دراسات في الفكر البهائي
دراسات في الفكر البهائي

دراسات في الفكر البهائي

المقدمة

قبل حوالي مائة وخمسين سنة أعلن حضرة بهاءالله دعوته العالمية لعموم البشر وبشّرهم بافتتاح فصل جديد من تاريخ الإنسانية، فصل تتحقق فيه النبوّات والبشارات بمجيء من كان موعوداً عند جميع الشعوب والملل منذ القدم. لقد كان ظهوره في بلاد الشرق في زمن انحطت فيه شعوب العالم وغرقت في بحور من التعصبات والأوهام والخرافات. فجاءت رسالته لإنقاذهم من وهدة الظلام والتخلّف ودعتهم إلى نبذ جميع هذه التعصبات والعمل معاً من أجل رفعة وسعادة العالم الإنساني وتأسيس المدنية الإلهية وأنذرهم بأن :{التعصب الديني والبغضاء نار تلتهم العالم ومن العسير إطفاؤها ولا سبيل إلى إنقاذ البشرية من هذا البلاء العقيم إلا بيد القدرة الإلهية.}[1] كما أشار بأن أول الخطوات لإزالة التعصبات هي الإيمان بمبدأ وحدة الجنس البشري وتطبيقه، الذي ينادي بأن الإنسانية شعبٌ واحدٌ، والأرض وطنٌ مشتركٌ للجميع، ولا فرق بين الناس على أساس اللون أو العرق أو الأصل أو الدين. وذكر بأن حقيقة الأديان جميعها واحدة وأنهم جميعا أتوا من مصدر واحد من أجل رقي الإنسان وسعادته وبالتالي يجب أن يكون الدين سبباً للوحدة والمحبة وليس للصراع والنزاع حيث ذكر: {إن دين الله ومذهبَهُ لأجل حفظ العالم واتحاده واتفاقه ومحبّته وألفته لا تجعلوهُ سبباً للنفاق والاختلاف وعلّةً للضغينة والبغضاء، هذا هو الصراط المستقيم والأسّ المحكم المتين.}[2]

كما ركّز حضرته على جميع القيم والمبادئ السامية الأخرى التي أتت بها الأديان السابقة، بل وسّع من مفاهيمها وأعطاها أبعاداً أوسع وأشمل بالإضافة إلى تعاليم أخرى جديدة ابتداء من التوحيد ووحدة الجنس البشري إلى اتفاق الدين والعلم والمساواة بين حقوق الرجل والمرأة ووحدة الأديان والتعليم الإجباري ومساعدة الفقراء واحترام الكيان العائلي معتبراً الأسرة أساس بناء المجتمع الصالح. وأكدّ بأن الحياة الخاصة للفرد هو مقياس دقيق لإيمانه، ففرض على أتباعه طهارة القول والفكر والعمل، عفةً وأمانةً وصدقاً وولاءً ونزاهةً ونقاوةً وكرماً، وقد لخّص مبادئه بهذا البيان: {قل يا قوم دعوا الرذائل وخذوا الفضائل، كونوا قدوةً حسنةً بين الناس وصحيفةً يتذكرُ بها الأناس … قل أن اتحدوا في كلمتكم واتفقوا في رأيكم واجعلوا إشراقكم أفضل من عشيّكم وغدَكُم أحسَنَ من أمسكم. فضل الإنسان في الخدمة والكمال لا في الزينة والثروة والمال. اجعلوا أقوالكم مقدسةً عن الزيغِ والهوى وأعمالكم منزهة عن الريبِ والرياءِ …}[3]

ولهذا لم تكن رسالة حضرة بهاءالله سوى رسالة سلام ومحبة لأهل العالم، رسالة أريد منها خلق جيل جديد واعٍ قادر على إيجاد المدنية الإلهية، ولكن للأسف تجاهلت البشرية دعوته وانصرفت عنها. أما اليوم فإن آمال البشرية قد تعلقت بهذه الرؤيا واتجهت نحوها أنظار الملايين ممّن يشهدون تدهوراً وسقوطاً لا مفرّ منه في النظام الاجتماعي والأخلاقي. يشرح هذا الكتيب بعض المبادئ والأفكار والمعتقدات البهائية التي لربما تكون قد أسيء فهمها أو التبست لدى البعض ويُعطي المفهوم الحقيقي لها. وقد حاولتُ بقدر المستطاع أن تكون مدعومة بالبيانات والأقوال الصريحة الصادرة من حضرة بهاءالله نفسه وهو مشرّع الدين البهائي ومؤسسه مستعيناً ببيانات حضرةعبدالبهاء وهو ابن حضرة بهاءالله وخليفته الذي خوّله والده صلاحية تفسير وتوضيح تعاليمه وأحكامه. كما نقلتُ أيضاً بعضاً من بيانات حضرة شوقي أفندي الذي عينّه حضرة عبدالبهاء في وصيته ليكون من بعده وليّا لأمرالله. أما اليوم فإن مؤسسة بيت العدل الأعظم هي المرجع الأعلى المقدس للبهائيين في العالم الذي يقوم على توجيههم وهدايتهم.

لقد وصلت التعصبات والطائفية والفساد في العالم الى حدّ بات ينذر بالخطر وأصبحت الحكومات والشعوب مهددة بالمتطرفين من شتى الأديان والمذاهب، والأزمات الاقتصادية تأتي وتذهب بين الحين والآخر مخلّفة العديد من المشاكل التي أخذت تهدّد نسيج المجتمع الدولي ومستقبله، والتي يصعب حلّها. ومن  هنا يأتي دور رسالة حضرة بهاءالله في إيجاد حلّ ومخرج لكل هذه الأزمات وتغيير حتمي في بنية المجتمع. إن الإيمان به يحرّك فينا مشاعر فيّاضة من الأمل بأن الاتحاد والسلام ليس أمراً ممكنا فحسب بل هما المرحلة القادمة والحتمية من تاريخ الجنس البشري التي أصبحت مشمولة بفضل الله وعنايته.

عبدالحسين فكري

كانون الثاني / يناير 2015

 

[1]   دين الله واحد ص 7

[2]  لوح مقصود – مجموعة من الواح حضرة بهاءالله نزلت بعد الكتاب الاقدس ص 155

[3]  لوح الحكمة –  مجموعة من الواح حضرة بهاءالله نزلت بعد الكتاب الاقدس ص 125 – 126

أولا: وحدانية الله

أثار موضوع وحدانية الله أو التوحيد جدلاً واسعاً بين أوساط أتباع الأديان المختلفة عبر التاريخ وما زال يثير هذا الموضوع جدلاً بين الباحثين في شؤون الدين والروح والذات الإلهية. وعلى الرغم من تأكيد وتوضيح هذا المفهوم بواسطة الأنبياء والرسل الذين بعثوا خلال فترات متفاوتة من تاريخ البشرية لهداية الناس إلا أن المفهوم الحقيقي له قد تغيّر مع مرور الزمن وشابه بعض الانحراف في المعنى الحقيقي. فكل من اليهود والنصارى والمسلمين يؤكدون اعتقادهم بوحدانية الله مع بعض التفاوت فيما يعنون. وحتى الأمم القديمة مثل البراهمة والصابئة والوثنيين سلّمت هي الأخرى بوجود إله واحد وهو الغيب المنيع الذي لا يُدرك. ولم تكن عبادتهم للأوثان لذاتها ولكن بوصفها وسائط للاستفاضة من الفيوضات الإلهية ووسيلة للتقرب والتوسّل إلى الخالق جلّ وعلا. وحقيقة الأوثان والأصنام إنما هي صور ورسوم وتماثيل لأشخاص قاموا بخدمات جليلة لأقوامهم وكانوا وسيلة لتقدمهم فوضعت تماثيلهم وصورهم في المعابد والشوارع إجلالاً لخدماتهم وتعظيماً لأشخاصهم. وبمرور الزمن تحوّل هذا الإجلال والإكرام بين الناس إلى تكبير وتقديس فنسبوا إليهم الكرامات وخوارق العادات والتمسوا منهم البركة وقضاءالحاجات وتشفّعوا وتقرّبوا بهم إلى الله وبالتالي أصبح احترامهم للأوثان وسيلة للتقرب إلى الإله الواحد. كما أن تقديس اليهود لأنبياء بني اسرائيل والمسيحيين للأقانيم لم يزعزع إيمانهم بالله العلي القدير.

سُمّي الله عزّ وجلّ بأسماء مختلفة في الكتب المقدسة منها: الله، يهوه، الرب، براهما وبكلمات أخرى حسب اللغات المختلفة التي جاءت بها. ومن المتفق عليه بين أهل الأديان أنه سبحانه تعالى مقدس عن الإدراك والمشاهدة، وهو خالق الأرض والسماء، وإنه فوق قدرة الإنسان والطبيعة، وانه غيب منيع لا تدركه العقول والطريق اليه مسدود، وكل ما يتصوّره الإنسان في هذا المجال هو محض الوهم والخيال، وإنه أحد أي لا شريك له ولا سبيل للإنسان أن يعرف كُنه الله وذاته إلاّ بواسطة من اصطفاهم الله لهذا الغرض واختارهم وسطاء يتكلمون عن صفاته ويبلّغون رسالته ويعدّدون أفضاله ويذكّرون خلقه، وهم أنبياء الله ورسله ومظاهر أمره. فالمؤمنون في الواقع لا يعبدون هؤلاء المرسلين وإنما جاء احترامهم وتقديسهم لهم ممّن بعثهم واختارهم لتبليغ رسالته للبشرية فأصبح الإيمان بهم عين الإيمان بالله، وطاعتهم طاعة الله، والخشوع لهم خشوعاً لله، مع ذلك فذواتهم غير ذات الله، والعبادة ليست لهم، بل لله الخالق المتعال.

ولكن الناس ينظرون دائماً من زاوية التعدد ويحتجبون عن التوحيد. ينظرون إلى دين الله الواحد من جهة تعدد الأسماء لا من جهة التوحيد، ولذلك يختلفون ويكذّب بعضهم بعضاً. ولو سألنا أهل الأديان المختلفة عن مبلغ إيمانهم بوحدانية الله لأجاب الجميع وبكل تأكيد أنهم يؤمنون بإله واحد لا شريك له ولكن تحتفظ كل أمّة بتصوّر معيّن لهذه الوحدانية وتعتبر كل تصور مخالف لتصورها باطلاً وضلالاً. فتصوّر اليهود للتوحيد مثلاً هو الإيمان بإله واحد وبموسى عليه السلام الذي اختتمت به الرسالات حيث انهم يعتبرون شريعته أبدية وأن المسيح الموعود به سيأتي ليحكم بها من جديد ويعيد مجدهم التليد. وتصوّر التوحيد عند المسيحيين هو الاعتقاد بوحدانية الله الآب السماوي ويسوع المسيح المخلص الوحيد الذي بفدائه خلّص البشر من معصية آدم، وهو الأول والآخر الذي انقطعت من بعده نسائم الرحمة الإلهية. وتصوّر أهل الاسلام التوحيد هو الإيمان بوحدانية الله وبنزول الوحي على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وبه ختمت النبوة.

فإذاً المقصود من التوحيد أن يكون توجّه المؤمنين – أيا كان دينهم – إلى الله الواحد الأحد ذلك الغيب المقدس المنيع وأن تكون عبادتهم، مهما اختلفت طرقها ومناسكها، له تعالى وليس للأنبياء والرسل والأولياء، وهي تجربة روحية فريدة تقودهم إلى الإقرار بالأسماء والصفات المرتبطة بالمظاهر الإلهية وهي التي تسمّى بأسماء الله الحسنى. ومع الظهور المحمدي جاء القرآن الكريم وهو آخر الكتب السماوية قبل الظهور البهائي ليؤكد بأنه ” لا اله الا الله ” بشكل واضح وجازم وانه هو خالق كل ما في السماء والأرض إلى آخر الصفات السابقة ولا يوجد إله غيره، كما أعطى له تسعاً وتسعين لقباً تحت عنوان ” أسماء الله الحسنى” وبذلك يكون الإسلام قد أكدّ على وحدانية الله بشكل لا سابق له وأكثر من أي ظهور سابق، وهناك العديد من الآيات القرآنية التي تؤكد على ذلك منها: { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد … } [1] {  ان الله له مُلك السموات والارض يُحيي ويُميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير.}  [2] { الله لا اله الا هو الحيُّ القيوم لا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفعُ عندَهُ الا بإذنِهِ يعلمُ ما بين أيديهم وما خلفهم… } [3] 

ومع ظهور حضرة بهاءالله بعد أكثرمن ألف ومائتي سنة على ظهور الاسلام كانت الآثار الكتابية التي تركها لنا زاخرة بالمعاني الكثيرة والتعاليم والمبادئ المتعددة وهي التي ذكرت بعضها في الظهورات السابقة ولكن حضرته قام بتأكيد أصالتها ومعانيها الحقيقية ووسّع من مفاهيمها واعطاها أبعاداً مختلفة جعلها قابلة للتطبيق في عصر بلغت فيه البشرية مرحلة متقدمة من النضج. ويعتبر موضوع التوحيد أو وحدانية الله من أول المواضيع التي أكدّ عليها حضرة بهاءالله في آثاره ووضّح معناه الحقيقي وأبعاده المختلفة واعتبره قضية مسلّماً بها سبق اثباتها في الظهورات السابقة واعتبره من الأركان الرئيسية للإيمان به، وإن الحقيقة الإلهية مستورة وستبقى مستورة عن العقول والأذهان. ففي أحد الواحه يتفضل حضرة بهاءالله:

{ شهد الله لنفسه بوحدانية نفسه ولذاته بفردانية ذاته ونطق بلسانه في عرش بقائه وعلّو كبريائه بأنَّه لا إله إلا هو، لم يزل كان موّحد ذاته بذاته وواصف نفسه بنفسه ومُنِعت كينونته بكينونته وإنَّه هو المقتدر العزيز الجميل وهو القاهر فوق عباده والقائم على خلقه وبيده الأمر والخلق يحيي بآياته ويميت بقهره لا يسئل عما يفعل وإنَّه كان على كل شيء قدير. وإنَّه لهو القاهر الغالب الذي في قبضته ملكوت كل شيء وفي يمينه جبروت الأمر وإنَّه كان على كل شيء محيط، له النصر والانتصار وله القوة والاقتدار وله العزة والاجتبار وإنَّه هو العزيز المقتدر المختار. } [4]

وفي لوح آخر تفضل بقوله الكريم:

{ سُبحانكَ اللهم يا إله العالم ومالكَ الأمَم أشهد أنك لم تزل كنتَ مقدساً عن ذِكر الكائنات ومُنزّهاً عن أعلى وصف الممكنات كلما أراد المخلصونَ الصعودَ إلى عِرفانِكَ أطرَدَهُم جنودُ علمِكَ وكلما أراد المقرّبون الورودَ إلى سماءِ قربِكَ مَنعَتهُم سَطوةُ بيانِكَ، نَشهدُ أن أعلى مراتبِ الأسماءِ كان خادماً لبابكَ وأبهى مطالِعِها ساجداً لطلعتِكَ وخاضِعاً لحضرتك، إنك أنت الذي لا توصف بما تُرّكب من الحروف وتَفوّه بالألفاظ ولا بالمعاني المكنونَة فيها لأن كل ذلك محدودٌ بحدوداتِ الذكرِ والبيانِ ويَنطقُ به أهلُ الإمكان.  تَعالى تعالى من أن يَصلَ إليك ذكرُ أحدٍ ويُدركَكَ إدراكُ نفسٍ، تَعالى تعالى من أن توصفَ بوصفِ دونِكَ أو تُنعتَ بنَعتِ خَلقِك. إن مظاهر الألوهية لو يَطيرُنَّ بأجنحة الغيبِ والشهودِ لن يَصلنّ إلى أول تجلٍّ ظهرَ وأشرقَ من أفُق وجهك الأعلى ومطلع ظهورك الأسنى وإن مطالع الربوبية لو يَصعدن بدوام الملك والملكوت لن يستطيعن أن يَتقربن إلى شمس جمالك، طوبى لمن عَرَفَ بقائَكَ وفناءَ ما دونِكَ واعترفَ بسلطانكَ وعَجز ما سواك فلما ثَبت فناءُ الأشياء عند تموّجاتِ بحرِ ذكرِكَ يا مالك الأسماءِ يَثبُتُ بأن أوصافَهُم وأذكارَهُم لا يليق لِعظمتِكَ وكبريائِكَ ولا يَنبغي لعُلوّك واقتدارك، ولكن إنك أنت يا إلهي من بَدايع جودِكَ والطافِكَ وظهوراتِ كرَمكَ وعطائِكَ أمرتَ الكل بذِكرِكَ وثنائِكَ وقَبِلتَ منهم من فضلك ومواهبك، إذن يدعو نَفسُكَ نَفسَكَ وذاتُكَ ذاتَكَ من قبل مُحبيك الذين حملوا الشدائد في سبيلِكَ والبلايا في حبك ورضائك في هذا اليوم المبارك الذي جَعلته عيداً لأهل مَملكتك والذين صاموا بأمرك المبرم وأطاعوا حُكمك الـمُحكم. } [5]

وفي لوح آخر :

{ سبحانك اللهم يا إلهي أنت الذي لم تزل كنتَ في عُلوِّ القدرةِ والقوةِ والجلالِ ولا تزالُ تكونُ في سمّو الرفعةِ والعظمةِ والإجلالِ كلُّ العرفاءِ متحيّرٌ في آثارِ صنعِكَ وكل البلغاءِ عاجزٌ من إدراكِ مظاهرِ قدرتكَ واقتدارك، كلُّ ذي عرفانٍ اعترفَ بالعجزِ عن البلوغ إلى ذروةِ عرفانِكَ وكلُّ ذي علمٍ أقرّ بالتقصير عن عرفان كُنهِ ذاتكَ، فلما سُدَّ السبيلُ اليك أظهرتَ مظاهِرَ نفسِكَ بأمرك ومشيتك وأرسلتهم إلى بريتك وجعلتهم مشارقَ الهامِكَ ومطالعَ وحيك ومخازنَ علمِكَ ومكامِنَ أمرِكَ ليتوجهنَّ كلٌّ بهم اليك ويستقرِبُنَّ إلى ملكوتِ أمرِكَ وجبروتِ فضلِكَ. } [6]

وفي لوح آخر :

{ سبحانك اللهم يا إلهي أشهدُ لنفسِكَ كما شهدتَ لنفسكَ بنفسِكَ قبل خلق الاختراع وذكر الإبداع بأنك أنت الله لا اله إلا انت لم تزل كنتَ في علّو وحدانيتك مقدساً عن توحيدِ عبادِكَ ولا تزال تكون في سمّو فردانيتك متعالياً عن ذكرِ خلقِكَ لا ينبغي لذاتك ذكرُ غيرِكَ ولا يليقُ لنفسِكَ وصفُ ما سواكَ، كلُّ موّحدٍ تحيّر في توحيد ذاتك واعترف بالقصور عن الصعود إلى عرفان كنهِكَ والبلوغ إلى ذروة عرفانك، كل ذي قوة أقرّ بالعجز وكل ذي علم اعترف بالجهل وكل ذي وجود معدومٌ عند ظهورات عزّ سلطنتك، وكل ذي ظهورٍ مفقودٌ لدى شئونات عزّ عظمتك، وكل ذي نور مظلمٌ عند بوارق أنوار وجهك، وكل ذي بيان كليلٌ عند تنزل آياتِ قدسِ أحديتكَ، وكل قائم مضطربٌ عند ظهور عزِّ قيوميتكَ. } [7]

من هذه البيانات الصريحة والواضحة الصادرة من مشرّع الدين البهائي نرى بأن التوحيد الذي أشار إليه بهاءالله هو نفس مفهوم التوحيد الذي يؤمن به المسلمون ويعتبر من مقومات الدين البهائي، وأن أي محاولة لتحديد الحقيقة الإلهية بشكل أو صيغة معينة يعتبر ضرباً من الخيال وتصويراً ناقصاً للعقل البشري. كما ان بهاءالله لم يذكر ان الله العلي القدير يمكن أن يظهر في شكل انسان أو انه حلّ في شخصه، وإنما أكدّ بأنه جلّ وعلا كان ومازال مستوراً عن الأبصار ومقدساً عن الحلول وإنه مهما حاول العقل الانساني من الإتيان بوصف للحقيقة الأزلية المنزهة عن الإدراك فهو قاصر وليس سوى محاولة انسانية، حيث قال :

{ قل ان الغيبَ لم يكن له من هيكل ليظهر به انه لم يزل كان مقدساً عما يُذكر ويُبصر …. ان الغيب يُعرف بنفس الظهور والظهور بكينونته لبرهان الأعظم بين الأمم… } [8] وتفضل أيضاً :

{ من الواضح لدى أولي العلم والأفئدة المنيرة أن غيب الهوية وذات الأحدية كان مقدساّ عن البروز والظهور والصعود والنزول والدخول والخروج ومتعاليا عن وصف كل واصف وادراك كل مدرك، لم يزل كان غنّياً في ذاته ولا يزال يكون مستوراً عن الأبصار والأنظار بكينونته ” لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ” لأنه لا يمكن أن يكون بينه وبين الممكنات بأي وجه من الوجوه نسبة وربط وفصل ووصل أو قُرب وبُعد وجهة واشارة، لأن جميع من في السموات والأرض قد وُجدوا بكلمة أمره وبُعثوا من العدم البحت والفناء الصرف إلى عرصة الشهود والحياة بإرادته التي هي نفس المشيئة. } [9]

وحول ما جاء في الفقرة السابقة هناك توضيح من حضرة عبدالبهاء، بأن البروز والظهور والصعود والنزول والدخول والخروج هي من لوازم الاجسام والمواد وليس الارواح، وبالتالي كيف يمكن للذات الإلهية والحقيقة الربانية أن تتجلى بأي شكل من الأشكال، ثم يضيف حضرته: { لأن حقيقة الألوهية مقدسة عن الإدراك. وفضلاً عن هذا إن كل ما يتصوّره الإنسان إنما هو محاط وحقيقة الألوهية محيطة. فهل يمكن أن يدرك المحاط المحيط ؟ فمن المستحيل أن تصبح الحقيقة الإنسانية محيطة وتصبح حقيقة الألوهية محاطة في حين أن الإنسان محاط وحقيقة الألوهية محيطة.}[10] وفي أحد الواحه يصف عبدالبهاء الذات الإلهية بهذه العبارات:

{ ربنا إنا نتوّجه اليك ونتضرع بين يديك ونذكرك بالتهليل والتكبير ونثني عليك بالتسبيح والتقديس يا من تنزّه عن التشبيه والتنزيه، فتعاليت عن كل ذكر وثناء في عالم الإبداع وتقدست عن كل نعت وعلاء في حيّز الاختراع، أنشئت النشأة الاولى بآية من آيات قدرتك في عالم الإمكان وخلقت هذا الكون الأعظم بسلطان نافذ في حقيقة الإنسان، فكل تسبيح وتقديس وتنزيه وتمثيل وتشبيه ذكر من حيّز العجز والنسيان وإنك متعال متقدس عنها وعما أحاطت به عقول أهل العرفان … }[11] 

            وقد أكدّ هذا المفهوم أيضاً حضرة شوقي أفندي – ولي أمرالدين البهائي – في عدة رسائل له منها هذا المقتطف: { الحمد لله الفرد الأحد الأزلي الصمد، الحقيقة الفائضة والهوية الجامعة، الغيب المنيع والكنز الخفي، مبدء الفيض، علة العلل، مبعث الرسل، شارع الأديان وحده لا شريك له في الملك ولا نظير له في الابداع، كل عباد له وكل بأمره قائمون وبمشيّته يتحركون، ومن فضله سائلون، كل بدئوا منه وكل اليه يرجعون. سبحانه سبحانه عما يصفه المرسلون أو يذكره البالغون. } [12]

            ولكن الملاحظ ان الآثار البهائية لا تناقش بتفصيل واسهاب اثبات وحدانية الله مثلما هو حاصل في الاسلام وذلك بسبب ان قضية التوحيد من الأمور المسلّم بها عند البهائيين، ولا داعي لتكرارها، حيث سبق اثباتها وتعليمها في الدورة السابقة، ولكن البهائية لا تبرح قيد شعرة عن مبدأ التوحيد فهو من مقوّمات الدين. كما لا ننكر أن هناك بعض الآيات الصادرة من حضرة بهاءالله قد نسب فيها نفسه إلى الله مباشرة وكأنها توحي للقارئ انه هو ذاته تعالى. وفي هذا الصدد لا تُفسّر تلك العبارات على انها تفيد الحلول ولا على إنها إدعاء بالألوهية، وإنما تفهم بنفس الروح وبذات المعنى الذي يُفهم به قوله تعالى في القرآن الكريم: ” إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله”[13]  أو قوله : ” وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى” [14] أو ما جاء في الحديث الشريف: ” لي مع الله حالات، أنا هو وهو أنا، إلا أنا أنا، وهو هو.”[15]  أي أن الرسول محمد (ص) كان ينسب نفسه إلى الله أحيانا تعظيماً لمقامه السامي دون أن يقصد حلول الله فيه. وكما لم يقل البهائيون بحلول الله في شخص بهاء الله فإنهم لم يقولوا إنه أفضل من أي من الرسل السابقين، لأن الانبياء والرسل ومظاهر الظهور – عليهم أطيب التحية والثناء – يعبّرون عن الإرادة الإلهية والمشيئة السماوية ويحملون رسالة واحدة – وان تعدّدت أشكالها – إلى البشرية جمعاء. وبهذا الخصوص يقول بهاءالله: ” … إياكم يا ملأ التوحيد، لا تفرقوا في مظاهر الله ولا فيما نزل عليهم من الآيات وهذا حق التوحيد ان انتم لمن الموقنين …”[16]  

هناك بيانات متعددة من حضرة بهاءالله تؤكد غلق جميع الأبواب لمعرفة الذات الإلهية وسدّ الطرق لإدراك كنهه، ولكن بفضل من الله على البشرية يرسل بين الحين والآخر مرسلين يحملون رسالة منه للبشرية حيث جاء في أحد آثاره :

{ ولما أن كانت أبواب عرفان ذات الأزل مسدودة على وجه الممكنات لهذا باقتضاء رحمته الواسعة في قوله” سبقت رحمته كل شئ ووسعت رحمتي كل شئ” قد أظهر بين الخلق جواهر قدس نورانية من عوالم الروح الروحاني على هياكل العزّ الإنساني كي تحكي عن ذات الأزلية وساذج القدمية، وهذه المرايا القدسية ومطالع الهوية تحكي بتمامها عن شمس الوجود وجوهر المقصود. فمثلاً علمهم من علمه وقدرتهم من قدرته وسلطنتهم من سلطنته وجمالهم من جماله وظهورهم من ظهوره وهم مخازن العلوم الربانية ومواقع الحكمة الصمدانية ومظاهر الفيض اللامتناهي ومطالع الشمس السرمدية. } [17]

[1] سورة الاخلاص – آية 1-3

[2] سورة التوبة – آية 116

[3] سورة البقرة – آية 255

[4] رسالة تسبيح وتهليل ص 182- 183

[5] المرجع السابق ص 190 – 191

[6] كتاب “مناجاة”  – ص 71 – 72

[7] المرجع السابق –  ص 91

[8]  ” من كتاب “منتخباتي از آثار حضرت بهاءالله ” فقرة 20  ويشار الى هذا المصدر فيما بعد بكلمة ” منتخباتي ”

[9] الايقان ص 81

[10] خطب عبدالبهاء في اوروبا وأمريكا – ص 271

[11] مكاتيب عبدالبهاء – المجلد الاول ص 220

[12] التوقيعات المباركة – نوروز 101 بديع ص 5

[13] سورة الفتح – اية 10

[14] سورة الانفال – اية 17

[15]  من كتاب ” مدارج السالكين”

[16] منتخباتي – فقرة 24

[17] الايقان – ص 82 – 83

 

ثانياً: وحدة الجنس البشري

من المبادئ الهامة التي دعا اليها حضرة بهاءالله وحدة الجنس البشري، وهو محور تدور حوله التعاليم  البهائية الأخرى. ركّز حضرته على هذا المبدأ واعتبره العنصر الأساسي في تشييد صرح السلام العالمي والعدالة، والوسيلة الفاعلة في بناء المدنية الإلهية التي تحدّث عنها الأنبياء والرسل ومظاهر الظهور، وتغنى بها ذوو البصيرة والشعراء في رؤاهم جيلاً بعد جيل. ومن خلال تطبيق هذا المبدأ يمكن حلّ العديد من المشاكل والقضايا التي تعاني منها البشرية مما يسرّعنا في تحقق الوعود والنبوات الإلهية المذكورة في متون الكتب المقدسة.

إن مفهوم وحدة الجنس البشري يعني بأن كافة أفراد البشر هم من أصل شريف واحد، وهي حقيقة أكدتها العلوم الحديثة مثل علم الطب وعلم وظائف الأعضاء وعلم الاجتماع رغم الاختلاف في لون وشكل الإنسان، ولا يمكن تمييز إنسان على آخر بسبب لونه أو جنسه أو عرقه أو أصله، والجميع متساوون في الكرامة الإنسانية. وقد ثبت حقاً أن الإنسان هو أشرف المخلوقات وأكثرها سموّا بما حباه الله من نعمة العقل والروح وميّزه على كافة المخلوقات، وهو الوحيد القادر على معرفة الله سبحانه وتعالى وعبادته ومحبته، وقد أكدّ لنا القرآن الكريم هذه الحقيقة في قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}[1] وأيضاً {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به…}[2]  أما التفرقة التي نراها اليوم بين البشر في بقاع العالم المختلفة فهي نتيجة تراكم أوهام وتعصبات زائفة ليس لها حقيقة، وإن النظريات الموروثة التي تمّيز مجموعة عرقية أو إثنية من البشر فتعطيهم منزلة أسمى من غيرهم نظريات باطلة لا أساس لها من الصحة، وإنما هي حصيلة غرور الانسان من أجل تفضيل نفسه على الآخرين تأكيداً لأنانيته باسم الدين أو الأصل أو العرق. إن الاختلافات الجسمانية مثل لون الإنسان أو أصله هي أمور ثانوية ليس لها أية علاقة بامتياز أو أفضلية أية مجموعة عرقية أو دينية على الأخرى، بل هو دليل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى. والتعاليم البهائية ترفض جميع النظريات التي تقول بوجود أفضلية عرقية لأنه لم يثبت ذلك علمياً وإنه تصوّر خاطئ واذا تخلّفت أية مجموعة عرقية أو إثنية عن التقدم عبر التاريخ فمرّده إلى الظروف السياسية والاجتماعية التي حرمتها من الإنجازات الثقافية والعلمية، وكان ذلك نتيجة الظلم الذي حاق بها عبر السنين. لقد أكدّ حضرة بهاءالله هذه النظرية بقوله : { يا أبناء الإنسان هل عرفتم لم خلقناكم من تراب واحد، لئلا يفتخر أحد على أحد، وتفكروا في كل حين في خلق أنفسكم اذاً ينبغي كما خلقناكم من شئ واحد أن تكونوا كنفس واحدة بحيث تمشون على رجل واحدة وتأكلون من فم واحد وتسكنون في أرض واحدة حتى تظهر من كينوناتكم وأعمالكم وأفعالكم آيات التوحيد وجواهر التجريد هذا نصحي عليكم يا ملأ الأنوار، فانتصحوا منه لتجدوا ثمرات القدس من شجر عزّ منيع.}[3]

