النبأ العظيم
النبأ العظيم

النبأ العظيم

تصدير

يخرج هذا الكتاب إلى الوجود في وقت نحن في أمس الحاجة لإلقاء مزيد من الضوء على مسألة جوهرية لم تحظ بقدر كاف من البيان والتفصيل في التفاسير الموروثة، ولهذا سيجد فيه أبناء هذا العصر المهتمون بمعرفة معاني القرآن عوناً كبيراً، لما يتيحه لهم من النظر في الآيات المباركة من زاوية قلما تطرق إليها القدماء – وهي محور الكتاب ذاته – أن كلمات الله لا نفاذ لها، ولا تُحد بحد، ولا تتوقف، فهي فيض رحمته تعالى الدائمة بدوام أسمائه.

ومؤلف الكتاب – كما يذكر في مقدمته – ليس من المتخصصين في العلوم الدينية، ولكنه معتقد بأن الخطاب الإلهي موجه إلى الناس قاطبة وكل من آمن به مسئول عن فهمه بجهده المستقل بعيداً عن التقليد والتبعية التي تطفئ نور الإيمان. فخليق بأهل الجيل الحاضر أن يتأملوا في هذا الدرس الذي تعلمه المؤلف من خبرة طويلة أغنته عن الدراسات النظرية.

فقد ولد محمد مصطفى سليمان في غرة عام ١٨٩٨ ببلدة الضهرية بالقرب من إيتاي البارود في مديرية البحيرة الواقعة في غرب دلتا نهر النيل، وتعرّف على البهائية في سنوات صباه بفضل صديقه عبد الرحمن رشدي الذي كان يزامله في العمل بمكتب تلغراف إيتاي البارود، فاعتنق هذا الأمر بدون تردد وقضى حياته في خدمته بحماس وتفان ستذكرهما له الأجيال القادمة بكل إجلال وتقدير. وبعد أن تدرج في مناصب عمله حتى أصبح مدير قسم المراجعة بمصلحة التلغراف بالقاهرة، انتهز فرصة تشجيع الحكومة للموظفين على التقاعد، واختار ترك الوظيفة في سن الرابعة والأربعين ليكرس باقي حياته في خدمة الكلمة الإلهية.

وجد محمد مصطفى منذ عنفوان شبابه في الدين البهائي تجديداً لنور الإيمان، وتهذيباً للنفس البشرية، ومنقذاً من طغيان المادية، فاعتنقه رغم استنكار والديه وعشيرته، في زمن لم يألف فيه الريف المصري هذا النمط من الشجاعة الأدبية واستقلال النظر في الأمور الدينية؛ فتألب عليه أهل الضهريّة. ولكن لم يضعف غضبهم من إيمانه الراسخ المعتمد على اليقين، وقابل الجفاء بسعي دائب لتوطيد صلة الرّحم، وتشديد أواصر المودة مع صحبه وعشيرته، وحافظ على ذلك حتى النفس الأخير.

وبعد نقله من قرية إتاي البارود التي عرف فيها الدين البهائي، ليعمل في تلغراف بورسعيد، واجه نوعاً جديداً من البلاء على أيدي المتعصبين والأشقياء في تلك المدينة التي عرفت اعتداءات عنيفة على البهائيين، بلغت أوجها بين عامي ١٩١٩ و١٩٢٠. ولم يكن عيشه بالقاهرة فيما بعد أهدأ من حياته في غيرها، فقد شاء القدر أن يتسلط فيها نفر من رجال مباحث أمن الدولة على البهائيين، فاعتقل رحمه الله في عام ١٩٦٧ مع فريق من إخوانه البهائيين بدون ذنب أو مبرر سوى إيمانهم بدين لا تقرهم عليه أغلبية متعصبة، وقضى ما يقرب من ستة شهور في اعتقال موحش يذكر من تعرض لمثله جيداً ما صاحبه من أهوال وتعذيب، وصفهما فريق منهم تفصيلاً في كتبهم وعلى صفحات الجرائد.

ولم تشفع له في السنوات اللاحقة لا شيخوخته ولا السجية الوديعة التي فطر عليها، فكلما تعنّت رجال أمن الدولة على البهائيين كان رحمه الله على رأس قائمة المقبوض عليهم: فسجن احتياطيّاً مرة في قضية نظرتها محكمة جنح الزيتون في سنة ١٩٦٥، ومرة أخرى في قضية نظرتها محكمة الأحداث بطنطا في سنة ١٩٧٢ قضى خلالها أربعين يوماً في فتنة السجن رغم بلوغه ٧٤ عاماً من العمر.

من العدل والإنصاف أن يعلم القارئ حقيقة التهم التي وُجهت إليه في هذه القضايا حتى لا تشوب ذكراه شبهة أو يلوّثها الظن: انحصرت أسباب هذه المحاكمات في القرار الجمهوري بالقانون رقم ٢٦٣ لعام ١٩٦٠ بحل المحافل الروحانية للبهائيين بإقليمي الجمهورية العربية المتحدة. قرار لا مراء في خرقه للمبادئ الدستورية، ولا شك في جحوده لحقوق الإنسان، ولا شبهة في نقضه للقيم التي جبل عليها أهل مصر في تاريخها الحديث من تسامح ديني وحرية فكرية. ومع اقتصار القرار الجمهوري على منع نشاط المحافل الروحانية، وهي هيئات إدارية لرعاية شئون البهائيين، إلا أن بعض مَن ضاقت أفاق فكرهم اتخذ هذا القرار الجمهوري ذريعة للتنكيل بكل ما أوتوا من وسائل بالأبرياء المؤمنين بهذه الدعوة الإلهية: فشوهوا مبادئها، واختلقوا عليها ما استطاعوا من إفك ونسجوا حولها الأساطير، ونكلوا بأتباعها في السجون، وقدموا أكثرهم لمحاكمات صورية، وقطعوا عنهم الأرزاق، وحرموهم من توثيق زواجهم، وفرضوا عليهم ديانات غير التي يؤمنون بها في الوثائق الرسمية.

وكان أساس التهم الموجهة إلى محمد مصطفى– أثناء هذه الفوضى القانونية – أنه كان – في غياب هذه المحافل الروحانية – يساهم في حلّ الخلافات الزوجية، ويدعو البهائيين للتزاور وتوطيد أواصر المحبة فيما بينهم، ويحثهم على مواصلة التخلق بالمبادئ السامية التي جاء بها حضرة بهاء الله.

قام محمد مصطفى أثناء حياته المشحونة بالمصاعب بترجمة عدد من الوثائق البهائية من الإنجليزية إلى العربية، وكان عضواً في أول محفل روحاني للبهائيين بالقطر المصري، واختير سكرتيراً لهذا المحفل الروحاني لعدة سنوات، وناب عن المحفل الروحاني المركزي بمصر في عدة مؤتمرات دولية. وكان كاتباً ومحاضراً وخطيباً مفوهاً، بقدر ما كان إنساناً سبّاقاً لخدمة القريب والغريب، مبالغاً في الكرم، عطوفاً رقيق القلب إلى أقصى الدرجات، لم تقعده موارده المحدودة عن زيارة البهائيين في كثير من البلدان الإفريقية وعلى الأخص في شمال أفريقيا، وكان على ما نعلم أول بهائي وطأت قدمه أرض الصحراء الأسبانية فى عام ١٩٥٣.

لم يخلف محمد مصطفى ثروة تذكر، وإنما ترك ذرية ترعرعت في أسرة صابرة على البلاء، متحملة صنوف الصبر والعناء في سبيل الله، مكرسة وجودها وإمكاناتها لخدمة أحباء الله، بالحب الخالص والكرم الزائد، فسارت ذريته من بعده على دربه في خدمة البشرية. ومن كلمات محمد مصطفى المأثورة قوله: «لن تجدوا في تركتي غير جعبة من الأوراق». وبالفعل كان كتاب «النبأ العظيم» رصيد تلك التركة التي خلفها. فتولى ابنه البكر الاهتمام بتنقيحه واستنساخه، ووجد فيه كثير من الأفراد – من مختلف الأديان – عوناً في فهم بعض ما أشكل عليهم من غايات الكتب السماوية. وأوصوا بطبع هذا الكتاب تعميماً لفائدته. ثم تولى كاتب هذه السطور، وهو أحد الذين غمرهم محمد مصطفى بمحبته وأعانهم بتوجيهه ونصحه وتشجيعه، مراجعته وتهيئته للطباعة، مما استلزم تنظيم جزء من حججه، وإضافة بعض الأسانيد التي لم يتوفر عليها محمد مصطفى، مع بذل كلّ الحرص على أن يحتفظ الكتاب بطابعه الأصلي، فاقتصر التنقيح على ما يزيد آراء الكاتب وضوحاً، شريطة ألاّ يغير من جوهره ولا يمس بمنظوره.

والواضح من المسودة التي تركها محمد مصطفى أنه – بعد عودته إلى مصر – أكمل الموجز الذي سبق أن أعده في ليبريا بدراسة أدق وأوفى حيث توفرت لديه المراجع اللازمة. وأغلب الظن أنه تبين أثناء هذه الدراسة أن القصور في فهم بعض مقاصد الكتب المقدسة – وعلى رأسها القرآن الكريم – ليست قصراً على الذين لا يجيدون العربية. إذ أن أكثر التفاسير التقليدية إن لم يكن كلّها لم تنجح في تقديم فهم شامل لآياته، وتقيدت بحدود الألفاظ الضيقة في فهم الآيات التي وردت على وجه المجاز، فبقي معناها مستغلقاً يثير من الأسئلة أكثر مما توفر من إجابات.

ولا يخفى على القارئ المتمعن في هذه التفاسير أن كثيراً من المعاني التي استنبطها المفسرون من هذه الآيات قد ثبت خطؤها علميّاً بصورة قاطعة. فليس بمستبعد أن تكون تفاسير القدماء للكتب السماوية قد فوّتت جانباً من الغايات التي قصدت إليها هذه الكتب. وأياً كان نصيب هذا الفرض من الصحة فإن الثابت أن تصلب المفسرين، وضيق آفاقهم تسبّب في انقسام أهل الأديان، من جهة، وصرفهم عن جوهر النبوءات الإلهية، من جهة أخرى. فانفصمت حلقات الإيمان وتعددت الأديان التي أرادها الله ديناً واحداً. ألم يكن سند المكذبين بالمسيح تفاسير التوراة رغم أن التوراة صرّحت بقدومه وأسهبت في علامات مجيئه؟ ألم يكن سند المكذبين برسالة محمد من أهل الكتاب تفاسير التوراة والإنجيل رغم أنه مذكور في كتبهم؟ فليس بمستغرب اليوم أن يستند المكذبون بدعوة بهاء الله على تفسير القرآن الكريم وغيره من الكتب السماوية مهما تعددت فيها وعود وبشارات مجيئه.

هذا هو العنصر الأساسي الذي ركز عليه محمد مصطفى وجعله محور الحجج والبيّنات التي ساقها، والرباط الوثيق الذي جمع فصول الكتاب. فلم يكن قصده توجيه النقد للرعيل الأول من المفسرين أو التعرض لتفاسير اللاحقين بخير أو شرّ، وإنما كان قصده بذل محاولة للوقوف على بعض أسباب الخطأ في استنباط من تصدوا للتفسير على الرغم من إيمانهم، وحسن قصدهم، وسعة معرفتهم باللغة والعلوم التي يعتمد عليها التفسير.

وقد أفصحت محاولته هذه عن عدة أسباب تتناول فصول الكتاب تفصيلها، ولكن يمكن إجمالها في أن التفسير لم يبدأ من نظرية عامة ومنظور شامل يُستهدى بهما في بيان مراد الله من كلامه، وإنما دار التفسير حول المفردات والجزئيات فظلّ مبعثراً متشعباً عاجزاً عن إيضاح الغاية القصوى والهدف الأسمى للدين، وعجز بالتالي في إيجاد أمّة واحدة تدين بالولاء التام لفاطرها.

زاد في هذا التفكك والانقسام انتماء المفسرين إلى فرق أو مذاهب فكرية لكل منها أصولها وقواعدها المذهبية، وفروضها المسبقة التي التزموا بها وحبسوا أفكارهم داخل حدودها. ولم يشذّ عن ذلك إلاّ نفر قليل أوتي من فصاحة اللسان وحسن البيان وقوة الحجة ما هيّأ له أن يضيف مذاهب جديدة زادت في تشتت الأفكار وإنقسام العباد.

والمعلوم أن المفسرين افترقوا في مناهج تفسيرهم للقرآن إلى فريقين: أحدهما أهل النقل، والآخر أهل الرأي والاجتهاد. ولكن لم يسلم الفريقان من غوائل الأحداث التاريخية التي فرقت أمّة الإسلام إلى سنّة وشيعة وخوارج ومرجئة. إذ عمد كل فريق من هذه الفرق إلى مساندة رأيهم بآيات من القرآن والأحاديث النبوية فأولوا وفقاً لميولهم، ولجأوا إلى وضع أحاديث تؤيد رأيهم.

ولم تتعرض فصول هذا الكتاب للخلافات التي أثارتها التفاسير الخاصة ببعض المذاهب مثل الشيعة والمتصوفة والباطنية. فلماذا تجاهل محمد مصطفى هذه الخلافات والتفاصيل المذهبية؟ نرجح أن همّه لم ينصرف إلى دراسة مقارنة للمذاهب الفكرية المختلفة، ولكنه أراد أن يقدم تحليلاً عمليّاً وبياناً معقولاً يعين الباحث على التوصل إلى إجابات شافية، وهذه المذاهب بعضها لم يعد له نفوذ يُذكر في بلادنا، وبعضها يصعب الوقوف على منهج موحد لها لاعتماد أهلها على الذوق والإلهام والكشف، ودرجات ذلك تختلف باختلاف الأشخاص. ولعله أراد أيضاً تجنب الخوض في مناقشة التفاسير التي نسبها الناس بحق أو غير حقّ إلى أئمة الهدى من السلالة الطاهرة، احتراماً لمنزلة من نُسبت إليهم هذه التفاسير.

فاقتصر الكتاب على مناقشة المعاني التي استنبطها أهل السنة وأهل الكلام، متجنباً ما خاضوا فيه من جدل لا طائل من ورائه في شؤون الدين العملية. فوجهُ اهتمام الكتاب هو إثبات خطأ الأفكار الموروثة في عدد من المواضيع التي جاءت في القرآن على سبيل المجاز مثل وحدة الدين، وظهور المهدي، ونزول عيسى، وانقطاع الرسالات السماوية، والبعث، والقيامة. وتناول هذه الأمور بتحليل يروم الكشف عن وجه الخطأ في تفسيرها، واقتراح المعاني التي يراها تستقيم مع المنقول والمعقول معاً، ملتزماً في كل ذلك الدقة والبساطة والوضوح على نحو يرضي العوام والخواص على السواء، وبدون أن يحيد عن تواضعه الجم، وأدبه الشديد، واحترامه لآراء الغير، وتقديسه لكلام الله.

لقد عاش محمد مصطفى حياة الزاهد، مسلماً وجهه وأمره الله، منصرفاً عن كثير من زخرف الحياة، باذلا قصارى جهده لتكون مبادئ دينه رائده في أمور حياته اليومية. فأفعمت حياته بالقيم الروحانية، وزخرت بمواقف الكفاح لنصرة الحقّ، واستنارت بجهوده في إبلاغ الكلمة الإلهية، وعمرت بخدماته الجليلة في تشويق وتشجيع أحباء الله، وتلألأت بتضحياته وإنكاره للذات حتى توفاه الله في منتصف شهر أغسطس عام ١٩٨١ بضاحية حدائق الزيتون عن ثلاثة وثمانين عاماً، بعد حياة حافلة بالعناء، مليئة بالمواقف الإنسانية، مكلّلة بتقدير المسئولية؛ حياة لم يعكر صفاءها اعتراض الناس، ولا شدائد السجن ومحن الاعتقال.

محسن عنايت

مقدمة

(من كان يريد العزّة فلله العزّة جميعاً)
صدق الله العظيم

في شهر يوليو من عام ٩٥٩1 – وبينما كنت في زيارة لجمهورية ليبريا – طلب مني بعض إخواني البهائيّين هناك أن أحدثهم عن بشارات ظهور حضرة بهاء الله كما وردت في آيات الذّكر الحكيم والأحاديث النّبوية الشّريفة، ولم يكن هذا الطلب من الأمور السّهلة الّتي يمكن أن تفيها حقّها طاقتي وإمكانياتي، خاصة أنّهم طلبوا أن أقدم لهم هذه الدّراسة باللّغة الإنجليزية. فتوّسلت إلى الله بضعفي وعجزي وسألته العون فيما عزمت عليه. كنت أعلم أن ترجمة الآيات القرآنية تفقدها كثيراً من الروعة والجلال، وجانباً لا يُستهان به من معانيها، ولكنها – على أي حال – تقدم للمتحدثين بالإنجليزية ما يمكنهم مستقبلاً من التعمق بصورة أكمل في بحث هذا الموضوع الجليل. وقد استعنت في إعداد هذه الدراسة بترجمة للقرآن الكريم لرودويل، وكتاب ستة دروس في الإسلام للسيدة مرضية جيل، ومذكرات كان قد أعدها الأستاذ علي نخجواني.

وأكثر ما أدهشني أثناء إعداد هذه الدروس، التفاوت الكبير بين ترجمة القرآن الكريم وبين أصله العربي، لا من حيث روعة النظم وبلاغة الكلام فحسب بل – وعلى الأخصّ – لقصورها عن إبلاغ المعنى، وعجزها عن نقل المراد. وأعاد ذلك إلى ذاكرتي مناداة فريق من كبار المشتغلين بالشئون الإسلامية في مصر بلزوم إعداد ترجمة جديدة لمعاني القرآن الكريم تكون أكثر ملاءمة لتطوّرات العصر. وعلى ما يبدو أن هذه الفكرة تبلورت فيما بين عامي١٩٦٠ و١٩٦١ فاستقر الرأي على الشروع في تنفيذها.ولا شك أن الباعث على هذا الإقدام ملاحظة أصحابه أن التراجم الحالية للقرآن تمّت على أساس ما هو متبادل بين الأيدي من تفاسير كتبت في عصور تختلف اختلافا كبيراً عن العصر الذي نعيش فيه، وبالتالي قليلة الصلة بالحاضر.

واعتماد المترجمين على التفاسير الموجودة أمر لا مفرّ منه لعدم إمكانهم ترجمة نصوص الآيات القرآنية مباشرة: لأن القرآن الكريم أنزل بلسان عربي ويكثر فيه المجاز من كناية واستعارة وتشبيه وتمثيل. وترجمة المجاز حرفياً لا تنقل المراد من الكلام إلى لغات تختلف شعوبها عن العرب في آدابها وثقافتها وتاريخها وبيئتها وأساليب تعبيرها في الكلام. فلا بد إذن من اللجوء إلى المعاني، وشيء من التفصيل لإيصال المقصود إلى ذهن القارئ الأجنبي. وهذا أمر يكاد يستعصي على المترجم لأنّه أقرب إلى التفسير منه إلى الترجمة.

والتفاسير المتداولة تفسر الآيات القرآنية وفقاً للفهم الذي ساد في عصور تختلف اختلافاً كبيراً عن العصر الذي نعيش فيه. فتقدم للمترجمين جانباً واحداً من جمال القرآن وحكمته وهو وحي سماوي يزخر بشتى أنواع المعارف والهدى. وأسوق سورة القَدْر مثالاً على ذلك. فقد ترجمها J. M. Rodwell رودويل بالقُدرة power، بينما لفظة القَدْر أفسح وأرحب من القُدرة، فهي تعني أيضاً التّقدير والحُكم والمقام.

 

وتقدّم سورة «التّين» مثالاً آخر للصعوبة التي يواجهها المترجم للقرآن الكريم، فترجمة الآيات الأولى من سورة التين تبين بوضوح تفاوت المعنى الذي يمكن فهمه من الأصل العربي وما يُفهم من الترجمة. فقد ترجم رودويل هذه الآيات الثلاث: (والّتين والزيتون * وطور سنين * وهذا البلد الأمين) على النحو التالي:

“I swear by the fig and by the olive, by Mount Sinai, and by this inviolate soil”

وهكذا نقلت الترجمة دلالة الألفاظ حرفيّاً بدون التفات إلى المراد المستور في الكنايات.وللمترجم عذر في ذلك بعد أن اختلفت التفاسير في استخراج المعنى اختلافاً كبيراً. من ذلك ما جاء في مختصر ابن كثير: «اختلف المفسرون هاهنا على أقوال كثيرة فقيل: المراد (بالتين) دمشق، وقيل: الجبل الذي عندها، وقال القرطبي: هو مسجد أصحاب الكهف، وروي عن ابن عباس: أنه مسجد نوح الذي على الجودي، وقال مجاهد: هو تينكم هذا، (والزيتون) قال قتادة: هو مسجد بيت المقدس، وقال مجاهد وعكرمة: هو هذا الزيتون الذي تعصرون، (وطور سنين) هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، (وهذا البلد الأمين) يعني مكّة». ولا يسع الذي يقرأ ترجمة هذه الآيات المباركة من غير المسلمين إلاّ التساؤل عن الصلة بين شيئين من المأكولات وجبل وبلد، والحيرة في معرفة القداسة الّتي تجمع بين هذه المسميات الأربعة التي أقسم الله بها.

وفي مقابل هذه الصعوبة الّتي يواجهها الباحث المعتمد على الترجمات، هناك الفهم الواضح الّذي يبلغه الباحث من معانيها المكنونة بفضل بيان حضرة بهاء الله لمراد الله منها. فقد أبان حضرته في «كتاب الإيقان» أن المراد من (الّتين): هو جبل التيناء حيث تجلى الله على سيدنا إبراهيم الخليل، و(الزيتون): إشارة إلى جبل الزيتون حيث بعث الله السيد المسيح، و(طور سنين): هو جبل سيناء الذي كلّم الله عنده سيدنا موسى تكليما، (وهذا البلد الأمين): إشارة إلى مكة المكرمة، مهبط الوحي على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. فكلها مواضع واردة على سبيل الكناية لأربعة من الرسل أولي العزم الذين أقسم الله تعالى بهم لخصوص منزلتهم، فقد كانوا مشارق أنوار الهدى، وقد واصلوا عملهم الموحد لإنارة القلوب والعقول بأنوار الهداية الإلهية.

ولا تقتـصر التراجم المعيبة على ما كتبه رودويل بالــذّات، وإنما هو نقص مشترك لكل ما رجعتُ إليه من ترجمات مثل ترجمة جورج سال وترجمة ن.ج. داود وترجمة معاني القرآن المجيد لمحمد مارمادوكا وغيرهم. ولا يصادف المترجم الصعوبة نفسها في نقل معاني آيات الأحكام أو القصص التاريخية. فوجه الصعوبة هو في ترجمة الآيات التي تحتوي على مجاز والآيات المتشابهات.

ولهذا فإننا نتفهم المشكلة الّتي يواجهها المهتمون بالشؤون الإسلامية: فمن جهة نراهم مدركين للحاجة الملحة لإعداد ترجمة وافية لمعاني القرآن الكريم تكون أكثر تمشياً مع المعارف التي بلغ إليها العصر الحديث، وأصدق في نقل المعاني الجليلة الّتي حواها كتاب الله، ومن جهة أخرى، نجد منهم تحفظاً لما ينطوي عليه ذلك من تغيير لما قاله السلف في معاني القرآن، وما قد يثيره من معارضة المتمسكين بالتراث المأثور على الرغم مما يحتويه من نظر لا يستقيم والتفكير العلمي المعاصر.

ولو انتبهنا إلى العبارة الّتي يختم بها المفسرون تفاسيرهم: «والله ورسوله أعلم»، لأدركنا عدم يقين المفسر من صحة بيانه لكلام الله. فلا يسعنا والأمر كذلك إلاّ التّسليم بأنّ بيان المعاني المقصودة من آيات كتاب الله حق بيانها مهمّة تفوق مقدرة البشـر مهما بلغوا من العلم، ولعظيم قدرها وخطورة آثارها اختصّ الله تعالى نفسه بها، ووعد بتأويل الكتاب في يوم موعود لا ريب فيه يومئذ (يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربّنا بالحقّ).

ولهذا بدا لي بعد عودتي إلى القاهرة أن أنقل إلى إخواني المتحدثين باللّغة العربية ما تمّ إعداده في نيجيريا بالانجليزية. ومرّة أخرى استمددت العون من الله معترفا بضعفي وعجزي، وهاأنذا أقدّم لإخواني البهائيين من العرب ما استطعت أن ألتقطه من لآلئ بحر زاخر راجيا أن يكمل هذا العمل مستقبلاً من هو أقدر منّي على الغوص في أعماق هذا الخضمّ الغائر. والله ولّي التّوفيق.

حدائق الزيتون في ربيع ١٩٦١

محمد مصطـفى

الفصل الأول بشارات الكتب السّماويّة

الكتب الإلهيّة هي مشارق الهداية التي يستمد منها المؤمنون القيم والشرائع والمعارف التي تعينهم على تنظيم مجتمعاتهم على نحو يكفل للبشر الأمن والسعادة والتقدم الحضاري في دنياهم، ويكلل آخرتهم برضوان من الله ومغفرة.

ولهذا وجّه أتباع كل دين اهتماماً خاصاً لدراسة نصوص كتابهم المقدس وأحاطوا دراستها بسياج من الحيطة ليضمنوا أنّ فهمهم لمعاني آياته جاء مطابقاً لمراد الله. ومع هذا الحرص وتوفر حسن القصد لبلوغ مراد الله لم يكن نجاح الشّراح والمفسّرين إلاّ جزئيّاً؛ فقد اختلف فهمهم، وتضاربت آراؤهم، فطمس الخلاف والتحزب وجه الحقيقة، وطغى التعصّب للرأي على الإنصاف والتعقل، فكثرت الفرق وتعددت المذاهب، واستشاط في العداء أتباعها.

وفضلاً عن الفُرقة والنفور والانقسام بين أهل الدين الواحد أحال بعض الكهنة والمفسرين شرح آيات الكتب المقدسة إلى أدوات لتكذيب مَن بعثهم الله بالحق بعد رسولهم. ويشهد التاريخ أن أكثر المعترضين على الرسالات الإلهية كانوا كهنة وعلماء الأمم السابقة عليها، معتمدين في اعتراضهم على تأويل ما لديهم من آيات الكتاب. فبشارات مجيء الرسل اللاحقين لم ترد في أي كتاب سماوي صريحة ومحددة، بل جاءت تورية وفي معاريض الكلام بلاء للناس، فسهّل ذلك تحريف الكلم عن مواضعه، وصَرْف المعانى الجارية للألفاظ إلى معان بديلة افترض المفسرون أنها المقصود. وهكذا استُبدلت وعود وعلامات مجيء الرسل المقبلة بفروض وتصورات ما أنزل الله بها من سلطان. واستحال ما أنزل في الكتب المقدسة هدىً للعباد وبشرى لهم فتنة تزيد العباد حيرةً في أمرهم. فالتأويل ضرب من الظن، ولا يعلم مراد الله على وجه اليقين إلاّ من أوحي إليه هذا المراد، وتوفر لديه حسن القصد.

ولعل هذا أحد الأسباب التي من أجلها حذّر الله الناس من تأويل الآيات المتشابهات. ولأنهم لم يلتزموا بالتّحذيـر الإلهي ازدادت الفُرقة، وكثرت الشيّع والأحزاب، وتعدّدت الطّرق مما أصاب وحدة الأمّة في الصّميم، وزاد الوضع سوءً ما شاع من أحاديث نُسبت إلى الرّسل صلوات الله عليهم وهي ليست بشيء. والشيّـع والأحزاب، كبيرها وصغـيـرها، وقديمها وحديثها، وجدت واستقرت على حساب صفاء الفكر الدّيني، وتكاثرها المستمر جعل إصلاح الحال ضرورة احتلت تفكيـر المصلحين، القدامى منهم والمعاصـرين.

فدعا فريق إلى عمل تفسير جديد للقرآن الكريم، واشترط فريق آخر أن يكون هذا التّفسير قاصراً على المبادئ والتّعـاليم، ونادى فريق آخر بفصل الدّيـن عن الدّولة، ودعا غيرهم إلى تجديد الفكر الديني. وما زال النقاش دائراً إلى يومنا بدون نتيجة عملية.

وقد بُذلت محاولات عدة في القرن العشرين لإصلاح شأن الأمّة الإسلاميّة وإعادة الوحدة إلى العالم الإسلاميّ، وكان لابد لذلك من توحيد المذاهب والشّيع المتعدّدة أو التقريب فيما بينها باعتبارها العـامل الأوّل في إيجاد الفُـرقة والانقسام، وعُقدت المؤتمرات والندوات للتّقـريب بين المذاهب، ولكنها انتهت بدون الوصول إلى النّتيجة المرجوّة لتمَسُّك كل فريق بما ورثوه من آراء عن أسلافهم.

كما ظهرت دعوات ملحة إلى تفاسـيـر جديـدة للقرآن الكريم، وتجديد للخطاب الديني تجاوباً مع الشّعور العامّ الذي يرى ضرورة إزالة الشبهات التي وقعت فيها التّفاسـير التّقليديّة وتناقضها مع الثابت من العلوم الحديثة، مما حدا ببعض الكتّاب والمفكّرين من غير المحترفين لشئون الدّين أن يدخلوا إلى ميدان التّفسير، الأمر الذي يستنكره المتمسّكون بالتّفاسير التقليدية. فأضحت محاولات الإصلاح عاملاً إضافياً في زيادة الانقسام والجدال.

وفكرة إيجاد تفاسير جديدة لا تخلو من مشاكل أثارت تساؤلات لا وجود لإجابات مرضية لها.من ذلك التساؤل عن الذين سيتصدون لهذا العمل الجليل.فهل من الحكمة أن تستأثر به جهة معيّنة أم يكون باب الاجتهاد مفتوحاً لكل من شاء الولوج إلى ميدان التفسير الجديد؟ وإن انتهى الرأي إلى تحديد المتصدين لهذا التفسير الجديد فمن – بعد الله ورسله – يملك حق تعيين المؤهلين لهذا العمل الخطير. سؤالان لابد من مواجهتهما بشجاعة لأن الذين يشغلون مراكز القيادة الدينية ليسوا بالضرورة من روّاد الفكر الديني أو الضالعين فيه، وأكثرهم لا يؤيد إطلاق الحرية للمتصدين للتفسير في اختيار المناهج والموازين التي يتبعونها.

هناك من يبحثون بصدق عن الحقيقة التي طمستها الخلافات المذهبية وأغلق التعصب في وجهها الأبواب، ولكن تتعثر خطاهم في الوصول إليها تمسكهم بالمفاهيم والتقاليد الموروثة، بينما ينادي أئمة الفكر المتفتح بأن البحث الجدّيّ الصّحيح المؤدّي إلى نتائج يُعتد بها يتوقف على الاستقلال في التفكير، وسلامة المنهج الذي يعتمد عليه الباحث في دراسته.

والمنهج الذي يوصون به يحتّم «أن يتجرد الباحث من كلّ شيء كان يعلمه من قبل، وأن يتقبّل موضوع بحثه خالي الذّهن مما قيل فيه خلوّاً تامّاً. والنّاس جميعاً يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدّين والفلسفة يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقواها وأحسنها أثراً، وأنه قد جدّد العلم والفلسفة تجديداً، وأنه قد غير مذاهب الأدباء في أدبهم، والفنانين في فنونهم، وأنه هو الطّابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث» نعم! يجب حين نستقبل البحث «أن ننسى عواطفنا القوميّة وكلّ مشخّصاتها، وأن ننسى عواطفنا الدّينيّة وكلّ ما يتّصل بها، وأن ننسى ما يضاد هذه العواطف القوميّة والدّينيّة؛ يجب ألا نتقيّد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلميّ الصّحيح. ذلك أنّا إذا لم ننس هذه العواطف وما يتّصل بها فسنضطرّ إلى المحاباة وإرضاء العواطف، وسنغلّ عقولنا بما يلائمها. وهل فعل القدماء غير هذا؟ وهل أفسد علم القدماء شيء غير هذا؟»(1)

وهل أضل الأمم السّابقة وأبعدهم عن رسالات الله عبر التّاريخ غير رفضهم قطع الصّلة الفكريّة والعاطفيّة بالمأثور والمألوف، والتّحرر من قيود التّعصب والميل إلى الموروث؟ ولو اتخذوا هذا التّجرّد منهاجاً إبّان مراحل التّجديد الديني الّتي جاءت بها الأنبياء والرّسل، لما أعرضوا عن هذه الرّسالات الّتي كانت لصالحهم وصلاحهم. فَلِتّعَرُّف على الحقيقة سبيل واحد لا يكاد ينافسه فيه منهج بديل: وهو طرح العقائد المألوفة والأفكار المسلم بها والتّقاليد الموروثة على بساط البحث والنّقد والتّحليل، والنّظر فيها بإنصاف منزّه عن الميول والعواطف والأحكام المسبقة.

وجدير بنا في هذا المضمار أن نتأمل نصح عباس أفندي لأحد مكاتبيه الذي سأله عن أهدى السبل لإخراج أمتنا من الوهدة التي وقعت فيها لتلحق برَكْب الأمم المتسابقة في ميادين المعارف والتقدم، فتفضل حضرته: «وإن كنتَ أيّدك الله بالرّأي السّديد والحذق الشّديد تفكّر في ما تعود به هذه الملّة البيضاء إلى نشأتها الأولى ومنزلتها السّامية العليا، قسماً بعاقد لوائها وشمس ضحاها ونور هداها ومؤسّس بنيانها ليس لها إلاّ قوّة ملكوتيّة إلهيّة تجدّد قميصها الرّثيث وتنبت عرقها الأثيث وتنقذها من حضيض سقوطها وهاء هبوطها إلى ميم مركزها وأوج معراجها، ألا هي لها، هي لها، هي لها، والسّلام على من اتبع الهدى»(2).

وعلى ضوء هذه المقدمات يتناول الفصل الأول تحليل أسباب ظاهرة تكذيب الرسل المتواترة، ورفض أكثر الناس للأديان الجديدة تمسكاً بشبهات وقع فيها السلف. فيبدأ بدراسة إجمالية للآيات المحكمات والآيات المتشابهات وما يماثلها من المجاز، ليبين ما أسفر عنه إصرار المفسرين على تأويل المتشابهات، ويقدم أمثلة للتناقض والاختلاف الذي أوجده المفسرون في معاني الكتاب الذي وصفه تعالى بقوله: ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾(3).

ثم ينتقل البحث إلى سبيل الاهتداء إلى مراد الله من الآيات التي استغلق فهم معانيها على العباد، وعلّة عسرها على الفهم مع أن كتاب الله تنزّل ليكون مصدراً للهداية. ثم يتناول البحث أخيراً مناقشة الصعوبة التي تثيرها معتقدات السلف بانتهاء الوحي الإلهي وختم النبوة، رغم تأكيد كتاب الله بأن سنته تعالى – ومنها تنزيل الكتب السماوية – لا تتبدل، وأن كلماته لا نفاد لها، وأن وعده بمجيء المسيح – وهو رسول – من بعد محمد لا بد واقع.

أ) تأويل المتشابهات

يذكر القرآن الكريم في سورة الأعراف أمثلة عديدة لتكذيب الناس لرسل الله ورفضهم الأديان الجديدة سواء كان دافعهم الجهل أو سوء القصد. فذكرت الرّد الذي تلقاه سيدنا نوح لما دعا قومه إلى عبادة الله: ﴿قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين﴾(4)، ثم ذكرت جواب قوم عاد عندما جاءهم سيدنا هود برسالة جديدة: ﴿إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين… قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا﴾،(5) وكذلك جابه أهل ثمود الدين الجديد الذي جاء به سيدنا صالح: ﴿إنا بالذي آمنتم به كافرون﴾(6)، وقابل قوم لوط دعوته بجواب مشابه وقاموا على أذى مَن اتبعه: ﴿أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون﴾(7) وعلى النمط نفسه كان رفض أهل مدين لرسالة سيدنا شعيب: ﴿لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملّتنا﴾(8)، وتقص سورة الأعراف رفض فرعون لرسالة سيدنا موسى وما كان بينه وبين أهله.

