الجوهرة الفريدة
الجوهرة الفريدة

الجوهرة الفريدة

توطئة

ما إن يُمسك القارئ بالنسخة الأصلية من هذا الكتاب (باللغة الإنكليزية) ويبدأ بالقراءة، حتى لا يَوَدُّ طَيَّهُ قبل إتمامه وهو يتتبّعُ ما فيه من أحداثَ هامّةٍ صنعت فترةً مشرقةً من تاريخ الدين البهائي زاخرةً بالإنجازات والانتصارات. إنه كتاب يتناول بالتحليل مواقفَ داخل الجامعة البهائية وخارجها، وكيف أن ولي أمر الله، شوقي أفندي، أمسك بدَفَّة القيادة الروحية بكل مهارة وحنكة وحكمة، وأوصل سفينة دين الله بركّابها إلى برّ الأمان وسْطَ العواصف الهوجاء التي لولا صدقُ التاريخ لظنَّها الإنسان روايةً من نسج الخيال. فيُسعدنا أن نقدّم للقارئ الكريم ترجمة باللغة العربية لهذا الكتاب القيّم، واضعين أمامه مائدةً دَسِمة عليها ما يُشبِع نَهَمَه ويروي عطشه فيما يبحث عنه ويفكِّر، وعن كينونة شوقي أفندي الإنسان ومواهبه الفذّة قائدًا روحيًا، وفطرته الطاهرة مستلهِمًا مستنيرًا، وعبقريته العظيمة حكيمًا رحيمًا، وتواضعه الأخّاذ صبورًا حليمًا.

ولا يزال بعدُ طفلاً تفضل عنه المولى قائلاً “… إن هذا السرّ مصون في صدف الأمر المختوم كاللؤلؤ المكنون وسيلوح أنواره ويشرق آثاره ويظهر أسراره.[1] فُتِنَ الجميعُ بجماله كطفل، وبمشاهدة طلعته يحسّ المرء كأنّ قوة عجيبة خفيّة كامنة فيه. دعا له المولى المحبوب ربّه بأن “أنبته نباتًا حسنًا برحمتك وإحسانك واجعله قضيبًا رطيبًا خضلاً نضرًا مزهرًا مورقًا مثمرًا بفيضان سحاب موهبتك.”

بعد أن تخرّج من الجامعة كتب شوقي أفندي يقول: ‘كم أنا سعيد ومحظوظ لأن أكون قادرًا على تقديم خدماتٍ لمحبوبي بعد أن أتممتُ مقرَّرَيْ الآداب والعلوم في الجامعة’، ومنذ ذلك الحين أخذت الأيام تصقُلُ مواهبَه بآلامها وآمالها؛ فكان أولاً صعودُ جَدِّه حضرة عبد البهاء بالنسبة إليه فاجعةً هزّت أركانه واستنفدت قُواه، وكما صرّح بأنها رزيةٌ عظمى إلا أنها كانت ‘قوةً دافعة لهذا الأمر وستوقظ كلَّ نفس مخلصة لتنهض وتحمل على كاهلها المسؤولياتِ التي وضعها المولى الآن على عاتق كل واحد منا.’

لقد صقلت الأحداثُ فطرتَه المميَّزة التي كانت تهدي لحقيقتها بنفسها لأنها فطرةٌ متصلةٌ بملكوت الله، ولذلك فإن دأْبَه في تشييد بنيان أمر الله العظيم لم يأتِ بانتهاز الفرص فحسب، بل كان ثمرة التخطيط المُلهَم والجهد المُحكم أيضًا. وبتطابُقِ الإلْهامِ مع الحقائق الموضوعية كان الكشفُ والتحليلُ ووَضْعُ سبُل تخطّي العقبات والتغلُّبُ على الأزمات. ولا غرْوَ في أن شوقي أفندي كان ذا فكرٍ علميِّ منهجيِّ أبدَعَ فيه أيّما إبداع في التفاعل مع نتاج التفكير الإنساني في كل اتجاهاته، وهو ماضٍ في رصْدِ أحداث التاريخ الهدّامة منها والبنّاءة ليُحيل حضرتُه المناسبَ منها إلى انتصارات باهرة لأمر الله.

أمسك بدَفَّة القيادة الروحية شابًا لم يتجاوز الرابعة والعشرين، واختطّ لنفسه منهجًا مختلفًا لأن الزمان مختلف، وتدعو الحاجة الآن إلى إبراز الطابَعِ الإنسانيِّ العالميِّ للدين البهائي الذي يكتنز العلاجَ الشافي لمشاكل العالم المُستعصية بكافة ميوله واتجاهاته الفكرية والعقائدية. فمنذ ظهور حضرة بهاء الله وأمورُ الدنيا تَمُوجُ بالتغيير وتغرقُ في الاضطراب وتزداد تأزّمًا يومًا بعد يوم، وهي آلام المخاض لولادة نظم عالمي جديد من قلب هذه المآسي والنكبات، وقد رأى ولي أمرنا المحبوب أن الظروف العالمية، طبقًا للمشيئة الإلهية، آخذة في التشكُّل وبتسارع ملحوظ حتى يتمكن الوَعْيُ الإنسانيُّ من الاختمار بنار تلك الويلات والتوجُّهِ إلى العلاج الجديد الذي قدّره الله لعباده الأوّابين في هذه الشريعة السمحاء.

تزاحمت أمامه الصعابُ وتآلبت عليه المِحنُ وهو بعدُ فتيًّا في مُقتَبل العمر، فنراه يقـول: ‘كم أشعر أَنّي بحاجة ماسّة إلى انبِعاثٍ رُوحِيٍّ كامل مؤثِّر في داخلي، إلى دَفَقِ قوةٍ جبارة، إلى ثقةٍ بالنفس، إلى الروح السماوي في روحي الوَلِهَة التوّاقة قبل أن أنهض لآخذ مكاني المقدّر لي في قيادة دين إلهي ينادي بمبادئ على هذا القدْر من المجد والبهاء.’ وبينما الساعات والأيام تمرّ به حزينةً بل ومقهورةً أحيانًا، استطاع أن يهمس في سَمْعِ الزمن ليفسح له طريقًا عريضًا بين أيامه وكأنه يقول له: قرّرْتُ أن أنهضَ وأسيرَ فائْتِني بما تريد ليحوّله تأييد ربّي لي كما أريد. فكان امتحانُ الأيام له أيّما امتحان، وغدا حضرتُه ذاك المحيطَ الذي يبتلع الأعاصيرَ ويطوي العواصفَ ليَمْضي في طريقه بكل عظمة وجلال. وإذا كان أحيانًا يذهب للاستجمام واستجماع القُوى فلأن معاناته كانت ردّة فعل لحركة الإيمان الطاهر وحيويته المتدفِّقة بين جَنَبات قلبه. وإذا كانت الأحداث قد شكّلت بداخله أزمةً فلا بدّ أن يكون ذلك من صُنْع العقل الإنساني ليَهُبَّ مستنجدًا بالتأييدات الغيبية بكل تبتُّل، فتنهمرُ عليه مدرارًا فتحفظُه وتقوّيه وتغذّيه وتشدُّ من أزره، لأنه كان يرى فيها نعمةً تستوجب شكرًا لا يليق به إلا المزيدُ من العمل والجهد والإنجاز، ولذلك كان ينفعل بالمسؤولية ويُقبِل عليها بعزم أكيد لأنها عنده أمر مقدس.

كلما كان المرء يطالعُ أحداثَ فترة من حياته ويبحثُ في تفاصيلها يميلُ إلى القول بأنها الأسوأ، إلى أن ينتقل إلى الأخرى ليجدها أكثر قتامة. فلا نُبالغ لو قلنا بأن فترةَ ولايته كانت مشحونةً بالصعاب والمحن، والتوتُّر والإجهاد، ومن رحمها حقّق الإنجازات والانتصارات لأنه كان يجعل من المسؤولية على قدْر ما يتطلَّبُه الموقف في خدمة دين الله لا على قدْرِ طاقته وقُدْرته، وحين يُنجزُها كان يُرجِع ذلك إلى تأييد الله وتضحيات المؤمنين وهو شريكُهم. كان يرى نفسه أمام الأحداث وكأنه المسؤول الأوحد، ونراه بالتدريج يهيّئُ النفوسَ التي ستحملها معه نحو الظَّفَر المؤكَّد، فكان في كل ذلك الحصادُ الوفيرُ والثمارُ الطيّبة.

كل شيء في حياته كان مرتّبًا في غاية التنظيم ومدوّنًا في فكره ومفكِّرته. هناك فرقٌ شاسعٌ بين النظرة الثاقبة واسعة المدى في شمولها، والفكر العقلاني المسخّر بذكائه في أغلب الأحيان لطموح ينشُدُ التصفيقَ والتمجيد. فلم يكن شوقي أفندي ذاك الذي يطمحُ في الحياة إلا خدمة أمر الله وارتفاع شأنه، فوَصَفَتْه زوجته بأنه خلاّق مبدع منظّم، ويَعافُ النظرياتِ الفكريةَ غير التطبيقية! فإذا ما أراد تحقيق هدفه اندفع نحوه في الحال إلى أن يُتِمّه على أكمل وجه وإتقان. لا يعرف التراجُعَ. قوّتُه خارقة ولا تُحدّ بحدود العقل البشري إدراكًا، وخارجةٌ عن قدرة تشخيص الإنسان وتمييزه. واعٍ لأدقِّ الأمور، وبفطرته النورانية استطاع أن يكشف بواطنها، وأن يفسّر المعضلات الغامضة في الدين، وأن يكتب في أكثر المسائل الروحانية تعقيدًا. حقًا لقد خُلق على نسقٍ تحرّكه المشيئة الإلهية من أجل أن يضطلع بهذا العمل كله.

التفّ حوله الأحباء من كل صوبٍ ليقولوا له: لك في قلوبنا الحبُّ كلُّه، فامضِ على بركة الله ونحن معك بقلوبنا وأرواحنا وعواطفنا متّحدين على الدوام. فخاطَبَهم بأنهم شركاؤُه في العمل وأنه الأخ الحقيقي لهم وشريكُهم في عبوديَّتهم لعتبات المولى المحبوب، ولم يُشِر إلى نفسه يومًا على أنه وراء أي ظَفَر أو إنجاز. فلا شيء يميّز الفطرة المتفوِّقة مثل نَأْيِها عن الغرور، وهذا ما نقرأه في كل كتاباته. إنها فطرةٌ وضعها حضرته في خدمته وتحت إمْرَته مما أفاء عليه تأييدًا لا يفتر، وعزيمةً لا تلين، وعزوفًا عن مباهج الدنيا. وكل ما فيه من مواهب وفضائل وقُدُرات كان يردّها إلى الله وإلى دعاء مولاه المحبوب.

كان يناشدُ الأحباءَ أن ينهضوا ويتقدموا وسْط طوفان الحياة الجارف، وقسوة الظروف المُعيقة، والامتحانات غير المسبوقة، ليقدّموا لهذا العالم المعذّب الغافل نصيبَهم من الخدمة والعمل مع أنهم لا يملكون نفوذًا، بل طُمأنينةً في القلب وإيمانًا راسخًا بفَتْحٍ قريبٍ لقلوب أهل العالم. ولذلك عليهم أن يفكّروا بما يحتاجه عبءُ المسؤولية من وفاء، فيرتقون بقدراتهم إلى ذلك المستوى المنشود. كان اتصاله بالهيئات والمؤسسات الروحانية وأفراد الأحباء اتصالاً حميمًا كأنه يعيش معهم وبينهم، يوجّههم وينصحُهم ويردّ على استفساراتهم.

لا يكفينا القول، ونحن في غمرة انبهارنا بما أنجز: أنظروا ماذا فعل حضرته؟ بل علينا أن نسأل: كيف؟ وفي أي الظروف؟ وسنجدُ الجوابَ في الكتاب بما يروي ظمأَنا. لقد اعتبر شوقي أفندي أن الأمر المبارك كأنه تجسَّدَ في كيانه، وأي أهوال تصيبه إنما تصيب ذلك الكيان الذي يعتبره قلبَ هذا الدين. ولذلك كان صارمًا شديدًا في الدفاع عنه، وعلى جانب كبير من المودَّة والحنان ولطفِ المعشر ورقّةِ القلب في آن معًا. يملك روحَ الدُّعابة مثل جدّه وجَدّه الأكبر، وسريع التأثُّر بما هو سارّ ومُبهِج، وفي الجانب الآخر في غاية المَهابة والوقار. شديدُ التمسُّك بالهدف، وإذا تلبّدتْ طريقُه بالصعاب سارع إلى اختيار أسلوبٍ آخر مع إصراره على الإنجاز. لقد صقل النفوسَ والهيئاتِ الإداريةَ وهيأها للخدمة وأطلق طاقاتها، فكان نشْرُ أمر الله في الأقطار وإيمانُ أفاضلِ الشخصيات، وأصبح للدين في عهده صوتٌ جهورٌ وكلمةٌ صادِحةٌ.

لقد أخبرنا شوقي أفندي بأن تاريخَ أمر الله، إذا ما أُحسنت قراءتُه، يمكن القول بأنه يكتب صفحاتِهِ بنفسه في سلسلةٍ من النبَضات – أزماتٍ وانتصاراتٍ متعاقبة – وهي أحداثٌ كانت تُقرِّبُه دومًا مما قُدِّر له، وقال: ‘أنا أعلم أنها طريقُ الآلام وعليّ أن أسيرَ فيها حتى النهاية. كلُّ شيء مُقدّرٌ له أن يُنجز بالمعاناة’، وشدّ اهتمامنا إلى أن أسمى هدف لحياة الفرد البهائي تعزيزُ وحدة الجنس البشري، وهدفنا جميعًا تأسيس حضارة عالمية سوف تعيد بدورها تشكيلَ شخصيةِ الفرد بإنسانيته وأخلاقه وسجاياه. حقًا لقد علَّمَنا وليُّ الأمر كيف نؤمنُ بأنفسنا ونحترمُ واجباتِنا تجاه البشرية واعتبارها الْتِزامًا مقدسًا.

إنه كتاب يُعدُّ بكل جدارة إبداعًا من إبداعات قلم أمة البهاء روحية رباني التي حرِصتْ فيه على تحكيم العقل والموضوعية، بعيدًا عن العاطفة كونها حرَم شوقي أفندي، وذلك في صياغة أفكارها بكل دقة وتسلسُل، ورَسْمِ صورة حيّة لأحداث ست وثلاثين سنة على شكل شريط يمرُّ أمام القارئ بانسيابٍ أخّاذ يشدّ اهتمامه ويأسر فكره، لتُمسِك بيده وتأخذه في رحلة داخل بواطن حياة ولي أمر الله العزيز، ولتُشبِع نَهَمَنا في حب الاستطلاع والاستقصاء إلى أبعد الحدود. وكما أخبَرَتْنا بقولها: ‘مع أن حقيقة شوقي أفندي في جوهرها ستبقى إلى الأبد لغزًا غامضًا لكل من في الوجود – إلى أن يأتي اليوم الذي قد يختار فيه المظهرُ الإلهي الجديد، كونه الأرفع مقامًا، أن يفسّرها لنا، نحن الأدنى مقامًا بكثير – مع ذلك نحن نعرف عنه الكثير ولنا الحق أن نحتفظ بذكراه بكل رقة وحنان حتى لو كان غير وافٍ بالمراد.’

عمدنا إلى تمييز البيانات المباركة الواردة أصلاً باللغة العربية بالخط الأسود العريض، والمترجم منها بالخط العادي. كما وضعنا بعض الكلمات المضافة بين قوسين مربعين [ ] بقصد التوضيح، وأضفنا الحواشي للمزيد من الإيضاحات لبعض الكلمات وتهجئة الأسماء بالإنكليزية وذكر مصادر المقتطفات.

نستميح القارئ عذرًا إذا وجد ركاكةً في التعبير أو ضعفًا في دقّة الترجمة نظرًا لقلّة البضاعة. ولا شك أن الطاقاتِ القادمةَ ستفي هذا الكتاب حقَّه في عملٍ أكثرَ كمالاً وأدقِّ تعبيرًا. ولْيهْنأَ القارئُ بما فيه من معرفةٍ ومُتْعةٍ ونَشْوةٍ روحية.

المترجمان

 

 

شكر وتقدير

من أصعب الفنون وأدقِّها فنُّ الترجمة لأنه يَفرض على المترجم أن يصبَّ أفكار الكاتب في قالَب لغويٍّ جديد محافظًا على أصالة المعنى ومتانة التعبير بأسلوب واضح رصين. فكل عمل في هذا الميدان لا بد أن تتضافر فيه وله جهودٌ كفؤَةٌ مخلصة إذا ما أُريد له أن يصيب قدْرًا من النجاح يُرضي النفسَ ويُشبعُ الروحَ. فلا بد هنا من الإشادة بجهود السادة: نياز روحاني في مراجعته الأوّلية للترجمة وتقديم الملاحظات المفيدة، وبيجن شهيد ورمزي زين اللذين بذلا جهدًا كبيرًا في المراجعة النهائية وإبداء الملاحظات القيّمة، وأندريه لانزارو الذي وضح لنا بعض المصطلحات والتعبيرات، وعبد المجيد دلشاد في إعداد الفهرس الخاص والعام وإبداء الملاحظات القيّمة، وكمال بهمردي الذي دأب يعمل معنا بكل صبْرٍ في إخراج هذا الكتاب فنيًا. ووفاءً لهيئة المراجعة العربية يجدر بنا التنويه إلى سعة صدرها ودقّتها في المراجعة وأبداء الملاحظات القيّمة. فلولا هذه الجهود المخلصة لما قُدّر لهذا العمل المتواضع أن يرى النور. فلهم منا جميعًا وافر الشكر وعظيم التقدير.

 

 

 

[1]       كتاب “دور بهائي، حضرة شوقي أفندي.

 

الفصل الأول طفولة شوقي أفندي وشبابه

“والتحية والثناء والصلاة والبهاء على أول غصن مبارك خضل نضر ريّان من السدرة المقدسة الرحمانية منشعب من كلتي الشجرتيْن الربّانيتيْن، وأبدع جوهرة فريدة عصماء تتلألأ من خلال البحريْن المتلاطميْن…”[1]                             عبد البهاء عباس

بهذه الكلمات تبدّدت سحابة تلبّدت في سماء عاصفة، وكأنها شعاعٌ هائل من نور الشمس انطلق فاخترق ظُلمةَ سنواتٍ عاصفة مشحونةٍ بالأخطار، وسطع من عليائه على صبيٍّ صغير هو حفيد سجينِ سلطان تركيا، القابعِ في مدينة السجن عكاء من إقليم سوريا الواقع تحت الحكم العثماني [آنذاك]. تلك كانت كلمات حضرة عبد البهاء في الجزء الأول من وصيته مشيرًا فيها إلى حفيده الأكبر شوقي أفندي.

ورغم تعيينه وريثًا يخلُف جَدّه، فلا الصبي ولا المجموعة المتنامية من أتباع حضرة بهاء الله، في شتى بقاع الأرض، سبق وأن أُعلموا بهذه الحقيقة. ففي الشرق، حيث مبدأُ توريث الخلافة في السلالة مفهوم تمامًا ومقبول كسلوك عادي في سير الأحداث، حتى إن حضرة بهاء الله نفسه قد بيّن شرْعية مبدأ البكورة العظيم هذا وما فيه من أسرار، كان من المؤمّل بلا شك أن يحذو حذوه ابنه وخليفته حضرة عبد البهاء [في وصيته]. وقبل صعوده بعدة سنوات كتب حضرته جوابًا عن استفسار بعض الأحباء الإيرانيين عمّا إذا كان هناك شخص يتحتّم على الجميع التوجُّهُ إليه من بعده، فقال: “… إن هذا السرّ مصون في صدف الأمر المختوم كاللؤلؤ المكنون وسيلوح أنواره ويشرق آثاره ويظهر أسراره.[2]

وتُلقي مزيدًا من الضوء على هذا الموضوع مذكراتُ الدكتور يونس خان، الذي أمضى ثلاثة أشهر في عكاء في محضر حضرة عبد البهاء عام 1897م، ثم عاد عام 1900م وأقام فيها عدة سنوات. ونستدلُّ من كلماته أنه ربما بسبب وصول أخبار إلى الغرب بولادة حفيد للمولى أنْ كتبتْ إحدى المؤمنات الأمريكيات إلى حضرته بأنه مذكور في الكتاب المقدس أنه بعد حضرته سيقوم “صبي صغير يسوقها” (إشعياء 11: 6) فهل هذا يعني طفلاً حقيقيًا حيًا وموجودًا؟ لم يكن يعلم الدكتور يونس خان عام 1897م أن هذا السؤال قد طُرح وأن حضرة عبد البهاء أنزل اللوح التالي جوابًا عنه:

هو الله

“يا أمة الله، إن ذلك الطفل مولود وموجود وسيكون له من أمره عجب. تسمعين به في الاستقبال وتشاهدينه بأكمل صورة وأعظم موهبة وأتمّ كمال وأعظم قوة وأشدّ قدرة. يتلألأ وجهه تلألؤًا يتنوّر به الآفاق فلا تنْسَيْ هذه الكيفية ما دمتِ حيًّا لأن لها آثارًا على ممرّ الدهور والأعصار. وعليك التحية والثناء”.                 عبد البهاء عباس[3]

قد يبدو أمرًا غريبًا أن لوحًا مباركًا على هذا القدْر من الأهمية لم يكن معروفًا لدى أهل الشرق. ولكن علينا أن نتذكر أنه عمليًا لم يكن في تلك الأيام اتصال بين البهائيين في الشرق والغرب، والألواح التي كان الأحباء الأمريكيون يتداولونها إما أنها كانت مُستنسخة أو تُنقل شفاهة. لذلك، عندما استلم الدكتور يونس خان رسالة من أمريكا، في وقت كانت غيوم النقض القاتمة تتجمّع حول المولى بكثافة أكثر من ذي قبل، كان هو نفسه خالي الذهن تمامًا عن الخلفية التي ربما جاءت بهذا السؤال الذي يطلب صاحبه الآن عرضه على حضرة عبد البهاء؛ وفي حقيقة الأمر يبيّن في مذكراته بأنه لم يسمع بوجود هذا اللوح إلا بعد مرور عدة سنوات. ويكتب يونس خان: بينما كان حضرة عبد البهاء يتمشَّى يومًا أمام الخان (وهو المبنى الذي اعتاد الكثير من الأحباء أن ينزلوا فيه بعكاء) اقتربتُ من حضرته وأخبرتُه بأن ‘أحد الأحباء كتب لي من أمريكا يقول إننا سمعنا أن المولى قال بأن الذي سيأتي ظهوره من بعدي قد وُلد حديثًا وموجود في هذا العالم، فإذا كان الأمر كذلك فقد جاءنا الجواب، وإذا لم يكن، عندها ــــــــــــــــــــــ؟’ وبعد لحظة انتظار، وبنظرة تعبِّر عن مغزى ومدلول، وبتمجيد خفيّ تفضل قائلاً: ‘نعم هذا صحيح.’ وبسماعي هذه البشارة السارّة ابتهجتْ نفسي وأيقنتُ من نَصْر أمر الله في كل مكان في العالم، وأنّ نقض الميثاق سيؤول إلى العدم، وأن هذا العالم سيغدو مرآة لعالم الملكوت. إلا أن فهم ما عناه حضرته بكلمة “ظهور(appearance)”، حسبما نفهمها نحن البهائيون، كان عليّ صعبًا للغاية، وبقي في مخيّلتي أمرًا غامضًا. وفي سعيي في الحصول على مزيد من المعلومات سألتُ حضرته عندئذ: ‘وهل يعني هذا ظهورًا إلهيًا؟’ فلو أجاب بـ ’نعم’ أو ‘لا’ فستخلق هذه تعقيدات أكبر وتبرز تساؤلات أكثر، ولكن جوابه لحسن الحظ كان مقنِعًا يُلْجِم أي سائل، وبكلمات أكثر وضوحًا تفضل: ‘نصر أمر الله على يديه’. ثم يمضي يونس خان ليقول بأنه كتب هذا الجواب للبهائي في أمريكا، إلا أنه لم يُشْرِك به أحدًا لعدة سنوات، حتى إنه في ذهنه رفض التأمل في مضامينه أو أن يتساءل في نفسه عمّا إذا كان ذلك الطفل موجودًا في عكاء أم في مكان آخر. وهو يعلّل سلوكه المتحفِّظ هذا بأمر راجع إلى كلمات حضرة بهاء الله في “كتاب عهدي” الذي يؤكِّد فيه بأن جميع الأنظار يجب أن تتركّز على مركز العهد والميثاق (حضرة عبد البهاء) وعلى الارتداد والنقض وتلك المكائد ومصادر الأذى التي مزّقت عائلة المظهر الإلهي على مدى جيليْن.

وفي جزء آخر من مذكراته يصف يونس خان تلك المرة الأولى التي وقع فيها نظرُه على لحفيد الأكبر للمولى فيقول: ‘ظلّ المقيمون في دار ضيافة المسافرين، ولعدة أيام، يرجون الأفنان (والد شوقي أفندي) رؤية شوقي أفندي. وذات يوم، على غير المتوقع، أُحضر الطفل ذو الأشهر الأربعة إلى البيروني (غرفة استقبال المولى). اقترب الأحباء منه فرحين، وكنتُ أيضًا ممن حظوا بهذا الفضل، إلا أنني قلت في نفسي: “انْظُرْ إليه كمجرّد طفلٍ بهائيٍّ”، ولكنني لم أستطع كبْتَ مشاعري لأنني أحسستُ بقوة داخلية دفعتني أن أنحني أمامه خضوعًا، وفي لحظةٍ رأيتُ نفسي مفتونًا بسحر جمال هذا الطفل الرضيع. قبّلت شعر رأسه الناعم، وشعرتُ أن فيه قوة ما أجد نفسي عاجزًا عن التعبير عنها بكلمات، ولا يسعني إلا القول بأنه بدا كالطفل الذي يشاهده المرء بين ذراعي [مريم] العذراء القديسة، وظلّ وجهه لا يفارق مخيّلتي عدة أيام، وبالتدريج أخذتُ أنساه. وفي مرّتين بعد ذلك انتابتني المشاعر نفسها: مرّة عندما كان في التاسعة من عمره وأخرى في الحادية عشرة.’

ويسجّل يونس خان أيضًا بأنه بعد أن لاحظ في طفولة شوقي أفندي وصباه تلك الأمارات الداخلية والخارجية الدالّة على عظمة روحانيته وشخصيته الفريدة، لم يَعُد قادرًا على إخفاء مشاعره، وأخذ يُفضي لأحد الأحباء الثُّقات من كبار السن بما يتذكره من كلماتٍ سَمِعها من حضرة عبد البهاء بخصوص طفل سيكون نصر أمر الله على يديه.

ومهما يكن من أمر، فالحقيقة تبقى أنه إلى حين صعود حضرة عبد البهاء في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1921 وفَضِّ وصيته، التي كانت محفوظة في خزنته، ثم قراءتها، لا أحد في العالم البهائي كان يعلم أن شوقي أفندي هو تلك “الجوهرة الفريدة”، ولا حتى مدى تفرُّد وبهاء تلك الجوهرة التي خلّفها لنا حضرة عبد البهاء، إلى أن جاء شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1957 حين عادت تلك الجوهرة إلى “البحريْن المتلاطميْن” من حيث وُلدت.

في السابع والعشرين من شهر رمضان 1314 هجرية الموافق يوم الأحد الأول من شهر مارس/ آذار من عام 1897 ميلادية ولد شوقي أفندي، وقد وُجدت هذه التواريخ في واحد من دفاتر مذكراته التي احتفظ بها في صباه مدوّنة بخط يده. هو الحفيد الأكبر والأول لحضرة عبد البهاء، من ابنته الكبرى ضيائية خانم وزوجها ميرزا هادي الشيرازي، أحد الأفنان من أقارب حضرة الباب، وقد أطلق عليه جدّه عبد البهاء اسم “شوقي أفندي” وكان يناديه به باستمرار، وبالفعل أصدر حضرته توجيهاته بوجوب إضافة “أفندي” إلى اسمه في كل الأوقات، حتى إنه أخبر والد شوقي أفندي نفسه بأن عليه أن يناديه هكذا وليس “شوقي” فقط. فكلمة “أفندي” تعني “السيد” وتُضاف تعبيرًا عن الاحترام، وبالمِثْل تضاف كلمة “خانم” وتعني “السيدة” أو “المدام” بالنسبة للنساء.

عندما ولد شوقي أفندي كان حضرة عبد البهاء وعائلته لا يزالون سجناء سلطان تركيا، عبد الحميد؛ ولم يُطلَق سراحُهم إلا بعد قيام ثورة تركيا الفتاة عام 1908 وما تَبِع ذلك من إصدار أمر بالإفراج عن السجناء السياسيين. وبذلك تحرّر حضرته وشقيقته من سجنٍ ونَفْيٍ داما لأكثر من أربعين سنة. في عام 1897 كان الجميع يسكنون في منزلِ ما يُعرف بسراي عبد الله باشا، على مرمى الحجر من الثكنات العسكرية التركية الكبيرة التي حُبِس فيها حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء ومَنْ رافقهما من الأحباء فور وصولهم عكاء عام 1868. وكان في هذا المنزل أن تشرّفَتْ أول مجموعة من الزائرين من بلاد الغرب بزيارة حضرة عبد البهاء في شتاء عام 1898–1899. كما فعل كثير غيرهم من المؤمنين الأوائل في الغرب؛ كانوا يأتون من ميناء حيفا إلى عكاء بمحاذاة الشاطئ في عربة تجرّها أحصنة ثلاثة، ثم يدخلون عبر الأسوار المحصَّنة لمدينة السجن، ويُرحَّب بهم ضيوفًا على حضرته لبضعة أيام في ذلك المنزل. وهو المنزل الذي انطلق منه حضرة عبد البهاء ليُقيم بحرّية في مدينة حيفا، التي تبعد مسافة اثني عشر ميلاً [19 كيلومترًا] عن الطرف الآخر لخليج عكاء. ولدى الدخول إلى المنزل، عبر ممرٍّ يؤدّي في نهايته إلى الطابق العلوي للمبنى، يجد المرء نفسه أمام حديقة صغيرة مغلقة حيث تنمو فيها الأزهار وأشجار الفاكهة وبعض أشجار النخيل العالية، وفي أحد الأركان يقوم دَرَجٌ طويل يؤدي إلى الطابق العلوي حيث يفتح على ساحة داخلية غير مسقوفة تفتح عليها أبوابٌ تؤدي إلى غرف متعددة ورواق طويل يؤدّي إلى غرف أخرى.

وحتى يدرك المرء، ولو لمحةً، ما اعتمل في قلب حضرة عبد البهاء عند ولادة أول حفيد له وحضرته في الثالثة والخمسين من عمره، عليه أن يتذكر أن حضرته كان قد فَقَد أكثر من ابن له، وكان أحبَّهم إلى قلبه وأكثرَهم كمالاً حسينُ، ذلك الصبي الصغير الجميل الوقور الذي وافته المنيَّة وعمره بضع سنوات فقط. ثلاثٌ من بنات حضرة عبد البهاء الأربعة اللواتي عِشْنَ أنجبْن له ثلاثة عشر حفيدًا، إلا أن أكبرهم، [شوقي أفندي]، الذي يصدُقُ عليه القول “الولد سرّ أبيه” وهو إرث يجب ألا يؤخذ على أنه من والده، بل هو إرث تناقلته أصلاب الأنبياء لتهبه نبالة جدّه حضرة عبد البهاء. وكانت كلمات حضرته قد عكست بوضوح تام ما كان يجول في أعماقه من مشاعر في ذلك الوقت حين صرّح بأن اسم شوقي – يعني لغةً ‘ما يتوق إليه الإنسان’ – قد أسبغه الله على هذا الحفيد:

“… أي رب هذا فرع أُنبتت من شجرة رحمانيتك أنبته نباتًا حسنًا برحمتك وإحسانك واجعله قضيبًا رطيبًا خضلاً نضرًا مزهرًا مورقًا مثمرًا بفيضان سحاب موهبتك وقرر عين أبويه به يا من يهب لمن يشاء ما يشاء وسمّه من ملكوتك شوقي ليشتاق إلى ملكوتك ويتوق إلى عوالم غيبك.”[4]

بما أظهره شوقي أفندي من السمات في مقتبل طفولته وبفضل فطرته الفريدة، فقد جذّر نفسه عميقًا في قلب المولى أكثر من أي وقت. إننا محظوظون حقًا بما لدينا من ملاحظات خطّتها سيدة من المؤمنات الأوائل في الغرب تُدعى إيللا غودال كوبر[5]، حول لقاءٍ شهدته بين حضرة عبد البهاء وشوقي أفندي خلال زيارتها للأرض الأقدس في مارس/ آذار 1899 في سراي عبد الله باشا، إذ كتبت تقول:

ذات يوم… انضممتُ إلى نساءِ العائلة المباركة في غرفة الورقة المباركة العليا لتناول شاي الصباح الباكر. كان المولى المحبوب وقتها يجلس في ركنه المفضل من الديوان، حيث كان باستطاعته، من خلال النافذة التي على يمينه، أن يشاهد من فوق الأسوار مياه البحر الأبيض المتوسط الزرقاء. كان المولى منهمكًا في كتابة الألواح في صمت وهدوء تامّيْن إلا من صوت الماء يغلي في السماور وبقربه تجلس على الأرض إحدى الخادمات الشابات التي كانت تُخمّر الشاي.

ما لبث المولى أن رفع بصره عن الكتابة وهو يبتسم وطلب من ضيائية خانم أن تتلو مناجاة. وما إن انتهت حتى ظهر بالباب المفتوح المقابل لحضرته مباشرة هيكل بشريّ صغيرٌ، وبعد أن خلع حذاءَه دخل الغرفة بعينيْن مركِّزتيْن على وجه المولى. ردّ حضرة عبد البهاء على نظرته المُحَدِّقة بنظرة ترحيب حُبِّية بدت وكأنه يومئ لهذا الصغير أن يقترب من حضرته. تقدَّم الصبي الصغير الجميل شوقي، بوجهه الصبوح كجوهرة كريمة وبعينيه الداكنتين الطافحتين بالروح، تقدم ببطء نحو الديوان، وكأن المولى يسحبه بخيط خفيّ، إلى أن اقترب من حضرته تمامًا ووقف أمامه ساكنًا. وإذ وقف هُنيهةً، لم يحضنه المولى بل ظلّ جالسًا بغاية السكون وهزّ رأسه فقط مرتيْن أو ثلاثًا ببطء وبشكل مؤثّر وكأنه يقول – ‘هل ترَوْن؟ إن هذا الرباط الذي يصلنا ببعض ليس مجرّد صلة قرابة جسمانية بالجدّ، بل هو شيء أعمق بكثير وأكثر أهمية.’ وبينما كنا ننظر المشهدَ ونحن نحبس أنفاسنا لنرى ما سوف يفعله بعد ذلك، رأينا الطفل انحنى والْتقط طرف رداء حضرة عبد البهاء ورفَعَه ليلمس جبينه بكلّ وقار وإجلال ثم قبّله وأعاده بكل لطف إلى مكانه، كل ذلك والصغير لم يرفع عينيه أبدًا عن وجه المولى المحبوب. وما هي إلا لحظة حتى استدار وانطلق إلى اللعب كأي طفل عادي… في ذلك الوقت كان هو الحفيد الوحيد لحضرة عبد البهاء… ومن الطبيعي أن يحظى بقسط وافر من اهتمام الحجاج الزائرين.

كم كان لا بُدّ عظيمًا ذلك الجهد الذي توَجَّب على الجدّ أن يبذله حتى يحافظ على هذا الحب العارم لذلك الطفل ضمن حدود آمنة خشية أن يُعرّض وهجُ ذلك الحب الشديد حياةَ الطفل للخطر بفعل كراهية وحسد أعداء حضرته الكثيرين الذين يترصّدون ليجدوا كعب أخيل [نقطة ضعف] ينسلّون منه للقضاء عليه. في كثير الأحيان، عندما كان شوقي أفندي يتحدّث عن الماضي وعن حضرة عبد البهاء، لم أشعر بمدى استغراقه اللامحدود في حب المولى فحسب، بل ومدى وعْيِه لحقيقة أن جَدَّه قد كبح وحجب أمارات شغفه وحبه له من أجل حمايته وضمان سلامة أمر الله من أعدائه.

كان شوقي أفندي طفلاً ضئيل الجسم مرهف الحس مفعمًا بالحيوية وشقيًّا مولعًا باللعب. لم يكن قَويّ البُنية في سنواته الأولى، وكثيرًا ما كانت والدته قلقة على صحته. ومع ذلك نما وكَبُر ليصبح ذا بنية صلبة، وعندما اقترنت بفطرته وقوة إرادته الاستثنائيتيْن، مكّنته من التغلّب على كل ما كان يعترض طريقه من عقبات في السنوات اللاحقة. تُظهِر صُوَرُه الفوتوغرافية الأولى التي بحوزتنا وجهًا صغيرًا نحيلاً وعينيْن واسعتيْن وذقنًا مكتنزة جميلة الشكل منحت وجهه في طفولته استطالة بسيطة تُبديه على شكل قلب. والناظر إلى أولى صوره يمكنه أن يرى في وجهه أمارات حُزنٍ وكآبة ونزوعًا إلى المعاناة تلاحقه كأنها ظلّه الممتدّ على الحائط – ظِلُّ طفل تعاظم إلى قامة رجل. كان هيكله رقيقًا وحتى عندما أصبح رجلاً ناضجًا. كان أقصر من جدّه، وفي هيكله أقرب إلى جدّه الأكبر حضرة بهاء الله. هو نفسه أخبرني أن شقيقة حضرة عبد البهاء، الورقة المباركة العليا، كانت أحيانًا تُمسك بيده بين يديها وتقول: ‘إنها تشبه يديْ والدي’. كانتا ما أُسمّيه يديْن عقلانيّتيْن مفكِّرتيْن، وأقرب إلى الشكل المربع منه إلى الاستطالة؛ قويتان، تعبّران عن الانفعال، والعروق فيهما بارزة، معبِّرتان جدًا في إشاراتهما وواثقتان جدًا في حركاتهما. دائمًا ما كانت أميليا كولنز[6] تقول، وهي التي أقامت في حيفا عدة سنوات، بأن كل معاناة ولي أمر الله طوال حياته بالنسبة إليها كانت تعكسها هاتان اليدان. كانت عيناه باللون الكستنائي المحيِّر مما جعلتا أحيانًا مَنْ لم يحظَ مثلي بالنظر إليهما، أن يفكر بأنهما بُنِّيَّتان أم زرقاوان. والحقيقة إنهما كانتا باللون الكستنائي الصافي الذي يتحوّل أحيانًا إلى الرمادي الدافئ البرّاق. لم أشاهد في حياتي وجهًا وعينيْن معبِّرتيْن كما لولي أمر الله. كل طيف من شعورٍ وفكرٍ كان ينعكس على محيّاه كما انعكاس الضوء والظلّ على صفحة الماء. فعندما يكون سعيدًا ومتحمّسًا نحو شيء ما كانت لديه عادة فريدة أن يفتح عينيه واسعتيْن بما يكفي لرؤية الحلقة الكبرى من حَدَقتيهما، وهذا ما كان دومًا يجعلني أفكر بشمسيْن جميلتيْن تشرقان في الأفق، برّاقتيْن لامعتيْن في تعبيرهما. وبالوضوح نفسه كانتا تعكسان أمارات السخط والغضب والحزن. وللأسف، كان لديه ما يبرّر ظهور هذا أيضًا في حياته المُثْقَلة بالمشاكل والأحزان. أما قدماه فقد كانتا بجمال يديه وصغيرتيْن مثلهما، مقوّستيْن وتُعبّران عن نفس تلك القوة والقدرة.

قد نُجافي الاحترام إذا قلنا بأن ولي أمر الله كان طفلاً شقيًّا، ولكنه قال لي ذات مرة بأن الأطفال جميعًا كانوا يُقرّون بزعامته لهم. كان يتدفق حيوية ونشاطًا وكله حماس وجرأة مليئة بالضحك وخفّة الظل. كان هذا الصبي الصغير هو المدبر للكثير من مواقف المزاح والضحك، وكلما حدث شيء ما تجد وراءه شوقي أفندي! كانت طاقته غير المحدودة مصدر قلق في معظم الأحيان خاصة عندما كان يندفع بسرعة جنونية صعودًا ونزولاً في قفزات عالية فوق الدرج الطويل ذي العتبات العالية المؤدي إلى الطابق العلوي، مما كان يجعل الحجاج الزائرين، المنتظرين لقاء المولى في الطابق السفلي، في حالة من الفزع. إن الطاقة الغزيرة المتدفّقة التي لا يمكن كبح جماحها في هذا الصبي كانت هي نفسها التي جعلت منه ذلك الرجل الذي لا يعرف الكلل ولا التردُّد، والقائد الأعلى لجحافل حضرة بهاء الله ليقودهم من نصر إلى نصر، وفي واقع الأمر، نحو الفتح الروحاني لهذا الكوكب بأكمله. لدينا شاهد موثوق على هذه الصفة المميّزة لولي أمر الله، إنه حضرة عبد البهاء نفسه الذي كتب يومًا على مغلّف مُستَعمَل جملةً قصيرة ليُدْخِلَ السرور إلى قلب حفيده الصغير: ‘شوقي أفندي رجل حكيم – إلا أنه يركض كثيرًا جدًا هنا وهناك!’

وعلى كل حال يجب ألا نأخذ الأمر وكأن شوقي أفندي لم يكن مهذّبًا حسن السلوك. فالأطفال في الشرق عادة ما ينشأون منذ نعومة أظفارهم على حسن الآداب والأخلاق، فما بالُك بأولاد حضرة عبد البهاء! فعائلة حضرة بهاء الله قد تحدّرت من الملوك، وتقاليد العائلة –
ناهيك تمامًا عن تعاليم حضرته السماوية التي تقرّ الأدب فرضًا ملزمًا – هي التي ضمنت لشوقي أفندي سلوكًا نبيلاً وأدبًا رفيعًا مَيَّزاه منذ طفولته.

في تلك الأيام من طفولة شوقي أفندي جرت العادة أن تنهض العائلة عند الفجر تقريبًا ويَقْضون الساعة الأولى من يومهم في غرفة المولى حيث تُتلى المناجاة، ثم يتناولون جميعًا طعام الفطور مع حضرته. كان الأطفال يجلسون على الأرض متربّعين وأيديهم مضمومة إلى صدورهم بكل احترام، ويتلون المناجاة لحضرة عبد البهاء حينما يُطلب منهم. لم يكن هناك صياح أو سلوك غير لائق. أما الفطور فكان من الشاي المخمّر في سماوَر روسي من النحاس الأصفر ويُصَبّ في أقداح صغيرة من الكريستال، حلو جدًّا وساخن جدًّا، ثم الخبز من القمح الصافي والجبن المصنّع من حليب الماعز. سجَّلَ الدكتور ضياء بغدادي، وهو صديق حميم للعائلة المباركة، في ذكرياته عن تلك الأيام بأن شوقي أفندي كان دائمًا أول من يستيقظ ليكون جاهزًا في الوقت المحدد – بعد أن يتلقى ضربة تأديبية حُبيّة من يد جدّه لا من غيره!

ويُخبرنا الدكتور أيضًا بقصةِ أولِ لوح مبارك نزل لشوقي أفندي من يراع حضرة عبد البهاء. صرّح د. بغدادي، أنه عندما كان عُمْر شوقي أفندي خمس سنوات فقط كان يلحّ على المولى أن يكتب له شيئًا. فكتب حضرة عبد البهاء بخط يده الخطاب المؤثر التالي:

هو الله

يا شوقي أنا، لا وقت لدي للكلام، دعني وشأني! قلتَ لي ‘اكتب’ فكتبتُ. ما العمل بعد ذلك؟ ليس الآن وقت قراءتك وكتابتك، إنه وقت اللَّعب هنا وهناك وكذلك ترتيل “يا إلهي!” فاحفظ مناجاة الجمال المبارك واتلُها حتى أسمعها، لأنه لا وقت لأي شيء آخر. ع ع[7]

ما إن وصلت هذه المِنحة الرائعة إلى الطفل حتى صمّم، كما يبدو، أن يحفظ عددًا من المناجاة لحضرة بهاء الله عن ظهر قلب، وأخذ يتلوها بصوت عالٍ للغاية بحيث وصل إلى مسامع جميع من في الجوار، وعندما احتج والداه وأفرادٌ آخرون من عائلة المولى على صوته العالي أجابهم شوقي أفندي، طبقًا لما جاء في مذكرات بغدادي، ‘إن المولى كتب لي أن أتلو بصوت عالٍ كي يسمعني! وأنا أبذل كل جهدي!’ واستمر على عادته يتلو المناجاة بأعلى صوته مدة ساعات كل يوم. وأخيرًا ذهب والداه إلى المولى يرجوانه أن يوقفه، إلا أن حضرته طلب منهما أن يتركا شوقي أفندي وشأنه. كان ذلك جانبًا من تلاوته للمناجاة، إلا أن جانبًا آخر أُخبِرنا به: كان قد حفظ عن ظهر قلب بعض الفقرات المؤثِّرة التي كتبها حضرة عبد البهاء بعد صعود حضرة بهاء الله، وعندما كان يتلوها كانت دموعه تنساب على وجهه الصغير المحبوب. قيل لنا من مصدر آخر إن حضرة عبد البهاء عندما طلب منه أحد أحباء الغرب، الذي كان يقيم في منزله آنذاك، أن يُنزل مناجاة خاصة بالأطفال، لبّى حضرته الطلب، وكان شوقي أفندي أول من حفظ تلك المناجاة واعتاد أن يتلوها في اجتماعات الأحباء أيضًا.

اعتادت مربية شوقي أفندي في فترة حضانته أن تحكي كيف أن المولى عادة ما كان يدعو أحد قرّاء المسلمين الذين يرتلون في المسجد ليحضر مرة في الأسبوع على الأقل ليتلو للطفل آيات بيّنات من القرآن الكريم بصوته الجميل، كما كان للمولى نفسه ووالدة ولي أمر الله وكثير آخرين في العائلة المباركة أصواتهم الجميلة أيضًا، ولا شك أن هذا كله كان له تأثيره العميق على شوقي أفندي الذي اعتاد ترتيل المناجاة أواخر أيام حياته. كان له صوت جهوري رخيم يتعذّر وصْفُهُ؛ ليس بالعالي إلى حدٍّ كبير ولا بالخافت جدًا، واضح بإيقاع جميل في نُطقه، أكان ذلك بالإنكليزية أم بالفارسية، وأكثر جمالاً حين كان يرتّل بالعربية أو الفارسية. أما بالنسبة لي فكان على الدوام ذلك النوع الحزين من النغم الذي تَغَنُّه يمامة لنفسها وهي تقف بين الأغصان وحيدة. اعتاد صوته أن يعتصر قلبي – لأحساسي بأن شيئًا أليمًا وحزينًا يكمن في نبرات تلاوته الرنّانة الواثقة، والأمر الغريب في الموضوع ذلك الفرق الملحوظ في نوعية صوته عندما كان يغادر مرقد حضرة الباب، بعد تلاوة المناجاة، ويذهب كالمعتاد إلى مرقد حضرة عبد البهاء ويتلو هناك مناجاة [اللقاء] لحضرته: “إلهي إلهي إني أبسط إليك أكفّ…”[8] عندها تأتي في نبرة صوت ولي أمر الله واشتياق وحنين لم يسمعه المرء في أي مكان آخر، وهي ميزة لم تضعف قط، ولم تتغير أبدًا وكانت دائمة الحضور.

في ذكرياته عن تلك السنوات الأولى كتب أحد البهائيين أن شوقي أفندي دخل ذات يوم غرفة المولى وتناول قلمه وحاول الكتابة. سحبه المولى إلى جانبه وربّت على كتفه بلطف وتفضل: ‘الآن ليس وقت الكتابة، الآن وقت اللعب، سوف تكتب الكثير في المستقبل.’ ومع كل ذلك فإن رغبة الطفل في التعلُّم أدّت إلى تشكيل صفوف في بيت عائلة المولى لتعليم الأطفال من قِبَل معلم بهائي إيراني كبير في السن. أنا أعلم أن شوقي أفندي في وقت ما من طفولته، على الأرجح عندما كان لا يزال يعيش في عكاء، كان مع أحفادٍ آخرين يتلقون دروسهم من امرأة إيطالية كانت تعمل كمربية أو معلمة، وهي سيدة مسنّة شعرها أشيب، قدِمت لزيارتنا بعد زواجي بقليل.

مع أن أُولى سنوات حياته قضاها شوقي أفندي في مدينة السجن عكاء داخل أسوارها وخنادقها وبوّابتيها المحميّتيْن بحُرّاس، إلا أن هذا لا يعني أنه لم تكن لديه الفرصة للحركة والتنقّل هنا وهناك؛ فلا بد أنه كثيرًا ما كان يذهب إلى منازل البهائيين داخل المدينة، ويذهب إلى خان [العواميد] حيث يُقيم الزائرون، وإلى حديقة الرضوان وإلى البهجة. وفي كثير من الأوقات كان هو ذلك المرافق المُبتهِج لجَدِّه في مثل تلك الجولات. وكما قيل لنا، كان يُمضي الليل أحيانًا فيلٍ يُستعمل الآن دارًا لضيافة المسافرين، وكان حضرة عبد البهاء يأتي بنفسه أحيانًا إلى سريره ليلاً متفقّدًا غطاءه ومبديًا ملاحظته بقوله: ‘أنا بحاجة إليه.’ كما أنهم اصْطحبوه إلى بيروت، تلك المدينة الكبيرة الوحيدة في كامل الأقليم التي غالبًا ما كان يزورها أفراد من عائلة حضرة عبد البهاء. ويروي لنا د. بغدادي كيف أن شوقي أفندي في إحدى هذه الزيارات، عندما كان صبيًا في عمر الخامسة أو السادسة، برفقة والديه والورقة المباركة العليا وأفراد آخرين من العائلة يقيمون هناك، قد أمضى معظم وقته في غرفة د. بغدادي يقلّب صفحات كتبه الطبّية وينظر إلى الصور ويطرح الأسئلة. يبدو أن شوقي أفندي أراد أن يشاهد شيئًا يجري تشريحه أمامه عمليًا ولم يكن مكتفيًا بالنظر إلى الصور فقط. كان هذا الحماس للمعرفة (بهاتين العينين الواسعتيْن الدالّتيْن على الفِطنة والتصميم دون شك) قد استولى تمامًا على طالب الطّبِّ الصغير الذي أُحضِرت له قطَّة برّية كبيرة كانت الضحيّة، وأخذ الدكتور يشرّحها أمام الصبيّ وبمرأى من إحدى خالاته والخادم، والكل يراقب بسكون تام. أنهى الدكتور تشريحه وهو يفكّر كيف لطفلٍ صغير مثله أن يدرك كل ما كان يجري، وكم أدهشه عندما سمع شوقي أفندي يُعيد تلك النقاط البارزة التي كان يوضّحها الطبيب أثناء التشريح كلمة بكلمة. وكتب د. بغدادي فيما بعد: ‘قلتُ لنفسي إنه ليس طفلاً عاديًا، حقًا إنه ملاك عزيز غالٍ!’ ولا بدّ أن شوقي أفندي قد تذكّر درسَه الأوّل في التشريح عندما أصبح طالبًا عام 1916 يدْرس علم الحيوان كجزء من متطلبات دراسته. ثم يسترسل د. بغدادي أنه بالإضافة إلى قدرته العقلية الهائلة للتعلم والمعرفة، كان لشوقي أفندي قلب غاية في الرقَّة، وطبيعة طيبة محبَّبة لدرجة لو أنه ضايق أحد رفاقه في اللعب – مع أنه لم يكن ليفعل ذلك إلا إذا لجأ أحد الأطفال إلى الغِشّ أو تصرّف بخبث – فلا ينام ليلتَهُ قبل أن يعانق رفيقه ويتركه سعيدًا، ودومًا كان يحثّ رفاقه الصغار على تسوية خلافاتهم قبل أن يذهبوا للنوم.

كان شوقي أفندي يحلم أحيانًا أحلامًا واضحة مميّزة؛ منها المفرح ومنها المقيت. يُروى أنه عندما كان طفلاً رضيعًا حدث أن استيقظ ذات ليلة وهو يبكي، فطلب المولى من مربيته أن تُحْضره له ليُسكِّن من رَوْعه ويريحه، والتفت إلى شقيقته الورقة المباركة العليا وتفضل: ‘أترين، لديه أحلام منذ الآن!’

هناك القليل جدًا مما دُوّن عما كان يظنُّه غير البهائيين في حفيد حضرة عبد البهاء هذا. إلا أن واحدًا منها جدير بأن نقتطف منه مع شيء من الإسهاب. إنها مذكرات الدكتورة ج. فولشير[9] وهي طبيبة ألمانية عاشت في حيفا، وكانت تعتني بصحة نساء البيت المبارك، مع الأخذ بعين الاعتبار أن قصتها المثيرة للاهتمام هذه لم تُسجّل إلا بعد مرور إحدى عشرة سنة على الأقل من وقوع الحدَث، ومع ذلك فإن لها أهميتها الكبيرة:

في السادس من شهر آب/ أغسطس 1910، وعندما عُدتُ إلى منزلي من زيارة طبّية على جبل الكرمل، أخبرتني خادمتنا هادشيل قائلة: ‘منذ لحظة كان خادم عباس أفندي هنا وقال بأن الدكتورة يجب أن تأتي في ‘العصر’ (الثالثة بعد الظهر) إلى جناح النساء في بيت المولى لأن إحدى الخادمات قد أصيبت بإصبعها إصابة بليغة.’ لم أكن راغبة كثيرًا أن أبدأ زياراتي في ساعة مبكرة كهذه بعد ظهر يوم السبت، ولكن لعلمي بأن المولى لا يطلبني خارج ساعات الدوام إلا لأمر طارئ، قررتُ الذهاب في الموعد المحدد… أجريتُ اللازم لإصبع المُصابة وضمّدتُ يدها وعَصَبتُ الذراع وعلّقته برقبتها، وعندما انتهيتُ صَرَفَتْ بهائية خانم المُصابة الصغيرة المتألمة إلى فراشها ودعتني لتناول المرطبات معها بحضور سيدات أهل البيت. وبينما كنا نرشف القهوة ونتبادل أطراف الحديث بالتركية، التي كانت أسهل عليّ من العربية، جاءت إحدى الخادمات لتقول: ‘يريد عباس أفندي من الطبيبة أن تحضر إلى السَّلَمْلِك (غرفة المعيشة) قبل مغادرتها.’ … سألني المولى عن وضع إصبع الفتاة الصغيرة، وما إذا كان الخطر من حدوث تسمُّم في الدم قد زال. ما إن طمأنتُه حتى دخل الغرفة في تلك اللحظة صهره (زوج ابنته الكبرى) ليستأذن في الانصراف كما كان واضحًا. لم أَلْحظ في البداية أن خلف ذلك الرجل الطويل الوقور كان ابنه الأكبر شوقي أفندي وقد دخل الغرفة وحيّا جدَّه الموقّر بتقبيل يده كعادة أهل الشرق. سبق لي أن رأيتُ الصبي بشكل خاطف في عدد قليل من مناسبات أخرى. وأخبرتْني بهائية خانم مؤخرًا بأن هذا الفتى الصغير، وهو ربما في الثانية عشرة من عمره، هو المولود الأكبر المباشر من بين الذكور في عائلة المظهر الإلهي ومقدّر له أن يكون الخليفة والممثّل الأوحد للمولى (وزير). وبينما كان عباس أفندي يتكلم مع أبو شوقي (والد شوقي أفندي) في بعض الأمور باللغة الفارسية، وهو واقف أمام حضرته، رأيت الحفيد، بعد أن حيّانا بكل أدب وقبّل يد عمّته الكبرى، ظلّ واقفًا قرب الباب بمنتهى الاحترام. في تلك اللحظة شاهدتُ عددًا من الرجال الإيرانيين يتقاطرون في الدخول إلى الغرفة والخروج منها، يُلقون التحية ثم يطلبون الإذن بالمغادرة. استغرق ذلك ربع ساعة. انسحبنا أنا وبهائية خانم إلى اليمين قرب النافذة واستمرّ حديثنا بصوت خافت بالتركية. ومع ذلك لم يغِبْ نظري عن ذلك الحفيد اليافع لعباس أفندي الذي لا يزال واقفًا بهدوء. كان يرتدي الزيّ الأوروبي الصيفي؛ بنطالاً قصيرًا [شورت] وجوارب طويلة تصل إلى ما فوق الركبتين مع جاكيتة قصيرة، وكان بطول قامته وجسمه يبدو كأنه في الثالثة أو الرابعة عشرة من عمره… في ذلك الوجه الطفولي الهادئ بهرتني للوهلة الأولى عيناه الداكنتان الحزينتان اللتان تنمّان عن نضجه. بقي الفتى في مكانه هادئًا خاشعًا تمامًا، وبعد أن استأذن الوالد والرجل الذي معه بالانصراف همس في أذن ابنه وهو يخرج، عندئذ رأيتُ الفتى يتقدّم بخطوات بطيئة متزنة، وكأنه رجل يافع، ويقترب من جدّه المحبوب منتظرًا. فأجيب إلى طلبه بالفارسية بوضوح وبلهجة ضاحكة، أُذن له بالانصراف، ولكن ليس قبل أن يُسمح له أولاً بتقبيل اليد احترامًا. لقد تأثّرتُ كثيرًا من طريقة رجوع الشاب إلى الوراء وهو يغادر الغرفة، وكيف أن عينيه الداكنتيْن المعبِّرتيْن عن الحب الصادق لم تفارقا بريق عيني جدّه الزرقاويْن الساحرتيْن ولو لحظة واحدة.

نهض عباس أفندي وتقدّم نحونا فوقفنا على الفور إلا أنه حثّنا على الجلوس كما كنّا، ودون أي كُلفة جلس هو على كرسي [بلا ظهر ولا يدين] قريب منا وعلى الأصح في مواجهتنا. انتظرنا صامتتيْن كالعادة ليبدأ كلامه، وبعد برهة قصيرة تفضل قائلاً: ‘والآن يا ابنتي، ماذا تقولين بأليشعي[10] المستقبليّ هذا؟’ فأجبتُ: ‘يا مولاي، إذا كان لي أن أتكلّم بصراحة فيجب أن أقول إن في وجهه الصبياني عينيْن داكنتيْن فيهما المعاناة. أراه شخصًا سوف يعاني الكثير!’ سرح المولى بنظره بعيدًا في الفضاء خلفنا مفكّرًا، وبعد وقت طويل عاد ينظر إلينا محدقًا وقال: ‘ليس لحفيدي عَيْنَا مستكشفٍ أو مقاتلٍ أو فاتحٍ، إلا أن المرء يرى فيهما ولاءً عميقًا ومثابرة وضميرًا حيًا. وهل تعرفين يا ابنتي لماذا سوف يقع تحت عبء الميراث الثقيل الذي سيرثه عني كونه وزيري؟’ (يعني شغل منصب رفيع) ودون أن ينتظر جوابي استرسل في كلامه موجِّهًا نَظَرَه إلى جهة شقيقته العزيزة أكثر مني وكأنه نسيَ وجودي قائلاً: “حضرة بهاء الله، ذو العظمة والكمال – تباركَتْ كلماته، ماضيًا وحاضرًا وإلى الأبد – قد اختار هذا العبد الفاني خليفة من بعده، ليس لأنني البكر بل لأن بصيرته قد رأت آية الله منقوشة على جبيني.”

‘قبل صعود روحه إلى النور الأبدي ذكّرني المظهر الإلهي المبارك بأن عليّ أيضًا – بغضِّ النظر عن حق البكورة أو العمر – أن أتفحّص من بين أولادي وأحفادي مَنْ يختاره الله لهذا المقام والمنصب. فأولادي التحقوا بالحياة الأبدية في أرقّ سنوات عمرهم، ومن سلالتي وبين أقاربي ليس إلاّ شوقي الصغير الذي أرى في أعماق عينيه طيفَ نداء عظيم.’ ثم توقّف المولى طويلاً والتفت نحوي ثانية وقال: ‘إن الإمبراطورية البريطانية هي العظمى في الوقت الحاضر ولا تزال تتوسّع ولغتها عالمية، ومن يخلفني في المستقبل سوف يتلقى إعداده لأعباء مهامّه الجسيمة في إنكلترا نفسها بعد أن يحصل في فلسطين هنا على المعرفة الأساسية بلغات الشرق وحكمته.’ وعندئذٍ تجرّأْتُ وتدخلت: ‘ألا يُعيد التعليمُ الغربي والتدريب الإنكليزي تشكيل طبيعته ويحصر عقليته المنطلقة ضمن قيود المذهب العقلي الصارمة، ويعمل، من خلال عقائد وتقاليد، على خنق حَدْسه وعفويته الشرقية، وبذلك لن يصبح خادم الله، بل على الأرجح عبدًا للعقلانية الغربية الانتهازية والسطحية التي تكتنف الحياة اليومية هناك؟’ سادت فترة من الهدوء طويلة! ثم نهض عباس أفندي عبد البهاءل بنبرة قوية مهيبة: ‘أنا لا أُسلِّم أليشعي إلى البريطانيين كي يثقّفوه، بل إنني أكرّسه وأهبه للعليّ القدير، فعين الله سوف ترعى طفلي في أكسفورد أيضًا – إن شاء الله!’

لم يُضِفْ حضرته كلمة أخرى وغادر الغرفة دون أن يودّعنا.

ثم استأذَنْتُ بهائية خانم بالانصراف، وما إن خرجتُ حتى شاهدتُ واقفًا في الحديقة وكان واضحًا أنه غارق في تفكير عميق وهو ينظر إلى شجرة تين مثقلة بالثمار.

في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1921، وأنا مقيمة في لوغانو، عَلِمتُ بوفاة عباس أفندي عبد البهاء في حيفا، فعادتْ أفكاري وذكرياتي إلى تلك الساعة في الماضي البعيد في شهر أغسطس/ آب عام 1910، وكم أتمنى لأليشع – شوقي تمام الصحة وموفور الخير –
إن شاء الله.’

وكان حضرة عبد البهاء، بعد سنوات عدّة، قد طلب من صديقه اللورد لمنغتون[11]، وهو إسكتلندي مرموق من النبلاء لحضرته عميق الاحترام والإعجاب، أن يستخدم مكانته الرفيعة في تمكين شوقي أفندي من الالتحاق بكلية في جامعة أكسفورد. من الجائز أن يكون المولى قد ذكر خطة كهذه للدكتورة فولشير، إلا أنه بالطبع ليس لدينا دليل موثّق يعزز كلماتها.

عندما انتقل حضرة عبد البهاء أولاً إلى البيت الجديد في حيفا (الذي كان يستعمله أفراد أسرته في فبراير/ شباط 1907، إن لم يكن قبل ذلك) كان جميع أفراد عائلة حضرته يُشغِلون غرف البيت آنذاك. وأخيرًا انتقل أفراد عائلتيْن اثنتيْن من بنات حضرته إلى بيوت تخصّهم قريبة من مسكنه، ومع ذلك كان البيت يغصّ دومًا بالأقارب والأطفال والخدم والزائرين والضيوف. في سنوات لاحقة، عندما كان شوقي أفندي يعود من مدرسته إلى البيت، كانت غرفته صغيرة وملاصقة لغرفة حضرة عبد البهاء. ولأن الكهرباء لم تمدد إلا قبل صعود حضرة عبد البهاء بقليل، ولم تُوصَل إلا بعد صعوده، فقد كانت العائلة تستعمل القناديل. وكثيرًا ما كان حضرة عبد البهاء يلاحظ أن القنديل في غرفة شوقي أفندي لا يزال مضاءً حتى وقت متأخر من الليل، فكان ينهض من فراشه ويتّجه نحو الباب ليقول له: ‘كفى! كفى! إذهب للنوم!’، إلا أن عقليّة شوقي أفندي الجادَّة هذه كانت تُسِرُّ المولى كثيرًا. أخبرني ولي الأمر بأن المولى جاءه ذات مرة في غرفة المعيشة التي كان يعمل فيها، وقف ونظر إلى الحديقة من النافذة وظهره إلى شوقي أفندي. كانت أصوات الحديث والضحك من بعض أفراد العائلة يمكن سماعُها من غرفة أخرى، فاستدار حضرة عبد البهاء إلى شوقي أفندي وقال: ‘لا أريدك أن تكون مثلهم – دنيويًا.’ ومرة أخرى ذكر لي شوقي أفندي بأنه تذكّر المولى حينما التفت إلى حَرَمِه وهو يقول: ‘انظري إلى عينيه، إنهما كالماء الصافي.’ وتذكّر مرة أخرى كيف أن المولى، الذي يبدو واضحًا أنه كان واقفًا قرب نافذة مُواجِهةٍ للبوابة الرئيسة، قد لاحظ شوقي أفندي وهو يدخل مندفعًا ويصعد الدرجات بخفّة، فأرسل في طلبه وقال له: ‘لا تمشِ هكذا، امشِ بوقار!’ كان ذلك في وقت شبّ فيه شوقي أفندي وكبر وأصبح يخدم المولى في عدة أعمال. في تلك الأيام التي سبقت مغادرته إلى إنكلترا كان يلبس القفطان مع حزام أو وشاح على الخصر وطربوش أحمر على رأسه. وكثيرًا ما تُرينا الفوتوغرافية كيف أن الطربوش كان يميل بوضوح إلى الخلف، وتظهر من تحته خصلة متموجة من شعره الناعم بلونه البنّي الداكن المائل إلى السواد، وتكشف هذه الصور عن جبهة عريضة تخلو من التجاعيد، ووجه ممتلئ جميل على الدوام وذقن توحي بالحزم والتصميم وعينيْن واسعتيْن تعطيان انطباعًا بأنهما داكنتان. فَمُهُ مميّز تبدو فيه الشفة السفلى مطابقة تقريبًا للعليا ومُحْمَرَّتان بشكل واضح، وبعد مرحلة صباه احتفظ دائمًا بشارب صغير مشذّب داكن اللون.

قبل أن يقوم المولى برحلاته إلى الغرب كانت أغلب عادات أهل البيت شرقية، وبعد عودة حضرته أدخل إليها بعض العادات الغربية بالتدريج. لقد سجلتُ في مذكراتي اليومية يلي: ‘قدّم لي شوقي أفندي للتوّ وصفًا حيًا لوقت الغداء أيام المولى. ويقول بأن حضرته كان يحضر في حوالي الساعة الحادية عشرة صباحًا ويدخل القاعة الكبيرة ويسأل العم قُلي ‘ساعت چنده’ (أي كم الساعة؟) كان من عمل العم قُلي الإخبار عن الوقت. ولتحضير مائدة الطعام تقوم الخادمات بوضع ملاءة من القماش على أرضية غرفة شرب الشاي القديمة، ومن الممر، حيث مكان حفظها، تُدحرج طاولة مستديرة كبيرة ذات أرجل قصيرة وتوضع على الملاءة، وعليها يوضَع عدد من الصحون المعدنية من الطراز القديم )غالبًا مطلية بالمينا( وبعض الملاعق – التي لا تكفي كل من يجلس حولها فتوضَع عشوائيًا – كما كنّ أيضًا يوزّعن الخبز على المائدة، وفي زاوية منها بعض المناديل… ثم يدخل المولى ويجلس ويقول لمَن يكون موجودًا: ‘بيا بنشنيد’ (أي تعالوا واجلسوا) – أصهاره، عمه، ابن عمه… الخ، ويبدأ في تناول الطعام بالملعقة أحيانًا وبيده أحيانًا أخرى، كما كان يخدم الآخرين أحيانًا فيقدّم لهم بيده الكريمة الأرز و… إلخ. وفي منتصف وجبته تقريبًا تأتي الخانم (الورقة المباركة العليا) من المطبخ كالعادة، وتبدّل شبشبها عند مدخل الممر، وهي تحمل معها طبقًا من اللقيمات الشهية وتجلس قرب المولى في مكانها المحفوظ لها دائمًا، ثم يحضر الآخرون بالتدريج: النساء الضيوف، الأطفال وبنات المولى… الخ. (ويغادر المولى والرجال الذين فرغوا من طعامهم أولاً)، وعندها، كما يقول شوقي أفندي، تُرفع القيود فتتعالى أصوات الأطفال وهم يبكون ويصرخون والكل يتكلمون وتسود الجوَّ فوضى عامة. ويقول بأن ما اعتاد الأحفاد على انتظاره وترقُّبه (بمن فيهم شوقي أفندي نفسه) كان لقمة مِلْءَ الفم من الطعام الذي تُعدّه الخانم وتضعها بيدها في فم هذا أو ذاك لأنه الألذُّ طعمًا دائمًا، لذلك كانوا يسمُّونها ‘لقمة الخانم’، وكان شوقي أفندي عادة ما يحصل عليها كونه المحبّب لديها! وبعد أن تَفْرغَ سيدات أهل البيت من تناول الطعام تأتي النساء الخادمات ويجلسْنَ حول المائدة نفسها ويتناوَلْن طعامَهُنّ… بعد أن عاد المولى من رحلته إلى الغرب أُدخل المزيد من التقاليد الغربية في طريقة تناول الطعام بالتدريج مثل استعمال أواني الصيني والكراسي وسكاكين المائدة وغيرها.’

ولكن دعونا الآن نعود إلى عكاء والسنوات الأولى من حياة شوقي أفندي. ولو أنه ليس هناك شك بأن حضرة عبد البهاء قد فعل كل شيء لتوفير حياة هانئة سعيدة لطفولة شوقي أفندي قدر المستطاع، إلا أنه لم يكن ممكنًا بحال من الأحوال أن تَخْفَى على طفل ذكيّ مُرهف الحسّ مثله حقيقةُ أن جدَّه المحبوب كانت تهدِّده أخطار جسيمة في تلك السنوات التي سبقت مباشرة خَلْع سلطان تركيا. فزيارات لجان التحقيق التركية التي أرسلت لتقصّي الحقائق في التهم السامّة [الملفقة] ضد حضرة عبد البهاء من قِبَل الناقضين، ثم مكائدهم المتواصلة للنيل من حياة حضرته بالذات، ثم التهديد بعزْلِهِ ونفْيِهِ من جديد إلى ليبيا، لا بد أنها قد خلقت معًا جوًّا من القلق والتوتُّر الشديد في عائلة المولى، وما كان لها إلا أن تترك أثرًا في شوقي أفندي. كان حينها وقت النقض العنيف؛ فغالبية جماعة البهائيين الذين رافقوا حضرة بهاء الله في نفيِهِ إلى عكاء قد أصيبوا بجرثومة هذا الداء المميت، باستثناء حفنة من النفوس المخلصة. فالبعض منهم انضمَّ عَلَنًا إلى المتمرّد العاصي “محمد علي” الأخ غير الشقيق لحضرة عبد البهاء، وآخرون تعاطفوا معه علنًا. كان أثناء هذه السنوات أن طلب حضرة عبد البهاء من شوقي أفندي ألا يشرب القهوة أبدًا في أيٍّ من بيوت البهائيين لخوفه على هذا الحفيد الغالي من محاولة تسميمه! لقد أخبرني بهذا شوقي أفندي نفسه، وعندما يتذكر المرء أنه كان مجرّد صبيّ صغير في ذلك الوقت، سيدرك حينئذٍ جسامة الأخطار المُحْدِقة بهم جميعًا في تلك الأيام.

ربما بسبب هذا الوضع السيء والمتفاقم باستمرار نحو الأسوأ أن أرسل حضرة عبد البهاء شوقي أفندي مع مربّيته إلى حيفا حيث يقيم فيها بعضُ الأحباء ليعيش هناك؛ أمّا متى حدث هذا فلا أعلم، إلا أنه حدث وهو لا زال طفلاً صغيرًا. كانت الفرنسية لغته الأجنبية الأولى، ومع أنه في سنوات لاحقة كان غير راغب في التكلُّم بها رسميًا لشعوره بأن طلاقته بها قد تراجعت لعدم استعمالها، إلا أنه بالنسبة لأُذُني، على الأقل، يبقى ذلك المتملِّك لناصيتها. كان دومًا يضع كل ما يريد إضافته بسرعة البرق بالفرنسية. وحتى عام 1907 كان شوقي أفندي يعيش مع هذه المربية نفسها هاجر خاتون، التي كانت تلازمه منذ طفولته، في منزل حضرة عبد البهاء الذي بُني حديثًا [في حيفا]، والذي أصبح منزل حضرته الأخير ثم منزل ولي أمر الله فيما بعد. كان هنا في هذا المنزل عندما رأى شوقي أفندي حُلمًا له مغزاه الكبير رواه لي وقد دوّنْتُهُ. قال إنه عندما كان في التاسعة أو العاشرة من عمره، وكان وقتها يعيش مع هذه المربية في المنزل المذكور ويذهب إلى المدرسة في حيفا، رأى في حُلُمه أنه مع طفل عربي رفيق له في المدرسة كانا في الغرفة التي اعتاد حضرة عبد البهاء أن يستقبل فيها ضيوفه في البيت في عكاء حيث كان المولى يعيش وحيث وُلِد شوقي أفندي. دخل الغرفة حضرةُ الباب، ثم ظهر رجل يحمل مسدسًا أطلق منه رصاصة نحو حضرة الباب، ثم التفتَ الرجل إلى شوقي أفندي وقال: ‘الآن جاء دورُك.’ وأخذ يطارده في الغرفة ليرديه قتيلاً. عندها استيقظ شوقي أفندي وحكى حلمه لمربيته التي نصحته أن يرويه لميرزا أسد الله ويطلب منه أن ينقله للمولى. دوّن أسد الله المنام وأرسله للمولى الذي أجاب بإنزال اللوح التالي في حق شوقي أفندي. والغريب في الأمر، كما أخبرني شوقي أفندي، أن هذا اللوح كان إنزاله قريبًا جدًا من ذلك الوقت الذي كان فيه حضرة عبد البهاء في خطر عظيم، وكتب حينها واحدًا من ألواح وصاياه الذي عيّن فيه شوقي أفندي وليًا لأمر الله.

هو الله

يا شوقي أنا، هذا الحلم جيد جدًا. كن مطمئنًا بأن التشرّف بمحضر حضرة الأعلى روحي له الفداء دليل الاستفاضة من حضرة الكبرياء وحدوث الموهبة الكبرى والعناية العظمى، وكذلك بقية الرؤيا. آمل أن تصبح مظهر ألطاف الجمال الأبهى، وتزداد يومًا فيومًا إيمانًا وإيقانًا وعرفانًا، وأن تتبتّل وتتضرع وتناجى في الليل وتؤدي ما ينبغي في النهار. عبد البهاء.[12]

كان لشوقي أفندي تعلُّقٌ خاص بهذه المربية، التي ذكرها حضرة عبد البهاء في رسالة كتبها لشقيقته يقول فيها: ‘قبّلي عني وردة حديقة الرقّة شوقي أفندي، وانقلي تحياتي إلى هاجر خاتون.’ وفي مذكراتي اليومية دوَّنتُ: ‘أخبَرَني شوقي أفندي في هذه الليلة كم كان حزينًا عندما توفيت مربيته في الإسكندرون[13]، وهي التي أشرفت على تربيته، وأضاف إن والدته صمّمت الاستغناء عنها عندما تقدّمت في السن، فشعر وقتها بالمرارة ورفض ذلك بشدة مع أنه كان في التاسعة أو العاشرة من عمره. عندما جاء خبر وفاتها كان وقتها في الكرْم، حديقة والده. قال بأنه ذهب بعيدًا في الظلام وبكى من أجلها – كان في الثانية عشرة تقريبًا. وكان حبّه وإخلاصه لمربيته مَثَلاً يُحتَذى في العائلة.’

دخل شوقي أفندي أفضل مدرسة في حيفا، “كلية الفرير” التي يديرها “الآباء اليسوعيون”. لم يكن فيها سعيدًا أبدًا كما أخبرني. وفي الواقع، فإن ما استنتجته منه أنه لم يكن في الحقيقة سعيدًا على الإطلاق لا في المدرسة ولا في الجامعة. وبالرغم من طبيعته المرحة، فإنّ رقّة إحساسه وخلفيّته [تنشئته] – المختلفة تمامًا عن الآخرين في كل شيء – لم تستطع إلا أن تجعله منعزلاً عن أترابه وتسبّب له الكثير من الحزن والغمّ. كان حقًا واحدًا من أولئك المنفتحين ذوي القلوب البريئة والعقول المتوقّدة ذكاءً والطبيعة المحبة والتي يبدو أنها تجمّعت لتجلب لهم صدمات ومعاناة في حياتهم أكثر مما عند معظم الناس. وبسبب عدم ارتياحه في هذه المدرسة قرر حضرة عبد البهاء إرساله إلى بيروت حيث التحق بمدرسة أخرى كاثوليكية مقيمًا في قسمها الداخلي، إلا أنه بالمِثْل لم يكن سعيدًا. وعندما علمت العائلة في حيفا بذلك أرسلت له سيدة بهائية مؤتَمنة لكي تستأجر له مسكنًا في بيروت وتعتني به وتقوم على خدمته. لم يمضِ طويل وقت حتى كتبت المربية إلى والده تخبره بأن شوقي أفندي غير سعيد أبدًا في المدرسة ويرفض أحيانًا الذهاب إليها لعدة أيام، وأن جسمه آخذ في النحول وصحته إلى الأسوأ. عرض والده الرسالة على حضرة عبد البهاء الذي رتّب له حينئذٍ ليدخل كلية البروتستانت السورية التي تضم مدرسة وجامعة عُرفت فيما بعد بالكلية الأمريكية في بيروت، والتي التحق بها شوقي أفندي بعد أن أنهى ما يعادل الشهادة الثانوية. كان يقضي عطلاته الدراسية في المنزل بحيفا، وغالبًا – قدْر الإمكان – في محضر جدّه الذي أحبَّه حبَّ عبادة والذي أصبحت خدمته تشكل الهدفَ من حياته. فكل المقررات الدراسية التي كان يختارها شوقي أفندي لنفسه كانت تهدف إلى تأهيله لخدمة المولى ولأن يكون مترجمًا لحضرته ولخطاباته إلى الإنكليزية.

أخبرني شوقي أفندي أنه في هذه السنوات الأولى لدراسته في حيفا طلب من حضرة عبد البهاء أن يعطيه اسمًا خاصًّا به حتى لا يعود هناك خلط بينه وبين أولاد عمومته لأنهم جميعًا يُدْعَوْن أفنان، فمَنَحَه لقب “ربَّاني” ويعني “سماوي” وهو لقب استعمله أيضًا جميع إخوانه وأخواته. في تلك الأيام كان الناس لا يُعرَفون بأسماء عائلاتهم بل كانوا يُنْسَبون إلى بلدتهم أو أكبر أولادهم سنًّا أو إلى شخص بارز في العائلة.

من الصعب تمامًا تتبُّع أحداث تلك السنوات بدقّة، فكل العيون كانت مركّزة على الجَدّ عبد البهاء، ومهما كان حبّ الناس واحترامهم للحفيد الأكبر، فعندما تشرق الشمس يتجاهلون ضوء المصباح! في بعض روايات الزائرين، ومنهم ثورنتون تشيس[14]، وهو أول مؤمن بهائي أمريكي، والذي زار حضرة عبد البهاء عام 1907، قد ذكر عن لقائه مع “شوقي أفنان”. وفي واقع الأمر نشر تشيس صورة فوتوغرافية تُظهر شوقي أفندي مرتديًا ما كان على الأغلب زِيّهُ العادي في تلك الأيام؛ بنطالاً قصيرًا وجوارب طويلة داكنة، وطربوشًا على رأسه وجاكيتّة بياقة عريضة كزيّ البحّارة تغطّي كتفيه. إلا أنه لا تتوافر لدينا في الوقت الحاضر معلومات وافية لتملأ كافة الثغرات عن تلك المرحلة، حتى أولئك الذين رافقوا حضرة عبد البهاء في أسفاره إلى الغرب واحتفظوا بيوميات مدوَّنة بعناية، لم يخطر ببالهم أن يدوّنوا الكثير عن حركات وسكنات صبيّ كان في الثالثة عشرة من عمره فقط عندما بدأ حضرة عبد البهاء رحلاته التاريخية إلى أوروبا وأمريكا.

ما إن تحرر حضرة عبد البهاء من سجنه الطويل [في عكاء] وانتقل إلى إقامته الدائمة في حيفا حتى بدأ يفكّر في بهذه الأسفار. ففي تقرير نُشر في أمريكا بمجلة “الأخبار البهائية” عام 1910 نقرأ ما يلي: ‘لقد طلبتم معرفة قصة سفر حضرة عبد البهاء إلى الأراضي المصرية، إن حضرته لم يُعلِم أحدًا بأنه ينوي مغادرة حيفا… فخلال يومين استدعى إلى محضره م. ن. وشوقي أفندي و ك. وهذا العبد.’ إن ما يتذكّره أحد البهائيين بأنه قبل غروب الشمس بقليل، في عصر ذلك اليوم من شهر سبتمبر/ أيلول، عندما أبحرت الباخرة التي كانت تُقِلُّ حضرة عبد البهاء إلى بورسعيد بمصر، كان حينها شوقي أفندي جالسًا على عتبات منزل حضرة عبد البهاء متفطّر القلب بائسًا، وعلّق بقوله: ‘إن المولى الآن على ظهر الباخرة. لقد تركني وغادر، بالتأكيد إن في ذلك حكمة!’ أو أنها كانت عبارات بهذا المعنى. ولإدراكه التام، بلا شك، لما يعتري قلب حفيده العزيز… لم يمض وقت طويل حتى سارع المولى الحنون إلى طلب الصبيّ ليخفف من وَقْع هذه الصدمة الشديدة نتيجة أول انفصال جِدِّيٍّ عن حضرته. إلا أنه لم يتم العثور على معلومات إضافية ذات صلة بذلك الحدث. نحن نعلم أن المولى أمضى في بورسعيد قُرابة الشهر، وبعدها توجّه إلى الإسكندرية بدل أوروبا التي كانت وُجهته الأساسية. كم من الوقت أمضاه شوقي أفندي مع حضرته في تلك الفرصة في مصر، أمر لا نعلمه، ولكن بما أن المدرسة تفتح أبوابها في أوائل شهر أكتوبر/ تشرين الأول، فيُفتَرض أنه عاد إلى سوريا في ذلك الوقت. وما نعلمه جيدًا أن شوقي أفندي التحق بالمولى مرة أخرى في إبريل/ نيسان 1911 في الرمل، إحدى ضواحي الإسكندرية، ذلك لأن أحد الزائرين البهائيين القادم من أمريكا، وهو لويس غريغوري[15]، أول أيادي أمر الله من أصل زنجي، قد ذكر أنه التقى في 16 إبريل/ نيسان بـ ”شوقي”، صبي جميل، حفيد حضرة عبد البهاء، وقال بأنّه أظهر مودّة كبيرة للزائرين. في أغسطس/ آب من العام نفسه غادر المولى في سفرته الأولى إلى أوروبا ورجع في ديسمبر/ كانون الأول 1911. كم من الوقت مضى قبل أن يستدعي المولى حفيده الأكبر ثانية للالتحاق به هو ما نجهله أيضًا، إلا أن ما نعلمه بالفعل هو أن لدى حضرته الآن خطة – ربما متأثرًا بانطباعاته الشخصية عن أوروبا، أو لشدة اشتياقه لشوقي أفندي – تلك الخطة التي لم تكن سوى اصطحاب شوقي أفندي معه إلى أمريكا.

أخبرني شوقي أفندي بنفسه كيف أن المولى قد أوصى له بأكثر من قفطان طويل وعمامتيْن، واحدة خضراء وأخرى بيضاء كما لحضرته، حتى يرتديها شوقي أفندي في الغرب. وعندما أُحضِرت له وارتداها ليشاهده المولى قال بأن عيني حضرته لمعتا بالفخر والسعادة. فماذا كانت تعنيه رحلة كهذه إلى الغرب بالنسبة لشوقي أفندي في معيَّة حضرة عبد البهاء، أمر لا يمكن حصره. إلا أنه حالَ دون تحقيقها مكائدُ أحد الخونة الخسيسين الذي نقض العهد والميثاق فيما بعد – الدكتور أمين فريد ابن أخت حرم حضرة عبد البهاء، الذي كان مِنْ مرافقي حضرته إلى أمريكا وسبَّب له مثل هذا الضيق المتواصل لدرجة، كما أخبرني شوقي أفندي، أنه عندما عاد المولى في آخر الأمر إلى بيته في حيفا في الخامس من ديسمبر/ كانون الأول عام 1913 توجّه فورًا إلى غرفة حرمه ثم جلس، وبصوت واهن أومأ بيده قائلاً: ‘الدكتور فريد أهلكني.’ لم يكن عند شوقي أفندي أدنى شك في أن مَنْعَه من القيام بتلك الرحلة التاريخية كان بسبب فريد هذا.

في الخامس والعشرين من مارس/ آذار 1912 أبحر حضرة عبد البهاء وشوقي أفندي مع بعض السكرتارين والخدم منطلقين من الإسكندرية إلى أوروبا على متن الباخرة س. س. سيدرك[16] التابعة لشركة “وايت ستار لاين”[17]. وبعد أن رست الباخرة على رصيف ميناء نابولي أعلن مفتشو الصحة الإيطالية أن عيون أحد السكرتارين وأحد الخدم وشوقي أفندي مصابة وعلى ذلك صدر الأمر بعودتهم إلى الشرق الأوسط. لقد أورد هذه الحقائق ميرزا محمود في يومياته وقال إنه بالرغم من الجهود الحثيثة التي بُذلت من قبل حضرة عبد البهاء ومرافقيه وأحباء أمريكيين، فقد رَفَضَت السلطات الإيطالية منح هؤلاء الثلاثة تصريحًا حتى بالنزول من السفينة وصرحت بأنه حتى لو تمّ السماح لهم بمتابعة الرحلة فإن السلطات الصحية الأمريكية ستعيدهم إلى بلدهم. استمر حضرته في مساعيه يومًا كاملاً باذلاً كل ممكن من أجل تغيير هذا القرار دون جدوى. وفي المساء ما كان أمام حضرته إلا أن يصعد إلى باخرته المُبْحرة إلى أمريكا بعد وداع مؤلم حزين. إن كلماته التي وجّهها تلك الليلة إلى مرافقيه وضّحت قناعته بأن السبب في إعادة شوقي أفندي لم يكن إلا ذريعة ملفّقة. ‘لقد ظن هؤلاء الإيطاليون أننا أتراك وسجّلونا على أننا كذلك، فأوقفوا ثلاثةً منّا كان أحدهم سكرتيرًا والثاني طبّاخًا، وهذا ليس مهمًا، أما هذا الصبي شوقي أفندي فكان لا حيلة له. لماذا كانوا معه بهذا الحزم؟ لقد أساءوا معاملتنا مع أنني كنت دائمًا ذلك المؤازر والمُعين لجاليتهم أكانت في الإسكندرية أم في حيفا…’

أخبرني شوقي أفندي بأنه لم يكن هناك علّة في عينيه (فعيناه قويتان جدًا دائمًا)، إلا أن الدكتور فريد أصرّ على حضرة عبد البهاء بضرورة إرجاعه، مستعمِلاً كل أنواع الذرائع، لتأييد ما ادّعاه الطبيب الإيطالي. لقد عزا شوقي أفندي كل ما حدث إلى التدخل الشخصي لفريد، وهو مثال لطموحه غير المحدود وللمكائد التي لا نهاية لها السائدة في أوساط العائلات الشرقية. يمكن للمرء أن يتخيّل مدى انكسار القلب الذي سبّبه هذا الرفض لصبيّ في الخامسة عشرة من عمره وقد أعدّ نفسه للسفر في أول تجربة مثيرة وكبيرة في حياته، بل وأكثر من ذلك بكثير بالنسبة لشوقي أفندي، وهو المتعلّق بجدِّه تعلقًا شديدًا والمتحمّس للغاية لأن يستقلّ باخرة كبيرة في رحلة عظيمة إلى الغرب في وقت كان مثل تلك الرحلات الطويلة أمرًا نادرًا نسبيًا وزاخرًا بالأحداث! كان دائمًا يتذكر هذا الحَدَث بشيء من الحزن ولكن بروح مؤثّرة فيها التسليم والرضا باللطمات المستمرة التي طفِق يتلقاها طيلة حياته. من السهل القول بأنها إرادة الله – ولكن من يعلم كم من المرات تتحول فيها الخطوة التالية المقدرة إلهيًا إلى مسار آخر أقل كمالاً تدبّره مكائد الإنسان الشيطانية؟ لا مجال للشك بأن حزن المولى كان شديدًا جرّاء ما حدث، ولكن كان عليه أن يُبقي خططه طيّ الكتمان خشية أن ينكشف سرّ مستقبل شوقي أفندي قبل أوانه، ويقع عليه الأسوأ من خلال حقد الآخرين وحسدهم.

لدينا خطاب كتبه شوقي أفندي بعد حوالي ستة أشهر إلى أحد سكرتيري حضرة عبد البهاء في أمريكا يخبره بأنه رغم اشتراكه بمجلة “نجمة الغرب”[18]، إلا أنه لم تصله بعض أعدادها، ويرجوه أن يسعى جاهدًا في الحصول على جميع الأعداد التي كَتَبَتْ عن رحلة المولى إلى أمريكا. ويذكر بأن عنوانه سيكون، منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول، في الكلية البروتستانتية السورية في بيروت/ سوريا التي ذكر بأنه سيلتحق بها قريبًا. ووقَّع اسمه “شوقي رباني” (Choki Rabbani). يبدو أنه في سنواته الأولى كان يكتبه هكذا (Choki) وأحيانا (Shawki) أو (Shogi) ومع الوقت أصبح (Shoghi) الذي يعطيه نُطقه الصحيح بالإنكليزية. وفي دفتر مذكراته عن تلك الأيام في بيروت كتب اسمه (Shawqi Rabbani) بالتهجئة الكاملة، مُظهِرًا معرفته التامة بتهجئة اسمه – ولكنه لم يستعمل هذه التهجئة لاسمه أبدًا.

رغم طبيعة مشاغله اليومية المجهِدة في تلك الأشهر المضنية في أمريكا ثم أوروبا لاحقًا، لا بدّ وأن حضرة عبد البهاء غالبًا ما كان يتّجه بأفكاره نحو حفيده المحبوب. ففي ثلاث رسائل، من بين ما كان يكتبه لشقيقته الورقة المباركة العليا بهائية خانم خلال رحلاته، نجده يذكر شوقي أفندي مبديًا قلقه عليه ويكشف عن حبّه الكبير له، فيقول فيها ‘اكتبي لي في الحال عن أحوال شوقي أفندي، وأعلميني بالكامل ولا تُخفي شيئًا؛ فهذه هي الطريقة الفُضلى.’ ‘قبِّلي نور عيون مَجْمع النفوس الروحانية، شوقي أفندي.’ ‘قبِّلي وردة حديقة الرقّة النضرة، شوقي .’ فكلمات كهذه تشير بوضوح إلى قلقه تجاه صبيّ لم يكن دائمًا في صحة جيدة، ويدرك تمامًا مدى اشتياقه لحضرته ومعاناته في فِراقه. ولدينا لوح آخر لحضرة عبد البهاء موجَّه إلى شوقي أفندي يعبّر فيه عن اهتمامه بصحته ولكنني لا أعلم فترة نزوله:

هو الله ‘شوقي أفندي عليه البهاء الأبهى يا فتيَّ العمر ومنيرَ المُحيّا، علمتُ أنك متوعّكٌ وتلزمك الراحة، فلا بأس. إن الراحة لازمة من وقت لآخر، وإلاّ غدوتَ مثلَ عبد البهاء ضعيفًا واهنًا وغيرَ قادر على العمل من شدّة التعب. عليك بالراحة الآن بضعة أيام، ولا بأس في ذلك. آمل أن يشملك الجمال المبارك بعنايته وحمايته.’[19]

أخيرًا في السادس من يونيو/ حزيران 1913 انتهت الرحلة الطويلة وعاد حضرة عبد البهاء، ذو التسع والستين سنة، إلى مصر وقد أضناه التعب نتيجة الجهود الخارقة التي بذلها، وسارعت عائلته للتشرف بمحضره هناك، ومن بينهم شوقي أفندي الذي التحق بحضرته بعد حوالي ستة أسابيع من وصوله. وإذا عَجِب المرءُ لماذا لم يذهب فور وصول جدّه، فليتذكر أن الدراسة في المدرسة تنتهي في الأسبوع الأول من شهر يوليو/ تموز، وفي الأغلب كان على شوقي أفندي أن يستقلّ الباخرة من بيروت إلى حيفا (والبديل كان طريق البرّ في قافلة بكُلفة أقل ولكنها أطول ومشاقّها أكبر للوصول إلى هناك)، وبعد وصوله التحق ببعض أفراد أسرته ليبحروا من حيفا إلى مصر برفقة الورقة المباركة العليا وآخرين. وصلوا إلى ضاحية الرمل في الإسكندرية في الأول من أغسطس/ آب حيث استأجر حضرة عبد البهاء مرة أخرى فيلاّ [منزلاً مستقلاً]. كثيرًا ما كان شوقي أفندي يقول: ‘كان المولى كالمحيط’، ويعني بذلك أن حضرته بمقدوره أن يتلقى ويتقبّل كل شيء دون أن تظهر عليه أمارات الانزعاج. هذه القدرة الفائقة في السيطرة على النفس لا يمكن ملاحظتُها بأفضل مما جاء في مذكرة كاتب يوميات الرحلة بأن حضرة عبد البهاء بعد أن سمع بوصول شخصين هما الأحب إلى قلبه في الوجود، جلس مع الأحباء وبعض الأصدقاء ساعة كاملة قبل أن يتركهم ويرجع إلى المنزل للترحيب بهما! وجاء في المذكرة في يوم 2 أغسطس/ آب: ‘في هذا اليوم لم يأتِ المولى المحبوب لرؤيتنا في الصباح لأنه كان يُكرم وِفادة “الورقة المباركة العليا” وباقي الأحباء الذين رافقوها.’ عندما يتخيل المرء مدى سعادة العائلة في لمِّ شملها ثانية ويقرأ هذه الإشارة المُبتَذَلة التي وردت في المذكرة مشيرة إلى ذلك، يدرك المرء شيئًا من الجلال والوقار الذي كان يحيط دائمًا بعائلة حضرة عبد البهاء. ومع ذلك لدينا بعض الإشارات عن حياة شوقي أفندي هناك: لقد استؤنفت العادة القديمة بتلاوة المناجاة في محضر حضرة عبد البهاء، وكان شوقي أفندي يتلو المناجاة أيضًا بصوته الشبابي الجميل، وكان حضرة عبد البهاء يصحّحه ويعطيه توجيهاته أحيانًا. لم يكن في هذا شيءٌ غير اعتيادي، فأنا شخصيًا كثيرًا ما كنت أسمع كبار العائلة يصوّبون اللحن أو النطق لمن يتلو المناجاة أو يقرأ الشِّعر بصوت عالٍ، ولا شك أن المولى لا بد أن فَعَل ذلك لشوقي أفندي عدة مرات على مرّ السنين. بنشاطه العارم وبقدرته الحاضرة دومًا وضع شوقي أفندي نفسه في خدمة المولى في الأشهر التي أمضاها مع حضرته قبل أن يعود إلى بيروت لاستئناف دراسته، فكان يوصل رسائل حضرته إلى الأحباء الإيرانيين التي كان يُمليها عليه أثناء جلوسه في حديقة فيلّته التي اعتاد حضرته أن يشرب الشاي ويستقبل ضيوفه فيها. كان شوقي أفندي هو القائم دومًا على خدمة حضرته؛ يقوم بالمهام الخاصة، ويرسله حضرته مع آخرين لاستقبال الزائرين، أو لقائهم في محطة السكة الحديد. وقد رُوِيَ لنا كيف أرسل حضرة عبد البهاء شوقي أفندي لاصطحاب بعض الأحباء ليشاهدوا متنزّه الإسكندرية الشهير وحديقة الحيوانات هناك، وكيف أنه زار القاهرة أيضًا – حيث يمكن للمرء أن يتخيّل كيف أنه لم يُضيِّع الوقت هناك، فسارع إلى زيارة الأهرامات لأنه كان يملك روح المغامرة ويتوق إلى زيارة الأماكن البعيدة، بدلالة ما سُجّل عن اهتمامه الشديد ببعض أعداد المجلات المتخصصة بـ ’الرحلات’ التي كانت تُرسل إليه من أمريكا.

كانت هناك حركة هائلة تموج حول حضرة عبد البهاء: زائرون يصلون من الشرق والغرب، من بينهم بهائيون قدماء مشهورون مثل لِوا غتسنغر[20] وميرزا أبو الفضل اللذيْن استقر جثمان كل منهما أخيرًا في مصر [في قبرين متجاورين] تحت شاهد واحد بعد سنوات طوال على وفاتهما؛ أحباء يغادرون إلى الهند لنشر رسالة حضرة بهاء الله؛ وفود من الطلاب البهائيين الشباب من بيروت وإيران؛ لقاءات حضرته مع مراسلين صحفيين وشخصيات مرموقة وأصحاب مناصب عليا. كتب أحد سكرتيريه، الذي رافق حضرته إلى أمريكا، في ذلك الوقت عن تلك البهجة والعنايات اللامتناهية التي تنسّمت في تلك الأيام الثمينة الغالية بمحضر المولى. فإذا كان هذا ما انطبع عميقًا في ذهن السكرتير وقلبه، فكم كان التأثير يا تُرى على شوقي أفندي، الذي شعر بخيبة أمل كبيرة عندما حُرم من فضل مرافقة حضرة عبد البهاء إلى الغرب، والذي كان توّاقًا جدًا إلى محضر حضرته وسماع أخباره طيلة خمسة عشر شهرًا من الافتراق؟ فالقلْبُ في السادسة عشرة يكون قادرًا على إظهار نوع من البهجة نادرًا ما تتكرر في الحياة ثانية؛ وبالرغم من سنوات الحرب التي كانت تقترب بسرعة، فإن هذه الفترة باعتقادي، وحتى صعود حضرة عبد البهاء عام 1921، كانت أسعد أيام شوقي أفندي طيلة حياته.

أذكر قصتين مرتبطتين بالأيام التي قضاها شوقي أفندي مع المولى في مصر وقد رواهما لي بنفسه. قال: ذات يوم، بعد تناول وجبة طعام دَسِمَة إلى حدٍّ كبير، رجع المولى في ذاكرته إلى الأيام الخوالي في بغداد، حينما عاد والده بعد فترة انقطاعه وخلوته الاختيارية في جبال السليمانية، وكانوا جميعًا حينها في فقرٍ شديد – إلا أنها كانت أيامًا جرى فيها من قلم حضرة بهاء الله سيلٌ دافق من الكتابات المباركة التي كان الأحباء يجلسون معًا ويستمعون إلى ترتيلها، ليلة بعد ليلة حتى ساعات الفجر، مستغرقين في نشوة هذا الفيض الإلهي الرائع – ثم يتفضل المولى بأنَّ طعم الخبز الجافّ مع التمر في تلك الأيام كان ألذّ من أي طعام آخر في العالم. والقصة الأخرى أدهشتني – ونوّرت بصيرتي – بدرجة كبيرة؛ وقد سمِعْتُها أكثر من مرة: قال شوقي أفندي بأنه ذات يوم كان مع المولى في عربة خَيْلٍ مستأجَرة [حنطور] تُقِلُّهم مع أحد الباشوات، الذي اصطحبه المولى ليحل ضيفًا عنده، وكنا آنذاك عائدين من الإسكندرية إلى ضاحية الرمل، وعندما وصلوا وترجّلوا، سأل المولى سائق العربة [العربجي]، وهو رجل ضخم قوي البنية، عما يريده من أجر فطلب مبلغًا باهظًا جدًا. رفض حضرته دفع المبلغ، إلا أن الرجل أصرّ واستشاط غضبًا وتصرّف بصفاقة حتى إنه أمسك بالمولى من حزامه الذي يحيط بخصره وسحبه إلى الأمام ثم إلى الخلف بكل خشونة عدة مرّات مصرًّا على نقده ذلك المبلغ. قال شوقي أفندي بأن هذا المشهد قد أحرجه للغاية أمام الضيف المرموق. ولم يستطع تقديم أي مساعدة للمولى لصغر سنّه، فشعر بالخوف والمهانة. أما حضرة عبد البهاء فلم يكن كذلك، فقد بقي في غاية الهدوء ورفض الاستسلام. ولما أفْلَت الرجل أخيرًا قبضته عن حضرة عبد البهاء أنقده حضرته ما يستحقه بالضبط من أجر وقال له بأن سلوكه هذا قد أفقده إكراميّة مُجزية كان ينوي منحه إياها، ثم مشى حضرته يتبعه شوقي أفندي والباشا! لا شك أن أمورًا كهذه قد تركت أثرها في شخصية ولي أمر الله طوال حياته، فلم يسمح لنفسه أبدًا أن يُخدَعَ أو يؤخذ بالترهيب، بغض النظر عما قد يسببه ذلك من إحراج أو إزعاج له وأولئك الذين يعملون في معيته.

