إلى الرجال والنساء المشتعلين بنار محبة الله
وإلى الأرواح التي تكرّس حياتها لخدمة بني الإنسان
وإلى روح عبدالحسين فكري الطاهرة
التي شاءت الأقدار أن توافيها المنية
قبل سنة من صدور هذا الكتاب
نتمنى أن تكون خصال التضحية والتفاني
والعشق الإلهي التي تجسدت في أبو القاسم فيضي
مصدر إلهام لنا جميعًا.
عائلة المؤلف
إن تاريخ أمرالله المجيد زاخرٌ بالرجال الأبطال الذين ضحّوا بكل ما لديهم من أجل نصرته وإعزازه؛ فمنهم من ضحّى بروحه وأصبح في عداد الشهداء الأبرار، ومنهم من نذر نفسه للرحمن وأمضى جلّ حياته في تبليغ أمره، فأصبح مشعلًا للهداية وسراجًا وهّاجًا للعالم الإنساني، ومنهم من تخلّق بأحسن الأخلاق التي أمرنا بها حضرة بهاءالله فأصبح نموذجًا يحتذى به في السمّو وحُسن الأخلاق. أما جناب أبو القاسم فيضي فقد جمع بين العديد من هذه السجايا الحميدة والخصال الروحانية في زمن غارق بالتعصّبات الدينية والمذهبية والعنصرية؛ فقد رضع من حبِّ الإيمان وشرح صدره بمحبّة جمال القدم منذ شبابه؛ فشرِبَ من رحيق العشق والمعرفة الحقيقية، وأصبح قلبه عينًا يفيض بصافي زلال العرفان الإلهي؛ ولهذا كرّس نفسه للرحمن وسار على طريق الخدمة والتفاني. انطلق ولم يترك ميدانًا من ميادين الحياة إلاّ وله فيه صولة وجولة، ناكرًا ذاته، جادًا مجتهدًا متفانيًا في عطائه، عاشقًا الإنسانية بكل جوارحه ولا تأخذه في الله لومة لائم. وعلاوة على ذلك كان جناب فيضي عالمًا مطّلعًا عارفًا بحقيقة الظهور متبحّرًا في تاريخ الأمر، مُدركًا مغزى الظهورين الأعظمين، عصاميًا أبيّ النفس، خاضعًا خاشعًا لمركز العهد والميثاق الإلهي، مستجيبًا لتوجيهات وإرشادات حضرة ولي أمرالله وبيت العدل الأعظم، متمسّكًا بالعهد والميثاق، لم ينشد في حياته عظمة سوى رفعة وعلوّ الأمر المبارك وخدمة بني الإنسان ولهذا عاش عظيمًا ومات عزيزًا.
أمّا الذين كان لهم الشرف بلقاء هذه الشخصيّة المميّزة في تاريخ الأمرالكريم فقد أجمعوا إنه كان يجذب الكلّ من صغير وكبير وفقير وغني، وأن في محياه الساطع دلائل القوة والعظمة، ومن جبينه الوضّاح يشعّ نور الإيمان ولا تفارقه البشاشة. لم يخرج أحدٌ من محضره إلا وقد انتعشت روحه وفؤاده وزالت عنه شجونه ووصل إلى مبتغاه، وقد أشاد كل من اقترب منه أو تعامل معه بدماثة خُلُقه، وأدبِهِ الجم، وإخلاصه، وهدوئه، وطيبة قلبه، وإنسانيته العالية، وكرمه، وعطفه على الكبير والصغير من الفقراء والمساكين. ورغم محدودية دخله وحياته البسيطة المتواضعة التي عاشها فقد كان معينًا للفقراء وملجأ لكل محتاج، حقًا لقد اتّصف بهذه الصفة الممدوحة من قِبل حضرة بهاءالله: “الكرم والجود من خصالي فهنيئًا لمن تزيّن بخصالي”[1].
كان يرى الجميع بعين واحدة، لم يكن يهمّه الجاه أو المال في أي مرحلة من مراحل حياته، بل كان همّه الأكبر خدمة بني الإنسان، ولهذا كان مصداقًا لهذا البيان المبارك من جمال القدم: “الإنسان اليوم هو الذي قام على خدمة جميع من على الأرض”[2]. أثناء دراسته في بيروت كان له الشرف الكبير بزيارة حضرة ولي أمرالله عدّة مرّات، وزيارة الورقة المباركة العليا، قرّة عين البهاء ووديعته وسيّدة أهل البهاء، وبذلك تكحّلت عيناه، وظلّت تلك الذكريات الجميلة محفورة في ذاكرته حتى آخر أيامه يَنعَمُ بذكراها. كما كان يتذكر دومًا ما قاله حضرة وليّ أمرالله في آخر زيارة بأن لا ينجرف نحو الماديّة بل ينشغل في خدمة البشرية. وعندما عاد إلى إيران حصل على وظيفة جيدة في شركة النفط الإيرانية، ولكنه فضّل تعليم وتربية الأطفال والشباب في قرية نجف آباد النائية معتبرًا ذلك شرفًا كبيرًا له، وعندما عَلِمَ حضرة ولي أمرالله بذلك تفضّل قائلًا: “… إن هذا القرار الذي اتخذ بدافع ذاتي سيجلب التأييدات الالهية وهو دليل واضح على علوّ الهمّة وخلوص النيّة والتضحية وفداء ذلك المقرّب للعتبة الإلهية…”[3].
خلال تواجده في نجف آباد كان خير معلّم للأطفال والشباب، يقرأ معهم الألواح والآثار المباركة ويروي لهم تاريخ الأمر ورجالاته، وفي المساء كانت له جلسات تعمّق مع الشباب والكبار. ونظرًا لإفتقار الأحباء لحمّام عمومي استطاع أن يبني حمّامًا لهم، بالإضافة إلى تأسيس مكتبة أمرية، ولهذا كان محل احترام وتقدير الكبير والصغير في القرية وظلت آثار خدماته باقية لسنوات عديدة.
وبعد أربع سنوات ونصف قضاها في نجف آباد رحل إلى قزوين وباشر نفس المهام لمدة سنة كاملة، وما أن سمع برغبة حضرة ولي أمرالله في قيام الأحباء بالهجرة للمناطق العربية حتى كان أوّل من لبّى النداء؛ فسافر إلى بغداد مع زوجته في ظروف صعبة. وفي مدينة الله، بغداد، كان نجمًا بازغًا وشعاعًا مضيئًا حيث عقد دروسًا تعمّقية للشباب والكبار وحظي بزيارة قدماء وأبطال وصناديد الأمر في تلك الأرض المباركة حتى جاءته الموافقة للعمل في البحرين. بعد سنة في بغداد، رحل إلى البحرين لخدمة أهلها فوصل إلى ما كان يتمنّاه. إنّ هجرته وبقاءه في البحرين لمدّة أربع عشرة سنة في جزيرة متواضعة، وفي جوّ شديد الحرارة والرطوبة في الصيف، وتحمّله لقسوة الحياة وشظف العيش هي من علائم عشقه ومحبّته لشعب البحرين ولتوجيهات حضرة ولي أمرالله الذي سمّاه “فاتح شبه الجزيرة” وخلال تلك الفترة تكوّنت جالية كانت النواة لكل التطوّر الذي حصل فيما بعد في تلك المنطقة.
إنّ تبوُّؤه لمقام أيادي أمرالله الشامخ في عام ١٩٥٧م هو تتويج لجهوده السابقة وبداية لجهود أعظم في سبيل تبليغ وترويج وحفظ وحماية الأمر العزيز والذود عن مصالحه، ثم عضويته في هيئة الأيادي المقيمة في الأرض الأقدس وتحمّله لهذه المسئولية الكبيرة والثقيلة وأداء واجباته بكفاءة عالية ومميّزة حازت على استحسان جميع حضرات الأيادي الذين كانوا يضعون كل الثقة في جنابه. ثم انطلاقه بعد تأسيس بيت العدل الأعظم ليتفرّغ ويجوب العالم رافعًا راية يا بهاءالأبهى، مبلّغًا فذًّا لأمرالله، مشاركًا في الجلسات والمدارس الصيفية والمؤتمرات والندوات ملتقيًا مع الأحباء والأصدقاء والشخصّيات وغيرهم، ثم مشاركته في اجتماعات دارالتبليغ العالمية والاستئناس برأيه ووجهات نظره وكسب الفيض من وجوده، كل ذلك ترك أثرًا لا يُنسى وظلّ جزءًا لا يتجزّأ من تاريخ أمرالله المشعشع المنير.
عشق الناس فعشقوه، رأوا في شخصّيته المميّزة المهابة والوقار مقرونة بالتواضع والتفاني. اتّصف بسعة العلم ووفورُ الحكمةِ وبلاغةُ العبارةِ وتعدّد الثقافات، فجمَعَ بين الشرق والغرب. ونظرًا لتمكّنه من اللغات الفارسية والعربية والإنجليزية؛ فقد ترك لنا العديد من المؤلفات والتراجم التي أثرَتْ المكتبة البهائية، ولعلّ أبرزها ترجمة بعض توقيعات حضرة ولي أمرالله من الإنجليزية إلى الفارسية الموجّهة إلى أحباء أمريكا وترجمة كتاب The Priceless Pearl (الجوهرة الفريدة) إلى الفارسية وهو الكتاب الرائع لأمة البهاء روحية خانم عن تاريخ حياة حضرة وليّ أمرالله المحبوب، بالإضافة إلى العديد من المؤلفات باللغتين الفارسية والإنجليزية. رحل عنّا تاركًا ميراثه الروحاني الغني المتمثّل في تاريخ حياته الحافل وآثاره، وستظل ذكراه الطيبة في عقول وقلوب الألوف من محبيّه وعشّاقه، مثلما ذكر بيت العدل الأعظم في برقية عزائه: “إن جميع البهائيين في العالم يندبون فقدانه… لتكن حياته النورانية المثالية التي كرّسها للخدمة تستمر في الهام معجبيه في كل مكان…”.
في عام ١٩٨٤م كرّمه شباب الخليج بإطلاق “مشروع فيضي” تكريمًا لذكراه العطرة وتخليدًا لحياة اتّسمت بالخدمة والتفاني، وهو مشروع خاص بالتنمية الإقتصادية والإجتماعية في آسيا وقد ترك هذا المشروع بصمات واضحة على حياة الألوف ممّن ساهموا واستفادوا من برامجه. ألا تستحق حياة شريفة كهذه أن تكون لنا نبراسًا نستلهم ونتعلّم منها؟ مع عميق شكري وتقديري لكل من ساهم في مراجعة وملاحظة وتدقيق وإخراج هذا الكتاب إلى حيّز الوجود.
