تكشف المدنية العالمية
تكشف المدنية العالمية

تكشف المدنية العالمية

إلى أحـبّاء الله وإماء الرّحمن في كافّة أرجاء الغـرب
أحبّائي وزملائي ورّاث فضل حضرة بهاء الله
بوصفي شريككم في تشييد النّظم العالميّ الجديد الّذي أبدعه حضرة بهاء الله، ورسم معالمه يراع حضرة عبد البهاء مهندسه المثاليّ، أتوقّف قليلًا لأتأمّل معكم المشهد الّذي يبسطه أمامنا انقضاء ما يربو على خمسة عشر عامًا على صعود حضرته.
إنّ التّناقض القائم بين الشّواهد العديدة الدّالّة على الاستحكام المطّرد الّذي يواكب نهضة النّظم الإداريّ لأمر الله، وقوى الانحلال الّتي تضرب أوصال مجتمعٍ منهك، هو تناقضٌ جليٌّ واضح بقدر ما هو لافتٌ للنّظر. فمن داخل العالم البهائيّ وخارجه تزداد وتتضاعف يومًا بعد يوم، تلك الدّلائل والعلامات الّتي تبشّر، بطريقةٍ خفيّة، بميلاد ذلك النّظم البديع الّذي لا بدّ وأن يعلن تأسيسه عن قدوم العصر الذّهبيّ لأمر الله. ولم يعد في مقدور أيّ مراقبٍ منصف أن يخفق في تبيّنها، ولا أن يضلّله البطء الأليم الّذي يتّسم به تكشّف المدنيّة الّتي يسعى أتباع حضرة بهاء الله جاهدين في تأسيسها. كما لا يمكنه أن ينخدع بتلك المظاهر العابرة لعودة الرّخاء الّتي تبدو في بعض الأحيان قادرةً على إيقاف نخر العلل المزمنة الّتي باتت تصيب مؤسّسات عصرٍ متهالك. والواقع إنّ علامات الزّمان لهي من الكثرة والإقناع بحيث لا تسمح له بأن يخطئ في فهم طبيعتها أو يقلّل من شأن مغزاها. وبمقدوره، إذا أنصف في حكمه، أن يرى في سلسلة الحوادث الّتي تعلن من ناحيةٍ عن التّقدّم الحثيث للمؤسّسات المرتبطة ارتباطًا مباشرًا برسالة حضرة بهاء الله، وتؤذن من ناحيةٍ أخرى بسقوط تلك القوى والسّلطات المطلقة الّتي إمّا تجاهلت هذه الرّسالة أو قاومتها – أن يرى فيها كلّ الشّواهد الدّالّة على إرادة الله النّافذة، وعلى إبداع خطّته ذات التّرتيب الكامل والنّطاق العالميّ الشّامل.
ولقد أعلن حضرة بهاء الله عن ذلك بقوله الأحلى: “عمّا قريب، سوف يُطوى بساط العالم ويُبسط بساطٌ آخر، إنّ ربّك لهو الحقّ علّام الغيوب.” وأكّد في موضع آخر: “لعمري سوف نطوي الدّنيا وما فيها ونبسط بساطًا آخر، إنّه كان على كلّ شيء قديرًا.” وتفضّل حضرته شارحًا: “قد اضطرب النّظم من هذا النّظم الأعظم واختلف التّرتيب بهذا البديع الّذي ما شهدت عين الإبداع شبهه.” وأنذر أهل العالم قائلًا إنّ “آثار الهرج والمرج مشهودة لأنّ النّظم السّائد حاليًّا لا يبدو مناسبًا.”
أحبّائي الأعزّاء! إنّ هذا النّظم العالميّ الجديد، الّذي كُنِز وعدُه في رسالة حضرة بهاء الله، وبُيّنت مبادؤه الأساسيّة في كتابات مركز عهده وميثاقه، لا يقلّ في مضمونه عن التّوحيد الكامل للجنس البشريّ بأسره. ويجب أن يكون هذا التّوحيد طبقًا لتلك المبادئ الّتي تعمل على وفاقٍ مباشرٍ مع الرّوح الّتي تحرّك المؤسّسات الّتي تشكّل الآن الأساس الهيكليّ للنّظم الإداريّ لأمره المبارك، ومع الأحكام الّتي تنظّم عملها.
ولا يمكن أبدًا لأيّ أداةٍ من تلك الأدوات الّتي قد تتوصّل إليها مجهودات البشر الجماعيّة وتقلّ في مستواها عمّا نادى به الظّهور البهائيّ، أو تختلف عن النّموذج الرّفيع الّذي فرضته تعاليمه، أن تأمل في تحقيق شيءٍ يفوقُ أو يتعدّى “الصّلح الأصغر” الّذي أشار إليه مشرّع ديننا المبارك في كتاباته، إذ تفضّل حضرته معاتبًا معشر الملوك وحكّام الأرض: “لمّا نبذتم الصّلح الأكبر عن ورائكم تمسّكوا بهذا الصّلح الأصغر لعلّ به تصلح أموركم والّذين في ظلّكم على قدر.” ثمّ يتناول الصّلح الأصغر بالشّرح والإيضاح مخاطبًا حكّام الأرض في اللّوح نفسه قائلًا: “أن أصلحوا ذات بينكم إذًا لا تحتاجون بكثرة العساكر ومهمّاتهم إلّا على قدرٍ تحفظون به ممالككم وبلدانكم … أن اتّحدوا يا معشر الملوك به تسكن أرياح الاختلاف بينكم وتستريح الرّعيّة ومَن حولكم إن أنتم من العارفين، إن قام أحدٌ منكم على الآخر قوموا عليه إنْ هذا إلّا عدلٌ مبينٌ.”
أمّا الصّلح الأعظم، كما أبدعه حضرة بهاء الله – وهو سلامٌ سيتحقّق حتمًا كنتيجةٍ عمليّة لرَوْحَنَة العالم وانصهار جميع أجناسه وعقائده وطبقاته وأممه في كيانٍ واحد – فهو لن يستقرّ على أيّ أساسٍ آخرَ ولن يُكتب له الدّوام على يد أيّ وسيلةٍ أخرى غير الأوامر والاحكام الإلهيّة المكنونة في النّظم العالميّ المقترن باسمه المقدّس الرّفيع. ففي إشارةٍ منه إلى هذا السّلام الأعظم في اللّوح الّذي أرسله إلى الملكة فكتوريا قبل ما يقرب السّبعين عامًا، يتفضّل حضرة بهاء الله قائلًا: “والّذي جعله الله الدّرياق الأعظم والسّبب الأتمّ لصحّته هو اتّحاد مَن على الأرض على أمرٍ واحدٍ وشريعةٍ واحدة، هذا لا يمكن أبدًا إلّا بطبيبٍ حاذقٍ كاملٍ مؤيّد، لعمري هذا لهو الحقّ وما بعده إلّا الضّلال المبين … فانظروا في هذه الأيّام الّتي أتى جمال القِدَم والاسم الأعظم لحيوٰة العالم واتّحادهم إنّهم قاموا عليه بأسيافٍ شاحذةٍ وارتكبوا ما فزع به الرّوح الأمين … إذا قيل لهم أتى مصلح العالم قالوا قد تحقّق أنّه من المفسدين.” كما يؤكّد حضرته في لوحٍ آخر: “اليوم يليق بالكلّ أن يتشبّثوا بالاسم الأعظم ويقوموا على توحيد النّاس أجمعين، فلا مهرب ولا مفرّ إلّا إليه.”

بلوغ الإنسانيّة

إنّ رسالة حضرة بهاء الله، الّتي ليس لمهمّتها العظمى من هدفٍ سوى تحقيق تلك الوحدة العضويّة والرّوحيّة لأمم العالم بأكملها، يجب أن ننظر إليها، إذا كنّا مخلصين لمضامينها، باعتبار أنّها تعلن بقدومها عن بلوغ الجنس البشريّ بأكمله. فلا ينبغي لنا أن نعتبرها مجرّد إحياءٍ روحيٍّ آخرَ لمقدّرات البشريّة دائمة التّغيّر، أو أنّها مجرّد حلقةٍ أخرى في سلسلةٍ من رسالاتٍ سماويّة متتالية، أو حتّى على أنّها أوج دورةٍ من سلسلةِ دوراتٍ نبويّةٍ متعاقبة، بل على أنّها دلالةٌ على بلوغ آخر وأسمى مرحلةٍ من مراحل التّطوّر الهائل لحياة الإنسان الجماعيّة على هذا الكوكب. فبروز جامعةٍ عالميّة، والوعي بمواطنةٍ عالميّة، وتأسيس مدنيّةٍ وثقافةٍ عالميّتيْن – وكلّها يجب أن تعاصر المراحل الأوّليّة من تكشّف العصر الذّهبيّ للدّورة البهائيّة – يجب أن تُعتبر في حدّ ذاتها، وفيما يتعلّق بهذه الحياة الدّنيويّة، أقصى حدٍّ يمكن بلوغه في تنظيم المجتمع الإنسانيّ وإدارة شئونه، وإن كان الإنسان، كفرد، سيستمرّ، لا بل يجب أن يستمرّ، في التّقدّم والتّطوّر اللّانهائيّ نتيجةً لهذا النّضج والاكتمال.
وإذا تسنّى لنا أن نفهم بيانات حضرة بهاء الله فهمًا صحيحًا لأدركنا أنّ ذلك التّغيير الغيبيّ النّافذ الشّامل المستعصي على التّعريف، والّذي نقرنه بمرحلة البلوغ المحتومة في حياة الفرد ونضوج الثّمرة على السّواء، لا بدّ أن يكون له نظيرٌ في تطوّر عمليّة تنظيم المجتمع البشريّ. فهناك مرحلة نضجٍ مشابهة في حياة البشر الجماعيّة، سيتحتّم بلوغها إن عاجلًا أو آجلًا، تُحدث في العلاقات العالميّة ظاهرةً أشدَّ بروزًا، وتزوّد الجنس البشريّ بأسره بإمكانيّاتِ تحقيق خيره ورخائه تكون خلال العصور القادمة هي الحافز الأساسيّ اللّازم لبلوغ مصيره السّامي في نهاية المطاف. ويجب أن تظلّ هذه المرحلة من النّضج في عمليّة حكم وإدارة شئون البشر دائمًا وأبدًا مقترنةً بالرّسالة السّماويّة الّتي حملها حضرة بهاء الله إذا ما أدركنا بإخلاص قدر الدّعوة العظيمة الّتي نادى بها.
وفي واحدة من أكثر العبارات تميّزًا من بين ما تفضّل به حضرته، يشهد في نبرةٍ لا يخطئها أحدٌ على أصالة هذا المبدأ الفارق في الدّين البهائيّ بقوله: “ولكن قدّرنا ظهور الكلمة وما قدّر فيها بين العباد على مقادير الّتي قدّرت من لدن عليم حكيم … وإنّها لو تتجلّى علی العباد بما فيها لن يحملنّها أحدٌ … فانظر إلى ما نزّل على محمّدٍ رسول الله وإنّه حين النّزول قدّر له كنوز المعاني علی ما ينبغي له من لدن مقتدر قدير ولكنّ النّاس ما عرفوا منه إلّا علی مراتبهم ومقاماتهم وكذلك إنّه ما کشف لهم وجه الحكمة إلّا قدر حملهم وطاقتهم فلمّا بلغ النّاس إلى البلوغ تجلّى عليهم بما فيه في سنة السّتّين حين الّذي ظهر جمال القدم باسم عليٍّ قبل نبيل.”
وكتب حضرة عبد البهاء، شارحًا هذه الحقيقة الجوهريّة: “كلّ كائنٍ من الكائنات له درجته أو مرتبته من البلوغ. فمرحلة البلوغ في عمر الشّجرة هي أوان إثمارها … ويبلغ الحيوان في نضجه مرحلة تمام النّموّ والاكتمال. أمّا في مملكة البشر فإنّ الإنسان يصل إلى نضجه واكتماله عندما تبلغ أنوار عقله أعظم درجات توقّـدها وترقّـيها … وهناك بالمثل فتراتٌ ومراحل في حياة عالم الإنسانيّة جمعاء؛ فقد مرّت في وقتٍ ما عبر مرحلة طفولتها، وفي وقتٍ آخر بمرحلة صباها، غير أنّ الإنسانيّة قد دخلت الآن مرحلة نضجها واكتمالها المتنبّأ بها منذ أمدٍ بعيد، وهي الفترة الّتي نرى شواهدها الآن لائحةً واضحةً في كلّ مكان … فما كان موافقًا لاحتياجات البشر فيما مضى من تاريخ البشريّة لا يمكنه أن يفي أو يلبّي احتياجات عصرِ ومرحلةِ التّجديد والبلوغ الحاليّ. إذ إنّ البشريّة قد خرجت من مراحل قصورها ومحدوديّة تحصيلها السّابقة، وصار لزامًا على الإنسان الآن أن يكون مزوّدًا بالجديد من الفضائل والقدرات، والجديد من الأخلاقيّات والاستعدادات. كما أنّ هناك المزيد من المواهب والعطايا والكمالات في انتظاره، بل إنّها تهبط عليه الآن بالفعل. أمّا مواهب وأفضال مرحلة الصّبا، فمع أنّها كانت ملائمةً وكافيةً إبّان فترة مراهقة العالم الإنسانيّ، إلّا أنّها تعجز اليوم عن أن تفي بمقتضيات نضجه وبلوغه.”

عمليّة الائتلاف والاندماج

وفضلًا عن ذلك فإنّ الأزمة المصيريّة منقطعة النّظير الّتي ألمّت بنظام حياة الجنس البشريّ يمكن تشبيهها بالمرحلة الّتي توجّت عمليّة التّطوّر السّياسيّ للجمهوريّة الأمريكيّة العظيمة، وهي المرحلة الّتي أشارت إلى ظهور مجتمعٍ موحّدٍ ائتلف من ولاياتٍ اتّحدت فيدراليًّا. ويمكن القول إنّ انبثاق وعيٍ قوميٍّ جديد ومولد شكلٍ جديدٍ من الحضارة أخصبَ وأنبلَ بكثير ممّا كان بإمكان أيّ ولايةٍ أن تطمح في الوصول إليه بمفردها، إنّما هو إعلانٌ عن بلوغ الشّعب الأمريكيّ مرحلة نضجه. ويمكن أن يُنظر إلى هذا البلوغ – في نطاق الحدود الجغرافيّة لهذه الأمّة – على أنّه أقصى مدى يمكن أن تصل إليه منظومة الحكم البشريّ؛ ذلك لأنّ العناصر المتباينة الّتي كانت تدخل في تكوين مجتمعٍ منقسمٍ على نفسه، والّتي لم تكن تربطها علاقةٌ تُذكر، قد اجتمعت وائتلفت واندمجت في نظامٍ واحدٍ متماسك. ورغم أنّ بمقدور هذا الكيان أن يستمرّ في اكتساب المزيد من قوّة تماسكه، وأنّ بوسع تلك الوحدة الّتي تمّ تحقيقها أن تزداد تلاحمًا، وأنّ بإمكان الحضارة الّتي أنجبتها تلك الوحدة بمفردها أن تمتدّ وتزدهر، إلّا أنّه يمكن القول بأنّ الآليّة اللّازمة لمثل هذا التّكشّف، بهيكلها الأساسيّ، قد اكتمل بناؤها، وأنّ القوّة الدّافعة اللّازمة لتوجيهها ودعمها قد انطلقت بصورةٍ جذريّة. فلا يمكن تصوّر وجودِ مرحلةٍ أعلى وأبعدَ من تحقّق هذه الوحدة الوطنيّة داخل الحدود الجغرافيّة لتلك الأمّة، ولو أنّ مصيرها الأسمى، بوصفها عنصرًا مكوّنًا في كيانٍ أوسعَ من شأنه أن يضمّ البشريّة بأكملها، لم يتحقّق بعد. أمّا إذا نظرنا إلى تلك الأمّة ككيانٍ قائمٍ بذاته فيمكننا القول إنّ عمليّة اندماجها هذه قد بلغت أوج تحقّقها ومنتهاها.
هذه هي المرحلة الّتي تقترب منها بشكلٍ جماعيّ إنسانيّةٌ آخذةٌ في التّطوّر. ويؤمن أتباع حضرة بهاء الله إيمانًا راسخًا بأنّ الرّسالة الّتي عَهد بها الآمر القدير إلى حضرته قد أُودعت فيها امكانيّاتٌ تتناسب مع نضج الجنس البشريّ – أي بلوغه أهمّ مرحلةٍ متوّجةٍ لتطوّره من الطّفولة إلى الرّجولة.
ويمكننا إلى حدٍّ ما أن نعتبر أنّ من تعاقبوا من مؤسّسي جميع الدّيانات السّابقة، الّذين أشرقوا منذ الأزل بنور رسالةٍ واحدةٍ يزداد سطوعًا عبر المراحل المختلفة الّتي وسمت تقدّم الإنسانيّة نحو البلوغ، كانوا مظاهرَ إلهيّةً تمهيديّة تبشّر بمجئ “يوم الأيّام” وتمهدّ لقدومه – ذلك اليوم الّذي تزدهر فيه الأرض كلّها، وتعطي شجرة الإنسانيّة ثمرتها المقدّرة.
وبقدر ما لا تقبل هذه الحقيقة جدالًا، فإنّه لا يصحّ أبدًا أن نسمح لنبرتها المتحدّية أن تحجب المقصد الماثل في بيانات حضرة بهاء الله أو تشوّه المبدأ الّذي تنطوي عليه – تلك البيانات الّتي أرست أساس الوحدانيّة التّامّة لكافّة الرّسل من قبل ومن بعد بمن فيهم حضرة بهاء الله نفسه. فعلى الرّغم من أنّ مهمّة الرّسل الّذين ظهروا قبل حضرة بهاء الله يمكن تناولها في ضوء هذه الحقيقة، ومع أنّ مقدار التّنزيل الإلهيّ الّذي عُهد إلى كلٍّ منهم لا بدّ وأن يتفاوت كنتيجةٍ لعمليّة التّطوّر هذه، إلّا أنّ أصلهم الواحد واتّحادهم الجوهريّ وتطابق غايتهم هي أمورٌ لا يصحّ بتاتًا إساءة فهمها أو إنكارها في أيّ وقتٍ وظرف. فمهما أشدنا بمقدار التّنزيل الإلهيّ الممنوح للبشريّة في هذه المرحلة المتوّجة من مراحل ارتقائها، يبقى الأساس الثّابت للعقيدة البهائيّة وأسّ تعاليمها هو اعتبار كافّة رسل الله “ساكنين في رضوانٍ واحد، وطائرين في هواءٍ واحد، وجالسين على بساطٍ واحد، وناطقين بكلامٍ واحد، وآمرين بأمرٍ واحد …” ولا ينبغي أن يُعزى أيّ تفاوتٍ في درجة إشراقِ مظاهر نور الله على العالم إلى أيّة أفضليّةٍ كامنةٍ في الصّفات الذّاتيّة لأيٍّ منهم، وإنّما إلى القدرة المتنامية والقابليّة الرّوحيّة المتزايدة الّتي دأب الجنس البشريّ على إظهارها في سعيه الحثيث نحو البلوغ.