إن الشخصية التي رأيناها في شوقي أفندي كولي لأمر الله كانت هناك معه في صباه وسِنِيّ مراهقته. ففي رسالة كتبها من بيروت في 8 مارس/ آذار 1914، موجهة إلى أحد سكرتيري المولى في حيفا، وكان يعرفه تمامًا، نراه يلومه على إهماله في الكتابة له: ‘انقضى وقت طويل ولم تصلني أخبار من حيفا ولا حتى كلمة منك. لم أكن أتوقع ذلك حقًا، آمل أن تتغير نُدرةُ المراسلة هذه إلى رسائل عديدة زاخرة بالبشارات السارة عن الأرض الأقدس.’ فالصبي ذو السبعة عشر عامًا كان حازمًا وأميريًا. ويمضي في تمنياته أن يكون ‘مولانا وسيدنا في صحة تامة’ ويطلب أن يُرسَل إليه قبل 20 مارس/ آذار أيّ حديث وكلّ إشارة وردت على لسان المولى، وأية معلومات تتعلق بالمحكمة العليا تتوفر لدى مراسل حضرته. إن حرصه الشديد في تَتبُّع أحاديث وأفكار المولى ينعكس في هذه الرسالة كما في نظيرتها التي يطلب فيها تزويده بجميع أعداد مجلة “نجمة الغرب” التي تغطّي زيارة حضرة عبد البهاء إلى أمريكا. إلا أنه لا تزال في هذه الرسالة جوانب أخرى منيرة تلقي الضوء على اهتمامات شوقي أفندي وطبيعته حيث جاء فيها: ‘إنني على وشك الانتهاء من إعداد خارطة للولايات المتحدة الأمريكية. إنها خارطة جميلة ورائعة للغاية، فأرجو أن تُرْسِل لي قائمة بالمدن التي زارها مولانا في الولايات المتحدة مرتّبة الواحدة تلو الأخرى حتى أتمكَّن من تثبيت مواقعها على الخارطة.’ فالمصمّم العظيم لخارطة العالم البهائي أصبح منذ الآن منشغلاً بها!

في صفحات دفاتر ملاحظات شوقي أفندي من عام 1917 نجد أنه كان يضع إشارة على الأيام التي كان فيها يتم إيصال الثلج إلى منزله في بيروت – نموذج يتفق تمامًا وطبيعته النظامية المنهجية في كل أعماله. وإلى أخر حياته كان يرغب في الاحتفاظ دومًا بسجل بتواريخ استلامه صحيفة التايمز اللندنية التي اعتاد بلا شك الاشتراك فيها منذ أن كان في إنكلترا – ربما هي الصحيفة اليومية الإنكليزية الأفضل في العالم، والوحيدة التي جاء على ذكرها حضرة بهاء الله بالاسم في أحد ألواحه. كما تحتوي تلك الدفاتر على عن: التقويم البهائي، المبادئ البهائية الأساسية، ملاحظات باللغة الفرنسية عن الحُقَب التاريخية للأنبياء العبرانيين، الحسابات الشمسية والقمرية، المقاييس، الأوزان، نُسَخ من بعض “الألواح”، ومعلومات تبيّن تمكُّنَهُ من معاني القيمة العددية للحروف الأبجدية العربية بما يُعرَف بـ ”حساب الجُمَّل” إلى جانب أمور أخرى متعددة. لقد كانت كلُّ الصفات الأساسية لولي أمر الله موجودة في هذا الصبي.

كان شوقي أفندي على الدوام نشِيطًا في مراسلاته الشخصية مع الأحباء البهائيين. نحن نعلم من إحدى هذه الرسائل، والموجهة إلى “السيد مصطفى الرومي” في بورما مؤرخة: كيفا/ سوريا 28 يوليو/ تموز 1914، والتي يعبّر شوقي أفندي فيها عن سعادته الغامرة بـ’بشارات التقدم السريع للأمر المبارك في الشرق الأقصى’، أنه شارك المولى بهذه الرسالة و”أشرقت على وجه حضرته المنير ابتسامة حلوة وامتلأ قلبه بالسرور. وعندها علمتُ أن المولى في صحة جيدة، إذ تذكّرتُ أقوال حضرته التي أقْتَطِفُ منها الآن قوله: ‘كلما، وأينما أسمع البشارات السارة عن الأمر المبارك، أشعر بتحسُّن في صحتي الجسدية.’ ولذلك أخبرك بأن المولى سعيد ويشعر بصحة جيدة. انقُلْ هذا الخبر السار إلى الأحباء الهنود. كلي أمل أن يضاعف هذا من إقداماتهم وثباتهم وحماسهم في نشر أمر الله.”

كان لشوقي أفندي دور فاعل أيضًا في نشاطات الطلاب البهائيين الذين كانوا يدرسون في بيروت، تلك المدينة التي يمرُّ بها الكثير من الزائرين القادمين من إيران والشرق الأقصى في طريقهم إلى حيفا وكذلك العائدين منها. وفي رسالة أخرى كتبها إلى الشخص نفسه الذي كان يراسله مروّسة بـ ’الكلية البروتستانتية السورية – بيروت/ سوريا في 3 مايو/ أيار 1914′ نجده يقول: ‘بالإشارة مُجدّدًا لنشاطاتنا في الكلية، فإن اجتماعاتنا البهائية التي كلّمتُك عنها سابقًا قد انتظمَتْ من جديد، واليوم فقط نبعث برسائل تحمل البشارات السارة عن الأرض الأقدس إلى المحافل البهائية في أقطار مختلفة.’

في فبراير/ شباط 1915 فاز شوقي أفندي بالجائزة الأولى في مسابقة طلاب السنة الأولى والثانية في الكلية – لسبب لم يرد ذكره – منحَهُ إياها اتحاد الطلبة. كان تلميذًا جيدًا ولكنه لم يدّع قطُّ أنه كان طالبَ علمٍ لامع بارز. هناك فرق شاسع بين عقل ذي فكر عميق، واسع، بعيد النظر ومنطقي، ونوعية عقل يحفزه في العادة مطمحٌ وغرورٌ يفوز فيهما بهتاف وتصفيق رفاقه الطلاب ومعلميه في الكلية. لم يكن في طبيعة شوقي أفندي أي غرور أو مطمح على الإطلاق، بل كان مشتعلاً بدافع أسمى وأجلّ – خدمة عبد البهاء، وأن يرفع شيئًا من عبء العمل والهموم عن كاهل حضرته. ففي خطاب مؤرخ 15 يناير/ كانون الثاني 1918، أرسله شوقي أفندي إلى حضرته من بيروت، يعبّر فيه عن ذلك الدافع بكلماته الخاصة: ‘استأنفتُ دراستي موجِّهًا ومركّزًا كل جهودي عليها، باذلاً كل وُسعي في اكتساب ما ينفعني ويهيّئني لخدمة الأمر المبارك في قادم الأيام.’ بعد قضاء عطلة عيد الميلاد في حيفا عاد شوقي أفندي إلى بيروت وكتب فورًا إلى المولى يقول: ‘لقد وصلتُ الجامعة سعيدًا سالمًا’ بعد طقس بارد وماطر تعرّض له أثناء السفر. في هذه الرسالة يفيض شوقي أفندي حبًّا واشتياقًا في كل جملة فيها، ويعبّر عن ‘حبي واشتياقي إليك’ وينهيها بقوله: ‘لقد أرسلتُ بالبريد قطعة من الجبن آملاً أن تحظى بقبول حضرتك’، ثم وقّعها ‘خادمك الوضيع المتواضع شوقي.’ عندما يتذكّر المرء أن أيام الحرب حصدت أرواح ما قدّر بعشرات الآلاف من الذين قضَوْا جوعًا في لبنان، فإن هذه الهدية من قطعة الجبن تكتسب بُعدًا مختلفًا.

إن كون سنوات الحرب، التي كان شوقي أفندي يدرس خلالها في بيروت للحصول على البكالوريوس في الآداب من الجامعة الأمريكية، قد ألقت عليه بظلّ قاتم من القلق رغم طبيعته المفعمة بالمرح والبهجة، يظهر جليًّا في فقرة من إحدى رسائله كُتبت في إبريل/ نيسان 1919، وفيها يشير إلى ‘سنوات طويلة كئيبة من الحرب وسفك الدماء والمجاعة والابتلاء بالطاعون، وقتٍ أصبحت فيه الأرض الأقدس معزولة عن مختلف بقاع الأرض، وتحت وطأة أشد درجات القمع والاستبداد والدمار ضراوة…’ كانت سنوات تنامى فيها خطر دائم يهدّد حياة جدّه المحبوب، سنوات مجاعة رهيبة عاناها معظم السكان، سنوات حرمان وعَوَز طال الجميع ومن ضمنهم عائلته نفسها. وعندما قارب الصراع العالمي من نهايته كان تهديد الحلفاء بقصف حيفا بالقنابل، قد وصل إلى الحد الذي دفع حضرة عبد البهاء أن ينقل عائلته إلى قرية تقع في أسفل التلال على الجهة الأخرى من خليج عكاء حيث أقاموا عدة أشهر وأمضى فيها حضرته بعض الوقت. إلا أن التهديد الأعظم لحياة المولى وعائلته كان عندما عقد القائد التركي ‘جمال باشا السفّاح الطاغية المتهوّر والعدو اللدود لدين الله’ كما وصفه شوقي أفندي، العزم على صلب المولى وكل عائلته طبقًا لما أفاد به الرائد تيودور بول[21] الذي كان ضابطًا في جيش الجنرال أللنبي المنتصر الذي دخل حيفا في أغسطس/ آب 1918، والذي صرّح بأن هذا الفعل الشائن كان من المقرر تنفيذه قبل يومين من دخولهم، إلا أنه أُحبط بسبب التقدّم السريع للقوات البريطانية والتقهقر السريع للقوات التركية تبعًا لذلك. نحن نفترض أن شوقي أفندي كان قد أتمّ دراسته في بيروت، وكان في هذا الوقت مع حضرة عبد البهاء وشاركه في قلقه من عدم وضوح ما يحصل في تلك الأيام. يبدو لي غريبًا، وأنا أكتب هذه السطور، أن أدرك كم كانت قليلة أحداث حياته الشخصية التي ذكرها شوقي أفندي؛ كان يكره الحكايات ولا وقت لديه للذكريات عندما تشير إلى شخصه. إن فكره وروحه المُتعبيْن كانا منشغليْن تمامًا، خلال الفترة التي كنتُ فيها محظوظة أن أكون معه، في تدبير شؤون الأمر الإلهي، وتنفيذ المهمة العاجلة التي يجب إنجازها في الحين، الماثلة أمامه، تنتظره، وتلقي عليه بثقلها كل يوم.

كان ذلك في عام 1918 عندما حصل شوقي أفندي على درجة البكالوريوس في الآداب. ففي رسالة وجّهها إلى صديق له في إنكلترا مؤرخة 19 نوفمبر/ تشرين الثاني من ذلك العام كتب يقول: ‘كم أنا سعيد ومحظوظ لأن أكون قادرًا على تقديم خدمات لمحبوبي بعد أن أتممتُ مقررّيْ الآداب والعلوم في الجامعة الأمريكية ببيروت. أتلهّف وأتوقّع أن أسمع منك وعن خدماتك للأمر المبارك لأنني عندما أنقلها للمولى المحبوب سأجعله سعيدًا مبتهجًا وقويًا. إن السنوات الأربع الماضية كانت سنوات نكبة لا تُروى بكلمات، وأيام ضيق غير مسبوقة، وبؤس لا يوصف، ومجاعة قاسية وكَرْب شديد، وإراقة للدماء ونزاع لا نظير لهما. أما الآن، وقد عادت حمامة السلام إلى عُشّها وسكنت فيه، فإن فرصة ذهبية قد برزت لنشر الكلمة الإلهية. هذا ما يجب ترويجه الآن وإيصال الرسالة الإلهية إلى هذا الإقليم المتحرر دون أدنى قيد. إنه حقًا عصر الخدمة.’ لا شيء يمكن أن يكشف عن شخصية ولي أمر المستقبل أكثر مما تبديه هذه السطور التي فيها يُظْهِر مدى تفانيه في القيام بأعمال المولى، وتوْقه واشتياقه الشديدَيْن لأن يجعله سعيدًا وفي صحة جيدة، وتلخيصه الموجز لما هي عليه حياته الآن تجاه تلك الخدمة، وتحليله لما تعنيه نهاية الحرب للعمل البهائي في المستقبل القريب، قد بانت جميعها بوضوح. أما أسلوبه البلاغي في اللغة الإنكليزية فما زال في مراحل نشأته، ويعوقه عدم تمكّنه من تملك ناصية اللغة الإنكليزية بعد، إلا أن هذا الأسلوب الذي تعكسه الفقرات التالية قد أظهر وجود هيكل أساسي لعظمة مستقبل لغته: ‘الأحباء… جميعهم… كبيرهم وصغيرهم، شيبًا وشبابًا، مرضى وأصحّاء، في أوطانهم أو خارجها، مبتهجون بالأحداث التي جرت مؤخرًا؛ هم جميعًا روحٌ واحدة في نفوس متعددة، متّحدون، متّفقون، يعملون ويهدفون إلى خدمة وحدة العالم الإنساني.’

بلغ الآن شوقي أفندي من العمر واحدًا وعشرين عامًا، وعلاقته الشخصية بحضرة عبد البهاء قد توضّحت في بعض تلك الرسائل المبكرة التي كُتِب أغلبها عام 1919، وفيها يشير إلى ‘جَدّي عبد البهاء’ ويمهرها بتوقيعه ‘شوقي رباني (حفيد عبد البهاء).’ على المرء أن يتذكر أنه في الأشهر التي أعقبت الحرب مباشرة، وقد عادت الاتصالات بين المولى والأحباء في أقطار عديدة بعد انقطاعها في سنوات العداوات الطويلة، كان من المرغوب فيه جدًا أن يعرف البهائيون وغير البهائيين على السواء مَنْ يكون “شوقي ربّاني” هذا الذي يخدم الآن سكرتيرًا للمولى ويُعتبر ساعدَه الأيمن. نشرت مجلة “نجمة الغرب” في عددها الصادر في 27 سبتمبر/ أيلول 1919 صورة فوتوغرافية كاملة لشوقي أفندي تحت عنوان ‘شوقي رباني؛ حفيد عبد البهاء’، وتذكُرُ المجلة بأنه هو الذي ترجم الألواح المباركة مؤخرًا، وأن مذكراته اليومية قد بدأ نشرها في هذا العدد. حسب معرفتي وخبرتي حول كيفية إدارة شوقي أفندي لأدق تفاصيل شؤون المركز العالمي، فإنني أعتقد شخصيًا أنه من الأرجح أن يكون المولى نفسه قد وجّهه من أجل أن يجعل العلاقة العائلية بينهما واضحة جلية.

كانت أعمال حضرة عبد البهاء تزداد يومًا بعد يوم بذاك السيل الدافق من الرسائل والتقارير الواردة، وأخيرًا أفواج الزائرين إلى حيفا. انعكس ذلك في رسائل شوقي أفندي الشخصية إلى عدد من الأحباء البهائيين: ‘… إن انقطاعي عن مراسلتكم راجع فقط إلى ضغط العمل الضخم في كتابة الألواح المباركة التي تُملى عليّ وترجمتها… قضيتُ كامل فترة ما بعد الظهر وأنا أترجم لحضرته فقط محتويات جزء من العرائض التي تصلنا من لندن.’ ويُنهي الرسالة بقوله ‘مرسِل بطيّه صورتيْن فوتوغرافيتيْن بدافع شعوري البهائي ومحبتي الخاصة نحوكم…’ ‘رأسي في دوّامة. كان يومًا مشحونًا بالعمل والأحداث. لا أقلَّ من عشرين زائرًا، من الأمير والباشا إلى المجنّد البسيط، كُلٌّ ينشُدُ لقاء حضرة عبد البهاء.’ ‘المولى المحبوب من الصباح إلى المساء وحتى في منتصف الليل منشغل في تنزيل الألواح، وفي إرسال أفكاره البنّاءة الفعّالة حول المحبة والمُثُل إلى عالم يلفّه الحزن وخيبة الأمل.’ ‘بينما أنا ماضٍ في كتابة هذه السطور استُدعِيتُ ثانية إلى محضره الكريم لتدوين كلماته جوابًا على ما وصله حديثًا من عرائض.’ كل كلمة من شوقي أفندي كانت تعكس تلك الطاقة والتفاني والحماس غير المحدود لهذا الأمير الصغير الذي يقف إلى جانب الملك المسن المحنّك، قائمًا على خدمته ومؤازرته بكل ما في شبابه من حيوية وما في طبيعته من حماس فريد.

كثيرًا ما كان شوقي أفندي يرافق المولى في فعاليات رسمية يُدعى حضرته إليها وتتزايد باطّراد، من ضمنها زيارات للحاكم العسكري البريطاني لحيفا ومقابلات مع القائد الأعلى للقوات المسلحة السير إدموند أللنبي[22]، وهو الجنرال الذي قاد قوات الحلفاء في فلسطين وأصبح اللورد أللنبي فيما بعد، والذي كان وراء منح حضرة عبد البهاء لقب “فارس” من قِبَل الحكومة البريطانية. كتب شوقي أفندي يقول: ‘كانت المرة الثانية التي يزور فيها حضرة عبد البهاء الجنرال، وتَمَحْوَر الحديث فيها هذه المرة عن الأمر المبارك وتقدُّمه… هو رجل لطيف جدًا ومتواضع وذو شخصية مدهشة، دافئ في كلماته، وفوق ذلك مهيب في سلوكه وتصرفاته.’ في أوساط كهذه أصبح حفيد حضرة عبد البهاء شخصيةً معروفةً. ففي خطاب رسمي من الحاكم العسكري إلى حضرة عبد البهاء نجده يقول: ‘صاحب الرفعة والسمو: استلمتُ اليوم من حفيدكم مَبْلَغًَا وقدره –––.’ كان ذلك ردًا على زيارة قصيرة لشوقي أفندي حاملاً للحاكم مزيدًا من التبرعات من المولى لصالح “صندوق إعانة حيفا”. كان شوقي أفندي أيضًا يمضي وقتًا كبيرًا مع الزائرين، وليس فقط بمحضر حضرة عبد البهاء، وخلاله كان يحصل على معلومات مفصلة منهم، بمنتهى الحماس، عن تقدُّم النشاطات البهائية في مختلف الأقطار.

وبالرغم من أن أعمال المولى قد ازدادت الآن بحيث تطلّب الأمر انخراط العديد من الأحباء في خدمته ومساعدته على نحوٍ دائم، إلا أن أحدًا لا يُقارَن بشوقي أفندي دون أدنى شك. أتذكّر يومًا بأن ولي الأمر قد أخبرني كيف أن أحد البهائيين الأمريكيين (أعتقد أنه في بداية عام 1920) من كبار السن أهدى المولى سيارة من نوع كاننغهام[23]، وصادف أن ورد إشعارٌ بوصولها وتنزيلها على رصيف الميناء في بداية عطلة نهاية الأسبوع، وقد أعطى المولى تعليماته إلى شوقي أفندي بمتابعة التخليص عليها وإيصالها للبيت المبارك. ومع عدم وجود موظفين كبار في الميناء في اليوم التالي لأنه يوم عطلة أسبوعية، كما أخبرني شوقي أفندي، فقد أفلح في إجراء ما يلزم وأنجز معاملة تخليصها. وعندما وصلت السيارة ذهب إلى المولى يخبره بأنها بالباب خارجًا، وقال بأن المولى اندهش تمامًا وسُرَّ كثيرًا وسأله كيف نجح في إنجاز ذلك، فأخبره شوقي أفندي بأنه أخذ الأوراق الرسمية ودار بها على بيوت مختلف المسؤولين يطلب توقيعهم وإصدار تعليماتهم بوجوب تسليم سيارة السير عبد البهاء عباس على الفور. إنه نموذج لطريقة شوقي أفندي في القيام بعمله طيلة فترة حياته. كان دومًا يريد أن يُنجَزَ كل شيء في الحال، وحتى أسرع من ذلك، وكل ما كان يملك زمام تحقيقه كان ينجزه بتلك السرعة.

أينما ذهب حضرة عبد البهاء كان حفيده المحبوب يرافقه كلما أمكن ذلك في أغلب الأحيان. فهذه الرفقة المستمرة التي دامت سنتين تقريبًا لا بدّ أنها كانت عملية إشباع عميق لكليهما، كما كان لها تأثيرها العميق جدًا والقطعي على شوقي أفندي. في تلك السنين، عندما كان نجم شُهرة حضرة عبد البهاء يتألق محليًا، كما كان عالميًا أيضًا، أُتيحت لشوقي أفندي فرصة ملاحظة كيفية تعامل المولى مع كبار الرسميين والعديد من المرموقين البارزين الذين انجذبوا إلى مَنْ يعتبره الكثيرون أقلَّ بقليل من نبيٍّ من الشرق، والرمز الديني الأعظم في آسيا، وأيضًا ملاحظة كيف كان المولى نفسه يتصرف تجاه سيل لا ينقطع من حسد ومكر أعدائه وضامري السوء له. فكان لهذه الدروس التي تعلمها شوقي أفندي أن تنعكس بتأثيرها على سنوات ولايته الستّ والثلاثين لدين حضرة بهاء الله.

في رسالة إلى صديق من الأحباء مؤرخة 18 فبراير/ شباط 1919 يذكر شوقي أفندي بأنه مع المولى في البهجة، ويستهلها بقوله: ‘تحياتٍ مقرونةً بأحلى الذكريات أنقلها إليك يا صديقي البعيد من هذه البقعة المباركة!’ ويمضي في وصف جو الهدوء والطمأنينة في البهجة، بعد صَخَب المدينة في حيفا الآخذ في الازدياد، قائلاً: ‘فالهواء هناك مليء بالغازات والأبخرة التي تُطلقها المحركات البخارية والسيارات على الدوام، بينما الجوّ هنا نقيّ وصافٍ ومعطر كأحسن ما يكون.’ وعندما نتذكّر أنني ذهبت في أواخر عام 1923 إلى البهجة في عربة حضرة عبد البهاء التي يجرّها حصان، وأنه في عام 1918 كانت حركة السيارات معدومة عمليًا في فلسطين بعد الحرب، يجب أن نفترض أن شوقي أفندي كان شغوفًا بالطبيعة بشكل غير عادي وهو بالفعل كان كذلك! إن وصفه للمولى وهو يزور المقام الأعلى [لحضرة الباب] مرتين يوميًا، وتجوُّله في البرّية المزهرة، إنما يعكس مدى سروره العميق في تلك الأيام الغوالي وهو ينعُمُ بالقرب من أعز محبوب على قلبه. إلا أن هذه البركة التي تنعّمَ بها شوقي أفندي كانت تقترب من نهايتها بسرعة. فالقرار بوجوب ذهابه إلى إنكلترا قد اتُّخِذ الآن ليلتحق بجامعة أكسفورد من أجل تحقيق هدفه المعلن في أن يَبْلُغَ بلغته الإنكليزية حدّ الكمال حتى يسخّرها في أفضل ترجمة لألواح حضرة عبد البهاء والكتابات المقدسة إلى هذه اللغة.

إن قرار شوقي أفندي تَرْك حضرة عبد البهاء بعد أقل من سنتين قضاهما في خدمته المتواصلة، وفي وقت ازداد واتّسع فيه باطّراد الكم الهائل من مراسلاتِ حضرته بعد الحرب، قد ارتكز على عدة عوامل: إذا عزم على مواصلة دراسته، فكلما كان ذلك أسرع كان أفضل؛ هناك الآن العديد من السكرتارين الذين يعملون في خدمة حضرة عبد البهاء؛ الابن الأكبر لخالة شوقي أفندي قد أنهى دراسته في بيروت وهو الآن في موطنه؛ الوضع العام لحضرة المولى ومشاريعه تبشّر بالخير، وفوق ذلك كله، كون صحته في تحسُّن مستمر. كتب تيودور بول عام 1918، وكان يعمل مع جيش أللنبي المنتصر في فلسطين يقول: ‘… إن المولى نشيط وحيوي وصحته أفضل مما كانت عليه في لندن.’ كما أن رسائل شوقي أفندي الخاصة التي كتبها بنفسه خلال شهري إبريل/ نيسان وأغسطس/ آب 1919 تؤكد على ذلك: ‘المولى المحبوب في صحة تامة، قوي ونشيط، سعيد ومسرور…’ ‘إن المولى المحبوب حقيقةً في أحسن صحة، قوي جسديًا، ودائم النشاط والحيوية، يفيض قلمُه المبارك بمئات “الألواح” في الأسبوع، يتابع عددًا لا يُحصى من العرائض، يستقبل العديد من الحجاج والزوار، وغالبًا ما ينهض في منتصف الليل للدعاء والتأمل.’ في رسائله إلى أحباء في إنكلترا وبورما كتب شوقي أفندي في الفترة نفسها يخبرهم بالأنباء المذهلة عن تفكير حضرة عبد البهاء الجِدّي في القيام برحلة أخرى طويلة جدًا. جاء فيها: ‘إن ما هو هام ومدهش تلميح المولى المحبوب نفسه بأنه يخطط ويفكّر برحلة مشابهة عَبْر المحيط الهندي، حتى إنه أعلن بأنه، بمشيئة الله، يرغب في القيام برحلة إلى الهند ومنها إلى الهند الصينية واليابان ثم جزر هاواي، ومن هناك إلى مدينتكم العزيزة لندن عبر القارة الأمريكية ثم إلى فرنسا وألمانيا ومنها إلى مصر. أُوّاه! كم هو حماسنا، وكم هو عمق وصدق أمانينا أن يتمكن المولى من القيام برحلة عظيمة كهذه وهو الذي حدّد مدتها بأربع سنوات أو خمس. فلنأمل في تحقيقها ‘لقد صرَّح المولى المحبوب مؤخرًا عن عزمه على السفر إلى الهند ونأمل أن يتحقق هذا قريبًا، وأن تحظى الهند، بفضل وحدة واتحاد أحبائها وطاقاتهم، بالمقدرة على استقبال حضرته.’

قِلَّةٌ من قليلِنا يخطر ببالهم أن أحبتهم سيموتون، وأقل من ذلك كله عندما يكون الواحد منا في الثالثة والعشرين من عمره، وكم يكون هذا العدد ضئيلاً عندما يكون من نُحبّهم في أحسن صحة وعافية ويخطّطون للقيام برحلة كهذه! لذا فليس من المستغرب أن كان على شوقي أفندي أن يترك حضرة عبد البهاء في وقت ما من ربيع 1920 وهو مطمئنُّ البال مقتنعٌ تمامًا بأنه سيعود إلى جانب حضرته أفضل تأهيلاً لخدمته، واثقٌ من صميم قلبه، ولا شكّ لديّ في ذلك، أنه سيرافق جدّه هذه المرة بالتأكيد في رحلة رائعة كتلك، وأنه سيحظى بخدمة حضرته ليل نهار لسنوات عديدة مقبلة. وفي غمرة حَدسه وتطلّعه لسنوات كهذه يبدو أنها ستمتد أمام حضرة عبد البهاء، تجاهل شوقي أفندي عُمرَ حضرته (الذي كان وقتها في السادسة والسبعين)، وتجاهل ذلك العامل الذي غالبًا ما يتدخل ويحطّم قلوبنا ويبدد آمالنا للأبد – ذلك التدخل الخفيّ للإرادة الإلهية في حياتنا وخططنا. إن هول تلك اللطمة التي أصابت ولي أمر الله الشاب فجأة، قد عكسته كلماته الطافحة بالكرْب في رسالة كتبها في فبراير/ شباط 1922 بعد صعود جدّه بأشهر قليلة مخاطبًا فيها أحد أبناء خؤولته البعيدين بقوله: ‘يا لمرارة الندامة على افتقادي حضرته – في آخر أيامه على هذه الأرض – فمهما فعلتُ من أجله في المستقبل، ومهما وصلتْ إليه دراستي في إنكلترا، لن أوفيه محبته الرائعة لي، وستبقى مرارةَ نَدَمٍ أحملها معي إلى القبر.’

وجانب آخر يلقي بضوئه على حياته كولي لأمر الله وعلى وفاته المبكرة في الستين من عمره، أنه بالرغم من أن شوقي أفندي لم يكن بأكثر من شاب صغير عام 1920 عندما أرسله حضرة عبد البهاء للدراسة في الخارج برفقة لطف الله حكيم الذي كان عائدًا إلى إنكلترا بعد أول زيارة له إلى حيفا، فقد أصرّ المولى وقتئذٍ أن يذهب الشاب أولاً إلى منتجع في طريقه إلى إنكلترا حتى يتمتع بقسط وافر من الراحة، مما يشير إلى مدى ما كان شوقي أفندي فيه من إرهاق ونفادٍ لقواه العصبية بعد سنوات الحرب الطويلة، والإجهاد الشديد الذي تعرض له بسبب ما كان يمارسه بعد الحرب من عمل مضنٍ ونشاط مكثّف في خدمة المولى، ومدى قلق جدّه على صحته في ذلك الوقت. خلد شوقي أفندي إلى الراحة التي فُرضت عليه في منتجع نوِيلّي[24] في ضواحي باريس. لم يكن وقتها مريضًا بل مرهقًا؛ كان يرافق الأحباء هناك ويعاشرهم، ويلعب التنس الأرضي بعض الوقت، ويذهب لمشاهدة المعالم المشهورة، وأصبح حَسَن الاطّلاع بتلك المدينة المعروفة بجمالها والتي تضم واحدًا من أعظم المتاحف في العالم، كما زار بعض البهائيين في بلدة باربيزون[25]. مكث هناك حوالي شهرين تابع بعدها سفره إلى إنكلترا في يوليو/ تموز.

استقبله هناك كثير من الأحباء وأصدقاء حضرة عبد البهاء المخلصين بكل حرارة ومحبة صادقة. بعضهم كان قد عرفه شخصيًا مثل الدكتور إسلمنت[26] الذي كان في حيفا مؤخرًا واشترك معه وأحباء آخرين في ترجمة لوح مبارك هامّ للمولى، والرائد تيودور بول الذي سبق أن التقى بحضرة عبد البهاء أثناء إقامة حضرته في لندن، وكان في فلسطين مع جيش الاحتلال البريطاني وقدّم كل مساعدة ممكنة للأحباء هناك ضمن سلطته، وكذلك اللورد لمنغتون.

حمل شوقي أفندي معه عدة رسائل من جدّه إلى بعض أصدقائه الإنكليز، كما هو واضح من رسالة كتبها بعد وصوله بوقت قصير وجَّهها إلى زوجة “علي قلي خان” في فرنسا يقول فيها:

28 يوليو/ تموز 1920

أختي البهائية العزيزة:

كنت مشغولاً لدرجة رهيبة منذ أن وَطِئَتْ قدماي الأرض الإنكليزية، وتقدُّمي في عملي حتى الآن مدهش. حملتُ ألواحًا من المولى إلى كل من السيدة بلومفيلد[27] واللورد لمنغتون والرائد تيودور بول، ومن خلال هؤلاء توثّق اتصالي بأساتذة بارزين ومستشرقين أكانوا في جامعة أكسفورد أو جامعة لندن. وبعد أن حصلتُ على رسائل تعريف وتوصية من كل من السير دنيسون روس[28] والبروفسور كير[29] موجهة إلى السير وولتر رالي[30]، الأستاذ والمحاضر في الأدب الإنكليزي في أكسفورد، والبروفسور مارغوليوث[31] المستشرق والضليع البارز باللغة العربية في الجامعة نفسها، سارعتُ إلى أكسفورد بعد أسبوع مشحون بالعمل في لندن. وفي واقع الأمر، وقبل مغادرتي إلى أكسفورد، وصلني خطاب من مارغوليوث يخبرني فيه أنه سيسخّر كل ما لديه من نفوذ في مساعدة من يمُتُّ إلى حضرة عبد البهاء بصلة القرابة. كانت لي الفرصة أن أجلس مع هذا الرجل وعميد كلية باليول[32] التي تخرّج منها رجال عظام مثل اللورد غري[33] والإيرل كيرزون[34] واللورد مِلْنَر[35] والسيد أسكويث[36] وسوينبيرن[37] والسير هربرت صموئيل[38] – وأتكلم عن الأمر المبارك موضحًا بعض النقاط التي كانت حتى ذلك الحين مبهمة ومحيّرة بالنسبة لهؤلاء العلماء والباحثين النُشَطاء.

أرجو أن تَدْعُوا لي كما طلبتُ منكم مساءَ مغادرتي، حتى أُوَفَّق في نيل مرادي وتحقيق أهدافي في هذا الصرح الفكري العظيم…

وبعد أيام قليلة كتب اللورد لمنغتون رسالة إلى المولى لها أهمية خاصة:

8 أغسطس/ آب 1920

صديقي العزيز

أسعدني استلام رسالتك من يد شوقي ربّاني وأن أعلم منه أنك في صحة جيدة. هو نفسه يبدو لي أنه في صحة جيدة وقد تأثّرتُ ثانية بذكائه وأسلوبه المنفتح الصادق.

آمل أن يتدبّر أمره في الحصول على التدريب الذي يسعى إليه في أكسفورد. لقد جاء إلى مجلس اللوردات ليومين أو ثلاثة، ولكن ما أخشاه أن أيًّا من تلك المناسبات لم تكن ذات أهميّة كبيرة…

تشير الرسالة أعلاه إلى وقت وجود شوقي أفندي في لندن. وكونه كان يحمل رسالة من حضرة عبد البهاء إلى اللورد لمنغتون، يمكن التخمين بأنه لم يضيّعْ وقتًا في تقديمها له، وأن نتخيّل أيضًا بأن شَغَفَ ذلك الشاب الفتيّ لمشاهدة أعمال أمّ البرلمانات لم يكن ليخفى على رجل خبير كريم ومتمرّس، والذي كان بسعْيِه أن سُمح لشوقي أفندي بحضور بعض جلسات مجلس اللوردات. كان ولي الأمر شديد الاهتمام دومًا بالشؤون السياسية، حريصًا أن يكون على اطلاع حسن بها، وكان يتمتع بما يقدمه مجلسا اللوردات والعموم من رؤى. أذكر أنه بعد زواجنا، عندما ذهبنا معًا إلى لندن لأول مرة، اصطحبني وقتها إلى مجلس العموم وجلسنا في شرفة الزائرين أثناء انعقاد إحدى الجلسات. فإذا كانت هذه تجربةً كبيرة بالنسبة لي – وأنا التي كنت لا أزال مبهورة مسلوبة القوى إزاء ما حظيتُ به مؤخرًا من شرف في أن يُسمح لي أن أكون على هذا القرب من آية الله على الأرض – يمكن للمرء أن يتخيّل كم أثارت هذه التجربة مشاعر شوقي أفندي وخلّفت لديه انطباعًا قويًا كرجل في سن الشباب. لقد أصبحتْ لندن مدينة مألوفة لديه خلال مدة إقامته في إنكلترا وزار معالمها الشهيرة. وفي أكثر من مناسبة، عندما ذهبنا معًا إلى أماكن مثل كنيسة وستمنستر وكنيسة القديس بولس وبرج لندن والمتحف البريطاني والمعرض الوطني ومتحف فكتوريا وألبرت والمنطقة التجارية وحدائق كيو… الخ، أدركتُ كم من الذكريات والخواطر تركَتْه هذه المدينة المشهورة في ذهنه منذ أيام الدراسة. ولا شك أنه قد شاهد من معالم إنكلترا ما أمكنه ذلك ضمن ما تسمح له مخصّصاته المالية المتواضعة جدًا كطالب والتي كانت تصله من حضرة عبد البهاء. ومما ذكره لي أعلم أنه مارس قدْرًا كبيرًا من الاقتصاد في مصروفه من قبيل شرائه مكواة كهربائية لكيّ ملابسه بنفسه!

زار شوقي أفندي د. إسلمنت في غير مرة في مصحّته الخاصة في بورنموث[39]. فصورة فوتوغرافية تُظهرهما معًا ورأساهما قريبان من بعضهما واقفيْن أمام مبنى المصحّة، ورسالة وجَّهَها شوقي أفندي للدكتور هول[40] بعد وفاة د. إسلمنت تعبّر بكل بلاغة عما عنتْه له تلك الزيارات: ‘سأبقى ما حييت أتذكر أيام السعادة والراحة تلك وأنا في بورنموث بصحبة صديقنا الفقيد جون إسلمنت، ولن أنسى الساعات الممتعة التي أمضيناها معًا أثناء تناولنا وجبات الطعام في المصحّة.’ أثناء إقامة شوقي أفندي في تلك الجهة من إنكلترا قام أيضًا بزيارة منتجع توركي[41] على شاطئ البحر. بعد ذلك بسنوات عديدة زُرتُ هذه الأماكن برفقته، وأراني منحدرات باباكومب[42] الشهيرة، وتجوّلنا في المتنزّه الذي زاره منذ مدة طويلة – ذلك المتنزّه بممرّاته الحمراء الداكنة، التي أعتقد أنها هي بالذات التي تركت في ذهنه انطباعًا بجمال الممرات الحمراء والمسطّحات الخضراء والأصص المزخزفة عندما تجتمع معًا، والتي ألهَمَتْهُ بعد سنوات أن يحاكيها في تصاميمه لحدائقه الجميلة في البهجة وعلى جبل الكرمل.

إن ذكريات أيام الدراسة تلك – في الواقع – لم تُمْحَ أبدًا من ذاكرة شوقي أفندي. ففي السنوات الأخيرة من حياته، لا زلت أذكر قوله مرة لأحد الزائرين الإنكليز، وهو يحدّثه عن تلك الأيام، كم كان مذاق شرائح الخبز الأسمر السميكة مع مُرَبَّى التوت وقشدة ديفونشَيَر[43] لذيذًا لديه.

خلال إقامته في إنكلترا كان شوقي أفندي قريبًا بشكل خاص من أحد المؤمنين الإيرانيين القدامى الذين يُعتمد عليهم وكان مقيمًا في لندن ويُدْعى ضياء الله أصغرزاده، وكذلك مع الدكتور إسلمنت والليدي بلومفيلد وآخرين بالإضافة إلى بعض البهائيين في مانشستر. ورغم أنه كان في الحقيقة يقضي معظم وقته في أكسفورد منهمكًا في دراسته، إلا أنه كان على صلة وثيقة بالجامعة البهائية في بريطانيا ويشارك في نشاطاتها. ففي رسالة مؤرخة في 5 مايو/ أيار 1921، كتبها أحد الأحباء الهنود في إنكلترا نجده يقول: ‘ذهبتُ مساء يوم الأربعاء لأحضُر الاجتماع البهائي العادي في قاعة لندسي[44]. قرأ السيد شوقي ربّاني ورقةً أعدّها تبحث في المشاكل الاقتصادية وحلولها. كانت الورقة مُعَدّةً جيدًا، كلماتها جميلة معبِّرة…’ يبدو أن قراءاته للأوراق المُعَدَّة تلك لم تقتصر على الاجتماعات البهائية، إذ نرى في رسالة كتبها شوقي أفندي من كلية باليول إلى أحد الأحباء يقول: ‘وأنا سوف أرسل إليك لاحقًا ورقة أعددتها حول البهائية تلوتُها منذ بعض الوقت في إحدى الجمعيات الرائدة في أكسفورد.’

أكسفورد وكامبردج كلمتان لا يزال يُعتدّ بهما؛ ففي عام 1920 تَفَرَّدَتا بشهرة أكاديمية خاصة أكثر مما هما عليه الآن، ذلك لأن الجامعات والتحصيل الجامعي أصبح اليوم أكثر شيوعًا. كانت كلية باليول، التي التحق شوقي أفندي بها، على مستوى علميٍّ عالٍ كونها إحدى كليات أكسفورد الأكثر عراقة. هنا أيضًا، وبعد سنوات، اصطحبني شوقي أفندي لأشاهد الشوارع التي كان يسير فيها ومكتبة بودليان[45] ثم النهر بمياهه الهادئة ومُرُوجه الخضراء المحيطة الممتدة خلف البوابات الحديدية المزخرفة، وكذلك [كلية] “كنيسة المسيح”[46] القائمة منذ ألف سنة بمطبخها الواسع الكبير وشبكة قناطرها الجميلة بطابَعها القوطي، ثم إلى [كلية] ماغدالِن[47] بمناظرها الخلاّبة، وإلى الساحة الهادئة داخل جدران باليول التي كان يعبرها متوجهًا إلى مكان دراساته، ثم إلى قاعة الطعام حيث كان يتناول طعامه، وشاهدنا المدخل الضيّق المؤدي إلى غرفته أيام كان طالبًا. من الواضح أنها كلها تحمل له الكثير من الذكريات، ولكن القليل منها في الحقيقة كان مبهجًا على ما أظن.

كتب أحد البهائيين منذ عدة سنوات إلى ولي أمر الله ينقل إليه حديثًا جرى مع أ. د. لندسي الذي أصبح في ذلك الوقت عميدًا لكلية باليول، وكان قبلها مرشدًا لشوقي أفندي أيام دراسته في الكلية. احتفظتُ بكلماته التي نطق بها؛ ويجدر بنا أن نتذكر أنها كلمات نطق بها في محادثة قصيرة غير رسمية وليس في مقابلة خاصة: ‘كانت فكرة شوقي أفندي عن عملية التعلُّم والثقافة بأنها اكتشاف شخص لديه أفكارٌ تُثمِّنُها ثم توجّه إليه الأسئلة. فكان كلما حصل على إجابات اعتاد أن يدوِّنها جميعها في دفتر صغير ذي غلاف أسود. كنت قد أعلنتُ عن برنامجي الدراسي، فجاءني شوقي أفندي يسأل: “ماذا تفعل بين الساعة السابعة والثامنة والنصف؟” “لماذا يا رجل”، صِحْتُ به، “أنا أتناول طعام العشاء!” “ياه”، قال شوقي أفندي بنبرة تنم عن خيبة أمل واضحة، “ولكن هل أنت بحاجة إلى كل هذا الوقت؟” لم أجد في أكسفورد مَنْ كان لديه مثل هذا النَّهَم للعلم والمعرفة، فأعطيته ربع ساعة أخرى مكتفيًا بعشاء خفيف، وهكذا كان – لقد عانيتُ من أجله.’ برزت هذه الحادثة من حقيقة أن شوقي أفندي كان يريد من مرشدِهِ أن يخصِّص له وقتًا أكثر من المقرر له. وبالرغم من الملاحظات السابقة، التي كانت بنيّة حسنة، ليس هناك من دليل على أن لدى ذلك الرجل العالِم، ولو لمحة خاطفة، عن حقيقة أن امتيازه الحقيقي الوحيد في نظر الأجيال القادمة أنه كان مرشدًا لشوقي أفندي يومًا ما. وبالرغم من أن الجميع في الكلية، وبدرجة أكبر هذا المرشد، كانوا يعرفون لماذا قطع شوقي أفندي دراسته وعاد إلى فلسطين، إلا أنه ليس هناك من رسالة تعبّر عن أي مشاعر شخصية تجاه تلميذه.

وعلى كل حال، كانت هناك رسائل متبادَلَة بينهما. ففي عام 1927 كتب شوقي أفندي رسالة إلى د. لندسي ر. إ. ب. [رفيق من رتبة الإمبراطورية البريطانية][48] يذكر بأنه مُرسل إليه نسخة من المجلّد البهائي السنوي ‘شاهدًا على طبيعة العمل الذي كان يشغلني منذ استدعائي المفاجئ والمؤسف حقًا من باليول.’ ويسترسل قائلاً: ‘إن المساعدة القيّمة التي لا تُقدَّر بثمن والتي حظيتُ بها تحت إرشادك قد أثبتت فائدتها العظيمة في مهمتي الشاقة والتزاماتها، وأنتَهِزُ هذه الفرصة لأعبّر لك عن امتناني وتقديري لكل ما فعلتَهُ لأجلي.’ بعد أكثر من سنتين، وفي نداء وجّهه الدكتور لندسي يناشد فيه جميع الأعضاء القدامى للتبرع لمشروع معيّن في الكلية، شكر شوقي أفندي على إرساله المجلّد. أجابه على أثرها ولي أمر الله في اليوم التالي برسالة مرفق فيها تبرعه بمبلغ عشرين جنيهًا إنكليزيًا، ويشكره على رسالته التي ‘ذكّرَتْني بالأيام السعيدة والقيّمة التي أمضيتها تحت إرشادكم في باليول.’ بقدْر ما كان عليه مقام ولي أمر الله رفيعًا، إلا أن تواضعه وحسّه المنصف إلى جانب لطفه وكياسته كانت تدفعه دائمًا إلى التعبير عن تقديره وامتنانه حيثما وَجَب. ففي رسالة عام 1923 للبروفسور دودج[49] في الجامعة الأمريكية ببيروت ينوّه إلى ‘هذه المؤسسة التعليمية العظيمة في الشرق الأدنى والتي أدين لها بعميق الامتنان…’

أما موقف البروفسور د. س. مارغوليوث وزوجته فكان مختلفًا تمامًا، ذلك لأنه في عام 1930 كتبت زوجته إلى شوقي أفندي تشكره على كتاب أرسله إليهما قائلة: ‘كان جميلاً أن تذكّرنا بالسعادة التي غَمَرَتْنا في الترحيب بك في هذا المنزل أثناء إقامتك المؤقَّتة القصيرة في أكسفورد.’ لم يكن هو المنزل الوحيد الذي استضافه، حسب علمنا، لأن لدينا رسالة منه للسيدة وايت[50]، بعد خمس سنوات على مغادرته إنكلترا يقول فيها: ‘سأتذكّر دائمًا ببالغ السرور والابتهاج مساعدتكم القيّمة جدًا لي وكرم ضيافتكم أثناء إقامتي في أكسفورد… صديقكم المحب والممتنّ دائمًا شوقي.’

من سِجِلّ الكلية لعام 1920 يتبيّن لنا أن ولي أمر الله كان قد كتب اسمه بخط يده شوقي هادي ربّاني – الابن الأول لميرزا هادي الشيرازي وعمره 23 عامًا. وفي دفتر للملاحظات احتفظَ به حضرته نجد القائمة التالية التي وضعها بعناية يبيّن فيها تواريخ بداية دراساته المختلفة عام 1920:

14 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 علوم سياسية – القس كارلايل[51].

15 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 المشاكل الاجتماعية والسياسية – السيد سميث (عميد باليول).

13 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 المسائل الاجتماعية والصناعية – القس كارلايل.

12 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 اقتصاد سياسي السير ت. هـ. بنسون[52]/ ماجستير.

16 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 تاريخ الاقتصاد الإنكليزي منذ عام 1688 السير بنسون.

11 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 علم المنطق – السيد روس[53]/ ماجستير.

12 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 المسألة الشرقية – ف. ف. أوركوهارت[54]/ ماجستير.

19 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 العلاقات بين رأس المال والعمال: كلاي[55] الكلية الجديدة.

احتفظَ شوقي أفندي ببعض الملاحظات عن هذه المساقات وعلى الأقل ما يتعلق منها بحضوره أوائل المحاضرات. كان رأيه الشخصي واضحًا تمامًا عن سبب التحاقه بأكسفورد، ولحسن الحظ لدينا ما يعبّر عن ذلك في رسالة كتبها إلى أحد الأحباء الشرقيين مؤرخة في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 جاء فيها: ‘صديقي الروحاني العزيز… الحمد لله، أنا بصحة جيدة مُفعم بالأمل، ساعٍ بأقصى ما لديّ من قدرة، أن أتزوّد بكل ما أحتاجه من أجل خدمتي للأمر المبارك في المستقبل. أتعشّم أن أحوز على أفضل ما يقدّمه هذا البلد وهذا المجتمع بأسرع ما يمكن، ثم أعود بعد ذلك إلى موطني لأضع حقائق الأمر الإلهي في قالَب جديد، وبهذا أخدم العتبات المقدسة.’ ليس هناك من أدنى شك بأنه كان يشير في ذلك إلى ترجمته المستقبلية للتعاليم الإلهية إلى اللغة الإنكليزية المُتْقَنة والتي أرسى دعائمها خلال إقامته المؤقتة في إنكلترا.

إن التقدّم الذي أحرزه شوقي أفندي في مهمته في أكسفورد تعكسه واضحًا رسالة كتبها إلى أحد الأحباء الإنكليز مؤرخة 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1921 حيث يستشرف منها المرء تمكُّنًا وبراعة جديدة وثقةً بالنفس: ‘… كنتُ مؤخرًا غارقًا في عملي، أراجع وأنقّح كثيرًا من التراجم، وقد أرسلتُ إلى السيد هول ترجمتي لَوح الملكة فكتوريا الزاخر بأعظم ما يمكن من النصائح الحيوية بالغة الأهمية لأهل العالم، وهو ما يفتقر إليه بكل إلحاح وشدّة عالَمٌ أضناه البؤس وخيبة الأمل! فإذا لم تقرأه بعد، احرص على الحصول عليه من السيد هول، فهذا اللوح برأيي من أبرز وأروع البيانات التي أعلنها حضرة بهاء الله فيما يخص شؤون العالم وأكثرها تأكيدًا.’ ثم يسترسل بأنه مرفق بطيه مقتطفات ‘بعضها جديد والآخر قديم’ وقد استخرَجَهَا من ‘سياق قراءاتي في بودليان حول البهائية.’ وفي رسالة بالفارسية، في الفترة نفسها كتبها إلى أحد الأحباء في لندن، يشير فيها إلى حقيقةٍ مفادها ‘أنا منشغل في هذه الديار ليلاً نهارًا في إعداد نفسي إعدادًا تامًا في فنِّ الترجمة… ليس لدي لحظة راحة. أشكر الله بأن النتائج على أقل تقدير هي الآن جيدة إلى حدٍّ ما.’ ويذكر بأن مشاغله ودراساته إلى جانب أنظمة الكلية ولوائحها لا تترك له وقتًا حرًا إلا أيام الأحد حيث يمكن لصديقه أن يزوره يوم الأحد في العنوان (45) شارع برود.

منذ أيامه في بيروت، وعمليًا حتى أواخر أيام حياته، اعتاد شوقي أفندي أن يدوّن في دفاتر ملاحظاته كثيرًا من مفردات اللغة الإنكليزية واصطلاحاتها النموذجية. فمئات الكلمات والجُمَل قد دوِّنت مما يدل بوضوح على سنوات من الدراسة الجادّة بكل عناية سخّرها في إتقان لغة أحبَّها واستمتع بها. كانت اللغة الإنكليزية بالنسبة إليه في المرتبة الأولى دون منافس. كان قارئًا كبيرًا لنسخة الكتاب المقدس طبعة الملك جيمس ولكتب المؤرِّخَيْن كارلايل وغيبون[56]، حيث أُعجب كثيرًا بأسلوبهما وخاصة غيبون في كتابه “سقوط الإمبراطورية الرومانية”، والذي كان شوقي أفندي مولعًا به لدرجة لا أذكر أنّ غرفته قد خَلَت يومًا من أحد مجلداته موضوعًا بقربه، وعادةً ما كان يأخذه معه في أسفاره. حتى إن نسخة صغيرة متداولة من أحد أجزائه[57] وُجدت موضوعةً قرب سريره عندما رفّت روحه إلى بارئها. كان هذا الكتاب هو إنجيله الخاص المدلَّل باللغة الإنكليزية، ومن حين لآخر كان يقرأ لي مقتطفات منه، وكثيرًا ما كان يتوقف عن القراءة فجأة ليبدي إعجابه قائلاً: ‘يا لَهُ من أسلوب، ما هذا التمكُّن من اللغة الإنكليزية، ما هذا الإيقاع الانسيابي في الجُمل! استمعي إلى هذا.’ بصوته العذب ونُطقه الشجيّ – بلهجةِ ما ندعوها ‘لهجة أكسفورد’، ولكن دون مبالغة – كانت الكلمات تخرج من فمه متألقة كالجواهر بألوانها وقِيمتها ومعانيها. أنا شخصيًا أتذكّر على وجه الخصوص ساعة واحدة من الراحة والصفاء (كم كانت نادرة للأسف)، وكان ذلك في فصل الصيف بعد الظهر في متنزّه سانت جيمس بلندن، وكنا وقتها نجلس على مقعد في مواجهة البحيرة حيث قرأ لي من كتاب غيبون بصوتٍ عالٍ. كان يجد متعة بالغة وهو يقرأ في هذا الكتاب، ويبدو واضحًا تأثُّر شوقي أفندي في كتاباته بأسلوب غيبون، تمامًا مثلما انعكس في الوقت نفسه أسلوبُ لغة الكتاب المقدس على تراجمه الإنكليزية لأدعية حضرة بهاء الله والكلمات المكنونة وألواح مباركة.

أعلم أن شوقي أفندي، عندما كان يدرس في أكسفورد، كان أنتوني إيدن طالبًا فيها أيضًا ويعرف كل منهما الآخر دون أن تجمعهما علاقة صداقة. وفي الحقيقة لم أسمعه قط يذكر شخصًا على أنه صديق له حيث اقتَصَرَتْ علاقاته على بعض أساتذته، ويبدو أنه أبقى نفسه بعيدًا عن الآخرين ربما بسبب حياء في الطبع يصعب اكتشافه في جلال شخص ولي أمر الله، ولكنها صفة مميزة قوية في الطبيعة البشرية لهذا الرجل. كان منتميًا إلى جمعية المناظرة والحوار، ويحبّ ممارسة لعبة التنس الأرضي؛ إلا أن تفاصيل حياته اليومية في أكسفورد نراها شحيحة بشكل استثنائي. ففاجعة صعود المولى قد ألقت بظلالها على كامل هذه المرحلة من حياة شوقي أفندي، وكانت في تأثيرها مدمِّرة للغاية في حياته بحيث كان السجلُّ الواقعي الوحيد على تلك المرحلة هو ما أحدثته من تأثير نلمسه في كتاباته وعلى شخصيته. ورغم أن فترة إقامته في جو جامعي ونوعيةٍ كالتي في أكسفورد كانت قصيرة، إلا أنها طَوَّرت وصَقلت فِكْرَه المنطقي النقيّ ورفعت قُدُراته في النقد، وعزّزتْ لديه إحساسه القوي بالعدالة ومقدِرته على التعليل والاستنتاج، وأضافت إلى نبالته الشرقية، التي ميّزت عائلة حضرة بهاء الله، تلك اللمساتِ من الثقافة التي نربطها بأرقى سِمات الشخص الإنكليزي النبيل.

[1]       ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.

 

[2]       كتاب “دور بهائي”، حضرة شوقي أفندي.

 

[3]       “پيام آسمانى”، المجلد 1، نشرة المحفل الروحاني في فرنسا، سنة 2001م، صفحة 162.

 

[4]       مصدر اللوح من دائرة الأبحاث من دون رقم صفحة.

 

[5]       Ella Goodall Cooper.

 

[6]       Amelia Collins.

 

[7]       مكاتيب حضرة عبد البهاء، المجلد 5، صفحة 91، الأصل فارسي، ترجمة المترجميْن.

 

[8]       نسائم الرحمن، الطبعة الرابعة مارس/ آذار 1993م، صفحة 123.

 

[9]       Dr. J. Fallscheer.

 

[10]      نسبة إلى أليشع، وهو أليشع النبي، خليفة إيليا النبي في العمل النبوي في المملكة الشمالية.

 

[11]      Lord Lamington.

 

[12]      ترجمة المترجميْن.

 

[13]      Alexandretta.

 

[14]      Thornton Chase.

 

[15]      Louis Gregory.

 

[16]      S. S. Cedric.

 

[17]      White Star Line.

 

[18]      Star of The West.

 

[19]      ترجمة المترجميْن.

 

[20]      Lua Getsinger.

 

[21]      Major Tudor Pole.

 

[22]      Sir Edmund Allenby.

 

[23]      Cunningham.

 

[24]      Neuilly.

[25]      Barbizon.

[26]      Dr. J. E. Esslemont.

[27]      Blomfield.

[28]      Sir Denison Ross.

[29]      Professor Ker.

[30]      Sir Walter Raleigh.

[31]      Pro. Margoliouth.

 

[32]      Balliol College.

[33]      Lord Grey.

[34]      Earl Curzon.

[35]      Lord Milner.

[36]      Asquith.

[37]      Swinburne.

[38]      Sir Herbert Samuel.

[39]      Bournemouth.

[40]      Dr. Hall.

[41]      Torquay.

[42]      Babbacombe.

[43]      Devonshire.

[44]      Lindsay Hall.

[45]      Bodleian.

[46]      Christ Church.

[47]      Magdalen.

[48]      Dr. Lindsay C. B. E.

[49]      Dodge.

[50]      Whyte.

[51]      Rev. Carlyle.

[52]      T. H. Penson.

[53]      Mr. Ross.

[54]      . F. Urquhart.

[55]      Clay.

[56]      Gibbon.

[57]      Everyman’s Copy.

الفصل الثاني صعود حضرة عبد البهاء وتَبِعاته الفورية

غالبًا ما كان عنوان مكتب الرائد تيودور بول في لندن يُستَخدم مركزًا لتوزيع البرقيات والرسائل الخاصة بالبهائيين، واعتاد شوقي أفندي أن يَعْرُج عليه كلما سافر إلى لندن. في الساعة التاسعة والنصف من صباح يوم 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1921 تلقى المكتب البرقية التالية:

سايكلومتري[1]، لندن

صعد حضرة عبد البهاء إلى الملكوت الأبهى. أَعلِموا الأحباء.

الورقة المباركة العليا

في ملاحظاته حول هذا الحدث الجلل وأصدائه المباشرة دوّن تيودور بول بأنه قام على الفور بإعلام الأحباء بالخبر برقيًا وهاتفيًا وعَبر الرسائل، وأَعتقدُ أنه هاتَفَ شوقي أفندي طالبًا منه الحضور إلى مكتبه فورًا دون أن ينقل إليه في حينه ولو لمحة عن الخبر، وهو الذي يعلم تمامًا كم سيكون وقع الصدمة عليه عنيفًا. ومهما يكن من أمر، فقد وصل شوقي أفندي إلى مدينة لندن ساعة الظهيرة، ثم توجّه إلى شارع سانت جيمس رقم 61 (المتفرّع من بيكاديللي والقريب من قصر بكنغهام)، ثم أُدخِلَ إلى المكتب الخاص بتيودور بول. لم يكن الرائد بول في مكتبه في تلك اللحظة، وبينما كان شوقي أفندي واقفًا ينتظره لفت نظرَه اسم عبد البهاء على برقية مفتوحة موضوعة على المكتب فقرأها، وما إن دخل تيودور الغرفة بعد لحظة حتى وجد شوقي أفندي في حالة من الانهيار والدوار مشدوهًا بنبأ هذه الفاجعة. أُخذ شوقي أفندي على أثرها إلى منزل الآنسة غراند[2]، إحدى المؤمنات في لندن، وهناك لزم الفراش بضعة أيام. حرصت شقيقته روحنگيز، التي كانت تدرس في لندن أيضًا، وكذلك الليدي بلومفيلد وآخرون، على بذل كل ما في وسعهم في مواساة الشاب منفطر القلب.

أما الدكتور إسلمنت فقد تجاوب فورًا مع احتياجات حضرته؛ فمن الواضح أن أوّل تفكيره قد توجّه نحو شوقي أفندي فور سماعه الخبر، فأرْسل له رسالة مؤرخة في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني قال فيها:

المنتجع الصحي – بورنموث

الأعز شوقي

إنها بالفعل ‘صاعقة من السماء’ عندما استلمتُ برقية تيودور بول صباح هذا اليوم: ‘رفّت روح المولى بسلام فجر أمس في حيفا’ … لا بدّ أن الأمر صعب عليك للغاية وأنت بعيد عن عائلتك وحتى عن جميع الأحباء البهائيين. ماذا ستفعل الآن؟ أظنّك سترجع إلى حيفا في أسرع وقت ممكن، وفي غضون ذلك لك كل الترحيب في قدومك إلى هنا لبضعة أيام… فقط أبرق لي… وسوف أجهّز لك غرفة خاصة… وإذا كان بمقدوري تقديم أي مساعدة وبأي طريقة كانت سيكون من دواعي سروري. يمكنني أن أتخيّل تمامًا مدى ما تشعر به من انكسار القلب، وما أنت فيه من تَوْق لأن تكون في موطنك، والفراغ الرهيب الذي لا بدّ تشعر به في حياتك الآن… إن السيد المسيح كان أقرب إلى محبيه بعد صعوده من ذي قبل، ولذا أَدعو عسى أن تكون الحال هكذا بيننا وبين محبوبنا المولى أيضًا. علينا القيام بدورنا في تحمُّل مسؤوليتنا تجاه أمر الله، وستكون روح المولى وقوّته معنا وفينا.

بعد بضعة أيام في منزل الآنسة غراند، تحامل شوقي أفندي على نفسه ونهض ثم شرع في ترتيب أموره استعدادًا للعودة فورًا إلى الأرض الأقدس. في رسالة وجّهها تيودور بول إلى الأحباء الأمريكيين مؤرخة في 2 ديسمبر/ كانون الأول كتب يقول: ‘مع نهاية الشهر الحالي سيكون شوقي أفندي وشقيقته في طريق عودتهما إلى حيفا ترافقهما الليدي بلومفيلد…’ نفترض أن شوقي أفندي كان في أكسفورد في الثالث من ديسمبر/ كانون الأول، ذلك لأن البروفسور مارغوليوث قد أبلغه بتعازيه القلبية في ذلك اليوم ودعاه ‘لزيارة قصيرة’. ونعلم أيضًا من رسالة كتبها شوقي أفندي إلى طالب بهائي في لندن، غير مؤرخة للأسف، بأنه قَبِل دعوة د. إسلمنت، لأنه كتب فيها يقول:

سحقني الخبر المروِّع الذي سيطر على كياني وعقلي وروحي بضعة أيام لزمتُ على أثره الفراش مدة يومين كنت فيهما فاقد الحسّ، شارد الذهن، وفي حالة من الاضطراب شديدة. وشيئًا فشيئًا أحيتني قوة العلي القدير ونفثت فيَّ روح الثقة التي، أتعشّم من الآن فصاعدًا أن تُضيء أمامي دربَ الهداية وتُلهمني في عملي المتواضع في الخدمة. لا بدّ ليوم كهذا أن يأتي، ولكنه كم كان مباغتًا وغير متوقع. ومع ذلك تبقى الحقيقة بأن أمر الله قد أحيا عددًا كبيرًا من نفوس، على هذا القدْر من الجمال في كافة أطراف الأرض، هي الضمان المؤكّد لبقائه حيًا وازدهاره، ولن يطول الوقت حتى يحتضن العالمَ بأسره! إنني متوجّه فورًا إلى حيفا لأتلقى ما تركه المولى من تعليمات، وقد عقدتُ الآن أقصى العزم على تكريس حياتي في خدمته، جاهدًا في تنفيذ أوامره ما بقيتُ حيًّا بفضل عونه وتأييده.

أصرّ عليَّ الأحباء أن أخلُد للراحة يومًا أو اثنين في هذا المكان مع د. إسلمنت بعد الصدمة التي عانيتها، وسأعود غدًا إلى لندن لأتابع سفري من هناك إلى الأرض الأقدس.

إن الحركة التي ظهرت الآن في العالم البهائي إنما هي قوة دافعة لهذا الأمر وستوقظ كل نفس مخلصة لتنهض وتحمل على كاهلها المسؤوليات التي وضعها المولى الآن على عاتق كل واحد منا.

ستبقى الأرضُ الأقدس مركز العالم البهائي، وستشهد الآن عصرًا جديدًا قادمًا. فالمولى المحبوب، ببصيرته النافذة، قد أرسى قواعد للعمل مُستَحكَمة، وتؤكد لي روحه بأن ثمار هذا العمل سرعان ما ستظهر قريبًا.

بدأتُ الرحلة مع الليدي بلومفيلد إلى حيفا، وإذا ما حصل تأخير لنا في لندن سآتي لزيارتك وأخبرك كم هو رائع ومدهش ما صمّمه المولى من عمل بعده، وما تفضل به من كلمات رائعة جديرة بالاعتبار حول مستقبل الأمر المبارك…

مع الدعاء والإخلاص لدينه المجيد، متمنيًا لك التوفيق على درب خدمته.

شوقي

إنها رسالة مدهشة كونها كُتبت قبل معرفة مضمون وصية حضرة عبد البهاء أو نشرها، مع أنه يبدو واضحًا أن شوقي أفندي كان قد أُعلم بأن مغلّفًا مُعَنْوَنًا باسمه من المولى ينتظره لدى وصوله حيفا. حقًا يبدو وكأن روح المولى، وهي ترفّ إلى عالمها الأبدي، قد حلّقت فوق إنكلترا وألقت بعباءة حضرته على سليل آل بيته! كَتبت إحدى كريمات حضرة عبد البهاء في 22 ديسمبر/ كانون الأول 1921 تقول بأن المولى ‘كان قد كتب آخر توجيهاته ووضعها في مغلف معنون إلى شوقي أفندي – وعليه لا يمكننا فضّه إلا عندما يصل، ونأمل أن يكون ذلك في نهاية الشهر الحالي كونه الآن في طريقه إلى هنا.’

إن المنصب الرفيع الذي سرعان ما سيعرفه قريبًا، وسنوات التدريب الطوال في كنف جَدِّه المحبوب، يبدو أنها جميعها قد أغدقت على شوقي أفندي قوة روحانية آزرتْه في أشدّ ساعات حياته كَربًا. لقد وجد الوقت، وسط كَرْبه، لأن يواسي الآخرين. تشهد بذلك رسالة محرّكة للمشاعر كتبها لحضرته إ. ت. هول، وهو أحد المؤمنين القُدامى في مانشستر، مؤرخة 5 ديسمبر/ كانون الأول يقول فيها:

إن رسالتك النبيلة التي تفيض حبًا ومودة، والزاخرة بعبارات التشجيع والتحلّي بالاستقامة، قد جاءت ونحن في غمرة الحزن الشديد إلا أننا ثابتون، مصدومون جدًا ولكن متفهمون تمامًا، فحوَّلَتْ مدَّ مشاعرنا إلى فيض عارم من الشعور بالطمأنينة والصبر أمام مشيئة الله وقضائه… فرسالتك النبيلة سَمَت بنا جميعًا وجدّدت فينا القوة والتصميم؛ فطالما أنك استطعت، وأنت في غمرة محنة كبرى وفاجعة مؤلمة كهذه، أن تستجمع نفسك وترتفع فوق كل هذا لتُرِيحنا بعبارات المواساة، فنحن بدورنا علينا ألا نكون بأقل من ذلك؛ بل ننهض ونخدم أمرًا إلهيًّا هو في منزلة الأم لنا… أعلم أن لديك ألف شيء تتدبره قبل توجُّهك إلى الأرض الأقدس. إلا أننا نحبك كثيرًا، ونحن جميعًا متّحدون وأقوى من أي وقت مضى. فامْضِ إلى تلك البقعة الأقدس ومعك حبنا ومشاركتنا الوجدانية وقلوبنا جميعًا، لأننا معك نكون واحدًا على الدوام.

أبرق شوقي أفندي إلى حيفا بأنه لا يستطيع الوصول قبل نهاية الشهر لصعوبات تتعلق بجواز سفره. أبحر في 16 ديسمبر/ كانون الأول من إنكلترا إلى مصر حيث رست الباخرة، ترافقه الليدي بلومفيلد وشقيقته روحنگيز، ومن هناك استقلّوا القطار إلى حيفا ليصلوها في الساعة الخامسة وعشرين دقيقة من بعد ظهر يوم 29 ديسمبر/ كانون الأول. استقبله في المحطة جمعٌ غفير من الأحباء، وكان عند وصوله مُنهكًا للغاية، حسب ما جاء في التقرير، حتى إنه احتاج إلى من يساعده في صعوده الدرجات إلى المنزل. وفيه وجد في انتظاره الشخص الوحيد القادر، بكل المقاييس على التخفيف من معاناته – عمته الكبرى المحبوبة، شقيقة حضرة عبد البهاء. هذه العمة الهادئة، ضعيفة البنية، والمتواضعة في كل الأوقات – أظهرت في الأسابيع الماضية أنها الصخرة القوية التي تمسّك بها المؤمنون وسط العاصفة الهوجاء التي هبّت عليهم بغتة. فسموّ روحها ونَسَبها ومقامها قد أهّلها للدور الذي لعبته في الأمر المبارك وفي حياة شوقي أفندي في فترة عصيبة وخطيرة للغاية كهذه.

لم يكن حضرة عبد البهاء يعاني من أي مرض خطير عندما صعِدت روحه الطاهرة بكل هدوء وعلى نحو مفاجئ غير متوقّع، فأخذ أفراد عائلته المشدوهون في البحث بين أوراقه علّهم يعثرون على تعليمات تركها حضرته مصادَفةً تحدِّد أين يجب أن يُدفن. ولما لم يجدوا شيئًا وُرِي الجثمان الطاهر في الغرفة الوسطى من الغرف الثلاثة المجاورة لمرقد حضرة الباب الداخلي. بعد ذلك وجدوا وصيته – التي تتألف من ثلاث وصايا كُتبت في أوقات مختلفة وتُشكِّل بمجموعها وثيقة واحدة – معنونة باسم شوقي أفندي. وهنا أزفت ساعة المهمّة المؤلمة على شوقي أفندي ليستمع إلى مضمونها؛ فبعد وصوله بأيام قليلة تلوها على مسمعه. ولكي نُدرك ولو قليلاً من مدى تأثيرها عليه، علينا أن نتذكر ما صرّح به هو نفسه في أكثر من مناسبة، ليس لي فقط بل وللحاضرين على مائدة الطعام في دار ضيافة المسافرين الغربيين، بأنه لم يكن لديه علم مسبق بوجود مؤسسة ولاية الأمر، والأقل من ذلك كله بأنه قد عُيّن وليًا لأمر الله. كان أقصى ما توقعه أنه ربما، لأنه الحفيد الأكبر، أنّ حضرة عبد البهاء قد ترك تعليمات تفيد بكيفية انتخاب بيت العدل الأعظم، وأنه ربما قد يكون الشخص المعيّن لتنفيذ هذه المهمة، وأن يكون الداعي للاجتماع الذي سيُجرى فيه انتخابه.

في ذلك المنزل، الخالي تمامًا الآن، والفارغ بشكل رهيب جدًا، حيث كل خطوة فيه تذكّره بطلعة المولى الذي ذهب الآن وإلى الأبد، غرق شوقي أفندي بالفعل في بحر مظلم من الحزن والقنوط. كتب إلى السيدة وايت رسالة يقول فيها: ‘كثيرًا ما تنتابني لحظات من الغمّ والكآبة الشديدة والاضطراب. فأينما ذهبتُ أتذكّر جَدّي المحبوب، وكيفما فعلتُ أشعر بالمسؤولية الرهيبة التي وضعها حضرته فجأة على كاهلي الرهيف.’ في هذه الرسالة التي كتبها في 6 فبراير/ شباط 1922 بعد ما يزيد عن الشهر بقليل على رجوعه إلى حيفا، نجده يبوح بمكنون قلبه إلى صديقته [السيدة وايت] بقوله: ‘كم أشعر بحاجة ماسّة إلى انبِعاثٍ رُوحِيٍّ عميق مؤثر في داخلي، إلى دَفَقِ قوةٍ جبارة، إلى ثقة بالنفس، إلى الروح السماوي في روحي الولهة التوّاقة قبل أن أنهض لآخذ مكاني المقدّر لي في قيادة دين إلهي ينادي بمبادئ على هذا القدْر من المجد والبهاء. أعلم أن المولى لن يَكِلْني إلى نفسي، وكلي ثقة بهدايته وإيمان بحكمته، إلا أن ما ألتمسه متوسلاً هو الإيمان الراسخ والاطمئنان بأنه لن يخذلني. فالمهمة عظيمة للغاية، وإدراكي بعدم كفاءتي وكفاءة جهودي عميق للغاية بحيث لا أجد أمامي سوى مشاعر الاستسلام والقنوط كلما واجهتُ مهامّي…’ من الواضح أن هذه السيدة النبيلة قد كتبت لشوقي أفندي رسائل ملهِمة حتى إنه أخبرها بأنها ‘تدفعه للبكاء’ حين يقرؤها، ويمضي مستغيثًا بقوله: ‘آه، كم أنا الآن، في حال ضعفي وشبابي الغضّ، في حاجة بين الحين والآخر إلى مغيث قويٍّ ومُذكِّرٍ مُقْتدر وإلى كلمة تشجيع ومواساة!’ وينهي رسالته بجملة لها مغزاها الكبير إذ يخبرها بأنه كثيرًا ما كان يخبر سيدات العائلة المباركة بنصيحتها السديدة: ‘أحرصْ ألاّ تتحوّل هذه الدعوة الإلهية إلى فرقة أو طائفة’، ومهرها بتوقيعه ‘بكامل محبتي – شوقي.’

وفي رسالة أخرى في الشهر نفسه كتب يقول: ‘… إن الألم، لا بل الكَرْب بفقدان المولى قد سحقني…’ ومع ذلك، فإن هذا الشاب ذي الرابعة والعشرين من عمره قد وجد، وهو في غمرة هذا العذاب، أنه لم يلقّب بأنه “فرع مقدس مبارك منشعب من الشجرتين المباركتيْن” والذي ظله “ممدود على العالمين” فحسب، بل وأنه أيضًا “آية الله والغصن الممتاز وولي أمر الله ومرجع جميع الأغصان[3] والأفنان[4] وأيادي أمر الله وأحباء الله.” كل ما يمكننا أن نأمله هو أن الكشف عن حقيقة تعيينه لهذا الدور المقدس مُذْ كان طفلاً، كان سببًا فيه بعضُ الراحة والعزاء له. تتألف وصية حضرة عبد البهاء من ثلاثة أجزاء؛ وضّح شوقي أفندي، في سنوات لاحقة، بأن ‘جزءها الأول’ قد ‘كُتب أثناء فترة من أحلك فترات حبس حضرته في قلعة السجن بعكاء.’ كان في ذلك الجزء الأول أن أسبغ حضرة عبد البهاء على ولي الأمر مقامه العظيم، إلا أنه بقي آنذاك سرًا وفي حرز أمين عند جَدّه الذي كتب على وصيته بخط يده “لقد كانت هذه الصحيفة محفوظة تحت الأرض مدة طويلة… ولما كانت البقعة المباركة في أشدّ انقلاب، فقد تُركت الصحيفة على حالها.”[5]

وبالمثل، فقد وجد شوقي أفندي نفسه أيضًا أنه “مبيّن آيات الله” وأن مَنْ عارضه ونازعه وجادله أو أنكره فقد فعل ذلك مع الله؛ وأن من انحاز وافترق أو اعتزل عنه فقد فعل ذلك مع الله، وأن المولى قد دعا بغضب الله وقهره ونقمته على من يفعل ذلك. وعلم أيضًا أنه الرئيس الذي لا يُعزل لبيت العدل الأعظم، وأنه وبيت العدل الأعظم كلاهما تحت حفظ وصيانة الهداية المعصومة لحضرة بهاء الله وحراسة العصمة الفائضة من حضرة الأعلى، وكل ما يقرِّرانه هو من عند الله؛ وأن من خالفه أو خالفهم فقد خالف الله ومن عصاه أو عصاهم فقد عصى الله. ووجد أن عليه أن يختار في حياته ابنه البكر ليخلفه من بعده، أما إذا لم يكن ابنه البكر مظهر تلك الصفات المطلوبة، أي لم يكن “مظهر الولد سرّ أبيه“، فيجب أن يَنتخِب غصنًا آخر يخلفه. كما وجد أن المولى قد ذكره بكل رقة بقوله: “يا أحبّاءَ عبد البهاء الأوفياء! يجب أنْ تُحافظوا على فرع الشجرتين المباركتين وثمرة السدرتين الرحمانيّتين – شوقي أفندي – غاية المحافظة، لئلاّ يقع على خاطره النورانيّ غُبار الكدر والحزن؛ فيزداد فرحُه وسرورُه وروحانيّتُه يومًا فيومًا حتّى يصيرَ شجرةً مثمرةً.”[6] أن تسمع بأن شخصًا ما سيحمل على كاهله عِبْءَ العالم بأسره أمر من السهل نسبيًا تقبُّله – أما أن تتقبّل حقيقة أنك أنت ذلك الشخص الذي سيقوم بذلك فإنه أمر صعب جدًا. لقد قَبِل الأحباء شوقي أفندي، أما محنته القاسية فكانت في محاولته تَقَبُّلَ نفسِه وليًا لأمر الله.

ليس من شك في أن الورقة المباركة العليا، وربما قِلّة من أفراد العائلة المباركة المختارين، كانوا على علم بخلاصة ما كان في الوصية على أقل تقدير قبل وصول شوقي أفندي إلى حيفا، ذلك لأنهم تفحّصوها علّهم يجدون فيها ما ينصُّ على تدابير خاصة بدفن جثمان المولى الطاهر، وهذا ما أكّدته البرقيات التي أُرسلت إلى الأحباء الإيرانيين والأمريكيين من قِبَل الورقة المباركة العليا في 21 ديسمبر/ كانون الأول 1921. فالبرقية التي أرسلت إلى أمريكا نصّت على: ‘اعقدوا مجالس التذكر في أنحاء العالم في السابع من يناير/ كانون الثاني. ادعوا من أجل وحدة الأحباء واستقامتهم. ترك المولى في ألواح وصاياه المباركة تعليمات كاملة. ستُرسل إليكم الترجمة. أَعلِموا الأحباء.’ إلا أن نصوص الوصية لم تُعلَن إلا بعد أن تُليت أولاً على شوقي أفندي، وبعد أن تُليت بالطبع رسميًا في الثالث من يناير/ كانون الثاني 1922.

لا شك عندي أن شوقي أفندي وكل أفراد عائلة المولى قد عانوا في تلك الأيام، وفي واقع الأمر على مدى السنوات التي تلتها مباشرة، فترة عصيبة يصعب تحمّلها. كثيرًا ما كنتُ أراه، في سنوات لاحقة، إذا ما ضاقت عليه الأمور بشدة، يأوي إلى الفراش رافضًا الطعام والشراب، عَزوفًا عن الكلام، ولائذًا بالصمت ملتحفًا أغطيته، عاجزًا عن القيام بأي شيء إلا أن يتعذب كمن طرحته أرضًا أمطار غزيرة، ويدوم به الحال هكذا عدة أيام أحيانًا إلى أن تعمل قوىً بداخله على تعديل توازنه فيقف على قدميه من جديد. تراه وكأنه تائه في عالم يخصّه وحده حيث لا أحد بمقدوره أن يتبعه. قال لي ذات مرة: ‘أنا أعلم أنها طريق الآلام وعليّ أن أسير فيها حتى النهاية. كل شيء مُقدّر له أن يُنجز بالمعاناة.’

إن شعور شوقي أفندي بفقدان جدّه، واشتياقه الشديد له، وإحساسه بعدم الجدارة الذي كان ينتابه بكل قوة في باكورة سنوات ولايته، يزداد وقعه إيلامًا في النفوس حينما نتذكر حقيقةً روتها والدته لي ولبعض السيدات الإيرانيات، وأشارت إليها أيضًا إحدى البهائيات الأمريكيات التي كانت موجودة وقت صعود المولى، في رسالة كتبتها بعد أيام قليلة لاحقة. إذ يبدو أن حضرة عبد البهاء قبل صعوده ببضعة أسابيع دخل فجأة غرفة ميرزا هادي أفنان، والد شوقي أفندي، وقال له: ‘أبرق إلى شوقي أفندي أن يعود في الحال.’ أخبرتنا والدته [والدة شوقي أفندي] أنها حالما سمعتْ بالخبر توجهتْ إلى والدتها وتشاورتْ معها في الموضوع وقرّرتا أن إرسال برقية بهذا المعنى سيسبّب لشوقي أفندي صدمة لا ضرورة لها، وعليه قررتا إرسال رسالة إليه بتعليمات المولى تلك. إلا أن الرسالة لم تصل إلا بعد صعود حضرته. ذكرتْ والدة شوقي أفندي أن صحة المولى في ذلك الوقت كانت جيدة، حتى إنهم لم يحلموا بموضوع مفارقته هذا العالم. لا شك أن النيّة في ما جرى كانت حسنة، إلا أنه يعدّ مثالاً لتدخُّل العائلة فيما يعتبرونه شأنًا عائليًا – نظرة قاصرة جدًا عن إدراك أن حضرة عبد البهاء هو على حق دائمًا ويجب أن يُطاع دومًا. لا شك أن هذا التدخل المأساوي بهدف إنساني قد تسبّب في ألم لا يمكن وصفه أيام حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء وشوقي أفندي، وعلى كل حال فقد حَرَمت هذه الفعلة شوقي أفندي بشكل قاطع من رؤية جَدِّه مرة أخرى، وكثيرًا ما كان يصرّح بشعوره بأنه لو حضر لكان المولى قد أفاض عليه ببعض كلمات النصح أو التوجيه الخاص، ناهيك بما كانت ستوفِّره له تلك الفرصة من ارتياح لا حدود له برؤية وجهه ثانية في هذا العالم.

بعد وصوله حيفا شغل شوقي أفندي غرفته القديمة المجاورة لغرفة المولى، إلا أنه بعد أيام انتقل إلى غرفة في منزل إحدى خالاته المجاور، وبقي فيها مدة إقامته في حيفا إلى حين عملت الورقة المباركة العليا، في صيف عام 1923، على تشييد غرفتين مع حمام صغير على سطح بيت المولى خصيصًا له. ولا شك في أن أسبابًا كثيرة كانت وراء قراره الإقامة في منزل آخر في ذلك الوقت: إنه العذاب الأليم الذي كانت تثيره ذكريات تلك الغرفة القديمة، والحركة المستمرة لسيل الزائرين الوافدين والمغادرين لبيت المولى، وعامل آخر نموذجي في فطرة شوقي أفندي، ذلك هو إحساسه العميق بالعدل. فبينما عائلته قد حَظِيت بهذا الشرف العظيم بتقليد أحد أبنائها منصبًا على هذا القدْر من الرفعة، فإن الأمرَ يحتّم عليه الآن أن يُغدق على خالاته وأعمامه وأبنائهم شيئًا من هذا الشرف والألطاف، لكي يحقق إلى حدٍّ ما بعض التوازن.

وسط أجواء كهذه رافقت عودة شوقي أفندي من السفر، لم تُتَحْ له الفرصة للتعافي من الضربات التي تلقاها منذ أن وقف في مكتب تيودور بول وقرأ البرقية المفجِعة التي تخبره بصعود المولى. بالرغم من حالته تلك، فإن المقام الذي شرّفه به حضرة عبد البهاء في ألواح وصاياه قد ألقى عليه مسؤولية ستلازمه حتى آخر لحظة من حياته لوحده دون شريك، فردًا كان أم هيئة، تمامًا كما كان الأمر عندما صعد حضرة بهاء الله وألقى بهذه المسؤولية في وصيته بكل وضوح على حضرة عبد البهاء بجعله خليفته من بعده. فالقرارات يجب أن تُتّخذ الآن، وأولها تحديد كيفية إعلان وصية حضرة عبد البهاء لاطلاع العموم.

يُفهم مما تجمّع لدينا من مصادر مختلفة أنه في صباح اليوم الثالث من يناير/ كانون الثاني 1922 زار شوقي أفندي مقام حضرة الباب ثم المرقد المطهر لجدّه، وفي ساعة لاحقة من اليوم نفسه قُرئت في منزل خالته، ودون حضوره، ألواح وصايا المولى بصوتٍ مسموع بحضور تسعة من الرجال معظمهم من عائلة حضرة عبد البهاء وعُرضت عليهم أختامها وتواقيع حضرته وكتابتها بالكامل بخط يده. أعطى ولي الأمر تعليماته إلى أحد الأحباء الحاضرين من إيران بإعداد نسخة عن الوصية طبق الأصل. وفي رسالة كتبها شوقي أفندي بعد بضعة أسابيع وجّهها إلى أحد الأحباء القدامى صرّح بأن: ‘وصية حضرة عبد البهاء قُرئت في السابع من يناير/ كانون الثاني 1922 في منزل المولى بحضور أحباء من إيران والهند ومصر وإنكلترا وإيطاليا وألمانيا وأمريكا واليابان…’ ولم يحضر ولي الأمر ذلك الاجتماع أيضًا، ولا شك أن مردّ ذلك راجعٌ لأسباب صحية بقدر ما هي كياسة من جانبه. وتبعًا للأعراف والتقاليد المحلية القاضية بإقامة اجتماع تأبيني في ذكرى اليوم الأربعين على وفاة الشخص، فقد توافد عدد من البهائيين والعديد من أعيان المدينة وأشرافها، منهم حاكم حيفا، حيث تجمَّعوا في القاعة ببيت المولى. وبعد تقديم طعام الغداء عُقد اجتماع كبير في القاعة نفسها ألقيت فيه كلمات التكريم بحق المولى الفقيد، كما أُعلن عن مضامين وصيته. كان الحضور تواقين لسماع شوقي أفندي يخاطبهم ولو ببعض الكلمات مما دفع أحد الأحباء أن ينقل إليه تلك الرغبة. كان شوقي أفندي آنذاك مع الورقة المباركة العليا في غرفتها، فأجاب بأن حزنه وضعف قواه لا تساعدانه على تلبية طلبهم، وبدل ذلك كتب بعض الكلمات على عُجالة لتُقرأ عليهم بالنيابة معبّرًا فيها عن امتنانه الشخصي وأفراد عائلة حضرة عبد البهاء من صميم قلوبهم على حضور الحاكم والمتحدِّثين في الاجتماع الذين بكلماتهم المخلصة ‘أحيوا ذكرى المولى المباركة في قلوبنا… تدفعني جرأتي لأن آمل أن نبرهن، نحن عائلته وأنسباؤه، بأفعالنا وأقوالنا على جدارتنا بالمَثَل الأعلى الذي جسّده أمامنا، وبالتالي نحظى بتقديركم ومودّتكم. عسى روحه الخالدة أن تظلّ معنا وتربطنا جميعًا إلى الأبد!’ وكان قد استهل رسالته بـ: ‘كانت الصدمة مباغتة ومؤلمة جدًا لشابّ فتيٍّ في مثل عمري، لأن أكون قادرًا على حضور هذا الجمع من محبوبي حضرة عبد البهاء المحبوب.’

كان من الملائم جدًا أن قامت الورقة المباركة العليا، وليس شوقي أفندي نفسه، بالإعلان للعالم البهائي عن مضامين ألواح وصايا المولى. ففي 7 يناير/ كانون الثاني 1922 أرسلت حضرتها برقيتين إلى أحباء إيران على النحو التالي: ‘عُقِدت مجالس التذكّر في كل أنحاء العالم. بيّن مولى الورى تعليماته في ألواح وصاياه. ستُرسل إليكم نسخة. أَعلِموا الأحباء.’ وبرقية أخرى تقول: ‘طبقًا لألواح الوصايا فإن شوقي أفندي هو مركز أمر الله.’ من الأهمية بمكان أن نتذكر أن حضرة عبد البهاء – في استباقه دون شك لأحداث رأى تحققها بكل وضوح – قد كتب إلى المحفل الروحاني في طهران ردًا على استفسارهم قائلاً: ‘سألتم عن الاسم الذي يجب أن تسجل به العقارات والمباني المتبرع بها حين استصدار سندات المُلكية من الجهات الرسمية، يجب أن تُسَجل باسم ميرزا شوقي رباني، ابن ميرزا هادي الشيرازي، والموجود حاليًا في لندن.’ فمهما كان الكرب شديدًا والصدمة قوية على الأحباء في إيران بصعود المولى المحبوب، فإنه من المستبعد أن يكون خبر تعيين شوقي أفندي وليًّا لأمر الله مدعاةً للدهشة لدى الأحباء الأكثر دراية واطلاعًا، خاصةً بعد تلقّيهم، قبل وقت قصير جدًا، تعليمات على هذا النحو من التنوير من حضرة عبد البهاء. أبرقت الورقة المباركة العليا إلى الولايات المتحدة في 16 يناير/ كانون الثاني تقول: ‘عُيّن شوقي أفندي في ألواح الوصايا وليًّا لأمر الله ورئيسًا لبيت العدل الأعظم. أَعلِموا الأحباء الأمريكيين.’ بالرغم من حقيقة أن شوقي أفندي منذ البداية قد أظهر كل حنكة ولباقة في معالجة المشاكل التي واجهته باستمرار، فقد اتّكأ بثقله على الورقة المباركة العليا التي عملت شخصيتها ومكانتها وحبها الشديد له على أن تكون فورًا ذلك المؤازر والملاذ.

بعد تلك الأحداث مباشرة اختار شوقي أفندي ثماني فقرات من ألواح الوصايا وأمر بتداولها فيما بين الأحباء. واحدة منها فقط كانت تشير إليه شخصيًا، وكانت مختصرة جدًا، واقتطفت على النحو التالي: “يا أحباء عبد البهاء الأوفياء! يجب أن تحافظوا على… شوقي أفندي غاية المحافظة… إذ هو وليُّ أمر الله بعد عبد البهاء، ويجب على جميع الأفنان والأيادي وأحبّاء الله أن يطيعوه وأن يتوجّهوا إليه.” فاختار شوقي أفندي، من بين جميع الفقرات العديدة المدوّية من ألواح الوصايا التي تشير إلى شخصه الكريم، أقلَّها دويًا وإثارةً للدهشة لتكون أول ما يتداوله البهائيون. كان بحق منذ اللحظة الأولى ذلك الهادي والمَهْدِيّ.

تلك السنوات الأولى من ولاية شوقي أفندي يجب أن يُنظَر إليها على أنها عملية مستمرة من الأزمات التي كانت تهوي به أحيانًا، ثم ينهض منتصبًا على قدميه من جديد، مترنّحًا في معظم الأحيان من هول الصدمات المروعة التي يتلقّاها، ولكنه يبقى في الميدان بكل تصميم. فعشقه الشديد لحضرة عبد البهاء هو الذي كان يساعده على المضي قُدُمًا. كان يقول بأعلى صوته: ‘مع كل هذا لديّ الإيمان بل الإيقان الراسخ بقوة حضرته وهدايته وبحضوره الحي دائمًا وأبدًا…’ في رسالة كتبت في فبراير/ شباط 1922 موجهة إلى نيّر أفنان، ابن أخت حضرة عبد البهاء، تعكس بكل وضوح مدى عذاب روحه: ‘رسالتك… وصلتني في غمرة أحزاني وهمومي وبلواي… إن الألم، لا بل الكرب من فقدانه ساحق للغاية، وعبء المسؤولية التي ألقاها على كاهلي الغض الضعيف ساحق للغاية أيضًا…’ ويمضي بقوله: ‘أرفق لك شخصيًا نسخة من وصايا المولى العزيز، ولسوف تقرؤها وترى ما عاناه حضرتُه من أقربائه… وسترى أيضًا كم هي جسيمة وعظيمة تلك المسؤولية التي أوكلها إليّ، والتي لا يمكن لأي شيء أن يعينني على الاضطلاع بها إلا قوة كلمته الخلاقة…’ إنها رسالة لا تُعبّر عن مشاعره فحسب، بل وبالنظر إلى حقيقة أن الذي يخاطبه فيها كان ينتمي إلى أولئك الذين كانوا أعداء المولى في الأيام التي أعقبت صعود حضرة بهاء الله ومن نسل المنتسبين الذين شجبهم المولى بكل شدة في وصيته، فإنها تُظهر كيف أن شوقي أفندي قد رفع عاليًا مرآة صفحات الماضي بكل شجاعة داعيًا إياه في الوقت نفسه إلى مؤازرته وإظهار الولاء له وِفْقَ ما يتطلّبه الواقع الجديد.

تُظهر رسائل شوقي أفندي الأولى ما لديه من خصائص القوة والحكمة والوقار. ففي رسالة كتبها إلى أحد أساتذته في الجامعة الأمريكية ببيروت مؤرخة 19 مارس/ آذار 1922 بيّن مركزه بوضوح لا لبس فيه قائلاً: ‘ردًا على سؤالك فيما إذا عُيِّنْتُ رسميًا لأمثِّل الجامعة البهائية: ‘فإن حضرة عبد البهاء قد عيّنني في وصيته رئيسًا للمجلس البهائي العالمي الذي سيتم انتخابه كما ينبغي من قبل مجالس مركزية تمثّل أتباع حضرة بهاء الله في مختلف الممالك والأقطار…’

وعلى أي حال يجب ألا يتبادر إلى الذهن أن عملية الإعلان عن وصايا حضرة عبد البهاء قد حلّت جميع الإشكالات، وأنها أدّت إلى عصر جديد للأمر المبارك بسهولة كبيرة، بل بعيدًا عن هذا كل البعد. فقبل أن يصل شوقي أفندي إلى حيفا وجدت الورقة المباركة العليا نفسها مضطرة إلى إرسال برقية إلى أمريكا في 14 ديسمبر/ كانون الأول [1921] قالت فيها: ‘الآن وقت الامتحانات الشديدة. على الأحباء أن يكونوا حازمين ومتّحدين في الدفاع عن الأمر المبارك. بدأ الناقضون نشاطاتهم عبر استخدام الصحافة ووسائل أخرى في كل أنحاء العالم. انتخِبوا لجنة من النفوس الحكيمة والعقول الراجحة للتعامل مع الإشاعات التي تتناولها الصحافة في أمريكا.’ كانت الأحداث التي تشير إليها البرقية خطيرة وهامّة، ولا يمكن اعتبارها منعزلة عن الوضع الخطير الذي كان سائدًا في أمريكا عند صعود حضرة عبد البهاء. فقد كان المولى وقتها في غاية القلق بشأن الناقضين في ذلك البلد لبعض الوقت، حتى إنه، في خطاب كتبه حضرته قبل ذلك بسنوات، تنبّأ بأن عاصفة ستهب بعد صعوده داعيًا من أجل حفظ الأحباء وحمايتهم. في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 1921 أبرق المولى إلى روي ويلهلم[7]، وهو مراسِلُهُ المعتمد، يسأله: ‘كيف هو وضع الأحباء وصحتهم؟’ مما دفع السيد ويلهلم إلى الرد في اليوم التالي قائلاً: ‘في شيكاغو وواشنطن وفيلادلفيا نقض عنيف متمركز في فيرنالد[8] وداير[9] وواطسون[10]، أما في نيويورك وبوسطن فقد رفضوا الانضمام إليهم وتبنّوا سياسةً بنّاءة بكل صلابة.’ فكان الرد فوريًا من حضرة عبد البهاء في برقية مؤرخة 12 نوفمبر/ تشرين الثاني بلهجة شديدة للغاية تدل دلالة واضحة على انزعاجه: ‘كل مَنْ يجالس المجذوم يُصاب بالجُذام، ومن يَكُنْ مع المسيح ينبذ الفريسيين ويمقت يهوذا الإسخريوطي. أن اجتنبوا الناقضين. أعلِموا غودال وترو[11] وبارسونــز[12] بهذا تلغرافيًا.’ وفي برقية أخرى في اليوم نفسه كتب حضرته إلى روي ويلهلم يقول: ‘ألتمس الصحة من العناية الإلهية.’ تلك كانت آخر رسائله المباركة إلى أمريكا.

لم يعمل صعود حضرة عبد البهاء المفاجئ شيئًا في معالجة هذا الوضع، ولا شك أن إدراك الورقة المباركة العليا لخطورته هو الذي ألهمها أن تُبرق للأحباء الأمريكيين بأن المولى قد ترك تعليمات كاملة في ألواح وصاياه. فمنذ صعود حضرة بهاء الله والاضطراب الدائم الذي أثاره محمد علي لم يهدأ أو يخِفْ، وبقي زبانيته في الولايات المتحدة يعملون في نشاط ويقظة. في ذلك الوقت دأبت مجلة “الحقيقة”[13] – وهي مجلة إخبارية بهائية – على نشر أخبار الناقضين ونشاطاتهم، وهذا ما أزعج إلى حدٍّ كبير تلك النفوس المؤمنة الحكيمة والأوسع خبرة وخاصة أولئك الذين كان لهم شرف معرفة حضرة عبد البهاء شخصيًا، إلا أنه ترك الشباب الأغرار ذوي العقول المتحررة والذين يفتقرون إلى الخبرة، تركهم غير قلقين أو مدركين خطورة هؤلاء الناقضين. كان بسبب هذا الموقف العليل المريب أن كتب حضرة عبد البهاء قبل أقل من شهرين على صعوده لوحًا نُشر في مجلة “نجمة الغرب” حرص فيه أن يكون واضحًا للأحباء بأنهم يخوضون مغامرة في غاية الخطورة إذا هم لم يبالوا وواجهوا أمورًا كهذه باستخفاف، وأن حضرة بهاء الله قد حذّر أتباعه بأن روائح كريهة سوف تفوح وتنتشر وعليهم تجنُّبُها بالكلية، وأن تلك الروائح لم تكن سوى الناقضين أنفسهم. هذا الوضع الآن قد ورثه شوقي أفندي.

بعد أقلَّ من أسبوعين على إعلان مضامين وصية حضرة عبد البهاء، كتب أحد أقدم الأحباء الأمريكيين وأكثرهم ثباتًا وإخلاصًا لشوقي أفندي في 18 يناير/ كانون الثاني 1922 قائلاً: ‘كما تعلم فإننا نواجه محنًا وبلايا كبيرة مع من شقّوا عصا الطاعة على أمر الله في أمريكا. لقد انْسلَّ هذا السم عميقًا بين الأحباء…’ في كثير من التقارير وبغاية التفصيل انهالت على ولي أمر الله –
حديث العهد بولاية أمر الله – عرائض التُّهم وأخرى بوقائع وأحداث. إلا أنه كان هناك بالطبع جانب آخر للأحداث؛ فقد هرع أحباء الشرق والغرب للالتفاف حول قائدهم الفتيّ بقلوب طاهرة وثقة مؤثرة وبثّوه حبهم وولاءَهم قائلين: ‘نتطلّع بشوق إلى مساعدة ولي الأمر بكل السبل، وقلوبنا مستعدّة للتجاوب مع الأعباء الملقاة على كاهله الغضّ…’، ‘تناهى إلى سمعنا هنا في واشنطن أن مولانا المحبوب قد عهِد إليك بتوجيه دفّة وحماية أمر الله المقدس، وأنه قد عيّنك رئيسًا لبيت العدل. أكتُبُ إليك هذه السطور المعدودة مذعنًا بكل جوارحي للتعليمات المباركة لمولانا المحبوب، مؤكدًا على تقديم كل ما في وسعي من دعم واخلاص…’ وخاطبه اثنان من ركائز الأمر المبارك في أمريكا بقولهما: ‘يا محبوب محبوبنا، كم تغنّتْ قلوبُنا فرحًا عندما علمنا بأن المولى لم يتركنا قلقين، فقد جعلك – وأنت محبوبه – مركز وحدة دينه عسى أن تجد قلوب جميع الأحباء السكينة والاطمئنان.’ ‘لقد كانت أرواحنا غرقى في ظلام دامس إلى أن وافتنا الورقة المباركة العليا ببرقيتها الكريمة، وفيها أول شعاع من نور هو تعيينك من قِبل المولى الرحيم وليًّا ورئيسًا لنا، وأنك وليّ أمر الله ورئيس بيت العدل الأعظم’، ‘مهما كانت أمنيات ولي أمر الله أو نصائحه لخدّامه أن يفعلوا، فتلك أيضًا مرادنا ومقصدنا.’ في رسالة بعث بها أحد المؤمنين القدامى موجهة إلى الورقة المباركة العليا، وكان قد رجع حديثًا من حيفا، مؤرخة في أغسطس/ آب 1922 كتب يقول: ‘إن أحباء الله مرتبطون تمامًا بشوقي أفندي ولا يتمنَّوْن سوى إطاعة أوامر مولانا التي تقضي بأن ندعم جميعًا ولي أمر هذا الدين المبارك…’ وكتب شخص آخرُ، من الأحباء القدامى أيضًا، إلى شوقي أفندي في الوقت نفسه تقريبًا مؤكدًا له رغم ‘أننا لا نزال نواجه صعوبات جمة ونرى بعض بقع الفتنة المتقرّحة، إلا أنني أشعر بالقوة الشافية وأومن بأن الأمر الإلهي بشكل عامّ لم يكن أبدًا أفضل صحةً أو أكثر عمقًا في أمريكا مما هو عليه الآن…’ لا شك أن رسائل كهذه كان لها أكبر العزاء، إلا أنه بالمقارنة بعدد الأحباء في الغرب وبمدى انكسار قلب ولي أمر الله، يبدو أن هؤلاء كانوا مع الأسف قِلّة. إنها حقيقة مؤلمة أن كثيرًا من أولئك الذين هبّوا بكل تصميم لمؤازرته، هم أنفسهم قد تركوا أمر الله فيما بعد، وحتى إنهم انقلبوا ضدّه. فالإعصار يقتلع الأشجار الكبيرة من جذورها بينما يترك الأعشاب الصغيرة دون أن تتأثر.

