حياة القدوس
حياة القدوس

حياة القدوس

المقدّمة

إنّ المؤمنين الأوائل بحضرة الباب قد ظهروا من بلاد فارس وكان أغلبهم من الشباب وسطّرت أعمالهم البطوليّة صفحات تاريخ إيران والدين البهائي بشعاع من النور، ووضعوا بصماتَهم على التاريخ وهم في ريعان الشباب لتظلّ باقية إلى الأبد. إنّ عموم البهائيين في العالم يُعربون عن فخرِهِم واعتزازِهم بهذه الأعمال البطوليّة والفداء والتضحية لأتباع حضرة الباب الذين خلّد التاريخ أسماءهم. وقد أثنى بيت العدل الأعظم على هذه الشخصيّات والبطولات في رسالته الموجّهة إلى المشاركين في مؤتمرات الشباب المائة والأربعة عشر التي عُقِدت في جميع أنحاء العالم خلال عام 2013 بهذه الكلمات المعبّرة: {عندما قام حضرة الأعلى في سنّ الخامسة والعشرين على إبلاغ رسالته المقلّبة للقلوب إلى أهل العالم، كان العديد من الذين قبِلوا تعاليمه وقاموا على نشرِها شبابًا، وحتى أصغر سنًّا من حضرة الباب نفسه. لقد خُلّدت بطولاتهم الباهرة في صفحات كتاب “مطالع الأنوار” وستُنير سِجلَّ تاريخ البشرّية لقرونٍ طويلة. هكذا بدأ نمطٌ جديد حيث اغتنم كلُّ جيل من الشباب، مستلهمًا من نفس الباعث الإلهي لتجديد بناء العالم، الفرصة للمساهمة في تقدّم عمليّة تحوّل حياة البشرية. نمطٌ استمرّ دون انقطاع منذ أيّام حضرة الباب وحتّى يومنا هذا.}[1]

إنّ جناب القدّوس، وهو من حروف الحيّ، ما هو إلّا واحدٌ من هؤلاء النفوس الفذّة المميّزة التي آمنت بحضرة الباب وهو في ريعان الشباب، أي في سنّ الثانية والعشرين، ورافق حضرته في رحلته التاريخيّة إلى مكّة المكرّمة، وتحمّل كافّة الصّعاب والمشاق في سبيل مولاه المحبوب،  وقد وصفه حضرة وليّ أمرالله بأنّه {جوهر التقديس وساذج التنزيه}[2] وأنّ نَسَبَهُ يرجع إلى الإمام الحسن عليه السلام من جهة والدته وأنّه { كان أعظم تلاميذ السيد كاظم الرشتي}[3] وقد لقبّه حضرة الباب بإسم الله الآخر، وأنعَمَ عليه حضرة بهاءالله فيما بعد في لوح كلّ الطعام بلقب النقطة الأخرى، ورفعَهُ في لوحٍ آخر إلى {منزلة تلي منزلة المبشّر بظهوره، وسلكه في لوح ثالث في عداد أولي العزم من الرُسل المذكورين في القرآن الكريم، ومجّدَه البيان الفارسي بأنّه رفيق الحج تطوف حوله المرايا بقدر عدد الواحدات الثمانية والذي بانقطاعهِ وخلوصهِ يعتزّ الله بين الملأ الأعلى والذي وصَفه حضرة عبدالبهاء بأنّه “قمرالهدى” وتنبّأ بظهورهِ يوحنّا اللآهوتي في رؤياه باعتبارهِ أحد “الشاهدين” اللذين تدخل منهما “روح حياة من الله” قبل أن يمضي “الويل الثاني”.} [4]

أمّا تلك المرحلة البطوليّة التي عاشها جناب القدّوس وعلى الأخصّ فترة حصاره في قلعة الشيخ طبرسي ومن ثم استشهاده فيما بعد في بارفروش، فقد سالت فيها الكثير من الدماء البريئة وظهرت بطولات عظيمة وقصص رائعة تشكّل جزءًا من تاريخ أمرالله العزيز المنيع ولهذا اعتبر من صناديد الأمر. وقد شهد حضرة بهاءالله بذلك في كتاب الإيقان بهذه العبارات: {تحيّر العالم كلّه من تضحيتهم بقلوبهم وأرواحِهِم … تاهت العقول في أفعالهم وتحيّرت النفوس في اصطبارهم وبما حملت أجسادهم … هل ظهر في أيّ عصر من العصور مثل هذا الأمر الخطير؟}[5] أمّا نتيجة بطولات البابيّين الخالدة وأثرها في التاريخ فقد وصفها حضرة وليّ أمرالله: {إنّ أنهار الدماء التي سالت وتلاطمت بها تلك السنوات المزدحمة بالوبال والنكال كانت تروي البذور الخصيبة لذلك النظام العالمي الذي قدّر للظهور الوشيك التالي والأعظم شأنًا أن يُعلنه ويؤسّسهُ.}[6]

ولهذا حرّيٌ بنا أن نتأمّلَ حياة جناب القدّوس العظيمة وشجاعته وتضحياته وإيمانه العميق لمن أحبّه بكلّ جوارحه، وفدى نفسه في سبيله، لتكون درسًا لنا جميعًا وعبرة للمُضي قُدُمًا في خدمة أمرالله العزيز. إنّ عام 2019 سيصادف ذكرى مرور مائتي عام على ميلاد حضرة الباب الميمون، سلطان الرسل وقُرّة عينَ النبيّين، وسيحتفل كافّة البهائيّين في العالم بهذه المناسبة السعيدة، وسيتذكّرون حياته المجيدة، وحياة أتباعه البواسل الذين ضحّوا بالنفس والنفيس من أجله ورفعوا راية الحق في كلّ مكان. وقد وصف بيت العدل الأعظم هذه المناسبة السعيدة وبما يجب أن نقوم به بما يلي: {إنّ الشهور القادمة ستكون أيضًا خير أوان لنستعيد في أذهاننا حياة أتباع حضرة الباب البواسل، البطلات والأبطال الذين عبّروا عن إيمانهم بتضحياتٍ منقطعة النّظير، أعمالٍ بطوليةٍ سوف تزّين سجلّ تاريخ الأمرالمبارك إلى الأبد. إنّ سجايا الشّجاعة والاستقامة والانقطاع عمّا سوى الله تُبهرُ كلّ من يطلّع على مبادراتهم المحفوفةِ بالمخاطر. كم هو آسرٌ ومدهشٌ أيضًا صِغَر أعمار مُعظم أولئك الذين حملوا بين أضلعهم قلوبَ الآساد ليضعوا في ريعان شبابهم بصماتٍ على التاريخ لا تُمحى. لعلّ شجاعتهم تُقدّمُ في الفترة القادمة خيرَ مثالٍ لمعشر المؤمنين الأوفياء قاطبةً لا سيّما الشباب منهم، المدعوّين مرّةً أخرى ليكونوا في طليعة نهضةٍ لا تبتغي أقلّ من تحوّل العالم.}[7] مع خالص شكري وتقديري لكلّ من ساهم وساعد في اخراج هذا العمل إلى حيّز الوجود.

[1] من رسالة بيت العدل الأعظم المؤرخة 1 تموز/ يوليو 2013

[2] التوقيعات المباركة – نوروز 101 ص 28

[3] القرن البديع ص 26

[4] القرن البديع ص 73 – 74

[5] القرن البديع ص 108

[6] القرن البديع ص 107

[7] من رسالة الرضوان لعام 2018

ولادته ونشأته وإيمانه

يعتبر جناب الملّا حسين بشروئي الملقّب بباب الباب أول من آمن بحضرة الباب، كما يُعتبر جناب القدّوس، واسمه الميرزا محمد علي، من المؤمنين الأوائل بحضرته أيضًا ولكن ما يميّز جناب القدّوس أنّه كان محلّ اهتمام وعناية ورعاية حضرة الباب بشكل كبير.

وُلِدَ جناب محمد علي، الذي عُرف فيما بعد بالقدّوس، في مدينة بارفروش التي تُسمَّى اليوم بابل وتقع في شمال إيران وضمن إقليم مازندران وذلك في عام 1822. تُعتبر والدته من سيدات إيران؛ أي يرجع نسبها إلى الإمام الحسن بن علي عليه السلام، ولكنه فَقَدَها عندما كان طفلاً. تلقّى تعليمه الابتدائي بمدرسة في مدينة مشهد وعندما بلغ سنّ الناشئة توفّي والده وبذلك أصبح يتيمًا فتولّت زوجة أبيه تربيته. وقد ظهرت عليه علامات الذكاء منذ شبابه. وعندما بلغ سنّ الثامنة عشرة سَمعَ عن صيت سيّد كاظم الرشتي وتعاليمه ومفاهيمه الجديدة التي انتشرت آنذاك في إيران فأخذته الرّغبة لمعرفة المزيد، ولهذا سافر إلى كربلاء وانضمّ إلى تلامذته ونَهَل من نبعِ العلمِ والمعرفة والإلهيّات وأصول عقائد الشيعة، وتعرّف أيضًا على الملّا حسين بشروئي وأصبح الإثنان أصدقاء ومن تلامذة السيد كاظم.

في الصف كان هادئًا متواضعًا ومستمعًا جيدًا ونادرًا ما كان يتحدّث مع باقي الطلبة ويُفضّل   الجلوس في الصفوف الخلفية. ويُحكى أنّ السيد كاظم قال لتلامذته مرّات عدّة بأنّ هناك طلبة وعلى الرغم من جلوسهم في الصفوف الخلفية وهدوئهم وسكونهم ولكنّ الله العليّ القدير قد قدّر لهم الصفوف الأماميّة في المقام والعزّة والرّفعة. ولكن رغم وضوح كلام السيد كاظم ومقصده لم ينتبه أحد من الطلبة أنّ مقصده هو جناب القدّوس.

بعد أربع سنوات قضاها في محضر السيد كاظم الرشتي رجع القدّوس إلى إيران وما أن دخل مدينة شيراز من بوّابتها الشهيرة حتى أخذ يبحث عن الموعود المنتظر واثقًا من أنّ ظهوره وشيك الوقوع، وعندما أخذ يسير في الطرقات وأزقّة المدينة التقى بالملّا حسين بالصدفة؛ زميله في الدراسة في كربلاء. ومع أنّه كان يعاني من وعثاء السفر إلّا أنّه كان في غايةِ السعادةِ والسرور. تعانق العزيزان وقبّلا بعضهما البعض وعلى الفور سأل القدّوس الملّا حسين إن كان قد تعرّف على الموعود. حاول الملّا حسين تهدئته واقترح عليه أن يستريح أولًا بعض الشيء من مشاق السفر ثم يتحدّث إليه. ولكن لم يتمالك القدّوس الصبر حين رأى شابًّا وقورًا يسير بالقرب من الملّا حسين، وفورًا سأل القُدّوس الملّا حسين: {لماذا تُخفيهُ عنّي؟ إنَّني أعرفه من طريقة سيره. قسمًا بالله لا يمكن لأحد في العالم أن يكون الموعود سواه. إنّ القدرة التي أراها في وجوده المقدّس لا توجد في شخص آخر.}[1] اندهش الملّا حسين من كلام القدّوس ثم استأذنه وذهب للشاب المعني ونقل إليه ما قاله القدّوس عنه وعندها قال حضرة الباب: {لا تتعجّب! كانت لدينا علاقات ومحادثات في عالم الروح مع هذا الشاب وكنّا بانتظار قدومه.}[2] ثم طلب حضرة الباب من الملّا حسين إحضار القدّوس. وبهذه الطريقة آمن جناب القدّوس بحضرة الباب وتوطّدت علاقات المحبّة بينهما وأصبح الحرف الحيّ الأخير من حروف الحيّ الثمانية عشر وكان عمره حينها اثنين وعشرين سنة.

[1] من كتيب “قدوس” الترجمة الفارسية ص 5  ( ترجمة المؤلف)

[2] المرجع السابق ص 5

رحلته إلى مكّة مع حضرة الباب

عندما اجتمع حضرة الباب مع حروف الحي اختار القدّوس ليرافقه في رحلته إلى مكّة المكرّمة. بدأت رحلة حضرة الباب إلى مكّة ومعه جناب القدّوس وخادمه الحبشي في أيلول/سبتمبر عام 1844 حيث خرجوا من شيراز وذهبوا جنوبًا أوّلًا إلى مدينة بوشهر على ساحل الخليج الفارسي مقرّ تجارة خاله والمكان الذي كان يعمل فيه ومنها أخذوا مركبًا شراعيًّا أقلّتهم إلى الأراضي المقدّسة في الحجاز. استغرقت هذه الرحلة البحرية حوالي أكثر من شهر واحد وأثناء الرحلة هاج البحر وماج ومرض الكثير من الحجّاج ولكن كلّ ذلك لم يمنع حضرة الباب من إنزال الآيات وأصبح القدّوس كاتب وحيه، فكتب العديد ممّا نزل من حضرته وسط دهشة الركّاب واضطرابهم وفزعهم من هيجان البحر. في الطريق توقّف المركب الشراعي في مسقط واستراح فيها حضرة الباب بضعة أيام وأراد تبليغ الأهالي ولكن لم يوفّق بذلك.