تمام الاكتمال

إنّ من يقبلونَ الرّبط بين الرّسالة الّتي نادى بها حضرة بهاء الله واكتمال هذا التّطوّر الهائل في الحياة الجماعيّة لكامل الجنس البشريّ هم وحدهم القادرون على إدراك مغزى البيانات الّتي اعتبرها حضرته جديرةً بالذّكر في معرض إشارته إلى عظمة هذا اليوم الموعود وأمد الدّورة البهائيّة، إذ تفضّل حضرته قائلًا: “هذا سلطان الأيّام قد أتى فيه محبوب العالمين وهذا لهو المقصود في أزل الآزال”. ويضيف حضرته مؤكّدًا: “قد تغنّت كتب الله من قبلُ ومن بعدُ بهذا الفرح الكبير الّذي يهلّل بيوم الله العظيم. طوبى لنفسٍ فازت بهذا اليوم وعرفت مقامه الرّفيع.” ويتفضّل شارحًا في فقرةٍ أخرى بقوله: “لا شكّ أنّ أيّام مظاهر الحقّ جلّ جلاله منسوبةٌ إلى الحقّ، وفي مقامٍ تُسمّى بأيّام الله. لكنّ هذا اليوم غير الأيّام كلّها، فمن ختميّة الخاتم بات مقام هذا اليوم ظاهرًا مشهودًا. قد خُتِمت دورة النّبوّة وظهر الحقّ وأشرق من مشرق الأمر براية الاقتدار.” كما يعلن ببيانه القاطع قوله: “قد انتهت الظّهورات إلى هذا الظّهور الأعظم.” وأيضًا “ما ظهر في هذا الظّهور الأمنع الأعلى لم يظهر في أيّ عصرٍ من الأعصار ولن يظهر…”
ولا بدّ من الالتفات أيضًا إلى التّصريحات المعتمدة لحضرة عبد البهاء الّذي يؤكّد، بصورةٍ لا تقلّ تشديدًا، على العظمة الّتي لا تضاهى للدّورة البهائيّة. ففي لوحٍ لحضرته يتفضّل قائلًا: “تمضي القرون وتنتهي الدّهور وتنقضي آلاف الأعصار حتّى تطلع شمس الحقيقة في برج الأسد وتسطع من دارة الحمل … إنّ الأولياء السّابقين لينصعقون حين يتصوّرون دور الجمال المبارك، ويتمنَّوْن دقيقةً واحدةً منه.” كما يؤكّد حضرته في موضعٍ آخرَ بنبرةٍ أشدّ تحديدًا بقوله: “أمّا المظاهر المقدّسة الّتي تأتي من بعد في ظللٍ من الغمام من حيث الاستفاضة هم في ظلّ جمال القدم ومن حيث الإفاضة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.” وفي إشارته إلى ظهور حضرة بهاء الله يصرّح قائلًا: “إنّ هذا الكور المبارك مزيّنٌ بأنوار شمس الحقيقة الطّالعة من برج الأسد في أشدّ سطوعٍ وحرارةٍ وظهور.”

سكرات الموت وآلام الولادة

أيّها الأحبّاء الأعزّاء! ولو أنّ رسالة حضرة بهاء الله قد أُبلغت، إلّا أنّ النّظم العالميّ الّذي لا بدّ أن تنجبه هذه الرّسالة لم يولد بعد. ومع أنّ العصر البطوليّ لدينه المبارك قد مضى، إلّا أنّ الطّاقات الخلّاقة المنبعثة من ذلك العصر المجيد لم تتبلور بعد لتصبح ذلك المجتمع العالميّ الّذي سيعكسُ في تمام الوقت إشراق مجد حضرته. وعلى الرّغم من أنّ هيكل نظمه الإداريّ قد شُيّد وأنّ عصر تكوين الدّور البهائيّ قد بدأ، إلّا أنّ الملكوت الموعود الّذي لا بدّ أن تنضج فيه بذرة مؤسّساته لم يأتِ بعد. وعلى الرّغم من أنّ نداءه الأحلى قد ارتفع، ورايات أمره المبارك قد علت فيما لا يقلّ عن أربعين قطرًا من أقطار الشّرق والغرب معًا، إلّا أنّ الإقرار بأنّ الجنس البشريّ كيانٌ واحدٌ لم يتمّ، والنّداء بوحدته لم يرتفع، ولواء صلحه الأعظم لم يُنصب بعد.
ويشهد حضرة بهاء الله بنفسه بأنّ “المقامات الّتي قدّرتها العناية الإلهيّة مستورةٌ اليوم، لأنّ عرصة الوجود كانت ولا تزال غير مستعدّةٍ لظهورها، ولكن سوف يظهر أمرًا من عنده.”
ويبدو أنّه لا غنىً عن فترةٍ من الاضطراب الشّديد والعذاب الشّامل لظهور هذا الفضل العظيم؛ إذ بقدر ما كان عليه ذلك العصر الّذي شهد افتتاح الرّسالة الّتي عُهِد بها إلى حضرة بهاء الله من إشراقٍ وعظمة، بقدر ما يجب أن يخيّم على الفترة الّتي لا بدّ أن تنقضي قبل أن يؤتي ذلك العصر أشهى ثماره، وهو ما أخذ يتّضح بازدياد، من قَتامٍ أخلاقيٍّ واجتماعيٍّ لا يفلح سواه في تهيئة بشريّةٍ عنود لتلقّي الهبة المقدّر لها أن ترثها.
وها نحن نتّجه صوب هذه الفترة بخطىً ثابتةٍ لا تقاوَم. ومن وسط الظّلال الّتي تزداد تكاثفًا حولنا، بمقدورنا أن نلمح بصعوبةٍ ومضات سلطنة حضرة بهاء الله السّماويّة وهي تلمع تارةً وتخفت أخرى في أفق التّاريخ. أمّا نحن، “جيل نصف النّور”، الّذين نحيا في فترةٍ يمكن أن توصف بأنّها فترة حضانة رابطة الشّعوب العالميّة الّتي صوّرها حضرة بهاء الله، فقد عهد إلينا بمهمّةٍ لا نستطيع بأيّ حالٍ من الأحوال أن نقدّر امتيازها الفائق حقّ قدْرِه، ولا أن نتبيّن جسامتها الآن إلّا بقدرٍ ضئيل. وقد يحقّ لنا – نحن الّذين دُعينا لنقاسي أفاعيل قوى الظّلام المقدّر لها أن تطلق طوفانًا من البلايا المؤلمة – أن نؤمن بأنّ السّاعة الأشدّ حلكة الّتي يجب أن تسبق فجر العصر الذّهبيّ لديننا المبارك لم تدقّ بعد. وعلى الرّغم ممّا يحيط العالم الآن من ظلامٍ دامس، إلّا أنّ المحن الأليمة الّتي سوف يعانيها ما زالت قيد الإعداد ولا يمكن تصوّر قَتامتها بعد. إنّنا نقف على عتبة عصرٍ تعلن تشنّجاته سكرات موت نظامٍ بالٍ قديم وآلام ولادةِ نظمٍ جديد على نحو سواء. وبفعل النّفوذ الخلّاق لأمر الله الّذي أعلنه حضرة بهاء الله يمكن القول بأنّ جنين هذا النّظم العالميّ الجديد قد تكوّن. وبوسعنا في اللّحظة الحاضرة أن نشعر بتحرّكاته في رحم عصرٍ يكابد آلام المخاض – عصرٍ ينتظر السّاعة المحدّدة الّتي يمكنه عندها أن يضع حمله ويأتي بأينع ثماره.
يتفضّل حضرة بهاء الله قائلًا: “تُرى الأرض حاملةً اليوم وعمّا قريب تُشاهَد أثمارُها المنيعة وأشجارُها الباسقة وأورادُها المحبوبة ونعماؤها الجنّيّة تعالت نسمة قميص ربّك السّبحان قد مرّت وأحيت طوبى للعارفين.” ويعلن حضرته في سورة الهيكل: “… قد هبّت لواقح الفضل على الأشياء وحمل کلّ شيءٍ على ما هو عليه ولكنّ النّاس عنه معرضون، قد حملت الأشجار بالأثمار البديعة والبحور باللّآلئ المنيرة والإنسان بالمعاني والعرفان والأكوان بتجلّيات الرّحمن والأرض بما لا اطّلع عليه أحدٌ إلّا الحقّ علاّم الغيوب، سوف يضعن کلٌّ حملها تبارك الله مرسل هذا الفضل الّذي أحاط الأشياء كلّها عمّا ظهر وعمّا هو المكنون.”
وكتب حضرة عبد البهاء: “عندما ارتفع النّداء الإلهيّ بَعَث في الهيكل الإنسانيّ حياةً جديدةً ونَفَخ في عالم الإمكان روحًا بديعة. لذا اهتزّ العالم وحُيَّت الأفئدة والضّمائر. وعمّا قريب تظهر آثار هذه الحياة الجديدة ويستيقظ الغافلون.”

الهياج العامّ

وبينما نتأمّل العالم من حولنا نجد أنفسنا مدفوعين إلى ملاحظة الشّواهد العديدة الدّالّة على ذلك الهياج العامّ الّذي يعمد في كلّ قارّةٍ من قارّات الكرة الأرضيّة وفي كلّ ناحيةٍ من نواحي الحياة البشريّة، دينيّةٍ كانت أم اجتماعيّةٍ أو اقتصاديّةٍ أو سياسيّة، إلى تطهير البشريّة وإعادة تشكيلها تمهيدًا لليوم الّذي يتمّ فيه الاعتراف بالجنس البشريّ ككيانٍ واحدٍ وتتأسّس وحدته. إلّا أنّه يمكننا أن نميّز عمليّةً ذات شقّين، يعمل كلّ شقٍّ، بطريقته الخاصّة وبزخمٍ متسارع، على الوصول بالقوى الّتي تعمل الآن على تحويل وتبديل وجه كوكبنا إلى ذروتها. الأوّل بنّاءٌ في جوهره، بينما الثّاني هادمٌ في أساسه. يكشف أوّلهما، وهو يتطوّر باطّراد، عن نظمٍ جديرٍ بأن يكون نموذجًا لنظام الحكم العالميّ الّذي يتقدّم نحوه باستمرار عالمٌ اضطربت أموره اضطرابًا غريبًا. وبينما يتفاقم التّأثير المدمّر لدى ثانيهما، فإنّه يجنح بعنفٍ متزايد إلى هدم الحواجز العتيقة البالية الّتي تسعى لإعاقة تقدّم البشريّة نحو هدفها المقدور. تقترن العمليّة البنّاءة بدين حضرة بهاء الله الوليد، وتبشّر بالنّظم العالميّ الجديد الّذي لا بدّ أن يؤسّسه ذلك الدّين عمّا قريب. أمّا القوى الهدّامة الّتي تميّز الشقّ الآخر فتُنسَب إلى مدنيّةٍ رفضت أن تستجيب لتطلّعات عصرٍ جديد، ولذلك فهي تتردّى الآن في هاوية الفوضى والانحطاط.
وما زالت تدور رحى نضالٍ روحيٍّ هائلٍ لا مثيل له في شدّته، ولا قرين له في روعة عواقبه النّهائيّة كنتيجةٍ لهذه النّزعات المتعارضة الّتي تمرّ بها جامعة أتباع حضرة بهاء الله المنظّمة والجنس البشريّ بأكمله في عصر الانتقال هذا.
فقد واجهت الرّوح الّتي تجسّدت في مؤسّسات دينٍ ناهضٍ واشتبكت، في معرض مسيرته قُدمًا من أجل إصلاح العالم، مع قوى هي في غالبها منكرة ورافضة تمامًا لتلك الرّوح المباركة، قوى لا بدّ وأن يتسبّب استمرار وجودها في إعاقة تلك الرّوح عن تحقيق غايتها. بيد أنّه يجدر بنا أن نلاحظ أنّ ما تمثّله هذه القوى من مؤسّساتٍ جوفاء بالية، ومذاهبَ عتيقةٍ ومعتقداتٍ آيلةٍ إلى الزّوال، وتقاليدَ عقيمةٍ فقدت اعتبارها، قد تداعت، في حالاتٍ معيّنة، نتيجةً لشيخوختها وغياب مقدرتها على التّماسك والفساد الّذي جُبلت عليه. فعددٌ منها اكتسحته القوى الدّافقة الّتي أطلقها الدّين البهائيّ بصورةٍ غيبيّةٍ حين مولده، في حين أنّ بعضها قد هلك وشانت سمعته بغير رجعة كنتيجةٍ مباشرةٍ لمقاومته الخائبة الواهية لنهضة هذا الدّين في مراحل نشأته الأولى، بينما بعضها الآخر، في خشيته من التّأثير النّافذ للمؤسّسات الّتي تجسّدت فيها تلك الرّوح نفسها في مرحلةٍ لاحقة، عمد إلى حشد قواه وشنّ هجومه، ومآلهم أيضًا أن يعانوا من هزيمةٍ نكراء بعد نجاحٍ زائفٍ عابر.

عصر الانتقال هذا

ليست غايتي أن أعيد إلى الأذهان ما تلى ذلك من نضالٍ روحيّ، ناهيك عن محاولة القيام بشرحٍ مفصّلٍ عنه، ولا أن أسرد الانتصارات الّتي تعود إلى جلال دين حضرة بهاء الله وعظمته من يوم تأسيسه. كما أنّ اهتمامي الأوّل ليس منصبًّا على تلك الأحداث الّتي ميّزت العصر الأوّل، ذلك العصر الرّسوليّ من الدّورة البهائيّة، بل على تلك الوقائع البارزة الّتي مازالت تتكشّف خلال هذه الحقبة التكوينيّة من تطوّره وتقدّمه وعلى ما يميّز هذه الحقبة من ميولٍ واتّجاهات – عصر الانتقال هذا ببلاياه الّتي ما هي إلّا بشيرٌ لعصر السّعادة والفلاح الّذي سيجسّد غاية الله القصوى للجنس البشريّ بأسره.
ولقد أشرتُ بإيجازٍ في رسالةٍ سابقة إلى السّقوط المأساويّ الّذي منيت به الممالك والإمبراطوريّات العتيدة عشيّة رحيل حضرة عبد البهاء عن عالمنا، والّذي يمكننا القول بأنّنا دخلنا برحيله عنّا المرحلة الافتتاحيّة من عصر الانتقال الّذي نحياه الآن. على أنّ تفكّك الامبراطوريّة الألمانيّة والهزيمة النّكراء الّتي مُني بها حاكمها، خليفة وسليل عاهل بروسيا وامبراطورها الّذي وجّه إليه حضرة بهاء الله تحذيره التّاريخيّ الصّارم، وزوال الملكيّة النّمساويّة المجريّة، بقيّة الامبراطوريّة الرّومانيّة المقدّسة العظيمة الّتي اشتهرت بعظمتها ذات يوم، هما حدثان عجّلت بهما حربٌ كان نشوبها إيذانًا بافتتاح عصر الإحباط المقدّر له أن يسبق تأسيس نظم حضرة بهاء الله العالميّ. ويمكننا أن نعتبر هذين الحدثَيْن الخطيرَيْن بواكير أحداث هذا العصر العاصف الّذي بدأنا الآن الدّخول في مشارف أحلك أطواره.
وإلى قاهرِ نابليون الثّالث غداة انتصاره، وجّه صاحب ديننا المبارك، في كتابه الأقدس، هذا التّحذير السّافر الخطير بقوله: “يا ملك برلين … إيّاك أن يمنعك الغرور عن مطلع الظّهور أو يحجبك الهوى عن مالك العرش والثّرى كذلك ينصحك القلم الأعلى إنّه لهو الفضّال الكريم. اذكر من كان أعظم منك شأنًا وأكبر منك مقامًا أين هو وما عنده انتبه ولا تكن من الرّاقدين، إنّه نبذ لوح الله وراءه إذ أخبرناه بما ورد علينا من جنود الظّالمين. لذا أخذته الذّلّة من كلّ الجهات إلى أن رجع إلى التّراب بخسرانٍ عظيم. يا ملك تفكّر فيه وفي أمثالك الّذين سخّروا البلاد وحكموا على العباد قد أنزلهم الرّحمن من القصور إلى القبور اعتبر وكن من المتذكّرين.”
كما تنبّأ حضرة بهاء الله في موضعٍ آخرَ من الكتاب نفسه بقوله: “يا شواطي نهر الرّين قد رأيناك مغطّاةً بالدّماء بما سُلّ عليكِ سيوف الجزاء ولكِ مرّةً أخرى ونسمع حنين البرلين ولو أنّها اليوم على عزٍّ مبين.”