ما من شك في أن جماعة البهائيين في كل مكان قد أخذتهم تمامًا موجة غامرة من العشق والولاء لدى سماعهم نصوص ألواح الوصايا، أما تأثيرها على ناقضي العهد والميثاق، من جانب آخر، فكان اندفاعهم نحو القيام بردّ فعل عنيف. مَثَلُهم في ذلك مِثْلُ وحش الهايدْرا متعدّد الرؤوس يتسابق كل منها في الفحيح بسموم أكثر، يرتفعون عاليًا ثم ينقضُّون على الشاب الفتيّ الذي خلَف المولى المحبوب. بدأ محمد علي، الأخ غير الشقيق لحضرة عبد البهاء، ومعه أخوه وأبناؤه وزبانيته وأعداء الأمر الدائمون في إيران، وحتى الناقمين وضعاف الإيمان والطامعين – أينما كانوا وأيًّا كانوا – بدأوا جميعًا في إثارة المشاكل. في 16 يناير/ كانون الثاني أرسل اثنان من الأحباء الأمريكيين القدامى، كانا يخدمان في طهران، رسائل إلى عائلة حضرة عبد البهاء يصفان فيها صورة ما كان يجري هناك؛ تكشف هذه الرسائل عن حقائق هامة ليس أقلها أن حضرة عبد البهاء كان قد أرسل خطابًا إلى إيران أرفق به، بهدف تنوير الأحباء هناك، رسالة من شوقي أفندي، موجّهة إلى حضرته آنذاك، يعلمه فيها عن أخبار الأمر المبارك في إنكلترا. وصلت هذه الرسالة بعد صعود حضرته، ولكنها أظهرت اعتزاز المولى بحفيده وجاءت متزامنةً مع أخبار صعوده وتعيين ولي الأمر التي أتت تِباعًا مما جعلها تبدو أكثر من أنها مجرد صدفة. وتمضي هذه الرسائل في القول: ‘… ارتفعت صيحات الاحتجاج ضد أمر الله… إلا أن أغنام الله لم يتفرقوا ولم يُنسوا، بل هم ثابتون متماسكون يتسابقون في مؤازرة قائدهم الفتيّ الشجاع الذي باركَنا به المولى المحبوب. كان شوقي أفندي اسمًا مألوفًا بيننا على الدوام، وكافة البهائيين يقدّمون له اليوم كل التحية والترحيب. “مبارك هو الآتي باسم الرب…”‘ ‘… أتمنى لو سمعتم عبارات التقدير والامتنان من الأحباء وهم يقولون: “نحن الآن في راحة واطمئنان. نحن الآن مسرورون وراضون. فأمر الله الآن قد تجدد شبابه.”‘

في 16 يناير/ كانون الثاني 1922 كتب ولي أمر الله رسالته الأولى إلى الأحباء الايرانيين حاثًّا إياهم أن يظلوا مستقيمين قائمين على حماية الدين، ويُشْرِكهم، بعبارات مؤثرة، بحزنه العميق بصعود المولى المحبوب. وفي 22 يناير/ كانون الثاني 1922 أبرق شوقي أفندي إلى الأحباء الأمريكيين قائلاً: ‘شعرت الورقات المباركة بالراحة من ولاء الأحباء الأمريكيين الذي لا يتزعزع ومن نُبْل موقفهم. اليوم يوم الاستقامة. تقبّلوا تعاوني الحبّي.’ وكان في اليوم السابق قد كتب إليهم أولى رسائله حيث استهلَّها: ‘في هذه الساعة الباكرة، ونور الصباح يكاد يشقُّ طريقه إلى الأرض الأقدس بينما سُحُب الكآبة لا تزال تظلِّل بكثافة آفاق القلوب بفقدان المولى العزيز، أشعر وكأن روحي المشتاقة المفعمة بالمحبة والأمل تتوجه عبر البحار نحو تلك الرفقة العظيمة من أحبّة حضرته…’ لقد أمسك القبطان فعليًا بالدفَّة، ويرى أمامه بوضوح القنوات التي عليه أن يُبحر منها: إن ‘طريق التبليغ الواسع المستقيم’، كما عبّر عنه، والاتحاد، والمحويّة، والانقطاع، والتدبُّر والتعقل، اليقظة والحذر، السعي الجادّ في تحقيق أماني المولى وآماله، الإحساس بوجود حضرته، واجتناب أعداء الأمر بالكلية – هذا ما يجب أن يكون هدف الأحباء ومحرّكهم. وبعد أربعة أيام نجده يكتب رسالته الأولى إلى الأحباء اليابانيين يقول فيها: ‘رغم ما أنا فيه من حزن وهمٍّ في هذه الأيام القاتمة، فعندما أسترجع بخاطري تلك الآمال التي وضعها فقيدنا المولى بكل ثقة بالأحباء في ذلك البلد من بلدان الشرق الأقصى، تنتعش روحي بالآمال من جديد وتزول عني الغُمّة بفقدانه. وكَوْني كنت مرافقه الحاضر لخدمته وسكرتيره مدة سنتين تقريبًا، بعد أن وَضَعَت الحرب العظمى أوزارها، أتذكّر تمامًا تلك الفرحة المشرقة التي كانت تغيّر ملامح وجه حضرته كلما فَضضْتُ أمامه عرائضَكم…’

في تلك الأيام كان شوقي أفندي تُشغِلُه أيضًا ترجمة ألواح وصايا جدّه إلى الإنكليزية. كتبت السيدة إموجين هوغ[14] في 24 يناير/ كانون الثاني، وكانت قد أقامت في حيفا بعض الوقت قبل صعود حضرة عبد البهاء، تقول: ‘لن يمرّ طويلُ وقتٍ حتى تكون ألواح وصايا المولى العزيز جاهزة لأحباء أمريكا وأماكن أخرى. شوقي أفندي عاكف الآن على ترجمتها.’

وبينما كان شوقي أفندي مشغولاً إلى هذا الحدّ ويستجمع قواه، وبدأ في إرسال رسائل كهذه إلى الأحباء في الأقطار المختلفة، إذا برسالة تصله من المندوب السامي لفلسطين السير هربرت صموئيل مؤرخة 24 يناير/ كانون الثاني 1922 يقول فيها:

عزيزي السيد ربّاني

أعلمكم باستلام رسالتكم المؤرخة 16 يناير/ كانون الثاني، وأعبّر عن شكري لما تضمّنته من مشاعر ودّية.

سيكون من المؤسف حقًا أن تحول فاجعة وفاة السير عبد البهاء دون إتمام دراستك في أكسفورد. آمل ألا يكون الأمر كذلك.

يهمني جدًا أن أعلم بالإجراءات التي اتُّخذت في سبيل تأمين إدارةٍ مستقرةٍ للدين البهائي.

وإذا ما صادف وجودُكم في مدينة القدس في أي وقت، سيكون من دواعي سروري أن أرى حضرتكم هنا.

المخلص – هربرت صموئيل

ومهما بدا لحن الرسالة ودِّيّاً فإنها تطلب أن تكون حكومة صاحب الجلالة على علم بما يجري، وهذا بالطبع ليس مثيراً للدهشة على الإطلاق نظراً لنشاطات محمد علي. فبعد صعود حضرة عبد البهاء بقليل قام هذا الناقم الخائن، الأخ غير الشقيق، بإقامة دعوى قضائية مطالبًا بنصيبه الشرعي في ممتلكات حضرة عبد البهاء بصفته أخًا له، طبقًا للشريعة الإسلامية (وهو الذي يزعم أنه لا زال صاحب الحق في خلافة حضرة بهاء الله). كما طلب [محمد علي] أيضًا من ابنه [شعاع الله]، الذي كان مقيمًا في أمريكا ويعمل على تحريك ادعاءات والده هناك، أن ينضمّ إليه في هذه الحملة الجديدة والمباشَرة على المولى وعائلته. لم يكتفِ بما كشفه عن حقيقة فطرته، إذ توجّه إلى السلطات المدنية مطالبًا بحق رعاية مقام والده حضرة بهاء الله على أساس أنه خليفة حضرة عبد البهاء الشرعي. رفضت السلطات البريطانية طلبه بدعوى أن القضية تعتبر شأنًا دينيًا؛ عندها لجأ للرئيس الديني للمسلمين وطلب من مفتي عكاء أن يتولى رسميًا مسؤولية رعاية مقام حضرة بهاء الله. إلا أن سماحته أجاب بأنه لا يرى كيف يمكنه فعل ذلك والتعاليم البهائية لا تتفق وأصول الشريعة الإسلامية. ولما خاب في كل مساعيه وسُدّت الطرق أمامه، أرسل أخاه الأصغر بديع الله برِفْقة بعض مؤازريه لزيارة الروضة المباركة. وفي يوم الثلاثاء 30 يناير/ كانون الثاني استطاعوا أن ينتزعوا المفاتيح بالقوّة من القائم على خدمة المقام الأطهر، وبذلك أكّدوا على حقّ محمد علي في أن يكون الوصيّ الشرعيّ على مرقد والده. فخلق هذا الفعل المجرّد من المبادئ الأخلاقية اهتياجًا وسَطَ الجامعة البهائية مما حدا بحاكم عكاء أن يكتفي فقط بإصدار أمر بتسليم المفاتيح إلى السلطات ووَضْعِ حرّاس على المقام المقدس. وامتنع عن تسليم المفاتيح لأي من الطرفيْن.

لا يتطلب الأمر خيالاً واسعًا حتى يدرك المرء بأنها كانت صدمة أخرى رهيبة لشوقي أفندي عندما جاءته الأخبار بعد حلول الظلام من رسول جاءه لاهثًا منفعلاً. هبّ الأحباء مفجوعين لدرجة تعجز الكلمات عن وصفها. فكيف أنه للمرة الأولى، في عقود خلت، يقع الرمس الأطهر في أيدي العدو اللدود لمركز عهده وميثاقه. وصف أحد الأحباء الأمريكيين، الذي زار الروضة المباركة برفقة شوقي أفندي في شهر مارس/ آذار 1922، ذلك الوضع في يومياته بقوله: ‘في كل من زياراتي الحديثة الثلاثة للبهجة كان أقصى ما يمكن الدخول إليه هو باحة الضريح المقدس فقط – فالحرم الداخلي كان مقفولاً ومختومًا… ولا أحد يمكنه حتى الآن أن يتنبأ بما ستؤول إليه الأمور. إن شوقي أفندي في غاية الانزعاج إزاء هذا الوضع.’ وبالرغم من مشاعره الشخصية فقد كان شوقي أفندي حريصًا للغاية على اتِّباع نهج المولى في مواجهة العدوان والعواصف في أيامه المشابهة الأخرى. فأصدر تعليماته بكل هدوء محدِّدًا مكان وضع مصابيح الإنارة داخل الروضة المباركة وخارجها حيث كانت عملية إنارتها جارية.

ويسترسل المدوّن نفسه في تسجيله قائلاً بأنه بينما كان في حيفا أرسل حضرة ولي أمر الله برقيات إلى الملك فيصل ملك العراق متظلِّمًا ضد إجراء حكومته في الاستيلاء على البيت المبارك لحضرة بهاء الله [في بغداد] (وهو المكان المقدس لحج البهائيين من كل مكان)، كما اتُّخِذَت ترتيبات من قِبَله لإرسال رسائل مماثلة من جامعات بهائية أخرى. تلك كانت ضربة أخرى مروّعة أصابت شوقي أفندي؛ إذ في غضون أشهر قليلة تعرّض لضربات أربعة، كان من شأن أيٍّ منها أن تُجهِد كيانه بأكمله على نحو لا يُطاق.

وجد شوقي أفندي نفسه الآن في وضع ساحق حقًّا. ومع أن جامعة المؤمنين كانوا مخلصين، إلا أن الأمر الإلهي الآن يتعرض لهجوم الأعداء من كل صوْب، جرّأهم في ذلك وأبهجهم صعود حضرة عبد البهاء. أعلَمَنا أحد الأحباء القدامى، الذي كان يعمل سكرتيرًا لحاكم حيفا في ذلك الوقت، أن السلطات المحلية كانت تشير إلى ولي أمر الله بشكل عام بـ ’الصبي’. وبغضّ النظر عن شبابه الغضِّ فإن طالب أكسفورد حليق الذقن، مهما كان عليه من وقار في السلوك، قد رفض حتى التظاهر بأنه يشبه البطريرك الملتحي الذي يعرفه الجميع جيدًا بأنه أحد شخصيات حيفا البارزين – تتباين نظرة الناس إليه بين الحب الشديد والكراهية البغيضة تبعًا لما يقتضيه الحال – إلا أنه في كل الأحيان يلقى الاحترام باعتباره الشخصية الأكثر بروزًا والأرفع مكانة في حيفا. رفض شوقي أفندي أن يلبس العمّة والقفطان كما كان جدّه دائمًا، ورفض أن يذهب إلى المسجد أيام الجمعة كما اعتاد المولى أن يفعل، ورفض أن يقضي الساعات مع شيوخ المسلمين الذين اعتادوا أن يقضوا يومهم مع حضرة عبد البهاء، والذين هم الآن دون شك توّاقون إلى تفحُّص وتقييم ذلك الغلام المراهق الذي نصّبه المولى على كرسيّه من بعده رئيسًا للدين. عندما كان أفراد من عائلة حضرة عبد البهاء يعارضونه في عدم اتّباعه طرق المولى ونهجه، كان ولي الأمر يجيبهم بأن عليه أن يكرّس نفسه كليًّا لخدمة أمر الله. كل هذا لا بد أنه سبب له انزعاجًا كبيرًا أضيف إلى معاناته، وأثار فزعًا كبيرًا داخل العائلة المباركة وفي الجامعة المحلية. فقد شكَّك بعضُهم سرًّا بأن شوقي أفندي لا يعرف حقًا ماذا عليه أن يفعل، وأنه بحاجة إلى نفوس أكبر سنًّا وأكثر حكمة حوله، وأنه كلما كان تشكيل بيت العدل الأعظم أسرع كلما كان أفضل للأمر المبارك ولكل مَنْ يعنيه الأمر.

ليس هناك من شك في أنه في غمرة كربه، وهو يواجه مختلف أنواع التعامل، من عبادة وعشق وتوجيه النصح له إلى المساءلة والمعاتبة والاعتراض عليه، قد شعر بالحاجة إلى المشورة والمؤازرة. فخلال شهر مارس/ آذار 1922 جمع في حيفا مجموعة من ممثلين عن الدين البهائي وشخصيات بهائية معروفة هم: الليدي بلومفيلد التي كانت قد رجعت معه من لندن، إموجين هوغ القاطنة في حيفا وأضاف إليهما الآنسة روزنبرغ[15] من إنكلترا، روي ويلهلم وماونتفورت ميلز[16] وميسون ريمي[17] من أمريكا، لاورا[18] وهيبوليت دريفوس – بارني[19] من فرنسا، كونسل[20] وأليس شفارتز[21] من ألمانيا، والرائد تيودور بول. كما دعا بالمثل اثنين من المبلّغين المعروفين في إيران هما آوَارِه وفاضل [المازندراني] للحضور إلى حيفا، إلا أنه بسبب بعض التعقيدات تأخر وصولهما طويلاً، فأرسلهما ولي الأمر لاحقًا في مهمات تبليغية طويلة الأمد؛ أرسل آواره إلى أوروبا وفاضل إلى أمريكا الشمالية. كما وصل لاحقًا السيد مصطفى الرومي من بورما، وكورين ترو[22] وابنتها كاثرين[23] من الولايات المتحدة. زائرون آخرون جاءوا ثم غادروا في تلك الأشهر المبكرة [من ولاية الأمر]. إلا أن الحقيقة الهامة تمثلّت في أن العديد من الأحباء القدامى لم يكونوا وحدهم الذين يعتقدون بأن الخطوة التالية يجب أن تكون تشكيل بيت العدل الأعظم، بل إن حاكم حيفا أيضًا، في حديث له مع أحد الأحباء الذين دعاهم شوقي أفندي، قد تطرّق بنفسه إلى هذا الموضوع قائلاً إنه يشعر أنه عند تشكيل بيت العدل الأعظم وتسجيل الأماكن المقدسة البهائية باسمه فإن الموضوع برمته سيتحول من شكل نزاع عائلي إلى وضع قانوني ثابت قوي الأركان لهيئة دينية دائمة. هذا الرأي الذي لم يحمله مسؤول بريطاني فحسب، بل وبعض الأحباء أيضًا ومثلهم أفراد من عائلة حضرة عبد البهاء، يعكس [هذا الرأي] بكل وضوح موقف بعضهم من ولي أمر الله. إن كونه شابًا في مقتبل العمر، ووضعه في بداية ولايته، جعلهم يميلون إلى الاعتقاد بأنه في حاجة إلى الأعضاء الآخرين لهيئة هو رئيسها الدائم ليقدِّموا له المساعدة والنصح، وفي الوقت نفسه ضمان أساسٍ شرعيٍّ أمتن ينطلق منه لدحض ادعاءات أعداء الأمر المبارك في فلسطين وفي العراق بحقهم في الأماكن البهائية المقدسة مستندين في ادِّعائهم إلى أحكام الشريعة الإسلامية.

يُظهر ردّ فعل شوقي أفندي إزاء ما كانت تميل إليه تلك الآراء والمشاورات التي كان يُجريها مع البهائيين الذين دعاهم إلى حيفا، كيف أن عقله، وهو ما زال في مستهلّ ولايته– ومهما شعر شخصيًّا أنه يرزح تحت جسامة الضغوط في أغلب الأحيان – كان دائمًا عقل ذلك القائد اللامع، يشاهد جميع المعارك الدائرة من حوله، لا تُعميه التفاصيل أو الأمور الطارئة على الإطلاق. فاليوميات التي مرّ ذكرها أعلاه تسجل لنا: ‘في الأيام الأولى من زيارتي كان شوقي أفندي منهمكًا في أكثر الأوقات بالتشاور مع ماونتفورت ميلز وروي ويلهلم ودريفوس - بارني وزوجته والليدي بلومفيلد والميجور تيودور بول، وفي وقت لاحق مع كونسل وأليس شفارتز بعد وصولهما، تشاور معهم جميعًا حول تأسيس بيت العدل الأعظم. سمعتُ بالأمور التي ناقشوها بشكل عام، ويبدو أنه قبل أن يُؤَسَّسَ بيت عدل عالمي يجب أن يكون هناك بيوت عدل محلية ومركزية عاملة في البلدان التي يقطنها بهائيون، وأعلم أن شوقي أفندي كان قد دعا نفوسًا معيّنة من إيران والهند لهذا المؤتمر من أجل أن ينضمُّوا إلى الأحباء الذين حضروا من الغرب في مشاوراتهم وسبق أن ذَكَرْتُهم ولكنهم لم يستطيعوا الحضور في الوقت المحدد.’

يبدو أن نتيجة تلك المشاورات كانت أن أصدر شوقي أفندي تعليماته: إلى عائلة شوارتز بالعودة إلى ألمانيا ليعملا في اتجاه تأسيس هيئات محلية وهيئة مركزية، وإلى روي ويلهلم وماونتفورت ميلز أن ينقلا إلى أمريكا في مؤتمرها المركزي وشيك الانعقاد أن الهيئة التنفيذية –
وهي الهيئة المركزية للبهائيين في أمريكا الشمالية – يجب أن تصبح سلطة تشريعية في عملها، تتولّى توجيه جميع الشؤون المركزية بدل مجرّد تنفيذ القرارات والتوصيات التي يتوصّل إليها الوكلاء نتيجة مشاوراتهم في مؤتمرهم السنوي. ولا شك أن على الأحباء البريطانيين الحاضرين أن ينقلوا هذا المفهوم العام لجامعتهم أيضًا. وهذا ما يعني حقًا أن شوقي أفندي، بعد تولّيه ولاية الأمر بما يزيد قليلاً عن الشهرين، قد أخذ يُرسي دعائم بنيان النظام الإداري للأمر المبارك كما جاء في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.

أما ما كان من جهد وتوتّر في هذا الميدان فكان فوق طاقته. لذا، عيّن هيئة من تسعة أفراد تعمل مؤقتًا كمحفل. نجد في سجلات هذه الهيئة في 7 إبريل/ نيسان 1922 أن رسالة وردتها من الورقة المباركة العليا تُصرِّح فيها: ‘إن ولي أمر الله، الغصن المختار، قائد أهل البهاء شوقي أفندي، قد اضطر، نتيجة ما ينوء به من هموم وأحزان لا حد لها، إلى مغادرة هذه البقعة المقدسة لفترة وجيزة طلبًا للراحة والتعافي، وسيعود بعدها إلى الأرض الأقدس ليباشر خدماته ويتولّى القيام بمسؤولياته.’ وتمضي في قولها بأنه طبقًا لرسالته التي ترفقها، فقد أَوْكَلَ حضرته إليها إدارة جميع الشؤون البهائية في فترة غيابه وذلك بالتشاور مع عائلة حضرة عبد البهاء ومحفل تم اختياره. وكان شوقي أفندي قد غادر فعليًا حيفا إلى أوروبا في 5 إبريل/ نيسان يرافقه أكبر أولاد خالاته. وعمدت الورقة المباركة العليا إلى إرسال هذه الرسالة، مع رسالة ولي أمر الله، إلى محرري مجلة “نجمة الغرب” حيث نُشرتا فيها مترجمتيْن مع صورة للأصل باللغة الفارسية. ولا شك أن رسائل مماثلة قد أُرسِلت إلى مراكز بهائية رئيسة أخرى. وفي رسالتها إلى مجلة “نجمة الغرب” وضّحت الورقة المباركة العليا بأنها شكّلت محفلاً من أولئك الذين عيّنهم شوقي أفندي. وفي رسالة ولي الأمر نقرأ ما يلي:

هو الله

إن هذا العبد، بعد ذلك الخطْب الجَلَل والمصيبة العظمى – صعود حضرة عبد البهاء إلى الملكوت الأبهى – قد أصابه شديد الحزن والألم وطوّقته المشاكل التي أثارها أعداء الأمر على شأن أجد أن وجودي هنا، في هذا الوقت وفي جوٍّ كهذا، لا يتناسب والإيفاء بواجباتي الهامة المقدسة.

لهذا السبب، ولا خيار أمامي غير ذلك، عهدتُ بشؤون الأمر المبارك لبعض الوقت، في الداخل والخارج، إلى إشْراف العائلة المباركة برئاسة الورقة المباركة العليا – روحي لها الفداء – إلى أن أستعيد عافيتي وأستردّ قوّتي وثقتي بنفسي وطاقتي الروحية بفضل العناية الإلهية، وأتمكّن من الإمساك بزمام الأمور في خدماتي كلها بانتظام طبقًا لهدفي ورغبتي، حتى أكون عندها قد حقّقتُ مُنتهى أملي وطموحي الروحاني.

عبد عتبته – شوقي

في 8 إبريل/ نيسان كتبت الورقة المباركة العليا رسالة عامة للأحباء تخبرهم أولاً باستلامها رسائلهم التي عبّروا فيها عن ولائهم، وتذكُرُ بأن شوقي أفندي يعلّق آمالاً على تعاونهم في نشر الرسالة الإلهية؛ وأن العالم البهائي، من الآن فصاعدًا، يجب أن يتواصل معًا من خلال المحافل الروحانية التي يجب أن تكون مرجع الجميع في الشؤون المحلية. ومضت في رسالتها تقول: ‘منذ صعود محبوبنا عبد البهاء وشوقي أفندي متأثر بعمق شديد جدًا… لدرجة رأى أن يخلُد إلى الهدوء حتى يتمكَّن من التفكر والتأمُّل بمهمته الكبيرة التي تنتظره. ولأجل تحقّق ذلك غادر هذه المناطق مؤقتًا وعيّنني ممثِّلته في غيابه. وبينما هو منشغل في تحقيق هذا المسعى العظيم، فإن عائلة حضرة عبد البهاء على ثقة تامة بأنكم جميعًا سوف تسعون جاهدين من أجل تقدم دين حضرة بهاء الله ظافرًا…’ كانت الرسالة المطبوعة بالإنكليزية بالآلة الطابعة قد زيَّنَها توقيعُها “بهائية” بالفارسية وخُتمت بخاتمها.

بدا كل شيء على الورق هادئًا، إلا أن عاصفة هوجاء كانت تعصف في قلب شوقي أفندي وعقله. كتبت الورقة المباركة العليا بأن شوقي أفندي ‘قد غادر في رحلة إلى أقطار متعددة.’ فسافر مع ابن خالته إلى ألمانيا لاستشارةٍ طِبّية. أذكر أنه أخبرني بأن الأطباء شخّصوا حالته بأنه كان يفتقد تقريبًا إلى رد الفعل اللاإرادي[24] مما اعتبروه خطيرًا للغاية. ومع ذلك، وجد نفسه يتعافى بعض الشيء في تلك الطبيعة النائية مثل ما حصل مع العديد من الآخرين قبله. بعد بضع سنوات، عام 1926، كتب إلى هيبوليت دريفوس، الذي كان يعرفه منذ الطفولة، وواضح أنه كان يعتبره صديقًا حميمًا يمكن أن يفتح له قلبه، كتب إليه يُعْلمه باستلام رسالته ‘أنا في طريقي إلى بيرنيز أوبرلاند[25]، التي أصبحتْ موطني الثاني. وسأحاول جاهدًا، وسط جبالها الفاتنة الشاهقة المنعزلة، أن أتناسى تلك المضايقات الشنيعة التي طالتني مدة طويلة… إنه أمر يحزنني جدًا أن أكون في وضعي الصحي الحالي لا أشعر بأي رغبة ولا حتى بالقدرة على مناقشةٍ جِدِّيةٍ لهذه المشاكل بالغة الأهمية التي تواجهني وأنت على اطّلاع بها. إن الأجواء السائدة في حيفا أصبحت لا تطاق، وتغييرها جذريًا أمر متعذّر. كما أن انتقال مركز خدماتي إلى مكان آخر أمر غير وارد وغير مرغوب فيه، وفي رأي الكثيرين هو عمل غير لائق على الإطلاق… لا أستطيع التعبير عن نفسي بأفضل من هذا لأن ذاكرتي عانت الكثير.’

في السنوات الأولى بعد صعود حضرة عبد البهاء، مع أن شوقي أفندي كثيرًا ما كان يسافر إلى أماكن عدة في أوروبا بولع لا يعرف الكلل، ليس كشاب يافع فقط بل رجلٍ يلاحقه دومًا كمٌّ هائل من الأعمال والمسؤوليات، إلا أنه اعتاد أن يعود مرة تلو الأخرى إلى تلك الجبال المُقفرة الشاهقة الشامخة بكبريائها وعُزْلتها.

هناك نسخ من مراسلات شوقي أفندي بالفرنسية مع شخص سويسري من أصل ألماني، اعتاد حضرته أن ينزل في بيته خلال العديد من فصول الصيف نجدها تُفصح بشكل واضح عن طبيعته وحبّه الشديد لمن يدعوهم ‘أُناسًا بسطاء طيّبين’ ومشاعره الرقيقة التي ميّزت شكلَ صداقاته في أغلب الأحيان. ففي إحدى رسائله نقرأ:

22 ديسمبر/ كانون الأول 1923

عزيزي السيد هاوزر[26]

استلمتُ بطاقتك اللطيفة، فأيقظ بداخلي منظر منطقة يونغفراو[27] والصورة الخلاّبة لبلدة انترلاكن[28] ذكرياتٍ لا تُنسى عن صداقتك ومودّتك وكَرَمِ ضيافتك خلال مدة إقامتي المؤقّتة الممتعة معكم. لن أنسى كل هذا أبدًا مقدِّرًا دائمًا هذه الذكرى مع مشاعر المحبّة والامتنان.

أرسل إليك بعض الطوابع البريدية آملاً أن تنال إعجابك.

أتمنى لك من كل قلبي، يا عزيزي السيد هاوزر، عامًا جديدًا سعيدًا، وحياة مديدة زاهرة مليئة بالمسرّات.

آملاً في لقائك ثانية ولن أنساك أبدًا.

بكل إخلاص – شوقي

في السنة التالية في 26 سبتمبر/ أيلول نراه يكتب له ثانية:

عزيزي السيد هاوزر

عُدت إلى موطني، وبعودتي كانت أول رسالة أردتُ أن أكتبها هي إلى عزيزي هاوزر الذي لن أنساه، والذي تحت سقفه عشتُ واستمتعتُ بمناظر سويسرا الخلاّبة وحظيتُ بحسن ضيافته التي لن تُمحى من ذاكرتي أبدًا.

فكلما تذكّرتُ تجاربي ومغامراتي المُرهقة، وما كان يتبعها من فترة راحة واستجمام يمنحها لي شاليه هوويغ[29] المريح المتواضع الذي لن أنسى سحر جماله أبدًا، كثيرًا ما تشدّني مشاعر الحنين إلى رؤيتك هنا يومًا بين عائلتي في منزلنا لأعبّر لك عن امتناني وصداقتي، وإذا كان ذلك مستحيلاً، أتعشّم أن تتذكروا دومًا تقديري ومحبتي.

وصلتني على التوّ طوابع بريدية إيرانية جديدة تحمل صورة الشاه الجديد. آمل أن تعجبك.

أتمنى لك من كل قلبي حياة مديدة سعيدة مزدهرة، وأن أراك ثانية في إنترلاكن في قلب ذلك البلد المحبوب.

صديقك المخلص على الدوام

في 18 ديسمبر/ كانون الأول كتب لهذا الصديق شاكرًا له إرساله البطاقات ومرسِلاً له ‘هدية تذكارية متواضعة عن مدينة حيفا المختلفة تمامًا وأقل جمالاً مقارنةً بالأماكن الجميلة في بلدك سويسرا ومناظرها الخلابة’، متمنيًا لـ ’صديقه العزيز الذي لن ينساه’ سنة جديدة مزدهرة.

كان هذا الصديق رجلاً سويسريًا عجوزًا يعمل دليلاً سياحيًا سبق أن استأجر شوقي أفندي في بيته الكائن في الشارع الرئيس غرفة صغيرة في علّية تحت رفرف السطح بمبلغ حوالي فرنك واحد في الليلة. كان سقف الغرفة منخفضًا لدرجة لم يستطع زوج خالته، وهو ضخم فارع الطول، أن يقف فيها منتصبًا عندما زاره للاطمئنان عليه. كان هناك في الغرفة سرير صغير، وحوضٌ وُضع بجانبه إبريق فيه ماء بارد للاغتسال. تقع بلدة انترلاكن في قلب بيرنيز أوبرلاند، وتُعتبر مُنطَلقًا لعدد لا يُحصى من النزهات عبر الجبال والوِهاد المحيطة. غالبًا ما كان شوقي أفندي يذهب في نزهته قبل شروق الشمس بوقت طويل مرتديًا بِنطالاً حتى الركبة وجاكيتّةً من طراز نورفُك[30] ويلفُّ حول ساقيه قماشًا صوفيًا أسود اللون، ثم ينتعل جزمة قوية للجبال واضعًا حقيبة صغيرة من قماش القنب الرخيص على ظهره وممسكًا بيده عصا. كان يستقلّ القطار ليصل إلى سفح أحد الجبال أو المعابر ويبدأ نزهته مشيًا على الأقدام، وغالبًا ما اعتاد أن يمشي وحيدًا مدة تتراوح بين عشر أو ست عشرة ساعة، وفي بعض الأحيان يرافقه أحد أقربائه الشباب الذي يصادف وجوده؛ ونادرًا ما كان بمقدورهم مجاراته في سرعة خطاه، فيلجؤون بعد بضعة أيام إلى اختلاق الأعذار لعدم مرافقته. من هذا المكان أيضًا تسلّق شوقي أفندي بعض الجبال الأكثر ارتفاعًا موصولاً بحبل مع دليله المرافق. استمرت هذه الرحلات عمليًا إلى حين زواجه. أتذكر عندما ذهبنا سويًا لأول مرة إلى انترلاكن في صيف عام 1937، اصطحبني شوقي أفندي إلى منزل هاوزر بقصد تعريفي، بصفتي زوجته، للرجل العجوز الذي كان شديد التعلُّق به، وهو الذي كان يستمع بكل اهتمام لكل أحاديث حضرته الحماسية عن سيره أو تسلُّقه في ذلك اليوم، ويُبدي إعجابه بمدى طاقة هذا الشاب وتصميمه الذي لا يعرف الكلل أو التعب، ولكن وجدنا أنه [الرجل العجوز] قد توفي. أخذني شوقي أفندي لنزور قبره في مقبرة صغيرة هادئة على الجبل. وكثيرًا ما كان حضرته يسرد لي هذه القصص عن سنواته الأولى في الجبال ويُريني هذه القمة أو تلك التي كان يتسلّقها، وهذا المَعْبر أو ذاك الذي قطعه مشيًا على الأقدام. أخبرني أن أطول مسافة قطعها ماشيًا كانت اثنين وأربعين كيلومترًا عَبْر ممرّيْن، وغالبًا ما كان يفاجئه هطول الأمطار، إلا أنه كان يمضي في طريقه إلى أن تجفّ ملابسُه وهي عليه. كان عاشقًا للمناظر الطبيعية، وأعتقد أن المشي المتواصل المُجْهد، الذي كان يستمر فيه ساعة بعد ساعة دون أن يستريح، قد عمل إلى حدٍّ ما على التئام جراح قلبه العميقة بفقدان المولى.

أخبرني شوقي أفندي كيف أنه عمليًا لم يكن يأكل شيئًا إلى أن يعود في الليل، وكيف اعتاد أن يذهب إلى فندق صغير (اصطحبني أحيانًا إليه وإلى المطعم البسيط نفسه) ويطلب طبقًا من البطاطا المقلية بالزبدة والبيض المقلي والسلَطة، فهي وجبة رخيصة تملأ المعدة، ثم يذهب إلى غرفته الصغيرة [في العلّيّة] تحت رفرف السطح ويُلقي بنفسه على السرير مُنهَكًا ثم يغطّ في النوم، واعتاد أن يستيقظ في الليل ليشرب ملء إبريق من مياه الجبل الباردة ويعود للنوم ثانية، إلى أن يدفعه قلق هذه الروح التي لا تهدأ فتوقظه لينهض ويخرج ثانية قبل طلوع الفجر. هناك أمر غريب مؤثّر للغاية حول الطريقة التي عاد فيها، في آخر صيف في حياته، إلى جميع تلك الأماكن الأحبّ إليه ليراها ثانية، وكأن ظلال أحد تلك الجبال الشاهقة قد امتدت نحوه تدعوه إليها. لم تكن تلك السنوات الأولى الأكثر حزنًا وكربًا على نفسه فحسب، بل كان فيها الأكثر قسوة على نفسه. كان يتبع نظامًا صارمًا طبّقه على نفسه ومَن معه. كان يضع جانبًا مبلغًا متواضعًا من المال، لا بل أقلَّ من متواضع، لفترة الصيف. وسواء أكان مع أحد أقاربه الذي يعمل مرافقًا وسكرتيرًا له، أو منضمًّا إليه بعض أفراد عائلته كما يحدث أحيانًا، فكان لهذا المبلغ أن يكفيه دون أن يضيف إليه شيئًا، ويغدو في اقتصاده أكثر حزمًا إذا ما كَثُر عدد زائريه. لم يسافر قطّ إلا بالدرجة الثالثة حتى عندما أصبح رجلاً في متوسط عمره. هناك مناسبات قليلة جدًا يمكن أن أتذكرها عندما ذهبنا بالقطار إلى مكان ما بالدرجة الأولى أو الثانية وكان ذلك فقط عندما كان القطار قذرًا جدًا أو مكتظًّا بالركّاب لدرجة يصعب فيها الجلوس بالدرجة الثالثة. فإذا كان السفر ليلاً اعتاد شوقي أفندي أن ينام على المقاعد الخشبية الصلبة متوسّدًا حقيبة ظهره، وهذا ما يفوق طاقة تحمّل أولئك الذين يسافرون معه. كان لحياته مستويان؛ واحد لنفسه بصفته رئيسًا للدين يرى فيه عامة الناس شرفَ الدين الرديف لشرفه، وآخر بصفته شخصًا عاديًا، بغير صفته الرسمية، لا يلزمه أن يظهر بغير طبيعته المتواضعة، رجلاً حيّ الضمير يأبى على نفسه أن يعيش في بذخ من الأموال التي وضعت تحت تصرفه نظرًا لمكانته العليا. لم يكن لأحد في العالم أن يحاسبه، وليس لبهائي على وجه البسيطة أن يسأله عما يفعل، بل هو الذي كان يسائل نفسه، وهو الذي كان رقيبًا صعبًا.

ومع تقدُّمه بالسن وقد أنهكَتْه أعباؤه أكثر فأكثر، أخذتُ أضغط عليه بقدر ما تسمح به جرأتي ليكون أقلّ قسوة على نفسه بعض الشيء أو أقل تدقيقًا؛ فيقبل على الأقل النزول في فندق لائق يوفّر له وسائل راحة متواضعة، وأن يقبل المعالجة الصحية أحيانًا، ويتمتَّع بغرفة لها حمّامها الخاص، وأن يتناول طعامًا أفضل نوعيةً وتَغْذِيةً طالما أنه يكتفي بوجبة واحدة يوميًا. هذا التغيير البسيط الجزئي في نمط حياته قد تقبّله فقط لأن ميللي كولنز، من فرط محبتها له، دأبت على تقديم بعض المال له قبل بدء سفره ‘للراحة والاستجمام’، وتوسَّلت إليه أن يصرفه على نفسه، وعلى أي شيء يريده. فقط بفضل إلحاحي وتوسّلي الشديد قَبِل تَقْدِمة ميللي النابعة من محبتها واهتمامها به شخصيًا، وأن يصرف جزءًا صغيرًا من المبلغ على نفسه – وينفق الباقي على شراء مستلزمات الحدائق والأماكن المقدسة ودار الآثار، وهو ما أدخل البهجة حقًا إلى قلبه، وبذلك يكون قد حقق قصد ميللي بطريقة أو بأخرى.

أخبرني شوقي أفندي أنه في بداية ولايته، وخلال فصل أو فصلين للصيف، ابتاع دراجة هوائية وتنقّل بها عَبر كثير من الممرات الجبلية. وكثيرًا ما كنت أَعجب كيف كان يصل البيت سالمًا – وهو ما كان يحصل باستمرار – وهو المعروف بحيويته وجرأته مع قلة درايته بالميكانيك! كان نموذجًا للفكر العقلاني، إلا أن ميله للآلات كان ضئيلاً، ومع ذلك كانت لديه القدرة أن يعمل بيديه أشياء ظريفة جدًّا إذا ما رغب.

بالرغم من انسحابه – وهو ما يلخّص في الواقع حقيقة غيابه الأول هذا عن الأرض الأقدس – فإن القُوى التي أطلقها شوقي أفندي للعمل بدأت تُؤتي أُكُلَها. في مؤتمر الوكلاء المركزي في أمريكا الذي عقد في إبريل/ نيسان 1922 ذكر أحد العائدين من زيارته للأرض الأقدس ما يلي: ‘كانت زيارتنا بدعوة من شوقي أفندي. التقينا في حيفا بأحباء من إيران والهند وبورما ومصر وإيطاليا وإنكلترا وفرنسا… لدى وصولي تملَّكَني انطباع قوي بأن الحق في عليائه مستوٍ على عرشه والكلُّ في أرضه على أحسن ما يرام… تشرفنا بمقابلة شوقي أفندي وهو يرتدي لباسًا أسود بالكامل بشخصيته المؤثرة. تفكروا في ما يمثّله اليوم! كل المعضلات المعقدة التي تواجه عظماء رجال الدولة في العالم تعتبر ألعابًا صبيانية مقارنةً بما يواجهه هذا الشاب من مشاكل عظمى تخصّ العالمَ بأسره… لا أحد يمكنه أن يكوّن صورة لما يعترض حضرته من صعوبات هائلة غامرة… إن المولى المحبوب لم يفارقنا، فروحه الملكوتية حاضرة بقوة وزَخَم أكبر… وفي مركز هذا الإشعاع [الروحي] يقف هذا الشاب شوقي أفندي. فالروح القدس تسري متدفقة من هذا الرجل الصغير. إنه في الحقيقة شاب فتيّ في وجهه وهيكله وسلوكه، إلا أن قلبه هو مركز العالم في هذا اليوم، ومنه تشعّ الصفات الرحمانية والروح الملكوتية. هو وحده الذي يستطيع… أن يخلّص العالم ويصنع حضارة حقيقية. كم هو متواضع حليم ومتفانٍ بحيث يؤثِّر فيك حالما تراه. خطاباته إعجاز. إنها حكمة الرب العظيمة أن منَحَنا تلك الطلعة البهية لتكون قطب الهداية لمواجهة المشاكل الصعبة – مشاكل هي، مثل مشاكلنا على نحوٍ كبير، تأتيه من جميع أطراف الأرض لتجد عنده الحل المناسب بأبسط الطرق… إن المبادئ العظيمة التي وضعها حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء أصبح لها الآن قواعدها في العالم الخارجي لملكوت الله على الأرض، وهي القواعد التي يعمل اليوم شوقي أفندي على إرسائها في حيفا بكل ثقة وعزم.’ ومما قاله شخص آخر من بين الذين دُعوا إلى حيفا للتشاور: ‘عندما يصل المرء إلى حيفا ويحظى بلقاء شوقي أفندي ويرى نتاج إعمال عقله وقلبه، وروحه المدهشة وكيف يفهم الأمور، يرى الإعجاز بعينه.’ كما روى الزائرون كيف أنهم سمعوا أن شوقي أفندي كان يأوي إلى فراشه في الساعة الثالثة فجرًا وينهض في السادسة صباحًا، وكيف أنه أمضى ذات مرة ثمانٍ وأربعين ساعة في عمل متواصل دون طعام أو شراب. وكان شوقي أفندي قد أرسل، مع أحد الزوار العائدين، باقة من زهور البنفسج هدية للأحباء المجتمعين في المؤتمر المركزي هناك مع محبته للجميع. وجاء في تقرير ذلك المؤتمر: ‘أصبح الآن واضحًا لدى الجميع أن تأسيس ملكوت الله على الأرض قد حان…’ لقد كانت نتيجةً للتعليمات التي أُعطيت للأحباء الأمريكيين الذين زاروا حيفا في الأشهر الأولى من عام 1922، أن انتخبَ مؤتمرُ الوكلاء المركزي هذا هيئةَ المحفل الروحاني المركزي ليحلَّ محلَّ ‘الهيئة التنفيذية لوحدة المعبد البهائي’ القديمة، وينطلق العمل في تدبير شؤون أمر الله في أمريكا الشمالية على أُسس جديدة تمامًا.

في خريف عام 1922 قامت الورقة المباركة العليا، وقد أحزنها كثيرًا غياب شوقي أفندي الطويل، بإرسال بعض أفراد عائلته ليلاقوه ويرجوه الرجوع إلى الأرض الأقدس. في شارع قرية صغيرة وسط الجبال، وبينما كان شوقي أفندي عائدًا في المساء من إحدى جولاته ماشيًا طول النهار، وجد لفرط دهشته والدته وقد جاءت من مكان بعيد، من فلسطين، تبحث عنه ومعها أحد أفراد عائلة المولى، وبدموع منهمرة أخبرته بمدى حزن بهائية خانم وأَلَمها، يشاركها في ذلك أفراد العائلة المباركة والأحباء، واقنعته أن يسارع في العودة ويتولّى مهامّ منصبه الشرعي.

ورد خبر في مجلة الأخبار البهائية في أمريكا، “نجمة الغرب”، يقول بأن ‘شوقي أفندي… قد عاد إلى حيفا بعد ظهر يوم الجمعة في 15 ديسمبر/ كانون الأول مكلّلاً بالصحة والسعادة واستأنف مهامّه كوليّ لأمر الدين البهائي، وهي الوظيفة التي أنيطت به بموجب ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.’ وعكست خطاباته وبرقياته الخاصة فيما بعد ذلك التغيير في حالته. فبعد يومين من عودته كتب إلى الأحباء في ألمانيا يقول: ‘إن عدم تمكُّني من أن أكون على اتّصال وثيق ودائمٍ بكم، لظروف محزنة خارجة عن إرادتي… قد سبّب لي مفاجأة مؤلمة وأشعرني بأسف عميقٍ مرير…’ إلا أنه يسترسل ويقول بأنه الآن ‘قد رجعتُ إلى الأرض الأقدس بقوة متجدِّدة وروح منتعشة.’ وفي اليوم نفسه كتب إلى الأحباء في فرنسا: ‘الآن وقد انتعشتْ روحي وعاد لي اطمئناني، أعود لاستئناف واجباتي الشاقة.’ وكتب أيضًا إلى الأحباء اليابانيين: ‘أَمَا وقد انتهت ساعات خُلْوتي بنفسي وتأملاتي الطويلة’؛ ويقول بأنه لم يشكّ أبدًا بـ’أن انسحابي المفاجئ من ميدان الخدمة الفعّال… لن ينال من أمانيكم أبدًا.’ كما أوضح تمامًا أن تلك ‘الغيبة المفاجئة’ كانت بالنسبة إليه ضرورية؛ فكتب إلى أحباء أمريكا في 16 ديسمبر/ كانون الأول 1922: ‘رغم أن هذه الفترة كانت طويلة… إلا أنني شعرتُ بقوّة منذ أن طلع عليّ فجر هذا اليوم الجديد، أن هذه الخلوة الضرورية، رغم الانفصال المؤقت الذي قد يتأتّى عنها، إلا أن نتائجها تفوق كثيرًا أي خدمة فورية كنت أستطيع أن أُقدِّمها بكلّ تواضع للعتبات المقدسة لحضرة بهاء الله.’ في عزلته تلك، أحيا شوقي أفندي الذكرى السنوية الأولى لصعود المولى؛ فوجوده في حيفا، في جوِّ مناسبةٍ كهذه، وفي مرقد حضرة عبد البهاء، كان على الأرجح أمرًا يفوق طاقة تحمُّله في السنة الأولى لولايته.

‘بمشاعر الثقة المفعمة بالابتهاج’ كما عبّر عنها، ألقى شوقي أفندي الآن بنفسه في معترك عمله. وهكذا عادت إليه واحدة من خصائص طبيعته الأصيلة، والتي كانت قد دفعت أحد الأحباء، وهو طالب يدرس في بيروت، لأن يكتب إليه قائلاً: ‘إن وجهك البشوش لا يفارقني أبدًا.’ وهذا ما انعكس واضحًا في رزمة برقيات أرسلها حضرتُه بالفعل إلى البهائيين في العالم في 16 ديسمبر/ كانون الأول 1922، بعد رجوعه من غيبته بيوم واحد، أقتطف منها النص الأصلي كما ورد في ملفاته الخاصة:

إلى إيران:

‘إن دعائي الحار، وأنا أدخل ميدان الخدمة من جديد، أن يهب رب الجنود فرسانه البواسل في تلك الأرض المكرَّمة بركة جديدة.’

إلى أمريكا:

‘إن مسيرة تقدم الأمر المبارك لم يكن ولن يكون لها أن تتوقف أبدًا. أسأل العلي القدير أن تقودها جهودي التي تجدَّدت الآن وانتعشت، مقرونة بدعمكم الذي لا يفتُر، إلى انتصار مجيد.’

إلى بريطانيا العظمى:

‘بما أَنْعُمُ به الآن من سلوان وقوّة أضمّ جهودي المتواضعة إلى مجهوداتكم التي لا تعرف الكلل في سبيل أمر حضرة بهاء الله.’

إلى ألمانيا:

‘إنّني، وقد كنت متّحدًا معكم حتى اليوم بأفكاري وتأمّلاتي، أضيف الآن بسرورٍ مفعمٍ بالأمل رباطًا آخر من المشاركة الفعّالة في خدمةٍ مدى الحياة لدى عتبة حضرة بهاء الله.’

إلى الهند:

‘عسى أن يبرهن اتّحادنا من جديد في معترك الخدمة المجيد أنه بشير انتصارات مظفّرة في الميدان الروحاني لذلك القطر.’

إلى اليابان:

‘بنشاط متجدّد واطمئنان راسخ أمدّ لكم عبر البحار البعيدة يد التعاون الأخوي في خدمة أمر البهاء.’

إلى العراق:

‘بحماس متّقد وقوة متجددة أنتظر الآن سماع بشاراتكم السارّة وأنا في الأرض الأقدس.’

إلى تركيا:

‘بعد عودتي إلى هذه البقاع المقدسة، أمدّ لكم يد الزمالة والخدمة لدين حضرة بهاء الله.’

إلى فرنسا:

‘أتطلّع إلى استلام بشاراتكم السارة وأنا في الأرض الأقدس.’

وفي 18 ديسمبر/ كانون الأول أبرق:

إلى سويسرا:

‘بعودتي السعيدة إلى الأرض الأقدس أرجو أن تؤكدوا لأحبائي السويسريين تعاوني الذي لا يفتر.’

وفي 19 ديسمبر/ كانون الأول أرسل البرقيتين التاليتين:

إلى إيطاليا:

‘بعودتي إلى الأرض الأقدس بلّغوا أحباء إيطاليا أطيب تمنياتي.’

إلى السيدة دَن (Dunn)

‘أنتظر بخالص المحبة سماع البشارات السارة عن الأحباء في أستراليا وأنا في الأرض الأقدس.’

كما أرسل شوقي أفندي أيضًا برقيات إلى بعض أقاربه عكست بوضوح تصميمه وحماسه ومسحة من حيوية شبابه التي تنفذ تلقائيًا إلى القلب بالتعاطف نحوه. ففي 18 ديسمبر/ كانون الأول أبرق إلى إحدى خالاته التي كانت في زيارة لمصر قائلاً: ‘أُمسك بزمام الأمور بإحكام تامّ. أتحرّق شوقًا لرؤيتكِ. طمئنيني عن صحتِك.’ وفي اليوم نفسه أبرق إلى ابن خالته قائلاً: ‘لقد عُدتُ إلى ميدان الخدمة ثانية. كلّي ثقة بتعاونكَ الذي لا يفْتُر.’ وإلى آخَرَ من أبناء خؤولته بعيد النسَب أبرق في اليوم التالي يقول: ‘… كلي ثقة بتعاونك الأخوي.’

كونه منهجيًا جدًا بطبيعته، احتفظ شوقي أفندي في بداية سنوات ولايته بمدوّنات كاملة تقريبًا، وبنسخ طبق الأصل عن الرسائل المرسَلة. إلا أن ضغط العمل والمشاكل منعته فيما بعد من متابعة ذلك إلا من برقياته التي احتفظ بنسخ عنها حتى آخر حياته مرقّمة ومؤرخة بالسنوات. فقد أعدّ قائمة بسبعة وستين مركزًا في الشرق والغرب كتب إليها خلال أشهر إقامته بالأرض الأقدس عام 1922. وخلال الفترة من 16 ديسمبر/ كانون الأول 1922 إلى 23 فبراير/ شباط 1923، ثبّت في سجلاته أسماء (132) منطقة كتب لها، وكتب لبعضها أكثر من مرة. في رسالة مؤرخة 16 ديسمبر/ كانون الأول 1922 كتب يقول: ‘… أنتظر الآن بغاية الشوق بشارات تقدُّم الأمر الإلهي المُفرِحة، واتساع نطاق نشاطاتكم. ولن أدّخر جهدًا في إشراك المؤمنين هنا وفي البلدان الأخرى بأنباء تقدم مسيرة الأمر المبارك السارّة المرحَّب بها.’ لقد غطّتْ مراسلاتُه خلال تلك الفترة (21) بلدًا و(67) مدينة، ولكنه لا يبدو أنه كتب لأكثرَ من عشرين شخصًا كان العديد منهم من غير البهائيين. فالبلدان التي راسلها منذ بداية ولايته شملت: إيران، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، السويد، سويسرا، الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، أستراليا، جزر المحيط الهادئ، اليابان، الهند، بورما، القوقاز، تركستان، تركيا، سوريا، بلاد ما بين النهرين، فلسطين ومصر.

بعد يوم على وصوله حيفا في ديسمبر/ كانون الأول 1922، وبما في طبيعته من وعْيٍ وحماس متّقد، جلس شوقي أفندي وكتب إلى أحبائه في بريطانيا يقول:

اخواني وأخواتي الأعزاء في دين الله

في مستهلِّ أوّل رسالة إليكم، اسمحوا لي أن أنقل إلى قلوبكم، بكلمات مهما كانت قاصرة إلا أنها بالتأكيد صادقة تنمّ عن مشاعر عميقة، مدى تلهّفي خلال أيام عزلتي لأن أعود على وجه السرعة وأضمّ يدي إلى أيديكم في العمل العظيم من أجل استحكام أمر الله، وهو العمل الذي ينتظر كل مؤمن مخلص غيور لدين حضرة بهاء الله. الآن، والسعادة تغمرني وقد عدت إلى موقعٍ أستطيع فيه القيام بواجباتي المتشعّبة والإمساك بزمام الأمور بتواصل وبكل حيوية ونشاط، فإن مرارة خيبة الأمل التي كانت تنتابني مرة بعد أخرى خلال تلك الشهور المرهِقة لشعوري بأنني لست مهيأً بعدُ، قد غاصت الآن وانصهرت في حلاوة هذه الساعة عندما تحققتُ من لياقتي الروحية والجسمانية على تحمُّل أعباء المسؤوليات تجاه الأمر المبارك بشكل أفضل… أجد لِزامًا عليّ أن أخبركم كم كنت أشعر بالامتنان والرضا لدى سماعي خبر تشكيل ‘هيئة مركزية’ هدفها الرئيس توجيه نشاطات الأحباء المختلفة والتنسيق في ما بينها بكل انسجام…

ويختم خطابه هذا مؤكِّدًا لهم أنه بـ ’مشاعر المحبة والمودّة وهمّته المتجددة’ ينتظر بغاية الشوق سماع أخبارهم، ويوقّع بكل بساطة ‘أخوكم شوقي’. وفي خطاب آخر مؤرخ في الثالث والعشرين من الشهر نفسه كتب يخبرهم: ‘في الأيام القليلة الماضية كنت أتحرّق شوقًا لاستلام أُولَى رسائل أحبائي الغربيين الخطّية التي أرسلوها لي حالما علموا بعودتي إلى الأرض الأقدس.’ ويذكر بأن أول رسالة استلمها من الغرب كانت من أحد الأحباء الإنكليز، ويسترسل بقوله: ‘يحدوني أمل بكل إخلاص، وأنا الآن بكلّيتي أدخل معترك مهمتي من جديد، علّني أكون قادرًا على تقديم نصيبي المتواضع من المساعدة وإسداء النصح في العمل الهام جدًا الماثل أمامكم الآن.’ وفي رسالة شخصية إلى قريب له كُتِبتْ في 20 ديسمبر/ كانون الأول 1922 يعبّر فيها عما في أعماقه من مشاعر: ‘حقًا إن مهمتي ضخمة هائلة، ومسؤولياتي جسيمة متشعبة، إلا أن الاطمئنان الذي تمنحني إياه كلمات المولى الحكيم في عملي لهو درعي وسندي في العمل الذي يكشف عن نفسه الآن أمام ناظري.’

في أول رسالة له للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في امريكا المنتخَب حديثًا مؤرخة 23 ديسمبر/ كانون الأول كتب يقول: ‘أن أكون غير قادر على مراسلتكم منذ أن باشرتم مهامّكم الشاقة المتشعّبة، بسبب ظروف غير متوقعة ويتعذر عليّ تجنبها، كان بالنسبة لي سبب أسف عميق وصدمة محزنة.’ تلك كانت كلمات رجل خرج من أعماق كابوس، وتعكس عمق هُوّة الرزية التي وقع فيها في السنة الماضية من حياته. ويمضي إلى القول: ‘ومع ذلك، فأنا مطمئن وثابت، بفضل إيماني الذي لا يبارح فكري ولا يعتريه الفتور أبدًا بأن كل ما يجري لأمر الله، مهما كان مُقلِقًا في تأثيره المباشَر، إنّما هو حقًا مفعم بالحكمة الإلهية اللامتناهية ويؤول في النهاية إلى ترويج مصالحه في هذا العالم.’

في هذه الرسائل المبكرة دعا شوقي أفندي المحافل الروحانية أن تكتب له، وأن تُعْلمه بـ’حاجاتها ومتطلباتها ورغباتها وعن خططها ونشاطاتها’، علّه يستطيع ‘من خلال دعائي ومؤازرتي الأخوية أن أساهم، ولو بالقليل، في إنجاح مهمتهم المجيدة في هذا العالم.’ ويُعرب عن امتنانه العميق لهم على أسلوبهم في تنفيذ ‘اقتراحاتي المتواضعة’، كما يؤكد للأحباء على ‘تعاونه الأخويّ الذي لن يضعف أبدًا.’

ما إن علم الأحباء، من برقياته المرسَلة، أن ولي أمر الله قد عاد إلى حيفا، حتى تدفّق عليه سيل من الرسائل من جميع أنحاء العالم. ومع أنه كان يبدو أمرًا مُطَمْئِنًا، إلا أنها وضعت شوقي أفندي في مأزق خطير، وهو ما بيّنه واضحًا في رسالة كتبها خلال السنوات الأولى من ولايته إلى ابن خالة له بعيد النسَب قائلاً: ‘إن إحدى أكبر مشكلاتي الملحّة تتمثل في المراسلات الفردية؛ إنه تطاول وتجرّؤ من جانبي أن أقلّد المولى [في الردّ والكتابة]، عدا عن أنه أمر غير عملي نظرًا للتوسع السريع لأمر الله. أما أن أُراسل بعض الأحباء بصفة شخصية دون الكتابة للآخرين، فإنني واثقٌ من أنه سيؤدي، كما تعلم، وبالتدريج، إلى الخِلاف وتثبيط الهمم، لا بل إلى العداوة والحقد؛ فأنت تعلم تمامًا ذلك الرهط من الأحباء ممن يتوقّعون الكثير ويفعلون القليل. وأن أنقطع عن مراسلة أفراد الأحباء بالكلية، معتمدًا على الرسائل غير المباشرة التي يكتبها بالنيابة عني مساعديّ ومَنْ يرافقني، مكرِّسًا جُلّ وقتي للمراسلات المباشرة مع المحافل الروحانية في أنحاء العالم، فهذا أيضًا يشكّل مشكلة صعبة. أُقدّر لك حقًّا وجهة نظرك فيما يتعلق بهذه المعضلة الشائكة. فالخَيار الأخير أرى فيه الرفض الواضح لتناوُل كافة العلاقات الشخصية مع أفراد الأحباء.’ في يناير/ كانون الثاني 1923 كتب ولي أمر الله إلى الأحباء في ألمانيا أنه بالنظر إلى ‘تسارع التوسّع الرائع للأمر المبارك في أنحاء العالم’ فلن يكون بمقدوره مراسلة كافة أفراد الأحباء في الشرق والغرب فرديًا لأن ذلك ‘سيتطلب من جانبي الكثير من الوقت والجهد مما يعوقني عن الانصراف بشكل وافِ إلى واجباتي الأخرى الملحّة والحيوية جدًا في هذه الأيام، لذا عليّ أن أرتضي، ولو على مضض، بالتراسل المباشر مع كل مجموعات الأحباء في كافة المراكز الأمرية، أكانت في المدينة أم القرية… وتنسيق… نشاطاتهم من خلال المحفل الروحاني المركزي…’ وفي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه كانت هذه المشكلة لا تزال تُقْلقه، فنجده يكتب للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في بريطانيا بأنه يولي الموضوع ‘جل عنايته وانتباهه’ ويؤكد له أنه ‘ما من رسالة محرّرة تصلني، مهما كانت غير مهمة، تُفَضّ أو تُقرأ من شخص سواي.’ ونراه في عام 1926 يكتب قائلاً: ‘أنا في غاية الحيرة والانشغال بحيث يصعب عليّ إيجاد أي وقت للمراسلات المباشرة.’

لعدة سنوات، بل بالأحرى طيلة ست وثلاثين سنة، ظلّ ولي أمر الله تُقلقه مسألة كيف سيجد الوقت للرد على الرسائل الواردة. وأخيرًا قرر ألا يتوقف عن الرد على رسائل الأفراد خاصة في الغرب وفي بلدان تضمّ مؤمنين جُددًا لأنه تبيّنَ له، نتيجة تجربة مؤلمة، أن المحافل الروحانية لم تكن دائمًا في مستوى الحكمة المطلوبة في التعامل مع الأفراد بطريقة تُلئم جراحهم وتبقيهم نشيطين فاعلين في الأمر المبارك. إلا أن مراسلاتٍ كهذه مع الأفراد ما كانت تتقبلها الهيئة المركزية بارتياح دائمًا، ذلك لأنها عندما تجد شخصًا قد تلقّى حقيقةً هامة من ولي أمر الله، ينتابها شعور بأنها هي التي يجب أن تكون القناة الرسمية الوحيدة لتلك المعلومة. ففي رسالة كُتبت بالنيابة عن ولي أمر الله من قبل سكرتيره إلى محفل روحاني مركزي عام 1941، نجده يشرح سياسته في مثل هذه الأمور بقوله: ‘لقد صرّح شوقي أفندي مرارًا للأحباء في كل جزء من العالم أن البهائيين أحرار تمامًا في الكتابة إليه في أي موضوع يشاؤون. وبالمثل بطبيعة الحال، فإن له مطلق الحرية في الردّ بأي طريقة تروق له. وكون مؤسسات الأمر الإلهي في الوقت الحاضر لا تزال في بداية أعمالها، يرى حضرته أنه من الضروري الاستمرار في تلك المراسلات الكثيفة رغم أنها تأتي فوق أعبائه الثقيلة الأخرى. فأحيانًا كان أوّل تلميحٍ يتلقاه حضرته حول خطوة هامة قد تؤثر على مصالح الأمر المبارك بطريقة أو بأخرى، يأتيه في رسالة لأحد الأفراد بدلاً من محفل روحاني؛ من البديهي أنه من الأفضل أن تأتيه معلومة كهذه من الهيئة الإدارية، إلا أنه مهما كان مصدر المعلومة فإن همّ ولي الأمر الوحيد هو مصلحة الأمر المبارك وسلامته. فعندما يرى حضرته أن خطوة معينة ستُلحق ضررًا ما، يبادر إلى إرسال وجهة نظره في رسالة جوابية، وله في هذا مطلق الحرية.’

كتب شوقي أفندي إلى تيودور بول عام 1923 قائلاً: ‘أنا الآن تعافيتُ تمامًا، ومنشغلٌ جدًا في عملي في الوقت الحاضر.’ إلا أن المراسلات كانت أبعد من أن تكون نشاطه الوحيد، فقد كان أيضًا ‘منشغلاً بخدمة مختلف القادمين لزيارة هذه البقعة المقدسة في هذه الأيام.’ كان من عادته في هذه الأيام المبكرة من ولايته أن يعقِد اجتماعات منتظمة في بيت حضرة عبد البهاء. ففي رسالة في ديسمبر/ كانون الأول 1922، وبعد عودته إلى حيفا بخمسة أيام نجده يكتب: ‘أشركتُ الزائرين الأعزاء والأحباءَ المقيمين في الأرض الأقدس، الذين أُقابلهم وأجتمع بهم بانتظام في قاعة الاستقبال الخاصة بالمولى، بكامل أخباركم.’ وبالإضافة إلى ما كان يوليه من اهتمام براحة ضيوفه، وتناوله الطعام مع الزائرين الغربيين في دار الضيافة المخصص لهم والمقابل لبيت المولى، وزيارة مقامَيْ حضرة الباب وحضرة عبد البهاء مع الأحباء الشرقيين وتناول قدحٍ من الشاي معهم في أغلب الأحيان في دار ضيافة المسافرين الشرقيين المجاور [للمقام الأعلى]، كان شوقي أفندي يكرّس بالفعل الكثير من وقته واهتمامه في تحسين وتوسعة المركز العالمي للدين. ففي 9 إبريل/ نيسان 1922 بُدئ العمل في دار الضيافة الجديد للمسافرين الغربيين ضمن خطط وضعها حضرة عبد البهاء أيام حياته ويقوم على تنفيذها الآن شوقي أفندي بكل همّة ونشاط. وفي اليوم الأول من عيد الرضوان، ومع أن شوقي أفندي كان قد غادر حيفا، إلا أن الأضواء الكهربائية تشعشعت أنوارُها في المقام الأعلى لحضرة الباب وفي الروضة المباركة لحضرة بهاء الله معًا لأول مرة طبقًا للترتيبات التي وضعت قبل صعود المولى، ولكن، مرّة أخرى، بإشراف شوقي أفندي نفسه. كان حضرته في وقت سابق قد تناقش مطوّلاً مع السيد ريمي خلال زيارته في شهر مارس/ آذار 1922، في مختلف الإمكانيات من أجل تشييد بناء نهائي لمرقد حضرة عبد البهاء، وموقع مشرق الأذكار على جبل الكرمل في المستقبل، وفي خطة شاملة لتحسين المنظر الطبيعي للممتلكات الأمرية هناك.

يمكن أن نصف هذه الأعمال بأنها من أكثر أوجه عمله مُتْعةً في اضطلاعه بمسؤولياتِ مَنْصِبِهِ الرفيع رغم أنها كانت تتطلّب منه قدرًا كبيرًا من الوقت والجهد. إلا أن ما كان يُثقِل كاهله حقًّا، ويفوق كل احتمال، أعمالُ الناقضين. فبعد يوم من عودته إلى حيفا كتب يقول: ‘لقد… تحققت بالفعل بشكل مذهل وعود حضرة عبد البهاء الرهيبة بخصوص الناقضين.’ وظلّ الوضع يزداد خطورة طول الوقت، إلى أن وجد من الضروري أن يُبرق إلى أحباء أمريكا في شهر فبراير/ شباط 1923 قائلاً: ‘أرسلوا لي رسائلكم كلها بالبريد المسجَّل. أَعلِموا الأحباء’، مُبديًا اهتمامًا واضحًا بأن يصله البريد الخاص به بكل أمان. وفي يناير/ كانون الثاني كتب إلى حسين أفنان قائلاً: ‘أفترض أنك توصّلتَ، بما تجمّع لديك من خبرة سابقة، بأنني أقف مؤيِّدًا الإخلاص المطلق والعدالة الحقّة في جميع الشؤون الخاصة بأمر الله، وتعرف موقفي الرافض للمساومة مع الناقضين أعداء الأمر. فالله وحده هو الذي سيحبط مساعيهم المتواصلة وأعمالهم الدنيئة.’ إن الرجل الذي كُتبت له هذه الرسالة، وهو حفيد حضرة بهاء الله وابن أخت حضرة عبد البهاء، قد أصبح من الناقضين البارزين بعد ذلك بوقت قصير، وإخوانه الثلاثة هم الذين تزوجوا من ثلاثة من حفيدات حضرة المولى؛ اثنتان منهن شقيقتان لولي أمر الله نفسه، وبهذه المصاهرة نُسِجت على هذا النحو شبكة معقّدة من المشاعر العائلية والغدر والخيانة والكراهية أُقحمت فيها في النهاية عائلة حضرة عبد البهاء بالكامل، وبذلك فقَدَ شوقي أفندي جميع أقاربه. وهنا نرى أنه، من خلال ولي أمر الله الشاب طاهر السريرة، تتألق أنوار رجل دولة صلب، حامي حمى الدين بظله الممدود والمدافع الأمين الذي خلّفه حضرة عبد البهاء لأتباعه كأعظم هدية لهم وأعزّ ما كان يملك. وفي نهاية الرسالة نفسها يؤكد له شوقي أفندي قائلاً: ‘بقلب نقيٍّ صافٍ أتطلع بلهفة إلى تلك الدلائل التي سوف تكشف عن رغبتك الصادقة وعزمك الأكيد في دعم ما جاء في ألواح وصايا المولى مجتنبًا ناقضي العهد والميثاق بشتى السبل.’ وبكلمات شوقي أفندي نفسه، فإنه ‘وسط غبار ولهيب تلك الهجمات التي كان يشنّها عدو متربّص لا ينام’ كان على شوقي أفندي أن يواصل أعماله.

كان وضع الأمر المبارك آنذاك يستدعي بالضرورة إقامة علاقات دقيقة مع سلطات الانتداب. فحضرة عبد البهاء كان شخصية معروفة تمامًا ومبجّلة إلى أبعد الحدود، مع أنه من المستبعد أن كان لدى أيّ من سكان فلسطين ولو لمحة بسيطة عن المضامين الواسعة ‘للحركة’ البهائية، كما كان يُشار إليها في الغالب في تلك الأيام الأولى، والتي تقبّلوا حضرته كرئيس لها. في 19 ديسمبر/ كانون الأول 1922 أبرق شوقي أفندي إلى المندوب السامي في فلسطين بمقرّه في القدس قائلاً: ‘أرجو أن تتقبلوا أطيب تمنياتي وتحياتي الودية مع عودتي إلى الأرض الأقدس لأستأنف مهامي الرسمية.’ كانت هذه البرقية خطوة محسوبة بدقة من جانب شوقي أفندي، ومن باب المجاملة أيضًا، إذ جاءت وسط الأجواء الملبّدة بالإشاعات والأقاويل التي أطلقها الناقضون بلا شك وغذّوها بحماس حول فترة انسحابه التي استمرت ثمانية أشهر.

مع كل ذلك، كان أعظم ما يُشغل بال شوقي أفندي الروضة المباركة لحضرة بهاء الله في البهجة. فقد كانت مفاتيح المرقد الداخلي لا تزال في حوزة السلطات؛ أما حقُّ دخول الأقسام الأخرى من المقام فممنوح للبهائيين والناقضين على السواء؛ وبقي الحارس البهائي يعتني بها كما كان من قبل، وكل قرار اتُّخذ بدا بحكم المعلَّق. لم يعرف شوقي أفندي أبدًا طعمًا للراحة إلا بعد أن نجح في استعادة حق الوصاية على المرقد المقدس وتسلُّم مفاتيحه بيده وذلك بفضل احتجاجاته أمام السلطات مدعومة بضغوط شديدة متواصلة من قبل البهائيين في أنحاء العالم. في 7 فبراير/ شباط 1923 كتب إلى تيودور بول يقول: ‘كان لي حديث مطوَّل مع العقيد سايمز وشرحتُ له بالكامل وضع الشؤون البهائية بالضبط، وأن الجامعة البهائية بأسرها ترفع صوتها الواضح المُجلجِل بتصميم لا ينثني في تمسّكها بألواح وصايا حضرة عبد البهاء. هذا وقد أرسل العقيد مؤخرًا رسالة إلى ميرزا محمد علي يطلب منه دفع مبلغ (108) جنيهات تسديدًا لنفقات حراسة الشرطة [للمرقد المقدس] مبيِّنًا بأنه كونه المعتدي يتوجب عليه دفع النفقات، إلا أن محمد علي لم يستجب لطلبه حتى الآن. أنتظرُ تطورات المستقبل بقلق بالغ.’

وفي اليوم التالي استلم شوقي أفندي برقية من ابن خالته في القدس يقول فيها:

إلى صاحب المقام الرفيع حضرة شوقي أفندي رباني – حيفا

وصلت الرسالة. اتُّخِذت خطوات فورية. القرار النهائي للمندوب السامي في صالحنا. أصبح المفتاح ملكك.

إن الرسالة المذكورة آنفًا كانت من السكرتير العام للإدارة الفلسطينية السير غيلبرت كليتون[31] إلى المندوب السامي البريطاني. وكان شوقي أفندي سبق وأخبر تيودور بول في رسالة أخرى بأن علاقة متينة تربطه بحاكم حيفا العقيد ستيوارت سايمز[32]، وأنه سبق وأن قابل السير غيلبرت أيضًا. إلى هذه الاتصالات دون شك يرجع الفضل في إصدار السلطات قرارها لصالح ولي أمر الله. وهكذا أعيد المفتاح رسميًّا إلى الحارس البهائي الشرعي القائم على رعاية المرقد المبارك بعد أن انتُزِع منه عنوة قبل أكثر من سنة.

ومع أن سلامة قِبْلَة أهل البهاء في العالم قد ضُمِنت الآن مرّة وإلى أبد الدهر، إلا أن البيت الذي سكنه حضرة بهاء الله في بغداد كان لا يزال بحوزة الشيعة أعداء الأمر الإلهي، واستمر كذلك حتى وقتنا الحاضر، ومعركة استعادة وصايته البهائية ظلت مصدر قلق وجهد دؤوب بذله شوقي أفندي طيلة سنوات عدة.

كلما أراد المرء أن يدخل في تفاصيل أي فترة محدّدة من حياة ولي الأمر يجد نفسه مدفوعًا إلى القول: ‘إنها الفترة الأسوأ’. لقد كانت ولايته بأكملها مشحونة جدًا بالتوتُّر والمشاكل والضغوط التي يصعب تحمّلها. إلا أن هناك نمطًا يُتّبع، وهناك أمور هامة[33] بلغت درجات من الارتفاع والهبوط، فنمط السنوات 1922، 1923، 1924، وبقدْر ما يتعلق الأمر بحياته الشخصية بالذات، كان هذا النمط يَظهر على شكل محاولة بطولية للإمساك بزمام هذا اللوثيان[34] – أمر الله – الذي أُمِر بقيادته. إلا أنه مرة بعد أخرى كان هذا اللوثيان يرميه عن ظهره بعيدًا فتمزِّقه آلام الشك باستحقاقه أن يكون خليفة حضرة عبد البهاء، ويدخل في صراع مع نفسه، شأنه شأن العديد من الأنبياء والأصفياء المختارين من قبله. في أعماق نفسه كان يحاور قَدَره محتجًّا على قسمته مناشدًا ربّه أن يفرّج كربه – ولكن دون طائل. فلقد أمسكتْ به بإحكام خيوط شبكة ألواح وصايا المولى الجبارة. كثيرًا ما كان يلمّح إلى ذلك في رسائله بقوله: ‘إن العاصفة والإجهاد الذي هزّ حياتي منذ صعود حضرة عبد البهاء…’ ‘من ناحيتي، وأنا أنظر إلى الوراء… إلى الظروف التعيسة من اعتلال الصحة والإنهاك الجسدي الذي رافقني في بداية سنوات عملي في خدمة أمر الله، قليلاً ما أشعر بالرضا، وقد يغلب عليّ القنوط والاكتئاب لولا الدعم الذي أستمدّه حينما أتذكّر ذلك المَثل الذي يُلهب حماسي في شواهد الجهود المضنية المتواصلة التي بذلها شركائي العاملون في أنحاء العالم خلال هاتيْن السنتيْن المرهِقتيْن في خدمة أمر الله.’ وفي رسالة أخرى كتب يقول: ‘… بنظرة إلى الوراء، إلى الأيام الكئيبة في عزلتي، ومرارة الشعور بالغمّ والقلق… بمقدوري أن أتخيّل تمامًا درجة الصعوبة، لا بل مقدار الحزن والبلاء الذي هزّ العقل والروح لدى كل خادم محبّ مخلص للمحبوب خلال تلك الأشهر الطويلة التي اتّسمت بالترقُّب والصمت المؤلم…’

إن كون حالته هذه، وما اعتبره من ناحيته عجزًا في النهوض بمهامّ المقام الذي وضعه فيه المولى بصعوده، قد آلمه أكثر من أي شيء آخر لسنواتٍ عِدّة، نجده قد انعكس في مقتطفات في بعض ما جاء في رسائله. ففي أواخر شهر سبتمبر/ أيلول 1924 كتب يقول: ‘إنني جِدُّ حزين بسبب الأثر المزعج الذي سبّبه انسحابي المتكرر من ميدان الخدمة مرغَمًا… إن غيابي الذي طال، وانقطاعي كليًا عن العمل، يجب ألا يُعزى فقط، بأي حال من الأحوال، إلى مظاهر خارجية معيّنة من قبيل عدم التوافق والانسجام، أو الاستياء وعدم الوفاء – كيفما كان تأثيرها معيقًا لاستمرار عملي – بل أيضًا إلى عدم استحقاقي، وإلى نقائصي وضعفي.’ إن مهمته الأصعب كانت منذ البداية في تقبُّل نفسه [في الوضع الجديد كوليّ لأمر الله].

في بداية صيف 1923 غادر شوقي أفندي حيفا مرة أخرى إلى سويسرا طلبًا للسلوان واستعادة بعض صحته في عزلة جبالها الشاهقة. كانت رحلته هذه انقطاعًا تامًا آخرَ، على عكس ما كانت عليه رحلاته في سنوات لاحقة، والتي كان فيها على اتصال دائم بمجريات أعمال الأمر الإلهي بواسطة رسائله وبرقياته. كانت رحلته هذه هروبًا إلى البراري، وبحثًا في أعماق روحه، وتواصلاً مع نفسه ومع قَدَرِه ملتمسًا القوة والعزم حتى يعود إلى القيام بواجبات منصبه الرفيع. عاد شوقي أفندي إلى حيفا في نوفمبر/ تشرين الثاني 1923، وفي الرابع عشر منه كتب إلى أحباء أمريكا رسالة يُعْلمهم فيها بعودته من غيابه ‘الاضطراري’، تضمّنت رسالته جملة تعطي لمحة عمّا كان يدور في خلده في تلك الفترة قائلاً: ‘إن الحقائق الرائعة الاستثنائية التي كشفتها ألواح وصايا المحبوب، المُذهلة للغاية في كل جوانبها، والقوية الواضحة في أوامرها، قد تحدّت جهابذة العقول وحيّرتها…’ فهل بمقدور أحد أن يشكّ أنها حيّرت عقله أيضًا؟ بالتواضع الكبير الذي يسم طبيعته من ناحية، وبإيمانه الراسخ وثقته التامة بالمولى التي اتصفت بها شخصيته بكل قوة من ناحية أخرى، لا بد لشوقي أفندي حقًا أن كرّس الكثير من فكره في التأمُّل بمضامين تلك الوصايا وبما يجب أن يكون عليه دوره الآن وقد عاد ‘بعد صمتٍ طويل مُطبِق’ ليتولّى ثانية ‘مهامّ عملي في خدمة أمر حضرة بهاء الله.’

في هذه المرة حرص ولي أمر الله أن تكون عودته قبل إحياء الذكرى السنوية الثانية لصعود حضرة عبد البهاء. أما مدى عمق ما حرّكته هذه المناسبة في أعماق نفسه، فنجده انعكس في البرقيات التي أرسلها إلى أقطار مختلفة في ذلك الوقت مشيرًا فيها إلى ‘ذكريات مؤثرة’ ملأى بـ’الحزن والأسى والألم’ تستحضرها هذه الذكرى السنوية. فقد أبرق إلى الأحباء في إيران قائلاً: ‘لعلَّ أشدَّ الساعات حُلكة في هذا الليل المشحون بالأحزان تكون مقدِّمةً لفجر يوم جديد لإيران الحبيبة.’ وفي رسائله العديدة خلال عدة سنوات كان حضرته يؤكد على هذه الذكرى وما يتعلق بها، إذ كانت تثير بداخله دائمًا ذكريات مأساوية عميقة. إنني أتذكر ما كان يقوله لي شوقي أفندي عدة مرات بعد الذكرى السنوية الخامسة والثلاثين لصعود حضرة عبد البهاء قوله: ‘هل تعلمين أنّي أحمل هذا العبء ستًا وثلاثين سنة؟ أنا تَعِبٌ، تَعِب!’

وبمرور عام 1923 يمكن القول بأن ولي أمر الله قد رفّ بجناحيه خارج خادرة الشباب كائنًا جديدًا. قد لا ينبسط الجناحان تمامًا في البداية، إلا أن الرفرفة تُكسب الجناحين باطّراد مدًّا وثقة على مرّ السنين إلى أن يُلقيا حقًا بظلهما على الجنس البشري بأكمله في النهاية. وفي كتاباته المبكرة يرى المرء كيف تكشّفت براعته في الأسلوب والفكر والمقدرة. دعونا نلتقط عشوائيًا مقتطفات وحقائق معينة لنرى مدى وضوحها في تأكيد هذا التطوّر الذي كان يحصل. ففي بادئ ذي بدء توجّه إلى الأحباء بتلك الثقة التي لا تُضاهى، وبلمسة من حسن الظن بهم مَلَكت على قلوب الجميع، وسألهم أن يَدْعُوا لأجله لعله بتعاونهم يتمكن من إحراز ‘النصر العاجل لأمر الله’ في كل بقعة. أسئلته متحدّية، وأفكاره ثاقبة قاطعة: ‘هل سيجرفنا طوفان الأفكار الجوفاء المتضاربة، أم نحن الذين سنقف على الصخرة الأبدية لتعليمات الحق السماوية سالمين غانمين؟’ ‘… هل نحن الذين نوقن بأن ما يصيبنا هو ما قدَّره الله لنا وليس عاقبة ترددنا وإهمالنا؟’ منذ عام 1923 وشوقي أفندي ينظر إلى العالم والأمر الإلهي على أنهما في الحقيقة شيئان مختلفان، لا ينبغي أن نخلطهما معًا في عقولنا في كتلة واحدة من العواطف والأحاسيس كيفما اتُّفِق. يؤكد لنا ولي الأمر أن إرادة الرحمن هي ‘على النقيض من الرؤى الضبابية والعقائد العاجزة والنظريات الفجّة والأوهام السخيفة والأفكار المنمّقة لعصر عابر مضطرب.’

في رسائله خلال السنوات الأولى لولايته ذكر شوقي أفندي مرارًا وتكرارًا الحاجة إلى أن ‘انهضوا لتقدِّموا لهذا العالم المعذّب الغافل نصيبَكم من الخدمة والعمل.’ وفي رسالة لأحد الأحباء نجده يكشف عن حقيقة بالغة الأهمية فيما يجب تمييزه: ‘لقد حان الوقت للأحباء… أن يفكروا كيف يجب أن يُخدَم أمر الله لا بما يمكن أن يبذلوه في خدمته.’ وعليه، يجدر بنا أن نواصل التفكير بكل عمق، وحتى يومنا هذا، في هذه الكلمات ونسأل أنفسنا: ما هي متطلّبات الأمر المبارك، إلى أين يتّجه، وما هي أهدافه؟

منذ السنوات الأولى لولايته أظهر شوقي أفندي اهتمامه بمنطقة المحيط الهادئ وإدراكه لتطوُّر الأمر المبارك في المستقبل في تلك الأرجاء. ففي يناير/ كانون الثاني 1923 كتب إلى جزر المحيط الهادئ بأسلوب عاطفي يشعّ بهجة وسرورًا بأن ‘أسماء جُزُركم بحدّ ذاتها تثير فينا أحاسيس سامية من الأمل والإعجاب لن تمحوها أبدا تقلُّبات الحياة أو يُضعفها مطلقًا مرور الزمان.’ وفي يناير/ كانون الثاني 1924 وجّه رسالة إلى ‘أحباب عبد البهاء الأعزاء في أنحاء أستراليا، نيوزيلندا، تسمانيا وجزر المحيط الهادئ المجاورة؛ أيها الأحباء المبشَّرين بملكوت حضرة بهاء الله! إن نسيمًا منعِشًا معطَّرًا بأريج محبّتكم وإخلاصكم لأمرنا المحبوب يتنسّم مرة أخرى من شواطئكم الجنوبية البعيدة على الأرض الأقدس ليذكّرنا دومًا بروح الخدمة التي لا تُخمد والتضحية التي أشعلها صعود المولى المحبوب في هذه الأيام في كل ركن من أركان العالم تقريبًا.’

وفي ديسمبر/ كانون الأول 1923 كتب شوقي أفندي إلى أحد المحافل الروحانية في أمريكا بكلمات تبدو تقريبًا كمن يناجي روحه: ‘إن حكمة الله الخفيَّة شاءت علينا، نحن المختارين، حَمَلة أعظم رسالة في العالم إلى إنسانية معذبة، أن نكدح ونواصل عملنا تحت أكثر أوضاع الحياة إنهاكًا، وفي وسط بيئة معيقة، وفي وجه امتحانات غير مسبوقة، ومن دون وسائل ولا نفوذ أو دعم، فنحرز بخطوات واثقة مطّردة فتحًا وانبعاثًا لقلوب البشر من جديد.’ فالعديد من هذه الرسائل في ذلك الوقت المُبْكر الموجهة إلى مختلف المحافل الروحانية كانت على هذه الشاكلة. لم تكن خُطَبًا ومقالاتٍ بقدْر ما كانت صوته المسموع عما في أعماق داخله من اعتبارات. وفي الشهر نفسه كتب يقول: ‘… حقًا إن تقدُّم عملنا – إذا ما قورن بنهضة مؤثرة وتطوّر عظيم لقضية دنيوية – كان مؤلمًا وبطيئًا، إلا أننا بيقين راسخ لا يعتريه أدنى شك نؤمن بأن “الانقلاب” الروحاني العظيم الذي يعمل “الله القدير” على إنجازه من خلالنا في قلوب البشر مقدّر له أن يحقِّق، بشكل ثابت مُطّرَد أكيد، ذلك التجديد الكامل للبشرية جمعاء.’ ‘مهما تكن بلايانا كبيرة، ومهما كانت محن الحياة مفاجئة، فلنتذكر حياة مولانا المحبوب التي بسطها أمامنا، مستلهمين شاكرين، ونحمل أعباء مسؤولياتنا باستقامة وجَلَد عسى أن نحظى في العالم الآتي، ونحن في محضر معزّينا المحبوب، بسلوته الحقيقية ونُجزَى على ما عملنا’، ‘مهما يصيبنا من أمر، ومهما بدت لنا توقّعات المستقبل قاتمة، فإذا ما قمنا بدورنا، فلْنطمئن إلى أنَّ يدَ الغيب الإلهية تعمل عملها في تشكيل وصياغة أحداث العالم وظروفه وتمهّد الطريق أمام تحقيق أهدافنا وأمانينا للجنس البشري في النهاية.’ ‘إن واجبنا في المقام الأول أن نخلق بأقولنا وأفعالنا، وبسلوكنا والقدوة التي نقدّمها، بيئة ملائمة لنمو البذور التي نثرتها بغزارة وسخاء كلمات حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء على مدى ثمانين سنة تقريبًا، حتى تنبُتَ وتعطي ثمارًا بمقدورها وحدها أن تضمن السلام والازدهار لهذا العالم الذي أصابته الحيرة والذهول.’ ‘… دعونا ننهض لتبليغ أمر الله بالاستقامة والإيمان الراسخ والفهم والنشاط الفاعل… فليكن هذا هو الشغَف المهيمن على حياتنا. دعونا ننتشر في أقاصي أطراف الأرض مضحّين بمنافعنا الشخصية وراحتنا، بمباهجنا ورغباتنا، ونعاشر جميع الملل والأقوام، وأن نألف آدابهم وعاداتهم وتقاليدهم وأفكارهم.’ يبدو لحن بعض تلك الرسائل مشابهًا لرسائله العظيمة خلال تنفيذ ‘الخطة الإلهية’ [لحضرة عبد البهاء]، إلا أنها كُتبت في شتاء عام 1923–1924. لقد أخذ على عاتقه مهمة رؤية أمر الله يبرز في ‘اعتراف عالمي في وضُح النهار’، وهو تعبير استعمله في تلك السنة تحديدًا.

منذ طفولته نشأ شوقي أفندي وترعرع في حضن التعاليم الإلهية وتنعّم في شبابه بالاستماع إلى الكثير والكثير من كلمات المولى وقراءتها وكتابتها. بهذا الذُّخْر وجّه ولي الأمر أحبّاء الله في الشرق والغرب بحزم في مسيرتهم المقدّرة لهم. وفي واحدة من أُولَى رسائله إلى الأحباء في أمريكا مؤرخة في مارس/ آذار 1922 بيّن أن ‘أحباء الله في العالم طُرًّا ممنوعون تمامًا من التدخُّل في الشؤون السياسية.’ وفي رسائله الأولى استعمل كلمة ‘مهاجر’. وكان في عام 1925 يحتفظ بقائمة بالمراكز الأمرية في أنحاء العالم!

رغم ما وصفه بأنه ‘الدرب الشائك لواجباتي الشاقّة’، ورغم ‘عبء المسؤولية الثقيل المرهِق والرعاية التي قُدِّرت لي وتشرفت بحملها’، فقد كان شوقي أفندي لامعًا في تفهّمه وواضحًا في تعبيره عن احتياجات الأمر المبارك والمهامّ التي تواجه الأحباء. وبالمِثْل كان واضحًا في تحديد ماهية العلاقة التي يرغب للبهائيين أن يكوّنوها معه، وبأي كيفية عليهم أن ينظروا إليه. في 6 فبراير/ شباط 1922 كتب إلى أحد الأحباء الإيرانيين يقول: ‘كل رجائي أن أُعرَف لدى الأحباء بأنني واحد، وواحد فقط، من العاملين الكُثْر في ‘كرم الله’، وأن يُدركوا هذا تمامًا مهما كان مدى ما يمكن أن أصله من تقدُّم في المستقبل، … ومهما يكن ما يصيبني، فإنني على ثقة مطلقة بحبّ حضرته (حضرة عبد البهاء) الرائع لي. علّني لا أكون أبدًا، بأفعالي، بأفكاري، أو بأقوالي، عائقًا في استمرار تدفق فيوضات روحه الداعمة التي أحتاجُها حقًا في مواجهة مسؤولياتي التي ألقاها مولاي على كاهلي الغضِّ…’ وفي 5 مارس/ آذار ذيّل رسالة أرسلها إلى الأحباء الأمريكيين بقوله: ‘راجيًا أن أعبّر أيضًا عن رغبتي القلبية الخالصة في أن ينظر إليّ أحباء الله في كل مكان بنظرة لا تتعدى كوني الأخ الحقيقي لهم، المتّحد معهم في عبوديتنا المشتركة ‘لعتبات المولى المقدسة’، وأن يشيروا إليّ دائمًا في كل رسائلهم وكلامهم بـ ”شوقي أفندي” فلا أريد أن أُعرَف بأي اسم آخر سوى ما اعتاد المولى المحبوب أن ينطق به، اسم من بين جميع الألقاب الأخرى هو الباعث الأكبر على نموّي وتطوّري الروحاني.’ وفي عام 1924 أبرق إلى الأحباء في الهند بكل إيجاز ووضوح قوله: ‘يجب ألاّ يُحتَفَل بذكرى مولدي.’ وفي عام 1930 كتب سكرتيره بالنيابة عنه يقول: ‘بخصوص مقام شوقي أفندي: ليس له بالتأكيد سوى ما أسبغه عليه المولى في وصيته، تلك الوصية التي تُبيّن أيضًا مقامه. من أساء تفسير جزء منها فكأنما أساء تفسيرها كاملة.’ عندما كتب شوقي أفندي رسالته العامة المعروفة بـ ”دورة بهاء الله” أوضح مرة وإلى الأبد مقامه الخاص، فاصلاً نفسه بشكل قاطع عن الامتيازات والمقام الذي أسبغه حضرة بهاء الله على حضرة عبد البهاء: ‘على ضوء هذه الحقيقة؛ أن تدعو لولي أمر الله، وتخاطبه بالسيد أو المولى، وتبجّله بلقب صاحب القداسة، والتماس بركاته، والاحتفال بذكرى يوم مولده، أو إحياء ذكرى أي حدَثٍ اقترن بحياته، كل ذلك يعادل انحرافًا عن تلك الحقائق الأساسية المودعة في ديننا العزيز.’ وكتب سكرتيره بالنيابة عنه في عام 1945: ‘… لم يذهب في نَهْيِه بعيدًا إلى درجة يمنع فيها الأحباء من اقتناء صُوَره، ولكنّ حضرته كان يفضّل أن يكون تركيزهمُ على المولى المحبوب.’

[1]       Cyclometry.

[2]       Grand.

[3]       الذكور من سلالة حضرة بهاء الله.

[4]       أقرباء حضرة الباب.

[5]       ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.

[6]       ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.

 

[7]       Roy Wilhelm.

[8]       Fernald.

[9]       Dyer.

[10]      Watson.

[11]      True.

[12]      Parsons.

[13]      Reality.

[14]      Emogene Hoagg.

 

[15]      Ethel Rosenberg.

[16]      Mountfort Mills.

[17]      Mason Remey.

[18]      Laura.

[19]      Hippolyte Dreyfus-Barney.

[20]      Consul.

[21]      Alice Schwarz.

[22]      Corinne True.

[23]      Kathrine.

[24]      Reflexes.

[25]      Bernese Oberland.

[26]      Mr. Hauser.

[27]      Jungfrau.

[28]      Interlaken.

[29]      Hoheweg.

[30]      Norfolk.

 

[31]      Sir Gilbert Clayton.

[32]      Colonel G. Stewart Symes.

[33]      Themes.

[34]      Leviathan. اللوثيان هو مخلوق أسطوري ضخم ورد ذكره في التوراة.

الفصل الثالث السنوات الأولى لولاية الأمر

لقد حان الوقت أن نسأل أنفسنا: أي نوع من الرجال هذا الذي كتب عن نفسه ما كتب، وما هو الانطباع الذي خلّفه في الأذهان، وكيف بدا بنظر الآخرين؟

من يوميات أحد الأحباء الأمريكيين، الذين دعاهم شوقي أفندي إلى حيفا في مارس/ آذار 1922 نقرأ الوصف التالي: ‘… ظهر شوقي أفندي وحيّاني بغاية اللطف والمودّة. لم أره منذ ثماني سنوات، وبالطبع تملّكتني الدهشة لِمَا طرأ عليه من تغيير وتطوّر؛ فبدل الشاب الصغير الذي عرفتُه، أراه الآن رجلاً في مُقتَبل عمره، إلا أنه في اتِّزانه وعمق تفكيره وروحه رجل قد نضج قبل أوانه…’ أعطاه شوقي أفندي نسخة مطبوعة من ألواح وصايا حضرة عبد البهاء ليقرأها، فسجّل بدوره ردّ فعله على ما فيها من نصوص كما يلي: ‘لم أقرأ أبدًا في حياتي شيئًا منحني ذاك السرور والإلهام في قلبي بقدر ما وهبَتْني إياه هذه الوثيقة المقدسة. لقد… منحتني اتجاهًا ثابتًا أتوجَّهَ إليه، ومركزًا دائمًا علينا جميعًا أن نطوف حوله ما دمنا في هذه الدنيا… وإنه ملك الملوك الذي يحكم العالم ويحمي السلاطين والأشراف وعامة الناس على السواء.’ ويسترسل في وصف انطباعاته عن شوقي أفندي بقوله: ‘ولما كنتُ معتادًا أن أجلس إلى مائدة الطعام وأنظر إلى شوقي أفندي، ذُهلتُ لشدة شبهه بالمولى؛ في شكل رأسه ومُحيّاه، في كتفيه، في مِشيته وفي حركاته بشكل عام. عندها شعرتُ بعبءِ المسؤوليات التي أُلْقيت على كاهل ذلك الشاب الفتيّ. بدا أمرًا مرهقًا جدًا أن كان عليه، وهو الذي بالكاد بدأ مسيرة حياته – إذا جاز لنا التعبير من منظور بشري دنيوي – أن يحمل هذه المسؤولية العظيمة التي أنيطت به، وهي حملٌ سوف يستنزف قواه وينأى بنفسه جانبًا عن ميوله الذاتية، فيمحو من حياته الحرية والبهجة التي تتعلق بجانبه البشري، ولو أنها عرضية زائلة، إلا أن لكل منا كبشر حاجات معينة فيها.’

وسجّل زائر هندي بهائي انطباعه عن شوقي أفندي عام 1929 بهذه الكلمات: ‘يجدر بنا أن نفهم شوقي أفندي حتى نستطيع مساعدته في إنجاز المهمة الجسيمة التي ائتَمَننا عليها؛ إنه شخص هادئ جدًا إلا أنه نابض بالحياة، ساكن جدًا ولكنه مفعم بالحيوية.’ إنه وصفٌ يكاد يكون لامعًا لجانب واحد من شخصية ولي أمر الله. أما الانطباع الذي ولّده حضرته لدى أول بهائية أمريكية دُعيت إلى حيفا بعد الحرب العالمية الثانية في عام 1947، فإنه يُظهِر لنا جوانب أخرى عن طبيعة حضرته بقولها: ‘تَشكَّلَ أول انطباع لديّ عن حضرته من خلال ابتسامته الودودة ومصافحته الدافئة ممّا جعلني أشعر فورًا بالارتياح… وخلال تلك المقابلات ازداد وعْيي وإدراكي لمناقبه الرفيعة العديدة – نبالته، وقاره، اتّقاده وحماسته، – قدرته على طي مختلف المراحل بين المزاج المتألّق والغضب الشديد. ولكنه دائمًا وأبدًا، يضع الأمر المبارك في مقدِّمة كل شيء… أشعرني شوقي أفندي بأسلوبه العملي والمنطقي بأنني ضيفة مرحَّبٌ بها ومساعِدة يحتاجها في آن معًا، وأوجز لي بعض واجباتي التي بدأتُها في اليوم التالي مباشرة! كانت نصيحته لي في تلك الزيارة الأولى أن أقوم بكلّ مهامّي بالنيابة عنه على أكمل وجه؛ فقال بأنه يريدني أن أتبع تعليماته تمامًا، وإذا ما أخفقتُ في شيء أو واجهتني صعوبات فيجب أن أرفع له تقريرًا بها بكل دقة، وعندها سيضع لي خطة عمل جديدة… بالنسبة للبهائيين العاملين في المركز العالمي، وخلال هذه الفترة على الأقل، لم يكن هناك يوم عطلة مخصّص، عندها أدرك الواحد منا أن كل لحظة هي ملْكٌ للأمر المبارك…’ ثم تمضي وتخبرنا عن تلك الأمسيات عندما كان شوقي أفندي يشاركنا على طاولة العشاء، بتلك الخطط الخاصة وبالبرقيات والرسائل التي كان يرسلها للخارج، وأحيانًا بوثائق ثمينة يحتفظ بها: ‘… نجده يُخرج من جيوبه رسائل وخطابات بوجه متلألئ بالإثارة والخطط الجديدة، وكثيرًا ما كان يدفع بطبق عشائه من أمامه دون أن يلمسه، ويطلب ورقة وقلمَ رصاص ويثيرنا جميعًا بأفكاره الجديدة وآماله التي يتطلع أن يحققها البهائيون… كان ولي الأمر المحبوب لا يحبّ أبدًا أن تُلتَقط له صورة فوتوغرافية، لذا فإن أي صورة له مُتداوَلة لا تعكس صورته الحقيقية. في الوهلة الأولى تتدفق على ملامحه بشكل سريع عواطف وأحاسيس بحيث يحتاج المرء إلى التقاط سلسلة من الصور لمتابعة انفعالاته الكثيرة. إنه لشيء سارٌّ أن تراه وتسمعه يضحك… كان يبدو متلألئًا كالنجم عندما يُكلَّل ختامُ خطة ما بالنجاح. حِسّه بالفكاهة شيء مبهِج! كان كجبل شاهقٍ قويٍّ راسخٍ في مكانه على الدوام، ولكنه لا يُقهر أبدًا، وتكثر فيه المرتفعات والمنخفضات الفجائية غير المتوقعة… كان دقيقًا إلى أقصى حد، وعلَّمَنا جميعًا إحساسًا جديدًا بالكمال والانتباه إلى التفاصيل… كان على اطّلاع تام بمصروفات جميع الصناديق الأمرية… شديد الاهتمام والحماس بالإحصاءات البهائية… ولم يكن باستطاعتنا ابدًا فهم وإدراك كيفية تمكّنه من إحكام قبضته على زمام جميع الأمور المتعلّقة بالنشاطات الأمرية بدءًا من “مستوى القاعدة” وانتهاءً بالمركز البهائي العالمي…’

كان لزوج هذه الزائرة أيضًا شرف الخدمة في المركز العالمي مثل ما كان لها، وقد كتب إلى أحد الأحباء الأمريكيين رسالة عام 1948 معبّرًا عن انطباعه الخاص عن ولي أمر الله كإنسان: ‘من يسير ما رأيته يمكنني القول إنه ليس هناك عدد كبير من “الشرقيين” ممَّن يستطيع منهم أن يجاري شوقي أفندي في انطلاقه، ولا يسع المرء إلا أن يُعجَب باتساع أفق تفكيره وقوة شكيمته. وبالرغم من طبيعته النارية الفولاذية، إلا أنه الإنسان الأكثر محبة وتفهمًا وشفقة وتعاطفًا بين كل مَن عرفتُهم على الإطلاق. ليس له مثيل ولا نظير. كم أتمنى أن تُتاح للبهائيين الآخرين الفرصة أن يعرفوه مثل ما كان لنا هذا الامتياز أنا وغلاديس[1]. إنني في سطوري هذه، لا أكتب عن مقامه كولي للأمر لأن هذا يفوق تمامًا قدرة قلمي. كم يتوجب على جميع البهائيين أن يعملوا من أجل هذه الشخصية العظيمة! إن عِبْئَه لجسيم عظيم.’

