يحدّد اليوم الثّالث والعشرون من شهر أيّار 1844م بداية أشدّ الفترات اضطرابًا في العصر البطوليّ من الدّورة البهائيّة، وهو العصر الّذي يشير إلى افتتاح أمجد عهد في أعظم كور شهده التّاريخ الرّوحيّ للجنس البشريّ على الإطلاق. هذه الفترة الّتي تعدّ أروع فترة وأفجع فترة وأحفل فترة بالأحداث لا تزيد مدّتها على تسع سنوات من القرن البهائيّ الأوّل، وبدأت بميلاد ظهور سوف تمجّد الأجيال القادمة صاحبه بأنّه “النّقطة الّتي تدور حولها أرواح النّبيّين والمرسلين”، وانتهت بأولى مكاشفات ظهور أقوى وأحفل بالإمكانيّات، ظهور “بشّر كلّ نبيّ به” كما يؤكّد حضرة بهاء الله، و”ناح كلّ رسول حبًّا” له، وفيها “امتحن الله كلّ النّبيّين والمرسلين” بفضله. فلا عجب أن خصّص المؤرّخ([1]) الخالد لمقدّمات الظّهور البهائيّ ونشأته ما لا يقلّ عن نصف تاريخه المثير لوصف تلك الأحداث الّتي استطاعت في مثل هذا الزّمن القصير أن تخصب تاريخ البشر الدّينيّ أيّما إخصاب بفضل مآسيها وبطولاتها. هذه السّنوات التّسع خليقة بأن تتبوّأ مقامًا فذًّا في تجربة البشر الرّوحيّة كلّها بفضل ما تميّزت به من القوّة المؤثّرة الأصيلة والسّرعة الخاطفة الّتي توالت عليها أحداثها الجليلة الخطرة، والمذبحة الّتي عمّدت مولدها، والظّروف المعجزة الّتي لابست استشهاد صاحبها، وبفضل ما تميّزت به أيضًا من الطّاقات الكامنة الّتي شحنت بها منذ البداية شحنًا، وتلك القوى الخلاّقة الّتي ولّدتها آخر الأمر. وإنّنا إذ نستعرض مشاهد هذا الفصل الأوّل من فصول الأحداث السّامية، لنشاهد هيكل بطل أبطالها – وهو حضرة الباب – يلمع في أفق شيراز كالشّهاب ليعبر سماء إيران المعتمة مارقًا من الجنوب إلى الشّمال، ثمّ يهوي بسرعة محزنة ويفنى في سناء المجد. ونرى هالته، نجومًا كثيرة من الأبطال النّشاوى بخمر الله، يشرقون في الأفق نفسه، ويسطعون بالنّور المتوهّج ذاته، ويحترقون بتلك السّرعة عينها. فيضيفون بدورهم قوّة جديدة إلى تلك القوّة المتزايدة الّتي يستجمعها بثبات دين الله الجديد.
ولم يكن ذلك الّذي وهب الدّفعة الأصليّة لهذه الحركة الفائقة سوى القائم الموعود، صاحب الزّمان الّذي انفرد وحده بحقّ إنهاء دورة القرآن بكلّ ما فيها، والّذي وصف نفسه بقوله: “أنا النّقطة الّتي ذوّت بها من ذوّت… وإنّني أنا وجه الله الّذي لا يموت ونوره الّذي لا يفوت”. أمّا الأمّة الّتي ظهر فيها فكانت أحطّ أمم العالم المتحضّر، فاضحة في جهلها ضارية في قسوتها مغرقة في تعصّبها، ذليلة في خضوعها لرجال الدّين الّذين كادت الأمّة تؤلّههم. في خسّتها تذكّرنا ببني إسرائيل في مصر على أيّام موسى، وفي تعصّبها تذكّرنا باليهود على أيّام عيسى، وفي ضلالها تذكّرنا بعبدة الأصنام في جزيرة العرب على أيّام محمّد. أمّا الأعداء الألدّاء الّذين أنكروا دعواه وجحدوا سلطانه وحاربوا أمره وكادوا ينجحون في إطفاء نوره، ثمّ تهالكوا آخر الأمر وتفكّكوا تحت وقع ظهوره، فلم يكونوا غير علماء الشّيعة. وبالرّغم من أنّ أعضاء هذه الطّبقة كانوا متوحّشين في تعصّبهم، مغرقين في فسادهم إلى درجة تفوق الوصف، متمتّعين بسيادة لا حدّ لها على العامّة، وبالرّغم من أنّ التّحاسد على المناصب كان ينخر في صدورهم، وأنّهم كانوا يقاومون كلّ جديد متحرّر بلا هوادة ولا رحمة، إلاّ أنّ ألسنتهم كلّت ألف سنة من الدّعوة باسم الإمام الغائب، واحترقت قلوبهم شوقًا لمخرجه، واهتزّت أعواد منابرهم بتمجيد ملكه الّذي سوف يعمّ العالم، وخدلت شفاههم من التّمتمة بإخلاص ودون انقطاع استعجالاً لفرجه. أمّا الآلات المتطوّعة الّتي استغلّت مناصبها لتنفيذ خطط العدوّ فلم تكن سوى ملوك آل قاجار، ولا أقلّ، محمّد شاه المتعصّب العليل المتذبذب الّذي ألغى زيارة حضرة الباب الوشيكة للعاصمة في آخر لحظة، ثمّ ناصر الدّين شاه الشّاب الطّائش الّذي صدّق بسهولة على إعدام أسيره. وأمّا الوغدان الكبيران اللّذان تعاونا مع المحرّضين على هذه المؤامرة الدّنيئة فكانا الصّدرين الأعظمين الحاج ميرزا آقاسي –المعلّم المعبود لمحمّد شاه – وهو رجل فظّ منافق متآمر متقلّب الأطوار، ثمّ ميرزا تقي خان “أمير النّظام” السّفاح المستبدّ المتهوّر. نفى أوّلهما حضرة الباب إلى قلاع آذربيجان، وأمر ثانيهما بقتله في تبريز. وشاركهما في كلّ هذا –وفي الجرائم الفظيعة الأخرى– حكومة يساندها قطيع من الأمراء الخاملين الطّفيليّين الصّغار والحكّام الفاسدين العاجزين المتشبّثين بامتيازاتهم المغتصبة والخاضعين خضوعًا تامًّا لنظام مذهبيّ منحطّ انحطاطًا فاضحًا. وأمّا الأبطال الّذين تشرق أعمالهم في سجلّ هذا الصّراع الرّوحيّ العنيف الّذي شمل الأمّة ورجال الدّين والحكومة والملك جميعًا فكانوا أتباع حضرة الباب المختارين –حروف الحيّ– وصحابتهم فالقي إصباح اليوم الجديد الّذين قاوموا كلّ هذا التّآمر والجهل والفساد والطّغيان والشّعوذة والجبن بروح مجيد قاهر مذهل، وعلم مدهش في عمقه، وفصاحة جارفة في قوّتها وتقوى فريدة في إخلاصها، وشجاعة نادرة في مثالها، وتفانٍ قدسيّ في طهارته، وعزم كالجلمود في صلابته، وإلهام رائع في مداه، وإجلال لرسول الله وأئمّته مبلبل لخواطر خصومهم وقدرة على الإقناع مخيفة لأعدائهم ومستوى من الإيمان ودستور للسّلوك تحدّى حياة مواطنيهم ودفعها إلى التّطوّر.
حدث المشهد الأوّل من الفصل الافتتاحيّ من هذا الحدث العظيم في غرفة علويّة من بيت متوسّط الحال يسكنه ابن تاجر أقمشة من شيراز، ويقع في حيّ متواضع من أحياء المدينة. وكان الوقت قبيل غروب شمس اليوم الثّاني والعشرين من شهر أيّار 1844م بساعة. أمّا المشتركان فيه فكانا حضرة الباب، وهو سيّد في الخامسة والعشرين لا تشوب انتسابه إلى العترة الطّاهرة شائبة، والمُلاّ حسين الشّاب، أوّل من يؤمن به. والظّاهر أنّ لقاءهما قبل ذلك بقليل كان وليد الصّدفة المحضة. أمّا اللّقاء نفسه فقد طال حتّى مطلع الفجر، حيث بات صاحب البيت منفردًا بضيفه في الغرفة العلويّة. ولم تكن المدينة النّائمة على علم قليل أو كثير بمضمون ما دار بينهما من حديث. ولم ينتقل للأجيال القادمة أيّ تسجيل لتلك اللّيلة الفريدة، اللّهم إلاّ تلك الرّواية الّتي صدرت عن شفتيّ المُلاّ حسين جزئيّة مهلهلة وإن كانت على قسط كبير من التّنوير.
وبعد وصف لطبيعة الأسئلة الّتي وجّهها إلى مضيفه، وللإجابات الشّافية الّتي تلقّاها عنه فلم تدع لديه أيّ مجال للشّكّ أو الرّيب في صحّة دعواه أنّه هو القائم الموعود قال: “جلست مسحورًا بحديثه، غافلاً عن مضيّ الوقت وعن أولئك الّذين كانوا بانتظاري وفجأة أيقظني المؤذّن من النّشوة الّتي غرقت فيها، وكان يؤذّن لصلاة الفجر! في تلك اللّيلة يبدو أنّني فزت بكلّ النّعم والألطاف الّتي ذكرها العليّ القدير في كتابه (القرآن الكريم)، وأعدّها لأهل الجنّة. حتّى لقد ظننت أنّني كنت في بقعة يقال فيها بحقّ “لا يمسّنا فيها نصب ولا يمسّنا فيها لغوب”([2])، “لا يسمعون فيها لغوًا، ولا تأثيمًا إلاّ قيلاً سلامًا سلامًا”([3])، “دعواهم فيها سبحانك اللّهم وتحيّتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين”([4]). ولقد جفاني النّوم في تلك اللّيلة، وغمرتني موسيقى ذلك الصّوت الّذي كان يعلو ويهبط وهو يرتّل، يعلو حين ينزّل آيات “قيّوم الأسماء” ويهبط بنغمة حلوة أثيريّة إذ يتلو المناجاة الّتي ينزّلها. وعقب كلّ مناجاة كان يكرّر هذه الآية: “سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلامٌ على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين”([5]).
ويمضي المُلاّ حسين في روايته فيقول: “نزل عليّ هذا الظّهور فجأة نزول الصّاعقة الّتي خيّل إليّ أنّها عطّلت حواسي وعقلي بعض الوقت. لقد أعماني بهاؤه وفتنتني عن نفسي قوّته السّاحقة. وتحرّكت في أعماق روحي مشاعر كثيرة مختلطة من الهيجان والسّرور والذّهول والعَجَب. وساد كلّ هذه المشاعر شعور غامر بالسّعادة والقوّة خيّل إليّ أنّه حوّلني تحويلاً. فلكم كنت أشعر بالعجز والخور والجبن والذّلّة من قبل بحيث لم أكن أستطيع أن أكتب أو أمشي لارتجاف يديّ وقدميّ! أمّا الآن –وقد سُحق كياني كلّه بمعرفة ظهوره– فلقد شعرت بقوّة وشجاعة خيّل إليّ معهما أنّني أستطيع أن أقف وحيدًا لا أتزعزع في وجه العالم كلّه بكلّ شعوبه وحكّامه. وبدا لي أنّ الكون لا يزيد على حفنة من التّراب في يدي. وحسِبْت أنّني صوت جبريل المتجسّد يهيب بالنّاس جميعًا أن “أفيقوا فإنّ نور الصّبح قد لاح. انهضوا فإنّ أمره قد ظهر. وفتح باب عنايته وفضله فادخلوا يا أهل الأرض لأنّ موعودكم قد جاء”.
على أنّ ضوءًا أكبر دلالة يفيض على هذه القصّة الخاصّة بإعلان رسالة حضرة الباب إذا نحن تصفّحنا “أوّل وأعظم وأكبر” كتب الدّورة البابيّة، وهو “تفسير سورة يوسف” الشّهير الّذي نزّل فصله الأوّل كلّه على وجه التّحقيق من قلم مُنزله الأعلى في تلك الّليلة –ليلة اللّيالي– ذلك أن وصف المُلاّ حسين لهذه القصة مع الصّحائف الأولى من ذلك الكتاب يشهدان بعظمة هذا الإعلان الجسيم وقوّته. فمن المعالم البارزة لذلك الفيض الأوّل الّذي أشار إلى افتتاح أعظم عصر في حياة البشر الرّوحيّة وحدّد تاريخه، ادّعاء حضرة الباب أنّه هو النّاطق بلسان الله الّذي وعد به الأنبياء السّابقون ولا أقلّ، وتأكيده أنّه في الوقت نفسه مبشّر بمن يفوقه عظمة وجلالاً، ونداؤه لملوك الأرض وأمرائها، وإنذاراته الشّديدة إلى رئيس الدّولة الأعلى –محمّد شاه– ونصيحته للحاج ميرزا آقاسي بأن يتّقي الله، وأمره الحازم له بأن يتنازل عن منصب الصّدر الأعظم للشّاه ويخضع “لوارث الأرض ومن عليها”، وتحدّيه لحكّام الأرض بأن بيّن لهم كفاية أمره، وكشف لهم عن سلطنتهم الزّائلة، ثمّ دعوته إيّاهم إلى أن “انصرفوا عن ملك الله جميعكم”، وأن يبلّغوا رسالته إلى “ما وراء أرضها من مشرق الأرض ومغربها”.
بهذا الإعلان التّاريخيّ انبلج فجر عصر يشير إلى ختام كلّ العصور. واتّصلت أوّل نفحة من ذلك الإلهام الجبّار بالّذي “لولاه ما استوى الله على عرش رحمانيّته، وما استقرّ على كرسيّ صمدانيّته” حسبما شهد كتاب الإيقان. على أنّ انضمام حروف الحيّ السّبعة عشر الباقين لم يبدأ إلاّ بعد أربعين يومًا. ذلك لأنّهم اهتدوا إلى هدف بحثهم تدريجًا ومن تلقاء أنفسهم وبطرق شتّى: منهم من اهتدى إليه في نومه وآخر في اليقظة، ومنهم من استعان بالصّلاة والصّوم ومنهم من رآه في الرّؤى والأحلام. ومن ثَمَّ انضووا تحت راية الدّين الجديد. وكان آخر من رُقم اسمه في اللّوح المحفوظ من هؤلاء الحروف -وإن كان أوّلهم مقامًا- القدّوس الشّاب المثقّف الّذي لم يتجاوز الثّانية والعشرين من عمره، والّذي ينتهي نسبه إلى الإمام الحسن، والّذي كان أعظم تلاميذ السّيّد كاظم الرّشتي. وقبله مباشرة شُرّفت إحدى النّساء بمقام الحواريّين في الدّورة الجديدة. وكانت الوحيدة من بين بنات جنسها كما كانت الوحيدة الّتي لم تفز بمحضر حضرة الباب من بين زملائها. كانت شاعرة دون الثّلاثين، كريمة المحتد ساحرة الفتنة، آسرة البلاغة، قاهرة الرّوح، متحرّرة الفكر، جريئة التّصرّف. خلّدها لسان العظمة “بالطّاهرة”، ولقّبها أستاذها السّيّد كاظم “قرّة العين”. رأت حضرة الباب في نومها فتلقّت بذلك أولى بشارات الدّين الّذي قدّر له أن يمجّدها ويرفعها إلى أوج الشّهرة، كما قدّر لها أن تسكب عليه سناء لا يفنى ببطولتها النّادرة.
استدعى حضرة الباب هذه([6]) “**الحروف الأولى الّتي فاضت عن النّقطة الأولى”، “**ذلك القبيل من الملائكة المقرّبين الّذين وقفوا بين يديّ الرّحمن يوم مجيئه صفًّا”، “**مخازن أسراره” و”**الينابيع الّتي انبثقت من مصدر وحيه وإلهامه” هؤلاء الأصحاب السّابقين الّذين كانوا على حدّ تعبير البيان الفارسيّ “أقرب المقرّبين إلى الله”، تلك “الكواكب الّتي سجدت بين يديّ العرش السّماويّ منذ الأزل وتظلّ تسجد إلى الأبد”، هؤلاء “الشّيوخ” المذكورين سفر الرّؤيا “الجالسين أمام الله على عروشهم متسربلين بثياب بيض وعلى رؤوسهم أكاليل من ذهب”([7]) استدعاهم إلى محضره -قبل أن يتفرّقوا- وألقى عليهم كلمة الوداع، وعهد إلى كلّ واحد منهم بمهمّته الخاصّة، ودعا بعضهم إلى أن يبذلوا نشاطهم في أقاليمهم المحلّيّة، وطلب إليهم أن يتوخّوا أقصى ما يمكنهم من الحكمة والاعتدال في مسلكهم، وكشف لهم عن سموّ مركزهم، وأكّد لهم ضخامة مسؤوليّاتهم. وأعاد على مسامعهم تلك الكلمات الّتي خاطب بها السّيّد المسيح حواريّيه، ونبّههم إلى عظمة اليوم الجديد الفائقة، وحذّرهم من أن يخسروا ملكوت الله إن هم انقلبوا على أعقابهم وأكّد لهم أنّهم إن فعلوا ما أمرهم الله به جعلهم الله ورثته وأئمّته بين النّاس، وأشار لهم من طرف خفيّ إلى سرّ يوم أعظم من يومه يوشك أن يجيء، وأمرهم بأن يستعدّوا للقائه. وذكّرهم بانتصار إبراهيم على نمرود، وموسى على فرعون، وعيسى على اليهود، ومحمّد على قبائل العرب، وطمأنهم إلى ارتفاع أمره في النّهاية ارتفاعًا لا مفرّ منه. وإلى المُلاّ حسين عهد بمهمّة أكثر خصوصيّة وأعظم مضمونًا، وأكّد أنّ ميثاقه معه قد أبرم، وأوصاه بأن يكون ليّن الجانب مع من يلقاهم من رجال الدّين، وأرشده إلى أن يتوجّه إلى طهران، وبأشدّ العبارات إشراقًا لوّح بذلك السّرّ المحجوب المودع في تلك المدينة، مؤكّدًا أنّه سرّ يفوق في بهائه النّور الّذي أشرق من أفق الحجاز وشيراز معًا.
انطلقت هذه النّيّرات الّتي تؤلّف مع حضرة الباب “الواحد الأوّل” لدورة البيان إلى العمل، وقد حفّزهم إليه شرف ذلك التّفويض والانتداب الّذي أسبغ عليهم، فانتشروا وتفرّقوا في أقاليم بلادهم حيث قاوموا ببسالة نادرة الهجمات البربريّة العنيدة الّتي شنّتها القوى المحتشدة ضدّهم، وخلّدوا دينهم بمآثرهم ومآثر إخوانهم في الدّين، وأثاروا بذلك هياجًا اهتزّت له بلادهم من أدناها إلى أقصاها، وسرت أصداء ذلك الهياج مدوّية مجلجلة حتّى بلغت عواصم أوروبّا الغربيّة.
ولم يقرّر حضرة الباب القيام بحجِّهِ الطّويل الشّاقّ إلى مقامات أجداده إلاّ بعد أن تلقّى الرّسالة المرتقبة الّتي أرسلها المُلاّ حسين نائبه الأمين المحبوب، تبشّره باجتماعه بحضرة بهاء الله. وفي شهر شعبان 1260ﻫ (أيلول 1844م) تقدّم حفيد فاطمة الزّهراء عن أبيه وأمّه وسليل الحسين، أعظم من كان له حقّ خلافة رسول الله ليزور الكعبة، محقّقًا بذلك نبوءات الأحاديث الإسلاميّة. فركب في سفينة شراعيّة من بوشهر في التّاسع عشر من رمضان (تشرين الأوّل 1844م) يصحبه القدّوس الّذي كان حضرته يعدّه في صبر وأناة ليحتلّ مركزه المقبل. وبعد رحلة عاصفة دامت أكثر من شهر نزل في جدّة، وأحرم وركب جملاً انطلق به إلى مكّة فبلغها في غرّة ذي الحجّة (12 كانون الأوّل) وصحب القدّوس مولاه إلى الكعبة سائرًا على قدميه آخذًا بزمام مطيّته. ويروي مؤرّخه (النّبيل) أنّ مظهر الله الّذي جاء حاجًّا من شيراز انقطع للتّعبّد في يوم عرفة وفي يوم النّحر تقدّم إلى مِنى، ونحر حسب المناسك، ولكنّه نحر تسع عشرة شاة: تسعًا باسمه، وسبعًا باسم القدّوس، وثلاثًا باسم الخادم الحبشيّ الّذي قام على خدمته. ثمّ طاف حول الكعبة مع الطّائفين وأقام شعائر الحجّ وأدّى مناسكه.
ولقد تميّزت زيارته للحجاز بحادثتين على جانب خاصّ من الأهمّيّة كانت أولاهما إعلانه لدعوته وتحدّيه السّافر لميرزا محيط الكرماني المتكبّر، وهو أحد أقطاب الشّيخيّة البارزين. وكان ميرزا محيط يتمادى في بعض الأحيان إلى حدّ أكّد استقلاله عن زعامة تلك الطّائفة الّتي تولاّها بعد وفاة السّيّد كاظم (الرّشتي) الحاج محمّد كريم خان العدوّ اللّدود لأمر حضرة الباب. وأمّا الحادثة الثّانية فكانت دعوته شريف مكّة وسادن بيت الله الحرام إلى أن يؤمن بالظّهور الجديد وذلك بواسطة رسالة حملها القدّوس إليه. إلاّ أنّ الشّريف لم يستجب له لانهماكه في شؤونه الخاصّة. ولكنّه علم بعد سبع سنوات من سياق حديث له مع رجل يدعى الحاج نياز البغدادي بالظّروف الّتي أحاطت دعوة مظهر الله الشّيرازيّ واستشهاده. فاستمع بانتباه إلى وصف تلك الحوادث، وعبّر عن سخطه وحزنه لهذا المصير الأليم الّذي صار إليه.
وأشارت زيارة حضرة الباب للمدينة المنوّرة إلى نهاية حجّه. فرجع إلى جدّة ومنها إلى بوشهر. وكان من أوائل ما فعله هناك أن ودّع رفيقه وحواريّه الوداع الأخير، وأكّد له أنّه سوف يلتقي بمحبوب قلوبهم، كما بيّن له أنّه سوف يتوّج حياته بتاج الشّهادة، وأنّه هو نفسه سوف يلقى بعده مصيرًا مشابهًا على يد عدوّهما المشترك.
وكانت عودة حضرة الباب إلى وطنه في صفر 1261ﻫ (شباط- آذار 1845م) إيذانًا بحدوث هياج يعمّ البلاد بأسرها. ذلك لأنّ النّار الّتي أوقدها بإعلانه دعوته كانت تزداد اشتعالاً بفضل تشتّت أصحابه المختارين ونشاطهم حتّى ألهبت عواطف الصّديق والعدوّ على السّواء في مدّة لا تزيد عن سنتين. بل إنّ اندلاع ألسنتها لم ينتظر عودة الّذي أشعلها. فالواقع أنّ مضامين الظّهور الّذي ألقى ثقله -بكلّ هذه القوّة- على أمّة تبلغ هذا المبلغ من الانحلال والتّفكّك وحدّة الطّبع لم يكن لها بدّ من أن تثير في صدور النّاس أعنف مشاعر الخوف والبغض والغضب والحسد. حقًّا، إنّ الدّين الّذي لم يقنع صاحبه بأن يدّعي لنفسه مقام “باب الإمام الغائب” وإنّما ادّعى مقامًا يفوق مقام “صاحب الزّمان”، واعتبر نفسه بشيرًا يسعى بين يديّ من هو أعظم منه عظمة لا تجارى ولا تبارى، ولم يكتفِ بأن يأمر رعايا الشّاه بالتّخلّي عن كلّ شيء واتّباعه بل وأمر الشّاه نفسه وملوك الأرض وأمراءها جميعًا أمرًا حاسمًا بذلك، مدّعيًا أنّه هو وارث الأرض ومن عليها. والدّين الّذي تحدّت تعاليمه وأحكامه ومبادؤه الاجتماعيّة ومستوياته الخلقيّة كلّ الكيان الاجتماعيّ الّذي ولد في أحضانه استطاع أن يحشد العامّة والخاصّة ويجنّدهم عن بكرة أبيهم وراء شيوخهم وملكهم ووزرائه وحكومته، وأن يصهرهم جميعًا في قالب مقاومة آلت على نفسها أن تقضي قضاء مبرمًا على حركة قام بها من اعتبروه دعيًّا فاسقًا مارقًا، وأن تقتلعها فروعًا وأصولاً.
بعودة حضرة الباب إلى شيراز يمكن أن يقال إنّ التّصادم الأوّل بين القوّتين اللّتين لا يمكن التّوفيق بينهما قد بدأ. فلقد تجرّأ المُلاّ علي البسطامي النّشيط المقدام، وهو أحد حروف الحيّ “وأوّل من يغادر بيت الله (شيراز) وأوّل من يضحّي في سبيله” وذكر أمام أحد أقطاب الشّيعة -الشّيخ محمّد حسن الذّائع الصّيت- أنّه نزّل من قلم مولاه في ظرف ثمانٍ وأربعين ساعة من الآيات ما يفوق حجم القرآن الّذي نزّل في ثلاثة وعشرين عامًا كاملاً. فكفّروه وكبّلوه بالسّلاسل والأغلال وأهانوه وسجنوه وأغلب الظّنّ أنّهم قتلوه. أمّا المُلاّ صادق الخراساني فقد دفعه ما أمر به حضرة الباب في “الخصائل السّبعة” من تغيير صفة الأذان التّقليديّ إلى أن يؤذّنه بصورته المعدّلة على مسمع من طائفة من أهل شيراز، الأمر الّذي صدمهم وأثار استنكارهم الشّديد فألقوا القبض عليه على الفور، وأهانوه وخلعوا ملابسه وجلدوه ألف جلدة. وأمر حسين خان نظام الدّولة حاكم إقليم فارس الخسيس الّذي قرأ التّحدّي في “قيّوم الأسماء”، بأن يعاقب المُلاّ صادق والقدّوس وأحد المؤمنين الآخرين عقابًا علنيًّا سريعًا، فأحرقوا لحاهم وخرموا أنوفهم وطافوا بهم في الشّوارع والطّرقات على هذا النّحو المزري ثمّ طردوهم من المدينة.
وبلغ الجنون بأهل شيراز كلّ مبلغ واحتدم الجدل في المساجد والمدارس والأسواق وغيرها من الأماكن العامّة. واضطرب حبل الأمن والسّلام أيّما اضطراب، وبدأ الشّيوخ الخائفون الحاسدون الغاضبون كلّ الغضب يدركون حرج مركزهم. فأمر الحاكم الّذي انخلع قلبه من الخوف، بأن يلقى القبض على حضرة الباب. فجيء به إلى شيراز تحت الحراسة المشدّدة وعنّف تعنيفًا شديدًا بمحضر من حسين خان، ولطم على وجهه لطمة قويّة أسقطت عمامته عن رأسه. وبفضل شفاعة إمام الجمعة أطلق سراحه بالضّمان الشّخصيّ، وعهد به إلى خاله الحاج ميرزا سيّد علي. وتلا ذلك هدوء قصير، مكّن الشّابّ الأسير من أن يحتفل مع والدته وزوجته وخاله بنوروز هذه السّنة والسّنة الّتي تلتها في جوّ من الهدوء النّسبيّ. وفي تلك الأثناء كانت حمّى الحماسة الّتي انتابت أتباعه تسري إلى رجال الدّين وطبقات التّجّار وتغزو دوائر المجتمع العليا. فاكتسحت البلاد جميعًا موجة من الاستفسارات الحارّة. وكانت الجموع العديدة تستمع في عجب إلى الشّهادات وهي تتدفّق في بلاغة وجرأة من أفواه رسل حضرة الباب السّيّارين.
ولقد بلغ الهياج مبلغًا لم يعد الشّاه يستطيع أن يتجاهله. فانتدب السّيّد يحيى الدّارابي أمينه الملقّب بوحيد، وكان من أفقه علماء عصره وأبلغهم وأشدّهم تأثيرًا في قومه. وكان يحفظ ما لا يقلّ عن ثلاثين ألف حديث، وأرسله ليتحرّى الأمر ويطلعه على جليّته. وكان وحيد واسع الأفق مستنيرًا عالي الهمّة شديد الاتّصال بالبلاط. وبعد أن التقى بحضرة الباب ثلاث مرّات انجذب إليه كلّيّة متأثّرًا بشخصيّته ومنطقه، في اللّقاء الأوّل دار بحثهما حول علم الكلام الإسلاميّ وحول معضلات القرآن وأحاديث الأئمّة ونبوءاتهم. وفي اللّقاء الثّاني ذهل وحيد حين وجد الأسئلة الّتي أضمرها في نفسه تتلاشى من ذاكرته القويّة. ولكنّ ذهوله كان أعظم وأعظم عندما تبيّن أنّ حضرة الباب كان يجيبه عن نفس الأسئلة الّتي نسيها. وفي اللّقاء الثّالث حيّرت مندوب الشّاه ملابسات تنزيل حضرة الباب لتفسير سورة الكوثر مشتملاً على ما لا يقلّ عن ألفيّ (2000) آية، حيرة جعلته يكتب إلى رئيس البلاط تقريرًا ويكتفي بإرساله، ونهض بعد ذلك ليهب حياته وثروته كلّها لخدمة الدّين الّذي كافأه بتاج الشّهادة أثناء واقعة نيريز وهكذا نرى هذا الّذي صمّم تصميمًا قاطعًا على أن يفنّد مزاعم السّيّد الشّيرازي المغمور، ويقنعه بالعدول عن ادّعاءاته، ويصطحبه معه إلى طهران شاهدًا على انتصاره عليه، يعترف فيما بعد بأنّه “أقلّ من التّراب الّذي تحت قدميه”. بل إنّ حسين خان -الذي استضاف وحيدًا أثناء إقامته في شيراز- اضطرَّ إلى أن يكتب للشّاه معبّرًا عن اعتقاده الجازم بأنّ مندوبه النّابه قد أصبح بابيًّا.
وهناك نصير شهير آخر لأمر حضرة الباب، أكثر همّة وحماسًا من وحيد ويكاد يضاهيه في المنزلة ألا وهو المُلاّ محمّد علي الزّنجاني الملقّب بالحجّة، وكان أخباريًّا([8])، مجادلاً شديد الوطأة جريء القلب متحرّر الفكر، يضيق ذرعًا بالقيود. وكان رجلاً بلغت به الجرأة أن أدان النّظام المذهبيّ من أوّل الأبواب الأربعة إلى أبسط الشّيوخ. واستطاع بمواهبه الفائقة وفصاحته الدّافقة أن يفحم أعداء مذهبه الشّيعيّ على رؤوس الأشهاد أكثر من مرّة. كان من العسير على مثل هذا الرّجل أن يقف مكتوف اليدين إزاء أمر يحدث كلّ هذا الانقسام بين مواطنيه. فأرسل أحد تلاميذه إلى شيراز ليتحرّى الأمر ويقف على جليّته. غير أنّ التّلميذ وقع من فوره أسيرًا لسحر حضرة الباب. وكانت مجرّد مطالعة الحجّة لصفحة واحدة من “قيّوم الأسماء” أتاه بها ذلك التّلميذ كافيةً لأن تحدث فيه من التّحوّل ما جعله يصرّح أمام علماء مدينته المجتمعين بأنّ صاحب هذا الكتاب لو حكم على النّهار بأنّه ليل وعلى الشّمس بأنّها ظلّ لما تردّد هو في الإيمان بما حكم به.
وثمّة جنديّ آخر انضمّ إلى جيش الدّين الجديد المتضخّم. وهو العالم العلاّمة ميرزا أحمد الأزغندي أعلم علماء خراسان وأحكمهم وأبرزهم. وكان قد جمع -انتظارًا لمجيء القائم الموعود- ما يزيد عن اثني عشر ألف حديث ونبوءة تتّصل كلّها بطبيعة الظّهور المنتظر وزمانه وأذاعها بين زملائه، وشجّعهم على الاستشهاد بها في كلّ جمع وحشد.
وبينما كانت الحال تزداد تدهورًا في الأقاليم الأخرى، كانت عداوة أهل شيراز تبلغ الذّروة. فلقد ضايق حسين خان القاسي المحبّ للانتقام ما أرسله إليه جواسيسه وعيونه السّاهرون من تقارير تقول بأنّ قوّة الأسير وشهرته تزدادان ساعة بعد أخرى. فصمّم على أن يخطو خطوة مباشرة حاسمة بل إنّه يقال إنّ شريكه الحاج ميرزا آقاسي كان أمره من قبل بأن يقتل حضرة الباب غيلة بدعوى أنّه لو أطلق له العنان لدمّر المملكة وهدم دينها الرّاسخ. وبأمر من الحاكم تسوّر عبد الحميد خان كبير الضّبّاط السّور في جنح اللّيل، ودخل منزل الحاج ميرزا سيّد علي حيث كان حضرة الباب معتقلاً، وألقى القبض عليه وصادر جميع كتبه ووثائقه. إلاّ أنّه في تلك اللّيلة حدثت حادثة مفاجئة دبّرتها العناية الإلهيّة دون شكّ لكي تفسد على المتآمرين خططهم، وتمكّن هدف كراهيّتهم (حضرة الباب) من أن يطيل ولايته ويتمّ رسالته. فقد تفشّى وباء الكوليرا فجأة، وفتك منذ أن تفشّى في منتصف اللّيل بما يزيد على مائة شخص. وداخل كلّ قلب الرّعب من الوباء، وبات أهل المدينة الموبوءة يفرّون مضطربين بين صرخات الألم والفزع، ومات ثلاثة من خدم الحاكم وسقط أفراد أسرته يقاسون من المرض. فولّى الحاكم الأدبار يائسًا إلى حديقة له خارج المدينة تاركًا وراءه الموتى دون دفن. فلمّا واجه عبد الحميد خان هذا الموقف غير المنتظر قرّر أن يسوق حضرة الباب إلى منزله، وما أن بلغ المنزل حتّى تملّكه الرّعب والفزع، فقد علم بأنّ ولده يعالج سكرات الموت من الوباء. فألقى بنفسه يائسًا على قدميّ حضرة الباب، متوسّلاً إليه أن يغفر له وألاّ يحمِّل الولد أوزار أبيه، وأقسم على أن يستقيل من منصبه وألاّ يقبل منصبًا مثله من بعد أبدًا. فلمّا رأى دعاءه قد استجيب أرسل التّماسًا إلى الحاكم يرجوه فيه أن يطلق سراح الأسير فيعفي بذلك المدينة من هذا الوباء الوبيل، فاستجاب حسين خان لرجائه وأطلق سراح سجينه على شرط أن يغادر المدينة.
وبعد أن حفظت العناية الإلهيّة السّاهرة حضرة الباب على هذا النّحو المعجز تقدّم إلى إصفهان (في أيلول 1846م) يصحبه السّيّد كاظم الزّنجاني. وأعقب ذلك فترة أخرى من الهدوء النّسبيّ استجمعت خلالها العمليّات الإلهيّة المنطلقة قوّة جديدة عجّلت بسلسلة من الحوادث الّتي أدّت إلى سجن حضرة الباب في قلعتيّ ماه كو وچهريق وانتهت باستشهاده في ساحة الثّكنة العسكريّة بتبريز. ولمّا كان حضرة الباب يعلم تمام العلم بالمحن الوشيكة الحدوث فقد تنازل لأمّه ولزوجته عن كلّ ممتلكاته قبل أن يفارق أسرته الفراق الأخير، وأفضى لزوجته بسرّ ما سوف يحلّ به من المحن. وأنزل لها مناجاة خاصّة أكّد لها أنّ تلاوتها تذهب عنها الحزن والاضطراب. وقضى الأيّام الأربعين الأولى من إقامته في إصفهان ضيفًا على ميرزا سيّد محمّد سلطان العلماء، إمام الجمعة، وهو أحد رجال الدّين المبجّلين في كلّ أنحاء المملكة. وكانت هذه الضّيافة بناء على تعليمات حاكم المدينة منوچهر خان معتمد الدّولة الّذي تسلّم من حضرة الباب رسالة يطلب منه فيها أن يعيّن له مكان إقامته. ولقد استقبل حضرة الباب استقبالاً حافلاً، وبلغ من تأثير سحره الّذي أسر به أهل المدينة أنّ جماعة من أهلها اندفعوا أثناء عودته من الحمّام العامّ ذات مرّة يطلبون الماء الّذي استحمّ به. بل لقد بلغ من جاذبيّته أن مضيفه كان يصرّ على أن يقوم على خدمته بنفسه متجاهلاً مكانته الرّفيعة. ونزولاً عند رغبة ذلك العالم الجليل أنزل حضرة الباب -ذات ليلة بعد العشاء- تفسيره الشّهير لسورة “والعصر” فأخذ يكتب بسرعة مدهشة، وأنزل في بضع ساعات ما يعادل ثلث القرآن من الآيات الّتي تنصبّ كلّها على تفسير الحرف الأوّل من السّورة (أي الواو) وهو حرف بالغ الشّيخ أحمد الإحسائي في التّنبيه عليه، وأشار إليه حضرة بهاء الله في الكتاب الأقدس، وهو عمل ملأ قلوب الحاضرين بفيض من الإعجاب والدّهشة والخشوع حتّى أنّهم نهضوا وقبّلوا أذيال ثوبه.
وفي تلك الأثناء كانت الحماسة الفيّاضة الّتي أبداها أهل إصفهان تزداد بوضوح. وكانت الجموع الّتي يدفع بعضها الفضول، ويدفع بعضها الآخر التّعطّش للحقيقة، ويدفع بعضها الثّالث اللّهفة على الشّفاء من عللهم وأمراضهم، يتقاطرون من كلّ حيّ من أحياء المدينة على منزل إمام الجمعة، بل إنّ منوچهر خان الرّزين الحكيم لم يتمالك نفسه من زيارة شخصيّة فذّة ذات جاذبيّة إلى هذا الحدّ. وكان منوچهر خان مسيحيًّا من أهل جورجيا. وأمام جمع حاشد من رجال الدّين النّابهين طلب إلى حضرة الباب أن يثبت له صدق رسالة محمّد رسول الله الخاصّة، فاستجاب حضرة الباب من فوره لهذا الطّلب الّذي كان الحاضرون يشعرون بالحرج من الاستجابة له. وفي أقلّ من ساعتين، وفي خمسين صحيفة، أنزل حضرة الباب بحثًا دقيقًا قويًّا بليغًا في هذا الموضوع الرّفيع. ليس هذا فحسب، بل إنّه ربطه كذلك بقدوم القائم الموعود ورجعة الإمام الحسين، وبلغ البحث من الإقناع حدًّا دفع منوچهر خان إلى أن يعلن على رؤوس الأشهاد إيمانه بالإسلام ونبيّ الإسلام واعترافه بالمواهب اللّدنيّة الّتي امتاز بها صاحب البحث الّذي بلغ هذا المبلغ من قوّة الإقناع.
هذه الشّواهد الدّالّة على السّيادة المتزايدة الّتي يحرزها هذا الشّاب غير المتعلّم على الحاكم وعلى أهل المدينة الّتي تعدّ بحقّ معقلاً من معاقل الشّيعة أفزعت المقامات الدّينيّة. فامتنع الشّيوخ عن إتيان أيّ عمل عدائيّ سافر يعلمون علم اليقين أنّه يفسد عليهم خطّتهم، ولكنّهم حاولوا عن طريق ترويج أشنع الإشاعات أن يحرّضوا الصّدر الأعظم على أن يتدارك موقفًا يزداد حدّة وتهديدًا ساعة بعد أخرى، فالشّهرة الّتي يتمتّع بها حضرة الباب ووقاره وهيبته، والتّشريف الّذي يتلقّاه به مواطنوه بلغ أقصى غاياته آنذاك. وسرعان ما أخذت ظلال المصير الدّاهم تتجمّع بسرعة من حوله. وتلاحقت -منذ ذلك الوقت إلى النّهاية- سلسلة من المآسي الّتي كان مقدّرًا لها أن تنتهي باستشهاده وخمود دينه خمودًا ظاهريًّا.
فلقد نشط الحاج ميرزا آقاسي المستبدّ الماكر كما لم ينشط من قبل خشية أن يطوّق حضرة الباب مليكه بنفوذه فيختم بذلك على مصيره. وقد عنّف إمام الجمعة على تقصيره في أداء الواجب المقدّس، وكان دافعه في ذلك ارتيابه من أنّ حضرة الباب يتمتّع سرًّا بعطف معتمد الدّولة وعلمه بأنّ الأخير هو موضع ثقة الشّاه. وفي الوقت نفسه كتب خطابات عديدة إلى علماء إصفهان يتملّقهم فيها، ولم يكن من قبل يقيم لهم وزنًا. فأخذ رجال الدّين الّذين حُرِّضوا يطعنون ويكيلون السّباب من المنابر لمؤسّس هذه النّحلة الّتي بدت لهم كفرًا وإلحادًا كريهًا يجب توقّيه والخوف منه. بل لقد حرّض الشّاه نفسه على استدعاء حضرة الباب إلى عاصمة ملكه. فلمّا أمر منوچهر خان باتّخاذ التّدابير الرّامية إلى إرساله حضرته عزم على أن يحوّل إقامته إلى منزله الخاصّ بصفة مؤقّتة. وفي الوقت نفسه اجتمع المجتهدون والعلماء الّذين أفزعتهم علامات هذا التّأثير النّفّاذ، وأصدروا فتوى ملئت سبابًا وقحًا وختمها كبار رجال الدّين في المدينة اتّهموا فيها حضرة الباب بالمروق من الدّين وأفتوا بقتله. بل إنّ إمام الجمعة نفسه أرغم على أن يشهد بخطّ يده بأنّ المتّهم مجرّد من العقل والمنطق. وضاق معتمد الدّولة بذلك ذرعًا فدبّر خطّة لكي يهدّئ الخواطر الثّائرة، فأوحى إلى الأهلين الّذين كانوا يزدادون هياجًا بأنّ حضرة الباب قد رحل إلى طهران. وفي الوقت نفسه هيّأ له استراحة قصيرة قوامها أربعة أشهر في “عمارة خورشيد” وهي قصر الحاكم الخاصّ في إصفهان. وفي تلك الأيّام أبدى المضيف لضيفه رغبته في وقف كلّ أمواله الّتي قدّرها معاصروه بما لا يقلّ عن أربعين مليون فرنك لترقية مصالح الدّين الجديد، وأعلن له عن عزمه على تحويل محمّد شاه إلى الدّين الجديد، وإقناعه بالتّخلّص من صدره الأعظم الفاسق المخزي، والحصول من الشّاه على موافقته على أن يتزوّج حضرة الباب من إحدى أخواته. إلاّ أنّ الموت اختطف معتمد الدّولة فجأة كما سبق أن تنبّأ له حضرة الباب. فعجّل ذلك بالأزمة المقتربة، ذلك لأنّ نائب الحاكم -گُرگين خان الغليظ القلب الطّمّاع- حرّض الشّاه على أن يصدر استدعاء آخر للشّاب الأسير على أن يذهب متخفّيًا إلى طهران في حراسة جماعة من الفرسان. ولم يتردّد گُرگين خان الوغد، الّذي اكتشف من قبل وصيّة عمّه معتمد الدّولة وأتلفها واستولى على أمواله، في أن يستجيب لتفويض الشّاه المكتوب. وبينما هم في قلعة كنار گرد على بعد أقلّ من ثلاثين ميلاً من العاصمة، جاء رسول وسلّم محمّد بك رئيس الحرس أمرًا كتابيًّا من الحاج ميرزا آقاسي يأمره فيه بأن يتّجه إلى گُلين ويتوقّف هناك إلى أن تصدر إليه تعليمات أخرى. وبعد ذلك بقليل تلقّى حضرة الباب رسالة من الشّاه في ربيع الثّاني 1263ﻫ (19 آذار – 17 نيسان 1847م) وهي وإن كانت مهذّبة العبارات إلاّ أنّها تكشف عن مدى التّأثير السّيّء الّذي كان للصّدر الأعظم على مولاه. وهكذا فشلت كلّ الخطط الّتي طالما علّق عليها منوچهر خان الآمال. وكان المكان الّذي عيّنه محمّد شاه معتقلاً لحضرة الباب بنصيحة الصّدر الأعظم الغدّار هو قلعة ماه كو غير البعيدة عن القرية الّتي تسمّى بهذا الاسم وتقع في أقصى الشّمال الغربيّ من آذربيجان. ومن قديم كان أهلها ينعمون بحماية الصّدر الأعظم. ولم يؤذن له في أن يصطحب معه من أتباعه إلاّ تابعًا واحدًا وخادمًا واحدًا يؤنسانه في تلك الجهات الجرداء الموحشة. وبذلك نجح هذا الوزير السّليط المحتال الّذي احتجّ بضرورة تفرّغ مولاه لقمع ثورة في خراسان مؤخّرًا وأخرى في كرمان، في إحباط خطّة لو قدّر لها أن تتحقّق لكان لها أصداء بعيدة المدى في مصيره ومصير حكومته ومولاه وشعبه على السّواء.
([1]) المؤرّخ هو المُلاّ محمّد زرندي، لقّبه حضرة بهاء الله ﺑ”النّبيل الأعظم”.
([2]) القرآن الكريم سورة فاطر الآية 35.
([3]) القرآن الكريم سورة الواقعة الآيتان 25، 26.
([4]) القرآن الكريم سورة يونس الآية 10.
([5]) القرآن الكريم سورة الصّافّات الآيات 180-182.
([6]) إنّ النّجمتين تدلاّن على أنّ المترجم لم يهتدِ إلى النّصّ الأصلي فترجمه عن الإنجليزيّة. وإنّ النّجمة الواحدة تدلّ على أنّ النّصّ مترجم عن الأصل الفارسيّ.
([7]) رؤيا يوحنّا اللاّهوتيّ الأصحاح 4، آية 4.
([8]) الأخباريّون هم فرقة شيعيّة لا يعتقدون بالاجتهاد في القضايا الدّينيّة ويكتفون في ذلك بالقرآن الكريم والأحاديث النّبويّة وأخبار الأئمّة. (روضات الجنّات).
إنّ الفترة الّتي نفي فيها حضرة الباب إلى جبال آذربيجان والّتي دامت ما لا يقلّ عن ثلاث سنوات، هي أحزن وأعنف أطوار ولايته الّتي لم تزد عن ستّ سنوات كما أنّها أخصبها وأحفلها باعتبار من الاعتبارات. فهي تشتمل على تسعة أشهر من الاعتقال المتّصل في قلعة ماه كو ثمّ الاعتقال في قلعة چهريق اعتقالاً لم يتخلّله سوى زيارة لتبريز قصيرة ولكنّها لا تنسى. وقد عمل العداء المستحكم الصّاعد الّذي أبداه كلّ من العدوّين القديرين الحاج ميرزا آقاسي الوزير الأوّل لمحمّد شاه، وأمير النّظام الوزير الأوّل لناصر الدّين شاه على إلقاء الظّلال القاتمة على هذه الفترة من أوّلها إلى آخرها وهي تضاهي أحرج مراحل ولاية حضرة بهاء الله حين واجه السّلطان عبد العزيز الجائر ووزيريه عالي باشا وفؤاد باشا أثناء نفيه إلى أدرنه، كما تشابه أحلك أيّام حضرة عبد البهاء في الأرض المقدّسة تحت حكم السّلطان عبد الحميد المستبدّ الطّاغية وجمال باشا الّذي لا يقلّ عنه طغيانًا. شيراز شهدت إعلان حضرة الباب التّاريخيّ فهي ساحته الخالدة، وإصفهان قدّمت له –على عجل– ملاذًا تمتّع فيه بقسط من الأمن والسّلام، وأمّا آذربيجان فقد قدّر لها أن تكون مشهدًا لتباريح العذاب والاستشهاد. ولسوف يسجّل التّاريخ هذه السّنوات الخواتم من حياته الأرضيّة على أنّها فترة اكتمل فيها نموّ الدّورة الجديدة، وتأكّدت دعوى مؤسّسها بصورة كاملة على رؤوس الأشهاد، وقدّرت فيها شرائعها، وأبرم ميثاق صاحبها إبرامًا، وأشهر فيها استقلالها وتوهّجت بطولة أبطالها في مجد لا يفنى. ففي خلال هذه السّنوات الشّديدة العنف الحافلة بتصاريف القدر كشفت مكنونات مقام حضرة الباب بتمامها لأصحابه، بل وأعلنها حضرة الباب رسميًا في عاصمة آذربيجان بمحضر من وليّ العهد، ونزل البيان الفارسيّ مخزن أحكام حضرة الباب، وتحدّد موعد دورة “من يظهره الله” وطبيعتها تحديدًا لا يرقى إليه شكّ، وأنهى مؤتمر بدشت العمل بالنّظام القديم، واندلعت نيران الفتن العظيمة في مازندران ونيريز وزنجان.
ومع ذلك تصوّر الحاج ميرزا آقاسي الأحمق قصير النّظر أنّه قد وأد الحركة في مهدها وأنّه يوشك أن ينتصر على مؤسّسها انتصارًا حاسمًا بعد أن أحبط خطّته الرّامية إلى لقاء الشّاه وجهًا لوجه في العاصمة، وأقصاه إلى أقصى ركن في المملكة، وقلّما تصوّر أنّ نفس هذه العزلة الّتي فرضها على سجينه سوف تمكّنه من أن يطوّر ذلك النّظام الّذي يراد به أن يجسّد روح دينه، وتتيح له فرصة حمايته من التّفكّك والانقسام، وإشهار دعوته رسميًّا وبلا تحفّظ. قلّما تصوّر أنّ هذا السّجن سوف يحثّ أصحاب السّجين ورفاقه المقهورين على تحطيم أغلال الفكر الدّينيّ العتيق، وعلى الإسراع بالأحداث الّتي تتطلّب منهم إقدامًا وجرأة وإنكارًا للذّات لا عهد لتاريخ وطنهم بمثلها من قبل. قلّما تصوّر أنّه بذلك يعمل على تحقيق حديث صحيح صدر عن نبيّ الإسلام يتعلّق بالأحداث الّتي لا بدّ من حدوثها في آذربيجان. ولم يتّعظ الصّدر الأعظم بحاكم شيراز الّذي فرّ فرارًا مخزيًا، وأطلق سراح أسيره عندما تجرّع أوّل جرعة من غضب الله المنتقم وهو فزع يرتجف، وإنّما أخذ بدوره يدّخر لنفسه غضبًا إلهيًّا شديدًا محتومًا، ويمهّد السّبيل لسقوطه نتيجة تلك الأوامر الّتي أصدرها.
كانت أوامره لعلي خان مستحفظ قلعة ماه كو شديدة واضحة، وفي الطّريق إلى تلك القلعة أمضى حضرة الباب في تبريز عدّة أيّام تميّزت من جانب الأهلين بحماسة بلغت من القوّة بحيث لم يسمح لأحد من النّاس ولا من أتباعه بأن يلقاه اللّهمّ إلاّ نفر قليل. وكانت صيحة “الله أكبر” تتعالى من كلّ جانب وهو يمرّ في شوارع المدينة بين حرّاسه. ولقد تفاقم الهرج والمرج في المدينة حتّى لقد أمر المنادي بأن ينادي في النّاس منذرًا ومهدّدًا كلّ من يتجاسر على التّماس لقاء حضرة الباب بالسّجن ومصادرة الممتلكات. وعند وصوله إلى ماه كو –الّتي لقّبها ﺑ”الجبل الباسط”– لم يسمح لأحد بأن يراه في الأسبوعين الأوّلين عدا كاتب وحيه السّيّد حسين وأخيه. ولقد بلغ به البؤس في تلك القلعة شأنًا عبّر عنه في كتاب البيان الفارسيّ أنّه لم يكن لديه مصباح يضيء له في ظلمة اللّيل، وأنّ زنزانته الّتي بنيت من اللِّبن كانت تفتقر حتّى إلى باب، على حين شـكا في لوحه لمحمّد شاه من أنّ نزلاء القلعة عهد بهم إلى حارسين وأربعة كلاب.
كان سجين ماه كو يعيش منعزلاً على ذرى جبل قصيّ يقع –في خطورة– على حدود الإمبراطوريّة العثمانيّة والإمبراطوريّة الرّوسيّة سجينًا بين جدران سميكة في قلعة حصينة ذات أربعة أبراج، نائيًا عن أهل بيته وعن ذويه وأصحابه. كان يعيش قريبًا من قوم متعصّبين مشاغبين يختلفون عن الغالبيّة العظمى من أهل إيران من حيث الجنس والعادات واللّغة والمذهب، يحرسه أهل إقليم يختصّه الصّدر الأعظم برعايته لأنّه مسقط رأسه. ولذلك خيّل لعدوه أنّ سجينه هذا قد قضي عليه بأن يفني زهرة شبابه هناك، وأنّه لن يلبث طويلاً حتّى يرى آماله تنهار أمام عينيه بصورة كاملة. إلاّ أنّ هذا العدوّ سرعان ما تبيّن له أيّ حكم بعيد عن الصّواب حكم به على سجينه وعلى الّذين اختصّهم برعايته. ذلك لأنّ القوم الغلاظ المتكبّرين المتهوّرين بدأوا يخضعون لوداعة حضرة الباب شيئًا فشيئًا، ويحسّون بالطّهارة في ذواتهم من تواضعه ويستنيرون بنصائحه ويتعلّمون من حكمته. بل لقد بلغ من إغراقهم في محبّته أنّ أوّل شيء كانوا يعمدون إليه كلّ صباح هو أن يبحثوا عن مكان يمكنهم منه أن يلمحوا وجهه، وأن يلتمسوا منه على البعد أن يبارك لهم أعمالهم. كلّ ذلك رغم احتجاجات علي خان المتسلّط، ورغم الإنذارات والتّهديدات المتكرّرة بالويل والثّبور الّتي كانت ترد من طهران. وكان إذا تنازع خصمان ذهبا إلى سفح الجبل، ونظرا إلى حيث هو من القلعة، ناشد كلّ منها الآخر أن يقول الصّدق. لا، بل إنّ علي خان المتسلّط نفسه رأى رؤية غريبة اغتمّ لها فاضطرّ إلى أن يخفّف من حدّة إجراءاته تكفيرًا منه عمّا سلف، وبلغ من تساهله أنّه أخذ يسمح لسيل متزايد من الزّائرين المتعطّشين المخلصين بدخول القلعة. وكان من بينهم المُلاّ حسين المثابر المغوار الّذي قطع الطّريق على قدميه من مشهد في شرق إيران إلى ماه كو في غربها الأقصى، واستطاع بعد هذه الرّحلة المضنية أن يحتفل بالنّوروز (1848م) مع محبوبه.
على أنّ الجواسيس المكلّفين بمراقبة علي خان أخطروا الحاج ميرزا آقاسي بما آلت إليه الأمور. فعزم على أن ينقل حضرة الباب إلى قلعة چهريق الّتي لقّبها حضرته ﺑ”الجبل الشّديد” (وكان ذلك في حدود 10 نيسان 1848م) وهناك عهد به إلى يحيى خان صهر محمّد شاه. وبالرّغم من أنّه تصرّف في البداية بكلّ شدّة وصرامة إلاّ أنّه اضطرّ آخر الأمر إلى أن يخضع لسلطان سحر سجينه. لا بل إنّ أهل قرية چهريق الأكراد الّذين كانت كراهيتهم للشّيعة تفوق كراهية أهل ماه كو لم يستطيعوا أن يقاوموا تأثير السّجين النّفّاذ. فكنت تراهم –هم أيضًا– كلّ صباح يقتربون من القلعة قبل أن يباشروا أيّ عمل ويسجدون تقديسًا لنزيلها المقدّس. ولقد شهد شاهد عيان أوروبّي عندما كتب في سياق مذكّراته عن حضرة الباب فقال: “بلغ من تزاحم النّاس وتدافعهم أن ضاق بهم الفناء ولم يتّسع لهم جميعًا فظلّت الأغلبيّة وقوفًا في الشّارع يستمعون في انتباه ونشوة إلى آيات القرآن الجديد”.
والواقع أنّ الهياج الّذي ثار في چهريق يكسف كلّ ما شهدته ماه كو. ذلك لأنّ السّادة الأشراف والعلماء الكبار، بل وموظّفي الحكومة بدأوا يدخلون في دين السّجين بسرعة وجرأة. وبلغ هذا الأمر قمّته عندما آمن ميرزا أسد الله الشّهير بالدّيَّان، وكان من أكابر رجال الدّولة ورجال الأدب، وهو الّذي وهب له حضرة الباب “العلم المكنون المخزون” وشرّفه بأنّه “موضع سرّ الله الواحد الصّمد” وكذلك عندما وصل إلى چهريق درويش كان نوّابًا في الهند من قبل، رأى حضرة الباب في المنام يأمره بأن يتخلّى عن ماله وجاهه، ويقبل على قدميه ليلقاه في آذربيجان. وما تكاد أنباء هذه الحوادث المثيرة تبلغ تبريز حتّى تنتقل منها إلى طهران. ومرّة أخرى يجد الحاج ميرزا آقاسي نفسه مضطرًّا إلى أن يتدخّل. وكان والد الدّيّان صديقًا حميمًا لذلك الوزير، فأفصح له عن قلقه الشّديد من الطّريقة الّتي يعتنق بها رجال الدّولة المقتدرون هذا الدّين الجديد. ولكي تخفّ حدّة الهياج الصّاعد استدعي حضرة الباب إلى تبريز، وخوفًا من حماسة أهل آذربيجان فكّر الموكّلون بحراسته أن يغيّروا طريقهم ليتجنّبوا مدينة خوي ويمرّوا بدلاً منها بأُروميّة. فلمّا بلغ حضرة الباب هذة المدينة رحّب به الأمير ملك قاسم ميرزا وأكرم وفادته، بل إنّ النّاس شاهدوه في يوم من أيّام الجمعة وهو يصحب ضيفه إلى الحمّام العامّ سائرًا على قدميه بينما كان الضّيف راكبًا، على حين حاول أتباع الأمير أن يصدّوا الجموع الغفيرة الّتي كانت تتدافع وتتزاحم بحماسة وشوق إلى الفوز بلمحة من السّجين المدهش الرّائع. وغرقت تبريز هي الأخرى في حماسة فيّاضة جارفة فاستقبلته بحفاوة بالغة وأكرمت وفادته أيّما إكرام. ولقد بلغ من هياج الشّعور العامّ أنّ السّلطات عيّنت لحضرة الباب مكانًا خارج بوّابات المدينة. إلاّ أنّ هذا التّدبير عجز عن تهدئة الهياج السّائد. ولم يفد التّهديد والوعيد ولا المنع والقمع، بل عملت على زيادة حدّة الموقف حتّى بلغ حدّ التّأزّم. وما أن بلغت الأمور هذا الحدّ حتّى أصدر الصّدر الأعظم أمره التّاريخيّ لكبار رجال الدّين في تبريز بأن يجتمعوا على الفور ليتّخذوا التّدابير الفاعلة الحاسمة الّتي تكفل إخماد لهيب هذه النّيران المتأجّجة الأكّالة إلى الأبد.
إنّ الظّروف المحيطة باستنطاق حضرة الباب –نتيجة لهذا الإجراء العاجل– تقوم شاخصًا من أهم الشّواخص في رسالته المؤثّرة. ذلك لأنّ النّيّة المبيّتة من وراء هذا الاجتماع كانت تجريم السّجين على الملأ، ومناقشة ما يجب أن يتّخذ من التّدابير الرّامية إلى استئصال شأفة ما بدا لهم مروقًا وإلحادًا. إلاّ أنّ ذلك الاجتماع أتاح له أرفع فرصة سنحت له في حياته لكي يؤكّد دعاوى ظهوره تأكيدًا علنيًّا رسميًّا وبلا تحفّظ، ففي مقرّ الحكومة، وبمحضر من حاكم آذربيجان ناصر الدّين ميرزا وليّ العهد، وتحت رئاسة الحاجّ ملاّ محمود نظام العلماء مربّي الأمير، وأمام كبار رجال الدّين المجتمعين وزعماء طائفة الشّيخيّة وشيخ الإسلام وإمام الجمعة جلس حضرة الباب في المكان المخصّص لوليّ العهد وأجاب بنبرة مجلجلة عن السّؤال الّذي وجهه إليه رئيس الاجتماع إجابته المشهورة قال: “*أنا هو ذلك القائم الموعود الّذي ظللتم ألف سنة تقولون لظهوره (عجّل الله فرجه)، أنا هو ذلك القائم الّذي كنتم تنتظرون ظهوره. وإنّ طاعتي واجبة على أهل الشّرق والغرب جميعًا”.
طأطأ الحاضرون رؤوسهم برهةً وقد استبدّ بهم الذّهول والرّوع الصّامت ثمّ استجمع المُلاّ محمّد الممقاني الأعور الأشيب اللّحية المارق وقاحته الّتي عرف بها، ونهره واتّهمه بأنّه عون شرّير حقير من أعوان الشّيطان. فأجابه الشّابّ الثّابت الجنان بأنّه ما زال يؤمن بما أكّده لهم. ثمّ وجّه إليه نظام العلماء سؤالاً فأكّد له حضرة الباب أنّ كلماته وحدها هي الدّليل القاطع والبرهان السّاطع على صدق دعوته، واستشهد على صحّة تأكيده بآيات من القرآن، وادّعى أنّه قادر على أن ينزل في يومين وليلتين من الآيات ما يعادل ذلك الكتاب كلّه. وإجابة على نقد وُجّه إليه بشأن خطإٍ نحويّ ورد في كلامه تلا عليهم بعض آيات من القرآن وردت فيها شواهد مماثلة. وبعد أن أعرض في حزم ووقار عن تعليق طائش بعيد عن الموضوع رشقه به أحد الحاضرين فضّ بنفسه ذلك الاجتماع باقتضاب بأن نهض من مكانه وغادر الغرفة، فانفضّ الاجتماع وتفرّق أعضاؤه كاسفي البال منقسمين على أنفسهم متخاذلين يأخذ بكظمهم الغيظ المرير والهوان لأنّهم لم يفلحوا في بلوغ مناهم. لم ينتهِ هذا الاجتماع بإخضاع روح الأسير وإذلالها، ولا بإقناعه بضرورة العدول عن دعوته والتّخلي عن رسالته وإنّما انتهى إلى إجماع الرّأي بعد كثير من النّقاش والجدل على الحكم بجلد حضرة الباب على قدميه، على أن يتولّى ذلك ميرزا علي أصغر شيخ الإسلام القاسي الجشع وفي مصلاّه. أمّا الحاج ميرزا أقاسي فلم يسعه بعد أن فشلت مساعيه إلاّ أن يأمر بإعادة حضرة الباب إلى چهريق.
هذا الإعلان المثير، هذا الإعلان الرّسميّ المطلق لرسالة حضرة الباب الإلهيّة لم يكن هو النّتيجة الوحيدة لتلك الفعلة الرّعناء الّتي أدّت إلى اعتقال صاحب هذا الظّهور العظيم في جبال آذربيجان ثلاث سنوات. بل إنّ هذه الفترة من الاعتقال في ركن قصيّ من المملكة بعيدًا عن مهبّ العواصف في شيراز وإصفهان وطهران أتاحت له الفراغ الكافي للشّروع في أعظم أعماله، والعكوف على آثار فرعيّة أخرى أريد بها أن تبسط المجال الكامل لدورته العظيمة رغم قصر مدّتها، وتطلق قوّتها بتمامها، وبفضل ضخامة الآثار الفائضة من قلمه وتنوّع الموضوعات الّتي تناولتها هذه الآثار، يحتلّ وحيه وإلهامه مكانًا فذًّا فريدًا لا مثيل له في تواريخ الأديان السّابقة. حتّى أنّه ليؤكّد –وهو ما زال نزيل ماه كو– أنّ آثاره الّتي تناولت هذه الموضوعات المتباينة أشدّ التّباين قد بلغت حتّى ذلك الحين خمسمائة ألف آية. وبذلك يشهد حضرة بهاء الله في كتاب الإيقان أنّه “*نزل من غمام الرّحمة الرّحمانيّة هذا ما لم يحصه أحد حتّى اليوم وإنّا لا نجد الآن منها إلاّ عشرين مجلّدًا، وناهيك بما فُقد، وناهيك بما نُهب وسُلب ووقع في أيدي المشركين ولم يعلم أحد ماذا فعلوا به”. ولايقلّ أخذًا بمجامع القلوب تنوّع ما تعرضه علينا تلك الآثار الضّخمة من أنماط ونماذج، فمن مناجاة وأدعية وخطب إلى ألواح للزّيارة وبحوث علميّة ورسائل عن العقائد الدّينيّة إلى ابتهالات وتفاسير للقرآن وللأحاديث المختلفة، إلى ألواح وجّهها لكبار رجال الدّين في المملكة، إلى أحكام وشرائع لتثبيت أركان الدّين وتوجيه مناشطه.
أنزل في شيراز، في المرحلة الأولى من ولايته ما وصفة حضرة بهاء الله بأنّه “*أوّل وأعظم وأكبر جميع كتب” الدّورة البابيّة، ألا وهو تفسير سورة يوسف الشّهير ﺑ”قيّوم الأسماء”. وكانت الغاية الأساسيّة منه هي التّنبّؤ بما سوف يلقاه يوسف الحقيقيّ (حضرة بهاء الله) في الدّورة اللاّحقة على يد أخيه من لحمه ودمه وعدوّه اللّدود في آن واحد. ويشتمل الكتاب على أكثر من تسعة آلاف وثلاثمائة آية، وينقسم إلى مائة وإحدى عشرة سورة، تتناول كلّ سورة منها تفسير آية من آيات السّورة المذكورة. ويستفتح بنفخة حضرة الباب في الصّور، وإنذاراته الشّديدة لـ”معشر الملوك وأبناء الملوك” وينذر بمصير محمّد شاه ويأمر الصّدر الأعظم ميرزا آقاسي بأن يتنازل عن منصبة، وينتقد النّظام المذهبيّ الإسلاميّ كلّه، ويحذّر المنتمين إلى مذهب الشّيعة بصفة خاصّة ويتغنّى بمحامد حضرة بهاء الله ويتنبّأ بمجيئه داعيًا إيّاه “بقيّة الله” و”السّيّد الأكبر”. ويؤكّد تأكيدًا حازمًا أنّ الدّورة البابيّة دورة مستقلّة وعالميّة، ويميط اللّثام عن مضامينها وينبّه على نصر صاحبها نصرًا ملزمًا مبينًا. وفضلاً عن ذلك يوجّه إلى “أهل الغرب” نداءه “أن اخرجوا من دياركم لنصر الله” وينذر شعوب الأرض بـ”انتقام الله الكبير الأكبر” ويهدّد العالم الإسلاميّ كلّه بـ”النّار الأكبر” إن هم أعرضوا عن الشّريعة الجديدة، ويلمّح إلى استشهاده، ويثني على المنزلة الرّفيعة الّتي قدّرت لأهل البهاء “أصحاب السّفينة الحمراء”. ويتنبّأ بأفول بعض الكواكب العظيمة من أفق سماء الدّورة البابيّة وسقوطها، بل إنّه ليتنبّأ بأنّه “سوف ينتقم الله” في “رجعتنا” وفي “دار الآخرة” من مغتصبي الإمامة الّذين “حاربوا الحسين على أرض الفرات”.
كان هذا هو الكتاب الّذي اعتبره البابيّون –طوال ولاية حضرة الباب كلّها تقريبًا– قرآن أهل البيان، نزّل فصله الأوّل –وهو أشدّ الفصول وقعًا– بمحضر من المُلاّ حسين ليلة إعلان صاحبه لبعثته، وحمل هذا التّلميذ إلى حضرة بهاء الله بعض صحائفه باعتبارها بواكير الظّهور الجديد الّذي سرعان ما ظفر بولائه وحماسته، وترجمت الطّاهرة العبقريّة الموهوبة نصّه الكامل إلى الفارسيّة، وأشعلت فقراته نيران العداوة والبغضاء في صدر حسين خان، وعجّلت بانطلاق أوّل دفعة من الاضطهاد في شيراز، وأسرت صفحة واحدة منه لبّ الحجّة ونفذت إلى سويداء قلبه، وألهبت محتوياته حماسة المدافعين الشّجعان عن قلعة الشّيخ طبرسي وأبطال نيريز وزنجان.
هذا الكتاب ذو القدر المجيد والأثر البعيد تلاه لوح حضرة الباب الأوّل لمحمّد شاه ولوحان للسّلطان عبد المجيد ونجيب باشا والي بغداد و”صحيفة بين الحرمين” الّتي نزّلت بين مكّة والمدينة إجابة عن أسئلة ميرزا محيط الكرماني، ورسالته إلى شريف مكّة، وكتاب “الرّوح” على سبعمائة سورة وكتاب “الخصائل السّبعة” الّذي طالب فيه بتغيير صيغة الأذان و”رسالة الفروع العدليّة” الّتي ترجمها المُلاّ محمّد تقي الهراتي إلى الفارسيّة، و”تفسير سورة الكوثر” الّذي أحدث كلّ هذا التّحوّل في روح وحيد، و”تفسير سورة والعصر” بمنزل إمام الجمعة بإصفهان، ورسالته الّتي كتبها في إثبات “النّبوّة الخاصّة” استجابة لطلب منوچهر خان، واللّوح الثّاني لمحمّد شاه الّذي يطلب فيه أن يلقاه حتّى يبيّن له حقائق الدّين الجديد ويبدّد شكوكه، وألواحه المرسلة من قرية سياه دهان إلى علماء قزوين وللحاج ميرزا آقاسي يسأله عن سبب عدوله المفاجئ عن عزمه.
إلاّ أنّ الجانب الأكبر من الآثار الفائضة عن فكر حضرة الباب الخصيب كان من نصيب فترة اعتقاله في ماه كو وچهريق. وربّما انتمى إلى هذه الفترة ما لا يحصى من الرّسائل، كما يشهد بذلك حضرة بهاء الله دون غيره. وهي الرّسائل الّتي وجّهها حضرة الباب بصفة خاصّة إلى كلّ رجل من رجال الدّين في كلّ مدينة من مدن إيران، وإلى العلماء المقيمين بالنّجف وكربلاء، ويحصي في كلّ رسالة منها الأخطاء الّتي ارتكبها كلّ واحد منهم بالتّفصيل، وفي أثناء اعتقاله تسعة أشهر في قلعة ماه كو أنزل ما لا يقلّ عن تسعة تفاسير للقرآن، كما يشهد الشّيخ حسن الزّنوزي الّذي استنسخ كلّ ما أملاه حضرة الباب على كاتب وحيه. أمّا هذه التّفاسير فلا يعرف أحد عن مصيرها شيئًا، وإن كان أحدها يفوق “قيّوم الأسماء” الشّهير من بعض الوجوه حسبما يؤكّد صاحبه نفسه على الأقلّ.
وبين جدران تلك القلعة نزّل “البيان” ذلك الكتاب العظيم الّذي يحتوي على شرائع الدّورة الجديدة وأحكامها، والخزانة الّتي تكتنز معظم إشارات حضرة الباب ومدائحه وتحذيره بشأن “من يظهره الله”. وهو كتاب لا شبيه له ولا نظير بين الكتب الدّينيّة الّتي فاضت عن قلم مؤسّس الدّورة البابيّة، وهو يتألّف من تسعة أبواب يسمّى كلّ باب منها واحدًا وكلّ واحد منها يشتمل على تسعة عشر فصلاً ما عدا الواحد الأخير فهو يشتمل على عشرة فصول فقط. ولا ينبغي لنا أن نخلط بين هذا الكتاب وبين البيان العربيّ الأصغر حجمًا والأقلّ شأنًا والّذي نزّل في أثناء الفترة نفسها. وقد نزّل البيان الفارسي تحقيقًا للنّبوءة الإسلاميّة: “فتًى من بني هاشم… سيأتي بكتاب جديد وشرع جديد” وقد حفظ من التّحريف والتّصحيف الّذي أصاب الكثير من آثارحضرة الباب الأقلّ شأنًا، وهو يضمّ ما يقرب من ثماني آلاف آية، وهو يقوم من آلاثار البابيّة مقام القطب من الرّحى، ويجب أن يعتبر تمجيدًا للموعود وثناءً عليه قبل أن يكون شرائع وأحكامًا وتكاليف ودستورًا دائمًا للأجيال القادمة. وقد أنهى هذا الكتاب دورة العمل بالشّرائع والأحكام الّتي فرضها القرآن بشأن الصّلاة والصّوم والزّواج والطّلاق والميراث، وفي الوقت نفسه جاء مضمونه مصدّقًا بكلّيّته لرسالة حضرة محمّد بنفس القدر الّذي نسخ به نبيّ الإسلام من قبله وصايا الإنجيل، ومع ذلك اعترف بسماويّة دين السّيّد المسيح، وفضلاً عن ذلك فسّر باقتدار وبراعة معنى بعض الاصطلاحات الّتي تواترت في كتب الدّورات السّابقة المقدّسة من مثل الجنّة والنّار والموت والبعث والرّجعة والميزان والسّاعة واليوم الآخر وما إلى ذلك. ولمّا كان هذا الكتاب شديدًا صارمًا –عن عمد– فيما فرض من الأحكام، داعيًا إلى التّقدّم والتّطوّر فيما أدخله من مبادئ كان الهدف منها أن توقظ رجال الدّين والنّاس من سباتهم الرّوحي المديد، وتكيل للمنظّمات العتيقة الفاسدة ضربة مباغته قاضية، فقد أعلن في ثنايا موادّه الشّديدة حلول اليوم المنتظر: “يوم يدعُ الدّاعي إلى شيء نكر”( ) يوم “يصنع ما صنع رسول الله، ويهدم ما كان قبله كما هدم رسول الله أمر الجاهليّة”( ).
ويجب أن نلاحظ أنّه قد وردت في الواحد الثّالث من هذا الكتاب فقرة جديرة بأن تعدّ من أعمق العبارات الواردة في كلّ آثار حضرة الباب مغزًى، وذلك لإشارتها الواضحة اللاّئحة لاسم الموعود ولتنبّؤها بالنّظام الّذي سوف يتطابق مع ظهوره في فترة تالية. وهذه الفقرة المشحونة بالتّنبّؤ هي: “طوبى لمن ينظر إلى نظم بهاء الله ويشكر ربّه فإنّه يظهر ولا مردّ له من عند الله في البيان”. مع نفس ذلك النّظام الّذي صوّره ذلك الكتاب طابق صاحب الظّهور الموعود نظامه بعد عشرين سنة مستخدمًا نفس العبارة في كتابه “الأقدس”، مؤكّدًا أنّ نظام العالم قد اضطرب من هذا “النّظم الأعظم” الّذي دفع بحياة الإنسان إلى التّطوّر. ومعالم ذلك النّظام نفسه هي الّتي وضّحها مركز ميثاق حضرة بهاء الله، ومبيّن تعاليمه المختار –في ألواح وصيّته وعهده– أثناء مرحلة تالية من تطوّر الدّين، وأساس ذلك النّظام نفسه هو الّذي يتعاون الآن على إقامته –في هذا العصر التّكوينيّ للدّين نفسه– أمناء ذلك الميثاق نفسه والممثّلون المنتخبون في المجتمع البهائيّ المترامي الأطراف. وبنيان ذلك النّظام نفسه هو البنيان الّذي يبلغ كماله ببروز الجامعة البهائيّة العالميّة أو بمعنى آخر ملكوت الله على الأرض، ذلك الملكوت الّذي يجب أن يشهده نهائيًّا العصر الذّهبيّ لهذا الظّهور المبارك في تمام الوقت.
وكان حضرة الباب ما زال في ماه كو حين كتب أشدّ ألواحه تفصيلاً وتبيانًا لمحمّد شاه، واللّوح يبدأ بحمد الله والثّناء على وحدانيّتة والصّلاة والسّلام على المرسلين والأئمّة الإثنيّ عشر، وينبّه تنبيهًا واضحًا على قدسيّة صاحبه وعلى المواهب الفائقة الخارقة الّتي شُحن بها ظهوره، وكان دقيقًا إلى أبعد حدود الدّقّة في استشهاده بالآيات والأحاديث المؤيّدة لدعواه الجريئة، قاسيًا في حكمه على بعض رجال الدّولة وممثّلي سلطة الشّاه الإداريّة ولا سيّما حسين خان “الخبيث الملعون” كما كان مثيرًا للشّجن في تصويره للإهانات الّتي لحقت به والمشقّات الّتي كابدها. فشابهت هذة الوثيقة التّاريخيّة في كثير من الوجوه لوح السّلطان الّذي وجّهه حضرة بهاء الله من سجن عكّاء في ظروف مماثلة إلى ناصر الدّين شاه، فجاء أطول خطاب وجّهه حضرة بهاء الله إلى حاكم واحد.
أمّا كتاب “الدّلائل السّبعة” –أهمّ آثار حضرة الباب الاستدلاليّة– فقد نزّل خلال الفترة نفسها. وفضلاً عن يسره الملحوظ ودقّته الرّائعة وأصالة آرائه وإفحام استدلاله، وبغضّ الطّرف عن كثرة وتنوّع البراهين الّتي ساقها تدليلاً على صحّة رسالته فإنّ هذا الكتاب جدير بالملاحظة للَّوم الّذي وجهه إلى “**مظاهر الملكيّة السّبعة الّذين يملكون كلّ الممالك” في عهده، وللطّريقة الّتي يؤكّد بها مسؤوليّة رجال الكنيسة ومسلكهم الّذي اتبعوه في عصر سابق، إذ إنّهم لو آمنوا بصحّة رسالة حضرة محمّد لتابعهم جمهور النّاس من أهل دينهم بلا جدال.
وفي أثناء اعتقال حضرة الباب في قلعة چهريق، حيث قضى معظم السّنتين الباقيتين من حياته، نزل “لوح الحروفات” تشريفًا للدّيّان،وهو لوح أسيء فهمه أوّل الأمر باعتباره عرضًا لعلم الفراسة، إلاّ أنّه فهم فيما بعد أنّه يوضّح سرّ “المستغاث” من ناحية، ويلوّح من طرف خفيّ إلى الأعوام التّسعة عشر الّتي تفصل بين إعلان ظهور حضرة الباب وظهور حضرة بهاء الله من ناحية أخرى. وفي خلال تلك السّنوات الّتي أظلمتها كلّها قسوة اعتقال حضرة الباب، والإهانات الشّديدة الّتي لحقت به، وأنباء البلايا الّتي نزلت بأبطال مازندران ونيريز، أنزل حضرة الباب بعد عودته من تبريز مباشرة لوحه للحاج ميرزا آقاسي الّذي يفضح فيه مخازيه، وهو لوح طرّز بطراز البيان الجريء المؤثّر، ولم يغادر شيئًا من الآثام إلاّ أحصاه. ثم أرسل إلى الحجّة الشّجاع فسلّمه هذا إلى الوزير الخسيس، ولقد أكّد حضرة بهاء الله صحّة ذلك.
إلى هذه الفترة من فترات الاعتقال في قلعتي ماه كو وچهريق، وهي فترة لا تضارع في خصوبتها، وإن كانت مريرة في إهاناتها، متزايدة في أحزانها، تكاد تنتمي معظم الإشارات المكتوبة الّتي شعر حضرة الباب بضرورة ذكرها –تحذيرًا أو ابتهالاً أو مناجاة– من قبل أن تحلّ ساعة بلائه الأعظم، مشيرًا بها إلى صاحب الظّهور الّذي يخلف ظهوره وشيكًا. ولمّا كان مدركًا منذ البداية طبيعة رسالته المزدوجة، أي إنّه صاحب ظهور مستقلّ، ومبشّر بظهور أعظم من ظهوره في آن واحد، فإنّه لم يقتنع بذلك العدد الضّخم من التّفاسير والمناجاة والشّرائع والأحكام والأبحاث والرّسائل والمواعظ والخطب الّتي فاضت عن قلمه بلا توقّف ولا انقطاع فحسب بل رأى أنّه لا بدّ له اليوم من أن يشفع الميثاق الأكبر بميثاق أصغر يؤخذ من أتباعه جميعًا بشأن من وصف مجيئه بأنّه ثمرة دورته وهدفها النّهائيّ، حيث إنّ الميثاق الأكبر الّذي أبرمه الله منذ الأوّل الّذي لا أوّل له على لسان النّبيّين والمرسلين جميعًا، وأخذه من بني آدم كافّة بشأن الظّهور الجديد قد تحقّق فعلاً، كما يؤكّد في آثاره. نعم إنّ هذا الميثاق الأصغر كان سمة كلّ دين سابق بلا تمييز ولا استثناء. وكان قائمًا في صور شتّى، وعلى درجات متفاوتة من التّأكيد وكان دائمًا مغلّفًا بأستار العبارات، مكنونًا في أصداف النّبوءات الباطنة والاستعارات المبهمة والأحاديث غير الموثوق بها، وفي الآيات المنتثرة المتشابهة من الكتب المقدّسة. إلاّ أنّ هذا الميثاق في الدّورة البابيّة قدّر له أن يبرم في لغة واضحة لائحة لا يرقى إليها الشّكّ بالرّغم من أنّه لم ينفرد بوثيقة قائمة برأسها. وعلى خلاف الأنبياء الّذين سبقوه والّذين اكتنف الغموض مواثيقهم، وعلى خلاف حضرة بهاء الله الّذي أفرد لميثاقه المحدّد بوضوح رسالة خاصّة به أسماها “كتاب عهدي” اختار حضرة الباب أن ينثر في ثنايا كتاب شريعته –البيان الفارسيّ– ما لا يُعدّ ولا يُحصى من الآيات، بعضها كان غامضًا عن عمد والكثير منها كان واضحًا وقاطعًا بما لا يقبل الشّكّ. في هذة الآيات يحدّد حضرة الباب تاريخ الظّهور الموعود، ويثني على محامده ونعوته، ويؤكّد طبيعته الفائقة ويخصّه بالقوى والامتيازات غير المحدوده ويزيل كلّ حاجز يمكن أن يقوم عقبةً في سبيل الاعتراف به. حتّى أنّ حضرة بهاء الله أشار إلى حضرة الباب في “كتاب بديع” بقوله: “*ما قصّر في نصحة أهل البيان وتبليغه إيّاهم، لم يحدث في أيّ عصر ولا عهد أن ذكر الظّهور السّابق الظّهور اللاّحق بمثل هذا التّفصيل والتّصريح”.
وقد عني حضرة الباب بإعداد بعض أصحابه بصبر وأناة لتلقّي الظّهور الوشيك. وأكّد لآخرين مشافهة أنّهم سوف يحيون حتّى يروا يومه. وتنبّأ صراحة للمُلاّ باقر –أحد حروف الحيّ– بأنّه سوف يلقى الموعود المحبوب وجهًا لوجه، ولسيّاح –وهو تابع آخر من أتباعه– أكّد تأكيدًا شفهيًّا مماثلاً. أمّا المُلاّ حسين فقد وجّهه حضرة الباب لطهران مؤكّدًا له أنّ هناك سرًّا في هذه المدينة لا يضارعه نور الحجاز ولا نور شيراز، أمّا القدّوس فقد وعده حضرة الباب –يوم فارقه الفراق الأخير– بأنّه سوف يفوز بمحضر من هو المطلوب الوحيد لتقديسهم ومحبّتهم، وأعلن للشّيخ حسن الزّنوزي –وقت أن كان بماه كو– أنّه سوف يشاهد في كربلاء طلعة الحسين الموعود، وعلى الدّيّان أنعم بلقب “الحرف الثّالث المؤمن بمن يظهره الله” بينما كشف لعظيم في كتاب “الشّؤون الخمسة” عن اسم ذلك الّذي يبلغ بدورته الكمال وأعلن له اقتراب مقدمه.
لم يعيّن حضرة الباب خليفة ولا نائبًا وامتنع أن يختار مفسّرًا أو مبيّنًا لتعاليمه. ذلك لأنّ إشارته للموعود بلغت من الوضوح والشّفافيّة، ودورته كان مقدّرًا لها أن تبلغ من قصر المدّة بحيث لم تكن هناك ضرورة لهذا ولا لذاك. وكلّ ما فعله –طبقًا لشهادة حضرة عبد البهاء في “مقالة سائح”– هو أنّه أخذ بنصيحة حضرة بهاء الله ومؤمن آخر من أتباعه، وعيّن ميرزا يحيى رأسًا صوريًا انتظارًا لظهور الموعود. وذلك حتّى يتمكّن حضرة بهاء الله من أن يرتقي بالأمر العزيز على قلبه في جوّ من الأمن النّسبيّ.
يشير حضرة الباب في البيان إلى الموعود فيؤكّد أنّ “*البيان من أوّله إلى آخره مكمن جميع صفاته وخزانة ناره ونوره” وفي موضع آخر يصرّح بقوله: “*إن فزت بظهوره وأطعته فقد كشفت عن ثمرة البيان وإلاّ فأنت لست أهلاً للذّكر عند الله” وفي الكتاب نفسه يحذّر أتباعه جميعًا فيقول: “يا أهل البيان لا تفعلوا ما فعل أهل الفرقان فتضيّعوا ثمرات ليلكم”. وإنذاره القاطع: “*لا يمنعكم البيان وما نزّل فيه عن جوهر الوجود ومالك الغيب والشّهود”. وهذا تحذيره الخطير الّذي وجّهه لوحيد: “إيّاك إيّاك يوم ظهوره أن تحتجب بالواحد البيانيّة [أي حرف الحيّ الثّمانية عشر وحضرة الباب] فإنّ ذلك الواحد خلق عنده”. ومرّة أخرى: “أن يا كلّ شيء في البيان! فلتعرفنّ حدّ أنفسكم. فإنّ مثل نقطة البيان يؤمن بمن يظهره الله قبل كلّ شيء. وإنّني أنا بذلك لأفتخرنّ على من في ملكوت السّموات والأرض”.
وإلى تاريخ مجيء الظّهور الموعود أشار بقوله: “وفي سنة التّسع أنتم كلّ خير تدركون”، “في سنة التّسع أنتم بلقاء ربّكم ترزقون”. ومرّة أخرى “فإنّ لكم بعد حين [68] أمر ستعلمون”. وبيّن بيانًا أشدّ تخصيصًا بقوله: “من أوّل ذلك الأمر إلى قبل أن يكمل تسع كينونات الخلق لم تظهر، وإنّ كلّ ما قد رأيت من النّطفة إلى ما كسوناه لحمًا ثم اصبر حتّى تشهد خلق الآخر، هنالك قل فتبارك الله أحسن الخالقين”. وقال لعظيم: “اصبر حتّى يقضي عن البيان تسعة فإذًا قل فتبارك الله أحسن المبدعين”. وفي فقرة من الفقرات المرموقة أشار إلى السّنة التّاسعة عشرة بقوله: “*راقبوا من مبدإ الظّهور إلى عدد الواحد [19]”. بل إنّه قرّر ذلك في وضوح أكثر حين قال: “*يظهر مالك يوم الدّين في نهاية الواحد [19] وابتداء الثّمانين [1280 هـ]”. ومن شدّة لهفه على ألاّ يصدّ النّاس عن الموعود اقتراب الظّهور الموعود بسرعة قال: “*لو ظهر في هذه اللّحظة لكنت أوّل العابدين وأوّل السّاجدين”.
ويتغنّى بمحامد الظّهور المنتظر بقوله: “وقد كتبت جوهرة في ذكره، وهو أنّه لا يستشار بإشارتي ولا بما ذكر في البيان” و”إنّني أنا أوّل عبد قد آمنت به وبآياته”. ويؤكّد تأكيدًا له مغزاه حين يقول: “*إنّ نطفة الظّهور القادم كانت وستكون أقوى من جميع أهل البيان”. وحين يقول: “جميع البيان ورقة من أوراق جنّته”. وحين يؤكّد تأكيدًا مماثلاً فيقول: “*إنّك لو تلوت آية واحدة من آيات من يظهره الله لكان ذلك أفضل من أن تحفظ البيان كلّه عن ظهر قلب لأنّ تلك الآية الواحدة تنجيك في ذلك اليوم، ولكنّ البيان كلّه لن ينجيك”. “*البيان اليوم في مقام النّطفة وآخر كمال للبيان عند أوّل ظهور من يظهره الله”. “**مجد البيان وجلاله مستمدّ ممّن يظهره الله”. “فإنّ كلّ ما رفع في البيان كخاتم في يدي، وإنّني أنا خاتم في يديّ من يظهره الله جلّ ذكره يقلّب كيف يشاء لما يشاء بما يشاء إنه لهو المهيمن المتعال”. وهو يجيب وحيدًا وحرفًا آخر من حروف الحيّ عن الموعود فيقول: “يستحيي اليقين أن يوقن فيه… ويستحيي الدّليل أن يدلّ عليه”. وأضاف مخاطبًا وحيدًا أيضًا: “لو أيقنت بأنّك يوم ظهوره لا تؤمن به لأرفعت عنك حكم الإيمان… ولو علمت أنّ أحدًا من النّصارى ممّن لم يؤمن بي آمن به لجعلته قرّة عيناي«.
وأخيرًا إليك هذه المناجاة المؤثّرة الّتي يقول فيها: “فاشهد عليّ بأنّي بذلك الكتاب قد أخذت عهد ولاية من تظهرنّه عن كلّ شيء قبل عهد ولايتي. وكفى بك وبمن آمن بآياتك عليّ شهداء، وإنّك أنت حسبي” وهذه شهادة أخرى فائضة من قلمه قال: “إنّي ما قصّرت عن نصحي ذلك الخلق… وإن يؤمننّ به يوم ظهوره كلّ ما على الأرض فإذًا يسرّ كينونتي حيث كلّ قد بلغوا إلى ذروة وجودهم… وإلاّ يحزن فؤادي. وإنّي قد ربّيت كلّ شيء لذلك فكيف يحتجب أحد؟”.
لاحظنا في الصّفحات السّالفة كيف أنّ السّنوات الثّلاث الأخيرة الحافلة بالأحداث من ولاية حضرة الباب لم تشهد إعلان رسالته رسميًّا وعلنيًّا فحسب بل وشهدت كذلك فيضًا لم يسبق له مثيل من آثاره الملهمة، بما في ذلك إنزال شرائع دورته وإبرام الميثاق الأصغر ليحمي وحدة أتباعه ويمهّد الطّريق لقدوم الظّهور الأقوى من ظهوره بما لا يقبل المقارنة. وفي غضون الفترة نفسها –وهي الأيّام الأولى من اعتقاله في قلعه چهريق– اعترف أصحابه باستقلال دينه الجديد وأكّدوه علانية وبلا تحفّظ. أنزل مؤسّس الدّورة شرائعها في إحدى القلاع القائمة على جبال آذربيجان بينما كان أتباع الدّورة نفسها يفتتحون في نفس الوقت مؤتمرًا ينعقد في إحدى السّهول على حدود مازندران.
ولمّا كان حضرة بهاء الله على صلة وثيقة بحضرة الباب عن طريق المراسلة المستمرّة، وكان القوّة الموجّهة للمناشط المتعدّدة الّتي يقوم بها زملاؤه من الأصحاب، فقد رئِس المؤتمر ووجّه أعماله وأشرف عليها بصورة مستترة ولكّنها فاعلة. وكان القدّوس يعتبر قطب الجانب المحافظ في المؤتمر وكان يعارض في الظّاهر الآراء المتطرّفة الّتي تدلي بها الطّاهرة المشتعلة حماسة، وذلك متابعة منه لخطّة محكمة سبق تدبيرها وأريد بها تخفيف حدّة الهلع والفزع اللّذين يثيرهما حتمًا مثل هذا المؤتمر. وكان الغرض الأساسيّ من هذا الاجتماع تطبيق شريعة البيان بالانفصال الكامل المفاجئ العنيف عن الماضي كلّه بنظامه وتعصّبه المذهبيّ وتقاليده وشعائره. أمّا الغرض الفرعيّ من المؤتمر فكان بحث وسائل تحرير حضرة الباب من اعتقاله القاسي في چهريق، ولقد تحقّق الغرض الأوّل بصورة باهرة، أمّا الغرض الثّاني فكان مقضيًّا عليه بالفشل منذ البداية.
وكان مرسح هذا الإعلان البالغ التّحدي والبعيد الأثر قرية بدشت حيث استأجر حضرة بهاء الله ثلاثة بساتين في محيط بهيج، خصّص بستانًا منها للقدّوس وآخر للطّاهرة، واحتفظ لنفسه بالثّالث. واستضاف الأصحاب الواحد والثّمانين الّذين اجتمعوا من الأقاليم المختلفة من أوّل يوم اجتمعوا فيه إلى يوم تفرّقوا، وفي كلّ يوم من الأيّام الاثنين والعشرين الّتي أقامها في تلك القرية كان ينزّل لوحًا يرتّل أمام المؤمنين المجتمعين، وعلى كلّ مؤمن خلع اسمًا جديدًا دون أن يكشف له عن شخصيّه من أنعم عليه به، أمّا هو فقد تلقّب “بالبهاء” منذ ذلك الحين. وأنعم على الحرف الأخير من حروف الحيّ باسم “القدّوس” وعلى قرّة العين بلقب “الطّاهرة”. بهذه الأسماء وجّه إليهم حضرة الباب بعد ذلك الألواح النّازلة لكلّ واحد منهم.
وكان حضرة بهاء الله هو الّذي أدار دفّة الأمور في هذه القصّة الباقية بثبات ودون خطأ وعلى غير توقّع ولا انتظار، وكان حضرة بهاء الله هو الّذي بلغ بالاجتماع قمّته النّهائيّة المثيرة. ففي ذات يوم ألمّت به وعكة ألزمته الفراش، فدخلت عليه الطّاهرة –الّتي كانت تعدّ الرّمز النّبيل النّاصع للعفّة وتجسّد طهارة فاطمة الزّهراء– وظهرت فجأة أمام الأصحاب المجتمعين سافرة في كامل زينتها. وجلست عن يمين القدّوس الفزع المغتاظ، وهتكت ببيانها النّاريّ الأستار المغلّفة لقداسة التّكاليف الإسلاميّة، ونفخت في صور الدّورة الجديدة وأعلنت افتتاحها. وكان الأثر صاعقًا خاطفًا، لحظتها بدت لعين النّاظرين الشّاعرين بالخزي والعار أنّها، وهي الطّاهرة النّاصعة المبجّلة بصورة تجعل مجرّد النّظر إلى ظلّها كبيرة لا تُغتفر، قد جلبت العار على نفسها، وأخزت الدّين الّذي اعتنقته، وشوّهت الطّلعة الخالدة الّتي ترمز إليها. هنالك اكتسحت أرواحهم مشاعر الرّعب والغضب والحيرة وشلّت تفكيرهم. أمّا عبد الخالق الإصفهاني الّذي أخذ منه الهلع والاضطراب كلّ مأخذ فقد مزّق عنقه بيديه وفرّ من وجهها منفعلاً يلطّخه الدّم. وارتدّ قليل من الأصحاب عن دينهم وولّوا الأدبار، وجمد آخرون أمامها لا يبدون حراكًا ولا يتكلّمون، ولا بدّ أن بعضهم تذكّر –وقلبه يخفق بشدّة– ذلك الحديث الإسلاميّ عن ظهور فاطمة الزّهراء سافرة وهي تعبر الصّراط يوم القيامة. أمّا القدّوس الّذي أسكته الهياج والغضب، فقد بدا أنّه يتحيّن الفرصة ليضرب عنقها بالسّيف الّذي صدف أنّه كان يحمله في يده آنذاك.
نهضت الطّاهرة ثابتة الجنان غير هيّابة ولا وجلة تتهلّل بشرًا وسعادة. وانطلقت ترتجل بيانًا بليغًا حارًّا عجيبًا أشبه ما يكون ببيان القرآن وجّهته للبقيّة الباقية من المؤتمر وختمته بقولها الجريء: “إنّي أنا الكلمة الّتي ينطق بها القائم والّتي يفرّ منها نقباء الأرض ونجباؤها” ثم دعتهم إلى أن يحتضن كلّ واحد منهم أخاه ويحتفلوا بهذه المناسبة العظيمة.
في ذلك اليوم الباقي “نفخ في الصّور” المذكور في القرآن( ) ووقعت “الواقعة”( ) وشهدت الأيّام الّتي تلت هذا الانفصال المثير عن طقوس الإسلام وتقاليده العريقة ثورة حقيقيّة في نظر هؤلاء الّذين كانوا حتّى آنذاك من المستمسكين بشريعة حضرة محمّد في عاداتهم ومناسكهم وعباداتهم. وبرغم اضطراب المؤتمر من مبتداه إلى منتهاه، وارتداد هذا النّفر القليل الّذي رفض أن يواجه تعطيل تكاليف الإسلام وشريعته فقد تحقّق هدف المؤتمر بصورة كاملة رائعة. من قبل أربع سنوات فقط أعلن صاحب الظّهور البابيّ رسالته للمُلاّ حسين في غرفته الخاصّة بمنزله في شيراز، وبعد ثلاث سنوات من ذلك الإعلان –وبين جدران قلعة ماه كو– كان يملي على كاتب وحية أحكام دورته الأساسيّة المميّزة. وبعد مضيّ عام وجد أتباع حضرة الباب أنفسهم في قرية بدشت منضوين تحت لواء حضرة بهاء الله الّذي كان بدوره أحد أصحاب حضرة الباب يعلنون عن نهاية تطبيق الشّرائع الإسلاميّة المنزلة في القرآن ويحطّمون قيود النّظام العتيق. وبعد ذلك مباشرة كان حضرة الباب يدافع –وهو مازال في سجنه– عن أعمال أصحابه بتأكيد على دعواه من أنّه هو القائم الموعود تأكيدًا قاطعًا رسميًّا لا تحفّظ فيه أمام وليّ العهد وأقطاب الطّائفة الشّيخيّة وأكابر رجال الدّين المجتمعين في عاصمة آذربيجان.
ولم يمضِ سوى أربع سنوات قصار وشيء طفيف على ميلاد الظّهور البابيّ حتّى نُفخ في الصّور ايذانًا بانتهاء الدّورة العتيقة وافتتاح الدّورة الجديدة. ولم يكن هناك من الأبّهة والاحتفال ما يميّز هذا التّحّول العظيم في تاريخ العالم الدّينيّ، كما أن مرسحه المتواضع لم يكن يتناسب مع هذا التّحرّر الكامل المثير المفاجئ من القوى المظلمة الغاشمة؛ قوى التّعصّب والتّقليد والجهل وسيطرة رجال الدّين. أمّا الجيش الجرّار فلم يزد فرسانه عن امرأة واحدة وحفنة من الرّجال الّذين انخرطوا في سلكه من نفس الطّبقات الّتي يهاجمونها، كان جيشًا أعزلاً مجرّدًا من القوّة والثّروة والجاه إلاّ فيما ندر، أمّا قائد الجيش نفسه فغائب أسير في قبضة أعدائه، وأمّا الميدان فقرية صغيرة في سهل بدشت على حدود مازندران، وأمّا النّافخ في الصّور فكانت امرأة وحيدة هي أنبل بنات جنسها في تلك الدّورة، لا بل إنّ بعض إخوانها في الدّين اتّهموها بالإلحاد، وكانت الصّيحة الّتي صاحتها هي أجراس الموت تقرع تشييعًا لشريعة قضت بالغة من العمر اثني عشر قرنًا. وبعد عشرين سنة أخرى نُفخ في الصّور مرّةً أخرى إيذانًا بتأسيس شريعة دورة أخرى، فأسرعت عمليّة التّفكّك والانحلال هذه تتضافر مع الحظّ العابر للشّريعة السّماويّة الّتي بلغت من العمر أرذله، وجمعت العمليّة نشاطها من جديد في فترة متأخّرة، فأسرعت بإلغاء القضاء الشّرعيّ في تركيّا، وأفضت إلى هجره تلقائيًّا في إيران الشّيعيّة وأصبحت العمليّة مسؤولة في الأيّام الأخيرة عن انفصال النّظام المبيّن في الكتاب الأقدس عن القضاء الشّرعيّ السّنّي في مصر، كما مهّدت الطّريق للاعتراف بذلك النّظام في الأرض المقدّسة نفسها. ومن المقدّر لهذه العمليّة أن تبلغ غايتها بصبغ الدّول الإسلاميّة بالصّبغة العلمانيّة، وبجعل جميع الأمم تعترف بشريعة حضرة بهاء الله وتتويجها على قلوب شعوب العالم الإسلامي.