ولكي ندرك حقيقة وحدة الجنس البشري ونصل إليها في المرحلة الأولى كما جاء في الكتابات البهائية علينا أن نتخلى عن كافة أنواع التعصبات العرقية والطبقية والدينية والوطنية، أو أي فكر يؤدي إلى تفضيل إنسان على آخر بسبب لونه أو جنسه أو أصله أو مركزه المادي أو الطبقي. هذه الخطوة هي أولى الخطوات للتخلص من جميع أنواع الكراهية والبغضاء المنتشرة في عالمنا اليوم. وبالتدريج ومع مرور الزمن وعندما يشعر الإنسان إنه يعيش في أسرة واحدة أساسها التآخي والمودة ولا مكان لأي من التعصبات، سنرى أن أخطار نشوب الحروب أو الصراعات تبدأ بالتلاشي تدريجياً لأن الدافع لها يكون قد انتهى. وبالتالي فإن القبول بهذا المبدأ يستدعي نشره وترويجه إبتداء من المدارس والجامعات في كل بلد إلى المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني في كافة الأقطار تمهيداً لإحداث تحوّل جوهري في أساس المجتمع. وأيضا معاقبة كل من يروّج للطائفية أو القبلية أو نشر أفكار تدعو إلى تفوق عرق أو جماعة أو لون أو أصل أو مذهب أو جنس وتعتبر هذه المرحلة هي المرحلة التالية والمتقدمة من هذا التحوّل الجذري في المجتمع،وقد أشار حضرة عبدالبهاء إلى هذا المبدأ الهام بهذا البيان:

{والأساس الإلهيّ الثّاني هو الوحدة الإنسانيّة، بمعنى أنّ جميع البشر هم عباد الله الأكبر، وأنّ الله خالق الكلّ ورازق الكلّ ومحيي الكلّ، كما أنّه رؤوف بالكلّ. وجميع النّاس يكوّنون الجنس البشريّ. فالتّاج الإنسانيّ زينة لكلّ رأس وخلعة الموهبة الإلهيّة جمال لكلّ هندام والكلّ عباد الله. وهو بهم جميعًا رؤوف رحيم، وعنايته تشمل الكلّ. لا يفرّق بين مؤمن وكافر، بل يرحم الكلّ ويرزقهم. هذه هي الصّفة الرّحمانيّة الإلهيّة. لهذا لا يمكننا أن نفضّل إنسانًا على آخر لأنّ الخاتمة مجهولة…. دقّقوا النّظر في عالم الوجود تجدوا أنّ الألفة هي سبب الوجود وأنّ المحبّة هي سبب الحياة، وأنّ الانفصال سبب الممات. دقّقوا النّظر في جميع الكائنات، فهذا الخشب مثلاً أو هذا الحجر تركّبا من العناصر، أيّ أنّ الذّرّات تآلفت وامتزجت حتّى برز هذا الخشب وهذا الحجر إلى حيّز الوجود، ولو لم تتحقّق هذه الألفة لكانا في العدم. فالعناصر أو الأجزاء الفرديّة تتم بينها الألفة وتتركّب وبذلك توجد الكائنات، فإذا اضطرب أمر هذه الألفة تحلّل التّركيب وتلاشى. وكذلك تآلفت الذّرّات وامتزجت، وارتبطت واجتمعت لتحقّق ظهور الإنسان، وعندما يتطرّق إلى هذه العناصر التّحليل والتّفريق يتلاشى جسد الإنسان.من هذا يتّضح أنّ الألفة والمحبّة سبب الحياة، وأنّ النّفور والاختلاف والفرقة سبب الممات. هذه هي الحال في جميع الكائنات. فالجنس البشريّ إذن عباد الله، ويجب أن تتحقّق بينهم الألفة والمحبّة، وأن ينفروا من البغض والعداوة. ولو لاحظتم الحيوانات الأليفة لوجدتم أنّها في غاية الألفة. أمّا الحيوانات الكاسرة كالذّئب والضبع والنّمر فتعيش منفردة منعزلة وفي غاية التّوحّش، وهكذا لا يعيش ذئبان ذكران في غار واحد، في حين يجتمع ألف رأس من الغنم في مكان واحد، ولا ينزل صقران في عشّ واحد، في حين تأوي ألف حمامة إلى وكر واحد.}[4]

إن وحدة الجنس البشري هي ليست فكرة مثالية غير واقعية أو تعبيراً مبهماً أو غير عقلاني، بل إنها من سمات عصر النضج والبلوغ الذي بدأت تقترب منه الإنسانية اليوم وهي المرحلة القادمة والمنيرة من التاريخ البشري. وقد أدركت هيئة الأمم المتحدة هذه الحقيقة عندما أصدرت في عام 1948 الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث أشارت في المادة الأولى منه: “يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الاخاء.” وفي المادة الثانية: “لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر دون أية تفرقة بين الرجال والنساء.”  وعلى الرغم من تبنّي غالبية دول العالم هذا الإعلان والإشارة إلى مضامينه ومفاهيمه في دساتيرها ولكننا مازلنا نشهد  حروباً طاحنة ومنازعات عرقية واثنية ومذهبية باتت تنذر بالخطر وتهدد نسيج المجتمع.

إن مبدأ وحدة الجنس البشري عندما يُقبل ويتسع ويعممّ ويروّج له في جميع دول العالم سيكون له نتائج عظيمة على مستوى الأمم والشعوب، وبالتالي سيعقبه اتحاد وتقارب كبير بين دول العالم وشعوبها باعتبارهم أعضاء في عائلة إنسانية واحدة. والاعتراف بمبدأ وحدة العالم الانساني يستلزم، من وجهة النظر البهائية، “أقل ما يمكن إعادة بناء العالم المتمدّن بأسره ونزع سلاحه، ليصبح عالماً متحداً اتحاداً عضوياً في كل نواحي حياته الأساسية، فيتوحّد جهازه السياسي، وتتوحد مطامحه الروحية، وتتوّحد فيه عوالم التجارة والمال، ويتوحّد في اللغة والخط، على أن يبقى في ذات الوقت عالماً لا حدود فيه لتنوع الخصائص الوطنية والقومية التي يمثلها أعضاء هذا الاتحاد.”[5] إنها دعوة لبناء عالم جديد يمثل قمة التطور الإنساني الذي يبدأ بداياته الأولى بوحدة العائلة ثم وحدة القبيلة أو العشيرة ثم الأمة. لقد أكدّ حضرة بهاءالله بأن مبدأ وحدة الجنس البشري يقوم على أن الوصول إلى هذه المرحلة النهائية من هذا التطور العظيم ليس ضرورياً  فحسب بل حتمي الوقوع، وإن ميقات تحقيقه أخذ يقترب بسرعة ولا يمكن تحققه بغير قوة إلهية المصدر. كما أشار بأن البشرية تمرّ في عملية نمو جماعية شبيهة بعملية النمو لدى الأفراد، حيث بدأت بمرحلتها الأولى قبل آلاف السنين والآن دخلت مرحلة النضج والبلوغ وهي المرحلة الأخيرة من تطوّرها وفيها ستشهد اتحاد الجنس البشري.

{لقد أَسْهَب حضرة شوقي أفندي، وليُّ أمر الدّين البهائي، في شرح الآثار المترتِّبة على تنفيذ هذا المبدأ الأساسيّ، عندما عَلَّق على هذا الموضوع عام 1931 بقوله: ” بعيداً عن أيّة محاولة لتقويض الأُسُس الرّاهنة التي يقوم عليها المجتمع الإنسانيّ، يسعى مبدأ الوحدة هذا إلى توسيع قواعد ذلك المجتمع، وإعادة صياغة شكل مؤسّساته على نحوٍ يَتَناسَق مع احتياجات عالمٍ دائمِ التّطوّر. ولن يتعارض هذا المبدأ مع أي ولاءٍ من الولاءات المشروعة، كما أنه لن ينتقص من حقِّ أي ولاءٍ ضروريِّ الوجود.  فهو لا يستهدف إطفاءَ شُعْلَة المحبّة المتَّزنة للوطن في قلوب بني البشر، ولا يسعى إلى إزالة الحكم الذّاتيّ الوطنيّ، الذي هو ضرورةٌ ملحَّة إِذا ما أُرِيدَ تجنُّب الشّرور والمَخاطر النّاجمة عن الحكم المركزيّ المُبالَغ فيه.  ولن يتجاهل هذا المبدأ أو يسعى إلى طَمْس تلك الميّزات المتَّصلة بالعِرق، والمناخ، والتّاريخ، واللّغة والتّقاليد، أو المتعلّقة بالفكر والعادات، فهذه الفوارق تُميِّز شعوب العالم ودُوَلَه بعضها عن بعض.  إِنَّه يدعو إلى إقامة ولاءٍ أَوسع، واعتناق مطامح أسمى، تَفُوق كلّ ما سَبَقَ وحَرَّك مشاعر الجنس البشريّ في الماضي.  ويؤكِّد هذا المبدأ إِخضاعَ المشاعر والمصالح الوطنيّة للمتطلَّبات الملحَّة في عالم مُوحَّد، رافضاً المركزيّة الزائدة عن الحدّ من جهة، ومُستنكِراً من جهة أخرى أيّة محاولة من شأنها القضاء على التّنوّع والتّعدّد.  فالشِّعار الذي يَرْفعه هو: الوحدة والاتحاد في التنوّع والتعدّد.”}[6]

وعلى ذلك فإن شعار “الوحدة والاتحاد في التنوّع والتعّدد” له مغزى عميق يتجاوز معناه الظاهري بل يدعو إلى تأسيس مدنية شبيهة بالمدينة الفاضلة التي دعا إليها أفلاطون قبل آلاف السنين. ولكن هذه المدنية جوهرها الروحانية الخالصة وأساسها المحبة والمودة وعمادها الوفاء والإخلاص وقاعدتها البشرية الواحدة و{لا فرق بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى}[7] وهدفها تأسيس الحضارة العالمية الإلهية الموعودة في الكتب المقدسة. إن الوصول إلى الوحدة والاتحاد لا يأتي عن طريق إزالة الفروقات فحسب وإنما عن طريق الإدراك المتزايد والاحترام للقيمة الجوهرية للحضارات ولثقافة كل فرد، وإن النزاع والصراع الذي نراه اليوم في عالمنا ليس سببه في الأصل الاختلاف والتنوع وإنما نظرتنا غير الناضجة نحوه وعدم تسامحنا وتعصباتنا التي تدفعنا إلى الصراع ومحاولة إلغاء الآخر. هناك تشبيه جميل من حضرة عبدالبهاء لتنوع العالم الانساني يقول فيه:

{لاحظوا أزهار الحدائق على الرغم من اختلاف أنواعها وتفاوت ألوانها واختلاف صورها وأشكالها ولكن لأنها تسقى من ماء واحد وتنتعش من هواء واحد وتترعرع من حرارة وضياء شمس واحدة فإن هذا التنوع والاختلاف سبب لازدياد بهاء وجمال أزهار الحدائق …  أما اذا كانت أزهار ورياحين الحديقة ونوّارها وأثمارها وأوراقها وأغصانها وأشجارها من نوع واحد ولون واحد ومن تركيب واحد وترتيب واحد فلا لطافة ولا حلاوة لها على الإطلاق، أما إذا اختلفت من حيث اللون والورق والزهر والثمر فإن كلا منها يكون سبب زينة وبهاء سائر الأنواع الأخرى وتصبح الحديقة أنيقة وتظهر في غاية اللطافة والطراوة والجمال والحلاوة. وكذلك الأمر بالنسبة لتفاوت وتنوع أفكار وأشكال وآراء وطبائع وأخلاق العالم الانساني فإن كانت في ظل قوة واحدة ونفوذ كلمة الوحدانية فإنها ستبدو في غاية العظمة والجمال والسموّ والكمال. واليوم لا شئ يستطيع أن يجمع عقول وأفكار وقلوب وأرواح العالم الانساني تحت ظل شجرة واحدة سوى القوة الكلية لكلمة الله المحيطة بحقائق الأشياء. }[8]

إن اعتراف الشعوب والحكومات بمبدأ وحدة الجنس البشري ليس كافياً بل عليهم أن يعملوا جاهدين لبناء نظام اجتماعي عالمي موحّد مبني على المبادئ الروحانية التي نادى بها حضرة بهاءالله قبل أكثر من مائة وخمسين سنة. إن تحقيق مثل هذا النظام يمثل الهدف الإلهي المقدّر للبشرية لرقي حياتهم الاجتماعية وتطوّرها. وبهذا الصدد يقول حضرة شوقي أفندي:

{إن هدف الحياة للفرد البهائي هو ترويج وحدة الجنس البشري، وإن جميع بواعث حياتنا مرتبطة بحياة جميع الكائنات البشرية. فما ندعو إليه ليس خلاصاً فردياً بل خلاص العالم بأكمله … وما نصبو إليه إنما هو حضارة عالمية ستؤثر بدورها على سلوك الفرد.}[9]

إن رؤيتنا لمستقبل الجنس البشري كبهائيين هي رؤية تفاؤلية مبنية على وعد الله لعباده بمجئ  ملكوت الله على الأرض ويوم تتحقق فيه العدالة الإلهية وتنتهي الحروب إلى الأبد ويسود السلام الأعظم ويبلغ الإنسان مستوى عالياً من النضج والبلوغ والكمال وخلق مدنية دائمة النمو والتطور. لقد حدثنا الإنجيل عن مجيء “ابن الانسان آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير”[10] والإسلام تنبأ باليوم الذي “يملأ الأرض قسطاً وعدلاً”[11] بعد أن تكون قد “ملئت جوراً وظلماً”[12] وأشار القرآن الكريم إلى “يوم تبدّل الأرض غير الأرض”.[13]  فهذه كلها علامات وبشارات بمجئ يوم عظيم في تاريخ البشرية وسنتحدث بالتفصيل عنه في الفصل الخامس من الكتاب.