عبدالحسين فكري
شباط / فبراير ٢٠١٧
[1] من الكلمات المكنونة الفارسية
[2] مجموعة من الواح حضرة بهاءالله نزلت بعد الكتاب الأقدس – لوح مقصود ص ١٥٤
[3] من كتاب “به ياد دوست” ص ١٥
ينتسب جناب أبو القاسم فيضي إلى أسرة الملاّ محسن فيضي كاشاني التي أسسّت المدرسة الدينية المعروفه في مدينة قم باسم (المدرسة الفيضية). أما والده فهو جناب عبدالحسين خان فيضي ووالدته صدّيقة خانم ولقبها مادر جان ويرجع نسبها إلى أسرة كريم خان زند المعروفة. ولد جناب فيضي في عام ١٩٠٦م أو ١٩٠٧م في مدينة قم بإيران، ولا يُعرف بالضبط تاريخ ولادته أو حتى السنة التي وُلِد فيها لأن الناس في السابق كانوا لا يهتمون كثيرًا بتاريخ ولادة الشخص، وعادة ما كان يُكتَب تاريخ ولادة الطفل في الصفحة الأخيرة من القرآن الكريم أو في كتاب أشعار الشاعر الفارسي حافظ ومن ثم يُنسى. قضى جناب فيضي أيام طفولته وصباه في مدينة قم ودخل في مدارسها، وكان يحبَّ الرياضة ولهذا انضمّ إلى ناد رياضي، وكثيرًا ما كان يذهب ويمارس الرياضة بالإضافة إلى حبِّه لكرة القدم وشغفه بمشاهدة ممارسة الآخرين للرياضات القديمة، وكان أيضًا يشجّع الشباب على ممارسة الرياضة. ويُعتَبر والده من ضمن الأفراد الّذين أرسلتهم حكومة إيران إلى أوروبا حتى يتعلّموا فن التلغراف الذي كان قد دخل إيران حديثًا، وبعد رجوعه أصبح رئيسًا لمكتب التلغراف في همدان، ومن ثم انتقل للعمل في مدن أخرى ولكن ظلت أسرته مقيمة في مدينة قم. أمّا خال جناب فيضي فهو آية الله آقا ميرزا محمد فيضي، فقد كان من المجتهدين المعروفين في مدينة قم، كما كان له شقيق أكبر سنّا اسمه محمد علي ويعمل في همدان وقد آمن بالأمر المبارك نتيجة لمعاشرته ومراودته مع البهائيين هناك. تقاعد والده عن العمل ثمّ انتقل مع زوجته وأولاده للسكن في العاصمة طهران، وكان في القلب بهائيًا ولهذا لم يمانع من دخول ابنه أبو القاسم إلى مدرسة بهائية هناك كانت تُعرف باسم مدرسة تربيَتْ (مدرسة التربية) حيث قُبِلَ في الصف الخامس. تأسسّت هذه المدرسة عام ١٨٩٨م وعُرِفت بأنها أفضل مدرسة في طهران آنذاك نظرًا لتركيزها على رعاية المواهب والقدرات الكامنة في الطلبة، وتربيتهم التربية الأخلاقية الجيّدة الراقية مستوحاة من التعاليم المباركة الرّامية إلى تعزيز الرغبة في خدمة البشرية، وتنشئتهم في جوّ من المحبّة والوحدة والتسامح والتعايش السلمي بين كافة أطياف المجتمع. كانت تحتضن هذه المدرسة الطلبة البهائيين وغيرهم من الديانات الأخرى دون تفرقة، بل كانت تحتضن طلبة من أسر مسلمة معروفة في طهران ولم تكن الدراسة فيها مختلطة وغالبية مدرّسيها من البهائيين.
في مدرسة التربية، تعرّف جناب فيضي على الشباب البهائي وصاحبهم وشاركهم في الدراسة وصفوف الأخلاق التي كانت تعقد أيام الجمعة وغيرها من الأنشطة، وكان معلّمهم في المدرسة جناب نورالدين فتح أعظم[1] الذي انبهر وانجذب فيضي إلى شخصيّته وأخلاقه العالية، وكان يعشق حضور دروسه. بداية لم يكن يعلم بأن هذه الصفوف خاصة للأطفال البهائيين وكان يعتقد إنها ضمن دروس المدرسة، وبالتالي وتدريجيًا وبشكل طبيعي إنضمّ إلى جمع البهائيين مع أنه لم يكن قد تعرّف على أي شخص بهائي قبل وروده إلى طهران. شهاداته الدراسية تدّل على أنه كان تلميذًا متفوقًا وكان دومًا يذكر أساتذته الأفاضل بكل محبّة واحترام، أمثال مدير المدرسة جناب عزيزالله مصباح وفاضل شيرازي ونصرالله مودّت وفؤاد أشرف، أما جناب نورالدين فتح أعظم فكانت له معزّة خاصة في قلبه وكان يذكره بالخير دوام حياته، لأنه كان البوابة التي من خلالها دخل الدين الذي اعتنقه وعشقه بكل جوارحه.
وعندما علمت والدته صدّيقة خانم أو مادر جان بإيمانه لم تنزعج ولم تخاصمه وتركته على حاله بل شجّعته على التمسّك بمبادئ دينه الجديد. كانت صدّيقه خانم مسلمة ومتمسّكه بدينها ولكنها متسامحة مع الآخرين، لدرجة أنها كانت توقظ جناب فيضي في السحور أثناء شهر الصيام (العلاء) وتُعدّ له طعام السحور، وشاءت الأقدار أن تؤمن هذه السيدة الفاضلة فيما بعد بالأمر المبارك وثبتت عليه إلى آخر أيام حياتها.
كانت لمدرسة التربية صفوف دراسية حتى الصف التاسع، وبعد أن أتمّ جناب فيضي هذه المرحلة ذهب إلى الكلية الأمريكية في طهران لاستكمال دراسته حيث درس فيها لمدة سنتين وتقوّى باللغة الإنجليزية وتعلّم بعض الفرنسية، كما شارك في دروس تقوية اللغة الإنجليزية التي كانت تعقد تحت إشراف الآنسة قدسية أشرف. وما أن بلغ عمره التاسعة عشر حتى أصبح مطلوبًا للخدمة الإلزامية في الجيش الإيراني؛ ولهذا قرّر والده إرساله للدراسة خارج إيران حتى ينمّي طاقاته وقدراته ويُكمِل دراساته العليا، وقد اختار بيروت نظرًا لأن حضرة ولي أمرالله كان يشجّع الشباب البهائي الإيراني على الدراسة في بيروت بدلًا من أمريكا وأوروبا. تم قبوله في الجامعة الأمريكية في بيروت وقرّر أن يدرس التربية والتعليم حتى يستطيع أن يرجع إلى إيران ويخدم في مدرسة (تربيت).
[1] والد السيد هوشمند فتح أعظم عضو بيت العدل الأعظم السابق
في عام ١٩٢٧م غادر إيران إلى لبنان وانضمّ إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وهي نفس الجامعة التي درس فيها حضرة ولي أمرالله وكانت تُعرف آنذاك بالكلية البروتستانتية السورية، وهناك تعرّف على جناب حسن باليوزي الذي كان طالبًا يدرس في الجامعة ومتواجدًا قبله بحوالي السّنتين وأصبحا صديقين حميمين. كان يكنّ له كل احترام وتقدير، ويعتبره أخًا أكبر له ومعلّمًا ناصحًا، وظلّت هذه العلاقة متينة بينهما حتى أواخر حياتهما المجيدة واعتبر جناب فيضي التعرّف على شخصية مميّزة مثل جناب باليوزي فضلًا من الجمال المبارك وقد أصبح كلاهما فيما بعد ضمن كوكبة هيئة أيادي أمرالله الجليلة. وصف جناب فيضي صديقه العزيز بهذه الكلمات: “لم يكن حسن باليوزي يتطلّع إلى أي مقام أو منصب، بل كان شمعة مضيئة تنير لنا طريق النجاح… إنّ حياتَه وسلوكَه وكلماتَه كانت تضيئ جميع الطرق التي يجب أن نسيرها في النهاية”[1].
وتجدر الإشارة هنا أن الآنسة گلوريا علائي (زوجة جناب فيضي فيما بعد) قد وصلت بيروت في نفس السنة التي وصل فيها جناب فيضي. تعتبر گلوريا ابنة جناب رحمت علائي المنتمي إلى إحدى العائلات البهائية الإيرانية العريقة، ولكنه لم يكن شخصًا نشطًا أو فعالًا في الجامعة البهائية، بل كان غير مستقر الحال ولهذا اضطرت زوجته أن تتركه. ونظرًا لعدم قدرته على تربية ابنته الوحيدة التي لم تبلغ من العمر أكثر من ست سنوات آنذاك؛ فقد قرّر إرسالها إلى إحدى المدارس الداخلية في لبنان حيث كانت الإيرانية الوحيدة في المدرسة ولكنها تعرّفت على باقي الطلبة الإيرانيين البهائيين في الجامعة وذهبت معهم أحيانًا إلى الأرض الأقدس. ونظرًا لأن المسؤول عنها في المدرسة كان يرغب في أن تتعلّم گلوريا اللغة الفارسية قراءة وكتابة فقد ُطلبَ من جناب فيضي أن يتولى ذلك أثناء وقته الإضافي في المساء وكان ذلك بداية تعرّف فيضي عليها.
ومع ازدياد عدد الطلبة البهائيين في الجامعة، قرّر السيد حسن باليوزي في إحدى المرّات أن يعقد اجتماعًا لهم في إحدى صالات الجامعة. وبعد أن ألقى كلمة مشجّعة اقترح عليهم أن تعقد دروس في كيفية إلقاء الخطب حول المواضيع الأمرية باللغتين الفارسية والإنجليزية، وافق الطلبة على ذلك وفعلًا بدأ الطلبة دروسهم أيام الأحد عصرًا في منزل السيد حسين إقبال وهو ابن جناب محمد مصطفى بغدادي من مشاهير الأمر ومن حواريي حضرة بهاءالله، وبالطبع كان جناب فيضي ضمن هذه المجموعة. قام الطلبة بداية بإعداد برنامج دراسي لمدة عام كامل وأرسلوه بناء على اقتراح من السيد باليوزي إلى حضرة شوقي أفندي الذي ردّ عليهم برسالة شكر واستحسان وطلب منهم الإستمرار في دراساتهم الأمرية. كما قامت هذه المجموعة وبتشجيع من السيد باليوزي أيضًا بطلب زيارة الأرض الأقدس خلال عطل أعياد الميلاد (الكريسماس) والفصح ورأس السنة أو في الصيف وقد سمح لهم حضرة ولي أمرالله بذلك شريطة أن يأتوا في مجموعات وليس دفعة واحدة.