انهيار صروح الإسلام

لقد كان تقوّض نفوذ المرجعيّة الشّيعيّة، في بلدٍ كان معقلًا حصينًا لعصبيّة الإسلام قرونًا عديدة، نتيجةً حتميّةً لموجة العلمانيّة الّتي قُدّر لها في وقتٍ لاحقٍ أن تغزو بعضًا من أشدّ المؤسّسات الكهنوتيّة قوّةً وتحفّظًا في كلٍّ من القارّتيْن الأوروبيّة والأمريكيّة. ولو أنّ هذه الزّلزلة المفاجئة، الّتي ألمّت بهذه الدّعامة الّتي كانت حتّى ذلك الوقت الرّكن المكين للمذاهب الإسلاميّة التّقليديّة، لم تكن نتيجةً مباشرةً للحرب الأخيرة، إلّا أنّها زادت من حدّة المشاكل وتفاقم القلاقل الّتي ابتُليَ بها عالمٌ أنهكته الحروب. فها هي شيعة الإسلام في موطن حضرة بهاء الله، وكنتيجةٍ مباشرةٍ لعدائها الشّديد لدينه الكريم، قد فقدت شوكتها بغير رجعة، وخسرت حقوقها وامتيازاتِها، وانحطّ شأنها، وخاب رجاؤها، وقُضي عليها بأن تتردّى في وهدة النّسيان وتؤول في النّهاية إلى الزّوال. على أنّه كان مقدّرًا لما لا يقلّ عن عشرين ألف شهيد أن يضحّوا بأنفسهم قبل أن يستطيع أمر الله الّذي ناضلوا من أجله واستشهدوا في سبيله أن يسجّل هذا الانتصار المبدئيّ على أوّل من أنكروا دعواه وحصدوا محاربيه البواسل. “فضربت عليهم الذّلّة والمسكنة، وباؤا بغضب من الله.”
وفي معرض وصفه لتردّي قومٍ انحطّ شأنهم، يتفضّل حضرة بهاء الله قائلًا: “انظُرْ كيف غيّرت وكدّرت أعمال وأقوال حزب الشّيعة عوالم الرّوح والرّيحان. ففي أوّل الأيّام عندما كانوا متمسّكين باسم سيّد الأنام كان لهم في كلّ يومٍ نصرٌ ظاهرٌ وفتحٌ باهر. وعندما تخلّوا عن مولاهم الحقيقيّ والنّور الإلهيّ وتركوا مبدأ التّوحيد، وتمسّكوا بمظاهر كلمته، تبدّلت قدرتهم بالضّعف، وعزّتهم بالذّلّة، وجرأتهم بالخوف، حتّى وصل بهم الحال إلى ما أنت تشهده.”
أمّا سقوط آل قاجار، حماة رجال الدّين الفاسدين والأدوات الطّيّعة في أيديهم، فقد تزامن تقريبًا مع الذّلّة الّتي حاقت بأقطاب الشّيعة. فمنذ أيّام محمّد شاه حتّى آخر ملوك هذه الأسرة وأضعفهم، حُرم دين حضرة بهاء الله ممّا كانت تستحقّه قضيّته من نظرةٍ غير متحيّزة ومعاملةٍ نزيهةٍ منصفة، بل على النّقيض من ذلك، عانى من فظاعة التّضييق ودوام الخيانة والاضطهاد. فاستشهاد حضرة الباب، ونَفي حضرة بهاء الله، ومصادرة ممتلكاته، وحبسه في مازندران، ونظام الإرهاب الّذي زجّ به في أشدّ السّجون وباءً وقذارةً، والدّسائس والاعتراضات والافتراءات الّتي جدّدت نفيه ثلاث مرّات، وأفضت أخيرًا إلى حبسه في أخرب مدن الأرض، فضلًا عن الأحكام المخزية الّتي صدرت بتواطئ السّلطتيْن القضائيّة والدّينيّة ضدّ نفوس أتباعه الأبرياء وممتلكاتهم وسمعتهم – هي جميعها مظالم تقف على رأس أشنع الأعمال الّتي ستجعل الأجيال القادمة تحمّل هذه الأسرة الملطّخة أياديها بالدّماء وزرَها. وهكذا أُزيلت عقبةٌ أخرى طالما سعت إلى إعاقة مسيرة تقدّم الدّين المبارك.
وعلى الرّغم من نفي حضرة بهاء الله بعيدًا عن وطنه إيران، فإنّ طوفان البلايا الّذي اجتاحه بكلّ عنفٍ هو وأتباع حضرة الباب لم يكن لينحسر بأيّ شكلٍ من الأشكال. فقد افتُتح فصلٌ جديدٌ في تاريخ معاناته المتتالية في ظلّ حكم سلطان تركيّا، عدوّ دينه اللّدود. ولهذا، فإنّ الإطاحة بكلٍّ من السّلطنة والخلافة، تلكم الدّعامتيْن التّوأميْن لسنّة الإسلام، لا يمكن أن يُنظر إليها إلّا على ضوء كونها نتيجةً حتميّةً للاضطهاد الشّرس الدّؤوب المتعمّد الّذي شنّه على هذا الدّين سلاطين بيت عثمان المتداعي، الخلفاء المعترف بهم للنّبيّ محمّد عليه السّلام. فمن الآستانة – المقرّ التّقليديّ لكلٍّ من السّلطنة والخلافة – سعى حكّام تركيّا جاهدين زهاء خمسٍ وسبعين سنةً دون كللٍ أو ملل، أن يوقفوا تيّار دينٍ خشوه وأضمروا له الكراهية. ومنذ اليوم الّذي وطئت فيه قدما حضرة بهاء الله أرض تركيّا وصار بالفعل سجينًا لأقوى ملوك الإسلام، إلى السّنة الّتي تحرّرت فيها الأرض المقدّسة من نِير الحكم التّركيّ، دأب الخلفاء الّذين تعاقبوا على كرسيّ الحكم فيها، لا سيّما السّلطانان عبد العزيز وعبد الحميد، وبكلّ ما أمدّتهم به مناصبهم الرّفيعة من سلطةٍ دينيّةٍ وزمنيّة، على إنزال الأذى والبلاء بكلٍّ من مؤسّس ديننا المبارك ومركز عهده وميثاقه بما لا يستوعبه عقلٌ أو يصفه قلمٌ أو لسان. ولا أحد سواهما يستطيع أن يحصي ما عانياه من تلك البلايا أو يتحمّلها.
وقد شهد حضرة بهاء الله على هذه البلايا المؤلمة مرارًا، فتفضّل قائلًا: “تالله لو أريد أن أذكر لك ما ورد عليّ لن تحمله النّفوس ولا العقول وكان الله على ذلك شهيد …” وفي خطاب موجّه إلى ملوك المسيحيّة تفضّل حضرته: “قد قضت عشرين من السّنين وكنّا في كلّ يومٍ منها في بلاءٍ جديد، وورد علينا ما لا ورد على أحدٍ قبلنا إن أنتم من السّامعين، بحيث قتلونا وسفكوا دمائنا وأخذوا أموالنا وهتكوا حرمتنا.” وتفضّل حضرته في موضعٍ آخر:”ذكّر حزني وهمّي وغمّي وبلائي وابتلائي وغربتي وبكائي وحرقتي وسجني في هذه الأرض البعيد … لو تطّلع بما ورد على جمال القدم لتنوح في العراء وتضرب على رأسك وتصيح كصيحة السّليم … تالله ما قمت عن الفراش إلّا وقد شهدت جنود البلاء واقفًا على فناء بابي وما نمت عليها إلّا وقد كان قلبي محزونًا عمّا ورد عليه من جنود الشّياطين.”
أمّا الفرمانات الّتي أصدرها هذان العدوّان، والنّفي الّذي قضيا به، والإهانات الّتي ألحقاها، والمكائد الّتي اختلقاها، والتّحقيقات الّتي أجرياها، والتّهديدات الّتي أطلقاها، والفظائع الّتي كانا على أتمّ استعدادٍ لارتكابها، والدّسائس والانحطاط الّذي انحدرا إليه هما ووزراؤهما وولاتهما وقوّاد عسكرهما، فإنّها تملأ سجلًّا قلّ أن يوجَد له نظيرٌ في تاريخ أيّ دينٍ سماويّ. فمجرّد سرد الوقائع الرّئيسيّة لهذه الملحمة المشؤومة يكفي لأن يملأ دفّتيْ مجلّدٍ بأكمله. فلقد كانا يعلمان تمامًا أنّ الزّعامة الرّوحيّة والإداريّة لتلك الدّعوة الّتي جاهدا لاستئصالها قد انتقلت الآن إلى مملكتهما، وأنّ أقطابها صاروا من رعايا الدّولة التّركيّة، وأنّ أيّ موارد قد تكون تحت إمرتهم أصبحت الآن تحت رحمتهما. أمّا أن يفشل هذا الحكم المستبدّ وهو في أوج هيمنته المطلقة، وعلى مدى ما يقرب من سبعين عامًا، رغم استقوائه بدسائس لا نهاية لها حاكتها كلٌّ من السّلطات المدنيّة والدّينيّة لأمّةٍ مجاورة، وارتكانه إلى مؤازرة أقرباء حضرة بهاء الله ممّن شقّوا عصا الطّاعة عليه وانفصلوا عن دعوته – أن يفشل في نهاية المطاف في استئصال نفرٍ قليلٍ من رعاياه المسجونين، فهو ما يجب أن يظلّ في نظر كلّ مراقبٍ مرتابٍ واحدة من أشدّ ملاحم التّاريخ المعاصر إثارةً وغموضًا.
إنّ الأمر المبارك الّذي كان حضرة بهاء الله لايزال قائده المشهود قد انتصر بما لا ينكره أحدٌ رغم مكائد عدوٍّ قصير النّظر. ولم يعد أبدًا بمقدور أيّ مفكّرٍ منصف، ينفذ ببصيرته تحت غشاوة الظّروف الّتي حاقت بسجين عكّاء الجليل، أن تلتبس عليه هذه الحقيقة أو ينكرها. ومع أنّ الشّدّةَ الّتي خفّت وطأتها قد تصاعدت لفترةٍ من الزّمن بعد صعود حضرة بهاء الله، وأخطارَ وضعٍ لم يكن قد استقرّ بعد قد تجدّدت، إلّا أنّه بات من الواضح أكثر فأكثر أنّ قوى الانحلال الخبيثة الّتي كانت تنهش سنواتٍ طوالًا في أحشاء أمّةٍ مريضةٍ كانت تتّجه آنذاك نحو ذروتها. فقد انطلقت سلسلةٌ من الاضطرابات الداخليّة، كلّ واحدةٍ منها تفوق سابقتها تخريبًا وتدميرًا، اضطرابات قُدّر لها أن تجرّ في أذيالها إحدى أشدّ كوارث التّاريخ الحديث فداحةً. وتوالت هذه الويلات بسرعةٍ وسلاسةٍ لم يجرؤ إنسانٌ على تصوّرها: فمن قتل ذلك السّلطان المستبدّ المغرور عام 1876، إلى النّزاع التّركيّ الرّوسيّ الّذي سرعان ما جاء في أعقابه؛ ثمّ حروب التّحرير الّتي تلت ذلك مباشرة؛ ومن قيام حركة تركيّا الفتاة، إلى نشوب الثّورة التّركيّة سنة 1909 الّتي عجّلت بسقوط عبد الحميد؛ ومن حروب البلقان بنتائجها المروّعة، إلى تحرير فلسطين المحتضنة لمدينتيْ عكّاء وحيفا، المركز العالميّ للدّين الّذي انفكّ أسره؛ ومن سلخ المزيد من الأراضي عن الحكم التّركيّ بموجب معاهدة فرساي، إلى إلغاء السّلطنة وسقوط آل عثمان وانقراض الخلافة؛ ومن إلغاء دين الدّولة الرّسميّ وإبطال حكم الشّريعة وإصدار قانونٍ مدنيٍّ عامّ، إلى التّضييق على كافّة الطّرق والعقائد والتّقاليد والشّعائر الّتي كان من المعتقد أنّها جزءٌ لا يتجزّأ من نسيج الدّين الإسلاميّ. في هذه الضّربات القاصمة الّتي كالها الصّديق والعدوّ على السّواء، من الأمم المسيحيّة والإسلاميّة، رأى كلّ تابعٍ لدين حضرة بهاء الله المضطهد شواهد يد قدرة مؤسّس دينهم الرّاحل الّذي كان يطلق طوفانًا من البلايا من ملكوت الغيب على ملّةٍ وأمّةٍ عاصيتيْن استحقّتا ذلك بكلّ جدارة.
قارنوا شواهد القصاص الإلهيّ الّذي حلّ بمضطهدي يسوع المسيح بتلك البلايا التّاريخيّة الّتي هوت في الجزء الأخير من القرن الاوّل البهائيّ، بعدوّ دين بهاء الله الألدّ من عليائه إلى التّراب. أولم يعمد الإمبراطور الرّومانيّ، في النّصف الثّاني من القرن المسيحيّ الأوّل، بعد حصاره المأساويّ لأورشليم، إلى تخريب المدينة المقدّسة، وهدْم الهيكل، وتدنيس قدس الأقداس، وسلْب كنوزه ونفائسه ونقلها إلى روما، وإقامة مستعمرةٍ وثنيّةٍ على جبل صهيون، وذبح اليهود، ونفي وتشتيت من بقي منهم على قيد الحياة؟
وقارنوا كذلك الكلمات التّالية الّتي خاطب بها السّيّد المسيح المضطهد مدينة أورشليم، كما يشهد بذلك الإنجيل المقدّس، بالخطاب الّذي وجّهه حضرة بهاء الله إلى مدينة الآستانة، وهو حبيس سجنه البعيد، في كتابه الأقدس. إذ قال السّيّد المسيح: “يا أورُشليمُ، ياأورُشليمُ! يا قاتلةَ الأنبياء وراجمةَ المُرسَلين إِليها، كم مرَّةٍ أردْتُ أنْ أجمع أولادك كما تجمع الدّجاجة فراخها تحت جناحيْها!” وقال في مناسبةٍ أخرى وهو يرثي لحالها: “إنّكِ لو علمتِ أنتِ أيضًا، حتّى في يومك هذا، ما هو لسلامك! ولكن الآن قد أُخْفِيَ عن عينيْكِ. فإنّه ستأتي أيّامٌ ويحيط بكِ أعداؤك بمترسةٍ، ويحدقون بكِ ويحاصرونكِ من كلّ جهةٍ، ويهدمونك وبنيكِ فيكِ، ولا يتركون فيكِ حجرًا على حجرٍ، لأنّكِ لمْ تعرفي زمان افتقادك.”
أمّا حضرة بهاء الله فقد خاطب مدينة الآستانة بقوله: “يا أيّتها النّقطة الواقعة في شاطي البحرين قد استقرّ عليكِ كرسيّ الظّلم واشتعلت فيكِ نار البغضاء على شأنٍ ناح بها الملأ الأعلى والّذين يطوفون حول كرسيٍّ رفيع، نرى فيكِ الجاهل يحكم على العاقل والظّلام يفتخر على النّور وإنّكِ في غرورٍ مبين، أغرّتك زينتك الظّاهرة سوف تفنى وربّ البريّة وتنوح البنات والأرامل وما فيكِ من القبائل كذلك ينبّئك العليم الخبير.”
وإلى السّلطان عبد العزيز، ذلك الملك الّذي أصدر كلّ فرمانٍ من فرمانات نفي حضرة بهاء الله الثّلاث، وجّه مؤسّس ديننا المجيد هذه الكلمات، في وقتٍ كان لايزال فيه حبيس عاصمة ذلك السّلطان: “أن يا أيّها السّلطان اسمع قول من ينطق بالحقّ ولا يريد منك جزاءً عمّا أعطاك الله وكان على قسطاس حقٍّ مستقيم … انصب ميزان الله في مقابلة عينيك ثمّ اجعل نفسك في مقام الّذي كأنّك تراه ثمّ وزّن أعمالك به في كلّ يومٍ بل في كلّ حين، وحاسب نفسك قبل أن تُحاسب في يومِ الّذي لن يستقرّ فيه رجل أحدٍ من خشية الله وتضطرب فيه أفئدة الغافلين.”
وخاطب حضرته في ذلك اللّوح نفسه وزراء الدّولة العثمانيّة قائلًا: “قل يا أيّها الوكلاء ينبغي لكم بأن تتّبعوا أصول الله في أنفسكم وتدعوا أصولكم وتكوننّ من المهتدين … فسوف تجدون ما اكتسبتم في الحياة الباطلة وتُجزون بما عملتم فيها … فكم من عبادٍ عملوا كما عملتم وكانوا أعظم منكم ورجعوا كلّهم إلي التّراب وقُضي عليهم ما قُضي … وستلحقون بهم وتدخلون بيت الّتي لن تجدوا فيها لأنفسكم لا من نصيرٍ ولا من حميم … ستمضي أيّامكم وكلّ ما أنتم تشتغلون به وبه تفتخرون على النّاس ويحضركم ملائكة الأمر على مقرّ الّذي ترجف فيه أركان الخلائق وتقشعرّ فيه جلود الظّالمين … وهذا من يوم الّذي يأتيكم والسّاعة الّتي لا مردّ لها.”
ولأهل الآستانة، عندما كان يعيش بينهم منفيًّا، وجّه حضرة بهاء الله في ذلك اللّوح نفسه، هذه الكلمات: “أن يا ملأ المدينة اتّقوا الله ولا تفسدوا في الأرض … ستمضي أيّامكم كما مضت على الّذين هم كانوا قبلكم وترجعون على التّراب كما رجعوا إليه آبائكم وكانوا من الرّاجعين.” ويضيف قائلًا: “فلمّا وردنا المدينة وجدنا رؤساءها كالاطفال الّذين يجتمعون علی الطّين ليلعبوا به … ولذا بكينا عليهم بعيون السّرّ لارتكابهم بما نهوا عنه وإغفالهم عمّا خلقوا له … فسوف يظهر الله قومًا يذكرون أيّامنا وكلّ ما ورد علينا ويطلبون حقّنا عن الّذين هم ظلمونا بغير جرمٍ ولا ذنبٍ مبين، ومن ورائهم كان الله قائمًا عليهم ويشهد ما فعلوا ويأخذهم بذنبهم وإنّه أشدّ المنتقمين.” ثمّ ينصحهم بلسان الفضل قائلًا: “إذًا فاسمعوا قَوْلي ثمّ ارجعوا إلى الله وتوبوا إليه ليرحمكم الله بفضله ويغفر خطاياكم ويعفو جريراتكم وإنّه سبقت رحمتُه غضبَه وأحاط فضلُه كلَّ من دخل في قُمُص الوجود من الأوّلين والآخرين.”
وأخيرًا، وفي سورة الرّئيس، تطالعنا هذه الكلمات الحافلة بالنّبؤات: “يا رئيس اسمع نداء الله الملك المهيمن القيّوم … يا رئيس قد ارتكبت ما ينوح به محمّدٌ رسول الله في الجنّة العليا وغرّتك الدّنيا بحيث أعرضت عن الوجه الّذي بنوره استضاء الملأ الأعلى سوف تجد نفسك في خسرانٍ مبين … سوف تُبدَّل أرض السّرّ وما دونها وتخرج من يد الملك ويظهر الزّلزال ويرتفع العويل ويظهر الفساد في الأقطار وتختلف الأمور بما ورد على هؤلاء الأسراء من جنود الظّالمين، ويتغيّر الحكم ويشتدّ الأمر بحيث ينوح الكثيب في الهضاب وتبكي الأشجار في الجبال ويجري الدّم من الأشياء وترى النّاس في اضطرابٍ عظيم.”
وهكذا، كان لا بدّ من انقضاء ثلاثة عشر قرنًا من الزّمان على وفاة النّبيّ محمّد عليه السّلام قبل أن تقام الحجّة الدّامغة على ملأِ الأشهاد على عدم شرعيّة مؤسّسة الخلافة الّتي اغتصب مؤسّسوها سلطة خلفاء رسول الله الشّرعيّين – تلك المؤسّسة الّتي داست يوم مولدها على حقٍّ هو في منتهى القداسة، وأطلقت العنان لقوى انشقاقٍ وانقسامٍ في غاية المأساويّة، مؤسّسة عمدت في الآونة الأخيرة إلى توجيه ضربةٍ مؤلمةٍ بهذا القدر إلى دينٍ مباركٍ كان مبشّره الجليل ذاته سليلًا لنفس الأئمّة الّذين أنكرت تلك المؤسّسة مرجعيّتهم، وبذلك استحقّت تمامًا ذلك العقاب الّذي ختمَ قدرها المحتوم.
وفي بعض الأحاديث النبويّة الصّحيحة الّتي يعترف بصحّتها المسلمون أنفسهم، والّتي زخرت بها أعمال علماء ومؤلّفين بهائيّين بارزين من أهل الشّرق، ما من شأنه أن يعزّز الحجّة الّتي أسوقها ويلقي الضّوء على المسألة الّتي أسعى لعرضها: “يحلّ بأمّتي في آخر الزّمان بلاءٌ شديدٌ من سلطانهم لم يُسمع بلاءٌ أشدّ منه حتّى لا يجد الرّجل ملجأً فيبعث الله رجلًا من عترتي أهل بيتي يملأ به الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت ظلمًا وجورًا.” وفي حديثٍ آخرَ يتفضّل الرّسول الكريم قائلًا: “سيأتي زمانٌ على أمّتي لا يبقى من الإسلام إلّا اسمه ولا من القرآن إلّا رسمه … فقهاء ذلك الزّمان أشرّ الفقهاء تحت ظلّ السّماء منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود.” وكذلك قوله: “فعند ذلك تنزل اللّعنة عليكم ويجعل بأسكم بينكم ويبقى الدّين بينكم لفظًا بألسنتكم فإذا أوتيتم هذه الخصال توقّعوا الرّيح الحمراء أو مسخًا أو قذفًا بالحجارة.”
أمّا حضرة بهاء الله فيخاطب أهل السّنّة والشّيعة مؤكّدًا: “يا ملأ الفرقان قد بكى محمّدٌ رسول الله من ظلمكم. أنتم الّذين اتّبعتم الهوى وأعرضتم عن الهدى سوف ترون ما فعلتم إنّ ربّي لبالمرصاد”، “يا معشر العلماء بكم انحطّ شأن الملّة ونكِّس عَلم الإسلام وثلّ عرشه العظيم.”