إن مبدأ وحدة الجنس البشري يعتبر الأساس والمحور الذي تقوم عليه الحضارة الإلهية المستقبلية كما صوّره لنا حضرة بهاءالله في آثاره، وتأسيس الوحدة العالمية المبنية على “الوحدة والإتحاد في التنوع والتعدّد” يمثل قمة التطور الانساني، وهو دليل على دخول البشرية “العصرالموعود” المقدّر له، وهو عصر بلوغ الجنس البشري. شرح حضرة شوقي أفندي هذه الفكرة بهذه العبارات:

{إنّ رسالة حضرة بهاء الله، والتي غرضها الأسمى ليس سوى تحقيق هذا الاتحاد العضوي والروحي الشامل لكيان جميع الأمم، يجب أن يُنظَر إليها، إن كنّا مخلصين في تطبيق مضامينها، على أنها تشير بمجيئها إلى بلوغ الإنسانية جمعاء طور نضجها وبلوغها. فلا ينبغي النظر إليها على أنها مجرد بعث روحي آخر في مقدّرات الإنسانية دائمة التغيّر، ولا على أنها مجرّد حلقة أخرى في سلسلة الرسالات السماوية المتتابعة، ولا حتى كذروة كور من سلسلة أكوار رسولية متتالية، بل يجب اعتبارها بالأحرى دلالة على بلوغ آخر وأعلى مرحلة من مراحل التطور المذهل لحياة البشر الجماعية على هذا الكوكب. إنّ ظهور مجتمع عالمي، وبروز الإحساس بالمواطنة العالمية، وتأسيس حضارة وثقافة عالميتين … يجب اعتبارها، بحكم طبيعتها وفي حدود ما يتعلق بالحياة على هذا الكوكب، على أنها أقصى ما يمكن أن يصل إليه تنظيم المجتمع البشري، رغم أن الإنسان كفرد سيستمر، لا بل يجب أن يستمر في التقدم والتطور إلى ما لانهاية، كنتيجة لهذه المنزلة الكمالية التي وصلها.}[14]

يمرّ الجنس البشري بمراحل مختلفة من تطوره فقد بدأ بمرحلة الطفولة قبل آلاف السنين وتجاوز  مراحل الصبا والحداثة وهو الآن في مرحلة المراهقة الصعبة والمتعبة قبل دخوله مرحلة البلوغ وفي خضم تحوّل وانقلاب لم يسبق له مثيل. كما أن العادات والتقاليد والعقائد التي كانت مرعية ومقبولة على نطاق واسع منذ مئات السنين قد أخذت بالاضمحلال والزوال والتغيير واحدة تلو الأخرى. وقبل أكثر من نصف قرن ذكر حضرة  شوقي أفندي :

{إنَّ العصور المديدة للطفولة والصبا التي كان على الإنسانية اجتيازها قد ولّت. وتعاني البشرية الآن الاضطرابات الملازمة بثبات لأعنف مراحل تطورها، ألا وهي مرحلة المراهقة حيث يبلغ تهور الشباب وعنفه ذروتهما، ليخلفهما حتما وبالتدريج الهدوء والنضج والحكمة التي تتميز بها مرحلة الرجولة. عندئذ يبلغ الجنس البشري ذلك المستوى من النضج الذي يمكنه من اكتساب جميع القوى والقدرات التي سيتوقف عليها تطوره النهائي.}[15]

نرى أن المجتمع العالمي الموحّد الذي صوّره بهاءالله يبدأ بقبول البشرية لمبدأ وحدة الجنس البشري ولزومية تطبيقه على مستوى القاعدة ثم توسيعه ونشره إلى مستويات أعلى من الوحدة مثل القبيلة ثم المدينة ثم الأمة وهي مراحل حتمية من تطور الإنسانية ودلالة على وصولها لمرحلة النضج والبلوغ. إن مهمة حكومات وشعوب العالم هي إيجاد زخم ودفع للمرحلة التالية من هذا التكامل الاجتماعي، وبالأحرى تنظيم المجتمع الإنساني باعتباره حضارة تخصّ كوكب الأرض. يمكن الوصول لهذا الأمر من خلال تطوير بُنية اجتماعية جديدة تعمل على التخفيض والحدّ من صراع المصالح والطبقات وخلق مستوى جديد من الضمير الإنساني يؤمن إيمانًا قويًا بوحدة الجنس البشري. إن ما شاهدناه حتى الآن هو تاريخ طفولة الإنسانية ثمَّ مرحلة الصبا ومن ثمَّ المراهقة ولم نشاهد بعد ذلك التاريخ المشعشع المنير الذهبي من تاريخ بلوغ الانسانية الذي سيتجلى فيه الملكوت الإلهي بأبهى صوره. لقد أكَّد حضرة بهاءالله بأنَّنا أحيانًا قد نستهين بالقدرات الحقيقية الكامنة بالجنس البشري ولكن هذه القدرات الدفينة بالإنسان ستبرز وتتجلى عندما تصل البشرية إلى مرحلة عالية من النضج والبلوغ  حيث تفضل حضرته :

      {قد انتهت الظهورات إلى هذا الظهور الأعظم كذلك ينصحكم ربكم العليم الحكيم والحمد لله رب العالمين.}[16]  {مقام كل إنسان ورتبته وشأنه لابد أن يظهر في هذا اليوم الموعود.}[17]

كما وصف حضرة شوقي أفندي الوضع الحالي والمستقبلي للمجتمع الإنساني بما يلي:

{إِن اتحاد الجنس البشريّ كلّه يُمثِّل الإشارة المُميِّزة للمرحلة التي يقترب منها المجتمع الإنسانيّ الآن. فاتِّحاد العائلة، واتِّحاد القبيلة، واتِّحاد “المدينة – الدّولة”، ثم قيام “الأُمَّة – الدّولة” كانت مُحاولات تَتابَعَت وكُتِب لها كاملُ النّجاح. أَمَّا اتِّحاد العالم بدوله وشعوبه فهو الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه بشريّة مُعذَّبة. لقد انقضى عهد بناء الأُمَم وتشييدِ الدّول. والفَوْضَى الكامنة في النّظريّة القائلة بسيادة الدّولة تتَّجه الآن إلى ذِرْوتها، فعالمٌ يَنْمُو نحو النّضوج، عليه أن يتخلَّى عن التّشبُّث بهذا الزَّيْف، ويعترف بوحدة العلاقات الإنسانيّة وشُمولِها، ويؤسِّس نهائيّاً الجهاز الذي يمكن أن يُجسِّد على خير وجه هذا المبدأ الأساسي في حياته.}[18]

ويمكن النظر إلى المجتمع البهائي اليوم بأنه نموذج مستقبلي للحضارة والوحدة العالمية، إنه مجتمع متواجد تقريباً في كل دولة وقرية، ومكوّن من أفراد ينتمون لثقافات وطبقات وأصول وأديان مختلفة يسهمون في إصلاح وبناء مجتمعاتهم عن طريق نشاطات متنوعة تساعد في سدّ الاحتياجات الروحية والاجتماعية والاقتصادية لأبناء جلدتهم. إنهم يمثلون نموذجاً لتنوع العائلة الإنسانية التي تكافح من أجل إيجاد عالم جديد، وتعتز بالفيض العظيم من الهداية الإلهية الذي يشملهم دون تمييز، ويعملون على ترويج برامج التنمية الروحية والأخلاقية للأطفال والشباب الناشئ والشباب لما لهذه البرامج من أثر بليغ في إصلاح المجتمع وتنميته. ونختم هذا الفصل بهذه العبارات المؤثرة الصادرة عن بيت العدل الأعظم وهو المؤسسة العليا والمرجع المقدس لكافة البهائيين في العالم حول المقام الحقيقي للإنسان:

{ نحن نؤمن إِيماناً راسخاً بأنَّ البشر جميعاً خُلِقوا لكي “يَحْمِلوا حضارةً دائمةَ التّقدُّم” وبأَنَّه “ليس من شِيَم الإنسان أن يسلك مسلك وحوش الغاب”، وبأنَّ الفضائل التّي تَليق بكرامة الإنسان هي الأَمَانةُ، والتَّسامُحُ، والرَّحْمَةُ، والرَّأْفَةُ، والأُلْفَةُ مع البشر أَجمعين. ونَعُود فنؤكِّد إيماننا بأن “القُدُرات الكامنة في مقام الإنسان، وسموّ ما قُدِّر له على هذه الأرض، وما فُطِرَ عليه من نفيس الجَوْهَر، لسوف تَظْهَر جميعها في هذا اليوم الذي وَعَدَ به الرَّحْمن”. وهذه الاعتبارات هي التي تُحرِّك فينا مشاعر إيمانٍ ثابتٍ لا يتزعزع بأنَّ الاتِّحاد والسّلام هُمَا الهَدَفُ الذي يمكن تحقيقه ويسعى نحوه بَنو البشر.}[19]

[1] سورة التين – آية 4

[2]  سورة النساء – آية 1

[3] الكلمات المكنونة العربية

[4] خطب عبدالبهاء في اوربا وامريكا – طبعة 1998 ص 168 – 169

[5]  السلام العالمي وعد حق  ص 18 – 19

[6] السلام العالمي وعد حق  ص 29 -30

[7] حديث شريف

[8] مكاتيب عبدالبهاء – الجزء الاول ص 318 – 319

[9] من كتاب  The concept of Spirituality تاليف ويليام هاتشر ص 29

[10]  انجيل متى اصحاح 24 آية 30

[11]  التبيان والبرهان – الجزء الأول ص 43

[12]  المرجع السابق – ص 43

[13] سورة ابراهيم – آية 48

[14]  من كتاب The World Order of Baha’u’llah  ص 163

[15] المصدر السابق ص 202

[16] منتخباتي – فقرة 161 – ص 218

[17]  المرجع السابق – فقرة 162 – ص 219

[18] السلام العالمي وعد حق – ص 24 – 25

[19] المرجع السابق – ص 26 -27

ثالثاً: وحدة الأديان

من عناصر الفكر البهائي القبول بمبدأ وحدة الأديان على أساس أن مصدر الأديان جميعها جهة واحدة وهناك دين واحد، وهو دين الله، ولكن هذا الدين ظهر إلى البشرية منذ أن أرسل الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرسل ومظاهر الظهور وسمّوا بأسماء مختلفة، ولكنهم جميعاً حملوا رسالة واحدة إلى البشرية. نعتقد بأن الرسالة التي حملها هؤلاء الأنبياء والرسل هي واحدة ومتفقة في مضمونها وأصلها وتعاليمها الأساسية ولا يمكن للغيب المنيع وخالق الكون أن تتضارب تعاليمه وأحكامه أو أن تسيء للبشرية في أي مرحلة من مراحل تطورها ونموّها لأنه تعالى خلق البشر في الأصل من طينة واحدة نتيجة لمحبته اللامتناهية وجعل الإنسان أشرف المخلوقات وأكثرها تمييزاً وأن الظهورات الإلهية بأسماء الأنبياء والرسل ومظاهر الظهور ما هي إلاّ مشاهد للملحمة العظيمة للتاريخ الديني للجنس البشري تنفيذاً للعهد والميثاق وهو الوعد الإلهي القديم الذي قطعه خالق الوجود كله وأكدّ فيه بأن الهداية الإلهية ضرورية لنمو البشرية الروحي والأخلاقي وأنها لا تتوقف، ودعا الناس إلى الإيمان بمظهر أمرالله حين ظهوره، وأن يأخذ كل نصيبه من المبادئ والقيم العليا التي أتى بها هؤلاء المبعوثون من جانب الحق الذين يكمّلون بعضهم بعضا، حيث ذكر حضرة بهاءالله :

{إياكم يا ملأ التوحيد لا تفرقوا في مظاهر أمرالله ولا في ما نزل عليهم من الآيات وهذا حق التوحيد إن أنتم لمن الموقنين. وكذلك في أفعالهم وأعمالهم وكلما ظهر من عندهم ويظهر من لدنهم كل من عند الله وكل بأمره عاملين.}[1]

الآية السابقة تؤكد مفهوم وحدة الأديان الذي له علاقة بمبدأي التوحيد ووحدة الجنس البشري اللذين تحدثنا عنهما في الفصلين السابقين. وقد ذكرنا بأن البشرية تمرّ في عملية نمو جماعية شبيهة بعملية النمو لدى الأفراد، وفي كلتا الحالتين يصلان إلى مرحلة البلوغ وهي آخر وأسمى مرحلة من مراحل نمو الإنسان أو الجنس البشري. إن الدين له دور أساسي وفعّال في دفع مسيرة نمّو الجنس البشري وتطوره وتقدمه. وقد سجّل لنا التاريخ الدور الهام الذي لعبته الأديان في بناء الإنسان والحضارات والثقافات ولا يمكن استبعاده في أية عملية حقيقية لنمو وتقدم المجتمع الإنساني. ولنذكر ظهور حضارات عظيمة في كل من الصين واليابان والشرق الأوسط وأوروبا، فإن هذه الحضارات برزت بعد ظهور الأنبياء والرسل ومظاهر الظهور في تلك المناطق من العالم. إن الروح التي أطلقها هؤلاء الانبياء والرسل ونفوذ كلمتهم وتعاليمهم ونظامهم الاجتماعي الذي بني على الأحكام والمبادئ أدت بالجنس البشري إلى الرقي والتقدم، ولهذا نعتقد بأن الأنبياء والرسل هم المربّون والمعلّمون الحقيقيون للبشرية. ولا يمكن لأحد أن ينكر مثلاً أن النهضة الأوربية كان أساسها العلماء المسلمين الذين ظهروا في العصرين الأموي والعباسي ووضعوا أسساً لعلوم كثيرة منها الطب والكيمياء والرياضيات. وبهذا الخصوص تفضل حضرة بهاءالله :

{إن مما لا شك فيه أن جميع الأديان متوجّهة إلى الأفق الأعلى وتأتمر بأوامر الحق. أما ما اختلف من أوامرها وأحكامها فقد كان بحسب مقتضيات العصور والأزمان، فالكل من عند الله ونزل بمشيئة الله ما عدا بعضها التي كانت نتيجة ضلال البشر وعنادهم. أن انهضوا يعضدكم الإيمان وحطموا أصنام الأوهام وتمسّكوا بالاتحاد والاتفاق.}[2]

يلاحظ من المقتطف السابق أن حضرة بهاءالله يشير إلى ظهور أديان غير سماوية نتيجة “ضلال البشر وعنادهم” ولهذا شهد التاريخ بعض المدّعين للنبوّة ولكن هؤلاء النفوس وأتباعهم وديانتهم قد اندثرت عبر الزمن ولم يبق منهم أثر. وما تبقى اليوم من أديان هي التي وجدت منذ آلاف السنين وأكد حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء على سماوية وأحقية شرائعهم. أما بالنسبة للأنظمة الدينية التي أتى بها هؤلاء الانبياء والرسل فيصفها بهاءالله بأنها:

{هذه الأصول والقوانين والسبل المحكمة المتينة قد ظهرت من مطلع واحد وأشرقت عن مشرق واحد، وهذه الاختلافات جاءت نظراً لمقتضيات الوقت والزمان والقرون والأعصار.}[3]

وبناء عليه فإن الإقرار بالمقام العالي للأنبياء والرسل مثل بوذا وكونفوشيوس وزرادشت وموسى وعيسى ومحمد يبقى ناقصاً اذا اعتبرت رسالة كل واحد منهم رسالة قائمة بذاتها جاءت بدين جديد منفصل ومتميّز عن الآخر. بل علينا أن نفي هؤلاء حقهم من الإعزاز والتقدير ونقرّ بأنهم المربّون الحقيقيون في التاريخ الإنساني وأن كل واحد منهم قد أضاف وكمّل الآخر حسب تسلسلهم التاريخي وأنهم كانوا السبب في تطوّر ونمّو الإنسان وبناء الحضارات والدول التي ازدهرت فيها الإنسانية في شتى مناحيها وأن التعاليم التي أتو بها كانت مناسبة لزمن ومكان ظهورهم. يشرح حضرة عبدالبهاء هذه الحقيقة بقوله:

{وقد أعلن حضرة بهاءالله وحدة العالم الإنساني وكذلك وحدة الأديان، لأن جميع الأديان الإلهية أساسها الحقيقة، والحقيقة لا تقبل التعدّد، والحقيقة واحدة وأساس جميع أنبياء الله واحد وهو الحقيقة، ولو لم يكن الحقيقة لكان باطلاً. وحيث أن الأساس هو الحقيقة، لهذا فإن بناء الأديان الإلهية واحد، وغاية ما في الأمر أن التقاليد حلّت في وسطها وظهرت آداب وتقاليد زائدة، وهذه التقاليد ليست من الأنبياء إنما هي حادثة وبدعة … أما إذا نبذنا هذه التقاليد وتحرّينا حقيقة أساس الأديان الإلهية فلا شك أننا نتّحد.}[4]