ونظرًا لأن جناب باليوزي سبق أن زار الأرض الأقدس؛ فقد شرح لزملائه كيفية وآداب الزيارة وطريقة إعرابهم عن الإحترام لمقامي حضرة الباب وحضرة بهاءالله ولقائهم بحضرة ولي أمرالله. وعندما حان وقت زيارة جناب فيضي للأراضي المقدسة للمرّة الأولى كان سروره بالغًا وقد عبّر عنها بأجمل التعابير. كان عمره عشرين عامًا وكل وجوده مشتعل من لقاء آية الله على الأرض وغصنه الممتاز، فعن طريق البر وبعد أربع ساعات، مستقلًا سيارة الأجرة، وصل لمنزل حضرة عبدالبهاء في حيفا، وغير معلوم ما إذا كان برفقة أحد من زملائه في زيارته الأولى هذه. ورغم شرح جناب باليوزي عن كيفية الزيارة إلا أن جناب فيضي كان متحيّرًا طوال الطريق حول ما سيكون عليه شعوره وهو يزور المقامات المقدسة. وعندما وصل لمنزل حضرة عبدالبهاء نزل من التاكسي ودخل الحديقة واستقبله شخص وطلب منه الإنتظار قليلًا في الحديقة، وبعد فترة قصيرة طلب منه الدخول لمنزل حضرة عبدالبهاء حيث يسكن حضرة ولي أمرالله والانتظار في الصالة. جلس جناب فيضي على المقعد الذي يقع بالقرب من الباب لبرهة من الوقت ولم يكن يعلم بأن هذا المقعد مخصّص لجلوس حضرة شوقي أفندي. فجأة خرج حضرة ولي أمرالله من إحدى الغُرف المطلّة على الصالة وتوجّه مباشرة إلى حيث يجلس فيضي. وقعت عينا فيضي على من كان مصدر إلهامه في حياته وكانت اللحظة التي غيّرت مجرى حياته. وحول هذا اللقاء كتب فيضي:
]نحن الإيرانيون تعلّمنا منذ الصغر أن نقف عندما يدخل شخص أكبر سنًّا من باب الإحترام. وعلى أي حال، فقد نسيتُ كل ما قيل لي وبقيت جالسًا في مكاني وكأني التصقتُ بالكرسي. جاء نحوي حضرة ولي أمرالله الذي كان في ريعان شبابه ومليئًا بالقوة الروحية والجلال الملكوتي وقال: “تعال، لنلتقي سويًّا كأخوين” وبكل هدوء رفعني من مكاني. شعرتُ بالخجل وقد انهَمرتْ الدموع من عيني، وما لبثتُ أن وجدتُ رأسي قد استراح على كتفه[[2].
ومن ثم طلب منه حضرة ولي أمرالله أن يجلس في نفس المقعد ثم سأله عن خططه المستقبلية وشجّعه على دراسة اللغات الإنجليزية والعربية والفارسية ثم قال له: “لنذهب إلى مقام حضرة الباب”، بعد سنوات يستذكر جناب فيضي ذكريات تلك الأيام ويقول: “لأنني كنت شابًا لم أقدّر قيمة تلك الأيام”. لا توجد ذكريات أو مدوّنات أخرى عن زيارته الأولى للأراضي المقدسة غير ذلك. وعلى أي حال، رجع جناب فيضي إلى بيروت كالنار المشتعلة وكل أمله تحقيق ما طلبه مولاه وهو دراسة وإتقان اللغات الثلاث. لقد كانت رغبته في العلم والتعلّم والمعرفة شديدة ولهذا حضر المحاضرات في التاريخ والفلسفة والآداب والتربية والتعليم، كما كان يحبّ ممارسة الرياضة والتمثيل والأعمال المسرحية ولهذا كتب في بيروت بالتعاون مع جناب باليوزي عدة تمثيليات ومسرحيات منها مسرحية بعنوان “شاه عباس الكبير” التي لعبها سوّيا مع باليوزي، كما كانت له أعمال نثرية جيدة بالفارسية. من نشاطات حضرات فيضي وباليوزي في لبنان أيضًا قيامهما بزيارة قدماء الأحباء في بيروت من الذين كانوا في الأراضي المقدسة لعدّة سنوات ثم جاءوا إلى بيروت وكانا يستمتعان بسماع قصص وحكايات هؤلاء النفوس التي تعود ذكرياتهم إلى أيام حضرة عبدالبهاء.
كانت هناك عطلة صيفية لطلبة الجامعة سنويًا، وعادة ما كان الطلبة يسافرون إلى بلدانهم لقضاء عطلهم مع أسرهم، ولكن بالنسبة لجناب فيضي وبعض الطلبة البهائيين فلم تكن من عادتهم السفر في كل صيف إلى إيران ولهذا كانت لهم أنشطة صيفية متنوعة في لبنان. من ضمن هذه الأنشطة كان التدريب على كتابة وإلقاء الخُطب العامة وبالذّات باللغة الإنجليزية مما ساعدهم على تعلّم اللغة بسرعة كبيرة.
بعد زيارته الأولى للأرض الأقدس، كان جناب فيضي غالبًا ما يقوم بالزيارة وبرفقته صديقه العزيز السيد حسن باليوزي. ففي إحدى الزيارات وبينما كانا في بيت الزائرين جاء البستاني وسلّمهما ظرفًا ملفوفًا بمنديل حريري وقال بأنه من حضرة شوقي أفندي وطلب مني أن أسلّمه لكما، وأطلب منكما أن تقوما بترجمته وإرجاعه إليه. قام الاثنان بفتح الظرف بكل احترام وتبجيل فوجدا بداخله رسالة الملكة ماري ملكة رومانيا في الإطراء على تعاليم حضرة بهاءالله. قاما فورًا معًا بترجمة الرسالة إلى الفارسية خلال يومين وإرسالها إلى حضرة المولى، ثم ذهبا في نفس اليوم فورًا إلى بيت حضرة عبدالبهاء لمرافقة حضرة ولي أمرالله في زيارته لمقام حضرة الباب. وعندما سارا معًا على سفح جبل الكرمل توقّعا أن يعلّق حضرته على الترجمة، ولكن حضرته وكعادته كان يشارك الزائرين الأخبار الأمرية من شتى أنحاء العالم، وعندما وصلا بالقرب من المقام توجّه حضرة ولي أمرالله إليهما وقال: “لقد وصلتني الترجمة، إنها صحيحة ولكنها ليست بليغة، لقد غيّرتُ بعض العبارات”[3]. لقد كانا سعيدين بأنّ حضرته قد قبل ترجمتهما المتواضعة ودعيا الجمال المبارك أن يوفقهما على خدمته وطاعته. لقد أضحى كلاهما الآن على علم بمدى ثقل العبء الذي يحمله حضرة شوقي أفندي على كاهله.
في المرّات القليلة التي انضمّت فيها گلوريا إلى مجموعة الطلبة عندما اصطحبوها في زيارتهم للعتبات المقدّسة حيث كانت تجد نفسها وحيدة؛ فتجول في الحدائق المحيطة بالمقام الأعلى أو تجلس داخله، وفي بعض الأحيان كانت تود الذهاب إلى بيت حضرة عبدالبهاء ولكنها لم تكن ترغب في معرفة أعضاء أسرته سوى الورقة المباركة العليا التي أعجبت بشخصيّتها وكانت ترغب في الجلوس بقربها والحديث معها دومًا، ولكنها لم تكن تدرك تمامًا مقامها الشامخ الرفيع، ولم تكن گلوريا تعرف شيئًا عن الأمر المبارك في ذلك الوقت. وفي إحدى المرّات عندما كانت مجموعة الطلبة الإيرانيين في محضر حضرة ولي أمرالله، كانت گلوريا متواجدة معهم وطلب منها حضرة المولى أن تتلو مناجاة، ولكنها ارتبكت وخجلت من نفسها وقالت إنها لا تعرف كيف تتلو مناجاة بالفارسية. ولكن تدارك جناب فيضي الموقف وقال إنها تعرف مناجاة بالإنجليزية فهل تسمح لها بتلاوتها؟ سمح لها حضرته بالمناجاة، فوقفت وقرأت مناجاة بالإنجليزية عن ظهر قلب كانت إحدى الزائرات الأوروبيات قد أعطتها إياها. وبعد الانتهاء من التلاوة، قال حضرة شوقي أفندي: “كم هو جميل لفظها” ومن ثم توجّه إلى فيضي وقال: “عليك أن تعلّمها قراءة الدعاء بالفارسية”. وفي نفس هذه الجلسة طلب حضرته من جناب فيضي أن يتلو مناجاة، فتلا جزءًا من لوح طويل لحضرة بهاءالله وقد أثار ذلك استحسان وتمجيد حضرة ولي أمرالله المحبوب.
في صباح اليوم التالي، وبينما كانت مجموعة الطلبة على سفح جبل الكرمل مع حضرة ولّي أمرالله قال حضرته لفيضي: “لقد استمعتْ بهائية خانم إلى صوتك البارحة أثناء تلاوتك للوح من حضرة بهاءالله، هل من الممكن أن تذهب وتتلو مناجاة لها؟”[4] كان الطلب مفاجئًا للغاية بحيث لم يقدر على تخيل عظمة هذه النعمة والموهبة، ولكنه ذهب إليها في اليوم التالي حيث وصل لمنزل حضرة عبدالبهاء في تمام الساعة التاسعة صباحًا، وجلس في نفس المكان الذي جلس فيه عندما التقى مع حضرة ولي أمرالله في مقابلته الأولى. كانت بهائية خانم جالسة على كرسي والسيدة منيرة خانم حرم حضرة عبدالبهاء واقفة بالقرب منها وكانت أيضًا السيدة ضيائية خانم والدة الهيكل المبارك متواجدة، ويداها على كتفها بالإضافة إلى تواجد بعض النسوة. وبدعوة من بهائية خانم، طلبت منيرة خانم من جناب فيضي أن يتلو المناجاة. يمكنكم تصوّر إحساس شاب طُلبَ منه أن يتلو مناجاة في حضور ثلاث نساء مميّزات وعظيمات. تلى جناب فيضي لوحًا من حضرة عبدالبهاء موجّهًا إلى أحد المؤمنين في يزد بصوت ملكوتي شجي أثّر تأثيرًا عميقًا في بهائية خانم.