في عام 1956 كتبت إحدى الزائرات للأرض الأقدس انطباعها عن ولي أمر الله بغاية الدقة والذكاء: ‘وجهه جميل ذو تعبير عفيف وموضوعي تمامًا، ومع ذلك فهو رقيق ومهيب في الوقت نفسه… أرى فيه عينيْن واسعتين رماديتيْن مائلتيْن إلى الزُّرْقة… أنفه يجمع بين ما كان عليه في صوره وهو صبي صغير – ولا يزال كبير الشبَهِ به! – وبأنف المولى ذي التقوّس الخفيف. يبدو سنّه لا يتجاوز الثامنة والأربعين مع أنه في الستين، له شارب صغير مشذّب بعناية فيه خيوط من الشيب. فمه ينمّ عن الحزم والطهارة، أسنانه بيضاء جميلة، وابتسامته هِبةٌ غالية… هو في غاية البساطة والصراحة. لا يطلب لنفسه كل هذه المراعاة والاحترام، إلا أنّ المرء بمجرد أن يكون في محضره يشعر أنه في منتهى “الضعف والوضاعة”. ولي أمر الله دائمًا وأبدًا دَمِثُ الخلق، ولا يفقد صبره أمام أسئلة من يفتقرون إلى النُضج. ومع ذلك لم يكن متحفِّظًا في أن يدع الناس يدركون ما هي الأسئلة الهامة وغير الهامة، وتلك التي سوف يجيب عنها “بيت العدل العالمي” فيما بعد…’ وأضافت بأن شوقي أفندي كان يترأس الطاولة ‘بغاية البساطة ولكن بطلعة مَلَكية – حيث لا يمكن إلا لملك عظيم أن يكون بسيطًا! … شعرتُ وكأن حضرته بمثابة قاطرة جبارة يسحب خلفه سلسلة طويلة وطويلة من عربات مُثقلة – ليس بحمل لا حِراكَ فيه تمامًا – بل بحملٍ يكاد يخلو من الحياة في بعض الأحيان! هذا الحِمْل هم الأحباء الذين يتحتّم دفعهم أو جرّهم أو مداراتهم أو مدحهم في كل لحظة ليدخلوا ميدان العمل. كان ولي الأمر المحبوب ينظر بعيدًا فيرى الاحتياجات وضِيقَ الوقت والعقبات والمشاكل. حقًا إنه يقطُرُنا جميعًا خلف نور هدايته القوي. وكالقاطرة أيضًا – بمقدوره أن يمضي قُدُمًا في خط مستقيم، سريعًا أو بطيئًا، ولكنه “لا يستطيع” أن يحيد عن مساره، بل “يتحتّم عليه” أن يسير على خط الهداية الإلهية المرسوم له. إنه يمنح المرء إحساسًا بأنه أداة كاملة – موضوعي جدًا، ولكنه شديد الإحساس بكل فكرة، أو بما يدور في الأجواء. لا يمكن التلاعب بأفكاره. لا يتأثر في حكمه أبدًا بالصداقة، أو بما يفضِّله، أو بالثروة، وبما يمكن أن يجرح المشاعر أم لا. هو قطعًا فوق كل هذا… كما أن ولي الأمر قد وضّح تمامًا أن الوقت الآن ليس لتناول الجوانب الباطنية للتعاليم الإلهية بإسهاب – بل بالعكس، علينا أن نكون نشيطين فعّالين وإيجابيين ونحقق أهداف خطة السنوات العشر بالكامل… يستمر في كلامه ثم يعلّق، وبعدها يصل إلى نهاية حديثه. وفجأة نراه يُمسك بمِنديله ويطويه بأناقة ثم ينهض عن كرسيّه… من المحال أن تصف أو تنقل، ولو على الأقل، شيئًا من ضياء ولي أمر الله وجمال طلعته. فلو ابتسم لك – أو نظر إليك بتلك النظرة الخاطفة الثاقبة – تجدها نظرة مثيرة للشعور ومحرِّكة للروح… تدور أحاديثه دومًا حول الأمر المبارك وتبقى حصريًا في موضوع إنجاز أهداف خطة السنوات العشر. يُظهر ابتهاجه بالأخبار الجيدة، ويغرق في حزن عميق عندما تكون هناك أخبار مَقيتة أو سيئة… ومع أنه يحب عبارات التقدير والإعجاب فيما يتعلق بالتعبير عن جمال الحدائق والمقامات المقدسة وبتصاميمها، إلا أن ولي الأمر بدا لي أنه ينأى بنفسه عن مديح شخصي أو توجيه الشكر له على أي شيء… حاولنا عبثًا أن نطبع في ذاكرتنا، وللأبد، صورةً عن طلعته الحبيبة، وألا تفوتنا ولو واحدة من تجليات تعابيره التي تكون دائمًا موضوعية مفاجئة متنوعة ومدهشة… يا للحسرة، إن “الطبيعة المتألِّقة” لشوقي أفندي غالبًا ما كانت تحجبها وتَغُمُّها تصرفات الأحباء غير الحكيمة أو عصيانهم الفاضح أو تجاهلهم لتعليماته. يتساءل المرء بمشاعر مهتاجة؛ مَن ذا الذي لم يخيّبْ أملَ حضرته بطريقة أو بأخرى!’

اقتطفتُ الفقرات السابقة لأنها تبدو لي وصفًا دقيقًا لولي الأمر كما رأيته أنا أيضًا. ولأنني أنا شخصيًا لا أتذكّر حضرة عبد البهاء، فلا أستطيع الجزم في موضوع الشبَه. إلا أن الكثير من الأحباء المسنّين ذكروا بأنهم رأوا فيه ذلك الشبه بكلّ وضوح. ومِن يومياتي الخاصة سوف أختار الآن انطباعات متنوعة عن وليِّ أمر الله:

‘شوقي أفندي بطبعه عامل وبانٍ ومُنظِّم، ينفر من الأفكار النظرية غير الواقعية! … ما من أحد، ممن يراقب شوقي أفندي، لديه شكّ ولو لحظة أنه غير مؤهل تأهيلاً كاملاً لهذه المرحلة من تاريخ الأمر الالهي، وأنا على يقين بأنه خُلِق فقط لها، وليعمل ما هو قائم عليه تمامًا. إنه أكثر شخص استثنائي ذي اتجاه واحد رأيته على الإطلاق. حادٌّ في مجمل طبيعته وفي ذوقه وفي ما يرغب وما لا يرغب. إنه أشبه بشيء ينطلق بسرعة عالية باتجاه واحد، وهو ما يمنحه قوة دافعة لا حدود لها تقريبًا. إصراره لا يُقاوَم، ولا تبديد لقواه. هو يريد شيئًا واحدًا فقط، يريده بحماس وقّاد، وحالاً، وكاملاً، وبإتقان. ففي بناء مشرق الأذكار – أو في بناء مجموعة من الدرجات هنا في الحديقة، نجده ينطلق نحوه كالإعصار ولا يغادره أبدًا حتى يُنجَز. يقود ويدفع إلى الأمام بسرعة بالغة، وهو أمر استثنائي. يحب المسطّحات الخضراء والممرات الحمراء والبيضاء. يحب زهرة الجيرانْيوم الحمراء وأشجار السرو وبالطبع أشياء أخرى قليلة – ولكن أعني بذلك أنه لا يحب أو يرغب في كل شجرة وكل زهرة. لا، بل تلك القِلّة فقط لتوضع في ذلك المكان المحدد تمامًا. ينطبق هذا أيضًا على الأطعمة، وعلى الألوان والملابس –
هناك القليل مما يحبّه بشغف ولا يريد غيره ولا يَمَلُّه على الإطلاق! إن إصراره المحصور في حيّز ضيّق لأمر واحد فقط أو اثنين هو تقريبًا ما مكّنه من بناء أساس كهذا لأمر الله في مدى عشرين سنةً. وهو أمر ليس بمقدور إنسان أشمل ذوقًا ومزاجًا أن يحققه على الإطلاق!’

‘إن ولي الأمر حساس أكثر من جهاز رصد الزلازل. هناك شيء ما في داخله، أعمق بكثير من الذكاء البشري أو أي معلومات ظاهرية قد تكون لديه. يسجل حالة الفرد، ويسجل حتى الأشياء التي قد لا يعيها الفرد عن نفسه بعد. أعتقد من الواجب علينا أن نتخذه دليلاً لنا؛ فإذا ما وجد خطأً يكاد لا يكون ظاهرًا في نهج وسلوك يخصّنا، عندها يصبح لزامًا علينا أن نبحث عنه في دخائلنا حتى نجده.’ يجدر بنا أن نتساءل ألا ينبغي أن يكون هذا هو دليلنا على الدوام، وإذا ما قرأنا كتاباته بعناية، ألا يمكننا أن نستشرف فيها شواهد على نقائصنا الفردية والقومية والعرقية، فنأخذ حذرنا ونسترشد بارشاده تبعًا لذلك. لقد كتبت بأن شوقي أفندي ‘رنينه صادق سليم كرنين الشوكة الرنّانة للتعاليم المباركة تمامًا…’ ‘إنه ولي الأمر، وعلاقته بالله هي بالطبع علاقة خفيّة غامضة. هو قادر على إدراك أيّ سر خفي، ويستطيع أن يفسّر أكثر الفقرات غموضًا في “الدين”، ويمكنه أن يكتب في المسائل المعروفة بعمق طبيعتها الغامضة –
تحرِّكُهُ في كل ذلك المشيئة الإلهية.’

‘حضرة بهاء الله هو المظهر الإلهي؛ وقد فعل كل شيء، ونطق بكل ما هو ضروري ويحتاجه العالم في هذا اليوم. كان المولى تجسيدًا لقوى حضرة بهاء الله وتعاليمه، لقد أضاف مكوِّنًا جديدًا في عالم الخدمة بمعناه الحقيقي، هو الصلاح، ومنحنا حياة دينية خالدة بأسمى أشكالها. بعد ذلك كانت هناك حاجة لشيء آخر؛ كان هنا أن… سقط الكثير من النفوس، بمن فيهم أفراد من عائلة المولى وبعض البهائيين في شَرَك منظورهم الشخصي للأمور. أرادوا “عبد البهاء” ثانيًا – سلسلة متعاقبة من أولياء الأمر لهم طابع بابويّ، إلا أن الله تعالى كانت له مشيئة أخرى على ما يبدو. فالانطباع الأقوى الذي أحمِلُه عن شوقي أفندي كان على الدوام هو الكينونة التي تتحرك في اتجاه أحادي بقوة خارقة وسرعة فائقة. فإذا كان حضرة بهاء الله قد أشرق كالشمس، وحضرة عبد البهاء قد عمل على عكس نورها كالقمر بكل لطف وعناية، فإن شوقي أفندي ظاهرة مختلفة تمامًا كاختلاف جسم يندفع بقوّة نحو هدفه المنشود عن شيء آخر ساكن مشعّ. أو يمكن للمرء أن يشبهه بمركّب كيميائي. فقد جمع حضرة بهاء الله كل ما نحتاجه، وقام المولى بمزج كل شيء معًا وجهّزه، ثم أضاف “الله” سبحانه وتعالى إلى هذا المركّب عنصرًا واحدًا، هو نوع من مُرسِّب عام، ضروريّ لجعل ذلك المركّب صافيًا نقيًّا ليمضي محقّقًا طبيعته – إنه ولي الأمر… لقد خُلق وتشكّل تمامًا ليفي باحتياجات الأمر المبارك – وبالتالي احتياجات الكوكب نفسه – في هذا الزمان.’

مع أن حقيقة شوقي أفندي في جوهرها ستبقى إلى الأبد لغزًا غامضًا لكل من في الوجود –
إلى أن يأتي اليوم الذي قد يختار فيه المظهرُ الإلهي الجديد، كونه الأرفع مقامًا، أن يفسّرها لنا، نحن الأقل مقامًا بكثير – مع ذلك نحن نعرف عنه الكثير ولنا الحق أن نحتفظ بذكراه بكل رقة وحنان حتى لو كان غير وافٍ بالمراد.

في تلك السنوات الأولى من ولايته، وبالرغم من حزنه وكربه، لم يكن بالإمكان أن يَخْفَى عنا تمامًا ذلك الجانب الفتيّ المفعم بالحيوية لذاك الذي ما زال في حقيقة الأمر شابًا فتيًّا للغاية. كان على الدوام إنسانًا متلهّفًا توّاقًا بفطرته – وهي صفة لازمته حتى آخر حياته – إلا أنها في تلك الأيام قد فاضت بكل شفافية في رسائله وبرقياته بمثل ما كانت عليه في أيٍّ من الاتصالات الشخصية معه.

كان التصوير الفوتوغرافي هوايته الشخصية الوحيدة؛ لقد التقط صورًا فنية رائعة لمناظر طبيعية في سويسرا وأماكن أخرى خلال تلك السنوات الأولى. ونجد نسخة عن رسالة أرسلها حضرته إلى مصوّر في بلدة صغيرة في سويسرا كُتبت عام 1924 (بالفرنسية) يخبره قائلاً: ‘أنتظر بفارغ الصبر وصول الصور التي أرسلتُها إليك… آمل أن تكون قد استلمتَها. هي عزيزة جدًا عليّ. أرجو أن تؤكد لي على هذا الموضوع فورًا ببطاقة بريدية. آمل أن تكون الصور كلها قد ظُهِّرت جيدًا… مع شكري مقدَّمًا. بكل إخلاص.’ حتى إن النسخة كانت ممهورة بتوقيعه الأنيق “شوقي” مع أنها كُتبت بخط يد شخص آخر!

إن رغبته في أن تُنجز الأمور على وجه السرعة لم تكن أقلّ ظهورًا منه في حقل البستنة. لقد عقد العزم على زراعة مسطّحات خضراء تمتدُّ أمام المقام الأعلى لحضرة الباب وفي مناطق أخرى في الممتلكات البهائية، فأبرق إلى أحد الأحباء المسنّين في باريس في شهر مايو/ أيار 1923 يسأله: ‘ماذا عن مشروعنا للمسطّحات الخضراء؟’ ولمّا لم يستلم أي ردّ أبرق بعد عشرة أيام: ‘لم تُجب عن رسالتنا، ماذا عن بذور المسطحات الخضراء؟’ وأخيرًا وصلت البذور، ولكن يبدو أن النتائج لم تكن مرضية، ذلك لأن شوقي أفندي حالما رجع إلى حيفا في فصل الخريف يبدو أنه بدأ حملة منظمة في هذا الاتجاه – رغم تأكيدات البستاني العجوز المتعصب لرأيه، الذي كان يعمل لدى حضرة عبد البهاء، على أن المسطحات الخضراء لن تنمو بنجاح في فلسطين! وفي 29 سبتمبر/ أيلول أرسل شوقي أفندي إلى ابن خالة له في مصر يقول: ‘يبدو واضحًا أن بذور الحشائش التي استعملناها لم تكن مناسبة، فهل يمكنك إرسال ثلاثين كيلوغرامًا من أجود أنواع البذور المتوفرة في مصر على أن تكون مناسبة لمناخنا وبيئتنا بالذات؟’ يبدو واضحًا أنه استلم جوابًا بعد أسبوع لم يفهمه، فأبرق له على الفور ثانية: ‘فاجأني جوابك، أرجو التوضيح بالبريد.’ ويبدو أن التوضيح قد جاء في هذه المرة مُبهمًا أيضًا كسابقه، فقرر شوقي أفندي بعد ذلك وقف التعامل مع الأقارب والأصدقاء، فكتب بنفسه ومباشرة في 18 ديسمبر/ كانون الأول إلى أربع شركات مختلفة مختصّة بالمشاتل وتجارة البذور – واحدة في فرنسا وثلاث في إنكلترا – طالبًا تزويده ببذور حشائش وبذور أزهار وأبصال وعُقَل نباتية، وأخبرهم بأنه ينتظر الردّ ‘بغاية الشوق!’ ولا بدّ أنه كان قد اتّخذ الترتيبات اللازمة لجلب بعض شجيرات الزينة إلى حيفا في ذلك الصيف أو قبله، ذلك لأنه أبرق إلى السيد والسيدة “دريفوس - بارني” في باريس في ديسمبر/ كانون الأول قائلاً: ‘إن الكرمل ينتظركما مع ورود أورلينز.’

يمكن الاستنتاج أن شوقي أفندي قد كوّن علاقة ودّية مع بعض التجّار الموزِّعين، ذلك لأنه في رسالة كُتبت بالفرنسية في يناير/ كانون الثاني 1925 نراه يقول: ‘مُرسِلٌ بطيّه مبلغًا وقدره —— راجيًا أن تتلطف وترسل لي على الفور بذور عشبة الزوان المعمّر للمسطّح الأخضر. أنا راضٍ جدًا بالنتائج الحاصلة من البذور التي أرسلتَها لي سابقًا، وآمل أن تصلني البذور في أقرب وقت ممكن. أشكركم سلفًا على إرسالها، وأؤكد لك يا سيدي العزيز مشاعري الودّية العميقة. شوقي رباني.’ وكما علمتُ فإن تلك المسطَّحات الخضراء كانت المسطحات الأولى الكبيرة التي زُرعت بفلسطين بنجاح. كتب شوقي أفندي إلى شركة إنكليزية خاصة ببستنة الحدائق تقع قرب نوريتش[2]: ‘… أنا مولع بالورود والحدائق. مرفِقٌ بطيّه جنيهًا واحدًا إضافيًا لقاء أي نبتة جميلة الصورة تعتقدون أنها توافق غرضي.’

أشك فيما إذا كان شوقي أفندي سبق وزرع شيئًا طيلة حياته، أو حتى كانت لديه الرغبة في ذلك. كانت تستهويه الحدائق ولكن ليس العمل فيها، ولم يفوِّت فرصة على الإطلاق لزيارة حديقة جميلة أو مشهورة إلا وانتهزها؛ لا أستطيع ذكر كم كان عدد الحدائق التي زرناها معًا خلال عشرين سنة. يبدو أنه أينما كانت هناك حديقة، كنا نذهب إليها، وغالبًا ما كنّا نعود إلى الحديقة نفسها سنة بعد أخرى وكأنها صديق قديم. في السنوات العشر الأولى لولايته، أو نحو ذلك، بذل شوقي أفندي كل ما في وسعه لضمان أن التأثيرات التي تٌحدِثها تلك النباتات التي اُعجب بها في بلدان أخرى، سيكون مثلها في حدائقه الخاصة بالأرض الأقدس. طلب في إحدى السنين ألوف الأبصال من هولندا، وفي سنة أخرى مئات من شجيرات الورد من فرنسا، حتى إنه حصل على أشجار السرخس[3] [الخنشار] التي كانت قد أُرسلت إليه من “الجهة المقابلة من الكرة الأرضية”[4]، إلا أن مستوى تأهيل العاملين في الحدائق لديه (مضافًا إليه في بعض الحالات عدم تأقلُم النباتات مع طبيعة الجوّ هنا مثل شجر السرخس ونباتات النرجس البرّي والمُكحّلة والزعفران وعشبة الوردية وغيرها) قد أحبط كل مجهود بذله حضرته مما جعله في النهاية يوقف استيراد أي شيء عدا بذور الحشائش.

في أيام حضرة عبد البهاء، عندما كان تَوَفُّرُ المياه مشكلة كبرى، أنشأ حضرته حدائق صغيرة بجوار المراقد المقدسة في كل من البهجة وجبل الكرمل احتوت في معظمها على أشجار الحمضيات والأزهار. أما شوقي أفندي فقد غيّر ووسّع وأعاد تشكيل هذه الحدائق. أتذكّر عندما قدِمْتُ مع والدتي لزيارة الأرض الأقدس أوّل مرة عام 1923، أبدت والدتي ملاحظتها على التخطيط الرسمي للحديقة الصغيرة المجاورة للمقام الأعلى وقالت إنه يشكّل رمزًا للنظام الإداري البديع الذي يعمل ولي أمر الله على إنشائه في أنحاء العالم. إنني على يقين بأن هذه الفكرة لم تخطر ببال شوقي أفندي، إلا أن النظام والترتيب متأصّلان في فطرته، وليس من طريقة أخرى يمكنه العمل بها.

من بين البهائيين الزوّار الذين تشرّفوا بزيارة حيفا في السنوات الأولى لولاية شوقي أفندي كان البروفسور ألين لوك[5] من جامعة هوارد بواشنطن، والذي عبّر عن انطباعاته وهو يتجوّل مع شوقي أفندي في حدائق المقام الأعلى لحضرة الباب بقوله: ‘شوقي أفندي هو أستاذ التفاصيل بمثل ما هو سيد المبدأ، وهو أستاذ البصيرة التنفيذية[6] بمثل ما هو سيّد الرؤية الإسقاطية[7] . لم أسمع في حياتي تفاصيل صغيرة تافهة في طبيعتها قد استردّت قيمتها وأهميتها بمثل ما كنتُ أسمعه من شوقي أفندي عند التحدّث إليه عن تصاميم الحدائق والشرفات وخطط تجميلها، وهي تفاصيل هامة لأنها بمجملها من شأنها أن تحرّك العواطف بسحر المكان وتلهب الروح بما يوحيه من أحاسيس.’

دأب شوقي أفندي على إضافة المزيد إلى هذه الحدائق التي تزايدت شهرتها باطّراد. فقد بلغ عدد زائريها والمقام الأعلى لحضرة الباب، مع نهاية حياة حضرته، ما يقارب التسعين ألفًا كل عام. وما كتبَتْه له إحدى الزائرات عام 1935 إنما يعبّر بأبسط العبارات عما تتركه مثل تلك الزيارة من انطباع في نفوس الكثيرين؛ ذلك بأنها ‘تأثرتْ بدرجة كبيرة بالجمال الصامت للمقامات، وبالبهجة التي تبعثها الحدائق في النفس.’

لقد درج ولي أمر الله كل عام على توسيع المنطقة المزروعة حول المقام الأعلى لحضرة الباب وحضرة عبد البهاء، ولا شكّ أن الحافز الأول له في هذا الاتجاه كان ينبع دائمًا وأبدًا من رغبته الواعية في تتبُّع رغبات مولاه الراحل في كل ميدان. هو يعلم أن حضرة عبد البهاء قد وضع مخططًا لسلسلة من الشرفات تمتدّ من المستعمرة الألمانية القديمة صعودًا إلى مقام حضرة الباب. وكان المولى قد بدأ بالفعل في تطوير الشرفة الأولى، ثم نذر شوقي أفندي نفسه لإتمام العمل فيها على مرّ السنين. ولا شك أنه في غضون دراسته لهذه الخطة تبلورت لديه فكرة حدائقه حول المقام الأعلى – وجاءت كلمة حدائق هنا لأنها لم تكن حديقة واحدة. ومن أجل أن يفهم المرء ويقدّر ذلك العامل الجمالي الاستثنائي الذي أبدعه شوقي أفندي على جبل الكرمل وفي البهجة، عليه أن يدرك طريقته في العمل.

في كل يوم تقريبًا كان فيه في حيفا، اعتاد حضرته أن يصعد إلى منطقة المقام الأعلى ليتشرف غالبًا بزيارة مرقد حضرة الباب وحضرة عبد البهاء بالتناوب، أما ‘أيام الأعياد’ فكان يزورهما على التوالي دائمًا. وعندما كان يجول بنظره في المشهد أمامه، كان عقله المبدع يوحي له بالتحسينات والتطويرات. هو يعلم أن حضرة عبد البهاء كان قد خطّط ليكون لمرقد حضرة الباب تسع غرف، فأخذ على عاتقه بناء الغرف الثلاثة الأخيرة [التي لم تُبْنَ] في الجهة الجنوبية من المرقد المبارك. واستبدل حضرته كلاً من الجدار الشرقي والغربي للمقام الداخلي لحضرة الباب، حيث كان في كل منهما باب خشبي سابقًا، بقوس خلق مشهدًا مهيبًا لقدس الأقداس وجمّل داخله كثيرًا. ومع السنين غيّر حضرته الزينة المحيطة بالمرقد المبارك وأضاف إليها بعض الشيء دون المساس مطلقًا بذلك الشعور بالبساطة والعفوية التي تعزّز كثيرًا من سحر هذه البقعة المقدسة. وبينما كان عاكفًا على هذه التحسينات – التي وصلت ذروتها بارتفاع البناء الفوقي العظيم للمقام الأعلى – أخذ شوقي أفندي يدرس الجهة الجبلية الجرداء المحيطة بالبناء، وبدأ بتطويرها قطعة قطعة وسنةً بعد أخرى في أقسام منفصلة. يجب أن نتذكر أنه لم تكن لديه خطّة تطوير شاملة على الإطلاق باستثناء ما كان للشرفات، وهذا ما منح الحدائق على جبل الكرمل سِمتها الفريدة. فعندما كان شوقي أفندي يتجول، كانت تمرّ بخاطره فكرة لحديقة تتناسب وطبوغرافية تلك الأرض، فتجده يضع خطة لتطوير هذه ‘القطعة’ بكل هدوء ودون نصح أو مساعدة من أحد، اللهم إلا أولئك المزارعين غير المَهَرة الذين كانوا يقومون بأعمال البستنة. وإذا ما لزم الأمر كان يأتي بمن يمسح قطعة الأرض ويوقِع عليها المنحنيات أو الخطوط الطويلة. إلا أنه في أغلب الأحيان كان حضرته يستغني عن كل هذا ويقوم بكامل العمل بنفسه.

من وصف شوقي أفندي الحيّ لما رآه وخطّط لتنفيذه، وهو ما كان يخبرني به بعد أن يعود إلى البيت، استنتجتُ بأن طريقته في العمل أن ينظر ويتأمّل قطعة الأرض التي يخطط لتطويرها وهو يتمشّى حول الممتلكات، فيخطر بباله نموذج معين، فيعمل على دراسته، ليس فقط على أرض الواقع من خلال معاينته لهذه البقعة، بل من خلال رسومات يضعها بنفسه أيضًا. ومع أن كثيرًا من الأفكار في جميع ميادين عمله كانت تأتيه على شكل وَمَضات، ومع أنه من المحتمل أن تراءت له في بعض الأحيان لمحة خاطفة للتصميم الشامل الذي خطط لاستعماله في إنشاء حديقة، إلا أنه كان يعمل بكلّ جُهد ومثابرة على تفاصيل وأبعاد رسوماته التي، وإن كانت ليست وفق مقياس رسم معيّن – لأن ذلك سيأخذ من وقته قدْرًا كبيرًا إضافيًا – إلا أن جميع أبعادها تكون قد حُسبت وحُدّدت. فعلى سبيل المثال: لِنَقُلْ إن ممرًا على الأرض، يعتبره شوقي أفندي رئيسيًا، يبلغ طوله مثلاً (25) مترًا وبعرض مترين؛ فعلى جانبيه يضيف (25) سنتمترًا لزراعة نباتات التحديد، ثم خلفه شريط بعرض (120) سنتمترًا لزراعة أشجار السرو التي تبعد عن بعضها (150) سنتمتراً… وهكذا. وعندما يصبح المخطط جاهزاً يذهب عادة إلى الموقع ويقف ويعطي تعليماته لعمال الحدائق كيف يضعونه على الأرض. وبواسطة خيط مشدود بين وَتَدين لتحديد مسار الخطوط الطويلة المستقيمة، وبخيط آخر، مثبت طرفه بوتد والآخر حرّ يدور كفرجار، يحدِّد به الدوائر، وباستعماله ‘الشِّبْر’ كمقياس في تحديد المسافات بين الأشجار، وباستخدامه ترابًا فاتح اللون يتم نثره لتحديد خطٍّ ما، وبطرق أخرى بسيطة مماثلة، غالبًا ما كان في فترة ما بعد ظهر يوم واحد فقط، ينفّذ مخططه لجزء كامل من الحديقة على الأرض بكل تفاصيله. ولأن شوقي أفندي كان عادة يعرف تمامًا ما ينوي القيام به، فكان يطلب عمّال حدائق آخرين حتى يتتبّعوا أولئك الذين يضعون التصميم على الأرض، بحيث يتمّ، أثناء سير العمل في تنفيذ المخطط على أرض الواقع، حفر الحُفر لأشجار السرو، وزراعة الأشجار، وإعداد أحواض الزهور وزراعة نباتات التحديد. كل هذا يتم وشوقي أفندي يتقدّمهم لتحديد القياسات والأبعاد! هناك مثل شائع بين العرب يقول بأن من يملك خاتم الملك سليمان في إصبعه، سيتغير كل شيء بطَرْفة عَيْن حينما يحرّكه. وهكذا درج بعض العمال العرب على القول بأن شوقي أفندي قد وجد خاتم الملك سليمان!

من الصعب أن ندرك لماذا معظم الناس يُنجزون الأعمال ببطء في الوقت الذي ينجزها شوقي أفندي بسرعة فائقة. فمجرد ترديد القول بكل أمانة وإخلاص بأن’الهداية الإلهية تقوده’ لا يبدو لي تعليلاً كافيًا. أعتقد أن عظماء الناس يرَوْن الأشياء بأبعادها الكبرى، بينما البسطاء يتعثرون بأصغر التفاصيل. فشوقي أفندي، كونه عظيمًا حقًا، ولأنه كان واضحًا في ذهنه ما يريد أن يفعله، كان لا يرى مبررًا للكثير من التفاصيل التافهة – منها على سبيل المثال التعليمات الثانوية التي يعطيها الفرد إلى من يعملون بإمرته ثم يترك لهم الخيار في تنفيذها حسب وتيرتهم الخاصة – لأن تمنعه من إنجاز كامل العمل تحت إشرافه مباشرة وفي عملية واحدة. لقد نظّم العمل بكل إتقان وأُنجِز في الحال على أتم وجه؛ فكل ما كان يستطيع أن يفعله بنفسه كان دومًا يُنجَز على هذا المنوال. وعادة ما كان التأخير وخيبة الأمل يحصلان عندما يكون مُضطرًا أن يوكِل العمل للآخرين.

يملك شوقي أفندي إحساسًا بالتناسب والتناسق لا يخيب. كان دومًا يقول عن نفسه بأنه لا يستطيع تخيُّل الأشياء، وبكلمات أخرى فإن شوقي أفندي لم تكن من ملكاته قدرة الفنان الذي يُغمض عينيه ويتصوّر ما يريده وكأنه حقيقة مُنجَزة ماثلة أمامه، إلا أن حضرته عندما كان يرى رسمًا لمخطّط، أو يكون قد حدّد أبعاده بنفسه ودرس طبيعة أرضه، نجد أن نِسَبَه في غاية الكمال. إن مزيجًا من هذا الإحساس بالتناسق، وأصالة لا تقيّدها الأعراف والتقاليد أو كثرة المعلومات، قد جعل من حدائقه لوحةً آسرةً وجميلة وفريدة للغاية. فإذا كان (كما يصرّح حضرته)، يفتقر إلى مَلَكة تخيُّل الشيء منجزًا، فإنه يمتلك بدرجة قوية تلك المقدرة الأخرى الخلاّقة للفنان الحقيقي، مقدرةً لأن يجعل من الشيء يتشكل بين يديه، وأن يتلقى إلهامًا في منتصف خطة وضعها فيتّبع مسار ذلك الإلهام بدلاً من أن تقيّده فكرة مسبقة يتخيَّلها.

لم تكن هذه الموهبة لتتجلّى في أي مكان بأكثر مما كانت عليه في تطوير الأراضي المحيطة بمقام حضرة بهاء الله في البهجة. كانت خطته الأصلية أن يجعل من المرقد المقدس والقصر المجاور له محورًا لشكل على هيئة عجلة كبيرة. وبعد أن تمّت الإجراءات النهائية مع الحكومة لتسجيل ما يلزم من الأراضي، وتمّ تأمين ما مساحته (145) دونمًا حول المرقد المقدس عام 1952، شرع شوقي أفندي في العمل على تسوية الأراضي البكر في القسم الذي يشكّل ربع مساحة دائرة شاسعة تقع في مواجهة المقام المقدس. فاستؤجرت جرّافة لهذا الغرض، وأقام شوقي أفندي في البهجة عدة أيام ليدير العمل بنفسه.

كان هناك بناء من غرفة واحدة خَرِبة تقع في محيط العمليات، ولمّا كان شوقي أفندي يتطلع إلى الحصول على منظور أوسع للأراضي، فقد صعد على سطح الغرفة فوجد أمامه رؤية أفضل لما حوله، فعمدَ إلى ترميم جدرانها وسقفها، ووُضع سُلَّمٌ خشبي خارجي يؤدي إلى سطحها، كما جُهِّز داخلها بالأثاث واستعملها بعد ذلك مكتبًا ومكانًا يعدّ فيه ردوده على بريده. بفضل مراقبته العمل وتوجيهاته من هذه النقطة الجديدة المُشرفة استطاع أن يحصل على منظور مختلف تمامًا للممتلكات حول المرقد المبارك التي تقع وسط سهل منبسط. هذا الوضع قد أَلْهَمه فكرة جديدة؛ فلمّا كانت هناك كميات كبيرة من الأتربة قد جُرّفت نتيجة أعمال التسوية، فقد أعطى تعليماته بأن تزاح كلها إلى الجهة الشرقية. وبذلك ارتفعت هناك تلّة ترابية يمكن للواقف عليها أن يكشف المنطقة المنبسطة أمامه بأكملها فتبدو للمشاهد وكأنها سجادة جميلة منقوشة. لقد أبهج وليَ الأمر نجاحُ هذه الخطة كثيرًا حتى إنه أمر ببناء مصطبتين مدرّجتيْن لا شرفة واحدة ترتفعان بما يعادل تلّة صغيرة.

كان توجُّه ولي الأمر نموذجيًا في نهجه في جميع مواقفه تجاه الأمر المبارك الذي اختير له الحامي الأمين، ذلك أنه حالما جُهِّزت المنطقة الجديدة أخيرًا بالكامل، وزُرعت بالمسطّحات الخضراء وبأحواض الزهور والورود، وثُبِّتت أعمدة الإنارة على طول الممرات الحمراء الجميلة، كان يعمد فورًا إلى نقل اجتماعاته إلى المحيط الخارجي لمنطقة التطوير الجديدة ليستضيف ضيوفه في الجزء نصف الدائري المواجه لمرقد حضرة بهاء الله على بُعد (100) متر تقريبًا من المكان الذي اعتاد أن يستقبلهم فيه سابقًا. لم أكن على علم بأن هذه الترتيبات قد جرى التفكير فيها. ففي ذلك المساء، عندما عدتُ إلى حيفا من الاجتماع، سألتُ شوقي أفندي حول هذا الموضوع فأجابني: ‘احترامًا للمرقد المطهّر’ نَقَلَ الاجتماع إلى مكان بعيد عنه. ومنذ ذلك الوقت فإن جميع الاجتماعات التي تُعقد في البهجة، بما فيها إحياء ذكرى صعود حضرة بهاء الله الذي يقع بعد منتصف الليل، أصبحت تُعقد في هذا الموقع الجديد.

بعد صعود شوقي أفندي، وتنفيذًا لرغبته المعلنة، رُفعتْ شرفة ثالثة على المصطبتيْن الأُخرييْن، وبذلك وُضعت اللمسات الأخيرة لترتيباته الرائعة لحدائق المرقد المبارك. وهذه الفكرة الجديدة تعني أن تصميمه الأصلي للحدائق على شكل عجلة عربة قد غُضّ النظر عنه كليًا، ذلك لأن نظام إلْتِقاء الممرات في مركز مشترك أصبح غير ممكن عمليًا. في كثير من الأحيان كان شوقي أفندي يُجري تغييرًا على خطته لأن عينه كانت تكشف له فورًا عما يشعر بأنه أكثر أهميةً وجمالاً.

كان عشق شوقي أفندي للنور عظيمًا كما كان للمولى من قبله، وكان يكره الإضاءة الداخلية الخافتة. إن عشقه للنور الساطع كان جليًّا للغاية، حتى إنني اعتدتُ أن أعترض على قيامه بالعمل تحت ضوء مصباح شديد الإنارة مُثبَّت على الطاولة ويسطع عمليًّا على عينيه، حيث كنت أخشى أن يكون ذلك فوق طاقة تحمُّلهما. غرفته الخاصة كانت تشعُّ بالأنوار دائمًا، والمقامات المقدسة جميعها تملؤُها المصابيح كبيرها وصغيرها. كان من أول ما فعله كولي لأمر الله أن وضع ضوءًا ساطعًا فوق باب المقام الأعلى لحضرة الباب المُواجِهِ للشرفات والشارع المستقيم في أسفل سفح الجبل المؤدي مباشرة إلى البحر. بمقدوري أن أتذكّر كيف كان أهل البلدة في عام 1923 يسخرون ويتساءلون لماذا يجب أن يكون هناك ضوء أصلاً. وكان هذا دون شك حافزًا لإقدام مسيحي متعصب يدعى دوميط[8]، بعد بضع سنوات، على نصب صليب كبير مضاء على سطح بنايته القائمة قريبًا من مرقد حضرة الباب، الأمر الذي لم يزعج شوقي أفندي بل وصفه بزهرة في عروة المقام الأعلى!

وهكذا بالتدريج أُضيئت الحدائق في كل من حيفا والبهجة بأعمدة إنارة جميلة من الحديد المطاوع ذات شعب أربعة، نُصب منها تسعة وتسعون عامودًا في البهجة وحدها. عندما حلّت الليلة التي أُضيئت فيها هذه لأول مرة بمناسبة عيد الرضوان عام 1953، واقتربنا من البهجة في السيارة، توهّجت السماء أمامنا بالأنوار وكأننا نقترب من مدينة صغيرة! أخبر ولي الأمر الزائرين الإيرانيين بأنها على الدوام كانت نورًا، إلا أنها الآن ‘نور على نور’ (في الأصل هناك تمثيل جميل تواريه الكلمات يُنوِّه إلى أن حضرة بهاء الله كالنور). بالإضافة إلى ذلك فقد أضيء المقام الأعلى في حيفا ليلاً بفيض من الأنوار الساطعة وكذلك المرقد المطهر للورقة المباركة العليا ومرقدا والدة حضرة عبد البهاء وشقيقه. هذا وقد أُرسِل طلب لشراء عاكسات كهربائية كاشفة وقوية لإضاءة مبنى محفظة الآثار العالمية أيضًا.

كل ما أنجزه وليّ الأمر كان في غاية الدقة. لم يترك شيئًا للصدفة، وأقل القليل منه لاجتهاد مساعديه العاملين وتقديرهم. من بين أمثلة كثيرة لا حصر لها على ذلك دقته المتناهية دائمًا في تحديد يوم الاحتفال بالأيام المحرّمة في حيفا تحديدًا دقيقًا. ولمّا كان هناك تفاوت في التواريخ القمرية [الهجرية] – التي تعتمد على ساعة ظهور هلال القمر في بعض الحالات – كان شوقي أفندي حريصًا جدًا على التحقُّق من ذلك في ضبط الموعد، وكذلك الأمر في وقت حدوث الاعتدال الربيعي بالضبط الذي لو حدث قبل ساعة معينة فإن ذلك يعني أن ‘السنة البهائية الجديدة’ ستبدأ في العشرين من مارس/ آذار بدل 21 منه. ونجد برقيات كهذه كان قد أرسلها حضرته إلى ابن خالته في بيروت عام 1923 يقول فيها: ‘تَحقّقْ من وقت حدوث الاعتدال الربيعي بالضبط وأبرقْ لي.’ لا شك أنه كان يعتبر المعلومات الصادرة عن الجامعة الأمريكية أدقّ علميًا مما هي محليًا. وفي عام 1932 أبرق إلى أخيه الذي كان يدرس آنذاك في الجامعة نفسها يقول: ‘تحقّقْ من عدد سكان الإمبراطورية الرومانية على وجه التقريب في أول قرنين بعد الميلاد…’ لم يكن شوقي أفندي دقيقًا فحسب، بل كان يُدرك، بفِطْنة الكاتب العظيم حقًا، أن الحقائق المقتبسة إذا ما وُضعت في مكانها الصحيح كان لها تأثير الأحجار الكريمة التي تزيّن قطعة من المجوهرات – فتُظهِر بذلك كامل إبداعها. خذ مثلاً الاستعمال العادي غير المثير للمعلومة التي تقول بأن مضيق ماكموردو ساوند[9] يقع على خط عرض 77 درجة جنوبًا في بحر روس[10]، إلا أن شوقي أفندي عندما أبلغ الأحباء بأن الكتب البهائية قد أُرسلت إلى البعثة الأمريكية للقطب الجنوبي وقاعدتها في مضيق ماكموردو، مضيفًا موقعها بالضبط بالنسبة لخطوط العرض، غدت المعلومة فجأة نابضة بالحياة ورومانسية ومثيرة!

في عام 1924 قام شوقي أفندي بكل جهد وتصميم على حل إحدى المشاكل التي كانت تواجهه آنذاك. لقد سبق أن جعل الأمر واضحًا تمامًا لضامري الضغينة من حوله بأنه ليس هو بالضعيف – رغم الوضع الذي وُضِع فيه بعد صعود المولى – ولا هو بذاك العاجز عن الإمساك بزمام الإدارة واتخاذ القرار. في واحدة من رسائله كتب يقول: ‘ليس سهلاً أن تكسر بعض عادات الماضي وتقاليده، فتجعل عددًا كبيرًا من البهائيين، المتباينة أفكارهم ومفاهيمهم، يعتادون على تغييرات ومتطلبات ضرورية في هذه المرحلة الجديدة من تاريخ الأمر المبارك.’ مع كل ذلك كان يفعل هذا، ويفعله بنجاح تامّ. إن ما كان في أمسّ الحاجة إليه في حيفا وبشكل ملحّ هو مزيدٌ من المساعدين. فوالدُهُ قليل المعرفة باللغة الإنكليزية، وأزواج خالاته الثلاثة اثنان منهم لهما أعمالهما الخاصة في حيفا والثالث كان يعيش في مصر، ثم إن شقيقه وأكبر أبناء خالاته كانا منشغليْن إما في الدراسة أو في العمل. ومع أن حضرته تلقّى المساعدة من عدّة أفراد من عائلة حضرة عبد البهاء، فإن أعمال الأمر المبارك كانت في اتساع مطّرَد، وشوقي أفندي كان قد بدأ في ترجمة الكثير من الآثار البهائية إلى اللغة الإنكليزية وإرسالها إلى أحباء الغرب، وفوق هذا مراسلاته التي كانت تتنامى في كمّها مسببةً له مشكلة حقيقية. في يناير/ كانون الثاني 1923 كتب إلى البهائيين في لندن يقول: ‘إن وجود مَن هو كَفُؤٌ ليساعدني في أعمال الترجمة في الوقت الحاضر بحيفا مُرحّب به للغاية ومرغوب فيه بدرجة كبيرة. أضع هذا الموضوع أمام أعضاء المجلس علّهم يدرسونه ويرسلون أحد الأحباء الإنكليز لفترة محدودة للقيام معي بهذا العمل بالغ الأهمية.’

إن الشخص الذي بدا أنه استجاب لهذا النداء لم يكن سوى محبوب شوقي أفندي د. إسلمنت، حيث أقام في حيفا يعمل مع حضرته ويقوم على خدمته إلى أن وافته المنية فجأة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1925. لم يكن إسلمنت في صحة جيدة لبعض الوقت، وبعد صعود المولى بقليل نجده يبرق لشوقي أفندي في فبراير/ شباط 1922 قائلاً: ‘أتعافى بشكل مُرْضٍ. وصلتني ألواح الوصايا. – المخلص.’ كانت تربطهما علاقة حميمة، وعندما توفي د. إسلمنت على نحو غير متوقع أبرق شوقي أفندي إلى أقربائه قائلاً: ‘غمرني الحزن والأسى بوفاة عزيزي المحبوب إسلمنت. كل الجهود المخلصة لم تُجدِ نفْعًا. نؤكد لكم تعازينا القلبية باسمي واسم البهائيين في العالم. ستصلكم رسالة لاحقًا.’ وبعد أربعة أيام كتب إليهم قائلاً: ‘لستُ أبالغ في قولي بأنني لا أجد الكلمات المناسبة والكافية للتعبير عن الإحساس الشخصي بالخسارة التي أشعر بها بفقدان مساعدي وصديقي جون إسلمنت.” لم يكن د. إسلمنت شخصية عالمية معروفة متميّزة في العالم البهائي فحسب – وهو مؤلّف الكتاب الذي قال عنه شوقي أفندي ‘من شأنه أن يُلهم أجيالاً لم تولَد بعد’ (بهاء الله والعصر الجديد، الذي تُرجم حتى الآن إلى مائة لغة تقريبًا)، بل كان لشوقي أفندي شخصيًا ‘الصديق الحميم الأَكثر قُربًا، والمستشار الأمين، والمساعد الذي لا يكلّ، والرفيق المحبّب’ الذي انتهت الآن بشكل مباغت تمامًا علاقته الوثيقة معه، تلك العلاقة التي كان قد ‘عقد عليها أعزّ الآمال’. ذرف شوقي أفندي الدموع على صديق كان بجانبه أيام دراسته، إلا أنه بحكم وظيفته ومقامه كما هو الحال دومًا، وبالرغم من حزنه الشخصي، كان مرغمًا على مواصلة مهامه كولي لأمر الله. أبرق على الفور إلى أحباء إنكلترا وأمريكا وألمانيا وإيران والهند ليرسلوا برقيات التعازي لأقارب إسلمنت – جميعهم كانوا غير بهائيين – وأن يقيموا مجالس تذكُّر خاصة، كما رَفَعَه بعد وفاته إلى مرتبة أيادي أمر الله.

إن قدوم د. إسلمنت إلى حيفا لم يؤدِّ أبدًا إلى حلّ مشكلة شوقي أفندي الشخصية، بل عمل فقط على إضافة حزنٍ جديد إلى قلبٍ مكلومٍ مُبْتَلٍ. في يناير/ كانون الثاني 1926 شكا شوقي أفندي من ‘عبء المسؤوليات الجسام والهموم المقدّر لي شرف حملها على كاهلي.’ ثم يسترسل ويتكلّم عن ‘كدّي المتواصل، والمحن، والتعقيدات المتشابكة’، و’الطريق الشائك’ أمام ‘واجباتي الشاقة’. وبعد أربعة أشهر كتب إلى هورِس هولي[11] يقول: ‘كثيرًا ما انتابتني رغبة شديدة في أن يكون لي مساعد مثلك يعمل إلى جانبي هنا في حيفا. إن فقدان د. إسلمنت كان وقْعُه عليّ شديدًا، وأملي أن تمكّنني الظروف والأوضاع هنا في الداخل وفي الخارج من وضع أساس للعمل في حيفا على قواعد أكثر منهجية. أنتظر الوقت المواتي لذلك.’ كُتِبَتْ هذه الرسالة في مايو/ أيار، وفي سبتمبر/ أيلول كتب رسالة أخرى إلى هورِس مادحًا خدماته ومؤكدًا من جديد قوله: ‘كم أشعر أني بحاجة إلى من هو مثلك يعمل إلى جانبي في حيفا، على درجة من الكفاءة والدقّة والعمل المنهجي واليقظة كما أنت عليه. لا يمكنك بل ولا يجدر بك ترك موقعك حاليًا، وعلى حيفا أن تتدبر أمورها بنفسها لبعض الوقت.’

كان ذلك خلال الفترة بين هاتين الرسالتين وشوقي أفندي في سويسرا عندما كتب في 30 يونيو/ حزيران 1926 إلى هيبوليت دريفوس - بارني قائلاً: ‘لا زلتُ في حاجة إلى سكرتير قدير جدير بالثقة، مثابر لا يكلّ، منهجي وخبير يجمع بين موهبة التعبير الأدبي والمكانة المشهودة في العالم البهائي. كان د. إسلمنت رفيقًا مناسبًا جدًا، لا يعيقه شيء، مثابرًا، قديرًا، متفانيًا، ومتواضعًا، أتحسّر لفقدانه… وإنني أشعر أن وجود سكرتير إلى جانبي كفؤ مثابر مكرِّس نفسه لعمله بكل إخلاص، بالإضافة إلى مشاوريْن رئيسيْن اثنين يمثِّلان الأمر المبارك في مناسبات خاصة بكل إخلاص وإجلال، مع مساعديْن من الشرق متّصفيْن باليقظة واتساع المعرفة، هو ما سيجعلني أقف على قدمي ويعمل على تحرير القوى التي سوف تنطلق بالأمر الإلهي وتصل به إلى ما قُدِّر له من تحرُّر وانتصار… لا استطيع التعبير عن نفسي بشكل أوفى لأن ذاكرتي عانت الكثير.’

ومع أن هذه الرسائل قد وُجّهت إلى أفراد إلا أن حضرته لم يكتم ما هو في حاجة إليه. ففي أكتوبر/ تشرين الأول 1926 كتب إلى أحباء أمريكا بأن: ‘تعاظم أهمية وتعقيدات العمل الذي يجب بالضرورة إدارته من الأرض الأقدس، قد ساهمت كلُّها في تقوية الشعور بالضرورة القصوى لتشكيل نوع من هيئة بهائية عالمية للسكرتاريا في حيفا التي، بصفتها الاستشارية والتنفيذية، سوف تساعدني وتكون عونًا لي في أعمالي المتَّسعة والمُجهِدة للغاية.’ ويمضي في قوله بأنه: ‘فكّر في هذا الأمر الهامّ بتَوْق ولهفة’، فطلب ثلاثة ممثلين من كل من أمريكا وأوروبا وإيران للحضور إلى الأرض الأقدس من أجل التداول معهم في الإجراءات اللازمة لمواجهة متطلبات الساعة، وصرّح بأن هذه الخطوة لن تساعده وتقوّي الروابط بين المركز العالمي والعالم البهائي بأجمعه فحسب، بل ستوفر الخطوات الأولية التي سوف تؤدي إلى تأسيس ‘أول بيت عدل عالمي’ أيضًا. وكان في شهر مايو/ أيار قد كتب إلى واحد ممّن كان يفكّر فيهم: ‘اتطلّع لمعرفة ما إذا كان بإمكانك أن تلتحق بي في الخريف القادم مع السيد (هـ) في عملي هنا بحيفا. إنني أواجه أصعب المشاكل وأكثرها دقة وتعقيدًا، وأنا في أمسّ الحاجة إلى معاونين أكفاء جسورين وأهلاً للثقة… يجب أن أتوقف عن الكتابة الآن لأنني بالكاد أستطيع أن استجمع أفكاري.’

إن التعاون الذي كان ينشده شوقي أفندي في رسالته تلك لم يرَ النور أبدًا رغم ما بذله من مجهودات. فالاعتلالات الصحية، والأحداث التي أحاطت بأمر الله، إلى جانب تعقيدات ومضاعفات عائلية ومهنية أصابت حياة أولئك الذين كان يفكّر فيهم، قد تكالبت كلها لتتركه وحيدًا محرومًا من مساعدين أكفاء مثلما كان حاله منذ توليه مهامَّه في مكتبه وليًا لأمر الله عام 1922. في فبراير/  شباط 1927 كتب إلى أحد أولئك الذين اختارهم: ‘… آمل أن تتمكّن من مشاركتي أعباء وظائفي الشاقَّة بالسرعة الممكنة ووقتك المناسب.’ وفي شهر سبتمبر/  أيلول كتب ثانية إلى ذلك الصديق الذي أبقاه المرض حبيس منزله: ‘أنظرُ إلى العمل في الشتاء القادم بقلق وأنا مدرك أن عملاً ضخمًا ينتظرني بينما أقف وحيدًا في مواجهة مهامّي الجِسام. وكما سبق ولاحظتُ، فإن المؤتمرات لن تفي بالغرض، فما أحتاجه هو تعاون وثيق ومستمر من أجل البدء بالتدابير اللازمة لانتشار أمر الله واستحكامه ثم تنفيذها. وفي غضون ذلك عليّ أن أتابع السير في خطِّ عَمَلي الحالي مع شعوري بأنه ثانوي في أهميته ويمكن أن يتولاّه مكتب السكرتاريا بكل سهولة…’ ونجده يكتب ثانيةً إلى هذا الشخص البهائي في أكتوبر/ تشرين الأول قائلاً: ‘أنا في الوقت الحاضر وحيد وأبذل كلَّ ما في وسعي.’ وفي يناير/ كانون الثاني 1928 كتب يقول: ‘كل الأمور الأخرى لا زالت معطَّلة، وأنا منتظرٌ اهتمام ومساعدة معاونين أكفاء ومتفانين وذوي خبرة.’

إن الصورة التي تعطيها لنا هذه الأوضاع عن ولي الأمر ليتفطّر لها القلب. فهو لم يَعُدْ ذاك الشاب الفتيّ ولا ذلك الإنسان الذي سحق قلبه الحزن والأسى تمامًا في بداية ولايته؛ إنه يرى الآن متطلّبات أمر الله واحتياجاته، ويشاهد الفُرص المتاحة أمامه إذا ما كان لديه مزيد من المساعدة فيكون بالتالي شخصيًا أكثر حرية ليكرِّس وقته للضروريات – ولكن لا جدوى؛ فنوعية المساعدين المطلوبين كانوا بكل بساطة غير قادرين أو غير راغبين في التخلّي عن كل شيء للمجئ والإقامة في حيفا. في رسالة كتبها أحد الزائرين من الهند يوضّح فيها الوضع بكل جلاء، وليس هناك أدنى شك بأن الشخص الذي جعل الأمر في غاية الوضوح هو شوقي أفندي نفسه، ذلك لأنه اعتاد أن يخاطب زائري الأرض الأقدس بكل صراحة. كتب ذلك الزائر الهندي رسالة في 15 يونيو/ حزيران 1929 يقول فيها: ‘يريد شوقي أفندي أن يؤسّس مكتبًا عالميًا للسكرتاريا في حيفا قبل إنشاء أية مؤسسة عالمية أخرى فيها، إلا أن الفكرة لم ترَ النور نظرًا للافتقار إلى عدد كافٍ من البهائيين القادرين والجديرين بالثقة…’

بقي الأمر على حاله مُعلَّقًا إلى أن تشكّل المجلس البهائي العالمي عام 1951، ذلك لأن شوقي أفندي خَلُصَ إلى حقيقة مُرّة تؤكد أنه وحيد رغم كل النوايا والمسببات، وازداد بذلك اعتماده على نفسه. لقد هيّأ نفسه للقيام بكامل العمل، وقام به، مستعينًا بمختلف أفراد عائلة المولى كسكرتارين، وواجه بذلك ارتفاع وتيرة روح الاستياء المتواصل من جانبهم، مستسلمًا للعمل الشاقّ الذي لا ينتهي في مهمّات ثانوية بالإضافة إلى أخرى رئيسة، راضيًا بقَدَره بغاية التسليم، قانطًا في أغلب الأحيان، ثابتًا مخلصًا في كل الأحوال. يمكن القول عنه بحقّ بأنه قام وحيدًا بتأسيس دين أجداده المقدسين على نطاق عالمي، وأثبت أنه ينتمي إلى تلك السلالة العظيمة نفسها.

في تلك السنوات، وعندما كان شوقي أفندي يسعى جاهدًا أن يجمع حوله مجموعة من العاملين المساعدين الأكفاء، تفجّرت أزمة غير مسبوقة في أبعادها لتنقضّ عليه. إن بحر “أمر الله” الذي ضربته في آنٍ معًا أرياح القَدَر والمصادفة العَرَضية التي تهبّ عليه من العالم الخارجي، قد اندفعت الآن كعاصفة هوجاء تضرب بأمواجها كلسع السياط، ودونما رحمة، على عقل شوقي أفندي وقواه وأعصابه وموارده؛ فالبيت المبارك الذي شغله حضرة بهاء الله في بغداد، والذي قضى أن يكون، كما جاء في كلمات شوقي أفندي ‘مقصد حج البهائيين المقدس المطهّر المعزّز وتبجيلهم’ قد سبق أن استولى عليه الشيعة أيام حضرة عبد البهاء بعد سلسلة من المناورات الخبيثة، ثم أُعيد إلى وُصاته الشرعيين بقرار من السلطات البريطانية. ما إن وصلت أخبار صعود حضرة عبد البهاء إلى مسامع أعداء الدين اللدودين حتى جدّدوا ثانية هجومهم ورفعوا دعوى يطالبون فيها بـ ”البيت”. في عام 1922 استولت الحكومة على مفاتيح “البيت” في بغداد رغم تأكيد الملك فيصل على احترام حق ادعاءات البهائيين في “المبنى” الذي كان ممثلوهم يُشغِلونه منذ أن غادر حضرة بهاء الله بغداد، والآن رجع جلالته عن وعده لأسباب سياسية، وفي عام 1923 سُلّمت مفاتيح “البيت” ظلمًا وبهتانًا للشيعة مرة ثانية. بعد صعود حضرة عبد البهاء بوقت قصير وحتى شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1925 شهِدت تلك الفترة نضالاً دؤوبًا من قبل البهائيين من أجل حماية “البيت الأعظم”. في البداية رفع الشيعة دعواهم لدى محكمتهم الشرعية، ومن هناك رُفعت القضية على جناح السرعة إلى محكمة “الصلح”، ثم عُرضت أمام محكمة البداية المحلية التي قررت أن “البيت” من حق البهائيين. استأنف الشيعة الحكم لدى محكمة الاستئناف ثم المحكمة العليا في العراق التي أصدرت حكمها لصالح الشيعة.

ما إن أُعلم ولي الأمر بهذا الفشل الفاضح في تحقيق العدالة، حتى جنّد العالم البهائي لاتّخاذ إجراء فوري: فأرسل تسع عشرة برقية إلى مختلف الأفراد والهيئات المركزية التي تضمّ أحباء في إيران والقوقاز وتركستان والعراق واليابان وبورما والصين وتركيا وموسكو والهند وأستراليا ونيوزيلندا وكندا والولايات المتحدة وألمانيا والنمسا وفرنسا وبريطانيا العظمى وجزر المحيط الهادئ. كانت تعليماته تنصُّ أن على البهائيين أن يُبرِقوا ويكتبوا للمندوب السامي البريطاني في العراق مُحتجّين على هذا القرار. وأخبر الأحباء في إيران وأمريكا الشمالية – حيث الجامعات البهائية ذات العدد الكبير – أنه بالإضافة إلى أصوات الاحتجاج المباشَر من كل محفل روحاني محلي، فإن على المحفل الروحاني المركزي ألا يقتصر في اتصالاته على المندوب السامي فحسب، بل وأن يحتجّ مباشرة لدى الملك فيصل والسلطات البريطانية في لندن في آن معًا. وبالمثل طلب من المحفل الروحاني المركزي للهند وبورما أن يقدّم احتجاجه لدى الملك فيصل نفسه دون الاتصال بلندن. أما في الأماكن حيث عدد الأحباء قليل نسبيًا مثل فرنسا والصين، فقد نصحهم شوقي أفندي أن يرسلوا احتجاجهم موقّعًا من الأفراد. كل هذه التوجيهات تُبرِز بشكل ملحوظ أسلوب شوقي أفندي في التخطيط. في برقياته للعالم البهائي أعلن أن الوضع ‘محفوف بالمخاطر’ و’العواقب وخيمة للغاية’، وأن على الجميع أن يطلبوا ‘إجراءً فوريًّا من أجل سلامة وحماية حقهم الروحاني كبهائيين في هذه البقعة العزيزة المحبوبة’، ‘هذا المقام المطهّر’، ‘بيت بهاء الله المقدس’. لقد وضع في أفواه الذين نصحهم العبارات المناسبة، فالأحباء الشرقيون أُخبروا بأن يستأنفوا بإصرار وبـ’حرارة ولباقة’ و’بلغة حازمة مدروسة’ مطالبين بـ’الأخذ بعين الاعتبار بحقهم الروحاني في ملكيته’، ومنوّهين بـ ’الحسّ البريطاني بالعدالة’. بينما أُعلم الأحباء الغربيون بأن هناك ‘حاجة ملحّة لعمل فوري ومؤثر… محتجّين بشدة ضد حكم المحكمة الفاضح الجائر، وأن يستأنفوا لرفع هذا الظلم متطلعين إلى الحِسّ البريطاني بالإنصاف، ومؤكِّدين على أحقيَّة المطالب الروحانية للبهائيين… معلنين عن عزمهم الأكيد لبذل أقصى جهدهم في الدفاع عن حقوقهم الشرعية المقدسة.’ وبشموليّته المعهودة وجّه شوقي أفندي نُصحه لأمريكا بأن العرائض التي تُرسل بواسطة المحافل الروحانية المحلية ‘يجب ألاّ تكون متطابقة في نصّها’.

إن تبادل ما يقرُبُ المائة من البرقيات خلال ستة شهور، بالإضافة إلى مراسلات مستمرة مع هيئات مختلفة تعمل من أجل حماية “البيت الأعظم”، إنما تقف شاهدًا – بنصّها وعددها –
على مدى استغراق شوقي أفندي في هذه المعضلة. فكان من أولى خطواته، بعد عِلْمه بقرار المحكمة العليا، أن أبرق إلى المندوب السامي البريطاني في بغداد قائلاً: ‘إن بهائيي العالم قاطبة ينظرون بكل دهشة وذُعر إلى قرار المحكمة غير المتوقع الخاص بمِلكية ‘البيت المقدس لحضرة بهاء الله’، وإذ يضعون في اعتبارهم أنهم شغلوا هذا الممتلك أمدًا طويلاً ومتواصلاً، فإنهم يرفضون أن يصدّقوا بأن ظلمًا فاضحًا كهذا يمكن لسعادتكم أن تُقرّوا به على الإطلاق. إنهم يأخذون على أنفسهم عهدًا مقدسًا للوقوف بحزم لحماية حقوقهم. فهم يناشدون فيكم ذلك الحسّ العالي بالشرف والعدالة من منطلق إيمانهم الأكيد بأنه المحرّك الحيوي لإدارتكم. باسم عائلة السير عبد البهاء عباس وكامل الجامعة البهائية – شوقي ربّاني.’ وفي اليوم نفسه أبرق إلى منكسر القلب، ‘حارس بيت حضرة بهاء الله’ قائلاً: ‘لا تحزن، فالأمر مفوَّضٌ لله. كن مطمئنًا.’

وخلال الشهور التي تلت أرسل شوقي أفندي العديد من البرقيات تتضمن عبارات من قبيل: ‘قضية “البيت” يجب متابعتها بحماس متّقد.’ كما أبرق إلى عدد من الشخصيات المرموقة غير البهائية، ودأب على تنسيق جهود من كانوا يقومون مقامه في أنحاء مختلفة من العالم. وبعد مرور أكثر من شهر أبرق شوقي أفندي إلى عدة محافل روحانية مركزية طالبًا منهم أن يستفسروا ‘بعبارات لَبِقة’ من المندوب السامي عن ‘نتائج التحقيقات’ التي وَعَدت السلطات البريطانية بإجرائها. لقد كانت معركةً خاسرة، ذلك لأن الجهات السياسية والدينية في العراق، بدوافعها ومقاصدها المشتركة، رفضت الإذعان للضغوط التي مورست عليها بما فيها ما كان من الحكومة البريطانية.

ومع ذلك لم يقبل شوقي أفندي بالهزيمة بهذه السهولة، ولم يعرف الراحة حتى عُرضت قضية “البيت المبارك” على وكالة المفوضية الدائمة لعصبة الأمم في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1928؛ أيّدت سُلطة المفوضية حق البهائيين في مِلكية “البيت”، وأوصت وكالة المفوضية مجلسَ عصبة الأمم بضرورة الطلب من الحكومة البريطانية أن تُقدّم للحكومة العراقية عرائض احتجاج تطالب فيها بالتراجع عن إنكار حق البهائيين العادل في هذه القضية. استمر البهائيون في ضغوطهم المتواصلة على هذا الموضوع من عام 1928 وحتى عام 1933، ولكن دون جدوى نظرًا للافتقار إلى آليات تنفيذ القرار، ناهيك عن أن نفوذ الشيعة في العراق كان من القوّة بحيث كان يدفع الحكومة العراقية إلى إسقاط القضية بالكامل كلما مورس عليها ضغط لتنفيذ القرار.

إن استعراضًا موجزًا لأحداث كهذه لا ينقل إلينا ما يرافقها من أحداث مثيرة يومًا بعد يوم: تقلبات بين الأمل والخيبة، بين خبر سارٍّ وآخرَ سيء، تتعاقب جميعها لتُرهِق القلب وتُنهِك القُوى. فما كاد ولي الأمر يتلقّى صدمته الأولى جراء قرار المحكمة العليا، حتى حدثت وفاة د. إسلمنت المفاجئة. فجاء فقدانه لصديقه في وقت الأزمة تلك ضربة مؤلمة مضاعفة على ولي أمر الله.

قبل أسبوع فقط على هذا الحدث أرسل شوقي أفندي رسائل إلى العالم البهائي عكست نقطة هامة مُقْلقة أخرى كانت تُشغل باله في ذلك الوقت. لقد أُشيع بأن جثمان أحد قادة الحركة الصهيونية البارزين قد يتم إحضاره إلى الأرض الأقدس ليُدفن بشكل لائق على جبل الكرمل. إزاء هذا الخبر ما كان من شوقي أفندي إلاّ أن سارع إلى مناشدة الأحباء للتبرع من أجل شراءٍ فوريٍّ لأراضٍ في جوار مرقد حضرة الباب، خاصة ما كان منها مُطلاًّ عليه، بقصد حماية هذه البقعة المقدسة. كم كان غامرًا تجاوبهم، إذ بعد ما يزيد عن الشهر بقليل استطاع حضرته أن يبشّرهم بتحقُّق الهدف بفضل دعمهم السخي الرائع، إلا أنه لم يكن هناك شك في أن هذا أيضًا قد أضاف، ولو لفترة قصيرة على الأقل، عِبْئًا ثقيلاً على همومه القاصمة للظهر.

كان هذا العبء من الثّقل ما دعا ولي الأمر إلى الكتابة إلى أحد الأحباء في فبراير/ شباط 1926 قائلاً: ‘أنا غارقٌ في بحر من المشاغل والنشاطات والهموم. فِكْري مرهق للغاية، وأشعر أنني أصبحت بطيئًا غير فعّال من شدة هذا الإرهاق الذهني.’ وقد وصل به تفاقم هذه الحالة إلى أن وجد نفسه مضطرًا أن يبتعد قليلاً طلبًا لراحة قصيرة. وفي أواخر شهر مارس/ آذار كتب يقول: ‘إن الأعباء التي غمرتني بمسؤولياتها وهمومها الضاغطة الملحّة اضطرتني إلى المغادرة في وقت… كنت أتوق فيه جدًا إلى استقبال أحبائي وشركائي في العمل من مختلف أقطار العالم.’ لا بدّ أنه كان مريضًا حقًا مما اضطره إلى مغادرة حيفا والابتعاد عن ضيوفه. ولكن مهما كانت حالُه في شهريْ فبراير/ شباط ومارس/ آذار فإنها كانت معتدلة إذا ما قورنت بما آلت إليه حاله عندما جاءته برقيةٌ من إيران أُرسِلت من شيراز في 11 إبريل/ نيسان، وكتبت بصيغة مباشرة صريحة تقول: ‘استُشهد اثنا عشر حبيبًا في بلدة جهروم. قد يمتد الهيجان إلى أماكن أخرى’، والتي ردّ عليها حضرته في اليوم نفسه: ‘صعقتني هذه الرزية المفاجئة. أوقفوا جميع النشاطات. تظلّموا لدى السلطات المركزية. انقلوا لأقارب الشهداء تعازينا القلبية.’ كما أبرق في اليوم نفسه برسالة إلى طهران تعبّر أفضل تعبير عن روح الأمر وترتبط ارتباطًا لا يمكن تجاهله بأحداث جهروم: ‘أُناشد جميع الأحباء في إيران وتركستان والقوقاز أن يشاركوا في تجديد انتخاب محافلهم الروحانية بكل قلوبهم، فليس من بهائي حقيقي يمكن أن يقف جانبًا. أرسلوا نتائج الانتخابات على وجه السرعة إلى الأرض الأقدس من خلال المحافل الروحانية المركزية واتّصلوا فورًا بكل مركز. امضوا قُدُمًا بحذر. التمسوا العون الإلهي.’ في اليوم التالي، وقد استلم تفاصيل أكثر في برقية من شيراز تفيد بأن رأس المحرّضين على الهيجان هناك قد قُبِض عليه وتتضمن اقتراحات محددة، أبرق شوقي أفندي إلى طهران قائلاً: ‘ضَرَبَتنا مأساة شهداء جهروم بشديد الحزن والأسى. بالنيابة عني وعن الأحباء انقلوا إلى جلالة الملك تقديرنا العميق على تدخّله العاجل، والتماسَنا الجدي بأن يُنْزل العقوبة الفورية بمرتكبي هذا الجرم الشنيع. حُثُّوا جميع المحافل الروحانية في إيران على إرسال رسائل مماثلة.’ إنها دلالة، وإن كانت بسيطة، ولكنها هامة وتدل على حالته الذهنية حيث كتب اسم البلدة في برقياته الأولى كما يتم لفظها “جَهْرُم” (Jahrom) ثم تحوّل حضرته إلى كتابتها حسب تهجئتها الصحيحة “جَهْرُوم” (Jahrum).

ما كان يعنيه كل هذا بالنسبة لشوقي أفندي قد عبّر عنه بنفسه في رسالة كتبها إلى أحد شركائه العاملين في 24 إبريل/ نيسان. فبعد إعلامه باستلام رسائله العديدة بيّن له أن سبب تأخيره في الرد عليها راجع إلى ‘مَرَضي الذي تفاقَمَ لسوء الحظ وكاد يُفضي إلى الانهيار، والذي تزامن مع ما حَمَلَتْه لي الأخبار المُحزنة من إيران باستشهاد اثني عشر شخصًا من أحبائنا في بلدة جهروم جنوب شيراز. لقد أبرقتُ طالبًا الحصول على تفاصيل كاملة وفي نيّتي أن أشارك مختلف المراكز البهائية بمضمونها فور وصولها. يبدو أن الاعتبارات السياسية والمنافسات الفردية قد لعبت دورًا ليس بالصغير… بعثتُ برسالة إلى الشاه بواسطة المحفل الروحاني المركزي في إيران… كما طلبتُ من محافل روحانية خارج إيران أن تنشر هذه التقارير في صحفها الخاصة بعلانية تامة وبلغة تخلو من أية نبرة عدائية، إلا أنني انتهيتُ إلى أنه لم يئن الأوان بَعْدُ لأن يسعَوْا إلى اتّصال مباشر مع الشاه… إنه لأمر محزن وباعث للضيق عندما يفكر المرء بأن البهائيين، نظرًا لما هم عليه من ضغوط تحت نير الكثير من تلك البلايا والظروف المُذِلّة، يبدو أنهم في الوقت الحاضر يقفون عاجزين تمامًا لا حول لهم في مجهوداتهم لتأمين الحماية الضرورية من السلطات المَعنية. ولا شك أن هناك بالتأكيد حكمة ما وراء إخفاقهم الواضح في مساعيهم المضنية.’ وفي برقية أخرى للشخص نفسه أُرسلت بعد أسبوعين يقول فيها شوقي أفندي بأنه ‘في غاية الحزن’.

في 21 مايو/ أيار نجده يكتب ثانية إلى البهائي نفسه مُفضِيًا له بمكنون قلبه قائلاً: ‘أجد نفسي مُنهَكًا تمامًا لأن أقوم بأي عمل فعّال حاليًا. غدوْتُ بطيئًا نافد الصبر غير كفؤ… أُفكّر بالابتعاد قليلاً إذا لم تبرز أزمة جديدة مفاجئة. لقد تلقيت الكثير منها في الأشهر القليلة الماضية…’ وبالرغم مما هو فيه، فقد نجح شوقي أفندي في عمَلِ ما اعتَقَدَ أنه يمكن عمله: ‘أشعر أنه بالصبر، باللباقة، بالشجاعة، وبما لدينا من إمكانات، يمكننا ان نستفيد من هذه التطورات في تعزيز مصالح أمر الله وتعاظُم تأثيره.’ لقد حشد حضرته قوى العالم البهائي في الدفاع عن الجامعة البهائية الإيرانية المضطهدة، وحرِص على نشر أخبار هؤلاء الشهداء في وسائل الإعلام الأجنبية على نطاق واسع، وواصل توجيهاته إلى المحافل الروحانية المركزية المختلفة فيما يجب اتخاذه من إجراءات بهذا الخصوص وبخصوص قضية “البيت الأعظم”.

تلك هي حكاية فترة واحدة من حياة ولي أمر الله؛ تُصوِّرُ لنا كم من اللطمات انهالت عليه في مدة قصيرة تجاوزت الستة أشهر بقليل، في وقت كان لا يزال يجاهد في سبيل الحفاظ على أعباء الحِمْل الذي وُضع على كاهله وقت صعود المولى متوازنًا بشكل سليم يستطيع به حمله!

[1]       Gladys.

 

[2]       Norwich.

 

[3]       Ferns.

[4]       Antipodes.

[5]       Alaine Locke.

[6]       Executive foresight.

[7]       Projective vision.

[8]       Dumit.

[9]       McMurdo Sound.

[10]      Ross.

[11]      Horace Holley.

 

الفصل الرابع مارثا روت والملكة ماري ملكة رومانيا

اعتاد شوقي أفندي التعليق بأن من رحم معاناته وآلامه يبدو دائمًا أن شيئًا ما يولد. كان يعاني تلك المحن مُكتويًا بنارها – لأنه بدا حقًا محترقًا بنار الآلام تمامًا – ثم يهطل عليه بعض الغيث من السماء على شكل بشارات سارّة تساعد في انتعاشه من جديد. أخشى أن لُغز التضحية لا يزال سرًا بالنسبة لي، إلا أنه من المؤكّد أن النفوس المقدسة في هذا العالم يدفعون ثمن انتصاراتهم بأغلى ما يملكون.

كان ذلك في هذا الوقت، والبلايا تطوّق ولي الأمر تمامًا، حينما نشرت مجلة تورنتو ديلي ستار[1] في الرابع من مايو/ أيار تصريحًا للملكة ماري ملكة رومانيا عبّرت فيه عن تقديرها العميق للدين البهائي، وهو تصريح تبعته تصريحات أخرى أثناء زيارتها للولايات المتحدة وكندا، وأوردته مائتا صحيفة إخبارية تقريبًا ليشكّل واحدًا من أوسع وأعظم مشاهد الإعلان العام عن الأمر المبارك لم يحظَ الدينُ بمثلها من قبل. في رسالة خاصة كتبها ولي أمر الله في 29 مايو/ أيار يشير إلى هذا بأنه ‘الحَدَث الأكثر إبهارًا والأعظم أهميةً في مسيرة تقدم أمر الله.’

إن إقرار ملكة رومانيا بمقام حضرة بهاء الله – باعتبار جلالتها أُولى الرؤوس المُتوَّجة التي تعتنق الدين – يعدّ بحدّ ذاته فصلاً من فصول حياة شوقي أفندي الذي لا ينفكُّ عن ارتباطه بخدمات مارثا روت، تلك ‘النجمة اللامعة الخادمة لدين حضرة بهاء الله’ كما دعاها شوقي أفندي، وبالدور الذي لعبته في حياته – ولا يمكن بحق أن يكتمل سردنا لحياة حضرته أبدًا دون التطرق إلى علاقة تلك النفس النبيلة به. كانت الآنسة مارثا روت تعمل صحفية، وتنحدر من عائلة أمريكية معروفة. تشرّفت بمقابلة حضرة عبد البهاء خلال زيارته للولايات المتحدة، ثم اشتعلت روحُها حماسًا بـ ”ألواح الخطة الإلهية”. فنهضت عام 1919 وبدأت أسفارَها التاريخية خدمةً لأمر الله، أسفارًا لم تكن الأطولَ والأبعد من أي رحلات قام بها فردٌ بهائي على الإطلاق منذ فجر تاريخ الدين فحسب، بل غالبًا ما كانت في ‘ظروف صعبة للغاية’ أيضًا كما صرّح ولي الأمر. عندما صعِدت روح حضرة عبد البهاء كان لها من العمر تسعٌ وأربعون سنةً. كانت امرأة عادية، أقصد أنها لم تكن جميلة أو جذّابة، ولكنها كانت تمتلك عينين زرقاوين صافيتين وجميلتيْن بشكل استثنائي، وهي على درجة متميّزة من الإيمان جعلتها توقن بأن حضرة بهاء الله قادر على كل شيء، وسوف يعمل كل شيء فقط إذا ما وقف المرء جانبًا وترك مشيئته تعمل كما اعتادت أن تقول. إنها بفضل رحلاتها التبليغية العظيمة – أربع منها دارت بها حول العالم بأكمله – مع ما تتمتع به من مناقب رائعة حقًا، قد جعلها عزيزة جدًا على شوقي أفندي وجعلته يدعوها بـ’زعيمة المبلِّغين البهائيين الجوالين’. لم تجلب خدَمات أحدٍ على الإطلاق ما جلبته خدماتها وانتصاراتها المتميّزة لحضرة ولي أمر الله من راحة ورضى. كتب عنها شوقي أفندي في أكتوبر/ تشرين الأول 1926 قائلاً: ‘حقًا لقد شاهدنا تمامًا في حالتها، وبأسلوب لا يمكن أن نخطئه، ما لقوّة الإيمان الذي لا يهاب شيئًا أن تحقّقه إذا ما اقترنت بشخصية سامية، وأيّ قوى يمكن لها أن تُطلِقها، وإلى أي ذُرىً سامكةٍ يمكن أن ترتقي.’

منذ مستهلّ ولاية شوقي أفندي لم تتوجَّه مارثا روت بقلبها المحبّ الكبير إليه فحسب، بل دأبت تنشد نصيحته بشأن خططها باستمرار. وليس من المبالغة في شيء إذا قلنا إن حضرته كان شريكها في كل إقداماتها، في شراكة اتّسمت بمحبة وثقة متبادَلة، وهو ما كان في غاية الندرة في حياة ولي أمر الله المُثقلة بالهموم. كانا على اتصال دائم بسيل من الرسائل والبرقيات تُخبره فيها بخططها وتُفصح عن احتياجاتها وما وُفِّقت إليه من انتصارات، ملتمسة هدايته ومتطلعة إلى ردوده واستجاباته التي لم تخفق يومًا في منْحِها الشجاعة والنصح. نجد في رسائله إليها، التي وصفها عام 1923 بـ ’إحدى حواريي عبد البهاء الغيورين الذين لا يُقهرون’، عبارات كهذه تكررت مرات ومرات معبّرًا فيها عن دفء مشاعره، وأنه قرأ رسائلها بـ’الفخر والامتنان’ والتي ‘أفرحت قلبي كالمعتاد’، وإنه ‘لشيء مُبهج دائمًا أن أسمع منكِ يا مارثا المحبوبة.’ وفي يوليو/ تموز 1926 كتب إليها، في وقت كانت تجري فيه اتصالاتها العديدة مع العائلات الملكية في أوروبا، قائلاً: ‘… اكتبي لي بالكامل وبلا انقطاع لأنني توّاق أن أسمع عن نشاطاتكِ وكل تفاصيل منجزاتكِ، مؤكدًا لك محبتي اللامحدودة…’ وفي أغسطس/ آب كتب يقول: ‘أتحرّق شوقًا إلى سماع كل التفاصيل الدقيقة عن إقداماتك المظفّرة في ميدان الخدمة… مرفق بطيه نسخة من خطابي إلى جلالة الملكة. لا تشاركي أحدًا بمضمونه.’ ولكنه سارَعَ بنفسه إلى إشراكها به كونها مبلِّغة جلالتها. وفي سبتمبر/ أيلول كتب يقول: ‘يسرني أن أشاركَكِ بمضمون رسالة ملكة رومانيا ردًّا على خطابي. أعتقد أنها رسالة رائعة تفوق أعلى توقّعاتنا. إن التغيير الذي طرأ عليها، وأسلوبها الصريح، وشهادتها النافذة، ووقفتها الباسلة، لهو حقًا برهانٌ بليغ مقنع على نفوذ الروح الغالبة لدين الله الحيّ، ودليلٌ على خدماتكِ الرائعة التي تقدمينها لأمر الله.’

إن روابط الثقة بين شوقي أفندي ومارثا تُظهِرها بكل وضوح تلك البرقيات المتبادَلة في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1926: ‘أيها المحبوب، هل توافق على استمراري بخطتي الأصلية بدءًا بالبرتغال في أواخر شهر نوفمبر/ تشرين الثاني. رجاءً أبرق.’ ليس هناك ما هو أرق وألطف وأكثر تعبيرًا عن طبيعة مارثا من ذلك التعبير القوي التحبُّبي ‘أيها المحبوب’ تبدأ به برقيتها، والذي كثيرًا ما كان ينساب منها بشكل عفوي تلقائي تجاه ولي أمر الله الذي تحبّه وتوقره إلى أبعد الحدود. فأجابها: ‘افعلي ما تُلهمك به الهداية السماوية. مع أرقّ مشاعر المحبة.’ وبعد ذلك بوقت قصير أرسل إليها خمسين جنيهًا إسترلينيًا ‘مشاركة متواضعة مني تجاه العمل الرائع الذي تقومين به من أجل أمرنا المحبوب.’ لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي يقوم بها بهذا العمل؛ إذ نجد حضرته بين الفَيْنَةِ والأخرى قد أرسل إليها مبلغًا من المال من أجل ‘عملِكِ الذي يُحتذى في الكَرْمِ الإلهي وحتى، كما جاء في كلماته، يساعد في ‘أسفارك المكثفة ونفقاتكِ المتزايدة وعملِكِ المذهل’، ومرة واحدة على الأقل حينما وصلته أخبار مرضها. وأرسل إليها أيضًا المال للمساعدة في أعمالِ ترجمةِ ونشر كتاب د. إسلمنت بلغات أجنبية مختلفة – والذي أشار إليه شوقي أفندي بأنه الكتاب المرجع عن الدين البهائي – وهو عمل انهمكت فيه مارثا روت بكل همّة ونشاط، وهو ما كان يحثها باستمرار على ترويجه، وفي أغلب الأحيان يرسل إليها التبرع لغرض آخر. أما الهدايا فلم تكن من جانب واحد بأي شكل من الأشكال. فنجد حضرته يكتب إليها: ‘استلمتُ خاتم الذهب الذي أرسلتيه لي… وبعد أن وضَعْتُه بإصبعي قدّمتُه للورقة المباركة العليا… لا يمكنك أن تتصوري مدى ما تقدمينه من مساعدة معنوية، وما تمنحينه من عزاء وإلهام لإخوة لنا في إيران تُنهِكهم المضايقات ويئنّون تحت وطأة الصدمات الموجعة. حقًا سيكون لكِ في عالم الملكوت أجر عظيم! وسيعضِّد الله ساعدك بقوة أكبر!’ ونقرأ في حاشية رسالته هذه المؤرخة فبراير/ شباط 1929 مضيفًا قوله: ‘استلمتُ المِنديل الجميل الذي أرسلتيه لي. استعمله دائمًا كذكرى عزيزة من شخصِكِ الغالي.’ طبيعيٌّ جدًا من شوقي أفندي أن يفكّر فجأة بأن مارثا روت ربما آلمها كونه وهب الخاتمَ للغير، فيسارع إلى طمأنتها بحرصه على استعمال المنديل! ويبدو أنهما تبادلا أشياء كثيرة؛ فقد اعتاد شوقي أفندي أن يرسل إليها كتبًا بهائية للتوزيع. في إحدى رسائله عام 1931 ذكر بأنه مُرسِل إليها رزمتين من الورق المروّس بالاسم الأعظم لاستعماله ‘في مراسلاتِكِ مع الشخصيات المرموقة’. ونجدها في إحدى المناسبات تحوّل له مبلغ (19) جنيهًا إسترلينيًا لتغطية نفقات برقياته لها ردًا على أسئلتها.

جاء في إحدى برقيات مارثا روت لشوقي أفندي: ‘أيها المحبوب الأرقّ، أتوق لسماع أخبارك.’ وفي إحدى رسائله لها يقول: ‘… أجيال لم تولد بعدُ ستهلّل في ذكرى مَنْ مهّدت السبيل، بكل نشاط وفعّالية وبسلاسة وروعة، لاعترافٍ عالمي بدين حضرة بهاء الله.’ دعاها حضرته بـ ’المنادي الفذّ لأمر الله’. إن ما عَنَتْهُ خدماتُها ورسائلُها بالنسبة لشوقي أفندي أثناء السنوات العشر الأولى من ولايته، في وقت كتب إليها بنفسه بأن استجابة الأحباء لمتطلبات ميدان التبليغ ‘ضئيلة جدًا وغير كافية!’ كان شيئًا لا يُوصَف. كتب إليها في العاشر من يوليو/ تموز 1926 يقول: ‘رسائلُك… أمدَّتْني بالقوة والبهجة والتشجيع في وقت كنتُ فيه حزينًا تعِبًا مُثبَطَ الهمّة.’ وفي يونيو/ حزيران عام 1927 نراه يؤكّد لها بأن مراسَلَتها لا تشكل له عبئًا، ‘… بل بالعكس فإنها تنعش روحي المرهقة وتُحيي فيّ روح الأمل والثقة التي تَسْوَدُّ أحيانًا نتيجة المشاغل الضاغطة والهموم المتعددة.’ وفي شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، عندما أُرسلت له في حيفا نسخة عن رسالة الأميرة إليانا[2] الموجهة إلى مارثا، أكّد لها شوقي أفندي أنها قد ‘جلبت دموع الفرح إلى عيني الورقة المباركة العليا… إنني متأكّد من أنكِ لا تدركين مدى ما تقومين به لأمر الله!’ وفي رسالة أخرى كُتبت في سبتمبر/ أيلول 1928 يبدؤها بعبارة: ‘مارثا الأعز والأغلى’، وبعد أن ذكر شوقي أفندي كم هو شديد الحزن على وضع الأمر المبارك في روسيا، يمضي في قوله: ‘أؤكد لكِ أنه لولا رسائلك لشعرتُ بما أنا فيه من قوّة خائرة وإنهاكٍ تامّ… عليّ أن أتوقف الآن لشعوري بعدم قدرتي على كتابة المزيد لأن أعصابي ترتعش ومرهقة. أخوكِ الحزين ولكنه شاكر حامد.’ في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني كتب يُعلمها باستلامه خمس رسائل منها – ما يعطينا فكرة عن كثافة رسائلها لحضرته – ويقول: ‘إنه لأمر باعث على راحتي وتشجيعي في عملي أن أُذَكَّر دائمًا، من خلال رسائلكِ الجميلة، بتلك القوة الغالبة لحضرة بهاء الله التي تشعّ من خلالك في كافة مساعيك الواسعة المقدسة…’ ويرسل إليها تسعة فصوص خواتم [بالاسم الأعظم] ‘لتقديمها لمن تشعرين أنهم جديرون بامتلاكها.’ وثلاثين جنيهًا إسترلينيًا، ‘وهو شيء لا يُذكر وغير كافٍ إذا ما قورن بمجهوداتكِ المذهلة…’

لقد توجّهتْ إليه مارثا في كل الأوقات، ولم تتردّد في الرجوع إليه بكل ما تشعر أنه في مصلحة الأمر المبارك. كان ولي الأمر يَعِي تمامًا طهارة دوافعها وسلامة حُكمها على الأمور، وغالبًا ما كان يوافقها الرأي في مطالبها التي تراوحت بين رسائل التشجيع للأفراد ورسائل برقية إلى شخصيات عظيمة مرموقة. كان حضرته يُخبرها: ‘بناء على طلبِكِ أرفق طيًا تلك الرسائل التي طلبتِ أن أُحررها.’ وبدوره كان يكلّفها بكثير من المهامّ، مستفيدًا منها كأداة راغبة ومستعدّة للعمل دومًا من أجل تعزيز مصالح الأمر المبارك وفي الدفاع عنه أمام أعدائه، ومشجعًا إياها على حضور، بل ومرسل إياها في الحقيقة ممثّلةً شخصيةً عنه في بعض الأحيان إلى مختلف المجامع والمؤتمرات العالمية التي تتفق اهتماماتها وأهدافُها الحيوية مع ما للبهائيين. مثال ذلك رسالته المؤرخة 12 يونيو/ حزيران 1929 الموجهة إلى ‘المؤتمر الحَوْلي[3] الثالث لـ ”الاتحاد العالمي للمنظمات التعليمية”‘ الذي عُقد في جنيف: ‘شركائي الأعزاء العاملين في خدمة الإنسانية، أُوفد إليكم الآنسة مارثا ل. روت، وهي صحفية أمريكية ومبلّغة ومتحدِّثة بهائية عالمية، بصفتها ممثلة لبهائيّي العالم في مؤتمركم المنعقد في شهر يوليو/ تموز، وسوف تقدم لكم رسالة مني تحية لمؤتمركم العظيم. مع كل التمنيات الخالصة لكم في مهمتكم النبيلة، فإنني أخوكم وشريككم في العمل. شوقي.’ كان العديد من هذه المؤتمرات بلغة الإسبرانتو، التي كانت مارثا ضليعة بالتحدّث بها. وبرقيات كهذه، أُرسلت في إبريل/ نيسان 1938، كانت شيئًا مألوفًا: ‘مارثا روت – بومبي، انقلي إلى عصبة جميع الأديان خالص تمنياتي لهم بالنجاح في مداولاتهم. عسى أن تُمكّن الهداية الإلهية المندوبين المجتمعين من تحقيق مقصدهم السامي، وتوسيع نطاق فعالياتهم الجديرة بالتقدير.’

في مارس/ آذار 1936 أبرقت مارثا لحضرته أن شقيقة الملكة “ماري” قد توفيت؛ فأبرق في اليوم التالي إليها قائلاً: ‘… أكّدي للملكة المحبوبة أعمق التعازي…’ كان شوقي أفندي ومارثا روت كلاهما دومًا على وَعْي تام بالطريقة المناسبة واللطيفة والحكيمة في القيام بما يجب. كانت مارثا إنسانة بسيطة طبيعية صادقة المشاعر غير متكلّفة، وذات شخصية ودودة آسرة، ولا شك أن هذه الأصالة، وهذه البساطة والنبالة في فطرتها قد حبّبتها لعاهل حضرة بهاء الله، ولي الأمر، بمثل ما حبّبتها لأول ملكة تعتنق الدين البهائي. في إحدى برقياتها لشوقي أفندي عام 1934 تقول: ‘عزيزتُنا (الملكة) ماري تبعث إليك بعبارات المحبة والشكر. المقابلات رائعة.’

في إحدى المناسبات أبرقت مارثا إلى ولي الأمر قائلة: ‘… ربما ترى من الحكمة توجُّهي فورًا إلى سيادة الرئيس هوفر[4] لإبلاغه تحياتك’، فأجابها شوقي أفندي في اليوم التالي برقيًا: ‘لطفًا انقلي للرئيس هوفر بالنيابة عن أتباع حضرة بهاء الله في العالم دعواتهم الحارة من أجل نجاح مساعيه التي لم يأْلُ فيها جهدًا في سبيل تعزيز قضية السلام والأُخُوَّة العالمية – وهو ما جاهد البهائيون من أجله قرابة قرن من الزمان بكل ثبات واستقامة.’ وقبل سنة بالضبط، أثناء زيارة قامت بها إلى اليابان في نوفمبر/ تشرين الثاني 1930، نجد هناك تبادلاً مماثلاً للبرقيات بينهما؛ فتقول مارثا: ‘أيها المحبوب، كم سيكون رائعًا إن أبرقتَ لي لتقديم التحيات للإمبراطور.’ فأبرقَ إليها شوقي أفندي في اليوم نفسه: ‘لطفًا، انقلي لفخامة إمبراطور اليابان، بالنيابة عني وجميع البهائيين في العالم، خالص محبتنا العميقة، وأكّدي له دعواتنا القلبية لسعادته ولازدهار إمبراطوريته العريقة.’ فالحب يولّد حبًا. بحب مارثا الكبير لشوقي أفندي ظفرتْ بمحبته واستجاباته لها تمامًا كما هي الألماسة في قدرتها على عكس النور الذي أمسكت بأشعته لتطلقه من جديد بكل أَلَق وسطوع.

في مارس/ آذار 1927 كتب شوقي أفندي لمارثا ‘… أؤكّد لكِ، عزيزتي مارثا، أن دعواتي الحارة المتواصلة سترافقك أينما كنتِ؛ في إسكندنافيا، وسط أوروبا، روسيا، تركيا أو في إيران. كلي ثقة بأن عين الله ترعاكِ وتشدّ من أزرك وتقود خُطاكِ نحو تحقيق مهمّتِكِ الفريدة غير المسبوقة كمثال يُحتَذى في الدفاع عن الدين البهائي.’

ورغم أنه لم يكن بالإمكان أبدًا ذهاب مارثا إلى روسيا، فقد ذهبت إلى إيران في زيارة رغب فيها ولي الأمر كثيرًا. ففي 22 يناير/ كانون الثاني 1930 أبرق إليها شوقي أفندي قائلاً: ‘عسى محبوب العالم أن يسدِّد خطاكِ في تقدّمك المظفَّر في إيران.’ وفي بداية شهر إبريل/ نيسان، عندما وصلت إلى الهند، نجد شوقي أفندي يكتب إليها، معلِمًا إياها باستلامه ما لا يقل عن اثنتي عشرة رسالة منها، قائلاً: ‘تستحقين تمامًا كل الشرف والحب وكرم الضيافة المتميّز الذي أبداه الأحباء لك في إيران. كنتُ مشغولاً جدًا بعد مرضي الطويل والشديد، حتى إنني شعرت بالعجز عن الرد سريعًا على رسائلكِ، ومع هذا كنتِ معي في أفكاري دومًا خاصة في تلك الساعات عندما أزور المقامات المقدسة وأضع جبيني على عتباتها المقدسة.’ مرّت السنون ومارثا روت ماضية في رحلاتها المتواصلة، بشعرها الأبيض وجسمها الضعيف وصمودها الذي لا يُقهَر، إلى أن أُصيبت ‘بمرض مميت ومؤلم’ كما كتب شوقي أفندي. وفي الثامن والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1939 صعِدت روحها إلى بارئها في جزيرة هونولولو. كانت تتقلب على جِمار الألم في الأسابيع الأخيرة من جولتها في “الجهة المقابلة من الكرة الأرضية”، وفي طريق عودتها إلى أمريكا للمساعدة في متابعة خطة السنوات السبع الأولى سقطت في دروبها مقدِّمةً حياة، قال عنها ولي الأمر، سوف تُعدّ بحق أبهى ثمرة أينعت في عصر التكوين لدورة حضرة بهاء الله.

أذكر تمامًا يومَ وصلتْ إلى شوقي أفندي برقيةٌ تنقل خبرَ وفاتها. كان وقتها يعاني مرضًا شديدًا جرّاء إصابته بحمى ذبابة الرمال وارتفاع درجة حرارته إلى (104 ْفهرنهايت)[5]. ويا للأسف والحسرة، ما كان يجب أن يستلم خبرًا كهذا في مثل حالته أبدًا! ولكن لم تكن هناك من طريقة لنحجب عنه هذه البرقية. إنه ولي الأمر، ومارثا روت هي التي توفيت. ورغم الاعتراض الشديد من والدته وأخيه ومنّي أنا، إلا أنه سحب نفسه وأخذ وضعية الجلوس في فراشه وهو شاحب اللون وفي إعياء شديد وقد زلزل الخبر المفاجئ كيانه، وشرع يُملي برقية إلى أمريكا معلنًا وفاتها. وقال: ماذا عساي أن أفعل غير هذا – فقد كان العالم البهائي بأسره ينتظر سماع ماذا سيقول حضرته. من جملة ما أورده في تلك الرسالة الطويلة قوله: ‘إن العدد الذي لا يُحصَى من الذين يُكْبِرون مارثا روت ويُجلّونها في أطراف العالم البهائي يندبون معي انطفاء شعلة حياتها البطولية على هذه الأرض… ستضعها الأجيال القادمة في المقام الأول لأيادي أمر الله… في القرن الأول البهائي… أول أينع ثمرة في عصر التكوين لدين الله…’ وقال بأنه يشعر من واجبه أن يشارك المحفل الروحاني المركزي في أمريكا في تكاليف بناء قبرها، قبر التي ‘بأعمالها أغدقت على الجامعة البهائية الأمريكية مجدًا خالدًا.’ كان ذلك المبلغ آخر ما أَنفق حضرته في تلك الشراكة الفريدة التي دامت ثماني عشرة سنة. وإلى السيدة التي صعدت روحها في منزلها أبرق قائلاً: ‘… ابتهجي لمقامها الرفيع في الملأ الأعلى…’

إلا أنه في واقع الأمر ظلّ شوقي أفندي فترة طويلة يفيض بأرقِّ العبارات بحق مارثا روت التي ‘لا تُقارن’، و’زعيمة سفراء دين حضرة بهاء الله’. كما دعاها حضرته في خطاب عام إلى الأحباء في الغرب عام 1929 بقوله: ‘وختامًا، أتمنى ببضع كلمات، ولو أنها قاصرة، أن أعبّر عن تقديري للخدمات الرائعة لأختنا العزيزة المحبوبة الآنسة مارثا روت، مثال المبلّغ الذي لا يعرف الكلل. إن رحلاتها العالمية مندوبة عن الدين البهائي، الواسعة جدًا في مداها ومُدَدِها، والملهِمة للغاية في نتائجها، سوف تزيّن وتُثري سجلات تاريخ دين الله الخالد. إن باكورة أسفارها إلى أقاصي جنوب القارة الأمريكية، وإلى الهند وجنوب إفريقيا، وإلى التخوم الشرقية لقارة آسيا، وإلى جزر البحار الجنوبية، وإلى الأقطار الإسكندنافية في الشمال؛ ثم أحدث اتصالاتها بحكّام أوروبا وملوكها المُتوَّجين، وما خلّفته روحها المقدامة من تأثير بليغ في الأوساط الملكية في دول البلقان؛ وارتباطها الوثيق بمنظماتٍ عالمية، وجمعيات السلام، والحركات الإنسانية، وحلقات الإسبرانتو؛ وآخر ما حققته من انتصارات في الأوساط الجامعية في ألمانيا – تشكل كلها دليلاً دامغًا لما يمكن أن تُحقّقه قوة حضرة بهاء الله. هذه الجهود التاريخية الشاقة التي قامت بها وناضلت بمفردها في ظروف قاسية من شحّ في المال واعتلال في الصحة قد اتّسمت في كل الأوقات بروح الإخلاص، ونكران الذات، وبشمولية وحماس على شأن لم يبزّها أحد.’ لقد كانت ‘الأقرب إلى المَثَل الذي ضربه حضرة عبد البهاء بنفسه لحوارييه في سياق رحلاته في ربوع الغرب.’

كانت مارثا روت على قناعة تامة بأن ما في حوزتها هو أبهى وأعظم جوهرة شهدتْها عين الإبداع – رسالة حضرة بهاء الله. وأيقنت أن في الكشف عن هذه الجوهرة وتقديمها لأي إنسان، مَلِكًا كان أم قرويًا بسيطًا، إنما تُغدِقُ عليه بأعظم نعمة يمكن أن يتلقاها على الإطلاق. هذا الإيمان الراسخ المُفعم بالكبرياء هو الذي مكّنها من مقابلة المزيد من الملوك والملكات والأمراء والأميرات والرؤساء والشخصيات المرموقة وأصحاب الشهرة والبارزين، وهي المرأة التي لا تملك ثروة أو مكانة اجتماعية مُميَّزة، بسيطة لا تُشغِلها أناقة ملبسها، ولا هي من كبار العلماء أو المفكرين البارزين؛ فقد قابلتهم وقدّمت لهم الدين البهائي بما يفوق ما فعله أي بهائي في تاريخ هذا الأمر الإلهي على الإطلاق. وبما أن هذا الكتاب يتعلق بولي أمر الله وحياته ولا يتطرق لحياة الآخرين، فمن المستحيل الدخول في تفاصيل، وردت بإسهاب في أماكن أخرى في الكتب البهائية، عن مارثا روت ومقابلاتها العديدة مع شخصيات مرموقة بلّغتها “الرسالة”، وماذا كانت ردود أفعالها. فاهتمامنا الرئيس إذًا يجب أن ينصبّ على الرابطة التي نشأت بين جلالة ملكة رومانيا وشوقي أفندي.

كانت مارثا روت قد أرسلت تقارير إلى شوقي أفندي تصف فيها أولى مقابلاتها الثمانية مع الملكة ماري – ملكة رومانيا – التي جرت في قصر كونتروشني[6] في بوخارست في 30 يناير/ كانون الثاني 1926 بناء على طلب الملكة نفسها بعد استلامها نسخة من كتاب د. إسلمنت – بهاء الله والعصر الجديد – الذي سبق أن أرسلته لها مارثا. كان واضحًا أن الملكة قد انجذبت إلى تعاليم الأمر المبارك، وعندما أُشيعَ بأن جلالتها قد تزور أمريكا الشمالية أرسل شوقي أفندي إلى المحفل الروحاني المركزي هناك بتعليماته التالية التي كتبها سكرتيره في 21 أغسطس/ آب 1926: ‘قرأنا في صحيفة التايمز أن الملكة ماري ملكة رومانيا قادمة إلى أمريكا. يبدو أن لها اهتمامًا كبيرًا بالدين الإلهي. وعليه، فإن علينا أن نكون في غاية الحذر خشية أن نقوم بعمل قد يضرها ويتسبب في تراجعها. وإذا ما قامت برحلتها هذه، فإن شوقي أفندي يرغب في أن يتصرف الأحباء بكل تحفُّظ وحكمة دون القيام بأي مبادرة من جانبهم إلا بعد التشاور مع المحفل الروحاني المركزي.’

كان في هذه الزيارة للملكة أن اهتزّ قلبها من الأعماق متأثّرًا بتعاليم الدين الذي كانت تدرسه، وشهِدتْ ‘بلغة رائعة الجمال’، كما وصفها شوقي أفندي ‘على قوة وسموّ رسالة حضرة بهاء الله، وذلك في رسائلها المفتوحة التي تداولتها الصحف والجرائد على نطاق واسع في الولايات المتحدة وكندا.’ ونتيجة لأولى تلك الرسائل قام شوقي أفندي، ‘متأثرًا بدافع لا يقاوَم’، بالكتابة إلى الملكة معبّرًا عن ‘ابتهاجه إعجابًا وامتنانًا’ باسمه والبهائيين في الشرق والغرب على لفتتها النبيلة تجاه الدين البهائي. في 27 أغسطس/ آب 1926 أجابت جلالتها على أول رسالة وجهها إليها شوقي أفندي بخطاب وصفه حضرته بأنه ‘خطاب مؤثر للغاية’:

بران في 27 أغسطس/ آب 1926

سيدي العزيز،

تأثّرتُ من أعماقي بتسلُّم رسالتك.

