ترويج السلام العالمي
ترويج السلام العالمي

ترويج السلام العالمي

تمهيد

لم يسبق في تاريخ أديان العالم العظمى أن تقابل أهل الغرب وجهًا لوجه مع أيّ من شخصيّاتها ورموزها الرّئيسيّة في صدر الدّعوة، باستثناء ما حدث في بداية التّاريخ المسيحيّ، عندما تقابل السّيّد المسيح مع أحد قادة الرّومان بوصفه مذنبًا عهد به أحبار اليهود إلى هذا القائد للتّخلّص منه، أو عندما جال القدّيسان بطرس وبولس بكلّ حكمة وحذر في ولايات وجزر الإمبراطوريّة الرّومانيّة الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسّط سنينًا طويلة لم يكونا خلالها محلّ ترحيب حكّامها أو شعوبها، بل انتهى الأمر إلى حبسهما وإعدامهما في روما في ظروف محزنة تناقلتها روايات متضاربة.

إلاّ أنّ الإرادة الإلهيّة قدّرت لشعوب كثيرة في أوروبّا وأمريكا – إبّان ما يدعوه البهائيّون بعصر البطولة في العقود الأولى من تاريخ دينهم – أن تحظى بلقاء عبد البهاء عبّاس، الابن الأرشد لحضرة بهاء الله صاحب الرّسالة البهائيّة والّذي عيّنه مركزًا لعهده وميثاقه، ومبيِّن تعاليمه وأحكامه والمَثَل الأعلى لأتباعه. لقد التقى حضرته ببعضٍ من أوائل البهائيّين من أهل الغرب الّذين قدموا إلى فلسطين لزيارته وهو لا يزال سجين الإمبراطوريّة العثمانيّة خلال العقد الأخير من سنوات حبسه الأربعين، ثمّ تلا ذلك ذهابه بنفسه لزيارتهم في ديارهم عبر رحلاته التّاريخيّة الّتي بدأت عام 1910 واستغرقت زهاء ثلاثة أعوام كان فيها محطّ التّرحيب والاحترام والتّبجيل من قِبَل السّاسة والفلاسفة والعلماء وقادة الفكر والزّعماء الدّينيّين والنّبلاء والعامّة والخاصّة من كافّة الطّبقات.

ولد عبّاس أفندي، الّذي لقّب نفسه فيما بـعد بـعبد البهاء، بمدينة طهران عاصمة إيران، لأسرة نبيلة واسعة الثّراء. كان مولده يوم 23 مايو/ أيّار من عام 1844، وهو نفس اليوم الّذي شهد بداية ظهور الدّين البهائيّ عندما أعلن السّيّد علي محمّد الملقّب بـ الباب بعثته للتّمهيد لظهور الميرزا حسين علي النّوري الملقّب بـ بهاء الله. وفيما خلا بضع سنين من طفولته الأولى لم يُكتب لعبد البهاء الرّاحة أو الاستقرار طيلة ما تلا من سنوات عمره، فلم يكد يشتدّ عوده في موطنه إيران حتّى وجد والده وقد زُجّ به في السّجن في ظروف انتقاميّة وحشيّة مع عدد ممّن آمنوا بدعوة حضرة الباب، وفقدت عائلته الموسرة كلّ ضياعها وأملاكها بالاستيلاء والنّهب بين عشيّة وضحاها، وقبل أن يكمل ربيعه التّاسع، شارك والده وباقي أسرته رحلة نفي شاقّة من إيران إلى بغداد في شتاء أواسط آسيا القارس، لتبدأ فترة من النّفي في العراق وبعدها إلى تركيّا مدّتها خمس عشرة سنة حيث أعلن خلالها حضرة بهاء الله أنّه هو الّذي بشّر حضرة الباب بظهوره، ثمّ شرع في صياغة تعاليمه ومبادئ دعوته. تبعت سنوات النّفي القاسية هذه أعوامٌ أطول من السّجن وتقييد الإقامة مدى الحياة لحضرة بهاء الله وأسرته والمقرّبين من أتباعه في حصن مدينة عكّاء وضواحيها بفلسطين. ولكنّ قسوة تلك الحقبة الطّويلة من النّفي والحبس لم تمنع حضرته من إرساء دعائم دينه واجتذاب الآلاف لدعوته في إيران وعديد من ممالك الشّرق الأوسط، ولم تعوقه حالته كمنفيٍّ ومسجون عن إبلاغ رسالته كتابةً بكلّ جلال ووضوح إلى أكثر معاصريه، من ملوك العالم ورؤسائه الدّينيّين والدّنيويّين، قوّةً ونفوذًا. وعندما توفّي حضرة بهاء الله في 29 مايو/ أيّار من عام 1892 بعكّاء، كان قد عهد إلى حضرة عبد البهاء، الّذي أهّلته شخصيّته الفريدة لكي يصبح منذ سنوات شبابه الأولى محلّ ثقة والده وممثّله الشّخصيّ ومنظِّم مقابلاته، بتولّي أمور الدّين من بعده بصفته مركزًا لعهده وميثاقه ومبيّنًا لتعاليمه والمَثَل الأعلى للبهائيّين.

لقد تولّى عبد البهاء مهمّته هذه خلال الأعوام السّتّة عشر الأولى من ولايته وهو مسجون مقيَّد الحرّيّة مثل والده، إلى أن شاءت العناية الإلهيّة أن يُطلَق سراحه هو وغيره من سجناء الرّأي والضّمير في الدّولة العثمانيّة على يد حركة تركيّا الفتاة عام 1908، ليعقد حضرة عبد البهاء عزمه على الفور للقيام بتلك الرّحلات. وتطالعنا مقدّمة مجموعة قيّمة أخرى من خطب عبد البهاء بأنّه قد قام بهذه الرّحلات لكي يحقّق ثلاثة أهداف أساسيّة؛ أوّلها: أن يشدّ من عزم أحبّائه ويساعدهم على إنجاز مشروعاتهم، وثانيها: أن يسهم بنصيبه في شرح حقائق الدّين البهائيّ إلى الجموع المتعطّشة، وثالثها أن يحذّر قادة العالم المتحضّر من اقتراب اندلاع نيران الحرب العالميّة الأولى.[1]

ويصف لنا شوقي أفندي ربّاني – حفيد عبد البهاء ووليّ أمر الدّين البهائيّ من بعده – حالة جدّه حضرة عبد البهاء عندما أخذ على عاتقه مهمّة إيصال رسالة حضرة بهاء الله إلى أهل الغرب وجهًا لوجه، ويلخّص أهمّ ما خاطب به جماهير مستمعيه ومريديه خلال أسفاره هذه بقوله: كانت صحّة حضرة عبد البهاء قد تدهورت في ذلك الحين لعظم ما قاسى من الشّدائد والضّغوط طيلة حياة محزنة معظمها في السّجن والمنفى والّتي تسبّبت له في عدّة أمراض. وكان آنذاك على أبواب السّبعين، إلاّ أنّه ما كاد يتحرّر من أسر أربعين سنة… حتّى نهض في شجاعة سامية وثقة وعزم ليكرّس ما بقي لديه من قوّة في مغرب حياته للقيام بخدمة مجيدة لا شبيه لمجدها في تاريخ القرن البهائيّ الأوّل… ولا ينبغي أن يغيب عن الأذهان أنّ حضرة عبد البهاء دخل السّجن، كما صرّح بذلك، يافعًا وغادره شيخًا، وهو لم يقف في حياته أمام اجتماع عامّ يستمع إليه، ولم يدرُس في مدرسة كما أنّه لم يختلط بالأوساط الغربيّة حتّى يعرف عادات الغرب ولغة الغرب. ومع كلّ ذلك قام لا ليعلن من المنبر والمنصّة في عواصم أوروبّا المهمّة وفي أمّهات مدن أمريكا الشّماليّة الحقائق المميّزة المودعة في دين والده (بهاء الله) فحسب، بل ليوضّح أيضًا الأصول الإلهيّة لمن سبق والده من مظاهر أمر الله، ويبيّن الصّلة الّتي تربطهم بذلك الدّين[2]… وفي تلك السّفرات وأمام جماهير كبيرة فاقت الألف نفس في بعض الأحيان ومثّلت النّاس من مختلف الأجناس والأديان والطّبقات، شرح حضرة عبد البهاء لأوّل مرّة في عهده ببساطة مشرقة وإقناع وقوّة المبادئ الأساسيّة المميّزة لدين والده، وهي المبادئ الّتي تؤلّف مع الشّريعة والأحكام النّازلة في الكتاب الأقدس صلب أحدث ظهور إلهيّ للجنس البشريّ. وكان من أبرز العناصر الجوهريّة للنّظام الإلهيّ الّذي أعلنه لقادة الرّأي العامّ وإلى الجماهير على السّواء في أثناء سفراته التّبليغيّة، التّحرّي عن الحقيقة تحرّيًا مستقلاًّ دون تقيّد بالخرافات ولا بالتّقاليد، ووحدة الجنس البشريّ قطب مبادئ الدّين وأساس معتقداته والوحدة الكامنة وراء جميع الأديان، والتّبرّؤ من كلّ ألوان التّعصّب الجنسيّ والدّينيّ والطّبقيّ والقوميّ، والوئام الّذي يجب أن يسود بين الدّين والعلم، والمساواة بين الرّجل والمرأة فهما الجناحان اللّذان يعلو بهما طائر الجنس البشريّ، ووجوب التّعليم الإجباريّ، والاتّفاق على لغة عالميّة إضافيّة، والقضاء على الغنى الفاحش والفقر المدقع، وتأسيس محكمة عالميّة لفضّ النّزاع بين الأمم، والسّموّ بالعمل الّذي يقوم به صاحبه بروح الخدمة إلى منزلة العبادة، وتمجيد العدل على أنّه المبدأ المسيطر على المجتمع الإنسانيّ، والثّناء على الدّين كحصن لحماية كلّ الشّعوب والأمم، وإقرار السّلام الدّائم العامّ كأسمى هدف للبشريّة. وقد عزّز عرض هذه الحقائق الحيويّة الّتي وصفها بـروح العصر بتحذيرات جسيمة مكرّرة باندلاع نار داهمة تلتهم أوروبّا إن لم ينجح السّياسيّون في تلافيها، كما تنبّأ أثناء سفراته بالتّطوّرات الجوهريّة الّتي سوف تحدث في تلك القارّة، ونبّه على الانحلال الّذي لا بدّ أن يسري في القوّة السّياسيّة، وأشار إلى القلاقل الّتي سوف تداهم تركيّا، وتنبّأ باضطهاد اليهود في أوروبّا، وأكّد تأكيدًا قاطعًا بأنّ عَلَم اتّحاد الجنس البشريّ سوف يخفق وخيمة السّلام العالميّ سوف ترتفع فيصبح العالم عالمًا آخر.[3]

ولإعطاء القارئ فكرة عن الرّقعة الجغرافيّة الشّاسعة الّتي شملتها أسفار شخصيّة أنهكتها ستّ وستّون سنة من ظروف لاإنسانيّة كانت كافية لأن تقعده بقيّة حياته إن لم تقضِ عليها، وباستخدام وسائل مواصلات غير مريحة لم يكن يتوفّر سواها للمسافر في مطلع القرن العشرين، نعود إلى وصف شوقي أفندي إذ يقول أنّ حضرة عبد البهاء قد أبحر (من حيفا) إلى مصر… في عصر يوم من أيّام سبتمبر/ أيلول عام 1910م… وأقام في بور سعيد قرابة الشّهر، ومنها أبحر قاصدًا أوروبّا إلاّ أنّه وجد أنّ حالته الصّحّيّة تقتضي عودته. فعاد إلى الإسكندريّة وأجّل رحلته. فأقام بالرّملة من ضواحي الإسكندريّة وزار بعد ذلك الزّيتون والقاهرة، وفي 11 أغسطس/ آب من السّنة التّالية أبحر مع أربعة أشخاص على ظهر الباخرة كورسيكا إلى مارسيليا، وتقدّم من بعد استراحة قصيرة في ثونون-لي-بان (على ضفاف بحيرة جنيف) إلى لندن فبلغها في 4 سبتمبر/ أيلول عام 1911م. وبعد زيارة دامت قرابة الشّهر ذهب إلى باريس حيث قضى تسعة أسابيع، ثمّ عاد إلى مصر في ديسمبر/ كانون الأوّل عام 1911م. فأقام بالرّملة مرّة أخرى حيث قضى الشّتاء، وقام برحلته الثّانية إلى الغرب على الباخرة سدريك في 25 مارس/ آذار عام 1912م مبحرًا إلى نيويورك مباشرة عن طريق نابولي فبلغها في 11 أبريل/ نيسان. وفي أمريكا قام برحلة طويلة دامت ثمانية أشهر انتقل فيها من الشّاطئ إلى الشّاطئ وزار خلالها واشنطن وشيكاغو وكليفلاند وبتسبرغ ومونت كلير وبوسطن وروشستر وبروكلين وفانوود وملفورد وفيلادلفيا وإنجلوود الغربيّة وجرسي سيتي وكمبردج ومدفورد وموريس تاون ودبلن وعكّاء الخضراء ومونترِيال ومالدن وبفالو وكينوشا ومينيابوليس وسانت بول وأوماها ولنكولن ودنفر وينابيع جلنوود وسولت ليك سيتي وسان فرانسيسكو وأوكلاند وبالو آلتو وبركلي وباسادينا ولوس أنجلس وسكرامنتو وسنسناتي وبالتيمور وأخيرًا في 5 ديسمبر/ كانون الأوّل أبحر على ظهر الباخرة سلتك من نيويورك إلى ليفربول، ولمّا نزل إلى البرّ هناك تقدّم بالقطار إلى لندن. وبعد ذلك زار أكسفورد وإدنبرا وبريستول ومن ثمّ عاد إلى لندن. وسافر إلى باريس في 21 يناير/ كانون الثّاني عام 1913م وفي 30 مارس/ آذار سافر إلى شتوتغارت (بألمانيا) ومن هناك تقدّم في 9 أبريل/ نيسان إلى بودابست (بالمجر)، وزار فيينا (عاصمة النمسا) بعد تسعة أيّام ورجع إلى شتوتغارت في 25 أبريل/ نيسان ثمّ عاد إلى باريس في أوّل مايو/ أيّار حيث مكث إلى 12 يونيو/ حزيران وأبحر في اليوم التّالي على ظهر الباخرة هيمالايا الّتي اتّجهت من مرسيليا إلى مصر، فبلغت بور سعيد بعد أربعة أيّام أخرى. فزار الإسماعيليّة وأبو قير زيارات قصيرة وأقام في الرّملة (بالإسكندرية) إقامة طويلة ثمّ عاد إلى حيفا منتهيًا من سفراته التّاريخيّة في 5 ديسمبر/ كانون الأوّل عام 1913م[4]

ونظرًا لأنّ حضرة عبد البهاء قد توسّم في جماعة البهائيّين في أمريكا الشّماليّة إدراكًا عميقًا لواجباتهم بأن تقترن أقوالهم بالأفعال، واستعدادًا جادًّا لأن يقوموا بإيصال هذا المَدَد الإلهيّ فيما يلي من أعوام إلى المستعدّين من بني البشر، ليس فقط في بلادهم بل في كلّ مكان من العالم يستطيعون الوصول إليه، معتمدًا أيضًا على التّقدّم الرّائع الّذي أنجزته جامعة أتباعه المنظّمة في الولايات المتّحدة وكندا، وتقبُّل الجمهور الأمريكي الملحوظ لرسالته[5] بفضل ما جاءهم به من مبادئ، فقد اختصّ تلك القارّة بما لم يختصّ به غيرها من الأقاليم الّتي زارها، سواء بالنّسبة لطول الأسفار أو كمِّ الفعاليّات الّتي صاحبتها ونوعها.

ويزيدنا تنويرًا وصف شوقي أفندي الموجز لفعاليّات هذا القسم الطّويل من أسفار حضرة عبد البهاء عبر المحيط الأطلسيّ إلى ‘العالم الجديد’ إذ يقول: فلقد تضمّنت زيارته (لأمريكا الشّماليّة) سفرة تزيد على الخمسة آلاف ميل… انتقلت به من شاطئ الأطلسيّ إلى شاطئ المحيط الهادي وبالعكس، وقيل فيها من الخطب والأحاديث ما لو جمعت لملأت ما لا يقلّ عن ثلاثة مجلّدات. فهي زيارة خليقة بأن تشير إلى أوج تلك الرّحلات تبرّرها تمام التّبرير تلك النّتائج البعيدة المدى الّتي علم أنّ جهوده ستنتجها… أمّا صفة الأعمال الّتي قام بها في هذه الزّيارة فقد بيّنت مقدار ما علّقه عليها من أهمّيّة؛ فقد وضع بيده حجر الزّاوية لمشرق الأذكار على شاطئ بحيرة متشيغان قرب شيكاغو… بحضور ممثّلي البهائيّين المجتمعين من كلا المشرق والمغرب، وأكّد تأكيدًا فاعلاً لموادّ الميثاق الّذي أبرمه حضرة بهاء الله بعد قراءة سورة الغصن المترجمة حديثًا، وذلك في اجتماع عامّ عقده أتباعه في نيويورك فسمّوها من بعد ذلك بـ مدينة الميثاق، كما احتفل احتفالاً مؤثّرًا يميّز رحلته الخاصّة من إنْجلوود بكاليفورنيا إلى قبر ثورنتون تشيس أوّل مؤمن أمريكيّ بل أوّل من اعتنق دين بهاء الله في العالم الغربيّ، كما أولم وليمة رمزيّة لعدد كبير من مريديه المجتمعين في الهواء الطّلق في بقعة خضراء في يوم من أيّام يونيو/ حزيران في وست إنجلوود في ولاية نيوجرسي وبارك قاعة الاستماع المكشوفة في عكّاء الخضراء في ولاية ماين على ضفاف نهر بيسكاتاكوا، حيث اجتمع كثير من أتباعه، وهي القاعة الّتي تطوّرت فيما بعد فأصبحت أولى المدارس البهائيّة الصّيفيّة الّتي أقيمت في نصف الكرة الغربيّ… وأخيرًا وليس آخرًا، قام بعمل مثاليّ فعقد قران اثنين من أتباعه مختلفي العنصر أحدهما من البيض وثانيهما من الزّنوج… وقد مهّدت هذه المهمّات الطّريق لبناء بيت عبادتهم المركزيّ وقوّتْهم على اجتياز الامتحانات الّتي كان عليهم أن يعانوها قريبًا، ووطّدت وحدتهم وباركت بواكير ذلك النّظام الإداريّ الّذي كان عليهم أن يبتدئوه قريبًا وأن يحموه ويدافعوا عنه. ولا يقلّ عن ذلك روعة ما قام به حضرة عبد البهاء من فعاليّات عامّة أثناء اتّصاله بجمهور النّاس ومخالطتهم، خلال سفرته عبر القارّة. و… يكفينا أن نقول إنّه ألقى في مدينة نيويورك وحدها من الخطابات العامّة وزار من الأماكن ما لا يقلّ عن خمسة وخمسين مكانًا مختلفًا زيارة رسميّة. [6]

أمّا تنوُّع جمهور من فازوا بلقاء حضرة عبد البهاء في هذه الزّيارة فقد كان أمرًا آخرَ فريدًا في سجلاّت تاريخ نشر الرّسالات الإلهيّة بين بني البشر، إذ يسجّل حضرة شوقي أفندي عمّن كُتب لهم أن يلتقوا بشخص عبد البهاء أنّه قد فاز بمحضره الحيويّ وامتاز بالاستماع إلى رسالة والده (بهاء الله) من شفتيه جمعيّات السّلام والمجامع المسيحيّة واليهوديّة والكلّيّات والجامعات وهيئات البِرّ والإحسان وأعضاء الهيئات الخلقيّة ومراكز حركة الفكر الجديد والجماعات الميتافيزيقيّة (الرّوحيّة) ونوادي السّيّدات والجمعيّات العلميّة ومجامع الإسبرانتو والثّيوصوفيّون والمسيحيّون المورمون والاّأدريّون والمعاهد المنشأة لتقدّم الشّعوب الملوّنة وممثّلو الجاليات السّوريّة والأرمنيّة واليونانيّة والصّينيّة واليابانيّة، ولم تكن الصّحافة في تعليقاتها ونشرها لتقارير محاضراته بحال من الأحوال بطيئة في تقدير سعة أفقه أو طبيعة ندائه… (كما) فاز بمحضره الوزراء والسّفراء ورجال الكونغرس، والأحبار المبرزون ورجال الكنيسة وغيرهم من ذوي المكانة.[7]

وقد يتساءل الإنسان كيف تسنّى لمن شارف السّبعين من العمر، بعد أن أنهكه التّعرّض لشرور ومظالم تنوء بها الجبال، أن ينجز كلّ ما عزم القيام به في القارّة الأمريكيّة في ظرف الشّهور الثّمانية الّتي قضاها بين ظهراني أهاليها. وقد نجد بعضًا من الإجابة عن هذا التّساؤل في وصف شوقي أفندي للمنحى الّذي انتهجه عبد البهاء خلال أسفاره الغربيّة، وإنكاره على نفسه الرّاحة، والالتزام ببرنامج حياة يوميّ لا يقدر من في ريعان شبابه أن يتّبعه، إذ يقول شوقي أفندي أنّ عبد البهاء كان أيّامها غير مكترث للمناظر الخلاّبة والملاهي الّتي تجذب انتباه السّائحين عادة والّتي تاق مرافقوه إلى رؤيتها، غير مهتمّ براحته أو صحّته، باذلاً كلّ ذرّة من قوّته من الفجر إلى ساعة متأخّرة من اللّيل يومًا بعد يوم…[8]

ولدى التّمعّن في هذا السّجلّ الزّاخر بما ألقاه حضرة عبد البهاء من خطب وأحاديث في أسفاره الأمريكيّة هذه، سيدرك القارئ سرَّ انجذاب جماهير مستمعيه بل وانبهارهم لما في أقواله من رؤية ثاقبة وحجّة بالغة وغزارة في العلم والمعرفة واستقراء صحيح لماضي العالم وحاضره ومستقبله وفهم سليم لمشاكل البشريّة وأسقامها وصدق في الحلول العمليّة الّتي طرحها لشفائها من تلك الأسقام، بل سيندهش أيضًا من تحدّيه لجهابذة العلم في أمريكا، وعلى مسمع من طلاّبهم ومريديهم في معاهدهم وجامعاتهم، بدحض نظريّاتهم وإثبات بطلان مفاهيمهم عن مسائل عويصة مثل الألوهيّة والغيبيّات وأصل النّوع الإنسانيّ، مخفِّفًا لوقْع الحقيقة عليهم بمزج حججه الدّامغة بالدّعابة بأن يقارن بين استنتاجهم لعدم وجود خالق لهذا الكون بعد صرفهم سنواتٍ عديدةً في البحث والاستقصاء، وبين توصّل حيوان كالبقرة إلى نفس هذه النّتيجة بالسّليقة دون أدنى عناء.

أمّا ما لم ينقله هذا السّجلّ إلى القارئ الّذي لم يحظَ بلقاء حضرة عبد البهاء، فهو وصف تلك الجاذبيّة الطّاغية الّتي كانت تنبعث من هيكله الجليل المهيب الرّقيق الأخّاذ في آن واحد. فقد كتب معلّق على رحلات عبد البهاء لأمريكا قائلاً: حينما زار حضرة عبد البهاء هذه البلاد لأوّل مرّة عام 1912م وجد جمهورًا كبيرًا محبًّا ينتظرونه ليحيّوه بأشخاصهم وليتسلّموا من شفتيه رسالته في المحبّة والرّوحانيّة… ومن وراء الكلمات المنطوقة كان هناك شيء من شخصيّته لا يمكن وصفه، وكان هذا الشّيء يؤثّر تأثيرًا عميقًا في كلّ من فاز بمحضره، فرأسه الّذي يشبه القبّة، ولحيته الأبويّة، وعيناه اللّتان كانتا تبدوان وكأنّهما تنظران إلى ما وراء الزّمن والحسّ، وصوته الواضح النّفّاذ رغم انخفاضه وتواضعه الخالص، ومحبتّه الغلاّبة، وفوق كلّ شيء ذلك الإحساس بالقوّة يخالطها اللّطف الّذي زوّد كيانه كلّه بجلال نادر نابع من الغبطة الرّوحيّة الّذي نأى به عن النّاس من ناحية وقرّبه من ناحية أخرى إلى أوضع النّفوس، كلّ ذلك وكثير ممّا لا يمكن تعريفه خلق عند العديدين من أصدقائه ذكريات لا يمكن أن تُمحى، ذكريات نفيسة لا يمكن أن توصف بوصف.[9]

أمّا أسلوبه ومسلكه وتوجّهه في كلّ ما قام به من أعمال، فهو ما يجدر بالقارئ أن يتعرّف عليه ممّا كتبه لنا شوقي أفندي، إذ يقول إنّ حضرة عبد البهاء كان خلال تلك الأسفار مصرًّا على رفض أيّة هديّة أو تقدمة تتعلّق بنفقات رحلاته، ثابتًا في رعايته للمريض والمحزون والبائس، راسخًا لا يقبل المساومة في دفاعه عن الأجناس المظلومة والطّبقات المحرومة، مباركًا كالمطر في سخائه للفقير… عجيبًا في صراحته حين يبيّن لليهود من المنبر والمنصّة صحّة نبوّة السّيّد المسيح، وحين يوضّح في الكنائس المسيحيّة والمعابد اليهوديّة أصل الإسلام الإلهيّ، وحين يقيم الدّليل للمادّيّين والملحدين والاّأدرييّن على صدق الظّهور الإلهيّ وضرورة الدّين، جليًّا ناصعًا في بيانه حين يمجّد حضرة بهاء الله في كلّ الأحوال وفي معابد الملل المختلفة والنّحل المتباينة… فائقًا لا قرين له في محبّته ورأفته الفطريّة الأصيلة الحارّة للحبيب والغريب، للمؤمن وغير المؤمن، للغنيّ والفقير، للرّفيع والوضيع، لكلّ من لقيه لقاءً خاصًّا أو لقاءً عابرًا سواء أكان ذلك على ظهر السّفينة أم أثناء سيره في الطّرقات أم في الميادين العامّة والمتنزّهات أم في الاحتفالات أم في الولائم أم في الأكواخ أم في القصور أم في اجتماعات أتباعه أم في مجامع المثقّفين.[10]

ومع أنّ شوقي أفندي لم تُكتَب له مرافقة حضرة عبد البهاء في تلك الأسفار، إلاّ أنّ شدّة تعلّقه بجدّه العظيم ومحبّته له وقربه منه جعله يعطينا تخيّلاً رقيقًا، في كلماته التّالية، لما قد كان يعتلج في صدر جدّه وهو ينتقل من مكان إلى آخر وقد أصبح محطّ كلّ هذا التّبجيل والاحترام في أعلى محافل عالم الغرب المتحضّر بعد أن صَرَف جلّ سِنِيّ عمره منفيًّا ومسجونًا في أكثر زوايا ممالك الإمبراطوريّة العثمانيّة المحتضرة عزلة وتخلُّفًا تحت أقسى صنوف الظّلم والجفاء:

وبعد، فمن يدري ما هي الأفكار الّتي امتلأ بها خاطر حضرة عبد البهاء وقد وجد نفسه محورًا تدور حوله مثل هذه المناظر الخالدة؟ من يدري ما هي الأفكار الّتي تدافع لها عقله… حين كان يسمع صيحات الله أبهى وترانيم الشّكر والحمد تعلن قدومه إلى الاجتماعات العديدة البارعة الّتي نظّمها أحبّاؤه وأتباعه المخلصون في كثير من مدن أمريكا؟ ومن يدري ما هي الذّكريات الّتي طافت بذاكرته وهو يقف أمام شلاّلات نياغارا الصّاخبة ويشمّ الهواء الطّلق من أرض قصيّة، أو وهو يتأمّل غابات ينابيع جلنوود الخضراء وريفها أثناء راحة قصيرة كان في أشدّ الحاجة إليها… أو وهو يمشي وحيدًا في المساء بجوار خليج هدسن المهيب على (رصيف) ريفر سايد درايف…؟ لا شكّ أنّ ذكريات أحزانه وفقره والمصير المسلّط على رأسه في أعوامه الأولى، ذكريات أمّه الّتي باعت أزرارها الذّهبيّة لتطعمه وتطعم أخاه وأخته، أمّه الّتي اضطرّت في أحلك السّاعات إلى أن تضع في راحة يده حفنة من الدّقيق الجاف ليتبلّغ بها فيسدّ رمقه، ذكريات طفولته حين تعقّبته الصّعاليك في شوارع طهران وهزئت به، ذكريات الغرفة الرّطبة الكئيبة الّتي سكنها في ثكنات عكّاء وكانت من قبل مشرحة للموتى، وذكريات حبسه في زنزانة تلك المدينة…[11]

لقد ودّع حضرة عبد البهاء شاطئ أمريكا صباح الخامس من شهر ديسمبر/ كانون الأوّل عام 1912، بعد أن استودع أهلها بل والبشريّة كلّها، خلال تلك الزّيارة، ميراثًا عظيمًا سيظلّ لقرون طويلة عونًا لها على تحقيق السّلام المنشود لعالم أثخنته الحروب وطحنته المعارك وفرّقته الكراهية والتّعصب والبغضاء.

أمّا البهائيّون في أمريكا، وهم الّذين استودعهم أمانة أشدّ إلحاحًا ألا وهي مهمّة تجسيد تعاليم حضرة بهاء الله في حياتهم ومشاركة باقي البشر في نوال الجوهرة الثّمينة المودعة في صدورهم. فكان يوم وداعهم له صعبًا مستصعبًا، بعد أن ألِفوا معشره الفريد واعتادوا لقاءه واستماعه واستشارته في العامّ والخاصّ من الأمور طوال شهور ثمانية لا تُعوّض. ويحكي لنا مؤرخ رحلات عبد البهاء[12] مشهد هذا الفراق، واصفًا حال من صعدوا مع حضرة عبد البهاء إلى السّفينة لوداعه قبل إبحارها عندما حان وقت الفراق، فيقول:

… انصرف الأحبّاء من محضر المبارك الأنور الأعلى إلى خارج السّفينة بعد أن صافحوا حضرته فردًا فردًا ولمسوا ذيل عباءته ملتمسين التّأييد. واصطفّوا على الشّاطئ أمام المركب وقد ارتفع منهم الآه والأنين وأنظارهم متوجّهة إلى طلعةٍ كالقمر. وعندما تحرّكت الباخرة ظهر من أولئك الأحبّاء هيجان واضطراب آخر، وكان حزنهم وحنينهم يحرق الأرواح، وانجذابهم وشوقهم يذيب القلوب، وأعناقهم خاضعة إجلالاً وتعظيمًا، وأياديهم مرتفعة تهليلاً وتكبيرًا. وعلى مدى البصر كان فوج المشتاقين يبدو من بعيد كالموج، ولسان المبارك ينطق بظهور قدرة وقوّة الاسم الأعظم قائلاً: أن انظروا كيف أثار اقتدار أمر الله هيجانًا في القلوب، وأيّ انقلاب أحدثه في النّفوس، وكيف جاء عون الجمال الأبهى وعنايته تترى، وكيف أشرقت أنوار النّصرة من الأفق الأعلى. هذا ما وُعِدْنا به من تأييدات الملكوت الإلهيّ وتوفيقات جبروت الغيب الأبهى كما وعَدَنا به الجمال المبارك بصريح العبارة قوله الأحلى ‘ونراكم من أفقي الأبهى وننصر من قام على نصرة أمري بجنود من الملأ الأعلى وقبيل من الملائكة المقرّبين’[13][14].

 

[1]      مقدّمة كتاب خطب عبد البهاء في أوروبّا وأمريكا ,الّذي طبع بمعرفة المحفل الرّوحانيّ المركزيّ للبهائيّين بشمال شرق إفريقيا – ص(هـ).

[2]      كتاب القرن البديع، ص 339341 (من منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل  نيسان 1986).

[3]     المصدر السّابق، ص 342343.

[4]     المصدر السّابق، ص 341342.

[5]     المصدر السّابق، ص 350.

[6]     المصدر السّابق، ص 350352.

[7]     المصدر السّابق، ص 352.

[8]     المصدر السّابق، ص 343.

[9]     المصدر السّابق، ص 353.

[10]    المصدر السّابق، ص 343344.

[11]    المصدر السّابق، ص 356357.

[12]     طيب الذّكر محمود الزّرقاني، في مؤلّفه بدائع الآثار، وهو لم يترجم بعد إلى اللّغة العربية.

[13]     الكتاب الأقدس، الفقرة 53.

[14]     بدائع الآثار، ص 415416.

 

توضيح

تشتمل هذه المجموعة، من خطب حضرة عبد البهاء الّتي تُقدَّم للمرّة الأولى لقرّائنا الأعزّاء باللّغة العربيّة، على معظم الأحاديث الّتي ألقاها حضرته على مسامع جمهور العطشى من المستفسرين وجماعة المؤمنين في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وكندا خلال زيارته التّاريخيّة لقارّة أمريكا الشّماليّة، أي من اليوم الحادي عشر من أبريل/ نيسان عام 1912 إلى الخامس من ديسمبر/ كانون الأوّل من العام نفسه. وهي مجموعة تمّ تدوينها عن ترجمتها الفوريّة إلى الإنجليزيّة. وقد قام السّيّد هوارد ماكنت، بتكليف من حضرة عبد البهاء، بتجميعها ووضعها في مجلّدين نُشرا في عاميّ 1922 و1925 بعنوان أوصى به حضرته شخصيًّا وهو
The Promulgation of Universal Peace. ثم جُمع المجلّدان بعد ذلك في مجلّد واحد ونُشر في طبعات تالية في الأعوام 1939، 1943، 1982، 2007، وآخرها الطّبعة الّتي صدرت عام 2012 احتفالاً بالذّكرى المئويّة لهذه الزّيارة التّاريخيّة، وهي الطّبعة الّتي اعتمدت في هذه التّرجمة.

ومع أنّ معظم هذه الخطب لم يسبق أن تُرجمت إلى العربيّة من قبل، فإنّ بعضها سبق أن نُشر بالعربيّة مترجمًا عن الفارسيّة كما وردت في مذكّرات الكتبة الإيرانيّين الّذين رافقوا حضرة عبد البهاء في أسفاره للغرب ودوّنوها فور إلقائها، ثمّ نشرت على دفعات في أعداد مجلّة نجمة الغرب[1] الّتي اعتادت أن تصدرها الجامعة البهائيّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة خلال العقود الثّلاث الأولى من القرن العشرين. ثمّ جُمعت بعد ذلك وطُبعت في طهران بإيران عام 1942 باللّغة الفارسيّة في ثلاثة مجلّدات ضمّت ما أُلقي منها في أوروبّا وأمريكا معًا، وهو المصدر الّذي أُخذت عنه معظم الخطب الّتي ترجمت ووضعت في الكتاب الّذي نُشر في السّتّينيّات من القرن الماضي بعنوان خطب عبد البهاء في أوروبّا وأمريكا. وهنا وجدنا أنفسنا أمام خيارين بشأن تناول الخطب الّتي تكرّرت في مصدرين؛ فهل نعتمد ترجمة الخطب الّتي وردت في الكتاب المنشور سابقًا نقلاً عن أصلها باللّغة الفارسيّة؟ أم نقوم بترجمتها ثانية عن ترجمتها الفوريّة باللّغة الإنكليزيّة رغم وجود بعض الاختلاف غير الجوهريّ الّذي لا مناص منه بين النّقل المباشر الأصليّ والتّرجمة الفوريّة له؟ فآثرنا الخيار الثّاني، أي التّرجمة عن النّصّ الإنجليزيّ، حرصًا على تماثل المصدر وتجانس المحتوى، فضلاً عن تسهيل التّراجم المستقبليّة لمراجع وموادّ بهائيّة قد تحتوي على اقتباسات إنجليزيّة من هذا الكتاب.

إنّ ما يجدر ذكره أيضًا أنّ ما تضمّنته صفحات هذا الكتاب لا يشمل كلّ ما ألقاه حضرة عبد البهاء من خطب وأحاديث خلال زيارته لقارّة أمريكا الشّماليّة، لأنّ بعض ما أُلقي كان في مناسبات خاصّة غاب عنها كتبة الاختزال الغربيّون الّذين كان وجودهم مقتصرًا على المناسبات العامّة في العادة. ومن حسن حظ القارئ العربيّ أنّ عددًا من هذه الخطب الغائبة سيجده في كتاب خطب عبد البهاء في أوروبّا وأمريكا المشار إليه آنفًا.

وسيجد القارئ، في معرض مطالعته لهذه الخطب، أنّ حضرة عبد البهاء أورد بعض النّصوص من الكتابات المقدّسة بما تعنيه وتهدف إليه وليس بنصّها الأصليّ، فرأينا الإبقاء عليها كما رُويت عن حضرته.

ونظرًا للأهمّيّة الرّوحيّة والتّاريخيّة لمقدّمة الطّبعة الإنجليزيّة الأولى لكتابنا هذا، وهي الّتي كُتبت بتكليف من حضرة عبد البهاء نفسه وقام حضرته بتصويبها وأوصى بوضعها في صدر الكتاب مع مقابلها الفارسيّ، فقد تمّت ترجمتها أيضًا ووضعت في صدر الطّبعة العربيّة هذه، وكذلك التّمهيد الّذي كتب خصّيصًا لهذه الطّبعة.

وأخيرًا نشارك من سبقونا في القيام بمثل هذه المهمّة الجسيمة رأيهم في أنّ أسلوب عبد البهاء كما هو ظاهر من آثاره الّتي دوَّنها بنفسه، أسلوب فريد في نوعه يتميّز ببساطة وسهولة في اللّفظ، ممّا يجعله سهلاً ممتنعًا وكلّ ما يلاحظه القارئ من تقصير إنّما هو تقصير المترجم أو النّاقل وليس تقصير صاحب الكلمة الّذي شهدت له ولبلاغته أساطين عصره بأنّه صاحب بيان ساحر ولسان فصيح بليغ.[2] لذا، نستميح القارئ عذرًا في أيّ تقصير، فنحن أمام ترجمة عربيّة لترجمة إنجليزيّة فوريّة لما نطق به حضرة عبد البهاء بالفارسيّة.

فريق التّرجمة العربيّة

[1]      كانت هذه المجلة تصدر باللّغتين الفارسيّة والإنجليزيّة، بعنوان نجم باخترو Star of the West

[2]      مقدّمة كتاب خطب عبد البهاء في أوروبّا وأمريكا، الّذي طبع بعناية المحفل الرّوحانيّ المركزيّ للبهائيّين بشمال شرق إفريقيا – ص(ز).

 

مقدّمة الإصدار الأوّل للكتاب بالّلغة الإنجليزيّة عام 1922

قبل أن يضرب زلزال الحرب العالميّة قارّات الأرض ويقلب محيطاتها بسنتين، قام حضرة عبد البهاء بزيارة للولايات المتّحدة الأمريكيّة معلنًا بشارة السّلام العالميّ ووَحدة العالم الإنسانيّ. واستعرض في إعلانه هذا أحوال الأمم وظروفها الاجتماعيّة والدّينيّة والسّياسيّة، وتنبّأ بكلّ وضوح بالاقتتال والتّشاحن الوشيك للنّزعة العسكريّة السّائدة، داعيًا البشريّة إلى راية الهداية الإلهيّة الّتي رفعها ظهور حضرة بهاء الله وتعاليمه في عصر العصور الّذي نحياه الآن. لقد غطّت زيارته الّتي امتدّت من شهر أبريل/ نيسان حتّى ديسمبر/ كانون الأوّل عام 1912 أسفارًا عبرت القارّة ذهابًا وإيابًا، وهي زيارة استلزمت بذل مجهود غير عاديّ وطاقة تستعصي على التّصديق من جانب من شارف السّبعين من عمر قضاه بأكمله تقريبًا منفيًّا ومسجونًا في سبيل أمر الله.

ويمثِّل هذا الكنزُ الثّمينُ من أقواله مجموعةً من الخطب غير الرّسميّة وأحاديث ارتجاليّة أُلقيت باللّغتين الفارسيّة والعربيّة، قام بترجمتها الفوريّة عدد ممّن يجيدون التّحدُّث بعدّة لغات كانوا في صحبته…

لقد قال غداة وصوله إلى مدينة نيويورك جئت إلى أمريكا لأشرح المبادئ الأساسيّة لرسالة حضرة بهاء الله وتعاليمه. وبعدها يكون من واجب البهائيّين في هذه الدّيار أن يُعطوا هذه المبادئ جلوةً وقبولاً في أذهان النّاس وقلوبهم وتطبيقًا لها في حياتهم. لذا فإنّ القارئ سيتبيّن أنّ كلمات حضرة عبد البهاء تتّسم ببساطة واضحة شاملة وخاصّيّة عمليّة، وتتميّز بخلـوّها من الشّطحات الميتافيزيقيّة أو الافتراضات الفلسفيّة، أو مجرّد البلاغة الخطابيّة الجوفاء، عاكسة دائمًا الجمال النّقيّ الصّافي للكلمة الإلهيّة – ذلك الأساس الأوّليّ الجوهريّ الأبديّ الّذي يرتكز عليه العلم والدّين وكافّة أوجه التّقدّم الإنسانيّ.

في معرض أسفاره بالولايات المتّحدة قوبل حضرة عبد البهاء بحفاوة تغمرها روح المحبّة والإجلال في كلّ مكان كان يحلّ فيه. ففَتَحت له دورُ العبادة والكنائسُ من كلّ المذاهب، ومعابدُ اليهود وجمعيّات السّلام والمؤسّسات الدّينيّة والتّعليميّة والكلّيّات ونوادي النّسوة والمجموعات الميتافيزيقيّة ومراكز الفكر الحديث، فتحت له أبوابَها ومنابرَها ومنصّاتِها عن طيب خاطر ودون أيّ تحفـّظ على رسالته الّتي يحملها. حضر مؤتمرات للسّلام في بحيرة موهونك، وزار المنتدى المفتوح في غرين إيكر (عكّاء الخضراء) الواقعة على ضفاف نهر بيسكاتاكوا، وخاطب جموعًا غفيرة في جامعتي كولومبيا وستانفورد، وتحدّث أمام جمعيّات علميّة، وهيئات اشتراكيّة، وجماعات تتمحور حول الأخلاقيّات، ومنظّمات خيريّة إنسانيّة، وحضر حفلات استقبال وولائم في قصور الأثرياء، وزار الفقراء والعامّة في مساكنهم المتواضعة، وحمل مصباح الأمل والاستبشار إلى نفوس بائسة يائسة في إرساليّة الفقراء، – وبالاختصار، لقد أعلن ما حمله من رسالة وتعاليم على عموم الملأ ولكلّ فئات البشر مقدرةً ومكانةً، بدافعٍ طاهرٍ وصادق جعل الكلّ يستمع إليه بكلّ سرور دونما أيّ تعصّب أو عداء. كما أنّ مسعاه الحميد في سبيل أمر الله وخدماته المفعمة بمحبّة الجنس البشريّ كانت كلّها بغير مقابل مادّيّ أو ثمن، ذلك لأنّ حضرة عبد البهاء لم يكن يقبل أبدًا أيّ مقابل مادّيّ – وهي سابقة غير عاديّة بمعنى الكلمة وخروج كامل على أساليب التّربّح وجمع المال الّتي يلجأ إليها غيره من الزّائرين القادمين من بلاد الشّرق. بل على العكس من ذلك، دأب على التّبرّع بسخاء للكنائس والهيئات الدّينيّة المحتاجة، ولطالما دعم الجمعيّات والرّابطات الّتي تُكرّس نفسها للمبادئ والمُثل العموميّة بهبات وتبرّعات سخيّة. وها هو ذات ليلة يقف في مدخل إرساليّة للفقراء ويوزّع قطع نقدٍ فضّيّة على صفّ طويل من الفقراء والبائسين بلغت قيمتها مائتي دولار، متحدّثًا إليهم بكلمات مشجّعة ترفع من معنويّاتهم وهم يمرّون من أمامه واحدًا تلو الآخر. لقد رفض حضرة عبد البهاء في كلّ الظّروف والمناسبات قبول أيّ مبلغ من المال سواء لشخصه أو للأمر الّذي يمثّله. وعندما بلغ نبأُ اعتزامه زيارةَ هذه البلاد مسامعَ البهائيّين فيها، جمعوا مبلغًا قدره ثمانية عشر ألف دولار كمساهمة منهم في نفقات رحلته. وقد تمّ إعلام حضرة عبد البهاء بهذا العمل وحُوّل له جزء من ذلك المبلغ. فأرسل حضرته لهم برقيّة جوابيّة يخبرهم فيها بأنّه لا يمكنه قبول أيّ من هذه الأموال الّتي جمعها أحبّاؤه، وأعاد المبلغ طالبًا منهم أن ينفقوا ما جمعوه على الفقراء.

وبالاختصار، كانت زيارة حضرة عبد البهاء لأمريكا فريدة وموسومة بسمات رسالته القدسيّة السّامية، وتعكس تجرّدًا في الهدف وطهارة في النّيّة لا تخطئهما العين. وكنّا نرى فلاسفة وعلماء ولاأدريّين ومادّيّين وأساتذة جامعات وأعضاء في السّلك الدّبلوماسيّ والحكوميّ يأتون إلى محضره وجميعهم في غاية الإنصات والاهتمام بما يقوله، طارحين بكلّ إخلاص أسئلتهم عمّا يقدّمه من مبادئ سامية ومُثُل كاملة عن الرّسالة البهائيّة، وتطبيق تلك المُثل والمبادئ في تنوير الجنس البشريّ وترقيته وتوحيده. ووسمت نبرةُ الاحترام والتّبجيل أسلوبَ كافّة مقالات الصّحف اليوميّة وما نشرته عنه في كلّ مكان ومناسبة، بما ينمّ عن إدراك وشعور تلقائيّ بمقصده السّاميّ وفضل تعاليمه الجليّ الواضح على العالم.

ولا يكون إدراكنا كاملاً لمهمّة ومكانة هذا البشير المنير لليوم الجديد دون استعراض مشهد سلسلة الأحداث الدّينيّة الّتي تمتدّ من الفترة الّتي عاصرت على وجه التّقريب مولد الاستقلال الأمريكيّ عام 1776 حتّى وقت لقائنا بحضرة عبد البهاء في هذه الدّيار. وهو مشهد له أهمّيّة خاصّة أيضًا إذا ما علمنا أنّ حضرة بهاء الله، عندما خاطب ملوك العالم ورؤساءه بالألواح الّتي بعث بها إليهم عام 1868 وفي الكتاب الأقدس أيضًا، خاطب حكّام أمريكا ورؤساء الجمهور فيها متفضّلاً: يا معشر الأمراء… اجبروا الكسير بأيادي العدل وكسّروا الصّحيح الظّالم بسياط أوامر ربّكم الآمر الحكيم.[1] ويكفينا الآن موجز مختصر جدًّا لعرض هذا التّسلسل الرّوحانيّ والمنظومة التّاريخيّة الّتي يجسّدُ شخصُ حضرة عبد البهاء تتويجَها وتحقُّقَها.

لقد انعكست بوادر إشراق شمس الحقيقة – كلمة الله الّتي سطعت من سماء المشيّة الرّبّانيّة على أفق العالم الإنسانيّ في هذا الدّور المنير – على مرآتيْ القداسة الصّافيتين: الشّيخ أحمد الأحسائي والسّيّد كاظم الرّشتي. وكما يكون نجم الصّبح سابقًا لمجيء نيّر النّهار الأعظم، نهض هذان الرّوحان المنيران، الواحد تلو الآخر، في إقليم فارس قرب نهاية القرن الثّامن عشر، نافذَيْن في ظلام اللّيل الحالك، ومعلنَيْن عن بهاء المظهر الّذي يوشك على الظّهور. وبانتهاء تلك المهمّة، انطفأ مصباحا وجودهما الجسديّ عامي 1826 و 1844 على التّوالي.

وفي اليوم الثّالث والعشرين من شهر مايو/ أيّار من عام 1844، أضاء العالمَ بغتةً حضرةُ الباب، السّيّد علي محمّد، بإعلانه في مدينة شيراز بإيران بأنّ يوم الله قد صار وشيكًا. وارتفع صوت ذلك الرّسول الملكوتيّ الصّبيح بندائه الإلهيّ زهاء ستٍّ من السّنين، بوصفه بشيرًا وممهّدًا، إلى أن توقّف لسانه وقلمه عن بيانه النّورانيّ الوضّاح عام 1850 بتجرّعه كأس الشّهادة المجيد.

وبعدها استنارت سماء الأديان بالنّور السّاطع، حضرة بهاء الله، وهو الكلمة الإلهيّة اللاّئحة وشمس الحقيقة الواضحة الّتي أفاضت على عالم البشريّة طوال أربعين سنة إلى أن توارت عن دنيانا عام 1892. وطوال تلك السّنين الأربعين تعرّضت تلك الكينونة البهيّة لسلسلة متتابعة من النّفي والسّجن والظّلم والاضطهاد على يد حكّام دنيويّين، إلى أن صعدت، بعد ما عانته من مصاعب جمّة وآلام لا حدّ لها، مبتعدة عن تلك الظّروف والأحوال المزرية من طغيان في الدّين والسّياسة قاصدة مقامها في العالم الأسمى.

غير أنّ المعادلة الخاصّة بالمقصد الإلهيّ لم تكن قد اكتملت بعد. فمجيء حضرة بهاء الله كان تحقيقًا لوعود تنبّأت بها الكتب المقدّسة عند المسيحيّين والمسلمين والزّرادشتيّين والهندوس والبوذيّين وغيرهم. ووجدت تلك الأنظمة الدّينيّة بعقائدها وعباداتها – وهي الأنظمة الّتي كانت منفصلة عن بعضها البعض كالأنهار المحصورة في مجاريها وغير القادرة على الامتزاج معًا في مجرى واحد – وجدت وحدتها وامتزاجها المقـدّر المرسوم في بحر بيان حضرة بهاء الله الذي لا ينضب. كما أنّ أسمى وأينع ثمار الظّهور الإلهيّ، بل ومجد النبوّة والمآل الجامع لتحقّق كافّة الرّسالات السّماويّة، لم يكن سوى خلاصة الدّورات وجوهرها، الموسوم بـ سرّ الله – ذلك العبد الكامل الّذي وَجدت في شخصه كلٌ من المشيئة الرّبّانيّة والإرادة البشريّة تمام امتزاجهما وتلاحمهما. إذ إنّ تلك الشّخصيّة القدسيّة كان مقدّرًا لها أن تَظهر في يوم الله العظيم، يوم الإشراق العميم، ذلك اليوم الّذي فيه يُعلـَنُ مجد الرّبّ ويراهُ كلُّ بَشَرٍ جميعًا[2]

لقد صارت أممُ الأرض وشعوبُها، في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، على درجة كبيرة من التّقارب والتّرابط، وغدت متشابكة معتمدة على بعضها البعض فيما يتعلّق بضروريّات الحياة ومتطلّباتها، حتّى إنّ مشاكل وسياسات أيّ حكومة بعينها أصبحت تؤثّر اليوم على أحوال كافّة الحكومات الأخرى. فصار العالم أسرة إنسانيّة واحدة ممتدّة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا في مصالحها، والمسؤوليّات فيه غدت مشتركة متبادَلة، والمشاكل عامّة شاملة. لذلك كانت الكلمة الإلهيّة الّتي جاء بها حضرة بهاء الله عموميّة وشاملة في مبادئها وعلاجًا لأحوال البشر – وهي أحوال، رغم كونها نتاجًا مباشرًا لإرادة البشر ومن صُنْعِهم، إلاّ أنّ الرّؤية النّافذة الشّاملة قد تنبّأت بها وجاءت على ألسن النّبيّين كما هو مذكور في كافّة الكتابات المقدّسة. فقبلت الانضواء تحت ذلك اللّواءِ المرفوعِ، لواء الاتّحاد والائتلاف، جموعٌ غفيرةٌ من الأنفس المستنيرة في ربوع الشّرق واتّبعته. ومع أنّهم كانوا متعادين ومختلفين في مشاربهم وعقائدهم وعلومهم الدّينيّة، إلاّ أنّهم، بفضل التّأثير النّافذ لروح الكلمة الرّبّانيّة الّتي صارت ماثلة في شخص حضرة بهاء الله، قد بلغوا ذلك المقام المبارك المحمود في سماء الملكوت – مقام الوحدة والمحبّة.

ومن أجل تقوية وحماية هذه الوحدة والمحبّة وازديادهما، عيّن حضرة بهاء الله خلفًا له يتوجّه إليه الكلّ من أجل النّصح والاستنارة من بعده، إذ عيّن ابنه الأرشد الغصن الأعظم عبد البهاء، وذلك في كتاب عهده الّذي سطره بخطّ يده المباركة، مركزًا لعهده وميثاقه – مركزًا يرى فيه البهائيّون في كلّ العالم سلطةً مستمَدّةً من العبوديّة المحضة لعتبة الكلمة الإلهيّة اللاّئحة. وهذا هو جوهر كيانه وكينونته ولقبه – عبد البهاء.

وتتجلّى الحكمة البالغة من هذا الاختيار في نواحٍ عدّة. فهي تتّضح بشكل خاصّ عندما نتذكّر أنّ حضرة عبد البهاء كان منذ صباه ملازمًا لحضرة بهاء الله ولم يكن يفارقه أبدًا. لقد ولد في طهران ليلة الثّالث والعشرين من شهر مايو/ أيّار عام 1844، وهي نفس اللّيلة الّتي أعلن حضرة الباب فيها دعوته، أي أنّ مولده كان بشيرًا على دلالةِ وأهمّيّةِ كلٍّ من حياته وشخصه في العمليّات الإلهيّة وتحقُّق الوعود لهذا الدّور المنير. وعندما كان صبيًّا في الثّامنة من عمره كان من بين ذلك النّفر المنفيّ القليل الّذي عَبَرَ حدود إيران إلى العراق، مشاركًا محنهم ومعاناتهم بثبات بطوليٍّ، ثمّ تعرّض مع الباقين لحبس متعاقب في مختلف المدن إلى أن أُودِعوا حصنَ سجن مدينة عكّاء ببرّ الشّام في اليوم الواحد والثّلاثين من أغسطس/ آب عام 1868. كان سجلّ حياة حضرة عبد البهاء، طوال هذا الامتثال الوفيّ الطّويل لحضرة بهاء الله والإخلاص لأمر الله، طاهرًا ناصعًا بديعًا بسموّه ووضّاحًا بجمال قدسه. وعندما انتهى عهد السّلطان عبد الحميد الاستبداديّ الظّالم، فُتحت أبواب عكّاء على مصاريعها، وانطلق منها حضرة عبد البهاء حرًّا في ذكرى مرور أربعين سنة على دخوله ذلك المكان الخرب الّذي يعجز اللّسان عن وصفه. كان ذلك في اليوم الواحد والثّلاثين من أغسطس/ آب عام 1908. وبعد سنتين على إطلاق سراحه من ذلك الاستشهاد الحيّ الّذي عاناه طوال ستٍّ وخمسين سنة، زار أوروبّا عام 1911 وهو في السّابعة والسّتّين من عمره، ثمّ عاد منها إلى مصر الّتي أبحر منها عام 1912 قاصدًا أمريكا كما مرّ ذكره.

لدينا حتّى الآن من الشّواهد على القوى والتّأثيرات الغيبيّة المحيطة بحياة حضرة عبد البهاء ما يكفي لترك انطباع قويّ وقناعة لدى أيّ نفس متدبّرة بأنّنا أمام شخصيّة فريدة جليلة، وطلعة تُسخِّر العالم عهد إليها بمهام رفعة البشرية وتوحيدها وتحقيق أمنها وأمانها. وبغير الالتفات إلى جمال شمس الحقيقة اللاّمع هذا يكون ظلام آفاق العالم دامسًا حقًّا. فضجيج العالم الإنسانيّ يعلو وهو يغرق أكثر فأكثر باندفاع متزايد في طوفان المادّيّة، معلنًا عن حاجته الملحّة للعون ولهفته إلى العلاج – إلى روح حياة جديدة خلاّقة وإلى نهضةٍ وتحوُّلٍ شامل، وإلى قوّة وعلاج يأتيان مباشرة من عند الله. وها هو حضرة عبد البهاء، سفير الصّلح العموميّ ووحدة العالم الإنسانيّ، ينادي في هذا الوقت بالذّات بنداء الصّلاح والفلاح لأمم الأرض، بكلمات ملكوتيّة تعزّزها قوّة دافعة محرّكة روحانيّة، مفعمة بنفثات روح القدس الطّاهرة…

إنّ مقام عبوديّة عبد البهاء في الأمر الإلهيّ هو مقام شامل جامع بالنّسبة للعالم كلّه ويتخطّى حدود العِرق والطّائفيّة والمذهب والقوميّة، مقام فائق في سموّه، كامل في تواضعه – خادم خُدّام الله. فكم هي متميّزة حقًّا وبالغة في أهمّيّتها تلك الزّيارة الّتي قام بها لشواطئ عالم الغرب، وكم هي واعدة ومحمّلة بالمعاني والآمال تلك الكلمات الّتي خاطب بها مدنيّة الغرب المادّيّة الّتي تتّسم بأعلى درجات التّنظيم، وكم هي خلاّقة وفاعلة رسالة السّلام ووحدة العالم الإنسانيّ الّتي أتى بها، تلك الرّسالة الّتي تربط ما بين الشّرق والغرب في تآزر روحانيّ، وتحقّق الامتزاج والوفاق بين ما نسمّيه بالعالم القديم والعالم الجديد في ظلّ الشّرائع الخيّرة الرّحيمة الّتي جاءتنا من الملكوت السّماويّ.

وامتثالاً لتكليف مباشر من حضرة عبد البهاء، قام تابعٌ خاضعٌ لنوره وعاشقٌ مخلصٌ لجماله بتحرير هذه المقدّمة، داعيًا أن ينير البهاءُ الإلهيُّ هذا القلبَ ويوفّق هذا القلمَ على تحقيق ما يريده حضرتُه من هذه المهمّة الكبرى.

هوارد ماكنت

[1]      الكتاب الأقدس، الفقرة 88.

[2]     الكتاب المقدّس، إشعياء، 405.

 

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في نيويورك وبروكلين (1) 11 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد إدوارد كيني وحرمه
780 شارع وست إند، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوبر هاريس

كيف حالكم؟ أهلاً بكم! مرحبًا بكم!

بعد وصولي اليوم، ورغم كوني مرهقًا من السّفر، لم يكن بوسعي أن أقاوم فكرة لقائكم هذه لأنّني كنتُ في أشدّ الشّوق والاشتياق لرؤيتكم. وما إن التقيت بكم الآن حتّى زال عنّي كلّ تعب لأنّ لقاءكم سبب سرور روحانيّ.

كنت في مصر ولم أكن بصحّة جيّدة، ولكنّني رغبت أن آتي إليكم في أمريكا. قال لي أحبّائي ‘إنّ هذه رحلة طويلة، والبحر شاسع، يجدر بك البقاء هنا.’ ولكن، كلّما زاد نصحهم وإلحاحهم ازداد شوقي للقيام بهذه الرّحلة، وها أنا ذا قد أتيت الآن إلى أمريكا للقاء أحبّاء الله. وستُثبت هذه الرّحلة الطّويلة عظيم محبّتي لكم. كان هناك الكثير من المتاعب والمشقّات ولكن بمجرّد التّفكير بلقائكم زالت جميعها وطواها النّسيان.

إنّني مسرور جدًّا بمدينة نيويورك، فمدخل مينائها وأرصفته ومبانيها وطرقها الفسيحة جميعها فخمة وجميلة. إنّها مدينة بديعة بمعنى الكلمة. وبمثل ما تقدّمت نيويورك في المدنيَّة المادّيّة، آمل أن تترقّى روحيًّا أيضًا في ظلِّ الملكوت الرّبّانيّ والميثاق الإلهيّ حتّى يصير الأحبّاء هنا سببًا في استنارة أمريكا، وتصبح هذه المدينة مدينة للمحبّة، وتنتشر نفحات الله من هذه البقعة إلى بقاع الأرض كلّها. لقد جئت من أجل هذا، وأدعو الله أن تكونوا مظاهر محبّة حضرة بهاء الله، ويصبح كلّ واحد منكم سراجًا وهّاجًا يشعّ على كلّ الأمم والشّعوب من مشكاة أنوار أفضال الجمال المبارك. هذه هي غاية آمالي.

لقد كانت رحلة طويلة جدًا، وكلّما توغَّلنا في عُباب البحر بدا لنا اتّساعُه أكثر وأكثر. كان الطّقس جميلاً ورائعًا طوال الرّحلة، فلم تصادفنا عاصفة، ولم يكن للبحر نهاية.

إنّني مسرور جدًّا بلقائكم جميعًا هنا اليوم. والحمد لله أنّ وجوهكم مشرقة بمحبّة حضرة بهاء الله، فمشاهدتها سببٌ في سعادة روحيّة عظيمة. وقد تمّ التّرتيب للقائكم كلّ يوم في بيوت الأحبّاء.

كان النّاس في الشّرق يسألونني: ‘لماذا تبادر إلى هذه الرّحلة الطّويلة، فلن يتحمّل جسمُك مشاقَّ رحلة كهذه؟’ ولكن بمقدور جسدي أن يتحمّل كلّ شيء عندما يكون ذلك ضروريًّا، فقد تحمَّل سجن أربعين سنة، وبوسعه أن يتحمّل شديدَ المحن.

سأراكم مرّة أخرى. أتوجّه بتحيّتي إلى كلّ واحد منكم شخصيًّا آملاً أن تكونوا جميعًا سعداء، وأن نلتقي مرّة بعد مرّة.

(2) 12 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد هوارد ماكنت
وحرمه 935 إيسترن بارك واي، بروكلين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

هذه أسعد زيارة لي! لقد طويتُ البحر قادمًا من أرض المشرق لنيل فرحة لقاء أحبّاء الله. وعلى الرّغم من كوني متعبًا بعد سفري الطّويل، فإنّ أنوار الرّوح المشرقة من وجوهكم تجلب لي الرّاحة والرّضاء. والإحساسات الملكوتيّة متوهّجة في هذا اللّقاء، فهذا البيت بيت روحانيّ، إنّه بيت الرّوح. فلا وجود للاختلاف هنا، بل كلُّ المحبّة والاتّحاد. وعندما تلتقي الأرواح بهذه الكيفيّة تهبط عليها المواهب الرّبّانيّة. إنّ الغرض من خلق الإنسان هو نيل أسمى الفضائل الإنسانيّة بواسطة هطول المواهب الملكوتيّة. فالمقصود إذًا من خلق الإنسان هو الاتّحاد والوفاق، وليس التّباعد والاختلاف. فلو كانت الذّرّات الّتي يتشكّل منها عالم الجماد محرومة من الانجذاب لبعضها البعض، لما تسنّى للأرض أبدًا أن تتكوَّن، ولا للكون أن يُخلق. ولأنّها منجذبة لبعضها البعض، صار ممكنًا لقوّة الحياة أن تظهر، ولكائنات عالم الإمكان أن توجد. وإذا ما فُقد هذا الانجذاب أو التّجاذب بين الذّرّات يتوقّف تجلّي قوّة الحياة، ويكون عندها الموت والعدم.

كذا الحال على هذا المنوال في عالم الرّوح. فعالم الرّوح هو ملكوت الانجذاب والتّآلف الكامل، وهو ملكوت الرّوح الرّبّانيّة الواحدة – أي ملكوت الله. وعلى هذا فإنّ الانجذاب والمحبّة اللاّئحَيْن في هذا الجمع، والإحساسات الرّبّانيّة الّتي نشهدها هنا، ليست من هذا العالم بل من عالم الملكوت. وإذا تباعدت الأرواح واستولت عليها الأنانيّة فإنّ المواهب الإلهيّة لا تتنزّل، وأنوار الملأ الأعلى لا تنعكس منها، حتّى لو التقت الأجسام. فالمرآة الّتي تتوارى عن الشّمس لا يمكنها أن تعكس إشراقها. الحمد لله! إنّ غرض هذا الجمع هو المحبّة والاتّحاد.

لقد جاء أنبياء الله من أجل إقامة وحدة الملكوت وترسيخها في قلوب البشر، فأعلنوا جميعًا بشارات العطايا الرّحمانيّة للعالم الإنسانيّ. وجاءوا كلّهم برسالة المحبّة الرّبّانيّة ذاتها إلى البشر. فحضرة يسوع المسيح فدى بحياته على الصّليب من أجل وحدة الجنس البشريّ. وبالمثل ضحّى كلّ من آمن بحضرته بالحياة وبالعزّ والممتلكات والعائلة وبكلّ شيء لعلّ عالم الإنسان يتحرّر من سعير الشّحناء والبغضاء وجحيم النّزاع والجدال. وأسَّس دعوته على وحدة الإنسانيّة، ولم يُقبل إليه إلاّ القليل. لم يكن هؤلاء من ملوك عصره وحكّامه، ولم يكونوا من الأغنياء أو ذوي الشّأن، بل كان بعضهم من صيّادي السّمك، وكان معظمهم أمّيّين ليس لهم من علوم الدّنيا نصيب. بل إنّ واحدًا من أعظمهم، وهو بطرس، لم يكن يعرف كيف يتذكّر أيّام الأسبوع. وكانوا جميعًا أقلّ النّاس شأنًا في نظر العالم. ولكنّ قلوبهم كانت صافية ومنجذبة بأنوار الرّوح القدس الظّاهرة في المسيح. وبهذا النّفر القليل غزا المسيح عالم الشّرق والغرب. لقد ثار عليه الملوك والمملوك، وقام الفلاسفة وأعلم العلماء بمهاجمة دعوته وتكفيرها، إلاّ أنّهم قُهِروا جميعًا ودُحِروا وخَرُست ألسنتهم وأُطفئ نورهم وغارَ كيدهم ولم يبق لهم الآن من أثر، وصاروا عدمًا، بينما أصبح ملكوته مظفـّرًا باقيًا.

لقد علا كوكب دعوته اللاّمع في قطب الزّوال، بينما حجب الظّلام أعداءه وأحاط بهم من كلّ الجهات، وأصبح اسمه المبارك الآن، الّذي لم يكن يحبّه ويعشقه إلاّ نفر قليل من الحواريّين – محلّ تقديس ملوك العالم وأممه. فقدرته خالدة، وسلطانه باقٍ إلى الأبد، بينما رجع معارضوه إلى التّراب، ولا يذكر لهم اسم ولا رسم. أمّا جيشه الصّغير من الحواريّين، فقد أصبح جحافل بالملايين، وصارت جندُ السّموات والملأ الأعلى كتائبَه، وكلمةُ الله سيفَه، وقدرةُ الله نصرَه.

كان المسيح على علم بأنّ هذا سيحصل، فرضي بالمعاناة. كانت الذّلّـة له عزّة، وإكليله من الشّوك تاجًا ملكوتيًّا. وحالما وضعوه وضغطوه على رأسه المبارك وبصقوا على وجهه الصّبيح، أرسوا بذلك قواعد مملكته الخالدة. فها هو ما زال يحكم إلى اليوم، أمّا هم فقد ذهبوا وذهبت أسماؤهم هباء. هو حيّ خالد مجيد، أمّا هم فقد صاروا عدمًا. هم سَعَوْا للقضاء عليه، لكنّهم قَضَوْا على أنفسهم وأجّجوا لهيب ناره بأرياح اعتراضهم.

إنّه بتضحيته بنفسه، وبتعاليمه المباركة دخلنا في ملكوته. كان تعليمه الأساسيّ وحدة الجنس البشريّ ونيل أرفع الفضائل الإنسانيّة بالمحبّة. لقد جاء لتأسيس ملكوت السّلام والحياة الأبديّة. هل يمكنكم أن تجدوا في كلامه أيّ مبرّر للشّحناء والبغضاء؟ كان الغرض من حياته ومجد مماته تخليص البشر من أوزار النّزاع والقتال وإراقة الدّماء. وتفتخر أمم العالم العظمى بأنّ قوانينها وحضارتها قد أُسّست على دين المسيح، فلماذا إذًا يحارب بعضُهم بعضًا؟ لا يمكن أن نرفع لواء ملكوت المسيح بتقويضه وعصيانه، فرايات جنده لا يمكن أن تتقدّم جيوش الشّيطان. انظروا إلى صورة إيطاليا المؤسفة وهي تشنّ الحرب على طرابلس. فإذا قلتم عنها إنّها أمّة همجيّة وليست مسيحيّة لتمّ إنكار ذلك بكلّ شدّة. ولكن هل كان السّيّد المسيح ليقبل ما يفعلونه في طرابلس؟ وهل في إزهاق أرواح البشر طاعة لناموسه وتعاليمه؟ في أيّ موضع أمر حضرة المسيح بذلك؟ وفي أيّ موقف ارتضى هذا؟ لقد قُتل حضرته على يد أعدائه، بيد أنّه لم يَقتُل أحدًا، وإنّما أحبّ من وضعوه على الصّليب ودعا من أجلهم. لذلك فإنّ هذه الحروب والأعمال الوحشيّة، وهذا الحزن والكرب وإراقة الدّماء ليست من المسيح في شيء بل من المسيخ. فتلك هي جيوش الموت وجنود الشّيطان لا جنود ملأ الرّحمن.

لا يقلُّ عن هذا مرارةً ذلك الصّراع المُحتدِم بين الطّوائف والنّحل. لقد كان المسيح مركز الاتّحاد والمحبّة الرّبّانيّة. فعندما يعمّ الاختلاف بدل الاتّحاد، وأينما تحلّ الكراهية والخصومة محلّ المحبّة والألفة الرّوحانيّة، يسود حكم المسيخ بدل المسيح. فمَنْ منهم يا تُرى على حقّ في هذه الشّحناء والبغضاء بين الطّوائف؟ وهل أمرهم السّيّد المسيح بمحبّة أم بكراهية بعضهم بعضًا؟ فحضرته حتّى مبغضيه قد أحبّهم، ودعا بالرّحمة لقاتليه حين صلبه. فلا يكون الإنسان مسيحيًّا إذًا بمجرّد أن يحمل اسم السّيّد المسيح ويقول ‘أنا من حكومة مسيحيّة’، فلكي يكون المرء مسيحيًّا حقًّا عليه أن يكون خادمًا لأمره وملكوته، ومنضويًا تحت راية سلامه ومحبّته لكلّ البشر، مضحّيًا بذاته ومطيعًا لأمره، وحيـًّا بنفثات الرّوح القدس، ومرآة تعكس بهاء لاهوت المسيح، وشجرة مثمرة في حياض رياضه، وينعش العالم بماء تعاليمه الواهب للحياة – أي يقتدي بحضرته في جميع الأمور، ويكون مفعمًا بروح محبّته.

الحمد لله! إنّ نور الاتّحاد والمحبّة يسطع من هذه الوجوه، وهذه الإحساسات الرّوحانيّة هي ثمار الملكوت الحقيقيّة. لقد أعلن كلّ من حضرة الباب وحضرة بهاء الله منذ أكثر من ستّين سنة بشارات الصّلح العموميّ، واستشهد الباب في سبيل أمر الله، وتحمّل حضرة بهاء الله آلام السّجن والنّفي أربعين سنة حتّى يتأسّس ملكوت المحبّة في الشّرق والغرب، فأتاح لنا أن نلتقي هنا بالمحبّة والاتّحاد. وبتحمُّله معاناة الحبس، ها نحن اليوم أحرار في المناداة بوحدة العالم الإنسانيّ الّتي وقَفَ حياته من أجلها بكلّ إخلاص زمنًا طويلاً. لقد قـُيـّد بالسّلاسل والأغلال في سجون مظلمة، وكان بلا طعام، ورفاق سجنه من اللّصوص والقتلة، وكان هدفًا لكلّ أذيَّة وبليَّة، إلاّ أنّه في معرض كلّ هذا لم يكفّ أبدًا عن المناداة بحقيقة كلمة الله المباركة، وبوحدة الجنس البشريّ. لقد جمعتنا اليوم هنا قوّة كلمته العليا – أنتم من أمريكا وأنا من إيران – بكلّ محبّة واتّحاد روحيّ. فهل كان هذا ممكنًا في ما خلا من القرون؟ فإذا كان هذا ممكنًا اليوم بعد خمسين سنة من التّضحية وتبليغ رسالته، فما الّذي ينتظرنا في ما سيأتي من قرون بديعة؟

لهذا كلّه، لتكُنْ وجوهُكم أكثرَ إشراقًا بالأمل والعزم الملكوتيّ على خدمة أمر الله، ونشر أطيب النّفحات من روض الوحدة الإلهيّة، وإيقاظ الإحساسات الرّوحانيّة في أفئدة البشر، وإيقاد روح الإنسانيّة ثانية بنار الرّحمن، لتعكس مجد الملكوت على ظلمة عالم النّاسوت. وعندما تفوزون بهذه الإحساسات الملكوتيّة سيكون بإمكانكم إيقاظها وخلقها في نفوس الآخرين. فلا يمكننا أن نُغدق المال على الفقراء ما لم نحُزْه. ومن أين للفقير أن ينفق على الفقير؟ وأنّى للنفس المحرومة من العطايا الملكوتيّة أن تنمّي القابليّة لنيل تلك العطايا في غيرها من النّفوس؟

زيِّنوا نفوسكم بكمالات الفضائل الإلهيّة. وكلّي أمل في أن تحيوا وتنتعشوا بنفثات الرّوح القدس. عندئذ تصبحون حقًّا ملائكة السّماء الّتي وعد المسيح بظهورها في هذا اليوم المبارك لتجني ثمار كرْم الله. هذا هو أملي، وهذا هو دعائي من أجلكم.

 

(3) 12 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمرسم الآنسة فيليبس،
39 غرب الشّارع السّابع والسّتّين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه جون جراندي

أحيّيكم تحيّة المحبّة والاتّحاد.

إنّ شئون هذا العالم لا تساوي شيئًا أمام السّرور والحبور بلقاء أحبّاء الله. وقد جئت إلى هنا لأحظى بهذا السّرور وهذه النّعمة، مع أنّني مجهد ومتعب من رحلتي الطّويلة عَبر البحار. أشعر بسعادة غامرة في هذه اللّيلة وأنا أنظر إلى وجوه هذا الملأ الرّبّانيّ. ولا شكّ أنّ اجتماعكم هنا شاهد على أنّكم ثابتون على أمر الله، وأنّكم تدعمون وتساعدون في بناء ملكوت الله. لذا، فإنّ ذروة سعادتي أن أنظر إلى وجوهكم فأدرك بأنّكم اجتمعتم هنا بقوّة وقدرة الجمال المبارك، حضرة بهاء الله. وها أنتم في هذا الجمع ترفعون لواءه وتساندون أمره. لذا أشاهد فيكم غرسة شجرة مباركة طيّبة سوف تؤتي أُكُلَها السّماويّ رزقًا لعالم الإنسان.

فبقلوب متأجّجة بمحبّة الله، وأرواح منتعشة بالمنّ السّماويّ، انطلقوا كما انطلق الحواريّون قبل ألف وتسعمائة سنة لتُحيوا قلوب العباد بنداء البشارات، بوجوه نوراء منقطعين عمّا سوى الله. ولأجل هذا، اجعلوا طراز حياتكم مطابقًا لأوّل تعاليم الحقّ السّماويّة ألا وهو المحبّة، واعلموا أنّ خدمة عالم الإنسان هي خدمة لله. اجعلوا المحبّة ونور الملكوت يشعّان منكم على شأن كلّ من يراكم سيستنير من انعكاساتها. كونوا نجومًا ساطعة درهرهة في أوجها العالي.

هل تعرفون قدر هذه الأيّام الّتي تعيشونها؟ هذا هو قرن الجمال المبارك، وهذا هو عصر نور جماله، وهذا هو يوم تحقّق وعود كلّ الأنبياء. هذه هي أيّام بذر البذور وأيّام غرس الأشجار. فالفيوضات الإلهيّة تنزل تباعًا، وكلّ من يغرس اليوم بذرةً سيرى جزاءه في ثمار وحصاد ملكوت الله. وإذا ما غُرست البذرة في أوانها في أفئدة أحبّاء الله، سيرويها غيث الرّحمة الإلهيّة وتُدفّئها شمس المحبّة الرّبّانيّة وستكون ثمارُها وأزهارُها إئتلافَ البشر، وظهور كمال العدل والإنصاف، وتجلّي الفضائل الملكوتيّة في نفوس العباد. فكلّ من يبذر بذرةً كهذه ويغرس شجرةً كهذه، وفقًا لتعاليم حضرة بهاء الله، سيرى هذا الحصاد الرّبّانيّ بكلّ كمال وينال رضاء الرّحمن.

إنّ عموم أهل العالم اليوم منهمكون بشؤونات أنفسهم، ومنشغلون بالأمور الفانية، يحترقون بنار مشتهيات النّفس والهوى. فالنّفس أمّارة والعداوة والبغضاء منتشرة. وما الشّغل الشّاغل للأمم والشّعوب إلاّ تحصيل المنافع والمكاسب الدّنيويّة. ولا يُسمع منهم إلاّ صليل السّيوف وجعجعة الصّفوف. ولكنّ أحبّاء الجمال المبارك لا فكر لهم غير الأفكار الملكوتيّة ومحبّة الله. لذا عليكم ألاّ تتوانَوْا عن تسخير قواكم في نشر نفحات المحبّة الرّبّانيّة، وأن تكون حياتكم على نحو يعرفكم النّاس بها، ويروْن فيكم مثالاً على تجلّيها. عليكم أن تعاملوا الجميع بالمحبّة واللّطف حتّى تظلّ هذه البذرة الطّيّبة الّتي ائتمنتم على غرسها تنمو وتؤتي أشهى الثّمار. وبفضل محبّة الله ورحمته ستحقّقون كلّ هذا إذا ما كانت قلوبكم عامرة بالمحبّة.

إنّ أبواب الملكوت مُشرعة وأنوار شمس الحقيقة ساطعة وغمام الرّحمة الرّبّانيّة تُمطر عليكم بأثمن الدّرر ونسائم ربيع إلهيّ جديد تنشر عبيرها الفوّاح من عالم الغيب. فاعرفوا إذًا قدْر هذه الأيّام.

فانهضوا لتحقيق هذه الفرصة الملكوتيّة. اجهدوا بكلّ ما أوتيت أرواحكم وأعمالكم وأقوالكم من قوّة للمشاركة في نشر هذه البشارات، ونزول هذه الموهبة الرّحمانيّة. إنّكم تعبير عن أعمالكم وأفعالكم الّتي أنتم تمثّلون حقيقتها. فإذا ما عملتم بمقتضى مبادئ الجمال المبارك وتعاليمه، صار العالم الرّحمانيّ والملكوت الأزليّ من نصيبكم – سعادة أبديّة ومحبّة وحياة سرمديّة. فالمواهب الإلهيّة دافقة، وأمام كلّ واحد منكم الفرصة لأن يصبح سدرةً محمّلةً بموفور الثّمار. هذا لهو ربيع حضرة بهاء الله، وفيه تكتسي رياض قلوب العباد بالوفْر من خضرة النّموّ الرّوحانيّ ونضرته. اعرفوا قدر هذه الأيّام العابرة واللّيالي الزّائلة. اجهدوا للفوز بمقام المحبّة الخالصة نحو بعضكم البعض، فبغياب المحبّة تزداد العداوة، وبإظهار المحبّة تتعزّز المحبّة وتزول العداوة.

لاحظوا أنّني – وأنا في هذا السّنّ المتقدّم، والجسم المُثقل بالأسقام – قد طويت المحيط الشّاسع لأشاهد طلعتكم البهيّة. وأملي أن تصيروا بفضل حياة الرّوح نفسًا واحدة، وسدرة واحدة تزدان بها روضة الملكوت. أملي أن تصبح كنوز الفضل الإلهيّ اللاّمتناهي من نصيبكم في الدّنيا والآخرة، ودعائي أن يتنوّر الملأ الأعلى بأنواركم السّاطعة وضّاءة للأبد في سموات المجد الأبديّ.

(4) 13 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد ألكساندر مورتن وحرمه،
141 شرق الشّارع الواحد والعشرين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

الحمد لله على هذا الجمع المنير! فالوجوه مشرقة بنور الله، والقلوب منجذبة إلى الملكوت الأبهى. وأبتهل إلى الله أن يزداد هذا الإشراق يومًا بعد يوم، ويزداد قربكم من الله يومًا بعد يوم، وتنالوا نصيبًا أكبر من فيوضات الرّوح القدس يومًا بعد يوم، حتّى تحيطكم المواهب السّماويّة.

إنّ عالم الرّوح يحاكي عالم المادّة، فهما نظيران متماثلان تمامًا، وكلّ ما نراه في عالم الوجود هو انعكاس ظاهريّ لعالم الملكوت. فعندما ننظر إلى العالم الظّاهريّ نلاحظ أنّه منقسم إلى فصول أربعة، أحدها فصل الرّبيع ثمّ فصل الصّيف وفصل الخريف، ثمّ يعقب هذه الفصول الثّلاثة فصل الشّتاء. وعندما يحلّ موسم الرّبيع في عالم الوجود يتجدّد شباب العالم كلّه ويحظى بحياة جديدة. فيهبّ النّسيم المنعش للرّوح من كلّ صوب، ويعمّ الفيض المحيي للأرواح، وتهطل من غمام الفضل أمطار رحمته، وتسطع الشّمس على كلّ الأشياء. فنرى بوادر الخضرة والنّضارة تحيط بنا يومًا بعد يوم، وتتعطّر المشامّ من أريج الأزهار والرّياحين والورود، وتكتسي الأشجار بالأوراق والأزهار، وبعد الأزهار تأتي الثّمار. ثمّ يحلّ فصل الخريف والشّتاء بعد الرّبيع والصّيف، فتذبل الأزهار ولا يعود لها وجود، وتصفرّ الأوراق، وتحلّ فترة الموات. ثمّ يعقب ذلك ربيع آخر، فيتجدّد الرّبيع الماضي، ومرّة أخرى تسري في أوصال كلّ شيء حياة جديدة.

إنّ ظهور المظاهر الإلهيّة بمثابة فصل الرّبيع الإلهيّ. فعندما ظهر السّيّد المسيح في هذا العالم كان ذلك بمثابة نعمة الرّبيع، فتنزّلت الفيوضات، وأحاطت الإشراقات الرّحمانيّة بكلّ الأشياء، ووجد عالم الإنسان حياة جديدة، حتّى إنّ عالم الطّبيعة كان له نصيب منها. لقد ارتفع لواء الكمالات الرّبّانيّة، وتربّت النّفوس في مدرسة الملكوت على شأن نالت كافّة درجات الوجود الإنسانيّ حياة وضياء. ثمّ انقطعت تلك النّفحات الملكوتيّة شيئًا فشيئًا، وحلّ بالعالم فصل الشّتاء، فتلاشى جمال الرّبيع، وغارت الفضائل والكمالات، وخفتت الأنوار وزال الانتعاش، فغلب العالم التّرابيّ بمادّيّاته كلّ شيء، وضاعت الرّوحانيّات من الحياة، وصار عالم الإمكان كجسد بغير روح، ولم يبق للرّبيع أيّ أثر.

فجاء حضرة بهاء الله إلى هذا العالم، وأعاد ذلك الرّبيع. فهبّت نفس تلك النّفحات، وصارت حرارة الشّمس نفسها تمنح الحياة، وأمطر السّحاب نفسه بمائه، وصرنا نشاهد عالم الوجود بأعيننا يترقّى ويتقدّم. وهكذا وجد عالم الإنسان حياة جديدة.

أملي أن تصبحوا جميعًا مثل تلك الأشجار الخضرة النّضرة حتّى تنتعشوا على الدّوام بنسائم الرّبيع الإلهيّ والفيض الملكوتيّ وحرارة شمس الحقيقة، فتتفتّح فيكم الأزهار وتحملون الأثمار. فلا تكونوا شجرًا بلا ثمر. فالأشجار غير المثمرة لا تأتي بثمر أو زهر. وأرجو أن تكونوا جميعًا أحبّاء للفردوس الأبهى، مشرقين بغاية النّضارة والجمال الرّوحانيّ. إنّني أبتهل إلى الله من أجلكم ملتمسًا منه العون والتّأييد.

(5) 14 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بكنيسة الصّعود،
تقاطع الطّريق الخامس والشّارع العاشر، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه أحمد سهراب وهوارد ماكنت

في معرض درسه الإنجيليّ قرأ الدّكتور المبجّل صباح اليوم عبارة وردت في رسالة بولس الرّسول إلى أهل كورنثوس تقول ‘إنّكم لترون من وراء زجاجات ملوّنة وسيأتي يوم تواجهون فيه النّور وجهًا لوجه.’

كان نور الحقيقة في السّابق يُرى خافتًا من وراء زجاجات ملوّنة، أمّا اليوم فإنّ الإشراقات الإلهيّة سوف تتجلّى من خلال المرايا الصّافية للأفئدة والأرواح المنيرة. فنور الحقيقة هو التّعاليم السّماويّة والمبادئ الإلهيّة والأخلاق الرّحمانيّة والمدنيّة الرّوحانيّة. ومنذ أن وصلتُ إلى هذه الدّيار وجدت أنّ المدنيّة المادّيّة قد ترقّت بدرجة كبيرة، وأنّ التّجارة بلغت شأوًا عظيمًا في الازدهار، ووصلت الفنون والزّراعة وسائر مجالات الرّقيّ المادّيّ أسمى مراحل الكمال. في حين أنّ المدنيّة الرّوحانيّة قد أهمل شأنها. إنّ المدنيّة المادّيّة بمثابة المصباح والمدنيّة الرّوحانيّة نور ذلك المصباح. فإذا ما اقترنت المدنيّتان، المادّيّة والرّوحانيّة، أصبح لدينا النّور والمصباح معًا، وفي ذلك يكون الكمال. ذلك لأنّ المدنيّة المادّيّة مثل جسم لطيف جميل والمدنيّة الرّوحانيّة روح حياة ذلك الجسم. فإذا ما ظهرت هذه الرّوح البديعة في ذلك الجسم الجميل، يغدو الجسم وسيلة لنشر الكمالات الإنسانيّة وترقِّيها.

لقد جاء السّيّد المسيح ليعلّم أهل العالم هذه المدنيّة السّماويّة لا المدنيّة المادّيّة. ونفخ في جسم العالم نفثات الرّوح القدس، وأسّس مدنيّة نورانيّة. ومن جملة مبادئ المدنيّة الإلهيّة الّتي جاء لينادي بها الصّلح الأعظم بين بني البشر. ومن جملة ما نادى به من مبادئ المدنيّة الرّوحانيّة وحدة العالم الإنسانيّ. ومن جملة ما جاء به من أسس المدنيّة السّماويّة فضائل العالم الإنسانيّ. ومن جملة ما أعلنه من مبادئ المدنيّة الملكوتيّة تحسين أخلاق بني البشر وترقّيها.

إنّ العالم الإنسانيّ اليوم محتاج إلى الوحدة العالميّة وإلى الصّلح العموميّ. وإرساء قواعد هذه الأسس الجوهريّة العظيمة يحتاج إلى قوّة دافعة. ومن الواضح أنّ وحدة العالم الإنسانيّ والصّلح العموميّ لا يمكن تحقيقهما بالوسائل المادّيّة، ولا يمكن تأسيسهما بالقوّة السّياسيّة لأنّ المصالح السّياسيّة للأمم متباينة، وسياسات الشّعوب متفاوتة ومتضاربة. كما لا يمكن إرساء قواعدها بواسطة القوّة العنصريّة أو القوّة الوطنيّة لأنّ هذه القوى قوى بشريّة من صفاتها الضّعف والأنانيّة، ونفس اختلاف الأجناس والعصبيّة الوطنيّة مانع دون الاتّحاد والاتّفاق. فيثبُت إذًا أنّ ترويج وحدة العالم الإنسانيّ، الّتي هي جوهر تعاليم جميع المظاهر المقدّسة، ممتنع بغير القوّة الرّوحانيّة وبغير نفثات الرّوح القدس. أمّا سائر القوى فهي ضعيفة لا تستطيع تحقيق ذلك.

إنّ الإنسان بحاجة إلى جناحين: أحدهما القوّة المادّيّة والمدنيّة الجسمانيّة، والآخر القوّة الرّوحانيّة والمدنيّة الإلهيّة. ويستحيل الطّيران بجناح واحد، فوجود الجناحين أمر أساسيّ. لذا، فمهما ارتقت المدنيّة الجسمانيّة فإنّها لن تبلغ مرحلة الكمال من دون عون المدنيّة الرّوحانيّة.

لقد جاء جميع الأنبياء من أجل ترويج الفيوضات الإلهيّة وتأسيس المدنيّة الرّوحانيّة وتعليم الأخلاق الرّحمانيّة. إذًا يجب علينا أن نجهد بكلّ قوانا حتّى تنتصر القوى الرّوحانيّة لأنّ القوى المادّيّة قد غلبت على البشر وأصبح عالم الإنسان غارقًا في بحر من المادّيّات، وصارت أنوار شمس الحقيقة تُشاهد خافتة مكفهرّة من وراء زجاجات معتمة، ولم تعد قوّة الألطاف الإلهيّة النّافذة ظاهرة بتمامها.

في إيران كانت هناك اختلافات شديدة بين الأديان والمذاهب المختلفة. فظهر حضرة بهاء الله في تلك البلاد وأرسى قواعد المدنيّة الرّوحانيّة. وألّف بين طوائف مختلفة، وروّج وحدة العالم الإنسانيّ، ورفع راية الصّلح الأكبر، وكتب بهذا الصّدد رسائل لكافّة ملوك الدّول ورؤسائها. وقبل ستّين سنة أبلغ رسالته الإلهيّة إلى رؤساء العالم السّياسيّين وقادته الرّوحيّين، ولهذا أخذت المدنيّة الرّوحانيّة ترتقي في الشّرق، وبدأت الوحدة الإنسانيّة والصّلح بين الأمم يأخذان طريقهما إلى التّحقّق بالتّدريج. وإنّي أجد الآن حركة قويّة من أجل الصّلح العموميّ نابعة من أمريكا. وآمل أن تُنْصَب راية وحدة العالم الإنسانيّ بأقصى ما يمكن من عزم وثبات ليلتئم الشّرق والغرب معًا التئآمًا تامًّا ويرتبطا ارتباطًا كاملاً وتتّحد قلوب الشّرق والغرب وينجذب بعضها إلى بعض ويظهر الاتّحاد الحقيقيّ للعيان ويسطع نور الهداية، وتتراءى التّجلّيات الإلهيّة يومًا فيومًا لينال العالم الإنسانيّ راحة كاملة وتتجلّى سعادة البشر الأبديّة وتصبح قلوب البشر كالمرآة فتسطع فيها أنوار شمس الحقيقة. ولهذا فرجائي منكم أن تجهدوا حتّى يشرق نور الحقيقة وتظهر السّعادة الأبديّة للعالم الإنسانيّ.

وإنّي لأدعو الله من أجلكم حتّى تنالوا هذه السّعادة الأبديّة. فعندما جئت هذه المدينة سررت كثيرًا حين وجدت أهلها مستعدّين حقًّا للمواهب الإلهيّة، ولديهم قابليّة للمدنيّة السّماويّة. ولهذا فإنّني أدعو لكم بالفوز بجميع الفيوضات الرّحمانيّة وأقول:

يا ربّيَ القدير ويا إلهي الرّؤوف، إنّ عبدك هذا قد هرع إلى أقاليم الغرب من أقصى بلاد الشّرق لعلّ نفحات عنايتك تعطّر مشامّ هذه النّفوس ويهبّ نسيم حديقة الهداية على هذه الممالك وتستعدّ النّفوس لقبول ألطافك وتستبشر القلوب ببشاراتك وتشاهد الأعين نور الحقيقة وتسمع الآذان نداء الملكوت. إلهي أنر القلوب واجعلها يا ربّي الرّؤوف غبطة حدائق الورد والرّياحين. يا محبوبي الفريد هبّ نفحات عطائك وأشرق أنوار الإحسان حتّى تصبح القلوب طاهرة نقيّة وتنال نصيبًا من تأييداتك. فهذا الجمع ساعٍ في طريقك وباحث عن أسرارك وناظر إلى وجهك وآمِلٌ التّخلّق بخصالك. ربِّ أسبغ ألطافك وأنزل كنوزك اللاّمتناهية لينال هؤلاء الضّعفاء القوّة والقدرة. إنّك أنت العطوف وإنّك أنت الكريم العليم القدير.

(6) 14 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في لقاء رابطة مراكز الفكر المتقدّم،
بقاعة كارنيغي، غرب الشّارع الخامس والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه ماونتفورت ميلز وهوارد ماكنت

لقد أتيتُ من بلاد بعيدة لأحضر اجتماعات هذا البلد ومجالسه. ففي كلّ مجلس أجد أُناسًا مجتمعين يحبّ بعضُهم بعضًا، لهذا أنا في غاية السّرور. إنّ رابطة الاتّحاد تتجلّى اليوم في هذا الجمع، حيث جمعت قدرة الله بالإيمان والاتّفاق والوفاق أولئك المشاركين في تعزيز رقيِّ عالم الإنسان. وأرجو أن يصير الجنس البشريّ بأسره متّحدًا بأواصر الألفة والمحبّة على نفس المنوال. فالاتّحاد هو مظهر قدرة المحبّة الإلهيّة، ومرآة الحقيقة الرّبّانيّة، وهو مُشرق ولائح في هذا اليوم بيُمن العطاء النّورانيّ للإنسانيّة.

إن القوّة الإلهيّة متجلّية في كلّ أرجاء الكون بصور وأشكال لا تتناهى. فعالم الخلق، أو عالم الإنسان، يمكن تشبيهه بالكرة الأرضيّة نفسها والقوّة الإلهيّة بالشّمس. وهذه الشّمس مشرقة على كلّ الكائنات. فالإرادة الإلهيّة نراها متجلّية في انعكاسات الشّمس اللاّمتناهية. تأمّلوا كيف أنّ لجميع الكائنات نصيب من عطاء شمس واحدة، وأنّ التّفاوت فيما بينها لا يعدو في أقصاه تفاوتًا في الدّرجة، ذلك لأنّ التّجلّي هو نفس التّجلّي، وهو تجلّي النّور الواحد اللاّئح من الشّمس. وما هذا إلاّ تعبير عن وحدة العالم الإنسانيّ. وبالمِثْل يمكن تشبيه الهيئة الاجتماعيّة أو الوحدة الاجتماعيّة لعالم الإنسان بالبحر، وكلّ عضوٍ وكلّ فرد فيه كموجة من أمواج ذلك البحر.

فالأشياء تعكس نور الشّمس تبعًا لاستعدادها وقابليّتها، ولذلك فإنّ التّفاوت هو بكلّ بساطة تفاوت في الاستعداد والقابليّة. فقابليّة الصّخر لتلقّي النّور محدودة في مداها؛ وقد يكون هناك كائن آخر كالمرآة فتتجلّى فيه الشّمس تجلّيًا كاملاً، إلاّ أنّ النّور الّذي يشرق على كليهما واحد.

إن أهمّ الأمور صقل مرايا القلوب حتّى تتلقّى النّور الإلهيّ وتستنير به. وقد يكون قلب من القلوب حائزًا على قابليّة المرآة الصّافية، وآخر قد يكون مظلمًا تغشاه غبرة الدّنيا وذَفَرها. ومع أنّ الشّمس المشرقة عليهما معًا واحدة، إلاّ أنّكم تشاهدونها بتمامها وبهائها وقوّتها في المرآة الصّافية النّقيّة المنزّهة، وترون المرآة كاشفة لجلال الشّمس وتجلّيها، بينما ليست هناك في المرآة الصّدئة المغبرّة قابليّة لعكس أنوارها، رغم أنّه فيما يختصّ بالشّمس فهي ذاتها المشرقة على الاثنتين معًا، ولا ينتقص هذا الإشراق أو يأخذ منها شيئًا. فواجبنا إذًا هو أن نسعى لصقل مرايا قلوبنا لكي نصبح عاكسين لذلك النّور، ومتلقّين للفيوضات الرّبّانيّة، عسى أن تتجلّى في قلوبنا بكمالها.

هذا هو المقصود من وحدة العالم الإنسانيّ، أي عندما تبلغ الهيئة الاجتماعيّة البشريّة مقام الاتّحاد الكامل، فإنّ إشراق شمس الأزليّة سيتجلّى بكامل نوره وحرارته. وبناء على ذلك يجب أن لا نفرّق بين أيّ من أعضاء الأسرة الإنسانيّة، أو أن نعدّ نفسًا من النّفوس عقيمة أو محرومة. فواجبنا يكمن في تربية النّفوس كي تسطع عليها شمس الفيوضات الإلهيّة، وهذا متيسِّر بفضل قوّة وحدة الجنس البشريّ. فكلّما زاد تبادل المحبّة بين البشر وازدادت قوّة الاتّحاد، عظم هذا الانعكاس والتّجلّي، إذ إنّ المحبّة هي أعظم العطايا الإلهيّة. والمحبّة هي منبع جميع الفيوضات الرّبّانيّة، وما لم تستولِ المحبّة على القلب، لا يمكن لأيّ موهبة إلهيّة أخرى أن تتجلّى منه.

لقد كافح جميع الأنبياء من أجل أن تتجلّى المحبّة في قلوب البشر. فسعى يسوع المسيح جاهدًا في خلق المحبّة في القلوب وعانى المصاعب والمحن عسى أن يصبح قلب الإنسان منبعًا للمحبّة. ولذلك، فإنّ علينا أن نجهد بكلّ قلوبنا وأرواحنا حتّى تتملّكنا هذه المحبّة بحيث ترتبط الإنسانيّة جمعاء، سواء في الشّرق أو في الغرب، برباط هذا الحبّ الإلهيّ. فنحن أمواج بحر واحد، وخُلقنا بفضلٍ إلهيّ واحد، ومستفيضون من مركز واحد. ومع أنّ كلّ ضياء في الأرض مقبول، إلاّ أنّ مركز الإشراق هو الشّمس، فعلينا أن نوجّه نظرنا إلى هذه الشّمس. والله سبحانه وتعالى هو المركز الأعظم، فكلّما ازدَدْنا توجُّهًا نحو هذا المركز النّورانيّ ازدادت قابليّاتنا واستعداداتنا.

سادت في الشّرق خلافات كبيرة بين الأجناس والشّعوب، وكان يبغض بعضُهم بعضًا، فانعدم بذلك التّواصل فيما بينهم. كانت الطّوائف المتعدّدة والمختلفة في شحناء وعلى غير وفاق، والأجناس المتباينة في حرب دائمة ونزاع. لقد ظهر حضرة بهاء الله من أفق الشّرق قبل ستّين سنةً، فكان سببًا في إحلال المحبّة والاتّحاد بين تلك الشّعوب المتخاصمة، فوحّدهم برباط المحبّة، وبذلك تبدّل سابق بغضهم وعداوتهم بالمحبّة والإئتلاف. وكان ذلك العالم الشّرقيّ عالمًا ظـلـمانيًّا فصار عالمًا نورانيًّا. وبفضله حلّ ربيع جديد، ذلك لأنّ شمس الحقيقة أشرقت عليهم من جديد. وتفتّحت مختلف أزهار المعاني في براري ومروج قلوب البشر، وأينعت بطيّب الثّمرات من ملكوت الله.

لقد جئت إلى هنا من أجل هذا الغرض: وهو أن يتأسّس، بيُمن مساعيكم وبفضل أخلاقكم الرّحمانيّة وبخالص جهودكم، رباط كامل للاتّحاد والمحبّة بين الشّرق والغرب، لكي تهبط الفيوضات الإلهيّة على الكلّ، ويعتبر الجميع أنفسهم أجزاء شجرة واحدة – شجرة العائلة الإنسانيّة العظيمة. فالبشر هم بمثابة أغصان وأوراق وأزهار وثمار تلك الشّجرة.

