتي

البداية كانت عندما كنت مع أختي وزوجها في سيارتهم وفجأة ودون تمهيد سألتني أختي

أتعرفين ماهي البهائية ولما كنت أعلم أنها مهتمة بالنواحي الدينية فتوقعت أنها تتكلم عن شيء من هذا القبيل فقلت لها هي دي فرقة ولا جماعة ولا حزب ولا ايه وفوجئت بها تقول لا انه دين جديد!!!

لقد كانت دهشتي كبيرة وصدمتي فيها أكبر هي وزوجها فقد كانا مثلنا الأعلى حيث أن دراستهم كلها في الأزهر، وقلت لهما: ماذا تقولان؟

فانا في جهاد دائم من أجل فهم ديني وأحاول أن أكون مسلمة بكل ما تحوي هذه الكلمة من معان روحية، والآن تقولان دين آخر كيف يكون ذلك؟

وحاولت إخفاء غضبي وانزعاجي ولكنني قررت أن أثبت لهما كذب هذا الادعاء، وأحاول انقاذهما من هذا الفخ الذي نصب لهما.

بالطبع لم يمر كلامها هذا ببساطة، بل أخذ يتردد على مسامعي بين لحظة وأخري، وبدأ شريط حياتي يمر أمام عيناي، كانت حياتي العائلية غير مستقرة على الإطلاق، وكنت دائما ما ألجأ إلى أحد أخوالي الذي كنت أحبه كثيرا، وأثق في تدينه وحكمته ونظرته الثاقبة المتطورة للأمور، لذا كنت أشعر معه براحة نفسية، وكان له تأثير إلى حد ما عليّ وعلى زوجي، وكان حقا نعم الناصح لنا.

كنت عندما أزوره لأشكي له من أحوالي كان يتطرق حديثنا أحيانا إلى القرآن الكريم وتفاسيره، والأحاديث النبوية ومدلولاتها لقد كان، رحمة الله عليه، صوفياً في أفكاره لذا كنت أجد عنده السلوى وأتعلم منه الصبر على الأمور الغير مرضية في حياتي.

وقد يتساءل البعض لماذا كنت لا أبوح بأسراري ومشاكلي العائلية لوالدي مثلا الذي كان مثالا للأب الحنون المتفتح في أفكاره؟

لقد كان حبي لوالدي يملك على وجداني لذا فضلت ألا أشغله بمشاكلي الشخصية، وحتى لا أكون سببا في حزن قلبه الكبير، ومن ثمّ كان قراري هو أن أتحمل حياتي وأعالج مشاكلي بنفسي، واستعين بالله في كل أموري وكلى ثقة بأنه لن يتركني أبدا.

وفي إحدى الليالي رأيت في منامي أني كنت في زيارة للكعبة وأن أبوابها فتحت لي ودخلت فيها فرأيت شيئا يشبه المقام ومحاطا بالحديد، وصليت داخل الكعبة صلاة العصر والمغرب. فقصصت هذه الرؤية على خالي ليفسر لي معناها، فقال لي: إن حياتك سيطرأ عليها تغير كبير وذلك في عصر حياتك، وهذا الشيء سينقلك الي حياة أفضل وأكثر جمالا مما أنت فيه، فاصبري يا ابنتي، ثم تمتم بصوت منخفض “وبشر الصابرين”

بعد فترة من الزمن وكان ذلك أثناء حملي في طفلي الأول أخبرني زوجي أنه مرشح للإعارة والسفر إلي السعودية وفرحت كثيرا، وتذكرت الرؤية وشعرت بأن رؤياي بالحج ستتحقق إن شاء الله، ولكن زوجي رفض تلك الإعارة لأن حالتي الصحية كانت لا تسمح لي يالسفر بعدما أخبرني الطبيب أن عملية الوضع لن تكون سهلة وسأحتاج إلى عملية قيصرية، كان الموقف صعبا ولا يسمح بالمجازفة بعد تجربة مرير سابقة كنت قد فقدت فيها طفلتي الأولي أثناء عملية الوضع.

وبعد مرور سنة على ولادة ابني قررت أن أرتدي الحجاب إرضاء لله، وفي اليوم الذي قررت فيه ذلك جاءت بشرى ترشيح زوجي للإعارة مرة ثانية للعمل في السعودية، وشعرت أن هذا كان تأييدا لقراري بارتداء الحجاب، وحتى أكون مستعدة لأداء فريضة الحج استكمالا لأركان الإسلام الخمسة.

سافر زوجي ولحقت به بعد فترة قليلة وشاء القدر أن أكون حاملا في ابني الثاني، ولكن واجهتنا مشكلة جديدة في تلك الأثناء، وهي توقف حركة الجنين في الرحم لعدة شهور، وبدأنا نشك في احتمال موته داخل الرحم مثلما حدث في طفلتي الأولي، وشعرنا بأن هذا قد يحرمنا مرة ثانية من أداء فريضة الحج التي نتوق إليها وأعددنا لها العدة.

لم تثنينا تلك الظروف عن عزيمتنا، وقررنا أداء الفريضة مهما تكبدنا من متاعب ومهما كانت النتائج، على الرغم من تلك العقبة أو ما قد يواجهنا من عقبات أخرى. كان السفر شاقا ولكن لهفتي لرؤية الكعبة ساعدتني على التحمّل، ووصلنا وقت تغيير كسوة الكعبة وكان منظرا رهيبا تزاح كسوة الكعبة القديمة وتكسى بالجديدة وسط صياح الآلاف من البشر، وفي غمرة ذلك المشهد المهيب لم أستطع أن أطلب شيئا لنفسي وانتابتني حالة غريبة، فكنت أبتسم ودموعي تنهال بغزارة ولا أقول غير كلمة يا رب وشعرت أن هذا النداء المخلص كان يعبّر عن كل ما كنت أريده، وكان الحجاج يصيحون كل بلغته ويختلط الصياح بالابتسامات والدموع، ويعد ذلك المشهد الرائع توجهنا للصلاة ودعوت الله بكل وجداني أن يُحييّ هذا الجنين، وما هي إلا لحظات حتى شعرت به يتحرك في أحشائي وسعدت سعادة بالغة جعلتني أصر على أن أكمل المناسك على قدمي كما فعل الرسول صلي الله عليه وسلم أثناء تأديتها، ورفضت استعمال اي من الوسائل المساعدة مثل الحمل على كرسي أثناء الطواف والسعي لكبار السن والسيدات الحوامل.

كنت لا أشغل وظيفة في فترة تواجدنا في السعودية، لذا كنت أمضي معظم وقتي في قراءة القرآن والاستماع إلى شرائط المصحف المرتل. كنت دائمة السؤال عن معان الآيات فعلى الرغم من أنني كنت مسلمة عادية أقوم بأداء الصلوات في وقتها وأداء الفروض كاملة شعرت بأن هذا لا يكفي فمعرفتي عن حقيقة الإسلام لم تكن عميقة، فبدات بدراسة  كتب السنة وكتب التفاسير، ولكن كان معظم ما أقرأه من تفاسير لا يقنعني بل في الحقيقة كان يزيد من حيرتي، فالآية الواحدة تختلف معانيها من مفسر إلى آخر، وأحيانا تتضارب التفاسير ويكون من الصعب الوصول إلى المعنى المقصود، فقررت أن أعتمد علي قلبي في التفسير، أما الفقه فقد قرأت بعض الكتب، ولكنني كنت أتوه في مباحثه ومصطلحاته الصعبة ، ولكنني حاولت أن أكون مسلمة كما يجب.

لقد تصورت في وقت من الأوقات بأنني نجحت أن أكون مسلمة حقيقية وكنت فخورة بذلك، وإذا بأختي التي كانت شديدة التديّن والتي كنا نعتبرها مثلا للمرأة المسلمة المتعمقة خريجة الأزهر والتي نذرت نفسها لإحياء الإسلام تتحدث بكل جرأة عن دين جديد ويعضدها في هذا الادعاء زوجها التقي الورع الذي كنا نحبه جميعا ونحترمه، فهو لم يكن يترك فرضا فحسب، بل كان يؤدى الصلوات الخمس في المسجد.

بدأت رحلة البحث مرّة أخري بعد أن شعرت باقتناعهما الشديد بهذا الدين الجديد، فاشتريت نسخة من كتاب المصحف المفهرس وبدأت أبحث عن الآيات المتشابهات، وأدقق فيها وما تحتويه من معان وأتوجه إلي الله أن يبصّرني بحقيقة هذه الآيات كما استعنت بالمعجم لأعرف معان بعض الكلمات الصعبة وأصبح لا هدف لي إلا الوصول إلي الحقيقة ودعوت الله أن لا يضلني بعد أن قصدت طريقه وهو الذي قال سبحانه:

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى”[1]

كانت أختي وزوجها يعملان في الخارج ويأتيان كل سنة مع أولادهما الثلاثة لقضاء العطلة الصيفية في مصر، وكانت لما تأتي في الإجازة تحمسني وتؤجج مشاعري بحديثها الروحي عن الدين الجديد، فأظل أقرأ وأبحث في جميع الجهات وأقضي معظم وقتي معها خلال تواجدها معنا في القاهرة، وأعرض عليها كل ما يدور بذهني من أسئلة واستفسارات وتخوفات، ويدور بيننا حوارات متعددة تكون مثمرة ومقنعة تشجعني على الاستمرار في الاطلاع والبحث، إلى أن تغادر عائدة إلى مكان عملها، فتخمد طاقتي شيئا فشيئا وتأخذني أمور الحياة وتزداد شكوكي مرة ثانية الي أن تأتي في الإجازة التالية وأشتعل مجددا وأعاود البحث مرة أخري كل ليلة وبعد يوم شاق، قسما بالله إن هذا الأمر لم يبرح ذهني وتفكيري ولو للحظة حتى أثناء تأدية الصلوات الخمس يوميا كنت أتساءل عن صحة هذا الموضوع، ويراودني التفكير فيه في كل لحظة، حتى عندما كنت أخلد الي النوم كل يوم كان ينتابني شعور غريب وهو الخوف من أن أموت وأنا لا أعرف اذا كان هذا الدين حقيقي أم لا، وبعد فترة قررت أن لا أتوقف عن البحث بعد سفر أختي كما أفعل كل مرة، وحتي لا أترك نفسي لمثل هذه الصراعات المضنية.

في فترة البحث هذه كنت أتضرع الي الله أن يريني الحقيقة ولكنني كلما أخلو لنفسي تتردد في ذهني الآية التالية:

“كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ”[2]

فكان يتملكني الخوف الشديد وأتوقف عن البحث وأعرض عما ذكروه من مجيء رسول بعد سيدنا محمد (ص)، وكلما كنت أفكر في العودة إلى البحث عن الحقيقة تراودني وترن في أذني تلك الآية فأتوقف لفترة ثم أعود لأبحث مرة أخري.

وفي يوم بعد ليلة كاملة من الدعاء والصلاة قررت أن أعرف سر تلك الآية التي نسجت شباكها حولي ومنعتني عن تحري الحقيقة، ومعرفة المناسبة التي نزلت من أجلها؟

وما موقعها في سياق سورة العلق؟

إن الآيات الأولى من هذه السورة هي أول آيات نزلت على رسول الله، وأمرته فيها بالقراءة والبدء باسم ربنا الذي خلق الإنسان، تتسلسل الآيات بكل وضوح ثم تأتي إلى ذكر المكذبين وعاقبتهم، وقد ذكر المفسرون أنها تشير إلى أبي جهل ولذا في الآية الأخيرة يأمر الله بعدم طاعته والإعراض عنه، والخضوع والخشوع لله الواحد الأحد بالسجود لأن أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد.

بعد قراءة هذه السورة وخرجت منها بمعان جميلة عن ضرورة البحث والقراءة، وأدركت أهمية تحري الحقيقة وإعمال العقل، والبعد عن الطاعة العمياء والتبعية المطلقة للغير مهما كان علمهم أو مناصبهم، لأن الله ألزم كل إنسان طائرة (اي مصيره ومسؤوليته) في عنقه كما ذكرت الآية الكريمة:

“كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا”[3]

بعد أن وصلت إلى هذه المعاني الجميلة أحببت تلك الآية التي كانت تنصب شباكها حول رقبتي وقيدتني لفترة غير قصيرة، بل ومنعتني عن مواصلة البحث نتيجة لسوء الفهم وعدم قراءتها من خلال السياق في السورة التي نزلت فيها.

بناء على ذلك واصلت البحث الجاد وظهرت أمامي نقاط كثيرة كنت أجهلها ومنها علي سبيل المثال أن الكفر هو عدم التصديق بالرسول الجديد فإذا كان هذا الرسول حق من عند الله ولم أصدقه فقد دخلت في عداد الكفرة[4]، وتضرعت إلي الله أن لا أموت علي غير الحق وإذا كان هذا الدين حق فخذ بيدي وأرشدني إليه.

بدأت تجميع الآيات والبراهين التي تدل علي عدم صحة هذا الدين من وجهة نظري ثم أتوجه إلى منزل أختي حتى أنقذها هي وزوجها من هذا الضلال فإذا بي أفاجأ بأن كل آية أسردها لها عندهم تفسير آخر يدخل القلب والعقل في آن واحد، ولكنني كنت أصر على المكابرة وأحاول أن أجمع آيات أكثر وأعيد معهم المحاولة مرة بعد الأخرى، وأخرج بنفس النتيجة وأشعر بأنني مرتاحة أكثر بعد كل جلسة، وأخرج وأنا مقتنعة تماما بما كانا يقولان، ولكن في  الوقت نفسه لا أريد التسليم.

ووجدت في نفسي رغبة شديدة على أن أتعرف على ما عندهم وأختبر وقعه علي قلبي فإن كلام الله فحتما سيمس القلب.

بدأت أقرأ ما عندهم بتحفظ وخوف شديدين وفي كل مرة أقرأ جزءا بسيطا وأحاول أن أفهم معناه وبذلت جهدا كبيرا حتى أجد فيه ما يتعارض مع القرآن وهو الكتاب الحق بالنسبة لي، وحتى أعترض عليهم به ولكن للأسف الشديد لم أجد شيئا يدل علي ذلك.

وبدأت أركز أكثر في العبادات والدعاء والتوسل إلي الله أن يرشدني إلي الطريق القويم وفي غمرة البحث هذه كنت أري فيما يري النائم علامات ودلالات متعددة فقد رأيت مرة أنني أنظر من مكان عال محاط بسور حديدي يطل علي الكرة الأرضية بكل ما فيها من مبان ومآذن وبحور، ورأيت المياه تغمر الأرض من جميع الجهات وتغطيها شيئا فشيئا الي أن غطت كل أركان الكرة حتي غطت المآذن وبدأت الأرض تختفي شيئا فشيئا، وخفت أن تكون هذه نهاية العالم ونهايتي وأموت وأنا لا أعرف الحقيقة بعد، ففزعت فزعا شديدا ووجدت نفسي أصيح بصوت عال وأقول “أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله وأن حضرة بهاء الله رسول الله ” وصحوت فزعة غير مصدقة وهرعت الي أختي مبكرا وأنا أبكي بشدة فكانت تهوّن علي وتطمئنني إلي أن الله لن يتركني أضل أبدا طالما أنني لا أريد إلا طريقه.

وعلى الرغم من ذلك ظللت أكابر، وظللت أعاني من الحيرة والقلق، وكان يزداد شعوري ذلك كل يوم عندما كنت أذهب إلى فراشي وقبل الدخول في النوم، فكنت أدعو الله متوسلة إليه ألاّ أموت من قبل أن يهديني إلي الحق. وعلى الرغم من أنني كنت حريصة جدا على سماع اي تعليق من أختي وزوجها، وعلى الرغم من أنني كنت أشعر بالراحة من حديثهما ولو للحظات، إلا أن الشك كان يساورني فور الخروج من بيتهما، وأعيد التفكير في كل ما ذكراه، فكنت لا أقابله بالنفي أو بالإثبات حتى أرجع إلي كتاب الله وأدقق النظر فيه.