وصل حضرة الباب ومرافقيه جدّة في شهر شوال من عام 1260 هجري الموافق أكتوبر/تشرين الأول 1844م وارتدى لباس الإحرام وركب جَمَلًا وبدأ بالسير نحو مكّة المكرّمة. وأمّا القدّوس ففضّل أن يسير على قدميه مرافقًا سيّده طوال الطريق رغم عدم رغبة حضرة الباب في ذلك. فكان يمسك مقود الجمل الذي كان حضرة الباب يركبه ويسير بجانبه مسرورًا منشرح الفؤاد غير مبالٍ بالمتاعب والمشاق، وكان في كلّ ليلةٍ من الغسق إلى الفجر لا ينام في سبيل حفظ وحماية مولاه ومحبوبه العظيم والسهر على راحته مستعدًّا لتلبية احتياجاته والفداء من أجله.

وفي مكّة عُهد إلى القدّوس مُهمّة إيصال رسالة حضرة الباب إلى شريف مكة. في هذه الرسالة ذكر حضرته بكلّ وضوح دعوته، ودعاه إلى الإيمان به وأرفقها ببعض توقيعاته حتى يتعرّف بشكل أكبر على رسالته. مضمون الرسالة كانت الإعلان عن ظهور قائم آل محمد الذي ينتظره المسلمون منذ أمد طويل. قام القدّوس بتوصيل الرسالة إلى شريف مكّة التي لم يقرأها لانشغاله. وعندما راجعه القدّوس بعد عدّة أيام قال إنّه منشغل جدًا وسيقرأ الرسالة في المستقبل وسيردّ عليها أيضًا. كانت المادّيات قد سيطرت عليه لدرجة أنّه حَرَم نفسه من الرسالة السماوية. زار حضرة الباب في رحلته هذه المدينة المنوّرة أيضًا بمعيّة القدّوس ثم رجعا إلى جدّة ومنها بحرًا إلى بوشهر في إيران وقد استغرقت هذه الرحلة ذهابًا وايّابًا تسعة أشهر.

العودة إلى إيران

وفي بوشهر قال حضرة الباب لجناب القدّوس: {إن أيّام صحبتك لي قد قاربت الانتهاء وقد دقّت ساعة الافتراق الذي لا يعقبه اجتماع إلّا في ملكوت الله في حضور مليك البهاء. ففي هذا العالم الترابي لم يُقدَّر لك الاجتماع بي سوى تسعة أشهر عابرة وهناك على شواطئ بحر البُعد الأكبر في عالم الخُلد ينتظرنا الاجتماع الأبدي بالفرح والسرور، وسوف تغمسك يد القضاء في بحر من البلاء لأجل وجه المحبوب وسأتبعك وانغمس معك في أعماقه. فابتهج بسرور عظيم لأنّك انتخبتَ حاملًا للواء فيلق الرزايا والفجائع وستكون في طليعة ذلك الجيش النبيل الذي سيتجرّع كأس الشهادة لأجل اسمه. وفي شوارع شيراز سوف تنزل عليك كلّ الإهانات والشدائد ويصيب جسمك أشدّ أنواع الأذى ولكنك سوف تتغلّب على نكبات الأعداء ويمتدّ عمرك إلى أن تحضر بين يدي من هو مقصود محبّتنا وعشقنا وستنسى في محضره كلّ أذى وهوان أصابك وسوف تتقدّم جنود الغيب لتؤيّدك وتعلن شجاعتك وعظمتك لكل العالم.}[1]

بهذه الكلمات ودّع حضرة الباب القدّوس وسلّمه رسالة مرفقًا معها بعض كتاباته ليسلّمها إلى خال حضرة الباب وطلب منه أن يبلّغ تحيّاته وأشواقه القلبيّة إلى السيدة خديجة بكم حرم حضرة الباب وعموم المؤمنين والأصدقاء في شيراز. عشقًا وحبًا لمولاه العزيز تحرّك القدّوس إلى مدينة شيراز وهناك التقى بخال حضرة الباب الحاج ميرزا سيّد علي الموسوم بالخال الأعظم الذي رحّب به بحرارة ودعاه ليمكث عنده. في ذلك الوقت لم يكن الخال الأعظم يعلم الشيء الكثير عن دعوة حضرة الباب أو مقامه الرفيع وهو الذي قام بتربيته في صغره بعد وفاة والده ولكنه وبعد الحديث مع القدّوس فتح الله قلبه بنور الإيمان وسطعت شمس الحقيقة على قلبه فآمن به، وهو أول من آمن بحضرة الباب في شيراز بعد حروف الحي. كان ثابتًا وراسخًا في إيمانه لدرجة أنّه كرّس حياته كلّها لخدمة حضرة الباب، ومع أنّه كان تاجرًا معروفًا وحَسَن السيرة والسلوك في شيراز ولكن تجارته لم تمنعه من تبليغ وخدمة أمرالله ضاربًا مثالاً صادقًا لقوله تعالى: ﴿رجالٌ لاتُلهيهُم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.[2] وكانت عاقبته استشهاده ضمن زمرة الشهداء السبعة في طهران.

وفي شيراز التقى القدّوس أيضًا بالملّا صادق الخراساني،[3] المؤمن الجديد، والذي عُرف فيما بعد باسم الله الأصدق وقد اشتعل قلبه حبًّا وعشقًا ممّا سمعه من القدّوس. وفي أحد الأيام قام الملّا صادق بتأدية الأذان في المسجد وقد أضاف الكلمات التي أضافها حضرة الباب في الأذان وهي ﴿وأشهدُ أن عليًّا قبل محمد هو عبدُ بقيّة الله. فاستغرب الجمهور من هذا الكلام وهاج، وما أن سمع هذا الخبر حسين خان حاكم فارس الملقّب أجودان باشي حتى أمر بإلقاء القبض على جناب القدّوس والملّا صادق وإحضارهما. وبعد التحقيق معهما اعتبرهما الحاكم كفّارًا ومرتدّين عن الدين وأمر بخلع ملابس الملّا صادق وجَلَدَه ألف جلدة، وحرق لحيته ولحية القدّوس، وأن يُثقب أنفهما ويربطا بحبل يدخل فيهما ويُطاف بهما وهما مقيّدان في سائر أنحاء المدينة ليكونا عبرَة للناظرين. سلّم الاثنان أمرهما لإرادة الله ومشيئته وهما في غاية الشجاعة والثبات وضربا أروع الأمثلة في الاستقامة والبسالة من أجل محبوبهم الأعلى حضرة الباب، وكان الملاّ صادق الخراساني يمشي رافع عينيه الى السماء وبكلّ شجاعة ويردّد: ﴿ربّنا إنّنا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربّكم فآمنَّا ربّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيئاتنا وتوفّنا مع الأبرار. [4] وبعد كلّ هذا التعذيب والاضطهاد أمرهما حاكم المدينة بمغادرة شيراز وعدم العودة إليها. وبالتالي تحقّق ما وعده حضرة الباب للقدّوس الذي أشار إلى أنّ هناك عذابًا كبيرًا مقدّرًا له في شوارع شيراز ولكنّه سيبقى حيًّا لأنّ جنود الملأ الأعلى ستنصره وسيصل شجاعته إلى سمع الناس أجمع.

يُعتبر جناب القدّوس والملّا صادق الخراساني أوّل من تعذّبا في إيران بسبب إيمانهما.  ومن شيراز رحل القدّوس إلى مدينة كرمان وهناك استطاع أن يبلّغ أحد العلماء البارزين المعروف بالحاج سيد جواد وبعد ذلك قام بالسفر إلى باقي المدن مثل يزد وأردكان وأردستان وإصفهان وكاشان وقم وطهران، وكان يبلّغ أمر حضرة الباب بكلّ شغف وشوق وشجاعة. وفي طهران استطاع القدّوس أن يلتقي بحضرة بهاءالله ولا نعلم ماذا جرى بينهما، كما التقى بجناب موسى كليم شقيق الجمال المبارك الذي وصف لقاءه بالقدّوس بالآتي: {إنّ سحر شخصيّته ومحبّته العارمة مجتمعين مع وقار هيئته كانت من الصفات التي جذبت حتى أقلّ الناس ملاحظة. فكلّ من اختلط به يأخذه العجب الشديد من سحر ذلك الشاب. وذات يوم لاحظناه وهو يتوضّأ وأعجبنا من الوقار الذي ميّزه عن عامّة المتعبّدين في أداء هذه الفريضة العاديّة. فقد ظهر لأعيننا بأنّه كان تجسيدًا للطهارة والفضل.}[5]

ومن طهران أكمل القدّوس سفره إلى اقليم مازندران في الشمال من طهران حيث أقام في منزل والده في مدينة بارفروش (بابل) مدّة سنتين تقريبًا كان خلالها محلّ محبّة أهله وأسرته. أمّا والده فقد تزوّج بعد وفاة زوجته الأولى من سيّدة كانت تعامل القدّوس بكلّ شفقة ومحبّة وعناية لا يضاهي عناية أيّ أم، وكانت تتمنّى أن يتزوّج قبل مماتها، ولكنّ القدّوس الذي لم يتجاوز عمره الخمسة والعشرين سنة أجابها بقوله: {إنّ يوم عرسي لم يحن بعد، وإنّ ذلك اليوم سيكون بلا شك مهيبًا ولا يكون العرس داخل هذا المنزل بل في العراء وتحت قبّة السماء في وسط سبزه ميدان وأمام أنظار الجموع المحتشدة. هناك يكون عرسي وهناك أشاهد تحقّق آمالي.}[6]وبعد مُضي ثلاث سنوات تقريبًا عندما عَلِمت تلك السيدة باستشهاد القدّوس في سبزه ميدان والظروف القاسية التي مرّ بها، والتعذيب الذي تعرّض له، تذكّرتْ تلك الكلمات وفَهِمتْ معناها.

أثناء ذلك كان الملّآ حسين بشروئي في زيارة لحضرة الباب في قلعة ماه كو وبعد انتهاء زيارته ذهب إلى بارفروش والتقى بجناب القدّوس. فرح القدّوس بلقاء صديقه القديم وأخذه بالحضن وقام على خدمته شخصيًّا ونظّم له جلسة خاصّة ودعا أصدقاءه ومحبّيه لملاقاته. ثم سأل القدّوس الملّا حسين عن أخبار وأحوال حضرة الباب وبعد حديث ونقاش طويل قال الملّا حسين: {لم يُعطِ مولاي العزيز أيّة أوامر خاصّة حول إعلان وإبلاغ الأمر، بل قال بأنّ في مازندران ستحصل على كنز ثمين وستعرف ما يجب عمله.} [7]

وكما نعلم كان القدّوس محطّ عناية ومحبّة حضرة الباب حيث قبِلَ أن يرافقه في رحلته الطويلة إلى مكّة المكرّمة ذهابًا وإيابًا إلى أن تفارقا بعد أن رجعا إلى شيراز بعد أربعة عشر شهرًا من الرفقة. وخلال هذه المدّة تعرّف على الكثير من الأمور التي لم يعرفها حتى حروف الحيّ أنفسهم. وعندما عَلِمَ بأنّ الملّا حسين يبحث عن ذلك الكنز الخفي أعطاه القدّوس كتابًا مخطوطًا باليد وطلب منه أن يقرأ بعض صفحاته. وبعد أن قرأ الملّا حسين صفحة واحدة منه عرف القدرة والقوة التي منحها حضرة الباب للقدّوس وقال: {عرفتُ الآن بأنّ القدّوس هو الكنز الخفي الذي أشار إليه حضرة الأعلى بحصولي عليه، ومع أنّ مولاي العزيز مسجون الآن في جبال آذربيجان وأسير بيد الظالمين ولكنّ نوره منعكس في الشخص الذي يجلس أمامي حاليًّا.}[8] ومنذ ذلك الحين اعتبر الملّا حسين بأنّ جناب القدّوس قدوته الحسَنة في الحياة وكان مستعدًّا لتنفيذ أوامره مثلما كان مع حضرة الباب ضاربًا أروع الأمثلة في الإخلاص والولاء. وأثناء سجن حضرة الباب في قلعة ماه كو ثمّ جهريق اعتبر القدّوس قائدًا وزعيمًا للبابيين.