وتكذيب أهل كل زمان لرسولهم أمر معروف لكل من درس تاريخ الأديان، ولا ضرورة لإطالة الحديث فيه، وإنما يهمنا أن نستخلص من الأمثلة الواردة في سورة الأعراف أن رفض الناس للرسالات الجديدة ليس بالضرورة وليد العناد أو رغبة في الكفر، بل أكثره ناتجاً عن التمسك بالراسخ في أذهان المكذبين بأن دين أبائهم وما شبّوا عليه وألفوه هو الحق. فالأعذار التي يتخذها المنكرون أساساً للإعراض والإنكار كما يوجزها الذكر الحكيم: ﴿وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها﴾(9). فالاعتراض على رسل الله قد يكون وليد حسن النية مع الجهل والاستهانة بالبحث والتحقيق. وتؤكد سورة البقرة أيضاً أن أساس الإعراض عن الأديان الجديدة، وتكذيب الناس لمن بعثهم الله بالحق هو نتيجة طبيعية للتمسك بالتقليد الأعمى، والتشبث بالآراء والأفكار الموروثة عن السلف بدون بحث في مبادئ وغايات هذه الدعوات الإلهية الجديدة، ودراسة الحجج والأدلة التي بُنيت عليها، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا﴾(10).

ويرتب القرآن الكريم على هذه السوابق المتواترة حكماً عاماً يصدق على جميع الأديان الجديدة حيث جاء في سورة البقرة: ﴿أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم﴾(11)، أو إن شئت يمكن اعتبار هذه السوابق التي ورد ذكرها في سورة الأعراف المصداق على سنّة إلهية تجعل من مجيء كل دين فتنة واختبار لصدق العباد. فتكذيب الرسل أضحى ظاهرة منتظمة كما يؤكده قوله تعالى: ﴿وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين﴾(12)، وسبب هذا الإعراض هو ما يتوارثه الناس من تفسير وتأويل قال به السابقون الذين وقعوا في المحذور وأضلوا من بعدهم خلقاً كثيراً.

والبحث في الأسباب التي تؤدى إلى وقوع المفسرين في هذه الأخطاء الجسيمة تنتهي بنا إلى أن فهمهم لمكنون الآيات إذا كانت من المتشابه يقصر عن إدراك ما يخفيه الغيب من معانيها. ولبيان هذه الحقيقة يلزمنا الرجوع إلى بعض الكتب المقدسة القديمة، لأن القرآن الكريم لا ينفرد وحده بوجود الآيات المتشابهات. فإننا نجد أمثلة كثيرة للمتشابه في الكتب السماوية السابقة على القرآن، ويسهل علينا الآن فهم تأويل القرآن الكريم لها وبيان الرسول الأمين لمعانيها.

ولنأخذ مثلاً قوله تعالى: ﴿وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يديّ من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد﴾(13) فإن من يطالع الكتاب المقدس باللغات المختلفة التي تُرجم إليها لا يجد فيها بشارة بمجيء رسالة محمد من بعد عيسى على النحو الصريح الواضح الذي ذكره القرآن. فقد تكلم المسيح في بشاراته عن مجيء «المعزّي»، ومجيء «ابن الإنسان»، ومجيء «الروح» ولم يرد فيه ذكر للفظ «أحمد». ومع افتراض أن نص الكتاب المقدس – الذي تُرجم من لغة إلى أخرى أكثر من مرّة – قد تأثّر بعض الشيء من تعدد هذه الترجمات فإن سياق الكلام ومضمونه لم يتغيرا بفضل الحرص الذي التزم به المترجمون، فجاءت معانيه متوافقة على كثرة اللغات التي ترجم إليها.

وخلاصة القول أنه رغم خلوّ الكتاب المقدس من لفظ «أحمد» فقد اكتفى القرآن بوجود ما يدلّ على معناه لإتمام الحجة على أهل الكتاب، وهي حجة أقوى في الواقع من وجود اللفظ نفسه لأنها حجة على أهل الكتاب أياً كانت لغتهم دون أن تقتصر حجيتها على الأعراب فقط. والمهم أن كلام السيد المسيح لم يبلغ هذا الوضوح إلاّ بعد أن أبان القرآن تأويله، أمّا بالنسبة للسابقين على الإسلام فهو من المتشابه الذي لا يُفهم معناه لا من لفظه ولا من سياق الحديث ولا يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم. ولو كانت البشارة لمجيء الرسول القادم صريحة لما كان فيها امتحان لصدق إيمان العباد كما هو الحال مع مجيء كل مبعوث إلهي.

ولعل التمييز بين التفسير والتأويل يعين في فهم سرّ المتشابهات. فرغم أن لفظ التأويل كثيراً ما يستعمل بمعنى التفسير، ولكن العلماء ميّزوا بينهما فعرّفوا التّفسير بأنه الإيضاح والبيان، أمّا التأويل فيشمل أيضاً ما يؤول إليه الأمر مستقبلاً. وأغلب الجاري على ألسن الفقهاء أن تُؤوّل الآيات المتشابهات وأن يُفسّر غيرها، مما يوحي أن للتأويل أغوارا أبعد عمقاً من التفسير وهو أخص في الآيات التي جاءت على وجه من وجوه المجاز فكان لها مدلول غير ظاهر لفظها كما هو الحال مثلاً في الأمثال والكنايات والاستعارات.

قال تعالى: ﴿هو الّذي أنـزل عليك الكتاب منـه آيات محكمات هـنّ أمّ الكتاب وأُخَر متشابهات فأمّا الذّين في قلوبهم زَيــغ فيتَّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والرَّاسِخُون في العلم يقولون آمنّا به كـلّ من عند ربّنا وما يذَّكَّر إلاّ أولوا الألبابِ﴾(14).

والواضح من هذه الآيـة المباركة أنّ آيات القرآن الكريم تنقسم إلى آيات محكمات وآيات متشابـهات. والمسلّم به أنّ الآيات المحكمات هنّ أمّ الكتاب ومبانيـها واضحة الدّلالة بذاتها أو بسياقها ولا التباس فيها، وهنّ المبيـّنات لشريعة الله، والمفصّلات للشّعائر والعبادات والأحكام من صلاة وصوم وزكاة وحـجّ وزواج وطـلاق ومواريث وقصاص… إلى آخره. وتفسير هذه الآيات وشرحها هما من مهام مَن كان على علم وقدرة من أهل الفقه والمعرفة.

ولكن هناك صعوبة في تحديد مهام الفقهاء والعلماء فيما يتعلق بتأويل ما عداها من آيات الكتب السّماوية: فقد عرّف البعض التأويل على أنه: «إرجاع الكلام وردّه إلى الغاية المرجوّة منه». وجاء في «لسان العرب» عن ابن الأثير: «والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما تُرك ظاهر اللفظ». ومعنى ذلك أن المؤوِّل يستبدل الكلام الذي استغلق فهمه بكلام واضح يرجِّح أنّه المقصود من المتشابه. فهذا التعريف يتيح المجال لاختلاف المعنى باختلاف المؤوّلين ويبعد عن الموضوعية. وقيل أيضاً أن المحكم ما كان معناه جلي واضح ظاهر لا يحتمل إلاّ وجها واحداً لا يقع فيه اشتباه، والمتشابه فيه خفاء واشتباه يعرف معناه الراسخون في العلم. وهناك قول مأثور عن جابر بن عبد الله أنه قال: المحكم ما علم العلماء تأويله، والمتشابه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل. وقد وصفها بعض السّابقين قولهم: «ليس لهن تصريف وتحريف وتأويل»(15)، فقد «يدل لفظها على شيء والعقل على خلافه»، و «استأثر الله بعلمها».

وعلى هذا يمكن القول أن المتشابهات – بصفة عامة – آيات تختزن أموراً خاصّة وأحداثاً هامّة تقع مستقبلاً في مواقيت حدّدها الله تعالى في سابـق علمه، وليس للأنام وسيلة لمعرفتها مادامت في طي الغيب، ومحاولاتهم في هذا المجال كما صرحت الآية ضرب من الإرجاف، وحدس بما لم يحيطوا به علماً. أمّا تأويلها على الوجه الصحيح – وفقاً لصريح نصّ الآية – لا يعلمه إلاّ الله والرّاسخون في العلم.(16) ومادام أن الله قد استأثر بعلم تأويل هذه الآيات واختص بهذا العلم من بعده سبحانه وتعالى الراسخين في العلم، فلا بد أن يكون هذا التأويل سراً يتعذّر البلوغ إليه إلاّ لمن شاء الله، فالرسوخ في العلم معناه – في هذه الحالة – امتناع الشبهة وهو أمر يقارب العصمة وليس من سجايا البشر المعتادين، كما أن العلم المقصود في هذه الآية ليس العلم المكتسب الذي يتعلمه الناس، وإنما العلم بما يؤول إليه الخبر الوارد في نص الآية، أو إن شئت العلم بمراد الله من كلامه. فالراسخون في العلم الذين ورد ذكرهم في الآية هم أناس لا تزيغ قلوبهم ولا ينطقون عن الهوى بل يوحي الله إليهم مراده، وهم المصطفون من رسله وأنبيائه ومن كان في منزلتهم.

فتأويل الآيات المتشابهات يتم إذاً بطريقين أصيلين: الأول أن يكشف الله عن مراده بجنود غيبهِ التي تسيطر على القوى المسيّرة لمجريات الأمور في عالم الشهود، وما يقع من أحداث فيه، بحيث تأتي وفقاً لما أنبأ به في آياته، ولو أنها ظاهراً وقعت استجابة لأسباب منطقية أخرى، كما نجد في قوله تعالى مخاطباً الرسول: ﴿لا تحرّك به لسانك لتعجل بـه * إنّ علينا جمعه وقرآنَه * فإذا قرأناه فاتّبِع قرآنه * ثمّ إنّ علينا بيانـه﴾(17). فمع أن الله وعد أن يجمع القرآن فإن جمعه كان من عمل المسلمين، ولكنهم سُخروا لإنجاز ما وعد به الرحمن. والطريق الثاني أن يوحي الله بمراده إلى من يصطفيهم من عباده المقربين ليبينوا لسائر العباد مراده. وخلاصة القول أن الآيات المتشابهات قد تنزلت لتكون هداية للناس وبشرى لهم، فلا يمكن أن يبقى مدلولها سراً أبدياً، وإنما يبين معناها ويتضح تأويلها في اليوم الموقوت.

ومع تصريح الآية المباركة وتحذيرها دأب الشّراح والمفسّرون على تأويل الآيات المتشابهات بصرف الألفاظ عن مدلولها إلى خلافها، ولا شك أنّهم بذلوا قصارى جهدهم في ضبط المعاني التي أستخرجوها من هذه الآيات، ولكن عندما تُستعمل المهارة حيث لا ينبغي، يقع المحذور وتترتّـب عليه كلّ الآثار التّي نبّهت إليها الآية المباركة.

وكانت النتيجة أن كثرت وجهات نظر المفسّرين والمعاني التي استخرجوها من هذه الآيات مما يجزم أن تأويلهم جاء على سبيل الظّن والتخمين، ولو كان قولهم حقاً لما تفرقت بهم السبل، وليس ذلك من الرسوخ في العلم الذي يؤهل المرء لتأويل المتشابهات. ومن الحق أن أحداً منهم لم يدّع بأنّ تأويله هو مراد الله تعالى، بل دأبوا في ختام تفاسيرهم على استعمال العبارة التّقليديّة: «والله ورسوله أعلم»، وهو اعتراف منهم بعدم بلوغهم اليقين في تأويلهم، إنما اليقين من مراد الله – كما سبق القول – لا يكون إلا لمن كشف الله له عن مراده، وهذا اليقين لا يتأتى إلاّ عن طريق رسله المكلّفين بإبلاغ مراده تعالى إلى الناس. فإذا كان الأمر كذلك ألا يحقّ للمسلم أن يتساءل متى يأتي تأويل الله والقول الفصل بالأمر اليقين؟

ولنرجع إلى التّاريخ لعلّنا نجد فيه ما يصل بنا إلى فهم سليم للآية المباركة. وتفصيل الوقائع التّاريخية لجمع القرآن كما رواها الدكتور طه حسين بدقة الكاتب الذي جمع بين المعرفة الأزهرية للتراث الإسلامي وأساليب البحث والتدقيق المتقنة فقال:

«لما قُتل أصحاب رسول الله باليمامة دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر رحمه الله فقال: إن أصحاب رسول الله باليمامة تهافتوا تهافت الفراش على النّار، وإنّي أخشى ألا يشهدوا موطناً إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا وهم حملة القرآن فيضيع القرآن ويُنسى، فلو جمعتَه وكتبتَه. فنفر منها أبو بكر وقال: أفعل ما لم يفعل رسول الله. فتراجعا في ذلك. ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت. قال زيد: فدخلتُ عليه وعمر مُحزئل، فقال لي أبو بكر: إن هذا قد دعاني إلى أمر فأبيت عليه، وأنت كاتب الوحي، فإن تكن معه اتبعتكما، وإن توافقني لا أفعل. قال: فاقتصّ أبو بكر قول عمر وعمر ساكت، فنفرت من ذلك وقلت: نفعل ما لم يفعل رسول الله. إلى أن قال عمر كلمة: وما عليكما لو فعلتما ذلك؟ قال: فذهبنا ننظر، فقلنا لا شيء والله، ما علينا في ذلك شيء. قال زيد: فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأدم وكسر الأكتاف والعسب، فلما هلك أبو بكر وكان عمر، كتب ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده، فلما هلك كانت الصحيفة عند حفصة زوج النّبي.

ثم إن حذيفة بن اليمان قدم من غزوة كان غزاها في فرج إرمينيّة، فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان بن عفّان فقال: يا أمير المؤمنين، أدْرِك النّاس. فقال عثمان: وما ذاك؟ قال: غزوت فرج إرمينيّة، فحضرها أهل العراق وأهل الشّام، فإذا أهل الشّام يقرأون بقراءة أبيّ بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق فيكفّرهم أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرأون بقراءة ابن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشّام فتكفّرهم أهل الشّام؛ قال زيد: فأمرني عثمان بن عفّان أن أكتب له مصحفاً وقال: إنّي مدخل معك لبيباً فصيحاً، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إليّ. فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص.»(18)

هذه حقائق متّفق عليـهـا، ويتّضح منها أنّ عمليّة جمع القرآن الكريم إنّما تمت بعد انتـقـال النبيّ إلى الدّار الآخرة. و(بيانه) حسب تقريـر الآية المباركــة – عمل يتمّ بعد (جمعه وقرآنه) أي فـي زمن غير زمـن الرّسـول وخلفائه الراشدين. وهذا مفهوم: (ثم إن علينا بيانه) لأن «ثم» تفيد المستقبل مع التّراخي. وقوله تعالى: ﴿لا تحـرّك به لسانك لتعجـل بـه﴾ ولو أنه خطاب موجّه إلى الرسول إلاّ أنه ينطبق أيضاً على أمته فيوصيها بالإعراض عن التّعجيل في بيانه قبل اليوم الموعود، لأن الرّسول الكريم الذي (علّمه شديد القوى) كان يعلم – بدون شكّ – ما في خزائن كتاب الله من معان وإشارات، ولم يكن في حاجة إلى مزيد بيان.

أعود إلى الآيتين المتقدّمتين اللّتين صرّح الله فيهما بأنّ تأويل المتشابهات وبيان معانيها من شأنه تعالى. والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو كيف يأتي الله بالتأويل؟ هل ينزله الله من السماء كتاباً مكتوباً، أم يقذفه في قلوب أفراد الأمّة فيصبحون جميعاً أئمّة وأصحاب طرق بعدد أنفسهم؟ لقد جرت سنّته عزّ وجلّ أن يكون بيانه للنّاس بواسطة من يصطفيهم من رسله، فقد أبان محمد ما اشتبه على أهل الكتاب مما أنزل إليهم من قبل. كما أبان السّيد المسيح ما اشتبه على اليهود من كتابهم. فهذه هي سنّة الله وبها يكون البيان فيصلاً لا جدال فيه ولا اجتهاد بعده، وبه يجتمع شمل الأمّم وتولد حضارتهم من جديد. فبيان الحقّ للناس وإظهار المعاني المكنونة في أصداف الآيات المتشابهات في كتابه العزيز يكون بآيات يوحي بها الله إلى المصطفين. هذه سنّة الله، وفيها يجد الباحث جواباً شافياً عمّن يأتي بالتأويل. فالجواب بكل بساطة: هو ﴿رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة﴾(19).

وكل مَن تدبّر في الكتب المقدّسة على اختلافها وجد بين آياتها الكثير مما يبشّر بظهور شخصيـن إلهييّن في وقت اتفقت الكتب السماوية على تسميته بآخر الزّمان. ولا مراء أن الآيات الّتي تحدّثت عن ظهورهما، وعن اليوم الآخر، وعلامات الآخرة كانت من الآيات المتشابهات الّتي استحالت معانيها على أفهام كل من تصدى لتأويلها – كما سنرى فيما بعد – إلى أن حان يوم تأويلها. هذان المظهران العظيمان هما «المهدي وعيسى» في اصطلاح الأحاديث الشريفة، و «عودة المسيح على يمين الآب السّماوي» في اصطلاح الإنجيل، و «ظهور ربّ الجنود» و «إيليا» في اصطلاح التوراة.

لقد دارت أكثـر آيات القرآن الكريم حول التّشويق والتّبشير وبين التّصريح والتّلويح بمجيء هذين المظهرين المباركين. وترك النبيّ لأمّته، كنزاً من أحاديثه الشّريفة حتّى لا يشتبه على أحد أمر هاتين الجوهرتين عند تلألئهما. وقصدت هذه البشارات والإنذارات والأحاديث الشّريفة إعداد الأمّة بأسرها – سنّة وشيعة – لليوم الموعود الذي تتجلّى فيه كلّ هذه الحقائق الربّانيّة، وتتحقق الوعود الإلهيّة. وقام الأئمة من آل البيت بتشويق المسلمين وتشجيعهم على اتّباع المعروف، والبعد عن المنكر، وإقامة شريعة الله ترقّبا ليوم الله الموعود. فماذا كانت عاقبة كلّ ذلك؟

ب) المهدي وعيسى

بقي الاعتقاد بظهور المهدي ونزول عيسى محوراً لمعتقدات المسلمين منذ صدر الإسلام إلى زمن قريب. فقد أدرج الدكتور مصطفى غالب في بحثه عن قائم القيامة جانباً من أسانيد هذا الاعتقاد نقتبس منها جزءًا يسيراً: «ويمكننا في ضوء الأحاديث التي أخرجها الترمذي وابن داود والحاكم وابن ماجة – وهي أحاديث مسندة إلى الإمام علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وطلحة وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأم سلمة – أن نؤكد أن فكرة المنقذ أو المخلص المهدي قد شاعت لدى المسلمين عامة، وخاصة أهل السنة، وإن لم تتقرر كأصل من أصول العقيدة كما هو الحال لدى الشيعة»(20).

ويواصل الدكتور مصطفى غالب قوله: «ومن الملاحظ أن ابن تيمية يؤكد هذا الحديث الذي رواه ابن عمر ويقر بصحته: يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وذلك هو المهدي. وقول النبي: المهدي من عترتي من ولد فاطمة. كما يرى ابن تيمية أن أحاديث المهدي صحيحة مستنداً إلى مسند أحمد وصحيح الترمذي وابن داود»(21).

ولكن أثار في القرن الثّامن الهجـري نفر من العلماء الشّكّ حول الأحاديث الشّريفة المرويّة عن ظهور المهدي، بحيث لم تسلم أوثق الأحاديث سنداً وروايةً من التشكيك في صحتها أو صراحتها. أمّا عودة المسيح عليه السّلام فلم يثر حولها خلاف يعتد به لورود ذكرها صراحة في القرآن الكريم.

ويمكن إرجاع جذور هذا الاختلاف في الفهم إلى زعم كثير من المفسرين أنه لا مكان لظهور رسالة أخرى بعد رسالة محمد، ولا مجال لنزول أحكام جديدة بعد الأحكام التي أتى بها القرآن الكريم. ويتمسك المسلمون بهذا الفهم مع وضوح مناقضته لسنة الله. وهذه أراء لا جديد فيها فقد قال بمثلها أتباع كل الأديان السابقة على الإسلام. فذهبت كل أمة من الأمم السابقة في تفسير آيات كتابهم على النمط نفسه وانتهوا جميعاً – بدوافع الحب والولاء لدينهم – إلى أن شريعة كل منهم هي أكمل الشرائع ومنتهاها، وأن بمجىء رسولهم ختمت الرسالات السماوية، ثم اعترضوا على رسل الله الذين جاءوا من بعد مستندين إلى آراء مطابقة لما يقول به المسلمون اليوم. سواء عن انتهاء الفيض الإلهي، أو عن دوام أحكام الشريعة الإسلامية وصلاحها لكل زمان مهما تغيرت الظروف والأحوال. فيرتكبون بذلك – من حيث لا يعلمون – الخطأ الذي وقعت فيه الأمم السابقة.

ولعل أقرب مثال لهذا التواتر التاريخي في الاعتقاد بنهاية الرسالات الإلهية هو موقف بني إسرائيل لأنه مثال كثرت مواثيقه، وتكرر أكثر من مرّة. فمن الأوهام الّتي تمسك بها أهل التفسير في الأمة الإسرائيلية أن دينهم هو آخر الأديان وأن أحكام التوراة نهائية وكاملة، ثم وفّقوا بين هذا التصور وبين ما لديهم من بشارات بمجيء السّيد المسيح بقولهم أنه عندما يأتي سيحكم بالتوراة. ويكون سلطاناً جالساً على عرش الملك، ومحرراً لهم يعيد مجدهم التليد، ولا يبدل من شريعة موسى شيئاً.

وأضحت هذه الصورة أحد التقاليد الراسخة حتى اليوم، ومازال قادة الفكر من بينهم يعيدون ذكرها بكل تأكيد وفي كل مناسبة كما يقول ناحوم جلاتزر: «سيأتي المسيح في الوقت المحدّد ليؤسّس مملكة داود في المكان ذاته الّذي كانت فيه، وداخل الحدود الّتي كانت لها، وسيبني المحراب ذاته، ويجمع المشتّتين من أبناء إسرائيل، وفي أيامه ستعود الأحكام إلى ما كانت عليه في زمان السّلف… إنّ التّوراة وشريعتها وأحكامها هي لكلّ زمان. ولا يوجد ما يمكن إضافته إليها، ولا فيها ما يمكن حذفه منها»(22).

وقد فند القرآن الكريم زعم تأبيد شريعة موسى عليه السلام وقول اليهود بانقطاع الرسالات الإلهية من بعد رسالته بقوله تعالى: ﴿قالت اليهود يد الله مغلولة غُلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء﴾(23).

وجاءت بعد ذلك شهادة الرسول الأمين على أن عيسى بن مريم هو المسيح الذي بعثه الله بالحق وبشر بمجيئه بني إسرائيل من قبل. فلم يعد هنالك شك في خطأ التفسير الذي قال به علماء اليهود في هذا الخصوص، ولا زال جارياً على ألسنة كهانهم إلى اليوم. ولم يكن قولهم بأبدية شريعة موسى عليه السلام خطأهم الوحيد فقد رسموا لمجيء السيد المسيح صورة أوحاها خيالهم وتعظيمهم لمجيئه، فلما أتى المسيح على خلاف هذه الصورة أنكروه وكذبوا به. وقامت تفاسيرهم وتصوراتهم حائلاً بينهم وبين الإيمان برسالة حقة.

وقد تجددت هذه الاعتراضات في زمن سيدنا محمد فأعرض عنه أهل الكتاب رغم أن الله قد بشرهم بمجيئه: ﴿وقالوا مال هذا الرّسول يأكل الطّعام ويمشي في الأسواق لـولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا﴾(24). فبين الله فساد هذا الوهم بقوله تعالى: ﴿ولو جعلـناه ملكاً لجعلناه رجلاً ولَلَبَسْنا عليهم ما يلبسون﴾(25) منوهاً إلى أنّ وصاف العظمة والجلال والسّلطنة والجمال المنسوبة إلي رسل الله هي صفات وآثار روحانيّة متجليّة على هياكلهم النوراء، ولكن يعجز النّاس عن إدراكها لكثافة الحجب الّتي خلقها خيالهم، وأبعدهم بها عن الواقع، فضلّوا عن المقصود.

وسلك المفسرون للقرآن المجيد على نمط مشابه للأمم التي سبقتهم سواء في تجاسرهم وتكالبهم على تأويل المتشابهات بحيث توهموا انقطاع الوحي الإلهي رغم الوعود الأكيدة بإرسال المبعوثين الإلهيين كلما استدعت ظروف واحتياجات الإنسانية الهداية والإصلاح، فذهبوا في تفسير مقام خاتم النبيين إلى إنكار بعث الرسل من بعد محمد، رغم صراحة النصوص المباركة على العكس، فأثار كل ذلك الشبهات حول نبوءة مجيء المهدي ونزول عيسى. وجدير بنا أن نلقي نظرة عاجلة على كل من هذه الشبهات بعد أن نستعرض بعض الأمثلة التي تبين تعسّف المفسرين.

أولاً: تعسف المفسرين

من المسلّم به أن فهم النّصوص المباركة لا يقتصر على ما تدلّ عليه ألفاظها أو يؤدي إليه سياقها، بل يجب أيضاً أن تأتي معانيها وفقاً لما يتّفق مع العقل. فلا يتصوّر من الله أن يطالب النّاس بأن يؤمنوا بما لا تقبله عقولهم وهو الذي أكثر من لوم الذين لا يعقلون ولا يفقهون. ولا مناص من التسليم بأن تفسيرالآيات الإلهية عمل بشري لا عاصم له من الخطأ، ويتوقف في جلائه ومدى قربه من الصواب على علم المتصدين للتفسير، وعلم هؤلاء يختلف باختلاف أشخاصهم واختلاف زمانهم، ويزداد ويرقى مع جهود العلماء ومثابرتهم على البحث والتنقيب على مدى الأيام. فلا وجه للإفاضة في خلع حلل التقديس على هذه الجهود البشرية، خاصة وأن لدينا اليوم الكثير من الأدلة القاطعة على خطئها.

ومن الأمثلة على هذا الخطأ ما زعمه قديماً غير قليل من المفسرين أن السموات السبع هي أجسام مصمتة صلبة طبقات فوق بعضها البعض، وزجاجية شفافة لا تمنع نفوذ ضوء الأجرام المعلقة بها لتزينها، وأن الشمس تدور حول الأرض الساكنة ومن حركتها تعاقب الليل والنهار. وكان ذلك تفسيراً لآيات القرآن التي ورد فيها ذكر هذه الظواهر، ومنها: ﴿أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج﴾(26) وقوله تعالى: ﴿والشمس تجري لمستقر لها﴾(27) وتمسكوا بهذه التفاسير مع أن نص هذه الآيات الكريمة وأمثالها يفيد أن الشمس تجري مع استقرارها فهي لا تدور حول الأرض بل تدور حول محورها.

والذي أوقع المفسرين في الخطأ أنهم أرادوا التوفيق بين ما جاء في القرآن وبين النظريات العلمية السائدة في زمانهم مما قال به بطليموس الروماني مثلاً عن دوران الشمس حول الأرض، فأوّلوا الآيات ليتفق معناها مع تلك النظريات، فقالوا أن «لمستقر لها» هي في الأصل لا مستقر لها. كما ذكر ابن كثي: «وقرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم والشمس تجري لا مستقر لها أي لا قرار لها ولا سكون، بل هي سائرة ليلاً ونهاراً لا تفتر ولا تقف»(28).

ومثال أخر للتعسف في التفسير نجده في تفسير سورة البينة في قوله تعالى: ﴿لم يكن الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتّى تأتيهم البيّنة * رسول من الله يتلوا صحفاً مطهّرةً * فيهـا كتب قيّمة﴾(29) حيث قال المفسّرون بأنّ الأحداث الّتي وعد القرآن الكريم بوقوعها في المستقبل قد وقعت في الماضي في محاولة منهم للتوفيق بين تفسيرهم لهذه الآية مع زعمهم بانتهاء الرسالات السماوية.

فقد ذهب أكثر المفسّرين في تفسير (حتّى تأتيهم البيّنة) إلى القول بأنّها إشارة إلى ظهور سيّدنا محمّد، فجعلوا معنى الآية أن أهل الكتاب والمشركين ما زالوا على ما هم عليه من ضلال حتى مجيء الإسلام الّذي يبدّل حالهم. ولا يستقيم هذا التّفسير مع قواعد اللّغة العربية، ولا مع المعنى المستخلص من سياق الكلام، فضلا عن مناقضته للواقع.

فقواعد اللّغة العربية واضحة في أن الفعل المضارع لا ينُصب بعد «حتى» إلاّ إذا دل على حدث مستقبل،(30) وقد جاء الفعل «تأتيهم» منصوباً بعد حتى، فيكون المعنى المراد في هذه الآية أن أهل الكتاب والمشركين باقون على ما هم عليه من اختلاف وتفرق إلى أن تأتيهم البيّنة مستقبلاً، وتواصل الآيات التالية شرح حال أهل الكتاب في وقت التنزيل فتبين أنهم ما تفرّقوا إلاّ بعد أن جاءتهم بيّنة القرآن، وأنهم منفكين على هذا الحال حتى تأتيهم البيّنة المقبلة: (رسول من الله يتلو صحفاً مطهّرة فيها كتب قيّمة). ولا يحتاج الإنسان إلى جهد كبير ليفهم الآية المباركة فقد رتّبها الله تعالى بحيث تصرح بالمعنى، فأشارت إلى أنّ بظهور هذه «البيّنة» تنتهي حالة الشحناء بين الطوائف المختلفة، وترتيباً على هذا نخرج بالنّتائج الآتية:

إنّ سيّدنا محمد لم يكن المقصود في الآية المباركة. ولا الكتاب الّذي نزل على سيدنا محمد. وأنّ الآية المباركة تشير إلى أكثر من كتاب واحد. ولقد لمس العلاّمة محمد فريد وجدي هذه الحقيقة في تفسيره لهذه الآية المباركة بقوله: «لا يزال الذّين كفروا بالإسلام من أهل الكتاب والمشركين مقيمين على ما هم عليه حتّى يأتيهم دليل على صدقه، وهذا الدّليل هو رسول من الله يقرأ عليهم صحفا مطهّرة فيها مكتوبات مستقيمة داعية إلى الصّراط السّوي».

والخلاصة كما يقول العلاّمة محمد فريد وجدي أنّ لفظة منفكّين معناها الدّوام والاستمرار فإنّ النّزاع والجدال لم يتوقّـف بنزول الرّسالة المحمّدية المباركة، وزواله منوط بظهور بيّنة أخرى في زمن غـير زمن الرّسول وأنّ هذه البيّنة المرتقبة هي رسول جديد يحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه.

وما هذه إلاّ أمثلة قليلة من جم كثير لا نرى موجباً للإفاضة فيه لبلوغ المقصد، وهو أن التفاسير التي كانت في الأزمنة الغابرة سائغة ومقبولة في حدود ما أوتي أهل تلك الأزمنة من معارف كانت في طور طفولتها، قد تبين وثبت خطؤها وانحرافها عن الحق بما أوتينا في هذا العصر من العلوم والأفكار التي تسمح لنا بفهمها على نحو آخر أقرب إلى المنطق السليم، فلم تعد النتائج التي يتوصل إليها الإنسان بسنوحاته وخياله كافية لإشباع فضوله العلمي، ولا يرضى عقله اليوم إلاّ باكتشاف الحقائق على أساس البراهين الواضحة والحجج القاطعة. فإذا كان ذلك حظ السلف في فهم الآيات الواضحة الدلالة فما بالك في فهمهم للآيات التي احتوت على أمثلة وكنايات وإشارات ومعاريض؟

ثانياً: افتراض نهاية الوحي

سبحان الله… ترسم سورة هود صورة كاملة عن قصص الأنبياء وما ورد عليهم. فسيّدنا نوح قام يدعو قومه: ﴿فقال الملأ الذّين كفروا من قومه ما نراك إلاّ بشراً مثلنا وما نراك اتّبعك إلاّ الذّين هم أراذلنا بادئ الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنّكم كاذبين﴾(31) وكذلك سلك قوم عاد مع هود، وقوم ثمود مع صالح، وقوم لوط مع إبراهيم، وأهل مدين مع شعيب، وآل فرعون مع موسى، واليهود مع عيسى، وأهل الكتاب وعبدة الأوثان مع محمّد. مسلك واحد وموقف يتكرّر كلّما جاء رسول يدعو النّاس إلى الحقّ والهدى: ﴿وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرّسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا﴾(32)، وجواب الحقّ سبحانه على هذه الجهالة المهلكة: ﴿أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون﴾(32).

وإيضاحاً لهذه الحقيقة التاريخية، يقول السيّد علي نخجواني في «مذكّراته»:

١.       أمرت التوراة اليهود بأن يحفظوا السبت: «ليصنعوا السّبت في أجيالهم عهداً أبدياً. هو بيني وبـين بني إسرائيل علامة إلى الأبد»(33) ويستدلّ اليهود بهذه الآيـة المباركة على أبديّة شريعة التّوراة بحيث لا يمكن لها أن تتغيّر أو تتعدّل، وظاهر النّص صريح يؤيد هذا التخريج. ولكن غفل مفسّروهم عن أنّ الأبدية المشار إليها في الآية محدودة بأجل أمّة بني إسرائيل لا بأجل الكون، وهو ما يستفاد من قوله: ليصنعوا السّبت في «أجيالهم» عهداً أبدياً. ومع ذلك نسخ سيّدنا عيسى وسيّدنا محمّد من بعده حكم السّبت، والناسخ والمنسوخ كلاهما من عند الله.

٢.       وذكر في الإنجيل في ثلاث مواضع من رؤيا يوحنا اللاهوتي بأن سيّدنا عيسى هو: «الألف والياء البداية والنهاية» وأنه أيضاً «الأوّل والآخر»،(34) وجاء تأكيد قاطع بأبدية شريعته في ثلاث مواضع أخرى: «السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول«(35). أي كلام المسيح. وفسّر القوم هذا الكلام وفقاً لظاهر ألفاظه بما يفيد أن سيّدنا عيسى هو آخر الرسل، ولن يبعث الله من بعده ديناً آخر. ومع ذلك ظهر سيّدنـا محمد وجاء بالقرآن الكريم، وكلاهما حقّ من عند الله.

فتمسك اليهود بأبديّة شريعة التّوراة وإنكارهم إمكان ظهور رُسُل من بعده بشرائع مغايرة، قد صرف نظرهم عن البشارات التي ذكرتها التّوراة، مثل ما جاء في قوله: «وهذه هي البركة التي بارك الله بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال جاء الرّبّ من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم»(36). وفي هذا إشارة إلى مجيء موسى «من سيناء»، وظهور عيسى «من سعير»، وبعثة محمّد «من فاران»، وارتفــاع نداء بهاء الله من مشارف «المسجد الأقصى» الذي بارك الله حوله.

وتشبّث المسيحيون أيضاً بأبدية كلام المسيح وغضّوا النظر عن قوله: «لكني أقول لكم الحقّ إنّه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي ولكن إن ذهبت أرسله إليكم»(37). وكذلك قوله في موضع آخر: «والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الّذي أرسلني. بهذا كلّمتكم وأنا عندكم. وأمّا المعزّي الرّوح القدس الّذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلّمكم كلّ شيء ويذكّركم بكلّ ما قلته لكم»(38). هذا بالإضافة إلى قوله: «ومتى جاء المعزّى الّذي سأرسله أنا إليكم من الأبّ روح الحقّ الّذي من عند الأبّ ينبثق فهو يشهد لي»(39). ويقرأ أهل الإنجيل هذه البشارات الكبرى فيؤولونها على أنها إشارة إلى حلول روح القدس على التلاميذ بعد صعود المسيح إلى الرفيق الأعلى.