وعلى ذلك فإن مبدأ وحدة الأديان يعني بأن الأنبياء والرسل ومظاهر الظهور الذين أسسوا الأديان المتعددة في العالم، طالما أتوا من مصدر واحد وهو الله سبحانه وتعالى فإن جوهر تعاليمهم ومبادئهم واحدة. وقد وصف حضرة بهاءالله هذه الديمومة حين أعلن قائلاً: “هذا دين الله من قبل ومن بعد.”[5] فوظيفة الدين هي تمهيد السبيل أمام الروح الانسانية لترتقي وترتبط بخالقها في علاقة تتزايد حباً وعشقاً وأن يسبغ على تلك الروح القوة والقدرة للسيطرة على الدوافع الحيوانية الكامنة في الطبيعة الإنسانية. وفي هذا الخصوص ليس هناك تناقض بين التعاليم الأساسية التي تنادي بها الأديان قاطبة، بل جميعها أتت من أجل تهذيب النفس وتنمية مكارم الأخلاق بهدف دعم تقدم مسيرة البشر في بناء الحضارة الإنسانية. يقول حضرة بهاءالله :

{إن من المعلوم والمحقق … أن جميع الأنبياء هم هياكل أمرالله الذين ظهروا في أقمصة مختلفة وإذا ما نظرت إليهم بنظر لطيف لتراهم جميعاً ساكنين في رضوان واحد وطائرين في هواء واحد وجالسين على بساط واحد وناطقين بكلام واحد وآمرين بأمر واحد.}[6]

كما أشار القرآن الكريم أيضاً إلى هذا المفهوم بقوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.}[7]

أما الاختلافات الظاهرية في بعض التعاليم والأحكام والشعائر والعبادات وتفاوتها فقد برزت نظراً  لمقتضيات المكان والزمان والبيئة الاجتماعية التي ظهرت منها ولم يكن من الممكن أن يكون الأمر على عكس ذلك نظراً لأنه خلال آلاف السنين شهد العالم دورات متتابعة من نزول الوحي والإلهام الإلهي والأنبياء والرسل الذين جاءوا لتلبية الحاجات المتغيرة لحضارة انسانية دائمة التطور والنمو. وفي الحقيقة يبدو أن إحدى الخصائص الرئيسية للكتب السماوية المقدسة الإشارة بشكل ما بأن الدين في طبيعته خاضع للنمو والتطور، ولا يمكن التعلّل بالدين بأنه سبب إيجاد التعصبات والنزاعات وبث مشاعر الفرقة والنفور بين الناس. إن الدين – وكما يؤكد بهاءالله – جاء للوحدة والاتحاد والمحبة والألفة وليس للنزاع والفرقة. ونعيد ونؤكد بأن جوهر تعاليم جميع الأديان واحد فيما يتعلق بالأخلاقيات والسلوك الحسن والقيم والمثل العليا. ومثال على ذلك، إن مبادئ مثل الأمانة والصدق والوفاء وحسن الأخلاق هي من المبادئ التي روّجتها جميع الكتب المقدسة السماوية، ولكن يلاحظ مدى اختصار هذه المبادئ في البوذية أو الهندوسية أو اليهودية أو المسيحية ولكنها اتّسعت وأعطيت لها أبعاد مختلفة ومفاهيم جديدة في الظهور المحمدي والبهائي. أي أن كل نظام ديني يعتبر مرحلة متطورة ومجددّه لما سبقه من أنظمة دينية، والدين البهائي يمثل اليوم المرحلة المعاصرة من مراحل تطور دين الله. وبالتالي فإن من عناصر الفكر البهائي أيضا استمرارية الوحي الإلهي أو ” تعاقب الظهورات” وإن هذه الأديان هي القوة الدافعة والمحرّكة لتقدم البشرية وإن بهاءالله هو المظهر الإلهي الأحدث في سلسلة تعاقب ظهور الأنبياء والرسل وسنتحدث عن هذا الموضوع بالتفصيل في الفصل القادم. يتفضل حضرة عبدالبهاء:

{ كل دين من الأديان الإلهية المقدسة التي نزلت حتى اليوم منقسم إلى قسمين: أحدهما الروحانيات وهي معرفة الله وموهبة الله وفضائل العالم الإنساني والكمالات السماوية، وهذا القسم يتعلق بعالم الأخلاق وهو الحقيقة والأصل … والقسم الثاني من الدين متعلق بالجسمانيات وهو فرعي وليس أساسياً ويحدث فيه التغيير والتبديل بحسب مقتضيات الزمان. فالطلاق مثلاً جائز في شريعة التوراة وليس جائزاً في شريعة السيد المسيح، وفي شريعة موسى كان السبت وفي شريعة المسيح نسخ ذلك الأمر.}[8]

من عناصر الفكر البهائي أيضاً بأن هذه الآثار الكتابية المقدسة لمظاهر الظهور تأتي عن طريق الوحي الإلهي. هذا المفهوم يتفق مع ما يعتقده المسلمون تحديداً حول نزول القرآن الكريم على سيدنا محمد (ص) بواسطة الوحيّ الذي سمّي بجبريل. وفي الحقيقة فإن جميع آثار الأنبياء والرسل وأقوالهم هي في الواقع وحيٌ من عند الله عزّ وجلّ ولا يمكن قياسها بالآثار الكتابية لعامة الناس.

هناك فئة من الناس لا تؤمن بوجود أنبياء ورسل بل وتنكر وجود الله ذاته وتعتقد أن الأديان الموجودة حالياً في العالم ما هي إلا نتاج أفكار واجتهادات علماء ومفكرين كبار ولا يوجد ما يسمّى برسالة سماوية، هذه الفئة تسمّى بالملحدين. هذه الفئة من الناس تستبعد فكرة وحدة أساس الأديان لأنها تعتقد أن الأنظمة الدينية المختلفة تعبّر عن وجهات نظر متفاوتة واعتقادات جاءت أصلاً من الإنسان وهو المعرّض للخطأ وغير المقدس ولكن ذلك يتعارض مع سماوية الأنبياء والرسل واختصاصهم بالوحي الإلهي وقدسيتهم الذي يمثل الحقيقة والعصمة وعدم الخطأ وبالتالي فإن الإيمان بفكرة وحدة الأديان يجب أن يقترن بسماوية وقدسية جميع الأنبياء والرسل وأنهم قد أتوا من مصدر واحد.

ولكن هذا الموضوع الأخير قد يواجه بأفكار أتباع أديان مختلفة تؤمن بأنها سماوية فقط وتطعن بسماوية الأديان الأخرى وهو موضوع أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الدينية. ولست بصدد الحكم على الآخرين، ولكن ما تؤكده الكتابات البهائية أن جميع الأديان الكبرى الموجودة في العالم قد أتت من جانب الحق تبارك وتعالى وأن أصولها إلهية، ولهذا كان لها أتباع واعتقادات لا تتناقض مع غيرها بشكل جوهري. وأتباع كل دين يعتقدون أن دينهم سماوي ويؤمنون بحقانية ما قبله بينما يرفضون ما بعده. ونود أن نشير في هذا الصدد بأن القران الكريم ذكر عن مجيء أنبياء ورسل كثيرين ولكن لم يذكر إلاّ أسماء بعضهم، واليوم نشاهد أن من تبقى من أتباع الديانات المذكورة في القرآن هم اليهود والمسيحيون فقط أما البوذيون والهندوس الذين يشكلون حوالي ربع سكان العالم فلا يعتقد المسلمون بسماوية أديانهم لأنها لم تذكر في القرآن، وبناء عليه يعتقد المسلمون بسماوية ثلاثة أديان فقط هي اليهودية والمسيحية والإسلام وترفض فئة منهم التعامل بشكل إيجابي مع باقي الأديان الأخرى بينما يذهب الفريق المتطرف منهم إلى تكفيرهم. يعتقد البهائيون أن عدم ذكر أسماء أنبياء ورسل آخرين في القرآن لا يعني عدم مجيئهم من عند الله أو عدم سماوية أديانهم، حيث ذكر الله تعالى في محكم كتابه: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك.}[9]  أي أن هناك أنبياء جاءوا ولكنهم لم يذكروا في القرآن الكريم. كما أن هناك حديثاً شريفاً يشير فيه الرسول محمد (ص) إلى مجئ 124000 نبي، فهل من المعقول أن لا يكون بوذا أو كريشنا أو كونفوشيوس مثلاً واحداً منهم ؟ وهم الذين لهم أتباع اليوم بمئات الملايين.

إن أية محاولة لتفوّق دين على آخر والطعن بعقائد الآخرين والتكفير يعتبر أمراً مرفوضاً ويتعارض مع مبادئ جميع الأديان وحرية العقيدة بل يجب احترام الأديان والعقائد وعدم إلغائها والتعامل معها بشكل إيجابي من منطلق الأخوة الإنسانية ومن زاوية احترام العهود والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. وفي النهاية فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيحاسب الانسان على عقيدته وعمله. كما أن جميع الأنبياء والرسل ومظاهر الظهور هم في مصاف واحد وفي مرتبة واحدة، وقد لخّص حضرة شوقي أفندي هذا المفهوم بهذه الكلمات :

{إن المبدأ الهام والأساسي الذي شرحه لنا حضرة بهاءالله ويؤمن به أتباعه بشكل جازم هو أن الحقيقة الدينية ليست مطلقة وإنما نسبية وأن الرسالة السماوية هي عملية مستمرة وفي تقدم وأن جميع الأديان العظيمة في العالم سماوية في الأصل وأن مبادئها الأساسية متماثلة ومتطابقة تماماً، وأن أهدافها ومقاصدها متشابهة كما أن تعاليمها تعكس لنا حقيقة واحدة وأن وظائف هذه الأديان مكمّلة لبعضها البعض وأن اختلافها الوحيد يكمن في الأحكام والحدود الفرعية وأن مهامها هي التكامل الروحي للمجتمع الإنساني خلال مراحل متعاقبة ومستمرة.}[10]

ومع دخولنا القرن الواحد والعشرين نلاحظ أن البشرية قد شهدت خلال القرن المنصرم شتى أنواع المتغيرات السلبية والإيجابية ونهضة عمرانية وتكنولوجية كبيرة. ونتيجة لذلك هناك اليوم أعداد متزايدة من الناس وصلت إلى قناعة بأن الحقيقة الكامنة في الأديان السماوية كلها حقيقة واحدة في جوهرها، وما كان لمثل هذه القناعة أن تصدر نتيجة مناقشات عبثية بل عن وعي راسخ نتيجة تراكم خبرات واسعة وتجارب متعددة كانت بعضها مريرة وعنيفة وبعضها إيجابية وجيدة. وقد خرج بعض أتباع الأديان والمذاهب باستنتاج أنه لا يمكن إلغاء الآخر بل يجب احترامه والتعايش معه في ظل قوانين تحترم الجميع وتؤمن بالمواطنة الحقيقية وبوحدة العائلة الإنسانية. وحول أهمية الحياة الروحية للفرد ودورها في بناء السلام شرح بيت العدل الاعظم  الوضع الحالي في العالم بما يلي :

{فمن مزيج معتقدات وطقوس دينية وأحكام شرعية تم توارثها من عوالم عفا عليها الزمن بدأ يبرز هناك شعور بأن الحياة الروحية مثلها مثل الوحدة التي تجمع مختلف القوميات والأعراق والثقافات تشكّل في حدّ ذاتها حقيقة واحدة مطلقة ميسور لكل إنسان سبيل الوصول إليها. ولكي يتأصل هذا الشعور الذي بدأ يعم الناس ولكنه لا يزال في بداية أمره وليتمكن من الإسهام إسهاماً فاعلاً في بناء عالم يسوده السلام ينبغي عليه أن يحظى بالتأييد القلبي الكامل من قبل أولئك الذين تتوجه إليهم جماهير الناس في كل انحاء العالم طلبا للهداية والرشاد حتى في هذه اللحظة المتأخرة.}[11]

ونظراً للعناصر الإيجابية المتعدّدة التي ثبت وجودها في جميع الأديان الكبرى في العصر الحاضر وعلى الأخص في الأخلاقيات والقيم العليا والأخوة الانسانية والعدالة والرغبة الملحّة للتعايش السلمي ووضع نهاية للحروب والنزاعات والصراعات الدينية والإثنية، فقد نما خلال العقدين الأخيرين الإحساس بضرورة الحوار بين هذه الأديان والعقائد والمذاهب بهدف التقريب فيما بين أتباعها إلى المستوى الذي معه يمكن أن يقوموا على خدمة الانسانية معاً بدلاً من الخصام والتناحر. وحول هذا الموضوع ذكر بيت العدل الاعظم :

{يرى البهائيون أن كفاح الأديان المختلفة في سبيل تحقيق التقارب بينهما إنما هو بمثابة الاستجابة للمشيئة الإلهية التي أرادت ذلك للجنس البشري الداخل في طور نضجه الجماعي. ولا يألو أعضاء جامعتنا البهائية جهدا في مواصلة دعمهم لهذا المجهود بكل وسيلة ممكنة. ومهما يكن من أمر فإننا مدينون لشركائنا في هذا المجهود المشترك إذ نعلن عن ايماننا الصادق بأنه إذا ما كان لما يجري من حوار بين الأديان أن يسهم إسهاماً ذا دلالة ومعنى في شفاء العلل والأمراض التي تشكو منها إنسانية ألّم بها اليأس وفقدان الأمل، لا بد لهذا الحوار أن يشرع في الحديث بصدق وأمانة وبدون أي مواربة إزاء ما تمليه علينا تلك الحقيقة العليا التي بعثت “حركة حوار الأديان” إلى الوجود، ألا وهي الحقيقة القائلة بأن الله هو الواحد الأحد، وبأن الأديان كلها في جوهرها دين واحد رغم تعدّد معالم الثقافة فيها واختلاف تفسيرات البشر لتعاليمها.}[12]

[1] منتخباتي – فقرة 24

[2]  رسالة بيت العدل الاعظم الموجهة الى قادة الأديان – عام 2002 ص 9

[3]  منتخباتي –  ص 184 فقرة  132 ( مترجم)

[4] خطب عبدالبهاء في اوربا وأمريكا ص 315

[5] الكتاب الأقدس – فقرة 182

[6] الايقان – ص 129

[7]  سورة آل عمران – آية 63

[8] خطب عبدالبهاء في اوروبا وأمريكا – ص 132-  133

[9] من سورة غافر – آية 78

[10] نقلا  عن كتاب ” الدين البهائي بحث ودراسة ” ص 116 – 117

[11]  من رسالة بيت العدل الاعظم الموجهة الى قادة الأديان – عام 2002  ص 10

[12]  المصدر السابق ص 14

رابعاً: استمرارية الهداية الإلهية

رأينا في الفصول الثلاثة السابقة أن جميع الأديان والشرائع الكبرى هي في الواقع تعبير حيّ عن إرادة إلهية واحدة ظهرت منذ أن خلق الله الانسان وأرسل الأنبياء والرسل لتربيته وهدايته إلى سبل التقدم والرقي والعرفان. ولهذا يمكن النظر إلى الرسالات الدينية المتعاقبة على أنها حلقات متتابعة لدين واحد جوهره إسلام العبد لله وإذعانه للكلمة والمشيئة الإلهية وعبادته الواحد الأحد الذي لا شريك له في الملك وهو واحد عند جميع الأديان والمذاهب مهما اختلفت التسميات. وهذا هو التوحيد الحق الذي ينزّه الله عن التعدد  والوصف والحلول والبروز والنزول والصعود.

وقد كانت هذه هي سنّة الله من قبل وستكون سنتّه من بعد ولا رادّ لقضائه. وبعبارة أخرى كانت الرسالات الدينية المتعاقبة بمثابة تجديد للرابطة الوثيقة بين الإنسان وخالقه، ذلك العهد الأبدي، والرحمة الكبرى من العلي المتعال للبشرية من أجل المزيد من التجديد والتقدم والرقي المادي والروحاني وكلاهما في تطوّر متواصل لا يتوقف. كما أن الفهم القديم للدين على أنه مجموعة من الشعائر والأحكام الجامدة لم يعد يتّفق مع فكر الإنسان في العصر الحديث. لقد اتسع مفهوم الدين ليشمل الاستقلال في التفكير الشخصي والرقابة الذاتية على المشاعر والسلوك والحكم على الأشياء وفقاً لمبادئ تتوخى الموضوعية والإنصاف والاتزان وأيضاً الحرية في اختيار المعتقد.