إنّ المواهب الإلهيّة لا حصر لها ولا حدود، والسّنوحات اللاّمتناهية قد أحاطت الوجود، فعلينا أن نحذو حذو مواهب الله وسنوحاته. وكما أن كلّ موهبة منها تحيط بالجميع وتشملهم، كموهبة الحياة مثلاً، كذلك علينا أن نتواصل ونمتزج معًا حتّى يصير كلّ جزء منا حاكيًا عن الكلّ.

إليكم مثالاً: فنحن نغرس بذرة، فتظهر منها شجرة كاملة تامّة، ومن كلّ بذرة من بذور هذه الشّجرة يمكن أن تولد شجرة أخرى. فالجزء هنا يحكي عن الكلّ، ذلك لأنّ هذه البذرة كانت جزءًا من الشّجرة، ولكن بداخل هذه البذرة كانت تكمن الشّجرة بكاملها. وبنفس الكيفيّة يمكن لكلّ واحد منّا أن يكون حاكيًا أو ممثّلاً لكلّ مواهب الحياة الإنسانيّة. هذه هي وحدة العالم الإنسانيّ، وهذا هو العطاء الإلهيّ، وهذه هي سعادة بني الإنسان، وهذا هو تجلّي الفضل الرّبّانيّ.

(7) 15 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل ماونتفورت ميلز،
327 شارع وست إند، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

قبل بضعة أيّام وصلتُ إلى نيويورك قادمًا من الإسكندريّة مباشرة. وفي رحلة سابقة سافرت إلى أوروبّا وزرت فيها باريس ولندن. فباريس مدينة في غاية الجمال في مظهرها، وشواهد المدنيّة المادّيّة فيها في غاية العظمة، ولكنّ مدنيّتها الرّوحانيّة متخلّفة إلى أبعد الحدود. إذ وجدت أهلها منغمسين وغارقين في بحر المادّيّات، وكلّ أحاديثهم ومناقشاتهم محصورة في الشّواهد والظّواهر الطّبيعيّة والمادّيّة، دونما أيّ ذكر لله سبحانه وتعالى. لقد عجِبْتُ لذلك كثيرًا، حيث تبيّن أنّ معظم علمائها وأساتذتها ومثقّفيها مادّيّون. وقلت لهم: ‘إنّني شديد الدّهشة والعجب أنّ أناسًا بهذه المنزلة من العلم والمعرفة يظلّون أسرى للطّبيعة، عاجزين عن إدراك الحقيقة الّتي تدلّ على ذاتها بذاتها.’

إنّ عالم النّاسوت خاضع بالكلّيّة لحكم وسيطرة قانون الطّبيعة. فالعدد الهائل من الشّموس والتّوابع والأجرام السّماويّة السّابحة في هذا الفضاء اللاّمتناهي جميعًا أسيرة للطّبيعة ولا يمكنها التّجاوز قيد شعرة عن النّواميس الثّابتة المتحكِّمة في الكون المادّيّ. فالشّمس بضخامتها والمحيط باتّساعه عاجزان عن خرق هذه النّواميس الكونيّة. وكلّ المخلوقات الحادثة، مثل النّباتات في مملكتها، وحتّى الحيوانات بذكائها، هي جميعًا تابعة للطّبيعة وأسيرة لها، وتحيا كلّها في إطار قانون الطّبيعة. فالطّبيعة هي الحاكمة على الكلّ فيما عدا الإنسان، إذ إنّ الإنسان ليس أسيرًا للطبيعة، لأنّه رغم كونه كائنًا ترابيًّا بمقتضى قانون الطّبيعة، إلاّ أنّه يبحر بالسّفن عبر المحيط، ويحلِّق في الهواء بالطّائرات، ويغوص في الأعماق بالغوّاصات، فهو إذًا قد تغلّب على قانون الطّبيعة وأخضع ناموسها لرغباته. فهو على سبيل المثال يحبس تلك الطّاقة الطّبيعيّة اللاّمحدودة المسمّاة بالكهرباء – وهي قوّة مادّيّة بوسعها أن تشطر الجبال – يحبسها في مصباح متوهّج، ويأمرها بأن تعطيه نورًا. ويلتقط الصّوت البشريّ ويحصره في الفونوغراف من أجل الانتفاع والتّسلية. كما أنّه، طبقًا لقدرة الإنسان الطّبيعيّة، لا يمكنه التّخابر إلاّ لمسافة قصيرة، بيد أنّه بالتّغلُّب على قيود الطّبيعة يمكنه أن يقهر الفضاء باثـًّا الرّسائل الهاتفيّة لآلاف الأميال. لقد كانت جميع العلوم والفنون والاكتشافات من أسرار الطّبيعة، وكان من المتعيّن على هذه الأسرار أن تبقى مستورة ومكنونة بمقتضى قانون الطّبيعة، ولكنّ الإنسان عمد إلى كسر ذلك القانون وحرَّر نفسه من هذا التّحكُّم وأتى بتلك الأسرار إلى حيّز الشّهود. فهو إذًا حاكم هذه الطّبيعة وقائدها. والإنسان حائز على الذّكاء، أمّا الطّبيعة فمحرومة منه. وللإنسان إرادة لا تملكها الطّبيعة. كما أنّ للإنسان ذاكرة بينما الطّبيعة مفتقدة لها، وللإنسان ملكة العقل والطّبيعة محرومة منها. والإنسان حائز على موهبة الإدراك بينما الطّبيعة عاجزة عنه. ومن هذا يثبت ويتّضح أنّ الإنسان أشرف من الطّبيعة.

إذا نحن سلّمنا بالافتراض القائل بأنّ الإنسان ما هو إلاّ جزء من الطّبيعة، عندئذ يجابهنا إقرار غير منطقيّ، لأنّ هذا يماثل الادّعاء بأنّ الجزء بمقدوره أن يحوز على صفات غائبة عن الكلّ. فالإنسان الّذي هو جزء من الطّبيعة حائز على الإدراك والذّكاء والذّاكرة، والتّفكير الواعي والشّعور، بينما الطّبيعة نفسها محرومة من ذلك تمامًا. فكيف يجوز للجزء أن يحوز صفات أو مواهب ليست موجودة في الكلّ؟ والحقيقة إنّ الله قد وهب الإنسان قدرات معيّنة خارقة للطّبيعة. فكيف يُعدّ الإنسان أسيرًا للطبيعة؟ أليس هو حاكم الطّبيعة ومطوِّعها لاحتياجاته يومًا بعد يوم؟ أليس هو ربّ الطّبيعة وسيّدها؟ وهل يمكننا القول بأنّ الطّبيعة عمياء لا تفقه شيئًا، أو أنّ الطّبيعة مسلوبة الإرادة خامدة الهمّة، ثمّ نحطّ من مقام الإنسان فنضعه في مرتبة الطّبيعة وحدوداتها؟ فكيف يمكننا الإجابة عن هذا السّؤال؟ وكيف يبرهن المادّيّون والفلاسفة اللاّدينيّون على صحّة هذا الافتراض أو يؤيّدونه؟ فنفس هؤلاء الفلاسفة في واقع الأمر يـُخضعون نواميس الطّبيعة لإرادتهم ويسخِّرونها لأغراضهم. فالحجّة كاملة الآن على أنّ في الإنسان قوّة تتخطّى حدود الطّبيعة، وأنّ هذه القوّة هي موهبة إلهيّة.

أجد النّاس في نيويورك حائزين على القابليّات والاستعدادات الرّوحيّة أكثر من غيرهم. وهم ليسوا أسارى سيطرة الطّبيعة، بل إنّهم خارجون عن قيود هذا الأسر وتبعاته. ولهذا فإنّني في غاية السّرور، وأرجو أن تشرق فضائل العالم الإنسانيّ بإذن الله على هذه الدّيار المأهولة بالكثير من البشر – قارّة الغرب الشّاسعة هذه، وأن تشتعل القلوب من قوّة وحدة العالم الإنسانيّ ومن محبّة الله، وأن ينشر الصّلح العالميّ ألويته من هنا ساريًا في كلّ الأصقاع والبلدان.

هذا هو أملي.

(8) 16 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بفندق أنسونيا موجّهة إلى أحبّاء نيوجيرسي
تقاطع طريق برودواي والشّارع الثّالث والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه أحمد سهراب

لقد اجتمعت هنا نفوس من الشّرق والغرب بقوّة الرّوح القدس. واجتماع كهذا يستحيل ائتلافه بالوسائط المادّيّة. فلم يسبق أن تحقّق اجتماع من هذا النّوع في نيويورك؛ فنحن نرى اليوم أناسّا قدموا من أقصى بقاع الأرض، مؤتلفين مع أهل أمريكا بغاية المحبّة والتّآلف الرّوحيّ. ولا يمكن لهذا أن يتسنّى إلاّ بقوّة إلهيّة. لقد ظهر السّيّد المسيح في هذا العالم قبل ألف وتسعمائة سنة من أجل خلق أواصر الألفة وروابط المحبّة بين مختلف الأمم والأقوام. فوثّق عرى التّماسك بين روما بعلومها واليونان بمدنيّتها المجيدة. كما حقّق الوئام بين مملكة آشور وسلطنة مصر. لقد كان التّأليف فيما بين تلك الأمم وإيجاد الاتّحاد والمحبّة والوفاق فيما بينها مستحيلاً، إلاّ أنّ المسيح حقّق هذه الحالة بين بنى البشر بقوّة إلهيّة.

تواجهنا اليوم صعوبة أعظم بكثير عندما نسعى لتحقيق الاتّحاد بين الشّرق والغرب. ولكنّ حضرة بهاء الله قد جمع الشّرق والغرب معًا بالقوّة الملكوتيّة. وسنتبيّن قريبًا أنهّما قد ارتبطا بالقوّة الإلهيّة. وستقضي وحدة العالم الإنسانيّ على راية الغزو، وستجتمع كلّ ملل الأرض في كنف حفظها، ولن يكون هناك وجود لأيّة أمّة تحدّها حدود منفصلة محدّدة كدولة إيران مثلاً. وستُعرف الولايات المتّحدة فقط كإسم، وستندمج دول مثل ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وتركيّا وجزيرة العرب – أي مختلف هذه الأمم – مع بعضها البعض في اتّحاد. وعندما يُسأل أيّ إنسان في المستقبل ‘لأيّ أمّة تنتمي’، سيكون جوابه ‘إلى الجنس البشريّ. فأنا أحيا في ظلّ حضرة بهاء الله، وأنا خادمه، وأنتمي إلى جيش الصّلح الأكبر’. فلن يقول أيّ من أهل المستقبل ‘أنا إنجليزيّ، أو أنا فرنسيّ، أو أنا إيرانيّ’، لأنّ الكلّ سيكون مواطنًا في وطن عالميّ: تلك الأسرة الواحدة، والوطن الواحد، وعالم الإنسانيّة الواحد، وعندئذ تزول هذه الحروب والضّغائن والمشاحنات.

لقد ظهر حضرة بهاء الله في بلد كان بؤرة التّعصّب، بلدٍ ضمّ العديد من الطّوائف والأديان والمذاهب والنّحل حيث تجمّعت بينها كلّ ضغائن القرون الغابرة. وكانوا يتربّصون لقتل بعضهم البعض معتبرين أنّ قتل من يختلف عنهم في العقيدة من أعمال العبادة. فأوجد حضرة بهاء الله بين تلك الطّوائف المختلفة اتّحادًا واتّفاقًا بحيث أصبحوا الآن في منتهى المحبّة والوداد.

واليوم يتوق البهائيّون في الشّرق إلى لقياكم وجهًا لوجه ومنتهى آمالهم وأمانيهم أن يأتي يوم يضمّهم معكم محفل واحد. فتأمّلوا جيّدًا في تلك القوّة الّتي حقّقت هذا التّحوّل البديع.

إنّ جسم عالم الإنسان اليومَ سقيم ودواؤه وشفاؤه في وحدة العالم الإنسانيّ، وحياته في الصّلح الأعظم، ونوره وانتعاشه في المحبّة، وسروره في اكتساب الكمالات الرّوحانيّة. أملي ورجائي أن نجد في مواهب الجمال المبارك وأفضاله حياة جديدة، وأن نكتسب قوّة جديدة، وننال فيوضات غيبيّة جديدة على شأن يقوم أساس الصّلح الأعظم الإلهيّ المقصد على قواعد من اتّحاد عالم البشر مع الله. وأملي أن تنتشر محبّة الله من هذه المدينة، ومن لُقيانا هذا إلى سائر البلاد من حولنا. بل أن تصبح أمريكا مركز إشعاع النّورانيّة الرّوحانيّة فيتلقّى العالم كلّه هذه البركة السّماويّة! لأنّ أمريكا قد طوّرت لديها قدرات وإمكانات أعظم وأبدع من سائر الأمم. ومع أنّ شعبها في حقيقة الأمر قد حقّق مدنيّة مادّيّة مدهشة، إلاّ أنّني آمل أن تحلّ في هذا الجسم العظيم قوّة روحيّة، وأن تتأسّس مدنيّة روحيّة مماثلة. عسى أن يصبح أهل هذا البلد كملائكة السّماء بوجوه متوجّهة إلى الله دومًا. وأن يصبحوا جميعًا خادمين لله المقتدر القدير، وأن ينطلقوا من هذه الإنجازات المادّيّة إلى أوجٍ يشعّ أنوارًا ملكوتيّة من هذه البقعة على كافّة شعوب العالم.

لقد نزلت أورشليم الإلهيّة من السّماء، وظهرت عروس صهيون، وعلا صوت الملكوت. وأملي أن تنالوا استعدادًا عظيمًا وانجذابًا في هذا الملكوت الغالب القادر – مظهرين قوى جديدة وإنجازات بديعة. فالله نصيركم ومعينكم، ونفثات الرّوح القدس معزّيكم، وملائكة السّموات تحيطكم. هذه أمنيتي لكم، وتأكّدوا بأنّ هذه الفيوضات تغمركم.

(9) 17 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بفندق أنسونيا،
تقاطع طريق برودواي والشّارع الثّالث والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

إبّان زيارتي للندن وباريس في العام الماضي كانت لي محادثات شتّى مع فلاسفة أوروبّا المادّيّين. إنّ كلّ استنتاجاتهم مبنيّة على أنّ تحصيل العلوم المتعلّقة بالكائنات والظّواهر الطّبيعيّة يتأتّى عن طريق قاعدة ثابتة لا تتغيّر – وهي قاعدة رياضيّة دقيقة في عملها من خلال الحواس. فهذه العين مثلاً ترى مقعدًا فلا شكّ إذًا في وجوده. والعين أيضًا تجول في السّماء فتبصر الشّمس؛ أرى زهورًا على هذه المنضدة وأشمّ أريجها، أو أسمع أصواتًا تأتي من الخارج، وهكذا. ويقولون إنّ هذه قاعدة رياضيّة ثابتة للإدراك والاستنباط لا يعتريها شكّ مهما كان؛ فنظرًا لأنّ الكون خاضع لإحساساتنا فالدّليل بديهي إذًا على أنّ إدراكنا له يجب أن يكون عبر الحواس. وفحوى هذا هو أنّ المادّيّين يعلنون بأنّ ميزان المعرفة الإنسانيّة ومعياره هو الإدراك الحسّيّ. أمّا ميزان المعرفة لدى اليونان والرّومان فكان العقل – أي أنّ كلّ ما يمكن برهنته وقبوله بواسطة العقل هو الحقيقة بالضّرورة. وهناك معيار أو ميزان ثالث وهو ما يراه علماء اللاّهوت، ومفاده أنّ النّصوص المنقولة من الكتب المقدّسة أو التّصريحات والتّفسيرات النّبويّة تشكِّل أساس المعرفة عند البشر. وهناك أيضًا ميزان رابع يتمسّك به المتديّنون والمهتمّون بالغيبيّات، فهم يرون أنّ منبع ومسار كلّ تبصّر بشريّ للغيب هو الإلهام. والخلاصة إذًا أنّ هذه الموازين الأربعة طبقًا لما ينادي به النّاس هي أوّلاً الميزان الحسّيّ، والثّاني الميزان العقليّ، والثّالث الميزان النّقليّ والرّابع ميزان الإلهام.

قلت لهؤلاء الفلاسفة والعلماء المادّيّين في أوروبّا أنّ ميزان الإدراك الحسّيّ لا يُعوَّل عليه. فإليك مثلاً المرآة وما ينعكس فيها من صور، فهذه الصّور ليس لها وجود مادّيّ فعليّ. بيد أنّك إن لم تكن قد رأيت مرآة من قبل فإنّك ستجزم حتمًا بأنّ تلك الصّور حقيقة واقعة. وكذلك ترى العين سرابًا في الصّحراء على هيئة بحيرة ماء ولكنّه وهمٌ صرف. كما أنّنا لو وقفنا على سطح سفينة يبدو لنا الشّاطئ متحرّكًا في حين أنّنا على علم بأنّ الأرض ثابتة ولكنّنا نحن الّذين نتحرّك. أيضًا كان الاعتقاد السّائد هو ثبات الأرض ودوران الشّمس حولها، ولكن على الرّغم من أنّ ما يتراءى لنا هو ذلك، فإنّ الحقيقة المعروفة الآن هي العكس تمامًا. والشّعلة الدّوّارة تراها العين حلقة من النّار بينما نعلم أنّها ليست سوى نقطة ضوء واحدة، كما أنّنا نرى الظّل يتحرّك على الثّرى والحال إنّه يخلو من أيّ وجود مادّيّ أو عنصريّ. والمؤثّرات الجوّيّة في الصّحاري على وجه الخصوص تُحدث صورًا خادعة للبصر. ولقد رأيت ذات مرّة سرابًا بدت فيه قافلة بأكملها وكأنّها تسافر صاعدة نحو السّماء. وفي الدّائرة القطبيّة الشّماليّة تتجلّى ظواهر خادعة أخرى تحيّر بصر الإنسان، فتلمع في بعض الأحيان ثلاث أو أربع شموس في آن واحد يسمّيها العلماء شموسًا زائفة، بيد أنّنا نعلم أنّ النّجم الشّمسيّ العظيم هو نجم واحد مفرد دائمًا أبدًا. وخلاصة القول إنّ الحواس دائمًا ما تنخدع، ولا يتسنّى لنا أن نفرّق بين ما هو حقيقيّ وما هو زائف.

أمّا عن الميزان الثّاني – ميزان العقل – فهو أيضًا ميزان لا يُعوَّل عليه ولا يمكن الرّكون إليه. فعالم البشر هذا خضمٌّ من الآراء المختلفة المتباينة. فإذا كان العقل ميزانًا ومعيارًا كاملاً للمعرفة فلماذا تتضارب الآراء، ولماذا يختلف الفلاسفة فيما بينهم اختلافًا تامًّا؟ إنّ هذا برهان واضح على أنّ العقل البشريّ لا يُعوّل عليه بوصفه ميزانًا منزّهًا عن الخطأ. فأعظم اكتشافات القرون الماضية واجتهاداتها، على سبيل المثال، لا تلبث أن تُنقض وتُرفض من قِـبَـل حكماء الحاضر. فها هم الرّياضيّون والفلكيّون وعلماء الكيمياء لايكفُّون عن دحض استنباطات القدماء ورفضها؛ فلا شيء قطعيّ أو باتّ؛ بل كلّ شيء دائب التّغيير لأنّ العقل البشريّ يطرق مسالك جديدة من البحث، ويتوصّل إلى الجديد من الاستنتاجات كلّ يوم. وبالمثل فإنّ كثيرًا ممّا ينادي به العقل اليوم ويقبل بوصفه حقيقيًّا سوف ينبذ ويبطل مستقبلاً. وسيبقى الحال على هذا المنوال دائمًا أبدًا.

عندما نبحث في الميزان الثّالث – ميزان النّقل الّذي يتمسّك به اللاّهوتيّون منهجًا ومعيارًا للمعرفة، نجد أنّ هذا المصدر هو الآخر لا يُعتمد أو يُعوَّل عليه، ذلك لأنّ المنقول هو محصّلة وتدوين لفهم كتب القبل وتفسيرها. فبأيّ وسيلة تُرى قد تمّ التّوصّل إلى ذلك الفهم أو ذاك التّفسير؟ وجواب ذلك أنّه قد تمَّ بإعمال العقل البشريّ، إذ عندما نقرأ كتاب الله فإنّ مَلَكة الفهم الّتي نتوصّل بفضلها إلى الاستنتاجات هي العقل. والعقل هو الفكر، فإذا لم نملك عقلاً كاملاً فكيف يتسنّى لنا فهم ما تعنيه الكلمة الإلهيّة؟ فالعقل البشريّ بطبيعته محدود وقاصر في استنتاجاته كما أوضحنا. فهو لا يحيط بالحقيقة الكلّيّة وبالكلمة الجامعة. وبما أنّ أصل المنقول وتفسيره هو العقل البشريّ، وبما أنّ العقل البشريّ قاصر، فكيف نعتمد على استنتاجاته من أجل الوصول إلى المعرفة الحقيقيّة؟

الميزان الرّابع الّذي ذكرته لكم اليوم هو الإلهام الّذي يقال إنّ الوصول إلى حقيقة المعرفة ممكن من خلاله. ولكن تُرى ما هو الإلهام؟ إنّه عبارة عن خطورات قلبيّة. فإذا ما تساءلنا أيضًا عن ماهيّة الوساوس الشّيطانيّة الّتي تصيب البشر لوجدناها أيضًا خطورات قلبيّة. فكيف يمكننا إذًا أن نفرِّق بين هذه وتلك؟ أي أنّ السّؤال هو كيف نتبيَّن ما إذا كنّا نتّبع إلهامًا إلهيًّا أو وسواسًا شيطانيًّا. وباختصار، فالمسألة هنا هي أنّ تلك الموازين الأربعة هي الموازين أو طرق المعرفة المتاحة ولا شيء سواها في عالم الكائنات والظّواهر الطّبيعيّة، وجميعها قاصرة ولا يُعوّل عليها. فما الّذي يبقى إذًا؟ وكيف نصل إلى حقيقة المعرفة؟ والجواب إنّ هذا ممكن بنفثات وإلهامات الرّوح القدس الّتي هي النّور والمعرفة بعينها، وبواسطتها يستيقظ العقل البشريّ ويقوى في استنباط الحقيقة والوصول إلى المعرفة الكاملة. وهذا برهان قاطع على أنّ كافة الموازين المتاحة للبشر قاصرة في حين أنّ ميزان المعرفة الالهيّ منزّه عن الخطأ. فلا يصحُّ للمرء أن يقول ‘أنا أعلم لإنّني أُدرك بحواسي’ أو ‘أنا أعلم لأنّني برهنت على صحّته بقوّة عقلي’ أو أن يقول ‘أنا أعلم لأنّه مطابق للمنقول وموافق لتفسير الكتاب الإلهيّ’ أو ‘أنا أعلم لأنّني أُلهمت به’، ذلك لأنّ كلّ موازين الفهم البشريّ ناقصة ومختلّة.

(10) 17 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل إدوارد ب. كيني وحرمه،
780 طريق وست إند، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه جون جراندي

مذكور في الكتب المقدّسة أنّه عندما تشرق شمس الحقيقة فإنّها ستظهر في الشّرق وسيسطع نورها في الغرب. ولقد أشرقت بالفعل في الشّرق وأخذت علاماتها تظهر في الغرب، ولسوف تنتشر أنوارها في الغرب سريعًا وفي كلّ الأرجاء. لقد أشرقت شمس الحقيقة من إيران وأصبح سطوعها الآن واضحًا جليًّا هنا في أمريكا. وهذا أعظم برهان على ظهورها في أفق العالم كما هو مذكور في الكتب السّماويّة المقدّسة. الحمد لله! فإنّ كلّ ما وَعَدت به الكتب السّماويّة قد تحقّق.

يوم الأحد الماضي، وفي قاعة كارنيغي، ردّدت الشّخصيّة المحترمة، الّتي قدّمت عبد البهاء لجموع الحاضرين، عبارة أنّه ‘طبقًا لما جاء في الأحاديث سوف تظهر الشّياطين من أرض المشرق، إلاّ أنّنا بدل ذلك نرى الآن ملائكة تظهر من هناك’. عندما قيلت هذه العبارة لم يكن الرّدّ عليها ممكنًا، ولكنّنا سنتحدّث بشأنها اليوم. كانت الأنوار الرّوحانيّة العظيمة تظهر دائمًا من الشّرق؛ فظهر الجمال المبارك، حضرة بهاء الله، من الشّرق. كما أشرق السّيّد المسيح من أفق الشّرق، وكذلك حضرة موسى وهارون ويوسف وأنبياء بني إسرائيل من أمثال إرميا وحزقيال وإِشعياء وغيرهم – حيث ظهروا جميعًا من الشّرق. وكذلك الأمر أشرقت أنوار حضرة محمّد وحضرة الباب من الشّرق أيضًا. لقد غمر أفقَ الشّرق سطوع تلك الأنوار العظيمة، ولم تسطع أنوار ظهورهم على الغرب إلاّ من جهة الشّرق. وأنتم تعيشون اليوم – بحمد الله – في فجر دورة تسطع فيها شمس الحقيقة ثانية من الشّرق منيرة
كلّ الأقطار.

لقد أصبح العالم عالمًا جديدًا، وظلام اللّيل الّذي كان يغشى البشريّة أخذ يتبدّد، وطلع صبح يوم جديد. وما لبثت الإحساسات الرّبّانيّة والقابليّات السّماويّة أن أخذت تتكشّف وتتربّى في نفوس البشر بفضل تربية شمس الحقيقة. إلاّ أنّ قابليّات الأرواح متباينة وأحوالها متغايرة. فمثلاً تأتي بعض المعادن من المناطق الصّخريّة في الأرض، وجميعها تعتبر معادن، وكلّها تشكّلت بفعل شمس واحدة، ولكنّ بعضها يبقى كما هو صخرة صمّاء، بينما يحوز الآخر على قابليّة الجواهر أو الأحجار الكريمة اللاّمعة. كما أنّ الزّنابق والرّياحين تنبتُ في إحدى بقاع الأرض، ويطلع الشّوك والحسك من بقاع أخرى. ومع أنّ لكلٍّ من البقعتين نصيبًا من فيض إشراق الشّمس، إلاّ أنّ قابليّة تلقّيهما لهذا الإشراق لا تكون واحدة. ولهذا فإنّه من اللاّزم أن ننمِّي قابليّاتنا وإحساساتنا الملكوتيّة لكي تسطع منّا المواهب الرّحمانيّة لشمس الحقيقة، المقَدَّرة لهذا العصر والزّمان الّذي نحياه، كسطوع النّور من خالص البلّور.

إنّ مواهب الجمال المبارك غير محدودة، وعلينا أن نجهد كي تزداد قدراتنا يومًا بعد يوم، وأن نقوّي ونُنمّي قابليّاتنا لنيل هذه المواهب، فنصبح كالمرايا المصقولة. وكلّما ازدادت المرآة صقلاً وصفاء ازداد انعكاس أنوار شمس الحقيقة منها لمعانًا وإشراقًا. كونوا مثل الحديقة الغنّاء الّتي تنبت منها ورود الجنان وأزهارها من مختلف الأنواع وتزداد عبقًا وجمالاً. وأملي أن تصير قلوبكم كالتّربة المستعدّة المحروثة الممهَّدة بكلّ عناية، لتنزل عليها أمطار مواهب الجمال المبارك الرّبّانيّة، وتهبّ عليها نسائم هذا الرّبيع الإلهيّ بنسمة الحياة، عندئذ يزدهر رضوان قلوبكم بأزهار ريحان بهيج تعطّر مشام البستانيّ السّماويّ. وتعكس أفئدتَكم طلعات شمس الحقيقة بمختلف أطيافها لتبهج عينَ المربّي الإلهيّ الّذي ربّاها وغذّاها. كونوا يومًا فيومًا أشدّ انجذابًا حتّى يفيض منكم نور محبّة الله على كلّ من يصادفكم. كونوا كروح واحدة ونفس واحدة وأوراق شجرة واحدة وأزهار حديقة واحدة وأمواج بحر واحد.

بما أنّ التّفاوت في القابليّات له وجود في نفوس البشر، وبما أنّ هناك تفاوتًا في قُدُراتهم، فستختلف شخصيّاتهم كلّ منها عن الأخرى، إلاّ أنّ هذا الاختلاف في حقيقة الأمر يكون علّةً للاتّحاد وليس سببًا في الشّحناء والبغضاء. فإذا كانت أزهار إحدى الحدائق كلّها من لون واحد، فإنّ أثرها يكون مملاًّ للنّظر، أمّا إذا تنوّعت ألوانها تكون في غاية البهجة والرّوعة. فتبايُنُ ما تزدان به الحديقة من ألوانٍ وانعكاساتٍ يمنحها جمالاً ورونقًا. وعلى ذلك فإنّنا – رغم اختلاف شخصيّاتنا وأفكارنا ومشاربنا – علينا أن نجهد كأزهار الحديقة الرّبّانيّة الواحدة كي نعيش معًا في وئام. وعلى الرّغم من أنّ كلّ نفس لها أريجها ولونها المميّز، إلاّ أنّها جميعًا تعكس النّور نفسه، وتنفح أريجها في ذلك النّسيم الواحد الّذي يسري في البستان، وجميعها ينمو ويتربّى في تناسق ووفاق كامليْن. كونوا كأمواج بحر واحد، وأشجار غابة واحدة تنمو بكلّ محبّة ووفاق واتّحاد.

فإذا بلغتم هذا القدر من المحبّة والاتّحاد، سيسبغ الجمال المبارك عليكم أفضال ملكوت الرّوح بغير حدود، ويهديكم ويحميكم ويحفظكم في ظلّ كلمته، ويضاعف من سعادتكم في الدّنيا، ويؤيّدكم في كلّ المشقّات والمحن. فأملي إذًا أن يزداد إشراقكم يومًا فيومًا في أفق الملكوت، وتنجذبون دومًا إلى الملكوت الأبهى، وتنالون مواهب الجمال المبارك أكثر وأكثر. وإنّي مسرور لرؤية دلائل المحبّة فيما بينكم. سأذهب إلى شيكاغو، وعندما أعود آمل أن تصبح هذه المحبّة بغير حدود. عندئذ يكون ذلك مصدر سرور أبديّ لي وللأحبّاء في الشّرق.

(11) 18 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل مارشال إيميري وحرمه
273 غرب الشّارع التّاسع عشر، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته الآنسة ديكسون

أودّ اللـّيلة أن أروي لكم بعضًا من تاريخ الرّسالة البهائيّة:

ينتسب الجمال المبارك، بهاء الله، إلى نبلاء بلاد فارس. كان منذ نعومة أظفاره مميّزًا بين أقاربه ومعارفه. فكانوا يقولون عنه إنّ لدى هذا الطّفل قوّة استثنائيّة. وكان يفوق مَن هم في عمره بمراحل، ويتفوّق على مَنْ حوله في حكمته وفطنته والإلمام بما هو جديد في العلم والمعرفة. وصار كلّ من يراه يندهش من نُضجه المبكر. وما أكثر ما قيل إنّ هذا الطّفل لن يعيش طويلاً ذلك لأنّ هناك اعتقادًا شائعًا بأنّ ذوي النّضج المبكر من الأطفال لا يعيشون حتّى الرّشد. لم يدخل الجمال المبارك أيّ مدرسة في صباه، إذ لم يكن راغبًا في تلقّي العلم من أحد. وهذه حقيقة دامغة تناقلها الإيرانيّون من أهل طهران. ومع ذلك فقد كان قادرًا على حلّ كلّ المشاكل المستعصية لكلّ من كانوا يقصدونه. ولم يكن يخلو أيّ مجلس أو محفل علميّ أو مناظرة دينيّة من شخصه، وصار حُجّةً في تفسير المسائل المعقّدة المبهمة الّتي كانت تُطرح في تلك المجالس.

على الرّغم من أنّ حضرة بهاء الله كانت له صلة بالحكومة إلاّ أنّه لم يسعَ لِتَبَوُّءِ أيّ وظيفة أو منصب سياسيّ إلى أن توفّي والده. وأثار ذلك دهشة النّاس وحديثها، فعادة ما كانوا يقولون: ‘كيف لا يسعى شاب على هذا القدر من الفطنة ورجاحة العقل إلى المناصب المجزية في حال أنّ كلّ منصب متاح له؟’ هذه حقيقة تاريخيّة مشهود لها بين أهل فارس.

كان حضرة بهاء الله بالغ الكرم يعطي الفقراء بكلّ سخاء. لم يرجع مَنْ قَصَده خائبًا، وكانت أبواب بيته مفتوحة أمام الجميع، ودائمًا ما كان يستقبل الكثير من الضّيوف. فصار هذا الكرم اللاّمحدود مثارًا للكثير من الدّهشة والحيرة، ذلك لأنّه لم يكن يسعى في ذلك لأيّ منصب أو صيت. وفي معرِض حديثهم عن هذا، كان أصدقاؤه يقولون إنّه سيصبح فقيرًا مُعْوِزًا لأنّ مصاريفه باتت كثيرة وثروته أخذت تتضاءل شيئًا فشيئًا. وكانوا يتساءلون فيما بينهم ‘لماذا لا يفكّر في مصالحه الخاصّة؟’ إلاّ أنّ بعض الحكماء منهم كانوا يصرِّحون: ‘لا بدّ أنّ هذه الشّخصيّة على اتّصال بعالم آخر، وفي نفسه شيء عظيم لا نراه الآن، وسيأتي يوم ينكشف فيه ذلك الشّيء’. كان الجمال المبارك في الحقيقة ملجأً لكلّ ضعيف، وملاذًا لكلّ مستجير، وعطوفًا على كلّ مُعْوِز، وطيّبًا وحنونًا على الكلّ.

لقد اشتهر حضرة بهاء الله بهذه المناقب والصّفات قبل ظهور حضرة الباب، ثمّ أعلن حضرته صدق رسالة حضرة الباب وروّج تعاليمه. أمّا حضرة الباب فقد أعلن أنّ ظهورًا أعظم سيكون تاليًا له وسمّى ذلك الموعود بـ مَنْ يُظهره الله، مصرّحًا أنّه بعد تسع سنوات ستتجلّى حقيقة رسالته وتتّضح. ففي آثاره يتفضّل حضرة الباب بقوله إنّه في سنة التّسع سيُعرف الموعود المنتظر؛ وفي سنة التّسع كلَّ خير تُدرِكون، وفي سنة التّسع ستترقّون بين عشيّة وضحاها. كانت هناك مراسلات خاصّة بين كلّ من حضرة بهاء الله وحضرة الباب. وكتب حضرة الباب رسالة ضمّنها ثلاثمائة وستّين مشتقًّا من لفظ بهاء. ثمّ استـُشهد حضرته في تبريز؛ كما نُفي حضرة بهاء الله إلى العراق عام 1852م، وهناك في بغداد أعلن عن نفسه. ذلك لأنّ الحكومة الإيرانيّة رأت أنّه طالما بقي حضرته في إيران سيبقى أمن البلاد في اضطراب، ولذلك أُبعد عن موطنه توقّعًا بأن تهدأ فيها الأوضاع. إلاّ أنّ نفيه أحدث أثرًا عكسيًّا؛ فاندلع اضطراب جديد في إيران، وطبّق صيت عظمته الآفاق، وانتشر نفوذه في أرجاء البلاد. وقد جرى إعلان ظهوره ورسالته في بغداد، حيث جمع أحبّاءه هناك وحدّثهم عن الله.

ذات يوم هجر حضرة بهاء الله المدينة وتوجّه لوحده إلى جبال كردستان معتكفًا ومتّخذًا من كهوفها مسكنًا له. وانقضت سنتان لم يعرف فيهما أحبّاؤه وأهله بمكانه، قضى بعض الوقت منهما في مدينة السّليمانيّة.

على الرّغم من أنّ حضرة بهاء الله كان وحيدًا فريدًا غريبًا في عزلته، فإنّ الخبر قد ذاع في كلّ كردستان عن وجود شخصيّة عظيمة متبحِّرة في العلوم أوتيت جاذبيّة عجيبة. وسرعان ما انجذب إقليم كردستان بمحبّته. لقد عاش حضرة بهاء الله في تلك الآونة بكلّ فاقة، وكان يرتدي كساء الفقراء والمساكين، ويقتات بغذاء المساكين والوضعاء، إلاّ أنّ هالة من الجلال كانت تحيط بشخصه كالشّمس في رابعة النّهار، وكان يُقابَل في كلّ مكان ببالغ التّبجيل وخالص المحبّة.

بعد سنتين رجع حضرة بهاء الله إلى بغداد، وعندما زاره في بيته مَنْ عرفهم من المريدين في السّليمانيّة ووجدوه على ما اعتاد عليه من بحبوحة العيش واليسر، أبدوا دهشتهم من أن يكون هكذا حالُ من اعتزل الدّنيا في كردستان وعاش بغاية التّقشف والزّهد.

كان اعتقاد حكومة إيران أنّ إقصاء الجمال المبارك عن بلاد فارس سيكون قاضيًا على دعوته في تلك الدّيار. ولكن تبيَّن لهؤلاء الحكًام الآن أنّ دعوته انتشرت بأسرع ممّا كان، وتعاظمت هيبته وجلاله، ونالت تعاليمه المباركة رواجًا أكبر. وإزاء ذلك استغلّ رؤساء إيران نفوذهم في نفي حضرة بهاء الله عن بغداد. فكان أن استدعته السّلطات التّركيّة للإقامة في الآستانة (إسطنبول). ولكنّ حضرته – إبّان إقامته فيها – تجاهل كلّ قيد، وخاصّة عداء وزراء الدّولة ورجال الدّين له. فعاود الممثّلون الرّسميّون لإيران استغلال نفوذهم في التّأثير على السّلطات التّركيّة، فنجحوا في حملها على نفي حضرة بهاء الله من الآستانة إلى أدرنة، وكان غرضهم في ذلك أن يكون حضرته بعيدًا بأقصى ما يمكن عن بلاد فارس، فيصبح تواصله مع تلك الدّيار أشدّ صعوبة. ورغم ذلك ظلّت دعوته تنتشر وتتقوّى.

أخيرًا، تداولوا فيما بينهم وقالوا: ‘لقد أبعدناه من مكان إلى آخر، وفي كلّ مرّة نفيناه فيها كان أمره يزداد انتشارًا، ودعوته تزداد قوّةً، وسراجه يشتد ضياءً يومًا بعد يوم، ذلك لأنّنا نفيناه إلى مدن كبيرة وأماكن عامرة، لهذا سنرسله الآن سجينًا إلى مستعمرة للقصاص حتّى يدرك الجميع أنّه من عداد القتلة واللّصوص والمجرمين، ولن يمضي وقتٌ طويل حتّى يهلك هو وأتباعه’. فكان أن نفاه سلطان تركيّا إلى سجن عكّاء ببرّ الشّام.

بعد أن وصل حضرة بهاء الله إلى عكّاء تمكّن بقدرة إلهيّة أن يرفع لواء دينه. أمّا نوره الّذي كان في البدء نجمًا فقد صار الآن شمسًا ساطعة، وانتشر سناء أمره المبارك من الشّرق إلى الغرب. ومن داخل جدران السّجن سطر ألواحًا مباركة إلى كلّ حكّام الأمم وملوكها، يدعوهم إلى إصلاح ذات بينهم وإلى الصّلح العموميّ. بعض هؤلاء الملوك استقبل كلماته بازدراء واحتقار، ومن بين هؤلاء كان سلطان آل عثمان. أمّا نابليون الثّالث إمبراطور فرنسا فلم يبعث بأيّ رد، فخاطبه حضرة بهاء الله بلوح آخر جاء فيه: لقد وجّهت لك لوحًا قبل هذا داعيًا إيّاك إلى أمر الله، ولكنّك كنت من الغافلين، وادّعيت أنّك نصير المظلومين، ولكن اتّضح الآن أنّك لست كذلك، ولا أنت شفوقٌ بشعبك المبتلى بالمعاناة والقهر، فأعمالك تخالف أحوالك، وستذهب عنك عزّتك لا محالة، وعمّا قريب سوف يمحو الله ملكك بسبب غرورك وستخرج فرنسا من يدك وستبتلى بهزيمة نكراء وسيكون هناك بكاء وعويل وستنتحب النّساء على ثكل أبنائهنّ. هذا وقد نشر هذا الإنذار الّذي وجـّهه حضرة بهاء الله إلى نابليون الثّالث وذاع أمره.

إقرأوا وتفكّروا: كيف يوجّه سجين وحيد فريد لا معين له ولا نصير، غريب عن الدّيار، حبيس حصن عكّاء، رسالاتٍ كهذه إلى إمبراطور فرنسا وسلطان تركيّا؟ وتمعّنوا كيف رفع بهاء الله لواء أمره وهو في السّجن. ارجعوا إلى التّاريخ؛ إنّه أمر لا نظير له. لم يحدث شيء مثل ذلك من قبل ولا من بعد – سجين ومنفيّ يعمل على تقدّم أمره، ويـَنشُرُ تعاليمه على ملأ الأشهاد على شأن جعله في النّهاية من القوّة ما مكّنه من أن يقهر نفس ذاك المليك الّذي حكم عليه بالنّفي.

انتشر أمره أكثر فأكثر. لقد حبس الجمال المبارك خمسًا وعشرين سنة، كان خلالها هدفًا لإهانات النّاس وذمّهم، واضطُهِد واستُهزِئ به وقُيد بالسّلاسل والأغلال ونُهبت أملاكه وصودرت ممتلكاته في إيران، ونـُفي في البداية من إيران إلى بغداد، ثمّ إلى الآستانة، فأدرنة، ومن الرّوميلّي أخيرًا إلى حصن عكّاء.

كان حضرة بهاء الله في سنوات حياته مفعمًا بالحيويّة والنّشاط وقواه بغير حدود. نادرًا ما كان يهنأ بليلة من نوم مريح. تحمّل كلّ هذه المشاق، وعانى كلّ هذه المحن والمصائب كي يتجلّى في عالم الوجود مظهرٌ للتفاني والخدمة، وحتّى يصير الصّلح الأعظم حقيقة واقعة، ويظهر من النّفوس ما يحكي عن ملائكة السّماء، وتجرى المعجزات الملكوتيّة بين البشر، ويقوى ويكتمل إيمان البشر، ويترقّى العقل – الّذي هو أثمن وأغلى موهبة من الله للبشر – ويصل إلى كامل حِجاه في هيكل الجسد الإنسانيّ، ويصير الإنسان صورة ومثالاً للخالق عزّ وجلّ، مصداقًا لما جاء في الكتاب المقدّس لنعملنّ إنسانًا على صورتنا ومثالنا.

وخلاصة القول، لقد تحمّل الجمال المبارك كلّ هذه المحن والمصائب لكي تصير قلوبنا مشتعلة منيرة، وأرواحنا مجيدة، وتتبدّل سيّئاتنا بالحسنات، وينقلب جهلنا علمًا، وتبلغ الإنسانيّة ثمارها الحقّة، وننال النّعم السّماويّة، ونسلك سبيل الملكوت بينما نحن من عابري السّبيل هنا في عالم النّاسوت، وننال من كنوز الحياة الأبديّة رغم ضعفنا وافتقارنا. من أجل هذا كلّه تحمّل حضرة بهاء الله كلّ تلك الرّزايا والمحن.

فلتكن ثقتكم جميعًا بالله. فالأنوار السّبحانيّة ساطعة، والألواح المباركة منشورة، والتّعاليم المباركة ذائعة في أرجاء الشّرق والغرب. وعمّا قريب سترون الكلمات الإلهيّة وقد شيّدت وحدة العالم الإنسانيّ، وتشاهدون بسط لواء الصّلح الأكبر، وتبصرون ظهور الجامعة الإنسانيّة العظيمة.

(12) 19 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بقاعة إيرل هول بجامعة كولومبيا بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

لو تمعّـنّـا بنظر ثاقب في عالم الوجود لوجدنا أنّ كلّ الكائنات يمكن تصنيفها إلى مراتب أربعة: الأولى هي الجماد – أي المادّة أو الشّيء الّذي يتّخذ أشكالاً عديدة من التّركيب. الثّانية هي النّبات – الحائز على خواص الجماد علاوة على قوّة التّكاثر أو النّمو، وهذا ما ينُمُّ عن مرتبة أرقى وأكثر تميّزًا عن الجماد. والثّالثة هي الحيوان – الحائز على خواص الجماد والنّبات مضافًا إليها قوّة الإدراك الحسّيّ. ويأتي الإنسان في المرتبة الرّابعة – وهو أرقى كائنات عالم الإمكان تميّزًا، فهو المُجَسِّد لخواص الجماد والنّبات والحيوان معًا مضافًا إليها موهبة مثاليّة غائبة تمامًا عن الممالك الأدنى، ألا وهي قوّة التّقصّي العقليّ في أسرار الظّواهر الخارجيّة. ونتاج هذه الموهبة العقليّة هو العلم، وهو ما يميّز الإنسان على وجه الخصوص. فهذه القوّة العلميّة تتفحّص وتدرك الكائنات والنّواميس المحيطة بها. فهي الكاشفة لما خفي وغمض من أسرار عالم المادّة وهي المميِّزة للإنسان دون سواه. فأنبل وأشرف إنجازات الإنسان إذًا هي المعارف والإنجازات العلميّة.

يمكن تشبيه العلم بمرآة تنعكس عليها أسرار الظّواهر الخارجيّة. فهو يأتي بخبايا الماضي ويخرجها إلى حيّز المشاهدة، ويربط الماضي بالحاضر، فتتبلور استنتاجات فلاسفة القرون الغابرة وتعاليم الأنبياء وحكمة السّابقين من الحكماء، وتُعاد صياغتها في قالَب التّقدّم العلميّ ليومنا الحاضر. العلم كاشف لما مضى، ومن استنباطه للماضي والحاضر نتوصّل إلى الاستنتاجات المتعلّقة بالمستقبل. والعلم سلطان الطّبيعة وأسرارها، وهو القوّة الّتي بها يكتشف الإنسان قوانين الخليقة. فكلّ المخلوقات أسيرة للطّبيعة وخاضعة لنواميسها، ولا يمكنها أن تتجاوز سلطة هذه النّواميس قيد شعرة. فالمجرّات الفلكيّة والأجرام السّماويّة اللاّمتناهية هي توابعٌ مطيعة للطّبيعة. والأرض بما فيها من آلاف مؤلّفة من الكائنات، أي كلّ ما في عوالم الجماد والنّبات والحيوان، عبيدٌ لسطوتها. بيد أنّ الإنسان باستخدامه قواه العلميّة والفكريّة بمقدوره أن يخرج من هذه الحالة، ويتناول الطّبيعة بالتّعديل والتّبديل والهيمنة طبقًا لرغباته واحتياجه. فالعلم، إذا شئنا التّعبير، هو محطِّم قوانين الطّبيعة.

تفكّروا مثلاً، فالإنسان، طبقًا لقانون الطّبيعة، يكون مجبرًا على العيش على سطح الأرض. بيد أنّه، بالتّغلب على هذا القانون والقيد، يشقّ عباب البحار بالسّفن، ويصعد إلى أوج السّماء بالطّائرات، ويغوص في أعماق البحار بالغوّاصات، وهذا ضدّ حكم الطّبيعة وخرق لهيمنتها وسلطانها. ومن الطّبيعي أن تبقى قوانين الطّبيعة وأنظمتها، وأسرار الكون وغوامضه، بل وابتكارات الإنسان واكتشافاته، وكذلك كافّة تحصيلاتنا العلميّة مستورة ومجهولة. بيد أنّ الإنسان بذكائه العقليّ يتحرّى عنها ويخرجها من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود، ويكشف عنها ويفسّرها. فالكهرباء مثلاً هي واحدة من أسرار الطّبيعة، وبحكم الطّبيعة يجب أن تبقى هذه القوّة وهذه الطّاقة كامنة مستورة، ولكنّ الإنسان بعلمه يخرق قوانين الطّبيعة، ويمسك بزمام هذه الطّاقة بل ويحبسها من أجل منفعته.

الخلاصة، إنّ الإنسان بامتلاكه هذه الموهبة الممتازة – موهبة الاستقصاء العلميّ – هو أنبل المخلوقات، وهو سيّد الطّبيعة، هو الّذي ينتزع سيف الطّبيعة من يدها ويضرب به على رأسها. واللّيل طبقًا لناموس الطّبيعة فترة ظلام وقتام، غير أنّ الإنسان بتسخيره لقوّة الكهرباء، وبإشهاره لهذا السّيف الكهربيّ يقهر الظّلام ويبدّد القَتَام. فالإنسان يسمو إذًا فوق الطّبيعة ويجعلها تأتمر بأمره. والإنسان مخلوق ذو إحساس، أمّا الطّبيعة ففاقدة للإحساس. وللإنسان ذاكرة وعقل، والطّبيعة محرومة منهما. إذًا فهو أنبل منها. وهو حائز لقوى ليست لدى الطّبيعة. وقد يقول قائل إنّ هذه القوى من الطّبيعة نفسها وأنّ الإنسان جزء من الطّبيعة. ونحن نجيب على ذلك بالقول إنّه إذا كانت الطّبيعة هي الكلّ والإنسان جزء من ذلك الكلّ، فكيف يتسنّى للجزء أن يمتلك من الصّفات والكمالات ما يغيب عن الكلّ؟ من المحتّم قطعًا أن يكون الجزء حائزًا على نفس الصّفات والخواص كما هو الحال في الكلّ. فالشّعر مثلاً جزء من تركيب الإنسان، ولا يمكنه أن يحتوي على عناصر لا توجد في سائر أجزاء البدن، لأنّه في جميع الحالات تكون العناصر المكوِّنة للجسد واحدة. فيتّضح إذًا أنّ الإنسان، رغم كونه جزءًا من الطّبيعة بالجسد، فهو يمتلك بالرّوح قوّة تفوق الطّبيعة. ذلك لإنّه لو كان بكلّ بساطة جزءًا من الطّبيعة ومقيّدًا بقوانين المادّة، لما امتلك سوى الأشياء الّتي تتضمّنها الطّبيعة. فلقد وهب الله الإنسان واختصّه بقوّة مميّزة – وهي مـَلكة إعمال الفكر في أسرار الخليقة، وتحصيل المعارف والعلوم السّامية – حيث تكون الاستنارة العلميّة أعظم مناقبها.

إنّ هذه الموهبة هي أعظم القوى الممدوحة عند الإنسان، فبإعمالها واستخدامها يتحقّق صلاح الجنس البشريّ، ويصبح ترقّي الفضائل الإنسانيّة ممكنًا، وتتجلّى الرّوح الرّبّانيّة وتتكشّف الأسرار الإلهيّة. ولهذا فإنّني في غاية السّرور بزيارتي لهذه الجامعة. والحمد لله إنّ هذا البلد زاخر بالكثير من معاهد العلم هذه، وفيها تتاح الفرص لنيل العلوم والفنون والآداب بسهولة ويسر.

حيث إنّ العلوم المادّيّة والطّبيعيّة تُدرّس هنا وتتطوّر دائمًا نحو آفاق أوسع من الاكتشاف والتّحصيل، فإنّني آمل أن يحذو حذوَها التّطوّرُ والتّرقّي الرّوحيّ ويمضيان جنبًا إلى جنب مع هذه المزايا الظّاهريّة، وأن يسطع نور الرّوح – الّذي هو السّراج المعنويّ والرّبّانيّ للفلسفة الحقيقيّة – بمجده على هذه الهيئة، تمامًا كما يستضيء من هم في جنبات وأروقة صرح العلم العظيم هذا بنور المعارف المادّيّة. وأعظم مبادئ الفلسفة الرّبّانيّة هو وحدة العالم الإنسانيّ، أي وحدة الجنس البشريّ، تلك الرّابطة الّتي تربط الشّرق بالغرب، وصلة المحبّة الّتي تؤلّف بين أفئدة البشر.

لهذا فإنّه من واجبنا أن نبذل قصارى جهدنا ونستجمع كلّ طاقاتنا حتّى تتأسّس أواصر الاتّحاد والوفاق بين بني البشر. لقد عانينا من إراقة الدّماء والنّزاع آلاف السّنين. كفانا ذلك، كفانا ذلك. آن الأوان لكي نأتلف معًا في محبّة ووفاق. ولآلاف السّنين جرّبنا السّيف وآلات الحرب، فليحاول الجنس البشريّ أن يعيش في سلام ولو لفترة من الزّمان على الأقل. راجعوا التّاريخ وتأمّلوا؛ كم من وحشيّة، وكم من إراقة للدّماء ومعارك شهدها العالم. وجميعها كانت إمّا حروبًا دينيّة أو حروبًا سياسيّة أو ثمة تصادم في مصالح البشر ومنافعهم. ولم ينعم عالم البشريّة أبدًا بنعمة الصّلح العموميّ، وطفقت وسائل الحرب وأدواتها تزداد كمًّا وإتقانًا عامًا بعد عام. تدبّروا في حروب القرون الماضية، فلم يُقتل فيها سوى عشرة أو خمسة عشر أو عشرين ألفًا على أكثر تقدير، أمّا اليوم فإنّه من الممكن قتل مائة ألف نفس في يوم واحد. وكانت الحروب قديما تُشنّ بالسّيف، أمّا اليوم فبالمدافع. في السّابق كانت سفن الحرب تُبحر بالشّراع، واليوم نراها سفنًا مدرّعة مخيفة. تأمّلوا في تكديس آلات الحرب وتطويرها. لقد خلقنا الله كلّنا بشرًا، وجعل كلّ بلاد العالم أجزاء في كرة أرضيّة واحدة، وكلّنا عباده. هو عطوف وعادل مع الكلّ، فلماذا نقسو ونظلم بعضنا بعضًا؟ هو يرزقنا جميعًا، فلماذا يحرم كلّ منا الآخر؟ هو يحمي الكلّ ويحفظهم، فلماذا يقتل الإنسان أخاه الإنسان؟ فلو كانت هذه الحرب وهذا الاقتتال من أجل الدّين، فمن الواضح أنّها تتنافى مع روح وجوهر جميع الأديان لأنّ كافة المظاهر الإلهيّة نادت بوحدانيّة الله، وبوحدة الجنس البشريّ. ومن تعاليمهم أنّ البشر يجب أن يتحابَّوا ويساعد بعضهم البعض حتّى يتمكّنوا من التّرقّي. فإذا ما كان هذا المفهوم الدّينيّ صحيحًا، يكون مبدؤه الجوهريّ هو وحدة الجنس البشريّ. كما أنّ أساس حقيقة المظاهر الإلهيّة هو السّلام. هذا هو أساس كلّ دين وكلّ عدل، والغرض الإلهيّ هو أن يحيا البشر في اتّحاد ووفاق ووئام ويحبّوا بعضهم بعضًا. تدبّروا في فضائل العالم الإنسانيّ وأدرِكوا أنّ وحدة الجنس البشريّ هي أسُّ أساس هذه الفضائل جميعها. اقرأوا الإنجيل وسائر الكتب المقدّسة، فستجدون أنّ مبادئها الأساسيّة واحدة لا إختلاف فيها. فالاتّحاد إذًا هو حقيقة الدّين الجوهريّة، وإذا ما فهمناه من هذا المنظور، نجده شاملاً لكافّة فضائل العالم الإنسانيّ. والحمد لله فإنّ هذه الحقيقة قد انتشرت، والأعين تفتّحت، وأصبحت الآذان صاغية. فيجب علينا إذًا أن نجهد لكي نروّج دين الله الّذي أسَّسه كلّ الأنبياء والمرسلين ونعمل به. وما دين الله إلاّ خالص المحبّة وكامل الاتّحاد.

(13) 19 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بإرساليّة باوري 227 شارع باوري، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

إنّني في غاية السّعادة في هذه اللّيلة لأنّني أتيت هنا للقاء أحبّائي. أعتبركم أقربائي ورفاقي، وأنا رفيقكم.

عليكم أن تكونوا ممتنِّين لله سبحانه وتعالى كونكم فقراء، إذ إنّ يسوع المسيح تفضّل قائلاً: طوبى للفقراء ولم يتفضّل أبدًا طوبى للأغنياء. كما تفضّل حضرته أيضًا بأنّ الملكوت للفقراء وأنّ دخول الجمل في ثقب الإبرة أسهل من دخول الغنيّ في ملكوت السّموات. لهذا يجب أن تكونوا شاكرين لله لأنّه رغم كونكم معوِزين في هذه الحياة الدّنيا، إلاّ أنّ الكنوز الإلهيّة في متناولكم. ومع أنّكم فقراء في عالم النّاسوت، إلاّ أنّكم أعزّة في الملكوت. ولقد كان حضرة المسيح نفسه فقيرًا ولم يكن من فئة الأغنياء، وكان يصرف أوقاته في الخلاء ويتنقل ما بين الفقراء، وكان يقتات على كلأ الحقل. ولم يكن لديه مكان يضع عليه رأسه، وكان بلا مأوى. كان يعيش في العراء تحت رحمة القيظ والبرد والصّقيع وقسوة الجوّ بكلّ أنواعها. مع كلّ ذلك آثر هذا على الثّراء. فلو كان الثّراء مجدًا، لاختاره نبيّ الله موسى، ولصار المسيح ثريًّا. ولمّا ظهر يسوع المسيح، كان أوّل من آمن به هم الفقراء لا الأغنياء. فأنتم إذًا حواريّو يسوع المسيح، وأنتم رفاقه لأنّه كان فقيرًا لا غنيًّا في الظّاهر. وسعادة هذه الدّنيا لا تعتمد على الثّراء. وعندما تتأمّلون حال الأثرياء تجدون العديد منهم عرضة للأخطار ومبتلون بالمصاعب، وفي لحظات احتضارهم الأخيرة تنتظرهم هناك الحسرة على فراقهم المحتوم عمّا تعلّقت به قلوبهم كلّ التّعلّق. لقد جاءوا إلى هذا العالم عراة وعليهم أن يتركوه عراة. عليهم أن يتركوا كلّ ما جمعوه ويرحل الواحد منهم أعزلاً وحيدًا. وغالبًا ما تمتلئ نفوسهم بالأسى والحسرة عند حلول الأجل، بل والأدهى من هذا كلّه أنّ أملهم في رحمة الله أقلّ عمّا نحن عليه. فالحمد لله إنّ أملنا هو في رحمة الله، ولا شكّ أنّ الرّحمة الإلهيّة مغدَقة على الفقير. فهذا هو ما تفضّل به يسوع المسيح، وهذا أيضًا ما تفضّل به حضرة بهاء الله. وعندما كان حضرته في بغداد، كان ما يزال يمتلك ثروة كبيرة. فترك كلّ هذا وخرج من المدينة وحيدًا صارفًا سنتين بين الفقراء. لقد كانوا رفاقه، فكان يأكل معهم وينام معهم ويفتخر بأنّه واحد منهم. واختار لنفسه لقب الفقير ليكون من بين ألقابه، وغالبًا ما كان يشير إلى نفسه في كتاباته بالدّرويش، ومعناها الفقير باللّغة الفارسيّة، وكان فخورًا جدًّا بهذا اللّقب. وأوصى الكلّ بأنّنا يجب أن نكون خادمين للفقراء، ومعينين لهم، ومتذكّرين لمحنهم ومآسيهم، ومعاشرين لهم، عسى أن نرث بذلك ملكوت السّموات. كما أنّ الله لم يقل إنّ هناك منازل معدّة لنا إذا ما نحن صرفنا أوقاتنا في معاشرة الأغنياء، ولكنّه قال إنّ هناك منازل كثيرة أعدّت لمن يخدمون الفقراء، ذلك لأنّ الفقراء أعزّاء على الله جدًّا وقد اختصّوا بنعم الله وآلائه. أمّا الأغنياء فإنّهم في الغالب غافلون، غير عابئين، غارقون في أمور الدّنيا، متّكلون على أسبابهم، في حين أنّ الفقراء متوكّلون على الله، وكلّ اعتمادهم عليه سبحانه وتعالى لا على أنفسهم. فالفقراء إذًا هم الأقرب إلى عتبة الله وعرشه.

لقد كان المسيح فقيرًا. وذات ليلة، بينما كان في العراء، بدأ المطر بالهطول، ولم يكن له من مكان يلوذ به، فرفع عينيه إلى السّماء وقال: يا أبتاه، لطيور السّماء جعلت أعشاشًا، وللغنم حظائرَ، وللوحوش عرائنَ، وللسمك مخابئَ، ولكنّك لم توفّر لي ملجأً، فليس لي مكان أضع عليه رأسي. فراشي من أديم الأرض البارد، والنّجوم مصابيح ليلي، وطعامي كلأ الحقل. ومع هذا فمن هو أغنى منّي على وجه البسيطة؟ لأنّك لم تعط البركة الكبرى للأغنياء والأكابر وإنّما أعطيتها لي، ذلك لأنّك أوكلتَ الفقراء بي، ومنحتني هذه البركة، فهم لي، وأنا إذًا أغنى إنسان على الأرض.

إذًا، فيا رفاقي، أنتم تقتدون بيسوع المسيح، وحياتكم تُماثل حياته، وتوجّهكم مثل توجّهه، وتشبهونه أكثر ممّا يشبهه الأغنياء. فلنشكر الله إذًا على أنّنا نلنا الثّروة الحقّة، وفي الختام أرجو منكم أن تقبلوا عبد البهاء خادمًا لكم.

(في نهاية هذا اللّقاء وقف حضرة عبد البهاء أمام مدخل قاعة الإرساليّة، مصافحًا أيدي ما يقرب من أربعمائة أو خمسمائة نفس واضعًا في كف كلّ واحد منهم قطعة نقود فضّيّة.)

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في واشنطن العاصمة (1) 20 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في مؤتمر اتّحاد الشّرق والغرب،
بقاعة المكتبة العامّة في واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنني اللّيلة في غاية السّرور للوقوف أمام جمع كهذا. فأنا من الشّرق وقد جئت إلى الغرب للقاء أهله. الحمد لله! إنّني أرى في وجوه المجتمعين هنا نور الله، وأعتبر هذا دليلاً على إمكانيّة توحيد الشّرق والغرب، وتأسيس رابطة مثاليّة بين إيران وأمريكا – وهي إحدى أهداف مؤتمركم هذا. وبالنّسبة للإيرانيّين، ليست هناك حكومة مهيّأة للمساهمة في تنمية مواردهم الطّبيعيّة والمساعدة في احتياجاتهم القوميّة في تحالفٍ متبادل أفضل من حكومة الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وبالنّسبة للأمريكيّين ليس هناك منفذٌ وسوق صناعيّ أفضل من الأرض التّجاريّة البكر في إيران. ولا تزال الثّروة المعدنيّة في إيران كامنة لم تُمَسّ. وأملي أن يكون للدّيمقراطيّة الأمريكيّة العظيمة دور فعّال في تنمية هذه الموارد الدّفينة، وأن يتأسّس رباط أخوّة ووحدة مثاليّتيْن بين الجمهوريّة الأمريكيّة وحكومة إيران. ونرجو أن تستحكم أواصر هذا الرّباط بكلّ إتقان، أكان مادّيًّا أم روحيًّا، وأن تجد حضارة أمريكا المادّيّة تحقُّقًا وتأسيسًا كاملاً في إيران، وأن تجد حضارة إيران الرّوحيّة قبولاً واستجابة في أمريكا.

بمقدور بعض الكائنات أن تحيا منعزلة وحيدة. فالشّجرة مثلاً بوسعها العيش دون مساعدة أو تعاون باقي الأشجار. وبعض الحيوانات تعيش منعزلة وتحيا حياة منفصلة بعيدًا عن جنسها. ولكنّ هذا مستحيل بالنّسبة للإنسان، فالتّعاون والتّرابط ضروريّان لحياته وكيانه. وفي التّرابط والتّلاقي نجد السّعادة والرّقيّ فرديًّا وجماعيًّا.

فمثلاً لو كان هناك تواصل وتعاون بين قريتين، فذلك يضمن التّقدّم لكلّ منهما. وبنفس الكيفيّة إذا تحقّق التّواصل بين مدينتين فإنّ كلتيهما تنتفعان وتتقدّمان. وإذا ما تمّ التّوصُّل إلى قاعدة من التّفاهم المشترك بين دولتين، فإنّ مصالحهما الفرديّة والمشتركة ستصيبُ رقيًّا عظيمًا. وبناء على ذلك فإنّني أشاهد في وحدة هذا الجمع المنير حلقة وصل بين الشّرق والغرب. وهذه الوحدة هي وسيلة وأداة للتّعاون بين مختلف بلدان الشّرق والغرب. من الواضح إذًا أنّ ما يتحقّق من نتائج على قاعدة الاتّفاق والائتلاف هذه لا حصر لها ولا حدَّ، ومن المؤكّد أن يكون هناك حصاد وفير من النّتائج العظيمة لكلّ من إيران وأمريكا. فسوف تتأسّس حضارة مادّيّة راقية في إيران وتنفتح الأبواب على مصاريعها للتّجارة الأمريكيّة.

فوق هذا وذاك، ستربط ما بين هذين الشّعبيْن المتباعديْن وتمزجهما محبّة فائقة وينبوع من المودّة، ذلك لأنّ حضرة بهاء الله قد أعلن للعالم عن تضامن الأمم والوحدة الإنسانيّة، إذ خاطب بني البشر قاطبة بقوله كلّكم أوراق شجرة واحدة وقطرات بحر واحد. ووضّح حضرته بأنّ عالم الإنسانيّة عبارة عن وحدة متكاملة – أي أسرة واحدة. فالمأمول إذًا أن ترتبط الأمَّتان الأمريكيّة والإيرانيّة وتتَّحدان في محبّة متبادلة، وأن يصبحا جنسًا واحدًا حائزًا على نفس الاستعدادات، وأن تتوطّـد روابط الائتلاف والوفاق هذه.

لقد أمضى حضرة بهاء الله أربعين سنة من حياته في الحبس والنّفي حتّى يرفع لواء وحدة عالم الإنسان. وتحمّل في هذا السّبيل كلّ هذه المشقّات والصّعاب. كان حضرته تحت حكم عبد الحميد، وأنا أيضًا كنت في سجن عبد الحميد إلى أن رفعتْ لجنة الاتّحاد والتّرقّي علم الحرّيّة ورُفِعت بذلك عنـّي الأغلال. لقد أبدت لي تلك اللّجنة عطفًا ومحبّة فائقيْن، فغدوتُ حرًّا طليقًا، وأصبحت قادرًا على المجئ إلى هذه الدّيار. ولولا إجراءات تلك اللّجنة لما كنت معكم هنا هذه اللّيلة. وبناء على ذلك عليكم جميعًا التماس العون والتّأييد في حقّ تلك اللّجنة الّتي بواسطتها أُعلنت حرّيّة الدّيار التّركيّة.

الخلاصة، إنّني طَوَيتُ هذه المسافة الطّويلة، وعبَرتُ المحيط الأطلسيّ إلى هذه القارّة الغربيّة، تحدوني الرّغبة والأمل في أن تتأسّس أقوى روابط الاتّحاد بين أمريكا وإيران. وأعلم أنّ هذه أيضًا رغبتكم ومقصدكم، وأنا متأكّد من تعاونكم. فعلينا إذًا أن نبتهل إلى العتبة الإلهيّة أن تتمكّن من أفئدة البشر محبّة عظيمةٌ فتوحِّد أمم العالم، وأن ندعو أن ترتفع راية الصّلح العالميّ وتتحقّق وحدة العالم الإنسانيّ. كلّ هذا ممكن ومتاح من خلال مساعيكم. أدعو أن تكون الأمّة الأمريكيّة الدّيمقراطيّة هذه أوّل أمّة تؤسّس قواعد الوفاق العالميّ، وأن تكون أوّل أمّة تعلن عموميّة الجنس البشريّ، وأوّل أمّة ترفع لواء الصّلح الأعظم، وأن تنتشر وتسري من خلال هذه الأمّة الدّيمقراطيّة تلك المقاصد والمؤسّسات الخيريّة في كلّ أرجاء العالم. فهذه بالفعل أمّة عظيمة ومحترمة، فقد بلغت الحرّيّة هنا أسمى درجاتها، ومقاصد أهل هذه الأمّة ممدوحة للغاية، وهم جديرون حقًّا بأن يكونوا أوّل من يرفع خيمة الصّلح الأعظم ويعلن عن وحدة الجنس البشريّ. سأبتهل إلى الله لأجلكم سائلاً لكم العون والتّوفيق.

(2) 21 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في ستوديو هول،
1219 طريق كونيكتيكت، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

جئت هنا قاصدًا زيارتكم، وتمنّيت رؤيتكم بغاية الشّوق. ولإدراكي أنّ مجيئكم لزيارتي سيكون بغاية المشقّة، وأنّ قليلاً منكم يستطيع السّفر، قرّرتُ أن آتي إليكم حتّى نحظى جميعًا ببهجة اللّقاء. الحمد لله! أنا هنا أنظر وجوهكم – هذه الوجوه المشرقة بجمال السّريرة، والقلوب المنجذبة للملكوت الأبهى، والأرواح المستبشرة ببشارات الله، ولهذا فإنّني أشعر بأعظم ما يمكن من السّعادة. ولا شكّ أنّها سعادة متبادَلة، لأنّ القلوب متّصلة ببعضها البعض ومفعمة بذات الاهتزاز، وشعلة المحبّة ونورها منعكسان على الكلّ، وتملأ الإحساسات الرّوحانيّة والأشواق القلبيّة كلّ فؤاد. وإذا ما رفعنا في كلّ لحظة مائة ألف شكر إلى العتبة الإلهيّة على هذه المحبّة الّتي مزجت الشّرق بالغرب، لقصّرنا في التّعبير عن امتناننا بصورة كافية. وإذا ما سعت كلّ قوى الأرض في الإتيان بهذه المحبّة بين الشّرق والغرب لما استطاعت، وإذا ما رغبت في تأسيس هذه الوحدة لكان ذلك مستحيلاً. ولكنّ حضرة بهاء الله حقّق كليهما بقوّة الرّوح القدس، ورابطة الوحدة هذه المتحقّقة من خلال المحبّة دائمة أبديّة. فهي ستستمرّ دائمًا أبدًا، وستزداد قوّتها يومًا بعد يوم، وعمّا قريب ستأسر العالم، وستجمع في آخر الأمر قلوب كلّ أمم الأرض بقبضتها المحكمة، فيصير عالم النّاسوت مظهر أنوار اللاّهوت، وتحيط الفيوضات الرّبّانيّة بالجميع، وسيُشاهد تقدّم وتطوّر استثنائيّان من منظور كلّ من المدنيّة المادّيّة والرّوحيّة. وفي هذا الدّور سيحدث تطوّر في الحضارة ليس له نظير في تاريخ العالم. لقد كان العالم الإنسانيّ في ما مضى يمرّ بمرحلة الطّفولة، وهو يقترب الآن من مرحلة الرّشد. وكما هو الحال مع الكائن البشريّ الفرد، فبدخوله فترة الرّشد يبلغ أكمل درجات قوّته الجسمانيّة ونضوج قواه الذّهنيّة، حتّى إنّه يُشاهَد في سنة واحدة من فترة النّضج والاكتمال هذه قدرٌ لا سابق له من التّطوّر، كذلك الحال مع العالم الإنسانيّ في دور الاكتمال والبلوغ هذا فإنّه سوف يحقّق رقيًّا بالغًا، وستتجلّى بدرجات من الكمال غير متناهية قوّةُ الإنجاز الّتي تحكي عن حقيقة كلّ فرد بشريّ على أنّه مخزن للمواهب الّتي تأتينا من الله – ذلك الرّوح الشّامل السّاري في كلّ الأشياء – ومن بينها موهبة القوّة الذّهنيّة المدركة.

فاشكروا الله إذًا أنّكم جئتم إلى حيّز الوجود في هذا القرن المنير الّذي فيه تتجلّى المواهب الإلهيّة من كلّ حدب وصوب، وفيه فتحت لكم أبواب الملكوت، وارتفع النّداء الإلهيّ، وأضحت فضائل العالم الإنسانيّ في طور التّجلّي والظّهور. لقد جاء اليوم الّذي فيه تتبدّد كلّ ظلمة، وتسطع شمس الحقيقة متوهّجة. يمكن تشبيه أوان العالم هذا بالاعتدال الرّبيعيّ في دورة الفصول السّنويّة، لأنّ هذا هو حقًّا فصل الرّبيع الإلهيّ. وهناك وعد في الكتب المقدّسة بأنّ الرّبيع الإلهيّ سيتجلّى وتنزل أورشليم المقدّسة من السّماء ويقفز جبل صهيون فرحًا ويرقص وتنغمس الأرض المقدّسة في بحر من التّجلّي الرّبّانيّ.

في زمن الاعتدال الرّبيعيّ في العالم المادّيّ تُشاهد قوّة نابضة عجيبة وطفرة حيويّة جديدة في كلّ أرجاء مملكة النّبات، وتنتعش مملكتا الحيوان والإنسان وتمضيان قُدُمًا بزَخَم جديد. ويُبعث العالم كلّه ويولد ولادة ثانية، وتهبّ النّسائم العليلة عبقة عطرة، وتتفتّح الأزهار وتورق الأشجار، ويصير الجوّ دافئًا ومنعشًا، وما أحلى وأطيب ما تكون عليه الجبال والحقول والمروج. وعلى هذا المنوال فإنّ الفيض الرّوحانيّ والرّبيع الرّبّانيّ يُحيي عالم الإنسان بروح وحياة جديدتيْن، وتتجلّى وتظهر كلّ الفضائل المودَعة الكامنة في أفئدة البشر من تلك الحقيقة الإلهيّة كتفتُّح الأزهار والرّياحين في رياض الله. فهو يوم سرور وأوان حبور وزمن نموّ روحانيّ. ألتمس من الله أن تنطبع عليكم هذه المدنيّة الرّبّانيّة الرّوحانيّة بكامل بصمتها وتأثيرها، وأن تصبحوا كالأغراس النّامية، وأن تُنْبِت سدراتُ أفئدتكم أوراقًا جديدة وأزهارًا بهيجة، وأن يأتي منها أكمل الثّمرات، كي ينشط العالم الإنسانيّ – الّذي نما وارتقى في المدنيّة المادّيّة – في الإتيان بالكمالات الرّوحانيّة، وكما كشفت العقول الإنسانيّة عن أسرار المادّة وجاءت بأسرار الطّبيعة من عالم الغيب، تتبحـّر العقول وتتعمّق النّفوس في الحقائق الإلهيّة وتتجلّى الحقائق الملكوتيّة في أفئدة العباد. عندئذ يصير العالم جنّة الأبهى، ويُرفع علم الصّلح الأعظم عاليًا، وتلوح وحدة العالم الإنسانيّ بكلّ جمالها وبهائها وعظمتها. وأحبّ الآن أن أتلو الدّعاء لكم في محضركم، فاجعلوا أفئدتكم متنبِّهة ومتوجّهة إلى الملكوت الأبهى.

(وهنا تلى حضرة عبد البهاء مناجاة باللّغة الفارسيّة)

أملي أن يُستجاب قريبًا هذا الدّعاء الّذي تضرّعت به إلى الملكوت الأبهى، وأن تتجلّى نتائجه وتأثيراته في أفئدتكم وحياتكم.

(3) 21 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بكنيسة الخلاص،
تقاطع شارع 13 وشارع لام، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ تعاليم هذه الكنيسة وعقيدتها، كما عبّر عنها كاهنها المبجّل بكلّ اقتدار، ممدوحة حقًّا ومنزّهة وجديرة بكلّ ثناء وتمجيد، لأنّ هذه المبادئ تعارض التّعصّبات الدّينيّة الّتي تأصّلت جذورها اليوم. من الواضح أنّ التّعصّبات النّاجمة عن التّمسّك بالطّقوس الدّينيّة، وتقليد معتقدات الأسلاف قد أعاقت تقدّم البشريّة لآلاف السّنين. فكم من حروب ومعارك نشبت، وكم من تحزّب وخلاف وبغضاء جلبها هذا اللّون من التّعصّب! ولكن بما أنّ هذا القرن هو – لله الحمد – قرن تجلّي الحقيقة، فإنّ أفكار البشر متوجّهة لخير الإنسانيّة ووحدتها. ويومًا بعد يوم يتبدّد سراب التّقاليد، ويزداد بحر الحقيقة تموّجًا. كلّ الأمم القائمة كان لها في الأصل أساس إلهيّ من الحقّ أو الحقيقة قُصد منه أن يُفضي إلى وحدة الجنس البشريّ ووفاقه، إلاّ أنّ نور تلك الحقيقة أخذ يخبو ويخفت شيئًا فشيئًا، وحلّ محلّه ظلام الأوهام والتّقاليد، مكبِّلاً العالم الإنسانيّ بسلاسل الجهل وأصفاده. فنشبت العداوة بين البشر، وطغت حتّى تناحرت كلّ أمّة مع الأخرى بكلّ عنفٍ وبغضاء، وصارت الحرب تراثًا دينيًّا وسياسيًّا لبني البشر.

الآن، يكفينا هذا! علينا أن نتحرّى الحقيقة، وأن نضع هذه الأوهام جانبًا. من المحقّق الثّابت أنّ كلّ البشر من صنع الله، وكلّ عبادٌ له وتحت حفظه وحمايته، والكلّ متلقٍّ لفيوضاته. والله رؤوف بعباده، وكلّ ما هنالك أنّ البعض جاهلون يجب تعليمهم حتّى يتوقّد ذهنهم، والبعض قُصَّر مثل الأطفال من الواجب مساعدتهم وإعانتهم حتّى يبلغوا الرّشد، والبعض عليلون مرضى يتحتّم شفاؤهم. بيد أنّه لا يصحّ أن تُجرَّب الأدوية الزّائفة على المريض المتألّم، أو أن يُقيّد الطّفل ويعاق نموّه، أو أن يُكبّل الجاهل باللّوم والانتقاد. بل علينا أن نبحث عن العلاج الحقيقيّ السّليم.

لقد ظهر جميع أنبياء الله في العالم، بمن فيهم يسوع المسيح، من أجل تربية البشر، والبلوغ بالنّفوس القاصرة إلى مرحلة الرّشد، وتحويل الجاهلين من بني البشر إلى عارفين، مؤسّسين بذلك المحبّة والاتّحاد بالتّربية والتّعليم الرّبّانيّ. لم يأت الأنبياء لإيجاد الخلاف والعداء. فالله أراد كلّ خير لعباده؛ ومن يريد الشّرَّ لعباد الله فإنّه يعادي الله ويعصي أوامره ويخرج عن منهاجه ويسلك سبيل الشّيطان ويقتفي خطواته. إذ إنّ الحبّ والرّحمة من خصال الله، أمّا الكراهية والبغضاء فمن صفات الشّيطان. فمن كان رؤوفًا ورحيمًا بإخوانه من بني الإنسان فهو مظهرٌ للصّفة الإلهيّة، ومن كان مبغضًا ومعاديًا لبني جنسه كان شيطانيًّا. فالله سبحانه وتعالى هو المحبّة الصّرفة، كما أعلن يسوع المسيح تمامًا، أمّا الشّيطان فهو الكراهية المحضة. وحيثما تشاهدون المحبّة فاعلموا أنّ هناك مظهرًا لرحمة الله، وحيثما تجدون الكراهية والعداوة اعلموا بأنّها سمات الشّيطان وصفاته. لقد ظهر الأنبياء في هذا العالم من أجل أن تصبح النّفوس حاكية عن صفات الرّحمن، ومن أجل أن تتربّى وتترقّى، وتنال المحبّة والمودّة، وتؤسِّس الصّلح والوفاق.

إنّ الحيوان في عالم الوجود أسير للطبيعة، وعليه تكون تصرّفاته طبقًا لمتطلّبات الطّبيعة واحتياجاتها. فليس لديه اهتمام أو وعي بالخير والشّرّ، فهو بكلّ بساطة يتّبع غرائزه وأهواءه الفطريّة. لقد جاء أنبياء الله لهداية الانسان إلى سواء السّبيل حتّى لا يتّبع نزواته الغريزيّة بل يتحكّم في تصرّفاته بنور تعاليمهم والاقتداء بهم. إذ إنّه طبقًا لتعاليمهم، على الإنسان أن يعمل ما هو ممدوح بميزان العقل والفكر، حتّى لو كان ذلك معارضًا لأهوائه البشريّة الفطريّة، وأن يمتنع عن فعل ما لا يليق من منظور نفس هذا الميزان حتّى لو كان موافقًا لنزواته وأهوائه الغريزيّة. فعلى الإنسان إذًا أن يتّبع خصائل الرّحمن ويظهرها في حياته.

إنّ أفراد المجتمع غير الكاملين، وذوي النّفوس الضّعيفة من بني البشر هم الّذين يتّبعون نزعتهم الفطريّة. فحياتهم وتصرّفاتهم تكون بمقتضى أهوائهم الغريزيّة؛ فهم أسرى النّزعات الجسديّة، وليسوا على اتّصال أو وفاق مع الفضائل الرّوحيّة. للإنسان مظهران: مظهر جسمانيّ خاضع للطّبيعة، وآخر رحمانيّ أو ربانيّ متّصل بالله. فإذا ما تغلّبت نزعته الجسمانيّة أو الغريزيّة على طبيعته الملكوتيّة الرّحمانيّة غدا من أحطّ الكائنات الحيوانيّة، أمّا إذا انتصر جانبه الرّبّانيّ الرّوحيّ على البشريّ الغريزيّ، فيكون ملاكًا بكلّ تأكيد. والأنبياء يأتون إلى العالم لهداية البشريّة وتربيتها، حتّى تختفي الطّبيعة الحيوانيّة في الإنسان وتستيقظ قواه الرّحمانيّة. والمظهر الرّبّانيّ أو الطّبيعة الرّوحانيّة يتأتّى من نفثات الرّوح القدس. والولادة الثّانية الّتي تحدّث عنها المسيح تعني ظهور هذه الطّبيعة الملكوتيّة في الإنسان. وهذا هو المقصود بالتّعميد من الرّوح القدس، فمن تعمّد بالرّوح القدس يكون مظهر الرّحمة الإلهيّة الحقّة لبني البشر. ومن ثمّ يصير إنسانًا عادلاً وشفوقًا بكلّ البشر – إنسانًا لا يضمر التّعصّب أو السّوء لأحد، ولا ينفر من أيّ أمّة أو شعب.

إنّ أسس الأديان الإلهيّة واحدة. وإذا ما تفحّصناها سنجد فيها الكثير من قواعد الوفاق والاتّفاق، أمّا إذا نظرنا إلى التّقاليد والطّقوس والعقائد الموروثة، لوجدنا فيها نقاط اختلاف وانقسام نظرًا لتباينها واختلافها، بينما تبقى المنابع والأصول واحدة لا تتغيّر. بمعنى أنّ الأسس تُفضي بنا إلى الاتّحاد، أمّا التّقاليد فهي سبب الفرقة والتّشرذم. فكلّ من يفتقر إلى محبّة الإنسانيّة أو يبدي الكراهية والتّعصّب نحو أيّ فئة من البشر يكون مخالفًا لأساس عقيدته ومنبعها، ويصبح متمسّكًا بالرّسوم والتّقاليد. لقد أعلن السّيّد المسيح أن الشّمس تشرق على العاصي وعلى البارّ، والمطر ينزل على العادل والظّالم – أي على الإنسانيّة كلّها على حد سواء. وكان المسيح رحمة إلهيّة أشرقت على سائر البشر، وواسطة لنزول الموهبة الرّبّانيّة – والموهبة الرّبّانيّة تسمو فوق كلّ شيء، ولا يحدّها حدّ، فهي شاملة للعموم.

قرأ لنا القسّ المبجّل من الإنجيل ما يلي: إنّ لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأمّا متى جاء ذاك روح الحقّ فهو سيرشدكم إلى جميع الحقّ. وها قد بزغ فجر ذلك العصر الّذي تسنّى فيه لروح الحقّ أن يُظهـِر هذه الحقائق للبشريّة وينادي بنفس تلك الكلمة المباركة، ويرسي قواعد المسيحيّة الحقّة، ويخلّص الأمم والشّعوب من عبوديّة الرّسوم والتّقاليد. فيزول سبب الخلاف والتّعصّب والعداوة، وتتأسّس قواعد المحبّة والألفة. إذًا فاجهدوا جميعكم قلبًا وروحًا لكي تختفي العداوة تمامًا، وتزول الشّحناء والبغضاء من العالم الإنسانيّ بالكلّيّة. عليكم بأن تُصغوا إلى نصيحة روح الحقّ هذا، وعليكم أن تحذوا حذو المسيح وتسيروا على خطاه. اقرأوا الأناجيل؛ كان السّيّد المسيح عين الرّحمة، وكان عين المحبّة. بل لقد صلّى من أجل جلاّديه – أولئك الّذين صلبوه – قائلاً: يا أبتاه اغفر لهم لأنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون، ذلك لأنّهم لو علموا ما كانوا يفعلون لَما فعلوه. انظروا كم كان يسوع المسيح حنونًا، حتّى إنّه صلّى من أجل ظالميه وهو على الصّليب. فعلينا أن نحذو حذوه، وأن نقتدي بأنبياء الله، وأن نتّبع السّيّد المسيح. علينا أن نحرّر أنفسنا من كلّ هذه التّقاليد الّتي هي سبب ظلمة العالم.

دعوني أسألكم: هل خلقنا الله من أجل المحبّة أم من أجل العداوة؟ وهل خلقنا من أجل السّلام أم الخصام؟ من المؤكّد أنّه خلقنا من أجل المحبّة، فعلينا إذًا أن نحيا طبقًا لمشيئته. فلا تصغوا أبدًا لكلّ ما ينمّ عن التّعصّب، لأنّ المنفعة الذّاتيّة تحضّ الإنسان على التّعصّب. فأولئك أناس لا يفكّرون إلاّ في رغباتهم وأهوائهم. يعيشون ويتحرّكون في الظّلام. انظروا كم من أمم مختلفة ونحل دينيّة متباينة كانت قائمةً عندما ظهر المسيح. ولقد سادت بينها العداوة والشّحناء – من رومان ويونان وآشوريّين ومصريّين، وجميعهم كانوا أممًا متحاربة متباغضة، فوحّدهم السّيّد المسيح بنفثات الرّوح القدس، وألّف بينهم بدرجة لم يبق فيها أيّ أثر للنّزاع، وصاروا متّحدين تحت لوائه، وعاشوا بكلّ سلام بفضل تعاليمه. فأيّهما أفضل وأجدر بالثّناء؟ أن نحذو حذو السّيّد المسيح أو أن نُظهر الغريزة الشّيطانيّة؟ فلنجتهد بكلّ ما في وسعنا لنوحّد الشّرق والغرب حتّى تترقّى أمم العالم ويحيا الكلّ بمقتضى أساس أديان الله الأوحد. فأسس الأديان الإلهيّة هي حقيقة واحدة لا تنقسم ولا تتعدّد، ذلك لأنّها الشّيء نفسه. وعندما نجد أنّها واحدة بالبحث والتّحرّي نخرج بأساس لوحدة العالم الإنسانيّ. سأتوجّه بالدّعاء من أجلكم طالبًا لكم التّوفيق والتّأييد.

(4) 22 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه،
1700 الشّارع الثّامن عشر، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

انظروا كم هو عميم فضل حضرة بهاء الله علينا، وكم هو عظيم نفوذ كلمته المباركة! من أيّ البقاع في أقصى العالم جمعنا معًا في هذه الدّار لنلتقي على هذه المائدة السّماويّة، إذ إنّ المحبّة قد أعدّت احتفالاً وأمرت عبد البهاء أن يجعل منه احتفالاً باسمه. فيا لها من وحدة بين القلوب، ويا له من وفاق أسّسه حضرة بهاء الله لربط الشّرق بالغرب! وكيف أحاط فضله الكلّ، وتهيّأت سنوحاته للكلّ!

عندما غزا المسلمون بلاد الفرس، حدث أن ذهب رئيس كهنة الزّرادشتيّين ليحتسي الخمر. والخمر محرّم في شريعة الإسلام، ومن يشربه تجب معاقبته بواحدة وثمانين جلدة. ولهذا ألقى المسلمون القبض على رئيس الكهنة ونفّذوا فيه حكم الجلد. كان الفرس في ذلك الوقت يعدّون العرب من أدنى الشّعوب ويحتقرونهم، ونادرًا ما كانوا يعتبرونهم بشرًا. ولأنّ محمّدًا كان عربيًّا فقد كان الفرس ينظرون إليه نظرة ازدراء. ولكن عندما رأى رئيس الكهنة في حضرة محمّد علائم قوّة هيمنت على هذا القوم البغيض بالنّسبة إليهم، صاح قائلاً ‘أيّها المحمّد العربيّ، ماذا صنعت؟ ماذا صنعت حتّى تجعل قومك يلقون القبض على رئيس كهنة الزّرادشتيّين لارتكابه عملاً غير مشروع في دينك؟’ وكانت تلك الحادثة سببًا في التّغلّب على التّعصّب الّذي كان يدفع الزّرادشتيّ لتجنّب المسلم، لأنّ الكاهن رأى في ما جرى له هيمنة عظيمة من حضرة محمّد على قومه.

أمامنا اليوم في هذا الجمع دليل على أنّ حضرة بهاء الله قد مارس نفوذًا روحيًّا عجيبًا في كلّ أرجاء العالم بواسطة قوّة المحبّة الإلهيّة. فقد جعل النّاس من أقاصي أرجاء إيران والشّرق تأتي إلى هذه المائدة لتلتقي بأهل الغرب بغاية المحبّة والوداد والاتّحاد والوفاق. فانظروا كيف أتت قوّة حضرة بهاء الله بالشّرق والغرب معًا. وها هو عبد البهاء واقف يخدمكم. فليس هنا من عصا أو ضرب، ولا من سوط أو سيف، بل تحقّق ذلك بقوّة المحبّة الإلهيّة.

إنّنا في هذا العالم نحكم على أيّ دعوة أو حركة من خلال تقدُّمها ورقيّها. فبعض الحركات تظهر لفترة قصيرة تبدي فيها نشاطًا وفعاليّة ثمّ تختفي. وغيرها يُظهر قدرًا أكبر من التّطوّر والنّفوذ، ولكنّه قبل بلوغ طور النّضج يذبل ويتحلّل ويطويه النّسيان. فأيّ من هذيْن النّوعين ليس تقدّميًّا ولا باقيًا.

يبقى هناك نوع آخر من الحركات أو الدّعوات الّتي تكون صغيرة جدًّا غير ملحوظة في بدايتها فتسير قُدُمًا وتنمو وتتطوّر بثقةٍ وثبات، ثمّ تتوسّع في مداها وتزداد شيئًا فشيئًا إلى أن تأخذ أبعادًا عالميّة. فالحركة البهائيّة من هذا النّوع. فمثلاً عندما نُفي حضرة بهاء الله من إيران ومعه عبد البهاء وباقي أسرته، قطعوا الطّريق الطّويل من طهران إلى بغداد مارّين بكثير من المدن والقرى، ولم يقابلوا طوال تلك الرّحلة وتلك المسافة مؤمنًا واحدًا بالدّعوة الّتي نُفوا من أجلها. ففي ذلك الوقت لم يكن يُعرَف عنها في أيّ بقعة من بقاع العالم سوى النّذر اليسير، حتّى أنّ بغداد ذاتها لم يكن فيها سوى مؤمن واحد كان قد آمن على يد حضرة بهاء الله نفسه في إيران. وبعد ذلك ظهر اثنان أو ثلاثة آخرون. تلاحظون إذًا أنّ دعوة حضرة بهاء الله كانت في البداية مجهولة تقريبًا، ولكن بالنّظر إلى كونها حركة إلهيّة فقد نشأت وتطوّرت بقوّة روحيّة لا تقاوَم إلى أن غدت في هذا اليوم من الاتّساع بحيث أنّكم إذا سافرتم الآن – شرقًا أو غربًا – وبأيّ بلد حللتم فسوف تلتقون بالمحافل والمؤسّسات البهائيّة. وهذا دليل على أنّ البهائيّين ينشرون بركات الوحدة والرّقيّ المستمرّ في كلّ أرجاء العالم مسترشدين بالهداية الإلهيّة والمقصد الرّبّانيّ، بينما لا تحظى أيّ من الحركات الأخرى – وهي ليست سوى حركات وقتيّة في أنشطتها وإنجازاتها – بأيّ أهمّيّة عموميّة فعليّة.

(5) 23 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة الّتي ألقيت في جامعة هاوارد، بواشنطن العاصمة

مأخوذة عن التّرجمة الإنجليزيّة لأمين بناني

إنّني اليوم في منتهى السّرور لأنّني أرى هنا جمعًا من عباد الله من السّود والبيض جالسين معًا. ليس لدى الله بيض وسود، وكلّ الألوان عنده لون واحد هو لون العبوديّة الإلهيّة، وليس للرّائحة واللّون شأن لديه بل الأهمّيّة للقلب. فإذا كان القلب طاهرًا فلن يشكّل اللّون الأبيض أو الأسود أو أيّ لونٍ آخر أيّ فرق. فالله لا ينظر إلى الألوان بل إلى القلوب. فمن كان ذا قلب طاهر كان أفضل، ومن تفوّق في خُلُقه كان مَرْضِيًّا أكثر، ومن ازداد توجُّهًا إلى الملكوت الأبهى كان في ترقٍّ أسمى.

ليس للألوان في عالم الوجود شأن أو اعتبار، ففي عالم الجماد تلاحظون أنّ الألوان ليست سبب الاختلاف، وتباينها في عالم النّبات ليس سببًا للاختلاف بل علّة لجمال الحديقة. لأنّ الاقتصار على لون واحد لا جمال فيه، أمّا حين ترى ألوانًا مختلفة فهناك يكون جمال وبهاء.

وعالم البشريّة أيضًا مثل الحديقة، والنّوع الإنسانيّ كالأزهار المختلفة في ألوانها. فاختلاف الألوان إذًا يشكّل زينة. هناك في عالم الحيوان أيضًا ألوان؛ فالحمام نراه ألوانًا وألوانًا ومع هذا فإنّه في منتهى الألفة لا ينظر بعضه إلى لون الآخر، بل إلى النّوع. فكم من حمامات بيض تطير مع حمامات سود، وكذلك سائر الطّيور والحيوانات المختلفة في الألوان، فإنّها لا تنظر أبدًا إلى اللّون بل إلى النّوع.

إذًا لاحظوا الآن أنّ الحيوانات مع أنّها لا تملك عقلاً ولا إدراكًا إلاّ أنّها لا تجعل اختلاف الألوان سببًا في الخصام، فلماذا يتخاصم الإنسان العاقل؟ إنّ هذا لا يليق به أبدًا خاصّة وأنّ البيض والسّود من سلالة آدم ومن عائلة واحدة وكانوا في الأصل واحدًا وفي اللّون واحدًا. فقد كان لآدم وحوّاء لون واحد، وترجع سلالة جميع البشر إليهما. إذًا فالأصل واحد، وهذه الألوان ظهرت فيما بعد بسبب اختلاف المناخ والأصقاع ولا اعتبار لها مطلقًا. لذا، فإنّني اليوم في غاية السّرور لاجتماع البيض والسّود معًا في هذا الحفل، وأملي أن يصل هذا الاجتماع وهذه الألفة إلى حدّ لا يبقى فيه أيّ فرق بينهم، ويكون الجميع معًا في منتهى الألفة والمحبّة.

ولكنّني أودّ أن أذكر أمرًا يدعو إلى امتنان السّود للبيض ويحبّب البيض بالسّود؛ فلو ذهبتم إلى إفريقيا وشاهدتم السّود الإفريقيّين عند ذاك تعرفون مدى التّقدّم الّذي حقّقتموه. والحمد لله أنتم الآن مثل البيض لم تبقَ بينكم فروق كبيرة. إلاّ أنّ السّود الإفريقيّين يعامَلون كالخدم. إنّ أوّل إعلان دعا لتحرير السّود كان من البيض الأمريكيّين. فكم حاربوا وكم ضحّوا حتّى حرّروا السّود! ثمّ انتشر ذلك إلى جهات أخرى. لقد كان السّود الإفريقيّون في منتهى العبوديّة ولكنّ تحريركم هذا صار سببًا في حرّيّتهم أيضًا، يعني أنّ الدّول الأوروبّيّة اقتدت بالأمريكيّين وأصبح إعلان التّحرير هذا عموميًّا. ومن أجلكم بذل البيض الأمريكيّون مثل هذه الهمّة. ولو لم يكن هذا الجهد لما أُعلن التّحرير العموميّ.

لذلك، يجب أن تكونوا ممتنّين جدًّا للبيض الأمريكيّين، ويجب على البيض أن يكونوا محبّين جدًّا لكم حتّى ترتقوا في كافّة المراتب الإنسانيّة. ابذلوا الجهد معًا حتّى ترتقوا رقيًّا فائقًا وتمتزجوا ببعضكم امتزاجًا تامًّا. وخلاصة القول عليكم أن تكونوا شاكرين جدًّا للبيض لأنّهم كانوا وراء تحرّركم في أمريكا، فلو لم يكن لكم هذا لما تحرّر باقي السّود أيضًا. والآن – كلّكم والحمد لله أحرار تعيشون بمنتهى الاطمئنان، وأدعو لكم كي ترتقوا في حسن الأخلاق والأطوار إلى درجة تزول فيها تسمية الأبيض أو الأسود، ويُسمّى كلّ واحد بـ الإنسان، تمامًا كما يسمّى سرب الحمام حمامًا ولا يقال الحمام الأسود أو الحمام الأبيض. وكذلك الحال مع سائر الطّيور.

أتمنّى أن تبلغوا شأوًا رفيعًا كهذا، وهذا لا يمكن تحقيقه إلاّ بالمحبّة. فاسعوا إلى إيجاد المحبّة بينكم، ولن تحصل هذه المحبّة بينكم إلاّ إذا كنتم ممتنّين للبيض، وكان البيض محبّين لكم ويبذلون الجهد لترقيتكم ويسعون لعزّتكم. سيكون هذا سببًا للمحبّة وزوال الاختلاف بين البيض والسّود زوالاً تامًّا؛ بل وتزول أيضًا تلك الخلافات بين الأعراق والقوميّات.

إنّي في غاية السّرور برؤيتكم، وأحمد الله على أنّ هذا الحفل قد جمع البيض مع السّود، ومعًا يلتقون بكمال المحبّة والألفة. وأرجو أن يعمّ هذا النّموذج من الألفة والمحبّة حتّى لا يبقى لقب بين البشر غير الإنسان وهذا اللّقب هو كمال العالم الإنسانيّ وسبب العزّة الأبديّة وسبب السّعادة البشريّة. لهذا فإنّي أدعو من أجلكم كي تكونوا في منتهى الألفة والمحبّة مع بعضكم البعض، وأن تجهدوا وتسعوا من أجل راحة بعضكم بعضًا.

(6) 23 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه،
1700 بالشّارع الثّامن عشر، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

في هذا اليوم بقيت أتحدّث منذ الفجر حتّى الآن، ولكن من فرط المحبّة والمودّة ورغبتي في أن أكون معكم، جئت هنا لأتكلّم مرّة أخرى باختصار. في الأيّام القليلة الماضية وقع حادث رهيب في العالم، حادث محزن لكلّ قلب ومؤلم لكلّ روح. وأقصد بهذا كارثة التَّيْتانيك الّتي غرق فيها الكثيرون من إخواننا من بني البشر، وبسببه انتقلت عدّة نفوس جميلة إلى ما بعد هذه الحياة الدّنيويّة. ورغم أنّ حادثًا كهذا مؤسف بمعنى الكلمة، إلاّ أنّ علينا أن ندرك أن كلّ ما يحدث راجع إلى حكمة ما، ولا شيء يحدث بغير سبب. فهناك سرّ ما، بيد أنّه مهما كان السّبب أو السّرّ، فقد كانت واقعة حزينة أدمعت كثيرًا من العيون وأفجعت الكثير من النّفوس. وقد تأثّرتُ أنا شخصيًّا بدرجة بالغة من هذه الكارثة. فبعض المفقودين كانوا قد ركبوا معنا على السّفينة سِدْرِكْ بدايةً حتّى ميناء نابولي ثمّ أبحروا على السّفينة الأخرى، وكلّما أفكّر في تلك النّفوس أحزن حقًّا. غير أنّه عندما أتدبّر هذه الكارثة من زاوية أخرى، يعزّيني إدراك أنّ عوالم الله ليس لها نهاية، وأنّه رغم حرمانهم من هذا الوجود الدّنيويّ، فإنّ لديهم فرصًا أخرى في الحياة الأخرى، تمامًا كما قال السّيّد المسيح: في بيت أبي منازل كثيرة. فقد نـُقلوا ممّا هو زائل إلى ما هو أزليّ، وفارقوا الحياة الدّنيا ودخلوا أبواب عالم الأرواح. وبتركهم للنّعم والخيرات التّرابيّة، صار لهم الآن نصيب من فرح وسرور أبقى دوامًا وأكثر حقيقة، إذ إنّهم سرعوا إلى ملكوت الله. ورحمة الله لا نهاية لها، وعلينا أن نتذكّر تلك الأرواح الرّاحلة في دعواتنا وابتهالاتنا لكي يتقرّبوا أكثر فأكثر من عين معين الرّحمة.