وفي مناسبة أخرى طلب حضرة ولي أمرالله من الطلبة البهائيين إعداد برنامج موسيقي للترفيه عن من أجل حضرة الورقة المباركة العليا. فقام الطلبة ومنهم جناب فيضي بإعداد أغاني تصاحبها الموسيقى وأناشيد بالفارسية وذهبوا إلى منزل حضرة عبدالبهاء حيث كانت ورقات البيت المبارك موجودات، مثل بهائية خانم ومنيرة خانم وغيرهنّ. في نهاية العرض سألت إحدى السيدات بالنيابة عن بهائية خانم إن كان أحد الطلبة يمكن أن يغني أغنية “خوشهء باقي” وهي التي كانت متداولة في طهران ويغنّيها العمّال أثناء رجوعهم إلى المنزل في المساء. قال أحد الطلبة إنه يعرف هذه الأغنية وبدأ بالغناء، وقد تأثّرت الورقة المباركة العليا من ذلك بشدّة حيث رجعت بذكرياتها إلى أيام طفولتها مع والدها الماجد في طهران. يروي أحد الأصدقاء على لسان جناب فيضي هذا الحدث بهذه الكلمات:
]في أحد الأيام كنّا في محضر حضرة وليّ أمرالله فتفضل وقال: “ترغب الورقة العليا أن تستمع إلى الموسيقى والترنّمات الحديثة الرائجة في إيران. قرّروا جميعًا الذهاب إليها وعزف الموسيقى”. قال فيضي: “من شدّة سروري وشوقي لم يكن لي من مستقر. تصوّروا كيف أن تلك النفس المقدسة شقيقة حضرة عبدالبهاء وبعد سبعين سنة من البُعد عن الوطن تريد الآن أن تستمع إلى الموسيقى الفارسية. لقد قرّرنا وذهبنا إلى محضرها وعزفنا عدّة قطع موسيقية. وعندما كنّا مرّة أخرى في محضر حضرة شوقي أفندي قال بكل لطف ومحبّة بأن حضرة الورقة المباركة العليا أظهرت كل الرضا عنكم، ثم قال بابتسامة إنني كنت في غرفة أخرى واستمعتُ الى الموسيقى[[5].
وخلال تلك الزيارة نفسها يروي جناب فيضي أيضًا إنه وبينما كان في أحد الأيام مقيمًا في منزل الزائرين الشرقي مع باقي التلاميذ، ذهبا في المساء إلى شرفة المنزل، ولاحظا عن بُعد أن الغرفة التي يشغلها حضرة ولي أمرالله في بيت حضرة عبدالبهاء مازالت مضيئة، وقرّروا أن يمكثا معًا حتى ينطفئ النور. صَبِروا حتى الساعة الثانية صباحًا ولكن النور كان مازال مضيئًا. في اليوم التالي، وكالعادة ذهبا إلى منزل حضرة عبدالبهاء وعندما استقبلهما الهيكل الأنور قال لهما على الفور إنه اضطرّ إلى البقاء حتى وقت متأخّر من الليل لأن لديه أعمالًا كثيرة، ولكن عليهم أن يأووا إلى فراشهم باكرًا.
كان لطف ومحبّة حضرة ولي أمرالله في حق كل من فيضي وباليوزي كبيرة. ذات مرّة – ويحتمل أن تكون عام ١٩٢٨م – عندما كانا في زيارة للأرض الأقدس أخبرهما حضرة المولى إنه سيرسلهما إلى قصر البهجة الذي كان مايزال تحت تصرف الناقضين، على الرغم من إنه لم يكن مسموحًا للأحباء بالزيارة، ولكن عليهما عدم التحدّث مع الناقضين الذين كانوا يقطنون هناك. وعندما ذهبا هناك وجدا القصر مهملًا ووسخًا وغير معتنى به، وعلى الأخص الغرفة التي شغلها حضرة بهاءالله وأسرته إلى جانب افتقاره إلى الصيانة. لم يتمالك حسن باليوزي نفسه وسأل الشخص الذي كان برفقتهم (ويبدو إنه من الناقضين) عن سبب هذا الإهمال، فرّد عليه هذا الشخص بأنه بسبب عدم دفع حضرة شوقي أفندي لهم أيّة أموال للصيانة والترميم، فقال له جناب باليوزي: “إن البيت بحاجة إلى مكنسة للتنظيف وليس إلى أموال”. ونظرًا لأن حضرة ولي أمرالله سبق أن طلب منهما عدم التحدّث مع هؤلاء الناس، فلم يذهب جناب باليوزي معه إلى أبعد من ذلك، بل تركا المكان. ومن المعلوم أن الناقضين قد أخلوا قصر البهجة في نوفمبر/تشرين الثاني من عام ١٩٢٩م، ثم قام حضرة المولى بترميمه وتجديده وتنظيفه وتأثيثه وجعله مهيأ لاستقبال الزائرين. وعندما كان جناب فيضي وباليوزي في زيارة للأرض الأقدس في شهر فبراير/شباط عام ١٩٣٢م، سمح لهما الهيكل المبارك بزيارة القصر مرّة أخرى ومشاهدة التغيير الكبير في شكله وهما من أوائل الأفراد الذين زاروا القصر بعد ترميمه وسُمحَ لهما البقاء فيه لليلتين.
بتاريخ ٤ فبراير/شباط عام ١٩٣٢م، كتب جناب فيضي إلى شقيقه جناب محمد علي فيضي من قصر البهجة الرسالة التالية:
]مهما أصف الأشياء أو أعبّر عن أحاسيسي لك فهي ليست كافية. إن يديّ ترتجفان وقلبي ينبض من فرط سروري… لقد وصلتُ حيفا مع جناب باليوزي قبل يومين والتقينا بحضرة وليُ أمرالله في نفس اليوم عصرًا في حدائق مقام حضرة الباب… سألنا حضرته عن دراساتنا… ثم قمنا بالسير معًا على جبل الكرمل وطوال سيرنا تحدث حضرته عن أهمية عدم المداخلة في الشؤون السياسية… كما كنّا في محضره بالليل أيضًا، طلب مني أن أتلو مناجاة. ثم أرسلنا إلى البهجة في اليوم التالي وسمح لنا بالبقاء هناك لليلتين. هل تعلم أي شرف عظيم لنا أن نقضي ليلتين في مكان تاريخي كهذا؟ لا استطيع أن أصف لك جمال هذا المبنى… لقد التقطت صورًا فوتغرافية كثيرة وسوف أرسل لك بعضًا منها من بيروت. يجب أن نرجع إلى بيروت خلال يومين، ولربما استطعت أن آتي مرّة أخرى خلال هذه السنة، والذي يتوقف طبعًا على إجازة ولي الأمر، ولكنه لطيف وعطوف جدًا في حقنا نحن الطلبة بحيث إنه لربما يسمح لنا بالمجيء مرّة أخرى… لا أستطيع أن أبعد نفسي عن هذا المكان[[6].
تخرّج جناب باليوزي من الجامعة الأمريكية في بيروت حاصلًا على درجة الماجستير في التاريخ وترك لبنان قاصدًا بريطانيا في سبتمبر/أيلول ١٩٣٢م، كانت مغادرته ثقيلة ومُرّة على الطلبة البهائيين الذين اعتادوا أن ينهلوا من علمه ومعرفته، وعلى الأخص جناب فيضي حيث كان الجميع شركاء في كتابة المسرحيات والتمثيل وقضاء الأمسيات والأوقات السعيدة، يمرحون ويضحكون سَويًّا وعلى الأخص زيارتهم للأرض الأقدس وتلقيهم ألطاف وعنايات حضرة وليّ أمرالله، ولكن لم ينس جناب باليوزي أصدقاءه واستمر في التواصل معهم وتشجيعهم بواسطة رسائله.
أما بالنسبة لجناب فيضي، فقد كانت له عدّة زيارات منفردة للأرض الأقدس بعد مغادرة جناب باليوزي. ففي إحدى المرّات وبينما كان في بيت الزائرين جاءه المشرف على البيت وقال له بأن حضرة ولي أمرالله موجود عند المقام الأعلى ويريدك أن تكون هناك. قام جناب فيضي فورًا راكضًا ليصل إليه، وعندما لاحظ الهيكل الأطهر ذلك قال له “لا تركض ستتعب” يقول فيضي إنه منذ ذلك الحين لم يركض وراء أي شيء وترك الأمور تسير على طبيعتها. تخرّج جناب فيضي من الجامعة الأمريكية في بيروت في يونيو/حزيران عام ١٩٣٣م، حاصلا على درجة الليسانس في التربية والتعليم، أي أنه قضى فترة ست سنوات في لبنان بينما قضى جناب باليوزي فترة سبع سنوات، وكانت رغبته العودة إلى إيران والتدريس في مدرسة (ترْبِيتْ). وشاءت الأقدار أن يتوفى والد جناب فيضي السيد عبدالحسين خان عام ١٩٣٣م، وقبل رجوع ابنه لإيران ببضعة أشهر، ممّا جرح قلب جناب فيضي النوراني وأغرقه في بحور من الأحزان والآلام. في إحدى اللقاءات سأله الهيكل المبارك عمّا إذا كانت المدارس البهائية تراعي حرمة الأيام المقدسة التسعة وتقفل أبوابها؟ فردّ عليه جناب فيضي بالنفي، فقال له: “إنّ المدارس البهائية يجب أن لا تفتح في الأيام المحرّمة حتى لو أدى ذلك إلى غلق المدارس من قبل الحكومة”[7]. هذا البيان المبارك كان له مغزى عميق ولكن لم يفهمه حينها جناب فيضي.
إن آخر زيارة له للأرض الأقدس وقبل عودته لإيران كانت في عام ١٩٣٣م، وكانت مثيرة ومحرّكة للمشاعر. فبعد أن قام بزيارة المقام الأعلى في معيّة حضرة ولي أمرالله، وبعد أن غابت الشّمس وسطع نور القمر متلألًأ على خليج حيفا مكوّنًا منظرًا جذابًا، ونظرًا لأن جناب فيضي كان يمشي خلف الهيكل المبارك على جبل الكرمل، طلب منه أن يأتي إلى الأمام ويسيرا سويًا بكل أخوّة. رَبَتَ حضرته على كتف جناب فيضي وقال له: “جناب فيضي، ستعود إلى طهران غداً؟” فردّ بالإيجاب ثم طلب منه أن يكون مختلفًا وممتازًا عن الآخرين وحذّره من الإنجراف وراء الماديّة. فهِمَ جناب فيضي من ذلك بأن المال يجب أن يكون وسيلة للخدمة وليس الهدف بحدِّ ذاته، كما أدرك إنه ليس مقدّرًا له أن يصبح غنيًا. في صباح اليوم التالي سلّمه حضرة المولى باقة من الأزهار وطلب منه أن يضعها نيابة عنه على ضريح السيدة كيث رانسوم كهلر في اصفهان في تاريخ ووقت محدّد وهي السيدة التي لقّبها حضرة وليّ أمرالله بالشهيدة الأمريكية الأولى. إنّ الوداع والفراق كان صعبًا وحزينًا للذي عشق مولاه بكل جوارحه ولم يكن يعلم إنها كانت الزيارة الأخيرة له.