من هذا المنطلق رأى حضرة بهاءالله أن سيل الهداية الإلهية للبشرية يجب أن يستمر بالتدفق مع  استمرار هذا الكوكب الأرضي، ولا يمكن لأي من هذه الرسالات الدينية المتسلسلة أن تكون لها نهاية. إن القول بتوقف هذه الرسالات وانتهائها يعني توقف الهداية الإلهية للبشرية وهو أمر مرفوض لا يتطابق مع العقل والمنطق السليم ولا يستند إلى نصوص الكتب السماوية ولا على الحقائق التاريخية وهو قول يستغل الكلام الوارد في الكتب المقدسة على سبيل المجاز ليفرض على العامة فكراً ينقصه الدليل وينكره الواقع وينحاز لفئة تحاول فرض أفضليتها على الآخرين. إن تتابع المظاهر الإلهية يمثل بُعداً من الأبعاد التي يتكون منها الوجود ولا يمكن فصله، وإن هذا التتابع سيستمر طوال حياة هذا العالم حيث ذكر حضرته:

{بعث الله رسلاً بعد موسى وعيسى وسيرسل من بعد إلى آخر الذي لا آخر له بحيث لن ينقطع الفضل عن سماء العناية يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل.}[1]

         ولهذا فإن هذا الوعد من جانب كل رسول أو نبي بمجئ من هو بعده سمّي “بالعهد” أي عهد الله باستمرارية فيضه ومحبته وهدايته للبشرية جمعاء. إن استمرارية الدورات الدينية وتجددها ضرورة يتطلبها الواقع الإنساني وتتطابق مع المشيئة الإلهية ونصوص الكتب المقدسة التي أشارت إلى حاجة الناس المستمرة للهداية الإلهية وعدم انقطاعها. وقد ترك لنا التاريخ سجلاً حافلاً بالانتصارات والتغييرات التي ظهرت إلى حيّز الوجود بعد ظهور كل رسول، والحضارة المزدهرة التي خلفها، والمعارف والفضائل والجيل الجديد الذي ظهر مع سطوع شمس الحقيقة في كل فترة من الزمن. ومن الصعب حقاً أن نجد أي تقدم جوهري في الحضارة الإنسانية إلا وكان نابعاً من الدين. فهل من المعقول أن نتصور بأن وصولنا اليوم إلى هذه المرحلة المتقدمة من المسيرة الإنسانية قد تحقق من فراغ روحي؟ إن جميع المآسي والفجائع التي ارتكبت باسم الدين خلال القرن الماضي قد اثبتت شيئاً واحداً وهو أن احتياجات العالم اليوم لا يمكن تلبيتها بتلك الأفكار والعقائد التي أكل عليها الدهر وشرب، ولا يمكن طرح بدائل أثبتت عدم جدواها، بل برهنت على أنها عائق حقيقي أمام تقدم الانسان وتطوره.

نستنتج من ذلك بأن هناك أجلاً محتوماً لكل أمة مصداقاً لقوله تعالى: {ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.}[2] وعندما يحين أجل كل أمة، يبدأ نجمها بالأفول وتبتعد الناس عن جوهر الدين وتتمسك بالقشور ويدب الخلاف بين الأتباع ويتم تحريف معاني كلمات الله ويأخذ الأمة التمزّق والشتات، إن ذلك كله من علامات نهاية أمة وبعث أمة جديدة وظهور سماوي جديد تلبية لاحتياجات عصر متطوّر. وحول حاجة الإنسان إلى هداية إلهية تناسب مراحل تطوره تفضل حضرة بهاءالله بقوله :

{إن الرسل والأنبياء هم بمثابة الأطباء يقومون بمعالجة العالم وأهله فيصفون دواء الوحدة والاتحاد لشفاء أمراض الفرقة والاختلاف. لا يسأل الطبيب عن علاجه لأنه يعلم عن جسم الانسان والأمراض التي تعتريه ولن يصل طائر عرفان أهل الأرض إلى علوّ سماء عرفان الطبيب. ولا عجب إذا وجدنا أن الطبيب يصف علاجاً لهذا اليوم يختلف عما وصف في الماضي. وكيف لا يكون ذلك، فلكل يوم علاج يناسب أمراضه، وبالمثل فإن رسل الله وأنبياءه كلما أناروا العالم بإشراق شمس المعرفة الإلهية دعوا الناس إلى الاستفاضة من نور الله بالوسائل المناسبة لمقتضيات العصر. لذا يجب أن يركز الناس نظرهم إلى هؤلاء الانبياء لأن هدفهم واحد وهو هداية الضالين وراحة الضعفاء والعاجزين.}[3]

إن تتابع ظهور الأنبياء والرسل أو المظاهر الإلهية – كما يسمّيهم البهائيون – هو سمة مشتركة بين جميع الأديان الرئيسية الكبرى وقد ذكرت تلويحا أبلغ من تصريح وضمنا أحيانا أو علناً في آثارهم الكتابية المقدسة، ولعل أول وأوضح إشارة إلى تتابع المظاهر الإلهية جاء في كتاب “البهاغاواد – غيتا” الهندي حيث ذكر: {إني آتٍ وأذهب، ثم أعود، عندما تتضاءل التقوى، يا بهاراتا وعندما يقوى الشر أعود من عصر إلى آخر وأتخذ لنفسي شكلاً يظهر للعيان ثم أسير بين الناس رجلاً كغيري من الرجال، فأغيثُ أهل الخير وأدحر أهل الشرّ ثم أقيم الفضيلة على عرشها مرة أخرى.}[4]

أشار التوراة أيضاً في عدة مواقع إلى استمرارية هذه الهداية وسمّاه “العهد الابدي” أو “الميثاق” وتحدث عن هذا العهد أو الميثاق أبو الأنبياء سيدنا ابراهيم عليه السلام حيث خاطبه الله عزّ وجلّ وقال له:

{وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك.}[5]  وأيضاً : {وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم ومع كل ذوات الأنفس الحية التي معكم.}[6] إن ميثاق الله مع البشرية منذ القدم كان ومازال استمرارية بعثه للأنبياء والرسل فضلاً ورحمة من لدنه.

تمثل هذه المشاهد المتتابعة المستمرة الموضوع الهام للكتاب المقدس الذي تتحدث سلسلة فصوله المتعاقبة ليس عن رسالتي ابراهيم وموسى الذي “عرفه الرب وجهاً لوجه” فحسب بل تتحدث أيضاً عن الأنبياء من غير أولي العزم الذين قاموا على دعم وتطوير ما أتى به كل من إبراهيم وموسى بصفتهما صاحبي مسار الأحداث الذي خططا له وشرعا بتنفيذه. وبالمِثل فإنه من غير الممكن أن تنجح التأويلات المليئة بالعجائب والمثيرة للجدل والخلاف والمتعلقة بحقيقة السيد المسيح وطبيعة حياته في فصل رسالته عما حققه كل من سيدنا إبراهيم وسيدنا موسى من تحوّل وتغيير وأثرهما على المسيرة الحضارية. ولكن السيد المسيح أعلن بنفسه أن سيدنا موسى قد بشرّ بظهوره أيضاً حيث جاء في إنجيل يوحنا:

{الذي عليه رجاؤكم لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني  لأنه هو كتب عني …  فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي؟}[7]

وبمجئ سيد الأنام الرسول محمد (ص) ونزول القرآن الكريم يصبح موضوع تتابع الرسالات الإلهية موضوعا رئيسياً وهاما وسنّة من سنن الله لخلقه حيث جاء في محكم كتابه: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب …   وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيوّن من ربهم …}[8] وبالاضافة لما سبق فقد أكد القرآن الكريم على حتمية مجيء رسل في المستقبل قوله تبارك ذكره: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.}[9]

وبالتالي فإن مبدأ استمرارية الهداية يعطي جوابا للذين يتمسكون بالمعنى الحرفي لختم النبوة وانقطاع الوحي الإلهي، حيث إن هذا الفيض الإلهي المتدفق لا يمكن له أن يتوقف تأكيداً لقوله تعالى: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مدداً.}[10]

ولا بد لأي مطّلع على أمثال هذه المقتطفات أن يتحلى بالموضوعية والإنصاف وأن ينظر إليها بعين اليقين ليجد أن فيها إقراراً بأن الأديان في جوهرها وأسسها في الحقيقة دين واحد وأن كلمة “الإسلام” و”المسلمون” التي وردت عدة مرات في القرآن الكريم ليس القصد منها في بعض المواقع تلك الشرائع والأحكام التي نزلت على سيدنا محمد (ص) والتي يحسبها المسلمون اليوم أنها أبدية وليس بالإمكان تغييرها بل الأبدي هو جوهر الدين، أي الأصول والمبادئ التي يقوم على أساسها جميع الأديان السماوية، وهي واحدة في جوهرها ومضمونها مثل الأمانة والصدق والوفاء والتسامح والمحبة والأخوة والتراحم والتوحيد … الخ وقد أشار الذكر الحكيم إلى ذلك قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.}[11]  وفي سورة أخرى: {وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.}[12]

يقول المفكر الإسلامي الدكتور محمد عبدالله دراز: “الإسلام في لغة القرآن ليس اسماً لدين خاص وإنما هو اسم للدين المشترك الذي هتف به كل الأنبياء وانتسب اليه كل اتباع الانبياء.”[13] فإن كان من صحيح القول التحدث عن وحدة الأديان كلها، فإنه من الضروري أيضاً أن نفهم السياق الذي يأخذه هذا الحديث. وعلى أعمق المستويات، كما يؤكد لنا حضرة بهاءالله، لا يوجد هناك سوى دين واحد تتكشف مضامينه عبر ظهورات إلهية خلال مراحل مختلفة من التاريخ الإنساني وحسب استعداد الانسان وقابليته واحتياجاته. أما العلم فهو الوسيلة التي يقوم العقل البشري عن طريقها باكتشافاته ومن ثم يمكّنه ذلك من أن يؤثر دوماً تأثيراً تاماً على العالم الطبيعي الظاهر. فالأول يحدد الأهداف التي تخدم أغراض مسيرة التطور والتقدم والثاني يساعد على تحقيق تلك الأغراض. فالدين والعلم يشكلاّن شقّي نظام المعرفة الذي يدفع بالحضارة الإنسانية نحو الأمام، وقد كرّم حضرة عبدالبهاء العلم والدين حين وصف كل واحد منهما بأنه: “إشراقات شمس الحقيقة.”[14]

ومن ثم يجب القبول بأن كلا من موسى وبوذا وزرادشت وكريشنا وعيسى ومحمد ما هم إلّا مظاهر ظهور حملوا رسالة واحدة من جانب الحق سبحانه وتعالى للبشرية ولا يمكن القبول بأن رسالة كل منهم منفصلة ومتميّزة عن غيرها بل حملوا رسالة إلهية واحدة مكملة لبعضها البعض ودائمة التفتح. ومن أجل أن نفي هؤلاء النفوس المقدسة حقهم من الإعزاز والتقدير علينا أن نعترف بأنهم المربّون الحقيقيون للبشرية وأنهم الباعثون على بناء الحضارات التي ازدهر فيها الوعي الانساني وتفتح، وقد حظيت شخصية كل واحد منهم بإجلال فاق حدّ التصور والتقديس وامتد لآلاف السنين. وهكذا تطورت البشرية ونمت روحيا وفكريا وحضاريا بفضل هؤلاء الأنبياء والرسل ووصلت إلى معرفة الخالق جلّ وعلا وعبادته ومحبته.

كما أن من السمات البارزة لكل الأنبياء والرسل (أو مظاهر الظهور) أنهم أكدوا على صحة الدعوات السابقة وحقانيتها وبعضهم أشار اليهم بالاسم تحديداً وأوردوا قصصهم ورواياتهم وحكاياتهم ودعوا أتباعهم إلى الإيمان بهم باعتبارهم آخر ظهور سماوي، وكل ملة تعتقد أنها آخر ظهور. ومن متون الكتب المقدسة نلاحظ أيضاً إشارات وعلائم بظهور مستقبلي أشير اليه أو إليهم تلميحاً وتصريحاً وبالتالي اتفقت الكتب السماوية المقدسة مثل التوراة والانجيل والقرآن على الظهور التالي لها، بل اتفقت هذه الكتب على ظهور كلي إلهي في المستقبل وسمّي بالمسيح المنتظر أو المخلّص حيث اتفقوا تحديداً على عودته “ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً”. وحتى إن المسيحيين يستدلون بظهور عيسى بن مريم من التوراة وأيضا يستدل المسلمون على ظهور الرسول محمد (ص) من الإنجيل، ويستدل البهائيون على ظهور الباب وبهاءالله من العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة. وبهذا الصدد يقول حضرة الباب :{إن الله لم يبعث أي نبي ولم ينزل أي كتاب إلا وقد أخذ عهد جميع البشر على الإيمان بالظهور والكتاب التاليين، اذ لا يتوقف الفيض الإلهي ولا حدّ له.}[15]

ولهذا لم يدّع بهاءالله أنه آخر الظهورات السماوية بل أكدّ على مجيء ظهور آخر ليس قبل ألف سنة تأكيداً لسنّة الله في خلقه وتعزيزاً لمبدأ استمرارية الهداية الإلهية. وبهذا الصدد يتفضل حضرة عبدالبهاء :

{ومن جملة الفيوضات الإلهية هي المظاهر المقدسة، فكيف يكون ظهورها محدوداً مع إنها أعظم الفيوضات الإلهية ؟ وبعد أن ثبت أن الفيض الجسماني غير محدود كيف يكون الفيض الروحاني محدوداً ؟ وبعد أن ثبت أن القطرة غير محدودة كيف يمكن أن يكون البحر محدوداً. وبعد أن ثبت أن الذرة غير محدودة كيف يمكن أن تكون الشمس محدودة ؟ وبعد أن ثبت أن العالم الجسماني غير متناهٍ كيف يمكن أن يكون العالم الروحاني محدوداً ومتناهياً ؟ ولهذا فالمظاهر المقدسة التي هي أعظم الفيوضات الإلهية كانت موجودة في الماضي وستكون إلى الأبد. فكيف نستطيع اذاً أن نحدّد الفيض الإلهي؟ فإن استطعنا أن نحدد الله استطعنا أن نحدد فيضه.}[16]

[1] من سورة الصبر – الايام التسعة ص 119

[2] سورة الاعراف – آية 34

[3] ” منتخباتي” – فقرة 34

[4] Bhagavad-Gita, chapter lV, Sir Edwin Arnold translation

[5] سفر التكوين، اصحاح 17 آية 7

[6] سفر التكوين، اصحاح 9 آية 9 – 10

[7] اصحاح 5 الآيات 45 – 47

[8] سورة البقرة – اية 136

[9] سورة الاعراف – آية 35

[10] سورة الكهف – آية 109

[11] سورة آل عمران – آية 64

[12] سورة البقرة – الآيات 127 – 128

[13]  من كتاب ” الدين – بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان” ص 175

[14] The Promulgation of Universal Peace   ص 326

[15] العهد والميثاق ص 9

[16] خطب عبدالبهاء في اوروبا وأمريكا – ص 419

خامساً: مجيء اليوم الموعود

لو أمعنّا النظر في متون الكتب المقدسة السابقة لنرى أنها تشير إلى شئ واحد مشترك مضمونه مجيء يوم عظيم في المستقبل تنتهي فيه الحروب والنزاعات ويعيش البشر جميعهم سواسية في محبة ووحدة وأخوة إنسانية حقيقية ويعم السلام والسعادة والإخاء في شتى أنحاء الكرة الأرضية. كما تشير النصوص والاحاديث والروايات إلى تزامن كل ذلك بظهور شخص أو شخصين يعملان على تحقيق كل ذلك. ولربما لا تتفق الأحاديث الإسلامية على شروط وزمن وعلامات تحقق كل ذلك ولكنها تتفق على أن هناك ظهورين عظيمين آتيين لا محال. ففي التوراة مثلا جاء في سفر إشعياء: {فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل لا ترفع أمةٌ على أمةٍ سيفاً ولا يتعلمون الحرب في ما بعد.}[1] وعن الشخص الموعود: {بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض ويضرب الأرض بقضيب فمه ويميت المنافق بنفخة شفتيه}[2] … { فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي والعجل والشبل والمسمّن معاً وصبي صغير يسوقها.}[3]

ومن المعتقدات الثابتة لدى المسيحيين هو عودة المسيح عليه السلام ليحقق ملكوت الله على الأرض كما في السماء ويعمّ السلام والعدالة كافة أرجاء الكرة الأرضية حيث جاء في انجيل لوقا: {فقال لهم متى صليتم فقولوا أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض}[4]  وجاء أيضاً: {لأني أقول لكم إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب.}[5] وأيضاً: {اسهروا إذاّ لأنكم لا تعلمون متى يأتي رب البيت أمساءً أم نصف الليل أم صياح الديك أم صباحاً. لئلا يأتي بغتة فيجدكم نياماً.}[6]  وأيضاً {ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذٍ يجلس على كرسي مجده.}[7]

وفي كتاب أفيستا وهو الكتاب المقدس للزردشتيين فقد جاء: {في ذلك الوقت سيظهر وابسين سوشيانس وسيكمل طهارة وحداثة العالم وسيزيل أصل الشر وأذى الشيطان … ستبدأ دورة جديدة للعالم وسيكون دوماً بعيداً عن الأذى والمحن.}[8] وفي مواقع اخرى من نفس الكتاب هناك إشارات بظهور هوشيدر وشاه بهرام.