إنّ هذه الأطوار الّتي تمرّ بها الرّوح الإنسانيّة يمكن تشبيهها برحم الأمّ الّذي يولد منه الطّفل إلى عالم الدّنيا الوسيع. ففي بداية ولادته يجد الرّضيع صعوبة شديدة في التّعوّد على حياته الجديدة. فهو يبكي كما لو كان غير راغب في مفارقة ملاذه الضّيق ظنـًّا منه أنّ الحياة مقصورة على ذلك الحيّز المحدود – حيّز الرّحم. فهو يرفض مغادرة منزله ومقرّه هذا، بيد أنّ الطّبيعة تُخرجه قسرًا إلى هذا العالم. وبدخوله في أطواره الدّنيويّة الجديدة، يجد نفسه قد خرج من الظّلمة إلى دائرة النّور، وانتقل من أوساط قاتمة محدودة إلى محيط فسيح بهيج. كان غذاؤه في السّابق من دم الأمّ، أمّا الآن فيتوفّر له ما يتمتّع به من لذائذ الطّعام. وأصبحت حياته الجديدة مملوءة بالسّناء والجمال، وها هو ينظر بكلّ دهشة وابتهاج إلى الجبال والمروج والحقول الخضراء والأنهار والعيون، ويتطلّع إلى نجوم السّماء البديعة، ويتنسّم الهواء المنعش، وبذلك يحمد الله على عتقه من حبس نشأته الأولى وبلوغه الحرّيّة في عالم جديد. يوضّح هذا المثال علاقة العالم الفاني، بالعالم الباقي – أي انتقال الرّوح الإنسانيّ من ظلام الدّنيا الفانية وحيرتها إلى نور الملكوت الباقي وحقيقته. إذ إنّ تقبّـل الموت يكون عسيرًا على الإنسان في البداية، أمّا بعد وصوله إلى هذا الطّور الجديد تصير روحه شكورة، لأنّها أُعتقت من قيود المحدود لتحظى بحريّة اللاّمحدود، وتحرَّرت من عالم الحزن والأسى والمحن لتحيا في عالم حبور وسرور لانهائيّ، وتخلّـت عمّا هو عرضيّ ومادّيّ لتنال فرصًا تبلغ فيها ما هو مثاليّ وروحانيّ. لذا فإنّ أرواح أولئك الّذين رحلوا عن هذا العالم في كارثة التَّيْتانيك، بعد أن أكملوا رحلة حياتهم الفانية، قد سرعت نحو عالم أسمى من هذا العالم وحلّقت بعيدًا عن أحوال الظّلام والقَتَام هذه قاصدة ملكوت الأنوار. هذه هي الاعتبارات الوحيدة الّتي يمكن أن تعزّي وتُسلّي أولئك الّذين بقوا من بعدهم.

فضلاً عن ذلك فإنّ لمثل هذه الأحداث أسبابًا ودواعٍ أعمق من ذلك. فهدفها وغرضها هو تلقين الإنسان دروسًا معيّنة. فنحن نعيش في عصر الاعتماد على الوسائل المادّيّة. يظنّ النّاس أنّ ضخامة السّفينة وقوّتها وكمال آليّاتها أو مهارة ملاّحها سوف تضمن لهم السّلامة، لكنّ هذه الكوارث أحيانًا ما تحدث حتّى يدرك النّاس أنّ الله هو الحافظ الحقيقيّ. فإذا شاءت الإرادة الإلهيّة أن تحفظ الإنسان، فسفينة صغيرة قد تنجو عندئذ من التّحطـّم، بينما قد لا تسلم من الأخطار الماثلة في البحار أعظم وأكمل السّفن الّتي يُعهد بها إلى أفضل الملاّحين وأمهرهم. فالمراد هو أن يتوجّه أهل العالم إلى الله، الحافظ الأوحد، وأن تتوكّل نفوس البشر على حفظه، وأن تدرك أنّه هو مصدر أمنها وأمانها الحقيقيّ. فهذه الأمور تحدث إذًا لكي يزداد إيمان الإنسان ويقوى. لذا، بينما نحن نشعر بالحزن والأسى، علينا أن نتضرّع إلى الله أن يوجّه قلوبنا إلى الملكوت، وأن ندعو لتلك النّفوس الرّاحلة موقنين برحمة الله الواسعة، حتّى يحظوا، رغم حرمانهم من هذه الحياة الدّنيا، بوجود جديد في المنازل العُليا عند الآب السّماويّ.

لا يجدر بأيّ منكم أن يتصوّر أنّ ما أقوله يعني أنّ الإنسان لا يحتاج أن يكون متمكّنًا متنبِّهًا ودقيقًا في ما يقوم به. فلقد حبا الله الإنسان بالذّكاء لكي يحمي نفسه ويحفظها. لذا على الإنسان أن يوفـّر لنفسه ويحيطها بكلّ ما تستطيع المهارات العلميّة أن تبتكره. وعليه أن يكون متأنّيًا متدبِّرًا وشاملاً في مقاصده، فيبني أفضل سفينة ويأتي بأمهر ربّان، ولكنّه بالإضافة إلى ذلك عليه أن يعتمد على الله وأن يعتبر أنّ الله هو الحافظ الأوحد. فإذا ما حفظ الله إنسانًا، لا يلحق بأمنه وأمانه أيّ ضرر، أمّا إذا لم تكن مشيّة الله هي صونه وحفظه، فلا أمان أو حماية مهما بلغت التّدابير والاحتياطات.

(7) 23 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في جمعيّة بيثيل الأدبيّة، بالكنيسة الأسقفيّة المنهجيّة
الإفريقيّة بالعاصمة، شارع ميم، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

بينما أقف هنا اللّيلة وأمعن النّظر في هذا الجمع، أراه يذكّرني تمامًا بباقة جميلة من زهور البنفسج تكوّنت من ألوان مختلفة، الدّاكن منها والفاتح. وهذا برهان ودلالة على أنّ حكومة الولايات المتّحدة الأمريكيّة حكومة عادلة حرّة، إذ إنّني أرى البيض والسّود جالسين معًا بغاية الوئام والاتّفاق، وأشاهد القلوب متّحدة. فهذه الحكومة العادلة قد جعلت مثل هذا اللّقاء ممكنًا. فعليكم أن تحمدوا الله دومًا على أنّكم تحظون بالأمن والحماية من حكومة ترعى رقيّكم وتقدّمكم وتحكم بالعدل والمساواة الخالصة نحو الجميع، وكأنّها ربّ أسرة واحدة، فليس هناك بركة أعظم من هذه البركة في عالم البشر. وسأحدّثكم اللّيلة عن بعض المسائل العلميّة.

إنّ المناقب والفضائل الإنسانيّة عديدة، ولكنّ العلم أشرفها جميعًا. والامتياز الّذي يحظى به الإنسان عن رتبة الحيوان راجع إلى هذه المنقبة العظمى. فهي موهبة من الله، ولكنّها ليست مادّيّة بل هي موهبة إلهيّة. فالعلم هو سطوع شمس الحقيقة، وهو قوّة استقصاءٍ واستكشافٍ لحقائق هذا الكون، وهو الواسطة الّتي يعرف بها الإنسان سبيله إلى الله. وجميع قوى الإنسان وصفاته هي بشريّة وموروثة من حيث المنشأ والأصل – فهي نتاج التّفاعلات الطّبيعيّة – ما عدا العقل، الّذي هو قوّة خارقة للطّبيعة. ومن خلال التّحرّي الفكريّ والعقلانيّ يصير العلم كاشفًا لكلّ الأشياء. فالعلم هو الّذي يصل الحاضر بالماضي، ويكشف عمّا مضى من تاريخ الأمم والوقائع، وينعم على إنسان اليوم الحاضر بخلاصة كافّة المعارف والإنجازات البشريّة الّتي تحقّقت عبر العصور. كما أنّه بإعمال الفكر والقيام بالاستنتاجات المنطقيّة العقليّة يتسنّى لهذه القوّة الإنسانيّة الخارقة أن تنفذ إلى أسرار المستقبل وتتوقّع ما سيأتي به من أحداث.

العلم أوّل فيض من الله للإنسان. فبينما تحوز كافّة المخلوقات إمكانيّة الكمال المادّيّ، فإنّ قوّة التّحرّي والبحث الفكريّ والتّحصيل العلميّ هي منقبة عليا اختـصّ الله بها الإنسان وحده، وتبقى سائر الموجودات والكائنات محرومة من هذه المَلَكة وهذا الفلاح. لقد خلق الله في الإنسان أو أودع فيه هذا العشق لمعرفة الحقيقة. إنّ تقدم أيّ أمّة من الأمم ورقيّها منوطان بمستوى ودرجة إنجازاتها العلميّة. فبهذه الوسيلة تزداد عظمتها دومًا، ويتحقّق رخاء شعبها ورفاهه يومًا بعد يوم.

إنّ جميع المواهب إلهيّة في أصلها، إلاّ أنّ أيًّا منها لا يُقارَن بقوّة التّحرّي والبحث الفكريّ، الّتي هي عطيّة أزليّة تؤتي ثمارًا لا تزول لذّتها، ويتناول الإنسان دائمًا وأبدًا من تلك الثّمار. كما أنّ جميع المواهب الأخرى مؤقّتة، أمّا موهبة العقل فهي ملك أبديّ لا يزول. بل إنّ ما لدى الملوك من سلطة ونفوذ له حدود وانتهاء أيضًا، أمّا سلطنة العقل فهي سلطنة وهيمنة يستحيل سلبها أو القضاء عليها. فهي بالاختصار موهبة أزليّة وعطيّة ربانيّة، وهي المنحة الكبرى من الله للإنسان. فعليكم إذًا أن تبذلوا الجهد الجهيد في تحصيل العلوم والفنون. وكلّما عظـُم إنجازكم علا معياركم في المقصد الرّبّانيّ. فذو العلم قد وُهِب الإدراك والبصيرة، بينما الجاهل الغافل عن ذلك التّرقّي هو أعمى. والعقل الباحث متوقّد حيّ، أمّا العقل البليد الخامل فهو أصمّ ميّت، وصاحب العلم عنوان الإنسانيّة ومَثَلها الحيّ، لأنّه بفضل الاستنتاج الاستقصائي والبحث العلميّ يصبح عالِمًا بكلّ ما يتعلّق بالإنسانيّة وأحوالها وأطوارها وحوادثها. فهو يدرس أحوال الهيئة الاجتماعيّة البشريّة، ويتفهّم معضلاتها الاجتماعيّة، وينسج لُحْمة المدنيّة وسَداها. ويمكن تشبيه العلم في واقع الحال بمرآة تتجلّى وتنعكس فيها أشكال وصور من الكائنات لا نهاية لها. فالعلم هو أسّ أساس كلّ رقيّ أكان رقيًّا فرديًّا أم قوميًّا. ومن دون هذا الأساس من التّحرّي يكون التّرقّي والتّقدّم أمرًا مستحيلاً. فاطلبوا العلم والمعرفة إذًا بكلّ همّة، واسْعَوْا إلى بلوغ أقصى ما بإمكان تلك الموهبة البديعة تحقيقه.

لقد ذكرنا أنّ العلم أو موهبة الاكتشاف العلميّ خارقة للطّبيعة، وأنّ كلّ النّعم الإلهيّة الأخرى داخلة في حيِّز الطّبيعة. ولكن ما هو الدّليل على ذلك؟ نقول إنّ كلّ المخلوقات أسيرة للطّبيعة فيما عدا الإنسان. فالنّجوم والشّموس السّابحة في الفضاء اللاّمتناهي، وكلّ أشكال الحياة والوجود التّرابيّ – جمادًا كان أم نباتًا أم حيوانًا – تخضع جميعها لسطوة ناموس الطّبيعة وحكمها. أمّا الإنسان فهو يهيمن على الطّبيعة بواسطة المعرفة والمقدرة العلميّة، ويسخّر قوانينها تحت أمره. والإنسان طبقًا للحدودات الطّبيعيّة مخلوق من الأرض، ومجبور على العيش على أديمها، بيد أنّه باستخدامه العلميّ للقوانين المادّيّة يحلق في السّماء، ويمخر عباب البحار، ويغوص في أعماقها. وقد كانت نتائج اختراعاته واكتشافاته، الّتي اعتدنا رؤيتها في حياتنا اليوميّة – من أسرار الطّبيعة في يوم من الأيّام. فمثلاً، أخرج الإنسان القوّة الكهربيّة من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود، وطوّع تلك الواسطة الطّبيعيّة المستورة وحبسها وجعلها خادمة لأغراضه ورغباته. والأمثلة المشابهة عديدة، ولكنّنا لن نسهب فيها. فالإنسان، إذا جاز التّعبير، نزع سيف الطّبيعة من يدها واستخدمه سلاحًا لنفسه ليهيمن به على الطّبيعة نفسها. والطّبيعة محرومة من تاج القدرات والصّفات البشريّة. فللإنسان ذكاء وتدبّر واعٍ، أمّا الطّبيعة فليس لها نصيب من هذا. وهذا مبدأ مسلَّم به لدى الفلاسفة. والإنسان حائز على الإرادة والذّاكرة، أمّا الطّبيعة فليس لها هذه أو تلك. والإنسان يُخرج الأسرارَ المكنونة في الطّبيعة، والحال إنّ الطّبيعة غير مدركة لحقائقها المستورة. كما أنّ الإنسان في ترقٍّ وتقدّمٍ دائميْن، أمّا الطّبيعة فساكنة وعاجزة عن التّقدّم أو حتّى التّخلّف. والإنسان حائز على أسمى المناقب، ومنها الذّكاء، والإرادة، والإيمان، والاعتراف بالله والإقرار به – بينما الطّبيعة محرومة من هذه جميعًا. إنّ القدرات المثاليّة عند الإنسان بما فيها قدرة التّحصيل العلميّ، هي خارج نطاق فهم الطّبيعة وإدراكها. فهي قدرات يتميّز بها الإنسان ويختلف عن سائر أشكال الحياة. وتلك القدرات هي عطيّة الكمال الإلهيّ، والتّاج المزيّن للرّأس الإنسانيّ. على الرّغم من هذه الموهبة، ألا وهي تلك القدرة الخارقة للطّبيعة، فإنّ أكثر ما يثير الدّهشة والحيرة هو أنّ الفلاسفة المادّيّين لا يزالون يعتبرون أنفسهم جزءًا من الطّبيعة وأسراء لها مع أنّ حقيقة الأمر هي أن الله أنعم على الإنسان بمناقب وقدرات وخصال سامية قد حُرمت منها الطّبيعة تمامًا، وهي مواهب يكون الإنسان بفضلها راقيًا ومتميّزًا ومهيمنًا. ويجب أن نشكر الله على هذه المواهب والقدرات الّتي منحنا إيّاها، وهذا التّاج الّذي وضعه فوق رؤوسنا.

فكيف نستفيد من هذه العطايا، وكيف نتصرّف جيّدًا في تلك المواهب؟ إنّ هذا يتحقّق بتوجيه مساعينا نحو توحيد الجنس البشريّ. فالواجب علينا هو أن نستخدم هذه القدرات لتأسيس وحدة العالم الإنسانيّ، وأن نُظهر الامتنان بهذه المناقب من خلال تحقيق وحدة الجنسين الأبيض والأسود، وأن نكرّس هذه الفطنة الرّبّانيّة للحضّ على التّآلف والوفاق بين كافّة أغصان شجرة الأسرة الإنسانيّة، حتّى تتماسك أيادي الشّرق والغرب، ويصير الكلّ أحبابًا في حفظ الله وصونه. عندها تصبح البشريّة أمّة واحدة وعرقًا واحدًا وسلالة واحدة – تمامًا مثل أمواج بحر واحد. فرغم أنّ تلك الأمواج قد تختلف في هيئتها وشكلها، إلاّ أنّها تظلّ أمواج بحر واحد. والأزهار قد تكون متنوّعة في ألوانها، غير أنّها تبقى جميعها أزهار بستان واحد. والأشجار تتباين وتختلف، ولكنّها تنمو في مرج واحد، وتتغذّى جميعها وتحيا بفضل فيض واحد، وتنمو وتترقّى بحرارة وضياء شمس واحدة، وجميعها ينتعش ويبتهج من ذات النّسيم لكي يأتي بمختلف الثّمار. وما هذا الاختلاف إلاّ من مقتضيات حكمة الخلق والإيجاد. فلو حملت كلّ الأشجار نوعًا واحدًا من الثّمر لما بقيت له أيّ حلاوة. ففي تباينها اللاّنهائيّ يجد الإنسان متعة، وبغير ذلك لا يجد سوى الرّتابة.

الآن وأنا أنظر وجوهَكم، أتذكّر أشجارًا مختلفة اللّون والهيئة ولكنّها جميعًا محمّلة بأشهى الثّمار وألذّها، ولها جميعها شذى مبهج للحواس والسّرائر. وما نورانيّة هذا اللّقاء وروحانيّته إلاّ من فضل الله. وها هي قلوبنا مهتزّة بشكره. والحمد لله أنّكم تعيشون في قارّة الغرب العظيمة، تتمتّعون بكامل الحريّة والأمن والسّلام في ظلّ هذه الحكومة العادلة. فليس هناك ما يدعو لأيّ بؤس أو شقاء أينما كنتم، فكلّ وسائل السّعادة والهناء تشملكم، ذلك لأنّه ليس في هذا العالم البشريّ نعمة أعظم من نعمة الحرّيّة. وهي حقيقة قد لا تعرفونها، ولكنّني أنا الّذي كنت مسجونًا أربعين سنة أعرفها جيّدًا. إنّني أعرف قدر نعمة الحرّيّة. أمّا أنتم فكنتم ولا زلتم تعيشون بكامل الحرّيّة، ولا تخشون بأس أحد. فهل من نعمة أعظم من هذا؟ الحرّيّة! الاستقلال! الأمان! تلك هي أعظم المواهب الإلهيّة. فاحمدوا الله إذًا. وسأتلو الآن الدّعاء من أجلكم.

(8) 24 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في حفل استقبال الأطفال، ستوديو هول،
1219 طريق كونيكتيكت، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

يا له من لقاء بديع! فهؤلاء أطفال الملكوت. لقد كان النّشيد الّذي استمعنا إليه للتّوّ جميلاً في لحنه وكلماته. إنّ فنّ الموسيقى إلهيّ ومؤثّر، وهو غذاء للنّفس والرّوح. فبقوّة الموسيقى وسحرها تسمو روح الإنسان. وللموسيقى أثر ووقْع بديع في قلوب الأطفال، لأنّ قلوبهم صافية نقيّة ممّا يجعل للألحان تأثيرًا عظيمًا عليهم. فالمواهب الكامنة، الّتي تنعم بها قلوب هؤلاء الأطفال، سوف تجد لها تعبيرًا بواسطة الموسيقى. فاجهدوا إذًا كي تجعلوهم مهرة وتعلّموهم الغناء بإتقان وتأثير. إنّه يتعيّن على كلّ طفل أن يعرف قدرًا من الموسيقى، لأنّه بغير معرفة هذا الفنّ لا يمكن الاستمتاع السّليم بألحان الآلة والصّوت. ومن الضّروريّ بالمثل أن تقوم المدارس بتعليم الموسيقى حتّى تنتعش أرواح التّلاميذ، وتنشرح صدورهم، وتشرق حياتهم بهجةً وسرورًا.

اليوم يجتمع أطفال نورانيّون وروحانيّون في هذا اللّقاء. هم أطفال الملكوت، وملكوت السّموات هو لنفوس كهذه، لأنّهم قريبون من الله، ولهم قلوب نقيّة، ووجوه روحانيّة. إنّ تأثير التّعاليم الرّبّانيّة ظاهر في صفاء قلوبهم التّامّ. ولهذا خاطب السّيّد المسيح العالم بقوله إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوت السّموات– أي يجب أن يصير النّاس طاهري القلب لكي يعرفوا الله. فالتّعاليم الإلهيّة لها أثر عظيم. يا لها من نفوس روحانيّة! ويا لها من نفوس خضلة ريّانة! فقلوب كافّة الأطفال من أشدّ القلوب صفاء، فهي مرايا لم يمسسها أيّ غبار. غير أنّ هذا النّقاء والصّفاء قد تأتّى جرّاء الضّعف والبراءة وليس بسبب أيّ قوّة أو امتحان. فبما أنّ هذه هي أولى مراحل طفولتهم، فقلوبهم وعقولهم لم تتغبّـر بغبار العالم، وليس بوسعهم أن يُظهروا قدْرًا كبيرًا من الفطنة والذّكاء، ولا يملكون أيّ نفاق أو خداع. وكلّ هذا راجع لضعف الطّفل، بينما الإنسان البالغ يتطهّر بفعل قوّته، ويصير بسيطًا بقوّة الفطنة والذّكاء، ويصير مخلصًا برجاحة عقله وفهمه لا بمحض ضعفه ووهنه. وعندما يبلغ درجة الكمال ينال هذه الخصال، ويصبح قلبه نقيًّا، وروحه مستنيرة، ونفسه حسّاسة رقيقة – وكلّ هذا بواسطة قوّته. وهذا هو الفرق ما بين الإنسان الكامل والطّفل، فلدى كلّ منهما ميّزتا البساطة والإخلاص الأساسيَّتان – فهما في الطّفل جرّاء ضعفه، وفي الإنسان البالغ بفضل قوّته.

إنّني أدعو من أجل هؤلاء الأطفال وألتمس التّأييد والعون لهم من الملكوت الأبهى حتّى يتربّى كلّ منهم في كنف حفظ الله، ويصبح كلّ منهم كشمعة موقدة في عالم الإنسان ونبتة نضرة تترعرع في روضة الأبهى؛ لعلّهم ينشأون ويتعلّمون على شأن يهبون الحياة لعالم الإنسان وينالون البصيرة ويهبون السّمع لأهل العالم ويبذرون بذور الحياة الأبديّة ويصبحون من المقبولين لدى العتبة الإلهيّة، ويمتازون بالفضائل والكمالات والصّفات الّتي تجعل أمّهاتهم وآباءهم وأهلهم شاكرين لله وراضين مستبشرين. فهذا هو أملي ورجائي.

إنّ نصيحتي لكم: ربّوا هؤلاء الأطفال في ظلّ الوصايا الإلهيّة واغرسوا في قلوبهم محبّة الله منذ نعومة أظفارهم حتّى تتجلّى مخافة الله في حياتهم، ويعتمدون على مواهبه وعطاياه. علّموهم أن يتحرّروا من نقائص البشر ويكتسبوا الكمالات الإلهيّة الكامنة في فؤاد الإنسان. فحياة الإنسان نافعة إن هو نال الكمالات الإنسانيّة، أمّا إذا أصبح مركز نقائص عالم البشر، فالموت خير من الحياة، والعدم أفضل من الوجود. فاجهدوا إذًا حتّى يتعلّم ويتربّى هؤلاء الأطفال تربية سليمة ويبلغ كلّ منهم الكمال في عالم البشر. اعرفوا قدر هؤلاء الأطفال، فهم جميعًا أبنائي.

(9) 24 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه،
1700 بالشّارع الثّامن عشر، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

أرحّب بكم في وقت الأصيل هذا أجمل ترحيب! إنّني في غاية السّرور لرؤيتكم، وأدعو الله أن يكون لقاؤكم بي زاخرًا بالنّتائج، أي لا يكون مثل اللّقاءات المعتادة. فأولئك الّذين يعقدون اللّقاءات الّتي تتقابل فيها جماعات النّاس عادة ما يكون لديهم مصالح يريدون تعزيزها. ولكن والحمد لله ليست لي أيّ مصالح شخصيّة، فأنا مهتمّ بالملكوت، وهذا غرضٌ مجرّدٌ ومنزّه. ولأنّني أكنُّ لكم خالص المحبّة، فلقد طويت هذه المسافة الشّاسعة لألتقي بكم وأحيّيكم. وآمل أن تُفضي هذه اللّقاءات إلى نتائج عظيمة. وليست هناك نتيجة أعظم من محبّة الله، وليست هناك نتيجة أعظم من روابط الخدمة في الملكوت الإلهيّ ونيل رضاء الله. ولذا فإنّ أمنيتي هي أن تتّجه قلوبكم إلى ملكوت الله، وأن تكون مقاصدكم خالصة مخلصة وغاياتكم متّجهة إلى فعل الخير غير ملتفتين إلى مصلحتكم الشّخصيّة؛ بل تنحصر مقاصدكم جميعها في خير الإنسانيّة، وتسعون للتّضحية بأنفسكم في سبيل الإخلاص للجنس البشريّ. وكما ضحّى يسوع المسيح بحياته، عسى أنّكم بالمثل تبذلون النّفس على عتبة الفداء لإصلاح العالم، وكما عانى حضرة بهاء الله من شديد المحن والبلايا لما يقرُبُ من خمسين سنة من أجلكم، عسى أن تكونوا مستعدّين لمواجهة الصّعاب وتحمّل البلايا من أجل عموم البشر، ولعلّكم تقبلون هذه المحن والبلايا بكلّ رضاء وسرور، لأنّ كلّ ليل يعقبه نهار، ولكلّ نهار ليل يعقبه، ولكلّ ربيع خريف، ولكلّ خريف ربيعه. ومجيء مظهر أمر الله هو فصل الرّبيع الرّوحانيّ. فظهور السّيّد المسيح مثلاً كان ربيعًا ربّانيًّا، ولذلك أحدث حشرًا ونشرًا عظيمين في عالم البشر. فقد طلعت شمس الحقيقة، وهطلت أمطار غمام الرّحمة، وسرت نسائم العناية، وصار العالم عالمًا جديدًا، واستنارت البشريّة بباهر الأنوار، وتربّت النّفوس، وترقّت العقول، وشُحذت الأفهام، وبلغ عالم الإنسان نضرة حياة جديدة، تمامًا كما هو الحال عند قدوم الرّبيع. ثمّ تلا ذلك الرّبيع خريف الموت والذّبول شيئًا فشيئًا. فأهملت تعاليم المسيح، وتوقّفت الفيوضات العيسويّة، واختفت الأخلاق الرّبّانيّة، وآل النّهار إلى ليل، وصار النّاس غافلين متهاونين، ووهنت العقول إلى أن بلغ الحال محنة طغت فيها العلوم المادّيّة، وأمست علوم الملكوت مهجورة، وغابت الأسرار الرّبّانيّة، ومحيت آثار فيوضات المسيح بالكلّيّة. وصارت الأمم أسيرة الخرافات والتّقليد الأعمى، ونشب الخلاف والنّزاع إلى أن آل الحال إلى النّزال والقتال وسفك الدّماء. وتمزّقت الأكباد من شدّة العنف والقسوة، وظهرت الملل المختلفة والنّحل والعقائد المتباينة، وهوى العالم بأسره في وهدة الظّلام.

في وقت كهذا أشرق بهاء الله من أفق إيران، فأصلح وجدَّد أصول وحقائق تعاليم المسيح، وتحمّل عظيم الرّزايا، وعانى في سبيل ذلك أشدّ البلايا.

الحمد لله، فقد تجدّد نداء تعاليم الحقّ، وطلع صبح الحقيقة مرّة أخرى، وطفق الإشراق يزداد يومًا بعد يوم، والنّور يلمع بكلّ بهاء في كبد السّماء. ومن سحاب الرّحمة يهطل السّيل المدرار، وشمس الحقيقة ساطعة في مقامها الأبديّ. ونتمنّى مجدّدًا أن ينصُب فصل الرّبيع هذا خيمته، وأن تظهر هذه العطايا اللاّمحدودة بيننا من جديد. وهذا ممكن بواسطة جهدكم وإخلاصكم. فإذا نهضتم في أمر الله بقوّة ربّانيّة، وموهبة سماويّة، وإخلاص ملكوتيّ، وقلب رحيم، وعزم مكين، فمن المؤكّد أنّ عالم الإنسانيّة سيتنوَّر بالكلّيّة، وتصير أخلاق البشر رحمانيّة، وتُرسى قواعد الصّلح الأعظم، وتصبح وحدة مملكة الإنسان حقيقة واقعة. هذا هو الفوز العظيم الّذي أتمنّاه لكم، وأدعو وأبتهل إلى العتبة الإلهيّة ملتمسًا من أجلكم وأقول:

يا ربّي الرّحمن والمقتدر على الإمكان والآب الرّؤوف المنّان، هؤلاء عباد اجتمعوا متوجّهين إليك متضرّعين إلى عتبتك آملين فيوضاتك اللاّمتناهية من حياض الإيقان، ولا غاية لهم إلاّ رضاؤك ولا مقصد غير خدمة العالم الإنسانيّ.

أي ربّ أنر هذا الجمع واجعل القلوب رحمانيّة، وأَفِضْ بفيوضات الرّوح القدس وهبهم قوّة سماويّة، وأَنِلْهم أفكارًا ملكوتيّة وزد في خلوصهم حتّى يتوجهوا إلى ملكوتك بكلّ خضوع وخشوع، وينشغلوا بخدمة العالم الإنسانيّ، ويصير كلّ منهم شمعة منيرة ونجمًا بازغًا ولونًا بهيجًا وعطرًا عابقًا في الملكوت الإلهيّ.

أيّها الآب الرّؤوف، أفض علينا بركاتك ولا تنظر إلى عيوبنا، واحفظنا في كنف حفظك ولا تذكر خطايانا، واشفنا برحمتك، فنحن ضعفاء وأنت القويّ، ونحن فقراء وأنت الغنيّ، ونحن مرضاء وأنت الشّافي، ونحن سائلون وأنت الكريم.

أي ربّ هب لنا من عنايتك. إنّك أنت القويّ، وإنّك أنت المعطي، وإنّك أنت الفضّال.

(10) 24 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّدة أندرو دايار،
1937 بالشّارع الثّالث عشر، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ لقاءً كهذا يبدو كعِقد جميل من جواهر ثمينة – اللّؤلؤ والياقوت والألماس والزّفير، وهو مصدر للسّرور والحبور. فكلّ ما يؤدّي إلى وحدة العالم الإنسانيّ مقبول ومحمود، وكلّ ما يسبّب الشّحناء والفرقة محزن ومؤسف. فتدبّروا إذًا أهمّيّة الاتّحاد والاتّفاق.

سأحدّثكم في هذا المساء عن مسألة الوجود والعدم، الحياة والموت. فالوجود تعبير عن التّركيب والامتزاج ونتيجة لهما. أمّا العدم فهو تعبير عن الانقسام والتّحلّل ونتيجة لهما. وإذا ما تفحَّصنا في أشكال الوجود في العالم المادّيّ، لوجدنا أنّ كلّ الكائنات حادثة بفعل التّركيب. فالعناصر المادّيّة قد تجمّعت معًا في تنوّع لا حصر له وأشكال لا تتناهى. فكلّ كائن من الكائنات ما هو إلاّ شيء مركّب، وكلّ شيء بمثابة تعبير عن تجاذب للعناصر المركِّبة له. إذ نجد أنّ الكيان البشريّ على ما هو عليه من تعقيد ما هو إلاّ تجميع لتراكيب من الخلايا؛ والشّجرة عبارة عن مجموعة من الخلايا النّباتيّة؛ وكذلك الحيوان فهو تركيب وتجميع لذرّات أو وحدات خلويّة، وقس على ذلك. فالوجود إذًا أو التّعبير عن الكينونة هو التّركيب، والعدم هو التّحلّل والانقسام والتّفكّك. فمثلاً إذا ما تجمّعت بعض العناصر معًا بترتيب معيّن، ينتج عن ذلك وجود كيان بشريّ، وعندما تتفرّق نفس تلك العناصر وتتشتّت، يفضي ذلك إلى موت هذا الكيان البشريّ وعدمه. فنخلص من ذلك إلى أنّ الحياة ناتجة عن التّركيب، أمّا الموت فهو تعبير عن التّفكّك والانحلال.

مثل ذلك نراه في عالم العقول والأرواح: فالألفة الّتي هي تعبير عن التّركيب، تجلب الحياة، بينما الخلاف – الّذي هو تعبير عن التّحلّل – يعادل الموت. ومن دون تماسك وترابط العناصر الفرديّة الّتي تتكوّن منها الهيئة الاجتماعيّة يكون التّحلّل والتّفسّخ لا محالة، ومعهما يأتي انعدام الحياة. فالحيوانات المفترسة لا يجمعها إخاء أو تآلف. خذوا النّسور والنّمور مثلاً فإنّها تحيا منفردة، أمّا إذا نظرنا إلى الحيوانات الأليفة فنجدها تعيش معًا في انسجام تامّ. فالأغنام بأبيضها وأسودها تتعاشر في وئام وانسجام، والطّيور من مختلف الأنواع والألوان ترفرف وتتغذّى معًا دونما أن نشاهد بينها أيّ شائبة من عداوة أو خلاف. ولهذا فإنّه من الحكمة واللاّئق في عالم الإنسان أن يبدي جميع أفراد البشر لبعضهم البعض كامل الاتّحاد والألفة. وأتمنّى أن يكون السّود بمثابة الياقوت والزّفير في العقد النّاظم لجواهر الأجناس، وأن يكون البيض كالألماس واللّؤلؤ المنضود في ذلك العقد. عندئذ يتبدّى جمال الإنسانيّة مؤتلفًا من اتّحادهم واندماجهم. فما أبهى مشهد الوحدة الحقيقيّة بين البشر! وكم هو باعث على السّلام والاطمئنان والسّعادة أن تتّحد الأجناس والأمم معًا في إخاء ووفاق! فقد بعث الله أنبياءه في هذا العالم من أجل هذه المهمّة – مهمّة تحقيق الوحدة والوفاق، لكي تجتمع الأغنام بعد طول تباعد وفرقة. فعندما تتفرّق الأغنام تكون عرضة للخطر، أمّا إذا عاشت في قطيع واحد تحت حماية راعيها وصونه، فإنّها تكون في مأمن من هجوم كلّ عدوّ كاسر.

عندما تتَّحد العناصر العرقيّة المختلفة الّتي تتكوّن منها الأمّة الأمريكيّة مع بعضها البعض في تآخ ووفاق حقيقيّ، تسطع أنوار وحدة الإنسانيّة، ويشرق صبح السّناء والهناء الأبديّ، وتشملها الرّوح الإلهيّ، ويهبط عليها الفضل الرّبّانيّ. وفي ظل إمرة الله وتربيته، وهو الرّاعي الحقيقيّ، يفوز الكلّ بالحفظ والحماية. فيقودهم في مروج السّعادة والرّزق الوفير، ويبلغون الغاية الحقيقيّة من الوجود. هذه هي بركة الاتّحاد ومنفعته، وهذه هي ثمرة المحبّة، وهذه هي علامة الصّلح الأعظم، وهذا هو نجم وحدة العالم الإنسانيّ. فانظروا كم سيكون ذلك الحال مباركًا. وإنّي أدعو لكم بالتّأييد وألتمس لكم العون الإلهيّ.

(11) 25 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في وفد الجمعيّة الثيوصوفيّة، بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه،
1700 بالشّارع الثّامن عشر، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ أعظم قوّة في عالم الوجود الإنسانيّ ورتبته هي الرّوح – ذلك النَّفَس الرّحمانيّ الّذي ينفخ الحياة في كافّة الموجودات ويسري في جنباتها. والرّوح تظهر في كافّة المخلوقات بدرجات متفاوتة أو على هيئة ممالك مختلفة. فهي في مملكة النّبات تلك الرّوح المعزِّزة للنّماء أو قوّة النّمو، فهي روح النّماء والتّطوّر في النّباتات والأشجار وكائنات عالم الأزهار. والرّوح في هذه الدّرجة من التّجلّي لا تعي القوى الّتي تتّصف بها مملكة الحيوان. والمنقبة المميّزة أو الإضافيّة لدى الحيوان هي الإدراك الحسّيّ، فهو يرى ويسمع ويشمّ، ويتذوّق ويشعر، بيد أنّ الحيوان بدوره عاجز عن التّخيّل أو التّدبّر الواعي الّذي يميّز ويفرّق مملكة الإنسان. فالحيوان لا يستخدم هذه القوّة والموهبة البشريّة المميّزة ولا يدركها. فليس بوسع الحيوان أن يستخلص نتائجَ من عالم الشّهود تتعلّق بعالم الغيب، في حال أنّ العقل البشريّ يتوصّل إلى معرفة المجهول وغير المنظور بواسطة ما يستنتجه ممّا هو منظور ومعروف. فعلى سبيل المثال، توصّل كريستوفر كولومبس، من المعرفة المبنيّة على الحقائق المعروفة الثّابتة، إلى استنتاجات أوصلته بدقّة عبر المحيط الشّاسع إلى القارّة الأمريكيّة المجهولة. فهذه القدرة على الإنجاز تفوق نطاق الإدراك عند الحيوان. فهي إذًا عبارة عن خاصّيّة مميّزة لروح الإنسان ومملكته. فالرّوح الحيوانيّ عاجز عن اختراق واكتشاف أسرار الأشياء، ذلك لأنّ الحيوان أسير الحواس، ولا يقوده أيّ قدر من التّربية مثلاً إلى فهم حقيقة أنّ الشّمس ثابتة والأرض تدور حولها. وبنفس الكيفيّة يكون للرّوح البشريّة هي الأخرى حدودها. فهي قاصرة عن فهم حقائق الملكوت الّتي تسمو فوق مقام الإنسان، ذلك لأنّ الرّوح البشريّة أسيرة لقوى الحياة الّتي تعمل في حيّز وجودها، ولا تستطيع أن تتخطّى حدود هذا الحيّز.

بيد أنّ هناك روحًا أخرى يمكن أن نسمّيها الرّوح الملكوتيّة، وهي الّتي تحدّث عنها يسوع المسيح عندما قال إنّ على الإنسان أن يولد من جذوتها ويتعمّد بنارها الحيّة. وتعتبر النّفوس المحرومة من تلك الرّوح في عداد الأموات، حتّى لو كانت حائزة على الرّوح البشريّة. وقد حكم يسوع المسيح عليها حكم الموت إذ لا نصيب لها من الرّوح الملكوتيّة. فقد تفضّل قائلاً: دع الموتى يدفنون موتاهم، كما يصرّح في موضع آخر المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الرّوح هو روح. ويقصد بذلك أنّ النّفوس وإن كانت حيّة في مملكة الإنسان إلاّ أنّها تكون ميّتة إذا ما حُرمت من نفس هذه الرّوح الملكوتيّة المُحيِية. فهي نفوس لا نصيب لها من الحياة اللاّهوتيّة المختصّ بها الملكوت العلويّ، بينما النّفوس الّتي لها نصيب من قوّة الرّوح الملكوتيّة هي حيّة بمعنى الكلمة.

فهذه الرّوح المحيية تنبعث صدوريًّا من شمس الحقيقة، من حقيقة الألوهيّة، ولا تنبعث انبعاثًا ظهوريًّا. فهي كأشعّة الشّمس، فالأشعّة تنبعث من الشّمس، ولا يعني هذا أنّ الشّمس قد أصبحت قابلة للانقسام، أو أنّ جزءًا منها انطلق إلى الفضاء. فالنّبات الّذي أقف بجانبه مثلاً قد نشأ عن البذرة، فهو إذًا ظهور البذرة وتكشّفها. فالبذرة كما ترون قد تكشّفت ظهوريًّا، وكانت النّتيجة هي هذا النّبات. وكلّ ورقة من النّبات هي جزء من البذرة. أمّا حقيقة الألوهيّة فهي لا تقبل الانقسام، ولايمكن لأيّ كائن بشريّ أن يكون جزءًا منها كما يكثر الادّعاء. لا بل إنّ الحقائق المنفردة للنّوع الإنسانيّ عندما تولد ولادة روحانيّة هي انبعاثات صادرة عن حقيقة الألوهيّة، مثلما يكون لهب الشّمس وحرارتها وضوؤها إشراقات من الشّمس ولا تكون جزءًا من ذاتها. فالرّوح قد انبعثت إذًا من حقيقة الألوهيّة، وتبدّت إشراقاتها للعيان في كينونات وحقائق بشريّة. فهذا الشّعاع وتلك الحرارة هما دائمان باقيان لا انقطاع لإشراقهما. فطالما بقيت الشّمس كان هناك الحرارة والنّور، وبما أنّ الأبديّة من خواص الألوهيّة، فسيظلّ هذا الانبعاث إلى الأبد دونما أيّ انقطاع لتدفّقه. وكلّما ازداد ترقّي عالم الإنسانيّة كلّما ازداد إشراق الإلوهيّة أو انبعاثاتها تجلّيًا وظهورًا، تمامًا مثل الأحجار الّتي إذا ما تمّ صقلها وصفاؤها كما هو الحاصل مع المرآة، ستعكس بدرجة أكبر بهاء الشّمس وإشراقها.

إنّ بعثة الأنبياء، وإنزال الكتب المقدّسة، وظهور المربّين السّماويّين، ومقصد الفلسفة الإلهيّة، تتمحور جميعها حول تربية الحقائق الإنسانيّة وتهذيبها حتّى تصبح صافية نقيّة كالمرايا، فتعكس نور شمس الحقيقة ومحبّتها. ولهذا فإنّ أملي – إن كنتم في الشّرق أم في الغرب – أن تجهدوا بالقلب والرّوح حتّى يزداد عالم الإنسانيّة عظمة وروحانيّة وتقديسًا يومًا فيومًا، وأن تتجلّى أنوار شمس الحقيقة بتمامها في أفئدة البشر تجلّي الشّمس في المرآة، وهو ما يليق بعالم الإنسان. هذا هو تطوّر الإنسانيّة الحقيقيّ ورقيّها، وهذا هو الفضل الأسمى. وبغير ذلك ليس للإنسان كمال بمجرّد تقدّمه في الأمور المادّيّة. وغاية ما هنالك، أنّ الجانب الجسمانيّ في الإنسان، أي أحواله الطّبيعيّة أو المادّيّة، قد تستقرّ وتتحسّن، ولكنّه سيبقى محرومًا من الموهبة الرّوحانيّة أو العطيّة الرّبّانيّة، ويكون عندئذ جسدًا بلا روح، ومصباحًا بغير ضياء، وعينًا دون رؤية، وأذنًا لا تسمع صوتًا، وعقلاً بغير إدراك، وفهمًا تغيب عنه العقلانيّة.

للإنسان قوّتان، ولرقيّه جانبان. فالقوّة الأولى متّصلة بعالم المادّة، ويكون الإنسان بواسطتها قادرًا على التّقدّم المادّيّ. والقوّة الثّانية روحانيّة، وبتقدّمها تستيقظ طبيعته الوجدانيّة الكامنة. وكلتا القوّتين بمثابة الجناحين اللّذيْن يجب أن يترقّيا معًا لأنّ الطّيران بأحدهما محال. الحمد لله، فإنّ الرّقيّ المادّيّ بات واضحًا في العالم، بيد أنّ هناك حاجة إلى رقيّ روحانيّ يوازيه. فعلينا أن نجهد دومًا، دون كلل أو ملل، لتحقيق رقيّ الطّبيعة الرّوحانيّة في الإنسان، وأن نسعى بعزم لا يلين للرّقيّ بالإنسانيّة نحو رفعة وسموّ مقامها الحقيقيّ المنشود. ذلك لأنّ جسد الإنسان حادث، ولا أهمّيّة له، وأوان تحلّله قادم لا محالة. أمّا روح الإنسان فهي جوهريّة، وبناء على ذلك فهي خالدة. وهي عطاء ربّانيّ، وهي إشراق شمس الحقيقة، فلها بالتّالي أهمّيّة تفوق أهمّيّة الجسد العنصريّ.

إنّي أدعو الله من أجلكم. لقد جئتم لزيارتي وأنا في غاية الامتنان. وسأدعو لكم بالتّأييد والتّوفيق من الله الكريم الوهّاب حتّى توفَّقوا في خدمة العالم الإنسانيّ.

(12) 25 أبريل/ نيسان 1912

رسالة إلى أنصار لغة الإسبرانتو في منزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه
1700 الشّارع الثّامن عشر، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ أعظم ما يحتاجه العالم الإنسانيّ اليوم هو الحدّ من استمرار سوء الفهم والتّفاهم القائم بين الأمم. وهذا من الممكن تحقيقه بواسطة وحدة اللّغة. وما لم تتحقّق وحدة اللّغات لا يمكن للصّلح الأعظم ووحدة العالم الإنسانيّ أن يتأسّسا ويستحكما بفاعليّة، ذلك لأنّ دور اللّغة هو التّعبير عن أسرار الأفئدة البشريّة وسرائرها. فالقلب بمثابة صندوق مفتاحه اللّغة، ولا يسعنا فتح الصّندوق ومعاينة ما يحويه من جواهر إلاّ باستخدام المفتاح. إذًا، فإنّ مسألة إيجاد لغة عالميّة مساعِدة لها أهمّيّتها القصوى. فباللّغة العالميّة يتسنّى نشر التّربية والتّعليم في العالم، وبها يتيسّر التّوصّل إلى دلائل الماضي وتاريخه. كما أنّ انتشار الحقائق المعلومة عن عالم الإنسان متوقّف على اللّغة. ولا يمكن شرح التّعاليم الإلهيّة إلاّ بتلك الواسطة. وطالما بقي تباين الألسنة وعدم فهم اللّغات الأخرى، فلا يمكن تحقيق هذه المقاصد النّبيلة. ولذا فإنّ أفضل خدمة لعالم الإنسان هي تأسيس وسيلة التّواصل العالميّة المساعِدة هذه، فتصير سبب أمن رابطة بني البشر وأمانهم، وتنتشر من خلالها العلوم والفنون بين الأمم، وتبرهن على كونها واسطة تَقَدُّم ورقيّ كافّة الأجناس والأعراق. فعلينا أن نجهد بكلّ ما في وسعنا من قوّة لإيجاد هذه اللّغة العالميّة المساعِدة ونشرها في أرجاء العالم. وأملي أن يتمّ ذلك بفضل الألطاف الإلهيّة، وأن يُنتخب عقلاء القوم من مختلف دول العالم، فيعقدون مؤتمرًا دوليًّا يكون هدفه الرّئيس ترويج هذه الواسطة العالميّة للتّخاطب.

(13) 25 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد آرثر بارسونز وحرمه
1700 الشّارع الثّامن عشر، شمال غرب، واشنطن العاصمة

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ تعاليم الله هي أعظم المواهب الإلهيّة في عالم الوجود. أمّا باقي المواهب الإلهيّة فهي محدودة من حيث فوائدها ومجالها. فالوجود الإنسانيّ نفسه موهبة ربّانيّة، ولكنّه محاط بالقيود والحدود. والبصر والسّمع من المواهب الإلهيّة، إلاّ أنّ كليهما محدودان. وكذلك الحال مع سائر المواهب، فإطار عملها محدود ومقيَّد، بينما يبقى نطاق التّعاليم الإلهيّة بغير حدود. وتمضي القرون والأعصار وتبقى فاعليّة التّعاليم الإلهيّة كروح الحياة الّتي تحرِّك عالم الوجود. وبغيرها يكون عالم البشر على شاكلة مملكة الحيوان. فما هو الفرق بين الحيوان والإنسان؟ الفرق هو هذا: إنّ الحيوان عاجز عن فهم التّعاليم الإلهيّة بينما الإنسان جدير بها ولديه استعداد للفهم والإدراك. وموهبة الفهم والإدراك هذه غائبة عن مملكة الحيوان، ولهذا يكون التّقدّم فيها محدودًا، وأقصى تطوّر ممكن في تلك المملكة هو النّموّ الجسمانيّ. فالجسم الحيوانيّ يكون صغيرًا في البداية وغير متطوّر، فيتطوّر ويكبر، لكنّ نطاق نموّه الذّهنيّ يبقى محدودًا. وبناء على هذا تكون التّعاليم الإلهيّة هي المواهب الّتي اختصّ بها الإنسان دون سواه.

مع أنّ التّعاليم الإلهيّة هي الحقّ والحقيقة، إلاّ أنّه بمرور الزّمان تغلِّفها وتحجبها السّحب الكثيفة. هذه السّحب هي التّقاليد والأوهام، وليست هي الجوهريّات. عندئذٍ تطلع شمس الحقيقة، أي الكلمة الإلهيّة، مرّة أخرى مشرقة من جديد ببهاء قوّتها وتبدّد ما حلّ من ظلام.

لقد كانت الحقائق الإلهيّة للكلمة الرّبّانيّة المنيرة محتجبة بسُحُب الوهم والباطل مدّة طويلة إلى أن ظهر حضرة بهاء الله في أفق الإنسانيّة، فبدّد الظّلام وقشع الغمام وأظهر أسس التّعاليم الإلهيّة من جديد.

أوّل تعاليم حضرة بهاء الله هو الواجب المفروض على الكلّ بأن يتحرّوا الحقيقة. فما الّذي يعنيه تحرّي الحقيقة؟ إنّه يعني أن ينسى الإنسان كلّ ما يُقال ويُسمع، ويتقصّى الحقيقة بنفسه، لأنّه لا يدري ما إذا كان ما يسمعه مطابقًا للحقيقة أم لا. وأينما وجد الحقيقة عليه أن يتمسّك بها، معرضًا ومبتعدًا عمّا سواها، ذلك لأنّ خارج دائرة الحقيقة لا يوجد سوى الأوهام والخيال. فمثلاً كان اليهود في أيّام يسوع المسيح يتوقّعون ظهور المسيح المنتظر، وكانوا يبتهلون ويتضرّعون إلى الله ليل نهار كي يظهر الموعود. فلماذا رفضوه عندما ظهر؟ لقد أنكروه تمامًا ورفضوا الإيمان به. فما من أذى واضطهاد إلاّ وأنزلوه به. شتموه وأمطروه باللّعنات، ووضعوا تاجًا من الشّوك على رأسه، وساقوه في الطّرقات بكلّ احتقار وسخرية، ثمّ صلبوه في النّهاية. فلماذا فعلوا ذلك؟ لأنّهم لم يتحرّوا حقيقة حضرة المسيح أو أحقّيّته، وبذلك عجزوا عن إدراك أنّه هو مسيح الله المنتظر. أمّا لو أنّهم تحرّوا أمره بكلّ إخلاص، فمن المحتّم أنّهم كانوا سيؤمنون به ويوقّرونه وينحنون أمامه بكلّ خضوع وخشوع، ولعدّوا ظهوره أعظم موهبة للجنس البشريّ، ولكانوا قد قبلوه مخلِّصًا حقيقيًّا للإنسان؛ ولكن، بكلّ أسف، احتجبوا وتمسّكوا بتقاليد عقائد الأسلاف والأقاويل، ولم يتحرّوا حقيقة المسيح. كانوا غرقى في بحر الخرافات، فحُرموا بذلك من مشاهدة تلك الموهبة المجيدة؛ واحتجبوا عن نفحات أو نفثات الرّوح القدس، وعانوا أشدّ مذلّة وهوان.

إنّ الحقيقة واحدة، ومع ذلك هناك اليوم في العالم العديد من العقائد الدّينيّة والفِرق والنّحل والآراء المتضاربة المتباينة. فلماذا هذه الاختلافات؟ لأنّهم لم يتحرّوا ويتفحّصوا الوحدة الأساسيّة، الّتي هي واحدة لا تتغيّر. فإن هم سعوا إلى الحقيقة بعينها سيتّفقون ويتّحدون لأنّ الحقيقة لا تقبل الانقسام أو التّعدّد. فيتّضح إذًا أنّ لا شيء أعظم أهمّيّة لبني البشر من تحرّي الحقيقة.

ثاني تعاليم حضرة بهاء الله وحدة العالم الإنسانيّ. فكلّ كائن بشريّ هو من عباد الله، والكلّ قد خلقوا وتربـّوا بقدرة الله وفضله، والكلّ قد نعموا بمواهب شمس الحقيقة الإلهيّة ذاتها، والكلّ قد نهلوا من معين الفضل الإلهيّ اللاّمتناهي، والجميع في نظر الله وبفرط محبّته متساوون في العبوديّة، وهو حنون رؤوف بالجميع. فلا يستكبرنّ، إذًا، أحد على أحد، أو يتفاخر عليه ويتعالى، أو ينظر إلى غيره باستهزاء واحتقار؛ ولا يَحرِم أحد أخاه الإنسان أو يظلمه. يجب اعتبار الكلّ مغمورين في بحر رحمة الله. وعلينا أن نعاشر مع كلّ البشر بغاية اللّطف والحنوّ، وأن نحبّ الكلّ من صميم الفؤاد. فالبعض جهلاء يجب تربيتهم وتعليمهم، وفرد آخر نراه مريضًا يتوجّب شفاؤه، وثالث كصبيّ يجب إعانته إلى أن يبلغ الرّشد. فلا يصحّ أن ننبذ من كان مريضًا، أو نتحاشاه، أو نستهزئ به أو نلعنه، وإنّما علينا أن نرعاه بكلّ عطف ورقّة. فلا يصحّ أن نعامل الرّضيع بالتّهكّم لأنّه مجرّد رضيع. فمسئوليّتنا هي أن نربِّيه ونعلّمه وننشّئه، لكي يتقدّم نحو البلوغ.

ثالث تعاليم أو مبادئ حضرة بهاء الله هو التّوافق التّامّ بين الدّين والعلم. فكلّ دين لا يطابق العلم الثّابت هو خرافة. ويجب أن يكون الدّين معقولاً، لأنّه إذا لم يكن موافقًا للعقل فهو خرافة ولا أساس له. مثله مثل السّراب الّذي يخدع الإنسان ويوهمه بأنّه جسم من ماء. ولقد وهب الله الإنسان نعمة العقل حتّى يدرك ما هو حقّ. فإذا ما أصرّينا على أنّ هذه المسألة أو تلك ليس من الضّروريّ أن تُعقل أو تمحّص طبقًا لما هو ثابت من منهجيّات العقل المنطقيّة، فما الفائدة إذًا من نعمة العقل الّذي وهبه الله للإنسان؟ فالعين هي العضو الحسّيّ الّذي نبصر به عالم الكائنات الظّاهريّة، والسّمع هو الحاسّة الّتي نميِّز بها الأصوات، وبحاسّة الذّوق نتعرّف على ماهيّات الأشياء من مرّ وحلو، وتعرّفنا حاسّة الشّمّ بالرّوائح فنميّزها، وتكشف لنا حاسّة اللّمس خواص المادّة وبها نتقن اتّصالنا بالعالم الظّاهريّ. إلاّ أنّ دائرة الإدراك ومجاله بواسطة الحواس الخمس تبقى محدودة للغاية. أمّا مَلَكة العقل عند الإنسان فهي غير محدودة في مجال عملها. فالعين قد تشاهد تفاصيل الأشياء لمسافة ميل مثلاً، أمّا العقل فبمقدوره أن يدرك أقاصي الشّرق والغرب. والأذن قد تميّز ما بين مختلف النّبرات على مسافة ألف قدم، أمّا عقل الإنسان فبوسعه أن يكتشف ترتيبات الأجرام السّماويّة وهي تجري في مداراتها. ويتوصّل العقل إلى الاكتشافات الجيولوجيّة في أعماق الطّبقات، ويحدّد مراحل تكوين أسفل طبقات الأرض. وبعقل الإنسان كانت هناك كلّ العلوم والفنون وسائر الاختراعات والمهن والصّنائع وما يظهر منها. يتّضح إذًا أنّ العقل يحتلّ مقام الذّروة من بين أعضاء الإنسان. وبناءً على ذلك فإذا لم يتّفق أيّ اعتقاد أو مبدأ أو عقيدة دينيّة مع العقل وقوّة المنطق فهو بالتّأكيد خرافة.

سأتحدّث في وقت آخر عن مزيد من المبادئ الواردة في تعاليم حضرة بهاء الله.

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في شيكاغو، وِيلـْمِت، وإيفانستون (1) 30 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في الاجتماع العامّ الختاميّ لمؤتمر وكلاء وحدة المعبد البهائيّ
بقاعة دريل بالمعبد الماسونيّ، بشيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ تشييد دور العبادة هو أحد أصول الكتب المقدّسة، بمعنى أنّه يتعيّن بناء صرح أو معبد تجد البشريّة فيه مكانًا للاجتماع، ويكون عاملاً مساعدًا في إيجاد الوحدة والألفة فيما بينها. أمّا المعبد الحقيقيّ فهو كلمة الله نفسها، لأنّ على البشريّة كافّة أن تتوجّه إليها، وهي مركز الاتّحاد لكافّة البشر. فهي المركز الجامع، وعلّة ائتلاف الأفئدة وتواصلها، وعلامة تضامن الجنس البشريّ، ومنبع الحياة الأبديّة. والمعابد هي رمز للقوّة الإلهيّة الجامعة، حتّى يتذكّر النّاس، عندما يجتمعون في بيت الله، أنّ الشّريعة أنزلت لهم، وأنّ الشّريعة جاءت لتوحيدهم. ويعلمون أنّه، تمامًا كما أنّ هذا المعبد قد شُيّد لتوحيد العالم، فإنّ النّاموس الّذي سبق بناء المعبد وكان سببًا في وجوده قد خرج من الكلمة الإلهيّة اللاّئحة. لقد خاطب يسوع المسيح بطرس قائلاً أنت الصّخرة وعليك أبني كنيستي. وكان هذا البيان دالاًّ على درجة إيمان بطرس، ومعناه: إنّ إيمانك يا بطرس هو حقًّا سبب الاتّحاد وهو فحوى رسالة الوحدة الموجّهة للأمم، وسيكون رابطة للوئام بين قلوب البشر، وأساس وحدة العالم الإنسانيّ. وبالاختصار، فإنّ الغرض الأصليّ من المعابد ودور العبادة هو الوحدة ليس إلاّ – فهي أماكن للاجتماع يلتقي فيها مختلف الشّعوب ومختلف الأجناس والأنفس من مختلف القابليّات لكي تتجلّى بينهم المحبّة والألفة. ولهذا أمر حضرة بهاء الله ببناء مكان للعبادة لكافّة أهل الأديان في العالم، حتّى تلتقي جميع الأديان والأجناس والنّحل معًا في ظلّه الشّامل، ويرتفع نداء وحدة الجنس البشريّ من رحاب قدسه – نداء يقول بأنّ البشر عبيد لله، وأنّ الكلّ منغمس في بحر رحمته. هذا هو مشرق الأذكار. إنّ عالم الوجود يمكن تشبيهه بهذا المعبد وبدار العبادة هذا. فكما أنّ العالم الخارجيّ محلّ لالتقاء كافّة الأجناس والألوان ومختلف العقائد والملل والأحوال – أي بمثل ما هم منغمسون في بحر العنايات الرّبّانيّة الواحد – فكذلك بوسع الكلّ أن يلتقوا تحت قبّة مشرق الأذكار، ويعبدوا الله الواحد بروحِ حقيقةٍ واحدة؛ فلقد ولّت عصور الظّلام، وأتى قرن الأنوار، وتبدّدت التّعصّبات الجاهليّة، وأشرق نور الاتّحاد. وسرعان ما ستختفي الاختلافات الواقعة بين الأمم والشّعوب، وتستحكم أسس الأديان الإلهيّة، الّتي هي ليست سوى وحدة الجنس البشريّ وتضامنه. لقد ظلّت البشريّة آلافًا من السّنين في حرب ونزال، فيكفيها صراعًا. فليتعايش الجنس البشريّ، ولو لفترة من الوقت على الأقلّ، في إخاء وسلام. لقد سادت العداوة والبغضاء، فليجرّب العالم المحبّة ولو لفترة. لقد رفضت الأمم بعضها البعض آلافًا من السّنين، وكلٌّ تعتبر الأخرى كافرة وذليلة، فيكفي ما حدث. علينا الآن أن ندرك أنّنا عبيد إله واحد، وأنّنا متوجّهون إلى أب رحيم واحد، ونعيش بمقتضى ناموس إلهيّ واحد، ونسعى إلى حقيقة واحدة، ويحدونا أمل واحد. وبذلك نحيا بأقصى ما يمكن من صداقة ومحبّة، وفي مقابل ذلك تحيطنا المواهب الإلهيّة، وينصلح العالم الإنسانيّ، ويحظى الجنس البشريّ بحياة جديدة، ويسطع النّور الأبديّ، وتتجلّى الأخلاق الملكوتيّة.

عندئذ تحكم السّياسة الإلهيّة العالم، لأنّ السّياسة الإلهيّة هي وحدة الإنسانيّة. والله عادل ورؤوف بالكلّ، ويعتبرنا جميعًا عباده، ولا يستثني أحدًا، وأحكامه سليمة صحيحة. ومهما بدت سياسة البشر وتدابيرها كاملة، فهي ناقصة. وإذا لم نلتمس النّصح الإلهيّ، أو رفضنا اتِّباع أوامره، فإنّ هذا يعني ضمنا أنّنا نحن العالمون والحكماء، وأنّ الله جاهل، وأنّنا من ذوي الحجى، أمّا هو فعلى غير ذلك – لا سمح الله، ونستغفره من هذا الظّنّ! فمهما ارتقى فكر البشر لا يخرج عن كونه قطرة واحدة، والإحاطة الإلهيّة هي البحر. فهل يجمل بنا القول إنّ القطرة قد حازت أو أعطيت من الصّفات ما حُرِم منه البحر؟ وهل يليق بنا الظّنّ أنّ سياسة وتدابير هذه الذّرّة المسمّاة بالنّفس البشريّة أعظم حكمةً ممّن أحاط علمه العالمين؟ ليس هناك بالقطع جهل أشدّ من ذلك. وبالاختصار، إنّ البعض أطفال علينا أن نربيّهم بغاية المحبّة ونجعلهم حكماء، والبعض الآخر مرضى وسقماء، وعلينا علاجهم برفق حتّى يتعافوا. وآخرون لهم صفات غير حميدة علينا أن نأخذ بيدهم نحو نبراس الخـُلـُق القويم. وما عدا ذلك فكلّنا عباد الله الواحد، وفي كنف وحماية آب سماويّ واحد.

هذه هي القواعد والقوانين الإلهيّة، وتلك هي أسس معبده، مشرق الأذكار. بناء ظاهره رمز لباطنه. عسى أن تأخذ النّاس منه عبرة وعظة.

أدعو لكم أن تتنوّر قلوبكم بنور محبّة الله، وأن تترقّى عقولكم يومًا فيومًا، وأن تتَّقد أرواحكم بنار بشاراته ونورها، حتّى تستحكم هذه الأسس الإلهيّة في أنحاء العالم الإنسانيّ. وأوّل هذه المبادئ والأسس هو اتّحاد البشريّة والمحبّة والألفة بين النّاس. وثانيها هو الصّلح الأعظم. والحمد لله على أنّ هذه الدّيمقراطيّة الأمريكيّة تُبدي مقدرة وتُظهر استعدادًا لتكون حاملة لواء الصّلح الأعظم. وأدعو الله أن يصير جندها حماة لوحدة الإنسانيّة، وأن يصبحوا خدّامًا للعتبة الإلهيّة ناشرين الرّسالة الّتي تجلب رضاء الله.

يا ربّي الرّؤوف، هذا الجمع متوجّه إليك، وهذه القلوب مشرقة بمحبّتك، وهذه العقول والأرواح منشرحة بنبأ بشاراتك. أي ربّ، اجعل هذه الدّيمقراطيّة الأمريكيّة ماجدة في معارج اللاّهوت كما هي توّاقة إلى مدارج النّاسوت، وانصر هذه الحكومة العادلة. وأيِّدْ هذه الأمّة الموقّرة على رفع لواء وحدة الإنسانيّة وترويج الصّلح الأعظم، كي تصير بذلك أكثر مجدًا وجدارة بالثّناء بين أمم الأرض كلّها. أي ربّ، إنّ هذه الأمّة الأمريكيّة أهل لمواهبك، ومستحقّة لرحمتك، عزّزها وقرّبها إليك بجودك وعطائك.

(2) 30 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة ببناية هال، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

عندما نتفحّص عالم الخليقة نجد أنّ كافّة الكائنات الحيّة يمكن تقسيمها إلى مظهرين للوجود. المظهر الأوّل أنّها تمتلك أجسامًا تتكوّن من عنصر مادّيّ يشترك فيه الكلّ – نباتًا كان أو حيوانًا أو إنسانًا. وهذه هي نقطة اتّفاقها أو كما يقول الفلاسفة نقطة التقائها. والمظهر الثّاني أنّها تتباين وتختلف عن بعضها البعض في الرّتبة والوظيفة – بمعنى أنّ كلاًّ منها متميّز في مملكته الخاصّة به. وهذه هي نقطة امتيازها وتميّزها. فالنّبات والحيوان مثلاً متشابهان في أنّ جسديهما يتركّبان من نفس العناصر المادّيّة، إلاّ أنّهما يختلفان اختلافًا شاسعًا من حيث المملكة والقدرة. والإنسان مشابه للحيوان في تركيبه الجسمانيّ، لكنّه فيما عدا ذلك منفصل عنه وأسمى منه بقدر لا حدّ له.

بداخل مملكة الإنسان ذاتها هناك نقاط التقاء، أي هناك خصائص يشترك فيها الجنس البشريّ كلّه، وبالمثل هناك نقاط تمايز تفصل عرقًا عن عرق، وفردًا عن فرد. فإذا تغلّبت نقاط الالتقاء، الّتي هي الخصائص المشتركة للبشريّة، على نقاط التّمايز المخصوصة، عندئذ نضمن الوحدة. أمّا إذا تغلّبت نقاط الاختلاف على نقاط الاتّفاق فعندئذ ينتج الشّقاق والضّعف. وأحد أهمّ الأمور المؤثّرة في وحدة الجنس البشريّ وتضامنه هي الألفة والمساواة بين الجنسين الأبيض والأسود. فهناك نقاط التقاء بين هذين الجنسين كما هناك نقاط تمايز تستحقّ اعتبارًا عادلاً ومتبادلاً من الطّرفين. فنقاط الالتقاء عديدة، لأنّ كلا الجنسين، فيما يختصّ بمجال الوجود المادّيّ أو الجسمانيّ، متماثلان في التّركيب ويعيشان بمقتضى قانون نموّ وتطوّر جسمانيّ واحد. كما أنّ كليهما يعيشان ويتحرّكان في مجال الحواس، وكليهما حائزان على الذّكاء الإنسانيّ، وهناك العديد من الصّفات المشتركة. ففي هذه الدّيار، أي الولايات المتّحدة الأمريكيّة، تُعتبر الوطنيّة عاملاً مشتركًا بين الجنسين إذ لدى الجميع حقوق مواطنة متساوية، ويتكلّمون لغة واحدة، وينعمون بمدنيّة واحدة، ويتّبعون مبادئ ديانة واحدة. فالعديد من نقاط المشاركة والاتّفاق هي في الحقيقة متوفّرة فيما بين الجنسين؛ بينما تبقى نقطة التّمايز الوحيدة هي مسألة اللّون. فهل يليق أن يُسمح لأقلّ نقاط الاختلاف هذه شأنًا أن تفصل ما بينكم كأجناس أو أفراد؟ فأنتم متّحدون ومتساوون في الجسم المادّيّ، وأطوار النّموّ، وموهبة الحواس، والذّكاء، والوطنيّة، واللّغة، والمواطنة، والمدنيّة والدّين. وتبقى نقطة اختلاف وحيدة، هي اللّون العرقيّ. فالله لا يرضى بالتّفرقة بين الأجناس بسبب هذا التّمايز – كما يجب ألاّ يقبل أيّ إنسان عاقل أو لبيب أن يقرّ بذلك.

لكنّ التّغلّب على التّعصّبات البشريّة يحتاج إلى قوّة عليا، قوّة لا يقف دونها شيء في عالم البشر، قوّة تغطّي على تأثير سائر القوى الفاعلة في الشّؤون البشريّة. هذه القوّة القاهرة هي محبّة الله. أملي ودعائي أن تحطّم تلك القوّة العليا هذا التّعصّب المبني على نقطة الاختلاف الوحيدة هذه بينكم، وأن توحّدكم جميعًا في حِماها الجليل دائمًا وأبدًا. لقد نادى حضرة بهاء الله بوحدة العالم الإنسانيّ، وجاء بما يجعل مختلف الأمم وشتّى النّحل تتّحد، وأعلن أنّ اختلاف العرق واللّون مَثَله مَثَل جمال الأزهار المتنوّعة في البستان. فإذا ما دخلتم بستانًا ترون الأزهار الصّفراء والبيضاء والزّرقاء والحمراء في رونق وبهاء – وكلّ منها مشرق بذاته، ويضفي من بهجته على الآخرين على الرّغم من اختلافه عنهم. والاختلاف العرقيّ في مملكة الإنسان مماثل لهذا. فإذا كانت كلّ أزهار البستان من لون واحد، سيكون أثر ذلك رتيبًا ومملاًّ للنّاظرين.

لهذا تفضّل حضرة بهاء الله بأنّ مختلف أعراق البشر تضفي على الكلّ توليفة من تناسق الألوان وجمالها. فليتعاشر الكلّ إذًا في كنف هذه الحديقة الإنسانيّة العظيمة، تمامًا كما تنمو الأزهار وتنسجم جنبًا إلى جنب دونما أيّ تباعد أو اختلاف.

(3) 30 أبريل/ نيسان 1912

الخطبة المباركة في المؤتمر السّنويّ الرّابع للرّابطة القوميّة
للنّهوض بالملوّنين بقاعة هاندل، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

طبقًا لما جاء في أسفار العهد القديم (التّوراة)، قال الله تعالى: لنعملنّ إنسانًا على صورتنا ومثالنا، ويدلّ هذا على أنّ الإنسان على صورة الله ومثاله – بمعنى أنّ الكمالات الإلهيّة والفضائل الرّبّانيّة منعكسة أو متجلّية في الحقيقة الإنسانيّة. فكما أنّ نور الشّمس وإشراقها، حينما يسطع على مرآة مصقولة، يتجلّى بتمامه وبهائه، كذلك تنعكس صفات الألوهيّة ونعوتها من أعماق القلب البشريّ الصّافي. وهذا برهان على أنّ الإنسان أشرف مخلوقات الله.

كلّ مملكة من ممالك الخليقة حائزة على نصيبها الضّروريّ من الصّفات والقوى. فالجماد يمتلك المناقب الذّاتيّة لمملكته في رُتَب الوجود. والنّبات حائز على صفات الجماد مضافًا إليها قوّة النّمو. والحيوان مختصّ بصفات كلّ من رتبتي الجماد والنّبات مضافًا إليها القوّة الحاسّة. أمّا مملكة الإنسان فهي مفعمة بكمالات كلّ الممالك الّتي تدنوها بالإضافة إلى القوى الّتي يختصّ بها الإنسان دون ما عداه من الكائنات. فالإنسان إذًا أسمى من كلّ ما يدنوه من مخلوقات، وهو أنبل وأشرف كائنات الخليقة. والإنسان هو العالَم الأصغر؛ وهو الكون اللاّمتناهي – أي العالَم الأكبر. إنّ أسرار العالم الأكبر أو الكون تكون ظاهرة ولها تعبير في العالم الأدنى – أي العالم الأصغر. وقد نقول إنّ الشّجرة هي العالم الأكبر، وأنّ البذرة من حيث علاقتها بالشّجرة هي العالم الأصغر، بيد أنّ الشّجرة بتمامها كامنة ومختبئة من حيث الاستعداد في تلك البذرة الضّئيلة. وعندما تُـبذر البذرة وتُزرع تظهر الشّجرة. وبالمثل فإنّ العالم الأكبر أو الكون كامن وموجود بشكل مصغـّر في عالم الإنسان الأدنى أو عالمه الأصغر. وهذا دليل على شمول وكمال الفضائل الكامنة في النّوع الإنسانيّ، ولهذا يقال إنّ الإنسان قد خُلق على صورة الله ومثاله.

لنتبيّن الآن بتحديد أدقّ كيف يكون الإنسان على صورة الله ومثاله، وما هو الميزان أو المعيار الّذي نقيس به ذلك ونحدّده. إنّ ميزاننا هذا ليس سوى مقدار تجلّي الفضائل الإلهيّة من كلّ إنسان. فكلّ من يتحلّى بالصّفات الرّبّانيّة، ويظهر بالأخلاق والكمالات الملكوتيّة، ويكون عنوانًا للخصال المثاليّة الحميدة، فهو فعلاً على صورة الله ومثاله. أمّا إذا كان إنسان ما حائزًا على الثّروة، فهل نستطيع أن نطلق عليه أنّه على صورة الله ومثاله؟ أو هل تكون شهرة الإنسان وسمعته معيارًا لقربه من الله؟ أو هل يمكننا أن نستخدم اللّون العنصريّ ميزانًا، ونقول إنّ الشّخص المنتمي إلى لون معيّن – أبيضَ كان، أم أسودَ، أسمرًا، أو أصفرَ، أو أحمرَ – هو الصّورة الصّادقة لما عليه خالقه؟ علينا أن نستنتج أن اللّون ليس معيار حكمنا وميزانه، وأنّه لا أهمّيّة له، لأنّ اللّون أمر عارض في الطّبيعة، أمّا روح الإنسان وفطنته فهما جوهريّتان، أي تجلّي الفضائل الرّبّانيّة، وسنوحات الله الرّحمانيّة، والحياة الأبديّة، والتّعمّد بالرّوح القدس. فليكن معلومًا إذًا أنّ اللّون والعرق ليسا بذات أهمّيّة. فكلّ من هو على صورة الله ومثاله، وكلّ من كان مظهرًا للفيوضات الإلهيّة مقبول لدى العتبة الإلهيّة، سواء كان لونه أبيضَ أو أسودَ، أو أسمرَ إذ لا أهمّيّة لذلك. فالإنسان لا يكون إنسانًا بسبب صفاته الجسمانيّة، وإنّما معيار الحكم والتّقييم الإلهيّ هو فطنته وروحه.

ليكن هذا إذًا هو المعيار والتّقييم الوحيد، لأنّ هذه هي صورة الله ومثاله. فقد يكون قلب الإنسان طاهرًا ناصعًا مع أنّ لون بشرته أسود. أو يكون قلبه مغبرًّا آثمًا مع أنّ لونه العرقيّ أبيض. فحالة القلب وطهارته هي في غاية الأهمّيّة، والقلب المستنير بنور الله هو الأقرب إلى الله والأعزّ لديه، وبما أنّ الله قد اختصّ الإنسان بنعمة تشبيهه بصورة الله، فيكون هذا بحقّ أسمى وأكمل درجات المنال، ويكون منزلةً ربانيّة لا يفقدها الإنسان لمجرّد أن يصادف عرقه من هذا اللّون أو ذاك.

(4) 1 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بمناسبة تدشين أرض مشرق الأذكار،
ويلميت، بولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ القوّة الّتي جمعتكم اليوم هنا، رغم البرد والجوّ العاصف، هي حقًّا عظيمة ورائعة. إنّها القوّة الإلهيّة، الفضل الرّبّانيّ الّذي أتى به حضرة بهاء الله هو الّذي جذبكم معًا. فنحمد الله على أنّه بفضل محبّته الآسرة للقلوب اجتمعت النّفوس وتآلفت بهذه الطّريقة.

سوف تُبنى آلاف مشارق الأذكار لكافّة المؤمنين بالأديان في الشّرق والغرب، ولكنّ هذا، كونه أوّل ما بني منها في الغرب، له أهمّيّة عظيمة. وفي المستقبل سيُبنى العديد منها هنا وفي أماكان أخرى – في آسيا وأوروبّا، وحتّى في إفريقيا، ونيوزيلاندا وأستراليا – لكنّ هذا الصّرح الّذي سيشيّد في شيكاغو له مكانته الخاصّة وله من الأهمّيّة ما لمشرق الأذكار في عشق آباد، في القوقاز الرّوسيّة، وهو أوّل ما شيّد هناك. أمّا في إيران فهناك العديد، بعضها منازل استخدمت لهذا الغرض، وبعضها دور موقوفة بالكامل للأمر المبارك، وبنيت في بعض الأماكن أبنية مؤقّتة. فهناك مشارق أذكار في كافّة مدن إيران، ولكنّ الأعظم هو الّذي بني في عشق آباد. فهو حائز على أهمّيّة فائقة لأنّه كان أوّل مشرق أذكار يشيّد. وقد اتّفق كافّة الأحبّاء البهائيّين على بنائه وساهموا فيه بأقصى ما لديهم من عون وجهد. وأوقف الأفنان ماله، وبذل كلّ ما لديه من أجل تشييده. بهذا الجهد المتضافر العظيم ارتفع صرح جميل. وبالرّغم من تبرّعات أحبّاء إيران لذلك البناء، فإنّهم قد دعموا الصّندوق هنا في شيكاغو أيضًا. لقد اكتمل بناء مشرق أذكار عشق آباد تقريبًا، وهو يقع في مكان مركزيّ تقود إليه تسعة مداخل وتسع حدائق، وتسع نافورات مائيّة – فكلّ هندسته وبنائه مطابق لمبدأ الرّقم تسعة وتقسيماته. وهو كباقة من الزّهور جميلة. فتخيّلوا صرحًا رفيعًا مهيبًا تلتفّ حوله حدائق ذات أزهار متنوّعة، تقطعها تسعة ممرّات، وتتوسّطها تسع نافورات وأحواض ماء. هذا هو حال تصميمه الفريد الجميل. وهم الآن يبنون مستشفى، ومدرسة للأيتام، ودارًا للعجزة، ودارًا للضّيافة، ومستوصفًا كبيرًا. وسيكون روضة من الرّياض عندما يكتمل تمامًا بإذن الله.

آمل أن يكون مشرق أذكار شيكاغو مماثلاً لذلك. فاجهدوا أن تكون الأرض مستديرة الشّكل. وإن كان بالإمكان، عدّلوا من موضع قطع الأراضي وقايضوها لكي تجعلوا الأبعاد والحدود دائريّة. فلا يصح أن يكون مشرق الأذكار على هيئة مثلث، بل يجب أن يكون على شكل دائرة.

(5) 2 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بفندق بلازا، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ المشورة في غاية الأهمّيّة في هذا الأمر المبارك، ولكنّ المقصود منها هو المداولة الرّوحانيّة، وليس مجرد التّعبير عن الآراء الشّخصيّة. كنتُ في فرنسا حاضرًا إحدى جلسات مجلس الشّيوخ، ولكنّ هذه المناسبة لم تترك عندي أثرًا طيّبًا. فقد كان الواجب على النّظام البرلمانيّ أن يجعل نصب عينيه الوصول إلى نور الحقيقة في المسائل المطروحة، وليس تهيئة ساحة قتال للمعارضة والتّشبّث بالرّأي. فالعداء والمعارضة هما من الأمور المؤسفة، ودائمًا ما يفسدان الحقيقة. لقد غلب على تلك الجلسة البرلمانيّة الشّجار والاعتراض الّذي لا يُجدي، وكانت النّتيجة في معظمها فوضى وبلبلة، بل بلغ الحال في نقطة معيّنة أن حدث عراك بين اثنين من الأعضاء. فلم تكن تلك مشورة بل مهزلة.

لقد سُقت هذا المثال للتّأكيد على أنّ المشورة يجب أن يكون الهدف منها تحرّي الحقيقة. ومن يودُّ التّعبير عن رأي ما عليه أن لا يعرضه وكأنّه رأيٌ سديدٌ صائبٌ، بل عليه أن يطرحه مساهمة منه في الوصول إلى إجماع على رأي، ذلك لأنّ نور الحقيقة يظهر عند تصادم الآراء، كما يظهر الشّرر من احتكاك الصّلب بالصّوّان. على المرء أن يزن آراءه بكلّ هدوء وسكون واتّزان، وقبل أن يعبِّر عن وجهة نظره، عليه أوّلاً أن يتدبّر الآراء الّتي قدّمها الآخرون. فإذا وجد أنّ رأيًا سبق إبداؤه كان أكثر صوابًا واعتبارًا، عليه أن يقبله على الفور بدل التّمسّك عمدًا برأيه. بهذه الطّريقة الممتازة فإنّه يسعى للوصول إلى الاتّحاد والحقيقة. إنّ الاعتراض والانقسام أمران مؤسفان، ويكون من الأفضل في هذه الحالة الاستعانة برأي شخص حكيم راجح، وإلاّ فإن الشّجار واللّغط النّاجميْن عن طرح آراء متباينة ومتنافرة سيخلقان وضعًا يلزم معه وجود هيئة قضائيّة تفصل في المسألة. وقد يحدث أن يكون رأي الأغلبيّة أو إجماعهم غير صائب – فقد يُجمع ألف نفس على رأي وهو خاطئ، بينما قد يكون شخص واحد راجح العقل على صواب. فالمشورة الحقّة هي إذًا مداولة روحانيّة في جوٍّ من المحبّة. يجب أن يحبّ الأعضاء بعضهم بعضًا بروح الألفة حتّى تظهر نتائج طيّبة، فالمحبّة والألفة هما الأساس.

إنّ أبرز مثال على المشورة الرّوحانيّة في التّاريخ هو لقاء حواريّي يسوع المسيح على الجبل بعد صعوده. فقد دار بينهم حديث قالوا فيه: ‘لقد صلب يسوع المسيح ولم يعد لنا لقاء أو تواصل معه بجسده العنصريّ، فعلينا إذًا أن نكون مخلصين وأوفياء له، وأن نحمل له الجميل والعرفان على إحيائه إيّانا بعد موتنا، ومنحنا الحكمة والحياة الأبديّة، فماذا نحن فاعلون لنكون مخلصين له؟’ لهذا الهدف عقدوا مجلسهم. قال أحدهم ‘لا بدّ أن ننقطع عن قيود العالم وأغلاله، وإلاّ فلن نكون مخلصين.’ وردّ الآخرون: ‘فليكن هذا.’ وقال آخر ‘إمّا أن نتزوّج ونخلص لزوجاتنا وأطفالنا، أو أن نخدم الرّبّ ونحن متحرّرون من هذه القيود. فلا يمكننا أن ننشغل برعاية عائلاتنا والإنفاق عليها ثمّ نبشّر في الوقت نفسه في البرّيّة بقدوم الملكوت. ولهذا فعلى غير المتزوّجين منّا أن يبقوا بغير زواج، وعلى المتزوّجين تزويد أسرهم بوسائل العيش والرّاحة ثمّ ينطلقون بعد ذلك لنشر رسالة البشارة.’ لم تكن هناك أصوات معارضة، بل وافق الكلّ قائلين: ‘هذا هو عين الصّواب’. وقال حواريٌّ ثالث: ‘لكي نقوم بأعمال لائقة في الملكوت علينا أن نزداد في التّضحية بذواتنا. فمنذ الآن علينا بترك الرّخاء وراحة الجسد، وقبول كلّ صعوبة، فننسى أنفسنا ونبلّغ أمر الله’. فوجد ذلك قبولاً واستحسانًا لدى الآخرين جميعًا. وأخيرًا قال حواريٌّ رابع: ‘ما زال هناك أمر آخر يتعلّق بإيماننا واتّحادنا. فلأجل يسوع سوف نُـضرب ونُـسجن ونُـنفى، وقد يقتلوننا. فعلينا الآن أن نرحّب بهذه التّجربة وعلينا أن ندرك ونعقد العزم على أنّه لو ضُربنا ونُـفينا ولُـعنّا وبصقوا علينا واقتادونا إلى الإعدام، نقبل كلّ هذا بكلّ سرور، مظهرين المحبّة لمن أبغضونا وآذونا.’ فردّ باقي الحواريّين عليه: ‘سنفعل ذلك بالتّأكيد – نحن موافقون وهذا هو عين الصّواب.’ وبعدها هبطوا من قمّة الجبل، وانطلق كلّ واحد منهم إلى وجهة مختلفة عازمًا على القيام بمهمّته الإلهيّة.

لقد كانت تلك مشورة حقيقيّة، وكانت أيضًا مشورة روحانيّة، ولم تكن مجرّد التّصريح بالآراء الشّخصيّة في مجابهة أو مناظرة برلمانيّة.

(6) 2 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في وفد اتّحاد نوادي المرأة
بفندق لاسال، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

إنّ إحدى وظائف الشّمس إحياء الحقائق الكامنة في ممالك الوجود وإظهارها. فبضياء وحرارة هذا النّيّر المركزيّ العظيم، يستيقظ كلّ ما هو كامن في الثّرى ويـَخرج إلى حيـّز الشّهود. والثّمر الكامن في الشّجر يطلع على الأغصان استجابة لقوّة الشّمس، ويحيا ويتحرّك الإنسان وسائر الكائنات الأخرى ويأخذ الكلّ نصيبهم من الحياة تحت أشعّتها الباعثة على النّـماء، وتذخر الطّبيعة بما لا حصر له من أشكال النّماء بواسطة فيض هذه الشّمس المتغلغل في كافّة الكائنات – وبهذا يمكننا أن نقول إنّ إحدى وظائف الشّمس هي إظهار الأسرار والغايات الإيجاديّة المكنونة في عالم الإمكان.

الشّمس الظّاهرة هي دلالة أو رمز على الشّمس المثاليّة الغيبيّة – أي شمس الحقيقة الرّبّانيّة وكلمة الله. وبما أنّ هذا القرن هو قرن الأنوار، فيكون هذا برهانًا على أنّ شمس الحقيقة، أي الكلمة الإلهيّة، قد أظهرت نفسها لكافّة البشر. وقدرة النّساء أو مقدرتهنّ كانت من بين الإمكانات الكامنة في عالم الإنسان. وأصبحت قدرة المرأة، بفضل الأشعّة السّاطعة للنّور الإلهيّ، متيقّظة وظاهرة في هذا العصر بدرجة أنّ مساواة الرّجل والمرأة صارت حقيقة واقعة. ففي الأزمان الغابرة عانت المرأة من الظّلم والكبت. وكان هذا هو الحال في آسيا وإفريقيا
على وجه الخصوص. ففي بعض أنحاء آسيا لم تكن النّساء معدودات من البشر، وكان ينظر إليهنّ كمخلوقات دانية عديمة الشّأن، خاضعات ومذعنات للرّجال. وهناك طائفة تدعى النّصيريّة طالما اعتقدت أنّ النّساء كنّ تجسيدًا لروح الشّر أو الشّيطان، بينما الرّجال فقط هم تجلّي الرّحمن. وأخيرًا أشرق قرن الأنوار هذا، وأضاءت الحقائق، وكُشفت الأسرار الّتي طال غيابها عن أعين البشر. ومن بين هذه الحقائق الّتي كُشفت، ذلك المبدأ العظيم المنادي بمساواة الرّجل والمرأة، وهو الّذي يلقى الآن قبولاً في جميع أنحاء العالم – في أمريكا وأوروبّا وفي الشّرق أيضًا.

يسجّـل التّاريخ ظهور نساء في العالم كانت كلّ واحدة منهنّ آية في الهدى والرّشاد، ونبراسًا في القدرة والإنجاز. بعضهنّ كنّ شاعرات شهيرات، والبعض الآخر فلاسفة وعلماء، وأخريات كنّ مثالاً للشّجاعة في ساحات القتال. وكانت من بينهنّ من تسمّى قرّة العين، وهي امرأة بهائيّة شاعرة أفحمت علماء إيران من الرّجال بذكائها وحماسها. وعندما كانت تدخل مجلسًا من المجالس، كان الجميع يلتزمون الصّمت بمن في ذلك العلماء منهم. وكانت قرّة العين متبحّرة في الفلسفة والعلوم بدرجة أنّ من يجلسون في محضرها كانوا دائمًا يعتبرونها في المقدِّمة ويسألون رأيها أوّلاً. كانت شجاعتها بلا نظير، وواجهت أعداءها بكلّ شجاعة إلى أن قتلوها. وقفت في وجه ملك مستبدٍّ، هو شاه إيران الّذي يملك سلطة الحكم بإعدام أيٍّ من رعاياه، ولم يكن يمرّ عليه يوم واحد لا يحكم فيه بإعدام أحد. لقد صمدت هذه المرأة بمفردها ولوحدها أمام ذلك الطّاغية حتّى الرّمق الأخير، وفي النّهاية ضحّت بحياتها في سبيل إيمانها.

تدبّروا الآن في الأسرار الّتي كُشف النّقاب عنها خلال الخمسين سنة الماضية؛ فجميعها راجع إلى إشراق شمس الحقيقة هذه الّتي تجلّت في هذا العصر وهذا الدّور بكلّ رونق وسناء. على الإنسان في يومنا هذا أن يتحرّى الحقيقة بكلّ نزاهة دون أيّ تعصّب حتّى يبلغ المعرفة الحقّة والاستنتاج السّليم. فما السّبب إذًا في عدم المساواة بين الرّجل والمرأة؟ فكلاهما بشر، وكلّ منهما مكمّل للآخر في القوى والوظائف. وأقصى ما هنالك هو حقيقة أنّ المرأة قد حُرمت من الفرص الّتي طالما تنعّـم بها الرّجل، خاصّة نعمة التّربية والتّعليم. ولكنّ هذا أيضًا لا يكون دائمًا عيبًا وقصورًا. فهل نعتبره قصورًا وضعفًا في فطرة المرأة مثلاً أنّها ليست ضليعة في علم الخطط العسكريّة، أو أنّها لا تستطيع أن تنطلق إلى ميدان القتال وتحارب وتقتل، أو أنّها ليست قادرة على استعمال سلاح قاتل؟ لا، بل ألا يكون ذلك مديحًا بالمرأة إذا قلنا إنّها أقلّ من الرّجل في قساوة القلب والفظاظة؟ فالمرأة الّتي يطلب منها أن تحمل السّلاح وتقتل أخوانها في الخليقة ستقول: ‘لا أستطيع ذلك’ – هل يمكننا أن نعتبر ذلك عيبًا أو نقصًا في استحقاقها لأن تكون ندًّا للرّجل؟ بيد أنّ الحقيقة الّتي يجب أن نعلمها هي أنّ المرأة إذا ما تعلّمت وتدرّبت على فنون النّزال والقتال ستصير حتمًا ندًّا للرّجل حتّى في هذا الفعل. ولكن لا سمح الله بذلك! وأدعو الله ألاّ تنال المرأة مثل تلك الكفاءة، وألاّ تمسك أبدًا بأسلحة القتال، لأنّ إهلاك البشريّة ليس عملاً مجيدًا. أمّا أمور أخرى مثل تكوين أسرة، وتوفير الهناء والرّاحة لقلوب العباد فهي حقًّا من أمجاد البشريّة. وليس الفخر لرجل يستطيع قتل بني جنسه، بل الفخر لمن يقدر أن يحبّهم.

عندما نفكّر في ممالك الوجود الأدنى من مملكة الإنسان، لا نجد أيّ تمييز أو اعتبار بين الذّكر والأنثى سواء بأفضليّة أو بنقصان. فالذّكورة والأنوثة موجودتان بين ما لا حصر له من كائنات كلّ من مملكتي النّبات والحيوان، ولكن ليس هناك أيّ تمييز من أيّ نوع كان فيما يختصّ بأهمّيّة أحد الجنسين أو دوره في معادلة الحياة. وإذا ما بحثنا بغير تحيّز، لوجدنا أنواعًا تكون فيها الأنثى أجدر من الذّكر أو أفضل منه. فمثلاً هناك أشجار كشجر التّين يكون فيها الذّكر بغير ثمر بينما تكون الشّجرة الأنثى مثمرة. وذكر النّخيل ليس ذا قيمة بينما النّخلة الأنثى تُثمر بوفرة. وبما أنّنا لا نجد هناك أيّ علّة للتّمييز أو التّفوّق بمقتضى حكمة الخليقة في الممالك الأدنى، فهل يليق أو يجمل بالإنسان أن يبتدع هذا التّمييز فيما يختصّ بنوعه؟ فالذّكر في مملكة الحيوان لا يتفاخر بأنّه ذكر يتفوّق على الأنثى، بل إنّ المساواة موجودة ومسلّم بها. فلماذا ينكر الإنسان، الّذي هو مخلوق أسمى وأشدّ ذكاء، على نفسه ويحرمها من هذه المساواة الّتي ينعم بها الحيوان؟ وأكبر دليل ومرشد له فيما يتعلّق بالغرض من وجوده وخلقته هو التّأمل في أحوال وأمثلة الممالك الّتي تدنوه، وهي ممالك تكون فيها المساواة بين الجنسين مسألة جوهريّة.

فالحقيقة إنّ كافّة الجنس البشريّ هم خلق وعباد لإله واحد، وكلّهم بنظره بشر. وكلمة إنسان كلمة جامعة تنطبق على كافّة البشر. والقول المذكور في الكتاب المقدّس لنعملنّ إنسانًا على صورتنا ومثالنا لا يعني أنّ المرأة لم تخلق كذلك. فصورة الله ومثاله تنطبق عليها أيضًا. وهناك في اللّغتين العربيّة والفارسيّة كلمتان متميّزتان عن بعضهما تترجم كلتاهما إلى الإنجليزيّة بلفظ واحد هو  man. والكلمة الأولى، أي كلمة إنسان، تعني الرّجل والمرأة معًا، والكلمة الثّانية، وهي كلمة رجل، يقصد بها التّمييز بين الرّجل كذكر والمرأة كأنثى. والكلمة الأولى وضميرها جامعة ومجرّدة عن التّذكير والتّأنيث، أمّا الكلمة الثّانية فهي تطلق على الذّكر دون الأنثى. ونفس هذه القاعدة موجودة أيضًا في اللّغة العبريّة.

إنّ التّسليم بتمييز لم يقصده الباري عزّ وجلّ في خليقته والتّقيّد به ما هو إلاّ ضرب من الجهل والوهم. فالحقيقة الّتي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار هي أنّ المرأة، الّتي عانت في الماضي من صنوف الحرمان، يجب أن تتاح لها الآن فرص مساوية لما يتمتّع به الرّجل في مجال التّربية والتّعليم، وألاّ يكون هناك أيّ تمييز في تربيتهما. وما لم تتأسّس حقيقة المساواة بين الرّجل والمرأة وتتحقّق بتمامها، سيكون مستحيلاً بلوغ البشريّة ذروة رقيّها الاجتماعيّ. حتّى لو سلّمنا بأنّ المرأة تقلّ عن الرّجل في بعض درجات المقدرة أو الإنجاز، فإنّ مثل ذلك التّمييز أو غيره سيظلّ سببًا للخلاف والاضطراب. يبقى العلاج الوحيد هنا هو التّربية وإتاحة الفرص؛ لأنّ المساواة تعني التّساوي في المؤهلات. وبالاختصار فإنّ الادّعاء بتفوّق الرّجل سيظلّ محبِطًا لطموح المرأة، لأنّه كالقول بأنّ نيلها المساواة أمر مستحيل خِلْقِيًا؛ وهو ما سيعوق تطلّعها إلى الرّقيّ، ويبعث اليأس والإحباط في نفسها شيئًا فشيئًا. وعلى النّقيض من ذلك، إذا ما نحن أعلنّا أنّ مقدرتها مساوية لما عند الرّجل بل وأفضل منه، فإنّه سيمنحها أملاً وطموحًا، وتتزايد قابليّاتها للرّقيّ دومًا. فلا يصحّ أن يقال لها أو أن تُلَقَّن بأنّها أضعف وأقلّ من الرّجل قدرة وكفاءة. فلو قلنا مثلاً لأحد التّلاميذ بأنّ ذكاءه أقلّ ممّا لدى أقرانه، سيمثّل ذلك القول إعاقة وعقبة شديدة لتقدّمه. بل يجب أن ينال التّشجيع والدّافع بأن نقول له: ‘لديك استعداد عظيم، وإذا ما اجتهدتَ ستنال أعلى الدّرجات.’

أملي أن يرتفع لواء المساواة في جميع أرجاء القارّات الخمس حيث لم يتمّ الاعتراف بها وتحقيقها كاملةً حتّى الآن. لقد تقدّمت المرأة في عالم الغرب المستنير هذا بخطى أوسع بكثير من نساء الشّرق. وليكن معلومًا أيضًا أنّه ما لم يعترف كلّ من الرّجل والمرأة بالمساواة ويحقّقانها معًا فإنّ التّقدّم الاجتماعيّ والسّياسيّ سيكون مستحيلاً سواء هنا أو في أيّ مكان آخر. ذلك لأنّ عالم البشر يتكوّن من جزأيْن أو عضويْن، أحدهما المرأة والآخر هو الرّجل. وما لم يتساوَ هذان العضوان في المقدرة فلا يمكن تأسيس وحدة العالم الإنسانيّ، ولن تتحقّق سعادة الجنس البشريّ وهناؤه. ولسوف تتحقّق هذه المساواة بإذن الله.

(7) 2 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في حفل الاستقبال الّذي نظّمته السّيّدات
البهائيّات بفندق لاسال، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنه جوزيف هانين

عندما ننظر إلى ممالك الوجود الّتي تدنو مملكة الإنسان، نجد ثلاثة أشكال أو مراتب من الوجود تنتظر التّربية والتّرقّي. فوظيفة البستانيّ مثلاً أن يحرث التّربة الّتي هي من مملكة الجماد ويغرس فيها شجرة تبلغ برعايته وتربيته كمال النّماء. فإذا ما كانت شجرة برّيّة غير مثمرة، يمكن جعلها مثمرة بالتّطعيم، وإذا كانت صغيرة لا تسرّ النّاظـرَيـْن، تصير دوحة باسقة جميلة خضلة نضرة بيمن تربية ذلك البستانيّ، بينما نجد أنّ الشّجرة المحرومة من رعايته تتخلّف يومًا بعد يوم، وتعطي حنظلاً مُرًّا كأشجار الغاب، أو قد تجدب تلك الشّجرة تمامًا وتحرم من الإثمار. وعلى نفس المنوال نجد أنّ الحيوانات الّتي نالت التّربية في مجالها المحدود تتقدّم وتتحسّن بغير شكّ، وتصير أكثر جمالاً في هيئتها وتزداد ذكاء. فمثلاً، كم صار الجواد العربيّ عليه من الذّكاء والإدراك بفضل التّدريب، بل كم صار هادئ الطّبع ومهذّبًا بالتّربية. أمّا فيما يختصّ بعالم الإنسان: فهو محتاج للهداية والتّربية بدرجة أكبر من المخلوقات الّتي تدنوه في الرّتبة. تأمّلوا الفرق الشّاسع بين سكّان إفريقيا وسكّان أمريكا. فالنّاس هنا أصابت قدرًا من المدنيّة والرّقيّ، بينما هناك لا يزالون في حالة من الوحشيّة شديدة. فما السّبب في وحشيّتهم وما هي علّة تمدّنكم؟ من الواضح أنّ هذا الفرق راجع إلى وجود التّربية أو عدمها. فتأمّلوا إذًا في تأثير التّربية في مملكة الإنسان. إنّها تجعل الجاهل حكيمًا، والطّاغية رحيمًا، والأعمى بصيرًا، والأصمّ مصغيًا، بل تجعل البليد ذكيـًّا. فما أعظم هذا الفرق، وما أوسع تلك الهُوّة الّتي تفصل بين الإنسان المتعلّم والّذي حرم من التّربية والتّعليم. هذا هو التّأثير عندما يكون المعلّم مجرّد معلّم عاديّ.

