بهاءالله محبوب العالمين
بهاءالله محبوب العالمين

بهاءالله محبوب العالمين

تقديم

يُصادف هذا العام ذكرى المئويّة الثّانية لميلاد حضرة بهاء الله مؤسّس الدّين البهائي. في هذه المناسبة المباركة نُصدر هذه الوثيقة الموجزة في التّعريف بشخصه الجليل وبرسالته العالميّة، عسى أن تكون حافزًا للتّعمّق في مغزى ظهوره في هذه المرحلة من تاريخ البشريّة.

تعتمد هذه الوثيقة في نصّها ومضمونها وترتيبها وعناوين فصولها على الوثيقة الّتي أُعدّت باللّغة الانجليزيّة عام 1991 بمعرفة مكتب الإعلام التّابع للجامعة البهائيّة العالميّة في الأمم المتّحدة في نيويورك تحت عنوان Baha’u’llah ثمّ تُرجمت إلى العربيّة ونُشرت في لندن عام 1992 تحت عنوان بهاء الله.

ملاحظة: إنّ النّصوص المطبوعة بحروف عريضة في هذه الوثيقة مُنزلَة في الأصل باللّغة العربيّة من قلم حَضرة بهاء الله.

– النّاشر –

توطئة

يصادف هذا العام ذكرى مرور قرنين على ميلاد حضرة بهاء الله، وهو صاحب تلك الرّؤيا الّتي اعتبرت الإنسانيّة شعبًا واحدًا والأرضَ وطنًا مشتركًا لجميع البشر. كان أبرز قادة العالم في القرن التّاسع عشر هم أوّل من أَعلن لهم حضرة بهاء الله عن رؤياه، داعيًا إيّاهم إلى الوحدة والاتّحاد، غير أنّهم تجاهلوا دعوته وغضّوا الطّرْف عنها. أمّا اليوم، فها هي آمال البشر تتعلّق أكثر فأكثر بهذه الرّؤيا، وتتّجه نحوها أنظارُ عالَم يشهد انهيارًا حتميًّا لنظامَيْه الاجتماعيّ والخُلقيّ، وهو الانهيار الذي نبّه إليه حضرة بهاء الله في إعلانه العالميّ لقادة العالم، موضّحًا لهم أخطاره توضيحًا يبعث في النّفوس الحذر والرّهبة.

لقد شجّعتنا هذه المناسبة لنشر مقدّمة مختصرة عن سيرة حضرة بهاء الله، وعرض موجز عن بعض ما جاء في كتاباته المقدّسة. ليست هذه المقدّمة سوى نظرة عامّة وموجزة تعبّر عن مشاعر الثّقة والاطمئنان المترسّخة في نفوس البهائيّين في العالم، والّتي تجعلهم يتطلّعون إلى مستقبل زاهر لهذا العالم الّذي نعيش فيه، ولهذه البشريّة الّتي ننتمي إليها.

1 عـلى أعتـاب عـصـر جـديـد

تحتاج البشريّة اليوم إلى رؤيا تقودها إلى وحدة العالم الإنساني بشعوبه ومجتمعاته وأفراده. لقد سعت الإنسانيّة، منذ منتصف القرن العشرين، لتلبية متطلّبات هذه الوحدة، لكنّ محاولاتها أسفرت عن اضطرابات عقائديّة هزّت العالم وما زالت تقضّ مضاجعه حتّى يومنا هذا. على الرّغم من النّتائج المخيّبة للآمال، فإنَّ المشاعر العامّة الّتي لا تزال تحفّز الإنسانيّة للمضيّ في هذا السّبيل نحو الوحدة لَدليلٌ على ترسّخ هذه الحاجة في الوجدان الجماعي للبشريّة. يعتقد البهائيّون أنّه ما لم يملأ النّفوس إيمانٌ مشترَك برؤيا موحَّدة وموحِّدة تصوّر التّاريخ في مجرى أحداثه المتتاليّة ونهاية أهدافه، سيكون من غير الممكن وضعُ أسس ثابتة لمجتمع عالميّ موحّد تلتزم به البشريّة.

تشرح هذه الرّؤيا الواضحة المعالم آثارُ حضرة بهاء الله الّذي ظهر في القرن التّاسع عشر الميلاديّ ليقدّم رسالةً تمثّل في نشأتها ونموّها وتأثيرها المتعاظم أروع تطوّر في التّاريخ الدّينيّ المعاصر.

وُلد حضرة بهاء الله في بلاد فارس عام 1817، وعندما بلغ السّابعة والعشرين من عمره أخذ على عاتقه أمرًا ما لبث أن مَلَكَ نفوس الملايين من البشر من كلّ عرق وثقافة وطبقة وأمّة على وجه الأرض. أَعلن حضرة بهاء الله أنَّه مبعوث من الله ليحقّق الوعود الّتي أطلقتها الأديان السّابقة، وأنّه قد ظهر ليقدّم رسالةً إلهيّة تلبّي احتياجات عصر بلغت فيه الإنسانيّة مرحلة الرّشد.

ترك حضرة بهاء الله من خلال سيرته وتعاليمه أثرًا يثير اهتمام كلّ مَن يؤمن أنَّ طبيعة الإنسان روحيّة في أساسها، وأنَّ نظم الحياة يكون ضمن المفاهيم المترتّبة على هذه الحقيقة. لأوّل مرّة في التّاريخ تجد الإنسانيّةُ في متناول يدها سجلاًّ مفصّلاً وموثّقًا، يمكن التّحقّق من صحّته، يؤرّخ لمولد نظامٍ دينيّ مستقلّ ويشرح سيرةَ مؤسّسه.

يَسْهُلُ أيضًا الاطّلاع على سجلّ آخر يتعلّق بمدى نجاح هذه الدّعوة الإلهيّة الجديدة وبمدى استجابة النّاس لها؛ نجاح يتمثّل في بروز جامعة عالميّة يمكن لها أنْ تدّعي بحقّ أنَّها أنموذجٌ لعالَمٍ تتّحد فيه جموع البشر المتنوّعة.

تتناول آثار حضرة بهاء الله موضوعاتٍ شتّى تتّسع في مداها لتشمل قضايا اجتماعيّة مختلفة مثل التّفرقة العنصريّة، والمساواة بين الرّجال والنّساء، ونزع السّلاح، ونبذ التّعصّبات الهدّامة إلى غير ذلك من مسائل تمسّ جوهر الحياة الرّوحيّة للإِنسان. تجدر الإشارة إلى أنّه قد تمّ الحفاظ، بكلّ دقّة وعناية، على النّصوص الأصليّة لتلك الآثار الّتي أنزلها حضرة بهاء الله والّتي خطّ العديد منها بيده، وأملى غيرها على كاتب وحيه مُوثِّقًا إيّاها بنفسه. وقد نُفِّذ برنامج منتظم يهدف إلى ترجمتها ونشرها، كان قد بدأ منذ عدّة عقود، وأتاح للنّاس في كلّ أصقاع الأرض الاطّلاعَ على منتخبات من تلك الآثار مترجَمةً إلى ما يزيد على ثمانمائة لغة من اللّغات الّتي يتحدّث بها البشر.

2 مَـوْلِـد الـظّـهـور الـجديـد

ساد شعورٌ من التّرقّب والتّوقّع لدى الكثير من مِلل العالم في مطلع القرن التّاسع عشر الميلاديّ لظهور موعودها المنتظَر، فتوجّه مؤمنون مخلصون ينتمون إلى أكثر من دين إلى كتبهم المقدّسة يستقرئونها بحثًا عن تفسير لما كانوا يلحظونه من تحوّلاتٍ متسارعة في العالم تُنبئ عن دنوّ عصر جديد تنبّأت به كتبهم المقدّسة وحدّدت معالمه.

كانت أكثر الدّعوات الدينيّة المتعلّقة بظهور الموعود المنتظَر إثارةً وأهميّة في منتصف القرن التّاسع عشر، تلك الّتي أطلقها في إيران شابٌّ من مدينة شيراز عُرف باسم “الباب” معلنًا حلولَ يوم الله الموعود. أثارت دعوته هذه، ولتسع سنوات من عام 1844 إلى عام 1853، موجةً من الأمل والتّجاوب في الأمّة الفارسيّة على اختلاف طبقاتها. أعلن حضرة الباب أيضًا أنَّ الإِنسانيّة تقفُ على مشارف عصر جديد سيشهد إعادة بناء الحياة من كلّ نواحيها، وأنّ مجالات علميّة ستُكتشف لا تخطر على بال أحد، وأنّ الله قد دعا الجنس البشريّ ليتبنّى بنفسه هذه التّغيّرات والتّحوّلات؛ فيأخذ النّاس على عاتقهم مسؤوليّة تطوير حياتهم الرّوحيّة والخلقيّة بناءً على مقتضيات ذلك العصر الجديد الموعود. كما أعلن حضرة الباب أنّ هدفَ بعثته تهيئةُ أهل العالم لاستقبال ذلك الحدث العظيم المتمثّل في مجيء مظهر إلهيّ سوف يبعثه الله إلى العالم بأسره، وهو مَنْ ينتظر مجيئه أتباعُ الأديان كلّها، ولذلك صدر من قلمه البشارة الّتي قال فيها: “طوبى لمن ينظر إلى نظم بهاء الله ويشكر ربّه فإنّه يظهر ولا مردّ له من عند الله في البيان.” (1)

أثارت هذه الدعوة، منذ بدايتها، عاصفة من العداء اتّسمت بالعنف والشراسة، فقُضيَ على الآلاف من أتباع الدّين الجديد في مذابح مروّعة في شتّى أنحاء بلاد فارس، وأُعدم حضرة الباب في مشهد عامّ في مدينة تبريز في التّاسع من تموز (يوليو) عام 1850. كان لحياة حضرة الباب الطّاهرة الشّريفة، وتعاليمه السّامية النّبيلة، وبطولة أتباعه وبسالتهم، ونور الأمل الذي أضاءه هؤلاء بسعيهم لتحقيق إصلاحات وتغييرات جذريّة في المجتمع، أثرٌ عميق في نفوس عدد من الشّخصيّات العالميّة المرموقة الّتي كتبت عن حياة حضرة الباب ومجّدت شخصه وأرّخت لتضحياته. من تلك الشّخصيّات ارنست رينان وليو تولستوي وسارة برنار والكونت دي غوبينو. (2)

بعد استشهاد حضرة الباب، كان حضرة بهاء الله أبرز المدافعين عن دين حضرته والمروّجين له، فألقي القبض عليه واقتيد إلى طهران مترجّلاً ومكبّلاً بالسّلاسل والأغلال. لم يصدر حكم بإعدام حضرته على الرّغم من أنّ شخصيّات نافذة في السلطة كانت تُطالب وتصرّ على ذلك. لعلّ ذلك يعود، إلى حدٍّ ما، لما كان يتحلّى به حضرته من سمعة مرموقة، ولما كان لأسرته من مكانة اجتماعيّة سامية. لذلك كان السّجن بديلاً عن الإعدام، فأُلقِيَ بحضرته في سجن كان يُعرف باسم “سياه چال” أي الحُفرة المُظلِمة.

في مغرب حياته، استعاد حضرة بهاء الله ذكرى الانطلاقة الأولى لرسالته في ظُلمات سجن طهران، فأورد وصفًا مختصراً للظّروف والأحوال الّتي مرّ بها عندما كان مسجونًا في السّنة التّاسعة لظهور حضرة الباب، ويقول فيه:

“… وعُيّن لنا مَقَرٌّ لمدّة أربعة أشهر لا شَبيهَ له ولا مَثيل… وبعد أن وَرَدْنا السّجن أدخلونا إلى دهليز مُظْلِم، ثمّ انحدرنا ثلاث أدراج وبَلَغنا المَقَرّ الّذي كانوا قد عيّنوه. أمّا المكان فكان مظلِمًا، ويتواجد فيه ما يَقرُب من المائة والخَمسين شخصًا من اللّصوص والقَتَلة وقُطّاع الطُّرق. بالرَّغم من وجود هذا الجمْع الغفير، فإنّ المكان لم يكُن له من مَنفذ سوى الطّريق الّذي وَرَدْنا منه. إنّ الأقلام لَتعجز عن وصفه، والبيان يَكِلُّ عن بيان روائحه المُنْتَنَة. وكان مُعظم هذا الجَمْع بلا لباس ولا فِراش. الله يَعلم ما وَرَدَ علينا في ذاك المقام الأنْتَن الأظْلَم.” (3) (مترجم)

في كلّ يومٍ من تلك الأيّام، كان الحرّاس ينزلون إلى قعْر السّجن عبر أدراجه الثّلاث ويسحبون واحدًا أو أكثر إلى الخارج لينفِّذوا فيهم حكم الإعدام. لقد روّع المراقبين الأجانب ما رأوه في شوارع طهران من مشاهد العنف الّتي أودت بحياة العديد من البابيّين؛ فتارةً كانوا يشاهدون تناثر أشلاء تلك الضّحايا بعد ربطهم إلى فُوَّهات المدافع، وتارة كانوا يرونهم يقطّعون إرْبًا إرْبًا بالفؤوس والسّيوف، أو يشاهدونهم وقد أُوقِدت الشّموعُ لتثبّت في أغوار جراحهم وهم يُساقون إلى مشهد الفداء. في خِضمّ هذه الأحداث والظّروف، ووسط توقّعات حضرة بهاء الله صدور حُكم بإعدامه، تجلّى الوحي الإلهيّ في روحه معلنًا تباشير بعثته وانطلاق رسالته للعالم. يذكر حضرة بهاء الله بأنّه ذات ليلة، عندما كان في دياجي سجن طهران، سُمعَ هذا النّداء من جميع الجهات وهو نداء يصفه حضرتُه بـ ”الكلمة العُليا”:

إنّا ننصرك بك وبقلمك. لا تَحزنْ عمّا ورد عليك ولا تَخفْ إنّك من الآمِنين. سوف يَبْعَثُ اللهُ كنوز الأرض، وهم رجال ينصرونك بك وباسمك الّذي به أحيا الله أفئدة العارفين.(4)

تُركّز آثار حضرة بهاء الله الكتابيّة على عرض مسهب للمسائل الكبرى الّتي شغلت العلماء والفقهاء عبر القرون؛ فهي تتناول بالشّرح والتّفسير الموضوعات التّالية: عظمة الله سبحانه وتعالى، ودور الظّهور الإِلهيّ في التّاريخ الإنسانيّ، وعلاقة النُّظُم الدّينيّة في العالم بعضها ببعض، ومعنى الإيمان، والقواعد الخُلقيّة كأساس لأيّ سلطة مسؤولة عن تنظيم المجتمع الإنسانيّ. تحتوي هذه النّصوص المقدّسة على مقاطع يتحدّث فيها حضرة بهاء الله عن التّجلّي الإلهي الّذي اختبره، ويصف كيفيّة تلبيته للنّداء الغيبيّ الّذي تلقّاه، كما يشير إلى الحوار الّذي جرى بينه وبين “الرّوح الأعظم”، وهو الحوار الّذي يحدّد جوهر بعثته. هكذا، ولأوّل مرّة في تاريخ أيّ دين من أديان البشر تُسنح للباحث المدقّق فرصةٌ تمكّنه من الوقوف على ظاهرة “الظّهور الإِلهيّ”.