تدهور المؤسّسات المسيحيّة

كفى حديثًا عن الإسلام وما تلقّته، وقد تتلقّاه، قياداته ومؤسّساته من ضرباتٍ قاصمةٍ في هذا القرن الأوّل للدّورة البهائيّة. فإن كنتُ قد أسهبتُ في الحديث عن هذا الموضوع، وإن كنتُ قد استشهدتُ بالكثير من البيانات المباركة إسنادًا لحجّتي، فما ذلك إلّا لاعتقادي الرّاسخ بأنّ هذه الكوارث القصاصيّة الّتي انهالت على أبرز مضطهدي دين حضرة بهاء الله يجب ألّا تُعتبر من أشدّ الأحداث تأثيرًا في هذا العصر الانتقاليّ فحسب، بل ومن أبرز وقائع التّاريخ المعاصر وأكثرها ترويعًا.
لقد ساهم أهل السّنّة والشّيعة كليهما، من خلال الاضطرابات العنيفة الّتي ألمّت بهم، في التّعجيل بالعمليّة الهادمة الّتي أشرتُ إليها من قبل – عمليّة تمهّد بطبيعتها الطّريق إلى ذلك التّوحيد وإعادة التّنظيم الكامليْن اللّذيْن يجب أن يحقّقهما العالم في كلّ ناحيةٍ من نواحي حياته. فماذا عن المسيحيّة وطوائفها المختلفة؟ أيمكن القول بأنّ عمليّة التّدهور هذه الّتي ألمّت بكيان دين محمّد رسول الله قد عجزت عن ممارسة تأثيرها الوخيم على مؤسّسات دين يسوع المسيح عليه السّلام؟ وهل تلقّت هذه المؤسّسات فعلًا لطمات تلك القوى الّتي تتهدّدها؟ وهل بلغت قواعدها من الثّبات والاستقرار، وحيويّتها من القوّة والقدرة ما مكّنها من مقاومة هذه الهجمة؟ وهل تراها ستسقط بدورها فريسة عنف تلك القوى عندما ينتشر ويتعمّق ارتباك عالمٍ تسوده الفوضى والاضطراب؟ وهل قامت بالفعل، أو ستقوم، أكثر طوائف المسيحيّة تعصّبًا وتمسّكًا بالرّسوم، على صدّ زحف أمرٍ إلهيّ أسقط حصون أحزاب الإسلام التّقليديّة المتزمّتة ثمّ طفق يتوغّل الآن في قلب العالم المسيحيّ في كلٍّ من القارّتيْن الأوروبيّة والأمريكيّة؟ وهل ستبذرُ مقاومةٌ كهذه بذور انحلالٍ أكبر واضطرابٍ أعظم فتعمل بذلك، بشكلٍ غير مباشر، على تعجيل قدوم اليوم الموعود؟
لا يسعنا أن نجيب عن هذه التّساؤلات إلّا إجابةً جزئيّة، فالزّمن وحده هو الكفيل بأن يُظهر طبيعة الدّور الّذي قدّر للمؤسّسات المرتبطة بالدّين المسيحيّ ارتباطًا مباشرًا أن تلعبه في هذا العصر التّكوينيّ من الدّورة البهائيّة، عصر الانتقال المظلم الّذي تمرّ فيه الإنسانيّة بأجمعها. بيد أنّ أحداثًا مثل الّتي تكشّفت لنا بالفعل من شأنها أن تدلّ على الاتّجاه الّذي تسلكه تلك المؤسّسات. وبمقدورنا أن ندرك إلى حدٍّ ما ذلك التّأثير المحتمل الّذي ستمارسه عليها القوى الفاعلة داخل الدّين البهائيّ وخارجه على حدّ سواء.
أمّا أنّ قوى اللّادينيّة والفلسفة المادّيّة البحتة والوثنيّة السّافرة قد انطلقت من عقالها وطفقت تنتشر الآن، وتَشرَع، بعد أن ثبّتت دعائمها، في غزو بعضٍ من أقوى المؤسّسات المسيحيّة في الغرب، فهو أمرٌ لا يستطيع الملاحظ المنصف أن ينكره. وأمّا أنّ تلك المؤسّسات يزداد قلقها وارتباكها يومًا بعد يوم، وأنّ بعضًا منها قد بدأ يستشعر تأثير دين حضرة بهاء الله المتغلغل، وأنّها، وهي تعاني من انحطاط قواها وارتخاء انضباطها، سوف ترقب بارتياعٍ متزايدٍ نهضة نظمه العالميّ الجديد، ثمّ تعقد العزم شيئًا فشيئًا للانقضاض عليه، وأنّ مقاومةً كهذه سوف تعمل بدورها على الإسراع باضمحلالها – فجميعها أمورٌ لا يميل إلى إنكارها سوى قلّة، إن وُجدوا، ممّن يرقُبون تقدّم هذا الدّين باهتمام.
ولقد شهد حضرة بهاء الله على ذلك بقوله: “لقد ضعُفت قوّة الإيمان وبِنيته في أقطار العالم، فهو يحتاج للدّرياق الأعظم … ولقد باتت الأمم كالنّحاس أصابه الاسوداد تحتاج للإكسير الأعظم.” كما تفضّل حضرته قائلًا: “العالم منقلبٌ وانقلابه يزداد يومًا بعد يوم، ووجهه متوجّهٌ نحو الغفلة واللّامذهبيّة، وهذا الوضع سيشتدّ ويزداد على شأنٍ لا يقتضي ذكره الآن.”
إنّ خطر العلمانيّة الّتي هاجمت الإسلام وباتت تقوّض ما بقي فيه من مؤسّسات، وغزت إيران، وتغلغلت في الهند، ورفعت رأسها الظّافر في تركيّا، قد ظهر بالفعل في كلٍّ من أوروبّا وأمريكا، وطفق يتحدّى بدرجاتٍ متفاوتةٍ وتحت أشكالٍ ومسمّياتٍ متغايرةٍ ركائز كلّ دينٍ مكين، خاصّةً تلك المؤسّسات والجامعات المنتسبة إلى دين يسوع المسيح. وليس من المبالغة القول إنّنا نتّجه نحو فترةٍ سوف يعتبرها مؤرّخو المستقبل واحدةً من أشدّ الفترات حرجًا في تاريخ المسيحيّة.
ولقد أقرّ بالفعل بعضٌ من أنصار الدّين المسيحيّ بخطورة ما يواجهونه من واقع، إذ تطالعنا شهادة بعض مبشّريه، حسبما تشهد نصوص تقاريرهم الرّسميّة، بقولهم: “إنّ موجةً من المادّيّة تكتسح وجه العالم، وزخم وضغطُ حركة التّصنيع الحديثة، والّتي أخذت في التّغلغل حتّى في غابات إفريقيا الوسطى وبطاح آسيا الوسطى، قد جعلت الإنسان في كلّ مكانٍ معتمدًا على المادّيّات ومنكبًّا عليها. وعلى الصّعيد الدّاخليّ تحدّثت الكنيسة، لربّما بعفويّة زائدة، عن خطر العلمانيّة من فوق المنابر أو منصّات الخطابة، مع أنّنا نستطيع حتّى هنا في إنجلترا أن نحظى بما هو أكثر من مجرّد نظرةٍ عابرةٍ عمّا تعنيه العلمانيّة. غير أنّ هذه الأمور بالنّسبة لكنائس ما وراء البحار هي بمثابة واقعٍ مريرٍ، وعدوٍّ تشتبك الكنائس معه بالفعل … فالكنيسة حيال خطرٍ جديدٍ يتعيّن عليها أن تجابهه في بلدٍ تلو الآخر – هجومٍ عدائيٍّ لا هوادة فيه. فبدءًا من روسيا السّوفيتيّة تنبثق حركةٌ شيوعيّة تناصب العداء للدّين بكلّ تأكيد، منطلقةً غربًا صوب أوروبّا وأمريكا وشرقًا نحو إيران والهند والصين واليابان. إنّها نظريّةٌ اقتصاديّةٌ مبنيّةٌ بالتّحديد على الإلحاد. إنّها دين اللّادينيّة … ولديها إحساسٌ محمومٌ بحتميّة دورها، ماضية في تنفيذ حملتها المناهضة لله في عقر دار الكنيسة في الدّاخل، كما تشنّ هجومها على طلائع الكنيسة الّتي تعمل في البلاد غير المسيحيّة. هذا الهجوم الواعي الصّريح المنظّم على الدّين عامّة والمسيحيّة خاصّة هو أمرٌ جديد في التّاريخ. كما أنّ هناك شكلًا آخر من أشكال العقائد السّياسيّة والاجتماعيّة يماثل الشّيوعيّة إصرارًا وترصّدًا بالمسيحيّة يعمل في ديارٍ أخرى – ألا وهو القوميّة. ولكن على عكس الشّيوعيّة فإنّ هجمة القوميّة على المسيحيّة غالبًا ما ترتبط بشكلٍ من أشكال الدّيانة القوميّة – بالإسلام في كلٍّ من إيران ومصر، وبالبوذيّة في سيلان، بينما الكفاح من أجل الحقوق الطّائفيّة في الهند نجده يتحالف مع صحوةٍ هندوسيّةٍ وإسلاميّة.”
ولا حاجة بي أن أحاول في هذا السّياق استعراض أصل وطبيعة تلك النّظريّات الاقتصاديّة والفلسفات السّياسيّة الّتي سادت فترة ما بعد الحرب، وهي الّتي ما فتئت تنفث أثرها الخبيث، على نحوٍ مباشرٍ وغير مباشر، في المؤسّسات والعقائد المنتمية إلى أحد أوسع الأنظمة الدّينيّة انتشارًا وأفضلها تنظيمًا في العالم. فما يعنيني في المقام الأوّل هو تأثيرها ونفوذها وليس أصلها ومنشؤها. فلا شكّ أنّ التّوسّع المفرط في التّصنيع وما يصاحبه من شرور – كما يشهد عليه المقتطف الّذي سقناه آنفًا – والسّياسات الشّرسة الّتي ابتدأها ملهمو الحركة الشّيوعيّة ومنظّموها وجهودهم الدّؤوبة، واستفحال نزعةٍ قوميّةٍ متشدّدةٍ اقترنت في بعض الدّول بحملات تشهيرٍ ممنهجةٍ تستهدف كلّ أشكال النّفوذ الكهنوتيّ – لا شكّ أنّ جميعها قد ساهمت في عمليّة إخراج جموع المسيحيّين عن دينهم، وتسبّبت في اضمحلالٍ ملحوظٍ لسلطة الكنيسة وهيبتها وهيمنتها. ولطالما دأب مضطهدو الدّين المسيحيّ على الادّعاء بقولهم “إنّ مفهوم الألوهيّة برمّته هو مفهومٌ أفرزته الأنظمة الاستبداديّة العتيقة الّتي سادت الشّرق في الماضي، وهو مفهومٌ لا يليق أبدًا بالإنسان الحرّ”. كما صرّح أحد قادتهم قائلًا: “إنّ الدّين أفيون الشعوب”. بل تطالعنا منشوراتهم الرّسميّة بأنّ “الدّين تجريدٌ للنّاس من إنسانيّتهم. وعلى هذا يجب أن توجّه التّربية والتّعليم بحيث تمحو من أذهان النّاس هذه المهانة والحماقة.”
أمّا فلسفة هيجل، الّتي اتّخذت في بلدانٍ أخرى نهجًا قوميًّا متشدّدًا لا يعرف التّسامح، ودأبت على تأليه الدّولة، وغرست في النّفوس روح الحرب، وحضّت على العداء العرقيّ، فقد أدّت بالمثل إلى إضعافٍ واضحٍ للكنيسة وتضاؤلٍ جسيمٍ في نفوذها الرّوحيّ. فعلى خلاف الهجمة الجسورة الّتي اختارت حركةٌ إلحاديّةٌ سافرةٌ أن تشنّها على المسيحيّة داخل الاتّحاد السّوفييتيّ وخارجه، كانت هذه الفلسفة المنادية بالقوميّة، الّتي ناصرها قادة الممالك المسيحيّة وحكوماتها، بمثابة هجمةٍ موجّهةٍ إلى الكنيسة ممّن كانوا يدّعون بالأمس أنّهم أتباعها، وخيانةٍ لقضيّتها من قِبَل أقرب المقرّبين إليها. وهكذا صارت الكنيسة تتلقّى الطّعنات من الخارج على أيدي إلحاديّةٍ دخيلةٍ تنتهج العنف، ومن الدّاخل على أيدي دُعاة الكفر والهرطقة. وعلاوة على ذلك، فقد وجدت كلتا هاتيْن القوّتيْن، بينما تعمل كلٌّ منهما في نطاقها الخاصّ مستخدمةً أسلحتها وأساليبها الخاصّة، سندًا كبيرًا وتشجيعًا بالغًا في روح الحداثة السّائدة بما لها من تأكيدٍ على الفلسفة المادّيّة البحتة، تلك الفلسفة الّتي كلّما سرت وانتشرت تعمل على إقصاء الدّين أكثر فأكثر عن حياة الإنسان اليوميّة.
وكان من الطّبيعيّ أن يشعر بوطأة الأثر المتضافر لهذه العقائد الغريبة الفاسدة وتلك الفلسفات الخطيرة الغادرة أولئك الّذين انطوت معتقداتهم على ما ينافيها ولا يتواءم معها على الإطلاق قلبًا وقالبًا. وكانت تبعات الصّدام، الّذي كان لا بدّ أن يلي ذلك فيما بين هذه المصالح المتناحرة، مأساويّة في بعض الحالات، كما أنّ الضّرر النّاجم عنه لم يكن بالإمكان إصلاحه. إنّ انتكاساتٍ مثل حلّ كنيسة الرّوم الأرثوذوكس في روسيا وتقطيع أوصالها في أعقاب الضّربة الّتي حاقت بكنيسة روما نتيجة انهيار الإمبراطوريّة النّمساويّة المجريّة؛ وما تلا ذلك من الاضطراب الّذي انتاب الكنيسة الكاثوليكيّة وبلغ ذروته بفصلها عن الدّولة في إسبانيا؛ والاضطهاد الّذي حاقَ بنفس الكنيسة في المكسيك؛ وما يتعرّض له الآن كلٌّ من الكاثوليك والبروتستانت على حدّ سواء في قلب أوروبّا من تفتيشٍ واعتقالٍ وتخويفٍ وترهيبٍ؛ والفوضى الّتي زُجّ فيها فرعٌ آخر من فروع المؤسّسة الكنسيّة نتيجةَ الحملات العسكريّة في القارّة الإفريقيّة؛ والانتكاس الّذي أصاب مقدّرات الإرساليّات التبّشيريّة المسيحيّة، الإنجيليّ Anglican منها والمشيخيّ Presbyterian، في كلٍّ من إيران وتركيّا وأقطار الشّرق الأقصى؛ ونُذُر الشّرّ المُنْبِئَة بمضاعفاتٍ خطيرةٍ في العلاقات المريبة الهشّة القائمة الآن بين الكرسيّ الرّسوليّ وبعض الأمم الأوروبيّة – تُعتبر كلّها كأبرزِ معالم الانتكاسات الّتي عاناها أعضاء وأقطاب المؤسّسات الكهنوتيّة المسيحيّة في كلّ جزءٍ من أجزاء العالم على وجه التّقريب.
أمَا وإنّ تماسك بعض هذه المؤسّسات قد تحطّم بغير رجعة فهو أمرٌ واضحٌ بما لا يمكن لأيّ مراقبٍ ذكيٍّ أن يخطئه أو ينكره. فالانشقاق الّذي حدث ما بين الأصوليّين والمتحرّرين من أتباع هذه المؤسّسات مستمرٌ في الاتّساع. وجذوة عقائدها وطقوسها قد خفتت ومنيت بالتّجاهل والإهمال في بعض الحالات. وباتت قبضتها الّتي تتحكّم في السّلوك البشريّ تتراخى، وغدا حشد العاملين في إرساليّاتها يتضاءل عددًا ونفوذًا، وانكشف جُبنُ واعظيها ورياؤهم في عديدٍ من المواقف، كما تبدّدت أوقافها في بعض الأقطار، ووهنت قوّة تربيتها الدّينيّة، وهُجر بعض معابدها وتهدّم، كما أدّت الغفلة عن عرفان الله وتعاليمه ومراده إلى إضعافها وألحقت بها المذلّة والهوان.
أوليس من شأن هذه النّزعة الباعثة على التفكّك، والّتي عانى منها كلٌّ من سنّة الإسلام وشيعته بما لا تخطئه عينٌ، أن تطلق العنان، وهي تقترب من ذروتها، لنزول المزيد من البلايا على مختلف مذاهب الكنيسة المسيحيّة؟ إنّ المستقبل وحده كفيلٌ بالكشف عن كيفيّة ومدى سرعة تطوّر هذه العمليّة الّتي بدأت بالفعل. كما لا يمكننا في الوقت الحاضر أن نخمّن إلى أيّ مدى سوف تساهم الهجمات الّتي قد يشنّها كهنوتٌ لازال يحتفظ بعنفوانه على معاقل دين حضرة بهاء الله في الغرب في تسارع وتيرة هذا التّدهور واتّساع نطاق الكوارث الّتي لا مهرب منها.
وقد كتب أحد قساوسة الكنيسة المشيخيّة بأمريكا أنّه يتعيّن على المسيحيّة إن رغبت وتطلّعت إلى أن تخدم العالم في الأزمة الراهنة “أن تتخلّى عمّا هي عليه وتعود أدراجها صوب مسيحيّة المسيح، أي تتخلّى عن ذلك الدّين الّذي صرف قرونا يتحدّث فقط عن المسيح وتتّجه نحو دين المسيح الحقّ”. ويضيف إضافةً ذات دلالةٍ قائلًا إنّه بخلاف ذلك “فإنّ روح المسيح سوف تحيا في مؤسّساتٍ غير مؤسّساتنا”.
لقد أدّى هذا الوهن الملحوظ في صلابة وتماسك العناصر المكوّنة للمجتمع المسيحيّ بدوره، كما هو متوقّع، إلى ظهور عددٍ متزايدٍ من نِحلٍ غامضة، وطقوسٍ دخيلةٍ غريبة، وفلسفاتٍ عقيمة، فاقمت أفكارها المعقّدة من ارتباك عصرٍ مضطرب. ومن الممكن أن يُقال إنّها، بفعل عقائدها وممارساتها، تعكس وتشهد على الهيجان والسّخط والتّطلّعات المشوّشة للجماهير المحبطة الّتي هجرت ما تنادي به الكنائس المسيحيّة وانفصلت عن عضويّتها.
ويمكننا أن نجد أوجه شَبهٍ، تكاد تكون تامّة، بين هذه المنظومات الفكريّة المرتبكة المربِكة، الّتي هي نتاجٌ مباشرٌ لما حاق بالدّين المسيحيّ من عجزٍ وبلبلةٍ من جهة، وتلك المجموعة الكبيرة المتنوّعة من النِحل الرّائجة والفلسفات المبتكرة المخادعة الّتي ازدهرت في القرون الأولى للعصر المسيحيّ، والّتي حاولت أن تستحوذ على الدّين الرّسميّ لذلك الشّعب الرّومانيّ وتحرّفه. فقد وجد أصحاب العبادات الوثنيّة، الّذين كانوا يشكّلون آنذاك الغالبيّة العظمى لسكّان الإمبراطوريّة الرّومانيّة الغربيّة، أنفسهم محاصَرين، بل ومهدَّدين في بعض الحالات، بمذهب الأفلاطونيّة المحدثة (Neo-Platonists) الّذي كان منتشرًا آنذاك، وبأتباع الدّيانات الطّبيعيّة، وبفلاسفة العارفيّة (الغنوصيّة Gnostic)، وبالفيلونيّة (Philonism)، والمثرائيّة (Mithraism)، وأتباع المذهب الإسكندريّ (Alexandrian cult)، ولفيفٍ من المذاهب والعقائد المشابهة، كما هو حادثٌ تقريبًا لأنصار المسيحيّة، ديانة الغالبيّة العظمى لعالم الغرب، وهم يشاهدون، في القرن الأوّل من العصر البهائيّ، كيف أنّ نفوذهم قد زعزعه طوفانٌ من العقائد والممارسات والنّزعات المتضاربة الّتي ساهم نفس إفلاسهم في خلقها. ومع ذلك، فإنّ الدّيانة المسيحيّة الّتي سقطت الآن في حالةٍ من العجز كهذه، كانت هي نفس الدّيانة الّتي سبق وأن أثبتت في نهاية المطاف أنّها قادرة على الإطاحة بتلك المؤسّسات الوثنيّة، وطمس وإخماد هذه النّحل الّتي راجت في ذلك العصر.
مثل هذه المؤسّسات الّتي ضلّت وانحرفت عن روح وتعاليم يسوع المسيح لا بدّ بالضّرورة أن تتوارى في خلفيّة المشهد وتفسح المجال، في هذه الآونة الّتي يتشكّل ويتكشّف فيها النّظم العالميّ الجنين لحضرة بهاء الله، لتَقدُّم المؤسّسات إلهيّة التّعيين الّتي هي جزءٌ لا يتجزّأ من لحمة تعاليم حضرته وسداها. فروح الله الفاعلة الّتي أنعشت وقوّت أعضاء الكنيسة إبّان عصرها الرّسوليّ، ونقاء تعاليمها الخالص، وإشراق نورها الأصيل، لا شكّ أنّها سوف تولد وتحيا من جديد كنتيجةٍ حتميّةٍ لِما يجري الآن من إعادة تعريف حقائقها الأساسيّة وتوضيح غرضها الأصليّ.
ذلك لأنّ دين حضرة بهاء الله، إذا ما قدّرناه حقّ قدره، لا يمكنه أبدًا، وفي أيّ جانبٍ من جوانبِ تعاليمه، أن يختلف عن الغاية المحرّكة لدين يسوع المسيح، أو القدرة المودعة فيه، ناهيك عن أن يكون معارضًا لها. ويبرز الثّناء المنير التّالي الّذي جاشت به نفس حضرة بهاء الله في حقّ صاحب الدّين المسيحيّ كشاهدٍ كافٍ على صدق هذا المبدأ الأساسيّ في العقيدة البهائية: “اعلمْ بأنّ الابن إذ أسلم الرّوح قد بكت الأشياء كلّها، ولكن بإنفاقه روحه قد استعدّ كلّ شيءٍ كما تشهد وتری في الخلايق أجمعين. كلّ حكيمٍ ظهرت منه الحكمة وكلّ عالِمٍ فصّلت منه العلوم وكلّ صانعٍ ظهرت منه الصّنايع وكلّ سلطانٍ ظهرت منه القدرة كلّها من تأييد روحه المتعالي المتصرّف المنير. ونشهد بأنّه حين إذ أتى في العالم تجلّى على الممكنات وبه طهّر كلّ أبرص عن داء الجهل والعمى وبرئ كلّ سقيم عن سقم الغفلة والهوى وفتحت عين كلّ عمي وتزكّت كلّ نفس … وإنّها لمطهّر العالم طوبى لمن أقبل إليها بوجهٍ منيرٍ.”