خلّدت أعمال مؤتمر بدشت اعتقال حضرة الباب في ركن قصيّ من آذربيجان، وميّزته تطوّرات ملحوظة بارزة من مثل إعلان دعوته على الملأ، وتنزيل أحكام دورته وشرائعها، وإبرام ميثاقه وعهده. وقد قدّر لهذا الاعتقال أن يكتسب مغزى جديدًا بفضل الهياج الشّديد الّذي نتج عن أعمال أصحابه وأعمال أعدائه على السّواء. ذلك لأنّ هذا الهياج الّذي حدث وسنوات الاعتقال تقترب من نهايتها، والّذي انتهى باستشهاده، تطلّب من أتباعه بطولة وبسالة، ومن أعدائه قسوة وعداوة لم يكن لهما مثيل في السّنوات الثّلاث الأولى من ولايته. والواقع أنّ تلك الفترة القصيرة الهائجة المائجة رغم قصرها، يمكن أن تعتبر بحقّ أعنف وأفظع فترة في عصر البطولة المجيد من الدّورة البهائيّة.
ذلك لأنّ الأحداث الجبّارة المتّصلة باعتقال حضرة الباب في ماه كو وچهريق والّتي تكوّن أعلى قمّة لظهوره، لم يكن لها إلاّ نتيجة واحدة، وهي أن تلهب نار الحماسة في صدور أحبّائه، ونيران البغضاء والعداوة في قلوب أعدائه بقوّة جديدة. فأوشك أن ينطلق اضطهاد أخبث وأبشع وأحكم تدبيرًا من ذلك الّذي أشعله حسين خان أو حتّى الحاج ميرزا آقاسي، وأن يصحبه ما يتكافأ معه من مظاهر البطولة والبسالة الّتي لا يمكن أن تقارن بدفعات الحماسة الّتي رحّبت بميلاد الدّين في شيراز أو في إصفهان. نعم قد قدّر لهذه الفترة الهائجة المائجة المتلاطمة أن تحرم الدّين من ممثّليه الأوائل في تعاقب سريع، وأن تبلغ قمّتها بقتل مؤسّسه، وأن تتلوها هذه المرّة إبادة تكاد تكون كاملة لأعوانه البارزين ما عدا فرد واحد وكّلت إليه العناية الإلهيّة الفيّاضة مهمّة مزدوجة وهي أن ينقذ الدّين في أحلك ساعاته من الفناء، وأن يفتتح الدّورة الّتي تأتي من بعده.
إنّ ادّعاء حضرة الباب لمقام القائم الموعود وسلطانه في تلك الظّروف المثيرة وبتلك النّبرة المتحدّية، أمام أقطاب الشّيعة المجتمعين وهم على ما هم عليه من البأس والحسد والفزع والعداء، كان قوّة ناسفة أهالت ركامًا حقيقيًّا من البلايا والكوارث انهارت على الدّين وعلى الّذين ولد بين ظهرانيهم، ورفعت من حرارة الحماسة في صدور أتباع حضرة الباب المشتّتين الّذين أثار غيظهم اعتقال قائدهم. وزادت من نشاطهم آنذاك فيوضات قلمه الّتي كانت تصلهم من معتقله بلا انقطاع. كما أثار هذا الادّعاء جدلاً حاميًا مستفيضًا في طول البلاد وعرضها، في الأسواق والمساجد والمدارس والأماكن العامّة الأخرى، فساعد على تعميق شقّة الخلاف الّتي شطرت النّاس أشطارًا. في هذه السّاعة الحرجة الخطيرة كان محمّد شاه يتهالك إعياءً تحت وطأة علله وأمراضه، أمّا الحاج ميرزا آقاسي السّطحيّ التّفكير والّذي آلت إليه كلّ شؤون الدّولة آنذاك، فقد كان تردّده وتذبذبه وعجزه يزداد بازدياد مسؤوليّاته الجسام، فتارة يميل إلى الأخذ بقرار العلماء وتارة ينتقد عدوانهم ويشكّك في أحكامهم، ويغرق في التّصوّف تارة أخرى فيعمى في غمرة أحلامه وذهوله عن خطورة الموقف الّذي يجابهه.
هذه الحالة الفاضحة من سوء الإدارة جرّأت النّظام الدّينيّ، فانطلق رجاله بنشاط خبيث يصبّون اللّعنات من منابرهم، ويحرّضون الجماهير الجاهلة المؤمنة بالخرافات على أن يحاربوا أتباع العقيدة البغيضة، وأن يستحلّوا أعراضهم وأموالهم ويستبيحوا أبناءهم. وكانوا يصيحون أمام الجموع الغفيرة قائلين: “*ماذا نقول في العلامات والأشراط الّتي تعلن مجيء القائم؟ ماذا نقول في الغيبة الصّغرى والغيبة الكبرى؟ ماذا نقول في مدينتيّ جابلقا وجابلسا؟ وكيف نفسّر أقوال حسين ابن روح؟ وبأيّ تفسير نفسّر الأحاديث الصّحيحة المنسوبة لابن مهزيار؟ وأين رجال الغيب الّذين يجوبون وجه الأرض في أسبوع؟ وماذا نقول فيما سوف يقوم به القائم عند ظهوره من فتح المشارق والمغارب؟ وأين المسيح الدّجّال الأعور وحماره الّذي يركبه؟ وماذا في سفيان ودولته؟” وكانوا يحتجّون صائحين: “*أنتجاهل ما لا يعدّ ولا يحصى من أحاديث أئمّتنا الصّحيحة أم نخمد بالحديد والنّار ذلك الإلحاد والكفر الّذي تجرّأ وأطلّ برأسه في أرضنا؟”.
أمام كلّ هذا التّشهير والتّنديد والاحتجاج والوعيد عمد أتباع الدّين المظلوم الحكماء المثقّفون إلى الاقتداء بمولاهم. فكتبوا دون تردّد رسالات دقيقة في كتابتها، ودراسات مقنعة في بحثها ومنطقها، وتفاسير كاملة في شواهدها وردودًا فصيحة متينة متساندة أكّدوا فيها إيمانهم بنبوّة رسول الله وشرعيّة الأئمّة وولاية صاحب الزّمان، وفسّروا ببراعة ما غمض من الأحاديث وما تشابه من الآيات وما أُبْهِمَ من النّبوّات الواردة في الكتب الإسلاميّة المقدّسة. وتعزيزًا لكفاحهم شهدوا بوداعة الإمام الحسين رغم بؤسه الظّاهريّ، ذلك الإمام الّذي مجّده أعداؤهم رغم هزيمته وانكساره واستشهاده المروّع باعتباره التّجسيد الرّائع والرّمز الفريد لنصر الله وقهره وسلطانه.
استفحل خطب هذا الجدل العنيف الّذي عمّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها، واتّسع بصورة مخيفة حين استسلم محمّد شاه لعلّته آخر الأمر. وأسرع موته بسقوط صدره الأعظم المقرّب السّليط، الحاج ميرزا آقاسي، فصودرت أمواله الطّائلة الّتي اكتنزها ولحقه الخزي والعار، وطُرد من العاصمة فلاذ بكربلاء. واعتلى العرش ناصر الدّين ميرزا وهو ابن سبعة عشر عامًا. فترك أزمّة الأمور لأمير النّظام ميرزا تقي خان العنيد القاسي. وسرعان ما أصدر قراره، دون أن يستشير أحدًا من زملائه الوزراء، بإنزال العقاب العاجل الصّارم بالبابيّين الّذين لا حول لهم ولا قوّة. فأخذ الحكّام والرّؤساء وموظّفو الدّولة في كلّ الأقاليم كلّ في نطاق نفوذه يلاحقون أتباع الدّين المحرّم، ويتنافسون ويتبارون في صبّ البلايا عليهم وخاصّة بعد أن شجّعتهم الحملة العنيفة الّتي شنّها رجال الدّين، وشوّقتهم الأطماع والهبات الماليّة. ولأوّل مرّة في تاريخ الدّين تشنّ عليه حملة منظّمة تتّحد فيها السّلطتان المدنيّة والدّينيّة، وهي حملة قُدّر لها أن تنتهي بتلك الفظائع الّتي عاناها حضرة بهاء الله في سياه چال بطهران ثمّ نفيه إلى العراق. قامت الحكومة ورجال الدّين والشّعب قومة رجل واحد يهاجمون عدوّهم المشترك ليقضوا عليه. وفي النّواحي البعيدة المنعزلة سقط أفراد الجامعة المضطهدة المشتّتين صرعى تحت سيوف الأعداء بلا شفقة ولا رحمة. وأمّا النّواحي الّتي تركّزت فيها أعداد كبيرة فقد اتّخذوا للدّفاع عن أنفسهم تدابير أساء فهمها العدوّ الماكر المخادع فساعدت بدورها على ازدياد اشتعال عداوة السّلطات، وضاعفت من هجمات المعتدين الظّالمين. ففي الشّيخ طبرسي شرقًا، ونيريز جنوبًا، وزنجان غربًا. وفي العاصمة نفسها قامت المذابح والفتن والمظاهرات والمناوشات والحصار والغدر والخيانة على قدم وساق. فدلّلت في تعاقب سريع على شدّة العاصفة الّتي هبّت، وفضحت إفلاس الشّعب المتغطرس رغم انحطاطه، وجلّلت صفحات تاريخه بالسّواد.
وقد أطاع المُلاّ حسين الباسل أمر حضرة الباب، فلبس العمامة الخضراء الّتي لبسها مولاه وأرسلها إليه، ورفع الرّاية السّوداء الّتي يشير رفعها، كما قال محمّد رسول الله، إلى قدوم خليفة الله في الأرض، وركب حصانه على رأس مائتين واثنين من زملائه الأصحاب ليلاقي القدّوس في الجزيرة الخضراء ويمدّ له يد المعونة. وكانت بسالته نذيرًا بصدام تجاوب صداه في أرجاء البلاد جميعًا. واستمرّ النّضال ما لا يقلّ عن أحد عشر شهرًا. وكان مشهد الجانب الأعظم منه غابة مازندران. وكان أبطاله زهرة أصحاب حضرة الباب. وانضمّ إلى شهدائه ما لا يقلّ عن نصف حروف الحيّ بمن فيهم القدّوس والمُلاّ حسين وهما آخر وأوّل حروف الحيّ على التّوالي. أمّا القوّة الموجّهة الّتي ساندت الصّراع من وراء ستار فلم تكن غير تلك الّتي فاضت عن تدبير حضرة بهاء الله. وكان السّبب في هذا الصّراع تصميم مطالع أنوار العصر الجديد السّافر على أن يعلنوا بشجاعة مجيء هذا العصر إعلانًا لائقًا، وعزمهم الثّابت الأكيد على أن يدافعوا عن أنفسهم ضدّ هجمات المغيرين اللّئام الجهلاء إذا فشل الإقناع بالحجّة والبرهان، ولقد بيّن ذلك الصّراع، بما لا يدع مجالاً للشّكّ، ما يمكن للرّوح الغلاّب الّذي حرّك حفنة لا تتجاوز الثّلاثمائة وثلاثة عشر من التّلاميذ العزّل غير المدرّبين، السّكارى بخمر الله، المنقطعين لتلقّي العِلم في المدارس والأروقة أن يفعله إذا هم قاموا يدافعون عن أنفسهم ضدّ جيش جرّار حسن الإعداد والعدّة تناصره جماهير الشّعب، ويباركه رجال الدّين، ويقوده أمير تجري في عروقه الدّماء الملكيّة، وتؤازره موارد الدّولة، ويتمتّع برضاء الشّاه وحماسته، ويعمل طبقًا للنّصائح الصّائبة الّتي يقدّمها له الوزير المقتدر، ثمّ تمخّض ذلك الصّراع عن خديعة خسيسة انتهت بطقوس وثنيّة دمويّة جهنّمية تَصِمُ مرتكبيها بالعار الأبديّ وتحيط ضحاياها بهالات من المجد الخالد، وتنبت البذور الّتي تزدهر في فترة تالية بزهرات المؤسّسات الإداريّة العالميّة، تؤتي ثمرتها الذّهبيّة في تمام الوقت على هيئة نظام يخلّص العالم كلّه ويحتضن الكرة الأرضيّة بأسرها.
وليس من الضّروريّ في شيء أن نسرد تلك القصّة المحزنة ولو باختصار، رغم أهمّيتها البالغة ورغم ما عانته من تشويه لحقيقتها وقلب لأوضاعها على أيدي الأعداء من الرّواة والمؤرّخين. وإنّما يكفي تحقيقًا للغاية المرجوّة من هذه الصّفحات أن نلقي نظرة عاجلة على ملامحها البارزة، نلاحظ ونحن نسترجع أحداث هذه المأساة العظيمة، ثبات أبطالها وشجاعتهم وحسن تنظيمهم وبراعتهم، ممّا يناقض –على خطّ مستقيم– خسّة أعدائهم وجبنهم وفوضاهم وتذبذبهم، نشاهد الصّبر الجميل وضبط النّفس النّبيل الّذي تحلّى به أحد ممثّليها الرّئيسيّين وهو المُلاّ حسين قلب الأسد الّذي أبى أن يستلّ سيفه من غمده إلاّ بعد أن قُتِلَ سبعة من زملائه الثّابتين الأبرياء على أيدي الجماهير المسلّحة الغاضبة السّاخطة المندّدة بهم أشدّ التّنديد الّتي تربّصت بهم على بعد فرسخ من بارفروش لتقطع عليهم الطّريق. ويملؤنا الإعجاب بإيمان المُلاّ حسين الرّاسخ حين صمّم على الاستمرار في تأدية الأذان، وهم محاصرون في خان سبزه ميدان، رغم أنّ ثلاثة من أصحابه الّذين صعدوا سطح الخان ليؤدّوه قتلوا برصاص العدوّ على الفور واحدًا بعد الآخر. ويذهب بنا العجب كلّ مذهب لإنكار الذّات الّذي دفع بهؤلاء المعوزين المعسرين إلى أن يتجاهلوا في ازدراء تلك الغنائم الّتي خلّفها عدوّهم الهارب وراءه، كما دفعهم من قبل إلى أن يتركوا كلّ ما ملكت أيديهم وراء ظهورهم، ويقنعوا من دنياهم بخيلهم وسيوفهم. ودفع بوالد بديع -وهو رجل من هذه الفئة الباسلة- إلى أن يلقي في عرض الطّريق بحقيبة الفيروز الّتي جاء بها من مناجم والده في نيسابور، ودفع ميرزا محمّد تقي الجويني إلى أن يلقي بمقدار مماثل من الذّهب والفضّة، ودفع هؤلاء الأصحاب إلى أن يحتقروا، بل وأن يأنفوا من أن يلمسوا الرّياش الفاخر وصناديق الذّهب والفضّة الّتي خلّفها الأمير مهدي قلي ميرزا اليائس، قائد جيش مازندران وأخو محمّد شاه، حين فرّ من معسكره لا يلوي على شيء بعد أن لحقه الخزي والعار، ولا نتمالك أنفسنا من الإعجاب بذلك الإخلاص العميق الّذي دافع به المُلاّ حسين عند الأمير عن نفسه وعن أصحابه، وتأكيده الرّسميّ الواضح له على أنّه لا هو ولا أصحابه يضمرون أيّة نيّة في اغتصاب سلطة الشّاه أو تقويض دعائم المملكة، وكذلك لا نتمالك أنفسنا من احتقار مسلك سعيد العلماء الخسيس المصروع القاسي المتعجرف الّذي أفزعه اقتراب هؤلاء الأصحاب، فألقى بعمامته على الأرض، وهو في سورة الغضب والاضطراب، وشقّ ثيابه أمام جمع غفير من الدّهماء نائحًا على الحالة الّتي تردّى إليها الإسلام، وحرّض هذا الجمع الغفير على حمل السّلاح والقضاء على الفئة المقتربة. وتأخذ الدّهشة بمجامع الألباب ونحن نتأمّل إقدام المُلاّ حسين المعجز، فبرغم هيكله النّحيل ويده المرتجفة استطاع بضربة واحدة من سيفه أن يقتل عدوًّا خائنًا احتمى بإحدى الأشجار بأن شطر الشّجرة وشطرهُ وشطر بندقيّته إلى نصفين. وفضلاً عن ذلك تتحرّك عواطفنا ومشاعرنا لمشهد قدوم حضرة بهاء الله إلى القلعة، وما أغدقه ذلك على المُلاّ حسين من السّعادة البالغة، والإجلال الّذي لقيه به زملاؤه الأصحاب ثمّ تفقّده للمتاريس والتّحصينات الّتي أقاموها على عجل لحماية أنفسهم، ونصيحته الّتي أدّت إلى خلاص القدّوس العجيب عند اتّصاله فيما بعد بالمدافعين عن القلعة ومشاركته في المغامرات المتّصلة بحصارها وتدميرها في النّهاية. ونذهل لرزانة القدّوس وحكمته ومدى الثّقة الّتي عَمّت القلعة بوصوله إليها، والبراعة الّتي أبداها، والبِشر الّذي استمع به المحصورون صباحًا ومساءً إلى صوته وهو يرتّل تفسيره الرّائع لصاد الصّمد الّذي كتبه وهو في ساري فبلغ ثلاثة أمثال حجم القرآن، ثمّ أخذ يوضّح ما غمض منه فأضاف إليه مثل ما كتب من قبل، كلّ ذلك رغم هجمات العدوّ الشّديدة والحرمان الّذي يقاسي منه أصحابه. وبقلوب خافقة نتذكّر ذلك الهجوم الخالد الذّكر حين اندفع المُلاّ حسين من القلعة قبيل الفجر صائحًا: “يا أبطال الله، اركبوا خيلكم” على رأس مائتين واثنين من الأصحاب المحاصرين المحزونين، يتقدّمه القدّوس صائحًا: “يا صاحب الزّمان” وأسرعوا بملء العنان إلى معسكر الأمير، واخترقوه حتّى بلغوا مقصورته الخاصّة فإذا بهم يجدونه قد ألقى بنفسه لشدّة فزعه من نافذة خلفيّة إلى الخندق وفرّ حافيًا تاركًا جيشه يتخبّط في الاضطراب ويعمه الاختلال. ويأخذ بكظمنا الحزن والألم حين نتمثّل آخر أيّام حياة المُلاّ حسين الأرضيّة. توضّأ بعد منتصف اللّيل مباشرة، ولبس ملابس جديدة، ووضع على رأسه عمامة حضرة الباب، وركب جواده، وأمر بباب القلعة ففُتح، وخرج على رأس ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه صائحًا: “يا صاحب الزّمان” وهاجم المتاريس السّبعة الّتي أقامها العدوّ وأسر رجالها عن بكرة أبيهم، رغم سيل الرّصاص المنهمر، وقتل مدافعيهم بسرعة وبدّد شملهم، ولكنّ جواده تعثّر بحبل خيمة من الخيام أثناء الهرج القائم، وقبل أن يخلّص نفسه من الرّكاب اخترقت صدره رصاصة أطلقها عبّاس قلي خان اللاّريجاني الجبان الّذي كان مختفيًا في أغصان إحدى الأشجار المجاورة. ونمجّد تلك البسالة النّادرة الّتي ألهمت تسعة عشر صاحبًا من هؤلاء الأصحاب الثّابتي الجنان أن يعاودوا الهجوم على معسكر العدوّ الّذي كان يتألّف ممّا لا يقلّ عن فرقتين كاملتين من المدفعيّة والمشاة، وأن يلقوا في قلوبهم رُعبًا دفع بأحد قوّادهم – وهو عبّاس قلي خان نفسه – إلى الفرار بعد أن سقط عن حصانه تاركًا أحد نعليه معلّقًا في الرّكاب، ودخل على الأمير مضطربًا وهو نصف منتعل ليعترف له بالهزيمة المنكرة الّتي مني بها. وإن نسينا فلا ننسى ذلك الصّبر العظيم الّذي احتملت به أرواحهم المجيدة محنتهم القاسية، حين اقتصر طعامهم على لحم الخيل الّتي كانوا يأتون بها من معسكر العدوّ المهجور، ثم قنعوا بالحشائش والأعشاب الّتي كانوا يقتلعونها اختطافًا من الحقول كلّما سنحت لهم الفرصة، ثمّ اضطرّوا إلى التهام لحاء الشّجر وجلود السّروج والأحزمة وأغمدة السّيوف والأحذية، ثمّ مرّت بهم ثمانية عشر يومًا لم يطعموا فيها شيئًا سوى الماء الّذي كانوا يشربون منه كلّ صباح جرعة، ثم اضطرّتهم نيران مدافع العدوّ إلى حفر ممرّات تحت الأرض داخل القلعة حيث اضطرّوا إلى أن يعيشوا في الطّين والماء بثياب جعلتها الرّطوبة أسمالاً، وأن يقتاتوا بالعظم المسحوق، ثمّ اضطرّهم الجوع والسّغب الشّديد –كما يشهد مؤرّخ معاصر– إلى أن ينبشوا حصان المُلاّ حسين قائدهم الجليل ويمزّقوه إربًا إربًا، ويسحقوا عظامه ويخلطوها باللّحم الّذي دبّ فيه التّعفّن ويطبخوه ويلتهموه سدًّا للرّمق.
ولا يمكننا أن نغفل الإشارة إلى الخيانة الدّنيئة الّتي لجأ إليها الأمير العاجز الخائب، ونقضه ما سمّاه قسمًا غليظًا كتبه بخطّ يده وختمه على هامش فاتحة القرآن حالفًا بذلك الكتاب المقدّس أن يطلق سراح المدافعين عن القلعة، ومقسمًا بشرفه ألاّ يتعرّض لهم أحد بأذى سواء من جيشه أو من القرى المجاورة، وأنّه سوف يتكفّل بعودتهم إلى منازلهم في أمن وسلام بنفسه وعلى نفقته. وأخيرًا نسترجع المنظر الختاميّ من هذه المأساة الكئيبة حين حنث الأمير في قسمه وخان عهده المقدّس. وكان نفر من أصحاب القدّوس المخدوعين قد اجتمعوا في معسكر العدوّ فجُرّدوا ممّا يملكون وبيعوا بيع العبيد، أمّا الآخرون فلقوا حتفهم، قتل بعضهم بسيوف الضّبّاط ورماحهم، ومزّق بعضهم إربًا إربًا، وربط بعضهم الآخر إلى جذوع الشّجر ومزّقوا بالرّصاص، ووُضِعَ بعضهم في أفواه المدافع وأمسوا طعمة للنّار، وبُقِرَت بطون بعضهم ومزّقت أحشاؤهم ورفعت رؤوسهم على الرّماح والحراب. أمّا القدّوس – قائدهم المحبوب– فقد أسلمته شناعة أخرى من شناعات الأمير الجبان إلى سعيد العلماء الجهنّميّ الّذي رخّصت له نفسه المتعطّشة، ومعونة الدّهماء الّذين ألهب مشاعرهم، أن يمزّق أثواب ضحيّته، ويكبّله بالسّلاسل والأغلال الغلاظ، ويطوف به طرقات بارفروش ويحرّض نساءها على لعنه وسبّه والبصق في وجهه، والهجوم عليه بالخناجر والفؤوس والتّمثيل بجثمانه وإلقاء أشلائه الممزّقة في النّار.
هذه القصّة المثيرة المجيدة بالنّسبة للأمر، المخزية بالنّسبة لأعدائه والّتي تعتبر ظاهرة نادرة في تاريخ العصور الحديثة، سرعان ما تلتها فتنة تماثلها في ملامحها الأساسيّة إلى حدّ عجيب، وإن انتقل مرسحها إلى الجنوب إلى إقليم فارس غير بعيد عن المدينة الّتي أشرق منها نور الأمر. واضطرّت نيريز وما حولها أن تتلقّى صدمة هذه المحنة الجديدة بكلّ شدّتها وقسوتها، أمّا مهبّ هذه العاصفة الهوجاء الجديدة بكلّ شدّتها وقسوتها فكان قلعة خواجه( ) القريبة من حيّ چنار سوختة من أحياء هذه القرية الهائجة المائجة، وأمّا البطل الّذي شمخ على كلّ أصحابه وناضل نضال الجبابرة ثمّ سقط طعمة للّهيب المدمّر فكان السّيّد يحيى الدّارابي الشّهير ﺑ”وحيد” –”وحيد عصره وفريد زمانه”– كما كان في طليعة الأعداء القادرين، الّذين أشعلوا نيران هذه الفتنة وغذّوها، حاكم نيريز زين العابدين خان الدّنيء المتعصّب، يناصره عبدالله خان شجاعُ المُلْك، ويعزّزه الأمير فيروز ميرزا حاكم شيراز. ورغم أنّ هذه الواقعة كانت أقصر عمرًا من واقعة مازندران الّتي دامت ما لا يقلّ عن أحد عشر شهرًا، إلاّ أنّ الفظائع الّتي انتهت بها مرحلتها الأخيرة لا تقلّ هولاً في نتائجها. ومرّة أخرى نجد حفنة من الرّجال الأبرياء الوادعين المسالمين ذوي الأرواح السّامية الّتي لا تقهر، تتألّف هذه المرّة من غلمان غير مدرّبين ورجال طاعنين في السّنّ، تفاجئهم وتتحدّاهم وتحاصرهم وتهاجمهم قوّات متفوّقة من رجال غلاظ شداد ماكرين، فتعجز عن قهرروحهم رغم حسن تدريبها ووفرة عتادها واستمرار إمداداتها.
تسبّب في هذا الهياج الجديد إعلان البعض عن إيمانهم بالأمر بصورة لا تقلّ جرأة ولا حرارة، وإظهار الحماسة الدّينيّة بصورة لا تقلّ اندفاعًا ولا اشتعالاً عمّا تمّ في واقعة مازندران، وأثاره انفجار عداوة دينيّة لا تقبل المهادنة ولا الموادعة، وصاحبه ما يتكافأ معه من مظاهر التّعصّب الأعمى، وأثارته أفعال مشابهة من التّهجّم السّافر من جانب رجال الدّين والدّهماء. ومرّة أخرى تجلّى نفس الهدف وحرّكه من أوّله إلى آخره نفس الرّوح، واقترب من نفس قمم البطولة الخارقة، والثّبات وإنكار الذّات والشّجاعة الفائقة، وسقط القناع عن تنسيق لا يقلّ دقّة ولا إحكامًا بين السّلطات المدنيّة والدّينيّة في الخطط والجهود الّتي قصد بها تحدّي العدوّ المشترك والقضاء عليه. وسبقه إنكار مماثل لأيّ نيّة يكنّها البابيّون للتّدخّل في الشّؤون المدنيّة أو تقويض سلطة الشّاه الشّرعيّة. وقدّم هذا الصّراع دليلاً لا يقلّ عن سابقه إقناعًا على صبر الضّحايا وضبطهم لأنفسهم تجاه العدوان الغليظ الّذي لحق بهم دون أيّ استفزاز من جانبهم، وعندما كان الصّراع يقترب من قمّته انكشف جبن العدوّ وافتقاره إلى النّظام وتدهوره الخلقيّ وإفلاسه الرّوحيّ بصورة لا تكاد تقلّ تأثيرًا عمّا حدث في مازندران، وتميّزت أخرياته بحادثة غدر لا تقلّ دناءة ولا خسّة، وانتهى بمذبحة تثير فظائعها ومآسيها اشمئزازًا أكبر. وختم هذا الصّراع حياة وحيد بخاتمة الشّهادة، إذ رُبط إلى حصان، وهو يلبس العمامة الخضراء رمز حسبه ونسبه وسُحب في الشّوارع والطّرقات بهذه الصّورة المزرية، ثمّ قُطع رأسه وحُشي بالقشّ وأُرسل تذكارًا إلى الأمير المبتهج في شيراز، على حين تُرك جثمانه تحت رحمة نسوة نيريز الغضبَى اللاّئي أسكرهنّ الفرح البربريّ، فأخذن يرقصن حوله على دقّ الطّبول ونقر الدّفوف وصيحات الجيش المظفّر. وأخيرًا جرّ هذا الهياج في أعقابه غارة وحشيّة عامّة اشترك فيها ما لا يقلّ عن خمسة آلاف رجل كلّفوا بالإغارة على البابيّين العزّل، فنهبوا أموالهم وسَبَوا نساءهم وأطفالهم، وعرّوا بعضهم بصورة تكاد تكون كاملة وحملوهنّ على البغال والحمير والجمال وساقوهنّ بين صفّين من الرّؤوس المقطوعة من جثث آبائهنّ وإخوتهنّ وأبنائهنّ وأزواجهنّ الّذين سبق أن كووهم بالنّار، أو اقتلعوا أظافرهم أو جلدوهم حتّى الموت أو دقّوا أسياخ الحديد في أيديهم وأرجلهم أو خرموا أنوفهم بالحبال ثمّ سحبوهم بها وعرّضوهم في الشّوارع على أنظار الجماهير المهتاجة السّاخرة.
وما كادت تسكن هذه الفتنة البالغة كلّ هذا المبلغ من الهياج والإيلام حتّى اشتعلت في زنجان وما حولها فتنة أخرى أشدّ تدميرًا من الفتنتين السّابقتين، هبّت كالعاصفة الهوجاء في غرب إيران وتجرّع فيها كأس الشّهادة المُلاّ محمّد علي الزّنجاني الملقّب ﺑ”الحجّة” أحد أقطاب الدّين الأفذاذ، هو وألف وثمانمائة من إخوانه. ولقد حدّدت هذه العاصفة مسافة الخلف الشّاسعة الّتي تفصل بين حملة مشاعل الدّين الجديد وبين أقطاب النّظام الدّينيّ والدّنيويّ المزعزع. وكانت الشّخصيّات البارزة المسؤولة عن هذه المأساة الشّنيعة، بصفة أساسيّة، هي الأمير الحسود المنافق أرسلان خان، ومجد الدّولة خال ناصر الدّين شاه وأعوانه، وصدر الدّولة الإصفهاني، ومحمّد خان أمير تومان وعن ورائهم الإمدادات العسكريّة الفاعلة الّتي كان يرسلها أمير النّظام من ناحية، والتّأييد الحارّ الّذي أبداه رجال الدّين في زنجان من ناحية أخرى، وأمّا مرسح هذه المصادمات ومشهد هذه الآلام الموجعة وهدف الهجمات الوحشيّة المتكرّرة فكان قلعة علي مردان خان الّتي لجأ إليها ما لا يقلّ عن ثلاثة آلاف بابيّ بين رجل وامرأة وطفل، لا تفوق قصّة بلاياهم أيّ قصّة أخرى في مدى قرن كامل.
وإنّ الإشارة الموجزة لبعض الملامح البارزة من هذه القصّة المفجعة، الّتي وهبت للدّين في طفولته طاقات لا حصر لها، لتكفي للكشف عن طبيعتها المميّزة. فمن أبرز ملامح الصّراع الدّمويّ، تلك المناظر المثيرة للشّجن الّتي تلت تقسيم أهل زنجان إلى معسكرين متميّزين بناء على أمر صدر من حاكمها وطاف به المنادي. فانفصمت العرى وتقطّعت الأسباب وانشطرت العواطف والمصالح الدّنيويّة لصالح ولاء أعلى، وكذلك مناشدات الحجّة المتكرّرة للمحصورين أن يكفّوا أيديهم عن التّعدّي وأعمال العنف، وتأكيده لهم وهو يذكر مأساة مازندران بأنّ نصرهم لن يتحقّق إلاّ إذا ضحّوا بكلّ شيء على مذبح أمر صاحب الزّمان، وإعلانه صدق نيّة أصحابه في خدمة مليكهم وترقية مصالح شعبه، والبسالة النّادرة المدهشة الّتي صدّ بها هؤلاء الأصحاب هجمات صدر الدّولة الوحشيّة ممّا اضطرّهُ في النّهاية إلى الاعتراف بفشله الذّريع ولذلك عنّفه الشّاه وأنزله من رتبته، وكذا احتقار نزلاء القلعة لنداء المنادي الّذي أرسله العدوّ المرهق السّاخط ليفتنهم عن دينهم ويعدهم ويمنّيهم بهبات الشّاه السّخيّة، ثمّ براعة زينب وجرأتها الّتي لا يمكن أن يصدّقها العقل، وهي فتاة ريفيّة دفعها الشّوق القاهر إلى أن تشارك المدافعين عن القلعة مصيرهم فتنكّرت في زيّ الرّجال وقصّت ضفائرها وتمنطقت بالسّيف، وتعقّبت المغيرين وهي تصيح “يا صاحب الزّمان” واستمرّت خمسة أشهر في غمرة المعمعة لا تأبه لنوم ولا لطعام، تستنهض الهمم وتندفع لإنقاذ زملائها من الرّجال. ثمّ هذا الزّئير الهائل الّذي تعالى من حناجر حرّاس التّحصينات وهم يردّدون الدّعوات الخمس الّتي أوصى بها حضرة الباب في نفس اللّيلة الّتي تلقّوا فيها أوامره بذلك. هذا الزّئير أسرع بمصرع بضعة أشخاص في معسكر العدو، وجعل الضّبّاط المتردّدين يسقطون كؤوس الخمر من أيديهم ويقلبون موائد القمار، ويسرعون وهم حفاة واضطرّ آخرون للهروب إلى البرّيّة وهم شبه عراة أو اللّجوء إلى منازل العلماء والفزع يخلع قلوبهم، كما أنّنا نسترجع التّناقض بين الفوضى والسّباب والضّحك السّاخر والفسق والفجور الّذي تميّز به معسكر العدوّ وبين جوّ التّبتّل والإجلال الّذي غمر القلعة حيث كانت أناشيد الحمد والثّناء وأهازيج السّرور والحبور تتعالى منها على الدّوام. ولا يمكننا أن نغفل الإشارة إلى الالتماسات الّتي وجّهها الحجّة وأقطاب أنصاره إلى الشّاه يفنّدون فيها مزاعم خصومهم ويؤكّدون ولاءهم لشخصه ولحكومته، ويظهرون استعدادهم لإثبات صحّة أمرهم في محضره، ولا إلى كيفيّة احتجاز الحاكم هذه الرّسائل واستبدالها بأخرى ملئت قذفًا وسبابًا وأرسلها إلى طهران. ولا نغفل التّنويه بالمعونة الصّادقة الّتي بذلتها النّساء في القلعة وصيحات الابتهاج الّتي كنّ يرفعن بها عقيرتهنّ والحماسة الّتي كانت تدفع بعضهنّ إلى التّنكّر في زيّ الرّجال لتعزيز المتاريس والتّحصينات واحتلال مواقع إخوانهنّ الجرحى من الرّجال بينما أخريات كنّ يعتنين بالمرضى ويحملن إلى الجرحى قربًا من الماء، على حين فعل بعضهنّ الآخر ما فعلته قديمًا نساء قرطاجنّة، قصصن شعورهنّ الطّويلة وربطن الغدائر الغليظة حول البنادق لتقويتها. ولا نغفل الإشارة أيضًا إلى الغدر الصّارخ الّذي عمد إليه العدوّ المحاصر، فقد كتبوا عهدًا للصّلح، ووضعوا معه مصحفًا مختومًا دليلاً وشاهدًا على صدق عهدهم وأرسلوه إلى الحجّة، إلاّ أنّهم لم يتورّعوا في اليوم نفسه عن أن يزجّوا بأعضاء الوفد الّذي أرسله الحجّة إليهم في غرفة أرضيّة بمن فيهم الأطفال، وعن أن ينزعوا لحية رئيس الوفد الجليل، ولا عن تشويه أحد زملائه بصورة وحشيّة. وإنّنا لنتذكّر فضلاً عن ذلك شهامة الحجّة الّذي فجعته الأقدار في زوجته وولده فجأة ومع ذلك استمرّ يدعو أصحابه بجأش رابط إلى التّجمّل بالصّبر والأناة وتسليم أمرهم إلى الله. وظلّ كذلك إلى أن خرّ صريعًا متأثّرًا بجرح بليغ بيد العدوّ. ونتذكّر الانتقام البربريّ الّذي انتقم به من الضّحايا عدوّ يفوقهم عددًا وعدّة إلى حدّ بعيد. وكيف أهدروا دمهم وأباحوهم للقتل الجماعيّ والنّهب الّذي لا مثيل لهما في المدى والضّراوة، وكيف أسرف في ذلك الجيش النّهّاب السّلاّب والشّعب الجشع والطّماع، والشّيوخ الّذين لا يطفئ ظمأهم شيء. نتذكّر تعريضهم للضّحايا من الجنسين للبرد القارس الّذي تميّز به ذلك الشّتاء ما لا يقلّ عن خمسة عشر يومًا وليلة، حفاة عراة جياعًا. على حين كانت جموع النّساء ترقص من حولهم طربًا وفرحًا، وتبصق في وجوههم، وتقذفهم بأقذع الشّتائم، نتذكّر القسوة الوحشيّة الّتي حكمت على ضحايا آخرين بأن يُقذفوا من أفواه المدافع، أو أن يُغمسوا في الماء القارس ويُجلدوا بقسوة أو تُغمس جماجمهم في الزّيت المغلي، أو تُدهن أبدانهم بالعسل ويتركوا ليموتوا في الجليد. نتذكّر أخيرًا تلك الكراهية الّتي لا ترتوي تدفع الحاكم اللّئيم إلى الإيعاز لابن الحجّة –وهو صبيّ لا يتجاوز السّابعة من عمره– أن يكشف عن مكان قبر أبيه. فيهدم الحاكم القبر وينبش الجثّة، ويأمر بسحبها في شوارع زنجان على قرع الطّبول، ويعرّضها ثلاثة أيّام بلياليها لإهانات لا يمكن أن توصف بوصف. هذه الأحداث وأمثالها الّتي وصفها اللّورد كرزون “بالحصار المروّع والمجزرة الشّنيعة” تتضافر جميعًا لتسكب على ملحمة زنجان مجدًا حزينًا لا يفوقه مجد أيّة قصّة مماثلة في عصر البطولة المجيد من دين حضرة بهاء الله.
لم تستطع عاصمة المملكة أن تظلّ بمعزل ولا أن تقف مكتوفة اليدين إزاء تيّار البلايا والمِحَن الّذي اكتسح في السّنوات الأخيرة من ولاية حضرة الباب أقاليم إيران في الشّرق والغرب والجنوب بكلّ هذا العنف المشؤوم. فاشتركت طهران قبل استشهاد حضرة الباب بأربعة أشهر في المذبحة العامّة الّتي كانت تلطّخ وجه البلاد ولكن بدرجة أقلّ وفي ظروف أقلّ عنفًا. على أنّ المأساة الّتي حدثت في تلك المدينة لم تكن سوى مقدّمة لمذبحة قامت بعد استشهاد حضرة الباب، روّعت أهلها ونثرت الرّعب طولاً وعرضًا إلى أن بلغ الأقاليم النّائية. نشأت هذه المأساة الجديدة بأمر أمير النّظام الحقود السّفّاح وارتكبت بين يديه وعاونه فيها محمود خان كلانتر وساعده أحد علماء كاشان اسمه حسين. أمّا أبطال هذه المأساة فكانوا شهداء طهران السّبعة الّذين يمثّلون الطّبقات العليا من المجتمع، والّذين أصرّوا على ألاّ يشتروا حياتهم بمجرّد الإنكار الشّفهيّ. وهو إجراء ظلّ الشّيعة يمارسونه قرونًا طويلة باسم التّقيّة، ويعتبرونه تخلّصًا مقبولاً بل ومستحبًّا ساعة الخطر. ولم تفد الشّفاعات المتكرّرة الّتي تشفّع بها ذوو المقامات العالية في مناشط الحياة الّتي ينتمي إليها هؤلاء الشّهداء، ولا الأموال الطّائلة الّتي أبدى تُجّار شيراز وطهران المقتدرون استعدادهم لبذلها فداء لأحدهم، وهو ميرزا سيّد علي خال حضرة الباب النّبيل الرّزين، ولا استرحامات رجال الدّولة الحارّة بشأن شهيد آخر هو الدّرويش الفاضل الورع ميرزا قربان علي. بل لم يُجدِ تدخّل أمير النّظام نفسه نفعًا حين حاول أن يحمل هذين الرّجلين الشّجاعين على الارتداد. ولم يُغْنِ كلّ ذلك عن حمل أحد منهم على التّنازل عن إكليل الشّهادة المشتهى. أمّا الملامح الرّئيسة لمأساة شهداء طهران السّبعة فكانت النّشوة الّتي تملّكتهم، والإجابات المتحدّية الّتي ألقوها في وجه أعدائهم إذ يقتربون من مقرّ الشّهادة ومشهد الفداء، وتلك الصّيحات المستبشرة الّتي ارتفعت بها حناجرهم إذ يواجهون جلاّديهم، وتلك الأشعار المؤثّرة الّتي رتّلها بعضهم في لحظاته الأخيرة، وتلك البيانات والتّحدّيات الّتي وجّهوها إلى جموع المشاهدين المشدوهين وتلك اللّهفة الّتي تدافع بها آخر ثلاثة من الضّحايا ليسبق أحدهم الآخر إلى المصير الدّموي، وأخيرًا تلك الشّناعات الّتي انحطّ إليها العدوّ المتعطّش للدّماء، إذ عرض جثثهم ثلاثة أيّام بلياليها في سبزه ميدان ليركلها كلّ يوم آلاف ممّن يسمّون أنفسهم بالشّيعة المخلصين، ويبصقوا في وجوهها ساخرين لاعنين راجمين، ويهيلوا عليها القاذورات. مأساة تبرز كمشهد من أبشع ما شوهد في غضون تفتّح دين حضرة بهاء الله الباكر. فلا عجب أن ترى حضرة الباب، الّذي كان يرزح تحت وطأة أحزانه المتراكمة في قلعة چهريق، يثني عليهم ويمجّدهم على صفحات لوح طويل رثاهم وخلّد إخلاصهم ووفاءهم وولاءهم لأمره، ووصفهم فيه ﺑ”أكباش الفداء السّبعة” الّذين يمشون أمام القائم الموعود في يوم الحساب، طبقًا للحديث الإسلاميّ، هؤلاء الأكباش الّذين يسبق موتهم استشهاد راعيهم الحقّ بعد قليل.
إنّ أمواج البلايا الّتي لطمت الدّين كلّ هذه اللّطمات العنيفة، وصرعت في النّهاية أقدر أصحاب حضرة الباب وأعزّهم وأخلصهم في تعاقب سريع شملت سجين چهريق بحزن لا يوصف كما لاحظنا من قبل. ويقرّر مؤرّخه أنّه لم يعد قادرًا على الكتابة أو الإملاء مدّة لا تقلّ عن ستّة أشهر، فقد سحقه الحزن البالغ للأخبار السّيّئة الّتي توالت عليه بسرعة من كلّ جانب، المحن الّتي نزلت بأقدر حواريّيه، والبلايا الّتي عاناها المحصورون، والخديعة المخزية الّتي وقع فريستها بقيّة الحصار، أخبار الآلام الوجيعة الّتي قاساها الأسرى، والمجازر البشعة الّتي راح ضحيّتها الرّجال والنّساء والأطفال، والتّمثيل الشّنيع بجثثهم، والإهانات الدّنيئة الّتي انهالت عليها. ولقد أكّد كاتب وحيه أنّه امتنع عن أن يلقى أحدًا من أصحابه تسعة أيّام، كما امتنع عن تناول ما يقدّم إليه من لحم وشراب. وانهمرت الدّموع من عينيه مدرارًا، وتدفّق الأنين من قلبه الجريح فيّاضًا، بينما هو يذبل ويذوي مدّة لا تقلّ عن خمسة أشهر فريدًا في سجنه لا يسرّي عنه أحد.
لقد تقوّض الجانب الأكبر من دعائم دينه الجديد عند هبوب الإعصار الجبّار الّذي عصف به؛ فالقدّوس الّذي خلّده بتلقيبه إيّاه ﺑ”اسم الله الآخر”، وأنعم عليه حضرة بهاء الله فيما بعد في لوحه “كلّ الطّعام” بلقب “النّقطة الأخرى” ورفعه في لوح آخر إلى منزلةٍ تلي منزلة المبشّر بظهوره، وسلكه في لوح ثالث في عداد “أولي العزم من الرّسل” المذكورين في القرآن الكريم، ومجّده البيان الفارسي بأنّه رفيق الحجّ تطوف حوله المرايا بقدر عدد الواحدات الثّمانية، والّذي “*بانقطاعه وخلوصه يعتزّ الله بين الملأ الأعلى”، والّذي وصفه حضرة عبد البهاء بأنّه “*قمر الهدى” وتنبّأ بظهوره يوحنّا اللاّهوتي في رؤياه باعتباره أحد “الشّاهدين” اللّذين تدخل منهما “روح حياة من الله” قبل أن يمضي “الويل الثّاني”، يلقى وهو في ميعة الصّبا وشرخ الشّباب، في سبزه ميدان ببارفروش حتفًا لم يلقه السّيّد المسيح في ساعة محنته الكبرى، كما يشهد حضرة بهاء الله. وهذا المُلاّ حسين “أوّل حروف الحيّ” الملقّب ﺑ”باب الباب”، والموصوف ﺑ”المرآة الأوّليّة” والّذي أغدق عليه قلم حضرة الباب من المدائح والدّعوات وألواح الزّيارة ما يعادل ثلاثة أمثال القرآن الكريم مشيرًا إليه في هذه المدائح ﺑ”محبوب قلبي” والّذي أعلن القلم نفسه أنّ تراب قبره يبهج المحزون ويبرئ العليل، والّذي يغبطه “*خلق الأوّلين والآخرين” في ظلّ البيان “*إلى يوم القيامة”. المُلاّ حسين الّذي مجّده كتاب الإيقان بأنّه “لولاه ما استوى الله على عرش رحمانيّته، وما استقرّ على كرسيّ صمدانيّته” وأسبغ عليه السّيّد كاظم من العنايات والألطاف ما جعل تلاميذه يعتقدون أنّه من غير البعيد أن يكون هو الموعود، هذا الرّجل يموت هو الآخر وهو في أوج رجولته ميتة الشّهيد في طبرسي. وهذا “وحيد” المذكور في كتاب الإيقان بأنّه “*وحيد عصره وفريد زمانه”، العالم الجليل، وأعظم الشّخصيات الّتي انضوت تحت علم الدّين الجديد، من شهد حضرة الباب في الدّلائل السّبعة “*بفضله وتقواه” و”*علوّ كعبه في العلم ورفعة شأنه في الحكمة”، ينجرف هو الآخر في ملابسات مشابهة في معمعة فتنةٍ أخرى، ويرتشف بدوره نفس الكأس الّتي تجرّعها شهداء مازندران الأبطال. وهذا “الحجّة” عَلَمٌ آخر ذو بسالةٍ نادرةٍ وعزيمةٍ قاهرةٍ وأصالةٍ باهرةٍ وهمّةٍ عاليةٍ يهوي بصورةٍ سريعة لا مفرّ منها في الأتون المستعر الّذي أحاطت ألسنة لهيبه بزنجان وما حولها، وهذا خال حضرة الباب، والأب الوحيد الّذي عرفه منذ طفولته، ودرعه الواقي وعونه والرّاعي الأمين لزوجه وأمّه، تفصله عنه فأس الجلاّد في طهران. كما سبقه في مضمار الشّهادة ما لا يقلّ عن نصف أصحابه المختارين: حروف الحيّ. أمّا الطّاهرة فإنّها وإن كانت لا تزال على قيد الحياة حتّى آنذاك إلاّ أنّها كانت تسلك بجرأةٍ وبسالةٍ طريقًا تفضي بها إلى مصيرها المحتوم.
كان المدّ السّريع للحياة الزّاخرة بأوجاع هذا العهد الفاجع وهياجه وخياناته وأحزانه يصعد آنذاك مسرعًا إلى قمّته، وأخذت أقسى فترة من عصر البطولة المجيد في الدّورة الجديدة تشارف نهايتها. وكانت كأس الويلات المريرة الّتي ارتشفها مبشّر تلك الدّورة قد امتلأت الآن عن آخرها وطفحت. والواقع أنّه هو نفسه قد تنبّأ بموته الوشيك، ففي كتاب “پنج شأن” [الشّؤون الخمسة] أحد كتبه المتأخّرة، أشار إلى أنّ النّوروز السّادس بعد إعلان بعثته سوف يكون آخر نوروز يحتفل به على الأرض. وفي تفسيره لحرف الهاء تمنّى الشّهادة على حين تنبّأ في قيوم الأسماء فعلاً بأنّه لا بدّ لحياته المجيدة من مثل هذه الخاتمة. وقبل مغادرته النّهائية لچهريق بأربعين يومًا جمع الوثائق الموجودة في حوزته وسلّمها هي ومقلمته وأختامه وخواتمه إلى المُلاّ باقر أحد حروف الحيّ، وأوصاه بأن يودعها عند المُلاّ عبد الكريم القزويني الملقّب بميرزا أحمد، على أن يسلّمها هذا بدوره إلى حضرة بهاء الله في طهران.
وعلى حين كانت الفتن في مازندران ونيريز قائمة على قدم وساق تتابع مجراها الدّموي، كان الصّدر الأعظم لناصر الدّين شاه يتدبّر في قلق بالغ دلالة هذه الأحداث الجسام، ويتوجّس خيفة من وقع صداها على مواطنيه وحكومته ومليكه، ويدير في عقله المحموم هذا التّصميم الوبيل الّذي لم يقدّر له أن يترك بصماته الّتي لا تمحى على مصير بلاده فحسب بل وأن يحمل في طواياه نتائج تفوق الحصر والعدّ في مصائر الجنس البشري بأسره. فقد اقتنع أمير النّظام آنذاك تمام الاقتناع بأنّ التّدابير الرّادعة الّتي اتّخذت ضدّ أتباع حضرة الباب لم يكن لها من جدوى سوى أنّها استنهضت عزائمهم وشحذت هممهم وثبّتت أقدامهم على دينهم المقصود بالقمع والاضطهاد. كما أنّ عزل حضرة الباب واعتقاله أحدث من الأثر عكس ما كان يأمل، ولشدّة اضطرابه أخذ يندّد بما أظهره سلفه الحاج ميرزا آقاسي من رقّة الحاشية ولين الجانب حتّى وصلت الأمور إلى هذه الدّرجة من السّوء، وشعر آنذاك أنّه لا بدّ من إيقاع عقاب مثاليّ أشدّ وأوجع على ما اعتبره بدعة ورجسًا شنيعًا يدنّس الهيئات الدّينيّة والمدنيّة في المملكة، واعتقد أنّه لا شيء يوقف هذا الّتيار الّذي أحدث كلّ هذا الدّمار في البلاد سوى القضاء على رأس هذا المذهب الممقوت والقوّة الدّافعة لهذه الحركة الفاعلة.
وكان حصار زنجان قائمًا على أشدّه حين أرسل إلى الأمير حمزة ميرزا حشمة الدّولة حاكم آذربيجان يأمره بإعدام حضرة الباب مستغنيًا في ذلك عن أمر صريح واضح من الشّاه ومستقلاً عن زملائه الوزراء ومستشاريه. وخوفًا من أن يثير توقيع مثل هذه العقوبة الصّارمة في عاصمة البلاد قوًى يعجز عن ضبطها أو التّحكّم فيها، فقد أمر أن يساق الأسير إلى تبريز لكي يُعدم هناك، فلمّا واجهه الأمير السّاخط بالامتناع الصّريح عن ارتكاب هذه الجريمة النّكراء، كلّف أمير النّظام أخاه ميرزا حسن خان أن ينفّذ أوامره. أمّا الشّكليات المعتادة للحصول على التّصديق اللاّزم فقد أجراها أقطاب المجتهدين في تبريز بسرعة ودون عناء، على أنّه لا المُلاّ محمّد الممقاني الّذي كتب فتواه بقتل حضرة الباب في نفس اليوم الّذي اختبره فيه بتبريز ولا الحاج ميرزا باقر، ولا المُلاّ مرتضى قلي قبل أن يتنازل ويلاقي خصمه البغيض وجهًا لوجه حين يسوقه الفرّاش باشي إليهم في منازلهم بأمر الصّدر الأعظم.
وقبل هذه المعاملة المشينة الّتي عومل بها حضرة الباب وبعدها بقليل حدثت حادثتان على جانب عظيم من الدّلالة تلقيان ضوءًا كاشفًا على الظّروف الغريبة الغامضة الّتي اكتنفت فواتح استشهاده. أمّا الحادثة الأولى فهي أنّ الفرّاش باشي قاطع آخر حديث لحضرة الباب مع كاتب وحيه السّيّد حسين في إحدى غرف الثّكنات، وعندما كان الفرّاش باشي يدفع السّيّد حسين بعيدًا ويعنّفه بشدّة خاطبه السّجين قائلاً: “*لن يمنعني أحد عن قول ما أريد أن أقوله له، ولو قاومني جميع من على الأرض فلن يستطيعوا أن يمنعوني عن إبلاغ نواياي وإتمامها حتّى الحرف الأخير”. أمّا الحادثة الثّانية فهي أنّ سام خان المسيحيّ قائد الفرقة الأرمنيّة الّتي كلّفت بتنفيذ حكم الإعدام، خشي أن تجرّ عليه فعلته غضب الله، فالتمس أن يُعفى من هذه المهمّة المفروضة عليه فرضًا، فأجابه حضرة الباب قائلاً: “*نفّذ ما أُمرت به، وإذا كنت صادق النّيّة فإنّ الله قادر أن ينجيك من ورطتك”.
وعلى هذا انطلق سام خان يؤدّي مهمّته، فدقّوا مسمارًا ضخمًا في عمود بين غرفتين في الثّكنة، وربطوا فيها حبلين أوثق حضرة الباب بإحداهما وبآخر أحد أصحابه وهو الشّاب المتفاني ميرزا محمّد علي الزّنوزي الملقّب ﺑ”الأنيس”. وكان من قبل ارتمى على قدميّ حضرة الباب متوسّلاً إليه ألاّ يفارقه بأيّة حال من الأحوال، واصطفّت فرقة الرّماة صفوفًا ثلاثة في كلّ صفّ مئتان وخمسون جنديًّا، وأطلق كلّ صفّ الرّصاص بعد الآخر حتّى أفرغت الفرقة الرّصاص جميعًا وتكاثف الدّخان المتصاعد من البنادق السّبعمائة والخمسين حتّى أظلمت السّماء، وما كاد الدّخان ينقشع حتّى ذهل ما يقرب من عشرة آلاف مشاهد صعدوا على سطوح الثّكنات والمنازل المجاورة، فقد بصروا مشهدًا أبت عيونهم المحملقة أن تصدّقه.
لقد توارى حضرة الباب عن أنظارهم، ولم يكن أمامهم غير رفيقه يقف بجوار الحائط الّذي صلبا عليه حيًّا لم يصبه أيّ سوء. أمّا الحبلان اللّذان صُلبا بهما فقد تمزّقا. صاح المشاهدون المشدوهون: “اختفى السّيّد الباب عن أنظارنا” وتلا ذلك بحث محموم، فإذا بهم يجدونه سليمًا معافًى في نفس الغرفة الّتي قضى فيها ليلة البارحة مشغولاً بإتمام حديثه مع كاتب وحيه. وإذا بالسّجين الّذي حفظته العناية الإلهيّة على هذا النّحو المعجز يرحّب بقدوم الفرّاش باشي ويقول له: “*أمّا وقد انتهيت من حديثي مع السّيّد حسين فبإمكانكم أن تفعلوا ما بدا لكم”. عندئذ تذكّر الفرّاش باشي التّأكيد الجريء الّذي ألقاه السّجين إليه من قبل، فعرته القشعريرة من هذه الظّاهرة الصّاعقة وغادر المكان على الفور واستقال من منصبه.
وكذلك تذكّر سام خان في رعب وعجب ذلك التّأكيد الّذي وجّهه إليه حضرة الباب، فأمر رجاله بأن يغادروا الثّكنات على الفور، وأقسم، وهو يغادر الفناء، ألاّ يعود إلى تكرار هذه الفعلة ولو كلّفه ذلك حياته. عندئذٍ تطوّع آقا جان خمسه قائد الحرس بأن يحلّ محله، وعلى نفس الحائط وبنفس الطّريقة عُلّق حضرة الباب ورفيقه من جديد، واصطفّت الفرقة الجديدة، وأطلقت عليها الرّصاص وفي هذه المرّة تمزّق صدراهما واختلط جسداهما تمامًا، أمّا الوجهان فقد ظلاّ سالمين لم تصبهما إلاّ خدوش طفيفة. وكانت كلمات حضرة الباب الأخيرة للجماهير المحملقة حين تأهّبت الفرقة لإطلاق رصاصها: “*أيّها الجيل الملتوي! لو آمنتم بي لاحتذى كلّ واحد منكم حذو هذا الشّاب الّذي هو أعظم منكم شأنًا، ولأقبل راضيًا مختارًا على التّضحية بنفسه في سبيلي، وسيأتي اليوم الّذي فيه تؤمنون بي، وعند ذاك لن أكون معكم”.
ولم يكن هذا كلّ شيء، ففي نفس اللّحظة الّتي انطلق فيها الرّصاص هبّت عاصفة عاتية هوجاء واكتسحت المدينة، وظلّت دوّامة الغبار تحجب ضوء الشّمس وتعمي العيون من الظّهر حتّى اللّيل. وفي سنة 1268ﻫ حدثت بشيراز “زلزلة” تنبّأَ بها كتاب جليل هو رؤيا يوحنّا اللاّهوتي، فألقت الذّعر والاضطراب وأصابت أهلها بخسائر زاد من فداحتها تفشّي وباء الكوليرا والقحط والنّكبات الأخرى. وفي تلك السّنة نفسها لقي مائتان وخمسون رجلاً من رجال الفرقة الّتي حلّت محلّ فرقة سام خان حتفهم هم وضبّاطهم في زلزال مروّع. على حين لقي الرّجال الخمسمائة الآخرون نفس المصير الّذي كتبته بنادقهم على حضرة الباب جزاءً لهم على تمرّدهم بعد ثلاث سنوات. بل لقد أطلق عليهم الرّصاص مرّة أخرى خشية أن يكون أحدهم على قيد الحياة، ثمّ مُزّقت أجسادهم بالحراب والرّماح، وعُرضت على أنظار أهل تبريز، وأمّا المدبّر الأوّل لقتل حضرة الباب، أمير النّظام الطّاغية، فقد لقي حتفه هو وأخوه، شريكه الأوّل، بعد سنتين من فعلتهما الوحشيّة.
وفي مساء اليوم الّذي استشهد فيه حضرة الباب بالغًا الحادية والثّلاثين من عمره، والسّابعة من بعثته، وهو التّاسع من شهر تموز 1850م (الموافق للثامن والعشرين من شعبان 1266ﻫ) نقل الجسدان المختلطان الممزّقان من فناء الثّكنات إلى حافّة الخندق خارج أبواب المدينة. وكلّفت أربع مجموعات قوام كلّ منها عشرة رجال بأن تتناوب حراستهما. وفي صبيحة اليوم التّالي زار المكان قنصل روسيا في تبريز، وأمر الرّسّام الّذي رافقه أن يرسم الرّفات كما ترقد بجانب الخندق. وفي منتصف اللّيلة التّالية نجح أحد أتباع حضرة الباب وهو الحاج سليمان خان في نقل رفات الجسدين بتوسّط رجل يدعى الحاج الله يار إلى مصنع حرير يمتلكه أحد المؤمنين في ميلان، ووضعهما في اليوم التّالي في صندوق خشبيّ أعدّ لذلك، ثمّ نقل الصّندوق إلى مكان أمين. وفي تلك الأثناء كان الشّيوخ يعلنون بفخر من فوق منابرهم أنّ جثمان الإمام المعصوم يحرّم على الهوام وجوارح الطّير فما بال جسد هذا الرّجل نهشته كواسر السّباع. وما كادت أنباء نقل رفات حضرة الباب ورفيقه في البأساء تبلغ حضرة بهاء الله حتّى أمر سليمان خان بإحضارها إلى طهران حيث أخذت إلى مقام إمام زاده حسن، ومن ثمّ أخذت تنقل من مكان إلى مكان إلى أن أمر حضرة عبد البهاء بنقلها إلى الأرض المقدّسة، وهناك أخلدها بيديه إلى الرّاحة الأبديّة في تعظيم وتكريم في مقام شيّد لذلك على سفح جبل الكرمل.
وهكذا انتهت حياة سوف تعترف الأجيال القادمة بأنّها تقوم بين ملتقى كورين إلهّيّين عالميّين: كور آدم الّذي يترامى موغلاً في القدم إلى فجر التّاريخ الدّينيّ العالميّ المدوّن، والكور البهائيّ الّذي يتوغّل في المستقبل إلى غايات لم يلدها الزّمن بعد ولا تقلّ عن خمسة آلاف قرن. وأمّا السّموّ القدسيّ الّذي بلغت به هذه الحياة تمامها فيشير، كما لاحظنا فعلاً، إلى ختام أمجد أطوار العصر البطوليّ من الدّورة البهائيّة. وفضلاً عن ذلك فلا يمكن أن ينظر إليه إلاﹼعلى ذلك الضّوء الّذي تشعّهُ أفجع الحوادث وأوجعها في القرن البهائيّ الأوّل كلّه. وهو حادث يمكن أن يشار إليه بحقّ بأنّه لا قرين له ولا مثيل في حياة أيّ مؤسّس من مؤسّسي الدّيانات القائمة في العالم أجمع.
وقلّما يعجز حادث خطير كهذا عن إثارة الاهتمام العميق حتّى فيما وراء حدود البلاد الّتي حدث فيها. وهذه شهادة سجّلها عالم مسيحيّ ورجل من رجال الدّولة عاش في إيران مدّه وتعرّف على حياة حضرة الباب وتعاليمه قال: “إن ذلك المثل الرّائع الّذي قدّمه الباب للإنسانيّة لتتأمّله لهو من أعظم الأمثلة الرّائعة على الشّجاعة، ودليل يثير الإعجاب على المحبّة الّتي حملها بطلنا لمواطنيه. لقد ضحّى بنفسه من أجل الإنسانيّة ولها وهب جسده وروحه، وفي سبيلها عانى الحرمان والهوان والسّباب والعذاب والشّهادة. وقد وقَّع بدمه ميثاق الإخاء العالميّ، ودفع من حياته، كما فعل السّيّد المسيح من قبل، عربونًا لعهد الوفاق والعدل والمحبّة القادم”. وهذه شهادة أخرى كتبها هذا العالم أيضًا معلّقًا على ملابسات استشهاد حضرة الباب، قال: “إنّها حقيقة غريبة فذّة بين تواريخ الجنس البشريّ” وهذا ما قاله مستشرق فرنسيّ ملحوظ المكانة: “إنّها لمعجزة حقيقيّة”. وهذا حكم رحّالة وكاتب إنجليزيّ شهير قال: “هو رجل إلهيّ حقّ”. وهذا ثناء رجل فرنسيّ نابه من رجال الإعلام قال: “خير من أنتجته بلاده”. وهذا ما حكم به رجل إنجليزيّ من رجال الدّين المختارين قال: “إنّه لهو مسيح العصر… نبيّ وأكثر من نبي”. وهذا هو الاحتمال الّذي قدّره للدّين البابيّ عالم أكسفورد الذّائع الصّيت وعميد كلّية باليول مؤخّرًا، إذ قال: “إنّه أهمّ نهضة دينيّة ظهرت منذ أن تأسّست المسيحيّة”.
وهذا تأكيد حضرة عبد البهاء المدوّن: “*لقد انطلق كثيرون من جميع آفاق العالم إلى إيران وبدأوا يفحصون الأمر من كلّ قلوبهم” بل إنّ مؤرّخًا معاصرًا كتب آنذاك فقال إنّ قيصر روسيا أرسل إلى القنصل الرّوسيّ في تبريز -قبل استشهاد حضرة الباب بقليل- يأمره أن يبحث هذه الحركة المثيرة ويكتب عنها تقريرًا وافيًا، ولكنّ هذه التّعليمات لم تنفّذ نظرًا لاستشهاد حضرة الباب. أمّا الدّول النّائية كدول غرب أوروبّا، فقد ثار فيها اهتمام لا يقلّ عمقًا، وانتشر الخبر انتشارًا لا يقلّ سرعة في مختلف الدّوائر الأدبيّة والفنيّة والدّبلوماسيّة والفكريّة ويشهد رجل الإعلام الفرنسيّ سالف الذّكر بذلك: “لقد تحرّكت أوروبّا كلّها عطفًا وسخطًا… وبيّن أدباء هذا الجيل في باريس سنة 1890م، ما زال استشهاد الباب من الموضوعات الجديدة تمامًا كما كان يوم تلقّت باريس نبأ موته لأوّل مرّة. لقد نظمنا فيه الشّعر، وألحّت سارة برنارد( ) على كاتل منديس( ) أن يضع مرسحيّة ترتكز على هذه المأساة التّاريخية”. وفي 1903م قامت شاعرة روسيّة وعضوة في الجمعيّة الفلسفيّة وجمعيّة المستشرقين وجمعيّة الخدمات المكتبيّة في سانت بيترسبرغ بنشر مرسحيّة بعنوان “الباب” مثّلت بعد سنة على أحد مراسح المدينة الرّئيسة ثمّ انتشر صداها في لندن انتشارًا واسعًا، وترجمت إلى الفرنسيّة في باريس، وإلى الألمانيّة بقلم الشّاعر فيدلر( ) ومثّلت مرّة أخرى بعد الثّورة الرّوسيّة مباشرة على مرسح الشّعب في لننغراد، ونجحت في إثارة العطف الأصيل والاهتمام العظيم لدى تولستوي الشّهير، الّذي نشر تقريظه للمرسحيّة الشّعريّة في الصّحف الرّوسيّة فيما بعد.
وليس من المبالغة في شيء إذا قلنا إنّنا لا نجد في محيط الآداب الدّينيّة العالميّة، اللّهم إلاّ الأناجيل، رواية تتّصل بموت أحد مؤسّسي الأديان السّابقة يمكن أن تقارن أو تقاس بالاستشهاد الّذي تجرّع كأسه مظهر شيراز الإلهيّ. فتلك الظّاهرة العجيبة المستعصية على التّفسير والّتي شهدها شهود العيان وعزّزهم فيها رجال لهم حيثيّتهم ومكانتهم العالية، واعترف بها المؤرّخون الرّسميّون وغير الرّسميّين من أفراد الشّعب الّذي عاهد نفسه على أن يكيد للدّين البابيّ كيدًا لا ينتهي، يمكن أن تعدّ بحقّ أعجب ظواهر الطّاقات الفريدة الّتي زوّدت بها هذه الدّورة الّتي بشّرت بها كلّ الدّورات السّالفة. على أنّ آلام السّيّد المسيح، بل ودعوته العلنيّة كلّها هي وحدها الّتي تقدّم شبيهًا لبعثة حضرة الباب وموته، شبيهًا لا يعجز أيّ باحث في الدّين المقارن من إدراكه ولا يمكنه إغفاله. ففي شباب حضرة الباب الغضّ ووداعته، وفي قصر ولايته العلنيّة وهياجها الشّديد، وفي السّرعة الشّديدة الّتي اندفعت بها هذه الولاية إلى قمّتها، وفي النّظام الرّسوليّ الّذي أقامه والأولويّة الّتي أنعم بها على أحدهم، وفي جرأة تحدّيه للرّسوم والطّقوس العتيقة والشّرائع الرّاسخة الّتي التحمت بنسيج الدّين الّذي ولد بين أحضانه، وفي الدّور الّذي لعبه النّظام الدّينيّ الرّسميّ العتيد بصفته المحرّض الأوّل على التّعديات الّتي عاناها والإهانات الّتي انهالت عليه، وفي اعتقاله المفاجئ، والاستنطاق الّذي تعرض له، وفي الاستهزاء الّذي انهمر عليه والجلد الّذي قاسى منه، والقذف العلني الّذي احتمله، وأخيرًا في صلبه الشّنيع أمام الجمهور المعادي، في كلّ ذلك لا نعجز عن تمييز التّشابه الملحوظ بين الملامح المميّزة لحياة حضرة الباب وحياة السّيّد المسيح.
إلاّ أنّه لا ينبغي أن يعزب عن بالنا أنّه بالإضافة إلى المعجزة المتّصلة باستشهاد حضرة الباب، فإنّ حضرته لا يعتبر مؤسّسًا لدورة سماويّة فحسب، كما هي حال مؤسّس الدّين المسيحيّ، بل ومبشّرا بعصر جديد، ومفتتحًا كورًا إلهيًّا عالميًّا. ولا ينبغي لنا أن نتجاهل هذه الحقيقة المهمّة الأخرى ألا وهي أنّ القوى الّتي اصطفّت ضدّ حضرة الباب في إيران مثّلت تحالف السّلطات الدّينيّة والمدنيّة الّتي ثابرت منذ لحظة بعثته إلى يوم استشهاده، وتشبّثت بكلّ وسيلة مستطاعة للتّآمر على أتباعه وتشويه مضامين رسالته، على حين لم يتجاوز أعداء السّيّد المسيح في حياته أحبار اليهود ومن والاهم.
إنّ حضرة الباب الّذي مجّده حضرة بهاء الله بأنه “جوهر الجواهر” و”بحر البحور” و”النّقطة الّتي تدور حولها أرواح النّبيّين والمرسلين” والّذي به “فصّل من النّقطة علم ما كان وما يكون” والّذي “*قدره أعظم من كلّ الأنبياء” و”*أمره أعلى وأرفع من عرفان كلّ الأولياء وإدراكهم”، قد بلّغ رسالته وأدّى مهمّته. هذا “*الصّبح الصّادق المبشّر بالنّيّر الأعظم الأبهى” حسبما قرّر حضرة عبد البهاء، هذا الّذي أشار مقدمه إلى انتهاء دور “**الوعود والنّبوّات”، وافتتاح “**دور الوفاء بالوعود وتحقّق النّبوّات”، محا بظهوره ظلام اللّيل الّذي خيّم على بلاده، وأعلن في الوقت نفسه اقتراب بزوغ النّيّر الأعظم الّذي يحيط نوره الجنس البشري جميعًا. وصرّح مؤكّدًا بأنّه: “النّقطة الّتي ذوّت بها من ذوّت”، و”الرّكن من كلمة الأولى”، و”البيت” و”النّبأ العظيم” و”النّار في النّور على نور الطّور”، “ذكر الله”، والّذي “ما أرسلنا من نبيّ إلاّ وقد أخذناه بالعهد من أجله” وحقّق بمجيئه وعد جميع العصور، وافتتح دور بلوغ كلّ الظّهورات الإلهيّة واكتمالها في آن واحد. هذا “القائم” موعود الشّيعة، و”المهدي” المنتظر من أهل السّنة، و”رجعة يوحنّا المعمدان” الّتي يتوقّعها المسيحيّون ورجعة “أوشيدرماه” الّذي أشارت إليه الكتب الزّرادشتيّة، ورجعة “إيليّا” الّذي ينتظره اليهود، هذا الّذي تظهر بعثته “آثار جميع الأنبياء” هذا الّذي “عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيّوب”، ظهر وأشهر أمره واضطهد بلا رحمة ومات مجيدًا. هذا الويل الثّاني الّذي تحدّث عنه يوحنّا في رؤياه قد جاء آخر الأمر، وقد بعث أوّل المرسلين اللّذين تنبّأ بظهورهما القرآن الكريم. و”نفخ في الصّور” نفخة صعق لها من في السّموات والأرض وبلغت بالعالم نهايته، و”وقعت الواقعة”، و”جاءت الطّامّة الكبرى”، و”البعث” و”زلزلت السّاعة” و”أتت البيّنة” و”تنزّل الملائكة والرّوح فيها” و”قام النّاس لربّ العالمين” و”السّماء كشطت” و”جاء ربّك والملك صفًّا صفًّا”، و”الكواكب انتثرت” و”أخرجت الأرض أثقالها” و”الجنّة أزلفت”، و”الجحيم سعّرت”، و”وضع الكتاب”، ومدّ “الصّراط” و”وضع الميزان” و”نسفت الجبال نسفًا” كما تنبّأ القرآن الكريم وتمّ “تطهير قدس الأقداس” الّذي تنبّأ به دانيال وأكّده السّيّد المسيح في إشارته إلى “رجسة الخراب” وانقضى يومٌ “كان مقداره ألف سنة ممّا تعدّون” كما تنبّأ القرآن الكريم. وانتهت “الاثنان والأربعون شهرًا” الّتي تداس فيها “المدينة المقدّسة”، كما تنبّأ يوحنّا اللاّهوتي، وافتتح “وقت النّهاية” وقام أوّل “الشّاهدين” اللّذين دخل فيهما “بعد الثّلاثة أيّام ونصف روح حياة من الله” فوقف على رجله “وصعد إلى السّماء في السّحابة” وظهرت “الخمسة والعشرون حرفًا” الباقية من “السّبعة والعشرين” الّتي تحوي العلم كلّه كما يقول الحديث الإسلامي. هذا “الابن الذّكر العتيد أن يرعى الأمم بعصا من حديد” المذكور في كتاب رؤيا يوحنّا، أطلق بمقدمه القوى الخلاّقة الّتي أريد بها، بعد أن عزّزتها فيوضات الظّهور اللاّحق والأعظم قوّة، أن تغرس في الجنس البشريّ القدرة على تحقيق الاتّحاد العضويّ، وبلوغ سنّ الرّشد، وبذلك يصل إلى المرحلة النّهائيّة من تطوّره المديد. وأمّا الصّيحة فقد ارتفعت في قيّوم الأسماء ﻟ”معشر الملوك وأبناء الملوك” مشيرة إلى ابتداء عمليّة أسرعت بها فيما بعد إنذارات حضرة بهاء الله إلى كلّ ملوك الشّرق والغرب، وما زالت تحدث تطّورًا واسع النّطاق في مصائر النّظام الملكيّ في جميع أرجاء العالم. وأمّا “النّظم” الّذي أقامه الموعود في الكتاب الأقدس، ووضّح معالمه مركز الميثاق في ألواح وصاياه، ويشيّد الآن أتباعه هيكله الإداريّ، فقد أعلن في “البيان الفارسيّ” بصورة مؤكّدة. أمّا الشّرائع والأحكام الّتي أريد بها من جهة أن تقضي بضربة واحدة على امتيازات دورة دينيّة بلغت أرذل العمر وعلى طقوسها ومناسكها ونظمها، وأن تجتاز من جهة أخرى تلك الفاصلة الّتي تفصل بين النّظام البالي البائد وبين مؤسّسات النّظام العالميّ الّذي يخلفه، فقد صيغت وأعلنت بوضوح. وأمّا الميثاق الّذي استطاع، خلافًا لكلّ الدّورات السّابقة، ورغم كلّ الحملات العنيفة العنيدة الّتي شنّت عليه، أن يحافظ على كيان دين صاحبه، ويمهّد السّبيل لمقدم مركزه وغايته فقد أبرم إبرامًا وثيقًا. وانبثق النّور الّذي كان من شأنه أن ينتشر من مهده تدريجًا وعلى فترات متعاقبة إلى فنكوفر غربًا، وبحر الصّين شرقًا، ويسكب شعاعه على إيسلندا شمالاً وبحر تسمانيا جنوبًا. أمّا قوّات الظّلام الّتي اقتصرت في بادئ الأمر على هيئات الشّيعة الدّينيّة في إيران، ثم استجمعت فيما بعد قوّة أعظم على يد المقاومة العنيدة الّتي تحالف عليها خليفة الإسلام ورجال السّنّة في تركيا، ثم بلغت ذروتها في مقاومة الهيئات العتيدة المتّصلة بالدّيانات القويّة الأخرى، فقد شنّت حملتها الأولى. وأمّا نواة المجتمع العالميّ الإلهيّ التّقدير، والّذي استطاعت قوّته الوليدة أن تحطّم أغلال الانتماء إلى الشّيعة، والّذي كان يحصل على اعتراف أوسع وأعمق بدعواه الذّاهبة إلى أنّه دين العالم المقبل -كلّما اتّسعت دائرة المنتمين إليه- فقد تكوّنت ثمّ أخذت تتبلور على مهل. وأمّا البذرة الّتي وهبت لها يد العناية الإلهيّة هذه الطّاقات الواسعة النّطاق، ثم داستها الأقدام حتّى انعدمت من الوجود في الظّاهر فقد اتيحت لها الفرصة، بفضل هذه العمليّة نفسها، أن تنبت من جديد وتنمو على هيئة ظهور أقوى وأشدّ إلزّامًا، من شأنه أن يزدهر في فترة متأخّرة بمؤسّسات النّظام الإداريّ العالميّ الّتي تصل حدّ البلوغ في العصر الذّهبيّ الّذي لم يولد بعد، على صورة هيئات تعمل في اتّساق مع مبادئ “نظم” يوحّد العالم كلّه ويفتديه.
إنّ الدّين الّذي حرّك أمّة بأسرها من أعماقها، ومن أجله أزهقت الآلاف من الأرواح الغالية المجيدة، وعلى مذبحة ضحّى مؤسّسه بحياته، بدأ يتعرّض الآن لضغوط أزمة جديدة ذات عنف شديد وأثر بعيد، كانت واحدة من تلك الأزمات الدّوريّة الّتي توالت على مدى قرن كامل فنجحت في أن تكسف سناء الدّين بصورة مؤقّتة، وأن تهدم بنيان مؤسّساته العضويّة تقريبًا. والواقع أنّ هذه المظاهر الحتميّة لهذا التّطوّر الغيبيّ لدين عالميّ كانت تحدث فجأة دائمًا، وعلى غير انتظار في الأغلب الأعمّ، كما كانت تبدو مستأصّلة لشأفة هذا الدّين العالميّ المفعم بالحياة، المتحدّي في دعواه، المطوّر في عقائده، الماضي في كفاحه حيال صدمات ومخاطر جمّة يكاد يرزح تحت وطأتها. وكانت هذه الأزمات أمّا من الخارج على يد أعدائه الالدّاء، وأمّا من الدّاخل نتيجة لطيش بعض أحبّائه أو ارتداد بعض أتباعه، أو تخاذل بعض ذوي المقامات الرّفيعة من أقارب مؤسّسيه وذوي قرباهم. ومهما يكن من أمر هذه النّكسات الأكيدة الّتي كان الدّين يعاني منها بين الحين والآخر، ومن أمر تأثيرها في الرّوح المعنويّة لدى جموع معتنقيه المخلصين، ومهما يكن من طنطنة أعدائه بها وادّعائهم بأنّها أعراض الاضمحلال والانحلال الوشيك، فإنّنا إذا استرجعناها جميعًا وجدنا أنها عجزت عن عرقلة تقدّمة أو النّيل من وحدته وتماسكه. صحيح أنّ الضّريبة الّتي تقاضتها كانت فادحة الأوجاع، والبلايا الّتي خاضتها كانت جسيمة تفوق الوصف، والهول الّذي أثارته كان واسع المدى بل لقد أصابة بالشّلل بعض الوقت، ولكنّنا لو تأمّلنا كلّ واحدة من هذه النّكسات في أبعادها الصّحيحة لقرّرنا، بثقة واطمئنان، أنّها عناية مستورة وبركة مقنّعة، ووسيلة ربانيّة لإطلاق المزيد من القدرة السّماويّة، ومهرب معجز من كوارث وشيكة الحدوث أشدّ نكالاً ووبالاً، وأداة لتحقيق النّبوءات العريقة، وعامل لتطهير حياة الجامعة وتقويتها، ودافع لتوسيع نطاقها ونشر تأثيرها، وشاهد مفحم ملزم على عدم قابليّة عرى الدّين للانفصام. وطالما اتّضحت لعيون النّاس دلالة هذه الامتحانات، إبّان الأزمة نفسها أحيانًا، وبعد انتهائها في الغالب، وتجلّت ضرورتها للصّديق والعدوّ قاصيهم ودانيهم بصورة لا يرقى إليها الشّكّ، وقلّما ظلّ السّرّ، بل قل لم يحدث مطلقًا أن ظلّ السّرّ الكامن وراء هذه الكوارث المشؤومة الّتي بعث بها الله محجوبًا، أو ظلّ الغرض من حدوثها أو مغزى حدوثها مستورًا عن ذوي الألباب.
والآن يوشك أمر حضرة الباب أن يعاني إحدى هذه المحن القاسية وهو ما زال في مراحل طفولته الأولى. نعم إنّ هذا الدّين الّذي اضطهد اضطهادًا مريرًا، واشتدّت كراهيّته واستنكاره منذ اللّحظة الأولى الّتي ولد فيها، وحرّم منذ أيّامه المبكّرة من مساندة معظم أقطاب أنصاره، وصعق لزوال مؤسّسه المفاجئ المحزن، وترنّح تحت وطأة الضّربات القاسية الّتي كيلت له تباعًا في مازندران وطهران ونيريز وزنجان، يوشك أن يعاني إذلالاً لم يعرف له مثيل من قبل نتيجة لفعلة مخزية أتاها شابّ بابيّ متعصّب متهوّر. وبذلك أضيف إلى أعباء المحن الّتي عاناها عبء فادح لكارثة جديدة فريدة في خطورتها، مخزية في طبيعتها، مدمّرة في نتائجها المباشرة.
فلقد دفعت مرارة مأساة استشهاد حضرة الباب، وجنون اليأس، والاعتقاد بأنّ المحرّض الأوّل على هذه الجريمة هو الشّاه دون سواه، بصادق التّبريزي العامل في حانوت حلواني بطهران إلى أن يثأر لهذه الفعلة النّكراء. فتقدّم في يوم من أيّام آب (15 آب 1852م) مع شريك له نكرة مثله يدعى فتح الله القمي إلى نياوران حيث عسكر الجيش حول محلّ إقامة الشّاه. وانتظر بجانب الطّريق كأحد المارّة الأبرياء ثم أطلق من سلاحه النّاريّ الرّصاص على الشّاه بعد خروجه من رحاب القصر على جواده يتريّض رياضة الصّباح. وأظهر فحص السّلاح الّذي استعمله المعتدي طيش هذا الشّاب الأخرق بصورة لا تقبل الشّكّ. وبيّن بجلاء أنّ أيّ رجل سليم العقل لم يكن ليقدم على ارتكاب مثل هذه الفعلة الخرقاء.
غرقت نياوران الّتي أقام فيها البلاط الشّاهاني وفصائل الجيش في هرج ومرج لا يمكن تصوّرهما نتيجة لهذا الاعتداء، فوزراء الدّولة وعلى رأسهم ميرزا آقا خان النّوري اعتماد الدّولة خليفة أمير النّظام أهرعوا -والهلع يخلع قلوبهم- إلى مليكهم الجريح، ونفخت الأبواق وقرعت الطّبول وعلت أصوات المزامير تدعو جيوش جلالته الشّاهانيّة من كلّ حدب وصوب. واندفعت حاشية الشّاه مشاة وفرسانًا إلى رحاب القصر، وعمّت الفوضى فكان كلّ فرد يصدر قرارًا، ولا يسمع أحد قولاً، ولا يطيع أحد أمرًا، ولا يفهم أحد شيئًا. وفي هذه الأثناء أمر أردشير ميرزا حاكم طهران فصائله بتفتيش شوارع العاصمة المهجورة ثمّ أغلق أبواب القلعة والمدينة، وحشا مدافعه، وأرسل رسولاً على عجل ليتأكّد من صحّة الإشاعات المنكرة الدّائرة على ألسنة النّاس ويطلب تعليمات محدّدة.
وما كادت هذه الفعلة ترتكب حتّى وقع ظلّها على البابيّين كلّهم، وهبّت على الأمّة بأسرها عاصفة من الذّعر والسّخط والكراهية تعزّزها أم الشّاه الشّاب. ولم يعد هناك أيّ مجال للتّفكير في إجراء أبسط ألوان التّحقيق عن أصول هذا الاعتداء أو المحرّضين عليه، وكانت أيّ همسة أو إشارة كافية لأن تورد أيّ بريء موارد الهلاك وتصبّ عليه أشنع ألوان العذاب. وأخيرًا وبعد طول تربّص وانتظار ظفر جيش الأعداء بالمبرّر الّذي كان يتمنّاه، هذا الجيش المؤلّف من رجال الدّين ورجال الدّولة والشّعب ممّن وحّدت بينهم الكراهية المريرة فتربّصوا حتّى تسنح الفرصة ليشهّروا بخصمهم الممقوت ويقضوا عليه. وها قد حانت الفرصة وأصبح هذا الجيش قادرًا على أن يحقّق غرضه الخبيث إلى أقصى مدى. وبالرّغم من أنّ الدّين تبرّأ منذ البداية، من أيّة نيّة في اغتصاب حقوق الدّولة أو امتيازاتها، وبالرّغم من أنّ أقطابه وأصحابه وأتباعه حرصوا على أن يتجنّبوا أيّ تصرّف يثير أدنى اشتباه في رغبتهم في إعلان الجهاد الدّينيّ، وعلى أن يتوقّوا متابعة أيّ مسلك عدائيّ، إلاّ أنّ الأعداء تعمّدوا تجاهل الشّواهد العديدة الدّالّة على ضبط النّفس الملحوظ من جانب أتباع الدّين المضطهد وأثبتوا قدرتهم على ارتكاب شناعات بربريّة كتلك الّتي ستظلّ مقترنة بقصص مازندران ونيريز وزنجان الدّمويّة. أمّا وقد ارتكبت هذه الفعلة النّكراء الغادرة فإلى أيّ دركة من الخسّة والقسوة لا يحبّ هذا العدو المتربّص أن ينزل؟ وبأيّة تهمة لا يحبّ أن يلصقها بخصومة؟ وبأيّة معاملة لا يودّ أن يعامل بها كلّ من يمكن أن تتسرّب إليه شبهة الاشتراك من قريب أو من بعيد في هذه الجناية الشّنيعة ضدّ من جمع في شخصه سيادة الدّولة ووصاية الإمام الغائب؟!
كان حكم الإرهاب الّذي تلا ذلك مثيرًا للتقزّز بصورة لا توصف، فروح الانتقام الّذي تملّك هؤلاء الّذين صبّوا جام غضبهم وويلاتهم كان ظامئًا لا يطفأ له ظمأ، وتجاوبت أصداؤه حتّى بلغت صحافة أوروبّا واصمة بالعار والشّنّار زبانية الإرهاب المتعطّشين للدّماء. ورغبة من الصّدر الأعظم في أن يحدّ من الانتقام الدّموي فقد قسّم مهمّة قتل من حكم عليهم بالإعدام، بين الأمراء والنّبلاء وزملائه الوزراء والقوّاد وضبّاط البلاط ومندوبي رجال الدّين والتّجار والمدفعيّة والمشاة، لا بل لقد خصّصت للشّاه ضحيّة ولكنّه أناب عنة قهرمان قصره لكي يطلق طلقته القاتلة صونًا لكرامة التّاج. أمّا أردشير ميرزا فقد عمل من جانبه على تشديد الحراسة على أبواب العاصمة، وأمر الحرّاس بأن يتحقّقوا من شخصيّة الّذين يحاولون الخروج منها، واستدعى الكلانتر والدّاروغة والكدخداوات([1]) وأمرهم بأن يبحثوا عن كلّ من حامت حوله شبهة اعتناق البابيّة ويلقوا القبض عليه. وتحت التّهديد والوعيد اضطرّ شاب اسمه عبّاس كان خادمًا عند أحد المؤمنين المعروفين إلى أن يمشي في شوارع طهران ويدلّ على كلّ من تذكّر أنّه بابيّ، بل لقد أرغم على أن يشي بأيّ شخص يظنّ أنّه قادر على أن يدفع فدية طيّبة لاستخلاص نفسه.
وكان صادق المنحوس أوّل من عانى في ذلك اليوم العصيب إذ قتل على الفور في نفس البقعة الّتي حاول فيها ارتكاب جريمته بأن شدّوه إلى ذيل بغل وسحبوه طوال الطّريق إلى طهران حيث شقّوا بدنه إلى نصفين صلبوهما وعرضوهما على الأنظار. ونودي بأهل طهران أن يصعدوا إلى الأسوار ليشاهدوا الجسد الممزّق. أمّا شريكه فقد صبّوا في حلقه الرّصاص المنصهر بعد أن قاسى عذاب الكلاليب المحمّاة وتمزيق المسامير لأوصاله، وعرّي رفيق لهما يسمّى الحاج قاسم ووضعت الشّموع الموقدة في ثقوب شقّوها في بدنه، وعرض على الجمهور الصّاخب اللاّعن. أمّا الآخرون فقد فقئت عيونهم ونشرت أجسادهم بالمناشير وخنقوا، وقذفوا من أفواه المدافع، وقطّعوا إربًا إربًا، ومزّقوا بالفؤوس والبلط، ونعلت أقدامهم بحدوات الخيل، وطعنوا بالحراب ورجموا بالحجارة، وتسابقت زبانية العذاب على بلوغ أقسى غايات التّوحّش والبربريّة. وكان النّاس يتسلّمون أجساد الضّحايا المنكودة ويتكالبون عليها ليمثّلوا بها تمثيلاً لا يبقي على شيء من معالمها الأولى، حتّى أنّ الجلاّدين الّذين ألفوا القسوة بحكم عملهم كانوا يذهلون لقسوة النّاس الجهنّميّة. وكان الجلاّدون يسوقون النّساء والأطفال في الطّرقات بأجساد ممزقة تشتعل في جراحاتها الشّموع وهنّ يرتّلن بأصوات رنّانة “إنّا لله وإنّا إليه راجعون” أمام المتفرّجين الواجمين على جانبيّ الطّريق، فإذا هلك الأطفال في الطّريق ألقى الجلاّدون أجسادهم تحت أقدام آبائهم وأخواتهم، فيطأونها بعزّة وكبرياء دون أن يتجشّموا عناء النّظر إليهم مرّة أخرى. ولقد شهد أحد الكتّاب الفرنسيّين الممتازين بأنّ والدًا رفض الارتداد عن دينه وفضّل أن يذبحوا ولديه الشّابّين المتسربلين بدمائهما على صدره، وهو مستلقٍ على الأرض، وكان أكبرهما فتى في الرّابعة عشرة من عمره فطالب بحقّه في أن يقتل قبل أخيه لأنّة هو الأرشد.
ويروي الرّواة عن ثقة ويقين أنّ أحد الضّباط النّمساويّين، وهو الكابتن فون جومونس([2]) الّذي كان آنذاك في خدمة الشّاه هالته بشاعة الفظائع الّتي كان مضطرًّا إلى مشاهدتها بحكم عمله فقدّم استقالته، وبعد أسبوعين من محاولة الاغتيال أرسل خطابًا نشر في مجلة “صديق الجنود”. قال: “*اتبعني يا صديقي، وأنتم يا من تدّعون أنّكم تتحلّون بالأخلاق الأوروبيّة الرّفيعة تعالوا معي لتشاهدوا البؤساء الّذين فقئت عيونهم ثمّ أجبروا على أن يأكلوا آذانهم المبتورة في مشهد التّعذيب ذاته دون ملح ولا توابل! والّذين انتزع الجلاّدون أسنانهم وضروسهم بوحشيّة، والّذين لم ينلهم شيء كبير من الأذى سوى أن حطّمت المطارق جماجمهم العارية بكلّ بساطه. هلمّوا هلمّوا إلى حيث تضاء الأسواق بالضّحايا البؤساء لأنّ النّاس شقّوا ثقوبًا عميقة في صدور الضّحايا وأكتافهم عن اليمين وعن الشّمال، ووضعوا في الجروح شموعًا مشتعلة. ولقد شاهدت بعضهم يسحبون في السّوق مصفّدين بالأغلال تتقدّمهم إحدى الفرق العسكريّة. وكانت الشّموع قد احترقت وتوغّلت حتّى أخذ شحم الجروح يدخّن كالمصباح إذا انطفأ حديثًا. وليس من النّادر أن تتفتّق عبقريّة أهل الشّرق عن ألوان جديدة من التّعذيب. من ذلك مثلاً أنهم يسلخون قدميّ البابيّ ويغمسون جروحه في الزّيت المغلي، ويدقّون فيها حدوة حصان، ويرغمونه على الجري. فلا تصدر من الضّحيّة آهة ولا زفرة. بل تتحمّل حواسّه المفقودة ذلك العذاب في صمت مظلم. والآن يجب عليه أن يجري. ولا يستطيع الجسم أن يتحمّل ما يتحمّله الرّوح فيسقط. ألا فارحموه واضربوه الضّربة القاضية، وخلّصوه من آلامه! ولكن لا! الجلاّد يهوي بالسّوط وكان عليّ أن أشاهد ذلك، وإذا بالضّحيّة المتحمّلة مائة ضعف من العذاب تركض من جديد، كلّ هذا مجرّد بداية للنّهاية. أمّا النّهاية نفسها فهي أنّ الجلادين يصلبون الأجساد المكويّة الممزّقة رأسًا على عقب على جذوع الأشجار. عند ذاك تتاح الفرصة لأيّ إيرانيّ يحبّ أن يجعل تلك الأجساد المعلّقة النّبيلة هدفًا لإظهار براعته في التّصويب على قدر ما يحبّ ويشتهي وعلى مسافة معيّنة ليست بالقريبة جدًّا ولقد رأيت أجسادًا مزّقتها مائه وخمسون رصاصة تقريبًا”. ثمّ مضى يقول: “*حين قرأت ما كتبت مرّة أخرى تصوّرت أنّ الّذين يعيشون معكم في النّمسة وطننا العزيز المحبوب قد يخامرهم الشّكّ في صحّة هذه الصّورة، وقد يرمونني بالتّهويل والمبالغة، ألا ليتني لم أولد حتّى لا أرى هذه الصّورة. ولكنّني بحكم عملي كنت أشاهد هذه الأهوال كثيرًا، أكثر مما ينبغي لسوء الحظّ. إنّني لا أغادر منزلي الآن حتّى لا أشاهد شناعات جديدة أخرى… ولمّا كان روحي يثور ضدّ هذا العار… فإنّني أقطع صلتي بمنظر هذه الجرائم”. ولا عجب أنّ وصف رجل ذائع الصّيت مثل رينان([3]) في كتابه “الرّسل” هذه المجزرة البشعة الّتي ارتبكت في يوم واحد أثناء مذبحة طهران الكبرى بأنّها “يوم قد لا يكون له شبيه ولا نظير في تاريخ العالم بأسره”.
لم تكتفِ اليد الّتي هوت على أنصار هذا الدّين الممتحن أفظع امتحان بهذه الضّربة القاصمة بعامّة أتباع حضرة الباب، بل امتدّت بغضب وعزم وقوّة مماثلة فصرعت البقيّة الباقية من الأقطاب الّذين عاشوا من بعد أعاصير العدوان الّتي اجتاحت كلّ هذه الجموع الغفيرة من أنصار الدّين وأتباعه. فجندلت العاصفة الهوجاء “الطّاهرة” البطلة الخالدة الّتي سكبت سناء باقيًا على بنات جنسها وعلى الدّين الّذي اعتنقته على حدّ سواء. كما افترست السّيد حسين كاتب وحي حضرة الباب ورفيق منفاه ومستودع وصاياه وشاهد وقائع استشهاده العجيبة. لا بل إنّ تلك اليد بلغ من جسارتها ووقاحتها أن تطاولت إلى شخصيّة حضرة بهاء الله الشّامخة، فألقت القبض عليه إلاّ أنّها عجزت عن أن تصرعه. نعم إنّها جعلت حياته في خطر، وطبعت على جسده آثارًا لا تمحى من القسوة المتحجّرة، ولكنّها عجزت عن أن تعطّل مهمّته الّتي لم تكن مجرّد المحافظة على النّيران الّتي أوقدها روح حضرة الباب فحسب بل وإشعال نار تبلغ، بظهور حضرة الباب، تمامه وتفوق كلّ أمجاده.