حقًا أتاني نور عظيم مع رسالة حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء. لقد جاءت كما تأتي كل الرسالات العظيمة في ساعة من الحزن البالغ والصراع الداخلي والكرْب الشديد، وهكذا غاصت بذرة الكلمة الإلهية في الأعماق.

كما أن ابنتي الصغرى تجد في تعاليم المعلميْن المحبوبيْن عظيم القوة والعزاء.

إننا نتناقل الرسالة من فَمٍ إلى فم، فيرى جميعُ مَن نمنحهم إياها بريقَ نورٍ يلمع بغتةً أمام ناظريهم فينكشف لهم الكثير مما كان مستورًا، وينجلي لهم ما كان محيِّرًا فيستنيرون ويمتلئون أملاً كما لم يكونوا من قبل.

من دواعي سعادتي الكبيرة حقًا أن أرى خطابي المفتوح بَلْسمًا لأولئك الذين يقاسون من أجل أمر الله، وأراه دليلاً على أن الله قد تقَبّل خدمتي المتواضعة.

إن الفرصة التي أتيحت لي للتعبير عن مكنون قلبي علانيةً كانت هي الأخرى بتدبير إلهي، لأنها في الحقيقة كانت سلسلة من ظروف وملابسات كل حلقة فيها كانت تُفضي بي إلى أن أخطو بلا وعي خطوة أخرى أبعد، إلى أن اتّضح كل شيء أمام عينيّ بغتة، وفهمت سبب حدوث هذه الفرصة.

وهكذا يقودنا الرب في النهاية إلى ما قُدِّرَ لنا.

بعض مَن هم مِن طبقتي لَيَعْجَبون لأمري ويستنكرون شجاعتي في أن أنطق بكلمات ليست معتادةً أن تعلنها الرؤوسُ المُتوَّجَةُ، إلا أنني أقولها بدافعٍ خفيٍّ لا أستطيع له دفعًا.

برأس خاضع أدرك بأنني أيضًا لست سوى أداة في أيدٍ أعظم، وأبتهج بمعرفتي هذه.

فالحجاب طفق ينحسر شيئًا فشيئًا وقد شطره الحزن شطرين، وكان الحزنُ لي أيضًا خطوةً تقرّبني دومًا من الحقيقة، ولهذا لن أرفع صوتي ألمًا من الحزن!

عسى أن تباركك وتؤيّدك أنت ومَن هم في ظلِّ توجيهِك تلك القوةُ المقدسة لأولئك الذين مضَوْا من قبلك.

ماري

لم تكن الملكة ماري ذات شهرة بجمالها فقط، بل من جملة ما عُرف عنها مقدرتها في التأليف، وأنها إنسانة على خُلُق رفيع وشخصية مستقلة، وقد كتبت في ‘رسائلها المفتوحة’ التي نُشرت عام 1926، في 4 مايو/ أيار و 28 سبتمبر/ أيلول في مجلة تورنتو ديلي ستار، وفي 27 سبتمبر/ أيلول في مجلة “نشرة المساء”[7] بفيلادلفيا، كلمات من قبيل: ‘منذ عهد قريب أحضرَتْ لي سيدة كتابًا أكتب لكم اسمه بالأحرف الكبيرة[8] لأنه كتاب مجيد ساطع بالحب والخير وبالقوة والجمال… أنصحكم به جميعًا. فإذا ما استرعى انتباهَكم يومًا اسمُ بهاء الله أو عبد البهاء فلا تضعوا كتاباتهما بعيدًا عنكم. ابحثوا عن “كتبهما” ودَعُوا كلماتهما ودروسَهما المجيدة، الجالبةَ سلامًا والخالقةَ محبةً، تغوص في قلوبكم كما غاصت في قلبي. قد يبدو للمرء أن يومه مشحون بالعمل ولا فُسحة فيه للدين، أو أنه قانع بدينه، ولكن تعاليم هذيْن الرجليْن النبيليْن الحكيميْن الرؤوفيْن تنسجم مع كل صاحب دين ومن لا دين له. فجِدّوا في طلبها وكونوا الأسعد حالاً’، ‘في بداية الأمر نتخيّل جميعًا أن اللهَ تعالى شيءٌ ما أو شخصٌ ما في معزل تامٍّ عن أنفسنا… الأمر ليس هكذا؛ إذ لا يمكن لنا أن ندرك تمامًا مغزاه بقدراتنا الأرضية – ولا أن ندرك حقًّا معنى الخلود… الله هو الكل، هو كل شيء. هو القوة وراء كل البدايات. هو مصدر الحب والخير والتقدّم والإنجاز الذي لا ينضب، لذا هو ‘السعادة’ بعينها. هو الصوت المنبعث من دخائل أنفسنا فيرينا الخير ويرينا الشرّ، إلا أننا غالبًا ما نتجاهل هذا الصوت أو نخطئ فهمه. من أجل هذا اصطفى مختاريه ليهبطوا بيننا على الأرض حتى يوضّحوا ‘كلمته’ و’حقيقة مُراده’. ولذلك كان الرسل والأنبياء؛ فكان المسيح وكان محمد وكان بهاء الله، لأن الإنسان محتاج من حين لآخر إلى صوت على الأرض يذكّره بالله ويشحذ إدراكه بوجود الله الحقّ. تلكم الأصوات المُرسَلة إلينا اكتست لحمًا ليكون بمقدورنا أن نستمع إليها بآذاننا الترابية ونفهمها.’

بعد أن وصلته من كندا نسخة عن الرسالة الأولى للملكة من بين ‘الرسائل المفتوحة’ كتب شوقي أفندي فورًا رسالة إلى مارثا روت في 29 مايو/ أيار واصفًا الخطاب بأنه ‘شهادة خالدة تستحقها مجهوداتُكِ الرائعة ومساعيكِ التي تُحْتَذى في نشر أمرنا المحبوب. لقد هزّت مشاعري وقوّتْ كثيرًا من روحي وعضُدي. إنجازُكِ نصرٌ جدير بالتذكُّر يصعب أن يَبزَّهُ إنجاز آخر في أهميته في تاريخ أمر الله.’ في الرسالة نفسها يطلب منها أن تفكّر مليًا في إمكانية إطْلاع جلالتها على أخبار شهداء جهروم واحتمال كسب تعاطفها لخدمة قضية اضطهاد الأحباء في إيران. لا شك في أن ذلك قد أثّر في الملكة وجعلها تُدلي بتصريحات أكثر جرأة عن الدين البهائي؛ فرسالتها إلى شوقي أفندي تشير إلى أن هذا ما حصل. لقد وصل خبر هذا الانتصار إلى شوقي أفندي عشيّةَ يوم إحياء ذكرى صعود حضرة بهاء الله في البهجة، في وقت وصفه في إحدى رسائله العامة بقوله: ‘… اجتمع خدّامه المحزونون حول مرقده المحبوب بنهاية التضرع والابتهال يلتمسون الفرج والحرية لأحبائنا المضطهدين في إيران.’ ويسترسل شوقي أفندي بقوله: ‘برؤوس خاضعة وقلوب ممتنّة فإننا نرى في هذا التقدير الوهّاج الذي قدّمته شخصية ملكية لأمر حضرة بهاء الله إعلانًا تاريخيًا مقدّرٌ له أن يكون بشيرًا لتلك الأحداث المثيرة التي ستُعلن نصرَ دين الله المقدس عند تمام الوقت كما تنبّأ حضرة عبد البهاء.’

كان ما حدث بداية علاقةٍ ليس مع الملكة ماري فحسب، بل مع آخرين من ملوك متوّجين وشخصيات ملكية في أوروبا، أقامتها مارثا روت، وفي حالات قليلة – شوقي أفندي نفسه. لم يكن حضرته يكتفي بتشجيعها الكبير وإرشادها في مثل تلك العلاقات فحسب، بل كان – مع حرصه على أن يبقى دومًا ضمن حدود الوقار وحُسْن التهذيب والإخلاص في العلاقات الإنسانية – يستخدم تلك الاتصالات لخدمة مصالح أمر الله من خلال رفع شأنه ومكانته في عيون العامّة، والتأكد من أن تصل تلك المكانة الرفيعة إلى أبصار أعداء الدين وتلفت انتباههم.

وحتى وفاة الملكة ماري عام 1938 حافظت مارثا روت على علاقة ودّية وثيقة معها مُبقيةً إياها على اطّلاع بالنشاطات البهائية، وتستلم منها رسائلها الودّية التي كانت جلالتها تكتبها بخط يدها وتعكس فيها مدى ارتباطها بتعاليم حضرة بهاء الله. كما أن هناك رسائل وبرقيات متبادَلة كانت بين شوقي أفندي والملكة أيضًا، إلا أنه غالبًا ما كان يرسل رسائله بواسطة مارثا لأنه وجد فيه الأسلوب الأكثر وُدًّا والأقلّ مدْعاةً للبروتوكولات المُتّبعة في مثل المقام الرفيع الذي يشغله كل منهما في محيطه الخاص. وهناك عامل آخر لا يمكن إغفاله أو تنحيته جانبًا، ذلك هو الضغط المستمر على الملكة التي كانت تتبوّأ تلك المكانة الرفيعة بين شعبها – والذي كانت تعصف به تيارات سياسية هوجاء في عهد حكمها وفي فترتها كملكة أرملة، من كلا الجانبين الكنسي والسياسي – بأن تلتزم الصمت بشأن دين لم يكن معروفًا على نطاق واسع آنذاك كما هو عليه اليوم، ويَنظر إليه الجُهلاء على أنه إسلامي في طبيعته، وهم لا يستنكرون قبولها المُعلَن المفتوح للدين فحسب، بل يُعدّونه خرقًا سياسيًا في أعلى الدرجات أيضًا.

تذكُرُ الملكةُ نفسُها في أول رسالة لها إلى ولي الأمر بأن ‘بعضَ مَنْ هم مِن طبقتي لَيَعجبون لأمري ويستنكرون شجاعتي في أن أنطق بكلمات ليست معتادةً أن تُعلنها الرؤوس المُتَوَّجة…’ كان الأمر يتطلب منها شجاعة استثنائية وإخلاصًا عميقًا لأن تكتب مرارًا شهادات تعبّر فيها عن مشاعرها الشخصية تجاه موضوع الدين البهائي وتأذن بإعلانها على العموم – في واقع الأمر كتبت الملكة بعضًا من هذه الشهادات متَعَمِّدةً نَشْرَها في مجلد “العالم البهائي”. ففي الأول من يناير/ كانون الثاني 1934 كتبت إلى مارثا روت رسالة ترفق فيها إحدى إشاداتها القيّمة، وتتضمن أخبارًا خاصة بها وعائلتها وتقول: ‘هل هذا مناسب لوضعه في مجلّد “العالم البهائي” الخامس؟ كان صعبًا عدم تكرار ما سبق أن قلته…’

في الخامس والعشرين من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1927 كتب شوقي أفندي إلى مارثا روت قائلاً: ‘بكامل الشوق والترحيب استلمتُ رسائلك… واهتزّ قلبي فرحًا بما حَوَتْه من أخبار، خاصةً مقابلتكِ التاريخية المميّزة مع الملكة والأميرة. أبعث إليك بعدد من الأحجار الكريمة البهائية… لتقديمها بالنيابة عني إلى الملكة والأميرة وأيّ من أفراد العائلة المالكة ممن تتوسّمين فيهم تقديرَها… أرجو أن تؤكّدي للملكة والأميرة وافر محبتنا ودعائنا لهما بالسعادة والتوفيق، ودعوتَنا القلبية الحارة لهما لزيارة الأرض الأقدس واستضافتهما في بيت المحبوب.’

إن وراء هذه المقابلة مع الملكة، التي أشار إليها شوقي أفندي في رسالته أعلاه، لا شك يكمن مدى تأثيره الشخصيّ وتلك التأييدات التي فاضت من تعليماته لمارثا في رسالة كُتبت في 29 يونيو/ حزيران من العام نفسه وفيها يقول: ‘آمل أن تنجحي ليس في مقابلة ملكة رومانيا فحسب، بل وابنتها ملكة صربيا والملك بوريس ملك بلغاريا أيضًا، وكلي ثقة أنك لن تترددي في تزويدي بالأمور الهامة والتفاصيل المتعلقة بعملكِ في ميدانٍ على هذا القدْر من الأهمية.’ إن كون ملكة رومانيا قد استلمت فصوص الخواتم المرسلة، ودَعْوةَ ولي الأمر لها لزيارة حيفا، ظهر واضحًا في برقيتها لحضرته المرسلة من قصر سينايا في 27 يوليو/ تموز 1927[9]:

شوقي أفندي     حيفا

عظيم الشكر لكَ ولأحبائك الذين أشعر روحيًا بقربي الشديد منهم.

ماري

هذا وقد نجحت مارثا روت أيضًا في تنفيذ التعليمات الأخرى لشوقي أفندي، لأنه في شهر مايو/ أيار 1928 كتب إليها قائلاً: ‘… مقابلاتُك الرائعة والتاريخية مع أفراد من العائلات الملكية في رومانيا وصربيا قد أنعشتنا وحرّكتْ مشاعرَنا جميعًا…’

وقبل ذلك، في إبريل/ نيسان، كانت الملكة ماري وابنتها إليانا في زيارة إلى قبرص، فبعث ولي الأمر برسالة إلى مارثا روت يخبرها بأن الصحف اليومية قد نشرت أنباءً تفيد بأن الملكة تنوي زيارة حيفا، ويتساءل ‘ما إذا كان في نيّتهما مثل هذه الزيارة، وهل أثناهما الكشف عنها قبل أوانها عن إتمام زيارتهما المزمعة للأرض الأقدس…’ خلال زيارة الملكة إلى قبرص أبرق ولي الأمر إلى حاكمها السير رونالد ستُرْزْ[10]، الذي يستضيف البعثة الملكية، بالرسالة التالية قائلاً: ‘بالنيابة عن عائلة عبد البهاء والأحباء أرجو التلطّف بنقل مشاعرنا القلبية وتقديرنا لجلالة ملكة رومانيا وسمو الأميرة إلْيانا على إشادتهما النبيلة بالمُثُل التي يقوم عليها الدين البهائي. أرجو أن تؤكد لهما أطيب أمانينا وامتناننا العميق.’ قام السير رونالد بنقل ردّ الملكة والأميرة الذي يحمل تقديرهما إلى شوقي أفندي.

فيما يلي مسودة رسالة مطوّلة كتبها ولي الأمر بخط يده إلى الملكة ماري ولها أهميتّها التاريخية:

حيفا، فلسطين

3 ديسمبر/ كانون الأول 1929

جلالة الملكة ماري ملكة رومانيا

بوخارست

صاحبة الجلالة

استلمتُ بواسطة أختي البهائية العزيزة الآنسة مارثا روت صورة جلالتك ممهورة بتوقيعك وتحمل معها، بعبارات بسيطة مثيرة للمشاعر، الرسالة التي تكرّمْتِ بكتابتها شخصيًا. سوف أدّخر هذه الصورة الشخصية فائقة الامتياز، وأؤكّد لك أن الورقة المباركة العليا وعائلة عبد البهاء يشاطرونني بالكامل مشاعري بنشوة الارتياح باستلامنا صورة جميلة أخّاذة لملكةٍ دَأَبْنا أن نُكِنَّ لها المحبة والإعجاب.

لقد تتبّعتُ في السنوات القليلة الماضية بتعاطف عميق مجريات مختلف الأحداث المُقلقة في بلدكم الحبيب، والتي أشعر أنها لا بدّ قد سببتْ لكِ ألمًا وقلقًا شديديْن. إلا أنه مهما كانت تقلُّبات الأحداث وتعقيداتها التي تكتنف مسيرة حياتك الدنيوية، فإنني على يقين بأنكِ، حتى في أحلك ساعات كَرْبِكِ، قد استمطرْتِ وافر العون والسعادة من مجرد التفكير بأنكِ مَنَحْتِ العزاء والقوة الدائمين لجموع المخلصين، الذين طالت معاناتهم في جميع أنحاء الشرق، بفضل تصريحاتكِ التاريخية اللامعة عن الدين البهائي والشواهد اللاحقة على قلقكِ وكَرَم عنايتكِ الشديدة بمصالحه. فيا عزيزتي الملكة، أؤكّد لجلالتك أن المقام الذي قَدَّرهُ لكِ حضرة بهاء الله في عوالم الغيب يفوق ما يمكن لقوّة في الأرض مهما جاهدت أن تأمل في إحرازه.

وفور صدور العدد الثاني من مجلد “العالم البهائي” من قِبَل هيئة الطبع والنشر البهائية الأمريكية، قمتُ بإرسال نسخة منه مباشرة إلى عنوان جلالتك في بوخارست وعنوان سموّ الأميرة إليانا. وهو أحدث إصدار للمنشورات البهائية وأشملها. وفي غضون السنة القادمة، عندما يصدر المجلد الثالث منه، سأجيز لنفسي إرسال نسخة منه وأنا على ثقة بأنه سوف يحظى باهتمام جلالتكم.

ختامًا، أرجو أن أكرر مشاعر التقدير والبهجة العميقة التي تشعر بها عائلة عبد البهاء والبهائيون في كل مكان في العالم جرّاء تلك الدفعة القوية التي قدمتها كلمات جلالتك الصريحة والنبيلة إلى مسيرة تقدّم دينهم المحبوب.

تشاركني العائلة أيضًا في الترحيب الحار بجلالتكم وسمو الأميرة إليانا إذا ما عزمتما على زيارة الأرض الأقدس وبيت حضرة عبد البهاء في حيفا، وزيارة الأماكن التي نالت القداسة والذكرى الخالدة بفعل حياة وأفعال حضرة بهاء الله وعبد البهاء البطولية.

شوقي

في عام 1930 توجهت الملكة ماري وابنتها إِلِيانا في زيارة إلى مصر، وحيث كان لدى شوقي أفندي تجربة مؤسفة تمثّلت في شيوع خبر تناولته وسائل الإعلام بغير حكمة خلال زيارة جلالتها إلى قبرص، فقد أبرق حضرته إلى الإسكندرية في 19 فبراير/ شباط قائلاً: ‘إذا ما زارت الملكةُ مصرَ، أرجو من المحفل الروحاني أن ينقل إلى جلالتها بالنيابة عن البهائيين عبارات ترحيب وتقدير مكتوبة فقط. على الرسالة أن تكون مختصرة وكلماتها منتقاة بعناية. لا مانع من إرسال الزهور. تجنّبوا الاتصالات الفردية بكل حزم. أَعْلِموا القاهرة.’

وأملاً في أن تتمكن الملكة في النهاية من زيارة الأماكن البهائية المقدسة في فلسطين، أعدّ ولي الأمر لوح حضرة بهاء الله الموجّه إلى جدّتها الملكة فكتوريا منسوخًا بخط فارسي جميل جُهِّز وزُخرِف في طهران. في 21 فبراير/ شباط أبرق إلى طهران: ‘من الضروري أن يصل لوح الملكة فكتوريا المزخرف إلى حيفا في موعد لا يتجاوز العاشر من مارس/ آذار وفي صفحة واحدة أو أكثر.’ تلك ستكون هديته لجلالتها. ولمّا لم يسمع أخبارًا عن خطط الملكة منذ أن وصلت مصر، أبرق إليها مباشرة في 8 مارس/ آذار قائلاً: ‘صاحبة الجلالة الملكة ماري ملكة رومانيا، على متن السفينة ماي فلاور[11] – أسوان. تنضمّ إليّ عائلة حضرة عبد البهاء في تجديد دعوتنا القلبية والحبية لجلالتكم وسمو الأميرة إليانا لزيارة بيت حضرته في حيفا. إن قبولك بزيارة مقام حضرة بهاء الله ومدينة السجن عكاء، إلى جانب أهميتها التاريخية، ستكون مصدر قوّة وفرح وأمل لا حدّ له لمن يعانون بصمت من أتباع الدين في أنحاء الشرق. مع حبنا العميق ودعائنا وأعز أمانينا من أجل سعادة جلالتكم وخيركم.’

ولما لم يستلم شوقي أفندي جوابًا على ذلك الاتصال أبرق ثانية في 26 مارس/ آذار إلى جلالة الملكة في فندق سميراميس بالقاهرة: ‘خشية أن رسالتي وبرقيتي السابقة لم تصلكِ، وفيها دعوتي مع عائلة حضرة عبد البهاء لجلالتكم وسمو الأميرة إليانا لزيارتنا، يسرنا جميعًا أن نعبّر مجدّدًا عن سعادتنا إذا ما وجدت جلالتكم من الممكن زيارة مرقد حضرة بهاء الله ومقام حضرة عبد البهاء ومدينة السجن عكاء. أشعر بأسف شديد على ما تنشره الصحف من أخبار غير مصرّح بها.’ وبعد يومين أبرق السفير الروماني في القاهرة إلى شوقي أفندي يقول: ‘تأسف صاحبة الجلالة بأنها، ولعدم مرورها بفلسطين، لن تكون قادرة على زيارتكم.’

إن ردّ فعل شوقي أفندي على هذا الوضع قد سجله بنفسه في خطاب كتبه إلى مارثا روت في 2 إبريل/ نيسان 1930 يقول فيه: ‘أكتب إليك الآن بسرّية تامة بخصوص زيارة الملكة المخطط لها إلى حيفا. فيا للأسف، لم تتحقق هذه الزيارة. أما السبب فإنني أجهله تمامًا.’ ويمضي في قوله إنه بالرغم من دعوته الخطية لها وبرقيتيْه المرسلتيْن إليها في مصر (وأوردهما بالكامل)، كان كل ما استلمه عبارة عن برقية من الوزير الروماني (وأورد نصها كاملاً أيضًا). يبدو أن الإعلان غير المصرّح به الذي ذكره شوقي أفندي في برقيته للملكة قد انتشر على نطاق واسع فظهر في فلسطين وإنكلترا وأمريكا. وقد أعلم حضرته مارثا أن: ‘الصحفيين الذين جاءوني مستفسرين، وهم يمثّلون “الصحافة المتحدة في أمريكا”[12]، قد أبرقوا لصُحُفهم عكس ما قلته لهم تمامًا. لقد حرّفوا الحقيقة. أتمنى لو تمكنّا من التأكد بأن جلالتها على الأقل تدرك حقيقة الوضع! ولكن كيف يمكننا التأكد من أن رسائلنا لجلالتها سوف تصلها من الآن فصاعدًا. أرى أن تكتبي إليها شارحة الوضع بكامله ومؤكِّدة على خيبة أملي الكبيرة.’ ورجاها أن تعتبر كل هذا سرّيًّا للغاية وقال: ‘يحدوني الأمل أن تعمل هذه التطورات غير السارة، فقط على تقوية إيمان الملكة ومحبتها وتعزيز تصميمها في النهوض ونشر دين الله.’ من الواضح أن ولي الأمر كان متألمًا جدًا جرّاء هذا الحدث غير السار، إلا أنه يريح مارثا ويطمئنها بقوله: ‘لا تحزني أو تتألّمي عزيزتي مارثا. إن ما بذرتيه من بذور بغاية المحبة والتفاني والمثابرة التامة سوف ينبت…’

إن إلْغاء زيارة الملكة وابنتها إلى الأماكن المقدسة البهائية، تلك الزيارة التي تعلَّق بها قلبُها دون شك، كان مصدر خيبة أمل شديدة ليس لولي أمر الله فحسب، بل وللملكة نفسها أيضًا. ولا مِرْيةَ أن صراعًا حقيقيًا كان يدور خلف الستار بين الملكة الشجاعة المستقلة في رأيها وبين مستشاريها، ذلك لأنها بعد صمْتٍ طويل كتبت إلى مارثا روت بخط يدها واصفة ما جرى ولو بنذر يسير على الأقل. ففي خطاب مؤرخ 28 يونيو/ حزيران 1931 قالت جلالتها: ‘إن منعنا من زيارة المقامات المقدسة ولقاء شوقي أفندي قد أغرقني وإليانا بخيبة أمل شديدة. إلا أننا في ذلك الوقت كنا نعاني أزمة قاسية، وكل حركة أقوم بها كانت تُحسب عليّ وتُستَغلّ ضدّي استغلالاً سياسيًا بأسلوب بشع، مما تسبب لي بقدر كبير من المعاناة وتقليص فسحة حريتي بكل فظاظة. على كل حال هناك فترات يجد المرء فيها نفسه مضطرًا لأن يُذعِن للظلم. ومع ذلك، مهما كان المرء شجاعًا ستجده بين الحين والآخر مغمورًا ثانية بمفاجأة مؤلمة عندما تحيط به نفوس خبيثة حقودة. فلديّ ابنة صغيرة كان عليّ أن أحميها في ذلك الوقت وقد كانت تمرّ بتجربة مريرة، ولهذا كنت آنذاك غير قادرة أن أقف وأتحدّى العالم. إلا أن جمال الحقيقة يبقى ماثلاً، وسأبقى متشبثة بها خلال متاعب حياة هي الأقرب إلى الحزن… يسرّني أن أسمع بأن رحلاتِكِ كانت مثمرة للغاية. أتمنى لكِ دوام التوفيق وأنا أعلم كم هي جميلة تلك الرسالة التي تحملينها من قطر إلى قطر.’ وتُنهي رسالتها بجملة، بعد أن مهرتها بإمضائها، ربما تكون أكثر مغزى عن موقفها وشخصيتها من أي شيء آخر حيث ذكرت: ‘أُرفق طيًا بضع كلمات يمكنكم وضعها في كتابكم السنوي.’ وفور استلامها هذه الرسالة أبرقت مارثا إلى شوقي أفندي بخلاصة محتوياتها الذي بدوره سُرّ جدًا وأبرق إليها طالبًا تزويده بالرسالة كاملة.

أذكر ما وصفه لي شوقي أفندي عدة مرات كيف كانت الورقة المباركة العليا تنتظر ساعة بعد ساعة في بيت المولى لاستقبال الملكة وكريمتها – ذلك لأن الملكة قد أبحرت فعليًا إلى حيفا، وهو خبر دفع شوقي أفندي إلى الاعتقاد بأن الملكة سوف تقوم بالحج الذي خطّطت له. مرّ الوقت دون أي خبر، وحتى بعد رسوّ الباخرة. علم شوقي أفندي فيما بعد أن الملكة وحاشيتها قد جرت مقابلتهم في الباخرة وتمّ إعلامهم بأن زيارة جلالتها ليست من الحكمة في شيء ولذلك غير مسموحٍ بها. فوُضعت في سيارة وانطلقت بها سريعًا خارج فلسطين إلى إحدى الدول في الشرق الأوسط. لم يكن مستَغرَبًا أن تكتب في رسالتها لمارثا روت بأنها محاطة بنفوس ‘خبيثة حقودة’.

إن ولاء وإخلاص هذه ‘الملكة المؤمنة’، كما وصفها شوقي أفندي، في مواجهتها عُزلَتَها المتزايدة، وتقدُّمها بالسنّ والتيارات السياسية في أوروبا التي طَفِقَت بالتدريج تطوِّق العديد من أنسباء الملكة، قد أثّر عميقًا على شوقي أفندي. فكتب إلى جلالتها ثانية في 23 يناير/ كانون الثاني 1934 قائلاً:

صاحبة الجلالة

تأثّرتُ عميقًا بتقديرِكِ الرائع الذي خطّه قلمك الكريم لمجلد “العالم البهائي”. أرجو أن أُعبّر عن خالص شكري وامتناني على هذا الدليل القوي على اهتمام جلالتك المستمر بدين حضرة بهاء الله.

لقد حرّكت مشاعري كلماتُكِ وأخذتُ أُترجمها بنفسي، وأنا على يقين بأن نفوسًا لا تُحصى من البهائيين في الشرق والغرب سوف تشحذ هممهم في جهودهم التي لا تتوقف في سبيل تأسيس السلام الأعظم الذي بشّر به حضرة بهاء الله في نهاية المطاف.

أقدّم لجلالتك، بواسطة الآنسة مارثا روت، لوحًا قيّمًا بخط يد حضرة بهاء الله مزخرفًا بجهود أحد الأحباء المخلصين في طهران.

عسى أن يكون رمزًا لإعجابي بالروح التي دفعت جلالتك للتعبير عن مشاعرك النبيلة تجاه أمر إلهي مناضل ومضطهد.

مع التأكيد على دعائي في العتبات المقدسة لحضرة بهاء الله من أجل خير جلالتكِ وسعادتكِ.

المخلص لكِ دائمًا.

شوقي

بعد أن أرسل شوقي أفندي للملكة نسخة من “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”[13] التي انتهى من ترجمتها حديثًا، واستلم منها رسالة تعبّر فيها عن ‘عظيم شكرها وامتنانها’، والتي أنهتها بقولها: ‘عسى أن يكون معنا الأب الأعظم بالروح حتى نحيا ونعمل كما ينبغي.’ كتب إليها شوقي أفندي ما يلي:

حيفا – في 18 فبراير/ شباط 1936

صاحبة الجلالة

أرسلَتْ لي الآنسة مارثا روت النسخة الأصلية لما خطّه قلم جلالتك من تقدير ليوضع في مجلد “العالم البهائي” القادم. تأثرتُ عميقًا، وأشعر حقًا بالامتنان على هذا الدليل الآخر على اهتمام جلالتكِ المتواصل بالتعاليم البهائية وإعجابكِ بها.

وبمشاعر الفخر والامتنان، سوف تذكر الجامعات البهائية في العالم طُرًّا على الدوام هذه الشهادات التاريخية الجميلة المؤثرة التي رقمها قلم جلالتك – شهادات ستثير بلا شك حماسهم وتشدّ من أزرهم بشكل كبير في كفاحهم الدؤوب من أجل نشر دين حضرة بهاء الله.

سررتُ جدًا وازدَدْتُ حماسًا لعلمي بأن جلالتك وجدْتِ في قراءة “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله” منافع جمّة، مما أشعرني أن جُهدي في ترجمة هذه المقتطفات قد كوفئ بالكامل.

أقدّم لجلالتك، من خلال عناية السيدة ماكنيل[14]، آخر صورة فوتوغرافية وصلتني حديثًا من أمريكا تُظهِر مدى التقدم في تشييد المعبد البهائي في ويلمت.

عسى أن تبارككِ دومًا روح حضرة بهاء الله، وتؤيد جلالتك في دعمِكِ النبيل لدينه القويم.

مع عميق المحبة والتقدير.

شوقي

أقامت السيدة ماكنيل، التي ورد ذكرها في هذه الرسالة، في قصر المزرعة قرب عكاء، وهو القصر الذي أقام فيه حضرة بهاء الله في وقت ما. عَرَفت ماكنيل الملكة وهي طفلة في مالطا، وعندما علمت من ولي الأمر بمدى اهتمام الملكة بالدين البهائي كتبت إليها معبِّرة عن اهتمامها هي أيضًا، وعن روابط البيت الذي تقيم فيه بالأمر الإلهي. كتبت إليها الملكة تقول: ‘كان لطيفًا حقًا أن أسمع منكِ، وأن أعلم فوق هذا كله أنكِ تعيشين بالقرب من حيفا، وأنكِ مثلي من أتباع التعاليم البهائية… إن المنزل الذي تُقيمين فيه… قيّمٌ للغاية بارتباطه بالشخص الذي نُجِلُّه جميعًا…’

يبدو أن آخر شهادة علنية لها تمّ نشرها، وفيها تثني جلالتها على الأمر المبارك، وذلك عام 1936 أي قبل وفاتها بسنتين، تصف تمامًا ما عنته لها رسالة حضرة بهاء الله: ‘إلى الذين يبحثون عن النور فإن التعاليم البهائية بمثابة نجمٍ يهديهم إلى إدراكٍ أعمق ويرشدهم إلى الطمأنينة والسلام وحُسْن المعاشرة مع عموم البشر.’ وقد كتب عنها شوقي أفندي: ‘لقد فازت لنفسها بـشُهرة خالدة… في ملكوت حضرة بهاء الله’ من خلال ‘إيمانها الجريء التاريخي بظهور حضرة بهاء الله’، ‘إن هذه الملكة الزهراء تستحق تمامًا أن تتبوأ مرتبةَ أُولَى الملوك الذين سيقومون في المستقبل لنصرة أمر الله، فيعترف العالم بأن كل واحد منهم، كما جاء في كلمات حضرة بهاء الله نفسه، “بمنزلة البصر للبشر والغرّة الغرّاء لجبين الإنشاء ورأس الكرَم لجسد العالم.“‘[15]

في كل هذا الذي أخذ مجراه في بداية عام 1926، يرى المرء أن الأزمات الشديدة القاسية التي أعقبت تولّي شوقي أفندي ولاية الأمر قد أَطلَقَت من عقالها، كما الحال دومًا، تلك القوى الروحانية المتأصّلة في دين الله وجلبت معها انتصارات كتلك التي رأينا فيها إيمان أول ملكة بهائية.

[1]       Toronto Daily Star.

 

[2]       Ileana.

 

[3]       أي يُعقد مرة واحدة كل سنتين.

[4]       Hoover.

[5]       وتعادل 40 درجة مئوية تقريبًا.

[6]       Controceni.

 

[7]       Philadelphia Evening Bulletin.

 

[8]       Capital letters.

[9]       تمّ التأكّد فيما بعد أن هذه البرقية كانت جوابًا على برقية شوقي أفندي في 22 يوليو/ تموز 1927، وفيها يعبّر عن تعازيه للملكة ماري بوفاة زوجها الملك فردناند الذي توفي في 20 يوليو/ تموز.

[10]      Ronald Storrs.

[11]      Mayflower.

 

[12]      United Press of America.

 

[13]      Gleanings from the Writings of Baha’u’llah.

 

[14]      McNeill.

[15]      “الكتاب الأقدس، الفقرة 84.

الفصل الخامس مبدأ النور والظل

لا يمكن الحصول على صورة تامّة متكاملة لحياة شوقي أفندي دون التطرّق لموضوع نقض العهد والميثاق. إن مبدأ النور والظلّ، حيث يُبرِز أحدهما الآخر، وتزداد حِدَّةُ أحدهما بازدياد حِدّة الآخر، يُشاهَد في الطبيعة وفي أحداث التاريخ؛ فالشمس تُلقي بالظلال، وعند قاعدة المصباح يقبع الظل، وكلما ازداد النور سطوعًا ازداد الظلّ حُلكةً. إن نوازع الشرّ في الإنسان تثير في الأذهان فضائل الخير، وعظمة الخير تؤكّد وجود الشرّ. فحياة ولي الأمر بأكملها قد ابتليت وتأذّت من أطماع وحماقة وحسد وكراهية أفراد قاموا ضد أمر الله وضده كرئيس لهذا الأمر الإلهي، الذين ظنّوا أنهم بذلك يستطيعون إما تقويض بُنيان الأمر بالكلية أو تشويه سمعة وليّه، فيُنَصِّبون أنفسهم قادة فصيل معارض، ويعملون على استمالة جموع المؤمنين إلى تفاسيرهم الشخصية للتعاليم الإلهية وإلى الطريقة التي يجب أن تُدار بها شؤون الأمر الإلهي في اعتقادهم. لم يفلح أحدٌ بذلك في أي وقت من الأوقات اللهمّ إلا سلسلة من أفراد ساخطين لم تنقطع مساعيهم أبدًا. فرؤوس الفتنة أضلّوا المغفّلين، وحاول المطرودون جرَّ المخلصين الى الانحراف.

إن الاستيلاء على مفاتيح مرقد حضرة بهاء الله من قِبَلِ من نقضوا العهد والميثاق في عهد حضرة عبد البهاء، قد تبعه، على مدى السنوات الأولى لولاية شوقي أفندي، ارتداد فائق [الأرمني] في مصر، وهو الذي أسّس ‘جمعية علمية’ سعى أن يقدّمها نِدًّا منافسًا للإدارة البهائية التي رَئِسَها شوقي أفندي. لقد أعدّ ولي الأمر نفسه وتهيّأ لصد هجمات المناوئين خاصةً بعد ما قرأ ما ورد في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء من شجبٍ للناقضين القدامى. إلا أن التحريك المفاجئ لهذا الكم الهائل من الأذى والمعارضة في منطقة غير متوقعة تركته مصدومًا ومنزعجًا للغاية. لن أنسى أبدًا منظره حينما استدعاني ووالدتي إلى غرفة نومه عام 1923؛ وقفنا حينها عند حافّة سريره حيث كان يستلقي وبدا لنا واضحًا منهك القوى كسير القلب وتحت عينيه ظلال سوداء قاتمة. أخبرنا بأنه لا يستطيع تَحمُّلاً وسوف يبتعد. لا بد أنه كان أمرًا صعبًا للغاية لشاب فتيٍّ أن يجد نفسه هدفًا لسهام هجمات كثيفة، وأن يدرك ما عليه من ممارسةٍ لحقّه في القيام بواجبه بإصدار حكم ‘الطرد’ حمايةً للدين وصونًا لأغنام الله من سطو الذئاب التي تحوم حولها.

إن نقض العهد والميثاق كان دائمًا يجعل شوقي أفندي مريضًا، وكأن الأمر الإلهي قد تجسّد في كيانه بطريقة خفية، وأي هجوم يقع على هذا الجسد إنما يقع عليه باعتباره قلب هذا الدين. إن الهجمات التي شنتها مؤمنة أمريكية حمقاء، بكل ما في الكلمة من معنى، مدّعية بأن ألواح وصايا حضرة عبد البهاء مزوّرة، قد بلغت ذروتها عام 1930. كتب شوقي أفندي وقتها لتيودور بول بأن ‘أشدّ أعداء الأمر عزمًا وتصميمًا في الشرق من الذين تحدّوا أُسَّ أساس رسالة حضرة بهاء الله، … لم يُلَمِّحوا حتى إلى احتمال أن تكون ألواح وصايا حضرة عبد البهاء وثيقة مزوّرة. لقد هاجموا بكل عنف ما جاء فيها من نصوص، إلا أنهم لم يطعنوا بموثوقيتها أبدًا. أشعر أنه كلما أُعطي هذا الموضوع الحيوي إعلانًا أكبر، حتى لو أدى ذلك الى تدخل أية حكومة، كلما كان أفضل لأمر الله…’ وذهب إلى القول: ‘أرثي لحال السيدة وايت أكثر من قلقي وانزعاجي للجهد الذي تبذله… كم هو كبير وخطير شأن الموضوع الذي تثيره كونه يمسُّ سمعة الأمر الإلهي وشرفه، وستنجلي الحقيقة حتمًا إن عاجلاً أم آجلاً… كلي قناعة بأن الزوبعة التي يمكن أن تثيرها لن تكون ضارّة، بل ستنقلب نفعًا على أمر الله.’ كما أفاد حضرته أيضًا ‘إن ألواح الوصايا موثّقة وفوق كل شبهة.’ لقد غطّت جهود السيدة وايت الطويلة والمُضنية مساحة واسعة كافية لتشمل المدير العام لمصلحة البريد في الولايات المتحدة الذي كتبت له طالبة منع المحفل الروحاني المركزي في أمريكا من استخدام البريد ‘في نشر أكذوبة أن شوقي أفندي خليفة عبد البهاء وأنه ولي أمر الدين البهائي.’ كما كتبت إلى السلطات المدنية في فلسطين مطالبة إياها أن تتخذ إجراءً قانونيًا في الإعلان عن أن الوصايا مزوّرة – وهو ما رفضته السلطات بشكل مُقتضَب، فأضافت بأعمالها تلك فترة أخرى من القلق إلى شوقي أفندي كان في غنىً عنها وتطلّبت بالضرورة مزيدًا من الجهد والاحتراز من جانبه في وقت كان فيه أصلاً مثقلاً و’مغمورًا في عملي الذي لا ينتهي’. وكان أقصى ما وصلت إليه السيدة وايت لا يتعدى إثارة سحابة من الغبار عابرة تافهة. وعندما كان هياجها في أَوْجِهِ كتب المحفل الروحاني المركزي في بريطانيا إلى الجامعات البهائية في ألمانيا، بواسطة محفلهم الروحاني المركزي، مؤكِّدًا لهم بأن الأحباء البريطانيين يقفون بولائهم خلف إدارة ولي الأمر. ومع ذلك نجد أن أحد مؤسسي الجامعة البهائية في ألمانيا – السيد هِريغل[1] قد انقلب ضد الدين الذي يدير شؤونه ولي الأمر وانفضّ عنه.

كان الأمر اللافت للنظر، بعد هذا الحدث برمته، أن أبرق زوج السيدة وايت عام 1941 إلى شوقي أفندي مبديًا ‘ندمه الشديد وطالبًا الصفح والغفران…’ ويبدو أنه لم يكن في الحقيقة يوافقها الرأي قط، فردّ عليه شوقي أفندي فاتحًا له باب الرجوع، إلا أنه حتى في ذلك التاريخ المتأخر ثبت أنه من المتعذّر عليه أن يسلخ نفسه عن زوجته المريعة وغير النادمة. وهكذا عجز التغيير في قلبه عن إحداث تغيير في وضعه.

سبق لآوارِه – المبلّغ الإيراني الشهير– الذي كان شوقي أفندي قد أرسله إلى أوروبا بعد صعود حضرة عبد البهاء بهدف تقوية جذور إيمان الأحباء هناك، واضطر في النهاية أن يصفه بـ’المرتدّ عديم الحياء’، سبق أن تَرَك حظيرة الأمر الإلهي أيضًا وأخذ يؤلف الكتب الضدّية (مستمرًا في ذلك عدة سنوات) ليس في مهاجمة ولي الأمر فحسب، بل والمولى وحضرة بهاء الله نفسه بأقذع العبارات. ومن اللافت هنا أن زوجة آوارِه، على عكس السيد وايت، قد فصلت نفسها عنه بالكلية وبقيت بهائية مخلصة متفانية جديرة بالثناء على وقفتها الشجاعة تجاه عقيدتها.

أما أحمد سُهراب الذي كان قريبًا من المولى، وعمل سكرتيرًا لحضرته، وتشرّف بمرافقته في زياراته لمراكز في أمريكا وكندا، فقد أعمى بصيرتَه طموحه واغترارُه بنفسه، فأسس “جمعية التاريخ الحديث”، وبأفعاله، وليس أقلّها عادته في الاقتباس من بيانات حضرة بهاء الله وعبد البهاء في محاضراته العامة وكأنها أقواله، أخذ يبتعد عن أقرانه البهائيين شيئًا فشيئًا. من السهل تأليف كتاب عن سيرة نقض هذا الرجل وحده مستشهدين بعدد لا يُحصى من رسائل وبرقيات ولي الأمر الموجهة إليه في سياق جهوده في بادئ الأمر لإنقاذه من أفعاله، ثم لاحقًا لكشفه وحماية الأحباء الأمريكيين من حبائل تشويهه للحقيقة، ومن أكاذيبه المكشوفة ومحاولاته لتقويض النظام الإداري الذي أسّسه المولى في ألواح وصاياه. هنا من المثير ثانية ملاحظة أن زوجته البهائية وابنته قد قطعتا كل علاقة وصلة به بالكلية. فقد شعرتا حقًا بمنتهى الخِزي والاشمئزاز من تصرفاته، حتى إنهما غيّرتا كُنْيَتهما [اسم العائلة].

وعن مثل تلك الأزمات التي كانت تبرز مع مرور الوقت كتب شوقي أفندي: ‘علينا أيضًا أن ننظر إلى كل عاصفة من الأذى يثيرها المرتدّون عن دينهم أو المدّعون بأنهم المناصرون المخلصون ويهاجمونه بها من وقت لآخر على أنها عناية مستورة وبركة مقنّعة. فهجمات كهذه من الداخل والخارج معًا، إنما تعمل على تقوية أساسات أمر الله وإذكاء لهيب شعلته بدلاً من تقويضه. وهي، وإن كانت تهدف إلى حجب نوره، إلا أنها تعلن للملأ خصائصَ مبادئه السامية، وكمال وحدته، وأصالة مقامه، واتساعَ نفوذه.’

إلا أن سرد قصص النقض على هذا النحو لا ينقل إلينا الصورة الحقيقية لما عناه نقض العهد والميثاق ودلّ عليه في ولاية شوقي أفندي. وحتى يدرك المرء ذلك عليه أن يفهم قصة قابيل وهابيل القديمة، قصة الغيرة والحسد ضمن العائلة التي بقيت كخيط داكن اللون في نسيج التاريخ ينسلُّ عَبْر جميع عصوره ويمكن تتبّعه في كل أحداثه. فمنذ أن ارتفعت عقيرة الأخ الأصغر لحضرة بهاء الله ميرزا يحيى بالاعتراض، فإن سمّ نقض الميثاق، الذي تمثّل بالاعتراض على مركز العهد والميثاق، قد انسلَّ إلى الأمر المبارك وبقي فيه. من العسير على مَن لم يختبر ماهية هذا الداء ولم يولِ أي اهتمام لهذا الموضوع، أن يدرك حقيقة ما لهذه الآفة الخبيثة من قوة تدميرية. كل أفراد عائلة حضرة بهاء الله نشأوا وترعرعوا في ظلال النقض. إن العواصف والانشقاقات، ثم جهود الإصلاح وصولاً الى قَطْع الصلات في النهاية، التي تحدث عندما يكون شخص مُقرَّب بارز، وفي أغلب الأحيان أحد الأقارب الأعزاء، يموت روحانيًا بسبب داء روحاني، أمرٌ لا يتصوره إنسان لم يسبق له أن اختبرهم. إن ضعف قلب الإنسان الذي غالبًا ما يدفعه إلى التشبث بشيء لا يستحق الاعتناء به، وسقم العقل الإنساني، الذي يجعله عرضة للنزوع إلى الغرور والاعتداد بآرائه الخاصة، يقحمان الناسَ في عواطف وانفعالات مشوَّشة تعميهم تمامًا عن الحكم السديد وتقودهم إلى الضلال المبين. ففي الشرق، حيث الإحساس بالروابط العائلية لا زال ذا طابع عشائري قوي حتى يومنا هذا، نجد أن أفراد العائلة يتشبثون ببعضهم بشدّة أكثر بكثير مما في الغرب. وبغضّ النظر عما فعله ميرزا يحيى، فقد كان في العائلة شعور أنه رغم كل شيء، لا بد أن يكون هناك مبرِّر في جانبه، وليس بالضرورة أن تكون جميع المبررات الخاصّة بشؤون العائلة إلى جانب حضرة بهاء الله. يمكن للمرء أن يلحظ بكل سهولة أنه حتى لو وُجد أدنى أثر لموقف كهذا بين أفراد عائلة حضرة بهاء الله نفسها، فإن الأطفال سوف يكبرون دون أن يشاهدوا النقض بأبعاده الحقيقية؛ هناك يكون الصدْعُ الأكبر، وهو الأخطر بين شكوك الإنسان كلها؛ حيث يُنظَر الى الشخص الذي يمثّل الكمال، في نهاية الأمر، على أنّه قد لا يكون كاملاً في كل الظروف بل يمكن أن يكون معَرّضًا لأن يحيد أحيانًا عن الصواب ولو قليلاً في حكمه على الآخرين. فإذا ما تغلغل هذا الشك في الإنسان انتشرت جراثيم النقض في أجهزته؛ فربما تبقى في سُباتٍ إلى الأبد، أو ربما تخرج من سباتها فجأة على شكل وباء. كان يبدو لي دائمًا أن الانقسام الذي أصاب عائلة حضرة بهاء الله بعد صعوده، والشقاق المتتابع إلى جيليْن فيما بعد في عائلة حضرة عبد البهاء بكاملها تجاه شوقي أفندي، قد بدأ بموقف واتّجاه فكريٍّ ظهر في أيام بغداد حتى قبل أن يُعلن حضرة بهاء الله عن رسالته. فالجذور ترجع إلى ذلك الوقت، والثمار السامة أينعت بعد ثمانين عامًا.

إن الإيمان والطاعة هما العاملان الأهم في علاقة الإنسان بربِّه وبمظهره وبرئيس دينه. على المرء أن يؤمن حتى لو لم يشاهد بعينه، وعلى المؤمن أن يطيع حتى لو لم يقتنع. إن نقض العهد والميثاق داخل عائلة حضرة بهاء الله كان كالنبتة المتسلّقة، فالتفّت على الشجرة كالضفيرة وخنقتها؛ وأي مكان تَطالُه محاليقُها تمتد وتمسك به وتلتف حوله وتقضي عليه أيضًا. هذا هو السبب في أن كثيرًا من الأقارب البعيدين وأمناء السرْ وأفراد من الجامعة الذين يحيطون بمركز الأمر المبارك قد تورطوا في مشاعر السخط وموجات النفور المتكررة الصادرة عن مختلف أفراد العائلة، وفي كل مرة انقلب فيها أحد الأفراد المُبْتَلين بهذا المرض كان يتبعه بعضُ العُمي المتعاطفون.

يبدو الأمر بسيطًا في ذكْره على الورق. أما أن ترى بيتًا سنةً بعد أخرى وقد تمزّقت أوصاله بانفعالات يتفطّر لها القلب، واهتزّت أركانه بمَشَاهِدَ تترك عقل المرء مُخدرًا، والأعصاب تالفة، والمشاعر في اهتياج عظيم، فليس بالأمر الهيّن. إنه الجحيم بعينه. فالمريض قبل أن يُمَدّد على طاولة العمليات لاستئصال عضوه الفاسد المؤذي، فإنه يخضع لاستطبابات مطوّلة تقتضي التأنّي واتبّاع أساليب طبية علاجية مع بقاء الأمل في الشفاء. هكذا الحال مع نقض العهد والميثاق. يُكتَشَف الفسادُ أولاً، ثم يأتي التحذير، ثم الاعتراض، يتبعه النصح. يتحسّن الوضع ويبدو أفضل، إلا أن حُمّى النقض تعود ثانية بشكل أسوأ؛ تظهر حالات من التشنّج – ثم ندم وتوبة يتبعهما صفح وغفران – وبعد ذلك يتكرر المشهد برِمّته ثانية، وعلى الشاكلة نفسها بل وأسوأ من ذي قبل. هذا ما كان يحصل في عهد حضرة بهاء الله وعبد البهاء وشوقي أفندي في أشكال مختلفة لا حدود لها.

كل ذلك أصبح الآن في ذمّة التاريخ، ولا فائدة تُرجى من إعادة سرده حالةً بعد أخرى، إلا أنني أعتقد أن أمرًا واحدًا يجب توضيحه؛ فبينما تكون ردّات فعلنا كبشر عاديين متماثلة بشكل عام، نجد أن ردة أفعال تلك الوجودات البشرية الاستثنائية تكون بطرق مغايرة تمامًا. فهم في أمور كهذه – مهما كان التفاوت كبيرًا في مقاماتهم – مختلفون عنّا تمامًا. عادة ما كان يتملّكني العجب في بداية سنوات حياتي مع ولي الأمر؛ لماذا تنقلب حاله بهذا الشكل الرهيب جرّاء هذه الأحداث؟ لماذا تكون ردة فعله عنيفة إلى هذه الدرجة؟ لماذا علامات النقض وشواهده تولّد فيه حالة القهر على هذا النحو؟ بدأتُ بعدها أدرك بالتدريج أن وجودات كهذه، تختلف عنا تمامًا، حائزة على نوع من الموازين الغامضة المُدمجة في صميم أرواحها. فهم يرصُدون الحالة الروحانية للآخرين تلقائيًا كما لو وَضَعْتَ شيئًا في كفّة ميزان فتهبط فورًا لاختلال التوازن. إننا كأفراد بهائيين نشبه السمك في بحر أمر الله، إلا أن تلك الوجودات بمثابة البحر نفسه، فأي عنصر غريب في بحر أمر الله، إذا جاز لنا القول، فإنهم بطبيعتهم التي يُعرفون بها تمامًا يميزون هذا العنصر، فيتولّد لديهم ردُّ فعلٍ تلقائيٍّ تجاهه؛ فالبحر يلفظ جثث موتاه.

غالبًا ما كان شوقي أفندي يجد نفسه مضطرًا لأن يعلن جهارًا، ليس عن سقوط بهائيين معروفين جيدًا سقوطًا روحانيًا فحسب، بل وعن سقوط أفراد من عائلة حضرة عبد البهاء نفسها أيضًا، وهم الذين أشار إليهم بأنهم ‘أولئك الذين تعلن أفعالُهم انفصالَهم عن شجرة الأمر المباركة وخسرانَهم الحقَّ في شرف انتسابهم المقدس.’ ويصرح حضرته بأن قلبه كان يتفطّر حزنا وغمًّا بتلك ‘الرِّدّات المتكررة’ من ‘المنتسبين غير الجديرين’ للمولى المحبوب، وهي رِدّات وضّحها حضرته بأنها كانت ‘عملية تطهير تعمل بموجبها الحكمة الإلهية من وقت لآخر على تطهير زمرة عباده المختارين من دنس العناصر غير المرغوب فيها وغير اللائقة…’ وقد بيّن شوقي أفندي أنّ مَن يُضمِرون العداء للدين الإلهي يستدلّون دائمًا بشواهد عملية التطهير تلك على أنها علامة شقاق وفُرقة قادمة، ويأملون أن تُعجّل في عملية سقوط أمر الله واضمحلاله. وهو ما لم يحصل على الإطلاق.

ومع أن ظاهرة نقض الميثاق هذه تبدو جانبًا متأصّلاً في الدين، فلا يعني هذا أنها لا تصيب الأمر الإلهي بتأثيرها الضارّ، بل بالعكس من ذلك كما جاء في برقية شوقي أفندي إلى البهائيين بعد وفاة أحد أقربائه حيث قال: ‘الوقت وحده كفيل بأن يكشف عن مدى الخراب والدمار الذي أحدثه جرثوم النقض هذا الذي حُقِنَ وترعرع داخل عائلة حضرة عبد البهاء لعقدين من الزمن.’ ولا يعني هذا أن كثيرًا مما حصل كان لا يمكن تجنُّبه بمزيد من الجهد والولاء من جانب الفرد! وفوق هذا كله لا يعني أنه لم يكن له ذلك التأثير الضارّ جدًا على مركز الميثاق نفسه. لقد خيّمت على شوقي أفندي طيلة حياته سحابة داكنة نتيجة الهجمات الشرسة على شخصه. إنني شخصيًا مقتنعة تمامًا أن السبب الرئيس في تلف قلب ولي الأمر تدريجًا بما يكفي ليتوقف عام 1957، كان ذلك الجهد الذي لا يُحتمل والذي بذله خلال ست وثلاثين سنة قضاها في نضال لا ينتهي مع سلسلة من ناقضي العهد والميثاق. لزام عليّ أن أُضيف هنا أن موت زوج أخته هو الذي دفعه إلى إرسال البرقية المُستَشهد بها أعلاه وذلك من أجل أن ندرك ولو لمحة عما كان يكابده شوقي أفندي مرارًا وتكرارًا على مدار ولايته.

في إحدى المناسبات أبرق شوقي أفندي إلى مؤمن كان مقرّبًا جدًا إليه والذي علم مؤخرًا أنه عومل بأسوأ ما يمكن من قبل أحد أقاربه: ‘قلبي يغمره التعاطف الوجداني على ما تحمّلتَهُ من معاناة بكل شجاعة. لو عرفتُ بذلك من قبل لكنتُ اتصلتُ بك فورًا. نتجرع أنت وأنا معًا كأس المعاملة المريرة من الأقارب الأقربين. أشعر بقربي منك مدركًا أحزانك متذكّرًا خدماتك الجليلة المتواصلة التي لن تُمْحى. دعائي الحار في المقامات المقدسة. مع خالص المحبة.’

إن الكلمات التالية من مذكراتي اليومية التي كتبتُها بين عامي 1940 و 1945م، تحت تأثير ما كنت أراه من معاناة شوقي أفندي جراء الأزمات الطويلة المحطِّمةٍ التي حَرَمتْه من أقاربه، ربما تستطيع أن تنقل بشكل أفضل مدى تأثير نقض العهد والميثاق:

‘يمضي في طريقه، ولكنه كحال رجل وسط عاصفة ثلجية لا يستطيع أحيانًا حتى فتح عينيه من شدة وهج الثلج الذي يعمي البصر.’ ‘هو مثل رجل قد احترق جلده… إنه ضَرْبٌ من الإعجاز أن نجده قادرًا على مواصلة الطريق.’ ‘أشعر يقينًا بأن المدّ سوف ينحسر. ولكن يا للحسرة، لا ولن نجد شوقي أفندي كما كان أبدًا! لا أعتقد أن أي شيء في هذا العالم بمقدوره أن يمحو ما فعلتْ به السنون الأخيرة! الوقت أكبر شافٍ ولكنه عاجز عن إزالة النُّدْبات.’ ‘يبدو أن كل شيء كُسر ويتعذّر إرجاعه كما كان.’

ليس هناك أدنى شك في أن تلك الأزمات المتكررة قد تدخّلت بشكل كبير في أعمال شوقي أفندي من أجل خدمة أمر الله. وبالعودة إلى عام 1926 نجده قد كتب إلى مؤمن يفتقر إلى الحماس، وقد أصبح فيما بعد من أكثر الناقضين خِسّةً: ‘أنت تعلم أني لست ممن تحكمه العواطف، وما كنتُ يومًا كذلك. أتعطّش للعمل وأفكاري مُنصبّة على إنجاز المهامّ الهامة إذا سمحت لي الظروف وتحرّرتُ من هجمات مَن هم في الداخل وفي الخارج.’

إن الصبر الذي تحلّى به شوقي أفندي في معالجته هذه المواقفَ المروّعة التي برزت داخل عائلته، تجلى في واقع الأمر في إحدى المناسبات حين أمسك ثمانية أشهر عن إرسال برقية تحمل قرار الطرد الروحاني بحق أخيه، محاولاً معالجةَ الموضوع – دون جدوى – وليتجنّب ضرورة إرسال الرسالة التي كان يتفطّر لها قلبه.

كم كان تأثير النقض على أمر الله كارثيًا بحيث كان أحد آخر أعمال شوقي أفندي في ولايته إعلام أيادي أمر الله بضرورة تعيينهم مجموعةً ثانية من أعضاء هيئة المعاونين للقيام بواجب حماية الأمر المبارك وصيانته.

[1]       Herrigel.

الفصل السادس جوانب من شخصية شوقي أفندي

إن كون شوقي أفندي حازمًا في جميع الشؤون المتعلقة بحماية الأمر المبارك لا يعني أنه لم يكن رقيقًا لطيف المعشر أيضًا. كان في جوهره رقيقَ القلب إلى أبعد الحدود، وإذا ما حظي بفسحة كافية من الهدوء داخل نفسه، عبّر عن ذلك اللطف والرقة الفطرية ليس لمن حوله فحسب، بل وللأحباء شخصيًا بطرق شتى أيضًا. هناك العديد من الأمثلة على ذلك مما نقرؤه في ملفات برقياته. فإذا ما حلّت كارثة بقطر ما يقطن فيه بهائيون، اعتاد مرارًا وتكرارًا أن يسارع إلى الاستفسار عن سلامتهم، كما في برقيته التالية إلى إيران: ‘أبرقوا لنا عن سلامة الأحباء. قَلِقٌ من تقارير الزلزال في إيران وتركستان.’ وغالبًا ما كان يُتْبِع ذلك بمساعدةٍ مالية لمن هم في أمسّ الحاجة. عندما أُصيب بهائي أمريكي في إيران بشلل الأطفال، وكان في طريقه مع زوجته عائديْن إلى الولايات المتحدة، أبرق شوقي أفندي إلى الأحباء في بيروت والإسكندرية ونيويورك طالبًا منهم استقبال الباخرة التي تُقِلّه ومساعدته بكل ما يستطيعون. وكذلك أرسل حضرته سبع برقيات خلال فترة قصيرة بخصوص سيدة بهائية كانت تواجه صعوبات مختلفة في الوصول إلى حيفا ومغادرتها بعد انتهاء زيارتها. إن دقته المتناهية في أمور كهذه واهتمامه بها تعكسها لنا بكل حُبور برقيتُه المرسَلة إلى مصر: ‘سيصل الليلة إلى القاهرة السيد دْيُوِنغ[1] وليوم واحد، وهو بهائي من نيوزيلندا. نحثّكم على لقائه في المحطة. يضع على رأسه خوذة. فإذا أخطأتموه قابلوه في الصباح التالي في مكتب كوكس[2] الساعة التاسعة. أحيطوه بوافر اللطف والحفاوة.’ ونرى شوقي أفندي يُبرق في مناسبة أخرى بخصوص بهائي لم يتمكّن من النزول في حيفا لسبب ما حتى يعملوا على ‘تطييب خاطره بالنيابة عنّي’. وعندما علم من شخص أبرق إليه بأن زوجته كانت ‘مشوّشة بالكامل وتعتقد أنها فقدت محبتك، وإن رسالة منك ستهدّئها’، أبرق شوقي أفندي فورًا: ‘أكِّدْ لها… محبتي الكاملة، ولْتطمئنّ إلى ذلك.’ وأبرق إلى مؤمن في الشرق الأدنى يقطن أقاربه في فلسطين قائلاً: ‘مع كل الترحيب بقدومك، ننصحك باصطحاب أطفالك لإطفاء نار الشوق لدى جدّتهم.’ وجاء في برقية تحمل رسالة إلى شخص بارز آمَنَ حديثًا: ‘أَبْرقْ إلى الأميرة معبّرًا عن خالص محبتي وأطيب أمانيَّ عسى أن تحيطها عناية حضرة بهاء الله بساعديْه المقتدريْن على الدوام.’

سبق أن توفيتْ في سويسرا سيدة بهائية مهاجرة مخلصة تدعى داغمر دول[3] ودُفنت هناك. وذات مرة، عندما كنت مريضة ولازمت الفراش لبضعة أيام، كم كان تأثُّري عميقًا ودهشتي شديدة عندما جاءني شوقي أفندي ليقول لي بأنه ذهب لزيارة قبرها حيث استقلّ القطار في رحلة لمسافة قصيرة من المكان الذي نقيم فيه.

كان يتجاوز أحيانًا التشجيعَ العادي والتعليمات العامة التي كان يُوجّهها للبهائيين ليتدخّل في خططهم بطريقة مباشرة. مثال ذلك شاب في السابعة عشرة من عمره رغب في الذهاب إلى أمريكا اللاتينية ليساهم في خطة السنوات السبع الأولى، فنُصح بأنه لا زال شابًا صغير السنّ وأن عليه أن ينتظر حتى يكبر ويُنهي مراحل متقدّمة أكثر من دراساته، فأبرق شوقي أفندي إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا من أجل أن يعيد النظر في موضوع هجرته ويدعه يذهب، وكان شوقي أفندي يَذْكر هذا الرجل صغير السنّ بكل فَخَار لتلبيته نداء الحاجة إلى مهاجرين. وامرأة عجوز مُقْعدة كانت توّاقة للهجرة إلى شمال إفريقيا، شجّعها شوقي أفندي على الهجرة، وقد أُشير إلى مكان وفاة إللاّ بيلي[4] على إحدى خرائط حضرته بوضعه نجمة ذهبية! أتذكّر إحدى الزائرات للأرض الأقدس وهي جالسة على المائدة تُخبر شوقي أفندي بأن زوجها وافق أن يهاجرا معًا وتسأل نصيحته في اقتراح مكانٍ يذهبان إليه، فأجابها في الحال ‘إفريقيا’. ثم سألت ‘هل من مكان محدد في إفريقيا؟’ أجابها ‘جنوب إفريقيا’. لقد تفاجأَتْ بعض الشيء بهذه الإجابات القاطعة السريعة كطلقات الرصاص ثم قالت: ‘وهل من مدينة محددة؟’ أجاب على الفور ‘جوهانسبرغ’. وهكذا تحدد مصيرها وأسرتها بأربع كلمات.

في بعض الحالات كانت الروح التي تُحَرِّك فردًا بهائيًا على درجة كافية لأن تُقنع شوقي أفندي بتغيير تعليماته الخاصة. مثال ذلك حالة ماريون جاك[5]، التي لقّبها المولى بـ’الجنرال جاك’، ووصفها ولي الأمر بـ’البطلة الخالدة’ حيث قال بأنها المثال اللامع للمهاجرين لأجيال الحاضر والمستقبل في الشرق والغرب، ولم يتجاوزها أحد في ‘الثبات والإخلاص ونكران الذات والجرأة’، إلا ‘مارثا روت التي لا تُضاهَى’. كانت جاكي – كما كانت تُدعى عادة –
تعيش في صوفيا/ بلغاريا، وعندما اشتعلت الحرب هناك أبرق إليها شوقي أفندي، بدافع قلقه عليها من وضعها الخطير آنذاك، قائلاً: ‘أنصحُكِ بالعودة إلى كندا. أعلميني إذا كنتِ مقتدرةً ماليًا.’ فأجابت: ‘… ما رأيك بسويسرا؟’، إلا أنها أكّدت له طاعتَها التامة. عندها أبرق إليها ‘أوافق على سويسرا.’ إلا أنها كانت لا تزال غير راغبة في مغادرة مركز هجرتها فرجته أن يسمح لها بالبقاء في بلغاريا، فاستجاب ولي الأمر إلى مطلبها قائلاً: ‘أنصح البقاءَ في صوفيا. مع المحبة.’

هناك غموض كبير يكمن في مستويات الخدمة. كان شوقي أفندي ينصح الأحباء دائمًا أن يسلكوا سبيل الاعتدال والحكمة. أما إذا لم يفعلوا واختاروا ارتقاء قمم البطولة والتضحية بالنفس، فكان فخورًا جدًا بهم. فبالنتيجة ليس هناك ما يمكن اعتباره عملاً حكيمًا أو معتدلاً في الاستشهاد – ومع ذلك فإن ما توَّجَ ديننا بالمجد هو أن مَظْهره الأول قد استشهد في هذا السبيل وتبِعَ خُطاه عشرون ألفًا. حاولتُ جاهدةً أن أفهم هذا الذي يصعب إدراكه؛ الاعتدال من جهة وكلمات حضرة بهاء الله من جهة أخرى: ‘… فاكتب من المداد الأحمر الذي سُفك في سبيلي إنه أحلى عندي من كل شيء…[6] ويبدو لي أن أفضل مثال على ذلك هو الطائرة: فعندما تنطلق بعجلاتها على سطح الأرض تكون حينها مقيّدة بقانون الأرض وتتقدم بانتظام في مستوىً أرضي، أما عندما تحلّق في الهواء وتطوي عجلاتها وتنطلق إلى الأمام بتسارعٍ يحيّر البصر، تغدو في عالم سماوي تختلف فيه القِيَم. عندما نكون على الأرض نتلقى نصيحة أرضية رشيدة، أما إذا اخترنا نبْذَ الدنيا وقفزنا إلى عوالم من خدمات وتضحيات أجلّ وأعلى، فلن نعود نتلقى بعد ذلك مثل تلك النصيحة، فنفوز عندها بالشُهرة الأبدية ونغدو أبطال أمر الله وبطلاته.

لقد عمل شوقي أفندي من خلال كل شيء. فكلّ شيء صادفه، إنسانًا كان أم شيئًا آخر أو قطعة أرض، وكان بمقدوره أن يحوِّله إلى ما فيه فائدة لصالح الأمر المبارك، إلا وأمسك به واستخدمه. ومع أنه كان يعمل من خلال المحافل الروحانية واللجان بشكل عام، إلا أنه عمل أيضًا من خلال الأفراد مباشرة. مثال ذلك فكتوريا بِدِكْيان[7] المعروفة بـ ”العمة فكتوريا”. فقد دأبت لعدة سنوات على كتابة رسائل تداولتها الأيدي على نطاق واسع في الشرق والغرب، وكان ولي الأمر يشجعها على هذا النشاط حتى إنه أخبرها بما يجب أن تركّز عليه في رسائلها تلك.

لم يكن شوقي أفندي تُشغل بالَه مصادر المعلومة؛ وأعني بذلك أنه لم يكن دائمًا ينتظر الطرق الرسمية في توثيق خبر وصول مهاجر إلى مكانه، أو خبر عن بشارة سارة نقلته له رسالة شخصية أو من أحد الزائرين للأرض الأقدس، فكان يعمد إلى تضمين هذه المعلومة المشجعة في رسائله. إن هذا المجال الذي سمح شوقي أفندي لنفسه به قد أشار إلى أن أعمال الأمر المبارك بكلِّيتها قد انطلقت إلى الأمام بخُطىً أسرع بكثير مما لو عمل بأسلوب آخر. وككل القادة العِظام، كان حضرته يملك شيئًا من خاصّية رجل الصحافة البارع الذي يدرك أن عامل الوقت في نقل الخبر له أهميته القصوى، وأن السرعة بحدّ ذاتها لها تأثيرها المنبّه والمحفّز للخيال. ومع ذلك، فإن نهجه هذا يجب ألا يقودنا خطأً إلى التفكير بأنه لم يكن شخصًا استثنائيًا في دقته. فإن دقتَه المتناهية في جمعه المعلومات الإحصائية، وبحثَه في الحقائق التاريخية، وعملَه في كل تفصيل دقيق في خرائطه وخططه، كانت مدهشة.

كان لولي الأمر علاقات شخصية قليلة تفوق وتتعدى عواطفه ومشاعرَه الودّية المعتادة تجاه جميع الأحباء الجديرين حقًا بحمل اسم “بهائي”. ففي إحدى المناسبات، عندما كان حضرته مريضًا، أبرق إليه فيليب سبريغ[8] معبّرًا عن قلقه على مرضه ومُنْهِيًا رسالته بعبارة ‘بقلب مفعم بالمحبة’، فردّ عليه شوقي أفندي برقيًا بقوله: ‘لقد تعافيتُ. أُبادلك تمامًا مشاعر حبك الكبير.’ وكثيرًا ما سنحت له الفرصة لأن يُبرق إلى وكيله د. جياكري[9] في إيطاليا من أجل لوازم متنوعة مطلوبة للمركز البهائي العالمي. والعديد من تلك البرقيات كان شبيهًا بما يلي: ‘لطفًا، أرجو طلب أربعة وعشرين عامودًا إضافيًا للكهرباء مماثلة لتلك التي طُلبت من قبل. مع محبتي.’ وبرقيات كهذه كانت بعيدة عن كونها أسلوب ولي الأمر المعتاد.

إلا أن هناك وجهًا آخر لبرقياته؛ فإذا كان بعضها ودّيًا جدًا وذات طابع روتيني في معظمها، فإن برقيات أخرى يمكن أن تكون حادّة إلى أقصى الحدود. هناك العديد من برقيات كهذه أُرسلت إلى محافل روحانية مركزية، منها هذه التي أُرسلت إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا عام 1923 يقول فيها: ‘أتوقّع تقارير شاملة منتظمة…’، وعدة برقيات أخرى إلى أشخاص مختلفين بعبارات أقوى مثل: ‘إياكَ وعصيان ما أبتغيه’، ‘أحذرك مرة أخرى’؛ ‘إياكَ والإهمال’، وهكذا دواليك. من المستحيل أن تجد برقيات فيها إطْنَابٌ وغموض. أبرق إلى أخيه في بيروت: ‘أرسِلْ مع الشقيقة عشرة أشرطة سوداء نوع كورونا’ [للآلة الطابعة]. وإلى أول بهائي طلب الإذن للتشرف بزيارة حيفا بعد انتهاء الحرب [العالمية الثانية]، بعد أن فُتِحت ثانية طريق زيارة الأماكن المقدسة، أبرق إليه شوقي أفندي بعبارة واحدة: ‘أهلاً وسهلاً’، معبِّرةً بكل بساطة عما كان يعنيه.

كل ما في حياة شوقي أفندي من عمل ونشاط كولي لأمر الله؛ من قبيل تفكيره وأحاسيسه، ردّات فعله وتعليماته، يمكن أن نجده منعكسًا بشكل مصغّر في برقياته وتلغرافاته. وغالبًا ما كانت هذه البرقيات أكثر ألفة وأكثر صراحة وقوة من آلاف الرسائل التي كانت تُكتَب للأفراد [بالنيابة عنه]، ذلك لأن في رسائله عادة ما كان سكرتيره يهتمّ بالتفاصيل، وبذلك تبعد كلماتها عن كونها كلمات ولي الأمر نفسه، باستثناء ما كان يكتبه في الحواشي بخط يده التي كانت تتضمّن في معظم الأحيان تأكيدًا على دعواته وتشجيعه وعلى تصريحاته بشأن المبادئ العامة.

كان شوقي أفندي، مثل جدّه وجدّه الأكبر من قبله، يملك حسًا ظريفًا بالدعابة جاهزًا لأن يُظهر نفسه إذا ما أُعطي الفرصة لأن يكون سعيدًا أو يتمتع بفسحة ضئيلة من راحة البال. تجد عينيه تكادان ترقصان فرحًا، وقد يكون مسرورًا فيضحك ضحكة خافتة أو ينفجر في ضحكة عالية أحيانًا. قال شوقي أفندي يومًا لأحد الشباب الزائرين الذي عبّر عن رغبته في الزواج: ‘لا تنتظرْ طويلاً، ولا تنتظر أن يسقط أحد من السماء.’ وفي برقية إلى بعض أقاربه الشباب في بيروت عام 1923 نجده يقول: ‘متى سيُنهي سكرتاريَّ صعبا المراس فترة علاجهما؟ أبرقا.’ كان يحب ممازحة من كان يأنس إليهم داخل نطاق عائلته. غالبًا ما كنتُ أنا الضحية، ولعلمه بأنني على الأرجح سأصدّق ما يقوله، فقد استغلَّ حضرتُه ذلك واستمتع بممازحتي بحِيَله. فمثلاً أذكر، ونحن في فترة الحرب، حينما دخلتُ غرفته وجدتُه جالسًا بغاية الوقار وعيناه تحملقان بقلق. هذا المنظر لوحده شد انتباهي وجعلني قلقة. ثمّ قال بأن شيئًا مروعًا قد حدث. ازداد قلقي بالطبع فسألتُ ما الذي حدث. وفي لهجة معبِّرة عن قلق عميق أخبرني بكل جِدّية بأن تشرشل قد مات. ولما كانت هذه الفترة من أخطر فترات الحرب، اهتاجت مشاعري وقلقت كثيرًا من هذا الخبر وسألتُه ماذا سيحصل للحلفاء الآن بعد موت قائدهم العظيم… إلخ. أبقاني شوقي أفندي على اضطرابي وقلقي وأمسك نفسه ما باستطاعته، ثم انفجر ضاحكًا! وكثيرًا ما كان يمازحني بمثل هذه الحِيَل طالما وجد فيّ هدفًا مثاليًا – إلا أنني بالتدريج أصبحتُ أَعِي مَقَالِبَه، وبعد عشرين سنة أخبرني أنه أصبح يجد صعوبة كبيرة في خداعي. حاولتُ أحيانًا أن أقوم بالدور نفسه معه فلم أستطع إتقانه كما كان يفعل، وتقريبًا لم أنجح أبدًا في الإيقاع به.

في جانبٍ تجده في غاية الجلال وفي الآخر نقيّ القلب يُفضي بما في دخيلة نفسه لمن يأتمنه بروح فتيّة. هكذا كان ولي أمرنا! عندما علم شوقي أفندي مرة أن بمقدوري أن أُلوِّن الأشكال بشكل بسيط، أصبح من جملة مهامّي أن أُلوّن له أشياء مختلفة من بينها خارطة تبيّن قطع أراضٍ امتلكَتْها الجامعة البهائية على جبل الكرمل. وذات يومٍ، بينما كنت أقوم بتلوين مساحات جديدة تمّ امتلاكُها، أخبرني شوقي أفندي بضرورة أن تكون بلون أفتح. سألتُه لماذا؟ فأجاب: لماذا! لنبيّن بأنها ‘امتُلِكت حديثًا’. كان ذلك انعكاسًا واضحًا لما كانت هذه القطع من الأراضي المشتراة حديثًا تجلبه لحضرته من بهجة وسرور. وفي مناسبة أخرى أذكرُ كم أمضيتُ الساعاتِ والساعات في تلوين صُوَرٍ فوتوغرافية مختلفة الحجم تُظهر مسقطًا معماريًا عاموديًا للنَّصْب التذكاري لمرقد الورقة المباركة العليا وعلى جانبيه النصبان التذكاريان للمرقديْن المطهريْن لوالدتها وشقيقها.

يستدعي هذا ذِكْرَ جانب آخر من شخصية شوقي أفندي الغنية بالمزايا، فقد كان شديد التمسك بأهدافه بكل عزم وتصميم، إلا أنه لم يحد أبدًا عن المنطق. ومع أنّه لم يلجأ قطّ إلى تغيير أهدافه، إلا أنه كان أحيانًا يعمد إلى تغيير مسار خطته للوصول إليها. وخير مثال على ذلك تصميم النُصب التذكارية التي لوّنتُها. فعندما راودته فكرة نقل رُفات والدة بهائية خانم وشقيقها من عكاء إلى جبل الكرمل، أمر حضرته على الفور بجلب نُصبيْن جميليْن من المرمر من إيطاليا كالذي استُعمل في بناء مرقد الورقة المباركة العليا. ولما كان كل ذلك قد حدَثَ وهو بعيد عن حيفا، اتّجه فكرُهُ إلى وَضْع هذين النُّصبيْن على جانبي مرقدها المطهّر، فأمر بوضع رَسْمٍ يوضّح له الصورة كاملة. إلا أنه، عندما عاد إلى حيفا ودرس تنفيذ خطته على أرض الواقع، قرر أن ذلك لن يكون بجمال وضع النصبين جنبًا إلى جنب لوحدهما وعلى المحور نفسه. وهو ما فعله في النهاية.

طيلة فترة ولاية شوقي أفندي كنا نرى نور الهداية الإلهية تُضيء دربَه، مؤيِّدةً قراراته، وملهِمةً إياه في اختياراته. إلا أن هناك دومًا عوامل غير متوقعة تتدخل في كل خطة. فبفعل الإرادة الإلهية، وبخلاصة المسعى البشري تتغيّر الخطط باستمرار، صغيرة كانت أم كبيرة. هذا ما كان يحدث دائمًا للأعظم كما للأصغر من البشر، وهو ما تشهد به كلمات الرسل والأنبياء أنفسهم. كان شوقي أفندي معرّضًا لمثل هذه القوى، ولكنّه هو أيضًا كثيرًا ما كان يَعْمَد إلى تعديل في خططه الخاصة. والأمثلة على ذلك كثيرة ومثيرة للاهتمام؛ ففي وقت ما راودته فكرة نقل الرمس المطهّر لحضرة بهاء الله من عكاء إلى جبل الكرمل بحيفا، إلا أنه عَدَل عن فكرته بالكلية فيما بعد وأبقى على مكانه الدائم في البهجة؛ وما عُرف بالجهاد الروحاني العالمي أو خطة السنوات العشر كان في البداية إعلان عن خطة لسبع سنوات؛ كما أن بناء مشرقِ أذكارٍ واحدٍ خلال هذه الخطة قد أصبح ثلاثة؛ والدول الأوروبية الثمانية المستهدَفة، كما كانت في الأصل، أصبحت عشرة… وهكذا دواليك. فإذا ما تدخّلت قوى خارجية، ليس لولي الأمر عليها سلطان، وأثّرت على بعض خططه وأعاقتها – كتضاربها مع تعديل أجراه، أو توسُّع في خطة خاصة به على ضوء الظروف – كان يعمل فورًا على تعويضها بحيث لو تعرّض الأمر المبارك إلى نكسة عابرة أو إذلال مؤقت، يخرج في النهاية بمزيد من الانتصارات وبفيض من المواهب والعطايا أغلى وأقْيَم.

ربما اضطر شوقي أفندي أحيانًا إلى تغيير مساره، ولكنه لم يُهزم قَطُّ في الوصول إلى هدفه، فبراعته كانت استثنائية. مثال جيد على ذلك طريقته في الإعداد لبناء اثنين من المعابد البهائية القارية الثلاثة العظيمة الجديدة المقررة في خطة السنوات العشر. فقد استخلص من المهندس المعماري المتوفر لديه ما يمكن أن يكون تصميمًا لائقًا لمشرق الأذكار في كل من “سيدني” و”كمبالا”. فكان تصميمهما يوحي بالجلال والوقار، مبهجًا في تناسقه، محافظًا في طرازه، ومتواضعًا نسبيًا في كلفته. ولمّا كان المهندس المعماري في وضع لا يسمح له بتنفيذ المخططات التفصيلية أو الإشراف الفعلي على عملية البناء، وحتى لا يجعل شوقي أفندي من ظرف تافه صغير عائقًا كبيرًا يوجب التوقف عنده طويلاً كما لو كان رجلاً ضيق الأفق تربكه صغائر الأمور، فقد أصدر على الفور تعليماته إلى المحفليْن الروحانييْن المركزييْن في سيدني وكمبالا بضرورة الاتفاق مع شركات هندسية محلية تقوم بوضع المخططات التفصيلية وتنفيذ البناء. وقد أجرى شوقي أفندي بنفسه تعديلات على الاقتراحات المرتفعة الثمن التي قدمتها تلك الشركات في بادئ الأمر، واستطاع إتمام بناء مشرق الأذكار في كلا البلدين بسعر اعتبره معقولاً يمكن للأمر المبارك أن يدفعه. وهكذا مرة بعد أخرى استطاع ولي الأمر، بفضل حنكته وحكمه السديد أن يوفّر الكثير من أموال الأمر لتُصْرَف على العديد من المهمّات بالغة الأهمية، ويجنِّب الأمر عجزًا ماليًا مؤقتًا نتيجة مواصلة الصرف غير الحكيم على تنفيذ مشروع واحد.

كان الاقتصاد مبدأً يراعيه شوقي أفندي بكل حزم، ولديه أفكاره المتشدّدة في الشؤون المالية. رفض في غير مرة أن يأذن بالزيارة لأحد الأحباء، الذي علم بأنه مدين، قائلاً بأن عليه أن يسدِّد ديونه أولاً. لم أرَ ولي الأمر قطُّ يسدّد قيمة فاتورة قبل أن يدقِّق في جَمْعِها، أكانت لوجبة غداء أم لدفع آلاف الدولارات! فيبادر إلى لفت النظر إذا ما وجد المبلغ أكثر من المفروض – أو كان أقل منه أيضًا. كثيرًا ما راجعتُ أناسًا أبدوا دهشتهم عندما لفتُّ نظرهم إلى خطأ في جَمْعهم وأن عليهم مراجعته ثانية وإلا كانوا هم الخاسرين. كان أيضًا مساومًا حازمًا، فلا يدفع أبدًا ثمن شيء إذا شعر أنه أعلى بكثير مما يجب. حدث في غير مرة أن قطعة للزينة جميلة، تصلح لوضعها في المقامات المقدسة أو محفظة الآثار أو في الحدائق ووجدها باهظة الثمن، أنْ غضّ النظر عن شرائها إذا لم يصل مع البائع إلى السعر الذي يريده حتى لو كان راغبًا فيها ولديه المال الكافي، معتبرًا شراءها بالقيمة العالية خطأ لن يُقْدِم عليه. ومع أن لشوقي أفندي كانت سيارة خاصة مع سائقها لعدة سنوات (كما كانت لحضرة عبد البهاء قبله)، فقد باعها عندما أصبحت قطع الغيار غير متيسرة في أكثر سنوات الحرب شِدّة، واعتمد في تنقلاته على سيارات الأجرة. لا شك عندي أنه، من منطلق أن الإنسان يمكنه عادة شراء أي شيء إذا ما توفر لديه المال الكافي، كان يمكن لشوقي أفندي أن يوفّر لنفسه سيارة أخرى فيما بعد، إلا أنها لم تراود فكره أبدًا. كان ضد التبذير وضد الترف والتباهي وبالتالي مَنَع عن نفسه وعن الآخرين أشياء كثيرة لأنه شعر أنها إما غير ملائمة أو لا مبرر لها.

وصِفَة أخرى ميّزت شخصية ولي أمر الله بقوة، تلك هي انفتاحه؛ فالأحباء كانوا موضع ثقته؛ كان معهم صريحًا، مَهيبًا، متحفِّظًا ولكن بثقة هي الأحبُّ للنفس والآسرة للقلب. اعتاد أن يُشْرِك الزوّار الذين هم ضيوفه، ليس فقط بأفكاره وتفاسيره للتعاليم الإلهية، بل ومشاريعه وخططه أيضًا. لم يكن بين مستمعيه أحد مميَّز عن الآخر باعتباره صاحب الحق في تلقّي أفكاره. ورغم حقيقة أن المحافل الروحانية المركزية كانت هي قنواته الإدارية التي كان من خلالها يرسل خططه العظيمة وينشرها، وأنها الهيئات التي تقوم على متابعة تنفيذها، إلا أن حضرته اعتاد أن يُشرك أولئك الذين كان يلتقي بهم [من الزوّار] بهذه الخطط وبكامل تفاصيلها تقريبًا لدرجة أن العديد من الزوّار العائدين كانت لديهم كل التفاصيل تقريبًا التي ستُبلَّغ للعالم البهائي رسميًا في وقت لاحق. ويَصْدُقُ ذلك أيضًا على أسلوب عمله في المركز البهائي العالمي. كانت صراحته تامة على هذا النحو، حتى إنه في بعض الأحيان كان يرسم وهو على المائدة بعض الرسومات المبدئية لما هو قائم على تنفيذه في الحدائق على جبل الكرمل؛ كيف سيكون ‘القوس’، ما هي الأبنية التي ستقام عليه… وهكذا.

كل شيء جديد يضعه قيد التنفيذ، قُطْرِيًا كان أم عالميًا، قد يقول المرء منا على وجه التقريب إنه يتبع النمط نفسه كطلوع فجر يوم جديد: فأول خيوط الضوء، أو تَلَمُّس الرؤية، يمكن أن نتبيّنه في كلمات ولي الأمر إلى الزائرين للأرض الأقدس، أو قد يكمن على شكل تلميح مستتر في رسائله إلى العالم البهائي؛ ثم يأتي بعد ذلك بريق أهداف تبدأ في التشكُّل بينما شمس فكرته ترتفع عاليًا وهو عاكف على تركيز كل طاقته الفكرية المتألّقة عليها؛ وأخيرًا يتفجر خِبْؤُها بضياءٍ يكشف بكل وضوح عن الفكرة بكليتها بكمال روعتها –خطة السنوات السبع، خطة السنوات العشر، التحذيرات والوعود في رسالة جديدة عامة رائعة، تعليماته التامة بخصوص مشاريع رئيسة مثل إتمام بناء المقام الأعلى لحضرة الباب، ومحفظة الآثار البهائية، وبناء أحد دور العبادة الجديدة والعظيمة، أو بيان مواضيع أساسية معينة ورُؤىً لحضرته وضعها في كتبٍ من قبيل: “ظهور العدل الإلهي”[10] و”قد جاء اليوم الموعود”[11].

إن علاقة شوقي أفندي بالزائرين للأرض الأقدس، ولطفه كمضيف، وبمودته التي يبديها لهم بطرق شتّى بسيطة، والأمور التي كان يناقشها معهم بكل انفتاح، كان له تأثيره الهائل على أعمال البهائيين القائمين على إنجازها في أقطار كثيرة جدًا. ذلك لأن هؤلاء المؤمنين المحظوظين، قد عملوا كالخميرة لدى عودتهم إلى جالياتهم، ينشّطون ويحْفِزون همم أقرانهم البهائيين نحو جهود أكبر، واصفين شخصية ولي الأمر بصورة أكثر حيوية للذين لم يحظوا بلقائه وجهًا لوجه، باعثين فيهم شعورًا بأنهم قريبون من حضرته ومن المركز البهائي العالمي في آنٍ معًا، وهو ما كان يصعب تحقيقه بأي أسلوب آخر. في محادثاته مع الزائرين الحجّاج استطاع شوقي أفندي أن ينقل إليهم أحاسيسه القوية تجاه مواضيع معيّنة، وبلغة غالبًا ما كانت أكثر سلاسة وأقوى تعبيرًا مما لو استعملها في الكتابة. أثناء زيارتنا للأرض الأقدس عام 1937 كان لي شرف تدوين بعض الملاحظات التي قالها لي ولوالدتي على المائدة، إلا أنني فيما بعد نادرًا ما كنت أفعل ذلك. على كلٍ، كنتُ قد دوّنتُ في مناسبات قليلة ما نطق به تمامًا وعند نُطْقِهِ به، وكانت إحداها عام 1954 عندما تكلم إلى الحاضرين من زوّار الأرض الأقدس بنبرة قوية جدًا في موضوع الحاجات الملحّة للجهاد الروحاني الأكبر وموقف البهائيين تجاه الهجرة فقال: ‘بمقدوري تحذيرهم، باستطاعتي حثّهم، ولكن ليس بإمكاني خلق الروح فيهم – إن في ذلك تعاسة لي وخطر على الأحباء. تلك هي النتيجة حقًا…’، ‘عليهم أن يحزموا أمتعتهم وينطلقوا وليس لأحد سلطان أن يحرمهم – عندما يكونون مستقلّين؛ فليأخذوا جواز السفر ويذهبوا…’، ‘إن أمر الله سينتصر رغم تقاعس عدد كبير من أنصاره. فهو يعمل بطريقة غامضة خفية.’ وفي مَعرِض حديثه عن بعض الأماكن التي يعمل فيها الأحباء كمدرّسين في المدارس قال بأنهم ‘يُقيمون في المدارس نمط الحياة الأمريكية بدل إقصائه جانبًا وتأسيس نمط الحياة البهائية.’ ولكن بالرغم من كل ما كان يُسبغه على الزائرين الحجاج – من توفير الراحة الجسمانية لهم كونهم ضيوفه، إلى إزالة حُجُب الغشاوة عن عيونهم وتثقيفهم بأمور دينهم – إلا أنه كلما أراد أحدهم أن يعبّر له عن امتنانه العميق للشرف الذي حظي به في لقاء حضرته، كان فورًا يغيّر مجرى حديثه قائلاً بأن الهدف من زيارة الأرض الأقدس هو زيارة المقامات المقدسة.

كثيرة هي الذكريات التي تراودني عندما أفكر بالزائرين للأرض الأقدس بمن فيهم نفسي، من قَبيل ما حدث في فجر ذلك اليوم من عام 1923، عندما كنتُ طفلة ونحن عائدين بسيارة ولي الأمر من البهجة حيث ذهبنا جميعًا لإحياء ذكرى صعود حضرة بهاء الله. أصرّيت يومها على الجلوس فوق حافة غطاء سقف السيارة الذي كُشف وارتدّ إلى الخلف بدلاً من جلوسي في المقعد الخلفي. اعترض عليّ شوقي أفندي وحذّرني من مغبّة السقوط، ولكنني أكّدت له أن ذلك لن يحصل. كنت حينها ثَمِلةً نشوى بانبلاج الصباح وبكل تلك الألطاف التي هطلتْ عليّ لدرجة لم أشعر معها بأي خوف. لم تكن في تلك الأيام طريق معبّدة بين عكاء وحيفا، فانطلقتْ بنا السيارة بمحاذاة الشاطئ فوق شريط الرمال الرطبة الفاصل بين مياه البحر والكُثْبان الرملية. مئات من سراطين البحر الصغيرة البيضاء فرّت من أمام السيارة في موجة لا نهاية لها تنشُدُ السلامةَ في جحورها. بالكاد كانت الشمس قد بدأت ترسل خيوطها، والدنيا من حولنا بدت كلها منتعشة وردية نظيفة. أخذ شوقي أفندي يحدّثني عن مدى شوقه لرؤية جبال روكي في كندا، وعن حُبّه للجبال وتسلُّقها. وحتى آخر أيام حياته ظلّ يتابع باهتمام شديد أي قصة عن حملات تسلق قمّة إفرست. كان شَغَفُه بجمال الطبيعة كبيرًا للغاية، وإذا ما أُتيح له أن يكون حرًا فإنني أؤكّد بأن كثيرًا من وقته كان سيقضيه في زيارة المواقع الطبيعية الخلاّبة في العالم.

في السنة الأخيرة من حياة شوقي أفندي قدِمَ اثنان من الزوّار السويسريين إلى حيفا، فأثار حضورهما شجونه في ذكرياته عن سويسرا، فأفاض في إظهار حبّه لبلدهم بأسلوب بعيد كليةً عما اعتاد عليه من تحفّظ حول حياته الخاصة ومشاعره الشخصية. كنت وقتها مريضة أُلازم الفراش ولم أحضر العشاء في دار ضيافة المسافرين، إلا أن شوقي أفندي، عندما عاد إلى المنزل، أخبرني بأنه ‘قال كل شيء’ – عن الجبال التي تسلّقها، وجولاته سيرًا على الأقدام، والمناظر الطبيعية التي أَحَبّها كثيرًا. كان ذلك مخالفًا جدًا لطبيعته، ونادرًا جدًا، ودليلاً واضحًا لشيء ما يكمن عميقًا في قلبه.

أتذكّر حَدَثًا آخر وقع في سويسرا بالذات عندما كنا نغادر زِرمات[12] في مساء أحد الأيام. ففي جميع السنوات التي سافرنا فيها معًا، لم يُكوّنْ شوقي أفندي أي علاقات شخصية، ونادرًا جدًا ما تكلم إلى أغراب. لم يكن هذا من طبيعتي أنا، فكنت أحيانًا أنسلّ من مقصورتنا في القطار، أو في مناسبة أخرى، وأدخل مع أحد المسافرين في محادثة حيوية ممتعة. كان حضرته يعلم دائمًا متى كان يحدث هذا (ولم يهتم أبدًا). أعتقد أن ذلك كان نتيجة تورُّد وجهي وما يطرأ عليه من تعابير متباينة عندما كنتُ أعود إليه، وبعينيْن برّاقتيْن يسألني عما كان يُشغلني. ومع ذلك، ففي هذه المناسبة بالذات، كان هو مَنْ بادر ودخل في محادثة طويلة بينما كنا جالسيْن على مقاعد خشبية صلبة في مقصورتنا بالقطار بالدرجة الثالثة. أخذ يتكلم مع شاب كان يجلس مقابلنا وبدا فتىً مهذّبًا ودودًا ولطيفًا للغاية، هو ابن عائلة من روسيا البيضاء تعيش في أمريكا ويسافر إلى سويسرا لأول مرة. أخذ ولي الأمر، باللطف والرقّة والحيوية التي غالبًا ما تُميِّز محادثته، يقدِّم له نصيحته بكل تفصيل حول الأماكن التي يجب ألا تفوته مشاهدتُها خلال المدة المحدودة المتاحة له، حتى إنه أخرج له دليل السكة الحديد السويسرية، وأطلعه على القطارات التي عليه أن يستقلّها؛ أين يذهب ومتى. أسندتُ ظهري إلى الخلف واستمعتُ وأنا أشاهد وجه ذلك الشاب الجميل وهو في غاية الأدب وبمنتهى السرور كونه يحظى بكل هذا الاهتمام من هذا الرجل الغريب، وبالطبع كنت أدعو من كل قلبي بأن هذه العناية التي نزلت على هذا الشاب – والتي لا يمكنني الإفصاح له عنها بأي طريقة كانت – أن تقوده بطريقة ما، في يوم ما، إلى الدين الذي كان هذا الغريب رئيسه!

ولكن، عَوْدًا إلى ملاحظات شوقي أفندي للزائريْن السويسرييْن القادميْن إلى حيفا، فقد كان متحمّسًا لإخبارهما برغبته لأن يكون لسويسرا مشرق أذكار خاص بها يقع قرب العاصمة بيرن وله إطلالة واضحة على جبال الألب البيرنيزية حيث أمضى شهورًا عديدة جدًا من حياته سائرًا على الأقدام ومتسلّقًا. في 12 أغسطس/ آب 1957 عبّر حضرته، لما كان يُعرف آنذاك بالمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في إيطاليا وسويسرا، عن تمنياته في هذا الشأن. وكتب سكرتيره: ‘كما أوضح حضرته لــِ ــــــــــــــــــــــــ، فإنه شديد التلهف لأن تمتلك سويسرا موقعًا لبناء مشرق أذكار خاص بها في المستقبل مهما كان صغيرًا وكيفما كانت البداية متواضعة. ويرى أن يكون الموقع في ضواحي مدينة بيرن مطلاً على بيرنيز أوبرلاند، كما يسره جدًا أن يتمكن شخصيًا من تقديم قطعة الأرض هذه هدية للجامعة البهائية السويسرية. لا إعلان عن هذا الموضوع مهما كان نوعه خشية أن يُجابَه بمعارضة العناصر المتعصبة في بيرن كما حدث في ألمانيا. وحالما تجد اللجنة المكلَّفة قطعةَ أرض مناسبة، فإن حضرته يرغب من محفلكم الروحاني أن يُعلمه بالتفاصيل.’ تلك كانت هدية فريدة في طبيعتها، لم تحظَ جامعة بهائية في العالم بمثل هذا الشرف. وقد اشتُريت قطعة الأرض بمساحة (2000) مترٍ مربعٍ تقريبًا في ضواحي بيرن مطلة على غوربتال[13] ومنها يمكن رؤية منظر جبال فنشترارهورن[14] ومونك[15] وأيغر[16] ويونغفراو المشهورة، وهي الأماكن التي كثيرًا ما شهِدتْ مآثر ولي الأمر في تسلُّق الجبال، كما شهدت أيضًا مروره بأحلك ساعات كربه بعد صعود جدّه.

في إحدى المناسبات أخبرتْ إحدى الزائرات من كندا ولي الأمر أن الأحباء في تبليغهم الأمر المبارك لسكان الإسكيمو لاحظوا أنه من الصعب جدًا على الأهالي هناك أن يدركوا معنى تشبيهات لكلمات مثل “ورقة الفردوس”[17] و”الوَرد”[18]، لأن أشياء كهذه غير معروفة لديهم بالكلية. كان رد فعل شوقي أفندي على هذا نموذجيًا؛ فعندما ودّعها وهي عائدة لموطنها قدّم لها زجاجة من عطر الورد الإيراني الخالص، وأخبرها بأن تعطّر أهالي الإسكيمو به قائلاُ ربما بهذه الطريقة يمكن لهم أن يأخذوا ولو فكرة بسيطة عما عناه حضرة بهاء الله عندما كتب عن الورد.

وحادثة أخرى تخطر الآن ببالي؛ فمن بين آخر الزوّار الذين غادروا حيفا، قبل أن يغادرها شوقي أفندي في يونيو/ حزيران 1957 ولم يَعُدْ بعدها، سيدتان أمريكيتان زنجيتان. لن أنسى ما حييت تلك النظرة التي بدت على وجه إحديْهما وهي جالسة في مقابل ولي الأمر على المائدة في منزل الزائرين للأرض الأقدس. يمكن للمرء أن يشعر في لقائه مع حضرته أن أحزانه وآلامه التي داهمت حياته قد تلاشت – فهو الذي قابل الجميع على أنهم مخلوقات الله، ولم يراوده أي شعور سوى البهجة بأنهم جميعًا هكذا كما خلقهم الله. كانت نظرة السيدة الزنجية إليه مزيجًا من الحب العارم الذي يملأ قلب الأم، والاحترام والإجلال الواجب لحضرته على مقامه الرفيع، مما جعلني أعتقد بأنها لا بد أن تكون تلك النظرة نفسها على وجوه ملائكة الجنة وهي شاخصة أبصارُها إلى ربها.

إن الذين تشرفوا بقربهم من ولي الأمر، بغضّ النظر عن خبراتهم، أو عن مدّة إيمانهم بالدين البهائي – البعض مثلي منذ الولادة – كان مفهومهم عن عظمة هذا الأمر يتّسع باستمرار بفضل كلمات شوقي أفندي وردّات فعله وما يضربه من مَثَلٍ يُحتَذى. أذكر دهشتي عندما ذكر حضرته، في رسالة الرضوان المطوّلة لعام 1957 الموجهة إلى البهائيين في العالم (بكل فخر كما هو واضح وإلا لما أورده في الرسالة)، أولئك ‘النزلاء البهائيين الذين اهتدَوْا مؤخرًا’ في سجن كيتاليا بأوغندا. لم يخطر لي أبدًا أن أحدًا يمكن أن يأتي على ذكر بهائي في السجن دون شعوره بالخجل! ولكن حضرته أراد هنا أن يُعلن أن لنا في السجن جماعة من أتباع حضرة بهاء الله. غالبًا ما كان يشير إلى ذلك في حديثه مع الزائرين للأرض الأقدس، وعندما فكرتُ مليًّا في ذلك وبما قاله عنه، أدركتُ أن هذا الدين بما أنه جاء لعموم الجنس البشري؛ للقديسين مثل ما هو للخطاة، فإن هناك مبدأين كانا يعملان: أحدهما حقيقة أن المجتمع الإنساني يجب أن تحكمه القوانين، وتحميه القوانين، وأن الناس يعاقبون بموجب القوانين، والآخر يقول بأن الإيمان بالمظهر الإلهي يجب أن يكون عموميًا ويحتضن كل إنسان، ذلك لأن الإيمان هو الشرارة التي تضيء الروح وتمنحها الوعي الأبدي بخالقها، وهو حق ممنوح لكل نفس إنسانية بغضّ النظر عن آثامها مهما كانت. ففي أكثر من رسالة لأناس مختلفين وفي أوقات متباينة شجّع شوقي أفندي البهائيين على التبليغ في السجون.