وبعد فترة غير قصيرة من المعاناة الشديدة بدأت أشعر بشيء من الطمأنينة فإن ما يدعوا إليه هذا الدين لا يتعارض مع ما تدعو إليه جميع الأديان. ولكن لم تكن لدي الشجاعة الكاملة للإقرار بصحته على الرغم من أنني كنت أخشى دائما فكرة الموت وكذلك فكرة القيامة وكنت كلما أتصور أن هذه الدنيا الجميلة سيكون مصيرها الهلاك والفناء أشعر بالخوف الشديد والرعب القاتل.

بدأت بقراءة بعض الآيات من الدين البهائي والتي تفسّر مفهوم الموت وكيف أنه بشارة بحياة روحانية نورانية جديدة، وليس فيه ما يخيف الإنسان، وكيف أن الوفاة ما هي إلا مجرد خلع الثوب البالي وهو الجسد وتحرر الروح من عقالها والتوجه إلي الملكوت الأعلى، في هذا الوقت فقط اطمأن قلبي وهدأ سري، ثم قرأت أن علامات القيامة هذه عبارة عن رموز لأشياء متعددة وأن الجنّة هي القرب من الله والنار هي البعد عنه، مفاهيم منطقية رائعة، وليست تلك الأهوال التي يذكرها المفسرون لآيات القرآن والتي تثير الذعر في النفس، وتتنافي مع صفات الله الرحمن الرحيم.

صحيح فما الفائدة التي تعود على البشرية من دمار هذه الدنيا بعد أن خلقها الله وزينها لعباده؟

كانت طمأنينتي تزداد كلما كنت أطّلع على المفاهيم الجديدة، والمبادئ السامية التي يحتاجها عصرنا هذا، وبدأت اقتنع عقليا بالحاجة الملحّة إلى وجود رسالة جديدة، ثم أخذت أقرأ في التشريع فبدأت بالصلاة ولما وجدت أن عدد مرات الصلاة أقلّ مما تعودت عليه في الإسلام، قلت في نفسي كيف أقابل ربي ثلاث مرات في اليوم فقط؟ وأنا التي كنت أقابله خمس مرات، صحيح أن صلاتي لم تكن بكامل التركيز ولكن عدد المرات كان أكثر، كان اهتمامي بالعدد أكثر من اهتمامي بمفهوم الصلاة، لقد كنت في أول الأمر دائمة المقارنة بين الدين البهائي والدين الإسلاميتحتى اطمئن قلبي.

وفي تلك الأثناء رأيت في منامي أنني كنت أسكن في بيت يشبه قفص العصفور مخروطي الشكل وكان مفروشا بالموكيت الأحمر ومن خلال الفتحات الموجودة به يحاول بعض الرجال الأقوياء أن يفتكوا بي واحد بعد الآخر، فصرخت مستغيثة: يا بهاء الله، وفي الحقيقة ما كانت استغاثتي به إلا اختبار له في داخلي لأتحقق من أنه كان قادرا علي انقاذي، واذا بحبل غليظ يكبّل كلَّ واحد من هؤلاء الرجال ويبعدهم عني حتي آخر واحد فيهم ثم فتحت جميع نوافذ القفص ويتحرك القفص ليستقر علي عربة حمراء كان بها أختي مع صديقتها التي بلّغتها بالدين البهائي، وتتحرك العربة الي الحديقة الدولية، وهناك وجدت أبي رحمه الله في انتظارنا فقلت له: هل تعرف يا أبي من الذي أتى بي إلى هنا؟

فأجاب أبي قائلا: طبعا يا عزيزتي إنه حضرة بهاء الله.

وبعد فترة ليست بالقصيرة من البحث والتدقيق وصلت إلى اليقين بأن الله لا يمكن أبدا أن يترك الإنسان بدون هداية لفترات طويلة، فهناك مدد دائم من الله سبحانه وتعالي للبشرية حتى تصل إلى معرفته سبحانه وعبادته، وكيف يتركنا الله وهو الذي خلقنا حبا في خلقنا؟

وبدأت الإعلان عن إيماني دون خوف وبدأت رحلة التعمق في الآثار الإلهية التي كانت في كل مرة تزيدني ثباتا ويقينا، وقد ساعدني الله سبحانه وتعالي للوصول إلي الحقيقة ورأيت في نفسي تحولا كبيرا كان له أفضل الأثر علي كل من حولي وحمدت الله كثيرا علي ذلك وحاولت جاهدة أن أنال رضاء الله عز وجل وأن أقصد وجهه في كل أعمالي.

وفي ذلك الوقت حاولت التعبير عما يختلج في صدري ببعض الكلمات التي كنت أتمني أن يسمعها الناس جميعا ويشعرون بما شعرت به من سعادة وطمأنينة في تلك الفترة:

الدنيا ماشية وشايفاني                    مسلم ما يعرف شيء تاني

بصيت لقيت نفسي بصرخ                وأقول يا ناس ده فيه دين تاني

قالوا لي مش ممكن أبدا                    ده نبينا وحده مالوش تاني

قلت اصحوا م النوم يا خواننا             ده نور بهاء الله جاني

قالوا ضروري ده اتجنن                  يا عيني كان انسان تاني

قلت يا رب تنورهم                          واسقيهم الخمر التاني

نور قلوبهم وعقولهم                      واهدي اليك كل اخواني

حقا لقد استنفدت هذه الخطوات مني وقتا طويلا ولكنني أوجزتها في سطور بسيطة حتى لا أثقل على القارئ الكريم.  هذا وقد ساعدني بعض الأحباء الأفاضل بالجهد والوقت كما احتملوا مني الكثير من العصبية والاعتراض دون ملل ولا كلل جزاهم الله عني كل الخير والثواب.

[1]  سورة طه، الآيات 124، 125.

[2]  سورة العلق، آية 19.

[3]  سورة الإسراء، آية 13.

[4] سورة النساء، الآيات 150، 151.

رحلة أميرة شقيقتي

كنت منذ طفولتي حريصة على مرضاة الله، فكنت دائما أحاول ان أصلي وإن كنت لا أواظب في كثير من الأحيان، ولكنني كنت أصوم شهر رمضان كاملا، وأحاول عمل الخير خوفا من عذاب النار.

وفي حقيقة كانت اختي الكبيرة هي مثلي الأعلى. فكنت استقي منها المبادئ والأخلاق. وكنت معجبة بشخصيتها كثيرا، على الرغم من أنني كنت أختلف معها في بعض الأمور، ومن تلك الأمور كانت فكرة ارتداء الحجاب، فلم أكن مقتنعة بالمرة بذلك، بل كنت على ثقة بأن الحجاب هو حجاب النفس وليس ارتداء ملابس معينة حتى وإن أطلقوا عليه اسم الزيّ الإسلامي

وعندما تزوجت كان زوجي منذ بداية زواجنا يكرر الإشارة إلى واجبات الزوجة المسلمة لزوجها، فيردد على مسامعي دائما حديث الرسول (ص) بمناسبة وبدون مناسبة:

“لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد؛ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها”

وكان يوصله أحيانا بحديث آخر

“أيّما امرأة باتت وزوجها غضبان إلا لعنتها الملائكة”

فكنت أحس في نفسي بالخوف ولكن في الوقت نفسه أشعر بتحيّز كبير للذكور، ولكنني كنت أخفي الكثير من خواطري تلك بداخلي ودونما إفصاح حتى لا أتهم بالاعتراض على الأوامر الإلهية، أو أوصم بالكفر، والعياذ بالله، لذا كنت أحاول جاهدة أن أجد لهذه الأمور مبررا حتى اتقبلها بصدر بحب، ولكنني كنت مقتنعة بأن تقرير مصيري لازم أن يكون بيدي، وأنه ليس من العدل أن يكون مصيري بيد غيري حتى لو كان هذا الشخص هو زوجي العزيز، فأنا أعمل ليلا نهارا من أجل أسرتي ولا أقصّر في تأدية الفرائض والعبادات أو في عمل الصالحات قدر استطاعتي، وأصون بيتي وعرضي، وأسعى بكل جهدي لمرضاة الله، وبالرغم من كل ذك لو غضب علىّ زوجي سواء اكان غضبه ذلك بسبب أو بدون، أو سواء أكان محقا في غضبه أم غير محقّ تلعنني الملائكة وأكون من الظالمين.

الى جانب ذلك الرعب الذي كنت أعيشه من غضب الملائكة كنت أرتعد عندما أسمع الآية القرائية التي تتحدث عن النار:

 “وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا”[1]

وكنت أتساءل في نفسي وأنا في غاية الحيرة:

هل لو الانسان عمل كل شيء يرضي الله ولم يغضبه ليبتعد عن عذاب النار، سيرد عليها لا محالة؟

وهل هذا يتناسب مع صفات الخالق سبحانه وهو بلا شك الرحمن الرحيم؟

وكنت كلما اسأل عن معنى هذه الآية كانوا يقولون لي بثقة كبيرة: طبعا هذا لازم حتى للصالحين حتى يعرفون الفرق بين النار والجنة.

ظللت في تلك الحيرة من الى ان علمت من شقيقتي الكبرى عن الدين الجديد، وكانت بالنسبة لي صدمة كبيرة، دين جديد ونحن ما زلنا لا نعرف الكثير عن ديننا الحالي ونحاول كل يوم أن نطبق شيئا منه، فأحسست بغضب شديد في نفسي، وكأنما نيران محرقة تشتعل في داخلي، ولكن ثقتي الكبيرة بشقيقتي الني كانت مثلا أعلى في التدين لنا، والتي كانت تحافظ على أداء الفروض والواجبات الدينية في وقتها، حتى أنها قامت بأداء فريضة الحج إلي بيت الله وهي في  العشرينات، وكان ذلك على غير العادة فلم يكن يذهب إلى الحج في، ذلك الوقت، سوى المسنين من الرجال والنساء، وقامت بارتداء الحجاب بأناقة منذ ذلك الوقت، وقد رأيت بنفسي كيف شجّع ذلك الكثير من طالباتها وزميلاتها على التحجب البسيط والجميل في الوقت نفسه، فعلى الرغم من تلك الأفكار التي كانت تدور في ذهني بسرعة شديدة قبل أن أجهر باعتراضي أو صدمتي الكبرى، إلا أنها ساعدتني بعض الشيء على التروي وحسن الاستماع. وعلى الرغم من أنني بدأت بقراءة بعض الكتيبات للتعرف على الدين البهائي ومبادئه، إلا أنني كنت أشعر برفض شديد وخوف قاتل ومشاعر غريبة مضطربة لا أستطيع وصفها.

وفي تلك الفترة تذكرت الآية التي كنت ابحث عن معناها وهي التي تؤكد حتمية الورود على النار لكل مخلوق، وشعرت فعلاً أن كل واحد منا لابد وأن يذوق هذه النار عند معرفته بأن هناك دين جديد، أو نذير جديد، إن نار الشعور بانفطار سماء الدين الذي نشأنا عليه ليحتل مكانه دين آخر وشريعة أخرى لأشد بكثير من النار الحارقة المعروفة لدينا، وما يزيد النيران تأججا هو التغيير في المناسك والتقاليد التي اعتدنا عليها، فمع طول الوقت تتحول العبادة إلى عادة، وهنا يكون التحدي الحقيقي لأن الإيمان بالدين الجديد يحتّم اتّباع المنهج الجديد والشريعة الجديدة.

لقد أخذ مني القلق وقتا ليس بالقليل ولكن وبعد ذلك بدأت الطمأنينة تملأ قلبي تدريجيا بعد شيء من القراءة وتحري الحقيقة.  وبدأت أصلي وأقرأ بعض الكتب، وكانت سعادتي كبيرة عندما علمت بأن أحد المبادئ التي جاء بها الدين البهائي هو مبدأ المساواة الكاملة بين الرجال والنساء في كل شيء، لقد كان هذا المبدأ من أهم المبادئ التي كنت أبحث عنها وأشعر بلزومها، فمن خلال تطبيق ذلك المبدأ الحيوي لا بد وأن يتأسس السلام العالمي.

كنت ما زلت أعمل في الخليج مع أسرتي، وجاء زوجي لزيارتي وكنت في ذلك الوقت حامل في ابني الأول، فانتهزنا الفرصة وتحدثت معه شقيقتي وصديقتها، وكانت صدمة كبيرة له فأصيب بانهيار شديد وظلّ يبكي لأيام، وكان يردد من خلال دموعه بأنه بدأ بالفعل منذ فترة قليلة في الاستقامة على الدين فيصلي ويصوم ويجتهد في أداء العبادات كاملة،  ثم بعد أن عاد إلى طريق الله يتبين له أن هذا الطريق لا يكفي وأن هناك طريقا جديدا يجب أن يسير على هداه. ولكن بعد فترة ليست طويلة اطمأن زوجي وبدأ يلتزم بالتعاليم البهائية.

بعد أن انجبت ابني الأول قررت العودة إلى مصر للم شمل الأسرة، وبعد عودتي تعرفت بالمجتمع البهائي في مصر، وكنت سعيدة بهذا المجتمع ولكن لم أجد اختلافا كبيرا بينهم وبين المجتمعات الأخرى. كنت أشارك الضيافات والمناسبات. في الحقيقة كان الكثير منهم يقفون معنا عند الحاجة.

ولكن مع الأيام مررت بظروف نفسية قاسية انا وزوجي بعد أن علمت أسرة زوجي باعتناقنا للدين البهائي. فوضعوا علينا ضغوطا كثيرة حتى نعود إلى حظيرة الإسلام كما كانوا يقولون، وأبلغوا عن زوجي في محل عمله للضغط أكثر عليه إلى أن ضعفنا ولم نستطع مواجهة كل تلك التحديات، لأنها كانت تفوق طاقتنا بكثير وخاصة أننا لم نكن تعمقنا بالقدر الكافي في الدين الجديد، فما كان منا إلا أن عدنا الى الشريعة الإسلامية، وأعلنّا ذلك للجميع مسلمين وبهائيين حتى نتخلص من تلك النار التي وضعنا أشقاء زوجي وشقيقاته فيها.

ولكن على الرغم من إعلان ذلك فقد أصرّت أسرة زوجي على المقاطعة الكاملة لنا بعد أن تحقق لهم ما أرادوا، أما الأصدقاء البهائيين، والحق يقال، ن لم يتركونا واستمرت علاقتهم الحميمة بنا ولم يتوانوا ولو للحظة في المساعدة إذا احتاج الأمر.

أمّا اختي الحبيبة فلقد كانت متفهمة تماما لظروفنا وقدراتنا، وكانت عندما تأتي لزيارة مصر تتحدث معي بهدوء وتحاول ان تطمئني بأن الله رب قلوب، والشرط الوحيد هو نقاء القلب وخلوص النية، وأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها.

بعد حوالي سبع سنوات كنا فيها مبتعدين عن الدين البهائي رغم صداقتنا المستمرة مع البهائيين الموجودين في منطقتنا، بدأ ابني الكبير يسألني عن موضوع البهائية وذلك كان لشدة ارتباطه بخالته وأولادها عندما كانوا يأتون للزيارة في الصيف. فكنت أساعده بزيارة الأصدقاء البهائيين باستمرار، ووفرت له فرص لقاء بعض الشخصيات حتى يكون لديه الفرصة للاستفسار عمّا يريد أن يعرف عن الدين، وشجعته على تحري الحقيقة بنفسه لأن هذا أول مبدأ من مبادئ الدين البهائي، فالأولاد لا يرثون دين الآباء بدون التحري عن حقيقة ذلك الدين.