أما في الإسلام فهناك عشرات الأحاديث النبوية الصحيحة حول مجيء شخصين عظيمين بعد سيدنا محمد ( ص) وقد اتفقت الشيعة والسنة على ذلك وإن اختلفت في التسمية. فمن الأصول المسلّمة لدى الشيعة ظهور الإمام القائم وقد سمّي بالمهدي المنتظر والإمام الثاني عشر وهي الشخصية العظيمة الأولى، أما الثانية فهو رجعة الإمام الحسين عليه السلام أو الرجعة الحسينية. كما أن السنّة قد اتفقت مع الشيعة على الشخصية الأولى وهو ظهور المهدي المنتظر بينما اعتبرت الشخصية الثانية العظيمة هي عودة عيسى بن مريم. كما ان هناك أحاديث تشير إلى مجيء هذين الشخصين العظيمين قبل قيام الساعة، أي أن ظهورهما هو ايذانٌ بوقوع القيامة وهو من إشراط الساعة. أما في القرآن الكريم فإن الآيات القرآنية عن ظهور هذين الشخصين العظيمين لم تذكر بوضوح وإنما اعتبرت من الآيات “المتشابهات” أي ما يحتمل تأويله وتفسيره ولكن اعتقد بعض علماء المسلمين والمفكرين بأن مجيء المخلص أو المهدي المنتظر او عودة عيسى بن مريم قد ذكرت تلميحاً في كتاب الله عزّ وجلّ قوله تعالى : {واستمع يوم ينادي المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج.}[9] حيث اعتبر بعض المفسرين أن المنادي هو الإمام المهدي المنتظر بينما اعتبره الآخرون عيسى بن مريم. كما فسرّ بعض علماء المسلمين بأن لقاء الله المذكورة في القران الكريم المقصود به لقاء من وعد الإسلام بظهوره حيث جاء: {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآتٍ وهو السميع العليم.}[10]

أما الأحاديث النبوية الشريفة التي أشارت إلى الظهورين العظيمين فهي عديدة ننقل هنا بعضاً منها:        {والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الحرب ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها.}[11] وأيضا :{ستطلع عليكم رايات سود من خراسان فاتوها ولو حبوا على الثلج فإنه خليفة الله المهدي.}[12]  { ثم يجئ عيسى ابن مريم من قبل المغرب مصدقاً بمحمد وعلى ملته ثم إنما هو قيام الساعة.}[13] { المهدي من عترتي من ولد فاطمة.}[14] { يقوم القائم بأمر جديد وكتاب جديد وقضاء جديد وعلى العرب شديد.}[15] { يظهر من بني هاشم صبي ذو أحكام جديدة فيدعو الناس …  وأكثر أعدائه العلماء. }[16]

هناك آيات وأحاديث كثيرة أخرى تشير إلى مآسي وآلام تتوقعها البشرية في المستقبل وإلى نبّوات وأحداث مختلفة ومتنوعة ولكنها شديدة في وقوعها ويتزامن كل ذلك مع قرب ظهور ظهورين عظيمين في العالم ومجيء “يوم الله” كما سمّي في بعض النصوص وتحقق النبوات والبشارات الإلهية وبداية ظهور الأرض الطيبة والمدينة الفاضلة وملكوت الله على الأرض. ولكن ليس المجال هنا للاستدلال لإثبات صحة دعوة حضرة الباب ( المبشّر) وحضرة بهاءالله وتطابقهما مع بشارات الكتب المقدسة والأحاديث النبوية الشريفة وإنما يمكن للقارئ قراءة المزيد عن ذلك في الكتب البهائية بهذا الخصوص.

إننا ننظر إلى هذه الوعود والبشارات والتنبؤات بنظرة تفاؤلية مصدرها أنه لا بد لهذه النزاعات والصراعات التي تشتد في عالمنا اليوم أن تزول في يوم ما، وتنتهي هذه الآلام والتعصبات إلى الأبد ويتحقق ما وعده الرحمن لبني الإنسان في أجمل وأحلى صورة. فالسلام العظيم لابد أن يأتي في يوم ما، وما ملكوت الله إلا حضارة عالمية أساسها مبادئ العدالة الاجتماعية ومبنية على الإنجازات الروحية والفكرية التي حققها البشر على نحو لا يمكن للعصر الحاضر أن يتخيله. إن التفاؤل الذي يخالجنا كبهائيين مصدره المبادئ والقيم العالية التي أتى بها بهاءالله للبشرية عندما أعلن للعالم {قد أتى اليوم الموعود }[17] وأن الموعود نفسه قد ظهر، وأعلن عن المبادئ والقيم التي ستعمل على إنهاء الصراعات والحروب وتضع حداً لمعاناة البشرية، بل إن النظرة التفاؤلية جاءت من الوسائل والظروف التي أصبحت اليوم متاحة أكثر من أي وقت مضى في سبيل ايجاد عالم جديد تسوده المحبة والمساواة والعدل ويمكن أن تساهم هذه الوسائل بشكل فعال في تسريع تحقق ذلك اليوم الموعود المذكور في جميع الكتب المقدسة والذي نعيشه اليوم ونرى بأم أعيننا تحقق بعض وعوده وبشاراته يوماً بعد يوم. ولهذا يسعى البهائيون، حسب ما تسمح به امكانياتهم إلى التعاون مع اعداد متزايدة من الحركات والمنظمات والجماعات والأفراد للقيام بجهود مشتركة تهدف إلى إيجاد التحوّل في المجتمع وزيادة أواصر الوحدة والمحبة وترويج الرفاه الإنساني والمساهمة في تحقيق التضامن العالمي.

لذا فإننا ننظر إلى الاضطرابات الراهنة في العالم والظروف والأزمات المفجعة التي تمرّ بها الإنسانية على أنها مرحلة طبيعية من مراحل التطور العضوي التي تؤدي في نهاية الأمر بصورة حتمية إلى وحدة الجنس البشري ضمن نظام اجتماعي واحد حدوده هي حدود هذا الكوكب الارضي طبقاً لمشيئة الرحمن. فقد ذكر حضرة بهاءالله قبل أكثر من قرن: {إن رياح اليأس تهب من كل الجهات ويستشري الانقلاب والاختلاف بين البشر يوماً بعد يوم وتبدو علامات الهرج والمرج ظاهرة، فأسباب النظام العالمي الراهن باتت الآن غير ملائمة.}[18] وقد أكدت التجارب التى مرّت بها البشرية خلال القرن الماضي على صحة مقولة بهاءالله حيث أن النظام العالمي الحالي والتقدم الكبير الملحوظ في المجالات العلمية والتقنية لم تستطع أن تمنع نشوب الحروب أو توقف التعصبات بشتى أنواعها، ولكن يمكن تفسير هذا السلوك بأن الجنس البشري قد مرّ بمراحل من التطور تشبه المراحل السلوكية التي تصاحب عادة عهد الطفولة والحداثة في حياة الأفراد، وها هو يمرّ الآن في المرحلة الختامية من سنوات المراهقة ويقترب من سن الرشد التي طال انتظارها. يصوّر لنا بيت العدل الأعظم – وهو المؤسسة العليا في الدين البهائي – مستقبل البشرية تصويراً تفاؤليا حيث يتفضل: {ومهما حملت السنوات المقبلة في الأجل القريب من معاناة واضطراب، ومهما كانت الظروف المباشرة حالكة الظلام، فإن الجامعة البهائية تؤمن بأن في استطاعة الإنسانية مواجهة هذه التجربة الخارقة بثقةٍ ويقينٍ من النتائج في نهاية الأمر. فالتغييرات العنيفة التي تندفع نحوها الانسانية بسرعة متزايدة لا تشير أبداً إلى نهاية الحضارة الانسانية، وإنما من شأنها أن تطلق “القدُرات الكامنة في مقام الانسان” وتظهر “سموّ ما قدّر له على هذه الارض” وتكشف عن “ما فُطِرَ عليه من نفيس الجوهر”.}[19]

ولكن هناك عقبات ومشاكل عدة تواجه البشرية وعليها أن تتجاوزها وتتغلب عليها إذا ما أردنا أن نصل إلى ذلك اليوم المنشود المذكور في كتب الله وأنبيائه. فما جاء في تعاليم بهاءالله من شأنه أن يضع حداً لمشاكل وعقبات تتحدى البشرية قاطبة، وعلى رأسها آفة التعصب الديني. وما الإرهاب الذي بدأ بالتفشي والانتشار في الآونة الاخيرة إلا ظاهرة مرعبة لا تعدو أن تكون أكثر من إحدى تشنجات الرمق الأخير. فحقيقة الظاهرة وما يصاحبها من قتل وترويع وسفك دماء دليل على الإفلاس الروحي للإنسان. والواقع أن ما تقوم به هذه الحركات الدينية تسيء إلى ديانتها وجوهر تعاليمها أكثر من أي شيء آخر، بل وتقوّض القيم الروحية التي تسعى إلى تحقيق وحدة الجنس البشري. فلا سبيل إلى إزالة التعصب الديني سوى الترويج للتسامح الديني والإخاء والمحبة وتعديل المناهج الدراسية بحيث تتماشى مع قيم الوحدة والمحبة والتعايش ووضع حدود لأي تفسيرات خاطئة لكلام الحق وكبح جماح اولئك الذين يستغلون الدين لأغراض هي بعيدة عنها.

ثم آفة التفرقة العنصرية وهي عائق رئيسي أمام الوحدة، والعمل بها هو انتهاك فاضح لكرامة الإنسان وإخلال كبير بمبادئ حقوق الإنسان المعلنة في الإعلان العالمي لحقوق الانسان وانتهاك أيضاً لتعاليم جميع الأديان والدساتير الوطنية. كما أنها تقف حجر عثرة أمام تقدم الانسان ورقيّه. واذا ما أردنا أن نقضي على هذه المشكلة علينا الاعتراف بمبدأ وحدة الجنس البشري وتطبيقه في جميع دول العالم وهو ما تحدثنا عنه بالتفصيل في الفصل الثاني. كما أن الوطنية المتطرفة يجب أن تستبدّل بولاء أوسع وهو ولاء لكلّ العالم الانساني، لأن التطرّف يلغي الطرف الآخر بل ويحاول مسحه من الوجود وهو تصرّف يتسّم بالتكبّر والغرور وهو عائق كبير أمام الوحدة والمحبة ويولّد الشقاق والنزاع في المجتمع حيث أعلن بهاءالله : {ليس الفخر لمن يحب الوطن بل لمن يحب العالم.}[20]

كما نرى اليوم بأن الفجوة الواسعة بين الأغنياء والفقراء هي مصدر لمعاناة فئات كبيرة من المجتمع وغالباً ما كانت هذه الفجوة سبباً لاشتعال نار الحروب والفتن في العالم. ولهذا فإن الحل يتطلب تنفيذ جملة من الاتجاهات العملية والروحية والأخلاقية مبنية على أسس إنسانية بأن مساعدة الآخرين وخدمتهم هي التزام روحي وأخلاقي في الدرجة الأولى دعت إليه جميع الأديان، وبالتالي لا مجال لإيجاد مجتمع متماسك ومتّحد تكون فيه الهوة واسعة جداً بين الفقراء والأغنياء، بل من واجب الدول والأفراد مساعدة الفقراء والمحتاجين واعتبار ذلك واجباً أخلاقياً ووطنياً. هناك عشرات الآيات على لسان حضرة بهاءالله يثني ويبجّل من يقوم بمساعدة الفقراء منها: {لا تحرموا الفقراء عمّا أتاكم الله من فضله وإنه يجزي المنفقين ضعف ما أنفقوا إنه ما من إله إلا هو له الخلق والأمر يعطي من يشاء ويمنع عمّن يشاء وإنه لهو المعطي الباذل العزيز الكريم.}[21] وأيضاً : {ثم اعلموا بأن الفقراء أمانات الله بينكم، إياكم أن لا تخانوا في أماناته ولا تظلموهم ولا تكونن من الخائبين. ستسئلون عن أمانته في يوم الذي تنصب فيه ميزان العدل ويُعطى كل ذي حق حقه ويوزن فيه كل الأعمال من كل غني وفقير.}[22]

كما أن قضية تحرير المرأة ومساواتها بالرجل هو موضوع هام ومن متطلبات التقدم والرقي. إن إنكار هذا الحق ينزل الظلم بنصف سكان العالم، وإن أي معاملة تقوم على أساس دونية المرأة أو الحط من كرامتها أو حقوقها لا يمكن قبولها تحت أي ذريعة، فكلاهما جناحان لطير واحد ويعملان معاً من أجل تقدم ورقيّ الإنسانية وليس هناك أي دليل ديني أو أخلاقي أو بيولوجي يبرّر إنكار حقوقها. ولن يستقر المناخ الخُلقي والنفسي في المجتمع إلاّ عندما تدخل المرأة بكل ترحاب إلى سائر ميادين النشاط الإنساني كشريكة كاملة للرجل. وحول هذا الموضوع ذكر حضرة عبدالبهاء:

{إن العالم الإنساني أشبه بطير له جناحان أحدهما الرجال والآخر النساء، وما لم يكن الجناحان قويين تؤيدهما قوة واحدة فإن هذا الطير لا يمكن أن يطير نحو السماء. ويقتضي هذا العصر ارتقاء النساء فيقمن بوظائفهنّ كلها في مدارج الحياة ويكونَّن مثل الرجال ويجب أن يصلنّ إلى درجة الرجال ويتساوين في الحقوق معهم.}[23]

وموضوع التعليم الإجباري والعمومي هو أيضاً من القضايا الهامة التي تساعد على محو الأميّة وزيادة الثقافة والتقدم في المجتمع. وبالعلم وحده تستطيع الدول أن تتقدم وتبني حضارة ومدنية، فلا نجاح لأية أمة دون أن يكون العلم من حق كل مواطن فيها، ولكن انعدام الموارد والمصادر يحدّ من قدرة العديد من الأمم على سدّ هذه الحاجة ولكن يبقى التعليم له الأولوية على أي أمر آخر وعلى الأخص تعليم النساء والبنات لأن المعرفة تنتشر عن طريق الأم المتعلمة وستبقى هي المربية الأولى للطفل.