[1] من كتاب Faizi ص ٥٥
[2] من كتابFaizi ص ٥٩
[3] المرجع السابق ص ٦١
[4] المرجع السابق ص ٦٢
[5] خوشه هائى از خرمن ادب وهنر – عدد ١٠ ص ٣٩
[6] من كتابFaizi ص ٦٤ – ٦٥
[7] من كتاب “به ياد دوست” ص ١٤
عاد جناب فيضي إلى إيران بروح نبّاضة جديدة ورغبة شديدة لخدمة أمرالله، وفور وصوله ذهب إلى اصفهان ليلبّي رغبة مولاه. ونظرًا لعدم استطاعته الوصول إلى اصفهان في اليوم الذي حدّده حضرة ولي أمرالله، فقد تم إبلاغ حضرته بهذا الخبر فقام حضرته بتغيير الموعد إلى اليوم الذي يصادف فيه ذكرى استشهاد حضرة الباب. وبمرافقة مجموعة من أحباء اصفهان، ذهبوا جميعًا إلى ضريح السيدة كيث رانسوم كهلر ووضعوا الزهور على قبرها في تمام الساعة الرابعة عصرًا، كما حدّد حضرة شوقي أفندي في احتفال روحاني مهيب امتزجت فيه الأفراح والأحزان، ثم قام جناب فيضي بزيارة قبور كل من سلطان الشهداء ومحبوب الشهداء وأبلغ حضرة ولي أمرالله بهذا الحدث فجاء الجواب التالي:
اصفهان، جناب آقا ميزرا فيضي عليه بهاءالله
]إنّ العريضة المقدّمة من ذلك الحبيب المعنوي قد فازت بملاحظة المحبوب العطوف المبارك حضرة ولي أمرالله أرواحنا لألطافه الفداء وعَلِم عن الشرح المعروض حول زيارة تربة من إستشهد في سبيل الله ميس كهلر عليها رضوان الله الأبهى ووضع باقة ورد على مرقدها الشريف، وأيضًا إبلاغ الرسائل المباركة إلى أحباء جمال الرحمن الأعزّاء والوضع المادي والروحاني لمدينة اصفهان، كل ذلك أصبح معلومًا وواضحًا لدى المحضر الأنور. إن مراتب شوق ذلك النفس الرحماني في الخدمات الأمرية والعشق والرغبة عند أداء الوظائف المقدسة كان محل اللطف والمكرمة المباركة للوجود الأقدس. بالطبع ونتيجة لتوجّهات الأفضال المباركة ستشمله الـتأييدات الغيبية وسيصل ذلك المفتون بمحبّة الله والمنجذب بنفحات الله إلى تقدّم عظيم في مدارج الخدمة والكمال. وتفضّل وقال: بالطبع وبالتأكيد أثناء الإقامة في اصفهان ستشارك في الخدمات الأمرية مع المحفل الروحاني وعموم الأحباء وتقوموا بتفهيم العموم الحقائق الأمرية وأصول التعاليم الأساسية الدينية. بكل شفقة ومحبّة أمرني أن أكتب التحيّات والتكبيرات المباركة لذلك الجناب وأبلغها لكم. رقم حسب الأمر المبارك – نور الدين زين[[1].
تمّت الملاحظة / عبدُ عتبته شوقي
١٥ شهر الشرف ٩٠
١٤ يناير/كانون الثاني ١٩٣٤م
عاد جناب فيضي إلى طهران وانضمّ إلى والدته العزيزة التي ترمّلت قبل حوالي سنتين وعاشا سويًا ولكنه لم يستطع العمل في مدرسة (ترْبِيَتْ) لأنه لم يؤدِ التجنيد الإلزامي المفروض على جميع الإيرانيين. ولهذا إنضمَّ إلى الجيش ليخدم سنة واحدة، ولكن ذلك لم يمنعه من حضور الجلسات الأمرية وعقد الصفوف البهائية كلّما سنحت له الفرصة. كما عمل مرشدًا لجلسات لتعليم اللغة الإنجليزية للنساء الشابات حسب طلبهن، ودعا الآنسة گلوريا علائي، التي رجعت إلى طهران قبله، للإنضمام إلى هذه الصفوف. شاركت گلوريا مرّتين فقط ثم توقّفت لأنها ربمّا شعرت بالحرج من وجود سيّدات أكبر سنّا وتفاوتًا في معرفة اللغة الإنجليزية. التقى جناب فيضي مرّة أخرى بگلوريا في حفل عيد ميلادها العشرين عندما كان مدعوًّا ضمن مجموعة وأهداها هدية بسيطة. من النفوس التي شاركت في صفوف جناب فيضي واشتهرت بخدماتها فيما بعد يمكن ذكر حضرات: فيض الله مصباح، مهدي صميمي، بهجت علائي، عبدالله فاضل وحسين علي وحدت. تقول گلوريا في ذكرياتها عن تلك الأيام عندما كانت تشارك جلسات جناب فيضي التعمقية بأنه في إحدى المرّات كان يتحدّث عن حضرات أيادي أمرالله وعن مقامهم ووظائفهم، وما لبث أن قالت گلوريا بشكل عفوي: “أنت واحد منهم” صُدِمَ جناب فيضي من هذا التعليق وفضّل السكوت.
في عام ١٩٣٤م تم تعيين جناب فيضي في لجنة التربية والتعليم المركزية في إيران. رغم أن هذه اللجنة قد ضمّت كلاّ من جناب علي أكبر فروتن والدكتور هوشيار والدكتور روشن المتخصّصين في هذا المجال، إلا أن اللجنة استفادت من تخصّصه في هذا الموضوع بالإضافة إلى تمكّنه من اللغات الفارسية والعربية والإنجليزية والفرنسية واطلاعه على الكتابات البهائية. وعندما كان بالجيش عَلِمَ رئيسه بأنه سيقوم بالتدريس في مدرسة ترْبِيَتْ فور خروجه من الخدمة الإلزامية ولهذا أخبر جناب فيضي يوما بأنه سيرسل أولاده لهذه المدرسة وأن بمقدوره تربيتهم كما يريد. خلال تلك الفترة (١٩٣٣م – ١٩٣٤م) قدّم مدير المدرسة جناب مصباح استقالته لظروفه الصحية وتم تعيين السيد علي أكبر فروتن محلّه بموافقة حضرة شوقي أفندي. وتجدر الإشارة أن المحفل الروحاني المركزي في إيران قد تأسس عام ١٩٣٣م، ولكن مدرسة تربيت تأسست عام ١٨٩٨م في عهد حضرة عبدالبهاء، وكانت هناك مدرستان إحداهما للبنين والأخرى للبنات مملوكتان ومدارتان بالكامل من قبل البهائيين. أمّا الطلبة فكانوا ينتمون إلى مختلف الطوائف والملل والأديان والمذاهب. وقد اعتادت هذه المدرسة إغلاق أبوابها في الأيام البهائية التسعة المحرّمة، ولكن فجأة طلبت وزارة التربية والتعليم الإيرانية أن تبقي أبوابها مفتوحة في تلك الأيام ولربّما كان ذلك بتحريك من علماء السوء والأعداء. وما أن وصل الخبر إلى حضرة وليّ أمرالله حتى رفض حضرته هذا القرار بكل صراحة، وأرسل برقية إلى المحفل الروحاني بأن على كافة المؤسسات البهائية المستقلة بما فيها المدارس البهائية إغلاق أبوابها في الأيام المحرّمة وكانت المناسبة هي ذكرى استشهاد حضرة الباب. وأمام إصرار الحكومة على عدم تغيير تعليماتها، صدر القرار بإقفال مدرسة تربيت التي كانت تعتبر من أفضل المدارس في إيران وظلت مغلقة إلى يومنا هذا وتم تسريح الطلبة والموظفين. كان ذلك قبل عشرين يومًا من إنتهاء خدمة جناب فيضي في الجيش، وهنا تذكّر ما قاله حضرة وليّ أمرالله عندما كان في محضره قبل حوالي السنتين: “…حتى لو أدى ذلك إلى غلق المدارس من قبل الحكومة”. نعم إن الهيكل المبارك كان يرى المستقبل بكل وضوح.
وبالتالي تلاشت جميع آمال ورغبات جناب فيضي في خدمة ابناء جلدته من حيث تربيتهم وتعليمهم، وحزن لذلك، وقضى بعض الوقت بعد تسريحه من الجيش يائسًا عاطلًا عن العمل وآملًا في أن تفتح المدرسة أبوابها من جديد. ونظرًا لطلاقته في التحدّث والكتابة بأربع لغات، وقلّة عدد من يجيدون ذلك، وما أن سمعت إحدى الشركات النفطية عنه، حتى قامت بعرض وظيفة محترمة وبراتب جيّد له، مع إمكانية التطوّر والرقي في العمل. قبِلَ جناب فيضي الوظيفة في شركة النفط على مضض؛ لأن المال والجاه لم يعنيا له أي شيء سوى وسيلة لخدمة البشرية وهو جوهر التعاليم التي أتى بها حضرة بهاءالله لهذا اليوم، وتذكّر دومًا ما تفضّل به حضرة ولي أمرالله في آخر مقابلة معه بعدم الإنجراف نحو المادّية الذي كان سائدًا آنذاك. انضمّ أخيرًا إلى شركة النفط وعمل لبضعة أشهر، ولكن في الحقيقة كانت روحه في عالم آخر. إن شخصيّة فيضي كانت مثل أبطال وعشّاق العصر الرّسولي الذين ضحّوا بكل ما لديهم من أجل خدمة الأمر المبارك والبشرية، وكانت تلك هي أمنيته القصوى، ولكنه وجد نفسه جالسًا خلف مكتب راقٍ ويتعامل بالأموال التي تخص شركة النفط، وهو وضع يغاير تطلعاته وآماله، وكان هذا يؤلمه كثيرًا، ولم يكد يتحمّله لدرجة أنه كان يؤنب نفسه، حتى أصبح في النهاية مريضًا ثم لزم الفراش. أثناء هذه المرحلة من حياته أتاه يومًا صديق له من الأحبّاء لزيارته ثم قال له بأن الأطفال البهائيين الأعزّاء في قرية نجف آباد – وهي من ضواحي مدينة اصفهان – بحاجة إلى مدرّس نظرًا لغلق مدرستهم من قبل الحكومة كما هو حال مدرسة تربيَتْ. كان خبرًا سعيدًا بالنسبة لجناب فيضي وبارقة أمل لخدمة البشرية فوافق فورًا على العرض. بعض الأحباء رأوا أن وجوده في طهران أكثر فائدة للأمر، وبعض زملائه استغربوا من قراره بترك وظيفته الجيّدة في شركة النفط والذهاب إلى نجف آباد لتعليم الأطفال، ورغم بعض المواقف السلبية وعبارات السّخرية التي سمعها ممن هم حوله إلا أنه وقف كالصخرة في وجه كل معارضة لأنه كان يعلم في قرارة نفسه بأنه على صواب. من النفوس القلائل التي شجّعته على المضي قدُمًا إلى نجف آباد كان والد زوجته، فيما بعد، السيد رحمت الله علائي. كتب جناب فيضي في مذكراته ما يلي: “الله يعلم بأي فرح وشغف كتبتُ إلى المحفل الروحاني المركزي وطلبتُ منهم أن يمنحوا لي شرف إنجاز هذه المهمّة. ألف شكر لتلك الهيئة المحترمة التي وافقت على طلبي”[2]. ونتيجة لذلك أبلغ المحفل الروحاني المركزي حضرة ولي أمرالله بذلك وقد أرسل حضرته الردّ التالي بتاريخ ٢٣ ديسمبر/كانون الأول ١٩٣٥م بواسطة سكرتيره:
]بالنسبة للسيد أبوالقاسم خان فيضي عليه بهاءالله ومراجعته وطلب التعليم والتربية للأطفال البهائيين في نجف آباد، فقد تفضّل حضرته وقال: إن هذا القرار الذي اتخذ بدافع ذاتي سيجلب التأييدات الالهية وهو دليل واضح على علوّ الهمّة وخلوص النيّة والتضحية وفداء ذلك المقرّب للعتبة الإلهية. تفضّل: إنّ هذا العبد ممنون له كثيرًا وراضٍ عنه، ومن أعماق القلب أطلب وألتمس التوفيق لذلك الشاب الفعّال النوراني[[3].