ومن ثمّ شعر ابني بأن هذا الدين صحيح وقرر الإيمان به ولم أعترض عليه خاصة وأنني كنت من داخلي مقتنعة تماما بأنه دين حق وأن المؤمن به لا يخرج عن كونه مسلم فجميع الأديان ما هي إلا إسلام وهذا ما هو مذكور في القرآن، وأن الموضوع ليس متعلقا بالأسماء ولكنه متعلق بالقلوب التي في الصدور. ولأنني أعلم بأن الدين البهائي يؤكد على اتحاد الأسرة، ويجعل ذلك أولوية لذا كنت اسعى ان يكون رجوعنا إلى الدين البهائي كأسرة.

لقد كان ايمان محمد صدمة كبيرة لوالدهذ، وتأثر افراد الاسرة كلهم بهذا الحدث. في تلك الأثناء كان زوجي قد سافر للعمل في السعودية، وأنتهز فرصة تواجده هناك ليؤدي فريضة الحج، كما قام بتأدية العمرة له ولوالدته. كان ابني يحكي لي ما يدور في جلسات البهائيين من تعميق المفاهيم حول الدين، وارتباطه بخدمة الآخرين، وعمل مشروعا لتنمية المنطقة التي نعيش فيها، فقررت أن أذهب معه إلى إحدى الجلسات، وكان فيها بالصدفة اخي علاء، وعندما سألني عن أحوالي قلت له: على فكرة أن مؤمنه بكل هذا بل لم يغادر الإيمان قلبي ولو لحظة ولكنني أنتظر الفرصة المناسبة لنرجع جميعا كأسرة إلى الدين البهائي خاصة وأن زوجي تقاعد وترك عمله السابق، ولن يستطيع أحد أن يهدد حياتنا مرة أخرى. فقال أخي وهو يضحك: إن أمرك غريب يا عزيزتي: يعني لو فيه واحد يغرق في البحر هل تنقذيه أم تنتظري بجواره حتى تغرقا سويا؟

ما دمت مقتنعة بأن هذا الدين صحيح هل بدلا من أن تنقذي زوجك تلقي بنفسك معه في التهلكة؟

وبعدما انتهت الجلسة عدت إلى بيتي ولكن الحوار الذي دار بيني وبين أخي ظل يرن صداه في أذني وكان له تأثير كبير في نفسي، لذا أعلنت إيماني للجميع وبدأت أصلي الصلاة البهائية.

تذكرت صدمة زوجي الأولى عندما ذكرت له بأن ابننا الكبير قرر أن يكون بهائيا ويتابع الدروس مع البهائيين، وكنت أخشى عليه من صدمته الثانية عندما يعلم بإيماني والتزامي بالتعاليم البهائية بعد عودته من السفر. ونظرا لقلقه الشديد علينا بدأ يتحرى الحقيقة مرة أخرى بعدما أفاق من الصدمة، فأخذ يعيد القراءة، وبمساعدة بعض الأصدقاء المتعمقين  قرر العودة وهو أكثر اقتناعا بضرورة وجود دين جديد ليجدد الضمائر ويحيي النفوس بعد موتها.

[1]  سورة مريم، الآية 71.

رحلة علاء شقيقي

نشأت في أسرة كبيرة نوعا ما يتكون أفرادها من اب وام وثمانية أولاد و بنات ورغم هذا العدد الكبير فقد نجح الوالدان في زرع الروابط الحميمة بين أفراد الأسرة فنشأ بيننا جميعا رابط قوى وذلك على الرغم من الاختلافات المتباينة بين الأفراد، فكل واحد منهم له فكره الخاص ومنهجه في تناول ما يمر به من أحداث حياته.

لقد نجح والداي في منح أهمية لخصوصية كل منّا في اتخاذ القرارات في حياتنه الخاصة كما استطاعا بكل اقتدار أن يزرعا فينا احترام ذلك احتراما كاملا يصل إلى حد المنع من اقتحام اي منا لخصوصيات الاخر، مع عمق تلك الروابط القوىة التي كانت تربط أفراد هذه الأسرة معا برباط لا فكاك له. كما أعزو الفضل لوالدينا في تعليمنا كيفية التفكير بحيادية وتحليل الأمور قبل الحكم عليها، واتخاذ القرارات، وتعميق إدراكنا بأن من يتخذ القرار عليه أن يتحمل تبعاته.

كنا قد تعودنا على وجود عائلات من غير المسلمين في حياتنا، بل كانوا يعتبرون من الأصدقاء المقربين للأسرة، وتواجدهم بيننا في جميع المناسبات كان أمرا طبيعيا، فلم أرى يوما فرق في التعامل معهم وكانت فرحتنا بوجودهم لا تختلف عن فرحتنا باستقبال أيّ من باقي أفراد العائلة، لقد كانوا شركاء لنا في أفراحنا وأتراحنا، وكانوا معنا في أعيادنا كما كنا نشاركهم بالتالي أفراحهم وأعيادهم، ومنذ طفولتي تربيت على أننا جميعا إخوة، وحتي مجرد ذكر أن هذا مسيحي أو هذا مسلم لم يكن معروفا أو متداولا في محيط أسرتي. لقد تأثرنا جميعا بهذه البيئة الخالية تماما من أي تعصب فكنا نجمع في صداقتنا المسلم والمسيحي ولم نلاحظ أبدا ولم يخطر على فكر أحدنا أن هناك ذرة اختلاف بيننا.

لقد تعلمت من أمي الحنان الحازم الذي كانت تجيده ولا زالت حتى لحظة كتابتي هذه السطور رغم انها تعدّت العقد التاسع من عمرها، لقد كان لديها القدرة على اتخاذ القرار بكل جرأة وحسم. ولقد تعلمت من أبي التوكل التام على الخالق فلم اره يقلق من اي مشاكل تواجهه أو يتبرّم من اي ازمات تمر عليه، على الرغم أنه كانت أحيانا تأتي مشاكل ليست بسيطة بل قد تؤثر في أعتى الرجال وأقواههم.

كان رحمه الله يحيط نفسه بجدار صلب من التوكل جعلني أدرك أن الخالق موجود وعلى الرغم من أننا لا نراه الا ان هناك إلاها حقيقيا واحدا أحد وليس بأسطورة نعبده، لذا تعلمت من ذلك كيف أتحدث إلى الله، وكلي ثقة بأنه يسمعني.

كان أبي يعيش حياته ببساطة ودونما اي تعقيدات، لقد كان يمتلك قدرة عجيبة على تبسيط الأمور مهما كانت درجة تعقيدها، وحين تتلاقى قدرته على تبسيط الأمور مع سلوك التوكل على الله الملازم له كان الحل لأى مشكلة يبدو واضحا جليا لا يحتاج إلى مجهود لاقتناصه رحمه الله واسكن روحه الغالية في المراتب العلى.

كنت الابن السابع في هذه الأسرة يكبرني أربع شقيقات، ون وقد تعودنا في الأسرة أن الأكبر عادة يكون له حق الاحترام والطاعة من الصغار، كان ذلك المبدأ غير معلن رغم ثبوته، إلا أن الرابط الحقيقي الذي جعلنا نرتبط باخوتنا الكبار كان سلوكهم ومحبتهم لنا والذي جعلنا نراهم كبارا يستحقون التقدير لذاتهم وليس لفرض مبدأ معين.

هذه هي أسرتي التي نشأت في  وسطها آردت أن أعطي لمحة عنها لأنني أدرك تماما أن الفوز بهذا الفضل العظيم لا يمكن أن يكون نتيجة مجهود ذاتي بل هو فضل محض من الخالق عز وجل وشارك في تهيئتي لاستقباله كل هؤلاء الأشخاص الذين عبرت حياتي من خلالهم فاقتبست ما اقتبست وأدركت ما أدركت وتعلمت ما تعلمت.

كنت شابا ملتزما إلى حد ما، فقد تربيت على الخوف من الخطأ لأنني كنت واثقا من وجود الخالق سبحانه، لذا كنت أشعر بأنه يراني على الرغم من أنني لا أراه، فتغلغل في أعماقي الشعور بخشيته وهذا ساعدني كثيرا على تجنب المعاصي قدر استطاعتي، لم اكن منتظما في الصلاة، لقد كنت اعيش دون تشدد أو إفراط، وفي الحقيقة لا اذكر ان قلبي يوما اضمر ضغينة لأحد أو حقدا على أحد.

كنت أدرس في كلية التجارة وتصادف أن افراد الأسرة كانوا في ذلك الوقت إما تزوجوا وانتقلوا إلى منازلهم أو يعملون ويعيشون في الخارج، وهذا كان الجزء الأكبر من العائلة بما فيهم والدىّ، لذا قضيت فترة الدراسة الجامعية تقريبا بمفردي في منزل العائلة، فتعلمت الكثير من وحدتي خلال تلك الفترة، وأصبحت المسؤول الوحيد لاستقبال أفراد الأسرة في اجازاتهم ومرافقتهم ومصاحبتهم في أداء اي من مهماتهم، ثم توديعهم في المطار استعدادا لاستقبال فوج أخر، وهكذا كنت اتحول إلى سائق يقود لهم السيارة ويرافقهم في تجوالهم وترحالهم اثناء فترة تواجدهم في مصر، وكان ذلك سببا لترابطنا أكثر واقترابنا من بعض أكثر وأكثر، وحتى بعد سفرهم كنت أتولى أنجاز ما بقيّ لهم من أعمال، وتخليص ما يحتاجون من مستندات وما إلى ذلك من احتياجات لم يسعفهم الوقت للانتهاء منها.

بعد انهاء العام الثالث من دراستي بالكلية أصابتني حمى شديدة أرقدتني الفراش لفترة ليست بالقصيرة، في تلك الحالة من الوهن والضعف أدركت ان هذه الحياة الزائلة لا تساوي شيئا كما جاء في قوله تعالي:

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ”[1]

في مثل تلك الحالة يمر شريط حياة المرء امام عينيه فتتيقظ المشاعر وتتجه افكاره كلها نحو علاقته بالخالق، وهنا يشعر بمدي تقصيره تجاه الله الرحمن الرحيم سبحانه، وكأنما ذلك الضعف الذي أصابني جعلني افيق على حقيقة يحاول كل منا تجاهلها وهو في كامل قوته ألا وهي أننا سنفارق هذه الحياة بين لحظة وأخرى، وتمضي حياتنا مهما طالت كلمح البصر.

أراد الله أن تمرّ هذه الوعكة الصحية بخير ولكن رقادى الطويل على الفراش وشعوري بأن الموت كان يحدق بي دفعني إلى اتبّاع تعاليم ديننا الحنيف التي كُلّفنا بها، كانت هذه هي نقطة التحول في حياتي فبدأت بعد شفائي أنتظم في الصلاة وأقيم الفروض والسنن، والصيام في يومي الإثنين والخميس، وتطوّر الأمر أكثر فأطلقت لحيتي، وحرصت على أن تكون صلواتي كلها من الفجر إلى العشاء في بيوت الله، وبدأت أقرأ القرآن وأطالع الكتب الدينية مثل فقه الأئمة الأربعة، وأخوض في التفاسير وأحاول التقرّب إلى الله بالصلاة ليلا قدر المستطاع.

لقد صادفتني أمور عدة في رحلتي الروحية، وكثرت النصائح والتوجيهات من بعض رجال الدين المحيطين بي، ولكنني كنت أزن الأمور ولا اتبع ما لا يسير مع عقلي ووجداني، فعلى سبيل المثال لم أقبل التغيير في مظهري أو ارتداء الجلباب القصير رغم التأكيد على أنها سنة مؤكدة، فكنت مصرّا على إعمال عقلي لأنه هو النعمة الكبرى التي ميّز الله بها الإنسان عن غيره من سائر المخلوقات، وكنت على ثقة بأن عظمة الإسلام تكمن في وسطيته واعتداله، وأن أهم شيء في مظهر المسلم هو النظافة التي هي من اهم صفات المؤمن،  لذا رفضت ذلك عن قناعة ولم يساورني الشك يوما في صحة قراري، على الرغم مما كان يوجه إلىّ من نصح أو نقد من بعض المتشدّدين، فأهم صفات المؤمن هي التمسك بمكارم الأخلاق تلك التي أوجزها الرسول(ص) في جميلة قصيرة وهي أن الدين هو المعاملة.

كان مفهومي في بداية الأمر أن التفاسير المعروفة شبه مقدسة، ولكن عندما طالعت التفاسير المختلفة أساءني ما وجدته من الاختلافات الكثيرة في تفسير الآيات، وكان ما يزعجني أكثر هو عبارة “الله أعلم” التي تذيّل بها صفحات التفاسير، وأدركت أن كل ما جاء في هذه التفاسير ليس الا اجتهادات قد تخطئ وقد تصيب. وهنا قررت أن أتمسك بالآية التالية:

“وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ”[2]

ولأنني أدرك جيدا وجود الخالق وأثق به ثقة كاملة اتخذت هذه الآية منهجا وسبيلا لي في قراءة القرآن، وكنت ادعو الله ليلا نهار، وشرعت في حفظ القرآن وكلّي ثقة بأن المفهوم الذي سيدركه عقلي هو ما أراده الله لهدايتي إيمانا بوعده بأنه سيهدي كل من جاهد فيه سواء السبيل. امتنعت عن مطالعة التفاسير والخوض في الاجتهادات التي يروّجها البعض ويشكك فيها البعض الآخر.

كنت اسكن في منطقة شعبية تجمع بين الاثار الاسلامية والكثير من الاثار المسيحية وقد تعلق قلبي بكليهما دونما فرق وكنت اشعر دوما انني عند زيارة اي من تلك الآثار أنني في بيت الله، قد كنت أذهب مع أصدقائي المسيحيين إلى الكنيسة في أعيادهم ولم أجد تغييرا في مشاعري حتى عندما التزمت بتعاليم الدين وأصبحت ملتحيا لم يتغير أحد من أصدقائي المسيحيين واستمررت في مشاركتهم أعيادهم كما كنت أفعل من قبل، وظلّ حديثنا سويا بكل المحبة والاحترام، ولم يخطر ببالي ولو للحظة أن ثمة تغيير أو اختلاف صار بيننا.

كنت التزم بالفروض الخمس في المسجد، وكان لدي اعتقاد بأن الإمام الذي يؤم الصلاة يجب أن يكون قدوة للمصلين، ويظهر الايمان في كل تصرفاته، ويكون مثلا حيّا  لمكارم الأخلاق، ولكن للأسف كانت مثل هذه الصفات لا تنطبق على كثير ممن كانوا يقومون بالإمامة في المساجد المختلفة التي كنت أرتادها بحثا عن تلك القدوة،  فقد كنت أعرف الكثير منهم عن قرب لأنهم من نفس المنطقة التي كنت أسكن فيها وكنت على علم بسلوكهم الشخصي، ولا اعنى انهم كانوا فاسدين، لا سمح الله، فهم أناس طيبون، ولكنهم لم يطابقوا القدوة التي كانت  في مخيلتي والتي أطمئن إليها وانا اقف في صلاتي وراءهم بين يدي الخالق العظيم.

وفي يوم ما انتقلت إلى أحد المساجد على ضفاف نهر النيل قريبا من منزلنا لأداء صلاة العصر، وحينما أذن المؤذّن للشروع في الصلاة فوجئت بالحاضرين يقدموني للإمامة، وكان منهم الشيوخ وكبار السن وآخرون، ولكنني رفضت ذلك لعلمي بان الإمامة يجب ان تكون للأكثر علما والأكبر سنا وهذا لا ينطبق بالمرة علىّ، ولكنهم اصروا وكأنما صادف ذلك هوى في نفسي فأقمت الصلاة وصليت بهم إماما وانا على ثقة كاملة بأن هذا ليس موقعي، وفي تلك اللحظة تبينت أنني تبوأت هذه المكانة فقط لأنني ملتحي فتوسموا في الصلاح.