وفي تلك الأيّام المظلمة المضنية عندما غابت شمس الباب وعندما أفلت تلك النّجوم السّاطعة في سماء دينه الواحدة بعد الأخرى وهامَ مَنْ كان مرشّحًا لوصايته من بعده في فلوات رشت وجبالها طريدًا شريدًا متنكّرًا في ثياب الدّراويش حاملاً بيده كشكوله، بَدا للأعداء المتربّصين السّاهرين أنَّ حضرة بهاء الله، بفضل ما أنجزه من أعمال، هو الدّ الخصوم وأنّه الأمل الوحيد لمن اعتبرهم هؤلاء زمرة الإلحاد والكفر الّتي لم تستأصل جذورها بعد، فأصبح اعتقاله وقتله آنذاك من ألزم الأمور. ولم لا؟ ألم يكن هو الّذي تسلّم من المُلاّ حسين مبعوث حضرة الباب الوثيقة الّتي زفّت إليه أولى بشارات الظّهور الجديد ولم تكد تمضي على ميلاد الدّين سوى ثلاثة أشهر، فآمن بها وصدّق بصحتها من فوره، ونهض ليدافع عن أمرها وأمر صاحبها. ألم تكن إلى مسقط رأسه ومسكنه قد اتّجهت خطوات ذلك المبعوث أوّل ما اتّجهت بوصفه الموضع الّذي يضمّ سرًّا لا يطمع الحجاز ولا شيراز في منافسة قدسيّته، وبما كتبه المُلاّ حسين عن اجتماعه به ابتهج حضرة الباب ابتهاجًا ألقى على قلبه سكينة جعلته يصمّم أخيرًا على أن يقدم على حجّهِ المرتجى إلى مكّة والمدينة. ألم يكن هو وحده غاية كلّ الإشارات الخفيّة ومدار الثّناء العاطر والمناجاة الحارّة والبشارات السّارّة والإنذارات المدوّنة في كلّ من “قيّوم الأسماء” و “البيان”، أوّل وآخر الشّهادات المكتوبة بذلك المجد الّذي يوشك أن يسبغه الله عليه. وبفضل مراسلاته مع مؤسّس الدّين الجديد واتّصاله الوثيق بالنّخبة الممتازة من أصحابه من أمثال وحيد والحجّة والقدّوس والمُلاّ حسين والطّاهرة استطاع أن يتعهّد الدّين بالنّماء، ويوضّح مبادئه ويعزّز أسسه الخلقيّة ويحقّق مطالبه العاجلة ويجنّبه بعضًا من الأخطار الدّاهمة، ويشارك مشاركة فاعلة في نهضته وتثبيت أركانه. ألم يكن هو الّذي عناه المظهر الإلهيّ عندما بشّر القدّوس -غداة العودة من الحجّ إلى بوشهر- بأنّه سوف يحظى بسعادة لقاء “هدف تقديسنا وغاية محبّتنا” قبل أن يرتشف القدّوس كأس الشّهادة. ألم يسقط وهو في ريعان شبابه كلّ اعتبار للشّهرة والثّروة والجاه، متجاهلاً المخاطر ومُهملاً تنديد الطّبقة الاجتماعيّة الرّفيعة الّتي ينتمي إليها؟ ونهض في طهران ثمّ في موطنه مازندران لينتمي إلى الفرقة الغامضة المنبوذة، وكسب لها عددًا كبيرًا من رجال الدّولة والنّابهين من أهل نور بمن فيهم خلطاؤه وذوو قرباه، وبجرأة فسّر لتلاميذ المجتهد الشّهير المُلاّ محمّد حقائق الدّين وكسبهم إلى صفّه، وضمن بعمله هذا ولاء عدد كبير من رجال الدّين والدّولة والفلاّحين والتّجار، بل وأفحم المجتهد نفسه في إحدى الجلسات الخالدة الذّكر. وإلى كفاية رسالته الّتي كتبها وأودعها المُلاّ محمّد مهدي الكندي فسلّمها هذا بدوره إلى حضرة الباب على مقربة من مدينة گُلين يرجع الفضل في أن تخلّص روح السّجين، في ساعة التّوتر والانزعاج، من الشّقاء الّذي خيّم عليه منذ أن ألقي القبض عليه في شيراز. ألم يرحّب من أجل الطّاهرة وأصحابها المسجونين بالسّجن المهين عدّة أيّام في منزل أحد مخاتير البلد في طهران؟ وكان أوّل سجن يعانيه، وإلى حرصه ونفاذ بصيرته ومقدرته يرجع الفضل في فرارها الموفّق من قزوين، وخلاصها من خصومها ووصولها سالمه إلى بيته، ثم انتقالها إلى مكان أمين قرب العاصمه استطاعت أن تنطلق منه إلى خراسان. وإلى محضره أدخل المُلاّ حسين سرًّا عند وصوله إلى طهران فلقيه ثمّ سافر إلى آذربيجان ليزور حضرة الباب الّذي كان آنذاك معتقلاً في ماه كوه. ألم يكن هو الّذي أدار دفّة الأمور في مؤتمر بدشت دُونَ زلّة بصورة غير ملحوظه، واستضاف القدّوس والطّاهرة والواحد والثّمانين مؤمنًا الّذين اجتمعوا بتلك المناسبة، وأنزل كلّ يوم لوحًا وأنعم على كلّ فرد من المجتمعين باسم جديد. ألم يكن هو الّذي واجه وحده جمهورًا يزيد على الخمسمائة فلاّح في نيالا، وحمى القدّوس من غضب المهاجمين، وأمكنه أن ينقذ بعضًا من الأموال الّتي نهبها العدوّ، وقام على حماية الطّاهرة الّتي أوذيت كثيرًا وهوجمت كثيرًا؟ ألم يكن هو الّذي ثارت ثائرة محمّد شاه عليه نتيجة للوشايات والسّعايات المستمرّة فأصدر أمرًا بإلقاء القبض عليه واستدعائه إلى العاصمة، ولكنّ الأمر لم ينفّذ نتيجة لموت الشّاه المفاجئ؟ وإلى نصائحه وتشويقه لنزلاء قلعة الشّيخ طبرسي، الّذين قابلوه بالمحبّة والإجلال أثناء زيارته، يرجع الفضل إلى حدّ ليس بالقليل في ارتفاع الرّوح المعنويّة لدى المدافعين الأبطال. وإلى تعليماته الصّريحة يرجع توفيقهم في تخليص القدّوس بصورة معجزه لينضمّ إليهم في المغامرات المثيرة الّتي خلّدت فتنة مازندران. ألم يكن من أجل هؤلاء المدافعين الّذين كان ينوي الانضمام إليهم أن سجن مرّة أخرى في مسجد آمل الّذي سيق إليه وسط ما لا يقلّ عن أربعة آلاف من المشاهدين المهتاجين ومن أجلهم جلد حتّى أُدميت قدماه في خلوة مجتهد هذه المدينة، وأودع مسكن حاكمها، ووشى به المُلاّ الكبير وأهانته الجموع الّتي حاصرت مسكن الحاكم ورشقته بالحجارة وقذفته بابشع السّباب. ألم يكن هو بعينه الّذي أشار إليه القدّوس عندما وصل إلى قلعة الشّيخ طبرسي ونزل عن فرسه وأسند ظهره إلى حائط الضّريح ورتّل قوله تعالى “بقيّة الله خير لكم إن كنتم مؤمنين”. وكان هو بعينه المقصود بكلّ هذا الثّناء العاطر وهذا التّفسير البارع لصاد الصّمد الّذي كتب هذا البطل الشّابّ بعضه في القلعة أثناء أحرج الظّروف والّذي يبلغ حجمه ستّة أمثال حجم القرآن. ألم يكن لتاريخ ظهوره الوشيك أن اشار “لوح الحروفات” الّذي فاض من قلم حضرة الباب في چهريق تشريفًا للدّيّان إشارة خفيّة، وفيه أماط اللّثام عن سرّ “المستغاث”؟ وللفوز بمحضره وجّه حضرة الباب انتباه صحابيّ آخر، وهو المُلاّ باقر أحد حروف الحيّ. وإلى رعايته الخاصّة عهد بوثائق حضرة الباب ومقلمته وأختامه وخواتمه العقيقيّة مع درج كتب فيه على هيئة النّجم ما لا يقلّ عن ثلاثمائة وستّين اشتقاقًا لكلمة “بهاء” سلّمت إليه جميعًا تنفيذًا لتعليماته الّتي أصدرها قبل مغادرته قلعة چهريق. ومن نتيجة مبادرته وحدها وتنفيذًا لتعليماته بحذافيرها نقلت رفات حضرة الباب الغالية من تبريز إلى العاصمة بسلام وحفظت بمنتهى العناية وأخفيت بمنتهى السّرّيّة خلال السّنوات العاصفة الهوجاء الّتي تلت استشهاده. وأخيرًا ألم يكن هو الّذي عمل أثناء إقامته في كربلاء -وفي الأيّام الّتي سبقت محاولة اغتيال الشّاه- بكلّ همّة ونشاط على نشر تعاليم زعيمه الرّاحل بنفس الحماسة والقدرة اللّتين امتازت بهما أعماله الأولى في مازندران، مجتهدًا في تأمين مصالح دينه واستنهاض همم أتباعه المحزونين وتنظيم قوى أوليائه الحيارى المشتّتين؟
رجل هذا شأنه وهذا سجلّ أعماله، لم يكن من السّهل أن يفلت من رقابة العدوّ السّاهر اليقظ ولا من غضبه، والواقع أنّه لم يفلت. فمنذ البداية تملّكته الحماسة القاهرة للأمر الّذي اعتنقه، وكان جريئًا جسورًا في مطالبته بحقوق المضطهدين، وكان في ميعة الصّبا وريعة الشّباب لا يجاريه في قدرته ولا يباريه في سحر بيانه أحد، وكان ذا طاقة لا تكلّ، وحكم صائب لا يخلّ، ثريًّا متمتّعًا بالإجلال والنّفوذ والجاه والمكانة السّامية النّبيلة إلى أقصى درجة. ومع ذلك احتقر الأبّهة والمفاخر والعطايا والممتلكات الدّنيويّة. وبفضل مراسلاته المنتظمة، كان وثيق الصّلة بمؤسّس الدّين الّذي نهض للذّود عنه، كما كان واقفًا تمام الوقوف على آمال أقطابه وآلامهم وخططهم ومناشطهم. وكان يتقدّم ليحتلّ مكان الزّعامة الصّريحة للقوى المكافحة من أجل تحرير الدّين تارةً، وتارةً أخرى كان يتعمّد الانسحاب في حرص شديد ليكون أقدر على علاج موقف شاذّ أو إبعاد خطر داهم، ولكنّه كان في كلّ الأحوال ساهرًا متأهّبًا مستعدًّا لا يكلّ عن بذل الجهود ليحافظ على كيان الدّين ويحلّ مشكلاته ويدافع عنه ويشجّع أتباعه ويبلبل خصومه. أمّا وقد بلغ الدّين الآن أحرج ساعاته وأشدّها حسمًا فقد تقدّم إلى قلب المرسح الّذي أخلي من حضرة الباب بصورة محزنة لكي يؤدّي لمدّة أربعين سنة كاملة دورًا لا يدانيه في جلاله ولا في أشجانه ولا في سنائه دور أيّ مؤسّس من المؤسّسين العظام لأديان العالم التّاريخيّة.
أثارت هذه الشّخصيّة الشّامخة العظيمة غضب محمّد شاه، نتيجة للاتّهامات الّتي وجّهت إليه، وما سمعه الشّاه عمّا حدث في بدشت. فأصدر إلى زعماء مازندران الاقليميّة عدّة فرمانات يأمرهم فيها باعتقاله وصرّح بعزمه على قتله. أمّا الحاج ميرزا آقاسي الّذي حدثت بينه وبين الوزير (والد حضرة بهاء الله) جفوة من قبل، وأغضبه فشله في اغتصاب إحدى ضياع حضرة بهاء الله، فقد عاهد نفسه على مُعاداته خاصّة وأنّه نجح نجاحًا باهرًا في إحباط مساعيه الخبيثة. وفضلاً عن ذلك فإن أمير النّظام كان مدركًا تمام الإدراك عمق تأثير هذا الخصم الفاعل. فاتّهمه أمام جماعة من علّيّة القوم بأنَّ نشاطه قد كبّد الدّولة خسارة لا تقلّ عن خمس كرورات([4]). وفي هذه الفترة الحاسمة الّتي كان يجتازها الدّين طلب إليه بكلّ وضوح وتأكيد أن يحوّل مقامه إلى كربلاء مؤقّتًا. أمّا ميرزا آقا خان النّوري الّذي خلف أمير النّظام فقد حاول في أوّل أيّامه أن يعقد صلحًا بين حكومته وبين حضرة بهاء الله الّذي اعتبره أقدر أتباع حضرة الباب. فلا عجب أن تطرّقت إلى حضرة بهاء الله الظّنون والشّكوك، الّتي لا يعدلها في الخطورة والجسامة إلاّ بطلانها وزيفها، عندما اقترفت تلك الفعلة الجريئة الخطيرة فيما بعد. وتسرّبت هذه الظّنون إلى الشّاه وحكومته وبلاطه وشعبه. وإنّ أشدّهم إسرافًا في ذلك أمّ الشّاه الشّاب الّتي أخذ الغضب منها كلّ مأخذ واتّهمته بأنّه هو المحرّض الأوّل على محاولة اغتيال ولدها.
كان حضرة بهاء الله ضيفًا على الصّدر الأعظم في لواسان حين محاولة اغتيال الشّاه، وكان يقيم في قرية أفجه حين بلغت الأنباء الخطيرة. فنصح له جعفر قلي خان أخو الصّدر الاعظم الّذي كان يقوم على ضيافته بأن يتوارى عن الأنظار بعض الوقت في ناحية من تلك النّواحي. ولكنّه لم يستمع للنّصيحة وصرف الرّسول الّذي أرسل معه ليؤمّن سلامته. وركب في صبيحة اليوم التّالي إلى معسكر الجيش الشّاهاني بجرأة ورباطة جأش، وكان الجيش في نياوران بمنطقة شميران. وفي قرية زركندة لقيه صهره ميرزا مجيد الّذي كان آنذاك سكرتيرًا للأمير دولجوروكي([5]) الوزير الرّوسي، وصحبه إلى منزله المتّصل بمنزل رئيسه، فلّما علمت حاشية حاجب الدّولة الحاج علي خان بقدوم حضرة بهاء الله بادروا بإخطار سيّدهم فرفع هذا الأمر بدوره إلى مسامع الشّاه، فتعجّب الشّاه وأرسل ضبّاطه ومعتمديه إلى السّفارة يطالبون بتسليم
المتّهم إليهم. ولكنّ السّفير الرّوسي رفض أن يسلّمه إليهم، وطلب إلى حضرة بهاء الله أن يتوجّه إلى بيت الصّدر الأعظم الّذي سبق للسّفير أن أبدى له رغبته في تأمين سلامة الوديعة الّتي تقوم الحكومة الرّوسيّة بتسليمها إليه. إلا أنّ هذه الرّغبة لم تتحقّق نظرًا لأن الصّدر الأعظم خاف على مركزه أن يضيع إذا هو شمل المتّهم بالحماية المطلوبة.
وهكذا سُلّم هذا القطب العظيم للدّين المضطهد على الدّوام، والّذي طالت منه الشّكوى والخوف، إلى أيدي أعدائه وأرغم على أن يرتشف من تلك الكأس الّتي تجرّعها حتّى الثّمالة مؤسّس الدّين نفسه، وسيق من نياوران إلى سياه چال بطهران “*على قدميه مكبّلاً بالسّلاسل والأغلال، عاري الرّاس حافي القدمين” معرّضًا لشمس الصّيف الحامية. وفي الطّريق خلعت عنه ملابسه الخارجيّة عدّة مرّات وضايقته الجماهير بالسّخرية ورشقتهُ بالحجارة. أمّا الغرفة السّفليّة الّتي ألقي فيها فكانت من قبل خزّانًا لمياه أحد الحمّامات العامّة بالمدينة. ولندع كلماته المدوّنة في “لوح ابن الذّئب” تشهد بالمحنة الّتي عاناها في ذلك السّرداب الوبيل، قال: “*وعيّن لنا مقرّ لمدّة أربعة أشهر لا شبيه له ولا مثيل… وبعد أن وردنا السّجن قادونا إلى دهليز مظلم ثمّ هبطنا ثلاث دركات وبلغنا المقرّ الّذي عيّنوه، أمّا المكان فكان مظلمًا يعيش فيه ما يقرب من المائة والخمسين من اللّصوص والقتلة وقطّاع الطّرق. وبالرّغم من وجود هذا الجمع الغفير فإنّ المكان لم يكن له من منفذ سوى الطّريق الّذي وردنا منه. إنّ الأقلام لتعجز عن وصفه، والبيان يكلّ عن بيان روائحه المنتنة. وكان معظم هذا الجمع بلا لباس ولا فراش. الله يعلم ما ورد علينا في ذاك المقام الأنتن الأظلم”. وقيّدت قدماه بالقيود وصفّد عنقه بسلاسل “قره گُهَر” الثّقيلة فتركت بصماتها على جسده طيلة حياته. وقد شهد حضرة عبد البهاء بذلك فقال: “**وضعت حول عنقه سلاسل ثقيلة صفّد بها خمسة من البابيّين. وكانت هذه السّلاسل مشدودة بعضها إلى بعض بأقفال ومسامير قويّة جدًّا وثقيلة جدًّا. وكانت ثيابه ممزّقة وكذلك كان لباس رأسه. وظلّ حضرته على هذه الحال الفظيعة أربعة أشهر”. وقد حرم الطّعام والشّراب ثلاثة أيّام بلياليها واستحال عليه النّوم. ذلك لأنّ المكان كان باردًا رطبًا قذرًا موبوءًا بالحمّى، مليئًا بالهوام والحشرات والرّوائح الكريهة. ولقد ذهب أعداؤه الّذين أثارتهم الكراهية الشّديدة إلى حدّ محاولة دسّ السّمّ في طعامه طمعًا في الفوز برضاء أمّ الشّاه عدوّه اللّدود، ولكنّ المحاولة باءت بالفشل وإن أضرّت بصحّته في السّنوات التّالية. ويذكر الدّكتور ج. إ. إسلمنت في كتابه: “*يخبرنا حضرة عبد البهاء كيف أذن له يومًا أن يدخل ساحة السّجن ليرى والده المحبوب حين خرج لرياضته اليوميّة، وكان حضرة بهاء الله قد تغيّر بصورة مخيفة، وقد بلغ به الإعياء أنّه لم يكن قادرًا على السّير، وكان شعره ولحيته متلبّدين، وكان عنقه متسلّخًا متورّمًا من ثقل السّلاسل الحديديّة، وكان جسده ينوء تحت أثقال الأغلال”.
وبينما كان حضرة بهاء الله يعاني تلك الامتحانات القاسية والشّدائد المروّعة في تلك الأيّام الهائجة المائجة كان ثمة نجم آخر من نجوم الدّين، ونعني به الطّاهرة الجريئة، تهوي بسرعة تحت قوّتها المدمّرة. لقد بدأ عملها الباهر كالشّهاب أوّل ما بدأ في كربلاء، وبلغ أوجه في بدشت، وهو يوشك الآن أن يبلغ نهايته بشهادة يمكن أن توضع بجدارة واستحقاق في مصاف أشدّ القصص تحريكًا للقلوب في أعنف فترات التّاريخ البهائيّ وأشدّها اضطرابًا.
كانت سليلة أسرة الحاج المُلاّ صالح البرقاني الشّهيرة الّتي طالما احتلّ أفرادها المكانة المرموقة في النّظام المذهبي بإيران. وكانت سمّيّة فاطمة الزّهراء، ولكن أسرتها كانت تسمّيها زرّين تاج (التّاج الذّهبي) والزّكيّة. ولدت في نفس السّنة الّتي ولد فيها حضرة بهاء الله وكان أهل مدينتها يعدّونها، منذ نعومة أظفارها، آيّة في الذّكاء والجمال. وأجلّها قبل إيمانها بعض أكابر علماء بلادها لطرافة آرائها ووجاهتها وجدّتها، وخاطبها أستاذها المعجب، السّيد كاظم ﺑ”قرّة العين” ولقّبها لسان القدرة والعظمة ﺑ”الطّاهرة”. وكانت السّيدة الوحيدة الّتي سلكها حضرة الباب في عداد حروف الحيّ، وعن طريق حلم سبقت الإشارة إليه في الصّفحات السّابقة، اعتنقت الدّين وثابرت على نشره وترويجه حتّى في أشدّ الأوقات خطورة وخطرًا بكلّ ما أوتي روحها الغلاّب من حماسة وقوّة حتّى النّفس الأخير. ولقد نصرت أمر حضرة الباب بجدّيّة وحماس غير عابئة باحتجاجات والدها الشّديدة، غير مكترثة بشتائم عمّها، غير آبهة لتوسّلات زوجها وإخوتها. لا يفت في عضدها التّدابير الّتي اتّخذتها المقامات المدنيّة والدّينيّة في كربلاء ثمّ بغداد ثمّ قزوين للحدّ من نشاطها. ولقد ثابرت على إشعال حماسة العرب والعجم، وأخذ البيعة منهم للظّهور الجديد، والدّعوة إلى تغيير عادات قومها ومسالكهم تغييرًا ثوريًّا، وذلك عن طريق خطبها البليغة العصماء وتنديداتها الجريئة بالمفاسد وأبحاثها ودراستها وأشعارها وترجماتها وتفسيراتها ومراسلاتها.
كانت هي الّتي قد نهضت في كربلاء، أقوى معقل للشّيعة، لتوجّه الرّسائل الطّوال للعلماء المقيمين بتلك المدينة، والّذين كانوا قد رجعوا بمنزلة المرأة إلى ما فوق منزلة الحيوان بقليل، وأنكروا عليها حقّ امتلاك أيّ شيء حتّى الرّوح. وفي رسائلها هذة دافعت بحرارة عن هدفها السّامي، وندّدت بمآربهم الخبيثة. وتحدّت مواضعات أهل تلك المدينة المتعصّبين تحدّيًا صريحًا سافرًا، وذلك بأن تجاهلت الذّكرى لشهادة الإمام الحسين الّتي تقام باحتفال مهيب في فواتح المحرّم من كلّ عام، واحتفلت بدلاً منه بعيد ميلاد حضرة الباب الّذي يوافق غرّة ذلك الشّهر. وببلاغتها العجيبة وقوّة عارضتها المدهشة افحمت الوفد الممثّل للشّيعة والسّنّة والمسيحيّين وأكابر اليهود في بغداد والّذي حاول أن يصرفها عمّا عاهدت نفسها عليه من نشر بشارات الرّسالة الجديدة. وببراعة فائقة دافعت عن دينها وبرّرت تصرّفاتها في بيت الفقيه النّابه الشّيخ محمود الآلوسي مفتي بغداد. ثم عقدت جلساتها التّاريخيّة للأمراء والعلماء ورجال الحكومة المقيمين بكرمنشاه حيث قرأت عليهم وترجمت لهم تفسير حضرة الباب لسورة الكوثر، وبلغت هذه الجلسات قمّتها باعتناق الأمير (الحاكم) هو وأسرته الدّين الجديد. وكانت السّيدة الموهوبة الّتي اخذت على عاتقها ترجمة تفسير حضرة الباب الضّخم لسورة يوسف (قيّوم الاسماء) لصالح إخوتها في الدّين من الإيرانيّين، وبذلت أقصى ما تستطيع من جهد لتنشر هذا الكتاب العظيم وتوضّح محتوياته، وبجسارتها ومهارتها وقدرتها على التّنظيم وحماستها الظّامئة استطاعت أن تثبّت دعائم فتوحاتها في محيط لا يقلّ جفاء ولا عداء عن قزوين، قزوين الّتي افتخرت بأنّ أسوارها تضمّ ما لا يقلّ عن مائة علاّمة من علماء الإسلام الأفذاذ. وهي الّتي قاطعت وحيدًا النّابغة، أثناء لقائهما الخالد في منزل حضرة بهاء الله بطهران عندما كان وحيد يتابع حديثه القيّم عن علامات المظهر الجديد وأشراطه، ودعته بقوّة، وهي تضع في حجرها حضرة عبد البهاء الّذي كان طفلاً آنذاك، إلى أن ينهض ويظهر بالأعمال لا بالأقوال عمق إيمانه ومدى بطولته وتضحيته. وإبّان شهرتها وذيوع صيتها في طهران تزاحمت على بابها زهرات المجتمع ليستمعن إلى أحاديثها الرّائعة عن مبادئ دينها الفريدة. وكان سحر بيانها هو الّذي جذب المدعوّات في حفل زفاف ابن محمود خان الكلانتر الّذي اعتقلت في منزله، وصرفهنّ عن الطّرب والسّمر، وجمعهنّ حولها متلهّفات ظامئات إلى كلّ كلمة من كلماتها. وكان لتأكيدها الحارّ والقاطع لدعاوي الظّهور الجديد ومعالمه المميّزة خلال سبع جلسات عقدتها في المنزل نفسه مع مندوبي الصّدر الأعظم الّذين أرسلهم لاستجوابها الأثر الكبير في الإسراع بالحكم عليها بالإعدام. ومن قلمها فاضت المدائح الّتي لا تشهد بوضوح وصراحة بايمانها الرّاسخ بظهور حضرة الباب فحسب بل وتشهد أيضًا باعترافها برسالة حضرة بهاء الله المجيدة الّتي لم تكن قد تكشّف أمرها بعد. وأخيرًا، وليس آخرًا، إلى مبادرتها أثناء اشتراكها في مؤتمر بدشت يرجع الفضل في كشفها لإخوانها المؤمنين أشدّ الأمور تحدّيًا في مكنونات الدّورة الثّوريّة الّتي لم يكن أحد يدركها بتمامها آنذاك. كما يرجع إليها الفضل في انفصال النّظام الجديد عن أحكام الإسلام ومؤسّساته انفصالاً دائمًا. وقد آن لهذه الفتوحات العجيبة أن تتوّج، وتبلغ كمالها النّهائي باستشهاد صاحبتها في غمار العاصفة الّتي كانت تجتاح العاصمة من أقصاها إلى أقصاها.
وذات ليلة أدركت أنّ ساعتها قد دنت، فلبست ثياب العرس وتزيّنت وتعطّرت بالطّيب، وأرسلت تطلب زوجة الكلانتر وباحت لها بسرّ دنوّ استشهادها، وأسرّت إليها بوصاياها الأخيرة. ثمّ اعتكفت في جناحها وانتظرت في تعّبد وتبتّـل وابتهال تلك السّاعة الّتي تشهد اتّحادها مع محبوبها. وكانت تذرع غرفتها وهي ترتّل مناجاة تعبّر عن الحزن والنّصر حين أقبل فرّاشو عزيز خان السّردار في سكون اللّيل يسوقونها إلى حديقة إيلخاني خارج أسوار المدينة، موضع شهادتها. وعندما وصلت إلى الحديقة كان السّردار مع معاونيه لاهين مخمورين يغرقون في الضّحك. فأمر عفو الخاطر بأن تخنق على الفور وأن يلقى بها في حفرة. وبنفس المنديل الحريريّ الّذي احتفظت به بالغريزة لهذا الغرض، ودفعت به في اللّحظات الأخيرة إلى ابن الكلانتر الّذي رافقها، خُنِقت البطلة الخالدة، وأُلقي بجثمانها في بئر ثمّ أهيل عليها التّراب والحجارة على نحو ما رغبت.
وهكذا انتهت حياة تلك البطلة البابيّة العظيمة، أوّل شهيدة في سبيل تحرير المرأة. فلقد التّفتت إلى سجّانيها عند موتها، وقالت في جرأة: “**تستطيعون قتلي بأسرع ما تريدون ولكنّكم لن تستطيعوا ايقاف تحرير المرأة”. كان عملها باهرًا بقدر ما كان قصيرًا. وكان محزنا بقدر ما كان مليئًا بالأحداث، ولقد عمّت شهرة هذه السّيّدة الخالدة الآفاق، وطبقّت الخافقين على خلاف زملائها من المؤمنين الّذين ظلّت معظم أعمالهم الجليلة مجهولة لا يتغنّى بها أحد من معاصريهم في البلاد الأجنبيّة. أمّا هذه السّيّدة فقد ذاع صيتها بسرعة ملحوظة حتّى بلغت عواصم أوروبّا الغربيّة، وأثارت الإعجاب والعطف وانتزعت الثّناء البالغ من الرّجال والنّساء وذوي الجنسيّات والمهن واللّغات المختلفة. فلا عجب أن أضاف حضرة عبد البهاء اسمها إلى سارة وآسية ومريم العذراء وفاطمة الزّهراء، اللّواتي شمخن على بنات جنسهنّ بمزاياهنّ الذّاتيّة ومكانتهنّ الفريدة على مرّ الدّورات السّابقة، ووصفها بقوله: “*قد كانت فتنة العصر في بلاغتها، وفي منطقها اضطرابًا للعالمين”. ووصفها مرّة اخرى بأنّها “*قبس من نار محبة الله” و”*سراج موهبة الله”.
والواقع أنّ قصّة حياتها العجيبة انتشرت طولاً وعرضًا بمثل ما انتشرت به قصّة حياة حضرة الباب منبع إلهامها المباشر. وإليك ثناء معلّق معروف على حياة حضرة الباب وأصحابه، قال: “إنّها آية في العلم وفي الجمال”. وأثنى عليها كاتب مرسحيّ معروف كانت سارة برنارد سألته أن يكتب تاريخ حياتها في صورة مرسحيّة، قال: “هي جان دارك الايرانيّة زعيمة، تحرير المرأة في الشّرق. شبيهة هيلويز([6]) العصور الوسطى وهيباشيا الأفلاطونيّة الحديثة([7])” وشهد اللّورد كرزون من كدلستون([8]) بأنّ “بطولة زرّين تاج شاعرة قزوين الجميلة المنكودة الطّالع… هي قصّة من أقدر قصص التّاريخ الحديث على تحريك المشاعر”. وكتب الأستاذ إ. ج. براون([9]) المستشرق الإنجليزيّ الشّهير “إنّ ظهور امرأة كقرّة العين يعتبر ظاهرة نادرة في أيّ زمن من الأزمان وفي أيّ قطر من الأقطار بل إنّه في قطر كإيران يعتبر أعجوبة إن لم يكن شيئًا يقارب المعجزة… ولو لم يكن للدّين البابيّ من سبب يمتّ به إلى العظمة سوى أنّه أخرج لنا بطلة مثل قرّة العين لكفاه سببًا”. وأبدى رجل الدّين الإنجليزيّ المعروف دكتور ت. ك. تشايين([10]) في أحد كتبه تلك الملاحظة ذات الدّلالة الكبيرة قال: “إنّ البذور الّتي بذرتها قرّة العين في العالم الإسلامي بدأت الآن تؤتي أُكُلها… هذه السّيدة النّبيلة… يرجع إليها الفضل في افتتاح عهد الإصلاح الاجتماعيّ في إيران… ” وأشار إليها الدّبلوماسيّ الفرنسيّ الملحوظ المكانة والكاتب القدير كونت دي جوبينو([11]) بقوله: “ممّا لا شكّ فيه أنّها من أعجب ظواهر هذا الدّين وأدعاها إلى الاهتمام”. ثمّ أضاف “وفي قزوين كانت تعتبر أعجوبة عن جدارة واستحقاق”. وكتب مرّة أخرى: “لقد أخبرني كثيرون ممّن عرفوها عن قرب واستمعوا إليها في فترات مختلفة من حياتها… أنّها كانت إذا تكلّمت تحرّكت مشاعر المستمع وملأ صدره الإعجاب ومال إلى البكاء”. وكتب سير فالنتين تشيرول([12]): “ليس هناك من ذكرى أحقّ بالتّخليد من ذكراها، وليس هناك من ذكرى أقدر من ذكراها على إشعال الحماسه من جديد. وما زال التّاثير الّذي خلّفتة في حياتها ينسكب على قضيّة بنات جنسها”. وهذا سليمان ناظم بيك الشّاعر التّركي الشّهير والكاتب القدير يقول في كتابه عن البابيّين متعجّبًا: “يا طاهرة! لأنت خير من ألف ناصر الدّين شاه!” وأمّا السّيدة ماريانا هاينش([13])، أمّ أحد رؤساء حكومة النّمسة، فقد قرّظت الطّاهرة قائلة: “كانت الطّاهرة المثل الأعلى للأنوثة… ولسوف أحاول أن أقدم لنساء النّمسة ما قدّمته الطّاهرة لنساء إيران وضحّت له بحياتها”.
وما أكثر الّذين تلهّفوا على معرفة المزيد عن حياتها من المعجبين بها المتحمّسين لها في قارّات العالم الخمس! وما أكثر الّذين سما مسلكهم بمثلها الملهم! وما أكثر الّذين حفظوا مدائحها الفريدة عن ظهر قلب، لحّنوا أشعارها أو تألّق طيف روحها الغلاّب أمام أبصارهم، أو أكنّوا لها في قلوبهم حبًّا وإعجابًا لا ينال الدّهر من سناهما، وما أكثر الّذين تحرّقت أرواحهم شوقًا لأن يقتدوا بها، وأن يسلكوا، بنفس الإخلاص والإقدام، نفس الطّريق الّتي اختارتها لنفسها، والّتي لم تنحرف عنها قيد شعرة منذ اعتنقت دين حضرة الباب إلى النّفس الأخير.
إنّ عاصفة الاضطهاد الهوجاء الّتي جرفت حضرة بهاء الله إلى سجن تحت الأرض وأطفات سراج الطّاهرة ختمت أيضًا على مصير الكاتب الممتاز لوحي حضرة الباب الّذي شاطرة الاعتقال في ماه كو وچهريق ونعني به السّيد حسين يزدي الملقّب ﺑ”العزيز”. وكان رجلاً محنّكًا عظيم الموهبة، متبحّرًا في تعاليم مولاه، متمتّعًا بثقته المطلقه. وقد رفض كلّ عرض للخلاص عرضه عليه كبار رجال الدّولة في طهران. وكان يحنّ حنينًا موصولاً للشّهادة الّتي حرم منها يوم ضحّى حضرة الباب بحياته في ساحة الثّكنات بتبريز. فلمّا رافق حضرة بهاء الله في سياه چال بطهران ظلّ يستمدّ منه العزاء والإلهام، وهو يسترجع ذكرى تلك الأيّام الخوالي الغوالي الّتي قضاها في خدمة مولاه بآذربيجان إلى أن خرّ صريعًا آخر الأمر، في ظروف قاسية وبصورة مخجلة، على يد عزيز خان السّردار الّذي كال أيضًا للطّاهرة الضّربة القاضية.
وثمّة ضحيّة أخرى من ضحايا هذا التّنكيل المروّع الّذي فرضه العدوّ اللّدود الّذي لا يلين، ونعني بها الحاج سليمان خان الشّجاع الواسع الأفق العريض النّفوذ، فلقد كان محترمًا إلى حدّ أنّ أمير النّظام حرص، في إحدى المناسبات السّابقة، على أن يتجاهل صلته بالدّين الّذي اعتنقه، وأن يبقي على حياته، إلاّ أنّ الهياج الّذي زلزل طهران عقب محاولة اغتيال الشّاه عجّل بالقبض عليه وأدّى إلى استشهاده. ذلك لأنّ الشّاه كلّف حاجب الدّولة بإغرائه للارتداد عن دينه، فلمّا عجز حاجب الدّوله عن ذلك أمر الشّاه بأن يُقتل على النّحو الّذي يفضّله لنفسه. وبناءً على رغبته شقّوا في لحمه تسعة ثقوب، ووضعوا في كلّ ثقب منها شمعة موقدة، فلمّا أحجم الجلاّد على أن يقوم بتلك المهمّة الشّنيعة حاول هو أن ينتزع السّكّين ليغمدها في جسمه بيده. ولكنّ الجلاّد رفض أن يعطيه إيّاها خشية أن يهجم بها عليه. وأمر رجاله أن يوثقوا يديّ ضحيّته وراء ظهره، ومن ثمّ رجاهم المعذّب المِقدام أن يشقّوا ثقبين في صدره وثقبين في كتفيه وثقبًا في كاهله، وأربعة ثقوب أخرى في ظهره. وقد حقّقوا له هذا الرّجاء وهو صابر مشدود القامة كالسّهم متألّق العينين ثابتًا راسخًا، لا تزعجه الجماهير الهادرة، ولا منظر دمائه وهي تنزف من جراحه. ثمّ سار على قرع الطّبول وإنشاد المرتّلين أمام الجموع المتزاحمه من حوله إلى مقرّ الفداء. وكان يتوقّف كلّ بضع خطوات ليخاطب المشاهدين المتحيّرين على جانبيّ الطّريق بعبارات يمجّد فيها حضرة الباب، ويعظّم فيها معنى استشهاده في سبيله. ثمّ ينطلق معبّرًا عن فرحه وسروره حين تقع عيناه على الشّموع وهي تتأرجح في ثقوبها الدّامية، فإذا سقطت إحداهنّ التّقطها وأشعلها من أختها وثبّتها في مكانها من جديد. وسأله الجلاّد ساخرًا: “إذا كنت ترى الموت سارًّا على هذا النّحو فلماذا لا ترقص؟” فصاح المعذّب: “أرقص!؟ بإحدى راحتيّ كأس المدام وبالأخرى طرّة الحبيب، وإنّ مثل هذا الرّقص في السّوق هو أملي”. وبينما هو في السّوق هبّت ريح جعلت شعلات الشّموع الموغله في جراحه تزداد وأزّ اللّحم المحيط بها، فانطلق يخاطب اللّهيب الغائر في جراحه: “أيّها اللّهيب! لقد فقدت قدرتك على الإيلام منذ زمن بعيد، وفقدت لذعتك، هيّا عجّل! هيّا أسرع فمن ألسنتك أسمع الصّوت الّذي يدعوني إلى لقاء المحبوب”. وهكذا مضى في هالة من النّور كما يمضي الفاتح المظفّر إلى مشهد نصره وظفره، وعندما وصل إلى ساحة الاستشهاد رفع صوته مرّة أخرى ينادي جمهور المتفرّجين نداءه الأخير. ثمّ سجد مُيمّمًا وجهه شطر مقام إمام زاده حسن، وتمتم ببعض العبارات العربيّة وصاح بالجلاّد: “لقد انتهى عملي وعليك الآن أن تكمل عملك” وظلّت الحياة تتردّد في جسده وهو ينشر إلى نصفين، واستمر تمجيد محبوبه يرفرف على شفتيه المحتضرتين. ثمّ علّق جسده الدّامي المحترق على جانبيّ بوّابة نو تنفيذًا لرغبته، شاهدًا صامتًا على الحبّ الظّامئ الّذي أشعله حضرة الباب في صدور أتباعه.
ولم يكن في الإمكان أن تقتصر الفتنة الّتي اندلعت نتيجة لمحاولة اغتيال الشّاة على العاصمة بل لقد امتدّت إلى الأقاليم القريبة، وهبّت على مازندران، موطن حضرة بهاء الله، وتمخّضت عن مصادرة كلّ ممتلكاته ونهبها وتدميرها. كما أمر ميرزا أبو طالب خان ابن أخي الصّدر الأعظم بنهب منزله الّذي ورثه عن والده في قرية تاكور من أعمال نور، وأمر بتدمير كلّ ما لا يمكن حمله، بينما شوّهت غرفاته الّتي كانت تفوق في رونقها وبهائها قصور طهران تشويهًا لا يمكن إصلاحه. بل لقد هدمت منازل النّاس وسوّيت بالارض، ثم أحرقت القرية عن بكرة أبيها. وامتدّ الهياج الّذي عصف بطهران وهبّ على مازندران نهبًا وتدميرًا حتّى بلغ يزد ونيريز وشيراز وزلزل أبعد الدّساكر والضّياع، مشعلاً نار البغي والعدوان من جديد. ومرّة أخرى تنافس الحكّام الجشعون الطّمّاعون وأعوانهم الخونة في سلب الوادعين وذبح الأبرياء وإهانة النّبلاء. وتلا ذلك كلّه مذبحة أخرى تكرّرت فيها مآسي نيريز وزنجان الشّنيعة. وكتب مؤرّخ الحوادث الدّامية المتّصلة بميلاد ديننا ونشأته يقول: “يتراجع القلم رعبًا وفزعًا حين يحاول أن يصف ما ابتلي به هولاء الرّجال الشّجعان والنّساء الجريئات… وإنّ كلّ ما حاولت أن أصفه من فظائع حصار زنجان… ليتضاءل أمام تلك الفظائع الّتي ارتكبت بعد عدّة أعوام في نيريز وشيراز. فلقد رفع على أسنّة الحراب ما لا يقلّ عن مائتي رأس من رؤوس ضحايا التّعصّب الأعمى الوحشيّ، ثمّ حملت من شيراز إلى آباده تحفّ بها مظاهر الظّفر والانتصار. ووضع أربعون امرأة وطفلاً في كهف جمعت فيه مقادير عظيمة من الحَطَب غمست بالنّفط وأشعلت؛ فأحالت النّساء والأطفال إلى هشيم تذروه الرّياح. كما أرغمت ثلاثمائة امرأة أخرى على أن تركب كلّ اثنتين منهنّ على ظهر فرس عارٍ إلى شيراز، وساقوهنّ شبه عاريات بين صفّين من الرّؤوس المقطوعة من الأجساد الهامدة لأزواجهنّ وأبنائهنّ وآبائهنّ وإخوتهنّ، وقُذفن بأقذع الشّتائم والسّباب، وانهال عليهنّ العذاب ألوانًا حتّى هلكت الكثيرات منهنّ من شدّة الإرهاق والإعياء.
وبهذا أشرف على النّهاية فصل يسجّل للزّمان كلّه أعنف فترة من فترات القرن البهائيّ الأوّل وأحزنها وأمجدها وأحفلها بالوحشيّة والمآسي والبطولات. ويمكننا أن نقول أنّ أنهار الدّماء الّتي سالت وتلاطمت بها تلك السّنوات المزدحمة بالوبال والنّكال كانت تروي البذور الخصيبة لذلك النّظام العالميّ الّذي قُدّر للظّهور الوشيك التّالي والأعظم شأنًا أن يعلنه ويؤسّسه. ومنذ اللّحظة الّتي ولد فيها هذا العصر البدائيّ حتّى وقتنا هذا، والمدائح العاطرة الّتي أسبغها على ذلك الجيش النّبيل من أبطاله وأوليائه وشهدائه، وأغدقها عليهم الصّديق والعدوّ على السّواء، ابتداءً من حضرة بهاء الله نفسه إلى أقلّ النّاس ارتباطًا بالأمر، تقوم كلّها شاهدًا باقيًا خالدًا على مجد تلك الأعمال الّتي خلّدت ذلك العصر.
وإليك شهادة حضرة بهاء الله الفذّة الفريدة في كتاب الايقان: “*تحيّر العالم كلّه من تضحيتهم بقلوبهم وأرواحهم… تاهت العقول في أفعالهم، وتحيّرت النّفوس في اصطبارهم وبما حملت أجسادهم… هل ظهر في أيّ عصر من العصور مثل هذا الأمر الخطير؟” وقوله مرّة أخرى: “*هل وقع في البلاد مثل هذا الهياج في أيّ عصر من عهد آدم إلى يومنا هذا؟ أم هل ظهر بين العباد مثل هذا الهرج والمرج… لكانّما ظهر الصّبر في عالم الكون من اصطبارهم، وخلق الوفاء في أركان العالم من فعلهم”. وفي مناجاة له يشير إشارة خاصّة إلى شهداء الأمر، ويؤكّد تأكيدًا له دلالته حين يقول: “**بدماء عاشقيك الّتي سُفِكت حملت الأرض بمظاهر قدرتك وآيات اقتدارك. وعمّا قريب تحدّث الأرض أخبارها في الميقات المعلوم”.
وإلى أيّ قوم غير هؤلاء الأبطال الإلهيّين الّذين فلقوا بدمائهم الزّكيّة صبح اليوم الموعود تشير كلمات محمّد رسول الله ذات الدّلالة العظيمة، والّتي رواها القدّوس لزملائه في قلعة الشّيخ طبرسي: “واشوقًا لإخواني الّذين يأتون في آخر الزّمان طوبى لهم وطوبى لنا وطوباهم أفضل من طوبانا” وأيّ قوم غير هؤلاء يعنيهم ذلك الحديث المعروف بحديث جابر، والّذي رواه الكافي وشهد بصحّته حضرة بهاء الله في كتاب الإيقان، والّذي يبيّن علامات القائم الموعود بلغة لا لبس فيها ولا غموض: “فيُذَلّ أولياؤه في زمانه، وتتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس التّرك والدّيلم. فيُقتلون ويُحرقون، ويكونون خائفين مرعوبين وجلين تُصبغ الأرض بدمائهم، ويفشو الويل والرّنّة في نسائهم. أولئك أوليائي حقًّا”.
وإليك شهادة اللّورد كرزون من كدلستون الخطّيّة، قال “إن ملاحم البطولة الرّائعة لتضيء صفحات التّاريخ البابيّ الملطّخة بالدّماء… وإنّ نيران سميثفيلد([14]) عجزت عن أن تشعل في قلوب أصحابها شجاعة أنبل من تلك الّتي واجهت زبانية العذاب في طهران وتحدّتهم. وإنّ دينًا في مقدوره أن يوقظ في أتباعه مثل هذا الرّوح النّادر النّبيل من التّضحية بالنّفس والنّفيس ليس بالشّيء الّذي يمكن الاستهانة بشأنه. ولسوف تهزّ بطولة أتباعه (أي حضرة الباب) واستشهادهم مشاعر الكثيرين الّذين لا يمكنهم أن يجدوا لها مثيلاً في تاريخ الإسلام المعاصر”. وكتب الأستاذ دارمستتر([15]) فقال: “إنّ البابيّة الّتي انتشرت في أقلّ من خمس سنوات في إيران من أقصاها إلى أقصاها، واغتسلت بدماء شهدائها في سنة 1852م لا تزال تتقدّم وتدعو إلى نفسها في صمت وسكون. ولئن قدّر لإيران أن تنهض من جديد فعن طريق هذا الدّين الجديد”. أمّا رينان فيشهد في كتابه “الرّسل”: “بأنّ آلاف الشّهداء أسرعوا إلى مقر الشّهادة والفداء في سبيله صامدين ثابتين. ولربّما كان يوم المجزرة الكبرى الّتي اكتسحت البابيّين في طهران يومًا لا شبيه له ولا نظير في تواريخ العالم على الإطلاق”. وأعلن المستشرق الشّهير الأستاذ إ. ج. براون: “إنّ ميلاد دين لا يصعب عليه أن يحتلّ مكانته البارزة بين أديان العالم العظمى ليعتبر واحدًا من تلك الانفجارات العجيبة للحماسة والإيمان والإخلاص الحارّ والبطولة القاهرة”. وأعلن مرّة أخرى: “إنّ الرّوح الّذي غمر البابيّين قلّما يعجز عن التّاثير بقوّة في كلّ من يتعرّض له… وليكذّبني من لم يشاهدوا ولم يروا كيفما شاؤوا، ولكن ما أن يظهر لهم هذا الرّوح نفسه حتّى يحسّوا بشعور لا أعتقد أنهم قادرون على نسيانه أبدًا”. وأمّا الكونت دي جوبينو فقد صرّح في كتابه: “وإنّي أقسم كذلك على أنّني لو رأيت في أوروبّا طائفة لها مثل ما للبابيّة من طبيعة، وتتحلّى بمثل ما تتحلّى به من إيمان عميق وحماسه خالصة، وإقدام مذهل وإخلاص بالغ وقدرة على انتزاع الاحترام من غير المبالين ولا المكترثين، وإلقاء الرّعب في قلوب الأعداء، ثمّ ما قد أسمّيه (بالقدرة على التّحويل عن العقيدة) بصورة مطلقة لا تقف عند شيء، ونجاح مستمرّ يتخلّل جميع طبقات المجتمع، لو أنّني رأيت في أوروبّا طائفة تمتاز بكلّ هذه الفضائل والمزايا العظيمة لما تردّدت لحظة واحدة في أن أتنبّأ بأنّ القوّة والسّلطان سوف يكونان من نصيبها في فترة وجيزة”.
ويروى أن عبّاس قلي خان اللاّريجاني الّذي أطلق الرّصاصة الّتي قتلت المُلاّ حسين، قال أمام بعض الشّهود في معرض إجابته عن سؤال وجّهه إليه الأمير أحمد ميرزا: “حقيقة الأمر هي أنّه لو شهد طبرسي من لم يشهد كربلاء لما استطاع أن يدرك ما دار في كربلاء فحسب، ولما عاد يقيم لكربلاء أيّ وزن. ولو أنّ أحدًا رأى المُلاّ حسين البشروئي لما شكّ لحظة في أنّ سيّد الشّهداء (أي الإمام الحسين) قد رجع إلى العالم مرّة أخرى ولو رأى أحد أعمالي لقال: “هذا شمّرُ (قاتل الحسين) رجع بسيفه ورمحه… والواقع أنني لم أعرف ماذا بدا لهؤلاء النّاس ولا ماذا رأوا حتّى أقدموا على القتال بكلّ هذا الصّبر والجلد وكلّ هذه النّشوة. إنّ حدّة شجاعتهم وصلابة إقدامهم تفوق كلّ خيال”.
وفي الختام نتساءل ماذا كان مصير هؤلاء الأنذال الّذين حرّكتهم البغضاء والطّمع والتّعصب، وحاولوا أن يطفئوا النّور الّذي اشرق به حضرة الباب وأتباعه على وطنهم وبني جنسهم؟ نعم، نزلت مقامع القصاص الإلهيّ بسرعة وبلا رحمة ولا هوادة على رؤوسهم جميعًا. فلم تُبْقِ على الشّاه، رأس الدّولة، ولا على وزرائه ومستشاريه، ولا على رجال الدّين الّذين ارتبطت بهم حكومته ارتباطًا وثيقًا، ولا على ولاته ونوّابه، ولا على قوّاد جيشه الّذين اشتركوا، بدرجات متفاوتة ودوافع مختلفة منها العمد ومنها الخوف ومنها الغفلة، في إثارة تلك الفتن والمحن القاسية الّتي عاناها الدّين الجديد بلا ذنب ولا جريرة، وبدون وجه حقّ ولا استحقاق. فمحمّد شاه المتعصّب المتذبذب، الّذي رفض أن يحقّق رغبة حضرة الباب في الحضور إلى العاصمة لإقامة الدّليل على صدق دعواه، وأذعن لإلحاح وزيره الخبيث، تهالك وهو ما زال في ربيعه الأربعين، تحت وطاة طائفة من الأمراض والعلل هاجمته بعد أن تلقّى نكسة مفاجئة، وحكم عليه “بالنّار” الّتي أقسم صاحب “قيّوم الأسماء” أن تلتهمه “يوم القيامة” التهامًا. أمّا شيطانه الحاج ميرزا آقاسي المطلق السّلطان والقوّة من وراء العرش، والمحرّض الأوّل على الهجمات الّتي شنّت على حضرة الباب بما في ذلك اعتقاله في جبال آذربيجان، فقد عزل بعد مضي ما لا يزيد على سنة ونصف منذ أن ألقى بنفسه بين الشّاه وبين أسيره، وصودرت أمواله وأملاكه المشبوهة، وفضحه مليكه، واضطرّ إلى أن يحتمي بمقام شاه عبد العظيم خوفًا من غضب مواطنيه المتزايد، ثمّ نفي بعد ذلك إلى كربلاء نفيًا مزريًا، وسقط فريسة للفقر والمرض والنّدم الأكّال، وكان ذلك تحقيقًا مؤسفًا لما ورد في ذلك اللّوح الّذي فضحه فيه أسيره وتنبّأ له فيه بمصيره، وكشف عن خزيه وعاره. وأمّا أمير النّظام ميرزا تقي خان الوضيع الخسيس، الّذي تلوثّت أولى سنوات وزارته القصيرة العمر بالهجوم الوحشيّ على المدافعين عن قلعة طبرسي، وصادق على قتل شهداء طهران السّبعة وشجّع عليه، وشحن الهجوم على وحيد وزملائه، وعَجّل بفتنة زنجان العظيمة، والمسؤول الأوّل عن إصدار الحكم بقتل حضرة الباب، فقد جرّد من كلّ مزايا الجاه والاحترام الّتي تمتّع بها نتيجة لحسد مليكه الشّديد ومؤامرات البلاط النّاقمة، وقتل غيلة بأمر الشّاه فقطعت شرايينه في حمّام قصر “فين” قرب كاشان. ولقد روى النّبيل نقلاً عن حضرة بهاء الله أنّه قال: “لو عرف أمير النّظام مقامي الحقيقي لاعتقلني ولا ريب. وبالرّغم من أنّه بذل قصارى جهده ليكتشف حقيقة الوضع إلاّ أنّه فشل، وذلك لأنّ الله أراد أن يجهله”. وأمّا ميرزا آقا خان الّذي ضرب بسهم وافر من المآسي الّتي ارتكبت نتيجة لمحاولة اغتيال الشّاه فقد طرد وخلع من منصبه، وحدّدت إقامته ووضع تحت الرّقابة المشدّدة في يزد حيث قضى بقيّة أيّامه في خزي ويأس.
وأمّا حسين خان والي شيراز الملقّب ﺑ”السّكران” و”الطّاغية” وهو أوّل من أساء معاملة حضرة الباب وعنّفه على رؤوس الأشهاد، وأمر خادمه بأن يصفعه على وجهه بعنف، فإنّه لم يضطرّ إلى أن يتحمّل البلاء الفظيع الّذي نزل بغتةً به وبأهله وبمدينته وبإقليمه كلّه فحسب، بل واضطرّ فيما بعد إلى أن يشاهد بعينيه فشل كلّ مساعيه، وأن يقضي بقيّة أيّامه مغمورًا مجهولاً إلى أن احتواه قبره بعد أن هجره الصّديق والعدوّ على السّواء. وأمّا حاجب الدّولة الشّيطان الدّمويّ الّذي لم يدّخر وسعًا في قتل الكثير من البابيّين العزّل الأبرياء، فقد سقط بدوره فريسة لغضب اللّور([16]) العتاة الغلاظ، فسلبوه كلّ ممتلكاته وجزّوا لحيته وأرغموه على أكلها وأسرجوه وألجموه وركّبوه على مرأى ومسمع من النّاس، ثم هتكوا عرض نسائه وأولاده تحت سمعه وبصره. وأمّا سعيد العلماء مجتهد بارفروش المتعب الغليظ القلب الصّفيق، الّذي أنزل بعداوته المتعطّشة الإهانات على رأس أبطال طبرسي، وسبّب لهم كثيرًا من المتاعب فقد سقط بعد هذه الشّناعات الّتي ارتكبها مباشرة فريسة لمرض وبيل غريب جعله يعطش عطشًا لا يمكن إطفاؤه، وأحدث فيه نوبات برد شديدة فلا تدفئه الفراء الّتي يتدثّر بها ولا النّيران المشتعلة في غرفته على الدّوام. وأمّا منزله الفاخر الرّياش فقد تهدّم وتخرّب وبلغت به الحال بعد موته إلى أن أصبح مزبلة لأهل المدينة. وقد أثّر منظره في أهالي مازندران تأثيرًا عميقًا حتّى أنّ أحدهم كان يدعو على خصمه بأن يصير منزله إلى ما صار إليه هذا المنزل اللّعين. أمّا محمود خان الكلانتر المنافق الطّموح الّذي عهد إليه بالطّاهرة قبل استشهادها فقد جلب على نفسه غضب مليكه بعد تسع سنوات، وسحب من قدمية بالحبال في الأسواق إلى خارج المدينة حيث شنق. وأمّا ميرزا حسن خان الّذي نفّذ حكم الإعدام في حضرة الباب بأمر أخيه أمير النّظام، فقد عوقب بعقوبة فظيعة أفضت إلى موته قبل انقضاء سنتين إلى ارتكابه ذلك الإثم الّذي لا يغتفر. وأمّا شيخ الإسلام لمدينة تبريز ميرزا علي أصغر الوَقح الخسيس الطّاغية، الّذي جلد بيديه حضرة الباب إحدى عشرة جلدة بعد أن امتنع حرس حاكم المدينة عن ذلك، فقد أصيب بالشّلل في السّنة نفسها، وقاسى ألوان العذاب ومات بائسًا، ثم ألغي منصب شيخ الإسلام في تلك المدينة بعد موته. وأمّا أبو طالب خان المتغطرس الخائن الّذي أمر بنهب قرية تاكور وإحراقها، وتخريب منزل حضرة بهاء الله دون أن يتوخّى الاعتدال كما نصحه ميرزا آقا خان رئيس الوزراء فقد أصابه الطّاعون بعد سنة، وهلك بائسًا يتحاشاه حتّى أقرب المقرّبين. وأمّا مهر علي خان شجاع المُلك الّذي اضطهد بقايا البابيّين في نيريز بوحشيّة بعد محاولة اغتيال الشّاه فقد مرض وأصابه البكم -حسب شهادة حفيده- ولم يبرأ منه حتّى مماته. وأمّا شريكه ميرزا نعيم فقد لطّخه العار، وغرّم مرّتين غرامات فادحة، وعزل من منصبه وتعرّض لعذاب مهين. وأمّا الفرقة الّتي تجاهلت المعجزة الّتي أنذرت سام خان ورجاله بأن ينسحبوا ولا يعاودوا إعدام حضرة الباب، وتطوّعت لتحلّ محلّها ومزّقت جسده برصاصها، فقد فقدت في السّنة نفسها ما لا يقلّ عن مائتين وخمسين رجلاً من ضبّاطها ورجالها في زلزال مروّع حدث بين أردبيل وتبريز، كما أعدم الخمسمائة الباقون في تبريز بعد سنتين رميًا بالرّصاص جزاء عصيانهم. فذكر النّاس فعلتهم الشّنعاء وهم يشاهدون أجسادهم المعروضة المشوّهة، وبالغوا في اللّعن والطّعن وإظهار التّعجّب حتّى اضطرّ أكابر المجتهدين إلى أن يعاقبوا النّاس ليسكتوهم. وأمّا قائد الفرقة آقا جان بيك فقد مات بعد ستّ سنوات من استشهاد حضرة الباب أثناء قصف البحريّة البريطانيّة للمحمّرة.
ولم يكن قصاص الله الصّارم ليقتصر على كلّ من لعبوا دورًا كبيرًا أو صغيرًا في الجرائم الّتي ارتكبت ضدّ حضرة الباب وأتباعه، بل إنّه لم يقلّ صرامة ولا شدّة وهو ينزل على جمهرة النّاس الّذين كانوا أشدّ تعصّبًا من اليهود على أيّام السّيّد المسيح، النّاس المشهورين بجهلهم المطبق وتعصّبهم الوحشيّ وضلالهم وقسوتهم البالغة، الأخسّاء المرتزقة الأنانيّين الجبناء، وأفضل ما أستطيع أن أفعله في هذا المقام هو أن أورد ما كتبه حضرة الباب نفسه في كتابه، الدّلائل السّبعة، أثناء الأيّام الأخيرة من عهده قال: “*تذكّروا أيّام الدّعوة الأولى، ما اكثر من مات بالكوليرا! كان ذلك من عجائب الظّهور حقًّا، ومع ذلك لم يفطن إلى ذلك أحد! نزل البلاء بشيعة الإسلام أربعة أعوام دون أن يدرك دلالته أحد!” وكتب النّبيل في تاريخه الخالد يقول: “أمّا جمهرة النّاس من شعبها (إيران) أولئك الّذين شاهدوا في غير اكتراث تلك المأساة تمثل أمام أعينهم دون أن يرفع أحد منهم إصبع احتجاج واحدة، فقد سقطوا بدورهم فريسة لبلاء عجزت عن صدّه موارد الدّولة وجهود رجالها. منذ ذلك اليوم الّذي امتدّت فيه يد المجرم الأثيم إلى حضرة الباب… أخذت الرّزايا والبلايا المتوالية تزهق أرواح هذا الشّعب الجاحد وتفضي به إلى شفا الإفلاس العام، واكتسحته أوبئة مجهولة لم ترد لها سوى إشارات عابرة في بطون الكتب المهجورة الّتي لم يكترث بقراءتها سوى القليل، اكتسحته اكتساحًا لا يبقي ولا يذر. فأنزلت الخراب أينما انتشرت وأهلكت الحرث والنّسل أينما اتّجهت وعانى من وطأتها الرّفيع والوضيع والأمير والفقير، وأطبقت بقبضتها على الأهلين وأبت أن ترخيها، ومضت هذه البلايا تجتاح البلاد كما اجتاحت الحمّى إقليم جيلان. وبالرّغم من جسامة هذه الكوارث فإنّ غضب الله المنتقم لم يقف عند حدّ ما أصيب به هذا الشّعب الضّالّ عديم الإيمان، بل لقد عمّ كلّ نفس تتنفّس على هذه الأرض الموبوءة وترك أثره على حياة النّبات والحيوان على حدّ سواء، وجَعَل النّاس يحسّون بجسامة مصابهم وفداحة خطبهم. وأقبلت المجاعة فأضافت أهوالها إلى الرّزايا الثّقيلة الّتي يئنّ النّاس تحت وطأتها، وفشا بينهم شبح الموت جوعًا، وأفزعتهم رؤيا الموت البطيء المؤلم… وتلهّف الشّعب والحكومة على الخلاص ولا خلاص. فشربوا كأس الويلات حتّى ثمالتها غير متفطّنين إلى تلك اليد الّتي رفعتها إلى شفاههم، ولا إلى ذلك الشّخص الشّخيص الّذي من أجله قاسوا ما قاسوا”.
الفترة الثّانية
ولاية حضرة بهاء الله
1853 – 1892م
([1]) الكلانتر: رئيس المخفر. الدّاروغة: رئيس الحرس. الكدخداوات: المخاتير.
([4]) الكرور يساوي خمسمائة ألف.
إنّ سلسة الأحداث العصيبة الّتي توالت بسرعة خاطفة بعد محاولة اغتيال ناصر الدّين شاه المشؤومة تشير إلى انتهاء الدّورة البابيّة كما لاحظنا من قبل؛ وهي تشير، في الوقت نفسه، إلى ختام الفصل البدائيّ الدّمويّ المظلم من تاريخ القرن البهائيّ الأوّل. ولقد تمخّضت هذه الأحداث الرّهيبة عن عهد يتميّز بالشّدة المتناهية تعثّرت فيه مصائر دين حضرة الباب وهبطت إلى أسفل الدّركات. والواقع أنّ المحن والفتن والنّكسات والهزائم والسّعايات والوشايات والمجازر والمذابح أخذت كلّها تعمل منذ البداية، وبدرجات متزايدة، على استئصال شأفة أتباعه من كلّ الطّبقات، وتعريض إخلاصهم وولائهم الرّاسخ للامتحان والافتتان. ولقد نجحت في كلّ شيء إلاّ في هدم الأسس الّتي قام عليها الدّين البابيّ.
فما كاد هذا الدّين يولد حتّى قاومته الحكومة ورجال الدّين والشّعب، وقاموا ضدّه قومة رجل واحد، وتحالفوا فيما بينهم على مناصبته العداء إلى الأبد. أمّا محمّد شاه الضّعيف العقل والإرادة فقد رفض، تحت الضّغط والإكراه، ما عرضه عليه حضرة الباب، وأبى أن يلقاه وجهًا لوجه، أو أن يسمح له بالحضور إلى العاصمة. وأمّا ناصر الدّين شاه الشّاب الأرعن المستبدّ الباطش فقد أظهر، بصفته صاحب التّاج والصّولجان، عداءً شديدًا مطّردًا، تأجّجت نيرانه، واستفحل خطبه بكلّ وحشيّته الضّارية وظلمته الجهنّميّة. أمّا “المعتمد ” القويّ الرّزين الوحيد الّذي كان في مقدوره أن يزوّد حضرة الباب بما كان يحتاج إليه أشدّ الاحتياج من معونة وحماية، فقد اختطفته منه يد المنون على حين غرّة. أمّا شريف مكّة الّذي عرف الظّهور الجديد من القدّوس فقد أعار الدّعوة الإلهيّة أذنًا صمّاء، واستقبل الرّسول بفتور. أمّا الاجتماع الّذي كان مقرّرًا أن ينعقد في كربلاء المقدّسة بعد عودة حضرة الباب من الحجاز فقد صرف عنه النّظر نهائيًّا، الأمر الّذي خيّب آمال أصحاب حضرة الباب، ذلك لأنّهم كانوا ينتظرون عودته على أحرّ من الجمر حتّى ينعقد الاجتماع. أمّا معظم حروف الحيّ الثّمانية عشر، وهم القلاع الرّئيسة الّتي عزّزت قوّة الدّين الجديد، و”المرايا” و”الهداة” و”الشّهود” الممثّلون للدّين البابيّ، فقد خرّوا صرعى تحت السّيف، وأخرجوا من ديارهم، وضربوا ضربة ألزمتهم الصّمت المطبق. وبهمّة الأعداء وحماستهم الّتي لا تفتر لم يتحقّق معظم البرنامج الّذي أتيح للمقرّبين منهم الوقوف على مكنوناته، وفشلت الجهود الّتي بذلها اثنان من هؤلاء الأصحاب لإقامة الدّين في تركيّا فشلاً ذريعًا كان مقدّرًا منذ البداية. وأمّا العواصف الّتي اكتسحت مازندران ونيريز وزنجان فقد أتت على عدد هائل من أقدر الأصحاب وأشجعهم، وقضت على الآمال المعقودة على القدّوس المبجّل، والمُلاّ حسين قلب الأسد، ووحيد المتبحّر، والحجّة الغلاّب. وأمّا الهجمات الفظيعة المتّصلة بموت شهداء طهران السّبعة فعليها تقع مسؤوليّة القضاء على رمز حيّ آخر من رموز الدّين كان بإمكانه، لو كتبت له الحياة، أن يفعل الشّيء الكثير من أجل حماية الدّين المكافح ونشره، إن لم يكن بفضل مزاياه الذّاتيّة فبفضل ما له من صلة القربى الوثيقة بحضرة الباب.
كما أنّ العاصفة الّتي هبّت بعد ذلك بقوّة فريدة على الجامعة الجاثية على ركبتيها من شدّة القهر حرمتها من أعظم أبطالها أي “الطّاهرة” الفذّة، وهي في أوج انتصارها. كما اختطفت السّيّد حسين كاتب الوحي الأمين والمخزن المختار لرغبات حضرة الباب الأخيرة. وأطاحت بالمُلاّ عبد الكريم القزويني، أحد القلائل الّذين يستطيعون أن يدّعوا بحقّ التّبحّر في أصول الدّين، وساقت حضرة بهاء الله إلى سجن مظلم تحت الأرض، وكان حضرته الوحيد الّذي بقي على قيد الحياة من عمالقة الدّورة الجديدة. أمّا حضرة الباب، الينبوع الّذي فاضت منه قوى الحياة إلى الظّهور الجديد، فقد استسلم لرصاص الرّماة في ظروف محزنة سبقت هبوب هذا الإعصار، وخلّف على رأس الجامعة المحطّمة رئيسًا صوريًا وَجِلاً أشدّ ما يكون الوجل، ساذجًا، يرضخ لأقلّ تأثير، عاطلاً من كلّ ميزة ظاهرة، وبعد أن أفلت الزّمام من يد حضرة بهاء الله القائد الحقيقيّ أخذ يحتمي بتلال موطنه مازندران من هجمات العدوّ المميت، وارتدى زيّ الدّراويش. وأمّا آثار مؤسّس الدّين الضّخمة، وكانت كلّها مخطوطة متفرّقة مبعثرة مختلطة رديئة الاستنساخ معرّضة للضّياع، فقد أتلف بعضها عن عمد نظرًا لشدّة هياج هذه الفترة، وصودر بعضها، وأرسل بعضها الآخر بسرعة إلى أماكن أمينة وفيما وراء حدود البلاد الّتي نزلت فيها. وأبرز الأعداء الأقوياء رؤوسهم الآن، وفي مقدّمتهم الحاج ميرزا كريم خان الّذي كتب رسالة يهاجم فيها الدّين الجديد وعقائده بدناءة وذلك بناءً على أمر خاصّ من الشّاه، وبعد أن جرّأتهم النّكسات الّتي مني بها الدّين أخذوا يكيلون له السّباب واللّعنات، ويهيلون عليه الإهانات والسّعايات. أضف إلى ذلك أنّ بعض البابيّين اضطرّوا، تحت الضّغط والقهر، إلى الارتداد بينما تمادى آخرون في الارتداد إلى أن التّحقوا بصفوف الأعداء. وإلى مجموع هذه البلايا والرّزايا أضيف افتراء شنيع نشأ عن فعلة حمقاء ارتكبها حفنة من المتحمّسين المتهوّرين، فلطّخوا بها دينًا بريئًا منها كلّ البراءة بعار بدا أنّه لن يمحى أبد الدّهر، وأنذر باستئصال شأفته واقتلاعه من جذوره.
ومع كلّ ذلك فإنّ النّيران الّتي أشعلتها يد الله العليّ القدير لم تخمد، وإن أضعفتها سيول المحن والشّدائد الّتي انصبّت عليها. نعم، إنّ اللّهيب الّذي توهّج تسعة أعوام بكلّ هذا التّركيز العظيم قد انطفأ مؤقّتًا، إلاّ أنّ الجمرات الّتي خلّفتها النّيران العظيمة ظلّت حيّة متوقّدة لتندلع ألسنتها مرّة أخرى بعد أمدٍ ليس بالبعيد على نسائم ظهور أعظم، ولتسطع بضوءٍ لا يبدّد الظّلام فحسب بل ويسكب سناه على أقاصي نصفيّ الكرة الشّرقيّ والغربيّ معًا. وكما أتاح الاعتقال والانعزال الاضطراريّ لحضرة الباب فرصة صياغة شريعته والكشف عن مكنونات دعوته وإشهار منزلته على رؤوس الأشهاد، وابرام عهد ولايته، وتقرير أحكام دورته وإجرائها على أيدي أصحابه في مؤتمر بدشت. أثبتت هذه الأزمة الفريدة في شدّتها، والّتي انتهت باستشهاد حضرة الباب وسجن حضرة بهاء الله، أنّها مقدّمة لإحياء يفيض عن قوّة دافعة لظهور أقوى وأعظم يخلّد شهرة رسالة مظهر شيراز الإلهيّ الأصليّة، ويركّزها على دعائم أقوى وأمتن في أنحاء بعيدة وراء حدود وطنه.
في تلك الآونة الّتي بدا فيها أمر حضرة الباب على شفا الخمود والانطفاء، وضاعت فيها، حسب الظّاهر، كلّ الآمال والمطامع الّتي دفعته، وخيّل فيها أن التّضحيات الرّائعة الّتي بذلها العديد من محبّيه قد ذهبت أدراج الرّياح، في تلك الآونة أوشك الوعد الإلهيّ الكامن في ذلك الأمر أن يتحقّق فجأة، وكاد كماله النّهائيّ أن يتجلّى على نحو غريب. نعم، لقد بلغت الدّورة البابيّة نهايتها (في كمال نضجها وفي أجلها المسمّى) وهي الآن تؤتي أكلها المقدّرة، وتكشف عن غايتها القصوى، ألا وهي ميلاد رسالة حضرة بهاء الله. نعم، في تلك السّاعة العصيبة الحالكة الظّلام أوشك النّور الجديد أن ينبثق بصورة مجيدة، في أفق إيران المظلم، وكادت أعظم مرحلة إن لم تكن أروع مرحلة من عصر البطولة المجيد أن تتفتّح نتيجة لما كان في واقع الأمر عمليّة نضج وتطوّر.
في غضون تسع سنوات، كما تنبّأ حضرة الباب تمامًا، كان جنين الدّين الّذي أسّسه يتطوّر بسرعة غريبة قاهرة إلى أن ولد أمر الله الموعود في الميقات المعلوم بين جدران سجن سياه چال بطهران ووسط آلامه وتباريحه. وبعد عدّة سنوات كتب حضرة بهاء الله مفنّدًا مزاعم المنكرين لصحّة رسالته بحجّة أنّها تلت رسالة حضرة الباب بسرعة خاطفة قال: “*لاحظوا كيف في سنة التّسع اكتمل عدد النّفوس المقدّسة المطهرّة الزّكيّة في سّر السّرّ عندما ظهر هذا الظّهور الأبدع الأقدس الرّحمانيّ” وقال مرّة أخرى: “**إنّ انقضاء هذه الفاصلة القصيرة بين هذه الدّورة القاهرة الباهرة وبين ظهوري السّابق لهو سرّ بديع وغيب منيع. ولقد كان ميقاتها مضروبًا من قبل”.
إلى تعاقب هاتين الدّورتين بسرعة أشار يوحنا اللاّهوتيّ بوضوح حين قال: “الويل الثّاني مضى، وهو ذا الويل الثّالث يأتي سريعًا” وفسّر حضرة عبد البهاء هذا “الويل الثّالث” بأنّه “*يوم ظهور الجمال المبارك، وهو يوم الله، وهو قريب من يوم ظهور حضرة الأعلى” وقال مرّة أخرى: “*إنّ جميع ملل العالم تنتظر ظهورين يأتيان في وقت واحد، والكلّ موعودون بذلك”. وفي موضع آخر قال: “*والقصد أنّ الكلّ موعودون بظهورين يجيئان متتاليين” وأمّا الشّيخ أحمد الأحسائيّ، نيّر الهدى الإلهيّ، فقد فطن قبل سنة السّتّين إلى اقتراب مجد حضرة بهاء الله، ونبّه على “الظّهورين التّوأمين اللّذين يتعاقبان بسرعة”. وفي رسالة كتبها بخطّ يده إلى السّيّد كاظم [الرّشتيّ] وردت تلك العبارة العظيمة الدّلالة والّتي تشير إلى اقتراب ساعة ذلك الظّهور الأعظم: “لا بدّ لهذا الأمر من مقرّ ولكلّ نبإٍ مستقرّ ولا يحسن الجواب بالتّعيين فستعلمنّ نبأه بعد حين(68)”.
أمّا الظّروف الّتي تلقّى فيها حامل الظّهور الجديد، الّذي جاء بعد ظهور حضرة الباب بهذه السّرعة، أولى بشارات رسالته السّامية فتعيد إلى الذّاكرة، إن لم تفُق في شدّة وقعها، تجربة حضرة موسى الّتي ترتجف لها الأرواح حين آنس في برّيّة سيناء نارًا، وتجربة حضرة زرادشت حين رأى سبع رؤًى متوالية، وتجربة السّيّد المسيح حين خرج من مياه الأردن فرأى السّموات تتفتّح ليهبط منها روح القدس كهيئة الحمامة تقع عليه، وتجربة حضرة محمّد حين أمره صوت جبريل أن “اقرأ باسم ربّك” وهو يتعبّد في غار حراء بظاهر مكّة المقدّسة، وتجربة حضرة الباب الّذي رأى في منامه كأنّه يقترب من رأس الإمام الحسين ويرتشف الدّم المسفوح من عنقه المبتور فإذا به ينهض ليجد نفسه المخزن المختار لألطاف الله العليّ القدير.
وإنه ليحقّ لنا أن نتساءل في هذا الموضع عن طبيعة ذلك الظّهور ومضامينه، الّذي جاء بمثل هذه السّرعة بعد إعلان حضرة الباب دعوته، فعطّل دورته بضربة واحدة واحتفظ مع ذلك بسلطان مؤسّسها بكلّ قوّة وحماسة. كما يحقّ لنا أن نقف لنتأمّل دعاوي من كان واحدًا من أصحاب حضرة الباب ثم اعتبر نفسه، في هذه المرحلة المبكّرة، قادرًا على أن ينسخ شريعة مولاه المحبوب. ويحقّ لنا أيضًا أن نطيل التّفكير في الصّلة بين النّظم الدّينيّة الّتي قامت قبله وبين ظهوره، ذلك الظّهور الّذي فاض عن روحه المتمخّضة في تلك السّاعة الشّديدة الخطر، فخرق حجاب الكآبة الّتي خيّمت على تلك البؤرة الجهنّمية الوبيلة، واندفع نوره من وراء جدرانها إلى أقصى الأرض، وصبّت إمكانيّاته الّتي تفوق الحصر والعدّ في كيان الجنس البشريّ كلّه، فيوجّه الآن مسير المجتمع البشريّ الحاضر تحت أسماعنا وأبصارنا.
إنّ الّذي تلقّى العبء الفادح لهذا الظّهور الفائق المجد، في مثل هذه الظّروف المؤثّرة، لم يكن سوى هذا الّذي سوف تفتخر به الأجيال القادمة وتمجّده، بل ويؤمن به اليوم أتباع يفوقون العدّ والحصر، باعتباره قاضي الجنس البشريّ ومشرّعه ومخلّصه، ومنظّم الكوكب كلّه، وموحّد بني الإنسان كلّهم، وفاتح العصر الألفيّ المرتجى، ومنشئ “الكور العالميّ”، ومؤسّس السّلام الأعظم، ومنبع العدل الأعظم، ومعلن بلوغ النّوع الإنسانيّ سنّ الرّشد ومبدع النّظام العالميّ الجديد، وملهم الحضارة العالميّة وخالقها.
لبني إسرائيل لم يكن بأكثر ولا بأقلّ من تجسيد “الأب الأبديّ” و”ربّ الجنود” الّذي “أتى من ربوات القدس”، وللعالم المسيحيّ عودة السّيّد المسيح “في مجد أبيه” ولشيعة الإسلام رجعة الإمام الحسين، ولأهل السّنة نزول “الرّوح” [عيسى المسيح]، وللزّرادشتيّين شاه بهرام الموعود، وللهندوس تجسيد كريشنا، وللبوذيّين بوذا الخامس.
أمّا اسمه فقد جمع بين اسم الإمام الحسين، أعظم خلفاء محمّد رسول الله وألمع “نجم” في “الإكليل” المذكور في رؤيا يوحنّا، واسم الإمام عليّ أمير المؤمنين وثاني الشّاهدين اللّذين مجّدهما يوحنّا في رؤياه. أمّا اسمه الرّسميّ فهو بهاء الله، وهو اسم نصّ عليه البيان الفارسيّ بصفة خاصّة، ويعني مجد الله ونوره وسناءه. أمّا ألقابه فهي “ملك الملوك” و “ربّ الأرباب” و”الاسم الأعظم” و”جمال القدم” و”القلم الأعلى” و”الاسم المكنون” و”الكنز المخزون” و”من يظهره الله” و”نور الأنوار” و”الأفق الأعلى” و”البحر الأعظم” و”سماء الرّفعة” و”الأصل القديم” و”القيّوم” و”نيّر الآفاق” و”النّبأ العظيم” و”مكلّم الطّور” و”ممتحن الحقائق” و”مظلوم العالم” و”مقصود الأمم” و”ربّ الميثاق” و”سدرة المنتهى” وهو ينحدر من صلب إبراهيم (أبي المؤمنين) عن زوجته قتّورة، كما ينتمي إلى زرادشت ويزدجرد آخر ملوك بني ساسان. أضف إلى ذلك أنّه من سلالة يسّي وينتسب إلى أسرة من أعرق أسر مازندران وأشهرها عن طريق والده ميرزا عباس المعروف بميرزا بزرگ وهو رجل نبيل كان على اتّصال وثيق بالدّوائر الوزاريّة في بلاط فتح علي شاه.
إليه أشار إشعياء أعظم أنبياء بني إسرائيل، بأنّه “مجد الرّبّ” و “الأب الأبديّ” و”رئيس السّلام” و”العجيب” و”المشير” و”القضيب الخارج من جذع يسّي” و”الغصن النّابت من أصوله” الّذي “يجلس على كرسّي داود” و”بقوّة يأتي وذراعه تحكم له” و”يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض” و”يضرب الأرض بقضيب فمه ويميت المنافق بنفخة شفتيه” و”يجمع منفّيي إسرائيل ويضمّ مشتّتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض”. وبه تغنّى داود في مزاميره واصفًا إيّاه ﺑ”ربّ الجنود” و”ملك المجد”، وإليه أشار حجي ﺑ”مشتهى كلّ الأمم”، وزكريّا ﺑ”الغصن النّابت من أصوله”، وهو الّذي “يبني هيكل الرّب” ومجّده زكريّا بقوله: “ويكون الرّبّ ملكًا على كلّ الأرض”. وإلى يومه أشار يوئيل وصفنيا كلاهما ﺑ”يوم يهوه” ووصف الأخير يومه بأنّه “يومُ سُخط، يوم ضيق وشدّة، يوم خراب ودمار، يوم ظلام وقتام، يوم سحاب وضباب، يوم بوق وهتاف على المدن المحصّنة وعلى الشّرف الرّفيعة”. ومجّد حزقيال ودانيال يومه بأنّه “يوم الرّبّ”، وملاخي بأنّه “يوم الرّبّ، اليوم العظيم والمخُوف” حينما “تشرق شمس البرّ والشّفاء في أجنحتها”، وحكم دانيال لقدومه بأنّه نهاية “رجسة الخراب”.
وإلى دورته أشارت كلّ الكتب الزّرادشتيّة المقدّسة ووصفتها بأنّها الدّورة الّتي تثبت فيها الشّمس شهرًا كاملاً. وإليه تنصرف إشارة زرادشت في حديثه المأثور حين قال إنّه لا بدّ أن تنقضي ثلاثة آلاف سنه من الصّراع والنّضال قبل أن يأتي شاه بهرام مخلّص العالم، وينتصر على أهرمن، ويفتتح عصر البركة والسّلام.
وهو وحده الّذي عنته النّبوءة إلى جوتاما بوذا( ) حين قال: “بوذا يدعى ميتريا، بوذا الأخوّة العالميّة” يأتي في تمام الوقت ويكشف عن “مجده الفائق بلا حدود”. وإليه أشار بهاجافاد جيتا( ) كتاب الهندوس المقدّس، بأنّه “الرّوح الأعظم” و”الظّهور العاشر” و”المظهر الطّاهر لكريشنا”.
وإليه أشار السّيد المسيح ﺑ”رئيس هذا العالم” “المعزّي” الّذي “يبكت العالم على خطيّة وعلى برّ وعلى دينونة” و”روح الحقّ يرشدكم إلى جميع الحقّ”. والّذي “لا يتكلّم من نفسه بل كلّ ما يسمع يتكلّم به ويخبركم بأمور آتية” و”صاحب الكرم” و”ابن الإنسان يأتي في مجد أبيه” و”آتيًا على سحاب السّماء بقوّة ومجد كبير” من حوله “جميع الملائكة القدّيسين” وقدّام عرشه تجتمع “جميع الشّعوب” وإليه أشار صاحب الرّؤيا ﺑ”مجد الله” و”الألف والياء” و”البداية والنّهاية”، “الأوّل والآخر”، وجعل ظهوره “الويل الثّالث” ومجّد شربعته ووصفها بأنّها “سماء جديدة وأرض جديدة”، “مسكن الله مع النّاس”، “المدينة المقدّسة”، “أورشليم الجديدة نازلة من السّماء من عند الله مهيّأة كالعروس مزيّنة لرجلها”. وإلى يومه أشار السّيّد المسيح نفسه بأنّه “التّجديد، متى يجلس ابن الإنسان على كرسيّ مجده” وإلى ساعة مجيئه أشار بولس الرّسول بأنّها “البوق الأخير” و”بوق الله” بينما أشار إليها بطرس الرّسول ﺑ”يوم الرّبّ الّذي به تنحلّ السّموات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب”. ووصف يومه ﺑ”أوقات الفرج” و”أزمنة ردّ كلّ شيء الّتي تكلّم عنها الله بفم جميع أنبيائه المقّدسين منذ الدّهر”. وإليه أشار القرآن الكريم ﺑ”النّبأ العظيم” وأعلن أنّ يومه هو يوم “يأتيهم الله في ظلل من الغمام” يوم “جاء ربّك والملك صفًّا صفًّا” و”يوم يقوم الرّوح والملائكة صفًّا” وفي سورة وصفت بأنّها “قلب الفرقان”، أخبر أنّ مجيئه هو مجيء الرّسول “الثّالث” الّذي يبعث لتعزيز الرّسولين اللّذين سبقاه. وعلى يومه أثنى ثناءً عاطرًا ووصفه ﺑ”اليوم العظيم”و”اليوم الآخر” و”يوم الله” و”يوم الدّين” و”يوم الحساب” و”يوم التّغابن” و”يوم الفصل” و”يوم الحسرة” و”يوم التّلاق” “يوم يقضي الأمر” ويوم”نفخ فيه (أي في الصّور) أخرى فإذا هم قيام ينظرون”، و”يوم يقوم النّاس لربّ العالمين” ويوم “عنت الوجوه للحيّ القيّوم” ويوم “ترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمّر مرّ السّحاب” ويوم “اقترب للنّاس حسابهم” ويوم “الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين” ويوم “صعق من في السّموات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله” ويوم “تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع كلّ ذات حمل حملها” ويوم “أشرقت الأرض بنور ربّها ووضع الكتاب، وجيء بالنّبيّين والشّهداء وقضى بينهم بالحقّ وهم لا يظلمون”.
وشبّه رسول الله كماله ومجده، كما يشهد حضرة بهاء الله نفسه “بالبدر ليلة أربعة عشرة”. وحدّد الإمام عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين مقامه، حسب الشّهادة السّابقة، بأنّه “مكلّم موسى من الشّجرة على الطّور”. ولطبيعة رسالته الفائقة شهد الإمام الحسين، كما صرّح حضرة بهاء الله أيضًا، بأنّها “ظهور من أرسل رسول الله”.
وعنه كتب مبشّر الدّورة البابيّة الشّيخ أحمد الأحسائي فتنبّأ بالأحداث الّتي سوف تقع “بين سنة السّتين [1260هـ] والسّابعة والسّتين [1267هـ]”. وأكّد حتميّة ظهوره حين كتب ما سبق أن ذكرناه “لا بدّ لهذا الأمر من مقرّ ولكلّ نبإٍ مستقرّ لا يحسن الجواب بالتّعيين وستعلمنّ نبأه بعد حين”.
كما كتب السّيّد كاظم الرّشتي، تلميذ الشّيخ أحمد وخليفته: “لا بدّ أن يُقتل القائم. وحين يُقتل يبلغ العالم سنّ الثّامنة عشرة” وفي شرحه للقصيدة اللاميّة أشارة لاسم “البهاء”. وفضلاً عن ذلك فقد ألقى لتلاميذه في أخريات أيّامه بيانًا عميق المغزى قال فيه: “الحقّ أقول لكم بعد القائم يأتي القيّوم، وحين يأفل نجم الأوّل تشرق شمس جمال الحسين وتضيء الأرض كلّها، هنالك تتجلّى الأسرار وتنكشف المكنونات الّتي تحدّث عنها الشّيخ أحمد… إنّ إدراك يوم الأيّام هذا لهو إدراك المجد المتوّج للأجيال الماضية، والعمل الطّيّب في ذلك العصر يعدل عبادة القرون والدّهور”.
أمّا حضرة الباب فقد مجّده تمجيدًا لا يقلّ دلالة فوصفه “بساذج الوجود” و”بقيّة الله” و”السّيّد الأكبر” و”النّور المهيمن الحمراء” و”مالك الغيب والشّهود” و”**غاية الدّورات السّابقة، بما في ذلك دورة القائم”. وكان يميّزه رسميًّا بأنّه “من يظهره الله” و”الأفق الأبهى” حيث عاش هو نفسه. ونصّ على لقبه نصًّا خاصًّا ومجّد “نظمه” في أشهر كتبه وهو البيان الفارسيّ، وصرّح باسمه حين أشار إليه بقوله: “**ابن عليّ مرشد صدق للبشر” وكثيرًا ما حدّد موعد ظهوره شفاهًا وكتابة بصورة لا يرقى إليها الشّكّ، وحذّر أتباعه من الاحتجاب عنه و”بالواحد البيانيّة فإنّ ذلك الواحد خلق عنده”. وفضلاً عن ذلك أعلن أنّه هو نفسه “أوّل العابدين وأوّل السّاجدين” وأنّه خشع له “**من قبل أن تخلق كينونات الخلق” وأنه “لايشار بإشارتي ولا بما ذكر في البيان” وأنّ “*نطفة ظهوره في عامها الأوّل أقوى من كلّ البيان”. وبوضوح أكّد أنّه “قد أخذ عهد ولايته عن كلّ شيء قبل أن يأخد عهد ولايته هو”. واعترف بلا تحفّظ أنّه ما هو إلا “حرف من ذلك الكتاب المبين وقطرة من ذلك البحر العظيم” وأنّ ظهوره “*ورقة من أوراق أشجار جنّته”، “وأنّ كلّ ما رفع البيان” لم يكن إلاّ خاتمًا في إصبعه وأنّه هو نفسه “خاتم في يديّ من يظهره الله… يقلّب كيف يشاء لما يشاء بما يشاء”. ويخاطبه بصراحة بأنّه “قد فديت بكلّي لك ورضيت السّبّ في سبيلك وما تمنّيت إلاّ القتل في محبّتك”. وأخيرًا تنبّأ بكلّ وضوح بأنّ “*البيان في مقام النّطفة اليوم، وآخر كمال البيان أوّل ظهور من يظهره الله”. “من أوّل ذلك الأمر إلى قبل أن يكمل تسع كينونات الخلق لن يظهر لأنّ كلّ ما قد رأيت من النّطفة إلى ما كسوناه لحمًا. ثم اصبر حتّى تشهد خلقًا آخر. هنالك قل فتبارك الله أحسن الخالقين”.
وهذه شهادة حضرة بهاء الله المؤيّدة والدّالّة على طبيعة ظهوره العظيم عظمة لا تحيط بها الأفهام، الفائقة تفوّقًا لا ندركه العقول قال: “ظهر من طاف حوله نقطة البيان [حضرة الباب]” وأكّد ذلك مرّة أخرى فقال: “*لو أصبح اليوم كلّ من السّموات والأرض في عداد الحروف البيانيّة الّذين هم أعظم وأكبر من الحروف الفرقانيّة عشرة آلاف مرتبة وتوقّفوا عن قبول الأمر أقلّ من آن لعدّوا عند الله من المعرضين، وأدخلوا في عداد حروف النّفي”. وأشار إلى نفسه في كتاب الإيقان: “*إنّ سلطان الهويّة ذلك قادر على أن يقبض روح كلّ البيان وخلقه بحرف من بدائع كلماته، وأن يهب لهم جميعًا بحرف واحد حياة بديعة خالدة، وأن يبعثهم من قبور النّفس والهوى ويحشرهم”. وفضلاً عن ذلك وصف يومه بأنّه “سلطان الأيّام” و”يوم الله” الّذي هو “بمثابة النّور لظلمة الأيّام” و”النّهار الّذي لا يعقبه ليل” “الرّبيع الّذي لن يعقبه خريف” وهو “بمثابة البصر للقرون والأعصار”. وهو اليوم الّذي به “بشّر كلّ نبيّ وناح كلّ رسول حبًّا” لظهوره و”**الّذي تمنّته كلّ القبائل والأمم” يوم “امتحن الله كلّ النّبيّين والمرسلين ثمّ الّذين هم كانوا خلف سرادق العصمة وفسطاط العظمة وخباء العزّة”. وبالإضافة إلى ذلك قال: “**قد انتهت الظّهورات إلى هذا الظّهور الأعظم، به بلغت غايتها ومنتهاها” وقال مرّة أخرى: “*لم يقف أحد من المظاهر السّابقين على كيفيّة هذا الظّهور بتمامه إلاّ على قدر مقدور”. وأشار إلى مقامه بقوله: “لولاه لما أرسل رسول وما نزّل كتاب”.
وأخيرًا، وليس آخرًا، إليك ما قاله حضرة عبد البهاء في طبيعة ظهور والده الفائق: “*تمضي القرون وتنتهي الدّهور وتنقضي آلاف الأعصار حتّى تطلع شمس الحقيقة في برج الأسد وتسطع من دارة الحمل”. وقال مرّة أخرى: “*إنّ الأولياء السّابقين لينصعقون حين يتصّورون دور الجمال المبارك، ويتمنّون دقيقة واحدة منه”. وبعبارة عميقة الدّلالة قال: “أمّا المظاهر المقدّسة الّتي تأتي من بعد في ظلل من الغمام من حيث الاستفاضة هم في ظلّ جمال القدم، ومن حيث الإفاضة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد”. وأخيرًا إليك هذا الشّرح الّذي يبيّن بوضوح العلاقة بين ظهور حضرة بهاء الله، وظهور حضرة الباب “**كان ظهور النّقطة الأولى سطوع الشّمس من برج الحمل وأمّا الآن فقد طلعت ولاحت شمس الحقيقة، الجمال المبارك، من برج الأسد وذلك يعني أنّ هذا الكور المبارك مزيّن بأنوار ساطعة من شمس الحقيقة في برج الأسد الّذي له أشدّ شعاع وحرارة وظهور”.
والواقع أنّ محاولة استقصاء كلّ ما ورد من الإشارات والبشارات بظهور حضرة بهاء الله أمر مستحيل. ولقد شهد قلم حضرة بهاء الله بذلك فقال: “*إنّ كلّ الكتب والصّحف المقدّسة قد تنبّأت مجيء هذا الظّهور الأعظم وأعلنت عنه على الملأ ولا يستطيع أحد أن يحصي تمامًا الآيات المدوّنة في كتب العصور السّابقة الّتي بشّرت بهذا الفضل الأعظم وهذه العناية الفائقة”.
وختامًا لهذا العرض لا بدّ لي أن أقرّر أنّ ظهور حضرة بهاء الله يعطّل كلّ الظّهورات السّابقة بلا قيد ولا شرط، ويؤمن بجميع الحقائق الخالدة الّتي تكتنزها إيمانًا لا مساومة فيه، وتعترف بسماويّة أصحابها وأصلهم الإلهيّ اعترافًا راسخًا ثابتًا، ويرعى قداسة كتبها المعتمدة، ويبرأ من كلّ نيّة في الحطّ من شأن مؤسّسيها أو تحقير المثل الرّوحية العليا الّتي لقّنوها، ويوضّح وظائف هذه الظّهورات ويربط بينها، ويؤكّد من جديد غرضها الأساسيّ المشترك الثّابت، ويوفّق بين مطالبها وعقائدها المتعارضة في الظّاهر، ويبادر فيعترف لها شاكرًا لإسهامها المتوالي في سبيل التّفتّح التّدريجيّ لظهور إلهيّ واحد. ولا يتردّد لحظة واحدة في الإقرار بأنّه هو نفسه ليس سوى حلقة أخرى في سلسلة الظّهورات الدّائمة التّقدّم. وهو يذيّل تعاليم هذه الظّهورات بالشّرائع والأحكام الّتي تتماشى مع الضّرورات الملحّة والقابليّة النّامية للمجتمع السّريع التّطوّر الدّائم التّغير. كما يعلن عن استعداده وقدرته على أن يصهر ويوحّد الفرق المتناحرة والطّوائف المتنافرة الّتي تفكّكت إليها هذه الظّهورات السّابقة ليخلق منها أخوّة عالمية عاملة بمقتضى نظام عالميّ شامل –وفي نطاق– يوحّد العالم ويفتديه.
هذا الظّهور الّذي هو وعد ومجد متوّج للعصور الماضية والقرون الخالية، وكمال لكلّ رسالات كور آدم الإلهيّ النّبويّ ومؤسّس دورة لا تقّل عن ألف سنة وفاتح لكور يمتدّ إلى ما لا يقل عن خمسة آلاف قرن، ومشير إلى انتهاء عهد النّبوّات والوعود وابتداء عهد تحقيق النّبوّات والوفاء بالوعود، العهد الّذي لا يفوقه عهد آخر في طول ولاية مؤسّسه ولا في خصوبة رسالته وبهائها، لم يولد كما لاحظنا من قبل في مكان آخر غير تلك الزّنزانة المظلمة والحفرة الكريهة الّتي كانت يومًا ما مخزنًا لمياه حمّام عام بطهران. كان حضرة بهاء الله مغمورًا في غياهبها الكئيبة يتنفّس هواءها المنتن ويخدّر جوّها الرّطب حواسّه وتقيّد السّلاسل قدميه، وتثقل الأغلال عنقه، ويحيط به المجرمون والقتلة والسّفاكون، ويرهقه إدراكه لشناعة الوصمة الّتي لطّخت صيت أمره المحبوب، وتؤلمه معرفته بالشّدائد القاسية والمحن الّتي داهمت أبطاله وأقطابه، والأخطار الجسيمة الّتي تواجه البقيّة الباقية من أتباعه. في تلك السّاعة العصيبة، وفي تلك الظّروف المخيفة هبط عليه “الرّوح الأعظم” كما يسمّيه. وهو الّذي رمز له في دورة زرادشت بالنّار المقدّسة، وفي دورة موسى بالشّجرة المشتعلة، وفي دورة عيسى بالحمامة، وفي دورة محمّد بجبريل، هبط الرّوح الأعظم عليه وتمثّل لروحه المرهق على هيئة “حوريّة”.
وفي مغرب حياته كتب يستعيد ذكرى بوادر هذا التّجلي الإلهيّ على روحه فقال: “*وفي ذات ليلة أصغيت إلى هذه الكلمة العليا في عالم الرّؤيا من جميع الجهات: إنّا ننصرك بك وبقلمك. لا تحزن عمّا ورد عليك ولا تخف إنّك من الآمنين. سوف يبعث الله كنوز الأرض، وهم رجال ينصرونك بك وباسمك الّذي به أحيا الله أفئدة العارفين”. وفي موضع آخر وصف بإيجاز تأثير القوّة المتدفّقة للنّداء الإلهيّ على كيانه كلّه، تجربة تذكّرنا بطيف الله الّذي خرَّ له موسى صعقًا، وصوت جبريل الّذي لاذ منه محمّد ببيته فَرِقًا وطلب إلى زوجته خديجة أن تدثّره وتزمّله. قال في بيانه الخالد: “*وبالرّغم من أنّ النّوم كان عزيز المنال من وطأة السّلاسل والرّوائح المنتنة حين كنت رهين سجن أرض الطّاء [ طهران] إلاّ أنّني كنت في هجعاتي اليسيرة أحسّ كأن شيئًا ما يتدفّق من أعلى رأسي، وينحدر على صدري كأنّه النّهر العظيم ينحدر من قلّة جبل باذخ رفيع إلى الأرض فتلتهب جميع الأعضاء لذلك. في ذلك الحين كان اللّسان يرتّل ما لا يقوى أحدٌ على الإصغاء إليه”.
وفي سورة الهيكل يصف تلك اللّحظات الهائلة الّتي أعلنت له فيها الحوريّة الرّامزة “للرّوح الأعظم” رسالته لعالم الإنشاء فيقول: “فلمّا رأيت نفسي على قطب البلاء سمعت الصّوت الأبدع الأحلى من فوق رأسي. فلمّا توجّهت شاهدت حوريّة ذكر اسم ربّي معلّقة في الهواء أمام الرّأس، ورأيت أنّها مستبشرة في نفسها كأنّ طراز الرّضوان يظهر من وجهها ونضرة الرّحمن من خدّها. وكانت تنطق بين السّموات والأرض بنداءٍ تنجذب فيه الأفئدة والعقول، وتبشّر كلّ الجوارح من ظاهري وباطني ببشارة استبشرت بها نفسي وعباد مكرمون. وأشارت بإصبعها إلى رأسي وخاطبت من في السّموات والأرض: تالله هذا لمحبوب العالمين ولكن أنتم لا تفقهون. هذا جمال الله بينكم وسلطانه فيكم إن كنتم تعرفون. وهذا سرّ الله وكنزه، وأمر الله وعزّه لمن في ملكوت الأمر والخلق إن كنتم تعقلون”.
وفي لوحه لعدوّه ناصر الدّين شاه، الّذي نزل في أوج إعلان رسالته، وردت هذه الفقرة الّتي تلقي ضوءًا أسطع على قدسيّة دعوته وأصلها الإلهيّ: “يا سلطان! إنّي كنت كأحدٍ من العباد وراقدًا على المهاد، مرّت عليّ نسائم السّبحان وعلّمني علم ما كان. ليس هذا من عندي بل من لدن عزيزٍ عليم، وأمرني بالنّداء بين الأرض والسّماء، وبذلك ورد عليّ ما تذرّفت به عيون العارفين… هذا ورقة حرّكتها أرياح مشيئة ربّك العزيز الحميد… قد جاء أمره المبرم وأنطقني بذكره بين العالمين. إنّي لم أكن إلاّ كالميت تلقاء أمره قلّبتني يد إرادة ربّك الرّحمن الرّحيم”. وفي لوح آخر يؤكّد ذلك فيقول مناجيًا: “إنّ الأمر ليس بيدي بل بيدك. ولم يكن زمام الاختيار في قبضتي بل في قبضتك واقتدارك” ومرّة أخرى يقول: “وكلّما أصمت من بدائع ذكرك ينطقني الرّوح من سمائك وأرضك. وكلّما أسكن يهتزّ بما يهبّ عن يمين مشيئتك وإرادتك وأجد نفسي كورقة الّتي تحرّكها أرياح قضائك”.
تلك هي ظروف إشراق شمس الحقيقة بمدينة طهران الّتي مجّدها حضرة الباب “بالأرض المقدّسة” لما انفردت به من الامتياز النّادر، ولقّبها حضرة بهاء الله ﺑ”أم العالم” و”أفق النّور” و”مشرق آيات ربّك” و”مطلع فرح العالمين”. وكانت أولى إشراقات هذا البهاء الفائق في مدينة شيراز، كما وصفنا من قبل، وعلا هذا النّيّر في أفق سياه چال بطهران، لتنسكب أشعّته بعد عشر سنوات على بغداد مبدّدة السّحب والغيوم الّتي حجبت بهاءه بعد إشراقه مباشرة في تلك البؤرة الوبيلة. ولقد قدّر لهذا البهاء أن يبلغ السّمت والزّوال في مدينة أدرنة القصيّة، وأن يغرب آخر الأمر بجوار عكّاء مدينة السّجن.