لا نزاع في أنّ خطأ عظيماً قد وقع من كل الأمم – عفواً أو عمداً – في تفسير كلام الله وفهم مراده نتيجة للتركيز على ما جاء في آية أو آيتين وإغفال ما جاء في غيرهما، أو تأويل ما جاء في قسم من الآيات ليطابق ما استخلصه المفسرون من آيات أخرى يحبّذونها وتوافق ميولهم الفكرية. ولا نزاع أيضاً على أن الإصرار على هذا الخطأ لا يغيّر من الواقع شيئاً، ولا يبدّل سنّة الله وخطته، فرغم إصرار علماء اليهود على أبدية شريعة موسى نعلم على وجه اليقين أن عيسى بن مريم قد جاء من بعده بالحقّ وبدّل شريعته، وعلى الرّغم من تمسّك النّصارى إلى اليوم بأن عيسى هو الأوّل والآخر نعلم على وجه اليقين أن محمد قد جاء بالحقّ وأن القرآن كتاب سماوي حقّ أنزل من بعد التوراة والإنجيل ناسخاً لأحكامهما. فلم يمنع التفسير الخاطئ، ولا الإصرار على التفسير الخاطئ تجديد الدين وفقاً لمشيئة الله.

ولم ينجح المفسرون من الأمة الإسلامية في اتقاء مواضع الزلل التي وقعت فيها الأمم التي سبقتها. فظهر في تفسيرهم وتأويلهم ما يبعد معنى الكلام عن مراد الله، لكي يصل المفسر إلى مساندة رأيه أو يناصر مذهبه. الأمر الذي يقرّ به أكابر هذه الأمة: «فإنه لما حدثت بدعة الفرق، والتطاحن المذهبي، والتشاحن الطائفي، وأخذ أرباب المذاهب، وحاملوا رايات الفرق المختلفة، يتنافسون في العصبيات المذهبية والسياسية، وامتدت أيديهم إلى القرآن، فأخذوا يوجهون العقول في فهمه وجهات تتفق وما يريدون، وبذلك تعددت وجهات النظر في القرآن، واختلفت مسالك الناس في فهمه وتفسيره، وظهرت في أثناء ذلك ظاهرة خطيرة، هي تفسير القرآن بالروايات الغريبة … ومنهم من عني بتنزيل القرآن على مذهبه أو عقيدته الخاصة، وبذلك وجدت تحكمات الفقهاء والمتكلمين وغلاة المتصوفة وغيرهم ممن يروجون لمذاهبهم، ويستبيحون في سبيل تأييدها والدعاية لها أن يقتحموا حمى القرآن، فأصبحنا نرى من يؤول الآيات لتوافق مذهب فلان، ومن يخرجها عن بيانها الواضح، وعرضها المسوقة له، لكي لا تصلح لمذهب فلان، وبهذا أصبح القرآن تابعاً بعد أن كان متبوعاً، ومحكوماً عليه بعد أن كان حاكماً»(40).

ففي مواضع كثيرة من القرآن الكريم آيات يمكن أن يُستخلص منها معنيان متاضدان، وقد انقسم المسلمون في موقفهم من هذه الآيات إلى فرق. فذهب البعض إلى أن فهم هذه الآيات ليس من الواجبات لأنها من المتشابهات، وإنما الواجب هو الإيمان بها فقط، وإذا دخلنا في التفاصيل يكون من تأويلنا نحن البشر وليس من كلام الله. بينما قال فريق آخر: «إننا نستمسك بآيات التنزيه ونشرحها ونحللها، ونتعرّض للأيات الأخرى من مثل الاستواء، والوجه واليدين، ونتأولها تأويلاً يتفق والتنزيه… ولا نكتفي بالإيمان الغامض بالآيات المتشابهة، لأن العقل لا يقنع بالغموض»(41).

وكذلك الحال بالنسبة للآيات التي تخبر عن معجزات الأنبياء. فقد قال فريق بإمكان المعجزات «فالمعجزة أمر يظهر بخلاف العادة على أيدي الأنبياء إذا تحدّاهم قومهم… ولرسول الله معجزات منها انشقاق القمر له وتسبيح الحصا في يديه ونحو ذلك»،(42) وذهب فريق آخر إلى إنكار المعجزات لأنّها تناقض قوله تعالى: ﴿فلن تجد لسنّة الله تبديلاً ولن تجد لسنّة الله تحويلاً﴾(43). ورمى كل فريق الآخر بالكفر، ثم انتشر في الدولة العباسية تنكيل وتعذيب المخالفين في الرأي وقتلهم مما حدا بالبعض – ومنهم عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة – إلى القول بجواز وقبول الآراء المتعارضة: «كل ما جاء به القرآن حق، ويدل على الاختلاف. فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب، والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب، ومن قال بهذا فهو مصيب، ومن قال بهذا فهو مصيب، لأن الآية الواحدة ربما دلّت على وجهين مختلفين واحتملت معنيين متضادين»(44).

خلاصة القول أن تفسير القرآن فيما عدا الآيات التي اشتملت على الأحكام، أمر لا جزم فيه ومثار للجدل والاختلاف. وما انتهى إليه المسلمون من إجماع بشأن «خاتم النّبيّين» مبناه العاطفة، لا البحث الدقيق، ولا يختلف في جوهره عن إجماع اليهود بأبدية شريعة موسى وإجماع النصارى بأولية وآخرية عيسى. وقد سبق لكبار المعتزلة الإقرار بأن الإجماع ليس دليلاً على صحّة المُجمَع عليه(45) فالفيض الإلهي متّصل وإن كان على مراحل وعلى تدريج يناسب استعداد خلقه وطاقتهم ﴿وكل شيء عنده بمقدار﴾(46)، لذا قيل أنّ الحقيقة نسبيّة وليست مطلقة مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا﴾(47)، أمّا ما عند الله في خزائن علمه لا ينضب لها معين ولا تدخل في نطاق الحصر، وفيضه تعالى على خلقه يظهر مكنون الكتاب المحفوظ من الغيب إلى الشهود تحقيقاً للغاية من الخلق، فكيف يتصوّر أن يكون لكلماته نهاية؟ ألم يصرّح في كتابه العزيز: ﴿قل لو كان البحـر مدادا لكلمَات ربّي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربّـي ولو جئنا بمثله مددا﴾(48)، بل وأكثر من هذا إطلاقاً وتأكيداً قوله تعالى: ﴿ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله إنّ الله عزيز حكيم﴾(49).

وكلمات الله هي وحيه وخطابه للبشر، وكلّ كلمة منها وحي وكتاب لأجل مسمّى قال تعالى: ﴿إذ قالت المـلائكة يامريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم)،(50) فسيّدنا عيسى عليه السّلام، مع جلال رسالته وعظمة آثاره كان في نظر الحقّ جلّ وعلا كلمة واحدة من كلماته التي لا نفاذ لها، وقوله تعالى: ﴿فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أنّ الله يبشّرك بيحيي مصدّقاً بكلمة من الله﴾(51). وقد ذكر أبو عبيدة أن المراد بالكلمة هنا الكتاب أو الوحي. وكذلك كان آدم ونوح وإبراهيم وموسى ومحمّد وسائر الرسل أولي العزم، عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه كلّ منهم كلمة تامة مباركة أحيت من على الأرض ونشرت نفحات الله في أرجائها. أيمكن بعد كل هذا التصريح، أن نتصوّر انتهاء الرسالات السماوية والاعتقاد بأنّه لن يظهر من بعد سيدنا محمد رسول آخر؟ أيمكن بعد كلّ هذا البيان أن نتصوّر أنّ كلمات الله قد نفذت والعياذ بالله؟

من المؤكد أن من بين الشبهات التي أدت بالعلماء والمفسرين أن ينحوا إلى هذا الاتجاه السلبي في تفسير القرآن وجود عدد من الآيات التي استعصي عليهم فهمها فحملوها على ظاهر اللفظ، ولو كان ظاهر اللفظ كافياً لإظهار مراد الله لما كان هناك لزوم لذكر اختصاص الراسخين في العلم بمعنى المتشابهات. فاستنتج أكثرهم انتهاء كلمات الله وتوقف رسالاته على فهم محدود لوصف القرآن الكريم لسيدنا محمد في أحد مواضعه بأنه «خاتم النبيين». ولم يحاولوا تحليل هذا الوصف والمعاني المختلفة التي يحملها بين طياته.

ثالثاً: خاتم النبيين

ورد وصف سيدنا محمد بأنه خاتم النّبيين في موضع واحد من القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النّبيّين وكان الله بكل شيء عليماً﴾(52) وقد حمل المفسرون هذا الوصف على أنه يعني انتهاء الرّسالات السّماوية وأن محمد صلى الله عليه وسلم هو آخر رسول يبعثه الله إلى النّاس. مع أن القول بانتهاء الأديان، وتوقف فيض الرحمن، – كما رأينا – مخالف لسنّة الله منذ بدء الخليقة، ومخالف لما جاء في آيات أخرى من الكتاب. وهو على أي حال من أخطر الأمور على مستقبل البشر الذين وعدهم الله بهدايتهم، ومورث للحيرة والارتباك لمناقضته لغير قليل من أسماء الله التي وصف بها ذاته العلية.

لقد عهدنا تكرار النصح وإعادة التحذير وتأكيد التنبيه في الكتب السماوية كلما تعلق الحديث بأمر ذي أهمية تذكرة للناس. ولا يكاد المرء يتصور أمراً أخطر في نتائجه من توقف الهداية والرحمة الربانية ومع ذلك لم يرد ذكر «خاتم النبيين» إلاّ في موضع واحد في القرآن كله، ولم يرد مؤكداً بصورة قاطعة أو سياق الحديث عن رسالات الله، وإنما ورد ذكره مرة واحدة في معرض الثّناء على حضرة الرّسول وتمييزه على باقي رجال أمّته، وتركت الآية الكريمة المجال واسعاً لفهم كلمة خاتم – بفتح التاء – على أنها تعظيم لقدر الرسول بين الأنبياء، بمعنى أنّه ليس كأحد من رجال العرب فحسب بل هو أيضاً رسول من الله وزينة الأنبياء.

ولا يمكن فهم معنى «خاتم النبيين» والمراد من الآية على الوجه الصحيح بمعزل عن المناسبة التي نزلت فيها، وأخذ سياق الكلام في الاعتبار، ولعلّ هذا هو الخطأ الذي أشكل فهمها. وتتلخص الظروف التي أحاطت بنزول هذه الآية أنّ النبي – ولم تكن له ذريّـة من الذّكور على قيد الحياة – كان قد تبنّى قبل نبوّته زيد بن الحارثة، الذي كان من بين أوائل من دخلوا في الإسلام، وكان يدعى زيد بن محمد، واشتهر بحبّه لرسول الله، فساور البعض شكّ بأنّ زيد قد يرث النّبوّة من بعده على غرار ما جرى بين أنبياء بني إسرائيل وجاء ذكره في سورة الأنبياء، فإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيي وعيسى وإلياس كلهم أولاد سيدنا إبراهيم أب الأنبياء. ألا يمكن أن يكون مراد الله من هذه الآية إذن قطع دابر الشكّ ببيان منزلة محمد ونفي النبوة من بعده بدون المساس بدوام مجيء رسل الله؟ فنزل قوله تعالى: ﴿ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين﴾(53)، وقد ذكر القاموس الإسلامي في شرح خاتم الأنبياء: «يذهب بعض المفسّرين إلى أن المقصود من خاتم النبيين بتاء مكسورة أي أن الرسول لا يكون له ابن يصبح من بعده نبيّاً»(54).

وشعر المفسرون أن ذكر «خاتم النبيين» في هذا السياق لا يكفي في حدّ ذاته لاستنباط حكم عام يبدل سنّة الله في إرسال رسله ومبعوثيه لهداية الناس وحجة عليهم، على النحو الذي رأيناه سابقاً. فالزعم بتبديل هذه السّنة التي قال تعالى عنها: ﴿سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا﴾(55) يحتاج إلى دليل قاطع، فاستندوا إلى حجتين جديدتين أولاهما: أن الإسلام هو الدين الوحيد المقبول لدى الله، وثانيتهما: أن الرسل هم أيضاً أنبياء، فإذا فسرنا محمد خاتم النبيين على أنه آخرهم فذلك يعني أيضاً أنه آخر المرسلين. وسنناقش الحجة الأولى الخاصة بالإسلام في الفصل التالي، ونكتفي هنا بمناقشة الزعم بأن خاتم النبيين تعني أيضاً خاتم المرسلين رغم عدم ذكر ما يفيد ذلك في أي موضع من القرآن الكريم.

﴿﴾

فسيدنا محمّد، بنصّ القرآن الكريم، حائز لمقامين: ﴿رسول الله﴾ و﴿خاتم النبيّين﴾(56) ولو فرضنا جدلاً أن خاتم النبيين تعني آخرهم – رغم أن هذا الفرض لا يتفق مع سياق النص – فإنه بدون شك لا يفيد أنه خاتم المرسلين. ولكن ذهب كثير من النّاس إلى تـعميمه ليشمل الرّسالة أيضاً، والذين يقولون بهذا الرأي لم يفطنوا إلى الفصل الصريح في الآية المباركة بين منزلة النبي ومقام الرّسول، فالرّسول هو من يبعثه الله بشريعة والنبيّ من يسوس الناس وفقاً لشّريعة موجودة، وقد ذكر القرآن أن بعض الرسل كانوا أيضاً أنبياء كقوله: ﴿واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً وكان رسولاً نبياً﴾(57). ولو كان كل الرسل أنبياء لما خصّ القرآن بعضهم فقط بهذا الوصف.

ولم يترك سيّدنا محمّد أمّته في شكّ من أمر الفصل بين المقامين، بل فصّله تفصيلا بقوله: «كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلّما هلك نبيّ خلفه نبيّ، ولكن لا نبـيّ بعدي فسيكونون خلفاء فيكثرون»(58).

ومع ذلك يذهب البعض إلى أنّ النّبوّة أعمّ من الرّسالة، ثمّ ينتهون إلى القول بأنّ خاتم الأعمّ معناه خاتم الأخصّ. وكلّ ذلك تخريج وتعقيد، والأمر سهل: الرّسول يأتي بالكتاب والشّريعة، والنبيّ لا يأتي بكتاب ولا بشريعة، وإنما هو على شريعة الرّسول، بمعنى أنّه يدبر شؤون الأمة في ظلّ الشّريعة التي أتى بها الرّسول. وتدبير شؤون الأمّة قد يتحقّق بغير النبيّ، قد يتحقق بالأئمة أو بالخلفاء، كما ورد في الحديث الشريف، ولكن لا تأتي الرّسالة والشريعة إلاّ على يد رسول، فكيف يقال بأنّ النبيّ هو الرّسول، وأنّ ختم النّبوّة يعني ختم الرّسالة؟ لماذا يعقّد البشر الأمور على أنفسهم، ويريدون بها العسر والله تعالى يريد اليسر؟

ونحن بهذا التساؤل لا نهيب بالنّاس أن يحكِّمُوا عقولهم وحدها، فالعقل قد يخطئ، ولكنّنا نهيب بهم أن يرجعوا أيضاً إلى النصوص المباركة التي لا تخطئ. وقد اختصّ الله تعالى رسله بالكتاب والشّريعة، وقَصرَ وظيفة النبيّ على تدبير شؤون الأمّة وترويج الدّين من بعد الرّسول، واستبدل سبحانه وتعالى في دورة الإسلام – بمعناه الخاص – الأنبياء بالأئمّة والخلفاء، فما لنا بالأخصّ والأعمّ في هذه الحالة الواضحة الصريحة؟ المسألة في غاية البساطة. الرّسول والنبيّ هما بمثابة الأصل والفرع – الرّسول أصل والنبيّ فرع، فإذا قال تعالى بانتهاء الفرع فإنّ الأصل باق، أمّا إذا قال تعالى بانتهاء الأصل أي الرّسول، عندئذ فصل الخطاب – فلا رسول ولا نبيّ. والله تعالى لم يقل بختم الرّسالة، بل قال بختم النّبوّة، فلماذا يقول البشر ما لم يقل به الحقّ سبحانه وتعالى وهو أعلم بمراده؟

قال تعالى: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلاّ إذا تمنى﴾(59)، قال النسفي: «وهذا دليل واضح على ثبوت التغاير بين الرّسول والنّبيّ بخلاف ما يقوله البعض أنّهما واحد. وسئـل النّبيّ عن الأنبياء فقال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا فقيل كم الرّسل منهم فقال ثلاثمائة وثلاثة عشر جمّ غفير».

لا يمكن أمام هذه الحقائق أن يتردّد إنسان في فهم «خاتم النبيّين» على الوجه الصحيح، فحتى على فرض أن خاتم النّبيين تعني آخرهم فإنها لا تفيد ختم الرّسالات الإلهية على الإطلاق، ولا يمكن تصور الحياة بدون هذه الرحمة والهداية الإلهيتين. وتفريعا على هذا يكون القول بعدم ظهور رسول من بعد سيّدنا محمد انحراف عن صريح نص كتاب الله.

والأدهى من ذلك أن المفسرين غضّوا نظرهم عن الإشارات والبشارات العديدة المنبئة عن مجيء رسول من بعد محمد، وأهملوا الآيات المتكررة بتأكيد سنّة الله وتتابع رسله ودوام فيضه، ليبنوا رأيهم بانتهاء الأديان على لفظة منفردة وردت في موضع واحد في الكتاب ولا تفيد الانتهاء على وجه القطع واليقين. ثمّ دأبوا على تكرار ذلك في كل مناسبة لكي يغرسوا في أذهان الناس بالتكرار ما لم يرد به نص على محمل اليقين.

فقد رأينا سابقاً أنّ كلّ أمة اعتقدت بأنّ رسولها خاتم الرّسل، ودينها ختـام الأديان، وعلى الأخص أمّة اليهود التي أصرّت على هذا الزعم مرتين بقولها أن الله أمسك عن إرسال الرّسل بعد موسى وبه انقطع الرّزق الرّوحاني عن البشر، فردّ سبحانه وتعالى على هذا الإفتاءات بلومهم على إصرارهم على الباطل وتكذيبهم للسيّد المسيح ثم لمحمد: ﴿ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبيّنات فما زلتم في شكّ ممّا جاءكم به حتّى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يُضلُّ الله من هو مسرف مرتاب﴾(60)، وأعاد لومه في موضع آخر بعبارة أشدّ وأقسى في قوله تعالى: ﴿قالت اليهود يد الله مغلولة غُلـّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يـشاء﴾(61)، فالمراد هنا ليس بسط الرزق المادي الذي يفيض به الرزّاق على المؤمن وغير المؤمن ولكن المراد هو الرّزق الرّوحاني الذي يختص به الله من هو أهله.

ثم يبسط سبحانه وتعالى سنته التي لم تتبدّل ولن تتغيّر على طول الأزمان، ويضعها أمام الناس كقانون أساسي واضح كلّ الوضوح: ﴿ثمّ أرسلنا رسلنا تترا كلّ ما جاء أمّة رسولها كذّبوه فأتبعنا بعضـهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعداً لقوم لا يؤمنون﴾(62) وكذلك قوله تعالى: ﴿يا بني آدم إمّا يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾(63).

نخرج مما سبق أنّ فهم البشر لآيات الله ليس بمفازة عن الخطأ في بلوغ مراد الله خصوصا في تأويله للآيات التّي جعل الله بيانها وتأويلها من اختصاصه تعالى في يوم موعود. فالقرآن الكريم، وصف محمد بخاتم الأنبياء، ولم يذكر في أي موضع من كتابه العزيز انتهاء الدّين، ولا انقطاع الوحـي، ولا توقف الرسالات السماوية، بل أكّد تعاقبها واستمرار الهداية الإلهية: ولو أراد تعالى أن يكون القرآن الكريم ختام هدايته لما جاءت فيه آيات كثيرة أخرى محمّلة بالتأكيد على سنّته في إرسال الرسل، ولعن الأمم السابقة لقولهم بأبدية كتابهم وانتهاء كلماته تعالى التي لا تكفي بحور العالم وأشجاره لكتابتها.

ولا شيء يساعد الطالب الصّادق على الفهم الصّحيح، غير إغماض العين عن كل شيء سوى نور الله، وصمّ الأذن عن كلّ صوت سوى صوت الله، فهذا كلّه من مستلزمات التّحري عن الحقيقة، حتّى يرى كلّ إنسان بعينه، ويسمع بأذنه، ويفهــم بعقلــه، ولا يتّبع المغرضين. لأنّــه لا يوجد نبأ أعظم من نبأ ظهور الموعود، ولا نكبـة أشد من الإعراض عن هذا النّبأ العظيم. فتحرِّ الحق وصفاء الطويّة، وسلامة القلب، هي النـّور الذي يهدي إلى الحقّ، والدّهن الذي يغذّي مصباح التّقوى، كما قال تعالى: ﴿واتّقوا الله ويعلّمكم الله﴾(64).

والمتوجه إلى الله لا يعلّق إيمانه على رأي الغير، بل يفـكّر بعقله، وينظر بعينه ويسمع بأذنه لا بأذن الآخرين، ولا يترك للتّقاليد أن تقف حجر عثرة في سبيله إلى الله، فكم من التّقاليد والعادات القديمــة تركناهـا، وكم من نظريّة قديمة أخلت مكانها لأخرى جديدة. وإن لم يجتهد الإنسان ويفتح ذهنه للنداء الإلهي الجديد فإنّه يظل في ظلمات التقليد مردداً ما قاله الأولون: ﴿إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارِهِم مقتدون﴾(65).

أمّا السّبب الأساسيّ الذي حدا بالمفسّرين على استنباط معان لا تحتملها ألفاظ الآية المذكورة هو كما – ذكرنا سابقاً – افتراضهم أنّ ختم النّبوّة يعني ضرورة ختم الرّسالات الإلهيّة وانتهائها، وبذلك استبعدوا إمكان ظهور رسول آخر بعد سيّدنا محمد، ومن ثمّ فسّروا كل إشارة إلى رسالة إلهية في المستقبل على أنّها لا بد أن تعني رسالة سيدنا محمد. ولو أنّ الاجتهاد تجنّب الفروض المسبقة واعتنى ببيان الحقيقة المذكورة في الكتاب كما وردت فيه لتجنّبت تفاسيرهم المثالب واهتدى بها قوم كثير.

ولا أظهر اليوم من الحاجة إلى التّجديد والهداية والإصلاح في عالم مضطرب صرفته الماديات عن الروحانيات. وهكذا سدّ هذا التفسير أبواب الهداية في وجه المؤمنين وصرفهم عن اتباع من بعثهم الله بالحق، وأفسح الميدان لمدّعي الإصلاح الذين ركّزوا حركاتهم على هذه التفاسير المنحدرة في وهدة الظنون والأوهام، وتزعم أن الفيض الإلهامي، والوحيّ الإلهيّ قد انقطع إلى الأبد بعد النبيّ فلا يظهر بعده إلاّ المصلحين.

ولهذا يردد البعض أنشودة الإصلاح الّتي يطرب لها العامّة في حياتهم الّتي جفّت روحانيتها بانتشار المفاسد والشّرور. وطالما أنّ المنادين بالإصلاح يؤسّسون دعوتهم على المعتقدات والأفكار والتفاسير المألوفة عند النّاس فلا بدّ أن يجدوا الكفاية من المريدين، وطالما أنّ وحدة الأمّة مفتتة بالطّرق والشّيع والمذاهب المتعدّدة فلن تضيق رقعتها في وجه المزيد مهما استجدّ ويستجدّ؟ وكلّ مدع قام في الأمّة زعم أنّ غايته الإصلاح، فما هو الإصلاح؟ أهو مجرّد عنوان يخلب الألباب، أو أفكار عارضة توهم بتغيير سطحي يجلب الأتباع؟

إن الإصلاح الديني هو تخليص المعتقدات الدينية من شوائب الخرافات والأوهام التي تدخل عليها بمرور الوقت. والإصلاح هو إذكاء روح الدين التي يعتريها الفتور بمرور الزمن كما قال تعالى: ﴿ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون﴾(66)، والإصلاح هو تشريع الأحكام المناسبة لمعالجة ما يواجه حاجات البشر وفقاً لظروف الحياة ومقتضيات العصر. والإصلاح هو إخضاع النفس البشرية للمبادئ والمثل التي ترقى بالناسوت إلى علياء الملكوت.

والإصلاح بهذا المعنى هو جوهر الرّسالات الإلهيّة وعمل أوكله الله إلى رسله الذين يبدأ كل منهم حلقة جديدة من حلقات خطة إلهية متدرجة لسمو الإنسان إلى معارج الكمال الروحاني، والإصلاح هو النور الذي هدى الأنام منذ بدء الخلق ومازال يقود الإنسانية قدماً في الطريق الممتدّ بامتداد الدهر. ولم نر في التاريخ مصدراً للإصلاح غير هذا. فالإصلاح نسمة هابّة من رياض رحمة الله، رقيقة منعشة شافية محيية خلاّقة بقدر ما هي قويّة شديدة ثائرة، تحرّك عقول النّاس وقلوبهم كما تحرّك الرّيح البحار السّاكنة، وترفع الأفكار نحو آفاق الرّقي، وتدفع بالأيدي للعمل في مختلف الميادين.

ونعود إلى ما كنّا بصدده. بعد أن رأينا فيما تقدم مدى تمسك كل أمة بأن شريعتها هي آخر الشرائع وأكملها، رغم تناقض هذا الاعتقاد مع تبشير كتابها المقدس بمجيء مبعوث إلهي مقبل. وظهرهذا التناقض على وجه الخصوص بين اعتقاد المسلمين بنزول المسيح وبين تفسيرهم «خاتم النبيين» على أنه يعني انتهاء النبوة والرسالة بمحمد. ولرفع هذا التناقض ذهب البعض بأن مجيء المسيح لن يتوافق مع تنزيل شرع جديد، ولكن هذا التفسير لا يتفق ومفهوم ختم النبوة، كما أنه لا يتفق مع الإصلاح الجذري الذي سيقوم به المسيح لنشر العدل وإقرارالسلام وتجديد الشرع، كما جاء في العديد من الأحاديث الشريفة، وكلها تقتضي تشريعا جديدا، فيكون من الصواب أو الأكثر صوابا أن نفهم خاتم النبيين على نحو أكثر اتساقاً مع النصوص المباركة وعلى ضوء المبدأ الثابت بأن الدين عند الله واحد.

ولنتمعّن في قوله تعالى: ﴿شرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحا والّذي أوحينا إليك وما وصيّنا به إبراَهيم وموسى وعـيسى أن أقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه﴾(67) لنتبين أنّ القرآن الكريم صريح في أنّ الدين واحد، مع أن الأحكام متغيّرة وفقاً لمشيئة الله وحكمته وتبعاً لمقتضيات الزّمان، بل قد تفتضي الحكمة تغيير الأحكام حتى في زمن الرسول نفسه، كما حدث في تبديل القبلة، وكما اقتضى نسخ بعض الأحكام بعد تنزيلها. فيكون من الأحرى إذًا أن تتبدل أحكام الشرائع المتتالية رغم ثبات أصولها وثبوت وحدتها، بمعنى أن إسلام العبد وانقياده لإرادة الله – وهو أصل الدين – واحد في كل الأديان، أمّا الأحكام المتفرعة عن هذا الأصل والتي تحكم سلوك الناس فهي مختلفة من رسالة إلى أخرى. فدين الإسلام إلى الله الذي أمر به سيّدنا محمد المسلمين، هو نفس الإسلام إلى الله الذي أمر به سيّدنا نوح، وإبراهيم،وموسى، وعيسى عليهم صلوات الله أجمعين، مع اختلاف شريعة كل منهم عن سواها في تفاصيلها وشعائرها.

ووحدانية الدين نتيجة طبيعية لتسليمنا بوحدانية الله لأن الدين كلامه وإرادته تتصفان بصفته. ووحدانية الرسالات السماوية تستتبع اتحاد المظاهر الإلهية الذين يحملون هذه الرسالات. لقد قال السيد المسيح مبشراً حوارييه بمجيء محمد: «أنا أذهب ثم آتي إليكم»(68). كما قال لهم في موضع آخر مبشراً بمجيء سيدنا محمد: «إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي»(69) ثم أضاف إلى ذلك: «إنّ لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأمّا متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق»(70)، ومعنى هاتين العبارتين ومقصدهما عند أهل الحقيقة والعرفان واحد لأن اختلافهما الظاهر يرجع إلى المراتب المتعددة التي يعبر عنها المتحدثون باسم الهوية وتختلف هذه المراتب بين منزلة التجريد ومنزلة التعيين.

فمثل مرتبة التجريد ما عناه سيدنا محمدمن قوله: «أنا عيسى»، حيث ينعدم في هذا المقام أي فرق أو تفاوت بينهما، ولا يُرى في مهامهما تفاوت من حيث الجوهر، لأن كلاهما يعرب عن إرادة الله الواحد، وكلاهما يمجد ذكره وثناءه تعالى. فالحقيقة التي مادأبت ترددها آيات الكتب المقدسة وكلمات المبعوثين بها هي أن للمظاهر الإلهية الذين يبعثهم الله إلى بني الإنسان حالتان: حالة هم فيها في علياء التجريد، ومجتمعين في هيكل التفريد، وليس لهم في هذه المرتبة سوى وصف واحد واسم واحد، ولا تحركهم إلاّ مشئية واحدة، ويعكسون جميعاً أنوار الأحدية بحيث يصدق عليهم في هذا المقام وصف الله تعالى: ﴿لا نفرق بين أحد منهم﴾(71)، وهو ذات الحالة التي أعرب عنها الرسول الأمين بقوله: «أمّا النبيون فأنا» وهذا المقام مقدس عن الكثرة وعوارض التعدد ولهذا يقول تعالى: ﴿وما أمرنا إلاّ واحدة﴾(72). وغني عن البيان أن مظاهر الأمر الواحد شأنهم واحد وغايتهم واحدة.

وللمظاهر الإلهية أيضاً حالة هم فيها على مستوى العالم المشهود حيث ينزلون إلى الرتبة البشرية وهو مقام التفصيل لا التجريد، فيكون لكل منهم شأن خاص، وأمر مقرر، ووصف متميز، وأمر بديع وشرع جديد، وهو المقام الذي وصفه تعالى بقوله: ﴿تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البيّنات وأيدناه بروح القدس﴾(73).

ونظراً لاختلاف هذه المراتب والمقامات تظهر بيانات وكلمات المظاهر الإلهية مختلفة تبعاً للمنزلة التي يتحدثون منها، وإلاّ في الحقيقة تعتبر جميعها لدى العارفين بمعضلات المسائل الإلهية في حكم كلمة واحدة. ولكن لعدم معرفة أكثر الناس بهذه المقامات يختلط عليهم الأمر وتسري إلى قلوبهم الريبة من جراء اختلاف الكلمات الصادرة من تلك الهياكل المقدسة.

ولعل من أقوى الأدلة على أن وصف «خاتم النبيين» لا يتعارض مع مجيء المبعوثين من الله مستقبلاً كما جاءوا في الماضي. الوعود والبشارات التي أوردها القرآن ورددتها الأحاديث الشريفة عن مجيء المهدي وعيسى لإصلاح العالم بعد أن يستشري فيه الفساد والظلم والعدوان.

رابعاً: ظهور المهدي وعيسى

قال تعالى في سورة النساء: ﴿وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلاّ اتباع الظن وما قتلوه يقيناً * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً* وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً﴾(74) والواضح أن الحديث في هذه الآيات عن السيد المسيح.

ولكن اختلف المفسرون في معنى (قبل موته) فذهب الغالبة إلى أن الآية تبشر بيوم الجمع عندما يؤمن كلّ أهل الكتاب بسيدنا عيسى قبل موته – أي المسيح – في مجيئه الثاني، وذهب البعض إلى أن الآية تعني أن كل أهل الكتاب في لحظة موتهم يؤمنون بسيدنا عيسى. وينقل ابن كثير عن ابن جرير قوله: «وأولى هذه الأقوال بالصّحة القول الأول، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلاّ آمن به قبل موت عيسى عليه السلام».

ويعلق ابن كثير على ذلك بقوله: «لا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح، لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة التي سنوردها إن شاء الله قريباً فيقتل المسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حيئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم»(75). واستشهد ابن كثير بعد ذلك بعدد من الأحاديث النبوية الشريفة في عودة المسيح، نكتفي بذكر واحد منها: «قال البخاري رحمه الله في كتاب ذكر الأنبياء عن أبي هريرة قال، قال رسول الله:والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وحتى تكون السجدة خيراً له من الدنيا وما فيها». وحديث نبوي آخر ورد في الفتوحات المكيّة عن رسول الله أنّه قال: «فوالذي بعثني بالحقّ نبيّاً لو لم يبقى من الدّنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يخرج فيه ولدي المهدي ثمّ ينزل روح الله خلفه ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب».

ورغم ذلك تركت أقوال المشكّكين في ظهور المهدي أثرها في تفكير أهل السّنّة. فانقسموا إلى مذاهب أنكر بعضها الرّوايات الخاصة بظهور المهدي واعتبروها من الإسرائيليّات، بينما ذهب فريق آخر إلى أن هذه أوهام تنتشر عادة في البيئة التي يسود فيها الفساد والظلم والفاقة فيتشبث الناس بأمل الفرج على يد مبعوث إلهي، وبقي فريق ثالث على قديم اعتقاده بمجيء المهدي وإن لم نعد نسمع الكثير عن هذا المجيء. أمّا أهل الشّيعة، فقد بقي اعتقادهم راسخاً في أنّ قائم آل محمّد – أي المهدي – لابدّ أن يظهر، وأنّ عيسى لابد أن ينزل، إلاّ أنّهم يعتقدون بأنّ ظهورهما لا يعني نزول كتاب سماويّ جديد، لأنّهما سيحكمان بشريعة محمد، وتكون مهمّتهما أساساً تغليب الإسّلام على سائـر الأديان، وهذا هو الرأي السائد أيضاً بين من بقي من أهل السنّة على قديم اعتقاده بظهور المهدي ونزول عيسى.

خلاصة القول أن مجيء المهدي ونزول عيسى كانت قضيّة مسلّم بها إجماعاً في الماضي، ولا دليل اليوم يحملنا على الرّيب فيها. ولكن بقي أن نعرف هل هناك سرّ في حديث لا مهدي إلاّ عيسى فنحاول أن نستعين بالله في الكشف عنه؟ وهذا السّؤال يسوق إلى مزيد من الأسئلة: لماذا عيسى بالذّات هو الّذي ينزل في آخر الأيّام؟ ولماذا لا يكون محمد أو موسى أو إبراهيم، أو أيّ رسول آخر من رسل الله، عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه؟ هل يرجع ذكر نزول المسيح إلى خصائص ميّزت رسالته؟

نسوق هذه الأسئلة لأنّها تساعد الباحث على معرفة القيمة الحقيقيّة لقول من قالوا بأنّ المسحاء الذين يظهرون من بعد محمد هم الأولياء ورثة الأنبياء، على الرّغم من أننّا أمام نصوص واضحة صريحة في القرآن الكريم وفي الأحاديث الشّريفة بأن الموعود بالنّزولّ هو عيسى واحد فقط وليس مُسَحاء ولا أولياء. نعم إنّ العلماء ورثة الأنبياء ومع ذلك فمقام العلماء شيء، ومقام الأنبياء شيء آخر، مقام الأنبياء يظلّ مقام الفيض ومقام العلماء مقام الاستفاضة.

ورد في القرآن والإنجيل والتّوراة ذكر علامة تقدّمت ظهور سيّدنا المسيح منذ عشرين قرناً، ألا وهي ظهور يحيى بن زكريّا، معلناً أنّه مصدّق بكلمة منه، ومبشّر بظهور أعظم يوشك أن يكشف النّقاب عن جماله وجلاله. ونادى يحيى بين النّاس قائلا: «توبوا فقد اقترب ملكوت السّماوات»، وعنى بملكوت السّماوات ظهور الحقيقة الإلهيّة والهداية الربّانيّة الّتي تجلّت فعلاً من بعده بإشراق شمس جمال المسيح عليه السّلام، ثمّ قدّم يحيى رأسه في النّهاية فداء للظّهور الأكرم، وشهادة منه إلى النّاس.