منذ تلك اللحظة شعرت بأن فكرة البحث عن القدوة في إمام اي مسجد غير مجدية حيث أن المظهر والمظهر فقط هو الذي يعتمد عليه الناس في اختيار الإمام الذي يؤم العباد في وقت الصلاة، وقررت منذ تلك اللحظة عدم الصلاة في المساجد حتى لا أتحول إلى منافق واتّبع هذا الهوى والكبر الذى شعرته في داخلي يوم وافقت على أن أكون إماما للمصلين، وتولدت في نفسى قناعة بأن الاختيار المبني على المظاهر فقط من شأنه أن يصرف المرء عما ينبغي له من خشوع وخضوع عند أداء الصلاة.

لقد كان الأمر الذى يؤرقني هو أنني رغم كثرة صلاتي وصيامي وقيامي الليل وأداء النوافل هو الشعور الذي كان ينتابني عند الرقود في فراشي وقبل أن أخلد إلى النوم، كنت اشعر أن الموت قد يداهمني أثناء نومى وقد لا أستيقظ مرة أخرى، فأشعر برهبة شديدة عند أتذكّر شبح الموت ويظل قلبي يخفق، وفي الغالب ما كنت ابكى واتوسل إلي الله  أن يشملني بعفوه وغفرانه ويخفف عني عذاب القبر وأهواله تلك التي كانت تتردد في جميع الخطب الدينية، وعلى قنوات التليفزيون من رجال الدين، فكنت أخشى ألا أكون من الناجين، فكل ما يدور من أحاديث سواء في المساجد أو في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة عن عذاب القبر يؤكد أنه لن ينجو من هذا العذاب إلا الرسل عليهم أفضل الصلوات والسلام، لذا كنت في كثير من الأحيان أناجى ربي الرحمن الرحيم، وأنا أجهش بالبكاء عسى ان يرحمني من هذه الفاجعة التي تنتظرني في قبري.

وكانت تلك المخاوف من الموت تبعث في نفسي الشك في صدق إيماني وخاصة عندما أتذكر قوله تعالي:

“قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”[3]

فكيف يكون إيماني صادقا وأنا أسعى بكل الطرق للهروب من الموت، ولم يخطر ببالي يوما أن أتمنى الموت فحسب، بل كان مجرد التفكير فيه يلقى بالرعب في قلبي، ومن هنا أيقنت بأنني لم أصل إلى أدنى درجات الإيمان.

كانت بداية سماعي عن الدين البهائي في مسجد داخل الجامعة حيث كان هناك حوار بعد الصلاة عن الوهابية وذكر أحدهم لفظ البهائية بالخطأ فانبرى أحد المتحدثين وأوضح له أن البهائية تختلف عن الوهابية فالبهائيون هم فئة ضالة وكافرة، لم يستوقفني الحوار كثيرا ولم أجد له أهمية أو فضول في نفسي.

حاولت بعد ذلك ان أركز كل جهودي على قراءة القرآن ومحاولة حفظ الآيات والسور، وقد وجدت صعوبة كبيرة في الحفظ وأعتقد أن الأسلوب المتّبع في المدارس وهو اجبار الأطفال على حفظ القرآن الكريم مع عدم الفهم قد ولّد عقدة لدينا فأصبحت عملية الحفظ ثقيلة وترتبط بالمشقة التي ولّدت في النفوس نفورا حتى من محاولة الحفظ، ولكن على الرغم من ذلك لم أتوقف عن المحاولة وبدأت في الحفظ، وكان من المدهش لي عندما حاولت حفظ سورة البيّنة، فقد قرأتها مرات قليلة وحاولت فهمها أولا، لذا حفظتها بسرعة وبدون مجهود يذكر.

كنت في السنة النهائية في الكلية وفي اجازة نصف العام علمت بأن أختي الكبرى ستأتي إلى مصر في زيارة لعدة أيام، وبالتالي اعددت نفسي لاستقبالها ومرافقتها وخاصة أنها كانت لها معزّة خاصة عندي هي وزوجها ودوما كان منزلهما لنا بمثابة منزل العائلة الثاني، فقد كانا يمتلكان من المحبة والسماحة ما يفيض على العائلة بأكملها، وقد كانا شديديّ التعلق بالله فهي تخرجت في جامعة الأزهر وعملت بتدريس التربية الإسلامية ثم رقيّت موجهة تربوية، وكانت مشهود لها بالعلم والكفاءة، وكذلك كان زوجها الذى لا أذكر يوما أنه تسبب في اي أذى أو كدر لأى شخص، بل كان له من سعة الصدر ما يستوعب الجميع، كنا نحبهما منذ كنا صغارا فقد كان فيهما حنان لا ينضب، ولقد تعلمت منهما في الوقت نفسه من علوم الدين أكثر مما تعلمته في المدارس، وما كنت أجلّه فيهما هو أن كل تصرفاتهما لا تعكس سوى التدين والتقوى سواء مع الناس أو في حياتهما الخاصة فكانا مثالا رائعا لنا، وقد لا يسمح الوقت للحديث عنهما لأن هذا يحتاج إلى العديد من الصفحات، ولعلها لا تكفي لوضع اطار فقط لحياة تلك الأسرة العظيمة، فناهيك عن المحتوى الذى قد يحتاج إلى مجلدات لنقترب منه ولو قليلا.

استقبلت أختي وكان من الواضح أن لديها عدة مهام لتنجزها، وكان ضمن هذه المهام الكثيرة هو البحث عن الكتب الإسلامية وشرائها كالعادة، فكنا نذهب إلى المكتبات وتشترى كثيرا من الكتب الكبيرة والثقيلة، وكان هذا لا يدهشني لأنني أعرف ما لديهما من نهم شديد في البحث والقراءة والاطلاع وخاصة الاطلاع في الأمور الدينية الذي كان جزءا هاما في حياتهما حتى أنه كان أحيانا يستحوذ على كامل تفكيرهما، وفي الحقيقة لم أر في حياتي من يفوقهم تسليما لله في كل الأمور الصغيرة منها كانت أو الكبيرة.

أذكر أن أختي لم تُخف صدمتها المشوبة بالدهشة عندما رأتني ملتحيّا وأنا أستقبلها في المطار، وكانت أثناء مرافقتي تتحدث إلى في أمور الدين في محاولة لتوصيل المفهوم الحقيقي للدين وأنه لا يتعلق بالمظهر، وبأن اللحية ليست الدليل على التديّن والقرب من الله بل التديّن أولا وقبل كل شيء هو السلوك الذي يلازمنا في جميع نواحي حياتنا، ولا يختلف باختلاف المواقف والظروف وإلا يصبح نوعا من الازدواجية، فلو أن مظهرنا الخارجي يوحي بالتدين ولكن لا ينطبق ذلك في كل عمل نقوم به نكون  اكتفينا بالقشور ولم نصل بالكلية إلى جوهر الدين، الذي هو وباختصار المعاملة والسلوك.

كنت أشعر في ثنايا حديثها الخوف الشديد عليّ دونما إفصاح، وفي الوقت نفسه كانت في محاولة ذكيّة تجس النبض هل هو تديّن حقيقي أم توّرط دينيّ، فكانت تبدي قلقها الكبير من ظاهرة التطرف والانخراط في الجماعات الإسلامية المتشددة التي بدأت في الظهور خلال تلك الفترة، وكيف أنهم يستقطبون الكثير من الشباب باسم الدين والجهاد والخلافة وما إلى ذلك من الأمور المستجدة باسم الدين والتي هي بعيدة كل البعد عن أي دين.

كان ذلك في أواخر السبعينات، وكانت تلك الظاهرة قد بدأت في الانتشار بقوة في مصر، ولكن مخاوف أختي تبددت بعد مصاحبتي في أول يومين من خلال أحاديثنا المستمرة اطمأنّت إلى أنني والحمد لله معتدل في تديّني وأنني كما عهدتني دائما ممن لا يهملون عقولهم وينساقون وراء الشعارات البراقة أو يخدعون بها.

أخبرتني شقيقتي في نهاية زيارتها أنها تقوم بإجراء بحث مهم جدا يثبت أن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام هو آخر المرسلين، وطلبت مني ان أساعدها بإرسال الآيات التي تدل على ذلك من القرآن وخاصة أنني أصبحت قارئا جيدا لكتاب الله. فوعدتها بذلك وأكدت لها بأن ختم الرسالات والرسل بسيدنا محمد(ص) أمر أكيد ثابت في معتقدي وفي معتقد الجميع، وأخبرتها أن هناك آيات كثيرة في القرآن تثبت ختم الرسالة لا أتذكرها ولكنني سأبحث عنها وأرسلها إليها، وقد كنت على يقين بأن هذه مهمة سهلة ويسيرة لأنها تبحث عن أمر من الثوابت، وهو يذكر ويتكرر ذكره في كل الخطب والأحاديث.

خلال الزيارة القصيرة لأختي طلبت مني توصيلها لبعض الأصدقاء، فاعتقدت بأن لديها  بعض الرسائل أو الأشياء التي كانوا يحضرونها معهم لتوصيلها إلى أقارب اصدقائهم، فكثيرا ما كنت أتولى أنا توصيل هذه الامانات إلى أصحابها، ولكنها طلبت مني ان تذهب هذه المرة اليهم بنفسها، وذهبنا إلى المنزل المقصود وطلبت منى الانتظار في السيارة وصعدت هي وبعد عدة دقائق أتى شخص أنيق وقور كانت له هيبة رائعة وسألني بكل رقيّ حضرتك الاستاذ فلان أجبت بنعم فرحب بي ترحيبا حاراُ واحتضنني وكأنه يعرفني منذ سنوات وأصرّ على أن يصحبني إلى المنزل حيث كانت أختي ضيفة لديهم، فاعتذرت بأدب عن الصعود ووعدته بالزيارة في المرة قادمة، ولكنه أصرّ على صعودي بطريقة لا تقبل الرفض فقبلت دعوته وصعدت معه، ودخلت المنزل وكانت شقيقتي تجلس مع مجموعة من الأصدقاء يبدو عليهم الوقار الشديد، فرحبوا بي ترحيبا حارا استشعرت فيه المحبة رغم انه كان أول لقاء لي بهم،  وكانوا يكملون حديثهم الذي كان عن الحبيب المصطفي (ص) وكان من الطبيعي أن أشارك في الحديث، وعلى الرغم من أن حديثي عن القرآن ومعجزات الرسول الأمي لم يخرج عن العبارات المتداولة في الخطب الدينية إلا أنه كان في تصوري أنني اضيف إليهم معلومات جديدة، ولكن عندما استمعت إلى ما يدور بينهم في هذا الحوار الشيّق شعرت بأنني لم أشهد في حياتي مثل هذا التعظيم والإكبار الشديد لرسول الله (ص)، وفوجئت بعبارات ومعانى جديدة تثبتها سيرته وحياته لا تنطبق الا عليه فقط، ولم يمض وقت قصير حتى أدركت بأنني كنت اقل الموجودين معرفة بقيمة الحبيب محمد (ص)، فتحولت إلى مستمع منصت فما لدى لا يبلغ ولو قدرا يسيرا مما يعرفون، وتذكرت أن في مثل هذا الموقف ينطبق المثل المعروف بأنه إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب،  فآثرت الصمت التمتع بعمق حديثهم، والاستزادة والاستفادة من عذب الحوار الراقي.

ونزلت انا وأختي، وفي ذلك الوقت خطر على بالى خاطر أدهشني وهو أنه مع عمق أحاديثهم ودفء محبتهم للرسول إلا أنه لم يكن هناك من يرتدي الحجاب سوى أختي، وهنا سالتها بفضول شديد عن هُوية هذه المجموعة من البشر وخلفيتهم، فأجابتني بذكاء شديد وباختصار أشد،  بأنهم أناس مؤمنون، ولا أدري كيف أقنعتني تلك الإجابة الغريبة المختصرة، واكتفيت بذلك ولم أسأل أكثر، قد يرجع ذلك إلى اعتقادي بأن صفة الإيمان لا تنطبق إلا على المسلمين فقط، أو ربما استحيت أن استرسل في الحديث فأعلن لها بصراحة أنني لم أكن أعلم قدر الرسول الكريم (ص) إلا من خلال حوار أولئك المؤمنين، على العموم قررت الصمت مكتفيا بما قالته أختي لأن ذلك هو ما شعرت به فعلا.

بعد ايام أخبرتني أختي بأنها يجب ان تذهب لزيارة أسرة أخرى وذهبت معها وفي هذه المرة دخلت معها وكان المنزل عبارة عن فيلا بسيطة، فدخلنا في صالون فسيح وكان مليئا بالزوار وتعرفت على صاحب المنزل الذي كان رجلا كبير السن وزوجته كذلك كانت مسنة وعلى الرغم من كبر سنها إلا أنها أصرّت على تقديم واجب الضيافة بنفسها رغم تهافت جميع الموجودين على مساعدتها، حتي أنني رغم كبر العدد الموجود لم أشك لحظة في أنهم أسرة واحدة لشدة ما كان بينهم من محبة وعدم تكلّف ورغبة في مساعدة أصحاب المنزل، قدمت لنا صاحبة المنزل حلاوة المولد النبوي مع الشاي، وهذا فتح الحديث عن عظمة الرسول وعظمة الإسلام، ثم تطرّق الحديث إلى توافق الأديان جميعها، وأنها ما جاءت إلا لنشر المحبة والسلام بين الأنام، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها آيات من الإنجيل ومن التوراة، وأذهلني عرضهم للموضوعات بما يؤكد أن الهدف واحد لجميع الرسالات، وتعجبت من قدر العلم والمعلومات التي كانت تدور في تلك الجلسة، وأدهشني ذلك التناغم في الربط بين الموضوعات المطروحة حيث ينتقلون بينها بكل سهولة ويسر، كما لفت نظري ذلك الأدب الجم بين المتحدثين فلم يقاطع أحدهما الآخر، ولم يظهر أحدهما تفوقا على غيره، ولم يكن هناك تصيّدا للأخطاء، وأتذكر أن أحدهما تعرّض لجزء عن تاريخ الرسول (ص) واستخدم أسلوبا للطرح لم أعهده فيما قرأته أو سمعته من خطب دينية مرت على، أسلوب على الرغم من غرابته إلا أنه لا يسعك إلا أن تقرّ به واستمر الحوار على ذلك المنوال وغادرت المكان مع أختي بوداع حميم كأنما نودع أفراد أسرتنا، وفي ذلك اللقاء آثرت أن أكون مستمعا منذ البدء ولم أجرؤ على توجيه نفس السؤال لأختي كأنما اكتفيت بالإجابة السابقة إنهم أناس مؤمنون ولم أحمّل الأمور أكثر من ذلك، ولم يعلق في ذهني شيء عن الموضوع إلا أنه أوضح لي بأنني لا زلت بعيدا جدا عن المعرفة، وعلى أن أدرك قدري في أي مجتمع ولا أتسرع بعرض ما لدى عملا بقول الشاعر:

رحم الله امرأ        عرف قدر نفسه

بعدها سافرت أختي وعدت إلى حياتي وبدأت أبحث عن الآيات التي تثبت ختم الرسالة وأقرأ في القرآن وبمرور الوقت فتر حماسي ولم اتابع الموضوع. كان من عادتي أن أرجع إلى منزلي ليلا  سيرا على ضفاف النيل، وكانت القاهرة في ذلك الوقت أقل ازدحاما مما هي عليه الآن، كنت في كثير من الأحيان أكون الشخص الوحيد تقريبا الذي يتمشى على كورنيش النيل، وكثيرا ما كنت اشعر برغبة شديدة في الحديث مع خالقي وأدعوه من خلال دموعي المنهمرة أن يبصّرني طريقي ويهديني سواء السبيل، وكنت أعبّر له عن خوفي الشديد من الموت الذي قد يأتيني بغتة وأنا غير لائق للقائه، كنت اشعر بأن دعائي يصله ولكن في الوقت نفسه كان يخالجني شعور قوى بأنني لست من الناجين على الرغم من ثقتي الكاملة برحمته وعنايته وخاصة عندما كانت تتردد في ذهني الآية التالية:

“قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”[4] 

كم كانت تلاوة تلك الآية المباركة تبعث في نفسي الاطمئنان إلى قمة رحمته سبحانه واتساع باب مغفرته، وكأنما كنت أتعلق بهذه الآية لأقول لله عزّ وجلّ: على الرغم من أنني لست ممن أسرفوا على أنفسهم إلا أنني أتوسل إليك أن تغفر لي ذنوبي وترحمني من سكرات الموت وعذاب القبرهول يوم القيامة، لقد ظلت الرهبة من الموت لا تفارقني فترة طويلة.