في اليوم التالي وعندما زار البابيون القدّوس في منزله رأوا التغيير الكبير وتعجّبوا منه.  بالأمس كان الملّا حسين جالسًا على صدر المجلس ويتحدّث للحضور والقدّوس في محضره واليوم الأوضاع تغيّرت فقد أصبح القدّوس جالسًا على صدر المجلس والملّا حسين الذي كان يكنُّ له كلّ تقدير واحترام جالسًا بكلّ خضوع وخشوع مستمعًا إليه بل منتظرًا أوامره. تعجّب الحضور من هذا التغيير ولم يكن يدري أحد السبب ثم قال القدّوس للملّا حسين: {حان الوقت للقيام والذهاب إلى خراسان وفي مدينة مشهد ستبني بيتًا وتدعو الناس إلى هذا الأمر العظيم وتعدّهم للخدمة.}[9]

[1] مطالع الانوار – ص 129

[2]  سورة النور – آية 37

[3] الملا صادق الخراساني هو والد أيادي أمرالله ابن الأصدق.

[4] سورة آل عمران – آية 193

[5] مطالع الأنوار – ص 143

[6] المرجع السابق – ص 167

[7] من كتيب “قدوس” الترجمة الفارسية ص 13 (ترجمة المؤلف)

[8] من كتيب “قدوس” الترجمة الفارسية ص 13 – 14 (ترجمة المؤلف)

[9] المرجع السابق ص 14

تبليغ الأمر ومؤتمر بَدَشتْ

لبّى الملا حسين هذا الأمر واستعدّ للسفر إلى مشهد وهناك قام ببناء المنزل وأسماه “بيت البابية” ومع إتمام بناء البيت كان القدّوس قد وصل مشهد. قام هذان البطلان وبكلّ شجاعة وبسالة بإعلان أمر حضرة الباب وتبليغ أمره وأصبح بيت البابية مكانًا للقاء المؤمنين والباحثين عن الحقيقة، وكانا يوميًا يجولان في المدينة وأطرافها ويبشّران الناس بظهور الموعود ومن ثم يرسلان المؤمنين الجدد إلى أماكن أخرى للتبليغ. تعاظمت الفعاليات التبليغية وازدادت لدرجة وصل صيتها إلى غالبيّة الناس وإلى مناطق واسعة من إقليم خراسان بل وخارج حدود الإقليم ودخل الألوف في ظلّ الدعوة الجديدة.

وبينما كانت دعوة حضرة الباب في انتشار سريع في شتّى بقاع بلاد فارس أرسل حضرته وهو نزيل سجن ماه كو رسالة إلى أتباعه بعقد اجتماع في خراسان. ونظرًا لسجن حضرة الباب كان القدّوس يُعتبر زعيمًا للبابيين وقبل أن يغادر مشهد اجتمع بالبابيين وقال لهم: {من الآن وصاعدًا عليكم أن تعتبروا الملّا حسين بشروئي (باب الباب) زعيمًا لكم وعليكم أن تنفّذوا أوامره دون تردّد. قريبًا ستواجهون امتحانات شديدة ولكن إطاعة أوامر باب الباب ستحفظكم من الامتحانات والبلايا.}[1]

بهذه الكلمات ودّع القدّوس البابيين وغادر مشهد إلى قرية صغيرة اسمها بَدَشتْ، وفي الطريق فاز بزيارة حضرة بهاءالله في قرية شاهرود ومعًا سارا حتى وصلا بدشت وكان حينها يعتبر حضرة بهاءالله أحد البابيين البارزين المدافعين عن رسالة حضرة الباب. كان الفصل صيفًا وقد استأجر حضرة بهاءالله ثلاث حدائق، الأولى خُصّصت لإقامة القدّوس والثانية للطاهرة ومرافقيها والحديقة الثالثة لاقامته هو. وكما نعلم بأنّ حضرة الطاهرة كانت المرأة الوحيدة من حروف الحي. في اجتماع بدشت الذي يُعدّ أول مؤتمر في تاريخ البابية أو البهائية اجتمع فيه واحد وثمانون شخصًا وكلهم اعتبروا ضيوفًا على حضرة بهاءالله واستمر الاجتماع لمدّة اثنين وعشرين يومًا وعُرِفَ بمؤتمر بَدَشتْ.

كان الهدف من هذا التجمّع التخلّص من الموروث الديني القديم والتعرّف على التعاليم والأحكام الجديدة لأنّ البابيين حينها كانوا ومازالوا يمارسون العبادات والتعاليم الاسلامية وقد حان الوقت للتعرّف على التعاليم الجديدة وإجرائها. لقد حان وقت اختبار المؤمنين حول مدى قدرتهم على تقبّل هذا التغييّر في الفكر والسلوك.

في ذلك الوقت لم يكن حضرة بهاءالله زعيمًا للبابيين، وإنّما كان القدّوس هو مرجع الكل نظرًا لعلاقته القريبة من حضرة الباب. وعلى الرغم من أنّ هذا التجمّع كان بتوصية من حضرته لكنّه لم يستطع الحضور لوجوده في السجن. ومن هنا ومن هذا المكان برزت شخصية حضرة بهاءالله وظهر علوّه وسموّه للحضور. كان يُنزل لوحًا جديدًا كلّ يوم مخاطبًا كلّ فرد من الحضور ويعطيه لقبًا جديدًا. فمثلاً في لوح له مخاطبًا قرّة العين أعطاها لقب الطاهرة، ولجناب محمد علي أعطى لقب القدّوس الذي لم يكن معروفًا قبل هذا التاريخ بهذا اللقب.  والجدير بالذكر أنّ حضرة بهاءالله كان حتى ذلك الاجتماع معروفًا بالميرزا حسين علي وقد اختار لنفسه لقب البهاء تأكيدًا لما تضمّنته آثار حضرة الباب من هذا اللّقب حول من يظهره الله.  وفي بدشت كانت التقاليد والأحكام القديمة تُنسخ يوميًا بالتدريج، ولكن عندما قام فيما بعد بعض الصحابة المحافظين على العادات والتقاليد القديمة على اتهام الطاهرة بعدم مراعاة تلك التقاليد أجابهم حضرة الباب: {ما الذي أقوله عمّن أسماها لسان العظمة بالطّاهرة؟} [2]

وفي كل يوم من أيام ذلك الاجتماع التاريخي كانت تُلغى أحد التقاليد القديمة أو الأحكام الاسلامية، وبذلك خُرقت الحُجُب الناشئة التي كان يضعها الناس أمام هذه التقاليد والأحكام وكُسِرت الأصنام التي كان يعبدها الناس عبادة عمياء. إلّا أنّه لم يعرف أحد مصدر هذا التغيير وبقيت هويّة ذلك الشخص الذي منح كلّ فرد من المجتمعين في بَدَشتْ اسمًا جديدًا مجهولة. ولكن في الواقع ذلك الشخص كان حضرة بهاءالله ولم يعرفه إلّا القليل وإنّه هو الذي أوجد هذه التغييرات والأسماء الجديدة. في أحد الأيام لزِمَ حضرته الفراش لمرض ألمّ به، ولمّا علم القدّوس بمرَضِه ذهب لزيارته وعندما دخل عليه جلس على يمينه ثم أجاز لباقي الأحباء الدخول. وفجأة دخل محمد حسن القزويني المرسل من قبل الطاهرة وأخبر القدّوس بدعوة الطاهرة له لزيارتها في الحديقة الخاصّة بها فأجاب القدّوس {إنّى قطعتُ نفسي عنها بالكامل وأرفضُ أن أقابلها}[3] انصرف الرسول فورًا ثم عاد ثانية وقال إنّ الطاهرة طالبة لقاءك وإذا كنت مصمّمًا على الرفض فإنّها لابد آتية إليك. وبالطبع فإنّ التقاليد في ذلك الزمن لم تكن تجيز للمرأة الحضور وسط الرجال ولم تسمح التقاليد أيضًا للرجال بالنظر إلى النساء غير زوجاتهم. وفي ذلك الاجتماع لم يسمح الرجال لأنفسهم بالنظر إلى الطاهرة لأنّهم كانوا يعتبرونها مظهرًا للعفّة والطهارة وتجسيدًا لرجعة فاطمة الزهراء عليها السلام. لم يكن يتصوّر القدّوس وجود الطاهرة في ذلك التجمّع ولهذا قال للرسول القزويني بأنّه لن يذهب إلى ذلك الاجتماع. حينها سحب الرسول سيفه من غمده ووضعه تحت أقدام القدّوس وانحنى برقبته أمامه وقال: {إمّا أن تصحبني إليها أو تقطع رأسي بهذا السيف.}[4]  اندهش القدّوس من إصرار الرسول على مجيئه وأخذ سيفه وقال: {جيدًا إذا يمكنني فصل رأسك من جسمك ولكنني لن آتي للقاء الطاهرة.}[5] وبعد ذلك تفاجأ الحضور ورود الطاهرة المجلس دون حجاب وجلوسها على يمين القدّوس. اضطرب الحضور وانزعج من مشاهدة امرأة تدخل اجتماعًا للرجال، وما زاد من دهشة الكلّ أنّها كانت كاشفة لوجهها ودون حجاب في منظر لم يشهده أحد من قبل آنذاك. أحد الحضور واسمه عبدالخالق الإصفهاني صدم وارتعش فقام بقطع حنجرته بيده وفرّ هاربًا مغطّى بدمه وهو يصرخ بهيجان، وفعل نفس الشيء بعض الأصحاب الآخرين وشوهد عدد منهم واقفين أمامها بلا حراك متحيّرين من أمرهم. ولكن ظلّ القدّوس جالسًا في مكانه واضعًا يده على سيفه المسلول ورغم هدوئه كانت علائم الغضب الشديد ظاهرة عليه وكأنّه بانتظار فرصة ليضرب الطاهرة الضربة القاضية. وفي المقابل كان يعلو وجه الطاهرة الوقار والثقة والطمأنينة وقد استضاء جبينها الوضّاح من الفرح والسرور، ثم نهضت عن مكانها وخاطبت الحضور غير وجِلة ولا مهتمّة بما حصل، وعلى البداهة ودون سابق تفكير ألقت كلمة ببلاغة ليس لها مثيل وبحماس شديد وختمتها بآيتين من القرآن الكريم: {إنّ المتّقين  في جنّات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.}[6] وكانت أثناء تلاوة هذه الآية تنظر خفية إلى كلّ من حضرة بهاءالله وجناب القدّوس بحيث لم يستطع الحاضرون تحديد من منهما كانت الطاهرة تعني بكلامها ثم قالت: {إنّي أنا الكلمة التي ينطق بها القائم والتي يفرّ منها نقباء الأرض ونجباؤها.}[7] ثم التفتت إلى القدّوس ولامته لأنّه فشل في خراسان في تنفيذ الأمور التي رأت أنّها أساسيّة لمصلحة أمرالله فأجابها: {إنّي حرّ أن اتّبع ما يمليه عليّ ضميري ولستُ مقيّدًا بآراء وإرادة أصحابي.}[8]  ثم تركته وطلبت من الحاضرين أن يحتفلوا بهذه  المناسبة السعيدة بما يليق بها وبأهمّيتها وقالت: {إنّ هذا اليوم يوم عيد وسرور وهو اليوم الذي فيه تحطّم  قيود الماضي. فليقم أولئك الذين اشتركوا في هذا الانتصار العظيم ويعانقوا بعضهم بعضًا.}[9]