إن التعاطف الذي أبداه جميع الأنبياء والمرسلين تجاه المقهورين والمضطهدين، والفقراء المستَضعفين، وأولئك المنبوذين، بأن اختصّوهم برعاية خاصة وحماية ودعم حبّي، نراه دومًا يظهر جليًّا في أفعال ولي الأمر وكلماته. إلا أننا يجب ألا نخلط هذا الموقف بالحقيقة الأساسية بأن الكثير من جموع الناس من الذين يقعون حاليًا ضمن تلك الفئات ليسوا ممن يستحقون العناية الخاصة فحسب، بل ولديهم في دخائل أنفسهم قوىً على درجة عظيمة من الروحانية يحتاجها العالم بأسره. خذ مثلاً الهنود الحمر في النصف الغربي من الكرة الأرضية، فقد كتب حضرة عبد البهاء بحقهم: ‘يجب عليكم الاهتمام كلّ الاهتمام بأهالي أمريكا الأصليين أي الهنود الحمر، لأنّ هذه النفوس أشبه بأهالي شبه الجزيرة العربية القدماء الّذين كانوا قبل البعثة النبوية كالوحوش فلمّا طلع فيهم النور المحمّدي استناروا إلى درجة أناروا العالمين، وكذلك الأمر في هؤلاء الهنود فإنّهم لو تربّوا ونالوا الهداية فلا ريب في أنّهم يتنوّرون بالتعاليم الإلهية بحيث ينيرون بها كلّ الأقاليم.’[19] لم تغِبْ عن بال شوقي أفندي هذه الكلمات طيلة فترة ولايته، فحثّ الأحباء في جميع أنحاء كندا والأمريكتين مرارًا وتكرارًا أن يعملوا على انضواء تلك النفوس تحت راية حضرة بهاء الله. بعض رسائله الأخيرة التي كتبها في يوليو/ تموز 1957 إلى محافل روحانية مركزية مختلفة في النصف الغربي من الكرة الأرضية، شدّدت كَرَّةً أخرى وبقوة على هذا الموضوع وأشارت إلى أنه ‘قد طال انتظار هداية الهنود الأمريكيين’. أقتَبِسُ فيما يلي بعض تعليماته التي كتبها سكرتيره بالنيابة عنه:

‘إن أسمَى الأعمال وأعظمها بالطبع هو التبليغ. يجب أن يوليه محفلكم بالغ العناية في كل جلسة، معتبرًا كل شيء آخرَ ثانويًا في أهميته. إن الواجب ليس في تطوير العديد من المحافل الروحانية الجديدة والجماعات والمراكز النائية فحسب، بل في بذل اهتمام خاص في التركيز على هداية الهنود الأمريكيين إلى حظيرة الأمر المبارك أيضًا. والهدف يجب أن يكون تشكيل محافل روحانية جميع أعضائها من الهنود، لعلّ هؤلاء السكان الأصليين المقهورين والمقموعين يدركون أنهم متساوون مع غيرهم وشركاء في تحقيق مصالح أمر الله، وأن حضرة بهاء الله هو مظهر الله المرسَل إليهم.’

‘كان سعيدًا جدًا بشكل خاص لأن يعلم أن بعض المؤمنين الهنود كانوا حاضرين في مؤتمر الوكلاء المركزي. يعلّق حضرته أهمية كبرى على تبليغ الأمر للسكان الأصليين في الأمريكتين، وقد بيّن حضرة عبد البهاء نفسُه كمْ هي عظيمة قدراتُهم، وأنه حقٌّ لهم وواجب على البهائيين غير الهنود أن يتأكدوا من إبلاغهم رسالة الله لهذا اليوم. إن أحد أهداف محفلكم الروحاني الأجدر باهتمامكم يجب أن يكون تشكيل محافل روحانية كل أعضائها من المؤمنين الهنود، وبالمثْل يجب السعي بشكل خاص للوصول إلى الأقليات الأخرى وتبليغها أمر الله. على الأحباء أن يضعوا نصب أعينهم أن في شريعتنا البهائية، بخلاف ما هو قائم في المجتمعات الأخرى، يجب أن تأخذ الأقلية حقها وتعويضها عن معاملتها كطبقة أدنى، فتَلْقَى عناية خاصة وحبًا وتقديرًا…

‘وبينما أنتم تحدّدون الأهداف التي يجب أن تحظى بعنايتكم المركّزة في السنوات القادمة، فإنه يحثكم أن تأخذوا بالاعتبار الهدف الأكثر أهمية من الكلّ، وبالتحديد، مضاعفة أعداد المحافل الروحانية والجماعات والمراكز النائية، وهو ما سوف يضمن اتساع وعمق الأساسات التي تضعونها لهيئات مركزية مستقلة مستقبلاً. يجب أن تحثّوا الأحباء على أن يأخذوا في الاعتبار، كأفراد، حاجات منطقتهم المجاورة لهم مباشرة، وأن يبادروا في التقدُّم للهجرة إلى المدن والبلدات البعيدة والقريبة، وعلى محفلكم الروحاني أن يقوم بتشجيعهم وتذكيرهم بأن الناس البسطاء، وهم في الغالب فقراء غير معروفين، قد استطاعوا في السابق أن يغيّروا مسار مُقدّرات البشر بأكثر من أولئك الذين انطلقوا ومعهم الثروة والشهرة والأمان. إنه مغربل القمح[20] الذي نهض في الأيام الأولى لديننا وأصبح بطلاً وشهيدًا وليس علماء الدين في مدينته!’

كانت لحضرته مشاعر مماثلة تجاه أقوام من جنس آخر. ففي رسالة له مؤرخة في 27 يونيو/ حزيران 1957 كتب إلى المحفل الروحاني المركزي في نيوزيلندا الذي تشكل حديثًا: ‘بينما أنتم تضعون خططكم وقائمون على تنفيذها في عمل أئتُمِنْتُم عليه في السنوات الست القادمة، يريدكم أن تضعوا نصب أعينكم بشكل خاص الحاجة إلى تبليغ شعب الماوري[21]. فهؤلاء المكتَشِفون الأصليون لنيوزيلندا هم من عرق أصيل ممتاز وشعب حاز على الإعجاب لخصاله النبيلة، ويجب بذل جهد خاص، ليس من أجل الاتصال بالماوريين في المدن وجذبهم إلى حظيرة الأمر فحسب، بل والذهاب إلى مدنهم والعيش بينهم وتأسيس محافل روحانية معظم أعضائها من الماوريين على الأقل إن لم يكن جميعهم، وسيكون هذا إنجازًا قيّمًا حقًا.’

وإلى زائر للأرض الأقدس ينتمي إلى العرق المنغولي صرح ولي الأمر بأنه ما دامت غالبية الناس في العالم ليسوا من البيض، فليس هناك من سبب يستوجب أن تكون غالبية المؤمنين بالدين البهائي من البيض، بل بالعكس فإن على الأمر الإلهي أن يعكس الوضع القائم في العالم. إن اختلاف الأجناس بالنسبة لشوقي أفندي ليس شيئًا يجب محوه، بل بالأحرى هو عنصر طبيعي وضروري ورائع حقًا، أتاح للكون أن يكون أكثر جمالاً وكمالاً.

لم يرسّخ شوقي أفندي في نفوس البهائيين باستمرار ذلك الاحترام لأناس من خلفيات عرقية مختلفة فحسب، بل علّمهم أيضًا كيف يكون الاحترام؛ وفوق ذلك كله حقيقة التوقير والتبجيل، كمناقب لازمة لتشكيل هوية الشخص النبيل. فالعالم الغربي اليوم يفتقر بكل أسف إلى توقير الأشياء المقدسة. ففي عصر أسيء فيه فهم فكرة المساواة، وبات يعني أن كل أنصال أوراق العشب يجب أن تكون متساوية الارتفاع تمامًا، كان شوقي أفندي المَثَل الأفضل والقُدوة الذي يمكن للمرء أن يجده في احترامه البليغ لمن هم أعلى منه مقامًا. فمنتهى التبجيل الذي أظهره حضرته للمظهريْن الإلهييْن التوأم ثم لحضرة عبد البهاء، أكان ذلك في كتاباته وأحاديثه أم في الطريقة التي كان يقترب بها من مراقدهم المطهّرة، إنما يقدّم أنموذجًا دائمًا يقتدي به جميع البهائيين. وكلما كان شوقي أفندي قريبًا من أحد المراقد المقدسة يمكن للمرء أن يشعر بوعي حضرته بذلك باديًا من كل كيانه. فطريقة مِشْيته وهو يتقدم منها، وأسلوبه وهو يقترب من العتبات المقدسة بمنتهى الهدوء وبغاية التوقير والتبجيل، ويركع أمامها ويضع جبينه عليها، وطريقته في عدم الالتفاف وإدارة ظهره بتاتًا طالما هو داخل الضريح في تلك البقعة المقدسة التي تضمّ واحدًا من هذه الوجودات الأقدس والأعز على الإطلاق، نبرة صوته، تبجيله الوقور المتّزن في مناسبات كهذه، كل ذلك يشهد على الأسلوب اللائق بالإنسان لدى اقترابه من قدس الأقداس ماضيًا برفق وتُؤَدَة وهو يطأ أرضًا مقدسة. حقًا إنها الروح هي التي يجب أن يهتم بها الإنسان في هذه الحياة لأنها هي كل ما سيأخذه معه عند مفارقتها الجسد. هذا هو المفهوم الأساس – الذي غفلت عنه النظريات الفلسفية المعاصرة ونسيته تمامًا – والذي يمنح، حتى غُبار هذه الوجودات النبيلة، قدرات وقوى خفيّةً باطنية. كم هو قويٌّ عطر بعض الورود حتى بعد ذبولها وجفافها بسنوات، وما زال المرء يمكنه أن يشمّ رائحة الورد فيها. إنه مثال بسيط على القوة التي تبقى في ذرات الغبار المنسوبة إلى الأرواح السامية لتلك النفوس السماوية عندما كانت في هذا العالم.

هذا الشعور الرائع بالتوقير والتبجيل – الذي يبدو كالنسيم عندما يهبّ من فوقنا ويحمل معه بعيدًا ما خَبُثَ من طبائعنا البشرية غير الناضجة – كان سِمَةً انطبعت عميقًا في شخصية ولي الأمر وقد تعلّمها وحملها معه منذ نعومة أظفاره، عندما جلس راكعًا طاويًا ذراعيه على صدره أمام جدّه الجليل. تمرّ بمخيّلتي حادثة حصلت بعد عودة والديّ إلى كندا عام 1937 وأرسلا إليَّ كتبي مع خِزانتها وأشياء أخرى كانت في منزلي بكندا. قمتُ بترتيب الكتب بكل عناية قرب سريري كما كان الوضْعُ في غرفتي ببيتي من قبل، ووضعتُ عليها صورة حضرة عبد البهاء نفسها، مما جعلها بمحاذاة الطرف السفلي لسريري. وحالما لاحظ شوقي أفندي ذلك الوضع صاح متعجبًا: ‘تضعين المولى عند قدميكِ!’ جَفَلتُ أمام هذه الملاحظة الشديدة وبيّنتُ بأنني اعتدتُ دائمًا أن أضع شمائله هناك حيث يكون وجهه أول ما أراه عندما أصحو في الصباح. فأجابني بأن هذا لا يليق، فعليّ أن أضع المولى عند رأسي احترامًا وتقديرًا وليس عند قدميّ. قبل ذلك لم يخطر ببالي أن في الغرفة ما هو علوي وما هو سفلي، أو كم هي من القداسة تلك الارتباطات بأشياء كهذه كالصورة الشخصية لمركز ميثاق صاحب الظهور الإلهي ورسم الاسم الأعظم. فمكانهما إذًا يجب أن يكون الأعلى حتى لو كان ذلك في غرفة. ومثال على موقف ولي الأمر هذا ما احتوته كلمات كتبها سكرتيره، بالنيابة عنه، إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا عام 1933: ‘بخصوص ألواح حضرة بهاء الله الموجّهة إلى الورقة المباركة العليا، يرى شوقي أفندي أنه ليس من مظاهر الاحترام وضع صورة عن لوح مبارك بخط يد حضرة بهاء الله في النشرة المقترحة. لقد عمل حضرته على استخراج عدة نسخ عن ذلك اللوح كي تتم زخرفتها ومن ثم إرسالها هدية لمختلف المحافل الروحانية المركزية للاحتفاظ بها بكل إعزاز وتوقير ضمن محفوظاتهم المركزية.’

هناك أمثلة أخرى بخصوص هذا الأمر نفسه؛ ففي بدايات عام 1923 أبرق شوقي أفندي إلى ذلك المحفل الروحاني المركزي نفسه: ‘إن الحفاظ على هيبة الأمر المبارك ووقاره يتطلّب استعمالاً مقيّدًا للاسطوانة المسجل عليها صوت حضرة عبد البهاء’، مشيرًا بذلك إلى تسجيل صوت حضرة عبد البهاء وهو يتلو المناجاة خلال زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وفي مناسبة أخرى أصدر شوقي أفندي تعليماته إلى ذلك المحفل الروحاني قائلاً: ‘في إدارتكم لأي نشاط اجتماعي في المكتب البهائي المركزي، مهما كان نوعه، عليكم بكلِّ الحرص في الحفاظ بحزم أكيد على كرامة المكان، خاصة نظرًا لقربه من مشرق الأذكار مما يضاعف من ضرورة التزام جميع الأحباء بمعايير السلوك والتعامل الاجتماعي التي تنادي بها التعاليم البهائية.’

إن ما نحن بصدده هنا ليس طقسًا من الطقوس بل هو موقف، ذلك لأن الدين البهائي خالٍ من الطقوس الدينية. ومع أن شوقي أفندي نفسه اعتاد أن يسجد خاشعًا أمام عتبات المراقد المقدسة، كان يسعى جاهدًا لأن يشرح لزائريها أنهم أحرار في أن يفعلوا هكذا أو لا. كان يفعل ذلك لأنه جزء من عادات الشرق الذي جاء منه أسلافه، إلا أن التوقير أمر آخر: فهو في جانبٍ مظهرٌ من مظاهر التعبير الذي يخضع لاختيار الفرد نفسه، وفي الآخر تلك الروح اللائقة التي يجب أن تسكُنَ قلبَ المؤمن المخلص وهو يقترب من تلك الأشياء التي هي الأقدس في الوجود.

كانت عادة ولي الأمر، متتبِّعًا خطوات المولى الذي اتخذ لنفسه لقب خادم خُدّام الله، أن يقف قرب باب المرقد المطهّر ويمسح على أيدي الأحباء بماء الورد أو عطره وهم يعبرون أمامه ويدخلون للزيارة، ويكون حضرته آخرَ الداخلين. ومع ذلك، وسط ذلك الجو العابق بمشاعر العبودية الخالصة والخضوع التام، يقفون بترتيب متناسب، غير غافلين عن تباين الرُتَب والمقامات المتأصل في ذلك الجزء من المجتمع الإنساني، فتجد حضرته هو الذي يتقدم ويقود الأحباء الأوفياء في الدعاء؛ بينما أولئك الذين تبوَّءوا أعلى المراتب في حيفا يقودون الجميع إلى داخل المرقد المبارك يتقدمهم ولي الأمر، وهم يتبعونه إلى الداخل، أو أنهم يتشرّفون بمرافقته بالسيارة عند ذهابه إلى البهجة لإحياء ذكرى مباركة؛ في كل ذلك نرى اللباقة والاحترام والتوقير يأخذ مكانَه اللائق في مجريات الأمور.

بالتزامه بهذا الإحساس العميق بالتبجيل والتوقير نحو شخصيات ديننا الرئيسة، كان شوقي أفندي في غاية اليقظة في الدفاع عنها أمام أي استخفاف أو توهين. مثال ذلك ما حدث في يناير/ كانون الثاني 1941 عندما أقدمت بلدية حيفا على تسمية شارع صغير مقابل منزل حضرة عبد البهاء ودار ضيافة المسافرين الغربيين باسم “شارع البهاء”، مما أثار حفيظته للغاية، فأرسل سكرتيره فورًا ليقابل رئيس البلدية محتجًّا كون هذا الاسم يعود إلى مؤسس ديننا، ولذلك فإننا نعتبر ذلك ليس لائقًا فحسب بل ومُهينًا أيضًا. اجتمعت سلطات البلدية وقررت تغييره إلى “شارع إيران”. أذكر حينها أن ولي الأمر أقلقه جدًا هذا الموضوع حتى إنه قال إن لم يزيلوا الشاخصة سوف يذهب بنفسه وينزعها بيديه إذا اقتضت الضرورة حتى لو أدّى ذلك إلى زجّه في السجن! أقلقني جدًا ذلك الوضع، فلم أكن أريده أن يدخل السجن من دوني، ولم أدرِ ماذا عليّ أن أفعل حتى أدخل السجن معه.

لا يمكن رسم صورة مكتملة تمامًا لشخصية شوقي أفندي دون التطرّق إلى الإحساس الفني الحقيقي الاستثنائي الذي كان يمتلكه. وهذا لا يعني أنه كان بمقدوره أن يكون رسّامًا، بل كان كاتبًا بدرجة امتياز، إلا أن له بالتأكيد نظرة رسام وعين مهندس معماري. لقد اتحدت هذه المواهب مع سجيّته الأساسية التي من دونها لا أستطيع أن أتصوّر كيف يمكن لإنسان أن يحقّق العظمة في أي من الفنون أو العلوم – هو إحساس كامل بالتناسب، إحساس دقيق يعمل في حدود الملليمترات أكثر منه بالسنتمترات. لقد كان هو الذي حدَّد لوالدي طراز المقام الأعلى لحضرة الباب من خلال تعليماته – التي لم تكن في الغالب بالتفصيل بل من حيث المبدأ. وهو الذي وضع تصميم بناء محفظة الآثار العالمية، حتى إن مهندسه المعماري صرّح بشكل قاطع بأنه من تصميم شوقي أفندي وليس من تصميمه. لقد وضع ولي الأمر تصميمه الفخم الرائع للحدائق في البهجة وحيفا دون مساعدة واستشارة أحد محدِّدًا بنفسه جميع قياساتها. إلا أن ما قد يجهله الناس بأن المظهر الداخلي للمقام الأعلى وقصر حضرة بهاء الله [في البهجة] وبيت عبود وقصر المزرعة كان من تصميم ولي الأمر نفسه، ولا أحد سواه، مهما كانت تفاصيله صغيرة بسيطة. لم يكن حضرته يضيف باطّراد إلى ما هو قائم من الزينة والصوَر المعلقة ومصابيح الإنارة والأثاث ما يمكن أن يزيد هذه الأماكن جمالاً فحسب، بل كل ما كان يُوضَع في مكانه كان بإشرافه أيضًا. لم تُعلَّقْ صورة على الجدران إلا ووُضِعت في المكان الذي حدّده حضرته لها بالضبط وفي حدود سنتمتر واحد. هو لم يخلق فقط مؤثرات الجمال التي تجذب عين الناظر لحظة دخوله تلك الأماكن فحسب، بل وأبدع كل هذا بأقلِّ التكاليف أيضًا، وذلك بشرائه اللوازم ليس بسبب طرازها وقِدَمها بل لأنها كانت غير باهظة الثمن ويمكنها أن تُحدِث تأثيرًا في النفس بصرف النظر عن قيمتها الفعلية. زيارته للمقامات المقدسة والحدائق كانت تشكّل لديّ الفرصة الوحيدة لتنظيف غرفته. كثيرًا ما أتذكّر كيف أنه بالرغم من محاولاتي مع الخادمة لإعادة الأشياء العديدة الموجودة على مكتبه إلى مكانها تمامًا، إلا أنه عندما كان يدخل غرفة نومه، حيث كان يُنجِز كل عمله، يتوجه إلى مكتبه ويُلقي نظرة تلقائية، ثم يمدّ يده إلى ما قد تغيّر وضعه ليجري تعديلاً طفيفًا لموقع الأشياء المختلفة إلى حيث كان يحبها أن تكون مع أنني متأكّدة أن الفرق لم يكن ملحوظًا عمليًا لأي عين إلا عينه. لا حاجة بي لأن أضيف أن كل هذا كان يتمّ بترتيبٍ وتنظيمٍ استثنائيين.

أَحَبّ شوقي أفندي الأشياء المزخرفة، تلك الأشياء المزخرفة الجميلة بتناسقها وليس لمجرّد أنها مزخرفة. أدركتُ على مرّ السنين ماهية بعض المباني والطُّرُز المعمارية المفضّلة لديه. كان معجبًا جدًا بالطراز اليوناني خاصة عندما يماثل ما كان عليه البارثنون[22] من تناسق لا يُضَاهى، ثم الفن المعماري القوطي[23] (الجرماني) بالدرجة الثانية، وقد أثارته نماذج رائعة منها، مع بُعدها التامّ في التعبير عن الأسلوب اليوناني، فأُعجب كثيرًا بأقواسها العالية وزخارفها الدقيقة المخرّمة المتشابكة المنحوتة في الحجر. كثيرًا ما زرنا في إنكلترا كاثدرائيات مبنية على الطراز القوطي. وفي الغرف الخاصة بحضرته وَضَع صورة فوتوغرافية كبيرة مُبروَزة لكاثدرائية ميلان، كما كانت لديه أيضًا صورٌ فوتوغرافية لقصر الحمراء في غرناطة وضع بعضها في منزله الخاص والآخر في قصر البهجة معتبرًا إياها جميلة جدًا. وهناك صَرْحٌ آخر أحبّه شوقي أفندي، مختلف عنهم تمامًا في تناسقه وفي الإحساس الذي يبعثه في النفس، ذلك هو بناء السينوريا[24] في فلورنسا. ليس من دليل أوضح على عُمق إحساسه الفني وقوة مقدرته الطبيعية في مسائل كهذه بأكثر من كون هذا البناء الإيطالي الضخم، الذي يختلف تمامًا عن أبنية أخرى يفضّلها، قد حاز على هذا القدْر الكبير من إعجابه وتقديره.

غير مقيّد بالتقليد فيما يخص التذوّق الفني، كان ذوق شوقي أفندي أصيلاً إلى أبعد الحدود ومبدعًا في طريقة إحراز مؤثراته. لقد قام بأعمال لم تحاول أي سلطة أن تقوم بها وهي تصدر تعليماتها الغزيرة في سلسلة من الأوامر إفعل كذا ولا تفعل كذا. خذ مثلاً التصميم الداخلي الذي اعتمده حضرته لزخرفة مبنى محفظة الآثار ذي الطراز الإغريقي. فمن أجل توفير حيّز أكبر ليكون بمثابة قاعة ضخمة عملاقة وحيدة تُعرض فيها أشياء كثيرة، متبركة أو غير متبركة، والتي كان ينوي تأثيثها بها، بنى شوقي أفندي شُرفتيْن ضيقتيْن تمتدّان على طول جانبيّ القاعة بالكامل ووضَعَ لهما درابزينًا وقائيًا رائع الطراز من الخشب تَميَّزَ طرازُه بعصر النهضة الأوروبية البحت. كانت معظم الخزائن التي اختارها، على طول امتداد جدران القاعة السفلية، مصنوعة من الخشب المطلي بالورنيش الياباني أو من خشب التِّيك الصيني المنحوت، كما كانت الثريات الستة الضخمة المُدلاّة من السقف من الكريستال المقطّع المصقول وعلى الطراز الأوروبي البحت. عندما سألتُ ولي الأمر عن الأثاث الذي سيضعه على الشرفتين، أجاب بأنه سيضع بعض الخزائن التي كانت في محفظة الآثار السابقة ولم تكن في الواقع من طراز معين، إلا أنها تشبه الأثاث الحديث المدهون الذي يستعمله الناس في بيوتهم في هذه الأيام. ومع ذلك فإن هذه التشكيلة الغريبة من الأثاث التي تمثِّل فترات من الزمن متباينة، وبلدانًا مختلفة بما فيها قطع فنية لا تُحصى جُمعت لتخلق صورة من الجمال والوقار والغنى والروعة من الصعب أن تجد مثيلاً لها في أي مكان.

مثال آخر على براعة ولي الأمر البالغة، تلك الحديقة الصغيرة التي بناها على ارتفاع طابقيْن فوق سطح الأرض في فناء صغير مكشوف في بيت عبود بعكاء. فهو، دون أن يَسأل نصيحة أحد – ولم يُنصح بالتالي بعدم فعل ذلك – باشر العمل ببلاطٍ كان فائضًا عن الحاجة، وبقليل من الصبّ الإسمنتي، وقاعدة تمثال خشبي قديمة، وهيكل طاووس معدني وبعض النباتات، مبتكرًا تصميم حديقة صغيرة مربّعة الشكل لم تكن ساحرة فحسب، بل شدّت أيضًا أنظار أهالي عكاء – الذين زاروا البيت في أيام فَتْحِهِ للعموم – فوقفوا محدِّقين بأفواه فاغرة في شيء جديد لم يسمعوا به أضاف للجامعة البهائية مزيدًا من الشهرة.

حقًا كان ولي الأمر رجلاً استثنائيًا. فلا نهاية للأمثلة التي تراود الذهن عندما يفكر الإنسان في طبيعته وإنجازاته. له قلب على جانب كبير من الإخلاص لأولئك الأوفياء له على شأن ندر أن تجد له نظيرًا. في الحدائق، وعلى الشُرفة أمام المقام الأعلى لحضرة الباب تقوم غرفة صغيرة من الإسمنت، أوسع قليلاً من صندوق كبير. تلك كانت غرفة أبو القاسم [الخراساني]، خادم المقام الأعلى الذي يحبّه شوقي أفندي ويُعزّه كثيرًا على خُلُقه وتفانيه. وفي الليلة التي سبقت وفاة هذا الرجل أخبرني شوقي أفندي أنه رأى منامًا غريبًا تكرر مرتين. رأى فيه أن الغطاء النباتي الأخضر النضر عند المقام الأعلى قد ذَوَتْ أوراقُه وبدت كأنها احترقت. احتار حضرته في أمر هذا المنام جدًا وشعر أن له مغزاه، وعندما نقلوا له بعد بضع ساعات خبر وفاة خادم المقام الأعلى، أدرك على الفور مغزى منامه. في أوقات مختلفة وعلى مدى عدة سنوات، عندما كان ولي الأمر يبني المقام الأعلى ويوسّع الشرفة أمامه، كان يهدم هذه الغرفة، وفي كل مرة كان يحرص على بنائها ثانية بعيدًا قليلاً إلى الغرب نظرًا لارتباطها بتلك النفس المخلصة المتفانية.

 

[1]       Dewing.

[2]       Cooks.

[3]       Dagmar Dole.

[4]       Ella Bailey.

[5]       Marion Jack.

[6]       “الكلمات المكنونة العربية رقم 71.

 

[7]       Victoria Bedekian.

[8]       Philip Sprague.

[9]       Dr. Giachery.

[10]      The Advent of Divine Justice.

[11]      The Promised Day Is Come.

[12]      Zermatt.

[13]      Gurbetal.

[14]      Finsteraarhorn.

[15]      Monch.

[16]      Eiger.

[17]      Nightingale.

[18]      Rose.

[19]      “ألواح الخطة الإلهية، ص 14.

[20]      قصّة مغربل القمح، مطالع الأنوار، الترجمة العربيّة، طبعة 2008، ص 88–89.

[21]      Maoris.

[22]      Parthenon. هيكل الآلهة، الإلهة أثينا في مدينة أثينا.

[23]      Gothic architecture. فن معماري نشأ في شمال فرنسا وانتشر في غرب أوروبا في القرن الثاني عشر وحتى السادس عشر.

[24]      Signoria.

الفصل السابع الروابط القلبية الأعمق

مهما كانت عليه علاقات شوقي أفندي من إخلاص ومودّة مع الأقربين من حوله طيلة حياته، فعلاقته الأسمى كانت مع الورقة المباركة العليا. عندما صَعِدت روحها الطاهرة عام 1932 جاءه الخبر وهو في إنترلاكن بسويسرا. ورغم أنه كان يعي تمامًا حالتها الصحية التي وصفها عام 1929، عندما كتب بأن الورقة المباركة العليا هي ‘الآن في مغرب حياتها، مع ظلال تزداد قتامة بسبب ضعف بصرها، وتداعٍ متسارع في قواها يتجمع حولها’؛ ومع أنه كان لديه شعور سابق بأن ختام حياتها يقترب بسرعة عندما كتب في مارس/ آذار 1932 إلى الأحباء الأمريكيين يحثّهم على بذل أقصى الجهد في إتمام بناء قبة ‘مشرق أذكارنا العزيز’ حيث قال: ‘إن صوتي هذا مرة أخرى، يعزّزه حماس وشغف الورقة المباركة العليا وربما رجاؤها الأخير وهي ترفّ روحها الآن على حافة عالم الغيب العظيم، وتتوق للانطلاق نحو الملكوت الأبهى… لهو تأكيد على الاكتمال السارّ لمشروع كان التقدُّم فيه يُضفي على أيام أفول حياتها الأرضية إشراقًا ساطعًا عظيمًا’؛ ومع أنها كانت في الثانية والثمانين من عمرها – فلا شيء من هذا كله قد خفّف من هَوْل الفاجعة أو هدّأ من مشاعر الحزن التي غمرت ولي الأمر. في الخامس عشر من يوليو/ تموز أبرق حضرته إلى أمريكا معلنًا عروج روحها الطاهرة إلى عالم البقاء ومتفجّعًا ‘فقداني المفاجئ لسندي الوحيد في هذا العالم وبهجة حياتي وسلواي.’ وأعلن للأحباء أن ‘مثل هذه الرزية تتطلّب تعليق كل مظاهر الاحتفالات الدينية مدة تسعة أشهر في أنحاء العالم البهائي’؛ يتوجب إحياء مجالس تذكّر في كل مكان، محليًا ومركزيًا، من أجل مَنْ هي ‘بقية البهاء ووديعته’.

لم يكن إلا في 17 يوليو/ تموز أن كتب ولي الأمر إلى الأحباء في أمريكا وكندا رسالة تمنحنا لمحة عما كان يموج في قلبه، وفيها يؤبّن شقيقة عبد البهاء ويشيد بحياتها ومقامها وأفعالها بسيلٍ من كلمات لا تنسى تفيض حبًا وتقديرًا:

أيتها العزيزة المحبوبة الورقة المباركة العليا! من خلال غشاوة الدموع التي تملأ عينيّ، وأنا أكتب هذه السطور، بمقدوري أن أرى بوضوح هيكلك الجليل شاخصًا أمامي، وألْحَظ صفاء مُحيّاكِ الحنون. ولو أن ظلال القبر تفصلنا، فلا زلتُ قادرًا أن أحدّق في عينيكِ الزرقاويْن المليئتين بعميق المحبة، وأن أشعر بالعشق الكبير الرزين الذي حملتيهِ لأمر أبيك العظيم القدير، وبالمودة التي ربطتكِ حتى مع أكثر أتباعه مسكنة وبساطة، وبالحنان الدافئ والمحبّة التي كنّها قلبك لي. ستظلّ ذكرى جمال ابتسامتك التي لا توصف تُبهِجني وتشدّ من عزمي عبر الدرب الشائك المقدّر أن أمضي فيه، وذكرى لمسة يدك ستحفزني نحو السير على خُطاكِ بثبات واستقامة، وحلاوة صوتك الساحر سيذكّرني في أحلك ساعات الشدة والكرب بالتمسّك بكل إحكامٍ بالحبل الذي تشبّثْتِ به بغاية القوة طيلة أيام حياتِك.

إلى شقيقِكِ حضرة عبد البهاء، ذي المقام الرفيع والمعيّن إلهيًا، بلّغيه نجوى هذا العبد: إن أمر الله الذي عمل وتحمّل حضرة بهاء الله في سبيله كلَّ بلاء، والذي عانيتَ من أجله الحزن والألم والهمّ والغمّ سنوات، ومن أجله سُفِكت دماءٌ طاهرة زكية، إذا كان له أن يُبتَلى في قادم الأيام ببلاء أعظم، فأحِطْ غلامك الضعيف هذا، المعيَّن بغير استحقاق، بدوام عطف فضلك وعنايتك وحكمتك.

إن ما فعلتْه الورقة المباركة العليا لشوقي أفندي بعد صعود حضرة عبد البهاء مباشرة وفي السنوات اللاحقة يفوق كل عدّ وحدّ. وكما قال حضرته، فقد أدّت دورًا فريدًا طوال مراحلَ من تاريخ الأمر الإلهي كانت صاخبة مضطربة، وليس أقلّه تأسيس دعائم ولاية شوقي أفندي نفسه بعد صعود حضرة عبد البهاء. ‘فأي البركات أذكر’ كما كتب شوقي أفندي، ‘من تلك التي غمرتْني بها بعناياتها اللامتناهية في أكثر ساعات حياتي حَرَجًا واضطرابًا!’ كما قال بأنها كانت بالنسبة له تجسيدًا للطف حضرة عبد البهاء ومحبّته الشاملة. فبينما كانت حياتها في أفول كانت حياته في طلوع وإشراق. بأي رضا عميق كانت تشاهِد شوقي أفندي، بينما مَدُّ حياتها عن شواطئ هذا العالم ينحسر، وقد غدا قويًا يُحْكِم قبضته على مقاليد ولاية الأمر، قادرًا على مواجهة اللطمات المتواصلة التي يتلقاها بثبات وجَلَدِ رجلٍ بلغ أشدّه في الإمساك بزمام مهمّته الهائلة المذهلة.

بعد صعود المولى أصبح شوقي أفندي بالنسبة لبهائية خانم هو كل شيء، والمحور الأساس لحياتها – أما هي فكانت على الدوام بالنسبة له الأحب إلى قلبه في العالم بعد جدّه. أعود في ذاكرتي كيف أنه في إحدى المناسبات، خلال زيارتي عام 1923 مع والدتي، كان هناك اجتماع كبير حضره الرجال البهائيون في القاعة الرئيسة لبيت حضرة عبد البهاء؛ جلستْ والدتي والسيدة إديث ساندرسون[1] بجانب ولي الأمر، بينما انضممتُ أنا إلى النساء في غرفةٍ يفتح بابها على القاعة. جلسنا في الظلام حتى يمكننا ترك الباب مفتوحًا لنسمع القليل مما يدور هناك (اتّباعًا لعادة أهل البلاد في الشرق في تلك الأيام في فصل الرجال عن النساء بالكلية). يبدو أن أحد الأحباء الشرقيين غلبت عليه عواطفه فقام فجأة ورمى بنفسه على أقدام شوقي أفندي. لم نستطع أن نشاهد ما حدث ونحن في غرفتنا بل سمعنا فقط ضجيجًا وصَخَبًا يخرج من القاعة. ارتعبت الورقة المباركة العليا، التي كانت نحيلة الجسم ضعيفة للغاية، وخشيتْ أن مكروهًا أصاب ولي الأمر الشاب الصغير، فهبَّت واقفةً وصرخت بصوت عالٍ، ثم هدأت عندما جاء أحدُهُم بالخبر بأن شيئًا خطيرًا لم يحدث، إلا أن ملامح خوفها وقلقها على شوقي أفندي كانت واضحة تمامًا، وظلّ هذا المشهد مطبوعًا في مخيّلتي طيلة حياتي.

كان من عادة شوقي أفندي أن يتناول وجبة طعامه اليومية الوحيدة مع الورقة المباركة العليا لوحدهما على طاولة صغيرة في غرفة نومها، وبقي الأمر كذلك حتى آخر حياتها. أخبرني بأنها عندما كانت تراه منزعجًا للغاية غالبًا ما كانت تنصحه بعدم تناول الطعام لتأثيره السيّء على صحته وهو في تلك الحالة. وحكى لي قصة أخرى كيف أنها، عندما أصرّ عليها استلام المبلغ البسيط الذي ورثته عن حضرة عبد البهاء، تبرعت بجزء كبير منه مساهمةً في تكاليف بناء الشرفة الثانية أمام المقام الأعلى لحضرة الباب تنفيذًا للخطة العزيزة لشقيقها.

كانت صلة شوقي أفندي بعمَّته الكبرى حميمة للغاية بحيث كان مرة بعد مرة يضمّها إليه في برقياته وفي اتصالات أخرى، خاصة في السنوات الأولى لولايته، مستعمِلاً عبارات مثل: ‘طمئنونا’، ‘الورقة المباركة العليا وأنا’، ‘نحن’، وهكذا. وحتى في برقية أُرسلت عام 1931 نراه قد وقّعها باسم ‘بهائية شوقي’. لا شيء يكشف عن هذا الحب العارم الذي ملأ قلبه تجاهها أكثر من حقيقة أنه في يوم عقد قراننا توجّه ولي الأمر إلى غرفتها، والتي حرِصَ حضرته على إبقاء كل شيء فيها كما كان في حياتها، ووقفنا قرب سريرها وتمّت إجراءات عقد القران بكل بساطة ويدي بيده ونحن نردد آية الزواج بالعربية: إِنَّا كُلٌّ لله راضون – إِنَّا كُلٌّ لله راضيات.

إن شعلة هذا الحب الذي كنّه ولي الأمر للورقة المباركة العليا التي رَعَتْه وسَهِرت على راحته وكانت له أكثر من أمّ طوال خمس وثلاثين سنة، ظلّت واضحة طيلة أيام حياته. عندما وصله خبر صعودها وهو في سويسرا، كان أول ما فعله أن وضع خطَّة لبناء نصب تذكاري مناسب لمرقدها، وسارع إلى طلبه من إيطاليا. لا يمكن لأحد أن يدعو ذلك النصب التذكاري، المتناسق الأنيق المبنيّ من مرمر “كرّارا” ناصع البياض، بأي شيء إلا بما يدل عليه – معبد الحب، تجسيد حب شوقي أفندي لها. لا شك أنه استوحى تصميمه من أبنيةٍ أخرى بطرازٍ شبيه، ثم تحت إشرافه قام فنان بدمج فكرة حضرته في تصميم النصب التذكاري الذي خطط له ليرتفع فوق مرقدها. اعتاد شوقي أفندي أن يشبّه مستويات مؤسسات “النظام الإداري” للأمر المبارك بهذا النصب بقوله بأن العتبات الثلاثة التي تشكّل قاعدته إنما تمثّل المحافل الروحانية المحلية، والأعمدة القائمة تمثل المحافل الروحانية المركزية، أما القبّة التي تتوّج الجميع وتربطهم ببعض فهي تمثّل بيت العدل الأعظم، والتي لا يمكن وضعها في مكانها إلا بعد أن تبنى الأساسات والأعمدة بناءً رصينًا. وبعد أن أُنجز بناء النصب التذكاري لمرقد الورقة المباركة العليا وظهر بتمام جماله وكماله، أُرسِلت صورة فوتوغرافية له، بناء على طلبه، إلى عدة محافل روحانية مختلفة، وإلى أفراد محدّدين في قائمة خاصة رَغِب حضرته أن يقدّم لهم تذكارًا لطيفًا كهذا.

حتى الكرسي ذي الذراعين الذي اعتاد حضرته أن يجلس عليه دائمًا في غرفتها نقله إلى حيث كان يجلس غالبًا للراحة والاسترخاء بعد عناء العمل، وظلّ يستعمله حتى آخر أيام حياته؛ غرفة نومه كانت مَلأَى بصورها التي تمثِّل مختلف مراحل حياتها، وأكثر من صورة تُظهر النصب التذكاري لمرقدها. وفي برقية مؤثرة جدًا، أرسلها حضرته إلى أمريكا بعد مرور سبعة أشهر على صعودها وفيها أثْنى على ولاء وتضحية الأبطال بُناة النظام العالمي، أضاف قوله: ‘إن مؤسس ديننا كان راضيًا كل الرضا بشواهد تدابيرهم الحكيمة، وعبد البهاء فخور ببسالتهم وإقداماتهم، والورقة المباركة العليا تشعُّ بهجةً وسعادةً على إخلاصهم.’ وكتب بأن ذكراها ستبقى ‘ذات نفوذ مشرّف… وسط حطام عالم بائس مترنّح.’ لقد زيّن محفظةَ الآثار بألواحٍ مزخرفة لحضرة عبد البهاء موجهة إليها، ووضع معها بعض صورها وصور نصبها التذكاري ثم بعض مقتنياتها الشخصية والتذكارية. في اليوم الذي فاتحني بأنه اختارني زوجة له، وضع في إصبعي خاتمًا ذهبيًا بسيطًا نُقش عليه الاسم الأعظم سبق أن أهدته إياه الورقة المباركة العليا قبل سنوات ليكون خاتمه البهائي، وقال لي يجب ألا يراه أحد في الوقت الحاضر، فوضعتُه في سلسلة حول رقبتي إلى أن جاء يوم زفافنا.

في كل ما عَمِل شوقي أفندي في حياته من خدمات لأمر الله ضمّ إليه الورقة المباركة العليا. عندما دُفنت رفات والدة بهائية خانم وأخيها على جبل الكرمل أبرق: ‘… لقد تحققَتْ أُمنية الورقة المباركة العليا العزيزة’ مشيرًا إلى رغبتها التي طالما أفصحت عنها بدفنها بالقرب منهما. في تلك المناسبة الهامة جدًا عبّر عن بالغ سروره وابتهاجه العظيم بشرف التبرع بمبلغ ألف جنيه مساهمة منه لصندوق بهائية خانم الذي خُصص لتدشين المرحلة الأخيرة لإتمام بناء مشرق أذكار أمريكا. كتب حضرته بأن عملية نقل الرمسين المطهّريْن وإعادة دفنهما إنما هي أحداث ذات ‘أهمية مؤسسية عظمى’، وقال: ‘إن في ضمّ مرقد الورقة المباركة العليا إلى مرقدَيْ أخيها ووالدتها دعمًا وتقويةً لا حصر لها للطاقات والقدرات الروحانية لتلك البقعة المقدسة’، التي ‘قُدِّر لها أن تتطور لتصبح المحور الأساس لتلك المؤسسات الإدارية، مزلزلة العالم، ومحتضنة العالم، وموجهة العالم، التي أمر بها حضرة بهاء الله.’

عندما وُضع رداء حضرة عبد البهاء، كرئيس للدين، على كاهل شوقي أفندي طرأ عليه تغيير كبير. أمّا طبيعة ذلك التغيير الروحاني، فهو ما لا يمكن لنا إدراكُه أو تعريفه – ونحن في بُعدنا القصيّ عنه رتبةً ومقامًا. كثيرًا ما اعتاد أن يقول لي: ‘عندما قرأوا عليّ ألواح وصايا المولى المحبوب، لم أعد بعدها مجرّد إنسان عادي.’ إن ذلك الشاب النبيل دائم الجاذبية قد انطبع الآن بطابع ملوكي يزداد أَلَقًا على مرّ السنين في محيّاه وفي سلوكه ومشيته وإيماءاته. لم يكن هذا الطابع مظهرًا صوريًا ولا كان أبدًا محاكاة لجدّه، بل يمكن القول بأنه كان تغييرًا منحته العناية الإلهية. لم تكن لشوقي أفندي على الإطلاق علاقات حميمة بأحد سوى أفراد عائلته الأقربين وأولئك الذين، في الأيام الأولى، عملوا معه كزملاء مساعدين وسكرتارين. وحتى تلك الحميمية أخذت في التضاؤل مع ازدياد أعباء مسؤولياته بتوالي السنين لدرجة أن أعضاء المجلس البهائي العالمي، عندما قدِموا إلى حيفا، نادرًا ما كان حضرته يلتقي بأحد أعضائه الغربيين منفردًا إلا لوداعه كالعادة عند السفر، أو لإعطاء أيادي أمر الله بعض تعليماته حين مغادرتهم لتمثيله في مؤتمر ما. وكان المفضّل لديه وأكثرهم امتيازًا في هذه الناحية ميللي كولنز التي كانت تكنّ له حبًا وتفانيًا فريديْن، الأمر الذي حبّبها إليه بدرجة كبيرة. بعد وفاة والدي، أثناء زيارة له إلى موطنه في كندا، دعا ولي الأمر ميللي للإقامة في منزل المولى في الغرفة التي كان يُشغلها والدي لأن غرفتها الخاصة في دار ضيافة المسافرين الغربيين كانت شديدة الرطوبة، وكانت تعاني كثيرًا من إلتهاب المفاصل؛ وباستثناء لطف الله حكيم، كان جميع أعضاء المجلس البهائي العالمي يقيمون في هذا المبنى، واعتاد شوقي أفندي أن يُنجز كافة أعماله مع أعضاء المجلس على مائدة العشاء في دار الضيافة هذه، أو من خلال رسائله التي تُنقل للمجلس بواسطة ضابط ارتباطه معهم.

ولا يعني هذا أن حضرته لم يكن يحيط أعضاء المجلس من وقت لآخر بلطفه وعنايته خاصة ميللي. فهي الوحيدة التي كان لديها دومًا عنوان حضرته عندما كنا خارج حيفا – ما عدا الشخص المسؤول عن بريده (وطبعًا عدا والدي أيضًا)، وبالتالي كان لها الإذن بالاتصال بحضرته على الدوام. كم كان حبّ ميللي لشوقي أفندي كبيرًا وفي غاية الرقة – وهو الذي الْتقَتْه أول مرة بعد صعود المولى بفترة قصيرة – حتى إنها لم تكتب له مباشرة قطّ، بل جعلت رسائلها لحضرته موجهة لي من أجل أن تعفيه من ضرورة الكتابة إليها مباشرة. هي التي تعي جيدًا أن بعض الأحباء كانوا، بأنانيتهم البريئة يجمعون خمسين أو ستين رسالة أو أكثر مُحرّرةً بذلك القلم المُثْقل بالأعباء! فصمَّمتْ ألا تضيف شيئًا من جانبها إلى ذلك العبء، وكل تفكيرها كان يتّجه نحو التخفيف عن حضرته قدْر استطاعتها في بذل أي مجهود زائد مهما كان ضئيلاً، وأن تخدمه بأي طريقة توفّر له الراحة وتُدخِل السرور إلى قلبه. كم كان اهتمامها بهذه الأمور كبيرًا لدرجة أنها، وإن كانت تعيش في منزل حضرته، كانت تعود وتدخل غرفتها في وقت دخول شوقي أفندي أو خروجه حتى لا يجد نفسه مضطرًا لأن يصرف ولو لحظة من وقته المشحون بالعمل المُجهِد وعقله المُرهَق في تحيّتها والشعور بوجوب التوقف ليتكلم معها بضع دقائق. وبسبب كِبَر سنِّها واعتلال صحتها كانت تضطرّ أحيانًا إلى ملازمة غرفتها، عند ذلك اعتاد حضرته أن يزورها لبضع دقائق ومعه هدية لها في أغلب الأحيان. أذكر في مساء أحد الأيام، عندما كانت مريضة، دخل غرفتها وخلع الشال الكشمير الناعم الدافئ من حول رقبته، الذي أهداه له أحد الأحباء، ووضعه بنفسه حول رقبتها وأصبح هذا الشال لها أغلى كنز تملكه، ولم تستطع أبدًا أن تنسى لمسة دفء رقبته في الشال الذي لامس رقبتها.

إلا أن روابط كهذه كانت نادرة جدًا في حياة ولي الأمر، وعلى أي حال كان هناك واحدة مِثْلُها مع والدي. كثيرًا ما بدا لي أن من بين العنايات والألطاف الكثيرة التي شملتني في حياتي عن غير استحقاق، كانت تلك العطية الأكبر التي أغدقها الله عليّ من واسع رحمته – ذلك الحب الكبير بين شوقي أفندي ووالدي. فخلفيّة هذه الرابطة ترجع أصولها إلى أيام زواج ولي الأمر المحبوب. وحتى العِقْد الأخير من حياة والدي كانت والدتي دائمًا هي البهائية الشهيرة؛ فهي التي جاءت مع أول فوج من الزائرين من الغرب لزيارة حضرة عبد البهاء في عكاء في شتاء 1898–1899، وكانت أول بهائية على أرض أوروبا، والأم الروحانية للجامعة البهائية في كل من فرنسا وكندا، وإحدى أوائل حواريي حضرة عبد البهاء ومن أشهرهم، والمحبّبة جدًا لحضرته. لقد ذكرْتُ ذلك لأن شوقي أفندي قال لوالدتي مرة، عندما جاء في مساء أحد الأيام بعد زواجنا لتناول العشاء في دار ضيافة المسافرين الغربيين، بأنني لو لم أكن ابنة ماي ماكسويل لما تزوّجني. ولا يعني هذا أنه السبب الوحيد، ولكنه واضح أنه من أقواها، ذلك لأن في البرقية التي أرسلها في 3 مارس/ آذار 1940، ويعلن فيها رسميًا نبأ وفاة والدتي التي حصلت قبل يومين، قال: ‘إلى سجلّ خدماتها الذي تكلل بالرباط المقدس، أضيف الآن بموتها شرفُ الشهادة النفيس الغالي. إنه تاج مزدَوَجٌ فازت به بكل استحقاق.’ تلك كلمات تشير بوضوح إلى علاقتها بزواجه. في لوح مبارك لحضرة عبد البهاء وجّهه إلى أحد أولادها الروحانيين كتب يقول: ‘مصاحبتها تسمو بالروح وتُرقّيها.’ وإلى الوقت الذي أصبَحْتُ فيه تحت ظلّ توجيهات ولي الأمر المباشرة بتشرُّفي أن أكون رفيقة عمره لأكثر من عشرين سنة، أستطيع القول حقًا إن شخصيتي وإيماني بحضرة بهاء الله، وأية خدمات متواضعة استطعتُ تقديمَها حتى الآن للجمال المبارك، يرجع الفضل فيها بالكلية إلى تأثير والدتي عليّ. من منطلق هذه الحقائق يمكن أن نلاحظ أنني عندما قدِمتُ إلى حيفا مع والدتي في زيارتنا الثالثة للعتبات المقدسة في يناير/ كانون الثاني 1937، كان أفضل وصف لمكانة والدي في الأمر المبارك بأنه ‘زوج السيدة ماكسويل’.

كانت والدتي أول من عرف شوقي أفندي وهو بَعْدُ طفل صغير عندما قدِمَتْ إلى الأرض الأقدس في نهاية القرن الماضي[2]، وتشرّفتْ بالزيارة مرّة أخرى عام 1909 مع والدي، ولكنني لا أعلم إذا كان لهما أي اتصال مباشر بشوقي أفندي في ذلك الوقت. بعد صعود حضرة عبد البهاء عانت والدتي من تدهور كامل في صحتها نتيجة صدمتها بصعود حضرته، وهو الخبر الذي كان صاعقًا لكيانها وهي تتلقاه فجأة على الهاتف. وطوال سنة كاملة لم نكن ندري ما إذا كانت ستُكتب لها الحياة أو الموت أو أن تفقد قواها العقلية. شعر والدي أن الأمل الوحيد في إخراجها من كَرْبها وتبديد أفكارها السوداوية التي سيطرت عليها – من أنها لن تتمكن أبدًا من رؤية المولى المحبوب في عوالم الملكوت لعدم استحقاقها ولياقتها – هو في قيامها بزيارة حيفا ثانية، وفي هذه المرّة لرؤية الشابّ الذي خَلَف حضرة عبد البهاء. وصلنا حيفا في إبريل/ نيسان 1923، وكان شوقي أفندي بالفعل هو من بعث الحياة في امرأة قَضَّها المرض الشديد وأقعدها عن المشي ولو خطوة واحدة، وأصبحت لا تستطيع التنقُّل إلا بالكرسي المتحرك. ومنذ ذلك الوقت أصبح قلب والدتي منصبًّا في حبّه بالكلية على ولي الأمر، وعندما تعافت وأصبحت قادرة على العودة إلى أمريكا، بعد أن أمضينا فترتين طويلتين في حيفا (تفصلهما زيارتنا لمصر أثناء غياب شوقي أفندي في أوروبا)، نَهضَتْ ثانية وقامت على خدمة الأمر المبارك بكل همّة ونشاط. وبعد ثلاث سنوات تشرّفتُ بزيارة أخرى مع اثنتين من صديقات والدتي البهائيات. وهكذا عندما تشرفتُ بزيارة حيفا مع والدتي عام 1937 لم نشعر بأننا غريبتان بل اثنتان تصلان إلى كعبة عشقهما.

لا شك أن البساطة التي وَسَمت زواج شوقي أفندي – التي تذكّرنا إلى حدٍّ كبير ببساطةِ زواج حضرة عبد البهاء نفسه في مدينة السجن عكاء – يجب أن تحفز البهائيين في كل مكان إلى التفكير مليًا بهذا الأُنموذج. لا أحد كان يعلم بحدوث هذا الزواج سوى والدَيْ شوقي أفندي ووالديّ وأخ له وشقيقتيْن يعيشون في حيفا. لقد شعر حضرته بضرورة إبقاء الموضوع سرًّا لعلمه، بفضلِ سابقِ خبرته، كم كان يثير أي حدث هام في الأمر المبارك من قلق واضطراب على الدوام. وهذا ما أثار دهشة مذهلة لدى الخُدّام والأحباء المحليين عندما شاهدونا وأنا أجلس إلى جانب شوقي أفندي في السيارة التي يقودها السائق مغادرين حيفا لزيارة المرقد الأطهر لحضرة بهاء الله بعد ظهر يوم 25 مارس/ آذار 1937، حيث قاده قلبُه إلى تلك البقعة الأقدس على وجه الأرض في لحظة كهذه من حياته. أذكر أنني كنت أرتدي في تلك المناسبة الفريدة لباسًا أسودَ اللون بالكامل إلا من قميص أبيضَ مُخرّم، حيث يعدّ اللباس الأسود لباسًا نموذجيًا للمرأة الشرقية في خروجها إلى الشوارع في تلك الأيام. ورغم أنني من أهل الغرب، إلا أن شوقي أفندي رغب في أن أتكيّف مع نمط الحياة في بيته – وكان نمطًا شرقيًا للغاية – بشكل طبيعي بعيدًا عن التكلُّف قدر الإمكان، وكنت وقتها في غاية السعادة لأن أُلبّي كل رغباته بأي أسلوب كان. عندما وصلنا إلى البهجة ودخلنا المرقد المبارك طلب مني أن أعطيه خاتمه الذي كنتُ لا أزال أُخفيه مُعلَّقًا حول رقبتي. أخذه ووضعه في الإصبع المخصص لذلك في يدي اليمنى تمامًا بما يماثل الإصبع نفسه الذي اعتاد أن يلبس فيه ذلك الخاتم دائمًا، وتلك كانت اللّفتة الوحيدة من حضرته. دخل إلى الصحن الداخلي للمقام تحت الطابق الذي أُدخِل إليه الرمس الأطهر لحضرة بهاء الله، وفي منديل كان يحمله جَمَع كل البتلات والزهور الجافة التي اعتاد القيّم على المقام المطهّر أن يجمعها من العتبة المقدسة ويضعها في وعاء فضّي عند قدمي حضرة بهاء الله. وبعد أن تلا لوح الزيارة عُدنا إلى حيفا وتمّت إجراءات الزواج الفعلية في غرفة الورقة المباركة العليا كما مرّ ذكره. وباستثناء هذه الزيارة، واليوم الذي أخبرني فيه أنه اختارني ليمنحني هذا الشرف العظيم، وعدا لحظة واحدة أو اثنتين قصيرتيْن في دار ضيافة المسافرين الغربيين عندما كان يحضر لتناول العشاء، لم يحدث أبدًا أن كنت وحدي مع ولي الأمر. لم يكن هناك احتفال ولا زهور ولا مراسيم مُعَدَّة مسبقًا ولا ثوب زفاف ولا حفل استقبال. وتنفيذًا لأحكام شريعة حضرة بهاء الله حضر والداه ووقّعا على وثيقة زواجنا إقرارًا بموافقتهما، وبعد ذلك عَبَرْتُ الشارع إلى دار ضيافة المسافرين الغربيين وانضممتُ إلى والديّ (اللذيْن لم يحضرا أيًّا مما حدث)، وذهب شوقي أفندي لتصريف شؤونه الخاصة. وفي موعد العشاء كالعادة دخل حضرته بهدوء وأفاض على والدي ووالدتي بعميق محبّته وتهانيه القلبية، وبابتسامته الفريدة قدّم لوالدتي المنديل المليء بتلك الزهور بالغة النفاسة، وقال بأنه أحضرها لها من الصحن الداخلي لمرقد حضرة بهاء الله. وقّع والديّ على وثيقة الزواج أيضًا. وبعد العشاء والانتهاء من هذه الوقائع، مشيتُ مع شوقي أفندي إلى البيت. وكان الخادم فوجيتا قد أنهى نقل أمتعتي عبر الشارع إلى المنزل بينما كنا نتناول طعام العشاء. جلسنا مع عائلة ولي الأمر برهة قصيرة وبعدها صعدنا إلى غرفتيه اللتين أمرت ببنائهما الورقة المباركة العليا لشوقي أفندي منذ مدة طويلة.

إن الهدوء والبساطة والتحفُّظ والوقار الذي جرى فيه هذا الزواج لا يعني أن ولي أمر الله لم يعتبره حدَثًا هامًا – بل بالعكس. فقد أُرسلت إلى أمريكا البرقية التالية بتوقيع والدته ولكنها بالنصّ الذي وضعه حضرته: ‘أعلِنوا للمحافل الروحانية نبأ الاحتفال بزواج ولي الأمر المحبوب. شرف نفيس لا يُثَمّن أُسبغ على أَمَةِ البهاء روحية خانم الآنسة ماري ماكسويل. الوحدة التي أعلنها الدين البهائي بين الشرق والغرب قد ترسّخت. التوقيع – ضيائية، والدة ولي الأمر.’ وبرقية أخرى مماثلة أُرسلت إلى إيران. هذه الأخبار التي طال انتظارها جلبت بالطبع عظيم الفرحة للبهائيين ليبدأ سيل الرسائل بالتدفق على شوقي أفندي من جميع أنحاء العالم. وعن تلك التي وصلته من المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتحدة وكندا أجاب شوقي أفندي: ‘رسالتكم حرّكت المشاعر من الأعماق. إن مؤسسة ولاية الأمر، وهي حجر الزاوية الأساس للنظام الإداري لأمر حضرة بهاء الله، والتي سبق وأن تشرّفَتْ بارتباطها العضوي بشخصَيْ مؤسِّسَيْ الدين البهائي التوأم، قد تقوّت الآن بارتباطها المباشر بالغرب وبالذات بالأحباء الأمريكيين الذين قُدِّر لهم روحانيًا أن يؤسسوا نظم حضرة بهاء الله العالمي. من ناحيتي أتوجّه إلى جامعة المؤمنين الأمريكيين بالتهاني بما حظوا به من وِثاق يربطهم بشكل حيوي بمؤسسة في دينهم هي على هذا القدْر من الأهمية.’ وعلى سيل الرسائل الأخرى التي لا تُحصى كان ردُّه العملي عليها عمومًا منحصرًا في التعبير عن تقديره الحبيّ على تهانيهم. إلا أنه، وحتى في برقياته تلك، نجد أن ردّ فعله كان دائمًا متناغمًا مع سجيّة مُرسِلها ومدى إخلاصه. فعندما يكون المرسِل من الذين لا يميل إليهم ولا يثق بهم بشكل خاص، كان ولي الأمر يجيبه على تهانيه هذه (التي تبدو رفعًا للعتب) غيرَ معبِّرٍ عن تقديره وإنما مكتفيًا بقوله: ‘داعيًا لك في العتبات المقدسة.’ وكأنه بذلك يقول: ‘لا حاجة لي بتهانيك، ولكنك حتمًا محتاج إلى دعائي’! واحدة من أكثر البرقيات المتبادَلة إثارة للمشاعر والأحاسيس في ذلك الوقت كانت بين الأحباء في عشق آباد وولي الأمر. فمن خلال وسيط أبرق شوقي أفندي قائلاً: ‘أرجو أن تبرق للبهائيين في عشق آباد معبّرًا عن بالغ تقديري لرسالتهم القيّمة وداعيًا لهم بالحماية والحفظ على الدوام.’ وعندما أبرق إليه جون ولويز بوش[3] قائليْن: ‘زواجكم الميمون هزّ الكوْن سعادةً’، كشف ولي الأمر في رده قليلاً عن مدى عمق تأثره بتلك الرسائل الحبّية التي انهمرت عليه: ‘بتقدير بالغ يصعب التعبير عنه تلقّيت رسالتكم التي أثارت المشاعر. لكم أعمق المحبة.’ وردٌّ آخرُ كان بالذات دافئًا بكلماته أُرسل إلى “الجهة المقابلة من الكرة الأرضية” يقول: ‘أكّدوا لأحبائنا الأعزاء في أستراليا ونيوزيلندا عميق تقديرنا على الدوام.’

ومهما يكن من أمر، فإن النقطة الأكثر أهمية التي ارتبطت بزواج وليّ الأمر كانت تشديده على حقيقة أن زواجه قد قارَبَ بين الشرق والغرب. وليس هذا فقط، بل إن روابط أخرى أيضًا قد تأسست ودُعمت. في ردّه للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا جوابًا عن استفساره: ‘تطلبون النصح بشأن السياسة التي يجب اتباعها في الإعلان عن الزواج’، قال شوقي أفندي: ‘أؤيّد الإعلان العام. أكّدوا على أهمية مؤسسة ولاية الأمر في اتحاد الشرق والغرب وربْط قَدَرَيْ إيران وأمريكا. أشيروا إلى أن للشعوب البريطانية نصيبًا من هذا الشرف أيضًا.’ وهو تلميح مباشر عن والدي الكندي من أصل إسكتلندي.

كان لكل هذا تأثيره على الجامعة البهائية الأمريكية بحيث بادر المحفل الروحاني المركزي إلى إعلام ولي الأمر المحبوب بأنه مرسل إليه مبلغ (19) دولارًا من كل محفل روحاني محلي من محافله الإحدى والسبعين رمزًا ‘لتقوية فورية لذلك الرباط الجديد الذي يشدّ الأحباء الأمريكيين إلى مؤسسة ولاية الأمر.’ – حقًا لقد كانت هدية زواج استثنائية جدًا قدّمتها قلوب نقيّة للأمر المبارك نفسه!

بعد زواجنا استمرّ شوقي أفندي في عمله كما كان في السابق تمامًا. بقي والديّ في فلسطين أكثر من شهرين معظمهما في دار ضيافة المسافرين الغربيين. ومع أن ولي الأمر كان يذهب كل مساء تقريبًا لتناول العشاء معهما، لم تكن هناك من فرصة لتطوير أية علاقة شخصية حميمة فيما بينهم. وأخيرًا حان وقت مغادرتهما، وفي أحد الأيام سأَلَتْني والدتي: ‘ماري، هل تظنين أن ولي الأمر سوف يقبّلني عند الوداع؟’ (مع أن الجميع كانوا ينادونني باسمي الفارسي الجديد روحية خانم الذي منحني إياه حضرته، إلا أنه من الطبيعي أن يسمح لعائلتي أن تناديني ماري، بالاسم الذي اعتادوا عليه طيلة حياتي). لم يخطر ببالي مثل هذا أبدًا ولكنني ذكرت ملاحظة والدتي أمام شوقي أفندي ولم أطلب منه شيئًا بهذا الخصوص بطبيعة الحال! كان على والديّ أن يغادرا بعد الظهر. وبعد تناول طعام الغداء ذهب ولي الأمر لوحده إلى غرفة والدتي في دار ضيافة المسافرين لرؤيتها. وبعد أن غادرها أسرعتُ إلى الغرفة لأرى والدتي تبادرني بقولها وعينيْها تلمعان كنجميْن ‘لقد قبّلني’.

وتمر السنون، ففي عام 1940 قررتْ والدتي، تُحرِّكها تلك الرغبة المتّقدة في أن تقدّم شيئًا ما في خدمة أمر الله حمدًا وشكرًا على البركات والألطاف اللامتناهية التي أسبغها عليها المولى المحبوب وكان آخرها ذلك الرباط المقدس غير المتوقع لابنتها بمحبوبها ولي أمر الله، قرَّرَت الهجرة إلى أمريكا الجنوبية والمساعدة في أعمال التبليغ في الأرجنتين التي بدأ للتوّ تشكيل جامعة بهائية فيها. إن الرابطة العميقة التي تطوّرت بين والِدِي وولي أمر الله قد بدأت فعلاً في ذلك الوقت. فرغم أن حضرته قد أحب والدي وانجذب إلى ما فيه من خصال حميدة أصيلة عندما كان في حيفا، إلا أنه لم يكن هناك الوقت ولا الفرصة السانحة لبناء علاقة حميمة بينهما آنذاك. أما الآن، وقد بلغت والدتي السبعين من عمرها وتُعاني من اعتلال صحتها معظم حياتها، ومع ذلك تُقرر الذهاب في هذه الرحلة إلى نهاية العالم، فقد شعر حضرته بما كان يعني هذا لزوجها. فأبرق إليه في 22 يناير/ كانون الثاني 1940 قائلاً: ‘أقدّر عميقًا تلك التضحية النبيلة لأعزّ حبيب.’ وأبرق إلى والدتي في اليوم نفسه وهي على متن الباخرة في طريق رحلتها بأنه كان ‘فخورًا بهذا القرار النبيل’. كان ولي الأمر ووالدي وأنا قد أيّدناها في هذا السفر الطويل، إلا أنه في عُمرٍ كهذا وقلب ضعيف جدًا كان مخاطرة في أقلّ تقدير.

لم أعمد إلى سرد كل هذه الأمور الشخصية إلاّ لأنّ من خلفها وفي ثناياها كانت تتخلَّلها روح ولي الأمر ورقَّة قلبه وإخلاصه وتفانيه في خدمة أمر الله، وما قدّمه من ثناء وتقدير بكل تجرّد كرئيس للدين، وهو ما انعكس في جميع الأحداث التي تلت. وصلتْ والدتي إلى بيونس أيرس، إلا أنها توفيت بنوبة قلبية فور وصولها تقريبًا. البرقيات الثلاث التي وصلت سلّمتُها بنفسي لشوقي أفندي؛ واحدة من والدتي ترجو حضرته الدعاء من أجلها، والأخرى من والدي يقول بأنها مريضة جدًا ويُهيِّئني لخبر جلل، والثالثة من ابنة خالي جين بولز التي رافقَتْها في السفر تقول بأن والدتي توفيت. وبينما كان ولي الأمر يقرؤها رأيت ملامح وجهه قد تغيّرت، ثم نظر إليّ نظرةً تعبّر عن قلق واهتمام شديديْن. بعد ذلك، بطبيعة الحال، كان عليه إخباري بالتدريج بأن والدتي توفيت. لا أتخيل شخصًا في الوجود قد حظيَ بمثل ما حظيتُ به من ولي الأمر من لطف خالص على هذا النحو في تلك الفترة التي صعقتني فيها الصدمة ولفّني الحزن العميق. فمدحُهُ لها على تضحيتها، ووصفُهُ لسرورها في العالم الآخر حيث ‘أرواح أهل الفردوس في الجنة العليا تسألها البركات’، كما جاء في برقيته للمحفل الروحاني المركزي في العراق يُعلم فيها الأحباء بوفاتها، ثمّ تصويره الحي لها وهي تطوف رحاب الملكوت الأبهى جاعلة من نفسها سبب إزعاج تام وشامل، لأن كل ما تريد أن تتحدث عنه هو ابنتها العزيزة على الأرض! – كل ذلك تجمّع ليرتفع بي إلى حالة من سرور الخاطر لدرجة وجدتُ نفسي عدة مرات أضحك معه على الأشياء التي بدا وكأنّه فعليًّا يتكهّن بها.

إن وفاة والدتي كانت السبب الحقيقي في توثيق العلاقة بين ولي الأمر ووالدي سذرلاند ماكسويل[4] بحيث رفعته إلى ذُرىً من الخدمة كان قادرًا أن يصل إليها قبل وفاته أيضًا. في الثاني من مارس/ آذار أبرق شوقي أفندي إلى والدي قائلاً: ‘مع حزني العميق، فإن عزائي هو ما تحقّق من خاتمة لائقة لسيرة نبيلة للغاية تتسم بشجاعة مثالية في خدمة أمر حضرة بهاء الله. ومع إدراك روحية الحاد بخسارة لا تُعوَّض، تغمرها مشاعر الغبطة والامتنان على التاج الأبدي الذي فازت به والدتها اللامعة باستحقاق. أُوصي بدفن رفاتها في بيونس أيرس، وأن تقومَ أنتَ بتصميم ضريحها وسيُبنَى على نفقتي. فهذه البقعة التي سقطت فيها مناضلةً بمجد عظيم ستغدو مركزًا تاريخيًا للنشاط البهائي في الهجرة. نرحّب بك في حيفا. رتِّبْ أمورك للإقامة فيها – كن متأكّدًا من عميق محبتنا وتعاطفنا.’

هذه الرسالة هي التي جعلت والدي يسارع في القدوم إلى حيفا، ومكّنته، بفضل خِبْرَتِهِ المهنية ومعرفته الواسعتين، من أن يصبح الأداة التي تحققت بواسطتها خطط حضرة عبد البهاء، وذلك بوضعه تصميمًا لبناء فوقي لائق يحيط بالمرقد المطهّر لحضرة الباب الذي بدأ ببنائه المولى نفسه. خلال سنوات الحرب، وفي وقت كان حضرة شوقي أفندي يعاني أزمة متفاقمة في علاقته بأفراد عائلته، تولّد لديه شعور عميق بالمودة والألفة الحميمة مع سذرلاند مما عوّض إلى حدٍّ ما عن كل ما كنا نمر به من معاناة. ليس سهلاً أن تكون بينك وبين من هو أرفع منك مقامًا إلى أبعد الحدود علاقة حميمة، مع المحافظة – خلال الألفة الحميمية – على الاحترام والتبجيل اللازميْن لذلك الشخص رفيع المقام. إلا أن والدي لم يخفق في هذا أبدًا. فعندما كان أحيانًا يحضر ومعه رسم مبدئي لمخطط جديد ليُريه لشوقي أفندي، ويكون حضرته جالسًا في فراشه مسنِدًا ظهره إلى وسائده وهو ينظر إليه، كان يدعو والدي للجلوس إلى جانبه على السرير حتى يتمكنا من مراجعة التفاصيل معًا بشكل أفضل. يمكن للمرء أن يتصوّر ما كان يعنيه لي أن أرى ذينك الرأسين الحبيبين على قلبي بهذا القرب الشديد، أحدهما شعره أبيض والآخر مائل إلى الرمادي عند صدغيه! فلحظات عابرة سريعة الزوال كهذه، وتفيض بالطمأنينة والبهجة العائلية في ذلك الجوّ العاصف من حياتنا، كانت تجعل كأس البلاء المرّ عذبًا فراتًا.

عندما مرض والدي في شتاء عام 1949–1950، واشتدّ عليه المرض وأصبحتْ حالته ميئوسًا منها كما صرح أطباؤه، وصل إلى حالة وكأنه فَقَدَ عقله الواعي تمامًا لدرجة لم يستطع فيها التعرّف عليّ بتاتًا – أنا ابنته الوحيدة والأعز على قلبه، وفقَدَ كل سيطرة على نفسه وكأنه طفل عمره ستة أشهر. ولو كنتُ وقتها في حاجة إلى اقناع فيما إذا كان للإنسان روح أم لا، لكنتُ قد حصلت على دليل دامغ بوجودها في ذلك الوقت. فعندما كان شوقي أفندي يأتي لزيارة والدي، ورغم أنه كان عاجزًا عن الكلام بالكلية ولم يكن يصدر أيّ إشارة واعية حول اقتراب ولي الأمر منه، فبمجرّد دخول حضرته إلى غرفته لرؤيته كانت تنتابه رعشة ورجفة كردّة فعل خاطفة، سرعان ما تزول، إلا أنه يمكن ملاحظتها. كان هذا أمرًا غير عادي وظاهرًا جدًا للعيان حتى إن ممرضته الخاصة (الأفضل في حيفا) قد لاحظت ذلك أيضًا وغلبتها الحيرة بدرجة كبيرة، فحالته تلك قد خرقت كافة قوانين العقل الذي تراه في ترهّله يسترجع الماضي البعيد بحيوية أكثر من الماضي القريب. إزاء ذلك سعى شوقي أفندي وأصرّ على أن والدي يجب ألا يُترك هكذا حتى يموت. ونزولاً عند رغبته، عندما لم يكن لأي أحد، ولا حتى أنا، أدنى أمل في شفائه، اصطحبناه إلى سويسرا مع ممرّضته. وتحت رعاية طبيبنا الخاص هناك أخذ والدي يتعافى سريعًا إلى أن شُفي تمامًا، حتى إنه بعد عدة أسابيع، عندما أخَذْتُه مع ممرّضته السويسرية الجديدة في جولة بالسيارة لأول مرة، وقع نظره على مقهى يقع وسط حديقة، فدعانا إليه على الفور لنحتسي الشاي معه – وهي دعوة لبّيتُها بمشاعر الدهشة والامتنان الذي لا يوصف. كان بعد أن شُفي والدي من مرضه هذا أن تحرّكت مشاعر شوقي أفندي للإشارة إلى هذه الأحداث في رسالة بعث بها إلى أمريكا في شهر يوليو/ تموز 1950 ذاكرًا التقدم الحاصل في بناء المقام الأعلى، فقال: ‘ازداد امتناني عمقًا بالشفاء المعجز لمهندسه الموهوب سذرلاند ماكسويل الذي سبق وأن أعلن الأطباء أن لا أمل في شفائه.’

غالبًا ما كنت أندهش خلال السنوات التي نجا فيها والدي من هذا المرض الذي تركه ضعيفًا جدًا وكانت أعراضه تظهر في نوبات ألم متتالية في المرارة وأدت في النهاية إلى وفاته، أقول أَندهشُ كثيرًا أمام ذلك اللطف الرائع العجيب والصبر الجميل الذي أحاط به شوقي أفندي هذا الرجلَ العجوزَ. إنه ظهور جانب آخر من طبيعة ولي الأمر، ذلك لأنه بطبعه لم يكن صبورًا، وعلى الدوام يرزح تحت ضغط أعماله التي لا تنتهي. ليس هناك من وصف يحكي عن درجة ما كان يكنّه والدي من وَلَهٍ وتوقير لحضرته. لم تكن مشاعره نحو شوقي أفندي قائمة على إيمانه الراسخ بصفته فردًا بهائيًا، ولا على الاحترام والطاعة التي يدين بها لحضرته بسبب كونه وليًا لأمر دينه فحسب، بل أيضًا على محبته له كرجل أُعجب به كثيرًا من كل الوجوه، وبطبيعة الحال أيضًا بفضل تلك العلاقة الإنسانية الشخصية التي شعر بها والدي بعمق شديد. أذكر عندما تُوُفيتْ عمتي الوحيدة التي كانت على قيد الحياة عام 1942، أخبر شوقي أفندي والدي في ذلك الوقت أن عليه ألا يعتبر الآن مدينة مونترِيال موطنه الأول وهذا موطنه الثاني، بل العكس. وأخبره أيضًا بما أن مساعدته له أضحت تزداد يومًا بعد يوم، فإنه لا يستطيع الاستغناء عنه. إن موقف شوقي أفندي من أقارب والدي غير البهائيين (شقيقة واحدة فقط لوالدي كانت بهائية وتوفيت قبل عدة سنوات) كان يحمل عظيم الدلالة على كامل طبيعته. أتذكّر وقت زواجي، عندما بعث لي هؤلاء الأقارب بتهانيهم الحارة، وعبّروا فيها عن محبّتهم لـ ”شوقي”، كنت وقتها محرجة بعض الشيء ومتردّدة في كيفية نقل هذه الرسالة إلى مَن هو آية الله على الأرض. وأخيرًا قررتُ أن عليّ أن أفعل وأقرأ عليه الفقرة الواردة في رسالة عمتي. أصغى إليّ بعناية، وبعد لحظة قال بغاية اللطف ‘انقلي لهم محبتي أيضًا.’ وتمّ تبادل مثل هذه الرسائل طوال السنين. كم كان حضرته كريم الخلق نبيلاً وغير متكلّف في كل أفعاله وعلاقاته!

إحدى الطرق التي اعتاد شوقي أفندي أن يُظهِر فيها مودّته لوالدي كانت بأن يمسح عليه أحيانًا، بكل حماس، بعضًا من زيت عطر الورد. لم يكن في الشرق حظر سخيف يمنع الرجال من استعمال العطور، وكان حضرته شغوفًا إلى أبعد الحدود بهذا العطر الرائع. كان في الواقع شيئًا يستحق المشاهدة أن ترى ما يرتسم على وجه والدي الإسكتلندي من تعابير! وهو الذي جاء من خلفية ومن جزء من العالم يعتبر استعمال الرجال للعطور أمرًا مُحرَّمًا، وحتى إنه لم يستعمل في حياته الدهون المعطِّرة. إن كونه مذعورًا من أن رائحة قوية ستصدر عنه الآن، بجانب سروره الصادق من هذه اللفتة الكريمة التي يحيطه بها محبوبه ولي الأمر، قد رسما على وجهه تعابير غير عادية للغاية!

في عام 1951 قرر ولي الأمر أن نصطحب معنا والدي إلى سويسرا مرة أخرى؛ وعندما حان موعد عودتنا إلى الأرض الأقدس أعلمونا بأن الوضع الغذائي هناك أصبح صعبًا للغاية، ومن المستحيل عمليًا اتباع النظام الغذائي الخاص المقرَّر لوالدي بتناول أطعمة طازجة فقط والذي يُعتَبر أمرًا أساسيًا لمنع انتكاس حالته. كان والدي توّاقًا لأن يزور موطنه ويرى عائلته بعد غياب دام إحدى عشرة سنة، ولذلك قرر ولي الأمر إرساله إلى كندا مع الممرضة السويسرية المخلصة نفسها التي اعتنت به في السنة السابقة وكانت معنا ثانية. كان ذلك هناك، في موطنه القديم وفي مسقط رأسه، عندما جاءه الخبر بأن ولي أمر الله قد رفعه إلى مرتبة أيادي أمر الله في وقت كانت حياته في أفول متسارع.

حقًا لم يكن في حياة شوقي أفندي مطلقًا متّسع لاستيعاب تلك المحنة التي فُرضت عليه نتيجة إصابة والدي بمرضه الطويل، ثم شفائه ثم اعتلاله المتكرر إلى أن وافته المنية أخيرًا. وعندما جاءتنا الأخبار في مارس/ آذار 1952 بأنه في حالة من المرض شديدة، وأن عليّ أن أُسارع في الحال إلى مونترِيال إذا كنت آمل أن أراه حيًا، كانت بالفعل صدمة أخرى مؤلمة. وبينما كنت أُجهِّز نفسي للمغادرة بسرعة كان دعائي الوحيد أن يتوفاه الله قبل مغادرتي إذا كان هذا قَدَره حتى لا أترك شوقي أفندي وحيدًا في مُعتَرَك أشغاله، وفقط لمجرّد حضوري أمام والدي في وقت لا يعي حتى بوجودي. استُجيب لدعائي وجاءني الخبر بأن والدي قد تحررتْ روحُه من قيود هذا العالم. كان حزن شوقي أفندي شديدًا للغاية لدرجة لم أجد لنفسي الوقت لأن أقف وأفكّر، بعد كل هذا، بأن الذي توفي هو والدي أنا. لقد تطرَّقْتُ إلى ذكر هذا كله لأن من شأنه أن يُظْهِر تلك العوامل والمؤثرات التي تخلَّلَت حياة ولي أمر الله، وموجات المشاعر والمحن والبلايا التي كانت تضرب على نسيج قلبه حتى أُنهِك وبَلى.

بعد أن حضرتُ والسيدة كولنز المؤتمرَ البَيْقارّي[5] الذي عُقد في شيكاغو عام 1953 ذهبنا إلى مونترِيال بموافقة ولي الأمر حتى أزور قبر والدي وأتدبّر بعض أموري الشخصية، وأن أقدّم للمحفل الروحاني المركزي في كندا منزلنا هناك نزولاً عند رغبة والدي ووالدتي – وهو المنزل الوحيد في كندا الذي زاره حضرة عبد البهاء خلال أسفاره في شمال أمريكا. لم ينسَ شوقي أفندي أبدًا أولئك الذين أحبّهم؛ فقد كان في كلِّ علاقاته شديد الإخلاص. فبعد أن أبرق بنفسه إلى المحفل الروحاني للبهائيين في مونترِيال، أبرق لي في 9 مايو/ أيار 1953 قائلاً: ‘وجّهتُ المحفل الروحاني في مونترِيال أن يجمع الأحباء عند قبر سذرلاند إحياءً لذكراه. أوصيكِ بوضع زهور من المقام على ضريحه، وابتياع أجمل الزهور بمائة دولار معظمها زرقاء اللون لتغطّي كامل قبره بالنيابة عني وأرفقي فيها العبارة التالية: بكل التقدير في ذكرى سذرلاند ماكسويل أيادي أمر الله، المهندس المعماري المحبوب الموهوب للمقام الأعلى لحضرة الباب – شوقي. أحضري معكِ نسخًا عن صورة فوتوغرافية كبيرة الحجم للأحباء المجتمعين عند الضريح. أبرقي لي بموعد الاجتماع وتاريخه حتى أتذكره في المقام الأعلى.’ أما الأكثر تأثيرًا في النفس ليس فقط ما أعطاني إياه في حيفا من زجاجة عطر الورد الخالص لأنثرها على الضريح، والأزهار الجافة التي جُمعت من العتبة المقدسة لمرقد حضرة الباب لوضعها على قبره هناك، بل كان في إبداء رغبته المحدّدة في أن أبتاع له زهورًا معظمها باللون الأزرق متذكّرًا بأنه اللون الذي كان يفضّله سذرلاند في ملابسه على الدوام. وعندما عُدتُ أدراجي إلى حيفا أخذ شوقي أفندي الصور الفوتوغرافية العديدة التي أحضرتُها معي ونظر إليها طويلاً واحتفظ بها لنفسه.

[1]       Edith Sanderson.

 

[2]       أي القرن التاسع عشر.

 

[3]       John and Louise Bosch.

 

[4]       Sutherland Maxwell.

 

[5]       أي بين القارات.

 

الفصل الثامن لُمَح جوهرية حميمية

في سعيي لأن أنقل ولو لمحةً عما كانت عليه حياة ولي أمر الله المحبوب – عن ذلك الجانب من حياته المعروف لدى عائلته الأقربين، ولا يَعرف عنه الآخرون إلا أقلّ القليل – رأيت أن أقتطف بعض ما جاء في مدوّنات يومياتي الخاصة. وهنا يجب أن نأخذ بالاعتبار أن هذه الملاحظات لم يكن تدوينُها وحفظُها منتظمًا على مرّ السنين. وكما في معظم المدوَّنات اليومية كانت لا تتعدى صورًا وَصْفِية سطحية لوقائع يمكن أن تستغرق ساعات إذا ما أُريد تدوينُها بالتفصيل، وفي السنوات اللاحقة توقفتُ عن تدوينها بالكلية لضعف في الهمّة وشُحٍّ في الوقت. إن الإشارة إلى أشخاص في هذه اليوميات لم تكن لأي سبب خاص سوى أنهم تصادف أن ظهروا في خلفية ما كان يدور في حياة شوقي أفندي اليومية في تلك اللحظة. هناك شيء ما في الكلمات التي دُوّنت في لحظات من شعور عميق أو ملاحظة دقيقة لا يمكن استعادته تمامًا عندما يقوم المرء بمراجعتها في وقت لاحق؛ وسعيًا وراء استحضار هذا الشعور الطارئ الشديد في حدّته، تجرّأْتُ على نشر هذه المقتطفات القليلة جدًا دون محاولة الخوض في تفاصيلها أو تحليلها، بل هي مجرّد إزاحة النقاب قليلاً عن ضخامة العمل اليومي لشوقي أفندي وأحزانه.

1939 ’أشعر أحيانًا أن هذه الموضوعية الشديدة التي يتّصف بها شوقي أفندي هي واحدة من المواهب التي أسبغها الله عليه. هو كآلة منقطعة كليًّا عن الوعي بالذات. بواعثه المحرِّكة له عنيفة، ولا أحد (أعني ليس من مراقب منصف) يمكنه أن يشكّك في إنجازاته الهائلة للأمر الإلهي، فكلُّها نُفِّذت بفضل هذه القوة المحرِّكة التي لا تعرف التردُّد. كل قراراته كانت على هذه الشاكلة – إلا أنه بالطبع كان يمحّص الأمور مليًا ويقلّبها بعقله عدة أسابيع، وأحيانًا سنوات قبل أن يضعها قيد التنفيذ. كل فكرة ممكنة في الوجود كانت حاضرة في ذهنه، ولكن عندما كان يشعر أن الأمر ملحٌّ مستَعجَل، ما كان لينتظر ولو خمس ثوانٍ!’

1939 ’وهَبَنَا المولى “وديعة”، تلك هي ولي أمر الله. وتفضل قائلاً “لئلاّ يقع على خاطره النورانيّ غُبار الكدر والحزن.”[1] غبار الكدر والحزن!! لقد أُسيء إليه وعانى بشدة من قِبَل أولئك الذين كان عليهم أن يساندوه ويشجعوه، حتى غدا خاطره النوراني أندر من النادر. أحيانًا أرى النورانية في محيّاه كشمس مشرقة في وجهه الحبيب – بينما كثيرًا ما نجده يعاني بشدة لدرجة تضطره إلى أن يأوي إلى فراشه منكبًّا على وجهه بكل ما في الكلمة من معنى.

1939 لقد عانى: ‘في أغلب الأحيان وبمنتهى الشدّة فيما يتعلق بإرسال أفراد الجامعة بعيدًا عن حيفا.’

8/ 8/ 1939 ’استيقظتُ اليوم في السادسة صباحًا وذهبنا للحصول على التأشيرات اللازمة (مفترضين دومًا أن باستطاعتنا مغادرة سويسرا)، وفي ظرف ثماني عشرة ساعة كنا في طريقنا! ولم يكن هذا أول يوم لنا نكون فيه على عجل… بل هو نموذج لحياتي العادية. فلا فُسحةَ وقتٍ لأي شيء…’

6/ 9/ 1939 ’عُدنا إلى الشرق الأوسط… كانت رحلة منهِكة للغاية. معظم الوقت لم نستخدم عربات النوم في القطار، وفي إحدى الليالي نمنا ساعة ونصف الساعة فقط! لا يبدو واقعيًا على الإطلاق أن حربًا في العالم قد اندلعت؛ مررنا بمدن غارقة في ظلام دامس – رأينا قطارات تسير محمّلةً بالجنود – ننتظر سماع الأخبار من المذياع… فُتحت الطريق أمام شوقي أفندي كما ستكون على الدوام – بدا المشهد خلفنا ينهار ولكننا تجاوزناه بأمان.’

5/ 10/ 1939 ’هو يقول، بأنه يشعر وكأنه قصبة مشروخة. لا شك أن جزءًا من هذا الشعور يرجع إلى مرضه الشديد لمدة عشرة أيام وكانت حرارته رهيبة – وصلت أحيانًا إلى (104) درجات فهرنهايتية (40˚م)! سهِرنا أنا و(ز ـــــــــــــ) على رعايته ليلاً نهارًا، ولن أبالغ إذا قلت إننا كنا نمرّ بما يشبه الجحيم. أن تكون وحدك مع ولي الأمر وهو مريض جدًا ومع طبيب غريب لا تعرفه، يكون مجهدًا للغاية، إلى جانب عبء المسؤولية! أعتقد أننا لم نَنَمْ خلال أسبوع أكثر من أربع ساعات ليليًا كحد أقصى!’

22/ 1/ 1940 ’إن أمر الله ووليّه في حصن منيع. كثيرًا ما وددتُ أن أقول للبهائيين “اتبعوه، أكان ذلك في الجنة أم في النار، في النور أو الظلام، في الحياة أو الموت، أكنتم مُبصِرين أم عُمْيًا. تشبّثوا بأذياله، فهو خلاصكم الوحيد.” في هذه الليلة حضر رجل إلى هنا. دخل البيت بهائيًا وخرج منه ناقضًا للعهد والميثاق. (رفض إطاعة ولي الأمر بكل صراحة). وقف الرجل بالبوابة فترة طويلة. وددتُ لو أصيح به: “وهل تترك روحك خلفك بهذه البساطة؟” بعد كل هذه السنين، وقد ترعرع في حضن الأمر المبارك، يرميه هكذا بكل بساطة! وما الذي يمكن للحياة أن تقدمه للإنسان سوى روحه؟ وقد أسقط على قارعة الطريق أغلى هدية منحه الله إياها لأنه وجدها غير ملائمة وصَعُبت عليه الطاعةُ في تلك اللحظة… آه لو علِم البهائيون فقط كم كانت شديدة معاناة المولى وولي الأمر بسبب نوعية البهائيين المحليين. كان بعضهم جيدًا، والبعض الآخر فاسدًا. يبدو وكأنه، عندما لا يكون الشخص ثابتًا على العهد والميثاق فإنه يتطاول على المظهر الإلهي نفسه أو على المثَل الأعلى أو على ولي الأمر. لقد رأيتُ هذا بنفسي. إنه كالسُّم، فهو يتعافى منه ولكنه يسبب له معاناة لا توصف. ولأسباب كهذه وصف المولى نفسه في وصيته بأنه “طير كليل الجناح”. إنه أمر عضوي تمامًا، ولا علاقة له بالعواطف إطلاقًا.’

(ملاحظة من شوقي أفندي) ’ليس بمقدورك أن تكون بطلاً دون الإتيان بفعل، فهذا هو المعيار، وليس بالحركة وبالذهاب والإياب، بل بظهور ما يدلِّل على سجاياك. جاكي (ماريون جاك) بطلة بسبب سلوكها، فروح البطولة بذاتها تجلّت فيها. ومارثا (مارثا روت) انتهجت عملاً بطوليًا ومضت فيه إلى أن سقطت.’

(ملاحظتان من شوقي أفندي) ’الهدف من الحياة بالنسبة للبهائي ترويج وحدة الجنس البشري’، ‘هدفنا تأسيس حضارة عالمية سوف تؤثر بدورها على تشكيل شخصية الفرد.’

(ملاحظة من شوقي أفندي) ’أعلم أنها طريق الآلام، وعليّ أن أسير فيها حتى النهاية. كل شيء يجب أن يُنجَزَ بالمعاناة.’

2/ 1/ 1942 ’يقول حضرته بأن هذه الحرب قد لا تكون الأخيرة قبل الصلح الأصغر، ربما سيكون هناك فترة هدوء، أو هدنة، ثم تنفجر الأوضاع ثانية، أو تستمر أسوأ مما كانت عليه في أي وقت مضى. بالطبع لم يكن جازمًا في هذا الاعتقاد بل فقط يقول `ربما، وهو أمر محتمل الحدوث إلى حدٍّ بعيد.’

5/ 1/ 1942 ’إنهم (العائلة) جميعًا شذّوا عن النغم وخرجوا عن ايقاعات اللحن السائد لهذا البيت – لحن ولي الأمر – وبالنتيجة ليس من الممكن ضبط أنفسهم كبهائيين طالما أنهم انحرفوا عن الأساس.’

7/ 1/ 1942 ’كل هذا يسبّب لولي الأمر ألمًا شديدًا. حقًا إنني قَلِقة على قلبه. كانت نبضاته في الليلة الماضية سريعة جدًا، بل أكثر بكثير من سريعة جدًا! وفي بعض الأحيان يبقى كذلك لساعات تقريبًا، يتنفّس بسرعة وتثاقل من شدة انزعاجه… هناك شيء ما في ولي الأمر يُماثل جهاز الباروميتر [مقياس الضغط]، فيسجل ضغطك الروحاني إذا جاز القول. لا شيء في الظاهر يمكن أن يفسّر ذلك، فهو أحيانًا ينزعج بشدة من شيء هو لا يدركه بعد! رأيت هذا يحدث مرات عِدّة. ينفعل غريزيًا وعلى الفور. وكثيرًا ما كان يأتي السبب واضحًا فيما بعد، فيرى المرء لمحة من مجريات الأمور بأكملها. وهو ما سيقضي عليه في النهاية. ولكن كيف ومتى فذلك بلا شك معلّق بالحكمة الإلهية، وسوف يكون هو المظفّر دائمًا – كما كان على الدوام. إلا أن المشاكل المتواصلة والكفاح الأبدي، الذي يبدأ أولاً مع فرد من العائلة ثم يليه آخر، قد أخذ شيئًا فشيئًا وبالتدريج يُرهق حضرته تمامًا. لقد انحنى ظهره، وقلبه مُتّقدٌ بالقلق، وأعصابه مُنهكة…’

16/ 3/ 1942   ’إنهم (عائلة المولى) قد قطعوا شوطًا بعيدًا في سحق كل ذرّة من روح ولي الأمر. إنه مرح بطبيعته ويتدفق نشاطًا وحيوية، وله طبيعة فريدة رائعة مشرقة قادرة على جعله يتألّق عندما يكون سعيدًا أو متحمسًا لشيء ما. إلا أن كفاحه الدائم في حياته مع أفراد عائلة المولى، والعواصف التي قاساها كونه وليًا لأمر الله (من مختلف الأزمات التي عصفت بأمر الله)… قد تلبّدت غيومها كلها… عليه. وحالما كانت أنوار بهجته تبدأ في الإشراق (في السنوات الخمس الماضية التي كنتُ فيها قادرة على ملاحظة حضرته) يأتي أحدهم ويُلقي عليه دفعة واحدة بحِمْل ثقيل من الهمّ أو الغمّ، وبذا تنتهي البهجة! إنه عمل إجرامي! كم مرة سمعته يقول: “فقط لو كنت سعيدًا، ولو أنهم فقط أسعدوني، لرأيتِ حينها ما يمكن أن أفعله لهذا الأمر!” إنه أشبه ما يكون بالنبع، فكلما تبدأ مياهه بإخراج الفقاعات والتدفق يأتي شيء ما ويسد فتحته من جديد. وعندما يدرك المرء أن كل ما فعله حضرته لأمر الله إنما كان يُنجز بالرغم من معاناته ومضايقاته بعيدًا عن تمتّعه بقسط وافر من الحرية والسعادة وراحة البال مع نفسه، عندها يعي تمامًا مدى عظمة ما أَنجز وحَقّق، بل ويتساءل أيضًا كيف يمكن أن تكون عليه تلك الإنجازات لو كان سعيدًا. لقد أُوذي شوقي أفندي، إنها الكلمة الوحيدة المعبِّرة: أُوذي وأُوذي ثم أُوذي. والآن وصل إلى مرحلة يقاتل فيها وظهره إلى الحائط. يقول حضرته بأنه سيبقى في الحَلَبة يقاتل حتى الجولة الأخيرة…”

20/ 3/ 1942 ’بينما كان شوقي أفندي جالسًا يعمل في كتابه “القرن البديع”[2] إذا بطائرتين حربيتين كانتا تحلّقان في طلْعة تدريبية قد تلامَسَ جناحاهما وفقدتا السيطرة وتحطمتا؛ هوت إحداهما في اتجاه سقف بيتنا، وكانت من القرب حتى خُيّل إليّ أنها ستخترق سقف غرفة شوقي أفندي، إلا أنها هَوَت على الأرض واندلعت فيها النيران عند أسفل الشارع بعيدًا عنا بأقل من مائة يـاردة [91 مترًا].’

26/ 4/ 1942 ’أخذ شوقي أفندي يكلّمني عن همومه وآلامه ويقول بأن الذين كانوا حول حضرة عبد البهاء قد قتلوه كما قتلوا حضرة بهاء الله، حتى إنه قال “وسيقتلونني أنا أيضًا”. قال لي بأن الحاج عَلِي أخبره بأن حضرة بهاء الله، وقبل صعوده ببضعة أيام، استدعاه إلى غرفته (ليكلّمه في أمر ما أو بآخر). استمر حضرته يذرع الغرفة جيئةً وذهابًا وكان منزعجًا جدًا لدرجة منعته من الكلام، ثم أشار أخيرًا إلى الحاج عَلِي بالانصراف. شاهد الحاج كم كان حضرته غاضبًا، ومع هذا لم يذكر للحاج سبب ذلك. وبعدها قال لي ولي الأمر بأن حضرة بهاء الله لا بدّ أنه عانى الأمرَّيْن، وهو الذي كان بالطبع يرى ببصيرته النافذة كيف أن محمد علي سوف يشقُّ عصا الطاعة ضد المولى في المستقبل، إلا أن حضرته كتم كل هذا في قلبه.’

18/ 5/ 1942 ’يقول شوقي أفندي إن المولى كثيرًا ما أخبرهم (أي أفراد عائلته) بأنهم جميعًا “سوف يُذَلُّون” من بعده.’

4/ 7/ 1942 ’وكان بعد ذلك غزو مصر، كان يتساءل: أيهما أخطر – أن يبقى أم يغادر، هذا إذا ساءت الأوضاع هنا للغاية! إن هذا الموقف اللاّقرار، مُجْهِدٌ للغاية. إلا أننا في الحقيقة أصبحنا معتادين على المصاعب تمامًا حتى غدت في أغلب الأحيان عاجزة عن مضايقتنا!’

3/ 1/ 1943 ’كل من عرف قصة حياة شوقي أفندي على حقيقتها سوف يبكي – يبكي لطيبته، يبكي لقلبه الطاهر البسيط، يبكي لأجل جهوده المضنية وهمومه وقلقه، يبكي على السنوات التي طالت وطالت وهو يكدّ ويكدح، والأصعب كونه وحيدًا دائمًا، وحتى أكثر من ذلك يبكي على اضطهاده من قِبَل مَن كانوا حوله!

‘فقط قبل بضعة أيام دخل غرفتي وهو قلق تمامًا على ما هو قائم على إنجازه. فسألته لماذا لا يقرأ كتب مؤلفين آخرين كتبوا على شاكلة ما يكتبه (كتاب “القرن البديع”) حتى تجود قريحته… فأجابني: “ليس لدي الوقت، لا وقت، وعلى مدى عشرين سنة لم يكن لديّ الوقت!”‘

30/ 1/ 1943 ’أنا قلقة بالفعل على شوقي أفندي. عندما كان في الماضي يتعرّض لكَرْب وانزعاج شديديْن، كان ذلك يؤثِّر عليه، ولكن ليس بدرجة ما يؤثّر عليه الآن، حتى إنني أفكر أحيانًا بأنه سوف يودي به إلى موت مبكر… يتنفس الآن بصعوبة كمن أجهده الركض، وتحت عينيه تبدو ظلال قاتمة. يتحامل على نفسه ليتابع عمله وينهي ما لديه من رسائل تكدّست على مكتبه على مدى عدة أيام – وأحيانًا كان يقرأ شيئًا ما ويعيد قراءته مرة تلو الأخرى ولمدة عشر دقائق لأنه غير قادر على التركيز! أعتقد أنه ليس هناك من معاناة أشد من أن ترى شخصًا تحبّه وهو يعاني ويتألم. أقف عاجزة عن معالجة الموضوع. كل عجبي كيف أن الله تعالى يتحمّل أن يراه يعاني لهذه الدرجة.’

29/ 11/ 1943 ’مع أن الصيف قد مرّ بأمان بمعنى أنه لم تكن هناك أزمات مروعة… إلا أنني لا أعتقد أن ولي الأمر قد سبق وأن عمل بهذا القدْر من الجهد في فترة “إجازته”، وكذلك الأمر بالنسبة لي أيضًا! كثيرًا ما كان يقول “هذا الكتاب يقتلني” وكنت أبادره بجوابي المعتاد: “وأنا أيضا”، وبكلمات أخرى فإن طريقة عمله في مراجعته لأحداث قرن من تاريخ الأمر المبارك في كتابه “القرن البديع” كانت بالفعل قاسية. فإلى جانب جميع أعماله الأخرى وهمومه نجده يكابد جاهدًا مدة سنتين لانجاز الكتاب…’ (استلم شوقي أفندي رسالة من محفل روحاني مركزي كانت بشكل خاص جافة تخلو من المشاعر، فاستأْتُ كثيرًا منها) ‘… كانت الأكثر جفاءً وبرودة على الإطلاق من بين الرسائل التي وقع نظري عليها. فلماذا لا يتعلم [ذلك المحفل الروحاني] من ولي الأمر الذي كان يكتب للعموم بكلمات المحبة والمودة حتى لو كان المتلقي ضعيف العقل؟ البهائيون لا يستحقّون وليًا لأمر الله، وكل ما أتمناه ألا يستبدلهم الله بقوم آخرين.’

توفي أحد أفراد العائلة وحضرتْ أرملته إلى المنزل تريد من شوقي أفندي أن يقبل ما جاء في وصية المتوفى فيستلم مبلغًا من المال أوصى به للأمر المبارك، وأن يتسلم منها أيضًا أختامًا ثمينة للغاية لحضرة بهاء الله كان حضرة عبد البهاء قد وضعها أمانة لديها حين ذهب في أسفاره إلى الغرب. ولكون هذه المرأة كانت على اتصال بأفراد من العائلة من زمرة الناقضين، لم يقبل شوقي أفندي كل ما عرضته… نقلتُ إلى حضرته حديثها (هو لم يُرِدْ رؤيتها فأرسلني بالنيابة عنه).’