ومع وصول هذا التأييد من طرف حضرة ولي أمرالله غرق جناب فيضي في بحر من الفرح والسرور خاصة أنّ مولاه العزيز قد بارك هذه الخطوة واعتبرها “جالبة للتأييدات الإلهية” واعتبرها تحدّيًا كبيرًا أمامه. بعث المحفل الروحاني المركزي رسالة إلى المحفل الروحاني لنجف آباد بهذا الخصوص وأرسل صورته الشخصية أيضًا. أما والدته مادر جان فقرّرت أن تكون برفقة ابنها العزيز مساعدة ومؤازرة له، كما تم اصطحاب خادم منزلهم المسنّ ويدعى محمد هاشم والذي أعاقه كبر سنّه من العمل؛ فتعهّد جناب فيضي برعايته وكذلك تمّ اصطحاب صبي يُدعى هوشنگ تبنّته والدة جناب فيضي.
[1] من كتاب “به ياد دوست” ص ١
[2] من كتاب Faizi ص ٧٦
[3] من كتاب “به ياد دوست” ص ١٥
يعود تاريخ الأمر المبارك في نجف آباد التي تقع في ضواحي مدينة اصفهان إلى عام ١٨٥١م عندما آمن مجتهد القرية جناب زين المقربين بدعوة حضرة الباب وأصبح من أنصاره الثابتين الراسخين. وتبعًا لذلك آمن العديد من أتباعه بأمر حضرة الباب ومن ثم بأمر حضرة بهاءالله. وفيما بعد زارت نفوس مميّزة هذه القرية لهداية الباحثين إلى أمرالله أمثال: جناب ورقا، الحاج ميرزا حيدر علي، وجناب أبو الفضائل گلبايگاني. مع أن تاريخ الأمر في هذه القرية لا يخلو من وجود الأعداء الذين كانوا يسببون دومًا المضايقات بين الحين والآخر مدعومين من رجال الدين. إلا أن أحباء نجف آباد الراسخين لم يَفتهُم التفكير في تربية أطفالهم وتعليمهم، ويعود تاريخ تأسيس المدارس البهائية في نجف آباد إلى عام ١٩١٠م، عندما أمر حضرة عبدالبهاء، وبتشجيع منه، ببناء غرفة دراسية واحدة لتعليم الأطفال، ولكن ما أن عَلِم المتعصّبون بذلك حتى هجموا على الغرفة التي بُنِيَ نصفها فقط ودمّروها ثم بناها الأحباء مرة أخرى ودافعوا عنها بتوجيه من المحفل المحلي ضد الغوغاء الذين أرادوا هدمها ثانية. ومع مرور الوقت أضافوا عدّة غُرف وأصبحت مدرسة للأولاد واعترفت الحكومة بها. وفي عام ١٩٢٨م استطاع الأحباء بناء مدرسة أخرى، ولكن للبنات، وجاءت معلّمتان شقيقتان بهائيتان من طهران للتدريس فيها وإدارتها، ومع مرور الوقت تم رفع المستوى في هذه المدرسة لدرجة أصبحت تُعرف بأنها أفضل مدرسة بنات في المنطقة بأسرها.
أصبحت مدرستا الأولاد والبنات تضّمان ثلاثمائة وستين طالبًا وطالبة وبهما ستة مراحل دراسّية والمدرّسون والمدرّسات جميعهم بهائيون. وعندما أغلقت الحكومة الإيرانية المدارس البهائية عام ١٩٣٤م، كانت هاتان المدرستان ضمن قرار الإغلاق، وعندما سأل المحفل الروحاني المحلي لنجف آباد حضرة ولي أمرالله عمّا يجب فعله، أجاز حضرته الإنضمام إلى المدارس الحكومية دون إجبار على ذلك. ولكن فضّل غالبية أولياء أمور الطلبة والطالبات عدم الذهاب إلى تلك المدارس مع العلم أنها لم تكن تقبل البهائيين أصلًا بسبب ضغوط رجال الدين. تطوّعت إحدى إماء الرحمن وأخذت على عاتقها تدريس المرحلتين الخامسة والسادسة في منزلها لمدة سنتين ودون راتب. ولكن ظلّ باقي الطلبة دون تعليم، ولهذا كتب المحفل الروحاني المحلي إلى المركزي طالبًا التوجيه والهداية والمساعدة.
غادر جناب فيضي ووالدته طهران إلى نجف آباد في خريف عام ١٩٣٦م، ومعهم خادمهم القديم. وبينما كان يتقاضى راتبًا شهريًا قدره ألف تومان من شركة النفط، أصبح راتبه الآن ثلاثين تومانًا يتقاضاه من محفل نجف آباد ولكن ذلك لم يقلقه أبدًا. كان عدد سكان نجف آباد آنذاك ثلاثين ألف نسمة يعمل غالبيتهم بالزراعة، وكانت الطرق غير معبّدة، والحياة بدائية، والوسائل الصحّية غير متوفّرة، ودورات المياه عفنة، ومستوى النظافة متدنّي للغاية والحياة بسيطة. أمّا عدد البهائيين فكان يبلغ حوالي الألفين، بعضهم رعاة أغنام ومعظمهم مزارعين وأصحاب مزارع تقع خارج القرية يزرعون فيها أشجار اللوز وغيرها من المحاصيل. وكانت الجامعة البهائية متحّدة وقوية ومخلصة، وعلى الرّغم من معرفتهم السطحية عن الأمر المبارك، ولكنهم كانوا مؤمنين وثابتين على العهد والميثاق، وحريصين كل الحرص على أداء الفروض الأمرية مثل دفع حقوق الله وغيرها. ابتكر المزارعون طريقة جميلة لحساب ١٩ في المائة من أرباحهم. فكانوا يعلّمون كل تاسع عشر شجرة ليذهب ريعها كحقوق الله. سكن جناب فيضي ووالدته في اليوم الأول من وصوله في منزل أحد الأحباء، وفي نفس اليوم أعدّت له جلسة استقبال وترحيب شارك فيها جمّ غفير من الأحباء والشباب ليتعرّفوا على هذا الشاب الذي أرسله المحفل المركزي لتعليم أطفالهم. أمّا النساء فكنّ في غرفة مجاورة مع أطفالهن والعديد منهنّ كنّ بنات أو أخوات شهداء الأمر. وصف جناب فيضي المشاركين بأن وجوههم كانت نضرة روحانية، ونفوسهم مليئة بالعشق والمحبّة، والعديد منهم ممّن اضطهد في سبيل أمرالله أو من عائلات الشهداء والمعذّبين، وبعضهم ممّن ذهبوا لزيارة حضرة بهاءالله سيرًا على الأقدام وعادوا حاملين معهم ألواحًا مباركة من حضرته، ثم عبّر عن مشاعره بالآتي: “كان لحضور هؤلاء النفوس الذين يذكروننا بالعصر البطولي (الرسولي) أثر عميق في نفسي حيث لم أذق سوى بركات التعاليم المباركة وعشت حتّى الآن في راحة ولم أضطهد أبدًا بسبب عقيدتي بأيّ شكل. لقد شعرت بالخجل. من أنا بالمقارنة مع هؤلاء الجبال الثابتة، هؤلاء الأمواج من بحور المحبّة والعناية، هؤلاء النجوم البازغة في سماء المعرفة الحقيقية”[1]. افتتحت الجلسة بتلاوة مناجاة من قبل أحد الأحباء كبار السن بلحن عذب. ارتفع صوت سيدة من غرفة مجاورة تتلو أحد أشعار الجمال المبارك، تلا ذلك صمت وسكون عندما توجّه الحشد نحو الرجل الذي أرسله محفلهم الروحاني المركزي لتعليم أطفالهم، وبصعوبة وقف جناب فيضي وشكر الجميع على هذا الإستقبال الروحاني الجميل وأعرب عن سروره في القيام بتعليم وتربية شباب وأطفال القرية طبقًا للتعاليم المباركة، وفي الختام لم يتمالك نفسه وأخذت الدموع تنهمر من عينيه وطلب منهم الدعاء حتى يوفّق في مهمّته ويكون لائقًا لخدمتهم.