وبالضّرورة كانت عمليّة إشراق هذا الظّهور الباهر بطيئة متدرّجة، فلم يبح المظهر الإلهيّ لأحد من أصحابه أو من أهل بيته بطبيعة الرّسالة الّتي تلقّاها بمجرد أن تلقّى بشائرها، ولا بعد أن تلقّى بشائرها مباشرة، بل لقد انقضت فترة لا تقلّ عن عشر سنوات قبل أن تستطيع مكنوناتها البعيدة المدى أن تنكشف حتّى لأقرب المقرّبين. وهي فترة من الاختمار الرّوحي كان حامل تلك الرّسالة الجسيمة ينتظر فيها بقلق تلك السّاعة الّتي يستطيع فيها أن يلقي العبء عن نفسه المبهورة الجيّاشة بالقوى الفيّاضة الّتي أطلقها الظّهور الإلهيّ الجديد. وكلّ ما فعله، في أثناء هذه الفترة الّتي سبق بها التّقدير الإلهيّ، هو أنّه كان يشير من طرف خفيّ ويلوّح بلغة مستورة في الألواح والمناجاة والتّفاسير والرّسالات الّتي فاض بها قلمه، إلى أنّ وعد حضرة الباب قد تحقّق وأنّه هو المختار لتحقيقه، وفطن بعض زملائه الأصحاب الممتازين بنفاذ بصيرتهم وصلتهم الشّخصية به وإخلاصهم لشخصه إلى تألّق المجد المستور الّذي غمر روحه، وودّوا لو باحوا بسرّه وأذاعوه طولاً وعرضًا لولا أنّه كان ينهاهم عن ذلك.
حدثت محاولة اغتيال ناصر الدّين شاه، كما أسلفنا في فصل سابق، في الثّامن والعشرين من شوّال 1268هـ، الموافق للخامس عشر من آب 1852م. واعتقل حضرة بهاء الله بعد ذلك مباشرة في نياوران وسيق بصورة مهينة إلى طهران حيث زجّ به في سياه ﭼـال ليقضي فيه ما لا يقلّ عن أربعة أشهر، دخلت خلالها سنة التّسع (1269هـ) الّتي تنبّأ بها حضرة الباب بعبارات مشرقة، وأشار إليها الشّيخ أحمد الأحسائي بقوله “بعد حين”، فصبّت في كيان العالم بأسره إمكانيّات لم يكن يحلم بها. وبعد انقضاء شهرين من تلك السّنة أُطلق سراح حضرة بهاء الله بعد أن تحقّق الهدف المقصود من سجنه، وانطلق بعد شهر آخر إلى بغداد ليخطو أولى خطوات النّفي المؤبّد الّذي انتقل به، على مرّ السّنين والأعوام، إلى أدرنة في القسم الأوروبّي من تركيّا، وانتهى بحبسه في عكّاء أربعة وعشرين عامًا.
أمّا وقد تزوّد أثر ذلك الحلم القويّ بما ينبغي لرسالته الإلهيّة من قوّة وسلطان فإنّ خلاصه من فترة سجن حقّقت غايتها لم يعد أمرًا محتومًا فحسب بل وضرورة ملحّة عاجلة. ذلك لأنّه لو طالت مدّة هذا السّجن لما استطاع الاضطلاع بمهمّاته الّتي كُلّف بها أخيرًا. والواقع أنّه لم تعد تعوزه الوسائل الّتي يتمّ بها خلاصة من تلك القيود المعطّلة، فقد تدخّل الأمير دولجوروكي السّفير الرّوسي تدخّلاً حازمًا، ولم يترك بابًا إلاّ طرقه ليقيم الدّليل على براءة حضرة بهاء الله. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى اعترف الشّيخ علي التّرشيزي الملقّب بعظيم، اعترافًا علنيًّا في سياه ﭼـال أمام حاجب الدّولة وترجمان السّفير الرّوسيّ وممثّل الحكومة باشتراكه في الجريمة، وبراءة حضرة بهاء الله منها. ومن ناحية ثالثة شهدت له المحاكم المختصّة شهادة ناصعة. كما بذل إخوته وأخواته وذوو قرباه جهودهم المتّصلة لإثبات براءته. كلّ هذه الجهود تضافرت على تخليص حضرة بهاء الله من براثن العدوّ اللّدود، ولا بدّ من الاعتراف بتدخّل عامل خفيّ فاعل آخر، ألا وهو المصير الدّامي الّذي لقيه عدد كبير من زملائه الأصحاب الّذين عانوا معه آلام السّجن. ولقد روى النّبيل بحقّ: ” كانت الدّماء الّتي سُفكت أثناء تلك السّنة العصيبة في طهران من جانب تلك الجماعة الّتي سُجن معها حضرة بهاء الله، فداء لحضرته من يد العدوّ الّذي كان يجاهد في عرقلة مساعيه لبلوغ الهدف الّذي قدّره الله له”.
وإزاء هذه الشّهادات الدّامغة على براءة حضرة بهاء الله من الاشتراك في الجريمة لم يجد الصّدر الأعظم مفرًّا من أن يحصل، بعد لأيٍ، على موافقة مولاه على إطلاق سراح السّجين. وأرسل رسوله الحاج علي إلى سياه ﭼـال لكي يبلّغ حضرة بهاء الله النّبأ. ولكنّ الدّماء غلت في عروق الرّسول غضبًا للمنظر الّذي شهده عند وصوله، ولعن سيّده الّذي عامل رجلاً له هذه المنزلة الرّفيعة وهذه السّمعة الطّاهرة هذه المعاملة المخزية، وبادر بأن خلع عباءته وقدّمها لحضرة بهاء الله راجيًا أن يتستّر بها أمام الوزير ومستشاريه، ولكنّ حضرة بهاء الله رفض ذلك رفضًا باتًّا، وفضّل أن يظهر أمام رجال حكومة الشّاه بملابس السّجن.
وما كاد يدخل عليهم حتّى خاطبه الصّدر الأعظم قائلاً: “لو أنّك اتّبعت ما نصحتُك به وقطعت صلتك بدين السّيّد الباب لما لحقت بك هذه الآلام والإهانات” فأجابه حضرة بهاء الله قائلاً: “**ولو أنّك اتّبعت ما نصحتُك به لما بلغت أمور المملكة إلى هذا الحدّ من الاضطراب”. فتذكّر ميرزا آقا خان عندئذ الحديث الّذي دار بينهما عندما استشهد حضرة الباب. فقد أنذره حضرة بهاء الله بأنّ “النّار الّتي اشتعلت سوف تندلع وتنتشر أكثر فأكثر” فسأله الوزير “وبماذا تنصح الآن؟” فأجابه حضرة بهاء الله على الفور “**مُر ولاة الأمور أن يحقنوا دماء الأبرياء، ويكفّوا أيديهم عن نهب ممتلكاتهم، وهتك أعراض نسائهم، وإيذاء أبنائهم” فعمل الصّدر الأعظم بالنّصيحة في اليوم نفسه، ولكنّ الحوادث التّالية أثبتت أنّ تأثيرها كان وقتيًّا ولا قيمة له.
وقد شاءت الحكمة الإلهيّة المعصومة أن يكون ما تمتّع به حضرة بهاء الله من سلام وهدوء، بعد سجنه المحزن القاسي، قصير الأمد جدًّا. فما كاد يعود إلى أهله وذوي قرباه حتّى صدر إليه فرمان من ناصر الدّين شاه أن يغادر إيران في ظرف شهر، وتُرك له حريّة اختيار منفاه.
وما كاد السّفير الرّوسي يسمع بفرمان الشّاه حتّى عبّر عن رغبته في أن يشمل حضرة بهاء الله بحماية حكومته، وعرض أن يقدّم كلّ التّسهيلات اللاّزمة لسفره إلى روسيا ولكنّ حضرة بهاء الله رفض هذه الدّعوة التّلقائيّة، وفضّل أن يتّبع وحي فطرته المعصومة، ويقيم في الأراضي التّركيّة بمدينة بغداد. وبعد سنوات كتب في لوحه إلى قيصر روسيا نيقولاويج([1]) إسكندر الثّاني: “قد نصرني أحد سفرائك إذ كنت في سجن الطّاء (طهران) تحت السّلاسل والأغلال. بذلك كتب الله لك مقامًا لم يحط به علم أحد إلاّ هو. إيّاك أن تبدّل هذا المقام العظيم”. وهذه شهادة من قلمه أشدّ بيانًا: “**في الأيّام الّتي سجن فيها هذا المظلوم بذل وزير الحكومة الفخيمة [روسيا] أيّده الله تبارك وتعالى قصارى جهده ليخلّصني. وقد أُذن بإطلاق سراحي عدّة مرات. إلاّ أنّ بعض علماء المدينة كانوا يحولون دون تنفيذه. وأخيرًا نجوت بفضل جهود صاحب السّعادة الوزير واهتمامه… ولقد حماني حضرة الإمبراطور الأعظم أيّده الله تبارك وتعالى لوجه الله وكان من شأن هذه الحماية ازدياد غلّ الجاهلين وبغضائهم”.
كان فرمان الشّاه يعني نفي حضرة بهاء الله من البلاد الإيرانيّة فورًا. فافتتح فصلاً جديدًا مجيدًا في تاريخ القرن البهائيّ الأوّل. ولو نظرنا إلى هذا الفرمان في أبعاده الصّحيحة لاعترفنا بابتداء فترة من أعظم الفترات في تاريخ العالم الدّينيّ وأحفلها بالأحداث، وهو يقترن ببداية ولاية لا تقلّ فترتها عن أربعين سنة وهي فترة فريدة لا شبيه لها ولا مثيل في تاريخ البشر الدّينيّ على الإطلاق بفضل قوّتها الخلاّقة وطاقتها المطهّرة وتأثيراتها الشّافية وطريقتها الّتي لا تقهر والّتي عملت فيها القوى الّتي أطلقها لتوجيه العالم وتشكيله، وتشير هذه الفترة إلى الحلقة الأولى من سلسلة النّفي المتكرّر الّذي دام أربعين سنة ولم ينتهِ إلاّ بموت من استهدفه هذا الفرمان الجائر. أمّا وقد أطلق هذا الفرمان عمليّة متدرّجة من التّطوّر والتّفتّح، بدأت أوّل ما بدأت بإقامة حضرة بهاء الله فترة من الزّمن في معقل الشّيعة الحصين وجعلته يتّصل بأعظم أقطابهم وأشهر أعلامهم اتّصالاً شخصيًّا، ثم جعلته، في مرحلة تالية، يواجه في عاصمة الخلافة [العثمانيّة] رجالات الدّنيا والدّين ورجال الدّولة ومندوبي سلطان تركيّا الّذي كان يُعتبر أقدر قطب في العالم الإسلاميّ قاطبة، وأخيرًا حملته إلى شواطئ الأرض المقدّسة. فتحقّقت بذلك نبوءات الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، ونفّذ الميثاق المبرم في الأحاديث الشّريفة المنسوبة إلى رسول الله وخلفائه الأئمّة، وبدأت عودة بني إسرائيل إلى مهد دينهم العتيق، وهو العودة الّتي طال انتظارهم لها. ويمكن أن يُقال إنّ هذا الفرمان بدأ آخر مرحلة وأخصبها من مراحل حياة حضرة بهاء الله الأربع، فقد تميّزت السّنوات السّبع والعشرون الأولى منها بالتّمتّع البريء بكلّ الامتيازات الّتي وفّرتها الثّروة وشرف المحتد، كما تميّزت بالاهتمام بمصالح الفقراء والمرضى والبؤساء. تلتها المرحلة الثّانية وقوامها تسع سنوات من التّلمذة النّشيطة المثاليّة على حضرة الباب، والقيام على خدمة أمره، تلاها أخيرًا سجن دام أربعة أشهر وهي المرحلة الثّالثة المليئة بالخطر القاتل والأحزان المريرة، وإن خلّدها على الزّمن ما حدث في أواخرها من الانطلاق المفاجئ لقوى الإلهام الجسيم في هيمنته، الجبّار في تطويره لأعماق النّفس.
إنّ رحيل حضرة بهاء الله الإجباريّ العاجل عن وطنه بصحبة نفر قليل من ذوي قرباه يُعيد إلى الأذهان، من بعض الوجوه، الهجرة العاجلة الّتي قامت بها العائلة المقدّسة إلى مصر وهجرة محمّد رسول الله المباغتة من مكّة إلى المدينة بعد إعلانه لرسالته الإلهيّة، وخروج موسى وأخيه وأتباعه من مسقط رأسهم تلبيةً للنّداء الإلهيّ، ولكن فوق كلّ شيء يُعيد إلى الذّاكرة نفي إبراهيم من أور الكلدانيّين إلى الأرض الموعودة. فذلك النّفي الّذي أغدق المواهب الهائلة على كثير من الشّعوب والأمم والأديان يعتبر أقرب مثل تاريخيّ للمواهب المقبلة للجنس البشريّ بأسره كنتيجة مباشرة لنفي من يعتبر ظهوره زهرة الظّهورات المرجوّة وثمرتها المشتهاة.
ذلك ما أكّده حضرة عبد البهاء بعد أن عدّد في “المفاوضات” النّتائج البعيدة الأثر لنفي إبراهيم. إذ كتب تلك العبارات ذات الدّلالة العظيمة: “*فإذا كانت هجرة إبراهيم من أور إلى حلب [سوريّا] قد أنتجت هذه النّتائج، فماذا تكون نتائج هجرة حضرة بهاء الله من طهران إلى بغداد ثمّ إلى الآستانة وروميلّي [أدرنة] ومنها إلى الأرض المقدّسة؟”.
في غرّة ربيع الثّاني 1269هـ (الموافق 12 كانون الثّاني 1853م) أي بعد تسعة أشهر من عودته من كربلاء رحل حضرة بهاء الله مع بعض أفراد أسرته إلى بغداد يحرسهم ضابط من حرس الشّاه ومندوب من السّفارة الرّوسيّة. وقد دامت الرّحلة ثلاثة أشهر. وكانت زوجته نوّاب الطّاهرة الّتي لقّبها ﺑ”الورقة العُليا” من بين من شاطره النّفي، ولقد أظهرت خلال أربعين سنة تقريبًا من التّقوى والثّبات والإخلاص وسموّ الرّوح ما جعلها تفوز من قلم مولاها بذلك الثّناء الفريد الّذي تكشّف بعد صعوده. فقد جعلها “صاحبة له في كلّ عالم من عوالمه”. كما كان من بين المنفيّين الّذين يودّعون وطنهم الوداع الأخير ابنه البالغ من العمر تسع سنوات. وهو الّذي لقّب فيما بعد ﺑ”الغصن الأعظم”، والّذي قُدّر له أن يصبح مركز الميثاق والمبيّن المختار لتعاليم والده، وأخته ذات السّبع سنوات وهي الّتي عرفت فيما بعد بنفس لقب أمّها الزّهراء، والّتي ميّزتها خدماتها حتّى بلغت السّادسة والثّمانين، كما ميّزها نسبها المجيد بامتياز جعلها تتبوّأ مكانة بطلة الدّورة البهائيّة البارزة. كما صحبه في هذه الرّحلة أخوان: أوّلهما ميرزا موسى المعروف عادة بآقاي كليم، وكان العون القيّم الثّابت وأقدر إخوته وأخواته وأبرزهم، كما كان “ثاني اثنين عليمين بأصول الدّين” حسب شهادة حضرة بهاء الله. أمّا الأخ الثّاني فكان ميرزا محمّد قلي الأخ غير الشّقيق الّذي ظلّ مخلصًا ثابتًا على الدّين الّذي اعتنقه حتّى النّهاية رغم تقصير بعض ذوي قرباه.
بدأت الرّحلة في أعماق شتاء قارس البرد بصورة غير عاديّة وساقت جماعة المنفيّين الصّغيرة الّتي لم تكن مستعدّة استعدادًا كافيًا إلى جبال إيران الغربيّة المغطّاة بالثّلوج. وبالرّغم من أنّ الرّحلة كانت طويلة محفوفة بالأهوال والمخاطر إلاّ أنها خلت من الحوادث المهمّة اللّهم إلاّ الحفاوة البالغة الّتي استقبلهم بها حياة قلي خان حاكم كرند حين أقاموا بها إقامة قصيرة. وكان حاكم كرند من طائفة اﻟ”عَلِيُّ اللّهِيَّة” ولقد أظهر له حضرة بهاء الله مقابل حفاوته من الرّأفة ما كان له أجمل الوقع في نفوس أهل القرية جميعًا. فاستمرّوا يكرّمون الجماعة حتّى بعد مغادرتهم كرند في طريقهم إلى بغداد، الأمر الّذي جعلهم يُعرفون بأنّهم بابيّون.
ولقد فصّل حضرة بهاء الله القول في الأهوال والبلايا الّتي لقيها في سياه ﭼـال، والمتاعب الّتي عاناها في تلك “الرّحلة المرهقة” فقال في مناجاة له في ذلك الحين: “*إلهي وسيّدي ورجائي… خلقتَ ذرّة التّراب هذه بقدرتك الكاملة وربّيته بأياديك المبسوطة… قدّرت له يا إلهي من الرّزايا والبلايا ما لا يقدر على وصفه لسان، ولا تسعه صفحات الألواح، إنّ العنق الّذي عوّدتَهُ ملمس الحرير قد قيّدتَهُ آخر الأمر بأغلالٍ غليظةٍ والبدن الّذي نعّمته بلباس الدّمقس والدّيباج أخضعتَهُ في النّهاية لذلّ الحبس، قلّدَني قضاؤك قلائد لا تُحدّ، وطوّقني أطواقًا لا تُفكّ، وانقضت سنون تنهمر عليّ فيها البلايا كشآبيب الرّحمة… فكم من ليلة حرمتني السّلاسل والأغلال فيها الرّاحة، وكم من يوم عزّتني فيه السّكينة بما اقترفت أيدي النّاس وألسنتهم وحرّموا على هذا العبد حينًا الخبز والماء اللّذين قدّرتهما برحمتك الواسعة لوحش الفلاة وآذوني بما لم يؤذوا به من أعرض عن أمرك. وأخيرًا نزل حكم القضاء وصدر الأمر بإخراج هذا العبد من إيران تصحبه جماعة من العباد الضّغفاء والأطفال الأبرياء في ذلك الحين الّذي اشتدّ فيه البرد حتّى لم يستطع الإنسان أن يتكلّم، وكثرت فيه الثّلوج والجليد حتّى لم تعد هناك قدرة على الحركة”.
وأخيرًا في الثّامن والعشرين من جمادى الثّانية 1269هـ (الموافق للثّامن من نيسان 1853م) وصل حضرة بهاء الله إلى بغداد عاصمة ولاية العراق التّركيّة. وبعد أيّام انتقل إلى ضاحية الكاظمين على بعد ثلاثة أميال شمال المدينة. وهي ضاحية يقطنها الإيرانيّون بصفة خاصة، وفيها مقام الإمامين الكاظمين السّابع والتّاسع من أئمّة الشّيعة. وبُعيد وصوله زاره ممثل حكومة الشّاه المقيم في بغداد واقترح عليه أن يقيم في بغداد العتيقة نظرًا لكثرة الوافدين على مزار الكاظمين. وقد حاز هذا الاقتراح قبوله. وبعد شهر، أي في أواخر رجب، استأجر منزل الحاج مُلاّ علي مدد في حيّ عتيق من أحياء بغداد، وانتقل إليه هو وأسرته.
في هذه المدينة الّتي وصفتها الأحاديث الإسلامية بــ”ظهر الكوفة” ولُقّبت قرونًا عديدة بــ”دار السّلام” وخلّدها حضرة بهاء الله بلقب “مدينة الله”، أقام إلى أن نفي إلى الآستانة إقامة دائمة باستثناء سنتين اعتكف فيهما في جبال كردستان، وباستثناء زياراته الّتي كان يقوم بها بين الحين والآخر للنّجف وكربلاء والكاظمين. إلى هذه المدينة أشار القرآن الكريم بــ”دار السّلام” الّتي “يدعو” إليها الله، وبقوله: “لهم دار السّلام عند ربّهم… يوم يحشرهم جميعًا”، ومنها انطلقت القوّة والمجد والسّناء موجةً بعد موجة، فأخصبت من جديد ذلك الدّين المتهالك من حيث لا يحتسب، وانتشلته من وهدة الغموض والنّسيان. ومنها فاضت ليل نهار وبقوّة متزايدة أولى فيوضات الظّهور الّذي قُدّر له أن يفوق ظهور حضرة الباب في مداه وقوته الدّافعة وضخامة كتبه وتنوّعها. وفي أفقها انطلقت أشعة شمس الحقيقة الّتي حجبت مجدها المشرق، لمدّة عشر سنوات طوال، سحب الكراهية والحسد والمقت والبغضاء. وفيها ضُربت أوّل مرّة خيمة “ربّ الجنود” الموعود، ووضع أساس ملكوت “الآب” المأمول من قديم الزّمان. ومنها انطلقت بواكير بشارة رسالة الخلاص الّتي تشير إلى انتهاء “رجسة الخراب” كما تنبّأ دانيال بعد انقضاء “الألف والمائتين والتّسعين يومًا (1290هـ)” إنّ “بيت الله الأعظم” الّذي هو “موطئ قدميه” و”عرش لاستقرار هيكل القِدَم” و”قِبْلَة الأمم” و”مصباح الفلاح بين الأرض والسّماء” و”آية ذكره لمن في السّموات والأرضين” و”علم” ملكه و”المقام الّذي يطوف حوله ملأ عارفون” هذا البيت الّذي تضمّن “طرازه الّذي منه استضاء من في الأكوان” قد تأسّس نهائيًّا بين جدرانه وثبتت قداسته إلى الأبد. وعليه أُسبغ الشّرف الرّفيع الّذي جعله مركزًا للحجّ لا يسبقه سوى مدينة عكّاء “سجنه الأعظم” وقِبلة أهل البهاء الّتي يقوم بها مقامه الأقدس. ولقد أسبغ عليها هذا الشّرف الرّفيع للقداسة الّتي جاءتها من أنّها هي “المنظر الأكبر” و”المقر الأطهر”. وفيها مدّت المائدة الإلهيّة وجلس حولها رجال الدّين والدّنيا وأهل السّنّة والشّيعة والأكراد والعرب والإيرانيّون والأمراء والأشراف والفلاّحون والدّراويش، وازداد عددهم من القريب والبعيد. وتناول كلّ منهم على قدر حاجته واستعداده من هذا القوت الإلهيّ الّذي مكّنهم، على مرّ الزّمان، من أن ينشروا في الخارج أمر المنعم الوهّاب، ويضخّموا صفوف أتباعه، وينشروا آثاره طولاً وعرضًا، ويوسّعوا نطاق الإعجاب به، ويضعوا الأساس الرّاسخ لنظم دينه في المستقبل. وأخيرًا أمام الطّوائف المختلفة الّتي سكنت فيها بدأت أولى مراحل التّفتّح التّدريجيّ للظّهور الجديد، ودوّنت أولى الفيوضات المنهمرة من قلم صاحبه المُلهَم، وشرّعت أولى مبادئ عقيدته المتبلورة على مهل وفُهمت أولى مكوّنات مقامه الجبّار، وشُنّت من الدّاخل أولى الهجمات الّتي كانت ترمي إلى استئصال شأفة دينه، وسُجّلت أولى انتصاراته على الأعداء الّذين برزوا من بين صفوفه، وبدأت أولى الرّحلات للتّشرّف بمحضره المنير.
والواقع أنّ هذا النّفي المؤبّد الّذي قدّرته العناية الإلهيّة على حامل هذه الرّسالة النّفيسة لم يُظهر، ولم يكن بإمكانه أن يُظهر الإمكانيّات الكامنة فيه بغتةً أو بسرعة. بل إنّ العمليّة الّتي تجلّت بها لأعين النّاس بركاته غير المتوقّعة كانت بطيئة بصورة مؤلمة. وقد تميّزت، كما تميّز تاريخ دينه منذ البداية إلى يومنا هذا، بالأزمات الّتي كانت تهدّد في بعض الأحيان تفتّح هذا الدّين، بل وتهدّد بتقويض كلّ الآمال الّتي ولّدها تقدّمه.
ولقد رانت أزمة من هذه الأزمات على السّنوات الأولى من إقامته بالعراق، أي في المرحلة الافتتاحية لنفيه المؤبّد، فهدّدت، وهي في عنفوان شدّتها، بتمزيق أوصال دينه الجديد، ودكّ أسسه الأولى. فأسبغت بذلك على هذه السّنوات الأولى دلالة خاصة، وعلى خلاف ما سبق كانت أزمة داخليّة تسبّبت فيها أعمال من كانوا يُعتبرون من زمرة إخوانه الأصحاب وأطماعهم وحماقاتهم.
كان أعداء الدّين الخارجيّون من أهل الدّنيا والدّين مسؤولين بصفة خاصّة عمّا عاناه الدّين من إهانات ونكسات. ولكنّهم اليوم أُخلدوا إلى الرّاحة والهدوء النّسبيّ، وقلّت لديهم شهوة الانتقام الّتي كانت في يوم من الأيّام ظامئة لا ترتوي. وذلك نتيجة لسيول الدّماء الّتي فاضت من قبل. وفضلاً عن ذلك خيّم شعور يشبه الإنهاك واليأس على بعض الأعداء الألدّاء الّذين كانوا من الفطنة بحيث أدركوا أنّ جوهر الدّين ظلّ سليمًا، وأنّ روحه لم يمت رغم أنه ترنّح تحت الضّربات الوجيعة الّتي كالوها له. أضف إلى ذلك أنّ الأوامر الّتي أصدرها الصّدر الأعظم لحكّام المقاطعات كان لها أثرها لدى السّلطات المحلّيّة فانصرفت عن صبّ جام غضبها على رأس عدوّها البغيض وأقلعت عن الإسراف في القسوة.
كان من نتيجة ذلك أن هدأت الحال نسبيًّا لفترة وجيزة، قطعتها في مرحلة متأخّرة موجة أخرى من الاضطهاد تعاون فيها سلطان تركيّا ووزراؤه والمحافل السّنّية من جهة والشّاه ورجال الشّيعة في إيران والعراق من جهة أخرى في محاولة للقضاء على الدّين وكلّ ما يرمز له قضاءً تامًّا وفي أثناء هذا الهدوء النّسبيّ أخذت بوادر الأزمة الدّاخلية الّتي أشرنا إليها تظهر وتتّضح. وبالرّغم من أنها بدت لأعين النّاس قليلة الأهمّيّة إلاّ أنّها أثبتت، وهي تسرع إلى ذروتها، أنّها فريدة في خطورتها وجسامتها ذلك لأنّها قلّلت من القوّة العدديّة للجامعة النّاشئة، وهدّدت وحدتها، وآذت هيبتها ونالت من كرامتها، ولطّخت مجدها فترة ليست بالقصيرة.
أخذت هذه الأزمة تغلي بعد استشهاد حضرة الباب مباشرة، واستحكمت خلال الأشهر الّتي انسحبت فيها يد حضرة بهاء الله المشرفة نتيجة لسجنه في سياه ﭼـال بطهران، ثم تفاقم خطبها على أثر نفيه العاجل من إيران، وأخذت ملامحها المزعجة تبرز أثناء السّنوات الأولى من إقامته في بغداد، واستجمعت قواها المدمّرة أثناء اعتكافه بجبال كردستان سنتين كاملتين. وبالرّغم من أنّها هدأت بعض الوقت بعد عودته من السّليمانيّة، بفضل التّأثيرات الرّفيعة الّتي ظهرت تمهيدًا لإعلان رسالته، إلاّ أنّها انفجرت فيما بعد بقوّة أعظم، وبلغ خطرها غايته القصوى في أدرنة. غير أنّ القوى القهّارة الّتي انطلقت بإعلان تلك الرّسالة للجنس البشريّ كافّة كالت لها الضّربة القاضية.
كان قطبها ميرزا يحيى الجبان الغرّير وهو من كان قد رشّحه حضرة الباب ليخلفه والّذي أشرنا إلى بعض خصاله في الصّفحات السّابقة. وكان الوغد الأسود القلب الّذي غرّر بذلك الرّجل الرّخو المختال وسيطر عليه بمهارة فائقة وإصرار شديد رجلٌ يدعى السّيّد محمّد من أهالي إصفهان اشتهر بالطّموح الشّديد والعناد الأعمى والحسد الأكّال. وإليه أشار حضرة بهاء الله فيما بعد في الكتاب الأقدس بأنّه هو الّذي أغوى ميرزا يحيى، ووصفه في أحد ألواحه بأنّه “**جوهر الفتنة ورأس الحسد”. أمّا حضرة عبد البهاء فقد وصف صلة الرّجلين بأنّها صلة “*الرّضيع بثدي أمّه المحبوب”. اضطرّ هذا الرّجل إلى ترك الدّراسة بالمدرسة الصّدريّة بإصفهان فغادرها نادمًا خجلاً، إلى كربلاء، وهناك التحق بصفوف أتباع حضرة الباب، ولكنّه أظهر بعد استشهاده من علامات التّذبذب ما فضح سطحيّة إيمانه وكشف عن ضعف عقيدته. وكانت زيارة حضرة بهاء الله الأولى لكربلاء وما لقيه من احترام وتقدير سافر، وما أظهره له بعض الممتازين من أصحاب السّيد كاظم وتلاميذه السّابقين من محبّة وإعجاب سببًا في إثارة الحسد والبغضاء في صدر هذا المتآمر الأهوج. ولم يكن صبر حضرة بهاء الله عليه واحتماله إيّاه يزيده إلاّ تماديًا. أمّا أعوانه الضّالّون وأدواته الطّيعة الّتي استخدمها لتنفيذ خططه الشّيطانيّة فكانوا عددًا غير قليل من البابيّين الّذين أصبحوا عرضة، وهم حائرون خائبون لا قائد لهم، لأن ينخدعوا به ويمضوا معه في طريق يناقض معتقدات قائدهم الرّاحل ونصائحه على خطّ مستقيم.
والواقع أن فلول تلك الجامعة المقهورة المغلوبة غرقت في بحار اليأس القاتل الّذي بلبل أفكارهم وأضعف روحهم وزعزع إيمانهم وولاءهم، ذلك لأنّ حضرة الباب لم يعد بينهم، ونائبه يلتمس المهرب الأمين في جبال مازندران أو يتخفّى في ملابس الدّراويش تارةً وملابس الأعراب تارةً أخرى، ويهيم من بلد إلى آخر، وحضرة بهاء الله يُزجّ به في غياهب السّجن ثم يُنفى من وطنه، وزهرة الدّين تذبل وتذوي في ساحات المذابح الّتي بدت بلا نهاية، فلا عجب، وقد بلغت بهم الحال هذا المبلغ، إن لم يعودوا يعتمدون على ذي سلطان ونفوذ يبدّد تشاؤمهم أو يحلّ مشاكلهم أو يعيّن لهم واجباتهم والتزاماتهم.
وقد لخّص النّبيل مشاعره نحو الحال السّائدة أثناء رحلته الّتي قام بها آنذاك في إقليم خراسان مشهد الانتصارات الأولى الباهرة الّتي أحرزها الدّين المشرق، فكتب في تاريخه يقول: “أوشكت نار الله أن تخمد في كلّ مكان، ولم أستطع أن ألمح أيّ أثر للحرارة في أيّ موضع” أمّا في قزوين فقد انقسمت البقيّة الباقية من الجامعة إلى أربع شيع متناحرة تفتك بها الخرافات والخزعبلات. ولمّا جاء حضرة بهاء الله إلى بغداد، الّتي رأت الشّواهد المشرقة على همّة الطّاهرة العظيمة، لم يجد من بين مواطنيه المقيمين بها إلا بابيًّا واحدًا. ولم يكن بالكاظمين الّتي يسكنها الإيرانيّون بصفة خاصة، إلا حفنة من بني وطنه يقرّون بإيمانهم بحضرة الباب في خوف وغموض.
نعم، لقد تدهورت خلقيّة هذه الجامعة المضعضعة تدهورًا كبيرًا، وقلّ عددهم بصورة محزنة. ولقد بلغ بهم “العناد والحمق” مبلغًا جعل حضرة بهاء الله يصمّم بعد خروجه من السّجن على “*القيام بكمال الهمّة على تهذيب هؤلاء النّفوس”.
وعلى حين تدهورت خلقيّة أتباع حضرة الباب الخلّص وتضاعفت الشّواهد على البلبلة الّتي أصابتهم، كان المفسدون يتربّصون هادفين إلى الاستفادة من سوء الأوضاع لمصلحتهم الشّخصيّة. فازدادوا جرأة على جرأة، أمّا ميرزا يحيى الّذي ادّعى أنّه خليفة الباب واغترّ بألقابه الرّنانة كـ”المرآة الأزليّة”، و”صبح الأزل” و”اسم الأزل”، وغرّرت به مكائد السّيّد محمّد الّذي ارتفع به إلى مقام أوّل “شهود” البيان، فقد أخذ يسلك سلوكًا يحطّ من هيبة الدّين بصورة مباشرة، ويُعرّض أمنه في المستقبل للأخطار بشكلٍ خطير.
أمّا الأوّل [ميرزا يحيى] فقد صدمه استشهاد حضرة الباب صدمة أطارت صوابه وزعزعت إيمانه، وأحذ يهيم على وجهه فترة من الزّمن في جبال مازندران متخفيًّا في ملابس الدّراويش، وعرّض إيمان رفاقه المؤمنين من أهل نور –الّذين اعتنقوا الدّين بهمّة حضرة بهاء الله– لامتحانات بلغ من شدّتها أن تزعزت عقيدة بعضهم، كما تمادى بعضهم الآخر إلى حدّ الانضمام إلى صفوف العدوّ. ثم تقدّم إلى رشت، واختفى في إقليم جيلان إلى أن رحل إلى كرمانشاه حيث عمل عند صانع أكفان يدعى عبد الله القزويني مبالغة منه في التّستّر، وأصبح بائعًا لبضاعة هذا الصّانع. وحين مرّ حضرة بهاء الله بهذه المدينة في طريقه إلى بغداد أبدى ميرزا يحيى رغبته في أن يعيش قريبًا منه، ولكن في منزل ينفرد فيه ليمارس شيئًا من التّجارة سرًّا. ونجح في أن يحصل منه على مبلغ من المال اشترى به عدّة بالات من القطن. وقصد بغداد في زيّ الأعراب عن طريق مندلي. فلمّا بلغها أقام في شارع الفحّامين الواقع في أحد الأحياء الخربة، وأخذ يمارس مهنته الجديدة، ولبس عمامة وأطلق على نفسه اسم الحاج علي لاس فروش. وفي تلك الأثناء أقام السّيّد محمّد في كربلاء، وانهمك مع ميرزا يحيى في إشعال نار الفتن وإزعاج المنفيّين ومن التفّ حولهم.
فلا عجب أن فاضت من قلم حضرة بهاء الله، الّذي لم يكن قادرًا حتّى ذلك الحين على أن يبوح بما يتلجلج في صدره، هذه الكلمات المحذّرة من ناحية والمطمئنة من ناحية أخرى في وقت أخذت فيه الظّلال تتكاثف من حول قال: “*أقبلت أيّام الامتحان وتلاطمت بحار الافتتان بما عاث أعلام الشّكّ فسادًا في كلّ مكان، وقادوا النّاس إلى الضّلال المبين… فإيّاكم أن يبذر نعيق جنود النّفي بذور الشّكّ بينكم. وإيّاكم أن تغفلوا عن الحقّ المبين. فلقد حدث هذا النّزاع في كلّ دورة إلاّ أنّ الله سوف يقيم دينه ويتمّ نوره ولو كره المضلّلون… ترقّبوا أمر الله في كلّ يوم… كلٌّ أسرى قبضته فأنّى يؤفكون. لا تحسبوا أمر الله شيئًا يُرضي به كلّ امرئ نزواته. ولقد ادّعى بعض النّاس هذه الدّعوى الآن في أماكن مختلفة. ولقد آن الأوان ليهلك كلّ واحد من هؤلاء، لا بل ليصبح غير مذكور كالتّراب”.
في هذه الظروف العصيبة مال حضرة بهاء الله إلى أن يختصّ ميرزا آقا جان “أوّل المؤمنين” به والملقّب فيما بعد بـ”خادم الله”، برشح من مجد مقامه الّذي لم ينكشف لأحد بعد. وكان ميرزا آقا جان شابًّا بابيًّا مخلصًا، هاجر من كاشان بعد أن رأى حضرة الباب في منامه، وبعد أن قرأ بعض آثار حضرة بهاء الله، وسافر إلى العراق آملاً في أن يفوز بمحضره ومنذ ذلك الحين واظب على خدمته أربعين سنة. وكان يؤدّي ثلاث خدمات: كتابة الوحي والمرافقة والخدمة. وقد روى ميرزا آقا جان للنّبيل بعد أن أدرك محضر حضرة بهاء الله بقليل ما وقع له في محضر محبوبه الّذي كان ضيفًا على الحاج ميرزا حسن حكيم باشي بكربلاء. وكانت أوّل ليلة لحضرته بكربلاء، ليلة لا تنسى قال: “كنّا في الصّيف. وكان من عادة حضرة بهاء الله أن يقضي الأمسيات وينام على سطح المنزل… وحين أوى إلى فراشه في تلك اللّيلة استلقيت غير بعيد عنه لآخذ قسطًا من الرّاحة تنفيذًا لأمره. وما كدت أقوم… لأصلّي في إحدى زوايا السّطح حتّى رأيت هيكله المبارك ينهض من فراشه ويقبل نحوي. فلما بلغني قال (**أأنت الآخر يقظان؟) ثم أخذ يذرع السّطح جيئة وذهابًا وهو يرتّل المناجاة. كيف أصف لك حلاوة الصّوت والمناجاة! كان كلّما خطا خطوة أو رتّل آية تراءت لي آلاف من بحار الأنوار تتلاطم، وتكشّفت لعيني آلاف من العوالم البهيّة تتلألأ وأشرقت عليّ آلاف من الشّموس. وأخذ يتمشّى ويرتّل المناجاة في ضوء القمر. وكلّما اقترب منّي توقّف وقال بنبرة تجلّ عن وصف كلّ واصف: (**اسمع يا ولدي! قسمًا بالله الحقّ الأحد! ليرتفعنّ هذا الأمر. فلا تسمع للغو أهل البيان الّذين يحرّفون معنى كلّ كلمة) وأخذ يتمشّى ويرتّل ويخاطبني بهذه العبارة حتّى لاحت تباشير الفجر… فأنزلت فراشه إلى غرفته. ولمّا انتهيت من إعداد الشّاي صرفني من محضره”.
هذه الثّقة الّتي اكتسبها ميرزا آقا جان عن طريق اتّصاله المباشر المفاجئ بروح الظّهور الجديد وعبقريّته الموجّهة حرّكت روحه من الأعماق، وهو الرّوح الّذي اشتعل من قبل بالمحبّة الفائقة الّتي ولّدها إدراكه لتفوّق مولاه الجديد على كلّ زملائه الأصحاب في العراق وإيران. وسرعان ما فطن ميرزا يحيى وشريكه المتآمر السّيّد محمّد إلى هذا الحبّ الّذي غلّف كيانه كلّه، والّذي لم يكن في الإمكان أن يُكبت أو يُحتجب. أضِف إلى ذلك أنّ الظّروف الّتي لابست نزول لوح “كلّ الطّعام” –أثناء هذه الفترة– زادت الحال المتأزّمة سوءًا على سوء. فقد رغب الحاج ميرزا كمال الدّين النّراقي البابيّ الممتاز في مكانته وثقافته إلى ميرزا يحيى أن يفسّر له الآية القرآنية “كلّ الطّعام كان حلاًّ لبني إسرائيل” فقبل ميرزا يحيى على مضض. وكتب تفسيرًا سطحيًّا عاجزًا أساء الحاج ميرزا كمال الدّين وأفقده الثّقة في صاحبه. ثمّ اتجه إلى حضرة بهاء الله وكرّر طلبه فشُرّف بلوح طابق فيه حضرة بهاء الله بين إسرائيل وبنيه وبين حضرة الباب وأتباعه. فسُرّ سرورًا بالغًا بلطف إشاراته وجمال عباراته وتساند بحثه واستدلالاته. ولولا وقوف حضرة بهاء الله في وجهه لأعلن للملأ آنذاك أنّ صاحبه هو سرّ الله المكنون.
وإلى تلك الشّواهد الدّالة على الإجلال المتزايد لحضرة بهاء الله، والتّعلّق الشّديد بشخصه أضيفت أسباب أخرى لثوران الحزازات المكبوتة الّتي ملأت بها هيبته الرّفيعة صدور حسّاده وأعدائه، من ذلك اتّساع دائرة معارفه والمعجبين به بصورة مطّردة، والصّلات الودّيّة الّتي قامت بينه وبين رجال الدّولة بمن فيهم حاكم المدينة، والإجلال التّلقائيّ الّذي أبداه نحوه أكثر من مرّة رجال كانوا من أنبغ أصحاب السّيّد كاظم [الرّشتي]، والاستياء الشّديد الّذي ولّده تستّر ميرزا يحيى، وتواتر الرّوايات الأكيدة حول خلقه وكفاءته، والأمارات الدّالّة على ازدياد استقلال حضرة بهاء الله وحكمته الفطريّة وهيمنته الكامنة وقدرته على الزّعامة. وقد تضافر كلّ ذلك على توسيع شقّة الخلاف والجفاء الّتي جاهد السّيّد محمّد اللّئيم الماكر في إيجادها وإحداثها.
ولم يعد من العسير على العين أن تلمح مقاومة خفيّة غايتها شلّ كلّ مجهود يبذله حضرة بهاء الله، أو أيّ تدبير يدبّره حتّى يستردّ للجامعة البائسة هيبتها وحقوقها المسلوبة، وتفشّت بينها تلميحات وتلويحات هدفها بذر الشّكوك والظّنون، وإظهار حضرة بهاء الله بمظهر المغتصب الهادم لشريعة حضرة الباب ودينه. واخذت آثاره وشروحه وتفاسيره ومناجاته تتعرّض للغمز واللّمز والنّقد والتّجريح المستور وإساءة الفهم. بل لقد بلغ الأمر أن دُبّرت محاولة للاعتداء على حياته لولا أنّها فشلت.
والآن طفحت كأس حضرة بهاء الله بالأحزان، ولم تفد كلّ الجهود الّتي بذلها لإنقاذ الحال من التّدهور والانحلال. ولقد تضاعفت آلامه بشكل ملحوظ حتّى أنّ آثاره في هذه الفترة الكئيبة تلقي ضوءًا ساطعًا على الحزن الّذي ملأه والخطورة الّتي آلت إليها الأمور. قال في بعض مناجاته إنّ “الشّدائد بكلّها أحاطتني… والأعداء بأجمعها أرادتني… والهموم بأعظمها أخذتني” وأشهد الله على أحزانه وآلامه وعلى عجزه وفقره والذّلّة الّتي مسّته. وفي لوح آخر أقسم أن “**عبراتي منعتني عن ذكر محامدك ونعوتك” وقال في فقرة أخرى “**ارتفع ضجيجي على شأن ذهلت كلّ ثاكلة عمّا أحزنها وأبكاها”. وقال في لوح مريم: “*محا ما لحقني من ظلم ما لحق اسمي الأوّل [حضرة الباب] من لوح الوجود… يا مريم إنّا وردنا عراق العرب من أرض الطّاء [طهران] بعد بلاءٍ لا يعدّ ولا يحصى. وابتلينا بغلّ الأحبّاء من بعد غلّ الأعداء وبعده الله يعلم ما ورد عليَ”. وقال مرّة أخرى: “** لقد تحمّلت من البلايا والرّزايا ما لا يقدر عليه أحد”. وفي لوح “كلّ الطّعام” شهد بأنّه “تموّجت عليّ أبحر الحزن الّتي لن يقدر أحد أن يشرب قطرة منها. وحزنت بشأن تكاد الرّوح أن تفارق من جسمي”. وفي اللّوح نفسه وصف حاله بقوله: “أن يا كمال! اسمع نداء تلك النّملة الذّليلة المطرودة الّتي خفي في وكره ويريد أن يخرج من بينكم ويغيب عنكم بما اكتسبت أيدي النّاس وكان الله شهيدًا بيني وبين عباده”. وقال مرّة أخرى ” “فآه آه!… لنسيت كلّ ما شهدتُ من أوّل يوم الّذي شربتُ لبن المصفّى من ثدي أمّي إلى حينئذ بما اكتسبت أيدي النّاس”. وأرخى العنان لقلبه الحزين الموجع في القصيدة الورقائيّة، الّتي كتبها أثناء اعتكافه بجبال كردستان تمجيدًا للحوريّة الّتي ترمز لروح الله والّتي هبطت عليه آنذاك، فقال:
فطوفان نوح عند نوحي كأدمعي وإيقاد نيران الخليل كلوعتي
وحزنـي مــا يعقـوب بــثّ أقلّــه وكلّ بِلى أيوب بعـض بليّتي([2])
وفي إحدى مناجاته قال: أي ربّ فأفرغ عليّ صبرًا فانصرني على القوم الفاسقين” وفي كتاب الإيقان وصف شدّة الحسد الّذي أخذ يكشّر عن أنيابه آنذاك فقال: “*وبالرّغم من أنّ رائحة الحسد تهبّ في هذه الأيّام… إلاّ أنّه منذ أوّل تأسيس هذا العالم… إلى يومنا هذا لم يظهر ولن يظهر مثل هذا الغلّ والحسد والبغضاء”. وفي لوح آخر قال: “**انقطعتُ عمّا سوى الله عامين أو نحوهما. وأغمضتُ عيني إلاّ عنه لعلّ تخمد نار البغضاء وتقلّ حرارة الحسد”.
ولقد شهد ميرزا آقا جان بأنّ “الجمال المبارك أظهر من الحزن ما ارتجفت له أطرافي” وروى أيضًا ما نقله النّبيل في تاريخه من أنّه رأى حضرة بهاء الله قبيل اعتكافه يخرج من بيته فجأة بين الفجر والشّروق وعلى رأسه قلنسوة النّوم، وعلى وجهه علائم غضب لم يرَ آقا جان مثلها من قبل، وقال في غضب وهو يمشي: “** هؤلاء هم الّذين عبدوا الأصنام وسجدوا للعجل منذ ثلاثة آلاف سنة، وهم اليوم لا يصلحون لأفضل من هذا. أيّة علاقة يمكن أن تقوم بينهم وبين وجه ذي الجلال؟! وأيّ صلة يمكن أن تربطهم بالمثل الأعلى لكلّ ما هو محبوب”. قال ميرزا آقا جان: “وقفت جامدًا بلا حراك كالشّجرة الميتة، وكدت أصعق من وقع كلماته الشّديدة. ثم قال حضرته أخيرًا: “مُرهم أن يتلوا قوله (هل من مفرج غير الله؟ قل سبحان الله! هو الله. كلّ عباد له وكلّ بأمره قائمون). مُرهم أن يقولوها خمسمائة مرّة بل ألف مرّة آناء الله وأطراف النّهار في اليقظة والمنام. لعلّ وجه ذي الجلال يتجلّى لعيونهم، وتتنزّل عليهم رشحات من النّور”. وبلغني فيما بعد أنّه تلا هذا الدّعاء والحزن مرتسم على وجهه… وكثيرًا ما كان يقـــول في تلك الأيّام: (أقمنا زمانًا بين هؤلاء القوم ولم نجد منهم أيّ استجابة ولو طفيفة). وكثيرًا ما كان يشير إلى تغيّبه عنّا، إلاّ أنّ أحدًا منا لم يكن يفهم مقصده”.
وأخيرًا فطن حضرة بهاء الله إلى الأمور الّتي ستقع، حسب قوله في كتاب الإيقان، فقرّر أن يعتكف قبل حدوثها. وقد أكّد في الكتاب نفسه أنّه “*لم يكن لي من قصد إلاّ أن لا أكون محلاًّ لاختلاف الأحباب أو مصدرًا لتقلّب الأصحاب أو سببًا لضرّ أحد أو علّة لحزن قلب”. وفي نفس الفقرة أكّد بقوّة أنّه “*لم يكن في فكري رجوع بعد المهاجرة، ولا رجاء في العودة بعد المسافرة”.
وفجأة ودون أن يخطر أحدًا حتّى من أهل بيته، رحل في الثّاني عشر من رجب 1270ﻫ الموافق للعاشر من نيسان 1854م يصحبه خادم مسلم يدعى أبو القاسم الهمداني أعطاه مبلغًا من المال وأوصاه أن يتّجر فيه لنفسه إلاّ أنّ اللّصوص هاجموا الخادم وقتلوه فيما بعد. وبقي حضرة بهاء الله وحيدًا فريدًا في فيافي كردستان. وهو إقليم عُرف أهله الأشّداء ذوو البأس بعدائهم التّقليديّ للإيرانيّين لأنّهم يعتبرونهم مارقين عن الإسلام، فضلاً عن اختلافهم عنهم في المظهر والعرق واللّغة.
هام حضرة بهاء الله في الفيافي والقفار، وارتدى خرقة الزّهّاد السّالكين الخشنة مكتفيًا بكشكول وغيار واحد من الملابس. وتسمّى باسم “الدّرويش محمّد” وأوى فترة من الزّمن إلى جبل سرﮔـلو، وهو جبل بعيد عن العمران حتّى أنّ الفلاّحين في هذه النّواحي لم يكونوا يزورونه إلاّ مرّتين في السّنة وقت البذر ووقت الحصاد. واعتكف على قمة هذا الجبل وحيدًا فريدًا في مسكن خشن صنع من الحجارة كان الفلاّحون يلوذون به إذا اكفهرّ الجوّ. وفي بعض الأحيان كان يأوي إلى كهف كثيرًا ما أشار إليه في ألواحه إلى الشّيخ عبد الرّحمن الشّهير وألواحه إلى مريم إحدى قريباته. وفي لوحه إلى مريم يصف وحدته القاسية المريرة: “*اخترت الهجرة وحيدًا فريدًا، وهمت على وجهي في الفيافي على شأن ناح الكلّ على غربتي، ونزفت كلّ الأشياء دمًا على كربتي. آنست طيور الصّحراء وجالست وحوش العراء”. ويشير في كتاب الإيقان إلى تلك الأيّام فيقول: “*جرت العبرات من عيوني كالعيون، وسالت بحور الدّم من قلبي. فكم من ليالٍ لم أجد قوتًا، وكم من أيّام لم أجد للجسد راحة… كنت مشغولاً بنفسي نابذًا ورائي العالم وما فيه”.
وفي كلّ الابتهالات الّتي أنزلها وهو غريق في تعبّده وتبتّله أيّام اعتكافه، وفي كلّ الأدعية والمناجاة الّتي تدفّقت من روحه الحزين نثرًا وشعرًا بالفارسيّة والعربيّة، وفي كلّ ما كان يرتّله لنفسه في الأسحار وسبحات الله مجّد أسماء خالقه الحسنى، وأثنى على أسرار ظهوره ومجدها، وتغنّى بالحوريّة الّتي ترمز إلى روح الله المتجلّي عليه، وتأمّل وحدته وانقطاعه وشدائده الماضية والقادمة، وأسهب القول في ضلال جيله وخيانة أصحابه والتواء أعدائه، وجدّد عزمه على النّهوض بل وبذل النّفس إذا اقتضى الأمر، لتوطيد دعائم أمره، ونبّه على الشّروط اللاّزمة لكلّ باحث عن الحقيقة. وفي تفطّنه إلى مصيره استعاد إلى الأذهان مأساة الإمام الحسين في كربلاء وحال حضرة محمّد في مكّة، وعذاب السّيد المسيح على يد اليهود، ومحنة حضرة موسى على يد فرعون وآله، وكرب حضرة يوسف في الجبّ الّذي ألقاه فيه إخوته الخونة. كانت هذه هي الفيوضات الأولى الملتهبة لروح كانت تجاهد في أن تضع حملها في عزلة نفيه الاختياريّ (وممّا يؤسف له أن الأجيال القادمة حرمت الكثير منها). ويمكن أن تعتبر هي ولوح “كلّ الطّعام” وقصيدة “رشح العماء” النّازلة في طهران بواكير القلم الأعلى، والبشير السّاعي بين يدي كتاب الإيقان والكلمات المكنونة والوديان السّبعة، وهي الكتب الخالدة الّتي زادت من خصوبة آثاره في السّنوات الّتي سبقت إعلان ظهوره في بغداد، ومهّدت الطّريق، أثناء إعلانه التّاريخيّ، لازدهار عبقريّته الإلهيّة المطرّزة بطراز الألواح القويّة الصّادرة إلى الملوك وحكّام الجنس البشريّ، ثمّ يسّرت لظهوره أن يؤتي أكله آخر الأمر بنزول شرائع دورته وأحكامها في السّجن الأعظم بعكّاء.
ظلّ حضرة بهاء الله معتكفًا على ذلك الجبل حتّى سعى إليه شيخ يقيم بالسّليمانية وله بعض الممتلكات في تلك النّواحي، وقد دفع الشّيخ إلى هذه الزّيارة رؤيا رأى فيها محمّدًا رسول الله يوجّهه إليه. وبعد هذه الزّيارة بقليل، زاره الشّيخ إسماعيل قطب الطّريقة الخالديّة في السّليمانيّة، وبعد إلحاح شديد من جانب الشّيخ إسماعيل قبل حضرة بهاء الله أن يقيم في المدينة. وفي تلك الأثناء عرف أصحابه في بغداد مقرّه، فأرسلوا إليه الشّيخ سلطان حما آقاي كليم يلتمس منه أن يعود. ووصل رسولهم إلى السّليمانيّة بينما كان حضرة بهاء الله مقيمًا في إحدى خلوات تكيّة مولانا خالد. وروى الشّيخ سلطان للنّبيل: “وجدت مخالطيه ومعاشريه، من أستاذهم إلى أصغر المريدين، متعلّقين بحضرة بهاء الله، هائمين بحبّه، شغوفين بمحضره فلا يمكنهم الصّبر على مفارقته ولا احتمال البعد عنه. وكنت على يقين من أنّني لو أخبرتهم بما جئت من أجله لما تردّدوا في قتلي”.
ويروي الشّيخ سلطان أنّ الشّيخ عثمان شيخ الطّريقة النّقشبنديّة وقطبها، والشّيخ عبد الرّحمن شيخ الطّريقة القادريّة وقطبها، والشّيخ إسماعيل شيخ الطّريقة الخالديّة وقطبها اتّصلوا بحضرة بهاء الله بعد وصوله إلى كردستان بقليل فأسر قلوبهم وتفوّق عليهم تفوّقًا كاملاً، أمّا أوّل هؤلاء وهو [الشّيخ عثمان] فكان سلطان تركيّا وحاشيته من جملة أتباعه. أمّا الثّاني [الشّيخ عبد الرّحمن] فكان يسيطر بسلطان على ما لا يقلّ عن مئة ألف من الأتباع المخلصين، وهو الّذي نزل لوح “الوديان الأربعة” فيما بعد إجابة عن سؤاله. بينما كان الثّالث [الشيخ إسماعيل] يقع في نفوس مريديه موقع الشّيخ خالد مؤسّس الطّريقة.
وحينما وصل حضرة بهاء الله إلى السّليمانيّة لم يحسب أحد أنّه على شيء من العلم أو الحكمة نظرًا لما التزمه في بادئ الأمر من الصّمت الشّديد وما توخّاه من التّحفّظ البالغ. وحدث أنّ أحد التّلاميذ الّذين يقومون على خدمته أطلع أساتذة تلك التّكيّة ومريديها على شيء من كتابته البارعة. فأثار ذلك الفضول عند أساتذة تلك التّكيّة ومريديها، وعمدوا إلى التّقرّب إليه واختبار درجة علمه ومدى معرفته بتلك العلوم المتداولة بينهم. وكان هذا المركز العلميّ مشهورًا بأوقافه الشّاسعة، وتكاياه العديدة، وصلته بصلاح الدّين الأيوبي وسلالته. وفيه تخرّج كثير من نوابغ أهل السّنّة ونشروا علومهم وأفكارهم. فزار حضرة بهاء الله وفد منه يرأسه الشّيخ إسماعيل، ويتألّف من أفقه العلماء وأنبغ الطّلاب، ولمّا وجدوه على استعداد للإجابة عن أيّ سؤال لهم طلبوا إليه أن يوضّح لهم، في عدة جلسات، الفقرات الغامضة من كتاب الفتوحات المكّيّة لمحيي الدّين ابن عربي الشّهير. فكان جواب حضرة بهاء الله للوفد المثقّف “**يشهد الله أنّني لم أرَ قط الكتاب الّذي تذكرونه، إلاّ أنّني أعتبر ما تريدونه منّي أمرًا يسهل تحقيقه بقوّة الله” فأمر أحدهم أن يقرأ عليه كلّ يوم صفحة من ذلك الكتاب. فوضّح غوامضه وحلّ معضلاته بما أغرقهم في الإعجاب. ولم يقنع بهذا بل زاد عليه بأن بيّن لهم عقليّة مؤلّفه، وفصّل لهم مذهبه، وأماط اللّثام عن غايته وكان في بعض الأحيان يذهب إلى أبعد من هذا وذاك فيناقش صحّة بعض الآراء الواردة في الكتاب، ويقدّم لهم عرضًا صحيحًا للقضايا الّتي أسيء فهمها، ويدعم هذا العرض بالشّواهد الدّامغة والبراهين المقنعة.
دهشوا لنفاذ بصيرته وعمق فهمه، فاختاروا شيئًا اعتبروه دليلاً أخيرًا وحاسمًا على قدرته الفذّة وعرفانه الفريد الّذي تجلّى لهم الآن بوضوح. فقالوا وهم يبتغون المزيد من فضله: “لم يستطع أيّ متصوف ولا حكيم ولا عالم أن يعارض تائيّة ابن الفارض الكبرى حتّى الآن. وإنّا لنرجو أن تنظم لنا قصيدة من نفس الوزن والقافية”. فاستجاب لهم حضرة بهاء الله وأملى عليهم ما لا يقلّ عن ألفي بيت من نفس الوزن والقافية. ثم انتخب منها مائة وسبعة وعشرين بيتًا أذن لهم في حفظها. أمّا بقيّة الأبيات فقد اعتبرها سابقة لأوانها ولا تتّفق مع احتياجات أهل العصر. وهذه الأبيات المائة والسّبعة والعشرون، المعروفة بـ”القصيدة الورقائيّة” مألوفة لدى أتباعه النّاطقين بالعربيّة وهي منتشرة بينهم انتشارًا واسعًا.
وقد بلغ إعابهم بهذا الدّليل على حكمة حضرة بهاء الله وعبقريّته أنّهم اجمعوا على أنّ لكلّ بيت من القصيدة قوّة وجمالاً يفوقان كلّ ما احتوته قصيدتا ذلك الشّاعر العظيم الصّغرى والكبرى معًا.
إنّ هذه القصّة الّتي كانت أبرز الحوادث الّتي وقعت خلال سنتي غياب حضرة بهاء الله عن بغداد، أثارت لدى عدد متزايد من العلماء والفقهاء والمشايخ والأقطاب والأمراء الّذين احتشدوا في مدارس السّليمانيّة وكركوك الفقهيّة اهتمامًا عظيمًا، فأخذوا يتتبّعون نشاطه يومًا بيوم. ففتح لهم آفاقًا جديدة بالكثير من أحاديثه وألواحه، وحلّ لهم المشكلات الّتي كانت تؤرّقهم، وكشف لهم عمّا لم يفطنوا إليه من المعاني الخفيّة الغامضة في كتابات المفسرين والشّعراء وأهل الكلام، وأزال الخلاف الظّاهري بين مطالب الكثير من الأبحاث والقصائد والمقالات. ولقد بلغ من إجلالهم له أن اعتبره بعضهم من “رجال الغيب”، و”قطب الكون” بينما ظنّ قوم آخرون أنّه بارع في علوم الكيمياء والتّنجيم، وذهب عدد لا يستهان به من المعجبين إلى أنّ مقامه لا يقلّ عن مقام الأنبياء بحال من الأحوال. ومهما يكن من أمر، فقد أجمع على إجلاله كلّ من عرفه من الأكراد والعرب والعجم سواء منهم العالم والجاهل، الرّفيع والوضيع، الشّباب والكهول. كما أحبّه عدد ليس بالقليل منهم حبًّا عميقًا وأعجبوا به إعجابًا أصيلاً، كلّ ذلك رغم بعض التّصريحات والتّأكيدات الّتي جرت على لسانه تنويهًا بمقامه، والّتي لو تحرّك بها لسان غيره من بني جنسه لأثار من الغضب ما يعرّض حياته للخطر. فلا عجب أن قال حضرة بهاء الله في لوح مريم عن فترة اعتكافه إنّها كانت “*أعظم حجّة وأتمّ وأقوم برهان” على صدق ظهوره. وبهذا شهد حضرة عبد البهاء فقال: “**انجذبت كردستان من محبّته في مدّة وجيزة وفي أثناء تلك الفترة كان حضرة بهاء الله يعيش عيشة الكفاف، ويلبس ملابس الفقراء والمحتاجين، ويأكل طعام البؤساء والمساكين. إلا أنّ هالة الجلال كانت تحيط به كالشّمس في رائعة النّهار. وكان يلقى الإجلال والتّكريم في كلّ مكان”.
وبينما كان أساس عظمة حضرة بهاء الله المقبلة يوضع في أرض غريبة وبين قوم غرباء كانت حال البابيّين تسير من سيّئ إلى أسوأ. فقد فرح المفسدون وجرّأهم اعتكافه الطّويل المفاجئ وانسحابه عن مرسح جهاده وانهمكوا هم وأعوانهم الضّالون في توسيع نطاق نشاطهم البغيض. وكان ميرزا يحيى معتكفًا في داره معظم الوقت، يكاتب سرًّا أولئك الّذين وثق بهم من البابيّين ليشنّ حملة يجرّد بها حضرة بهاء الله من كلّ فضل أو مزيّة. وخوفًا من أن يخرج عليه خصم قويّ أرسل ميرزا محمّد المازندراني، أحد أعوانه، إلى آذربيجان بهدف محدّد عاجل وهو أن يغتال “الدّيّان” “مكمن لئالئ العلم الإلهيّ” والّذي لقّبه ميرزا يحيى بـ”أبي الشّرور” وكنّاه بـ”الطّاغوت” على حين شرّفه حضرة الباب بلقب “الحرف الثّالث المؤمن بمن يظهره الله”. ومن فرط حماقته أغرى ميرزا آقا جا بأن يسافر إلى نور ويتحيّن الفرصة المواتية فيغتال الشّاه. بل لقد بلغت به الوقاحة والتّبجّح أن ارتكب فاحشة شنعاء، وأذن للسّيّد محمّد أن يكرّرها من بعده. وقد وصف حضرة بهاء الله تلك الفعلة الشّنعاء بأنّها “خيانة عظمى” جرّت العار على حضرة الباب، “*وأخذ الحزن جميع الأقطار”. كما أمر باغتيال ابن عمّ حضرة الباب، ميرزا علي أكبر. وكان من أعظم المعجبين بالدّيّان. فكان اغتياله ظلمًا دليلاً جديدًا على جسامة جرائمه. أمّا السّيّد محمّد الّذي أطلق له مولاه ميرزا يحيى العنان، فقد أكّد النّبيل الّذي كان معه آنذاك في كربلاء أنّه أحاط نفسه بشرذمة ممّن لا أخلاق لهم. وأذن لهم، بل وشجّعهم، على أن يختطفوا ليلاً عمائم أغنياء الزّوار المجتمعين في كربلاء، وأن يسرقوا أحذيتهم، ويسلبوا مقام الإمام الحسين ويجرّدوه من دواوينه وقناديله، وأن يستولوا على أواني الشّرب من المشارب العامّة. وكان ذلك الانحطاط الّذي تردّى فيه من يزعمون الانتماء إلى البابيّة مدعاة لأن يتذكّر النّبيل الزّهد والترّفع اللّذين امتاز بهما أصحاب المُلاّ حسين حين ألقوا بالذّهب والفضّة والفيروز على قارعة الطّريق في ازدراء إطاعة لأمر قائدهم، ولأن يتذكّر مسلك وحيد حين أمر ألاّ يتناول أحد شيئًا من الكنوز الثّمينة الّتي احتواها منزله الفاخر في يزد قبل أن ينهبه العوام، ومسلك الحجّة حين حرّم على أصحابه المشرفين على الهلاك جوعًا أن يمسّوا شيئًا من أموال الآخرين حتّى ولو كان ذلك للإبقاء على حياتهم.
ولقد بلغ من جرأة هؤلاء البابيّين المنحطّين الضّالّين ووقاحتهم أن زعم ما لا يقلّ عن خمسة وعشرين منهم، حسب تأكيد حضرة عبد البهاء، أنّه هو الموعود الّذي تنبّأ به حضرة الباب. كما بلغ من خيبتهم أنّهم لم يكونوا يجسرون على الظّهور علانية أمام الملأ لأنّ الأكراد والعجم كانوا يستهزئون بهم وبدينهم وينهالون عليهم سبًّا وسخرية إذا صادفوهم في الطّريق. فلا عجب أن وصف حضرة بهاء الله الحال الّتي وجد هؤلاء عليها عند عودته إلى بغداد بقوله: “*ما شاهدنا إلاّ عددًا قليلاً من الخاملين الّذين لا روح لهم، بل إنهم كانوا مفقودين ميّتين. لم يكن هناك ذكر لأمر الله. ولم نشهد قلبًا واحدًا عامرًا به”. ولقد بلغ من حزنه بعد عودته أنّه رفض أن يغادر بيته زمنًا ليس بالقصير. ولم يكن يغادره إلاّ ليزور الكاظمين أو ليجتمع بين الحين والآخر بقليل من أصحابه في هذه المدينة أو في بغداد.
نعم، إن الحال المحزنة الّتي تدهورت وتطوّرت أثناء غيابة سنتين حتّمت أن يعود. وقد بيّن ذلك في كتاب الإيقان بقوله: “*وأخيرًا صبرنا إلى أن صدر حكم الرّجوع من مصدر الأمر، ولم يكن هناك بدّ من التّسليم له”. ويروي النّبيل في تاريخه أنّ حضرة بهاء الله أكّد ذلك للشّيخ سلطان فقال: “**والله الّذي لا إله إلاّ هو! لولا أنّني أدرك أنّ أمر النّقطة الأولى يوشك أن يمحى، وأنّ هذه الدّماء الّتي سالت في سبيل الله تكاد تذهب سدًى لما رضيت قط أن أرجع إلى أهل البيان، ولتركتهم وما يعبدون من أصنام صوّروها بخيالهم تصويرًا”.
أضف إلى ذلك أنّ ميرزا يحيى ألحّ في الكتابة إليه بضرورة العودة، وخاصّة بعد أن رأى رأي العين ما جرّه تصريفه الأخرق لأمور الدّين. ولم تكن توسّلات ذوي قرباه وأصدقائه بأقلّ إلحاحًا، ولا سيّما توسّلات ابنه حضرة عبد البهاء ذي الاثني عشر ربيعًا. فقد حزّت الوحدة والحزن في نفسه بحيث أقسم في سياق حديث أورده النّبيل أنّه شابَ في صباه.
فلمّا عزم حضرة بهاء الله على أن ينهي فترة اعتكافه ودّع شيوخ السّليمانيّة الّذين أصبحوا آنذاك من أعظم المعجبين به، وأخلص المحبّين له، كما ثبت من مسلكهم فيما بعد. ورجع على مهل مع الشّيخ سلطان إلى بغداد “**على شاطئ نهر البلايا” ولقد أكّد حضرة بهاء الله لرفيقه في السّفر أنّ أيّام اعتكافه هذه “**هي أيّام السّلام والهدوء الوحيدة” الّتي قدّر له أن يتمتّع بها “**والّتي لن تكون من نصيبي من بعد ذلك أبدًا”.
وفي اليوم الثّاني عشر من رجب 1272هـ (الموافق للتّاسع عشر من آذار 1856م) وصل إلى بغداد أي بعد سنتين قمريّتين كاملتين قضاهما في كردستان.
([1]) Nicolaevitch Alexander II
([2]) البيتان هما من القصيدة التّائيّة الكبرى لابن فارض، ويجب التّوضيح أنّه كما أشار حضرة شوقي أفندي في الصّفحة 152 من هذا الكتاب أنّ القصيدة “الورقائيّة” التي نظمها حضرة بهاء الله كانت في الأصل ألفي بيت اختار منها مائة وسبعة وعشرين بيتًا مطبوعة ومنشورة في “آثار القلم الأعلى” الجزء الثّالث بواسطة مؤسّسة الطّبع والنّشر البهائيّة في طهران، ولا مانع لإدخال أبيات من التّائيّة الكبرى بلفظها ومعناها تضمينًا في تلك القصيدة الأصليّة وذلك استشهادًا للتّعبير عن عظم البلايا وفداحة المصائب الّتي كان يعانيها حضرة بهاء الله في تلك الأيّام.
إنّ عودة حضرة بهاء الله من السّليمانيّة إلى بغداد تشير إلى تحوّل على جانب عظيم من الأهمّيّة بالنّسبة لتاريخ القرن البهائيّ الأوّل. فقد أخذت أحوال الدّين ترتقي بعد أن هبطت إلى أدنى المستويات، ثمّ قدّر لها أن تستمرّ في الرّقيّ والارتفاع بقوّة لتصل إلى قمّة عالية جديدة، ترتبط هذه المرّة بإعلان دعوته عشيّة نفيه إلى الآستانة. نعم، بعودته إلى بغداد أخذت الأمور تستقرّ استقرارًا لم تشهده من قبل، ذلك لأنّ الدّين لم يكن باستطاعته أن يَدَّعي، من قبل، أنّ له مركزًا ثابتًا يتّجه إليه أتباعه، أو يلتمسون منه الهداية، أو يستمدّون منه الإلهام المستمرّ، اللّهم إلاّ في سنواته الثّلاث الأولى. وبعدها قضى حضرة الباب ما لا يقلّ عن نصف عهده القصير سجينًا في أقاصي البلاد، منقطعًا بالضّرورة عن الغالبيّة العظمى من أتباعه. أمّا الفترة الّتي تلت استشهاده مباشرة فقد تميّزت باضطراب كان أدعى للأسف من عزلته النّاتجة عن حبسه الاضطراريّ. وحتّى حين لاح الظّهور الّذي تنبّأ به فإنّه لم يشفعه إعلان مباشر يمكّن الجامعة الموزّعة من الالتفاف من جديد حول مخلّصهم الموعود. وقد ساعد على إطالة الاضطراب والفوضى الّتي مرّت بها جامعة البابيّين تستّر ميرزا يحيى الرّأس الّذي عيّن مؤقتًا حتّى يصل بهم إلى ظهور الموعود. كما ساعد عليها غياب حضرة بهاء الله عن موطنه لمدّة تسعة أشهر في زيارة لكربلاء، وسجنه في سياه ﭼـال بعد ذلك بسرعة. ونفيه إلى العراق، ثم اعتكافه في كردستان.
ومهما تفاوتت نظرات البابيّين لمقام حضرة بهاء الله، فقد وجدوا أنفسهم آخر الأمر قادرين على أن يركّزوا آمالهم وأعمالهم حول رجل يؤمنون بقدرته على تأمين سلامة الدّين. وقد تمّ هذا على الرّغم من أنّ حضرة بهاء الله لم يكن يودّ أن يبوح بسرّ مقامه. ومنذ ذلك الحين استقرّت أمور الدّين بعودتها إلى نصابها، ودورانها حول مركزها الثّابت. وأصبح هذا الاستقرار من ملامح أمور الدّين البارزة الّتي لم يحرم منها بعد ذلك ابدًا بصورة أو بأخرى.
وقد لاحظنا، من قبل، أنّ دين حضرة الباب أشرف على الخمود نتيجة لتلك الضّربات الهائلة المتلاحقة الّتي تلقّاها. كما أنّ الظّهور الجبّار الّذي تجلّى على حضرة بهاء الله في سياه ﭼـال لم ينتج على الفور نتائج محسوسة تثبّت أقدام الجامعة الّتي كادت تنهار. أضف إلى ذلك أنّ نفيه المفاجئ كان ضربة أخرى للجامعة الّتي تعلّمت أن تعتمد عليه. وكان احتجاب ميرزا يحيى وتستّره وخموله معجّلاً لعمليّة التّدهور والانحطاط الّتي بدأت من قبل. كما بدا أنّ اعتكاف حضرة بهاء الله في كردستان قد قضى عليها بالانحلال النّهائي.
إلاّ أنّ الجزر الّذي انحسرت أمواجه بصورة مخيفة أخذ الآن ينقلب إلى مدّ يشرف على الفيضان، ويحمل معه بركات نفيسة تبشّر بإعلان الظّهور الّذي تجلّى على حضرة بهاء الله سرًّا.
وربّما لم يكن من المبالغة أن نقول إنّ الجامعة البهائيّة تحت اسم الجامعة البابيّة وبصورتها قد ولدت فعلاً. وأخذت تتشكّل، وإن كان مؤسّسها يظهر ويجاهد في ثياب أحد أصحاب حضرة الباب المتفوّقين على مدى هذه السّنوات السّبع الّتي تمتدّ بين استئنافه جهوده وإعلانه دعوته، وهي السّنوات الّتي نوجّه إليها اهتمامنا الآن. على مدى هذه السّنوات السّبع اطّرد اضمحلال نفوذ من كان مرشّحًا لقيادة البابيّين وأفول نجمه أمام إشراق نيّر قائدها الفعليّ ومنقذها الحقيقيّ. وعلى مداها نضجت بواكير ذلك المنفيّ المزوّد بإمكانيّات لا حصر لها، وأوشكت على الحصاد. وهي فترة تدخل التّاريخ على أنّها الفترة الّتي استعادت خلالها الجامعة نفوذها واستردّت هيبتها بعد أن خلقت خلقًا جديدًا، وصلحت خلقيّتها صلاحًا كاملاً، ورسخ لديها الاعتراف بمن استردّ لها حقوقها وأقالها من عثرتها رسوخًا حماسيًّا بالغًا، وازدادت فيها كتاباتها وآدابها ثراء وخصوبة، وسجّلت فيها الجامعة انتصاراتها الجديدة على اعدائها الجدد.
أخذت هيبة المؤمنين، وبخاصّة هيبة حضرة بهاء الله، تعلو الآن باطّراد منذ ابتدائها في كردستان. وما كاد حضرة بهاء الله يتولّى زمام الأمور الّتي تنحّى عنها من قبل حتّى أخذت جماهير المعجبين المخلصين الّذين تركهم في السّليمانيّة يفدون على بغداد وألسنتهم تلهج باسم “الدّرويش محمّد”، وأقدامهم تقودهم إلى بيت ميرزا موسى البابيّ. فدهش رجال الدّين في المدينة، من أمثال ابن الآلوسي مفتي بغداد الشّهير والشّيخ عبد السّلام والشّيخ عبد القادر والسّيد الدّاودي، لمنظر هؤلاء الأكراد من علماء الصّوفية من أتباع الطّريقة القادريّة والخالديّة وهم يتزاحمون بالمناكب على بيت حضرة بهاء الله. وحداهم التّنافس العنصريّ والمذهبيّ إلى أن يفوزوا بمحضره هم الآخرون. فلمّا ظفروا منه بالإجابات الكافية الشّافية عن أسئلتهم العديدة انخرطوا هم أيضًا في سلك المعجبين المقرّبين. ولقد أثار إقرار هؤلاء الأفذاذ بالسّمات العالية الّتي تميز بها مسلك حضرة بهاء الله وخلقه اهتمام جمهور غفير من المشاهدين الأقلّ مركزًا، وأطلق ألسنتهم فيما بعد بمدحه والثّناء عليه. وكان منهم الشّعراء والمتصوّفون والنّابهون، المقيمون منهم والزّائرون، وأخذ رجال الدّولة، وعلى رأسهم عبد الله باشا ونائبه محمود آقا والمُلاّ علي مردان الكرديّ المعروف لدى هذه الدّوائر الإداريّة، يتّصلون به شيئًا بعد شيء، وضربوا بسهمهم الوافر في إذاعة شهرته المسرعة في الانتشار. أضف إلى ذلك أنّ الإيرانيّين النّابهين المقيمين ببغداد والزّائرين للمقامات المقدّسة بها لم يستطيعوا أن يظلّوا جامدين أمام سحر شخصيّته، كما انجذب إلى دائرة معارفه وأصدقائه المتوسّعة باستمرار بعض الأمراء الّذين تجري في عروقهم الدّماء الملكيّة من أمثال نائب الإيالَة وشجاع الدّولة وسيف الدّولة، وزين لعابدين خان فخر الدّولة.
أمّا هؤلاء الّذين كانوا يسخرون من أصحاب حضرة بهاء الله وذوي قرباه ويسبّونهم سرًّا وعلانية، أثناء غيابه عامين عن بغداد، فقد سكت معظمهم، وتظاهر عدد ليس بالقليل منهم باحترامه وإجلاله، بل لقد ادّعى بعضهم أنّهم أنصاره وأولياؤه، بينما اعترف آخرون بمشاركتهم إيّاه في عقائده وانضمّوا فعلاً إلى صفوف الجامعة الّتي تنتمي إليه. بل لقد بلغ من ردّ الفعل أن افتخر أحدهم بأنّه قد فطن إلى دين حضرة الباب واعتنقه منذ سنة 1250هـ، أي قبل إعلان حضرة الباب لأمره بعشر سنوات!
وهكذا لم تمضِ على عودة حضرة بهاء الله من السّليمانيّة سوى أعوام قليلة حتّى انقلبت الآية تمامًا. وأصبح منزل “سليمان الغنّام” الّذي انتقلت إليه أسرته قبيل رجوعه من كردستان كعبة القصّاد والزّوار والحجّاج من الأكراد والعجم والعرب والأتراك، المسلمين منهم واليهود والمسيحيّين. كما أصبح ملاذًا أمينًا يلوذ به كلّ من ظلمهم ممثّلو الحكومة الإيرانيّة أملاً في الانتصاف لهم ممّا لحقهم من الأذى والظّلم. وكان منزل “سليمان الغنّام” هذا يعرف آنذاك بمنزل موسى البابيّ، ولكنّه عرف رسميًّا فيما بعد بـ”البيت الأعظم”. وهو منزل متوسّط يقع في حيّ الكرخ على مقربة من الضّفة الغربيّة لنهر دجلة.
وفي الوقت نفسه أخذت أفواج البابيّين الإيرانيّين تطغى على أمواج الزّائرين المتدفّقين على أبوابه الكريمة، يحدوهم الأمل في الفوز بمحضره المنير. فإذا عادوا إلى وطنهم مزوّدين بالشّهادات الخطّيّة والشّفهية الدّالّة على نهضة الدّين القويّة وتقدّمه المتزايد لم يعجزوا عن توسيع دائرة الدّين الّذي ولد من جديد. وكان من بين الزّائرين والأصحاب المؤمنين الّذين فازوا بلقائه ولمحوا سناء جلاله وأذاعوا تأثير اتّصالهم بروحه أربعة من أبناء خؤولة حضرة الباب وخاله الحاج ميرزا سيّد محمّد، وإحدى حفيدات فتح علي شاه، وكانت من المعجبات المتحمّسات بالطّاهرة، وفازت بلقب “ورقة الرّضوان”، والمُلاّ محمّد القائني العلاّمة الملقّب بـ”النّبيل الأكبر”، والمُلاّ صادق الخراساني المشهور الملقّب بـ”اسم الله الأصدق”، وهو الّذي اضطهد مع القدّوس في شيراز اضطهادًا شنيعًا، والمُلاّ باقر أحد حروف الحيّ، والسّيد أسد الله الملقّب بـ”الدّيّان”، وفضيلة السّيّد جواد الكربلائي، وميرزا محمّد حسن وميرزا محمّد حسين الملقّبان فيما بعد بـ”سلطان الشّهداء” و”محبوب الشّهداء” وميرزا محمّد علي النّهري، الّذي تزوّج حضرة عبد البهاء ابنته فيما بعد، والسّيد إسماعيل الزّواري، والحاج الشّيخ محمّد الّذي لقبّه حضرة الباب بـ”النّبيل”، وميرزا آقاي منير الأديب الملقّب بـ”اسم الله المنيب”، والحاج محمّد تقي الّذي قاسى كثيرًا فلقّب بـ”أيّوب”، وملاّ زين العابدين الملقّب بـ”زين المقرّبين”، وكان من أفاضل المجتهدين. أمّا المُلاّ محمّد الزّرندي، الملقّب بـ”النّبيل الأعظم” والّذي يمكن أن يعدّ بحقّ شاعر حضرة بهاء الله المدّاح ومؤرّخة وصحابيّه النّابه، فقد التحق بالمنفيّين وأخذ يقوم بسلسلة رحلاته الطّويلة المضنية إلى إيران لترويج أمر محبوبه.
لا، بل إنّ هؤلاء الّذين بلغت بهم الحماقة والوقاحة إلى حدّ انتحال امتيازات “من يظهره الله” ومقامه سواء في بغداد أو كربلاء أو قم أو كاشان أو تبريز أو طهران، اضطروا بالسّليقة إلى التماس المثول بين يديه حيث اعترفوا بخطاياهم وطلبوا الصّفح والغفران. أمّا المهاجرون الّذين أضناهم الخوف الدّائم من الاضطهاد فقد أخذوا –على مر الأيّام– يلتمسون هم وأزواجهم وأولادهم، الأمن النّسبيّ الّذي يكفله لهم قربهم ممّن أصبح مناط أمر الجامعة المضطربة وقطب رحاها. وأخذ كبار المنفيّين من العجم يجلسون عند قدميه، غير مبالين بما يمليه عليهم الاعتدال والحذر أمام نفوذ حضرة بهاء الله الصّاعد، ولا مكترثين لكرامتهم وعزّتهم ليرتشف كلّ واحد منهم من حكمته وروحه على قدر كفايته واستعداده. بل لقد حاول بعض قصار النّظر من ذوي الطّموح، أمثال عبّاس ميرزا ابن محمّد شاه، والوزير نظام وميرزا ملكم خان وغيرهم من عملاء الحكومات الأجنبيّة، أن يفوزا بمعونته ومؤازرته لخططهم ومشروعاتهم، الأمر الّذي رفضه حضرة بهاء الله رفضًا قاطعًا. بل إنّ الكولونيل السّير أرنولد بَرُّوز كِمبل([1]) القنصل العام للحكومة الإنجليزيّة في بغداد آنذاك بدأ يدرك المركز الّذي شغله حضرة بهاء الله فدخل معه في مراسلات ودّيّة بادئ الأمر، ثمّ عرض عليه الرّعويّة الإنجليزيّة، كما يشهد حضرة بهاء الله، وزاره بنفسه وتعهّد له أن يبلّغ الملكة فيكتوريا كلّ ما يرغب في إرسالة لها. بل لقد أفصح عن استعداده للعمل على نقل حضرة بهاء الله إلى الهند أو إلى أيّ مكان آخر يختاره ولكنّ هذا الاقتراح لم يلقَ قبولاً من حضرة بهاء الله الّذي فضّل أن يعيش في أملاك سلطان تركيّا. وأخيرًا أثّرت في نامق باشا الوالي آيات التّقدير وعلامات الإجلال الّذي يلقاه حضرة بهاء الله، فزاره في آخر سنوات إقامته ببغداد ليؤدّي ما يجب عليه نحو من سيطر كلّ هذه السّيطرة على أفئدة كلّ من فازوا بلقياه. وقد بلغ من احترام الوالي لمن اعتبره نورًا من أنوار العصر أنّه ظلّ ثلاث أشهر عاجزًا عن أن يستجمع أطراف شجاعته ليبلّغ حضرة بهاء الله رغبة الحكومة التّركيّة في أن يرحل إلى العاصمة. وفي خلال هذه الأشهر الثّلاثة تلقّى الوالي خمسة أوامر متوالية من عالي باشا بهذا المعنى. وفي ذات مرّة انتدب حضرة بهاء الله حضرة عبد البهاء وآقاي كليم لزيارته فرحّب بهما ترحيبًا حارًا دفع نائب الوالي إلى أن يقول إنّه لم يعرف حتّى آنذاك شريفًا من أشراف المدينة لقيه والٍ من الولاة بكلّ هذه الحفاوة وهذا التّشريف. والواقع أنّ السّلطان عبد المجيد قد أذهلته التّقارير الطّيّبة الّتي كتبها الولاة المتعاقبون بشأن حضرة بهاء الله بصورة جعلته يرفض الاستجابة إلى الحكومة الإيرانيّة الّتي كانت تلحّ في المطالبة بتسليمه إلى ممثّلها، أو نفيه من الأراضي التّركيّة (وهذا ما شهد به مندوب الحاكم بنفسه لحضرة بهاء الله).
ومنذ تلك الأيّام الّتي كان حضرة الباب يلقى الحفاوة الحماسيّة من جانب الأهلين في إصفهان وتبريز وچـهريق، لم يحدث أن علا أمر أحد من أقطاب الدّين لدى الرّأي العام كلّ هذا العلوّ، أو أثّر في دائرة من المعجبين تبلغ هذا المبلغ من الاتّساع والتّنوع كلّ هذا التّأثير الفعّال البعيد المدى. وعلى الرّغم من أنّ النّفوذ الّذي مارسه حضرة بهاء الله أثناء إقامته ببغداد خلال عهود الدّين الأولى لم يكن له مثيل من قبل إلاّ أنّ مداه كان متواضعًا في تلك الفترة إذا قيس بعظمة ما بلغه الدّين من شهرة في أواخر العصر نفسه في أوروبّا وأمريكا عن طريق اتّصالهما المباشر بمركز الميثاق وإلهامه المحيط.
ولم تتجلَّ سيادة حضرة بهاء الله في ناحية قدر ما تجلّت في قدرته على توسيع نظرة الجامعة الّتي ينتمي إليها وتحويل طبيعتها. فعلى الرّغم من أنّه كان بابيًّا، اسمًا وانتماءً، وأنّ شريعة البيان ملزمة ولا يمكن تخطّيها، إلا أنّه استطاع أن يلقّنهم من المستويات الخلقيّة ما يفوق أرفع المبادئ الّتي قرّرتها الدّورة البابيّة دون المساس بمعتقداتها الأساسيّة. كما أنّه وضّح الحقائق الأساسيّة الصّحيحة الّتي اعتنقها حضرة الباب، والّتي كانت مبهمة أو مهملة أو مفسّرة تفسيرًا خاطئًا، وأكّدها من جديد، وأدخلها في حياة الجامعة المتماسكة، وألهم بها أرواح أفرادها. ومن أبرز ملامح الدّستور الخلقيّ الّذي تكامل بفضل ما نزّل في غضون تلك السّنوات من قلم حضرة بهاء الله المثابر من كتب ومقالات وألواح، التّنبيه على انفصال الدّين البابيّ عن كلّ صورة من صور النّشاط السّياسيّ وعن كلّ الهيئات والجمعيّات السّرّية والشّيع والحزاب والطّوائف، والتّأكيد على مبدأ التّسامح، ووجوب طاعة السّلطة القائمة طاعة مطلقة، والنّهي القاطع عن كلّ صورة من صور الفساد والغيبة والنّميمة والانتقام والجدال، والتّشديد على التّقوى والورع والتّراحم والتّواضع والأمانة والصّدق والعفّة والاستقامة والعدل والصّبر والمعاشرة بالرّوح والرّيحان والمحبّة والوئام، وعلى تعلّم الفنون والعلوم، وعلى إنكار الذّات والانقطاع عمّا سوى الله والثّبات والتّوكّل على الله.
عن طبيعة هذه الجهود الّتي بذلها حضرة بهاء الله في أثناء تلك المدّة وعن نتائجها كتب يقول: “*بعد ورودنا نزلت الآيات كالغيث الهاطل بالعون الإلهيّ والفضل الرّبّاني، وأرسلناها إلى كلّ الجهات. ونصحنا العباد، وبخاصّة هذا الحزب، بالنّصائح المشفقة والمواعظ الحكيمة، ونهيناهم عن الفساد والنّزاع والجدال والمحاربة إلى أن تبدّلت بفضل الله الغفلة والجهل بالبرّ والعرفان والسّلاح بالإصلاح”. وأكّد حضرة عبد البهاء ذلك بقوله: “*بعد رجوع حضرة بهاء الله [من السّليمانيّة] بذل الجهد البليغ في تربية هذه الطّائفة وتعليمها وتهذيبها وتنظيمها وإصلاح أحوالها. فزالت جميع هذه المفاسد وهدأت تلك الفتن، ونزلت السّكينة على قلوب النّاس”. وقال مرّة أخرى: “*فلمّا استقرّ هذا الأساس في قلوب هذه الطّائفة تصرّفوا في جميع البلاد تصرّفًا جعلهم يشتهرون عند ولاة الأمور بسلامة الطّويّة وصحّة النّيّة وطهارة القلب وجمال الأعمال وحسن الأخلاق”.
ولعلّ خير ما يمثّل طبيعة تعاليم حضرة بهاء الله الحميدة المنتشرة في غضون هذه الفترة، ما قاله حضرته في تلك الأيّام لأحد رجال الدّولة بعد أن ذكر لحضرته أنّه تردّد في توقيع العقوبة على مذنب ادّعى المحبة لحضرة بهاء الله قال: “**أخبره بأنّه لا يستطيع أحد في هذا العالم أن يدّعي أنّ له بي صلة إلاّ هؤلاء الّذين يقتدون بي عملاً وخلقًا. فتعجز كلّ الأمم عن أن تمنعهم عن فعل ما هو لائق أو قول ما هو مقبول”. ثمّ قال لهذا الرّجل من رجال الدولة: “**إليك أخي ميرزا موسى الّذي هو ابن أبي وأمي والّذي صحبني منذ طفولته حتّى الآن. لو أتى ما يخالف مصلحة الملك أو صلاح الدّين وثبت عليه جرمه في نظركم لسرّني ما تفعلون به وأرضاني حتّى لو قيّدتموه بالسّلاسل وألقيتم به في بحر ليغرق دون مبالاة منكم بوساطة أحد”. وفي مقام آخر كتب ينبّه على نقمته على أعمال العنف: “**لإنْ يؤذي أحدكم ابنًا من أبنائي أو فردًا من ذوي قرباي لأحبّ عندي وأحسن من أن يتعرّض على نفس”.
كتب النّبيل يصف الرّوح الّذي هيمن على البابيّين في بغداد بعد إصلاحهم فقال: “بالغ المحيطون بحضرة بهاء الله في العناية بتطهير أرواحهم حتّى أنّهم لم يكونوا ينطقون بكلمة قد لا تتّفق مع إرادة الله أو يخطون خطوة قد تخالف رضاه” وروى أنّ “كلّ إنسان دخل مع زميل له في حلف اتّفقا فيه على أن يعاقب أحدهما الآخر بعدد من الضّربات على باطن القدم يتناسب مع جسامة الذّنب الّذي ارتكب ضدّ المستويات الخلقيّة الرّفيعة الّتي تعاهدا على رعايتها”. ويصف علوّ همتهم بقوله: ” كان مذنبهم يمتنع عن الطّعام والشّراب حتّى ينال الجزاء الّذي يستحقّه”.
ولم يكن هذا التّحويل الكلّيّ الّذي أحدثته كلمات حضرة بهاء الله المنطوقة والمكتوبة في مظهر أصحابه ومخبرهم يقلّ عن الإخلاص المشتعل الّذي أضرمته محبّته في أرواحهم. فلقد تملّك المنفيّين في بغداد وألهب كيانهم كلّه آنذاك حماسة متأجّجة وهمّة عالية تنافسان الحماسة الّتي اشتعلت في قلوب أصحاب حضرة الباب في أسمى حالاتهم. وقد وصف النّبيل خصوبة ذلك الإحياء الرّوحي الجبّار فقال: “لقد أسكرت نسمات فجر الظّهور الإلهي كلّ فرد وغمرته حتّى لقد ظننت كلّ شوكة أنبتت اكوامًا من البراعم والزّهور، وحسبت كلّ بذرة أخرجت محصولاً لا حصر له”. وسجّل المؤرّخ نفسه “إنّ الغرفة المعدّة في البيت الأعظم لاستقبال زوّار حضرة بهاء الله كانت تنافس الفردوس رغم تداعيها وتقادمها لكثرة ما وطئتها اقدام المحبوب. وبدا أنّها تزحم السّماء رغم أنّ سقفها كان منخفضًا، كانت كالمغناطيس تجذب إليها قلوب الأمراء رغم أنّها لم تكن تحتوي إلاّ على كرسيّ واحد صنع من خشب النّخيل، وكان مالك الأسماء يأبى إلاّ أن يجلس عليه”.
سحرت غرفة الاستقبال هذه لبّ شجاع الدّولة رغم بساطتها الخشنة حتّى أنّه أفصح لزملائه من الأمراء عن نيّته في أن يبني مثيلة لها في داره بالكاظمين. ويُروى أنّ حضرة بهاء الله بلغه ذلك فقال مبتسمًا: “**ربّما نجح في تقليد الأبعاد المضبوطة لهذه الغرفة المبنيّة بالطّين والتّبن وذات السّقف المخفض في حديقتها الصّغيرة. ولكن من له بشقّ الأبواب الرّوحانيّة إلى عوالم الغيب الإلهيّ!؟”. وقد وصف أمير آخر، وهو زين العابدين خان فخر الدّولة، الجو الّذي كان يسود غرفة الاستقبال هذه فقال: “لا أدري كيف أصفها لك. ولكن إذا جثمت كلّ الأحزان على صدري شعرت بأنها تبدّدت في محضر حضرة بهاء الله. فكأنّما دخلت الجنّة”.
ومن الأمور الّتي سوف تظلّ، عبر القرون والأجيال، مقترنة بتلك الفترة الخالدة الفاصلة بين ميلاد ظهور حضرة بهاء الله وإعلان ذلك الظّهور عشيّة رحيله عن العراق، تلك الاحتفالات البهيجة الّتي كان الأصحاب يقيمونها تكريمًا لمحبوبهم رغم ضيق ذات يدهم، والاجتماعات الممتدّة حتّى ساعات متأخّرة من اللّيل يتغنّون أثناءها في مناجاتهم وأشعارهم وأغانيهم بمحامد حضرة الباب والقدّوس وحضرة بهاء الله، والصّوم الّذي كانوا يلتزمون به، وصلوات الأسحار الّتي كانوا يواظبون عليها، والرّؤى والأحلام الّتي كانت تلهب أرواحهم فيرويها بعضهم لبعض بكلّ المشاعر الفيّاضة المنطلقة، وتلك الهمّة الّتي كان يؤدّي بها القائمون بخدمة حضرة بهاء الله اعمالهم، ويستجيبون بها لمطالبه، ويحملون بها قِرَب الماء الثّقيلة لوضوئة وللاستعمال المنزليّ، والفلتات الرّائعة الّتي كانت تتمّ على أيديهم من حين لآخر في ساعات النّشوة؛ وتعبيرات العجب والإعجاب الّتي كانت أعمالهم وأقوالهم تنتزعها من أفواه النّاس الّذين قلّما شاهدوا مثل هذه الشّواهد على التّديّن والإخلاص. وغير هذا كثير.
نعم، عديدة ورائعة تلك القصص الّتي رواها كلّ من دفعهم الواجب أو الرّغبة أو الصّدفة أو الفضول إلى الاتّصال اتّصالاً مباشرًا بحضرة بهاء الله في هذه السّنوات الشّداد، كثيرة ومثيرة للعواطف شهادات كلّ من امتاز من المشاهدين العابرين باستجلاء طلعته أو ملاحظة خطوته أو الاستماع إلى ملاحظاته وهو يسير في شوارع المدينة وأزقّتها، أو يذرع شاطئ النّهر، وشهادات المصلّين الّذين رأوه يصلّي في المساجد، والمتسوّلين الّذين تلقّوا إحسانه، والمرضى الّذين شفاهم وأبرأهم من أسقامهم، والشّيوخ الّذين أعانهم، والبؤساء الّذين واساهم؛ والزّائرين، من أمراء وفقراء، الّذين فازوا بمحضره وامتثلوا بين يديه، والتّجار والصّناع والباعة الّذين قاموا على خدمته ولبّوا حاجاته اليوميّة، والمنقطعين الّذين فطنوا إلى مجده المستور؛ وأعدائه الّذين أفحمتهم قوّة بيانه وجرّدتهم حرارة محبّته من سلاحهم؛ ورجال الدّين ورجال الدّنيا والأشراف والعلماء الّذين سعوا إليه إمّا تحدّيًا لسلطانه وإمّا اختبارًا لعلمه وإمّا استفسارًا عن دعاويه وإمّا اعترافًا بعجزهم أمامه، وإمّا إعلانًا لاعتناقهم لدينه. من هذه الخزانة الّتي تكتنز كلّ تلك الذّكريات النّفيسة، قد يفي بغرضي أن أسرد مثالاً واحدًا هو قصّة أحد عشّاقه المخلصين، السّيّد إسماعيل الزّواري الملقّب بـ”الذّبيح”، وكان في سابق عهده فقيهًا نابهًا ملحوظًا صموتًا مفكّرًا منصرفًا عن الدّنيا وما فيها. وكان عمله المفضّل الّذي يتباهى به ويفتخر كنس مداخل بيت حضرة بهاء الله. كان ينهض مع الفجر ليجمع الغبار الّذي وطئته أقدام محبوبه وينفض التّراب من شقوق الجدار الملاصق لباب البيت، بعد أن يخلع عمامته الخضراء، علامة نسبه الشّريف، ويضع ما كنسه في حجر عباءته ويمضي به إلى شاطئ النّهر ويذروه في الماء خوفًا من أن تطأه أقدام الآخرين. ولمّا عجز في النّهاية عن أن يحتمل خضمّ المحبّة الّذي يتموج به روحه امتنع عن الطّعام والمنام أربعين يومًا وليلة. ثم أدّى لآخر مرّة تلك الخدمة الّتي يحبّها قلبه، وانطلق ذات يوم إلى شاطئ النّهر على طريق الكاظمين، وتوضّأ ثم استلقى على ظهره مواجهًا بغداد، وحزّ عنقه بموسى، ووضع الموسى على صدره وأسلم الرّوح (سنة 1275هـ).
ولم يكن الوحيد الّذي أضمر نيّة القيام بهذه الفعلة وصمّم على تنفيذها. بل إنّ كثيرين كانوا على استعداد للاقتداء به لولا أنّ حضرة بهاء الله تدخّل بحزمٍ وسرعة. فأمر المهاجرين المقيمين ببغداد أن يعودوا إلى وطنهم على الفور. وحين تأكّدت السّلطات تمامًا أنّ “الذّبيح” قتل نفسه ولم يقتله أحد غيره لم تستطع أن تتجاهل هذا الدّين الذي يبعث رئيسه في قلوب محبيه كلّ هذا الإخلاص النّادر، ويسيطر على أفئدتهم كلّ هذه السّيطرة المطلقة. ويروى أنّ حضرة بهاء الله بلغه ما أثار هذا الحادث في بعض دوائر بغداد فقال: “**لقد توفّر للسّيّد إسماعيل من القوّة والقدرة ما لو قاومته أمم العالم لغلبها على أمرها دون جدال”. ويروى كذلك أنّه أشار إلى “الذّبيح” الّذي لقّبه بـ”سلطان الشّهداء ومحبوبهم” فقال: “**ما سال على الأرض حتّى اليوم من دم أطهر ولا أزكى من دمه”.