إنّ اختلاف وجهات النظر بين الطاهرة والقدّوس والجدل الذي دار بينهما امتدّ لعدّة أيام. تقول   الطّاهرة إنّ القدّوس بمثابة تلميذ عندها وأنّ حضرة الباب أرسله لتقوم هي بتعليمه وتهذيبه ولكنّ القدّوس يقول إنّها مخطئة وأتباعها يسيرون في الطريق الخاطئ. اعتبر فريق من الحضور أنّ إطاعة الطّاهرة واجبة على الجميع، وفريق آخر اعتقدوا أنّ جناب القدّوس الممثّل والنائب عن حضرة الباب والوحيد الذي يحقّ له أن يحكم في مثل هذه الأمور، وفريق آخر نظر إلى الحادثة   على أنّها امتحان إلهي لفصل الصادقين عن الكاذبين والمؤمنين عن الكافرين. استمرّت حالة التوتّر هذه لبضعة أيام إلى أن توسّط حضرة بهاءالله واستطاع باسلوبه الخاص وفكره الثاقب التوفيق بينهما وإيجاد الوحدة والاتّحاد وتضميد الجراح، وتشجيعهما في المضيّ قدُمًا في خدمة الأمر الذي عشقوه، وفي النهاية قبِل القدّوس بصحّة كلام الطّاهرة. إنّ الأيام التي قضاها الصحابة في بدشت كانت تاريخية وهامّة في تاريخ البابية وتطوّرها. كانت بمثابة النفخ في الصور فمسحت التقاليد العتيقة والقديمة وفُتح الطريق لإعلان تعاليم وأحكام جديدة، وطلب حضرة بهاءالله من المجتمعين إجراء التعاليم الجديدة لحضرة الباب. إنّ الأحداث التي وقعت في بدشت لربما يطرح السؤال عن السبب الذي دعا حضرة بهاءالله أن يبلّغ الحضور بتعاليم حضرة الباب بهذه الطريقة. إنّ ذلك يعود إلى أنّ حضرته كان يرغب في أن يعطي لكلّ مؤمن حاضر في هذا الاجتماع الفرصة لمدى قدرته على قبول تعاليمه الجديدة ومدى قدرة الفرد المؤمن على التخلّي عن أحكام وتعاليم وتقاليد الإسلام.  اجتماع بدشت كان امتحانًا كبيرًا لإيمان البابيين. كان هناك خلاف بين كلّ من الطاهرة والقدّوس في فهم التعاليم الجديدة التي أتى بها حضرة الباب وكلّ منهما يتحدّث بطريقة مختلفة وكانت تعطي الفرصة لباقي المجتمعين في بدشت للتفكير فيها واتخاذ ما يرونه مناسبًا أثناء الاثني والعشرين يومًا في بدشت. وعلى الرغم من أنّ وجهتي نظر الطاهرة والقدّوس كانتا متباينتين ولكن سلوكها كان محلّ تأييد حضرة بهاءالله. وبعد انتهاء الاجتماع ذهبت المجموعة التي استقامت على الأمر إلى مازندران وكانت تضم حضرة بهاءالله والقدّوس والطاهرة، وقد ركب كلّ من القدّوس والطاهرة في هودج واحد وفي الطريق كانت الطّاهرة تنظم قصيدة كلّ يوم وتطلب من الأصحاب أن ينشدوها أثناء سيرهم خلف الهودج، وكانت الجبال والأودية تردّد أصوات تلك المجموعة المتحمّسة وأناشيدها أثناء السفر إيذانًا بمحو القديم وبزوغ فجر يوم الله الجديد. وفي الطريق توقّفت القافلة في قرية نيالا للاستراحة ولكنهم تفاجأوا ساعة الفجر بصوت الأحجار التي بدأ أهالي القرية يرشقون بها أصحاب القافلة. قام حضرة بهاءالله بوضع لباسه الشخصي على القدّوس وأرسله إلى مكان آمن. وبعد تهدئة الوضع تحدّث حضرة بهاءالله مع أهالي القرية ونبّههم إلى خطورة عملهم. في هذه المرحلة نجا القدّوس من خطر الموت ولكنه في وقت لاحق وقع بيد الأعداء وحُبس في ساري في منزل الميرزا محمد تقي رئيس المجتهدين في تلك البلدة الذي عامله معامله طيبة ثم أفرج عنه بعد خمس وتسعين يومًا.

[1] المرجع السابق ص 15

[2] مطالع الأنوار – ص 269

[3] المرجع السابق ص 270

[4] مطالع الأنوار ص 270

[5] من كتيب “قدوس ” الترجمة الفارسية ص 17 ( ترجمة المؤلف)

[6]  سورة القمر -آية  54 – 55

[7]  مطالع الانوار ص 272

[8] المرجع السابق ص 272

[9]  مطالع الانوار ص  272

ستطلع عليكم رايات سود من خراسان

ومع ازدياد عدد المؤمنين بحضرة الباب ازداد عداء رجال الدين له ولأتباعه، كما انتشرت أخبار اجتماع مؤتمر بَدَشت وعَرِفَ الناس أنّ حضرة الباب قد أتى بأحكام وتعاليم جديدة ممّا أثار غالبية الشعب وعلى الأخصّ علماء الدين الذين رأوا أنّ هذه الدعوة الجديدة تهديد لمناصبهم ونفوذهم، فكانوا أكثر قسوة وجرأة في الخصومة. أمّا المؤمنون الجُدد الذين اشتعلت قلوبهم بنار محبّة الله ورأوا الحقيقة بعينها وعرفوا مقام حضرة الباب فلم يأبهوا من أيّ جور أو ظلم، بل إنّ أيّ تعذيب أو أذى يصيبهم في سبيل محبوبهم كان فخرًا وشرفًا لهم. وازداد الوضع سوءًا لدرجة أنّ بعض البابيين لم يكونوا يخرجوا من منازلهم حفاظًا على أرواحهم. بعد مدّة أرسل حضرة الباب وهو سجين رسالة إلى الملّا حسين بشروئي يحثّه بأن يحمل راية سوداء ويتقدّم مع أتباعه من خراسان إلى مازندران. وما أن سمع الملاّ حسين ذلك  حتى لبّى طلب مولاه وامتطى جوادًا وحمل راية سوداء ومعه أتباعه متّجهًا نحو مدينة ساري في إقليم مازندران وبذلك تحقّق ما جاء في الحديث النبوي الشريف:{ستطلع عليكم رايات سود من خراسان فأتوها ولو حبوًا على الثلج فإنّه خليفة الله المهدي.}[1] وفي الطريق انضمّ إليه عددٌ كبير من البابيين ولكن الأعداء استمرّوا في عدائهم وازدادت خصومتهم لدرجة أنّ الملّا حسين بشروئي الملقّب بباب الباب قرّر أن يتوقّف عند مقبرة الشيخ طبرسي ويبني سورًا كبيرًا حول المقبرة حفظًا لنفسه ولأتباعه وقد تمّ ذلك وأصبح هذا السور على شكل قلعة عُرِفت فيما بعد بقلعة الشيخ طبرسي.

زار حضرة بهاءالله قلعة الشيخ طبرسي ووافق عليه وأعطى توجيهاته واقتراحاته حول البناء ثم قال للملّا حسين: {في هذه القلعة وبين الأصحاب فإنّ مكان جناب القدّوس فارغٌ.}[2] كان يعلم حضرة بهاءالله بأنّ وجود القدّوس سيكمل كلّ شيء ولهذا قال للملّا حسين بأن يرسل الملّا مهدي الخوئي ومعه ستة أشخاص إلى مدينة ساري حتى يفرجوا عن القدّوس من منزل الميرزا محمد تقي رئيس المجتهدين ويحضروه معهم ثم قال: {هذا العمل بسيط جدًا عليهم فقط أن يذهبوا إلى منزل أحد أقربائه ويطلبوا منه أن يسلّمهم القدّوس. إنّ خشية الله والخوف منه سيؤدّي إلى الافراج عن ذلك الأسير فورًا.}[3] وطبقًا لهذه الأوامر تحرّك فورًا الملّا مهدي الخوئي ومعه ستة من الأصحاب نحو ساري وتوجّهوا نحو ذلك البيت وطالبوا بجناب القدّوس وقام صاحب المنزل وبدون مقاومة بتسليم القدّوس ثم تحرّكوا نحو القلعة. عَلِمَ سكّان قلعة طبرسي بقُرب مجئ القدّوس ولمّا اقترب منها أرسل رسولًا لإخبارهم عن قدومه، فأوجدت هذه الأنباء السعيدة شوقًا وحماسًا في سكان القلعة وجدّدت قواهم، وقام الملّا حسين وبكلّ حماس وبرفقته نحو مائة من الأصحاب للقاء الزائر العزيز، كما وضع شمعتين في يدي كلّ واحد من الأصحاب وأوقدها بنفسه وأمرهم جميعًا بالتقدّم لملاقاة القدّوس. أضيء الليل من النور الذي انبعث من قلوبهم المبتهجه بينما كانوا يسيرون لمقابلة محبوبهم. وأخيرًا وفي وسط غابة مازندران شاهدوا طلعة الذي كانوا مشتاقين لرؤياه فتقدّموا نحوه بشوقٍ غامر وأحاطوا بجواده وأظهروا له طاعتهم الدائمة بكلّ خضوع واحترام. ثم تبعوه وهم يحملون الشموع في أيديهم سائرين خلفه على الأقدام حتى وصلوا إلى مقرّهم وكان وجه القدّوس يضيء كالكوكب الدرّي الذي أحاطته النجوم من كلّ الجهات. وبينما الجمع المتحمّس يسير ببطء نحو القلعة كانوا ينشدون نشيد الترحيب والتمجيد والمديح. أمّا الملّا حسين فكان يبدأ بنداء {سبّوح قدّوس ربّنا وربّ الملائكة والروح.} ثم يردّد نداءه جميع الأصحاب في جوّ روحاني مهيب قلّ مثله آنذاك وكانت غابة مازندران تردّد صدى ندائهم أيضًا.  وبهذا الشكل وصل هذا الجمع المشتعل بنار محبة الله إلى ضريح الشيخ طبرسي. وما أن وصلوا حتى ترجّل القدّوس عن حصانه واستند إلى الضريح وقال: {بقيت الله خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين.}[4] وبهذه العبارة تمّت نبّوة الرسول محمد (ص) حيث قال في الحديث الشريف: {وعند ظهورالمهدي يسند ظهرَه إلى الكعبة ويخاطب أتباعه الثلاثمائة والثلاثة عشر الذين يلتفّون حوله ويقول بقية الله خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين.}[5] وكان يقصد جناب القدّوس من عبارة بقية الله حضرة بهاءالله نفسه، وللدلالة على ذلك حكى الميرزا محمد الفروغي الرواية الآتية:

{كنتُ موجودًا عندما ترجّل القدّوس وأسند ظهره إلى الضريح وسمعته يتفوّه بهذه الكلمات نفسها وما كاد ينطق بها حتى ذكر اسم حضرة بهاءالله، ثم التفت إلى الملاّ حسين وسأله عنه. فأخبره بأنّه أبدى عزمه على العودة إلى هذا المكان قبل أول محرّم إلا أن يشاء الله غير ذلك. وبعد قليل أعطى القدّوس للملّا حسين عددًا من المواعظ وأمره أن يقرأها على أصحابه المجتمعين. وكانت الأولى خاصّة بحضرة الباب والثانية بحضرة بهاءالله والثالثة بالطاهرة. وتجاسرنا بالسؤال من الملّا حسين وأظهرنا له شكوكنا من أن تكون الإشارات في الموعظة الثانية خاصّة بحضرة بهاء الله الذي ظهر بلباس النبلاء. وأعلم القدّوس بالمسألة فأكّد لنا أنّ سرّ الأمر سينكشف في الوقت المناسب بإذن الله. وكنّا في تلك الأيام لا نعلم شيئا عن رسالة حضرة بهاءالله ولا نعرف مغزى تلك الإشارات. وأخذت منّا الظنون كلّ مأخذ بالنسبة لدلالة معانيها وبيان مراميها. وكثيرًا ما كنت أسأل القدّوس أثناء بحثي عن غوامض الأحاديث الخاصة بالقائم الموعود. ومع أنّه تردّد في بادئ الأمر، إلّا أنّه أخيرًا أجاب طلبي. وكانت طريقة إجابته وبياناته الشافية المقنعة باعثة على ازدياد الحيثية والاحترام اللائق لمقامه، فكان يمحو كلّ شك من أفئدتنا. واقتنعنا أنّه كانت له قدرة على قراءة ضمائرنا وتهدئة خواطرنا. وكنت أرى الملّا حسين كثيرًا من الليالي يدور حول الضريح الذي ينام فيه القدّوس، فكم كان  ينسلّ في جنح الليل من غرفته ويتقدّم بكلّ هدوء إلى تلك الجهة ويناجي الضيف المحبوب بنفس العبارة التي رحّبنا بها بحضرته عند وصوله! ولن أنسى تلك الليالي ولا ما كان يخالجني من الإحساس العميق عندما كان يتقدّم إليّ في هدوء ساعات الليل التي كنت اخصّصها للصلاة والمناجاة ويهمس في أذني قائلاً: “أفرغ عقلك يا ملّا ميرزا محمد من هذه الأمور المحيّرة وتعال معي مخلصًا لوجه الله لنشرب كأس الشهادة، لتقدر إذ ذاك أن تفهم المعنى المقصود من سنة ٨٠ التي سوف تظهر فيها للعالم أحبُّ الأمور والأشياء التي هي الآن مستورة عنك.”}[6]