يصف حضرة بهاء الله، وبأسلوب رمزيّ، كيفيّة إصغائه للنّداء الإلهيّ في سجن طهران، وهي تجربة تذكّرنا بمواقف أخرى لمظاهر الله الآخرين مثل النّبيّ موسى والسّيّد المسيح والرّسول محمّد، والّتي لم يصل منها إلاّ القليل الموجَز، ومن مصادر ثانويّة تروي سِيَر هؤلاء الرُّسُل. يتفضّل حضرة بهاء الله في وصف تلك التّجربة بقوله:

فلمّا رأىت نفسي على قطب البلاء سمعتُ الصّوت الأبدع الأحلى من فوق رأسي فلمّا توجّهتُ شاهدت حورىّة ذکر اسم ربّي معلّقةً في الهوآء محاذي الرّأس ورأىتُ أنّها مستبشرة في نفسها کأنّ طراز الرّضوان ىظهر من وجهها ونضرة الرّحمن تُعلَن من خدّها وکانت تنطق بىن السّموات والأرض بندآء تنجذب منه الأفئدة والعقول وتبشّر کلّ الجوارح من ظاهري وباطني ببشارة استبشرت بها نفسي واستفرحت منها عباد مکرمون، وأشارت بإصبعها إلى رأسي وخاطبتْ من في السّموات والأرض تالله هذا لمحبوب العالمىن ولکن أنتم لا تفقهون، هذا لَجمال الله بىنکم وسلطانه فىکم إن أنتم تعرفون، وهذا لسرّ الله وکنزه وأمر الله وعزّه لمن في ملکوت الأمر والخلق إن أنتم تعقلون، إنّ هذا لهو الّذي ىشتاق لقائَه مَن في جبروت البقآء ثمّ الّذىنهم استقرّوا خلف سرادق الأبهى ولکن أنتم عن جماله معرضون.(5)

3 الـنّـفـي والإبـعـاد

أُطلق سراح حضرة بهاء الله في آخر الأمر دون محاكمة، وقرّرت السّلطةُ نفيَه عن وطنه بعدما صادرت ثروته وممتلكاته. اختار راضيًا النّفي إلى العراق والّتي كانت آنذاك تحت سلطة السّلطنة العثمانيّة. كان هذا الإبعاد من وطنه إلى العراق بداية لأربعين سنة أمضاها حضرته في النّفي والسَّجن والاضطهاد.

لقد أولى حضرة بهاء الله، في الأعوام الّتي تلت مباشرةً رحيله منفيًّا عن أرض فارس، اهتمامًا خاصًّا بتلبية احتياجات الجامعة البابيّة الّتي كانت قد هاجرت إلى بغداد، وبعد مضيّ عام على وصول حضرته إلى تلك المدينة هجرها قاصدًا براري كردستان العراق حيث اعتكف في جبال السّليمانيّة. بخروجه إلى البرّيّة واعتزاله النّاس سَلَك حضرة بهاء الله الدّرب الّذي سار عليه كلّ من سبقه من الرّسل والأنبياء الّذين اعتزلوا لفترة في الجبال والبراري. أمضى حضرته عامَيْن في جبال كردستان وبراريها، وكانت فترة قاسية اتّسمت بالعَوزَ والحرمان والمتاعب الجسديّة، لكنّه وصفها بالفترة الّتي كانت مفعمة بالسّعادة الحقيقيّة، والّتي أمضاها في التّأمُّل في عمق الرّسالة الّتي عُهِدَ إليه تقديمها للعالم.

بعد مضيّ عامين في جبال كردستان، عاد حضرة بهاء الله إلى بغداد استجابةً لالتماس جموع البابيّين المنفيّين اليائسين في بغداد، والّذين كانوا قد اكتشفوا وجوده في السّليمانيّة، فاستلم مع عودته زمام قيادة الجامعة البابيّة المتواضعة، والّتي كانت النّواة الأولى لجامعة قُدّر لها أن تنتشر في شرق العالم وغربه بعد مضيّ عقود معدودة من ذلك التّاريخ.

أنزل حضرة بهاء الله في بغداد، أثناء هذه الفترة الّتي تُعتبر الأولى من فترات النّفي المتتالية في حياته، وقبيل الإِعلان عن رسالته في عام 1863، العديد من الآثار الكتابيّة الّتي وضع فيها الأسس الأولى لرسالته الإلهيّة. من تلك الآثار المباركة صحيفة أسماها “الكلمات المكنونة”، وهي تمثّل جوهر التّعاليم الخُلقيّة في رسالته، ويصفها حضرة بهاء الله بأنّها جواهر ما جاء به كلّ المظاهر الإِلهيّة الّذين سبقوه، ونسمعُ فيها ذلك النّداء الإِلهيّ الخالد مخاطبًا روح الإِنسان، ومنها قوله:

هو البهيّ الأبهى

هذا ما نُزّل من جبروت العزّة بلسان القدرة والقوّة على النّبىّىن من قبل، وإنّا أخذنا جواهره وأقمصناه قمىص الاختصار فضلاً على الأحبار لىوفوا بعهد الله وىؤدّوا أماناته في أنفسهم ولىکونُنّ بجوهر التّقى في أرض الرّوح من الفائزىن.

ىا ابن الرّوح، أحبّ الأشىآء عندي الإنصاف لا ترغبْ عنه إن تکن إليّ راغبًا ولا تغفلْ منه لتکون لي أمىنًا، وأنت توفَّق بذلك إن تشاهد الأشىآء بعىنك لا بعىن العباد وتعرفها بمعرفتك لا بمعرفة أحد في البلاد، فکّر في ذلك کىف ىنبغي أن تکون، ذلك من عطىّتي علىك وعناىتي لك فاجعله أمام عىنىك.

ىا ابن الوجود، صنعتك بأىادي القوّة وخلقتك بأنامل القدرة وأودعت فىك جوهر نوري فاستغنِ به عن کلّ شيء، لأنّ صنعي کامل وحکمي نافذ لا تشكّ فىه ولا تکن فىه مرىبًا.

ىا ابن الإنسان، لا تَحزن إلاّ في بُعدك عنّا، ولا تَفرح إلاّ في قربك بنا والرّجوع إلىنا.(6)

بعدما تمكّنت جامعة المنفيّين في العراق من أتباع حضرة الباب من أن تصبح تدريجيًّا عنصرًا مؤثِّرًا في العاصمة الإِقليميّة، بغداد، وفي المدن المجاورة لها، وبعدما صار أفرادها يتمتّعون باحترام النّاس وتقديرهم، اعتبرت السّلطات المناوِئة لهذه الرّسالة الجديدة أنَّ وجود حضرة بهاء الله وأتباعه في بغداد يشكّل تهديدًا لمصالحها ونفوذها، فقرّرت، وبعد أخذ موافقة السّلطان العثمانيّ، إبعاد حضرة بهاء الله من بغداد إلى عاصمة الدّولة العثمانية إسطنبول.

4 إعـلان الـدّعـوة في حـديـقـة الـرّضـوان بـبـغـداد

في أواخر شهر نيسان (إبريل) عام 1863، دعا حضرة بهاء الله نفرًا من صحابته إلى حديقة عُرفت فيما بعد بـ ”حديقة الرّضوان” وأَسرَّ إليهم كُنْهَ رسالته. كان ذلك عشيّة رحيله عن بغداد إلى اسطنبول. بالرّغم من أنّ الأمر لم يكن يستدعي حينئذٍ إعلانًا عامًّا صريحًا، فقد قام في غضون السّنوات الأربع التّالية أولئك الّذين استمعوا إلى حضرة بهاء الله وهو يعلن دعوته في تلك الحديقة، بإشراك أحبّائهم المخلصين بما علموا من أنّ وعود حضرة الباب قد تحقَّقت، وأنّ فجر “يوم الله” قد انبلج، وأنّ حضرة بهاء الله هو الموعود المنتَظَر.

قد ظهر الموعود في هذا المقام المحمود الّذي به ابتسم ثغر الوجود من الغيب والشّهود اغتنموا يوم الله إنّ لقاءه خيرٌ لكم عمّا تطلع الشّمس عليها إن أنتم من العارفين.” (7)

هذا يومٌ فيه أنار أفق الفضل وظهر القيّوم وبيده رحيقه المختوم ويقول تعالوا تعالوا ولا تكونوا من المتوقّفين، هذا يومٌ بشّرت به كتُب الله مالك يوم الدّين.(8)

أكّد حضرة بهاء الله في كتاباته أنّ الغاية الأساسيّة لله من إرسال مظاهر وحيه هي تغيير نفوس البشر نحو الأحسن، فتنمو في أولئك الّذين يستجيبون لدعوة الله عبر رُسله الصّفات والمزايا الرّوحيّة والخُلقيّة الكامنة أصلاً في جوهر الإِنسان:

زيّنوا رؤوسكم بإكليل الأمانة والوفاء وقلوبكم برداء التّقوى وألسنكم بالصّدق الخالص وهياكلكم بطراز الآداب كلّ ذلك من سجيّة الإنسان لو أنتم من المتبصّرين.(9)

أعلن حضرة بهاء الله أنَّ نشر رسالته في العالم يجب أن يكون بالبيان الحَسَن بعيدًا تمامًا عن أيّ وسائل قد تتّسم بالعنف والإكراه، فواجب كلّ مَن آمن بالظّهور الإلهيّ أن يُبلّغ هذه الرّسالة إلى الّذين يبحثون عن سبل العرفان، على أن يُترك لهم كامل الخيار فيما يتّخذونه من قرار:

أنصروا مالك البريّة بالأعمال الحسنة ثمّ بالحكمة والبيان كذلك أُمرتم في أكثر الألواح من لدى الرّحمن إنّه كان على ما أقول عليمًا، لا يعترض أحدٌ على أحد ولا يقتل نفسٌ نفسًا هذا ما نُهيتم عنه في كتاب كان في سرادق العزّ مستورًا، أتقتلون من أحياه الله بروح من عنده إنّ هذا خطأ قد كان لدى العرش كبيرًا. (10)

برهنت الظّروف الّتي أحاطت برحيل حضرة بهاء الله عن بغداد على صدق هذه التّعاليم، وأكّدت بكلّ وضوح على نفوذها في نفوس الّذين تقبّلوها؛ ففي غضون سنواتٍ قليلة تحوّلت تلك الجماعة الصّغيرة من المنفيّين الغرباء، والّذين استقبلهم جيرانهم لدى وصولهم إلى هذه المدينة بالرّيبة والامتعاض، إلى أكثر فئات النّاس احترامًا ونفوذًا في بغداد. فقاموا بأود أنفسهم بما كان لهم من تجارة رابحة، ونالوا كطائفة إعجاب النّاس لما تحلّوا به من كرمٍ وجود، ولما أظهروه من أمانة في معاملاتهم ومسلكهم، فلم يعد الرّأي العام ليتأثّر بعد ذلك بالادّعاءات والمزاعم الّتي كانت تتوخّى الإساءة إلى سمعة أتباع حضرة بهاء الله.

تنفيذًا لقرار اتّخذه السّلطان العثماني، غادر حضرة بهاء الله بغداد إلى اسطنبول على صهوة جواده تصحبه عائلته ومَن تمّ اختيارهم من أصحابه بحلول الثّالث من أيار (مايو) عام 1863، وكان قد غدا آنذاك شخصيّة أحبّها النّاس وأجلّوها، وتبوّأت مكانة رفيعة في نفوسهم. شهدت الأيّام الّتي سبقت الرّحيل والوداع مباشرةً سيلاً من الزّوّار الّذين حرصوا على وداعه بمن فيهم الوالي العثماني نفسه؛ فقد ذهبوا إلى حديقة الرّضوان الّتي كان حضرة بهاء الله قد اختارها مقرًّا مؤقّتًا لإقامته قبل مغادرة بغداد، وذلك لتقديم فروض الاحترام له، وقد قطع الكثير منهم مسافات طويلة للوصول إلى تلك الحديقة. صوّر شهود عيان ذلك الرّحيل بكلمات مؤثّرة وصفت ما لَقِيَهُ حضرته من تكريم وتهليل، وما ذرفه الحاضرون من دموع، وما ساور السّلطات العثمانيّة والموظّفين المدنيّين من حرصٍ في إظهار كامل الاحترام والتّبجيل لزائرهم العظيم. (11)

 

5 "هذا ديـن الله من قـبلُ ومـن بـعـدُ..."

يؤكّد حضرة بهاء الله أنَّ الحقيقة الإِلهيّة غيب منيع، وهي منزّهة عن إدراك العقول والأفكار، وأنّه مهما حاول العقل الإنسانيّ الإِتيان بوصفٍ للحقيقة الأزليّة المنزّهة عن الإدراك، فإنّ كلّ وصفٍ يأتي به سوف يبقى قاصرًا عن بيان كُنه الحقيقة الإلهيّة، ولن يكون ذلك سوى محاولة نابعة من القدرات الإِنسانيّة لا يمكن وصفها بأكثر من كونها تجربة تبقى في نطاق العالم الإنسانيّ ولا يمكن أن تبلغ الحقيقة الغيبيّة، فيتفضّل قائلاً:

سبحانك سبحانك يا محبوبي من أن تُعرف بأعلى عرفان الموجودات، سبحانك سبحانك من أن توصف بأبهى وصف الممكنات، لأنّ منتهى عرفان العباد في منتهى ذروة القصوى لن يقدر أن يصعد عن حدّ الإنشاء، ولن يمكن أن يتعارج عن شأن الإمكان وبما قُدّر من شئونات القضاء، فكيف يقدر ما خُلق بمشيئة الإمكانيّة في رتبة الإمكان أن يصعد إلى هواء قدس عرفانك أو يصل إلى مقرّ عزّ اقتدارك، سبحانك سبحانك من أن يطير الفاني إلى عرش بقائك أو يصل الفقير إلى ذروة استغنائك، لم تزل واصف نفسك لنفسك بنفسك وناعت ذاتك لذاتك بذاتك، فوعزّتك يا محبوبي لم يكن غيرك مذكورًا حتّى يعرفك ولا دونك موجودًا ليذكرك، أنت الّذي لم تزل كنت في مُلكك بظهور عزّ وحدانيّتك وطلوع قدس كبريائيّتك، ولو يُذكر في ممالك الإنشاء من أعلى نقطة البقاء إلى منتهى رتبة الثّرى أحدٌ دونك كيف يثبت استواؤك على عرش فردانيّتك ويعلو بدائع ذكرك في كلمة توحيدك ووحدانيّتك، وأشهد حينئذ بما شهدتَ به لنفسك قبل خلق السّموات والأرض بأنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت لم تزل كنتَ قادرًا بمظاهر قدرتك لآيات قدرتك وعالمًا بمطالع علمك بكلمات علمك، ولم يكن دونك من شيء ليُذكر تلقاء مَدْيَن توحيدك ولا غيرك من أحد حتّى يوصف في ساحة قدس تفريدك…. (12)

يمرّ البَشَر، في حالة توجّههم لخالق الوجود كلّه، بتجربة تقودهم إلى اكتشاف الأسماء والصّفات المرتبطة بالمظاهر الإِلهيّة الّتي تَترى وتتتابع:

سبحانك اللّهمّ يا إلهي أنت الّذي لم تزل كنت في علوّ القدرة والقوّة والجلال، ولا تزال تكون في سموّ الرّفعة والعظمة والإجلال، كلّ العرفاء متحيّر في آثار صنعك وكلّ البلغاء عاجز عن إدراك مظاهر قدرتك واقتدارك، كلّ ذي عرفان اعترف بالعجز عن البلوغ إلى ذروة عرفانك وكلّ ذي علم أقرّ بالتّقصير عن عرفان كنه ذاتك، فلمّا سُدّ السّبيل إليك أظهرتَ مظاهر نفسك بأمرك ومشيّتك وأرسلتهم إلى بريّتك وجعلتهم مشارق إلهامك ومطالع وحيك ومخازن علمك ومكامن أمرك ليتوجّهنّ كلٌّ بهم إليك ويستقربنّ إلى ملكوت أمرك وجبروت فضلك…. (13)

لا تختلف المظاهر الإِلهيّة فيما بينها ولا تتباين من حيث جوهرها، رغم أنَّ كلّ مظهر قد ينفرد في كيفيّة استجابته لمقتضيات البشر تلبيةً لاحتياجاتهم حسب ظروف العصر والزّمان:

للموحّد حقٌّ بأن لا يفرّق كلمات الله ويشهد بذاته ونفسه بأنّ كلّ الآيات نزلت من عنده وكلّ ما نزلت على المرسلين حقّ لا ريب فيها وفُصّلت من لدى الله المهيمن القدير، وكلّ الشّرائع فُصّلت من نقطة واحدة وشُرّع من لدى الله وترجع إليه ولا فرق بينها إن أنتم من الموقنين، ومع اختلافها في كلّ أعهاد وأعصار لا اختلاف فيها لأنّ كلّها ظهرت من أمر الله والأمر واحد في أزل الآزال وهذا ما رُقم حينئذ من قلم قدس منير. (14)

في هذا المجال، ينبّه حضرة بهاء الله أولئك الّذين يتعمّقون في دراسة الأديان والباحثين فيها إلى عدم السّماح للعقائد الفقهيّة واللاّهوتيّة بالتّأثير مسبقًا على أحكامهم فيفرّقوا ويميّزوا بينَ مَن اختارهم الله مصابيح هدايته:

إيّاكم يا ملأ التّوحيد لا تُفَرِّقوا في مَظاهر أمر الله ولا فيما نزل عليهم من الآيات وهذا حقّ التّوحيد إنْ أنتم لَمن الموقنين، وكذلك في أفعالهم وأعمالهم وكلّ ما ظهر من عندهم ويظهر من لدنهم كلٌّ من عند الله وكلّ بأمره عاملين، ومَن فرّق بينهم وبين كلماتهم وما نَزل عليهم أو في أحوالهم وأفعالهم في أقلّ ما يُحْصى لقد أشرك بالله وآياته وبرُسله وكان من المشركين. وكذٰلك نُعلّمكم سُبل العلم والحكمة لعلّ أَنتم في سُرادق العزّ لَتكونُنّ من الدّاخلين. (15)

يقارن حضرة بهاء الله بين تعاقُبِ المظاهر الإِلهيّة وبين توالي فصول الرّبيع الّتي تذهب ثمّ تعود. ويشير إلى أنَّ رسل الله ليسوا فقط مربّين للبشر، وإن كانت تربية البشر وظيفة من وظائفهم الرّئيسة، بل إنّ الكلمة الّتي يأتون بها، بالإِضافة إلى الحياة المثاليّة الّتي يحيونها، لديها القدرة على بعث الأرواح من جديد وشحذ الهمم وإحداث تغييراتٍ أساسيّة دائمة. هكذا تفتح هذه المظاهر الإِلهيّة بقوّة نفوذها آفاقًا جديدة أمام البشر تتوسّع فيها المدارك وتتحقّق فيها الإنجازات العظيمة:

إنّه لا إله إلاّ هو لم يزل كان في علوّ العظمة والجلال وسموّ الرّفعة والإجلال، والّذين أرسلهم بالحقّ والهدى أولئك مشارق وحيه بين خلقه ومطالع أمره بين عباده ومهابط إلهامه في بريّته وبهم ظهرت الأسرار وشُرّعت الشّرائع وحُقّق أمر الله العزيز المختار.(16)

من دون هذا النّفوذ الإِلهيّ والتّأثير الرّبّانيِّ في حياة البشر، تبقى الطّبيعة البشريّة أسيرةَ الغرائز، وفريسةً لافتراضات وهميّة وأنماطٍ من السّلوك تحدّدها البيئة الثّقافيّة للإِنسان دون غيرها:

“إنّ جميع الأشياء حاكية عن الأسماء والصّفات الإلهيّة، وكلٌّ على قدر استعداده مدلّ ومُشعر بالمعرفة الإلهيّة على شأن أحاطت ظهوراته الصّفاتيّة والأسمائيّة كلّ الغيب والشّهود… والإنسان الّذي هو أشرف المخلوقات وأكملها لأشدّ دلالة وأعظم حكاية عن سائر المعلومات، وأكمل إنسان وأفضله وألطفه هم مظاهر شمس الحقيقة، بل إنّ ما سواهم موجودون بإرادتهم ومتحرّكون بإفاضتهم… بل الكلّ في ساحة قدسهم عدمٌ صرف وفناء بحت، بل إنّ ذكرهم منزّه عن ذكر غيرهم، ووصفهم مقدّس عن وصف ما سواهم. وهؤلاء الهياكل القدسيّة هم المرايا الأوّليّة الأزليّة الّتي تحكي عن غيب الغيوب وعن كلّ أسمائه وصفاته من علم وقدرة وسلطنة وعظمة ورحمة وحكمة وعزّة وجود وكرم، فكلّ تلك الصّفات ظاهرة ساطعة من ظهور هذه الجواهر الأحديّة.” (17) (مترجم)

أعلن حضرة بهاء الله أنّه قد جاء الوقت الذي أصبحت فيه الإنسانيّة تمتلك القدرة، وأمامها الفرصة، لكي تبصر المشاهد الكاملة لنموّها الرّوحيّ في إطار نَسَقٍ موحَّد، وهو يصف هذا الىوم بأنّه يوم “جعله الله غرّة الأىّام وفىه تجلّى الرّحمن على من في السّموات والأرضىن” (18)، ومن هذا المنظور يتحتّم على أتباع جميع الأديان بذل الجهد من أجل إدراك معنى ما وصفه حضرة بهاء الله بقوله: “هذا دين الله من قَبْلُ ومن بَعْدُ” (19) وأن يميّزوا بين الغاية الإِلهيّة لظهور دين من الأديان وبين الشّرائع والمفاهيم المتغيّرة والّتي تنزل تلبيةً لمتطلّباتٍ آنيّةٍ لمجتمع إنسانيّ دائم التّطوّر والنّموّ، مثلما يفعل الطّبيب الحاذق الّذي يقدّم الدّواء المناسب لكلّ داء، ويتغيّر الدّواء بتغيّر المزاج، بينما الطّبيب يبقى واحدًا ومبدأ العلاج واحدًا:

انظروا العالم کهىکل إنسان إنّه خلق صحىحًا کاملاً فاعترته الأمراض بالأسباب المختلفة المتغاىرة وما طابت نفسه في ىوم بل اشتدّ مرضه بما وقع تحت تصرّف أطبّآء غىر حاذقة الّذىن رکبوا مطىّة الهوى وکانوا من الهائمىن، وإن طاب عضو من أعضائه في عصر من الأعصار بطبىب حاذق بقىت أعضآء أخرى فىما کان کذلك ىنبّئکم العلىم الخبىر، والىوم نراه تحت أىدي الّذىن أخذهم سکر خمر الغرور على شأن لا ىعرفون خىر أنفسهم فکىف هذا الأمر الأوعر الخطىر، إن سعى أحد من هؤلآء في صحّته لم ىکن مقصوده إلاّ بأن ىنتفع به اسمًا کان أو رسمًا لذا لا ىقدر على برئه إلاّ على قدر مقدور، والّذي جعله الله الدّرىاق الأعظم والسّبب الأتمّ لصحّته هو اتّحاد من على الأرض على أمر واحد وشرىعة واحدة هذا لا ىمکن أبدًا إلاّ بطبىب حاذق کامل مؤىّد لَعَمري هذا لهو الحقّ وما بعده إلاّ الضّلال المبىن، کلّما أتى ذاك السّبب الأعظم وأشرق ذاك النّور من مشرق القدم منعه المتطبّبون وصاروا سحابًا بىنه وبىن العالم لذا ما طاب مرضه وبقي في سقمه إلى الحىن، إنّهم لم ىقدروا على حفظه وصحّته والّذي کان مظهر القدرة بىن البرىّة مُنع عمّا أراد بما اکتسبت أىدي المتطبّبىن. (20)

ليس مفروضًا أنْ يقوم القلب وحده بتكريس نفسه لاكتشاف هذا النّسق من التّحوّل والتّطوّر، بل على العقل أيضاً أن يفعل ذلك. ويؤكّد لنا حضرة بهاء الله أنّ العقل نعمة من أعظم النّعم أسبغها الله على الإنسان، فهو “النَّفْسُ النّاطِقَةُ” و”آيةُ تَجلّي سُلْطانِ الأحَدِيّةِ.” (21) فإذا تحرّر العقل من ربقة العقائد والتّقاليد الموروثة، دينيّة كانت أم دنيويّة، عندئذٍ فقط يمكنه أن يباشر تحرّيه للعلاقة القائمة بين كلمة الله وبين ما تتركه من أثرٍ ونفوذ في حياة بني البشر. ولعلّ العقبة الرّئيسة في مثل هذا البحث والتّحرّي هو التّعصّب.

 

 

 

6 الـمَـظْـهَـرُ الإلـهـيّ

يشترك كلّ الّذين يؤمنون بواحدٍ أو آخر من النّظم الدّينيّة في العالم في الاعتقاد بأنَّ الواسطة بين عوالم الله وروح الإنسان هي المظاهر الإِلهيّة. وأنّ هذه العلاقة بالذّات هي الّتي تُعطي الحياة معنىً حقيقيّاً. إنّ من أهمّ الفقرات شأنًا في آثار حضرة بهاء الله الكتابيّة تلك الّتي يعالج فيها بإسهاب طبيعة ودور أولئك الّذين يختارهم الله واسطة الظّهور الإِلهيّ، أي “الرّسل والأنبياء” أو “المظاهر الإِلهيّة”. ويعطينا حضرة بهاء الله الأمثلة على ذلك، فيشبّه المظاهر الإلهيّة بالشّموس الّتي تشارك غيرها من السّيّارات الّتي تدور في مدارها بعض الخواصّ إلاّ أنَّها تختلف عن تلك السّيّارات كلّها لأنَّها المصدر الذي ينبعث منه النّور؛ فالأقمار والكواكب عاكسةٌ لنور الشّمس، بينما الشّمس وحدها تبعث النّور وتنشره كخاصّيّة لا تنفصل عن طبيعتها. فالنّظام الشّمسيّ كلّه محوره الشّمس ذاتها ويدور كلّه حولها، وكلّ عنصر من عناصر هذا النّظام يتأثّر بالشّمس ليس من حيث تكوينه الخاص فحسب، بل أيضًا من حيث علاقته بالشّمس، مصدر الضّوء وباعث النّور في النّظام كلّه. (22)

على هذا القياس نفسه، يؤكّد لنا حضرة بهاء الله أنَّ الشّخصيّة الإِنسانيّة الّتي يشارك فيها المظهرُ الإِلهيّ باقيَ البشر، تختلف عن غيرها بصورة تجعلها مؤهّلةً لتكون واسطة الظُّهور الإِلهيّ. يبدو أنَّ من الأسباب العديدة للبلبلة والانشقاق الدّينيّ عبر التّاريخ هي تلك الإِشارات الّتي تحمل تناقضًا ظاهريًّا بالنّسبة لهذه الثُّنائيّة في المقام.

إنَّ قناعة المؤمنين بأيّ دين من الأديان بأنّ مؤسّس دينهم يتمتّع بمقام متميّز عن غيره من مؤسّسي الأديان الأخرى، قد ولّد عبر التّاريخ الكثير من الأوهام والظّنون حول طبيعة المظهر الإِلهيّ وجوهره. وفي كلّ حالة من الحالات نجد أنّ هذه الأوهام والظّنون قد نشأت نتيجة إشارات مجازيّة مجزّأة ومتفرّقة وردت في الأقوال القليلة الموثّقة لمؤسّس الدّين نفسه. لم تسفر محاولات بلورة هذه الآراء المبنيّة على الظّنون والأوهام في شكل عقائد دينيّة إلاّ عن الفرقة والشّقاق بدلاً من الوحدة والوفاق بين أتباع الأديان المتعدّدة.

لكي نفهم تعاليم حضرة بهاء الله حول موضوع وحدة الأديان، ينبغي الاطّلاع، بصورة خاصّة، على أقواله الّتي تتناول مقام المظاهر الإِلهيّة المتتابعة والوظائف الّتي قامت تلك المظاهر الإلهيّة بتنفيذها عبر التّاريخ الرّوحي للبشر، مثل قوله:

“إنّ للشّموس المشرقة من المشارق الإلهيّة مقامين؛ أحدهما مقام التّوحيد ورتبة التّفريد… وثانيهما مقام التّفصيل ومقام عالم الخَلق ورتبة الحدودات البشريّة، ففي هذا المقام لكلّ واحد منهم هيكل معيّن وأمر مقرّر وظهور مقدّر وحدود مخصوصة، بمثل ما إنّ كلّ واحد منهم موسوم باسم وموصوف بوصف ومأمور بأمر بديع وشرع جديد… وبالنّظر لاختلاف هذه المراتب والمقامات تظهر بيانات وكلمات مختلفة من تلك الينابيع للعلوم السّبحانيّة، وإلاّ في الحقيقة تُعتبر جميعها لدى العارفين بمعضلات المسائل الإلهيّة في حكم كلمة واحدة… إنّ جميع هذه الاختلافات في الكلمات هي من اختلاف المقامات، ولهذا أُطلقت ولا تزال تُطلق على جواهر الوجود تلك في مقام التّوحيد وعلوّ التّجريد صفاتُ الرّبوبيّة والألوهيّة والأحديّة الصّرفة والهويّة البحتة لأنّ جميعهم ساكنون على عرش ظهور الله وواقفون على كرسيّ بطون الله، أي إنّ ظهور الله ظاهر بظهورهم وجمال الله مشرق من وجوههم… ولكن في المقام الثّاني الّذي هو مقام التّمييز والتّفصيل والتّحديد ومقام الإشارات والدّلالات المُلكيّة، تظهر منهم العبوديّة الصّرفة والفقر البحت والفناء الباتّ… وإذا ما سُمع من المظاهر الجامعة ‘إنّي أنا الله’، فهو حقّ لا ريب فيه… وإذا ما نادى كلّ واحد منهم ‘أنا خاتم النّبيّين’ فهو أيضًا حقّ ولا سبيل إلى الرّيب فيه ولا طريق إلى الشّبهة، لأنّ الجميع حكمهم حكم ذات واحدة ونفس واحدة وروح واحدة وجسد واحد وأمر واحد، وكلّهم مظاهر البدئيّة والختميّة، والأوّليّة والآخريّة، والظّاهريّة والباطنيّة لروح الأرواح الحقيقي وساذج السّواذج الأزليّ…” (23) (مترجم)

7 مدنــيّـة دائـمـة الـنّـمـوّ وَالـتّـطـوّر

تحمل هذه المقتطفات في مضمونها نظرة يبسطها حضرة بهاء الله عن وظيفة المظهر الإِلهيّ ومهمّته؛ فالظّهور الإِلهيّ، كما يقول حضرته، هو القوّة الباعثة للحضارة الإِنسانيّة، إذ تُحدثُ القوّة النّافذة لكلّ ظهور إلهيّ تغييرًا وتحوّلاً في نفوس وقلوب المستجيبين له. يتردّد صدى هذه القوّة أيضًا في المجتمع الجديد الّذي يبدأ تدريجيًّا بتكوين نفسه على أساس المفاهيم الدّينيّة الجديدة وخبرات تلك النّفوس المستجيبة وتجاربها. ثمّ يبرز إلى الوجود محورٌ جديدٌ للولاء يستطيع أن يحصل على التزام شعوب وأمم متباعدة الثّقافات بأهدافه؛ فتتّسع آفاق المعرفة من الموسيقى والفنون والآداب وغيرها لتتّخذ أبعادًا جديدة تستدرّ إلهامًا أكثر وفرةً ونضجًا. كما يعاد النّظر في تعريف مفاهيم الخير والشّرّ لتتّخذ تعريفًا جديدًا يؤدّي إلى صياغة قواعد جديدة تنظّم السّلوك العامّ وتساعد على سَنّ القوانين المدنيّة. تنشأ أخيرًا مؤسّسات جديدة لتترجم عمليًّا غاية المسؤوليّة الأخلاقيّة الّتي تمّ تجاهلها أو كانت مجهولة في السّابق.