ولقد شهد النّبيل الّذي كان شاهد عيان لكثير من هذه القصص المثيرة فقال: “بلغ من سكر المرتشفين من كأس محضر حضرة بهاء الله أنّ قصور الملوك بدت لعيونهم أوهن من خيوط العنكبوت… وكانت ضيافاتهم ومباهجهم من الرّوعة بحيث لا يحلم بمثلها ملوك الأرض”. وروى أنّه سكن مع اثنين غيره غرفة خالية من الأثاث. وذات يوم دخلها حضرة بهاء الله فقال وهو يتلفت حوله: “إنّ خلوّها يروقني. وهي عندي أفضل من كثير من القصور ما دام أحبّاء الله يشتغلون فيها بذكر محبوبهم بقلوب منقطعة عن شؤون الدّنيا”. والواقع أنّ حياة حضرة بهاء الله امتازت بذلك التّقشّف وتلك البساطة الّتي امتازت بها حياة أحبّائه. وقد اكّد في أحد ألواحه أنّه “**أتى على جمال القدم في العراق حين من الدّهر… لم يكن له فيه سوى قميص واحد، يُغسل ويُجفّف ويُلبس من جديد”.
ويمضي النّبيل في وصف حياة الأصحاب السّكارى النّشاوى الغافلين عن أنفسهم فيقول: “كم من ليلة لم يزد فيها طعام العشرة منهم عن حفنة من التّمر تُشترى بفلس. ولم يكن أحدهم يدري على وجه التّحقيق شيئًا عمّا يجده في بيته من الأحذية والعباءات والملابس أهي ملكه هو أم ملك غيره. ولكن كلّ من ذهب إلى السّوق ادّعى أنّ الحذاء الّذي ينتعله حذاؤه، وكلّ من يحظى بمحضر حضرة بهاء الله يؤكّد أنّ الثّوب الّذي يلبسه هو ثوبه! أمّا أسماؤهم فقد نسوها، أمّا قلوبهم فقد فرغت من كلّ شيء إلاّ ذكر محبوبهم وتقديسه! فآه آه لهاتيك الأيّام الغوالي ولحلاوة تلك السّويعات العجيبة”.
ومن العلامات الأخرى المميّزة لهذه الفترة الّتي نحن بصددها ذلك التّوسع العظيم في أفق آثار حضرة بهاء الله وحجمها بعد عودته من السّليمانيّة. ولقد أسهمت الآيات المتدفّقة من قلمه الأعلى في غضون تلك السّنوات في إصلاح الجامعة البابيّة وتقدّمها إلى درجة عظيمة، وتوسيع نظرتها وتكثير فعاليّاتها ومناشطها، وتنوير عقول أعضائها. وكانت هذه الآثار في صورة مكاتيب وتفاسير ودعوات ومناجاة، ودفاعيّات ومقالات، ونبوءات وابتهالات. وقد وصفها حضرة بهاء الله جميعًا بأنّها “كالغيث الهاطل”. ولقد بلغ من خصوبة هذه الفترة أنّ الآيات غير المدوّنة المتدفّقة من بين شفتيه كلّ يوم وليلة طيلة السّنتين الأوّليّين من عودته كانت تعدل القرآن بشهادة النّبيل الّذي كان يقيم ببغداد في تلك الأثناء. أمّا الآيات الّتي كان يمليها أو يكتبها بخطّ يده فكان عددها لا يقلّ ضخامة عن خصوبة مادّتها وتنوّع موضوعاتها. وممّا يؤسف له أنّ مقدارًا عظيمًا منها، بل قل غالبيّتها، قد ضاع على الأجيال القادمة ضياعًا لا يُعوَّض. ويروي النّبيل عن مصدر ثقة هو ميرزا آقا جان كاتب وحي حضرة بهاء الله أنّ مئات الألوف من الآيات الّتي كتب معظمها بخطّ يده محيت وألقيت في النّهر بأمر قاطع من حضرة بهاء الله، قال ميرزا آقا جان للنّبيل: “كان حضرة بهاء الله يرى عدم رغبتي في تنفيذ أوامره فيطمئنني بقوله: (ليس هناك من يستحق أن يستمع إلى هذه النّغمات في هذا الزّمان)… ولم أؤمر بالقيام بهذه المهمّة مرّة أو مرّتين بل مرّات ومرّات!”. أمّا من يسمّى بمحمّد كريم الشّيرازي الّذي شهد سرعة حضرة الباب وحاله عند تحبير الآيات الّتي يلهم بها فقد ترك للأجيال القادمة شهادته بعد أن فاز في تلك الأيّام بمحضر حضرة بهاء الله ورأى بعينيه ما اعتبره الدّليل الوحيد على صدق دعوى الموعود. قال: “أشهد أنّ الآيات الّتي أنزلها حضرة بهاء الله كانت في سرعة تحبيرها وسهولة تدفّقها ويسر انطلاقها ووضوحها وعمقها وحلاوتها تفوق تلك الّتي رأيتها بعيني رأسي تنهمر من قلم حضرة الباب عندما فزت بمحضره. ولم يكن لحضرة بهاء الله من دعوى يمتّ بها إلى العظمة سوى هذا لكفى النّاس والعالم أن تتدفّق كلّ هذه الآيات اليوم من قلمه”.
ومن أبرز الكنوز النّفيسة الّتي ألقى بها خضمّ إلهام حضرة بهاء الله الموّاج كتاب “الإيقان” الّذي نزل في السّنوات الأخيرة من هذه الفترة (1278هـ = 1862م) في بحر يومين وليلتين لا أكثر! تحقيقًا لنبوءة حضرة الباب الّذي نصّ على أنّ الموعود سوف يتمّ نصّ البيان الفارسي الّذي لم يكمل، وإجابة عن الأسئلة الّتي وجّهها إلى حضرة بهاء الله الحاج ميرزا سيّد محمّد (وهو خال لحضرة الباب لم يكن قد آمن بعد) أثناء زيارته لكربلاء مع أخيه الحاج ميرزا حسن علي. وهذا الكتاب الّذي يبيّن معالم الخطّة الإلهيّة المخلّصة نموذج للنّثر الفارسي بأسلوبه النّاصع الأصيل المتدفّق، ووضوحه الملحوظ، وتسانده في البحث، وبراعته الملزمة في البلاغة. ولذلك فهو يحتلّ منزلة لا تدانيها منزلة أيّ كتاب آخر من مجموع الآداب البهائيّة على الإطلاق باستثناء الكتاب الأقدس الّذي هو أقدس كتب حضرة بهاء الله. ولمّا كان قد نزل عشيّة إعلان حضرة بهاء الله لدعوته فقد قدّم للجنس البشري “الرّحيق المختوم” الّذي ختامه “مسك”، وفضّ أختام “السّفر” الّتي أشار إليها دانيال، وأزاح السّتار عن معاني “الكلمات” الّتي قدّر لها أن “تخفى وتختم” إلى “وقت النّهاية”.
في حدود مائتي صفحة يعلن الكتاب إعلانًا لا لبس فيه ولا غموض وجود إله واحد غيب منيع لا يدرك ولا يُحَدّ ولا يشار إليه، مصدر كلّ وحي وإلهام، أبديّ أزليّ، عليم قدير محيط، وينبّه على أنّ الحقيقة الدّينيّة حقيقة نسبيّة، وأنّ الوحي الإلهيّ مستمرّ، ويؤكّد وحدة الأنبياء وشمول رسالتهم واتّفاق تعاليمهم الأساسيّة وصحّة كتبهم المنزلة المقدّسة، ويبيّن طبيعة مقامهم المزدوج، ويندّد بعمى العلماء وضلالهم في كلّ عصر فهم علّة الإعراض والاعتراض، ويوضّح آيات الإنجيل المرموزة، ومتشابهات القرآن الكريم وغوامض الأحاديث الشّريفة، تلك الّتي غذّى رمزها وتشابهها وغموضها الشّكوك والضّلالات والحزازات والعداوات المزمنة الّتي شطرت أتباع ديانات العالم العظمى فرقًا ومزقتهم شيعًا وأحزابًا، ويعدّد المطالب الجوهريّة الّتي لا غنى عنها لكلّ باحث مخلص يسعى وراء هدفه ومطلبه، ويظهر صحّة الظّهور البابيّ وسموّ دلالته، ويثني على بطولة أصحابه وانقطاعهم، ويتنبّأ بالانتصار العالمي الشّامل الّذي يحرزه الظّهور الّذي وعد به أهل البيان، ويعلن إيمانه بطهارة السّيّدة مريم العذراء وبراءتها ويمجّد أئمّة دين حضرة محمّد، ويتوجّع لاستشهاد الإمام الحسين ويمجّد سيادته الرّوحيّة، ويكشف عن أسرار مصطلحات مثل “الرّجعة” و”البعث” و”خاتم النّبيّين” و”يوم القيامة”. ويعرض المراحل الثّلاث للظّهورات الإلهيّة ويميّز بينها، ويسهب القول بعبارات مشرقة في ذكر مفاخر ومحامد “مدينة الله” الّتي يجدّدها، على فترات مقدّرة، ظهور العناية الرّبّانيّة لهداية الجنس البشريّ وخلاصة وتأمين منفعته ومصلحته. ويمكننا أن ندّعي بحقّ أنّ هذا الكتاب وحده، دون سواه من سائر الكتب الّتي أنزلها مؤسّس الأمر البهائي، قد وضع الأساس الرّاسخ العريض للوفاق الدّائم الكامل بين أتباع الأديان العالميّة العظمى بفضل تحطيمه للحواجز العتيدة العريقة الّتي فرقتها تفريقًا لا يمكن تخطّيه ولا تجاوزه.
يتلو خزانة الكنوز النّفيسة الفذّة هذه تلك المجموعة الرّائعة من العبارات الدّرّيّة، ونعني بها “الكلمات المكنونة” الّتي أوحي بها لحضرة بهاء الله وهو يتمشّى على شاطئ دجلة مستغرقًا في التّأمّل. نزّلت سنة 1274هـ بعضها بالفارسيّة، وبعضها الآخر بالعربيّة. وكانت تُدعى في الأصل “الصّحيفة المخزونة الفاطمية”، ولقد طابق صاحبها بينها وبين الكتاب الّذي يحمل نفس العنوان، والّذي تؤمن الشّيعة بأنّه في حوزة القائم الموعود، وبأنّه يتألّف من كلمات غرّاء توجّه بها جبريل، بأمر من الله، إلى فاطمة الزّهراء وأملاها على الإمام علي لتقديم العزاء لها ساعة محنتها وحزنها المرير على موت أبيها العظيم. ومن افتتاحيّتها الّتي يصف فيها صاحبها طبيعتها يمكن أن تتضّح دلالة هذه الخميرة الرّوحيّة الفعّالة النّشيطة الّتي ألقيت في حياة العالم لردّ عقول النّاس إلى نصابها وتشييد صرح أرواحهم وتطهير مسلكهم.
“هذا ما نزّل من جبروت العزّة بلسان القدرة والقوّة على النّبيّين من قبل. وإنّا أخذنا جواهره وأقمصناه قميص الاختصار فضلاً على الأحبار ليوفوا بعهد الله ويؤدّوا أماناته في أنفسهم، وليكوننّ بجوهر التّقى في أرض الرّوح من الفائزين”.
وإلى هذين الأثرين البارزين في الأدب الدّينيّ العالميّ اللّذين يحتّلان من آثار مؤسّس الدّورة البهائيّة في أصول الدّين ومبادئ الأخلاق منزلة على أعظم جانب من الأهمّيّة. أضيف في أثناء الفترة نفسها كتاب “الوديان السّبعة” الّذي يعدّ أعظم آثاره العرفانيّة. كتبه صاحبه جوابًا عن أسئلة الشّيخ محيي الدّين قاضي خانقين يعيّن له فيه المراحل السّبع الّتي تسلكها روح السّالك قبل أن يبلغ غاية وجوده.
وممّا أسهم، كلّ على طريقته، في تفجير “كوثر البقاء”: “الوديان الأربعة” الموجّهة إلى الشّيخ عبد الرّحمن الكركوكي، ولوح “ملاّح القدس” الّذي يتنبّأ فيه حضرة بهاء الله بالبلايا والمحن الّتي سوف تنزل به، ولوح “الحوريّة” الّذي يتنبّأ فيه بأمور تحدث في المستقبل البعيد، و”سورة الصّبر” النّازلة في أوّل أيّام الرّضوان، والّتي يثني فيها حضرة بهاء الله على وحيد وزملائه الصّابرين على البلاء في نيريز، وتفسير الحروف المقطّعة في أوائل سُوَر القرآن الكريم، وتفسيره لحرف الواو المذكور في آثار الشّيخ أحمد الأحسائي وكذلك الفقرات الغامضة الّتي وردت في مؤلفات السّيّد كاظم الرّشتي، ولوح “مدينة التّوحيد” و”الصّحيفة الشّطّية” و”مصيبات الحروفات العاليات”، و”تفسير هو” و”جواهر الأسرار”، وكثير من الآثار الأخرى النّازلة على هيئة الألواح والمناجاة والمواعظ والألواح الخاصّة، والتّفاسير والدّعوات والصّلوات والابتهالات. كان “كوثر البقاء” هذا يتدفّق من “دار السّلام” فزوّد الدّين البابيّ في إيران والعراق بقوّة انتشار عظيمة منعشة لأرواح أتباعه محوّلة لطبائعهم.
تلك الشّواهد الدّامغة الدّالة على قوّة حضرة بهاء الله النّاهضة ومداها، وهذه السّرعة الّتي كان نفوذه ينمو بها، وذلك التّحويل المعجز الذّي أحدثه في طبيعة أصحابه المنتشرين بين بغداد وأقصى مدن إيران وقراها، بأقواله وأعماله، وهذه المحبّة البالغة الّتي كانت صدورهم تشتعل بها له، وهذا القدر العجيب من الآثار الّتي كانت تفيض من قلمه ليل نهار، كلّ هذا عمل على إضرام نار العداوة والبغضاء في صدور أعدائه من الشّيعة والسّنّة على السّواء. ولم يعد الصّراع بين سناء مجده الصّاعد وقوى التّعصّب الدّينيّ الغاشمة يحتمل التّاجيل ولا الإرجاء خاصّة وأنّه أصبح يقيم على مقربة من معاقل الشّيعة، وأصبح يتّصل كلّ يوم اتّصالاً مباشرًا بالزّوّار المتعصّبين المتدفّقين على المزارات المقدّسة في النّجف وكربلاء والكاظمين. وكان كلّ ما يتطلّبه الموقف شرارة واحدة لتشعل تلك المادّة السّريعة الالتهاب ونعني بها الأحقاد والحزازات والمخاوف الّتي أثارها استئناف البابيّين لنشاطهم. لقد تكفّل بإشعال هذه الشّرارة رجل يدعى الشّيخ عبد الحسين، وهو شيخ لئيم عنيد لم يفق حسده الشّديد لحضرة بهاء الله إلاّ قدرته على إثارة القلاقل والفتن بين ذوي المناصب العالية وبين سفلة القوم من العرب والعجم الّذين كانت تزدحم بهم الشّوارع والأسواق في الكاظمين وكربلاء وبغداد. وقد وصفه حضرة بهاء الله في ألواحه بـ”الخسيس” و”الدّسّاس”، و”الخبيث” الّذي “جرّد سيف نفسه على وجه الله” و”وسوس الشّيطان في نفسه” و”الذي يفرّ الشّيطان عن كفره”، “الفاجر”، “ما من ظلم وما من فسق إلاّ وقد بدأ من هذا الشّقيّ وسيعود كلّ ذلك إليه”. وكان الصّدر الأعظم يريد التّخلص من هذا المجتهد المزعج فكلّفه الشّاه بالتّوجّه إلى كربلاء ليصلح من شأن الأماكن المقدّسة فيها. فانتهز الفرصة وتحالف مع ميرزا بزرك خان قنصل إيران العام الجديد. فوقع هذا تحت تأثير ذلك المتآمر الخسيس وأصبح أداة طيّعة لمكائده وخططه. وقد جمع بينهما الاتّجاه إلى النّوايا الشّريرة، فضلاً عن أنّ القنصل كان سكّيرًا خمّيرًا ماكرًا فاجرًا منافقًا لا شرف له ولا وجدان.
وكان أوّل مجهود مشترك لهما تشويه الحقائق تشويهًا جسيمًا بغرض الحصول من مصطفى باشا والي بغداد على أمر بتسليم حضرة بهاء الله وأصحابه. وقد فشل هذا المجهود فشلاً ذريعًا. فلما تأكّد الشّيخ عبد الحسين أنّه لن يصل إلى غايته عن طريق تدخّل السّلطات المحلّيّة أخذ يلفّق أحلامًا يدّعي أنّه رآها ثمّ يفسّرها بما يثير ثائرة الأهلين المؤمنين بالخرافات السّريعي الانفعال، ولكنّ النّاس لم يستجيبوا له. فاستاء وزاد من استيائه عجزه عن مواجهة التّحدي حين أُعدّ له مجلس يجتمع فيه بحضرة بهاء الله. أمّا ميرزا بزرك خان فقد استغلّ نفوذه ليثير عداوة سفلة النّاس ضد العدوّ المشترك ويحرّضهم على سبّه علانية عسى أن تقع حادثة انتقام تصلح لأن يبني عليها تهمًا كاذبة تمكّنه من الحصول على الأمر المأمول بتسليم حضرة بهاء الله. ولكنّ هذه المحاولة فشلت هي الأخرى، فقد استمرّ حضرة بهاء الله يمشي في شوارع المدينة ليلاً ونهارًا دون حارس يحرسه رغم إشارات أحبّائه وتوسّلاتهم. وكان ذلك كافيًا لأن يملأ صدور مضايقيه بالخوف والخزي. بل إنّه كان يقترب منهم وهو يعلم بما يريدون في نفوسهم، ويمازحهم بشأن ذلك ويداعبهم ويتركهم مضطربين عازمين على الانصراف عن تنفيذ ما كانوا يدبّرون له من مكائد وخطط ولقد ذهب القنصل العام إلى حدّ أنّه دفع مائة تومان لعربيد تركي يسمّى رضا، وأعطاه جوادًا ومسدّسين، وأمره أن يبحث عن حضرة بهاء الله ويغتاله، ووعده ببسط حمايته وضمن له سلامته. وذات يوم علم رضا هذا بأنّ ضحيّته المنتظرة يغتسل في الحمّام العام، فغافل البابيّين القائمين على الخدمة وواجه حضرة بهاء الله في غرفة الحمّام الدّاخليّة، وسرعان ما اكتشف أنّ شجاعته خانته فلم ينفّذ مهمّته. وبعد سنوات روى رضا هذا أنّه تربّص لحضرة بهاء الله ذات مرّة ومسدّسه في يده. إلا أنّه حين رآه يقترب منه غلبه الخوف وسقط المسدّس من يده. عند ذلك أمر حضرة بهاء الله آقاي كليم الّذي كان يرافقه أن يناوله المسدّس وأن يصحبه إلى داره!
لما عجز الشّيخ عبد الحسين عن بلوغ هدفه الخبيث رغم كلّ محاولاته لجأ إلى وسيلة أخرى. فوعد شريكه بأن يرفعه إلى مقام الوزير إن هو نجح في حمل الحكومة الإيرانيّة على إعادة حضرة بهاء الله إلى طهران حيث يسجن مرّة أخرى. فأخذ القنصل يرسل إلى حاشية الشّاه تقارير مسهبة كلّ يوم تقريبًا يهوّل فيها نفوذ حضرة بهاء الله، ويدّعي أنّه تحالف مع قبائل البدو بالعراق، ويزعم أنّه أصبح في إمكانه أن يحشد في بحر يوم واحد مائة ألف مقاتل يأتمرون بأمره، ويتّهمه بالتآمر على الشّاه مع بعض زعماء إيران. وبهذه الوسيلة نجح في الضّغط على سلطات إيران بحيث فوّضه الشّاه في الأمر تفويضًا كاملاً داعيًا العلماء والموظّفين الإيرانيّين إلى تقديم كلّ عون ومساعدة له. فأرسل الشّيخ هذا التّفويض إلى رجال الدّين في كربلاء والنّجف، وطلب إليهم أن يعقدوا اجتماعًا في الكاظمين حيث يقيم. واستجاب له جمع من الشّيوخ والملاّوات والمجتهدين الحريصين على إرضاء الشّاه. فلمّا علموا بالغرض من الاجتماع عقدوا العزم على أن يعلنوا الجهاد على مستعمرة المنفيّين ويقضوا على الدّين في مهده بشنّ غارة مفاجئة عليها واستباحتها. فلمّا عرف نيّتهم مجتهدهم الأكبر الشّيخ مرتضى الأنصاري الشّهير المعروف بتسامحه وحكمته وإنصافه المطلق وورعه وتقواه ونبل خلقه، رفض أن يقرّ الحكم الّذي أصدروه على البابيّين. وكان ذلك سببًا لدهشتهم واستيائهم. وقد أثنى حضرة بهاء الله فيما بعد على هذا المجتهد في لوح “السلطان” وحشره في زمرة “*العلماء الّذين شربوا في الحقيقة من كأس الانقطاع” و”*لم يتعرّض لهذا العبد قطّ” وإليه أشار حضرة عبد البهاء بـ”العالم النّحرير الجليل والفاضل الشّهير، خاتمة المحقّقين”. وغادر الاجتماع رغم اعتراض زملائه، محتجًّا بقلّة معرفته بعقائد هذه الجماعة، مؤكّدًا أنّه لم يرَ في أعمالهم ما يخالف القرآن. وعاد إلى النّجف بعد أن كتب رسالة لحضرة بهاء الله يعبّر فيها عن أسفه لما حدث، ويفصح عن رغبته الصّادقة في حمايته.
خاب مسعى العلماء المجتمعين وخمدت عداوتهم، فانتدبوا من بينهم الحاج المُلاّ حسن عمو الفقيه المخلص المعروف بأصالته وحكمته ليعرض على حضرة بهاء الله بعض المسائل ملتمسًا شرحها وتوضيحها. فلمّا عرض الرّسول هذه المسائل وفاز بالإجابات الشّافية الوافية، أكّد تبحّر حضرة بهاء الله في العلم، والتمس أن يأتي حضرة بهاء الله بمعجزة تدلّل على صدق دعواه، ويقنع بها كلّ من يهمّه الأمر. فاجاب حضرة بهاء الله: “**مع أنّه ليس لك أن تسأل هذا، لأنّ الحقّ هو الّذي يمتحن الخلق، وليس الخلق هم الّذين يمتحنون الحقّ، إلاّ أنّني أقبل هذا الطّلب… وعلى العلماء أن يجتمعوا ويتّفقوا جميعًا على معجزة معيّنة،؛ وعليهم أن يكتبوا بأنّهم لن يخامرهم الشّكّ في أمرنا بعد الإتيان بها، وأنهم يقرّون ويعترفون بصحّة دعواي. وعليهم أن يختموا هذه الوثيقة ولتأتني بها. والشّرط الّذي أشترطه عليهم هو إن تمّت المعجزة لم يبقَ لهم مجال للشّكّ، وإلاّ حقّ لهم أن يتّهمونا بالخداع”. اكتفى الرّسول بهذا الجواب الصّريح الجريء الّذي لا مثيل له ولا نظير في تاريخ الأديان، والّذي صدر إلى رجال الشّيعة النّابهين
المجتمعين في معقلهم العتيد. ونهض الرّسول من فوره وقبّل ركبة حضرة بهاء الله وعاد ليبلّغهم رسالته. وبعد ثلاثة أيّام أرسل يقول إنّ هذا الجمع الكبير قد عجز عن التّوصّل إلى الإجماع على شيء واحد، ولذلك فضّلوا أن يتناسوا هذا الموضوع، وقد تولّى بنفسه إذاعة هذه النّتيجة على نطاق واسع أثناء زيارته لإيران، بل إنّه بلّغها لميرزا سعيد خان وزير الخارجية آنذاك. ويروى أن حضرة بهاء الله قال حين بلغه تصرّفهم نحو هذا التّحدي: “**بهذه الرّسالة الشّافية الوافية الّتي أرسلناها أظهرنا معجزات جميع الأنبياء ودافعنا عنها. ذلك لأنّنا تركنا حرية الاختيار للعلماء أنفسهم، وتعهّدنا أن نأتي لهم بما يجمع عليه رأيهم”. وأشار حضرة عبد البهاء إلى تحدٍّ آخر قام به حضرة بهاء الله فيما بعد في لوح السّلطان فقال: “*لو دقّقنا النّظر في الكتاب المقدّس لما وجدنا مظهرًا إلهيًّا يقول لمنكريه: إنّي على استعداد لأن آتي لكم بأيّة معجزة ترغبون فيها، وأن أقبل أيّ ميزان تقرّونه، ولكن حضرة بهاء الله قال في لوحه إلى الشّاه صراحةً: اجمع العلماء وأحضرني حتّى يثبت ذلك بالحجّة والبرهان”.
أشرفت على النّهاية تلك السّنوات السّبع، سنوات التّثبيت الدّائم والتّدعيم المتّصل المثابر النّاجح نجاحًا باهرًا. وأخذت هذه الجامعة الّتي لا راعي لها، والّتي طالما قاست الشّدائد والأهوال من داخلها وخارجها، وطالما هدّدها التّلاشي والفناء، تنتعش من جديد وتعلو علوًّا كبيرًا لم يسبق له مثيل في سنيّها العشرين، ذلك لأنّ أسسها استقرّت، وروحها المعنويّة ارتفعت، ومظهرها تبدّل، ومخبرها تحوّل، وزعامتها تعيّنت وتركّزت، ومبادئها الأساسيّة تحدّدت. كما عظمت هيبتها وانقهر اعداؤها. أمّا وقد حدث كلّ هذا فإنّ يد القدر كانت تهيّؤها تدريجًا لكي تنتقل إلى طور جديد من حياتها المليئة بالتّقلبات، يقودها، بنعمائه وبأسائه، بسرّائه وضرّائه، إلى مرحلة أخرى من مراحل تطوّرها. ذلك لأنّ منقذ هذه الجامعة ومخلّصها وأملها الوحيد وقائدها الفعلي وزعيمها الفرد الّذي قهر مدبّري المؤامرات لاغتياله، وضرب بنصائح المتخوّفين عرض الحائط، واحتقر الفرار من موضع الخطر، وأصرّ على رفض كلّ ما عرضه الأصدقاء والأعوان مرارًا وتكرارًا من عروض لتأمين سلامته الشّخصيّة، وانتصر على خصومه هذا النّصر المبين، تضطرّه العمليّات القاهرة المتّصلة بتفتّح رسالته إلى الانتقال، في هذه السّاعة الميمونة المباركة، إلى نقطة على أعظم جانب من الأهمّيّة ونعني بها عاصمة الإمبراطوريّة العثمانيّة ومقرّ الخلافة الإسلاميّة والمركز الإداريّ للمسلمين السّنّة حيث يستقرّ عرش أقوى عاهل في العالم الإسلاميّ.
لقد تحدّى النّظام المذهبيّ متمثّلاً في أقطاب النّجف وكربلاء والكاظمين تحدّيًا جريئًا. وهو الآن يوشك على أن يقوم، عن كثب من بلاط خصمه الملكيّ، بتحدٍّ مماثل لكلّ من رأس الإسلام السّنّي وعاهل إيران أمين الإمام الغائب. كما أنّه يوشك أن يخاطب ملوك الأرض جميعًا، وبخاصة السّلطان ووزراءه، ويناشدهم ويدعوهم ويحذّرهم، ويعنّف ملوك العالم المسيحيّ وأهل السّنّة تعنيفًا شديدًا. فلا عجب أن ينطق المنفيّ صاحب الظّهور الجديد بهذه الكلمات الّتي يتنبأ فيها بازدياد نور سراج أمره بعد انتقاله من العراق: “فسيوقد في بلّور أخرى وهذا تقدير من عزيز قديم… قل إنّ في إخراج الرّوح عن جسد العراق لآيات بديعًا لمن في السّموات والأرض فسوف تجدون هذا الفتى الإلهيّ راكبًا على براق النّصر. إذًا يتزلزل قلوب المغلّين”.
دقّت الآن ساعة رحيل حضرة بهاء الله عن العراق. فانطلقت العمليّة الّتي بها يتمّ هذا الرّحيل. ذلك بأنّ الجهود الّتي ظلّ أعداؤه، ولا سيّما الشّيخ عبد الحسين وحليفه ميرزا بزرك خان، يبذلونها طيلة تسعة أشهر تؤتي أكلها. وأخذ ناصر الدّين ووزراؤه من ناحية والسّفير الإيراني في الآستانة من جهة أخرى يثابرون على اتّخاذ التّدابير الفوريّة الرّامية إلى نقل حضرة بهاء الله من بغداد. ونجح العدوّ القويّ الحقود في عرض الموقف عرضًا مشوّهًا، ونشر التّقارير المخيفة فحمل الشّاه على أن يوصي وزير خارجيته ميرزا سعيد خان بالإيعاز إلى ميرزا حسين خان سفير إيران لدى الباب العالي، وهو صديق حميم للصّدر الأعظم عالي باشا ووزير الخارجية فؤاد باشا، بالسّعي لدى السّلطان عبد العزيز حتّى يصدر أمره بإبعاد حضرة بهاء الله عن بغداد على الفور، بحجّة أن إقامته الدّائمة في تلك المدينة المجاورة للحدود الإيرانيّة والقريبة من مزارات الشّيعة تهدّد سلامة إيران وحكومتها تهديدًا مباشرًا.
ولقد وصف ميرزا سعيد خان هذا الدّين في اتّصالاته بالسّفير بأنه “نحلة خبيثة ضالّة” وندّد بإطلاق سراح حضرة بهاء الله من سياه ﭼـال واتّهمه بأنّه لا يكفّ عن “إفساد الضّعفاء وتضليل البسطاء في الخفاء” وكتب يقول: “أُمرت أنا صديقك الحميم بمقتضى الفرمان الشّاهاني… بأن أُصدر إليك تعليماته ومفادها أن تطلب على الفور مقابلة فخامة الصّدر الأعظم ووزير الخارجيّة… وتلتمس منهما… نقل مصدر الفساد هذا من بغداد الّتي تلتقي بها مختلف الأمم وتقع على مقربة من حدود إيران” ثم يورد البيت المشهور في الرّسالة:
أرى خــلل الرّمــاد وميــض نــار ويوشك أن يكــون لــه ضـرام
وهكذا كشف عن مخوافه وسعى أن يغرسها في قلب السّفير. ولوجود سلطان على العرش قد فوض الكثير من الشّؤون والسّلطات لوزرائه، وبفضل مساعدة بعض السّفراء الأجانب والوزراء المفوّضين في الآستانة، وبتأثيره الودّيّ وكثرة إلحاحه على الوزراء أفلح ميرزا حسين خان في أن يحصل من السّلطان على الإذن بنقل حضرة بهاء الله وأصحابه (الذين أرغمتهم الظّروف في تلك الأثناء على تغيير جنسيّتهم) إلى الآستانة. وممّا يُروى أنّ طلب التّدخّل الحاسم في هذا الشّأن كان أوّل ما تقدّمت به السّلطات الإيرانيّة إلى الدّولة الصّديقة بعد ارتقاء السّلطان الجديد عرش السّلطة.
وفي خامس أيّام نوروز سنة 1863م، بينما كان حضرة بهاء الله يحتفل بهذا العيد في مزرعة الوشّاش بالقرب من بغداد، أقبل رسول نامق باشا وسلّم حضرة بهاء الله مذكّرة يطلب فيها الوالي تحديد موعد معه. وقد حدث هذا بعد نزول لوح “ملاّح القدس” الّذي تطيّر أصحاب حضرة بهاء الله بنبوءاته وإنذاراته.
وقد ذكر النّبيل في تاريخه أنّ حضرة بهاء الله كان في السّنوات الأخيرة من إقامته ببغداد يشير في أحاديثه إلى فترة الامتحان والافتتان الّتي كانت قادمة لا محالة بإشارات كلّها حزن وكآبة، ما أزعج كلّ من حوله أيّما إزعاج. كما أيّدت المخاوف والهواجس الّتي سيطرت على أصحابه رؤيا رآها في تلك الأيّام لا يخطئ الإنسان مغزاها المشؤوم. كتب في أحد ألواحه يقول: “رأيت بأن اجتمع في حولي النّبيّون والمرسلون وهم قد جلسوا في أطرافي وكلّهم ينوحون ويبكون ويضجّون، وأني تحيّرت من نفسي فسألت عنهم، إذًا اشتدّ بكاؤهم وصريخهم وقالوا لنفسك يا سرّ الأعظم ويا هيكل القِدم، وبكوا على شأن بكيت ببكائهم، وإذًا سمعت بكاء أهل ملأ الأعلى وفي تلك الحالة خاطبوني وقالوا… سوف ترى بعينك ما لا رآه أحد من معشر النّبيّين. فصبرًا صبرًا يا سرّ الله المكنون ورمزه المخزون… وكنت معهم في تلك اللّيلة خاطبتهم وخاطبوني إلى أن قرب الفجر”. ويروي النّبيل ذلك فيقول: “تلاطمت بحار الأسى في القلب حين قُرئ لوح ملاّح القدس… وكان من الواضح لكلّ فرد أن فصل بغداد يوشك أن ينتهي، وأنّ فصلاً جديدًا يوشك أن يبدأ. وما كاد هذا اللّوح يُقرأ حتّى أمر حضرة بهاء الله بأن تُطوى الخيام المضروبة وأن يعود كلّ أصحابه إلى المدينة. وبينما كانت الخيام تُطوى قال: (**ما أشبه هذه الخيام بمتاع الدّنيا وزخرفها، ما أن ينتشر وينبسط حتّى يكرّ عليه الدّهر فيطويه). من هذه الكلمات أدرك السّامعون أنّ هذه الخيام لن تضرب في هذا المكان مرّة أخرى. فلم تكد تُرفع الخيام حتّى أقبل رسول الوالي من بغداد ليسلّم المذكّرة.
وفي اليوم التّالي كان حضرة بهاء الله في مسجد قريب من دار الوالي حين جاء نائب الوالي للقائه وتسليمه الرّسالة الّتي بعث بها عالي باشا إلى نامق باشا. وكانت رسالة منمّقة مؤدّبة اللّهجة تدعو حضرة بهاء الله للتّوجّه إلى الآستانة ضيفًا على الحكومة العثمانيّة، وتضع تحت تصرّفه مبلغًا من المال، وتأمر حامية من الفرسان أن تصحبه حماية لشخصه. ولم يتوانَ حضرة بهاء الله عن قبول هذا الطّلب وإن اعتذر عن قبول المال. فلما ألحّ نائب الوالي على حضرة بهاء الله أن يقبل الهبة السّخيّة الّتي خُصّصت له، واحتجّ بأنّ رفضه لها يغضب ولاة الأمور، رضي حضرة بهاء الله أن يتسلّمها على مضض وفرّقها بين الفقراء في اليوم نفسه.
وكان وقع هذه الأنباء على جماعة المنفيّين مفاجئًا محيّرًا. ولقد كتب شاهد عيان يصف تصرّف المؤمنين تجاه هذه الأخبار المنذرة باقتراب رحيل حضرة بهاء الله، قال: “شهد هذا اليوم هياجًا يماثل هياج يوم الحشر. وكأنّي بأسوار المدينة وأبوابها تبكي وتنوح لاقتراب حرمانها من الأبهى المحبوب. وفي أوّل ليلة جرى فيها ذكر اقتراب رحيله أعرض أحبّاؤه عن الطّعام والشّراب والنّوم. ولم يقرّ لأحد منهم قرار، بل صمّم كثير منهم على الانتحار دون تردّد إذا حيل بينهم وبين نعمة مرافقته… على أنّ خواطرهم لم تهدأ، ونفوسهم لم تطب إلاّ بعد أن سمعوا كلماته لهم ومناشدته إيّاهم وتلطّفه بهم. هنالك أسلموا أمرهم إلى رضاه”. وفي تلك الأيّام رقم بيده لوحًا لكلّ من عاش منهم ببغداد لا فرق بين عربيّتهم وإيرانيّهم ولا بين رجالهم ونسائهم، ولا بين صبيانهم وراشديهم وفي معظم هذه الألواح تنبّأ بظهور “العجل” و”طيور اللّيل” إشارة منه إلى الّذين سوف يرفعون علم العصيان ويشقّون عصا الطّاعة ويخرجون على الجماعة ويحدثون أخطر فتنة في تاريخ الدّين، وهم نفس الّذين تنبّأ بهم في لوح ملاّح القدس وفي الرّؤيا الّتي ذكرناها من قبل.
وفي عصر يوم الأربعاء الثّالث من ذي القعدة سنة 1279هـ (الموافق للثّاني والعشرين من نيسان سنة 1863م)، أي بعد سبعة وعشرين يومًا من نزول ذلك اللّوح الحزين الّذي رقمه حضرة بهاء الله فجأة، ومن تسلّمه هذه المذكرة الحاسمة المنذرة برحيله إلى الآستانة، وبعد واحد وثلاثين يومًا من النّوروز، بدأ حضرة بهاء الله أوّل مرحلة من رحلته الّتي طالت أربعة أشهر إلى عاصمة الإمبراطوريّة العثمانيّة، وفي ذلك اليوم التّاريخيّ، الّذي عُرف فيما بعد بأوّل أيّام عيد الرّضوان، بلغت زيارات الوداع الّتي قام بها معارفه وأصدقاؤه من كلّ طبقة وطائفة ودين مبلغًا قلّما شهدت بغداد له مثيلاً. فاكتظّت مداخل بيته بجمهور غفير من كلا الجنسين ومن كلّ عمر، احتشد فيه القريب والغريب والعربيّ والكرديّ والفارسيّ وعلّيّة القوم ورجال الدّين والدّولة والتّجار وكثير من عامّة النّاس والفقراء واليتامى والمساكين وأبناء السّبيل، بعضهم ذاهل وبعضهم مفطور الفؤاد، ومعظمهم دامع العين قلق؛ وقليل منهم مستطلع للأخبار أو مُتشفٍّ في السّرّ؛ وكلّهم يتحرّك شوقًا إلى أن يلقي نظرته الأخيرة على الّذي أثّر بسنّته وسيرته، عشر سنوات طوال، كلّ هذا التّأثير النّافذ القويّ على هذا العدد الضّخم من مختلف سكّان مدينتهم.
ولآخر مرّة غادر، بين البكاء والنّحيب، “بيته الأعظم” الّذي منه فاحت “نفحات السّبحان” وارتفعت “نغمات الرّحمن” في “كلّ الأحيان”. وكان يوزّع الصّدقات بيده السّخيّة على الفقراء الّذين أخلص في صداقته لهم. وكان يقول لكلّ الحزانى الضّارعين من حوله قولاً كريمًا يعزّيهم ويسكّن قلوبهم. وظلّ على هذه الحال إلى أن بلغ شاطئ النّهر، وعبر إلى الحديقة النّجيبيّة على الضّفة الأخرى ومعه أولاده وكاتب وحيه. وقبل عبوره خاطب الفئة المخلصة المحيطة به فقال: “**يا أصحابي! هذه بغداد أعهد بها إليكم، وهي على ما ترونها عليه من دمع ينهمر كأمطار الرّبيع من عيون الأصدقاء والغرباء الّذين يزحمون سقوفها وشوارعها وأسواقها. فلا ينبغي أن تخمد نار المحبّة المشتعلة في القلوب من أفعالكم وأعمالكم؛ ولا أن يبدو منكم ما يسبّب انطفاءها”.
وما أن أذّن المؤذّن لصلاة العصر حتّى كان حضرة بهاء الله يدخل الحديقة النّجيبيّة حيث مكث اثني عشر يومًا قبل مغادرة المدينة. وهنالك أقبل عليه أصدقاؤه وأصحابه أفواجًا بعد أفواج، وفازوا بلقائه وودّعوه وداعهم الأخير في حزن شديد. وكان من أبرزهم الآلوسي مفتي بغداد الشّهير الّذي دمعت عينه، وأنحى باللاّئمة على ناصر الدّين شاه واعتبره المسؤول الأوّل عن هذا النّفي الجائر؛ وقال بصراحة: “والله ما هو ناصر الدّين بل مخذل الدّين”. وهناك زائر ممتاز آخر هو نامق باشا الوالي الّذي عبّر بأرقّ العبارات عن أسفه البالغ على التّطوّرات الّتي عجّلت برحيل حضرة بهاء الله على هذا النّحو، وأكّد له استعداده لأن يعاونه على قدر استطاعته وسلّم الضّابط المنتدب لمرافقة حضرة بهاء الله أمرًا كتابيًّا لكلّ حكّام الأقاليم الّتي يمرّ بها المنفيّون يأمرهم فيه بأن يلقوهم بكلّ احترام وتقدير. وبعد اعتذاره الشّديد قال لحضرة بهاء الله: “نحن على استعداد لتنفيذ كلّ ما تطلب وما عليك سوى أن تأمر”. فكان جوابه على الإلحاح المتكرّر من جانب الوالي: “**أكرم أحبّاءنا وعاملهم بالرّفق والرّأفة”، وهو طلب استقبله بالرّضاء الحارّ دون تردّد.
فلا عجب أن نرى هؤلاء الّذين سعوا وجاهدوا للحصول على أمر بنفي حضرة بهاء الله وفرحوا بنجاح مسعاهم، يندمون على ما فعلوا ندمًا مريرًا حين رأوا بأعينهم تلك الشّواهد الكثيرة الدّالّة على عميق الإخلاص والعطف والتّقدير من جانب الرّفيع والوضيع، والّتي أخذت تتوالى منذ أعلن حضرة بهاء الله رحيله المقترب إلى يوم مغادرته الحديقة النّجيبيّة. وفي خطاب كتبه حضرة عبد البهاء في تلك الحديقة أشار إلى هؤلاء الأعداء فقال: “**لقد تدخّلت العناية الإلهيّة تدخّلاً جعل فرحهم ترحًا وسرورهم غمًّا؛ حتّى لقد ندم القنصل الإيرانيّ العام في بغداد على التّدابير والخطط الّتي دبّرها المتآمرون. بل إنّ نامق باشا قال يوم رآه [أي حضرة بهاء الله]: كانوا من قبل يصرّون على رحيلك، غير أنّهم اليوم أشدّ إصرارًا على بقائك”.
يحدّد وصول حضرة بهاء الله إلى الحديقة النّجيبيّة، الّتي أطلق عليها أتباعه فيما بعد لقب حديقة الرّضوان، بداية ما يعتبر أقدس الأعياد البهائيّة كلّها وأعظمها شانًا، ذلك لأنّه العيد الّذي يخلّد ذكرى إعلان حضرة بهاء الله رسالته لأصحابه ويمكن أن يُعتبر هذا الإعلان الضّخم تكملة منطقيّة لعمليّة التّطوير الّتي بدأها بعد عودته من السّليمانيّة، كما يمكن أن يُعتبر مقدّمة لإعلان نفس الرّسالة للعالم وحكّامه بصورة نهائيّة في أدرنة.
بهذا العمل المهيب انتهت “المهلة” الّتي دامت ما لا يقلّ عن عشر سنوات، وفصلت فصلاً إلهيًّا بين ميلاد ظهور حضرة بهاء الله في سياه ﭼـال وبين إعلان هذا الظّهور لأتباع حضرة الباب. وحلّ “ميقات السّتر” الّذي انهمرت عليه فيه، حسب شهادته، “آيات الظّهور الإلهيّ وبشاراته”، وانشقّ نسبيًّا “ألف ألف حجاب من النّور” كانت تغلّف مجده ووهبت للإنسانية “نورًا من أنوار الوجه أقلّ من سمّ الإبرة”؛ وانقضت “الألف والمائتان والتّسعون يومًا” الّتي حدّدها دانيال في آخر أصحاح من سفره، باعتبارها مدّة “رجسة الخراب”، وابتدأت “المائة سنة القمريّة” الّتي سبقت مباشرة النّهاية المباركة، (1335 يومًا) الّتي أخبر بها دانيال في نفس الأصحاح، وتمت التّسع عشرة سنة الّتي يتألّف منها “الواحد” الأوّل، والّتي سبق أن قدّرها حضرة الباب بقلمه في البيان الفارسي. وأوشك حضرة عيسى المسيح العائد في مجد الآب أن يستوي على عرشه ويقبض على صولجان السّيادة العالميّة الّتي لا تفنى، وظهرت بوضوح جامعة الاسم الأعظم “أصحاب السّفينة الحمراء” الّذين أثنى عليهم كتاب قيّوم الأسماء ثناءً عاطرًا، وأخيرًا تحقّقت بالحرف الواحد نبوءة حضرة الباب فيما يختص ” بالرّضوان” مشهد إشراق مجد حضرة بهاء الله الفائق.
ودون أن تخيف حضرة بهاء الله مظاهر الشّدائد الجسيمة الّتي تنبّأ هو نفسه بأنّها سوف تهاجمه، ودون أن تعيقه المقاطعات المستمرّة النّاشئة عن تدفّق سيل الزّائرين الّذين زحموا خيامه مساء نفيه الثّاني الخطير المخيف الّذي يبعد به عن وطنه ومهد دينه إلى بلاد أخرى تختلف في الجنس واللّغة والثّقافة، اختار هذا المساء الخطير غير المناسب في الظّاهر ليدّعي مثل هذا الادّعاء البالغ التّحدّي، وليهتك السّتار عن السّرّ المحيط بشخصه، وليتولّى سلطان من تنبّأ حضرة الباب بظهوره، مدركًا تمام الإدراك أنّ دائرة أعدائه سوف تتّسع وتضمّ سلطانًا جديدًا لا يقلّ عتوًّا عن ناصر الدّين شاه، وتحوي وزراء جدد لا يقلّون عدوانًا عن الحاج ميرزا آقاسي وأمير النّظام.
ومنذ زمن ران على مستعمرة المنفيّين هذا الحدث العظيم المقترب، فانتظره المنفيّون بأملٍ وشوق. وبينما كانت سنة “الثّمانين” تقترب بلا هوادة كان الّذي أصبح زعيم هذه الجامعة الفعليّ يشعر أكثر فأكثر بتأثيرات قوّته المندفعة ويتدرّج في نقلها إلى الّذين سيكونون أتباعه في المستقبل. وممّا أخذ يعلن إعلانًا صريحًا عن قرب تولّيه منزلته الإلهيّة وزعامته العلنيّة لجامعة البابيّين تلك المدائح العاطرة البهيّة الّتي كان يرقمها قلمه كلّ يوم تقريبًا، والألواح الّتي انهمرت طافحة بالإشارات، وتلويحاته وتلميحاته الّتي كان يوردها في أحاديثه الخاصّة والعامّة إلى اقتراب السّاعة الموعودة، والغبطة الّتي كان روحه يفيض بها في السّرّاء والضّرّاء على حدّ سواء، والنّشوة الّتي غمرت محبّيه السّكارى بشواهد عظمته المشرقة ومجده البازغ، وذلك التّغيّر الملحوظ في مسلكه، واتّخاذه التّاج أخيرًا لباسًا للرّأس يوم غادر بيته الأعظم.
كتب النّبيل يصف اهتياج المشاعر الّذي سيطر على قلوب أصحاب حضرة بهاء الله في تلك الأيّام الّتي سبقت إعلانه لرسالته فقال: “*كم من ليلة جمعهم ميرزا آقا جان في غرفته وأغلق من دونهم الباب وأشعل العديد من شموع الكافور ورتّل عليهم ما نزّل حديثًا من المدائح والمناجاة والألواح الّتي كانت في حوزته. فيذهل هؤلاء عن عالم الفناء، ويتيهون في عوالم الرّوح، ويغفلون عن الطّعام والشّراب والنّوم حتّى يكتشفوا فجأة أن اللّيل قد ولّى، وأنّ الشّمس تقترب من الزّوال في رابعة النّهار”.
أمّا الظروف والملابسات الصّحيحة لهذا الإعلان التّاريخي الفاتح لعهد جديد فإنّنا، للأسف، لا نعرف عنها إلاّ القليل. ما هو نصّ الكلمات الّتي نطق بها حضرة بهاء الله فعلاً في هذا الظّرف؟ وكيف كانت طريقة إعلانه؟ وما هي الاستجابة الّتي أحدثها؟ وما وقع ذلك على ميرزا يحيى، وعلى من كان من أولئك الّذين امتازوا بشرف الإنصات إليه؟ غرق كلّ هذا في غموض سوف يجد مؤرّخو المستقبل أنّه ليس من السّهل عليهم اختراق غياهبه. على أنّ الوصف المجزّأ الّذي تركه مؤرّخه النّبيل للأجيال القادمة يعتبر إحدى الرّوايات المعتمدة القلائل ممّا نملك عن تلك الأيّام الخالدة الّتي قضاها في تلك الحديقة. قال النّبيل: “كان البستانيّون يعمدون فجر كلّ يوم إلى الورود الّتي تحفّ بممرّات الحديقة الأربعة فيقطفونها ويضعونها على أرض خيمته المباركة. وكانت الكومة من الارتفاع بحيث لم يكن في إمكان الصّاحب أن يرى صاحبه عبرها وهم جلوس في حضرته على شكل دائرة لتناول شاي الصّباح. وكان حضرة بهاء الله يقدّم هذه الورود بيديه المباركتين إلى كلّ من ينصرف عن محضره كلّ صباح حتّى يهديها باسمه إلى أصدقائه من العرب والعجم في المدينة”. ويستمرّ النّبيل في روايته فيقول: “وفي تاسع ليلة للشّهر القمري تصادف أن كنت من بين الّذين يسهرون حول خيمته المباركة. وعند منتصف اللّيل تقريبًا رأيته يخرج من خيمته، ويمرّ ببعض الأماكن الّتي نام فيها أصحابه. وأخذ يذرع طرقات الحديقة المزهرة المقمرة. وكان تغريد البلابل يتعالى من كلّ الجهات بحيث غطّى على صوت حضرة بهاء الله فلم يكن يسمعه بوضوح إلاّ أقرب النّاس إليه. وبات يذرع الطّرقات جيئة وذهابًا إلى أن وقف وسط طريق منها وقال: (تدبّروا أمر هذه البلابل! لقد بلغ من حبّها لهذه الورود أنّها لا تنام من غروب الشّمس حتّى مطلع الفجر بأهازيجها تناجي محبوبها في شوق ولهفة. فكيف يستطيع النّوم من يدّعون أنّهم مشتغلون بحبّ محبوبهم وجماله الورديّ). ومكثت ثلاث ليالٍ أسهر بجوار خيمته المباركة وأطوف حولها. وكنت كلّما مررت بالدّيوان الّذي يستلقي عليه وجدته يقظان. وكنت أراه في كلّ يوم مشغولاً من الصّباح حتّى المساء في محادثة سيل لا ينقطع من الزّوار الوافدين من بغداد. فما شعرت في كلمة من كلماته بأيّ أثر من الحذر والاحتياط”.
فيما يتعلّق بدلالة ذلك الإعلان، فلندع حضرة بهاء الله يكشف لنا عنها بنفسه. لقد أثنى على هذه المناسبة التّاريخيّة ووصفها بأنّها “العيد الأعظم” و”سلطان الأعياد” و”عيد الله” وميّزها في الكتاب الأقدس بأنّها اليوم الّذي فيه “انغمست الأشياء في بحر الطّهارة” وأشار إليها في أحد ألواحه الخاصّة بأنّها اليوم الّذي فيه “مرّت نسائم الغفران على هياكل الأكوان”. وفي لوح آخر قال: “افرحوا يا أهل الله بذكر أيّام فيها ظهر الفرح الأعظم بما نطق لسان القِدم إذ خرج من البيت متوجّهًا إلى مقام فيه تجلّى باسم الرّحمن… تالله لو نذكر أسرار ذاك اليوم لينصعق من في الملك والملكوت إلاّ من شاء الله المقتدر العليم الحكيم. إذًا أخذ سكر خمر الآيات مُظْهِرَ البيّنات”. وقال أيضًا: “يا قلم الأعلى قد أتى ربيع البيان بما تقرّب عيد الرّحمن… قد طلع نيّر الابتهاج من أفق سماء اسمنا البهّاج بما تزيّن ملكوت الأسماء باسم ربّك فاطر السّماء… إياك أن يمنعك شيء عن ذكر هذا اليوم الّذي فيه فُكّ رحيق الوصال بإصبع القدرة والجلال ودعا من في السّموات والأرضين… هذا يوم فيه يقول اللاّهوت: طوبى لك يا ناسوت بما جُعلت موطئ قدم الله ومقرّ عرشه العظيم… قل… هذا مظهر الكنز المخزون إن أنتم من القاصدين؛ وهذا محبوب ما كان وما يكون”. وقال أيضًا: “قم بشّر الإمكان بما توجّه الرّحمن إلى الرّضوان. ثم اهدِ النّاس إلى الجنّة العُليا الّتي جعلها الله عرض الجنان… ونادت فيها الحوريّات من أعلى الغرفات أن أبشروا يا أهل الجنان بما تدقّ أنامل القِدم النّاقوس الأعظم في قطب السّماء باسم الأبهى، وأدارت أيادي العطاء كوثر البقاء تقرّبوا ثمّ اشربوا هنيئًا لكم” وقال أخيرًا: “يا قلم! دع ذكر الإنشاء، وتوجّه إلى وجه ربّك مالك الأسماء، ثم زيّن العالم بطراز ألطّاف ربّك سلطان القِدم لأنّا نجد عرف يوم فيه تجلّى المقصود على ممالك الغيب والشّهود بأسمائه الحسنى، وشموس ألطافه الّتي ما اطّلع بها إلاّ نفسه المهيمنة على من في الإبداع”.
كان رحيل حضرة بهاء الله من حديقة الرّضوان ظهر اليوم الرّابع عشر من ذي القعدة سنة 1279هـ (الموافق للثّالث من شهر أيّار 1863م). ولقد شهد هذا اليوم مناظر من الحماسة الفيّاضة الجيّاشة لا تقلّ روعة ولا تحريكًا للمشاعر عن تلك الحماسة يوم غادر بيته الأعظم في بغداد، إن لم تفقها. وفي ذلك كتب شاهد عيان يقول: “في هذه المناسبة رأينا بأعيننا فزع يوم النّشور ويوم الحساب. كان الحبيب والغريب يبكي وينوح. وعجب الأكابر والرّؤساء الّذين احتشدوا، وتحرّكت المشاعر بصورة يعجز عن وصفها اللّسان، ولا يمكن للمشاهد أن يهرب من عدواها”.
ركب حضرة بهاء الله جوادًا مطهّمًا أصيلاً كميت اللون من أكرم السّلالات، كان خير ما استطاع أحبّاؤه شراءه له. وخلّف وراءه حشدًا راكعًا من المعجبين المشتعلين. وانطلق في أوّل مرحلة من رحلته إلى الآستانة. وكتب النّبيل الّذي شاهد بعينه هذا المشهد الخالد قال: ” ما أكثر الّذين ركعوا للغبار الّذي أثره جواده وقبّلوا سنابكه، وما أكثر الّذين اندفعوا ليحتضنوا ركابه!” كما شهد أحد رفاق السّفر قائلاً: “ما أكثر الّذين كانوا هم الإخلاص بعينه فألقوا بأنفسهم بين يدي الجواد مفضّلين الموت على مفارقة محبوبهم! حتّى لكأنّي بالجواد المبارك يسير على هذه الأجساد ذات القلوب الطّاهرة”. وصرّح حضرة بهاء الله بقوله: “هو وحده [أي الله] الّذي مكّنني من أن أغادر المدينة [بغداد] بجلال لا ينكره إلاّ الجاحد اللّئيم”. وظلّت مظاهر الإخلاص والولاء والخضوع تحفّ به طوال رحلته إلى أن استقرّ به المقام في الآستانة. ولقد سمع النّبيل ميرزا يحيى، الّذي تطوّع بالجري وراء عربة حضرة بهاء الله يوم وصوله إلى الآستانة، يقول للسّيّد محمّد: ” لو لم أفضّل العزلة عن النّاس ولو أظهرت لهم شخصيّتي لكان ذلك الشّرف الّذي ناله [يعني حضرة بهاء الله] اليوم من نصيبي أيضًا”.
غادر حضرة بهاء الله الفريجات، أولى مراحل سفره، في العشرين من ذي العقدة (الموافق 9 أيار سنة 1863م) يصحبه ستّة وعشرون من أصحابه غير أهل بيته. وعند مغادرته الفريجات تكرّرت نفس مظاهر الولاء والإخلاص الّتي ظهرت نحوه أثناء رحيله عن بيته وعن حديقة الرّضوان. وكانت القافلة تتكوّن من خمسين بغلاً وعشرة فرسان عليهم قائدهم؛ وسبعة أزواج من الهوادج يظلّل كلّ زوج منها أربع مظلاّت، فشقّت طريقها مجتازة النّجاد والوهاد والأحراش والوديان والمراعي الّتي تؤلّف فيما بينها مناظر الأناضول الشّرقية الخلاّبة، وظلّت كذلك إلى أن بلغت ميناء صامصون على البحر الأسود في مدّة لا تقلّ عن مائة وعشرة أيّام. وكان حضرة بهاء الله يركب الجواد أحيانًا، ويستريح أحيانًا أخرى في هودجه الّذي كان أصحابه يحفّون به سيرًا على الأقدام. وبفضل أمر نامق باشا كان الولاة والحكّام والمديرون والشّيوخ والمفتون والقضاة ورجال الحكومة وأكابر الأقاليم الّتي يمرّون بها أثناء رحيلهم شمالاً في أوائل الرّبيع يستقبلونه بالتّرحيب الحارّ. ففي كركوك وأربيل والموصل حيث مكث ثلاثة أيّام، وفي نصيبين وماردين وديار بكر، حيث توقّف يومين، وفي خربوط وسيواس وكثير غيرها من القرى والدّساكر خرجت الوفود للقائه قبل وصوله. كما كانت الوفود تخرج مسافة طويلة لوداعه. أمّا الولائم الّتي كانت تُقام تكريمًا له في بعض المراحل، والطعام الّذي كان القرويّون يعدّونه ويقدّمونه بين يديه، والشّوق الّذي كانوا يظهرونه المرّة تلو الأخرى لتهيئة كلّ وسائل الرّاحة فكانت تعيد إلى الذّاكرة ذلك الإجلال والتّكريم الّذي كان أهل بغداد يخصّونه به في كثير من الظّروف والمناسبات.
روى رفيق السّفر قال: “عندما كنّا نمرّ في ذلك الصّباح بمدينة ماردين تقدّمنا فرسان من جنود الحكومة وهم يرفعون راياتهم ويدقّون طبولهم ترحيبًا. وصحبنا الحاكم مع رجال الحكومة وعلّيّة القوم. وتزاحم الرّجال والنّساء والأطفال على أسطح المنازل، ووقفوا على جانبي الطّرقات انتظارًا لقدومنا. واخترقنا المدينة في أبّهة وجلال متابعين رحلتنا. وشيّعنا الحاكم ومن معه مسافة ليست بالقصيرة خارج البلد”. وروى النّبيل في تاريخه قال: “أجمع كلّ من لاقيناهم في هذه الرّحلة على أنّهم لم يشاهدوا طيلة عمرهم أحدًا يسافر في هذا الطّريق الّذي لم يخلُ يومًا من الحكّام والولاة الذّاهبين الرّاجعين بين الآستانة وبغداد بمثل هذه الحال، ولا باذلاً بمثل هذا الكرم والسّخاء ذات اليمين وذات الشّمال ولا واهبًا لكلّ إنسان هذا القدر العظيم من الخير والإحسان”. وعندما شاهد حضرة بهاء الله البحر الأسود من هودجه، وهو يقترب من ثغر صامصون، رقم لوحًا يعرف بـ”لوح الهودج”، استجابة لالتماس الميرزا آقا جان. وفي هذا اللّوح أكّد حضرة بهاء الله الإنذارات الّتي سجّلها من قبل في لوح “ملاّح القدس”، وأيّدها بإشارات مثل “محكّ الله” و”عذاب فتنة عظيم”.
وفي صامصون زاره كبير مفتّشي الولاية الممتدّة من بغداد إلى الآستانة يصحبه عدد من الباشوات، وأبدوا له غاية الاحترام والإجلال، فدعاهم حضرته إلى مائدته لتناول الغداء. وبعد سبعة أيّام من وصوله وكما تنبّأ حضرته في لوح “ملاّح القدس”، ركب سفينة تركيّة. وبعد سفر ثلاثة أيّام أخرى، في ظُهر غرّة ربيع الأوّل سنة 1280 للهجرة (الموافق 16 آب سنة 1863م) نزل في ميناء الآستانة هو ومن معه من رفاق المنفى. وركب وأسرته عربتين خاصّتين كانتا في انتظاره على مرسى الميناء. وتوجّه إلى دار شمسي بيك الموظّف الّذي انتدبته الحكومة ليرحّب بضيوفها. وكان منزله مجاورًا لمسجد “خرقة شريف” إلا أنّهم انتقلوا بعد ذلك إلى بيت ويسي باشا القريب من مسجد السّلطان محمّد. وكان منزلاً أرحب وأوسع.
ببلوغ حضرة بهاء الله الآستانة عاصمة الإمبراطوريّة العثمانيّة ومقرّ الخلافة الإسلاميّة [ويكنّيها المسلمون “قبّة الإسلام” ويصفها حضرة بهاء الله بالبقعة الّتي استقرّ فيها “كرسيّ الظّلم”] يمكننا أن نقول إنّ أنكد فصل وأقساه بل أمجد فصل من القرن البهائيّ الأوّل قد ابتدأ فعلاً. نعم، لقد ابتدأت فترة اختلطت فيها الامتحانات الّتي لم يسبق لها مثيل، والحرمان الّذي يجلّ عن الوصف، بأنبل الانتصارات الرّوحيّة وأكرمها، وأوشكت فيها شمس حضرة بهاء الله أن تبلغ سمت الزّوال. واقتربت فيها أخطر سنوات عصر البطولة المجيد من دورته. وانطلقت فيها تلك العمليّة الهدّامة المدمّرة الّتي سبق أن تنبّأ بها مبشّره الفريد في “قيّوم الأسماء” منذ سنة السّتّين المبكّرة.
منذ عشرين سنة كاملة ولد الظّهور البابيّ في إيران المظلمة بمدينة شيراز وبالرّغم من الحبس المرير الّذي عاناه مؤسّسه إلا أن حضرة الباب أعلن دعاويه الجبارة أمام مجتمع ممتاز في تبريز عاصمة آذربيجان. وفي مزرعة بدشت افتتح بجرأة حماة أمره الدّورة الّتي بدأها. وبعد تسع سنوات أثمر هذا الظّهور ثمرًا مفاجئًا على نحو غيبيّ عجيب سريع في ليل اليأس والعذاب بسياه ﭼـال في طهران. وبعودة حضرة بهاء الله من السّليمانيّة تعطّلت، بصورة بارعة، عمليّة التّدمير والتّخريب الّتي كانت قد انطلقت تنخر في مقادير الدّين ومصائره والّتي تسارعت بصورة مخيفة أثناء اعتكافه في كردستان، ليس هذا فحسب بل وتحوّل مجراها. وأثناء إقامته في بغداد بعد ذلك أرسى للجامعة النّاشئة قواعدها الخلقيّة والأدبيّة والعقيديّة على أساس متين. وأخيرًا في حديقة الرّضوان، عشيّة نفيه إلى الآستانة، انتهت مهلة السّنوات العشر الّتي قدّرتها العناية الإلهيّة الغيبيّة بإعلان رسالته وظهور ما سوف يصبح نواة لجامعة دينيّة عالميّة. ولم يبقَ إلاّ أن تعلن هذه الرّسالة نفسها في مدينة أدرنة لزعماء الدّنيا ورجال الدّين في العالم ليأتي بعدها، على مرّ السّنين وكرّ الأعوام، كشف أوسع وأشمل مبادئ الدّين الأساسية في سجن عكّاء بفضل صياغة الأحكام والشّرائع المقدّرة للمحافظة على الدّين، ثم بفضل تأسيس الميثاق بعد صعوده مباشرة. وهو الميثاق الّذي أبرم لحماية وحدة أمره واستمرار نفوذه. ثم بفضل توسيع نطاق مناشطة وفعاليّاته على نطاق عالميّ عجيب بقيادة حضرة عبد البهاء مركز العهد والميثاق، ثم بفضل قيام نظامه الإداريّ في عصر التّكوين لهذا الدّين، ذلك العصر البشير السّاعي بين يدي عصره الذّهبي المجيد القادم.
تمّ هذا الإعلان التّاريخيّ في وقت كان الدّين يعاني فيه أزمة من الأزمات البالغة الشّدة. وكان هذا الإعلان، في جوهره، موجّهًا إلى ملوك الأرض وإلى أقطاب رجال الدّين المسيحيّ والإسلامي الّذين تقع على كواهلهم المسؤوليّة الخطيرة الّتي لا مفرّ منها لتوحيد مصير أقوامهم وأتباعهم بما لهم من نفوذ عظيم وسلطان كبير عليهم.
ويمكن القول بأنّ المرحلة الأولى من هذا الإعلان قد بدأت في الآستانة بخطاب [لا نملك نصه مع الأسف] وجّهه حضرة بهاء الله إلى السّلطان عبد العزيز الّذي لقّب نفسه خليفة رسول الله والحاكم المطلق للإمبراطوريّة القويّة المترامية الأطراف. وكان هذا العاهل المقتدر أوّل من تلقّى النّداء الإلهي من بين ملوك الأرض، كما كان أوّل من تلقّى القصاص الإلهيّ العادل من بين ملوك الشّرق. وكانت مناسبة إرسال هذا الخطاب أنّ السّلطان عمد إلى إصدار فرمان، فجأة وبلا مبرّر، ولم يمضِ على قدوم المنفيّين إلى عاصمة ملكه سوى أربعة أشهر، يقضي بنفيهم في وسط الشّتاء القارس وفي اقسى ألظّروف المذلّة، إلى أدرنة الواقعة في أقاصي إمبراطوريتّه.
ويرجع السّبب في إصدار هذا الفرمان الحاسم الشّنيع الّذي استقر عليه رأي السّلطان ورأي وزيريه عالي باشا وفؤاد باشا – إلى حدّ كبير – إلى دسائس مشير الدّولة، ميرزا حسين خان سفير إيران لدى الباب العالي. وقد وصفه حضرة بهاء الله بـ”المفتري” لأنّه تحيّن أوّل فرصة ليؤذيه، ويؤذي دينه الّذي أصبح زعيمه المطلق المعترف به. وكانت الحكومة الإيرانية تدفع سفيرها إلى مواصلة سياسة الدّسّ والوقيعة وإثارة عداوة السّلطات التّركيّة ضدّ حضرة بهاء الله. وقد شجّعه على هذا إعراض حضرة بهاء الله عن الجري على عادة ضيوف الحكومة مهما عظم شأنهم، وهي زيارة شيخ الإسلام والصّدر الأعظم ووزير الخارجية بعد وصولهم إلى العاصمة. ولم يكتفِ حضرة بهاء الله بذلك بل إنّه امتنع عن ردّ زيارة بعض الوزراء، وزيارة كمال باشا وزيارة المبعوث التّركيّ السّابق لدى بلاط شاه إيران. ولم يمنع هذا السّفير عن الاستمرار في الدّسّ والوقيعة استقامة حضرة بهاء الله واستقلاله اللّذان يناقضان على خطّ مستقيم مسلك الأمراء الإيرانيّين المرتزقة الّذين كانوا لا يأنفون من أن “يستجدوا لدى كلّ باب ما يتاح لهم من هبات وعطايا” لدى وصولهم. أخذ السّفير ينتقد امتناع حضرة بهاء الله عن الذّهاب إلى السّفارة الإيرانيّة، وردّ زيارة ممثّلها. واستعان في دسائسه بالحاج ميرزا حسن الصّفا المتواطئ معه، وأمره بأن يروّج عنه شائعات ملفّقة لا أصل لها من الصّحّة. وبفضل نفوذه الرّسمي واتّصالاته الخاصّة برجال الدّين والأكابر ورجال الحكومة أفلح أن يصوّر حضرة بهاء الله بصورة الشّخص المتكبّر المتعجرف الّذي يعتبر نفسه فوق كلّ قانون، ويضمر التّدابير العدوانيّة نحو كلّ سلطة قائمة، ويزيد بصراحته من هوّة الخلاف بينه وبين الحكومة الإيرانيّة. على أنّ السّفير لم يكن هو وحده الّذي انهمك في دسّ هذه الدّسائس الممقوتة. بل إنّ الكثيرين، كما يقول حضرة عبد البهاء، “شوّهوا سمعة” المنفيّين و”حكموا” عليهم بأنّهم “فساد لكلّ الأرض”، “ناقضون للعهود والمواثيق”، وأنّهم “وبال على كلّ بلد” وأنّهم “يستحقّون كلّ عقاب وقصاص”.
وكلّف صهر الصّدر الأعظم المحترم، ولا أقلّ!، بأن يحيط الأسير علمًا بالفرمان الصّادر ضدّه. وهو فرمان أوضحت طبيعته تعاون الحكومتين التّركيّة والإيرانيّة ضدّ خصمهما المشترك، وكان له في النّهاية أوخم العواقب على السّلطة والخلافة وعلى آل قاجار. ورفض حضرة بهاء الله أن يأذن لهذا الرّسول، وانتدب حضرة عبد البهاء وآقاي كليم للقائه. فاكتفى الرّسول بإبداء ملاحظاته الصّبيانيّة وتصريحاته التّافهة، وأخبرهما بأنّه سوف يعود بعد ثلاثة أيّام ليتلقّى الجواب على الفرمان الّذي كُلّف بإبلاغه.
وفي ذلك اليوم أنزل حضرة بهاء الله لوحًا شديد اللّهجة وفي صبيحة اليوم التّالي دفعه بغلاف مختوم إلى شمسي بيك، وكلّفه أن يسلّمه إلى عالي باشا، وأن يقول له إنّه نزل من عند الله. وفيما بعد قال شمسي بيك لآقاي كليم: “لم أكن أعرف فحوى الكتاب إلاّ أنّ الصّدر الأعظم ما كاد يتصفّحه حتّى شحب وجهه وامتقع قائلاً: (كأنّي به ملك الملوك يصدر أوامره إلى أصغر ولاته ويرشده إلى المسلك القويم). وساءت حاله إلى درجة أنّني فضلت الانسحاب”. وممّا يروى أنّ حضرة بهاء الله علّق على تأثير ذلك اللّوح بقوله: “**بعد وقوف وكلاء السّلطان على مضمونه فإنّه يمكن تبرير الأعمال الّتي مارسوها ضدّنا وأمّا ما عملوا قبل وقوفهم على مضمونه فليس له أيّ مبرّر”.
كان ذلك اللّوح طويلاً بصورة ملحوظة، على حدّ وصف النّبيل، وكانت كلماته الأولى الموجهة إلى السّلطان نفسه، تندّد بوزرائه وتفضح عدم نضجهم وقلّة اقتدارهم. واشتمل اللّوح على فقرات موجّهة إلى الوزراء أنفسهم، يتحدّاهم فيها بجرأة، ويعنّفهم على تباهيهم وتفاخرهم بزخارف الدّنيا ومتاعها، وجريهم المحتوم وراء المال والثّروة الّتي لن يقرّ للدّهر قرار حتّى يسلبهم إيّاها.
وفي مساء الرّحيل، الّذي حدث بعد توقيع فرمان النّفي مباشرة، أرسل حضرة بهاء الله مع الحاج ميرزا حسن الصّفا السّابق الذّكر، أثناء جلستهما الأخيرة الخالدة يقول للسّفير الإيراني: “**ماذا استفدت أنت وأمثالك من قتلكم الكثير من المضطهدين كلّ عام وصبّكم البلايا على رؤوسهم، حين زاد عددهم مائة ضعف ووجدتم أنفسكم في حيرة من أمركم لا تدرون كيف تحرّرون رؤوسكم من هذه الفكرة الخبيثة… تعالى أمره تعالى عمّا تكيدون. ألا فاعلم هذا علم اليقين لو اتّحدت كلّ حكومات الأرض وقضت عليّ وعلى كلّ من يحمل هذا الاسم لما خمدت هذه النّار الإلهيّة. بل إنّ أمره ليحيط عندئذٍ كلّ ملوك الأرض، لا بل كلّ ما خُلق من ماءٍ وطين… وما من شيء يصيبنا من بعد إلاّ كان سببًا لنصرتنا وخذلانهم”.
وتنفيذًا للفرمان الحاسم بنفي هؤلاء الّذين نفوا مرّتين من قبل خرج حضرة بهاء الله وأهل بيته وأصحابه، يركب بعضهم العربات، ويركب غيرهم الدّواب، ومتاعهم مكوّم على عربات تجرّها الثّيران، وفي صحبتهم ضبّاط من الأتراك. خرجوا في صباح يوم بارد من أيّام شهر كانون الأوّل بين بكاء ونحيب الأصدقاء الّذين خلفوهم وراءهم. وبدأوا رحلة دامت اثني عشر يومًا اخترقوا فيها فيافي قاحلة تسفى عليها الرّياح إلى مدينة وصفها حضرة بهاء الله بالمدينة “الّتي لن يدخل فيها أحد إلا الّذين هم عصوا أمرك”. ووصفها في سورة الملوك قائلاً: “وأخرجونا عنها [أي عن الآستانة] بذلّة الّتي لن تقاس به ذلّة في الأرض” وأضاف قوله: “ولم يكن لأهلي وللّذين هم كانوا معي من كسوة لتقيهم عن البرد في هذا الزّمهرير”. وقال في موضع آخر: “بكت علينا عيون أعدائنا ومن ورائهم كلّ ذي بصر بصير”. وقال النّبيل وهو يبكي: “كان نفيًا تحمّلوه بالرّضى والتّسليم يبكي له القلم ويخجل القرطاس”. ويمضي هذا المؤرّخ يقول: “كان شتاء هذه السّنة قارسًا بصورة لم يعهد لها المعمّرون مثيلاً. وفي بعض مناطق تركيّا وإيران هلك الحيوان تحت طبقات الجليد وتجمّدت أعالي نهر الفرات أيّامًا عديدة، وهي ظاهرة لم يسبق لها مثيل، على حين تجمّد النّهر ما لا يقل عن أربعين يومًا في ديار بكر”. وقال أحد المنفيّين إلى أدرنة: “للحصول على الماء من الينابيع كان لزامًا علينا أن نشعل نارًا عظيمة في الهواء ونتركها ملتهبة لمدة ساعتين حتّى تذوب الثّلوج في تلك الينابيع”.
سافر المنفيّون المتعبون وسط الأمطار والأعاصير، وفي بعض الأحيان كانوا يسافرون ليلاً. وتوقّفوا فترات قصيرة في كوچك چكمـﭽـة وبويوك چكمـﭽـة وسَلْوَرى وبركاس وباب إيسكي ثمّ بلغوا أدرنة غرّة رجب سنة 1280هـ (الموافق للثّاني عشر من كانون الأوّل سنة 1863م). ونزلوا أوّل الأمر في خان العرب وهو خان ذو طابقين يقع بجوار منزل عزّت آقا. وبعد ثلاثة أيّام خُصّص لحضرة بهاء الله وأهل بيته منزل صيفيّ يقع في حيّ المراديّة بالقرب من التّكيّة المولويّة. وبعد أسبوع انتقلوا إلى منزل آخر يقع بجوار المسجد في نفس الحيّ. إلاّ أنّهم بعد ستّة أشهر تقريبًا تحوّلوا إلى منزل أوسع يعرف بـ”بيت أمر الله” يقع على الجانب الشّمالي من مسجد السّلطان سليم.
وهكذا ينتهي المشهد الأوّل لقصّة من أروع قصص ولاية حضرة بهاء الله. ويرتفع السّتار الآن عن فترة أجمع الرّأي على اعتبارها أحرج فترة في القرن البهائيّ الأوّل وأكثرها اضطرابًا، وهي فترة تسبق أمجد مراحل تلك الولاية، ونعني بها إعلان رسالته إلى العالم وحكّامه.
ما كاد الدّين ذو العشرين ربيعًا يتمالك نفسه من بعد الضّربات المتلاحقة حتّى داهمته أزمة على أعظم جانب من القسوة والخطورة فزعزعته من جذوره. وهي أزمة لا يمكن أن يماثلها شيء لا حتّى استشهاد حضرة الباب الفاجع، ولا محاولة اغتيال الشّاه الشّنيعة وما جرّته في اعقابها من المذابح الدّمويّة، ولا نفي حضرة بهاء الله المذلّ من وطنه، بل ولا حتّى اعتكافه سنتين في كردستان لشدّة ما بلغت نتائج هذه الضّربات من تدمير. نعم لا شيء من هذا كلّه يماثل أو يضارع هذا الاضطراب الدّاخلي الخطير الّذي تسلّط على هذه الجامعة النّاهضة من جديد، وهدّدها بانشقاق لا يمكن تداركه أو تلافيه. ذلك لأنّ السّلوك البربري الّذي سلكه ميرزا يحيى، أخو حضرة بهاء الله غير الشّقيق، والمرشّح لخلافة حضرة الباب والمعروف بزعيم جماعة البابيّين، جرّ في أعقابه فترة طبعت آثارها العميقة الغائرة في مقادير الدّين وأحواله مدّة لا تقلّ عن نصف قرن. لقد سلك مسلكًا يفوق في لؤمه وشؤمه عداوة أبي جهل نسيب حضرة محمّد رسول الله، ويزيد في عاره وشناره على خيانة يهوذا الإسخريوطي لأستاذه ومعلمه السّيّد المسيح، ويتخطّى في غدره ومكره مسلك أبناء يعقوب من أخيهم يوسف، ويتعدّى خبثه ما فعه ولد من أولاد نوح، بل وتزداد شناعته على شناعة ما ارتكبه قابيل ضد أخيه هابيل. ولقد وصف حضرة بهاء الله تلك الأزمة الشّديدة “بالأيّام الشّداد” الّتي انشق فيها “ستر حجب الكبرياء” ووقع “*الفصل الأكبر”. أمّا الأعداء الخارجيّون من رجال الدّنيا ورجال الدّين فقد أظهروا امتنانهم لهذه الأزمة وقويت بها نفوسهم، وجعلوا منها مطيّة لبلوغ غاياتهم، وأثارت لديهم الهزء والسخرية الّتي لا يكتمون منها شيئًا. أمّا أصدقاء حضرة بهاء الله وأنصاره فقد حيّرتهم الأزمة وعذّبتهم كما أنها ألحقت الأذى الشّديد بهيبة الدّين في نظر المعجبين به من أهل الغرب. وكانت مراحل هذه الأزمة تغلي منذ الأيّام الأولى لإقامة حضرة بهاء الله ببغداد. إلاّ أن القوى الخلاّقة الّتي نفخت الحياة من جديد في الجامعة المتهالكة تحت زعامته المستورة كبحت جماحها بصورة مؤقّته. ثم عادت فانفجرت آخر الأمر بكلّ شدّتها في السّنوات الّتي سبقت إعلانه لرسالته مباشرة. فجرّت على حضرة بهاء الله حزنًا عميقًا لا يسبر له غور، وأشعلت رأسه شيبًا بصورة لا تخطئها العين، ووجّهت إليه أعنف ضربة تلقّاها في حياته. ولقذ دبّرتها من أوّلها إلى آخرها الدّسائس والمكائد والخطط المتّصلة الّتي حاكها السّيد محمّد الموسوس الجهنّمي الّذي تجاهل نصيحة حضرة بهاء الله له وأصرّ على مصاحبته إلى الآستانة وأدرنة، وأخذ يضاعف جهوده في يقظة وانتباه شديدين ليصل بالأزمة إلى ذروتها القصوى.
أمّا ميرزا يحيى فقد اعتاد، منذ رجوع حضرة بهاء الله من السّليمانيّة، أن يعتكف في منزله اعتكافًا غير مشرّف، أو أن ينسحب، إذا تأزّمت الأمور، إلى الأماكن الآمنة كالحلّة أو البصرة. بل لقد فرّ إلى البصرة متنكّرًا في زيّ يهوديّ من بغداد، واشتغل بتجارة الأحذية. بل لقد بلغ من خوفه وهلعه أنّه روي عنه أنّه قال في إحدى المناسبات: “من ادّعى أنّه رآني أو سمع صوتي فهو كافر!”. فلما بلغه خبر اقتراب ركب حضرة بهاء الله إلى الآستانة اختبأ أوّل الأمر في بستان الهويدر القريب من بغداد، وفكّر في الفرار إلى الحبشة أو الهند أو إلى أيّ قطر آخر. ولما رفض أن يعمل بما نصحه به حضرة بهاء الله، وهو أن يسافر إلى إيران لكي ينشر آثار حضرة الباب، أرسل رجلاً يشبهه يسمّى الحاج محمّد كاظم إلى سراي الحكومة لكي يحصل له على جواز سفر باسم ميرزا علي الكرمانشاهي ثمّ غادر بغداد تاركًا فيها آثار حضرة الباب وسافر متنكّرًا مع بابيّ عربيّ يسمى زاهر إلى الموصل حيث التحق بجماعة المنفيّين الّذين كانوا في طريقهم إلى الآستانة.
اندفع هذا النّاقض الأكبر لميثاق حضرة الباب يرتكب من الأعمال ما لا يمكن التّستّر عليه أو احتماله. وكان يدفعه إلى ارتكاب هذه الأعمال حرصة الشّديد وحبّه الجارف للزّعامة. وكان يرى في هذه الأثناء رأي العين زيادة تعلّق المنفيّين بحضرة بهاء الله وإجلالهم له بصورة مذهلة تذوب لها نفسه حسرات. وكان يعلم حقّ العلم بما بلغته شهرة أخيه في بغداد وفي أثناء رحلته إلى الآستانة، ثمّ في اتّصالاته بحكام أدرنة وبعلّيّة القوم فيها فيفقد صوابه. أمّا الشّواهد المتضاعفة على ما أبداه ذلك الأخ من الشّجاعة والهيبة والاستقلال والتّرفّع تجاه السّلطات في العاصمة فكانت تثير حفيظته. كما كانت الألواح العديدة التي كان مؤسّس الدّورة الجديدة لا يكفّ عن إنزالها تملؤه غيظًا وكمدًا. فأذن لنفسه أن تنخدع بما يزوّده به السّيّد محمّد دجّال الدّورة البهائيّة، من آراء هوجاء تستفزّه وتستنفره للزّعامة بنفس الطّريقة الّتي سمح بها محمّد شاه لنفسه أن تنخدع بآراء الحاج ميرزا آقاسي دجّال الدّورة البابيّة. وأبى أن يستمع إلى ما كان أقطاب البابيّين يكتبون به إليه من وجوب توخّي الحكمة والاعتدال وضبط النّفس. ونسي ما بذله له حضرة بهاء الله من نصح، وما حباه به من عطف وهو الّذي يكبره بثلاثة عشر عامًا فشاهد شبابه ورجولته. وكان يدفعه إلى التّمادي في غيّه عين الأخ الشّفيق الّتي تغمض عن الذّنوب وتغضّ عن العيوب، الأخ الّذي كثيرًا ما سحب ذيل العفو والغفران على جرائمه العديدة ونزواته الكثيرة.
نعم، أفسده اتّصاله الدّائم بالسّيّد محمّد، رمز الخسّة والدناءة والجشع والغدر، إفسادًا لا يرجى له صلاح. فأخذ في أثناء غياب حضرة بهاء الله عن بغداد، بل وحتّى بعد عودته من السّليمانيّة، يلطّخ تاريخ الدّين بمخازٍ لا يمكن أن تُمحى. فمن ذلك تحريفه لآثار حضرة الباب مرّة بعد أخرى وزيادته الملحدة الّتي اضافها إلى صيغة الأذان حيث جعل من نفسه ومن الله سبحانه وتعالى شيئًا واحدًا، وإدخاله في تلك الآثار لإشارات إلى خلافة عيّن فيها نفسه وأولاده من بعده ورثةً لحضرة الباب، وتذبذبه وبرودته حين بلغه نبأ استشهاد مولاه الفاجع، وأمره بقتل مرايا الدّورة البابيّة كلّهم رغم أنّه كان من تلك المرايا، وخسّته الّتي تجلّت في أمره بقتل الدّيّان الّذي كان يخشاه ويحسده، وجريمته الشّنعاء الّتي ارتكبها أثناء غياب حضرة بهاء الله عن بغداد حين امر باغتيال ميرزا علي أكبر ابن عمّ حضرة الباب. وأخزى من كلّ هذا مساسه المخزي بشرف حضرة الباب نفسه في غضون تلك المدّة نفسها. وكان من المحتّم على تلك الأفعال، كما يشهد آقاي كليم ويروي النّبيل، أن تنفضح وتنكشف تحت ضوء أكثر شؤمًا ولؤمًا بأعمال وأفاعيل أوردته موارد الهلاك.
فقد بدأ يفكّر تفكيرًا محمومًا في خطط يائسة ترمي إلى تسميم حضرة بهاء الله وأصحابه حتّى يستعيد زعامته المتلاشية. وقد تملّكه هذا التّفكير المحموم بعد سنة تقريبًا من وصولهم إلى أدرنة. ولمّا كان يعرف أنّ أخاه غير الشّقيق، آقاي كليم، خبير بالعقاقير وخواصّها فقد أخذ ينتحل المزاعم حتّى يبيّن له تأثير بعض الأعشاب والسّموم. ثم أخذ يلحّ في دعوة حضرة بهاء الله إلى منزله على مضض. وذات يوم نجح في أن يسمّه بأن لوّث فنجان الشّاي بمادّة سامّة اصطنعها، فمرض حضرة بهاء الله مدّة لا تقل عن شهر مرضًا شديدًا صحبته آلام مبرّحة وحرارة شديدة، ونتج عنه أنّ يد حضرة بهاء الله ظلّت ترتعش طوال ما بقي من حياته. ولمّا بلغ المرض حدّ الخطورة استدعي لفحصه طبيب أجنبيّ يدعى شيشمان، فلمّا رأى الطّبيب شحوب لونه الشّديد وأدرك خطورة مرضه اعتبر حالته ميؤوسًا منها، وركع عند قدميه وانسحب من محضره دون أن يوصي بأيّ دواء. وبعد أيّام لزم شيشمان الفراش ومات. وقبل موته أخبر حضرة بهاء الله أنّ الطّبيب شيشمان قد افتداه بحياته. أمّا شيشمان فقد ذكر لميرزا آقا جان الّذي أرسله حضرة بهاء الله للاستفسار عن صحته أنّ الله قد استجاب لدعائه، وأنّه ينبغي لهم بعد موته أن يستدعوا طبيبًا يثق به يسمّى الدّكتور جوبان، إذا لزم الأمر.
ولقد كشفت إحدى الزّوجات الّتي هجرت ميرزا يحيى زمنًا عن تفاصيل تلك الفعلة فشهدت بأنّ ميرزا يحيى سمّم البئر الّتي كان أهل حضرة بهاء الله وأصحابه يشربون منها. وكان من نتيجة ذلك أن ظهرت على جماعة المنفيّين أعراض غريبة. بل إنّه باح تدريجًا وبحذر شديد لأحد الأحبّاء المنفيّين، وهو الأستاذ محمّد علي سلماني (الحلاق) الّذي قرّبه إليه وأكرمه كثيرًا، برغبته في أن يتحيّن الحلاّق فرصة مواتية ليغتال حضرة بهاء الله أثناء قيام الحلاّق على خدمته في الحمّام. وقد روى آقاي كليم هذه القصّة للنّبيل وهو في أدرنة فقال: “ثار الأستاذ محمّد علي عند وقوفه على هذا الاقتراح حتّى أنّه أحسّ برغبة قويّة في قتل ميرزا يحيى على الفور، ولولا خوفه من غضب حضرة بهاء الله لما توانى عن ذلك. وقد تصادف أنّني كنت أوّل من رآه يخرج من الحمّام وهو يبكي… وبعد مجهود كبير نجحت في أن أغريه بالعودة إلى الحمّام ليتمّم مهمّته”. وبالرّغم من أن حضرة بهاء الله أمر الحلاق بألاّ يبوح لأحد بذلك الأمر إلاّ أنّه عجز عن أن يستعيد هدوءه فأفشى السّرّ، وبذلك أوقع الجامعة في رعب شديد. وفي ذلك قال حضرة بهاء الله: “**عندما كشف الله عن خبيئة صدره [يعني ميرزا يحيى] تنصّل من هذه النّيّة ونسبها إلى ذلك الخادم [يعني محمّد علي الحلاق]”.
والآن آن الأوان لذلك الّذي أخذ يكشف أخيرًا عن مكنونات مطالبه ودعاويه شفاهًا وكتابة في ألواحه العديدة أن يوقف من كان قد رشّحه حضرة الباب لخلافته على طبيعة رسالته. وعلى هذا أمر آقا جان أن يحمل لميرزا يحيى “سورة الأمر” النّازلة حديثًا، والّتي تؤيّد تلك المطالب والدّعاوي بما لا يقبل اللّبس ولا الغموض، وأن يقرأها عليه بصوت عال، وأن يطلب منه جوابًا قاطعًا صريحًا. فاستمهله ميرزا يحيى يومًا واحدًا ليفكّر في الإجابة، فقبل. إلاّ أنّ الإجابة الوحيدة الّتي جادت بها قريحته كانت إعلانًا مضادًا يعيّن فيه السّاعة والدّقيقة الّتي أصبح فيها مهبط ظهور مستقلّ قائم بذاته يحتّم خضوع أهل الأرض في الشّرق والغرب له بلا قيد ولا شرط.
كان هذا الزّعم المسرف الّذي زعمه خصمٌ هذه خيانته وهذا غدره لرسول حضرة بهاء الله، حامل هذا الظّهور الجبّار، نذيرًا بالفراق النّهائيّ البائن بين حضرة بهاء الله وميرزا يحيى، وهو فراق يشير إلى فترة من أظلم فترات التّاريخ البهائيّ. فانسحب حضرة بهاء الله مع أهل بيته إلى منزل رضا بيك (في الثّاني والعشرين من شوال سنة 1282هـ) وقد تمّ استئجار هذا المنزل بناء على أمره، ورغبة في أن يخمد نار البغضاء المتأجّجة في صدور أعدائه، وأن يتيح لكلّ فرد من جماعة المنفيّين الحرّيّة الكاملة في الانحياز إليه أو إليهم دون ضغط ولا إكراه. وظلّ شهرين كاملين يرفض أن يخالط قريبًا أو غريبًا بما ذلك أصحابه وبطانته. وكلّف آقاي كليم أن يقسم كلّ ما في بيته من أثاث ورياش وفراش وملبس وآنية، وأن يرسل بنصفها إلى ميرزا يحيى، وأن يسلّم إليه بعض الآثار المباركة الّتي كان يلحّ في طلبها من مثل أختام حضرة الباب وخواتمه ومخطوطاته. كما كلّفه أن يؤكّد له أنّه سوف يتلقّى نصيبه الكامل من المال الّذي رصدته الحكومة لإعاشة المنفيّين وعائلاتهم. وفضلاً عن ذلك أوصى آقاي كليم بأن يأمر من يقع اختيار ميرزا يحيى عليه من الأصحاب بشراء حاجياته اليوميّة من السّوق، وأن يؤكّد له بأنّه سوف يتسلّم من بعد ذلك كلّ ما يرد باسمه من إيران.
ويروى أن آقاي كليم قال للنّبيل: “شهد ذلك اليوم الفزع الأكبر. فقد ناح الأصحاب جميعًا على احتجاب الجمال المبارك عنهم”. وجاء في شهادة خطّيّة كتبها أحد هؤلاء الأصحاب أنّ “تلك الأيّام امتازت بالهرج والمرج. فقد غلبتنا الحيرة واعترانا الخوف العظيم من أن نحرم على الدّوام من نعمة محضره”.
على أنّه قُدّر لهذا الحزن أن يكون قصيرًا، وتلك الحيرة أن تكون موقوتة ذلك لأن السّعايات الوشايات الّتي ظلّ ميرزا يحيى والسّيّد محمّد يشحنان بها خطاباتهما إلى إيران والعراق، والمناشدات المتذلّلة المنمّقة الّتي أخذ ميرزا يحيى يرفعها إلى خورشيد باشا حاكم أدرنة وإلى معاونه عزيز باشا جعلت حضرة بهاء الله يخرج من عزلته. وسرعان ما بلغه أنّ ذلك الأخ نفسه قد أرسل إحدى زوجاته إلى سراي الحكومة تشكو من أنّ زوجها قد اغتصبت حقوقه، وأنّ أولادها على وشك الهلاك جوعًا، وهو اتّهام ذاع أمره وشاع طولاً وعرضًا حتّى بلغ الآستانة، وأصبح مصدر حزن شديد لحضرة بهاء الله لأنّه صار موضوعًا للقيل والقال ومثارًا للتّعليقات اللاّذعة في الأوساط والدّوائر الّتي تأثّرت من قبل بمسلكه النّبيل الوقور الّذي سلكه في تلك المدينة. وسافر السّيّد محمّد إلى العاصمة، ورجا السّفير الإيراني، مشير الدّولة، أن يخصّص له ولميرزا يحيى منحة ماليّة خاصّة، واتّهم حضرة بهاء الله بأنّه ارسل رسولاً يغتال ناصر الدّين شاه. ولم يدّخر وسعًا في سبيل السّعاية بمن صبر عليه طويلاً واحتمل في صمت كلّ العظائم والكبائر الّتي اقترفها.
وبعد أن أقام حضرة بهاء الله في منزل رضا بيك ما يقرب من السّنة عاد إلى المنزل الّذي سكنه قبل اعتكافه عن أصحابه ثم انتقل بعد ثلاثة أشهر إلى منزل عزت آقا، وظلّ مقيمًا فيه إلى أن غادر أدرنة. وفي شهر جمادى الأولى سنة 1284هـ (أيلول سنة 1867م) حدثت في هذا المنزل حادثة على أعظم جانب من الأهمّيّة لأنها أفحمت ميرزا يحيى وأعوانه إفحامًا تامًّا، وبشّرت الصّديق والعدوّ على السّواء بانتصار حضرة بهاء الله. وتفصيل ذلك أن أحد البابيّين من شيراز، ويسمّى مير محمّدًا، كان يكره مزاعم ميرزا يحيى ودعاويه ويمقت اعتزاله وتستّره مقتًا عظيمًا. نجح في أن يغري السّيّد محمّدًا بأن يقنع صاحبه بأن يلتقي بحضرة بهاء الله وجهًا لوجه حتّى يتبيّن للنّاس الحقّ من الباطل بصورة علنيّة وحاسمة. وزعم ميرزا يحيى أنّ أخاه العظيم لن يقبل هذه الدّعوة. فعين مسجد السّلطان سليم مكانًا للاجتماع. وما كاد هذا الخبر يبلغ مسامع حضرة بهاء الله حتّى بادر بالسّير على قدميه، في قيظ الظّهيرة، يصحبه مير محمّد هذا إلى المسجد المذكور في حيّ بعيد من أحياء المدينة. وكان حضرة بهاء الله يرتّل الآيات أثناء سيره في الأسواق والطّرقات بصوت أدهش كلّ من سمعه، وعلى نحو تعجّب منه كلّ من رآه.
ومن الكلمات الّتي نطق بها في تلك المناسبة الفريدة، والّتي شهد بها هو نفسه في أحد ألواحه قوله: “يا محمّد! خرج الرّوح عن مقرّه، وخرجت معه أرواح الأصفياء ثم حقائق المرسلين. إنّك إذن فاشهد أهل منظر الأعلى فوق رأسي، ثمّ في قبضتي حجج النّبيّين… قل لو يجتمع كلّ من على الأرض من العلماء والعرفاء ثم الملوك والسّلاطين إنّني لأحضر تلقاء وجوههم وأنطق بآيات الله الملك العزيز الحكيم. أنا الّذي لا أخاف من أحد، ولو يجتمع عليّ كلّ من في السّموات والأرضين… هذا كفـّي قد جعله الله بيضاء للعالمين. وهي عصاي لو نلقيها لتبلع كلّ الخلائق أجمعين”. أمّا مير محمّد فقد أرسل ليعلن عن قدوم حضرة بهاء الله، ولكنّه سرعان ما عاد ليقول إنّ الّذي تحدّى سلطانه يرغب في أن يؤجّل الاجتماع يومًا أو يومين لظروف خاصّة طارئة. فعاد حضرة بهاء الله ولدى عودته إلى بيته أنزل لوحًا ليسجّل فيه ما حدث، ويضرب موعدًا للّقاء المؤجل. وختم اللّوح بختمه وسلّمه للنّبيل، وأمره بأن يودعه عند أحد المؤمنين الجدد، وهو المُلا ّ محمّد التّبريزي، لكي يخبر به السّيّد محمّدًا الذي اعتاد أن يغشو حانوت ذلك المؤمن. وقبل تسليم اللّوح للسّيّد محمّد تقرّر أن يشترط عليه أن يحصل مقدّمًا من ميرزا يحيى على إقرار كتابيّ مختوم ببطلان مزاعمه إذا هو لم يحضر إلى مكان اللّقاء. فوعد السّيّد محمّد بالحصول على هذا الإقرار المطلوب في اليوم التّالي. ورابط النّبيل في الحانوت ثلاثة أيّام بطولها انتظارًا للإقرار. ولكنّ السّيّد محمّد لم يظهر ولم يرسل الإقرار. وبعد انقضاء ثلاثة وعشرين عامًا على هذه الحادثة يروي النّبيل أنّ ذلك اللّوح الّذي لم يسلّمه ما زال في حوزته جديدًا كيوم حبّره الغصن الأعظم، حضرة عبد البهاء، وزيّنه مهر جمال القدم، شاهدًا مادّيًّا ملموسًا على انتصار حضرة بهاء الله على خصمه المهزوم.
أمّا استجابة حضرة بهاء الله لتلك الحادثة الّتي تُعدّ من أفجع حوادث ولايته فقد تميّزت بالكرب والحزن كما لاحظنا. ولقد أبدى أساه بقوله: “*إنّ الّذي ربّيته بيد الرّحمة شهورًا وسنين قام بقتلي”. وأشار إلى هؤلاء الأعداء الخونة بقوله: “*لقد انحنى ظهري واشتعل رأسي شيبًا بما ارتكب هؤلاء الظالمون. إنّك لو حضرت بين يدي العرش لما عرفت جمال القدم فقد تبدّلت طراوته من ظلم المشركين ونضب معين نضارته”. وصاح مرّة أخرى يقول: “تالله ما بقي في جسدي من محلّ إلاّ وقد ورد عليه رماح تدبيرك”. وقال في موضع آخر: “يا أخي! فعلت بأخيك ما لا فعل أحد بأحد”. وأكّد فضلاً عن ذلك أنّه: “بما جرى من قلمك قد خرّت وجوه العظمة على رماد السّوداء، وشقّت ستر حجب الكبرياء في الجنّة المأوى، وتشبّكت أكباد المقربين على مقاعد القصوى”. ومع ذلك فإنّ الله البرّ الرّحيم يؤكّد في الكتاب الأقدس لهذا الأخ “مطلع الإعراض” الّذي “هبت عليه من شطر نفسه أرياح الهوى” أن “لا تخف من أعمالك”، “فارجع إليه خاضعًا خاشعًا متذلّلاً” مؤكّدًا “أنه يكفّر عنك سيّئاتك” وإنّ “ربّك لهو التّوّاب العزيز الرّحيم”.