بلغ عدد الأطفال الذين أرغموا على ترك المدرسة حوالي أربعمائة طفل وشاب، وعلى الرغم من الشّهادة الجامعية التي كان يحملها جناب فيضي، إلّا انه كان عديم الخبرة في تعليم هذا العدد الكبير من الطلبة، ولكنه استطاع خلال أسبوعين أن يعدّ جدولًا يحتوي على عشرين فصلًا دراسيًا يحتوي على صفوف تعليمية وأخرى بهائية لكي تعقد في بيوت الأحباء. كان يقوم يوميًا منذ الصباح الباكر وحتى العصر بالمرور على هذه البيوت وتدريس الأطفال والشباب دروس المدرسة وأيضًا المناجاة وقراءة الشعر وبعض المواضيع الأمرية مثل دراسة الكتاب الأقدس وكتاب الإيقان وكتاب بهاءالله والعصر الجديد. ورغم موارده المحدودة، حاول أن يجعل الصفوف البهائية ممتعة إلى أقصى حد. فمثلًا، قام بشراء دفاتر صغيرة للطلبة وقام بكتابة مناجاة صغيرة على كل دفتر وأهداه للشباب والأطفال، ومن ثم طلب من كل طفل أو شاب أن يكتب مناجاة بخط يده، لا في الكتيب الخاص به بل في ذلك الخاص بزميل له ويحفظ الاثنتين. وبهذه الطريقة استطاع الأطفال حفظ أكثر من مناجاة والتمرين على الخط. إنّ كل فصل دراسي كان بمثابة جامعة بهائية صغيرة لدرجة أن هؤلاء الأطفال والشباب وعلى الرغم من قلة دخلهم كانوا يتبرعون للصندوق الأمري. كما كان يساعده في التدريس بعض نساء الأحباء، وفي المساء كان يعقد جلسات مع باقي الأحباء اتّسمت بالروحانية والسرور واشتملت على قراءة الألواح والآثار الأمرية وقصص الصحابة الأوائل في تاريخ الأمر. وبالنسبة لشباب مدينة اصفهان فقد عقدت جلسات لتوسيع معلوماتهم أيضًا، وكان يذهب إليهم مرّة في الأسبوع ومع كل مشاغله كان يقوم بترجمة بعض توقيعات حضرة ولي أمرالله الإنجليزية وكتابة المقالات. أما والدته الفاضلة مادر جان، فكانت تهتم بشؤون الأطفال وترعاهم وتجلس مع والديهم وتنصحهم بما يجب عمله. في إحدى الليالي رأت حضرة الباب في منامها وما لبث أن أعلنت عن إيمانها بالمظهرين الإلهيين. يصف جناب فيضي أيام خدمته في نجف آباد بهذه العبارات:
“بعد أن وصلتُ شاهدتُ أربعمائة ولد وبنت من الذين كانت لهم مدرستان أصبحوا دون دراسة ودون مسئول، ويوميًا كان التلاميذ يأتون سواء أنفسهم أو أولياء أمورهم ويسألون عمّا يجب فعله. موظفو الحكومه وعلى الأخص رئيس المعارف كان يراقب ما سيفعله البهائيون بأطفالهم وكانوا يعلمون لماذا جاء هذا الحقير إلى هذا المكان. كانوا بإنتظار أن تجتمع مجموعة من الأطفال حتى يقوموا بتفريقهم وترصّدوا أن ينهوا أي إنجاز في هذا الصدد. أمّا هذا الفاني فلم تكن له تجربة أو خبرة ولم تكن لدي معلومات لمواجهة الهجوم. وفي مقابل الموانع الخارجية رأيت نفسي عاجزًا ولكن لا أعلم ولا أدري ماذا حصل حتى تم عقد عشرين صف مدرسة وصف أخلاق في منازل الأحباء خلال اسبوعين وقد اشتغلتُ مثل المصنع المنظّم. إنّ يد الغيب قد أحكمت جميع براغي وآلات ومعدّات المصنع ثم شغلتها ومازالت تعمل. ومن المؤسف عدم وجود نفوس لمشاهدة القدرة الإلهية. إن عدد الأطفال الذين يطلبون الامتحانات الحكومية ويحصلون على الموافقة الرسمية في كل عام يزيد عددهم عن عدد تلاميذ المدارس الحكومية وذلك نتيجة العلوم الظاهرية ولكن في جزء العلوم الأمرية فإن أول توجّه كان تطبيق التعاليم الإلهية. كان هناك سعي كبير ليطبق الأطفال كل ما يدرسونه ويتعلّمونه مثل آداب المعاملة والنظافة وتلاوة الآيات والخيرات والتبرّعات وتعاليم كثيرة أخرى…”[2].
من أساليب جناب فيضي في التدريس أنه لم يكن يعطي درجات للطلبة في الدروس البهائية، وإنما كان يشجّع الجميع على الدراسة والحفظ والتعمّق في الآثار المباركة بروح من الوحدة والمحبّة والمثابرة المستمرة. إن اهتماماته بأطفال نجف آباد كانت كبيرة لدرجة أنه كان يشتري ما تبقى من ماله الخاص فرش أسنان وأمشاط وجوارب ومناديل للأطفال والشباب حتى إنه كان يمشّط شعر بعضهم بنفسه ويضع العطر على وجوههم ويمسح أيديهم المشققة بالدهون المرطبة، لقد كان حقًا والدًا ومربّيًا عظيمًا لهم، وفعلًا يصدق قول حضرة بهاءالله في حقّه: “إن الذي ربّى ابنه أو ابنا من الابناء كأنه ربّى أحد ابنائي عليه بهائي وعنايتي ورحمتي التي سبقت العالمين”[3]. أما المحفل الروحاني لنجف آباد فقد اهتم كثيرًا بتربية الأطفال لدرجة أنه أسّس صندوقًا خاصًا لهذا الغرض في عام ١٩٣٩م، من أجل مساعدة الشباب الذين اضطرّوا للعمل صباحًا لتأمين الرزق لعائلاتهم وحرموا من الدراسة. وكان تجاوب الأحبّاء للتبرع لهذا الصندوق جيدًا لدرجة أن العديد من الأطفال استطاعوا إكمال دراستهم والمشاركة في الإمتحانات. كان جناب فيضي لا يألُ جهدًا في أن يضع التلاميذ التعاليم التي يدرسونها قيد التطبيق العملي في حياتهم، فكان حريصًا كل الحرص على إلزام الطلبة بالنظافة مظهرًا وجوهرًا، وتلاوة الآثار المباركة صباحًا ومساءً، واستقامة السلوك، وحسن الآداب، لدرجة أن أحد المسئولين الحكوميين الذي كان عدّوًا للأمر وللأحباء رأى مرّة مجموعة من الأطفال البهائيين وهم ذاهبون إلى أحد الصفوف البهائية وهم في غاية النظافة واللطافة، فاستغرب من ذلك وقال: “كم أتمنى أن يصبح باقي الطلبة مثلهم”.
كانت هناك عدّة قرى مجاورة لنجف آباد، حُرِمَ الأطفال والشباب البهائيون فيها أيضًا من نعمة التعليم ومن الصفوف البهائية؛ فقام جناب فيضي بتشجيع الشباب البهائي في نجف آباد على زيارة هذه الجامعات الصغيرة وتأسيس صفوف أطفال وشباب بها. ففي إحدى القرى التى كان جميع سكانها بهائيين، تمكّنوا من توظيف شاب بهائي كمعلّم بدوام كامل. وفي قرية أخرى تطوّع أحد الشباب على تدريس أطفال ثلاث عائلات بهائية كانت ساكنة هناك، وتدريجيًا تحسّن مستوى التعليم بين الأطفال والشباب في هذه القرى بفضل توجيهات وإرشادات جناب فيضي والمساعدة التي قدمها شباب نجف آباد. كما كانت له اهتمامات رياضية متعدّدة، ولهذا ساعد لجنة الشباب، التي كان له فضل كبير في تشكيلها، على ترتيب أنشطة مثل المشي وتسلّق الجبال وكرة القدم. ولم تكن اهتماماته منحصرة فقط في الأطفال والشباب فحسب، وإنمّا ساهم في تقدّم المرأة أيضًا، حيث كانت حياتها آنذاك في القرى أن تذهب منذ الصباح الباكر إلى الحقول الزراعية لمساعدة زوجها بالزراعة، وترجع إلى البيت في آخر النهار، ومن ثم عليها الطبخ وغسل الملابس ورعاية الأطفال. ومع ذلك رتّب جناب فيضي لهنّ صفًا دراسيًا مرّتين في الأسبوع كنّ يدرسن فيه كتاب تاريخ النبيل وكتب أخرى.
كانت الضيافة التّسع عشرية تعقد بشكل منتظم في مجموعات تضم ستين شخصًا لكل مجموعة، وكانت تعقد في منازل الأحباء حيث يجلس المشاركون في صفوف جنبًا إلى جنب على الأرض وعادة ما يكون هناك ضيوف من شخصين إلى ثلاثة وهم أصدقاء جناب فيضي الذين كانوا يأتون من طهران لزيارته وكانوا يعودون إلى مناطقهم ويتحدّثون بإعجاب وحماس كبير، وتأثّر شديد عمّا لمسوه وشاهدوه من روح المحبّة والوحدة والاتحاد في نجف آباد.
في عصر أحد الأيام، قام الأطفال بدعوة جناب فيضي ومعه بعض الأحباء لزيارة المقبرة البهائية في نجف آباد، وهناك تواجدوا في غرفة خاصة واستعدوا لسماع حديث أحد الأفراد الأكبر سنّا عن تاريخ حياة ثلاثة شهداء مدفونين في هذه الروضة الأبدية. ومع بداية غروب الشمس قال المتحدّث إن تاريخ هؤلاء الأبطال يرجع إلى فترة الإضطهاد والتعذيب التي سادت المنطقة عندما وصلت الأنباء عن إستشهاد ثلاثة من الأحباء الرجال في اصفهان ورمي جثثهم بشكل فظيع خارج المدينة. كان البهائيون في نجف آباد، نظرًا لما يواجهونه من اضطهاد شرس، يعلمون مدى خطورة البحث عن أشلاء هذه الجثث وجمعها، ومع ذلك ذهبت إحدى السّيدات البهائيات من نجف آباد بكل شجاعة إلى اصفهان للبحث عن جثث هؤلاء الأبطال دون اطّلاع أحد، وذلك لأنها رأت أنّه لا يليق ترك جثث إخوانها الأحباء حيثما طُرحت، وعند الغروب ركبت حمارها وذهبت لتبحث عنها، وفي الليل وجدت الجثث ثم وضعتها على حمارها وعادت إلى نجف آباد قبل بزوغ الفجر. أخفت الأجساد وانتظرت حلول الظلام قبل أن تأخذها إلى مقبرة القرية وقامت بحفر قبر لتلك الأجساد الطاهرة ودفنتها فيه ووضعت ثلاثة أحجار عليه كشاهد قبر. وعندما استطاع أحباء نجف آباد فيما بعد الحصول على مقبرة خاصة بهم، تم نقل رفات هؤلاء الشهداء الثلاثة ووضعوا في قبر واحد مع نفس الأحجار الثلاثة تكريمًا لتلك السيدة المقدامة.
استطاع جناب فيضي إعداد وترتيب أول مدرسة صيفية تعقد في نجف آباد، كما جاءت مجموعة من شباب اصفهان وطهران وشاركت في المدرسة وأعقبتها رحلات تبليغية قام بها المشاركون إلى القرى المجاورة. كما امتدّت خدمات جناب فيضي إلى مدينة اصفهان نفسها، حيث كان يزورها ويعقد للأحباء جلسة تعمّق كل يوم خميس من الأسبوع، ويدرّس فيها كتاب الإيقان وكيفية إلقاء الخطب، وقد بلغ عدد المشاركين حوالي عشرين شخصًا، ثم يمضي الليل عندهم وفي يوم الجمعة صباحًا يزور صفوف الأطفال المتعدّدة لتقديم النصح والإرشاد للمدرسين والطلبة. وعادة ما كانت تعقد جلسة عامة يوم الجمعة مساءً يحضرها بين ٦٠ إلى ٧٠ مؤمنًا وفيها يتحدّث علماء أفاضل أمثال جناب إشراق خاورى وجناب فاضل مازندراني وجناب نوش آبادي الذين كانوا يسكنون في ذلك الوقت في اصفهان وقد انضمّ فيضي إلى المستمعين. في إحدى الجلسات قال أحد الأحباء إن كل فرد بهائي عليه أن يمتلك نسخة من الكتاب الأقدس ولكنه لا يملك نسخة. بادر جناب فيضي في اليوم التالي وأحضر نسخته الشخصية التي كانت مهداة له من جناب نورالدين فتح أعظم وأهداها إلى هذا الشخص، وعندما فتح الكتاب رأى الإهداء فشعر بالحرج وإنّ عليه إرجاع الكتاب، ولكن جناب فيضى رفض ذلك. هذه هي بعض الخصال الحميدة التي كان يتحلّى بها فيضي منذ شبابه من كرم وسخاء.