تلك كانت علامة مجيء المسيح، إذا دقّقنا النظر فيها فلن نخفق في فهم المعنى المراد بنزول عيسى أو بعودة المسيح، لأنّ كليهما يعني شيئاً واحداً، وهو أنّه في آخر الأيّام يظهر مبعوث إلهي عظيم كريم كنيته «المسيح». فنزول المسيح لا يعني شخصه الأوّل لحماً ودماً، بل هو تعبير مجازي لمجيء رسالة تماثل في ظروف مجيئها رسالة عيسى بن مريم عليه السلام. وبعبارة أوضح، فإنّ ظهور الموعود يكون مسبوقاً بمبشّر يهيء لمجيئه، مثل يحيى الّذي تقدّم ظهور المسيح.

والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة: ﴿يوم ترجف الرّاجفة * تتبعها الرّادفة * فإنما هي زجرة واحدة﴾(76). ومعنى الزّجرة الواحدة هي أنّ الرّاجفة والرّادفة هما صيحة واحدة، لاتحادهما في المصدر والجوهر والغاية والزمن، ولهذا فقد أشار بهاء الله إلى الباب الذي بشّر به بقوله «إنّه مظهري الأوّل».

فما وظيفة هذين المظهرين المباركين؟ يعتقد المسلمون بأنّ ظهورهما يكون لتجديد الإسلام. ويعتقد المسيحيّون بأنّ عودة المسيح هي لنشر الإيمان بالمسيحية في العالم. وينتظر اليهود بدورهم المسيح لإعادة مجد داود وإعلاء شأن التّوراة. فكلّ هذه الملل تعتقد في أن مجيء المبعوث إلإلهي المشار إليه بالمسيح سيعيد شريعتهم إلى نقائها الأوّل، ويعيد إلى الأمّة مجدها الغابر، وتترقّب هذه الملل يوم ظهوره بابتهال وحنين، ولكن كيف سيتعرفون عليه؟ ويعلق على ذلك الكاتب الأمريكي وليم سيرز: «فمازال هناك ترقّباً شديداً لظهور المسيح في أماكن عديدة من العالم، ولكنّي أدركت بأن التعرّف عليه سيكون عسيراً جداً، مادام أنّه مُنتظر أن يكون أبيضاً في أوروبا، وأسوداً في إفريقيا، وأصفراً في الشرق الأقصى، وأسمراً في الجزر، وأحمراً عند هنود أمريكا. وتضاعفت صعوبة مهمتي عندما علمت أنّ من المتوقع أن يكون مسيحياً في الغرب، وهندوسياً في الهند، وبوذياً في الصين، ويهودياً في إسرائيل، ومسلماً بين العرب، وزردشتياً بين الفرس»(77).

هذه هي الصّور العالقة في أذهان أهل العالم في ترقبهم لظهور الموعود، وهي لا تنسجم مع منطق الآية المباركة: (فإنما هي زجرة واحدة)، فالجمع والتوحيد إنما هو جزء من الخطة الإلهية الشاملة، ولكن لم يكن في مقدور المفسّرين أن يتكهّنوا بهذه الخطّة قبل أن يكشف الله كنهها ويظهر تأويلها، كما لم يكن في مقدورهم تصوّر أشخاصها المباركة قبل ظهورهم من مكمن قدرة الله. فالرّاجفة والرّادفة هما كناية عن المظهرين المباركين «الباب» و«بهاء الله» المرموز لهما بالمهدي والمسيح، وهما المنفذّان لخطّة الله بحيث يتم بمجيئهما توحيد دين الله الّذي جرت سنّة الله على توسيع آفاقه بدقّة وانتظام في أزمنة متوالية.

وتحقّـق الوعد، وظهر من مكمن الغيب «الباب» وبهاء الله في اليوم الموعود وجاءا بتأويل الكتاب، ووهبا للعالم صحفاً مطهّرة فيها كتب قيّمة، فيها فصل الخطاب، وبها ينتهي النّزاع والجدال وتتجلّى الحقائق الّتي طمستها الأفهام المتغايرة، وبذلك رسما طريق الفلاح لتعيش الأمم والشعوب والقبائل والأجناس في ظلّ خيمة الاتحاد والوفاق والسّلام. والاعتراض اليوم على بهاء الله يعيد إلى الأذهان المأساة المتكرّرة عبر التّاريخ والتي ورد تفصيلها في سورة هود، وتكذيب الأمم لكل من بعثهم الله لهدايتهم.

نضيف إلى ما سبق حديثين شريفين لعلهما يساعدان على تكوين فكرة صحيحة عن طبيعة المهام العظيمة الّتي لا بدّ لهذين المظهرين المباركين الموعودين أن يضطلعا بها. الحديث الأوّل: روى الحاكم في المستدرك الأوّل عن أبي هريرة أنّ رسول الله قال: «إنّ روح الله عيسى نازل فيكم فيدقّ الصّليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو النّاس على الإسلام فيهلك في زمانه المسيح الدّجّال، وتقع الآمنة على أهل الأرض حتّى ترعى الأسود مع الإبل والنّمور مع البقر، والذّئاب مع الغنم، ويلعب الصّبيان مع الحيّات لا تضرّهم». والحديث الثّاني: روى البخاري بسنده عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذّي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصّليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتّى لا يقبله أحد وحتّى تكون السّجدة الواحدة خيرًا من الدّنيا وما فيها».

لا يمكن فهم هذين الحديثين إذا قصرنا معناهما على ظاهر الألفاظ، لأن رعي الأسود مع الإبل، والنّمور مع البقر، والذّئاب مع الغنم مستحيل في نظام الطّبيعة، فالإبل والبقر والغنم غذاء الأسود والنّمور والذّئاب، ولا يمكن الجمع بينهم في وئام إلاّ في فرضين، الأوّل: أن يتجرّد أحد الفريقين عن طبيعته وحينئذ لا يصدق عليه وصف الأسود والنّمور والذّئاب أو وصف الإبل والبقر والغنم وتصبح حيوانات أخرى، وليس هذا منطوق الحديثين ولا غايتهما. والفرض الثّاني: أن نحمل معنى الحديثين على المجاز فيكون مراده التوفيق بين الأمم المتناحرة، وتنسيق مصالحهم بحيث لا يكون بينهم فيما بعد آكل ومأكول أو طغاة ومستضعفون.

وفي التّوراة نص قريب الشّبه مما ورد في الحديثين الشّريفين، على الرغم من مرور ألفين من السّنين بين زمن التّوراة وزمن محمد، فقد ورد في أشعيا قوله: «ويخرج قضيب من جذع يـسّى وينبت غصن من أصوله ويحلّ عليه روح الرّبّ، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح المعرفة ومخافة الرّبّ. ولذّته تكون في مخافة الرّبّ فلا يقضى بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه. بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض ويضرب الأرض بقضيب فمه ويميت المنافق بنفخة شفتيه. ويكون البرّ منطقة متنيه والأمانة منطقة حقويه. فيسكن الذّئب مع الخروف ويربض النّمر مع الجدي والعجل والشّبل والمُسَمَّنُ معاً وصبى صغير يسوقها. والبقرة والدّبّة ترعيان. تربض أولادهما معا والأسد كالبقر يأكل تبنًا. ويلعب الرّضيع على سرب الصلّ ويمدّ الفطيم يده على جحر الأفعوان. لا يسوءون ولا يفسدون في كلّ جبل قدسي لأنّ الأرض تمتلئ من معرفة الرّبّ كما تغطّي المياه البحر»(78).

والخلاصة أنّه في اليوم الموعود المعروف باليوم الآخر يكسر الصّليب، وتطّهّر الأرض، وتبطل الحروب، ويستتبّ الأمن، وتبطل الجزية، وتتحقّق العدالة الاجتماعية، ويتأسّس السّلام العام. فالمراد من لفظة كسر الصّليب الواردة على سبيل المجاز هو القضاء على الظّلم والقسوة والتّعذيب، وحلول عهد جديد تزول فيه الهمجيّة والظّلم، وتحلّ العدالة ويقوى سلطان القانون وتسود حقوق الإنسان. وقس على هذا النمط الخنزير، فإنّه أطلق مجازاً على حياة القَذَارَة الّتي يؤدي إليها فقدان الأخلاق والحرمان من الهداية. وكذلك لفظة القردة، فإنّها ترمز إلى الإنسان الّذي يلغي عقله، ولا يحكم على الأشياء بنفسه، ويرضى بالتّقليد الأعمى.

وبالاختصار، كل ما جاء في الكتب المقدّسة، والأحاديث الشّريفة بهذا الشأن، يشير إلى تغيير جذري في حياة الإنسان ظاهراً وباطناً، فإزالة أسباب المفاسد والشّرور، وإصلاح المجتمع وإقامة العدل، واحترام حقوق الإنسان، واستتباب السّلام، هي نتائج الإصلاح الديني وثمراته، ولو كان مراد هذه الآيات والأحاديث معانيها الظاهرة لما احتاج الأمر لإرسال الرسل لكسر الصّليب وقتل الخنازير، فالبشر كفيل بذلك، ولا هي أعمال تليق بسمو مقامهم وجلال مهامهم. والمتدبّر في الحديثين المباركين يخرج بثلاث حقائق جوهريّة: الأولى:أنّ الباب وبهاء اللْه المشار إليهما بالمهدي والمسيح، يكسران الصّليب ويقتلان الخنزير. ومعنى هذا أنّ زمن القضاء المبرم على الظّلم والهمجيّة والانحطاط الخلقي موكول إلى المستقبل وموقوت بظهور المهدي وعيسى. والحقيقة الثّانية: أنّ الباب وبهاء الله سيأتيان بنظام يزيل أخطار الحرب، ويبطل الجزية، أي بشرع جديد. والحقيقة الثّالثة: أنّهما يوفّقان بين الأمم المتعادية، ويزيلان العداوة التّقليديّة من بين الملل، ويسكبان من روحهما الخلاّق ما يطفئ نيران التّعصّب بكافة أشكاله، فيعمّ التّعاون والتّآزر والسّلام.

ما أردنا بهذا البحث الموجز إلاّ لفت الأنظار إلى ما أحدثه تفسير المتشابهات من اضطراب في الفكر الدّيني بحيث مزّق الوحدة الفكريّة للأمّة، وأضعف الطّاقة الرّوحيّة والقدرة على التّمييز بيــن الغثّ والنّفيس، أو بين مراد الله وأوهام البشر وظنون المفسّرين. وكلّما حاول المصلحون إخراج الفكر الدّيني من جموده ازداد انقسامه بظهور المزيد من المذاهب والفرق على نقيض الكلمة الإلهيّة الجامعة لأشتات الملل والموحدة للأفكار المتفرّقة، وقدرتها على جمع الكل فكريّاً وروحانيّاً في أمّة وطيدة الأركان.

الفصل الثاني سُرُجٌ نورها واحد

تحتلّ قضية التوحيد مكاناً بارزاً بين الموضوعات التي يتباحث فيها أهل الأديان المختلفة، ولا خلاف بينهم بخصوص وحدانية الله، ولكن يدور النقاش حول مفهومها. فكل من اليهود والنصارى والمسلمين يؤكدون اعتقادهم بوحدانية الله مع بعض التفاوت فيما يعنون. وحتى الأمم القديمة – مثل البراهمة والصابئة والوثنيين – سلّمت هي الأخرى بوجود إله واحد. ولم تكن عبادتهم للأوثان لذاتها ولكن بوصفها وسائط للاستفاضة من الفيوضات الإلهية ووسيلة للتقرب والتوسل إلى فاطر البرية. وحقيقة الأوثان أنها صور ورسوم لأشخاص قاموا بخدمات جليلة لأقوامهم، وكانوا أداة لتقدمهم فوضعت تماثيلهم وصورهم في المعابد إجلالاً لخدماتهم، وتعظيماً لأشخاصهم، وإكراماً لذكراهم. وبمرور الزمن تحول الإجلال والإكرام بين العوام إلى تكبير وتقديس فنسبوا إليهم الكرامات وخوارق العادات، وتلمسوا منهم البركة وقضاء الحاجات، وتشفعوا وتقربوا بهم إلى الله. فتوجُّه الوثنيين إلى أوثان متعددة لا يناقض اعتقادهم بإله واحد، كما أن تقديس بني إسرائيل لأنبياء متعددة لم يزعزع إيمانهم بإله واحد، ولا نفت الأقانيم عند المسيحيين والأولياء عند المسلمين وحدانية الله.

ومن المتفق عليه بين أهل الأديان أن الذات الإلهية غيب لا تدركه العقول ولا يبلغ إلى حماه المنيع فكر البشر، وكل ما يتصوره الإنسان في هذا المجال هو من قبيل الوهم والخيال. ولا سبيل للإنسان أن يعرف عن الله لا صفاته ولا مراده إلاّ بواسطة من اصطفاهم الله لهذا الغرض واختارهم وسطاء يحدثون عن صفاته ويبلّغون مشيئته ويعددون أفضاله ويذكّرون خلقه بواجب ثنائه ولزوم التسليم لأوامره، وينبئونهم بما ستؤول إليه آخرتهم. فأهل الأديان والمؤمنين بهؤلاء الصفوة لا يعبدون هؤلاء المرسلين، واحترامهم وتقديسهم وتعظيمهم لهؤلاء الأنبياء والمرسلين موجه في الحقيقة لمن بعثهم فهم مظاهره وحملة نوره والحاكي عن صفاته والمعرب عن إرادته والمتحدث باسمه وقد فنت ذواتهم وانمحت إرادتهم بحيث لا يُرى فيهم سوى ما أفاض الله عليهم، فأصبح الإيمان بهم عين الإيمان بالله، وطاعتهم طاعة الله، والخشوع لهم خشوع لله، وحبّهم حب الله ومع ذلك فذواتهم غير ذات الله، والعبادة ليست لهم بل الله الذي لا يوصف بأوصاف البشر، وتعالى سبحانه عن مماثلة خلقه أو مشابهة الموجودات.

فالتوحيد بكل بساطة يعني أن يكون توجه المؤمنين – أياً كان دينهم – إلى الله، وأن تكون عبادتهم – مهما اختلفت مناسكها – الله من دون رسله وأنبيائه وأوليائه وقديسيه. وفي هذه القبلة عند أعتاب الذات الإلهية يلتقي جميع البشر بحبهم وابتهالهم ومناجاتهم وتتجلى وحدة مبدئهم ومقصدهم ومآبهم.

ومباحث الفصل الثاني تتناول مواضيع تدور حول وحدانية الله فتحاول أن توضح أن المظاهر الإلهية – التي اعتدنا أن نسميها رسل الله – أهل لكل إجلال واحترام وتعظيم وحبّ، ولكن بدون أن تصرف العباد عن ذات الحق الذي حدثوا عنه، وجاءوا بأمره ودعوا إلى طاعته والعبودية له، فهذا هو القصد الدائم من وراء كل مبعوثيه وكتبه وشرائعه. فإرادة الحق ذاته – أينما وكيفما تظهر – يجب أن تكون هي بؤرة الانتباه، والتسليم والانقياد لها ينبغي أن يكون منتهى أمنية المؤمن. لأن في ذلك وحده وسيلة البقاء في رحاب رضوانه تعالى.

فتتفرع المناقشة من هذا الأصل إلى ثلاثة مباحث:

أولا  وحدانية الله ووحدة مظاهره ورسله الأكرمين

ثانياً  شهادة كل رسول لمن سبقه وتبشيره بمن يتبعه

ثالثاً  حقيقة الإسلام الذي لا يقبل الله عنه بديلاً

1. التّوحيد في كتاب الله

أتينا فيما تقدّم على مقتطفات في بيان معنى التّوحيد. وأبرز الله تعالى في كتابه العزيز ركن التّوحيد في صورة واضحة خالية من كلّ شبهة أو تعقيد، ومنها يستشرق الطّالب الحقائق الثّلاثة الآتية:

الحقيقة الأولى  أنّ الله تعالى يتصف بالوحدانيّة، وأنّ رسله وأنبياءه يكتسبون هذه الصفة، لأنهم يعكسون على حيّز الوجود عين ما استفاضوا به من وحي الله. ويبنى على ذلك أيضاً أنّ الدين واحد لأنه نور واحد وكلمة صدق واحدة مصداقاً لقوله تعالى: ﴿قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم واسماعِيلَ واسْحَاقَ ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتى النّبيّون من ربّهم لا نفرّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون﴾(79).

الحقيقة الثّانية  أنّ الشّرائع الّتي نزلت من عند الله على رسل متعدّدين، ولأمم مختلفة، وفي ظروف ودورات مختلفة كانت، ولازالت واحدة في مصدرها وأهدافها، فهي تعبير للإرادة الإلهية، وغايتها تنظيم عالم متغيّر على وجه الدوام، ومواجهة متطلبات إنسانيّة متطوّرة.

الحقيقة الثّالثة  أنّ العمل الموكول إلى رسل الله في مختلف العصور، يصل بين هذه الرسالات السماوية لبناء صرح الإنسانيّة الممتد. فكلّ منهم يشهد للرسول السّابق عليه، وفي الوقت نفسه يبشّر بالرسول الذي يأتي بعده. وعلى هذا النحو تتجلى وحدانيّة الله وفردانيّته مع تعدّد مظاهر أمره ومطالع أسمائه، وتفاوت عصورهم، لأنّهم جميعاً مشارق شمس حقيقة واحدة مهما تعدّدت الآفاق الّتي تطلع منها أو كثرت المرايا الصافية التي تعكس نورها، فالنور الذي أشرق بالأمس على العالم بالهداية هو نفسه النور المشرق اليوم، وهو بذاته النور المشرق غداً.

فلكلّ رسول إلهيّ ثلاثة وظائف: ﴿يا أيها النّبيّ إنّا أرسلناكَ شاهدًا ومبشّرًا ونذيرًا﴾(80). وهذه الوظائف الثّلاثة تكوّن في مجموعها التّوحيد الّذي جاءت كلّ الرسالات الإلهية لبيانه للنّاس في صراحة وبساطة وقوة تمكّنهم – مع تفاوت الاستعدادات – من فهم مبدأ وحدانية الله تعالى، ووحدة رسله وأنبيائه، ووحدة دينه. ولو فهم الناس التوحيد حقّ فهمه لما تعدّدت الأديان ولما تفرّقت الأمم إلى فرق ومذاهب. وقد حدّث القرآن الكريم عن هذا البغي بقوله: ﴿كان النّاس أمّة واحدة فبعث الله النّبييـِّن مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتَاب بالحقّ ليحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيـه﴾ ثمّ تستمر الآية المباركة ﴿وما اختلف فيه إلاّ الذّين أوتوه من بعد أن جاءتهم البيِّنَات بغيا بينهم فهدى الله الذّين آمنوا لِمَا اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾(81).

والنّاس متّحدون ما دام الدّين يحكمهم، فإذا انحرفوا عن صراط الله المستقيم دبّ الخلاف بالضرورة بينهم، وانقسموا على أنفسهم فيغفلون في ضوضاء المجادلات والمنازعات والمهاترات عن جوهر الدين، ويقبلون على الأهواء ويتركون العروة الوثقى، فيبعث الله إليهم رسولاً جديداً رحمة منه تعالى ليزيل من بينهم الخلاف، ويحكم بالحقّ، ويهدي الله الّذين يؤمنون به – أيّ بالرّسول الجديد – إلى الصراط المستقيم.

وفي هذا المقام تنبّه الآية المباركة إلى وحدة الفيض الإلهي، فبينما يقول تعالى: (فبعث الله النبيِّين) بصيغة الجمع، يقول تعالى (وأنزل معهم الكتَاب) بصيغة المفرد. فالكتاب عند الله واحد غير متعدّد. فالقرآن والإنجيل والزّبور والتّوراة، وسائر الكتب الإلهيّة كلّها كتاب واحد، وتنزيل من مصدر واحد، والأسماء المتعدّدة، عبارة عن صحائفه المباركة الجامعة. كلّ صحيفة منها رسالة كاملة لدورة كاملة. فالناظر إلى الصحائف يراها متعدّدة، والنّاظر إلى الكتاب يراه واحداً. ولا يوجد كتاب بغير صحائف، كما لا توجد صحائف ذات معنى متّصل إلاّ وهي كتاب، وهذه إحدى آثار التّوحيد المتجلّية في الإيمان الجامع والإبداع الكامل.

ولكن الناس ينظرون دائماً من زاوية التعدد ويحتجبون عن التوحيد. ينظرون إلى دين الله الواحد من جهة تعدد الأسماء لا من جهة التوحيد، ولذلك يختلفون ويكذّب بعضهم بعضاً. ولو سألنا أهل الأديان المختلفة عن مبلغ إيمانهم بوحدانيّة الله، لأجاب الجميع وبكل تأكيد أنهم يؤمنون بإله واحد لا شريك له، ولكن تحتفظ كلّ أمّة بتصوّر معين لهذه الوحدانية، وتعتبر كلّ تصوّر مخالف لتصوّرهم باطلا وضلالة.

فتصور اليهود للتوحيد مثلاً هو الإيمان بإله واحد وبموسى عليه السلام الذي اختتمت به الرسالات، حيث أنهم يعتبرون شريعته–كما رأينا سابقاً – أبدية وأن المسيح الموعود به سيأتي ليحكم بها من جديد ويعيد مجدهم التليد. وتصوّر التوحيد عند المسيحيين هو الاعتقاد بوحدانية الله، الآب السماوي، ويسوع المسيح المخلّص الوحيد الذي بفدائه خلّص البشر من معصية آدم، وهو الأول والآخر الذي انقطعت من بعده نسائم الرحمة الإلهية. وتصوّر أهل الإسلام للتوحيد هو الإيمان بوحدانية الله، وبنزول الوحي على محمد رسوله وخاتم النبيين الذي بشريعته انتهت الأديان.

وهكذا التقت الأمم الثلاث عند الإيمان بوحدانية الله، واختلفوا بتمسك كل منهم برسولهم الخاص واعتبروه آخر مبعوث إلهي فينتهي هذا الاعتقاد بهم إلى تكذيب المبعوث الإلهي الذي يأتيهم من بعد والإعراض عن دعوته.

والخلاصة أن التوحيد المتجلّي في شهادة (لا إله إلا الله) يثبت ويتحقق عند ظهور كلّ رسول. فمن يؤمن به إنّه من أهل التّوحيد، ومن يحتجب عنه بإشارات الأسماء، فإنّه ليس من أهل التوحيد، إنّه ممن يعبد الله علــى حرف، فلما تغيّر الحرف نكص على عقبيه، ولن يضرّ نكوصه الله شيئا.

2. شاهد ومبشر ونذير

من بين سُنن الله التي أقام عليها عهده وميثاقه مع البشر أنّ كلّ رسول لاحق يأتي مصدّقاً بالسّابق عليه، ويشهد بصدق كتابه، ولم تختلف هذه السُّنّة الثّابتة بالنّسبة إلى رسالة محمدّ إذ يخاطبه تعالى بقوله: ﴿وأنزلنا إليك الكتَابَ بالحقّ مصدّقا لما بين يديه من الكتَاب﴾(82)، وكذلك كان سيدنا عيسى عليه السلام: ﴿وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدّقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين﴾(83)، والسّؤال الذي يثور في ذهن الباحث هو ما جدوى التّصديق بالرّسالة السّابقة في حين أن الرّسالة الجديدة تنسخ أحكامها؟

وإحدى الإجابات الممكنة على هذا السؤال أنّ صدق الرسالة يظلّ معتمداً على قول الرّسول وحده إلى أن يشهد له رسول لاحق، فتقطع شهادته بصدق الدعوة السابقة وبذلك يحكم بين الذين اختلفوا فيه، كما شهد عيسى بن مريم لسيدنا موسى، وكما شهد سيدنا محمد لكل من عيسى وموسى، ومع هذه الشهادة يعيد الرسول اللاحق تأكيد الحقائق والتّعاليم الّتي جاء بها المبعوث الإلهي السابق، ويوسع من دائرة المؤمنين به وعدّتهم. وإضافة إلى ذلك يزيد الرسول الجديد فهم المبادئ التي جاءت في الرسالة السابقة عمقاً، ويعيد جلاء معانيها بفضل التّعاليم والأحكام الجديدة التي يأتي بها مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ما نَنسَخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها﴾(84)، كما أن الرّسالة الجديدة تثبّت التّعاليم الإلهيّة الّتي هي في حقيقتها الأساس الّذي يقوم عليه نظام الحياة الإنسانيّة.

وهذا التّصديق والتذكير بالمبادئ هو إعداد لازم لتجديد وإحكام الإيمان بها، وإعمالها من جديد في إطار تشريع يضمن الحفاظ على روحها وتحقيق غاياتها بالكيفيّة المناسبة لتطور العصر، وفي أسلوب يتمشّى مع التقدم الّذي جدّ منذ مجيء الرّسالة السّابقة.

فسيّدنا موسى كان حقاً من عند الله ومع ذلك بقيت أكثر البشريّة بعيدة عن المبادئ والتّعاليم الّتي أتى بها حتى جاء سيّدنا عيسى الّذي شهد له وللتّوراة، فاتسعت رقعة المؤمنين بتعاليمه الإلهيّة. ثمّ أصبح النّاس أمام طائفتين – اليهود والنّصارى – كلّ منهما تجادل الأخرى وترميها بالبطلان: ﴿وقالت اليهود ليست النّصارى على شيء وقالت النّصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذّين لا يعلمون مثل قولهم﴾(85)، فكان مجيء سيّـدنا محمد مصدّقا بموسى وعيسى وشاهداً لهما وللتّوراة والإنجيل، فزادت دائرة المؤمنين بتعاليمه اتساعاً كبيراً، وازداد فهم التّعاليم التي جاءا بها من عند الله عمقاً، وإن لم يتم القضاء على الانقسام والخلاف السّائد بين اتباع الرسالات السّابقة، لعلل سنعود إليها فيما بعد. وقياساً على سوابق هذه السُنة الإلهيّة المنتظمة يكون منطقيّاً أن نتوقّع مجيء شاهد من عند الله ليشهد لمحمّد وللقرآن الكريم بمثل ما شهد به محمّد للسّابقين.

هذا عن مهمّة الرّسل الأولى وهي التّصديق والشّهادة لمن سبقهم، وكذلك الأمر بالنّسبة لمهمّتهم الثّانية وهي التّبشير بمن يليه وإنذار مكذّبيه. فجميع أنبياء الله ورسله كانوا مبشّرين ومنذرين. كما في قوله تعالى: ﴿وما نرسل المرسلين إلاّ مبشّرين ومنذرين﴾(86).

ويتبين من هذا أنّ الشّهادة والتّبشير والإنذار هي وظائف كلّ رسول بلا استثناء، ويتعين على كلّ من ابتغى الإيمان الكامل أن يحاول فهم هذه الوظائف على الوجه الصّحيح، والتأمّل في حكمة كونها وظائف أساسيّة للأنبياء والمرسلين. فلا يُعقل أن يكون المقصود بالتّبشير والإنذار مجرد تذكير الأنام بالجنّة والنار وأحداث الآخرة. إنّ عبارة القرآن صريحة على أن للتّبشير معنى أبعد من هذا المعنى الضيّق فقوله تعالى: ﴿ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد﴾(87) يوضح المراد بالتبشير، ونجد التّوراة والإنجيل والقرآن متفقة على مجيء رسل الله في تعاقب مستمرّ. فسيّدنا إبراهيم عليه السلام بشّره الله بإسماعيل وإسحاق وأنّه سيباركهما ويخرج من كلّ منهما أمّة عظيمة.

ثم جاء سيّدنا موسى ليبشر بظهور ثلاثة مظاهر إلهيّة مباركة من بعده «جاء الرّبّ من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم»(88). وقام سيّدنا عيسى ليبشر بظهور رسول كريم من بعده اسمه أحمد بجانب اثنين آخرين في آخر الزمان. وبعث سيدنا محمّد ليبشر بدوره في القرآن الكريم والأحاديث الشّريفة – بظهور مظهرين إلهيّين عظيمين يملآن العالم من بعده نوراً وعدلاً. والسّبيل إلى فهم المقصود بلفظ التبشير في هذا المجال هو الرّجوع إلى المواضع التي ذُكر فيها خاصة من كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه – فمثلاً قال تعالى: ﴿هنالك دعا زكريّا ربّه قال ربّ هب لي من لدنك ذريّـة طيّبة إنّك سميع الدّعاء فنادته الملائِكة وهو قائم يصلّي فـي المحراب إنّ الله يبشرك بيحيى مصدّقا بكلمة من الله وسيّداً وحصوراً ونبيّاً من الصاِلحِـين﴾(89)، كما قال تعالى: ﴿إذ قالت الملائـِكة يا مَريم إنّ الله يبشّرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدّنيا والآخرة ومن المقربين﴾(90).

ونقرأ البشارات نفسها في التّوراة والإنجيل، فلماذا كانت مجرّد ولادة يحيى وعيـسى بشارة من الله للنّاس؟ أليس لأنّ يحيى قدّر له أن يكون نبيّا وعيسى أن يكون كلمة الله؟ ولننظر إلى سيّدنا يعقوب، فقد كـان له اثنا عشر ولداً، ولم يكن من بين هؤلاء الإثنى عشر بشارة غير سيّدنا يوسف وحده، لأنّه كان المقدر أن يكون نبيّا. إذا انتبهنا إلى ذلك أدركنا أنّ المراد بالبشارة في هذه المواضع هو التنبؤ بظهور رسول أو نبيّ جديد.

فكون سيّدنا محمد «مبشراً» يكون معناه أنّ من وظائفه المباركة التّبشير بمن يظهر من بعده الذي وُصف في عدد من الأحاديث الشريفة بأنه المهدي أو عيسى روح الله. وكما جعل الله تعالى ظهور الرّسل والأنبياء بشارة بفضله على خلقه كذلك جعل الإعراض عنهم، والاعتراض عليهم، موضوعاً للإنذار، والتحذير الشّديد تجنباً للدّمار والبوار الّذي يصيب المعرضين.

والرّسول الجديد يأتي ضرورة برسالة جديدة، والرّسالة الجديدة لابد أن تهب الناس شريعة جديدة، وأحكاما جديدة، وهو بذلك يعيد تنظيم وتدبير شئون العباد بما يتفق مع ضرورات التغيير الذي طرأ منذ الرسالة السابقة. فالصلاة والصوم والحج وغيرها مـن المناسك، وكذلك القوانين المنظّمة للمجتمع موجودة فـي جميع الرسالات، ولكنّها تختلف في الشّكل والرّسم مصداقاً لقوله تعالى: ﴿يـا أيّها الذّين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب عـلى الذّين من قبلكم لعلّكم تـتّقون﴾(91). فالصوم فريضة في كل الشرائع ولكن صورته تختلف من شريعة إلى أخرى. فالصوم عند المسلمين غيره عند النّصارى، وما عند النّصارى يختلف عمّا عند اليهود، ولكن الغاية هي هي، والمعنى واحد، وإنما الشّكل والرّسم هو الذي يتغيّر باختلاف الظّروف والأحوال.

ولما كان الرّاسخ في الأذهان عن الدّين هو مجموع المناسك والشعائر دون انتباه إلى الجوهر، فإنّ النّاس يميلون أكثر للبقاء على ما هم عليه، ومن ثمّ يندفعون كلّما جاءهم رسول جديد بأمر جديد إلى تكذيبه بدون رويّة أو تعقّل وتفكير. فكل ما يرونه أنّ الرّسول الجديد يدعوهم إلى شريعة جديدة تخالف ما عندهم، ولو تفكروا وأمعنوا النّظر قليلاً لوجدوا أن حقيقة الأمر الجديد غاية ما كانت تصبو إليه شريعتهم.

فعدم الانتباه إلى وحدة الدين من حيث النظر إلي حقيقته وجوهره جعل النّاس يتوقّفون عند حدّ الاسم والرّسم، ويحرمون أنفسهم من الفوز بنصيب من المواهب الجديدة. مع أن الاختلافات الظّاهريّة بين الشّرائع والأديان هي تعديلات متتابعة لدين إلهيّ واحد، لتجعلها موافقةً لمقتضيات الزّمان، كما قال تعالى: ﴿ما ننسخ من آية أو نُنسها نأت بخير منها أو مثلها﴾(92).

ونتيجة لهذه الغفلة، وكأثر مباشر للانحراف عن حقيقة الدّين وجوهره، إذا سألت اليهودي مثلا عن سيّدنا المسيح فإنّه يجيبك على الفور بأنّه لا يؤمن به، ولماذا؟ لأنه نقض حكم السبت وخالف شريعة التّوراة … إنه جاء بشرع جديد. وإذا سألت مسيحيّا عن سيدنا محمّد قال: كيف تريدني أن أؤمن به وهو لم يحكم بشريعة الإنجيل … إنّه غيّر أحكام الله التي علمنا يسوع المسيح. وقس على ذلك سائر الملل.

ومن أجل هذه الغفلة جرت الإنذارات والتحذيرات على ألسنـة رسل الله وأنبيائه جميعا بدون استثناء. لأنّه لو لم يكن من مستلزمات الهداية الإلهيّة إحداث تغيير وتعديل في الشرائع الإلهيّـة وفقاً لاختلاف الأزمنة، لما كان هناك مبرّر للإنذار والتّحذير. والنّاس لا يعترضون على الرّسول الجديد لأنّه جاء يدعوهم إلى مكارم الأخلاق، وإلى العدالة الاجتماعية أو غيرهما من المناقب الإنسانية العالية، ولا لأنه جاء يدعـوهم إلى الله ولو اقتصر نداؤه على ذلك لما وجدوا صعوبة في تصديقه، وإنما أساس اعتراض الناس عليه أنه جاءهم بشريعة جديدة فيها فرائض وعبادات وأحكام ونظم تغاير ما لديهم منها. والمفكر المنصف يعترف بأنّ الرسول الجديد لو أتى بالشرع القديم، وبدون أحكام ومبادئ جديدة، لما كان هناك مبرّر لمجيئه.

فالرّحمة الإلهيّة تتجلّى في رسالاته، ورسالاته تحمل شرائعه، والرّحمة الإلهيّة وسعت كلّ شئ، والفيض الإلهيّ دائم لا ينقطع، وهذه سنّة الله. أمّا سنّة البشر، فهي الإعراض عن الرّحمة، والاعتراض على مهابط الوحيّ والإلهام ومشارق الفضل والإحسان، والإصرار على اتّباع الأوهام، ثم يكذبون. وإلى هذا يشير الله تعالى بقوله: ﴿ثمّ أرسلنا رسلنا تترا كلّ ما جاء أمّة رسولها كذّبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهُم أحاديث فبعداً لقوم لا يؤمنون﴾(93).

3. معنى الإسلام

تقدّم القول أنّ تعدّد رسل الله واختلاف الأحكام التي جاءوا بها لا ينافي وحدة الدّين بمعنى الرابطة الوثيقة بين الخالق والمخلوق. وكل كلمة من الله هي نور بدون اعتبار لزمانها ومكانها أو الأفق الذي أشرقت منه: فالزبور والتوراة والإنجيل والقرآن كلها كلماته ونوره ورباطه الوثيق وعهده المصون، كما قال تعالى: ﴿من أهل الكتاب أمّة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون﴾(94). فلا شك أن الآيات التي يتلوها أهل الكتاب هي آيات الإنجيل والتوراة، وليست آيات القرآن الكريم.

وفي قوله تعالى: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها﴾ بيان واضح يؤكد الوحدة التي تربط جميع آياته – بدون تخصيص أو تحديد – والعروة الوثيقة التي توحد الرسالات الإلهية المتعاقبة. والمستفاد من لفظ «ننسخ» أن بين آيات الله وحدة لا تنفصم بطول الزمن بين رسالة وأخرى، فالآية اللاحقة إن تعارض حكمها أو مفهومها مع آيات سابقة حلّت محلّها واعتبرت تعديلاً لها، لأنه لا يتصور وجود تناقض في كلام الله وتفاوت في الأحكام التي يطلب من عباده اتباعها في زمن معين. والآية المذكورة تجزم بأن الآية الناسخة إمّا تماثل المنسوخة أو هي خير منها.