شواهد الانحطاط الخلقيّ

لا أرى حاجةً لمزيدٍ من القول عن تدهور المؤسّسات الدّينيّة، والّتي يمثّل تداعيها مظهرًا بالغ الأهمّيّة في عصر التّكوين للدّورة البهائيّة. فالإسلام، بفعل مدّ العلمانيّة الآخذ في الصّعود من ناحية، وكنتيجةٍ مباشرةٍ لعدائه الصّريح الدّؤوب لدين حضرة بهاء الله، قد سقط في وهدةٍ من الانحطاط نادرًا ما انحدر إليها عبر تاريخه. وعلى المنوال نفسه فإنّ المسيحيّة، ونظرًا لأسباب لا تختلف كثيرًا عمّا حاق بشقيقها الإسلام، قد وهنت دونما توقّف، وطفِقت تسهمُ بنصيبها على نحوٍ متزايدٍ في عمليّة التّداعي والانحلال العامّ – وهي عمليّةٌ لا بُدّ وأن تسبق بالضّرورة إعادة بناء المجتمع البشريّ من أساسه.
أمّا شواهد الانحطاط الخلقيّ، بخلاف علامات عطب المؤسّسات الدّينيّة وفسادها، فتبدو أمرًا لا يقلّ بروزًا ولا أهمّيّةً عنها. ويمكن أن يقال إنّ الانحلال الّذي دبّ في مقدّرات المؤسّسات الإسلاميّة والمسيحيّة كان له نظيره في حياة أعضائها وسلوكهم. فأينما أجَلنا البصر، ومهما كانت نظرتنا سريعة عابرة إلى أفعال الجيل الحاضر وأقواله، لا مناصَ لنا من أن نُصدَمَ بشواهد الانحلال الخلقيّ البادية على كلّ من نراهم حولنا من رجالٍ ونساءٍ فرادى وجماعات على حدّ سواء.
وليس هناك من شكٍّ في أنّ اضمحلال الدّين كقوّةٍ اجتماعيّة، والّذي لم يكن انهيار المؤسّسات الدّينيّة سوى أحد مظاهرهِ الخارجيّة، هو المسؤول بالدّرجة الأولى عن شرٍّ بهذه الجسامة والسّفور. ويصرّح حضرة بهاء الله بأنّ: “… الدّين … هو السّبب الأعظم لنظم العالم واطمئنان من في الإمكان. فإنّ ضَعْفَ أركان الدّين صار سببًا لقوّة الجهّال وجرأتهم وجسارتهم. حقًّا أقول إنّ ما حطَّ من علوّ مقام الدّين زادَ من غفلة الأشرار ويؤول الأمر أخيرًا إلى الهرج والمرج.” كما يتفضّل حضرته في لوح آخر بقوله: “فإنّ الدّين هو النّور المبين والحصن المتين لحفظ أهل العالم وراحتهم إذ إنّ خَشية الله تأمر النّاس بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، فلو احتجب سراج الدّين لتطرّق الهرج والمرج وامتنع نيّر العدل والإنصاف عن الإشراق وشمس الأمن والاطمئنان عن الإنوار …” وفي مقامٍ آخرَ يتفضّل حضرته أيضًا بقوله: “اعلم أنّ الحكماء شبّهوا العالم بهيكل إنسان. فكما أنّ جسد الإنسان يحتاج إلى رداءٍ ليكسوه، كذلك يجب أن يتزيّن جسد العالم بطراز العدل والحكمة. فشريعة الله إذن هي رداؤه.”
فلا غرابة إذن أنّه عندما ينطفئ سراج الدّين في قلوب البشر، جرّاء انحرافهم عن سويّ الصّراط، ويتعرّون عامدين عن الرّداء الرّبّانيّ المقدّر لتزيين هيكل الإنسان، يحيق بمصائر البشريّة على الفور انحطاطٌ مؤسفٌ يجلب في أذياله كلّ ما يمكن أن تأتي به النّفس الضّالّة من شرور. وفي ظروفٍ كهذه فإنّ انحراف الطّبيعة الإنسانيّة، وانحطاط السّلوك الإنسانيّ، وفساد النُّظُم الإنسانيّة وانهيارها، تَظْهر كلّها على أبشع صورةٍ وأكثرها مَدْعَاةً للاشمئزاز. فينحطّ الخُلُق الإنسانيّ، وتتزعزع الثّقة، ويتراخى الانتظام، ويَخْرَس الضّمير، ويغيب الخجل والحياء، وتندثر الحشمة والأدب، وتعوجّ مفاهيم الواجب والتّكاتف والوفاء والإخلاص ويخمُد بالتّدريج الشّعور بالأمن والسّلام، والفرح والسّرور، والأمل والرّجاء.
ويجمل بنا الإقرار بأنّ هذه هي الحالة الّتي يقترب منها الأفراد والمؤسّسات على حدٍّ سواء. وفي رثاء حضرة بهاء الله لمأساة هذه البشريّة الضّالّة تفضّل قائلًا: “لا يُرى في الحقيقة نفسان متّحدان ظاهرًا وباطنًا. ومع أنّ الكلّ خلقوا للاتّحاد والاتّفاق ترى آثار النّفاق موجودةً ومشهودةً في الآفاق.” ثمّ يمضي حضرته معلنًا في اللّوح ذاته بقوله: “إلى متى الغفلة إلى متى الاعتساف إلى متى الفوضى والاختلاف … في الواقع تهبّ من جميع الجهات أرياح اليأس. والفوضى والاختلاف في تزايدٍ مستمرّ …”
إنّ تفشّي عدم التّسامح الدّينيّ من جديد، والعداوة العرقيّة، والغطرسة القوميّة؛ وتزايد شواهد الأنانيّة، والرَيب، والخوف، والتّدليس؛ وانتشار الإرهاب، والخروج على القانون، والإدمان والجريمة؛ ثمّ الظّمأ الّذي لا يُروى غليله والسّعي المحموم وراء زخارف الدّنيا وثرواتها وملذّاتهاّ؛ وضعف التّماسك الأسريّ، وتراخي رقابة الأبويْن والسّقوط في وهدة الانغماس في التّرف والبذخ؛ والموقف اللّامسئول تجاه الزّواج وما ترتّب عليه من ارتفاع موجة الطّلاق؛ وانحلال الفنون والموسيقى، وتلويث المؤلّفات الأدبيّة، وفساد الصّحافة، وتزايد نفوذ وأنشطة “دعاة الانحلال” الّذين يروّجون لزواج المرافقة، ويعظون بفلسفة العري، ويعدّون الاحتشام وهمًا، ويرفضون النّظر إلى إنجاب الأطفال على أنّه الغرض الأوّليّ المقدّس من الزّواج، ويندّدون بالدّين على أنّه أفيون الشّعوب، والّذين إذا ما أطلق لهم العنان لعادوا بالجنس البشريّ إلى البربريّة والفوضى والانقراض التّامّ – كلّ ذلك يلوح كأبرز سمات مجتمعٍ منحلٍّ، مجتمعٍ إمّا أن يولد من جديد أو يهلك ويفنى.

انهيار البنية السّياسيّة والاقتصاديّة

أمّا على الصّعيد السّياسيّ، فيمكننا أن نتبيّن تدهورًا مماثلًا، وشواهدَ لا تقلّ بروزًا على التّفكّك والاضطراب في العصر الّذي نحياه –العصر الّذي قد يتبيّن مؤرخو المستقبل جيّدًا أنّه كان مُمهِّدًا للعصر العظيم الّذي لا يمكننا الآن سوى تكوين صورة باهتة لأيّامه الذهبيّة.
إنّ الأحداث المحمومة العنيفة الّتي أنهكت في السّنوات الأخيرة بنية المجتمع السّياسيّة والاقتصاديّة إلى حدٍّ يقترب من الانهيار الكامل، لهي من الكثرة والتّعقيد بحيث لا نطمع في الوصول إلى تقديرٍ وافٍ لطبيعتها في حدود هذا الاستعراض العامّ. كما أنّ هذه الاضطرابات، مع جسامتها، لا يبدو أنّها قد بلغت ذروتها أو استنفدت كامل عنفوان طاقتها الهادمة. ويطالعنا العالم بأسره، من أيّ مكانٍ وبأيّة كيفيّةٍ تفحّصناه، بالمشهد الحزين المؤسف لكيانٍ ضخمٍ منهكٍ ومحتضرٍ يجري تمزيق أوصاله سياسيًّا وخنقه اقتصاديًّا على يد قوى لم يعد يسيطر عليها أو يدرك كنهها. فالكساد العظيم، الّذي تلى أشدّ المحن الّتي مرّت بها البشرية قسوةً على الإطلاق، وتفكّك وانحلال منظومة معاهدة فرساي، وعودة النّزعة العسكريّة بأخطر مظاهرها، وإخفاق التّجارب الهائلة والمؤسّسات الوليدة في ضمان أمن واطمئنان الشّعوب والطّبقات والأمم، كلّ ذلك قد خيّب رجاء البشريّة إلى حدٍّ كبيرٍ وحطّ من معنويّاتها. فتحطّم جلّ آمالها، وذبلت حيويّتها، واختلّت معيشتها بشكلٍ غريب، وتعرّضت وحدتها لخطرٍ جسيم.
فعلى أرض القارّة الأوروبيّة عادت الكراهيّات المتأصّلة والخصومات المتزايدة من جديد لتستقطب شعوبها وأممها المنحوسة في تحزّباتٍ قدّر لها التّعجيل في وقوع أشدّ البلايا الّتي عانتها البشريّة عبر سجلّ استشهادها الطويل رعبًا وشراسة. وعلى قارّة أمريكا الشّماليّة نجد أنّ الضّائقة الاقتصاديّة، والفوضى الّتي ألمّت بقطاع الصّناعة، والسُّخط العامّ على التّجارب الفاشلة الّتي قُصد بها إعادة التّوازن إلى اقتصادٍ مختلّ، والقلقَ والخوفَ الناجميْن عن التّعقيدات السياسيّة المحتمل حدوثها في كلٍّ من أوروبّا وآسيا، كلّها تنذر باقتراب مرحلةٍ قد تبرهن بجدارة على أنّها إحدى أشدّ المراحل حرجًا في تاريخ الجمهوريّة الأمريكيّة. أمّا قارّة آسيا، وهي الّتي لا تزال واقعةً إلى حدٍّ كبيرٍ في قبضة واحدةٍ من أقسى البلايا الّتي عانتها في تاريخها الحديث، فتجد نفسها مهدّدةً في أطرافها الشّرقيّة بانطلاق قوى تهدّد بإذكاء الصّراعات الّتي لا بدّ أن يولّدها في النّهاية تزايد نزعة أجناسها المحرّرة إلى القوميّة والتحوّل إلى اقتصاديّاتٍ عمادها التّصنيع. وفي قلب إفريقيا تتأجّج نار حربٍ وحشيّةٍ دمويّةٍ – حربٍ مقدّر لها، بصرف النّظر عن نتيجتها، أن تحدثَ تأثيرًا مقلقًا شديد الوطأة على أعراق الجنس البشريّ وأممه السّوداء جرّاء تداعياتها عالميّة النّطاق.
وبما لا يقلّ عن عشرة ملايين نفسٍ تحت السّلاح مهيّئين ومدرّبين على استخدام أفظع ما ابتكره العلم من آلات الدّمار، وبثلاثة أضعاف هذا العدد يرزحون في حالةٍ من السُّخط والغليان تحت حكم أجناسٍ وحكوماتٍ دخيلةٍ، وبما يماثل هذا العدد من جيشٍ جرّار من مواطنين يحيون حياةً مريرةً ويعجزون عن الحصول على السّلع والضّروريّات المادّيّة الّتي يتعمّد الآخرون إتلافها، وحشدٍ أكبر من البشر يئنّون تحت عبء تسليحٍ متزايدٍ بلا هوادة، وتضربهم الفاقة والعوز جرّاء الانهيار شبه الكامل للتّجارة العالميّة – بشرورٍ كهذه، يبدو أنّ البشريّة تدخل بكلّ تأكيد مشارف أشدّ مراحل وجودها إيلامًا وعذابًا.
فهل هناك ما يثير الدّهشة أن يأتي التّحذير التّالي عمدًا في سياق بيانٍ صدر أخيرًا عن أحد وزراء أوروبّا البارزين، إذ قال: “لو قدّر للحرب أن تنشب مرّةً أخرى على نطاقٍ كبيرٍ في أوروبّا، فلا بدّ أن تؤدّي إلى انهيار المدنيّة كما نعرفها. وعلى حدّ تعبير الرّاحل اللّورد برايس ʼإذا لم تنهوا الحرب فإنّها ستنهيكمʽ.” ويشهد أحد أبرز الشّخصيّات من بين ديكتاتوريّي أوروبّا الحاليّين قائلًا: “أوروبّا المسكينة في حالةٍ من الإنهاك … لقد فقدت قدرتها على التّعافي، تلك القوّة الجوهريّة الباعثة على التّماسك والتّلاحم. وإذا نشبت حربٌ أخرى فإنّها ستقضي علينا.” بينما كتب أحد أبرز أجلّاء الكنيسة المسيحيّة وأغزرهم علمًا: “لا بدّ من صراعٍ كبيرٍ آخرَ في أوروبّا لكي تتأسّس سلطةٌ دوليّةٌ بشكلٍ باتٍّ ودائم. وهذا الصّراع سيكون أشدّ الويلات هولًا، وقد يُطلب من هذا الجيل أن يقدّم مئات الآلاف من الأنفس قربانًا على مذبحها.”
إنّ الفشل الذّريع الّذي منيت به مؤتمرات الاقتصاد ونزع السّلاح؛ والعراقيل الّتي تجابه مفاوضات الحدّ من التّسلّح البحريّ؛ وانسحاب اثنتين من أقوى دول العالم وأثقلها عتادًا من أنشطة عصبة الأمم وعضويّتها؛ بالاضافة إلى قصور نظام الحكم النّيابيّ كما تشهد بذلك التّطوّرات الأخيرة في أوروبّا وأمريكا؛ وعجز زعماء الحركة الشّيوعيّة ودعاتها عن تبرير مبدأ دكتاتوريّة البروليتاريا الّذي طالما تشدّقوا به؛ فضلًا عن الأخطار والحرمان الّذي جرّه حكّام الأنظمة الشّموليّة على رعاياهم في السّنوات الأخيرة – تدلّ جميعها بما لا يقبل الشكّ على عجز مؤسّسات اليوم الحاضر عن تجنّب الويلات الّتي باتت تهدّد المجتمع البشريّ أكثر فأكثر. ويحقّ لجيلٍ حائرٍ أن يتساءل عمّا عساه يبقى لرأب الصّدع الآخذ في الاتّساع دونما توقّف ويهدّد بابتلاعه في أيّة لحظة؟
أما وقد أحاطت الشّواهد المتراكمة الدّالّة على الانهيار والفوضى والإفلاس من كلّ الجهات، فقد شرع كلّ ذي فكرٍ جادّ من الرّجال والنّساء في معظم مناحي الحياة يشكّكون فيما إذا كان المجتمع، بنظامه الحاليّ، بمقدوره وحده ودون معونة أن ينتشل نفسه من المستنقع الّذي بات يغرق فيه باطّراد. فكلّ نظامٍ قاصرٍ عن توحيد الجنس البشريّ قد جُرّب مرارًا وتكرارًا وتبيّن قصوره. وشُنّت حروبٌ تلو حروب، وعُقدت مؤتمراتٌ لا تحصى كانت مسرحًا للتّشاور. وتمّ التّفاوض بشقّ الأنفس بشأن معاهداتٍ واتّفاقيّاتٍ ومواثيقَ لا تكاد تبرم حتّى يعاد النّظر فيها. واختبرت نظم حكمٍ بكلّ صبرٍ وأناة، وما فتئت تصاغ من جديد وتُستبدل. كما وُضعت المشروعات الاقتصاديّة من أجل إعادة الإعمار بكلّ عناية ونُفِّذت بتفاصيلها وحذافيرها. ومع كلّ هذا وذاك توالت الأزمة تلو الأزمة، وتسارعت بنفس الكيفيّة وتيرة انهيار عالمٍ قد تزعزع بدرجةٍ تنذر بالخطر. إنّ هوّةً سحيقةً فاغرةً فاهها تهدّد بأن تبتلع في طامّةٍ واحدةٍ شاملة الأمم الرّاضية والسّاخطة، النُّظم الدّيمقراطيّة والدّيكتاتوريّة، الرّأسماليّين والعمّال، الأوروبيّين والآسيويّين، المؤمنين وغير المؤمنين، البيض والسّود على السّواء. وقد يرى النّاقد المتشكّك أنّ عنايةً إلهيّةً غاضبةً قد تخلّت عن كوكبٍ سيّئ الطّالع تاركةً إيّاه لقدره المحتوم، وختمت على مصيره المشؤوم. ولا مِرية أنّ بشريّةً ابتليت بالمحن وضاعت أحلامها قد فقدت وجهتها وبدت أيضًا وكأنّها قد فقدت إيمانها ورجاءها. فهي تترنّح على شفا كارثةٍ دونما راعٍ أو بصيرة، كأنّما استحوذ عليها إحساسٌ بأنّهُ مقضيٌّ عليها بالهلاك، وتجثُم على مُقدَّراتها ظلمةٌ لا تفتأ تزداد قتامةً وهي تنزلق أكثر فأكثر من أطراف أحلك دائرةٍ في حياتها المضطربة لتخترق مركزها.
ومع ذلك، ألا يمكننا القول، بينما يتكاثف الظّلام دون توقّف، أنّ بوارق الأمل الّتي تلمع بين حينٍ وآخرَ في الأفق العالميّ، تبدو أحيانًا وكأنّها تخفّف من حلكة الظّلام الّذي يكتنف البشريّة؟ وهل يكون منافيًا للحقيقة أن نقرّ بأنّه، في عالمٍ مزعزعٍ في إيمانه، مشوّشٍ في أفكاره، متسابقٍ في تسلّحه، متوحّشٍ في أحقاده وحزازاته ومنافساته، يمكننا أن نلحظ فعلًا، ولو بقدرٍ ضئيل، تقدّم القوى الّتي تعمل في توافقٍ مع روح العصر؟ ذلك لأنّه، وعلى الرّغم من استمرار تصاعد جعجعةِ قوميّةِ ما بعد الحرب وازدياد إلحاحها على مسامعنا يومًا بعد يوم، ومع أنّ عصبة الأمم لا زالت في طورها الجنينيّ وسُحب العاصفة الآخذة في التّجمّع من حولها قد تتسبّب في حجبٍ تامٍّ لقواها وطمس معالم آليّاتها لبعض الوقت، إلّا أنّ المنحى الّذي تعمل فيه هذه المؤسّسة نفسها هو ذو أهمّيّةٍ بالغة. فالأصوات الّتي علت منذ تأسيسها، والجهود الّتي بُذلت، والعمل الّذي تمّ إنجازه، ينبئ بالانتصارات المقدّر إحرازها على يد هذه المنظّمة القائمة حاليًّا، أو أيّة منظّمة أخرى تحلّ محلّها.