وعند ضريح الشيخ طبرسي طلب القدّوس من الملّا حسين أن يحصي عدد الأصحاب الموجودين هناك، فعدّهم فردًا فردًا وطلب منهم أن يمرّوا من بوابة القلعة فتبيّن أنّ عددهم ثلاثمائة واثني عشر. ثم ظهر فجأة شاب مُسرع قادم من جهة بارفروش سائرًا على الأقدام وما أن وصل لجناب القدّوس حتى أمسك بطرف ردائه وتمنّى منه أن يفدي حياته في سبيل المحبوب فأجيب إلى طلبه. وعن هذه الواقعة ذكر القدّوس: {قد تمّ كلّ ما وعَدَ به رسول الله خاصًّا بالقائم الموعود ولكي تكون الحجّة كاملة على علماء الدين الذين يظنّون أنفسهم إنّهم وحدهم المفسّرون  لشريعة الإسلام وأحاديثه وبها يعرف الناس صدق تلك الأحاديث ويعترفون بتحقّقها.}[7] وفي قلعة الشيخ طبرسي كان القدّوس بمثابة القائد الروحي للأصحاب الذين لم يكونوا مستعدّين للدخول في  الحرب أو القتال لأن أكثريّتهم كانوا تلامذة العلوم الدينية والبعض الآخر من عامّة الشعب الذين قرأوا القرآن الكريم بدقّة وعرفوا الموعود ولم تكن لديهم الخبرة أو القدرة على خوض المعارك. ولكنهم كانوا يملكون قوّة روحانية نابعة من إيمانهم بمقام حضرة الباب وظهور قائم آل محمد. وبالتالي فإنّ وجود القدّوس في قلعة الشيخ طبرسي كانت ضرورية لبثّ روح الحماس والمثابرة والعزيمة في نفوسهم. وعندما دخل القدّوس القلعة كان قد كتب أقواله على عدّة أوراق ثم سلّمها للملّا حسين حتى يقرأها للأصحاب. أولى المواضيع التي كتبها كانت عن حضرة الباب والثانية عن حضرة بهاءالله والثالثة عن الطاهرة. استغرب البعض ممّا كتبه القدّوس عن حضرة بهاءالله لأنّه في حينه لم يكن أحد يعرف مقام حضرة بهاءالله وعندما سُئل قال بأنّهم في الوقت المناسب سيعرفون المعاني الحقيقية لما كتبه. وأيضًا قام القدّوس في القلعة، ورغم كلّ الصعاب، بكتابة تفاسير في شرح بعض معاني الآيات القرآنية وكان حجم هذه التفاسير ستة أضعاف آيات القرآن الكريم لدرجة اذهلت الأصحاب.

في تلك الأيام كان القدّوس يطلب في كلّ صباح ومساء من الملّا حسين بشروئي وأحيانًا من باقي الصحابة أن يتلوا آثار حضرة الباب بصوت مرتفع وكان يجلس مع الأصحاب في حلقة بالقرب من مقبرة قلعة الشيخ طبرسي ويستمع إلى كلمات مولاه بكل ّشغف وسرور. هذا النمط من السرور الروحاني كان مستمرًّا ولم يتعطّل حتى أثناء المعارك التي نشبت فيما بعد، بل وأحيانًا وحتى عندما كانت القذائف تتساقط بالقرب من جناب القدّوس، فلم يكن يهتمّ بذلك بل كان دائم السمع لكلمات النقطة الأولى، وأحيانًا كانت هذه الكلمات من التضرّع والابتهال تخرج من شفتيه مخاطبًا محبوبه الأعلى: { إنّ روحي مقترنة بذكرك الذي هو سلوان حياتي وسكونها وإنّي افتخر بأن أكون أوّل من اضطهد في سبيلك في شيراز وأرجو أن أكون أوّل من يفدي روحه فداء لائقاً لأمرك.}[8] هذه هي السّمات العظيمة التي كان يتحلّى بها جناب القدّوس فالشجاعة والبسالة والانقطاع والعشق الإلهي كانت محفورة في قلب من عشق مولاه بكلّ جوارحه مصداقًا لبيان القلم الأعلى: {تالله هذا مضمار المكاشفة والانقطاع وميدان المشاهدة والارتفاع لا يجول فيه  إلّا فوارس الرحمن الذين نبذوا الإمكان أولئك أنصار الله في الأرض ومشارق الاقتدار بين العالمين.}[9] وعندما رأى الأصحاب هذه الشجاعة والبسالة في جناب القدّوس ازدادت شجاعتهم وبسالتهم في الذود عن إيمانهم وعقيدتهم.

وأحيانًا كان القدّوس يطلب من بعض رفاقه أن يرتّلوا بعض الآيات من القرآن الكريم وكان ينصت لها بكلّ اهتمام ثم يتأثّر أحيانًا بحيث يقوم بتفسير معانيها، وفي إحدى المرّات وأثناء التلاوة وردت الآية: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين.} [10] فقال القدّوس: {نزلت هذه الآية أصلًا في أيوب وما أصابه. وفي هذه الأيام تنطبق علينا. فسوف تصيبنا كلّ هذه الآلام وستعمّ البلوى بدرجة أنّ من لم يتعوّد الصبر والثبات لن يقدر على تحمّلها.}[11]

[1]  التبيان والبرهان – الجزء الاول ص43

[2] من كتيب “قدوس” الترجمة الفارسية ص 21 ( ترجمة المؤلف)

[3] المرجع السابق ص 21

[4]  القرآن الكريم – سورة الهود الآية ٨٦

[5] مطالع الأنوار ص 325

[6] مطالع الأنوار 325 – 326

[7] مطالع الأنوار ص 327

[8]  مطالع الانوار ص 328 – 329

[9]  الكتاب الاقدس – فقرة 178

[10] سورة البقرة الأية 155

[11] مطالع الأنوار ص 329

ملحمة قلعة الشيخ طبرسي

حاصر الأعداء القلعة وبدأوا هجومهم اليومي ولكنّ الأصحاب كانوا يدافعون عن القلعة دفاع المستميت وهم يرفعون نداء ﴿يا صاحب الزمان وعلى الرغم من أنّ الأصحاب كانوا أقلّ عددًا من الأعداء ومن دون خبرة قتالية ولديهم نقص كبير في العتاد والتموين، ولكنهم كانوا يصدّون الهجمات بشجاعة كبيرة. وعلى رأس الأصحاب المدافعين عن القلعة كان القدّوس والملّا حسين بشروئي اللذان أبليا بلاءً حسنًا وكانا قدوة الأصحاب في الشجاعة والبسالة. ازدادت الأوضاع سوءًا عندما قطع الأعداء الماء عن أصحاب القلعة وكلّما كان يخرج شخص لجلب الماء كان يُقتل فورًا. أمر القدّوس الأصحاب بعدم الخروج ثم قال أحدهم: {إنّ الأعداء منعوا عنّا الخبز وماذا يصيبنا لو منعونا الماء أيضًا؟}[1] جوابًا على ذلك التفت القدّوس للملّا حسين وقال له: ﴿إنّ قلّة الماء قد أزعجت أصحابنا وإن شاء الله ستهطل السماء بوابل منهمر من الأمطار هذه الليلة يحيط بالأعداء ويتبعه سقوط الثلج الشديد ويساعد ذلك في صدّ هجومهم المدبّر.﴾[2] وفي نفس الليلة أمطرت السماء مطرًا شديدًا وجرت السيول لدرجة أتلفت الكثير من أسلحة وذخائر وعتاد الأعداء واستطاع الأصحاب الحصول على ماء وفير وتخزينه. وفي الليلة التالية سقط ثلج غزيز لم يشاهد مثله في تلك البلاد حتى في أشد ليالي الشتاء بردًا ثم قال القدّوس للمؤمن الذي كان قلقًا: {الحمد  لله الذي أجاب دعاءنا وسبّب سقوط المطر والثلج للإيقاع بأعدائنا وتخريب معسكرهم وإنعاش قلعتنا.}[3]

ومع ذلك استمرّ هجوم الأعداء ولهذا أمر القدّوس بحفر خندق حول القلعة وقد انتهى العمل بعد تسعة عشر يومًا ثم أعلن بعدها بفترة وجيزة أنّ الأمير مهدي قلي ميرزا سيهاجم القلعة على رأس جحفل عظيم. وصل الأمير إلى مشارف القلعة وأمر بفتح النار على مدافع القلعة ثم قرّر القدّوس أن يبادر بالهجوم قبله حتى يشتّت شمله ولم يكن النهار قد طلع بعد عندما صدر الأمر من القدّوس للأصحاب: {امتطوا خيولكم يا فرسان الله.} وأمر بفتح أبواب القلعة حتى خرج مائتان واثنان من الأصحاب خلف القدّوس والملّا حسين ممتطين الخيول مردّدين نداء: {يا صاحب الزمان.} ولم يمنعهم الثلج ولا الأوحال المتراكمة على طول الطريق ولا كثرة القوّات المحيطة بهم من الهجوم في ظلام الليل واقتحام الاستحكامات. أمر الأمير مهدي قلي ميرزا بإطلاق النار على رجال الملّا حسين ولكنّ رصاصاتهم كانت عاجزة عن صدّ تقدّمه فاقتحم طريقه عبرالبوابة واندفع داخل غرفة الأمير الذي رمى بنفسه من نافذة خلفية في الخندق وهرب حافي القدمين. وعندما لاحظ الجنود أنّ قائدهم قد ولّى الأدبار انتابهم الجزع والخوف من هؤلاء البابيين الجماعة القليلة. كما قُتل اثنان من الأمراء أثناء محاولتهم صد الهجوم. وأثناء اقتحام غرف الأمير الخاصة عثروا في إحداها على صناديق مملوءة بالذهب والفضة ولكنهم لم يمسّوها ولم يأخذوا من كل ما وجدوه سوى صندوق من البارود وسيف للأمير كعلامة للانتصار وسلّموه للملّا حسين.

وفي صباح ذلك اليوم التاريخي الذي تمّ فيه هذا النصر جمع الملّا حسين أصحابه حول القدّوس وبقي ممتطيًا جواده تأهّبًا لهجوم جديد من الأعداء وبينما كان يلاحظ حركاتهم فوجئ بهجوم جديد من جهتين من جيش جرّار وبدأ الرصاص ينهمر من كلّ جانب بحيث أصابت القدّوس في فمه وكسرت بعض أسنانه وجرحت لسانه وحلقه. أسرع الملّا حسين نحو القدّوس، ولمّا شاهد الدماء تقطر من فم سيّده المحبوب بغزارة، فزع بشدّة ورفع يديه ليضرب بها رأسه ولكنّ القدّوس منعه فأطاعه حالًا ورجاه أن يستلم منه سيفه فأخذه واستلّه للحال وأخذ يضرب الأعداء المحيطين به. مسك الملّا حسين سيف القدّوس بيده وسيف عدّوه الأمير مهدي قلي ميرزا باليد الأخرى وهجم على الأعداء ودارت معركة حامية بينه وبينهم ونجح في تشتيت شمل العدو بعد أن أظهر بسالة وقدرة فائقة.

تمكّن الملّا حسين بعد انتصاره على جيش الأمير مهدي أن يعود هو والأصحاب إلى القلعة لإصلاحها وأعادوا القدّوس جريحًا وبحالة يؤسف عليها ولكن طلب من الأحباب أن يكفّوا عن بكائهم. لم يستطع القدّوس الحديث ولهذا كتب للأصحاب: {علينا أن نرضى بإرادة الله وأن نكون ثابتين في ساعة الامتحان فقد كُسرت رباعية الرسول من أحجار الكفّار وكذلك وقع لي مثل ذلك من رصاص العدو. ولو أنّ جسمي يتألّم ولكن روحي مستبشرة متنعّمة بالسرور وشكري لله لا حدّ له. وإن كنتم تحبّونني فلا تحجبوا عنّي هذا السرور بمنظر التأوّه والحزن.}[4]

تحسّنت صحّة القدّوس تدريجيًّا ولكنه لم يستطع أن يدافع عن الهجوم الذي شُنّ على القلعة بعد عدّة أيام ولهذا تولّى الملّا حسين مُجبرًا قيادة وزعامة الأصحاب وكان يعلم بأنّ تلك لربّما ستكون آخر مواجهة له مع الأعداء. امتطى الأصحاب جيادهم رافعين نداء ﴿يا صاحب الزمان وخرجوا من باب القلعة يتقدّمهم الملّا حسين وهاجموا الأعداء وكان الرصاص ينهمر من كلّ صوب على الأصحاب ولكنّهم لم يعتنوا بذلك بل كانوا يتصدّون الهجمات ببسالة وشجاعة منقطعة النظير. أثناء المعركة تعثّر جواد الملّا حسين بشروئي بحبل إحدى الخِيَم وقبل أن يتمكّن من تخليصه أصابته رصاصة في صدره. ترجّل من جواده وجراحه تُدمى بغزارة ثم وقع على الأرض منهك القوى ثم جاء لنجدته شابان من أصحابه وحملاه إلى القلعة لدى جناب القدّوس. وفي غرفته أمر القدّوس الجميع بالخروج منها حيث كانت رغبته بالجلوس مع الملّا حسين وحده والحديث معه ولربما تكون اللحظات الأخيرة معه. أحد الأصحاب كان ينظر ويستمع إليهما من ثقب الباب وقال بأنّ الملا حسين بمجرّد أن ناداه القدّوس قام وجلس حسب عادته راكعًا بجانبه وكان رأسه منحنيًا وعيناه تنظران للأسفل وهو يستمع لكلّ كلمة تخرج من فم القدّوس ويجيب على أسئلته. ثم قال بأنّه سمع القدّوس يقول للملّا حسين: {لقد أسرعت ساعة فراقك وتركتني لرحمة أعدائي فلا يمضي وقت كبير حتى إن شاء الله ألحقك وأجتمع بك وأتذّوق حلاوة النِعَم الإلهية التي تفوق الوصف.} [5] وكان ردّ الملّا حسين له: {أفديك بحياتي هل أنت راضٍ عنّي.؟}[6]