ولا يفهم من لفظ «خير منها» في هذا الموضع معنى المفاضلة بين الآيات سواء من حيث صوابها أو دقة إحكامها، فذلك مناف للكمال الإلهي ودوامه على حال واحد لا أحسن فيها ولا أسوأ. فليست المفاضلة هي المراد من قوله: ﴿خير منها﴾ وإنما المقصود أن الله يبدّل آياته وأحكامه بما يناسب مدارك الإنسان المتنامية، وظروف نشأته المتغيّرة. وواقع الحال أنه ليس تغييراً وتبديلاً لتصحيح أو تحسين الكلام، ولكنه استبدال اقتضاه التّدرّج في تربية الإنسان وتهذيب فكره وتنظيم حياته، فآيات الله نظم مكنون في كتاب محفوظ يكشف عنه رسله تعالى بقدر طاقة أهل الإمكان ووفقاً لمدى تقدمهم وقابليّاتهم. وليس من شأن العبد أن يقارن أو يفاضل بين أجزاء هذا النظم، وإنما واجبه التسليم والإيمان بما فيه ﴿كلٌ من عند ربنا﴾(95).

من هنا نرى أنّ الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة والبوذيّة والزردشتيّة وسائر الدّيانات السّماويّة كلّها من حيث أصولها وغاياتها فيض إلهي واحد، وهي تختلف بطبيعة الحال من حيث زمانها وأسلوبها وتعاليمها ولكنها متحدة في سعيها لعلاج ما اختلّ من شئون المجتمع البشريّ بما يتفق مع درجة بلوغه ورشده، وإعداده لمتابعة السير في مراحل التّطوّر الرّوحاني غير المتناهية.

وفي هذا السياق العام يمكن فهم قوله تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا﴾(96)، فهذا الخطاب الرّحماني موجّه بنوع الخصوص إلى أمّة سيدنا محمد ويحتمل أن تكون الإشارة فيه إلى رسالته. ولكن كلمة «الإسلام» في قوله تعالى ﴿ورضيت لكم الإسلام ديناً﴾ تفيد أكثر من معنى. فلكلمة الإسلام لغة معان عدة. ومن معانيها الخضوع والانقياد لكلّ ما يأتى من عند الله، وإسلام الوجه إلى الله، وتفويض الأمر إليه. كما أن من معانيها أيضاً اتباع شريعة محمد رسول الله.

وهذا المعنى الأخير الخاص للفظة «الإسلام» هو الذي اعتبره أكثر المفسّرين، فقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير لهذه الآية «هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره»(97). ويعود ابن كثير فيقول في الصفحة نفسها تفسيراً لهذه الآية: «لما نزلت (اليوم أكملت لكم دينكم) وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر، فقال له النبي: ما يبكيك؟ فقال أبكاني أنّا كنّا في زيادة من ديننا، فأمّا إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلاّ نقص، فقال: اصدقت»، ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء»(98).

ولا تثريب على عامة المفسرين إذا عظموا دينهم ورفعوا قدره ومدحوه مع ملاحظة عدم الإسراف في ذلك، وإلاّ وقعوا في الخطأ الذي وقعت فيه الأمم السابقة فضيّقوا المعاني المبسوطة، وخصّصوا فيها بدون دليل، وأوجدوا التعصب الأعمى وأضلوا الكثير من الناس. وقد رأينا – فيما سبق – أن اليهود اعتبروا كتابهم كاملاً حاوياً كل شيء، وما زالوا يرددون أن شرعته شريعة أبدية لا تتغيّر وليسوا في حاجة إلى غيرها. وقد كان هذا الفهم صحيحاً في زمان شريعة موسى كما صدّق بذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء وهدى ورحمة لعلّهم بلقاء ربهم يؤمنون﴾(99). فكتاب موسى عليه السلام كتاب تام، وفيه تفصيل كلّ شيء، ولكن إطلاق هذا الوصف على نحو يسد باب الهدى من بعده، وينهي رسالات الله، ويزعم أن ﴿يد الله مغلولة﴾(100) تضييق للمعنى وخطأ أدّى بهم إلى تكذيب رسل الله الذين بعثهم الله بالحق من بعد موسى.

فتخصيص معنى «الإسلام» على وجه الإطلاق لا يتفق وسياق الكلام، وينحرف عن المراد. وحصر معنى «الإسلام» في قوله: ﴿ورضيت لكم الإسلام ديناً﴾ في الإشارة إلى شريعة محمد لا مبرر له ولا دليل عليه، فالآية تحتمل أيضاً المعنى العام للفظة «الإسلام» أي تسليم الوجه إلى الله والإذعان لأوامره تعالى وهذا هو جوهر الدين وحقيقته. وبهذا المعنى وصف الله الأمم السابقة بالإسلام كما قال في معرض الحديث عن سيدنا إبراهيم: ﴿إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين﴾(101)، أو دعاء إبراهيم وإسماعيل ﴿ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريّتنا أمة مسلمة لك﴾(102)، وكذلك وصيّته لبنيه: ﴿يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون﴾(103)، كما كان حواريوا عيسى أيضاً مسلمين: ﴿فلمّا أحسّ عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريّون نحن أنصار الله آمنّا بالله واشهد بأنّا مسلمون﴾(104).

فواضح من الآيات السابقة أن الإسلام بمعناه العام هو طاعة الله وإسلام الوجه إليه تعالى وهو أساس العبودية الله ولا يتصور إيمان المرء بدين سماوي إلاّ إذا كان مقروناً بتسليمه لأمر الله ظاهراً وباطناً. وبهذا المعنى جاءت الآية المباركة: ﴿إنّ الدّين عند الله الإسلام﴾(105). ومن الواضح أن صرف دلالة كلمة الإسلام – معرفة بالألف واللام – في هذه الآية إلى رسالة محمد وحدها ينفي وصف الدين عن رسالة كل من موسى وعيسى، وهو ما يناقض آيات القرآن الصريحة بأن ما جاء به موسى وعيسى كان حقاً من عند الله. والمعلوم لغة أن كلمة «الدين» – معرفة بالألف واللاّم – وبدون تخصيص تعنى أولاً: الرابطة بين العباد وخالقهم ولا تقتصر على رسالة معيّنة بل تشملها جميعاً.

كما تعني ثانياً: أن هذه الرابطة واحدة على ممرّ الزمن، وأن تتابع الشرائع المعدّلة لأحكام هذا الدين الواحد هي سرّ دوام حيوية هذه الرابطة وصلاحها مع تغير الظروف والأحوال.

والآية الواردة بعد (إن الدين عند الله الإسلام) تبين بوضوح المعنى المراد إذ جاء القول فيها موجها إلى محمد: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله). وبهذا أوضح الله تعالى أهمية إسلام العباد لتعاليمه وأحكامه بحيث صار الإسلام وصفاً شاملاً وشرطاً لكلّ الرسالات الإلهية، فـسيّدنا نوح جاء بدين وصفه الله تعالى بأنّه الإسلام: ﴿وأمرت أن أكون من المسلمين﴾(106). وسيّدنا يعقوب عليه السّلام جاء أيضاً بالإسلام: ﴿أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مـسلمون﴾(107)، وكذلك سيّدنا موسى عليه السّلام: ﴿وما تنقم منّا إلاّ أن آمنا بآيات ربّنا لـما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفّنا مسلمين﴾(108)، وسيّدنا عيـسى عليـه السّلام جاء بالإسلام: ﴿وإذ أوحيت إلى الحواريـِّين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون﴾(109).

وخلاصة ما تقدّم أنّ «للإسلام» أكثر من معنى فهو في موضع يعني استجابة العباد إلى أوامر الله وانقيادهم لمشيئته، وفي موضع آخر اسم رسالة من الرسالات السماوية.

أمّا قوله تعالى: ﴿ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه﴾(110) فيمكن حمل كلمة «الإسلام» في هذه الآية على معناها العام بناء على سياق الحديث في الآية السابقة (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون). فالإسلام بمعناه العام – كما رأينا – شرط لازم ومشترك لكل الشرائع، ويعنى رفض الله أدنى تحفظ أو تردد من عباده إزاء قبول شرائعه وأوامره قبولاً غير مجزأ وغير مشروط، ولا يقبل منهم إلاّ تسليمهم التام لكل ما جاء فيها.

وبعبارة أخرى، إن الرسالات الإلهية المتتابعة لا تبغي اقتسام العباد، ولا تريد التفرقة، ولا تمس بوحدة الدين، وإنما هي – كبنيان مرصوص – تكمّل كلّ منها الرسالة السابقة عليها، فتبدل بعضاً من أحكام الشريعة السابقة بأحكام تحقق الغايات نفسها، كما بدلت شريعة موسى شرع إبراهيم، وكما نسخت شريعة المسيح شرع موسى، وكما نسخت شريعة محمد شرع المسيح وهلمّ جرّا، وهكذا تتصل كل رسالة بالأخرى وتكوّن حبلاً واحداً أمر الله الناس أن يعتصموا به، وذلك هو عهد الله مع عباده.

والمتدبر في كتاب الله يتبين أن لله مع البشر عهدين: عهد عام مع الناس جميعاً أن يؤمنوا برسالاته ويتبعوا أوامره ويسلموا له بحكم الفطرة التي فطر الناس عليها ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوّ مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم﴾(111). وعهد خاص يوثقه الله مع المؤمنين في كل رسالة من رسالاته وهذا مفهوم من لومه تعالى لبني إسرائيل لحنثهم بعهده الذي أوثقه موسى: ﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون﴾(112). وجاء في تفسير الشيخ محمد عبده: «عهد الله تعالى إليهم يُعرف من الكتاب الذي نزّله إليهم، فقد عهد إليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأن يؤمنوا برسله متى قامت الأدلة على صدقهم، وأن يخضعوا لأحكامه وشرائعه»(113). ولا يجوز القول: بأن الخطاب موجه إلى بني إسرائيل ولا يصدق على غيرهم، لأن العدل الإلهي لا يخص قوماً بما يأباه على غيرهم فرحمته تعم العالمين ونوره يهدي كل البشر، ولومه بني إسرائيل يصدق أيضاً على كل أمّة تعرض عن رسالاته وتتخذ منها موقفاً مماثلاً لموقف بني إسرائيل. ومضمون العهد الإلهي المشار إليه في الآية المذكورة صريح في قوله تعالى موجهاً إلى بني الإنسان عامة: ﴿يا بني آدم إمّا يأتينكم رسل منكم يقصّون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾(114).

وحقيقة أخرى تؤكدها هذه الآية المباركة ألا وهي وحدة دين الله التي لا تتعدّد بكثرة رسله وتعّدد شرائعهم على مدى الزمن، ومن ثمّ من يؤمن برسالة ولا يؤمن بأخرى، كأنه حنث بعهد الله، لأنّه قد احتجب بالتعدّد عن وحدانيته تعالى. وتبعاً لذلك مَن يـؤمن برسول دون رسول يكون قد غفل عن حقيقة التوحيد. وهذا قوله تعالى: ﴿إنّ الّذين يكفرون بالله ورسله ويريـدون أن يفرّقوا بيـن الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أنّ يتّخذوا بين ذلك سبيلاً * أولئِك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافِرين عذاباً مهيناً * والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما﴾(115).

هذا هو الكفر بأدقّ معانيه، ويختلف عما تظنه العامة الذين يعتبرون الكفر عدم الاعتراف بوجود الباري جلّ وعلا. وهذا تصوّر غير صحيح، فما من إنسان إلاّ ويعترف بوجود إله واحد مدبر لشئون الكون، حتى الطبيعيّين – على الرغم من عدم استعمالهم لفظ الجلالة – يعتقدون بوجود قوّة خفيّة مسيرة للكون وإن كانوا لا يدركون كنهها ولا يعرفونها بغير هذا التّعريف. فالكفرالحقيقي – كما صرحت الآية المباركة – هو التفريق بين رسل الله، والتفريق بينهم وبين الله عزّ وجلّ، وقبول واحد ورفض الآخر، فالذي يعترض على أيّ رسول إلهيّ في أيّ زمن من الأزمان يكون في الحقيقة قد قطع ما أمر الله به أن يوصل. وقد ذكّر بهاء الله هذه الحقيقة في تأكيد قاطع بقوله المنيع: «وإنّك أنت أيقن في ذاتك بأنّ الذي أعرض عن هذا الجمال فقد أعرض عن الرّسل من قبل ثم استكبر على الله في أزل الآزال إلى أبد الآبدين»(116).

الفصل الثالث التمثيل والتشبيه في الكتب السماوية

رأينا فيما سبق أن الإسلام بمعنى التسليم والانقياد لأوامر الله هو جوهر الدين بصفة عامة في كلّ الرسالات الدينية المتعاقبة. ورغم أن لكلّ رسالة – منها– خصائصها ومظاهرها وآثارها وشريعتها، إلاّ أن الإسلام بقي صفة مشتركة بينها. والمقصود بالتسليم أو الإسلام لله أن يتحرر المرء من التقليد والأوهام فلا يكون الباعث على طاعته لأحكام الدين مراعاة العادات والطقوس السائدة في مجتمعه أو تفادي اللوم لخروجه عن المألوف، وإنما يكون رائد سلوكه هو الحرص على الانقياد لإرادة الله وحده. فلا يخضع في عقيدته لغير ما يؤمن أنه مراد الله. وسبيله إلى ذلك البحث والتأمل مع صفاء الوجدان وخلوص النيّة. والإسلام بهذا المعنى هو لباب الرابطة الروحانية بين الخلق والحقّ.

أمّا ما ذهب إليه بعض المفسرين من اعتبار كلمة «الإسلام» في كل المواضع مساوياً لرسالة محمد أدى إلى الخطأ في فهم حقيقة العهد الإلهي. لأن التضييق في معنى «الإسلام» انتهى بهم إلى القول بتوقف الفيض الإلهي وانتهاء الرسالات السماوية برسالة سيدنا محمد. واستخرجوا هذا الظن من قوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه). وهو خطأ مشابه لما نتج عن سوء تفسير «خاتم النبيين» على النحو الذي رأيناه في الصفحات السابقة.

والخطأ في تفسير لفظ الإسلام مناقض لكثير من آيات الكتاب فيما يتعلق ببشارتها بمجيء عيسى وما روته الأحاديث الشريفة عن مجيء المهدي. ولعل من نافلة القول أن نعيد إلى الأذهان أن من أهم العوامل التي أوقعت المفسرين في الشبهات هي تصديهم لتفسير الكلام الوارد على سبيل المجاز في الكتب السماوية أخذاً بظاهر لفظه، وتسليما للوهم بأبدية رسالة سماوية يكنون لها الولاء ويرون فيها الكمال.

ويتناول الفصل الثالث عرضاً مختصراً لصور من هذا المجاز، وعلة استعماله في الخطاب الإلهي، وبيان معانيه التي التبست على المفسرين فأوقعتهم في أقوال هي أقرب إلى الخرافة منها إلى الحقيقة. وأكثر صور المجاز الواردة في الكتب السماوية التشبيه والأمثال. ولفظ «المََثَل» يساوي «الشَبَه» وزناً ومعنىً، وغايتهما تمثيل المعاني المعقولة بصور تدركها الحواس، وذلك على أساس وجود نسبة بين المعقول والمحسوس تجعل إدراك المفاهيم المجردة وتصورها أيسر على الإنسان. وقد كثر استعمالهما في الكتب المقدسة لاستحالة تقريب أسرار الغيب إلى أذهان الناس بدون استدعاء ما يقاربها مما عرفوه وألفوه وخبروه بحواسهم. وبدون ذلك التمثيل يكاد يكون من المحال تصور شئون عالم الملكوت.

وليس بسر أن كثيراً من بيان السيد المسيح الوارد في الكتاب المقدس يجري على نهج الأمثلة والتشبيهات. وعندما سأله الحواريون عن سبب حديثه بالأمثال أجاب: «لأنه قد أعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات»(117). ومقصد الكلام أنه لا يمكن للإنسان معرفة شئون عالم الغيب إلاّ بمقارنتها بما يقاربها في عالم الشهود. ويوضح السيد المسيح مفهوم الملكوت بمثال يقربه إلى الأفهام فيقول: «يشبه ملكوت السموات حبّة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله. وهي أصغر جميع البذور. ولكن متى نمت فهي أكبر البقول وتصير شجرة حتى إن طيور السّماء تأتي وتتآوى في أغصانها»(118). ومراد حضرته أن الملكوت هو التعاليم الروحانية التي يستهين بها الإنسان وتبدو ضئيلة الفائدة بالقياس إلى غيرها من المنافع المادية والنعم الدنيوية، ولكن مآل هذه المبادئ ومغانمها الروحانية لمن يهتم بها، وحرص على ممارستها أكبر وأعظم من كل ما عداها من ألوان النعم المادية.

وكما جاء في القرآن الكريم: ﴿يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون﴾(119)، وقوله أيضاً: ﴿تلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون﴾(120). وقد زخر القرآن الكريم بالأمثال من ذلك قوله تعالى: ﴿الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب درّي يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم﴾(121).

وأساس هذا المنهج في تقريب المعاني المجردة هو وجود صفات مشتركة أو نسبة بين المعقول المراد بيانه والمحسوس الذي يماثله ولو على وجه التقريب. وهذا يقتضي أن يكون ضارب المثل واقفاً على حقيقة الأمر المعقول الذي يريد أن يبينه حتى يتسنى له أن يأتي بمثيله المحسوس الذي يطابقه أو يقاربه. ولا يلزم أن تكون بين المعقول والمحسوس مطابقة تامة، ويندر أن يكون الحال كذلك، بل يكفي أن تكون بينهما مشابهة ولو على وجه التقريب يتسنى معرفتها من سياق الكلام. وفي شرح لهذه النقاط قال الغزالي: «فاعلم أن العالم الملكوتي عالم غيب، إذ هو غائب عن الأكثرين. والعالم الحسي عالم شهادة إذ يشهده الكافة. والعالم الحسي مرقاة إلى العقلي. فلو لم يكن بينهما اتصال ومناسبة لانسدّ طريق الترقي إليه. ولو تعذر ذلك لتعذر السفر إلى حضرة الربوبية والقرب من الله تعالى.

لما كان عالم الشهادة مرقاة إلى عالم الملكوت، وكان سلوك الصراط المستقيم عبارة عن هذا الترقي؛ وقد يُعبَّر عنه بالدين وبمنازل الهدى – فلو لم يكن بينهما مناسبة واتصال لما تصور الترقي من أحدهما إلى الآخر – جعلت الرحمة الإلهية عالم الشهادة على موازنة عالم الملكوت: فما من شيء من هذا العالم إلاّ وهو مثال لشيء من ذلك العالم. وربما كان الشيء الواحد مثالاً لأشياء من عالم الملكوت. وربما كان للشيء الواحد من الملكوت أمثلة كثيرة من عالم الشهادة. وإنما يكون مثالاً إذا ماثله نوعاً من المماثلة، وطابقه نوعاً من المطابقة»(122).

وسيتناول هذا الفصل مناقشة بعض أمور من عالم الملكوت التي وردت في الخطاب الإلهي بعبارات مناسبة لعالم الشهود وصور حسية تقرّبها إلى أذهان البشر وفهمهم. وكل هذه الأمور سبق أن تعرض لها في الماضي الكثير من المفسرين والمفكرين دون أن يقدّموا ما يشفي غليل الباحث المتشوّق إلى معرفة أسرار هذا الملكوت لأنهم اعتمدوا في تفسيرها على حرفية النص أو على ما استقوه من الفلاسفة القدماء – بعد أن ترجمت كتبهم إلى العربية – ثم التزموا في فهمها بالنطاق الذي حددته المذاهب التي كانوا ينتمون إليها، فكانوا ينتقون من كتاب الله ما يوافق مذهبهم ويتركوا غيره غفلاً، بدلا من أن يطرحوا الكلّ على بساط البحث الطليق من القيود والفروض المسبقة. فأتت مؤلفاتهم مناصرة لمذاهبهم أكثر منها شروحاً مستقلّة لكلام الله.

فقال المعتزلة مثلا أن عذاب القبر ليس حسيّاً وإنما هو عذاب بألام نفسية. وكان هذا النظر متفقاً مع مذهبهم في تفسير القرآن الكريم بإعمال العقل وحمل كلام الله على ما يقبله العقل فلم يتصوروا أن يكون هناك عذاب حسي واقع على جسد هامد فارقته الروح. أمّا أهل السنة فقالوا بأن عذاب القبر يكون بآلام حسيّة اعتماداً على أخذهم بحرفية النص والمنقول عن السلف، وذلك أيضاً وفقاً لمذهبهم في تفسير القرآن اعتماداً على ظاهر اللفظ.

كما قال أهل السنة بوجود مادي للصراط المستقيم وهو «جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعرة وأحد من السيف»، بينما أنكر المعتزلة الصراط بالمعنى المادي وقالوا أنه عبارة عن طريق الحقّ، ومال إلى هذا الرأي أبو حامد الغزالي مع أنه أشعري وصوفي فقال: «إن عبور الصراط المستقيم عبارة عن التّرقي من عالم الشهادة إلى عالم الملكوت وقد يُعبّر عنه بالدين وبمنازل الهدى»(123) فأعطى الوصف المادي «أدق من الشعرة وأحد من السيف» معنى مجازياً يتمثل فيما يتطلبه عبور ظلمات العالم المشهود إلى أنوار الملكوت من يقظة واحتراز وخشية. وكان اعتماده في التفسير على مذهب المتصوّفين: أي الكشف الإلهي والنور الذي يقذفه الله في قلب المؤمنين الساعين في سبله والمتسابقين إلى جواره. وعلى المنوال نفسه اختلفت أقوال المفسرين في فهم المراد من الميزان، والجن، والملائكة، والجنة والنار إلى آخره.

ولعل في طرح هذه الأمور على بساط البحث الحرّ البعيد عن التعصب والمذهبية، وبعد أن ثبت اتساع هوة الأخطاء التي وقع فيها السابقون، ضرورة لبلوغ الحقيقة أو على الأقل لفهمها على ضوء ما تهدينا إليه عقولنا في عصر بلغت فيه مقدرتنا على عمق التحليل، ودقة التحقيق، وبعد النظر شأواً بعيداً لم يتوفر للسابقين. وفي ذلك ما يجدد وهج جذوة الإيمان ويبعث الروح الديني من الخمول والخمود.

والبحث الأول في هذا الفصل يدور حول المراد بلفظة «الحياة» في الخطاب الإلهي، تليه مباحث عن عدد من أمور الآخرة من بعث وحساب وصراط وميزان وجنة ونار – وكلها أمور في حاجة إلى فهم صحيح يبعدنا عن الخرافات والأوهام التي لا تقدم نفعاً لمن أراد وجه الله، ﴿والله يقول الحق و هو يهدي السبيل﴾(124).

1. الموت والحياة

المقصد من ضرب الأمثال في كتب الله – كما أشرنا سابقاً – تقريب الحقائق الرّوحانيّة والمعاني غير المحسوسة إلى أفهام البشر. وعلى الرغم من أن حقيقة الإنسان وجوهره روحاني إلاّ أنه يخضع لسلطان المادة وتسيطر على حانب من وجوده أحكام المادة وقوانين الطبيعة مثله في ذلك مثل الحيوان. وإن اقتصر اهتمام الإنسان في الحياة على هذا الجانب فإن وجوده ومآله ينحصران في مملكة الطبيعة وعالمها المشهود. أما إذا قويت ذاته وتأصلت فيه القيم الروحانية فإنه يتحرر من أسر الطبيعة ويسمو وجوده ومآله إلي المراتب الملكوتية وهي غيب مجهول بالنسبة لمداركه الحسيّة، ولكن لها مقابل ومثيل في عوالم الطبيعة، ومن ثم أكثرت الكتب المقدسة من ضرب الأمثال واستعمال أساليب التشبيه لجلب القيم المعنوية المعقولة من مكامن الغيب وتقريبها إلى المدارك العقلية لبني الإنسان حتى تتيح له فرصة الخيار– والربط – بين الجانبين المادي والروحاني.

وفي هذا تنحصر الفرصة الفريدة التي تهيئها سنوات الحياة المعدودة على وجه الأرض. فإن احتجب وجدان الإنسان عن إدراك القيم الروحانية بما زينته أهواؤه، وتلهى عن إنماء المواهب الملكوتية الكامنة في ذاته، أضاع من يده النعمة التي وعده بها الله في الحياة الحاضرة ومن بعدها في الحياة الآخرة. وما أتى رسل الله إلاّ من أجل حثّ وتنبيه هذا المخلوق – الذي أراد الله تكريمه – على نحو يجعله على بصيرة من أمره، ومعاونته على الاحتفاظ بمميزاته الإنسانية وعلى رأسها وجوده الروحاني الذي يفيض على عالم الشهود بأنوار الفضائل والكمالات. وكما أن الشّمس هي نور الحياة المادية فإن الإيمان بالله وإسلام الوجه إليه هو نور الحياة الرّوحيّة. وقد أشار سبحانه وتعالى في كتابه العزيز إلى هذه الحقيقة في مجال المقارنة بين الكفر والإيمان فقال: ﴿أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في النّاس كمن مثله في الظّلمات ليس بخارج منها﴾(125).

والمقارنة في هذه الآية هي بين عمّ الرسول حمزة، وأبي جهل، ويفهم من ظاهر ألفاظ الآية أن سيّدنا حمزة، كان ميتاً قبل إيمانه برسالة سيّدنا محمّد، فلمّا آمن دبت فيه الحياة وأضحى يسعى بنور إيمانه بين النّاس. وهكذا شبّه الله تعالى إيمان الإنسان بالحياة، واعتبر الكفر عين الموت فقال تعالى: ﴿والّذين يدعون من دون الله لا يَخْلُقُون شيئا وهم يُخْلَقُون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيّان يبعثون﴾(126).

فهذه هي الحياة في نصوص الكتب الإلهيّة: الحياة بمعناها الرّوحانيّ، وهذا أيضاً هو الموت في متن الكتب السماوية: الموت الرّوحانيّ، ولا أدل على ذلك من نفيه تعالى الموت عن الذين بذلوا أرواحهم في سبيله تعالى في قوله: ﴿ولا تحسبنّ الذي قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يُرزقون﴾(127). فهذه الحياة الروحانية لا تقتصر على الزمن القصير الذي يقضيه الإنسان في الدنيا ولكنها تبقى وتدوم بعد خمود جسده، لأن ما يتعلق بالروح أبدي بطبيعته، ولا يعتريه التغيير الذي يصدق على الماديات.

ومادام أن هذا هو معنى الحياة، فإذا أشارت النصوص الإلهية بعد ذلك إلى البعث فإنما تشير إلى بعث الحياة في الرّوح لا الجسد. وقد أشار السيّد المسيح إلى هذا المعنى نفسه بقوله: «أنا هو القيامة والحياة»(128). أي أنّه أتى إلى خاصته – اليهود – وكانوا أمواتاً في أجساد تتحرك، فأراد أن يحييهم من جديد، ويبعث فيهم الحياة الأبدية. فالبعث المقصود في كتب الله هو البعث الرّوحانيّ وليس الجسمانيّ. ولا أدلّ على ذلك من قوله تعالى: ﴿وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهـــرة فأخذتكم الصّاعقة وأنتم تنظرون * ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون﴾(129). وهذا الخطاب المبارك موجّه إلى اليهود. فهل حدثنا التاريخ أنّ اليهود، كشعب أو أمّة ماتوا بأجسادهم الموت الطبيعي، ثمّ بعث الله الحياة في أجسادهم من بعد موتهم؟ ولو ذكر التاريخ ذلك لأعتبرناه من أساطير الأولين.

فالحياة والموت في خطاب الحقّ سبحانه وتعالى، مقصود بهما الحياة الرّوحيّة والموت الرّوحانّي. وكذلك ما ورد ذكره في الكتب الإلهية من بصر وعمى، ونور وظلمة إنما هي استعارات يراد بها تقريب المعاني الملكوتية إلى أفهام أناس لم يشهدوها، ولم يعرفوها فكان لابد من التشبيه. فإذا قارن تعالى في كتبه المقدّسة بين الحيّ والميّت أو بين النّور والظّلام، فإنما يقصد الحيّ بالإيمان، والميّت الّذي بقي في كفن الضلالة والخسران. كما قال تعالى: ﴿وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظّلمات ولا النّور ولا الظّلّ ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات﴾(130).

ولا تقتصر هذه المقارنة على مجرّد التّنبيه إلى المقام الرّفيع الذي يرتقي إليه كلّ مقبل إلى الله وكلّ سالك في نور هداية الله، وإنما هي تشعر أيضاً بأنّ الذي يعرض عن نور الله هو في عداد الأموات: ﴿إنّ الله يـُسمع من يشاء وما أنت بمُسمع من في القبور إن أنت إلاّ نذير﴾(131). فلا شك أن الله لم يبعث رسله ليخاطبوا الموتى بأجسادهم أو ينذروا من في القبور تحت التراب، وإنما المراد أن المعرضين عن رسالات الله هم موتى روحانياً وذواتهم مدفونة في قبور أجسادهم المتحركة.

والحقيقة التّي لا شك فيها هي أنّ الّذين يحرمون أنفسهم من نعمة الإيمان بالرّسالات الإلهية هم أسوأ حالاً من الموتى جسدياً، لأن من وارى أجسادهم التراب، لم يكن لهم خيار حيال الموت ولكن المعرض عن رسالة إلهية إنما يحكم على نفسه بالموت الأبدي بإرادته الحرة واختياره. هذا بالإضافة إلى أن من وارى أجسادهم التراب قد انقطع شرّهم عن الناس أمّا أموات الرّوح الّذين يدبّون على الأرض، وينشرون الفساد ويضلّون العباد بأعمالهم الشّيطانيّة فإن شرهم متواصل. حقاً إن الموتى في قبورهم لا يتقاتلون، ولاينقضون نواميس الشّرف والأخلاق، ولا يعتدون على حقوق الناس. أمّا أموات الرّوح، فيحيلون المعمور مطموراً، وينشرون في الأرض لهيباً من نار التّعصب والبغضاء.

يشهد التاريخ أن الإنسان لم ينجح في إصلاح أحواله معتمداً على قواه منفرداً في أي يوم من الأيام، والثّابت على وجه القطع واليقين أنّ زسل الله هم الّذين عاونوا البشر على السير في مراحل الإصلاح، وتحملوا في هذا السّبيل كلّ جحود وغرور واستكبار. والنّاس يروون قصص الأنبياء السابقين وهم في غفلة عن سوء حالهم في الوقت الحاضر. وإذا قيل لهم أفيقوا من سبات الغفلة وانهضوا من رقاد الكسالة الذي غلب عليكم، واقبلوا إلى مطلع النّور الإلهي الذي أراد إخراجكم من الظّلمات إلى النور، أجابوا ما نرانا بحاجة لمن يهدينا. مثلهم كالمريض الذي يتوهم في سكرة الموت أنّه على أحسن ما يكون صّحةً وعافيةً، ثمّ يرفض يد الطّبيب الممدودة إليه في عطف وحنان.

هذا هو حال عالم اليوم عنيد يرفض الهدى والإصلاح، فصدق عليه قوله تعالى: ﴿وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا﴾(132)، وقوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا أنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون﴾(133). ولهذا تفضل بهاء الله بوصف هذا العناد في خطابه إلى الملكة فكتوريا: (إذا قيل لهم أتى مصلح العالم قالوا قد تحقّق أنّه من المفسدين،… أولئك من أجهل الخلق لدى الحقّ يقطعون أعضادهم ولا يشعرون، يمنعون الخير من أنفسهم ولا يعرفون، مثلهم كمثل الصّبيان لا يعرفون المفسد من المصلح والشّر من الخير قد نراهم اليوم في حجاب مبين)(134)، فالعناد الذي يرتفع من جانب المعرضين يقدم، من ناحية أخرى، صورة مجسّمة للدور الجليل الذي يضطلع به رسل الله في سبيل بعث مثل هؤلاء النفوس الّذين وصفهم الحقّ بقوله تعالى: ﴿إنّ شرّ الدّوابّ عند الله الصّمّ البكم الّذين لا يعقلون﴾(135)، و﴿إنّ شرّ الدّوابّ عند الله الّذين كفروا فهم لا يؤمنون﴾(136).

فعدم الإيمان، أو رفض الإيمان هو حرمان لصاحبه من فيوضات الله التّي بها وحدها يبصر ويسمع ويعقل ويحيي. والإعراض عن النّور والهداية الجديدة يهبط بصاحبه إلى مستوى العمى والموت. وقد وصف سيّدنا المسيح عليه السّلام أمثال هؤلاء بالكيفية نفسها: «لإنهم مبصرين لا يبصرون وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون»(137). أمّا خطابه للحواريين فكان على النقيض من ذلك: «ولكن طوبى لعيونكم لأنّها تبصر ولآذانكم لأنّها تسمع»(138). نسأل الله أن يزيل الغشاوة عن العيون والحجب عن الأفئدة، والوقر عن الآذان.

2. القيامة والساعة

تقدّم القول بأنّ أتباع كلّ رسالة دينية قد ورثوا الاعتقاد بأن رسالتهم آخر الرسالات الإلهية، وبها انقطع الوحي، فهم لا يتوقعون أي رسالات إلهية من بعد رسولهم، وكثير منهم – تحت تأثير هذا الاعتقاد – يقرأون النّبوءات التي تخبر بظهور رسالة جديدة قراءة سطحية، عمادها تفسير الآيات التي تحوي رموزاً ومجازاً على أن معانيها عين ما تدل عليه ألفاظها مع استبعاد الاحتمال أن يكون لها معان أخرى. من ذلك ما ورد في الكتب السماوية والأحاديث النبوية عن آخر الزمان والنبوءات التي تخبر عن القيامة، والساعة، ونفخ الصور، والصيحة، وما ماثلها. والقليل من الناس – بل وأقل من القليل – هم الذين يتفكرون في المقصود من نفخ الصور، أو ما هي تلك الصيحة التي تصل إلى أسماع العالم بأسره، أو كيف يتزامن مجيء المهدي ونزول عيسى مع انشقاق السماء، وتكوّر الشمس، وانطفاء شعاعها، وتساقط النجوم على الأرض، وتزلزل الأرض، ونسف الجبال نسفاً.

ولا شك أن في هذه الآيات ما يدعو إلى المزيد من التفكير المتأمّل لفهم معانيها، لأن في تكوّر الشمس وأنشقاق السماء وسقوط النجوم على الأرض مثلا نهاية محققة للحياة على وجه الأرض، بل فناء الأرض ذاتها. بينما هذه الآيات نفسها تجزم في الوقت نفسه بمجيء مبعوثين من الله في ذلك الوقت، وبعث الموتى إلى الحياة، ونشر العدل، والقضاء على الظلم، وإعمار الأرض وإصلاحها من جديد، وإشراق الأرض بنور ربها.

ولعل من الجدير بالمرء أن يتساءل – لو أخذنا معاني هذه الآيات على ظاهر لفظها – لماذا يدمر الله العمار الذي أقامه على هذا القدر من التنظيم والإبداع؟ ألا يمكن حساب الناس على ما كسبت أيديهم بدون هذه الكوارث التي لا علاقة لها بالحساب؟ وليس المقصد من إثارة هذه التساؤلات التشكيك فيما جاء في الكتب السماوية، بل التأمل فيها بغية استخلاص مراد الله منها. فكل هذه الأيات التي اعتبرها الجانب الأكبر من المفسرين محكمات وواضحة الدلالة، هي في الواقع متشابهات أشكل فهمها على الناس لأنها في الظاهر متناقضة، وغير مقبولة عقلاً، فلابد من أن تكون لها معان أعمق مما ذهب إليها المفسرون في السابق.

فالنّاس جميعا يتحدّثون عن يوم موعود، عن السّاعة، عن القيامة، ويتحدّثون عن ويلاتها وأهوالها، وكلّ هذه أوصاف وردت لها فعلاً، ولكن ما معناها؟ الصور المتعدّدة التّي تذكرها الكتب المقدّسة – وخاصة القرآن والإنجيل – تبعث الحيرة إذا أخذت معانيها على ظاهر ألفاظها، وأغفل ما تنطوي عليه من مدلولات، ففي صورة يـأخذنا الهلع من المصير المفزع الذي ترسمه وفي صورة أخرى نرى مصيراً متألقاً بأنوار الرّحمة الكبرى.