مبدأ حضرة بهاء الله في الأمن الجماعيّ

لقد كان إبرام ميثاقٍ عامٍّ خاصٍّ بالأمن هو الهدف المحوريّ الّذي دارت حوله تلك الجهود منذ ولادة عصبة الأمم. فمعاهدة الضّمان الّتي عُني بها أعضاء عصبة الأمم وتداولوا بشأنها في المراحل الأولى لتطوّرها؛ والمداولات حول بروتوكول جنيف الّذي أثارت مناقشته في فترةٍ لاحقةٍ جدلًا حادًّا بين الدّول داخل عصبة الأمم وخارجها؛ وما تلا ذلك مباشرة من اقتراح إقامة ولاياتٍ أوروبيّةٍ متّحدة وتوحيد تلك القارّة على الصّعيد الاقتصاديّ؛ وأخيرًا وليس آخرًا سياسة فرض العقوبات بمبادرةٍ من أعضاء العصبة، كلّ ذلك قد يعتبرُ أهمّ المعالم وأبرزها في تاريخ عصبة الأمم المتقلّب. أمّا قيام ما لا يقلّ عن خمسين دولة من دول العالم، وجميعها أعضاء في عصبة الأمم، بالتّوصّل بعد مداولاتٍ ناضجةٍ إلى إصدار حكمها على عملٍ عدوانيّ رأت أنّ واحدة من أعتى الدّول الأوروبيّة، وهي شريكتهم في عضويّة العصبة، قد ارتكبته عمدًا؛ واتّفاق غالبيّة تلك الدّول على إنزال عقوباتٍ جماعيّة على تلك الدّولة المدانة بالاعتداء، ونجاحها بدرجةٍ كبيرة في تنفيذ قرارها هذا، فهو بلا شكّ حدثٌ لا مثيل له في تاريخ البشريّة. ذلك لأنّه لأوّل مرّةٍ في تاريخ البشريّة جرى تصوّرٌ ومناقشةٌ واختبارٌ جديّ لنظام الأمن الجماعيّ الّذي أنبأ به حضرة بهاء الله وبيّنه حضرة عبد البهاء. ولأوّل مرّةٍ في التّاريخ أيضًا تمّ اعترافٌ رسميّ وإقرارٌ علنيّ بأنّه، لكي يتحقّق نظام الأمن الجماعيّ هذا بصورةٍ فعّالة، لا بدّ بالضّرورة من توفّر الحزم والمرونة كليهما: الحزم الّذي يستلزم اللّجوء إلى قوّةٍ كافيةٍ لضمان فاعليّة النّظام المقترح، والمرونة لتمكين الآليّة المستحدثة من تلبية الاحتياجات والتّطلّعات المشروعة للمتضرّرين من مؤيّدي هذا النّظام. ولأوّل مرّةٍ في تاريخ البشريّة أيضًا تُبذل جهودٌ مبدئيّةٌ من جانب دول العالم لتحمّل مسئوليّاتها الجماعيّة، وتعزيز تعهّداتها الشفهيّة بالاستعداد الفعليّ للعمل المشترك. ولأوّل مرّةٍ في التّاريخ أيضًا تجلّت حركةٌ من رأيٍ عامٍّ تأييدًا للقرار الّذي أصدره قادة الأمم وممثلوها، ومن أجل توفير عملٍ جماعيّ لتنفيذ هذا القرار.
كم هي جليّةٌ ومنبئةٌ تلك الكلمات الّتي نطق بها حضرة بهاء الله في ضوء التّطوّرات العالميّة الأخيرة: “أن اتّحدوا يا معشر الملوك به تسكن أرياح الاختلاف بينكم وتستريح الرّعية ومَن حولكم إن أنتم من العارفين، إن قام أحد منكم علی الآخر قوموا عليه إن هذا إلاّ عدل مبين.” وفي استشرافٍ منه للجهود المبدئيّة الّتي تُبذل الآن كتب حضرته قائلا: “لا بدّ أن تُشكّل في الأرض هيئةٌ عظمى يتفاوض الملوك والسّلاطين في تلك الهيئة بشأن الصّلح الأكبر … وإذا قام ملكٌ على ملكٍ قام الجميع متّفقين على منعه.”
أمّا حضرة عبد البهاء فقد كتب متناولًا هذه المسألة بالشّرح قائلًا: “يتقدّم … الملوك … ويبرمون معاهدةً قويّة، ويؤسّسون ميثاقًا بشروطٍ محكمةٍ ثابتةٍ فيعلنونها، ثمّ يؤكّدونها بالاتّفاق مع الهيئة البشريّة بأسرها … وتهتمّ جميع قوى العالم لثبات هذا العهد الأعظم وبقائه … ويجب أن يُبنى هذا العهد القويم على أساس إنّه إذا أخلّت دولةٌ ما بشرطٍ من الشّروط من بعد إبرامه قامت كلّ دول العالم على اضمحلالها، بل هبّت الهيئة البشريّة جميعًا لتدميرها بكلّ قوّتها.”
ولا مجال للشّكّ في أنّ ما تحقّق بالفعل، رغم أهمّيّته وتفرّده في تاريخ البشريّة، لا يزال قاصرًا إلى حدٍّ كبير عن الوفاء بالمتطلّبات الأساسيّة للنّظم الّذي بشّرت به هذه الكلمات. فعصبة الأمم، كما سيلاحظ معارضوها، لا تزال تفتقر إلى العالميّة الّتي هي الشّرط اللّازم لتحقيق نجاحٍ دائمٍ في التّسوية النّاجعة للنّزاعات الدّوليّة. فالولايات المتّحدة الأمريكيّة، وهي مَن جاءت بعصبة الأمم، قد أدارت ظهرها لها وما زالت مصمّمة على هذه اللّامبالاة، بينما تخلّت عن قضيّتها ألمانيا واليابان، اللّتان كانتا من بين أقوى مناصريها، وانسحبتا من عضويّتها. وقد يرى فريقٌ آخر أنّ القرارات الّتي توصّلت إليها العصبة والإجراءات الّتي اتّخذتها حتّى الآن لا تُعدّ دليلًا دامغًا على حدوث تضامنٍ عالميّ وإنّما هي مجرّد بادرةٍ رائعة. بينما قد يحتجّ آخرون بأنّه رغم صدور هذا الحكم وتقديم هذه التّعهّدات، فإنّ العمل الجماعيّ لا بدّ في النّهاية أن يخفق في تحقيق غايته القصوى، وإنّ العصبة نفسها سوف تتلاشى وتغرق في طوفان المحن المقدّر لها أن تكتنفَ الجنس البشريّ بأكمله. ومهما يكن من أمر، فإنّ مغزى وأهمّيّة الخطوات الّتي اتّخذت حتّى الآن لا يمكن تجاهلها. فمهما كانت مكانة عصبة الأمم الآن أو ما سيسفر عنه قرارها التّاريخيّ، ومهما كانت المحن والنّكسات الّتي قد يتعيّن عليها مجابهتها وتحمّلها في المستقبل القريب، فالحقيقة الّتي يجب الاعتراف بها هي أن ّقرارًا مهمًّا كهذا يشكّل أحد أهم المعالم المميّزة على الطّريق الطّويل الشّاق الّذي لا بدّ وأن يقودها إلى هدفها، ألا وهو المرحلة الّتي ستصبح فيها وحدة كافّة الأمم المبدأ المهيمن للحياة ما بين الدول.
بيد أنّ هذه الخطوة التّاريخيّة ليست سوى بصيصٍ خافتٍ في الظّلام الّذي يكتنفُ إنسانيّةً مبلبلة. فهي خطوة قد يثبُت في الحقيقة أنّها ليست سوى مجرّد لمعانٍ أو ومضةٍ عابرة، في خضمّ فوضى آخذة في التّفاقم. فلا بدّ لعمليّة الهدم والانحلال هذه أن تستمرّ بلا هوادة، ولا بدّ أن يزداد تأثيرها النّاخر تعمّقًا وتغلغلًا في نخاع عصرٍ متداعٍ. ولا زالت هناك حاجة إلى الكثير من المعاناة قبل أن تلتحم أممُ وعقائدُ وطبقاتُ وأجناسُ البشريّة المتناحرة في بوتقةِ بلاءٍ شاملٍ، وتصهرها نار محنةٍ شرسة، لتجعل منها رابطة شعوبٍ واحدةٍ متّحدةٍ عضويًّا، ونظامًا واحدًا متّحدًا مترامي الأطراف يعمل في تناغمٍ وانسجام. وقد تتضافر بلايا لا يمكن تصوّر هولها، مع كوارثَ وانقلاباتٍ وحروبٍ ومجاعةٍ ووباءٍ ليس بمقدور عقلٍ أن يتخيّلها لتنقش على قلب جيلٍ غافلٍ تلك الحقائق والمبادئ الّتي أبى أن يؤمن بها ويتّبعها. ولا مفرّ من أن يزحف شللٌ أشدّ إيلامًا ممّا قاساه حتّى الآن ويزيد من ابتلاء نسيج مجتمعٍ محطّمٍ قبل أن يتسنّى بناؤه وإحياؤه من جديد.
يتفضّل حضرة بهاء الله بقوله: “إنّ التّمدّن الّذي يذكره علماء مصر الصّنايع والفضل لو يتجاوز حدّ الاعتدال لتراه نقمةً على النّاس … إنّه يصير مبدأ الفساد في تجاوزه كما كان مبدأ الإصلاح في اعتداله … سوف تحترق المدن من ناره وينطق لسان العظمة الملك لله العزيز الحميد.” ويزيد حضرته شارحًا: “منذ نزول سورة الرّئيس حتّى يومنا هذا لم تفز الأرض بالسّكون ولم يتزيّن العباد بالاطمئنان … قد بلغ مرض العالم مقامًا يقارب اليأس، إذ إنّ الطّبيب ممنوعٌ والمتطبّب مقبولٌ ومشغول … قد أخذ غبار النّفاق القلوب وأحاط الأبصار سوف يرون ما عملوا في أيّام الله.” كما يتفضّل حضرته قائلًا: “هذا يومٌ فيه تحدّث الأرض بما فيها والمجرمون أثقالها … نادَى المنادِ وانقعرت أعجاز النّفوس ذلك قهرٌ شديد. إنّ أصحاب الشّمال في زفرةٍ وشهيقٍ. وأصحاب اليمين في مقامٍ كريمٍ يشربون خمر الحيوان من أيادي الرّحمن ألا إنّهم من الفائزين.”

ملأ الاسم الأعظم

من بوسعهم أن يكونوا هم الفائزين سوى ملأ الاسم الأعظم، الّذين تُعدّ أنشطتُهم الشّاملةُ للعالم ودائبةُ الاستحكام بمثابة تلك العمليّة البنّاءة الوحيدة في عالمٍ أخذت معظم مؤسّساته العلمانيّة والدّينيّة في التّفكّك والانحلال؟ فهم بحقّ “أصحاب اليمين” الّذين يرتكز ما أوتوه من “مقامٍ كريم” على قواعد نَظم حضرة بهاء الله العالميّ؛ فُلك النجاة الأبديّة في هذا اليوم العبوس القمطرير. فلا أحد سواهم من بين أهل الأرض بوسعه أن يتبيّن، وسط ركام عصرٍ عاصفٍ، يد المخلّص السّماويّ الّتي ترسم مساره وتتحكّم في مُقدَّراته. ولا أحد سواهم عليم بالنّموّ الصّامت لذلك النّظم العالميّ المحكم الّذي يضفِرون نسيجه بأيديهم.
وإذ هم مدركون لمهمّتهم السّامية، وواثقون فيما أوتي دينهم من قدرةٍ على بناء المجتمع، يمضون قُدُمًا، دون تردّدٍ أو وجل، في جهودهم الرّامية لابتكار وصقل الأدوات والوسائل اللّازمة الّتي يمكن لنظم حضرة بهاء الله العالميّ الجنين أن ينضج ويتطوّر من خلالها. فعمليّة البناء البطيئة غير المشهودة هذه، الّتي تكرّس لها الجامعة البهائيّة في سائر أنحاء العالم كلّ حياتها، تشكّل الأمل الوحيد لبشريّةٍ مبتلاة. إذ إنّها عمليّةٌ تحرّكها وتسيّرها القوّة النّافذة المنبعثة من المشيئة الإلهيّة الّتي ليس لها تبديل ولا تحويل، وهي عمليّة تنمو وتتطوّر داخل إطار النّظم الإداريّ لدينه المبين.
وفي عالمٍ تصدّع بنيان مؤسّساته السّياسيّة والاجتماعيّة، وغَشِيَتْ بصيرته، وارتبك وجدانه، ووهنت أنظمته الدّينيّة وتعرّت عن فضائلها، صارت هذه الأداة الإلهيّة الشّافية، وهذه القدرة الرّبّانيّة المقلّبة، وهذه القوّة المؤلِّفة الفاعلة النّافذة، تتشكّل وتتبلور على هيئة مؤسّساتٍ، حاشدةً قواها ومتأهّبةً للغزو الرّوحيّ والخلاص الشّامل للجنس البشريّ. وإن كان المجتمع الّذي يجسّد مثاليّاتها نفرًا قليلًا، ومنافعها المباشرة الملموسة لا زالت ضئيلة، إلّا أنّ الإمكانات المودعة فيها، والمقدّر لها من خلالها أن تحيي النّفوس من جديد وتعيد بناء عالمٍ محطّم، لا تعدّ ولا تحصى.
فها هي قد أفلحت، خلال ما يقرب من قرنٍ من الزّمان، وسط جلبةِ وهيجانِ عصرٍ تائهٍ، ورغم الاضطهادات المتواصلة الّتي تعرّض لها قادتُها ومؤسّساتها وأتباعها، في الحفاظ على هويّتها، وتعزيز ثباتها وقوّتها، وصيانة وحدتها العضويّة، والحفاظ على أصالة أحكامها ومبادئها، وإقامة دفاعاتها، وبسط وإحكام مؤسّساتها. وكم هي عديدةٌ وعاتية تلك القوى الّتي تآمرت، من الدّاخل والخارج وفي بلاد قاصية ودانية على السّواء، على أن تطفئ نورها وتمحو اسمها المبارك. فقد ارتدّ البعض عن مبادئها وتنكّر لدعواها بكيفيّةٍ مشينة. ونبَزها البعض الآخر بأقذع ما تفوّه به الرّؤساء المغتاظون لأيّة مؤسّسةٍ دينيّة من لعنات. بينما أهال عليها غيرهم من البلايا والمذلّات ما لا يأتي إلّا على يد سلطنةٍ مستبدّة في عنفوان جبروتها.
لقد كان أقصى ما كان يأمل المجاهرون والمضمِرون من أعدائها في تحقيقه هو إعاقة نموّها وحجب غايتها لبعض الوقت. أمّا ما أنجزوه بالفعل فهو تطهير كيانها، وحثّها على الغوص نحو أعماقٍ أعظم، وتحفيز روحها، وتهذيب مؤسّساتها، وتوطيد وحدتها. بيد أنّهم لم يفلحوا أبدًا في إحداث انقسامٍ أو صدعٍ دائم في جمع أتباعها الهائل.
أمّا الّذين خانوا دعوتها، أنصارها فاترو الحماس وذوو النّفوس الضّعيفة، فقد ذوَوْا وتساقطوا كأوراق الأشجار الجافّة الميّتة، عاجزين عن حجب بريقها أو زعزعة بنيانها. وأمّا أشدّ أعدائها عنادًا وحقدًا، أولئك الّذين هاجموها من الخارج، فقد أطيح بهم من مناصبهم، ونالوا جزاءهم المحتوم بأشدّ الطّرق إثارةً للدّهشة في النّفوس. لقد كانت إيران أوّل من قام على قمعها ومقاومتها، فسقط ملوكها على تراب الذّلّ والهوان، وانهارت سلالتهم، ولُعنت سيرتهم، وشانت بالكلّيّة سمعة رجال الدّين الّذين كانوا أنصارهم ودعامة حكومتهم المتداعية. كما أنّ دولة تركيّا الّتي نفت مؤسّسها الكريم ثلاث مرّاتٍ متعاقبة، وأنزلت بحضرته عقوبة سجنٍ مؤبّدٍ قاسية، قد مرّت بأقسى ما سجّله تاريخها من محنٍ وثورات وأبعدها أثرًا، وتقلّصت من كونها واحدةً من أشدّ الإمبراطوريّات بأسًا إلى جمهوريّةٍ آسيويّةٍ ضئيلة، ومُحيت سلطنتها، وأُطيح بسلالتها، وأُلغيت خلافتها، تلك الّتي كانت أقوى مؤسّسات الإسلام وأعظمها.
هذا بينما طفق دين الله، الّذي استهدفته هذه الخيانات الهائلة وقصدته تلك الهجمات القاصفة، ينتقل من منعةٍ إلى منعة، ماضٍ قُدُما لا يثنيه ولا يفتُّ في عَضُده ما أصابه من ضرٍّ وأذى. ونفث في نفوس أتباعه الأوفياء، وهو في خضمّ بلاياه، عزمًا لا تقوّضه أيّ عقبةٍ مهما عَظُمت، وأشعل في صدورهم إيمانًا لا تطفئه أحلك المحن، وبعث في قلوبهم أملًا لا تبدّده أشدّ القوى عزمًا وإصرارًا.