وفي الصيف عادت أسرتي لقضاء العطلة في القاهرة وبدأت أتواجد معهم بصفة مستمرة، وفي اليوم  التالي لوصولهم بادرت أختي بالحديث عن الدين البهائي مباشرة، وكنت أظن أنها تتحدث عن الوهابية، ولكنها صدمتني بأنها نتحدث عن الرسالة الجديدة والرسول الذي وعد الله به وتنتظره كل الأمم السابقة، والمشار إليه بعودة المسيح أو ابن مريم، وعلى الرغم من أنني أصبت بدهشة شديدة من هذا الحديث الغير متوقع خاصة من شقيقتي، إلا أن ثقتي في قوة إيمانها هي وزوجها وعلاقتهما العميقة مع الله جعلتني أنصت بإمعان لما يقولان، فقد كان ذلك الحديث على صعوبته لا يأتيني من مصدر ديني موثوق به فحسب، بل من أولئك الذين كانوا يحثونا على أداء المناسك، وإقامة الصلاة في  وقتها، وعلى الرغم من غرابة الفكرة لم أعترض بالمرة، والمدهش في ذلك أن فكرة نزول رسالة جديدة بعثت في نفسى شعورا عميقا بالسرور والأمل، أيقنت في تلك اللحظة لو أن ما تقوله هذا صحيح فإنه يعني الكثير، يعني عظمة العدل السماويّ واستمراره، لأن الله لم يتركنا في الحيرة التي نعيشها جميعا، وما يزيد من قسوتها  هي تلك الاجتهادات والانقسامات والفرق التي تكفّر بعضها البعض، وعلى رأس كل فرقة رجال دين يؤكد كل منهم بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية بأنهم الفرقة الصواب وبقية الفرق على خطأ، كم كانت قسوة تلك الأمور لأنها تلقي بنا في وهدة الحيرة وويلات الانقسام.

قررت أن أستمع إليهما حتى النهاية وحتى أفهم ماذا يقصدان بالضبط، وهل ما وصلني من كلامهم هو ظهور رسالة جديدة أم مذهب جديد أم مفهوم جديد أو شيء آخر جديد؟

عند ذلك الحد بدأ كلُّ من أختي وزوجها في شرح الأمور وتوضيح معالم النبأ العظيم، وتدعيم أقوالهما بالآيات والأحاديث. بدأت اقتنع عقليا بما يقولون فالأمور واضحة ومنطقية والمعنى الجميل للآيات القرآنية أخرجني من الحيرة التي كنت أقع فيها أثناء قراءتي للقرآن وصعوبة فهمي للمعاني، لكنّ قلبي كانت تراوده الشكوك فما يعرضانه الآن كان يخالف كل ما تعلمته، وكل ما كنت أعتقد عن ختم الرسالات، وحتى يوم القيامة والعذاب والجنة وجهنم، ولكن ما يقولونه يتوافق في كل جوانبه مع الرحمة الكبرى من الله الأحد الفرد الصمد الرحمن الرحيم.

وعشت الحيرة الكبرى بين قلبي وعقلي أياما معدودات، وكنت أحاول الاستزادة حتى يطمئن قلبي، وكان الحديث بيننا لا ينقطع، وأذكر يوما أنني كنت اقود السيارة وكانا يتحدثان معي وكنت أمعن التفكير فيما يقولان وأحاول تحليل الأمور والبحث عن ثغرة لتكون حجتي في الاعتراض، أو عذري في اتخاذ القرار، وفجأة لم أشعر بنفسي فصعدت بالسيارة وبهم على رصيف الترام في منطقة مصر الجديدة، وكدنا نضيع جميعا تحت عجلات الترام لولا أن الله أراد لنا الحياة وكان هو سبحانه الستار الكريم.

وبعد أن أفقنا من ذلك الموقف المرعب غضب زوج أختي غضبا شديدا من نفسه ومن أختي لأنهما لم يراعيا حالتي الغير طبيعية وأثقلا عليّ بالحديث عن هذا الأمر الهام الذي يحتاج مني إلى التركيز في التفكير، في الوقت الذي كنت احتاج أيضا إلى التركيز في قيادة السيارة مما تسبب في تشتيت أفكاري، لقد كان غضبه هذا خوفا عليّ فهو كعادته دائما يتفانى في رعايته ومحبته للأخرين، ويلوم نفسه كثيرا إذا شعر بانه تسبب في ضرر أحد، ومنذ تلك اللحظة قررا أن لا يتحدثا في هذا الموضوع الخطير إلا ونحن جميعا نجلس في مكان مريح وآمن.

كنت أذهب لزيارتهم ونسهر الليالي للمناقشة في هذا الموضوع وأشعر بشيء من الطمأنينة، ولكن عندما أعود إلى منزلي تنتابني الحيرة بين اقتناع عقلي وتزعزع قلبي فأبدا في الصلاة والدعاء إلى الله، وأستمر في التوسل اليه حتى يهديني إلى ما فيه الخير وكنت أقرأ أحد الأدعية المحبب إلى قلبي مئات المرات وهو:

اللهم أنت الحق فاهدني إلى الحق الذي أختُلف فيه.

وأذكر أن هذا الدعاء كان ملازما لي طوال فترة بحثي عن الحقيقة سواء كان ذلك وأنا اسير في الطريق أو وأنا معهما أو عندما أكون وحدي. لا أتذكر كم من الوقت طالت تلك الفترة الصعبة التي كنت أعيش فيها في حيرة وعدم استقرار، أعتقد أنها لم تتعدَ أسبوعين.

خلال تلك الفترة ذهبت مع أختي لمراجعة الطبيب،  وبعد أن وصلنا إلى العيادة، أخبرتها بأنني سأبحث عن موقف للسيارة وألحق بها، وكان ذلك في الساعة السابعة تقريبا، ولكن عندما وصلت إلى موقف السيارات مددت يدي لأضغط زر إغلاق الراديو قبل نزولي من السيارة ويبدو أنني لشدة ارتباكي وانشغالي الشديد بهذا الأمر قمت بالضغط على زر تغيير المحطات الإذاعية وفوجئت بصوت يقول: أنا المسيح أنا القيامة أنا آتى يوم القيامة، ويبدو أنها كانت إذاعة خاصة بالدين المسيحي، فأصبت برعدة شديدة، وتساءلت لماذا جاء هذا الكلام وفي هذا التوقيت بالذات؟

فجلست لأستمع إلى تلك المعلومات المثيرة والتي كانت تؤيد ما أخبرتني به شقيقتي وزوجها عن يوم القيامة وهو أنه قيام رسول وأنه إشارة إلى عودة المسيح المذكورة في كل الكتب المقدسة والتي ينتظرها جميع الملل والديانات.

جلست استمع إلى ذلك البرنامج الإذاعي الشيّق، ولم أشعر بالوقت، فظننت أنه لم يتجاوز ربع ساعة أو أكثر قليلا، لذا أغلقت السيارة وذهبت إلى عيادة الطبيب لأفاجأ بأن العيادة مغلقة ونظرت في ساعتي فوجدتها قد تجاوزت العاشرة مساء ولم أصدق أن الدقائق التي استمعت فيها لذلك البرنامج كانت أكثر من ساعتين، فاتصلت بمنزل أختي فوجدتها قد عادت بعد أن انتهت من زيارة الطبيب وقالت لي بأنها انتظرتني كثيرا ولما تأخرت عادت إلى البيت بسيارة أجرة، لم يكن في ذلك الوقت هواتف محمولة لتتصل بي وتخبرني أنها انتظرتني كثيرا

لقد كنت في حالة يرثى لها وذهبت اليها لأعتذر عن تأخيري وانا في ذهول مما يمر علىّ من أحداث غريبة، لاحظت أختي بمجرد أن رأتني أنني كنت في حالة غير طبيعية، فطلبت مني العودة إلى المنزل مباشرة للراحة، فامتثلت لنصيحتها ولكن بعد عودتي لم أستطع النوم، بل مكثت طول الليل أصلي وأدعو الله أن يساعدني ويهديني إلى صراطه المستقيم، وكنت أثناء الصلاة أطيل في السجود وفي لحظة ما وأثناء سجودي شعرت بطمأنينة وسلام يغمران قلبي، وأحسست بانجذاب وتوافق عميق بين عقلي وقلبي، وتملكني اليقين من أن الله عزّ وعلا شملني برحمته وأخذ بيدي ليدلني إلى صراطه المستقيم.

كان الوقت في تلك اللحظة قد اقترب من الفجر وكنت أريد أن أتصل بأختي لتعطيني الصلاة البهائية، ولكنني انتبهت إلى أن الوقت كان غير مناسب، فحاولت الصبر حتى تشرق الشمس ولكن الصبر كان عزيزا في مثل تلك اللحظات. ومن ثم حاولت أشغل نفسي حتى تشرق الشمس، فقمت بالبحث عن شفرات الحلاقة التي كنت قد تركتها منذ زمن طويل حتى أحلق لحيتي مؤكدا لنفسي انتهاء فترة الحيرة والزلزلة التي مررت بها، وإعلان بداية يوم جديد وميلاد خلق جديد.

لحسن الحظ كان هناك اتفاق مسبق مع أختي بأن تأتي إلى منزلي في الصباح الباكر لنذهب سويا لإنجاز بعض المهام، وبالفعل وصلت مبكرا ووجدتني بنصف لحية وطلبت منها بلهفة ان تعطيني الصلاة البهائية، وأذكر ضحكتها في ذلك اليوم حين رأتني هكذا وقالت معلّقة على منظري: جميل جدا فانت الآن نصف مسلم ونصف بهائي.

ولن أنسى ما حييت مقدار سعادتها هي وزوجها لأن الله قد منّ عليّ بهذا الفضل العظيم. لقد كانت شقيقتي وزوجها دوما دعما لأسرتنا ومازالا على عهدهما بذلك حتى الآن.

لم يكن الأمر سهلا أو هيّنا فقد ظللت لفترة تتجاذبني الأفكار للحظات، وتتلاعب بي الشكوك أحيانا، وأتساءل في نفسي يا ترى هل أنا على حق ام لا؟

ولكن ثقتي الكبيرة في الله واستمراري في القراءة وكثرة الدعاء ساعداني كثيرا على التعمق في هذا الأمر العظيم، فكنت أشعر بأن الغشاوة التي كانت تمنعني من الرؤية تنقشع تدريجيا يوما بعد يوم، وأن قدماي المرتعدتان تزداد ثباتا مع مرور الأيام، وقد زاد من سعادتي أنني أصبحت أحب قراءة القرآن أو الإنصات إليه عندما يتلى، شعرت وكأنه قرآن جديد بعد أن فُك الرحيق المختوم بيد القدرة والاقتدار، وانعم الله علينا بالوضوح في فهم معاني الآيات.

أما السلام والطمأنينة اللذين شعرت بهما منذ تلك اللحظة جعلاني أخيرا أضع راسي على الوسادة وقد خلا قلبي من أي رهبة أو خوف من أن يأتيني الموت بغتة وأنا أغط في نوم عميق، ولما الخوف ولما الفزع بعد ان تأكدت من الرحمة الإلهية والعطف الرباني الذي لا يشملني أنا فقط بل ويشمل العباد جميعا.

بعد أن هداني الله إلى طريقه ومَنّ علىّ بذلك الفضل المحض من دون استحقاق أجد أنني كلما نظرت إلى نفسي أجدها أصغر بكثير من أن تستحق مثل هذا الفوز العظيم، لقد أيقنت بأن الجنة الحقيقية هي في القرب من الله، وجهنّم الحقيقية ليس سوى البعد عنه سبحانه فهو أرحم الراحمين.

[1]  سورة آل عمران، الآية 185.

[2]  سورة العنكبوت، الآية 69.

[3]  سورة البقرة، الآية 94.

[4]  سورة الزمر، الآية 53.

رحلة عمرو شقيقي

عندما سألتني مؤلفة الكتاب أن أكتب قصة معرفتي بالدين البهائي رأيت أن هذه الرحلة تحتاج مني أن أعود إلى ما يقرب من أربعين عاما من الذكريات. خلال تلك الفترة تغيّرت الظروف وتغيّرت البيئة التي شكّلت ملابسات هذا الحدث، وقد تكون رؤيتي لذلك الحدث قد تأثرت بمرور الزمن.

إن يقيني الكامل بأن ذلك الحدث كان في الحقيقة أكبر نقطة تحوّل في حياتي حتى الآن، سيجعلني حريصا كل الحرص على عدم تدّخل مرور الزمن في السياق الأصلي للأحداث.

بدأت الأحداث في نهاية السبعينات عندما لاحظت أن هناك تغييرا ملحوظا في حياة والدي ووالدتي، إذ كانت اختي الكبيرة تزورنا تقريبا كل يوم على الرغم من انشغالها الشديد بعملها، فكانت أحيانا تأخذهما كثيرا معها في زيارات، وعندما كانت تأتي لزيارتنا كانت تتحدث مع والدي على انفراد وعندما أدخل الغرفة يسود الصمت، فكنت أشعر بأن هناك أسرارا يحاولون عدم الإفصاح بها أمامي ولا يريدون اطلاعي عليها، لذا كان ينتابني شعور بالقلق، وبأنني أصبحت غريبا بينهم، ومما زاد من مشاعري  تلك هو كثرة عدد الزوار الذين كانوا يأتون لزيارتنا ولم يكن لي سابق معرفة بهم،  كان بعضهم من الإيرانيين الذين كانوا يتكلمون العربية ولكن بلهجة مختلفة، وهذا في حد ذاته يعتبر شيء جديد تماما في حياتنا وعلاقاتنا.

كما لاحظت أيضا أن أبي وأمي أصبحا يمضيان وقتا أطول في قراءة الكتب، وعندما كنت أسأل عن نوعية تلك الكتب لا أجد إجابة واضحة، لقد كانوا يخفون الكتب في مكان ما في غرفة نومهما حتى لا تصل إليها يدي وأطّلع على تلك الأسرار وأعرف سر الغموض الذي أصبح يغلّف جو الأسرة بأكملها.

في أحد الأيام اصطحبت أختي أبي وأمي في رحلة إلى مدينة مجاورة وكان القلق والفضول قد بلغا مني مبلغا كبير، وكنت في البيت بمفردي فقررت أن أطّلع على بعض الكتب التي كان والداي يخبئانها في غرفتهما، ولما وجدتها فتحت واحد من تلك الكتب كان بعنوان مناجاة، وعندما قرأت بعضا من النصوص الموجودة في الكتاب وقد كانت على شكل أدعية مليئة بالشكر والعرفان لله سبحانه وتعالي، وكان لكلماتها تأثير رقيق على قلبي، قرأت عددا منها وشعرت بروحانية شديدة، راحة في نفسي، ومن ثم اطمأن قلبي على والديّ ، وقررت ألا أشغل بالي مرة ثانية بهذا الموضوع. وعلى الرغم من التساؤلات الكثيرة التي كانت تراودني بين حين وآخر كنت أحاول أن أتناساها لأنني كنت في الثانوية العامة وكان لابد لي من التركيز الكامل للحصول على مجموع كبير يمكنني من تحقيق أمنيتي بالالتحاق بكلية الهندسة جامعة القاهرة.