والقرآن الكريم يعرض صوراً متباينة لأحداث القيامة على نحو ملحوظ بحيث تحتل مكاناً هاماً من انتباه القارئ. وترسم إحدى هذه الصّور المصير المفزع الرهيب الذي ينتظر الناس في اليوم الموعود: ﴿إذا السماء انشقّت﴾(139)، ﴿وانشقّت السماء فهي يومئذ واهية﴾(140) وكذلك: ﴿إذا الشّمس كوّرت وإذا النجوم انكدرت﴾(141) و﴿إذا رُجّت الأرض رجّا وبسّت الجبال بسّا فكانت هباء مُّنبثّا﴾(142)، و﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها﴾(143) وغير ذلك من أوصاف من قبيل: يوم العذاب، ويوم الحسرة، ويوم الحساب، ويوم العقاب، ويوم الخزيّ، ويوم التّغابن. ويصف القرآن الكريم حالة النّاس في ذلك اليوم الرهيب: ﴿إنّ زلزلة السّاعة شيءٌ عظيم يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع كلّ ذات حمل حملها وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد﴾(144) ﴿فإذا جاءَت الصَّاخة يوم يفرّ المرءُ من أخيه وأمّه وأبيه وصَاحِبته وبنيه﴾(145).

ويرسم القرآن صّورة ثانية للقيامة تفيض بالرحمة وتشرق بالبشارة الكبرى وتغرد على أفنانها ورقاء السماء بأناشيد البهجة والمصير المشرق: ﴿يوم يقوم الرّوح والملائكة صفّا لا يتكلّمون إلا مَنْ أذن له الرّحمن وقال صوابا﴾(146)، وقوله أيضاً: ﴿وجاء ربّك والملك صفّا صفّا﴾(147)، وكذلك: ﴿هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقُضِىَ الأمر وإلى الله تـُرْجَعُ الأمور﴾(148)، و﴿يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسّماوات وبرزوا لله الوَاحد القهار﴾(149)، ﴿وأشرقت الأرض بنور ربّها﴾(150).

فإذا قصرنا فهمنا على مدلول ألفاظ هذه الآيات ومعانيها الظّاهرة انتهينا إلى نتائج لا يقبلها العقل، فالانقلابات الكلّيّة المذكورة لو حدثت لن تترك فرصة لإنسان حتى يفرّ من أخيه وأمّه وأبيه، ولا للمرضع لتذهل عمّا أرضعت، ولا للإنسان أن يكون سكرانا وما هو بسكران. فماذا يكون حال الإنسان إذا السماء انشقّت، والأرض رجّت، والجّبال نسفت، والشّمس كوّرت، والكواكب انكدرت، والبحور سجّرت إلى آخره؟ هل يمكن تصوّر بقاء كائن حيّ بعد حصول هذه الانقلابات؟

ومع ذلك نص كتاب الله لا يترك مجالاً للشك في استمرار وجود الناس على قيد الحياة رغم ورود كل هذه الانقلابات الخطيرة. إذًا فمن المعقول أن تكون هذه الأوصاف قد وردت على سبيل التمثيل والتشبيه مشيرة إلى أمر عظيم بظهوره تحدث كلّ تلك الانقلابات بصورة معنوية. وهل هناك أمر أعظم من الوعد بورود الله، ولقاء العباد به تعالى؟

ولكن علّمنا رسل الله أنه سبحانه منزّه عن خصائص الأجسام وصفاتها وأنه أعظم من أن يحد ذاته حيز أو مكان. إنّه غيب منيع يصفه بهاء الله بقوله عزّ بيانه: «إنّ غيب الهويّة وذات الأحديّة كان مقدّساً عن البروز والظهور والصعود والنزول والدّخول والخروج، ومتعاليا عن وصف كلّ واصف وإدراك كلّ مدرك، لم يزل كان غنياً بذاته، ولا يزال يكون مستورًا عن الأبصار والأنظار بكينونته، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللّطـيف الخبير»(151).

ألا يكفي هذا للإقتناع بأن معاني هذه الأيات غير ما يدل عليه ظاهر لفظها؟ وهل هناك طريق آخر غير المجاز لفهم هذه الآيات المباركة على نحو يقبله العقل؟ ألا يمكن أن نقبل معنى مجيء الله على أنه مجيء مبعوث من الله في يوم موعود موسوم بهذا الاسم المقدّس العزيز المنيع؟ ألا تتحقق بواسطة هؤلاء المبعوثين معرفة الله والقرب منه ولقاءه، وبدونهم يكون الطريق مسدوداً والطلب مردوداً؟

وهناك صّورة أخرى يعرضها القرآن الكريم عن القيامة والسّاعة تعتبر بحقّ مفتاحاً لما أغلق فهمه على الأذهان، وتعين المتأمل فيها على إدراك معان أبعد وأعمق مما يقول به القانع بظاهر لفظها، وهي بذاتها تكفي للإقناع بأن معانيها – ما لم تؤخذ على المجاز – لا سبيل إلى فهمها إلاّ بقدر ما يفقه الطفل من أسرار الحياة.

قال تعالى: ﴿أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم السّاعة بغتة وهم لا يشعرون﴾(152)، وقال تعالى: ﴿وأنذرهم يوم الحسرة إذ قُضِىَ الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون﴾(153) وقال أيضاً: ﴿يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النّار وما لكم من ناصرين﴾(154). والسؤال كيف يمكن أن يحدث في يوم القيامة إنشقاق السماء، وتكور الشمس، وسقوط النجوم، مع غفلة الناس عن وقوعها وعدم شعورهم بهذه الأحداث المهولة؟

وهل من المعقول أن يكفر النّاس بعضهم البعض ويلعن بعضهم بعضا بينما الأرض تتزلزل وأحداث الساعة تهزّ كلّ ذرّة من ذرّات وجودهم؟ وهل يمكن أن يوجد مجال – وسط تلك الأحداث الهائلة – لاستمرار السبّ واللّعن؟ ولنتفكر في قوله تعالى: ﴿ويوم تقوم السّاعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الّذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنّكم كنتم لا تعلمون﴾(155). فهل يمكن عقلاً أن يقع انشقاق السماء، وتكور الشمس، وسقوط النجوم، بمعانيها الحقيقية والناس في غفلة من هذه الأمور المهولة؟ فلا مناص إذاً من حمل هذه الألفاظ على معان معنوية وروحانية تسمح بوقوع الزلزلة والرجفة والناس عنها في غفلة وعلى غير علم.

وهناك صورة أخرى ليوم القيامة. فقد رأينا للقيامة صورة فيها تنشق السماء، والأرض ترتج وتتزلزل، والجبال تُنسف وتُقلع، والشّمس تتكوّر وتظلم، والكواكب تنتثر وتسقط. وصورة ثانية فيها جلال مجيء الربّ وملائكته، وورود الله، وتبديل الأرض والسّموات، وإشراق الأرض بنور ربّها. وصورة ثالثة فيها جدال ونزاع بين الناس حتى يُكفّر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً.

وهاهي صورة رابعة تقدّم لنا القيامة في نفختين متتابعتين – نفخة تُصعق كلّ من في السّموات والأرض إلاّ من يشاء الله، وتتبعها نفخة يقوم بها النّاس وتشرق الأرض بنور ربّها ويجري الحساب ويتم الثواب والعقاب على هذه الأرض، كما قال تعالى: ﴿ونفخ في الصّور فصعق من في السّموات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله ثمّ نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربّها ووضع الكتاب وجِيءَ بالنّبيين والشّهداء وقضى بينهم بالحقّ وهم لا يظلمون﴾(156).

فالآية تشير إلى كتاب وقضاء بين النّاس بالحقّ. فإذا قيل بأنّ الكتاب المقصود هو القرآن الكريم، فإنّ القرآن الكريم والإنجيل والتّوراة كانت موجودة وقت نزول هذه الآية الكريمة، ولكنها مع ذلك تشير إلى كتاب يأتي بعد النفخ في الصور مرتين، وبعد انصعاق من في السموات والأرض وقيامهم مرة أخرى، وبعد إشراق الأرض بنور ربها. فلابد أن يكون الكتاب المشار إليه كتاب آخر غير القرآن والانجيل والتوراة.

ويشير سبحانه وتعالى في موضع آخر من كتابه العزيز إلى أنّ الخلود في الجنّة والنّار خلود دائم بدوام السّماوات والأرض، مما يؤكد أن السموات والأرض باقيتان بعد الحساب. فقد قال تعالى عن يوم القيامة: ﴿يوم يأت لا تَكَـلَّـمُ نفس إلاّ بإذنه فمنهم شقيّ وسعيد فأمّا الّذين شقوا ففي النّار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السّموات والأرض إلاّ ما شاء ربّك إنّ ربّك فعّال لما يريد وأمّا الّذين سُعِدُوا ففي الجنّة خالدين فيها ما دامت السّموات والأرض إلاّ ما شاء ربّك عطاء غير مجذوذ﴾(157). وهذا تأكيد بدوام الأرض والسماء أثناء قيام الساعة وبعدها، الأمر الذي يناقض تكوّر الشمس، وانشقاق السماء، وزلزلة الأرض، ودك الجبال إذا حملنا هذه الألفاظ على معانيها الظاهرة.

والخلاصة أن هذه الآيات المباركة وكثير غيرها، هي آيات متشابهات ظلّت طوال الآجيال الماضية مختومة بخاتم المسك حتّى جاء بهاء الله وفضّ ختمها بإصبع إرادة الله، وكانت من قبله غامضة. وزادها غموضا ما جرت به أقلام القوم من شروح وتعليقات. فظهور بهاء الله كان الصّور الّذي نفخ روح الحياة من جديد في هيكل الوجود كما سيأتي تفصيلاً فيما بعد عند الحديث عن رسالة بهاء الله.

ولنحاول الآن فهم هذه الآيات على نحو مختلف. فقد قدمت سورة يونس أحد مفاتيح سرّ القيامة قلما انصرف إليه انتباه الناس، وذلك في قوله تعالى: ﴿ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا إلاّ ما شاء الله لكلّ أمّة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستـأخرون ساعة ولا يستقدمون﴾(158)، وهذا نص صريح يقرن قيام الساعة والبعث بانتهاء أجل الأمة، ويحدد لكل أمة أجلا إذا حان أجلها حان أيضاً حسابها. فكأن للأمم آجالا كما أن للأفراد آجالا، وكذلك للأمم حساب كما أن للأفراد حسابا. فالأمم جموع من الأفراد. وحساب كل أمة يحين بحلول أجلها. ويروي القرآن الكريم أمثلة لحساب الأمم السابقة عندما حانت أجالها وتم حسابها، ولهذا يجب علينا أن نراجع أنفسنا ونتفكّر مليّا في المراد من علامات الساعة. وعلينا في خلال هذا البحث أن نستلهم الجواب ونعتمد في فهم هذا اليوم على نور نصوص كتاب الله، لا على ما ورثناه من روايات وأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان.

١.       حدّثتنا سورة هود عن رسالة نوح والطّوفان الذي حلّ بقومه جزاء إعراضهم واستكبارهم، ولم ينج منهم إلاّ الّذين صدّقوا برسالته، وأطاعوا أمر الله واعتصموا برحمته: ﴿فقال الملأ الّذين كفروا من قومه ما نراك إلاّ بشرا مثلنا وما نراك اتّبعك إلاّ الّذين هم أراذلنا بادِىَ الرّأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنّكم كَـاذبين﴾(159) واستمر القوم في غرورهم واستكبارهم: ﴿حتّى إذا جاء أمرنا وفار التّنّور قلنا احمل فيها من كلّ زوجين اثنين وأهلك إلاّ من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلاّ قليل وقال * اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها إنّ ربّي لغفور رحيم * وهي تجري بهم في موج كالجبال﴾(160).

٢.       وحدّثتنا أيضاً عن قوم هود: ﴿ولمّا جاء أمرنا نجيّنا هوداً والّذين آمنوا معه برحمة منّا ونجيّناهم من عذاب غليظ﴾(161).

٣.       وحدّثتنا السورة نفسها عن قوم صالح: ﴿فلمّا جاء أمرنا نجيّنا صالحاً والّذين آمنوا معه برحمة منّا ومن خِِزْىِ يومئذ أنّ ربّك هو القويّ العزيز * وأخذ الّذين ظلموا الصيّحة فأصبحوا في ديارهم جَاثمين(162)﴾.

٤.       كما حدّثتنا أيضاً عن قوم إبراهيم: ﴿إنّه قد جاء أمر ربّك وإنّهم آتيهم عذاب غير مردود﴾(163).

٥.       وحدّثتنا عن قوم لوط: ﴿فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجّيل منضود﴾(164).

٦.       وحدّثتنا عن قوم شعيب: ﴿ولمّا جاء أمرنا نجّينا شعيباً والّذين آمنوا معه برحمة منّا وأخذت الّذين ظلموا الصّيحة فأصبحوا في ديارهم جَاثمين﴾(165).

٧.       ثم حدّثتنا عن قوم ثمود: ﴿كأن لّم يغنوا فيها ألا بُعْدًا لمدْيَن كما بَعِدَت ثَمُود﴾(166).

٨.       وجاء في سورة الحاقة: ﴿كذّبت ثمود وعاد بالقارعة فأمّا ثمود فأُهلكوا بالطّاغية وأمّا عاد فأُهلكوا بريح صرصر عاتية سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيّام حسوما فترى القوم فيها صرعَى كأنّهم أعجاز نخل خاوية فهل تَرَى لهم من باقية﴾(167).

وما نستخلصه من هذه الأخبار أن من نتائج الحساب فناء المستكبرين المكذبين بحيث (لا ترى لهم من باقية)، واستمرار الحياة بالمؤمنين ودوامها بدوام أسماء الله وصفاته العليا، كما استمرّت الحياة ودامت بعد انقضاء الأمم الغابرة.

ونستخلص من جهة أخرى، أن القارعة والحاقّة والصيّحة والصّاخة ويوم الحشر وغيرها، جميعها مترادفات ذات مدلول واحد عام، وآثار واحدة عامّة، وهي التّفاعل الحتمي الذي يحدث عند دعوة كلّ رسول إلهي مع الأمة أو الأمم التي بُعث إليها. فالدعوة في ذاتها صيحة هائلة ترجّ الأفكار رجًّا، وتهتزّ من شدتها الشرائع القائمة اهتزازاً، وتتزلزل من وقعها الأوضاع السّائدة زلزلة شديدة، فتورد المعارضين والمستكبرين المهالك، وتقرع المبطلين، ويحقّ القول على المكذّبين المتمادين في غيّهم وأهوائهم. ثمّ تخلق خلقاً جديداً ليسعى في هدى النّور الجديد.

والحقيقة واحدة لا تتعدّد بتعدّد الأسماء، فالمعنى واحد بين القارعة والحاقّة والصيحة والصاخة والقيامة والنبأ العظيم وأمثالها، وبين « أمر الله» و«الحساب». إذ أنّ كلّ هذه التعبيرات تصدق في اليوم الذي يرتفع فيه نداء الرّسول الإلهيّ أيّا كان ذلك اليوم. ويخاطب الله العالم في شخص الأمة الإسلامية ليبلّغهم أن الحساب قريب لا ريب فيه، رغم انصراف الناس عنه وعدم تقديرهم لنتائجه الحاسمة، فكل ما عدا النداء الإلهي في نظر الله لعب وعبث لا خير فيه ولا دوام له. فقال تعالى: ﴿ما يأتيهم من ذكر من ربّهم مُّحدَثٍ إلاّ إستمعوه وهم يلعبون﴾(168)، والذّكر هنا معناه الكتاب. فقوله تعالى ﴿ذكر من ربّهم مُّحْدَثٍ﴾ يعني كتاب من الله جديد، ومجدد لشريعته. ومعنى نزول الكتاب الجديد هو انتهاء أجل أمّة ونهاية دور وبداية آخر مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين﴾(169).

والخلاصة: أنّ هلاك الأمم السّابقة جزاء إعراضهم واستكبارهم – الذي فصّلته سورة هود – أمر ثابت في الكتاب. والأمة الإسلامية كغيرها من الأمم تجري عليها سنّة الله كما جرت على الأمم السابقة عليها، فهي عند ظهور المهدي ونزول عيسى روح الله ستواجه الامتحان نفسه الذي ابتليت به الأمم السابقة. ثمّ تنقضي نشأة، وتبدأ نشأة أخرى، ويأتي الله بخلق جديد. وقد نبّه الرسول الأمين أمّته أن مثلها مثل غيرها من الأمم السابقة، تخضع لسنة الله التي لا تتغير ولا تتبدل فقال: «لتسلكن سبل مَن قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى إذا دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه. قالوا: أو النصارى واليهود يارسول الله؟ قال: ومَن؟»(170) ومنه نفهم أن الحساب الذي قدّمته الأمم السابقة لابد واقع أيضاً للأمة الإسلامية.

3. الميزان

الميزان لغةً هو الأداة التّي تُعرف بها أثقال وأوزان الأجسام، ويعني مجازاً تقدير المعاني والأعمال بنسبتها إلى قيم أخلاقية وروحانية متعارف عليها. ويعني أهل الفلسفة بالميزان العلامة التي تتبين بها الأشياء والمعاني فيتيسر الحكم عليها، وفي اصطلاح الكتب المقدّسة الميزان هو ما يعين العباد على تقدير سلوكهم بمقارنتها بالأوامر الإلهية لتتبيّن مدى مطابقتهما بغية تقويم سلوكهم. وبعبارة أخرى الميزان لأهل الأديان هو سبيل لمعرفة مدى مناسبة تصرفات الإنسان وسلوكه للقبول في ساحة الحق، فهو القسطاس الذي يوزن به وفاء المرء بعهد الله وميثاقه، وبه يتحدد صدق النوايا، كالصراط المؤدي إلى النجاة والفلاح والرقي في معارج الكمال.

وهذا ما يُستفاد من قوله تعالى: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنَات وأنزلنا معهم الكتَاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾(171)، وفي ذا المعنى نفسه يقول بهاء الله: «اسمعوا ما تتلو السدرة عليكم من آيات الله إنها لقسطاس الهدى من الله ربّ الآخرة والأولى»(172)، وفي وضع آخر يحذر بهاء الله من الخلط بين ميزان الله وموازين البشر فيتفضل بقوله عزّ بيانه: «قل يا معشر العلماء لا تزنوا كتاب الله بما عندكم من القواعد والعلوم إنّه لقسطاس الحقّ بين الخلق قد يوزن ما عند الأمم بهذا القسطاس الأعظم وإنّه بنفسه لو انتم تعلمون»(173).

فبظهور المظهر الإلهي الجديد ينبض عالم الشهود بحياة جديدة وروح جديد، وفي ظلّ أحكامه الجديدة تصبح الأعمال مرآة تعكس أنوار الفضائل الإنسانّية المنبعثة من الهداية الرّبانية الجديدة. وفي ظلّ أنوار وهدى الرّسول الجديد يسود الوفاق والاتحاد رحمة من الله كما قال: ﴿واذكروا نـعـمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرةٍ من النّار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آيَاته لعلّكم تهتدون﴾(174) فالميزان بهذا المعنى عون للمؤمن فى محاسبة النفس ومراقبتها وهو الحكم المبرم المفرق بين النور والظلمة، وبين الخطأ والصواب. والميزان بهذا المعنى يستوي مفعوله في الدنيا والآخرة، ولو كان قصراً على الآخرة لما أنزله الله والكتاب على رسله في الحياة الدنيا. وجاء ذكر ذلك سابقاً في تفصيل معنى القيامة والساعة(175).

أما نفع الميزان في الحياة الدنيا فيمكن فهمه من نصح بهاء الله للمؤمنين بالتفكر في سلوكهم: «حاسب نفسك في كل يوم من قبل أن تحاسَب لأن الموت يأتيك بغتة وتقوم على الحساب في نفسك»(176) فمسئولية العبد في هذا الحساب مسئولية شخصية وفردية، وبها يصارح المرء نفسه في خلوة مع ضميره ويواجه بعزم وحزم جنوحه وميوله، ويكشف لنفسه عن حقيقة بواعثه، ويعترف بافتقاره. وفي ذلك مواجهة العبد لنفسه بالحقائق العارية لا بدافع اللوم والتبكيت أو استثارة الشعور بالذنب أو الحط من قدر نفسه، ولكن بغية الإصلاح، وكبح الجماح، والتحرر من الإثم، والخلاص من الهوى، وسعياً إلى السمو، ومناشدة للعزة، وأملاً في الحرية، والتقرب إلى الله تعالى بمشابهة صفاته والامتثال إلى وصاياه ونواهيه.

وكما أن للميزان كفتين فكذلك لهذا الحساب جانبان: الأول: الإنسان بنقائصه وهوانه وشهواته، وهي ميراثه من العالم المادي الذي انبثق منه جسده، والذي ينشد الخلاص من ربقه. والثاني: السعادة الحقة والنعيم الأبدي والهدى الرباني المتلألئ في الأحكام الإلهية، والرحمة الكبرى المتشعشعة من مواعظه تعالى وكلماته. ولكن ليتسنى للمرء إحكام الزمام في حساب النفس ينبغي عليه أن يتوفر على عدد من الوسائل يستعين بها على الفوز في هذا الامتحان المليء بالعثرات. فعلاوة على مواظبته على مراقبة أقواله وأفعاله بدقة يجب أن يدرك المعاني السامية والصفات العالية التي يريد بلوغها والتي يتخذ منها معايير لأحكامه. وإن لم يكن هنا موضع للتوسع في هذا الموضوع تفصيلاً، إلاّ أن ما لا يقال كله لا يترك كله، فلا أقل من الوقوف لحظة على شاطئ هذا البحر المتلاطم الأمواج غير المحدود.

فعلى الطالب أولاً: أن يتأمل في الغاية من خلقه، مؤمناً أن وجوده لم يكن عبثاً، وعليه أن يؤمن بأن خلق الإنسان، وما أوتي من قدرات ومواهب كان لهدف. وما عليه إلاّ أن يقلب النظر في مشاهد هذا الكون غير المتناهي، لكي يصل إلى اليقين بأن لكل موجود فيه مهما كانت رفعته أو دناءته وظيفة يتوقف عليها وجود آخر، وأن مراتب الوجود مرتبطة برباط وثيق، ويتوقف وجود كل منها وبقاؤه على وظيفة ووجود كائنات آخرى، فأجزاء هذا الكون الفسيح كله تفتقر إلى بعضها البعض، ويتوقف بقاؤها ونماؤها وكمالها على ما تؤديه الأجزاء الأخرى بدون أدنى استثناء، ولا يوجد في الخلق مستغني أو مستقل عن غيره. فخاصية الوجود المادي الترابط والتبادل لمقومات الوجود والرقي في مراتبه. وعلى العبد أن يعلم أن تقويم نفسه هو سهم في تقويم المجتمع وإصلاح العالم، وبقدر محاسبته لنفسه يكون سهمه في عمران العالم.

ولقد فصّل بهاء الله الغاية من خلق الإنسان في الصلاة التي يؤديها البهائي وقت الزوال: «أشهد يا إلهي بأنك خلقتني لعرفانك وعبادتك». وليس المقصود بالعرفان عرفان الذات المنزهة عن الإدراك، ولكن عرفان مظاهر الله وعرفان الصفات المنسوبة إلى الله وهي على قدر بعدها عن النسبة إلى الكمال الإلهي هي منتهي ما يصل إليه إدراك البشر، والتحلي بها هو غاية ما يستطيعه الإنسان في حياته الدنيا على الأقل. على أن المهم في هذا الجهاد هو تمسك المرء بالصدق الصرف مع نفسه فلا يلتمس المعاذير عن هفواته، ولا يخفي حقيقة البواعث على تصرفاته.

فهذا معنى الميزان، والحساب الذي يأتي مع كلّ رسول. وهما نور تتجلّى في ضوئه حقائق الأشياء. وكما كان سيّدنا محمّد والسيد المسيح من قبله في زمانهما هدى للسابقين، يشرق اليوم النّور نفسه من كلمات بهاء الله لينيرالسبيل لأهل العالم.

4. الشمس والكواكب

ولنتناول الآن باختصار تفصيل ولو جانب من الاستعارات البديعة الخاصة بالشمس والكواكب وبيان مدلولاتها الروحانية، خاصة لما شاع بين النّاس أنّ من علامات القيامة تكوّر الشّمس وتناثر النجوم، واختلاط الدواب والوحوش، وتسجر البحار وما إلى ذلك من إنقلاب في طبيعة الكون. والمتأمل النبيه في هذه الصورة يرى أن بمجرد أن يذهب عن الشمس حرّها ونورها، يستحيل وجود أي صورة من صور الحياة في المجموعة الشمسية بأسرها بما ف ذلك الجنّة والنار. لأن الله جعل إشعاع الشمس هو مصدر الحياة كما نعرفها. حتى الكائنات التي تعيش تحت الأرض ولا ترى نور الشمس يتوقف وجودها على إشعاع الشمس.

وقد ورد في آيات الكتاب ذكر لبعض الاستعارات التي انبنت عليها هذه المعتقدات فلا يمكن تجاهل ورودها، ولكن يلزم فهم هذه الرموز على ضوء ما جاء ذكره في مواضع أخرى من كتاب الله حتى لا يشوب آياته شيئا من التناقض أو الاختلاف، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل. فتكور الشمس وسقوط النجوم وتسجر البحار – لو أخذت على معانيها الحرفية – يستتبع انعدام كل صورة من صور الحياة، فضلاً عن تبديل عظيم لسنّة الله التي ذكر سبحانه وتعالى في أكثر من موضع من كتابه العزيز أنها لا تتبدّل عما عهدناها عليه، ولا تتحوّل عن مسارها: ﴿ولا تجد لسنّتنا تحويلاً﴾(177)، وقوله أيضاً: ﴿ولن تجد لسنة الله تبديلاً﴾(178)، وتأكيده المكرر في سورة فاطر: ﴿فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً﴾(179).

فإن قيل أن الحياة الآخرة يمكن أن تكون على صورة أخرى ومن طبيعة لم يعرفها الإنسان: فلا يكون نبات الجنة مثل ما عرفنا ولا تكون أنهارها كالتي تجري في الأرض، ولا حيواناتها مثل حيواناتنا، ولا فواكهها مما نأكل، فنقول أن في هذه الحالة تكون جميع الأوصاف التي وردت في لقرآن الكريم عن الآخرة والقيامة وأحداثها ليست وصفاً حقيقياً، بل جاءت على وجه المجاز وعلى سبيل التشبيه، تقريبا إلى الأذهان، ويكون المراد منها هو تصوير العلاقات الضرورية فيما بين هذه الأشياء الغيبية التي تماثل العلاقات بين الأشياء التي عرفناها. فكما رأينا سابقاً لابد أن يكون بين الحقيقة والمجاز نسبة وإلاّ لما استقام للكلام معنى.

وقد ذكر أبو حامد الغزالي شيئا من هذا القبيل – وإن لم يكن بهذا التفصيل – في كتابه مشكاة الأنوار: «واعلم أن الشهادة بالإضافة إلى عالم الملكوت كالقشر بالإضافة إلى اللّب، وكالصورة والقالب بالإضافة إلى الروح، والظلمة بالإضافة إلى النور، وكالسفل بالإضافة إلى العلو، ولذلك يسمى عالم الملكوت العالم العلوي والعالم الروحاني والعالم النوراني. وفي مقابلته السفلي والجسماني الظلماني.

ولا تظن أنّا نعني بالعالم العلوي السموات، فإنها علو وفوق في حق عالم الشهادة والحس، ويشارك في إدراكه البهائم. وأما العبد فلا يفتح له باب الملكوت ولا يصير ملكوتياً إلاّ ويبدل في حقه الأرض غير الأرض والسموات، فيصير كل داخل تحت الحس والخيال أرضه ومن جملة السموات، وكل ما ارتفع عن الحس فسماؤه، وهذا هو المعراج الأول لكل سالك ابتدأ سفره إلى قرب الحضرة الربوبية»(180).

وقد أبان بهاء الله في كتاب الإيقان المعاني الجليلة المستورة في أصداف هذا المجاز، ولا يسعنا إلاّ أن نورد قبساً من بيانه الأحلى رغم ضيق المجال في هذه الورقات. والذي يقرأ كتاب الإيقان يخرج منه بأنّ المراد بالنّور النّور الرّوحاني الذي هو نظير النور المادي يهدي سواء السبيل. ولما كان مركز النّور في العالم المشهود هو الشّمس، فكذلك مركز النّور لعالم الرّوح هو الرّسول أو الكتاب الإلهيّ الذي هو أصل الهدى، وبمثابة الشّمس الساطعة ينير أفاق الإمكان بالفضائل والعلوم. فالمراد من تكوّر الشمس وإظّلامها، أمرين: الأول:ضعف سلطان الرسالات الإلهية بمرور الزمن وسيطرتها على قلوب البشر، وبضعف نفوذها تنتشر الضلالة المشابهة للظلام، والثاني إشراق الشمس الروحانية في يومها التالي بدرجة أقوى مما كانت عليه سابقاً، بحيث يكون النور السابق بمثابة الظلمة إذا قيس بشدة سطوعها اللاحق، وذلك تمشياً مع التدرج في ارتقاء البشرية وتهذيبها.

أما المقصود بالسماء فهو كل ما يعلو فكر الإنسان، والمقصود بالأرض كل ما هو دان، والمعقولات على درجات في رقيها وسموها، وهي طبقات بعضها فوق بعض، ولكنها جميعاً أدنى من الدين الذي يسمو عليها جميعاً، فهو الذي يصدق عليه اسم السّماء بوجه الإطلاق. ومن هذه السماء العالية تطلع شمس الظّهور الإلهي ويشرق نور الرّسالة الربانية. وكما أنّ شمس الدنيا دائمة الإشراق على الرغم من سحب قد تحجب نورها حيناً من الوقت بعد صعود بخارها من الأرض، كذلك أنوار العالم الرّوحانيّ فيضها دائم على الدوام على الرغم من سحب الأوهام والخرافات التي تحجبها من وقت إلى آخر. فإن أظلم العالم فإلى حين، حتى تنقشع السحب بفعل شمس الحقيقة وقوتها.

وكذلك بيان المقصود من النجوم، فهي ترمز إلى الأئمة الرّوحانيين الّذين يظهرون في سماء الدّين بعد تمام كل رسالة ورحيل مبعوثها عن عالم الفناء. وتساقط النّجوم وانتثارها كناية عن حالتين: الأولى سقوط مقام الأئمة الّذين كانوا يوما ما نجوم الهدى، والثانية طلوع الشمس من جديد لتخفي بنورها الوضاء تلألؤ هذه النجوم مهما عظم شأنها.

وعلى ضوء ما تقدم يستطيع الإنسان أن يوفق بين معاني القيامة وأحداثها الهائلة من انشقاق السماء، وزلزلة الأرض، وتكور الشّمس، وتساقط النجوم، وبين ما ورد في الكتاب عن إشراق الأرض بنور ربّها، وميراث الأرض للمتّقين يتبوّءون من الجنّة حيث يشاءون. أما إذا أخذنا معاني هذه الآيات على ظاهر ألفاظها فإنّنا نباعد بين نص الكتاب والحقائق المشهودة بحيث يستحيل فهم المعاني المقصودة واستيعابها.

وتلخيصاً لكلّ ما تقدم في هذا الباب، فإنّ نفخة الصّور الأولى المتبوعة بالنّفخة الثّانية هي إشارة إلى ظهور مظهرين إلهيين عظيمين، أي رسالتين إلهيتين، واحدة تلو الآخرى مباشرة، وذلك في يوم أطلق عليه اسم «يوم القيامة».

وكما سنرى فيما بعد، قد تحقّقت النّفختان بظهور الباب المبشّر أولاً، وظهور بهاء الله موعود الأمم ثانياً، والّذين حفظهم الله من صعقة الصّور هم الذين أوصلوا حلقات الإيمان بدون إنقطاع، وبادروا إلى مناصرة هذين المظهرين المباركين، وكانوا شهود الحقّ في يوم الله.

ولنتدبّر مرة أخرى في قوله تعالى: ﴿فإذا نقر في النّاقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدتّ له تمهيدا ثمّ يطمع أن أزيد… سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقى ولا تذر لوّاحة للبشر عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النّار إلاّ ملائكة وما جعلنا عدّتهم إلاّ فتنة للّذين كفروا لِيَسْتَيْقِنَّ الّذين أوتو الكتاب و يزداد الّذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الّذين أوتوا الكتاب والمؤمنين وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا﴾(181).

ولنا الآن أن نحاول معا فهم هذه الصّورة التي رسمتها سورة المدثر: نحن أمام ناقور نقر فيه، ونار تسعّرت. فهل أمام مثل هذا الأمر الواقع يكون هناك مجال لفتنة بعد أن مضى وقتها؟ ها هي الجنّة، وها هي النّار، وقضى الأمر: أهل الجنّة للجنّة وأهل النّار للنّار، فمن أين تأتي الفتنة؟ وهل يكون أمام هذا الأمر المبرم مجال لمرضى القلوب ليقولوا ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ أيظلّ الأمر مثلاً حتى بعد أن أزلفت الجنّة وسعّر الجحيم؟

سبحان الله، كيف يستطيع العقل أن يقبل هذه الصورة على معناها الظّاهري؟ إن تأويلها قد تحقق كاملاً بوجوهه المتعددة: فهؤلاء التسعة عشر كانوا أصحاب الجنّة بالنسبة للمتّقين، وكانوا أصحاب النّار بالنسبة لمرضى القلوب – فسلوكهم وصبرهم على الشّدائد والبلايا التّي أحاطت بهم وهم ينشرون نفحات الله، كان العامل الأوّل في تقوية وتشجيع كلّ مقبل، واطمئنان كلّ متوجّه إلى مولاه. و كان أيضا العامل في إثارة المعاندين، وانطلاق مرضى القلوب في إثارة الضجيج والفتنة من حول هذه الزّمرة القليلة، مستهزئين – كما استهزأ الّذين من قبلهم – بالحقّ وأهله قائلين: «ماذا أراد الله بهذا مثلا”، والله تعالى يرد بقوله جل شأنه: ﴿كذلك يضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربّك إلاّ هو وما هي إلاّ ذكرى للبشر﴾(182).

فالسورة المباركة تفصّل في إيجاز وإعجاز الحالة التّي كان عليها النّاس عندما ظهر حضرة الباب. فمن النّاس من شرح الله صدره ودخل في دعوته وازداد إيمانه واطمئنانه، واستعذب البلاء في سبيله، ومنهم من لم يقوِ على الثّبات في وجه الفتنة الشديدة. ومنهم مرضى القلوب الّذين استهزأوا وسخروا بالحقّ وأهله، ثمّ هي في البداية ذكرى للبشر، وفي النّهاية حجّة عليهم.

الفصل الرابع دواعي التّجديد

رأينا في الصفحات السابقة أن كل الشرائع والأديان تعبير عن إرادة كلية واحدة أرادت تربية الإنسان وهدايته إلى سبل التقدم والرقي والعرفان. والنظر إلى الرسالات الدينية المتعاقبة على أنها حلقات متتابعة لدين واحد جوهره إسلام العبد إلى الله وإذعانه للكلمة الإلهية هو التوحيد الحقّ. والدين بهذا المعنى يسمو على الشكليات والفرعيات التي اختلفت من شريعة إلى أخرى تمشياً مع اختلاف ظروف الحياة وضروراتها في الأزمنة التي بعثت فيها، فضلاً عن تفاوت الوعي الروحاني في كل من الأقوام التي بعثت إليها الأديان.

وبعبارة أخرى كانت الرسالات الدينية المتعاقبة بمثابة تجديد للرابطة الوثيقة بين الإنسان وبارئه، وغوث الرحمة الإلهية الدافع للإنسانية نحو آفاق التجديد والتقدم والرقي بنوعيهما الروحاني والمادي، وكلاهما في تطور متواصل لا يتوقف حتى أن الفهم القديم للدين على أنه مجموعة من الشعائر والأحكام لم تعد تتفق مع وجدان الإنسان في العصر الحديث. لقد اتسع مفهوم الدين ليشمل الاستقلال في التفكير الشخصي، والرقابة الذاتية على المشاعر والسلوك، والحكم على الأشياء وفقاً لمبادئ تتوخى الموضوعية والإنصاف واحترام آراء وحقوق الغير.