استمرّ الحديث بين القدّوس والملّا حسين قرابة الساعتين، والله وحده يعلم ما دار بينهما من تواصل روحي، ولربّما كانت كلمات الوداع الأخيرة تنطق من كليهما، إلى أن صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها، ودخل أول المؤمنين بحضرة الباب وأول حروف الحي الملكوت الإلهي ليستقرّ مع الأنبياء والأصفياء والمرسلين خالدًا مخلّدًا وكان ذلك في شهر شباط / فبراير من عام 1849 عليه بهاءالله ورحمته. بعد ذلك فُتِح الباب ودخل الصحابة ورأوا جثمان الملّا حسين  مسجيًّا صامتاً هادئًا على الأرض ثم قال لهم القدّوس: { لقد ودّعته الوداع الأخير وشاركته في الأمور التي لم يكن مصرّحًا بالنطق بها من قبل.}[7] لقد بدا على وجهه طيف ابتسامة واطمئنان كأنّه كان نائمًا، وقام بعد ذلك القدّوس بعمل مراسم الدفن فألبسه قميصه وقام بدفنه في الجهة الجنوبية الملاصقة لضريح الشيخ طبرسي،وبينما كان يقبّله في وجهه وعينيه قال مودّعًا: ﴿ طوبى لك بما ثبتَ على ميثاق الله وعهده لآخر ساعة من حياتك، أرجو الله أن لا يجعل بيني وبينك حائلاً أبدًا.﴾[8] كان يتكلّم بحرقة حتى إنّ الأصحاب السبعة الذين كانوا حوله بكوا بكاء مرّاً وتمنّوا الفداء في سبيله. ثم وضع القدّوس جثمان الملّا حسين في القبر بيديه وقال للذين كانوا حوله أن يكتموا محلّ دفنه. وبعد ذلك أمرهم بدفن ستة وثلاثين شهيدًا من الأصحاب الذين قتلوا في المعركة في الجهة الشمالية من ضريح الشيخ طبرسي في قبر واحد. وأثناء وضع جثامينهم في القبر كان يقول: {ليعتبر أحباء الله بمثال هؤلاء الشهداء في ديننا، فليكونوا في حياتهم متّحدين كاتحاد هؤلاء في مماتهم.}[9]

أثناء تلك المعارك الطاحنة جُرِحَ بشدّة حوالي تسعون شخصًا من الأصحاب ومات عدد كبير منهم فيما بعد، أمّا القدّوس فقد اختار الميرزا محمد باقر ليكون قائدًا للأصحاب. انهزم العدوّ واندحر وشلّت حركته ولم يتمكّن من جمع قوّاته المشتّته وتجديد هجومه إلّا بعد مضي خمسة وأربعين يومًا. وخلال هذه الفترة لم يسمح الأعداء للبابيين من الخروج من القلعة لتأمين احتياجاتهم من الطعام والمؤونة وغيره لدرجة أنّهم اضطرّوا أن يأكلوا من لحم حصان الملّا حسين الذي قتل أثناء المعركة. وعندما نفذ ذلك وكادوا يموتون جوعًا أمر القدّوس الميرزا محمد باقر بتوزيع جميع الأرز الذي كان الملّا حسين قد خزنه لوقت الحاجة على الأصحاب ولمّا استلم كلّ حصّته منه قال لهم القدّوس: ﴿كلّ من يشعر في نفسه القوّة على ملاقاة المصائب التي سوف تنزل علينا قريبًا فليمكث في هذه القلعة، والذي يجد في نفسه أقلّ خوف أو تردّد فعليه أن يترك هذا المكان سريعًا قبل أن يجمع العدو قواته ويهجم علينا فسرعان ما يغلق الطريق أمام وجوهنا ونلاقي أشدّ الصعاب ونكون فريسة آلام مبرحة.﴾[10]

في تلك الليلة قام أحد الأصحاب بالفتنة والخيانة وبلّغ عباس قلي خان قائد جيش العدو بأنّ الملّا حسين وعدد كبير من الأصحاب قد قتلوا وأنّهم جياع وضعفاء وفي وضع بائس وأنّ الوضع مناسب للهجوم على القلعة. في ذلك الوقت كان عباس قلي خان ملتجئًا في قرية على بعد أربعة فراسخ من القلعة ومتحسّرًا من الهزيمة التي لحقت بجيشه، وعندما سمع بخبر وفاة الملّا حسين سَعِدَ وتجدّدت آماله واعتقد أنّه مع غياب الملّا حسين يستطيع أن يهجم ويستردّ القلعة بسهولة. وخوفًا من انتشار خبر وفاة الملّا حسين قام عباس قلي بقتل ذلك الصحابي الذي أفشى بأسرار القلعة للعدو وأبعد تهمة القتل عن نفسه بحيلةٍ عجيبة، ورغبة منه في انتهاز الضيق الحاصل للمحاصرين والنقص في قواتهم أخذ في إعداد الترتيبات اللازمة لمعاودة الهجوم.

وما كاد النهار يلوح بالأفق حتى رفع عباس قلي خان الراية وتقدّم وحاصر القلعة على رأس فوجين من المشاة والخيّالة وأمر رجاله بإطلاق النار على الحرّاس الواقفين على الأسوار ثم أسرع الميرزا محمد باقر وأطلع القدّوس بما حدث فقال له القدّوس: { إنّ الخائن أعلن وفاة الملّا حسين لعبّاس قلي خان فلمّا تشجّع بغيابه عن الميدان عزم على فتح معقلنا ليفوز بشرف النصر علينا دون غيره فاهجم عليه ومعك ثمانية عشر رجلاً وأنزل به وبرهطه عقابًا لائقًا. وليعلم أنّه ولو أنّ الملّا حسين غير موجود إلّا أنّ قوة الله التي لا تغلب تستمرّ بعضد أصحابه على الدوام وتمكّنهم من إحراز النصر على قوّات أعدائهم.} [11]

اختار الميرزا محمد باقر فورًا ثمانية عشر رجلًا من الأصحاب وفتح باب القلعة وخرج هؤلاء الرجال من الباب ينادون ﴿يا صاحب الزمان﴾ متوكّلين على الله بكلّ شجاعة وإقدام يتقدّمهم الميرزا محمد باقر ممتطيًا جواده. فزع العدو وارتبك من هذا الهجوم المباغت ثم هرب ولم يبق منهم إلّا القليل ممّن وصل إلى بارفروش خائر القوى. ذعر عباس قلي خان من ذلك لدرجة أنّه سقط من جواده وهرب مع جنوده تاركًا إحدى نعليه معلّقًا في الركاب وإحدى قدميه منتعلة والأخرى عارية.

وعليه شاءت إرادة الله العلّي القدير أن تتغلّب الثلّة القليلة العدد المكوّنة من تسعة عشر شخصًا على العدد المكوّن من فوجين من الجنود. هذا الانتصار بعثَ روحًا جديدًا في الأصحاب وأعطاهم آمالاً جديدة وازدادوا وحدة واتحادًا. ونظرًا للنقص الحادّ في المواد الغذائية الذي كان يعاني منه الأصحاب فقد اضطرّوا إلى الاستفادة من لحم الجياد التي سقطت في المعركة وماتت حيث قاموا بطهيها وأكلها. لم يتبقَّ في القلعة شيء سوى بقرة حلوب واحدة ولم يرتض صاحبها ذبحها لأنّه كان يستفيد من حليبها عن طريق خلطه وطبخه مع الأرز وتقديمه للقدّوس والأصحاب. في إحدى المرّات وبينما كان القدّوس يتناول هذا الطعام قال: ﴿منذ افتراقي عن الملّا حسين لا أستلذّ أيّ لحم أو شراب ممّا يقدّم لي لأن قلبي يحترق إذ أرى أصحابي يتضوّرون جوعًا وهم منهوكو القوى حولي.﴾[12] ورغم ظروفه الصّعبة استمرّ القدّوس في كتابة بعض التفاسير لآيات القرآن الكريم، كما كان يقوم بنصيحة الأصحاب بالثبات والاستقامة، وكان الميرزا محمد باقر يقرأ صباحًا ومساءً في محضر الأحبّاء المجتمعين بضع فقرات من التفسير وكانت تلاوتها تشعل فيهم الحماس وتنعش الآمال. حكى أحد أصحاب القلعة وهو الملّا ميرزا محمد عن جناب القدّوس والأيام الصعبة التي قضيت في القلعة بما يلي: ﴿مع أنّ الجوع كان يؤلمنا ولكن لم نفكّر في الطعام أو الخبز اليومي. كانت أحاديث جناب القدّوس تجذبنا لدرجة ما كان يظهر علينا التعب ويبدو أنّنا نستطيع أن نستمرّ على هذا المنوال لسنوات قادمة. لم يكن يحزننا شيء وعندما كان الضعف يأخذنا نتيجة الجوع كان الميرزا محمد باقر يذهب إلى جناب القدّوس. وكان القدّوس يأتينا ويتحدّث مع كلّ واحد منّا بضع كلمات. ومع سماع صوته كانت أرواحنا تنتعش وتتجدّد قوانا. إنّ مشاهدة محيّا القدّوس تعطينا القوّة والقدرة لدرجة أنّ العدوّ لو هجم علينا في تلك اللحظة لكنّا قادرين على دحرهم بكلّ قوانا ونحصل على انتصار جديد.﴾[13]

ونظرًا لقرب حلول عيد النوروز السعيد في تلك السنة أي عام 1849 كان الأصحاب يستعدّون له مترنّمين بعبارة {سبّوح قدّوس ربّنا وربّ الملائكة والروح.} شاكرين حامدين ربّهم بالفرح والسرور وهم في نشوة روحانية عالية ولكنّ العدو كان يستعدّ لهجوم جديد.

في اليوم الأول من عيد النوروز لعام 1849م الموافق للرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني لعام 1265 هجري أرسل القدّوس خطابًا للأصحاب وأخبرهم فيه بأنّه قريبًا سينال عدد كبير منهم كأس الشهادة. وبعد عدّة أيام جاءت عدّة فيالق بقيادة الأمير مهدي قلي ميرزا (الشاهزاده) وبدأت في تجهيز عدّة خنادق واستحكامات حول الأراضي المجاورة للقلعة. وفي اليوم التاسع من النوروز أعطى الأمير أوامره بإطلاق نار المدفعية تجاه المحاصرين داخل القلعة. وبينما كان القصف مستمرًّا خرج القدّوس من غرفته ومشى إلى وسط القلعة وكانت الابتسامات تعلو وجهه ويظهر على هيئته كل السكون والطمأنينة. وبينما كان يسير وقعت قذيفة مدفع أمامه فجأة فقام بدحرجتها بقدمه ثم قال: ﴿ما أجهل هؤلاء الطغاة بقوّة غضب الله المنتقم. ألم يعلموا أنّ مخلوقًا ضعيفًا كالبعوضة تقدر على قتل نمرود الجبّار؟ ألم يسمعوا أنّ ريحًا صرصرًا كانت كافية لإهلاك قوم عاد وثمود ومحو قوّاتهم؟ فهل يسعون إلى تخويف أبطال الله الذين لا يعتبرون أبّهة الملك إلّا كظلّ زائل، بمثل هذه الدلائل التافهة على قسوتهم؟ ﴾[14] ومن ثم توجّه القدّوس إلى الأصحاب وقال لهم: { أنتم أولئك الأصحاب أنفسهم الذين تكلّم عنهم محمد رسول الله قائلاً: “واشوقاه لرؤية إخواني الذين يأتون في آخر الزمان، طوبى لنا وطوبى لهم، وطوباهم أفضل من طوبانا.” فاحذروا لئلا يفسد مقامكم الجليل باتّباع النفس والهوى فلا تخافوا من تهديد الأشرار ولا تخشوا من سطوة الكفّار ولكلّ منكم ساعة معلومة وأجل مسمّى فإذا جاء الأجل فلن يؤثّر هجوم الأعداء أو جهود الأحباء في أن يستقدم الأجل أو يستأخر. بل إذا اجتمعت قوّات الأرض ضدّكم لن يقدروا قبل مجئ الساعة أن ينقصوا من حياتكم دقيقة واحدة وأمّا لو سمحتم لقلوبكم أن تضطرب ولو لحظة واحدة من إطلاق هذه المدافع التي ستستمرّ في صبّ قنابلها بشدّة على هذه القلعة فإنّكم تطرحون أنفسكم خارج معقل الحماية الربانية.} [15]