ورغم ذلك كانت الأحداث المحيطة بي تولّد كل يوم تساؤلات أكثر عما كان يدور حولي، حقا كنت أقاوم الانخراط في تحري ما يدور حولي من الأحداث، إلا أنني علمت بمحض الصدفة بأن هناك رسالة إلهية جديدة أتي بها رسول جديد، وكوني شابا ولدت في اسرة مسلمة ونشأت في بيئة إسلامية سواء في مصر أو في الخليج جعلني أتعامل مع هذه الأحداث بحرص واستنكار في الوقت نفسه. كان مصدر الحرص هو أن أختي الكبرى كانت رمزا للتدين في الدين الإسلامي وبحكم دراستها في الأزهر كان فهمها عميقا للدين، وكانت تطبق هي وزوجها كل التعاليم في حياتهما الأسرية والعملية، لذا أصبحت مرجعا للعائلة في كل المسائل الدينية، ومن الغريب أنها كانت في الوقت نفسه مصدر المعلومات عن مجيء رسالة جديدة.

أمّا الاستنكار كان مرجعة هو كل ما تعلمته منذ الطفولة سواء في البيت أو في المدرسة هو  أنه لا دين بعد الإسلام، وأن سيدنا محمد هو خاتم المرسلين حتى يوم القيامة، كان ذلك هو المعتاد والشائع في بيئتي المحيطة.

أخذت أذكّر نفسي بأني لن أخوض أكثر في ذلك الموضوع حتى أنتهي من دراستي وامتحاناتي، ولكنني سألت أختي الكبرى في إحدى المرات عن جو الغموض الذي يسود بيتنا، وعن التغييرات الحادثة في الأسرة، فأجابتني ببساطة وعطف شديد: صحيح هناك شيء مهم جدا غيّر حياتنا، ولولا أنك في سنة مهمة ومصيرية أيضا لكنا تحدثنا معك بصراحة،  لذا رأينا أن الوقت ليس مناسبا لمناقشته معك حرصا على مصلحتك التي تهمنا جميعا، لذا يجب عليك الآن التركيز فقط في دراستك وبعد انتهاء الامتحانات سيكون عندنا فرص أكبر لمناقشة ذلك الموضوع، وفي الحقيقة كان ردها على بساطته كافيا لي خاصة أنه كان يتوافق مع رغبتي وتصميمي على التركيز في دراستي فقط في تلك الفترة.

مرت الأيام وانتهت الدراسة وعدت إلى مصر لأستعد للالتحاق بالجامعة بعد أن نجحت وحصلت على مجموع عالي يؤهلني لدخول الكلية التي كنت أصبو إلى الالتحاق بها.

في تلك الفترة كان تساؤلي الأول هو هل من الممكن ظهور دين جديد ورسول جديد؟

لذا قمت بقراءة القرآن بجدية لم أتعودها من قبل، وراجعت كتب التاريخ التي تحدثت عن تاريخ ظهور الدين الإسلامي ولأول مرة قرأت أجزاء من الكتاب المقدس على الرغم من مخالفة ذلك للتقاليد الإسلامية التي تعتبر أن الإنجيل والتوراة محرفان، فما زادتني تلك القراءات إلا حيرة، بل اخذتني أبعد وأبعد عن إجابة التساؤلات المطروحة أمامي. فقررت أن أتخذ أسلوبا علميا للإجابة عن تلك التساؤلات.

وكان السؤال الأول هل من الممكن ظهور رسول جديد؟ وجاءت الإجابة على هذا السؤال عن طريق مراجعتي للقرآن، لقد كنت متأكدا من مجيء ثلاثة رسل هم موسى وعيسى ومحمد عليهم جميعا السلام، ولكن من خلال قراءتي للقرآن وجدت أنه ذكر الكثير منهم منذ آدم عليه السلام، وهناك أيضا إشارة إلى أن كثيرا منهم لم يذكروا في القرآن.

“وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ”[1]

ومن خلال نظرة عامة على تعدد الديانات في العالم وجدت أن هناك ديانات أخرى كاملة بتعاليمها ولها أتباعها، ومن هنا كان الرد على سؤالي، فما دامت رسالات الله كانت مستمرة

وحتى مجيء سيدنا محمد (ص)، فما المانع من تكرار هذا الحدث واستمراره مرات ومرات على مرّ الأزمان وخاصة لأن الناسي تنسى الهدي الإلهي وتحتاج إلى التذكرة وليس هذا لعيب أو نقص في الدين الموجود، ولكن العيوب تكون في تطبيق الشرائع بحذافيرها وبدون تحايل عليها ووضع مبررات لعدم التطبيق، ومن قراءة تاريخ الأديان وجدت أن هذا يحدث في نهاية كل رسالة، لذا لا يترك الله الإنسان وحده في حيرة، بل يساعده بنزول الرحمة الإلهية على يد رسول جديد.

وكان السؤال الثاني عن مكانة الرسول الجديد، هل كانت مكانته مماثلة للرسل الذين جاءوا من قبل، وتحيّرت في الرد على هذا السؤال بسبب قلة علمي بمكانة الرسل، ولكنني كنت قرأت في كتاب عبقرية خالد الذي كان مقررا علينا في الثانوية عندما سأل خالد بن الوليد بعد إيمانه بالرسول (ص) كيف سيكون الوضع في الجرائم التي ارتكبها في حق الرسول والمسلمين قبل إيمانه، فقالوا له بأن إيمانه يجبّ ما قبله، أي أن إيمانه قد محي كل ما ارتكب من الذنوب قبل إيمانه، لذا سألت أختي عند علمي بالرسالة الجديد، وشدة انشغالي في الدراسة في ذلك الوقت الحرج قبل الامتحانات:  فقط أريد أن أعرف هل الإيمان بالرسالة الجديد يجبّ ما قبلها؟

فابتسمت أختي وربتت على كتفي بحنان شديد وقالت: بالتأكيد، فالإيمان بما أنزل الله يعتبر خلق جديد، ويكون فيه الإنسان مثلما ولدته أمه نقي طاهر لا يزال على الفطرة التي فطره الله عليها. ثم استطردت: وعلى العموم لا أظن أنك ارتكبت ذنوبا كبيرة وأنت في هذا السن الصغير، ولكن الله يغفر الذنوب جميعا، فلا تشغل نفسك الآن يا عزيزي وركّز في دراستك، والصيف قادم وسيكون لدينا الكثير من الوقت لنناقش مثل تلك الأمور ونبحثها بعمق.

بعد عودة أختي إلى مصر قمت بزيارتها عدة مرات وفي كل مرة أطرح فيها تساؤلاتي فأجد ردودا مقنعة لأنها كانت منطقية إلى درجة كبيرة وروحانية في الوقت نفسه، فإجاباتها كانت تغطي السؤال من كل جوانبه بحيث لا تترك مجالا للتردد، كنت أشعر بفيض عظيم من المحبة في إجاباتها التي تنقل إلىّ الكثير من محبة الله لبني البشر فهو عندما يرسل رسالة لا يرسلها للحيرة والعذاب، بل محبة منه وهداية لنا سبحانه وتعالى ما أرحمه,

لقد كانت لقاءتنا مصدرا كبيرا للراحة والطمأنينة بالنسبة لي. سألتها في واحدة من تلك اللقاءات عن مكانة الرسول الجديد فأجابت أنه في المنزلة نفسها التي يحتلها جميع الرسل صلوات الله عليهم جميعا، وأن مجيئه ما هو إلا تحقيقا للوعود الإلهية المذكورة في الرسالات السابقة وفي القرآن الكريم.

خلال تلك الحوارات ازداد إيقاني بأن هذا الرسول هو حق من عند الله، ومجيئه هو ضرورة حتمية خاصة في هذا الوقت العصيب الذي يعيشه العالم، ومن ثم شعرت بأنني أعيش أيام ذات طابع خاص، تجدّد الأحاسيس التي عاشها الناس في فترة ظهور الرسول الكريم محمد (ص) وكان ذلك مصدر سعادة واطمئنان لي وكان يكفيني أن أتمتع بهذا الإحساس.

وبعد تقريبا شهرين من تحري الحقيقة والبحث الدؤوب الذي لن ينتهي أبدا، قررت أن أتّبع الدين البهائي وبدأت بالفعل في ممارسة شعائره، وبدأت رحلة روحانية جديدة كانت لها نتائج عظيمة على مرّ الأيام في حياتي، رحلة غيّرت مسار حياتي وجعلتني مهتما بكل البشر، وفي غاية السعادة لخدمتهم، رحلة أخذتني لبلدان عديدة وقربتني من ثقافات مختلفة، وفي كل خطوة من خطوات حياتي حتى الآن أشعر بالامتنان والفخر لأنني كنت جزءا من تلك المنظومة التي تهدف إلى تحرير العالم من قيود التعصّب ومحدودية الجنسيات والأعراق حتى يعود البشر إلى إنسانيتهم التي خلقوا بها، وحتي تتمتع الأسرة البشرية بمستقبل باهر مليء بالتوافق والاتحاد.

إن الكلمات غير قادرة على وصف مشاعري في هذه الرحلة ولكن كم السعادة والطمأنينة والرخاء الذي لازمني منذ ذلك الوقت لا يوجد له من مثيل.

[1]  سورة غافر، الآية 78.

رحلة يحيي شقيق زوجي

كانت علاقتي بأخي الكبير علاقة حميمة وكنت دائما ما أتشاور معه في كل أموري دينية كانت أم دنيوية، لذا عندما سافر إلى الإمارات هو وأسرته تركوا فراغا عائليا كبيرا، ولقد انتهزت أول فرصة للسفر إليهم والالتحاق بهم. كانت ثقتي فيه وفي قوة إيمانه وفهمه وتعمقه في الدين الإسلامي كبيرة، فهو خريج كلية دار العلوم، وأستاذ اللغة العربية والتربية الإسلامية، وهو الدارس في معهد الدراسات الإسلامية، وقد كانت نشأته الدينية لا غبار عليها، ومن عشرتي له أصبحت أعرفه أكثر من نفسي، ففيه الكثير من الصفات الملائكية، وزوجته كانت خريجة كلية البنات جامعة الأزهر، وهي مدرسة لغة عربية وتربية إسلامية، وعرفتها عن قرب كزوجة أخي، لقد أصبحت أختا رابعة لي، بل كانت عندي أفضل من إخوتي جميعا، وكثيرا ما كنت أقف في صفها في بعض المشاكل العائلية التي كانت تحدث مع أخوتي البنات كما يحدث عادة في كل الآسر، كنت فعلا أشعر بأن قلبها شديد الصفاء، وتعلّقها برضاء الله كان مميزا، وكان المرحوم والدي دائما يشهد لها بذلك ويعبّر دائما عن حبه لها.

وفي أحد اتصالاتي الهاتفية بأخي للتشاور معه في أمر ما أخبرني بالانتظار حتى نلتقي في عطلة نهاية الأسبوع القادم، لأنهم سيأتون لزيارتنا للتباحث في أمر هام جدا ومصيري.

وبالفعل حضر لزيارتنا في مدينة العين أخي العزيز الفاضل ومعلمي الكبير والقدوة الحسنة مع زوجته الفاضلة، وأولادهما الثلاثة، وكان أحلى لقاء وأجمل حوار استمر حوالي خمسة أيام.

في البداية ذكر لي أخي أنه هو وزوجته حاولا عدة مرات الكلام معي في موضوع مهم على انفراد بعيدا عن زوجتي وتجنبا لتعصبها الدينيّ على الرغم من طيبة قلبها وعمق إيمانها، ولكن لم تساعدهما الظروف، لذا قررا الحديث معنا سويا.

كنت في حيرة ما هو ذلك الحديث الخاص والذي كانا يريدان الحديث معي فيه على انفراد؟

توقعت أنهما يريدان الحديث معي عن موضوع دينيّ، كما تعودت منهما ذلك فقد كان لأخي جهود كبيرة في تأسيس الجمعيات الدينية في مصر، ومحاولة البعث الروحاني في نفوس الشباب المسلم، وتذكيرهم بجوهر الإسلام، لذا تخيلت أنه قد جاءته دعوة روحانية في المنام لعمل شيء ما للإسلام والمسلمين، فضحك عندما أخبرته بذلك وقال لا يا أخي العزيزهناك أمر أهم من ذلك بكثير!!!!

وأكمل حديثه قائلا: أهم شيء هو أنك تعرفني جيدا وتثق بي أليس كذلك؟

فأجبته بسرعة وبثقة: ليس في ذلك شك، ثم استطردت مشجعا له على الدخول في الموضوع قائلا: ها يا أخي العزيز ماذا رأيت في المنام؟

وماذا قال لك الداعي؟

فرد قائلا: إنها حقيقة وليست رؤية، فسألت ما هي؟

قال ظهور دين جديد وهو الدين البهائي، ورسول جديد هو حضرة بهاء الله!!!

فسألته وماذا بعد؟

قال: كانت هناك رسالة تمهيدية قصيرة وانتهت وهي الديانة البابية ورسولها يدعي حضرة الأعلى، فضحكت ساخرا أنا لم أستوعب ظهور رسالة ورسول بعد، فتفاجئني برسالتين ورسولين!!!

وعلى الرغم من أنني كنت أتميّز غيظا وغضبا، إلا أنني كتمت مشاعري حبا واحتراما له، فهو أخي الكبير ومعلمي، وحاولت أن التمس له العذر، فربما تاه عقله أو هو مضطر أو مجبر على أن يدّعي هذا.

واسترسل في سرده عن هذين الظهورين وكيف؟ ولماذا؟

كان لا يشعر بالمرارة التي كانت تعتصر قلبي وتحرق أحشائي، وخيبة أملي فيه هو وزوجته، ومما زاد من هذه المرارة وهذا الغل والحقد والكراهية، هو ما فاجأتني به زوجتي من بكاء وتأثر عند سماعها للعذاب والنفي الذي تعرض له حضرة بهاء الله، وكادت تصدقهما فيما يدّعيان.

كنت أتمنى في أعماق قلبي ألا يكون المتحدث بهذه الادعاءات هو أخي الذي أحبه، ولو كان شخصا آخر لكنت أحضرت سكينا وطعنته بها في قلبه مثلما أدمى قلبي، حاولت أن أنسى أنه أخي الشقيق، ولكني لم أستطع فقررت بيني وبين نفسي أن أنافقه بالسمع والطاعة، حتى يطمئن لي وأعرف سره وسر تلك المجموعة التي غررت به وأفسدته، وانتقم منهم شر انتقام.

وعندما جلسنا لنتناول الغذاء وكنت أضغط على نفسي حتى لا يفلت مني لفظ أو تصرف يعكس ما في نفسي من غضب وثورة استكمالا حديثهما، ثم طلب أخي من ابنته قراءة مناجاة فتعجبت للفظ وسألته: وما معنى مناجاة؟

فقال: أدعية مباركة، فقلت مستهزئا، ادعوا ما شئتم، أسمعوني ما عندكم، ولولا الإحراج لتصرفت تصرفات بلهاء مستهزئا وساخرا، لكنني كتمت غيظي الذي تزايد حينما قامت حنان ابنته، وكنت أحبها كثيرا، والتي يبدوا أنني سأفقدها هي الأخرى للأبد، تقرأ المناجاة، وبعد أن انتهت كانت مصيبتي كبيرة، ولدي خيبة أمل أكبر، كيف هذا الملاك يتحول إلى شيطان هو وزوجته وأولاده، فسألوني عن رأي في المناجاة، فأجبت بمرارة وتعصب شديد تلاوة كنائسية، وكلام ليس له معنى ويبدو أننا سنعتنق المسيحية، ونرجع إلى الخلف، ذلك بعد أن نفد صبري وأصبحت غير قادر على السيطرة على انفعالاتي وغضبي الشديد الذي كنت اكتمه في داخلي. وهنا سألني أخي بحنان شديد: قل لي يا عزيزي لماذا أنت مسلم؟

وقبل أن أجيبه أعطاني ورقه وقلما وقال لي أكتب إجابتك في نقاط محددة، واعتبرني شخص لا ديني أو مستشرق، وسمعت عن الدين الإسلامي، وأوجه لك هذا السؤال، وركّز وأنت تكتب الإجابة … لماذا أنت مسلم؟؟

فكتبت الآتي:

  1. لأن والداي مسلمان، والأصول إسلامية، وغالبية المجتمع الذي أعيش فيه مسلم.
  2. السيرة النبوية لسيدنا محمد توضح أنه رسول أوحى إليه، ومؤيد من عند الله.
  3. وجود القرآن المعجزة، فلا يوجد له مثيل، كتاب فيه الإعجاز والمعجزات والبلاغة والفصاحة.
  4. وجود الأماكن المقدسة ومعجزاتها مثل الكعبة وبئر زمزم وجميع أماكن الحج.
  5. الإسلام أبديّ ويصلح لكل زمان ومكان.