فأي تصور أو زعم بأن أياً من هذه الرسالات الدينية المتسلسلة الحلقات أبدية، أو القول بتوقف هذه الرسالات وانتهائها بالنسبة للمستقبل هو فهم مرفوض، ولا يستند لا على الحقائق التاريخية ولا على نصوص الكتب السماوية، وإنما هو قول يستغل غموض الكلام الوارد في الكتب المقدسة على سبيل المجاز ليفرض على العامة فكراً يعوزه الدليل ويكذبه الواقع.

فدوام الدورات الدينية وتجددها ضرورة يتطلبها الواقع الإنساني، وكان لكل منها أجل معين قادت في أثنائه الأمم إلى حضارة مزدهرة بالمعارف والفضائل التي أفلت عندما حان أجلها، وقل نفوذها على وجدان الناس عندما عجزت عن تنظيم العلاقات البشرية المتغيرة، والحفاظ على متابعة الإبداع الفكري. وبذلك ضاقت آفاق الفكر، وتوقف الإنتاج العلمي، وانقلب التفكير من التطلع إلى المستقبل والإعداد له إلى النظر إلى الماضي والتمسك به، والاكتفاء بالموروث عن السلف في العصور الغابرة.

وقد رأينا أيضاً أن مهام المرسلين في الماضي شملت التصديق بما سبق، والبشارة بما لحق والتحذير من التورط في أخطاء الأمم السابقة، فإلى أي مدى نفع نصحهم وهاهي أممهم غارقة في هاوية الخلافات، والاقتتال، والتعصب، والتحزب، وإنكار الرسالات الإلهية الجديدة؟

والمتأمل الفطن الذي يرى التخلف يحكم قبضته على ناصية أمتنا، ويشاهد الجمود الفكري ضارباً أطنابه في قلوبنا وعقولنا، ويدرك تشتت آمالنا، وانفراط نظمنا، وانحلال أخلاقنا، لن يفوته عرفان العلة الأولى لهذه العلل. ولا ريب أن الخيار الذي بقي أمامنا لا يخرج عن أمرين: إما أن نلحق بالأمم التي فنت وانعدم ذكرها، وإما أن نسرع إلى مسيرة التقدم الحضاري ونلحق بركب الإصلاح والتجديد. وما نقصده هو ذاك الإصلاح الذي تلده الرسالات السماوية، ويقتضيه الطور الجديد الذي تدخله البشرية، ذاك السراج الوهاج الكفيل بإخراج الأمم من الظلام الديجور إلى أنوار صبح الهدى.

والسطور التالية تعرض قبساً من المبادئ الأساسية لهذا الإصلاح والتجديد الذي ما زلنا في شك من أمره بينما تهافتت عليه أمم أخرى عرفت فيه الوعد الصادق بعلو قدر الإنسان، وقربه إلى أعتاب تقدست عن مدارك البشر، أمم وجدت فيه الأمل الوطيد بسكينة يفيض بها عالم تحققت فيه سبل العدل والسلام والوفاق. فهل تضيع من أيدينا الفرصة السانحة بسبب ما توهمه السلف في عصور غابرة؟

رسالة بهاء الله

في أوائل القرن التّاسع عشر قوي الاقتناع في عدد من المذاهب الدينية بقرب تحقّق نبوءات آخر الزّمان، المؤكّدة لرجوع المسيح، أو ظهور الإمام الغائب، ومجىء المهدى المنتظر، ولكن لم يشمل الاقتناع جميع الناس حيث أنكر البعض إحتمال مجيء مبعوث إلهي آخر. وفي وسط هذه التّكهّنات، ظهرت فرقة الشّيخيّة الّتى أسّسها الشّيخ أحمد بن زين الدّين بن ابراهيم الإحسائىّ، المولود في شبه الجزيرة العربيّة عام ٣٤٧١م.

واهتمّ الشيخ الإحسائى بإصلاح معتقدات الشّيعة: فقال بأن الإمام الموعود لن يخرج من الخفاء أو ينزل على السحاب، وإنما سيولد وفقاً لسنة الله في صورة شخص من أشخاص هذا العالم، وأن المعاد يكون بالجوهر لا بالعنصر الترابىّ، فالجسد يبلى بعد الموت، أما الحشر والنّشر فيكون بالرّوح وهو من الجواهر التي لا يعتريها الفناء. وتوفّى الشّيخ أحمد سنة ١٨٢٦م ودفن بالبقيع، بالمدينة المنوّرة(183).

وتابع أعمال الإحسائى من بعده تلميذه الشّيخ كاظم الرّشتي، وواصل رؤى شيخه في ظهور «الموعود»، وعدّد لتلاميذه أوصافه وعلاماته، وأعلن في أواخر أيّامه أنّ تعاليم الشّيخيّة قد استوفت غرضها في التّهيئة لمجيء الموعود، وأوصى تلاميذه بالتّشتّت في الأرض بحثا عنه. وما أن توفّاه الله حتى هاموا في أرجاء إيران بحثا عن صاحب الزمان(184).

في غضون عام من انتشارهم بحثاً عن «القائم»، التقى أحد أئمّتهم، وهو الملاّ حسين بشروئي، بالسيّد على محمد الشيرازي، أحد أشراف مدينة شيراز، الّّذى دعاه إلى منزله. وسرعان ما انبهر الملاّ حسين بشخص مضيفه، إذ وجده فذّاً في رقّته ووقار شخصيّته، فريداً في وداعته وصفاء سريرته، جذّاباً في حديثه، قوياً في منطقه، يأسر مستمعيه بسحر بيانه. وفي الهزيع الأوّل من تلك اللّيلة الخامسة من جمادى الأولى ٠٦٢١هـ الموافقة لليلة ٢٢ مايو (آيار) ٤٤٨١م كشف السّيد على محمد لضيفه النّقاب عن حقيقة كينونته، وصرّح له بأنه هو «الباب» – وهو لقب يفصح عن أنّه مقدّمة لمجىء «من يظهره الله»، وهو «الظهور» ذاته الّذى بشّر بقرب مجيئه الشّيخان أحمد الإحسائى وكاظم الرّشتى، وجاء ذكره في كتب الدّيانات السّابقة بأسماء وأوصاف متفارقة في ظاهرها، متوافقة في جوهرها وحقيقتها.

استولت الحيرة في أول الأمر على قلب الملاّ حسين لشدة المفاجأة، ولكن سرعان ما استجمع ثقته بوصفه أخصّ تلامذة السّيد كاظم، وأكثرهم إلماماّ بأحاديثه عن الموعود وأوصافه وعلاماته، وباعتباره الباحث الّذى أعدّ نفسه للتّعرف على «الموعود»، فطلب من محدثه الدّليل تلو الدّليل، حتى نزلت في حضوره سورة «قيّوم الأسماء»، فرأى الملاّ حسين في الهيمنة، والاقتدار، والإلهام، المتجلّى أمام ناظريه، اليقين القاطع، والبرهان السّاطع على نزول الوحى الإلهي، فأذعن إلى نداء الله؛ وكان أوّل من صدّق بدعوة الباب الّذى لُقّب أيضا بــِـ «النّقطة الأولى» و«حضرة الأعلى».

وتوالى بعد ذلك تلامذة الشيخين أحمد الإحسائي وكاظم الرشتي في التعرف على شخص الموعود، واعتناق دعوته، ولمّا بلغ عدد المصدّقين بدعوة الباب الجديدة ثمانية عشر، اجتمع بهم حضرة الباب، وأمرهم بالانتشار في الأرض لإبلاغ الناس بتحقق الوعد الإلهي، مذكّراً إيّاهم بأنّهم حملة لواء الله في هذا اليوم العظيم. وأمرهم أن يتحلّوا بصفات المقدسين عن الهوى، فيكونوا في أقوالهم وأعمالهم مصداقاً لتقوى الله، وإسلام الوجه إليه، والاعتصام بأوامره. وأن يشهد حِلّهم وترحالهم على نبل مقصدهم، وكمال فضائلهم، وصدق إيمانهم، وخلوص عبوديّتهم.

وخرج حضرة الأعلى بعد ذلك حاجاً إلى بيت الله الحرام، وبعد أن أعلن دعوته إلى شريف مكّة المكرّمة، عاد إلى مدينته، شيراز، ليواجه معارضة علمائها المستكبرين، وشرّ حاكمها العاتي. بعد أن أتاح غياب حضرته في الأراضي الحجازية الفرصة للمغرضين لينشروا الأكاذيب عن دعوته. فعمل بعد عودته من الحج على تهدئة خواطر النّاس، وعندما اجتمع علماء المدينة ليوجهوا إليه الكثير من الاتّهامات الكاذبة، رأى حضرته الاكتفاء بإنكار الأباطيل المنسوبة إليه، دون الدّخول في شرح تعاليم بعثته، فأشاع مناوئوه أنّه رجع عن دعوته، بينما يتضح للمتفكر في كلامه أنّه قصد التبرّأ من مفترياتهم، دون أن يتطرّق إلى إنكار الدعوة التي أمره الله بالنداء بها بين الناس.

إزاء الاهتمام المتزايد في الداخل والخارج بدعوة الباب أرسل شاه إيران أوثق علمائه وأقدرهم لتحرى حقيقة الأمر، فحضر السّيد يحيى الدّارابي لمباحثة حضرة الأعلى، وانتهى – بعد البحث والمناقشة لعدة أيام – بالتّصديق بالدعوة الجديدة، وانخرط في زمرة أتباع حضرة الباب، فاتهمه عدد من العلماء بالجنون، مع أنّهم كانوا يعتبرونه حتى الأمس أرسخهم علماً، ويعترفون بأنه أقدرهم على تمحيص دعوة الباب.

وحمل ذلك الملاّ محمد علي الزنجاني– وهو من كبار مجتهدى الشّيعة في زمانه – أن يرسل أحد خاصته لبحث حقيقة أمر الباب، وما أن عاد رسوله بالنبأ اليقين حتى أنهى الملاّ محمد مجلس تدريسه مصرحاً بكلمته الشّهيرة: «طلب العلم بعد الوصول إلى المعلوم مذموم».

وقرّر النّفعيون من علماء شيراز ضرورة التّخلّص من الداعي الجديد لوقف انتشار دعوته، ولكن في ذات اللّيلة الّتى قُبض فيها عليه، ظهر وباء الكوليرا بين أهل المدينة، وشاع بين الناس أنه انتقام إلهي على إهانة الباب والقبض عليه، فأمر حاكم مدينة شيراز بإطلاق سراح حضرته، راجياً منه مغادرة المدينة. فقصد حضرة الأعلى مدينة إصفهان، ففزع علماؤها وأفتوا على الفور بكفره. ولما دعاهم حاكمها لمباحثة الباب في أمره، رفضوا ذلك متعلّلين بأن المناظرة تجوز فيما أشكل، أمّا خروج الباب على الشّرع فواضح كالشّمس في رائعة النّهار. وأوصلوا شكواهم إلى ساحة الملك، فصدر الأمر بإقصاء الباب إلى قلعة ماه كوه ومنها بعد فترة وجيزة إلى قلعة چهريق بإقليم آزربايجان.

وكان اختيار الوزير الشرير أقاسي قلعة ماه كوه ثم قلعة چهريق من بعدها مكانا لسجن الباب، وكلتاهما بأرض نائية في أزربايجان، أملاً في عدم اهتمام سكّان تلك الجهات من الأكراد السُّنة بهذه الدّعوة المنتشرة بين الشيعة، ولكن ما أن حضر إليها حضرة الباب حتى انبهر أهلها بدماثة أخلاقه، ورقّة طباعه، وقوّة إيمانه، وخوارق أعماله؛ فالتفّوا حوله، ورحّبوا بكلّّ من قصد لزيارته، وأضحى سجنه مكانا يؤمّه الحجّاج، بعيدا عن مكائد علماء الشّيعة؛ فزادت البابيّة انتشارا، وزاد بذلك همّ العلماء وزاد تباعاً الضغط على الحكومة للتخلص من حضرته.

خلف في هذه الأثناء الأمير ناصر الدين شاه أباه محمّد شاه على العرش ولمّا يتجاوز السّادسة عشر من عمره، وتولّى ميرزا تقى خان الوزارة طليق اليد في أمور الدولة، ومتصوّرا أن إرهاب البابيّين كفيل بوقف انتشار دعوتهم، وكسبه تأييد العلماء لسياسته ومؤازرتهم في دعم سلطته. فأقحم السّلطة المدنيّة مع السّلطة الدّينية في محاربة البابيّة. ولم تحرّك سلطات الدولة ساكناً عندما أغار الغوغاء – بتحريض من العلماء – على البابيّين؛ فاغتصبوا أموالهم، وأراقوا دماءهم، وانتهكوا حرماتهم، ونكّلوا بذويهم، وحيثما حاول المُعْتَدَى عليهم دفع الشّرّ عن أنفسهم، أُتّهموا بإثارة الفتن والاضطرابات.

جمع الباب آنذاك أوراقه وأرسلها مع قلمه وخاتمه إلى حضرة بهاء الله في طهران إشارة إلى وشك انتهاء مهمّته. وبالفعل نُقل بعد ذلك بقليل، مع أربعة من أتباعه إلى تبريز، حيث أعدّت العدّة لقتله. وفي اليوم التّالى لوصوله، أصدر علماء تبريز فتواهم بإعدامه بدون مواجهته، وكُلّف الضابط سام خان رئيس فرقة الجنود الأرمن، بتنفيذ الإعدام: فأوقف الباب ورفيق له في مواجهة ثلّة من الجنود اصطفّوا في ثلاث صفوف على مرأى ومسمع الجموع الغفيرة التي دعيت لمشاهدة هذه المذبحة لتشيع فيما بعد أخبارها بين الجماهير. ثم صدر الأمر بإطلاق البارود؛ وعلا دخّان كثيف تعذرت معه الرّؤية. وبعد انقشاع سحب الدّخان، انصعق المشاهدون لرؤية رفيق الباب قائما بمفرده، وقد تمزّقت الحبال الّتى قُيّد بها، دون أن يصاب هو بأذى، ولا أثر للباب نفسه.

كان الباب سالماً وجالساً داخل الغرفة الّتى اقتيد منها منذ لحظات، يتابع في هدوء إبلاغ آخر وصاياه لأتباعه. وبعد انتهائه من الحديث، قال للحارس المشدوه بباب الغرفة أنّ وقت شهادته قد حان، لكن رفض الحارس اصطحابه مرة أخرى، وكذلك رفض رئيسه سام خان بعد هذه الحادثة أن يكون له يد في قتل الباب، وأمر سام خان جنوده بالانسحاب من المكان.

لم يكن بدٌ أمام العلماء وقادة الجيش من إتمام المؤامرة على حياة الباب خوفا من زيادة انتشار الدّين الجديد إن ذاعت تفاصيل هذا الحادث. فأُُحضرت على الفور فرقة أخرى من الجنود، واقتيد الباب إلى المكان ذاته، وأطلق الرّصاص؛ فتحقّقت بشهادته نبوءة خطّها يراعه في مستهلّ دعوته:

«يا سيّدى الأكبر * ما أنا بشىء إلا وقد أقامتنى قدرتك على الأمر * ما اتّكلّت في شيء إلاّ عليك * وما اعتصمت في أمر إلاّ إليك * يا بقيّة الله قد فديت بكلّّي لك ورضيت السبّ في سبيلك وما تمنّيت إلاّ القتل في محبّتك * وكفى بالله العليّ معتصماً قديماً وكفى بالله شاهداً ووكيلا»(185).

أثّرت واقعة قتل الباب المذهلة على القوى العقليّة لأحد الّذين قاموا على خدمته وتعلّقوا بشخصه إلى حدّ بعيد، فتصوّر هذا المخبول أنّ واجب الوفاء لسيده يفرض عليه الانتقام له، وعزم على قتل الشّاه. ولكنه – وهذا من دلائل ضعف عقله – استخدم أداة لا تميت؛ فأصاب الشّاه بجروح طفيفة. ولكن وجد أعداء البابيّة في هذا الاعتداء فرصة للفتك بالبابيّين من جديد ونهب ما تبقى من أموالهم، فاتُّهم البابيّيون جميعا بالتآمر على حياة الشّاه؛ واقتيدوا أفواجا إلى مقرّ الشّهادة كما امتلأت السّجون بمن بقي منهم على قيد الحياة.

قضت موجة الفتك والتنكيل والسّلب والنهب على آلاف الأبرياء، ولكن مضت دعوتهم قدماً وامتدّ نفوذها إلى خارج إيران وبلغت شرق الأرض وغربها، وتُرجمت كتبها إلى لغات مختلفة، وأضحى مرقد الباب محجّا تؤمّه الملايين، بينما خوت قصور الملوك والوزراء الّذين حاربوه، واندكّت عروشهم دكاً، وأضحت قبورهم هشيماً تذروه الرّياح.

أما الدين البهائي فهو النور الإلهي الّذى هيّأت له دعوة الباب. وأحداثهما التاريخية مرتبطة، يتعذّر تحديد خطّ فاصل بينهما، إلاّ أّنّ بهاء الله أوضح أنّ بعثته بدأت أيّام سجنه في سياه چال بطهران. وبهاء الله هو اللّقب الّذى عُرف به ميرزا حسين علي النّورى، وهو سليل مجد وشرف، إذ كان أبوه ميرزا عبّاس المشهور بميرزا بزرگ، أحد النّبلاء المقرّبين إلى بلاط الملك فتح على شاه، وحاكما على منطقة بوروجيرد ولوريستان.

واتّصف بهاء الله منذ طفولته بحميد الخلال، وجميل الخصال، وتميّز بحدّة الذّكاء، ورجاحة العقل، والشّجاعة والإقدام، وأبدى منذ بكرة صباه كفاءة ومهارة فائقتين في حلّ أعقد المشاكلّ، وأظهر معرفة وعلماً لَدُنِّيّاً أدهشا مَن حوله من كبار رجال الدّولة. ورغم كثرة ما عُرض عليه من المناصب الرفيعة في الدّولة، أبى حضرته قبولها وانصرف كلّّية إلى أعمال البرّ، ورعاية المساكين، منفقا ماله الخاص على الفقراء والمعوزين.

وبعد محاولة الاعتداء على حياة الشّاه، قضى حضرة بهاء الله أربعة شهور سجينا في طهران، بوصفه أحد أقطاب البابية، وبات ينتظر دوره للإعدام بدون أي تحقيق أو محاكمة. فتصدى بعض أصدقاء عائلته الكريمة للدفاع عنه ونجحوا في إقناع الملك بإجراء التّحقيق في حقيقة التهم الموجهة إلى هؤلاء الأبرياء. وفعلاً ثبتت براءة بهاء الله من التورط في الاعتداء على الشاه، فأطلق سراحه، ولكن – تفادياً لزيادة انتشار البابية – أمرت السّلطات الإيرانية بإبعاده من أراضيها، وصادرت أمواله، فقصد إلى العراق.

وبعد إقامة قصيرة في بغداد قرّر حضرته الاعتزال في جبال السّليمانيّة حيث انقطع متعبّدا في خلوة دامت عامين، لم يكن أحد يعلم خلالها مكانه. وعندما عُرف مكانه انهالت عليه التوسّلات للعودة لجمع شمل البابيين، وتنظيم صفوفهم من جديد.

اهتمّ بهاء الله أثناء مقامه في بغداد بشرح وبيان تعاليم الباب على نحو لا يمكن أن يكون إلاّّ إلهاما إلهيّا. ومن بين مآثر هذه الفترة رسالتان على جانب عظيم من الأهميّة، وهما: «الكلمات المكنونة»، و«كتاب الإيقان». تتعدى الرّسالة الأولى حدود جمال التّصوير، وبلاغة اللّفظ، ورقّة التّعبير، إلى عمق المعنى، وسموّ الفكرة، مع شدّة الاختصار وسحر البيان، وهى موجز للفضائل والإلهيّات الّتى جاءت بها الأديان سابقاً، أو كما قدّم لها بهاء الله نفسه:

(هذا ما نُزّل من جبروت العِزّة بلسان القُدرة والقوّة على النبيّين من قَبل، وإنّا أخذنا جواهره وأقمصناه قميص الاختصار فضلا على الأحبار، ليوفوا بعهد الله ويؤدّوا أماناته في أنفسهم، وليكونّن بجوهر التُّقى في أرض الرّوح من الفائزين.)

وفي الرسّالة الثّانية يفيض بيانه الأحلى بتفسير آيات الكتب المقدّسة السّابقة على نحو يُبرز وحدة معانيها ومقاصدها، ويُلفت الأنظار إلى أبديّة الأديان، وعدم محدوديّة رسالتها الروحانية رغم انحصار أحكامها في حيّز زمانيّ. وخلت الرّسالتان من أيّ إشارة إلى أمره الجديد، ولكن فتح كتاب الإيقان آفاقا فسيحة أمام الفكر الدينىّ لكلّّ المهتمّين بالرّوحانيات، مهيّئا الأذهان لإعلان دعوته المباركة.

بقى بهاء الله في بغداد قرابة عشر سنوات، علت أثناءها شكوى البلاط الفارسيّ من ازدياد نفوذه في تلك المنطقة التي يحجّ إليها الشّيعة من أهل إيران، وزادت مخاوف البلاط الإيرانىّ من ازدياد نفوذها بعد زيارة عدد من أفراد هذا البلاط الملكي نفسه لبهاء الله في منزله المتواضع ببغداد. وأبلغت الحكومة الإيرانية مخاوفها وشكواها إلى عاصمة الدولة العثمانية التي كانت تتبعها العراق آنذاك، فأمر السّلطان عبد العزيز بحضور بهاء الله إلى إستنبول. وبينما كان يتأهّب ركبه للرّحيل عن بغداد في ربيع عام ١٨٦٣، أعلن بهاء الله لأصحابه بأنّه الموعود الّذى بشّر بظهوره الباب، والّذى بظهوره تتحقق نبوءات ووعود الأديان السّابقة.

وبعد وصول بهاء الله وصحبه إلى مدينة إستنبول في منتصف أغسطس (آب) ٣٦٨١، بعد رحلة دامت ثلاثة شهور ونصف على ظهور الدّواب، خلال جبال وعرة، نما إلى علمهم قرار إبعادهم إلى أدرنة، الّتى وصلوها يوم ١٢ ديسمبر (كانون أوّل) من نفس السّنة. وهناك قام بهاء الله بعد استقراره في هذه المدينة، وطيلة السّنوات الخمس التي دام بقاؤه فيها، بتفصيل أصول دعوته، وشرح النبوءات والوعود الإلهيّة الخاصّة بمجيئه، وتهذيب وتقويم أخلاق أصحابه وأتباعه، ومنذراً بانتشار الفساد وازدياد الخلافات بين أمم العالم نتيجة لانصراف الناس عن التعاليم الإلهية، والاستهانة بشأن الدين، والإعراض عن النداء الإلهي الجديد.

ووضع بهاء الله في تلك الأيام هيكل نظام عالمي جديد كفيل بحفظ الأمن في العالم، وإرساء السّلام على قواعد العدل والتّآزر، فأمر بالحد من التسلح، ونصح بفض المنازعات الدولية بالطرق السلمية. وضمّن المبادئ التي يقوم عليها نظامه العالمي رسائله إلى من بيدهم زمام الحكم في العالم من ملوك ورؤساء وسلاطين، داعياً إياهم ليعيدوا تنظيم المجتمع الإنساني على الأسس الجديدة التي وضعها، منذراً إياهم – جمعاً وطراً – مغبّة رفض هذه الدعوة الإلهية، ومؤكداً لهم أنه لا يطمع في جاه أو شهرة، ولا يسعى إلى كسب دنيوي، وإنما ينادي بأمر إلهي لا يملك حياله إلاّ الطاعة. وعدّد لكل منهم ما ينتظره إن هو ألقى بكلمة الله عن ورائه واستصغر الحق. وقد حاق فعلاً بكلّّ منهم ما أنذره من مذلة وخسران مادّي ومعنوّي نتيجة استكبارهم وعدم مبالاتهم بهذه الرّسالة السّماويّة رغم ما كانوا عليه من عزّ مبين. وبعد إقامة دامت خمس سنوات في أدرنة صدر فرمان السلطان عبد العزيز بنفي بهاء الله وآله وصحبه إلى مدينة عكّا، المعتبرة آنذاك مآل المجرمين العتاة، والمغضوب عليهم في الدولة العلية.

أعاد سجن بهاء الله في عكّا إلى الأذهان الأحاديث النبوية الشريفة المرويّة عن منزلتها والتي لم يعرف السابقون مبرّراً لها في تاريخ تلك البقعة الخربة من العالم. ومع ذلك لما ورد بهاء الله إليها يوم ٣١ أغسطس ٨٦٨١ لم يخرج أهلها مرحّبين بمن أفاض على مدينتهم قدسيتها، ولكـن اجتمعوا ليسخروا بمن وصفه فرمان السلطان بمدّعي الألوهيّـة، الذي حكم عليه وأفراد عائلته – بدون محاكمة – بالسّـجن مـدى الحـياة. وزاد الفرمان تحذيره لأهالى عكا وما حولها من مغبّة الاختلاط بهؤلاء الأشرار أو معاشرتهم.

واقع الأمر أن العزلة الّتى فُرضت على بهاء الله في سجن عكّا كانت دعامة لهذا الظّهور المبارك، فبدأت فترة غنيّة بتنزيل الآيات والألواح، وواصل حضرته من السّجن إبلاغ دعوته إلى ملوك ورؤساء العالم، وفصّل معالم النّظم العالمى الّذى أبدعه، وأنزل في «الكتاب الأقدس» أحكام الشريعة الجديدة، وأجاب على أسئلة مستفسريه، وحرّر كتاب عهده وميثاقه، وحدّد الهيئات والقيادات المستقبلة لإدارة أمر دينه، وبين وظيفة وسلطة كلّّ منها، وعين ابنه البكر – عبد البهاء – ليتولّى إدارة شئون أمره وتفسير تعاليمه من بعده. وبقى سجيناً في مَرْجِ عكّا حتى صعدت روحه إلى الرّفيق الأعلى في فجر يوم ٢٩ مايو (آيار) سنة ٢٩٨١ ميلادية.

المبادئ التي أعلنها بهاء الله

لا يمكن التعريف بالمبادئ والتعاليم والأحكام التي أمر بها بهاء الله في العجالة التي يفرضها الحيز المحدود لهذه الصفحات، ولكن يكفي أن يتعرف القارئ – مؤقتاً – على بعض الدعائم الأساسية التي يقوم عليها الدين البهائي وتتناول تفصيلها تعاليمه وأحكامه، حتى يتسنى له أن يلمس بنفسه مدى قدرتها على إبراء العالم من علله المميتة، ويرى بعينه النور الإلهي المتشعشع من ثناياها، فتتاح لمن يريد المزيد من البحث والتحري أن يواصل جهوده في هذا السبيل.

وأول ما يسترعي الانتباه في المبادئ التي أعلنها بهاء الله طبيعتها الروحانية البحتة، فهي تأكيد بأن الدين ليس مجرد نعمة سماوية فحسب، بل هو ضرورة لا غنى عنها لاطمئنان المجتمع الإنساني واتحاده وهما عماد رقيه مادياً وروحانياً. وفي ذلك يقول بهاء الله: «إن الدين هو النور المبين والحصن المتين لحفظ أهل العالم وراحتهم، إذ أن خشية الله تأمر الناس بالمعروف وتنهاهم عن المنكر»(186) كما يتفضل أيضاً في موضع آخر: «لم يزل الدين الإلهي والشريعة الربانية السبب الأعظم والوسيلة الكبرى لظهور نيّر الاتحاد وإشراقه. ونموّ العالم وتربية الأمم، واطمئنان العباد وراحة من في البلاد منوط بالأصول والأحكام الإلهية»(187).

ولكن القدرة والحيوية والإلهام التي يفيض بها الدين على البشر لا يدوم تأثيرها في قلوبهم إلى غير نهاية، لأن القلوب البشرية بحكم نشأتها خاضعة لناموس الطبيعة الذي لا يعرف الدوام بدون تغيير. وقد ذكر سبحانه وتعالى في مواضع عدة من القرآن الكريم قسوة قلوب العباد من بعد لينها لكلماته كما جاء في سورة الحديد مثلاً: ﴿ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون﴾(188).

فبدار الناس إلى الاستجابة لأوامر الله محدد بأمد معين، تقسوا قلوبهم من بعده وتتحجّر فتضعف استجابتها لكلمة الله وبالتالي لإسلام الوجه إليه، فينتشر الفساد إيذاناً بحين الكرة. فتعاقب الأديان ليس مجرد ظاهرة مطّّردة فحسب، بل هي تجديد متكرر للرباط المقدس بين الإنسان وبارئه، وتجديد للقوى الّتى عليها يتوقف تقدمه، جديد للنّهج الّذى يضمن بلوغه الغاية من خلقه، فهو بمثابة الرّبيع الّذى يجدّد عوده المنتظم نضرة الكائنات، ولذا يصدق عليه اسم البعث الذي يطلق الطّاقة الرّوحانيّة اللاّزمة لنماء المواهب الكامنة في الوجود الإنساني. وفي هذا المعنى يتفضل حضرة بهاء الله: «هذا دين الله من قبل ومن بعد مَن أراد فليقبل ومَن لم يرد فإن الله لغني عن العالمين»(189).

فتجديد الدين إذاً، سنّة متواترة بانتظام منذ بدء النشأة الأولى، وهو تجديد لأن أصول الرسالات السماوية ثابتة وواحدة، وكذلك غاياتها ومصدرها، ولكن أحكامها هي العنصر المتغير وفقاً لمقتضى الحاجة في العصر الذي تظهر فيه، لأن مشاكل المجتمعات الإنسانية تتغير، ومدارك البشرية تنمو وتتبدل، ولابد من أن يواجه الدين هذا التغيير والتبديل فيحل مشاكل المجتمع ويخاطب البشر بحسب نمو مداركهم، وإلاّ قصر عن تحقيق مهامه.فما جاء به الأنبياء والرّسل كان بالضّرورة على قدر طاقة النّاس في زمانهم وفي حدود قدرة استيعابهم، وإلاّ لما صلح كأداة لتنظيم معيشتهم، والنّهوض بمداركهم في التّقدم المتواصل نحو ما قدره الله لهم.

والمتأمل في دراسة الأديان المتتابعة بدون تعصب يرى في تعاليمها السامية خطة إلهية تتضح معالمها على وجه التدريج، غايتها توحيد البشر. فالواضح في تعاليم الأديان المختلفة سعيها المتواصل لتقارب البشر وتوحيد صفوفهم على مراحل متدرجة وفقاً للإمكانيات المتوفرة في عصورهم. ولهذا فإن المحور الذي تدور حوله جميع تعاليم الدّين البهائىّ هو وحدة الجنس البشرىّ قاطبة؛ اتحاد لا يفصمه تعصّب جنسي أو تعصّب ديني أو تعصّب طائفي أو تعصّب طبقي أو تعصّب قومي، وهذا في نظر التعاليم البهائية أسمى تعبير للحب الإلهي، وهو في الواقع أكثر ما يحتاجه العالم في الوقت الحاضر.

ولكن لا يمكن تحقيق هذا الركن الركين لسلام البشرية ورخائها وهنائها إلاّ بقوة ملكوتية، ومدد من الملأ الأعلى مؤيد بشديد القوى، لأنه هدف يخالف المصالح المادية التي يهواها الإنسان ويسعى إليها بحكم طبيعته، وكلها مصالح متباينة ومتضاربة ومؤدية إلى الاختلاف والانقسام. وقد نبّه حضرة عبد البهاء إلى إلتزام البهائيين بهذا المبدأ بقوله: «إن البهائي لا ينكر أي دين، وإنما يؤمن بالحقيقة الكامنة فيها جميعاً، ويفدي نفسه للتمسك بها، والبهائي يحب الناس جميعاً كأخوته مهما كانت طبقتهم أو جنسهم أو تبعيتهم، ومهما كانت عقائدهم وألوانهم سواء أكانوا فقراء أم أغنياء، صالحين أم طالحين».

ولو أعدنا قراءة التاريخ وتفسير أحداثه بمعايير روحانية لتحقق لنا أن هذا الهدف لم يهمله الرسل السابقون، وإنما اقتضت ظروف أزمنتهم تحقيق أهداف كانت حاجة البشرية لها أكبر في عصورهم، والاكتفاء بالتمهيد للوحدة الإنسانية انتظاراً لحين توفر الوسائل المادية والمعنوية لتحقيقها. وقد وحدت تعاليم السيد المسيح بين المصريين والأشوريين وبين الرومان والإغريق بعد طول انقسام وعديد من الحروب المهلكة. كما وحدت تعاليم الإسلام بين قبائل اتخذت من القتال وسيلة للكسب، وجمعت أقواماً متباينة مآربها، مختلفة حضاراتها، متنوعة ثقافاتها، متعددة أجناسها؛ من عرب وفرس وقبط وبربر وأشوريين وسريان وترك وأكراد وهنود وغيرها من الأجناس والأقوام.

وهكذا تهيأت بالتدريج الوسائل والظروف لكي تشيد التعاليم البهائية الإتحاد الكامل الشامل للجنس البشري بأسره في هذا العصر الذي يستعصي فيه التوفيق بين ثقافات وحضارات الشرق والغرب، ويقدم توحيدهما تحدياً أعظم من التحديات التي اعترضت سبيل توحيد الأمم في العصور السالفة.

ألا يذكرنا التوافق بين ظهور رسالة بهاء الله والتغيير الذي شمل أوضاع العالم بالتغييرات الجذرية التي حققتها الرسالات الإلهية السابقة في حياة البشر؟ ألا يدعونا هذا التوافق إلى التفكير في الرباط الوثيق بين الآفاق الجديدة التي جاءت في رسالة بهاءالله وبين التفتح الفكري والتقدم العلمي والتغيير السياسي والاجتماعي الذي جدّ على العالم منذ إعلان دعوته؟

ومهما بدت شدة العقبات وكثرتها فقد حان يوم الجمع بعد أن أعلن حضرة بهاء الله:
«إن ربكم الرحمن يحبّ أن يرى من في الأكوان كنفس واحدة» (190)، ويتميز المجتمع البهائي العالمي اليوم بالوحدة التي تشهد لهذا الأمر والتي جمعت نماذج من كافة الأجناس والألوان والعقائد والأديان والقوميات والثقافات وأخرجت منها خلقاً جديداً، إيذاناً بقرب اتحاد البشرية وحلول السلام والصلح الأعظم، إنها المحبة الإلهية التي تجمع شتات البشر فينظر كل منهم إلى باقي أفرادها على أنهم عباد لإله واحد وهم له مسلمون. إن فطرة الإنسان التي فطره الله عليها هي المحبة والوداد، والأخوة الإنسانية منبعثة من الخصائص المشتركة بين أفراد البشر، فالإنسانية بأسرها خلق إرادة واحدة، وقد خرجت من أصل واحد، وتسير إلى مآل واحد، ولا وجود لأشرار بطبيعتهم أو عصاة بطبعهم، ولكن هناك جهلة ينبغي تعليمهم، وأشقياء يلزم تهذيبهم، ومرضى يجب علاجهم. حينئذ تنتشر في الأرض أنوار الملكوت، ويملؤها العدل الإلهي الموعود.