لكن – والحمد لله – إنّ معلّمكم ومدرّسكم هو حضرة بهاء الله. وهو مربّي الشّرق والغرب، وهو المعلّم المرسَل من عالم الألوهيّة والرّوحانيّة، وهو شمس الحقيقة، وكلمة الله. ونور تربيته ساطع سطوع الشّمس. انظروا ما صنعه، وكيف كان سببًا في رقيّ الإنسانيّة بأسرها، بدرجة أنّني وأنا الإيرانيّ، جئت إلى هذا اللّقاء الّذي اجتمعتْ فيه نفوس مبجّلة بالقارّة الأمريكيّة، وأقف بينكم هنا أحدّثكم بالمحبّة البالغة. فهذا قد تمّ بيمن تربية بهاء الله الّتي بإمكانها أن توحّد هذه القلوب – بل هي قد وحّدتها بالفعل، وأنارت العالم بتلك الكيفيّة. بل إنّها نفخت في البشر روحًا ربّانيّة وأحيت قلوب العباد أيضًا.

فالحمد لله إذًا على أنّكم جُمِعتم معًا في ظلّ تربية مَنْ هو شمس الحقيقة، ومَن هو ساطع بالأنوار الباهرة على كلّ البشر، ومانح الجميع حياة أبديّة.

الحمد لله ألفَ مرّة!

(8) 2 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بفندق بلازا، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته مرضيّة موسّ

وجدنا المدينة صباح اليوم يُغلِّفها الضّباب والرّذاذ. ولكن ما أجمل المدينة حينما تتألّق بنور الشّمس. وتمامًا كما يُخفي هذا الضّباب والغمام الشّمس الظّاهريّة، فإنّ أوهام البشر من شأنها أن تحجب شمس الحقيقة أيضًا. تأمّلوا الإشراق الباهر لهذا النّجم الشّمسيّ العظيم، مركز منظومتنا الكوكبيّة: كم هو بديع مشهده، وكم ينير سناؤه الأبصارَ إلى أن يحجبه السّحاب والضّباب عن العيون. كذلك تصبح شمس الحقيقة مستورة ومحجوبة بفعل الخرافات والأوهام الّتي تنسجها عقول البشر. وعندما تشرق الشّمس، بصرف النّظر عن أيّ مطلَع من الأفق تظهر – أكان من الشّمال الشّرقيّ أم من الشّرق أم من الجنوب الشّرقيّ – فإنّها تبدّد الغيوم وتقشع الضّباب، فنحظى برؤية صافية لبهائها وهي تعلو نحو كبد السّماء. كذلك قُدِّر للأمم أن تتوجّه إلى مشارق شمس الحقيقة، ودُعيت كلّ أمّة إلى مشرق محدّد لاحت منه أنوار الدّيانة، ولكن بمرور الزّمان غدا محلُّ الإشراق نفسه محطـًّا للعبادة والتّوجـّه بدلاً من شمس الحقيقة ذاتها، وهي الشّمس الّتي كانت دائمًا وأبدًا شمسًا واحدة مستقرّة في أفلاك المشيئة الرّبّانيّة. بسبب هذا برزت الاختلافات وجعلت السّحاب والقتام يعود مرّة أخرى ليحجب سناء شمس الحقيقة ونيّرها. وعندما تتبدّد حُلكة ظلام الوهم والتّعصّب، يشاهِدُ الكلُّ هذه الشّمس على حقيقتها من منظار واحد. وعندئذ تصير الأمم أمّة واحدة بفضل إشراقها.

بما أنّ سحب الأوهام البشريّة وأبخرتها هذه تخفي ضوء الشّمس الرّوحانيّة، فعلينا أن نبذل ما وَسِعَنا من جهد في تبديدها. عسى أن نتّحد في هذا ونستنير من أجل القيام به، ذلك لأنّ الشّمس واحدة ويشمل العمومَ نورُها وفضلُها. وكما أنّ سكّان المعمورة قاطبة متلقّون لفضل هذه الشّمس الظّاهريّة الواحدة دون تفضيل أحدهم على الآخر، كذلك الأمر بالمثل، تُـمنح جميع النّفوس المواهب الإلهيّة الفائضة عن كلمة الله دون تفضيل أو تمييز؛ فالكلّ مستظلّ بظلـّها ومستفيض من إشراقها العميم. إلاّ أنّ تناحر البشر وخلافاتهم الدّينيّة تعقّد بساطة الأمر الإلهيّ وتعكّر صفاءه وجماله، وبذلك يؤول الحال لأن يغشى سحاب الأوهام نور الحقيقة وينتج الخلاف والشّقاق. فاستخدِموا إذًا ما أوتيتم من فطنة وعقل لكي تقشعوا هذه السّحب الكثيفة عن أفق أفئدة العباد، ويتمسّك الجميع بالحقيقة الواحدة لجميع الأنبياء. فمن المؤكّد أنّه إذا ما استخدمت النّفوس الإنسانيّة عقلها وذكاءها في المسائل الإلهيّة، فإنّ القوّة الرّبّانيّة ستزيل عنهم حتمًا كلّ مشقـّة وعناء، وتتجلّى الحقائق الأبديّة كشعاع واحد، وحقيقة واحدة، ومحبّة واحدة، وإله واحد، وسلام عامّ وشامل.

(9) 2 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في فندق بلازا، شيكاغو، بولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته هنرييتا واجنر

عندما نتفحّص بكلّ دقّة في ممالك الوجود، ونلاحظ ما يحيط بنا من ظواهر هذا الكون، نكتشف النّظام والكمال المطلق في الخليقة. فالصّخور الصّمّاء بانجذابها وتماسكها، والنّباتات والخضروات بما لها من قوّة نامية، والحيوانات بما لديها من فطرة غريزيّة، والإنسان بعقله الواعي المدرك، والأجرام السّماويّة وهي تسبح منقادة لمداراتها في الفضاء اللاّمتناهي، نجدها جميعها خاضعة لناموس عامّ في غاية الإتقان والكمال. ولهذا قال أحد الحكماء من الفلاسفة ‘ليس في الامكان أبدع ممّا كان’. يدّعي المادّيّون والملحدون أنّ هذا النّظام والتّناسق يرجع إلى الطّبيعة وقواها، وأنّ التّركيب والتّحليل اللّذين يشكّلان قوام الحياة والوجود هما من مقتضيات الطّبيعة؛ وأنّ الإنسان نفسه من مقتضيات الطّبيعة، وأنّ الطّبيعة تسيطر على الخليقة وتتحكّم بها، وأنّ كلّ الممكنات أسيرة للطّبيعة. ولكن دعونا نتدبّر هذه الأقوال. فبما أنّنا نجد أنّ كلّ الكائنات خاضعة لنظام دقيق، وتحت سيطرة ناموس عامّ، فالسّؤال هنا هو: هل يرجع هذا للطّبيعة أم للحكم الرّبّانيّ الغالب؟ فالمادّيّون يعتقدون أنّ من مقتضيات الطّبيعة أن ينزل المطر، وأنّه ما لم ينزل المطر لن تخضرّ الأرض. ويسوقون حجـّةً أنّه إذا ما جلبت الأمطار السّيول، وفاضت الشّمس بالحرارة والضّياء، وكان لدى الأرض قابليّة واستعداد، فإنّ الإنبات حادث لا محالة، فحياة النّبات إذًا هي من إحدى خصائص قوى الطّبيعة هذه وآية من آياتها، تمامًا كما يكون الاحتراق من الخصائص الطّبيعيّة للنّار، فيحدث الاحتراق بفعل النّار، ولا يتصوّر نار بغير احتراق.

للرّدّ على هذه الأقوال نقول إنّه يمكننا أن نستنتج من هذه الافتراضات الّتي يسوقها المادّيّون أنّ الطّبيعة هي الحاكمة والمهيمنة على الوجود، وأنّ كلّ الفضائل والكمالات من مقتضيات الطّبيعة ومحصّلتها. ويقتضي ذلك ألاّ يكون الإنسان سوى جزءٍ أو عضوٍ في ذلك الكلّ الّذي تتكوّن منه الطّبيعة.

غير أنّ الإنسان يملك كمالات معيّنة قد حرمت الطّبيعة منها. فهو يُظهر الإرادة، بينما الطّبيعة فاقدة لهذه الإرادة. فإضفاء النّور مثلاً هو من اللّوازم الذّاتيّة للشّمس، وإضفاء الشّمس للنّور جبريّ وليس اختياريّ، فلا يمكنها أن تفعل أيّ شيء سوى أن تفيض بنورها. كما أنّ من اللّوازم الذّاتيّة للظّاهرة الكهربائيّة هو أن تتجلّى على هيئة شرر وومضات في ظروف معيّنة، ولكنّها لا تنير باختيارها. والرّطوبة أيضًا هي من اللّوازم الذّاتيّة للماء أو خصائصه، ولا يمكن للماء أن ينفكّ عن تلك الخاصّيّة بإرادته. فكافّة الخواص الفطريّة لازمة وجبريّة، وليست اختياريّة. والثّابت فلسفيًّا هنا هو أنّ الطّبيعة محرومة من الإرادة والإدراك الذّاتيّ. ونحن نتّفق في هذا القول والمبدأ مع المادّيّين. ولكنّ المسألة الّتي تعطينا مادّة للتّفكير هي ما يلي: كيف يتسنّى للإنسان الّذي هو جزء من هذا النّظم العامّ، أن يمتلك من الصّفات ما خلت منه الطّبيعة؟ فهل يعقل أن تكون لقطرة الماء صفات يكون البحر محرومًا منها تمامًا؟ فالقطرة هي الجزء والبحر هو الكلّ. وهل نجد ظاهرة من احتراق أو إشراق ممّا لا يبديها النّيّر الأعظم – أي هذه الشّمس؟ وهل يجوز لحجر أن يكون حائزًا لخواص ذاتيّة تكون مملكة الجماد بأسرها محرومة منها؟ فعلى سبيل المثال، هل يمكن للأظافر – الّتي هي جزء من جسم الإنسان – أن تحظى بخواص خلويّة يكون الدّماغ محرومًا منها؟

الإنسان ذكيّ – ذكيّ غرائزيًّا وذكيّ إدراكيًّا؛ أمّا الطّبيعة فليست كذلك. والإنسان تعضّده ذاكرته، أمّا الطّبيعة فمحرومة من الذّاكرة. والإنسان هو الكاشف لأسرار الطّبيعة، ولكنّ الطّبيعة لا تدرك تلك الأسرار. إذًا بات واضحًا أنّ الإنسان مزدوج في هيئته: فبوصفه حيوانًا هو خاضع للطّبيعة، أمّا من حيث هو مخلوق روحانيّ أو واع، فهو يتفوّق على عالم الوجود المادّيّ. ولأنّ قواه الرّوحيّة أسمى وأرفع، فهو يحوز من المناقب ممّا لا يوجد في جوهر الطّبيعة، ولهذا فإنّ مناقبه تتغلّب على أحوال الطّبيعة. وهذه الكمالات أو القوى المثاليّة عند الإنسان تتفوّق على الطّبيعة أو تحيط بها، وتدرك القوانين والظّواهر الطّبيعيّة، وتغوص في أسرار المجهول والغيب لتخرجها إلى حيّز المعلوم والمشهود. وكلّ الفنون والعلوم الموجودة الآن كانت يومًا من أسرار الطّبيعة المكنونة. وبفضل تسيّده وتحكّمه في الطّبيعة أخرجها الإنسان من حيّز الغيب إلى عَرَصَة الشّهود، والحال إنّه وفقًا لمقتضيات الطّبيعة، كان يجب أن تبقى هذه الأسرار كامنة ومكنونة. فالكهرباء، طبقًا لمقتضيات الطّبيعة، كان من الواجب أن تظلّ قوّة مخفيّة غامضة، ولكنّ فكر الإنسان الثّاقب اكتشفها، وخرج بها من كنف الأسرار، وجعلها خادمة الإنسان المطيعة. ومع هذا فالإنسان بجسده العنصريّ، وبوظائف ذلك الجسد، هو أسير للطّبيعة. فلا يمكنه مثلاً أن يمضي في حياته دون الخلود إلى النّوم، فالنّوم من مقتضيات الطّبيعة. وهو مجبر على تناول الطّعام والشّراب، وهو ما تمليه عليه الطّبيعة وتستلزمه. بيد أنّ الإنسان بكينونته الرّوحانيّة وذكائه يتسيّد الطّبيعة ويتحكّم بها، وهي الحاكمة على كيانه الجسمانيّ. وعلى الرّغم من هذه الحقائق نجد هناك من يسوق آراء ووجهات نظرٍ مُعارضةٍ مادّيّة في توجُّهها، تحطُّ من مقام الإنسان تمامًا إلى درجة الخضوع التّامّ لنواميس الطّبيعة. وهذا مماثل للقول بأنّ الدّرجة النّسبيّة تفوق الدّرجة القصوى، أو أنّ النّاقص يشتمل على الكامل، أو أنّ التّلميذ يتفوّق على معلّمه – وهي جميعًا غير منطقيّة ومستحيلة. وعندما يكون جليًّا لائحًا بكلّ وضوح أنّ ذكاء الإنسان ومَلَكته البنّاءة وقدرته على التّفرّس والاكتشاف تفوق ما عند الطّبيعة، فكيف يتسنّى لنا القول بأنّه مملوك للطّبيعة وأسير لها؟ فهذا قول يعني ضمنًا أنّ الإنسان محروم من المواهب الإلهيّة، أو أنّه يتدنـّى إلى مرتبة الحيوان، أو أنّ ذكاءه الفذّ الفائق عاطل ومتوقّف، أو أنّه يرى نفسه حيوانًا دون أن يميّزه شيء عن مملكة الحيوان.

حدث ذات مرّة أنّي كنت أناقش فيلسوفًا شهيرًا من فلاسفة المدرسة المادّيّة بمدينة الإسكندريّة. كان مصرًّا تمامًا على الرّأي بأنّ الإنسان وسائر ممالك الوجود هي كلّها تحت حكم الطّبيعة، وأنّ الإنسان مجرّد حيوان اجتماعيّ ليس إلاّ، بل وحتّى حيوان في معظمه. فلمّا غلبت عليه الحجّة، فاجأني بقوله: ‘لا أرى فرقًا بيني وبين الحمار، ولستُ على استعداد للإقرار بحيازتي على امتيازات لا أستطيع أن أفهمها.’ فأجبته: ‘لا، بل أعتبرك مختلفًا ومتميّزا تمامًا، فأنا أسمّيك إنسانًا، أمّا الحمار فحيوان. وأستطيع أن أتبيَّن أنّك على درجة عالية من الذّكاء، بينما الحمار ليس كذلك. وأنا أعلم أنّك متبحّرٌ في الفلسفة، كما أعرف أنّ الحمار بليد فيها تمامًا، ولذا فإنّني لست مستعدًّا لقبول رأيك هذا.’

انظروا إلى هذه السّيّدة الجالسة بجانبي وهي تكتب في كرّاستها الصّغيرة. قد يبدو هذا أمرًا تافهًا وعاديًّا، ولكنّكم بإعمال فكركم الثّاقب، ستدركون أنّ ما كُتِب يقتضي وجود كاتبة له ويثبت ذلك. فهذه الكلمات لم تكتب نفسها، وهذه الحروف لم تتجمّع لتكوّن جُملاً مفيدة بإرادتها الذّاتيّة. من الثّابت إذًا أنّه لا بدّ أن يكون هناك كاتب.

تأمّلوا الآن في هذا الكون اللاّمتناهي. هل من الممكن أن يكون قد خلق بغير خالق؟ أو أن يكون الخالق الّذي أوجد هذا الكمّ الهائل غير المتناهي من العوالم محرومًا من الذّكاء؟ وهل يكون مقبولاً أنّ الخالق لا يدرك ما يظهر في الخليقة؟ إنّ الإنسان، وهو مخلوق، لديه إرادة وفضائل معيّنة. فهل يجوز أن يكون خالقه محرومًا منها؟ فهذا اعتقاد ورأي لا يقبله طفل. من الواضح تمامًا أنّ الإنسان لم يخلق نفسه، بل لا يمكنه ذلك. فكيف يقوى الإنسان مع ضعفه على أن يخلق وجودًا هائلاً كهذا؟ فخالق الإنسان إذًا يجب أن يكون أكمل وأقوى من الإنسان نفسه. فلو كانت علّة خلق الإنسان في مستوى الإنسان نفسه، يكون الإنسان عندها قادرًا على الخَلق، بينما نعلم جيّدًا أنّنا غير قادرين أن نخلق حتّى صِنوٍ لنا. فخالق الإنسان يجب إذًا أن يكون حائزًا على ذكاء وقوى فائقة في كافّة المسائل الّتي يتطلّبها الوجود ويعنيها. فنحن ضعفاء؛ وهو القويّ، ذلك لأنّه إن لم يكن قويًّا، لما تسنّى له أن يخلقنا. ونحن جهلاء؛ وهو الحكيم. ونحن فقراء؛ وهو الغنيّ، ولولا ذلك لكان عاجزًا عن خلقنا.

من بين البراهين الدّالة على وجود قوّة إلهيّة هو هذا: إنّ الأشياء تُعرف غالبًا من أضدادها. فلولا الظّلام لما أحسسنا بالنّور. ولولا الموت لما عرفنا الحياة. ولولا وجود الجهل، لما كان العلم حقيقة واقعة. فمن الضّروريّ وجود كلّ من هذه الأضداد حتّى يصبح ما يقابلها حقيقة. فاللّيل والنّهار يجب أن يتعاقبا حتّى يمكن تمييز أحدهما عن الآخر. ونفس وجود اللّيل هو دليل وبرهان على النّهار الّذي يعقبه، والنّهار نفسه دليل على ليل قادم. وما لم يكن اللّيل حقيقة لا يتحقّق النّهار. ولولا الموت لا تكون هناك حياة. أي أنّ الأشياء تعرف بأضدادها.

فضُعفنا إذًا دليل على أنّ هناك قوّة، وجهلنا برهان على كينونة العلم، واحتياجنا دليل على وجود المَدَد والثّراء، إذ لولا الثّراء لما كان هذا الاحتياج؛ ولولا العلم لما عُرف الجهل؛ ولولا القدرة لما كان العجز. وبكلمات أخرى فإنّ الطّلب والمدد هو القاعدة، وأنّ كافة الفضائل والمناقب لها بكلّ تأكيد مركزٌ ومصدر. وهذا المصدر هو الله تعالى، ومنه تأتينا كلّ هذه المواهب.

(10) 3 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بفندق بلازا، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته مرضيّة موسّ

كنت في بلاد الشّرق، والمسافة من بلاد الشّرق إلى هذا الجزء من العالم طويلة. فالسّفر شاقٌّ خاصّة بالنّسبة لي نظرًا لعلل جسمي الّتي تفاقمت جرّاء أربعين سنة في الحبس. فقواي الجسمانيّة واهنة، وما يعينني هو قوّة الإرادة. فتبيّنوا من هذا كم كان جهدي كبيرًا، وكم كان عزمي شديدًا لأنجز هذه الرّحلة بإرادة الله. وأدعو الله أن يجعلها سببًا لاستنارة عظيمة في بلاد الغرب.

إنّ نشر رسالة السّلام لا بدّ أن يكون متيسّرًا في عالم الغرب هذا لتميُّزِه بجوّه المنعش وقابليّاته للمعرفة ومُثُله العالية. فالنّاس هنا ليسوا متأثّرين كثيرًا بالتّقاليد والتّعصّبات، وعليهم أن يتوصّلوا إلى الحقيقة بواسطة إدراكهم لما هو حقيقيّ وما هو غير حقيقيّ. عليهم أن يكونوا سبّاقين في بذل الجهد لتأسيس وحدة الجنس البشريّ. فأيّ مهمّة أعظم من هذه؟ إذ ليس هناك من خدمة أعظم في ملكوت الله، كما أنّه في نظر الأنبياء، بمن فيهم السّيّد المسيح، ليس هناك من عمل أجدر منها بالإجلال.

مع ذلك، لا زالت الحروب سائدة حتّى وقتنا الحاضر. فقد دبّ الحسد ونشبت الكراهية بين الأمم. ولكن بما أنّني أجد الأمّة الأمريكيّة على قدرة عظيمة للعمل، وهذه الحكومة من أعدل حكومات الغرب، ومؤسّساتها تفوق غيرها، فأملي ورجائي أن يرتفع علم الوفاق العالميّ بادئ ذي بدء فوق هذه القارّة، وتخفق راية الصّلح الأعظم هنا، وأن يتّحد شعب أمريكا وحكومتها في جهودهم لكي يشرق هذا النّور من هذه البقعة وينتشر منها إلى كلّ الأصقاع، لأنّ هذا من أعظم مواهب الله. ولكي تتقدّم أمريكا لنيل هذه الفرصة، ألتمس منكم أن تبذلوا الجهد وتتلوا الدّعاء بالقلب والرّوح، مكرِّسين كلّ طاقاتكم لهذه الغاية: وهي أن يرتفع لواء السّلام العالميّ هنا، وتصبح هذه الدّيمقراطيّة سببًا لإيقاف الحروب في سائر البلاد الأخرى.

انظروا إلى ما يحدث في طرابلس: فالبشر يقطّعون بعضَهم أشلاءً، والقصف المدفعيّ يأتي من البحر، والهجوم من البرّ، وإسقاط الدّيناميت من كبد السّماء. والجيوش المتناحرة هناك كلّ منها متعطّش لدم الآخر. ولا يستوعب العقل كيف يمكنهم أن يفعلوا هذا. فلديهم آباء وأمهات وأطفال؛ إنّهم بشر. فماذا عن زوجاتهم وعائلاتهم؟ فكّروا في لوعتهم ومعاناتهم. ما أظلم هذا وما أفظعه! على البشر أن يمنعوا هذه الوحشيّة ويحظروها. وعلى أولئك الملوك والحكّام والرّؤساء أن يجهدوا لخير رعاياهم بدلاً من إهلاكهم. أي أنّ على هؤلاء الرّعاة أن يجمعوا خرافهم ويريحونهم، ويقدّموا لهم الطّعام بدلاً من قتلهم وذبحهم.

أبتهل إلى الملكوت الإلهيّ متوسّلاً أن تصبحوا أداة فاعلة في تأسيس الصّلح الأعظم في هذه الدّيار، وأن تعمل هذه الحكومة وهذه الأمّة على نشره إلى العالم بأكمله.

(11) 3 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بفندق بلازا، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته مرضيّة موسّ

طبقًا لقول الفلاسفة، فإنّ اختلاف الدّرجات بين بني البشر من أدناها إلى أعلاها راجع للتّربية. وما يقدّمه هؤلاء الفلاسفة من براهين هو أنّ مدنيّة أوروبّا وأمريكا هي دليل على التّربية ومحصّلتها، بينما الشّعوب نصف المتحضّرة والبربريّة في إفريقيا شاهدة بأحوالها على أنّها قد حرمت من مزايا التّربية. فالتّربية تجعل الجاهل حكيمًا، والطّاغية عادلاً، وتروّج الهناء، وتشحذ العقل، وتنمّي الإرادة، وتجعل أشجار الإنسانيّة غير المثمرة مثمرة. وطبقًا لهذا القول يكون البعض في العالم الإنسانيّ قد بلغوا درجات عالية، بينما يتخبّط الآخرون في وهدة اليأس. إلاّ أنّ أقصى ما يتمنّاه الإنسان متاح لكلّ عضو في الجنس البشريّ، بما في ذلك إمكانيّة بلوغ مقام الأنبياء. وهذه هي أقوال الفلاسفة وحججهم.

إنّ أنبياء الله هم المعلّمون الأُوَل الّذين ينعمون على الإنسان بالتّربية العموميّة الشّاملة ويرتقون به من أسفل دركات الوحشيّة إلى أعلى ذرى التّرقّي الرّوحيّ. والفلاسفة أيضًا معلّمون فيما يتعلّق بالتّعليم الذّهنيّ. وهم، على أكثر تقدير، قد أفلحوا فقط في تربية أنفسهم وتربية نفر قليل ممّن حولهم، وتحسين أخلاقهم، وتمدين أنفسهم إن جاز التّعبير؛ إلاّ أنّهم عجزوا عن تحقيق التّربية العموميّة، وأخفقوا في تحقيق تقدّم أيّ أمّة من الأمم وانتقالها من الوحشيّة إلى المدنيّة.

من الواضح أنّ التّربية، رغم كونها تُحَسِّن أخلاق البشر وتمنح مزايا المدنيّة وترفع الإنسان من الحضيض الأدنى إلى الأوج الأعلى، إلاّ أنّ هناك فارقًا في الاستعداد الموروث أو الفطريّ عند الأفراد. فعشرة أطفال من نفس العمر، ونفس النَّسَب، دارسون في نفس المدرسة، آكلون من نفس الطّعام، وخاضعون لنفس البيئة من كلّ النّواحي، ومتساوون ومشتركون في نفس المصالح، سيُظهرون قدرًا مختلفًا ومتباينًا من القابليّة والتّرقّي؛ فبعضهم سيصبح في غاية النّجابة والتّقدّم، والبعض سيظهرون كفاءة متوسّطة، والآخرون سيظهرون قدرة محدودة عاجزة. قد يصبح أحدهم أستاذًا متبحِّرًا، بينما قد يبرهن طفل آخر نال نفس المنهج التّعليميّ على أنّه ضئيل الذّكاء قليل الفهم. ورغم كون الفرص متساوية للكلّ من جميع النّواحي، إلاّ أنّ النّتائج والعواقب تتفاوت على سلّم التّرقّي من أعلى درجاته إلى أدناها. فمن الواضح إذًا أنّ البشر يختلفون في استعدادهم الفطريّ وموهبتهم الذّهنيّة الموروثة. ومع ذلك، رغم تفاوت الاستعداد، فكلّ عضو في النّوع الإنسانيّ قابل للتّربية.

كان يسوع المسيح مربّيًا للإنسانيّة، وكانت تعاليمه تدعو إلى محبّة الآخرين، وكان فيضه شاملاً للعموم. وربّى النّاس وعلّمهم بقوّة الرّوح القدس لا بالوسائل البشريّة، ذلك لأنّ قوّة البشر محدودة، بينما القوّة الرّبّانيّة غير محدودة وغير متناهية. تشهد على هذا أعمال المسيح وما أحدثه من تأثير. لقد كتب الطّبيب والفيلسوف الإغريقيّ جالينوس، الّذي عاش في القرن الثّاني الميلاديّ، بحثًا في ترقّي الأمم. لم يكن مسيحيًّا، ولكنّه شهد بأنّ العقائد الدّينيّة تُحدث أثرًا غير عاديّ في مسائل التّمدّن. وقال ما معناه ‘إنّ هناك شعبًا ما يعيش بين ظهرانينا، أتباع يسوع النّاصريّ، الّذي قتل في أورشليم، وهؤلاء النّاس متشرّبون فعلاً بمبادئ أخلاقيّة يغبطهم عليها الفلاسفة. فهم يؤمنون بالله ويخشونه، ويترجّون أفضاله؛ ولهذا فهم يتجنّبون كلّ ما هو غير لائق من الأعمال والتّصرّفات، ويميلون إلى السّلوك والأخلاق الحميدة، ويجهدون ليل نهار كي تكون أعمالهم مستحسنة، وأن يبذلوا الخير للبشر؛ ولهذا فكلّ واحد منهم فيلسوف بالفعل، لأنّ هؤلاء النّاس قد بلغوا جوهر الفلسفة وفحواها، ولديهم أخلاق حميدة، حتّى لو كانوا أمّيّين جهلة.’

القصد من هذا بيان أنّ المظاهر الإلهيّة المقدّسة، أي الأنبياء الرّبّانيّين، هم المعلّمون الأُوَل للجنس البشريّ. فهم المربّون الكلّيّون، والمبادئ الأساسيّة الّتي أرسوها هي بواعث ترقّي الأمم وأسبابها. بيد أنّ ما يتسلّل فيما بعد من طقوس وتقاليد لا يؤدّي لذلك التّقدّم. بل هي على العكس من ذلك هادمة لأسس الإنسانيّة الّتي أرساها المربّون الملكوتيّون. إنّها سحب تحجب شمس الحقيقة. فإذا ما تدبّرتم في تعاليم السّيّد المسيح الجوهريّة، ستتبيّنون أنّها كانت سببًا في نورانيّة هذا العالم. وليس بمقدور أحد أن يشكِّك في حقيقتها، فهي مصدر الحياة ذاتها وسبب سعادة بني الإنسان. فالتّقاليد والأوهام الّتي ظهرت فيما بعد وحجبت هذا النّور لم تَطَلْ أبدًا حقيقة السّيّد المسيح. فمثلاً، قال المسيح ضع سيفك في غمده بمعنى أنّ الحرب ممنوعة ومحرّمة، ولكن انظروا إلى الحروب المسيحيّة الّتي نشبت فيما بعد. فلم تترك العداوة المسيحيّة ومحاكمها التّفتيشيّة أحدًا لم تصل إليه حتّى العلماء؛ فمَنْ أعلن عن دوران الأرض زُجَّ به في السّجن، ومَن أعلن عن وجود نظام فلكيّ جديد عُذِّب تعذيب الزّنادقة؛ وصار الباحثون والعلماء هدفًا لبُغض أعمى، كما أُعدم الكثيرون منهم وعُذّبوا. فكيف تتطابق هذه الأفعال مع تعاليم يسوع المسيح، وأيّ صلة لها بقدوته الحسنة؟ ذلك لأنّ المسيح نادى: أحبّوا أعداءكم… وصلّوا لأجل الّذين يسيئون إليكم… لكي تكونوا أبناء أبيكم الّذي في السّموات. فهو يشرق شمسه على الأشرار والصّالحين، ويُمطر على الأبرار والظّالمين.– كيف تتماشى الكراهية والعداوة والاضطهاد مع السّيّد المسيح وتعاليمه؟

هناك إذًا حاجة للعودة لأسّ الأساس، فالمبادئ الجوهريّة الّتي جاء بها الأنبياء سليمة وصحيحة، أمّا التّقاليد والأوهام الدّخيلة فإنّها تختلف اختلافًا شاسعًا عن التّعاليم والوصايا الأصليّة. ولقد نادى حضرة بهاء الله من جديد بجوهر تعاليم كافّة الأنبياء، وأعاد بنيانها، طارحًا البدع جانبًا ومخلّصًا الدّين من شوائب تفاسير البشر. وأنزل كتابًا اسمه الكلمات المكنونة، وقد جاء في مقدّمة هذا الكتاب أنّه أخذ جواهر ما نُزِّل على النّبيّين من قبل، وأقمصه قميص الاختصار من أجل تربية أهل العالم وهدايتهم. فاقرأوه لتعرفوا منه أسس الدّين الحقّة، وتتدبّروا في الهداية الّتي جاءتنا على يد رسل الله. فهي نور على نور.

لا يجمل بنا أن نبحث عن الحقيقة في أعمال الأمم أو في تصرّفاتها، بل علينا أن نبحث عن الحقيقة في أصلها الرّبّانيّ، وندعو البشر إلى الوحدة الماثلة في الحقيقة نفسها.

(12) 4 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في المجمع الثيوصوفي،
بقاعة جامعة نورث ويسترن، إيفانستون، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته مرضيـّة موسّ

إنّني في غاية السّرور بحضوري هذا المجلس. الحمد لله! أرى أمامي وجوه أولئك الّذين وُهبوا القدرة والاستعداد للمعرفة، ولديهم الرّغبة في تحرّي الحقيقة. وهذا مثار فرحي العظيم.

طبقًا للفلسفة الرّبّانيّة، هناك حالتان مهمّتان كلّيّتان في عالم الظّواهر المادّيّة: إحداهما تتعلّق بالحياة، والأخرى بالممات؛ أولاهما مختصّة بالوجود، والأخرى بالعدم؛ إحداهما تتجلّى في التّركيب، والأخرى تظهر بالتّحلّل. البعض يعرّفون الوجود بأنّه تعبير عن الحقيقة أو الكينونة، والعدم هو انعدام الوجود في تخيُّلٍ منهم بأنّ الموت فناء. وهذه فكرة خاطئة، إذ إنّ الفناء التّامّ مستحيل. وأقصى ما هنالك، إنّ التّركيب دائمًا ما يخضع للتفكّك أو التّحلّل – بمعنى أنّ الوجود يقتضي تجمّع عناصر مادّيّة فتصبح شكلاً أو جسدًا، والعدم هو مجرد تفكّك هذه التّجمّعات. وهذا هو قانون الخليقة بما فيه من أشكال غير متناهية وتنوّع لا نهاية له في الهيئة. والكائن المركّب المسمّى بالإنسان قد تركّب من عناصر معيّنة. وهذا التّجمّع المركّب للعناصر على هيئة جسم آدميّ هو إذًا خاضع للتّحلُّل، الّذي نسمّيه الموت، إلاّ أنّه بعد التّحلّل تبقى العناصر نفسها كما هي دون تغيير. فالفناء التّامّ إذًا يكون أمرًا مستحيلاً، ولا يؤول الوجود أبدًا إلى العدم، وإلاّ يكون هذا الرّأي مساويًا للقول بأنّ النّور من الممكن أن يصير ظلامًا، وهو أمر واضح البطلان والاستحالة. فكما أنّه من المحال على الوجود أن يصير عدمًا، فلا فناء إذًا للإنسان؛ إذ هو على العكس من ذلك خالدٌ وحيّ إلى الأبد. والبرهان العقليّ على هذا هو أنّ ذرّات العناصر المادّيّة يمكن تحوّلها من شكل وجوديّ إلى آخر، ومن رتبة ومملكة إلى أخرى، سواء أكانت أدنى أو أعلى. فمثلاً، بمقدور ذرّة من التّربة أو من غبار الأرض أن تمرّ عبر ممالك الوجود منتقلة من مملكة الجماد إلى مملكة الإنسان عن طريق الاندماج المتعاقب في أجساد كائنات من تلك الممالك. فهي تارة على هيئة الجماد أو الحجر، ثمّ تمتصّها مملكة النّبات وتصير جزءًا من جذع شجرة وأليافها، ثمّ تعاد الكرّة مرّة أخرى بأن يلتهمها الحيوان ويهضمها، وبعد برهة نجدها في جسم الإنسان. وفي جميع مراتب هذا التّجوال بين الممالك، والانتقال من ظاهرة حياتيّة إلى أخرى، تحتفظ بوجودها الذّرّيّ ولا يصيبها الفناء أو يؤول بها الحال إلى التّلاشي والزّوال أبدًا.

فالعدم إذًا تعبير يطلق على تغيّر الهيئة، ولكنّه تغيّر لا يصحّ اعتباره فناء على الإطلاق، لأنّ عناصر التّكوين تظلّ حاضرة وموجودة وسليمة دائمًا وأبدًا كما رأينا في رحلة الذّرّة عبر الممالك المتتابعة؛ فليس هناك موت إذًا، وتبقى الحياة أبديّة مستمرّة. أو بتعبير آخر، عندما دخلت هذه الذّرّة في تركيب الشّجرة، ماتت عن مملكة الجماد، وعندما التهمها الحيوان، ماتت عن مملكة النّبات، وهكذا حتّى انتقلت أو تحوّلت إلى مملكة الإنسان؛ ولكنّها في انتقالها خضعت للتّحوّل لا للفناء. فالموت إذًا هو ما ينطبق على التّحول أو الانتقال من رتبة أو حالة إلى أخرى. ففي عالم الجماد كانت على هيئة روح وجوديّة، وفي عالم الحياة النّباتيّة وكائناتها ظهرت على هيئة روح نباتيّة، ومن هناك بلغت الرّوح الحيوانيّة، إلى أن قصدت الرّوح الإنسانيّة في نهاية المطاف. فهذه درجات وتحوّلات وليست محوًا وزوالاً، وفي هذا دليل عقليّ على أنّ الإنسان خالد وباق. فالموت إذًا مجرّد تعبير نسبيّ يعني التّحويل والتّغيير، كأن نقول مثلاً إنّ هذا النّور الماثل أمامي، بظهوره مرّة أخرى في مصباح كهربائيّ آخر، قد مات في المصباح الأوّل وهو حيُّ في المصباح الثّانيّ. إنّ قولنا هذا لا يعني الموت الحقيقيّ، فكمالات الجماد تنتقل إلى النّبات، ومن ثمّ إلى الحيوان، لتبلغ الخواص دومًا الدّرجة المثلى في سلّم التّحوّل إلى الأرقى. ونجد في كلّ مملكة نفس الخواص متجلّية بكيفيّة أكمل، ممّا يثبت أنّ الكينونة قد تحوّلت من شكلٍ وعالمِ وجودٍ أدنى إلى ما يعلوه. فالعدم إذًا يكون نسبيًّا، أمّا الفناء المطلق فهو أمر مستحيل. إنّ هذه الوردة الّتي أمسكها بيدي سوف تتحلّل ويفسد نسقها، إلاّ أنّ عناصر تركيبها تبقى دون تغيير، ولن يعتري سلامة عناصرها أيّ شيء. فالعناصر هذه لن تفنى بل ستتحوّل فقط من حالة إلى أخرى.

الإنسان يخشى الموت بسبب جهله، ولكنّ الموت الّذي يجفل منه ما هو إلاّ وهم لا حقيقة له على الإطلاق؛ فهو مجرّد وهم من أوهام البشر.

لقد نفخ فضل الله وعنايته في عالم الوجود حياةً وكينونةً. وليس في الوجود تغيّر أو تحوّل، فالوجود هو الوجود دائمًا وأبدًا، ولا يؤول إلى العدم إطلاقًا. والموضوع لا يعدو تسلسلاً متدرِّجًا، والدّرجة الأدنى تعدّ عدمًا بالنّسبة للأعلى. فهذا التّراب الّذي تطأه أقدامنا هو عدم بالمقارنة إلى كينونتنا البشريّة. وعندما يتحلّل جسد الإنسان إلى تراب يمكننا أن نقول إنّه قد صار عدمًا، فترابه إذًا، بالمقارنة بأطوار الكائن البشريّ أثناء حياته يكون عدمًا، بيد أنّ التّراب في مجاله ورتبته ليس عدمًا، إذ إنّ له وجود جماديّ. فالمحقّق الثّابت إذًا أنّ العدم المطلق محال، وهو لا يخرج عن كونه أمرًا نسبيًّا.

المراد من هذا إنّ عطيّة الله الباقية الممنوحة للإنسان لا يعتريها العطب أبدًا. وبما أنّ الله أنعم على العالم الظّـاهريّ بالوجود، فمن المستحيل على هذا العالم أن يصير عدمًا، فهو عين الصّنع الرّبّانيّ، وهو عالم البدء والنّشأة، وهو عالم حقيقيّ وليس عالمًا افتراضيًّا، وما يهبط عليه من النّعم مستمرّ ودائم. فالإنسان الّذي هو أسمى مخلوقات العالم الحادث – قد اختُصّ إذًا بتلك العطيّة الدّائمة الّتي يفيض بها الكرَم الإلهيّ بغير انقطاع. فأشعّة الشّمس مثلاً مستمرّة، وتنبعث منها الحرارة بغير توقّف، ولا يُتَصوّر لها انقطاع. وعلى نفس المنوال فإنّ عطاء الله هو الآخر ينزل على عالم البشر دومًا دون انقطاع إلى الأبد. فلو قلنا إنّ عطيّة الوجود تتوقّف أو تتعطّل، فهذا مساو للقول بأنّ الشّمس يمكنها البقاء مع توقّف إشراقها. فهل هذا جائز؟ فإشراقات الوجود إذًا دائمة ومستمرّة.

إنّ لمفهوم الفناء يدٌ في انحطاط الإنسان، وهو علّة ذلّته ودنوّه، ومنشأُ خوفه وتعاسته. وهو مفضٍ إلى تشتُّت الفكر الإنسانيّ ووهنه، بينما مفهوم الوجود والاستمراريّة قد سما بالإنسان إلى المُثُل العليا، وأرسى قواعد التّقدّم البشريّ، وحفَزَ رقيّ الفضائل الملكوتيّة؛ فعلى الإنسان إذًا أن يتخلّى عن أفكار العدم والموت، الّتي هي خيال محض، وأن يرى نفسه حيًّا دائمًا، خالدًا في المقصد الرّبّانيّ من وجوده. وعليه أن يُعرِض عن الأفكار الّتي تتدنّى بالرّوح الإنسانيّ، حتّى يعلو ويسمو يومًا فيومًا وساعة بعد ساعة نحو المفهوم الرّوحيّ المتعلّق بدوام الحقيقة الإنسانيّة. أمّا إذا انشغل بأفكار الفناء والعدم، سيصبح عاجزًا بالكلّيّة، وسيقلّ تطلّعه إلى التّقدّم بسبب وَهَنِ الإرادة، ويتوقّف اكتسابه للفضائل الإنسانيّة.

فلتشكروا الله أنّه حباكم بنعمة الحياة والوجود في عالم الإنسان. واجهدوا بهمّة لنيل الفضائل الّتي تليق برتبتكم ومقامكم. كونوا أنوار العالم الّتي لا تُحجَب ولا تغيب في آفاق الظّلام. واصعدوا إلى أوجِ وجودٍ لا تحجبه سحب الخوف والتّوجُّس من العدم. وعندما يحرم الإنسان من البصيرة، فإنّه يجهل هذه الأسرار الجوهريّة. وعلى الرّغم من أنّ شبكيّة العين الظّاهريّة حسّاسة ورقيقة، إلاّ أنّها قد تقف عائقا للبصيرة الّتي لها قدرة على الإدراك دون سواها. والمواهب الإلهيّة الّتي تتجلّى في كلّ الحياة الظّاهريّة تكون في بعض الأحيان مختفية من جرّاء تدخّل حجبات الرّؤية العضويّة والعقليّة الّتي تجعل الإنسان أعمى وعاجزًا من النّاحية الرّوحيّة، بيد أنّه عندما تُزال هذه الأغشية، وتُشَقّ تلك الحجبات، عندئذ تلوح آيات الله الباهرات، ويشاهِد الإنسانُ النّورَ الأزليّ يملأ العالم، والمواهب الإلهيّة بأجمعها لائحة في كلّ حين، ووعود الملكوت باقية دائمًا وأبدًا، والنّعم الإلهيّة سابغة على الجميع. ولكن إذا ما ظلّت بصيرة روح الإنسان الواعية محتجبة ومظلمة، سيفضي به الحال إلى إنكار هذه الآيات الباهرات، ويبقى محرومًا من تجلّيات العناية الرّبّانيّة هذه. فعلينا إذًا أن نجهد بالوجدان والرّوح حتّى ينقشع حجاب البصيرة، فنرى بها تجلّيات الآيات الرّبّانيّة، وندرك الأفضال الإلهيّة الغيبيّة، وندرك أنّ النّعم المادّيّة مقارنةً بالمواهب الرّوحيّة ما هي إلاّ هباء. فالنّعم الرّوحيّة الرّبّانيّة أعظم. وعلى الرّغم من أنّنا نعمنا عندما كنّا في مملكة الجماد ببعض المواهب والقوى، إلاّ أنّها مواهب وقدرات لا تقارن بما نلناه من نِعَمِ في مملكة الإنسان. وعندما كنّا في رحم الأم تلقّينا مواهبَ ونِعَمًا ربانيّة، إلاّ أنّها كانت كالعدم مقارنةً بالقوى والأفضال الّتي أُسبِغت علينا بعد ولادتنا إلى هذا العالم البشريّ. وعلى نفس المنوال، إذا ما ولدنا من رحم هذا المحيط النّاسوتيّ الحادث إلى رحبة الحياة والبصيرة الرّوحيّة وسموّها، سوف ندرك أنّ هذا الوجود المادّيّ ونعمه لا تساوي شيئًا بالمقارنة.

إنّ الفيوضات الرّبّانيّة في عالم الرّوح لا تتناهى، لأنّه عالم منزّه عن الانفصال والتّحلّل الّذي يميّز عالم الوجود النّاسوتيّ. فالوجود الرّوحانيّ خلود محض وكمال صرف، وكيان لا يعتريه أيّ تغيير أو تبديل. فعلينا إذًا أن نشكر الله أنّه قد قدّر لنا كلاًّ من النّعم المادّيّة والمواهب الرّوحيّة. فقد وهبنا عطايا مادّيّة وأفضالاً روحيّة، إذ أنعم علينا ببصر ظاهريّ لنرى به ضوء الشّمس، وبصيرة باطنيّة لندرك بها المجد الرّبّانيّ. كما خصّ الأذن الظّاهريّة للتّمتـّع بالأنغام، والسّمع الوجدانيّ لنصغي به إلى نداء خالقنا. وعلينا أن نجهد بمجامع قلوبنا وأرواحنا وعقولنا لأن نـُظهِر الكمالات والفضائل الكامنة في حقائق العالم التّرابيّ ونرقى بها، لأنّ الحقيقة الإنسانيّة كالبذرة، فإذا ما غرسنا البذرة تنبت منها دوحة باسقة، وتتجلّى في الدّوحة صفات البذرة، فتنبت وتورق وتزهر وتثمر. وكلّها مناقب كانت مكنونة وكامنة في البذرة، ثمّ ظهرت في الوجود بنعمة وفضل الفلاحة والعناية. وبالمثل، فإنّ الله الرّحمن، خالقنا، قد أودع في الحقائق الإنسانيّة فضائلَ كامنة ممكنة. وبالتّربية والتّهذيب تظهر هذه الفضائل الّتي أودعها الرّبّ الحنون جليّة في حقيقة الإنسان، تمامًا مثل تفتّق الشّجرة من البذرة النّابتة. وسأتلو الآن دعاء من أجلكم:

يا ربّي الرّؤوف، هؤلاء عبادك الّذين اجتمعوا في هذا المحفل، متوجّهين إلى ملكوتك وسائلين فيضك ونعماءك. أي ربّ، أظهر آيات وحدانيّتك المودعة في حقائق الحياة، واكشف الفضائل الّتي أودعتها وسترتها في هذه الحقائق الإنسانيّة.

أي ربّ، نحن غراسٌ وفيضك هو الغيث؛ فأنعش هذه الغراس ونمِّها بموهبتك. ونحن عبادك، خلّصنا من قيود الحياة المادّيّة. ونحن جهلاء اجعلنا حكماء، وأموات اجعلنا أحياء، ومادّيّون امنحنا روحًا، ومحرومون آنسنا بأسرارك، ومُعْوِزون أغننا وأنعم علينا من خزائنك الّتي لا تتناهى. أي ربّ أنلنا الحياة، وهب لنا بصرًا، وامنحنا سمعًا، وعلّمنا أسرار الحياة، حتّى تتجلّى أسرار ملكوتك علينا في عالم الوجود هذا، ونعترف بوحدانيتك. منك العطاء، ولك النّعماء.

إنّك أنت القدير، إنّك أنت القويّ، إنّك أنت المعطي، وإنّك أنت الفضّال.

(13) 5 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في لقاء مع الأطفال،
بفندق بلازا، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته مرضيّة موسّ

أنتم الأطفال الّذين قال عنهم السّيّد المسيح لمثل هؤلاء ملكوت الله، وطبقًا لكلمات حضرة بهاء الله أنتم في الحقيقة مصابيح عالم الإنسانيّة وشموعه، لأنّ قلوبكم في غاية الطّهارة وأرواحكم في غاية الرّقّة. فأنتم قرب النّبع ولم تتلوّثوا بعد. أنتم حملان الرّاعي السّماويّ، وأنتم كالمرايا الصّافية تعكسون نورًا خالصًا. أملي أن يربّيكم أباؤكم وأمّهاتكم تربية روحانيّة، ويوفّروا لكم تربية أخلاقيّة شاملة. عسى أن تترقّوا فيصبح كلّ واحد منكم متشرّبًا بجميع فضائل العالم الإنسانيّ، وأن تتقدّموا في كافّة المراتب المادّيّة والرّوحيّة، وأن تصبحوا متبحّرين في العلوم، وتنالوا درجة في الفنون والصّنائع، وتثبتوا أنّكم أعضاء نافعين في المجتمع البشريّ، وتساعدوا في تقدّم المدنيّة الإنسانيّة. وأرجو أن تكونوا سببًا في ظهور المواهب الإلهيّة – ويكون كلّ واحد منكم نجمًا درّيًّا يسطع بنور وحدة البشريّة في آفاق الشّرق والغرب. وأن تكونوا مخلصين لمحبّة الجنس البشريّ واتّحاده، وأن تجد الحقيقة المودعة في فؤاد الإنسان تجلّيها الرّبّانيّ بفضل جهودكم. وأدعو لكم ملتمسًا العناية والتّأييد الإلهيّ.

كلّكم أبنائي، أبنائي الرّوحانيّون. وأبناء الرّوح أعزّ من أبناء الجسد، إذ إنّ أبناء الجسد قد يُعرِضون عن الرّوح الإلهي، ولكنّكم أبناء بالرّوح، لذا فأنتم أكثر معزّة. أرجو لكم التّقدّم في كلّ درجات الرّقيّ، وأن يؤيّدكم الله ويحيطكم بلحاظ أنوار وجهه، وتبلغون أَشُدَّكُم تحت رعايته وحمايته. فأنتم مباركون.

(ثمّ خاطب عبد البهاء الأحبّاء قائلاً)

إنّني ذاهب، ولكن عليكم أن تنهضوا لخدمة كلمة الله. عليكم بطهارة القلب وخلوص النّيّة حتّى تستفيضوا من الفيوضات الإلهيّة. لاحظوا أنّه بالرّغم من سطوع الشّمس على جميع الأشياء بدرجة واحدة، إلاّ أنّ انعكاسها في المرآة الصّافية أشدّ لمعانًا، على خلاف الحال في انعكاسها على الصّخرة السّوداء. وهذا الإشراق والحرارة الشّديدان هما بفعل الصّفاء البلوريّ للزّجاج. وما لم يتوفّر الصّفاء والنّقاء فلن تظهر هذه التّأثيرات. وإذا هطل المطر على الأرض الصّخريّة المالحة فلن يكون له تأثير، أمّا إذا نزل على أرض طيّبة طاهرة، فإنّها ستصبح خضلة نضرة وتؤتى ثمارها.

هذا يوم تأخذ فيه القلوب الطّاهرة نصيبًا من الفيوضات الأبديّة وتتنوَّر النّفوس الزّكيّة من التّجلّيات الأزليّة. الحمد لله! إنّكم مؤمنون بالله، ومطمئنّون بكلمات الله، ومتوجّهون إلى ملكوت الله، وسمعتم النّداء الإلهيّ، واهتزّت قلوبكم بنسائم جنّة الأبهى. فمقاصدكم حميدة، ومرادكم رضاء الله، وأملكم خدمة ملكوت الرّحمن. فانهضوا إذًا بعزم مكين، وكونوا في كمال الاتّحاد. فلا يغضب أحدكم من أحدٍ أبدًا. ولتكن عيونكم ناظرة إلى ملكوت الحقّ لا إلى عالم الخلق. أحبّوا الخلائق لوجه الله لا من أجل أنفسهم. فإذا ما أحببتم الخلائق لوجه الله فلن تغضبوا ولن يَعيل صبرُكم. البشريّة ليست كاملة، فهناك قصور في كلّ كائن بشريّ، وستحزنون دومًا إذا ما نظرتم إلى النّاس أنفسهم. أمّا إذا توجّهتم إلى الله، فسوف تحبوّنهم وتترفّقون بهم، لأنّ عالم الله هو عالم الكمال والرّحمة التّامّة. فلا تنظروا إذًا إلى عيوب أحد، بل انظروا بعين المغفرة. فالعين النّاقصة ترى العيوب، أمّا العين السّاترة فتنظر إلى خالق النّفوس. وهو الّذي خلقهم وربّاهم ورزقهم وأنعم عليهم بالاستعداد والحياة، والبصر والسّمع، فهم إذًا آيات عظمته. عليكم بالمحبّة والشّفقة نحو الجميع، راعوا الفقير، واحموا الضّعيف، وابرئوا العليل، وعلـّموا الجاهل وربّوه.

رجائي أن تكون وحدة الأحبّاء في شيكاغو واتّفاقهم سببًا لاتّحاد الأحبّاء في كافّة أنحاء أمريكا، وأن يكون لكلّ النّاس نصيبٌ من محبّتهم وعطفهم. عسى أن يكونوا مثالاً يحتذي به البشر. عندئذ تحيط تأييداتُ الملكوت الأبهى وعناياتُ شمس الحقيقة كلَّ الآفاق.

(14) 5 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بكنيسة أبرشيّة بلايموث،
935 شرق الشّارع الخمسين، شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته مرضيّة موسّ

أرفع أيادي الشّكر إلى الله على نعمة وجودي في محفل يذكُرُ الباري عزّ وجلّ، محفل ليس لأعضائه فكر أو قصد سوى رضائه والتّحرّي عن الحقيقة بإنصاف. وأحمد الله على لقائي بهذه الأرواح الإنسانيّة المتحرّرة من قيود التّقاليد والتّعصّب، العازمة على البحث العقلانيّ، وقبول ما يتبيّن أنّه حقيقة.

إنّ مركز الضّياء في مجموعتنا الشّمسيّة هو الشّمس ذاتها. وبمشيئة الله وإرادته فإنّ هذا النّيّر المركزيّ هو المصدر الوحيد للوجود ولترقّي كافّة الأشياء الحادثة. فعندما نتأمّل في كائنات الممالك المادّيّة نجد أنّ نمّوها وتربيتها يعتمدان على حرارة الشّمس وضيائها. وبغير هذا التّدفّق الواهب للحياة لا يكون هناك نموّ لشجر أو نبات، ولا يكون هناك أيّ وجود حيوانيّ أو إنسانيّ؛ بل لن يظهر في الحقيقة أيّ شكل من أشكال الحياة المُحدَثة على الغبراء. بيد أنّنا لو تفكّرنا بعمق لأدركنا أنّ الواهب الأعظم للحياة هو الله؛ فما الشّمس إلاّ واسطة لمشيئته تعالى وغايته. فلولا هذه الموهبة الّتي هي الشّمس لبقي العالم في ظلام. فكلّ نور يضيء مجموعة كواكبنا يصدر أو ينبعث من مركزها الشّمسيّ.

كذلك لا بدّ أن يكون في عالم الرّوح – حيث الإدراك والمثاليّة – مركزٌ للإنوار، وذلك المركز هو الشّمس الرّبّانيّة السّرمديّة المشرقة دائمًا – أي كلمة الله. فأنوارها هي أنوار الحقيقة السّاطعة على البشريّة، منيرة لعالم الفكر والأخلاق، سابغةً نِعم الملكوت الرّبّانيّ على الإنسان. وهذه الأنوار هي علّة تربية النّفوس ومصدر لاستنارة القلوب، وهي الّتي تحمل بإشراقها السّاطع بشارات الملكوت الإلهيّ. وبالاختصار، فإنّ عالم الأخلاق والفضائل وعالم تجدّد الأرواح يعتمدان في ترقّيهما الوجوديّ على مركز الضّياء الملكوتيّ هذا، فهو يفيض بأنوار الدّيانة ويمنح الحياة الرّوحانيّة، ويُسبغ على البشريّة من الفضائل الجوهريّة، وينعم عليها بالسّنايا السّرمديّة. فشمس الحقيقة – أي مركز الإشراقات هذا – هو النّبيّ أو المظهر الإلهيّ. فتمامًا كما تسطع الشّمس الظّاهرة على عالم النّاسوت مانحة الحياة والنّماء، تضفي الشّمس الرّوحانيّة أو الرّسوليّة أيضًا ضياءها على عالم الفكر والعقل الإنسانيّ، وما لم تُشرق على أفق الوجود الإنسانيّ تبقى مملكة الإنسان مظلمة خامدة.

إنّ شمس الحقيقة شمس واحدة، غير أنّ لها مشارق مختلفة، تمامًا كما الشّمس الظّاهرة هي شمس واحدة رغم أنّها تظهر من نقاط مختلفة في الأفق. ففي فصل الصّيف تشرق أنوار شمس عالم النّاسوت من شمال خطّ الاعتدال، وتطلع في الرّبيع والخريف من منتصفه، وتظهر في الشّتاء من أقصى نقطة في جنوب رحلتها البروجيّة. وتتفاوت هذه المطالع أو المشارق تفاوتًا كبيرًا، ولكن تبقى الشّمسُ ذاتَ الشّمس دائمًا وأبدًا – أكانت هي النّيِّر الظّاهريّ أو الرّوحانيّ. ومن يركّزون أنظارهم على شمس الحقيقة يظلّون متلقّين للضّياء من أيّ نقطة أشرقت، أمّا أولئك المكبّلون بعبادة المشارق فهم محرومون إذا ما لاحت لهم من مقام مختلف فوق الأفق الرّوحانيّ.

فضلاً عن هذا، فكما أنّ للدّورة الشّمسيّة فصول أربعة، يكون لدورة شمس الحقيقة فتراتها المتميّزة المتتابعة. وتأتي كلّ منهما بفصلها الاعتداليّ أو بموسمها الرّبيعيّ. فعندما تعود شمس الحقيقة من جديد لإحياء عالم البشر، تهبط العناية الرّبّانيّة من أفق الفضل والعطاء،
فتهتزّ مملكة الأفكار والمُثُل وتنعم بحياة جديدة، وتترقّى العقول وتتنوّر الآمال وتصير المقاصد روحانيّة، وتلوح فضائل العالم الإنسانيّ بقوّة نماء متجدّدة، وتتجلّى صورة الله ومثاله في الإنسان. فهو فصل ربيع العالم المعنويّ. ثمّ يأتي الصّيف بعد الرّبيع بكماله وثماره الرّوحيّة، ويليه الخريف برياحه العقيمة الّتي تبعث بالبرودة في النّفوس؛ وتبدو الشّمس وكأنّها ذاهبة، إلى أن ترخي عباءة الشّتاء سدولها، ولا يبقى سوى بصيص من إشراق الشّمس الرّبّانيّة. وكما يصير سطح الغبراء مظلمًا كئيبًا، والأرض هامدة، والأشجار خالية عارية، ولا يبقى شيء من جمال أو طراوة ليبدّد وحشة الظّلمة والشّقاء، كذلك يشهد شتاء دورة الرّوح موت النّماء الرّبّانيّ وزواله، وانطفاء النّور والمحبّة الإلهيّين. بيد أنّ الدّورة تعود من جديد ويأتي ربيع جديد. وفيه يرجع الرّبيع الماضي، وينتعش العالم ويتنوّر وينال الرّوحانيّة؛ ويجدّد الدّين وينصلح، وتتوجّه الأفئدة إلى الله، ويصغي النّاس إلى النّصائح الإلهيّة، وينعم على الإنسان بحياة جديدة. لقد ضعف عالم الدّين وتقدّمت عليه المادّيّات منذ زمن طويل، ووهنت قوى الحياة الرّوحيّة، وتدنّت الأخلاق، وتلاشت الطّمأنينة والسّلام من النّفوس، وتسيَّدت الصّفات الشّيطانيّة على القلوب، وخيّمت الشّحناء والبغضاء على البشريّة، وانتصر سفك الدّماء والعنف. لقد انصرف النّاس عن الله، وبدت شمس الحقيقة وكأنّها غابت بالكلّيّة؛ وصار حرمان الفرد من الفضائل السّماويّة حقيقة واقعة، بذلك خيّم فصل الشّتاء على البشر. ولكنّ ربيعًا جديدًا قد بزغ الآن بفضل الله، وأشرقت الأنوار الرّبّانيّة، وعادت ولاحت شمس الحقيقة المشرقة، وانتعش عالم الأفكار وملكوت الأفئدة، ونُفخت روح جديدة في جسد العالم، وأصبح التّرقّي الدّائم واضحًا جليًّا.

أرجو أن تضيء أنوار شمس الحقيقة كلّ العالم فلا يبقى هناك نزال وحرب، ومعارك وسفك دماء. ويصبح التّعصّب والتّحزّب الدّينيّ طيّ النّسيان، وتدخل البشريّة جمعاء في رباط من الألفة، وتتعاشر النّفوس بكمال الائتلاف، وترفع أمم الأرض في النّهاية علم الحقيقة، وتدخل أديان العالم في هيكل الوحدة الإلهيّ، حيث إنّ أساس الأديان الإلهيّة ما هو إلاّ حقيقة واحدة. والحقيقة لا تقبل التّجزُّء؛ ولا تعرف التّعدّد. كما أنّ كافة المظاهر الإلهيّة القدسيّة قد نادوا بنفس الحقيقة وروّجوا لها. ودعوا النّاس إلى الحقيقة ذاتها، فالحقيقة واحدة. بيد أنّ سحب التّقاليد وغيومها قد حجبت شمس الحقيقة. علينا أن نتخلّى عن هذه التّقاليد، ونبدّد هذه السّحب والغيوم ونحرّر الشّمس من ظلام الوهم. عندئذ تسطع شمس الحقيقة بأشدّ إشراق، ويتَّحد أهل العالم، وتصبح الأديان واحدة، ويصلح الحال بين الملل والطّوائف، وتلتقي كافّة القوميّات في الاعتراف بأبوّة سماويّة واحدة، وتجتمع كافّة طبقات البشر تحت خباء واحد، مستظلّين براية واحدة.

ما لم تتأسّس المدنيّة السّماويّة لن تكون هناك نتيجة ترجى من المدنيّة المادّيّة تمامًا كما تشاهدونه الآن. انظروا كم من مصائب حلّت بالبشر. تأمّلوا في الحروب الّتي تقُضُّ مضجع العالم. انظروا العداوة والبغضاء. فوجود هذه الحروب والأهوال دليل وبرهان على أنّ المدنيّة السّماويّة لم تتأسّس بعد. أمّا إذا انتشرت المدنيّة الملكوتيّة بين الأمم، فسينقشع غبار الاختلاف هذا، وتتبدّد هذه الغيوم، وتسطع شمس الحقيقة على بني الإنسان بأعظم مجد وإشراق.

اللّهمّ يا واهب العطاء، إنّ هؤلاء الجمع متوجّهون إليك، شاخصة أبصارُهم إلى ملكوتك وفضلك، توّاقون إلى رؤية أنوار وجهك. أي ربّ، بارك هذه الأمّة وأيّد حكومتها واكشف سناءك لهذا الشّعب، وهبه حياة أبديّة. أي ربّ، نَوّر الوجوه وأنر القلوب واشرح الصّدور وتوّج الرّؤوس بإكليل موهبتك وأصعدهم إلى هوائك الصّافي حتّى يبلغوا أوج سنائك. وأعنهم على أن ينال هذا العالم فيض إشراق وصالك في كلّ آن. أي ربّ احفظ هذا الجمع ووقّر هذه الأمّة واجعلهم سباقين في كلّ الدّرجات، ليكونوا أئمة في عالم الإنسان وقدوتك بين الأنام ومظاهر فضلك، ممتلئين بإلهام كلمتك، إنّك أنت القويّ، إنّك أنت المقتدر، إنّك أنت المعطي، وإنّك أنت العليم.

(15) 5 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بكنيسة كلّ النّفوس، بمركز لينكولن،
شيكاغو، ولاية إلينوي

نقلاً عمّا دوّنته مرضيّة موسّ

لقد تأسّست الأديان الإلهيّة من أجل توحيد البشريّة وإرساء قواعد الصّلح العموميّ. وكلّ حركة تجلب السّلام والوئام إلى المجتمع الإنسانيّ هي حقًّا حركة إلهيّة، وكلّ إصلاح يكون علّة جمع النّاس تحت خباء واحد، إنّما تحرّكه في حقيقة الأمر دوافع سماويّة. في كلّ أوان وكلّ عصر في العالم كان الدّين عاملاً على جمع قلوب البشر معًا، وتوحيد ما كان مختلفًا من المذاهب. فعنصر السّلام في الدّين هو الّذي يؤلِّف بين قلوب بني البشر ويمهِّد الطّريق إلى الوحدة، أمّا الحرب فدائمًا ما كانت سببًا للشّقاق والخلاف والنّزاع.

انظروا كيف وحّد يسوع المسيح ما بين أمم وملل وطوائف العصور الأولى المتفرّقة. فمن الواضح أنّ أصول الأديان ترمي إلى الوحدة والائتلاف، ومرادها هو الصّلح العموميّ الدّائم. وفي الأيّام الّتي سبقت مجيء يسوع المسيح وحّدت كلمة الله طوائفَ متضادّة وعناصرَ متنافرة من المجتمع الإنسانيّ، ومن بعد مجيئه كان هذا المقصد العالميُّ مرامَ المعلّمين الإلهيّين الّذين روّجوا جوهر أساس النّاموس الإلهيّ. ففي إيران، تمكّن حضرة بهاء الله من توحيد أناس ذوي أفكار وعقائد ومذاهب متنوّعة. فأهل تلك الدّيار هم من المسيحيّين والمسلمين واليهود والزّرادشتيّين، ومن فرق ونحل متشعّبة، أضف إليها أعراقًا متباينة كالسّاميّة، والعربيّة، والفارسيّة، والتّركيّة، وغيرها؛ إلاّ أنّ حضرة بهاء الله، وبفضل قوّة الدّين وفاعليته، وحّد هؤلاء الأقوام المختلفة وجعلهم يتعاشرون معًا بكامل الوئام، وصار هذ الاتّحاد والاتّفاق متجلّيًا بينهم حتّى إنّهم أصبحوا يعدّون شعبًا واحدًا ونوعًا واحدًا.

يكمن سبب هذا التّآلف والوحدة في أنّ للشّريعة الرّبّانيّة جانبيْن أو وظيفتين متميّزتين: الأوّل هو الجوهريّ أو الأساسيّ، والثّاني هو المادّيّ أو العرضيّ. فأوّل جانب للدّين المنزل من عند الله هو ذلك الّذي يتعلّق بترقية الأخلاق والتّقدّم الرّوحيّ للبشر، وإيقاظ القابليّات الكامنة في الانسان، ونزول الفيوضات الإلهيّة. وهذه الأحكام ثابتة، وجوهريّة، ودائمة. أمّا الجانب الثّانيّ للدّين الإلهيّ فهو متعلّق بالأحوال المادّيّة، وقوانين المعاملات البشريّة، والنّظام الاجتماعيّ. وهذه عرضة للتّبديل والتّحويل بحسب الزّمان والمكان والظّروف. فالأحكام الجوهريّة للدّين كانت هي نفسها في زمن إبراهيم وكذلك في أيّام موسى ودورة عيسى، في حين أنّ الشّرائع العرضيّة أو المادّيّة كانت تُنسخ أو تُبدّل طبقًا لمقتضيات ومتطلّبات كلّ عصر تالٍ. فمثلاً، كان في شريعة موسى عشرة أحكام مختلفة بالقتل قد نزلت بحسب احتياج النّاس واستعدادهم، أمّا في زمن المسيح فقد نـُسخت وتبدّلت طبقًا لأحوال البشر الّتي تغيّرت وترقّت.

إنّ الهدف الرّئيس من الأديان الإلهيّة هو تأسيس الصّلح والاتّحاد بين البشر. وحيث إنّ حقيقتها واحدة؛ لذا فإنّ ما تنجزه وتحقّقه واحد وعموميّ – سواء تمّ عن طريق الجوهريّ من الأحكام الإلهيّة أو المادّيّ منها. فليس هناك سوى نور واحد للشّمس الظّاهريّة، ولا يوجد سوى بحر واحد، وغيث واحد، وهواء واحد. وبالمثل فإنّه لا يوجد سوى حقيقة إلهيّة واحدة في العالم الرّوحيّ، وهذه الحقيقة هي بمثابة القاعدة المحوريّة المتّصفة بحبّ الخير الّتي تهدف إلى تحقيق السّلام والوئام بين مختلف الأمم والشّعوب المتناحرة. انظروا كيف كانت الإمبراطوريّة الرّومانيّة والأمّة الإغريقيّة في حرب وعداوة وكراهية عند ظهور السّيّد المسيح، وكم كانت عداوة مصر مع آشور، ولو أنّها كانت قد خفتت في شدّتها إلاّ أنّ نارها كانت لا تزال مشتعلة بين العناصر المتناحرة لهاتيْن الأمّتين القديمتين الآخذتين في الأفول. بيد أنّ تعاليم يسوع المسيح أثبتت أنّها الرّابطة الّتي وحّدتهم؛ فتوقّفت الحرب، وتبدّدت الشّحناء والبغضاء، وتعاشرت تلك الشّعوب المتحاربة في محبّة وإخاء. فالنّزاع والحرب هما الهادمان لبنيان البشريّة، بينما السّلام والوئام هما البانيان والضّامنان لخير الإنسانيّة. فإذا افترضنا مثلاً أنّ أمّتين عاشتا في سلام عدّة قرون، ثمّ أعلنتا الحرب على بعضهما البعض، فأيّ خراب وخسران سيحلّ بهما في غضون سنة واحدة من النّزاع والاقتتال – ولن يكون هذا سوى هدم كلّ ما بني في قرون السّلام. وكم سيكون احتياجهم شديدًا للسّلام برخائه ونمائه بدلاً من الحرب الّتي تنسف وتخرّب أساس كلّ إنجاز بشريّ.

يمكن تشبيه الهيئة الاجتماعيّة بجسم الإنسان؛ فطالما كانت مختلف أعضاء وأجزاء ذلك الجسم متآلفة ومتعاونة بكلّ وئام، حصلنا على أكمل صورة للحياة. وعندما يغيب التّآلف والانسجام عن هذه الأعضاء، نحصل على عكس ذلك. فهذا بالنّسبة للجسم البشريّ هو المرض، والانحلال، والوفاة. كذلك الأمر في الهيئة الاجتماعيّة البشريّة يكون النّزاع والخلاف والقتال مدمّرًا على الدّوام، ومميتًا لا محالة. فكافّة الكائنات إنّما يعتمد وجودها على السّلام والتّآلف، ذلك لأنّ كلّ كائن مادّيّ حادث هو تركيب لعناصر محدّدة. وطالما كان هناك تجاذب وتماسك بين هذه العناصر المركّبة، فإنّ القوّة والحياة تتجلّيان؛ أمّا إذا نشب النّزاع والتّنافر بينها، فالتّحلّل واقعٌ. وهذا برهان على أنّ السّلام والتّفاهم الّذي أراده الله لأبنائه هما المنجّيان للمجتمع البشريّ، بينما يكون الحرب والشّجار – وهما المخالفان لأوامره – سببي الهلاك والدّمار. ولهذا فقد بعث الله أنبياءه لينادوا برسالة الخير والسّلام والحياة لعالم الإنسان.

بما أنّ جوهر حقيقة الأديان واحد وأنّ اختلافها وتعدّدها الظّاهريّ راجع إلى التّمسّك بالرّسوم والتّقاليد الّتي طرأت عليها، يكون من الواضح وجوب التّخلّي عن أسباب هذا الخلاف والتّباعد لكي يتسنّى لحقيقة الدّين الأساسيّة أن توحِّد بني البشر بالتّنوير والإصلاح. فكلّ من يتمسّك بالحقيقة الواحدة سيكون على وفاق واتّحاد. عندئذ تصبح الأديان داعية جميع النّاس إلى وحدة العالم الإنسانيّ وإلى العدل العموميّ، وتصير منادية بالمساواة في الحقوق وتحضّ البشر على الفضيلة والإيمان برحمة الله. فأسّ أساس الأديان واحد؛ ولا يوجد أيّ اختلاف جوهريّ فيما بينها. وبناء على ذلك لو اتّبعنا أحكام الأديان الجوهريّة والأساسيّة، لأشرقت علينا أنوار السّلم والاتّحاد وانمحت فوارق المذاهب والأحزاب.

الآن دعونا نتفكّر في مختلف شعوب العالم: إنّ كافّة الأمم – من أمريكيّين، وبريطانيّين وفرنسيّين، وألمان، وأتراك، وفرس، وعرب – هم جميعًا أبناء آدم ذاته، وأعضاء الأسرة الإنسانيّة نفسها. فلماذا ينشب النّزاع بينهم؟ وأديم الأرض وطن واحد، وقد أُعطي هذا الوطن للجميع، فلم يضع الله هذه الحدود والقيود العرقيّة. فلماذا تصبح حدودٌ وهميّةٌ لم يأت بها الله أصلاً علّةً للنّزاع؟ فالله خالق الكلّ ورازقهم، وهو حافظ الكلّ، والكلّ مستغرق في بحر رحمته. وليس هناك نفس واحدة محرومة. وبما أنّ لدينا إله وخالق محبّ، فلماذا نحارب بعضنا البعض؟ وطالما كان نوره ساطعًا على الكلّ، فلماذا نلقي بأنفسنا في الظّلام؟ وحيث إنّ مائدته ممتدّة لكافّة أبنائه، فلماذا نحرم بعضنا البعض من مددها؟ وإذا كان إشراقه يسطع على الجميع، فلماذا نسعى للحياة في الظّلام؟ لا ريب أنّ العلّة الوحيدة هي الجهل، وأنّ النّتيجة هي الخسران. إنّ النّزاع يحرم البشريّة من العطايا الرّبّانيّة الدّائمة؛ فعلينا إذًا أن ننسى جميع العلل الوهميّة المسبّبة للاختلاف ونسعى نحو الأسس الحقيقيّة للأديان الإلهيّة، حتّى نتآلف بكمال المحبّة والوفاق، ونعدّ الجنس البشريّ أسرة واحدة؛ ونعتبر أديم الأرض وطنًا واحدًا، ونرى كافّة الأجناس كجنس بشريّ واحد. فلنحيا في حفظ الله، ونحظى بالسّعادة الأبديّة في هذه الدّنيا، وبالحياة الأبديّة في الآخرة.

يا ربّي الرّؤوف، قد خلقت البشر كافّة من تراب واحد، وقدّرت للكلّ أن ينتسبوا لأسرة واحدة. وفي محضرك المقدّس كلّهم عبادك، وكلّ البشر مستظلّون بقبابك، والكلّ مجتمعون على مائدة أفضالك، والكلّ مستنيرون بنور عنايتك.

أي ربّ، أنت الرّؤوف بالكلّ، وأنت الرّازق للكلّ، ومأوى الكلّ، ومحيي الكلّ. قد اختصصتهم يا إلهي بالمواهب والقدرات، والكلّ منغمسون في بحر رحمتك.

يا ربّي الرّؤوف، اجمع الكلّ على الاتّحاد، وألّف بين الأديان، ووحّد الأمم، حتّى يرَوْا بعضَهم أسرة واحد، وينظروا الأرض كلّها وطنًا واحدًا، ويعيشوا معًا في وئام تامّ.

أي ربّ، ارفع راية وحدة العالم الإنسانيّ

أي ربّ، أرسِ أساس الصّلح الأعظم

وألّف يا إلهي بين القلوب

يا أبانا الرّحيم وإلهنا! اشرح صدورنا بنفحات محبّتك، وأنر أبصارنا بنور هدايتك، وشنف آذاننا بألحان كلمتك، واحفظنا في كنف عنايتك.

إنّك أنت المقتدر القدير، إنّك أنت الغفور، وإنّك أنت ستّار عيوب النّاس أجمعين.

خطبتان ألقاهما حضرة عبد البهاء في كليفلاند (1) 6 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بقاعة إقليدس، كليفلاند، ولاية أوهايو

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

هذه أمسية في غاية البهجة، وفي حدّ ذاتها دليل على إمكانيّة توحيد الشّرق والغرب – حيث يقف رجل شرقيّ أمام محفل من أفاضل أهل الغرب. فالشّرق والغرب، أي أهل الشّرق وأهل الغرب، سيتّحدان. وإذا ما بحثنا في التّاريخ فلن نجد سجلاًّ يحكي عن مناسبة من هذا القبيل سافر فيها شخص من أقصى الشّرق إلى أقصى الغرب ليخاطب اجتماعًا ذا طابع عالميّ. فهذه معجزة من معجزات القرن العشرين تبرهن على أنّ ما يبدو مستحيلاً قد يصبح حقيقيًّا وممكنًا في مملكة البشر. والحمد لله! إنّ عصور الظّلام قد ولّت وحلّ عصر النّور أخيرًا، وأشرقت شمس الحقيقة بأشدّ إشراق، وتجلّت وتجدّدت حقائق الأشياء، وكُشفت أسرار الغيب، ووسمت الاختراعات والاكتشافات العظيمة هذه الحقبة بوصفها عصرًا في غاية الإبداع.

بفضل براعة الإنسان واختراعاته أصبح من الممكن طيّ المحيطات الشّاسعة، والطّيران في الهواء، والسّفر في أعماق البحار. وبوسع أهل الشّرق أن يخابروا أهل الغرب في أيّ لحظة. وتَطوي القطارات السّريعة القارّات. كما حُـفظ صوت الإنسان لتُعاد إذاعته، وبمقدور النّاس الآن أن يتهاتفوا عبر المسافات الطّويلة من أيّ بقعة كانت. إنّها بعض من آيات هذا القرن المجيد. ولقد حدث هذا التّقدّم العظيم في عالم المادّة وظهرت العلامات والآيات الباهرات وكشفت الحقائق والأسرار المكنونة، فيتعيّن على الإنسان الآن أن يبذل ما في وسعه ويوجّه عظيم جهده نحو النّواحي الرّوحيّة. فقد بلغت المدنيّة المادّيّة درجة عالية من التّرقّي، ولكنّ العالم الآن في حاجة إلى مدنيّة روحيّة. فالمدنيّة المادّيّة وحدها لن تكون كافية؛ إذ ليس بإمكانها أن تستجيب لظروف العصر الحاضر وتفي بمتطلّباته؛ فالمنافع الّتي تتأتّى منها مقصورة على عالم المادّة. أمّا روح الإنسان فلا تحدّها حدود، ذلك لأنّ هذه الرّوح بحدّ ذاتها في حالة دائمة من التّقدّم والتّرقّي. وإذا ما تأسّست المدنيّة الإلهيّة فستترقّى روح الإنسان، وستزيد كلُّ قابليّة تمّت تنميتها من تأثير الإنسان وفاعليّته، وتصبح اكتشافات الحقائق ممكنة أكثر فأكثر، ويلوح تأثير الهداية الرّبّانيّة ونفوذها على نحو متزايد. كلّ هذا من شأنه أن يُفضي إلى ظهور مدنيّة إلهيّة. هذا هو المقصود في الإنجيل من نزول أورشليم الجديدة. فأورشليم السّماويّة ليست سوى المدنيّة الإلهيّة، وهي الآن مهيّأة، ولسوف تأتي وتتحقّق لا محالة، وتصير وحدة الجنس البشريّ حقيقة بادية للعيان. عندئذ يلتئم شمل البشريّة ككيان واحد، وتتوحّد مختلف الأديان، وتـُعدّ كلّ الأعراق عرقًا واحدًا، ويرتبط أهل الشّرق والغرب، وتنتشر راية السّلام العالميّ، وينعم العالم بالسّلام في نهاية المطاف، وتترسّخ حقوق الإنسان وتتحقّق المساواة بين البشر، وتوضع القدرات البشريّة على محكّ التّجربة والاختبار، وتبلغ البشريّة من الرّقيّ درجة تكون فيها المساواة حقيقة واقعة.

ولسوف تنعم كلّ شعوب العالم بنفس المنافع، ويكون للفقير نصيب من راحة العيش. فكما يكون الأثرياء محاطين بالتّرف في قصورهم، كذلك سوف يحظى الفقراء على الأقلّ بمأواهم المريح البهيج؛ وكما ينعم الأغنياء بما لذّ وطاب من الطّعام، سيحصل المعوزون على ضروريّاتهم ولن يعيشوا في فقر بعد ذلك. وبالاختصار، سيحدث تعديل في النّظام الاقتصاديّ، وتحتضن الأبوّة الرّحمانيّة النّفوس والأرواح، وتسطع شمس الحقيقة الرّبّانيّة، ويكون لكلّ مخلوق في الوجود قدر مقدور.

تدبّروا؛ ما الّذي تقدّمه لنا مدنيّة اليوم المادّيّة؟ ألم ينتج عنها آلات حرب ودمار؟ لقد كان السّيف هو سلاح الحرب في قديم الزّمان، أمّا الآن فهو البندقيّة الآليّة. وكانت سفن الحرب قبل قرن من الزّمان مراكبَ شراعيّة، أمّا الآن فلدينا السّفن المدرّعة. وهكذا تضاعفت آلات ووسائل الدّمار البشريّ بشكل هائل في زمن المدنيّة المادّيّة هذا. أمّا إذا ما تهيّأت المدنيّة المادّيّة جنبًا إلى جنب مع المدنيّة الإلهيّة، وإذا ما اتّحد من لديه النّزاهة الخُـلُقيّة والفطنة الفكريّة مع من له قدرة روحيّة من أجل صلاح البشريّة، يكون ذلك ضامنًا لسعادة الجنس البشريّ وتقدّمه. وعندئذ تتقارب كلّ أمم العالم وتتآخى، وتأتلف كافّة الأديان في دين واحد، ذلك لأنّ الحقيقة الإلهيّة الكامنة فيها جميعًا واحدة. فقد نادى إبراهيم بتلك الحقيقة، وروّج لها يسوع المسيح، كما أنّ جميع الأنبياء الّذين ظهروا في العالم أرسوا قواعد تعاليمهم عليها. ولذلك فإنّ أهل العالم لديهم هذا الأساس الحقيقيّ الثّابت للسّلام والوئام، وسوف تزول وتتلاشى الحروب الّتي دارت رحاها آلاف السّنين.

لقد انهمكت البشريّة في الحرب والصّراع قرونًا ودورات؛ فتارة كان الدّين ذريعة لهذه الحرب، وتارة أخرى هي النّعرة الوطنيّة، أو التّعصّب العرقيّ، أو السّياسة القوميّة، أو الفتوحات الإقليميّة أو التّوسع التّجاريّ. وخلاصة القول إنّ الإنسانيّة لم تكن أبدًا في سلام طوال ما عرفناه من التّاريخ. فكم من دماء أريقت، وكم من آباء ناحوا لفقد الأبناء، وكم من أبناء بكوا آباءهم، وكم من أمّهات ثكلن فلذات أكبادهنّ. كان البشر وقود ساحة الوغى وهدفها، وكان القتال والنّزال هما سمة التّاريخ والوزر الّذي حمله. واتّصف النّاس بالوحشيّة أكثر من الحيوانات نفسها. فالأسد والنّمر والدّب والذّئب حيوانات متوحّشة بسبب احتياجاتها، وما لم تكن مفترسة ومتوحّشة وقاسية لماتت جوعًا. فالأسد لا يستطيع أن يعيش على الحشائش، فأنيابه مجهّزة لأكل اللّحوم دون سواها. وينطبق هذا الأمر أيضًا على سائر الوحوش. فالوحشيّة لديها هي غريزة فطريّة وهي وسيلتها للعيش؛ أمّا وحشيّة الإنسان فهي من الأنانيّة والطّمع والظّلم، وليس لها ضرورة فطريّة. فالإنسان يقتل ألفًا من بني جنسه دونما أيّ ضرورة ليصبح بعدها بطلاً تُمجّده الأجيال عبر القرون. وتُمحى مدينة عظيمة في يوم واحد على يد قائد عسكريّ. فما أجهل البشر وما أشدّ تناقضهم! فإذا ما قتل شخصٌ شخصًا آخر وصمناه بالقاتل المجرم وحكمنا عليه بالإعدام، أمّا إذا ما قتل مائة ألف نفس، فهو ذو عبقريّة عسكريّة، وشخصيّة عظيمة، وهو النّابليون المعبود لدى أمّته. وأيضًا إذا ما سرق أحد دولارًا فهو لصّ يسجن، أمّا إذا اغتصب وسلب بلدًا مسالمًا عن طريق الغزو العسكريّ، فإنّه يتوّج بطلاً. فما أجهل البشر! فالشّراسة والوحشيّة ليست من خصال مملكة الإنسان، وما يليق بالإنسان مَنـحُ الحياة لا سلبها. وما يجدر به أن يكون علّة الخير للبشر، ولكن طالما كان افتخار الإنسان بالوحشيّة الحيوانيّة فهو دليل على أنّ المدنيّة الإلهيّة لم تتحقّق بعد في المجتمع الإنسانيّ. لا شكّ أنّ المدنيّة المادّيّة قد أحرزت تقدّمًا، ولكن بما أنّها لم تكن مصحوبة بالمدنيّة الإلهيّة، فقد تنامى فيها الشّرّ والأذى. في غابر الزّمان كان إذا ما امتدّ قتال أمّتين اثني عشر شهرًا، لم يكن يهلك جرّاء ذلك أكثر من عشرين ألف نفس، أمّا الآن فقد تضاعفت آلات الهلاك وصارت متقنة بدرجة أنّ مائة ألف نفس قد تهلك في يوم واحد. فقد هلك مليون من البشر إبّان الشّهور الثّلاثة الّتي دارت فيها رحى الحرب الرّوسيّة اليابانيّة. وهذا أمر لم يكن على البال في القرون الغابرة. والسّبب في ذلك غياب المدنيّة الإلهيّة.

إنّ هذه الأمّة الأمريكيّة المحترمة تبدي سمات العظمة والجدارة. وأملي أن تناصر هذه الحكومة العادلة قضيّة السّلام، لكي تنتهي الحروب في كلّ أرجاء المعمورة، وترتفع رايات الوحدة والمصالحة القوميّة. هذا هو أعظم فوز للعالم الإنسانيّ. فهذه الأمّة الأمريكيّة مؤهّلة ومهيّأة لإنجاز ما سوف تتزيّن به صفحات التّاريخ، ولأن تصبح غبطة للعالم، ومحلاًّ لثناء الشّرق والغرب بسبب انتصار ديموقراطيّتها. وأدعو الله أن يتحقّق هذا، وألتمس من الله العناية لأجلكم جميعًا.

(2) 6 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بمصحـّة الدّكتور سوينجل، كليفلاند، ولاية أوهايو

نقلاً عمّا دوّنه سايجِل بروكس

إنّها مدينة جميلة، والطّقس بديع والمناظر خلاّبة. وكلّ مدن أمريكا تبدو كبيرة وجميلة، وعلامات الرّفاهية والثّراء بادية على النّاس. إنّ القارّة الأمريكيّة تُظهر دلائل وعلامات رقيّ بالغ، ومستقبلها واعد بدرجة كبيرة، فتأثيرها وتنويرها بعيدا المدى، وستكون هذه القارّة رائدة لكافّة الأمم روحيًّا. من هنا ارتفع لواء الحرّيّة وعلم التّحرّر، إلاّ أنّ رخاء وتقدّم أيّ مدينة وسعادة أيّ أمّة وعظمتها منوط جميعها بالإصغاء إلى نداء الله وطاعته. فيلزم أن يسطع عليها نور الحقيقة وتتأسّس فيها المدنيّة الإلهيّة، وعندئذ يفيض إشراق الملكوت، وتعمّ التّأثيرات السّماويّة. والمدنيّة المادّيّة كالجسد، أمّا المدنيّة الإلهيّة فهي بمثابة الرّوح لذلك الجسد. وجسم بلا روح هو جسد ميّت، وشجرٌ بلا ثمر عديم الفائدة. ولقد صرّح يسوع المسيح بأنّ لدى بعض النّاس استعدادًا روحيًّا، إذ ليس الكلّ غارقًا في بحر المادّيّة. فهم توّاقون إلى الرّوح الرّبّانيّة، ومتوجّهون إلى الله، ومشتاقون للملكوت. رجائي أن ينال هذا الحضور المحترم الرّقيّ المادّيّ والرّوحيّ معًا. وكما حقّقوا تقدّمًا رائعًا على سلّم الرّقيّ المادّيّ، يمضون بنفس القدر في تقدّمهم الرّوحيّ، إلى أن يصير البدن لطيفًا وجميلاً بثراء الاستعداد والكفاءة الرّوحانيّة.

الحمد لله إنّ شمس الحقيقة قد أشرقت، ويسطع تألّقها في كلّ الآفاق. وآيات الله باهرات، وتعاليم الرّسل الإلهيّة منتشرة. فعسى أن تتوجّه القلوب إلى ملكوت الله، فتستنير بمشاهدة الأنوار الإلهيّة، حتّى تنال كلّ الكائنات نصيبًا من المواهب الإلهيّة، وتتجدّد روح الحياة بنعم الله القدير، ويرتبط الشّرق والغرب معًا، ويتجلّى الاتّحاد والاتّفاق في جميع الأصقاع، ويصير أهل العالم كأسرة واحدة وينالون الفضل الأبديّ، وتُفتح أبواب الملكوت من كلّ صوب، ويُسمع الثّناء على الاسم الأبهى من كلّ أرجاء المعمورة.

خطبة ألقاها حضرة عبد البهاء في بيتسبرج 7 مايو/ أيّار 1912

خطبة ألقاها حضرة عبدالبهاء بفندق سكينلي،
بيتسبرج، ولاية بنسلفانيا

نقلاً عمّا دوّنته سوزان بتي

لقد جئتُ من بلاد الشّرق لزيارة بلدكم. من المؤكّد أنّ هذه القارّة جديرة بالثّناء من كافّة النّواحي، وعلائم الازدهار بادية في كلّ مكان. فالنّاس هنا يُبدون اللّطافة والكياسة، كما أنّ شواهد تقدّم المدنيّة لا حصر لها. سأقدّم لكم عرضًا موجزًا للمبادئ الأساسيّة لتعاليم حضرة بهاء الله حتّى تكونوا على علم بطبيعة الحركة البهائيّة وأهمّيّتها.

منذ ما يقرب السّتّين سنة، كانت العداوة والنّزاع متفشّيين بدرجة كبيرة بين مختلف الأقوام والطّوائف الدّينيّة في بلاد فارس، كما سادت الحرب والنّزاعات جميع أرجاء العالم بصفة عامّة. في ذلك الوقت ظهر حضرة بهاء الله من بلاد فارس، وشرع يكرّس حياته من أجل النّهوض بالنّفوس وتربيتها. فوحّد ما بين مختلف الملل والنّحل، وأزال التّعصّبات الدّينيّة والعرقيّة والقوميّة والسّياسيّة، وأسَّس رابطة متينة من الاتّحاد والاتّفاق بين مختلف مشارب النّاس وطبقاتهم. كانت العداوة القائمة بين النّاس في ذلك الوقت على درجة من القسوة والحِدّة بدرجة أنّ مجرّد المعاشرة العاديّة كانت أمرًا لا يمكن التّفكير فيه. فلم يكونوا يلتقون معًا أو يتشاورون مع بعضهم البعض على الإطلاق. فتحقّقت بفضل نفوذ تعاليم حضرة بهاء الله أبدع النّتائج. إذ أزال حضرته التّعصّبات والكراهيّة من قلوب النّاس، وخلق تحوّلاً في سلوكهم تجاه الآخرين بلغ من شأنه أن ساد في إيران اليوم وفاق كامل بين من كانوا قبل ذلك من عقائد متزمّتة وملل مختلفة، وطبقات متباينة. لم يكن هذا عملاً سهلاً، فقد عانى حضرة بهاء الله من شديد المحن وعظيم الشّدائد، وبالغ الاضطهاد. فسُجن وعذّب، ثمّ نفي أخيرًا من وطنه. وتحمّل كلّ مشقّة وبليّة بغاية الرّضا. بل إنّه، إبّان نفيه المتتابع من بلد لآخر وإلى وقت صعوده من هذا العالم، تمكّن من ترويج تعاليمه حتّى وهو في السّجن. وأينما أرسله ظالموه كان يرفع لواء وحدة العالم الإنسانيّ، ويروِّج مبادئ وحدة البشريّة. وإليكم بعض هذه المبادئ:

أوّلاً: يجب على جميع البشر أن يتحرّوا الحقيقة. فإذا ما تمّ ذلك اتّفق الجميع واتّحدوا، إذ إنّ الحقّ أو الحقيقة لا تتعدّد؛ ولا تقبل الانقسام. إنّ الحقيقة الّتي تقوم عليها مختلف الأديان واحدة؛ لذلك فإنّ حقيقة الأديان واحدة.

كلّ دين من الأديان الإلهيّة يشتمل على شِقّين من الأحكام. أوّلهما يختصّ بالقابليّات الرّوحيّة والتّرقّي في المبادئ الأخلاقيّة وإيقاظ وعي الإنسان. وهي جوهريّة أو أساسيّة، وهي واحدة متماثلة في جميع الأديان، ودائمة أزليّة – فالحقيقة لا تخضع للتّبديل والتّغيير. ولقد نادى حضرة إبراهيم بهذه الحقيقة، وروّجها حضرة موسى، وأسَّسها يسوع المسيح في عالم البشر. وكان كلّ أنبياء الله ورسله أدوات وقنوات لنفس هذه الحقيقة الجوهريّة السّرمديّة.

الشّقّ الثّاني من أحكام الأديان الإلهيّة ما يتعلّق بأمور البشر المادّيّة. وهي الشّرائع المادّيّة أو العارضة الّتي تخضع للتّبديل في كلّ ظهور إلهيّ طبقًا لمقتضيات الزّمان وظروف البشريّة وتفاوت استعدادها. ففي أيّام موسى على سبيل المثال شرّع عشرة أحكام بالقتل، وكانت هذه الأحكام وفقًا لمقتضيات ذلك اليوم والزّمان. كذلك شرّع موسى أحكامًا أخرى تتضمّن عقوبات صارمة – مثل العين بالعين، والسّنّ بالسّنّ. وكان بتر اليد هو عقوبة السّرقة. وكانت هذه الأحكام والعقوبات توافق حال بني إسرائيل في ذلك الزّمان، عندما كانوا يعيشون في البرّيّة والقفار في ظلّ ظروف كانت الشّدّة فيها لازمة ومبرّرة. ولكن في زمان يسوع المسيح أصبح ذلك النّوع من التّشريع غير ملائم؛ ولذلك قام السّيّد المسيح بنسخ واستبدال الأحكام الموسويّة.

خلاصة القول، إنّ كلّ دين من الأديان الإلهيّة يشتمل على أحكام جوهريّة ثابتة لا تخضع للتّغيير، وأخرى مادّيّة تتغيّر طبقًا لمقتضيات الزّمان. بيد أنّ أهل العالم هجروا التّعاليم الإلهيّة واتّبعوا أشباه الحقيقة، وبما أنّ هذه التّأويلات والخرافات البشريّة من شأنها أن تتفاوت، فقد نشبت الخلافات والتّعصّبات العمياء وساد النّزاع والقتال. بينما كان من الممكن أن يتّحد الكلّ ويتّفقوا بفضل تحرّي الحقيقة أو تَبَيُّنِ أساس الحقيقة الكامن في كلّ من عقائدهم وعقائد غيرهم، ذلك لأنّ هذه الحقيقة واحدة لا تتعدّد ولا تتجزّأ.

ثاني مبادئ أو تعاليم حضرة بهاء الله هو إعلان وحدة العالم الإنسانيّ – بمعنى أنّ الكلّ عباد لله وينتمون إلى عائلة واحدة؛ وأنّ الله خلق الكلّ، ولهذا فإنّ عطاياه تعمّ الجميع وعنايته وتربيته ومَدَدَه وعطفه محيط بالنّاس كافّة.

هذه هي السّياسة الرّبّانيّة، ويستحيل على الإنسان أن يرسي قواعد نظم وسياسة أحسن ممّا وضعه الله. فعلينا إذًا أن نعرف مقصد الرّبّ الجليل ونساند مراده. فبما أنّ الله شفوق بالكلّ ومحبّ للكلّ، فلماذا نكون غير ذلك؟ وإذا كان العالم الإنسانيّ أسرة واحدة، فلماذا ينهمك أعضاء الأسرة الواحدة بالبغضاء والشّحناء؟ فعلينا إذًا أن ننظر إلى البشريّة بعين المساواة ونتبنّى نفس الموقف من المحبّة. وأشرف القوم خادمهم، والأقرب إلى عتبة الله هم أقلّ عباده شأنًا. ويعتمد شرف الإنسان وعزّه على خدمته لبني جنسه لا على إظهار العداء والكراهية لهم.

ثالث مبادئ أو تعاليم حضرة بهاء الله هو توافق الدّين والعلم. فأيّ معتقد دينيّ لا يطابق الدّليل والاستقصاء العلميّ هو خرافة، لأنّ العلم الصّحيح هو عقل وحقيقة، كما أنّ الدّين في جوهره حقيقة وعقلانيّة محضة، فعلى الدّين والعلم إذًا أن يتطابقا. والتّعليم الدّينيّ الّذي يخالف العلم والعقل هو بدعة من صنع البشر ووهم لا يستحقّ القبول، لأنّ نقيض المعرفة وضدّها هو الخرافة الوليدة عن جهل الإنسان. فلو قلنا إنّ الدّين يعارض العلم، نكون مفتقرين إلى معرفة العلم الحقيقيّ أو الدّين الحقيقيّ، إذ إنّ كلاهما قائم على افتراضات العقل واستنتاجاته، ولا بدّ لهما أن ينجحا باختباره.

رابع مبادئ أو تعاليم حضرة بهاء الله هو تعديل مستويات البشر الاقتصاديّة وتحقيق التّوازن فيما بينها، وهذا متعلّق بمسألة المعيشة. فمن الواضح أنّ الفقير في ظلّ أنظمة وأحوال الحُكم الحاليّة عرضة لأشدّ حالات العوز واليأس، بينما يعيش البعض الأوفر حظًّا في ترف وبحبوحة تتجاوز احتياجاتهم الفعليّة بقدر كبير. وهذا الغـُبن في الرّزق والمنفعة أحد المشاكل العميقة والحيويّة في المجتمع الإنسانيّ. من الواضح أنّ هناك حاجة إلى تحقيق التّوازن والتّوزيع اللّذين يحصل بمقتضاهما الجميع على راحة العيش ومنافعه. والعلاج هنا يجب أن يكون بتعديل الأحوال عن طريق سنّ القوانين. كما أنّ على الأغنياء أيضًا أن يكونوا رحماء بالفقراء، فيتبرّعون من مالهم طواعية دونما ضغط أو إجبار لسدّ حاجة الفقراء. بتأسيس هذا المبدأ في الحياة الدّينيّة للبشر سوف تتحقّق للعالم راحته.

خامس مبادئ أو تعاليم حضرة بهاء الله هو نبذ التّعصّبات الدّينيّة والعرقيّة والقوميّة والسّياسيّة الهادمة لأسس المجتمع الإنسانيّ. فكلّ البشر هم مخلوقات الله الواحد وعباده، وأديم الغبراء وطن واحد، والبشريّة أسرة وعائلة واحدة. أمّا التّخصيص والتّحديد فمن صنع البشر. فلماذا يكون هناك شقاق ونزاع بين البشر؟ يجب على الكلّ أن يتّحدوا ويتعاونوا في خدمة العالم الإنسانيّ.

سادس مبادئ أو تعاليم حضرة بهاء الله مختصّ بمساواة الرّجل والمرأة. فقد أعلن حضرته أنّ الله سبحانه وتعالى ليس لديه تمييز بين ذكر وأنثى؛ فمن كان قلبه أطهر وأعماله وخدمته لأمر الله أعظم وأنبل هو الأكثر قبولاً لدى العتبة الإلهيّة – ذكرًا كان أم أنثى. فالجنسان في مملكتيْ النّبات والحيوان نجدهما بكامل المساواة دون أيّ تمييز أو تحيّز. فالحيوان مذعن بالمساواة بين الجنسين رغم أنّه يقلّ عن الإنسان ذكاءً وعقلاً. فكيف بالإنسان الّذي أوتي نعمة الإحساس بالعدل وحساسيّة الضّمير أن يقبل بأنّ يُعتبر أحد أعضاء الأسرة الإنسانيّة تابعًا له أو أقلّ منه شأنًا. فهذا التّمييز لا ينمّ عن ذكاء أو ضمير حيّ؛ ولهذا أنزل حضرة بهاء الله المبدأ الدّينيّ المنادي بأنّ المرأة يجب أن تُمنح فرصة التّعليم على قدم المساواة مع الرّجل، وأن يُعطى لها ما للرّجل من حقوق بتمامها. أي أنّه يجب ألاّ يكون هناك أيّ اختلاف في تربية الرّجل عن تربية المرأة لكي تتطوّر وتنمو لدى معشر النّساء قدرة وأهمّيّة مساوية للرّجل في المعادلة الاجتماعيّة والاقتصاديّة. وعندها يبلغ العالم الوحدة والوفاق. لقد عانت البشريّة في العصور الماضية من التّخلُّف وعدم الأهليّة والكفاءة لأنّها لم تكن كاملة، وخَرِب العالم بالحروب وويلاتها؛ وسيكون تعليم المرأة بمثابة خطوة عظيمة نحو منع الحروب وإنهائها، ذلك لأنّ المرأة سوف تستخدم كلّ ما لديها من نفوذ في مقاومة الحرب. فالمرأة هي الّتي تربّي الطّفل وتعلّمه إلى أن يبلغ أشدّه. فستأبى أن تضحّي بأبنائها في ميادين القتال. بل ستكون في الحقيقة أعظم عامل في تأسيس السّلام العامّ وفضّ نزاعات العالم. وستقضي المرأة بكلّ تأكيد على الحروب بين البشر. وبما أنّ المجتمع الإنسانيّ يتكوّن من عنصرين، الذّكر والأنثى، وكلّ منهما يُكمِل الآخر، فلن يكون هناك ما يضمن سعادة البشريّة واستقرارها ما لم يكتمل كلاهما. ولهذا وجب أن تتساوى مكانة كلّ من الرّجل والمرأة ووضعهما.