هكذا تنمو الثّقافة الجديدة وتتطوّر لتصبح حضارة إنسانيّة. تستوعب هذه الحضارة الجديدة أثناء نموّها حكمةَ الماضي وإنجازات العصور السّابقة لتحيلها إلى معادلات جديدة وترتيبات حديثة. أمّا المعالم المتّصلة بثقافات قديمة لا يمكن استيعابها أو دمجها في الإِطار الجديد، فإمّا أن تندثر أو تتبنّاها فئات هامشيّة من النّاس. إنّها كلمة الله الّتي تهب الوعي الفرديّ بطاقات جديدة، وتبلور العلاقات الإِنسانيّة فتغنيها بأسبابٍ مبتكرة. هذا ما أشار إليه حضرة
بهاء الله بقوله:

كلّ ما يخرج من فمه إنّه لَمُحيي الأبدان لو أنتم من العارفين، كلّ ما أنتم تَشهدون في الأرض إنّه قد ظهر بأمره العالي المُتعالي المُحْكَم البديع، إذا استشرق عن أفق فمه شمس اسمه الصّانع بها تَظْهَرُ الصّنايع في كلّ الأعصار وإنّ هذا لحقٌّ يقين، ويَستشرق هذا الاسم على كلّ ما يكون وتَظهر منه الصّنايع بأسباب المُلْك لو أنتم من المُوقِنين، كلّ ما تَشهدونَ ظهورات الصُّنْعِيَّة البديعة كلُّها ظهر من هذا الاسم وسيَظهر من بعدُ ما لا سمعتموه من قبلُ كذلك قُدِّر في الألواح ولا يَعرفها إلاّ كلّ ذي بصر حديد، وكذلك حين الّذي تَسْتَشْرِق عن أفق البيان شمس اسمي العلاّم يَحمل كلّ شيءٍ من هذا الاسم بدايعَ العلوم على حَدِّه ومقداره ويَظْهَر منه في مدى الأيّام بأمر من لدن مقتدر عليم، وكذلك فَانظُرْ في كلّ الأسماء وكُنْ على يقين منيع، قل إنّ كلّ حرف تخرج من فم الله إنّها لأُمّ الحروفات وكذلك كلّ كلمة تظهر من مَعْدِن الأمر إنّها لأُمّ الكلمات وإنّ لوحَه لأُمّ الألواح فطوبى للعارفينَ…(24)

يؤكّد حضرة الباب بأنّ التّتابع المتعاقب للمظاهر الإِلهيّة “سياقٌ لا بداية له ولا نهاية”، (25) وأنّ رسالة كلّ مظهر إلهيّ محدودة من حيث دورتها الزّمنيّة والوظائف المنوطة بها، رغم كونها جزءًا لا يتجزّأ من المشيئة الإِلهيّة والقوّة الرّبّانيّة. يتفضّل حضرة بهاء الله بقوله:

فانظر بطَرْف البدء فيما نظرتَ إلى آدم الأولى ثمّ من بعده إلى أن يصل الأمر إلى عليّ قبل نبيل [حضرة الباب]، قل تالله كلّهم قد جاءوا عن مشرق الأمر بكتاب وصحيفة ولوح عظيم، وأُتوا كلّ واحد منهم على ما قُدّر لهم وهذا من فضلنا عليهم إن أنتم من العارفين…” (26)

أخيرًا، حين تستهلك الحضارةُ الإنسانيّة الدّائمة التّطوّر قواها الرّوحيّة، تدخل مرحلة من التّفكّك والتّفسّخ تمامًا كما هي الحال في العالم الظّاهريّ. يعود حضرة بهاء الله فيورد لنا قياسًا نجده في عالم الطّبيعة، فيشبّه هذه الفترة الّتي هي بمثابة انحطاط بين حضارتين ببداية فصل الشّتاء. في هذه الفترة تنحدر الأخلاق، ويتناقص تماسُك المجتمع، فتتحوّل عندئذٍ التّحدّيات الّتي يواجهها المجتمع عقبة كأداء لا يمكن تخطّيها، وذلك بعد أنْ كان ممكنًا في زمن سابق التّغلّب على مثل هذه التّحدّيات أو ترجمتها إلى فرص وإمكانات تحقّق اكتشافات وإنجازات. في مثل هذه الفترة يفقد الدّين موقعه، وتتبعثر الجهود في مجالات البحث والاختبار تبعثرًا متزايدًا، وتتفاقم الانقسامات والخلافات الاجتماعيّة، وأخيرًا يتعاظم الشّكّ ويزداد فقدان الثّقة بمعنى الحياة وقيمتها، فيولّد ذلك القلقَ والحيرة والاضطراب.

عندما تتحقّق كلّ واحدة من هذه البواعث الإِلهيّة يتكرّر هذا السّياق، فيظهر ظهور إلهيّ جديد مدعوم بالوحي والإِلهام لمواجهة المرحلة التّالية من مراحل إيقاظ الجنس البشريّ وتربيته ليخلق حضارة جديدة. بالتّزامن مع ذلك، وإلى أنْ تبدأ فئة من النّاس بالاستجابة لدعوة الظّهور الجديد، ويبدأ النّموذج الرّوحانيّ والاجتماعيّ الجديد باتّخاذ شكله وصورته، يستطيع النّاس سدّ رمقهم الرّوحيّ والخلقيّ بالاعتماد على آخر ما تبقّى من آثار النّعمة الّتي أغدقت عليهم في الماضي. وسواء أكانت المهامّ اليوميّة للمجتمع منفَّذةً أم معطّلة، والقوانين تحظى باحترام النّاس أو مخالفتهم لها، والاختبارات الاجتماعيّة والرّوحيّة ناجحة أو فاشلة، تبقى إشكاليّة تتمثّل في أنَّ جذور الإِيمان حينئذٍ تكون قد ذَوَت واضمحلّت. في مثل هذه الحال لا يمكن لأيّ مجتمع أنْ يدوم من دون إيمان. فَعِند “نهاية العالم” أو في “آخر الزّمان” أو عند “نهاية كلّ عصر” تحاول النّفوس الّتي تمتلك طاقةً روحيّة التّوجّهَ من جديد نحو المصدر الخلاّق. ومهما كانت هذه المحاولة مشوبة بالفوضى والاضطراب، ومهما كانت الخيارات مشوّشة وتعيسة، فما سعيهم هذا إلاّ استجابة غريزيّة لإحساسهم بحدوث صَدْعٍ رهيب في الحياة المنتظمة للجنس البشريّ.

يشير حضرة بهاء الله إلى تأثيرات الظّهور الجديد، فيقرّر أنّها تشمل الوجود كلّه، وأنّها ليست محدودة فقط بحياة المظهر الإِلهيّ وتعاليمه، لكنّ المظهر الإلهيّ يبقى قطب الظّهور كلّه. ورغم أنّه ليس في الإِمكان الإِحاطة بمؤثّرات الظّهور الإِلهيّ، فإنّها تَنْفَذ في صورة متزايدة إلى قرارة الشّؤون الإِنسانيّة جميعها؛ فيُكشَفُ النّقاب عن التّناقضات الكامنة في المجتمع وفي الافتراضات الّتي يتداولها البشر، ويُكَثَّفُ البحث عن سبل التّفاهم والتّراضي.

علاوة على كلّ هذا، يصرّح حضرة بهاء الله أنّ تتابع المظاهر الإِلهيّة يمثّل بُعْدًا متماسكًا ومتواصلاً من الأبعاد الّتي يتكوّن منها الوجود، وأنّ هذا التّتابع سيستمرّ طوال حياة هذا العالم: “بعث الله رسلاً بعد موسى وعيسى وسيُرسل من بعدُ إلى آخر الّذي لا آخر له بحيث لن ينقطع الفضلُ عن سماء العناية.” (27)

8 يـوم الله

لنا أنْ نَسأل: ما هو الهدف من نُموّ الوعي الإِنسانيّ وارتقائه في نظر حضرة بهاء الله؟ مِنْ منظور العالم الأبَدِيِّ يكون الجواب أنّ الله سبحانه وتعالى إنّما يريد أن يشاهد كمالات ذاته منعكسةً على مرايا قلوب عباده في أوضح صورة، وأنّه حسب ما جاء في كلمات حضرة بهاء الله:

لِيشهد الكلّ في نفسه بنفسه في مقام تجلّي ربّه بأنّه لا إله إلاّ هو وليصل الكلّ بذلك إلى ذروة الحقائق حتّى لا يشاهد أحدٌ شيئًا إلاّ وقد يرى اللهَ فيه.” (28)

أمّا من حيث ما يحدث في هذا العالم الفاني، وفي إطار سياق التّاريخ، فإنّ الهدف من تتابع المظاهر المقدّسة هو تهيئة الوعي الإنسانيّ لتحقيق الوحدة والاتّحاد للنّوع البشريّ، ليصبح كائنًا عضويًّا واحدًا باستطاعته تحمّل مسؤوليّته تجاه المستقبل الجماعيّ للإِنسان. يقول حضرة بهاء الله: “إنّ ربّكم الرّحمن يُحبّ أن يرى مَن في الأكوان كنفس واحدة وهيكل واحد”. (29) ولن تستطيع الإنسانيّة مواجهة التّحدّيات الرّاهنة، ناهيك عمّا يمكن أن تواجهه في المستقبل، حتّى تعترف بوحدتها العضويّة وتقبل بها كحقيقة مسلّم بها.

يؤكّد لنا حضرة بهاء الله أنّه “لا يمكن تحقيق إصلاح العالم واستتباب أمنه واطمئنانه إلاّ بعد ترسيخ دعائم الاتّحاد والاتّفاق.” (30) ولن تجد البشريّةُ اطمئنانًا حقيقيًّا إلاّ بتأسيس مجتمع عالميّ موحَّد يحقّق ما دعا إليه حضرة بهاء الله: “كونوا كالأصابع في اليد والأركان للبدن كذلك يعظكم قلم الوحي إن أنتم من الموقنين.” (31)

لعلّه من قبيل المفارقات أنّه من غير الممكن للإِنسانيّة أنْ تحافظ على التّعدديّة والتّنوّع والفرديّة محافظةً سليمة وصحيحة إلاّ بعد أنْ تتحقّق الوحدة الحقيقيّة. هذا هو الهدف الذي سعت من أجله كلّ رسالات المظاهر الإِلهيّة الّتي عرفها التّاريخ الإِنسانيّ؛ إنَّه اليوم الذي يتوحّد فيه العالم وهناك “تكون رعيَّة واحدة وراعٍ واحد”. (32) يبشّرنا حضرة بهاء الله بأنّ تحقّق مجيء هذا اليوم هو المرحلة الرّاهنة من مراحل التّطوّر الحضاريّ الّتي ولجها الجنس البشريّ في عصرنا الحالي.

من أمثلة القياس المليئة بالإِيحاء، ليس فقط في آثار حضرة بهاء الله، ولكن أيضًا في آثار حضرة الباب من قبله، المقارنةُ بين نموّ الجنس البشريّ وارتقائه كمجتمع، من جهة، وحياة الإنسان كفرد، من جهة أخرى. فقد مرّت الإنسانيّة بمراحل مختلفة إبّان تطوّرها الجماعيّ وهي تعكس المراحل الّتي يمرّ الفرد فيها خلال مراحل نشأته ونموّه، كمراحل الطّفولة والمراهقة والشّباب حتى الوصول إلى مرحلة النّضج والرّشاد. وها نحن قد بدأنا بالدّخول في مرحلة نضجنا الجماعيّ، وقد أُغدقت علينا نِعَمٌ كثيرة تمثّلت في قدرات وإمكانات جديدة لا يزال إدراكنا لها محدودًا ومبهمًا.

ليس من الصّعب، والأمر كذلك، أنْ نفهم الأولويّة الّتي خصّ بها حضرة بهاء الله مبدأ الوحدة والاتّحاد في تعاليمه. فالميّزة الرّئيسة لعلاج مشاكل هذا العصر الّذي بدأنا دخوله هي مبدأ وحدة العالم الإِنسانيّ، وما هذا المبدأ إلاّ ميزانٌ صحيحٌ لتقويم كلّ الاقتراحات المتعلّقة بإصلاح المجتمع الإنسانيّ وتحسين أوضاعه. لقد جَزَمَ حضرة بهاء الله بأنّ الجنسَ البشريّ جنسٌ واحد لا اختلاف بين أفراده، وأنَّ النّظريّات الموروثة الّتي تميّز مجموعة عرقيّة أو إثْنيّة من البشر لتعطيهم منزلة أسمى من غيرها نظريّات باطلة لا أساس لها من الصّحّة. وبالمثل، فإنَّ الوحي الّذي جاء به كلّ رسول هو جزء لا يتجزّأ من التّراث الجماعيّ للجنس البشريّ ككلّ، وكلُّ فرد في هذا العالم إنّما هو وريثٌ شرعيّ لهذا التّراث الرّوحيّ بأكمله، وذلك لأنَّ المظاهر الإِلهيّة كلّها ما جاءت إلاّ لتنفيذ المشيئة الواحدة لله سبحانه وتعالى. فالإِصرار على التّمسّك بالتّعصّبات، مهما كانت ألوانها، يُلحقُ الضّررَ بمصالح المجتمع الإِنسانيّ، ويُشكّل انتهاكًا لمشيئة الخالق ولِما قدّره من أهداف لهذا العصر، فيخبرنا حضرة بهاء الله بقوله:

هل عرفتم لِمَ خلقناكم من تراب واحد، لئلاّ يفتخر أحدٌ على أحد، وتفكّروا في كلّ حين في خَلق أنفسكم، إذًا ينبغي كما خلقناكم من شيء واحد أن تكونوا كنفس واحدة، بحيث تمشون على رِجل واحدة وتأكلون من فمٍ واحد وتسكنون في أرض واحدة، حتّى تظهر من كينوناتكم وأعمالكم وأفعالكم آياتُ التّوحيد وجواهر التّجريد. هذا نصحي عليكم يا ملأ الأنوار فانتصحوا منه لتجدوا ثمرات القدس من شجر عزّ منيع”. (33)

إنّ موضوع الوحدة والاتّحاد خيط ذهبيّ يربط بين كلّ ما أنزله حضرة بهاء الله من آثار: “قد ارتفع سرادق الاتّحاد، لا يَنْظُرُ بعضُكم إلى بعض كنَظْرَةِ غريب إلى غريب، كلّكم أثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد” (34) و”عاشروا مع الأديان بالرَّوْح والرَّيحان… كلٌّ بُدءَ من الله ويعود إليه إنّه لمبدأ الخلق ومرجع العالمين”. (35)

لقد وصلت مَسيرةُ الإِنسانيّة نحو بلوغ سنّ الرّشد إلى غايتها أثناء تطوّر النّظام الاجتماعيّ في العالم؛ فابتداءً من وحدة النّظام العائليّ وامتداداته المختلفة، طوَّر الجنس البشريّ، وبدرجات متفاوتة من النّجاح، مجتمعات قامت على أساس النّظام العشائريّ ثمّ القبليّ ثمّ نظام المدينة – الدّولة، ومؤخّرًا نظام الأمّة – الدّولة. فبتوسّع البيئة الاجتماعيّة المطّرد وازدياد أمورها تعقيدًا تُشحَذ الإِمكانات الإِنسانيّة ويتّسع أفق نموّها، وهذا النّموّ يُنْتِج بدوره تعديلات مستحدَثة وجديدة في نسيج المجتمع. لبلوغ الإِنسانيّة سنّ الرّشد يَستلزمُ إذًا حدوث تحوّل شامل في النّظام الاجتماعيّ الرّاهن، بحيث يصبح نظامًا قادرًا على استيعاب التّعدّديّة الموجودة في طبيعة الجنس البشريّ بصورة شاملة، وعلى الاستفادة استفادةً كاملة من المجال الواسع لمختلف المواهب والمعارف الّتي هذّبتها آلافُ السّنين من الخبرات الثّقافيّة والتّجارب الإِنسانيّة:

يا ملأ الأرض أن استمعوا ما يأمركم به القلم من لدن مالك الأمم فاعلموا أنّ الشّرائع قد انتهت إلى الشّريعة المنشعبة من البحر الأعظم أن أقبِلوا إليها أمرًا من لدنّا إنّا كنّا حاكمين، فانظروا العالم كهيكل إنسان اعترته الأمراض وبُرئُه منوطٌ باتّحاد من فيه أن اجتمعوا على ما شرّعناه لكم ولا تتّبعوا سُبل المختلفين. (36)

قل أن اتّحدوا في كلمتكم واتّفقوا في رأيكم واجعلوا إشراقَكم أفضلَ من عشيّكم وغدَكم أحسنَ من أمسكم… لَعمري قد خُلقتم للوداد لا للضّغينة والعناد. (37)

أمّا إقامة العدل في الشّؤون الإنسانيّة، فيؤكّد لنا حضرة بهاء الله أنّها الوسيلة الرّئيسة لإحداث التّحوّل والتّغيير في المجتمع ولتحقيق وحدة العالم الإِنسانيّ واتّحاده، ويحتلّ هذا الموضوع مكانة رئيسة في تعاليمه:

زيّنوا يا قوم هياكلكم برداء العدل وإنّه يوافق كلّ النّفوس لو أنتم من العارفين، وكذلك الأدب والإنصاف وأمرنا بهما في أكثر الألواح لتكوننّ من العاملين، إنّه ما أمر نفسًا إلاّ بما هو خيرٌ لها وينفعها في الآخرة والأولى وإنّه بنفسه لَغنيّ من عمل ذي عمل وعن عرفان كلّ عالم خبير…(38)

يوضّح حضرة بهاء الله في آثاره الكتابيّة اللاّحقة النّتائج المترتّبة على تنفيذ هذا المبدأ في عصر بلغت فيه الإِنسانيّة نضجها؛ فهو يؤكّد لنا بأنّ “النّساء والرّجال كانوا وسيكونون أبدًا مُتساوين في نظر الله،” (39) ويؤكّد أيضًا بأنّ تقدّم الحضارة يتطلّب من المجتمع تنظيمًا لشؤونه بحيث تبرز هذه الحقيقة واضحة إلى الوجود، وأنَّ موارد الأرض ملكٌ للإِنسانيّة جمعاء وليس لشعب من الشّعوب، كما أنَّ الإِسهامات المختلفة الّتي تفيد الصّالح الاقتصاديّ العامّ جديرة بأن يُعْتَرَف بدورها وتُكافَأ بما يتناسب مع حجمها المختلف، وأخيرًا فإنّه يجب إزالة الفوارق الشّاسعة بين الأغنياء والفقراء، وهي ما ابتليت به معظم أمم الأرض، بغضّ النّظر عمّا تعتنقه هذه الأمم من فلسفات اجتماعيّة واقتصاديّة.

في خطبة ألقاها حضرة عبد البهاء، وهو الّذي عيّنه حضرة بهاء الله مبيّنًا لكلماته وتعاليمه، وذلك قبل ثلاثة أعوام من نشوب الحرب العالميّة الأولى، وجّه الخطاب التّالي إلى جمع كان في محضره، ومن خلاله إلى جميع أهل العالم قبل أن تفتك بهم نيران الحروب والاختلافات والتّعصبات، فقال:

إلى متى هذا الهجوع والسّبات؟ وإلى متى هذا الرّجوع القهقرى؟ وإلى متى هذا الجهل والعمى؟ وإلى متى هذه الغفلة والشّقاء؟ وإلى متى هذا الظّلم والاعتساف؟ وإلى متى هذا البغض والاختلاف؟ وإلى متى الحميّة الجاهليّة؟ وإلى متى التّمسّك بالأوهام الواهية؟ وإلى متى النّزاع والجدال؟ وإلى متى الكفاح والنّزال؟ وإلى متى التّعصّب الجنسيّ؟ وإلى متى التّعصّب الوطنيّ؟ وإلى متى التّعصّب السّياسيّ؟ وإلى متى التّعصّب المذهبيّ؟… أولم تنتبه النّفوس إلى أنّ الله قد فاضت فيوضاته على العموم؟ خلق الخلق بقدرته ورزق الكلّ برحمته وربّى الكلّ بربوبيّته… فلنتّبع الرّبّ الجليل في حسن السّياسة وحسن المعاملة والفضل والجود، ولنترك الجور والطّغيان، ولنلتئم التئام ذوي القربى بالعدل والإحسان، ولنمتزج امتزاج الماء والرّاح، ولنتّحد اتّحاد الأرواح. ولا نكاد نؤسّس سياسة أعظم من سياسة الله، ولا نقدر أن نجد شيئًا يوافق عالم الإنسان أعظم من فيوضات الله، ولكم أسوة حسنة في الرّبّ الجليل. فلا تبدّلوا نعمة الله، وهي الألفة التّامّة في هذا السّبيل. عليكم يا عباد الله بترك الاختلاف وتأسيس الائتلاف والحبّ والإنصاف والعدل وعدم الاعتساف… قد مضت القرون الأولى وطُويَ بساط البغضاء والشّحناء حيث أشرق هذا القرن بأنوار ساطعة وفيوضات لامعة وآثار ظاهرة وآيات باهرة والأنوار كاشفة للظّلام دافعة للآلام داعية للائتلاف قامعة للاختلاف، إلاّ أنّ الأبصار قد قرّت وأنّ الآذان قد وعت وأنّ العقول قد أدركت أنّ الأديان الإلهيّة مبنيّة على الفضائل الإنسانيّة؛ ومنها الألفة والوداد بين العموم والوحدة والاتّفاق بين الجمهور. يا قوم! ألستم من سلالة واحدة؟ ألستم أفنانًا وأوراقًا من دوحة واحدة؟ ألستم مشمولين بلحظات أعين الرّحمانيّة مستغرقين في بحار الرّحمة من الحضرة الوحدانيّة؟ ألستم عبيدًا للعتبة الرّبّانيّة؟ هل أنتم في ريب أنّ الأنبياء كلّهم من عند الله وأنّ الشّرائع كلّها قد تحقّقت بكلمة الله، وما بعثهم الله إلا لتعليم وتربية الإنسان وتثقيف عقول البشر والتّدرّج إلى المعارج العالية من الفلاح والنّجاح؟… يا قوم! البدار البدار إلى الألفة. عليكم بترك البغضاء والشّحناء. عليكم بترك الجدال. عليكم بدفع الضّلال. عليكم بكشف الظّلام. عليكم بتحرّي الحقيقة في ما مضى من الأيّام. فإذا ائتلفتم اغتنمتم، وإذا اختلفتم اعتسفتم عن سبيل الهدى، وغضضتم النّظر عن الحقيقة والنّهى وخضتم في بحور الوهم والهوى. إنّ هذا لضلالة مهلكة للورى. وأمّا إذا اتّحدتم وامتزجتم وائتلفتم فيؤيّدكم شديد القوى بصلح وصلاح وحبّ وسلام وحياة طيّبة وعزّة أبديّة وسعادة سرمديّة، والسّلام على من اتّبع الهدى. (40)

9 إعـلان لـمـلـوك الأرْض

إنّ البيانات المباركة الّتي وردت في الصّفحات السّابقة نزلت في معظمها على حضرة بهاء الله وهو رهين الاضطهاد المتجدّد والمستمرّ على مدى السّنوات الأربعين الأخيرة من حياته. فقد صار واضحًا إثر وصول السّجين المنفيّ إلى اسطنبول أنَّ مظاهر الإعزاز الّتي أحيطَ بها إبّان رحلته من بغداد، لم تدم إلاّ فترة وجيزة مؤقّتة. فقرّرت السّلطات العثمانيّة إبعاد حضرة بهاء الله مع أصحابه المنفيّين إلى إحدى المناطق النّائية في أطراف الإِمبراطورية العثمانيّة، إذ كان يُخشى أنْ تتكرّر أحداث بغداد وأن يكسب حضرة بهاء الله هذه المرّة، ليس فقط احترام الشّخصيّات ذات النّفوذ في الحكومة العثمانيّة، بل ولاءهم أيضًا. كان المحرّض على ذلك الإبعاد سفير إيران في إسطنبول الّذي كان يدّعي أنّ انتشار الرّسالة الجديدة في العاصمة العثمانيّة قد يكون ذا نتائج سياسيّة ودينيّة غير محمودة.

قاومت الحكومة العثمانيّة في بادئ الأمر مطالب السلطات الإيرانيّة بشدّة، وعبَّر رئيس الوزراء العثمانيّ عالي باشا للدّبلوماسيّين الغربيّين عن اعتقاده بأنّ حضرة بهاء الله “رجلٌ سامي المقام، مثاليّ التّصرّف، بالغ الاعتدال، وشخصيّة تتّسم بغاية الوقار والاحترام”. أمّا تعاليمه، فقد كانت في نظر رئيس الوزراء “جديرة بالاحترام البالغ” لأنها تسعى إلى محو العداوات المذهبيّة الّتي كانت تفرّق مواطني الإِمبراطوريّة من يهود ومسيحيّين ومسلمين. (41)

ترفّع حضرة بهاء الله عمّا جرت به العادة في تزلّف الواردين إلى اسطنبول لدى الوزراء والباشاوات العثمانيين. ورغم أنَّ العديد من الوزراء قام بزيارته في المقرّ الّذي خصّص لسكناه زياراتٍ شخصيّة، رفض حضرة بهاء الله الاستفادة من الفرص المتاحة أمامه، وعلّق قائلاً بأنَّه في اسطنبول ينزل ضيفًا على السّلطان بدعوة من السّلطان نفسه، وأنَّ اهتماماته لا تكمن إلاّ في المسائل الرّوحيّة والخُلقيّة.

يعطينا النّفي والإِبعاد المتتابع لحضرة بهاء الله إلى اسطنبول، ومنها إلى أدرنة، مدلولاً رمزيًّا عميقًا من وجهة نظر التّاريخ الدّينيّ للبشريّة؛ فلأوّل مرّة يَعْبُرُ مظهر إلهيّ ومؤسّس نظام دينيّ مستقلّ، قُدّر له أن ينتشر بسرعة ليعمّ هذا الكوكب، المضيقَ البحريّ الّذي يفصل القارّة الآسيويّة عن القارّة الأوروبيّة، ليطأ بقدميه تراب “العالم الغربيّ”. أمّا الأديان الكُبرى الأخرى فقد نشأت في آسيا وأمضى مؤسّسوها فترات ولايتهم ضمن حدود تلك القارّة وحدها. أشار حضرة بهاء الله إلى أنَّ الدّورات السّابقة للأديان الّتي مرّت على وجه الأرض تركت أبلغ أثر لها في نموّ الحضارة الإِنسانيّة أثناء توسّعها نحو المشارق والمغارب، وتنبّأ أن تتكرّر هذه التّجربة نفسها في هذا العصر الجديد، ولكن على نطاق أكثر شمولاً واتّساعًا، فقال: “قل إنّه قد أشرق من جهة الشّرق وظهر في الغرب آثارُه، تفكّروا فيه يا قوم ولا تكونوا كالّذين غفلوا إذ جاءتهم الذّكرى من لدن عزيز حميد.” (42)

إذًا، قد لا يكون مستغرَبًا اختيارُ حضرة بهاء الله تلك اللحظة من لحظات التّاريخ لكي يعلن عن رسالته إعلانًا عامًّا بعدما بدأت رسالته تجتذبُ بصورة مطّردة ولاء أتباع حضرة الباب في الشّرق الأوسط كلّه. فقد كان إعلانه العامّ هذا في شكل سلسلة من البيانات والتّصريحات الّتي يمكن اعتبارها من أندر الوثائق على الإِطلاق وأروعها في التّاريخ الدّينيّ للبشريّة، إذ فيها وجّه المظهر الإِلهيّ نداءه إلى ملوك الأرض وحكّامه معلنًا انبلاج فجر يوم الله، ملمّحًا إلى التّغييرات الخارقة، والّتي لم تكن قد حدثت بعد، ولكنّها بدأت تأخذ شكلها وتستجمع قواها في جميع أنحاء العالم. دعا حضرة بهاء الله هؤلاء الملوك والحكّام، بصفتهم أمناء الله بين خلقه والمؤتَمَنين على الرّعيّة من النّاس، للقيام والسّعي لتحقيق وحدة العالم الإِنسانيّ، وذكّرهم بأنّ ما تكنّه لهم جماهير رعاياهم من تبجيل ومهابة، وما يتمتّعون به من سلطة مطلقة يمارسها معظمهم، يجعل في مقدورهم أن يساهموا في تحقيق ما أسماه “بالصُّلْحِ الأكْبَرِ” كنظامٍ عالميّ يتميّز بالوحدة والاتّحاد ويتّسم بالعدل والإِنصاف في ظلّ الشّريعة الإِلهيّة.

لا يستطيع القارئ في يومنا هذا أن يتصوّر تصوّرًا دقيقًا العالم الفكريّ والخُلقيّ الّذي كان يعيش فيه أولئك الملوك والحكّام آنذاك. ويتّضح جليّاً من سيَرِهِمْ ومراسلاتهم الخاصّة أنّهم كانوا، باستثناء نفر قليل منهم، يتّصفون بالورع شخصيًّا ويقومون بدور رائد في الحياة الرّوحيّة لبلادهم، كلٌّ في نطاق مملكته. وغالبًا ما كانوا هم رؤساء الدّين في دُوَلِهم، ويؤمنون بالحقائق الإلهيّة في القرآن أو في الإِنجيل والتّوراة، كلٌّ حسب معتقده. وأمّا سلطتهم الّتي كانوا يزاولونها، فقد اعتبروها مستمدّةً مباشرةً من تلك السّلطة الإِلهيّة المذكورة في كتبهم المقدّسة، ولم يتوانوا عن ذكر ذلك بكلّ قوّة واعتزاز؛ معتبرين أنّ المشيئة الإِلهيّة هي الّتي اختارتهم ليكونوا حكّامًا في الأرض. فلم تكن النّبوءات المتعلّقة “بنهاية الأزمنَة” و”ملكوت الله” و”اليوم الآخر” في نظرهم أساطير وخرافات أو قصصًا رمزيّة وحكايات، بل حقائق ثابتة اعتمد عليها النّظام الخُلقيّ كلّه، وهو النّظام الّذي اعتقد معظمهم بأَنَّهم سوف يُسْألون عنه أمام الله ويُحاسَبون على ما فعلوه من أجله كأمناء لهذا النّظام. تُخاطب رسائل حضرة بهاء الله إلى الملوك والرّؤساء ذلك العالم الفكريّ والأخلاقي والسّياسيّ الّذي كانوا يعيشون فيه، وفيما يلي مقتطفات منها:

يا معشر الملوك قد أتى المالك والمُلكُ لله المهيمن القيّوم، ألاّ تعبدوا إلاّ الله وتوجّهوا بقلوب نَوراء إلى وجه ربّكم مالك الأسماء هذا أمرٌ لا يُعادله ما عندكم لو أنتم تعرفون… إيّاكم أن يمنعكم الغرور عن مَشرق الظّهور أو تحجبكم الدّنيا عن فاطر السّماء… تالله لا نريد أن نتصرّف في ممالككم بل جئنا لتصرّف القلوب…(43)