كان الاتحاد دائماً هدفاً نبيلاً في حدّ ذاته، ولكنه أضحى اليوم ضرورة تستلزمها المصالح الحيويّة للإنسان. فالمشاكلّ الّتى تهدد مستقبل البشريّة مثل: حماية البيئة من التلوث المتزايد، واستغلال الموارد الطبيعيّة في العالم على نحو عادل، والحاجة الماسة إلى مشروعات التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة في الدّول المتخلّفة، وإبعاد شبح الحرب النّوويّة عن الأجيال القادمة، ومواجهة العنف والتّطرف اللّذين يهددان بالقضاء على الحريّات والحياة الآمنة، وعديد من المشاكلّ الأخرى، يتعذر علاجها على نحو فعّال إلاّ من خلال تعاون وثيق مخلص يقوم على أسس من الوفاق والاتحاد على الصّعيد العالمىّ، وهذا ما أوجبه حضرة بهاء الله: «يجب على أهل الصفاء والوفاء أن يعاشروا جميع أهل العالم بالروح والريحان لأن المعاشرة لم تزل ولا تزال سبب الاتحاد والاتفاق وهما سببا نظام العالم وحياة االأمم. طوبى للذين تمسّكوا بحبل الشفقة والرأفة وخلت نفوسهم وتحررت من الضغينة والبغضاء».(191)

علّمنا التّاريخ، ومازالت تعلّمنا أحداث الحاضر المريرة، أنّه لا سبيل لنزع زؤان الخصومة والضّغينة والبغضاء وبذر بذور الوئام بين الأنام، ولا سبيل لمنع القتال ونزع السّلاح ونشر لواء الصّلح والصّلاح، ولا سبيل للحدّ من الأطماع والسّيطرة والاستغلال، إلا بالاعتصام بتعاليم إلهية وتشريع سماويّ تهدف أحكامه إلى تحقيق هذه الغايات، ومن خلال نظام عالمي بديع يرتكز على إرساء قواعد الوحدة الشّاملة لبني الإنسان وتوجيه جهوده إلى المنافع التي تخدم المصالح الكلية للإنسانية.

وفي الحقيقة والواقع أن حسن التفكير والتدبير مساهمان وشريكان للهداية التي يكتسبها الإنسان من الدين في تحقيق مصالح المجتمع وضمان تقدمه. فإلى جانب التسليم بأن الإلهام والفيض الإلهي مصدر وأساس للمعارف والتحضر، لا يجوز أن نغفل دور عقل الإنسان أو نبخس حقه في الكشف عن أسرار الطبيعة وتسخيرها لتحسين أوجه الحياة على سطح الأرض، فهو من هذا المنظور المصدر الثاني للمعارف اللازمة لمسيرة البشرية على نهج التمدن، والتعمق في فهم حقائق العالم المشهود.

وقد تعاون العلم والدّين في خلق الحضارات وحلّ مشاكل ومعضلات الحياة، وبهما معا تجتمع للإنسان وسائل الرّاحة والرّخاء والرّقي ماديّا وروحانيّا. فهما للإنسان بمثابة جناحي الطّير، على تعادلهما يتوقّف عروجه إلى العُلى، وعلى توازنهما يقوم اطّراد فلاحه. أما إذا مال الإنسان إلى الدّين وأهمل العلم ينتهي أمره إلى الأوهام وتسيطر على فكره الخرافات، وعلى العكس إذا نحا نحو العلم وابتعد عن الدّين، تسيطر على عقله وتفكيره ماديّة مفرطة، ويضعف وجدانه، مع ما يجره الحالان على الإنسانية من إسفاف وإهمال للقيم الحقيقية للحياة. ولعل البينونة التي ضاربت أطنابها بين الفكر الديني والتفكير العلمي هي المسئول الرّئيس عن عجز كليهما عن حسن تدبير شئون المجتمع في الوقت الحاضر.

لقد وهب الله العقل للإنسان لكي يحكم به على ما يصادفه في الحياة فهو ميزان للحكم على الواقع، وواجب الإنسان أن يوقن بصدق ما يقبله عقله فقط، ويعتبر ما يرفضه عقله وهماً كالسراب يحسبه الناظر ماء ولكن لا نصيب له من الحقيقة. أما إذا دام الإصرار على تصديق ما يمجّه العقل فما عساها تكون فائدة هذه المنحة العظمى التي منّ الله بها على الإنسان وميّزه بها عن الحيوان. فكما أن الإنسان لا يكذّب ما يراه بعينيه أو ما يسمعه بأذنيه فكذلك لا يسعه إلاّ أن يصدّق بما يعيه ويقبله عقله. والحق أن العقل يفوق ما عداه من وسائل الإدراك فكل الحواس محدودة في قدراتها بالنسبة للعقل الذي لا تكاد تحدّ قدراته حدود، فهو يدرك ما لا يقع تحت الحواس ويرى ما لا تراه العين وينصت لما لا تصله إلى سمعه الآذان، ويخرق حدود الزمان والمكان فيصل إلى اكتشاف ما وقع في غابر الأزمان ويبلغ إلى حقائق الكون ونشأته والناموس الذي يحكم حركته. ومن الحق أن كل ما عرفه الإنسان من علوم وفنون واكتشافات وآداب هي من بدع هذا العقل ونتاجه. أفلا يكفي عذراً إذن لمن ينكرون الدين في هذه الأيام أن كثيراً من الآراء الدينية التي قال بها المفسرون القدماء مرفوضة عقلاً، ومناقضة للقوانين العلمية والقواعد المنطقية التي توصّل إليها العقل؟

والمبدأ المرادف للمبدأ السابق هو مسئولية الإنسان في البحث عن الحقيقة مستقلا عن آراء وقناعات غيره، وبغض النظر عن التقاليد الموروثة والآراء المتوارثة عن السلف والقدماء مهما بلغ تقديره لمنزلتهم ومهما كانت مشاعره بالنسبة لآرائهم. وبعبارة أخرى يسعى لأن تكون أحكامه على الأفكار والأحداث صادرة عن نظر موضوعي نتيجة لتقديره ورأيه تبعاً لما يراه فيها من حقائق. إن الاعتماد على أحكام وآراء الغير تسبب في الإضرار بالفكر الديني والتفكير العلمي وملكة الإبداع في كثير من الأمم، فإحباط روح البحث والتجديد التي نعاني منها اليوم كانت نتيجة التقليد الأعمى واتباع ما قاله السلف والتمسك بالموروث بدون تدقيق في مدى صحته أو نصيبه من الحقيقة أو اختبار أوجه نفعه.

فواجبنا اليوم أن نتحرى الحقيقة ونترك الخرافات والأوهام التي تشوب كثيراً من تصورات ومفاهيم وتفاسير السلف في مختلف الميادين وعلى الأخص فيما يتعلق بالمعتقدات والتفاسير الدينية. لقد خلق الله العقل في الإنسان لكي يطلع على حقائق الأشياء لا ليقلد آباءه وأجداده تقليداً أعمى. وكما أن كل من أوتي البصر يعتمد عليه في تبين الأشياء، وأن كل من أوتي السمع يعتمد عليه في التمييز بين الأصوات، فكذلك واجب كل من أوتي عقلاً أن يعتمد عليه في تقديره للأمور ومساعيه لتحري الحقيقة واتباعها. وذلك هو النصح والتوجيه الإلهي حيث قال تعالى: ﴿ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً﴾(192).

وإهمال المرء الاستقلال في بحثه وأحكامه يورث الندامة. فقد رفض اليهود كلاً من رسالة المسيح ورسالة محمد نتيجة لإحجامهم عن البحث المستقل عن الحقيقة واتباع التقاليد والأفكار الموروثة، من ذلك نبوءات مجيء المسيح – التي وفقاً للتفاسير الحرفية التي قال بها السلف – أنه سيأتي ملكاً ومن مكان غير معلوم بينما بُعث المسيح فقيراً وجاءهم من بلدة الناصرة، وبذلك أضلتهم أوهام السلف عن رؤية الحقيقة الماثلة أمام أنظارهم ومنعتهم عن إدراك المعاني الروحانية المرموز إليها في تلك النبوءات. ثم أدى التشبث بمفاهيم السلف إلى بث الكراهية والعداوة بينهم وبين أمم أخرى دامت إلى يومنا هذا. وما ذلك إلاّ بسبب الانصراف عن إعمال العقل والاستقلال في التعرف على الحقيقة.

ومن مبادئ الدّين البهائيّ التحرر من جميع ألوان التّعصّب. فالتّعصّبات أحكام ومعتقدات نسلّم بصحتها بدون مزيد بحث أو تحر لحقيقتها، ونتّخذها أساساً لتحديد مواقفنا، وعلى هذا تكون التّعصّبات جهالة من مخلّفات التفكير القبليّ، وأكثر ما يعتمد عليه التّعصّب هو التّمسك بالمألوف وتجنب الجديد، لمجرد أن قبوله يتطلّب تعديلا في القيم والمعايير الّتى نبنى عليها أحكامنا. فالتّعصّب نوع من الهروب، ورفض لمواجهة الواقع.

بهذا المعنى، التّعصّب أياً كان، جنسيّا أو عنصريّا أو سياسيّا أو عرقيّا أو مذهبيّا، هو شرّ يقوّض أركان الحقّ ويفسد المعرفة، بقدر ما يدعّم قوى الظّلم ويزيد سيطرة الجهل. وبقدر ما للمرء من تعصّب يضيق نطاق تفكيره وتنعدم حريّته في الحكم الصّحيح. ولولا هذه التّعصّبات لتجنب الناس في الماضي كثيراً من الحروب والاضطهادات والمظالم والانقسامات. ولازال هذا الدّاء ينخر في هيكل المجتمع الإنسانيّ، ويسبّب الحزازات والأحقاد الّتى تفصم عرى المحبّة والوداد. إنّ الرسالة البهائيّة بإصرارها على ضرورة القضاء على التّعصّب، إنمّا تحرّر الإنسان من نقيصة مستحكمة، وتبرز دوره في إحقاق الحقّ وأهميّة التمسك بخصال العدل والنّزاهة والإنصاف في كل الأمور.

ومن مباديء الدّين البهائيّ مبدأ التّضامن والتآزر بين أفراد المجتمع الإنساني بغية القضاء على الفقر المدقع. فالعَوَز قد كان ومازال داء يهدّد السّعادة البشريّة ويحرم الفقراء من الضروريات ويسلبهم الحياة الكريمة، كما يزعزع الفقر أركان الاستقرار والأمن في المجتمع. وقد اقتصرت محاولات الماضي في معظم الأحيان على الصدقات الخيرية فردية أكانت أم جماعية، ولم يصل العزم على القضاء على الفقر في أي وقت سابق إلي درجة الوجوب والإلزام على المجتمع. ولذا طال أمد الفقر واستشرى خطره في وقتنا الحاضر، وأصبح أقوى عامل يعوّق جهود الإصلاح والتّنمية في أكثر المجتمعات، وامتدّت شروره إلى العلاقات بين الدّول والجماعات لتجعل منه سبباً لأزمات حادّة وأخطار عظيمة.

ولا يعني ذلك أن المساواة المطلقة بين الناس في النواحي المادية للحياة ممكنة أو أن من ورائها جدوى مادامت كفاءات البشر غير متساوية. إلاّ أن من المؤكّد أيضاً أنّ لتكديس الثّروات في أيدى الأغنياء مخاطر ونكسات لا يستهان بهما. ففي تفشّى الفقر المدقع إلى جوار الغنى الفاحش مضار محقّقة تهدّد السّكينة الّتى ينشدها الجميع، وإجحاف يتنافى مع العدل ومع مشاعر الأخوة التي يجب أن تسود بين الناس، ولذلك ينبغي إعادة تنظيم وتنسيق النظريات الاقتصادية على أسس روحانية حتى يحصل كلّّ فرد على نصيب من ضرورات الحياة الكريمة كحق لا صدقة. فإن كان تفاوت الثّروات أمراً لا مفرّ منه، فإنّ في الاعتدال والتّوازن ما يحقّق كثيراً من القيم والمنافع، ويتيح لكلّّ فرد حظّاً من نعم الحياة.لقد أرسى بهاء الله هذا المبدأ على أساس دينيّ ووجدانيّ، كما أوصى بوضع تشريع يكفل المواساة والمؤازرة بين بني الإنسان، كحقّ للفقراء. وأوصى حضرته بالفقراء في مواضع كثيرة من وصاياه: «لا تحرموا الفقراء عمّا أتاكم الله من فضله وإنه يجزي المنفقين ضعف ما أنفقوا إنه ما من إله إلاّ هو له الخلق والأمر يعطي من يشاء ويمنع عمن يشاء وإنه لهو المعطي الباذل العزيز الكريم»(193).

ومن واجبات البهائىّ السعى إلى اكتساب الصفات الملكوتية والتخلق بالفضائل الأمر الذي أكد عليه حضرة بهاء الله: «الخُلٌق إنه أحسن طراز للخلْق من لدى الحقّ، زيّن الله به هياكل أوليائه، لعمري نوره يفوق نور الشمس وإشراقها. مَن فاز به فهو من صفوة الخلْق، وعزّة العالم ورفعته منوطة به»(194)، فمن بين الغايات الرئيسة للدين تعليم الإنسان وتهذيبه. وما من رسول إلا وأكد على هذا الهدف الجليل الّذى ينشد تطوير الإنسان من كائن يريد الحياة لذاتها، إلى مخلوق يريد الحياة لما هو أسمى منها، ويسعى فيها لما هو أعزّ من متاعها وأبقى، ألا وهو اكتساب الفضائل الإنسانيّة والتّخلّق بالصّفات الإلهيّة تقرّبا إلى الله «إن أوامره هي الحصن الأعظم لحفظ العالم وصيانة الأمم. نوراً لمن أقرّ واعترف وناراً لمن أدبر وأنكر»(195).

أمر بهاء الله في الكتاب الأقدس: «زيّنوا رؤوسكم بإكليل الأمانة والوفاء، وقلوبكم برداء التقوى، وألسنكم بالصدق الخالص، وهياكلكم بطراز الآداب، كل ذلك من سجية الإنسان لو انتم من المتبصرين. يا أهل البهاء تمسكوا بحبل العبودية الله الحقّ بها تظهر مقاماتكم وتثبت أسماؤكم وترتفع مراتبكم وأذكاركم في لوح حفيظ»(196). فالقرب إليه تعالى ليس قربا مادياً، ولكن قرب مشابهة وتحلّ بصفاته بقدر كفاءة الإنسان وهذا يفرض على البهائىّ أوّلاً: السّعى للتّعرّف على التعاليم والأحكام الجليلة التي أظهرها مشرق وحيه ومطلع إلهامه، وثانياً: اتّباعها في حركته وسكونه، وفي ظاهره وباطنه: «إن الجنود المنصورة في هذا الظهور هي الأعمال والأخلاق المرضية، وإن قائد هذه الجنود تقوى الله»(197) فالعمل بما أنزل الله هو فرع من عرفانه، وليس المقصود بعرفان الصفات الإلهية التّصوّر الذهنيّ لمعانيها، وإنما الاقتداء بها في القول والعمل وفي ذلك تتمثّل العبوديّة الحقّة الله، تنزّه تعالى عن كلّّ وصف وشبه ومثال. وقد أوجز حضرة بهاء الله هذه الحقيقة في قوله: «قل إن الإنسان يرتفع بأمانته وعفّته وعقله وأخلاقه، ويهبط بخيانته وكذبه وجهله ونفاقه. لعمري لا يسمو الإنسان بالزينة والثروة بل بالآداب والمعرفة»(198).

وينهي الدين البهائي عن ارتكاب الفواحش وما لا يليق بمرتبة الإنسان من القتل والضرب والشجاج، والسرقة والخيانة، والغش والخداع، والسلب والنهب وحرق البيوت، ويحرّم الزنا واللواط والخمر والمخدرات، والقمار والميسر، ويحذر من الكذب والنفاق والغيبة والنميمة والجدال والنزاع. كما تنفرد تعاليم الدين البهائي بتحريم الرّق والتّسوّل وتعذيب الحيوان وتقبيل الأيدي والرياضات الشّاقة، فضلاً عن رفع أحكام الرّهبنة والكهنوت والاعتراف بالخطايا طلباً للغفران. وتأمر بالصوم والصلاة، وتلاوة الآيات في كل صباح ومساء، والتأمل في معاني الكلمات الإلهية، وتقوى الله، وإسلام الوجه إليه في كل الأمور، والعفة والطهارة، والعدل والإنصاف، والعفو والتسامح والصبر وسعة الصدر، وتحصيل العلوم والفنون النافعة. وتوصي بإكرام الوالدين ورعاية حقهما، وبتربية الأولاد وتعليمهم بنيناً وبناتا، وبالتزام المجتمع بتعليم الأولاد عند عدم مقدرة الأبوين.

ومن مباديء الدّين البهائىّ المساواة في الحقوق والواجبات بين الرّجال والنّساء. لأن ملكات المرأة الرّوحانيّة وكفاءتها لعبودية ساحة الأحدية فضلاً على قواها العقليّة لا تفترق عمّا أوتي الرّجل منها، وهذه هي جوهر الإنسان وحقيقته، فالمرأة والرّجل متساويان في الصّفات الإنسانيّة، وقد أكد سبحانه وتعالى مراراً أن خَلْق الإنسان جاء على صورة ومثال الخالق، لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى. وليس التّماثل الكامل بين الجنسين في وظائفهما العضويّة شرطا لتكافئهما طالما أن علّة المساواة هى اشتراكهما في الخصائص الجوهريّة، لا الصّفات العرضيّة. إنّ تقديم الرّجل على المرأة في السّابق كان لأسباب اجتماعيّة وظروف بيئيّة لم يعد لهما وجود في الحياة الحاضرة. ولا دليل على أن الله يفرّق بين الرّجل والمرأة من حيث الإخلاص في عبوديّته والامتثال لأوامره والتحلى بالأخلاق المثالية؛ فإذا كانا متساويين في ثواب وعقاب الآخرة، فلِمَ لا يتساويان في الحقوق والواجبات إزاء أمور الحياة الدّنيا؟

عدم اشتراك المرأة في الحياة العامة في الماضى اشتراكا متكافئا مع الرّجل، لم يكن أمرا أملته طبيعتها بقدر ما برّره نقص تعليمها وقلّة مرانها، وثقل أعباء عائلتها، وعزوفها عن النّزال والقتال. أمّا وقد فُتحت اليوم أبواب التّعليم أمام المرأة، وأتيح لها مجال الخبرة بمساواة مع الرّجل، وتهيّأت الوسائل لإعانتها في رعاية أسرتها، وأضحى السّلام بين الدّول والشّعوب ضرورة تقتضيها المحافظة على المصالح الحيويّة للجنس البشرىّ، لم يعد هناك لزوم للحيلولة بينها وبين المساواة. إنّ تحقيق المساواة بين عضوى المجتمع البشرىّ يتيح الاستفادة التّامة من خصائصهما المتكاملة، ويسرع بالتّقدم الاجتماعىّ والاقتصادي والعلمي والسّياسىّ، ويضاعف فرص الجنس البشرىّ لبلوغ السّعادة والرّفاهية والاستقرار.

ومن مبادئ الدّين البهائىّ إيجاد نظام تتحقق فيه الشّروط الضّروريّة لاتحاد البشر وضمان دوامه. وبناء هذا الاتحاد يقتضى دعامة سندها العدل لا القوّة، وتقوم على التّعاون لا التّنافس، وغايتها تحقيق المصالح الجوهريّة لعموم البشر، حتى تحظى البشرية بعصر يجمع بين الرّخاء والنّبوغ على نحو لم يسبق له مثيل. وقد فصّل بهاء الله أسس هذا النّظام البديع في رسائله إلى ملوك ورؤساء دول العالم في إبان وجوده في سجن عكّا، وكان من بينهم ناپليون الثّالث، والملكة ﭬـكتوريا، وناصر الدّين شاه، ونيقولا الأوّل، وبسمارك، وقداسة البابا بيوس التّاسع، والسّلطان عبد العزيز، ودعاهم للعمل متعاضدين على تخليص البشريّة من لعنة الحروب وتجنيبها نكبات المنازعات العقيمة.

ولكن قوبل نداؤه هذا آنذاك بالاستنكار والرفض لمخالفته لكلّّ ما كان متعارفا عليه في العلاقات بين الدّول. لكن وجدت هذه التعاليم طريقها إلى تفكير المسئولين عن تدبير شئون البشرية، وفرضت نفسها على مجريات الأحداث الدولية، ووجد جزء منها طريقه للتطبيق بالتدريج حتي أضحت اليوم مبادئ هذا النظام الدولي – في نظر أهل الخبرة والتدبير – الحلّ الأمثل للمشاكل العالمية، ويراها المفكّرون في زماننا من مسلّمات أيّ نظام عالميّ جاد في إعادة تنظيم العلاقات بين المجموعات البشريّة على نمط يحقّق الأمن والرفاهية والعدل في العالم. ومن أركان هذا النّظم الذي أعلنه بهاء الله حوالي سنة ١٨٦٨:

  • نبذ الحروب كوسيلة لحلّ المشاكلّ والمنازعات بين الأمم، بما يستلزمه ذلك من تكوين محكمة دوليّة للنّظر فيما يطرأ من منازعات، وإعانة أطرافها للتّوصّل إلى حلول سلميّة عادلة.
  • تأسيس مجلس تشريعيّ على النطاق الدولي لحماية المصالح الحيويّة للبشر وسنّ القوانين اللازمة لصون السّلام في العالم.
  • تنظيم إشراف دولي يمنع تكديس السّلاح على نحو يزيد عن حاجة الدولة لحفظ الأمن والنّظام داخل حدودها.
  • إنشاء قوّة دوليّة دائمة لفرض احترام القانون وردع أي أمّة عن استعمال القوّة المسلحة لتنفيذ مآربها.
  • إيجاد أو اختيار لغة عالميّة ثانويّة تأخذ مكانها إلى جانب اللّغات القوميّة تسهيلا لتبادل الآراء، ونشرا للثّقافة والمعرفة، وزيادة للتّفاهم والتّقارب بين الشّعوب.

وخير ما تُختم به هذه المقتطفات من المبادئ والتعاليم البهائية نُصح حضرة بهاء الله لأوليائه المخلصين:

(إنّا ننصح العباد في هذه الأيام التي فيها تغبّر وجه العدل وأنارت وجنة الجهل وهُتك ستر العقل، وغاضت الراحة والوفاء وفاضت المحنة والبلاء، وفيها نُقضت العهود ونُكثت العقود، لا يدري نفس ما يبصره ويعميه وما يضلّه ويهديه.

قل: يا قوم دعوا الرّذائل وخذوا الفضائل، كونوا قدوة حسنة بين النّاس وصحيفة يتذكّر بها الأناس، من قام لخدمة الأمر له أن يصدع بالحكمة ويسعى في إزالة الجهل عن بين البريّة، قل أن اتحدوا في كلمتكم واتّفقوا في رأيكم واجعلوا إشراقكم أفضل من عشيّكم، وغدكم أحسن من أمسكم. فضل الإنسان في الخدمة والكمال لا في الزّينة والثّروة والمال، اجعلوا أقوالكم مقدّسة عن الزّيغ والهوى وأعمالكم منزّهة عن الرّيب والرّياء. قل لا تصرفوا نقود أعماركم النّفيسة في المشتهيات النّفسيّة ولا تقتصروا الأمور على منافعكم الشّخصيّة، أنفقوا إذا وجدتم واصبروا إذا فقدتم إنّ بعد كلّّ شدّة رخاء ومع كلّّ كدر صفاء، اجتنبوا التّكاهل والتّكاسل وتمسّكوا بما ينتفع به العالم من الصّغير والكبير والشّيوخ والأرامل، قل إيّاكم أن تزرعوا زؤان الخصومة بين البريّة وشوك الشّكوك في القلوب الصّافية المنيرة.

قل: «يا أحبّاء الله لا تعملوا ما يتكدّر به صافي سلسبيل المحبّة وينقطع به عرف المودّة، لعمرى قد خلقتم للوداد لا للضّغينة والعناد، ليس الفخر لحبّكم أنفسكم بل لحبّ أبناء جنسكم، وليس الفضل لمن يحبّ الوطن بل لمن يحبّ العالم. كونوا في الطّّرف عفيفا، وفي اليد أمينا، وفي اللّسان صادقا، وفي القلب متذكّرا، لا تسقطوا منزلة العلماء في البهاء ولا تصغّروا قدر من يعدل بينكم من الأمراء، اجعلوا جندكم العدل وسلاحكم العقل وشيمكم العفو والفضل وما تفرح به أفئدة المقرّبين»(199).

فهرس المراجع

1)     طه حسين، في الأدب الجاهلي (القاهرة، دار المعارف، الطبعة السادسة) ص ٦٨.

2)     من مكاتيب عبد البهاء (ريو دي جانيرو، دار النشر البهائية في البرازيل،١٩٨٢) ص ٩٢.

3)     سورة النساء، آية ٨٢.

4)     الأعراف،آية ٦٠.

5)     الأعراف، آية ٦٦ وآية ٧٠.

6)     الأعراف، آية 76.

7)     الأعراف، آية ٨٢.

8)     الأعراف، آية 8٨.

9)     الأعراف، آية ٢٨.

10)   سورة البقرة، آية ١٧٠.

11)   سورة البقرة، آية ٨٧.

12)   سورة الأنعام، آية ٤.

13)   سورة الصف، آية ٦.

14)   سورة آل عمران آية ٧.

15)   مختصر تفسير ابن كثير (بيروت، دار القرآن الكريم،١٣٩٩هـ) المجلد الأول، ص٢٦٤.

16)   قال بعضهم «والراسخون في العلم» كلام مستأنف، وقال بعضهم أنه معطوف على لفظ الجلالة وهو الصحيح.

17)   سورة القيامة، آية ١٦١٩.

18)   نقلا عن طه حسين، «في الأدب الجاهلي» (القاهرة، دار المعارف، ط.٦) ص ١٠٠١٠١.

19)   سورة البينة، آية ٢.

20)   مصطفى غالب، الإمامة وقائم القيامة (بيروت، دار ومكتبة الهلال، 81٩١) ص ٦٧٢ و٧٧٢.

21)   المرجع السابق ص ٧٧٢.

22)   Nahum N. Glatzer, ed., The Judaic Tradition (Boston: Beacon Press, 1972) pp. 488– 489

23)   سورة المائدة، آية 64.

24)   سورة الفرقان،آية ٧.

25)   سورة الأنعام، آية ٩.

26)   سورة ق، آية ٦.

27)   سورة يس، آية 38.

28)   مختصر تفسير ابن كثير، المجلد الثالث، ص٣٦١.

29)   سورة البينة، الآيات من ١٣.

30)   أنظر على سبيل المثال: علي رضا، المرجع في اللغة العربية (دار الفكر العربي،ط ٢) الجزء الثالث ص ٧١١ وبطرس البستاني، محيط المحيط (بيروت، مكتبة لبنان، 87٩١) ص ٦٤١.

31)   سورة هود، آية ٧٢.

32)   سورة المائدة، آية ٤٠١

33)   خروج: ١٣: ٦١٧١.

34)   رؤيا، الإصحاح ١:٨، والإصحاح ١٢:٦، والإصحاح ٢٢:٣١.

35)   متى الإصحاح ٤٢:٥٣، ومرقس الإصحاح ٣١:١٣، ولوقا الأصحاح ١٢:٣٣.

36)   التثنية الإصحاح ٣٣:١٢.

37)   إنجيل يوحنّا الإصحاح ٦١:٧.

38)   إنجيل يوحنّا، الإصحاح ٤١:٤٢٦٢.

39)   إنجيل يوحنّا، الإصحاح ٥١: ٦٢.

40)   محمود شلتوت، تفسير القرآن الكريم، الأجزاء العشرة الأولى (بيروت، دار الشروق، 83٩١) ص ٩.

41)   أحمد أمين، ضحى الإسلام (القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة العاشرة) الجزء الثالث، ص ٢٢.

42)   عمر فرّوخ، تاريح الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون (بيروت، دار العلم للملايين، 83٩١) ص ٩٣٣.

43)   سورة فاطر، آية ٤٣.

44)   نصر حامد أبو زيد،مفهوم النصّ (بيروت، المركز الثقافي العربي، 9٤٩١) ص ١٢.

45)   عمر فرّوخ، تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون، ص ٣٩٢.

46)   سورة الرعد، آية ٨.

47)   سورة الإسراء، آية ٥٨.

48)   سورة الكهف، آية ٩٠١.

49)   سورة لقمان، آية ٧٢.

50)   سورة آل عمران، آية ٥٤.

51)   سورة آل عمران، آية ٩٣.

52)   سورة الأحزاب، آية ٠٤.

53)   سورة الأحزاب، آية ٠٤.

54)   أحمد عطية، القاموس الإسلامي (القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ٦٦٩١) الجزء الثاني، ص ٥٩١.

55)   سورة الإسراء، آية ٧٧.

56)   سورة الأحزاب ، آية ٠٤.

57)   سورة مريم، آية ١٥.

58)   رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل.

59)   سورة الحج، آية ٢٥.

60)   سورة غافر، آية ٤٣.

61)   سورة المائدة، آية ٤٦.

62)   سورة المؤمنون، آية ٤٤.

63)   سورة الأعراف، آية ٣٥.

64)   سورة البقرة، آية ٢٨٢.

65)   سورة الزخرف، آية ٢٢.

66)   سورة الحديد، آية 16.

67)   سورة الشورى، آية ١٣.

68)   انجيل يوحنا، الاصحاح ٤١:٨٢.

69)   انجيل يوحنا، الاصحاح ٦١:٧.

70)   انجيل يوحنا، الاصحاح 6١:2131.

71)   سورة البقرة، آية ٦٣١.

72)   سورة القمر، آية ٥٠.

73)   سورة البقرة، آية ٣٥٢.

74)   سورة النساء، آية ٧٥١٩٥١.

75)   مختصر تفسير ابن كثير، المجلد الأول، ص ٨٥٤.

76)   سورة النازعات، آية ٦ و٧ و٣١.

77)   William Sears, Thief in the Night(seventh reprint, Oxford, George Ronald, (1990), p.32

78)   أشعياء، الإصحاح 11: ١٩.

79)   سورة البقرة، آية ٦٣١.

80)   سورة الأحزاب، آية ٥٤.

81)   سورة البقرة، آية ٣١٢.

82)   سورة المائدة، آية ٨٤.

83)   سورة المائدة، آية ٦٤.

84)   سورة البقرة، آية ٦٠١.

85)   سورة البقرة، آية ٣١١.

86)   سورة الأنعام، آية ٨٤.

87)   سورة الصّف، آية ٦.

88)   التثنية الإصحاح ٣٣:٢.

89)   سورة آل عمران، آية ٨٣٩٣.

90)   سورة آل عمران، أية ٥٤.

91)   سورة البقرة، آية ٣٨١.

92)   سورة البقرة، آية ٦٠١.

93)   سورة المؤمنون، آية ٤٤.

94)   سورة آل عمران، آية ٣١١.

95)   سورة آل عمران، آية ٧.

96)   سورة المائدة، آية ٣.

97)   مختصر ابن كثير، المجلّد الأول، ص 482.

98)   المرجع السابق، ص 482 و483.

99)   سورة الأنعام، آية 154.

100) سورة المائدة، آية 64.

101) سورة البقرة، آية 131.

102) سورة البقرة، آية 128.

103) سورة البقرة، آية ١٣٢.

104) سورة آل عمران، آية 52.

105) سورة آل عمران، آية 19.

106) سورة يونس، آية 72.

107) سورة البقرة، آية 133.

108) سورة الأعراف، آية 126.

109) سورة المائدة، آية 111.

110) سورة آل عمران، آية 85.

111) سورة يس، آية 60١6.

112) سورة البقرة، آية 40.

113) رشيد رضا،تفسير المنار (بيروت،دار المعارف، الطبعة الثانية) المجلد الأول، ص 290.

114) سورة الأعراف، آية 35

115) سورة النساء، آية 150 1٥2

116) بهاء الله، لوح أحمد، أدعية حضرة محبوب، ص197

117) إنجيل متى، إصحاح 13: 1١.

118) إنجيل متى، إصحاح 31: ١٣ و٢3.

119) سورة ابراهيم، آية 25.

120) سورة الحشر، آية 21.

121) سورة النور، آية 35.

122) أبو حامد الغزالي، مشكاة الأنوار (القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 6٤٩١) ص ٦٦٧٦.

123) أبو حامد الغزالي، مشكاة الأنوار (القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 64٩١) ص 67.

124) سورة الأحزاب، آية ٤.

125) سورة الأنعام، آية ٢٢١.

126) سورة النحل، آية ٠٢ و١٢.

127) سورة آل عمران، آية ٩٦١.

128) إنجيل يوحنا، الإصحاح ١١: ٥٢.

129) سورة البقرة، آية ٥٥ و٦٥.

130) سورة فاطر، الآيات من 19 إلى ٢٢.

131) سورة فاطر، آية ٢2 و23.

132) سورة يونس، آية ٣١.

133) سورة البقرة آية ١١ و٢١.

134) آثار قلم أعلى، خطاب بملوك ورؤساي أرض (طهران، مؤسسه ملّي مطبوعات أمري) ص ٦٣١٧٣١.

135) سورة الأنفال، آية ٢٢.

136) سورة الأنفال، آية ٥٥.

137) إنجيل متى، الإصحاح ٣١: 3١.

138) إنجيل متى، الإصحاح ٣١: ٦١.

139) سورة الانشقاق، آية ١.

140) سورة الحاقة، آية ٦١.

141) سورة التكوير، آية ١و٢.

142) سورة الواقعة، آية ٤٦.

143) سورة الزلزلة، آية ١ و٢.

144) سورة الحج، آية ١ و٢.

145) سورة عبس، آية ٣٣٦٣.

146) سورة النبأ، آية ٨٣.

147) سورة الفجر، ية ٢٢.

148) سورة البقرة، آية ٠١٢.

149) سورة إبراهيم، آية ٨٤.

150) سورة الزمر، آية ٩٦.

151) بهاء الله، كتاب الإيقان (ريو دي جانيرو، دار النشر البهائية في البرازيل، ط ٣) ص 75٦٧.

152) سورة يوسف، آية ٧٠١.

153) سورة مريم، آية 39.

154) سورة العنكبوت، آية 25.

155) سورة الروم، آية ٥٥ و56.

156) سورة الزمر، آية 68 و69.

157) سورة هود، آية 105٨٠١.

158) سورة يونس، آية 48 و49.

159) سورة هود، آية 27.

160) سورة هود، آية 40٢٤.

161) سورة هود، آية 58.

162) سورة هود، آية ٦٦ و67.

163) سورة هود، آية 76.

164) سورة هود، آية 82.

165) سورة هود، آية ٩٤.

166) سورة هود، آية 95.

167) سورة الحاقة، آية ٤٨.

168) سورة الأنبياء، آية 2.

169) سورة الأنبياء، آية 11.

170) رواه البخاري.

171) سورة الحديد، آية 25.

172) الكتاب الأقدس، الآية 148.

173) الكتاب الأقدس، الآية 99.

174) سورة آل عمران، آية 103.

175) صفحة 95 (من هذا الكتاب).

176) الكلمات المكنونة، رقم 31.

177) سورة الإسراء، آية ٧٧.

178) سورة الأحزاب، آية 62.

179) سورة فاطر، آية 43.

180) أبو حامد الغزالي، المرجع السابق، ص 50.

181) سوررة المدثر، آية ٨15 و26١٣.

182) سورة المدثر، آية 31.

183) أحمد عطية، القاموس الإسلامي (القاهرة، مكتبة النهضة، ١٩٧٦) جزء ٤ ص ٧٠٢.

184) المرجع السابق، الجزء الأول ص ٢١.

185) نسائم الرحمن (المحفل الروحاني المركري للبهائيين بشمال غرب أفريقيا، 0891) الطبعة الثالثة، ص 5.

186) بهاء الله، الإشراق الأول، ألواح حضرة بهاء الله (بروكسل، دار النشر البهائية في بلجيكا، ٠٨٩١) ص 23.

187) بهاء الله، الإشراق التاسع، المرجع السابق ص 28.

188) سورة الحديد، آية ١٦.

189) بهاء الله، الكتاب الأقدس – الآية 182.

190) بهاء الله، منتخباتي از آثار حضرة بهاء الله، فقرة 107.

191) بهاء الله، الطراز الثاني مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله، ص 52.

192) سورة الإسراء، آية ٣٦.

193) بهاء الله، منتخباتي از آثار حضرة بهاء الله، فقرة 128.

194) بهاء الله، مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله، ص 52.

195) بهاء الله، مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله، ص 68.

196) الكتاب الأقدس، الآية ١٢٠.

197) بهاء الله، مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله، ص 25.

198) بهاء الله، مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله (بروكسل، داار النشر البهائية في بلجيكا، ٠٨٩١) ص ٥٧.

199) بهاء الله، مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله، ص 117119