من بين تعاليم حضرة بهاء الله ومبادئه الأخرى التّوصية بتعليم كافّة أفراد المجتع. فلا ينبغي أن يُمنع أيّ فرد أو يُحرم من التّربية الفكريّة، على الرّغم من أنّ لكلّ نفس نصيب بحسب قدرته. ويجب ألاّ يُترك أحد في دركات الجهل، فالجهل نقيصة في عالم الإنسان. ويجب أن يُمنح البشر معرفة بالعلم والفلسفة – أي بالقدر الّذي يعتبر ضروريًّا. فلا يمكن أن يكون الكلّ علماء وفلاسفة، وإنّما يجب تعليم كلّ واحد طبقًا لاحتياجاته واستعداداته.

ومن تعاليم حضرة بهاء الله أيضًا أنّ العالم الإنسانيّ محتاج لنفثات الرّوح القدس، لأنّ بالبعث الرّوحيّ والإحياء تتحقّق الوحدة الحقيقيّة مع الله والإنسان. فالصّلح الأعظم لا تضمنه قوّة وجهود عرقيّة؛ ولا يؤسّسه إخلاص وتضحية قوميّة؛ ذلك لأنّ الأمم تتنوّع تنوعًّا كبيرًا، وللقوميّات المحليّة حدودها. وعلاوة على هذا فمن الثّابت أنّ القوّة السّياسيّة والمقدرة الدّبلوماسيّة لا تؤدّيان إلى اتّفاق عموميّ، إذ إنّ مصالح الحكومات متفاوتة وأنانيّة. كما لن يكون الوفاق والوئام الدّوليّ نتاجًا لوجهات نظر بشريّة تتركّز حوله، ذلك لأنّ وجهات النّظر خاطئة ومتنوّعة في جوهرها. فالسّلام العموميّ يستحيل تحقّقه بالوسائط البشريّة والمادّيّة، بل يجب أن يكون بالقوّة الرّوحيّة. فهناك حاجة إلى قوّة دافعة عالميّة تحقّق وحدة البشريّة وتقوّض أسس الحرب والنّزاع. ولا شيء بمقدوره أن يحقّق ذلك سوى القوّة الإلهيّة، فهو عمل سيتحقّق إذًا بنفثات الرّوح القدس.

مهما بلغ تقدّم العالم المادّيّ فإنّه لن يحقّق سعادة البشر، فليس هناك ما يضمن تلك السّعادة سوى ارتباط المدنيّتين المادّيّة والرّوحيّة وتواؤمهما. وعندئذ لن تساند المدنيّة المادّيّة قوى الشّرّ بأيّ عمل من شأنه تقويض وحدة البشريّة، ذلك لأنّ الخير والشّرّ يتقدّمان معًا في المدنيّة المادّيّة، وبنفس الوتيرة. فانظروا مثلاً إلى التّقدّم المادّيّ للإنسان في العقد الأخير. لقد تأسّست المدارس والكلّيّات والمستشفيات والمؤسّسات الخيريّة والأكاديميّات العلميّة وصوامع الفلسفة، إلاّ أنّ الزّيادة في ابتكار وإنتاج وسائل وأسلحة الدّمار البشريّ قد واكبت شواهد الرّقيّ هذه بنفس القدر. كان سلاح الحرب في سابق الأيّام هو السّيف، أمّا اليوم فهو البندقيّة الآليّة. لقد تحارب القدماء بالرّماح والخناجر، أمّا اليوم فبالقذائف والقنابل. فالسّفن المدرّعة تُبنى، وتُخترع قذائف الطّوربيد، ويظهر سلاح جديد كلّ بضعة أيّام.

كلّ هذا نتاج المدنيّة المادّيّة. وعليه، بالرّغم من أنّ المدنيّة المادّيّة تعزّز المقاصد الحياتيّة الحميدة، إلاّ أنّها تخدم أغراضًا سيّئة في الوقت نفسه. ولكنّ المدنيّة الإلهيّة خير محض لأنّها تنمّي الأخلاق. انظروا كيف ساهم أنبياء الله في ترقية أخلاق البشر؛ فقد دعا يسوع المسيح الجميع إلى الصّلح الأعظم من خلال التّحلّي بالأخلاق الحميدة. فإذا ما اجتمعت المبادئ والأسس الأخلاقيّة الموجودة في المدنيّة الإلهيّة مع التّقدّم المادّيّ للبشريّة، فلا شكّ أنّ سعادة عالم الإنسان سوف تتحقّق وتُعلن بشارات السّلام على الأرض من كلّ حدب وصوب. عندئذ يحقّق الجنس البشريّ تقدّمًا استثنائيًّا، وتتّسع دائرة الإدراك البشريّ بما يفوق الحدّ، ويظهر العجيب من الاختراعات، وتتجلّى الرّوح الإلهيّة، ويتعاشر جميع النّاس بالرّوْح والرّيحان، ويُنعَم على أبناء الملكوت بالحياة الأبديّة. عندئذ تنفذ القوّة الإلهيّة، وتتغلغل نفثات الرّوح القدس في حقائق جميع الأشياء. فيجب إذًا أن تتقدّم كلّ من المدنيّة المادّيّة والمدنيّة الإلهيّة الرّحمانيّة جنبًا إلى جنب حتّى تتحقّق أعلى تطلّعات الإنسانيّة وأمانيها.

هذه نبذة من تعاليم ومبادئ حضرة بهاء الله قدّمتها لكم بإيجاز لكي تكونوا على علم بأهمّيّتها ومقاصدها وتجدوا فيها حافزًا لكم للمعرفة والعمل. أسأل الله أن يعين هذه الأمّة المزدهرة والمتقدّمة ويفيض ببركاته على هذه الحكومة العادلة وعلى قارّة الغرب البديعة هذه.

 

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في نيويورك ومونت كلير، وجيرسي سيتي (1) 11 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 227 طريق ريفرسايد درايف، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه جون جراندي

ثلاثة أسابيع فقط كنّا فيها بعيدين عن الأصدقاء في نيويورك، ولكنّ الشّوق لرؤيتكم كان شديدًا على شأن بدت شهورًا ثلاثة. ولم ننعم براحةٍ ليلاً أو نهارًا منذ أن فارقناكم – فكان إمّا سفرًا أو تجوالاً أو حديثًا – بيد أنّ كلّ شيء تمّ على ما يرام، وكنّا في غاية السّرور. الحمد لله! في كلّ مكان، وفي كلّ وقت كانت هناك حركة، وحركة، وحركة!

إنّ الأحبّاء في أمريكا طيّبون للغاية. فكلّ الّذين قابلناهم هنا يتّسمون باللّطف والطّيبة، وهم مؤدّبون ودودون، وإن كانوا محبّين للاستطلاع بعض الشّيء. وأقلّيّة صغيرة منهم يبدو عليها التّعصّب، ولكن حتّى هؤلاء القلّة لديهم محاسنهم. ولدى الشّعب الأمريكيّ شغف حقيقيّ للتّقدّم، ولا يرضون بالسّكون، بل هم أكثر نشاطًا وتقدّمًا. وعندما ترون شجرة تنمو وتترعرع كونوا متفائلين بما سيأتي منها، فهي ستزهر وتثمر في نهاية الأمر. أمّا عندما ترون حطبًا يابسًا أو أعجازًا فلا أمل في أيّ ثمر.

إنّ ما وُجِّه إلينا من أسئلة كان مناسبًا وفي الصّميم، ولم تؤخذ إجاباتنا ذريعة للنّزاع والجدال. تقابلنا مع علماء ومثقّفين وقدّمنا لهم ما استراحوا له من شرح وتفصيل. وأعرب الوجهاء برضائهم وسرورهم لإجاباتنا عن استفساراتهم. وبالاختصار، كان من الصّعب إيجاد شخص لم يكن راضيًا من بين جمهور النّاس الّذين التقينا بهم، وكلّ ما هنالك أنّ بعض العقلانيّين جنحوا إلى نقاش عقيم. في شيكاغو قابلنا اثنين من رجال الدّين – ألقيتُ خطبة في كنيسة أحدهما، وتناولنا العشاء مع الشّخص الآخر، وقد أظهر كلاهما غاية المحبّة. وبالمثل لم يقم أيّ ممّن قابلناهم بالاعتراض، ولم يخرج أيّ منهم من لقائنا مُحبَطًا.

قابلنا البارحة في واشنطن جمعًا مهمًّا من النّاس. فقد أتى أحد البارزين من السّاسة بصحبة قاض في المحكمة العليا. وكان من بين الحضور عدد من سيّدات السّلك الدّبلوماسيّ. وبعد حديثنا، أشار ذلك السّياسيّ إلى النّقطة الّتي بيّنا فيها أنّ قواعد كلّ الأديان من الأزل كانت هي السّلام والمحبّة والوفاق – وهي مبادئ تفضي إلى التّآلف والاتّحاد. فقال: ‘ولكنّ يسوع’ – على حدّ قوله – ‘كان سبب الخلاف والنّزاع، ولم يكن عاملاً على تحقيق الوحدة’. وأردف قائلاً: ‘ولهذا فلا أقبل مقولاتكم وشروحكم بأنّ الدّين كان سببًا لصلاح العالم’. وبعد أن زدناه شرحًا، قال: ‘إنّ ما قلته الآن قد يجعلني أغيّر رأيي وأتّفق معك.’ أمّا القاضي فقد ظلّ صامتًا طوال الوقت. ولأنّنا خشينا أن يكون لدى القاضي أيّ شعور بعدم الرّضا، سألناه عمّا إذا كان أيّ ممّا عرضناه مخالفًا لرأيه. فأجاب ‘لا، على الإطلاق، كلّ شيء على ما يرام، كلّ شيء على ما يرام!’ إنّها المقولة الشّهيرة عند أهل الغرب – ‘كلّ شيء على ما يرام، كلّ شيء على ما يرام!’

كان حاضرًا في هذا اللّقاء أيضًا عدد من مسؤولي الحكومة، وأعضاء في مجلس الشّيوخ بالولايات المتّحدة، ولفيف من السّلك الدّبلوماسيّ الأجنبيّ، وضبّاط من الجيش والبحريّة، وغيرهم من عِلْية القوم. لقد عانت أمة الله، أي مضيفتنا، كثيرًا من المشقّة في الإعداد والاستضافة ولكنّها كانت دائبة الحركة والنّشاط في الخدمة، داعية الأكابر والوجهاء إلى اللّقاءات. تحدّثنا للكلّ من منطلق وجهات نظرهم وكانت النّتائج مرضية للغاية؛ وكنّا نعمل ليل نهار، ولذا لم يبق سوى وقت قصير جدًّا للمقابلات الشّخصيّة والخاصّة.

في واشنطن أيضًا عقدنا لقاء للسّود والبيض، وكان الحضور كبيرًا جدًّا، وغالبيّتهم من السّود. وفي لقائنا الثّاني كان الحضور عكس ذلك، أمّا في اللّقاء الثّالث فكان من الصّعب علينا أن نحكم أيّ من العرقين كان غالبًا. كانت هذه اللّقاءات درسًا عمليًّا عظيمًا في وحدة الألوان والأعراق في التّعاليم البهائيّة.

كان بعض ما قلناه هو: إنّ الرّجل الأسود يجب أن يظلّ ممتنًّا على الدّوام للرّجل الأبيض، لأنّه أبدى شجاعة عظيمة وتضحية من أجل الجنس الأسود. فلقد حارب من أجل قضيّتهم طيلة سنوات أربع، متحمّلاً أشدّ المشقّة، ومضحّيًا بروحه وعائلته وثروته، كلّ ذلك من أجل أخيه الأسود إلى أن انتهت الحرب العظمى بإعلان التّحرير. وبهذا الجهد والإنجاز كان التّأثير والمنفعة للجنس الأسود في جميع أنحاء المعمورة. وما لم يتحقّق ذلك، لبقي الرّجل الأسود في إفريقيا مكبّلاً بأصفاد العبوديّة. ولهذا فعلى بني جنسه في كلّ مكان أن يكون ممتنًّـا، إذ ليس هناك شاهدٌ على الإنسانيّة والإقدام الشّجاع أعظم مما أظهره الرّجل الأبيض. وإذا ما نسي السّود في الولايات المتّحدة هذه التّضحية والنّخوة والرّجولة من جانب البيض، فلن يكون هناك نكران للجميل أشدّ أو أجدر باللّوم من ذلك. وإذا ما تمعنوا في أحوال وظروف السّود البائسة في إفريقيا في الوقت الحاضر، لاتّضح لهم الفرق، وتجلّت حقيقة أنّ العرق الأسود في أمريكا يتمتّع بمزايا أكبر بالمقارنة. فالرّخاء والمدنيّة الّتي يعيشونها هنا مردّهما مجهود الرّجل الأبيض وتضحيته. وهي تضحية إن لم تُبذل لبقَوْا في أسر العبوديّة وأصفادها، ولما خرجوا أبدًا من البداوة. فأظهِروا امتنانَكم للرّجل الأبيض على الدّوام. فبالنّتيجة، ستنتهي جميع الخلافات، وستكسبون كامل مودّته.

لا فرق عند الله بين أبيض وأسود. فإذا ما كان القلبان طاهريْن صار كلاهما مقبولاً لدى الحقّ. والله لا يحابي النّاس بسبب لونهم أو عرقهم، فجميع الألوان مقبولة عنده، بِيضًا كانوا أم سُودًا أو صُفرًا. وبما أنّ الجميع قد خلقوا على صورة الله، فعلينا أن ندرك أنّ الكلّ حائز على القابليّات الإلهيّة. وإذا ما قصدتم بستانًا ووجدتم أزهاره من شكل وجنس ولون واحد، لكان أثره مملاًّ للنّاظرين. فالبستان يزداد جمالاً عندما تكون أزهاره متعدّدة الألوان ومتنوّعة الأشكال؛ فالتّنوّع يضفي بهجة وزينة. وفي سرب من الحمام يكون بعضهم أبيضَ وبعضهم الآخر أسودَ وأحمرَ وأزرقَ؛ ولكنّهم لا يرون تمييزًا فيما بينهم، فكلّهم حمام مهما كان لونهم.

هذا التّنوّع في الأشكال والألوان الظّاهر في كلّ الممالك إنّما حصل بمقتضى حكمة الخَلق وله مقصد ربّانيّ. ومع ذلك، فكون المخلوقات متشابهة أو مختلفة لا ينبغي أن يكون علّةً للنّزاع والعراك بينها. بل لماذا يجد الإنسان على الخصوص سببًا للاختلاف في لون بني جنسه أو عرقهم؟ فلن يقبل أيّ عقل مثقّف أو مستنير وجود هذا التّفضيل والاختلاف، أو أن يكون لهما ما يسوّغهما. ولهذا وجب على البيض أن يكونوا منصفين ورحماء بالسّود، وعلى السّود بدورهم أن يظهروا قدرًا مساويًا من العرفان والامتنان. عندئذ يصير العالم بستانًا واحدًا عظيمًا من إنسانيّة مُزْهِرة، متنوّعة متعدّدة الألوان، إنسانيّة لا تتباهى إلاّ بالفضائل والأفضال الرّوحيّة.

(2) 12 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في كنيسة الموحّدين بمونتكلير، ولاية نيوجيرسي

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

في هذا الجمع الموقّر أريد أن أتكلّم في موضوع الوحدانيّة الإلهيّة أي وحدانيّة الله.

من الواضح أنّ الكائن الحادث لا يستطيع إدراك الحقيقة القديمة ولا فهمها. فالعجز الصّرف لا يمكنه إدراك القدرة المطلقة. فحينما نمعن النّظر في عالم الخلق، نرى أنّ تفاوت المراتب مانع يحول دون إدراك الدّاني لما يعلوه. مثال ذلك عالم الجماد؛ فمهما ارتقى لن يدرك أبدًا ماهيّة عالم النّبات. وعالم النّبات مهما نشأ ونما لن يكون له خبر ولا علم بعالم الحيوان. ومهما كان نموّ الشّجرة كاملاً، فهي عاجزة عن تخيّل حواس البصر والسّمع والشّمّ والذّوق واللّمس لأنّها خارجة عن حدودها. ورغم أنّ الشّجرة حائزة على خاصّيّة الوجود في عالم الخلق، فليس لها علم بمملكة الحيوان الّتي تعلوها في الرّتبة. وبالمثل فإنّ عالم الحيوان مهما ارتقى فلا فكرة له عن عالم الإنسان، ولا علم له بالعقل والرّوح. لأنّ تفاوت المراتب مانع لهذا الإدراك. إذًا فكلّ رتبة دانية لا تستطيع إدراك ما فوقها مع أنّ الجميع موجود في عالم الخلق نفسه – أكان منها الجماد أم النّبات أم الحيوان. فالرّتبة هي المانعة والمقيِّدة. فمثلاً، ونحن في رتبة الوجود الإنسانيّ، لنا أن نقول إنّنا ندرك حقيقة نوع من النّباتات ونفهم صفاته وثماره، في حين أنّ النّبات لا يكون له أيّ علم أو إدراك بنا. ومهما ترقّت هذه الوردة نحو الكمال في دائرتها، فلا يمكنها أبدًا أن تملك سمعًا وبصرًا. وما دام تفاوت المراتب يحول دون الإدراك في عالم الإمكان، إذًا فكيف تستطيع الحقيقة الإنسانيّة المخلوقة والحادثة أن تدرك حقيقة الألوهيّة القديمة؟ إنّ هذا غير ممكن، لأنّ حقيقة الألوهيّة مقدّسة عن أن يدركها مخلوق حادث، أي الإنسان.

فضلاً عن هذا فإنّ كلّ ما يتصوّره الإنسان إنّما هو محاط محدود، والإنسان بالنّسبة له يكون محيطًا غير محدود. فهل يجوز أن نجعل حقيقة الألوهيّة محاطة محدودة والمخلوق البشريّ محيطًا غير محدود؟ لا، بل العكس صحيح، فالإنسان محاط وحقيقة الألوهيّة محيطة. إذًا كلّ ما يدركه الإنسان هو بالضّرورة محدود ومحاط. ولأنّ حقيقة الألوهيّة تسمو عن تصوّر الإنسان، لهذا يبعث الله مظاهرَ تحكي عن الحقيقة الإلهيّة، ويهبها تجلّيات ملكوتيّة لتكون واسطة بين الخلق والحقّ. والمظاهر المقدّسة الّتي هي الأنبياء إنّما هم بمثابة مرايا استفاضت أنوارَها من شمس الحقيقة، لكنّ الشّمس لم تنزل من علوّها ولم تدخل في المرآة، وغاية ما في الأمر إنّ المرآة قد بلغت منتهى الصّفاء والنّقاء إلى أن بلغت أقصى درجات قابليّة الاستفاضة، فتجلّت فيها شمس الحقيقة بأتمّ تجلّيها وبهائها. فالمرايا من العالم الأرضيّ، وحقيقة الألوهيّة في سماء الرّفعة. ومهما لمعت أنوارها وتجلّت حرارتها في تلك المرايا، ومهما استفاضت منها تلك المرايا وصارت حاكية عنها، تظلّ الشّمس باقية في سموّ مقامها، ولا تنزل أو تدخل فيها، لأنّها مقدّسة ومنزّهة عن ذلك.

لقد تجلّت شمس الألوهيّة والحقيقة وظهرت في مرايا متعدّدة، ومهما تعدّدت المرايا فالشّمس واحدة والفيوضات الإلهيّة واحدة وحقيقة الدّين الإلهيّ واحدة. لاحظوا كيف انعكس النّور الواحد نفسه على مختلف مرايا تجلّيها. بعض النّاس عاشق للشّمس فيرى تجلّياتها في كلّ مرآة غير مقيّد بالمرايا نفسها أو متعلّق بها، بل تعلّقه بالشّمس نفسها، وهو يعشق الشّمس في أيّ مرآة تجلّت. أمّا الّذين يعشقون المرآة ويتعلّقون بها فإنّهم يُحرَمون من مشاهدة نور الشّمس عندما يظهر من مرآة أخرى. فمثلاً، ظهرت شمس الحقيقة من المرآة الموسويّة، فآمن بها وقبلها مَنْ صَفَتْ قلوبهم. وعندما أشرقت نفس الشّمس من المرآة المسيحيّة، لم يدرك اليهود، الّذين لم يكونوا عاشقين للشّمس وكانوا مقيّدين بعشقهم للمرآة الموسويّة – لم يدركوا أنوار وأشراقات شمس الحقيقة الظّاهرة من يسوع المسيح، فحُرموا من فيوضاتها. في حين أنّ شمس الحقيقة، كلمة الله، كانت على أشدّ إشراقها في الواسطة العيسويّة البديعة بأبدع وأكمل صورة، وكانت أنوارها أظهر وأبين، بيد أنّ اليهود لا يزالون حتّى الآن متمسّكين بالمرآة الموسويّة، وبذلك أضحوا محرومين من مشاهدة أنوار الأزليّة في السّيّد المسيح.

خلاصة القول إنّ الشّمس شمس واحدة والنّور نور واحد يشرق على جميع الكائنات على السّواء ولكلّ كائن نصيب منها، غير أنّ المرآة الصّافية تحكي بصورة أكمل وأتمّ عمّا نالته من فضل. إذًا علينا نحن أن نعشق نور الشّمس من أيّ مرآة يظهر، وأن لا نكون متعصّبين لأنّ التّعصّب يحول دون إدراك الحقيقة. وحيث إنّ الإشراق واحد لذا يجب أن تستفيض الحقائق الإنسانيّة من النّور الواحد مدركين فيه تلك القوّة الجامعة الّتي تضمّهم جميعًا في ضيائها.

بما أنّ هذا القرن قرن نورانيّ، فأملي أن تنير شمس الحقيقة جميع البشر، وأن تجعل العيون بصيرة والآذان مصغية والنّفوس منتعشة ومتآلفة بغاية المودّة مستفيضة من نور واحد. عسى أن يمحو الله هذا الاقتتال والنّزاع الّذي دام آلاف السّنين، وأن تنتهي هذه المذابح ويتوقّف هذا الجور والقمع وتزول هذه الشّحناء، وأن يشرق نور المحبّة على القلوب، وتلتئم حياة البشر وتتواصل حتّى نجد جميعًا التّوافق والاطمئنان في ظلّ خيمة واحدة، ونمضي قدمًا بعزم ثابت وراية الصّلح الأعظم خفّاقة فوق رؤوسنا.

يا إلهنا الرّؤوف ويا كريم ويا رحيم، نحن عبيد عتبتك، قد اجتمعنا في ظلّ وحدانيّتك، وشمس رحمتك مشرقة على الكلّ وسحاب عنايتك يمطر على الكلّ وألطافك شاملة الكلّ وفضلك رازق للكلّ وحمايتك تظلّل على الكلّ وأنظار مكرمتك تشمل الكلّ. ربّنا هبنا أفضالك الّتي لا تتناهى وأشعل نور هدايتك وأنر العيون وامنح القلوب سرورًا أزليًّا وأسبغ على النّاس كافّة روحًا جديدة وهبهم حياة أبديّة وافتح أبواب العرفان ليسطع نور الإيمان، واجمع الكلّ في ظلّ عنايتك واجعلهم متّفقين متآلفين حتّى يصبحوا كأشعّة شمس واحدة وأمواج بحر واحد وأثمار شجرة واحدة، يشربون من عين واحدة ويهتزّون بنسيم واحد ويقتبسون أنوارًا واحدة. إنّك أنت المعطي الرؤوف القدير.

(3) 12 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في اجتماع منتدى السّلام العالميّ،
بكنيسة الميثوديست الأسقفيّة، غرب الشّارع 104، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

عندما نستعرض أحداث التّاريخ منذ فجره إلى يومنا هذا، نجد أنّ النّزاع والاقتتال قد خيّما على حياة العالم الإنسانيّ. فالحروب، سواء أكانت دينيّة أم عرقيّة أم سياسيّة، نشبت نتيجة جهل النّاس وسوء فهمهم وافتقارهم إلى التّربية والتّعليم. وسنتناول أوّلاً النّزاع والخلاف الدّينيّ.

من الواضح أنّ أنبياء الله قد جاؤوا إلى العالم من أجل الألفة والاتّحاد بين العباد، لأنّهم كانوا رعاةً لا ذئابًا. والرّاعي يأتي من أجل جمع الخراف لا لتفريقها بخلق النّزاع. فكلّ راعٍ إلهيّ عمل على جمع الأغنام الّتي تفرّقت فيما مضى. من بين هؤلاء الرّعاة موسى عليه السّلام. ففي زمان كانت فيه أسباط إسرائيل تائهة مشتّتة، لمّ شعثهم وألّف بينهم وعلّمهم ورفعهم إلى درجات أعلى من الاستعداد والتّطوّر، إلى أن أخرجهم من قَفْر التّهذيب إلى الأرض المقدّسة حيث الملك والتّمكّن. فتبدّلت ذلّتهم بالعزّة وفقرهم بالغنى ورذائل أخلاقهم بالفضائل، حتّى سموا إلى درجة تحقّق فيها مجد سلطنة سليمان، وبلغ صيت عزّتهم الشّرق والغرب. إذًا أصبح واضحًا أنّ موسى كان راعيًا ربّانيًّا، لأنّه جمع أسباط إسرائيل المتفرّقة وألَّف بينها فصارت أمّة عظيمة ذات قوّة وبأس.

عندما أشرق نجم يسوع المسيح، أعلن أنّه قد أتى ليجمع أسباط موسى أي أغنامه المتفرّقة. ولم يكن راعيًا لأغنام إسرائيل فحسب، بل وضمّ إليها أغنام الكلدان ومصر وسوريا وآشور وفينيقيا أيضًا. وقد كانت هذه الأقوام في منتهى العداء، متعطّشين لسفك دماء بعضهم البعض بشراسة الحيوانات المفترسة. ولكنّ يسوع المسيح جمع هذه الأقوام وألَّف بينها ووحّدها في ظلّ رسالته، وخلق بينهم رابطة من المحبّة نبذوا فيها كلّ عداء واقتتال. إذًا اتّضح أنّ التّعاليم الإلهيّة تهدف إلى خلق روابط الوحدة في العالم الإنسانيّ، وإرساء قواعد المحبّة والألفة بين بني البشر. فدين الله ليس سبب النّزاع والجدال، فإن صار الدّين مصدرًا للعداوة والنّزاع فعدمه أفضل من وجوده. ذلك لأنّ الدّين يجب أن يكون سبب حياة الهيئة الاجتماعيّة، فإن صار الدّين سببًا في ممات البشر فلا شكّ أنّ عدمه يكون نعمة ومنفعة للإنسان. فعلينا إذًا أن نسعى اليوم إلى التّعاليم الإلهيّة، لأنّها بمثابة العلاج لأحوال عالم البشر المعاصرة. والغرض من العلاج أن يعالج ويشفي، أمّا إذا أصبح العلاج سببًا لأسقام أكثر سوءًا، فلا شكّ أنّ عدمه أو تركه أفضل وأولى.

كذلك حينما كانت قبائل بادية العرب وسكّانها البدو مشتّتين قاطنين الصّحاري في حالة دائمة من الفوضى والنّزاع وسفك الدّماء، حيث لم تنجُ قبيلة من خطر هجوم القبيلة الأخرى والتّنكيل بها – في مثل ذلك الوقت العصيب ظهر حضرة محمّد، فجمع تلك القبائل المتوحّشة، وألَّف بينها ووحّدها وأحلّ الوفاق على شأن لم يبقَ بينهم خصومة وقتال، وبلغوا في وقت قصير درجة من الرّقيّ تأسّست فيها الخلافة الكبرى وامتدّت غربا إلى إسبانيا وبلاد الأندلس.

من هذه الحقائق والبراهين يمكننا أن نخلُص إلى أنّ ظهور الدّين الإلهيّ غرضه السّلام وليس الحرب وإراقة الدّماء. وبما أنّ جميع الأديان السّماويّة ترتكز على حقيقة واحدة هي المحبّة والوحدة، فإنّ الحروب والنّزاعات الّتي اصطبغ بها تاريخ الأديان كانت راجعة إلى التّقاليد والأوهام الّتي نشأت فيما بعد. فالدّين الإلهيّ هو الحقيقة، والحقيقة واحدة. لذا فإنّ أسس دين الله إذًا واحدة في حقيقتها ولا خلاف أو اختلاف فيها. فالاختلاف ينشأ من التّقاليد العمياء، والتّعصّب والتّشبّث بما ظهر فيها من رسوم وتقاليد فيما بعد. ولمّا كانت التّقاليد نفسها متباينة، لذا صارت سببًا في الاختلاف والجدال، فلو ترك أتباع أديان العالم أسباب المصاعب هذه واتّبعوا أساس الدّين لاتّفقوا وزال كلّ نزاع وجدال لأنّ الدّين والحقيقة شيء واحد لا يقبل التّعدّد.

هناك حروب أخرى تسبّبها الاختلافات العرقيّة الّتي هي وهمٌ محض لأنّ النّوع البشريّ نوع واحد وجنس واحد وسلالة واحدة، وجميع أفراده يعيشون على كرة أرضيّة واحدة، ولم يكن في أصل الخلقة الإلهيّة أيّ اختلاف أو تمييز عرقيّ مثل فرنسيّ أو إنجليزيّ أو أمريكيّ أو ألمانيّ أو إيطاليّ أو إسبانيّ، فالجميع ينتمون لأسرة واحدة. وهذه الحدود والفروق مصطنعة من وضع البشر، وليست طبيعيّة أصيلة. فجميع البشر ثمار شجرة واحدة وأزهار حديقة واحدة وأمواج بحر واحد. وليس في عالم الحيوان مثل هذا التّمييز والتّفرقة. فأغنام الشّرق ترعى مع أغنام الغرب بسلام، ولن تبدو أغنام الشّرق مندهشة كأنّ لسان حالها يقول ‘إنّها أغنام من الغرب لا تنتمي إلى وطننا’، وإنّما تأتلف وتنعم بنفس المرعى دون أدنى شائبة لنزاع وطنيّ أو عنصريّ. وكذلك حال الطّيور الّتي تأتي من بلاد مختلفة فهي تختلط بكلّ وفاق وتآلف. هكذا نجد هذه الفضائل في عالم الحيوان، فهل يليق بالإنسان أن يحرم نفسه منها وهو العاقل ذو القوّة المدركة المفكّرة، وهو مظهر المواهب الإلهيّة؟ فهل لهذه الأفكار العنصريّة أن تتفشّى وتطغى على الوحدة المقصودة بالخليقة؟ فيقول أحدهم إنّني ألمانيّ ويقول الثّاني إنّني فرنسيّ ويقول الآخر إنّني إنكليزيّ ويتحاربون بسبب تفضيل وتمييز وهمي خلقه الإنسان. لا والله! فهذه الأرض عبارة عن منزل لأسرة واحدة، وهي وطن للبشريّة جمعاء. لهذا يجب على الجنس البشريّ أن يصرف النّظر عن الفروقات والحدود المصطنعة الّتي تُفضي إلى الشّحناء والبغضاء. لقد جئنا من الشّرق، ونرى هذه القارّة ولله الحمد في منتهى العمران، وهواءها في منتهى البداعة والنّقاء، والنّاس في غاية الودّ والأدب، والحكومة عادلة منصفة. فهل يجوز لنا أن نضمر لكم أيّ أفكار أو مشاعر سوى المحبّة؟ وهل نقول إنّ هذا ليس وطننا ولهذا فكلّ ما فيه غير مرغوب فيه؟ فلو قلنا هذا يكون دليلاً على جهل مطبق لا يليق بالإنسان أن ينصاع له. إنّ للإنسان قدرة على تحرّي الحقيقة، والحقيقة هي أنّ البشر كلّهم نوع واحد متساوون في أصل الخلقة الإلهيّة. لذا علينا أن نتخلّى عن الأفضليّات الزّائفة الخاصّة بالأعراق والأوطان الّتي هي علّة الحروب وأسبابها.

لاحظوا ماذا يحدث في طرابلس؛ كم من ضعفاء يقتلون، وكم من دماء المساكين تراق من كلا الجانبين: أطفال باتوا دون آباء، وآباء ينتحبون على موت أبنائهم، وأمّهات يولولْنَ لفقدان فلذات أكبادهنّ. فما هي الثّمرة الّتي تُجنى في النّهاية من كلّ هذا؟ لا شيء بالمرّة. فهل لهذا أيّ مبرّر إذًا؟ إنّ الحيوانات الأليفة لا تبدي الكراهية والوحشيّة لبعضها البعض؛ فتلك من صفات الوحوش المفترسة. ففي قطيع من ألف شاة لا تجد بينهم أيّ سفكٍ للدّماء، وسلالات من الطّير لا عِدَّ لها تعيش أسرابًا في سلام. أمّا الذّئاب والأسود والنّمور فهي حيوانات مفترسة لأنّ الافتراس وسيلتها الطّبيعيّة والضّروريّة من أجل الحصول على الطّعام. أمّا الإنسان فليس محتاجًا لتلك الشّراسة لأنّه يحصل على الطّعام بوسائل أخرى. فيتّضح إذًا أنّ القتال والعنف وسفك الدّماء في عالم الإنسان راجع كلّه إلى طمع الإنسان وكراهيّته وأنانيّته. فنرى ملوك الأمم وحكّامها ينعمون بالرّاحة في قصورهم بينما هم يدفعون عامّة النّاس إلى ساحات القتال – يقدّمونهم طعامًا وهدفًا للمدافع، وفي كلّ يوم يبتكرون آلة جديدة لتدمير بنيان البشريّة بالكامل. هم قساة لا رحمة في قلوبهم نحو بني جنسهم. فماذا يعوّض الأمّهات في معاناتهنّ ولوعتهنّ وهنّ اللّواتي ربّين أطفالهنّ بكمال المحبّة؟ فكم من ليالٍ سهرنها، وكم من أيّامٍ عانين فيها المشاقّ وضحّين بكلّ محبّة من أجل تربيتهم إلى أن أوصلنهم إلى البلوغ. ومع ذلك فإنّ وحشيّة هؤلاء الحكّام المتحاربين تجعل الألوف من ضحاياهم تتمزّق إربًا إربًا في يوم واحد. فأيّ انحطاط وجهالة هذه، بل إنّ هذا أدهى من الوحوش المفترسة ذاتها. فالذّئب يفترس في اليوم حملاً واحدًا، أمّا الطّاغية المتعطّش فيتسبّب في هلاك مائة ألف نفس في معركة واحدة ويفتخر بمهارته قائلاً: ‘أنا القائد الأعلى، وأنا الّذي أحرزت هذا النّصر المبين.’ لاحظوا مدى جهل الجنس البشريّ وتناقضه؛ فلو قتل إنسان شخصًا آخر، مهما كان السّبب، عدّوه قاتلاً وعاقبوه بالحبس أو الإعدام، أمّا الطّاغية السّفاح الّذي يتسبّب في قتل مائة ألف شخص فيمجّدونه على أنّه بطل فاتح أو صاحب عبقريّة حربيّة فذّة. ولو سرق إنسان مبلغًا زهيدًا من المال يعدّونه لصًّا ويزجّون به في السّجن، أمّا القائد الحربيّ الّذي يغير على مملكة بكاملها وينهبها فإنّهم ينادون به بطلاً ويشيدون ببأسه وبسالته. فما أعظم دنوّ الإنسان وجهله!

في إيران، وقبيل منتصف القرن التّاسع عشر، كانت العداوة والشّحناء والبغضاء بين القبائل والأقوام والمذاهب والأديان المختلفة في أوجها، وكذلك الحال في سائر ممالك الشّرق. فأتباع الأديان المختلفة في بغض وتعصّب، والمذاهب في عداء، والأجناس في كره متبادل، والقبائل في حرب وقتال دائم. وهكذا ساد العداء والنّزاع كلّ الأصقاع. فالنّاس متنافرون، وكلّ منهم يرتاب ويشكّ في الآخر. ومن يقتل عددًا من أبناء جنسه تتفاخر النّاس ببطولته وقوّته، ومن الممدوح بين أهل الأديان أن يُنهوا حياة من يخالفهم في العقيدة. في وقتٍ كهذا ظهر حضرة بهاء الله وأعلن دعوته، وأسّس وحدة العالم الإنسانيّ، ونادى بأنّ الجميع عباد لله الودود الرّحيم الّذي خلقهم وربّاهم ورزقهم؛ فلماذا إذًا يعامل النّاس بعضهم بعضًا بالظّلم والقسوة، مظهرين ما لا يرضي الله؟ وما دام الله يحبّنا جميعًا فلمَ العداوة والبغضاء بيننا؟ ولو لم يكن الله محبًّا للجميع لَما خلقنا جميعًا وربّانا ورزقنا. فالرّأفة هي السّياسة الإلهيّة. فهل يجمُل بنا أن نعتبر السّياسة البشريّة أسمى من الحكمة والسّياسة الإلهيّة؟ إنّ هذا غير ممكن أبدًا. إذًا علينا أن نتّبع السّياسة الإلهيّة، ونتعامل مع بعضنا البعض بغاية المحبّة والرّأفة.

لقد نادى حضرة بهاء الله بالصّلح الأعظم وفضّ المنازعات بين الدّول، وصرّح بهذه المبادئ في عديد ألواحه الّتي شاعت وذاعت في الشّرق، وكتب إلى كافّة الملوك والحكام يحثّهم وينصحهم وينذرهم بشأن تحقيق الصّلح، مظهرًا ببراهين دامغة أنّ سعادة وعزّة البشريّة لا تتحقّق إلاّ بنزع السّلاح وفضّ المنازعات. كان هذا قبل خمسين سنة تقريبًا. ولأنّه روّج لقضيّة السّلام العالميّ والوفاق الدّوليّ، فقد قام ملوك الشّرق على مخالفته لأنّهم وجدوا أنّ إنذاراته وتعاليمه منافية لمصالحهم ومنافعهم الشّخصيّة. فاضطهدوه بكلّ قسوة، وأذاقوه كلّ أنواع الأذى، وحبسوه، وضربوه بالعصا على أخمص قدميه، ونفوه إلى بلاد بعيدة، ثمّ حبسوه أخيرًا في قلعة حصينة، وقاموا على مناهضة أتباعه. ومن أجل رفعه راية السّلام وتأسيسه في العالم، أريقت دماء عشرين ألف بهائيّ، ودُمّرت بيوتهم، وأسرت أطفالهم، ونهبت أملاكهم. أمّا تلك النّفوس فلم تهن لهم عزيمة ولم يتزعزع ثباتهم وإخلاصهم. وإلى يومنا هذا لا يزال البهائيّون يعانون الاضطهاد، وفي وقت قريب قتل نفر منهم، لأنّهم حيثما وُجدوا يبذلون أقصى الجهد من أجل تأسيس دعائم السّلام في العالم. هم لا يروّجون المبادئ قولاً، بل قائمون على تطبيقها عمليًّا.

في إيران اليوم، وبفضل تعاليم حضرة بهاء الله، تجد نفوسًا من مختلف العقائد والمذاهب يتعايشون معًا بكلّ سلام ووئام. فعداوات الأمس وبغضاؤه قد زالت من بينهم، وصاروا يُظهِرون خالص المحبّة لجميع بني البشر. ذلك لأنّهم يعرفون ويدركون أنّهم جميعًا مخلوقات وعباد إله واحد، وهذا راجع في الدّرجة الأولى للتّعاليم الإلهيّة. غاية ما في الأمر أنّ الجاهل تجب تربيته والمريض تجب معالجته، ومن هم لا يزالون كالأطفال في مضمار التّرقّي يجب إعانتهم للوصول إلى سنّ النّضج والبلوغ. فلا يجوز أن نجافي أحدًا كونه جاهلاً، ولا أن ننبذ القاصر، أو نعرض عن المريض، وإنّما نعطي العلاج لكلّ محتاج إلى أن يتّحد الكلّ ويأتلفوا في كنف العناية الإلهيّة. من هذا يتضح إذًا أنّ أسّ أساس الأديان الإلهيّة هو الألفة والمحبّة. ولو صار الدّين الإلهيّ سببًا للجفاء بين البشر لأصبح دينًا هدّامًا وليس دينًا إلهيًّا، ذلك لأنّ الدّين ينضوي على الاتّحاد والألفة والوفاق لا على الشّقاق. إلاّ أنّ مجرّد المعرفة بالمبادئ لا يكفي. فكلّنا يعرف أنّ العدل خير، لكن تلزمه قوّة الإرادة والعمل لإجرائه وإحقاقه. فمثلاً قد نرى الخير في بناء كنيسة، ولكنّ مجرّد التّفكير في أنّه أمر حسن لن يساعد على تشييدها. فيجب إيجاد الطّريقة والوسيلة؛ إذ علينا أن نعزم على البناء وبعدها نشرع في العمل. وجميعنا يدرك أنّ السّلام العالميّ أمر حسن وأنّه يؤدّي إلى خير البشريّة وفَخار الإنسان، ولكنّ الإرادة والعمل لازمان لتحقيقه. فالعمل أمر جوهريّ. وحيث إنّ هذا القرن هو قرن الأنوار، والاستعداد للعمل موجود لدى الجنس البشريّ، فلا بدّ أن تنتشر المبادئ البهائيّة بين النّاس إلى أن تبلغ مرحلة العمل والتّنفيذ. وهذا أمرٌ مؤكّد، والزّمان والظّروف مواتية للعمل في الوقت الحاضر. فجميع البشر يدركون أنّ الحرب فعلاً هادمة لبنيان البشريّة، وهو أمر واضح يقرّ ويعترف به كلّ بلد في العالم.

أجد أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة دولة بالغة التّقدّم، وحكومتها عادلة، والنّاس على حالة من الاستعداد، ومبدأ المساواة قد تحقّق بدرجة عالية. وحيث إنّ راية السّلام العالميّ يجب أن تُرفع، فإنّني آمل أن تُرفع فوق هذه القارّة، لأنّ هذه الأمّة أكثر استحقاقًا، ولديها مقدرة أعظم على القيام بهذه الخطوة الأوّليّة. وإذا ما حاولت دول أخرى القيام بهذا، فقد يساء فهم دوافعها. فإذا ما نادت بريطانيا العظمى مثلاً بالسّلام العالميّ، قد يقال إنّ ذلك لضمان سلامة مستعمراتها. وإذا ما رفعت فرنسا راية السّلام، فقد تصرّح دول أخرى بأنّ هناك مخططًا دبلوماسيًّا يكمن وراء هذا العمل؛ كما أنّ روسيا قد تُتّهم بأنّها تُضمر مخطّطات قوميّة إذا ما بادرت بهذه الخطوة، وهكذا بالنّسبة لباقي الحكومات الأوروبيّة والشّرقيّة. ولكنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة لا يمكن أن تُتّهم بمثل هذه المنافع الأنانيّة. فليس لحكومتكم مستعمرات، بالمعنى الدّقيق للكلمة، لكي تحميها. كما أنّكم لا تسعون إلى مدّ رقعة ممالككم، وليس لديكم حاجة إلى توسّع جغرافيّ. ولذا فإنّه إذا ما اتّخذت أمريكا الخطوة الأولى نحو تحقيق السّلام العالميّ، فمن المؤكّد أن يُعزَى هذا إلى نكرانٍ للذّات وحبٍّ لخير العموم. وعندئذ يقول العالم ‘ليس هناك من دافع وراء عمل الولايات المتّحدة هذا سوى حبّ الخير للآخرين وخدمة الإنسانيّة.’ وبناء على ذلك، فإنّ أملي أن تنهضوا كأوّل بشير للسّلام وترفعوا لواءه، لأنّه لواء سيُنشر لا محالة. فارفعوه عاليًا لأنّكم أكثر الأمم أهليّة له واستحقاقًا. وسائر الدّول تنتظر نداءكم، وتتوقّع هذه الدّعوة لرفع راية الصّلح. فالعالم بأسره منهك ويائس جرّاء عبء الحرب الثّقيل وضررها البالغ الّذي يتعذّر إصلاحه. فالضّرائب تُجبى لتعويض نزيف الحرب، وفي كلّ سنة تزداد الأعباء، والنّاس طفح بهم الكيل. فأوروبّا الآن ساحة قتال معبّأة بالذّخيرة الحربيّة وجاهزة للاشتعال، وشرارة واحدة كافية لإشعال العالم بأسره. فاتّخذوا من السّبل ما يمنعها قبل أن تحدث مثل هذه المضاعفات والأحداث الكارثيّة المفاجئة العنيفة.

إنّ أسس جميع الدّيانات السّماويّة قائمة على السّلام والوفاق، إلاّ أنّ سوء الفهم والجهل قد نشئا. فإذا زال سوء الفهم والجهل هذا فسترون أنّ جميع المؤسّسات الدّينيّة ستعمل من أجل السّلام وترويج وحدة العالم الإنسانيّ. ذلك لأنّ أساس كلّ الأديان هو الحقيقة، والحقيقة لا تقبل التّعدّد والانقسام. لقد أرسى حضرة موسى قواعدها، ورفع السّيّد المسيح فسطاطها، ولمع نورها السّاطع من كافّة الأديان، ونادى حضرة بهاء الله بهذه الحقيقة الواحدة وروّج قضيّة الصّلح العموميّ ولم يجد الرّاحة آنًا واحدًا في سجنه حتّى أوقد هذا السّراج في الشّرق. لقد أصبحت جميع النّفوس الّتي قبلت تعاليمه، والحمد لله، محبّة للسّلام وصانعة له، مستعدّة لأن تنفق أرواحها وأموالها في سبيله. فليُرفع الآن هذا اللّواء في الغرب، وعندها سوف يستجيب الكثيرون لهذا النّداء. لقد أصبحت أمريكا مضرب المثل في اكتشافاتها وابتكاراتها ومهارتها في الفنون، واشتهرت بعدل الحكومة وعظائم الأعمال، فلعلّها الآن يعلو صيتها كمنادية للصّلح العموميّ والسّاعية من أجله. فليكن هذا العمل رسالتها ومهمّتها، حتّى يمتدّ زخمه المبارك إلى سائر البلاد. وإنّي أدعو الله في حقّكم جميعًا أن تُوفّقوا في تقديم هذه الخدمة إلى عالم الإنسان.

(4) 13 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بحفل استقبال جمعيّة السّلام النّيويوركيّة،
بفندق أستور، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

رغم شعوري باعتلال الصّحّة في هذا الأصيل، إلاّ أنّني جئتكم من فرط اهتمامي بهذا اللّقاء واشتياقي لرؤية محيّاكم. إنّ عبارات المشاعر الطّيّبة وروح الضّيافة الّتي أبداها من سبقوني من الخطباء باعثة على عظيم امتناني، وأنا شاكر على إحساساتكم القلبيّة، إذ إنّها دليل على أنّ رغبتكم العظيمة هي تأسيس السّلام العالميّ. فأنتم محبّون لوحدة الإنسانيّة، وطالبون لرضاء الله، وباحثون في أصول الأديان الإلهيّة.

ليس هناك اليوم للإنسان شرف أعظم من خدمة قضيّة الصّلح الأعظم. فالسّلام نور بينما الحرب ظلمة. والسّلام حياة بينما الحرب ممات. والسّلام هداية، والحرب ضلال. والسّلام صرح إلهيّ، والحرب عمل شيطانيّ. والسّلام نورانيّة العالم الإنسانيّ، والحرب هادمة للأسس الإنسانيّة. وعندما نتدبّر النّتائج الحاصلة في عالم الوجود، نجد أنّ السّلام والألفة عاملان على الرّفعة والإصلاح، بينما الحرب والنّزاع هما علّتان للخراب والشّتات. وكلّ الأشياء الحادثة هي مظاهر لتجاذب الموادّ العنصريّة وتماسكها، في حين أنّ العدم هو غياب تجاذبها وائتلافها. فنرى أنّ مختلف العناصر تتّحد بكلّ انسجام في تركيبها، وأنّ التّحلّل والعدم ينتجان عندما تتنافر هذه العناصر وتتباعد. وتشترك كلّ الأشياء في هذه الخاصّيّة وتخضع لقانونها، إذ إنّ الأساس الإيجاديّ في كافّة مدارجه وممالكه ما هو إلاّ تعبير عن المحبّة أو ناتج عنها. انظروا إلى اضطراب وهيجان عالم الإنسان اليوم بسبب الحرب. فالسّلام صحّة وبناء، أمّا الحرب فهي سقم وانحلال. وعندما يرتفع عَلَم الحقيقة يصير السّلام سببًا لخير عالم الإنسان ورقيّه. لقد كانت الحرب في كلّ الدّورات والعصور عاملاً من عوامل الاختلال والإزعاج، في حين أنّ السّلام والأخوّة جالبان للأمان وراعيان للمصالح الإنسانيّة. وهذا التّباين تفصح عنه أحوال عالم اليوم بالأخصّ، لأنّ الحرب في القرون الغابرة لم تبلغ درجة الوحشيّة والدّمار الّتي تتميّز بها الآن. فإذا ما تحاربت أمّتان في قديم الزّمان، كان عشرة آلاف أو عشرون ألفًا يسقطون ضحيّة ذلك، أمّا في هذا القرن فإنّ هلاك مائة ألف شخص في يوم واحد هو أمر ممكن جدًّا، فقد بلغ إتقان علم الإبادة والقتل وكفاءة ما يُستعمل من وسائل وآلات حدًّا جعل بالإمكان محو أمّة بأسرها في وقت قصير. فمقارنة الحاضر إذًا بأساليب وتبعات الحروب القديمة شيء غير وارد.

هناك قاعدة جوهريّة وهي أنّ كافّة الكائنات الحادثة تبلغ ذروةً ودرجةً معيّنة في اكتمالها، يتحقّق على إثرها نظام وحالة جديدة. وبما أنّ علم الحرب وأدواتها قد بلغا درجة الاكتمال والإتقان، فمن المأمول أن يكون تحوّل العالم الإنسانيّ قد اقترب، وأنّ طاقات الإنسان وابداعاته سوف تُسخّر في القرون القادمة لترويج مصالح السّلام والإخاء. ولذا فإنّي أدعو الله أن يؤيّد ويقوّي هذه الجمعيّة المحترمة المبجّلة المعنيّة بتأسيس السّلام العالميّ في مقاصدها المخلصة. فعندئذ ستعجّل في مجيء أوان رفع لواء الوفاق العموميّ، والمناداة بالخير العالميّ وتحقّقه، كيما يتبدّد الظّلام الّذي بات يغلّف العالم.

لقد عاش حضرة بهاء الله في بلاد فارس قبل ستّين سنة، وظهر حضرة الباب هناك قبل سبعين سنة، وكرّس هذان النّفسان المباركان حياتهما لتأسيس السّلام العالميّ والمحبّة بين البشر، وجاهدا بالقلب والرّوح لتأسيس التّعاليم الّتي يتسنّى لمختلف الشّعوب أن تتآلف بمقتضاها، وبها تنتهي كلّ شحناء وعداوة وبغضاء. وفي خطابه لجميع البشر، صرّح حضرة بهاء الله بأنّ آدم، أبا البشر، يمكن تشبيهه بسدرة الخليقة الّتي تنتمون إليها أوراقًا وبراعمَ. وبما أنّ أصلكم واحد، فعليكم الآن أن تتّحدوا وتتّفقوا، وعليكم أن تتعاشروا بالرَّوْح والرّيحان. وحَكَم على التّعصّبات – دينيّة كانت أم عرقيّة أم قوميّة أم سياسيّة – بأنّها هادمة لبنيان الهيئة الاجتماعيّة. كما تفضّل بأنّ على الإنسان أن يقرّ بوحدة البشر، لأنّهم ينتمون جميعًا في الأصل إلى أسرة واحدة، وكلّهم عباد إله واحد. ولذا فعلى الجنس البشريّ أن يحافظ على الألفة والمحبّة، منتهجًا سنن الله، معرضًا عن الوساوس الشّيطانيّة، إذ إنّ المواهب الإلهيّة تؤدّي إلى الوحدة والوفاق، بينما لا تحضّ الدّوافع الشّيطانيّة إلاّ على الكراهية والحرب.

تمكّنت هذه الشّخصيّة الفريدة بهذه المبادئ من تأسيس رباط الوحدة بين ملل بلاد فارس المختلفة وأناسها المتباعدين. وارتبط أولئك الّذين اتّبعوا تعاليم حضرته بروابط المحبّة بغضّ النّظر من أيّ حزب أو فريق كانوا، وما زالوا حتّى اليوم يتعاونون ويعيشون معًا في سلام ووفاق. فهم إخوة وأخوات حقيقيّون. وهم لا يلقون بالاً لأيّ فروق طبقيّة بينهم، ويسودهم تمام الوفاق. وباتت رابطة الانجذاب هذه تقوى يومًا بعد يوم، وأصبح إخاؤهم الرّوحيّ دائم التّطوّر. لقد عانى حضرة بهاء الله وتحمّل كلّ محنة ومشقّة من أجل ضمان تقدّم العالم الإنسانيّ وتحقيق هذه المبادئ. وتجرّع الباب كأس الشّهادة، وضحّى ما يزيد على عشرين ألف رجل وامرأة بحياتهم من أجل إيمانهم، وسجن حضرة بهاء الله وتعرّض لشديد الاضطهادات. وأخيرًا نفي من بلاد فارس إلى بلاد ما بين النّهرين (العراق)، ثمّ من بغداد أُرسل إلى القسطنطينيّة وأدرنة، ومن هناك إلى سجن عكّاء ببرّ الشّام. وكان يجاهد إبّان كلّ هذه المحن ليل نهار لإعلان وحدة العالم الإنسانيّ وترويج رسالة الصّلح العموميّ. وخاطب من سجن عكّاء ملوك الأرض وحكّامها برسائل مسهبة، يدعوهم فيها إلى الوفاق العالميّ، وصرّح بكلّ جلاء أنّ راية الصّلح الأعظم سترتفع حتمًا في هذا العالم.

لقد حان أوان تحقيق ذلك. فقوى الأرض لا تستطيع الوقوف في وجه النّعم والآلاء الّتي قدّرها الله لهذا القرن العظيم المجيد، فهي من حاجات العصر ومتطلّباته. وبوسع الإنسان أن يقف في سبيل أيّ شيء عدا ما أراده الله وكتبه للعصر ومتطلّباته. والآن – ولله الحمد – يوجد عاشقون للسّلام في كافّة بلاد العالم، كما أنّ هذه المبادئ منتشرة بين البشر، خاصّة في هذه الدّولة. والحمد لله إنّ هذا الفكر هو السّائد، والنّفوس ناهضة على الدّوام كحماة لوحدة الإنسانيّة، جاهدة في دعم وتأسيس السّلام العالميّ. ولا مِرية أنّ هذه الدّيمقراطيّة العظيمة ستكون قادرة على تحقيقه، وأنّ لواء الاتّفاق العالميّ سيُنشر هنا، ومن ثَمّ سينتشر طولاً وعرضًا بين كافّة أمم العالم. وأشكر الله أنّي وجدتكم مُشبَعين بهذه الأحاسيس والتّطلّعات السّامية، وأملي هو أن تصبحوا واسطة نشر هذا الضّياء بين كافّة البشر، وأن تسطع بذلك شمس الحقيقة على الشّرق والغرب، وتنقشع السّحب القاتمة، وتبدِّد حرارة الأشعّة الإلهيّة هذا الضّباب. ولسوف تترقّى حقيقة الإنسان وتتجلّى على صورة الله خالقه، وتسمو أفكار البشر إلى أوجٍ تبدو منه انجازات الماضي كملعبة الصّبيان، ذلك لأنّ أفكار الماضي وعقائده، وتعصبات العرق والدّين، دائمًا ما حطّت من التّطوّر البشريّ وهدمته. وغاية رجائي أن تؤدّي هذه الأفكار السّامية في هذا القرن إلى خير الإنسانيّة. فليكن هذا القرن شمس القرون الماضية، ولتكن إشراقاته أبديّة، حتّى يُمجّد النّاس القرن العشرين في الأزمنة القادمة، فيقولون إنّ القرن العشرين كان قرن الأنوار، وأنّ القرن العشرين كان قرن الحياة، وأن القرن العشرين كان قرن السّلام العالميّ، وأن القرن العشرين كان قرن المواهب الإلهيّة، وأن القرن العشرين ترك بصمات ستبقى إلى الأبد.

(5) 19 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بكنيسة الأبوّة الإلهيّة،
غرب حديقة سنترال بارك، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

تتعدّد الأديان إلاّ أنّ حقيقتها واحدة، وتتعدّد الأيّام ولكنّ الشّمس واحدة، وتتعدّد الينابيع إلاّ أنّ أصلها واحد، وتتعدّد الأغصان ولكنّ الشّجرة واحدة.

إنّ أصل الأديان الإلهيّة هو الحقيقة، وإذا لم تكن هناك حقيقة لما كانت هناك أديان. ولقد بشّر حضرة إبراهيم بالحقيقة، وروّج حضرة موسى الحقيقة، وأسّس حضرة المسيح الحقيقة، وكان حضرة محمّد رسولاً للحقيقة، وكان حضرة الباب مدخلاً للحقيقة، وكان حضرة بهاء الله بهاء الحقيقة. فالحقيقة واحدة لا تتعدّد ولا تتجزّأ. والحقيقة هي كالشّمس الّتي تشرق من مشارق مختلفة، وهي كالنّور الّذي أضاء في عدّة مصابيح.

فإذا ما تقصّى أهل الأديان حقيقتها وبحثوا عن جوهر الحقيقة الكامن في أصولها، لاتّفقوا ولما وجدوا أيّ اختلاف بين دين وآخر. ولكن طالما باتت الأديان غريقة التّقاليد المتزمّتة، مُعرِضة عن الأسس الأصليّة، وبما أنّ التّقاليد تتباين تباينًا شاسعًا، لذا فإنّ الأديان تتخالف وتتعادى تبعًا لذلك. يمكن تشبيه هذه التّقاليد بالغيوم الّتي تحجب الشّروق، وتبقى الحقيقة بمثابة الشّمس. فإذا ما انقشعت الغيوم تسطع شمس الحقيقة على الكلّ ولا يبقى هناك اختلاف في الرّؤية. وعندئذ تتّفق الأديان، لأنّها واحدة في أصلها. فالموضوع واحد، أمّا الاستنباطات فهي عديدة.

الأديان الإلهيّة تشبه تتابع فصول السّنة. فعندما تصبح الأرض هامدة خامدة ولا يبقى فيها أثر من ربيع بفعل الصّقيع والبرد، يظهر الرّبيع مرّة أخرى ويكسو كلّ شيء بحُلّة جديدة من الحياة. فتصبح المروج خضلة نضرة، وتزدان الأشجار بحلّة خضراء وتطلع منها الثّمار. ثمّ يعود الشّتاء ثانية، وتزول كلّ علامات الرّبيع. هذه هي دورة الفصول الّتي لا تتوقّف – ربيع ثمّ شتاء، ثمّ رجعة الرّبيع. غير أنّه بالرّغم من تغيّر التّواريخ وتوالي السّنين، تكون عودة كلّ ربيع بمثابة عودة الرّبيع الّذي ولّى، فهذا الرّبيع هو تجدّد الرّبيع السّابق. وفصل الرّبيع هو فصل الرّبيع بعينه، بصرف النّظر عن ميعاد مجيئه ووتيرة قدومه. والأنبياء الرّبّانيّون هم كمجيء الرّبيع، إذ يجدّد كلّ منهم تعاليم النّبيّ الّذي سبقه ويحييها. وتمامًا كما تكون كلّ فصول الرّبيع واحدة في جوهرها من حيث تجدّد الحياة وأمطار الرّبيع ورونقه، كذلك يكون جوهر رسالة كافّة الأنبياء وإنجازهم واحدًا لا يتغيّر. والآن غابت عن نظر أهل الأديان حقيقة فصل الرّبيع الرّوحانيّ الجوهريّة وتشبثوا بالرّسوم والتّقاليد الموروثة، فتسبّب هذا في الاختلاف والتّناحر والتّشاجر فيما بينهم. فعلينا إذًا أن ننبذ هذه التّقاليد ونبحث عن أصل التّعاليم الإلهيّة، وبما أنّ الأصل هو حقيقة واحدة، فعلى أهل الأديان المختلفة أن يتّفقوا فيه لكي تتحقّق المحبّة والوحدة بين كافّة النّاس والمذاهب.

لقد ظهر حضرة بهاء الله في وقت كانت فيه بلاد الشّرق ممزّقة بفعل الصّراع الدّينيّ، فأسّس تعاليمَ صارت واسطة توحيد مختلف الأقوام المتباعدة، وروّج لمبادئ أزالت علّة تباعدهم. وحتّى اليوم، هناك في إيران من كانوا دومًا في صراع فاتّحدوا. فالمسيحيّون والمسلمون والزّرادشتيّون واليهود – أصحاب كلّ ملّة ونحلة ممّن اتّبعوا تعاليم حضرة بهاء الله – قد بلغوا كامل التّآخي والوفاق الرّوحيّ، وولّت خلافات ومنازعات الأمس بغير رجعة. وما يلي بعض من مبادئ تعاليم حضرة بهاء الله:

أوّلاً: يجب الإقرار بوحدة العالم الإنسانيّ وتحقيقها. فكلّ البشر عباد لله، وهو الخالق للكلّ، والرّازق والحافظ؛ وهو محب للكلّ. وبما أنّه عادل ورحيم، فلماذا يظلم بعضنا بعضًا؟ وبما أنّ الله نفخ فينا روح الحياة، فلماذا نكون علّة الممات؟ وبما أنّه واسانا، فكيف نكون سبب الشّقاء والمعاناة؟ وهل بمقدور البشريّة أن توجد خطّة وسياسة أفضل وأرقى من خطّة الله وسياسته؟ فمن المؤكّد أنّه مهما كان الإنسان قادرًا على الإتيان بخطّة، والتّرتيب لهدف وغاية، فإنّ جهوده قاصرة مقارنةً بالخطّة والمراد الإلهيّين؛ ذلك لأنّ سياسة الله كاملة. فعلينا إذًا أن نتّبع مشيئة الله وخطّته. وكما هو رؤوف بالكلّ علينا أن نكون كذلك، ومن المؤكّد أنّ هذا سيكون مقبولاً عند الله.

ثانيًا: وجوب تحرّي الحقّ أو الحقيقة، إذ إنّ الحقيقة واحدة، وعندما نتحرّى عنها سوف نجد جميعًا المحبّة والاتّحاد. فإذا ما كان هناك جهلاء فيجب تعليمهم، ومرضى فيجب شفاؤهم، وقاصرون فيلزم الأخذ بيدهم حتّى البلوغ. فهل يجمل بنا أن نرفض الجهلاء ونعترض عليهم أو المرضى أو القاصرين بسبب عجزهم؟ أليس من الأفضل أن نكون رحماء ورفقاء ونقدّم وسيلة العلاج؟ فعلينا إذًا مهما كانت الظّروف ألاّ نتصرّف بغير اللّطف والتّواضع.

ثالثًا: توافق الدّين مع العلم. فالمبادئ الأساسيّة للأنبياء هي علميّة، ولكنّ الرّسوم والتّقاليد الّتي ظهرت هي الّتي تتعارض مع العلم. فإذا لم يتوافق الدّين مع العلم يكون وهمًا وجهلاً. فقد حبا الله الإنسان بالعقل لكي يدرك الحقيقة. وأُسُس الأديان معقولة، وحبانا الله بنعمة العقل لكي نفهمها. فإذا ما كانت تلك الأسس تعارض العلم والعقل، فكيف يمكن الإيمان بها والعمل بمقتضاها؟

رابعًا: يجب أن يكون الدّين سببًا للمحبّة والاتّحاد بين بني البشر، لأنّه إذا ما صار الدّين علّة للبغضاء والنّزاع، فعدمه أفضل. فعندما ظهر حضرة موسى كانت أسباط بني إسرائيل في حالة من الانقسام وكانوا أسرى مملوكين للفراعنة. فجمع حضرة موسى شملهم، وألّف القانون الإلهيّ بينهم، فصاروا شعبًا واحدًا متّحدين متضافرين، ثمّ تحرّروا بعد ذلك من ربقة العبوديّة، وجيء بهم إلى أرض الميعاد، وترقّوا في كلّ الدّرجات، وطوّروا العلوم والفنون، وتقدّموا في الأمور المادّيّة، وازدادوا في المدنيّة الإلهيّة أو الرّوحيّة إلى أن بلغت أمّتهم أوجها في عهد سليمان. فمن الواضح إذًا أنّ الدّين هو سبب الوحدة والألفة والتّقدّم بين بني البشر. فوظيفة الرّاعي هي جمع الأغنام لا تشتيتها. ثمّ ظهر حضرة المسيح، فوحّد مختلف العقائد المتخالفة والشّعوب المتناحرة في زمانه. فجمع بين اليونان والرّومان، وألّف بين المصريّين والآشوريّين والكلدانيّين والفنيقيّين. لقد أسّس حضرة المسيح الاتّحاد والوفاق بين شعوب تلك الأمم المتعادية المتحاربة. ويتّضح من هذا أيضًا أنّ غرض الدّين هو السّلام والوفاق. كذلك ظهر حضرة محمّد في زمن كانت فيه أقوام وقبائل شبه الجزيرة العربيّة منقسمة وفي حالة من التّقاتل الدّائم. فكانوا يقتلون بعضهم البعض، وينهبون ويأسرون النّساء والأطفال. فوحّد حضرة محمّد هذه القبائل الشّرسة وأرسى بينها قواعد الألفة، بدرجة أنّها تخلّت تمامًا عن الاقتتال فيما بينها، وانصرفت إلى بناء المجتمعات. وكانت النّتيجة أن تحرّرت القبائل العربيّة من نيّر الفرس وسيطرة الرّومان، وأسّست دولةً مستقلّةً ذات سيادة وصلت إلى شأو بالغ السّموّ من المدنيّة، وترقّت في العلوم والفنون، وبسطت رقعة الحكم الإسلاميّ إلى أقصى الغرب حتّى إسبانيا والأندلس، وطبّق صيتها جميع أنحاء العالم. لذلك، ثبت مرّة أخرى أنّ المقصود من دين الله أن يكون سببًا للتّقدّم والتّضامن، لا للعداوة والتّشتّت. فإذا ما صار الدّين علّة الكراهية والنّزاع، يكون عدمه أفضل، إذ إنّ هدفه هو الوحدة وأسسه واحدة.

عندما ظهر حضرة بهاء الله في إيران، كانت أقوام وقبائل تلك الدّيار منقسمة بشديد الشّحناء والبغضاء. ولم يكونوا يجتمعون على شيء سوى الحرب، وكانوا لا يأكلون من نفس الطّعام أو يشربون من نفس الماء، وكانت المعاشرة والتّواصل بينهم مستحيلاً، فأرسى حضرة بهاء الله قواعد وحدة العالم الإنسانيّ بين هذه الأقوام وألّف بين قلوبهم بأواصر محبّة جعلتهم جميعًا في كمال الاتّحاد، وأعاد إرساء أسس النّبوّة، وأصلح المبادئ الّتي أرساها من سبقه من رسل الله وجدّدها. والمأمول الآن هو أن يتّحد الشّرق والغرب بفضل سيرة حياته وتعاليمه، بحيث لا تبقى هناك شائبة من عداوة أو نزاع أو خلاف.

(6) 19 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بكنيسة الأخوّة، تقاطع طريقي برجين وفيرفيو،
بمدينة جيرسي سيتي، ولاية نيوجيرسي

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

بما أنّ اسم هذه الكنيسة هو كنيسة الأخوّة، فأودّ أن أتكلّم عن أخوّة الجنس البشريّ.

إنّ الجنس البشريّ قائم على أخوّة كاملة، لأنّ الكلّ عباد إله واحد وينتمون إلى أسرة واحدة في كنف العناية الرّبّانيّة. ورباط الأخوّة موجود في الإنسانيّة لأنّ جميع البشر هم كائنات تتّصف بالذّكاء خُلقت في مملكة ذات رقيّ وتطوّر مطّرد. وهناك قابليّة للأخوّة في البشريّة لأنّ البشر جميعًا يقطنون هذه الكرة الأرضيّة في ظلّ سماء واحدة. والأخوّة موجودة في الجنس البشريّ بالمولد لأنّ الكلّ هم عناصر مجتمع بشريّ واحد خاضع لضرورة الوفاق والتّعاون. والأخوّة مقصودة في الإنسانيّة لأنّ النّاس جميعًا كأمواج بحر واحد وأوراق وأثمار شجرة واحدة. وهذه أخّوة جسمانيّة تضمن السّعادة المادّيّة في العالم الإنسانيّ. وكلّما قويت الأخوّة كلّما ازداد تقدّم بني البشر واتّسع نطاق التّرقّي المادّيّ.

أمّا الأخوّة الحقيقيّة فهي الأخوّة الرّوحانيّة، لأنّ الأخوة الجسمانيّة عرضة للفراق. فحروب عالم الوجود الظّاهريّ تفرّق ما بين البشر، أمّا في عالم الأخوّة الرّوحانيّة الأبديّ فليس هناك من فراق. ذلك لأنّ التّرابط المادّيّ أو الجسمانيّ يقوم على منافع دنيويّة، أمّا الإخاء الرّبّانيّ فوجوده راجع إلى نفحات الرّوح القدس. ويمكن تشبيه الأخوّة الرّوحانيّة بالنّور بينما نفوس البشر كالمصابيح. فالمصابيح المتوهّجة هنا كثيرة، إلاّ أنّ النّور المنبعث عنها نور واحد.

في وقت مرّ على بلاد الشّرق كانت فيه حتّى الأخوّة الجسمانيّة معدومة، ظهر حضرة بهاء الله. فبدأ أوّلاً بإرساء قواعد الأخوّة الجسمانيّة ثمّ تبعها بتأسيس الأخوّة الرّوحانيّة، ونفث في بلاد الشّرق روحًا تآلفت بفضلها مختلف الشّعوب والقبائل المتحاربة في اتّحاد واحد. وصارت مواهبهم واستعداداتهم واحدة، وغاياتهم واحدة، وآمالهم واحدة على شأن جعلهم يضحّون بأرواحهم من أجل بعضهم البعض، معرضين عن الجاه والثّروة والرّاحة. وصارت عرى أخوّتهم لا انفصام لها. فهذا إخاء روحانيّ أبديّ، وهذه أخوّة ملكوتيّة ربّانيّة، هي الّتي تتحدّى الانفصام. فالمدنيّة النّاسوتيّة تترقّى بواسطة التّرابط الجسمانيّ لبني البشر، والتّقدّم الّذي تلاحظونه الآن في العالم الظّاهريّ مبنيّ أساسًا على الأخوّة في المصالح المادّيّة. ولو لم يكن هناك هذا التّرابط الجسمانيّ والذّهنيّ لما تقدّمت المدنيّة. والآن، والحمد لله، فإنّ التّرابط الرّوحانيّ الّذي لا تنفصم عراه قد صار واضحًا ولائحًا، ولذلك من المؤكّد أنّ المدنيّة الرّبّانيّة قد تحقّقت، وأنّ العالم سيتقدّم ويترقّى روحيًّا. وفي هذا القرن المنير ستبلغ المعارف الرّبّانيّة والمناقب الرّحمانيّة والفضائل الرّوحيّة أسمى درجات ترقّيها. وقد لاحت الشّواهد على ذلك في إيران؛ فترقّت النّفوس بدرجة عزفت فيها عن الحياة والمال من أجل بعضها البعض. وتطوّرت مفاهيمهم الرّوحانيّة؛ وحَيَت مداركهم؛ واستيقظت أرواحهم؛ وتجلت المحبّة الخالصة. ولهذا فإنّ أملي هو أن توحّد الأخوّة الرّوحانيّة كلاًّ من الشّرق والغرب، وتحقّق المحو الكامل للاقتتال بين بني البشر، وأن تربط الأسرة البشريّة معًا فرادى وجماعات، وتصبح سببًا لرقيّ العقول، وإنارة القلوب، وتجعل المواهب الرّبّانيّة تحيط بنا من كلّ صوب. وأن تشعل القابليّات الرّوحانيّة القلوب برسالة البشارات، وأن تصبح الأخوّة الرّوحانيّة سببًا لميلاد وحياة جديدتين، لأنّ خلاّقيّتها نابعة من نفثات الرّوح القدس، وهي مشيّدة بقوّة من الله. ومن المؤكّد أنّ ما تشيّده قوّة الرّوح القدس الإلهيّة هو دائم في فاعليّته وباقٍ في تأثيره.

فالأخوّة المادّيّة ليس من شأنها أن تمنع الحروب أو تزيلها، ولا تبدّد الخلافات بين البشر. أمّا التّآخي الرّوحانيّ فيحطّم أسّ أساس الحرب، ويمحو الخلافات تمامًا، ويروّج لوحدة الإنسانيّة، ويحيي بني البشر من جديد، ويجعل الأفئدة متوجّهة إلى ملكوت الله، ويعمّد النّفوس بالرّوح القدس. ويصبح العالم المادّيّ بفعل هذه الأخوة الرّبّانيّة متألّقًا بالأنوار الإلهيّة، وتكتسب مرآة المادّيّة نورها من الملكوت، وتُرسى قواعد العدل في العالم بدرجة لا يبقى معها أيّ شائبة من ظلام أو كراهية أو عداء. وتدخل البشريّة في سرادق الطّمأنينة، وتتحقّق نبوءة كلّ رسل الله، أي سيقفز جبل صهيون ويرقص فرحًا، وتبتهج أورشليم، وتشتعل نار السّدرة الموسويّة، ويلمع النّور العيسويّ، ويصير العالم عالمًا آخر، وتُشحن البشريّة بقوّة جديدة. هذا هو أعظم عطيّة ربّانيّة، وهذا هو إشراق ملكوت الله، وهذا هو يوم الاستنارة، وهذا هو القرن الرّحمانيّ. فعلينا أن نعرف قدر هذه الأمور وأن نجهد حتّى تتحقّق في هذا اليوم أقصى آمال الأنبياء، وتتحقّق كلّ البشارات. ثقوا في فضل الله، ولا تلتفتوا إلى قدراتكم، فالموهبة الرّبّانيّة قادرة على أن تقلب القطرة بحرًا، وتجعل البذرة الضّئيلة سدرة باسقة. والمواهب الرّبّانيّة هي في الحقيقة كالبحر، ونحن حيتان ذلك البحر. ولا يجمل بالحيتان أن تقصر النّظر على نفسها، بل عليها أن تشاهد البحر باتّساعه وروعته. فللكلّ نصيب من الزّاد والغذاء في هذا البحر، وتكون الفيوضات الإلهيّة بالتّالي محيطة بالكلّ، والمحبّة السّرمديّة مشرقة على الكلّ.

لقد طـُرح سؤال: هل سيكون التّقدّم الرّوحانيّ للعالم مساويًا ومتمشّيًا مع التّقدّم المادّيّ في المستقبل؟ إنّ أقصى ما يمكن أن يصله الكائن الحيّ من ترقٍّ لا يعرف ولا يتحقّق عند بدء نشأته أو ولادته. ويستلزم التّرقّي والنّمّو درجات أو مراحل متدرّجة. فالتّرقّي الرّوحانيّ يمكن تشبيهه مثلاً بضوء الفجر المبْكِر. فرغم كون ضوء الفجر خافتًا شاحبًا، فإنّ الحكيم الّذي يرى قدوم الشّروق في بدايته يستطيع أن يتنبّأ بصعود الشّمس في كمال بهائها وإشراقها، ويعلم يقينًا أنّ هذه هي بداية ظهورها وأنّها ستتجلّى فيما بعد بكامل قدرتها ونفوذها. كما أنّه إذا ما تناول على سبيل المثال بذرة ووجدها تنبت، فسيعلم بالتّأكيد أنّها ستصير في النّهاية شجرة. والآن هو بداية تجلّي القوّة الرّوحانيّة، ومن المؤكّد أنّ قدرتها على الحياة والنّماء سوف تتعاظم أكثر وأكثر. ولذا فإنّ القرن العشرين هذا هو الفجر أو هو بداية النّورانيّة الرّوحانيّة، ومن الواضح أنّها ستزداد يومًا بعد يوم، وستصل إلى درجة تغلب فيها الإشراقات الرّوحانيّة على الجسمانيّة، حتّى تتغلّب القابليّات الرّبّانيّة على الذّكاء المادّيّ، ويـُبدِّد النّور الملكوتيّ الظّلمة التّرابيّة ويكشفها، ويُبْرِئ الدّواء الإلهيّ كلّ الأسقام، ويهطل غيث غمام الرّحمة، وتسطع شمس الحقيقة، وتكتسي الأرض ببساطها السّندسيّ الجميل. ومن بين نتائج تجلّي القوّة الرّوحانيّة هو أنّ عالم البشر سوف يتواءم مع نظم اجتماعيّ جديد، ويتجلّى العدل الإلهيّ في كلّ الشّؤون الإنسانيّة، وتتحقّق المساواة البشريّة تحقّقًا عموميًّا. وسينال الفقراء العطاء الأوفى، كما يبلغ الأغنياء سعادة أبديّة. ذلك لأنّه على الرّغم من أنّ الأغنياء في هذا الزّمان ينعمون بعظيم الرّخاء والرّاحة، إلاّ أنّهم مع ذلك محرومون من السّعادة الأبديّة، فالسّعادة الأبديّة متوقّفة على العطاء، بينما الفقراء في كلّ مكان هم في أشدّ حالات العوز. وبيمن ظهور المساواة الرّبّانيّة الكبرى سيكافأ فقراء العالم وينالون العون الكامل، وسيكون هناك تعديل في أحوال البشر الاقتصاديّة، فلا يكون هناك في مقبل الأيّام من هم في غاية الثّراء ومن هم في فقر مدقع. وسينعم الاثرياء بحُظوة هذا الحال الاقتصاديّ الجديد وكذلك الفقراء، ذلك لأنّه بمقتضى قوانين وقيود معينة سوف لا يكون بمقدورهم تكديس الكثير بما يثقل عليهم مهمّة إدارتها، بينما سيُرفعُ عن كاهل الفقير عبء العَوَز والبؤس. وسينعم الغنيّ بقصره، ويكون للفقير كوخه المريح.

جوهر الموضوع هو أنّ العدل الإلهيّ سيتجلّى في شؤون الإنسانيّة وأحوالها، وسيجد جميع البشر الرّاحة والمتعة في الحياة. ولا يقصد بهذا أن يكون الكلّ متساوين، إذ إنّ التّفاوت في الرّتبة والكفاءة هو من خصائص الطّبيعة. فلا مناصَ من أن يكون هناك أغنياء، وأيضًا من يحتاجون مصدرًا للرّزق، ولكن سيكون هناك في المجتمع ككلّ مساواة وتعديل للقيم والمنافع. فلن يكون هناك في المستقبل ثراء فاحش ولا فقر مدقع، بل سيكون هناك توازن في المنافع، ويتحقّق من الظّروف ما سيوفّر لكلّ من الغنيّ والفقير راحة ورضاء. وسيكون هذا نتيجة مباركة ودائمة للقرن العشرين المجيد، وهي نتيجة سوف تتحقّق تحقّقًا عموميًّا. وتكمن أهمّيّتها في أنّ بشارات السّعادة الكبرى المنزّلة في وعود الكتب المقدّسة ستتحقّق. فانتظروا هذا التّحقّق.

(7) 20 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة في اجتماع نصيرات حقوق المرأة الانتخابيّة، بمعبد متروبوليتان،
الكائن بتقاطع الطّريق السّابع والشّارع الرّابع عشر، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

تواجه البشريّة اليوم مسائل هي في منتهى الأهمّيّة، مسائل اختُـصّ بها هذا القرن النّورانيّ لم يكن لها مجرّد ذكر فيما مضى من القرون. وبما أنّ هذا القرن قرن الأنوار، قرن الإنسانيّة، قرن المواهب الإلهيّة، فقد طرحت هذه المسائل لتكوين رأي عامّ بشأنها، وتجرى مداولات في جميع بلدان العالم بحثًا عن حلّ لها.

إحدى هذه المسائل تتعلّق بحقوق المرأة ومساواتها بالرّجل. فقد كان هناك إجماع في القرون الغابرة على أنّ المرأة والرّجل غير متساوييْن – بمعنى أنّ المرأة كانت تعتبر أدنى من الرّجل، حتّى في خِلْقَتها وتركيبها الجسمانيّ، وكانت تعدّ أدنى منه خاصّة في الذّكاء، وسادت هذه الفكرة في كلّ مكان بدرجة لم يكن مسموحًا لها أن تدخل مضمار الشّؤون الهامّة. بل جنح الرّجل في بعض البلاد إلى حدّ الاعتقاد بأنّ المرأة تنتمي إلى عالم أدنى من عالم البشر، وأخذ يروّج لهذا الاعتقاد. إلاّ أنّه في هذا القرن، الّذي هو قرن الأنوار وقرن إظهار الأسرار، يبرهن الله – بما يريح الإنسانيّة – على أنّ هذا كلّه جهل وزيف. فعلى العكس من ذلك، من المحقّق الثّابت أنّ نوعي الرّجل والمرأة بوصفهما عنصرين تتركّب منهما البشريّة هما متساويان، ولا يسمح بأيّ تفاوت في الحكم عليهما، ذلك لأنّ كليهما بشر. لقد نجمت أحوال القرون الماضية عن غياب الفرص المتاحة للمرأة. فأُنكر عليها حقّ التّعليم ومزيّته وتُركت المرأة على حالها المتردّي. فكان من المستحيل عليها بطبيعة الحال أن تترقّى، ولم تترقَّ فعلاً. وحقيقة الأمر إنّ الله هو الخالق لكلّ البشر، وليس لدى الله أيّ مفاضلة لذكر أو لأنثى، والمقبول عند الله هو مَنْ كان قلبه طاهرًا، رجلاً كان أم امرأة. فلا يسأل الله أحدًا ‘هل أنتِ امرأة’ أو‘هل أنتَ رجل؟’ بل يحكم على أعمال الإنسان. فإذا كانت مقبولة لدى عتبة ذي الجلال، يكون الرّجل والمرأة مقدّران ومكافآن على حدّ سواء.

كما إنّ تعليم المرأة ألزم وأهمّ من تعليم الرّجل، ذلك لأنّ المرأة هي مربّية الطّفل منذ نعومة أظفاره، فإذا ما كانت هي نفسها معيبة وغير كاملة، يصير الطّفل بالضّرورة معيبًا أيضًا؛ فنقص المرأة إذًا يجلب حالة من النّقص لجميع البشر، ذلك لأنّ الأمّ هي الّتي تربّي الطّفل وترعى نموّه وترشده. وهذه ليست وظيفة الأب. فإذا ما كان المربّي غير كفء، يكون المتعلّم بالتّالي مفتقدًا للكفاءة، وهذا أمر واضح لا جدال فيه. فهل يكون التّلميذ نجيبًا وملمًّا بالعلوم إذا كان المعلّم أميًّا وجاهلاً؟ فالأمّهات هنّ المربّيات الأُوَل لبني البشر؛ فإن عانين من أيّ نقص، فوا أسفًا على حال البشريّة ومآلها.

من الثّابت المحقّق أيضًا تاريخيًّا أنّه عندما لم تساهم النّساء في أمور البشر، لم تبلغ النّتائج حدّ الاكتمال والكمال. ومن جهة أخرى، فإنّ كلّ إنجاز هامّ في العالم الإنسانيّ كان يبلغ شأوًا عظيمًا إذا ما كانت المرأة مشاركة فيه. وهذا أمر محقّق تاريخيًّا لا يقبل النّقض، حتّى في تاريخ الأديان. فقد كان لدى يسوع المسيح اثنا عشر حواريًّا، وكان له أيضًا من بين أتباعه امرأة تدعى مريم المجدليّة. فصار يهوذا الإسخريوطيّ خائنًا ومرائيًا، وبعد الصّلب أصبح الحواريّون الباقون الأحد عشر في تردّد واضطراب. والمحقّق من رواية الأناجيل أنّ الّذي واساهم وأعاد ترسيخ إيمانهم هي مريم المجدليّة.

إنّ العالم الإنسانيّ يتكوّن من عنصرين هما الذّكر والأنثى، وكلّ منهما مكمّل للآخر. ويترتّب على ذلك أنّه إذا كان أحدهما معيبًا، سيكون الآخر بالضّرورة ناقصًا، ويكون الكمال بعيد المنال. فلجسم الإنسان يد يمنى ويد يسرى، وهما متساويتان وظيفيًّا في الخدمة والتّحكم. فإذا ما أصابت إحداهما إعاقة، فستمتدّ الإعاقة بطبيعة الحال إلى الأخرى بما لهذا من تأثير على تكامل الكلّ؛ ذلك لأنّ الإنجاز لا يكون سليمًا ما لم تكن الاثنتان كاملتين. فإذا قلنا إنّ إحدى اليدين قاصرة أثبتنا عجز الأخرى ونقص قدرتها؛ فليس هناك كمال في الأداء لدى الأبتر. وتمامًا كما أنّ الأداء البدنيّ يكون كاملاً باليدين معًا، كذلك الحال مع الرّجل والمرأة – عنصرَيْ البدن الاجتماعيّ – فعلى كليهما أن يكونا كاملين. وليس طبيعيًّا أن يظلّ أحدهما غير متطوّر؛ ولن تتحقّق سعادة العالم الإنسانيّ ما لم يكن كلّ منهما كاملاً.

إنّ أهمّ المسائل الملحّة في يومنا هذا هي السّلام العالميّ وفضّ النّزاعات بين الدّول. والسّلام العموميّ يستحيل تحقيقه دون موافقة عموميّة. فالأبناء تربّيهم النّساء، وتتكبّد الأمّ مشقّة وعناء تربية الابن، وتتحمّل عناء الإنجاب والتّربية. ولهذا يكون من الصّعب المستصعب لدى الأمّهات أن يَبعثن إلى ساحة الحرب بأولئك الّذين أغدقن عليهم هذا القدر البالغ من المحبّة والحنان. تأمّلوا حال ابن ربّته أمّ متفانية وعلـّمته طوال عشرين سنة. فكم من ليال سهرتها وأيّام قضتها في مشقّة وقلق! ولكونها أخذت بيده عبر المحن والمتاعب إلى أن بلغ أشدّه، فكم يكون من المؤلم عليها أن تضحّي به في أتون المعارك. وبناء على هذا فإنّ الأمهات لن يوافقن على الحرب أو يرضين بها. لذا فإنّه عندما تساهم النّساء مساهمة كاملة ومتساوية في شؤون العالم، ويدخلن بكلّ ثقة واقتدار ميدان التّشريع والسّياسة الفسيح، سوف تتوقّف الحروب؛ لأنّ النّساء سيكنّ عقبة ومانعًا لها. وهذا صدق لا مِرية فيه.

قد احتجّ البعض بأنّ المرأة ليست على درجة مكافئة لما عند الرّجل من مقدرة، وأنّها ناقصة في خِلقتها. إنّ هذا وهم محض. فتفاوت الاستعداد بين الرّجل والمرأة راجع بالكلّيّة إلى الفرصة المتاحة والتّعليم. فقد حرمت النّساء حتّى يومنا هذا من حقّ وميزة التّرقّي على قدم المساواة. فإذا ما منحت فرصة مساوية، فلا شكّ أنّها ستكون ندًّا للرّجل. وفي التّاريخ أدلّة على ذلك: فقد برزت شهيرات النّساء في العصور الماضية في شئون الأمم وتفوّقن على الرّجال بأعمالهنّ. ومن بينهنّ زنوبيا، ملكة الشّرق، الّتي كانت عاصمتها تدمر. فأطلال تلك المدينة شاهدة حتّى اليوم على عظمتها وقدرتها وهيمنتها، فهناك يجد السّائح آثار قصور وحصون على أعلى قدر من القوّة والمتانة شيّدتها تلك المرأة البارزة في القرن الثّالث الميلاديّ. كانت زنوبيا زوجة الحاكم العامّ لأثينا، وبعد وفاة زوجها تولّت مقاليد الحكم وحكمت ولايتها بكلّ كفاءة. ثمّ غزت سوريا وأخضعت مصر وأسّست مملكة في غاية الرّوعة بحصافتها وحنكتها بأمور السّياسة. لقد بعثت الإمبراطوريّة الرّومانيّة عليها بجيش عرمرم، وعندما بلغ ذلك الجيش المدجّج بعظيم العتاد سوريا، طلعت زنوبيا بنفسها في ساحة القتال على رأس قوّاتها. وكان في يوم المعركة أن تزيّنت بحلل الملوك، ووضعت على رأسها تاجًا، وانطلقت متيمّنة سيفها لتواجه جحافل الغزاة. وبإقدامها وتخطيطها العسكريّ إستؤصلت شأفة جيش الرّومان وتشتّت تمامًا حتّى إنّهم عجزوا عن تنظيم أنفسهم عند التّقهقر. فعقدت الحكومة في روما مجلسًا للتّشاور، حيث قالوا: ‘مهما كان القائد الّذي سنرسله قديرًا فلن نقدر على هزيمتها؛ فعلى الإمبراطور أوريليان نفسه أن يذهب على رأس الفيالق الرّومانيّة الّتي سنبعث بها إلى زنوبيا.’ فزحف أوريليان على سوريا بمائتي ألف جنديّ. وكان جيش زنوبيا يقلّ عددًا عنه بكثير. حاصرها الرّومان في تدمر سنتين دون جدوى. ثمّ تمكّن أوريليان في النّهاية من قطع خطّ المؤن عن المدينة فأُجبرت هي وشعبها على الاستسلام بفعل المجاعة. فهي لم تهزم بالقتال. وهكذا أخذها أوريليان أسيرة إلى روما. ويوم دخوله إلى المدينة قام بتنظيم موكب النّصر – فكانت الأفيال في المقدّمة، ثمّ تلتها الأسود، فالنّمور، فالطّيور، ثمّ القردة – وجاءت زنوبيا بعد القردة. كانت تضع التّاج على رأسها، وسلسلة من الذّهب حول عنقها. وبكلّ كبرياء ملكيّ وتجاهُل تامٍّ للمذلّة، كانت تتلفّت يمنة ويسرة وتقول: ‘إنّني فخورة حقًّا كوني امرأة، وكوني وقفت في وجه الإمبراطوريّة الرّومانيّة.’ (كانت رقعة الإمبراطوريّة الرّومانيّة في ذلك الزّمان تغطّي نصف ما هو معروف من الأرض.) ‘وهذه السّلاسل الّتي تطوّق عنقي ليست علامة على الذّلّة بل على العزّة. فهي رمز لقوّتي لا لهزيمتي.’

من بين شهيرات التّاريخ أيضًا كاثرين الأولى زوجة بطرس الأكبر، وكانت وقتها تركيّا وروسيا في قتال. كان محمّد باشا، قائد القوّات التّركيّة، قد هزم بطرس، وعلى وشك الاستيلاء على مدينة سانت بطرسبرج، وكان الرّوس في وضع حرج للغاية. فقالت كاثرين زوجة بطرس: ‘سأتدبّر هذا الأمر.’ فعقدت لقاء مع محمّد باشا، وفاوضته على معاهدة صلح وأقنعته بالتّراجع. فأنقذت بذلك زوجها وأمّتها، وكان إنجازًا عظيمًا. وبعد ذلك تُوِّجت إمبراطورة على روسيا وحكمت البلاد بكلّ حنكة حتّى مماتها.

كما إنّ اكتشاف أمريكا على يد كولومبوس كان إبّان حكم الملكة إيزابيلاّ الإسبانيّة، وهذا العمل الرّائع يرجع لفطنتها وعونها بدرجة كبيرة. مجمل القول إنّ هناك نساء شهيرات ظهرن على مسرح تاريخ العالم، ولا حاجة إلى ذكر المزيد منهنّ.

من بين البهائيّين اليوم في إيران العديد من النّساء اللاّئي يغبطهنّ الرّجال، وهنّ حائزات على كافّة فضائل الإنسانيّة ومناقبها. فهنّ بليغات، وشاعرات، ومتبحّرات في العلم، ويجسّدن جوهر التّواضع. وكنّ في المقدرة وحدّة النّظر السّياسيّة قادرات على التّعامل مع النّوّاب من الرّجال والتّفوق عليهم. ولقد كرّسن حياتهنّ وضحّين بالنّفس والنّفيس مستشهدات من أجل البشريّة، وستبقى شواهد مجدهنّ إلى أبد الآبدين. وسجلاّت تاريخ إيران منوّرة بحياتهنّ وسيرتهنّ.

الغرض من هذا باختصار هو: إذا ما تعلّمت المرأة وأُعطِيَت حقوقها كاملة، فستنال القدرة على القيام بأروع الأعمال، وتثبت أنّها ندٌّ للرّجل. فهي عضد الرّجل ومكمّلته ورفيقته. وكلاهما بشر، وكلاهما حائز على استعدادات الفطنة ومجسِّد للفضائل الإنسانيّة، وهما شريكان ونظيران في كافّة القدرات والوظائف الإنسانيّة. ففي وقتنا الحاضر لا نجد أنّ المرأة تبدي مواهبها الفطريّة في مجال العمل والنّشاط الإنسانيّ، وذلك بسبب نقص التّعليم وانعدام الفرص أمامها. ولا شكّ أنّ التّعليم سيحقّق لها المساواة مع الرّجل. انظروا إلى مملكة الحيوان، حيث لا يشاهد أيّ تمييز بين الذّكر والأنثى، فكلاهما متساويان في القدرات والامتيازات. كما أنّه لا يشاهد أيّ تفرقة بين طيور السّماء، فقدراتهم متساوية، ويتعايشون بكمال الاتّحاد والاعتراف المتبادل بالحقوق. أفلا ننعم بنفس المساواة؟ فغياب هذه المساواة لا يليق ببني البشر.

 

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في كامبردج وبوسطن (1) 22 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة الّتي ألقيت في هيكل تريمونت
في مؤتمر كنائس الموحّدين بوسطن، ولاية ماساتشوستس

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

إنّ الخلق والإيجاد تعبير عن الحركة. فالحركة حياة، والشّيء المتحرّك هو شيء حيّ، بينما يكون الخامل الّذي لا يتحرّك ميّتًا. فجميع أشكال الخليقة في تقدّم، كلّ في رتبته أو مملكة وجوده في ظلّ حافز من قوّة الحياة أو روحها. والطّاقة الكونيّة هي أيضًا في حركة. ولا شيء يبقى ساكنًا، أكان في عالم النّاسوت، الّذي هو عالم المخلوقات المادّيّة، أو في عالم الغيبيّات، الّذي هو عالم العقل والوعي.

الدّين هو التّعبير الظّاهريّ للحقيقة الرّبّانيّة، فمن الواجب إذًا أن يكون الدّين حيًّا نبّـاضًا متحرّكًا وفي تقدّم دائم. فإذا كان ساكنًا وغير تقدّمي، يضحي محرومًا من الحياة الرّبّانيّة، ويصير ميّتًا. والشّرائع الإلهيّة هي في نشاط دائب وفي حالة من التّطوّر. ولهذا على الوحي الدّينيّ أن يكون متطوّرًا ودائمًا، فكلّ الأشياء تخضع للتّعديل. وهذا القرن قرن حياة وتجديد، فقد أخضعت العلوم والفنون والصّناعة والابتكار للتّجديد والتّطوير، وأعيدت صياغة وتنظيم القوانين والأخلاقيّات، ودبّت حياة جديدة في عالم الفكر، وأضحت علوم العصور الغابرة وفلسفات الماضي عديمة النّفع لعالم اليوم. ومتطلّبات الحاضر يلزمها حلولاً جديدة، لأنّ مشاكل عالم اليوم لم يسبقها مثيل. وصارت الأفكار والتّوجّهات القديمة تبلى وتتقادم في تسارع شديد. فلا يمكن للقوانين العتيقة ونظم المعاملات البالية أن تفي بمتطلّبات الأحوال الجديدة المعاصرة، لأنّه من الجليّ الواضح أنّ هذا القرن قرن حياة جديدة، قرن كشف الحقيقة، ولذا فهو أعظم القرون كلّها. انظروا كيف أنّ ترقّيات العلوم في خمسين سنة قد فاقت وغطّت على معارف وإنجازات كلّ العصور الماضية مجتمعة. فهل بمقدور منطوق ونظريّات قدامى علماء الفلك أن تشرح ما هو المعروف الآن عن الشّموس والأنظمة الكونيّة؟ وهل بوسع قناع الغموض الّذي اكتنف القرون الوسطى أن يستجيب للرّؤية الصّافية والفهم الّذي يميّز عالم اليوم؟ وهل يلبّي فساد حكومات الماضي صيحة الحرّيّة الّتي علت من أوداج البشريّة في هذا الدّور النّورانيّ؟ من الثّابت أنّه لا تتأتّى الآن أيّ نتائج حيويّة هامّة من عادات ومناهج ووجهات نظر عتيقة. بالنّظر إلى هذه الحقائق، هل للتّقاليد العمياء للرّسوم الموروثة والاجتهادات اللاّهوتيّة أن تستمرّ في أن ترشد وتحكم الحياة الدّينيّة والتّرقّي الرّوحيّ للبشريّة في يومنا الحاضر؟ وهل للإنسان الّذي أُوتِيَ نعمة العقل أن يظلّ مقلِّدًا ومتمسّكًا دون تفكير بتلك الطّقوس والاعتقادات والعقائد الموروثة الّتي لا تصمد أمام التّحليل العقلانيّ في هذا القرن الّذي هو قرن الحقيقة اللاّئحة؟ لا شكّ أنّ هذا لن يُرضي رجال العلم، ذلك لأنّهم إن وجدوا حجّة أو استنتاجًا ممّا يناقض موازين الإثبات الّتي صارت متعارفًا عليها اليوم، أو يخلو من سند حقيقيّ، سيرفضون ما كان يعدُّ حجّة وحقيقة فيما مضى من الزّمان، ويضربون صفحًا عنها ويمضون قدمًا إلى الأمام على أسس جديدة.

لقد بُعث الأنبياء الرّبّانيّون بالأديان وأحكموا قواعدها، ووضعوا شرائعَ ومبادئَ سماويّةً من أجل هداية بني البشر، وعلـّموا معرفة الله وروّجوا لها، وتمّموا مكارم الأخلاق وشدّدوا على أسمى درجات الفضيلة في العالم الإنسانيّ. ثمّ كان أن غشت الغشاوة على هذه التّعاليم السّماويّة وأصول الحقيقة تدريجيًّا من جرّاء تفاسير البشر وطقوس وتقاليد المعتقدات الموروثة. فالحقائق الجوهريّة الّتي اجتهد الأنبياء من أجل ترسيخها في أفئدة العباد وعقولهم، وعانوا بصدد ذلك من الشّدائد وقاسوا من ويلات الاضطهاد، قد أوشكت الآن على الزّوال. وقد قُـتل البعض من هؤلاء الرّسل الإلهيّين، وسجن البعض الآخر، وجميعهم سخر منهم النّاس ونبذوهم في معرض مناداتهم بالحقيقة الرّبّانيّة. وبعد فترة من رحيلهم عن هذا العالم ضاعت الحقيقة الجوهريّة لتعاليمهم، واتّبع النّاس التّقاليد المتعصّبة بدلاً عنها.