هذه العبارات المهيّجة أوجدت روحًا جديدة في نفوس الأصحاب الذين أصابهم التعب والكلل والجوع بل وهيّئتهم لمواجهة حملات الأعداء. أصيبت القلعة ولعدّة أيام بقذائف ونيران الأعداء ولكن أصحاب القلعة الأوفياء كانوا يتلون آيات القرآن الكريم بصوت مرتفع ونغمات المناجاة والشكر والامتنان كانت تصل إلى آذان الأعداء دون انقطاع. هذا المشهد أغضب جعفر قلي خان وأراد أن يسحق هذا الحماس الذي اشتعل في قلوب أعدائه، فقام بإنشاء وبناء برج ونصب عليه مدفعًا وأخذ يطلق النار إلى داخل القلعة. عند ذلك قال القدّوس للميرزا محمد باقر: ﴿دعه يعلم أنّ أبطال الله الذين تشجّعت قلوبهم هم كالأسود إذا اضطرّوا ودفعهم الجوع يظهر منهم من الشجاعة والشهامة ما لا يقوى مخلوق على مثله. ودعهُ يعلم إنّه كلّما اشتدّ جوعهم كلّما ازدادت ضراوة سخطهم.﴾ [16]

قام الميرزا محمد باقر ومعه ثمانية عشر من الأصحاب بالخروج من القلعة بكلّ شجاعة وقوّة وهاجموا الأعداء وهم يردّدون ﴿يا صاحب الزمان﴾ ممّا أوقع الخوف والوجل في صفوف الأعداء ووقع جعفر قلي خان وثلاثون من أصحابه صرعى تحت سيوف خصومهم الذين هجموا على البرج واستولوا على المدافع وأسقطوها أرضًا ثم حطّموا الاستحكامات التي نُصبت وأخذوا عددًا من أفضل الجياد التي تركها العدو.

مضت عدّة أيام ولم يظهر أيّ هجوم مضاد ثم حصل انفجار فجائي في إحدى مستودعات الذخيرة عند العدو وقُتل عدد من الضباط والجنود وخلال هذه الأحداث استطاع الأصحاب الخروج من القلعة للبحث عن الطعام والنباتات والحشائش ليسدّوا بها رمقهم نظرًا لأنّهم قد أكلوا  كلّ شيء حتى لحوم الخِيل قد نفدت ممّا اضطرهم لأكل الجلود المنزوعة من السروج من شدّة الجوع وحتى الحشائش كانوا يغلونها على النار ويلتهمونها بشراهة، ولكنّ قواهم كانت قد خارت ونحلت أجسامهم، ولكنّ القدّوس كان يذهب إليهم ويشجّعهم على الثبات والاستقامة وينعش قلوبهم بكلماته الجميلة فأصبح مرهمًا شافيًا لهم.

بعد شهر واحد أي في بداية شهر مايو/ أيار1849 م وبعد أن استجمع العدو قواه قام بالهجوم بالمدفعية على القلعة مرّة أخرى. جهّز القدّوس هذه المرّة ستة وثلاثين مقاتلاً من الأصحاب ليكونوا مع الميرزا محمد باقر لصدّ الهجوم ثم قال لهم: {منذ أن نزلنا في هذه القلعة لم نقبل بأيّ حال أن نسعى في التعدّي على أعدائنا ولم نقم للدفاع عن حياتنا حتى بدأوا بالهجوم. ولو كان غرضنا الطمع في إعلان الجهاد ضدهم أو كان عندنا أقلّ قصد في الحصول على السيادة بقوّة أسلحتنا على الكفّار ما كنّا نبقى محصورين داخل أسوار هذه القلعة إلى هذا اليوم ولكانت قوّة أسلحتنا قد غلبت الأمم كما كان الحال مع أصحاب محمد في الأيام السالفة وكنّا أجبرناهم على قبول الدعوة. ومنذ التجأنا إلى القلعة كان قصدنا الوحيد الذي لم يتغيّر هو إثبات سموّ الدعوة بأعمالنا واستعدادنا للتضحية وسفك دمائنا في سبيل ديننا. وإنّ الساعة لآتية قريبًا عندما تكمل أعمالنا.} [17]

ركب الميرزا محمد باقر حصانه ومعه ستة وثلاثين فارسًا من الأصحاب الذين انتخبهم القدّوس وواجه الأعداء بكلّ شجاعة واستطاع دحرهم وتشتيت شملهم وعاد للقلعة ظافرًا منصورًا ومعه الراية التي تركها العدو مذعورًا وقد استشهد في تلك الملحمة خمسة من الأصحاب. وقد حُملت جثثهم إلى داخل القلعة وتم دفنهم في قبر جماعي بالقرب من قبور باقي الشهداء. عليهم بهاء الله ورحمته.

 

 

[1] المرجع السابق ص  332

[2]  مطالع الانوار – ص 333

[3] مطالع الأنوار ص 333

 [4]   مطالع الانوار – ص 340 – 341

[5]  مطالع الانوار ص 352

[6]  المرجع السابق ص 352

[7]   مطالع الانوار – ص 352

[8]  المرجع السابق ص 352

[9]  المرجع السابق – ص 352

[10]  مطالع الانوار – ص  355

[11]   المرجع السابق – ص 357

[12]   مطالع الانوار – ص 360

[13]    كتيب القدوس بالفارسي ص 32  (ترجمة المؤلف)

[14]   مطالع الأنوار – ص 361

[15]   مطالع الأنوار – ص 361 – 362

[16]   المرجع السابق –  363

[17]   مطالع الأنوار – ص 365 – 366

نهاية الملحمة

مرّت عدّة أيام هادئة دون حرب. وفي أحد الأيام أرسل الأمير مهدي قلي ميرزا (الشاهزاده) رسالة إلى جناب القدّوس مفادها أنّه يريد أن ينهي النزاع ومستعدّ للتوصّل إلى حلّ سلمي لإنهاء الصراع والمسائل المعلّقة بينهما. وافق القدّوس على ذلك وعيّن الملّا يوسف الأردبيلي والسيد رضا الخراساني ليكونا مندوبين عنه في المحادثات. استقبلهما الأمير بكلّ احترام وأمر بإحضار الشاي لهما، ولكنّهما رفضا تناول الشاي إحساسًا منهم بعدم الإنصاف أن يشربا الشاي بينما رئيسهم المحبوب يتضوّر جوعًا في القلعة ثم قال الأمير: {إنّ العداء بيننا قد استمرّ طويلًا بلا موجب وقد تحارب الطرفان مدّة وأنهكت قواهما وإنّي أرغب بكلّ تأكيد الوصول إلى حلّ سلمي لفض الخلافات التي بيننا.}[1] ثم أخذ نسخة من القرآن الكريم وكتب على هامش الفاتحة الكلمات الآتية للقدّوس تأييدًا لكلماته: ﴿أقسم بهذا الكتاب المقدّس وبحقّ من أنزله وبرسالة من ألهم بهذه الآيات إنّه لا قصد لي سوى توطيد السلام والمحبّة بيننا. فاخرجوا من معقلكم وتأكّدوا أنّه لن تمتدّ لإيذائكم أيّ يد وأنّكم ستكونون أنتم وأصحابكم في حفظ الله ومحمد رسوله وناصرالدين شاه مليكنا وأقسم لكم بشرفي أنّه لن يعتدي عليكم أيّ شخص سواء في الجيش أو الجهات المجاورة وإذا كان لي غرض آخر أضمره في نفسي خلاف ما بيّنت فعليّ غضب الله المنتقم الجبّار.﴾[2]

ثم ختم الأمير بيانه بختمه الشخصي وسلّمه إلى الملّا يوسف الأردبيلي وطلب منه أن يبلّغ  تحياته للقدّوس ثم قال له: ﴿سأرسل في عصر هذا اليوم تنفيذًا لهذا الإقرار بعض الجياد إلى  بوّابة القلعة وأرجو أن يقبلها هو وأصحابه فيمتطوها ويأتون إلى أطراف هذا المعسكر حيث تُنصَب لهم خيمة خاصّة لاستقبالهم وسأطلب منهم أن يكونوا في ضيافتي إلى حين عمل الترتيب لنقلهم إلى موطنهم على نفقتي الخاصّة.﴾[3] استلم القدّوس القرآن الكريم من يد الملّا يوسف الأردبيلي وقبّله باحترام وقال: ﴿ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين.﴾[4] ثم  طلب من الأصحاب الاستعداد لمغادرة القلعة قائلاً لهم: ﴿إنّنا بإجابتنا لدعوتهم نمكّنهم من إظهار صدق نواياهم.﴾ [5]

ولمّا حان وقت مغادرة القلعة لبس القدّوس العمامة الخضراء التي أرسلها له حضرة الباب وامتطى جواد الأمير المفضّل الذي أرسل له، وسار خلفه باقي أصحابه وأغلبهم من الأشراف والعلماء وبلغ عددهم حوالي مائتي شخص ثم وصلوا إلى الخيمة التي أعدّها الأمير للقدوس للاستراحة.

بعد وصولهم واستراحتهم خرج القدّوس من خيمته وقال لأصحابه: ﴿عليكم أن تظهروا الانقطاع الكلّي وتكونوا مثالاً لغيركم وبذلك يرتفع صيت الأمر ويعلو مَجدَه، وما يقع مخالفًا لهذا الانقطاع التام إنّما يساعد على تلويث سمعته ويحجب بهاءه وإنّي أسأل القدير أن يمنحكم ذلك ويساعدكم إلى آخر ساعة من حياتكم على أن تكملوا نصيبكم في ارتفاع شأن دينه.﴾[6] بعد الغروب ببضع ساعات تم تقديم طعام العشاء للقدّوس وأصحابه في الخيمة ولكنّه امتنع وتسعة من صحابته عن تناول الطعام. في اليوم التالي استدعى الأمير الميرزا محمد باقر وتعهّد له بالحفاظ على أمن وسلامة الصحابة جميعًا وعدم التعرّض لهم وأنّه سيعطي لكلّ واحد منهم حصانًا حتى يرجع إلى مدينة “سنكسر” ومن هناك فهم أحرار بالرجوع إلى أوطانهم وقراهم.

رجع الميرزا محمد باقر من لقائه بالأمير والتقى بالقدّوس وشرح له ما جرى في ذلك الاجتماع ثم قال: ﴿ وإنّي أظنّ أنّ كلّ ما يقوله الأمير بلسانه لا يصادق عليه بقلبه أبدّا.﴾[7] أيّد القدّوس هذا الإحساس ثم قال للأصحاب بأنّ عليهم عدم الانتظار للجياد بل الذهاب إلى منازلهم وأنّه سيغادر إلى مدينة بارفروش. تأثّر الأصحاب بشدّة من هذا الفراق وترجّوا منه عدم تركهم ثم قال لهم القدّوس مودّعًا: ﴿لا تبكوا فإنّ الاجتماع الذي سوف يعقب هذا الافتراق سيكون اجتماعًا أبديًّا فقد وكّلنا أمرنا لله ومهما كانت إرادته وأمره فإنّنا نتقبّله بكلّ سرور ورضا.﴾[8] وفي نفس الليلة أمر القدّوس الصحابة بمغادرة الخيمة، أمّا الأمير فقد استدعى القدّوس في اليوم التالي وما إن وصل إليه حتى ألقي القبض عليه ومُنع من الاتصال به. قام الأمير بإرسال رسالة بإسم القدّوس زيفًا إلى الأصحاب طالبًا منهم الحضور. تصوّر بعض الأصحاب بأنّ هذه الرسالة هي حقًّا من القدّوس فذهبوا للخيمة ولكن ألقي القبض عليهم ووقعوا في الأسر ثم بيعوا كرقيق فيما بعد. هؤلاء الثلّة كانت البقيّة الباقية الناجية من أحداث قلعة الشيخ طبرسي التي عُرفت فيما بعد ببقية السيف وتحدّثوا عن أحداث وروايات هذه القلعة التي خلّدها التاريخ.