دينٌ عالميّ

بعد أن كفّ دين حضرة بهاء الله عن قبول وصفه بأنّه حركة، أو رابطة أو ما شابه ذلك من الأوصاف الّتي لم تنصف نظمه الّذي أخذ يتكشّف شيئًا فشيئًا، وبعد أن نأى بنفسه عن مسمّياتٍ كالفرقة البابيّة والنِّحلة الآسيويّة والجماعة المنشقّة من شيعة الإسلام، تلك المسمّيات الّتي دأب الجهلاء والخبثاء على وصفه بها، وبعد أن رفض تصنيفه على أنّه مجرّد فلسفةٍ للحياة أو نظامٍ أخلاقيّ منتقى من مصادرَ شتّى، أو حتّى أن يُعتبر دينًا جديدًا، نراه ينجح الآن بشكلٍ واضحٍ لائح في إثبات ادّعائه وأحقّيّته في أن يُعدّ دينًا عالميًّا من المقدّر له أن يبلغ في ميقاته المعلوم مكانته كرابطة شعوبٍ عالميّة تكون في آنٍ واحد الأداة والرّاعية للصّلح الأعظم الّذي نادى به مبدعه الكريم. وبينما هو أبعد ما يكون عن الرّغبة في زيادة عدد الأنظمة الدّينيّة الّتي أقلقت ولاءاتها المتضاربة عبر أجيالٍ عديدة أمن البشريّة وأمانها، فإنّ هذا الدّين يغرس في نفس كلّ واحدٍ من المؤمنين به حبًّا جديدًا لمختلف الدّيانات الّتي صارت ممثّلةً في زمرة أتباعه، وتقديرًا أصيلًا للوحدة الّتي تقوم عليها.
وهذه هي شهادة شخصيّةٍ ملكيّة عن دعواها ومقامها: “إنّها بمثابة كنفٍ رحيبٍ يحتضن جميع أولئك الّذين طال بحثهم عن كلمات الأمل والرجاء. إنّها تعترف بكلّ أنبياء الله العظام الّذين جاءوا من قبلها، ولا تقوّض أيّة عقائدَ أخرى وتترك كلّ الأبواب مفتوحة.” كما كتبت أيضًا: “إنّ تعاليم البهائيّة تُدخِل السّكينة إلى الرّوح والأمل إلى القلب. ولِمَن يبحثون عن الطّمأنينة واليقين فإنّ كلمات الآب السّماويّ هي بمثابة ينبوعٍ في الصّحراء بعد هيمانٍ طويل.” كما شهدت في بيانٍ آخر لها مشيرةً إلى حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء قائلة: “إنّ كتاباتهما هي بمثابة نداءٍ عظيمٍ للسّلام، يتخطّى كلّ الحواجز والحدود، ويسمو فوق كلّ خلافٍ حول العقائد والطّقوس … إنّها لرسالةٌ رائعة تلك الّتي منحنا إيّاها بهاء الله وابنه عبد البهاء. فهما لم يقيماها بالقوّة، لعلمهما بأنّ بذرة الحقّ الأبديّ الكامنَة في قلبها ليس لها إلّا أن تضرب بجذورها وتنتشر.” وأنهت بيانها بمناشدةٍ ختاميّةٍ قائلة: “إذا ما بلغ مسامعكم اسم بهاء الله أو عبد البهاء لا تُعرضوا عن كتاباتهما. ابحثوا في كتبهما، ودعوا كلماتهما ودروسهما المجيدة الجالبة للسّلام والموجدة للمحبّة تنفذ إلى أفئدتكم كما نفذت إلى فؤادي.”
وبفضل طاقاته الخلّاقة المُنظِّمة للأمور، السّامية بالنّفوس، فقد استوعب دين حضرة بهاء الله واحتضن الأعراق والقوميّات والعقائد والطّبقات المختلفة الّتي آوت إلى ظلّه وتعهّدت بالولاء لأمره بكلّ ثبات. فحوّل قلوب أتباعه، وبدّد تعصّباتِهم، وطيّب خواطرهم، وعلا بمفاهيمهم، وسما بدوافعهم، ونسّق جهودهم، وغيّر من نظرتهم إلى الأمور. ومع حفاظه على حبّهم لأوطانهم وصونه لولاءاتهم الثّانويّة، فقد جعل منهم هذا الدّين محبّين للجنس البشريّ ومناصرين أشدّاء لأفضل مصالحه وأصدقها. ومع حفاظه على سلامة إيمانهم بالأصل الإلهيّ لمختلف أديانهم، فقد مكّنهم من تصوّر الهدف الجوهريّ الّذي ترمي إليه هذه الدّيانات، واكتشاف فضائلها، والاعتراف بتعاقبها واعتماد بعضها على بعض، وكمالها، واتّحادها، والإقرار بالصّلة الجوهريّة الّتي تربطها به. فتلك المحبّة العموميّة الفائقة الّتي يكنّها أتباع الدّين البهائيّ لإخوانهم من أيّ جنسٍ أو عقيدةٍ أو طبقةٍ أو قوميّة ليست شعورًا غامضًا ولا يمكن أن يقال عنها إنّها ذات دوافعٍ مصطنعة، بل هي محبّة تلقائيّة وأصيلة في آنٍ واحد. فكلّ مَن استدفأت قلوبهم من الأثر المحرّك لنار المحبّة الإلهيّة الخلّاقة يحبّون مخلوقات الله ابتغاء وجهه، ويلمحون في وجه كلّ إنسانٍ آيةً من تجلّي بهائه.
ويمكن أن يقال بحقّ عن هؤلاء الرّجال والنّساء أنّهم يعتبرون “كلّ أرضٍ غريبة وطنًا، وكلَّ وطنٍ أرضًا غريبة”. إذ لا بدّ أن نتذكّر أنّهم مواطنو ملكوت حضرة بهاء الله. ورغم استعدادهم للأخذ بنصيبٍ وافرٍ من الفوائد الدّنيويّة والمسرّات العارضة الّتي قد تتيحها هذه الحياة الفانية، ورغم أنّهم توّاقون إلى المساهمة في أيّ نشاطٍ يؤدّي إلى إثراء هذه الحياة وسعادتها وسلامها، إلّا إنّهم لا يستطيعون قط أن ينسوا أنّ هذه الحياة ما هي إلّا مرحلة قصيرة عابرة من مراحل وجودهم، وأنّ الّذين يحيونها ما هم إلّا حجّاحٌ وعابرو سبيل مقصدهم هو المدينة السّماويّة، ووطنهم بلدٌ لا تفنى سعادته ولا يخبو إشراقه.
وعلى الرّغم من ولائهم لحكوماتهم، واعتنائهم البليغ بكلّ ما يتعلّق بأمنها ورفاهها، وتلهّفهم على المشاركة في كلّ ما يعزّز أفضل مصالحها، فإنّ الدّين الّذي ينتسب إليه أتباع حضرة بهاء الله هو دينٌ يؤمنون، بكلّ رسوخٍ وثبات، بأنّ الله قد سما به عن عواصف مضمار السّياسة وانقساماتها وخصوماتها. ويدركون أنّ دينهم غير سياسيّ في جوهره، يتخطّى القوميّات في طبيعته، حازمٌ في تبرّئه من الحزبيّة، منفصلٌ تمامًا عن أيّة مطامعٍ أو ممارساتٍ أو مقاصدَ قوميّة. فدينٌ كهذا لا يعرف الانقسام الطبقيّ أو الحزبيّ. ويُخضع كلّ مصلحةٍ خصوصيّة، شخصيّةٍ كانت أو إقليميّةٍ أو وطنيّة، لمصالح البشريّة العليا دون أيّ تردّدٍ أو مواربة، وهو على اقتناعٍ راسخ أنّه في عالمٍ تعتمد شعوبه وأممه على بعضها البعض تكون أفضل وسيلةٍ لتحقيق مصلحة الجزء هي في تحقيق مصلحة الكلّ، وأنّه لا فائدة ترجى للأجزاء المكوّنة للكلّ إن أغفلت أو أهملت المصالح العامّة للكيان الكلّيّ نفسه.
فلا عجب إذ جرى قلم حضرة بهاء الله بهذه الكلمات العامرة الّتي كتبها متنبّئًا بحالة الإنسانيّة الحاضرة: “ليس الفخر لمن يحبّ الوطن بل لمن يحبّ العالم، يُعتَبر العالم في الحقيقة وطنًا واحدًا ومَن على الأرض أهله.” وكذلك قوله: “فالإنسان اليوم هو الّذي قام على خدمة جميع مَن على الأرض.” ثمّ تفضّله بتفصيل ذلك قائلًا: “]إنّ الله قد[ علّم طيور الأفئدة بهذه الكلمات العاليات طيرانًا جديدًا ومحا التّحديد والتّقليد من الكتاب.”
كما أنّ البهائيّين يوقنون بأنّ دينهم، فضلًا عن ذلك، غير مذهبيٍّ ولا طائفيّ، ومتبرّئٌ تمامًا من كلّ نظامٍ كهنوتيّ أيًّا كان رسمه أو أصله أو ممارساته. فلا يمكن أن يقال عن أيٍّ من المنظّمات الكهنوتيّة بعقائدها وطقوسها وقيودها ونظرتها الضيّقة (كما هو الحال مع كافّة الفصائل والأحزاب والنّظم والبرامج السّياسيّة القائمة) إنّها تتّفق في كافّة جوانبها مع المبادئ الأساسيّة للعقيدة البهائيّة. ولا شكّ أنّ هناك بالطّبع بعض المبادئ والمُثل الّتي تتّبعها المؤسّسات السّياسيّة والكهنوتيّة ممّا يقبلها كلّ مؤمنٍ واعٍ بدين حضرة بهاء الله دون تردّد. إلّا إنّه لا يمكنه أن ينتمي إلى أيًّ من هذه المؤسّسات أو يوافق دون قيدٍ أو شرط على المعتقدات والمبادئ والبرامج الّتي تقوم عليها.
كما يجب ألّا يغيب عن الأذهان كيف يتسنّى لدينٍ سماويّ، قد أُقيمت مؤسّساته إلهيّةِ التّقدير في نطاقِ ما لا يقلّ عن أربعين من مختلف البلدان، تتصادم سياسات حكوماتها وتتعارض مصالحها باستمرار ويتفاقم ارتباكها وتعقيدها كلّ يوم، كيف يتسنّى له أن ينجح في الحفاظ على سلامة تعاليمه وحماية وحدة أتباعه إن هو سمح لمعتنقيه، سواء على المستوى الفرديّ أو من خلال هيئاته، بالتّدخّل في الأمور السّياسيّة؟ وكيف له أن يضمن التّطوّر الحيويّ السّلس لمؤسّساته الآخذة في الاتّساع؟ بل كيف يمكن لدينٍ قد جعله توسُّع نطاقه على اتّصالٍ بأنظمةٍ ومذاهبَ ومعتقداتٍ دينيّة لا تتّفق معه ولا يتّفق معها، إذا ما سمح لأتباعه بالانخراط في طقوسٍ وعقائدَ بالية، أن يطلب الولاء غير المشروط ممّن يجهد لاحتضانهم في نظمه إلهيّ التّعيين؟ وكيف يمكنه أيضًا أن يتفادى الاحتكاكات الدّائمة وحالات سوء التّفاهم والجدال الّتي لا مناص للانتماء الرّسميّ، الّذي يختلف تمامًا عن المعاشرة، أن يفرزها؟
ومع توسّع نظمهم الإداريّ واستحكامه، يشعر رافعو لواء أمر حضرة بهاء الله أنّه لزامٌ عليهم التّأكيد على هذه المبادئ المرشدة والمنظِّمة لعقيدة أهل البهاء وتطبيقها بكلّ وعيٍ وانتباه. فمقتضيات دينٍ آخذٍ في التّبلور رويدًا رويدًا تفرض عليهم واجبًا لا يمكن التّهرّب منه ومسئوليّة لا مناص منها.
كما لا يغيب عن بالهم حتميّة التّمسّك بالشّرائع الّتي سنّها حضرة بهاء الله وتطبيقها، فضلًا عن المبادئ الّتي أوجبها، فكلاهما يشكّلان لحمة وسدى المؤسّسات الّتي سيستقرّ عليها هيكل نظمه العالميّ البديع في نهاية المطاف. ومن أجل إثبات جدوى وفاعليّة تلك الشّرائع، وتنفيذها وتطبيقها، والحفاظ على سلامتها، وفهم مضامينها ومقتضياتها، وتهيئة وسائل نشرها، تُبدي الجامعات البهائيّة في الشّرق، وحديثًا في الغرب، غاية الهمّة، ولديها الاستعداد إن اقتضت الضّرورة لتقديم أيّة تضحياتٍ قد تُطلب منها. وقد لا يكون ذلك اليوم بعيدًا حينما تُدعى المحافل البهائيّة في بعض ممالك الشّرق الّتي تمارس فيها الجامعات الدّينيّة سلطةً قضائيّة في الأمور المتعلّقة بالأحوال الشّخصيّة، إلى تولّي المهامّ والمسئوليّات الموكلة إلى محاكمَ بهائيّةٍ مشكّلةٍ رسميًّا. وسيكون لها من الصّلاحيّات في أمورٍ مثل الزّواج والطّلاق والمواريث لتنفيذ وتطبيق تلك الشّرائع والأحكام طبقًا لصريح كتابهم الأقدس، كلٌّ ضمن نطاقه الإداريّ وبموافقة السّلطات المدنيّة.
وبالإضافة إلى هذه التّوجّهات والأنشطة الّتي أخذ تطوّر دين حضرة بهاء الله يكشف النّقاب عنها الآن، فقد برهن هذا الدّين، في مجالاتٍ أخرى وحيثما تغلغل سناء ضيائه، على قوّة تماسكه، وقدرته الجامعة، وروحه الغلّابة. ففي تشييدِ وتدشين مشرق أذكاره في قلب القارّة الأمريكيّة الشّماليّة؛ وفي تأسيس ومضاعفة عدد مقارّه الإداريّة في أرض مولده ودولٍ مجاورة؛ وفي صياغة الوثائق القانونيّة المنوط بها حماية وتنظيم الشّخصيّة الاعتباريّة لمؤسّساته؛ وفي حشد الموارد الكافية – المادّيّة منها والثّقافيّة – في كلّ قارّةٍ من قارّات المعمورة؛ وفي الأوقاف الّتي استحدثها في المناطق الّتي تحيط مباشرةً بمقاماته المقدّسة القائمة في مركزه العالميّ؛ وفي الجهود المبذولة في جمع وتوثيق وتبويب كتابات مؤسّسيه؛ وفي التّدابير الّتي يجري اتّخاذها لاقتناء تلك المواقع التّاريخيّة المرتبطة بحياة مبشّره ومؤسّسه وأبطاله وشهدائه؛ وفي الأسس الّتي يجري إرساؤها لتشكيل وتأسيس مؤسّساته التّعليميّة والثّقافيّة والإنسانيّة بشكلٍ تدريجيّ؛ وفي الجهود الحثيثة الّتي تُبذل للحفاظ على سِمة أنشطة الشّباب من أتباعه في سائر أنحاء العالم وتحفيز المبادرة بها والتّنسيق فيما بينها؛ وفي الحيويّة الاستثنائيّة الّتي يعمل بها حماته الجسورون، وممثّلوه المنتخبون، ومبلّغوه السّيّارون وطليعة إداريّيه في الدّفاع عن دعواه، وتوسيع نطاقه، وإثراء مؤلّفاته ومطبوعاته، ودعم قواعد فتوحاته وانتصاراته الرّوحيّة؛ وفي الاعتراف الّذي أُقنِعت السّلطات المدنيّة في مناسباتٍ معيّنة بمنحه لهيئات ممثّليه على المستويين المحلّيّ والمركزيّ، بما مكّنها من تسجيل هيئاتها قانونيًّا وتشكيل مؤسّساتها المساعِدة وحماية أوقافها؛ وفي التّسهيلات الّتي وافقت تلك السّلطات نفسها على منحها لمقاماته وصروحه المقدّسة ومؤسّساته التّعليميّة؛ وفي الحماس والعزم اللّذيْن استَأنفت بهما نشاطاتها جامعاتٌ معيّنة مرّت بمحنٍ ومضايقاتٍ شديدة؛ وفي كلمات التّقدير والثّناء التّلقائيّة الّتي صدرت عن شخصيّةٍ ملكيّةٍ وأمراء ورجال دولة وعلماء، شاهدين فيها على سموّ دعواه وعلوّ مقام مؤسّسيه – في هذا كلّه وكثير غيره يبرهن دين حضرة بهاء الله بما لا يدع مجالًا للشّكّ على قوّته وقدرته على مجابهة التّأثيرات الهدّامة الّتي تتعرّض لها الأنظمة الدّينيّة والمعايير الخُلُقيّة والمؤسّسات السّياسيّة والاجتماعيّة.
فمن آيسلندة إلى تسمانيا، ومن فانكوفر إلى بحر الصّين يمتدّ إشراق هذا النّظم العالميّ وهذا الإخاء متعدّد الأطياف متلاحم النّسيج، وتمتدّ فروعه، باعثًا في وجدان كلّ رجلٍ وامرأة ضمّهم إلى صفوفه إيمانًا وأملًا وهمّةً افتقدها جيلٌ ملتوٍ منذ زمنٍ بعيد، ولم تعد لديه القدرة على استعادتها. ويجمل بهؤلاء المتحكّمين بالمصائر المباشرة لهذا العالم المضطرب – أولئك المتسبّبين في فوضاه ومخاوفه وشكوكه وبؤسه، وهم في حيرتهم، أن يركّزوا أنظارهم ويتفكّروا مليًّا من أعماق قلوبهم في شواهد هذه النّعمة الإلهيّة المنقذة الّتي هي في متناولهم – نعمة من شأنها أن تضع عنهم أوزارهم، وتخلّصهم من حيرتهم، وتنير سبيلهم.