26/ 12/ 1943 ’كل ما قالته كرّرتُه لشوقي أفندي بتفاصيله الطويلة وأحضرتُ له الأختـام ووصية (فلان). قال لي أخبريها بأنه لا يقبلها ولو كانت مليون خاتم، أو جاءته بجبل الكرمل كاملاً. إن ما يريده هو الولاء والإخلاص ليس إلاّ، وما لم تقطع نفسها بالكليـة عن عائلة (فلان)… من صميم قلبها، فلن يستطيع أن يفعل لها شيئًا، وعليها أن تحتفظ بالأختام والوصية… كان ولي الأمر بودّه جدًا أن يحصل على الأختام – الثمينة جدًا – لتوضع في محفظة الآثار، إلا أنه كما أخبرني ليس من الصواب أن يأخذ الأختام منها ثم يُخرجها من المنزل! إن ما كان يحيّرني أنها، وبعد مرور ثلاث وعشرين سنة على صعود المولى، لم تستطع ولو مرة واحدة خلال تلك السنوات التي كانت في معظمها قريبة جدًا من ولي الأمر، أن تقدّم له تلك الآثار المقدسة الثمينة والتي أفادت هي نفسها بأنها لم تُمنح لها أبدًا بل وُضعت عندها أمانة! كانت تريد مني أن آخذها بعد أن أدركت أن ولي الأمر لن يقبلها، إلا أنني قلت لها لن أفعل هذا، فلن تكون رغبة شوقي أفندي أن أقوم بذلك…’

‘كان شوقي أفندي منهمكًا طيلة اليوم في طباعة مخطوطته لكتاب “القرن البديع” على الآلة الطابعة، ثم أقرأ أنا النسخة المطبوعة قبل إرسالها بالبريد إلى هورِس (هورِس هولي سكرتير المحفل الروحاني المركزي الأمريكي) للتأكد من أن آخر الأخطاء قد صُحّحت، وأقضي مع حضرته ساعات في قراءة النسخة الأصلية وتصويب الصفحات ووضع العلامات النُّطقية، التي يبدو لا نهاية لها. [لكيفية لفظ الحروف والكلمات العربية بالإنكليزية].

‘حتى إنني لم أسجل أن والدي قد أعدّ تصميمًا للمقام الأعلى لحضرة الباب بناء على طلب ولي الأمر. واليوم فإن ما يشبه المآذن أو الأبراج (التي اقترحها ولي الأمر) قد نالت موافقة حضرته، وأن على والدي أن يمضي قُدُمًا ويضع التفاصيل، وأنه يمكن الكشف عن التصميم النهائي أو عرضه في عيد القرن المجيد مدعّمًا بمجسّم للبناء. ذلك المجسّم سيكون الامتحان الحاسم – فإذا ما أحبّه ولي الأمر فسوف يعلن للعالم البهائي عن الخطة!

‘يبدو أنها مِنْحة غاية في الروعة، بكل ما في الكلمة من معنى، أن يحظى والدي بهذه البركة التي لا تُقَدّر بثمن لتصميمه المقام الأعلى لحضرة الباب. فإذا ما نجح في مهمته فذلك من خالص فضل الله وإحسانه، وإذا لم يكن له هذا فلن نُفاجأ أو نُذهل لأنه قد سبق وشملتنا البركات من جميع النواحي بشكل يفوق بكثير ما تمتعنا به من حُلْوٍ في حياتنا كعائلة!’

5/ 7/ 1944 ’شوقي أفندي بفطرته كان الإداري والباني بامتياز، وهما أمران نحن في أمسّ الحاجة إليهما في هذا الوقت بالذات. ما أضْيَقَ نظرة الإنسان للأمور إذا ما قورنت بالخطة الإلهية! أعتقد أننا إذا حمدْنا الله وشكرناه مليون سنة صباحًا وظهرًا ومساءً، فلن نتخطّى حرف (الحاء) من الحمد! ومع ذلك لا زالت بصائرنا عاجزة تمامًا عن إدراك ما نحن فيه من نِعَم وآلاء!’

24/ 7/ 1944 ’لا يستطيع شوقي أفندي أن يتحمّل المزيد. أنا في غاية القلق عليه… إنهم يرهقونه ويُنْهِكون قُواه. كان اليوم في حالة من الاضطراب شديدة حتى إنه بكى. لا أستطيع أن أكتب عما حصل. لا أستطيع أن أتحمّله! أتعجّب كيف لله أن يتحمّل رؤيته هكذا.’

18/ 12/ 1944 ’هذه بالتأكيد هي السنوات العصيبة. لا أعتقد أن شوقي أفندي سوف يواجه على الإطلاق أزمة ثانية كهذه طيلة حياته (نفور وعداء العائلة والجامعة المحلية والخُدَام). أتمنى ألا يكون ذلك! أَعْجَبُ كيف يُتَوَقَّعُ لصحته وأعصابه أن تجتاز هذه المحنة!’

30/ 1/ 1945 ’أنا لا أستطيع الدخول في التفاصيل الآن، إلا أنه لزام عليّ أن أقول بأن عدد المغفّلين غير الأكفاء – إن لم يكن الأنذال – الذين هم حول شوقي أفندي كم هو مروّع. إنه يعاني الكثير والكثير. ينام خمس أو ست ساعات فقط في الليل. فلو كان بمقدوري أن أقلق أكثر لفعلت…’

27/ 2/ 1945 ’أشعر يقينًا أن أمواج المدّ ستنحسر، ولكن يا للحسرة، لن نجد شوقي أفندي يعود كما كان أبدًا أبدًا! لا أعتقد أن أي شيء في هذا العالم بمقدوره أن يمحو آثار ما فَعَلتْ به هذه السنوات الأخيرة! فالزمن أعظم شاف للجِراح، إلا أنه لا يستطيع إزالة الندوب.’

13/ 4/ 1945 ’كلما أردتُ أن أتأكّد من مدى ولاء شخص بهائي لحضرته (شوقي أفندي) أنظر حولي لأرى مَن يبغضه – فإذا كان مكروهًا تمامًا من العائلة أتأكّد حقًا أنه جوهر الولاء لولي أمر الله!’

6/ 7/ 1945 ’ذهب علي أصغر إلى المستشفى… لقد تدهورتْ حالته الصحية في الأيام الثلاثة أو الأربعة الأخيرة بشكل رهيب… كل هذا مرهِق للغاية. ولكن لا آبَهُ لشيء سوى لهذه اللطمة الشديدة التي ستصيب ولي الأمر… إنهم لا يموتون، ولا أولئك الكُثْرُ الآخرون من الأعداء البائسين عديمي النفْع – فقط علي أصغر. وكما قال شوقي أفندي الشخص ‘الأغلى’ عنده! ولكن الله سوف يكون في عونه. سوف يكون، سوف يكون، أعلم أنه سوف يكون. سوف يرفعه إليه بهالة من مجد – وكنت أفكّر في الليلة الماضية بأنه بعد ذلك كله فإن قطرة واحدة من محبة الله يمكنها أن تعوِّض المرء عن ألف سنة من الألم… ذهب شوقي أفندي لرؤيته بينما كنتُ هناك هذا اليوم. يخطط حضرته الآن في جعل جنازته على أفضل ما يكون، لأنها رغبته (شوقي أفندي)، ولأن الأعداء يجب أن يروها هكذا. إلا أن هذا الأمر برمّته كان صعبًا جدًا، صعبًا عليه للغاية… قال شوقي أفندي “كل ما تبقّى لي هو أنتِ ووالدكِ وعلي أصغر، والآن يأخذ اللهُ علي أصغر!” ’

8/ 7/ 1945 ’توجّهتُ إلى المستشفى في الساعة الرابعة بعد الظهر وبقيتُ فيها حتى الثامنة مساءً. طلب مني شوقي أفندي أن أُخبر عليّ أصغر بأن حضرته قد حرّر برقية عنه ليرسلها إلى الأحباء في إيران ويصفه فيها بأنه “أسد أجَمَة محبة الله”، معدِّدًا كل خدماته الطويلة… إلخ. وعندما ذكرتُ ذلك لعلي أصغر – الذي كان واعيًا تمامًا رغم ضعفه الشديد – ارتسم على وجهه طيفُ ابتسامةٍ مشرقة بالسعادة… أخبرتُه بأنه دخل الجنة قبل أن يغادر هذا العالم – جنة محبة ولي أمر الله، جنة الرضا والثناء. ظلّ صامتًا بعض الوقت (إلا من بعض دلالات التقدير يتمتم بها)، وبعدها أدرك بوضوح تام أن تلك البرقية تعني في الحقيقة أنه سوف يموت. عندها استجمع قواه وتمتم بأن الكتاب الذي طلبه… والذي أراده… تقدِمَةً منه لشوقي أفندي. وعندما عدتُ وأخبرتُ ولي الأمر بكل شيء عن علي أصغر وكيف أنه أراد أن يكون الكتاب مجلّدًا لتقديمه لحضرته، اغرورقت عيناه بالدموع! مسكين شوقي أفندي المحبوب فهو الإنسان الأكثر تأذّيًا على وجه الأرض! يجدر بكل واحد أن يبتهج من أجل علي أصغر – مات كملك. واليوم أخبر حضرتُه إماءَ الرحمن – اللائي دعاهنّ إلى قاعة الاستقبال – بأن علي أصغر قد خدم على شأن جعل زائري الأرض الأقدس في النهاية يكتبون إليه ويمهرون رسائلهم بتوقيعهم (خدّام خادم البيت)! وقال حضرته بأنه كان مثالاً لمنطوق كلمات “لوح أحمد” – ‘كشعلة النار لأعدائي وكوثر البقاء لأحبائي.’[3] وبينما كان حضرته يهمّ بالمغادرة قال “هو الآن في الملأ الأعلى يعاشر أهله!” حسنًا، ما الذي يريده الإنسان من الحياة أكثر من هذا؟ وبعد الظهر توجّه حضرته إلى المقام الأعلى، وبعد أن أتمّ زيارته طلب من ـــــــــــــــــــ أن يجمع كل الورود المنثورة على العتبتين المقدستين ويأتيه بها، ثم دخل لوحده إلى حيث يرقد علي أصغر وعطّر جسده بزجاجتين من عِطر الورد ووضع الزهور على جثمانه – وبكى من أجله – ماذا يريد أي إنسان من هذا العالم أكثر من هذا! … أخبرني شوقي أفندي بشيء مؤثّر جدًا عندما عاد في الليلة الماضية. ذلك أنه عندما كان لوحده في الغرفة أمام جثمان علي أصغر تذكّر “كيف خدمني ذلك الرجل!” لدرجة… اقترب منه وكشف عنه الغطاء ونظر إليه وكان يريد أن يقول “علي أصغر استيقظ، قم!” لأنه بدا طبيعيًا جدًا كأنه لم يمت…’

11/ 7/ 1945 ’بلغت الجنازة حدّ الكمال. تكلم شوقي أفندي عنه، ثم أمر بإحضار التابوت إلى الغرفة العليا من دار ضيافة المسافرين حيث كان يجلس حضرته. ثم وقف ووقف الجميع لصلاة الميت، وبعدها رش حضرته عطر الورد على التابوت ثم رفعَه مع الجميع وتبعه إلى الباب وأعطى تعليماته مُحَدِّدًا مَن سيستقلّ أول سيارتَيْ الأجرة… وساروا جميعًا في موكب جنائزي ضم خمسًا وعشرين سيارة… ثم غادر الجميع بينما زار شوقي أفندي المقام الأعلى وأمر – بجمع كل الزهور الموضوعة على العتبات المقدسة وأخذها إلى حيث القبر… هنيئًا لعلي أصغر، فلا بد أنه في السماء السابعة – كل واحد يتنهّد، والجميع يتَمَنَّوْن أن يكونوا علي أصغر! – بمن فيهم أنا.’

14/ 7/ 1945 ’شوقي أفندي الآن مريض يعاني من عسر الهضم، ويمكنني القول إنه بسبب إرهاقه الشديد وتوتّر أعصابه، وليست هي المرة الأولى أيضًا. والعجيب في الأمر أنه لا زال على قيد الحياة… لقد أصابته الحمّى الآن – أدعو الله ألا يكون الأمر خطيرًا… قستُ حرارته للتوِّ – فكانت 5/ 3 103 درجة فهرنهايت! [40˚م تقريبًا].’

15/ 7/ 1945 ’لقد خارت قواي من المخاوف التي أخبرني بها الطبيب ـــــــــــــــــــ! قال لي الآن بأن الحالة يمكن أن تكون التهابًا بالزائدة الدودية والدسنطاريا. أتخيّلُ منظرنا ونحن نندفع بسرعة جنونية في سيارة الإسعاف المتّجهة إلى القدس مع شوقي أفندي ووالدي (لم يكن في حيفا وقتها طبيبٌ جرّاحٌ تطمئن له وتعهد إليه بهذا المريض العزيز الغالي) – ولكن لا أصدّق أن الأمر قد يصل إلى هذا الحدّ… علينا بالإسراع، لا شيء غير الإسراع. أما عن القلق، أشعر أن تفكيري قد شُلّ تمامًا! … أقيس حرارته مرة كل ساعة. إنه في غاية اللطف – ما هي جريمته حتى يُعامَل على هذا النحو ممن حوله! … حمدًا لله، لا أعتقد أنه مصاب بالتهاب الزائدة أو أنه سوف يُصاب بها…’

17/ 7/ 1945 ’تحسّنت صحته ولكن آه، إنه في غاية التوتّر والإرهاق…’

20/ 7/ 1945 ’لم أكن أتمنّى حتى للشيطان ما يقاسيه شوقي أفندي وأنا من معاناة؛ معاناة لا أستطيع وصفها إطلاقًا – معاناة ذهنية، وضاغطة على الأعصاب… وحيدًا… يعمل، ويعمل، ويعمل طيلة اليوم. شراء أراضٍ، مشاكل، رسائل، استفسارات، نزوع للأذى، نوايا سيّئة، شك وارتياب، وهكذا إلى ما لا نهاية.’

11/ 4/ 1946 ’طلب شوقي أفندي من والدي أن يضع خطط المرحلة الأولى لبناء المقام الأعلى قيد التنفيذ – الشكر لله.’

20/ 4/ 1946 ’… كل هذا كثير جدًا على ولي الأمر… ومع ذلك فقد فرِغ لتوّه من كتابة برقية في غاية الروعة موجّهة لمؤتمر الوكلاء المركزي متضمّنة خطة السنوات السبع الجديدة، وباشر بمشروع بناء المقام الأعلى، إلا أنه يعاني الكثير، الكثير جدًا.’

25/ 5/ 1946 ’شوقي أفندي وأنا، لم يبق لنا أحد على قيد الحياة سوى والدي، (واثنين من الأحباء الأوفياء أحدهما في الثمانين من عمره تقريبًا)، إنه كل شيء ويفعل كل شيء: يتابع جميع المعاملات المصرفية، ويضع جميع الرسائل بالبريد، ويرسل جميع البرقيات، ويقوم بكل المهامّ ذات الطبيعة الخاصة – الحصول على تأشيرات السفر، مراجعة الدوائر الحكومية وكذلك البلدية… إلخ – واستشارات فنية وتصاميم معمارية… إلخ. كل هذا وهو في الحادية والسبعين من عمره. هو الآن يقوم بما كان يقوم به علي أصغر ورياض وحسين. لا يشكو أبدًا… كنتُ وشوقي أفندي نتكلم معًا عن خططنا، ثم قال لي بأنه يجب أن نغادر… بدا لي أمرًا صعبًا للغاية أن أترك والدي ثانية وهو عجوز مُرهَق يواجه كل هذا العمل الخاص بأمر الله دون راحة أو فسحة هدوء. إلا أنني عندما تكلمتُ اليوم مع والدي حول الموضوع كان رائعًا في ردّه إذ قال إن بإمكانه أن يتدبّر كل شيء ولا داعي للقلق عليه، وأن كل شيء سوف يكون على ما يُرام. لا أستطيع أن أعبّر عن موقفه بكلمات كوني مُتْعبة للغاية (بكيت بكاءً شديدًا ثلاث مرات في هذا اليوم). كم هي رائعة روحه، متواضع للغاية، وفوق ذلك في غاية النُّبْل والبسالة.’

18/ 7/ 1947 ’وصلت غلاديس أندرسون[4] في الثلاثين من مارس/ آذار… وهي تقوم الآن بجميع أعمال والدي. أَحْمَدُ الله! … تُنجز المعاملات المصرفية، ترسل الرسائل والبرقيات، تقوم ببعض المهامّ، وتقابل الناس… في نهاية إبريل/ نيسان سافر والدي إلى قبرص في إجازة –
أول إجازة له خلال سبع سنوات – وأمضى هناك ستة أسابيع كانت مفيدة له للغاية، وهو الآن يباشر العمل في المخططات التنفيذية للمقام الأعلى لحضرة الباب.’

12/ 2/ 1948 (من رسالة لروحية رباني) اعتدتُ أن يكون متيسّرًا لي حضور شخص يهودي يتقن لغة الاختزال من أجل مساعدتي، أما الآن فليس ليهودي أن يأتي إلى هذا الشارع إن كان باستطاعته تفادي ذلك لكونه يقع في الجزء العربي من المدينة. ذلك أن الشارع يقع في المستعمرة الألمانية القديمة، ومعظم السكان في الحي الذي نسكنه هم من العرب والإنكليز. قد يبدو لكم أمرًا لا يُصدّق عندما تفكّرون بأننا نعيش في شارع قد يُقتَلُ الرجل فيه بدم بارد، فقط لمروره فيه. لكن تلك هي فلسطين اليوم. بالطبع هناك قِلّة من الجريئين الذين يؤمنون بالقضاء والقَدَر فيجرّبون حظهم ويأتون مندفعين [بسيارتهم] بسرعة تسعين ميلاً في الساعة [146 كيلومترًا] وهم ينحدرون إلى أسفل الشارع، إلا أنهم يُعتبرون متهوِّرين حمقى، وهو أقل ما يمكن قوله.

‘الحالة برمّتها مأساوية للغاية، والأسوأ من كل ذلك طريقة تكييف الإنسان عقلَه وفكرَه لمثل هذا الجو. فبينما كان في السابق إطلاق رصاصة واحدة من شأنه أن يجعل دمك يتجمّد في عروقك ويملأك سخطًا، إلا أن تكرار ذلك باستمرار سرعان ما يجعلك تعتاد عليه وتلعن فاعله أيًّا كان، وتلعن الطرف الآخر لأجل الإنصاف، ثم تمضي لتواصل عملك. وفيما بعد تسمع مَن ذا الذي أصابته تلك الطلقات وكيف. إنه أمر يثير الاشمئزاز حقًا، ومقرف بشكل لا يوصف، أن يُترك وضع كهذا ينشأ في الأرض الأقدس ويُسمح له أن يتطور من خلال المكائد والإهمال…

‘أصبح الغضب الشديد انفعالي الرئيس في هذه الأيام. فالقتل المُتَعَمَّد العبثى يغيظني. معظم الناس لا يريدون أكثر من أن يُترَكوا وشأنهم. فالمتعطشون للدماء هم الاستثنائيون الشاذّون، وليسوا هم القاعدة، إلا أنهم يا للحسرة متواجدون. فلماذا لا يُطلِق أحد النارَ عليهم؟ إنهم من وجهة نظري دائمًا ما يطلقون النار على الناس الخطأ في كل قتالهم.’

1/ 3/ 1948 ’يباع السلاح في الأحياء العربية في العَلَن. فالبهائيون هنا وفي عكاء ومن طبريا، إلخ، كلهم يشهدون بذلك… قال حسن إنه بينما كان يجلس مع ابن عمه محمد في المقهى بطبريا رَأَيا صبيًا يتجوّل ويصيح “قنبلة يدوية، قنبلة يدوية للبيع!” لم يستطع حسن أن يصدّق أذنيه، فنادى على الصبي وسأله عمّا يبيع؟ فأجابه “قنابل”، وكان يحمل على ظهره كيسًا أنزله على الأرض بكل لطف وأفرغ ما فيه – كومة من قنابل يدوية (قنابل الميلز). سأله حسن كم سعر الواحدة؟ أجابه البائع المتجول: خمسة وسبعون قرشًا. لا حاجة بي إلى القول بأن حسن لم يشترِ… وقبل بضعة أيام نظرتُ من شباك غرفة نومي لأرى رجلاً يحمل مسدسًا وحوله مجموعة من العرب. أراد أن يتأكد من صلاحية المسدس فجاء إلى هنا، إلى حائط حديقتنا، وأطلق عليه رصاصتين، ثم انطلق نحو البلدة ربما ليقوم بدوره في القتل.’

11/ 4/ 1948 ’غادر والدي والسيد بِنْ ويدن[5] (زوج السيدة غلاديس أندرسون)، إلى تل أبيب بسيارة أجرة مصفّحة! كان من المفروض أن يسافرا بالطائرة في الثالث عشر من هذا الشهر من مطار اللُّد إلى روما للتوقيع على عقودٍ لشراء أعمدة للمقام الأعلى مع الزخارف إن أمكن.

‘سوف تأتي الآن غلاديس وتنام في هذا المنزل… وبذلك تكون قريبة منا لأن إطلاق النار أصبح كثيفًا جدًا ومن الصعب عليها أن تبقى في الليل وحدها في دار ضيافة المسافرين… إلى جانب خطورة عبور الشارع ذهابًا وإيابًا لأي أحد بعد أن يحلّ الظلام… أخبَرْنا بِنْ أننا سنُحضرها إلى هنا فلا داعي للقلق عليها.’

21/ 4/ 1948 ’لم نستطع زيارة البهجة واكتفينا بزيارة المقام الأعلى هنا نظرًا للظروف. بعد ذلك أصبح من غير الممكن للسيارة أن تصعد إلى الحدائق أو تغادرها بسبب إطلاق النار في الشارع على الأرجح ولكونه أصبح مغلقًا. ولذلك نزل شوقي أفندي الدرجات القريبة من الحدائق عائدًا إلى البيت، وهكذا فعَلنا أنا وغلاديس.’

23/ 4/ 1948 ’بما أنني مرهقة لدرجة الموت، فسوف أختصر… أخبار معركة حيفا تناولتها وسائل الإعلام بشكل جيد في كل مكان على ما أظن، لذا سأكتب فقط عما يجري معي في ليلي ونهاري. المعركة بحدّ ذاتها كانت حربًا حقيقية ومتواصلة. تلك الليلة بالنسبة لي كانت كمن ينام في قعر بركة راكدة وشخص ما يحرّكها بصورة مستمرة. كنت مرهقة للغاية وأغطّ في النوم أحيانًا، فيختلط الحلم بإطلاق النار وانفجار القنابل لتصبح كلها مزيجًا واحدًا مخدِّرًا أسوأ تقريبًا من النوم أو اليقظة نفسها. في كل هذه الأيام كان شوقي أفنـدي منزعجًا للغاية من أ ــــــــــــــــ ومن م ـــــــــــــــ وبشأن مشاكل أخرى.’

25/ 4/ 1948 ’لا زلت أحاول الوصول إلى النقطة الرئيسة في هذه المذكرة: في الثالث والعشرين من هذا الشهر، بعد يوم على معركة حيفا، اتصل بي د. واينشال[6] بالهاتف، وهو محامي ولي الأمر، ليسألني عن أحوالنا فقلت إننا جميعًا بخير ونبقى في البيت. فقال، “أتمنى ألا تكون لديكم نيّة المغادرة.” فقلت بالطبع لا، لا نيّة لنا في المغادرة، ولماذا يجب أن نغادر؟ فقال،”لا سبب لذلك على الإطلاق”، وكان سعيدًا لسماع هذا. ثم قلتُ له بأننا نعرف اليهود وهم يعرفوننا وليس لدينا ما نخشاه منهم. فقال إنه أمر حقيقي وأنّ الكلَّ يكِنّون لنا بالغ الاحترام. وسأل أيضًا إذا كان أي من خدامنا سيغادر فقلت لا، بالطبع لا. وبعد أن تبادلنا معًا قليلاً من الأفكار عن مدى حمق حشود العرب الذين نزحوا جماعيًا، طلب مني أن أنقل أرقّ تحياته لشوقي أفندي. وعندما سمع ولي الأمر بهذا طلب مني أن أذهب لأشكره وأُخبره بأن حضرته يريده أن يكون على علم بموضوع لمعلوماته الخاصة، وعندها ذهبتُ وأخبرتُه بزواج منيب من ابنة جمال الحسيني، إلخ، وكيف أنه قد طُرد علنًا من حظيرة الأمر المبارك لهذا السبب …إلخ. أبدى دهشته الشديدة ودوّن اسمه واسم حسن. كما أخبرته أيضًا عن طرد روحي، وأن السبب الحقيقي وراء ذلك، كونه قد يستغرب وجود هذا الخلاف والنزاع في عائلتنا، ليس دينيًا فقط بل يرجع أساسًا إلى اشتغاله بأمور سياسية، وهلم جرّا. وأخبرته (في محادثة جرت يوم أمس) أننا سنزوّده بنص البرقية التي أرسلها له ولي الأمر للاطلاع عليها…

‘هاتَفْتُ اليوم المحامي واينشال ثانية وأخبرته بأننا نريد أن نعطيه أسماء أولئك الأشخاص الذين قد يدّعون بأنهم بهائيون وهم ليسوا كذلك، وأخبرته بأن شوقي أفندي مستاء جدًا بالطبع من الذين فُصلوا من جامعتنا البهائية منذ عشر سنوات أو خمس عشرة سنة… ويسعَوْن الآن إلى إقامة علاقات طيبة مع اليهود بدعوى أنهم بهائيون، بينما نحن أنفسنا لا نعلم عن سلوكهم شيئًا طيلة هذه السنين.’

27/ 4/ 1948 ’مررنا يوم أمس بلحظة من هياج جنوني عندما أسرعت الخادمة فجأة إلى الأعلى وقرعت الباب ثم قالت بأن عناصر من الهاغانا[7] يريدون الدخول. كنتُ في ملابسي لحسن الحظ… فنزلتُ إلى الأسفل بأسرع ما أستطيع لأنه يبدو أن خادمتنا الساذجة قد ذهبت أولاً… إلى الباب، وعندما رأت عصابة من اليهود المدجّجين ببنادق رشاشة ومسدسات كادت تصاب بنوبة هلع. فركضتْ مُسرعة إلى الداخل لتنادي بانو. حضَرَتْ بانو وسمِعَت اليهود يصيحون “افتحوا الباب”، عندها أجابتهم بأنها يجب أن تُعْلِم سيدة المنزل، وفي الوقت نفسه هرعتْ للبحث عن السيد ب ــــــــــــــ فلم تجده، فأسرعت إليّ تدعوني. سَمِعَتِ القادمين يصيحون: إذا لم تفتحوا الباب سنكسره وندخل! في تلك اللحظة الحاسمة وصلتُ وسمحتُ لهم فورًا بالدخول. كانوا خمسة شبان. سألتُهم إذا كانوا يتكلمون الإنكليزية فأجابني أحدهم بأنه يتكلمها قليلاً. فسألته إذا كان يعرف صاحب هذا المنزل فهو رئيس الجامعة البهائية. أجابني “نعم”، إلا أنني أعتقد بشكلٍ ما أنهم لا يعرفون، وأن ما دفعهم للمجيء كان أحد أمرين: إما لأنه قبل وقت قصير توقّفَتْ لبرهة أمام منزلنا شاحنة محمّلة برجال عرب فظنّوا أننا نُؤوي بعضهم، أو لسبب يتعلق بسيارتنا، لأن أحد أسئلتهم الأولى كان: “لمَن تعود السيارة الموجودة في المرآب؟” ولما أخبرتهم بصاحبها بدا عليهم الارتياح. وقد تبّين أن أحدهم يتكلم الفارسية لأن أمّه، كما قال، إيرانية ولو أنه من “أورشليم القدس”، فحادثته بالفارسية طوال الوقت. لم يكونوا جادّين في تفتيش المنزل. كانوا مهذّبين جدًا ومؤدَّبين. في أول الأمر قالوا: لا تخافي فأجبتهم بالتأكيد لست خائفة! تلفّتوا حولهم سريعًا متفحّصين، ورفضوا أن ينزلوا إلى الأسفل أو يدخلوا المطبخ… إلخ، ثم غادروا…

‘اعتدنا، غلاديس وأنا، أن نذهب إلى الحي اليهودي ونعود باستمرار، ودام هذا أشهُرًا في الأوقات الجيدة والعصيبة على السواء. أعتقد أن هذا كان تصرُّفًا منا في غاية الحكمة، مع أنه، عندما أصبح جميع العرب يقتنصون اليهود، ولدينا حراسنا الخصوصيون من العرب وفي هذا الشارع بالذات، فقد غدا من قبيل المجازفة أن نفعل الشيء ذاته، ومع هذا كنا نذهب ولكن بدرجة أقل عمّا في السابق، ولكننا ذهبنا؛ مما جعَلَنا نبدو للكثير من اليهود الذين يعرفوننا أننا لسنا من الأصدقاء الذين تأخذهم الريح فيقفون بعيدًا في اللحظات الحرجة. دأب الحراس اليهود على تفتيش سيارتنا في كل مرة، ولمن لا يعرفنا منهم كنا نضطر في أغلب الأحيان أن نُريهم جوازات سفرنا الأمريكية. ما حدث بالفعل في أحد أيام الأسبوع الماضي أنه بينما كنا عائدين من الحي اليهودي، خفّفنا سرعة السيارة عند حاجز التفتيش وإذا بسيارة يهودية تتجاوزنا بسرعة وأخذ من فيها يتكلمون مع الحراس. لم يكن بمقدورنا المرور كما أن السيارة لم تتحرك، لذا سألت الحارس عما إذا كان بمقدورهم التقدم. بدا عليه الحرج وأجابني بأنهم يقولون إنهم رأوا شخصًا عربيًا يقود سيارتنا. فقلت “هذا صحيح وهل تعلم سيارة مَن تكون؟ إنها تعود لصاحبها شوقي أفندي رئيس الدين البهائي ولدينا سائق عربي يعمل عندنا ويحضر بعد ظهر كل يوم ليقود السيارة بحضرته صعودًا إلى الحدائق ثم يعود به إلى البيت، وبخلاف ذلك نقودها بأنفسنا دائمًا. فإذا ما راقبت، سوف ترى خلال ربع ساعة هذه السيارة بعينها تقطع الطريق صعودًا إلى الجبل لأخذ حضرته ويقودها سائق عربي.” ولما كانت تلك هي الحقيقة بدا لي أنه أدرك الوضع على هذا النحو ولم نواجِه مزيدًا من المتاعب…

‘أخبرني السيد ب ـــــــــــ بشيء مضحك: سألتُه عما إذا كان جيراننا العرب في الحي سيغادرون… فقال إنهم يسألونني كل يوم “هل شوقي أفندي سيغادر؟” ويقولون بأنهم سيغادرون إن هو غادر. ثم قال بأن رجلَ الأَمْن الفلسطيني الذي يقيم الآن في منزل عائلة ك ـــــــــــــــــ سأل صاحبَ المنزل متى عليه أن يرحل فأجابه: متى رأيتَ شوقي أفندي يرحل فضعْ سترتك عليك واقفل الباب واتبعه! فقال له الرجل أيضًا… “إذا لم تخبرني بأن شوقي أفندي يخطط للمغادرة وغادر بالفعل، فستكون أنت مسؤولاً عن حياتي.” فهذا الاعتبار والاحترام المفاجئ الذي أبداه لنا جيراننا من أهل الحي بعد خمس وعشرين سنة مِن تجاهُلِهم أمر الله ووليّه لهو أمر على الأرجح عجيب ومُضحك!’

4/ 5/ 1948 ’اليوم سُرقت السيارة! (وهي هدية من روي ويلهلم لشوقي أفندي حيث كان ولي الأمر دون سيارة عدة سنوات لأنه باع سيارته القديمة خلال الحرب لعدم توفر قطع الغيار لها). يا إلهي يا له من يوم! في الساعة الثانية والنصف بينما كنت والسيدة غلاديس جالستيْن نرتشف القهوة في فترة الغداء، جاءت الفتاة لتقول بأن يهوديًا على الباب. ذهبت غلاديس لتستطلع ما يريد، واختصارًا للقصة كان الرجل رئيس حرس الهاغانا المحلي ويُدعى السيد فريدمان ومعه حوالي عشرين مسلّحًا، وقد أفاد بأن حارس الشارع من الهاغانا قد استدعاهم (حارسان كانا يداومان في شارعنا). كان الحارس قد رأى خمسة مسلّحين يحومون حول باب المرآب الخاص بنا، وعندما أشهر مسدسه عليهم طالبًا منهم أن يذهبوا في طريقهم، رفعوا عليه أسلحتهم وطلبوا منه أن يبتعد بسرعة. ولما كانوا خمسة ضد واحد، ابتعد الحارس ثم طلب النجدة. كان المسلّحون الخمسة في سيارة جيب، وما إن حضرت النجدة حتى اختفوا. ومع أن قفل باب المرآب قد قُطع بمنشار إلا أن الباب كان مغلقًا من الداخل ولذلك ظنوا أن السيارة لا تزال موجودة. نظرتُ من فتحة المفتاح ويا لهول ما رأيت! كان المرآب فارغًا وسيارة البويك قد اختفت! أسرعت غلاديس المسكينة إلى الباب الصغير في الخلف فلم تجد البويك بالفعل! لمّح حارس الهاغانا أن اليهود أخذوها (أو الإنكليز) ولم يقلها بصراحة. قام فريدمان بإعلام الهاغانا بذلك، كما قامت غلاديس ومنصور بإعلام الجيش ومركز شرطة شارع ستانتون. تكلمتُ بالهاتف مع د. واينشال حول الحادث ونصَحَنا أن نرجع إلى مركز الأمن في هدار هاكرمل[8]. بدا شوقي أفندي أكثر الجميع هدوءًا واكتفى بالقول “كم سيُفرِح هذا أعدائي!” في الواقع لا أظن أن أحدًا منا كان يأمل في أن يرى السيارة ثانية – ولكن كم كان محزنًا أن نجد سيارتنا البويك الكبيرة الجميلة، والتي استلمناها حديثًا بعد طول انتظار، قد اختفت! استطعت، بشيء من الصعوبة، أن أستأجر سيارة عمومية من شخص يهودي لاستعمال ولي الأمر. قال لي سائق السيارة: “إذا كان اليهود هم الذين أخذوا السيارة فستعاد اليكم.” ذهبتُ مع غلاديس إلى مركز الأمن وانتظرتُها في الخارج ريثما كتبت تقريرًا بذلك، وبعدها تركنا لواينشال أوصاف السيارة بناء على طلبه حتى يستطيع المساعدة، ثم أخَذَنا سائق سيارة الأجرة اللطيف إلى مركز آخر للهاغانا حيث قدّمنا لهم تقريرًا مرة أخرى بالحادث. بعد ذلك حدث شيء غريب! فبينما كنا في طريقنا نمشي عائدتيْن إلى البيت مرهقتيْن مُثْبطتيْن، لاحظَتْ غلاديس في واجهة محل لبيع موادّ التجميل في شارع هرتزل نوعًا من كريم اليدين سبق أن حاولتُ عدة مرات أن أجده. فكّرتُ أن لا داعي للاهتمام به الآن، إلا أنني قررتُ أخيرًا أن أشتريه فدخلنا المحل. كان صاحبه يعرفني ويعرف والدي منذ عدة سنوات. سألني عن والدي واستفسرتُ عن والده المسنّ أيضًا إلخ. لم يكن في نيّتي قول أي شيء عن موضوع السيارة لأنني كنت يائسة مُحبَطة، وبعد أن دفعتُ ثمن مشترياتي هممتُ بالخروج ونسيت أن آخذها. بدا ذلك عملاً غبيًّا لدرجة أنني اعتذرت له وقلت “إنني أشعر باستياء شديد لأن سيارتنا قد سُرقت للتوّ!” أجابني الرجل “ولكنني رأيتها اليوم في الساعة الثانية والربع بعد الظهر في مركز التجارة الجديد! واستغربتُ حينها كيف تبيعون سيارة جميلة وجديدة كهذه!” يبدو أن الرجل رآنا قبل يوم أنا وغلاديس نقودها مارّين أمام محلّه وتذكّر تلك السيارة تمامًا بلوحتها الأمريكية! وأضاف بأنه رأى يهودًا بداخلها ويقودها شخص يهودي، وكانت عند زاوية الطريق بالضبط على مقرُبة من فندق سافويْ[9]، ورجانا ألا نذكر اسمه كشاهد. ولكنني قلتُ له إن عدم ذكر اسمه لا يساعدنا، فتراجع بعد ذلك وسمح. وبالطبع اندفعنا بسرعة عائدين إلى مركز الشرطة وقدّمنا تقريرًا بما قاله، وعندما عدتُ إلى المنزل وجدتُ أن السيد فريدمان قد ترك لي رقم هاتفه، فاتصلتُ به وأخبرتُه بما جرى فقال: “هذا كل ما أحتاج معرفته، أعرف الآن أنهم جاؤوا بها إلى منطقتنا في المدينة وأستطيع أن أُمسك بهم!” وبعد وقت قصير اتصل مركز شرطة هدار هاكرمل قائلاً: “حدّدنا موقع سيارتكم وسوف تستلمونها غدًا فلا تقلقوا.” كما أن فريدمان أخبرنا هاتفيًا بالشيء ذاته. وفعلاً في الساعة الحادية عشرة صباحًا تقريبًا من اليوم الرابع من الشهر [مايو/ أيار] اتصل بنا فريدمان وقال بأنه سوف يأتي ليصطحب غلاديس لترجع بالسيارة. ذهبت غلاديس إلى مركز هدار وأحضرت السيارة. يا إلهي، كم كنا جميعًا سعداء! والشيء العجيب في الموضوع أننا ونحن في طريقنا إلى البيت، قبل دخولنا ذلك المحل، كنت أقول لن تعود السيارة إلا بمعجزة!

‘إلا أنه يبدو لي الآن أن الشباب اليهود الخمسة المسلحين (وقد كتبنا عنهم بشكل منفصل) الذين جاؤوا هنا بعد سقوط حيفا في أيدي اليهود مباشرة، والذين ادّعوا أنهم من رجال الهاغانا، وزملاءهم الشباب في سيارة الجيب (هذه السيارة تظهر دائمًا وأصبحت كما أظن تشكل حلقة الوصل) الذين وجدهم ب. ــــــــــــــــــــــ في إحدى الليالي يحاولون اقتحام المرآب، وأخبرهم وقتها بأنه سوف يفتحه لهم دون الحاجة إلى كسره، ودخلوا وداروا حول السيارة لمعاينتها وأخيرًا قال لهم “إذا كنتم تريدون أن تعرفوا كل شيء عن صاحب السيارة فتعالَوْا وتكلموا بالهاتف مع رؤسائكم ومع د. واينشال”، وبعد ذلك غادَروا بسرعة – على كل حال فإننا جميعًا على يقين الآن بأنهم كانوا دائمًا هم الرجال أنفسهم وعلى الأرجح من رجال إرغون زيفي لئومي[10] وليسوا من الهاغانا بكل تأكيد!’

14/ 5/ 1948–’في منتصف هذه الليلة تنتهي مدة الانتداب البريطاني على فلسطين! وتشتعل حرب، لا بل اشتعلت بالفعل. فماذا يا تُرى يخبّئ المستقبل؟ … من المفروض أن يعود والدي وبِنْ غدًا! أنا متعبة!’

15/ 5/ 1948 ’وصل والدي إلى المنزل! أسمعُ إطلاق نار كثيفًا على التلال الواقعة بين هنا والناقورة – الحدود اللبنانية. وكذلك الأمر يوم أمس، عندما سقطت عكاء بأيدي اليهود، سمعنا إطلاق نار كثيفًا. أما الآن فقد أصبح أزيز المدافع الرشاشة مسموعًا بوضوح طوال الوقت. فهي تذكّرني بالأيام التي احتلّ فيها البريطانيون لبنان أثناء الحرب – ووقتها فقط تأكّدنا أن المعركة ستكون بعيدة عنّا، أمّا الآن فمَنْ يدري؟ والمسافات في فلسطين قصيرة جدًا – عشرة أميال [16 كيلومترًا] يمكن أن تُغيّر مجرى المعركة بالكلية؛ نصرًا أو هزيمة…

‘استقبلت غلاديس والدي وبِنْ حيث وصلوا إلى البيت في الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر. لقد وصلا على متن الباخرة أرجنتينا[11] التي وصلت مساء أمس قبل موعدها المقرَّر بيومين لأنها تجاوزت التوقف في مدينتَيْ الإسكندرية وتل أبيب. كان نجاح رحلتهما رائعًا من جميع الوجوه. فكيف يمكن للمرء أن يكون شاكرًا ربه في كل حين على معجزاته وفيض رحمته؟’

3/ 7/ 1948 ’اليوم، كما قال شوقي أفندي لوالدي الذي جاء هذا المساء لمقابلة حضرته بعد العشاء: “حسنًا، إن القرار التاريخي للبدء في أعمال بناء المقام الأعلى قد اتُّخذ في الساعة العاشرة والربع ليلاً من هذا اليوم!” ثم صافحه! …

(حاشية) – الساعة الآن الحادية عشرة والنصف ليلاً أسمع صوت انفجارات على مسافة منّا. كان الله في عون هذا البلد المسكين!’

6/ 7/ 1948 شوقي أفندي يُساوره قلق شديد من أن الحرب يمكن أن تشتعل ثانية يوم الجمعة. يا له من توقُّع رهيب! إن أكبر تهديد هو ما يمكن أن يطال المرقد المبارك لحضرة بهاء الله كما أخبرنا شوقي أفندي أنا وبِنْ وغلاديس، والآن بما أن مجد الدين وشعاع بهائي يقيمان في قصر البهجة – فإذا ما جاء العرب ستكون العواقب واضحة للغاية – يا الله، أعباء كثيرة جدًا، ومشاكل جمّة… فلولا الإيمان أين يمكن لنا أن نكون؟

‘أثنى شوقي أفندي كثيرًا على والدي أمام بِنْ وغلاديس وقال بأن الجميع يحبونه وأنه صاحب قلب طاهر، وعلاوة على كل ذلك، اختاره حضرته لمؤهلاته كمهندس معماري.’

28/ 12/ 1948 ’أشعر بالإنهاك الشديد. يبدو أنه لم يتبقَّ لدي هذه السنة أي مقاومة من أجل الحياة… يبدو الأمر خطيرًا، وقد لا يكون كذلك. آمل ألا يكون، لأنه بالرغم مما أنا فيه من ضعف، لا زِلتُ لازمة هنا، وأظلّ أفْضَلَ من لا شيء…

‘في هذه الليلة وصَلَنا عرض شركة سوليل بونيه[12] لبناء الرواق المُقنطر بكلفة قدرها (18000) جنيه إسترليني. يا لَلهوْل! شوقي أفندي الآن في وضع مؤلم ومُحبَط؛ فالحجارة اللازمة موجودة وتأتي تباعًا؛ لقد اقتَلَع البلاط وصَبَّ الأساسات وجرّف مُنحَنى الجبل خلف المرقد المقدس! يقول حضرته بأنه لن يدفع أي مبلغ قريب من هذا السعر – آه يا عزيزي! مشاكل كثيرة جدًا وصعوبات. امنحني يا إلهي القوة لأن أخدم وأن تستمر أعصابي الضعيفة بالعمل ـــــــــــــــــــ.’

20/ 1/ 1949 ’سيكون هذا نوعًا من تدوين الأخبار بطريقة الاختزال: كان الطقس ممطرًا وعاصفًا – في الوقت الذي كان لدينا ثمانون صندوقًا لا زالت باقية في الميناء وعلينا رفعها وإحضارها إلى موقع المقام الأعلى. لا أستطيع النوم من صوت زخّات المطر. إنها توقظني لأنني أعلم أنها تؤخّر تقدم العمل… هكذا الأمر طيلة الوقت مشكلة تلو الأخرى. إن العمل في المقام الأعلى هذه السنة يدعونا جميعًا لأن نُسرع أكثر وأكثر.’

8/ 2/ 1948 ’في الثالثة صباحًا غرق الصندل[13] بكل ما عليه من حجارة تخصّنا! مجرّد حادث لطيف آخر! وعندما أخبرتُ شوقي أفندي بذلك أجابني “لم أعد أهتمّ أبدًا”. لقد أصبح معتادًا على مثل هذه الأمور ومنهكًا جدًا بسبب ما كان يواجهه من مشكلةٍ تلو الأخرى. كان هذا كل ما تبقى حسب مفهومنا. الطقس من جهة، وتعقيدات لا نهاية لها من جهة أخرى، والآن هذه! يقولون يمكنهم انتشالها – هذا ما أسمعه.’

11/ 2/ 1948 ’بسبب الحفريات الجارية خلف المقام الأعلى… إلخ، كان شوقي أفندي يصعد كل يوم تقريبًا إلى الحدائق ويقضي النهار بطوله ليدير العمل بنفسه للاقتصاد بالمصاريف.’

5/ 4/ 1949 ’قابلني شوقي أفندي مع غلاديس وبِنْ في غرفة الاستقبال كما كان يفعل أحيانًا عندما يجد متَّسعًا من الوقت. رأيت على معطفه مشحًا من الطين فسألته ماذا كان يفعل؟ أجابني “كنتُ في معركة مع الجنرال طين وكان هو المنتصر!” ثم شرح كيف أنه انزلق ثانية. كان المنحدر زَلِقًا للغاية بسبب المطر – انفجرنا بالضحك جميعًا.’

3/ 4/ 1952 ’أشكّ أن يكون لديّ الوقت والهمة لأستمر في تدوين اليوميات بعد الآن، وهو ما يدعو إلى الأسف كوني أرى وأعرف الكثير جدًا مما يجري في الداخل هنا…’

15/ 9/ 1955 ’أظن أن هناك عددًا من أنواع الجحيم بقدْر نفوس العباد، ولكن ليس الكثير منهم، كما أتمنّى، يعيشون في الجحيم الخاص بنا أنا وشوقي أفندي. فإذا ما سألني أحدهم أن أُعرِّف لهم الجحيم لقلتُ إنه بالرغم من وجود أنواع كثيرة جدًا منه فإنه من حيث المبدأ هناك قسمان: جحيم بلا مسؤولية وآخر بمسؤولية…’ (لأولئك الذين قد لا يتفهمون الاستعمال الإنكليزي لكلمة “جحيم” كما وردت هنا. فأعني بها الكرب الشديد والمعاناة الحارقة).

14/ 11/ 1955 ’تلقّى ولي الأمر خبرًا مفاده أن ورقاء قد توفى. فعلّق شوقي أفندي قائلاً: “كان ألطف وأفضل رجل لدينا.” وبالطبع كان حضرته يتوقع وفاته منذ مدة، إلا أنه يشعر بالخسارة لأن البهائيين العاملين الأكفاء قليلون جدًا.’

 

[1]       ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.

 

[2]       God Passes By.

 

[3]       نسائم الرحمن، الطبعة الرابعة مارس/ آذار 1993، صفحة 25.

 

[4]       Gladys Anderson.

 

[5]       Ben Weeden.

 

[6]       Dr. Weinshall.

[7]       Hagana.

[8]       Hadar Hacarmel.

[9]       Savoy Hotel.

[10]      Irgun Zvi Leumi.

[11]      S. S. Argentina.

[12]      Solel Boneh.

[13]      عبارة عن عوامة مسطحة القاع لتفريغ وتحميل السفن التي ترسو بعيدًا عن رصيف الميناء البحري.

الفصل التاسع سنوات الحرب

في مطالعتي لمذكراتي اليومية – التي اقتطفت عددًا قليلاً جدًا منها من مئات الصفحات التي كُتِبت على مرّ السنين بشكل متقطّع – يبدو لي غريبًا خلُوّها عمليًا من ذكر أو إشارة للحرب العالمية التي كانت مشتعلة في كل مكان على مدى ست سنوات تقريبًا وشكّلت تهديدًا رهيبًا لسلامة المركز العالمي للدين البهائي وخاصة لولي الأمر نفسه كرئيس للدّين. ذلك لأنه لا شيء يمكنه أن يشهد على هول الاضطرابات الداخلية التي كابدها حضرته خلال تلك السنوات أبلغ من خلو مذكراتي من الإشارة اليها. فالضغوط اليومية إلى جانب العمل، والقلق والإجهاد الفكري، كانت من الشدّة بحيث تجمّعت وطغت على أي ذكر لهذه التهديدات المستمرة وذلك الاضطراب السائد في الأجواء. كان شوقي أفندي المراقب الأدقّ للأحداث السياسية، وظلّ متتبّعًا كافةَ التطورات. إن ذكاء ولي الأمر وقدرته على التحليل لم يدعانه يَركِن إلى اطمئنانٍ زائف يستقرئه على الأرجح أناس ينقادون أحيانًا إلى أفكار صبيانية عما يعنيه “الإيمان”. فحضرته أدرك تمامًا أن الإيمان بالله والتوكل عليه لا يعني ألا يستعمل الإنسان عقله؛ فيقيّم الأخطار، ويحسب المتَوَقّع، ويتّخذ القرارات الصائبة في الأزمات.

لقد ترددتُ كثيرًا في الكتابة عن حياة شوقي أفندي الخاصة وهي على تلك الدرجة من طهارة الجانب، والمشحونة بالمحن إلى أبعد الحدود. إلا أن ما دفعني إلى ذلك أمران؛ أولهما ما لم يدرِك المرء ولو لمحة عما كابده حضرته كإنسان بمفرده، لن يتمكن من تقدير عظمة ما أنجز. وثانيهما إن أي شخصية مشهورة ستكون على مرّ القرون موضع بحث واستقصاء تاريخي مكثّف يمحّص التفاصيل، لذا فإن أمورًا كثيرة ستبرز في دائرة الضوء في سجلات جُمعت من هنا وهناك، فإن تعذّر وجود شاهد عيان يقوم على شرحها وتوضيحها، فمن الأرجح أن يُساء تفسيرها بالكامل، وتُحاك حولها كل أشكال الروايات السخيفة الملفّقة من نسج الخيال.

بعد وفاة والدتي المفاجئ في الأرجنتين في مارس/ آذار 1940، عندما دعا ولي الأمر والدي للحضور والإقامة معنا، قرر شوقي أفندي السفر إلى إنكلترا لأسباب خاصة به. ولأولئك الذين لم يكونوا في مسرح أحداث الحرب الأوروبية – الشرق أوسطية، من المستحيل تقريبًا أن ننقل إليهم صورة الصعاب اللامحدودة التي تحيط بسفرٍ كهذا في تلك الفترة العصيبة من التاريخ. فبالرغم من مكانة ولي الأمر ونفوذه، كان من المستحيل في واقع الأمر الحصول على تأشيرة الدخول إلى إنكلترا من قِبَل السلطات في فلسطين، ولذلك حُوِّل طلبنا إلى لندن. وناشد شوقي أفندي أيضًا صديقه القديم اللورد لمنغتون ببذل مساعيه الحميدة، بحكم مركزه واتصالاته، في ضمان صدور التأشيرة اللازمة. إلا أنه عندما أصبحت مغادرتنا إلى إنكلترا في الحال أمرًا ملحًّا للغاية، هذا إذا كان بالإمكان أن نصلها بالفعل، لم نكن عندها قد استلمنا بعدُ أي رد من السلطات في فلسطين، كما أن رد اللورد لمنغتون كان قد تأخر طويلاً. فقرّر شوقي أفندي، مدفوعًا بتلك القوى الخفية التي توجّه كافة قراراته، السفر إلى إيطاليا، لأنها البلد التي حصلنا على تأشيرة الدخول إليها. وهكذا غادرنا حيفا في 15 مايو/ أيار بطائرة مائية إيطالية صغيرة. كانت كريهة الرائحة، والماء يتسرّب إلى أرضيتها تحت ألواح الخشب التي نضع أرجلنا عليها وكأننا في قارب تجديف قديم. وصلنا روما بعد بضعة أيام، ثم توجّهتُ إلى جَنَوى حتى أقابل والدي الذي وصلها في آخر رحلة قامت بها باخرة نقل الركّاب س. س. رِكْس[1]. وحالما رجعتُ مع والدي أرسَلَنا شوقي أفندي إلى القنصلية البريطانية للاستفسار عن احتمال أن تكون تأشيرتنا قد حُوّلت إلى هنا من فلسطين، فلم نجد أخبارًا عنها، وأفادنا القنصل بأنه لا يملك أبدًا أي صلاحية في منحنا تأشيرة دخول لأن جميع الصلاحيات تصدر من لندن، وأنه أصبح في وضع لا يمكّنه من الاتصال بحكومته! عُدنا ونحن نحمل هذه الأخبار المحزنة لولي الأمر، إلا أنه عاد وأرسلنا ثانية. إنه وليّ الأمر وعلينا بالطبع إطاعته بكل بساطة. لم أعرف أنا ولا والدي ما يمكن فعله أكثر مما فعلناه، ومع ذلك وجدنا أنفسنا نجلس ثانية أمام القنصل لنكرّر الى حدٍ كبير ما قلناه في السابق باستثناء ما أضفته هذه المرة بأن شوقي أفندي هو ‘حفيد السير عبد البهاء عباس وخليفته.’[2] بالطبع كان قد سبق أن قلت للقنصل أن شوقي أفندي هو رئيس الدين البهائي… وغير ذلك. نظر القنصل إليّ وقال ‘أنا أتذكّر عبد البهاء’ وأخذ يكلمنا عن بعض اتصالاته التي جرت مع المولى المحبوب. كان واضحًا تأثُّرُه العميق في ما تذكّره، ثم تناول جوازات السفر الخاصة بنا وختمها بتأشيرة الدخول إلى إنكلترا وقال بأنه لا يملك الحق في ما فعله بأي شكل كان، وأن الختم لا يساوي قيمة الورق الذي وُضع عليه، إلا أن هذا أقصى ما يمكنه فعله، فإذا آثرنا محاولة الدخول إلى إنكلترا بهذه التأشيرة فإنه راجع إلينا، إلا أن إقدامنا على ذلك فيه مجازفة إذ قد يرفضون دخولنا. بهذا الوضع غادرنا فورًا إيطاليا إلى فرنسا مارّين بـ ”منتون”[3] في 25 مايو/ أيار متوجّهين إلى مرسيليا، وما هي إلا بضعة أيام حتى دخلتْ إيطاليا الحرب ضد الحلفاء.

من العسير أن تصف الفترة التي أعقبت ذلك؛ فالمشهد بمجمله كان أشبه بكابوس مضاء بضياء باهر – كابوس خاص بنا، وآخر عملاق تورّطت فيه أوروبا بأكملها. وبينما كان القطار يشق طريقه إلى باريس كنا نشاهد كل محطة وهي تغصّ بآلاف اللاجئين الفارّين أمام الانهيار السريع لجبهة الحلفاء في الشمال. لم تكن هناك من وسيلة للحصول على معلومات صحيحة. فوضى عارمة تموج. في باريس اكتشفنا ما سبّب لنا الهلع بأن جميع الموانئ إلى إنكلترا مغلقة وأن آخر أمل في الوصول إلى هناك – وهو أمل كان يخبو كل ساعة – أن ننزل الى ميناء سانت مالو[4] الصغير، ونرى إذا كان بالإمكان أن نستقلّ مركبًا من هناك. كان علينا، مع المئات الذين يحاولون الوصول إلى بيوتهم في إنكلترا، أن ننتظر أسبوعًا قبل أن ينجح أخيرًا مركبان في الوصول إلى ميناء سانت مالو. لم يسبق لي أبدًا أن رأيت ولي الأمر في ما كانت عليه حالُه في تلك الأيام. كان معظم الوقت يجلس هادئًا في سكون تامّ من الصباح حتى المساء دون حِراك كتمثال من حجر حتى أصبح لديّ انطباع بأنه كان يذوَى من شدّة المعاناة كشمعة تحترق إلى أن تذوب بالكليّة. كان يرسلني ووالدي مرتين في اليوم إلى شركة القوارب في الميناء لنستطلع أي خبر عن مركب، فنرجع في كل مرة قائلين ‘لا أخبار’. كان يبدو غريبًا للغير أن يُرى حضرته على هذا القدْر من القلق الشديد، إلا أن عقلاً كعقله كان يملك قدرة تفوق قدرتنا بكثير في إدراك الخطر المُحْدِق بالأمر المبارك في ذلك الوضع – ويعلم الله أنني كنت مريضة من شدة القلق أيضًا. فكنتُ ووالدي لا نزال نعيش صدمة موت والدتي المفاجئ بالنوبة القلبية، وبضمّ هذا إلى كل شيء آخر قد جعل والدي على أقل تقدير شبه مُخدّر. أما ولي الأمر فلم يكن كذلك؛ كان يدرك تمامًا أنه إذا ما وقع بأيدي النازيين الذين سبق وأن حَظَروا الدين البهائي في بلدهم، وما كانوا عليه من تعاون حميم مع مفتي الديار بالقدس – المنخرط بكل همّة ونشاط في العمل السياسي العربي وهو العدو المعروف لولي الأمر – فهناك احتمال كبير أن يُزَجَّ بحضرته في السجن إن لم يحدث الأسوأ، وبذلك يُترك الأمر المبارك نفسه بلا قائد ولا محفّز ولا هادٍ يقود العالم البهائي في وقت كهذا من الاضطراب والفوضى العالمية. يبدو لي أن الوضع مشابه تمامًا لما كانت عليه تلك الأيام في عكاء عندما كان المولى تحت خطر ترحيله إلى منفى جديد، وكان هو أيضًا ينتظر خبرًا عن وصول مركب. وأخيرًا صعدنا إلى أول المركبيْن اللذيْن وصلا في ليلة الثاني من يونيو/ حزيران لإجلاء أولئك الذين تقطّعت بهم السبل عند شاطئ سانت مالو، ومنها أبحرنا في ليل دامس إلى ساوثامبتون[5] حيث وصلناها في صبيحة اليوم التالي. وفي اليوم الذي تلا مغادرتنا سانت مالو دخلها الألمان على ما أذكر.

وكما واجهتنا الصعوبات في دخولنا إنكلترا كذلك الأمر كان في خروجنا منها. فقد صادف أن كان وقت ‘إخلاء الأطفال’ الكبير وكانت له الأولوية القُصوى. ويرجع الأمر فقط إلى مكانة شوقي أفندي، والصداقة التي كانت تربط والدي بذاك الرجل الذي كان وقتها المندوب السامي لكندا في لندن، أن نجحنا في الحصول على تصريح دخول إلى جنوب إفريقيا مُبْحرين إلى كيب تاون على ظهر الباخرة كيب تاون كاسل[6] في 28 يوليو/ تموز. كانت باخرة سريعة، وبمجرد أن غادرنا شواطئ إنكلترا في قافلة كبيرة أصبحت باخرتنا لوحدها. أتذكّر كيف كنتُ أراقب الخط المتعرّج الغريب الذي كانت تخلّفه الباخرة وراءها على سطح الماء وهي تمخُرُ في مسارٍ مضلِّلٍ حتى لا تكون هدفًا سهلاً للغواصات. وبما أن دخول إيطاليا الحرب قد أغلق البحر الأبيض المتوسط في وجه سفن الحلفاء، فما كان أمامنا سوى الإبحار عبر إفريقيا للعودة إلى فلسطين. ومع أن شوقي أفندي كان قد عبر إفريقيا مرة قبلها في بداية ولايته – مُبْحِرًا آنذاك من إنكلترا في سبتمبر أيلول 1929 متابعًا سيره في أغلب الأحيان برًا بِدْءًا من كيب تاون وانتهاءً بالقاهرة – فلم يستطع في ذلك الوقت الحصول على تأشيرة دخول إلى الكونغو البلجيكية التي دائمًا ما كانت تفتنه لسبب ما. إن روحه التي تعشق المغامرة، وحبه للمناظر الطبيعية قد جذباه إلى الجبال العالية والغابات الكثيفة في العالم، وهو ما دعاه إلى القيام برحلته السابقة. أما الآن، وبمعجزة مدهشة وسط حرب ضروس، أمكننا الحصول على تأشيرة الدخول إلى الكونغو. وحالما وصلنا إلى ستانليفيل[7] وقمنا بنزهة قصيرة في عمق الأدغال البكر الكثيفة، أدركتُ أن شغف شوقي أفندي بجمال الطبيعة كان واحدًا من الأسباب التي قادته إلى هناك. كان راغبًا في مشاهدة الأدغال بتفتُّح أزهارها، إلا أنه يا للحسرة! لم يكن آنذاك في المكان المناسب ولا بالموسم المناسب، فواصلنا طريقنا خائبَيْ الرجاء.

كان شوقي أفندي قلقًا جدًا على صحة والدي (في السادسة والستين من عمره وضعيف البُنية) ولا يحسن بنا أن ندعه يرافقنا في رحلتنا هذه برًا، لذا أنزلناه بأمان في فندق بـديربان منتظرًا فرصة تأمين سفره جوًا. كانت لائحة الركاب المنتظرين طويلة، ومَن كان منهم غير موظف حكومي أو عسكري فإنه معرّض باستمرار إلى تأجيل سفره لصالح مَنْ لهم الأولوية. كان ذلك في تلك الأسابيع من الانتظار أن قام والدي بتصميم شاهد قبر والدتي الذي جمع فيه، ليس بين أفكاري وأفكاره فحسب، بل واقتراح شوقي أفندي القيّم في تجميله أيضًا.

بعد ثلاثة أيام من السفر بالسيارة من ستانليفيل إلى جوبا بالسودان توجهتُ مع ولي الأمر بالقارب عبر نهر النيل حيث وصلنا إلى مدينة الخرطوم – التي كانت بالنسبة لي أشدّ الأماكن حرارة على وجه الأرض – وبينما كنا جالسين في شُرفة الفندق بعد العشاء، ظهرت وسط الظلام مجموعة من المسافرين بالطائرة ينوون قضاء الليلة هنا، وكان بينهم السيد و. س. ماكسويل! حقًا كان حظًا عجيبًا ذلك الذي جَمَعَنا معًا في قلب إفريقيا، ومنحنا شعورًا بالطمأنينة أيضًا. إذ لم يكن أحد منا لديه ولو فكرة بسيطة عن مكان الآخر، وليست هناك وسيلة للاتصال بيننا على الإطلاق. في ديربان كان شوقي أفندي قد طلب من والدي ببساطة أن يتوجه إلى فلسطين وينزل في فندق بالناصرة وينتظرنا هناك لنتمكن نحن الثلاثة من العودة معًا إلى حيفا.

ما أثار دهشتنا أن الحاكم العام [للسودان] السير ستيوارت سايمز قد دعانا لتناول طعام الغداء معه في قصره في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول. وبعد تجديد هذه المعرفة القديمة به تابعنا طريقنا إلى القاهرة ثم فلسطين لنلتقي بوالدي كما كان مخطّطًا والعودة معًا إلى حيفا بعد غياب دام ستة أشهر. يمكن للمرء أن يتخيل أن رحلة كهذه، محفوفة بالحيرة والترقُّب والمخاطر منذ البداية وحتى النهاية، كانت بحدّ ذاتها تجربة هائلة ومرهقة تمامًا. ومع أن شوقي أفندي لم يَزُر النصف الغربي من الكرة الأرضية أبدًا، كما أنه لم يبتعد شرقًا أكثر من مدينة دمشق، فمن الجدير ملاحظته أن حضرته قطع إفريقيا من جنوبها إلى شمالها مرتين.

كم ستكون عليه دهشة الأحباء البريطانيين الذين يعانون ضغوطًا شديدة لو علموا أن ولي الأمر، الذي أبرق إلى محفلهم الروحاني المركزي في 27 ديسمبر/ كانون الأول 1940 قائلاً: ‘أبرقوا لي عن سلامة الأحباء في لندن ومانشستر ندعو لهم باستمرار. مع محبتنا وتقديرنا’، أنّ حضرته قد نجا بنفسه بصعوبة من القصف الكاسح الخاطف على لندن، وأنه أفلح أخيرًا في العودة إلى الأرض الأقدس!

إن السنوات التي أعقبت عودتنا إلى فلسطين شهِدتْ أخطارًا هائلة عصفت بالأرض الأقدس، أخطارًا هدّدت أيضًا المركز العالمي للدين ووليّه بالإضافة إلى بهائيين في أقطار عدّة.

بما كان عليه شوقي أفندي من تبحّر عميق وتشبُّع بالتعاليم الإلهية منذ طفولته، وهو المرافق اليقظ سريع الملاحظة لجدّه المحبوب، يبدو أنه كان مدركًا دومًا لما دعاه حضرته بـ’بوادر قلاقل واضطرابات الكارثة المزلزلة للعالم التي تنتظر إنسانية فقدت إيمانها.’ ورغم أنه رأى حربًا أخرى قادمة، إلا أنه ما كان ليعيش حالة دائمة من الاستنفار الزائف. كتب حضرته إلى مارثا روت ردًا على مخاوفها التي أوردتها في رسالتها الموجّهة له من أوروبا عام 1927 مطمئنًا إياها من جديد: ‘بالنسبة لموضوع الحرب التي قد تنفجر في النهاية في أوروبا، لا تُشغلي نفسك بأقل اهتمام أو قلق. فالمشهد لا يزال بعيدًا جدًا، ولا خطر يلوح في المستقبل القريب’ – رغم أنه في تلك السنة صرّح بأن صراعًا آخر مميتًا لا بدّ آتٍ ويتعذر تجنُّبه وتتنامى بوادره باطّراد، فقد عمل على تهيئة عقول البهائيين مرّة بعد أخرى لمواجهة الحقيقة بأن حريقًا عالميًا هائلاً سيشتعل. كتب حضرته عام 1938: ‘إن العمليّتين التوأم؛ الانحلال والتفكك الداخلي والفوضى والاضطراب الخارجي تتسارعان وتتقدمان نحو ذروتهما يومًا بعد يوم بكل إصرار. إن دمدمة العتاد والسلاح التي يجب أن تسبق تفجّر تلك القوى التي سوف “يرتعد به فرائص العالم[8] يمكن سماعها الآن. و”وقت النهاية” و”آخر الزمان” الذي أنبأت به الكتب المقدسة أصبح قاب قوسين أو أدنى.’ وفي كتاب “ظهور العدل الإلهي” الذي كتبه حضرته في أواخر شهر ديسمبر/ كانون الأول 1938 توقّع حدوث الحرب بكل وضوح: ‘ومَن يعلم’، وهو يتساءل، ‘فقد تكون السنوات القليلة الباقية والمتسارعة جدًا حُبلى… بصراعات مدمّرة تفوق أيًا مما سبقها!’ وفي إبريل/ نيسان 1939 كتب يقول: ‘رمال الساعة[9] لحضارة محتضرة آخذة بالنِفاد لا رادّ لها.’

بينما امتدت ظلال الحرب الطويلة لتشمل أوروبا، أتذكّر جيدًا ذلك الشعور الحقيقي بالكارثة الذي اعتراني عندما كتب شوقي أفندي من القلب النابض لتلك القارة تلك الكلمات الشاعرية القوية التي افتتح بها برقيته في 30 أغسطس/ آب 1939: ‘إن ظلال الليل التي تمتدّ إلى إنسانيةٍ مهددة بالخطر تزداد قتامة دون توقّف…’ وقبل إبحاره من إنكلترا بأسبوع أبرق شوقي أفندي في شهر يوليو/ تموز 1940 بواسطة حيفا (حيث كان أثناء غيابه يرسل جميع رسائله وبرقياته إلى حيفا لتخرج منها الى العالم) بأن نيران الحرب ‘… تهدد الآن بدمار الشرق الأدنى والغرب الأقصى كليهما، حيث المركز العالمي والقلعة الرئيسة المتبقية لدين حضرة بهاء الله على التوالي…’ يبدو أمرًا لا يُصدّق أنه، في خضمّ هذه القلاقل والاضطرابات، وبعد غياب نصف سنة بدوْنا فيها وكأننا نسابق الزمن طوال الوقت ونحن نعتلي موجة مدٍّ (أولاً في خروجنا من حيفا في الوقت المحدد والعودة إليها في الوقت المحدد أيضًا)، كيف لولي الأمر بعد عودته إلى الأرض الأقدس أن يمتلك القوة العقلية والقدرة الجسمانية حتى يجلس ويؤلّف كتابًا كهذا “قد جاء اليوم الموعود” كتابًا جعل فيه الأمر واضحًا تمامًا بأن ‘القصاص الإلهي’ الذي باغت البشرية، مهما كانت موجِباتُه ودواعيه السياسية والاقتصادية، فإنه يرجع في أساسه إلى تجاهلها رسالة الله لهذا اليوم مدة قرن من الزمن.

إن ما جلبته الحرب لنا من أخطار ومشاكل في حيفا وللعالم البهائي بشكل عام قد واجهها شوقي أفندي بهدوء لافت، ولا يعني هذا أنه لم يكن يعاني شدائدها. فعبء المسؤولية جاثم دائمًا، ولم يكن ليتخلى عنها قط ولو لحظة. أذكر في إحدى المناسبات، عندما بدوتُ بغاية الاضطراب والانزعاج والألم لأن حضرته كان دومًا يصرّ أن يُحال إليه كل شيء لاتخاذ القرار بشأنه، وحتى حين المرض، قال بأن القادة الآخرين، وحتى رؤساء الوزراء، يمكنهم أن يفوّضوا غيرهم بصلاحياتهم لفترة قصيرة على الأقل إذا ما اضطُرّوا، أما هو فلا يمكنه ذلك أبدًا ولو للحظة واحدة ما دام حيًّا. فلا أحد غيره تسيّره الهداية الإلهية في إنجاز مهمّته، وليس بمقدوره أن يُحيل هذه الهداية لشخص آخر.

ومع أن الحرب العالمية الثانية لم يصل لهيبها فعليًا إلى الأرض الأقدس، إلا أننا عشنا سنوات ونحن نشعر بأن الخطر وشيك وقد يداهمنا في أي وقت. كنا، كغيرنا من بلدان أخرى كثيرة في العالم، نقوم بتعتيم النوافذ بالكامل، ولما كان منزل المولى يضمّ عدة أبنية تحتوي على مائة نافذة تقريبًا، فقد شكّل لنا هذا الهاجس وحده مشكلة حقيقية؛ طبعًا لم يكن ضروريًا أو ممكنًا تعتيم جميعها، ولكنها تعني الكثير من السير في الظلام وسط نداءات غاضبة متكررة من مراقبي الغارات الجوية. وكون مدينة حيفا ميناءً رئيسًا هامًا وفيه مصفاة للبترول ضخمة، فإنها بذلك تُعتبر نقطة هامة استراتيجيًا. كانت المدينة مزوّدة بمدافع متنوعة مضادّة للطائرات لحمايتها؛ اثنان منها على بُعد ميل [1,6 كم] تقريبًا من بيت ولي الأمر. لقد أُلْقِيتْ بعض القنابل إلا أن الضرر كان لا يُذكر – حقًا كانت الحماية إعجازًا – ومع ذلك كان هناك غارات جوية من وقت لآخر وشظايا المدافع المضادّة للطائرات الضخمة تتطاير هنا وهناك مما شكّل قلقًا إضافيًا لدى شوقي أفندي من أن الشظايا التي تُقَدّر الواحدة منها بحجم حبة العنب بمقدورها بكل سهولة أن تُحدِث ضررًا لا يُمكن ترميمه في الرخام الجميل لأي من النُّصُب التذكارية لمراقد عائلة المولى، وقد وُجدت أحيانًا قِطَعًا كبيرة الحجم بقربها إلا أنها بالفعل لم تسقط عليها أبدًا. اضطررنا إلى بناء ملجأ إلا أنّ ولي الأمر وأنا لم ندخله أبدًا. وعندما كانت صفارات الإنذار تُطلق في الليل كان شوقي أفندي ينهض أحيانًا وينظر من الشباك، وحتى هذا لم يعتَدْ أن يفعله دائمًا. كان النشاط العسكري على أشُدِّه عندما غزت بريطانيا لبنان، وبقينا وقتها نسمع هدير الأسلحة الثقيلة لمدة أسبوع. أما الميناء الذي يبعد عن بيتنا مسافة نصف ميل [800 متر] فقد كانت تدكّه على فترات متقاربة طائرات قوات ڤيشي بالقنابل.

إلا أن كل ما حدث لم يحمل لنا خطرًا جسيمًا أو مميتًا. ففي رسالةٍ برقيةٍ لشوقي أفندي في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1941 تنبأ بالمستقبل وشخّص السنوات التالية التي تنتظرنا: ‘… وبينما ضراوة وشدّة دمار الحرب العالمية الرهيبة تبلغ ذروة حدّتها…’ وعلى الرغم مما ينتظر العالم من محن، مررنا نحن في فلسطين فعلاً خلال عام 1941، بشهورٍ كانت بالنسبة إلينا أقسى أشهر الحرب برمتها معاناةً، شهورٍ سبّبت لولي الأمر بالغ القلق. في تلك السنة قامت ثورة “رشيد عالي (الكيلاني)” الفاشلة ضد الحلفاء في العراق، وتوالى تقهقرُ القوات البريطانية في ليبيا على يد الجنرال رومل، ووصل الألمان في النهاية إلى مشارف الإسكندرية (عام 1942)، واحتلّت القوات النازية جزيرة كريت – وهي القاعدة الثانية للانطلاق في تخطيطها لفتح الشرق الأوسط؛ كما غزت القوات البريطانية والفرنسية لبنان وقضت على نظامه الذي أقامته حكومة ڤيشي.[10] وبالإضافة إلى كل هذه الأخطار الفعلية الملموسة، كان هناك كبيرُ دار الإفتاء بالقدس أيضًا وهو العدوّ اللدود لأمر الله ووليّه والحليف القويّ لحكومة ألمانيا النازية. ولا يتطلّب الأمر خيالاً واسعًا لنتخيّل ما كان يمكن أن يحدث لشوقي أفندي وللمقامات المقدسة والمركز البهائي العالمي، بما يضمّه من سجلات ووثائق وآثار مباركة، إذا ما انتصر الجيش الألماني واستولى على فلسطين ومعه المفتي الماكر المولع بالقدح والذم! وقد صرّح شوقي أفندي عدة مرات أن المسألة ليست فيما يمكن للألمان أن يفعلوه، ولكن من حقيقة وجود الكثير من الأعداء المحليين للأمر المبارك، إذ بانضمامهم للمفتي يمكنهم أن يسمّموا أفكار الألمان بالكامل ضدّ حضرته مما يفاقم من خطورة وضعٍ كان في الأصل خطيرًا، إذ إن أفكارنا البهائية لا تتفق والأيديولوجية النازية من وجوه عِدّة.

أخذ شوقي أفندي، على مدى أشهر، يراقب اقتراب مدِّ الحرب المتواصل بمنتهى القلق، فيَزِن في عقله ماذا عليه أن يفعل لو تمّ الغزو، وكيف يوفّر أفضل حماية وبكل وسيلة للدين الذي يمثّل هو نفسه رمزَه الحيّ.

طوال سنوات الحرب كان شوقي أفندي في وضع يسمح له الحفاظ على اتصاله بجموع الأحباء في البلدان حيث الجامعات البهائية الأقدم والأكثر كثافة مثل إيران وأمريكا والهند وبريطانيا العظمى، وكذلك الأمر مع المراكز الأمرية الجديدة التي كانت تنمو بسرعة في أمريكا اللاتينية. أما الجامعات الصغيرة نسبيًا كما في اليابان والأقطار الأوروبية وبورما وإلى وقت ما في العراق، فكانت الوحيدة التي انقطع اتصالها بحضرته – انقطاعًا أحزنه وسبّب له قلقًا بالغًا على مصيرها. بفضل هذا الاتصال بجماعات المؤمنين في أنحاء العالم البهائي، والذي كان في أسلوبه أقرب إلى المعجزة في تحقُّقه، لم يكن شوقي أفندي قادرًا على إيصال تعليماته وتوجيهاته إلى المحافل الروحانية المركزية المختلفة فحسب، بل وبيان ما كانت تعنيه هذه الحرب العظمى لنا كبهائيين أيضًا. في رسالته الغرّاء بعنوان “قد جاء اليوم الموعود” صرح بأن ‘غاية الله لم تكن سوى التبشير بـاقتراب “العصر العظيم”، “العصر الذهبي” لإنسانية طال أمد تشرذمها وابتلائها، وذلك بطرق هو وحده القادر على إحداثها، وهو وحده القادر على سبر غور كنهها. إن حالة الإنسانية الراهنة بل ومستقبلها القريب في الحقيقة مظلم محزن، إلا أن مستقبلها البعيد متألق بكل روعة – يبلغ مجدُ تألُّقه حدًّا لا تستطيع عين أن تستجليه… لقد ولّت عصور طفولة الإنسانية إلى غير رجعة ليأتي “العصر العظيم”، ختام كل العصور، الذي يشير إلى بلوغ الجنس البشري قاطبة سنّ رشده. أما انتفاضات هذه الفترة الانتقالية، وهي الأكثر اضطرابًا في تاريخ الإنسانية، فهي المتطلّبات الضرورية البشيرة بالدنوّ المحتوم لـ ”عصر العصور”، “وقت النهاية” الذي يتحول فيه حُمْقُ النزاع وجَلَبَتُه الذي لطّخ وجه البشرية منذ فجر تاريخها، إلى حكمة وسكينة وسلام عالمي دائم مستقرّ يغيب فيه التنافر والفرقة بين بني البشر ليحلّ محله الوئام العالمي والاتحاد الكامل بين العناصر المكوِّنة للمجتمع الإنساني على اختلافها… إنها المرحلة التي تقترب منها الإنسانية طوعًا أو كَرهًا بكل استسلام، ولأجل هذه المرحلة نفسها كانت هذه الرزايا والمحن بنيرانها المستعرة التي تعانيها البشرية لتمهيد الطريق إليها بشكل خفيّ.’

كم كان سرور ولي الأمر وارتياحه عظيمًا عندما انتهى الجانب الأوروبي من الحرب في مايو/ أيار 1945، حتى إنه أبرق إلى أمريكا قائلاً: ‘إن أتباع حضرة بهاء الله في القارات الخمس طُرًّا تغمرهم البهجة لرؤية الإنسانية، التي مزّقتها الحرب، تخرج جزئيًّا من ذلك الاضطراب العظيم.’ ثم يعبّر عما في أعماق قلبه بقوله: ‘بوافر الامتنان نهلِّل للشواهد الرائعة على تدخُّل العناية الإلهية التي مكّنت المركز العالمي لديننا من النجاة خلال تلك السنوات المحتقنة بالمخاطر والأهوال…’ واسترسل فيها معبّرًا عن شكر مماثل حمدًا على الحفظ والصون الذي أحاط بجامعات أخرى بكل إعجاز ومستذكرًا تلك الانتصارات التي أحرزها الدين في تلك الفترة رغم ظروف الحرب، والتي كانت استثنائية حقًا. وفي 20 أغسطس/ آب 1945 أبرق ثانية: ‘بقلوب منجذبة نرفع أيادي الشكر على التوقُّف التام لذلك الصراع العالمي غير المسبوق الذي امتدّ طويلاً’، وحثّ الأحباء الأمريكيين على النهوض والقيام بواجباتهم مرحّبين بإزالة القيود والعقبات مما سيمكّنهم الآن من المضيّ قُدمًا لتدشين المرحلة الثانية من الخطة الإلهية. لا شيء على الإطلاق يمكن أن يكون أفضل مثالٍ على التصميم والحماس والقيادة الفذّة لولي الأمر من تلك الرسائل التي انطلقت غداة خروج العالم من أتون أسوأ حرب في كل تاريخه.

مهما كان الحال عليه في باقي أنحاء العالم، فقد استمرّ الوضع الداخلي في فلسطين يتدهور إلى الأسوأ من جميع الوجوه؛ فالمحرقة التي اجتاحت الشعب اليهودي الأوروبي وابتلعته، والمرارة التي ولّدتها السياسة البريطانية في الوسط اليهودي في فلسطين بخصوص هجرتهم التي حُدِّدت وضُبطت بكل حزم، وتصاعُدُ حدّة الاستياء لدى العرب ضد تلك السياسة نفسها – كل هذا أدّى إلى تنامي مشاعر التوتر والكراهية محليًا. فالعديد من المصاعب، التي بدأت تخرج منها أقطار أخرى ببطء مثل الشُحّ الشديد في المواد التموينية، أصبحنا ندخل أعتابها الآن. كل شيء أصبح صعبًا. لم نعد الآن في خطر من غزوٍ أو قصف أو احتلال، إلا أن استشراف مستقبل هذا البلد الصغير، على قداسته، أخذ يزداد قتامة باطّراد ونحن ندخل تلك الفترة التي شخّصها شوقي أفندي بـ’أخطر هيجان يهزُّ الأرض الأقدس في العصر الحديث’.

كانت سنوات الحرب بتوتّرها وإجهادها مُرهقة لشوقي أفندي. فهي السنوات التي لم يقم فيها بكتابة رسالته “قد جاء اليوم الموعود” وكتابه “القرن البديع” فحسب، بل وقام خلالها أيضًا – ومَنْ ذا الذي بمقدوره أن يُنْكِر أنه كان مصدر إيقاد متواصل لحماس البهائيين وتشجيعهم وشحذ هممهم مما صقل قدراتهم ودفعم نحو الانخراط في العمل والخدمة؟ – قام بمتابعة تنفيذ خمس سنوات من خطة السنوات السبع الأولى. وهي السنوات التي كان حضرته خلالها مصدر ارتياح وسلوى للعالم البهائي وألهمهم وجمع صفوفهم متّحدين، وأثناءها وسّع دائرة الأمر المبارك باطّراد، وعمل على تفتيح براعم حياة الجامعات المركزية وعمّق جذورها، وفيها دُشِّن العمل في المشروع الفريد لتشييد البناء الفوقي للصرح الذي يعلو مقام حضرة الباب، سنوات شهِدت فقدانه أفراد عائلة حضرة عبد البهاء بمن فيهم أفراد عائلته هو أيضًا بعد أن خاب فيهم الرجاء. كان وقتها يقترب من الخمسين وقد ابيضّ شعره عند صدغيه وتقوّست كتفاه من انكفائه الطويل على مكتبه. لم يكن قلبه حزينًا على كل ما لاقاه وكابده فحسب، بل أُجزم يقينًا بأنه مستنزف بما عاناه.

وبينما كانت أيام الانتداب البريطاني تقترب من نهايتها في 14 مايو/ أيار 1948، أخذ الوضع في فلسطين يزداد سوءًا باطّراد. فالبلد بأسره يجتاحه غليان الخوف والكراهية، وحوادث الإرهاب تتزايد باستمرار. العرب واليهود والإنكليز كلهم متورطون، وكل طرف منهم يدرك تمامًا أن ولي الأمر ينأى بنفسه تمامًا عن القضايا السياسية المطروحة، ولا نبالغ إذا قلنا بأنه كان يحظى باحترام عالمي – ولذلك تُرك وشأنه. إنها حقيقة لها أهميتها الكبرى ذلك لأنه خلال السنين، وخاصة الأشهر، التي سبقت نهاية الانتداب لم يكن هناك من بقعة محايدة فعليًا. فاليهود دأبوا على تقديم الأموال للدفاع عن الجالية اليهودية، وكذلك العرب للدفاع عن الجالية العربية. فكون ولي أمر الله قد تمكّن من توجيه الجامعة البهائية الصغيرة وسط أمواج الأخطار المتتابعة وعبر بها في تلك الأيام إلى برّ الأمان، ولم يُطالَب أثناءها بالدعم المالي لقضية إخوانه الشرقيين (وهم الذين يعلمون تمامًا أن حضرته قد وُلد وترعرع في تلك الديار)، إنما يشهد على علوّ كعبه وسموّ سمعته التي أسّسها ورفعها كرجل ذي مبدأ قويم وعزم مكين.

ومع كل ذلك فإنّ تَرْك شوقي أفندي وشأنه لا يعني أنه كان في منأى عن الخطر، أو أن الأمر الإلهي نفسه لم يكن في وضع خطير. فالأرض الواسعة التي يملكها الأمر حول المقام الأعلى لحضرة الباب، والتي لم يُشيَّد عليها أي بناء بعدُ، كانت المصدر الأكبر لقلق حضرته كونها محاطة بمساحات يشغلها العرب. فأي مساحات مكشوفة وأي أرض مشرفة كانت تُشكّل مصدر خوف لطَرَفَيْ النزاع من السكان الذين كثيرًا ما كانوا ضحايا القنّاصة وهدفًا للهجوم بالقنابل وإلقاء القنابل اليدوية، ولذلك كانت صدمة قوية لشوقي أفندي عندما اكتشف في أحد الأيام، وهو ينظر بمنظاره إلى جهة المقام الأعلى، أن جنودًا بريطانيين قد وضعوا مدفعًا رشاشًا في أرض نمتلكها تُشرف على طريق في نقطة هامة من الواضح أنهم شعروا أنها ستوفر لهم وضعًا جيدًا لإطلاق النار على أي مهاجم في الجوار. لقد أزالوه بعد ذلك، إلا أن الإنذار المزعج الذي شكّلته قد بقي ماثلاً، وهو خطر مخيف في أن نُقحَم بطريقة ما وعن غير قصد لنصبح إلى جانب دون الآخر ونتورط في أعمال القتل الجارية حولنا.

أذكر مناسبة أخرى مع عامل يهودي، غالبًا ما كان يقوم بعمل خاص بنا، عندما غادر لتوّه موقع المقام الأعلى، ثم جاء بعض العرب واستفسروا منا أين كان ذلك اليهودي – كان يمكن أن يُقتل لو وجدوه – فكم ستكون مروعة تَبِعاتُها لجامعة تقف بكل جوارحها ضد سفك الدماء الجاري في كل وقت، وتلتزم جانب الحياد التام في كل ما يجري من صراع سياسي. في أغلب الأحيان كان هناك إطلاق نار يتصاعد في كل مكان حول بيت المولى ويزداد أحيانًا ليتحوّل إلى معارك جانبية صغيرة. لم يحدث قطّ أنّ أحدًا أطلق النار علينا أو هاجمنا، إلا أن خطر إصابة أحدنا لم يكن أمرًا يُسْتَخفّ به. ولما تصاعدت أعمال الإرهاب، فإن مناطق محددة، بما فيها منطقتنا، كان يتمّ تعتيمُها في الليل اختياريًا، والشوارع لا تُضاء إطلاقًا. وعندما تقع معارك ضارية أو تُنفّذ عمليات إرهابية كبيرة كان يُفرض منع التجوال في النهار ولا يُسمح بالتحرُّك إلا للقوات البريطانية بدباباتها الضخمة وهي تعبر الشوارع المهجورة بضجيجها الصاخب، وغالبًا ما كانت تطلق نيران مدافعها الرشاشة عشوائيًا أثناء سيرها. كان نُواح صفارات الإنذار يحمل معه الرعب والخوف والبشاعة المقززة. وإذا ما جنّ الليل أصبح الوضع مرعبًا حقًا لأُناس سبق وأن تَلِفَتْ أعصابُهم وباتوا كأنهم يعيشون على حافة بركان قد ينفجر ثَوَرانًا في أي لحظة.

في كل تلك الظروف والأوقات كان شوقي أفندي يصعد جبل الكرمل كل يوم كالمعتاد لمزاولة عمله وواجباته؛ يشرف على الأعمال في الحدائق، يزور المقامات ثم يعود إلى المنزل قبل حلول الظلام. خلال تلك الفترة بكاملها أذكر مناسبة أو اثنتين فقط عندما كان منع التجوال مفروضًا بسبب الأوضاع ولم يتمكّن حضرته من القيام بجولته اليومية. في أحد الأيام، بينما كانت السيدة ويدن تقود سيارة حضرته وهو متوجِّه إلى المقامات (وكان سائقنا العربي قد غادر البلاد)، كانت تسير خلفه سيارتان. أطلقت سيارة النار على السيارة التي أمامها مما جعلها تسرع فجأة وتتجاوز سيارة ولي الأمر وبذلك أصبحت سيارة حضرته بين السيارتين، وسرعان ما لحقت بها السيارة الأخرى وتجاوزت سيارة حضرته لتمضي إلى معركتها الخاصة. يمكن للمرء أن يتخيّل شعورنا عندما سمعنا بهذه الحادثة فيما بعد! ومع كل ذلك لم يكن بمقدورنا فعل شيء. كل من عاش في تجارب كهذه يدرك أن شيئيْن فقط يمكن فعلهما في مثل تلك الظروف إما المغادرة أو البقاء ومتابعة العمل كالمعتاد، وهذا ما فعلناه، فقد اخترنا البقاء. والمقتطف التالي من أحد يومياتي الذي كتبتُه في 22 فبراير/ شباط 1948 هو أفضل ما يصوّر الوضع الذي عشناه في ذلك الوقت: ‘نحن نعرف أن عين حضرة بهاء الله ترعانا، إلا أنه نظرًا لكوننا بشرًا فمن الطبيعي أن نمرّ بلحظات من القلق مثلما يحدث عندما تندلع نيران المواجهات في كل مكان في المدينة وولي الأمر المحبوب لم ينزل بعدُ من المقامات وقد أغلقت الطريق وعليه أن يعود إلى المنزل مشيًا على الأقدام – عندها ندرك أن الأمر في قبضة حضرة بهاء الله ليس إلا… ولا أبالغ إذا قلت إنه لا يمرّ ليل دون إطلاق نار. يستمر أحيانًا طوال الليل أو يأتي متقطّعًا، ولكن سرعان ما تجد نفسك تَغُطّ في النوم على صوته إلا من صوت انفجار قنبلة…’

ومع ذلك، ليس بسبب هذه الأخطار كان النوم عند شوقي أفندي عزيز المنال في الليالي، فجلّ اهتمامه كان مُنْصَبًّا على حماية المرقديْن المقدسيْن التوأم [في البهجة بجوار عكاء وفي حيفا]. إذ عندما انتهى الانتداب البريطاني واندلعت الحرب بين العرب واليهود أصبح هناك خطر حقيقي يتهددهما بالفعل مسببًا لحضرته قلقًا شديدًا. فقد كانت البهجة على بُعد حوالي خمسة عشر ميلاً فقط [24 كيلومترًا] عن الحدود التي يمكن أن تتدفّق عبرها قوات غازية في أيّ لحظة…

إذا كان لأحدنا أن يَعْجَب كيف لولي الأمر المُلْهَم إلهيًا أن يكون على هذه الشدة من القلق تجاه أُمور كهذه، أودّ هنا أن أعطي تفسيرًا لهذا الموضوع من منطلق مفهومي الخاص. يبدو لي أن هناك عوامل ثلاثة تؤثر في معظم الأوضاع والمواقف: مشيئة الله، التي تحمل في طيّاتها ألْطاف الله واقتداره والقَدَر الذي قدره للإنسان – ومن شأنها أن تصوّب في النهاية كل الأخطاء والزلاّت؛ ثم عامل المفاجأة العَرَضية التي قال عنها حضرة عبد البهاء بأنها متأصلة في الطبيعة؛ ثم عامل إرادة الفرد الحرة ومسؤوليته. فلو أخذنا كل هذه العوامل بالاعتبار فلن تدهشنا شدة اهتمام ولي الأمر وقلقه على أي وضع يمكن أن يؤثر على مصالح الأمر المبارك وحمايته، وأن نراه يفكّر مليًّا وبقلق في كل ما يواجهه من مشاكل ومعضلات ساعيًا إلى ضمان أن الحلّ السليم قد وُجد، وأن الفرصة الأفضل قد انتُهزت، والمنفعة الأعظم لأمر الله قد أُحرزت.

كثيرًا ما أشار شوقي أفندي إلى الحماية المعجزة التي أحاطت بالمركز العالمي في فترة الاضطرابات والأخطار التي أعقبت انتهاء الانتداب البريطاني. إن قائمة المخاطر التي تمّ تجنُّبها، وما شهدته هذه الفترة من إنجازات – التي أوردها حضرته في برقية أُرسلت إلى مؤتمر الوكلاء المركزي في أمريكا في 25 إبريل/ نيسان 1949 – كانت كافية لأن تعطينا لمحة عن شدّة القلق الذي عاناه حضرته وفداحة الملمّات التي عصفت به. ونسخة هذه البرقية التي نُشرت بيّنت كم كانت عظيمة ‘شواهد العناية الإلهية التي أُسبِغَت على المركز العالمي للدين على مدار السنة الثالثة من خطة السنوات السبع الثانية’، واسترسل قائلاً: ‘إن العداء التخريبي الذي طال أمده في الأرض الأقدس قد انتهى بفضل العناية الإلهية، والأماكن المقدسة البهائية قد سَلِمتْ بإعجاز على عكس الأماكن التي تعود للديانات الأخرى. كما أن المخاطر التي لم تكن بأقلَّ من تلك التي هدّدت المركز العالمي للدين تحت حكم عبد الحميد جمال باشا وفي ظلّ مطامع هتلر للاستيلاء على الشرق الأدنى قد تمّ تجنّبها…’.

في السنوات التي أعقبت الحرب، بينما تضاعفت انتصارات الأحباء التي أُحرزت، وبرزت هيئة الأمم المتحدة إلى حيّز الوجود – أقوى أداة جبّارة على الإطلاق ابتكرها العالم لصنع السلام – تأمّل الكثير منا بلا شك، وبيقين مفعم بالرجاء، بأننا خلّفنا وراءنا أسوأ مرحلة من تاريخ الإنسانية الطويل في الحروب، وأن بإمكاننا الآن أن نتبيّن الخيوط الأولى لنور ذلك الفجر، الذي نعتقد اعتقادًا راسخًا، نحن البهائيون، بأن هذا ما ينتظره العالم. إلا أن العقل الرزين المُلهَم لولي الأمر لم يرَ الأحداث من هذا المنظار. فحتى أواخر أيام حياته استمر في ترديد نفس الملاحظة القائمة على كلمات حضرة بهاء الله، والتي كثيرًا ما كان يكررها قبل الحرب: ‘المستقبل البعيد مشرق جدًا إلا أن القريب منه حالك الظلام.’

من بين رسائل التشجيع التي كان يرسلها شوقي أفندي مرارًا إلى البهائيين في جميع أنحاء العالم، وعبارات الإطراء على خدماتهم الرائعة التي يقدمونها، وخططه التي ابتكرها لهم بمثل هذا التفصيل من أجل أن يقوموا على متابعة تنفيذها، كانت هناك رسائل تتكرر فيها من وقت لآخر إشارت النذير والتحذير. في عام 1947 صرح حضرته بأن البهائيين حتى الآن مؤيَّدون بسخاء ليتابعوا تقدُّمهم ‘لا تحرفهم التيارات المتضاربة ولا الرياح العاصفة التي يتحتّم بالضرورة أن تهزّ المجتمع الإنساني بشكل متزايد قبل أن تحين ساعة خلاصه النهائي…’ في ذلك التصريح يحثّ ولي الأمر الجامعة البهائية الأمريكية أن ينهضوا قُدُمًا نحو خدمات هي الأبرز والأهم في خطة السنوات السبع الثانية الخاصة بهم، وتكلّم عن المستقبل قائلاً: ‘بينما الوضع العالمي يزداد سوءًا، ومصائر البشرية تتدهور نحو الأسوأ… وبينما نسيج مجتمع اليوم تُنْسَلُ خيوطه وتتقطّع تحت وطأة أحداث وكوارث هائلة، وبينما التصدعات والانشقاقات التي تكشف عن انقسام دولة عن دولة، وطبقة عن طبقة، وعرق عن عرق، وعقيدة عن عقيدة، تتضاعف…’ فمهما حاولنا أن نبسِّط الوضع، وبقينا ندير ظهورنا عن ماضينا التعيس، تبقى هناك ‘أزمة تتعمّق باطّراد’ بل إن حضرته في مارس/ آذار 1948، ذهب إلى أبعد من هذا في محادثة سجّلتُها في يومياتي: ‘حدّثني شوقي أفندي هذه الليلة ببعض الأمور المثيرة جدًا للاهتمام: قال إنه بوجه عام من الغباء أن نقول بأنه لن تنشُبَ حرب أخرى على وقْعِ الظروف الراهنة، ومن الغباء أيضًا أن نقول بأنه لو نشبت حرب أخرى فلن تُستَخدم فيها القنبلة الذرية. لذلك علينا أن نعتقد بإمكانية نشوب الحرب، وأنها ستستخدم، وسيكون هناك دمار مروع. إلا أن البهائيين، كما يشعر حضرته، سوف يخرجون من المحنة ليشكّلوا نواة الحضارة العالمية المستقبلية. وليس من الصواب، كما صرّح أيضًا، أن نقول بأن الصالح سيهلك بعروة الطالح لأن الكل طالحون إلى حدٍّ ما. فالإنسانية كلها هي المُلامة بسبب تجاهلها وإنكارها حضرة بهاء الله بعد أن كرّر إعلان رسالته إلى كل مخلوق بصوت مدوٍّ. وقال أيضًا بأن القدّيسين في أديرتهم، والآثمين في أسوأ ملاهي الترف والمجون في أوروبا كلهم خطاة لأنهم رفضوا كلمة الحقِّ. وقال من الخطأ أن نظن، كما يعتقد بعض البهائيين، بأن الخيِّر سيذهب بذنب الشرّير، فالناس جميعًا يُعتبرون أشرارًا لأنهم أنكروا الله في هذا اليوم وأعرضوا عنه. قال، بل بإمكاننا أن نؤمن فقط أنه بطريقة ما خفيّة سيبقى هناك ما يكفي لبناء المستقبل رغم ما سيحصل من خراب ودمار مروّع.’

في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة نفسها كتب إلى الأحباء الأمريكيين من جديد حاثًّا إياهم على المواظبة على تنفيذ أهداف خطتهم، وقال: ‘بينما التهديد يتنامي باضطرابات أشد عنفًا تتأهّب لتُغِير على عصر تزداد آلام مخاضه، وصراع آخر، مقدّر له أن يشارك مشاركة متميزة وربما حاسمة في ميلاد النظام الجديد الذي لا بدّ له أن يشير إلى مجيء الصلح الأصغر، نراه يفرد جناحيه فيجعل أفق العالم مظلمًا… ودمدمة كوارث لا تزال أشدّ هولاً تهزُّ، بوتيرة متزايدة، عالمًا يئنّ تحت وطأة الإجهاد المرير والفوضى… وهكذا، فإن كل درجة في تفاقم وضع عالم لا يزال يُنهِكه صراع مدمّر، ونراه الآن يحوم حول حافة صراع أشد خطورة، لا بدّ أن يُواكبها ظهورٌ أعظم نُبلاً لروح هذا الجهاد الروحاني الثاني…’ وفي الشهر نفسه أشار حضرته إلى ‘الأزمات المستفحلة التي تنذر بتهديدٍ أبعدَ في مداه يخلّ بتوازن مجتمع متشنجٍ سياسيًا، منهار اقتصاديًا، مفكك اجتماعيًا، منحطّ أخلاقيًا ويحتضر روحانيًا.’ وذهب في القول ليتحدّث عن ‘دمدمات أوّلية تُنذِر بكارثة ثالثة تطوِّق العالم بنصفيه الشرقي والغربي.’ وقال: ‘إن صورة العالم تزداد قتامةً باطّراد.’ وحثّ الأحباء على أن ‘ينطلقوا قُدُمًا نحو المستقبل مطمئنين واثقين بأن ساعة ذروة جهودهم، والفرصة السامية لأعظم أعمالهم البطولية، يجب أن تتزامن مع الزلزال الهائل الموعود الذي يشير إلى أدنى درجة من الانحطاط تهوي إليها مصائر البشرية.’

واستمرت الكلمات في الرسالة ذاكرةً الانتصارات التي حقّقناها وعبارات الثناء والتشجيع، ومدى سرور ولي الأمر وابتهاجه – ثم عبارات التحذير. وفي عام 1950 أخبر الأحباء بأن عليهم ‘ألاّ يهابوا’ أخطار ‘تفاقُم تداعي الوضع العالمي’. وفي عام 1951 أعلم المؤتمر التبليغي الأوروبي بأن ‘الأخطار’ التي تجابه تلك ‘القارة الممتحنة ببلايا شديدة’ في ‘تصاعد مطّرد’. إلا أنه في عام 1954 كُتبت رسالة كانت حقًا هي الأخطر والأكثر إثارة للتفكر حيث أسهب شوقي أفندي في موضوع صراع مستقبلي؛ مسبباته، مجراه، نتائجه وتأثيره على أمريكا بتفصيل أوسع وبلغة أشدّ وأقوى مما سبق أن كتب. فهو يربط ‘المادّية السرطانية’ ‘المفرطة’ المتفشّية في جسد عالم اليوم بإنذارات حضرة بهاء الله، ويصرّح بأن حضرته قارنه بـ’نار مدمِّرة’ واعتبره ‘العامل الرئيس في تعجيل حدوث محن رهيبة وأزمات تزلزل أركان العالم وتؤدي حتمًا إلى احتراق المدن وانتشار الإرهاب والذعر في قلوب البشر.’ ويمضي شوقي أفندي في قوله: ‘حقًا إن الخراب والدمار الذي سوف تُلحقه هذه النيران المحرقة بالعالم، والتي بها ستحترق مدن الأمم المشارِكة في هذا الصراع المأساوي الذي يطوّق العالم، قد خَبِرْنا جزءًا يسيرًا منه في الحرب العالمية الأخيرة، التي كانت المرحلة الثانية لدمار عالمي لا بدّ لإنسانية، نسيت خالقها تمامًا وغفلت عن الإنذارات الصريحة التي نطق بها الحق على لسان رسوله لهذا اليوم، أن تُبتلى به بكل أسف.’