ما ذُكرَ كان بعضاً من القضايا الرئيسية التي تواجه البشرية جمعاء وتحتاج إلى حلّ سريع ونافذ لها. ويمكن للجميع مدّ يد المساعدة لتحقيق هذه الأفكار بل المساهمة الفعلية عن طريق المبادرات الفردية التي غالباً ما تواجه بتشجيع من منظمات المجتمع المدني. فلا تصلح الأمور إلاّ إذا قام الإنسان منفرداً بنفسه وبعزيمة ثابتة راسخه بالمساهمة في إصلاح المجتمع. فالأفراد ومبادراتهم هي التي تشجع الحكومات على المضي قُدُماً في الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

أما على مستوى الدول والقادة فقد دعا حضرة بهاءالله قبل أكثر من قرن ملوك الأرض وحكامها إلى عقد اجتماع عمومي لوضع أساس السلام العظيم وإنهاء الحروب إلى الأبد. وقد شرح حضرة عبدالبهاء آلية تطبيق ذلك بقوله :

{عليهم أن يطرحوا أَمر السّلام على بساط المشورة العامّة، وأَن يسعوا بكلّ وسيلة مُتاحة لهم إلى تأسيس اتِّحادٍ يجمع دول العالم. وعليهم توقيعُ مُعاهدة مُلْزِمة للجميع، ووَضْعُ ميثاق بنوده مُحدَّدة، سليمة، وحصينة.  وعليهم أن يُعلنوا ذلك على العالم أجمع وأن يُحرِزوا موافقة الجنس البشريّ بأسره عليه.  فهذه المهمّة العُليَا النّبيلة – وهي المصدر الحقيقي للرفاهية والسّلام بالنّسبة للعالم كلّه – يجب أن يَنْظُرَ إليها جميع سكان الأرض على أَنَّها مهمّةٌ مقدَّسة، كما ينبغي تسخير كلّ قوى البشريّة لضمان هذا الميثاق الأعظم ولاستقراره ودوامه.  ويُعيِّن هذا الاتفاقُ الشّاملُ بتمام الوضوح حدودَ كلّ دولة من الدّول وتُخومَها، ويَنُصّ نهائيّاً على المبادئ التي تقوم عليها علاقات الحكومات بعضها ببعض.  ويُوثِّق أيضاً المُعاهدات والواجبات الدّوليّة كلّها.  وبالأسلوب ذاته يُحدِّد بكلّ دِقَّة وصَرامة حَجْمَ تسلُّح كلّ حكومة، لأَنَّ السّماح لأيّة دولة بزيادة جيوشها واستعداداتها للحرب، يثير شكوك الآخرين.  والمبدأ الأساسي لهذا الاتِّفاق الرّصين يجب أن يكون محدَّداً بحيث إذا أَقدمت أيّ حكومة فيما بَعْدُ على انتهاك أي بندٍ من بنوده، هَبَّت في وجهها كلّ حكومات الأرض وفرضت عليها الخضوع التّامَّ، لا بل إٍنَّ الجنس البشريّ كلّه يجب أن يعقد العزم، بكلّ ما أُوتِي من قوّة، على دَحْر تلك الحكومة.  فإِذا ما اعْتُمِدَ هذا الدّواء الأعظم لعلاج جسم العالم المريض، فلا بدَّ أَن يبرأ من أسقامه ويبقى إلى الأبد سليماً، مطمئناً، مُعافى.}[24]

إذاً فالسلام العالمي لا يأتي من فراغ وإنما بحاجة إلى جهود مكثفة على مستوى الأفراد والمؤسسات والدول من أجل المساهمة في عقد هذا الاجتماع العظيم الذي ذكره حضرة عبدالبهاء والذي طال انتظاره وهو أمل البشرية وليس ضرباً من ضروب الخيال وإنما الإكليل المتوّج لكافة الجهود من أجل إحلال السلام والاتحاد في العالم، وعلامة على سطوع فجر بلوغ الإنسانية نضجها. من المؤكد أن هذا الاجتماع – إن انعقد – فإنه سيخرج بنتائج باهرة وتاريخية وسيذكره الزمن، وما من قوة تجعله ناجحاً سوى قوى الوحدة والاتحاد والنوايا الصافية والرغبة الصادقة في إيجاد سلام حقيقي. ليدرك الرجال والنساء والشباب والاطفال أن هذا الحدث سيسجله التاريخ بأحرف من نور لما له من أهمية قصوى في سبيل تعزيز السلام في العالم. الأمل أن يساهم كل قادة الدول في الدعوة إلى هذا الاجتماع العالمي، ويرفع الجميع صوته بالموافقة والتأييد اللامحدود للتسريع في عقد هذا الاجتماع التاريخي الذي أشار إليه حضرة عبدالبهاء قبل أكثر من مائة عام. عسى أن يكون هذا الجيل أول من يفتتح هذه المرحلة المجيدة من مراحل تطور حياة المجتمع الإنساني.

إن جوهر هذا المجتمع العالمي الموحّد وعموده الأساسي مبدأ “الوحدة والاتحاد في التعدّد والتنوع” والمشهود اليوم في المجتمع البهائي العالمي المترامي الأطراف ما هو إلاّ نموذجاً مصغراً لهذا المبدأ الذي يعكس وحدة البشرية في الآمال والتطلعات وهو أينع ثمرة لتعاليم بهاءالله ودليل على صدق دعوته التي وحدّت شعوب وقبائل العالم على اختلاف أعراقها ومشاربها تحت خيمة واحدة، وهي ظاهرة فريدة من نوعها لم يشهد لها العالم مثيلاً. وبعد أكثر من قرن ونصف من إعلان رسالته نرى بأن المجتمع البهائي اليوم يضم عدة ملايين من البشر يمثلون تقريباً كل خلفية إثنية وثقافية واجتماعية على وجه الأرض وتدير شؤونهم مؤسسات انتخبت انتخاباً حراً وديمقراطياً ونزيهاً اتّسمت بسمة القدسية دون تدخل من أي فرد صاحب منصب أو نفوذ، وجميعهم مستظلون في ظل تعاليمه السمحة التي أتى بها لهذا اليوم. ولعلّ الشواهد والحقائق تشير إلى تغلغل نفوذ كلامه في أكثر المجموعات البشرية تنوعاً وأوسعها انتشاراً من الناحية الجغرافية وذلك بفضل رسالته التي تبعث على التغيير.

ومن السمات الخاصة للدين البهائي أيضاً أنه حافظ على وحدته وتماسكه منذ نشأته ولم يصبه تمزق أو تشعب، وظل مرجع الدين واحداً وعهده وميثاقه متيناً رغم هجوم الأعداء وكيد الخصماء والتحديات العديدة التي واجهته، وهي حالة فريدة من نوعها أيضاً بين تاريخ جميع الأديان ولربما كان الدين الوحيد الذي لم يتشعب. فالمجتمع البهائي بكل تنوعه ليس إلا أفراداً يؤمنون بالرسالة السماوية التي أتى بها بهاءالله، ومتحّدون في ولائهم للنظام الإداري لدينهم الذي وضع لإدارة شئونهم،  وهو نظام لا مثيل له بين أنظمة العالم المختلفة، يستمدون هدايتهم من مرجع أعلى واحد وهو بيت العدل الاعظم الذي يمثل نموذجاً للولاء والطاعة لما لهذا المرجع من قدسية خاصة لدى عموم البهائيين في العالم.

وللوصول إلى هذه الأهداف السامية يجب التركيز على مفهوم أن النجاح في أي عمل يجب أن يقوم على مبدأ الوحدة والاتحاد. إن جوهر الأزمة الراهنة للحضارة الانسانية هو ابتعادهم عن هذا المبدأ الهام.  فنشاهد مظاهر عدم الاتحاد في كل مكان وقد أصابت الإرادة السياسية بالشلل وأضعفت الرغبة الجماعية في التحول والتغيير وأصابت العلاقات الاجتماعية بالخلل. بالإضافة إلى ذلك فإن الإيمان بوحدة الجنس البشري والعمل به هو العلاج الشافي لأمراض العالم وأساس السلام العالمي، ومن مظاهر تعزيزه هو إحياء الدين والتركيز على أنه العنصر الهام في إيجاد الأخوة الحقيقية لبني البشر، وهو ما جاء بهاءالله من أجله. وقد أشار حضرته بأن الدين {السبب الأعظم والوسيلة الكبرى لظهور نيّر الاتحاد واشراقه.}[25] وأضاف قائلاً: { كل ما يشاد على هذا الأساس لا تزعزعه حوادث الدنيا ولا يقوض أركانه مدى الزمان.}[26]  لقد دعا حضرته إلى إيجاد مجتمع عالمي موحّد يعكس وحدة الجنس البشري وهي الخطوة الأولى والقاعدة الأساسية للمدينة الفاضلة التي حلمَ بها أولو العلم والنُهى، بل هي جوهر الحضارة الإلهية المرتقبة في هذا اليوم الموعود.

إن هذا المشهد الرائع يدعونا للتأمل ملّياً فيما تذكره الكتب السماوية. إنها تبشّر الناس بوصول الإنسانية في عصر ما لمرحلة البلوغ والنضج وإلى العصر الذي سيظهر فيه من وَعَدَه الرحمن لبني الإنسان عندما {أشرقت الأرض بنور ربها.}[27] وهو العصر الذي تكون فيه مشيئة الله {كما في السماء كذلك على الأرض.}[28] إنه العصر الذي لم تشهد له الإنسانية مثيلا ولم يتصوّره عقل أو يصفه لسان، وكما جاء في القرآن الكريم :{يوم نطوي السماء كطيّ السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا انا كنا فاعلين.}[29] وما من شك بأن جميع الرسالات السماوية المتعاقبة قد هيأت البشرية لاستقبال هذا اليوم الموعود والحدث الخطير الذي أشار إليه الإسلام بيوم القيامة والنبأ العظيم وفيه تتجدّد حياة العالم وتتغير تماماً {ويأتِ بخلق جديد.}[30] لقد شرع حضرة بهاءالله في تنفيذ هذه المهمة العظيمة وجاء بالتعاليم والمبادئ والوسيلة الفاعلة القادرة على تشييد ملكوت الله على الأرض وتأسيس السلام العالمي الذي هو مطمح آمال البشرية. وقد وهب الله سكان الأرض المواهب والقدرات والخيرات اللازمة لتنفيذ مشيئته تعالى. وما ملكوت الله إلا حضارة عالمية أساسها مبادئ العدالة الاجتماعية والسلام تدعمها الإنجازات الروحية والفكرية والعلمية التي حققها وسيحققها البشر على نحو لا يمكن للعصر الحاضر أن يتخيله، وبهذا الخصوص تفضل حضرة بهاءالله قائلاً:{اليوم يوم الفضل الأعظم والفيض الأكبر وعلى الجميع أن يجدوا الراحة والاطمئنان بتمام الاتحاد والاتفاق في ظل سدرة العناية الإلهية … فلسوف يُطوى بساط هذا العالم ويُبسط بساط آخر …}[31]

[1]  سفر إشعياء – اصحاح 2 اية 4

[2]  سفر إشعياء – اصحاح 11 آية 4

[3]  سفر إشعياء – اصحاح 11 آية 6

[4]  انجيل لوقا – اصحاح 11 آية 2

[5]  انجيل متى – اصحاح 23 آية 39

[6]  انجيل مرقس – اصحاح 13 آية 35-36

[7]  انجيل متى – اصحاح 25 آية 31

[8]  بشارات كتب آسماني – تاليف حسام نقبائي ص 21

[9]  سورة ق آية 41

[10]  سورة العنكبوت آية 5

[11]  فتح الباري بشرح صحيح البخاري للامام الحافظ احمد بن علي العسقلاني – باب نزول عيسى بن مريم

[12]  بشارة الاسلام في ظهور صاحب الزمان للسيد مصطفى حيدر الكاظمي ص 316

[13]  التمهيد لما في الموطأ من المعاني والاسانيد للامام الحافظ الاندلسي – جزء 14 – ص 193

[14]  مختصر صحيح الجامع الصغير للامام السيوطي والالباني – فقرة 4868

[15]  الفرائد – جناب ابو الفضائل ككلبايكاني – ص 294

[16]  بشارات كتب آسماني ص 104

[17]   الدين البهائي – بحث ودراسة –  ص 255

[18]  رسالة ” السلام العالمي وعد حق ” ص 3

[19]  المرجع السابق ص 5

[20]  مجموعه من الواح حضرة بهاءالله  – الاشراقات ص 38

[21]  آثار القلم الاعلى ج4 ص 114

[22]  منتخباتي، فقرة 118

[23]  بهاءالله والعصر الجديد ص 199

[24]   رسالة ” السلام العالمي وعد حق ” ص 22 – 23

[25]  مجموعة من الواح حضرة بهاءالله ص 40

[26]  المرجع السابق ص 155

[27]  سورة الزمر – آية 69

[28]  انجيل متى – اصحاح 6 – آية 10

[29]  سورة الانبياء – آية 104

[30]  سورة فاطر – آية 16

[31]  منتخباتي – فقرة 4

المصادر والمراجع الرئيسية

اولاً : من آثار حضرة بهاءالله

  • مجموعة من الواح حضرة بهاءالله نزلت بعد الكتاب الأقدس – من منشورات دار النشر البهائية في بلجيكا – نيسان 2006
  • منتخباتي از آثار حضرت بهاءالله – طبعة المانيا – 141 بديع
  • الايقان – من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل – حزيران 1997
  • مناجاة – من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل – آذار 1981
  • الكتاب الأقدس – طبعة كندا
  • آثار قلم أعلى – الجزء الرابع – مؤسسة ملي مطبوعات امري – 125 بديع
  • رسالة تسبيح وتهليل – طبعة الهند – ابريل 1982

ثانياً : من آثار حضرة عبدالبهاء

  • من مكاتيب عبدالبهاء – من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل – ايلول 1982
  • خطب عبدالبهاء في اوروبا وأمريكا – من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل – تموز 1998
  • The Promulgation of Universal Peace – Second Edition – 1982

ثالثاً : من آثار حضرة ولي أمر الله شوقي أفندي

  • التوقيعات المباركة – نوروز 101 بديع
  • The World Order of Baha’u’llah

رابعاً : من آثار بيت العدل الاعظم

  • السلام العالمي وعد حق.
  • دين الله واحد – دار الساقي – الطبعة الاولى 2007
  • إلى قادة الأديان في العالم – ابريل / نيسان 2002

خامساً : مؤلفات أخرى

  • الدين البهائي – بحث ودراسة. تأليف: دوغلاس مارتن ووليام هاتشر. ترجمة عبدالحسين فكرى. دار البديع للطباعة والنشر – أيار 2007
  • بهاءالله والعصر الجديد – تأليف: الدكتور جون اسلمنت.
  • التبيان والبرهان – تاليف أحمد حمدي – الجزء الأول – مطبعة البيان 1962
  • الفرائد – تأليف: الميرزا ابو الفضل ﮔلپاﭘﮔايكاني – طبعة مصر
  • بشارات كتب آسماني – حسام نقبائي
  • الدين – بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان – تأليف: محمد عبدالله دراز – مطبعة الحرية – بيروت
  • الأيام التسعة – اعداد الدكتور شوقي مرعي – من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل – 1987