وطرد “الصّنم الأعظم” بأمر ينبوع العدل الأعظم، وبهيمنته واقتداره من صفوف جامعة الاسم الأعظم، وأفحم وافتضح وتحطّم. فلمّا تطهّر دين الله الجديد من هذا الرّجس الشّنيع وتخلّص من هذا المسّ الفظيع استطاع أن ينمو ويتقدّم، وأن يبدي، رغم الفتنة الّتي هزّته هزًّا، قدرته على أن يدخل في معارك أخرى، ويصل إلى قمم أعلى، ويحرز انتصارات أعظم وأسمى.
نعم، حدث في صفوف أتباعه صدع مؤقّت لا جدال فيه، وكسف مجده، وتلوّث تاريخه إلى الأبد. إلا أنّ اسمه لم يُمحَ من صفحة الوجود، وكانت روحه أقوى من أن تقهر أو تتحطم، كما لم يستطع هذا الّذي يقال له صدع وانشقاق أن يشقّ نسيجه أو يمزّق كيانه. أمّا ميثاق حضرة الباب، الّذي سبقت الإشارة إليه، فقد دافع، بحقائقه الصّريحة ونبوءاته النّاصعة وإنذاراته المتكرّرة القاطعة، عن هذا الدّين وأمّن سلامته، وأدام نفوذه وتأثيره، وأظهر عدم قابليته للفساد.
وبالرّغم من أن حضرة بهاء الله أمضّه الحزن وأضناه، وحنى ظهره الألم والكمد، وظلّ يعاني من آثار محاولة اغتياله، وبالرّغم من أنّه كان على علم باحتمال حدوث نفي آخر في القريب العاجل إلاّ أنّه نهض بقوّة لا مثيل لها، وحتّى قبل أن تنتهي الأزمة، ليعلن لكلّ من جمعوا في قبضتهم زمام السّلطة في الشّرق والغرب الرّسالة الّتي وكّلت إليه، دون أن تعوّقه الضّربة الّتي تلقاها أمره ولا الأخطار الّتي أحدقت به من كلّ جانب. وبهذا الإعلان قدّر لشمس ظهوره أن تتألّق في دارة المجد، وقُدّر لدينه أن يظهر جلّ قوّته الإلهيّة.
وتلت ذلك فترة من النّشاط العجيب فاقت في صداها سنوات الرّبيع من ولاية حضرة بهاء الله. كتب شاهد عيان فقال: “كانت الآيات الإلهيّة تنهمر كالغيث الهاطل ليل نهار. وكان ميرزا آقا جان يكتبها حين تُملى عليه، على حين كان الغصن الأعظم يستغرق في استنساخها. ولم يكن ثمة لحظة واحدة نضيّعها”. وشهد النّبيل “أنّ عددًا من الكتبة انهمكوا ليل نهار في هذه المهمّة، ومع ذلك لم يستطيعوا أن ينهضوا به. وكان من بينهم ميرزا باقر الشّيرازي… الّذي كان يستنسخ وحده ما لا يقلّ عن ألفي آية كلّ يوم. واستمرّ على ذلك ستّة أشهر أو سبعة. وكان في كلّ شهر يستنسخ ما يوازي عدّة مجلّدات ويرسلها إلى إيران. وترك وراءه ما يقرب من عشرين مجلّدًا تذكاريًّا منه لميرزا آقا جان كتبها كلّها بخطه الجميل”. وإلى تلك الآيات أشار حضرة بهاء الله بقوله: “*إنّ غمام فضل الأمر وسحاب فيض الأحدية هاطل لدرجة أنّه ينزل ما يعادل ألف آية في السّاعة الواحدة”، “*بلغ اليوم من الفضل أنّه لو استطاع أحد الكتبة أن ينجز مهمّته لنزل في اليوم واللّيلة من سماء القدس الرّبانيّة ما يعادل البيان الفارسي”. وفي مقام آخر يؤكّد: “**تالله لقد نزّل في تلك الأيّام ما يعادل كلّ ما أنزل على النّبيّين من قبل”. وأشار مرّة أخرى إلى غزارة آثاره فقال: “*عجز الكتّاب عن تحرير ما نزل في هذه الأرض [أدرنة] فظلّ أكثره بلا تحبير”.
وفي عنفوان الأزمة العصيبة، بل وقبل أن تبلغ ذروتها، انهمرت من قلم حضرة بهاء الله ألواح لا حصر لها فصّل فيها مكنونات دعاويه الجديدة ومضامينها تفصيلاً كاملاً. وكان من بين الألواح الّتي رقمها قلمه حين انتقل إلى منزل عزّت آقا: سورة الأمر، ولوح النّقطة، ولوح أحمد، وسورة الأصحاب، ولوح السّيّاح، وسورة الدّم، وسورة الحجّ، ولوح الرّوح، ولوح الرّضوان، ولوح التّـُّقى. وبعد “الفصل الأكبر” نزلت أخطر الألواح المرتبطة بإقامته في أدرنة، ومنها سورة الملوك، وهي أهمّ لوح خاطب فيه حضرة بهاء الله جماعة الملوك في الشّرق والغرب للمرّة الأولى، كما خاطب فيه سلطان تركيا ووزراءه وملوك العالم المسيحيّ والسّفير الفرنسيّ والسّفير الإيرانيّ لدى الباب العالي ورجال الدّين المسلمين في الآستانة، وحكماءها وسكّانها، وأهل إيران وفلاسفة العالم كلاًّ على حدة. ومنها “الكتاب البديع” وهو دفاع كتبه ليفنّد به اتّهامات ميرزا مهدي الرّشتي وهو شبيه بكتاب الإيقان الّذي أنزله دفاعًا عن الدّورة البابيّة. ومنها أدعية الصّيام الّتي كتبها تمهيدًا لكتاب الأحكام. ومنها اللّوح الأوّل نابليون الثّالث إمبراطور الفرنسيّين يختبر فيه مدى إخلاصه في اعترافاته. ومنها لوح السّلطان، وهو خطابه المفصّل لناصر الدّين شاه الّذي يبسط فيه أهداف دينه وأغراضه ومبادئه، ويدلّل على صدق دعواه وصحّة رسالته. ومنها سورة الرّئيس الّتي بدئت في قرية كاشانه في طريقه إلى غاليبولي وتمّت بعد ذلك بقليل في جياور كوي. وكلّ هذه آثار لا تعتبر أبرز الألواح العديدة النّازلة في أدرنة فحسب بل إنّها لتحتلّ مكانة عُليا بين آثار صاحب الظّهور البهائيّ.
وفي رسالة حضرة بهاء الله إلى الملوك، في سورة الملوك، أظهر لهم طبيعة رسالته، ودعاهم إلى اعتناق أمره، وأكّد لهم صحّة ظهور حضرة الباب، وآخذهم على قلّة اكتراثهم لأمره، وناشدهم أن يقيموا العدل، وأن ينتبهوا ويُصلحوا ذات بينهم، ويقلّلوا من التّسلّح، وبسط القول في مصائبه، واستأمنهم على الفقراء، وحذّرهم من الإعراض عن نصائحه حتّى لا “يأخذكم العذاب من كلّ الجهات” وتنبّأ لهم بأنّ الله “سوف يرفع أمره بين السّموات والأرضين” ولو لم يتوجّه إليه منهم أحد. وفي هذا اللّوح لام حضرة بهاء الله ملوك العالم المسيحيّ بصفة خاصة لأنّهم لم “يتقرّبوا أو “يتوجّهوا” إلى “روح الحقّ”، ولأنّهم “كانوا لاعبين بلعب أنفسهم”. وأعلن أنّهم سوف “يرجعون إلى الله ويسألون” عن أعمالهم “في مقرّ الّذي تحشر فيه الخلائق أجمعين”.
وأمر السّلطان عبد العزيز أن “اسمع قول من ينطق بالحقّ… وكان على قسطاس حقٍّ مستقيم”، ودعاه إلى أن يصرّف بنفسه شؤون النّاس ولا يضع ثقته في من ليسوا لها بأهل، وحذّره ألاّ يتّكل على خزائنه وألاّ “تفرّط في الأمور” وأن يعامل خدّامه بالإنصاف ويعدل بينهم على “الخطّ الاستواء”، وأطلعه على مصائبه وبلاياه. وفي اللّوح نفسه أكّد براءته وولاءه للسّلطان ووزرائه، ووصف ظروف نفيه من العاصمة، وطمأنه على دعائه من أجله.
وفضلاً عن ذلك وجّه إلى ذلك السّلطان من غاليبلي، كما يذكر في سورة الرّئيس، رسالة شفهيّة مع ضابط تركيّ يسمّى عمر يسأل العاهل فيها أن يأذن له بلقاء لا يستغرق اكثر من عشر دقائق “*يسأله السّلطان فيه عمّا يعتبره دليلاً على صدق قول الحق” حتّى “*إذا جاء [الدّليل] من عند الله أطلق سراح هؤلاء المظلومين وتركوا وشأنهم”.
وإلى نابليون الثّالث وجّه حضرة بهاء الله، على يد أحد وزراء الإمبراطور، لوحًا خاصًّا أطال فيه الوقوف عند الآلام الّتي تحمّلها هو وأتباعه. وأقسم له على براءتهم. وذكّره بالبيانين اللّذين أصدرهما الإمبراطور بشأن المظلومين والبائسين وعلى هذا أهاب به أن “**يتحرّى عن حال من ظُلموا كلّ هذا الظلم”، وأن “***يشمل الضّعفاء بعنايته” وأن ينظر إليه وإلى من نفي معه “**بعين العطف”. ولم يكن ذلك من جانب حضرة بهاء الله إلا تمحيصًا واختبارًا لصدق دوافع الإمبراطور.
وإلى ناصر الدّين شاه أنزل لوحًا، هو أطول خطاب وجّه إلى حاكم واحد، يشهد فيه بشدّة المتاعب الّتي عاناها، ويستعيد إلى الذّاكرة اعتراف الشّاه ببراءته عشّية نفيه إلى العراق، ويناشده أن يحكم بالعدل، ويصف له كيف أمره الله أن ينهض ويعلن رسالته، ويؤكّد له براءة نصائحه عن كلّ غرض. ويقرّر إيمانه بوحدانيّة الله وإيمانه برسله وأنبيائه، ويدعو له غير مرّة. ويدافع عن مسلكه الّذي سلكه في العراق، وينبّه على أثر تعاليمه الصّالح ويؤكّد استنكاره لكلّ ألوان العنف والفساد. أضف إلى ذلك أنه يدلّل في اللّوح نفسه على صحّة رسالته وصدقها، ويعبّر عن رغبته في أن “*يجتمع بعلماء العصر بمحضر السّلطان فيقيم الحجّة ويأتي بالبرهان” على صدق دعواه وصحّة أمره. ويفضح ضلال رجال الدّين على أيّامه وعلى أيّام السّيّد المسيح وحضرة محمّد. ويتنبّأ بأنّ آلامه تتلوها “رحمة كبرى” وأنّ “*هذه الشّدائد العظمى يعقبها رخاء عظيم”. ويقارن بين البلايا الّتي أصابت أهل بيته وبين ما أصاب آل محمّد. ويبسط القول في اضطراب شؤون العالم، ويصف المدينة الّتي يوشك أن يُنفى إليها، ويتنبّأ بانحدار منزلة العلماء في مستقبل الأيّام. وختم اللّوح بتعبير آخر عن أمله في أن يؤيّد الله الشّاه على أن يكون “ناصرًا لأمره وناظرًا إلى عدله”.
وإلى عالي باشا، الصّدر الأعظم، وجّه حضرة بهاء الله “سورة الرّئيس”. وفيها أمره بأن “اسمع نداء الله”، وأعلن له أن “قباعه” أو “نباح” من حوله أو “جنود العالمين” لن تثني العليّ القدير عن أن يحقّق هدفه وغايته، واتّهمه فيها بارتكاب ما “ينوح به محمّد رسول الله في الجنّة العليا”، وبالاتّحاد مع السّفير الإيرانيّ على إيذائه. وفيها تنبّأ له “بالخسران المبين”، وفيها مجّد يوم ظهوره وتنبّأ بأنّ هذا الظّهور “سوف يحيط الأرض ومن عليها”، وأنّه “سوف تبدّل أرض السّرّ [أي أدرنة] وما دونها، وتخرج من يد الملك، ويظهر الزّلزال ويرتفع العويل ويظهر الفساد في الأقطار”. وفيها طابق بين ظهوره وظهور موسى وعيسى. وذكّره “باستكبار” كسرى فارس أيّام محمّد، و”طغيان” فرعون أيّام موسى و”شرك” النّمرود أيّام إبراهيم. وفيها أعلن أنه ما جاء إلا لكي “يحيى العالم ويتّحد من على الأرض كلّها”.
وفي “سورة الملوك” يؤاخذ وزراء السّلطان على مسلكهم، وذلك في فقرات متعدّدة يتحدّى فيها صلابة مبادئهم، ويتنبّأ لهم فيها بأنّهم سوف يجازون على أعمالهم، ويفضح فيها تكبّرهم وظلمهم، ويؤكّد لهم تقواه وزهده وانقطاعه عن الدّنيا وما فيها، ويعلن لهم فيها براءته.
وفي السّورة نفسها يلوم السّفير الفرنسي لدى الباب العالي على اتّحاده مع سفير العجم عليه، ويذكّره بوصايا السّيّد المسيح كما وردت في إنجيل يوحنّا، ويحذّره بأنّه سوف يسأل عمّا جنت يداه. وينصحه، هو وأمثاله، بألاّ يعامل أحدًا بمثل ما عامله هو به.
وفي ذلك اللّوح نفسه يوجّه إلى سفير العجم بالآستانة فقرات طوالاً يفضح فيها توهّماته وافتراءاته، ويندّد فيها بظلمه وظلم مواطنيه ويؤكّد له أنّه لا يحمل له أيّ ضغينة، ويعلن له أنّه لو أدرك شناعة ما فعل لقضى أيّام عمره نائحًا، ويُجزم أنّه سوف يستمرّ في غفلته وقلّة اكتراثه إلى أن يموت، ويدافع عن مسلكه الّذي سلكه في طهران والعراق. وشهد فساد الوزير الإيرانيّ في بغداد وتواطئه مع هذا الوزير.
وفي السّورة نفسها يوجّه إلى أهل السّنّة في الآستانة رسالة خاصة يتّهمهم فيها بالغفلة والموت الرّوحيّ، ويؤاخذهم على تكبّرهم وعجزهم عن التماس محضره، ويزيح لهم السّتار عن مجد رسالته الكامل ودلالتها الجبّارة. ويؤكّد لهم أنّ رؤساءهم لو كانوا أحياء “لطافوا حوله”، ويصفهم بأنّهم “عبدة الأسماء” ومحبّو الزّعامة، ويقسم أنّ الله لن يقبل منهم شيئًا إلاّ إذا “تجدّدوا” في محضره.
ويكرّس الفقرات الختاميّة من سورة الملوك لحكماء الآستانة وفلاسفة الأرض. وفيها يحذّرهم من التّكبّر أمام الله، ويكشف لهم عن جوهر الحكمة الحقيقيّ، وينبّه على أهمية الإيمان الصّحيح والمسلك القويم. ويؤاخذهم على عجزهم عن أخذ العرفان عنه. وينصح لهم “أن لا تتجاوزوا عن حدود الله” وألاّ يلتفتوا إلى “قواعد النّاس وعاداتهم”.
ولأهل الآستانة يعلن في اللّوح نفسه أنه “ما نخاف من أحد إلاّ الله”، وأنّه لا يتكلّم “إلاّ بما أُمر” وأنّه لا يتّبع إلاّ الحقّ المبين، وأنّه وجد حكّام المدينة ورؤساءها “كالأطفال الّذين يجتمعون على الطّين ليلعبوا به”، وأنّه لم يجد بينهم أحدًا يستحقّ أن يتعلّم الحقائق الّتي علّمها الله له، ويأمرهم بأن يعتصموا بما شرّع الله، ويحذّرهم ألا يتكبّروا أمام الله وأحبّائه، ويذكّرهم بالشّدائد الّتي عاناها الإمام الحسين، ويشيد بفضائله. ويدعو الله أن يعاني من الشّدائد مثل ما عانى الإمام الحسين. وينتبّأ لهم أن الله سوف يرفع عمّا قريب تلك الأمّة الّتي تروي أخبار مصائبه، وتطالب المضطهدين بردّ حقوقه، ويهيب بهم أن يستمعوا إلى كلماته ويرجعوا إلى الله تائبين.
وأخيرًا يخاطب أهل إيران في اللّوح نفسه مؤكّدًا أنّهم لو قتلوه لأظهر الله من يقوم مقامه، ويبيّن لهم أن الله العليّ القدير سوف “يتمّ نوره” ولو كرهوا ذلك في سرائرهم.
هذا الإعلان البالغ كلّ هذه الجسامة، والصّادر في فترة بالغة كلّ هذه الحساسيّة، عن حامل رسالة بالغة كلّ هذا السّمو، إلى ملوك الأرض، مسلمين ومسيحيّين، وإلى الوزراء والسّفراء ورجال الدّين من أهل السّنّة، وإلى حكماء الآستانة وأهلها، حاضرة السّلطنة والخلافة في آن واحد، وإلى فلاسفة العالم وإلى أهل إيران، لا ينبغي أن يعدّ الواقعة البارزة الوحيدة من وقائع أيّام إقامة حضرة بهاء الله في أدرنة بل إنّ هناك طائفة من التّطوّرات والأحداث العظيمة الدّلالة لا بدّ أن نذكرها هنا، وإن قلّ شأنها، لكي تساعدنا على تقدير أهمّيّة هذه المرحلة المضطربة العصيبة من ولاية حضرة بهاء الله تقديرًا أطيب.
فمن ذلك ما حدث في غضون تلك الفترة كنتيجة مباشرة لعصيان ميرزا يحيى وسقوطه ذلك السّقوط المخيف، وهو أنّ بعض أصحاب حضرة بهاء الله (ممّن يمكن اعتبارهم من “كنوز الأرض” الّتي وعده بها الله حين كانت أغلال سياه ﭼـال تثقل عنقه)، نهضوا يدافعون عن الدّين الجديد ويردّون على مزاعم خصومهم في رسالات مفصّلة عديدة أسوة بمولاهم في “الكتاب البديع” ويدحضون حججهم الواهية ويفضحون أعمالهم الشّنيعة. وكان من بين هؤلاء المدافعين حرف من حروف الحيّ وبعض من عاش بعد معركة طبرسي والمُلاّ ميرزا أحمد الأزغندي. وفي هذه الفترة اتّسع نطاق الدّين ونصبت رايته ثابتة في القوقاز على يد المُلاّ أبي طالب وآخرين ممن بلّغهم النّبيل، وتأسّس أوّل مركز في مصر حين استقرّ بها السّيد حسين الكاشاني والحاج باقر الكاشاني. واضيفت سوريّا إلى الأراضي الّتي سبق أن أنارتها وأدفأتها بواكير شعاعات الظّهور الإلهي، ونعني بها العراق وتركيّا وإيران. وفي هذه الفترة حلّت تحية “الله أبهى” محل “الله أكبر”، التّحية القديمة، واتّخذت في إيران وأدرنة في وقت واحد. وكان المُلاّ محمّد الفروغي أحد المدافعين عن قلعة الشّيخ طبرسي أوّل من استعملها في إيران نزولاً عند توصية النّبيل. وفي هذه الفترة استغني عن لقب “أهل البيان” الّذي أصبح ينصرف إلى أتباع ميرزا يحيى دون غيرهم، وحلّ محله لقب “أهل البهاء”. وفي غضون تلك الأيّام شرف حضرة بهاء الله النّبيل بلوح خاص أنعم فيه عليه بلقب النّبيل الأعظم، وأمره فيه بأن يبلّغ رسالة مولاه إلى أهل الشّرق والغرب. ورغم اتّصال الاضطهادات واستمرارها فإنّه نهض ليهتك “الحجاب الأكبر” ويغرس محبّة مولاه المحبوب في الأفئدة والقلوب من بني جنسه، ويدافع عن الأمر الّذي أعلنه محبوبه في هذه الظّروف العصيبة. وفي غضون تلك الأيّام أيضًا كلّف حضرة بهاء الله النّبيل بأن يرتّل لوحي الحجّ النّازلين حديثًا، وأن ينوب عنه في أداء الشّعائر المنصوص عليها فيهما أثناء زيارة بيت حضرة الباب في شيراز والبيت الأعظم في بغداد، وهو عمل يشير إلى بداية تكليف من أقدس التّكاليف الّتي قرّرت فيما بعد في “الكتاب الأقدس”. وفي هذه الفترة أنزل حضرة بهاء الله أدعية الصّيام تمهيدًا للحكم الّذي كان سيعلن عنه بعد قليل. وفي غضون نفي حضرة بهاء الله إلى أدرنة أيضًا وجّه لوحًا إلى المُلاّ علي أكبر الشّهميرزادي وجمال البروجردي، وهما من أشهر أتباعه في طهران، يأمرهما فيه أن ينقلا رفات حضرة الباب من مخبئها في مرقد إمام زاده معصوم إلى مخبأ أمين آخر بمنتهى الحرص والتّكتّم، وهو عمل أثبتت الأيّام فيما بعد أنّه صادر من العناية الإلهيّة، ويمكن أن يعتبر إشارة إلى مرحلة أخرى من مراحل الطّريق الطّويل الشّاق الّذي سلكته هذه الرّفات إلى قلب جبل الكرمل، إلى البقعة الّتي عينها فيما بعد في توصياته لحضرة عبد البهاء. وفي غضون تلك الفترة نزلت سورة الغصن تتنبّأ بمقام حضرة عبد البهاء المقبل، وتصفه بـ”غصن القدس” و”غصن الأمر” و”وديعة الله” والّذي “بعثناه على هيكل الإنسان”، وهي سورة يمكن أن تعد بحقّ بشيرًا بالمقام الّذي سوف يخلعه عليه الكتاب الأقدس ثم يتّضح ويتأيّد في كتاب العهد. وفي غضون تلك الفترة، أخيرًا، تمّت الزّيارات الأولى إلى مقام من أصبح الآن المركز الواضح اللاّئح للدّين الجديد. وكانت حكومة إيران المذعورة تقاوم هذه الزّيارات وتضع امامها الصّعوبات والعراقيل نظرًا لكثرتها وطبيعتها. ثم تمادت فيما بعد إلى منعها وحظرها. ولكنّها كانت مبشّرة بفيض دافق من الزّوار الّذين يمّموا وجوههم شطر سجن عكّاء في ظروف خطرة قاسية أوّل الأمر. وقد قدّر لهذه الزّيارات أن تبلغ قمّتها بقدوم ملكة مؤمنة إلى سفوح الكرمل، وإن حيل بينها وبين إتمام تلك الزّيارة الّتي طالما تمنّتها وأعلنت عن عزمها القيام بها.
هذه التّطوّرات الملحوظة الّتي عاصر بعضها إعلان دين حضرة بهاء الله، ونبع بعضها الآخر من الأزمة الدّاخلية الخطيرة الّتي مرّ بها، لم تغب عن ذاكرة الأعداء الخارجيّين الّذين اجتهدوا في استغلال كلّ أزمة يحدثها طيش الأصدقاء أو غدر الأعداء المرتدّين أسوأ استغلال. وما كادت السّحب الكثيفة تنقشع عند الإشراق المفاجئ لنور الشّمس من أعلى أبراجها حتّى انقضّت كارثة أخرى كانت آخر ما قدّر لمؤسّس الدّين أن يعاني. فأظلمت سماء هذه الشّمس، وتعرّض الدّين لامتحان من أقسى الامتحانات الّتي لم يتعرّض لمثلها من قبل.
كان من نتيجة المصائب الّتي نزلت أخيرًا بساحة حضرة بهاء الله أن تجرّأ الأعداء، وبعد هدوئهم المؤقّت، فبدأوا يظهرون العداوة الكامنة في صدورهم بشتّى الطّرق. وبهذا استؤنف الاضطهاد في البلاد المختلفة على
درجات متفاوتة، ففي آذربيجان وزنجان ونيسابور وطهران سجن أتباع الدّين ولعنوا وعذبوا وقتلوا. ويمكن أن نخصّ بالذّكر من بينهم نجف علي الزّنجاني الشّجاع، أحد من شهدوا معركة زنجان وخلّده “لوح ابن الذّئب” لأنّه وهب لجلاّده كلّ ما كان يملك من الذّهب، وسمعه النّاس يصيح بصوت عال “يا ربّي الأبهى” قبل أن يضرب عنقه. وفي مصر اغتصب القنصل العام الطّمّاع الخسيس ما لا يقلّ عن مائة ألف تومان من أحد المؤمنين الإيرانيّين الأثرياء، وهو الحاج أبو القاسم الشّيرازي. كما ألقى القبض على الحاج ميرزا حيدر علي وستّة من إخوانه المؤمنين واستصدر أمرًا بنفيهم إلى الخرطوم تسع سنوات، وصادر كلّ ما كان لديهم من آثار بل وسجن النّبيل الّذي أرسله حضرة بهاء الله إلى الخديوي شفيعًا لهم. وفي بغداد والكاظمين عامل الأعداء المتربّصون أنصار حضرة بهاء الله المخلصين أشنع معاملة وأقساها وأذلّها. من ذلك أنّهم بقروا أحشاء عبد الرّسول القمي وهو يحمل الماء من النّهر في قربة إلى البيت الأعظم فجرًا، ونفوا إلى الموصل ما يقرب من السّبعين من أصحابه بمن فيهم النّساء والأطفال بين مظاهر السّخرية والاستهزاء.
ولم يكن ميرزا حسين خان مشير الدّولة وأعوانه بأقلّ نشاطًا، فقد صمّموا على استغلال المتاعب الّتي حلّت أخيرًا بساحة حضرة بهاء الله أتمّ استغلال. فنهضوا ليدمّروه تدميرًا. وفقدت سلطات العاصمة صوابها لمظاهر الإجلال الّتي أبداها لحضرة بهاء الله كلّ من الوالي محمّد باشا القبرصي الصّدر الأعظم السّابق وخليفتيه سليمان باشا الّذي كان ينتمي إلى فرقة القادريّة، وخورشيد باشا الّذي أخذ يتردّد على بيت حضرة بهاء الله علانية، وأخذ يرحّب به أيّام رمضان، ويبدي الإعجاب الشّديد بحضرة عبد البهاء. وكانت هذه السّلطات تعلم باللّهجة المتحدّية الّتي كان حضرة بهاء الله يكتب بها بعض ألواحه الحديثة، وتدرك مدى الاضطراب السّائد في بلادها. كما أزعجها تدفّق سيل الزّوّار على أدرنة وخروجهم منها. وأقلقتها التّقارير المهوّلة الّتي كان يكتبها فؤاد باشا الّذي مرّ بأدرنة آنذاك في إحدى جولاته التّفتيشيّة. وأثارتها استعطافات ميرزا يحيى الّتي كانت تصلها على يد صنيعه السّيد محمّد، وملأ صدرها رعبًا تلك الخطابات المجهولة (الّتي كان يكتبها السّيّد محمّد هو وشريكه آقا جان الّذي كان يعمل في المدفعيّة التّركيّة) والّتي حرّف فيها آثار حضرة بهاء الله واتّهمه بالاستعانة بزعماء البلغار وبعض وزراء الدّول الأوروبّية على فتح الآستانة بمعونة بضعه آلاف من أتباعه. والآن شجّع هده السّلطات ما رأت من القلاقل الدّاخلية الّتي زعزعت أركان الدّين. وساءها الإجلال الظّاهر الّذي كان قناصل الدّول الأجنبيّة في أدرنة يبدونه لحضرة بهاء الله فعزمت على أن تخطو خطوة حاسمة تستأصل بها شأفة الدّين، وتبعد مؤسّسه وتصل به إلى العجز التّام. ولا شكّ في أنّ الأعمال الطّائشة الّتي قام بها بعض المتحمّسين من الأتباع الّذين جاءوا إلى الآستانة زادت الحال توتّرًا على توتّر.
وأخيرًا استقرّ الرّأي على ذلك القرار التّاريخيّ الخطير الّذي أدّى إلى نفي حضرة بهاء الله إلى عكّاء، مستعمرة العقاب، ونفي ميرزا يحيى إلى فاماغوستا في قبرص. بذلك أصدر السّلطان عبد العزيز فرمانًا ضخم الألفاظ فخم العبارات. وألقى القبض على كلّ من جاء إلى العاصمة من أصحاب حضرة بهاء الله مع نفر قليل ممن لحقوا بهم ومعهم آقا جان المفسد الشّهير. واستجوبتهم السّلطات، وسحبت أوراقهم وسجنتهم. كما استدعت السّلطات أفراد الجامعة في أدرنة إلى سراي الحكومة عدّة مرات للتّأكد من عددهم. وفي تلك الأثناء طارت الشّائعات بأنّ السّلطات سوف تشتّت شمْلهم بددًا، وتنفيهم إلى أماكن مختلفة متفرّقة، أو تغتالهم في الخفاء.
وذات صباح حاصر الجنود منزل حضرة بهاء الله فجأة، وقام الحرّاس على أبوابه. ومن جديد استدعت السّلطات أتباعه، واستجوبتهم، وأمرتهم بالاستعداد للرّحيل. وإليك شهادة حضرة بهاء الله الّتي سجّلها في سورة الرّئيس: “وترك أحبّاء الله وآله من غير قوت في اللّيلة الآولى… زحف النّاس حول البيت، وبكى علينا الإسلام والنّصارى.. إنّا وجدنا ملأ الابن [المسيحيّين] أشدّ بكاء من ملل أخرى، وفي ذلك لآيات للمتفكّرين”. وشهد آقا رضا، وهو أحد الأتباع المخلصين الّذين نفوا مع حضرة بهاء الله من بغداد إلى عكّاء، شهادته النّاصعة حين قال: “استولى الاضطراب العظيم عى النّاس وأخذتهم الحيرة وعمّهم الأسف والحزن العميق… وكان بعضهم يبدي عطفه علينا، بينما أخذ بعضهم الآخر يواسينا ويبكي حزنًا علينا.. وقد بيع معظم أمتعنا بنصف قيمتها في المزاد”. وزار بعض قناصل الدّول الأجنبيّة حضرة بهاء الله وأبدوا استعدادهم الكامل للسّعي لدى حكوماتهم لصالحه. وقد أثنى حضرته على هذه النّوايا، ولكنّه اعتذر عنها ورفضها رفضًا قاطعًا. وفي ذلك كتب يقول “**لقد اجتمع قناصل هذه المدينة [أدرنة] بمحضر الغلام ساعة رحيله، وعبّروا عن رغبتهم في مساعدته. حقًّا لقد أبدوا لنا حبًّا ظاهرًا”.
أمّا السّفير الإيرانيّ فقد أخبر قناصل إيران في العراق وفي مصر بأنّ الحكومة التّركيّة قد تخلّت عن حماية البابيّين، وبأنّ لهم مطلق الحرية في أن يعاملوهم بالطّريقة الّتي تحلو لهم. وفي تلك الأثناء تقاطر على أدرنة عدد من الزّائرين منهم الحاج محمّد إسماعيل الكاشاني الملقّب بـ”الأنيس” في لوح الرّئيس. ولكنّهم أرغموا على الرّحيل إلى غاليبولي من دون أن يروا طلعة مولاهم. بل لقد اضطر اثنان من الأصحاب إلى الانفصال عن زوجتيهما بالطّلاق لأنّ أقرباءهما رفضوا السّماح لهما بالذّهاب إلى المنفى. أمّا خورشيد باشا الّذي أنكر بصورة قاطعة كلّ الاتّهامات الخطّيّة الّتي كانت سلطات الآستانة ترسلها إليه، والّذي تدخّل لصالح حضرة بهاء الله بحرارة وحماسة فقد انزعج أيما انزعاج لما أقدمت عليه حكومته، إلى حدّ أنّه صمّم على التّغيّب حين بلغه خبر رحيل حضرة بهاء الله الفوريّ عن المدينة وكلّف المسجّل بأن يبلغ حضرة بهاء الله فحوى الفرمان. وقد اتّضح للحاج جعفر التّبريزي، وهو أحد الأتباع المخلصين، أن اسمه حذف من قائمة المنفيّين مع حضرة بهاء الله. فذبح نفسه بموسى ولكن حيل بينه وبين الانتحار في الوقت المناسب. وقد وصف حضرة بهاء الله هذا العمل في سورة الرّئيس بأنّه “ما لا سمعناه من قرون الأوّلين” و”اختصّه الله بهذا الظّهور إظهارًا لقدرته”.
وفي اليوم الثّاني والعشرين من شهر ربيع الثّاني سنة 1285هـ (الموافق لليوم الثّاني عشر من شهر آب سنة 1868م) خرج حضرة بهاء الله وأهله في العربات يحرسهم ضابط تركيّ اسمه حسن أفندي وجنود آخرون اختارتهم الحكومة المحلّيّة ليبدأوا رحلة أربعة أيّام إلى غاليبولي. وفي الطّريق توقّفوا في أزون كوبري، وكاشانه حيث نزلت سورة الرّئيس. وشهد شاهد عيان فقال: “أقبل أهالي الحيّ الّذي نزل فيه حضرة بهاء الله وجيرانهم ليودّعوا حضرة بهاء الله واحدًا واحدًا. وكان الحزن والأسف يملأ قلوبهم. وكانوا يقبّلون يده ويلثمون أذيال ثوبه معبّرين عن حزنهم لمغادرته مدينتهم. بل لقد كان اليوم يومًا غريبًا حتّى لكأنّ المدينة بحيطانها وأبوابها حزينة تقول وتنوح على قرب فراقه لها”. وشهد شاهد عيان آخر فقال: “في ذلك اليوم اجتمع على باب محبوبنا جمهور عجيب من المسلمين والمسيحيّين. وكانت ساعة الرّحيل خالدة. فقد بكى وناح معظم الحاضرين ولا سيما المسيحيّون. وأمّا حضر بهاء الله فقد أعلن في سورة الرّئيس: “قل قد خرج الغلام من هذه الدّيار وأودع تحت كلّ شجر وحجر وديعة سوف يخرجها الله بالحق”.
وكان عدد من الأصحاب الّذين أخرجوا قبلاً من الآستانة ينتظرونهم في غاليبولي. وعندما وصل ركب حضرة بهاء الله إلى غاليبولي انتهت مهمّة حسن أفندي، وجاء يطلب الإذن بالعودة فقال له حضرة بهاء الله: “** قل للسّلطان سوف تخرج هذه الأرض من يده، وسوف تضطرب الأمور”. قال آقا رضا الّذي سجل هذا المشهد: “وإلى هذا أضاف حضرة بهاء الله قوله: (لست أنا قائل هذا بل إنّه هو الله). وكان حضرته يرتل الآيات بصوت يبلغ مسامعنا ونحن في الطّابق الأوّل، كان يرتّلها بحرارة خيّل لي معها أنّ أساس المنزل يهتزّ ويرتجف”.
ولم يكن أحد يدري أين ينتهي المطاف بحضرة بهاء الله حتّى وهم في غاليبولي حيث قضوا ثلاث ليال، ظنّ بعضهم أنّ حضرته سوف ينفى مع إخوانه إلى مكان واحد، على أن يشتّت الآخرون وينفون من الأرض. وظنّ آخرون أنّ أصحابه سوف يرغمون على العودة إلى إيران. بينما توقّع آخرون أنهم سوف يقتلون جميعًا وكانت أوامر الحكومة الأصليّة تنصّ على أن ينفى حضرة بهاء الله وآقاي كليم وميرزا محمّد قلي مع أحد الخدم إلى عكّاء، وأن ترحّل البقيّة إلى الآستانة. إلاّ أنّ هذه الأوامر الّتي حزّت في النّفوس أُلغيت بفضل إصرار حضرة بهاء الله وتوسّط عمر أفندي القائد الّذي انتُدب لمصاحبة المنفيّين. وأخيرًا استقرّ الرّأي على أن ينفى كلّ الأصحاب إلى عكّاء وكانوا زهاء السّبعين. كما صدرت الأوامر بأن يصحب هؤلاء المنفيّين عدد من أتباع ميرزا يحيى منهم السّيد محمّد وآقا جان، وأن يرحّل أربعة من أصحاب حضرة بهاء الله مع الأزليّين إلى قبرص.
وكانت الامتحانات والأخطار المحدقة بحضرة بهاء الله ساعة رحيله من غاليبولي شديدة حتّى أنّه حذّر أصحابه قائلاً إنّ هذه الرّحلة تختلف عن أية رحلة أخرى، ونصح من لا يأنس في نفسه الكفاءة لمواجهة المستقبل بأن يرحل إلى حيث يريد ناجيًا بنفسه من الامتحانات، لأنّه متى رحل معهم فإنّه سوف يجد نفسه عاجزًا عن العودة. وقد أجمع الأصحاب على تناسي هذا التّحذير.
وفي صباح الثّاني من جمادى الأولى سنة 1285هـ (الموافق للحادي والعشرين من آب سنة 1868م) استقلّوا باخرة تابعة لشركة اللّويد النّمساوية كانت متّجهة إلى الإسكندريّة، وانعطفت نحو مادللّي ثم توقّفت يومين في إزمير وهناك مرض جناب منير الملقّب بـ”اسم الله المنيب” مرضًا شديدًا، وتخلّف عن الرّكب في أحد المستشفيات، وما لبث أن فاضت روحه. فلمّا بلغوا الإسكندريّة انتقلوا إلى باخرة أخرى تابعة للشّركة نفسها كانت متّجهة إلى حيفا حيث نزلوا إلى البرّ بعد وقفتين قصيرتين في بور سعيد ويافا. ومن ميناء حيفا استقلّوا زورقًا شراعيًا إلى عكّاء حيث نزلوا إلى البرّ عصر الثّاني عشر من جمادى الأولى سنة 1285هـ (الموافق 31 آب سنة 1868م). وفي اللّحظة الّتي همّ فيها حضرة بهاء الله بركوب الزّورق الّذي يقلّه إلى رصيف الميناء بحيفا ألقى عبد الغفار بنفسه في البحر يائسًا وهو يصيح “يا بهاء الأبهى!” وكان عبد الغفار هذا أحد الأربعة الّذين قضي عليهم بأن يصحبوا ميرزا يحيى إلى منفاه. وكثيرًا ما أثنى حضرة بهاء الله على “حبّه وانقطاعه وتوكّله واستقامته”. ولكنّه أُنقذ وأُعيد إلى صوابه بصعوبة، وأرغمه رجال الحكومة القساة على متابعة الرّحلة مع فريق ميرزا يحيى إلى الجهة الّتي عينت لهم من قبل.
يشير نزول حضرة بهاء الله عكّاء إلى بداية الطّور الأخير من ولايته الّتي دامت أربعين سنة، كما أنّه يدخل بالنّفي الّذي استغرق كلّ ولايته إلى نهايته، لا بل إلى قمّته. والواقع أنّ هذا النّفي اقترب به في البداية من معاقل الشّيعة، وجعله يتّصل بأقطابهم البارزين اتّصالاً مباشرًا. ثم حمله هذا النّفي، في مرحلة تالية، إلى عاصمة الإمبراطوريّة العثمانيّة، وأتاح له الفرصة لكي يوجّه بياناته المهيمنة التّاريخيّة إلى السّلطان ووزرائه وإلى أقطاب أهل السّنّة ورجالاتهم. والآن ينزل به هذا النّفي إلى شواطئ الأرض المقدّسة وهو الأرض الّتي وعد بها الله إبراهيم، وقدّسها كتاب موسى، ومجّدها أحبار العبرانيّين وقضاتهم وملوكهم وأنبياؤهم بحياتهم وأعمالهم، واكتسبت قداستها من أنّها مهد المسيحيّة، والمكان الّذي اجتمع فيه زرادشت ببعض أنبياء بني إسرائيل حسبما يؤكّد حضرة عبد البهاء. كما اكتسبت عظمتها لدى لإسلام من ارتباطها بإسراء الرّسول الكريم وعروجه في السّموات السّبع إلى عرش الله العليّ القدير. في هذه البلاد المقدّسة المحسودة “*وكر الأنبياء” و”**وادي أمر الله المكنون، البقعة البيضاء، أرض البهاء المنير” كُتب على منفيّ بغداد والآستانة وأدرنة أن يقضي ما لا يقلّ عن ثلث عمره، وما لا يقل عن نصف ولايته. ولهذا قال حضرة عبد البهاء: “*إنّه لمن المحال أن يتصوّر العقل كيف حدث هذا النّفي والتّبعيد حيث يهاجر الجمال المبارك من إيران ويضرب خيمته في الأرض المقدّسة”.
والواقع أنّه يؤكّد لنا أنّ هذه الخاتمة هي الّتي تنبّأ بها “*لسان النّبيّين منذ ألفين أو ثلاثة آلاف سنة” “*ذلك لأنّ الله الصّادق الوعد الأمين قد أطلع بعض الأنبياء وبشّرهم بأنّ ربّ الجنود سوف يظهر في الأرض المقدّسة”. من ذلك ما يصرّح به إشعياء في سفره من أنه “على جبل عالٍ اصعدي يا مبشّرة صهيون! ارفعي صوتك بقوّة يا مبشّرة أورشليم! ارفعي لا تخافي! قولي لمدن يهود: هو ذا إلهك! هو ذا السّيّد الرّبّ بقوّة يأتي، وذراعه تحكم له”. وبذلك يتنبّأ داود في مزاميره: “ارفعن أيّتها الأرتاج رؤوسكنّ، وارفعنها أيّتها الأبواب الدّهريّات فيدخل ملك المجد. من هو هذا ملك المجد؟ ربّ الجنود هو ملك المجد”. “من صهيون كمال الجمال الله أشرق، يأتي إلهنا ولا يصمت”. ويتنبّأ عاموس بقدومه فيقول: “إنّ الرّبّ يزمجر من صهيون، ويأتي صوته من أورشليم فتنوح مراعي الرّعاة وييبس رأس الكرمل”.
أمّا عكّاء الّتي يحفّ بها “مجد لبنان”، وتقوم بين يدي “بهاء كرمل” على سفوح التّلال الّتي تحتضن موطن السّيد المسيح فقد وصفها داود بـ”المدينة المحصّنة”، وسمّاها هوشع بـ”باب الرّجاء”، وأشار إليها حزقيال “بالباب المتّجه نحو الشّرق” حيث إنّه “إذًا بمجدٍ إله إسرائيل جاء طريق الشّرق”، وصوته “كصوت مياه كثيرة”. وإليها أشار النّبي العربيّ الكريم بأنّها “مدينة بالشّام قد اختصّها الله برحمته” تقوم “بين جبلين… وسط المرج” “على شاطئ البرّ معلّقة تحت ساق العرش” “بيضاء حسن بياضها عند الله”. وفضلاً عن ذلك قال، حسبما يؤيّده حضرة بهاء الله: “طوبى لمن زار عكّاء وطوبى لمن زار زائر عكّاء”، وقال أيضًا: “من أذّن فيها كان له مدّ صوته في الجنة”، وقال مرّة أخرى: “فقراء عكّاء ملوك الجنّة وساداتها. وإنّ شهرًا في عكّاء أفضل من ألف سنة في غيرها”. ومن أحاديثه الملحوظة ذلك الحديث المشهور الصّحيح الّذي ورد في “الفتوحات المكّيّة” لشيخ ابن عربي نقله ميرزا أبو الفضل في “الفرائد”، والّذي أورد فيه النّبيّ العربيّ هذه النّبوءة العظيمة الدّلالة: “ويُقتلون كلّهم [يعني أصحاب القائم] إلاّ واحدًا منهم ينزل في مرج عكّاء، في المأدبة الإلهيّة”.
ويؤكّد النّبيل أنّ حضرة بهاء الله أشار خلال السّنوات الأولى من نفيه في أدرنة إلى تلك المدينة بالذّات في لوح السّيّاح، ووصفها بأنّها “وادي النّبيل”. وكلمة “نبيل” تساوي كلمة “عكّاء” بحساب الجمّل. قال في ذلك اللّوح: “وجدنا قومًا استقبلونا بوجوه عزّ درّيًّا… وكان بأيديهم أعلام النّصر… إذن نادى المنادِ فسوف يبعث الله من يدخل النّاس في ظلل هذه الأعلام”.
نعم، إنّ نفي حضرة بهاء الله الّذي دام ما لا يقلّ عن أربعة وعشرين عامًا، والّذي تعاون عليه عاهلان شرقيّان بدافع العداء الضّاري وقصر النّظر المخزي سوف يدخل التّاريخ باعتباره فترة شهدت تغيّرًا عجيبًا في الظّروف المتّصلة بحياة هذا المنفيّ ومناشطه. وسوف يتذكّره النّاس أوّلاً لتجدّد الاضطهادات القاسية الواسعة النّطاق الّتي كانت تثور في موطنه بين الحين والآخر؛ وثانيًا لازدياد أتباعه، ولاتّساع مدى آثاره وتضخّم حجمها ثالثًا وأخيرًا.
لم يكن نزول حضرة بهاء الله مستعمرة القصاص آخر ما ينزل به من البلايا. بل إنّه كان بداية لأزمة عظمى تتّصف بآلام مريرة وقيود صارمة وهياج شديد يفوق في حدّته آلام سياه ﭼـال بطهران، ولا يضارعه، على امتداد القرن الأوّل بأسره، إلاّ ذلك الاضطراب الدّاخلي الّذي زعزع كيان الدّين في أدرنة. وقد أكّد حضرة بهاء الله خطورة السّنوات التّسع الأولى من نفيه إلى مدينة السّجن فقال: “ثمّ اعلم أنّ في ورودنا هذا المقام سمّيناه بالسجن الأعظم. ومن قبل كنّا في أرض أخرى تحت السّلاسل والأغلال [أي طهران]، وما سُمّي بذلك قل تفكّروا فيه يا أولي الألباب”.
فالشّدّة الّتي عاناها كنتيجة مباشرة لمحاولة اغتيال ناصر الدّين شاه شدّة فرضها عليه العدوّ الخارجي وحده، ثمّ محنة أدرنة الّتي شطرت أتباع حضرة الباب أو كادت، كانت داخليّة بحتة. أمّا هذه الأزمة الجديدة الّتي ظلّت تقلق باله وبال أصحابه زهاء عشر سنين، فلم تتميّز من أولها إلى آخرها، بهجمات الخصوم من الخارج وحدهم بل وبمكائد أعدائه من الدّاخل وبطيش الّذين ارتكبوا ما ناح له قلبه رغم انتسابهم إليه.
وكانت عكّاء مدينة البطالسة القدماء، ومدينة القدّيسة جان دارك الصّليبيّة، والمدينة الّتي تمكّنت من أن تقاوم حصار نابليون، قد تدهورت تحت الحكم التّركيّ إلى مستعمرة للقصاص يسجن فيها القتلة السّفّاكون واللّصوص وقطاع الطّرق والمشاغبون والمتآمرون السّياسيّون من جميع أنحاء الإمبراطوريّة التّركيّة وكان يحيط بها سور مزدوج، ويسكن فيها أقوام وصفهم حضرة بهاء الله بـ”أولاد الأفاعي”. ولم يكن بداخل أسوارها أي نبع للماء. كما كانت مرتعًا خصبًا للبراغيث، تتخلّلها دروب ملتوية كئيبة قذرة. ولقد سجّل القلم الأعلى ذلك في لوح السّلطان حين قال: “وممّا يحكون أنّها أخرب مدن الدّنيا وأنتنها هواءً وأردأها ماءً، كأنّها دار حكومة الصّدى، لا يُسمع من أرجائها إلاّ صوت ترجيعه”. وكان جوّها خانقًا حتّى أنّ الطّائر إذا طار حولها سقط ميتًا كما جرى بذلك المثل.
أصدر السّلطان ووزراؤه أوامرهم الصّريحة الصّارمة بأن يُحبس المنفيّون المتّهمون بالضّلال البعيد والانحلال الشّديد، أشدّأنواع الحبس والانفراد. وكانت آمال هؤلاء معقودة على أنّ حكم السّجن المؤبّد الصّادر ضد المنفيّين سوف ينتهي آخر الأمر بانقراضهم وزوال ريحهم. ذلك لأنّ الفرمان الّذي أصدره السّلطان عبد العزيز في الخامس من ربيع الثّاني سنة 1285ھ (الموافق لليوم السّادس والعشرين من تموز سنة 1868م) لم يقتصر على الحكم عليهم بالنّفي الدّائم، بل وقضى بضرورة حبسهم وعزلهم عزلاً شديدًا. وحرّم عليهم أن يتّصل أحدهم بالآخر أو أن يتّصل أحدهم بالأهالي. وإنذارًا وتحذيرًا للأهالي قرئ الفرمان في مسجد المدينة الجامع عقب وصول المنفيّين. وبعد مضيّ سنة تقريبًا على نفيهم كتب السّفير الإيرانيّ لدى الباب العالي إلى حكومته رسالة قال فيها: “لقد أصدرت التّعليمات بالبرق والبريد تحرّم عليه [يعني حضرة بهاء الله] الاتّصال بأيّ إنسان اللّهم إلاّ زوجتيه وأبنائه، وتحظر عليه مغادرة المنزل الّذي حُبس فيه بأيّة حالٍ من الأحوال… ومنذ ثلاثة أيّام زرت عباس قلي خان القنصل العام في دمشق وكلّفته أن يذهب إلى عكّاء…وأن يجتمع مع حاكمها ليبحث معه كلّ الإجراءات الكفيلة بإدامة التّشديد عليهم… وأن يختار قبل عودته إلى دمشق مندوبًا في تلك النّاحية ليتأكّد من تنفيذ الأوامر الصّادرة من الباب العالي. كما أنّني كلّفته أن يسافر من دمشق إلى عكّاء كلّ ثلاثة أشهر، ويراقبهم بنفسه ثم يرفع تقريره إلى السّفارة”. ولقد بلغت العزلة المفروضة عليهم من الشّدة والصّرامة حدًّا دفع بالبهائيّين في إيران، الّذين روّعهم ما أشاعه الأزليّون في إصفهان من أنّ حضرة بهاء الله قد أُغرق، إلى مناشدة إدارة البرق البريطانيّة في جُلفا أن تستوضح لهم جليّة الأمر.
وعندما نزل المنفيّون، رجالاً ونساءً وأطفالاً، إلى شاطئ عكّاء بعد هذه الرّحلة المرهقة سيقوا أمام الأهالي المتطفّلين الغلاظ الجفاة الّذين اجتمعوا في الميناء ليشاهدوا “ربّ العجم”، واقتيدوا جميعًا إلى ثكنات الجيش حيث سُجنوا وأُقيم عليهم الحراس. ولقد أكّد حضرة بهاء الله في لوح الرّئيس أنّ “*الكلّ مُنع من المأكل والمشرب في اللّيلة الأولى… بل إنّهم طلبوا الماء فما أجيبوا إليه”. وكان الماء في حفرة بفناء الثّكنات قذرًا عفنًا لا يطيق أحد أن يشربه. وخُصّص لكلّ فرد ثلاثة أرغفة من الخبز الأسود المملّح. إلا أنّه سُمح لهم، تحت الحراسة المشدّدة، أن يستبدلوها في السّوق برغيفين من نوع أفضل. ثمّ لم يؤذن لهم إلا بقليل من المال تعويضًا لهم عن مقدار الخبز المخصّص لهم. فمرضوا جميعًا عقب وصولهم بقليل اللّهم إلا اثنين منهم. وكان وَطْءُ الحرّ الخانق وتفشّي الملاريا والدوسنتاريا سببًا في ازدياد بؤسهم وشقائهم. ومات منهم ثلاثة من بينهم أخوان ماتا في ليلة واحدة “يعانق أحدهما لآخر” حسب شهادة حضرة بهاء الله. وتنازل حضرة بهاء الله عن السّجادة الّتي كان يستعملها لتباع تغطية لنفقات تكفينهما ودفنهما. وبيعت السّجادة في المزاد، ووزّع ثمنها الزّهيد على الحرّاس الّذين رفضوا أن يدفنوهما قبل أن يتقاضوا التّكاليف. وقد عُلم فيما بعد أنّهما دفنا بملابسهما دون غسل ولا كفن رغم أنّ الحراس تقاضوا ضعف التّكاليف حسب تأكيد حضرة بهاء الله. ولقد كتب يقول :” لا يعلم ما ورد علينا إلا الله العزيز… *منذ إنشاء هذا العالم إلى يومنا هذا لم يرَ أحد مثل هذه القسوة أو يسمع بها”. وفي موضع آخر أشار إلى نفسه بقوله: “**لقد امتحن معظم حياته امتحانات قاسية بين براثن الأعداء. إلاّ أن بلاياه اليوم قد بلغت حدًّها الأقصى في هذا السّجن الّذي زجّه الظّالمون فيه”.
أمّا الزّوار القلائل الّذين استطاعوا الوصول إلى أبواب السّجن رغم الحظر الشّديد، فقد قنعوا بالنّظرة العجلى إلى وجه السّجين وهم وقوف وراء الخندق الثّاني متوجّهين إلى نافذته، علمًا بأنّ بعضهم قطع الطّريق كلّه من إيران سيرًا على الأقدام. أمّا القلائل الّذين أفلحوا في دخول المدينة فقد أرغموا، والحزن يعصر قلوبهم، على أن يعودوا من حيث أتوا حتّى دون أن يفوزوا بلمحة وحدة من وجهه. وكان أوّل من فاز منهم بالتّشرف بمحضره الحاج أبو الحسن الأردكاني المتفاني الملقّب بـ”الأمين الإلهي”. فاز بذلك في الحمّام العام حيث استقر الرّأي على أن يرى حضرة بهاء الله دون أن يقترب منه أو يبدي أيّة إشارة تدلّ على أنّه يعرفه. وأمّا الزّائر الثّاني فهو الأستاذ إسماعيل الكاشي الّذي جاء من الموصل ووقف على الحافّة الأخرى من الخندق. وظلّ يحدّق ساعات طوالاً في سعادة ونشوة إلى نافذة محبوبه. ولكن لم يستطع في النّهاية أن يميّز وجهه لضعف بصره، واضطرّ إلى أن يعود إلى الكهف الّذي احتمى فيه على جبل الكرمل. وقد رقّت له العائلة المباركة وبكت إشفاقًا عليه وهم يرون خيبة آماله من بعيد. قد اضطر النّبيل إلى أن يفرّ على عجل من المدينة حيث انكشف أمره، وأن يقنع بلمحة سريعة من حضرة بهاء الله وهو على حافّة الخندق. وطفق يتجوّل هائمًا في ريف النّاصرة وحيفا وبيت المقدس والخليل إلى أن مكّنه تراخي الحراسة المشدّدة من أن يُلحق نفسه بالمنفيّين.
وإلى هذه الشّدائد الجسام أضيفت مأساة مباغتة مريرة، ألا وهي الموت المبكر لميرزا مهدي التّقيّ النّبيل، وهو في الثّانية والعشرين من عمره، وهو “الغصن الأطهر” أخو حضرة عبد البهاء الأصغر، وأحد كُتّاب وحي حضرة بهاء الله ورفيقه في منفاه منذ أن جيء به طفلاً من طهران إلى بغداد ليرافق والده بعد عودته من السّليمانيّة. وبيان ذلك أنه كان يتمشّى على سطح الثّكنات ذات مساء مُستغرقًا في مناجاته المعتادة. فسقط في عتمة الضّوء على قفص خشبيّ كان على الأرض، فاخترق أضلاعه، وأفضى به إلى الموت بعد اثنتين وعشرين ساعة أخرى. وكان ذلك في اليوم الثّالث والعشرين من ربيع الأوّل سنة 1287ھ (الموافق لليوم الثّالث والعشرين من حزيران سنة 1870م). وكان توسله وابتهاله ساعة موته أن يقبل الأب الحزين روحه فداء للّذين حرموا التّشرف بمحضر محبوبهم.
وفي مناجاة ملحوظة المغزى رفيعة المعنى خلّد حضرة بهاء الله ذكرى ولده، ورفع موته إلى منزلة الفداء العظيم الّذي فدى ولد إبراهيم، وإلى مقام صلب السّيّد المسيح، واستشهاد الإمام الحسين. وفي هذه المناجاة نقرأ قوله: “أي ربِّ! فديت ما أعطيتني لحياة العباد واتّحاد من في البلاد”. ونقرأ كذلك هذه الكلمات الإلهيّة الموجّهة إلى ولده الشّهيد: “إنّك أنت وديعة الله وكنزه في هذه الدّيار. سوف يظهر الله بك ما أراد”.
وبعد أن غسّل في محضر حضرة بهاء الله جثمان “من خُلق من نور البهاء” الّذي شهد القلم الأعلى لوداعته، وذكر “أسرار” صعوده، حمله الحرّاس وأودعه مقرّه الأخير خارج أسوار المدينة في بقعة تجاور مقام النّبي صالح. ومن هناك نُقلت رفاته ورفات والدته الزّهراء، بعد سبعين سنة، إلى سفوح الكرمل بجوار رمس أخته، وتحت ظلال مقام حضرة الباب الأعلى.
لم يكن هذا آخر البلايا الّتي أصابت سجين عكّاء ورفاقه في المنفى. فبعد أربعة أشهر من هذه الفجيعة أعلنت التّعبئة العامّة في فرق الجيش التّركيّ. وكان لا بدّ من نقل حضرة بهاء الله ورفاقه من ثكنات الجيش. وعلى ذلك خصّص له ولأسرته منزل “ملك” في الحيّ الغربيّ من المدينة. ثمّ ما لبثت السّلطات أن نقلتهم بعد ثلاثة أشهر إلى منزل خوّام المواجه له. ومن ثمّ اضطرّوا مرّة أخرى بعد شهور قلائل إلى الإقامة في منزل رابع، ثم نُقلوا بعد أربعة أشهر إلى منزل عودة خمّار الّذي بلغ من قلّة كفايته بضروريّاتهم أن اضطرّ ما لا يقلّ عن ثلاثة عشر شخصًا من كلا الجنسين إلى العيش في غرفة واحدة، واضطرّ بعض الأصحاب الآخرين إلى السّكنى في منازل أخرى، كما اضطرّ الباقون إلى السّكنى في خان يسمّى خان العواميد.
وما كادت وطأة العزلة الشّديدة تخفّ، ويصرف الحرّاس الّذين كلّفوا بتشديد الحراسة حتّى حدثت أزمة داخليّة كانت مراجلها تغلي بين الجماعة من قبل، ووصلت فجأة إلى حدّ الكارثة. وبيان ذلك أنّ تصرّفات اثنين ممّن صحبوا حضرة بهاء الله إلى عكّاء ساءت فاضطرّ حضرة بها الله إلى طردهما في النّهاية، الأمر الّذي لم يتردّد السّيّد محمّد في استغلاله أسوأ استغلال. فبدأ يشنّ حملة من القذف والوشاية والسّعاية والتآمر كانت أخسّ وأدنأ من تلك الّتي شنّها في الآستانة. وقد انضمّ هذان المطرودان إلى أعوانه القدامى واجتهدوا في التّجسّس. وكان هدفهم إثارة الأهلين المتحاملين المتشكّكين، وإيغار صدورهم ودفعهم إلى درجة أكبر من الكراهية والبغضاء والهياج. ومن ثمّ أحدق بحضرة بهاء الله خطر جديد. وبالرّغم من أنه حرّم على أتباعه شفاهًا وكتابة وفي أكثر من مناسبة أن يقوموا بأيّ حركة انتقاميّة ضدّ هؤلاء الظّالمين، حتّى أنّه أعاد إلى بيروت مؤمنًا عربيًّا متهوّرًا كان يفكّر في الثّأر لكلّ المظالم الّتي عاناها زعيمه المحبوب، إلاّ أن سبعة من الأصحاب قتلوا ثلاثة من الخصوم في الخفاء من بينهم السّيّد محمّد هذا وآقا جان.
وكان الفزع الّذي استولى على الجامعة المظلومة يجلّ عن الوصف والبيان. ولم يكن لاستنكار حضرة بهاء الله واستفظاعه لهذه الفعلة النّكراء أيّ حدود. ولقد عبّر عن مشاعره في أحد الألواح الّتي رقمها بعد هذه الفعلة بقليل بقوله: “لو أذكر حرفًا منه لتنفطر عنه السّموات والأرضون” و”يندكّ كلّ جبل شامخ رفيع”. وكتب في مناسبة أخرى يقول: “ليس ضرّي سجني بل عمل الّذين ينسبون أنفسهم إليّ ويرتكبون ما ناح به قلبي وقلمي”. وكتب مرّة أخرى يقول: “ليس ذلّتي سجني لعمري إنّه عزّ لي بل الذّلّة عمل أحبّائي الّذين ينسبون أنفسهم إلينا ويتّبعون الشّيطان في أعمالهم”.
وبينما كان يملي ألواحه على كاتب وحيه إذا بالحاكم على رأس جنود شاهرين أسلحتهم يطوّقون بيته. وكانت الأهالي والسّلطات العسكريّة في هياج شديد، بينما تعالى صياح النّاس وضجيجهم من كلّ حدب وصوب. وعلى الفور استُدعي حضرة بهاء الله إلى سراي الحكومة. وبعد استجوابه احتجزوه أوّل ليلة مع أحد أبنائه في إحدى غرفات خان الشّاوردي، ثم نقل إلى مكان أفضل في تلك النّاحية. وهناك مكث ليلتين أخريين. ولم يؤذن له في العودة إلى بيته إلا بعد سبعين ساعة. أمّا حضرة عبد البهاء فقد احتجزوه ستّة أشهر. أمّا المجرمون الّذين ارتكبوا هذه الفعلة النّكراء فقد سجنوا عدة أعوام.
التفت حاكم المدينة العسكريّة إلى حضرة بهاء الله بعد وصوله إلى سراي الحكومة وسأله في جرأة: “هل من المناسب أن يتصرّف بعض أتباعك على هذا النّحو؟” فكان الرّد السّريع هو: “**وهل تُعتبر أنت مسؤولاً إذا ارتكب أحد جنودك فعلة نكراء فتُعاقب أنت بدلاً منه؟!” وفي أثناء الاستجواب سُئل عن اسمه واسم البلاد الّتي أتى منها فأجاب: “**إنّه أظهر من الشّمس”. وعند تكرار السّؤال عليه أجاب “لا داعي لذكر الاسم فهم مدوّن عندكم في فرمان الدّولة”. فأعادوا عليه السّؤال مرّة أخرى باحترام ملحوظ. فنطق حضرة بهاء الله هذه الكلمات في وقار وجلال واقتدار: “**اسمي بهاء الله وبلدي نور، فهل عرفتم؟” ثمّ التّفت إلى المفتي ولامه لومًا خفيفًا ثمّ تحدّث إلى جميع الحاضرين في لهجة بلغت من الحرارة والجلال أنّ أحدًا لم يجسر على التّعقيب. ثم تلا عليهم بعض آيات سورة الملوك ونهض وغادر الاجتماع. وسرعان ما أرسل إليه الحاكم رسالة يعتذر له فيها عمّا حدث، ويعطيه مطلق الحرّيّة في العودة إلى بيته.
بعد هذا الحادث تملّكت الأهلين المتشكّكين عداوة شديدة ضدّ المنفيّين، وضدّ كلّ من انتمى إلى هذا الدّين بصلة. وانهالت عليهم التّهم العلنيّة بالفسق والفجور والإلحاد والمروق وإشاعة الرّعب والإرهاب، وقوّى عبود الّذي كان يسكن المنزل المجاور الحائط الّذي يفصل منزله عن هذا الجار المخيف المشكوك في أمره، بل إنّ النّاس كانوا يطاردون أولاد المنفيّين المسجونين ويسبّونهم ويرجمونهم بالحجارة إذا هم تجاسروا وظهروا في الشّوارع في تلك الأيّام.
طفحت آنذاك كأس البلايا، واستمرّ الموقف المهين المليء بالقلق والخطر يحيط المنفيّين إلى أجّل ضربته الإرادة الغيبيّة. ثمّ بدأ حدّ البؤس والهوان ينحسر، مشيرًا إلى بداية تحوّل في مقدّرات الدّين ومصائره أوضح من التّحوّل الّذي حدث في السّنوات الأخيرة من إقامة حضرة بهاء الله في بغداد.
ولقد مهّد الطّريق لردّ الفعل الآخذ في الظّهور، والمرتبط بنفي حضرة بهاء الله إلى عكّاء ارتباطًا وثيقًا، اعتراف كلّ عناصر الأهالي اعترافًا تدريجيًّا ببراءة حضرة بهاء الله ونزاهته الكاملة، وتحطيم روح تعاليمه لقشرة تعصّبهم وقلّة اكتراثهم شيئًا بعد شيء، وتعيين أحمد بيك توفيق الرّزين الرّحيم مكان ذلك الحاكم الّذي تسمّم عقله ضدّ الدّين وأتباعه تسمّمًا لا يرجى له شفاء. أضف إلى ذلك الجهود الموصولة الّتي بذلها حضرة عبد البهاء وهو في عزّ رجولته، واختلاطه بعامّة الشّعب مظهرًا قدرته على أن يكون درعًا تقي والده وتحميه. ولا ننسى أيضًا مصير المسؤولين الّذين صرفوا عن مناصبهم وكان لهم تأثيرهم الملحوظ في إطالة مدّة عزل الأصحاب الأبرياء.
ولقد كان من نتيجة اتّصال الحاكم الجديد بحضرة عبد البهاء أوّلاً، وقراءته ثانيًا للكتب البهائيّة الّتي رفعها إليه المفسدون على أمل إثارة غضبه أن اشتعل في قلبه الإخلاص إلى درجة أنّه كان يرفض أن يدخل إلى حضرة بهاء الله إلاّ إذا خلع نعليه احترامًا وإجلالاً، ولم يشذّ عن هذه القاعدة مهما كانت الأحوال، بل لقد روي أنه اختار أفضل مستشاريه من بين المنفيّين أتباع هذا السّجين القابع في سجنه. كما أنّه دأب على أن يرسل ابنه إلى حضرة عبد البهاء لكي يعلّمه ويثقّفه. وفي أثناء زيارة تمّت بعد طول انتظار ألحّ الحاكم في أن يقدّم لحضرته أيّ خدمة فاقترح عليه حضرته أن يصلح قناة الماء الّتي تلفت من الإهمال ثلاثين عامًا. فقام على تنفيذ هذا الاقتراح على الفور. وقلّما كان يعارض في تدفّق سيل الزّوّار الّذين كان من بينهم المُلاّ صادق الخراساني المخلص الجليل وأبو بديع، وكلا الرّجلين ممن عاشوا من بعد موقعة طبرسي، كان الحاكم يفعل ذلك على الرّغم من أن الفرمان السّلطاني كان يحرّم دخول الزّوار المدينة. أمّا مصطفى ضياء باشا، الّذي أصبح واليًا بعد عدّة سنوات فقد مضى إلى أبعد من هذا الحدّ، إذ منح السّجين الحرّيّة المطلقة في مغادرة أبواب السّجن وقتما يشاء. ولكنّ حضرة بهاء الله أبى ذلك. بل لقد آمن بالأمر المبارك الشّيخ محمود مفتي عكّاء، الّذي عُرف بشدّة تعصّبه من قبل، ودفعته حماسته إلى أن يصنّف كتابًا في الأحاديث النّبويّة الخاصّة بعكّاء. وكان بعض الحكام الغلاظ الشّداد يأتون إلى المدينة من حين إلى آخر. ورغم ما كانوا عليه من قوّة وبأس إلا أنّهم لم يستطيعوا أن يقفوا في وجه القوى الّتي كانت تسرع بتحرير مؤسّس الدّين لكي يحقّق هدفه على الوجه الأكمل. وبمضي الأعوام أخذ العلماء والأدباء المقيمون بسوريّة يعترفون بعظمة حضرة بهاء الله الصّاعدة وقوّته المشرقة. أمّا عزيز باشا الّذي أظهر في أدرنة تعلّقًا شديدًا بحضرة عبد البهاء فقد ارتقى في الوقت نفسه إلى منصب الوالي. وقام بزيارة عكّاء مرّتين لا لشيء إلاّ ليبدي احترامه وإجلاله لحضرة بهاء الله، وليجدّد أواصر الودّ والصّداقة مع حضرة عبد البهاء الّذي طالما احترمه وأعجب به.
وبالرّغم من أنّ حضرة بهاء الله لم يكن يسمح بأيّة مقابلات شخصيّة إلاّ فيما ندر، خلافًا لعادته الّتي كان يتّبعها في بغداد، إلا أنّ التّأثير النّفاذ الّذي تمتّع به جعل الأهلين يؤكّدون في صراحة أنّ التّحسن الملحوظ الّذي لمسوه في هواء المدينة ومائها يرجع بصفة أساسيّة إلى إقامته الدّائمة بينهم. بل لقد لقّبوه بـ”الزّعيم الجليل” و”صاحب السّموّ” ممّا ينمّ على الإجلال الّذي بثّه فيهم. وذات مرّة أذن لحاكم المدينة ولأحد القادة الأوروبيّين بزيارته. فبلغ من تأثّر القائد الأوروبّي أنّه “ظلّ راكعًا على ركبتيه لدى الباب”. أمّا الشّيخ علي الميري، مفتي عكّاء، فقد أخذ على عاتقه أن يحّقق ما اقترحه حضرة عبد البهاء، وأخذ يواصل رجاءه ويديم توسّله إلى حضرة بهاء الله لكي يخرج من أسوار المدينة وينهي عزلته الّتي طالت تسعة أعوام. وبعد إلحاح شديد وافق حضرة بهاء الله على مغادرة أبواب المدينة وانتقل إلى حديقة النّعمين، وهي جزيرة صغيرة تقع وسط النّهر شرقيّ المدينة، وشرّفها باسم “الرّضوان” ووصفها بأنّها “أورشليم الجديدة” و”جزيرتنا الخضراء”. وقد استأجرها حضرة عبد البهاء مع قصر عبد الله باشا الّذي يبعد بضعة أميال شمالي عكّاء وهيأه لسكنى والده. ومن ثمّ أصبح مقامًا مفضّلاً لحضرة بهاء الله الّذي لم تتجاوز قدماه أسوار المدينة عشرة سنوات تقريبًا، ولم تكن رياضته سوى ذرع غرفة نومه ذهابًا وإيابًا.
وبعد عامين تم استئجار قصر عودة خمّار، وقد أنفق عودة على بنائه الأموال الطّائلة أثناء سجن حضرة بهاء الله في الثّكنات. إلاّ أنّه هجره هو وأسرته على عجل عند تفشّي أحد الأوبئة الوبيلة، وأخيرًا تمّ شراؤه. وقد وصفه حضرة بهاء الله بـ”القصر الرّفيع الّذي جعله الله المنظر الأكبر للبشر”. لقد تعاونت عدة أمور على زيادة هيبة الجامعة النّاهضة واتّساع شهرة من كان أنبل أعضائها، منها أن حضرة عبد البهاء زار بيروت في تلك الآونة تلبية لدعوة مدحت باشا، وهو أحد كبار وزراء تركيّا. وهناك اتّصل برجالات الدّولة والدّين، والتقى مرّات عديدة مع الشّيخ محمّد عبده الشّهير في جلسات طويلة. ولقد ثار الحسد في صدور الّذين كانوا، منذ عهد قريب، يعاملونه هو وإخوانه في المنفى معاملة تختلط فيها مشاعر التّرفّع والتّفضيل بالاحتقار والازدراء. وكان سبب هذا الحسد الأكّال الحفاوة البالغة الّتي استقبله بها الفقيه الأجلّ الشّيخ يوسف مفتي النّاصرة وكان الشّيخ يوسف يستضيف وقتها ولاة بيروت فأرسل علّيّة القوم من بينهم أخوه ومفتي عكّاء ليستقبلوا هذا الضّيف الكريم القادم على مسافة بضعة أميال خارج المدينة. ثمّ ثار الحسد مرّة أخرى بسبب الحفاوة البالغة الّتي استقبل بها حضرة عبد البهاء الشّيخ يوسف عندما زاره في عكّاء.
وبالرّغم من أنّ فرمان السّلطان عبد العزيز الصّارم لم يُلغَ بصفة رسميّة إلاّ أنّه أصبح آنذاك في خبر كان. ذلك لأنّ حضرة بهاء الله وإن كان سجينًا بالاسم فقط إلاّ أنّ “**أبواب العزّة والجلال وسلطان الحقّ قد تفتّحت على مصاريعها” كما يقول حضرة عبد البهاء الّذي كتب مرّة أخرى في ذلك يقول: “**كان حكّام فلسطين يحسدونه على نفاذ تأثيره وقوّة سلطانه وكان الحكّام والمتصرّفون والقوّاد والموظّفون المحلّيّون يلتمسون شرف المثول بين يديه. ولكنّه قلما كان يأذن لهم”.
في هذا القصر نفسه سُمح للمستشرق الممتاز أ. ج. براون([1]) الأستاذ بجامعة كمبردج أن يتشرّف بمحضر حضرة بهاء الله أربع مرات متوالية خلال الأيّام الخمسة الّتي قضاها براون في البهجة ضيفًا، [من 15-20 نيسان سنة 1890م]. وهي لقاءات خلّدها هذا الإعلان التّاريخي الّذي أعلنه الأسير: “**ستزول هذه المنازعات العقيمة، وهذه الحروب المدمّرة، ويأتي الصّلح الأكبر”. وإليك الشّهادة النّاصعة الّتي خلّفها هذا الباحث للأجيال القادمة قال: “أمّا الوجه الّذي طالعني فلا يمكنني أن أنساه وإن كنت لا أستطيع أن أصفه. أمّا هاتان العينان النّفاذتان فقد بدتا وكأنّما تقرآن ما في دخيلة نفسك. أمّا العزة والجلال والسّلطان فقد استقرّت على الجبين العريض الوضّاح في رزانة ووقار. ولم أكن بحاجة إلى أن أسأل أحدًا في محضر من وقفت. وانحنيت بين يدي من يحيطه من المحبة والوفاء ما يحسده عليهما الملوك والأباطرة عبثًا” وقد شهد هذا الزّائر نفسه فقال: “هنالك قضيت خمسة أيّام خالدة، تمتّعت خلالها بفرص لا نظير لها ولا مثيل، بل ولا أمل في أن تعود، واجتمعت فيها بينابيع ذلك الرّوح العجيب الّذي يعمل بقوّة غامضة متزايدة على بعث قوم ناموا نومًا شبيهًا بالموت. والواقع أنّه كانت تجربة غريبة مثيرة، ولا أمل لي في أنقل إليك من تأثيراتها شيئًا ذا بال”.
وفي تلك السّنة ارتفعت خيمة حضرة بهاء الله –”خباء المجد”- على جبل الكرمل “كوم الله وكرمه” موطن إيليّا الّذي مجده إشعياء بأنّه “جبل الرّبّ” الّذي “تجري إليه كلّ الأمم”. وتفصيل ذلك أن حضرة بهاء الله زار حيفا أربع مرات طالت الزّيارة الأخيرة منها ثلاثة أشهر. وفي أثناء إحدى هذه الزّيارات، وهي الزّيارة الّتي ضُربت فيها خيمته بجوار دير الكرمليّين، أنزل “صاحب الكرم” لوح الكرمل المليء بالإشارات والنّبوءات. وفي مناسبة أخرى كان يقف على سفح من سفوح ذلك الجبل، فعيّن لحضرة عبد البهاء البقعة المباركة الّتي قدّر لها أن تكون مثوًى دائمًا لرفات حضرة الباب بعد أن يُقام عليها مقام مناسب فيما بعد.
وبناءً على أمر حضرة بهاء الله تمّ شراء الأراضي المحيطة بتلك البحيرة الّتي اقترن اسمها في التّاريخ بعهد السّيد المسيح له المجد. وتقرّر أن تشيد عليها “تلك المباني الجليلة الفخمة” الّتي تقام تمجيدًا لدينه، ساعية بشيرة بين يدي تلك المباني الّتي تنبّأ في ألواحه بأنّه سوف تقام في الأرض المقدّسة “طولاً وعرضًا” وفي “الأقاليم الخصبة المقدّسة المجاورة للأردن” الّتي خصّصه “لعبادة الله الفرد وخدمة عتبته السّامية” بناءً على ما نصّ به في تلك الألواح.
وبرزت الشّواهد على حيويّة الزّعامة الّتي لا يستطيع أن يقهرها أو يقلّل من شأنها الملوك مهما قويت شوكتهم ولا رجال الدّين مهما عظمت عداوتهم، منها تضخّم مراسلات حضرة بهاء الله تضخّمًا عظيمًا، وإنشاء الوكالة البهائيّة في الإسكندريّة لإرسال هذه المراسلات وتوزيعها. ومنها التّسهيلات الّتي قدّمها المؤمن الثّابت محمّد مصطفى في بيروت لتأمين مصالح الزّوار الّذين كانوا يمرّون بتلك المدينة. ومنها الرّاحة النّسبيّة الّتي استطاع بها السّجين، بالاسم فقط، أن يتّصل بالمراكز المتزايدة في إيران العراق والقوقاز وتركستان ومصر. ومنها تكليفه سليمان خان التّنكابوني الشّهير بجمال أفندي بأن يقوم بحملة تبليغيّة منظّمة في الهند وبورما. ومنها تعيين بعض أتباعه “أيادي أمر الله”. ومنها ترميم البيت المبارك في شيراز، وتفويض أمر سدانته بأمر منه، إلى حرم حضرة الباب وأختها. ومنها إيمان عدد لا بأس به من اليهود والزرادشتيّين والبوذيّين إيمانًا جعلهم يعترفون بالمسيحيّة والإسلام دينين سماويّين اعترافًا تلقائيًّا راسخًا. وكان هذا باكورة الجهود الموصولة الّتي بذلها المبلغون السّيّارون في إيران والهند وبورما.
كما أنّنا لا يمكننا أن نغفل الإشارة إلى تكوين جامعة مزدهرة من المؤمنين في مدينة عشق آباد الحديثة في تركستان الرّوسيّة، مطمئنّة إلى تعاطف الحكومة ومسالمتها. فتمكّنت من امتلاك مقابر بهائيّة، وشراء قطعة أرض شيّدت عليها بناءً ثبت فيما بعد أنّه أوّل “مشرق الأذكار” في العالم البهائيّ بأسرة. ولا بدّ أن نشير أيضًا إلى تأسيس مراكز دينيّة متقدّمة في كلّ من سمرقند وبخارا في قلب آسيا. وكان ذلك نتيجة لأبحاث وكتابات العلاّمة فاضل القائني والمدافع المثقّف ميرزا أبي الفضل. ولا بدّ أن نشير كذلك إلى طبع خمسة مجلدات من آثار مؤسّس الدّين، بما فيها “الكتاب الأقدس” في الهند. وهي طبعات تعلن عن تضاعف آداب الدّين واشتمالها على طبعات عديدة ولغات مختلفة وانتشارها أثناء السّنوات التّالية في ربوع الشّرق والغرب.
ويروي أحد المنفيّين أنّ حضرة بهاء الله قال: “**أخرجنا السّلطان عبد العزيز إلى هذا الإقليم في هوان عظيم. ولمّا كان غرضه أن يذلّنا ويدمّرنا فإنّنا لم نرفض وسائل الرّاحة والرّفاه حين توفّرت”. وقال مرّة أخرى ما رواه النّبيل في تاريخه: “**الحمد لله! لقد بلغت بنا الحال أنّ أهل هذه النّواحي يظهرون لنا الاحترام والإجلال”. وقال مرّة أخرى ما سجّله النّبيل أيضًا: “**قام سلطان آل عثمان على ظلمنا بلا ذنب ولا جريرة، وأرسلنا إلى حصن عكّاء. وقضى فرمانه السّلطانيّ ألاّ يختلط بنا أحد، وشدّد في أن نصبح غرضًا لبغضاء المبغضين من الخاصّ والعام. لهذا عجّلت يد القدرة الرّبّانيّة بالانتقام. وعصفت رياح الفناء، أوّل الأمر، بسميرية ووزيريه المقرّبين، عالي وفؤاد، ثم امتدّت يد القدرة لطي بساط عزّة العزيز، وأخذه أخذ عزيز مقتدر”.
وإلى هذا يشير حضرة عبد البهاء فيقول: “**أراد اعداؤه أن يحطّم السّجن الأمر المبارك تحطيمًا كاملاً ويقضي عليه قصاءً مبرمًا. ولكنّ هذا السّجن كان في الحقيقة أكبر عون، وأصبح وسيلة لتقدّمه”. وأكّد ذلك مرّة أخرى فقال: “*… رفع هذا الشّخص الجليل أمره في السّجن الأعظم ومنه سطع نوره الباهر، وطبّق صيته الخافقين، وبلغ صوت عظمته الشّرق والغرب”، “**كان نوره في بادئ الأمر نجمًا فأصبح شمسًا ساطعة”. وقال مرّة أخرى: “*إلى يومنا هذا لم يحدث مثل هذا الأمر في عالم الوجود”.
فلا عجب أن رقم حضرة بهاء الله تلك الكلمات العظيمة، وهو يتأمّل التّغيّر الملحوظ في الظّروف الّتي لابست أربعة وعشرين عامًا هي مدّة نفي في عكّاء: “**إنّ الله العليّ القدير… قد حوّل هذا السّجن إلى الجنّة العليا قطب الجنان”.
بينما كان حضرة بهاء الله يكابد، هو والجماعة الصّغيرة الّتي صحبته، المتاعب الشّديدة الّتي نشأت عن النّفي الّذي قصد منه الأعداء محوهم من الوجود، كان أتباعه المتزايدون في موطنه يقاسون من اضطهاد أعنف وأطول من المتاعب الّتي كان يكابدها آنذاك هو وأصحابه. ومع أنّ الجرائم البربريّة البشعة الّتي ارتكبها العدوّ العنيد المتعطّش كانت أضيق مجالاً من حمّامات الدّماء الّتي عمّدت الدّين عند مولده حين “قتل في خلال سنة واحدة ما لا يقلّ عن أربعة آلاف رجلٍ، وترك جمع غفير من النّساء والأطفال بلا عائل ولا معين” كما يؤكّد حضرة عبد البهاء، إلاّ أنّها لم تكن أقلّ تنوّعًا من سابقاتها واتّصفت بقدر أعظم من الغدر والقسوة.
في تلك الفترة الّتي نحن بصددها كان ناصر الدّين شاه، الّذي وصفه حضرة بهاء الله بـ”رئيس الظّالمين” الّذي “ارتكب ما ناح به أهل مدائن العدل والإنصاف” في كامل رجولته وأوج جبروته وسلطانه. ولمّا عجز عن الظّفر بحضرة بهاء الله قنع هذا الطّائش الأهوج بمحاولة القضاء المبرم على البقيّة الباقية من الجامعة الّتي كان يخافها أشدّ خوف، خاصّة وأنّها نهضت وتماسكت من جديد. وكان ناصر الدّين شاه هو الحاكم الآمر في دورة “غارقة إلى الأذقان في تقاليد الشّرق القديمة” ومن حوله وزراء “دهاة لئام منافقون”، يرفعهم ويخفضهم ويدينهم ويقصيهم كما يحلو له. وكان يرأس نظامًا إداريًا كان “كلّ عضو فيه أمّا راشيًا أو مرتشيًا حسبما تمليه الظّروف والمصالح”. وكان يعاونه في مقاومة الدّين جهاز دينيّ أشبه ما يكون “بالدّولة الكنسيّة”، ويسانده شعب لا مثيل له في قسوته وفظاعته ولا نظير له في خسّته وذلّه وجشعه وتعصّبه وفساد أعماله. كان يتلوه في السّلطان والمركز أبناؤه الثّلاثة البالغون، إذ قسّم المملكة بينهم توطيدًا لأركان الحكم والإدارة الدّاخليّة، فعهد بولاية آذربيجان إلى وارث العرش مظفر الدّين ميرزا الجبان الضّعيف الّذي وقع تحت تأثير الشّيخيّة فأخذ يظهر الإجلال والاحترام للملاّوات، وسلّط على ما يربو على خمسي مملكته، بما فيه إقليمي يزد وإصفهان، أكبر أولاده الأحياء وهو مسعود ميرزا القاسي الدّاهية. وكان يعرف ظلّ السّلطان، وأمّه من عامّة الشّعب. أمّا كامران ميرزا ابنه المقرّب المعروف بنائب السّلطنة فقد ولاّه جيلان ومازندران وجعله حاكم طهران ووزير الحربيّة وقائد الجيش. ولقد بلغ من تنافس الأخوين الأخيرين [أي ظلّ السّطان ونائب السّلطنة]، وتسابقهما على استمالة قلب أبيهما وإحراز رضائه إلى حدّ أن استعان كلّ واحد منهما بما لديه من أقطاب المجتهدين في محاولة التّفوّق في القيام بالواجب المبجّل، ألا وهو القيام بأعمال السّلب والنّهب والاغتيال والقضاء المبرم على جامعة المؤمنين الأبرياء العزّل الّذين امتنعوا عن إبداء أيّة مقاومة حتّى ولو دفاعًا عن النّفس، وذلك نزولاً عند حكم حضرة بهاء الله وإطاعة لأمره المبرم الّذي ينصّ على أنّه “إن تُقتَـلُوا خير لكم من أن تَقتُلُوا”. وكان على رأس المحرّضين الحاج المُلاّ علي الكني والسيد صادق الطّباطبائي، زعيما مجتهدي طهران، والشّيخ محمّد باقر زميلهما في إصفهان، ومير محمّد حسين إمام الجمعة فيها. وكانوا ينتهزون كلّ فرصة ويسلكون كلّ سبيل ليكيلوا الضّربات بدون هوادة وبكلّ ما أوتوا به من سلطان ضدّ ما حمله من قوى التّحرير، دين اعتبره هؤلاء خطرًا عليهم وهابوه أكثر ممّا هابه الشّاه نفسه.
فلا عجب أن استتر الدّين وخاصّة بعد أن واجه وقفًا مليئًا بالمخاطر. ولا غرابة أن يكون الاستجواب والحبس واللّعن والاستباحة والتّعذيب والإعدام من أبرز معالم تلك الفترة العصيبة من تاريخه. ولا غرابة كذلك أن تعمل زيادة الزّيارات الّتي بدأت في أدرنة ثمّ اتخذت صورة رائعة في عكّاء وزيادة انتشار ألواح حضرة بهاء الله، وترويج الرّوايات الحماسيّة على ألسنة الّذين فازوا بلقائه على إشعال نار العداوة والبغضاء في صدور رجال الدّولة والدّين معًا. ولقد صوّرت لهم حماقتهم وقصر نظرهم أنّ الانشقاق الّذي حدث في صفوف الأتباع في أدرنة والحكم على زعيم الدّين بالنّفي المؤبّد سوف يقضيان عليه القضاء الأخير.
ففي آباده ألقي القبض على الأستاذ([1]) علي أكبر بتحريض أحد أكابر المدينة وضرب ضربًا مبرحًا إلى أن سالت الدّماء من فرعه إلى أخمص قدمه. وفي قرية تاكور أبيحت أموال الأهالي بأمر الشّاه، وألقي القبض على الحاج ميرزا رضا قلي، وهو من إخوة حضرة بهاء الله غير الأشقّاء، وسيق إلى طهران العاصمة وزجّ به في سياه ﭼـال شهرًا. كما ألقي القبض على صهر ميرزا حسن، وهو أخ آخر من إخوة حضرة بهاء الله غير الأشقّاء، وعذّب بقضبان الحديد المحمّاة بالنّار. وأخيرًا أحرقت قرية داركلا المجاورة.
أمّا آقا بزرگ الخراساني، وهو “بديع” الشّهير الّذي آمن بالدّين على يد النّبيل والملقّب بـ”فخر الشّهداء” حامل اللّوح الموجّه إلى ناصر الدّين شاه وهو في السّابعة عشر من عمره والّذي “نفخنا فيه روحًا من لدنّا” كما يؤكّد حضرة بهاء الله، فقد ألقي القبض عليه وعذّب بالكيّ ثلاثة أيّام متوالية، وضرب رأسه بكعب البندقيّة حتّى سقط مخّه ثمّ ألقي بجسده في إحدى الحفر وأهيل عليه التّراب والحجارة. وكان هذا الشّاب قد تشرّف بلقاء حضرة بهاء الله في السّنة الثّانية من حبسه في الثّكنات. ونهض بكلّ همّة ونشاط ليحمل ذلك اللّوح وحيدًا فريدًا وسافر على قدميه إلى طهران ليسلمه إلى الشّاه. وبعد أربعة أشهر وصل تلك المدينة. وبعد أن صام وقام ثلاثة أيّام التّقى بالشّاه وهو خارج إلى الصّيد في شميران. فتقدّم من جلالته بكلّ هدوء ووقار قائلاً: “يا سلطان قد جئتك من سبإٍ بنبإٍ عظيم” فأمر الشّاه أن يؤخذ منه اللّوح وأن يسلّم إلى مجتهدي طهران وأمرهم أن يجيبوا عليه ولكنّهم تحاشوا الإجابة، وبدلاً من ذلك أوصوا بقتل الرّسول. فأرسل الشّاه هذا اللّوح إلى سفيره في الآستانة حتّى إذا ما قرأه وزراء السّلطان زاد اشتعال نيران العداوة والبغضاء في صدورهم. وقد ظلّ حضرة بهاء الله زهاء ثلاثة أعوام يمتدح شجاعة ذلك الشّاب المقدام في آثاره، ويصف الإشارات الّتي أوردها في هذه الآثار إلى تلك التّضحية الرّفيعة بأنّها “ملح ألواحي”.
وفي زنجان ضُرب في يوم واحد عنقا أبي بصير والسّيّد([2]) أشرف اللّذين قتل أبواهما في فتنة زنجان من قبل. وقد ذهب أبو بصير في الثّبات إلى حدّ أنّه بينما كان ساجدًا في الصّلاة أشار على الجلاّد بأفضل طريقة لضرب عنقه. أمّا السّيد أشرف فقد ضرب ضربًا مبرحًا إلى أن سالت الدّماء من تحت أظافره ثمّ قطع رأسه وهو يعانق زميله الشّهيد. ولقد أرسلت السّلطات أمّ أشرف هذا إلى السّجن على أمل أن تنجح في حمل وحيدها على الارتداد عن دينه. ولكنّها بدلاً من ذلك هدّدته بالتّبرؤ منه إن هو فعل ذلك وأمرته أن يحذو حذو أبي بصير. لا، بل إنّها شاهدته وهو يقتل دون أن يطرف لها جفن أو تدمع لها عين. وفي بروجرد جلد محمّد حسن خان الكاشي الثّريّ الوجيه جلدًا أفضى به إلى الموت. وفي شيراز أمر المجتهد فيها بقتل ميرزا آقاي ركاب ساز وميرزا رفيعي الخيّاط ومشهدي نبي، فقتلوا في جوف اللّيل خنقًا، وبعد ذلك نبشت الغوغاء قبورهم وأهالوا على أجسادهم القاذورات. وفي كاشان ضرب عنق الشّيخ أبي القاسم المازكاني وهو ساجد يصلّي. وكان قد رفض أن يشرب شربة ماء قدّمت له قبل قتله مؤكّدًا أنّه أظمأ إلى كأس الشّهادة منه إلى أيّ شيء آخر.
وفي كرمان قتل ميرزا باقر الشّيرازي الّذي أبدى إخلاصًا منقطع النّظير في استنساخ ألواح حضرة بهاء الله في أدرنة. وفي أردكان هاجمت الغوغاء الهائجة ﮔـُل محمّد الشّيخ الهرم وبطحته أرضًا ثم داسه سيّدان بأحذيتهما الغليظة، حتّى تهشمت ضلوعه وكسرت أسنانه، ثم سحبوا جسده إلى خارج المدينة ودفنوه في إحدى الحفر، ثم عادوا في اليوم التّالي ونبشوا قبره وسحبوا جثّته في الشّوارع وتركوها في العراء. وفي مدينة مشهد الشّهيرة بتعصّبها الشّديد شقّوا صدر الحاج عبد المجيد، والد بديع السّالف الذّكر، وكان في الخامسة والثّمانين من عمره، وكان الحاج عبد المجيد هذا ممّن عاشوا بعد موقعة طبرسي، وتشرف بمحضر حضرة بهاء الله بعد مقتل ابنه ثم عاد إلى خراسان يشتعل حماسة وإخلاصًا، وبعد قتله وضع رأسه على لوح من المرمر ليتفرّج عليه عامّة النّاس. أمّا جسده فقد سحبوه بصورة بشعة في الأسواق ثم تركوه في معرض الموتى ليأخذه أهله.
وفي إصفهان قطع رأس المُلاّ كاظم، بأمر الشّيخ محمّد باقر، وأجري على جثمانه حصان، ثم أشعلت فيه النّار، كما بترت أذنا السّيد آقا جان وسحبه النّاس في الطّرقات والأسواق. وبعد شهر حدثت في تلك المدينة مأساة الأخوين الشّهيرين ميرزا محمّد حسن وميرزا محمّد حسين “النّورين النّيّرين” الملقّبين بـ”سلطان الشّهداء” و”محبوب الشّهداء” على التّوالي. وقد اشتهرا بكرمهما وأمانتهما ورأفتهما وتقواهما. وكان المحرّض على قتلهما مير محمّد حسين إمام الجمعة الغادر الخسيس الّذي وصفه حضرة بهاء الله بـ”الرّقشاء”. والسّبب في أمره بقتلهما أنّه كان مدينًا لهما بدين كبير أثناء تجارته معهما. فأراد أن يتخلّص من دينه هذا فسعى بهما على أنّهما بابيّان يستحقّان القتل. فنهب منزلاهما الفاخران حتّى أشجار الحديقة وأزهارها وصودرت البقيّة من أموالهما. أمّا الّذي أفتى بقتلهما فهو الشّيخ محمّد باقر الّذي نعته حضرة بهاء الله بـ”الذّئب”، وسرعان ما صادق ظلّ السّلطان على هذه الفتوى فقيّدا بالسّلاسل والأغلال، وضرب عنقاهما ثم سحب جسداهما إلى ميدان الشّاه حيث أهانهما السّفلة إهانات وحشيّة. وفي ذلك كتب حضرة عبد البهاء يقول: “*سفك دم هذين الأخوين بصورة جعلت قسّيس جلفا المسيحيّ يبكي ويعول وينوح في ذلك اليوم”. ومضى حضرة بهاء الله يذكرهما سنوات طوالاً في ألواحه، ويفصح عن حزنه على موتهما، ويمتدح مزاياهما وفضائلهما.
وسيق المُلاّ علي جان من مازندران إلى طهران سيرًا على الأقدام، وبلغت الشّدائد الّتي عاناها في هذه الرّحلة أن جرح عنقه وتورّم جسده من أوّل خصره حتّى قدميه. وفي يوم استشهاده طلب ماء فاغتسل وصلّى ووهب لجلاده مقدارًا عظيمًا من المال. وفي أثناء صلاته طعن بخنجر في حلقومه، ثم بصقوا على جثمانه وغطّوه بالطّين وعرّضوه ثلاثة أيّام وأخيرًا مزقوه إربًا إربًا. وفي نامق هجموا على المُلاّ علي الّذي اعتنق الدّين أيّام حضرة الباب هجومًا عنيفًا وحطّموا أضلاعه بفاس حادة فمات من فوره. وقتل ميرزا أشرف في إصفهان، وداس جثمانه الشّيخ محمّد تقي النّجفي “ابن الذّئب”، هو وتلاميذه، ثم مزّقوه في وحشيّة وسلّموه إلى العامّة ليحرقوه. ثم دفنت عظامه المحترقة تحت جدار هدم عليها ليغطيها.
وفي يزد قتل في يوم واحد سبعة أشخاص في ظروف مروّعة، وذلك بتحريض مجتهد المدينة وبأمر أحد أبناء ظلّ السّطان محمود ميرزا جلال الدّولة الحاكم المتبلّد الإحساس. وكان أوّل السّبعة علي أصغر الّذي لم يتجاوز ربيعه السّابع والعشرين، خنقوه وسلّموا جسده إلى بعض اليهود الّذين أرغموا رفاقه السّتّة الآخرين على مصاحبتهم وهم يسحبون جسده في الطّرقات يحيط بهم الغوغاء ويتقدّمهم الجنود وهم يقرعون الطّبول وينفخون في الأبواق. فلمّا بلغوا مكتب التّلغراف قطعوا رأس المُلاّ مهدي البالغ من العمر خمسة وثمانين عامًا، وسحبوه بالطّريقة نفسها إلى حيّ آخر من أحياء المدينة حيث قتلوا آقا علي بالطّريقة عينها أمام حشد عظيم من المتفرّجين الّذين أفقدتهم الموسيقى الصّاخبة صوابهم. ومن ثمّ تقدّموا إلى منزل المجتهد، ومعهم الرّفاق الأربعة الباقون. فذبحوا المُلاّ علي السّبزواري الّذي كان يخطب في الجمع الحاشد ويمجّد شهادته الوشيكة، ومزّقوا جسده برفش وهو ما زال حيًّا وهشّموا رأسه بالحجارة تشهيمًا. وفي حيّ آخر، وعلى مقربة من بوابة مهريز، قتلوا محمّد باقر. وفي ميدان الخان حين ازداد صخب الموسيقى فطغى على صياح النّاس، ضربوا أعناق من بقي لديهم من الأحياء. كانا أخوين في فواتح عقدهما الثّالث، وهما علي أصغر ومحمّد حسن، فبقروا بطن محمّد حسن وانتزعوا كبده وقلبه. ورفعوا رأسه على رمح يتراقص على أنغام الموسيقى وهم يمشون في طرقات المدينة ثم علّقوه على شجرة توت ورجموه بالحجارة. وألقوا بجثمانه على عتبة دار أمّه حيث دخلت النّساء إليها فرقصن احتفالاً باستشهاده، بل لقد أخذوا بعض أجزاء جسميهما للتّداوي بها. وأخيرًا شدّوا رأس محمّد حسن إلى أسفل جسده وحملوا جسده وأجساد الشّهداء الآخرين إلى خارج المدينة ورجموها بالحجارة بعنف ووحشيّة حتّى تحطّمت جماجمها. ثمّ أرغم هذا الحشد اليهود على أن يحملوا كلّ هذه الأشلاء ويلقوا بها في حفرة في سهل السّلسبيل. وأعلن الحاكم العطلة الرّسميّة للنّاس، وأغلقت الحوانيت بأمره، وأضيئت المدينة ليلاً وأقيمت معالم الزّينة والاحتفال وأقيمت الولائم إيذانًا بانتهاء فعل من أنكر ما ارتكب في التّاريخ الحديث واشدّها بربريّة ووحشيّة.