وبعد مدّة أمر بعض الأفراد من حاشية الأمير الملّا يوسف الأردبيلي أن يخطر زملاءه الأصحاب بأنّ رغبة القدّوس هي أن يسلّموا أسلحتهم. فعندما تحرّك الملّا يوسف لحقوا به وسألوه ما الذي يجب أن يقوله فأجابهم الملّا يوسف: ﴿سوف أحذّرهم أن لا يصدّقوا أيّ رسالة تصدر منكم على لسان الرئيس لأنّها تكون كاذبة باطلة.﴾[9] وما كادت هذه الكلمات تصدر منه حتى قتلوه بلا رحمة.

بعد ذلك قام رجال الأمير بإطلاق النار على القلعة ودخلوها ونهبوا كلّ ما وجدوا فيها وهدموها نهائيًّا وأطلقوا النار على من تبقّى من الأصحاب الذين كانوا يردّدون هذا النداء وهم يواجهون الموت: ﴿سبّوح قدّوس ربّنا وربّ الملائكة والروح.﴾ وهو نفس النداء الذي كانوا يذكرونه بحماس وقت أفراحهم وانتصاراتهم. وبينما كانت الفظائع تُرتكب مع الأصحاب أمر الأمير أن يحضروا أمامه الأسرى واحدًا بعد آخر ومنهم كان ثلاثة من الشخصيات المعروفة بالمجتمع الذين أفرج عنهم بعد تعهّد بدفع مبلغ كبير من مالهم. أمّا الصحابة الأسرى الآخرون فقد أمر الأمير بإعدامهم فورًا، فقام رجاله بقتلهم بالسيوف بكلّ وحشيّة، والبعض ربط في الشجر وانهالت عليهم نيران البنادق، والبعض الآخر وضع على فوّهة المدفع ليتقطع جسده إربًا إربًا، كلّ ذلك كان في سبيل محبوبهم حضرة الباب. لقد كان هؤلاء الشهداء سكارى من خمر الحب والعشق الإلهي ليسجّلوا أسماءهم بأحرف من نور في صفحات التاريخ، ويظلّ تاريخهم وبطولاتهم وتضحياتهم في ذاكرة تاريخ أمرالله العزيز المنيع.

[1]   مطالع الأنوار – ص 368

[2]   مطالع الأنوار – ص 368 – 369

[3]  المرجع السابق – ص 369

[4]  القرآن الكريم – سورة الأعراف آية 89

[5]  مطالع الأنوار – ص 370

[6]   مطالع الأنوار – ص 370

[7] مطالع الأنوار – ص 371

[8]   مطالع الأنوار – ص 371

[9]  مطالع الأنوار – ص    372

استشهاد جناب القدّوس

بعد استشهاد أصحاب قلعة الشيخ طبرسي وانتهاء هذا الفصل المهيّج من تاريخ فترة حضرة الباب رجع الأمير مهدي قلي ميرزا إلى بارفروش ومعه جناب القدّوس أسيرًا حيث أسَرَهُ منذ البداية وأراد تسليمه إلى علماء مدينته لمحاكمته. وبعد وصولهم إلى بارفروش في البداية رحّب به سعيد العلماء وهو أحد كبار علماء المدينة بالإضافة إلى باقي العلماء الذين رحّبوا بقدوم الأمير وجناب القدّوس. أمّا الناس فقد احتفلوا بقدوم الأمير منتصرًاعلى البابيين وأشعلوا المشاعل التي أضاءت الليل. ولمدّة ثلاثة أيام لم يتّخذ أيّ قرار بخصوص القدّوس ولم يكن يتجرّأ أن يلحق الأذى به، بل كان يريد أن يأخذه إلى طهران ويسلّمه للشاه لكي يقرّر مصيره. ولكن سعيد العلماء كانت له خطط أخرى فقد كان لئيمًا وحقودًا وعدوًّا لجناب الملّا حسين بشروئي والقدّوس وكلّ البابيين، فعندما عَلِم برغبة الأمير نقل القدّوس إلى طهران بدأ يخطّط لعدم تحقيق ذلك. قام بدعوة الناس إلى المسجد وتحدّث معهم عن كيفيّة الضغط على الأمير لتغيير قراره وقال لهم: ﴿قد حلفتُ أن لا أتناول طعامًا ولا أنام حتى أتمكّن من إنهاء حياة الحاج محمد علي [القدّوس] بيديْ.﴾ [1]

وعندما انتبه الأمير إلى اعتراض الناس قام بدعوة علماء مدينة بارفروش للمشورة معهم حول كيفيّة الرّدّ على الناس. وعندما اجتمع العلماء أمر الأمير بإحضار القدّوس إلى الجلسة وعندما أُحضر قام الأمير من محلّه احترامًا له وأجلسه بالقرب منه ثم نظر إلى سعيد العلماء وقال له: ﴿إنّ مباحثاتك يجب أن تكون مستندة إلى آيات القرآن وأحاديث الرسول وبهما وحدهما يمكنك أن تثبت صدق أو بطلان احتجاجك.﴾[2] بدأ سعيد العلماء حديثه ناظرًا إلى العمامة الخضراء التي كان يضعها القدّوس على رأسه وقال بوقاحة: ﴿لأيّ سبب وضعتَ العمامة الخضراء على رأسك، وانتحلتَ مقامًا لا يدّعيه إلّا من كان من سلالة الرسول حقًّا؟ ألا تعلم أن من يزدري بهذا العُرف المقدّس يستحقّ غضب الله؟﴾[3] فردّ عليه القدّوس بهدوء: {وهل كان السيد مرتضى الذي يحترمه ويجلّه جميع العلماء المشهورين من سلالة الرسول من طريق أبيه أو من طريق والدته؟}[4]  فأجاب أحد الحاضرين بأنّه كان سيّدًا عن طريق والدته، فرّد القدّوس قائلًا: ﴿فلماذا تعترض اذًا عليّ، ووالدتي معروفة لجميع سكان هذه المدينة بأنّها من نسل الإمام الحسن؟ ألم تكُ محترمة موقّرة من الجميع بسبب شرف هذا النسب؟﴾[5]

أمام هذا التوضيح بات واضحًا صدق كلام القدّوس ممّا أثار حفيظة وغضب سعيد العلماء الذي قام من مكانه بكلّ عصبيّة ورمى بعمامته على الأرض وصاح: ﴿إنّ هذا الرجل تمكّن أن يبرهن لكم إنّه من سلالة الإمام الحسن ولن يمضي إلّا وقت قليل حتى يثبت لكم أنّه الناطق بلسان الله ومُظهر إرادته.﴾[6] وبعد ذلك ترك سعيد العلماء المجلس، أمّا الأمير فقد قام وقال: ﴿إنّي أغسل يديْ من كلّ مسئولية لإيصال الأذى بهذا الرجل، فأنتم أحرار بأن تفعلوا به ما شئتم، وأنتم تكونون مسئولين أمام الله عن ذلك يوم القيامة﴾[7] ثم ركب جواده وارتحل إلى  ساري مع خَدَمِهِ وبذلك يكون الأمير مهدي قلي قد رفع يديه عن حماية القدّوس، وقد اغتنم سعيد العلماء هذه الفرصة وأصدر أمره بقتل القدّوس. وبناء على ذلك هجم أهالي بارفروش عليه وجرّدوه من ملابسه وأوقعوا عمامته من رأسه وساروا به في الشوارع حافي الأقدام عاري الرأس مكبّلًا بالحديد يتبعه جميع أهالي البلدة بما فيهم النساء يشتمونه ويبصقون عليه، وقاموا بتعذيبه بشكل لا يوصف، واستخدموا الخناجر والفؤؤس في ضربه وقد تحمّل القدّوس كلّ هذه الآلام بروح طلقة ونفس عالية. وبشهادة حضرة بهاءالله، تحمّل هذا الشاب، الذي كان في مقتبل عمره، من الآلام والتعذيب ما لا يوصف، وتجرّع الموت بكيفية لم يلقها أحدٌ في ساعة أجله، ولا حتى المسيح في أشدّ حالات آلامه. إنّ أيدي الطغاة ووحشية أشرار بارفروش كانت شديدة وخاصّة أنّه كانت هناك رغبة في الانتقام من أعمال الشجاعة والبسالة والبطولة التي أظهرها البابيون أثناء معارك قلعة الشيخ طبرسي.

وكان القدّوس أثناء تألّمه وتعذيبه يطلب المغفرة لأعدائه قائلًا: ﴿اغفر يا إلهي لهؤلاء المعتدين وعاملهم برحمتك لأنّهم لا يعلمون بالأمر الذي آمنّا وتعلّقنا به. وإنّي اجتهدت أن أظهر لهم طريق نجاتهم، فانظر كيف قاموا عند ذلك على سحقي وقتلي. فاظهر لهم يا إلهي طريق الحق وبدّل جهلهم بالإيمان.﴾[8] ولمّا اقترب من سبزه ميدان صاح قائلاً: ﴿ليت أمّي كانت معي لتشهد بعينها بهاء عرسي.﴾[9] وما كاد يتمّ هذه الكلمات حتى انقضّ عليه الجمهور وقطعوا جسمه إربًا إربًا ورموا أجزاء أعضائه في النار التي اشعلوها لهذا الغرض حتى فاضت روحه وصعدت إلى بارئها مرفوع الرأس قرير العين مستبشر الفؤاد لينضمّ إلى ركب الأوفياء والأبطال في أعلى غرفات الملكوت الأبهى؛ وكان ذلك في 16 أيار/مايو 1849. وفي منتصف الليل جمع بعض أصحابه ما تبقى من جسده الطاهر ودفنوه في محلّ لا يَبعد عن مكان استشهاده وكان يبلغ حينها من العمر سبعة وعشرين عامًا.

وما إن وصلت هذه الأخبار المُحزنة إلى سمع حضرة الباب وهو سجين في قلعة جهريق حتى أصابه الألم والحزن الشديدين واعتكف لدرجة أنّ قلم الوحي توقّف عن الكتابة لمدّة ستة أشهر وكان يندب لهذا الفقدان الكبير. وكان تفجّعه وحزنه أكثر شدّة عندما علم بالمعاملة الوحشية والقاسية التي عومل بها محبوبه وصديقه ورفيق دربه في رحلته لمكّة المكرّمة أثناء استشهاده بيد أهالي بارفروش، وكيف جرّدوه من ملابسه وأوقعوا عمامته وساروا به في الشوارع حافي القدمين عاري الرأس مكبّلًا بالحديد إلى أن استُشهد بكلّ مظلومية وشجاعة قلَّ مثيلها. وهكذا انتهت حياة بطل من أبطال دورة حضرة الباب الذي ضرب أروع الأمثلة في الشجاعة والشهامة ورباطة الجأش في حبِّ مولاه، وممّا لا شكّ فيه أنّ حضرة الباب كان عليمًا بالمقام السامي والرفيع الذي وصل اليه جناب القدّوس في الملكوت الإلهي، فلا عجب أن يضعه حضرة بهاءالله بعد ذلك بمنزلة تلي منزلة مبشّره مباشرة، واعتباره في لوح آخر بأنّه من أنبياء أولي العزم المذكورين في القرآن الكريم، ويصفه حضرة عبدالبهاء بأنّه قمر الهدى الذي تنبّأ بظهوره يوحنّا اللآهوتي في رؤياه. وشاءت الإرادة الالهية أن يصل خاتمه الشخصي وسيف الملّا حسين إلى الأرض الأقدس بعد عدّة سنوات ويُحتفظ بهما في دار الآثار العالمية لتظلّ شاهدًا ورمزًا على أعمال البطولة والفداء لتلك الفترة الهامّة من تاريخ أمرالله المنيع. عليه وعلى أصحابه الشهداء والصدّيقين بهاء الله ورحمته وسناؤه ومجده.

[1]   مطالع الأنوار – ص 377

[2]   مطالع الأنوار – ص 377

[3]   مطالع الأنوار – ص   377 – 378

[4]   مطالع الأنوار – ص   378

[5]   مطالع الأنوار – ص378

[6]   مطالع الأنوار – ص   378

[7]   مطالع الأنوار – ص 378

[8]    مطالع الأنوار- ص    380

[9]    مطالع الأنوار – ص 381

المصادر والمراجع

  • الكتاب الأقدس
  • القرن البديع – من آثار حضرة ولي أمرالله – من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل 2002
  • التوقيعات المباركة – نوروز 101 بديع – من آثار حضرة ولي أمرالله – ترجمة عبدالحسين فكري
  • مطالع الأنوار – دار البديع للطباعة والنشر – لبنان – آذار 2008
  • قدّوس – الترجمة الفارسية – تأليف: لويل جونسون – ترجمة: مينو ثابت 1997
  • رسالة بيت العدل الأعظم المؤرخة 1 تموز/يوليو 2013
  • رسالة بيت العدل الأعظم المؤرخة رضوان 2018