ثمّ اعلموا بأنّ الفقراء أمانات الله بينكم إيّاكم أن لا تخانوا في أماناته ولا تظلموهم ولا تكوننّ من الخائنين، ستُسألون عن أمانته في يوم الّذي تُنصب فيه ميزان العدل ويُعطَى كلّ ذي حقّ حقّه ويُوزَن فيه كلّ الأعمال من كلّ غنيّ وفقير… وإنْ لن تستنصحوا بما أنصحناكم في هذا الكتاب بلسان بِدع مبين، يأخذكم العذابُ من كلّ الجهات ويأتيكم اللهُ بعدله إذًا لا تقدرون أن تقوموا معه وتكوننّ من العاجزين… ثمّ استبصروا في أمرنا وتبيّنوا فيما ورد علينا ثمّ احكموا بيننا وبين أعدائنا بالعدل وكونوا من العادلين، وإنْ لن تَمنعوا الظّالم عن ظلمه ولن تأخذوا حقّ المظلوم فبأيّ شيء تفتخرون بين العباد وتكوننّ من المفتخِرين…(44)

لم تجد رؤيا “الصُّلْحِ الأكْبَرِ” أيّ صدىً في نفوس حكّام القرن التّاسع عشر، إذ كانت الاتّجاهات المتمثّلة في تعظيم الشّعور الوطنيّ وترسيخه والنّزعات التّوسعيّة للإِمبراطوريّات القائمة مدعومةً من الملوك أنفسهم، ونالت تأييد أعضاء المجالس النّيابيّة، والهيئات العلميّة والتّربوية، وأهل الفنّ ورجال الصّحافة والمؤسّسات الدّينيّة الكبرى، فأصبح كلّ طرف من هؤلاء داعيةً متحمّسًا لمبدأ سيادة الغرب وسيطرته العالميّة. وسرعان ما سقطت كافّة الاقتراحات المتعلّقة بالإِصلاحات الاجتماعيّة بغضِّ النّظر عن مثاليّتها وخلوص نواياها؛ فوقعت كلّها فريسةً لمجموعة من الفلسفات العقائديّة الحديثة الّتي ألقى بها المدّ المتصاعد للمذاهب الماديّة المتصلّبة في الغرب. أمّا في الشّرق، فقد أَصيبت شعوب العالم بحالة من الجمود والذّهول نتيجة ما ادّعته الفئات المتّطرفة لنفسها بأنّها تمثّل أقصى ما يمكن للإِنسانيّة الوصول إليه في معرفة الله والحقيقة في زمنهم وفي كلّ الأزمنة، فاستمرّ الشّرق ينزلق باطّراد في هوّة سحيقة من الجهل واللاّمبالاة ومن عداء عنيد ناصَبَ به الجنس البشريّ الذي رفض أنْ يعترف له بمركز الأولويّة الرّوحيّة بين الأديان الّتي يؤمن بها النّاس في شتّى اصقاع الأرض.

10 الـوصـول إلى الأراضي الـمقـدَّسـة

قد يبدو من المحيّر، إذا ما أخذت بعين الاعتبار الأحداث الّتي وقعت في الفترة الّتي كان يقيم فيها حضرة بهاء الله في بغداد، أنْ يفوت السّلطات العثمانيّة توقّع النّتائج الّتي سوف تترتّب على استقرار حضرة بهاء الله في عاصمة إقليميّة أخرى. ففي غضون عام واحد من وصول سجينها إلى أدرنة، اجتذب وجوده الجليل، في بادئ الأمر، اهتمام الشّخصيّات المرموقة في الحياة الفكريّة والإِداريّة في تلك المنطقة، ومن ثمّ حاز على تقديرهم وإعجابهم العميق، إذ رأوا أنّ حقيقة تعاليمه لا تنعكس فقط في ما تمثّله حياته الطّاهرة، بل تنعكس أيضًا في نفوس أولئك الّذين تأثروا بها واعتنقوها.

أقام حضرة بهاء الله عدّة سنوات في مدينة أدرنة، وفي تلك الأثناء زارها وزير الخارجيّة العثماني فؤاد باشا الّذي كتب تقريرًا، بعد عودته من زيارته التفقّدية لمنطقة أدرنة، عبّر فيه عن دهشته البالغة لما أصبح يتمتّع به حضرة بهاء الله من سمعة عالية في جميع أرجاء الإِقليم. عزّز ذلك من مخاوف سفير إيران في اسطنبول فقدّم اقتراحات إلى الحكومة العثمانيّة تقضي بإبعاد حضرة بهاء الله عن أدرنة القريبة من العاصمة العثمانيّة، والّتي يسهّل موقعها وصول أتباعه إليه واللّقاء به. في هذا الجوّ التآمري، قرّرت الحكومة العثمانيّة، وبصورة مفاجئة، أنْ تفرض على ضيفها السّجين قيودًا صارمة؛ ففي باكورة يوم، ودون أيّ إنذار سابق، طوّق الجند منزل حضرة بهاء الله في أدرنة وأُمِرَ أصحابُه المنفيّون بإعداد العدّة للسّفر إلى جهة مجهولة.

كان المكان الّذي تمّ اختياره كآخر منفىً لحضرة بهاء الله مدينة عكّا المحاطة بالأسوار على ساحل الأراضي المقدّسة. اشتُهرت عكّا في جميع أرجاء الإِمبراطوريّة العثمانيّة بفساد مناخها وبتفشّي الأمراض فيها. وكانت الدّولة العثمانيّة تستخدمها كمستعمرة للقصاص تسجن فيها المجرمين الخطرين أملاً في ألاّ يحيوا طويلاً بسبب رداءة المناخ وفساد الهواء. أشار حضرة بهاء الله إلى ذلك في لوح أنزله في أدرنة قُبيل مغادرته لها، وفيه يتفضّل قائلاً:

“وممّا يحكون إنّها أخرب مدن الدّنيا وأقبحها صورةً وأردأها هواءً وأنتنها ماءً كأنّها دار حكومة الصّدى لا يُسمَع من أرجائها إلاّ صوت ترجيعه، وأرادوا أن يحبسوا الغلام فيها ويسدّوا على وجوهنا أبواب الرّخاء ويصدّوا عنّا عرضَ الحيوة الدّنيا فيما غبر من أيّامنا، تالله لو ينهكني اللّغب ويُهلكني السّغب ويُجعل فراشي من الصّخرة الصّمّاء ومؤانسي وحوش العراء لا أجزع وأصبر كما صبر أولو الحزم وأصحاب العزم بحول الله مالك القِدم وخالق الأمم، وأشكر الله على كلّ الأحوال ونرجو من كرمه تعالى بهذا الحبس يُعتق الرّقاب من السّلاسل والأطناب ويجعل الوجوه خالصةً لوجهه العزيز الوهّاب، إنّه مجيبٌ لمَن دعاه وقريبٌ لمَن ناجاه…(45)

وصل حضرة بهاء الله إلى عكّا في شهر آب (أغسطس) من عام 1868 يصحبه أفراد عائلته ومجموعة من أتباعه الّذين نُفوا معه، فقاسى هؤلاء الآلام وتحمّلوا الإِساءة والاعتساف طوال عامين في سجن قلعة داخل أسوار المدينة. ثمّ فُرض عليهم الإِقامة القسريّة داخل بناء يملكه أحد التّجّار المحلّيّين ضمن أسوار المدينة ذاتها. لفترة طويلة من الزّمن تجنّبهم أهل المدينة الّذين كانت تسيطر على عقولهم قناعات خاطئة نتجت عن تحذير السّلطات المحليّة لهم من التّواصل مع حضرة بهاء الله الّذي اتّهموه بعداوته للنّظام العام وترويجه لأفكار تتناقض مع معتقدات العوام. (46)

يبدو لنا الآن، ونحن نستعيد أحداث الماضي ونتأمّلها، كم كانت سخريّة القدَر قاسية حقًّا بالنّسبة لأعداء حضرة بهاء الله من أصحاب السّلطة الدّينيّة والمدنيّة، وهم الّذين كانوا يهدفون إلى القضاء على نفوذه الرّوحيّ والدّينيّ، فأفضَت كافّة محاولاتهم وضغوطهم إلى أن تكون الأرض المقدّسة، دون غيرها، المكان المختار لإقامة حضرة بهاء الله الجبريّة. فقد كانت فلسطين هي الأرض الّتي تقدّسها الأديان الإبراهيميّة الثّلاثة منذ آلاف السّنين، وتعتبرها مكانًا متميّزًا تعلّقت به آمال البشر لتحقيق بشارات كتبها المقدّسة. وقد اتّفق، قبل مجيء حضرة بهاء الله إلى الأراضي المقدّسة بأسابيع قليلة، أن أبحر الرّعيل الأول من زعماء الحركة البروتستانتيّة المعروفة بفرسان الهيكل الألمان من أوروبا ليُقيموا عند سفح جبل الكرمل المطلّ على حيفا ويجعلوا تلك البقعة مستعمرةً لهم، وذلك استعدادًا لاستقبال السّيّد المسيح، اعتقادًا منهم بأنّ عودته باتت وشيكة. وإلى يومنا هذا يمكن للنّاظر مشاهدة كلمات مثل “إنّ الرّبّ لَقريب” باللّغة الألمانيّة محفورة على لوحات حجريّة فوق العديد من مداخل البيوت الّتي شيّدوها والّتي كان سجن حضرة بهاء الله، عبر خليج حيفا، في مقابلها مباشرةً. (47)

استكمل حضرة بهاء الله في عكّا ما بدأه في أدرنة، فصدر من قلمه الأعلى سلسلةٌ من الرسائل خاطب بها بعض الملوك والحكّام كلٌّ على حدة. يتضمّن العديد من هذه الرّسائل إنذاراته بيوم الحساب حين يُسأل هؤلاء عن ظلمهم للرّعيّة وإهمالهم لشؤونها، وهي الإنذارات الّتي تمّ تحقّقها بصورة لافتة وأدّت إلى قيام نقاش ومداولات عامّة بشأنها في كلّ أنحاء الشّرق الأدنى. فمثلاً، بعد مضيّ أقلّ من شهرين على وصول المنفيّين إلى مدينة السّجن عكّا، تمّ عزلُ فؤاد باشا، وزير الخارجيّة العثمانيّ، من منصبه بصورة مفاجئة، وتوفي بعدها وهو مُبعَد عن وطنه في فرنسا. كان فؤاد باشا هو صاحب ذلك التّقرير المليء بالاتّهامات الباطلة والّذي أدّى إلى نفي حضرة بهاء الله وإِبعاده إلى عكّا. لقد صدر بيان من قلم حضرة بهاء الله بهذه المناسبة توقّع فيه إقالة زميل فؤاد باشا، رئيس الوزراء عالي باشا، كما أشار إلى سقوط السّلطان وموته، وكذلك إلى فقدان الأقاليم الخاضعة للحكم العثماني في أوروبا، وهي سلسلة من الكوارث الّتي لحقت بعد ذلك بالكيان العثمانيّ الواحدة تلو الأخرى.

سوف تُبدَّل أرض السّرّ [أدرنه] وما دونها وتخرج من يد المَلِك ويظهر الزّلزال ويرتفع العويل ويظهر الفساد في الأقطار وتختلف الأمور بما ورد على هؤلاء الأسراء من جنود الظّالمين، ويتغيّر الحكم ويشتدّ الأمر بحيث ينوح الكثيب في الهضاب وتبكي الأشجار في الجبال ويجري الدّم من الأشياء وترى النّاس في اضطراب عظيم. (48)

أمّا رسالة حضرة بهاء الله إلى الإِمبراطور نابليون الثّالث، فقد حَمَلَتْ إليه، بسبب نفاقه وظلمه، هذا الوعيد:

بما فعلتَ تختلف الأمور في مملكتك وتخرج المُلكُ من كفّك جزاء عملك إذًا تجد نفسك في خسران مبين، وتأخذ الزّلازل كلّ القبائل في هناك إلاّ بأن تقوم على نصرة هذا الأمر وتتّبع الرّوح في هذا السّبيل المستقيم، أعزّك غرّك لَعمري إنّه لا يدوم وسوف يزول إلاّ بأن تتمسّك بهذا الحبل المتين، قد نرى الذّلّة تسعى عن ورائك وأنت من الرّاقدين. (49)

أمّا الكوارث الّتي نجمت عن الحرب الفرنسيّة البروسيّة، وما نتج عنها من سقوط نابليون الثّالث، فقد حدثت كلّها في أقلّ من عام واحد إثر صدور هذا الخطاب. يُضاف إلى ذلك أنّه، وقبل أشهر قليلة من سلسلة الأحداث غير المتوقّعة في أوروبا والّتي قامت في أثنائها قوّات المملكة الإِيطاليّة الجديدة بغزو المقاطعات البابويّة والاستيلاء على روما، وهي العاصمة البابويّة، أنزل حضرة بهاء الله بيانًا وجّهه للبابا بيوس التّاسع حثّ فيه الحَبْرَ البابويّ على ما يلي:

أن يا رئيس القوم أن استمع لما ينصحك به مصوّرُ الرّمم من شطر اسمه الأعظم بِعْ ما عندك من الزّينة المزخرفة ثمّ أنفقها في سبيل الله مكوّر اللّيل والنّهار، دَعِ المُلك للملوك ثم اطلع من أفق البيت مقبلاً إلى الملكوت ومنقطعًا عن الدّنيا ثمّ انطق بذكر ربّك بين الأرض والسّماء كذلك أمرَك مالك الأسماء من لدن ربّك العزيز العلاّم، أن انصح الملوك قل أن اعدلوا بين النّاس إيّاكم أن تتجاوزوا عمّا حُدّد في الكتاب، هذا ينبغي لك إيّاك أن تتصرّف في الدّنيا وزخرفها دعها لمن أرادها وخذ ما أُمرت به من لدن مالك الاختراع، إنْ يأتك أحدٌ بخزائن الأرض كلّها لا تردّ البصر إليها كنْ كما كان مولاك [السّيّد المسيح] كذلك نطق لسان الوحي بما جعله الله طراز كتاب الإبداع. (50)

وجّه حضرة بهاء الله في الكتاب الأقدس تحذيرًا إلى ويلهلم الأوّل، الملك البروسيّ الّذي أحرزت قوّاته انتصارًا ساحقًا في الحرب البروسيّة الفرنسيّة، دعاه فيه إلى أن يتّعظ ويأخذ العبرة من سقوط نابليون الثّالث وغيره من الحكّام الّذين زال حكمهم رغم ما حقّقوه من فوز ونصر في حروب سابقة:

اذكر من كان أعظم منك شأنًا وأكبر منك مقامًا [نابليون الثّالث] أين هو وما عنده انتبه ولا تكن من الرّاقدين، إنّه نبذ لوح الله وراءه إذ أخبرناه بما ورد علينا من جنود الظّالمين، لذا أخذته الذّلّة من كلّ الجهات إلى أن رجع إلى التّراب بخسران عظيم.” (51)

كما نصحه بأن لا يسمح لكبريائه أن يحول بينه وبين الاعتراف بصحّة رسالته الإِلهيّة:

إيّاك أن يمنعك الغرور عن مطلع الظّهور أو يحجبك الهوى عن مالك العرش والثّرى كذلك ينصحك القلم الأعلى إنّه لهو الفضّال الكريم.” (52)

إلاّ أنّ حضرة بهاء الله رأى أنّ الإمبراطور البروسيّ (الألمانيّ) سوف يتجاهل الاستجابة لذلك التّحذير، فوردت النبوءة التالية في الكتاب الأقدس بما سيحلّ ببلاده:

يا شواطئ نهر الرّين قد رأيناك مغطّاةً بالدّماء بما سُلّ عليك سيوف الجزاء ولك مرّة أخرى ونسمع حنين البرلين ولو أنّها اليومَ على عزّ مبين”. (53)