لا، بل إنّ من آمن من اليهود في همدان ومن الفارسيّين([3]) في يزد لم يسلموا من هجمات الأعداء الّذين أفقدتهم صوابهم تلك الشّواهد الواضحة اللاّئحة على تغلغل نور الدّين في أحياء ومناطق كانوا يتصوّرون أنّها ممتنعة عليه ومحصّنة ضدّه. وأكثر من ذلك إنّ الجالية الشّيعيّة الّتي استقرّت مؤخّرًا في مدينة عشق آباد غاظها تزايد نفوذ أتباع حضرة بهاء الله الّذين كانوا يعيشون بينهم، فحرّضوا وغدين من أوغادهم على اغتيال الحاج محمّد رضا الإصفهاني فطعناه في السّوق وفي رابعة النّهار فيما لا يقلّ عن اثنين وثلاثين موضعًا من جسمه، وبقرا بطنه وشقّا صدره وأصابا كبده وأثبتت المحكمة العسكريّة الّتي أرسلها القيصر إلى عشق آباد التّهمة على الشّيعة بعد تحقيق طويل وحكمت على اثنين منهم بالإعدام وعلى ستّة آخرين بالنّفي، وهو حكم لم يستطع ناصر الدّين شاه ولا علماء طهران ومشهد وتبريز، الّذين لجأت إليهم الجالية الشّيعيّة، أن يخفّفوه. ولكن مندوبي الجامعة المظلومة المفجوعة تدخّلوا تدخّلاً رائعًا أدهش السّلطات الرّوسيّة كثيرًا، ونجحوا في أن يخفّفوا العقوبة!
هذه ليست سوى بعض النّماذج من المعاملة الّتي عامل بها خصوم الدّين أتباعه النّاهضين من جديد أثناء نفي حضرة بهاء الله في عكّاء، وهي معاملة يمكن أن توصف بحقّ بأنّها تمثّل “بهيميّة الحيوان وجهنّميّة الشّيطان”.
تلك المظالم وهذا التّنكيل المخيف الّذي تلا محاولة اغتيال ناصر الدّين شاه زوّدت الدّين “بحيويّة لا يمكن لأيّ شيء آخر أن يزوّده بها”، على حدّ قول اللّورد كرزون من كدلستون نفسه. وقد ساعد تجدّد الاضطهاد وتجّدد إراقة دماء الشّهداء على إنعاش الجذور الّتي ضربتها تلك الشّجيرة المقدّسة في تربة وطنها، فتضاعف أتباع حضرة بهاء الله في صمت، واستجمعوا في سكون القوّة الّتي مكّنتهم فيما بعد من أن يتحرّروا وأن يؤسّسوا نظامهم الإداريّ غير عابئين بسياسة الحديد والنّار الّتي كانت تهدف إلى القضاء عليهم، ولا مبالين بالضّربات الوجيعة المحزنة الّتي كانت تنهال على قائدهم الّذي أبعد عنهم قسرًا، ولا متأثّرين بالمفاسد الّتي ارتكبها النّاقض الأعظم لميثاق حضرة الباب.
وفي معرض الإشارات الّتي أراد بها اللّورد كيرزون أن يصحّح “الاضطراب العظيم والخطأ الجسيم الّذي وقع فيه كتّاب أوروبّا ولا سيما الإنجليز” في الأمر المبارك كتب، بعيد زيارته لإيران في خريف سنة 1889، يقول: “إنّ الاعتقاد السّائد الآن هو أنّ البهائيّين يضمّون بينهم تسعة عشر جزءًا من عشرين جزء من البابيّين”. ومن قبل ذلك بكثير كتب الكونت دي جوبينو سنة 1865م يقول “إنّ الاعتقاد السّائد هو أنّ البابيّين يتغلغلون في جميع طبقات المجتمع وبين رجال الدّين ما عدا النّصيريّين والمسيحيّين. ويظنّ أنّهم منتشرون، فوق كلّ شيء، بين الطّبقات المستنيرة وأهل الفنون في البلاد. وهناك سبب وجيه للاعتقاد بأنّ البابيّين يضمّون كثيرًا من المجتهدين النّابهين والعلماء البارزين والقضاة الممتازين، كما يضمّون رجالاً يشغلون مناصب مهمّة في البلاط ومقرّبين من شخص الشّاه. وبمقتضى إحصاء أجري أخيرًا فإنّ في طهران خمسة آلاف من هؤلاء القوم من سكّانها البالغين ثمانين ألف نسمة على وجه التّقريب”، وأضاف يقول: “… إنّ البابيّة أثّرت تأثيرًا ملحوظًا في عقليّة الأمّة الإيرانيّة، بل إنّها لتمتدّ خارج حدود إيران فتطرّز حواشي ولاية بغداد وتتوغّل في الهند”، وقال مرّة أخرى: “…إنّها حركة دينيّة فريدة فّذة تشتغل بها اليوم بحرارة آسيا الوسطى، أي إيران وبعض جهات الهند وجزء من تركيّة آسيا، وما حول بغداد، وهي حركة رائعة جديرة بالدّراسة من كلّ الوجوه، فهي تساعدنا على رؤية تطوّرات وحوادث وظواهر وكوارث لا يسع الإنسان تصوّر وقوعها إلاّ في الأزمان الّتي شهدت مولد الدّيانات العظمى”.
وفضلاً عن ذلك أشار اللّورد كرزون إلى إعلان رسالة حضرة بهاء الله وعصيان ميرزا يحيى فقال: “على أنّ هذه التّقلبات لم تقلّل دعايتها بحال من الأحوال بل يبدو أنّها عزّزتها بحيث تقدّمت بسرعة لم يفهمها كلّ من اعتبرها صورة فجّة من الاختمار السّياسي أو حتّى الميتافيزيقي. وإنّ أقلّ تقدير لتعداد البهائيّين في الوقت الحاضر يشير إلى أنّهم يبلغون نصف مليون نسمة في إيران. ونتيجة لمحادثاتي مع من أثق في صدق حكمهم على الأمور فإنّي أميل إلى الاعتقاد بأنّ تعدادهم يناهز المليون نسمة”. وأضاف إلى ذلك: “وأنت تجدهم في كلّ منحًى من مناحي الحياة، من نبيل البلاط والوزير إلى الكنّاس والخادم بل إنّهم لم يقصّروا عن إدخال رجال الدّين في دائرة نشاطهم” وشهد شهادة أخرى فقال: “لمّا وجدت البابيّة نفسها في صراع مع السّلطات المدنيّة من سنواتها الباكرة، ولمّا حاو بعض البابيّين الاعتداء على حياة الشّاه استنتج النّاس خطأ أنّها حركة سياسيّة في أصلها، فوضويّة إرهابيّة في طبيعتها… والبابيّون في الوقت الحاضر مخلصون للتّاج إخلاص غيرهم من أبناء الشّعب. كما أنّ اتّهام هذه الحركة الشّابّة بالاشتراكيّة والشّيوعيّة والإباحيّة الّتي عرفها وأوصى بها [يعني حضرة الباب] هي بعينها شيوعيّة الإنجيل والكنيسة الأولى ألا وهي اشتراك المؤمنين في الخيرات على قدم المساواة والتّصدّق والإحسان السّخيّ. أمّا تهمة الإباحيّة فيبدو أنّها نشأت عن افتراءات الخصوم المغرضة نظرًا للحرّيّة الكبيرة الّتي منحها الباب للنّساء. وفي منطق العقليّة الشّرقيّة قلّما تنفصل حرّيّة المرأة عن الفسق والفجور”. وأخيرًا إليك التّكهنات الّتي كتبها: “إذا اطّرد نمو البابيّة بالمعدّل الّذي تنمو به الآن أمكن تصوّر حلول وقت يحلّ محلّ الدّين المحمّدي في إيران. ولو أنّ البابيّة برزت إلى حيّز الوجود تحت راية عدوانيّة لكان من المستبعد إطلاقًا أن تفعل ذلك. ولكن طالما أنّها تكسب رجالها من خيرة الصّفوف الّتي تهاجمها فإنّ هناك سببًا أوجه للقول بأنّها قد تسود في النّهاية”.
لم يستطع حبس حضرة بهاء الله في سجن عكّاء ولا الشّدائد المضاعفة الّتي عاناها، ولا الامتحان الطّويل الّذي امتحن به أتباعه في إيران أن يوقف أو يعرقل في أقلّ القليل مجرى التّنزيل الإلهيّ الّذي كان يفيض من قلمه بلا انقطاع، وهو التّنزيل الّذي سوف يعتمد عليه توجيه دينه وتماسك كيانه ورسوخ بنيانه واتّساع نطاقه اعتمادًا مباشرًا. والواقع أنّ آثاره الّتي كتبها أثناء السّنوات الّتي قضاها في السّجن الأعظم تفوق في حجمها ومجالها تلك الفيوضات الّتي انهمرت من قلمه في أدرنة أو بغداد. ولمّا كان هذا التّوسع المنقطع النّظير في مجال آثاره أثناء سنوات نفيه في السّجن أشدّ أهمّيّة وبروزًا من التّحوّل الأساسيّ في ظروف حياته في عكّاء، ولمّا كانت نتائجه الرّوحيّة أعمق أثرًا وأبعد مدى من حملة الاضطهاد والقمع الّتي شنّها الأعداء في وطنه بلا هوادة، فإنّ هذا التّوسّع يعتبر مرحلة من أعظم مراحل تطوّر دينه إنعاشًا وأكثرها ازدهارًا وإثمارًا.
هذه الزّوابع الهوجاء الّتي عصفت بالدّين في بداية ولاية حضرة بهاء الله، وتلك العزلة الشّتويّة الّتي ميّزت افتتاح رسالته الإلهيّة بعد نفيه من طهران مباشرة، تلاها في الجزء الأخير من إقامته ببغداد ما يمكن أن يوصف بالسّنوات الرّبيعيّة من رسالته، فهي السّنوات الّتي شهدت انطلاق القوى الكامنة في البذرة الإلهيّة الّتي ظلّت هامدة خامدة منذ القضاء المفجع على مبشّره الفريد انطلاقًا سافرًا ملموسًا. وببلوغه أدرنة وإعلانه رسالته هناك علا كوكب ظهوره إلى السّمت وسطع في أوج مجده الصّيفي كما يشهد أسلوب آثاره ولهجتها. ثم جاءت فترة حبسه في سجن عكّاء جالبة معها اكتمال عمليّة البلوغ البطيئة، فكانت فترة نضجت فيها أشهى ثمار تلك الرّسالة واكتملت.
وإذا استعرضنا الميدان الفسيح الّذي انسحبت عليه آثار حضرة بهاء الله أثناء تلك الفترة اتّضح لنا أنها تنقسم إلى ثلاث مجموعات متميّزة. تشمل أولاها الآثار الّتي تعتبر نتائج إعلان رسالته في أدرنة. وتتضمّن ثانيتها شرائع دورته وأحكامها الّتي سجل معظمها في كتابه الأقدس. أمّا ثالثتها فتندرج تحتها الألواح الّتي تعلن وتؤكّد العقائد الأساسيّة والمبادئ الجوهريّة الّتي تقوم عليها تلك الدّورة.
كان إعلان رسالته موجهًا، كما لاحظنا من قبل، إلى ملوك الأرض بصفة خاصّة. ذلك لأنّهم، بحكم ما لهم من قوّة وسلطان تقع على كاهلهم مسؤوليّة التّحكّم في مصائر شعوبهم، وهي مسؤوليّة فريدة لا مفرّ لهم منها. إلى هؤلاء الملوك وإلى رجال الدّين في الأرض، أولئك الّذين لا يقلّ تأثيرهم على جموع أتباعهم قوّة ونفاذًا، وجّه سجين عكّاء دعواته وإنذاراته ومناشداته في غضون السّنوات الأولى من حبسه في تلك المدينة، وقد أكّد ذلك فقال: “إنّا لمّا وردنا السّجن أردنا أن نبلّغ إلى الملوك رسالات ربهم العزيز الحميد. ولو أنّا بلّغنا ما أمرنا به في ألواح شتّى، هذه مرّة أخرى فضلاً من الله”.
إلى ملوك الأرض في الشّرق والغرب، المسلم منهم والمسيحيّ، أولئك الّذين لام معشرهم وحذرهم في سورة الملوك النّازلة من قبل في أدرنة، والّذين دعاهم حضرة الباب دعاءً جبّارًا في فاتحة “قيّوم الأسماء” النّازلة ليلة بعثته، وجّه حضرة بهاء الله أثناء أحلك أيّام سجنه في عكّاء بعضًا من أهم آيات كتابه الأقدس الكريمة يدعوهم فيها إلى أن يستمسكوا بـ”الناموس الأكبر”، وينادي بنفسه “المالك” و”المقصود”. ويعلن لهم فيها أنّهم هم “المماليك” و”مظاهر القدرة”، ويتبّرأ لهم من أيّة نيّة في الاستيلاء على ممالكهم ويأمرهم بأن يهجروا قصورهم ويسرعوا إلى الفوز بالدّخول في ملكوته ويمتدح الملك الّذي ينهض نصرة أمره ويصفه بأنّه “بمنزلة البصر للبشر”. ويلقي عليهم آخر الأمر تبعة تلك الشّدائد الّتي أصابته على أيديهم.
وفي لوحه إلى الملكة فيكتوريا يدعو هؤلاء الملوك أيضًا إلى التّمسك “بالصّلح الأصغر” بعد أن رفضوا “الصّلح الأكبر”، ويناشدهم أن يصلحوا ذات بينهم، ويتّحدوا وينزعوا سلاحهم، وينهاهم عن إرهاق شعوبهم وأتباعهم الّذين يصفهم بقوله إنّهم “خزائن” لهم و”أمانات” عندهم، ويعلن المبدأ القائل بأن يقوموا قومة رجل واحد في وجه من يقوم ضدّ غيره، ويحذّرهم أن يعاملوه كما عامله “ملك الإسلام” ووزراؤه.
وإلى إمبراطور الفرنسيّين نابليون الثّالث، أعظم ملوك عصره وأقدرهم، ذلك الّذي وصفه بأنّه “سلطان الزّمان” والّذي “نبذ لوح الله وراءه” كما يصفه حضرة بهاء الله في اللّوح الأوّل الّذي نزّل له في أدرنة، وجّه حضرة بهاء الله في ثكنات عكّاء لوحًا ثانيًا وأرسله إليه على يد المعتمد الفرنسيّ في عكّاء. في هذا اللّوح يعلن للإمبراطور مجيء “المختار” ليحيي الأكوان ويوحّد الشّعوب، ويؤكّد تأكيدًا قاطعًا أنّ السّيّد المسيح كان مبشّرا برسالته، ويصرّح بسقوط “أنجم سماء العلم” الّذين أعرضوا عنه، ويفضح نفاق ذلك الملك ويتنبّأ في وضوح بأن “المُلك يخرج من كفّه” وأنّ “الزّلازل تأخذ كلّ القبائل هناك” إلاّ إذا قام على نصرة أمر الله واتّباع من هو روحه.
وفي آيات خالدات أخرى [من الأقدس] يخاطب “ملوك أمريقا ورؤساء الجمهور فيها” ويدعوهم بقوله: “زيّنوا هيكل المُلك بطراز العدل والتّقى ورأسه بإكليل ذكر ربّكم”، ويعلن أنّ “الموعود” قد ظهر، وينصح لهم أن يغتنموا “يوم الله”، ويأمرهم أن “اجبروا الكسير بأيادي العدل، وكسروا الصّحيح الظّالم بسياط أوامر ربّكم الآمر الحكيم”.
وإلى نيقولاويج إسكندر الثّاني قيصر روسيا القدير، يوجّه، وهو نزيل الثّكنات، لوحًا يعلن فيه مجيء الآب الموعود “المذكور بلسان إشعياء” والّذي “زيّن باسمي التّوراة والإنجيل”، ويأمره بأن “قم… ثم ادعُ الأمم إلى الله، ويحذّره خشية أن يحجبه المُلك عن “المالك”، ويعترف بالمساعدة الّتي قدّمها له سفيره في طهران، ويحذّره أن يخسر المكانة الّتي قدرها له الله.
وفي غضون الفترة نفسها يوجّه لوحًا إلى الملكة فيكتوريا يدعوها فيه إلى أن تعير أذنًا صاغية لنداء مولاها مالك الأنام، ويأمرها فيه أن “ضغي ما على الأرض” وأن تُقبِل بقلبها إلى ربّها جمال القدم، ويؤكّد لها أن قد “كمل ما ذكر في الإنجيل”، وأنّ ربّها سيكافئها على أنّها قد “منعت بيع الغلمان والإماء إن هي اتّبعت ما أرسله إليها، ويثني عليها لأنّها أودعت زمام المشورة بأيادي الجمهور”، ويهيب بهؤلاء أن “يكونوا أمناء بين العباد، ويروا أنفسهم وكلاء لمن على الأرض كلّها”، وأن يحكموا بين النّاس “بالعدل الخالص”.
وفي فقرة رائعة من الأقدس موجّهة إلى ولهلم الأوّل ملك بروسيا، الّذي نودي به آنذاك إمبراطورًا على ألمانيا المتّحدة، يأمر الإمبراطور أن يستمع إلى صوته فهو صوت الله، ويحذّره ألاّ يمنعه الغرور عن عرفان مشرق الظّهور، ويعظه أن “اذكر من كان أعظم منك شأنًا وأكبر منك مقامًا” [يعني نابليون الثّالث] “رجع إلى التّراب بخسران مبين”. ويلتفت في ذلك الكتاب إلى “شواطئ نهر الرّين” فيراها “مغطّاة بالدّماء بما سلّ عليك سيوف الجزاء” ويرتفع “حنين البرلين ولو أنّها اليوم على عزٍّ مبين”.
وفي فقرة بارزة أخرى من ذلك الكتاب موجّهة إلى فرانسوا جوزيف إمبراطور النّمسة ووارث الإمبراطوريّة الرّومانيّة المقدّسة يؤنّب حضرة بهاء الله الإمبراطور على إغفاله الاستفسار عنه أثناء رحلته إلى بيت المقدس، ويشهد الله على أنّه وجده “متمسّكًا بالفرع غافلاً عن الأصل”، ويأسف لضلاله، ويأمره بأن يفتح البصر وينظر إلى “النّور المشرق من هذا الأفق اللّميع”.
وإلى عالي باشا، صدر تركيا الأعظم، يوجّه حضرة بهاء الله بعد قدومه السّجن بقليل لوحًا ثانيًا يعنّفه فيه على قسوته الّتي بها “سعّر السّعير وناح الرّوح”، ويعدّد له ألوان الاضطهاد الّتي ارتكبها ضدّه، ويحكم عليه بأنّه من زمرة الّذين أدانوا النّبيّين منذ الأزل بأنّهم من المفسدين، ويتنبّأ بسقوطه، ويسهب القول في ذكر آلامه وآلام المنفيّين معه، ويثني على ثباتهم وخلوصهم وانقطاعهم، ويتنبّأ بأنّ نقمة الله المنتقم سوف تنزل عليه وعلى حكومته، وأنّ الهرج والمرج سوف يسود بينهم، وأنّ الولايات سوف تخرج من أيديهم، ويؤكّد له أنّه لو أفاق من غفلته لخرج عن كلّ أمواله وفضّل أن يسكن “في غرفة خربة من غرفات هذا السّجن الأعظم”. وفي لوح فؤاد يؤكّد نبوءته السّالفة الذّكر، في معرض إشارته إلى الموت العادل الّذي اختطف فؤاد باشا وزير خارجيّة السّلطان فيقول: “سوف نعزل الّذي كان مثله [يعني عالي باشا] ونأخذ أميرهم الّذي يحكم على البلاد [يعني السّلطان عبد العزيز] وأنا العزيز الجبار”.
وإلى رجال الدّين من كلّ ملة من ملل العالم وجّه حضرة بهاء الله رسائل يستقلّ بعضها بألواح كاملة خاصّة، ويشيع بعضها الآخر في آثاره الأخرى. وهي لا تقلّ قوّة ولا روعة عن تلك الّتي وجهها إلى الملوك. وفيها يعلن مطالب ظهوره بلا غموض ولا تحفّظ، ويدعوهم إلى الاستماع إلى ندائه، ويكشف في بعض الحالات الخاصّة عن ضلالهم البعيد وغرورهم الشّديد وطغيانهم البغيض.
ففي فقرات خالدة من الأقدس وفي ألواح أخرى يأمر معشر رجال الدّين طرًّا أن “اتقوا الله” وأن “خذوا أعنّة الأقلام… ضعوا الظنون والأوهام متوجّهين إلى أفق أشرق منه نيّر الإيقان”. ويحذّرهم ألاّ “تزنوا كتاب الله [يعني الأقدس] بما عندكم من القواعد والعلوم” ويصف ذلك الكتاب بأنّه “قسطاس الحقّ بين الخلق” ويتوجّع لعماهم وضلالهم، ويؤكّد تفوّقه في الإلهام والبصيرة والحكمة والمنطق ويعلن عن علمه اللّدنّي وعرفانه الغيبيّ، ويحذّرهم ألاّ “تحجبوا النّاس بحجاب آخر” بعد أن “خرق الأحجاب”، ويتّهمهم بأنّهم هم “علّة الإعراض في أوّل الأمر”، ويدعوهم إلى أن “اقرأوا ما نزّل بالعدل والإنصاف” وألاّ “تدحضوا الحقّ” بما عندهم.
وإلى البابا بيوس التّاسع، رأس أقوى كنيسة مسيحيّة بلا نزاع، والجامع بين السّلطة الرّوحيّة والزّمنيّة، يوجّه حضرة بهاء الله، وهو نزيل ثكنات الجيش في عكّاء، لوحًا على أعظم جانب من الأهمّيّة والخطورة، إذ أعلن له فيه أنّه “قد أتى ربّ الأرباب في ظلَـلِ السّحاب” وأنّه “قد ظهرت الكلمة الّتي سترها الابن”، ويحذّره، فضلاً عن ذلك، ألاّ يجادله كما جادل الفريسيّون السّيّد المسيح، ويأمره أن يترك القصور لمن يحبّون القصور وأن “بع ما عندك من الزّينة المزخرفة ثمّ أنفقها في سبيل الله” وأن يتنازل عن مملكته للملوك و”اطلع… ثم انطق بذكر ربّك بين الأرض والسّماء” وأن يدعو النّاس للدّخول في دينه. ولمّا كان يعتبره شمسًا من شموس سماء الأسماء فهو يحذّره “ألاّ تغشاه الظّلمة وتحجبه عن النّور”. ويناشده أن “انصح الملوك قل أن اعدلوا بين النّاس”، وينصح له بأن يمشي في أثر مولاه، وأن يحذو حذوه.
وإلى بطارقة الكنيسة المسيحيّة وجّه نداءً خاصًا يعلن لهم فيه مجيء الموعود، ويدعوهم إلى أن “يتقوا الله” وأن “يخرقوا حجب الأوهام” ويوصيهم بأن يضعوا ما عندهم و”خذوا ما أرسلناه إليكم بقدرة”. وإلى رؤساء الأساقفة أعلن أيضًا أن “الرّبّ الّذي هو الآب قد أتى” وأنهم يعدّون “من الأموات” وأنّه “طوبى لراقد انتبه من نسماتي، طوبى لميّت حيّ من نفحاتي”. وفي فقرات موجّهة إلى الأساقفة يعلن أنّ “الرّبّ هو الآب قد أتى بمجده الأعظم بين الأمم”. ويفهم بأنّهم النّجوم الهاوية من سماء العرفان، ويؤكّد لهم أن “جسد الحبيب يشتاق الصّليب” وأنّ رأسه “أراد السّنان في سبيل الرّحمن”. ويأمر القساوسة أن “دعوا النّواقيس” وأن يخرجوا من كنائسهم، ويهيب بهم أن “تصيحوا بين الأمم بهذا الاسم الأعظم”. ويؤكّد لهم أنّه ما من أحد يدعو النّاس باسمه إلاّ “ويظهر منه ما يعجز عنه من على الأرض كلّها”. وينذرهم أن قد “أتت السّاعة”، وينصح لهم أن يرجعوا بقلوبهم إلى الله الغفور الكريم. وفي الفقرات العديدة الموجّهة إلى “ملأ الرّهبان” يأمرهم ألا يعتزلوا النّاس في الصّوامع والأديرة، وأن يشتغلوا بما ينفعهم وينتفع به العباد، ويأمرهم بالزّواج، ويؤكّد لهم أنّهم إن اتّبعوه جعلوا ورثة ملكوته، وإن عصوه وتعصّبوا عليه تحمّل ذلك بصبر وأناة.
وأخيرًا، في فقرات عدّة موجهة إلى أتباع السّيّد المسيح كافة، يوحّد بين نفسه وبين “الآب” الّذي أخبرهم به إشعياء و”المعزّي” الّذي أخذ عهده الرّوح [عيسى] و”روح الحقّ الّذي يرشدهم إلى جميع الحقّ”. ويعلن أنّ يومه هو يوم الله، وينبئهم باتّصال نهر الأردنّ “بالبحر الأعظم”، ويؤكّد لهم غفلتهم، وأنّه قد فتح لهم الأبواب “ليدخل العالم في ملكوته الأقدس”. وينبّه على أنّ “الهيكل” الموعود قد تمّ تعميره “بأيدي القدرة والاقتدار” من لدن ربّهم القويّ المنّان، ويأمرهم بأن “اخرقوا الأحجاب” ليدخلوا ملكوته باسمه، ويذكّرهم بقول السّيد المسيح لبطرس ويعدهم بأن يجعلهم “علّة حياة العالم” إن هم اتّبعوه.
وإلى معشر رجال الدّين الإسلامي خصّص حضرة بهاء الله فقرات لا حصر لها ولا عدّ في كتبه وألواحه يندّد فيها بقسوتهم في لهجة متدفّقة، ويفضح غرورهم وكبرياءهم وصلفهم وغطرستهم ويدعوهم فيها إلى ترك ما عندهم، وأن يعزفوا عن الجدل وأن يعيروا أذنًا صاغية واعية للكلمات الّتي نطق بها، ويؤكّد لهم أنّ أفعالهم كانت سببًا في أن “انحطّ شأن الملّة ونكّس علم الإسلام وثلّ عرشه العظيم”. وإلى “معشر علماء إيران” خاصّة يوجّه اللّوم والتّقريع والتّنديد بأعمالهم وينبئهم بأن “يبدّل عزّكم بالذّلّة الكبرى” وأنّهم سوف يشهدون العقاب الّذي ينصبّ عليهم “من الله الآمر الحكيم”.
وإلى الشّعب اليهوديّ يعلن أيضًا أنّه قد جاء النّاموس الأعظم و”يحكم جمال القدم على كرسيّ داود” الّذي يصيح ويدعو باسمه وأنّه “**من صهيون أتى المكنون” و”**من أورشليم ارتفع نداء الله الواحد الفرد العليم”.
وإلى دساتير الزّرادشتيّين يعلن فضلاً عن ذلك أنّ “*المحبوب الفرد” قد ظهر وأنّه “*يقول ما فيه النّجاة” وأنّ “*يد القدرة ظاهرة من وراء السّحاب”، وأنّ آيات جلاله وعظمته واضحة لائحة، وأعلن أنّه “*لن يقبل اليوم عمل أحد من النّاس إلاّ عمل النّفس الّتي انقطعت عن النّاس وما عندهم وأقبلت إلى الله”.
وفي لوحه للملكة فيكتوريا ترد بعض الفقرات الهامّة موجّهة إلى أعضاء البرلمان الإنجليزيّ، أبي البرلمانات، وإلى مجلس الأمّة لدى الشّعوب الأخرى، يؤكّد فيها أنّ هدفه هو تقدّم العالم وتوحيد شعوبه ويذكر ما عاناه من شدائد على أيدي أعدائه ويهيب برجال التّشريع أن “تدبروا وتكلّموا فيما يصلح به العالم” ويؤكّد أنّ “الدّرياق الأعظم والسّبب الأتمّ لصحته اتّحاد من على الأرض على أمر واحد وشريعة واحدة” و”هذا لا يمكن أبدًا إلاّ بطبيب حاذق كامل مؤيّد”. ويوصي في كتابه الأقدس، فضلاً عن ذلك، باختيار لغة واحدة وخطّ واحد يستخدمه عالم واحد، وهي وصيّة يعتبر تنفيذها دليلاً على “بلوغ العالم” حسب تأكيده في ذلك الكتاب.
أمّا الكلمات الّتي وجهها “لأهل البيان” على حدة، وإلى حكماء العالم وشعرائه وأدبائه ومتصوّفيه بل وإلى تجّاره هي لا تقل معنًى ولا مغزًى، إذ يدعوهم فيها إلى الاهتمام به والانتباه إلى صوته والإيمان بيومه وإطاعة أوامره وأحكامه.
تلك هي، على وجه الاختصار، الملامح البارزة للبيانات الختاميّة من هذا الإعلان التّاريخيّ، وهي البيانات الّتي بدأت نغماتها الافتتاحيّة تصدح أثناء الجزء الأخير من نفي حضرة بهاء الله إلى أدرنة، وانتهت أثناء السّنوات الأولى من سجنه في عكّاء. دعا بها الملوك والأباطرة جماعة وأفرادًا، ورؤساء جمهوريّات القارّة الأمريكيّة والوزراء والسّفراء والبابا وخليفة نبيّ الإسلام والمليك الأمين على دولة الإمام الغائب، وملوك العالم المسيحيّ وبطارقته وأساقفته وقساوسته ورهبانه، ورؤساء السّنّة والشّيعة، ودساتير دين زرادشت، والفلاسفة والمفكّرين ورجال الدّين والحكماء وأهل الآستانة، مقر السّلطنة والخلافة المتغطرس، ومعاشر الزّرادشتيّين واليهود والمسيحيّين والمسلمين، وأهل البيان وقادة الفكر في العالم والأدباء والشّعراء والمتصوّفة والتّجار ونوّاب الشّعوب، وبني جنسه وأهل وطنه. نعم، نودي كلّ هؤلاء بين الحين والآخر في الكتب والرّسائل والألواح ليستمعوا مباشرة إلى النّداءات والتّحذيرات والمناشدات والإنذارات والنّبوءات، أو بعبارة أخرى ليستمعوا إلى كلّ ما يتألّف منه نداؤه الجبّار إلى قادة الجنس البشريّ، ذلك النّداء الّذي يقف فذًّا فريدًا لا شبيه له ولا نظير في تواريخ الأديان السّابقة اللّهم إلاّ رسائل حضرة محمّد رسول الله إلى بعض معاصريه من الحكّام، وإن كانت هذه لا تقدّم إلا شبهًا متواضعًا شاحبًا.
وكيف لا وحضرة بهاء الله نفسه يؤكّد قائلاً: “*منذ بداية الخلق حتّى يومنا هذا لم تبلّغ [رسالة] بمثل هذا البلاغ العلنيّ الشّامل”. وهو يشير إلى الألواح الّتي وجّهها إلى حكّام الأرض، والّتي امتدحها حضرة عبد البهاء فيما بعد ووصفها بأنّها “معجزة”، فيقول: “*سمّي كلّ لوح منها باسم خاص، فسمّي الأوّل بـ”الصيحة”، والثّاني بـ”القارعة”، والثّالث بـ”الحاقّة”، والرّابع بـ”السّاهرة”، والخامس بـ”الطّامة” وكذلك سمّيت الألواح الأخرى بالصّاخّة والآزفة والفزع الأكبر والصّور والنّاقور وأمثال ذلك حتّى يوقن جميع أهل الأرض ويشاهدوا بأبصارهم وبصائرهم أنّ مالك الأسماء كان وما زال غالبًا على البريّة في كلّ الأحوال”. ولقد أمر أن تكتب أهمّ هذه الألواح مع “سورة الهيكل” الزّهراء على هيئة شكل هندسيّ يرمز إلى هيكل الإنسان. وفي أحد ألواحه إلى أهل الإنجيل وحّد بين هذا الهيكل والهيكل الّذي ذكره زكريّا النّبي ووصفه بأنّه “**مشرق الرّحمن المنير”، وأنّه بنته “**أيدي مشيّة ربّكم العزيز الوهّاب”.
ومهما بلغ هذا الإعلان من الفذاذة والرّوعة فإنّه لم يكن سوى فاتحة لكشف أعظم وأخطر عن قوى صاحبِه الخلاَّقة، ومقدّمة لما يمكن أن يحتلّ حقّ، منزلة أبرز عمل تمّ في ولايته، ألا وهو صدور الكتاب الأقدس، هذا الكتاب الأقدس الّذي أشير إليه في كتاب الإيقان، هو المخزن الرّئيس للشّريعة، الّذي تنبّأ به إشعياء النّبي ووصفه صاحب سفر الرّؤيا بـ”السّماء الجديدة” و”الأرض الجديدة” وأنّه “مسكن الله مع النّاس” و”المدينة المقدّسة” و”العروس” و”أورشليم الجديدة النّازلة من السّماء” ويمكن بحقّ أن يعدّ الكتاب الأقدس، الّذي سوف تسري شرائعه وأحكامه غير منقوضة ما لا يقلّ عن ألف سنة، وسوف يحتضن نظامه الكرة الأرضيّة بأسرها، أنصع فيض فاضت به عقليّة حضرة بهاء الله، وأمّ الكتاب في دورته، ودستور نظامه العالميّ الجديد.
بعد أن انتقل حضرة بهاء الله إلى منزل عودة خمّار (حوالي سنة 1873م) بقليل وفي غمرة الشّدائد الّتي عاناها على يد أعداء الدّين ومواليه على السّواء نزل الكتاب الأقدس، ذلك الكنز الّذي يضمّ بين دفّتيه جواهر إلهامه النّفيسة. وبفضل المبادئ الّتي يقرّرها، والمؤسّسات الإداريّة الّتي ينصّ عليها، والوظائف الّتي يزوّد بها خليفة صاحبه، فإنّ هذا الكتاب يقف فريدًا فذًّا لا شبيه له ولا نظير من بين سائر كتب العالم المقدّسة. فعلى خلاف العهد القديم وما سبقه من الكتب المقدّسة حيث انعدمت تمامًا الأقوال الّتي نطق بها الرّسل أنفسهم، وعلى خلاف الأناجيل حيث لا تقدّم الأقوال القليلة المنسوبة إلى السّيّد المسيح إرشادات واضحة فيما يتّصل بالتّنظيم الإداريّ لأمور دينه فيما بعد، بل وعلى خلاف القرآن الّذي نراه صامتًا حيال موضوع بالغ الأهمّيّة كالخلافة، رغم وضوحه الشّديد فيما يتعلّق بالأحكام والشّرائع الّتي نصّ عليها، فإنّ الكتاب الأقدس يمتاز بأنّه نزّل من أوله إلى آخره بقلم صاحب الدّورة نفسه، وأنّه لم يحتفظ للأجيال بالشّرائع الأساسيّة والأحكام الجوهريّة الّتي يقوم عليها صرح النّظام العالميّ المقبل فحسب بل واختصّ خليفته بمهمّة التّبيين كما نصّ على الهيئات الّتي لا يمكن للدّين أن تصان سلامته ويؤمن تماسكه وصلابته إلاّ بها هي وحدها. في دستور الحضارة العالميّة القادمة هذا يعلن صاحبه، وهو ديّان الجنس البشري ومشرّعه وموحّده ومخلّصه في آن واحد، لملوك الأرض مجيء “النّاموس الأكبر”، ويصفهم بالمماليك وينادي بنفسه “المالك”، ويتبّرأ من أيّة نيّة له من التّصرّف في ممالكهم محتفظًا لنفسه بحقّ التّصرف في القلوب، ويحذّر رجال الدّين في العالم ألاّ يزنوا “كتاب الله” بما عندهم من الموازين المتداولة بينهم مؤكّدًا أنّ ذلك الكتاب هو “قسطاس الحقّ” بين الخلق. وفي هذا الكتاب ينصّ على مؤسّسة “بيت العدل” ويعرّف مهمّاته ويحدّد موارده ويصف أعضاءه بأنّهم “رجال العدل” و”وكلاء الله” و”أمناء الرّحمن” ويشير إلى مركز عهده وميثاقه في المستقبل ويزوّده بحق تبيين تعاليمه المقدّسة، ويسلف الإشارة الضّمنيّة إلى مؤسّسة ولاية الأمر، ويشهد لنظامه العالميّ بالتّأثير الانقلابيّ، ويعلن مبدأ “العصمة الكبرى” لمظهر الله مؤكّدًا أنّ هذه العصمة هي حقّ فطري مطلق لمظهر الله، وينفي احتمال ظهور مظهر إلهيّ آخر قبل انقضاء ما لا يقلّ عن ألف سنة.
وفي هذا الكتاب أيضًا يفرض الصّلاة، ويحدّد ميقات الصّيام ومدّته، ويرفع حكم صلاة الجماعة إلاّ على الميت، ويعيّن القبلة، ويقرّر حقوق الله، ويضع أحكام المواريث، وينصّ على مؤسّسة مشرق الأذكار، ويقيم الضّيافات التّسع عشريّة ويحدّد الأعياد البهائيّة وأيّام الهاء، ويلغي مؤسّسة رجال الدّين، ويحرّم الرّقّ والتّصوّف والتّسوّل والرّهبنة وشعيرة الاعتراف واستخدام المنابر وتقبيل الأيدي، ويوصي بالزّواج من واحدة، ويستنكر القسوة على الحيوان، وينهي عن الكسل والتّواكل والغيبة والافتراء، وينفّر من الطّلاق، ويحرّم الميسر وتعاطي الأفيون والخمر وكلّ ما يذهب به العقل، ويحدّد عقوبة القتل وإحراق البيوت عن عمد والزّنى والسّرقة، وينبّه على أهمّيّة الزّواج ويعيّن شروطه الرّئيسة. ويفرض الاشتغال بالمهن والحرف جاعلاً هذا الاشتغال غين العبادة. ويؤكّد ضرورة التّكفّل بتعليم الأبناء، ويكلّف كلّ إنسان بكتابة وصيّته ويقرّر ضرورة إطاعة الحكومة إطاعة دقيقة كاملة.
فإذا تجاوزنا هذه الأحكام، فإنّ حضرة بهاء الله يدعو أتباعه إلى أن يعاشروا مع الأديان بالرّوح والرّيحان دون تمييز ولا تفريق، ويحذّرهم من التّعصّب والفتنة والكبر والغرور والجدال والنّزاع. ويفرض عليهم الطّهارة ظاهرًا وباطنًا ويوصيهم بالصّدق المطلق والعفّة النّاصعة والأمانة الكاملة والكرم والإخلاص ولطف المعشر والتّسامح والعدل والإنصاف. وينصح لهم أن يكونوا “كالأصابع في اليد والأركان للبدن”. ويهيب بهم ان يقوموا على خدمة أمره مؤكّدًا لهم تأييده المبين. وهو فضلاً عن ذلك يتدبّر اضطراب أحوال بني البشر، فيعلن أن حرّيّة الفرد الحقيقيّة إنّما هي في امتثاله لأوامره، ويحذّرهم من التّهاون في العمل بحدوده وأحكامه. ويفرض عليهم ذلك الواجب التّوأم المزدوج الّذي لا انفصام له، ألا وهو “عرفان مشرق وحيه ومطلع أمره” والعمل بما أنزل في كتابه مؤكّدًا لهم أنّ أحدهما لا يغني عن الآخر ولا يقبل أحدهما دون الآخر.
وممّا يزيد في خصوبة محتويات هذا الكتاب، الّذي وصفه صاحبه بأنّه “فرات الرّحمة بين البريّة” و”قسطاس الهدى بين الورى” و”الصّراط الأقوم” و”**المحيي للجنس البشريّ”، اشتماله على ذلك النّداء الخطير الموجّه إلى رؤساء جنهوريّات أمريكا ودعوتهم إلى أن ينتهزوا فرصة يوم الله، ويدافعوا عن قضيّة العدل، ودعوته إلى أعضاء برلمانات العالم، وتشجيعه على اتّخاذ لغة عالميّة واحدة وخطّ عالميّ واحد، وتحذيراته لولهلم الأوّل قاهر نابليون الثّالث، ومؤاخذته لفرانسوا جوزيف إمبراطور النّمسة، وإشارته إلى “حنين البرلين” في التّفاتته إلى “شواطئ نهر الرّين” ونقمته المعلنة على “كرسيّ الظّلم” الّذي استقرّ في الآستانة، وتنبّؤه بزوال “زينتها الظّاهرة”، وبالشّدائد الّتي قدّر لها أن تهاجم أهاليها، وكلمات الفرح والعزاء الّتي يوجّهها إلى عاصمة وطنه [طهران] مؤكّدًا لها أنّ الله اختار لها أن تكون “مطلع فرح العالمين”، ونبوءته بأنّه “نسمع صوت الرّجال” يعلو من خراسان تمجيدًا لربّهم الغنيّ المتعال، وتأكيده بأنّ “أولي بأس شديد” سيظهرون في كرمان ويذكرونه، وأخيرًا تأكيده الرّائع لأخيه الغادر الّذي عذّبه كلّ هذا العذاب أنّ الله “الغفور الكريم” سيغفر له سيّئاته إن هو تاب وأناب.
وقد وصف حضرة بهاء الله تلك الشّرائع والأحكام الّتي تكوّن لحمة هذا الكتاب وسداه بأنّها “روح الحيوان لمن في الإمكان” و”العروة الوثقى” و”**أثمار الشّجرة” و”السّبب الأعظم لنظم العالم وحفظ الأمم” و”سرج عنايته بين عباده” و”عَرفُ قميصه” و”مفاتيح رحمته” للبريّة. ويشهد لهذا الكتاب فيقول: “قل إنّ الكتاب هو سماء قد زيناها بأنجم الأوامر والنّواهي” ويقول علاوة على ذلك: “**طوبى لمن يقرؤه ويتفكّر في ما نزّل فيه من آيات الله المقتدر العزيز المختار، قل يا قوم خذوه بيد التّسليم… لعمري قد نزّل على شأن تتحيّر منه العقول والأفكار، إنه لحجّة العظمى للورى وبرهان الرّحمن لمن في الأرضين والسّموات”. ويقول مرّة أخرى: “طوبى لذائقة يجد حلاوتها ولذي بصر يعرف ما فيها ولذي قلب يطّلع برموزها وأسرارها، تالله يرتعد ظهر الكلام من عظمة ما نزّل والإشارات المقنّعة لشدّة ظهورها”. ويقول مرّة أخرى: “*نزّل الكتاب الأقدس بحيث جاء جاذبًا وجامعًا لجميع الشّرائع الإلهيّة. طوبى للقارئين! طوبى للعارفين! طوبى للمتفكّرين، طوبى للمتفرّسين! ولقد نزل بانبساط وشمول واتّساع بحيث أحاط بالنّاس أجمعين من قبل إقبالهم عليه. سوف يظهر في الأرض سلطانه ونفوذه واقتداره”.
وبعد أن صاغ حضرة بهاء الله شرائع دورته الأساسيّة في كتابه الأقدس أعلن بعض المبادئ والأفكار الّتي تقع في الصّميم من دينه وكانت رسالته تقترب من نهايتها. من ذلك أنّه نبّه من جديد على الحقائق الّتي أعلنها من قبل، وهذّب ووضّح بعض الأحكام الّتي صاغها من قبل، وكشف عن نبوءات وإنذارات أخرى، وسنّ بعض الشّرائع الفرعيّة استكمالاً لمطالب الأقدس. وهذا ما حملته ألواح تجلّ عن الحصر والعدّ ظلّ ينزلها حتّى أواخر أيّامه على هذه الأرض، من أهمّها “الإشراقات” و”البشارات” و”الطّرازات” و”التّجليات” و”الكلمات الفردوسيّة” و”اللّوح الأقدس” و”لوح الدّنيا” و”لوح مقصود”. وكانت هذه الألواح هي آخر الفيوضات الّتي فاضت من قلمه الدّائب الّذي لا يكلّ. وهي تحتلّ مكانتها بين أطيب ما انتجته عقليّته من ثمار، وتشير إلى كمال ولايته الّتي دامت أربعين عامًا.
وأهم المبادئ المودعة في تلك الألواح على الإطلاق مبدأ وحدة الجنس البشريّ وكُلّيّته. وهو المبدأ الّذي يعتبر بحقّ علامة ظهور حضرة بهاء الله الفارقة وقطب تعاليمه البارز. وقد بلغ من أهمّيّة هذا المبدأ أن نصّ عليه في كتاب عهده. كما أعلن، بلا تحفّظ، أنّه هو الغرض المركزي من دينه. فهو يقول: “قد جئنا لاتّحاد من على الأرض واتّفاقهم” ويقول مرّة أخرى: “*إنّ آفاق العالم تنير بأنوار الأمر ما دام الاتّفاق”، وهو يكتب مشيرًا إلى موضوع ظهوره الأساسيّ فيقول: “*نطقنا بلسان الشّريعة حينًا، وبلسان الحقيقة والطّريقة حينًا آخر إلاّ أن مقصدنا الأقصى وغايتنا القصوى هو إظهار هذا المقام السّامي الرّفيع”. وهو يقرّر أنّ الاتحاد هو “*سلطان المقاصد” وهذا الأمل هو “*مليك الآمال” مؤكّدًا أنّ “*العالم في الحقيقة وطن واحد ومن على الأرض أهله”. وهو ينبّه، فضلاً عن ذلك، على أنّ توحيد الجنس البشريّ أمر لا مفرّ منه فهو المرحلة الأخيرة من تطوّر الإنسانيّة نحو البلوغ وأنّه “لعمري سوف نطوي الدّنيا وما فيها ونبسط بساطًا آخر” و”*ترى الأرض حاملة اليوم وعمّا قريب تشاهد أثمارها المنيعة وأشجارها الباسقة وأورادها المحبوبة ونعماءها الجنيّة”. وهو يرثي لقصور النّظم السّائدة، ويكشف عن عدم كفاية حبّ الوطن كقوّة مرشدة ضابطة للمجتمع البشريّ، ويعتبر “حبّ العالم” وخدمة مصالحه وترقيتها أكرم هدف للجهود الإنسانيّة، وأحقّها بالمدح والثّناء. وهو يبدي ألمه لأنّ “** قوّة الإيمان بالله تموت وتضمحلّ في كلّ بلد” وأنّ “*وجه العالم يتّجه إلى الغفلة واللاّدينيّة” معلنًا أنّ “* الدّين هو النّور المبين والحصن المتين لحفظ أهل العالم وراحتهم” وأنّه “*السّبب الأتمّ لنظم العالم”. وهو يؤكّد أنّ الغاية الأساسيّة من الدّين هي ترويج الاتّحاد ونشر الوئام بين النّاس، ويحذّر النّاس من أن يجعلوه سببًا للفرقة والخلاف. ويوصي بأن تعلّم مبادؤه للأطفال في المدارس على نحو لا يولّد التّعصب والتّحيز، وينسب ضلال المارقين إلى اضمحلال قوّة الدّين، ويتنبّأ بوقوع شدائد وأهوال “ترتعد به فرائص العالم”.
وهو لا يتحفّظ حين يدعو إلى الأخذ بمبدأ الأمن الجماعيّ، ويشجّع على أن تخفّض كلّ أمة من سلاحها، وينبّه على أنّ إقامة هيئة عالميّة يلجأ إليها ملوك الأرض وحكّامها لإقرار السّلام بين الأمم أمر ضروري ولا مفرّ منه.
أمّا العدل فيثني عليه ويصفه بأنّه “*سراج العباد” و”*الحارس” لهم، وأنه “*مبيّن أسرار عالم الوجود وحامل راية المحبّة والجود” ويعلن أن شعاعه فريد لا نظير له ولا قرين، وأنّ عليه يجب أن يعتمد “*نظم العالم وراحة الأمم”. ويصف ركنيه، وهما “المجازاة” و”المكافأة”، بأنّهما “ينبوع الحياة” للجنس البشري، ويوصي أهل العالم بأن يتهيّأوا ويجتهدوا انتظارًا لقدومه. ذلك لأنّ شمس العدل سوف تشرق في تمام مجدها وأوج جلالها بعد فترة من الاضطراب العظيم والظّلم الفاحش.
ويلقّن النّاس مبدأ الاعتدال في كلّ الأمور. ويعلن أنّه ما تجاوز شيء حدّ الاعتدال إلاّ كان له في النّاس تأثير سيّء سواء أكان ذلك الشّيء هو الحرّيّة أو التّمدّن الغربيّ قد أفزع شعوب الأرض بشكل خطير، ويتنبّأ باقتراب يوم “تحترق المدن من ناره”.
أمّا الشّورى فهو يقيمها مبدأً أساسيًّا من مبادئ دينه واصفًا إياها بـ”*مصباح الهدى”، و”*واهبة الإدراك”، ويصفها كذلك بأنّها أحد “*نيّريّ سماء الحكمة الإلهيّة”. ويقرّر أنّ العلم هو بمثابة “*الجناح للإنسان والمرقاة لصعوده” ويعتبر تحصيله أمرًا مفروضًا على كلّ فرد. ويرى أنّ “*الفنون والحرف والعلوم” يؤدّي إلى السّموّ بعالم الوجود. ويوصي بالارتزاق من امتهان المهن واحتراف الحرف. ويعترف بأنّ أمم الأرض مدينة إلى العلماء وأهل الفنون العمليّة. وينفّر من دراسة ما لا ينفع النّاس من العلوم الّتي “*تبدأ بالألفاظ وتنتهي بالألفاظ”.
وفضلاً عن ذلك يؤكّد الدّعوة إلى أن “عاشروا يا قوم مع الأديان كلها بالرّوح والرّيحان” فمثل هذه المعاشرة تفضي إلى “*الاتّحاد والوئام” اللّذين هما أساس النّظام في العالم والرّشاد للأمم. وهو يكرّر التّنبيه إلى ضرورة تبنّي لغة وخطّ عالميّين، ويرثي للوقت المضيّع في تعلّم اللّغات المختلفة، ويؤكّد أنّه باتخاذ هذه اللّغة وهذا الخطّ ستصبح الأرض كلّها “*مدينة واحدة وصعيدًا واحدًا”، ويقرّر أنّه على علم بكلا اللّغة والخطّ، ويبدي استعداده لأن يعلّمهما لكل من التمسهما منه.
وإلى أمناء بيت العدل يعهد بواجب التّشريع فيما لم ينزل به نصّ صريح في آثاره، ويعدهم بأنّ الله سوف يلهمهم بما يشاء. ويوصي بإقامة لون من الحكومة النّيابيّة تتّحد فيها مُثُل الجمهوريّة العليا مع جلال الملكيّة، الّتي يصفها بأنّها “إحدى آيات الله”. ويصف إقامة مثل هذه الحكومة بأنّها إنجاز مجيد جدير بالثّناء. ويحضّ على أن تولى شؤون الزّراعة عناية خاصّة. ويشير إشارة خاصّة إلى “*الصّحف السّريعة الانتشار” ويصفها بأنّها “*مرآة العالم” وأنّها “ظاهرة مدهشة وعمل عظيم”، ويعهد إلى القائمين على إصدارها بواجب اجتناب الحقد والضّغينة والتّعصب والتّحيّز ويوصيهم بالتّحلي بالعدل ورجاحة العقل والتّدقيق في تحقيقاتهم والتّأكّد من صحّة الوقائع في كلّ حالة.
وهو يزيد في إيضاح مبدأ العصمة الكبرى، ويعيد التّنبيه على ما فرضه على أتباعه من “*السّلوك نحو حكومة القطر الّذي يعيشون فيه بالولاء والإخلاص والأمانة” ويعيد التّأكيد على النّهي القاطع عن إعلان الجهاد الدّينيّ وإتلاف الكتب. ويختصّ بالمدح والثّناء رجال العلم والحكمة ويصفهم بأنّهم مثل “البصر” للبشر، وأنّهم “العطيّة الكبرى” للعالم.
ولا ينبغي، ونحن نستعرض الملامح البارزة لآثار حضرة بهاء الله في غضون الجزء الأخير من نفيه إلى عكّاء، أن تفوتنا الإشارة إلى “لوح الحكمة” الّذي يبسط فيه أصول الفلسفة الحقيقيّة، ولا إلى “لوح الزّيارة” الّذي يتغنّى فيه بمحامد الإمام الحسين بلغة مشرقة، ولا إلى رسالة “سؤال وجواب” الّتي يوضّح فيها شرائع الأقدس وأحكامه، ولا إلى “لوح البرهان” الّذي يندّد فيه بما ارتكبه الشّيخ محمّد باقر الملقّب بـ”الذّئب” ومير محمّد حسين إمام الجمعة في إصفهان الملقّب بـ”الرّقشاء”، ولا إلى “لوح الكرمل” الّذي يقرّر فيه تقريرًا له مغزاه وهو أنّ “مدينة الله” نزّلت من السّماء” ويتنبّأ فيه بأنّه سوف “تجري سفينة الله” على ذلك الجبل و”يظهر أهل البهاء”. وأخيرًا لا يفوتنا أن نذكر اللّوح الموجّه إلى الشّيخ محمّد تقي الملقّب بـ”ابن الذّئب”، وهو أبرز الألواح الأخيرة الّتي فاضت من قلم حضرة بهاء الله. في هذا اللّوح يدعو ذلك الشّيخ المفترس إلى التّوبة، ويورد بعضًا من أهم الفقرات المميّزة من آثاره الكريمة، ويسرد الأدلّة الواضحة والبراهين اللاّئحة على صحّة أمره وصدق دعواه.
بهذا الكتاب النّازل قبل صعوده بسنة واحدة تقريبًا يمكن أن يقال إنّ إنجازته العجيبة، كصاحب مائة مجلد تكتنز جواهر إلهامه، قد انتهت أو كادت. هذه المجلّدات المائة زخرت بما لا حصر له ولا عدّ من النّداءات والدّعوات والمناشدات والمبادئ الثّوريّة المطوّرة والشّرائع والأحكام الّتي يراد بها إعادة تشكيل العالم، والنّبوءات والإنذارات الخطيرة والبشارات علاوة على الصّلوات والمناجاة الّتي تسمو بالأرواح، والشّروح والتّفاسير الواضحة الجليّة، والمواعظ الحارّة، مبثوثة منثورة في النّداءات الموجّهة إلى الملوك والأباطرة والوزراء في الشّرق والغرب، وإلى رجال الدّين في كلّ ملّة ونحلة، وإلى القادة في عوالم الفكر والسّياسة والأدب والتّصوّف والتّجارة والبرّ والإحسان.
وقد استعرض حضرة بهاء الله مدى هذا الظّهور الجليل الشّامل، وهو في مغرب حياته في السّجن الأعظم، فقال: “فيا إلهي وسيّدي ومحبوبي أنت تعلم بأنّي ما قصّرت في تبليغ أمرك وأظهرت لعبادك أعظم ما عندهم أمرًا من عندك”. وكتب مرّة أخرى يقول: “هل بقي لأحد في هذا الظّهور من عذر؟ لا وربّ العرش العظيم! قد أحاطت الآيات كلّ الجهات، والقدرة كلّ البرية”.
([1]) الأستاذ يعني المعلّم في حرفة من الحرف أو صنعة من الصّنائع.
([2]) السيد يعني من ينتمي إلى ذرية الرّسول سيدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم
انقضى ما يقرب من نصف قرن على بداية الدّين. لقد احتضنة العداء في مهده، وحرم في طفولته من مبشّره وزعيمه إذ صرعه العدو اللّدود الطّاغية. ثم جاء نيّره الثّاني الأعظم فاستطاع في أقلّ من نصف قرن أن يقيل عثرته، رغم النّفي المتتابع، وأن يعلو بنجمه بإعلانه رسالته وتنزيل شريعته وصياغة مبادئه ونظمه البديع. وما كاد الدّين يتمتّع بالإشراق والازدهار الّذي لم يرَ مثيله من قبل حتّى اختطفت موسّسه يد القدر بغتةً وعلى غير انتظار. فغرق أتباعه في بحار اللّوعة والفزع، على حين انتعشت آمال هادميه من جديد، وطمع فيه خصومه السّياسيّون والدّينيّون مرّة أخرى.
ويقرر حضرة عبد البهاء أنّ حضرة بهاء الله أفصح عن حنينه إلى مغادرة هذا العام قبل صعوده بتسعة أشهر. ومنذ ذلك الوقت ازداد هذا الحنين وضوحًا في ثنايا تعليقاته لهؤلاء الّذين فازوا بلقائه، وأصبح من البيّن أنّ ختام حياته الأرضيّة وشيك قريب، وإن امتنع أن يصرّح بذلك لأحد. وفي اللّيلة السّابقة لليوم الحادي عشر من شوال سنة 1309ھ – الموافق 8 أيار سنة 1892م -، ارتفعت درحة حرارته ارتفاعًا طفيفًا ومع أنّه زادت في اليوم التّالي ولكنّها سرعان ما خفّت بعد ذلك. ومضى يأذن لبعض الأحبّاء والزّوار، ولكن سرعان ما تجلّى أنّه ليس بخير. إذ عاودته الحمّى وارتفعت درجة حرارته أكثر من ذي قبل. وأخذت حالته العامّة تزداد سوءًا. وتلا ذلك مضاعفات انتهت بصعوده في فجر اليوم الثّاني من ذي القعدة سنة 1309 للهجرة، الموافق للتّاسع والعشرين من أيّار سنة 1892م، بعد ثماني ساعات من غروب الشّمس، بالغًا من العمر خمسة وسبعين عامًا، فرفرفت روحه بعد أن تخلّصت أخيرًا من أوصاب حياة ازدحمت بالشّدائد والمحن، وهاجرت إلى “ممالك أخرى” وهي “المقامات الّتي ما وقعت عليها عيون أهل الأسماء”، والعوالم الّتي أمرته “*ورقة نوراء لابسة ثيابًا رفيعة بيضاء” أن يسرع إليها كما وصفت في لوح الرّؤيا النّازل يوم عيد ميلاد مبشّره قبل تسعة عشر عامًا.
وقبل صعوده بستّة أيّام كان يستلقي في فراشه عى صدر أحد أبنائه فدعا بكلّ المؤمنين وبكثير من الزّائرين الّذين اجتمعوا في القصر. فكان ذلك آخر تشرّف لهم بمحضره. ولقد خاطب الجمع الباكي الملتفّ من حوله خطابًا رقيقًا فقال: “*إنّي راض عنكم جميعًا فلقد أديتم خدمات عديدة وتحمّلتم المشقّة. كنتم تجيئون كلّ صباح وكنتم تجيئون كلّ مساء. أيّدكم الله جميعًا ووفّقكم إلى الاتحاد وارتفاع أمر مالك الإيجاد”. ووجّه إلى النّساء المجتمعات إلى جوار فراشه ومن بينهنّ أسرته كلمات تشجيع مماثلة، مؤكّدًا لهنّ تأكيدًا قاطعًا بأنّه عهد بهنّ إلى رعاية الغصن الأعظم وعنايته في وثيقة عهد بها إليه.
وسرعان ما طُيّرت أنباء صعوده إلى السّلطان عبد الحميد في برقيّة بدأت بأن “قد أفُلت شمس البهاء”، وفيها أحيط السّلطان علمًا بنيّة دفن رفاته المقدّسة في حرم قصر البهجة، فوافق السّلطان على ذلك في الحال. فأخلد حضرة بهاء الله إلى الرّاحة في الغرفة الشّماليّة القصوى من المنزل الّذي كان يسكنه زوج ابنته، وهو المنزل المتّجه إلى الشّمال من بين المنازل الثّلاثة الواقعة إلى الغرب من القصر والملاصقة له. وكان دفنه يوم صعوده بعد الغروب بقليل.
وقد امتاز النّبيل المفجوع بالتّشرّف بمحضر حضرة بهاء الله أيّام مرضه. وقد انتدبه حضرة عبد البهاء ليتخيّر تلك الفقرات الّتي يتألّف من مجموعها لوح الزّيارة الّذي يتلى في المقام الأقدس، وبعد صعود محبوبه الأبهى ألقى بنفسه في البحر من هول الفجيعة. ولقد كتب يصف آلام تلك الأيّام وأوجاعها قائلاً: “كأنّي بالاضطراب الرّوحي الّذي ثارت ثائرته في دنيا الفناء قد جعل عوالم البقاء ترتجف… وإنّ لساني الباطن والظّاهر ليعجزان عن تصوير الحال الّتي كنّا فيها… وفي فورة الهرج السّائد كان من الممكن أن ترى جمعًا غفيرًا من أهالي عكّاء والقرى المجاورة يزحمون الحقول المجاورة للقصر وهم يبكون ويلطمون على رؤوسهم نائحين”.
واستمرّ عدد كبير من النّائحين، الأغنياء والفقراء على السّواء، يتفجّعون أسبوعًا كاملاً مع الأسرة الثّاكلة، آخذين بنصيب من الطّعام الّذي قدّمته الأسرة بسخاء. واشترك النّابهون في التّفجع على هذا الخطب الجلل، ومنهم الشّيعيّ والسّنّيّ والمسيحيّ واليهوديّ والدّرزيّ والشّاعر والعالم ورجل الدّولة. وظلّوا يعدّدون مناقب حضرة بهاء الله ومآثره ونواحي عظمته. وكتب كثير منهم المدائح شعرًا ونثرًا بالعربيّة والتّركيّة… ووردت المدائح المماثلة من بلاد قصيّة كدمشق وحلب وبيروت والقاهرة. ولقد عرضت هذه الشّواهد المشرقة كلّها على حضرة عبد البهاء الّذي أصبح يمثّل أمر الزّعيم الرّاحل، والّذي اختلط تمجيده في هذه المدائح بذكر محامد والده العظيم ونعوته.
ومع ذلك فلم تكن هذه الشّواهد الوفيرة الدّالة على الحزن، وتلك التّعبيرات النّاطقة بالإعجاب، تلك الّتي أثارها صعود حضرة بهاء الله في صدور غير المؤمنين في الأرض المقدّسة وما حولها، إلاّ قطرة إذا هي قورنت ببحار الأسى وشواهد الإخلاص البالغ الّتي تموّجت، ساعة غروب شمس الحقيقة، في قلوب الآلاف المؤلّفة ممّن اعتنقوا أمره وعزموا على أن يرفعوا رايته في إيران والهند وروسيا والعراق وتركيّا وفلسطين ومصر وسوريّا.
بصعود حضرة بهاء الله انتهت فترة لا مثيل لها ولا نظير في تارخ العالم الدّينيّ من عدّة وجوه، وقطع القرن الأوّل من الدّور البهائيّ نصف شوطه. نعم، انتهت فترة لا تضارعها في سمّوها ولا في خصوبتها ولا في مداها أيّة فترة في أيّ دورة سالفة أخرى، فهي فترة يمكن أن توصف، باستثناء سنوات ثلاث، بأنّها نصف قرن من التّنزيل التّقدميّ المنهمر، وبأنّها فترة آتت فيها الرّسالة الّتي أعلنها حضرة الباب ثمرتها الذّهبيّة المشتهاة. وانتهى بها أعظم وأخطر طور، وإن لم يكن أروع وأبهج طور من أطوار عصر البطولة المجيد. في هذه الفترة اشرقت شمس الحقيقة، أعظم نيّرات العالم في سياه ﭼـال بطهران، واخترقت السّحب الّتي غلّفتها في بغداد، وعانت كسوفًا وقتيًّا وهي تبلغ سمتها في أدرنة، وغربت أخيرًا في عكّاء فلا تعود إلى الإشراق قط قبل ألف عام كامل، وأعلن دين الله الجديد، وقطب كلّ الدّورات السّالفة، على رؤوس الأشهاد بلا تحفّظ، وتحقّقت النّبوءات المبشّرة بقدومه تحقّقًا ملحوظًا لا خفاء فيه. كما أعلنت الشّرائع والأحكام الأساسيّة والمبادئ الجوهريّة، وصيغ النّظام العالميّ المقبل، لحمة وسدى، بكلّ جلاء ووضوح. وتحدّدت علاقته العضويّة ومسلكه نحو الأديان السّابقة تحديدًا لا يرقى إليه الشّكّ. وتأسّست الهيئات الأوّليّة الّتي قدّر لجنين النّظام العالميّ أن يتكامل وينضج في أحشائها تأسيسًا محكمًا. وانتقل إلى الأجيال القادمة ذلك الميثاق الّذي من شأنه أن يرعى سلامة الدّين العالميّ ويصون تماسكه. ووعد النّاس بتحقيق وحدة الجنس البشريّ وإقرار السّلام الأعظم وافتتاح الحضارة العالميّة وعدًا أكيدًا لا جدال فيه. وتكرّرت الإنذارات بالمصائب الّتي تنتظر الملوك ورجال الدّين والحكومات كمقدّمة لتلك الخاتمة المجيدة. وصدر النّداء العظيم لقادة العالم الجديد، وهو النّداء المبشّر بالرّسالة الّتي عهد بها فيما بعد إلى أمريكا الشّماليّة. وتم الاتّصال المبدئي بشعب آمنت سليلة أسرته المالكة بالدّين قبل نهاية القرن البهائيّ الأوّل، وأطلقت الدّفعة الأصليّة الّتي ما زالت تغدق وستظلّ تغدق على مدى عشرات متلاحقة من السّنين، بركاتها العميمة ذات الصّبغة الرّوحيّة الإداريّة على جبل الرّبّ المقدّس المشرف على السّجن الأعظم. وأخيرًا ارتفعت أعلام الفتح الرّوحيّ المظفّرة الّتي قدّر لها أن ترفرف قبل انتهاء القرن الأوّل على ما لا يقل عن ستّين قطرًا في نصفيّ الكرة الشّرقيّ والغربيّ.
نعم، لقد استطاع دين حضرة بهاء الله، الّذي كان يقف آنذاك على أعتاب العقد السّادس من عمره، أن يبدي قدرته على أن يمضي إلى الأمام في الطّريق الّتي رسمها له موسّسه، لا يصدعه صادع ولا يفسده مفسد، وأن يبدي أمام الأجيال المتعاقبة آيات الطّاقة السّماويّة الّتي أغدقها عليه موسّسه أيّما إغداق، كلّ ذلك بفضل سعة مجال آثار قلمه المقدّسة وتنوّعها، وضخامة عدد شهدائه وإقدام أبطاله، والمثل الّذي ضربه أتباعه، والجزاء العادل الّذي لقيه خصومه، ونفاذ تأثيره وبطولة مبشّره الّتي ليس كمثلها شيء، وعظمة موسّسه الّتي تغشى العيون وتخطف الأبصار، والفعّاليّة الغيبيّة الّتي يبديها روحه الغلاّب الّذي لا يقهر.
وإنّي لأشعر، في هذا الموضع، بالحاجة إلى توجيه عناية خاصة إلى المصير الّذي لقيه الملوك والوزراء ورجال الدّين في الشّرق والغرب، أولئك الّذين اضطهدوا دين حضرة بهاء الله في المراحل المختلفة من ولايته عامدين متعمّدين، أو الّذين تجاهلوا الإنذارات الّتي أنذرهم بها، أو عجزوا عن إدراك واجبهم الواضح، ألا وهو الاستجابة لندائه وإجلاله وإجلال رسالته بما هي أهل له، وكيف لا، وحضرة بهاء الله يشير إلى من قاموا على تدمير أمره وإيذائه بقوله: “**لم يغمض الله عينه عن طغيان المعتدين. بل إنّه انتقم في هذا الظّهور من كلّ الطّغاة أجمعين”. والواقع أنه ليهولنا اتّساع المنظر الّذي تراه عيوننا المحملقة ونحن نستعرض الميدان الفسيح الّذي اجتاحته رياح النّقمة الإلهيّة منذ بداية ولاية حضرة بهاء الله بصورة جبّارة تثل عروش الملوك وتقضي على الأسر المالكة، وتقتلع النّظم الطّبقيّة الدّينيّة من أساسها، وتسرع بالحروب وتعجّل بالثورات، وتقصي الأمراء والوزراء عن مناصبهم، وتصادر المغتصب وتذلّ الطّاغية وتنتقم من المارق والخسيس.
فهذا السّلطان عبد العزيز، الّذي كان هو وناصر الدّين شاه أساس البلايا الّتي انهالت على حضرة بهاء الله، وكان مسؤولاً عن توقيع ثلاثة فرمانات بنفي المظهر الإلهيّ، والّذي وصمه في الأقدس بأنّه جالس على “كرسيّ الظّلم”، وتنبّأ في لوح فؤاد بسقوطه، نراه يُعزَل إثر ثورة في القصر، ويُحكم عليه بمقتضى فتوى تصدر من المفتي في عاصمة ملكه، ويُقتل بعد أربعة أيّام (1876م)، ويخلفه ابن أخيه فيُحكم عليه بالغباء المطبق. أمّا حرب 77-1878م، فتحرّر أحد عشر مليونًا من النّير التّركيّ، وتحتلّ القوات الرّوسيّة أدرنة، وتتهالك الإمبراطوريّة بأسرها وتتداعى نتيجة لحرب 14-1918م، وتُلغى السّلطنة وتُعلن الجمهوريّة، ويتلاشى الحكم الّذي دام أكثر من ستّة قرون.
وهذا ناصر الدّين شاه المغرور المستبدّ، الّذي وصمه حضرة بهاء الله بأنه “رئيس الظالمين” وأنّه سرعان ما يكون “عبرة للعالمين”، والّذي تلطّخ حكمه باستشهاد حضرة الباب وسجن حضرة بهاء الله وألحّ فيما بعد في الإيعاز بنفيه إلى الآستانة فأدرنة فعكّاء، والّذي عاهد نفسه على أن يخنق دين الله في مهده بمعونة نظام دينيّ خبيث، نراه يتعرّض للاغتيال العنيف في ضريح شاه عبد العظيم ليل يوبيله الّذي كان مقرّرًا أن يحتفل به احتفالاً فائق الرّوعة بحسبان أنّه فاتحة عهد جديد، وأن يُخلَّد في التّاريخ كأعظم يوم يشهده تاريخ الأمّة الإيرانيّة. وتتعثّر من بعده مصائر أسرته المالكة إذ يعمل سلوك أحمد شاه الطّائش المخزي على الإسراع بأفول نجم آل قاجار.
وهذا نابليون الثّالث، أقدر ملوك الغرب في أيّامه وأشدّهم إسرافًا في الطّموح وإمعانًا في الغطرسة، ذلك المحتال السّاذج الّذي روي عنه أنّه ألقى بلوح حضرة بهاء الله في ازدراء، والذي اختبره حضرة بهاء الله فوجده غير كفؤ، والذي تنبّأ في لوح آخر بسقوطه، نراه يُمنى بهزيمة نكراء في معرك سيدان (1870م)، ويسجّل على نفسه أعظم هزيمة عسكريّة رواها التّاريخ الحديث، ثم يفقد مملكته ليقضي البقيّة الباقية من أيّامه في المنفى، وتنهار كلّ آماله، بل ويقتل ابنه الأمير في حرب الزّولو، وتتداعى إمبراطوريّته المتغطرسة، وتندلع نيران حرب أهليّة أشدّ وأنكى من الحرب الفرنسيّة الألمانيّة نفسها، وينادى في قصر فرساي، بولهلم الأوّل ملك بروسيا إمبراطورًا على ألمانيا الموحّدة.
وهذا ولهلم الأوّل المفتون وقاهر نابليون الثّالث، ذلك الّذي نصحه الكتاب الأقدس، وأمره بأن يتدبّر المصير الّذي آل إليه “من كان أعظم منه شأنًا، وأنذره بأنّ “حنين البرلين” سوف يتصاعد، وأنّ صفاف نهر الرّين “مغطّاة بالدّماء”، نراه يتعرّض لمحاولتين لاغتياله، ويخلفه ولده ليموت بمرض وبيل بعد اعتلائه العرش بثلاثة أشهر، تاركًا العرش لولهلم الثّاني المتكبّر العنيد القصير النّظر. وتعجّل كبرياء الملك الجديد بسقوطه إذ تثور عليه عاصمة ملكه ثورة سريعة مفاجئة، وتطلّ الشّيوعيّة برأسها على عدد من المدن، ويتنازل أمراء الولايات الألمانيّة. أمّا هو فيفرّ إلى هولندة فرارًا مخزيًا، ويرغم على التّنازل عن العرش، ويختم دستور ويمار([1]) على مصير الإمبراطوريّة الّتي طنطن جدّه لميلادها وجعجع. وتثير شروط المعاهدة الجائرة القاسية ذلك “الحنين” الّذي تنبّأ به المتنبّئ منذ نصف قرن مضى.
وهذا فرانسوا جوزيف إمبراطور النّمسة وملك المجر الجبّار المتعسّف، الّذي لامه الكتاب الأقدس على إغفاله واجبه الظّاهر، ألا وهو الاستفسار عن أمر الله عند زيارته للأراضي المقدّسة، نراه يسوء طالعه، وتحيط به المآسي والكوارث من كلّ جانب حتّى ليعدّ عهده فريدًا في المصائب الّتي أنزلها بالأمّة. وهذا أخوه مكسيميليان([2]) يُقتل في المكسيك. وهذا وليّ عهده رودلف([3]) يهلك في ظروف مخزية. وهذه الإمبراطورة تغتال. وهذا الأرشيدوق فرنسيس فرديناند([4]) يُقتل هو وزوجته في سراييفو([5])، وهذه “الإمبراطوريّة المتعثّرة” تتداعى وتنهار ليقام على أنقاض هذه الإمبراطوريّة الرّومانيّة المقدّسة المتلاشية جمهوريّة مزعزعة تُمحى من خريطة أوروبّا السّياسيّة بعد حياة قصيرة مضطربة.
وهذا نيقولاويج إسكندر الثّاني قيصر روسيا القدير، الّذي حذّره حضرة بهاء الله ثلاث مرات في لوحه الخاصّ وأمره بأن “يدعو الأمم إلى الله”، وأوصاه بألا يمنعه المُلك عن المالك”، نراه يتعرّض لمحاولات عدّة لاغتياله، ويموت أخيرًا على يد أحد القتلة. وهذه سياسة القمع العنيفة الّتي استنّها وتابعه فيها خليفته إسكندر الثّالث تمهّد الطّريق لثورة يجتاح فيضانها الدّموي إمبراطوريّة القياصرة في عهد نيقولا الثّاني، وتجلب معها الحرب والوباء والمجاعة. وتقيم حكومة عماليّة عسكريّة تقتل النّبلاء وتضطهد رجال الدّين وتشرّد قادة الرّأي وتعدم القيصر وزوجته وأسرته وتقضي على آل رومانوف.
وهذا البابا بيوس([6]) التّاسع، رأس أقوى كنيسة في العالم المسيحيّ بلا منازع، وهو الّذي أمره حضرة بهاء الله في لوحه أن يهجر القصور بقوله: “دعها لمن أرادها” و”بع ما عندك من الزّينة” و”أنفقها في سبيل الله” وأن يسرع إلى “الملكوت” نراه يُرغم على أن يستسلم في ظروف مخزية لقوّات الملك فكتور عمانوئيل([7]) المحاصرة، وأن يخضع لانتزاع الأملاك البابويّة ألف سنة، وهَوان الأنظمة الدّينيّة في أيّامه ممّا أضاف آلامًا روحيّة على آلامه الجسديّة وزاد في مرارة السّنوات الأخيرة من حياته. وأكّد الاعتراف الرّسمي بمملكة إيطاليا، ذلك الاعتراف الّذي انتزع فيما بعد من أحد خلفائه في الفاتيكان، زوال سلطة البابا الزّمنية.
على أن الانحلال السّريع الّذي دبّ في الإمبراطوريّات العثمانيّة والنّابليونيّة والألمانيّة والنّمسويّة والرّوسيّة وانقراض آل قاجار وزوال سلطة البابا الزّمنيّة لا تستنفد قصّة المصائب الّتي حلّت بالملكيّات في العالم جزاءً وفاقًا على إغفالها لإنذارات حضرة بهاء الله الواردة في الفقرات الأولى من سورة الملوك، ذلك لأن تحوّل الملكيّة في البرتغال وإسبانيا والإمبراطوريّة في الصّين إلى جمهوريات، والمصير الغريب الّذي أخذ مؤخّرًا يتعقب ملوك هولندة والنّرويج واليونان ويوغسلافيا وألبانيا، أولئك الّذين يعيشون اليوم [1944م] في المنفى، وتنازل ملوك الدّنمارك وبلجيكا وبلغاريا ورومانيا وإيطاليا عن ممارسة جلّ سلطانهم، والخوف الّذي لا بدّ أنّ زملاءهم من الملوك يحسّون به وهم يتأمّلون الانقلابات الّتي تسلّطت على هذا العدد الضّخم من العروش، والخزي وأعمال العنف الّتي لطّخت في بعض الأحيان عهود بعض الملوك في الشّرق والغرب، ثمّ ما حدث أخيرًا جدًّا من السّقوط المفاجئ الّذي مني به موسّس الأسرة المالكة الحديثة في إيران، كلّ ذلك ما زال ماثلاً للعيان ليدلّل مرّة أخرى على “العدل الإلهيّ” الّذي تنبّأ حضرة بهاء الله به في تلك السّورة الخالدة، ويبيّن حقيقة القصاص الإلهيّ الّذي قضى به على حكّام الأرض في كتابه الأقدس.
ولا يقلّ استرعاءً للانتباه خمود التّأثير النّفّاذ الّذي تمتّع به رجال الإسلام من السّنّة والشّيعة على السّواء في القطرين اللّذين ازدهرت فيهما أقوى الأنظمة الإسلاميّة، واللّذين ارتبطا ارتباطًا وثيقًا مباشرًا بالبلايا والشّدائد الّتي انصبّت على حضرة الباب وحضرة بهاء الله.
فهذا الخليفة الّذي نصّب نفسه خليفة نبيّ الإسلام وعُرف أيضًا بأمير المؤمنين وحامي الحرمين: مكّة المحرّمة والمدينة المنوّرة، والّذي امتدّ سلطانه الرّوحيّ على ما لا يقلّ عن مائتيّ مليون من المسلمين، نراه يفقد سلطته الزّمنيّة بعد إلغاء السّلطنة في تركيّا، وهي السّلطة الّتي طالما اعتُبرت من المستلزمات الضّروريّة لمركزه الرّفيع، فيفرّ الخليفة نفسه إلى أوروبّا بعد أن شغل منصبًا مزعزعًا مضطربًا لمدّة قصيرة من الزّمن. وألغيت الخلافة وهي أضخم نظام إسلاميّ وأقواه إلغاء فوريًّا دون أدنى استشارة للمحافل السّنّيّة في العالم. فتصدّعت بذلك وحدة أقوى فرع من فروع الإسلام. وأعلن الفصل الكامل الدّائم الرّسميّ للدّولة التّركيّة عن المذهب السّنّي. وتعطّلت الشّريعة وجرّدت الهيئات الدّينيّة من أوقافها، وطبّق القانون المدنيّ، وحظرت الطّرق والطّوائف الدّينيّة، وانحلّ النّظام الدّينيّ السّنّي وهجرت اللّغة العربيّة، لغة نبيّ الإسلام، وحلّت الأبجديّة اللاّتينيّة محل أبجديّتها، بل وترجم القرآن نفسه إلى التّركيّة. وانحطّت منزلة الآستانة “قبّة الإسلام” إلى مجرّد مدينة إقليميّة عاديّة. وتحوّلت درّتها الغالية، مسجد أيا صوفيا، إلى متحف. وهذا كلّه سلسلة متّصلة الحلقات من مهانة تعيد إلى الذّاكرة ما حدث في القرن المسيحيّ الأوّل للشّعب اليهوديّ ومدينة أورشليم وهيكل سليمان وقدس الأقداس والنّظام الدّينيّ الّذي كان أعضاؤه هم الأعداء الالدّاء لدين السّيّد المسيح.
وهذا النّظام الدّينيّ في إيران يزعزعه اضطراب مماثل فيهزّه من أساسه وإن لم يعلن إلى الآن فصله عن الدّولة الإيرانيّة، فتهوي “الحكومة الدّينيّة” الّتي تأصّلت جذورها في حياة الأمّة، وامتدّت فروعها إلى كلّ ميدان من ميادين الحياة في تلك البلاد. ويشلّ النّظام الدّينيّ الّذي كان درع الشّيعة في تلك الأرض ويحطّ من منزلته. ويتناقص مجتهدو الإمام الغائب ووكلاؤه حتّى يصبحوا حفنة لا أهميّة لها ويرغم رجاله المعمّمون، اللّهم إلا نفر قليل، على استبدال عمائمهم وملابسهم التّقليديّة بالزّيّ الأوروبيّ الّذي كانوا يلعنونه ويندّدون به. وتتلاشى الأبّهة والعظمة والطّقوس الوثنيّة الّتي امتازت بها احتفالاتهم وتبطل فتاواهم، وتسلّم أوقافهم إلى إدارة مدنيّة، وتهجر مساجدهم وصوامعهم، ويُكفّ الاعتراف بقداسة أضرحتهم، وتحرّم عليهم تمثيليّاتهم الدّينيّة، وتغلق تكاياهم. لا بل لقد ثبطت عزائمهم عن زيارة النّجف وكربلاء، واختصرت تلك الزّيارات. ويعلن السّفور وينادى بمبدأ المساواة بين الجنسين، وتؤسّس المحاكم المدنيّة، ويلغى نظام التّسرّي وزواج المتعة، ويزداد الإعراض عن استعمال اللّغة العربيّة، لغة الإسلام والقرآن، وتبذل الجهود لفصلها عن اللّغة الفارسيّة. كلّ ذلك يعلن انحطاط تلك الثّلّة الخبيثة الّتي تجاسر زعماؤها على أن ينصّبوا من أنفسهم “خدّام صاحب الولاية” [الإمام علي]، بل وينذر بانقراضها وانقراض الزّعماء الّذين كثيرًا ما خشع لهم الأتقياء من ملوك الأسرة الصّفويّة، والّذين كانت تصرّفاتهم من لعن وتكفير وتحريض هي المسؤولة مباشرة عن سيول الدّماء الّتي سفكت، والّذين لطّخت أعمالهم تاريخ دينهم وأمّتهم على السّواء.
وهذه أزمة أخفّ من تلك الّتي هزّت النّظم الإسلاميّة المعادية للدّين البهائيّ أشدّ العداء تصيب الهيئات المسيحيّة الدّينيّة الّتي تعطّل تأثيرها بصورة ملحوظة، وأوذيت هيبتها إيذاءً جسيمًا وانتقصت حقوقها وامتيازاتها انتقاصًا مطّردًا منذ أن أصدر حضرة بهاء الله نداءه وألقى تحذيره وإنذاره. ومن أوضح الشّواهد الدّالّة على أفول نجم أقطاب العالم المسيحيّ الّذين تجاهلوا صوت حضرة بهاء الله فوضعوا بذلك أنفهم بين أتباعهم وبين السّيّد المسيح عائدًا من مجد الأب، ضياع السّلطة الزّمنيّة من يد البابا الرّوماني ذلك الضّياع الّذي أشرنا إليه من قبل، ومنها الموجة المعادية للهيئات الدّينيّة، وهي الموجة الّتي جرّ في أعقابها انفصال الكنيسة الكاثوليكيّة عن الجمهوريّة الفرنسيّة، ومنها الهجوم المنظّم الّذي شنّته الحكومة الشّيوعيّة المنتصرة على الكنيسة الأرثوذكسيّة اليونانيّة في روسيا، وما تلا ذلك من فصل الدّين عن الدّولة وحلّ أوقافه، وتعقّبه واضطهاده حيثما وجد. ومنها تقسيم الملكيّة النّمسويّة المجريّة الّتي دانت بالولاء إلى كنيسة روما وساعدت هيئاتها. ومنها ما تتعرّض له هذه الكنيسة نفسها في إسبانيا والمكسيك، ومنها موجة العلمانيّة الّتي تجرف اليوم البعثات التّبشيريّة الإنجليزيّة([8]) والبرسبتاريّة([9]) في البلاد غير المسيحيّة. ومنها قوى الوثنيّة العداونيّة الّتي ما زالت تعيث فسادًا في قلاع الكنائس الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة اليونانيّة واللّوثريّة في غرب أوروبّا ووسطها ومشرقها والبلقان ودول البلطيق والإسكندينافيّة.
ولا يمكننا أن نغفل ملاحظة الاضمحلال المطّرد الّذي مُني به نفوذ رجال الدّين اليهوديّ والزرادشتيّ منذ أن ارتفع نداء حضرة بهاء الله معلنًا في عبارات هي أبعد ما تكون عن الغموض أنّه “قد جاء النّاموس الأعظم”، وأنّ جمال القدم “يحكم على كرسيّ داود”، وأنّه “كلّ ما بُشر به في الكتب قد ظهر ولاح” [أي الكتب الزّرادشتيّة]. وممّا يزوّدنا باليقين الّذي لا يرقى إليه الشّكّ في إحقاق تحذيرات حضرة بهاء الله وتبرير نبوءاته الواردة في خطاباته التّاريخيّة الموجّهة إلى زعماء العالم الرّوحانيّين تلك الشّواهد الدّالّة على التّمرّد المتزايد على السّلطة الدّينيّة، والازدراء وقلّة الاكتراث السّائدة الّتي تقابل بها التّقاليد والرّسوم والاحتفالات والأعياد، ومنها الغزوات المتكرّرة الّتي تشنّها الوطنيّة الهجوميّة العدوانيّة على الأوساط الدّينيّة، ومنها البرود الّذي تقابل به مثل هذه الغزوات وخاصّة عند أتباع الدّين الزّرادشتيّ.
هذه هي على وجه الإجمال الشّواهد الدّالّة على قصاص الله المخيف العادل الّذي أنزله بالملوك ورجال الدّين في الشّرق والغرب جزاءً وفاقًا إمّا على مقاومتهم الفّعالة لدين حضرة بهاء الله، وإمّا لعجزهم المحزن عن الاستجابة لندائه و الاستفسار عن رسالته، أو الحيلولة دون انهمار المصائب والبلايا عليه، وإمّا لعدم الاكتراث بتلك الآيات الباهرة والعجائب المعجزة الّتي صحبت ميلاد ظهوره ونشأته طوالة مائة عام.
كيف لا، وهذا التّنبّؤ المختصر إذ قال: “*قبضت العزّة عن طائفتين: الأمراء والعلماء”. ولقد حذّر ملوك الأرض فقال: “وإن لن تستنصحوا بما أنصحناكم في هذا الكتاب… يأخذكم العذاب من كلّ الجهات ويأتيكم الله بعدله. إذًا لا تقدرون أن تقوموا معه وتكوننّ من العاجزين” وقال مرّة أخرى” “وأنتم سمعتم أكثرها [أي البلايا] وما كنتم من المانعين”. ثمّ إليك اتهامه الصّريح إذ قال: “إنّا… نصبر كما صبرنا بما ورد علينا منكم يا معشر السّلاطين”.
ويكتب ناقمًا على رجال الدّين خاصّة في العالم فيقول: “** كان منبع الطّغيان وأصله العلماء… إنّ الله يعلمهم وكذلك كنّا من العالمين”. ويؤكّد قائلاً: “لمّا تفرّسنا وجدنا أكثر أعدائنا العلماء” ويخاطبهم: “يا معشر العلماء! لا ترون بعد اليوم لأنفسكم من عزّ لأنّا أخذناه منكم”. ويبيّن السّبب في ذلك بقوله: “لو آمنتم بالله حين ظهوره ما أعرض عنه النّاس وما ورد علينا ما ترونه اليوم”. ويشير إلى رجال الإسلام إشارة خاصة فيقول: “**لقد قاموا علينا بقسوة استنزفت قوّة الإسلام” ويؤكّد أنّ “*علماء إيران قد ارتكبوا ما لم يرتكبه أيّ حزب من الأحزاب” ويقول مرّة: “*لقد ارتكب علماء إيران… ما لم يرتكبه اليهود أثناء قيام الرّوح [المسيح]”. وأخيرًا إليك هذه النّبوءات المنذرة قال: “بكم انحطّ شأن الملّة ونُكّس علم الإسلام وثُلّ عرشه العظيم” “سوف يفنى ما عندكم ويبدّل عزّكم بالذّلّة الكبرى وترون جزاء أعمالكم من الله الآمر الحكيم”. بل لقد تنبّأ حضرة الباب نفسه بقوله: “فسوف نعذّب الّذين حاربوا الحسين… أشدّ العذاب” “فسوف ينتقم الله منهم في رجعتنا وفي دار الآخرة قد أعدّ لهم عذابًا على الحقّ بالحقّ أليمًا”.
كما أنّه لا ينبغي لنا، ونحن بصدد استعراض كهذا، أن نغفل الإشارة إلى أولئك الأمراء والوزراء ورجال الدّين الّذين يعدّ كلّ فرد منهم مسؤولاً عن الامتحانات المؤلمة الّتي عاناها حضرة بهاء الله وأتباعه. فهذا فؤاد باشا، وزير الخارجيّة التّركيّة، ذلك الّذي وصمه حضرة بهاء الله بـ”المحرّك” على نفيه إلى السّجن الأعظم، والّذي جاهد مع زميله عالي باشا جهادًا متّصلاً ليثير شكوك ومخاوف سلطان كان يظنّ بالدّين وبزعيمه الظّنون من قبل، نراه بعد سنة تقريبًا من تنفيذ خطّته يسقط تحت مقامع الانتقام الإلهيّ أثناء سفره إلى باريس، ويموت في نيس (1869 م). وهذا عالي باشا الصّدر الأعظم، ذلك الّذي وصمه حضرة بهاء الله بتلك اللّغة المتدفّقة في لوح الرّئيس، وتنبّأ بسقوطه في لوح فؤاد تنبّؤًا لا يخطئه اليقين، نراه يُعزل من منصبه بعد نفي حضرة بهاء الله إلى عكّاء بسنوات قلائل، ويجرّد من كلّ سلطاته، ويتردّى في هاوية النّسيان. وهذا الأمير الطّاغية ظلّ السّلطان مسعود ميرزا أكبر أولاد ناصر الدّين شاه، والحاكم على أكثر من خُمسي المملكة ذلك الّذي وصمه حضرة بهاء الله بأنّه “شجرة الجحيم”، نراه يبوء بالخزي والخسران ويحرم من كلّ ولاياته اللّهم إلا إصفهان، ويفقد كلّ أمل في الجاه أو التّرقّي في المستقبل. وهذا الأمير الضّاري جلال الدّولة الّذي وصمه القلم الأعلى بأنّه “ظالم أرض الياء [يزد]”، نراه يُعزل بعد عام واحد من ارتكابه تلك المظالم، ويُستدعى إلى طهران ويُرغم على أن يعيد بعض الأموال الّتي نهبها من ضحاياه.
وهذا ميرزا بزرگ خان القنصل الإيراني العام في بغداد ذلك الماكر الطّموح المتهتّك، نراه يُعزل في النّهاية من منصبه “يفدحه الخطب، ويغمره الأسف، ويعمّه الاضطراب”. وهذا السّيّد صادق الطّباطبائي المجتهد الّذي وصمه حضرة بها الله بأنه “*كاذب أرض الطّاء [طهران]”، والّذي أصدر فتواه البربريّة بنفي كلّ أنثى وقتل كلّ ذكر من أفراد البهائيّين في إيران سواء أكن ذلك الذّكر شابًّا أم شيخًا، رفيعًا أم وضيعًا، نراه يمرض فجأة، ويسقط فريسة لمرض وبيل ينهش قلبه ومخّه وأطرافه، مما عجَّل بهلاكه. وهذا صبحي باشا العاتي الّذي أمره حضرة بهاء الله بجفوة أن يحضر إلى سراي الحكومة في عكّاء، نراه يُعزل من منصبه ويُستدعى في ظروف ماسّة بسمعته. ولم يُعفَ من مثل هذا المصير حكّام المدينة الآخرون الّذين ظلموا السّجين المجيد هو وزملاءه في المنفى. ويؤكّد النّبيل في تاريخه أن كلّ باشا سلك سلوكًا طيّبًا في عكّاء تمتّع بمدّة طويلة من الحكم، وحباه الله برضوانه، على حين كانت يد القدرة الإلهيّة تزيح كلّ متصرف لدود من أمثال عبد الرّحمن باشا ومحمّد يوسف باشا اللّذين عزلا برقيًّا في نفس اللّيلة الّتي عزما فيها أن يتعدّيا على أحبّاء حضرة بهاء الله. وكان من نصيهما ألاّ يتولّيا منصبًا من بعد ذلك أبدًا.
وهذا الشّيخ محمّد باقر الملقّب بـ”الذئب”، الّذي شبّهه حضرة بهاء الله في لوح البرهان الشّديد اللّهجة بـ”بقيّة أثر الشّمس على رؤوس الجبال”، نره يشهد بعينيه نفوذه وهو يتقلّص باطّراد، ثمّ يموت في بؤسٍ شديد وندم عظيم. وهذا شريكه مير محمّد حسين الملقّب بـ”الرّقشاء”، ذلك الّذي وصفه حضرة بهاء الله بأنه “**أشقى بكثير من ظالم أرض الطّفّ [كربلاء]”، نراه يُطرد من إصفهان حول هذا الوقت نفسه، ويهيم من قرية إلى أخرى، ويعتريه مرض يبعث من الرّوائح الكريهة ما يجعل زوجته وابنته تبتعدان عنه ولا تطيقان الدّنوّ منه، ويموت وهو على غير وفاق مع السّلطات المحلّيّة، فلا يجرؤ أحد على تشييع جنازته، ويدفنه بعض اللّحّادين بصورة مزرية.
ولا بدّ لنا من أن نذكر المجاعة المخرّبة الّتي اجتاحت إيران بعد سنة تقريبًا من تعذيب بديع المجيد ذلك التّعذيب الّذي انتهى بموته. وهي مجاعة بلغ من شدّتها أنّ الغني كان يبيت على الطّوى، وأنّ مئات من الأمّهات كنّ ينهشن أطفالهنّ نهشًا.
ولا يمكننا أن نفرغ من هذا الفصل دون أن نشير إشارة خاصة إلى النّاقض الأكبر لميثاق حضرة الباب، وأعني به ميرزا يحيى الّذي امتدّ به العمر حتّى شهد بعيني رأسه انهيار كلّ آماله الّتي كان يرجوها عن بغض وحقد هو يحيا حياة بائسة في قبرص الّتي يسمّيها الأتراك “جزيرة الشّيطان”. وخصّصت له في أوّل أمره منحة ماليّة من قبل الحكومة التّركيّة ثمّ من قبل الحكومة الإنجليزيّة. ولقد هان هوانًا أعظم من هذا وذاك حين رفض طلبه للتّجنّس بالجنسيّة البريطانيّة، وهجره أحد عشر “شاهدًا” من الشّهود الثّمانية عشر الّذين أقامهم، ورجعوا إلى حضرة بهاء الله تائبين نائبين. بل إنّه زجّ نفسه في فضيحة لطّخت سمعته وسمعة ابنه الأكبر. وذلك أنّه حرم ذلك الابن وحرم أحفاده من الخلافة الّتي كان عقد لواءها من قبل، واختار بدلاً منه ميرزا هادي دولت آبادي الغادر الأزليّ السّيّء السّمعة الّذي استولى عليه الفزع والهلع عند استشهاد ميرزا أشرف السّالف الذّكر بصورة جعلته يعلن بلغة شديدة من أعلى المنبر تبرّؤه التّامّ من الدّين البابيّ ومن ميرزا يحيى وليّه الّذي وضع فيه ثقته المطلقة العمياء، ويستمرّ يعلن ذلك أربعة أيّام متوالية. وتشاء الأقدار الغريبة بعد عدّة سنوات أن يلتمس هذا الابن الاكبر هو وابن أخيه وابنة أخيه التّشرّف بمحضر حضرة عبد البهاء، خليفة حضرة بهاء الله ومركز عهده وميثاقه، وأن يتوب إليه ويسأله الصّفح والمغفرة، فيتقبّله حضرة عبد البهاء بقبول حسن، ويظلّ حتّى آخر نسمة من حياته تابعًا مخلصًا للدّين الّذي جاهد أبوه، بلا حياء ولا خجل، لأن يهدمه جهادًا أحمق يدعو إلى الشّفقة والرّثاء.
الفترة الثّالثة
ولاية حضرة عبد البهاء
1892 – 1921
في الفصول السّابقة حاولت أن أتقصّى نشأة الدّين المرتبطة بحضرة الباب وحضرة بهاء الله، وأتتبّع تطوّره خلال الخمسين سنة الأولى من حياته. فإن كنت أطلت الوقوف أحيانًا عند الأحداث المتّصلة بحياة النّيرين التّوأم للظّهور البهائيّ ورسالتهما، أو أسهبت في سرد تفاصيل الوقائع المتعلّقة بولايتيهما، فما كان ذلك إلاّ لأنّ تلك الأحداث والوقائع تعلن ميلاد وتأسيس فترة تاريخيّة سوف يمجّدها مؤرّخو المستقبل باعتبارها أخطر فترة من العصر الرّسوليّ في الدّورة البهائيّة وأشرفها وأشدّها أسًى. أمّا القصّة الّتي تبسطها أمام أنظارنا العشرات التّالية من سنوات القرن الّذي نحن بصدده، فليست سوى سجلّ للشّواهد المتشعّبة الدّالّة على النّفوذ الخارجيّ لتلك القوى الخلاّقة الّتي أطلقتها دورة خمسين سنة من الوحي الّذي لم يكد ينقطع.
نعم، لقد انطلق تدبير فعّال إلهيّ في قوّته الدّافعة، فائق في إمكانيّاته كما لم يحلم أحد من قبل، شامل في مداه، محوّل للعالم بأسره في نتائجه النّهائيّة، وشرع يعمل في نفس تلك اللّيلة الخالدة الّتي أفضى فيها حضرة الباب بهدف هذا التّدبير الإلهيّ قوّة جبّارة بالمكاشفات الأولى من إلهام حضرة بهاء الله الّذي أسفر فجره في ظلام سياه چال بطهران. ثم أسرع به إعلان رسالته عشيّة نفيه من بغداد، وبلغ به قمته إعلان نفس الرّسالة خلال السّنوات العاصفات من نفيه في أدرنه. وتجلّت دلالته الكاملة حين أصدر صاحب تلك الرّسالة نداءاته التّاريخيّة ومناشداته وإنذاراته لملوك الأرض ورجال الدّين في العالم. وأخيرًا اكتمل هذا التّدبير بتلك الشّرائع والأحكام الّتي شرّعها والمبادئ الّتي أعلنها، والموسّسات الّتي قضى بها خلال السّنوات الختاميّة من ولايته وهو في مدينة السّجن عكّاء.
وبات من الواضح بعد صعود صاحب الظّهور أنّه لا غنى عن أداة إلهيّة التّقدير مزوّدة بسلطة صريحة، مرتبطة به ارتباطًا عضويًّا لكي توجّه تلك القوى الّتي أطلقها ذلك التّدبير المرسل من السّماء، وتجريها في قنواتها السّليمة، وتؤمّن انسجامها وتناغمها، وتضمن حركتها المستمرّة. ولقد قدّم حضرة بهاء الله هذه الأداة حين أقام نظام الميثاق بصورة راسخة وطيدة قبل صعوده. ذلك بأنّه أشار الى هذا الميثاق نفسه في الكتاب الأقدس كما أشار اليه وهو يودّع أفراد أسرته الّذين كان يستدعيهم إلى جوار فراشه خلال الأيّام الّتي سبقت صعوده مباشرة، وأبرمه في وثيقة خاصة أسماها “كتاب عهدي” وأودعها، أثناء مرضه الأخير، عند حضرة عبد البهاء، أرشد أبنائه.