بما أنّ التّأويلات البشريّة والتّقاليد العمياء تختلف عن بعضها البعض اختلافًا كبيرًا شاسعًا، فقد نشب النّزاع والخلاف الدّينيّ بين البشر، وأطفيء نور الدّين الحقّ، وانفصمت عرى وحدة عالم الإنسانيّة. بينما الواقع هو أنّ أنبياء الله نطقوا بروح الاتّحاد والاتّفاق، وكانوا مؤسّسين ربانيّين للحقيقة الإلهيّة. فإذا ما تخلّت ملل العالم عن التّقاليد، وتقصّت الحقائق الكامنة في كلمة الله المنزلة، لاتّفقت فيما بينها وائتلفت، ذلك لأنّ الحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد.

لكنّ الملل والأديان غارقة جميعها في تقاليد التّعصّب الأعمى. فهذا يهوديّ لأنّ أباه كان يهوديًّا، والمسلم يقتفي تمامًا أثر آبائه وأجداده في العقائد والطّقوس، والبوذيّ أمين على ما ورثه كبوذيّ. بمعنى أنّهم يؤمنون بالمعتقد الدّينيّ إيمانًا أعمى دونما أيّ استقصاء، ممّا يجعل الوحدة والوفاق أمرًا مستحيلاً. فيتّضح إذًا أنّ هذه الحالة لا يمكن علاجها دون أن يتطرّق الإصلاح إلى الدّين. أو بتعبير آخر، يجب تجديد الحقيقة الجوهريّة للأديان الإلهيّة وإصلاحها وإعلانها على البشر من جديد.

لقد نما كلّ دين من بذرة الحقيقة فصار شجرة أخرجت أوراقها وأغصانها وأزهارها وأثمارها. وبعد فترة من الزّمان آل بها المآل إلى العطب، فذبلت أوراقها وأزهارها وذوت، وصارت شجرة جدباء بلا ثمر. فليس من المعقول أن يتمسّك الإنسان بالشّجرة القديمة، مدّعيًا أنّ قوى الحياة لا تزال فيها باقية، أو أنّ ثمرها ليس له نظير، أو أنّ وجودها أبديّ. بل يجب أن تبذر بذرة الحقيقة مرّة أخرى في أفئدة العباد لتنبت منها شجرة جديدة، وينتعش هذا العالم من الثّمار الرّبّانيّة الجديدة. بهذه الوسيلة تأتي الأمم والشّعوب، الّتي هي الآن مختلفة في عقائدها، تحت خيمة الاتّحاد، وتتخلّى عن التّقاليد، وتتحقّق أخوّة عموميّة على أساس من هذه الحقيقة الواحدة. ويتوقّف القتال والنّزاع من بين البشر، ويأتلف الكلّ معًا عبادًا لله الواحد، لأنّ الكلّ مستظلّ في ظلّ شجرة عنايته ورحمته. والله رؤوف بالكلّ، وهو واهب العطاء للكلّ على حدّ سواء، بل كما صرّح يسوع المسيح بأنّ الله يمطر على الأبرار والظّالمين– بمعنى أنّ رحمة الله شاملة. فكافّة البشر تحت حفظ حبّه وعطفه، وهو الّذي هدى الكلّ إلى سبيل الرّشاد والارتقاء. والتّرقّي نوعان: مادّيّ وروحيّ. فالتّرقّي المادّيّ يأتي عن طريق الملاحظة والتّدقيق في الوجود المحيط بنا، وهو ما يُشكّل أصل الحضارة وأساسها. أمّا التّرقّي الرّوحيّ فيأتي من نفثات الرّوح القدس، وهو استيقاظ النّفس البشريّة الواعية لتدرك الحقيقة الرّبّانيّة. وكما أنّ التّرقّي المادّيّ يضمن سعادة العالم الإنسانيّ، فإنّ التّرقّي الرّوحيّ يكفل سعادة الرّوح وخلودها الأبديّ. لقد وضع أنبياء الله شرائع المدنيّة الإلهيّة، وكانوا أساسًا ومنبعًا لكلّ معرفة، وأحكموا أيضًا بنيان مبادئ الأخوّة الإنسانيّة. والأخوّة لها أصناف شتّى – منها الأخوّة الأسريّة، والأخوّة العرقيّة، والأخوّة القوميّة، والأخوّة في الدّوافع الأخلاقيّة. ولكنّ أنواع روابط الأخوّة هذه ما هي إلاّ أمور وقتيّة عابرة إذا ما نظرنا إليها من حيث الوفاق والتّآلف. فهي لا تضمن الوفاق، وعادة ما تُحدث الشّقاق والتّباعد. وهي لا تمنع القتال والنّزاع بل بالعكس، فهي بواعث أنانيّة، وأسباب حصريّة وعلّـة خصبة للعداوة والبغضاء بين البشر. أمّا الأخوّة الرّوحانيّة الموقدة والمتحقّقة من نفثات الرّوح القدس فهي الأخوّة الّتي توحّد الأمم وتزيل أسباب القتال والنّزاع وتحوّل الجنس البشريّ إلى أسرة عظيمة وترسي قواعد وحدة العالم الإنسانيّ. وهي الأخوّة الّتي تنشر روح الوفاق في العالم وتضمن السّلام العامّ. فعلينا إذًا أن نتقصّى أصل هذه الأخوَّة الملكوتيّة وأن نتخلـّى عن كافّة التّقاليد وأن نروّج حقيقة التّعاليم الإلهيّة. فبمقتضى هذه المبادئ والأعمال، وبعون الرّوح القدس تتحقّق كلّ من السّعادة المادّيّة والرّوحيّة في آن معًا. وما لم تتّحد كافّة الأمم والشّعوب بروابط الرّوح القدس في ذلك الإخاء الحقيقيّ، وما لم تُمحَ التّعصّبات الّتي تفرِّق بين أهل الوطن الواحد، وتلك الّتي تباعد ما بين مختلف الأوطان لتختفي جميعها في حقيقة هذه الأخوّة الرّوحيّة، فلن يبلغ الإنسان التّرقّي الحقيقيّ والرّخاء والسّعادة الدّائمة. إنّ هذا القرن قرن مواطنة عالميّة جديدة. فقد تقدّمت العلوم، وتطوّرت الصّناعة، وأُصلحت السّياسات، وارتفع النّداء بالحرّيّة، واستيقظ العدل والإنصاف. فهذا القرن هو قرن الحركة، وهو قرن الدّافع والإنجاز الإلهيّ، وقرن التّعاضد والخدمة المتفانية بين بني الإنسان، وهو قرن السّلام العامّ والحقيقة الملكوتيّة.

(2) 23 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد فرانسيس بريد وحرمه
367 شارع هارفارد، كامبردج، ولاية ماساتشوستس

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

إنّ المعارف العلميّة هي أسمى تحصيل واكتساب في الوجود البشريّ، لأنّ العلم هو مكتشف الحقائق. والعلم نوعان: مادّيّ وروحانيّ. فالعلم المادّيّ هو البحث في حقيقة الظّواهر الطّبيعيّة، أمّا العلم الإلهيّ فهو اكتشاف وإدراك الحقائق الرّوحيّة. وعلى عالم الإنسان أن يكون حائزًا على كلا العِلْمين. فللطّير جناحان، ولا يستطيع الطّيران بجناح واحد. والعلم المادّيّ والعلم الرّوحانيّ هما بمثابة جناحيّ الرّقي والتّحصيل البشريّ. وكلاهما ضروريّ – فأحدهما مختصّ بالطّبيعة والآخر متعلّق بالغيبيّات، أحدهما مادّيّ، والآخر إلهيّ. وما نعنيه بالعلم الإلهيّ هو اكتشاف الأسرار الإلهيّة ومعرفة الحقائق الرّوحيّة والحكمة الرّبّانيّة ودلالات الأديان السّماويّة وأصل الشّريعة.

هذا اليوم هو الثّالث والعشرون من مايو/ أيّار، ذكرى إعلان دعوة حضرة الباب. وهو يوم مبارك، ويوم فجر الظّهور، إذ إنّ ظهور حضرة الباب كان بزوغ فجر الصّبح الصّادق، بينما ظهور الجمال المبارك، حضرة بهاء الله، هو إشراق الشّمس. لذا فهو يوم مبارك، وهو استهلال الموهبة الملكوتيّة، وبداية الإشراق الإلهيّ. في هذا اليوم من عام 1844 بُعث حضرة الباب مبشّرًا وداعيًا إلى ملكوت الله، ناطقًا ببشارات مجيء حضرة بهاء الله، فواجه بذلك معارضة الأمّة الإيرانيّة كلّها. لقد آمن به بعض الإيرانيّين، فعانوا من أجل هذا أشدّ المحن وأقسى البلايا. تحمّلوا الامتحانات بقوّة عجيبة وبطولة عالية؛ زُجّ بالآلاف في السّجون، وأُنزل بهم العقاب، واضطهدوا، واستشهدوا. ونُهبت بيوتهم وخُرّبت، وصودرت أملاكهم. ضحّوا بحياتهم بكلّ رضا، وظلّوا ثابتين على إيمانهم حتّى النّهاية. هذه النّفوس البديعة هي مصابيح النّور الإلهيّ، وأنجم القداسة اللاّمعة بكلّ بهاء من أفق المشيئة الإلهيّة الأبديّ.

أمّا حضرة الباب فقد تعرّض لاضطهاد مرير في مدينة شيراز، وهي المدينة الّتي شهدت أوّل إعلان عن دعوته ورسالته. وقد ابتُلي ذلك الإقليم بالمجاعة فترة من الزّمن، وانتقل حضرة الباب إلى مدينة إصفهان، وهناك قام عليه العلماء بعداء شديد. فقُبض عليه وأُرسل إلى مدينة تبريز، ومن هناك نُقل إلى قلعة ماه كو، ثمّ سُجن أخيرًا في قلعة جهريق الحصينة. وبعدها أُحضر إلى مدينة تبريز حيث استشهد.

هذه مجرّد نبذة عن تاريخ حضرة الباب الّذي تحمّل كلّ اضطهاد وعانى كلّ محنة وبلاء بعزم لا يلين. وكلّما سعى أعداؤه لإطفاء تلك الشّعلة كلّما ازداد لهيبها، وانتشر أمره وقوي يومًا بعد يوم. وعندما كان لا يزال حرًّا قادرًا على مقابلة النّاس، كان يبشّر بمجيء حضرة بهاء الله باستمرار. ولقد أشار إلى حضرة بهاء الله في كلّ كتبه وألواحه وأعلن بشارة ظهوره، متنبّئًا بظهوره في سنة التّسع، إذ تفضّل قائلاً وفي سنة التّسع أنتم كلّ خير تدركون وفي سنة التّسع أنتم بلقاء من وعدتكم به تُرزقون. وأشار إلى الجمال المبارك، حضرة بهاء الله، بلقب من يظهره الله. وبالاختصار، لقد ضحّت تلك النّفس المباركة بحياتها في سبيل حضرة بهاء الله، كما هو ثابت في روايات التّاريخ وسجلاّته. وفي أوّل كتبه المسمّى بأحسن القصص، يتفضّل بقوله: يا بقيّة الله، قد فديت بكلّي لك، ورضيت السّبَّ في سبيلك، وما تمنّيت إلاّ القتل في محبّتك، وكفى بالله العليّ معتصمًا قديمًا.

انظروا كيف تحمّل حضرة الباب هذه المحن والبلايا؛ وكيف بذل حياته في سبيل أمر الله؛ وكيف كان منجذبًا لمحبّة الجمال المبارك، حضرة بهاء الله؛ وكيف نادى ببشارات ظهوره. فعلينا أن نقتدي بمثله الرّحمانيّ ونضحّي بالنّفس ونشتعل بنار محبّة الله وننال نصيبًا من موهبة الله وفضله، لأنّ حضرة الباب أوصانا بالنّهوض لخدمة أمر الله، وأن نكون منقطعين تمامًا عمّا سوى الله في هذا اليوم، يوم الجمال المبارك، حضرة بهاء الله، وأن نكون منجذبين بالكلّيّة لمحبّة حضرة بهاء الله، وأن نكون محبّين للبشريّة جمعاء من أجل خاطره، وأن نكون طيّبين ورحماء بالكلّ من أجله، وأن نشيّد بنيان وحدة العالم الإنسانيّ. فهذا اليوم إذًا – يوم الثّالث والعشرين من مايو/ أيّار – هو الذّكرى السّنويّة لحدث مبارك.

(3) 25 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة ببناية هانتينجتون، بوسطن، ولاية ماساتشوستس

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

إنّي راحل عن مدينتكم، ولكنّـني تارك قلبي معكم، فستبقى روحي هنا ولن أنساكم. وأدعو لكم بالتّوفيق من الملكوت الأبهى، وأدعو الله أن تزداد أحاسيسكم الرّوحانيّة دومًا حتّى تزدادوا إشراقًا يومًا بعد يوم، وتتقرّبوا من الله إلى أن تصبحوا سببًا في تنوير العالم الإنسانيّ، وتحيط بكم تأييدات الملكوت. وهذا هو رجائي ودعائي.

إنّ هذا القرن المنير بنظر المؤرّخين يحاكي مائة قرن من القرون الخالية. بل عندما نقارنه بكلّ ما سبق من الإنجازات البشريّة في الماضي، يتبيّن أنّ الاكتشافات والتّقدّم العلميّ والمدنيّة المادّيّة لقرننا الحاضر تعادل، بل إنّها تفوق بدرجة كبيرة تقدّم ونتائج مائة قرن من قرون الماضي. فطبع الكتب وإنتاج المؤلّفات الأدبيّة شاهد وحده على أنّ نتاج الفكر البشريّ في هذا القرن كان أعظم من كلّ القرون الخالية مجتمعة وأشدّ منها تنويرًا. فمن الواضح إذًا أنّ لهذا القرن أهمّيّة بالغة. تدبّروا في معجزات الإنجاز الّتي امتاز بها حتّى الآن: من اكتشافات في مختلف مجالات الأبحاث الإنسانيّة، إلى اختراعات ومعارف علميّة، وإصلاحات وتنظيمات للمعاملات وضعت لمصلحة الجنس البشريّ، وإلى اكتشاف أسرار الطّبيعة، وقوى كانت مجهولة أُخرجت إلى حيّز الشّهود والمكاشفة وجرى تطويعها – إنّه عالم عجيب حقًّا من الظّواهر والظّروف الجديدة الّتي كانت مجهولة للإنسان حتّى وقتنا هذا وأصبحت متاحة لاستخداماته وعرضة للمزيد من استقصائه. فبمقدور الشّرق والغرب التّخاطب في التّوّ واللّحظة. وبوسع الإنسان أن يحلّق في السّماء أو ينطلق في أعماق البحار. وربطت قوّة البخار ما بين القارّات، فالقطارات تعبر الصّحارَى وتخترق حواجز الجبال، ولا تضلّ البواخر طريقها عبر محيطات لم يبحر فيها أحد من قبل. وتزداد الاكتشافات يومًا بعد يوم. فيا لهذا القرن من قرن عجيب! إنّه قرن الإصلاح العموميّ، فقد باتت قوانين الحكومات المدنيّة والفيدراليّة قيد التّغيير والتّحويل، وصارت العلوم والفنون تصاغ من جديد، وتحوّلت الأفكار، وتبدّلت وتقوّت أسس المجتمع الإنسانيّ. فصارت علوم الماضي غير نافعة لعالم اليوم، وأُبطلت القواعد البطليموسيّة في الفَلَك، وأُبطل معها ما لا حصر له من القواعد والنّظريّات والشّروحات العلميّة والفلسفيّة بعد أن صار مسلّمًا ببطلانها وعدم جدواها. كما أنّه لا يمكن أن يفي ما سبق من أنماط سلوكيّة ومبادئ باحتياجات العالم الحديث. وصارت أفكار ونظريّات العصور الخوالي عديمة الجدوى في هذا الزّمان. وباتت عروش وحكومات تتقوّض وتتهاوى. وصارت كلّ أحوال الماضي ومتطلّباته غير ملائمة وغير كافية للوقت الحاضر، ومن ثمّ أخضعت لإصلاح جذريّ. ومن هذا يتّضح إذًا أنّ التّعاليم الدّينيّة المزيّفة والمقلّدة ورسوم العقائد البالية والتّقاليد الموروثة المخالفة لأصول الحقيقة الإلهيّة، يجب أن تزول هي الأخرى وأن يطالها الإصلاح. لا بل يجب التّخلّي عنها والإقرار بما استجدّ من ظروف وأحوال. كما يجب أن تخضع أخلاق البشر للتّغيير. ويجب اللّجوء إلى وسائل علاج وحلول جديدة لمشاكل البشر. كما يتعيّن على أفكار البشر نفسها أن تتغيّر هي الأخرى وينالها الإصلاح الشّامل. فتمامًا كما تكون أفكار وفرضيّات العصور الغابرة عقيمة في يومنا هذا، كذلك تكون الطّقوس والرّسوم الّتي هي من بدع البشر بالية عقيمة فيما يتعلّق بأمور الدّين. بل إنّ من الثّابت أنّها هي السّبب في العداء وهي علّة الصّراع في عالم الإنسان؛ فالحرب وسفك الدّماء ينجمان عنها، كما أنّها لا تعترف أبدًا بوحدة الجنس البشريّ. فيتعيّن علينا إذًا في هذا القرن المنير أن نتقصّى جوهر الدّين الإلهيّ، ونبحث عن الحقائق الماثلة في وحدة العالم الإنسانيّ، ونكتشف منبع التّآلف والوفاق الّذي سيوحّد الجنس البشريّ برباط من المحبّة الإلهيّة. فهذا الاتّحاد هو النّور السّرمديّ، وهو الرّوحانيّة الإلهيّة، والإشراق الإلهيّ، وهو النّعمة الملكوتيّة. وعلينا أن نبحث عن الأصل الإلهيّ لهذه العطايا الرّحمانيّة وأن نتشبّث بها، إذ إنّنا لو بقينا مكبَّلين ومقيَّدين ببدَع البشر وطقوسهم لانْحطّ عالم البشر يومًا بعد يوم، وتزايد القتال والنّزال شيئا فشيئًا، وتكالبت قوى الشّيطان على تدمير الجنس البشريّ.

إذا ما تجلّت المحبّة والوفاق في أسرة واحدة، فإنّ تلك الأسرة ستترقّى، وتصبح مستنيرة روحانيّة، أمّا إذا غلبت عليها العداوة والبغضاء فإنّ دمارها وتشتّتها حادثان لا محالة. وهذا يصدق أيضًا وبنفس الكيفيّة على أيّ مدينة. فإذا ما أظهر أهل تلك المدينة روح وفاق وإخاء، فإنّها ستتقدّم حثيثًا وتزدهر أحوالها الإنسانيّة أكثر فأكثر، بينما لو تسلّلت إليها العداوة والصّراع فإنّ أمورها ستنحطّ ويتشتّت أهلها. وعلى نفس المنوال، يتقدّم ويترقّى أهل الأمّة نحو المدنيّة والاستنارة بواسطة المحبّة والوفاق، كما أنّهم يتشتّتون بالحرب والنّزال. وهذا الأمر يصدق أيضًا في النّهاية على البشريّة نفسها ككلّ، فعندما تتحقّق المحبّة وتربط الرّوابط الرّوحيّة المثلى ما بين أفئدة البشر، سيسمو الجنس البشريّ بأسره، ويتقدّم العالم دومًا في الرّوحانيّة والإشراق، وتزداد سعادة البشريّة واطمئنانها بغير حدود. فتُقتلع جذور التّقاتل والتّناحر، وينتهي النّزاع والخلاف، ويوحِّد أممَ العالم وشعوبَها سلامٌ عموميّ. فيتعايش جميع بني البشر كعائلة واحدة، ويمتزجون امتزاج موج بحر واحد، ويسطعون كنجوم سماء واحدة، ويظهرون كثمار شجرة واحدة. هذه هي سعادة البشريّة وهناؤها، وهذه هي نورانيّة الإنسان والمجد الأبديّ والحياة السّرمديّة، وهذا هو العطاء الرّبّانيّ. أتمنّى لكم هذا المقام، وأدعو الله أن يحقّق شعبُ أمريكا هذه الغاية العظمى كي يتأكّد فضل هذه الدّيمقراطيّة، وتُمجَّد أسماؤُهم إلى الأبد. وأن تؤازرهم التّأييدات الإلهيّة في كلّ الأمور، وتُبجِّل ذكراهم في جنبات الشّرق والغرب، وأن يصبحوا خدّامًا للرّبّ المتعال، مقرّبين وأعزّاء لديه في وحدانيّة الملكوت السّماويّ.

لقد تحمّل حضرة بهاء الله المحن والمشقّات طيلة ستّين سنة، ولم يبق من اضطهاد أو شدائد ومعاناة إلاّ ونزلت به على أيدي أعدائه وظالميه. وانقضت أيّام حياته جميعها في شدّة وبلاء – فهو تارة في السّجن، وتارة أخرى في النّفي، وأحيانًا تحت السّلاسل والأغلال. فرضي بكلّ هذه المحن وتحمّلها من أجل أن يتّحد العالم، داعيًا أن يدرك العالم الإنسانيّ نور الله، وتصبح وحدة الجنس البشريّ حقيقة واقعة، وأن ينتهي النّزاع والقتال، وينعم الكلّ بالسّلام والطّمأنينة. من غياهب السّجن رفع راية التّضامن والتّكافل بين البشر، مناديًا بالسّلام العامّ، مخاطبًا ملوك الأمم وحكّامها، داعيًا إيّاهم إلى الوحدة العالميّة وناصحًا لهم بتسوية خصوماتهم. وكانت حياته دوّامة من الاضطهاد والمصاعب، إلاّ أنّ الكوارث وأشدّ المحن والقلاقل لم تمنعه من إنجاز مهمّته وإتمام رسالته. بل على العكس تعاظمت قدرته وشاع وذاع نفوذه وتأثيره إلى أن لمعت أنوار بهائه في جنبات الشّرق، وتوطّـدت المحبّة والاتّحاد، ووجدت الأديان المختلفة نقطة تواصل وتصالُح.

فلنجتهد نحن أيضًا على درب المحبّة والعبوديّة هذا، مضحّين بالنّفس والنّفيس، صارفين أيّامنا في التّفاني، مكرّسين كلّ جهودنا للأمر الإلهيّ، كي يرتفع لواء الدّيانة بإذن الله بين ظهراني عالم البشر، وتتحقّق وحدة العالم الإنسانيّ.

وإنّي لأشاهد في قلوبكم انطباعَ عظيم المحبّة وأروعها. لقد أظهر لي الأمريكيّون لطفًا دائمًا، وأنا أكنّ لهم عميق المحبّة الرّوحانيّة، ومسرور لأحاسيسكم القلبيّة، وسأدعو لكم طالبًا العون الإلهيّ، ثمّ أقول لكم وداعًا.

إلهي إلهي، هؤلاء عباد متوجّهون إليك، مبتهلون إلى ملكوت رحمانيّتك، منجذبون بقدسيّتك، مشتعلون بنار محبّتك، طالبون تأييدات ملكوتك البديع، وآملون البلوغ إلى جبروتك الجليل. إنّهم مشتاقون لنزول موهبتك، وراجون نورانيّة شمس الحقيقة. أي ربّ، اجعلهم سُرُجًا وهّاجة، وآياتٍ رحمانيّة، وأشجارًا مثمرة، ونجومًا لامعة، حتّى يقوموا على خدمتك، ويرتبطوا بأواصر محبّتك، مشتاقين إلى أنوار فضلك. أي ربّ، اجعلهم آيات الهدى، ورايات ملكوتك الأبديّ، وأمواج بحر رحمانيّتك، ومرايا نور إجلالك.

إنّك أنت الكريم، إنّك أنت الرّحيم، وإنّك أنت العزيز المحبوب.

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في نيويورك وفان وود (1) 26 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بكنيسة ماونت موريس للمعمدانيّين،
تقاطع الطّريق الخامس والشّارع 126، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

بينما كنت أدخل الكنيسة هذا المساء، سمعت إنشادًا يصدح اجعلني يا ربّ أكثر قربًا منك. إنّ التّقرّب إلى الله هو أعظم ما يمكن بلوغه في العالم الإنسانيّ، وكلّ مجد وشرف ونعمة وبهاء أبديّ يأتي للإنسان إنّما هي بفضل التّقرّب إلى الله. وقد تاق جميع الأنبياء والرّسل ودعوا وصلّوا من أجل التّقرّب إلى الخالق. فكم من ليالٍ سهروا تضرّعًا من أجل هذا المقام، وكم من أيّام قضوها ابتهالاً لنيل هذا المنال، ساعين دومًا للتّقرّب إليه. إلاّ أنّ الحصول على ذلك ليس بالأمر اليسير. ففي وقت ظهور حضرة المسيح كان جميع البشر يسعون إلى التّقرّب إلى الله، ولكن لم يفز بهذا المقام في ذلك الوقت إلاّ نفر قليل – أي الحواريّون. فقد أيّد الله تلك النّفوس المباركة بالتّقرّب إليه بفضل محبّتهم له. لأنّ التّقرّب إلى الله مشروط باكتساب معرفة الله وبالانقطاع عمّا سوى الله وبفداء النّفس والتّضحية بالمال والشّؤون الدّنيويّة. ويمكن تحقّقه بالتّعميد بالماء والنّار الّذي نزل في الأناجيل. والمقصود بهذا الماء ماء الحياة أي المعرفة، والمقصود بالنّار نار محبّة الله، والمقصود من كلّ ذلك هو أنّ الإنسان يجب أن يتعمّد بماء الحياة وبالرّوح القدس وبنار محبّة الملكوت، وما لم يفز بهذه المقامات الثّلاثة لن يكون التّقرّب إلى الله ممكنًا. بهذه الكيفيّة نال البهائيّون في إيران نعمة التّقرّب؛ فبذلوا أرواحهم من أجل هذا المقام، وضحّوا بعزّتهم وراحتهم وممتلكاتهم، وسرعوا بمنتهى السّرور إلى مشهد الفداء، فسفكت دماؤهم ونُكّل بأجسادهم وقُطعت إرْبًا إرْبًا ونُهبت بيوتهم وأسرت أطفالهم وقد قبلوا جميع هذه البلايا بالابتهاج والرّضا. بمثل هذه التّضحيات يتحقّق التّقرّب إلى الله. ولتعلموا أنّ التّقرّب إلى الله لا يُحدّ بالزّمان والمكان. إنّه يتمّ بصفاء القلب ويتحقّق بانشراح الرّوح ببشارات الملكوت. لاحظوا كيف أنّ المرآة الصّافية المصقولة جيّدًا تعكس أشعّة الشّمس مهما كانت بعيدة عنها، فحالما تكون المرآة صافية لطيفة تتجلّى فيها أشعّة الشّمس. وبالمثل حينما تكون قلوب العباد صافية مجرّدة فإنّها تزداد تقرّبًا إلى الله وتظهر فيها شمس الحقيقة. وهو نور يشعل القلوب بنار محبّة الله، ويفتح في جنباتها أبواب المعرفة، ويكشف لها الرّموز والأسرار الإلهيّة، وبذلك يمكن تحقّق الكشفيّات الرّوحانيّة. لقد فاز جميع الأنبياء بالتّقرّب إلى الله بواسطة الانقطاع. ونحن إذًا علينا أن نسير على خُطى تلك النّفوس المقدّسة ونعرض عن رغباتنا وأهوائنا، وأن نتطهّر من أدران العالم البشريّ حتّى تصبح القلوب مثل المرايا في صفائها وتشرق منها أنوار الهداية الكبرى.

يتفضّل حضرة بهاء الله في الكلمات المكنونة بأنّ الله يلهم عباده وبأنّهم محلّ ظهوره، إذ يتفضّل: فؤادك منزلي قدّسه لنزولي وروحك منظري طهّرها لظهوري. فنفهم إذًا أنّ التّقرّب إلى الله يتمّ بالتّوجّه إلى الله، وبالدّخول في ملكوت الله، وبخدمة العالم الإنسانيّ. والتّقرّب إلى الله يتحقّق بالاتّحاد مع البشر، وباللّطف والمحبّة مع الجميع. ويتحقّق بتحرّي الحقيقة، ونيل الفضائل، وبخدمة الصّلح العموميّ، وبالتّنزيه والتّقديس. وخلاصة القول، فإنّ التّقرّب إلى الله يتطلّب التّضحية بالنّفس والانقطاع والتّخلّي عن كلّ شيء من أجله. فالتّقرّب إلى الله يعني أن تكون على صورته ومثاله.

لاحظوا كيف أنّ الشّمس تشرق على جميع الكائنات، إلاّ أنّ بهاءها وأنوارها لا تسطع قويّة إلاّ من الصّفحة الطّاهرة المصقولة، أمّا النّفس المظلمة فلا نصيب لها من تجلّي إشراق الحقيقة البديع. وأرض النّفس الّتي تخفق في الانتفاع بذلك النّور تعجز عن الإتيان بأيّ محصول. والعين العمياء لا تشاهد أشعّة الشّمس، في حين أنّ النّفوس الطّاهرة ذات البصر السّليم الكامل هي وحدها الّتي تتلقّاها. والأشجار الخضراء الحيّة يمكنها أن تنتفع من نعمة الشّمس، أمّا الجذور الميّتة والأغصان اليابسة فإنّها تتحلّل بفعلها. إذًا على الإنسان أن يسعى في تنمية قدرته وتطوير استعداده وقابليّته. وما لم يكن لدى الإنسان استعداد وقابليّة لتلقّي الفيوضات الإلهيّة لا يقدر أن يستضيء من نورها وينتفع بها. ولو أمطرت سحب الرّحمة الإلهيّة ألف سنة على أرض قاحلة فإنّها لا تثمر شيئًا. إذًا يجب أن نجعل تربة قلوبنا جاهزة خصبة بحرثها وتنظيفها حتّى يمطر عليها مطر الرّحمة الإلهيّة وتنبت منها الورود والرّياحين. ويجب أن تكون عيوننا مبصرة حتّى نشاهد أنوار الشّمس. كما يجب أن نطهّر المشامّ حتّى نستنشق رائحة الرّوضة الرّبّانيّة. وأن نعدّ المسامع حتّى نسمع نداء الملكوت الأسمى. أمّا إذا كانت الآذان صمّاء فلن تسمع أيّة نغمة مهما كانت جميلة، ولن يبلغها نداء الملأ الأعلى. والمشامّ المزكوم لا يشمّ أريج الرّياحين. إذًا يجب السّعي دائمًا وأبدًا لنيل القابليّة والاستعداد. وما لم يحصل ذلك فلن تنفذ إلينا النّعم والفيوضات الإلهيّة. لقد تفضّل المسيح في الإنجيل بأمثولة قال فيها بأنّ كلماته كالبذور الّتي يبذرها الزّارع، فبعضها يقع على الصّخر، وبعضها يقع على أرض جدباء، وبعضها يقع بين الأشواك والحشائش فتخنقه، ولكنّ البعض الآخر يسقط على أراضي قلوب مستعدّة قابلة طيّبة. فالبذر الّذي وقع في الأرض الجدباء لا ينبت بأيّ وجه من الوجوه. والبذرة الّتي تقع على صخرة سوف تنمو لوقت قصير ثمّ تجفّ بعده بسبب جذورها السّطحيّة، كما يقضي الشّوك والحشائش تمامًا على البعض الآخر. أمّا تلك البذرة الّتي تقع على الأرض الطّيّبة فإنّها تنتج الثّمار والحصاد.

بالمثل فإنّ كلماتي لكم في هذه اللّيلة قد لا تؤثّر في بعض القلوب، وقد يتأثّر بها البعض وسرعان ما ينساها، وبعضكم قد يخفق حتّى في السّمع والفهم جرّاءَ أوهامه وتخيّلاته. أمّا النّفوس المباركة المنتبهة إلى ما أقوله من وصايا ونصائح، السّامعة بأذن القبول، الّتي تسمح لكلماتي أن تنفذ جيّدًا في القلوب، فإنّها ترتقي يومًا بعد يوم نحو النّضج والاكتمال، بل وتترقّى نحو الملأ الأعلى. لاحظوا هذا المثل كيف يجعل البلوغ منوطًا بالقابليّة والاستعداد. فما لم تحصل اللّياقة والاستعداد لن يصل نداء الملكوت إلى السّمع، ولن يُشاهَد نور شمس الحقيقة، وسيذهب أريج روض المعاني أدراج الرّياح. إذًا علينا أن نبذل الجهد حتّى نحصل على الاستعداد واللّياقة والاستحقاق، حتّى نسمع نداء بشارات الملكوت، ونحيا بنفثات الرّوح القدس، ونرفع علم وحدة العالم الإنسانيّ ونحقّق الأخوّة الرّوحانيّة بين البشر، ونفوز بالحياة الأبديّة الباقية في كنف صون الفضل الإلهيّ.

يا إلهي الغفور إنّ هؤلاء العباد متوجّهون إلى ملكوتك آملين فضلك وموهبتك. فيا إلهي اجعل قلوبهم طيّبة طاهرة حتّى تكون قابلة لحبّك وطهّر الأرواح حتّى تتجلّى فيها أنوار شمس الحقيقة وطهّر الأبصار حتّى تشاهد أنوارك وطهّر الآذان وقدّسها حتّى تسمع نداء ملكوتك. يا إلهي نحن ضعفاء وأنت القدير ونحن فقراء وأنت الغنيّ ونحن القاصدون وأنت المقصود. إلهي ارحمنا واعفُ عنّا وأنعم علينا بالقابليّة والاستعداد حتّى نستحقّ ألطافك وننجذب إلى ملكوتك ونرتوي من ماء الحياة ونشتعل بنار محبّتك ونحيا بنفثات الرّوح القدس في هذا القرن النّورانيّ. إلهي إلهي تلطّف على هذا الجمع بعين عنايتك واحفظ الجميع وصُنْهُمْ في حفظك وحمايتك وأنزل البركة السّماويّة على هذه النّفوس واجعلهم مستغرقين في بحور رحمتك وأحيهم بنفثات الرّوح القدس. إلهي أيّد هذه الحكومة العادلة ووفّقها، فهذا الإقليم هو في ظلّ حمايتك وهذه الملّة أرقّاؤك. إلهي فابذل عنايتك وامنحنا فضلك وموهبتك وعزّز هذه الملّة المحترمة واقبلها في ملكوتك. إنّك أنت المقتدر وإنّك أنت القدير وإنّك أنت الرّحمن وإنّك أنت المنعم العطوف وإنّك أنت عظيم الإحسان.

(2) 28 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بحفل الاستقبال الّذي عقد بمعبد متروبوليتان
تقاطع الطّريق السّابع بالشّارع الرّابع عشر، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

إنّ أبوّة الله وعطفه وإحسانه بادية للجميع، فهو يسبغ من رحمته بكلّ سعة وسخاء على خلقه، ولا يقطع فضله إذا ما أخطأت نفس. وكلّ الموجودات شواهد لائحة على أبوّته ورحمته ومواهبه السّماويّة. والأخوّة الإنسانيّة بالمثل واضحة ظاهرة كالشّمس لأنّ الجميع عباد لإله واحد، منتسبون إلى جنس واحد، قاطنون في صقع واحد، ومستظلّون بقباب هذه السّماء المرفوعة، ومنغمسون في بحر الرّحمة الإلهيّة. كما أنّ الأخوّة والتّآزر البشريّ متحقّقان لأنّ التّعاضد والتّعاون هما المبدآن الجوهريّان اللّذان يقوم عليهما خير البشريّة. هذه هي الرّابطة المادّيّة لعالم البشر. ولكن هناك أخوّة أخرى – ألا وهي الأخوّة الرّوحانيّة – وهي أعلى وأقدس وأسمى ممّا عداها من أخوّة، إذ هي أخوّة ملكوتيّة منبعثة من نفثات الرّوح القدس ومن إشراق الفضائل الرّحمانيّة، وأساسها هو الاستعدادات الرّوحانيّة، وتتحقّق هذه الأخوّة على يد المظاهر القدسيّة لساحة الأحديّة.

لقد اجتهدت المظاهر الإلهيّة منذ زمان آدم لتوحيد الإنسانيّة حتّى يُعدّ الجميع نفسًا واحدة. وكما أنّ وظيفة الرّاعي ومراده هو أن يجمع خرافه لا أن يشتّتها، فقد كان أنبياء الله وما زالوا رعاة الإنسانيّة. فحقّقوا رابطةَ محبّةٍ واتّحادٍ بين البشر، وجعلوا الشّعوب المشتّتة أمّة واحدة، وخلقوا من القبائل الرّحّل مملكة عظيمة، وأرسوا قواعد وحدانيّة الله ودعوا الكلّ إلى السّلام العامّ. فجميع هذه النّفوس القدسيّة، أي المظاهر الإلهيّة، ما هي إلاّ نفس واحدة. وهم خدموا إلهًا واحدًا، وروّجوا نفس الحقيقة، وأسّسوا نفس الأنظمة، وسطعوا بنور واحد. ولكنّ ظهوراتهم كانت متتابعة ومرتبطة ببعضها البعض، فقد أنبأ كلّ سلف منهم عن الخلف وامتدحه، وأرسى كلّ منهم قواعد الحقيقة. ونادوا النّاس ودعوهم إلى المحبّة، وجعلوا عالم النّاسوت مرآة لعالم اللاّهوت. ولذا فإنّ كلّ ما أسّسوه من أديان إلهيّة هي واحدة في أصلها، كما أنّ تعاليمهم وحججهم وبراهينهم واحدة، وهم وإن كانوا مختلفين اسمًا أو رسمًا، إلاّ أنّهم في الحقيقة متّفقون ومتّحدون في الجوهر. ومجيء هذه المظاهر المقدّسة هو بمثابة مجيء فصل الرّبيع للعالم. وعلى الرّغم من أنّ فصل الرّبيع في هذا العام يطلق عليه اسم آخر مختلف عن ربيع العام الماضي تبعًا لاختلاف التّقويم، إلاّ أنّه يمثِّل ربيع العام الماضي في حيويّته وإنعاشه، ذلك لأنّ كلّ ربيع هو أوان خلق جديد، وآثاره وفضائله وكمالاته وقواه المحيية للأرواح هي ذاتها الخاصّة بالفصول الرّبيعيّة السّابقة رغم تعدّد الأسماء واختلافها. فنحن مثلاً في عام 1912، والعام الماضي كان عام 1911 وهكذا، ولكن لا يوجد في الحقيقة الجوهريّة أيّ اختلاف. فالشّمس واحدة، ولكنّ المشارق تتعدّد وتتغيّر. والمحيط جسم واحد من الماء، ولكن لمختلف أجزائه أسماء معيّنة – كالمحيط الأطلسيّ، والهادىء، والمتوسّط، والقطب الجنوبيّ، وهلمّ جرّا. فإذا ما نظرنا إلى الأسماء فهناك التّمييز والتّباين، أمّا عن حقيقة الماء والمحيط نفسه، فهي واحدة.

بالمثل، فالأديان السّماويّة الّتي أتت بها المظاهر المقدّسة الإلهيّة واحدة في حقيقتها ولو أنّها تختلف بالاسم والرّسم. وعلى الإنسان أن يكون عاشقًا للنّور من أيّ مشرق ظهر، ومحبًّا للورد في أيّ تربة نبت، وباحثًا عن الحقيقة من أيّ مصدر أتت. فالتّعلّق بالمصباح ليس هو حبَّ النّور، والتّعلّق بالتّربة لا يليق، بل ما يجدر هو التّمتّع بالورد الّذي ينمو من هذه التّربة. والتّمسّك بالشّجرة لا طائل منه، ولكنّ تناول الثّمر هو المفيد. والثّمر الشّهيّ خليق بالتّذوّق من أيّ شجر طلع ومن أيّ مكان أتى، وكلمة الحقّ يجب الإذعان لها من أيّ لسان خرجت، والحقائق الثّابتة يجب القبول بها في أيّ كتاب سطرت. وإذا ما أضمرنا التّعصّب، كان ذلك علّة الحرمان والجهل. وينشأ الصّراع بين الأديان والأمم والأجناس من سوء الفهم. وإذا ما تفحّصنا في الأديان لكي نتبيّن المبادئ القائمة عليها، لوجدنا أنّها متّفقة، ذلك لأنّ حقيقة الأديان الجوهريّة واحدة لا تتعدّد. وبهذه الكيفيّة يصل أهل أديان العالم إلى نقطة اتّحادهم وائتلافهم، ويتبيّن لهم حقيقة أنّ غرض الدّين هو نيل الخصال الحميدة، وتحسين الأخلاق، والتّرقّي الرّوحيّ للبشر، وهو أيضًا عين الحياة والفضائل الرّبّانيّة. لقد كان جميع الأنبياء مروّجين لهذه المبادئ، ولم يكن أيّ منهم مروّجًا للمفاسد أو الرّذيلة أو الشّرور. وجميعهم دعوا البشر إلى كلّ خير ومعروف، وجمعوا النّاس على محبّة الله، ودعوهم إلى أديان تنادي بوحدة الإنسانيّة، وحضّوهم على الألفة والوداد. فإذا ما ذكرنا مثلاً حضرة إبراهيم أو حضرة موسى، فنحن لا نقصد بذلك تلك الحدود الّتي تدل عليها الأسماء وإنّما نعني الفضائل الّتي تجسّدها تلك الأسماء. وعندما نقول حضرة إبراهيم، نعني بهذا الاسم مظهر الهداية الرّبّانيّة ومركز الفضائل الإنسانيّة ومنبع العطايا الرّبّانيّة للبشر ومشرق الإلهام والكمالات الإلهيّة. وهي كمالات ومواهب غير قاصرة على أسماء أو حدود. وعندما نجد هذه الفضائل والمناقب والصّفات في أيّ شخصيّة، نتعرّف على نفس الحقيقة مشرقة من تلك الذّات، ونركع اعترافًا بالكمالات الإبراهيميّة. وبالمثل نقرُّ بالجمال الموسويّ ونعشقه. ولقد كانت بعض النّفوس عاشقة لاسم حضرة إبراهيم، أي عاشقة للمصباح بدلاً من النّور، وعندما لمع نفس النّور من مصباح آخر، كان تعلُّقُهم بالمصباح السّابق بدرجة لم يعترفوا بظهوره وضيائه اللاّحق. ولهذا حرم من كانوا متعلّقين ومتشبّثين باسم حضرة إبراهيم عندما ظهرت الفضائل الإبراهيميّة في شخص حضرة موسى. وكذلك كان اليهود أيضًا مؤمنين بحضرة موسى ومنتظرين مجيء السّيّد المسيح. فلاحت الفضائل والكمالات الموسويّة في شخص يسوع المسيح بكلّ إشراق، إلاّ أنّ اليهود كانوا متمسّكين باسم حضرة موسى، ولم يكونوا عاشقين للفضائل أو للكمالات المتجلّية فيه. ولكنّهم لو كانوا قد عشقوا هذه الفضائل وسعوا وراء تلك الكمالات، لكانوا قد آمنوا بيسوع المسيح بكلّ تأكيد عندما أضاءت نفس الفضائل والكمالات في شخصه. فإذا ما كنّا محبّين للنّور، لعشقناه في أيّ مصباح أضاء، أمّا إذا أحببنا المصباح نفسه، ثمّ انتقل النّور إلى مصباح آخر، فلن نقبله أو نسلّم به. فعلينا إذًا أن نتّبع الفضائل المتجلّية في رسل الله ونعشقها – سواء كانت في حضرة إبراهيم أو حضرة موسى أو يسوع المسيح أو غيرهم من الأنبياء – لا أن نتّبع المصباح ونعشقه. كما يجب علينا أن نعترف بالشّمس بصرف النّظر عن المشرق الّذي تطلع منه، أكان مَشرقًا موسويًّا، أو إبراهيميًّا، أو من أيّ مطلع أشرقت منه مهما كان، لأنّنا محبّون لنور الشّمس لا لمشارقها، ونحن عاشقون للضّياء لا للمصابيح أو الشّموع، ونحن قاصدون الماء من أيّ صخر تدفّق، ونحن محتاجون للثّمار من أيّ بستان أينعت، ونشتاق المطر من أيّ سحاب همى. ولا يصح أن نكبِّل أنفسنا بالأصفاد. فإذا ما ألقينا بهذه الأصفاد جانبًا فإنّنا نتّفق، إذ إنّ الكلّ طالبون للحقيقة. لقد تسبّب تزييف وتقليد جوهر الدّين الحقّ في إفساد عقائد البشر، وغابت أصوله عن الأعين. وتسبّب تباين هذه التّقاليد في خلق البغضاء والشّحناء، والحرب وسفك الدّماء. والآن قد طلع فجر القرن العشرين الباهر اللاّمع، وأنوار الفضل الرّبّانيّ تشعّ على العموم، وتسطع شمس الحقيقة بأشدِّ إشراق. فهذا حقًّا هو القرن الّذي يجب فيه أن نتخلّى عن هذه التّقاليد، ونترك هذه الأوهام، وأن نعبد الله وحده. علينا أن ننظر إلى حقائق النّبيّين وتعاليمهم حتّى يسود الوفاق فيما بيننا.

الحمد لله! إنّ أوان فصل الرّبيع الرّبّانيّ قد حان. فهذا القرن حقًّا هو موسم الرّبيع، إذ بيُمنه أصبح عالم العقول ومملكة الأرواح خضلة نضرة، وعادت الحياة إلى مملكة الوجود بأسْرها. فمن ناحية تشرق أنوار الحقيقة، ومن ناحية أخرى يهطل غمام الرّحمة الإلهيّة بخالص الفضل السّماويّ. وظهر التّقدّم المادّيّ الرّائع جليًّا للعيان، كما تحقّقت الاكتشافات الرّوحيّة العظيمة. فهو قرن يمكن أن يقال عنه بحقّ إنّه معجزة القرون، لأنّه مفعم بتجلّيات الإعجاز. لقد آن أوان اتّحاد الجنس البشريّ بأكمله، وهو أوان يكون فيه ولاء كافّة الأعراق لوطن واحد، وتصير فيه كلّ الأديان دينًا واحدًا، ويذهب التّحيّز العرقيّ والدّينيّ بغير رجعة. وهو يوم ترفع فيه وحدانيّة البشريّة لواءها، ويفيض السّلام العالميّ على العالم بنوره كالصّبح الصّادق. لذا فإنّنا نبتهل إلى الله، سائلين أن يبدِّد هذه السّحب القاتمة، ويستأصل هذه التّقاليد، كي يصبح الشّرق والغرب مضيئيْن بنور المحبّة والاتّحاد، وتتعانق أمم الأرض، وتنير الأخوّة الرّوحانيّة المُثلى في العالم كالشّمس البهيّة في السّماوات العلى. هذا هو أملنا ورجاؤنا ومرادنا. وندعو الله أن نبلغه بفضله ومنّـه علينا. وأنا مسرور لحضوري هذا اللّقاء المفعم بإشراق السّرائر، الزّاخر بالفطنة والإدراك والشّوق لتحرّي الحقيقة. فهذه اللّقاءات هي مجد العالم البشريّ. وإنّي ألتمس لكم البركة الإلهيّة.

(3) 29 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد إدوارد كيني وحرمه،
780 طريق وست إند، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

إنّ المظاهر الإلهيّة هم المحطِّمون لأصنام التّقاليد بفضل تعاليمهم، المستأصلون لشأفة الخطأ، والهادمون للعقائد الدّينيّة الزّائفة، وداعو البشريّة من جديد إلى أصل وحدانيّة الله. كما أنّهم جميعًا أعلنوا وحدة العالم الإنسانيّ. فكان جوهر تعليم حضرة موسى هو شريعة السّيناء، أي الوصايا العشر. ثمّ جدّدها السّيّد المسيح وجاءنا بأوامر الله الواحد الأحد، وبمبادئ العمل الإنسانيّ. أمّا حضرة محمّد، فمع أنّ نطاق دعوته كان أوسع، إلاّ أنّ القصد من تعاليمه كان أيضًا رقيّ البشريّة وتوحيدها في ظلّ عرفان الله الأحد. واتّسعت الدّائرة أيضًا بقدر كبير في رسالة حضرة الباب، بيد أنّ التّعليم الجوهريّ كان هو بعينه. وتزيد كتب حضرة بهاء الله على أكثر من مائة مجلّد، وكلّ كتاب منها برهان لائح وكاف للبشريّة، وينطق كلّ منها بوحدانيّة الله ووحدة الجنس البشريّ الأساسيّة ومحبّة الله وإلغاء الحرب ورفع الرّاية الإلهيّة الدّاعية إلى السّلام. كما يرسّخ كلّ منها قواعد الأخلاق الإلهيّة، ويجسِّد الأفضال الرّبّانيّة – وفي كلّ كلمة منها صحيفة من المعاني. ذلك لأنّ الكلمة الإلهيّة هي الحكمة الكلّيّة، والمعرفة الخالصة، والحقيقة السّرمديّة.

انظروا إلى العبارة الّتي جاءت في الأصحاح الأوّل من إنجيل يوحنّا: في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. إنّها عبارة وجيزة ولكنّها زاخرة بأعظم المعاني، وتطبيقاتها غير محدودة، وليس بمقدور كتب أو كلمات أن تحتويها أو تعبّر عنها. لم يفسّرها علماء اللاّهوت حتّى الآن، وإنّما قصروها على يسوع بوصفه الكلمة صار جسدًا، أي انفصال يسوع عن الله، الآب، ونزوله إلى الأرض. وهكذا، بدأ تعليم الفصل الأقنومي للذّات الإلهيّة.

إنّ للوحدانيّة الجوهريّة للآب والإبن والرّوح القدس معان شتّى، وهي تمثّل أساس العقيدة المسيحيّة. ولكنّنا سنعطي اليوم مجرّد نبذة توضيحيّة. فلماذا كان يسوع هو الكلمة؟

إنّ جميع الكائنات الحادثة في عالم الخلق هي بمثابة الأحرف. وكما أنّ الأحرف في حدّ ذاتها خالية من المعنى ولا تعبّر عن أيّ فكر أو دلالة – مثل أ، ب، إلخ، كذلك جميع الكائنات الظّاهريّة أيضًا ليس لها معنى ذاتيّ مستقلّ. أمّا الكلمة فتتكوّن من أحرف ولها معنى ومغزى مستقلّ، لذلك، وكما أبلغ حضرة المسيح المعنى الكامل للحقيقة الإلهيّة وجسّد الدّلالة المستقلة، كان هو الكلمة. وكان بمثابة مقام الحقيقة بالمقارنة بمقام المجاز. وكذلك، ليس هناك معان ذاتيّة لأوراق أيّ كتاب، ولكنّ ما تنقله تلك الأوراق من أفكار يجعلنا نتأمّل في الحقيقة. وحقيقة يسوع كانت هي المعنى التّامّ، أي مقام المسيح الحائز عليه والّذي رمزت إليه الكتب المقدّسة بالكلمة.

عبارة والكلمة كان عند الله لا تعني أنّ مقام المسيح كان يكمن في جسد عيسى وإنّما هو كمال الفضائل الرّبّانيّة المتجلّية فيه. ولهذا مكتوب أنّ الكلمة الله، فهذا لا يعني انفصالاً عن الله، تمامًا كما لا يمكن فصل أشعّة الشّمس عن الشّمس. فحقيقة حضرة المسيح كانت تجسيد الفضائل الرّبّانيّة والصّفات الإلهيّة. إذ إنّه لا توجد ازدواجيّة في الألوهيّة، وكلّ الصّفات والأسماء والضّمائر واحدة في ساحة التّقديس هذه، فليس هناك أيّ تعدّد أو انقسام. والقصد من هذا الشّرح هو بيان أنّ لكلمات الله دلالات لا عِدَّ لها وأسرارًا للمعاني لا حصر لها – ولكلّ منها ألف معنى وأكثر.

ألواح حضرة بهاء الله كثيرة، وما تتضمّنه من مبادئ وتعاليم لها طابعها العموميّ، وتتناول كلّ مسألة من المسائل. وقد أنزل حضرته شروحًا علميّة تتناول جميع مجالات الاستقصاء والتّحرّي البشريّ – مثل علم الفلك، وعلم الأحياء، وعلم الطّبّ، وغيرها. وفي كتاب الإيقان أعطى حضرته توضيحات لمعاني الإنجيل وكتب سماويّة أخرى. وحرّر ألواحًا مسهبة في المدنيّة، وفي علم الاجتماع وأصول الحكم. وأُخِذت كلّ مسألة بعين الاعتبار. وألواحه فريدة في جمالها وعمقها، حتّى إنّ أعداءه أقرّوا بعظمة حضرة بهاء الله قائلين إنّه كان معجزة البشريّة. هكذا كان اعترافهم، رغم أنّهم لم يؤمنوا بحضرته. وكان محلّ مديحِ مَنْ أنكروا دعوته من مسيحيّين ويهود وزرادشتيّين ومسلمين. وغالبًا ما كانوا يقولون ‘إنّه فريد لا نظير له’. وكتب شاعر مسيحيّ في بلاد الشّرق قائلاً ‘لا تؤمنوا به كرسول من عند الله، إلاّ أنّ عظمة معجزاته كعظمة الشّمس’. وقد ذكر ميرزا أبو الفضل أشعارًا كثيرة من هذا القبيل، وهناك العديد غيرها. وأقرّ أعداؤه بأنّه كان معجزة البشريّة وأنّه كان يسير على درب فريد من دروب المعرفةوأنّه كان شخصيّة ليس لها نظير. وتعاليم حضرة بهاء الله عالميّة وعموميّة وهي معيار ونبراس للعمل الإنسانيّ. فهي ليست مجرّد أمور نظريّة مقصود بها أن تبقى بين طيّات الكتب، بل هي أصول للعمل. والعمل تتبعه نتائج، أمّا النّظريّة المجرّدة فلا تأتي بأيّ ثمر. فما فائدة كتاب في الطّبّ إذا لم تتناوله يد من على رفّ المكتبة؟ فحيثما يتجلّى النّشاط والعمل، تؤتي تعاليم الله أكُلها.

إنّ أعظم وأعمّ مبدأين من مبادئ حضرة بهاء الله هما وحدانيّة الله ووحدة الجنس البشريّ. هذه هي عروة الاتّحاد بين البهائيّين في جميع أنحاء العالم. بها يصبحون متّحدين فيما بينهم، ومن ثمّ يوحّدون الآخرين. فلا يمكن لكم أن تُوحِّدوا ما لم تتوحّدوا. لقد قال السّيّد المسيح أنتم ملح الأرض، فإذا فسد الملح فبماذا يُملَّح؟ وهذا يبرهن على أنّه كانت هناك خلافات بين أتباعه وأنّهم كانوا يفتقرون إلى الوحدة. من هنا جاء أمره بوحدة العمل.

أفلا يجمُلُ بنا الآن بالمثل أن نرتبط برباط الوحدة الخالصة، وأن نكون عطوفين ومحبّين لبعضنا البعض، مضحّين بكلّ ممتلكاتنا وجاهنا، بل وحتّى بحياتنا من أجل بعضنا البعض. عندئذ يثبت أنّنا قد عملنا بمقتضى التّعاليم الإلهيّة، وأنّنا كنّا مؤمنين صادقين بوحدانيّة الله وبوحدة العالم الإنسانيّ.

(4) 30 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بمحفل الثيوصوفيّين
تقاطع طريق برودواي والشّارع التّاسع والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

إنّني في غاية السّرور ممّا أراه هنا من مشاعر الودّ والتّرحيب وشواهد الأحاسيس الرّوحانيّة. وأنا سعيد جدًّا في هذه اللّيلة لملاحظة أنّ أهدافنا وغاياتنا متشابهة، وأنّ آمالنا وتطلّعاتنا واحدة. وهذا انعكاس ودليل على وحدة العالم الإنسانيّ وبرهان على التّصميم على تحقيق الصّلح الأعظم. فنحن إذًا متّحدون في الإرادة والهدف. ولا يوجد في عالم الوجود ما هو أعظم من هاتين المسألتين. فوحدة العالم الإنسانيّ تضمن للإنسان إجلاله، والسّلام العالميّ يكفل للبشريّة كلّها خيرها وسعادتها، وليس أمام النّفس البشريّة ما هو أعظم من هذين الدّافعين والغايتين. وبما أنّنا متّفقون عليهما، فمن المأمول بالدّرجة الأولى أن تتأكّد الوحدة والوفاق ما بين البهائيّين والثّيوصوفيّين. فمقاصدهم واحدة، وتطلّعاتهم واحدة، وأحاسيسهم الرّوحانيّة مشتركة. واهتمامهم منحصر في ملكوت الله، ويقتسمون هذا الفضل على حدّ سواء.

العالم الإنسانيّ اليوم في حاجة إلى قوّة عظمى يحقّق بها هذه المبادئ والمقاصد المجيدة. إنّ قضيّة السّلام أمر جدّ عظيم، فهو أمر إلهيّ، ولكنّ كلّ قوى العالم تقف ضدّه وتعارضه؛ فالحكومات مثلاً تعتبر أنّ التّوجّه العسكريّ خطوة نحو التّقدّم البشريّ، وأنّ الانقسام بين النّاس والأمم هو علـّة الحميّة الوطنيّة والافتخار القوميّ، وأنّه إذا ما هجمت أمّة على أخرى وهزمتها ونالت الثّروة والأرض والفَخار، فإنّ هذا القتال والاحتلال وإراقة الدّماء والقسوة يكون سبب تقدّم ورخاء تلك الدّولة المنتصرة. إنّ هذا خطأ باتّ. قارنوا أمم العالم بأفراد الأسرة، فالأسرة هي أمّة مصغّرة، وبمجرّد توسيع دائرة الدّار، نحصل على الأمّة، وبتوسيع دائرة الأمّة نحصل على البشريّة جمعاء. والظّروف الّتي تحيط بالأسرة تحيط أيضًا بالأمّة، والوقائع الّتي تحدث داخل الأسرة هي أيضًا نفس الأحداث الّتي تجري في حياة الأمّة. فهل يزداد تقدّم الأسرة وترقّيها إذا ما دبّت الخلافات بين أفرادها؛ كلّ في عراك، ناهبون بعضهم البعض، حاسدون ومنتقمون لكلّ أذيّة، ساعون وراء المكسب الّذي تمليه الأنانيّة؟ لا والله، فإنّ هذا يكون علّة لمحو التّقدّم والرّقيّ. وهذا هو الشّيء نفسه في الأسرة العظمى – أسرة الأمم، فما الأمم إلاّ لفيف من الأسر. وعلى هذا فإنّه، وكما يهدم التّناحر والشّقاق الأسرة ويحول دون تقدّمها، كذلك تنهدم الأمم ويُعاق ترقّيها.

جميع الكتب السّماويّة وأنبياء الله والحكماء والفلاسفة متّفقون على أنّ القتال هادمٌ لرقيّ البشر، وأنّ الصّلح بانٍ له. وهم متّفقون أيضًا على أنّ الحرب والنّزاع يضربان أسّ أساس البشريّة. فهناك حاجة إذًا إلى قوّة تمنع الحرب، وتنادي بوحدة الإنسانيّة وتؤسّسها.

إلاّ أنّ مجرّد العلم بالحاجة إلى هذه القوّة لا يكفي. فمعرفة أنّ الثّراء مرغوب فيه ليس تحقّقًا للثّراء. وإقرارنا بأنّ تحصيل العلم ممدوح لا يكسبنا معرفة علميّة. والتّسليم بأنّ الشّرف امتياز لا يجعل الإنسان شريفًا. والإلمام بأحوال البشر وما يلزم لعلاجها لا يكون سببًا في تحسينها. والإقرار بفائدة الصّحّة لا يمثّل الصّحّة. وإنّما يلزمنا طبيب حاذق لعلاج أحوال البشر الحاليّة. وكما يلزمنا طبيب للحصول على دراية كاملة بعلم الأمراض والتّشخيص والمداواة والعلاج، فإنّ طبيب هذا العالم يجب أن يكون حكيمًا حاذقًا ومتمكّنًا قبل أن يحصل الشّفاء. ولكنّ علمه المجرّد لا يُعتبر شفاء، إذ يتحتّم تطبيقه وتناول العلاج.

إنّ بلوغ أيّ هدف منوط بالمعرفة والإرادة والعمل. وما لم تتوفّر هذه الشّروط الثّلاثة فلا تنفيذ أو إنجاز. فلبناء منزل يجب أوّلاً أن نتعرّف على طبيعة الأرض، وأن نصمّم المنزل بكيفيّة ملائمة لها، وثانيًا يلزمنا الحصول على الوسائل أو الأموال اللاّزمة للبناء، وثالثًا أن نشرع فعلاً في بنائه. لذلك يلزمنا قوّة لتنفيذ وإجراء ما هو معروف ومُسلَّم به أنّه العلاج لأحوال الإنسانيّة – وأعني بذلك توحيد الجنس البشريّ. وعلاوة على ذلك فمن الواضح أنّ هذا لا يمكن تحقيقه بالوسائط والوسائل المادّيّة، ذلك لأنّ تحقيق هذه الوحدة غير ممكن بالقوّة العرقيّة، فالأعراق مختلفة ومتباينة في ميولها. كما أنّ تحقيقها غير ممكن بالقوّة الوطنيّة، لأنّ القوميّات لا تتماثل. كما لا يمكن تنفيذها بالقوّة السّياسيّة طالما أنّ سياسات الحكومات والأمم متغايرة. والقصد هو أنّ أيّ مجهود نحو الوحدة إذا ما تمّ بأيّ من هذه الوسائط المادّيّة، فمن شأنه أن يفيد طرفًا ويؤذي الآخر بسبب المصالح غير المتكافئة والشّخصيّة. وقد يعتقد البعض أنّ هذا الدّرياق الأعظم موجود في الإصرار المتشدّد على التّقاليد والتّفاسير، وهذا من شأنه أيضًا أن يكون بلا أساس أو نتيجة. فيكون من الثّابت إذًا أنّه ليست هناك واسطة لشفاء العالم من علّة الحروب والنّزاع والخلاف سوى واسطة مثاليّة، وقوّة روحانيّة، ومواهب ربّانيّة، ونفثات الرّوح القدس. وفيما عدا ذلك ليس من أمر آخر جائز أو من الممكن تصوّره. أمّا من خلال الوسائل الرّوحانيّة والقدرة الإلهيّة فيكون الشّفاء ممكنًا وعمليًّا.

تأمّلوا التّاريخ؛ ما الّذي حقّق الاتّحاد للأمم والأخلاقيّات للشّعوب والمنافع للبشريّة؟ فإذا ما فكّرنا في ذلك لوجدنا أنّ إرساء قواعد الأديان الإلهيّة كان أعظم وسيلة لتحقيق وحدة الإنسانيّة، وأنّ أساس الحقيقة الإلهيّة الكامن في الدّين هو الّذي أحدث ذلك، وليست تقاليد ورسوم الأديان الموروثة. فالتّقاليد متضاربة ولطالما كانت علّة للنّزاع والعداوة والحسد والحرب. أمّا الأديان الإلهيّة فهي نقاط التقاء جامعة تتقابل فيها مختلف الآراء، وتأتلف وتتّحد. وهي تحقّق وحدة الأوطان والأعراق والسّياسات. فحضرة المسيح على سبيل المثال قد وحّد شعوبًا مختلفة، وجلب السّلام لشعوب متحاربة، وأسّس وحدة الجنس البشريّ. فقد كان الغزاة الفاتحون من يونان ورومان، والمتعصّبون من المصريّين والآشوريّين – كانوا جميعًا في حالة من التّناحر والعداوة والاقتتال، بيد أنّ حضرة المسيح ألـّف بين هذه الشّعوب المتخالفة وأزال أسس الخلاف – ليس عن طريق قوّة عرقيّة أو قوميّة أوسياسيّة، وإنّما بالقوّة الإلهيّة، قوّة الرّوح القدس. ولم يكن ذلك ممكنًا بأيّة كيفيّة أخرى. وكلّ ما قامت به الشّعوب والأمم خلاف ذلك يبقى مجرّد روايات ذكرها التّاريخ دون أن تكون مقرونة بأيّ عمل أو إنجاز.

بما أنّ هذه الغاية العظمى تتوقّف على القوّة والفيوضات الإلهيّة، فمن أين للعالم الحصول على تلك القوّة؟ إنّ الله أزليّ أبديّ، وليس إلهًا جديدًا. وسلطانه قديم وليس حادثًا، ولا يرجع وجوده إلى مجرّد خمسة أو ستّة آلاف سنة. فهذا الكون اللاّمتناهي أبديّ، وسلطان الله وقدرته وأسماؤه وصفاته أبديّة قديمة. وأسماؤه تفترض وجود الخليقة وتعني ضمنًا وجود الله وإرادته. فنقول إنّ الله خالق. فاسم الخالق هذا يتجلّى عندما نعني به وجود الخلق. كما نقول إنّ الله هو الرّزّاق، وهو اسم يفترض وجود المرزوق ويثبت وجوده. والله هو المُحبّ، وهو اسم يثبت وجود المحبوب. والله، بنفس الكيفيّة، هو الرّحمة، والله هو العدل، والله هو الحياة، إلى آخره. فبما أنّ الله هو الخالق، الأزل، القديم، فقد كانت هناك دائمًا وأبدًا مخلوقات ورعيّة أحياء يرزقون. ولا مِرية في أنّ سلطان الله أزليّ، والسّلطنة تستلزم وجود رعيّة ووزراء وأمناء، وآخرين مستظلّين بهذه السّلطنة. فهل يكون هناك ملك بغير مملكة أو رعايا أو جيش؟ فإذا ما تصوّرنا وجود زمان لم يكن فيه مخلوقات ولا عباد ولا رعيّة للحضرة الإلهيّة، نكون بذلك قد خلعنا الله عن عرشه، وقصدنا أنّه كان هناك زمان لم يكن لله فيه وجود. وكأنّما قد نُصِّب حديثًا وأنّ هناك من البشر من أسبغ عليه هذه الألقاب، في حين أنّ السّلطنة الإلهيّة قديمة أبديّة، وأنّ الله منذ الأزل هو المحبّة والعدل والقدرة والخالق والرّازق والعليم والوهّاب.

بما أنّ ذات الألوهيّة أزليّة، فإنّ الصّفات الإلهيّة تكون ملازمة لها في وجودها وأبديّتها. ويترتّب على ذلك أن تكون المواهب الإلهيّة لا بداية لها ولا نهاية. وبما أنّ الله غير محدود، فإنّ صنع الله غير محدود، وفيوضات الله أيضًا غير محدودة. وبما أنّ ألوهيّته أبديّة، فإنّ ربوبيّته وكمالاته أيضًا أبديّة. وبما أنّ عطايا الرّوح القدس أبديّة، فلا يمكننا القول مطلقًا بأنّ مواهب الله تتوقّف، وإلاّ توقّف هو أيضًا. وإذا ما فكّرنا في الشّمس ثمّ حاولنا أن نتخيّل انقطاع لهيب الشّمس وحرارتها، فإنّنا نكون بذلك قد افترضنا انعدام الشّمس، ذلك لأنّ انفصال الشّمس عن أشعّتها وحرارتها أمر لا يقبله العقل. وبناء على ذلك فإنّنا لو حَدَّدْنا المواهب الإلهيّة بحدود وقيود، نكون قد حدّدنا الصّفات الإلهيّة، وحدّدنا الله نفسه.

فلنثقْ إذًا في فضل الله وموهبته، ولننتعش بالنّسائم الرّبّانيّة، ولْنستَنِرْ ونسمو بالبشارات الملكوتيّة. لقد عامل الله الإنسان دائمًا وأبدًا بالرّحمة والشّفقة. والّذي أنعم بالرّوح الإلهيّة فيما سلف من الزّمان هو جدُّ قادرٍ ومقتدرٍ أن يمنح المواهب ذاتها في كلّ وقت وحين. وبناء على هذا علينا بالأمل والرّجاء. فالله الّذي مَنَّ على العالم في السّابق سيمُنُّ عليهم الآن أيضًا وفي قادم الأيّام. والله الّذي نفث على عباده من نفثات الرّوح القدس سينفث عليهم الآن وفي المستقبل. فلا انقطاع لفضله وعطائه. والرّوح الرّبّانيّة نافذة من الأزل إلى الأبد، لأنّها عطيّة من الله، وعطيّة الله أبديّة. فهل يمكنكم تصوّر حدّ للقدرة الرّبّانيّة في حقائق الذّرّات، أو انقطاع الموهبة الرّبّانيّة في الكائنات الحيّة؟ وهل يمكنكم تصوّر انعدام القدرة المتجلّية الآن في هذا الزّجاج وتماسك ذرّاته؟ أو أنّ الطّاقة الّتي يتكوّن منها ماء البحر تتوقّف عن الانبعاث، ويختفي البحر؟ أو أنّ المطر سينزل اليوم ثمّ لن ينهمر أبدًا بعد ذلك؟ أو أنّ إشراق الشّمس سيتوقّف، فلا يبقى هناك ضوء أو حرارة؟

عندما نشاهد العطايا الإلهيّة مستمرّة في عالم الجماد، أفلا نتوقّعها وندركها بدرجة أكبر بكثير في ملكوت الرّوح الإلهيّ؟ وألا يكون إشراق أنوار الله وعطيّة الحياة الأبديّة على روح الإنسان أعظم بكثير؟ فكما يكون جسم هذا الكون المادّيّ مُستدامًا وسليمًا، كذلك تكون مواهب وعطايا الرّوح الرّبّانيّة أبديّة دائمة.

الحمد لله أنّه أنعم عليّ بحضور هذا المحفل المبجّل المنتعش بالأحاسيس الرّوحانيّة والانجذاب الملكوتيّ – فالحضور باحثون عن الحقيقة، وغاية رجائهم تأسيس السّلام العالميّ، وأسمى مراميهم خدمة العالم الإنسانيّ.

عندما نتأمّل في عالم الكائنات الحادثة، نجد أنّ كلّ ذرّة من ذرّات المادّة تتحرّك في مختلف درجات وممالك الحياة العضويّة. فانظروا مثلاً إلى المادّة الأثيريّة الّتي تتحرّك وتنفذ في كلّ الحقائق المادّيّة، فعندما يكون هناك تموّج أو اهتزاز في المادّة الأثيريّة تتأثّر العين بتموّجاتها وترى ما هو معروف بالنّور.

عطايا الله تتحرّك وتدور على نفس المنوال في كلّ المخلوقات. وهذا الفيض الإلهيّ غير المحدود ليس له ابتداء ولن يكون له انتهاء، فهو يتحرّك ويدور ويكون له تأثير حيثما تتطوّر القابليّة لتلقِّيه. ولكلّ رتبةٍ قابليّتُها الخاصّة. وعلى ذلك فلنأمل في أن تنتعش الإنسانيّة بفضل الله وموهبته من هذه الرّوح المحيية الّتي نُفخت في كلّ الموجودات، وبمواهبها يصبح عالم الإنسان عالمًا ربّانيًّا، ويصير هذا العالم التّرابيّ مرآة لعالم اللاّهوت، وتنكشف فضائل عالم الإنسان وكمالاته، وتنعكس صورة الله ومثاله من هذا الهيكل الإنسانيّ.

إنّني في غاية الامتنان لرئيس هذه الجمعيّة، وأعبّر له عن فائق التّحيّة والاحترام. وأملي أن يشملكم التّأييد لنيل رضاء الله. ولقد أسعدني كثيرًا ما لدى الحاضرين هنا من أحاسيس روحانيّة، وألتمس من الله العون والتّوفيق للجميع.

(5) 31 مايو/ أيّار 1912

الخطبة المباركة بقاعة البلديّة، بمدينة فانوود، ولاية نيوجيرسي

نقلاً عن الملاحظات الفارسيّة

يخضع العالم المادّيّ إلى التّغيير والتّبديل، أمّا أمر الملكوت الإلهيّ فهو أبديّ، وبناء عليه يكون هو الأهمّ. ولكن، واحسرتاه، لقد باتت قوّة الملكوت تضعف يومًا فيومًا في قلوب البشر، ونالت القوى المادّيّة الهيمنة. فطفقت الدّلائل الرّبّانيّة تخفت في القلوب شيئًا فشيئًا والأمارات البشريّة تزداد قوّة. وبلغ الحال إلى درجة صار فيها المادّيّون في تقدّم وهجوم، بينما قوى اللاّهوت باتت في وَهَن وأُفول، وغلب اللاّدين على الدّين. ويكمن السّبب في حالة الفوضى هذه في الاختلافات بين الأديان، ويرجع إلى العداوة والبغضاء السّائدة بين المذاهب والطّوائف. لقد استفاد المادّيّون من هذا الخلاف النّاشئ بين أصحاب الأديان وما برحوا يهاجمونهم، قاصدين اقتلاع الشّجرة الّتي غرستها يد الله. وتطرّق الضّعف والهزيمة إلى أوساط الأديان من جرّاء التّطاحن والنّزاع فيما بينها. وإذا ما اختلف قائد عسكريّ مع جيشه في تنفيذ الخطط الحربيّة، فإنّه سيُهزم على يد الأعداء لا محالة. وأصحاب الأديان اليوم في خلاف وتسودهم العداوة والتّقاتل والتّنابذ، ويرفضون المعاشرة، بل ويستبيحون دم بعضهم البعض إذا لزم الأمر. فاقرأوا التّاريخ والسّجلات لتعرفوا كم من وقائع مفجعة حدثت باسم الدّين. فمثلاً بُعث أنبياء اليهود للتّبشير بمجيء حضرة المسيح، ولكنّ التّلمود وخرافاته، بكلّ أسف، قد حجب حضرته بالكلّيّة حتّى إنّهم صلبوا المسيح الّذي وُعدوا به. فلو أنّهم نبذوا التّقاليد التّلموديّة، وتحرّوا حقيقة الدّين الموسويّ، لصاروا مؤمنين بحضرة المسيح. ولكنّ التّمسّك الأعمى برسوم وتقاليد عقائد الأسلاف حرمهم من موهبة الظّهور المسيحيّ، فلم ينتعشوا من هطول غيث الرّحمة، ولم يستنيروا من أشعّة شمس الحقيقة.

فالتّقليد هادم لأساس الدّين، وهو يطفيء روحانيّة عالم الإنسان، ويبدّل النّور الملكوتيّ بالظّلمة، ويحرم الإنسان من معرفة الله. والتّقليد هو السّبب في انتصار المادّيّة والكفر بالدّين، وهو إنكار للألوهيّة ولناموس الوحي والتّنزيل، ورفض للنّبوّة وإنكار لملكوت الله. وعندما يُخضِع المادّيّون هذه التّقاليد للتّحليل العقلانيّ المنطقيّ، يكتشفون أنّها مجرّد أوهام وخرافات، فيُنكرون الدّين. مثلاً، هناك لدى اليهود آراء عن الطّهارة والنّجاسة في الدّين، ولكنّكم عندما تُخضِعون هذه الآراء للتّمحيص العلميّ تجدونها بغير أساس.

فهل يستحيل علينا أن نتلقّى العطايا الرّبّانيّة غير المتناهية؟ وهل يستحيل اكتساب فضائل عالم الرّوح لأنّنا لا نعيش في زمن حضرة موسى أو في زمن أنبياء بني إسرائيل أو في عصر حضرة المسيح؟ فتلك كانت دورات روحانيّة. وهل من غير الممكن أن نترقّى روحانيًّا بسبب بُعدنا عن تلك الدّورات وعيشنا في عصر مادّيّ؟ إنّ إله موسى وعيسى قادر أن يغدق على شعبه اليوم بنفس العطايا، بل بعطايا أعظم منها. فمثلاً قد أغدق الله على عباده في العصور الماضية بنعمة العقل والحجى والإدراك، فهل يمكننا القول بأنّه غير قادر على منح عطاياه في هذا القرن؟ وهل يكون عدلاً وإنصافًا أن يرسل الله حضرة موسى لهداية الأمم السّابقة ثمّ يهمل الّذين يعيشون الآن تمامًا؟ وهل يمكن أن يُحرم هذا الزّمن الحاضر من المواهب الرّبّانيّة بينما تحظى العصور الماضية الّتي سادها الطّغيان والوحشيّة بنصيب لا ينضب منها؟ لقد فتح ذات الإله الرّحيم – الّذي أنعم على البشريّة بآلائه فيما مضى من الزّمان – أبواب ملكوته أمامنا من جديد. فأشعّة شمس الحقيقة ساطعة، ونفثات الرّوح القدس محيية. وما زال ذلك الرّبّ العليم يعيننا ويؤيّدنا، وينوّر قلوبنا، وينعش نفوسنا، ويعطّر مشامّنا بالنّفحات القدسيّة. فالحكمة الإلهيّة والعناية الرّبّانيّة أحاطت بالجميع، ومُدَّت المائدة السّماويّة أمامنا. فعلينا إذًا أن نأخذ نصيبًا موفورًا من هذا الفضل العميم.

إنّ وظيفة الرّاعي جمع ما تشتّت من أغنامه. فلو شتّت الرّاعي القطيع المتآلف فلا يمكن أن يكون راعيًا. وبما أنّ الأنبياء أنجزوا مهمّتهم تجاه هذه المسألة، فهم رعاة حقيقيّون. فعندما ظهر حضرة موسى كان بنو إسرائيل أشتاتًا. وزادت العداوة والشّحناء فيما بينهم من تفرّقهم. فجمع حضرته هذا القطيع المُشتَّت ووحَّده بقوّة إلهيّة، وأودع في أصداف قلوبهم لؤلؤ المحبّة، وخلّصهم من الأسر وخرج بهم من مصر إلى الأرض المقدّسة، فحقّقوا تقدّمًا رائعًا في العلوم والفنون، وربطتهم أواصر القوّة الاجتماعيّة والقوميّة. وكان تقدّمهم في الفضائل الإنسانيّة سريعًا وبديعًا بدرجة أنّهم صعدوا إلى أوج السّلطنة السّليمانيّة. فهل يمكن أن يقال بأنّ حضرة موسى لم يكن راعيًا حقًّا، أو أنّه لم يجمع هذا القوم المشتّت؟

كان حضرة المسيح راعيًا حقيقيًّا. ففي زمن ظهوره، كان اليونان والرّومان والآشوريّون والمصريّون بمثابة بضع قطعان مُشتَّتة، فنفخ المسيح فيهم من روح الاتّحاد وألّف بينهم.

من المحقّق إذًا أنّ أنبياء الله جاؤا لتوحيد بني الإنسان لا لتفريقهم، ولتأسيس قانون المحبّة لا العداوة. وعلينا بالتّالي أن نلقي جانبًا بكلّ تعصّب – أكان دينيًّا أم عرقيًّا أم سياسيًّا أم قوميًّا، وأن نصير سببًا لتوحيد الجنس البشريّ. فاجهدوا ما وسعكم من أجل السّلام العامّ، واسعوا إلى ما هو سبب المحبّة، واهدموا ركيزة الخلاف، حتّى يصبح هذا العالم النّاسوتيّ لاهوتيًّا، ويصير عالم المادّة عالم الملكوت، وتبلغ الإنسانيّة عالم الكمال.

(6) 2 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بكنيسة الصّعود،
تقاطع الطّريق الخامس بالشّارع العاشر، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

باصطلاح الكتب المقدّسة تُسمّى الكنيسة بيت العهد، لأنّ الكنيسة هي مكان يجتمع فيه النّاس من مختلف الأفكار والمشارب، ومن مختلف الأعراق والأمم – يجتمعون معًا في ميثاق أخوّة دائمة. ففي هيكل الرّبّ وبيت الله على الإنسان أن يكون خاضعًا لله. وعليه أن يبرم ميثاقًا مع ربّه يتعهّد فيه أن يطيع أوامره ويتّحد مع أخيه الإنسان دون اعتبار لتباين الأعراق أو اختلاف القوميّات. عليه ألاّ ينظر إلى تفاوت المذاهب والعقائد، أو أن يأخذ في الحسبان اختلاف مستويات التّفكير؛ بل عليه أن يكون ناظرًا إلى الجميع على أنّهم جنس بشريّ ويدرك أنّ على الجميع أن يكونوا متّحدين ومتّفقين. عليه أن يعتبر الكلّ بمثابة أسرة واحدة، وعرق واحد، وفي وطن واحد. وعليه أن يرى الكلّ عبادًا لإله واحد، ساكنين في كنف رحمته. والمغزى من هذا هو أنّ الكنيسة هي مركز جامع. فالهياكل هي رموز لحقيقة الله وألوهيّته – وهي المركز الجامع للجنس البشريّ. انظروا كيف يُشاهَد ويمثَّل كلّ جنس وشعب داخل المعبد – وجميعهم في محضر الرّبّ، متعاهدون على عهد المحبّة والألفة، وجميعهم متضرّعون بنفس النّغمة والدّعاء والابتهال إلى الله. فيتضح إذًا أنّ الكنيسة مركز جامع للبشريّة، ولهذا كانت هناك كنائس وهياكل في كلّ الدّيانات الإلهيّة. أمّا المراكز الجامعة الحقيقيّة فهي المظاهر الإلهيّة الّذين تقوم الكنيسة منهم مقام الرّمز والتّعبير. بمعنى أنّ المظهر الإلهيّ هو الهيكل الرّبّانيّ الحقّ والمركز الجامع الّذي ليست الكنيسة الظّاهريّة سوى رمز له.

تذكّروا قول يسوع المسيح في الإنجيل، إذ قال مخاطبًا بطرس: أنت الصّـخرة وعليك أبني كنيستي. يتضح إذًا أنّ كنيسة الله هي الشّريعة الإلهيّة وأنّ المبنى الفعليّ ليس سوى رمز لها. ذلك لأنّ الشّريعة الإلهيّة هي مركز جامع يوحّد مختلف الشّعوب والأوطان والألسن والآراء، ويجد الكلّ ملاذًا في حماها وينجذبون لها. فمثلاً كان حضرة موسى والشّريعة الموسويّة هما المركز الموحِّد لأغنام بني إسرائيل المشتَّتَة. فوحّد تلك القطعان التّائهة وجاء بهم تحت حكم شريعة إلهيّة، وربّاهم ووحّدهم، وجعلهم متّفقين، وأصعدهم إلى درجة سامية من الرّقيّ. وفي وقت كانوا فيه أذلاّء فصاروا أعزّاء، وجهلاء فصاروا عالمين، وفي قيود الأسر فمنحوا الحرّيّة. فهم بالاختصار قد اتّحدوا، وارتقوا يومًا بعد يوم حتّى بلغوا أسمى درجات التّقدّم في ذلك العصر. وبهذا نكون قد برهنّا على أن المظهر الإلهيّ والشّريعة الرّبّانيّة يحقّقان الوحدة.

من البديهيّ أنّ البشريّة في تباين واختلاف. فالمشارب البشريّة مختلفة، والأفكار والأوطان والأعراق والألسن متعدّدة. والحاجة واضحة إلى مركز جامع تتوازن بواسطته هذه الاختلافات ويتّحد به أهل العالم. فانظروا كيف أنّه لا شيء سوى قوّة روحانيّة يمكن لها أن تحقّق هذا الاتّحاد، ذلك لأنّ الأحوال المادّيّة والتّوجّهات الفكريّة تتفاوت تفاوتًا كبيرًا بدرجة يستحيل معها الاتّفاق والاتّحاد بالوسائط الظّاهريّة. إلاّ أنّه من الجائز لها جميعًا أن تتّحد بواسطة روح واحدة، تمامًا كما يتلقّى الكلّ النّور من شمس واحدة. فيمكننا إذًا بعون المركز الجامع الإلهيّ، الّذي هو شريعة الله وحقيقة المظهر الإلهيّ، أن نتغلّب على هذه الظّروف إلى أن تنتهي بالكلّيّة وتترقّى الأجناس وتتقدّم.

انظروا إلى زمان حضرة المسيح، فقد كثرت فيه الشّعوب والأعراق والحكومات، وتعدّدت الأديان والمذاهب والفرق، غير أنّه عندما ظهر حضرته، أثبَتت الحقيقة المسيحيّة أنّها هي المركز الجامع الّذي وحّدهم تحت خيمة الوفاق نفسها. فّكروا في هذا: هل كان بمقدور يسوع المسيح أن يوحّد هذه العناصر المتنافرة أو يأتي بمثل هذه النّتائج بواسطة السّلطة السّياسيّة؟ أو هل كانت تلك الوحدة والاتّفاق ممكنتيْن بالقوى المادّيّة؟ والثّابت هو عكس ذلك. بل إنّ هذه الشّعوب المختلفة قد جُمعت بواسطة القدرة الرّبّانيّة، وبواسطة نفحات الرّوح القدس. لقد امتزجوا وانتعشوا من جرّاء نفخ حياة جديدة، وتغلّبت روحانيّة حضرة المسيح على مصاعبهم ممّا أزال خلافاتهم بالكلّيّة. وبهذه الكيفيّة اتّحدت تلك الشّعوب المتخالفة وأصبحوا ملتحمين برباط من المحبّة من شأنه وحده أن يوحّد القلوب. من هذا يتّضح أنّ المظاهر الإلهيّة، المنادين الرّبّانيّين، هم المراكز الإلهيّة الجامعة. فهؤلاء الرّسل الملكوتيّون هم رعاة البشريّة الحقيقيّون، إذ إنّهم يوحّدون الأغنام المُشتَّتة عندما يظهرون في العالم. ودائمًا ما ظهر المركز الجامع من بلاد الشّرق، إذ كان كلّ من حضرة إبراهيم وموسى ويسوع المسيح ومحمّد مراكزَ جامعة في يومهم وزمانهم، وجميعهم بعثوا في الشّرق. وحضرة بهاء الله اليوم هو المركز الجامع لوحدة جميع بني البشر، وطلع بهاء نوره أيضًا من الشّرق، فأسّس وحدة العالم الإنسانيّ في بلاد فارس، وأقام الوئام والوفاق بين مختلف أصحاب العقائد والمذاهب والفرق والنّحل الدّينيّة بتحريرهم من أصفاد التّقاليد والأوهام الماضية، وتوجيههم نحو جوهر الأديان الإلهيّة. ومن هذا الجوهر يشعّ نور الرّوحانيّة، الّذي هو الاتّحاد، ومحبّة الله، وعرفان الله، والأخلاق الحميدة، وفضائل العالم الإنسانيّ. وجدَّد حضرة بهاء الله هذه المبادئ، تمامًا كما ينعش مجيء الرّبيع الأرض ويهب حياة جديدة لكلّ الكائنات الحادثة. ذلك لأنّ نضارة الرّبيع السّابق قد ذهبت، وحيويّته انقطعت، ولم تعد النّسائم المحيية تهبّ بشذاها، وحلَّ الشّتاء وموسم الظّلام. فجاء حضرة بهاء الله لتجديد حياة العالم بهذا الرّبيع الجديد الإلهيّ الّذي ضرب خيمته في بلاد الشّرق بكلّ هيمنة ومجد فأنعش عالم الشّرق. ولا شكّ أنّ عالم الغرب إذا ما تخلّى عن عقائد الماضي، وضرب صفحًا عن التّقاليد والأوهام الخاوية، وتحرّى حقيقة الأديان الإلهيّة، وحذا حذو يسوع المسيح وتصرّف بمقتضى التّعاليم الإلهيّة وصار متّحدًا مع الشّرق، فسينال بذلك سعادة وهناء أبديّيْن.

لقد بلغت الحضارة المادّيّة في الغرب أعلى نقطة من التّقدّم، ولكنّ المدنيّة الإلهيّة تأسّست في بلاد الشّرق. فعلى الشّرق أن يكتسب مدنيّة مادّيّة من الغرب، وعلى الغرب أن يتلقّى حضارة روحانيّة من الشّرق. ومن شأن هذا أن يحقّق رباطًا مشتركًا. وعندما يتلاقيان يطلع العالم الإنسانيّ بهيئة مجيدة، ويحرز تقدّمًا مدهشًا. وهذا واضح محقّق، ولا حاجة إلى دليل. فدرجة رقيّ المدنيّة المادّيّة في بلاد الغرب أمر لا ينكر، كما لا يخفق أحد في الإقرار بحضارة بلاد الشّرق الرّوحانيّة، ذلك لأنّ كلّ الأصول الإلهيّة لرفعة البشر قد ظهرت في الشّرق. وهذا أيضًا واضح محقّق. فعليكم إذًا أن تساعدوا الشّرق لكي ينال التّقدّم المادّيّ، وعلى الشّرق هو الآخر أن يروّج مبادئ الحضارة الرّوحانيّة في عالم الغرب. وبهذا الاختلاط والاتّحاد يبلغ الجنس البشريّ أعلى رتبة من الرّخاء والرّقيّ. فالمدنيّة المادّيّة وحدها ليست كافية أو مثمرة. لقد وُجـِدَت السّعادة الحسّيّة النّاتجة عن الظّروف المادّيّة لتكون من نصيب الحيوان. انظروا الحيوان كيف أنّه يبلغ أكمل درجات النّعيم الجسمانيّ. فالطّير يسكن أعلى الأغصان ويبني عشّه هناك بمنتهى الجمال والمهارة، وكلّ حبوب المروج هي ثروته ورزقه؛ وكلّ المياة السّائغة في ينابيع الجبال وأنهار السّهول مجعولة من أجل متعته وهنائه. فذلك في الحقيقة هو أوج السّعادة المادّيّة، في حين أنّ المخلوق البشريّ عاجز عن نوالها. فهذا فخار مملكة الحيوان. أمّا فخر مملكة الإنسان فهو بلوغ السّعادة الرّوحيّة في العالم الإنسانيّ، ونيل عرفان الله ومحبّته. والشّرف الّذي خُصّص للإنسان هو اكتساب الفضائل السّامية الّتي تليق بعالم البشر. هذا هو عين السّعادة والحبور. وإذا ما اجتمعت السّعادة المادّيّة بالهناء الرّوحانيّ تكون نورًا على نوركما يقول العرب. ندعو الله أن يوحّد الشّرق والغرب حتّى يتبادلا هاتين المدنيّتين وينعما بها معًا. وأنا متأكّد أنّ هذا سيتحقّق، لأنّ هذا القرن قرن نورانيّ، وهذا العصر عصر هطول الرّحمة الإلهيّة بناءً على الحاجة الماسّة لهذا القرن الجديد – ألا وهي اتّحاد الشّرق والغرب. وهو ما سيتحقّق بكلّ تأكيد.[1]

سؤال: ما هي مكانة المرأة في بلاد الشّرق؟

الجواب: كانت مكانة المرأة في الأيّام الخوالي مؤسفة للغاية، لأنّ اعتقاد أهل الشّرق آنذاك أنّ من الأفضل للمرأة أن تبقى جاهلة، وعدّوا الأفضل لها ألاّ تتعلّم القراءة أو الكتابة حتّى لا تطّلع على أحداث العالم. واعتُبرت المرأة مخلوقة لإنجاب الأطفال وتولّـي واجبات المنزل. فإذا ما سعت نحو العلم عدّوه أمرًا منافيًا للفضيلة، وبناءً عليه جُعلت النّساء سجينات المنزل. بل لم يكن للمنازل نوافذ تُفتَح على العالم الخارجيّ. فحطّم حضرة بهاء الله هذه الأفكار ونادى بمساواة الرّجل والمرأة. وجعل المرأة محترمة، بأن أمر أن تتلقّى كافّة النّساء تربية وتعليمًا، وألاّ يبقى هناك فرق في تربية الجنسين، وأنّ الرّجال والنّساء لهم نفس الحقوق. فليس لدى الله تمييز بسبب الجنس. ومَن كانت أفكاره نزيهة وتربيته أعلى وتحصيلاته العلميّة أكبر وأعماله الخيريّة أكثر، رجلاً كان أو امرأة، أبيضَ كان أو ملوّنًا، فهو أهل لكامل الحقوق ومحلّ لكلّ ثناء، وليس هناك تمييز من أيّ نوع كان. وبالتّالي فقد تطرّق التّغيير إلى مكانة النّساء في الشّرق. فهنّ اليوم يذهبن إلى المدارس والمعاهد، ويتلقّيْن نفس المناهج التّعليميّة، وصرن يومًا بعد يوم لا غِنى عنهنّ للرّجال، وأصبحن مساويات لهم. هذا هو الوضع الرّاهن للمرأة في إيران.

سؤال: ما هي علاقتكم بمؤسّس دينكم؟ هل أنت خليفته كما هو الحال مع البابا في روما؟

الجواب: أنا خادم حضرة بهاء الله، الّذي هو المؤسّس، وفي ذلك فخري واعتزازي، وليس عندي شرف أعظم من هذا، وأملي أن أوفّق في خدمتي لبهاءُ الله. وهذا هو مقامي.

سؤال: أليس حقيقة أنّ السّلام العموميّ لا يمكن تحقيقه ما لم تكن هناك ديمقراطيّة سياسيّة في جميع بلدان العالم؟

الجواب: من الواضح تمامًا أنّه لن تكون هناك في المستقبل مركزيّة في دول العالم، أكانت تلك الدّول دستوريّة في حكومتها، جمهوريّة أو ديمقراطيّة في نظامها. ويمكن أن نأخذ الولايات المتّحدة كمثال لحكومة المستقبل – بمعنى أنّ كلّ دولة سوف تكون مستقلّة بنفسها، ولكن سيكون هناك اتّحاد فيدراليّ يحمي مصالح مختلف الدّول المستقلّة. وقد لا يكون الاتّحاد نظامًا جمهوريًّا أو ديمقراطيًّا. فما هو لازم للوقت الحاضر هو التّخلّي عن المركزيّة الّتي تروِّج الاستبداد. وسيكون هذا سببًا لتحقيق السّلام العالميّ. وهناك حقيقة أخرى على نفس القدر من الأهمّيّة في تحقيق السّلام العالميّ، وهي حقّ النّساء الانتخابيّ. بمعنى أنّه عندما تتحقّق المساواة الكاملة بين الرّجال والنّساء، يمكن تحقيق السّلام لسبب بسيط هو أنّ معشر النّساء عمومًا لن يحبّذن الحرب. فلن تقبل النّساء السّماح بالزّجّ بالأبناء الّذين ربّينهم بكلّ حنان في ساحة القتال. وعندما يكون لهنّ رأي يُسمع، سيعارضن أيّ ذريعة للحرب والقتال. وهناك عامل آخر سوف يحقّق السّلام العالميّ وهو ربط بلاد الشّرق ببلاد الغرب معًا.

سؤال: ما هو اعتقادكم بشأن تناسخ الأرواح؟

الجواب: لمسألة التّناسخ جانبان، أحدهما ما يعتقد به الهندوس، وحتّى هذا الجانب ينقسم إلى قسمين: التّناسخ والتّقمّص. فبمقتضى إحدى العقائد تذهب الرّوح ثمّ تعود في تناسخات معيّنة، ولذا يقال إنّ المريض عليل بسبب تصرّفات له في تناسخ سابق، وأنّ هذا المرض قصاص وعقاب. أمّا مدرسة الفكر الهندوسيّة الأخرى فتعتقد أنّ الإنسان تارة يظهر على هيئة حيوان – كأن يكون حمارًا مثلاً – ويكون هذا قصاصًا لتصرّفات سابقة. أشير بذلك إلى عقائد تلك الدّيار، ومعتقدات مدارس الفكر فيها. وهناك أيضًا مفهوم رمزيّ للحلول، وهو الحلول المتعلّق بالمهامّ الرّسوليّة، فقد تحدّث يسوع المسيح عن يوحنّا المعمدان معلنًا أنّه كان بمثابة إيليّا. بيد أنّ يوحنّا المعمدان عندما سئل إيليّا أنت؟ أجاب بالنّفي. وهاتان مقولتان متضاربتان في الظّاهر، إلاّ أنّهما في الحقيقة لا تتعارضان. فالنّور نور واحد. والنّور الّذي أضاء هذا المصباح ليلة أمس هو نفسه الّذي ينيره اللّيلة. ولا يعني ذلك أنّ أشعّة الضّوء قد عادت بنفسها ثانية، بل الّذي عاد هو فضائل الإنارة. فالنّور الّذي تجلّى خلال الزّجاجة يتجلّى الآن مرّة أخرى، بحيث يمكننا القول بأنّ نور اللّيلة هو نور البارحة وقد أعيد ضياؤه، وهذا ما يتعلّق بمناقبه وصفاته لا بتشخّصه السّابق. هذا هو اعتقادنا في التّناسخ. فنحن نؤمن بما آمن به يسوع المسيح وسائر الأنبياء. فمثلاً يتفضّل حضرة الباب بقوله أنا رجعة كلّ النّبيّين وهذه دلالة على وحدة المناقب الرّسوليّة، وحدة القوى، وحدة الفيض، وحدة الإشراق، وحدة التّجلّي، ووحدة التّنزيل.

سؤال: ما موقف دينكم من الأسرة؟

الجواب: إنّ الأسرة، كونها وِحدة بشريّة طبقًا لتعاليم حضرة بهاء الله، يجب أن تتربّى وفقًا لأصول التّقديس والتّنزيه، وأن تتلقّن كلّ المناقب والفضائل. يجب الالتفات دائمًا وأبدًا إلى سلامة الرّباط الأسريّ وتماسكه، وألاّ يحدث تعدٍّ على حقوق أيّ فردٍ في الأسرة. فحقوق الابن والأب والأمّ، لا يصحّ التّعدّي على أيّ منها، كما لا يصحّ أن يكون أيّ منها استبداديًّا. وتمامًا كما يكون للابن التزامات معيّنة تجاه أبيه، فإنّ الأب أيضًا عليه واجبات معيّنة تجاه ابنه. ولكلّ من الأمّ والأخت وسائر أعضاء الأسرة امتيازاتهم المعيّنة. ويجب المحافظة على كلّ هذه الحقوق والامتيازات، بيد أنّ وحدة الأسرة يجب أن تصان. فالأذى الّذي يلحق بأحدهم يعدّ أذيّةً للكلّ، وراحةُ أيّ منهم راحةٌ للكلّ، وفخر أحدهم فخرٌ للكلّ.

سؤال: ماعلاقة التّعاليم البهائيّة بالدّيانة الزّرادشتيّة القديمة؟

الجواب: للأديان الإلهيّة أساس واحد، ولكنّ العقائد الّتي تظهر فيما بعد تختلف. ولكلّ من الأديان الإلهيّة جانبان. أوّلهما جوهريّ، وهو يتعلّق بالأخلاقيّات وترقية فضائل العالم الإنسانيّ، وهذا الجانب واحد فيها جميعًا. فهو أساسيّ وواحد، ولا اختلاف أو تفاوت فيه. ذلك لأنّه فيما يتعلّق بالحضّ على التّحلـّي بمكارم الأخلاق وترقية الفضائل الإنسانيّة، ليس هناك أيّ فرق كان بين تعاليم حضرة زرادشت، وحضرة يسوع، وحضرة بهاء الله. فهم في هذا متّفقون، وهم واحد. أمّا الجانب الثّاني للأديان الإلهيّة فليس جوهريًّا، وهو يتعلّق باحتياجات البشر، ويخضع للتّغيير في كلّ دورة طبقًا لمقتضيات الزّمان. فمثلاً كان الطّلاق في زمان حضرة موسى موافقًا للاحتياجات والظّروف، ولهذا شرّعه حضرة موسى. ولكن في زمن حضرة المسيح، كثر الطّلاق وصار علّة للفساد، ولأنّه كان غير ملائم لذلك الزّمان، جَعَل حضرته الطّلاق محرّمًا، وكذلك غيّر بعض الأحكام الأخرى. تلك هي احتياجات وظروف متعلّقة بإدارة شؤون المجتمع، ولذا فإنّها تخضع للتّغيير طبقًا لمقتضيات الزّمان. لقد عاش حضرة موسى في الصّحراء. ولمّا لم تكن هناك سجون تأديبيّة، ولم يكن هناك أيّ وسيلة لإعادة التّأهيل في الصّحراء والقفار، كانت الأحكام الإلهيّة هي العين بالعين والسّنّ بالسّنّ. فهل يمكن أن يُطبّق ذلك الآن؟ فإذا فقأ أحد عين آخر، فهل أنتم على استعداد لكي تفقأوا عين المعتدي؟ وهل إذا ما كسرت سنّ أحد أو قطعت أذنه، فهل ستطالبون بتشويه مماثل فيمن اعتدى عليه؟ لن يكون هذا ملائمًا لأحوال البشريّة في الوقت الحاضر. وإذا ما سرق رجل، فهل تُقطع يده؟ لقد كان هذا العقاب عادلاً وصحيحًا في شريعة موسى، وكان ممكن التّطبيق في الصّحراء، حيث لم يكن هناك سجون أو مؤسّسات إصلاحيّة مثلما أصبح متوفّرًا في أنظمة الحكم التّالية الّتي كانت أكثر رقيًّا. واليوم لديكم حكومة وتنظيم، ونظام للشّرطة، وقاضٍ ومحاكمة على يد محلّفين. والعقاب والقصاص اليوم مختلف. لذلك فإنّ الأمور غير الجوهريّة الّتي تتعلّق بأمور المجتمع التّفصيليّة تتغيّر طبقًا لمقتضيات الزّمان والظّروف، بيد أنّ الأصل الجوهريّ لتعاليم حضرة موسى، وحضرة زرادشت، وحضرة المسيح، وحضرة بهاء الله هو واحد ومتماثل، ولا يوجد هنالك فرق على الإطلاق.