من جملة هذه البيانات الرّئيسة، يتميّز بيانان بلهجة تختلف عمّا سبق بصورة تلفت النّظر؛ البيان الأوّل هو الموجّه إلى الملكة فكتوريا، الّتي كانت على رأس الإمبراطوريّة البريطانيّة، والآخر الموجّه إلى “مُلوكِ أمْريقا [أمريكا] وَرُؤساءِ الجُمْهور فيها”، فيثني حضرة بهاء الله في البيان الأوّل على الإِنجاز الرّائد الذي تمثّل في إلغاء الرّقّ في كلّ أنحاء الإِمبراطوريّة البريطانيّة، ويُزكّي مبدأ الحكم التّمثيليّ. أمّا البيان الثّاني فيفتتحه بالإِعلان عن مجيء يوم الله ويختتمه بدعوةٍ منه هي في الحقيقة لا مثيل لها في أيٍّ من البيانات السّابقة:

زيّنوا هيكل المُلك بطراز العدل والتّقى ورأسه بإكليل ذكر ربّكم فاطر السّماء… اجبروا الكسير بأيادي العدل وكسّروا الصّحيح الظّالم بسياط أوامر ربّكم الآمر الحكيم. (54)

11 الـدّيـن نـورٌ وظـلام

أدانَ حضرة بهاء الله إدانةً شديدة تلك الحواجز الّتي أقامتها الأنظمة الدّينيّة حائلاً بين المظهر الإِلهيّ وبني البشر. فالاعتقادات المستوحاة من الأوهام والخرافات والتقاليد الشّائعة، والّتي أُهدرَ في صقلها جهودٌ ذهنيّة وعقليّة مضنية، كانت باستمرار تُعَطِّلُ التّدبير الإِلهيّ الّذي كان هدفه دائماً هدفًا روحيًّا وخُلقيًّا. إنّ الأحكام المتعلّقة بالتّفاعل الاجتماعيّ، والّتي نزلت بغرض تدعيم حياة الجامعة الإِنسانيّة، تحوّلت شيئًا فشيئًا إلى قواعد لأنظمة من المذاهب والشّعائر المبهَمة، وبدل أن تقوم على خدمة مصالح جماهير البشر، أصبحت، على مرّ السّنين، عبئًا ثقيلاً عليهم. حتّى إنّ العقل، وهو الوسيلة الأولى الّتي يملكه الإنسان لاكتشاف حقائق الأمور، قد عُطِّلت وظيفتُه عمدًا ممّا سبّب انهيارًا للتّوافق بين العِلم والدّين، وهو توافقٌ يعتمد عليه قيام الحضارات وازدهار حياة الشّعوب وتطوّرها.

نتج عن هذا السّجلّ المؤسف من الأحوال والظّروف تشويهٌ لسمعةِ الدّين على نطاق عالميّ واسع. أمّا الأسوأ من ذلك، فهو أنّ الأنظمة الدّينيّة ذاتها أصبحت علّة في إثارة الكراهية والحروب والنّزاعات بين الشّعوب. لقد أنذرنا حضرة بهاء الله من عواقب ذلك في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر عندما قال:

“إنّ الضّغينة والبغضاء المذهبيّة نارٌ تحرق العالم، وإطفاؤها أمرٌ عسيرٌ جدًّا ما لم تُخلّص يد القدرة الإلهيّة النّاسَ من هذا البلاء العقيم…” (55) (مترجم)

أمّا الّذين سوف يحاسبهم الله على إشعال لهيب هذه المأساة، كما يقول حضرة بهاء الله، فهم قادة الدّين الّذين تجرَّأوا على التّحدّث نيابة عن الله عبر التّاريخ. إنَّ محاولاتهم لجعل كلمة الله حكرًا لهم، ولجعلهم تفسيرها وسيلةً لنيل السّلطة والثّروة والتّبجيل والولاء، كانت أخطر عقبة طالما كافحت الإِنسانيّة من أجل إزالتها إذا ما أرادت التّقدّم في مسيرة الحضارة والرّقيّ والرّخاء الاجتماعي. لم يتورّع الكثيرون من هؤلاء في مهاجمة رسل الله أنفسهم تحقيقًا لأغراضهم ومآربهم الشّخصيّة:

قل يا معشر العلماء لا تزنوا كتاب الله بما عندكم من القواعد والعلوم إنّه لقسطاس الحقّ بين الخلق قد يوزن ما عند الأمم بهذا القسطاس الأعظم وإنّه بنفسه لو أنتم تعلمون. (56)

في بيان آخر وجّهه حضرة بهاء الله إلى رجال الدّين في كلّ مذهب، ينذرهم ويلفت أنظارهم إلى تلك المسؤوليّة الّتي تهاونوا في تحمّلها على مرّ السّنين:

مثَلكم كمثَل عين إذا تغيّر تتغيّر الأنهار المنشعبة منها اتّقوا الله وكونوا من المتّقين، كذلك الإنسان إذا فسد قلبُه يفسد أركانُه وكذلك الشّجرة إن فسد أصلُها يفسد أغصانُها وأفنانها وأوراقها وأثمارها. (57)

في مقابل ذلك، يُجزلُ حضرة بهاء الله الثّناءَ في آثاره ليس فقط على الإِسهام الذي حقّقته النّظُم الدّينيّة في نموّ الحضارات الإِنسانيّة، بل أيضًا على الفوائد الجمّة الّتي جناها العالم من محبّة للبشر وتضحية للنّفس ميّزت رجال الدّين والرّهبانيّات المنتمية إلى كلّ المذاهب والأديان:

طوبى لعالم فاز بالمعلوم وترَك الموهومَ في أيّام ربّه إنّه من أعلى الخَلق عند الله وله مقام عزّ كريم… طوبى لعالم يمشي على وجه الأرض ويدعو النّاس إلى الله الملك العزيز العظيم، تالله إنّ الأرض تُباهي به والسّماء تفتخر بوجوده ويكبّرنّ عليه كلّ الأشياء في كلّ حين، ومنه تنتشر آثار الله بين عباده وتستقرّ أركان الدّين بين الخلايق أجمعين. (58)

لا شكّ في أنّ التّحدّي الّذي يواجه جميع البشر، مؤمنين كانوا أم غير مؤمنين، رجال دين كانوا أم أفرادًا عاديّين، هو إدراك النّتائج الوخيمة الّتي ألَمّت بالعالم بسبب فساد الدّافع الدّينيّ فسادًا شاملاً؛ ففي هذا الزّمان الّذي بعدت فيه الإِنسانيَّة عن الله، انهارت العلاقة الّتي تقوم عليها بِنْيَة الحياة الرّوحيّة والأخلاقيّة، وأهملت بصورة شاملة القُدرات الطّبيعيّة الخاضعة للنّفس النّاطقة، وهي القُدرات الضّروريّة لنموّ القيم الإِنسانيَّة والمحافظة عليها:

“لقد ضعفت قوّة الإيمان وبنيته في أقطار العالم، فهو يحتاج للدّرياق الأعظم… ولقد باتت الأمم كالنّحاس أصابه الاسوداد وتحتاج للإكسير الأعظم… ولن يكون إلاّ في مقدور الكلمة الإلهيّة تغيير هذه الأوضاع”. (59) (مترجم)

12 الـسَّـلام الـعـالـميّ

تكتسب إنذارات حضرة بهاء الله ومناشداته الواردة في آثاره إبّان هذه الفترة خطورةً وصرامةً رهيبة في ضوء ما تلاها من أحداث:

“إنّ جميع أهل الأرض في هذا العصر في حركة وتقدّم، ولم يتمكّن أحدٌ من النّاس من اكتشاف سبب هذه الحركة وغايتها… فشاهدوا كيف شطّ أهلُ الغرب فتمسّكوا بالأمور التّافهة العديمة الفائدة، وفي سبيلها ضحّوا بالآلاف المؤلَّفة من النّفوس.” (60) (مترجم)

“حقًّا أقول إنّ المحبوب في كلّ أمر من الأمور هو الاعتدال، ومتى تجاوز صار سبب الأضرار… إنّ في الأرض أسبابًا عجيبة غريبة، ولكنّها مستورة عن الأفئدة والعقول، وتلك الأسباب قادرةٌ على تبديل هواء الأرض كلّها، وسمّيّتها سببٌ للهلاك.” (61) (مترجم)

لقد حثَّ حضرة بهاء الله في آثاره اللاّحقة، بما في ذلك تلك الّتي وجّهها إلى جميع أهل العالم، على اتّخاذ الخطوات اللاّزمة لتحقيق ما أسماه بـ ”الصُّلْحِ الأكْبَرِ”، وقال إنّ مثل هذا التّحرّك سيخفّف من وطأة الآلام وحدّة الاضطرابات والانحلال الّذي يعترض طريق البشر، وإنّ ذلك لن يحدث حتّى يعتنق أهل الأرض الأمرَ الإِلهيّ، وعن طريقه يتمّ تحقيق السّلام الأعظم أو “الصُّلْحِ الأكْبَرِ”:

“لا بدّ أن تُشكّل في الأرض هيئةٌ عُظمى، يتفاوض الملوك والسّلاطين في تلك الهيئة بشأن الصّلح الأكبر، وذلك بأن تتشبّث الدّول العظمى بصلح محكم لراحة العالم، وإذا قام ملكٌ على ملك قام الجميعُ متّفقين على منعه. وبهذه الحالة لا يحتاج العالم قطّ إلى المهمّات الحربيّة والصّفوف العسكريّة إلاّ على قدرٍ يحفظون به ممالكهم وبلدانهم… سيتزيّن جميعُ أهل العالم قريبًا بلسان واحد وخطّ واحد، وفي هذه الحالة إذا اتّجه أيّ شخص إلى بلدٍ ما فكأنّه ورد إلى بيته… فالإنسانُ اليوم هو الّذي قام على خدمة جميع مَن على الأرض… ليس الفخر لمن يحبّ الوطن بل لمن يحبّ العالم؛ يُعتبَر العالم في الحقيقة وطنًا واحدًا ومَن على الأرض أهله.” (62) (مترجم)

13 "لَعَمْري انّي ما أظهرتُ نفسي بل اللهُ أظهرني كيف أراد"

تغاضى حضرة بهاء الله في الرّسالة الّتي وجّهها إلى ناصر الدّين شاه، ملك إيران آنذاك، عن توجيه اللّوم إليه أو التّطرّق إلى الاضطهاد الّذي أصابه بأمر الشّاه في سجن “سياه چال”، فكتب إليه عن الخطّة الإِلهيّة ودوره الشّخصيّ فيها قائلاً:

يا سلطان إنّي كنتُ كأحدٍ من العباد وراقدًا على المِهاد مرّت عليّ نسائمُ السّبحان وعلّمني علمَ ما كان ليس هذا من عندي بل من لدن عزيز عليم، وأمرني بالنّداء بين الأرض والسّماء وبذلك ورد عليّ ما تذرّفت به عيون العارفين، ما قرأت ما عند النّاس من العلوم وما دخلتُ المدارس فاسأل المدينة الّتي كنتُ فيها لتوقن بأنّي لستُ من الكاذبين.(63)

يؤكّد حضرة بهاء الله أنّ الرّسالة الإلهيّة الّتي عُهِدَتْ إليه لم تكن من عنده، فقال: “لَعَمْري إنّي ما أظهرتُ نفْسي بل اللهُ أظْهَرني كيف أراد”، وقال أيضًا:

يا قوم هل تظنّون بأنّ الأمر بيدي لا فونفْس الله المقتدر المتعالي العليم الحكيم، فوالله لو كان الأمر بيدي ما أظهرتُ نفسي عليكم في أقَلّ من آنٍ وما تكلَّمتُ بكلمة وكان الله على ذلك شهيد وعليم…(64)

إنّها الرّسالة الّتي وهبها حياته، وفقد في سبيلها ابنه الأصغر الحبيب، (65) وضحّى من أجلها بكلّ ما يمتلك من متاع الدّنيا، واعتلّت بسببها صحّته، وجلبت له السّجن والنّفي والاعتساف على مدى أربعين سنة.

قل إِنّ البئر بيتِي والسّجن قصري والبلاء إِكليل البهاء أَن اعرفوا يا أولي الأَبصار. (66)

وبما أنّه سلّم أمره إلى الله بكلّ إخلاص ولبّى النّداء، فقد كان بالمثل مطمئنًّا للدّور الّذي أُنيط به في سياق التّاريخ الإِنسانيّ؛ فهو مظهر الله في زمن تحقّقت فيه الوعود، وهو الّذي وعدت به كلّ الكتب المقدسة السّابقة. ومثلما كان الحال مع المظاهر الإِلهيّة السّابقة، فإنّ حضرة بهاء الله اليوم هو كلمة الله وواسطته مع البشر:

يا إلهي إذا أنظرُ إلى نِسبتي إليك أُحبُّ بأن أقول في كلّ شيءٍ بأنّي أنا اللهُ، وإذا أنظرُ إلى نَفْسي أشاهدُها أحقرَ من الطّين.(67)

وفي موقع آخر يصرّح قائلاً:

ومنكم من قال إنّ هذا هو الّذي ادّعى في نفسه ما ادّعى فوالله هذا لَبُهتان عظيم، وما أنا إلاّ عبد آمنتُ بالله وآياته ورُسُله وملائكته ويشهد حينئذ لساني وقلبي وظاهري وباطني بأنّه هو الله لا إله إلاّ هو وما سواه مخلوق بأمره ومنجعل بإرادته لا إله إلاّ هو الخالق الباعث المحيي المميت، ولكن إنّي حدّثتُ نعمة الّتي أنعمني الله بجوده وإنْ كان هذا جرمي فأنا أوّل المجرمين.(68)

تركّز مثل هذه الآثار الكتابيّة في أسلوبها البيانيّ على جملة من الاستعارات اللّفظيّة والكنايات والإشارات الّتي ترمي إلى التّعبير عن المقامات والأحوال القائمة في الوجود المقدّس “للمَظهر الإِلهيّ” الّذي يظهر ويتحرّك ويتكلّم بمشيئة إلهيّة:

هذه ورقةٌ حرّكتها أرياحُ مشيئة ربّك العزيز الحميد، هل لها استقرار عند هبوب أرياح عاصفات لا ومالكِ الأسماء والصّفات بل تحرّكها كيف تريد…(69)

14 مـيـثـاق الله مع بـني الـبـشـر

خرج حضرة بهاء الله من الإقامة الجبريّة أخيرًا في شهر حزيران (يونية) 1877 وغادر مدينة السّجن عكّا، يصحبه أفراد عائلته، وتوجّه إلى “المزرعة”، على بعد أميال قليلة شمال المدينة. (70) وكما تنبّأ حضرة بهاء الله، فقد سقط السّلطان عبد العزيز ولقي حتفه في انقلاب في القصر السّلطانيّ، وبدأت تكتسح العالم أرياح التّغييرات السّياسيّة لتغزو حتّى التّخوم المغلقة للنّظام الإمبراطوريّ العثمانيّ.

بعد أن أمضى حضرة بهاء الله فترة قصيرة امتدّت عامين في “المزرعة”، انتقل إلى “البهجة”؛ وهو قصر فسيح تحيط به الحدائق ويقع أيضًا في ضواحي مدينة عكّا، وكان حضرة عبد البهاء قد استأجره لوالده الجليل وأفراد عائلته. خلال سنوات حياته الاثنتي عشرة الباقية الّتي قضاها حضرة بهاء الله في البهجة، صدر من قلمه الأعلى آثار تتناول مجالات واسعة من القضايا الرّوحيّة والاجتماعيّة، كما كان يستقبل أفواج البهائيّين الزّوّار الّذين حضروا للقائه قادمين من بلاد فارس ومن غيرها من البلدان، متجشّمين في سبيل ذلك مصاعب جمّة أثناء رحلاتهم الطّويلة.