تلك الوثيقة التّاريخيّة الفريدة الّتي وصفها حضرة بهاء الله بأنها “اللّوح الأعظم”، وأشار إليها في لوح ابن الذّئب “بالصّحيفة الحمراء” سطّرها من أولها الى آخرها بخطّ يده، ولم تفضّ إلاّ في اليوم التّاسع من صعوده بمحضر من تسعة شهود منتخبين من آل بيته وأصحابه، وقُرئت في عصر ذلك اليوم التّاسع في مقامه الأقدس أمام جمع غفير من أبنائه وذوي قربى حضرة الباب، والأحبّاء الزّائرين والمقيمين. وهي وثيقة فذّة لا شبيه لها ولا مثيل في كتب الدّورات السّابقة جميعًا بما فيها دورة حضرة الباب. وذلك لأنّنا لا نجد في أيّ كتاب من كتب الدّيانات في العالم بأسره لا بل ولا في آثار صاحب الظّهور البابيّ نفسه، وثيقة واحدة تبرم ميثاقًا ذا سلطان مهيمن كذلك الميثاق الّذي أبرمه حضرة بهاء الله.
ولقد أكّد مركز الميثاق ذلك فقال:”*لم يبرم عهد محكم متين كهذا العهد في ظهور أيّ مظهر من المظاهر المقدّسة من أوّل الإبداع حتّى يومنا هذا”. وقال في مقام آخر:”*من البديهيّ أن قوّة الميثاق دون سواها هي محور وحدة العالم الإنساني”. وفي موضع آخر كتب يقول:”*اعلم أنّ العروة الوثقى الّتي ورد ذكرها في الزّبر والألواح والصّحف الأولى منذ أوّل الخلق لم تكن سوى هذا العهد والميثاق”. وقي موضع آخر كتب يقول:”*إنّ سراج الميثاق هو نور الآفاق، وحقيقة العهد هي موهبة الإشراق، وكوكب الميثاق قمر بازغ مشرق، وأثر القلم الأعلى بحر لا ساحل له”. وأعلن بالإضافة إلى ذلك “*أن الرّبّ المجيد أبرم تحت شجرة أنيسا (شجرة الحياة) عهدًا جديدًا، وأخذ ميثاقًا عظيمًا… فهل تحقّق مثل هذا العهد في أيّ عصر أو دور أو زمان أو قرن مضى؟ وهل شهد أحد ميثاقًا يسطّره القلم الأعلى؟ لا والله!”. وأخيرًا إليك قوله: “*مثل الميثاق كمثل حرارة الشّمس الّتي تربّي جميع الكائنات على الأرض وتنشئها وتنمّيها. وإلى هذا الميثاق نفسه أشار في آثاره بأنّه “**البرهان القاطع” و”*ميزان كلّ شيء” و “*مغناطيس التّأييد” و “* اللّواء المعقود” و “*عهد الله الوثيق” و “العهد الّذي أخذه الله في ذرّ البقاء لمركز الميثاق” و” الّذي اختصّه لهذا الظّهور إظهارًا لقدرته وإثباتًا لعظمته”.
وعلى هذا الميثاق نفسه أثنى كاتب سفر الرّؤيا ووصفه بأنّه “تابوت عهده [أي عهد الله]”، وربط حضرة بهاء الله بينه وبين ذلك الجمع المحتشد في ظل “شجرة أنيسا” [شجرة الحياة)] المذكورة في الكلمات المكنونة، ومجّده في فقرات أخرى من آثاره بأنّه “سفينة النّجاة” و “الحبل الممدود بين الأرض والسّماء”، هذا الميثاق انتقل إلى الأجيال القادمة في وصيّة تعتبر، هي والكتاب الأقدس والألواح الأخرى الّتي تبيّن منزلة حضرة عبد البهاء ومقامه بيانًا لا يرقى إليه الشّكّ ولا الإبهام، بمثابة الدّروع الحصينة الّتي أراد بها ربّ الميثاق نفسه أن تحمي بعد صعوده مركز دينه المختار ومبيّن معالم موسّساته المقبلة.
في هذه الوثيقة الخطيرة الّتي لا قرين لها ولا شبيه يكشف صاحبها عن طبيعة ذلك “*الميراث المرغوب الّذي لا عدل له” والذي خلّفه “للورّاث”. ويعلن من جديد غاية ظهوره، ويوصي “*أهل العالم” أن يعتصموا بما هو “*سبب ارتفاع مقاماتهم” ويبيّن لهم أنّه قد “عفا الله عمّا سلف”، وينبّه على سموّ مقام الإنسان، ويكشف عن الهدف الأوّل لدين الله، ويوجّه أولياء الله وأبناءه إلى الدّعاء لملوك الأرض “*مظاهر قدرة الحقّ ومطالع عزتّه وثروته”. ويخلع عليهم حكم الأرض، ويختصّ نفسه بملكه الخاص ألا وهو قلوب النّاس، وينهى عن النّزاع والجدال نهيًا عظيمًا. ويأمر أتباعه بنصرة الحكام الّذين هم “*مزيّنون بطراز العدل والإنصاف”. ويوصي الأغصان [أي أبناءه] بأن يتدبّروا “*القوّة العظيمة المكنونة، والقدرة الكاملة المستورة في الوجود، كما يأمرهم، هم والأفنان [ذوي قربى حضرة الباب] والمنتسبين بأن “*انظروا طرًّا الى الغصن الأعظم [حضرة عبد البهاء]” باعتبار أنّه هو “من أراده الله، الّذي انشعب من هذا الأصل القديم” الّذي أشير إليه في الكتاب الأقدس.
ويقضي بأن يكون “مقام الغصن الأكبر” [وهو ميرزا محمّد علي] دون مقام “الغصن الأعظم” [وهو حضرة عبد البهاء]، ويدعو الأحبّاء إلى أن يعاملوا الأغصان بالإجلال والمحبّة، وينصح لهم بأن يحترموا آل بيته وذوي قرباه وذوي قربى حضرة الباب، ولكن “ما قدّر الله لهم حقًّا في أموال النّاس”، ويوصي الأغصان والأفنان وذوي قرابته “*بتقوى الله وبالمعروف وبما ينبغي” وأن يتّبعوا ما “*ترتفع به مقاماتهم”. يحذّر النّاس جميعًا من أن يجعلوا “*أسباب النّظام سبب الاضطراب، وعلّه الاتّحاد علّه الاختلاف” ويختتم ميثاقه بنداء للمؤمنين يوصيهم فيه “*بخدمة الأمم” والسّعي من أجل “*إصلاح العالم”.
والواقع أنّ إنعام هذا المقام الفريد الباذخ الرّفيع على حضرة عبد البهاء لم يدهش، بل ولم يستطع أن يدهش، الأحبّاء المنفيّين الّذين امتاز أفرادهم بأن يلحظوا عن قرب حياته ومسلكه أمدًا طويلاً ولا الزّائرين الّذين اتصلوا به اتّصالاً عابرًا، ولا أفواج المؤمنين الّذين شبّوا في البلاد القصيّة على تبجيل اسمه وتقدير جهوده، ولا دائرة أصدقائه ومعارفه الواسعة ممّن كانوا في الأرض المقدّسة وما جاورها واقفين على المقام الّذي شغله أثناء حياة والده. وكيف لا، وهو الّذي صادف يوم مولده الميمون تلك اللّيلة الخالدة الّتي بيّن فيها حضرة الباب طبيعة رسالته الفائقة للمُلاّ حسين أوّل من آمن به وهو الّذي سجل، أثناء جلوسه طفلاً صغيرًا على حجر الطّاهرة، مغزى ذلك التّحدّي المثير الّذي وجّهته البطلة القويّة إلى زميلها وحيد الفقيه الأشهر. وهو الّذي اعتصر نفسه الرّقيقة ذلك المنظر المحفور في ذاكرته منذ التّاسعة من عمره حين زار والده في سياه چال بطهران فرآه أشعث هزيلاً ينوء تحت السّلاسل والأغلال. وهو الّذي انصبّت عليه سخرية سفله الأطفال في الشّوارع فرشقوه بالحجارة وأشبعوه سبًّا وإستهزاءً وهو ما زال يدرج في صباه الباكر. وهو الّذي قدّر له أن يشاطر أباه مشاقّ النّفي القاسي من وطنه بعد إطلاق سراحه مباشرة، وأن يقاسمه الشّدائد الّتي انتهت باعتكاف حضرة بهاء الله الاختياريّ في جبال كردستان. وهو الّذي همس، وهو في لوعة الحزن على فراق والده، قائلاً للنّبيل ما أورده هذا في تاريخه من أنّه وجد نفسه قد شاب وهو ما زال في نعومة أظفاره. وهو الّذي اختصّ وهو ما زال طفلاً بالامتياز الفريد ألا وهو الإدراك الكامل لمقام والده المجيد الّذي لم يكن قد انكشف بعد، حتّى أنه ارتمى على قدميه وابتهل إليه، من تلقاء نفسه، أن يمتاز بأن يجود بحياته فداءً له. وهو الّذي من قلمه فاض التّفسير الرّائع لأحد الأحاديث القدسيّة الإسلاميّة الشّهيرة، وهو ما زال يافعًا في بغداد، تلبيةً لإشارة حضرة بهاء الله واستجابةً لطلب علي شوكت باشا، فجاء تفسيرًا واضحًا جليًّا بحيث أثار في الطّالب إعجابًا لا حدّ له. وهو الّذي أثارت احاديثه ومناقشاته مع علماء بغداد في بادئ الأمر الإعجاب الكامل بشخصه وبعلمه بصورة أخذت تزداد كلّما اتّسعت دائرة أصدقائه ومحبّيه فيما بعد في أدرنه ثمّ في عكّاء. وهو الّذي تأثّر به خورشيد باشا المهذب، حاكم أدرنه، لدرجة أنه أفاض في مدحه والثّناء عليه حين كان حضرة عبد البهاء ضيفًا عليه مع عدد من علماء تلك المدينة البارزين فنفذ بصورة مختصرة مدهشة إلى بواطن مشكلة حيّرت عقول العلماء الحاضرين، الأمر الّذي أثّر في الباشا تأثيرًا جعله بعد ذلك لا يطيق صبرًا على غياب ذلك الفتى عن أمثال تلك المجالس. فلما اتّسع مجال تأثير رسالة حضرة بهاء الله عمد حضرته إلى زيادة الاعتماد عليه فاختاره مندوبًا عنه في مناسبات عديدة، ومكّنه من عرض دينه على النّاس، وعيّنه لاستنساخ ألواحه، وأذن له في أن يتحمّل مسؤوليّة حمايته من أعدائه، وعهد إليه بمهمّة الإشراف على مصالح أصحابه ورفاقه في المنفى. وهو الّذي كلّفه والده أن يقوم، بمجرّد أن تسمح الظّروف، بذلك الواجب الخطير ألا وهو شراء الموقع الّذي اختاره ليكون مرقدًا، أبديًّا لحضرة الباب والإشراف على نقل رفاته إلى الأرض المقدّسة، وإقامة المقام اللاّئق بمنزلته الرّفيعة على جبل الكرمل. وهو الّذي كان العامل الفعّال في تهيئة الوسائل الضّررويّة لخلاص حضرة بهاء الله من حبسه الّذي دام تسعة أعوام داخل أسوار عكّاء، وتمكينه من أن يتمتّع في مغرب حياته بقسط من ذلك السّلام والأمن اللّذين حُرم منهما أمدًا طويلاً. وهو الّذي بجهوده المتّصلة استطاع “بديع” المجيد أن يفوز بتلك اللّقاءات الخالدة مع حضرة بهاء الله. كما حوّل العداوة الّتي أظهرها عدد من حكام عكّاء نحو الجامعة المنفيّة إلى تقدير وإعجاب، وأتمّ شراء الأراضي الواقعة حول بحيرة طبريّا ونهر الأردن، ونقل إلى الأجيال القادمة أقيم وأبرع عرض لتاريخ الدّين الباكر وتعاليمه. وهو الّذي نجح في أن يرفع من هيبة الأمر الّذي دافع عنه إلى مستويات لم يبلغها من قبل، وذلك بالاستقبال الحافل الرّائع الّذي قوبل به أثناء زيارته لبيروت واتصاله بمدحت باشا، الصّدر الأعظم السّابق، وصداقته لعزيز باشا الّذي عرفه في أدرنه من قبل ثمّ رقّي إلى منصب الوالي فيما بعد، واتّصاله الدّائم برجال الدّولة والوجوه وعلّيّة القوم ورجال الدّين، أولئك الّذين أخذ عدد من يلتمس منهم محضره يزداد خلال السّنوات الختاميّة من حياة والده.
وهو وحده الّذي امتاز بأن يدعى ﺑ”المولى”، وهو شرف ميّزه به والده على سائر ابنائه تمييزًا خاصًّا. وهو وحده الّذي شاء والده المحبّ المعصوم أن ينعم عليه بذلك اللّقب العزيز، ألا وهو “سرّ الله”، وهو أنسب لقب لمن كان في مقدوره، رغم بشريّة جوهره ورغم اختلاف مقامه عن مقام حضرة بهاء الله أو مبشّره اختلاقًا أساسيًّا، أن يدّعي أنه هو المثل الأعلى لدين والده، وأنّه هو المزود بالعلم اللّدنّي، وأنّه هو الّذي يجب أن يُعتبر المرآة الصّافية الّتي تعكس نور حضرة بهاء الله. وإليه هو أشار هذا الوالد أيّام إقامته في أدرنه، في سورة الغصن بقوله: “هذا الهيكل المقدّس الأبهى، غصن القدس” وبقوله: “غصن الأمر” و”الفضل الأعظم عليكم” و”نعمته الأتمّ لكم”، وبأنه هو الّذي به “يحيى كلّ عظم رميم” وأنّ “من توجّه إليه فقد توجّه إلى الله”، وأنّ “الّذين هم منعوا أنفسهم عن ظلّ الغصن أولئك تاهوا في العراء وأحرقتهم حرارة الهوى”. وإليه هو أشار (في لوح نزّل في تلك المدينة إلى الحاج محمّد إبراهيم الخليل) بأنّه هو الوحيد من بين أبنائه الّذي على “لسانه سيجري الله آيات قوّته”، وبأنّه هو الّذي “اختاره الله لأمره”. وإليه عهد صاحب الأقدس في آية زاهرة شرحها فيما بعد في “كتاب عهدي” بمهمّة تفسير وتبيين آثار قلمه المقدّسة، وأعلن في الوقت نفسه أنّه هو “من أراده الله، الّذي انشعب من هذا الأصل القديم”. وإليه أشار في لوح نزّل في تلك الفترة نفسها بافتخار ميزرا محمّد قلي السّبزواري بأنّه هو “الخليج المنشعب من هذا البحر الّذي أحاط الأكوان”. وأمر أتباعه أن يتواجّهوا إليه، وأثنى عليه بمناسبة زيارته لبيروت ثناءً عاطرًا في رسالة أملاها على كاتبه ومجّده فيها بأنّه هو “من طاف حوله الأسماء” وأنّه هو “غصن الله الأعظم” و “وسرّ الله الأقوم القويم”. وخاطبه في ألواح عدة سطّرها بيده المباركة بقوله: “قرّة عين البهاء”، وأشار إليه بأنّه “حفظٌ لمن في السّموات والأرضين” وأنّه هو “حرزٌ للعالمين” وأنّه “حصنٌ لمن آمن بالله”. وابتهل إلى الله في مناجاة أنزلها تشريفًا له أن “ينصره” و”يقدر له ولمحبّيه” ما قدّره “لسفرائه وأمناء وحيه”. وأخيرًا إليك هذه الكلمات العامرات الّتي وردت في لوح آخر: “البهاء عليك وعلى من يخدمك ويطوف حولك. والويل والعذاب لمن يخالفك ويؤذيك. طوبى لمن والاك، والسّقر لمن عاداك”.
وتتويجًا لتلك الألقاب والامتيازات والعنايات الهاطلة عليه باطّراد طيلة ولاية والده الّتي دامت أربعين عامًا في بغداد وأدرنه وعكّاء ارتقى إلى منصب مركز عهد حضرة بهاء الله الرّفيع وميثاقه، وعيّن خليفة لمظهر الله نفسه. وهو المنصب الّذي يمكنه من أن يهب القوّة الدّافعة الدّافقة العجيبة لتوسيع دين والده على النّطاق العالميّ، وتبين عقيدته، وتحطيم كلّ عائق قد يعترض سبيل تقدّمه، وتأسيس وتوضيح معالم النّظام الإداريّ، وليد العهد والميثاق، والمبشّر بالنّظام العالميّ الّذي تشير إقامته إلى حلول العصر الذّهبي من الدّورة البهائيّة.
كان من النّتائج المباشرة لصعود حضرة بهاء الله، كما لاحظنا من قبل، أن عمّ الأسى والبلبلة بين أتباعه وأصحابه، وان انتعشت من جديد آمال خصوم الدّين السّاهرين وقويت عزائمهم. ذلك لأنّه في الوقت الّذي خرج فيه الدّين المظلوم ظافرًا من أعنف أزمتين عرفهما، وكانت إحداهما من تدبير أعدائه من الخارج، بينما كانت الأخرى من تدبير أعدائه من الدّاخل، وفي الوقت الّذي ارتفعت فيه هيبته إلى مقام لم يعرف له مثيلاً طيل سنيه الخمسين توقّفت فجأة تلك اليد المعصومة الّتي صيّرت مقاديره منذ البداية تاركه وراءها فراغًا ظنّ الصّديق والعدوّ معًا أنه لن يملأه أحد من بعد.
إلّا أنّ مركز ميثاق حضرة بهاء الله المختار، والمبيّن الفريد لتعاليمه وضّح فيما بعد أن انطواء الخيمة الّتي اختار المظهر الإلهي أن يقيم بها مؤقّتًا يشير إلى تخلّص حضرته من الحدود والقيود الّتي فرضتها عليه، بالضّرورة، حياته على هذه الأرض. أمّا وقد تحرّر الرّوح وانطلق تأثيره بحيث لم يعد تحدّه الحدود الجسمانيّة، وسطع نوره بحيث لم يعد يعكّره سحاب الهيكل البشريّ فإنّه يستطيع حينذاك أن يبثّ في العالم بأسره قوّة لم يبلغها في أيّ مرحلة من مراحل وجوده على هذا الكوكب.
أضف إلى ذلك أن واجب حضرة بهاء الله الجبّار على هذه الأرض كان قد بلغ غاية كماله في صعوده، وأنجزت مهمّته بصروة كاملة من كلّ الوجوه بالرّغم من عظمتها وجسامتها، وانكشف القناع لأعين البشر عن الرّسالة الّتي عهد بها إليه، وارتفع النّداء الّذي أمر بتوجيهه إلى الرّؤساء والحكّام ارتفاعًا يتّصف بالقوّة والجلال، وأحكم وضع أسس العقيدة الّتي من شأنها أن تصوغ حياة النّاس من جديد وتشفي عللهم وأسقامهم وتنقذهم من العبوديّة والهوان. وطغى طوفان البلايا الّتي طهّرت الدّين ووهبت له القوّة طغيانًا عنيفًا لا صادّ له ولا زادّ. وسالت بغزارة الدّماء المخصّبة للتّربة الّتي تنمو فيها هيئات النّظام العالمي. وفوق كلّ شيء وضع على أساسٍ متين ذلك الميثاق الّذي يديم تأثير الأمر المبارك ويحفظ عليه هيبته، ويصونه من الانقسام، وينشّط توسّعه العالميّ.
كان دين حضرة بهاء الله الكريم بصورة تفوق أحلام البشر وآمالهم، والّذي تضمّ صدفتاه تلك اللّؤلؤة اليتيمة الّتي طالما تمنّاها العالم منذ تأسيسه، والّذي واجهته مهمّات جبّارة معقّدة كلّ التّعقيد ملحّة كلّ الإلحاح لا شكّ كان في رعاية ساهرة. إذ قام ولده المحبوب قرّة عينه وخليفته على الأرض ومنفّذ أوامره ومركز ميثاقه وراعي أغنامه، ومثل دينه الأعلى وتجسيم كمالاته، وسرّ ظهوره، ومفسّر أفكاره، ومهندس نظامه العالميّ ورافع راية سلامه الأعظم ومصدر هدايته المعصوم، أو قل قام من احتلّ مقامًا لا شبيه له ولا نظير في كلّ التّواريخ الدّينيّة على الإطلاق، على حماية الدّين يقظًا جريئًا مقدامًا، وعزم على أن يوسّع نطاقه ويذيع شهرته في الآفاق ويدافع عن مصالحه ويتمّم تحقيق أهدافه.
إنّ الإعلان المثير الّذي سطّره حضرة عبد البهاء ووجّهه إلى سائر أتباع والده غداة الصّعود، والنّبوءات الّتي نطق بها في ألواحه أوجد في نفوسهم عزمًا وثقة برّرتهما إلى أبعد حدود التّبرير الثّمار الشّهيّة الّتي نضجت، والانتصارات المجلجلة الّتي تمّت في غضون ولايته الّتي دامت ثلاثين عامًا.
وانقشع غمام اليأس والقنوط الّتي خيمت، بصورة مؤقّته على عشّاق أمر حضرة بهاء الله المكلومين، وتأكّد دوام الهداية المعصومة الّتي قدّرت للأمر المبارك منذ ولادته، وتجلّت آنذاك دلاله التّأكيد الجسيم بأن “هذا يوم لن يعقبه اللّيل”. فلا عجب أن رأت الجامعة اليتيمة ساعة حاجتها وبؤسها أنّ حضرة عبد البهاء هو عزاؤها وسلوتها ومرشدها وملاذها وحاميها. كما قدّر للنّور الّذي تألّق وخطف الأبصار في قلب آسيا ثم امتدّ على أيّام حضرة بهاءاالله إلى الشّرق الأدنى وأضاء حواشي أوروبّا وإفريقيا أن يمضي غربًا بعد صعود صاحب الميثاق حتّى يبلغ أمريكا الشّماليّة، وأن يسطع، من ثمّ، في ربوع أوروبّا، ثمّ يسكب أشعّته على الشّرق الأقصى وأستراليشيا، كلّ ذلك بفضل قوّة الميثاق الدّافعة.
ومع ذلك فقبل أن يركز الدّين رايته في قلب أمريكا الشّماليّة أو ينشر طلائعه على هذا الجزء الشّاسع من العالم الغربيّ، قدّر لميثاق حضرة بهاء الله الحديث، كما قدّر من قبل للدّين الّذي أنجبه، أن تمتحنه نار تظهر صلابته وشدّته، وتبيّن للعالم الجاحد استحالة تحطيمة، فأصابته أزمة تكاد تضارع في عنفها تلك الأزمة الّتي اجتاحته في طفولته الباكرة ببغداد. فهزّت الميثاق من أساسه في لحظة بدايته الأولى، وعرّضت من جديد ذلك الدّين الّذي كان الميثاق أكرم ثماره، إلى شدة من أعظم الشّدائد الّتي عاناها خلال قرن كامل.
ولقد أخطأ النّاس فهم تلك الأزمة فاعتبروها انقسامًا، واتّخذها الخصوم السّياسيّون والدّينيّون وفلول أتباع ميرزا يحيى المتهالكون علامة على الانهيار المباشر والانحلال النّهائيّ للنّظام الّذي أقامه حضرة بهاء الله. ذلك لأنّ الّذي أحدثها في قلب الأمر المبارك وأثارها هو شخص في مركز ليس غريبًا عن آل بيت حضرة بهاء الله، فهو اخ غير شقيق من إخوة حضرة عبد البهاء نصّ عليه كتاب العهد نصًّا خاصًّا واحتلّ مقامًا لا يقلّ إلاّ عن مقام مركز الميثاق المختار نفسه. وظلّت هذه الأزمة أربعة أعوام تبلبل أفكار عدد كبير من الأحبّاء في ربوع الشّرق، وتحزّ في قلوبهم. ونجحت في أن تكسف نور كوكب الميثاق بصورة مؤقّتة، وأحدثت صدعًا يمكن رأبه في صفوف أسرة حضرة بهاء الله، وختمت على مصائر الأغلبيّة العظمى من آل بيته، وآذت هيبة الدّين إيذاءًا بليغًا. ولكنّها لم تنجح قط في أن تحدث صدعًا دائمًا في بنيان الأمر المبارك نفسه وكان السّبب الحقيقيّ في هذه الأزمة الحسد الأكّال الجامح المضني، الّذي أشعل ناره تفوّق حضرة عبد البهاء المسلّم به في المقام والقوّة القدرة والعرفان والفضل على كلّ أفراد آل بيته، في صدر ميرزا محمّد علي، النّاقض الأكبر للميثاق، وفي صدور بعض ذوي القربى الأقربين. وكانت هذه الغيرة عمياء كتلك الّتي تسلطت على روح ميرزا يحيى، وبيله كتلك الّتي أشعلها تفوّق يوسف في صدور إخوته، راسخة كتلك الّتي تأجّجت في صدر قابيل فدفعته إلى أن يقتل آخاه هابيل. وقد أخذت هذه الغيرة تشتعل في صدر ميرزا محمّد علي من قبل صعود حضرة بهاء الله بسنوات عدة، وألهبتها الخفاء تلك الإمارات العديدة الدّالّة على الامتياز والإعجاب والعناية الّتي انفرد بها حضرة عبد البهاء من قبل حضرة بهاء الله، ومن جانب صحابته وأتباعه، ومن جانب أعداد ضخمة من غير المؤمنين الّذين فطنوا إلى تلك العظمة الفطريّة الّتي أبداها حضرته منذ نعومة أظفاره وسلّموا له بها.
وبدلاً من أن تهدأ نيران العداوة المتأجّجة الّتي يغلي بها صدر ميرزا محمّد بفضل الوصيّة الّتي رفعته إلى المقام الثّاني بين الأحبّاء المؤمنين، فقد ازدادت اشتعالاً على اشتعال بمجرّد أن وقف على مضامين تلك الوثيقة. وضاع سدًى كلّ ما فعله حضرة عبد البهاء خلال أربع سنوات محزنه، وذهبت هباءً مناشداته الحارّة ودعواته المستمرّة وملاطفته ورأفته الّتي أغدقها عليه. ولم تجدِ فتيلاً كلّ التّحذيرات والإنذارات الّتي نطق بها. بل لم يغنِ شيئًا انسحابه الاختياريّ آملاً في تجنب العاصفة المنذرة، وأفلح هذا المثير الأوّل للفساد والفتنة، بعناده وإصراره وعن طريق نشر الأكاذيب وتشويه الحقائق والسّعاية والوشاية والمبالغة والتّهويل، في أن يضمّ إلى جانبه الغالبيّة العظمى من أفراد أسرة حضرة بهاء الله مع عدد لا يُستهان به من بطانته وخلطائه. فاتّفقت زوجتا حضرة بهاء الله الباقيتان على قيد الحياة وولده ميرزا ضياء الله المذبذب وميرزا بديع الله الخائن مع أختيهما الشّقيقة وغير الشّقيقة وزوجيهما السّيد علي الخبيث [وهو من أقرباء حضرة الباب] وميرزا مجد الدّين الماكر مع أخته وإخوته غير الأشقّاء، أبناء المرحوم آقاي كليم المخلص النّبيل، وتعاهدوا على بذل الجهد الجهيد لهدم أساس الميثاق الّذي أبرمته الوصيّة المعلنة حديثًا. بل إنّ ميرزا أقا جان كاتب الوحي الّذي كتب لحضرة بهاء الله أربعين سنة، ومحمّد جواد القزويني الّذي اشتغل منذ أيّام أدرنه في استنساخ الألواح العديدة الّتي رقمها القلم الأعلى، هو وأسرته جميعًا تحالفوا أيضًا مع ناقضي الميثاق، وسمحوا لأنفسهم أن ينخدعوا ويقعوا في شراكهم.
فقام حضرة عبد البهاء وحيدًا فريدًاوقد تخلّى عنه معظم أهله وذوي قرباه، وخذلوه وهاجموه وهم مجتمعون في القصر والمنازل المجاورة الواقعة حول المقام الأقدس. وحرم من أمّه وبنية ولم يعد له من معين ولا نصير سوى أخته العذراء وبناته الأربع اللاّئي لم يكنّ قد تزوّجن بعد، وزوجته وعمّه [وهو أخ غير شقيق لحضرة بهاء الله]. نعم، قام وحيدًا فريدًا تجاه الأعداء المتألّبين عليه من الدّاخل والخارج ليحمل الأعباء والمسؤوليّات المخيفة الّتي ألقاها على كاهله مقامه الرّفيع.
قام هؤلاء النّاقضون للميثاق الإلهيّ قومةَ رجلٍ واحدٍ تُوحِّد صفوفهم الرّغبة المشتركة والغرض العامّ، فلا تكلّ لهم جهود، ولا تملّ لهم قلوب يثقون في معاونة جمال البروجردي الخائن الشّديد البأس وأعوانه الحاج حسين الكاشي وخليل الخوئي وجليل التّبريزي الّذين انحازوا إلى جانبهم. وأخذوا في التّراسل على نطاق واسع مع كلّ من يستطيعون الاتّصال به من المراكز والأفراد، يعاونهم في ذلك رسل يبعثونهم إلى إيران والعراق ومصر والهند، وشنّوا حملة شعواء من القذف والسّبّ والطّعن واللّعن تعدل في شدّتها الاتّهامات الخبيثة الّتي اتّهم بها قديمًا ميرزا يحيى والسّيّد محمّد حضرة بهاء الله. وكان يشجّعهم على نسج دسائسهم ومكائدهم هذه مسلك رجال الحكومة بعد أن تمكّنوا من رشوتهم وتضليلهم. وأخذوا يظهرون للصّديق والغريب، والبعيد والقريب، وللحبيب وغير الحبيب وللرّفيع من رجال الحكم والوضيع، تصريحًا وتلويحًا، شفاهًا وتحريرًا، أنّ حضرة عبد البهاء مغتصب طمّاع أنانيّ لا خلق له ولا رحمة لديه، وأنّه تعمّد أن يتجاهل تعليمات والده المدوّنة وأنّه زعم لنفسه، في عبارات تعمّد غموضها، منزلة تعدل منزلة المظهر الإلهيّ ولا أقلّ، وأنّه بدأ يدّعي في اتّصالاته بالغرب أنّه رجعه السّيّد المسيح “جاء في مجد أبيه”، وأنّه يزعم في خطاباته إلى أحبّاء الهند أنّه شاه بهرام الموعود، وأنه يخصّ نفسه بحقّ تفسير آثار أبيه وحقّ افتتاح دورة جديدة، وحقّ مشاركة حضرة بهاء الله في العصمة الكبرى، ألا وهي الامتياز المطلق الّذي يتمتّع به المظاهر المقدّسة الإلهيّة، وأكّدوا كذلك أنّه أثار الخصومة لغاية في نفسه، وغذّى العداوة والشّحناء. ولوّح في الوجوه بسلاح الطّرد، وأنّه غيّر الغرض من الوصيّة الّتي ذهبوا إلى أنّها لا تتعلّق إلا بمصالح آل حضرة بهاء الله، وذلك بادّعائه بأنّها ميثاق له أهمّيّته العالميّة يتيم فريد في تواريخ الأديان، أُبرم من قبل أن تُخلق الخليقة، وقالوا إنّه حرم إخوته وأخواته من حقوقهم الشّرعيّة، وأنفق الأموال على رجال الحكومة لمنفعته الشّخصيّة، وأنّه رفض الاستماع إلى كلّ الدّعوات المتكرّرة الّتي وجّهت إليه لتسوية الخلافات وحلّ المشكلات القائمة. وزعموا أنّه قد حرّف النّصّ المقدّس فعلاً، وأنّه زاد عليه فقرات من عنده كتبها بخطّ يده، وأنّه قلب القصد من بعض أهمّ الألواح الّتي رقمها قلم والده وغيّر مضامينها ومعانيها، وأنّ أحبّاء الشّرق رفعوا راية العصيان وشقّوا عصا الطّاعة نتيجة لهذا المسلك، وأنّه قد تفرّقت كلمتهم، وذهب ريحهم، وأنّهم يسرعون إلى الاضمحلال والزّوال.
ومع ذلك فميرزا محمّد علي هذا الّذي اعتبر نفسه حامي حمى الدّين وحامل لواء “الموحّدين” و”الأصبع المشيرة إلى مولاه” وراعي العائلة المباركة، والنّاطق بلسان الأغصان، والمعتصم بحبل الآثار المقدّسة هو نفسه ميزرا محمّد علي الّذي كتب، في صراحة ووقاحة، كتابًا إبّان حياة حضرة بهاء الله وذيّله بتوقيعه وختمه بخاتمه، وادّعى فيه هذا الادّعاء الّذي ينسبه اليوم بالباطل إلى حضرة عبد البهاء، الأمر الّذي دفع والده إلى أن يعاقبه بيده. وهو نفسه ميرزا محمّد علي الّذي ذهب في مهمّة إلى الهند فتلاعب بالنّصوص المقدّسة الّتي عهد بها إليه. وهو نفسه الّذي بلغت به وقاحته وسوء أدبه أن قال في وجه حضرة عبد البهاء أنّ نفسه سوّلت له أن يغتصب حقّه كما اغتصب عمر من علي خلافة حضرة محمّد رسول الله. وهو نفسه الّذي تملّكه الخوف من ألاّ يعيش من بعد حضرة عبد البهاء، فلمّا أكّد له حضرته أنه سيفوز على مرّ الأيّام بكلّ ما يشتهيه من عزّة وسؤدد، أجابه على الفور: ما من شيء يضمن له أن يعيش من بعده. وهو نفسه الّذي فضحه ميرزا بديع الله في اعترافه الّذي طُبع ونُشر أثناء توبته وصلحه القصير مع حضرة عبد البهاء، فقال بأنّه احتال قبل أن يوارى جسد حضرة بهاء الله التّراب، على اختطاف حقيبتين كان والده عهد بهما قبل صعوده إلى حضرة عبد البهاء. وكانت الحقيبتان تحتويان على أثمن وثائق والده. وهو نفسه الّذي قام بتزييف ماهر بسيط لكلمة تكررت في بعض الفقرات النّاقمة الّتي وجّهها القلم الأعلى إلى ميرزا يحيى. واتّبع وسائل أخرى كالحذف والحشو والتّشويه وبذلك نجح في أن يجعلها تنطبق على أخيه الّذي كرهه كلّ هذه الكراهية القتّالة. وأخيرًا هو نفسه ميرزا محمّد علي الّذي تآمر على اغتيال حضرة عبد البهاء بصورة خسيسة كما يشهد حضرة عبد البهاء في وصيّته. وهي مؤامرة تومئ إليها الإشارات الّتي كتبها شعاع الله [وهو إبن ميرزا علي] في رسالة وضع حضرة عبد البهاء نسختها الأصليّة مع الوصيّة.
بهذه الأفاعيل وبأمثالها ممّا لا يدخل تحت عدّ ولا حصر نقض ميثاق حضرة بهاء الله بصورة واضحة، وتلقّى الدّين ضربة وجيعة أخرى مذهلة في آثارها الأولى. فاهتزّ لها كيانه بصورة مؤقّته. وعصفت العاصفة الّتي تنبّأ بها صاحب سفر الرّؤيا، ووقع ما كان لا بدّ من وقوعه أثناء ظهور “تابوت عهده” من “البروق” و “الرّعود” و “الزّلزال”.
وقد بلغ الحزن من حضرة عبد البهاء لهذا التّطوّر المؤسف، الّذي حدث بعد صعود والده بهذه السّرعة، مبلغًا ترك آثاره فيه حتّى آخر أيّامه، رغم كلّ ما شهده عهده من فتوح وانتصارات. وكان عمق الإحساسات الّتي ولّدتها فيه هذه الوقائع الكئيبة ممّا يذكّر بالشّدائد الّتي نجمت عن عصيان ميرزا يحيى تلك المآسي الّتي جابهها حضرة بهاء الله. فكتب يقول في أحد الألواح: “**قسمًا بجمال القدم! إنّ حزني لعظيم، وأسفي لشديد حتّى أنّ القلم يشلّ بين أصابعي”. وفي مناجاة وردت في وصيّته يتوجّع بقوله: “تراني غريقًا في بحار المصائب القاصمة للظّهور، والرّزايا المضيّقة للصّدور… والمحن والآلام المفرّقة للجمع، وأحاطتني الشّدائد من جميع الجهات، وأحدقت بي المخاطر من كلّ الأطراف، خائضًا في غمار الطّامّة الكبرى، واقعًا في بئر لا قرار لها، مضطهدًا من الاعتداء ومحترقًا في نيران البغضاء من ذوي القربى الّذين أخذت منهم العهد الوثيق والميثاق الغليظ”. وفي الوصيّة نفسها يقول: “ترى يا إلهي يبكي عليّ كلّ الأشياء، ويفرح ببلائي ذوو القربى. فوعزّتك يا إلهي! بعض الأعداء رثوا على ضرّي وبلائي، وبكوا بعض الحساد على كربتي وغربتي وابتلائي لأنّهم لم يروا منّي إلاّ كلّ مودّة واعتناء”. كما صاح في أحد ألواحه الأخيرة يصرّح قائلاً: “*يا بهاء الأبهى! لقد انقطعت عن العالم وأهله، وتحطّم قلبي وغمرني الحزن ممّن لا وفاء لهم. إنّي أضطرب في قفص هذا العالم اضطراب الطّائر المفزوع يضرب بجناحيه وذيله وفي كلّ يوم أحنّ إلى الطّيران إلى ملكوتك”.
أمّا حضرة بهاء الله فقد رقم لوحًا يلقي على القصّة كلّها ضوءًا ساطعًا إذ يقول: “تالله يا قوم! يبكي عيني وعين عليّ [الباب] في الرّفيق الأعلى، ويضجّ قلبي وقلب محمّد في السّرادق الأبهى، ويصيح فؤادي وأفئدة المرسلين عند أولي النّهى… لم يكن حزني من نفسي بل على الّذي يأتي من بعدي في ظلل الأمر بسلطان لائح مبين. لأنّ هؤلاء لا يرضون بظهوره ينكرون آياته ويجحدون بسلطانه ويحاربون بنفسه ويخادعون في أمره”. ويقول في لوح آخر لا يقلّ عن سابقه دلاله ولا مغزى: “هل يمكن بعد إشراق شمس وصيّتك من أفق أكبر ألواحك أن تزلّ قدم أحد عن صراطك المستقيم، قلنا يا قلمي الأعلى! ينبغي لك أن تشتغل بما أُمرت من لدى الله العليّ العظيم. لا تسأل عما يذوب به قلبك وقلوب أهل الفردوس الّذين طافوا حول أمري البديع. لا ينبغي لك بأن تطّلع على ما سترناه عنك، إنّ ربّك لهو السّتّار العليم”. وأخصّ من هذا وذاك ما أكّده حضرة بهاء الله مشيرًا به إلى ميرزا محمّد علي بلا لبس ولا إبهام حين يقول: “إنّه عبد من عبادي… *إن انحرف عن ظلّ الأمر لحظة واحدة لأصبح عدمًا صرفًا”، وفضلاً عن ذلك في معرض إشارته إلى ميرزا محمّد علي صرّح بما لا يقلّ تأكيدًا: “تالله الحقّ لو نأخذ عنه في أقلّ من الحين فيوضات الأمر ليصفرّ ويسقط على التّراب”، وعلاوة على ذلك شهد حضرة عبد البهاء بقوله: “*لا شكّ في أنّ ناقضي العهد والميثاق قد لعنوا في ألف موضع من ألواح حضرة بهاء الله”. بل إنّه جمع بعضًا من هذه الفقرات بنفسه، قبل رحيله عن هذا العالم، وضمّنها لوحًا من ألواحه الأخيرة تحذيرًا من هؤلاء الّذين ناصبوه العداء طوال عهده، وأظهروا له البغض الشّديد، وأوشكوا أن يهدموا أساس ميثاق لا ترتكز عليه سلطته وحدها، بل وترتكز عليه أيضًا سلامة الأمر المبارك ووحدته.
أحدث تمرّد ميرزا محمّد علي أحداثًا كئيبة محزنة كثيرة ظلّت نتائجها الوخيمة تكسف نور الميثاق سنوات عدّة، وتهدّد حياة مركزه المختار بالخطر، وتشتّت انتباه أنصاره وأتباعه في المشرق والمغرب، وتعوّق تقدّم فعاليّاتهم ومناشطهم. ومع ذلك فلو نظرنا إلى القصّة كلّها في ملابساتها الصّحيحة وأبعادها المضبوطة، لوجدنا أنّها لا تزيد ولا تنقص عن أن تكون أزمة من تلك الأزمات العارضة الّتي كانت تعمل، منذ فجر دين حضرة بهاء الله، على اقتلاع العناصر المؤذية واستبعادها، وتقوية أسسه ودعائمه، وإظهار صلابته وتماسكه، وإطلاق مقدّرات أعظم من طاقاته الكامنة على مدى قرن كامل من الزّمان.
وأمّا وقد أعلنت مواد الميثاق الإلهي المتين إعلانًا لا لبس فيه ولا إبهام، أمّا وقد ظهرت غاية الميثاق بصورة واضحة، ورسخت أساسيّاته في صدور الأغلبيّة السّاحقة من المؤمنين، أمّا وقد صدّت الهجمات الأولى الّتي شنّها النّاقضون صدًّا ناجحًا فإنّ الأمر المبارك، الّذي من أجله أبرم هذا الميثاق، أمكنه أن يتقدّم على الطّريق الّذي رسمته له إصبع موسّسه. ولقد رأينا من قبل كيف أن المآثر السّاطعة والانتصارات الباهرة سجّلت مولد هذا الأمر المبارك، وصاحبت نهضته في أقطار آسيويّة عدّة ولا سيّما في موطن موسّسه. وأمّا اليوم فإنّ مهمّة قائده الجديد المختار الحامي لمجده والنّاشر لنوره كانت، كما أدركها هو نفسه، توسيع نطاق هذا الإرث المنيع الّذي عهد به إليه، وذلك بإفاضة أنوار دين والده على الغرب، وإيضاح عقائده الأساسيّة ومبادئه الجوهريّة، وتركيز الفعاليات الّتي كانت قد بدأت فعلاً رفعًا لشأنه وترقيةً لمصالحه، ثمّ افتتاح عصر التّكوين من عصور تطوّره بفضل ما نصّت عليه وصيّته.
ولم يكن يمضي عام واحد على صعود حضرة بهاء الله حتّى تنبّأ حضرة عبد البهاء في لوح آثار سخرية النّاقضين، بحادثة ميمونة مباركة، سوف تؤمن الأجيال القادمة بأنّها انتصار من أعظم انتصارات عهده، وأنّها سوف تفيض في النّهاية على العالم الغربيّ ببركة عميمة لا حدّ لها، حادثة تزيل الحزن وتكشف المخاوف الّتي رانت على قلوب إخوانه في منفى عكّاء. أشار حضرة عبد البهاء في ذلك اللّوح إلى أن جمهوريّة الغرب الكبرى ستنفرد، دون سائر دول الغرب الكبرى، بأن تكون أوّل من يتلقّى تلك البركة العميمة الفائقة، وأنّها ستكون العامل الأوّل في الإنعام بها على كثير من أخواتها في طول القارّات الخمس وعرضها.
ومهما قلنا في أهمّيّة هذا التّقدم الخطير في مصائر دين حضرة بهاء الله، ألا وهو تأسيسه في القارّة الأمريكيّة الشّماليّة، فإنّنا لا يمكننا أن نفي بحقّه بحال من الأحوال، وذلك لأنه تمّ في وقت افتتاح حضرة عبد البهاء لعهده وهو ما يزال بين براثن أخطر أزمة واجهها في حياته. فإذا رجعنا إلى السّنة الّتي شهدت مولد الدّين في شيراز وجدنا حضرة الباب، بعد أن يحذّر أهل المشرق والمغرب في إحدى فقرات قيّوم الأسماء الخالدة، يعمد إلى مخاطبة “أهل المغرب” ويأمرهم أن “اخرجوا من دياركم” لنصر الله “فأصبحوا في دين الله الواحد إخوانًا على خط السّواء”. وإذا انتقلنا إلى حضرة بهاء الله رأينا أنّه يكتب انتظارًا لهذا التّطوّر فيقول: “إنّه أشرق من جهة الشّرق، وظهر في الغرب آثاره”، ويتنبّأ مرّة أخرى بقوله: “لو يسترون النّور في البرّ إنّه يظهر من قطب البحر ويقول إنّي محيي العالمين”. ويروي النّبيل في تاريخه أنّ حضرة بهاء الله قال قبل صعوده بقليل: “**لو أنّ هذا الأمر كان ظهر في الغرب ولو أنّ آياتنا كانت أرسلت من الغرب الى إيران وأقطار الشّرق الأخرى لاتّضح كيف يعتنق أهل الغرب أمرنا. إلاّ أنّ أهل إيران عجزوا عن معرفة قدره”. أمّا حضرة عبد البهاء فقد شهد بذلك حين يقول: “*كان النّور الإلهي، منذ البدء إلى وقتنا هذا، يسطع من الشّرق على الغرب. إلاّ أن سطوعه في الغرب كان أقوى وأشدّ. تأمّلوا أمر السّيّد المسيح روحي فداه فقد ظهر من الشّرق. فلمّا سكب ضياءه النّورانيّ على الغرب فاق انتشار نور الملكوت في الغرب انتشاره في الشّرق”. وهو يؤكّد قائلاً: “*عمّا قريب تلاحظون أنّ الغرب أصبح شرقًا من أنوار حضرة بهاء الله. وتهطل رحمة الرّبّ فتهتزّ لها القلوب وتربو”. ويقول أيضًا: “*يقتبس الغرب الضّياء من الشّرق. إلاّ أنّه في بعض الأحيان يكون انعكاس النّور في الغرب أعظم”. وعن قريب تتلألأ هذه الأنوار في مطالع الغرب أعظم من الشّرق”.
وأخصّ من هذا ما تفضّل مؤسّس الظّهور البهائيّ نفسه فأنعم به على حكّام القارة الأمريكيّة من شرف فريد حين خاطبهم جميعًا في الكتاب الأقدس يدعوهم دعوة لها مغزاها أن: “زيّنوا هيكل المُلك بطراز العدل والتّقى، ورأسه بإكليل ذكر ربّكم” ويأمرهم أن “أجبروا الكسير بأيادي العدل، وكسّروا الصّحيح الظّالم بسياط أوامر ربّكم الآمر الحكيم”. وأمّا حضرة عبد البهاء فقط كتب يقول: “*إنّ قارّة أمريكا، عند الله، هي ميدان إشراق الأنوار، وقطر ظهور الأسرار، ومنشأ الأبرار، ومجمع الأحرار”. وقال في موضع آخر: “**تظهر قارّة أمريكا من علامات التّقدّم الباهر ما يجعل مستقبلها أكثر إشراقًا وتبشيرًا، لأنّ نورها وتأثيرها أبعد مدى. ولسوف تهدي كلّ الأمم في ميادين الرّوحانيّة”.
بل إنّ حضرة عبد البهاء اختص جمهوريّة الغرب العظمى، زعيمة أمم القارّة الأمريكيّة بعنايته الخاصّة بصورة أوضح حين قال: “**إنّ الشّعب الأمريكيّ جدير حقًا بأن يكون أوّل من يضرب خيمة السّلام الأعظم ويُعلن وحدة الجنس البشريّ” وحين قال مرّة أخرى: “**هذه الأمّة الأمريكيّة لها من الطّاقة الكامنة ما يمكّنها من أن تقوم بما سوف يزيّن صفحات التّاريخ، ويحسدها عليه العالم، ويهنّئها أهل الشّرق والغرب على ما نالت من ظفر”. وحين قال زيادة على ذلك: “**أسأل الله أن يجعل هذه الجمهوريّة الأمريكيّة أوّل أمّة تضع أساس الصّلح العموميّ، وأوّل أمّة تعلن وحدة الجنس البشريّ، وأوّل أمّة ترفع راية السّلام الأعظم” وكتب أيضًا يقول: “**فينهض أهل تلك البلاد من مستواهم المادّيّ الحاضر إلى مستويات يفيض فيها العرفان السّماويّ من هذا المركز إلى كلّ شعوب العالم”.
وخاطب حضرة عبد البهاء أحبّاء أمريكا الشّماليّة بقوله: “*يا حواريّي بهاء الله روحي لكم الفداء! … تدبروا… أيّ مقامٍ عظيمٍ سامٍ قُدّر لكم، ما زال توفيقكم محجوبًا وغير معروف”. قال مرّة أخرى: “**إنّ مهمّتكم مجيدة تفوق الوصف فإذا تكلّلت مساعيكم بالنّجاح فلسوف تصبح أمريكا مركزًا تفيض منه موجات القوّة الرّوحيّة، ويستقرّ عرش ملكوت الله في كمال جلاله وأوج مجده استقرارًا مكينًا”. وأخيرًا إليكم هذا التّأكيد المثير، قال: “*حين يبلغ هذا النّداء الإلهيّ من أمريكا إلى أوروبّا وآسيا وأفريقيا وأستراليشيا وجزائر الباسفيك… يجلس أحبّاء أمريكا على سرير السّلطنة الأبديّة، ويطبّق صيت نورانيّتهم وهدايتهم الآفاق، ويعمّ صوت عظمتهم الأطراف والأكناف”.
فلا عجب أن نرى الجامعة الّتي تنتمي إلى أمّة بوركت بمثل هذه البركة العميمة، واحتلّت هذه المكانة المرموقة في قارّة غنيّة بمواهبها كلّ هذا الغنى تستطيع خلال خمسين سنة أن تضيف أكثر من صحيفة مشرقة حافلة بالانتصارات الباهرة إلى تاريخ أمر حضرة بهاء الله. وينبغي ألاّ يغرب عن البال أنّ هذه هي الجامعة الّتي تعهدها حضرة عبد البهاء بعناية، ورعاها باهتمامه الدّائم منذ أن برزت إلى حيّز الوجود بفضل القوى الخلاّقة الّتي أطلقها إعلان ميثاق حضرة بهاء الله، وأنّ هذه هي الجامعة الّتي درّبها حضرة عبد البهاء على أن تؤدّي رسالتها الفريدة بفضل ما رقم لها من ألواح تفوق العدّ والحصر، وبفضل ما ألقى إلى الزّائرين العائدين من إرشادات وتوجيهات، وبفضل ما بعث إليها من رسله الخواصّ، وبفضل ما قام به من رحلات عبر قارة أمريكا الشّماليّة من أقصاها إلى أقصاها، وبفضل ما بيّن من تأكيدات خلال هذه الرّحلات على أهمّيّة موسّسة الميثاق، وأخيرًا بفضل ما أوكل إليها من واجبات في ألواح الخطّة الإلهيّة. هذه هي الجامعة الّتي جاهدت، منذ طفولتها حتّى الآن، جهادًا موصولاً، ونجحت بفضل مساعيها المنفردة في أن تركّز علم حضرة بهاء الله في الأغلبيّة السّاحقة من الدّول السّتين الشّرقيّة والغربية([1])، لكلّ واحدة منها الحقّ في أن تفتخر الآن بنعمة الدّخول في حظيرة أمره المبارك. وهذه هي الجامعة الّتي تمتاز بصياغة نماذج الموسّسات الإداريّة الّتي تبشّر بقدوم نظم حضرة بهاء الله العالميّ، كما تمتاز بأنّها أوّل من شيّد هيكله. وبمجهود أعضائها ارتفعت في قلب أمريكا الشّماليّة قواعد “أمّ معابد الغرب” البشير بذلك النّظم. وهي موسّسة من أكرم الموسّسات الّتي أمر بها الكتاب الأقدس، بل وأجلّ موسّسة نهضت في العالم البهائيّ بأسره. وبفضل الجهود المضنية الّتي بذلها مهاجروها ومبلّغوها ومرشدوها اتّسعت دائرة المطبوعات البهائيّة اتّساعًا عظيمًا، وأنصفت أهدافه وأغراضه إنصافًا جريئًا، ووضعت أسس هيئاته الوليدة بصورة راسخة. وكان من النّتائج المباشرة للمحاولات المتّصلة المنفردة الّتي بذلتها أبرز مبلّغاتها المتجوّلات ولاء إحدى الشّخصيات الملكيّة واعتناقها لدين حضرة بهاء الله بصورة تلقائيّة أعلنت إعلانًا صريحًا لا لبس فيه ولا غموض دوّنتها الشّخصيّة الملكيّة بقلمها في شهادات عديدة خلّفتها للأجيال. وأخيرًا إلى أفراد هذه الجامعة، الّذين هم الأحفاد الرّوحيّون لروّاد فجر العصر البطوليّ المجيد، ينبغي أن يُعزى الشّرف الأبديّ الخالد، شرف النّهوض، في أكثر من مناسبة للدّفاع بهمّة وعزم ومضاء ولباقة عجيبة لنصرة المظلومين ولإعالة المعوزين وللدّفاع عن مصالح الموسّسات والهيئات الّتي أقامها إخوانهم الّذين قدّر لهم أن ينالوا حظوظًا متفاوته من الاضطهاد العنصريّ والدّينيّ في بلاد من مثل إيران وروسيا ومصر والعراق وألمانيا.
ومن الغريب حقًّا أن نجد أوّل إشارة علنيّة يُشار بها في تلك البلاد، المنفردة من بين أخواتها في الغرب بمثل هذا الواجب الفريد، إلى موسّس الدّين المجيد تخرج من شفتيّ رجل من رجال دين قدّر للأمر المبارك أن يقاسي منه الشّيء الكثير. والأغرب من هذا أن نرى أوّل من أسّسه في مدينة شيكاغو، بعد خمسين سنة من إعلان حضرة الباب لدعوته في شيراز، يتخلّى بعد سنوات قلائل عن الرّاية الّتي رفعها في تلك المدينة وحده وبلا معين.
ففي الثّالث والعشرين من أيلول سنة 1893م، أي بعد صعود حضرة بهاء الله بما يزيد عن عام بقليل، أعلن نيافة هنري هـ. جيسب([2]) الدّكتور في اللاّهوت ومدير الإرساليّة البرسبتاريّة([3]) في شمال سوريّا في كلمته الّتي ألقاها عنه نيافة جورج أ. فورد([4]) العامل في سوريّا في مؤتمر الأديان العالميّ الّذي انعقد في شيكاغو مع معرض كولومبس [الذي أقيم بمناسبة مرور أربعمائة سنة على اكتشاف أمريكا] فقال إنّ “حكيمًا إيرانيًّا شهيرًا”، وهو القدّيس البابيّ، قد مات أخيرًا في عكّاء، وأنّ “أستاذًا من كمبردج” قد زاره قبل صعوده بسنتين، فعبّر له القدّيس البابيّ عن “مشاعر بلغ من نبلها ومشابهتها للمسيحيّة” أن رغب صاحب الكلمة، في ختام كلمته، أن يشرك معه سامعيه في الاستماع إليها. وبعد ذلك بأقلّ من عام، أي في شباط سنة 1894م، كان طبيب سوري بدعى إبراهيم خير الله قد اتّخذ شيكاغو مقرًّا له وشرع يبلّغ الدّين الّذي اعتنقه بهمّة ونشاط وانتظام. وكان هذا الطّبيب قد آمن بالأمر المبارك أثناء إقامته بالقاهرة على يد الحاج عبد الكريم الطّهراني وتلقّى لوحًا من حضرة بهاء الله واتّصل بحضرة عبد البهاء ووصل نيويورك في كانون الأوّل سنة 1892م واستقرّ في شيكاغو. وفي غضون عامين كتب إلى حضرة عبد البهاء يصف مشاعره، ويستعرض النّجاح الباهر الّذي كلّلت به جهوده. وفي سنة 1895م وفّق إلى فتح جديد في كنوشا([5]) الّتي حرص على زيارتها مرّة كلّ أسبوع أثناء نشاطه التّبليغيّ. وما أن وافت السّنة التّالية حتّى كان الأحبّاء في هاتين المدينتين يعدّون بالمثات كما ورد في التّقارير. وفي سنة 1897م نشر كتابه “باب الدّين”، وزار كنساس([6]) ونيويورك وإيثاكا([7]) وفيلادلفيا حيث استطاع أن يكسب للأمر المبارك عددًا لا يستهان به من الأنصار. وكان من أبرز من نهضوا يبشّرون باليوم الجديد، ويكرّسون أنفسهم لخدمة الميثاق الحديث الإعلان: ثورنتون تشيس([8]) الرّابط الجأش الّذي لقّبه حضرة عبد البهاء “بالثّابت” ووصفه بأنّه “أوّل من آمن” من أمريكا، لأنّه آمن سنة 1894م. ومنهم لويزا أ. مور([9]) الخالدة، أمّ مبلّغات الغرب، الّتي لقّبها حضرة عبد البهاء “باللّواء” والدّكتور إدوارد جتسنجر([10]) الّذي تزوّجته الآنسة لواء فيما بعد، وهوارد ماك نت([11])، وآرثر ب. دودج([12])، وإيزابيلا برتنجهام([13])، وليليان ف. كابّس([14])، وبول ن. ديلي([15])، وتشستر أ. تاتشر([16])، وهيلين س. جودال([17]) وهؤلاء فريق سوف تظلّ أسماؤهم مرتبطة بالإشراقات الأولى لدين حضرة بهاء الله في القارة الأمريكيّة الشّماليّة.
وما وافت سنة 1898م حتّى أظهرت السّيدة فيبي هيرست([18]) (زوجة السّناتور جورج ف. هيرست([19]) الّتي آمنت على يد السّيدة جتسنجر أثناء رحلة قامت بها الأخيرة إلى كاليفورنيا، عزمها على التّشرّف بمحضر حضرة عبد البهاء في الأرض الأقدس، ودعت نفرًا من الأحبّاء إلى مصاحبتها من بينهم الدّكتور جتسنجر وزوجته، والدّكتور خير الله وزوجته. وأتمّت الإجراءات الضّروريّة لهذه الزّيارة التّاريخيّة لعكّاء. وفي باريس انضمّ إلى الفريق عدد من الأمريكيّين المقيمين من بينهم ماي أليس بولز([20]) الّتي آمنت على يد السّيّدة جتسنجر، والآنسة بيرسون([21])، وآن أبيرسون([22]) وكلتاهما ابنتا أخت السّيّدة هيرست مع السّيدة ثورنبرغ([23]) وابنتها، زاد عددهم بانضمام بنات الدّكتور خير الله وجدّاتهنّ اللّواتي آمنّ في مصر على يد الدّكتور خير الله أخيرًا.
وكان قدوم خمسة عشر زائرًا في ثلاثة أفواج متعاقبة، وصل الفوج الأوّل منها والّذي ضمّ الدّكتور جتسنجر وزوجته إلى مدينة السّجن عكّاء في العاشر من كانون الأوّل سنة 1898م، والاتّصال المباشر المتين بين مركز ميثاق حضرة بهاء الله ومطالع أنواره في الغرب، والظّروف المثيرة الّتي اكتنفت زيارتهم لمرقده المقدّس، وما أنعم به هذا المضيف المحبّ المنعم من شرف اصطحابه لهم إلى الغرفة الدّاخليّة للضّريح والرّوح العالية الّتي نفخها فيهم بسيرته ومسلكه وأقواله، وشحنهم بها رغم قصر مدّة إقامتهم والحماسة الجيّاشة والعزم الرّاسخ الّتي أشعله في نفوسهم، وإرشاداته الملهمة وتوجيهاته النّيّرة، وإمارات محبّته الإلهيّة المتعدّدة لهم، كان كلّ ذلك مشيرًا إلى افتتاح عهد جديد من تقدّم الدّين في الغرب، وهو العهد الّذي أظهرت دلالته الأعمال المجيدة الّتي قام بها، فيما بعد، بعض هؤلاء الزّائرين وإخوانهم إظهارًا رائعًا.
كتبت إحدى المتشرّفات بمحضره تسجّل مشاعرها، قالت: “أمّا عن اللّقاء الأوّل فإني لا أذكر فرحًا ولا ترحًا ولا شيئًا ممّا يمكنني أن أسمّيه. ذلك لأنّني سموت فجأة إلى ارتفاع شاهق، واتّصلت روحي بالرّوح الإلهيّ. وحيّرتني هذه القوّة الطّاهرة المقدّسة العظيمة… لم نستطع أن نحوّل أنظارنا عن وجهه الجليل. وسمعنا كلّ ما قال وشربنا الشّاي بأمره إلاّ أنّ الوجود كان معطّلاً. فلمّا نهض وتركنا فجأة عدنا إلى الحياة منتفضين. ولكن حمدًا لله! لم تكن حياتنا الأولى أبدًا، ولم تكن الأرض هي الأرض أبدًا!” وفي ذكرى آخر لقاء لهؤلاء الزّائرين قالت الزّائرة نفسها: “في جلال محضره وهيمنته تحوّل خوفنا أمنًا، وضعفنا قوّة، وأسفنا أملاً، وفنينا في محبّتنا له. وبينما نحن جلوس بين يديه ننتظر أن نستمع إلى كلماته أجهش بعض الأحبّاء بالبكاء فأمرهم أن يكفكفوا عبراتهم، إلاّ أنّهم لم يستطيعوا ذلك حتّى لحظة واحدة فعاد يرجوهم ألاّ يبكوا وإلاّ فإنه لن يتحدّث إلينا ولن يعلّمنا حتّى تجف العبرات جميعًا…”
وكتبت السّيدة هيرست في إحدى رسائلها تقول: “… تلك الأيّام الثّلاثة كانت أخلد أيّام حياتي وأبقاها ذكرًا… أمّا المولى فلن أحاول أن أصفه. وإنّما أكتفي بأن أقرّر أنّني أؤمن من كلّ قلبي بأنّه هو المولى، وأنّ أعظم ما بوركت به في هذه الدّنيا هو امتيازي بالمثول في حضرته واستجلاء طلعته المباركة… إنّ عبّاس أفندي هو بلا شكّ مسيح هذا اليوم وهذا الجيل، فلسنا في حاجة إلى أن نبحث عن سواه”. وكتبت في خطاب آخر تقول: “يجب أن أعترف بأنّه أنبل مخلوق لقيته أو أتوقّع أن ألقاه في هذه الدّنيا… وإنّ محاولة وصف الجوّ الرّوحي الّذ ي يحيط به فيؤثّر في كلّ من تبرّك بمحضره تأثيرًا قويًّا لأمر يعجز عنه كلّ بيان. إنّني أؤمن به من أعماق قلبي وروحي، وآمل أن يخصّه كلّ الّذين يسمّون أنفسهم بالأحبّاء بالعظمة كلّها والمجد كلّه والثّناء كلّه لأنّه هو، بلا ريب، ابن الله، وروح الأب تسكن فيه”.
بل إنّ خادم السّيدة هيرست الزّنجيّ، ويدعى روبرت ترنر([24])، كان أوّل من يؤمن بالأمر المبارك من بني جنسه في الغرب. فقد انجذب بتأثير حضرة عبد البهاء، أثناء تلك الزّيارة التّاريخيّة. وقد بلغ من رسوخ إيمانه أنّ سيّدته المحبوبة تنكّرت، فيما بعد، للدّين الّذي اعتنقته، فلم يؤثّر ذلك فيه بأيّة حال، ولم يقلّل من عمق المشاعر الّتي أثارها في صدره ما حباه به حضرة عبد البهاء من الرّأفة والمحبّة.
عاد بعض هؤلاء الزّائرين السّكارى بخمر الله إلى فرنسا، وعاد بعضهم الآخر إلى الولايات المتّحدة. وكان ذلك إيذانًا بانطلاق نشاط منظّم متساند ومتواصل نما واستجمع قوّة أعظم، وامتدّت أغصانه إلى أوروبّا الغربيّة وولايات أمريكا الشّماليّة وأقاليمها الشّاسعة، واتّسع مجال هذا النّشاط اتّساعًا جعل حضرة عبد البهاء يصمّم على السّفر إلى الغرب حالما يطلق سراحه من اعتقاله المديد في عكّاء. نعم! فلقد انطلقت جامعة الأحبّاء الأمريكيّين، لا يعرقل مسعاهم الأزمة المخرّبة الّتي أحدثها طموح الدّكتور خير الله بعد عودته من الأرض الأقدس (في كانون الأوّل سنة 1899م)، ولا تفزعها القلاقل الّتي أثارها بالتّعاون مع ناقض الميثاق الأكبر وأعوانه ورسله، ولا تهتمّ بالهجمات الّتي أخذ يشنّها هو والمنشقّون معه ورجال المسيحيّة الّذين زاد من حسدهم قوّة الدّين النّاهض وانتشار تأثيره. قام هؤلاء الأحبّاء، يعزّزهم في مسعاهم صفّ طويل من الزّائرين الّذين كانوا يبلّغون رسائل المولى السّاهر الشّفهيّة وإرشاداته وتعليماته الخاصّة، وتقوّي عزائمهم فيوضات قلمه المسجّلة في الألواح الّتي لا تعدّ ولا تحصى، ويوجّههم الرّسل والمبلّغون المتعاقبون الّذين كان يرسلهم بأمره لإرشادهم وتثبيت أقدامهم وتعميق إيمانهم. وبدأوا سلسلة من الأعمال الّتي باركها حضرة عبد البهاء، ونشّطها بعد عشر سنوات، والّتي لم تكن سوى مقدّمة لتلك الخدمات الفائقة الفذّة الّتي قدّر لهم أن يؤدّوها خلال عصر التّكوين من دورة والده العظيم.
وما كادت إحدى الزّائرات، وهي ماي بولز السّالفة الذّكر، تعود إلى باريس حتّى استطاعت أن تؤسّس في تلك المدينة أوّل مركز بهائي أُنشئ في القارّة الأوروبيّة، وذلك انصياعًا لتعليمات حضرة عبد البهاء المشدّدة. ولقد تعزّز هذا المركز بعد عودتها بقليل بإيمان أوّل مؤمن إنجليزيّ وهو توماس بريكويل([25]) الّذي خلّد ذكره حضرة عبدالبهاء بالثّناء العاطر النّازل في ذكراه، وإيمان أوّل مؤمن فرنسيّ وهو هيبوليت دريفوس([26]) الّذي استطاع بكتاباته وترجماته ورحلاته وخدماته الرّائدة الأخرى أن يؤطّد، على مرّ السّنين والأعوام، دعائم العمل الّذي بدئ في بلاده، وإيمان لورا بارني الّتي أدّت خدمتها الخالدة بأن جمعت بيانات حضرة عبد البهاء النّفيسة الّتي تناولت موضوعات متنوّعة أشدّ التّنوّع، والّتي ألقاها أثناء زيارتها المديدة للأرض الأقدس، وأخرجتها للأجيال القادمة على هيئة كتاب عنوانه “المفاوضات”. وبعد ثلاث سنوات، أي في سنة 1902م، انتقلت ماي بولز([27]) الّتي تزوجت آنذاك رجلاً كنديًّا، إلى منتريال، ونجحت في وضع أسس الأمر المبارك في تلك البلاد.
ونتيجة للتّأثيرات الخلاّقة الّتي أحدثتها هذه الزّيارة الباقية الذّكر، استطاعت السّيدة ثورنبرغ كروبر([28]) أن تبدأ في لندن نشاطًا وسّعته وغذّته جهود المؤمنين الإنجليز الأُوَل ولا سيّما جهود إثيل ج. روزنبرج([29]) الّتي آمنت سنة 1899م، فتمكّنوا في السّنوات التّالية من إقامة هيكل موسّساتهم الإداريّة في الجزر البريطانيّة. أمّا في أمريكا الشّماليّة، فقد عرّض ارتداد الدّكتور خير الله وكذلك النّشرات المفسدة المجرّحة الّتي نشرها بتشجيع ميرزا محمّد علي وابنه شعاع الله الّذي أوفده إلى أمريكا، ولاءهم وإخلاصهم لأشدّ أنواع الامتحان، وهم ما زالوا في مدارج الطّفولة. إلا أنّ الرّسل المتعاقبين الّذين أوفدهم حضرة عبد البهاء من أمثال الحاج عبد الكريم الطّهراني، والحاج ميرزا حسن الخراساني، وميرزا أسد الله، وميرزا أبو الفضل، نجحوا في تبديد الشّكوك وتشتيت الظّنون بسرعة، كما نجحوا في توسيع مدارك الأحبّاء ولمّ شعثهم وتوحيد كلمتهم، وتكوين نواة تلك الموسّسات الإداريّة الّتي قدر لها أن تُفتتح رسميًا بعد عشرين سنة بمقتضى نصوص وصيّة حضرة عبد البهاء الواضحة وموادّها. وما أن وافت سنة 1900م حتّى تشكّلت لجنة استشاريّة مسمّاة بـ”بيت العدل” ثمّ بـ”بيت الرّوحانيّة” وهي أوّل حلقة من سلسلة المحافل الّتي غطّت قارة أمريكا الشّماليّة من الشّاطئ إلى الشّاطئ قبل انتهاء القرن البهائيّ الأوّل. وفي سنة 1902م تشكّلت في شيكاغو جمعيّة النّشر البهائيّة لترويج المطبوعات الأمريّة الّتي أخذت تنتشر تدريجيًّا. وصدرت في نيويورك نشرة بهائيّة لنشر تعاليم الأمر المبارك، تلتها “الأخبار البهائيّة”، وهي نشرة أخرى صدرت في شيكاغو سرعان ما تطوّرت إلى مجلة “نجم الغرب”. وتُرجمت بهمّة ونشاط بعض كتب حضرة بهاء الله المهمّة من مثل “الكلمات المكنونة” و”الإيقان” و “ألواح الملوك” و “الوديان السّبعة” مع ألواح حضرة عبد البهاء. كما تُرجمت عدّة مقالات ونُبَذ كتبها ميرزا أبو الفضل وآخرون. وبدأت مراسلات لا يُستهان بها مع المراكز الأمريّة المختلفة في الشّرق أخذت تزداد في مجالها وأهمّيّتها. ونُشرت التّواريخ المختصرة للأمر المبارك كما نُشرت الكتب والعجالات دفاعًا عنه، وكتبت المقالات للصّحف، ونُشرت الإحصائيّات والتّقارير عن الرّحلات والزّيارات والمدائح والقصائد والمثنويّات وروّجت ترويجًا واسعًا.
وفي هذه الأثناء قام المسافرون والمبلّغون، الّذين خرجوا ظافرين من بحران الافتتان وعواصف الامتحان الّتي هدّدت دينهم المحبوب، بطوع رغبتهم ليعزّزوا حصون الأمر المبارك الّتي كانت قد أنشئت حديثًا ويضاعفوا عددها. فكوّنوا مراكز أمريّة في واشنطن وبوسطن وسان فرانسيسكو ولوس أنجلس، وكليفلاند وبلتيمور ومينيابوليس وبفالو وروشستر وبتسبرغ وسياتل وسانت بول وفي أماكن كثيرة أخرى. وبدأ المهاجرون الشّجعان المقيمون منهم والعابرون، يقومون بالرّحلات متلهّفين على نشر البشارة الجديدة خارج حدود بلادهم الأصليّة، وشرعوا في القيام بأعمال حملت نورها إلى قلب أوروبّا والشّرق الأقصى وجزائر المحيط الهادي. فرحل مايسون ريمي([30]) إلى روسيا وإيران ثمّ طاف مع هوارد ستروفن([31]) حول العالم لأوّل مرّة في التّاريخ البهائيّ، وزارا في طريقهما جزر هاواي واليابان والصّين والهند وبورما. وسافر هوبر هارس([32]) وهارلان أوبر([33]) ما لا يقلّ عن سبعة أشهر في الهند وبورما وزارا بومباي وبونا ولاهور وكلكتا ورانجون ومندلاي. واقتفت ألما نبلوك([34]) آثار الدّكتور أ. فيشر([35])، وركّزت راية الأمر المبارك في ألمانيا، وحملت نوره إلى النّمسة، وحوّلت الدّكتورة سوزان آي. مودي([36]) وسيدني سبراج([37])، وليليان ف. كابس([38])، والدكتورة سارة كلوك([39]) وإليزابت ستيوارت([40]) مقامهنّ إلى طهران رجاء التّقدّم بمصالح الأمر المبارك المتشابكة بالتّعاون مع الأحبّاء في تلك المدينة. وكانت سارة فارمر([41]) قد كوّنت سنة 1894م في عكّاء الخضراء بولاية مين اجتماعات صيفيّة وأسّست مركزًا لترويج الوحدة والإخاء بين الأجناس والأديان ولكنها زارت عكّاء سنة 1900م ثمّ عادت ووضعت هذه الاجتماعات وكلّ معدّاتها وتجهيزاتها تحت تصرّف أتباع الأمر المبارك الّذي اعتنقته أخيرًا.
وأخيرًا وليس آخرًا، قام الأحبّاء في شيكاغو بعد أن ألهمهم ما قام به إخوانهم في عشق آباد من الشّروع في تشييد أوّل “مشرق الأذكار” في العالم البهائيّ، وبعد أن ألهبتهم الرّغبة في إظهار إيمانهم وولائهم بطريقة ملموسة مناسبة، وتوسّلوا إلى حضرة عبد البهاء أن يأذن لهم في إقامة معبد ففازوا بموافقته العاجلة الحماسيّة المدوّنة في لوح رقمه في حزيران سنة 1903م، فقاموا على قلّة عددهم وضعف مواردهم ليأخذوا على عاتقهم عملاً يعدّ أعظم خدمة أدّاها الأحبّاء للأمر المبارك إلى الآن، لا في أمريكا وحدها بل وفي الغرب كلّه. وبفضل تشجيع حضرة عبد البهاء فيما بعد، وبفضل التّبرّعات الّتي قدّمتها المحافل الرّوحانيّة المختلفة، دعا أعضاء هذا المحفل الرّوحانيّ ممثّلي الأحبّاء في البلاد المختلفة لاجتماع يعقد في شيكاغو لتدشين هذا المشروع الجبّار الّذي أخذوه على عواتقهم. وفي السّادس والعشرين من تشرين الثّاني سنة 1907م كوّن المندوبون المجتمعون لجنة من تسعة أفراد لاختيار الموقع المناسب للمعبد المزمع إنشاؤه. وما أن وافى اليوم التّاسع من نيسان سنة 1908م حتّى دفعوا ألفي دولار لشراء قطعتين من أرض البناء تقعان على مقربة من شاطئ بحيرة متشيغان([42]). وفي آذار سنة 1909م وجّهت الدّعوة لعقد مؤتمر يمثّل المراكز الأمريّة المختلفة، وذلك بناء على التّعليمات الّتي وجّهها حضرة عبد البهاء. فاجتمع في شيكاغو تسعة وثلاثون مندوبًا عن ستٍّ وثلاثين مدينة. وكان ذلك في نفس اليوم الّذي أرقد فيه حضرة عبد البهاء رفات حضرة الباب في المقام الأعلى الّذي شيّد على جبل الكرمل. وكوّنوا هيئة مركزيّة دائمة تعرف بـ”وحدة المعبد البهائيّ”. وتمّ تسجيلها قانونيًّا لدى حكومة ولاية إلينوي كهيئة دينيّة تعمل بموجب قوانين هذه الولاية لها الحقّ في امتلاك أرض المعبد وتهيئة الوسائل اللاّزمة لتشييده. وفي هذا المؤتمر وضع دستور لهذه الهيئة وتشكّلت هيئة أخرى هي اللّجنة التّنفيذيّة لوحدة المعبد البهائيّ وانتخب أعضاؤها وخوّلهم المندوبون سلطة تكملة شراء الأرض التي أوصى بها المؤتمر السّابق. وانهالت التّبرّعات لهذا العمل التّاريخيّ من الهند وإيران وتركيّا وسوريّا وفلسطين وروسيا ومصر وألمانيا وفرنسا وإنجلترا وكندا والمكسيك وجزر الهاواي بل ومن موريشوس([43])، وما لا يقل عن ستّين مدينة أمريكيّة. وفي سنة 1910م، أي قبل زيارة حضرة عبد البهاء لأمريكا بعامين، بلغت التّبرّعات ما لا يقلّ عن عشرين ألف دولار. وهو دليل ملحوظ على تماسك الأحبّاء في المشرق والمغرب، وعلى الجهود المخلصة المتفانية الّتي بذلها أحبّاء أمريكا الّذين أسهموا أثناء تقدّم العمل بالقدر الأكبر من المبلغ الّذي زاد على المليون ونصف المليون من الدّولارات اللاّزمة لتشييد بنيان المعبد وزينته الخارجيّة.
([1]) إنّ الإحصاء الوارد هو إحصاء عام 1944 الّذي هو عام صدور الكتاب.
([13]) Isabella D. Brittingham
إنّ الأعمال البارزة الّتي أنجزتها الجامعة الجريئة الممتحنة أشدّ الامتحان واعتبرت بواكير الثّمار الّتي أثمرها في العالم الغربيّ ميثاق حضرة بهاء الله المبرم حديثًا، وصفت بأنّها كانت أساسًا مهيبًا يستدعي حضور مركز ذلك الميثاق المختار الّذي أوجد تلك الجامعة بعناية فائقة وأشرف على مصائرها في مهدها ببصيرة صادقة. على أنّه لم يستطع أن يقوم برحلته الخالدة إلى شواطئ القارّة الّتي أشارت فيها هذه الأعمال الفخمة الباقية إلى نهضة دين والده وتأسيسه إلاّ بعد أن خرج من تلك الأزمة الّتي وقع فريسة لها منذ عدّة سنوات.
أمّا هذه الأزمة الثّانية الكبرى الّتي حدثت في عهده فكانت خارجيّة ولكنّها لا تكاد تقلّ في قسوتها عن تلك الّتي أحدثها عصيان ميرزا محمّد علي. إذ عرّضت حياته للخطر تعريضًا جسيمًا وحرمته عدّة سنوات من الحرّيّة النّسبيّة الّتي تمتّع بها، وبلبلت أهله والأحبّاء في المشرق والمغرب، وفضحت كما لم تفضح أزمة من قبل، انحطاط خصومة الألدّاء وسفالتهم. نشأت هذه الأزمة بعد رحيل الزّوار الأمريكيّين الأُوَل من الأرض المقدّسة بسنتين واستمرّت حلقاتها بدرجات مختلفة الشّدّة سبع سنوات ونيّف. وكان مرجعها المباشر الدّسائس المستمرّة الّتي كان يحوكها النّاقض الأكبر لميثاق حضرة بهاء الله وأعوانه والافتراءات الفظيعة الّتي كانوا يروّجونها.
فلقد عزّ على ميرزا محمّد علي أن يفشل فشلاً ذريعًا في إحداث الصّدع الّذي علّق عليه كلّ آماله، وآذاه ذلك النّجاح الأبهر الّذي أحرزه حملة لواء الميثاق في أمريكا الشّماليّة برغم مكائده، وشجّعه حكم تزدهر في جوّه الدّسائس والظّنون على رأسه سلطان قاسٍ لئيم، فصمّم على استغلال مجيء الزّائرين الغربيّين إلى مدينة السّجن عكّاء والشّروع في تشييد مقام حضرة الباب على جبل الكرمل أسوأ استغلال، فنهض لذلك ومعه أخوه ميرزا بديع الله ويناصره صهره ميرزا مجد الدّين، باذلاً الجهود المضنية والمحاولات الملحّة الّتي نجح بأثرها في إثارة شكوك الحكومة التّركيّة ورجالها، وحملهم على استثناف تضييق الخناق على حضرة عبد البهاء، الأمر الّذي قاسى منه كثيرًا في أيّام حضرة بهاء الله.
ولقد أقرّ هذا الأخ نفسه، وشريك ميرزا محمّد علي الأكبر، بالدّسائس الخبيثة الّتي حيكت وذلك في اعترافه الكتابيّ الّذي وقّعه بتوقيعه وختمه بخاتمه ونشره أثناء فترة صلحة مع حضرة عبد البهاء. قال ميرزا بديع الله: “سوف أتجاهل ما سمعته من الآخرين ولن أروي إلاّ ما رأيت بعيني وسمعت بأذني من شفتيه [أي من شفتي ميرزا محمّد علي]”. ثمّ مضى يقول: “اتّخذ [أي ميرزا محمّد علي] التّدابير ليوفد ميرزا مجد الدّين إلى ناظم باشا والي دمشق بهديّة وخطاب مكتوب بالفارسيّة يلتمس معونته… وقد أخبرني [أي ميرزا مجد الدّين] في حيفا، أنّه بذل كلّ ما استطاع من جهد ليوقفه [أي الحاكم] على العمل الجاري على جبل الكرمل، ومجيء المؤمنين الأمريكيّين ورواحهم وعلى الاجتماعات الّتي تعقد في عكّاء. وقد لاطفه الباشا كلّ الملاطفة رغبةً منه في الوقوف على كلّ الحقائق، وأكّد له معونته. وبعد عودة ميرزا مجد الدّين بأيّام قلائل جاءت من الباب العالي برقيّة بالشّيفرة تحمل أوامر السّلطان بحبس حضرة عبد البهاء وحبسي وآخرين”. وشهد زيادة على ذلك في الوثيقة نفسها أنّ “رجلاً جاء من دمشق إلى عكّاء وقرّر للنّاس أنّ ناظم باشا هو السّبب في حبس عبّاس أفندي. وأغرب الأشياء جميعًا أنّ ميرزا محمّد علي هذا كتب رسالة إلى ناظم باشا يرجوه فيها أن يطلق سراحه هو. إلاّ أنّ الباشا لم يكتب حرفًا واحدًا للإجابة عن خطابه الأوّل ولا الثّاني”. وفي اليوم الخامس من شهر جمادى الأولى سنة 1319 للهجرة (20 آب سنة 1901م) أعلم حضرة عبد البهاء بتعليمات السّلطان عبد الحميد، وكان حينذاك عائدًا من البهجة حيث اشترك في الاحتفال بليلة بعثة حضرة الباب، تقضي بأن يستأنف التّضييق الّذي كانت وطأته قد خفّت تدريجًا، وبأنّه هو وأخوته لا ينبغي لهم أن يغادروا أسوار المدينة، وقد أعلم حضرة عبد البهاء بذلك أثناء لقاء تمّ بين حضرته وبين حاكم عكّاء. ونفّذ قرار السّلطان تنفيذا صارمًا بادئ الأمر، وضيّق على حريّة الجامعة المنفيّة تضييقًا عظيمًا، وكان على حضرة عبد البهاء أن يعاني وحده ودون معونة، مشقّة التّحقيقات المطوّلة الّتي أجراها القضاة ورجال الحكومة الّذين أخذوا يستدعونه إلى سراي الحكومة مرّة بعد أخرى عدة أيّام متوالية لإتمام التّحقيق. وكان من بين الأعمال الأولى الّتي قام حضرته بها أن تدخّل لصالح إخوته الّذين استدعاهم الحاكم على الفور وأبلغهم أوامر السّلطان. وهو عمل عجز عن أن يلطّف حدّة عداوتهم، أو يقلّل نشاطهم الشّرير إلاّ أنّ حضرته أفلح بعد مدّة بسعيه لدى السّلطات المدنيّة والعسكريّة في أن يحصل لأتباعه المقيمين بعكّاء على الحرّيّة فتمكّنوا من متابعة التّكسّب دون مضايقة.
ولم يشفِ غليل ناقض الميثاق ما اتّخذته السّلطات من التّدابير نحو الرّجل الّذي تدخّل لصالحهم هذا التّدخل النّبيل. فنهضوا يريدون الإجهاز عليه يساعدهم في ذلك يحيى بيك مدير الشّرطة الخبيث ومعه رجال آخرون من السّلك المدنيّ والعسكريّ الّذين قاموا باستبدال آخرين ممّن كانوا يتعاطفون مع حضرة عبد البهاء إزاء احتجاجات النّاقضين وكذلك أعوان متستّرون يسافرون بين عكّاء والآستانة ويشرفون إشرافًا دقيقًا على كلّ ما يدور في بيته. وطفقوا يغدقون على رجال الحكومة الهدايا ويجزلون العطايا الّتي اشتملت في بعض الأحيان على أمتعة هي من آثار حضرة بهاء الله المباركة، وينفحون الرّفيع والوضيع بلا حياء برشوات دفعوها في بعض الأحيان من ثمن أملاك أمتلكها حضرة بهاء الله أو وهبها لهم حضرة عبد البهاء. ولم يدّخروا وسعًا، ومضوا في نشاطهم الممقوت بعزم أكيد مصمّمين على أن يحاولوا المستحيل حتّى يتمكّنوا من إعدامه أو نفيه إلى مكان يمكّنهم من تخليص الدّين من قبضته. فطفقوا يقصدون في مناسبات كثيرة والي دمشق ومفتي بيروت ويلجأون إلى أعضاء الإرساليّات البروتستانتيّة المقيمة في سوريّا وعكّاء بل إلى الشّيخ أبي الهدى الواسع النّفوذ في الآستانة، وكان السّلطان يجلّه كإجلال محمّد شاه لرئيس وزرائه الحاج ميرزا آقاسي، ويتوسّلون إليهم ويحملونهم على أن يعاونوهم في تنفيذ خططهم البشعة.
وزيّن ناقضو الميثاق لهؤلاء البارزين ضرورة العمل المباشر وذلك عن طريق الرّسائل الشّفهيّة والاتّصالات الرّسميّة والمقابلات الشّخصيّة، وكيّفوا مزاعمهم بمهارة وبراعة وفق أهواء هؤلاء ومصالحهم. فلبعضهم أظهروا أنّ حضرة عبد البهاء مغتصب فظّ يتعدّى على حقوقهم ويسلبهم ميراثهم وممتلكاتهم، ويغيّر قلوب أصدقائهم في إيران عليهم، وأنّه جمع لنفسه أموالاً طائلة، وأنّه يمتلك ما لا يقلّ عن ثلثيّ أرض حيفا، ولآخرين أعلنوا أنّ حضرة عبد البهاء يطمع في أن يجعل من عكّاء وحيفا مكّة جديدة ومدينة جديدة، ولطائفة ثالثة أكّدوا أنّ حضرة بهاء الله لم يكن سوى درويش متقاعد يؤمن بالإسلام ويدعو له، وأنّ ابنه عبّاس أفندي يرفعه إلى مقام الألوهيّة وذلك تمجيدًا لنفسه لأنّه يدّعي أنّه ابن الله ورجعة السّيّد المسيح، واتّهموه أيضًا بأنّه يضمر السّوء للدّولة ويعدّ العدّة لعصيان السّلطان، فرفع فعلاً علم “يا بهاء الأبهى” وهو علم العصيان، في قرى قصيّة من فلسطين وسوريّا، وإنّه قد حشد في الخفاء جيشًا مكونًّا من ثلاثين ألف رجل، وأنّه منهمك في بناء قلعة حصينة ومخزن فسيح للعتاد على جبل الكرمل، وأنّه حصل على المعونة المادّيّة والمعنويّة من عدد كبير من الأصدقاء الإنجليز والأمريكيّين، ومن بينهم رجال دول أجنبيّة جاءوا متنكّرين في أعداد كبيرة ليرفعوا له فروض الولاء، وأنّه وضع بالتّشاور معهم خططًا لإخضاع الأقاليم المجاورة وطرد السّلطات الحاكمة منها والاستيلاء في النّهاية على صولجان السّلطان نفسه. بمثل هذا التّشويه وبتلك الرّشوات أفلحوا في حمل بعض النّاس على التّوقيع على الوثائق الّتي كانوا قد أعدّوها بأنّها شهود وأرسلوها مع أعوانهم إلى الباب العالي.
لم تعجز هذه الاتّهامات الخطيرة الواردة في التّقارير العديدة عن إقلاق خواطر عاهل يملؤه الخوف فعلاً من اقتراب تفشّي العصيان بين رعاياه. فانتُدبت لجنة لتحرّي الأمر وكتابة تقرير بما يصل إليه التّحرّي من نتائج. وقد عني حضرة عبد البهاء حين استدعي إلى ساحة القضاء بأن يفنّد في قوّة وبلا خوف كلّ تهمة من هذه الاتّهامات ويبيّن سخافتها، ويوقف أعضاء اللّجنة على مواد وصيّة حضرة بهاء الله تأييدًا لدفاعه. وأبدى استعداده للخضوع لأيّ حكم يقرّره القضاء، وأكّد ببلاغة أنّهم إن أوثقوه بالأغلال أو سحبوه في الشّوارع أو لعنوه وسخروا منه أو رجموه أو بصقوا في وجهه أو صلبوه في الميدان العام ومزّقوا جسده بالرّصاص فإنّه يعدّ ذلك شرفًا رفيعًا إذ إنّه بذلك يقتدي بحضرة بالباب زعيمه المحبوب ويشاطره آلامه.
ولا تسل عن خطورة الموقف الّذي جابهه حضرة عبد البهاء والشّائعات الّتي روّجها الأهلون الّذين باتوا ينتظرون أخطر التّطوّرات، ولا عن الإشارات والتّلميحات الصّادرة في جرائد مصر وسوريّا إلى الأخطار الّتي تهدّد حياته، ولا عن الصّبغة الهجوميّة الّتي زاد اصطباغ أعدائه بها، ولا المسلك الاستفزازيّ الّذي سلكه بعض أهالي عكّاء وحيفا بعد أن جرّأتهم تكهّنات هؤلاء الأعداء ومزاعمهم عن المصير الّذي ستؤول إليه الجامعة المتّهمة وزعيمها، كلّ ذلك جعل حضرة عبد البهاء يقلّل من عدد الزّائرين بل ويعطّل زياراتهم زمنًا، ويصدر تعليمات خاصّة بأن يُسلّم بريده إلى يد مندوب في مصر فذلك كان أفضل من إرساله إلى حيفا، وظلّ مدّة يأمر بأن يُحتفظ بالبريد هناك انتظارًا لنصيحة أخرى. كما أوصى المؤمنين وأمناء سرّه بأن يجمعوا كلّ ما في حوزتهم من آثار بهائيّة ويضعوها في حرز أمين، وحملهم على أن يحوّلوا مقامهم إلى مصر بل ذهب إلى أبعد من هذا فنهاهم على كرهٍ منهم أن يجتمعوا في بيته. وامتنع أصدقاؤه العديدون والمعجبون به عن زيارته في الأيّام الحالكة من هذه الفترة العصيبة خشية أن ينغمسوا في الأمر ويثيروا شبهات السّلطات. وعندما بدا الحال على أبشع صورة، كنت ترى المنزل الّذي يعيش فيه، والّذي كان مركزًا للنّشاط سنين عديدة بات مهجورًا في بعض الأيّام واللّيالي. فلقد ظلّت الجواسيس يضربون حوله نطاقًا من التّجسّس الظاهر والخفّي حاسبين عليه كلّ حركة من حركاته مضيّقين الخناق على أسرته.
أمّا تشييد مقام حضرة الباب الّذي وضع حضرة عبد البهاء حجره الأساسي في البقعة الّتي باركها حضرة بهاء الله واختارها، فقد أبى أن يوقفه أو يعطّله ولو لفترة قصيرة من الزّمن. كما أنّه لم يكن يسمح بأن تقوم أيّة عقبة مهما كانت فتعطّل الفيض اليوميّ من الألواح، ذلك الفيض الّذي انهمر في سرعة عجيبة وكمّيّة ضخمة متزايدة من قلمه الّذي لا يكلّ، فكان يجيب على ذلك العدد الهائل من الرّسائل والتقارير والاستفسارات والدّعوات وإعلان الإيمان بالدّين والاعتذارات والمدائح الواردة ممّن لا يحصى عددهم من الأتباع والمعجبين في المشرق والمغرب معًا. ولقد شهد شهود العيان أنّهم رأوا حضرة عبد البهاء في خلال هذه الفترة المضطربة الخطيرة في حياته يكتب بيده ما لا يقلّ عن تسعين لوحًا في اليوم الواحد، ويقضي ليالي كثيرة من مسائها إلى فجرها وحيدًا في غرفة نومه مستأنفًا كتابة المراسلات الّتي منعه ضغط مسؤوليّاته المتنوّعة من أن يُعنى بها خلال النّهار.
وفي ذلك الحين العصيب والفترة العنيفة من عهده نهض حضرة عبد البهاء في أوج الحياة وعزّ الرّجولة وإقبال القوّة لينفّذ الأعمال المختلفة المقترنة بذلك العهد ويتعهّدها بعزيمة لا تفلّ وقوّة لا تنضب وثقة لا تتزعزع وإقدام عجيب. وفي ذلك الحين فكّر في مشروع أوّل “مشرق الأذكار” في العالم البهائيّ وشرع أتباعه في مدينة عشق آباد بتركستان في تشييده، وفي ذلك الحين أصدر توجيهاته بترميم منزل الباب المقدّس التّاريخي في شيراز رغم اضطراب الأحوال في وطنه، وفي هذا الحين اتّخذت التّدابير الأولى الّتي مهّدت الطّريق لإرساء حجر الأساس لأمّ المعابد في الغرب، وتمّ ذلك في الدّرجة الأولى بفضل تشجيعه المستمرّ، فوضعه بيده في السّنوات التّالية حين زار موقع ذلك المعبد على شاطئ بحيرة متشيغان. وفي تلك الفترة جمعت مجموعة أحاديثه الشّهيرة على المائدة وطبعت بعنوان “المفاوضات”. وهي أحاديث ألقاها خلال فترات الرّاحة الوجيزة الّتي أستطاع أن يظفر بها، وبيّن فيها بعض الأفكار الأساسيّة في دين والده، وقدّم فيها من الأدلّة العقليّة والنقليّة ما يقوم دليلاً على صحّته، وشرح فيها موضوعات مختلفة تتعلّق بالدّورة المسيحيّة وبأنبياء الله وبالنّبوءات الواردة في الكتاب المقدّس، وأصل الإنسان وأحواله وما شابه ذلك من الموضوعات شرحًا مُحكمًا.
وفي أظلم ساعات هذه الفترة أعلن حضرة عبد البهاء في لوح موجّه إلى ابن خال حضرة الباب الحاج ميرزا محمّد تقي المحترم وهو البنّاء الأوّل لمعبد عشق آباد، في عبارات مثيرة، عظمة ظهور حضرة بهاء الله اللاّنهائيّة، ونطق بالإنذارات الّتي تُنبئ بذلك الهياج الّذي سوف يثيره أعداء الدّين من بعيد ومن قريب في أرجاء العالم وتنبّأ بلغة مؤثّرة بالسّيادة الّتي سوف يظفر بها عليهم حملة مشاعل الميثاق آخر الأمر. وفي ساعة من ساعات التّوتّر الشّديد الّتي مرّت خلال هذه الفترة كتب وصيّته وعهده وهي الوثيقة الخالدة الّتي يوضّح فيها معالم النّظام الإداريّ الّذي ينشأ من بعد صعوده، ويبشّر بإقامة النّظم العالميّ الّذي أعلن حضرة الباب مجيئه والّذي صاغ حضرة بهاء الله مبادئه وأحكامه من قبل وفي غضون تلك السّنوات الهائجة استطاع أن يتعهّد بوساطة دعاة الميثاق الوطيد وحماية جنين الهيئات الإداريّة والرّوحيّة والتّربويّة لدين يطّرد انتشاره في إيران وهي مهده، وفي جمهوريّة الغرب الكبرى وهي مهد نظامه الإداريّ، وفي كندا وفرنسا وإنجلترا والمانيا ومصر والعراق وروسيا والهند وبورما واليابان بل وفي جزائر المحيط الهادي النّائية. وفي غضون تلك الآونة المثيرة وهب حضرة عبد البهاء قوّة هائلة لترجمة الكتب والمؤلّفات البهائيّة وطبعها ونشرها، فاتّسع نطاقها وأصبحت تضمّ آنذاك كتبًا ومقالات مختلفة كتبت بالفارسيّة والعربيّة والإنجليزيّة والتّركيّة والفرنسيّة والألمانيّة والرّوسيّة والبورميّة. وكلّما هدأت العاصفة الثّائرة من حوله في تلك الأيّام كان يجتمع على مائدته الزّائرون والأصدقاء والمستفسرون من معظم الأقطار السّابق ذكرها ممثّلين المسيحيّة والإسلام واليهوديّة والزّرادشتيّة والهندوسيّة والبوذيّة. وكان يخرج رغم الأخطار المحدقة به إلى الفقراء والمعوزين المحتشدين على بابه وفي فناء بيته صباح كلّ يوم جمعة ويفرّق فيهم الصّدقات بسخاء واستمرار، منحاه لقب “أبي الفقراء”. ولم يكن ثمة شيء في تلك الأيّام العاصفة يزعزع من ثقته، ولم يكن يأذن لشيء من الأشياء أن يتدخّل في عناياته بالمعوز واليتيم والمريض والمسكين ولم يكن ثمة شيء من الأشياء يمنعه من أن يزور أولئك الّذين عجزوا أو خجلوا من تلقّي معونته. ولم يكن شيء من الأشياء ليحمله بعد أن وطّن نفسه وعقد العزم على متابعة المثل الأعلى الّذي ضربه حضرة الباب وحضرة بهاء الله على أن يفرّ من أعدائه أو يهرب من سجنه، حتّى ولا ذلك النّصح الّذي أسداه له أكابر الجامعة المنفيّة في عكّاء، ولا مناشدات القنصل الإسبانيّ الملحّة، وكان قريبًا من أقرباء وكيل شركة ملاحة إيطاليّة، حمله حبّه لحضرة عبد البهاء ولهفته على إبعاده عن الخطر المهدّد على أن يضع تحت تصرّف حضرته باخرة إيطاليّة مستعدّة لأن تنقله بأمان إلى أي ثغرٍ أجنبيّ يختاره.
وكانت سكينة حضرة عبد البهاء ممّا لا يزعزهها مزعزع، وممّا أثار دهشة أصدقائه وسخرية أعدائه أنّهم كانوا يشاهدونه وهو يزرع الأشجار والكروم في حديقة بيته على حين ترجف الشّائعات من حوله بأنّه قد يُقذف به إلى البحر أو يُنفى إلى فيزان في طرابلس الغرب أو يُشنق. وبعد انتهاء العاصفة كان يأمر بستانيه الأمين إسماعيل آقا أن يقطف من ثمار تلك الأشجار والكروم ويقدّمها لهؤلاء الأصدقاء والأعداء لدى زيارتهم له.
وفي صدر شتاء سنة 1907م باغتت عكّاء بأمر من السّلطان لجنة تحقيق أخرى مؤلّفة من أربعة ضبّاط يرأسها عارف بيك مزوّدة بسلطة تامّة واسعة. وقبل قدومها بأيّام قلائل رأى حضرة عبد البهاء في منامه رؤيا رواها للأحبّاء، رأى فيها كأنّ سفينة قد رست بعيدًا عن عكّاء وكأنّ بعض الطّيور الّتي تشبه أصابع الدّيناميت قد طارت منها وحلّقت حول رأسه وهو واقف بين جمع خائف من سكّان المدينة، ثمّ عادت إلى السّفينة دون أن تنفجر.
وما كاد أعضاء هذه اللّجنة ينزلون إلى البرّ حتّى وضعوا مصلحة البرق والبريد في عكّاء تحت رقابتهم المباشرة الخاصّة، وصرفوا من يُشكّ في ودادهم لحضرة عبد البهاء من رجال الحكومة صرفًا تعسّفيًا بمن فيهم حاكم المدينة، واتّصلوا بحكومة الآستانة اتّصالاً سرّيًّا مباشرًا، ونزلوا في منزل يملكه جيران ناقض الميثاق وخلصائهم المقرّبين، وبثّوا العيون والأرصاد حول بيت حضرة عبد البهاء يمنعون أيّ فرد من رؤيته، وبدأوا تحقيقًا غريبًا وأخذوا يستشهدون فيه بكلّ الّذين وقّعوا من قبل على ال