سؤال: هل كلمة السّلام أعظم من كلمة المحبّة؟

الجواب: كلاّ! فالمحبّة أعظم من السّلام، لأنّ السّلام مبنيّ على المحبّة. والمحبّة هي النّقطة الّتي يتّجه إليها السّلام، كما أنّ السّلام ينتج عن المحبّة. وإذا لم تتحقّق المحبّة، لا يكون للسّلام وجود. ولكن هناك ما يسمّى بالسّلام الخالي من المحبّة. أمّا المحبّة الّتي تأتينا من الله فهي المحبّة الأساسيّة، وهي غاية كلّ إنجاز إنسانيّ، وهي إشراق الملكوت، ونور البشر.

سؤال: هلاّ تفضّلتم بذكر مبادئ دينكم؟

الجواب: أوّلاً، تحرّي الحقيقة. فعلى الإنسان أن يتخلّى عن التّقليد ويبتغي الحقيقة. فالمعتقدات الدّينيّة المعاصرة تتباين بسبب تشبّثها بالعقائد الموروثة. إذًا يكون لازمًا أن نترك التّقاليد ونبحث عن حقائق الأديان الجوهريّة.

ثانيًا، وحدة البشريّة. فكلّ المخلوقات الإنسانيّة هم عباد الله والكلّ منغمسون في بحر رحمته، وخالق الكلّ هو إله واحد، والرّازق والمعطي والحافظ للكلّ هو أيضًا إله واحد. وهو رؤوف بالكلّ، فلماذا لا نكون رؤوفين؟ والكلّ يحيا في ظلّ محبّته، فلماذا يكره بعضنا بعضًا؟ وغاية ما هنالك أنّ بعض النّاس جهلاء يجب تعليمهم، وبعضهم كالأطفال يجب تربيتهم وتعليمهم حتّى يبلغوا الرّشد، والبعض مرضى معتلّون جسمانيًّا وعقليًّا وروحيًّا يجب علاجهم وشفاؤهم. إلاّ أنّ الكلّ هم عباد الله.

ثالثًا، يجب أن يكون الدّين مؤدّيًا إلى محبّة الجميع، وسببًا للتّآخي والاتّحاد والضّياء. فإذا ما صار الدّين علّة للعداوة وسفك الدّماء والكراهية، فعدمه خير من وجوده، وفناؤه خير من بقائه. والدّين والعلم متطابقان ومتّفقان، فإذا ما خرجت مسألة من مسائل الدّين عن قواعد العقل ولم تتّفق مع العلم فهي وهم لا يستحقّ التّصديق.

رابعًا، المساواة بين الرّجال والنّساء. فهم متساوون في جميع المراتب. ويجب أن يتمّ تعديل القوانين الاقتصاديّة لمعيشة الإنسان حتّى يعيش البشر كلّهم في سعادة غامرة وفقًا لمرتبة كلّ منهم.

خامسًا، الأخوّة الرّوحانيّة. فعلى البشر قاطبة أن يبلغوا الإخاء الرّوحانيّ، أي الأخوّة في الرّوح القدس – ذلك لأنّ الأخوّة الوطنيّة والعرقيّة والسّياسيّة كلّها لا طائل منها، فنتائجها ضئيلة؛ أمّا الأخوّة الرّبّانيّة، الّتي هي الإخاء الرّوحانيّ، فهي سبب الاتّحاد والوداد بين البشر. وبما أنّ المدنيّة المادّيّة قد قطعت شوطًا واسعًا، فعلينا الآن أن نروّج للمدنيّة الرّوحانيّة. وما لم تتوافق المدنيّتان، لن يعرف البشر سعادة حقيقيّة. فلا يمكن للإنسان أن يبلغ أوج مكانته بالرّقيّ الذّهنيّ وقوّة العقل وحدهما – أي بتعبير آخر، لايمكن للإنسان بواسطة العقل وحده أن يحرز التّقدّم الّذي يحدثه الدّين. فقد حاول فلاسفة الماضي عبثًا أن يحيوا العالم الإنسانيّ بواسطة الملكة العقليّة. وكان أقصى ما وَسِعَهم هو تربية أنفسهم وعدد محدود من أتباعهم، ولقد اعترفوا بأنفسهم بالفشل. فعلى عالم البشريّة إذًا أن يُؤَيَّد بنفثات الرّوح القدس حتّى ينال التّربية العموميّة. وبفضل سريان القوّة الإلهيّة تحيا الأمم والشّعوب، وتغدو السّعادة العموميّة ممكنة.

تلك كانت بعض مبادئ البهائيّين.

سؤال: من سيكون أكثر عونًا لهذا الدّين الجديد، النّساء أم الرّجال؟ ومَنْ سيكون الأقدر؟

الجواب: كان الرّجال أكثر عونًا للدّين البهائيّ في بلاد فارس، ولكن ربّما يكون السّبق للنّساء في الغرب. ففي الغرب من الواضح أنّ للنّساء تفوّقًا في الدّين، أمّا في الشّرق فإنّ الرّجال يتفوّقون على النّساء في ذلك.

سؤال: كيف سيكون عليه الغذاء في حال الوحدة بين البشر؟

الجواب: كلّما تقدّمت البشريّة، سيقلّ استخدام اللّحوم شيئًا فشيئًا، لأنّ أسنان الإنسان ليست مهيّأة لأكل اللّحوم. فمثلاً لدى الأسد أنياب مهيّأة لأكل اللّحوم، وإذا لم تتوفّر اللّحوم مات الأسد جوعًا لأنّه لا يستطيع الرّعي، فأسنانه مختلفة الشّكل، وجهازه الهضميّ من النّوع الّذي لا يستطيع تقبّل التّغذية إلاّ باللّحوم. كما أنّ للنّسر منقارًا معقوفًا شقّه السّفليّ أقصر من العلويّ. وهو بهذا لا يستطيع التقاط الحبّ، ولا يمكنه أن يقتات على الحشائش. فالنّسر إذًا مضطرّ لتناول اللّحوم. وللمواشي أسنان مهيّأة لأكل الحشائش، الّذي هو علفها. في حين أنّ أسنان الإنسان، أي الطّواحن، مهيّأة لطحن الحبوب. أمّا الأسنان الأماميّة، أي القواطع، فهي للفاكهة وما شابهها. فيكون من الجليّ الواضح إذًا، بالنّظر لأدوات المضغ عند الإنسان، أنّ غذاءه معنيّ بالحبوب لا اللّحوم. وعندما يتقدّم الجنس البشريّ بدرجة أكمل، سيتوقّف أكل اللّحوم تدريجيًّا.

[1]        هنا انتهت هذه الخطبة المباركة، وهي ثاني خطبة تحظى بها تلك الكنيسة، كما لاحظ المؤرّخ محمود زرقاني في سجّله اليوميّ لرحلات حضرة عبد البهاء (بدائع الآثار)، وقال المؤرّخ إنّه بعد انتهاء عبد البهاء من خطبته عرض راعي الكنيسة الدّكتور جرانت أنّ لدى بعض الحضور أسئلة يرغبون السّماح بطرحها، فأجيب لهم ذلك الطّلب، فكتب من رغب منهم سؤالاً على ورقة رفعت من خلال أحد السّعاة. ثمّ كانت الأسئلة تنقل إلى حضرة عبد البهاء، من خلال مترجم، فيعطي الإجابة للسّائلين.

الجواب: من الواضح تمامًا أنّه لن تكون هناك في المستقبل مركزيّة في دول العالم، أكانت تلك الدّول دستوريّة في حكومتها، جمهوريّة أو ديمقراطيّة في نظامها. ويمكن أن نأخذ الولايات المتّحدة كمثال لحكومة المستقبل – بمعنى أنّ كلّ دولة سوف تكون مستقلّة بنفسها، ولكن سيكون هناك اتّحاد فيدراليّ يحمي مصالح مختلف الدّول المستقلّة. وقد لا يكون الاتّحاد نظامًا جمهوريًّا أو ديمقراطيًّا. فما هو لازم للوقت الحاضر هو التّخلّي عن المركزيّة الّتي تروِّج الاستبداد. وسيكون هذا سببًا لتحقيق السّلام العالميّ. وهناك حقيقة أخرى على نفس القدر من الأهمّيّة في تحقيق السّلام العالميّ، وهي حقّ النّساء الانتخابيّ. بمعنى أنّه عندما تتحقّق المساواة الكاملة بين الرّجال والنّساء، يمكن تحقيق السّلام لسبب بسيط هو أنّ معشر النّساء عمومًا لن يحبّذن الحرب. فلن تقبل النّساء السّماح بالزّجّ بالأبناء الّذين ربّينهم بكلّ حنان في ساحة القتال. وعندما يكون لهنّ رأي يُسمع، سيعارضن أيّ ذريعة للحرب والقتال. وهناك عامل آخر سوف يحقّق السّلام العالميّ وهو ربط بلاد الشّرق ببلاد الغرب معًا.

سؤال: ما هو اعتقادكم بشأن تناسخ الأرواح؟

الجواب: لمسألة التّناسخ جانبان، أحدهما ما يعتقد به الهندوس، وحتّى هذا الجانب ينقسم إلى قسمين: التّناسخ والتّقمّص. فبمقتضى إحدى العقائد تذهب الرّوح ثمّ تعود في تناسخات معيّنة، ولذا يقال إنّ المريض عليل بسبب تصرّفات له في تناسخ سابق، وأنّ هذا المرض قصاص وعقاب. أمّا مدرسة الفكر الهندوسيّة الأخرى فتعتقد أنّ الإنسان تارة يظهر على هيئة حيوان – كأن يكون حمارًا مثلاً – ويكون هذا قصاصًا لتصرّفات سابقة. أشير بذلك إلى عقائد تلك الدّيار، ومعتقدات مدارس الفكر فيها. وهناك أيضًا مفهوم رمزيّ للحلول، وهو الحلول المتعلّق بالمهامّ الرّسوليّة، فقد تحدّث يسوع المسيح عن يوحنّا المعمدان معلنًا أنّه كان بمثابة إيليّا. بيد أنّ يوحنّا المعمدان عندما سئل إيليّا أنت؟ أجاب بالنّفي. وهاتان مقولتان متضاربتان في الظّاهر، إلاّ أنّهما في الحقيقة لا تتعارضان. فالنّور نور واحد. والنّور الّذي أضاء هذا المصباح ليلة أمس هو نفسه الّذي ينيره اللّيلة. ولا يعني ذلك أنّ أشعّة الضّوء قد عادت بنفسها ثانية، بل الّذي عاد هو فضائل الإنارة. فالنّور الّذي تجلّى خلال الزّجاجة يتجلّى الآن مرّة أخرى، بحيث يمكننا القول بأنّ نور اللّيلة هو نور البارحة وقد أعيد ضياؤه، وهذا ما يتعلّق بمناقبه وصفاته لا بتشخّصه السّابق. هذا هو اعتقادنا في التّناسخ. فنحن نؤمن بما آمن به يسوع المسيح وسائر الأنبياء. فمثلاً يتفضّل حضرة الباب بقوله أنا رجعة كلّ النّبيّين وهذه دلالة على وحدة المناقب الرّسوليّة، وحدة القوى، وحدة الفيض، وحدة الإشراق، وحدة التّجلّي، ووحدة التّنزيل.

سؤال: ما موقف دينكم من الأسرة؟

الجواب: إنّ الأسرة، كونها وِحدة بشريّة طبقًا لتعاليم حضرة بهاء الله، يجب أن تتربّى وفقًا لأصول التّقديس والتّنزيه، وأن تتلقّن كلّ المناقب والفضائل. يجب الالتفات دائمًا وأبدًا إلى سلامة الرّباط الأسريّ وتماسكه، وألاّ يحدث تعدٍّ على حقوق أيّ فردٍ في الأسرة. فحقوق الابن والأب والأمّ، لا يصحّ التّعدّي على أيّ منها، كما لا يصحّ أن يكون أيّ منها استبداديًّا. وتمامًا كما يكون للابن التزامات معيّنة تجاه أبيه، فإنّ الأب أيضًا عليه واجبات معيّنة تجاه ابنه. ولكلّ من الأمّ والأخت وسائر أعضاء الأسرة امتيازاتهم المعيّنة. ويجب المحافظة على كلّ هذه الحقوق والامتيازات، بيد أنّ وحدة الأسرة يجب أن تصان. فالأذى الّذي يلحق بأحدهم يعدّ أذيّةً للكلّ، وراحةُ أيّ منهم راحةٌ للكلّ، وفخر أحدهم فخرٌ للكلّ.

سؤال: ماعلاقة التّعاليم البهائيّة بالدّيانة الزّرادشتيّة القديمة؟

الجواب: للأديان الإلهيّة أساس واحد، ولكنّ العقائد الّتي تظهر فيما بعد تختلف. ولكلّ من الأديان الإلهيّة جانبان. أوّلهما جوهريّ، وهو يتعلّق بالأخلاقيّات وترقية فضائل العالم الإنسانيّ، وهذا الجانب واحد فيها جميعًا. فهو أساسيّ وواحد، ولا اختلاف أو تفاوت فيه. ذلك لأنّه فيما يتعلّق بالحضّ على التّحلـّي بمكارم الأخلاق وترقية الفضائل الإنسانيّة، ليس هناك أيّ فرق كان بين تعاليم حضرة زرادشت، وحضرة يسوع، وحضرة بهاء الله. فهم في هذا متّفقون، وهم واحد. أمّا الجانب الثّاني للأديان الإلهيّة فليس جوهريًّا، وهو يتعلّق باحتياجات البشر، ويخضع للتّغيير في كلّ دورة طبقًا لمقتضيات الزّمان. فمثلاً كان الطّلاق في زمان حضرة موسى موافقًا للاحتياجات والظّروف، ولهذا شرّعه حضرة موسى. ولكن في زمن حضرة المسيح، كثر الطّلاق وصار علّة للفساد، ولأنّه كان غير ملائم لذلك الزّمان، جَعَل حضرته الطّلاق محرّمًا، وكذلك غيّر بعض الأحكام الأخرى. تلك هي احتياجات وظروف متعلّقة بإدارة شؤون المجتمع، ولذا فإنّها تخضع للتّغيير طبقًا لمقتضيات الزّمان. لقد عاش حضرة موسى في الصّحراء. ولمّا لم تكن هناك سجون تأديبيّة، ولم يكن هناك أيّ وسيلة لإعادة التّأهيل في الصّحراء والقفار، كانت الأحكام الإلهيّة هي العين بالعين والسّنّ بالسّنّ. فهل يمكن أن يُطبّق ذلك الآن؟ فإذا فقأ أحد عين آخر، فهل أنتم على استعداد لكي تفقأوا عين المعتدي؟ وهل إذا ما كسرت سنّ أحد أو قطعت أذنه، فهل ستطالبون بتشويه مماثل فيمن اعتدى عليه؟ لن يكون هذا ملائمًا لأحوال البشريّة في الوقت الحاضر. وإذا ما سرق رجل، فهل تُقطع يده؟ لقد كان هذا العقاب عادلاً وصحيحًا في شريعة موسى، وكان ممكن التّطبيق في الصّحراء، حيث لم يكن هناك سجون أو مؤسّسات إصلاحيّة مثلما أصبح متوفّرًا في أنظمة الحكم التّالية الّتي كانت أكثر رقيًّا. واليوم لديكم حكومة وتنظيم، ونظام للشّرطة، وقاضٍ ومحاكمة على يد محلّفين. والعقاب والقصاص اليوم مختلف. لذلك فإنّ الأمور غير الجوهريّة الّتي تتعلّق بأمور المجتمع التّفصيليّة تتغيّر طبقًا لمقتضيات الزّمان والظّروف، بيد أنّ الأصل الجوهريّ لتعاليم حضرة موسى، وحضرة زرادشت، وحضرة المسيح، وحضرة بهاء الله هو واحد ومتماثل، ولا يوجد هنالك فرق على الإطلاق.

سؤال: هل كلمة السّلام أعظم من كلمة المحبّة؟

الجواب: كلاّ! فالمحبّة أعظم من السّلام، لأنّ السّلام مبنيّ على المحبّة. والمحبّة هي النّقطة الّتي يتّجه إليها السّلام، كما أنّ السّلام ينتج عن المحبّة. وإذا لم تتحقّق المحبّة، لا يكون للسّلام وجود. ولكن هناك ما يسمّى بالسّلام الخالي من المحبّة. أمّا المحبّة الّتي تأتينا من الله فهي المحبّة الأساسيّة، وهي غاية كلّ إنجاز إنسانيّ، وهي إشراق الملكوت، ونور البشر.

سؤال: هلاّ تفضّلتم بذكر مبادئ دينكم؟

الجواب: أوّلاً، تحرّي الحقيقة. فعلى الإنسان أن يتخلّى عن التّقليد ويبتغي الحقيقة. فالمعتقدات الدّينيّة المعاصرة تتباين بسبب تشبّثها بالعقائد الموروثة. إذًا يكون لازمًا أن نترك التّقاليد ونبحث عن حقائق الأديان الجوهريّة.

ثانيًا، وحدة البشريّة. فكلّ المخلوقات الإنسانيّة هم عباد الله والكلّ منغمسون في بحر رحمته، وخالق الكلّ هو إله واحد، والرّازق والمعطي والحافظ للكلّ هو أيضًا إله واحد. وهو رؤوف بالكلّ، فلماذا لا نكون رؤوفين؟ والكلّ يحيا في ظلّ محبّته، فلماذا يكره بعضنا بعضًا؟ وغاية ما هنالك أنّ بعض النّاس جهلاء يجب تعليمهم، وبعضهم كالأطفال يجب تربيتهم وتعليمهم حتّى يبلغوا الرّشد، والبعض مرضى معتلّون جسمانيًّا وعقليًّا وروحيًّا يجب علاجهم وشفاؤهم. إلاّ أنّ الكلّ هم عباد الله.

ثالثًا، يجب أن يكون الدّين مؤدّيًا إلى محبّة الجميع، وسببًا للتّآخي والاتّحاد والضّياء. فإذا ما صار الدّين علّة للعداوة وسفك الدّماء والكراهية، فعدمه خير من وجوده، وفناؤه خير من بقائه. والدّين والعلم متطابقان ومتّفقان، فإذا ما خرجت مسألة من مسائل الدّين عن قواعد العقل ولم تتّفق مع العلم فهي وهم لا يستحقّ التّصديق.

رابعًا، المساواة بين الرّجال والنّساء. فهم متساوون في جميع المراتب. ويجب أن يتمّ تعديل القوانين الاقتصاديّة لمعيشة الإنسان حتّى يعيش البشر كلّهم في سعادة غامرة وفقًا لمرتبة كلّ منهم.

خامسًا، الأخوّة الرّوحانيّة. فعلى البشر قاطبة أن يبلغوا الإخاء الرّوحانيّ، أي الأخوّة في الرّوح القدس – ذلك لأنّ الأخوّة الوطنيّة والعرقيّة والسّياسيّة كلّها لا طائل منها، فنتائجها ضئيلة؛ أمّا الأخوّة الرّبّانيّة، الّتي هي الإخاء الرّوحانيّ، فهي سبب الاتّحاد والوداد بين البشر. وبما أنّ المدنيّة المادّيّة قد قطعت شوطًا واسعًا، فعلينا الآن أن نروّج للمدنيّة الرّوحانيّة. وما لم تتوافق المدنيّتان، لن يعرف البشر سعادة حقيقيّة. فلا يمكن للإنسان أن يبلغ أوج مكانته بالرّقيّ الذّهنيّ وقوّة العقل وحدهما – أي بتعبير آخر، لايمكن للإنسان بواسطة العقل وحده أن يحرز التّقدّم الّذي يحدثه الدّين. فقد حاول فلاسفة الماضي عبثًا أن يحيوا العالم الإنسانيّ بواسطة الملكة العقليّة. وكان أقصى ما وَسِعَهم هو تربية أنفسهم وعدد محدود من أتباعهم، ولقد اعترفوا بأنفسهم بالفشل. فعلى عالم البشريّة إذًا أن يُؤَيَّد بنفثات الرّوح القدس حتّى ينال التّربية العموميّة. وبفضل سريان القوّة الإلهيّة تحيا الأمم والشّعوب، وتغدو السّعادة العموميّة ممكنة.

تلك كانت بعض مبادئ البهائيّين.

سؤال: من سيكون أكثر عونًا لهذا الدّين الجديد، النّساء أم الرّجال؟ ومَنْ سيكون الأقدر؟

الجواب: كان الرّجال أكثر عونًا للدّين البهائيّ في بلاد فارس، ولكن ربّما يكون السّبق للنّساء في الغرب. ففي الغرب من الواضح أنّ للنّساء تفوّقًا في الدّين، أمّا في الشّرق فإنّ الرّجال يتفوّقون على النّساء في ذلك.

سؤال: كيف سيكون عليه الغذاء في حال الوحدة بين البشر؟

الجواب: كلّما تقدّمت البشريّة، سيقلّ استخدام اللّحوم شيئًا فشيئًا، لأنّ أسنان الإنسان ليست مهيّأة لأكل اللّحوم. فمثلاً لدى الأسد أنياب مهيّأة لأكل اللّحوم، وإذا لم تتوفّر اللّحوم مات الأسد جوعًا لأنّه لا يستطيع الرّعي، فأسنانه مختلفة الشّكل، وجهازه الهضميّ من النّوع الّذي لا يستطيع تقبّل التّغذية إلاّ باللّحوم. كما أنّ للنّسر منقارًا معقوفًا شقّه السّفليّ أقصر من العلويّ. وهو بهذا لا يستطيع التقاط الحبّ، ولا يمكنه أن يقتات على الحشائش. فالنّسر إذًا مضطرّ لتناول اللّحوم. وللمواشي أسنان مهيّأة لأكل الحشائش، الّذي هو علفها. في حين أنّ أسنان الإنسان، أي الطّواحن، مهيّأة لطحن الحبوب. أمّا الأسنان الأماميّة، أي القواطع، فهي للفاكهة وما شابهها. فيكون من الجليّ الواضح إذًا، بالنّظر لأدوات المضغ عند الإنسان، أنّ غذاءه معنيّ بالحبوب لا اللّحوم. وعندما يتقدّم الجنس البشريّ بدرجة أكمل، سيتوقّف أكل اللّحوم تدريجيًّا.

(7) 8 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه جون جرندي

إنّ الهيئة الاجتماعيّة اليوم في أشدّ الحاجة إلى طبيب، فهي أشبه بجسم إنسان ابتُلي بأمراض عضال. والطّبيب يشخِّص العّلة ويصف الدّواء. بيد أنّه لا يصف الدّواء قبل أن يشخّص الدّاء. والعلّة الّتي أصابت الهيئة الاجتماعيّة هي الافتقار إلى المحبّة وغياب الإيثار. فليس هناك محبّة حقيقيّة في أفئدة البشر، وقد بلغت بهم الحالة حدًّا إذا لم تستيقظ أحاسيسهم بقوّة ما حتّى يحدث الاتّحاد والمحبّة والائتلاف فيما بينهم، فلا شفاء يرتُجى بين البشر ولا وفاق. فالمحبّة والوحدة هما ما تحتاجهما الهيئة الاجتماعيّة في عصرنا الحاضر، ومن دونهما لا يمكن أن نصيب تقدّمًا أو نبلغ ازدهارًا. فعلى أحبّاء الله إذًا أن يتمسّكوا بالقوّة الّتي من شأنها أن تخلق هذه المحبّة وهذا الاتّحاد في أفئدة بني الإنسان. فالعلم لا يمكنه شفاء الهيئة الاجتماعيّة من أسقامها، وليس بوسعه أن يوجِد الوئام والتّآخي في قلوب البشر، كما لا يمكن للتّحالفات القوميّة أو العرقيّة أن تفي بالعلاج. فالعلاج يجب أن يتأتّى فقط من المواهب الرّبّانيّة والعطايا الرّوحانيّة الّتي أنزلها الله في هذا اليوم لهذا الغرض. وهذا من متطلّبات زماننا الحاضر، وها قد جاءنا التّرياق الرّبّانيّ، فالتّعاليم الرّوحانيّة لدين الله هي الّتي بمقدورها دون سواها أن تخلق هذه المحبّة والوحدة والوفاق في قلوب البشر.

فلتتمسّكوا إذًا بهذه الوسائط الملكوتيّة الّتي منحها الله لنا لكي تستحكم بفضل محبّة الله هذه الرّابطة في الأرواح، ويتحقّق هذا التّعلّق القلبيّ، ويشعّ نور حقيقة الاتّحاد منكم على الكون بأسره. وما لم نتشبّث بهذه الوسائط والوسائل الرّبّانيّة، فلا نتيجة تُرجى. فلنبتهل إلى الله أن ينعش أرواحنا كي نرى تنزُّل عطاياه، وينير بصائرنا لنشاهد هدايته العظمى، ويشنِّف آذاننا حتّى نتمتّع بالنّغمات السّماويّة للكلمة الملكوتيّة. هذا هو أعظم آمالنا، وهذا هو أسمى مقاصدنا.

خطبتان ألقاهما حضرة عبد البهاء في فيلادلفيا (1) 9 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بكنيسة الموحّدين
تقاطع الشّارع الخامس عشر بطريق جيرارد بمدينة فيلادلفيا، ولاية بنسلفانيا

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

لقد جئتُ من الشّرق، من ممالك بعيدة طلع فيها دائمًا نور السّماء، ومن أصقاع ظهرت فيها المظاهر المقدّسة وتجلّت منها نورانيّة الله وقدرته على البشريّة. إنّ مرادي ومقصودي من زيارتي هذه أن تتأسّس عرى الوحدة والوفاق بين الشّرق والغرب، وتحيط محبّة الله بكلّ الأمم وتنير النّورانيّة الإلهيّة كلا الإقليمين، وتُحيي جسد العالم بأسره فيوضاتُ الرّوح القدس. لهذا أتضرّع إلى العتبة الإلهيّة أن يجعل الشّرق والغرب إقليمًا واحدًا، وأن تتّحد مختلف الشّعوب والأديان، وتمتزج الأرواح امتزاج أمواج بحر واحد، ويصبح الجميع أشجارًا وأورادًا وأزهارًا تزدان بها حديقة واحدة.

إنّ حقيقة الألوهيّة وحدانيّة محضة ومقدّسة ومنزّهة عن إدراك البشر، لأنّ إدراك الكائنات محدود بينما حقيقة الألوهيّة غير محدودة. فكيف يستطيع المحدود أن يحيط بغير المحدود؟ ونحن فقر محض وحقيقة الألوهيّة غنى صرف، فكيف يحيط الفقر البحت بالغنى المطلق؟ ونحن عجز صرف وحقيقة الألوهيّة قدرة محضة، فأنّى للعجز الصّرف أن يدرك القدرة المحضة؟ إنّ الكائنات الحادثة الّتي هي أسيرة الحدود خاضعة دومًا للتّبدُّل والتّغيير في أحوالها. فكيف تستطيع هذه الكائنات الحادثة أن تتصوّر الحقيقة الملكوتيّة الأزليّة الباقية؟ فمن المؤكّد أنّ هذا ضرب من المحال، لأنّنا حينما نتمعّن في عالم الخلق نشاهد أنّ تفاوت المراتب مانع للإدراك، وكلّ رتبة دانية لا تستطيع إدراك ما فوقها – أكان ذلك مرتبة أو مملكة. فالجماد مهما ارتقى فإنّه لن يدرك عالم النّبات، والنّبات مهما نما وترعرع لن يدرك حقيقة مملكة الحيوان، أي أنّه لا يمكنه تخيّل حياة تنعم بقوى الحواس. كما أنّ الحيوان قد يبلغ درجة مدهشة من الذّكاء، إلاّ أنّه لا ينال أبدًا أيًّا من قوى العقل والتّدبّر الواعي المقصورة على الإنسان. إذًا اتّضح أنّ تفاوت المراتب يظلّ دائمًا وأبدًا مانعًا من إدراك الدّرجة السّفلى للدّرجة الأعلى، أو معرفة الأدنى للأسمى. إنّ هذه الزّهرة على ما هي عليه من جمال ونضرة ولطافة وعطر، ورغم بلوغها درجة الكمال في عالمها، إلاّ أنّها لا تدرك حقيقة الإنسان ولا يمكنها أن تنال السّمع والبصر، فهي تحيا إذًا دون أيّ معرفة بعالم الإنسان، مع أنّ كلاًّ من الزّهرة والإنسان مخلوقات حادثة. إذ إنّ الفرق بينهما هو في تفاوت المراتب، والمانع للإدراك هو أنّ الرّتبة الدّانية محدودة بحدود عالمها.

فما دام الأمر كذلك، فكيف تستطيع الحقيقة البشريّة المحدودة إدراك الخالق الأبديّ الّذي لا يُرى؟ وكيف يستطيع الإنسان إدراك الرّبّ العليم المحيط؟ لا شكّ أنّه لن يستطيع ذلك لأنّ كلّ ما يقع ضمن إدراك عقل الإنسان إنّما هو الفهم البشريّ المحدود، بينما يكون الملكوت الإلهيّ غير محدود ولا نهاية له. ومع أنّ الحقيقة الإلهيّة مقدّسة ومنزّهة عن أفهام مخلوقاتها، إلاّ أنّها قد أسبغت نعمها على جميع ممالك عالم الخلق، ودلائل تجلّياتها الرّوحيّة مشهودة في كافّة ممالك عالم الوجود. كما أنّ الأنوار الإلهيّة تضيء عالم البشر، مثلما تشعّ إشراقات الشّمس بكلّ بهاء على الخلق المادّيّ. وشمس الحقيقة شمس واحدة، وفيضها واحد وحرارتها واحدة ونورها واحد، وهي ساطعة على جميع الكائنات. لكنّ الاستعداد لفهم الحقيقة يتفاوت مع اختلاف ممالك الموجودات، فتستفيض كلّ مملكة من نور شمس الأزل بقدر استعدادها. فالحجر الأسود لديه نصيب من شعاع هذه الشّمس الظّاهرة، وكذلك الحال مع الأشجار والحيوانات فلها أيضًا نصيب. فقد تربّت جميعها بيُمن ذلك الفيض الواحد. ولكنّ النّفوس الكاملة من البشر – والمقصود هنا الفرد الكامل – هي مثل المرايا الّتي تنعكس فيها شمس الحقيقة، فتتجلّى فيها كمالات الشّمس وهيئتها ونورها، وتظهر منها حرارة الشّمس وضياؤها بتمامها، ذلك لأنّ نفسًا نقيّة كهذه تحكي عن الشّمس بكلّ كمال.

إنّ هذه المرايا هي رسل الله الّتي تحكي عن حقيقة الألوهيّة. فتمامًا كما تعكس المرآة ضوء الشّمس السّماويّة وقرصها، كذلك تظهر صورة شمس الحقيقة وإشراقها وتتجلّى في مرآة المظاهر الإلهيّة. وهذا ما قصده السّيّد المسيح بقوله الآب في الابن والمراد هو أنّ حقيقة شمس الأزل منعكسة ببهائها في شخص المسيح. ولا يعني ذلك أنّ شمس الحقيقة قد تنزّلت من عليائها في الملكوت أو أنّ جوهر كينونتها قد دخلت أو استقرّت في هذه المرآة، لأنّه ليس لحقيقة الألوهيّة دخول وخروج، أو ذهاب وإياب. وهي مقدّسة ومنزّهة عن الأشياء كلّها، وهي في مركز التّقديس دائمًا أبدًا. فليس لتلك الحقيقة الأزليّة تغيير أو تبديل، ذلك لأنّ التّغيير والتّبديل والانتقال من حال إلى حال هي كلّها من خصائص الحقائق الحادثة.

في الوقت الّذي اشتدّ فيه الخلاف والنّزاع والخصام بين الأمم وكانت العداوة والبغضاء تفرّق ما بين المذاهب والنّحل، والخلافات بين الأجناس المختلفة قائمة على أشدّها – في هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله من أفق الشّرق وأعلن وحدانيّة الله ووحدة العالم الإنسانيّ، وأنّ جميع البشر عبيد إله واحد وجميعهم نالوا الوجود من فيض الخالق الأحد. وأنّ الله رؤوف بالجميع وهو يرعى ويربّي الكلّ ويحفظهم، وهو رازق الجميع ويشمل بمحبّته ورحمته كلّ الأجناس والشّعوب. فما دام الله رؤوفًا بالكلّ فلماذا نكون نحن ظالمين وغير رؤوفين؟ وما دام الله رؤومًا ورحيمًا بالكلّ فلماذا نبدي نحن العداوة والبغضاء؟ لا شكّ أنّ السّياسة الإلهيّة أكمل من خطط النّاس وأفكارهم، لأنّ الإنسان مهما كان حكيمًا راجح العقل، فليس من الممكن أبدًا أن يبلغ سياسة أعظم من السّياسة الإلهيّة. إذًا يجب علينا أن نتّبع السّياسة الإلهيّة فنحبّ جميع الخلق ونكون منصفين ورؤوفين بالجميع. علينا أن نعتبر الجميع أوراقًا وأغصانًا وأثمارًا لشجرة واحدة وأبناءً لأسرة واحدة لأنّ الجميع من سلالة آدم. نحن أمواج بحر واحد وأعشاب مرج واحد، وأنجم سماء واحدة، ونأوي إلى كنف الحافظ الرّبّانيّ الكلّيّ. فلو كان هناك عليل يتحتّم معالجته، أو جاهل فيلزم تعليمه أو نائم فيجب إيقاظه أو خامد فيجب إحياؤه. وتلك كانت مبادئ تعاليم حضرة بهاء الله.

بإعلانه وحدة الجنس البشريّ علّم حضرة بهاء الله بأنّ الرّجال والنّساء عند الله سواء، وليس بينهم تمايز بأيّ وجه من الوجوه، والفرق الوحيد الحاصل بينهم الآن راجع إلى غياب التّربية والتّعليم. فإذا ما أتيحت للنّساء فرصة مساوية في التّعليم فلن يبقى أيّ فرق ويزول وهم النّقصان. إنّ للعالم الإنسانيّ جناحَيْن، إن جاز التّعبير، أحدهما الأنثى والآخر الذّكر. فلو كان أحدهما ضعيفًا لن يتمكّن الجناح الآخر من الطّيران مهما كان قويًّا كاملاً. ولعالم البشريّة يدان فإذا بقيت يد عاجزة تتعطّل اليد الأخرى السّليمة عن أداء وظائفها. لقد خلق الله جميع البشر ووهب الجنسين كمالات وإدراكًا، ووهبهما حواسًّا وأعضاء جسمانيّة دون تمييز أو تفضيل راجعٍ إلى تفوّق ما. فلماذا إذًا تُعدّ المرأة أدنى من الرّجل؟ إنّ هذا يتنافى وعدالة الله وخطّته للبشريّة. لقد خلق الله الجميع متساوين، وليس لديه اعتبار للجنس، وكلّ من كان قلبه أطهر وعمله أحسن فهو مقبول لدى الله سواء كان ذكرًا أم أنثى. وكم من نساء ذكرهنّ التّاريخ كنّ فخراَ للبشر – مثل مريم أمّ المسيح الّتي كانت مجدًا لبني البشر. وكذلك مريم المجدليّة وآسية بنت فرعون وسارة زوجة إبراهيم وأمثالهنّ كثيرات ممّن صرن فخر النّوع الإنسانيّ بامتيازهنّ. وفي هذا العصر هناك من بين البهائيّين نساء تفوّقْنَ على الرّجال بدرجة كبيرة – نساء حكيمات موهوبات مثقّفات، هادفات إلى الرّقيّ وعلى أقصى درجة من العقل والحجى، وبمثابة النّور للرّجال. فهنّ متفوّقات على الرّجال في الشّجاعة، وعندما يتحدّثن في الجمع ينصت إليهنّ الرّجال بغاية الاحترام. ثمّ إنّ تعليم النّساء أكثر أهمّيّة من تعليم الرّجال لأنّهنّ أمّهات الجنس البشريّ، والأمّهات هنّ من يربّين الأطفال، والأمّهات هنّ المعلّمات الأُوَل للأطفال. لهذا يجب تعليمهنّ بكلّ اقتدار حتّى يستطعن تربية الأولاد والبنات معًا. وهناك الكثير من النّصوص في بيانات حضرة بهاء الله بهذا الصّدد.

كما دعا حضرة بهاء الله إلى تطبيق منهج تربويّ ودراسيّ مُوحّد للرّجال والنّساء. فعلى البنات والأبناء أن يتّبعوا منهجًا دراسيًّا واحدًا وبذلك تُروَّج وحدة الجنسين. وحينما يحصل كافّة البشر على نفس الفرصة من التّعليم وتتحقّق مساواة الرّجال والنّساء ينهدم بنيان الحروب بالكلّيّة. ولا يمكن أن تنتهي الحروب إلاّ بعد تحقّق تلك المساواة، ذلك لأنّ جميع الاختلافات والتّمييز تُفضي إلى الجدال والنّزاع، بينما المساواة في الحقوق بين الذّكور والإناث تؤدّي إلى منع الحروب. فالنّساء لا يرضين بالحروب، ولن ترضى الأمّهات أبدًا بإرسال أبنائهنّ إلى ميدان القتال لتسفك دماؤهم بعد أن يمضين عشرين سنة في تربيتهم منذ الصّغر بكلّ مشقّةٍ ومحبّة وتفانٍ، مهما كانت الذّريعة الّتي يُدْعَوْن للدّفاع عنها. ولهذا فحينما تنال النّساء مساواة في الحقوق فلا شكّ أنّ الحرب سوف تزول تمامًا من بين البشر.

كذلك روّج حضرة بهاء الله لوحدة أساس الأديان، وعلّم أنّ الحقيقة واحدة لا تتعدّد، وأنّها عماد كلّ التّعاليم الإلهيّة، وأنّ أسس الأديان الإلهيّة إذًا واحدة. لقد نشأت بعض الرّسوم والتّقاليد شيئًا فشيئًا. وبما أنّ هذه الرّسوم والتّقاليد متباينة فمن شأنها أن تسبّب الاختلافات بين أهل الأديان. فإذا ما طرحنا هذه التّقاليد جانبًا وقصدنا الحقيقة الجوهريّة الّتي يرتكز عليها ما نؤمن به، لتوصّلنا إلى قاعدة واحدة للوفاق، ذلك لأنّ الحقيقة واحدة لا تتعدّد.

من جملة التّعاليم الّتي أعلنها حضرة بهاء الله هو توافق الدّين والعلم، وأنّ الدّين يجب أن تثبت صحّته بميزان العقل، وأن يتّفق مع الحقائق والبراهين العلميّة، لكيّ يصدّق العلم الدّين ويصدّق الدّين العلم. وكلاهما يرتبطان ببعضهما ارتباطًا لا انفكاك له في ظلّ الحقيقة. وإذا ما تبيّن أنّ مقولات الدّين وتعاليمه غير معقولة ومخالفة للعلم تكون ناجمة عن الوهم والخيال. فقد ظهرت أعداد لا تحصى من مثل هذه المعتقدات والأفكار في العصور الماضية. لاحظوا أوهام الرّومان واليونان والمصريّين وأساطيرهم وجميعها كانت مخالفة للدّين والعلم واتّضح الآن وتجلّى أنّها كانت أوهامًا، إلاّ أنّها في زمانها كانت عقائد تمسّكوا بها أشدّ التّمسّك. فأحد أصنام المصريّين القدماء مثلاً كان معجزة محقّقة بالنّسبة لهؤلاء القوم، في حين كان في الحقيقة قطعة من صخر. وبما أنّ العلم لا يمكن أن يقبل بإعجاز أيّ قطعة من الصّخر من حيث مصدرها وطبيعتها، لذلك يكون الاعتقاد بها وهمًا، وهو ما أصبح واضحًا الآن. إذًا يجب علينا نحن أن نتخلّى عن هذه المعتقدات الموهومة ونتحرّى الحقيقة. فكلّ ما نراه مطابقًا للحقيقة وموافقًا للعقل يجب قبوله، وكلّ ما لا يصدّقه العلم ولا يقبله العقل فهو ليس بحقيقة بل تقاليد يجب نبذها. وحينما يتمّ هذا يزول الاختلاف بين المعتقدات، ويصير الكلّ أسرة واحدة وشعبًا واحدًا، ونشاهد نفس القابليّة لتلقّي الفضل الإلهيّ والتّربية الرّبّانيّة بين البشر.

يا إلهي الغفور إنّك أنت الملاذ لعبادك وإنّك أنت المطّلع على الأسرار وإنّك أنت الخبير. نحن عجزاء وأنت المقتدر القدير، ونحن خطاة وأنت غافر الذّنوب الرّحمن الرّحيم. يا إلهنا لا تنظر إلى خطيئاتنا بل عاملنا بفضلك وموهبتك. ذنوبنا كثيرة ولكنّ بحر رحمتك لا محدود، وعجزنا شديد ولكنّ علائم تأييدك وتوفيقك ظاهرة. فأيّدنا وقوّنا على ما يليق بعتبتك، ونوّر قلوبنا وهبنا عيونًا بصيرة وآذانًا سميعة وأحيِ الموتى واشفِ المرضى وأغنِ الفقراء وامنح الخائفين الأمن والأمان، واقبلنا في ملكوتك ونوّرنا بنور هدايتك. إنّك أنت المقتدر القدير وإنّك أنت الكريم الرّحمن وإنّك أنت الرّؤوف.

(2) 9 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بمعبد المعمدانيّين، تقاطع شارعي برود وبيركس،
بمدينة فيلادلفيا، ولاية بنسلفانيا

نقلاً عمّا دوّنته إدنا ماك كيني

إنّني مسرور جدًّا بحضوري في هذه اللّيلة. حقًّا إنّ هذا جمع روحانيّ، وأجد نفحات الملكوت السّماويّ سارية بينكم – وهي الإخلاص لله، والنّيّة الخالصة، والمحبّة الرّوحانيّة. فبشرى لكم!

منذ أن خُلق آدم حتّى يومنا هذا كان في العالم الإنسانيّ سبيلان أحدهما سبيل الطّبيعة أو السّبيل المادّيّ، والآخر سبيل الدّين أو النّهج الرّوحيّ. فسبيل الطّبيعة طريق حيوانيّ لأنّ الحيوان يتحرّك حسب مقتضيات الطّبيعة ويعيش بمقتضى غرائزه ورغباته وله الحرّيّة في إشباع دوافعه وشهواته أيًّا كانت. بيد أنّه أسير للطّبيعة ولا يستطيع أبدًا أن يتجاوز قيد شعرة عن النّهج الّذي رسمته الطّبيعة، وليس له أيّ نصيب من الإحساسات الرّوحانيّة، وهو جاهل بالدّين الإلهيّ، وليس له اطّلاع على الملكوت الإلهيّ، ولا يملك أيّ قوّة عاقلة أو إدراك واعٍ، إنّما هو أسير لحواسه ومحروم ممّا هو خارج عنها. فهو يتصرّف بمقتضى ما تراه عينه وتسمعه أذنه وتستنشقه شامّته وتذوقه ذائقته وتلمسه حاسته اللاّمسة، وهذه الحواس مقبولة وكافية عند الحيوان. إلاّ أنّ ما هو خارج عن مجال الحواس، أي عالم المعقولات الّذي من خلاله يقودنا السّبيل الواعي إلى الملكوت الإلهيّ، أي عالم الإحساسات الرّوحيّة والدّين الإلهيّ – فلا يكون للحيوان أيّ اطّلاع عليها بالمرّة، لأنّه مهما ارتقى في الرّتبة فإنّه يبقى أسيرًا للطّبيعة.

من أغرب الأمور الّتي نشاهدها افتخار المادّيّين في هذا الزّمان بحواسهم الجسمانيّة وبأنّهم أسرى هذه الحواس. فهم يقولون إنّه ليس هناك ما هو أهلٌ للقبول والتّصديق سوى ما هو محسوس أو ملموس. وهم بقولهم هذا يكونون أسرى للطّبيعة ولا اطّلاع لهم على العالم الرّوحانيّ، ولا علم لهم بالملكوت الإلهيّ، ولا خبر لهم بالفيوضات الرّحمانيّة. فإن كان هذا هو الكمال إذًا فالحيوان قد وصل إلى أعظم درجات الكمال. ذلك لأنّه لا يعلم شيئًا عن الملكوت والرّوحانيّات ومعزول عن بواطن العقلانيّة الواعية. والحيوان لا شكّ أنّه يشارك المادّيّين في إنكارهم وجود ما يتعدّى الحواس. فلو أقررنا بأنّ كوننا محدودين بمجال الحسّيّات هو الكمال، يكون الحيوان بغير شكّ أكثر كمالاً من الإنسان، ذلك لأنّه محروم تمامًا مما يتعدّى الحسّيّات، ولا علم له أبدًا بالملكوت الإلهيّ وآثاره، بينما الإنسان قد أودع الله فيه قوّة غير متناهية وبها يتسيّد على عالم الطّبيعة.

لاحظوا كيف أنّ جميع أشكال الخليقة وكائناتها الأخرى هي أسيرة للطّبيعة. فهذه الشّمس، ذلك المركز الهائل لنظامنا الشّمسيّ، وهذه النّجوم والكواكب الضّخمة، وهذه الجبال الشّاهقة، بل وهذه الكرة الأرضيّة نفسها بكلّ ما فيها من ممالك الحياة الأدنى من مرتبة الإنسان، هي جميعها أسيرة للطّبيعة عدا الإنسان الّذي لا يمكن لأيّ مخلوق سواه أن يخرج عن إطاعة قانون الطّبيعة ولو بأقلّ درجة. فهذه الشّمس ببهائها وعظمتها على ما يفصلها عنّا بملايين الأميال تبقى حبيسة مدارها المرسوم داخل المجرّات وأسيرة حكم الطّبيعة الكونيّ. أمّا الإنسان فإنّه حاكم على الطّبيعة. فهو بمقتضى قانون الطّبيعة وحدودها يتعيّن عليه ألاّ يتجاوز سطح الأرض، ولكن لاحظوا كيف يكسر هذا الحكم ويحلّق فوق الجبال بالطّائرات، ويسير على سطح البحار بالبواخر، ويغوص في أعماقها بالغوّاصات. والإنسان يسخّر الطّبيعة؛ فمثلاً يسخّر هذه القوّة الكهربائيّة العاتية ويحبسها داخل زجاجة صغيرة من أجل حاجته ومنفعته، ويتخابر من الشّرق إلى الغرب عبر الأسلاك، وبمقدوره أن يحفظ صوته ويسجّله في الفونوغراف. ورغم أنّه يسكن الأرض فإنّه ينفذ إلى أسرار أفلاك لا يمكن تصوّر بُعدها، ويكشف الحقائق الكامنة بباطن الأرض، ويكشف الكنوز الدّفينة فيها، وينفذ إلى أسرار وغياهب عالم الخليقة، ويكشف النّقاب عن حقائق كان من الواجب طبقًا لنواميس الطّبيعة الأبيّة أن تبقى مكنونة غامضة منيعة. فبفضل قوّة معنويّة مثاليّة يمتلكها، يأتي الإنسان بهذه الحقائق من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود، وهذا مخالف لقانون الطّبيعة.

إذًا اتّضح أنّ الإنسان حاكم على عالم الطّبيعة. فالطّبيعة راكدة جامدة، والإنسان في تطوّر وارتقاء. والطّبيعة لا شعور لها، بينما الإنسان مُنح الشّعور والإحساس. والطّبيعة لا إرادة لها، أمّا الإنسان فيملك إرادة قويّة. والطّبيعة عاجزة عن كشف الأسرار أو الحقائق، بينما الإنسان مؤهّل تمامًا لذلك. والطّبيعة لا علم لها بالعالم الإلهيّ، أمّا الإنسان فهو على اتّصال بفيوضات ذلك العالم. والطّبيعة لا علم لها بالله، بينما الإنسان عارف بالله. والإنسان يكتسب الفضائل الإلهيّة لكنّ الطّبيعة محرومة منها، وبإمكان الإنسان أن يبتعد عن الرّذائل، أمّا الطّبيعة فهي محرومة من أيّة قدرة على كبح جماح غرائزها. من ذلك كلّه يتّضح أنّ الإنسان أشرف وأسمى من المادّة، وأنّ لديه قوّة معنويّة فوق عالم الطّبيعة. فالإنسان لديه شعور وإرادة وذاكرة وعقل وخصال وكمالات ربّانيّة، بينما الطّبيعة محرومة ومسلوبة منها تمامًا. فالإنسان إذًا هو أسمى وأشرف من الطّبيعة بفضل القوّة المثاليّة الملكوتيّة الكامنة المتجلّية فيه.

سبحان الله! كم هو عجيب أن يمتلك الإنسان مثل هذه القوى المثاليّة ونراه يهبط إلى ما هو أدنى ويرضى بما هو أحطّ من مكانته الحقيقيّة. لقد خلق الله في الإنسان روحًا واعية جعلت منه أبدع الكائنات قاطبة، وبنكرانه لهذه الكمالات يهبط بنفسه إلى درك المادّة، ويعدّها سيدّة الوجود وينكر كلّ ما هو خارج عن عالمها. فهل يعدّ هذا كمالاً؟ إنّ هذا برمّته لا يخرج عن كونه أمرًا حيوانيًّا، ذلك لأنّ الحيوان لا يعي أكثر من هذا. فلو أخذنا بهذا المنظور يكون الحيوان في الحقيقة أعظم فيلسوف لأنّه جاهل تمامًا بملكوت الله، وغير حائز على القابليّات الرّوحانيّة ولا علم له بالعالم السّماويّ. وهذا شرح موجز لسبيل الطّبيعة.

أمّا السّبيل الثّاني فهو طريق الدّين ومنهاج الملكوت، وهو طريق يقتضي اكتساب الخصال الحميدة والنّورانيّة السّماويّة والقيام بالأعمال الصّالحة في العالم الإنسانيّ. فطريق الدّيانة هذا هو سبب تقدّم العالم ورقيّه، وهو سبب نورانيّة النّوع الإنسانيّ وتربيته وتهذيب أخلاقه، وهو المغناطيس الّذي يجذب محبّة الله لأنّه يهبنا عرفان الله. وهو سبيل المظاهر الإلهيّة المقدّسة، لأنّهم في الحقيقة أسّ أساس دين الوحدة الإلهيّ. وهو سبيل ثابت لا تحويل فيه ولا تبديل. وهو سبب إصلاح البشريّة واكتساب الفضائل السّماويّة ونورانيّة العالم الإنسانيّ.

لكن وا أسفاه، لقد غرق العالم الإنسانيّ تمامًا في بحر التّقاليد والأوهام رغم أنّ حقيقة الأديان الإلهيّة واحدة لا تتغيّر. فقد حجبت الأوهام تلك الحقيقة الجوهريّة، وأظلم العالم، وخبت نورانيّة الدّين، وصارت تلك الظّلمة سببًا للاختلافات والمشاحنات لأنّ التّقاليد عديدة ومتباينة، فنشب النّزاع بين الأديان، في حين أنّ الدّين الإلهيّ جاء من أجل وحدة بني البشر. والدّين الحقّ هو سبب المحبّة والاتّفاق بين البشر، وعلّة اكتساب الفضائل. ولكنّ النّاس تشبّثوا بالزّيف والتّقليد، وغفلوا عن الحقيقة الجامعة، ولهذا حرموا من نورانيّة الدّيانة وتشبّثوا بالأوهام الّتي ورثوها عن الآباء والأجداد. وبلغ الحال بهم إلى درجة انطمست عندها نورانيّة الحقيقة الإلهيّة وخيّم فيها ظلام التّقاليد والأوهام، وصار كلّ ما هو سبب للحياة علّة للممات، وكلّ ما كان برهانًا للعرفان صار دليلاً للجهل، وكلّ ما هو وسيلة علوّ المعدن الإنسانيّ ورقيّه صار علّة دنوّه. لذا ضاق عالم الدّين وغشته الظّلمة شيئًا فشيئًا، وتوسّع عالم المادّيّات وازدهر، والسّبب هو أنّ أصحاب الدّين قد تمسّكوا بالتّقليد والزّيف، وأهملوا تلك الحقيقة القدسيّة الماثلة في الدّين وتجاهلوها. وحينما تغرب الشّمس تطلع الخفافيش لأنّها طيور اللّيل، وحينما تغرب نورانيّة الدّين يخرج المادّيّون لأنّهم خفافيش الظّلام، وعندما يخفت نور الدّين يكون ذلك أوان نشاطهم؛ فهم ينشدون الظّلمات حينما تَظْلَمّ الدّنيا ويخيّم عليها ركام الغمام.

لقد طلع حضرة بهاء الله من أفق الشّرق كالشّمس المشرقة وأتى لهذا العالم مُظهرًا حقيقة الدّين الإلهيّ ومبدّدًا ظلمة التّقاليد ومرسيًا أساس تعاليم جديدة ومُجدّدًا لحياة العالم.

فأوّل تعاليم حضرة بهاء الله هو تحرّي الحقيقة، وبمقتضاه يتحتّم على الإنسان أن يتحرّى الحقيقة بنفسه، وأن يترك التّقاليد ويتخلّى عن الرّسوم الموروثة. وبما أنّ ملل العالم تتّبع التّقاليد والرّسوم بدل الحقيقة، وحيث إنّ التّقاليد متباينة ومتعدّدة فإنّ اختلاف المعتقدات ولّد النّزاع والقتال. وما دامت هذه التّقاليد باقية فإنّ وحدة العالم الإنسانيّ مستحيلة. إذًا يجب علينا تحرّي الحقيقة حتّى تتبدّد بنورها الغيوم والظّلمات. والحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد والانقسام. وإذا ما قامت جميع الملل على تحرّي الحقيقة فلا شكّ أنّها ستتّحد وتتّفق. وكم من نفوس ومذاهب في إيران قد تحرّت الحقيقة على هدي حضرة بهاء الله وتعاليمه فاتّحدت واتّفقت في نهاية الأمر، والآن تعيش هذه الجماعة في منتهى الألفة والمحبّة في ما بينها وليس بين أفرادها أيّ أثر للشّحناء والبغضاء.

كان اليهود يترقّبون ظهور السّيّد المسيح ويتمنّونه من صميم قلوبهم وأرواحهم، ولكنّهم لمّا كانوا غرقى التّقاليد لم يؤمنوا بيسوع المسيح عند ظهوره. وفي النّهاية قاموا ضدّه وتمادوا بأفعالهم إلى حدّ تعذيبه وإراقة دمه. فلو تحرّوا الحقيقة لآمنوا بمسيحهم الموعود. فهذه التّقاليد العمياء والتّعصّبات الموروثة كانت دومًا هي سبب المرارة والكراهية، فملأت العالم ظلمانيّة وشراسة. علينا إذًا أن نتحرّى الحقيقة الجوهريّة حتّى ننجو من هذه الحال ونبلغ سبيل الملكوت بوجوه نوراء.

ثاني تعاليم حضرة بهاء الله هو وحدة العالم الإنسانيّ؛ فجميع البشر عباد لله وجميعهم أعضاء أسرة إنسانيّة واحدة. فقد خلق الله الجميع، والكلّ أبناؤه الّذين ينشئهم ويربّيهم ويرزقهم جميعًا. وهو رؤوف بالكلّ، فلماذا نكون ظالمين قساة؟ هذه هي السّياسة الإلهيّة الّتي سطعت أنوارها على جميع الخلق. فشمسه تشرق على الجميع بغير حساب، ويمطر سحاب مكرمته على الجميع بغير تفرقة أو محاباة، ويهبّ نسيم عنايته على الأرض كلّها. إذًا يتّضح أنّ عالم الإنسان قاطبة في ظلّ رحمة الله وصونه. وغاية ما في الأمر أنّ بعضهم ناقص يجب إكماله، وجاهل تجب تربيته، ومريض تجب معالجته، ونيام يجب إيقاظهم. كما لا يجمُل بنا أن نبكت الطّفل أو ننهره لمجرّد كونه غير بالغ؛ بل يجب تربيته بكلّ صبر وأناة، ويجب أن لا نهمل المرضى بسبب اعتلالهم؛ وإنّما علينا إظهار الرّحمة والشّفقة بهم وإبراؤهم. فبالاختصار يجب أن تزول من بين أهل الأديان تلك الأوضاع القديمة المتّصفة بالعداء والتّعصّب والكراهية، وأن تتأسّس فيما بينهم أحوال جديدة من المحبّة والوفاق والأخوّة الرّوحانيّة.

ثالث تعاليم حضرة بهاء الله هو أنّ الدّين يجب أن يكون سبب الألفة وأن يكون سبب الاتّحاد وسبب التّقرّب إلى الله. فإن أصبح الدّين سبب العداوة والشّحناء فمن الواضح أنّ غيابه أفضل من وجوده وعدم التّديّن أحسن من هذا التّديّن. فالمشيّة الإلهيّة تقضي بأن يكون الدّين سبب المحبّة والألفة، ورابطة تجمع عموم البشر وتوحّدهم، لأنّ الدّين رسالة سلام ومودّة للإنسان من ربّه.

رابع تعاليم حضرة بهاء الله هو اتّفاق الدّين والعلم. فالله سبحانه وتعالى قد وهب الإنسان عقلاً وإدراكًا، وبهما يتعيّن عليه أن يحقّق في حقائق المسائل والفرضيّات. فإن كانت العقائد والآراء الدّينيّة مخالفة لموازين العلم تغدو مجرّد خرافات وأوهام. لأنّ ما يناقض العلم هو الجهل، وما يولّده الجهل هو الخرافة. لهذا لا بدّ أن يكون هناك توافق بين صحيح الدّين وصحيح العلم. فلو كانت هناك مسألة تخالف العقل فلن يطمئن إليها الإنسان أو يؤمن بها، ولن ينجم عن ذلك إلاّ الشّكّ والتّردّد.

من تعاليم حضرة بهاء الله أيضًا أنّ التّعصّب – دينيًّا كان أم عرقيًّا أو وطنيًّا أو سياسيًّا – فهو هادم لبنيان الرّقيّ الإنسانيّ. التّعصّب من أيّ نوع هو مدمّر لسعادة الإنسان وخيره. ما لم تُمحَ التّعصّبات لا يمكن أن يترقّى العالم الإنسانيّ؛ ومع ذلك نشاهد التّحزّبات العرقيّة والمذهبيّة والقوميّة في كلّ مكان. لقد مرّت آلاف السّنين والعالم الإنسانيّ لم يذق فيها طعم الرّاحة والهناء من جرّاء هذه التّعصّبات. ما دام التّعصّب باقيًا فالحرب باقية والبغضاء باقية والعداوة باقية. فإن أردنا السّلام وجب أن نزيل هذه العقبة، وإلاّ فمن المستحيل أن نجد الرّاحة والاطمئنان.

سادس مبدأ من مبادئ الهداية والإرشاد الّتي جاء بها حضرة بهاء الله هو تعديل أسباب المعيشة. أي أنّه أتى بضوابط تضمن رفاهية عموم شعوب البشر. فكما أنّ الغنيّ ينعم برغد العيش محاطًا بالرّفاهية والكماليّات، كذلك يجب أن يكون للفقير مسكن وأن يتوفّر له القوت ووسائل الرّاحة الّتي تفي بحاجته. فأمر تعديل المعيشة هذا مهمّ جدًّا لأنّه يضمن استقرار عالم الإنسان، وبغيره لا يمكن أن تتحقّق السّعادة والرّفاهية.

سابع تعاليم حضرة بهاء الله هو وجوب إقرار وتبنّي معيار يكفل المساواة في حقوق الإنسان. فجميع البشر عند الله سواء؛ فلا امتياز ولا أفضليّة لإنسان على آخر في كنف عدل الله وإنصافه.

ثامن تعاليم حضرة بهاء الله هو أنّ التّعليم ضرورة إلزاميّة، وأنّ كافّة الأصول والقوانين التّربويّة والتّعليميّة يجب أن تكون منسجمة ومتوافقة في جميع أنحاء العالم؛ أي أنّه يجب وضع منهاج تربويّ تعليميّ عالميّ تكون فيه أسس الأخلاق واحدة.

تاسع تعاليم حضرة بهاء الله هو تبنّي لغة عالميّة واحدة تُدرّس في جميع المدارس والمعاهد. فتقوم لجنة تعيّنها الهيئات الأكاديميّة الدّوليّة باختيار لغة مناسبة لتكون واسطة التّخاطب العالميّ. ويتحتّم على الجميع أن يتعلّمها لأنّها من أعظم العوامل المؤدّية إلى اتّحاد بني البشر.

عاشر تعاليم حضرة بهاء الله يقضي بالتّشديد على مساواة الرّجال والنّساء وتحقيقها. فليس وجود الجنسيْن مقتصرًا على البشر، بل هناك في عالميّ النّبات والحيوان ذكور وإناث ولكن دون امتياز أو تفضيل. فهناك المساواة التّامّة بين الذّكور والإناث في عالم النّبات. وكذلك الأمر في عالم الحيوان، والجميع في ظلّ صون وحماية إله واحد. فهل يجوز للإنسان، الّذي هو أشرف المخلوقات، أن يتمسّك ويصرّ على تمييز كهذا؟ إنّ عدم تقدّم المرأة وتأهيلها راجع إلى افتقارها للتّعليم وتكافؤ الفرص. فإذا ما حصلت على هذه المساواة، فلا شكّ أنّها ستصبح ندّا للرّجل في القدرة والكفاءة. وعندما يتعاون النّساء والرّجال ويتقدّمون معًا على قدم المساواة، عندئذ تتحقّق سعادة العالم الإنسانيّ، لأنّ كليهما مكمّل ومعين للآخر.

إنّ العالم الإنسانيّ ليس بمقدوره أن يترقّى بمحض قواه المادّيّة وإنجازاته العقليّة فحسب، بل يحتاج إلى نفثات الرّوح القدس بشكل جوهريّ. ويجب أن يحظى الإنسان بتأييد الأب السّماويّ حتّى يصل إلى النّضج. فجسم الإنسان بحاجة إلى القوى المادّيّة والعقليّة، إلاّ أنّ روحه تتطلّب نفثات الرّوح القدس وتأييدها، ومن دونها يبقى العالم الإنسانيّ مظلمًا كما تفضّل السّيّد المسيح: دع الموتى يدفنون موتاهم، وكما قال أيضًا: المولود من الجسد جسد هو والمولود من الرّوح هو روح. من بيان السّيّد المسيح هذا يتّضح إذًا أنّ الرّوح البشريّة ما لم تقوّيها وتحصّنها الرّوح القدس تعتبر ميّتة وتبقى محتاجة لأن تحييها تلك القوّة الإلهيّة. ومن دون ذلك لا يستطيع الإنسان أن يبلغ تقدّمًا كاملاً شاملاً حتّى لو بلغ درجة عالية من الرّقيّ المادّيّ.

 

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في نيويورك وبروكلين (1) 11 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة في الاجتماع المفتوح للّجنة البهائيّة،
بمنزل السيّد إدوارد كيني وحرمه، 780 طريق وست إند، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

أملي أن تكون اجتماعات المحفل البهائيّ في نيويورك كلقاءات الملأ الأعلى. فعندما تجتمعون، عليكم أن تعكسوا أنوار ملكوت السّماوات. ولتكن قلوبكم كالمرايا الّتي يسطع منها إشراق شمس الحقيقة. وليكن كلّ صدر كمحطّة للبرق – حيث يكون أحد قطبيّ السّلك متّصلاً بالرّوح والقطب الآخر مثبّتًا في الملأ الأعلى، كي يهبط الإلهام عليكم من الملكوت الأبهى ويجري التّشاور في مسائل الحقيقة. عندئذ تتطابق الآراء والحقائق، ويكون هناك تقدّم يومًا بعد يوم، وتزداد اللّقاءات إشراقًا وروحانيّة. ونيل هذا الأمر منوط بالوحدة والاتّفاق. وكلّما ازداد كمال المحبّة والاتّفاق كلّما ازداد نزول تأييدات الجمال المبارك وعونه. فليكن هذا اجتماعًا ربّانيًّا، ولتتنزّل عليكم المواهب اللاّمتناهية. فاجهدوا جميعًا بقلوبكم بل وبما أوتيتم من قوّة الحياة حتّى تزداد الوحدة والمحبّة دومًا. وفي مداولاتكم سدّدوا أنظاركم إلى الحقيقة دونما تشبّثٍ بالآراء. فلا يصرّ أحدكم على رأيه هو أو يتشبّث به، وإنّما يجب على كلّ واحد منكم أن يتحرّى الحقيقة بغاية المحبّة والألفة. وعليكم أن تتشاوروا في كلّ الأمور، وعندما يعرض أحدكم وجهة نظر وتجدونها عين الحقيقة، فعلى الكلّ أن يقبلها. عندئذ تتقوّى وحدتكم الرّوحانيّة، وتتعاظم استنارة كلّ واحد منكم، ويزداد سروركم وحبوركم، وتتقرّبون أكثر فأكثر إلى ملكوت الله.

(2) 11 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

لقد رجعنا للتّوّ من زيارة لفيلادلفيا، قضينا فيها ليلتين، وتحدّثنا هناك في كنيستين كبيرتين، ولم يكن الطّقس طيّبًا، فأثّر ذلك في صحّتي. والقصد من هذا التّجوال هنا وهناك واحد – وهو نشر نور الحقيقة في هذا العالم الظّلمانيّ. والسّفر صعب بالنّظر إلى سنّي. وأحيانًا تكون مصاعبه شديدة، ولكنّني، من فرط محبّتي لأحبّاء الله ولرغبتي في أن أفدي نفسي في سبيل الله، أتحمّلها بكلّ سرور. والغاية هو حصول المراد – ألا وهو المحبّة والاتّحاد بين العباد. لأنّ العالم قد أظلم من الشّقاق والأنانيّة، والقلوب قد غفلت، والأرواح حرمت من الله ومواهبه السّماويّة. وصار الإنسان غريقًا في شؤون هذا العالم. وباتت مقاصده وأغراضه ومنجزاته زائلة، والحال إنّ الله يريد للإنسان إنجازات باقية. ولم يبقَ في قلب الإنسان ذكرٌ لله. وتخلّى عن نصيبه وميراثه من الرّوحانيّة الرّبّانيّة. فكأنّه يركب عربة يجرّها جوادا الشّهوة والهوى، فانتزع هذان الجوادان اللّجام من يده واندفعا جامحيْن يركضان في البرّيّة بجنون. وهذا هو سبب الانحطاط في عالم البشر، وعلّـة التّردّي والانهماك في الملذّات والشّهوات الحيوانيّة. فبدلاً من التّرقّي الرّبّانيّ نجد عبوديّةً للحسّيّات وتدنِّيًا في اكتساب فضائل النّفس الملكوتيّة. وبالولاء لعالم الجسد الفاني تنحطّ الأحاسيس الإنسانيّة إلى المستوى الحيوانيّ.

فما هي النّزعات الحيوانيّة؟ هي أن يأكل الحيوان ويشرب ويرتع ويهجع. وكلّ أفكار الحيوانات وعقولها محصورة في ذلك. فهم أسارى قيود هذه الرّغبات. والإنسان يصبح حبيسًا وعبدًا لها إذا لم تعلُ غاية آماله عن منفعته في عالم الحسّيّات هذا. انظروا كم هو عسير على الإنسان نوال الملذّات والسّعادة في هذا العالم الفاني، وكم هو يسير على الحيوان بالمقارنة. انظروا إلى الحقول والزّهور والسّهول والجداول والغابات والجبال. فالمواشي وطيور السّماء والأسماك لا تتعب ولا تخضع لمشاق، ولا تبذر ولا تكترث بالحصاد، ولا تقلق على تجارة أو سياسة، أي لا يعتريها قلق أو حيرة من أيّ نوع كان. فكلّ الحقول والحشائش ومروج الفواكه والحبوب، وكلّ منحدرات الجبال وجداول الماء الرّقراق، هي ملك لها. وهي لا تكدح من أجل عيشها وهنائها لأنّ كلّ شيء متوفّر وقد وضع في متناولها. فإذا ما اقتصرت حياة الإنسان على هذه النّظرة الجسمانيّة المادّيّة، فحياة الحيوان أفضل وأيسر وأكثر راحة وهناء بمائة مرّة. والحيوان أكثر عزّةً وهدوءًا وثقةً إذ إنّ كلّ ساعة عنده خالية من الهمّ والغمّ، أمّا الإنسان فهو يركض بكلّ قلق وشراهة من الصّباح إلى المساء، يمخر في البحار، ويغوص تحتها بالغوّاصات، ويحلّق عاليًا بالطّائرات، وينقّب في أسفل طبقات الأرض للحصول على قوته – وكلّ ذلك بغاية العسر والقلق والاضطراب. فلذا يكون الحيوان من هذا المنظور أكثر عزّةً وهدوءًا وتملّكًا وثقة. انظروا إلى الطّيور في الغابات والأدغال: كيف تبني أعشاشها عاليًا على الأيك المتمايل، وتصنعها بغاية المهارة والجمال – فهي تتأرجح وتتمرجح في نسيم الصّباح، تشرب الماء الرّائق السّائغ، وتتمتع بأجمل المناظر وهي تحلّق هنا وهناك فوق الرّؤوس، تغرّد بكلّ سرور وحبور، وكلّ هذا بلا تعب، ودون ما قلق أو عناء وهاجس. فإذا ما انحصرت حياة الإنسان في العالم العنصريّ الجسمانيّ للمتعة، لوجدنا أنّ القُبّرة أعزّ وأروع من كلّ البشر قاطبة، لأنّ رزقها مهيّأ وأحوالها تامّة وإنجازها كامل وموافق للطّبيعة.

بيد أنّ حياة الإنسان ليست محدودة، إذ إنّها حياة ربّانيّة سرمديّة، وليست معيشة عابرة حسّيّة. فلقد قـُدّر للإنسان وتهيّأ له وجودٌ وعيشٌ روحانيّ في خطّة الخلق الرّبّانيّ. والمقصود من حياته هو أن تكون حياة متعة روحانيّة لا ينالها الحيوان أبدًا. وهذه المتعة منوطة باكتساب الفضائل السّماويّة. كما أنّ رفعة الإنسان هي في بلوغه عرفان الله، وهناؤه هو في نيل العطايا الرّحمانيّة الّتي تتنزّل عليه من فيض الفضل الإلهيّ. وسعادة الإنسان هي في نفحات محبّة الله. وهذا هو أسمى ذروة الفوز في عالم الإنسان. فكم هو أفضل بكثير من شؤون الحيوان وأحوال مملكته الّتي لا رجاء فيها.

انظروا إذًا، ما أحطّ الطّبيعة الّتي تظهر في الإنسان إذا تدنّى إلى مصافّ الحيوان، على الرّغم من النّعم الّتي أسبغها الله عليه، وانشغل كلّيّة بالاحتياجات المادّيّة وتعلّق بهذا العالم الفاني، ظنًّا منه أنّ أقصى سعادته تكمن في كسب الثّروة في هذه الحياة الدّنيا. فيا لها من طبيعة عشوائيّة ومنحطّة. لقد خلق الله الإنسان لكي يصير ورقاء ملكوتيّة، وشمعة سماويّة، ويكون له نصيب من الحياة الأبديّة. وخلقه حتّى يحيى من نفحات الرّوح القدس ويصير نور العالم. فما أشدّ انحطاط الرّوح الّتي تجد متعتها في هذه الظّلمات، منشغلة بذاتها، أسيرة النّفس والهوى، تتمرّغ في طين العالم المادّيّ! وما أشدّ انحطاط مثل هذه الطّبيعة وما أجهلها وأعماها! وما أبهى مقام الإنسان الّذي نال نصيبًا من المنّ السّماويّ وشيّد صرح مقامه الأبديّ في عالم الملكوت!

لقد جاءت المظاهر الإلهيّة إلى هذا العالم من أجل تحرير الإنسان وعتقه من سلاسل عالم الطّبيعة وأغلالها. وعلى الرّغم من أنّهم كانوا يمشون على التّراب، إلاّ أنّهم كانوا يعيشون في الملكوت. ولم يكترثوا بالرّزق المادّيّ أو بمباهج هذا العالم. وبينما كانت أجسامهم عرضة لبلاء لا يمكن تصوّره، إلاّ أنّ أرواحهم كانت دائمًا تحلّق في أسمى ممالك النّشوة والحبور. وكان الغرض من مجيئهم وتعاليمهم ومعاناتهم هو عتق الإنسان من نفسه. فهل لنا إذًا أن نقتفي خطواتهم ونهرب من هذا القفص الجسمانيّ، أم نظلّ أسارى تَحَكُّمه واستبداده؟ وهل يجمل بنا أن نلهث وراء سراب سعادة زائلة وهميّة، أم نتوجّه إلى سدرة الحياة وننعم بثمارها الأبديّة؟

لقد جئت إلى هذه الدّيار في أواخر سنيِّ عمري متحمّلاً صعاب اعتلال الصّحّة والطّقس، وذلك من فرط محبّتي لأحبّاء الله. وأملي أن يجدوا العون كي يصيروا خادمين للملكوت السّماويّ وأرقاءً لخدمة المشيئة الرّبّانيّة. فهذه العبوديّة هي نفس الحرّيّة، وهذه التّضحية هي المجد والشّرف، وهذا العمل هو عين الثّواب، وهذا الاحتياج هو عين الموهبة. فالخدمة النّاشئة عن محبّة الجنس البشريّ هي اتّحاد مع الله. ومن يقوم على الخدمة يكون قد دخل بالفعل في الملكوت وتهيّأ له الجلوس عن يمين ربّه.

(3) 11 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إمّا ميليك

على الإنسان أن يكون عالي الهمّة، وأن يسعى ليكون سماويًّا وروحانيًّا كي يتلمّس الطّريق إلى العتبة الإلهيّة ويصبح مقبولاً عند الله. أن يكون المرء قريبًا من الله هو المجد الأبديّ، وأن يكون مفعمًا بفضائل العالم الإنسانيّ هي السّلطنة الأبديّة. وأن يكون منزّهًا ومقدّسًا تمامًا عن كلّ شائبة وغبرة هي البركة اللاّنهائيّة.

انظروا عالم الإنسان، ولاحظوا كم من أمم جاءت ثمّ زالت. وكانت تلك الأمم من كلّ الأفكار والمآرب. وبعضها لم تكن سوى أسيرة للنّفس والهوى، غارقة في شهوات الغريزة الدّانية. وقد حازت المال والمتاع والجاه. فماذا كان المآل؟ الزّوال الصّرف والنّسيان البحت. فكّروا في هذا، والتفتوا إليه بعين الاعتبار، فلم يبقَ لهم من أثر ولا ثمر ولا حاصل ولا طائل، فذهبت ريحهم – وصاروا هباءً منسيًّا.

كما أنّ هناك نفوسًا قد ظهرت في هذا العالم، نفوسًا طاهرة خالصة، حصرت كلّ اهتمامها في الله، راجية الثّواب الإلهيّ، متقرّبة من العتبة الرّبّانيّة، ونالت رضاء الله. وكانت تلك النّفوس أنوارًا للهدى ونجومًا للملأ الأعلى. فتدبّروا أمر تلك النّفوس السّاطعة كالنّجوم في أفق القدس إلى أبد الآبدين.

ليس القصد من هذا أن يتخلّى المرء عن الكدح وطلب العيش، بل على النّقيض من ذلك. فإنّ الرّهبنة والرّياضات الشّاقّة غير مسموح بهما في أمر حضرة بهاء الله. إنّ نور الهداية ساطع لامع في هذا الأمر العظيم. بل إنّ حضرة بهاء الله صرّح بأنّ الاشتغال والعمل هما عين العبادة. فعلى جميع النّفوس أن تكسب بعرق الجبين والكدّ، ساعية في الوقت نفسه لتخفيف عبء الآخرين، مجتهدة لأن تكون مصدر راحة للنّاس، وميسِّرة لهم أسباب العيش. وهذا في حدّ ذاته عبادة لله. وقد شجّع حضرة بهاء الله بذلك على العمل وحثّ على الخدمة. ولكن لا يجمل بالقلب أن يكون متعلقًا بكلّيّته بهذه الأمور، أو أن تنشغل الرّوح بها تمام الانشغال. وإذا ما كان البال مشغولاً، فعلى القلب أن يكون منجذبًا إلى ملكوت الله، حتّى يتسنّى له نيل الفضائل الإنسانيّة من كلّ صوب وحدب.

لقد نبذنا سبيل الله، وتركنا الاهتمام بالملكوت الرّبّانيّ، ولم نقطع القلب عن التّعلّقات الدّنيويّة، بل تلوّثنا بخصال غير ممدوحة لدى الله، واستغرقنا تمامًا في الشّؤون والنّزعات المادّيّة بحيث لم يكن لنا نصيب من الفضائل الإنسانيّة.

يلزمنا قليل من التّدبّر وقليل من الموعظة حتّى ندرك الهدف من خلقنا. فما أعظم الاستعداد السّماويّ الّذي أودعه الله في نفوسنا! وما أجلَّ القدرة الّتي وهبها الله لأرواحنا! فقد وُهبنا القدرة على اكتشاف حقائق الأشياء. وما علينا إلاّ أن ننكر ذواتنا، ونملك أرواحًا طاهرة، ونوايا خالصة، وأن نجهد قلبًا وروحًا ما دُمنا في هذا العالم حتّى نبلغ مجدًا سرمديًّا.

لقد جئت من أجل تقديم الموعظة وإعلان تعاليم حضرة بهاء الله. وأملي أن تؤثّر مشيئته وهدايته في أرواحكم ونفوسكم وأفئدتكم، فتجعلها طاهرة مقدّسة منزّهة منيرة، وتجعل منكم سرج الاستنارة الملكوتيّة للعالم، فهذا هو رجائي، وهذا هو أملي بعون الله.

(4) 12 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دونته ماري ماكنت

أرحّب بكم جميعًا غاية التّرحيب. هل عرفتم كم عليكم أن تشكروا الله على نعمائه؟ إنّكم لو شكرتموه ألف مرّة مع كلّ نَفَس تتنفّسونه لا يكون هذا كافيًا، ذلك لأنّ الله خلقكم وسوّاكم، وحفظكم من كلّ بليّة، وهيّأ لكم كلّ نعمة وموهبة. انظروا كم هو أب حنون. فهو يسبغ نعمته قبل أن تطلبوها. فنحن لم نكن في عالم الوجود، ولكن بمجرّد ولادتنا وجدنا كلّ شيء مهيئًا لحاجتنا وراحتنا دون أن نطلبه. وأعطانا أبًا شفوقًا وأمًّا حنونة، وقدّر لنا ينبوعَيْن من حليب صافٍ، وهواءً نقيًّا وماءً عذبًا ونسيمًا عليلاً وشمسًا تسطع فوق رؤوسنا. وبالاختصار، لقد أمدّنا الله بكلّ احتياجاتنا المعيشيّة على الرّغم من أنّنا لم نطلب أيًّا من هذه النّعم البالغة. وهيّأ لنا بمحض الرّحمة والفضل هذه المائدة الكبرى. وهي رحمة تسبق الرّجاء. وهناك رحمة أخرى تتأتّى بعد السّؤال والابتهال. أمّا هو فقد وهبنا كلتا الرّحمتين – الرّحمة الّتي تسبق الرّجاء وتلك الّتي تتأتّى بعد الابتهال. ولقد أوجدنا الله في هذا القرن المنير، وهو قرن تاقت إليه وانتظرته كلّ النّفوس القدسيّة في القرون الأولى. فهو قرن مبارك، وهو يوم مبارك. لقد اتّفق المؤرّخون على أنّ هذا القرن يعادل مائة قرن ممّا سبقه. وهذا صحيح من كلّ النّواحي. فهذا هو قرن العلوم والاختراعات والاكتشافات والقوانين الشّاملة. وهذا هو قرن كشف الأسرار الإلهيّة. وهذا هو قرن إشراق شمس الحقيقة. فلتتقدّموا بالشّكر والتّسبيح لله أنّكم ولدتم في هذا العصر. وفضلاً عن هذا فقد أصغيتم لنداء حضرة بهاء الله وتعطّرت مشامّكم بنفحات الفردوس الأبهى ونلتم لُمَع النّور من أفق الشّرق. كنتم نيامًا فاستيقظتم وانتبهت مسامعكم واستنارت قلوبكم ونلتم محبّة الله وبَلَغتم عرفان الله. هذه هي أعظم المواهب الإلهيّة، وهذه هي نفثة الرّوح القدس، وهذا يشمل الإيمان والإيقان. كما أنّ الحياة الأبديّة هذه هي الولادة الثّانية، وهي التّعمّد من الرّوح القدس. ولقد قدّر الله هذا المقام لكم أجمعين. وأعدّ لكم هذا. فعليكم أن تعرفوا قدر هذه العطيّة، وأن تصرفوا أوقاتكم في ذكر الحقّ وحمده. وعليكم أن تحيوا بغاية السّعادة. وإذا ما صادفتكم متاعب أو تقلّبات في الحياة، أو حدث أن اكتأبت قلوبكم بسبب الصّحّة أو الرّزق أو العمل، فلا تجعلوا هذه الأشياء تؤثّر فيكم. إذ لا يصحّ أن تكون علّة للحزن، لأنّ حضرة بهاء الله جاءكم بالسّعادة الرّبّانيّة، وأعدّ لكم مائدة سماويّة، وقدّر لكم عطاءً أبديًّا، وأسبغ عليكم مجدًا سرمديًّا. فلا بُدّ أن تجعلكم هذه البشارات تحلّقون في فضاء السّرور إلى أبد الآبدين. واشكروا الله في كلّ حين حتّى تحيطكم التّأييدات الإلهيّة أجمعين.

(5) 15 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

لقد جعلتكم تنتظرون وقتًا، ولكنّني كنت متعبًا فخلدت إلى النّوم. وفي منامي كنت أتحدّث معكم وكأنّني أتكلّم بأعلى صوتي، فاستيقظت على أثر صوتي، وأفقت على كلمة كانت تتردّد على شفتيّ، وهي كلمة الامتياز. ولهذا فسأحدّثكم هذا الصّباح عن الامتياز.

عندما ننظر في عالم الوجود ندرك أنّ كافّة الأشياء المادّيّة حائزة على رابطة مشتركة، بيد أنّ هناك، من جهة أخرى، نقاط تمايز معينّة فيما بينها. فمثلاً لدى كلّ الأشياء التّرابيّة روابط جسميّة مشتركة. فالجمادات والنّباتات والحيوانات لديها أجسام عنصريّة مشتركة فيما بينها. وبنفس الكيفيّة لها مكان في رتبة الخليقة. وهذه هي الرّابطة المشتركة أو نقطة التّماس فيما بينها. وجميعها تمرّ بعمليّة تركيب وتحليل؛ وهذا هو ناموس الطّبيعة الّذي يخضع له الكلّ. وهو ناموس حاكم على سائر الخليقة، وهو بمثابة همزة وصل بين المخلوقات. بيد أنّ هناك في الوقت نفسه ثمّة خصائص معيّنة تتمايز بها تلك الأشياء عن بعضها البعض. فمثلاً هناك نقاط تمايز واضحة جليّة بين الجماد والنّبات، والنّبات والحيوان، والحيوان والإنسان. كما أنّ هناك أوجه تمايز بين أنواع كلّ مملكة وسلالاتها. فعندما نتفحّص مملكة الجماد، لا نشاهد نقاط تشابه بين الأشياء وحسب، وإنّما نرى أيضًا نقاط تمايز واختلاف. فبعضها أجسام ثابتة، وبعضها قاسٍ وجامد، وبعضها لديه خاصيّة التّمدّد والتّقلّص، وبعضها سائل، وبعضها غازيّ، ولبعضها ثِقَل، أمّا بعضها الآخر مثل النّار والكهرباء فلا ثقل له. فهناك إذًا نقاط تمايز عديدة بين هذه الأنواع المختلفة من العناصر.

كما أنّنا نلاحظ تمايزًا في مملكة النّبات بين مختلف أنواعها وسلالاتها. فلكلّ منها شكله ولونه ورائحته. ويسري هذا النّاموس أيضًا على مملكة الحيوان، إذ يلاحظ فيها العديد من أوجه التّمايز في الشّكل واللّون والوظيفة. ونفس الشّيء موجود في مملكة الإنسان، فمن حيث اللّون هناك البِيض والسّود وهناك الصّفر والحُمر. أمّا من حيث الملامح فهناك فرق وتمايز شاسع بين مختلف الأعراق. فللآسيويّين والإفريقيّين والأمريكيّين ملامح مختلفة، وأهل الشّمال عن أهل الجنوب مختلفون تمامًا في الشّكل والملامح. كما أنّه من النّاحية الاقتصاديّة هناك قدر كبير من التّفاوت في الحالة المعيشيّة. فالبعض فقراء وآخرون أغنياء، والبعض حكماء، وآخرون جهلاء، والبعض صبورون وهادئون، وآخرون قليلو الصّبر وقلقون، والبعض ميّالون إلى العدل والإنصاف، وغيرهم جانح إلى الظّلم والاعتساف، والبعض وُدَعاء وآخرون متعجرفون. فبالاختصار هناك نقاط تمايز كثيرة بين البشر.

أنا أريد لكم الامتياز. فالبهائيّ يجب أن يكون متميِّزًا عن سائر النّاس. ولكنّ هذا التّميُّز يجب ألاّ يكون معتمدًا على المال أو الجاه – أي أن يكون البهائيّون أثرياء أكثر من باقي النّاس. فأنا لا أريد لكم تميُّزًا ماليًّا، وما أرجوه لكم هو تميُّزٌ غير عاديّ، فهو ليس تميُّزًا علميًّا أو تجاريًّا أو صناعيًّا. فما أريده لكم هو التّميُّز الرّوحانيّ، بمعنى أنّ عليكم أن تشتهروا وتمتازوا في الأخلاق وأن تتميّزوا عن سائر النّاس في محبّة الله. عليكم أن تكونوا ممتازين بحبّكم للإنسانيّة، وبالاتّحاد والوفاق، وبالمحبّة والإنصاف. وبالاختصار عليكم أن تكونوا ممتازين في كافّة فضائل العالم الإنسانيّ – أي ممتازين بالوفاء والصّفاء، بالإنصاف والإخلاص، بالثّبات والاستقامة، بالأعمال الخيريّة وخدمة عالم البشر، بالمحبّة لكلّ إنسان، بالاتّحاد والوفاق مع كافّة النّاس، وبإزالة التّعصّبات وترويج السّلام العالميّ. وفي النّهاية يجب أن تكونوا ممتازين بالاستنارة الملكوتيّة، وبنيل الفضائل الرّبّانيّة. وهذا هو الامتياز الّذي أرجوه لكم. ويجب أن يكون هذا هو نقطة التّميّز لديكم.

(6) 16 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بكنيسة الموحّدين الرّابعة
طريق بيفيرلي، ضاحية فلاتبوش، حيّ بروكلين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

هذه كنيسة الموحّدين، وبلسان العرب يجمل بنا أن نُسمّي هذا اليوم يوم الاتّحاد.[1] ولهذا أرى مناسبًا أن أحدّثكم عن الاتّحاد.

تُرى ما هو الاتّحاد الحقيقيّ؟ عندما نتأمّل عالم الإنسان نجد فيه مختلف التّعبيرات الجماعيّة عن الوحدة الماثلة فيه. فعلى سبيل المثال، يتميّز الإنسان عن الحيوان برتبته أو مملكته. وهذا التّميّز الشّامل يسري على كلّ السّلالة الآدميّة ويشكّل عائلة واحدة عظمى أو ما يمكن أن نسمّيه بالأسرة الإنسانيّة، الّتي يمكن اعتبارها الوحدة الأساسيّة أو العضويّة للجنس البشريّ. وعلاوة على ذلك هناك تمايز بين مختلف سلالات الجنس البشريّ بحسب الأعراق، فكلّ سلالة منها تشكّل وحدة عرقيّة قائمة بذاتها. وهناك أيضًا وحدة اللّغة بين أولئك الّذين يستخدمون نفس اللّغة كوسيلة للتّخاطب؛ وهناك كذلك الوحدة القوميّة حيثما تعيش شعوب مختلفة تحت شكل واحد من أشكال الحكم مثل القوميّة الفرنسيّة والألمانيّة والبريطانيّة، وما إلى ذلك. وكذلك الوحدة السّياسيّة الّتي تحمي الحقوق المدنيّة لأحزاب أو فئات الحكومة الواحدة. بيد أنّ كافّة ضروب الوحدة هذه وهميّة ولا أساس لها حقيقيًّا، ذلك لأنّه لا ينشأ عنها أيّة نتيجة حقيقيّة. فالغرض من الوحدة الحقيقيّة هو الحصول على نتائج حقيقيّة ربّانيّة. فبينما لا يتأتّى من صنوف الوحدة المحدودة الّتي أشرنا إليها سوى نتائج محدودة، تأتي الوحدة التّامّة بنتيجة غير محدودة. فإذا نظرنا مثلاً إلى النّتائج الحاصلة عن الوحدتين العرقيّة أو القوميّة، وهما وحدتان محدودتان، نجدها في أفضل الأحوال نتائجَ محدودة. شأنهما في ذلك شأن الأسرة الّتي تعيش منعزلة بمفردها، فلا يأتينا منها أيّ نتائج لامحدودة أو عموميّة.

أمّا الوحدة المحقِّقة للنّتائج اللاّمحدودة فهي في المقام الأوّل وحدة للجنس البشريّ تعترف بأنّ الجميع مستظلّون بالظّلّ الظّليل لجلال ذي الجلال، وتقرّ بأنّ الجميع عباد لله الواحد؛ حيث إنّ الجميع يتنسّمون من هواء واحد، ويعيشون على أديم واحد، ويسعون تحت سماء واحدة، ويستشرقون من شمس واحدة، ويحتمون بحمى الله الواحد. وهذه هي الوحدة العظمى، ونتائجها دائمة إذا ما التزمت بها البشريّة. بيد أنّ الإنسان طالما أخلّ بهذه الوحدة حتّى يومنا هذا، متمسّكًا بأنواع الوحدة المحدودة كالوحدة المذهبيّة أو العرقيّة أو الوطنيّة أو وحدة المنافع الخاصّة. ولهذا لم يتأتَّ عن أيّ منها أيّ نتائج عظيمة. ومع ذلك، فمن المؤكّد أنّ نور الله ونعمه شاملة، وأنّ العقول قد ترقّت والأذهان تفتّحت، والعلوم والفنون انتشرت، وأنّ هناك قابليّة لإعلان وحدة البشر الحقيقيّة المطلقة وترويجها، وهي الوحدة الّتي ستثمر نتائج مذهلة. فهي الّتي ستوفِّق ما بين الأديان، وتجعل الأمم المتحاربة متحابّة، وتجعل الملوك الأعداء أصدقاء، وتجلب السّلام والسّعادة لعالم الإنسان. وهي الوحدة الّتي ستربط الشّرق بالغرب، وتزيل أسباب الحرب إلى الأبد، وترفع راية الصّلح الأعظم. أمّا تلك الصّنوف المختلفة من الوحدة المحدودة هذه فما هي إذًا إلاّ بوادرُ تلك الوحدة العظمى الّتي سوف تجعل الأسرة الإنسانيّة كلّها أسرة واحدة بفضل إيجادها الانجذابات الوجدانيّة في نفوس البشر.

هناك وحدة أخرى هي الوحدة الرّوحانيّة المنبعثة من نفثات الرّوح القدس. وهي وحدة أعظم من وحدة الجنس البشريّ. ذلك لأنّ الاتّحاد أو التّعاضد البشريّ يمكن تشبيهه بالجسد، في حين أنّ الوحدة المنبعثة من نفثات الرّوح القدس هي الرّوح الّتي تُحيي ذلك الجسد. هذه هي الوحدة المثاليّة. فهي تخلق حالة في البشر تجعل الفرد يقدّم التّضحيات من أجل الآخرين، ويكون أقصى أمانيه أن يتخلّى عن الحياة ومتاعها لخيرهم. هذه هي الوحدة الّتي نشأت بين حواريّي يسوع المسيح وربطت ما بين الأنبياء والنّفوس المقدّسة فيما مضى. وهي الوحدة النّافذة بين البهائيّين بتأثير الرّوح الإلهيّ، حيث يضحّي كلّ واحد منهم بحياته لأجل غيره، ويجهد بكلّ إخلاص أن ينال رضاءه. وهذه هي الوحدة الّتي جعلت عشرين ألف نفس في إيران يضحّون بحياتهم بكلّ محبّة وإخلاص من أجلها. وهي الّتي جعلت حضرة الباب هدفًا لآلاف السّهام، وجعلت حضرة بهاء الله يتحمّل النّفي والحبس أربعين سنة. وهذه الوحدة هي عين الرّوح لجسد العالم. ويستحيل على جسد العالم أن يحيا بغير قوّة الإحياء المنبعثة منها. ولقد روّج يسوع المسيح – روحي له الفداء – لهذه الوحدة بين البشر. وصارت كلّ نفس آمنت بيسوع المسيح حيّة من جديد ومنتعشة من هذه الرّوح، وبلغت أوج المجد السّرمديّ، ونالت الحياة الأبديّة، ومرّت بالولادة الثّانية، وبلغت أوج الفلاح.

كما أنّ هناك وحدة أخرى هي الوحدة في كلمة الله – أي وحدة المظاهر الإلهيّة: إبراهيم وموسى ويسوع المسيح ومحمّد والباب وبهاء الله. وهي وحدة ربّانيّة ملكوتيّة نورانيّة رحمانيّة – وهي الحقيقة الواحدة المتجلّية في مظاهرها المتعاقبة. فعلى سبيل المثال، تكون الشّمس ذاتها واحدة لكنّ مشارقها تبقى متعدّدة. فهي تشرق في فصل الصّيف من أقصى نقطة في شمال المدار الشّمسيّ، وتظهر في الشّتاء من أقصى مطلع لها في الأفق الجنوبيّ. وفي كلّ شهر فيما بين هذين الفصلين تبزغ من موضع فلكيّ محدّد. وعلى الرّغم من اختلاف تلك المطالع، فالشّمس هي نفس الشّمس الّتي طلعت منها جميعًا. وهذه دلالة على حقيقة النّبوّة الّتي نرمز لها هنا بالشّمس، بينما تكون المظاهر المقدّسة بمثابة مختلف المطالع أو المواضع الفلكيّة الّتي طلعت عن أفقها تلك الشّمس.

كما أنّ هناك أيضًا الوحدانيّة الإلهيّة أو الذّات الإلهيّة، الّتي هي مقدّسة عن كلّ إدراكات البشر. فهي لا تُدرَك ولا تُعقَل لأنّها حقيقة لامحدودة ولا يمكن أن تصبح محدودة. فعقول البشر لا يمكنها أن تحيط بالحقيقة الإلهيّة، لأنّ كافّة أفكارها وإدراكاتها محدودة وكلّها تصوّرات ذهنيّة لا تعبّر أبدًا عن حقيقة الذّات الإلهيّة الّتي هي وحدها تدرك كنه ذاتها. فمثلاً إذا ما كوّنا مفهومًا عن الذّات الإلهيّة بأنّها ذات حيّة قديرة قيّومة سرمديّة، فليس هذا سوى مجرّد مفهوم بمستوى إدراك العقل البشريّ وليس تلك الحقيقة الواضحة اللاّئحة الّتي تسمو عن أن يدركها أو يحيط بها عقل الإنسان. ولدينا نحن معشر البشر كيان ظاهريّ منظور، ولكن حتّى ما نعلمه عن ذلك الكيان ما هو إلاّ نتاج أذهاننا وأفهامنا المحدودة. أمّا حقيقة الألوهيّة فهي منزّهة عن ذلك المستوى البشريّ من المعرفة والإدراك. إذ إنّ الحقيقة الرّبّانيّة كانت ولا تزال مخفيّة مستورة عن أفهامنا وهي في علوّ تقديسها وتنزيهها. وعلى الرّغم من سموّها وعلوّها بما يفوق إدراكنا، نجد أنّ أنوارها ومواهبها وآثارها وفضائلها ظاهرة ومشهودة في حقائق الأنبياء، تمامًا كما تكون الشّمس ساطعة في مرايا مختلفة. فهذه الحقائق المقدّسة هي بمثابة المرايا العاكسة، وحقيقة الألوهيّة هي بمقام الشّمس الّتي – وإن كانت تنعكس من تلك المرايا وتلمع فيها بفضائلها وكمالاتها – لا تتنزّل عن سموّ مقام جلالها وبهائها لتحلّ في تلك المرايا، وإنّما تظل باقية في جبروت تقديسها. وكلّ ما هنالك هو أنّ أنوارها تصير لائحة واضحة في مراياها أو مظاهرها. وعليه، فإنّ موهبتها المتجلّية من هؤلاء المظاهر هي موهبة واحدة، في حين أنّ من يتلقّون تلك الموهبة كثيرون. هذا هو التّوحيد، وهذه هي الوحدانيّة – أي وحدانيّة الذّات الإلهيّة المنزّهة عن الصّعود والنّزول والحلول والإدراك والتّخيّل – وتلك هي الوحدة الرّبّانيّة الّتي يكون الأنبياء بمثابة مراياها، وبواسطتهم تتجلّى لنا أنوارها، ومنهم تتلألأ فضائلها. غير أنّ شمس الحقيقة هذه لا تتنزّل أبدًا من علوّ وسموّ مقامها. وهذه هي الوحدة والوحدانيّة، وهذه هي القدسيّة، وهذا هو التّمجيد الّذي نسبّح به الله ونعبده.

إلهي إلهي، هؤلاء عباد عتبتك الرّحمانيّة وإماء باب وحدانيّتك. قد اجتمعوا في هذا المعبد متوجّهين إلى وجهك الجليل، متشبّثين بذيل رداء فردانيّتك، ملتمسين رضاءك والعروج إلى ملكوتك، مستفيضين من شمس الحقيقة في هذا القرن المجيد، توّاقين إلى رضائك في عظائم الأمور. أي ربّ، أنر أبصارهم بمشاهدة آياتك وغَنائك وشنّف آذانهم بالإصغاء إلى كلمتك واملأ قلوبهم بمحبّتك وأبهج أرواحهم بلقائك وأسبغ عليهم نعماءك في أرضك وسمائك واجعلهم آيات توحيدك بين عبادك حتّى تتجلّى منهم حقائق التّفريد، ويصير الكلّ متّحدين في أمرك وملكوتك. إنّك أنت الكريم، إنّك أنت العظيم الرّحمن، وإنّك أنت الرّؤوف الرّحيم.

(ثمّ خاطب حضرته أطفال صفوف يوم الأحد قائلا)ً:

إنّني مسرور لرؤية هؤلاء الأطفال النّجباء اللّوامع. وبإذن الله يحقّقون جميعهم آمال ورجاء آبائهم وأمّهاتهم.