القصاص الإلهيّ

إنّ البشريّة قاطبةً تئنّ متلهّفةً إلى تحقيق الاتّحاد وإنهاء استشهادها الّذي امتدّ عبر العصور. ومع ذلك تأبى بعناد أن تتقبّل النّور وتقرّ بهيمنة تلك القوّة الوحيدة الّتي بمقدورها أن تخلّصها من ورطتها، وتجنّبها الكارثة المفجعة الّتي تهدّد بابتلاعها.
إنّه لمنذرٌ حقًّا صوت حضرة بهاءالله الّذي يدوّي بهذه الكلمات الّتي تنبئ بما هو آت: “قل يا أهل الأرض، اعلموا علم اليقين أنّ من ورائكم بلاءً مباغتًا، وأن في أعقابكم عِقابًا عظيمًا يتعقّبكم، فلا تحسبوا أنّ ما قد ارتكبتموه قد مُحيَ من أمام عينيّ.” وكذلك وعده القائل: “إنّا قد جعلنا ميقاتًا لكم فإذا تمّت الميقات وما أقبلتم إلى اللّه ليأخذنّكم عن كلّ الجهات ويرسل عليكم نفحات العذاب عن كلّ الأشطار وكان عذاب ربك لشديد …”
فهل كُتب على إنسانيّةٍ، معذّبةٍ كما هو حالها الآن، أن تُبتلى بمحنٍ أشدّ من ذلك عنفًا قبل أن يهيّئها تأثيرها المطهّر للدّخول في الملكوت السّماويّ المقدّر تأسيسه على الأرض؟ وهل سيتعيّن على افتتاح عصرٍ وسيعٍ فريدٍ مستنير في تاريخ الجنس البشريّ أن يدشَّن بكارثةٍ بشريّةٍ جسيمة، تعيد إلى الأذهان، بل تفوق، الانهيار الرّهيب للحضارة الرّومانيّة في القرون الأولى من العصر المسيحيّ؟ أم تراه من المحتّم أن تهزّ الجنس البشريّ سلسلةٌ من التّشنّجات العميقة هزًّا عنيفًا قبل أن يتربّع حضرة بهاء الله على قلوب جماهير البشر ووجدانها، وقبل أن يقرّ الكلّ بسلطانه الّذي لا ينازع، ويشيَّد صرح نظمه العالميّ وتستحكم دعائمه؟
لقد توارت في خلفيّة مشهد التّاريخ عصور الطّفولة والصّبا الطّويلة الّتي كان لا بدّ للجنس البشريّ أن يمرّ بها. والإنسانيّة الآن تعاني من اضطراباتٍ لا مفرّ منها مرتبطةٍ بالفترة الأكثر هيجانًا في سِفر تطوّرها، ألا وهي مرحلة المراهقة، حيث يبلغ اندفاع الشّباب وعنفوانهم ذروته، وهي مرحلة لا بدّ أن يحلّ محلّها شيئًا فشيئًا الهدوء والنّضج والحكمة الّتي تميّز مرحلة الرّجولة. عندئذ يبلغ الجنس البشريّ مقام النّضج والاكتمال الّذي سيمكّنه من اكتساب جميع القوى والقدرات الّتي لا بدّ وأن يتوقّف عليها تحقّق منتهى تطوّره.

وحدة العالم هي الهدف

إنّ اتّحاد الجنس البشريّ بأسره هو السّمة المميّزة للمرحلة الّتي يقترب منها المجتمع الإنسانيّ الآن. فاتِّحاد العائلة، واتِّحاد القبيلة، واتِّحاد “المدينة – الدّولة”، ثمّ قيام “الأُمَّة – الدّولة” كانت مُحاولاتٍ تَتابَعَت وكُتِب لها كاملُ النّجاح. أَمَّا اتِّحاد العالم بدُوَلِه وشعوبه فهو الهدف الّذي تسعى إلى تحقيقه بشريّةٌ مُعذَّبة. لقد انقضى عهد بناء الأُمَم وتشييدِ الدّول. والفَوْضَى الكامنة في النّظريّة القائلة بسيادة الدّولة تتَّجه الآن إلى ذِرْوتها، فعالمٌ يَنْمُو نحو النّضوج، عليه أن يتخلَّى عن التّشبُّث بهذا الزَّيْف، ويعترف بوحدة العلاقات الإنسانيّة وشُمولِها، ويؤسِّس نهائيًّا الجهاز الذي يمكن أن يُجسِّد على خير وجهٍ هذا المبدأ الأساسيّ في حياته.
يعلن حضرة بهاء الله قائلًا: “جميع أهل الأرض في هذا العصر في حركةٍ ولم يكتشفوا سبب ذلك وعلّته …” كما يخاطب حضرته أهل عصره بهذه الكلمات: “يا أبناء الإنسان إنّ دين الله ومذهبه لأجل حفظ العالم واتّحاده … هذا هو الصّراط المستقيم والأسّ المحكم المتين. كلّ ما يُشاد على هذا الأساس لا تزعزعه حوادث الدّنيا ولا يقوّض أركانَه مدى الزّمان.” ويصرّح حضرته أيضًا بأنّه “لا يمكن تحقيق إصلاح العالم وراحة الأمم إلّا بالاتّحاد والاتّفاق.” كما يشهد في مقامٍ آخرَ بقوله: “نور الاتّفاق ينير الآفاق. شهد ويشهد الحقّ العليم بصدق هذه الكلمات … هذا المقصد هو سلطان المقاصد، وهذا الأمل هو مليك الآمال …” كما كتب حضرته قائلًا: “إنّ ربّكم الرّحمن يحبّ أن يرى من في الأكوان كنفسٍ واحدة وهيكلٍ واحد أن اغتنموا فضل الله ورحمته في تلك الأيّام الّتي ما رأت عين الإبداع شبهها.”
إنّ وحدة الجنس البشريّ، كما صوّرها حضرة بهاء الله، تقتضي تأسيس رابطة شعوبٍ عالميّة تتّحد فيها كافّة الأمم والأجناس والعقائد والطّبقات اتّحادًا وثيقًا دائمًا، ويُصان فيها على نحوٍ قاطعٍ وكامل الاستقلال الذّاتيّ للدّول الأعضاء، والحرّيّة الشّخصيّة وحقّ المبادرة للأفراد الّذين يعيشون في ظلّ هذه الدّول. ورابطة الشّعوب هذه، في حدود ما نستطيع تصوّره، يجب أن تشتمل على هيئةٍ تشريعيّةٍ عالميّة يدير أعضاؤها، بوصفهم الأمناء على الجنس البشريّ بأكمله، شؤون كافّة موارد الأمم المكوِّنة لهذه الرّابطة، ويشرّعون من القوانين ما يتطلّبه تنظيم حياة كلّ الأجناس والشّعوب وسدّ احتياجاتها وضبط العلاقات القائمة بينها. وستتولّى هيئةٌ تنفيذيّةٌ عالميّة، تساندها قوّةٌ دوليّة، تنفيذ القرارات الّتي تُصدرها هذه الهيئة التّشريعيّة وتطبيق القوانين الّتي تشرّعها، والمحافظة على الوحدة العضويّة لرابطة الشّعوب بأسرها. كما ستتولّى محكمةٌ دوليّة الفصل في كافّة النّزاعات الّتي قد تنشب بين العناصر المختلفة المكوِّنة لهذه المنظومة العالميّة وإصدار الأحكام النّافذة الباتّة بشأنها. وستُبتكر وسيلةُ اتّصالٍ عالميّة تحتضن كوكب الأرض بأكمله، متحرّرة من العوائق والقيود الوطنيّة، وتعمل بسرعةٍ مذهلة وانتظامٍ تامّ. وستكون هناك عاصمةٌ عالميّة تعمل بمثابة المركز العصبيّ لمدنيّةٍ عالميّة، والنّقطة الّتي تتجمّع فيها القوى الموحّدة للحياة وتشعّ منها تأثيراتها النّافذة. كما ستُبتكر لغةٌ عالميّة أو تُختار من بين اللّغات الحيّة، وتُدرّس في مدارس كلّ الأمم الفدراليّة كلغةٍ مساعدةٍ للغتها الأمّ. وسيكون من شأن خطٍّ عالميّ، وأدبٍ عالميّ، ونظامٍ عالميّ موحّد للعملات والموازين والمكاييل، أن يبسّط ويسهّل التّواصل والتّعامل والتّفاهم بين أمم الجنس البشريّ وأعراقه. وفي مجتمعٍ عالميٍّ كهذا سيتوافق كلٌّ من العلم والدّين، أعظم قوّتيْن فاعلتيْن في حياة البشر، ويتعاونان ويتطوّران معًا في وفاقٍ ووئام. أمّا الصّحافة في ظلّ مثل هذا النّظم فإنّها، مع إفساحها كامل المجال أمام التّعبير عن آراء وقناعات الجنس البشريّ على اختلافها، سوف تكفّ عن أن تكون ألعوبةً خبيثةً في يد المصالح الخاصّة، شخصيّةٍ كانت أم عموميّة، وستتحرّر من تأثير الحكومات والشّعوب المتناحره. كما أنّ موارد العالم الاقتصاديّة سوف تُنظَّم، وتُستثمر موارده من الموادّ الخامّ على الوجه الأكمل، وتُنسَّق أسواقه وتُطوَّر، ويُنظَّم توزيع منتجاته تنظيمًا عادلًا.
وستتوقّف المنافسات والأحقاد والمؤامرات بين الدّول، ويحلّ الوئام والتّفاهم والتّعاون بين الأجناس محلّ البغضاء والتّعصّب. وتُستأصل أسباب النّزاع الدّينيّ بغير رجعة، وتُلغى تمامًا كافّة الحواجز والقيود الاقتصاديّة، وتُمحى الفروق الشّاسعة بين الطّبقات، ويختفي الفقر المدقع من جهة وتكديس الثّروات والممتلكات من جهةٍ أخرى. وتُكرَّس الطّاقة الهائلة الّتي تُبدَّد وتُهدر على الحروب، اقتصاديّةٍ كانت أم سياسيّة، لغاياتٍ من شأنها توسيع مجال الاختراعات البشريّة والتّطوير التّقنيّ، وزيادة إنتاجيّة الجنس البشريّ، والقضاء على المرض، وتوسيع مجال البحث العلميّ، ورفع مستوى الصّحّة البدنيّة، وشحذ الفكر البشريّ وتهذيبه، واستثمار موارد كوكب الأرض غير المستغلّة وغير المكتشفة، ولإطالة عمر الإنسان، وللنّهوض بأيّة وسيلةٍ أخرى من شأنها أن تحفّز الحياة الفكريّة والخُلقيّة والرّوحيّة للجنس البشريّ بأكمله.
نظامٌ فيدراليٌّ عالميٌّ يحكم الكرة الأرضيّة بأسرها، ويمارس سلطةً لا نزاع فيها على مواردها الهائلة الّتي لا يمكن تصوّرها، ويمزج المُثل العليا في الشّرق والغرب ويجسّدها، متحرّرٌ من لعنة الحرب ومآسيها، ومنكبٌّ على اسثمار جميع موارد الطّاقة المتاحة على سطح هذا الكوكب، نظامٌ تكون فيه القوّة خادمةً للعدل، وقوام حياته هو الاعتراف العموميّ بالله الأحد وولاؤه لدينٍ واحدٍ – هذا هو الهدف الّذي تتقدّم نحوه الإنسانيّة مدفوعةً بقوى الحياة الموحِّدة.
ويؤكّد حضرة عبد البهاء على أنّه “من جملة الوقائع الجسيمة الّتي سوف تحدث في يوم ظهور ذلك القضيب اللّامثال هو ارتفاع العلم الإلهيّ بين جميع الأمم. يعني أنّ جميع الملل والقبائل سوف تجتمع في ظلّ هذا العلم الإلهيّ، ألا وهو ذلك القضيب الربّانيّ، ويصيرون ملّةً واحدة. وتزول من بينهم الاختلافات الدّينيّة والمذهبيّة والفوارق الجنسيّة والنّوعيّة والوطنيّة. ويصير الكلّ على دينٍ واحدٍ ومذهبٍ واحد ومن جنسٍ واحد وقومٍ واحد. ويسكنون وطنًا واحدًا هو الكرة الأرضيّة.” ويضيف إلى ذلك التّأكيد شارحًا: “إنّ أساس بنيان هذه الموهبة العظمى وهذه المنقبة الكبرى قد أرسته الآن يد القدرة الإلهيّة بغاية المتانة في عالم الإمكان، وسيظهر وينكشف بالتّدريج كلّ ما هو مكنونٌ في هويّة هذا الدّور المقدّس. فالآن بداية الإنبات وفجر ظهور الآيات البيّنات، وسيلوح ويتّضح في نهاية هذا القرن وهذا العصر كم هو بديعٌ ذلك الرّبيع الرّوحانيّ وتلك الموهبة السّماويّة.”
ولا يقلّ عن ذلك إبهارًا رؤيا إشعياء، أعظم الأنبياء العبرانيّين، الّتي تعود إلى ما يناهز ألفين وخمسمائة سنة مضت، وفيها يتنبّأ بالمصير الّذي لا بدّ أن يصل إليه الجنس البشريّ في مرحلة بلوغه ونضجه، إذ قال: “فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجلَ. لا ترفع أمّةٌ علي أمّةٍ سيفًا، ولا يتعلّمون الحرب فيما بعد … ويخرج قضيبٌ من جذع يسّى، وينبت غصنٌ من أصوله … ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويميت المنافق بنفخة شفتيه. ويكون البرّ منطقة متْنَيْه، والأمانة منطقة حَقْوَيْه. فيسكن الذّئب مع الخروف، ويربض النّمر مع الجدي، والعجل والشّبل والمسمّن معًا … ويلعب الرّضيع على سرب الصّلّ، ويمدّ الفطيم يده على جحر الأفعوان. لا يسوؤون ولا يفسدون في كلّ جبلٍ قدسي، لأنّ الأرض تمتلئ من معرفة الرّبّ كما تغطّي المياه البحر …”
أمّا صاحب سفر الرّؤيا، فقد شهد بكيفيّةٍ مماثلة، في تصوّرٍ مستقبليٍّ له عن المجد الألفيّ الّذي لا بدّ وأن تناله بشريّةٌ نالت خلاصها وبلغت هناءها، بقوله: “ثمّ رأيت سماءً جديدةً وأرضًا جديدةً، لأنّ السّماء الأولى والأرض الأولى مضتا، والبحر لا يوجد فيما بعد. وأنا يوحنّا رأيت المدينة المقدّسة أورشليم الجديدة نازلةً من السّماء من عند الله مهيّأةً كعروسٍ مزيّنةٍ لِرَجُلِها. وسمعت صوتًا عظيمًا من السّماء قائلًا: هو ذا مسكن الله مع النّاس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم. وسيمسح الله كلّ دمعةٍ من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد، ولا يكون حزنٌ ولا صراخٌ ولا وجعٌ فيما بعد، لأنّ الأمور الأولى قد مضت.”
فمَن ذا الّذي يشكّ في أنّ مثل هذا التّتويج – أي بلوغ الجنس البشريّ سنّ رشده – يجب أن يشير بدوره إلى افتتاح مدنيّةٍ عالميّةٍ ممّا لا عينٌ رأت ولا خطر على قلب بشر؟ ومَن ذا الّذي يستطيع أن يتخيّل الأوج المقدّر لهذه المدنيّة أن تبلغه وهي تكشف عن مكنوناتها؟ ومَن ذا الّذي بوسعه أن يقدّر ذرى ما سيبلغه العقل البشريّ وقد تحرّر من أغلاله؟ ومَن ذا الّذي يقدر أن يتصوّر المجالات الّتي سوف تستكشفها الرّوح الإنسانيّة عندما تشرق في أوج مجدها، وقد أمدّتها بالحيويّة فيوضات أنوار حضرة بهاء الله؟
وأيّ خاتمةٍ لهذا الموضوع أنسب من هذه الكلمات الّتي سطرها حضرة بهاء مشيرًا إلى عصر دينه الذّهبيّ – العصر الّذي يعكس فيه وجه الأرض من قطبه إلى قطبه إشراقاتِ جنّة الأبهى: “هذا يومٌ لا يُرى فيه إلاّ الأَنوارُ الّتي أشرقت ولاحت من أفق وجه ربّك العزيز الكريم، قد قبضنا الأرواح بسلطان القدرة والاقتدار وشرعنا في خلقٍ بديعٍ فضلًا من عندنا وأنا الفضّال القديم. هذا يومٌ فيه يقول اللّاهوت طوبى لكَ يا ناسوت بما جُعِلْتَ موطئَ قدم اللّهِ ومقرّ عرشه العظيم ويقول الجبروت نفسي لك الفداء بما استقرّ عليكَ محبوب الرّحمن باسمه الّذي به وُعِدَ ما كانَ وَما يكون.”
شوقي
11 مارس/آذار1936.