بدأت تبرز إلى الوجود في أنحاء الشّرقين الأدنى والأوسط نواةُ جامعة يعيش ضمن نطاقها أولئك الّذين آمنوا برسالته. فأنزل حضرة بهاء الله، هدايةً لهم، نظامًا يتمثّل في أحكام ومؤسّسات، وكان هدفه التّنفيذ العمليّ للمبادئ والتّعاليم الّتي جاءت في آثاره الكتابيّة لإصلاح العالم وتهذيب الأمم. وقد خُوّلت السّلطة التّنفيذيّة إلى مجالس يشارك في انتخابها كلّ فرد من أفراد الجامعة البهائيّة دون أيّ تمييز بين مؤمن ومؤمن آخر، كما سنّ قواعد وقوانين تنظّم المشورة وتساعد على اتّخاذ القرارات الجماعيّة.

احتلّ قلبَ هذا النّظام ما أسماه حضرة بهاء الله بـ ”العهد والميثاق الجديد” بين الله والبشر. إنّ الملامح المميّزة لمرحلة بلوغ الإنسانيّة سنّ الرّشد تتمثّل في اشتراك الجنس البشريّ بأسره، ولأوّل مرّة في التّاريخ، اشتراكًا واعيًا، وإنْ كان ضئيلاً، في الشّعور بمعاني وحدته واتّحاده، وأنّ الأرض وطن واحد لجميع سكّانه. هكذا تمهّد هذه اليقظة السّبيل لخلق صلة جديدة بين الله والبشر، وقد قال حضرة بهاء الله في ذلك إنّه إذا ما آمَنَتْ شعوبُ العالم بالسّلطة الرّوحيّة الكامنة في الهداية النّابعة من المظهر الإلهيّ لهذا العصر، فستجد في أنفسها القدرة المعنويّة على العمل والتّنفيذ، وهو الأمر الّذي لا تستطيع الجهود الإنسانيّة وحدها بعثه في النّفوس. نتيجة لهذه الصّلة الجديدة، يبعث الله “خَلْقًا بديعًا” ويُشرَع في العمل على تشييد مدنيّة إلهيّة تحتضن الكرة الأرضيّة بأسرها. أمّا رسالة الجامعة البهائيّة، فليست إلاّ شهادة على مدى فعاليّة هذا الميثاق وأثره في شفاء العلل والأمراض الّتي تؤدّي إلى زرع بذور الفرقة والاختلاف بين بني الإنسان.

صعد حضرة بهاء الله في “البهجة” في شمال عكّا في اليوم التّاسع والعشرين من أيّار (مايو) عام 1892 وهو في سنّ الخامسة والسّبعين. كان الأمر الإلهي الّذي ائتُمن عليه قبل أربعين عامًا في غياهب ذلك السّجن المظلم في طهران يَهمُّ، عندما وقع صعوده، بالانطلاق حرًّا ليتخطّى الحدود الّتي قيّدته في البلاد الّتي شهدت تكوّنه ونموّه، وتترسّخ أركانه عبر القارّات. بهذا الإنجاز، يُصبح هذا الأمر في ذاته محقِّقًا للوعد الّذي جاء به الميثاق الجديد بين الله والبشر، ومبرِّرًا لقيامه. لقد تمكّن الدّين البهائيّ وجامعة المؤمنين من أتباعه من الحفاظ على هذا العهد الجديد المتمثّل في وحدتهم دون أن تُمَسّ، وبقي هذا الدّين سليمًا معافى من آفة الفرقة والانقسام. وتبرهن لنا الاختبارات الّتي مرّ بها هذا الدّين وجامعته بصورة قاطعة على صدق التّأكيدات الّتي صدرت عن حضرة بهاء الله بأنَّ أفراد الجنس البشريّ، على اختلاف أنواعهم وتعدّدهم، باستطاعتهم أن يتعلّموا كيف يعيشون سويًّا ويعملون جنبًا إلى جنب كشعب واحد في وطن عالميّ مشترَك.

قبل صعوده بعامين، استقبل حضرة بهاء الله في غرفته في “البهجة” أحد الزّوّار الغربيّين، وكان قليل منهم قد تشرّفوا بلقائه، وهو الوحيد الذي ترك لنا سجلاًّ مكتوبًا عن تلك التّجربة الشّخصيّة والمشاعر الوجدانيّة الّتي كان يثيرها لقاء حضرة بهاء الله. كان اسم ذلك الزّائر هو المستشرق ادوارد غرانفيل براون، وقد سجَّل وقائع تشرّفه بلقاء حضرة بهاء الله، فكتب يقول:

“وإنّي وإنْ كنتُ متصوِّرًا تصوُّرًا مُبْهَمًا المكان الّذي أنا ذاهب إليه ومن أنا قادم لرؤيته، إذ لم تُعْطَ لي إيماءةٌ واضحة حول ذلك، إلاّ أنّه قد مرّت ثانية أو ثانيتان من الزّمن، وأخذتني الرّهبة والذّهول قبل أن أعرف معرفة تامّة بوجود من في الغرفة. وحانت منّي التفاتة إلى الرّكن حيث تلتقي الأريكة بالجدار. كان يجلس هناك شخصٌ عظيم تعلوه المهابة والوقار… إنّ الوجه الّذي رأيته لا أنساه ولا يمكنني وصفه، مع تلك العيون البرّاقة النّافذة الّتي تقرأ روح الشّخص، ويعلو جبينه الوضّاح العريض الهيمنة والجلال… فلم أكُ إذ ذاك في حاجة للسّؤال عن الشّخص الّذي امتثلت في حضوره، ووجدت نفسي منحنيًا أمام مَنْ هو محطّ الولاء والمحبّة الّتي يَحسدُهُ عليها الملوك، ويتحسّر لنوالها عبثًا الأباطرة. سمعت صوتًا هادئًا جليلاً يأمرني بالجلوس، ثمّ استمرّ يقول: ‘الحمد لله لأنّك وصلتَ… جئتَ لترى مسجونًا ومنفيًّا… نحن لا نريد إلاّ إصلاح العالَم وسعادة الأمم، وهُمْ، مع ذلك، يعتبروننا مثيرين للفتنة والعصيان، ومستحقّين للحبس والنّفي… فأيّ ضرر في أنْ يَتّحد العالَم على دين واحد وأنْ يكون الجميع إخوانًا، وأنْ تستحكم روابط المحبّة والاتّحاد بين بني البشر، وأنْ تزول الاختلافات الدّينيّة وتُمحى الاختلافات العِرقيّة؟… ولا بدّ من حصول هذا كلّه، فستنقضي هذه الحروب المدمّرة والمشاحنات العقيمة وسيأتي الصُّلح الأعظم’”. (71)

الحواشي

نقلاً عن كتاب القرن البديع، من آثار قلم حضرة وليّ امر الله شوقي أفندي ربّاني، ترجمة الدّكتور السّيّد محمّد العزّاوي، من منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل، 159 ب / 2002 م. ص 48.

للاطّلاع على هذه الأحداث مفصّلةً، راجع الفصول 14 في كتاب القرن البديع، صص 2185. أمّا الاهتمام بأمر حضرة الباب في الأوساط العلميّة والفكريّة في الغرب، فقد بدأ على وجه الخصوص عام 1856 عندما نشر الكونت دي غابينو كتابه الفرنسي “الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى” Joseph Arthur Comte de Gobineau, Les religions et les philosophies dans l’Asie centrale (Paris, Didier, 1865).

لوح الشّيخ لحضرة بهاء الله، مطبعة السّعادة، القاهرة، 1920. ص 16.

المصدر السّابق، صص 16، 17.

نداء القلم الأعلى – ألواح منزلة من قلم حضرة بهاء الله، دار البديع، بيروت، 173 ب / 2017 م. ص 18.

الكلمات المكنونة العربيّة لحضرة بهاء الله، من منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل، 152 ب / 1995. صص 3، 4، 9، 18.

الكتاب الأقدس، طبعة كندا (بدون تاريخ)، الفقرة 88، ص 55.

لئالئ الحكمة – مجموعة من الآثار المنزلة من قلم حضرة بهاء الله جلّ ذكره، دار النّشر البهائيّة في البرازيل، 148 ب / 1991م. ج3، ص 88.

الكتاب الأقدس، الفقرة 120، ص 70.

المصدر السّابق، الفقرة 73، ص 45.

للاطّلاع على عرض مفصّل لهذه الأحداث، انظر كتاب القرن البديع، صص 180188.

مناجاة – مجموعة أذكار وأدعية من آثار حضرة بهاء الله، دار النّشر البهائيّة في البرازيل، طبعة ثانية، 154 ب / 1997 م. صص 218، 219.

المصدر السّابق، صص 71، 72.

نقلاً عن كتاب مائدۀ آسمانى [المائدة السّماوية] تأليف عبد الحميد إشراق خاوري، مؤسّسة الطّبع والنّشر البهائيّة، طهران، 129 ب / 1973م. ج4، ص 322.

المصدر السّابق، ج4، ص 322.

مجموعۀ مطبوعۀ ألواح مباركۀ حضرت بهاء الله، مطبعة السّعادة، القاهرة، 1920. صص 4، 5.

كتاب الإيقان (معرّب عن الأصل الفارسي) لحضرة بهاء الله، دار النّشر البهائيّة في البرازيل، 154 ب / 1997م (الطبعة الرّابعة). صص 84، 85.

نداء القلم الأعلى، ص 56.

الكتاب الأقدس، الفقرة 183، ص 108.

نداء القلم الأعلى، صص 68، 69.

منتخبات من آثار حضرة بهاء الله، لجنة نشر الآثار البهائية، لانكنهاين ألمانيا، 1984. ص 110.

لعرض مسهب حول هذا الموضوع انظر كتاب من مفاوضات عبد البهاء – محادثات على المائدة، دار البديع للطباعة والنشر، بيروت، 2008م. صص 146-163.

كتاب الإيقان، صص 148151.

منتخبات من آثار حضرة بهاء الله، صص 96، 97.

الأصل الفارسيّ ورد في ترجمة كتاب حضرة وليّ أمر الله شوقي أفندي Shoghi Effendi, The World Order of Bahá’u’lláh: Selected Letters (Wilmette, Bahá’í Publishing Trust, 1982) المترجم إلى الفارسية تحت عنوان “دور بهائي” (لانكنهاين، لجنه نشر آثار أمري، 1988) من قبل لجنة ترجمة نشر الآثار باللغة الفارسيّة، ص38.

منتخبات من آثار حضرة بهاء الله، صص 55، 56. تجدر الإشارة إلى أنّ كلمة “آدم” في الكتابات البهائيّة المقدّسة تدلّ على معنيين رمزيّين؛ الأوّل يتعلّق بأصل الخليقة ونشأة الجنس البشري، والثّاني أوّل المظاهر الإلهيّة في الكور الّذي سبق ظهور حضرة بهاء الله.

ورد في كتاب دور بهائي، ص 37.

هفت وادي [الوديان السّبعة] لحضرة بهاء الله، في كتاب آثار قلم أعلى (المجلّد الثّالث)، مؤسّسة الطّبع والنّشر البهائيّة، طهران، 121 ب [1965م]. صص 92، 93.

منتخبات من آثار حضرة بهاء الله، ص 139.

مترجم من المصدر السّابق، ص 183.

الكتاب الأقدس، الفقرة 58، ص 36.

إنجيل يوحنّا، الإصحاح العاشر، الآية 16.

الكلمات المكنونة العربيّة، ص 32.

مترجم من مجموعۀ مطبوعۀ ألواح مباركۀ حضرت بهاء الله، ص 265.

الكتاب الأقدس، الفقرة 144، ص 85.

نداء القلم الأعلى، ص 62.

مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله نُزّلت بعد الكتاب الأقدس، دار النّشر البهائيّة في البرازيل، 163 ب / 2006 م. صص 125، 126.

آثار قلم أعلى (المجلّد الرّابع)، مؤسّسة الطّبع والنّشر البهائيّة، طهران، 133 ب [1977م]. ص 348.

نقلاً عن كتاب مقام وحقوق زن در ديانت بهائى [مقام المرأة وحقوقها في الدّين البهائي] تأليف أحمد يزداني، مؤسّسة الطّبع والنّشر البهائيّة، طهران، 1949. ج1، ص 76.

خطب عبد البهاء في أوروبا وأمريكا، دار الرّيحاني، بيروت، 129 ب / 1972. صص 4447.

للاطّلاع على نصّ التّقرير الكامل للسّفير النّمساويّ الكونت فون بروكيش أوستين في رسالة وجّهها إلى الكونت دي غوبينو في 10 كانون الأوّل 1886، أنظر كتاب The Babi and Baha’i Religions by M. Momen, (George Ronald, Oxford, 1981) صص186187.

مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله نُزّلت بعد الكتاب الأقدس، ص 10.

الكتاب الأقدس، الفقرات 7883، صص 48، 51.

نداء القلم الأعلى، ص 136.

نداء القلم الأعلى، صص 96، 97.

لمعرفة تفاصيل هذه الظروف الصّعبة، انظر كتاب القرن البديع، صص 221223.

في خمسينيّات القرن التّاسع عشر تعاون اثنان من قادة الدّين في ألمانيا، هما كريستوفر هوفمان وجورج دافيد هارديغ، في تأسيس “جمعيّة الهيكليّين” الّتي كانت تهدف إلى بناء مستعمرة أو مستعمرات في الأراضي المقدّسة تمهيدًا لظهور السّيّد المسيح في مجيئه الثّاني. وتركت المجموعة الثّانية الّتي بدأت بإنشاء هذه المستعمرات ألمانيا في اليوم السّادس من آب (أغسطس) عام 1868 فوصلت حيفا في اليوم الخامس من تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 1868، وذلك بعد وصول حضرة بهاء الله إلى هناك بشهرين.

نداء القلم الأعلى، ص 104.

المصدر السّابق، ص 58.

المصدر السّابق، ص 51.

الكتاب الأقدس، الفقرة 86، ص 53.

المصدر السّابق، الفقرة 86، ص 53.

المصدر السّابق، الفقرة 90، ص 56.

المصدر السّابق، الفقرة 88، ص 55.

لوح الشّيخ، ص 11.

الكتاب الأقدس، الفقرة 99، ص 61.

نداء القلم الأعلى، ص 43.

مائدۀ آسمانى [المائدة السّماويّة]، ج 8، ص 26.

منتخبات من آثار حضرة بهاء الله، ص 131.

منتخبات من آثار حضرة بهاء الله، صص 128، 129.

مجموعة ألواح حضرة بهاء الله نُزّلت بعد الكتاب الأقدس، ص 96.

المصدر السّابق، صص 152155.

نداء القلم الأعلى، ص 73.

منتخبات من آثار حضرة بهاء الله، ص 65.

للاطّلاع على تفاصيل هذه المأساة، انظر كتاب القرن البديع، ص 223، 224.

لئالئ الحكمة، ج 3، ص 184.

نقلاً عن كتاب دور بهائى، ص 30.

منتخبات من آثار حضرة بهاء الله، صص 147، 148.

نداء القلم الأعلى، ص 73.

تجدر الإشارة إلى أنّه رغم أنّ أمر النّفي والإبعاد إلى مدينة السّحن عكّا، الّذي أصدره السّلطان عبد العزيز لم يتمّ ألغاؤه أبدًا، فإنّ السّلطات المسؤولة اعتبرته أمرًا لاغيًا ومفعوله باطل. بناء عليه، أشار هؤلاء إلى أنّ حضرة بهاء الله يمتلك الخيار في الإقامة خارج أسوار المدينة إنْ شاء وأراد.

التّرجمة للنصّ الإنجليزي مأخوذة من كتاب بهاء الله والعصر الجديد لجون
اسلمنت (مترجم)، بيروت (بدون تاريخ)، صص 56، 57. أمّا الأصل الانجليزي بقلم براون نفسه، فقد كتبه في مقدّمته لكتاب A Travellers Narrative
.((Cambridge University Press, 1891