الحمد لله إذ أرى أمامي هؤلاء الأطفال ذوي الطّلعة الجميلة – أطفال الملكوت. فقلوبهم طاهرة ووجوههم مشرقة. وعمّا قريب سيكونون أبناء وبنات الملكوت. والشّكر لله أنّهم ساعون في نيل الفضائل وسيصيرون سببًا لبلوغ امتيازات الإنسانيّة. فهذه هي رسالة الوحدانيّة في ملكوت الله. والحمد لله أنّ لهم معلّمين حنونين ومحترمين يربّونهم ويعلّمونهم أحسن تعليم، ويرجون لهم التّوفيق حتّى ينتعشوا بإذن الله كالأغراس الغضّة في بستان الله من أمطار سحائب الرّحمة، فينمون ويترعرعون ويأتون في نهاية المطاف بثمار هي غاية في الكمال واللّطافة.

أبتهل إلى الله لكي يتربّى هؤلاء الأطفال في كنف حفظه، ويتغذّوا من عطائه وفضله، حتّى يتفتّح الكلّ كالأزهار الجميلة ويعبق شذاهم في روضة الأمل والرّجاء الإنسانيّ.

أي ربّ، علّم هؤلاء الأطفال وربِّهمْ. فهؤلاء الأطفال أغراس روضك، وأزهار مرجك، وأوراد حديقتك. فأنزل عليهم أمطار موهبتك، واجعل شمس الحقيقة تسطع عليهم بمحبّتك. وأنعشهم بنسيمك حتّى يتربّوا وينموا ويترقّوا ويظهروا بغاية الجمال. إنّك أنت المعطي، إنّك أنت الرّحيم.

 

[1]        (قالها حضرته باللّغة العربيّة).

 

(7) 16 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بمنزل السّيّد هوارد ماكنت وحرمه،
935 إيسترن باركواي، حيّ بروكلين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

إنّ هذا لجمعٌ بديع، فهو لقاء لإماء الرّحمن وأحبّاء الله. وكلّما حدثت اجتماعات كهذه في هذا العالم كانت النّتائج عظيمة للغاية. فهي تُحدِث أثرًا عظيمًا في عالم الأفئدة والعقول. فمن الطّبيعيّ حيثما يضاء سراج في اللّيل أن ينجذب النّاس إليه ويتجمّعوا حوله. عندما ترون جمعًا كهذا تدركون أنّ ثمّة ضوء ينير الظّلام. هناك مصابيح ذات ضوء محدود، ومصابيح أخرى لا حدود لضوئها. هناك سُرُجٌ تضيء أماكن صغيرة وهناك سُرُجٌ تنير الآفاق. وحيثما أوقد سراج الهداية الرّبّانيّة ألقى ضياءه في أرجاء الشّرق والغرب. الحمد لله أنّه أوقد في هذا البلد، وما لبث نوره يزداد بهاءً وإشراقه اتساعًا يومًا بعد يوم. هذه الحقيقة ليست معروفة الآن، بيد أنّ شواهدها ستزداد وضوحًا وجلاء فيما بعد. تفكّروا في أيّام المسيح كيف أضاء نور الهداية اثني عشر قلبًا. وكم كان ذلك يبدو محدودًا، ولكن كم صار مداه شاسعًا بعد ذلك وأضاء الدّنيا! أنتم لستم جمهرة كبيرة من النّاس، ولكن بما أنّ سراج الهداية قد أُوقد في قلوبكم، فلسوف تكون آثاره مدهشة في قادم السّنين. من الواضح اللاّئح أنّ العالم سيتنوّر بهذا النّور، فعليكم إذًا أن تشكروا الله لأنّ سراج الهداية العظمى قد أُوقد، لله الحمد، في أفئدتكم بفضله وموهبته، وأنّه قد دعاكم إلى ملكوته، وأوصل نداء الملأ الأعلى إلى مسامعكم، وفُتحت على وجوهكم أبواب السّماء، وسطعت عليكم شمس الحقيقة، وأفاض عليكم من غمام الرّحمة، وهبّت نسائم العناية على نفوسكم. ومع أنّ العطاء عظيم والفضل عميم إلاّ أنّ القابليّة والاستعداد لازمان. فمن دون القابليّة والاستعداد لا يتجلّى الفضل الإلهيّ ولا يلوح. فمهما أمطر السّحاب وسطعت الشّمس وهبّ النّسيم فلن تعطي التّربة القاحلة نماء. أمّا الأرض الطّاهرة الخالية من الشّوك والحسك فهي تتلقّى وتعطي أُكُلَها بفيض أمطار غمام الرّحمة. كما أنّه مهما سطعت الشّمس فلن يكون لها أثر في الصّخرة الصّمّاء، أمّا في المرآة المصقولة الصّافية فإنّ أنوارها تكون لامعة. فعلينا إذًا أن نطّور استعدادنا لكي تتجلّى فينا آيات رحمة الله. وعلينا أن نسعى لتنقية تربة الفؤاد من الزّؤان ونطهّرها من أشواك الأفكار العقيمة، حتّى يفيض علينا من غمام الرّحمة. إنّ أبواب الله مفتوحة، لكن علينا أن نكون مستعدّين ومستحقّـين للدّخول. وبحر العناية الرّبّانيّة متلاطم، ولكن علينا أن نكون قادرين على السّباحة. والمواهب الرّبّانيّة تتنزّل من سماء العناية، ولكنّ الاستعداد لنيلها ضروريّ. ونبع الجود الإلهيّ دافقة، ولكن علينا أن نكون عطاشى لمعين الحياة. فما لم يكن هناك ظمأ فلن يروي الماء السّائغ، وما لم تَجُع الأرواح فلن تشبعها لذائذ مائدة السّماء، وما لم تتفتّح أعين البصيرة لن تُشاهَدَ أنوارُ الشّمس، وما لم تتطهّر المشام لن يُستنشَقَ أريجُ الرّوضة الإلهيّة، وما لم يمتلئ القلب بالاشتياق لن تظهر العطايا الرّبّانيّة، وما لم تصدح نغمات اللّحن المليح لن تنجذب آذان السّامعين. فعلينا إذًا أن نجهد ليلاً ونهارًا في تطهير الأفئدة من كلّ الأدران، وتنزيه النّفوس عن كلّ العلائق، والتّحرّر من شحناء عالم البشر. عندئذ تتجلّى المواهب الرّبّانيّة بكمالها وجلالها. أمّا إذا لم نجهد لكي نتطهّر من نقائص الطّبيعة البشريّة ورذائلها، فلن يكون لنا نصيب من مواهب الله. فكأنّما سطعت الشّمس بتمام بهائها ولكن لا انعكاس لها من قلوب سوداء كالصّخرة الصّمّاء. فإذا كان هناك بحر موّاج من سلسبيل صافٍ ولم نكن عطشى، فأيّ فائدة نجنيها؟ وإذا ما أوقدت شمعة ولا نملك عيونًا، فأيّ متعة لنا في ذلك؟ وإذا ما ارتفعت أبدع النّغمات إلى السّماوات وحرمنا من السّمع، فأيّ استمتاع نجده؟

علينا إذًا أن نسعى دائمًا ونلتمس ونتوسّل ونتضرّع إلى ملكوت الله كي يهبنا كامل القابليّة حتّى تنكشف لنا العطايا الرّبّانيّة وتتجلّى فينا. إذا ما بلغنا هذه النّعم الملكوتيّة علينا أن نتقدّم بالشّكر لعتبة الفردانيّة. عندئذ نبتهج في الله ونلهج بالثّناء والحمد أنّنا قد نعمنا بهذه العطايا في هذا القرن البديع والعصر المجيد وفي كنف الملكوت الإلهيّ. لهذا فإنّني أنصح نفسي أوّلاً ثمّ ألتمس منكم أن تعرفوا قدر هذه المنحة العظمى، وتدركوا هذه الهداية الكبرى، وتتلقّوا هذه الفضائل الرّبّانيّة. عليكم أن تسعَوْا ليلاً ونهارًا لتصبحوا جديرين بحظّ وفير من هذه الآلاء وتبلغوا كامل القابليّة لكسبها. والحمد لله أنّ قلوبكم منيرة، ووجوهكم متوجّهة إلى ملكوت الله. وأملي أن يتحقّق الوصول إلى جميع هذه المراتب، وأن يبلغ هؤلاء الأحبّاء مقامًا يكون مثالاً وحافزًا لكلّ الأحبّاء في العالم، وأن تنتشر محبّة الله من هنا إلى كلّ صوب وحدب، وأن تنبعث معرفة الله من هذه البقعة، وأن تصبح القوى الرّوحانيّة فعّالة هنا، وأن تسطع أنوار الملكوت، وأن تتواجد هنا النّفوس النّجيبة حتّى ينشغلوا بكلّ القوى في خدمة الله، مروّجين لوحدة العالم الإنسانيّ وقضيّة الصّلح الأعظم، وأن تكون هذه النّفوس شموعًا مضيئة وأشجارًا مثمرة ولآلئَ أصداف العناية ونجوم السّماء. هذا هو دعائي لله، وهذا هو رجائي من الجمال الأبهى: أن يغمركم جميعًا في بحر فضله.

ثمّ تفضّل فيما بعد بالرّدّ على سؤال عن الأرقام:

إنّ هذه الاعتقادات في أرقام تجلب الحظّ وأخرى تجلب النّحس ما هي إلاّ محض خيال. أمّا الخرافة المتعلّقة بالرّقم ثلاثة عشر (13) فيرجع مصدرها إلى حقيقة أنّ يسوع المسيح كان محاطًا باثني عشر حواريًّا وكان يهوذا الإسخريوطيّ هو العضو الثّالث عشر في لقائهم. وهذا هو أصل هذه الخرافة، بيد أنّها خيال محض. فعلى الرّغم من أنّ يهوذا كان حواريًّا في الظّاهر، إلاّ أنّه لم يكن كذلك في حقيقة الأمر. إنّ الرّقم اثنا عشر (12) هو الرّقم الأصليّ للدّلالة والتّمام. فقد كان ليعقوب اثنا عشر ابنًا انحدر منهم الأسباط الاثنا عشر، وكذلك كان حواريّو المسيح اثني عشر، وأئمّة الإسلام اثني عشر أيضًا. كما أنّ علامات أبراج الفلك اثنا عشر، وأشهر السّنة اثنا عشر، وما إلى ذلك.

بظهور حضرة بهاء الله فُـسّرت أسرار الكتب المقدّسة. ولم تكن تلك الأسرار مفهومة قبل ظهوره، فكشف حضرته هذه الأسرار وفضّ ختمها. ولقد كانت رغبتي أن آتي هنا اليوم لحضور هذا اللّقاء.

(8) 16 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالكنيسة التّجمعيّة المركزيّة
شارع هانكوك، حيّ بروكلين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

هذا معبدٌ طيّب وجمع طيّب، لأنّ هذا، بحمد الله، دار عبادة يتاح فيه لكلّ رأي وجدانيّ مُتَنَفَّـسٌ حرٌّ. ويمكن هنا لكلّ دين وكلّ تطلّع إيمانيّ أن يُعلَن عنه جهارًا ويُعبَّرَ عنه بحرّيّة. وتمامًا مثلما تكون هناك ضرورة للفكر الحرّ في عالم السّياسة، كذلك يجب أن يكون هناك في عالم الدّين حقٌ بالاعتقاد الفرديّ الحرّ. انظروا كم هو شاسع ذلك الفرق بين الدّيمقراطيّة الحديثة وأشكال الاستبداد القديمة. ففي ظلّ حكومة أوتوقراطيّة مستبدّة لا تكون آراء النّاس حرّة، ويعاق الرّقيّ، بينما في الدّيمقراطيّة، نظرًا لأنّ الفكر والتّعبير غير مقيّدين، نلاحظ عظيم التّقدّم. ونفس الشّيء يصدق أيضًا في عالم الدّين. فعندما تسود حرّيّة الضّمير وتحرّر الفكر والحقّ في التّعبير – بمعنى أن يكون بوسع كلّ إنسان أن يعبّر عن معتقداته طبقًا لما يراه هو مثاليًّا – عندئذ فلا محالة من الرّقيّ والنّماء. لذا فإنّ هذه الكنيسة مباركة لأنّ منبرها مفتوح لكافّة الأديان، ومسموح بشرح مُثُلها ومبادئها بكلّ صراحة وحرّيّة. ولهذا فإنّي أكنّ عظيم الامتنان للدّكتور القسّ الموقّر؛ وأراه حقًّا خادمًا لوحدة الإنسانيّة.

كانت المظاهر المقدّسة، الّذين هم مصادر أو مؤسّسي هذه الأنظمة الدّينيّة المتعدّدة، متّحدين ومتّفقين في هدفهم وتعاليمهم. فلقد كان إبراهيم وموسى وزرادشت وبوذا ويسوع ومحمّد والباب وبهاء الله روحًا وحقيقةً واحدةً. كما أنّ كلّ نبيّ منهم قد حقّق وعد من سبقه، وأخبر كلّ سلف عن كلّ خلف. انظروا كيف تنبّأ حضرة إبراهيم بمجيء حضرة موسى، وكيف كان حضرة موسى تجسيدًا لوعد حضرة إبراهيم. وقد تنبّأ حضرة موسى بالدّورة المسيحيّة، بينما أكمل حضرة المسيح شريعة حضرة موسى. فيكون من الواضح إذًا أنّ المظاهر المقدّسة الّذين أسّسوا الأنظمة الدّينيّة متّحدون ومتّفقون، ولا فرق أبدًا في رسالتهم وتعاليمهم؛ فالكلّ عاكسون للحقيقة، والكلّ مروجون لدين الله. والدّين الرّبّانيّ هو الحقيقة، والحقيقة لا تتعدّد، إذ إنّها حقيقة واحدة. لذلك فإنّ أسس الأنظمة الدّينيّة واحدة لأنّها نابعة جميعها من الحقيقة الّتي لا تقبل الانقسام، بيد أنّ أتباع هذه الأنظمة قد اختلفوا؛ فنشب بينهم الخلاف والنّزاع والاقتتال، ذلك لأنّهم نبذوا الأصل وتمسكوا بما هو تقليد ووهم. وبما أنّ التّقاليد تختلف، فقد نتج عنها العداوة والبغضاء. مثلاً أرسى يسوع المسيح – روحي له الفداء – قواعد الحقيقة الأزليّة، بيد أنّ العديد من الطّوائف والفرق ظهرت في المسيحيّة من بعد رحيله. فيا تُرى ماذا كان سبب ذلك؟ لا شكّ أنّها قد نشأت من تقاليد متزمّتة، إذ إنّ الأسس الّتي جاء بها حضرة المسيح كانت عين الحقيقة، وهي الّتي لا يوجد فيها اختلاف. فعندما ظهرت التّقاليد نشأت الطّوائف والنّحل.

إذا ما تحرّى المسيحيّون من كافّة الطّوائف والفرق عن الحقيقة، فستوحِّدهم الأصول الّتي جاء بها حضرة المسيح ولن تبقى هناك أيّ عداوة أو كراهية، لأنّهم يصبحون جميعًا في ظلّ هَدي الحقيقة ذاتها. والحال على نفس المنوال في المضمار الأوسع، أي إذا ما أعرضت كلّ النّظم الدّينيّة القائمة عن تقاليد الأسلاف وتقصّت الحقيقة، باحثة عن المعاني الحقيقيّة للكتب المقدّسة، لاتـّحدت واتّفقت على نفس الأساس – أي على الحقيقة بعينها. طالما أنّ تلك النّظم تتّبع عقائدَ أو تقاليدَ زائفة بدلاً من الحقيقة، فإنّ العداوة والخلاف يبقيان ويتزايدان. ودعوني أوضّح ذلك. لقد أعلن حضرة موسى وأنبياء بني إسرائيل عن قدوم حضرة المسيح، بيد أنهم عبّروا عن ذلك بلغة الرّموز. فلمّا ظهر السّيّد المسيح رفضه اليهود، رغم أنّهم كانوا يتوقّعون ظهوره وكانوا يصيحون ويبكون في معابدهم وهياكلهم قائلين: ‘ربّنا، عجّل بمجيء المسيح!’ فلماذا أنكروه عندما أعلن عن نفسه؟ لأنّهم اتّبعوا رسوم الأسلاف وتأويلاتهم، وأغمضوا أعينهم عن حقيقة حضرة المسيح، ولم يدركوا الرّموز الباطنيّة للكتاب المقدّس. فجاهروا باعتراضاتهم قائلين: ‘نحن ننتظر المسيح، إلاّ أنّ مجيئه مشروط بتحقّقات ومنطوقات نبويّة بذاتها، ومن بين علامات ظهوره تلك الّتي تقول بأنّه سيأتي من مكان غير معلوم، بينما هذا الّذي يدّعي مقام المسيح قد أتى من النّاصرة ونحن نعرف بلده ونعرف أمّه.

‘ثاني العلامات أو الشّروط لمجيء المسيح أنّ عصاه من حديد، أمّا هذا المسيح فلا يملك حتّى عصا من خشب.

‘ثالثها، أنّه يجلس على عرش داود، بينما هذا المسيح الملك في فقر مدقع ولا يملك حتّى حصيرة.

‘رابعها، هو أنّه يفتح الشّرق والغرب، وهذا الشّخص لم يفتح حتّى قرية واحدة، فكيف يكون هو المسيح؟

‘خامسها، هو أنّه يروّج شريعة الكتاب المقدّس، بينما هذا الشّخص لم يخفق في ترويج الكتاب المقدّس فحسب، بل لقد كسر شريعة السّبت.

‘سادسها، أنّ المسيح يلمّ شمل اليهود الّذين شُتِّتوا في فلسطين ويعيد لهم الفخر والمجد، ولكنّ هذا الشّخص قد حطّ من شأن اليهود بدلاً من إعلاء مقامهم.

‘سابعها، من المفروض إبّان سلطنته أنّه حتّى الحيوانات تنعم بالبركات والرّاحة، إذ إنّه، طبقًا لنصوص النّبوءات، سيؤسّس السّلام على نطاق عامّ بدرجة أن يعيش النّسر والسّلوى معًا، والأسد والأيل يرعيان في نفس المرج، ويرقد الذّئب والحمل معًا في ذات المرعى. أمّا في عالم البشر فستنتهي الحرب بالكلّيّة، وتنقلب الرّماح إلى مناجل والسّيوف سككًا. ولكنّنا نرى الآن في يوم هذا المسيح المزعوم سطوة للظّلم، حتّى إنّه هو نفسه قد صار ضحيّة. فكيف يكون هو المسيح الموعود؟’

هكذا تكلّموا عنه بهذه الكلمات المخزية.

الآن، وبما أنّ اليهود كانوا غرقى في بحر تقاليد الأسلاف، فلم يكن بمقدورهم أن يفهموا معاني هذه النّبوءات. فكلّ ما نطق به الأنبياء قد تحقّق، ولكنّ اليهود لتمسّكهم الشّديد بالتّأويلات الموروثة فإنّهم لم يفهموا المعاني الباطنيّة للكتاب المقدّس، ولذا فقد أنكروا يسوع، الّذي هو المسيح. ولم يكن المقصود بالكلمات النّبويّة هو معناها الظّاهريّ أو الحرفيّ، وإنّما الدّلالة الرّمزيّة الباطنيّة. فمثلاً، صرّح الأنبياء بأنّ حضرة المسيح يأتي من مكان غير معلوم، ولم يكن القصد من هذا هو مكان ميلاد جسد يسوع العنصريّ، وإنّما كانت الإشارة إلى حقيقة المسيح، بمعنى أنّ حقيقة المسيح تظهر من ملكوت الغيب، لأنّ الحقيقة الرّبّانيّة للمسيح مقدّسة ومنزّهة عن المكان.

أمّا عن سيفه الّذي هو من حديد، فهذه كناية عن لسانه الّذي يفصل الحقّ عن الباطل، وبهذا السّيف العظيم الكرّار يفتح ممالك القلوب. فلم يكن فاتحًا بالقوّة المادّيّة لقضيب الحديد، وإنّما فتح الشّرق والغرب بسيف بيانه.

لقد جلس حضرته على عرش داود، ولكنّ سلطانه لم يكن كسلطان نابليون أو كملك الفرعون الزّائل. فكانت مملكة المسيح أبديّة سرمديّة في سماء المشيئة الإلهيّة.

كان المقصود بترويجه شريعة التّوراة هو حقيقة الشّرع الموسويّ. فشريعة الطّور هي أصل حقيقة المسيحيّة، وقد روّجها حضرة المسيح وأعطاها تعبيرًا روحانيًّا أكثر سموًّا.

لقد فتح حضرة المسيح الشّرق والغرب وأخضعهما، ولكنّ فتحه تمّ بواسطة نفثات الرّوح القدس الّتي أزالت كافّة الحدود وسطعت من كلّ الآفاق.

بمقتضى النّبوءة، يشرب الذّئب والحمل معًا في زمان المسيح من نبع واحد. وتحققت هذه النّبوءة في حضرة المسيح، فالنّبع المشار إليه هو الإنجيل الّذي تدفّق منه ماء الحياة. أمّا الذّئب والحمل فهما الأقوام المتخاصمة المتناحرة المُكنّى عنها بهذين الحيوانين. فقد كان اجتماع هذه الأقوام وتعاشرها مستحيلاً، ولكن بإيمانهم بيسوع المسيح صار من كانوا في السّابق ذئابًا وحملانًا متّحدين بواسطة كلمات الإنجيل.

المغزى هو أنّ كلّ ما قصَدَتْه النّبوءات من معانٍ قد تحقّق، ولكن بما أنّ اليهود كانوا أسرى تقاليد الأسلاف ولم يفهموا حقيقة معاني هذه الكلمات فقد أنكروا حضرة المسيح، لا بل بلغ بهم التّمادي أنّهم صلبوه. فانظروا كم يكون التّقليد مضرًّا. لقد كانت هذه تأويلات انتقلت من الآباء والأسلاف، ولأنّ اليهود قد تمسّكوا بها، فقد كان الحرمان من نصيبهم.

يتبين إذًا أنّ الواجب علينا أن نتخلّى عن مثل هذه التّقاليد والاعتقادات حتّى لا نقع في نفس الخطأ. علينا أن نتحرّى الحقيقة، وأن نطرح الأفكار الأنانيّة جانبًا ونُخرج القيل والقال من عقولنا. اليهود يعدّون حضرة المسيح عدوًّا لحضرة موسى، بينما على النّقيض من ذلك، فقد روّج حضرة المسيح كلمة حضرة موسى وأذاع وأشاع اسم حضرة موسى في بلاد الشّرق والغرب وروّج التّعاليم الموسويّة. فلولا حضرة المسيح لما سمعتم أنتم باسم حضرة موسى. وما لم يكن مقام المسيح قد تجلّى في شخص يسوع المسيح لما صار العهد القديم فى متناول أيدينا.

فالحقيقة هي أنّ حضرة المسيح أكمل الشّريعة الموسويّة، وساند حضرة موسى بكلّ الوسائل، بيد أنّ اليهود، وقد أعمتهم التّقاليد والتّعصّبات، اعتبروا حضرته عدوًّا لموسى.

من بين الأنظمة الدّينيّة العظيمة في العالم الإسلام. ويؤمن به اليوم ثلاثمائة مليون نفس[1]. ولقد سادت العداوة والشّقاق بين المسلمين والمسيحيّين لأكثر من ألف سنة بسبب سوء الفهم والغفلة الرّوحانيّة. فإذا ما نُبذت التّعصّبات والتّقاليد لما بقيت هناك أيّ عداوة بينهم، ولزيّن مئات الملايين من هؤلاء المتديّنين المتناحرين عالم الإنسانيّة باتّحادهم.

أودُّ الآن أن أُلفت اهتمامكم إلى نقطة هي في غاية الأهمّيّة. فكلّ المسلمين يعتبرون القرآن كلام الله. في هذا الكتاب القدسيّ نصوص صريحة غير منقولة عن مصدر آخر تنصّ على أنّ حضرة المسيح هو كلمة الله، وأنّه روح الله، وأنّه جاء إلى هذا العالم بنفخة محيية من الرّوح القدس، وأنّ السّيّدة مريم أمّ حضرته كانت امرأة مباركة طاهرة. ولقد خصّص القرآن سورة كاملة لسيرة حضرة عيسى، وهي تسجّل أنّ حضرته في صباه كان يعبد الله في هيكل أورشليم، وأنّ الله أنزل عليه المنّ من السّماء قوتًا له، وأنّه تكلّم في المهد فور ولادته. والخلاصة إنّ في القرآن مديحًا وثناء لحضرة المسيح لا تجدونه في الإنجيل. فالإنجيل لا يسجّل أنّ عيسى الطّفل قد تكلّم عند ولادته، أو أنّ الله أنزل عليه من السّماء رزقًا، ولكنّ القرآن يذكر مرارًا وتكرارًا أنّ الله أنزل عليه المنّ من السّماء يومًا بعد يوم قوتًا له. وعلاوة على ذلك، فمن الثّابت بغير شكّ أنّ محمّدًا لمّا أعلن مهمّته ورسالته كان أوّل اعتراض له على أتباعه هو ‘لماذا لم تؤمنوا بعيسى المسيح؟ ولماذا لم تقبلوا الإنجيل؟ ولماذا لم تؤمنوا بحضرة موسى؟ ولماذا لم تتبعوا تعاليم العهد القديم؟ ولماذا لم تدركوا نبأ أنبياء بني إسرائيل؟ ولماذا لم تؤمنوا بحواريّي حضرة المسيح؟ إنّ أوّل واجب عليكم أيّها الأعراب هو أن تقبلوا كلّ هذا وتؤمنوا به. عليكم أن تعدّوا حضرة موسى نبيًّا، وأن تقبلوا يسوع المسيح بصفته كلمة الله. وعليكم أن تدركوا أنّ التّوراة والإنجيل كلام الله، وأن تؤمنوا بأنّ يسوع المسيح قد جاء من الرّوح القدس’. فكان جواب قومه هو ‘يا محمّد، سنؤمن على الرّغم من أنّ آباءنا وأسلافنا لم يكونوا مؤمنين، ونحن نفخر بهم. فقل لنا ماذا سيكون مصيرهم؟’ فأجابهم محمّد قائلاً ‘أشهد بأنّهم مستقرّون في قاع الجحيم إذ كفروا بحضرة موسى والسّيّد المسيح، ولم يقبلوا التّوراة والإنجيل، ومع أنّهم أسلافي، إلاّ أنّهم يائسون في الجحيم.’ – هذا ما جاء صراحة في القرآن، وهو ليس رواية أو كلامًا منقولاً وإنّما من القرآن نفسه المتداول بين النّاس. فمن الواضح إذًا أنّ الجهل وسوء الفهم تسبّبا في كثير من القتال والنّزال بين المسيحيّين والمسلمين. ولو تحرّى كلّ منهم الحقيقة الّتي تقوم عليها معتقداتهم الدّينيّة، لكانت النّتيجة هي الاتّحاد والاتّفاق، ولا زال التّناحر والمرارة بغير رجعة، ولوجد عالم البشر سلامًا وصفاءً. اعلموا أنّ هناك مائتين وخمسين مليونًا من المسيحيّين[2]، وثلاثمائة مليونٍ من المسلمين. فكم من الدّماء سالت في حروبهم، وكم من أمم أبيدت، وكم من أطفال يُتِّموا، وكم من آباء وأمهات ثَكِلوا الأبناء وفقدوا الأعزّاء! لقد كان كلّ ذلك بسبب التّعصّب وسوء الفهم وتقليد معتقدات الأسلاف دون ما تحرّ للحقيقة. فلو فُهِمت الكتب المقدّسة فهمًا صحيحًا لما بقي أيّ أثر لهذا الخلاف والبؤس، بل لسادت المحبّة والألفة بدلاً عن ذلك. وهذا يصدق أيضًا مع سائر الأديان. فالأحوال الّتي ذكرتُها تنطبق أيضًا على الكلّ على حدٍ سواء. فالغرض الجوهريّ لدين الله هو تأسيس الوحدة بين البشر. لقد كان المظاهر الإلهيّة هم المؤسّسون لوسائط الأخوّة والمحبّة. فهم لم يأتوا لخلق الاختلاف والنّزاع والكراهية في العالم. ودين الله هو سبب للمحبّة، أمّا إذا جُعِل الدّين منبعًا للعداوة وسفك الدّماء فعدمه بكلّ تأكيد خير من وجوده، لأنّه سيصير في تلك الحالة شيطانيًّا مؤذيًا وعقبة كأداء أمام عالم البشر.

لقد كانت مختلف الشّعوب والأمم في بلاد الشّرق في حالة من العداوة والاقتتال، مُظهرين أقصى العداوة والبغضاء لبعضهم البعض، وخيّم الظّلام على عالم الإنسان. في ذلك الوقت ظهر حضرة بهاء الله. فأزال كافّة التّقاليد والتّعصّبات الّتي سبّبت التّباعد وسوء الفهم، وأرسى أساس دين الله الواحد. فلمّا تحقّق ذلك توحّد المسلمون والمسيحيّون واليهود والزّرادشتيّون والبوذيّون في إخاء ومحبّة حقيقيّتين، وصارت النّفوس الّتي اتّبعت حضرة بهاء الله من كلّ ملّة كأسرة واحدة تعيش في وئام ووفاق، مستعدّة لأن تضحّي بحياتها من أجل بعضها البعض. فالمسلم يبذل حياته من أجل المسيحيّ، والمسيحيّ من أجل اليهوديّ، وجميعهم من أجل الزّرادشتيّ. وهم يتعايشون في محبّة وإخاء واتّحاد. لقد بلغوا حالة الولادة الثّانية في روح الله وصاروا أحياء منتعشين من نفثات الرّوح القدس. والحمد لله أن أتى هذا النّور من الشّرق، فلن يبقى في نهاية المطاف أيّ بغضاء وعداوة في بلاد الشّرق، وسيتَّحد الجميع بقوّة حضرة بهاء الله. لقد رفع حضرته لواء الوحدة البشريّة هذا من السّجن. وفي الوقت الّذي كان فيه حضرته منفيًّا على يد ملكين، وبينما كان منبوذًا من الأعداء من كافّة الملل، وطيلة أيّام حبسه المديد، كتب إلى ملوك وحكّام العالم بأسلوب في غاية الفصاحة يُدينهم بشدّة ويدعوهم إلى راية الوحدة والعدالة الرّبّانيّة. كما حثّهم على السّلام والوفاق العامّ، ملقيًا عليهم مسؤوليّة تأسيس مجلس تحكيم دوليّ – بمعنى أن يتمّ اختيار وكلاء من كافّة أمم وحكومات العالم لتشكيل مجمع للأمم يكون بمثابة محكمة عدل عموميّة لتسوية النّزاعات الدّوليّة. فخاطب حضرته فيكتوريا ملكة بريطانيا العظمى، وقيصر روسيا، وإمبراطور ألمانيا، ونابليون الثّالث ملك فرنسا وغيرهم، ودعاهم إلى الاتّحاد والسّلام العالميّ. لقد تسنّى لحضرته ترويج هذه المثل في بلاد الشّرق بقوّة ملكوتيّة. فلم يقوَ الملوك على مقاومته. لقد سعوا لإطفاء نوره إلاّ أنّهم لم يفلحوا إلاّ في ازدياد شدّته وضيائه. وبينما كان مسجونًا وقف حضرته في وجه شاه إيران وسلطان تركيّا وروّج تعاليمه إلى أن أحكم إرساء راية الحقّ ووحدانيّة البشريّة. كنت مسجونًا مع حضرته لأربعين سنة إلى أن أطاح الشّباب الأتراك من لجنة الاتّحاد والتّرقّي بالحكم المستبدّ لعبد الحميد، وخلعوه عن العرش وأعلنوا الحرّيّة. فحرّرتني هذه اللّجنة من الطّغيان والظّلم، ولولا ذلك لبقيت في السّجن حتّى نهاية حياتي. والمقصود هو أنّ حضرة بهاء الله كان قادرًا من سجنه على أن يعلن عن أسس السّلام ويرسي قواعده على الرّغم من أنّ أعداءه وظالميه كانوا ملكيْن مستبديْن. لقد أَعدم ناصر الدّين شاه ملك إيران عشرين ألفًا من البهائيّين، كانوا شهداء ضحّوا بغاية التّجرّد وكامل الرّضاء بحياتهم في سرور من أجل عقيدتهم. فلم يقوَ هذان الملكان العاتيان الطّاغيان على مسجون واحد، بينما رفع ذلك المسجون علم الإنسانيّة وجمع أهل بلاد الشّرق في وفاق واتّحاد. وليس في الشّرق اليوم من هم في خصام وعداوة سوى أولئك الّذين لم يؤمنوا بحضرة بهاء الله. أمّا أهل الأمم الّذين اعترفوا بحضرته رايةً للهداية الرّبّانيّة فهم ينعمون بحالة من الألفة والمحبّة الحقّة. ولو حضرتم اجتماعًا لهم في الشّرق لما تبيّنتم بينهم المسيحيّ من المسلم، ولما عرفتم من كان يهوديًّا أو زرادشتيًّا أو بوذيًّا، ذلك لأنّهم تآخوا بشكل كامل وسُوّيت اختلافاتهم الدّينيّة. وهم يتعاشرون بكلّ محبّة ورَوْح وريحان كما لو كانوا ينحدرون من أسرة واحدة، وكما لو كانوا شعبًا واحدًا.

[1]        طبقًا لإحصائيّات عام 1912م.

 

[2]        بحسب إحصائيّات ذلك التّاريخ أيضًا.

 

(9) 17 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دونته إمّا ميليك

علينا جميعًا أن نزور المرضى. فعندما يكونون في حزن ومعاناة، يغدو مجيء صديق لزيارتهم عونًا ومنفعة حقيقيّة لهم. فالفرح علاج عظيم للمريض. ولقد جرت العادة في الشّرق أن يزور النّاس المريض كثيرًا ويقابلونه شخصيًّا. ويبدي أهل الشّرق غاية اللّطف والمودّة للمريض والمكروب. ولهذا العمل أثر أعظم من العلاج نفسه. فعليكم دائمًا أن تظهروا هذا الشّعور بالمحبّة والمودّة عندما تزورون عليلاً أو مصابًا.

يمكن تشبيه عالم الإنسانيّة بالإنسان الفرد؛ فلهذا العالم أمراضه وعلله. ولا بدّ أن يُشخَّص المرضُ على يد طبيب حاذق. وأنبياء الله هم الأطبّاء الحقيقيّون، فهم يصفون الدّواء طبقًا لأحوال البشر السّائدة في أيّ عصر أو زمان يظهرون. إنّهم يعرفون الأمراض، ويتبيّنون أسباب العلل الدّفينة ويصفون الدّواء اللاّزم. وكلّ من يتداوى بذلك الدّرياق يبلغ الصّحّة الأبديّة. ففي زمان يسوع المسيح، على سبيل المثال، كان عالم البشر مبتليًا بمختلف العلل، وكان يسوع المسيح هو الطّبيب الحقّ فأتى وشخّص الأعراض ووصف الدّواء الحقيقيّ. فيا تُرى ماذا كان ذلك الدّواء؟ لم يكن الدّواء سوى تعاليمه المنزلة والمناسبة تمامًا لعصره. وبعد ذلك طرأت على جسم الهيئة الاجتماعيّة أمراض وأسقام جديدة، وصار العالم معتلاًّ، وظهر المزيد من الأمراض العضال، لاسيّما في شبه الجزيرة العربيّة. فأرسل الله حضرة محمّد هناك. فجاء ووصف علاجًا يلائم الأحوال بحيث أصبح العرب أصحّاء وأقوياء ومعافين في ذلك الزّمان.

في عصرنا الحاضر أصيب عالم البشر أيضًا بأمراض شديدة وأسقام بالغة تنذر بفنائه، ولذا ظهر حضرة بهاء الله. وهو الطّبيب الحقيقيّ الّذي جاء بالدّرياق والشّفاء الرّبّانيّ لعالم الإنسان. إذ جاء بتعاليم لكلّ العلل – كالكلمات المكنونة والإشراقات والطّرازات والتّجلّيات والكلمات الفردوسيّة والبشارات وغيرها. وهذه الكلمات والتّعاليم المقدّسة هي العلاج للهيئة الاجتماعيّة، وهي الوصفة الرّبّانيّة والعلاج الصّحيح للأسقام الّتي ألمّت بالعالم. فعلينا إذًا أن نقبل هذا الدّواء الشّافي ويكون لنا منه نصيب لكي نضمن الشّفاء التّامّ. وكلّ نفس تحيا طبقًا لتعاليم حضرة بهاء الله تصير خالية من العلل والأسقام المتفشّية في كلّ أرجاء العالم البشريّ، وإلاّ ابتليت باعتلالات الأنانيّة، وبالأسقام الفكريّة والأمراض الرّوحانيّة، والنّواقص والشّرور، ولا يكون لها نصيب من العطايا الرّبّانيّة الباعثة للحياة.

إنّ حضرة بهاء الله هو الطّبيب الحقّ، إذ شخّص أحوال البشريّة ووصف العلاج اللاّزم. والمبادئ الجوهريّة لوسائل علاجه النّاجعة هي معرفة الله ومحبّة الله والانقطاع عمّا سوى الله والتّوجّه بإخلاص إلى ملكوت الله، والإيمان التّامّ، والثّبات والوفاء، والشّفقة مع كلّ الخلائق، واكتساب الفضائل الرّبّانيّة المعنيّة بعالم الإنسان. هذه هي المبادئ الأساسيّة للتّقدم والمدنيّة والسّلام العالميّ ووحدة بني الإنسان. وتلك هي أساسيّات تعاليم حضرة بهاء الله وسرّ الصّحّة الأبديّة وعلاج الإنسان وشفاؤه.

أملي هو أن تمدّوا يد العون لشفاء جسم العالم السّقيم بواسطة هذه التّعاليم حتّى ينير ذلك الضّياء الأبديّ كافّة أمم البشريّة.

(10) 18 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنته إمّا ميليك

إنّ العالم الإنسانيّ مهما ترقّى في الحضارة المادّيّة فإنّه يبقى محتاجًا للتّرقّي الرّوحانيّ المذكور في الإنجيل. ذلك لأنّ كمالات العالم المادّيّ محدودة بينما الكمالات الإلهيّة غير محدودة. وبما أنّ الكمالات المادّيّة محدودة، فإنّ احتياج الإنسان إلى الكمالات الإلهيّة غير محدود.

فطوال تاريخ البشريّة نلاحظ أنّه رغم وصول الكمالات المادّيّة إلى الذّروة في عديد من العصور، إلاّ أنّها كانت محدودة، بينما الكمالات الرّبّانيّة كانت دومًا لامتناهية وبغير حدود. فالمحدود يظلّ دائمًا أبدًا في حاجة إلى غير المحدود. ويجب أن تكون المادّيّات مرتبطة بالرّوحانيّات. يمكن تشبيه المادّيّات بالجسد، أمّا الكمالات الإلهيّة فهي نفثات الرّوح القدس بعينها. وبغير الرّوح يعجز الجسد عن تحقيق أيّ تقدّم حقيقيّ. فهو محتاج إلى الرّوح حتّى لو كان في أسمى حالات الجمال والامتياز. فزجاجة المصباح تبقى محتاجة إلى النّور مهما كانت مصقولة ورقيقة. ومن دون النّور لا يعطي السّراج أو الشّمع ضوءًا. وبغير الرّوح يكون الجسد بلا ثمر. إنّ معلّم العلوم المادّيّة محدود بمادّته. والفلاسفة الّذين ادّعوا أنّهم المربّون للجنس البشريّ لم يكن بمقدورهم أكثر من تربية أنفسهم، وإذا هم تمكّنوا من تربية الآخرين لم يكن ذلك إلاّ على قدر مقدور. لقد عجزوا عن منح تربية عامّة. فالتّربية العامّة تتأتّى للبشريّة بفضل قوّة الرّوح القدس.

ومثال ذلك السّيّد المسيح الّذي ربّى البشريّة وطوّرها بشكل شامل. فقد نجّى أممًا وشعوبًا من أسر الخرافات والوثنيّة. ودعا الكلّ إلى عرفان وحدانيّة الله. فبعد أن كانوا ظلمانيّين صاروا نورانيّين، وبعد أن كانوا جسمانيّين صاروا روحانيّين، وبعد أن كانوا أرضيّين أصبحوا سماويّين. فقد أنار عالم الأخلاق. وما كان هذا الرّقيّ الشّامل ليحدث أبدًا بقوّة الفلسفة، فهو يتأتّى فقط من خلال تأثير الرّوح القدس النّافذ في كلّ الأشياء. ولذلك مهما كان تقدّم عالم الإنسان كبيرًا، فإنّه يبقى عاجزًا عن بلوغ الذّروة العليا ما لم تدبّ فيه الحياة بتربية الرّوح القدس وفيوضاتها الرّبّانيّة، فهذه هي الّتي تضمن رقيّ البشر ورخاءهم.

لذا أوصيكم بأن تكرّسوا اهتمامكم لرقيّكم الرّوحيّ. وكما اجتهدتم في الأمور المادّيّة وبلغتم فيها شأوًا رفيعًا من التّقدّم الدّنيويّ، أن تصبحوا بالمثل متمكّنين حاذقين في المعرفة الإلهيّة. عسى أن تنتعش فيكم الإحساسات الرّبّانيّة وتتنامى، ويتعاظم إخلاصكم للملكوت السّماويّ، وتصبحوا المستفيضين من دفقات الرّوح القدس، وتتلقّوا العون في عالم الفضائل، وتنالوا القوّة المعنويّة، حتّى تتجلّى فيكم رفعة العالم الإنسانيّ، وتبلغوا السّعادة الكلّيّة، وتنالوا الحياة الأبديّة، وتحصلوا على المجد السّرمديّ، وتولدوا ولادة ثانية، وتصبحوا مظاهر الألطاف الرّبّانيّة.

(11) 20 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

إنّني على وشك مغادرة المدينة لبضعة أيّام من أجل الرّاحة في مونتكلير. وعندما أعود أودّ أن أعدّ وليمة اتّحاد كبيرة. ولم يـُعثر على مكان لها بعد، ولكنّها يجب أن تكون في الهواء الطّلق تحت الأشجار وفي مكان ما بعيدًا عن صخب المدينة – أشبه بالحدائق الفارسيّة، وسيكون الطّعام إيرانيًّا. وعندما يُهيّأ المكان سيتمّ إعلام الجميع، فنحظى بلقاء عامّ ترتبط فيه الأفئدة وتمتزج الأرواح ويُرسى أساس جديد للاتّحاد. وسيأتي جميع الأحبّاء، وسيحلّون ضيوفًا عليّ. وسوف يكونون بمثابة أعضاء جسم واحد، وتكون روح الحياة المتجلّية في ذلك الجسم روحًا واحدة، ويكون أساس هيكل الوحدة تلك أساسًا واحدًا، ويصبح كلّ واحد بمثابة لبنة في ذلك الأساس المتين المترابط، ويكون كلّ فرد كورقة أو زهرة أو ثمرة على شجرة واحدة. ولقد رغبتُ في هذه الوليمة والّلقاء الرّوحانيّ من أجل الألفة والاتّحاد.

كلّ ما يؤدّي إلى الوحدة هو رحمانيّ ومنبعث من عين الفضل الإلهيّ، وكلّ شأن عموميّ هو ربانيّ. بينما يكون كلّ ما هو علة الانشقاق والتّباعد شيطانيًّا لأنّه نابع من الأغراض النّفسيّة. انظروا في الخليقة، كم هو واضح بكلّ جلاء أنّ سبب الوجود هو الوحدة والتّماسك، وعلّة العدم هو التّباعد والشّقاق. فالعناصر تجتمع معًا في تآلف بواسطة قوّة الخلق الإلهيّ، ويكون الحاصل من ذلك التّآلف كائنًا مركبًا. فمن اتّحاد مجموعة معيّنة من هذه العناصر جاء الإنسان إلى الوجود، كما نتج عن تركيبات مختلفة أخرى وجود النّباتات والحيوانات. وعلى ذلك يكون تجاذب العناصر الجماديّة هذا هو علّة الحياة والوجود. فمن امتزاجها إذًا أصبح ما نراه بين البشر من انجذاب ومحبّة وألفة أمرًا ممكنًا. وما لم تكن تلك العناصر قد جُمعت معًا بانجذاب من أجل إيجاد الجسد البشريّ، لما تسنّى لتلك القوى الواعية الرّاقية أن تتجلّى في ذلك الجسد. أمّا عندما تنفصل تلك العناصر، ويندحر تجاذبها وتماسكها فالموت وتحلّل الجسم المركّب منها حادث لا محالة. وعليه، فإنّ الانجذاب والاتّحاد حتّى بين تلك العناصر المادّيّة يعني الحياة في جسم الإنسان، بينما يعني تنافرها وتباعدها الموت والهلاك. وفي سائر أرجاء الوجود وكلّ ممالك الخليقة نجد هذا النّاموس مكتوبًا: المحبّة والتّجاذب هما سبب الحياة، والخلاف والتّنافر هما علّة الهلاك.

انظروا إلى أجسام كلّ الكائنات الطّبيعيّة، تجدوا أنّ عناصر معيّنة تجمّعت وائتلفت في تجاذب كيميائيّ. فالشّجرة والإنسان والسّمكة كلّها ناجمة عن هذا التّجاذب والتّماسك اللّذين جمعا هذه العناصر معًا، فتكّون منها تركيب أو كيان مركّب. فالحاصل من تجميع ذرّيّ معيّن يكون، على سبيل المثال، مرآة أو منضدة أو ساعة، ذلك لأنّ هناك قوّة جاذبة استقطبت هذه الذّرّات وربطتها ببعضها البعض. وعندما تُسلب هذه القوّة الجاذبة يحدث الانحلال والتّفكّك، فلا تبقى مرآة ولا منضدة ولا ساعة – لا أثر ولا وجود. فامتزاج الذّرّات إذًا يعطي حقيقة ما، بينما يكون تشتّتها أو تفرّقها مساويًا للعدم.

تمعّنوا في قانون الانجذاب الّذي يجمع بين الحيوانات الأليفة. فهي تظهر الألفة وتحيا في أسراب وقطعان، ويتجلّى بينها حبّ المعاشرة. فنجد بين الطّيور دلائل على إخاء ومحبّة غريزيّتين. أمّا الحيوانات المفترسة والطّيور الجوارح فهي ليست سوى النّقيض للحيوانات الأليفة. فالأغنام والأبقار والخيول ترعى معًا في انسجام ووفاق، أمّا الحيوانات المفترسة فلا تشاهد أبدًا في حالة من المحبّة والألفة، ويحيى كلّ منها منعزلاً ومنفردًا أو مع رفيق واحد. وعندما يرى كلّ منها الآخر تظهر غاية الشّراسة. فالكلاب تهجم على الكلاب، وكذلك فإنّ الذّئاب والنّمور والأسود تكشّر عن أنيابها وتتقاتل حتّى الموت. وشراسة هذه الحيوانات غريزيّة. وهناك حكمة خَلْقيّة لذلك. والجوارح مثل النّسور والصّقور تعيش هي أيضًا حياة منفردة وتبني أعشاشها بتباعد عن بعضها البعض، بينما يطير الحمام في أسراب ويبني عشّه على نفس الأغصان. وإذا ما تقابل نسر مع آخر تقع معركة طاحنة. أمّا لقاء حمامتين فهو لقاء سلام. فيكون من الواضح إذًا أنّ هذه الخصال الحميدة وكذلك عكسها موجود بين كائنات المملكة الأدنى.

لا يُبدي السّواد الأعظم من البشريّة محبّة وإخاء حقيقيّين. فصفوة الخلق هم الّذين يتعايشون في محبّة واتّحاد. وهم أفضل عند الله لأنّ الفضائل الإلهيّة ظاهرة فيهم بالفعل. ويُشاهد أعظم محبّة واتّحاد في المظاهر الإلهيّة. فالاتّحاد بينهم لا تنفصم عراه، وهو اتّحاد لا يتغيّر، أبديّ سرمديّ. وكلّ مظهر منهم معبّرٌ عن كلّ المظاهر وممثّلٌ لهم. فإذا أنكرنا مظهرًا من مظاهر الله فإنّنا بذلك ننكرهم جميعًا، وإلحاق الأذى بأحدهم هو إلحاق الأذى بالكلّ. وكلّ منهم يثني على الآخرين ويجلّهم في كلّ مرتبة من مراتب الوجود. وكلّ منهم يساند تعاضد البشريّة ويروّج لوحدة القلوب الإنسانيّة. ويأتي في الرّتبة التّالية للمظاهر الإلهيّة أولئك المؤمنون الّذين يتّصفون بالاتّفاق والوداد والمحبّة. ولقد بلغ الأحبّاء في إيران مثل هذه الأخوّة والمحبّة حتّى أصبحت في واقع الأمر عائقًا في تدبير أمورهم المادّيّة. فكلّ من ذهب منهم إلى دار من دور الأحبّاء عدّ نفسه صاحب تلك الدّار، إن صحّ التّعبير. فليس هناك ازدواجيّة في المصالح والمودّة، وإنّما تشارك تامّ. ولا يتردّد الحبيب الزّائر في أن يفتح صندوق المؤونة ويأخذ من الزّاد ما يكفيه، بل إنّهم يرتدون ملابس بعضهم البعض عند الضّرورة. فمن كان في حاجة إلى قبّعة أو معطف يأخذه ويرتديه. بل إنّ صاحب الرّداء يكون شاكرًا وممتنًا لاختفائه. فعندما يعود إلى الدّار قد يقال له ‘إنّ فلانًا كان هنا وأخذ معطفك’، فيردّ ‘الحمد لله، إنّني ممنون له، الحمد لله، أنا شاكر لأنّني مُنحت هذه الفرصة لأظهر له محبّتي.’ ولقد بلغت هذه الدّرجة من المودّة والألفة حدًّا أنّ حضرة بهاء الله أمر بألاّ يأخذ أحد ما لغيره إلاّ إذا وُهب له. والقصد هو إيضاح إلى أيّ درجة عمّت الوحدة والمحبّة بين الأحبّاء البهائيّين في الشّرق.

آمل أن تتجلّى وتتّضح نفس هذه الدّرجة والشّدّة من المحبّة هنا، وأن تسري الرّوح الإلهيّة في قلوبكم بدرجة يُعتبَر فيها كلّ واحد من أحبّاء الله وكأنّه ممثّل لهم جميعًا، وأن يكون كلّ واحد منهم سببًا للاتّحاد ومركزًا للوفاق، وأن يرتبط البشر قاطبة بألفة ومحبّة حقيقيّتين.

خطبتان ألقاهما حضرة عبد البهاء في مونتكلير ووست إنجلوود بولاية نيوجيرسي (1) 23 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بمونتكلير، ولاية نيوجيرسي

نقلاً عمّا دوّنه فرانك أوزبورن

بدأ حضرة عبد البهاء حديثه مخاطبًا البهائيّين الحاضرين بقوله: أنتم مبتسمون دائمًا! فردّ السّيّد أوزبورن قائلاً: بالتّأكيد، يجب أن تعكس وجوهنا سعادتنا في هذا المحضر. فعاود حضرة عبد البهاء حديثه قائلاً:

أجل، هذا يوم بهاء الله، عصر الجمال المبارك، دورة الاسم الأعظم. فإذا لم تبتسموا الآن، فأيّ زمان تنتظرون؟ وأيّ سعادة أعظم من هذه تتوقّعون؟ فهذا هو ربيع الظّهور. لقد هطلت أمطار الرّبيع من غمام الرّحمة الإلهيّة، وعبق الأريج من نسيم الرّوح القدس المحيي للأرواح. ومن الحقل والمرج تعبق نفحة الشّكر كالبخور الشّذيّ الصّاعد إلى عرش الله، وصار العالم عالمًا جديدًا، وحيت النّفوس وتجدّدت الأرواح وانتعشت. فهذا هو حقًّا وقت الفرح والسّرور.

(ثمّ خاطب حضرة عبد البهاء من كانوا يتوافدون على مكان اللّقاء قائلاً):

مرحبًا مرحبًا! أهلا بكم!

(هنا بدأت أجراس الكنيسة تدقّ)

لم أشعر بصحّة جيدة هذا الصّباح، وإلاّ كنت قد ذهبتُ إلى الكنيسة. فنحن نسمع نداء العالم الرّوحانيّ في كلّ مكان، ونرى عمل الله في كلّ شيء. فأجراس الكنائس تجلجل في ذكرى يسوع المسيح على الرّغم من مضيّ أكثر من تسعة عشر قرنًا على زمان حياته على الأرض. وليس هذا إلاّ بفضل قوّة الرّوح، إذ لا يمكن لأيّ قوّة مادّيّة أن تحقق ذلك. بيد أنّ من عميت أبصارهم من النّاس ينكرون السّيّد المسيح، ويسعون لتخليد أسمائهم بالأعمال الدّنيويّة. يرغب كلّ واحد منهم أن يذكره النّاس، ولكن قد لا يدوم ذكر المرء أكثر من تسع سنوات بسبب إنجازاته الدّنيويّة والمادّيّة، بينما تدوم ذكرى السّيّد المسيح ومجده رغم مرور ألف وتسعمائة سنة. فاسم حضرته أبديّ ومجده سرمديّ. فعلى الإنسان إذًا أن يصغي بسمع الاهتمام إلى نداء العالم الرّوحانيّ، ساعيًا قبل كلّ شيء إلى ملكوت الله وكمالاته. هذه هي الحياة الأبديّة وهذه هي الذّكرى الدّائمة.

ما أعظم الفرق بين مجد السّيّد المسيح ومجد أيّ فاتح دنيويّ! ولقد روى المؤرّخون أنّ نابليون بونابارت الأوّل تسلّل خلسة في جنح اللّيل خارجًا من مصر عائدًا إلى فرنسا. ذلك لأنّه أثناء حملته على فلسطين اندلعت ثورة وواجه الحكم في بلده قلاقل شديدة. إذ منع الثّوريون العبادة في الكنائس، وفرّ القساوسة ذعرًا. وأصبحت فرنسا دولة إلحاديّة، وعمّت الفوضى. لقد أقلعت سفينته ذات ليلة أضاءها نور القمر، وكان نابليون يذرع سطح السّفينة جيئة وذهابًا، بينما كان ضبّاطه جالسين معًا يتحادثون. فتكلّم أحدهم عن أوجه الشّبه بين بونابارت والسّيّد المسيح. توقّف نابليون وردّ عليهم بتجهّم قائلاً: أحسبتم أنّني عائد إلى فرنسا كي أؤسّس دينًا؟

لقد أسّس يسوع المسيح دين الله بواسطة المحبّة، وكان سلطانه أبديًا. أمّا نابليون فقد أطاح بالحكومات من خلال القتال وسفك الدّماء. ثمّ زال حكمه، وأُقصي هو الآخر عن العرش. فبينما كان بونابارت هادمًا لحياة البشر، كان حضرة المسيح مخلّصًا. وبينما سيطر بونابارت على أجساد الرّجال، كان حضرة المسيح فاتحًا لأفئدة البشر. ومع أنّه لم يكن أيّ من أنبياء الله من مشاهير الرّجال، إلاّ أنّهم كانوا بغير نظير أو مثيل من حيث قوّتهم الرّوحانيّة. فالمحبّة هي السّلطنة الدّائمة، والمحبّة هي القوّة الإلهيّة، وبها أطيح بالملوك عن عروشهم وكُسرت شوكتهم. وأيّ دليل على ذلك أعظم ممّا حقّقه حضرة بهاء الله؟ فقد ظهر حضرته في المشرق ثمّ تعرّض للنّفي، وزجّ به في سجن عكّاء بفلسطين. وقام في وجهه ملكان قويّان مستبدّان. إلاّ أنّه كتب إبّان نفيه وسجنه ألواحًا ذات هيمنة إلى ملوك العالم وحكّامه، معلنًا سلطنته الرّوحانيّة، ومؤسّسًا لدين الله، وناشرًا رايات ملكوت أمر الله. لقد أرسل أحد هذه الألواح إلى نابليون الثّالث امبراطور فرنسا، فتسلّمه بازدراء ونبذه وراء ظهره. فخاطبه حضرة بهاء الله بلوح ثان، جاء فيه لَوْ كُنْتَ صاحِبَ الكَلِمَةِ ما نَبَذْتَ كِتابَ اللهِ وَرآءَ ظَهْرِكَ إِذْ أُرْسِلَ إِلَيْكَ… إِنّا بلَوْناكَ بِهِ ما وَجَدْناكَ عَلَى ما ادَّعَيْتَ قُمْ وَتَدارَكْ ما فاتَ عَنْك. سَوْفَ تَفْنَى الدّنْيا وَما عِنْدَكَ وَيَبْقى المُلْكُ للهِ… بِما فَعَلْتَ تَخْتَلِفُ الأُمُورُ فِي مَمْلَكَتِكَ وَتَخْرُجُ المُلْكُ مِنْ كَفِّكَ جَزاءَ عَمَلِكَ إِذًا تَجِدُ نَفْسَكَ فِي خُسْرانٍ مُبِينٍ… أَعِزُّكَ غَرَّكَ… سَوْفَ يَزُولُ إِلاّ بِأَنْ تَتَمَسَّكَ بِهذَا الحَبْلِ المَتِينِ، قَدْ نَرَى الذِّلَّةَ تَسْعَى عَنْ وَرَائِكَ…ولقد حدث ذلك تمامًا كما صرّح به حضرة بهاء الله، إذ خُلع نابليون الثّالث عن العرش وأُبعد عن وطنه وزالت إمبراطوريّته وأصبحت عدمًا بينما بقيت ودامت هيمنة وسلطنة حضرة بهاء الله، ذلك المسجون، بفضل تأييدات الله. وهذا أمر واضح كالشّمس في رابعة النّهار إلاّ لمن حرموا من بصيرة الرّوح. فإذا ما أصبنا بالزّكام لن نستطيع أن نشمّ طيب الشّذى العابق من روضة الملكوت الإلهيّ.

بالاختصار، إنّ أمم العالم صارت متّحدة في ظلّ سلطنة الملكوت الإلهيّ وبات الشّرق والغرب يتعانقان اليوم هنا في محبّة ووداد. هذه ليست وحدة تجاريّة أو سياسيّة، بل هي وحدة بواسطة محبّة الله. لقد طوينا المحيط من أجل نشر تلك المحبّة في أمريكا، وإعلان نداء الملكوت، وإرساء القواعد الرّوحانيّة للسّلام العالميّ. ولسوف يُستحكم بنيان السّلطنة الإلهيّة حتّى ولو قام النّاس في وجه الملكوت، إذ هو ملكوت أبديّ وسلطنة ربّانيّة. لقد نعت النّاس حضرة المسيح في أيّامه بالشّيطان، بعلزبوب، ولكن انصتوا الآن إلى تلك الأجراس الّتي تدقّ من أجله! فلم يكن شيطانًا وإنّما كان كلمة الله. لقد سخروا منه، وداروا به في المدينة على ظهر حمار، وتوّجوه بإكليل من الشّوك، وبصقوا على وجهه المبارك ثمّ صلبوه. ولكنّه اليوم مع الله وفي الله لأنّه كان الكلمة ولم يكن شيطانًا. لم يكن أحد في إيران من خمسين سنة مضت يلمس الإنجيل بيده، فجاءهم حضرة بهاء الله وسألهم: ‘لماذا؟’ فكان جوابهم: ‘ليس هذا كلام الله.’ فردّ عليهم: ‘عليكم أن تقرأوه وتفهموا معانيه، لا أن تكونوا كمثل الّذين يردّدون كلماته وحسب.’ والآن فإنّ البهائيّين في كافّة أرجاء الشّرق يقرأون الكتاب المقدّس ويفهمون تعاليمه الرّوحانيّة. لقد نشر حضرة بهاء الله دعوة المسيح وفكّ ختم كتاب المسيحيّين واليهود وأزال الحواجز الّتي خلقها التّمسّك بالأسماء وأثبت أنّ كلّ الأنبياء الإلهيّين تكلّموا بحقيقة واحدة، وأنّ من ينكر نبيًّا منهم ينكر غيره من الأنبياء، إذ إنّهم جميعًا في اتّحاد كامل مع الله.

لقد تقوّل علينا بعض المسيحيّين في لندن بأنّنا منكرون للمسيح. ولكنّنا نقول إنّ حضرة المسيح هو كلمة الله. ولقد التقينا هنا معًا في هذا الصّباح من أجل ذكراه، وجمعتنا الأجراس في محبّة واتّحاد. وهذا البيت هو بمثابة معبد لله. فأهلاً بالجميع! أهلاً ومرحبًا![1]

سؤال: ‘كيف نتبيّن حقيقة أو خطأ تفاسير معيّنة للكتاب المقدّس، كما يحدث، على سبيل المثال، من أنصار فلسفة النّقد العالي وغيرهم من دعاة الفلسفات المسيحيّة الرّائجة في يومنا هذا؟

حضرة عبد البهاء: إنّ سؤالك محيّر وهو أيضًا سؤال مهمّ. والإجابة الكاملة عنه تتطلّب وقتًا طويلاً، ولكنّني سأجيب عنه بإيجاز. إنّ المفسّر الحقيقيّ الوحيد لكتاب الله هو الرّوح القدس، إذ إنّه ليس هناك عقلان بشريّان متماثلان، ولا يتّفق شخصان على مفهوم واحد، ولا ينطق اثنان بنفس الحديث. بمعنى أنّه لا يمكن أن تكون هناك حقيقة أو اتّفاق من منطق التّفسير البشريّ العاديّ.

سؤال: هل توافقون على الفلسفة الجديدة القائمة على أنّ العقل متحكّم في المادّة؟

حضرة عبد البهاء: إنّ الفلسفة ترقِّي العقول والأفهام. أمّا حضرة المسيح وكلمة الله فهما من وحي الرّوح الإلهيّ. فمثلاً يقول أفلاطون: ‘الاستنتاج العقليّ هو كذا وكذا’ بينما يقول حضرة المسيح: اقتدوا بالرّوح الإلهيّ.

سؤال: هل نسمح للأطفال بأن يقرؤا مؤلّفات دعاة النّقد العالي؟

حضرة عبد البهاء: في البداية عليهم أن يتعلّموا حقيقة الدّين كأساس. فمثلاً، في الكنيسة الكاثوليكيّة يتعلّم الطّفل أنّه عن طريق تصرّفات معيّنة للقسّيس يتحوّل خبز وخمر المناولة إلى جسد حضرة المسيح ودمه. وهذا لا يقبله العقل، فعلينا أن نعلّم الطّفل أنّ هذا التّحوّل يرمز إلى حقيقة أنّ حضرة المسيح هو الخبز الإلهيّ الّذي يهب من يتناوله حياة أبديّة. ولقد حفظ اليهود التّوراة عن ظهر قلب، ولكنّهم أخفقوا في فهم معانيه. أمّا لو فهموا الدّلالات الرّوحانيّة للنّصوص الإلهيّة لكانوا أوّل من آمن بحضرة المسيح. وأنتم من بين أوائل المؤمنين في هذا البلد، فأنتم أبناء الملكوت. ولقد علّمكم حضرة بهاء الله حقيقة الدّين. هناك الكثير من الأحبّاء البهائيّين في إيران ممّن لا نعرفهم، إلا أنّنا عرفناكم هنا في أمريكا. فتوجّهوا إلى شمس الحقيقة، فدائمًا ما كانت تلك الشّمس تشرق من جهة الشّرق. تلمّسوا جوابًا لأسئلتكم من القلب وكونوا كالأطفال الصّغار. وما لم تُعدّ التّربة وتُهيّأ فالزّراعة لا تجديها نفعًا.

[1]        وهنا شرع الحاضرون في إلقاء الأسئلة على حضرة عبد البهاء وأخذ يجيب عنها.

 

(2) 29 يونيو/ حزيران 1912

الخطبة المباركة بضيافة الاتّحاد، بالهواء الطّلق،
بمدينة وست إنجلوود بولاية نيوجيرسي

نقلاً عمّا دوّنته إستر فوستر

إنّ هذا اللّقاء لقاء بهيج، فقد أتيتم إلى هنا بنيّة خالصة، ومقصد الحاضرين هنا جميعًا هو نيل الفضائل الإلهيّة ودافعهم هو الانجذاب للملكوت الرّبّانيّ. وبما أنّ مرام الكلّ هو الاتّحاد والاتّفاق فمن المؤكّد أن يحصل من هذا اللّقاء نتائج عظيمة وسيكون سببًا لجذب موهبة جديدة، لأنّنا متوجّهون إلى الملكوت الأبهى، ملتمسون العطايا الرّبّانيّة اللاّمتناهية. إنّ هذا اليوم يوم جديد، وهذه السّاعة ساعة جديدة فيها اجتمعنا. ولا شكّ أنّ شمس الحقيقة سوف تغمرنا بكامل إشراقها، وأنّ ظلام الاختلافات سيتبدّد، وستحدث محبّة ووحدة عظيمتين، وستشملنا النّعم الإلهيّة، وسيكون طريق الملكوت ممهّدًا، وستصبح هذه النّفوس متوقّدة كالشّموع، ومشرقة بنور الهداية السّامية. وليس لمثل هذه اللّقاءات شبيه ولا نظير في عالم البشر الّذي يلتفُّ النّاس فيه لمآرب مادّيّة أو لترويج مصالح دنيويّة، ذلك لأنّ هذا اللّقاء نموذج لذلك التّرابط الرّوحانيّ الكامل في عالم الوجود الأبديّ.

اللّقاءات البهائيّة الحقّة هي مرايا الملكوت الّتي تنعكس عليها صور الملأ الأعلى، وتتجلّى فيها أنوار الهداية الكبرى. فهي تنطق بنداء الملكوت السّماويّ، ويتردّد منها صدى نداء الملائكة لكلّ أذن صاغية. وأثر مثل هذه اللّقاءات دائم على مرّ العصور. فلهذا اللّقاء اسم ومغزى يدومان إلى الأبد، فلسوف تعقد مئات الآلاف من اللّقاءات تخليدًا لهذه المناسبة، وستعاد فيها نفس الكلمات الّتي أحدّثكم بها اليوم لعصور قادمة. فابتهجوا إذًا لأنّكم استظللتم في ظلّ العناية الرّبّانيّة وافرحوا واستبشروا لأنّ المواهب الرّبّانيّة من نصيبكم وأنّ الرّوح القدس ينفث الحياة فيكم.

افرحوا، لأنّ المائدة السّماويّة قد أعدّت لكم!

افرحوا، لأنّ ملائكة السّماء تعينكم وتؤيّدكم!

افرحوا لأنّ لحاظ الجمال المبارك، بهاء الله، متوجّهة إليكم!

افرحوا لأنّ بهاء الله هو حاميكم!

افرحوا لأنّ المجد الأبديّ قد قُدِّر لكم!

افرحوا لأنّ الحياة الأبديّة في انتظاركم!

كم تاق الكثير من النّفوس المباركة لهذا القرن النّورانيّ، وانحصرت أقصى آمالهم وأمانيهم في سرور وحبور يوم واحد كهذا. وكم من ليال قضوها في سهاد وحسرة حتّى الصّباح شوقًا لهذا العصر، وتوقًا إلى بلوغ ولو ساعة واحدة من هذا الزّمان. لقد شملكم الله بفضله في هذا القرن واختصّكم لنيل بركاته. فعليكم إذًا أن تحمدوا الله وتشكروه بالرّوح والفؤاد امتنانًا منكم لهذا الفوز العظيم ولنوال هذا الفيض العميم – لأنّ أبوابًا كهذه فُتِحت على وجوهكم، وفيضًا كهذا ينزل من غمام الرّحمة، وأنّ هذه النّسمات المنعشة الهابّة من الفردوس الأبهى تـُحيي نفوسكم. عليكم أن تكونوا قلبًا واحدًا وروحًا واحدًا وإحساسًا واحدًا، كي تكونوا أمواج بحر واحد، وأنجم سماء واحدة، وثمارًا تزيّن شجرة واحدة، وأوراد روضة واحدة، حتّى يستحكم بنيان هيكل وحدة الإنسانيّة بواسطتكم في عالم البشر، فأنتم من دعيتم لإعلاء قضيّة الوحدة والاتّحاد بين أمم الأرض.

لكن عليكم أوّلاً أن تكونوا متّحدين ومتّفقين فيما بينكم وأن تكونوا في غاية الشّفقة والمحبّة لبعضكم البعض، ويكون كلّ منكم مستعدًّا للتّضحية بحياته في سبيل سعادة الآخر. عليكم أن تكونوا مستعدّين للبذل من مالكم من أجل الآخر. فعلى الأغنياء منكم أن يُظهروا العطف على الفقراء، وعلى الموسرين أن يراعوا المساكين. فالأحبّاء في إيران يهبون حياتهم لبعضهم البعض، ويجهدون لإعانة الآخرين وترويج مصالحهم وخيرهم. وهم يحيون بكمال الاتّحاد والاتّفاق. فعليكم أن تكونوا بكامل الاتّفاق والاتّحاد مثل الأحبّاء الإيرانيّين، وذلك إلى الدّرجة الّتي تضحّون فيها بأرواحكم. وليكن منتهى آمالكم منح السّعادة لبعضكم البعض. وعلى كلّ واحد أن يكون خادمًا للآخرين، مهتمًّا براحتهم ورخائهم. وعلى المرء أن ينسى نفسه بالكلّيّة في سبيل ربّه وألاّ يلتفت إلى رضائه وإنّما يسعى في رضاء الآخرين. وألاّ يطلب شهرة أو نعمة لنفسه بل يسعى لهذه النّعم والبركات من أجل إخوانه وأخواته. ورجائي هو أن تكونوا على هذا المنوال، وأن تنالوا الموهبة العظمى، وأن تتّصفوا بالصّفات الرّوحانيّة بالدّرجة الّتي تنسون معها أنفسكم تمامًا وتهبون ذواتكم بالقلب والرّوح قربانًا للجمال المبارك. وألاّ تكون لكم إرادة أو رغبة شخصيّة وإنّما تبغون كلّ ما تبغونه من أجل أحبّاء الله، وتحيون معًا بكامل المحبّة والألفة. عسى أن تحيطكم مواهب حضرة بهاء الله من كلّ حدب وصوب. فهذه هي الموهبة الكبرى وهذه هي المنحة العظمى. وهذه هي العطايا الرّبّانيّة اللاّمتناهية.

خطب ألقاها حضرة عبد البهاء في نيويورك (1) 1 يوليو/ تمّوز 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

هل هناك عند الله ما هو أفضل من التّفكير بشأن الفقراء؟ فالفقراء محبوبون من أبينا السّماويّ. وعندما جاء حضرة المسيح إلى العالم كان من آمن به واتّبعه هم الفقراء والبسطاء، ممّا يُظهِر أنّ الفقراء كانوا قريبين من الله. وعندما يؤمن أحد الأغنياء ويتّبع المظهر الإلهيّ فذلك برهان على أنّ ثروته ليست عقبة تمنعه من بلوغ سبيل الخلاص. وبعد مروره بامتحانات وتجارب يتبيّن ما إذا كانت ممتلكاته مانعًا لحياته الدّينيّة. ولكنّ الفقراء قد اختصّهم الله بحُبّه. فحياتهم مملوءة بالصّعاب، ومحنهم لا تتوقّف، وآمالهم منحصرة في الله وحده. ولهذا عليكم أن تعينوا الفقراء بأكثر ما يمكن حتّى لو كان ذلك بتضحية منكم. وليس لدى الله عمل أعظم من إعانة الفقراء. فالأحوال الرّوحانيّة لا تعتمد على حيازة الثّروات الدّنيويّة أو الافتقار إليها، بل عندما يكون الإنسان معوزًا من حيث المادّة تكون الأفكار الرّوحانيّة ممكنة بدرجة أكبر. فالفقر دافع للتّقرّب إلى الله. وعلى كلّ واحد منكم أن يولي اهتمامًا كبيرًا بالفقير، وأن يمدّ له يد العون. وعليكم أن تتضافروا معًا في محاولة لمساعدتهم والحيلولة دون ازدياد فاقتهم. وأعظم وسيلة للحيلولة دون ذلك هي أن تُسنّ قوانين المجتمع وتُصاغ بما لا يسمح لقلّة من النّاس أن تكون أصحاب ملايين والغالبيّة من المعوزين. ومن بين تعاليم حضرة بهاء الله تعديل وسائل المعيشة في المجتمع الإنسانيّ. وبمقتضى ذلك التّعديل لا يكون هناك تطرّف في أحوال البشر فيما يتعلّق بالثّروة والقوت. إذ يحتاج المجتمع إلى المصرفيّ والفلاح والتّاجر والعامل، تمامًا مثلما يلزم أن يتألّف الجيش من قائد وضبّاط وعساكر. فلا يمكن أن يكون الجميع قوّادًا أو أن يكونوا كلّهم ضبّاطًا أو عساكر. وعلى كلّ منهم أن تكون لديه الكفاءة ويكون مؤهّلاً من حيث موقعه في نسيج المجتمع – كلّ في وظيفته ووفقًا لمقدرته، ولكن يجب أن يتمّ كلّ ذلك بتكافؤٍ في الفرص للجميع.

حدث قديمًا أن خطرت لِليكورغوس ملك إسبرطة الّذي عاش قبل أيّام حضرة المسيح بزمان طويل فكرة المساواة المطلقة في الحكم، فسنّ قوانينَ قسّم بمقتضاها أهل إسبرطة إلى طبقات معيّنة، وجعل لكلّ طبقة منها حقوقها ووظيفتها الخاصّة بها. كان أولاها الفلاّحون والمزارعون، وثانيها أهل الصّناعة والتّجارة، وثالثها القادة أو النّبلاء. وطبقا لقوانين لليكورغوس لم يكن مطلوبًا من الطّبقة الأخيرة أن تشتغل بأيّ عمل أو مهنة، بل كان منوطًا بها الدّفاع عن البلاد في حالة الحرب والغزو. ثمّ قسّم إسبرطة إلى تسعة آلاف قسم أو منطقة متساوية، وعيّن لها تسعة آلاف قائد أو نبيل يحميها، وبهذه الكيفيّة كان فلاّحو كلّ منطقة مطمئنّين من حيث الحماية، بيد أنّه كان على كلّ واحد منهم أن يدفع ضريبة لإعانة نبيل منطقته. فلم يكن على الفلاحين والتّجّار أن يدافعوا عن البلاد. وكان النّبلاء يتلقّون الضّرائب لقاء عملهم. ولكي يجعل لليكورغوس ذلك القانون أبديًّا، جمع التّسعة آلاف نبيل وأخبرهم بأنّه ذاهب في رحلة طويلة، وأنّه يرغب في أن يبقى نظام الحكم ذلك ساريًا لحين عودته. وأقسموا اليمين على حماية قانونه والمحافظة عليه. ثمّ غادر مملكته إلى منفى طوعيّ ولم يعد بعد ذلك أبدًا. ولم يحدث في التّاريخ أن قام أحد بتضحية كهذه لتحقيق المساواة بين إخوانه من بني البشر. ولكن لم يمض سوى بضع سنين إلاّ وانهار نظام الحكم الّذي أسّسه، على الرّغم من أنّه كان قد أحكمه على ذلك الأساس العادل الحكيم.

إنّ اختلاف القدرة بين أفراد البشر أمر أساسيّ. فيستحيل على الكلّ أن يكونوا متماثلين، أو أن يكونوا جميعًا متساوين، أو أن يكونوا جميعًا حكماء. ولكنّ حضرة بهاء الله قد جاء بمبادئ وأحكام من شأنها أن تحقّق التّعديل في قدرات البشر المتفاوتة. وتفضّل حضرته أنّ كلّ ما يمكن إنجازه في الحكومة البشريّة سوف يتحقّق في ظلّ هذه المبادئ. وعندما تنفّذ الأحكام الّتي أتى بها حضرة بهاء الله سوف لا يكون هناك مجال لوجود أصحاب الملايين في المجتمع، أو ذوي الفقر المدقع على الجانب الآخر. وسيتحقّق هذا التّقارب وينظّم عن طريق تعديل الدّرجات المتفاوتة من القدرات البشريّة. والقاعدة الأساسيّة للمجتمع هي الزّراعة وفلاحة التّربة. فعلى الجميع أن يكونوا منتجين. وكلّ فرد في المجتمع تتساوى قدرته الإنتاجيّة مع احتياجاته يعفى من الضّرائب، أمّا من يزيد دخله عن حاجته، فعليه أن يدفع ضريبة بالمعدّل الّذي يتحقّق معه التّعديل. بمعنى أنّه يتمّ إحداث موازنة ومواءمة بين قدرة الإنسان على الإنتاج وبين احتياجاته عن طريق النّظام الضّريبيّ. فإذا ما زاد إنتاجه عن حاجته دفع ضريبة، وإذا ما فاقت حاجاتُه إنتاجه تلقـّى مبلغًا يكفي للمواءمة أو التّعديل. ففرض الضّرائب سيكون إذًا بالتّناسب مع القدرة والإنتاج، ولن يكون هناك فقراء في المجتمع.

كما أنّ حضرة بهاء الله أوصى الأغنياء بأن يعطوا من مالهم طواعية للفقراء. كما نصّ في الكتاب الأقدس أيضًا ما يفيد أنّ على من تملّك مبلغًا معيّنًا من المال أن يدفع الخـُمـْس لله فاطر الأرض والسّماء.

(2) 1 يوليو/ تمـّوز 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه المحرّرون

أريد أن يسطع بين الأحبّاء في أمريكا نور جديد حتّى يصيروا خلقًا جديدًا، ويتأسّس بنيان جديد ويتحقّق وئام تامّ، فالأساس الّذي أتى به حضرة بهاء الله هو المحبّة. وعندما تسافرون إلى غرين إيكر (عكّاء الخضراء) فلتكن محبّتكم لبعضكم البعض بغير حدود، وليؤْثِر كلّ منكم أخاه على نفسه. ويجب أن يكون انجذاب النّاس إليكم بالدّرجة الّتي يهتفون بها ‘يا لها من سعادة تلك الّتي تغمركم!’ ويرون في وجوهكم نضرة الملكوت، وعندها سيلتفتون إليكم ويبحثون عن سبب سعادتكم بانبهار. عليكم أن تبلّغوا الرّسالة الإلهيّة قولاً وعملاً، لا بالأقوال وحدها. فيلزم الكلمة أن تكون مصحوبة بالعمل. عليكم أن تحبّوا أصدقاءكم أكثر ممّا تحبّون أنفسكم، بل عليكم أن تكونوا مستعدّين للتّضحية بأنفسكم. فلم يتجلّ أمر حضرة بهاء الله بعد في هذه الدّيار. أريد أن يكون كلّ واحد منكم مستعدًّا للتّضحية بكلّ شيء من أجل الآخر، حتّى لو كان ذلك هو الحياة بعينها، وعندئذ أوقن أنّ أمر حضرة بهاء الله قد تأسّس. وسأدعو لكم حتّى تصيروا سبب انتشار الأنوار الإلهيّة، ولكي يشير كلّ شخص إليكم بالبنان قائلاً ‘لماذا يكون أولئك النّاس بتلك السّعادة؟’ فأنا أريدكم أن تكونوا سعداء في غرين إيكر، وأن تضحكوا وتبتسموا وتبتهجوا حتّى يسعد الآخرون منكم. نعم، سأدعو لكم.

(3) 5 يوليو/ تمّوز 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه هوارد ماكنت

سؤال: لقد ذكرتم أنّنا نحيا في كـَوْر، وأنّ أوّل مظهر إلهيّ فيه هو آدم، وأنّ المظهر الكلـّيّ لهذا الكـَوْر هو حضرة بهاء الله. فهل يعني هذا أنّ هناك أكوارًا أخرى سابقة على هذا الكور ولكن لم يبقَ من ذكرها أثر – أي هل كان هناك في الماضي أكوار غايتها العظمى هي إكساب الإنسان روحانيّة إلهيّة المصدر، تمامًا كما هو الغرض من الخلق في كورنا هذا؟

إنّ السّلطنة الإلهيّة هي سلطنة قديمة وليست حادثة.

إذا ما تخيّلنا أنّ لعالم الوجود هذا بداية، عندئذ يمكننا أن نقول إنّ السّلطنة الإلهيّة حادثة، بمعنى أنّه قد مرّ عليها حين من الدّهر لم تكن فيه موجودة. فمن المستحيل أن يكون هناك ملك يحكم بغير مملكة. إذ لا يمكن أن يكون مثل ذلك الملك بغير بلد، أو بغير رعيّة، أو بغير جيش أو بغير حكومة، وإلاّ لما كان ملكًا. فلا بدّ أن تتوفّر لدى كلّ ملك من الملوك كافّة مقتضيات السّلطنة ولوازمها هذه. وعندما تتوفّر تلك المقتضيات تصدق عليه صفة السّلطنة، وإلاّ تصبح سلطنته معيبة ناقصة. وإن انعدمت تلك الشّروط انعدمت السّلطنة.

فإذا ما اعترفنا أنّ لعالم الخلق هذا بداية، نكون بذلك قد اعترفنا بأنّ سلطنة الله حادثة – أي أنّنا نقرّ بوجود زمان كانت فيه حقيقة الألوهيّة محرومة من الملك (أي مقهورة). والحال هو أنّ الأسماء والصّفات الإلهيّة من متطلّبات وجود هذا العالم. فأسماء وصفات مثل القدير، والحيّ، والرّازق، والخالق تتطلّب وتقتضي جميعها وجود الخليقة. فإذا لم تكن هناك خليقة صار لفظ الخالق خاليًا من أيّ معنى. وإذا لم يكن هناك من يُرزق، فكيف نتصوّر وجود الرّازق. وإذا لم تكن هناك حياة فإنّ صفة مثل صفة الحيّ تستعصي على الفهم. وبناء على ذلك تقتضي كافّة الأسماء والصّفات الإلهيّة وجود أشياء أو مخلوقات أُسبِغت عليها تلك الأسماء والصّفات وتجلّت وظهرت فيها. فإذا كان هناك زمان لم يكن فيه للمخلوقات أيّ وجود، زمان لم يكن هناك فيه من يـُرزق، فإنّ ذلك يعني ضمنًا وجود وقت لم يكن فيه ذلك المربّي، الحيّ القيوم، موجودًا، وبالتّالي تصبح صفات الله وكمالاته عارية عن أيّ معنى ودلالة. فبناء على ذلك لا تعترف ولا تقبل مستلزمات الصّفات الإلهيّة ومقتضياتها أيّ توقف أو انقطاع في وجودها، ذلك لأنّ أسماء الله كانت ولا زالت موجودة بالفعل من الأزل إلى الأبد، ولم تكن أبدًا في طور الكمون. فلأنّها هي الّتي تهب الحياة يقال لها محيية، ولأنّها تـَرزُق يقال لها واهبة ورازقة، ولأنّها تـَخلـُق يقال لها خالقة، ولأنّها تـُربِّي وتـُهيمن فيستدعي ذلك أن ينطبق عليها اسم الرّبوبيّة. بمعنى أنّ الأسماء الإلهيّة تشرق من أفق الصّفات الرّبّانيّة الأزليّة. فيكون من الثّابت إذًا أنّ الأسماء والصّفات الإلهيّة تقتضي في البدء وجودًا للكائنات أو الخليقة.

فكيف يُعقل إذًا أن يكون هناك زمان لم تكن فيه هذه السّلطنة موجودة. كما أنّ هذه السّلطنة الإلهيّة لا يمكن أن يقاس عمرها بستّة آلاف سنة. فهذا الكون الشّاسع غير المتناهي لم يكن نتيجة تلك الفترة المحدودة. وهذا المعمل والمصنع الهائل لم يكن إنتاجه محصورًا في ستّة آلاف دورة دارتها الأرض حول الشّمس. وأقلّ تدبّر عقليّ كفيل بأن يقنع الإنسان أنّ هذا الحساب والمنطوق صبيانيّ، خاصّة وأنّه قد ثبت علميًّا أنّ الكرة الأرضيّة كانت موطنًا للإنسان قبل فترة طويلة من ذلك التّقدير المحدود.

أمّا ما سجّله الكتاب المقدّس بشأن دخول آدم للجنّة، وأكله من الشّجرة، وطرده بفعل غواية الشّيطان له: فإنّ هذه جميعًا رموز يكمن فيها بديع المعاني الإلهيّة الّتي لا تحسب بالسّنين أو بالتّواريخ والقياسات الزّمنيّة. وعلى نفس المنوال تكون مقولة أنّ الله قد خلق السّماء والأرض في ستّة أيّام هي الأخرى رمزيّة. ولن نستطرد في شرح هذه المسألة اليوم، فكلّ نصوص الكتب المقدّسة رمزيّة تقتضي تفسيرًا معتمدًا.

عندما يُلقي الإنسان بنظرة حتّى ولو كانت عابرة على مسألة خلق الكون، يتبيّن له أنّ الكون سحيق في القِدَم. فلقد حدث ذات مرّة أن أجال أحد فلاسفة إيران بصره في السّماء وتاه فيها تحيّرًا، ثمّ قال: ‘لقد وضعت كتابًا ضمّنتُه سبعين دليلاً عن حداثة ظهور هذا الكون، ولكنّني مازلت أراه موغلاً في القِدَم.’

يتفضّل حضرة بهاء الله بقوله ليس للكون بداية ولا نهاية. وبهذا البيان البسيط يكون قد طرح نظريّات العلماء والفلاسفة الماديّين وآراءهم المسهبة جانبًا – إذ إنّه قطع بأنّه لا بداية ولا نهاية. وبينما يطرح علماء اللاّهوت والفقهاء استنباطاتهم بأنّ خلق الكون يرجع إلى ستّة آلاف سنة، يخرج عليهم العلماء بحقائق دامغة قائلين: ‘كلاّ، تثبت هذه الأدلّة أنّ عمر الكون عشرة أو عشرون أو خمسون ألف سنة’ وما إلى ذلك. فهناك ما لا حصر له من الآراء والحجج بين مؤيّد ومعارض. أمّا حضرة بهاء الله فيطرح هذه المجادلات جانبًا بكلمة واحدة وقول واحد، هو: ليس للسّلطنة الإلهيّة بداية أو نهاية. وبهذا التّصريح وما له من أدلّة دامغة أرسى قاعدة للتّوافق بين من يفكّرون في هذه المسألة – مسألة السّلطنة الإلهيّة، وأتى بوئام وسلام يضع حدًّا لهذا السّجال الدّائر من تحاور وجدال.

بالاختصار، كانت هناك أكوار عديدة سابقة لهذا الكور الّذي نحيا فيه. وقد حقّقت تلك الأكوار ما كان مقصودًا منها واكتملت ثمّ انمحت آثارها. وكان المراد الرّبّانيّ والإيجاديّ فيها هو ارتقاء الإنسان وتطوّره، تمامًا كما هو المراد في هذا الكور. فدورة الوجود هي نفس الدّورة، ولكنّها دورة تعود مجدّدًا. ودائمًا ما جادت شجرة الحياة في غابر الزّمان بنفس ما تجود به الآن من ثمارها الملكوتيّة.

(4) 5 يوليو/ تمّوز 1912

الخطبة المباركة بالمنزل 309 غرب الشّارع الثّامن والسّبعين، بمدينة نيويورك

نقلاً عمّا دوّنه كلّ من إمّا ميليك وهوارد ماكنت

أهلاً ومرحبًا بكم جميعًا! في جميع الكتب المقدّسة الإلهيّة بشارات واضحة تشير إلى أنّه سيأتي يوم يظهر فيه موعود جميع الكتب ويتأسّس دورٌ نورانيّ ويرتفع علم الصّلح الأعظم والوئام وتعلن وحدة العالم الإنسانيّ ولا يبقى بين الأمم والأقوام عداوة وبغضاء وترتبط جميع القلوب ببعضها، وهذا مذكور في التّوراة وفي الإنجيل وفي القرآن وفي زند آفستا وفي كتب بوذا. والخلاصة إنّ جميع الكتب المقدّسة تتضمّن هذه البشارات. وهي تعلن أنّه بعد أن تحيط الظّلمة العالم يطلع النّور. لأنّه، وكما أنّ ظلام الّليل إذا اشتدّ كان ذلك بشيرًا بطلوع فجر يوم جديد، فبالمثل، كلّما أحاطت ظلمة الخمول وعدم الاكتراث بالعالم وطغت الغفلة على أهله وغلبت المادّيّات على الرّوحانيّات وأصبحت جميع الملل غرقى في عالم المادّة ونسيت الله – ففي زمان كهذا تطلع الشّمس الرّبّانيّة ويظهر ذلك الصّبح النّورانيّ.

انظروا كيف أنّ المادّيّات قد تغلّبت بصورة تامّة على روحانيّة النّفوس، فبدا كأنّ الإحساسات الرّوحانيّة قد تلاشت، والمدنيّة الإلهيّة تدهورت، ولم يبقَ لهداية الله وعرفانه من أثر. فترى الجميع غرقى في بحر المادّة. وإذا ذهبت جماعة إلى الكنائس والمعابد للعبادة فإنّما تفعله تقليدًا للآباء وليس بحثًا عن الحقيقة. لأنّه من الواضح أنّهم لم يجدوا الحقيقة وغير عاشقين لها. فهم متمسّكون بميراث من التّقاليد الّتي آلت إليهم عن الآباء والأجداد، فاعتادوا صرف بعض الوقت في المعابد قيامًا بتلك التّقاليد والطّقوس. والبرهان على ذلك هو أنّ ابن كلّ يهوديّ يصير يهوديًّا وليس مسيحيًّا، وابن كلّ مسيحيّ نجده مسيحيًّا، وابن كلّ مسلّم يغدو تابعًا للإسلام، كما يكون ابن كلّ زرادشتيّ زرادشتيًّا أيضًا… إلخ. إذًا فالإيمان والعقيدة الدّينيّة ليست إلاّ بقيّة باقية من التّقاليد العمياء الموروثة عن الآباء والأجداد. فلأنّ والد هذا كان يهوديًّا فاعتبر نفسه يهوديًّا، لا لأنّه تحرّى الحقيقة واقتنع بأنّ الدّين اليهوديّ حقّ – لا، بل لأنّه رأى أنّ أسلافه كانوا على ذلك المسلك فسار هو عليه أيضًا.

أقصد بذلك بيان أنّ ظلمة التّقاليد أحاطت بالعالم، وأنّ كلّ أمّة تمسّكت بطقوسها الدّينيّة التّقليديّة، فاختفى نور الحقيقة. ولو تحرّت هذه الأمم المختلفة عن الحقيقة لتوصّلت إليها حتمًا وأصبحت ملّة واحدة لأنّ الحقيقة واحدة. لكنّهم طالما ظلّوا متمسّكين بالتّقاليد المختلفة ومحرومين من الحقيقة سيستمرّ النّزاع والجدال وتسود العداوة والبغضاء. أمّا إذا تحرّوا الحقيقة فلن تبقى بينهم عداوة أو بغضاء، ويجدون أنفسهم في منتهى الوئام والانسجام.

حينما كانت ظلمة الضّلالة في الشّرق في أشدّ حلكتها وكان أهله غرقى التّقاليد لدرجة كانت معها الملل المختلفة متعطّشة لدماء بعضها، معتبرة الآخر نجسًا ورافضة التّعامل معه – في مثل هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله في الشّرق واستأصل جذور التّقاليد وأتى بفجر نور الحقيقة. وبفضله اتّحدت ملل مختلفة لأنّهم كانوا طالبين للحقيقة. وبما أنّهم تحرّوا حقيقة الدّين فقد وجدوا أنّ جميع البشر عبيد لله وكلّهم من سلالة آدم، وكلّهم من بيت واحد وأنّ أسس تعاليم جميع الأنبياء هي الحقيقة لهذا فإنّها واحدة. فالنّزاع والجدال بين الملل هما إذًا بسبب التّقاليد الدّينيّة وليس بسبب الحقيقة الّتي بُنيت عليها تعاليم الأنبياء. وبفضل حضرة بهاء الله بدأت تصل الملل والأقوام إلى فهم هذه الحقيقة واستيعابها. فاتّحدت القلوب وتآلفت الأرواح والتقى المسيحيّون واليهود والزّرادشتيّون والمسلمون والبوذيّون بكلّ ألفة بعد قرون من العداوة والبغضاء الشّديديْن، وهم جميعًا في غاية المحبّة والاتّحاد. وامتزجوا وترابطوا لأنّهم أدركوا الحقيقة.

إنّ أنبياء الله مرتبطون معًا برباط كامل من المحبّة، وكلّ واحد منهم بشّر بخلفه، وكلّ خلفٍ صدّق سلفه. كانوا جميعًا في منتهى الاتّحاد، ولكنّ أتباعهم في منتهى الاختلاف. فمثلاً بشّر حضرة موسى بظهور السّيّد المسيح وصدّق السّيّد المسيح نبوّة موسى. فليس هناك اختلاف إذًا بين موسى والمسيح بل هناك منتهى الارتباط في ما بينهما، في حين أنّنا نرى نزاعًا قائمًا بين اليهود والمسيحيّين. فإذا ما تحرّى اليهود والمسيحيّون حقيقة تعاليم أنبيائهم لتآلفوا وتعاشروا بمنتهى المحبّة والوداد، ذلك لأنّ الحقيقة واحدة لا ازدواج فيها أو تعدّد. فإذا ما صار تقصّي الحقيقة عامًّا وشاملاً لصدّقت جميع تلك الأمم المتباعدة كلّ الأنبياء الرّبّانيّين وأقرّت بكلّ الكتب المقدّسة، ولما بقي نزاع أو جدال واتّحد أهل العالم. عندها سنتعاشر مع بعضنا بحقيقة المحبّة، ونصبح كلّنا كالآباء والأبناء، والإخوان والأخوات متعايشين بمنتهى الألفة والمحبّة وبغاية السّرور. فهذا القرن قرن نورانيّ لا نسبة بينه وبين القرون السّالفة الّتي كانت عصور ظلم واعتساف. فالآن ارتقت العقول وازدادت الإدراكات، وصارت كلّ نفس تتحرّى الحقيقة. فليس هذا زمان نتعادى فيه ونشنّ الحرب على بعضنا بل إنّنا نحيا في زمان يجب أن ننعم فيه بالألفة الحقّة.

لقد أرسل حضرة بهاء الله ألواحًا إلى جميع ملوك العالم وأممه قبل خمسين سنة، في وقت لم يكن فيه ذكر عن السّلام العالميّ، منها خطابه إلى رئيس الجمهوريّة الأمريكيّة. في ألواحه تلك دعا الجميع إلى السّلام العالميّ ووحدة العالم الإنسانيّ ودعا البشر إلى جوهر تعاليم كلّ الأنبياء. إلاّ أنّ بعض ملوك أوروبّا استكبروا ومنهم نابليون الثّالث. فكتب له حضرة بهاء الله لوحًا ثانيًا نُشِر قبل ثلاثين سنة، وهذا مضمونه: يا نابليون، لقد غدوتَ مغرورًا وصرتَ متكبّرًا ونسيت الله. فهل تظنّ أنّ هذه العزّة ستبقى لك وأنّ هذه السّلطة تدوم لك. ولقد أرسلت إليك رسالة وكان عليك أن تتقبّلها بكمال المحبّة لكنّك استكبرت. لهذا فسوف يطيح الله بسلطنتك وتذهب مملكتك من يدك، وستجد الذّلّة تسعى عن وراءك، لأنّك لم تأتمر بما نُصحت مع أنّه كان سبب حياة العالم. وعمّا قريب سينزل بك العقاب الإلهيّ.

قد أُنزل هذا اللّوح عام 1869 وبعد سنة واحدة اجتُثّت السّلطنة النّابليونيّة من جذورها.

ومن جملتها لوح مفصّل جدًّا موجّه إلى شاه إيران وهو الآن مطبوع ومنتشر في جميع ممالك العالم، وقد أرسل في عام 1870. وفيه ينصح حضرة بهاء الله شاه إيران بأن يكون رؤوفًا بجميع رعيّته ويدعوه إلى إقامة العدل وينصحه ألاّ يفرّق بين الأديان، فيعامل المسيحيّ والمسلم واليهوديّ والزّرادشتيّ معاملة واحدة ويمحو الظّلم القائم في مملكته.

في ذلك الوقت، كان اليهود في إيران مضطهدين بدرجة كبيرة، فأوصاه حضرة بهاء الله بإجراء العدل في حقّهم، وأوضح أنّ جميع النّاس هم عباد لله، ويجب أن يكونوا متساوين في نظر الحكومة، كما حذّره أيضًا بقوله إذا لم تعدل ولم تُزِل هذه المظالم ولم تُطِع الله فإنّ بنيان سلطنتك سوف يزول، ولن يبقى لك أثرٌ ولا ذكرٌ، وعليك أن تجمع العلماء وتدعوني لأحضر، وعندئذ أقيم البراهين وأسوق الأدلّة على صدق قولي، وأثبت حجّتي وأجيب عن أيّ شيء آخر قد تسألونه، وأنا على استعداد لذلك. فإذا لم تلقِ بالاً إلى هذا اللّوح، فبمثل ما حدث للّذين زالوا وذهبت ممالكهم من الملوك، سيئول بك المآل أيضًا إلى الزّوال. فلم يهتمّ السّلطان برسالة الجمال المبارك ولم يردّ عليها، فقوّض الله بنيان سلطنته.

ممّن كتب إليهم حضرة بهاء الله السّلطان العثمانيّ (عبد العزيز) الّذي بعث إليه برسالة لامه فيها قائلاً: إنّك أرسلتني إلى هذا السّجن وسجنتني. أتظنّ أنّ السّجن يضرّني أو أنّ السّجن ذلّة لي؟ لا بل إنّ هذا السّجن عزّة لي لأنّه في سبيل الله. فلم أرتكب جرمًا، وإنّما وَرَدَت عليّ هذه البلايا والرّزايا في سبيل الله. ولهذا فإنّني في منتهى السّرور والابتهاج. ولكنّك أنت فانتظر العقاب الإلهيّ، فستلقى جزاءك وعن قريب سترى أنّ البلايا تهطل عليك هطول الأمطار وسوف تفنى. وقد حدث ذلك فعلاً.

وبمثل هذه العظمة أرسل حضرة بهاء الله رسائل شتّى إلى بقيّة ملوك وسلاطين العالم ودعاهم كافّة إلى المحبّة وإلى الإنصاف، وأوصاهم جميعًا بالصّلح العالميّ وبوحدة العالم الإنسانيّ حتّى يتّحد البشر ويتّفقوا، فلا تبقى هذه الحروب والمشاحنات وهذا القتال والجدال، وتنتهي العداوة والبغضاء، ويقوم الكلّ على عبوديّة الله الواحد الأحد.

خلاصة القول إنّ ملكين قاما على مقاومة حضرة بهاء الله أحدهما شاه إيران والآخر سلطان تركيّا، وحبسا حضرة بهاء الله في قلعة عكّاء، حتّى ينطفئ سراجه وينعدم أمره. ولكنّ حضرة بهاء الله وجّه من ذلك السّجن رسائلَ شديدة اللّهجة، وأعلن أنّ السّجن لم يقف عائقًا في سبيله، بل قال إنّ هذا السّجن سيكون سببًا في ارتفاع أمري، وإنّ هذا سيكون دافعًا لانتشار تعاليمي، ولن ينالني منه أذى لأنّني ضحَّيت بحياتي ودمي ومالي وضحّيت بجميع ما ملكته وليس في هذا السّجن أيّ خسران لي. ولقد تحقّق ما قاله تمامًا؛ فارتفعت رايته في السّجن وانتشرت رسالته في الشّرق والغرب حتّى وصل أمره إلى أمريكا. وينتشر الآن دين حضرة بهاء الله في كلّ أقطار العالم. فلو ذهبتم إلى آسيا لصادفتم البهائيّين حيثما سافرتم. ولو قصدتم إفريقيا وأوروبّا ستجدون أمر حضرة بهاء الله فيها. أمّا في أمريكا فهو في بداية نموّه وانتشاره.

</