فبدأ أخي الأستاذ يشرح بإسهاب في الإجابة والمقارنة كالآتي:

لو أنك ولدت في أسرة مسيحية لأصبحت مسيحيا، أو أسرة يهودية لأصبحت يهوديا، فلماذا أنت تعيب على اليهود والمسيحيين الآن وتتهمهم بالكفر، ورجال الدين يؤكدون أن مصيرهم جميعا جهنم وبئس المصير، لذا علينا أن نبحث عن الحقيقة ونعقلها، اليس كذلك؟

أمّا السيرة النبوية فهي موضع اعتزاز وافتخار لي ولك يا أخي، ولكن في قولك أن سيدنا محمد هو أفضل الأنبياء والمرسلين ولم يأت غيره وهو الآخر فذلك يتنافى مع نصوص القرآن ثم تلا الآية التالية:

“قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ”[1]

وأخذ أخي يقنعني بأفضال باقي الرسل ومعجزاتهم، وفي النهاية يقول لي كلهم واحد ويذكر لي الآيات الدالة على ذلك من القرآن الكريم، ولولا أن هذا كان مذكورا في القرآن لاعترضت بشدة عليه ورفضت كل ما يقول.

أما عن فصاحة اللغة العربية في القرآن الكريم، وهنا أفادني بحقائق مُرّة، وكان أهون عليّ تقطيع جسدي إربا من أن أسمع هذا الكلام، لكن بعد الإفصاح عن الأسباب، هدأت وبردت نسبيا، وشعرت بأنني أبو جهل آخر، فقد قال لي أن مؤسسي قواعد اللغة العربية ليسوا عربا، وهم الذين وضعوا قواعد نحو وصرف اللغة العربية، وقد تمّ وضعها بعد أن دخل الكثير من غير العرب وزاد اللحن (الخطأ) في قراءة القرآن، كما يوجد في القرآن عدد من الكلمات والألفاظ الغير عربية، وكذلك يوجد عدد لا بأس به يخالف قواعد اللغة العربية المتداولة، ويخالف قواعد الإملاء، فالقرآن يا عزيزي لم يأتِ لتدريس اللغة العربية، إنما جاء بمعجزات كثيرة منها تقليب القلوب وتآلفها، وتغيير الأخلاق، وأخبار وأنباء وقصص للماضي والحاضر والمستقبل لنتعلم منها الدروس والعبر، وحتى لا نقع في الأخطاء التي وقعت فيها الأمم السابقة.

ثم أعطاني الكثير من الأمثلة للدلالة على ذلك.

ثم استطرد: أمّا ما ذكرت عن الأماكن المقدسة، صحيح أنها مقدسة طبقا لأوامر الرسول والقرآن، لكن قبل الرسالة المحمدية لم تكن كما ينبغي، لقد هدمها أبرهة الأشرم بالفيلة، وكانت مكانا للرايات الحمر (وهي أماكن للزنا والدعارة)، وكانت مكانا لعبادة الأوثان، وبعد أن أعطاها الرسول قدسيتها وطهرها من كل رجس، هدمت عدة مرات بأيدي المسلمين أنفسهم، هدمت بأيدي البرامكة، وهدمت بأمر الحجاج بن يوسف الثقفي، وحتى في العصر الحديث وذلك عندما لجأ إليها مدعي المهدوية من إيران، ولم تدافع عن نفسها كما حدث في عام الفيل، المكان مقدس بالروحانيات، فوقت أبرهة الأشرم، كان الناس يثقون في الله ويتوكلون عليه ويتجلى ذلك في قول جد الرسول(ص) بأن “للكعبة رب يحميها” فحماها الله، ودافع عنها، لكن بعد ذلك تضاءلت الروحانيات وخبت، وضعف الإيمان، وباقي الأماكن مثل بئر زمزم والصفا والمروة، فهي مقدسة من قبل مجيئ الرسول (ص) ولم تنل قدسيتها بعد الإسلام، ونأتي إلى  المسجد النبوي الذي هو مبارك لأن فيه قبر الرسول الذي يحتوي رفاته الطاهرة. وكون الإسلام صالح لكل زمان ومكان، فأين الدليل من القرآن على ذلك؟

هل تعرف لماذا يوجد أتباع للكثير من الأديان السابقة؟

لأن كل أصحاب دين يدّعون مثل ما تدّعي أنت الآن وهو أن دينهم صالح لكل زمان ومكان ومن ثم لا حاجة لهم بدين جديد. والمشكلة هنا ليست في عدم صلاحية الأديان، ولكن المشكلة هي في العزوف عن تطبيقها كاملة، ومحاولة تغيير بعض قوانينها لتتناسب مع التغييرات الحادثة سواء كان ذلك في المكان أو الزمان. لذا فإن الله لا يبخل علينا وينزل لنا رحمته بشريعة جديدة ليست لتتناسب مع الزمان والمكان فحسب، بل وتتناسب مع الطبيعة البشرية التي تتطور مع تطور الزمان، فالبشر يتطورون ويرتقون إلى درجات أعلى فيكون الحديث معهم مختلفا ويتناسب مع تطور عقولهم، فمثلا عندما سُئل الرسول عن الروح، هل تتذكر الرد الإلهي في الآية 85 من سورة الإسراء:

“وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً “

فتجد أن الرد الإلهي يوضح بأن هذا أعمق من أن تتحمله عقولهم، لذا قال لهم وما أوتيتم من العلم إلا القدر القليل الذي وهو لن يساعدكم على فهم موضوع الروح رغم علم الرسول بماهية الروح.

فقلت له: حتى في الأمثال الشعبية يقولون: “كل وقت وله أذان” وهذا صحيح.

ثم استطرد قائلا: والآن إليك بعض المعلومات بإيجاز شديد عن حضرة بهاء الله ورسالته:

لديه كتب من عند الله أضعاف مضاعفة لحجم القرآن الكريم، ثلثيه تقريبا بالعربية، والثلث بالفارسية، وإذا قرأت النصوص العربية، تشعر بأنها من عند الله، مثل القرآن الكريم، وهذا تأكيد لقوله تعالي في سورة البينة:

“لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ”[2]

وعندما تقرأ قصة حضرة بهاء الله بالتفصيل ستتأكد أنه مؤيد من عند الله.

ثم انتقل النقاش إلى علامات القيامة والأحاديث والآيات الدالة عليها، وأخذ ذلك نقاشا كبيرا.

بعد خمسة أيام بلياليها من المناقشات العميقة والحوارات، أخبرني أخي أنه اعتنق الدين البهائي هو وزوجته، وأنه اعتنق هذا الدين منذ عدة شهور بعد أن عكفا على دراسة هذا الدين وتحري حقيقته. فسألته متعجبا، إذا كان الأمر كذلك واصبحتم على دين آخر لماذا لم تقنعني بعدم الذهاب إلى الحج وكنت سأستجيب لنصيحتك؟

فقال: طالما أنت مسلم ومقتنع بطاعة الله، فإن الله يساعدك ويؤيدك لأنك كنت لم تسمع عن الدين الجديد بعد ولم ترفضه أو تعارضه، لقد كنت متأكدا أن حج بيت الله الحرام سيساعدك على تحري الحقيقة، والإيمان بالدين البهائي بعد عودتك.

فسألته أنتم حضرتم إلينا يوم الخميس وذهبنا يوم الجمعة معا لأداء الصلاة، فلماذا أتيت وصليت معي الجمعة ما دام لك صلاة أخرى؟

فقال: أتيت معك لأشجعك على التمسك بدينك لأنه طريق الله وحتى لا أضعك في مأزق أو خجل، ولكني لم أقم الصلاة معك، هل شاهدتني أصلي في المسجد؟

قلت: لا، فاستطرد لقد ظللت خارج المسجد حتى انتهاء الصلاة.

غادرونا في اليوم الخامس عائدين إلى منزلهم الذي كان يبعد عنا مسافة ثلاثمائة كيلو متر شمالا، وذهبت أنا إلى عملي في منطقة تبعد عن بيتي حوالي مائتي كيلو متر جنوبا، وبمجرد دخولي المدينة، سمعت المؤذن يؤذن في أحد المساجد الجديدة، وبالتأمل في معاني الآذان، قلت لنفسي هذا إنذار من الله بالتمسك بالعبادات والدين الإسلامي.

عند رجوعي من العمل إلى منزلي في نهاية الأسبوع استقبلتني زوجتي مبتهجة مسرورة وفاجأتني بقولها: لقد تحققت من أن الدين البهائي هو دين حق، لقد آمنت به بعد أن قرأت كثيرا وبالفعل بدأت أصلي الصلاة البهائية. فكان ردي عليها السب والشتم واللعن والرفض لما تدعيه وتوعّدتها شرا، وأمهلتها حتى أصلي العشاء وأنذرتها بشديد العقاب على تهورها في اتخاذ قرار مصيري مثل هذا فتكون قد خسرت الدنيا والآخرة.

ثم توضأت وبدأت في أداء صلاة العشاء وفي الركعة الثانية شعرت بزوجتي تصلي خلفي ولكنها كانت تتجه إلى القبلة الجديدة، وأثناء تلاوتي للتشهد وأنا أكاد أنفجر من شدة الغيظ والغضب منها ومن جرأتها تذكرت بغتة حلما كنت قد رأيته منذ عدة سنوات وهو: أنني ذهبت لصلاة العصر بأحد المساجد وقام المؤذن برفع الآذان، ولم أجد الإمام فطلبت من المؤذن إقامة الصلاة، ووقفت في اتجاه القبلة أمام المصلين وأنا أقول لهم: استقيموا يرحمكم الله، فإن الاستقامة من تمام الصلاة.

فوجدت مجموعة من المصلين يقولون لي: إن صلاتنا الجديدة فردية وليست صلاة جماعية، فذكرتهم بأن صلاة الجماعة ثوابها أكثر سبعة وعشرين مرة من صلاة الفرد.

فقالوا: ليس لدينا صلاة جماعة

فلم أطل الحديث لأن الباقين كانوا منتظرين للدخول في الصلاة، فوجدت هؤلاء الناس يأخذون اتجاها آخر بعيدا عن الكعبة بزاوية 40 درجة، فقلت لهم: هذا خطأ القبلة هنا هكذا مشيرا إلى اتجاه القبلة (اتجاه الكعبة)،

فقالوا: قبلتنا الجديدة هكذا ووضعنا الجديد هكذا، فتعجبت ودخلت في الصلاة واستيقظت من النوم وأنا في شدة الضيق.

وعندما رأيت أن زوجتي كانت تتجه إلى نفس الزاوية التي شاهدتها في المنام حوالي 40 درجة على يمين الكعبة أجهشت بالبكاء وأعلنت إيماني بالدين البهائي، ولم أستطع استكمال الصلاة.

كانت فرحة زوجتي كبيرة جدا، وخاصة أنها كانت تدعو لله بأن يفتح قلبي ويكشف عن بصري غشاوة التعصب والجهل حتى أرى الحقيقة، تعانقنا، وأعطتني بعض الأوراق المكتوب فيها كيفية الوضوء والصلاة، ثم هرعت لتعطي البشارة لأخي العزيز وزوجته اللذين حضرا فورا لاستكمال تعريفنا بأصول الدين البهائي، ومساعدتنا لأداء العبادات.

لقد كان جلّ اهتمامي هو أن يكون الدين البهائي مثل الدين الإسلامي، يشتمل على الشهادتين، والصلاة، والصوم، والزكاة، وحج البيت، فأكد لي أخي ذلكن وعندما اطلعت على الشريعة السمحة شعرت أنها من نفس المصدر والحمد لله وهذا طمأنني كثيرا، فوجدت بأننا سنستمر نشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لأن حضرة بهاء الله أوضح الفكرة من تتابع الرسل:

“قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ”[3]

وضرورة الاعتراف بهم جميعا وعدم التفريق بينهم كما أوضحت الآية السابقة، لأن رسالات الله لن تنقطع أبدا ما دام هناك خلق فكيف يتركهم الخالق سبحانه بدون هداية ورحمة، فهذه هي سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا أو تحويلا.

“سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا”[4]

“سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا”[5]

[1]  سورة البقرة، الآية 136.

[2]  سورة البينة، الآيات1، 2، 3.

[3]  سورة البقرة، الآية 136.

[4]  سورة الأحزاب، الآية 62.

[5]  سورة الفتح، الآية 23.

رحلة فؤاد شقيق زوجي

ولدت في إحدى قرى محافظة الشرقية، وانتقلت مع الأسرة إلى القاهرة وأنا في التاسعة من عمري، نشأت في أسرة إسلامية سنيّة معتدلة تقيم الشعائر وتلتزم بالمبادئ والقيم التي يحث عليها الدين الحنيف، وكان أبي يشجعني أنا وأخوتي على حفظ القرآن. كان يقرأ ما تيسر من القرآن الكريم يوميا بعد صلاة الفجر، بصوت عال في صحن المنزل. وكذلك كانت والدتي، ولقد حفظت حوالي ثلث القرآن قبل تخرجي من كلية الطب جامعة القاهرة في منتصف السبعينيات.

لي أربعة أشقاء وثلاث شقيقات، وتربطني بشقيقي الأكبر وزوجته علاقة حميمة خاصة منذ الطفولة، لقد كانا بالفعل نموذجين في التمسك بجوهر الإسلام وتعاليمه، وفي أداء المناسك الإسلامية من الصلاة والصيام وإيتاء الزكاة، والحج وكانا لا يزلان في سن الشباب، وكانا يودعان أموالهما في البنوك بدون فوائد…إلخ

بل كنا نحن الصغار نضيق أحيانا بتمسكهما الشديد بالدين والضغط علينا لتأدية الفروض في وقتها. لقد كنت شديد الارتباط بهما منذ زواجهما وعلى علم بمقدار تدينهما وإخلاصهما لله، وقد ازدادت هذه الرابطة مع مرور الأيام وبإيماني عن طريقهما بالدين البهائي.

قرأت عن البهائية لأول مرة سنة 1971 من الصحف والمجلات المصرية بعد أن تم القبض على مجموعة منهم وكانت الصحف تنشر معلومات مغلوطة وتدّعي بأنهم فرقة إسلامية ضالة ومتطرفة في بعض المفاهيم الإسلامية، وقتها قلت في نفسي: فرقة جديدة تزيد من تمزق الأمة الإسلامية، وا أسفاه. ولكنني لم أعط الموضوع أهمية تذكر وصدّقت ما ذكرته الصحف شأني في ذلك شأن كثير من الناس.