فالرسالة التي عبّرت عن هذه التنبؤات الرهيبة كانت موجّهة إلى الأحباء الأمريكيين، وفيها يشير ولي الأمر إلى أن التدهور العام في وضع ‘عالم حائر’، وتَضاعُف الأسلحة ذات القدرة التدميرية المتزايدة، وهما أمران ساهم فيهما الجانبان المنخرطان في نزاع عالمي – ‘وقد وقعا في دوامة الخوف والريبة والكراهية’ وبقيا فيها – إنما يؤثر ذلك على بلدهم بشكل متزايد وسيؤدي حتمًا، إذا لم تعالَج الأمور، إلى أن ‘يُزَجَّ بالأمة الأمريكية في كارثة لا يُمكن حتى تخيُّل أبعادها ولا حتى التنبؤ بعُقباها على بُنية المجتمع وعلى معايير ووعي الشعب الأمريكي وحكومته… فمهما كانت الزاوية التي ينظر منها المراقب للمُقَدَّر لها قريبًا فإن… الأمّة الأمريكية… تقف حقًا وسط أخطار مهلكة. ويمكن تجنُّب ما يتهددها من بلايا ومحن جزئيًا، إلا أنها في معظمها قَدَرٌ محتوم من عند الله…’ ويمضي حضرته ليبيِّن التغييرات التي لا بدّ أن تُحْدِثها تلك الويلات المتعذّر تجنبها في ‘عقيدة السيادة الوطنية المطلقة الآيلة إلى الزوال’، التي ما زالت حكومتها وشعبها يتمسكون بها ويقفون عندها، والتي هي ‘على تباين واضح وحاجات عالم تقلّص واختُصر إلى حيٍّ صغير ويصرخ مطالبًا بالوحدة والاتحاد’، ومن خلالها ستجد هذه الأمة نفسها وقد تطهّرت مما علِق بها من مفاهيم عفا عليها الزمن وغدت مهيأة لدورها العظيم الذي تنبّأ به حضرة عبد البهاء في تأسيس الصلح الأصغر. ‘فالاضطرابات المحمومة’ القادمة لن تعمل فقط على ‘الْتحام الأمة الأمريكية بأخواتها من الأمم في نصفي الكرة الأرضية’ فحسب، بل وستعمل أيضًا على تطهيرها من ‘الخَبَثِ والشوائب المتراكمة التي تكافلت كلّ من التفرقة العنصرية، والمادّية المفرطة، وانعدام التقوى، وتفشي الكفر والانحلال الخلقي، مجتمعةً، وعلى مدى أجيال متعاقبة، لِتُحدِثها، فمَنَعَتْها من أداء دورها في قيادة العالم روحانيًا كما تنبّأ به قلم حضرة عبد البهاء المعصوم – دور عليها أن تؤدّيه قسرًا عبر ثنايا الأسى والمعاناة.’

خلال آخر شتاء في حياته، وقد بدا كأنه مُرهق نتيجة كفاحه الطويل مع مَواطن ضعفنا، ومن سنوات كَدّه المتواصل وتفانيه الكامل، تكلّم ولي الأمر عن هذا الموضوع بلهجة أشدّ وأقوى مما سمعتُها منه من قبل. لم يكن موضوعه مقصورًا على التحذير مما يخبئه المستقبل فحسب، بل وفي تقييمه الصارم لفشل البهائيين – جميعهم شرقًا وغربًا – في الانطلاق قدمًا بأعداد كافية لأداء مهمتهم العظيمة في تبليغ أمر الله طولاً وعرضًا في الأقاليم والجزر المفتوحة حديثًا من الكرة الأرضية بينما لا زال هناك الوقت والفرصة السانحة للقيام بذلك، فيخلقون بالتالي، بفضل الزيادة الكبيرة في نفوس أتباع الدين، تلك الأَنْوِيَة الروحانية التي بإمكانها أن تجابه قوى الهدم التي تعمل في المجتمع الإنساني اليوم، ويشكّلون مِهادًا صالحة لنمو بذور النظام العالمي للمستقبل الذي نؤمن بكل حزم أن باستطاعته، بل ويجب أن يبرز من بطون الفوضى الحالية.

لا بأس أن يصيبنا الذعر ولكن دون أن يأخذنا العجز والجمود. ففي إحدى رسائله الأخيرة إلى محفل روحاني مركزي في أوروبا في أغسطس/ آب 1957 كتب سكرتيره بالنيابة عنه: ‘لا يريد من الأحباء أن يأخذهم الخوف، أو أن يعيشوا جوّ الاحتمالات البغيضة للمستقبل. عليهم أن يدركوا أنّهم إذا ما أدّوا دورهم وأحرزوا أهدافهم في خطة السنوات العشر، بإمكانهم أن يطمئنوا إلى أن الله سوف يقوم بدوره ويكلأهم بعين رعايته.’ إن سياسة البهائيين في هذا الوقت من أزمات العالم قد توضّحت في رسالة أخرى لحضرته كُتبت قبل شهر موجّهة إلى أحد المحافل الروحانية المركزية في إفريقيا موضّحًا فيها سكرتيره بالنيابة عنه بأنه: ‘لما كان الوضع في العالم يتجه نحو الأسوأ باطّراد كما هو في منطقتكم أيضًا، فلا وقت يضيّعه الأحباء في الارتقاء إلى مستويات أعلى من التفاني والخدمة والوعي الروحاني على وجه الخصوص. إنه واجبنا تقديم نهج الخلاص لأكبر عدد ممكن من أبناء جنسنا بقدر ما نستطيع، من الذين استنارت قلوبهم قبل أن تباغتهم كارثة كبرى، فإما أن تبتلعهم مأيوسين أو ينجون منها مطهّرين أقوياء جاهزين للخدمة. فكلما ازداد عدد الأحباء الذين يقفون منارات للهدى وسط الظلمة متى حلّت، كلما كان أفضل. لهذا فإن الأهمية العظمى لأعمال التبليغ تبرز في هذا الوقت.’

وكان شوقي أفندي قد أشار في وقت سابق إلى أنه ‘مهما كانت التحديات قاسية، ومهما كانت المهمات مضاعفة، ومهما كان الوقت قصيرًا، ومهما بدت أوضاع العالم قاتمة، ومهما كانت المصادر المادية محدودة لجامعة لا زالت فتيّة مُثْقلة بالضغوط، فإن مصادر القوة السماوية التي يمكن أن تستمطرها لامحدودة في قوة نفوذها، وستنهمر مؤثراتها الباعثة على النشاط دون تردُّد إذا ما بُذلت الجهود اليومية اللازمة وقُدمت التضحيات المطلوبة عن طيب خاطر.’ كثيرة جدًا هي الأمور التي يتوقف علينا إنجازها، وما يعتمد تحقيقُه على الله فلنتركه له تعالى بكل ثقة طالما بذلنا أقصى جهدنا.

ونحن جيل الفجر الذي يسبق طلوع شمس هذا اليوم الجديد، لو سألنا أنفسنا لماذا يجب أن تواجهنا كوارث كهذه في تلك الأوقات؟ سنجد الإجابات كلها هناك وقد جاءت واضحة جدًا من ولي الأمر في شروحاته العظيمة لمغزى تعاليمنا ومضامينها. وكما علّمنا فإن عاملين يعملان معًا: الأول تضمّنته كلمات حضرة بهاء الله “عمّا قريب سوف يُطوى بساط العالم ويبسط بساط آخر.”[11] فتمزيق وإزالة غطاء طالما احتمت به وأجلّته مجتمعات لا عِدَّ لها وكلٌّ جعله جزءًا أصيلاً من عاداته ومعتقداته الخرافية وتعصُّباته، ووضعُ إطار عالمي جديد للوجود مكانه، إنما هي عملية مؤلمة للغاية حتما وليس لغير الله القدير أن يتعهّدها. حتى إن حالة البشر الفكرية والروحية قد جعلت الوضع أكثر إيلامًا؛ فبعض المجتمعات هم ضحايا ‘العلمانية المفرطة – مُنتَج اللادينية المباشر’، والبعض في قبضة ‘المادية والعنصرية الفاضحة’ التي قال عنها شوقي أفندي بأنها هي التي ‘اغتصبت حقوق الله نفسه’. إلا أن الكل – كل شعوب الأرض قاطبة – مذنبون لأنهم لأكثر من قرن ‘رفضوا الاعتراف بظهور مَن وُعدت به جميع الأديان، والذي بدينه وحده يمكن لجميع الأمم بل ويجب أن تنشُد خلاصها الحقيقي في النهاية.’ إنه أساسًا بسبب هذا الدين الجديد، هذه ‘الجوهرة النفيسة للظهور الإلهي التي تجلت فيها روح الله، وتجسّدت غايته لعموم الجنس البشري في هذا العصر’، كما وصفه شوقي أفندي، أن كان للعالم أن ‘يعاني العذاب’. وقد تفضل حضرة بهاء الله نفسه “قد اضطرب النظْم من هذا النظم الأعظم[12]، “آثار الهرج والمرج مشهودة لأن الأسباب حاليًا لا تبدو مناسبة”[13]، “إنّ العالم منقلب ويزداد انقلابه يومًا فيومًا، ووجهه متوجّه نحو الغفلة واللامذهبية. وهذا الأمر سيشتدّ ويزداد على شأن لا يقتضي الحال ذكره، وستمضي الأيام على هذا النهج مدة طويلة. وإذا تم الميقات يظهر بغتةً ما يرتعد به فرائص العالم. إذًا ترتفع الأعلام وتغرّد العنادل على الأفنان[14]، “عما قريب سوف تتغير كل حكومات الأرض ويعمّ الظلم العالم وبعد الشدة العامة تشرق شمس العدل من أفق ملكوت الغيب.”[15]

ومهما يكن من أمر، كم هي مثيرة رؤيتنا للمستقبل كما رسمه لنا شوقي أفندي بكلماته النيّرة على شأن يزيل كل خوف ويملأ قلب كل بهائي بذاك المستوى من الثقة والابتهاج بحيث لن يُضعِفَ إيمانَه أو يُحطِّم آمالَه أيُّ قدْر من المعاناة والحرمان المتوقّعيْن مهما كانا. فقد كتب حضرته قائلاً: ‘والواقع، إن العالم يمضي الى مصيره المحتوم. فاعتماد الأمم بعضها على بعض وترابط شعوب الأرض حقيقة واقعة مهما قال زعماء دول العالم المختلفة أو فعلوا.’ وما رابطة شعوب العالم ‘المقدّر لها أن تخرج إلى حيّز الوجود، إن عاجلاً أو آجلاً، من وسط مجازر هذا الاضطراب العالمي الساحق وكَرْبه وخرابه’، إلا تلك النتيجة الحتمية لعمل تلك القوى. ففي المقدمة يأتي الصلح الأصغر الذي ستقوم على تأسيسه أمم الأرض بنفسها غير واعية بعدُ بظهور حضرة بهاء الله؛ ‘فهذه الخطوة الجبّارة والتاريخية المنطوية على إعادة بناء الجنس البشري كنتيجة لإيمانه العام بوحدته وكليّته سوف تستتبع اكتساب الجماهير للروحانية نتيجة الاعتراف بدين حضرة بهاء الله والإقرار بمطالبه – وهذه الحال هي عينها اللازمة لصهر الأجناس والعقائد والطبقات والأمم، ذلك الانصهار الذي يشير الى انبثاق نظامه العالمي في حيز الوجود.’ ويمضي في قوله ‘هنالك يتم الإعلان عن بلوغ الجنس البشري قاطبة وتحتفل به كافة شعوب الأرض وأممها، وهنالك تُرفع راية الصلح الأعظم، وهنالك يُعترَف بسلطنة حضرة بهاء الله… على العالم بأكمله، ويُهلل لها، وتتأسس أركانها بكل ثبات. وعندئذٍ تُولَد حضارة عالمية تزدهر وتدوم، حضارة مفعمة بالحياة لم يشهد العالم شبهها أو حتى يمكن تصوُّرها… حينها يكون الكوكب، وقد جلّله إيمان سكانه بإله واحد والولاء لظهور إلهي واحد… بمثابة… ملكوت الله على الأرض القادر على تحقيق ذلك المصير الذي يفوق الوصف الذي قدّره الخالق له منذ الأزل ببالغ حكمته ومحبته.’

 

[1]       S. S. Rex.

[2]       وردت هذه الجملة في الطبعة الأولى للكتاب عام 1969 وقد آثرنا وضعها لتوضيح الجملة التي بعدها.

[3]       Menton.

[4]       St. Malo.

[5]       Southhampton.

[6]       S. S. Cape Town Castle.

[7]       Stanleyville.

[8]       كتاب “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، فقرة 61، ص 48، طبعة ثانية سنة 2006م.

[9]       رمال الساعة أي الساعة الرملية التي كانت تستعمل سابقًا.

[10]      ڤيشي هو رئيس الحكومة الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية، وحليف ألمانيا النازيّة.

 

[11]      “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، الفقرة 4، ص 2، الطبعة الثانية سنة 2006م. (ترجمة المترجميْن، الأصل فارسي)

[12]      “الكتاب الأقدس، الفقرة 181.

[13]      “مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله نزلت بعد الكتاب الأقدس، ص 152.

[14]      “منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله، الفقرة 61، ص 83، الطبعة الثانية سنة 2006م. (ترجمة المترجميْن، الأصل فارسي)

[15]      “ظهور حضرة بهاء الله، المجلد الثالث، صفحة 318.

الفصل العاشر آثار ولي الأمر الكتابية

في عصر عندما يلعب الناس فيه بالكلمات ككرة القدم ويتقاذفونها ذات اليمين وذات الشمال دون تمييز ولا احترام لمعانيها أو مراعاة لسلامة استخدامها، يبرز أسلوب شوقي أفندي في الكتابة بجماله الأخّاذ. إن سروره وابتهاجه وهو يصيغ العبارات ويكتب الكلمات يُعدّ واحدًا من أقوى مميّزات شخصيته، أَكَتَبَ باللغة الإنكليزية – التي أسْلَمَ لها قلبَه – أم بالمزج بين الفارسية والعربية اللتين اعتاد أن يخاطب بهما أهل الشرق في رسائله العامة. ومع أن شوقي أفندي كان في غاية البساطة في أذواقه الخاصة، إلا أنه كان يملك عشقًا فطريًا لكل ما هو نفيس وعريق. وقد ظهر هذا في أسلوبه بترتيب وتجميل الأماكن البهائية المقدسة على تنوعها، وفي طراز المقام الأعلى لحضرة الباب، وفي الطرز المعمارية التي كان يفضّلها، وفي انتقائه الكلمات المعبِّرة وصياغتها. ويمكن القول عنه، كما جاء في كلمات كاتب كبير آخر يدعى ماكولي[1] بأن حضرته ‘يكتب بلغة… دقيقة نورانية واضحة.’ وبخلاف غيره الكثيرين فإن شوقي أفندي قد كتب ما يعنيه وعنيَ بالضبط ما كتبه. من المستحيل أن نحذف كلمة من إحدى جُمله دون التضحية بجزء من معناها. أسلوبه في الكتابة غاية في الإيجاز والبلاغة، وكتاب مثل “القرن البديع” إنما هو في الحقيقة لُبابُ الجوهر. فمن ذلك السرد التاريخي الفريد لأحداث مائة سنة يمكنك تأليف خمسين كتابًا بكل سهولة دون أن يكون أحدهم سطحيًا في موضوعاته أو فقيرًا في مادته. كم هو غنيّ ذلك المصدر الذي وضعه ولي أمر الله أمام القارئ، وكم هي مركّزة معالجته لكل ما جاء فيه.

إن الأسلوب الذي كتب به شوقي أفندي، أكان لبهائيي الغرب أو الشرق، قد وضع لهم مقياسًا يوجب عليهم عدم الهبوط إلى مستوى أشباه المثقفين الذين يشكّلون غالبية الجيل الحالي بكل أسف فيما يخصّ اهتمامَهم بتقدير الكلمات وحُسْن استعمالها. لم يجارِ أبدًا جهل قُرّائه، بل كان يتوقع منهم أن يتغلّبوا على جهلهم بتعطُّشهم للمعرفة. درج شوقي أفندي، بكل ما لديه من مقدرة عالية، على اختيار الكلمات المعبِّرة عن أفكاره دون الأخذ باعتباره ما إذا كان الشخص العادي يستطيع فهمها أم لا. وعلى كلٍ فإن ما لا يعرفه المرء يمكنه أن يسعى إليه. ومع أنه كان يمسك بناصية اللغة ببراعة، إلا أنه بين الحين والآخر كان يراجع قاموس وبستر[2] الضخم، ليدقق في معنى كلمة يود استعمالها فيدعم معرفته بها باليقين، وغالبًا ما كانت إحدى مهامّي أن أناوله القاموس. كان حقًا مُجلّدًا ثقيل الوزن! كثيرًا ما كانت الكلمة التي يختارها تأخذ المعنى الثالث أو الرابع في قاموس اللغة، وأحيانًا تأخذ معنى إما قديمًا أو نادر الاستعمال، إلا أنه يجدها الكلمة المناسبة تمامًا في نقل المعنى الذي يريده فيبادر إلى استعمالها. أتذكر ما قالته لي والدتي يومًا: أن تصبح بهائيًا يعني كمن يدخل جامعة، إلا أنه لن يُنهي تعليمه ولن يتخرّج أبدًا. في ترجماته للكتابات البهائية، وفوق كل ذلك في مؤلفاته الخاصة، وضع شوقي أفندي نهجًا قياسيًا يمدّ القارئ بالمعرفة ويرفع مستواه الثقافي، ويغذّي في الوقت نفسه عقله وروحه بالأفكار والحقائق.

منذ بداية حياتي مع ولي الأمر وحتى منتهاها، كنت حاضرة معه بشكل شبه دائم حين تَرجم أو ألّف كتبه وكتب رسائله الطويلة وبرقياته باللغة الإنكليزية. ولا غرابة في هذا، فقد كان يحب أن يتواجد شخص ما في الغرفة في تلك الأوقات حتى يستمع إلى ما كان يكتب. فطريقته في الإنشاء كانت، بالنسبة لي، جديدة جذّابة وآسرة. كان حينما يكتب ينطق الكلمات بصوت عال. أظن أنها عادةٌ حملها معه من الفارسية واستعملها في الإنكليزية. فالإنشاء الفارسي والعربي الجيّد ليس فقط يمكنه أن يُتلى بلحن بل ويجب أن يكون كذلك. يتذكر المرء كيف أن حضرة الباب وهو ينزّل سورة “قيوم الأسماء” كان يتلو ما ينزله بصوت عالٍ، كما أن تنزيل ألواح حضرة بهاء الله كان بالطريقة نفسها. هكذا كانت عادة ولي الأمر في الكتابة بالإنكليزية والفارسية على السواء، ولهذا السبب كما أعتقد كانت جُمَلُهُ، حتى الطويلة منها والمتداخلة، تبدو أكثر انسيابًا وتفهُّمًا عندما تُقرَأ بصوت عالٍ. وعندما كنت أحيانًا أُعلِّق على طول بعض هذه الجُمَل كان شوقي أفندي يرفع رأسه وينظر إليَّ بعينيه الرائعتين، اللتين تتغيّران في اللون والتعبير كثيرًا، وفيهما لمحة من التحدّي والإصرار – ويُبقي على جملته الطويلة! أذكر حالة واحدة فقط أقرّ فيها، بغير ارتياح، بأن الجملة كانت طويلة ولكنه أصرّ على إبقائها دون تغيير لأنها جاءت معبّرة عما يريد قوله تمامًا، ولكن مع الأسف الشديد كانت طويلة جدًا. ومن ناحية أخرى كان يحب أحيانًا استعمال جُمل قصيرة جدًا متتابعة تأتي مثل قرقعة السوط، وكان يلفت نظري إلى هذا التغيير في نمط الكتابة مبيّنًا كيف أن لكل نمط تأثيره، وكيف أن الجمع بين النمطين يُثري كامل الموضوع ويحقق نتائج مختلفة. كان في صياغة الجملة يميل بشدّة الى الجناس[3] الذي يكثر استعماله في اللغات الشرقية ولم يعد الآن شائع الاستعمال في اللغة الإنكليزية، وأفضل مثال على ذلك ما تعطينا الجملة التالية من تكرار كلمات فيها تبدأ بحرف (P) استخلصتُها من إحدى برقياته:

“Time pressing opportunity priceless potent aid providentially promised unfailing”

كان أسلوب شوقي أفندي في صياغة النصّ أشبه بفنان الفسيفساء الذي يبدع في تشكيل لوحته بقِطَعٍ منفصلة واضحة ومحدّدة. فلكل كلمة موقعها الخاص. وإذا ما صاغ جملة معقّدة، فلا يبادر إلى تغييرها بقصد ملاءمتها مع فكرة يريدها، مع أنها لا تنسجم مع التركيبة اللغوية للجملة بكاملها، بل كان يتمسك بها، ويبقى أحيانًا على هذا الحال عدة ساعات يردد العبارة إلى أن أشعر أنا بالإرهاق على الأقل وهو يجاهد في سبيل تطويعها لما يريده، ويقوم أثناءها بطباعة قِطَعِهِ الفسيفسائية، الواحدة تلو الأخرى إلى أن يجد الحل لمشكلته. يندر كما أذكر أنه تخلّى يومًا عن جملة وبدأ بأخرى جديدة. وثمة خاصّية أخرى في اختياره الكلمات؛ فهو لا يرى سببًا في تجنُّب استخدام أو التخلي عن استعمال كلمة شاع استخدامها بشكل سيء أو أنها أساءت للفكرة المقدّمة، بل كان يستخدمها بمعناها الصحيح والدقيق. لم يتخوّف من التكلم عن ‘هداية’ conversion)) الناس إلى الدين البهائي، أو أن يدعوهم بـ ’المهتدين’ converted)). لقد أثنى على ‘الروح التبشيرية’ للروّاد الأوائل في ‘ميادين الإرساليات الأجنبية’، وفي الوقت نفسه أوضح بأن لا رهبنة لدينا، ولا إرساليات تبشيرية، ولا نقدم المغريات، ولا نلجأ الى الضغط بأنواعه.

أذكر مرة عندما أعطاني شوقي أفندي مقالاً لأقرأه ورد في صحيفة إخبارية إنكليزية، يُلفِتُ النظر إلى اللغة البيروقراطية الآخذة في التطوّر خاصة في الولايات المتحدة، والتي فيها يُستعمل الأكثر والأكثر من الكلمات التي تنقل للقارئ الأقل والأقل من الدلالات والمعاني ومن شأنها فقط أن تحيّر القارئ وتربكه. كان شوقي أفندي يؤيّد تمامًا ما جاء في المقال! فالكلمات برأيه أدوات في غاية الدقّة. أذكر أيضًا ذلك التمييز الجميل الذي أورده في حديثه مع بعض الزائرين في دار ضيافة المسافرين الغربيين حين قال: ‘نحن متديِّنون ولكننا غير متعصبين.’

كثيرًا ما كانت لغة ولي الأمر تحلّق إلى مستويات شعرية سامية عظيمة. انظروا إلى مثل هذه الفقرات التي تتألّق كبريق زجاج الكاثدرائيات: ‘وإننا إذ نستعرض مشاهد هذا الفصل الأول من فصول الأحداث السامية، لنشاهد هيكل بطل أبطالها – وهو حضرة الباب – يلمع في أفق شيراز كالشهاب ليعبُر سماء إيران المعتمة مارقًا من الجنوب إلى الشمال، ثم يهوي بسرعة مأساوية ويفنى في سناء المجد. ونرى هالته، نجومًا كثيرة من الأبطال النشاوى بخمر الله، يشرقون في الأفق نفسه، ويسطعون بالنور المتوهّج ذاته، ويحترقون بتلك السرعة عينها. فيضيفون بدورهم قوة جديدة إلى تلك القوة المتزايدة التي يستجمعها بثبات دين الله الجديد.’[4] لقد وصف ولي الأمر حضرة الباب بـ ’ذلك الشاب أمير المجد’، ووصف استقرار عرشه على جبل الكرمل بقوله: ‘فلما انتهى كل شيء وأودعت بعد أمد طويل رفات المظهر الإلهي الشيرازي الشهيد مقرّها الأخير في صدر جبل الله المقدس، خلع حضرة عبد البهاء عمامته وخلع نعليه ونزع عباءته وانحنى بخشوع فوق التابوت وكان ما زال مفتوحًا، وشعره الفضيّ يتماوج حول رأسه وأسارير وجهه تتألّق بالبِشْر، ثم استراح بجبينه على حافّة التابوت الخشبي وشهق شهيقًا عاليًا ثم بكى بكاءً أبكى من كان حوله’، ‘أما الفترة الثانية… فتستمدّ إلهامها من شخص حضرة بهاء الله الشامخ فائقًا في قداسته، مُذْهِلاً في جلال قوته وقدرته، متفرّدًا في إشراق مجده الفائق’، ‘وسط الظلال القاتمة التي يزداد تجمُّعُها حولنا، يمكننا أن نتبين ومضات من سلطنة حضرة بهاء الله الملكوتية تظهر متلألئة في أفق التاريخ’، أو تلك الكلمات التي خاطب فيها الورقة المباركة العليا: ‘في أعماق قلوبنا شيّدنا لكِ أيتها الورقة العليا في الجنة الأبهى قصرًا منيرًا لن تقوّضه يد الزمان، ومقامًا سوف يُجسِّد محيّاكِ الجليل اللامثال أمدَ الدهر، ونصبًا تبقى فيه نار محبّتِكِ مشتعلة إلى الأبد’، أو هذه الكلمات التي ترسم صورة لعقاب الله في هذا اليوم: ‘في أعالي البحار، في الفضاء وعلى اليابسة، في جبهات القتال، في قصور الملوك والسلاطين وأكواخ البسطاء، وفي أعظم الحُرُمات قداسةً – دينية كانت أم علمانية – فإن شواهد قصاص الله وتأديبه الخفيّ ظاهرة واضحة. فصوت ناقوسه المدوّي يعلو باطّراد – مَحْرَقة لا تُوفّر أميرًا ولا وضيعًا، ولا رجلاً ولا امرأة، ولا صغيرًا أو كبيرًا.’ أو هذه الكلمات الخاصة بخدّام أمر الله البررة ‘لمثل هكذا رجال ونساء يمكن أن يُقال عنهم حقًا’ ‘كل الأوطان أوطانهم، وكل الأوطان غريبة عنهم.’ لأن مواطنتهم… هي في ملكوت حضرة بهاء الله، ومع أنهم راغبون في أن يأخذوا نصيبهم من متاع الدنيا الفانية ومباهجها الزائلة بأقصى ما يستطيعون، وتوّاقون إلى المشاركة في أي نشاطات تؤدي بهم إلى الثراء والحصول على البهجة والأمان في هذه الحياة، إلا أنهم لا يغفلون في كل وقت عن أنها مجرّدُ دارِ بَوَارٍ وعبور، وأنها مرحلة مختصرة جدًا لوجودهم، وأن الذين يعيشونها إنما هم حجّاج وعابرو سبيل ليس إلاّ، غاية ترحالهم مدينة الله، ووطنهم بلد لا يعدمه الفرح والابتهاج.’

إن قدرة قلم شوقي أفندي في الوصف أفضل ما تُرى في عبارات هي أشبه بالجواهر اختارها باللغة الإنكليزية ليصوّر لنا مقامَ حضرة بهاء الله. والكلمات التالية جميعها مُقتبسة من كتابات ولي الأمر ومختارة من عدة مصادر، ولكنني جمعتها هنا لتنقل للقارئ مدى اتساعها وقوتها الاستثنائيتين: ‘الأب الأبدي، رب الجنود، الاسم الأعظم، جمال القدم، القلم الأعلى، الاسم المكنون، الكنز المخزون، نور الأنوار، البحر الأعظم، سماء الرفعة، الأصل القديم، نير الآفاق، القاضي، المشرّع، مخلّص الإنسانية، منظّم الكوكب كله، موحّد بني الإنسان، فاتح العصر الألفي المُرْتَجى، مُبدِع النظام العالمي الجديد، مؤسس السلام الأعظم، منبع العدل الأعظم، معلن بلوغ النوع الإنساني سن الرشد، مُلهِم الحضارة العالمية ومؤسسها.’ وخذ أيضًا ترجمة شوقي أفندي الرائعة لألقاب كتلك التي أطلقت على حضرة عبد البهاء: “المنبع الرئيس لوحدة العالم الإنساني”، “راية الصلح الأعظم”، “غصن شريعة الله”.

عندما نهض أتباع حضرة عبد البهاء الأمريكيون لتنفيذ خطته كتب شوقي أفندي عنهم قائلاً: ‘بعملهم هذا هم يطوّقون العالم بهالة من مجد’، وماضون نحو ‘تزيين دروعهم بأوسمةُ انتصارات جديدة’. في رسالة الرضوان الأخيرة الموجّهة إلى العالم البهائي نجده يحثّ أتباع حضرة بهاء الله بكلمات فريدة في روعتها: ‘مرتدين درع حبّه، متشبّثين بكل حزم بدرع ميثاقه الجبار، ممتطين صهوة الاستقامة والثبات، رافعين عاليًا راية كلمة ربّ الجنود، معتمدين بالكُلّية على وعوده التي اتخذوها زادَهم الأفضل في رحلتهم، فليتوجهوا نحو تلك الميادين التي لم تُستكشف، وليوجّهوا خطاهم نحو تلك الأهداف التي لم تُحرز بعد، واثقين بأن ذاك الذي قادهم ليحرزوا انتصارات كهذه، ويدّخروا في خزائن ملكوته هكذا جوائز، سوف يتابع فيض عونه وتأييده في إثراء حقهم في البكورة الروحانية على شأن لا يمكن معه لعقل محدود أن يتخيله أو لقلب بشر أن يدركه.’

هناك الكثير الكثير من جوانب الحياة الأدبية لشوقي أفندي. بمقدوري أن أُسمّي على أصابع اليد الواحدة ما قرأه من كتب (غير كتب محبوبه غيبون) من أجل الراحة والاستجمام خلال السنوات العشرين التي قضيتها معه، مع أن قراءاته في فترة شبابه كانت مكثَّفة جدًا في مواضيع شتى. ويُعزى ذلك دون شك إلى حقيقة أنه بحلول عام 1937، عندما قَدِمْتُ إلى حيفا لآخذ مكاني في حياتي الجديدة، كان شوقي أفندي أصلاً مغمورًا بالكمّ الهائل المتزايد من المواضيع التي يتوجب عليه قراءتها بحكم عمله ومسؤولياته؛ من قبيل الرسائل الإخبارية، ومحاضر جلسات المحافل الروحانية المركزية، والنشرات الدورية، وما يأتيه بالبريد. وكان حتى أواخر أيام حياته، لو لم يقضِ يوميًا ساعتين أو ثلاثًا على الأقل في القراءة، لن يكون باستطاعته مجاراة متطلّبات عمله على الإطلاق؛ لقد قرأ في الطائرات والقطارات والحدائق وعلى مائدة الطعام عندما نكون بعيدين خارج حيفا، أما في حيفا فكان ينكبّ على مكتبه ساعة بعد ساعة إلى أن يُنهِكه التعب فيذهب إلى سريره ويجلس في فراشه ليتابع القراءة. كان دومًا على اطّلاع بالأخبار السياسية والتوجُّهات العالمية من خلال صحيفتَي التايمز والجروساليم بوست، وأحيانًا تلك الصحف الأوروبية اليومية المشهورة مثل صحيفة جنيف والطبعة التي تصدر في باريس لصحيفة نيويورك هيرالد تربيون. وقبل نشوب الحرب كان مشتركًا بالمجلة الإنكليزية “القرن التاسع عشر”[5] التي كانت تضم عدة مقالات حول الأوضاع الحالية، وهي المجلة الوحيدة على حدّ علمي التي كان يقرأها، إلا أنه وجد أن مستواها قد تدنّى بعد الحرب فتركها. غالبًا ما كانت تتردد على شفتيه كلمة: ‘تجاهل’. كان يتجاهل كل ما هو غير أساسي، ويتخلص سريعًا من كل ما هو ثانوي منحِّيًا جانبًا ما يعتبره توافه الحياة. اعتاد أن يتبع النهج نفسه عند تصفّح جريدته. كان يعرف تمامًا أي الصفحات تحمل أخبارًا يريد أن يتصفّحها من صحيفة التايمز – العناوين الرئيسة، أخبار العالم وفي مقدِّمتها مقالات المحررين –
فيُلقي نظرة سريعة عليها ثم يبدأ بأصابعه في اقتطاع المقالات التي يريد أن يتصفّحها أو تلك التي سيقرأها بعناية، ويُلقي بالباقي بعيدًا – لأنه صرَفَ عنه النظر! فالأمر لا يحتاج إلى كثير فِطنَةٍ لندرك أن ذلك الإجراء، إلى جانب أنه فعّال، ما هو إلا انعكاس للضغط الذهني الكبير الذي كان يعاني منه حضرته محاولاً إقصاء أعباء كثيرة، وحتى قصاصة ورق إضافية أصبحت بالنسبة إليه عبئًا. كان من العسير عليّ أن أجد فرصة لتصفُّح جريدة بكاملها أو قراءة أي شيء فيها، إلا من قصاصات طويلة واحدة تلو الأخرى كان يناولني إياها ويقول: ‘إقرئيها فهي مثيرة للاهتمام’، وعندها أجد نفسي أقرأ مناظرة جرت في مجلس العموم (البريطاني)، أو مقالة حاذقة تتناول الوضع السياسي، أو الاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة، أو مواضيع دينية… وهكذا. وكلها ملء راحة اليد غير مرتّبة فأحشوها في حقيبتي أو جيبي بانتظار فرصة سانحة بعيدة تمَكِّنني من إيجاد وقت لقراءتها.

كان نهج الكتابة عند ولي الأمر مثيرًا للاهتمام: ما كان يرغب في استعمال الورق ذي الحجم الكبير، وعادة ما كان يكتب كتبه ورسائله الطويلة على ورق ملاحظات صغير مسطّر [paper pad]، ويكتب كل إنشائه بخط يده. فإذا كانت المسودة الأولى كثيرة الشطب والتغيير، كان يجلس ويستنسخها كلها بصبر وأناة. كان يطبع كل ما يكتبه على آلةِ طابعةٍ محمولة صغيرة جدًا مستعمِلاً إصبعين فقط ومُجْريًا بعض التعديلات اللازمة أثناء الطباعة. وبهذا الأسلوب لا عجب أن نراه يُتْحِفنا بأعمال رفيعة مبهرة خَطَّها قلمه. وعندما يكتب بالفارسية كان يعطي سكرتيره نسخة أصلية نظيفة بخط يده ليقوم بنسخها بخط فارسي جميل حتى يرسلها ولي الأمر بعد ذلك إلى طهران. وما كان يثير اهتمامي دائمًا نمط كتابته للأحرف الإنكليزية الذي تطوّر إلى خط يميل قليلاً إلى اليسار بعد أن أصبح وليًا للأمر، ودائمًا ما كانت الأحرف تبدو قوية متقنة الانحناء وواضحة تسهل قراءتها. خط يده بالفارسية كان رائعًا، هناك عدد من الخطوط المتنوعة بالفارسية والعربية، إلا أن خطّه بالفارسية كان مختلفًا بعض الشيء عن نوع “الشكسته نستعليق” إذ نلمس في أحرفه جمالاً وإبداعًا، رشاقةً وقوّة كامنة فيها. على المرء أن يتذكر أن فن الخط هو أرفع الفنون التصويرية في البلدان الإسلامية، وكان الخط الجميل معيار التميّز للرجل المثقّف الذي يملك هذه الموهبة. فحضرة الباب وحضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء امتازوا بخطّهم الجميل، وكذلك شوقي أفندي الذي برهن على أهليته أيضًا لهذا الإرث البديع.

مع كل هذا، لم يكن ولي الأمر ليعمد الى المبالغة في التدقيق بالتفاصيل، فعندما كان يراجع صفحات كثيرة من الرسائل التي أقوم بإعدادها للمحافل الروحانية المركزية وتكون طويلة أحيانًا، كان يضع في الهوامش سلسلة من الإكسات (X, XX, XXX) من أجل أن أضيف هناك كلمة أو فكرة لم ترد. وعندما كان السكرتير ينتهي من كتابة الرسالة كان شوقي أفندي يبادر إلى كتابة ملاحظته بنفسه وهو يدور بها في الحواشي حول الصفحة، منتقلا من صفحة الى أخرى كما هو معمول به في الأسلوب الشرقي في حقيقة الأمر. ما أحاول قوله هنا أنه لم يكن يزعجه قَطُّ وجود أخطاء مُصحَّحة على نَصّ الرسالة بأكملها باللغة الإنكليزية طالما أن الفكرة الواردة فيها واضحة تمامًا.

ومهما قلنا، لا نستطيع مطلقًا أن نؤكد بشكل كافٍ على الأهمية القصوى التي تحتلّها تراجم شوقي أفندي ورسائله بالإنكليزية كون حضرته المبيّن الوحيد والمفسّر المعتمد للآثار المباركة الذي عيّنه حضرة عبد البهاء في ألواح وصاياه لهذا الغرض. هناك شواهد كثيرة على إمكانية حدوث التباس في المعنى المقصود لدى القارئ بسبب طبيعة المرونة في تركيبة الجمل باللغة الفارسية. فعندما اقترنت اللغة الإنكليزية السليمة المصاغة بعناية، والتي لا تحتمل في المقام الأول مثل ذلك الالتباس، بالعقل اللامع لشوقي أفندي ومقدرته كمبيّن ومفسّر للكلمة الإلهية، غدت ما يمكن تسميتها بحق الوسيلة لبلورة التعاليم الإلهية. وبالرجوع إلى تراجم شوقي أفندي باللغة الإنكليزية غالبًا ما كان يتوضح المعنى الأصلي لبيانات حضرة الباب أو حضرة بهاء الله أو حضرة عبد البهاء، وهكذا تُصان الكلمة الإلهية من زلل التفسير الخاطئ مستقبلاً. كان شديد الدقّة في الترجمة إلى أبعد الحدود، ويتأكّد بشكل قاطع أن الكلمات الإنكليزية التي يستعملها إنما تحمل المعنى الأصلي للفكرة أو الكلمة ولا تحيد عنه. يجب أن يكون الشخص ضليعًا بالفارسية والعربية حتى يدرك حقيقة ما فعله حضرته. فلدى قراءة بيان مبارك بلغته الأصلية مثلاً يجد المرء أن كلمة واحدة باللغة العربية عُرضة لأن تُترجم إلى الإنكليزية بكلمتين أو أكثر، وهكذا فإن شوقي أفندي في تركيبته الإنشائية للجمل باللغة الإنكليزية قد يختار بالتناوب واحدة من هذه الكلمات الثلاثة (power, strength, might) لتحلّ محلّ تلك الكلمة الواحدة [القوّة]، وتحقق الأفضل في المعنى، وبذلك يتجنب تكرار الكلمة نفسها مما يضفي على ترجمته أزهى الألوان البلاغية دون التضحية بالمعنى الحقيقي، بل ويعمل على تعزيزه حقًا. اعتاد أن يقول إن مترادفات الكلمات العربية تحمل في طياتها المعنى نفسه، أما في الإنكليزية فهناك دومًا ظلٌّ فارقٌ بسيط جدًا يجعلها قادرة على التعبير عن الفكرة على نحو أدق. وقال أيضًا إنه يعتقد أن قلّة من كتابات حضرة بهاء الله ذات الصبغة الصوفية والشعرية الرفيعة، لا يمكن ترجمتها إطلاقًا، لأن الترجمة في هذه الحالة يمكن أن تصبح عبارات منمّقة برونق بلاغِيٍّ مصطنع تُفقد الأصل جماله ومعناه وتعطي عنه انطباعًا خاطئًا تمامًا. وذات مرة – وهي للأسف كانت الوحيدة في حياتنا المرهقة والمشحونة بالعمل – قال لي شوقي أفندي بأنني الآن أعرف من اللغة الفارسية ما يكفيني لفهم النصّ الأصلي، وقرأ عليّ فقرة من لوح مبارك لحضرة بهاء الله وقال: ‘كيف يمكن للمرء أن يترجمه إلى الإنكليزية؟’ حاولنا ذلك مدة ساعتين، بمعنى أنه كان هو يحاول وأنا أتابعه عاجزة مرهقة، وكلما اقترحْتُ عليه جملة تؤدي المعنى المطلوب [في رأيي] كان يقول: ‘آه ولكن هذه ليست ترجمة! لا يمكنُكِ أن تغيّري أو تُسقطي كلمات وردت في الأصل وبكل سهولة تضعي ما تعتقدين أنه يطابق المعنى بالإنكليزية.’ وقد وضّح أن على المترجم أن يكون بمنتهى الأمانة للنص الأصلي، وهذا يعني أنه في بعض الحالات قد يكون ما يُصاغ بلغة أخرى يأتي أحيانًا رديئًا وحتى لا معنى له، ولما كانت كلمات حضرة بهاء الله دائمًا في غاية الروعة والسموّ والجمال فإن ترجمتها بهذا الأسلوب يجعلها غير ممكنة. وفي النهاية توقّف شوقي أفندي عن محاولة ترجمته تلك الفقرة وقال بأنه لا يعتقد أبدًا بإمكانية ترجمتها إلى الإنكليزية كما يليق وينبغي، وهذه الفقرة الواحدة كانت أبعد من أن تكون الأكثر غموضًا بين كتابات حضرة بهاء الله ذات الصبغة الصوفية.

أنا أعلم عن حالة واحدة فقط قال فيها شوقي أفندي بأنه أجرى تعديلاً طفيفًا على شيء ورد في النص الأصلي وكان ذلك عندما ترجم وصيّة حضرة عبد البهاء بعد صعوده مباشرة. كانت الجملة المعنية هي التي تشير إلى بيت العدل الأعظم، ‘وولي أمر الله هو الرئيس المقدس لهذا المجلس والعضو الأعظم الممتاز مدى الحياة’، فذكر بأنه استبدل العبارة الأصلية، ‘الذي لا ينعزل’ بـ ’مدى الحياة’، ولا شيء أظهر من هذه اللهجة الوادعة يمكن أن يكشف عن عمق تواضعه في علاقته ببيت العدل الأعظم.

كان ولي الأمر حريصًا جدًّا في كل ما يتعلّق بالنص الأصلي للكلمة الإلهية، ولم يعمد أبدًا إلى التوضيح أو التعليق على ترجمة إنكليزية لنصّ أصلي يُسَلَّم إليه (عندما لا تكون ترجمته) إلا بعد أن يتأكد من صحة الترجمة بمقابلتها بالنص الأصلي. كان شديد العناية في انتقاء الكلمات التي يستعملها في تعليقه على مختلف الأحداث في الأمر المبارك، رافضًا مثلاً تسمية شخص ما شهيدًا – وهو تعبير عن مقام – فقط لأنه قُتل، بينما يعتبر أحيانًا أُناسًا شهداء مع أنهم لم يموتوا قتلاً لأنه رأى أن طبيعة الظروف التي رافقت موتهم تتفق وظروف الشهادة.

هناك جانب آخر له أهميته القصوى في المقام الإلهي الذي أُسبِغ على شوقي أفندي كمبيّن للتعاليم المباركة. فهو لم يعمل على حماية الكلمة المقدسة من سوء الفهم أو التفسير فحسب، بل حافظ بكل عناية على علاقة الجوانب المختلفة للتعاليم المباركة وأهميتها لبعضها البعض أيضًا، إلى جانب ضمان سلامة المقام الحقيقي لكل من الشخصيات الرئيسة الثلاثة للدين البهائي. هناك مثال على ذلك يسترعي الانتباه عكسته رسالة للسيد أ. ل. م. نيقولاس[6]، وهو باحث فرنسي ترجم كتاب البيان لحضرة الباب إلى اللغة الفرنسية، ومن الصواب وصفه بأنه بابيٌّ. فعلى مدى سنوات عدة كان هذا الباحث يحمل انطباعًا بأن البهائيين تجاهلوا عظمة حضرة الباب وقلّلوا من شأن مقامه، وعندما اكتشف أن شوقي أفندي في كتاباته قد مجّد حضرة الباب وخلّد ذكراه في صفحات كتاب مثل “تاريخ النبيل”، وترجم كلمات حضرته إلى الإنكليزية مرارًا، فقد تغيّر موقف الباحث الفرنسي بالكلية، إذ في رسالة وجّهها لواحدة من الأحباء القدامى في فرنسا كتب يقول: ‘الآن يمكنني أن أموت مطمئنًا… المجد لشوقي أفندي الذي خفف من عذابي وهدّأ من قلقي. المجد له بما كشف عن حقيقة مقام السيد علي محمد الملقّب بالباب. أنا مرتاح تمامًا لدرجة أُقبّل فيها يديكِ اللتين خطّتا عنواني على المغلّف الذي حمل لي رسالة شوقي أفندي. أشكركِ أيتها الآنسة وأشكركِ من صميم قلبي.’

كان شوقي أفندي جلودًا وعمليًا في إقدامه على عمله، ولعدّة سنوات دأبَ على إرسال تراجمه ومخطوطاته إلى جورج تاونزند[7]، الذي كان حضرته يكنُّ له بالغ الإعجاب نظرًا لمعرفته وتمكّنه من اللغة الإنكليزية. وفي إحدى رسائله كتب شوقي أفندي إليه قائلاً: ‘أنا في غاية الامتنان لك على ما أرسلته لي من اقتراحات قيّمة جدًا مُفصَّلة ومُعَدَّة بعناية…’، كما أن هورِس هولي كان يضع العناوين لكثير من رسائل شوقي أفندي العامة الموجّهة إلى الغرب، وعناوين فرعية أيضًا يُدخلها خلال النص ينتقيها من عبارات وردت في كتابات ولي الأمر من شأنها أن تمنح أفضل وصف للموضوع بشكل عام. لم يرَ شوقي أفندي في ذلك ما يوجب الاعتراض طالما أنه يُسهِّل على القارئ قراءة كلماته، ويجعلها أكثر وضوحًا وتفهّمًا لدى المؤمن الأمريكي متوسط الثقافة. كان هورِس هولي كاتبًا، ولم تكن العناوين التي يضعها لرسائل ولي الأمر من أجل أن تخدم في تعريف الأحباء بموضوعها فحسب، بل ليضعها في قالب مؤثر جذّاب يأسر خيالهم أيضًا.

كان من أول أعمال شوقي أفندي في بداية ولايته أن باشر بنشر تراجمه للآثار المباركة. فبعد سنة وعشرة أيام على قراءة ألواح وصايا حضرة عبد البهاء نجده يكتب إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا قائلاً: ‘من دواعي بالغ سروري أن أشارككم بترجمة بعض المناجاة والألواح المباركة لمولانا المحبوب…’ ويمضي في قوله مضيفًا بأنه واثق من ‘أنني سوف أتمكّن، بمرور الوقت، من أن أرسل إليكم بانتظام تراجم صحيحة ومُعتَمدة… من شأنها أن تكشف لأنظاركم رؤية جديدة لمهمّة حضرة بهاء الله المجيدة… وتمنحكم بصيرة نافذة لإدراك ميزة تعاليمه السماوية ومغزاها.’ ومرة تلو الأخرى، في رسائله المبكرة إلى أقطار مختلفة، كان يذكر بأنه يرفق ترجمة لشيء ما يرسله للبهائيين. وبعد شهر نجده يقول في رسالة أخرى موجّهة إلى أمريكا: ‘كما أرفق بطيه ترجمتي المنقّحة للكلمات المكنونة لحضرة بهاء الله المنزّلة بالعربية والفارسية متطلِّعًا إلى إرسال المزيد من كلمات حضرته وتعاليمه في المستقبل.’ وفي 27 إبريل/ نيسان من ذلك العام كتب شوقي أفندي ثانية للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا يقول: ‘كما أرفق طيًا ترجمتي لفقرات مختلفة من “الكتاب الأقدس”، ولكم مطلق الحرية في نشرها بين الأحباء.’ وفي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من ذلك العام كتب إلى المحفل الروحاني المركزي نفسه بأنه مرسل إليه ‘مصطلحات شرقية مكتوبة بالأحرف اللاتينية… وهو على ثقة بأن الأحباء لن يشعروا بأن طاقتهم وصبرهم قد نفِدا نتيجة التزامهم التام بمجموعة رموز معتمدة تتحكم في كيفية لفظ المصطلحات الشرقية.’ لا شك أن ترجمة المصطلحات مع طريقة اللفظ عمل شاق ومُربِك في الغالب، إلا أن ما لا يدركه الشخص العادي أن كتابة لفظ الكلمة بالضبط إنما تُثبِّت قراءتها بالشكل السليم، أما مَنْ لهم دراية بهذا الأسلوب سيدركون في الحال أصل الكلمة لأن بمقدورهم استرجاعها وتصريفها بالعربية أو الفارسية. وبالنسبة للباحثين والناقدين للدين البهائي فإن هذه الدقّة في غاية الأهمية لأنها تخدم أيضًا هدف تجنّب تعدد أشكال لفظ الكلمة نفسها والارتباك في لفظها.

من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن شوقي أفندي نفسه في المقتطف أعلاه كتب عبارة “كتابِ أقدسْ” كما يلفظها تقريبًا، إذ لم يكن حينها قد أدخل أسلوب كتابة الكلمة بلفظها السليم إلى ترجمته كما تبنّاه فيما بعد. وثمّة كلمة يجب أن تقال بشأن “الكتاب الأقدس”، فرغم أنه مصدر أحكام وتشريع حضرة بهاء الله إلا أنه كتاب صغير الحجم ويتضمّن مواضيع أخرى في معظمه. وإلى أن صعدت روح شوقي أفندي من هذا العالم كان قد منح أحباء الغرب ترجمة إنكليزية بلغة رائعة لمعظم فقرات “الكتاب الأقدس”، بالإضافة إلى كل الأحكام التي شعر أنها قابلة للتطبيق في هذا الوقت من قبل بهائيين يعيشون في مجتمعات غير بهائية. هو لم يترجم وينشر فقرات من التعاليم المباركة فحسب، بل ضَمِن أن المؤمنين أيضًا، بحماسهم المفرط وافتقارهم الى بعد النظر، لن يذهبوا بعيدًا في الأسلوب الذي به يحررون مجموعات من النصوص البهائية ويطبعونها. وردًّا على اقتراحات معيّنة لأحد الأحباء فيما يتعلق بطباعة كتاب شامل للدعاء، كتب إلى مُرسل الاقتراحات قائلاً: ‘أوافقه الرأي شريطة ألا يتجاوز التصنيفُ ما يأمر به حضرة بهاء الله ويفرضه، وإلاّ سنجد أنفسنا غرقى عقيدة متزمّتة صارمة.’

إن تأليف وترجمة ونشر الكتب البهائية كان واحدًا من اهتمامات ولي الأمر الرئيسة التي دعمها شخصيًا بكل فعّالية ولم يتغاضَ عنها قط. فالوضع المثالي للجامعات المحلية والمركزية أن تسعى إلى توفير المال اللازم للقيام بنشاطاتها، إلا أنه في عصر التكوين هذا لأمرنا المبارك، أدرك ولي الأمر تمامًا أن هذا ليس ممكنًا على الدوام، لذلك قدّم الدعم المالي، وبقوّة، على مدى السنوات في تمويل ترجمة ونشر الآثار الكتابية البهائية من الصناديق التي كانت تحت تصرّفه. وفي الحالات الطارئة، عندما يكون تحقيق الأهداف العزيزة والهامّة جدًا على كفّة الميزان، كان شوقي أفندي يعمل فورًا على معالجة هذه الثغرة. وهكذا نجد أنه في سنة واحدة فقط دعم المحفل الروحاني المركزي في الهند بتبرعات تجاوزت ألفي جنيه من أجل تنفيذ برنامجه الخاص بالترجمة والنشر. وحالما انفضّ المؤتمر العالمي الأمريكي الذي افتتح به خطة جهاد السنوات العشر، نجد شوقي أفندي يبرق للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا قائلاً: ‘اتخذوا فورًا خطوات من أجل نشر كتيّبات باللغات المتداولة في أمريكا.’ وبعد يومين نجده يبرق إلى لجنة التبليغ الأوروبية بالموضوع نفسه ذاكرًا ‘اللغات الأوروبية’، ثم يرسل رسائل مماثلة إلى الهند وإلى بريطانيا التي أكّد لها أنه سيرسل ألف جنيه في وقت لاحق لمساعدتهم. منذ اليوم الأول لولاية شوقي أفندي تركّز اهتمامه المتواصل على نشر المطبوعات البهائية بلغات مختلفة وعلى نطاق واسع، وهو وحده الذي كان مسؤولاً عن غالبية التراجم التي تمّت خلال سنوات ولايته الست والثلاثين. لم يترك فرصة إلا واغتنمها، ومثال على ذلك رسالته إلى بولندي كان يُعِدّ بحثًا في التعاليم في بولندا يخبره فيها بأنه مرسل له كلمات الملكة ماري – ملكة رومانيا – حول الأمر المبارك ويطلب منه أن يترجمها إلى البولندية ويعيدها إليه! كان ذلك في عام 1926، إلا أنه وحتى نهاية حياته تميّز أسلوب عمله في هذا المجال بهذا الحماس والمثابرة نفسها.

بالإضافة إلى هذا، فقد وجّه كبيرَ اهتمامه في السنوات الأولى لولايته إلى التشجيع على إصدار مجلة بهائية بلغة الإسبرانتو عندما أخذت هذه اللغة تنتشر بسرعة خاصةً في أوروبا، ووضّح لمدير تحريرها بأن اهتمامه راجع إلى ‘رغبتي الشديدة أن أعزِّز وأدعم دراسة لغة عالمية في أجزاءَ كهذه من العالم البهائي حسب ما تسمح به الظروف الراهنة.’

لقد جمع ولي الأمر في حيفا آثارًا كتابية بكل اللغات، فوضَعَ كتبًا في مكتبته الخاصة وفي مكتبتَي دارَي ضيافة المسافرين، وفي قصر حضرة بهاء الله في البهجة، وفي محفظة الآثار العالمية. من الجدير ملاحظته هنا كيف كان يضع تلك الكتب ويرتّبها لأنني لم أعهد مثل هذا من قبل: فلو قلنا مثلاً لديه مجموعة من كتب لون غلافها باهت، وبعض الطبعات الرخيصة، ومجموعة أخرى أكبر باللون الرمادي، وعدد أكبر باللون الأزرق أو بلون آخر. بهذه المجموعات اعتاد أن يملأ رفوف كتبه بأنماط على هذا المنوال: خمسة باللون الأحمر يليها اثنان بالأزرق ثم خمسة بالأحمر… وهكذا، مستخدمًا التنويع في اللون والعدد حتى يضيف إلى التأثير العام لخزانة الكتب مسحة من الجاذبية، وحتى لا يكون مظهرها رتيبًا لا يلفِت الأنظار.

في رسالة له إلى مارثا روت عام 1931 كتب يقول: ‘في غرفتي الآن نسخ لسبع تراجم مطبوعة.’ (وكانت لكتاب د. إسلمنت)، ويستنهض همّتها لطباعة المزيد من التراجم بقوله: ‘سأكون في منتهى السعادة للمساعدة في نشرها عندما تكون جاهزة.’ وبعد سنة يكتب ولي الأمر إلى ‘السيد مصطفى الرومي’ في بورما موضّحًا له كم كان رضاه وارتياحه في نشر تلك المطبوعات الجديدة، ويقول بأنه ‘… يرفق طيّه مبلغ تسعة جنيهات للمساعدة والإسراع في إنجاز ترجمة الكتاب إلى اللغة البورمية، وأن ست عشرة من التراجم المطبوعة قد جُمعت معًا ووُضعت في قصر حضرة بهاء الله في البهجة القريب من مرقده المبارك، وأن الكتاب قد تُرجم حتى الآن إلى ست عشرة لغة إضافية بما فيها اللغة البورمية.’ وبحلول عام 1935 كان حضرته في وضْعٍ يمكّنه من أن يخبر الشخص البهائي نفسه بأن: ‘هناك الآن إحدى وثلاثون ترجمةً مطبوعةً من الكتاب [كتاب د. إسلمنت] قد أصبحت متداولة في أنحاء العالم البهائي.’

هناك عدد لا يُحصى من البرقيات في سجلات شوقي أفندي كتلك التي أرسلها إلى أصغرزاده في لندن كانت على النحو التالي: ‘لطفًا، أعْلِمني برقيًا بأقل التكاليف لطباعة كتاب إسلمنت باللغة الروسية.’ من الواضح أنه استلم منه جوابًا فأبرق إليه يقول: ‘مرسلٌ إليك بالبريد مبلغ أربعين جنيهًا. أعتقد أن خمسمائة نسخة تكفي. أرسلتُ إليك اليوم بالبريد الجزء الأول من الكتاب بالروسية وسأرسل الباقي قريبًا. لك مني عميق التقدير على تعاونك في خدماتك المستمرة.’ كما أبرق إلى أوسكولي[8] في شانغهاي قائلاً: ‘أعلِمني برقيًا بتاريخ نشر كتاب د. إسلمنت. أرسل لي بالبريد خمسين نسخة. بكل محبة.’ في غمرة انشغاله وحياته المزدحمة بالأعمال كان شوقي أفندي، بين الحين والآخر، يقيّم الأمور ويزنها ويقرر أن جانبًا من جوانب العمل يتطلّب دعمًا ودفعًا حيويًا فوريًّا. مثال ذلك أربع برقيات كُتبت تباعًا في يوم واحد من عام 1932 إلى مارثا روت في أوروبا وإلى أمريكا ونيوزيلندا وبورما قال فيها: ‘أشعر بقوة إلى الحاجة الماسّة الفورية لترجمة كتاب د. إسلمنت إلى اللغة التشيكية والهنغارية والرومانية واليونانية، كمقدمة للحملة التبليغية المكثّفة في أوروبا. أتوق لمساعدتكم ماليًّا، منتظرًا تقديراتكم. بكل محبة.’ ‘لي رغبة شديدة أن تباشروا فورًا بترجمة كتاب د. إسلمنت إلى لغة بريل[9] للمكفوفين. لطفًا أعلموني برقيًا إذا كان هذا ممكنًا. بكل محبة.’ ‘أعلموا ب ــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يتكفّل بترجمة كتاب د. إسلمنت إلى اللغة الماورية فورًا (لغة شعب نيوزيلندا الأصلي).’ ‘نحثّكم على الشروع بترجمة كتاب د. إسلمنت فورًا إلى اللغة البورمية. مع المحبة.’ ويبدو أن صبره قد عِيل من شح النتائج في مختلف المشاريع التي بدأها، فنجده يبرق في وقت لاحق من تلك السنة قائلاً: ‘هل صدر كتاب د. إسلمنت بالفرنسية؟ أبرقوا.’ ‘ننتظر بشوق صدور طبعة كتاب إسلمنت باللغة الكردية.’

لقد شجّع شوقي أفندي مختلف الأحباء على الكتابة عن الأمر المبارك. ففي برقية له عام 1927 إلى الآنسة بنكون[10]، وهي بهائية إنكليزية، خاطبها بقوله: ‘كتابُكِ في طريقة عرضه يدعو للإعجاب، كما أنه رائع في أسلوبه. بادري إلى نشره بسرعة. مرسل إليكِ تسعة عشر جنيهًا.’ وفي عام 1926 أبرق إلى هورِس هولي قائلاً: ‘لطفًا، أرسل لي بالبريد مائة نسخة من كتابك. بكل محبة.’ لم يكتفِ شوقي أفندي بالتبرع ماليًا من أجل طباعة ونشر الكتب البهائية، بل غالبًا ما كان يطلبها. فنراه يبرق لأمريكا قائلاً: ‘لطفًا، أرسلوا لي بالبريد كتبًا من أرخص الطبعات لكتاب د. إسلمنت بقيمة خمسين دولارًا. مرسل لكم الشيك بالبريد.’

إن الحقائق والأحداث، بشكل أو بآخر، تكاد تكون عديمة الجدوى ما لم يُنظر إليها من منظورها السليم، وما لم يؤخذ برؤياها حين تفسيرها. فأحد جوانب عبقرية شوقي أفندي البارزة يكمن في الطريقة التي يلتقط فيها أهمية حدث أو ظاهرة منعزلة تبرز من وسط فوضى أمور لا صلةَ بينها مرتبطة بالتطوّر العالمي للأمر المبارك، فنجده يضعها في إطارها التاريخي مسلّطًا عليها أضواء عقله المُقيِّم للأمور فيجعلنا نفهم ما الذي يحدث وما تشير إليه الآن وإلى الأبد. لم يكن هذا بالأمر الجامد الساكن أو صورة من أشكال ونماذج، بل على الأرجح وصفًا لمكان ووجهة سفينة أوقيانوسية ضخمة [سفينة الأمر المبارك] وهي تمخر عباب المحيط – سفينة يمُوجُ مَتْنُها بنشاطات أتباع جامعة حضرة بهاء الله بحركات متناسقة متكافئة في محيط دورته [Dispensation]؛ فهنا محفل روحاني تأسس، وهناك شخص توفي، ثم شهادة منحتها هيئة حكومية غير معروفة – إنها حقائق وأحداث تبدو منعزلة ولا صلة بينها، إلا أنها بنظر شوقي أفندي جزء من نمط جعَلَنا نراه وهو يُحاك أمام أعيننا أيضًا، وقد أبان ذلك ولي الأمر في مجلّدات “العالم البهائي” ليس من أجل المؤمنين فقط، بل لعامّة الناس على نطاق واسع أيضًا. لقد أبرز تقدّم الدين البهائي بأسلوب دراميّ مؤثّر، وجعل من كمّ هائل من حقائق مبعثرة وصورٍ فوتوغرافية غير مترابطة، شاهدًا على أحقية ما يعلنه هذا الدين من أنه دين عالمي شامل يحتضن الجميع.

من الجدير ملاحظته أن اقتراح إصدار سلسلة مجلدات على نسق مجلد “العالم البهائي” قد جاء لشوقي أفندي فعليًا من هورِس هولي في رسالة إلى حضرته في فبراير/ شباط 1924 – ومع ذلك، ليس لديّ أدنى شك في أن الرؤية الواسعة لولي الأمر الشابّ، والقالب الذي وضع فيه أعمال الأمر المبارك في رسائله إلى الغرب، قد أثّرت على العقل الخلاّق للسيد هورِس وحفّزته نحو هذه الفكرة، فأمسك بها شوقي أفندي وأصبح هورِس هولي منذ ذلك الحين أداة حضرته الرئيسة ككاتب موهوب، إلى جانب طاقته ومقدرته كسكرتير للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في أمريكا، وذلك ليجعل من مجلد “العالم البهائي” كتابًا فريدًا مميّزًا. لقد صدر العدد الأول منه عام 1925، وسُمِّي آنذاك بـ ”المجلد البهائي السنوي” – الذي غطّى أحداث الفترة الممتدة من إبريل/ نيسان 1925 إلى الشهر نفسه من عام 1926 ويتألف من (174) صفحة – ثم أخذ عنوانه الدائم في المجلّد الثاني العالم البهائي، سجلٌّ عالمي بأحداث سنتين”، نتيجة اقتراح من المحفل الروحاني المركزي في أمريكا وموافقة شوقي أفندي. وإلى أن صعد ولي الأمر كان قد صدر اثنا عشر مجلدًا، أكبرها حجمًا يقع في ما يزيد عن ألف صفحة. ومع أن جميع تلك المجلدات قد أُعِدّت تحت إشراف المحفل الروحاني المركزي في أمريكا ونشرتها هيئة الطبع والنشر المنبثقة عنه، وجمَّعَتْ مواضيعَها هيئة من المحررين وكانت جميعها إهداءً لشوقي أفندي، إلا أنه من الأجدر أن ندعوها “كتاب شوقي أفندي” طبقًا للحقائق والمعطيات؛ فهو نفسه قام بعمل رئيس هيئة التحرير، والكمّ الهائل من المواضيع التي تضمّنها كل مجلد كانت تُرسَل إليه بواسطة المحفل الروحاني المركزي في أمريكا مرفق فيها جميع الصور الفوتوغرافية اللازمة قبل اعتمادها ونشرها، وله القرار النهائي في ما يجب أن يبقى منها وما يجب حذفه. ولما كانت ستة من هذه المجلدات قد نُشرت في الفترة التي كُرِّمْتُ فيها أن أكون معه، فقد كان بمقدوري أن ألاحظ كيف كان شوقي أفندي يقوم بتحريرها. فبفضل طاقته اللامحدودة للعمل كان يطّلع على الكمّ الهائل من رُزَم الأوراق والصور الفوتوغرافية التي كانت تصله، فيحذف منها المواد الأضعف والتي لا علاقة لها بالموضوع. أما أجزاء الفصول المتنوعة الواردة بموجب فهرس المحتويات الذي نظّمه بنفسه، فكانت تجهّز لاحقًا وتوضع جانبًا إلى أن يتم إعداد جميع المواضيع على الآلة الطابعة وتكون جاهزة لإرسالها بالبريد ثانية إلى أمريكا للطبع والنشر. كان يأسف دائمًا لحقيقة أن المواضيع ليست بمستوى أعلى كان يأمله. إن تصميمه ومثابرته وحدهما كانا السبب في أن تكون مجلدات “العالم البهائي” كما هي عليه من الألَق والتأثير. فالمحررون (وقد رشّح بعضهم بنفسه) الذين يناضلون ضد القوى المُعيقة لعمل أيّ هيئة تحاول إنجاز أعمالها حتى خاتمتها بالمراسلات ومن خلال مصادر تبعد آلاف الأميال، وتسعى أن تعمل بأفراد إداريين غالبًا ما تنقصهم الخبرة والكفاءة، لم يكن ليُكتَبَ لهم النجاح في تجميع المواد المطلوبة دون وقوف ولي الأمر خلفهم موجهًا ومساندًا وداعمًا لمجهوداتهم. وهناك جانب يسترعي الانتباه في هذا العمل وهو أن شوقي أفندي، كان بعد أن يتمّ نشر المجلد، يعيد الى حيفا جميع المواد الأصلية المرسلة المطبوعة على الآلة الطابعة أو المكتوبة باليد لتُحفظ في المركز العالمي.

وحالما يتمّ نشر المجلد كان حضرته يشرع بنفسه في جمع موادّ المجلّد التالي. فإلى جانب تذكيره المتكرر للمحفل الروحاني المركزي في أمريكا ليقوم بالعمل نفسه، كان يرسل عددًا لا يُحصى من الرسائل والبرقيات بهذا الخصوص إلى محافل روحانية مختلفة وأفراد من الأحباء. فمثلاً أبرق في يوم واحد إلى ثلاثة محافل روحانية مركزية قائلاً: ‘صورة أعضاء المحفل المركزي ضرورية لتوضع في مجلد “العالم البهائي”.’ كما أرسل برقية إلى مراكز نائية وبعيدة مثل شانغهاي طالبًا موادًا يرغب فيها. كان أمرًا عاديًا أن يستلم المحفل الروحاني المركزي في أمريكا رسالة كُتب فيها: ‘مخطوطة “العالم البهائي” أُرسلت إليكم بالبريد. أوصي بنشرها بسرعة وعناية.’ كان شوقي أفندي هو مَن نظّم مواضيع المجلّد، وطَبَع في حيفا قائمة المحتويات بكاملها، ووضع عناوين جميع الصور الفوتوغرافية، واختار جميع الصور التي توضع بعد الغلاف، كما قرر لون الغلاف، وفوق هذا كله بعث بتعليماته الدقيقة إلى هورِس هولي – في رسائل طويلة مفصلة، وهو الذي اختاره بنفسه كأفضل كاتب موهوب واسع الاطلاع ليكتب مجلد “نظرة عالمية عامة للنشاطات البهائية الجارية”، والذي علّق عليه حضرته أهمية كبرى، فأبرق إليه قائلاً: ‘رسالة مفصّلة أرسلت بالبريد من أجل مجلد “النظرة العالمية”، واثقٌ من براعة معالجتكم للمعلومات التي جُمِعت.’ ومثالٌ كيف أن رسائل شوقي أفندي في هذا الموضوع كانت شاملة تطلّبت الجهد والمثابرة، نجده في الفقرات التالية المقتَطَفة من رسالة إلى هورِس هولي كُتبت بواسطة سكرتير شوقي أفندي، ولو أنه ليس لديّ أدنى شك في أن ولي الأمر نفسه قد أملاها عليه: ‘تفحّصَ شوقي أفندي هذه المادة بعناية، وأجرى التغيير اللازم ثم رتّب موادّها وأثراها بإضافة مادة جديدة جمعها بنفسه، ووضع الجميع في شكله النهائي، وسيرسل المخطوطة بكاملها إلى عنوانك بالبريد قبل نهاية هذا الشهر… لقد كرّس الكثير من وقته في تفحُّص المواد بكل تفاصيلها وفي ترتيبها فوجد أن العمل شاق ويتطلّب دقّة متناهية… يرغب في التشديد على أهمية الالتزام التام بالترتيب الذي تبنّاه، ويأمل أن يكون كل شيء في مكانه السليم على خلاف المجلد السابق.’

إن ما كان يدور في خَلَد شوقي أفندي ويفكر فيه عن مجلد “العالم البهائي” نجده قد دوّنه في كتاباته. في عام 1927 – وكان قد صدر العدد الأول منه فقط – كتب إلى شخص غير بهائي يقول: ‘أوصيك بضرورة الحصول على نسخة من المجلد البهائي السنوي… وهو الذي سيمنحك عرضًا واضحًا موثَّقًا لهدف الدين البهائي وما يدعو إليه، ومدى نفوذه.’ وفي رسالة عامة كتبها شوقي أفندي عام 1928 موجهة ‘إلى أحباء الله وإماء الرحمن في الشرق والغرب’، ومخصصة بالكلية لموضوع مجلد “العالم البهائي” نراه يعلمهم بأنه ‘منذ البداية وأنا في حماس شديد واهتمام متواصل بتطويره. شاركتُ شخصيًا في تجميع موادّه وفي ترتيب محتوياته والتدقيق التام لما فيه من معلومات. وبكل ثقة وإصرار أوصي به لكل مفكّر وغيور من أتباع الدين في الشرق كان أم في الغرب…’ وذكر بأن موادّه مقروءة جذابة، شاملة وموثّقة، ومعالجته لمبادئ الأمر الأساسية موجزة ومقنِعة، ورسوماته التوضيحية معبّرة بدقّة تامة. إنه كتاب لا يجاريه أو يفوقه أي من المنشورات البهائية الأخرى في نوعه. كان شوقي أفندي ينظر دائمًا الى هذا الكتاب على أنّه – وفعلاً هو الذي صمّمه ليكون – مناسبًا بكل امتياز للعموم، وللباحثين، ولوضعه في المكتبات، وأيضًا كوسيلة قَصد منها حضرته ‘إزالة الصور المغرضة والمشوّهة والمفاهيم الخاطئة التي حجبت لمدة طويلة وبكل أسف وحسرة دين حضرة بهاء الله.’

كان المجلد كتابًا غالبًا ما قدّمه ولي الأمر إهداءً للأُسر الملكية ورؤساء الدول والأساتذة والجامعات ومحرري الصحف وإلى غير البهائيين عمومًا، فيرسله إليهم بالبريد مرفَقًا ببطاقة شخصية بسيطة باسمه “شوقي رباني”. كان ردّ فعل أحدهم وهو أستاذ جامعي أمريكي أن عبّر عن انطباعه بكل وضوح لدى استلامه هدية شوقي أفندي حيث قال: ‘وصلتنا نسختان من كتاب “العالم البهائي”… لا أستطيع إخبارك بمدى تقديري لتمكُّني من دراسة الكتاب الذي هو بحقٍّ مثير جدًا للاهتمام ومُلهِم بكل السبل… أهنئكم خاصة على تطوير اللغة الأدبية والحفاظ على تلك الروح حيّةً بين أناس من مختلف الأقوام والأجناس التي تتوجه إليك من أجل قيادة رشيدة.’ ولعلّ التكريم الأجلّ للمستوى الرفيع لهذا العمل الكتابي المنشور الذي أغدق عليه شوقي أفندي الكثير من الوقت والعناية على مرّ السنين، هو أن ملكة أبيّة فخورة كتبت للمجلد معبّرة عن تقديرها الخاص للدين البهائي مما حاز القبول وجعل كلماتها وصورتها الشخصية جديرة بأن تظهر في صفحتين مواجهتيْن لغلاف المجلد في مختلف إصداراته. ففي عام 1931 كتب شوقي أفندي إلى مارثا روت، عندما استلم منها ما كتبته الملكة ماري في إحدى رسائلها تبدي فيها احترامها وإعجابها بالأمر المبارك، قائلاً: ‘ليست هناك من كلمات تعبّر تمامًا عن بالغ سروري باستلامي رسالتكِ المرفق فيها ذلك التقدير الغالي الذي سيشكل مساهمة قيّمة ومميّزة لمجلّد “العالم البهائي” الذي سوف يصدر لاحقًا.’

من الصعب علينا، ونحن نسترجع إنجازات شوقي أفندي، أن ندرك أنه فعليًّا لم يكتب سوى كتاب واحد فقط خاص به هو “القرن البديع” الذي نُشر عام 1944. فحتى “قد جاء اليوم الموعود” الذي كُتب عام 1941 ويقع في (136) صفحة، كان رسالة مطوّلة موجّهة لأحباء الغرب. إنها حقيقة تقف وحدها مؤشرًا قويًا على مدى ما كان عليه هذا الرجل من تواضع. كان على اتصال بالبهائيين لأنه هو الذي عُيّن ليحمل أمانة قيادتهم وتوجيههم، ولأنه الوصي على دين حضرة بهاء الله. كانت تسيّره قوى عُليا تفوق قواه ولا يملك حيالها خيارًا. فإلى جانب سيل الرسائل متوسطة الحجم التي كانت تتدفق منه إلى الأحباء في الغرب وإلى محافلهم الروحانية المركزية باستمرار، كانت هناك رسائل عامة معينة متباينة في طبيعتها. بعضها موجّه إلى الأحباء في الولايات المتحدة وكندا، والآخر إلى أحباء الغرب، وكلها جُمعت في كتاب واحد بعنوان “نظام بهاء الله العالمي”[11]. فكتاب “نظام بهاء الله العالمي”، ثم كتاب “نظام بهاء الله العالمي – اعتبارات اضافية”[12] قد كُتِبا في عامي 1929، 1930 على التوالي، وقد وُضعا ليوضّحا للمؤمنين المعنى والهدف الحقيقي لدينهم؛ عقائده، مضامينه، ما قُدّر له ومستقبله، وليكون الكتاب أيضًا مرشدًا لجامعة تأخذ طريقها إلى الظهور والنضوج ببطء في أمريكا الشمالية وفي الغرب نحو إدراك أفضل لواجباتها وامتيازاتها وما قُدِّر لها. ثم أَتْبَع ذلك برسالة في عام 1931 عُرفت بـ ”هدف نظام عالمي جديد”[13]، صيغت ببراعة جديدة فائقة ونبرة واثقة تسمو بمستواها عن كونها رسالة عادية موجهة إلى شركاء في العمل في ميدان الخدمة العامة، فأخذت تعبّر عن تلك المَقْدِرة الخارقة في عرض الفكرة والتي من شأنها أن تميّز القائد العظيم والكاتب الفذّ. في رسالة لولي الأمر كُتبت في يناير/ كانون الثاني 1932، ذكر سكرتيره مشيرًا بوضوح إلى رسالته “هدف نظام عالمي جديد” يقول: ‘إن شوقي أفندي كتب رسالته العامة الأخيرة إلى الأحباء في الغرب لأنه شعر بأن عامة الناس يجب أن يدركوا وجهة نظر الدين البهائي حيال المشاكل الاقتصادية والسياسية السائدة. علينا أن ندع العالم يدرك ما هو الهدف الحقيقي لظهور حضرة بهاء الله.’ لقد جعل شوقي أفندي رسالته هذه تتزامن مع الذكرى العاشرة لصعود حضرة عبد البهاء حيث أسهب فيها في استعراض أحوال العالم والتغيير الذي يجب أن يحصل فيما بين عناصر مكوِّناته على ضوء تعاليم حضرة بهاء الله وما بيّنه حضرة عبد البهاء.

تَبِع تلك الرسالة رسالة أخرى عام 1932 بعنوان “العصر الذهبي لدين بهاء الله”[14] حيث كانت عرضًا بديعًا لـ’ألوهية رسالته’، التي بيّن شوقي أفندي أنها تُغذّي نفسها بنفسها معتمدة على ‘فيوضات الينابيع الخفية للقوى السماوية’، وعاد ليوضّح علاقة هذا الظهور الإلهي بالظهورات السابقة، وصلته بحلّ المشاكل التي تواجه العالم في الوقت الحاضر. وفي عام 1933 منح البهائيين في أمريكا الشمالية رسالة بعنوان “أمريكا والصلح الأعظم”[15] تناول في معظمها الدوْر المقدّر إلهيًا لهذا الجزء من العالم أن يؤديه في هذه الحقبة التاريخية، معيدًا إلى الأذهان ما قدّمه المولى من تضحيات وخدمات خلال رحلاته الميمونة إلى الغرب، ومُلخِّصًا ما حقّقته هذه الجامعة المؤيَّدة من انتصارات لأمر الله. إن رسالته المنيعة التي خطّها عام 1934 المعروفة بـ ”دورة بهاء الله”[16] قد سطعت على الأحباء بنور باهر يخطف الأبصار. أذكر، عندما قرأْتُها لأول مرة، تملكتني مشاعر استثنائية للغاية، وكأن الكون برمّته قد اتّسع من حولي فجأة وأخذتُ أنظر إلى نجومه المُبهرة التي ملأت فضاءه على ضخامته. فجميع حدود مفاهيمنا قد امتدت إلى آفاق أوسع، وتكشَّفَ لنا مجدُ هذا الدين وعظمته وحقيقة مقام شخصياته الأساسية، ولم نعد كما كنا على الإطلاق. يتبادر إلى ذهن المرء أن التأثير المذهِل لهذه الرسالة الواحدة لولي أمر الله من شأنه أن يقضي على ما في الروح من ضعف واستكانة إلى الأبد! ومهما كان شوقي أفندي يشعر في أعماق قلبه تجاه كتاباته الأخرى، إلا أنني أَسْتشفُّ من ملاحظاته أنه اعتبر نفسه قد قال بطرق عدّة كل ما يجب أن يقوله في رسالته “دورة بهاء الله”.

وفي عام 1936 كتب رسالة “الكشف عن المدنية الإلهية”[17]، ومرة أخرى، كما كان يفعل في أغلب الأحيان، ربطها شوقي أفندي بصعود حضرة عبد البهاء. كانت الرسالة عرضًا أشمل وأوسع لحالة العالم، من انحلال واضح سريع في أوضاعه السياسية والأخلاقية والروحانية، وضعف أركان الديانتيْن المسيحية والإسلامية، إلى أخطار تهرع نحوها إنسانية طائشة، وما تُقدّمه تعاليم حضرة بهاء الله من علاج إلهي قوي مفعم بالأمل. وبالإضافة إلى أهمية تلك الرسائل الرائعة وأبعادها التربوية، كونها غنية بمقتطفات من كلمات حضرة بهاء الله التي ترجمها ولي الأمر واستشهد بها بكل سخاء في المكان المناسب، فقد قدمت للأحباء مَدَدًا روحيًا لأن كلمة المظهر الإلهي هي غذاء الروح كما نعلم. كما أن تلك الرسائل ضمّت أيضًا فقرات لا حصر لها من ألواح المولى المحبوب تميّزت بجمال وروعة ترجمتها. فكل هذه النعَم والآلاء التي أسبغها ولي الأمر على الأحباء في وليمة بعد وليمة قد غذّت أرواحهم وبعثت فيهم جيلاً جديدًا قويًا من خدّام الدين الإلهي. فكلماته قد ألهبت خيالهم وتحدّتْهم أن يرتقوا ذُرىً سامكة جديدة، ومدّت بجذورهم إلى مستويات أعمق في أرض أمر الله الخصبة.

لقد ظهر حقًا تغيير في كتابات شوقي أفندي في فترة الثلاثينيات يمكن للمرء أن يلحظه. فهو الآن يقف متأهّبًا كعملاق وبيده قلمه البتّار، بينما في السابق كان يمكن للمرء أن يلحظ صدى ما عانته روحه بعد صعود المولى وتولِّيه منصبَه الرفيع، وأنين قلبه في اشتياقه لفقيد حياته المحبوب. أما الآن فإن النبرة قد تغيّرت؛ فأمامنا رجل يتكلم بصراحة المتأكد من نفسه بكل قوة وثقة تامة. فالمحارب الآن يعرف كيف تكون الحرب. لقد فوجئ وهوجم وأثخنته الجراح من أعداء فاسدين خلقيًا وضالين روحيًا، كما أن جانبًا من رقة وثقة الشباب المطلقة فيه قد ولّت إلى غير رجعة. لم يظهر هذا التغيير فقط في طبيعة وقوة توجيهاته للعالم البهائي، ولا في أسلوب تشكيله الإدارةَ البهائيةَ في الشرق والغرب، ولا في جمعهِ كافة تلك الجامعات البهائية المتباينة على اختلاف مكوّناتها في لُحمةٍ عامّة فحسب، بل في ما أصبح في نهجه من جمال وثقة واطمئنان اكتسب رونقًا مع مرور السنوات أيضًا.

بالتزامن مع الفترة التي شهِدت دَفَقَ هذه الرسائل الساطعة بقلم شوقي أفندي التي تناول فيها مواضيع رئيسة كهذه، شرع في ترجمة كتابين هامين. ففي رسالة مؤرخة 4 يوليو/ تموز 1930 كتب يقول: ‘أشعر بإرهاق شديد بعد سنة من العمل الشاقّ، خاصة بعد أن استطعت أن أضيف إلى أعبائي ترجمة “كتاب الإيقان” الذي سبق أن أرسلتُه إلى أمريكا.’ كان هذا أول تراجمه الرئيسة، وفيه بَسَطَ حضرة بهاء الله شرحًا وافيًا لمقام مظاهر أمر الله ودورهم خاصة على ضوء النبوءات والتعاليم الإسلامية، ويُعرف بـ ”كتاب الإيقان”. فبالنسبة للبهائيين في الغرب كان المرجع المساعد النفيس في دراستهم للدين الذي اعتنقوه، وأثرى مفاهيمهم عن الظهور الإلهي.

وفي السنة نفسها شرع ولي الأمر في العمل على ترجمة الكتاب الثاني الذي تم نشره في تلك الفترة، عملٍ لم يكن ترجمةً لكلمات حضرة بهاء الله ولا هو إحدى رسائل شوقي أفندي العامة، بل يجب اعتباره تحفة أدبية رائعة وواحدًا من أعظم هداياه الفريدة على مدى الزمن. كان ذلك ترجمة الجزء الأول من الوقائع التاريخية التي جمعها مؤمن عاصر فترة حضرة الباب وحضرة بهاء الله والمعروف بـ ”النبيل”، الذي نُشر عام 1932 بعنوان “مطالع الأنوار”. فلو كان لناقد ومُشكّك أن يحاول صرف النظر عن الأعمال الأدبية البهائية باعتبارها نموذجًا لمستوى أفضل من الكتب الدينية المعدّة للمبتدئين فقط، فلا يمكن أن يُقصي جانبًا، ولو لحظة، مجلّدًا بنوعية كتاب “تاريخ النبيل” الذي يستحق أن يُعَدّ من الطراز الأول بين الملاحم التاريخية المروية بلسان إنكليزي. ومع أنه في الظاهر ترجمة عن الأصل الفارسي، إلا أنه يمكن القول بأن شوقي أفندي أبدع كتابته من جديد بالإنكيزية، وقد حاكت ترجمته أسلوب فيتزجيرالد في ترجمته لرباعيات عمر الخيام التي قدّم فيها للعالَم شِعرًا بلغة أجنبية فاق الأصل عن جدارة واستحقاق في نواحٍ عدة. وأفضل تعليق وأدقّه في وصف هذه التحفة الأدبية الرفيعة لولي أمر الله يمكن أن نجده في كلمات شخصيات بارزة غير بهائية. فقد كتب الكاتب المسرحي غوردن بوتوملي[18] قائلاً: ‘… أن تعيش في أحداثها يعدّ واحدة من التجارب البارزة في حياة المرء، إلا أن ما يتعدّى ذلك أنها تجربة حية محرّكة للمشاعر بحدّ ذاتها من جهة، وفي ما تُلقيه من ضوء نفساني على سيرة “العهد الجديد” من جهة أخرى.’ وفي رسالة بعث بها إلى شوقي أفندي الباحث والمصلح الاجتماعي المشهور الدكتور ألفرد و. مارتن[19] من “جمعية الثقافة الخلقية”، يشكره فيها على إرساله كتاب “تاريخ النبيل” إذ كتب يقول: ‘عملك الرائع الضخم الذي يرتفع مَعْلمًا بارزًا… سيبقى أثرًا أدبيًا فنيًا من الطراز الأول، ومقياسًا للتميُّز في جميع الأوقات في قادم الأيام. أُسجِّل هنا إعجابي المُطلق بقدرتك على إعداد عمل كهذا على ما سبّبه لك من ضغط جاء فوق كل تلك المهامّ والمسؤوليات التي تفرضها أعمال منصبك المعتادة.’ وبعد أن استلم أحد أساتذته القدامى في الجامعة الأمريكية في بيروت السيد بيارد دودج[20] كتاب “تاريخ النبيل” هدية من ولي الأمر كتب إليه يقول: ‘… إن الكتاب الأخير – مطالع الأنوار – يعدّ بحق مساهمة قيّمة بشكل خاص. أهنئك من كل قلبي على نشره، ولا بد أنك عملت بجهد شاقّ لإنجاز ترجمة رائعة كهذه مدعّمة بملاحظات وصور فوتوغرافية مثيرة جدًا للاهتمام.’ وفي وقت لاحق علّق بإسهاب على هذا المجلد الفريد بقوله: ‘لقد استفدتُ من فرصة اصطيافي لأقرأ “تاريخ النبيل”… كل إنسان مهتمٍّ بالدين وبالتاريخ أيضًا مدين لك بعظيم الامتنان على نشرك هذا العمل الرائع. إن الجانب الأعمق من هذا العمل إنما هو مؤثر للغاية بحيث يبدو من الصعب أن نثني بما يليق على بعض الجوانب العملية المتصلة بالترجمة، ومع ذلك لا أستطيع أن أُمسك نفسي عن القول بأنني كم أُثمّن عاليًا تخصيصك وقتًا تقتطعه من حياتك المشحونة بالعمل لإنجاز مهمّة ضخمة كهذه.

‘إن مستوى اللغة الإنكليزية ونوعيتها، والمتعة في قراءة الترجمة بانسياب، إنما يعدّ أمرًا استثنائيًا، ذلك لأن الترجمة في العادة من العسير قراءتها. لقد كنتَ بارعًا في جعل الكتاب حياديًا للغاية وفي الإضافات التي ثبّتّها في الحواشي، مما جعله يبدو عرضًا تاريخيًا علميًا أكثر منه مادة دعائية. فالكتاب عظيم جدًا في قوته لأن الترجمةَ علميةٌ، ومُصَنَّفَهُ الأصليَّ تلقائيٌّ وعفويٌّ للغاية، بحيث جعل العمل برمّته يبدو أصيلاً حتى في نظر أكثر الناقدين تحاملاً.

‘إن عملاً كهذا، من المنظور التاريخي، له أعظم قيمة ممكنة، ويزخر بفوائد جمّة أيضًا لأنه يوضّح الدافع النفسي وراء توجّهاتنا العظيمة في الظهورات الدينية. ومن الطبيعي أن تكون قيمته الرئيسة متمثلة في الضوء الذي سُلِّط على فجر تاريخ الدين البهائي. فحياة أولئك المُهتَدين الأوائل إنما هي ملهِمة بشكل هائل.

‘لقد أعرتُ نسختي للبروفسور كروفورد[21] والبروفسور سيلي[22]، وآمل أن عددًا كبيرًا من الأساتذة هنا والطلاب سوف يجدون الوقت لقراءة كتاب كهذا مُثير ومنير.’

ومع أن تقديرًا قيّمًا كهذا صادرًا عن جهة كهذه بحق عمل أنجزه شوقي أفندي قد أدخل السرور إلى قلبه وحرّك مشاعره، إلا أن الرسالة التي كتبها له المستشرق المعروف السير دنيسون روس[23]، من كلية الدراسات الشرقية في جامعة لندن، كانت بلا شك ذلك التقدير الأرفع لحضرته:

27 إبريل/ نيسان 1932

عزيزي شوقي أفندي

كان منتهى اللطف منك أن تتذكرني فترسل لي نسخًا من آخر عمليْن لك أفتخر بأن يكونا في حوزتي خاصة وأنهما من طرفك. حقًا إن كتاب “مطالع الأنوار” واحد من أروع الكتب التي رأيتُها منذ عدة سنوات. فورقه وطباعته ورسوماته كلها رائعة، وبالنسبة لأسلوب لغتك الإنكليزية، فلا يمكن أن تكون أفضل إبداعًا، ولا تبدو أبدًا للقارئ أنها ترجمة. فاسمح لي أن أبعث إليك بأحرّ التهاني على أنجح إنجاز لك شرعتَ به منذ أن قدِمتَ إلى أكسفورد ألا وهو الإمساك الكامل بناصية لغتنا.

وإلى جانب هذا كله، فإن “تاريخ النبيل” سيبقى أعظم مصدر خدمة لي في محاضراتي التي أُقدّمها هنا في سياق دوراتي التعليمية عن الباب وعن البهاء.

آملاً أن تكون في صحّة جيّدة

المخلص لك على الدوام

إ. دنيسون روس – مدير

في رسالة بعث بها إلى مارثا روت في 3 مارس/ آذار 1931 وصف شوقي أفندي ما هو “مطالع الأنوار”، وماذا يعني له إصداره حيث قال: ‘بعد ثمانية أشهر من العمل الشاقّ المتواصل أكملتُ للتوِّ ترجمة تاريخ الأيام الأولى للأمر المبارك وأرسلتُ مخطوطته إلى المحفل الروحاني المركزي في أمريكا. يقع الكتاب في (600) صفحة تقريبًا، و(200) صفحة من ملاحظات إضافية جمعتُها خلال أشهر الصيف من كتب مختلفة. كنت مستغرقًا للغاية في هذا العمل على شأن اضطررتُ فيه إلى تأخير مراسلاتي… أنا الآن في غاية التعب والإرهاق حتى إنني بالكاد أستطيع الكتابة… إنه سجلّ موثّق يتناول بشكل رئيس حضرة الباب، وأجزاء منه تليت على مسامع حضرة بهاء الله ونقحها حضرة عبد البهاء… لقد غلبني الإعياء تمامًا بما سبَّبه لي الإجهاد القاسي والطويل في العمل الذي أخَذْتُهُ على عاتقي لدرجة أشعر فيها بضرورة التوقُّف الآن والركون إلى الراحة.’

وقبل أن يجد الكتاب طريقه إلى النور، أبرق شوقي أفندي إلى أمريكا في أكتوبر/ تشرين الأول 1931 قائلاً: ‘حثّوا جميع المؤمنين الناطقين بالإنكليزية أن يركّزوا دراستهم على وقائع “تاريخ النبيل” الخالدة كخطوة أولية أساسية نحو استئناف حملة تبليغية مكثّفة استدعاها استكمال بناء مشرق الأذكار. أشعر بشدة أن استعمال مادته الغنية الموثّقة والمتنوعة على نطاق واسع سيكون السلاح الأكثر فعالية لمواجهة تحدّيات الساعات الحرجة. أوصي به دون تردّد لكل مَنْ يتطلع إلى زيارة موطن حضرة بهاء الله.’

إن المجلّد الذي يوصي شوقي أفندي الأحباء بدراسته يقع في (748) صفحة ويضم أكثر من (150) صورة فوتوغرافية؛ ويحتوي على رسم بياني مفصّل يبيّن تسلسل نسَب حضرة الباب وقد أعدّه شوقي أفندي بخط يده وتم استنساخه بوسيلة الفاسيميل[24] وإدراجه في الكتاب؛ وبالإضافة الى النصّ الأصلي الذي أورده النبيل، والذي جلّلته هالة من مجد بفضل معالجته الباهرة وهو يمر في عقل شوقي أفندي ومفرداته اللغوية، فإن الحواشي الوفيرة التي أضافها باللغتين الإنكليزية والفرنسية وجمعها من مصادر لا تُحصى، تلقي ضوءًا على الأحداث المدوّنة في الكتاب ومن شأنها أن تعزِّز الى درجة كبيرة ذلك الاهتمام التاريخي بها [الأحداث] وبمصداقيّتها. ثم طُبعت ونُشرت ثلاثمائة نسخة فخمة موقعة ومرقمة بالتسلسل مع الطبعة العامّة للمجلد. استغرق شوقي أفندي ما يقارب السنتين في البحث والتجميع والترجمة ليكمل هذا المجلد المميّز. وخلال عام 1930 أرسل مصوِّرًا بهائيًا أستراليًا إلى بلاد فارس ليتعقّب بكل جهد ومثابرة خط سير حضرة الباب داخل موطنه، وكذلك موقع استشهاد حضرته ومواقع استشهاد أتباعه ومواقع تاريخية كثيرة. فلو لم يفعل شوقي أفندي هذا لتعذّر تقريبًا مشاهدة وتتبّع أثر العديد من هذه الأماكن في وضعها الأصلي ولفُقِدت آثارُها إلى الأبد. وبالإضافة إلى اختيار الصور الفوتوغرافية لكتاب “تاريخ النبيل”،” أجرى شوقي أفندي ترتيباته بكل عناية من أجل أن يرسل إلى أمريكا ما وصفه بـ’الأمانة التي لا تُقدّر بثمن’، ولم تكن بأقل من ألواح حضرة الباب الأصلية التي وجهها إلى حروف “حي”، وأقدسها إطلاقًا ما كان موجّهًا إلى حضرة بهاء الله، كونه “مَن يظهره الله”. وقد استُخرِجتْ منها كلها نُسخ طبق الأصل بكل دقة. واختار حضرته الصفحة المقابلة لصفحة العنوان لتوضَعَ فيها صورة ملوَّنة عن داخل المرقد المقدس لحضرة الباب. أخيرًا كان لدى ولي الأمر هديته الخاصة اللائقة ليمنحها لمن كانت الأحب الى قلبه:

إلى

الورقة العليا

آخر الأحياء من عصر الشجاعة المجيد

أقدّم هذا الكتاب

تذكارًا

لما أنا مدين به لها من عظيم المحبة والفضل

خرج بهائيّو الغرب من قراءتهم هذا التاريخ عن حياة حضرة الباب وزمانه وقد أحاطتهم هالة من المجد، وكأنّ رشحًا من تلك الدماء النفيسة لأولئك الشهداء الأوائل الأبرار قد أصابهم. لقد أدركوا لمحة عن تراث مَنْ سَبَقَهم، فرأوا أن هذا هو الدين الذي دفع صاحبه لأن يحمل حياته على كفّه، وفهموا تمامًا ما كان شوقي أفندي يتكلم عنه، وماذا كان يتوقع منهم عندما دعاهم بـ’سليلي مطالع الأنوار الروحانيين’. إن البذور التي غرسها هذا الكتاب في قلوب أتباع حضرة بهاء الله في الغرب قد نمت وأينعت في خطة السنوات العشر، الجهاد الروحاني الأكبر، وسيستمر حصادُها وذُخْرُها بوفرة أكثر من ذي قبل بينما تتكشّف ألواح الخطة الإلهية لحضرة عبد البهاء عن ذلك الفتح الروحاني للكوكب بأسره.

وفي عام 1935 قدّم شوقي أفندي للأحباء الغربيين هدية أخرى رائعة نُشرت تحت عنوان “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله” التي وصفها ولي الأمر نفسه، برسالة إلى السيد هربرت صموئيل، بأنها ‘تحتوي على منتخبات هي الأكثر تميُّزًا بين كتابات صاحب الظهور البهائي الرائعة والتي لم تنشر بعد.’ وهي تُعيد للأذهان طيف تلك الصفحات القليلة للعهد الجديد [الإنجيل]، والكلمات المنسوبة إلى بوذا، وقليلاً من أقوال بعض الأنجم السماوية الآخرين التي رغم ضآلتها مجّدت حياة الملايين من البشر لعدة قرون. ويبدو أن هذه “المنتخبات” وحدها تُشكّل مصدر هداية وإلْهام كافييْن لدورة روحانية لأي رسول سماوي. وفي رسالة شكر بعث بها البروفسور نورمان بنتويتش[25] على استلامه نسخة “المنتخبات” من شوقي أفندي قال: ‘أُجِلُّها ضمن ثمارٍ أُخَرَ لجهدك النابع من تَقْواك.’ حقًا إنه وصف جميل لطبيعة عمل شوقي أفندي من أجل أن يضع أمام العالم الغربي كلمات المظهر الإلهي لهذا اليوم. إلا أنه من المؤكد أن ما قالته الملكة ماري – ملكة رومانيا – لمارثا روت بحق هذا الكتاب إنما يُعتَبر التقديرَ الأكثرَ ثراءً حين قالت: ‘حتى المتشككين يجدون فيه قوة مقتدرة إذا هم قرأوه بأنفسهم وأتاحوا لأرواحهم فرصةَ الانفتاح والانطلاق.’ وفي شهر يناير/ كانون الثاني 1936 كتبت الملكة ماري إلى شوقي أفندي نفسه بعد استلامها نسخة من الكتاب: ‘أرجو أن أبعث إليك بعميق شكري وامتناني على هذا الكتاب الرائع. كل كلمة فيه عندي نفيسة، وما يضاعف قيمته أنه جاء في وقت الشدّة والضيق هذا.’ فأجابها ولي الأمر بأن مكافأته على جهوده في الترجمة قد وصلته بالكامل عندما صرّحت جلالتها بأنها قد استفادت من قراءته.

وبين عامي 1936–1937 أتْبَع هذا العمل بترجمة ما يمكن تسميته تقريبًا بالكتاب المرافق، وهو يضارع المنتخبات قيمةً ويكمّلها مادةً، ذلك هو “أدعية ومناجاة لحضرة بهاء الله”.[26] وهنا نجد ثانية الأستاذ السابق لولي الأمر البروفسور بيارد دودج يكتب إلى حضرته بعبارات تنمّ عن تقييم ذكيّ حاد لما تضمّنه عمل كهذا من جهد قائلاً: ‘إن ترجمة الأفكار الشاعرية العميقة، كالتي جاءت في المناجاة والتأملات، تتطلّب قدرًا هائلاً من العمل الصعب المُجهد… لقد أخبرتُكَ سابقًا كم هو إعجابي عندما أرى المستوى الرفيع للغة الإنكليزية التي تستعملها.’ وعندما تسلّم كتاب “المنتخبات” كتب البروفسور دودج إلى ولي الأمر قائلاً: ‘لقد برعتَ باللغة الإنكليزية وتمكّنتَ منها بطريقة رائعة إلى درجة جعلتني أتأكد بأن الأقوال لم تفقد معانيها وسحرها عند الترجمة.’ وعندما وصلته ترجمة شوقي أفندي للكلمات المكنونة كتب البروفسور ثانية بنظرة ثاقبة إلى ما يمكن أن يدلّل عليه عمل كهذا: ‘أدرك كم هو صعب للغاية ترجمة أفكار شرقية جميلة إلى اللغة الإنكليزية. أُهنئك على نوعية اللغة التي استعملتَها.’

ما إن نُشر هذا الكنز الثمين من المناجاة مع الله الذي لم يَرِدْ مثلُه في أدبيات أي من الديانات السابقة، حتى أخذ شوقي أفندي يعمل في إعداد رسالة عامة كانت الأطول مما سبق وكتب، وقد رأت النور عام 1939 بعنوان “ظهور العدل الإلهي”، حيث كتبها خلال السنة التي قضاها في أوروبا لسبب راجع للأعمال الإرهابية في فلسطين، وقد وجّهها للأحباء في أمريكا وكندا، وفيها بيّن شوقي أفندي لتلك الجامعة، وبشكل غير مسبوق، ما قُدّر لها من دور تؤدّيه في الكشف عما قُدّر للإنسان على هذا الكوكب، وحدّدت الرسالة أهداف خطة السنوات السبع التي افتُتِحت مؤخرًا، والذي يشكّل الخطوة الأولى نحو تحقيق ما جاء من تدابير في ألواح الخطة الإلهية لحضرة عبد البهاء. وأشار إلى أن مصير جميع النشاطات والفعاليات المستقبلية في نشر نظامه العالمي في أنحاء القارات الأخرى من العالم إنما يتوقف على نجاح هذا المشروع المشترك الأعظم الذي لم يسبق لأتباع حضرة بهاء الله أن تعهّدوا وقاموا بمثله من قبل. وقف شوقي أفندي أمام الجامعة البهائية في أمريكا الشمالية رافعًا بيده بكل لطف ولكن بحزم، مرآةً أمام وجوههم تعكس لهم حضارة تحيط بهم، محذّرًا إياهم من شرورها بعبارات تسمّرت لها الأحداق وارتجفت منها القلوب، ومبيّنًا لهم حقيقةَ، لعلّ قلّة منهم تأملت فيها، أن الشرور