وفي عام 1979، كنت أقوم بتأدية الخدمة العسكرية في الجيش المصري بعد تخرجي، وكنت أحيانا أقوم ببعض العمل الإضافي في المساء. وحضر شقيقي الكبير وزوجته وأولادهما الثلاثة، في إجازة الصيف كالمعتاد حيث كانا يعملان في إحدى دول الخليج. وكنت أسعد بزيارتهم وأقضي الكثير من الوقت معهم. ولكن هذه المرة وبعد وصولهم بأيام قليلة اتصلت بي شقيقتي الكبرى، وكانت في شدة التوتر، وطلبت مني زيارتها فورا لأن هناك أمرا هاما وخطيرا، وعندما زرتها أخبرتني بأن شقيقنا الأكبر قد وقع في ورطة كبرى، وعليّ أن أكون حذرا عند زيارته، لأنه هو وزوجته يدعوان إلى دين جديد، ويبدو أنهما سقطا في يد عصابة أوهمتهما بأن أخي سيصبح نبيا أو أنه المهدي المنتظر حتى تستولي على أموالهما وممتلكاتهما، مستغلين بذلك طيبته هو وزوجته، فكن حذرا ولا تزره حتى لا تقع أنت أيضا في حبائل تلك العصابة الآثمة.

دبّ القلق في وجداني، وشعرت بالخوف الشديد عليهما، لذا قررت ألا أستمع إلى كلام شقيقتي وأتركهما بل قررت أن أنقذهما من هذه العصابة مهما كلّفني هذا الأمر.

ذهبت بسرعة لزيارتهم، ولم أخبرهما بما سمعته من شقيقتي، وفضّلت الاستماع منهم ومجاراتهم حتى أصل إلى سر تلك العصابة المخادعة.

بدأنا بحديث عائلي عادي ثم فاجأني أخي بطرح سؤالين على غير العادة:

لماذا أنت مسلم؟

وما هي قناعاتك بأن الإسلام دين من عند الله؟

ومن هنا بدأ الحوار، وأتذكر أنني طرحت للجواب موضوعين وهما التاريخ الإسلامي والقرآن الكريم، وبعد ذلك كان السؤال الحرج: هل يمكن أن يأتي دين جديد؟

وحاولت التحايل في الإجابة وقلت لهما: نناقش هذا الموضوع حينما يظهر وليس قبل ذلك.

فكان جوابهما الصاعق في وقت واحد:

لقد ظهر!!

سألتهما: من هو؟ وما اسمه؟

فقالوا: فكّر!!

وفجأة خرجت من لساني كلمة (البهائية)، فقالوا وهما في غاية الدهشة: نعم!!

وهنا بدأ الحوار يأخذ اتجاها آخر، وتوالت الأسئلة وطال الحوار بيننا، ودخلنا في استدلاليات من القرآن على أن رحمة الله مستمرة وأن فيضه لا ينقطع. ولم يتوقف هذا الحوار الحاسم حتى سمعنا آذان الفجر، فطلبا مني أن أستريح حتى أستطيع الذهاب إلى عملي في الصباح، ودخلا إلى غرفتهما ليستريحا.

حاولت النوم ولكنني لم أستطع، وأخذت أفكر ماذا يجب أن أفعل؟

وقررت أن أسألهما إن كانا يعرفن بعض البهائيين للتعرف عليهم وزيارتهم، لأعرف من هم هؤلاء الناس، وهل هم أناس عاديون؟

أم أنهم عصابة تريد الاستيلاء على أموال أخي وزوجته؟

ذهبت إلى عملي في الصباح متثاقلا لعدم النوم وفي الوقت نفسه كان يراودني شعور بضرورة التفرغ للوصول إلى حقيقة هذا الأمر والحاجة إلى سرعة الحصول على نتيجة قطعية قبل أن تنتهي إجازة أخي وعودته وأسرته إلى الخليج.

قررت أن أتنازل عن عملي الخاص لأحد زملائي في تلك الفترة حتى يتسنى لي العودة كل يوم بعد تأدية الخدمة في المستشفى التي كانت تبعد قليلا عن بيت أخي، ومن الصدف الجميلة أنني كنت قد انتقلت إلى تلك المستشفى قبل أشهر قليلة من عودة أخي وكأنما الله كان يمهد لي ذلك لنكمل بحثنا في هذا الموضوع والتأكد إذا ما كانت البهائية فعلا رسالة من عند الله، أم أنها مجرد حركة أو فكرة ظهرت وفي طريقها إلى الاضمحلال.

كنا نجلس أخي وزوجته وأنا ساعات طويلة تصل أحيانا إلى تسع ساعات في نقاش وبحث في القرآن الكريم والكتاب المقدس على مدى أسابيع ثلاثة.

وفي تلك الأثناء التقيت ببعض البهائيين المصرين، والذين يعود تواجدهم في مصر إلى أكثر من مائة وخمسين عاما في ذلك الوقت. كان أحد هؤلاء البهائيين رسّاما في جريدة أخبار اليوم، كان من أصل ايراني وعرفت أنه بهائي من الجيل الثالث وهو مولود في مصر، ولقد تأثرت بطيبة قلبه وعلمه الغزيز ومحبته واحترامه هو وزوجته لسيدنا محمد (ص). ذهبت يوما لزيارته مع أخي وأسرته فقدّم لي أحد الألواح المنزلة على حضرة بهاء الله بعنوان لوح الطب، وكان يعلم بأنني طبيت، لقد تأثرت كثيرا بهذا اللوح وما فيه من عمق وحكمة بالغة.

وبدأت في قراءة بعض الكتب البهائية وكان أولها كتاب الإيقان، ولأن في هذا الكتاب يتحدث حضرة بهاء الله عن الكتب المقدسة شعرت أنني بحاجة إلى قراءة (الإنجيل والتوراة)، وفعلا ذهبت إلى سوق الأزبكية واشتريت (الكتاب المقدس) ولأول مرة في حياتي، ووضعته جنبا إلى جنب مع القرآن الكريم وكتاب الإيقان، وقمت بعمل فهرسة لمحتويات كتاب الإيقان إذ كان بدون فهرسة!

في نهاية الأسبوع الثالث من الدراسة للإسلام والبهائية وكان مرجعي الإسلامي هو القرآن الكريم، والمعجم المفهرس، والمعجم اللغوي (مختار الصحاح)، والموسوعة الإسلامية، وكان منهجي يدور حول إمكانية إرسال رسالة جديدة للبشرية أو إغلاق ذلك الباب، وفي البهائية كان هدفي تاريخ الدين البهائي والوحي المقدس.

وأخيرا طلبت الاستماع إلى أحد الآثار المنزلة على حضرة بهاء الله، وقامت ابنة أخي ذات الثلاثة عشر ربيعا بتلاوة أحد الألواح “لوح أحمد” بلحن بديع اقشعر له جسدي، وذاب فيه وجداني، وأيقنت عند سماعه بأنها كلمات من الله!! فأعلنت أيماني ببهاء الله وطلبت الصلاة البهائية، وقمت بأدائها، ولكن استمرت رحلة التعمق لفترة أطول حتى وصلت إلى اليقين.

كان المبدأ أنني أعيش في دولة إسلامية، وفي حالة اكتشاف أن الدين البهائي خطأ فيمكنني العودة إلى الإسلام وبسهولة، ولكن لو أن الدين البهائي صحيح وتركتها وانتهى أجلي فقد وقع علي القول فأكون من الهالكين.

في الأسابيع الثلاثة التي ذكرتها كرحلة بحث سافرت مع أخي وأسرته إلى الإسكندرية وزرنا بعص الأسر البهائية، وحصلت منهم على كتاب “تاريخ النبيل” وهو كتاب تاريخي كبير (400صفحة) يحكي بالتفصيل عن الدورة البابية والتضحيات العظيمة التي قدمها المؤمنون الأوائل والذين تجاوز عددهم عشرين ألف شهيد، لقد كان لهذا الكتاب العميق أثر كبير في ترسيخ إيماني.

بعد عودتنا إلى القاهرة سافر شقيقي وأسرته إلى الخليج، وبقيت في القاهرة على تواصل مع كثير من الأصدقاء البهائيين وتعمقت أكثر في الكتب، وبعد ثلاثة شهور وصلتني دعوة من أخي لزيارتهم في الخليج. وقد كنت في ذلك الوقت أفكر في السفر إلى بريطانيا، أو إلى أمريكا لأستكمل مشواري الطبي، ولكنني قبلت الدعوة كجزء من رحلتي في التعمق ومن هناك يمكنني الانطلاق إلى حيث أريد. ومكثت ستة أشهر معهم قضيتها في قراءة معظم الكتب البهائية المتوفرة إلى أن تم تعييني كطبيب في إحدى المستشفيات الحكومية، وتعرفت بكثير من البهائيين إلى أن أكرمني الله بزوجة بهائية مؤمنة من أسرة طيبة فكانت هذه هي حسنة الدنيا التي أهداها لي الله سبحانه وتعالي لتكون لي خير رفيق.

الخاتمة

إن مثل هذه الرحلات والتجارب لا تنتهي ما دام الإنسان حيّا، فلايكون لها ختام. فقد تفتح أبوابا أخرى لرحلات جديدة،  قد تأتي في رواية أخرى أو في رويات تالية. لذا أردت أن أتوّج

هذه الرحلة بقصىدة كتبتها حديثا بمناسبة الاحتفالات العالمية بمرور مائتي سنة على ميلاد حضرة بهاء الله في أكتوبر ٢٠١٧.  وهي تعبّر عن الكثير من المشاعر التي جاشت في صدري عن ميلاد هذا النور المبين الذي سطع في الآفاق، ليقود الجنس البشري إلى السلام العالمي الذي وعدنا به في جميع الكتب المقدسة.

حبذا هذا اليومُ الذي فيه فُتح بابُ الرحمةِ والفضلِ والعرفان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه جاءت البشارةُ الكبرى لبَنِي الإنسان

وتحقق الوعدُ لمن على الأرضِ وعمت الفرحةُ كلَّ الأنام

هذا هو اليومُ الذي بشرت بقدومهِ كلُّ الكُتب ووعدت به سائرُ الأديان

وفيه وعدَ اللهُ البشرَ بيومِ اللقاءِ من سالفِ الأيامِ وقديمِ الأزمان

وتهيأت النفوسُ للقاءِ المحبوبِ من غيرِ حُجبٍ أو قُمصان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه فُتح بابُ الرحمةِ والفضلِ والعرفان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه جاءت البشارةُ الكبرى لبَنِي الإنسان

وتحقق الوعدُ لمن على الأرضِ وعمت الفرحةُ كلَّ الأنام

هذا هو اليومُ الذي فيه تمّ مسكُ الوصالِ معَ مَن في الإمكان

بنداءٍ عذبٍ طالَ انتظارُه لإحياءِ الإنسانِ بعَرفِ الجِنَان

وبه يرجعُ المرءُ إلى بارئهِ طائعاً خاشعاً خاضعاً بالروحِ والرّيحَان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه فُتح بابُ الرحمةِ والفضلِ والعِرفان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه جاءت البشارةُ الكبرى لبَنِي الإنسان

وتحقق الوعدُ لمن على الأرضِ وعمّت الفرحةُ كلَّ الأنام

هذا هو اليومُ الذي فيهِ انتعشت القلوبُ بلقاءِ المحبوب

واهتزت الأرواحُ بعمقٍ في الصدورِ والأبدان

وعلت الوجوهَ المستبشرةَ الراضيةَ نضرةُ الإيمان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه فُتح بابُ الرحمةِ والفضلِ والعرفان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه جاءت البشارةُ الكبرى لبَنِي الإنسان

وتحقق الوعدُ لمن على الأرضِ وعمت الفرحةُ كلَّ الأنام

هذا هو اليومُ الذي تنورت بنورِ جمالهِ الأشياءُ في الجبالِ والسهولِ والوديان

وتمايلت الأشجار، وتراقصت الأزهار فتعطرت برحيقها مشامُ الأكوان

ولهجت الألسنُ بالحمدِ والثناء لظهورِ أمرِ الله بكمالِ الحجةِ وسطوعِ البرهان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه فُتح بابُ الرحمةِ والفضلِ والعرفان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه جاءت البشارةُ الكبرى لبَنِي الإنسان

وتحقق الوعدُ لمن على الأرضِ وعمت الفرحةُ كلَّ الأنام

هذا هو اليومُ الذي فيه تَنَوّرَت القلوبُ بنفحاتِ الإيقان

وخشعت النفوسُ فيه مُهلّلةً ومُكَبّرةً للهِ الواحدِ الديان

ونطقت الأشياءُ بين الأرضِ والسماءِ الملكُ للهِ الفردِ العزيزِ المنان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه فتح بابُ الرحمةِ والفضلِ والعرفان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه جاءت البشارةُ الكبرى لبَنِي الإنسان

وتحقق الوعدُ لمن على الأرضِ وعمت الفرحةُ كلَّ الأنام

هذا هو اليومُ الذي فيه وُلدَ مًن يَعجَز عن جمعِ صفاتهِ ما في الأرضِ من أوراقٍ وأقلام

ويَكِّلُ عن ذِكرِ نعُوتِه ومنّاقِبِهِ أو مدحِهِ أيُّ لسان

وتذوب الكلمات خجلا عن وصفه مهما أوتيت من فصاحة أو أودع فيها من بيان

فهنيئا لمَن عَرَفَ لحنً القولِ وأقبلَ مُسَبِحاً بحمدِ ربهِ ومتمسكاً بصراطِهِ المستقيمِ باطمئنان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه فتح بابُ الرحمةِ والفضلِ والعرفان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه جاءت البشارةُ الكبرى لبَنِي الإنسان

وتحقق الوعدُ لمن على الأرضِ وعمت الفرحةُ كلَّ الأنام

هذا هو اليومُ الذي فيه نُفِخَ في الصورِ ونُقِرَ في النَاقورِ

وصُعِقَ مَنْ على الأرضِ إلا مَنْ شاءَ اللهُ الباعثُ الديان

وفيه تَزَلْزَلت الأرضُ وسُيِّرت الجِبالُ وأَتَتْ السماءُ بِدُخَانٍ مُبين.

حبذا هذا اليومُ الذي فيه فُتح بابُ الرحمةِ والفضلِ والعرفان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه جاءت البشارةُ الكبرى لبَنِي الإنسان

وتحقق الوعدُ لمن على الأرضِ وعمت الفرحةُ كلَّ الأنام

هذا هو الْيَوْمُ الذي فيه جاء ربُكَ والمَلَائِكَةُ صَفاً صَفَا

مُكَبرِين مُسَبْحِين بارِءَهُم العزيزِ الفَريدِ المنّان

وفيه لا يُسمَعُ َصوتٌ ولا لغوٌ ولا كلام

إلا من أَذن لهُ الرحَمَن وقال سلامٌ سلام

حبذا هذا اليومُ الذي فيه فُتح بابُ الرحمةِ والفضلِ والعرفان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه جاءت البشارةُ الكبرى لبَنِي الإنسان

وتحقق الوعدُ لمن على الأرضِ وعمّت الفرحةُ كلَّ الأنام

هذا هو الْيَوْمُ الذي فيه أَشْرَقَت الأرضُ بنورِ رَبِها واضحَةً للعِيَان

وأخْرَجَتْ الصَيْحَةُ حُورِيّاتِ المعَانِي مِنْ مَكَامِنِها

وفُتِحَ الرحِيقُ المَخْتُومِ بأصَابِع القُوَةِ والقُدْرَةِ والسلطان

وكُشِفَ الغِطَاء عَنِ العيُونِ فَأَضْحَتْ قَرِيرَةً بِنُورِ القَيّومِ

ومُضِيئَةً بِمِشْكَاةِ القَائِمِ المَوعُودِ صاحبِ الزمان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه فُتح بابُ الرحمةِ والفضلِ والعرفان

حبذا هذا اليومُ الذي فيه جاءت البشارةُ الكبرى لبَنِي الإنسان

وتحقق الوعدُ لمن على الأرضِ وعمّت الفرحةُ كلَّ الأنام