وعندما استطاع أحد أحباء نجف آباد شراء سيارة من ماركة فورد وتعمل بالمقبض، كان جناب فيضي وزملاؤه يستأجرونها مع السائق الذي كان يصاحبها في بعض الأحيان، والذّهاب إلى القرى النائية لزيارة الأحباء. في أول مرة ذهبوا بالسيارة – كان عددهم خمسة مع السائق – إلى إحدى القلاع التي كانت تبعد حوالي أربعين كيلو مترًا، ويسكنها عشر عائلات بهائية وكل عائلة كانت تسكن في غرفة واحدة. كان الطريق إلى هذه القلعة، والذي لا يسلكه سوى المشاة والحمير، وعرًا ومتعرّجًا ومليئًا بالحفر لدرجة أن ركاب السيارة كانوا بين الحين والآخر ينزلون منها لدفعها باليد وتشغيل المحرّك وخاصة في المناطق الوعرة، إلى أن وصلوا بعد أربع ساعات. ورغم كل هذه الصعاب فقد كان هؤلاء المبلّغون الجوّالون في غاية الفرح والسرور؛ لأنّ كل هذه المشقات هي في الحقيقة في سبيل محبّة حضرة بهاء الله.
تجدر الإشارة أن جناب فيضي انتُخِبَ لعضوية المحفل الروحاني المحلي لنجف آباد بعد أقل من سنة من وصوله، وكان من أولى اقتراحاته أن يبنى حمّام عام للأحباء نظرًا لقذارة الحمّام العام الموجود بالقرية ونتانة مائه، كما أن الحمّامات في المنازل كانت صعبة الاستعمال وغير مريحة بالإضافة إلى عدم وجود حمّامات في معظم المنازل. وافق المحفل الروحاني على هذا الاقتراح وباشرت لجنة عيّنها المحفل بدراسة لتحديد المال اللازم لهذا العمل، وتبرّع الأحباء بسخاء من أجل بناء هذا الحمام وهو الأول من نوعه في القرية. كان رجال الدين الإسلامي يمنعون الناس من بناء هذا النوع من الحمامات ويدّعون عدم إمكانية (الغسل) تحتها، أي تحت الدوش. كما كانوا يمنعون الأحباء أحيانًا من دخول خزائن الحمامات العامة ولهذا كان الأحباء يستحمّون في المنازل تحت ظروف صعبة وقاسية. ونظرًا لأن الكتاب الأقدس أشار “إيّاكم أن تقرّبوا خزائن حمّامات العجم من قصدها وجد رائحتها المنتنة قبل وروده فيها تجنّبوا يا قوم ولا تكوننّ من الصاغرين”[4]. قام المحفل الروحاني وبمساعدة عموم الأحباء ببناء هذا الحمام المحتوي على الدوش أيضًا، وكان العمّال يجلبون الحجر والصخر من الجبال المجاورة صباح كل يوم وكانت مادر جان (والدة جناب فيضي) تعدّ لهم الطعام، وبعد بنائه الذي استغرق ستة أشهر افتتح بحضور بعض وجهاء القرية من المسلمين، وتم تقديم الحلوى والمشروبات لهم واشتهر الحمام بنظافته وجودته ونظافة مياهه لدرجة أن بعض المسلمين كانوا يأتون خفية للاستحمام فيه.
حظي جناب فيضي في نجف آباد باحترام جميع الناس له بما فيهم المسلمين. كان هناك شخص يملك مخبزًا ويعمل لديه بعض الأفراد ولكنه كان مثقفًا وأفكاره منيرة ومتحدثًا جيدًا ويحفظ العديد من الأشعار. في يوم طلب هذا الشخص من أحد الأحبّاء أن يرتّب له لقاءً مع جناب فيضي، فجاء ومعه اثنان من أصدقائه في اليوم المحدّد للقاء فيضي في منزل أحد الأحباء. وبعد الاستقبال والترحيب وتبادل عبارات المجاملة من كلا الطرفين سأل هذا الشخص جناب فيضي عن دراسته ومكانها، فرّد عليه. ثم سأله عن الحياة بعد الموت وعن أعمال وتصرّفات الإنسان وأثرها في هذه الحياة، فردّ عليه جناب فيضي بكل لطف ووقار ووضوح، وكان هذا الشخص ورفيقاه ينصتان بكل إهتمام. وبعد تقديم الفاكهة تطرّقوا إلى مواضيع هامة أخرى، وبعد ثلاث ساعات فضّ الإجتماع بكل احترام وسرور. بعد عدة أيام جاء إلى المخبز هذا الشخص البهائي الذي رتّب الاجتماع ليشترى الخبز فقال له صاحب المخبز: “كما تعلم فإنني صريح… إنني في الخامسة والخمسين من العمر ومنذ أربعين سنة أقرأ في الأدب والشعر وقابلتُ العديد من المثقفين والنفوس الطيبة ولكني لم أقابل أبدًا شخصًا مثل فيضي… إنّه رائع وفريد من نوعه… وأريد أن أقول لكم إنكم لا تقدّرون قيمة هذا الرجل الطيب، وفي النهاية سيترككم يومًا ما. إنني أستغرب من أن شخصًا مثله جاء ليعيش في نجف آباد. يجب على العالم أن يستفيد منه ويستمع إليه. عندما التقيتُ به في منزلكم أردتُ أن أقبّل قدميّه ولكني عرفتُ إنه لا يحبُّ ذلك. إنني أرغب كثيرًا في أن ألتقي بهذا الرجل مرّة أخرى وأكمل الحوار معه ولكن أعلم بأنني لو استمررتُ في لقائه لن يشتري أحد الخبز مني. إن رفيقيّ يشعران تجاه فيضي بنفس شعوري”.
[1] Faizi ص ٨٢
[2] خوشه هائى از خرمن ادب وهنر – عدد ١٠ ص ٤٠ – ٤١
[3] الكتاب الأقدس – فقرة ٤٨
[4] الكتاب الأقدس – فقرة ١٠٦
كما سبق أن ذُكر، فقد كانت بداية تعرّف فيضي على گلوريا تعود إلى أيام الدراسة في لبنان عندما طُلِبَ منه تعليمها اللغة الفارسية قراءة وكتابة حتى لا تنساها خلال سنوات الغربة. ومن ثم إنضمّت في إحدى المرّات إلى مجموعة من الطلبة البهائيين في لبنان، بمن فيهم جناب فيضي، أثناء زيارتهم لحضرة ولي أمرالله في الأرض الأقدس ثم تلاوتها لمناجاة حسب طلب الهيكل المبارك وفي حضوره. وفي طهران شاركت في الجلسات التعمقّية التي كان يديرها جناب فيضي وأعجبت بشخصيته وخاصة عندما قالت له في إحدى الجلسات عندما كان يتحدّث عن مقام حضرات أيادي أمرالله “أنتَ واحد منهم”. وبعد رجوعهما إلى إيران وذهاب جناب فيضي إلى نجف آباد كانت هناك مراسلات ودّية وأمرية بينهما ومن ثم تطوّرت إلى صداقة.
في عام ١٩٣٨م وبعد سنتين من خدمته في نجف آباد قرّر السيد رحمت الله علائي وزوجته (والدي گلوريا) والسيد موسى بناني وزوجته الذهاب إلى شيراز لزيارة بيت حضرة الباب هناك. في الطريق، توقفوا في اصفهان وقرّروا زيارة جناب فيضي في نجف آباد الذي رحب بهم وسعد من هذه الزيارة، وعندما شاهد گلوريا قال لها: “لقد أصبحت سيّدة شابة الآن”. في المساء كان هناك اجتماع مع الأطفال حضره الجميع وفيه وزّعت هدايا وجوائز على الأطفال بصورة عفوية وبسيطة أثارت إعجاب گلوريا. في اليوم التالي سألت گلوريا جناب فيضي ان كان باستطاعتها مشاهدة مجموعة كتبه، فأخذها إلى مكتبته وتركها للقيام بأعماله. كانت غرفة عمل فيضي ذات أثاث بسيط انحصر في كرسي واحد وطاولة تناثرت عليها الكتب والأوراق والأقلام هنا وهناك وخزانة غصّت بالكتب دونما ترتيب، وشاهدت بعض الكتب الإنجليزية والشعر، وتصادف أن لاحظت كتيبًا رسم وكُتِبَ على غلافه بالفارسية (گل) أي وردة ولدهشتها وجدت أن المحتوى عبارة عن تاريخ حياة طفولتها وصباها في بيروت وبدأت تقرأه، ومن ثم رجع فيضي. إبتسم وقال لها: “هل تذكرين عندما نمتِ في السينما؟” قالت: “لا” ، ثم قال: “حسنًا كل ذلك مكتوب هنا. كيف ترين حياتي في هذه القرية؟” اعتبرت گلوريا الحياة في نجف آباد جنّة مقارنة بالحياة المعقدة المتطوّرة في طهران التي لم تكن تثير اهتمامها، وقالت لفيضي إنها تعتقد إنّ الحياة هنا جيدة ورائعة.
كانت لگلوريا طبيعة جذابة وشخصية جميلة وسبق أن طُلِبَ يدها عدّة مرات ولكنها لم تكن تفكّر في الزواج في سنّ مبكر، ولكن الآن بدأت تفكّر في جناب فيضي أكثر وأكثر. ومع رجوعها إلى طهران شعرت إن إحساسها تجاهه هو أكثر من مجرّد صداقة، وكان فيضي قد قرّر أنها المرأة التى كان يبحث عنها، وشعر بالحب الحقيقي تجاهها ويرغب في الارتباط بها. في طهران، استلم والد گلوريا السيد رحمت الله علائي رسالة من فيضي مرفق بها أشعار حب كُتبت بخط جميل إلى ابنته، وفي الرسالة طلب يدها وأشار إلى أن گلوريا لو رفضت طلبه فسوف لن يتزوّج على الإطلاق. بعد أن قرأ جناب علائي الرسالة سلّمها الأشعار وأبلغها بهذا العرض الذي لم تكن تتوقعه. وبعد عدّة أيام سألها والدها عن الجواب الذي يمكن أن تعطيه لفيضي، كانت مرتبكة لأنها من جهة شعرت بأن هناك حبًّا في داخلها تجاهه، ومن جهة أخرى أرادت أن تكمّل دراستها. وفي المرّة الثانية عندما سألها والدها عمّا سيكون جوابه لفيضي، قالت: “ما رأيك يا والدي؟” فقال: “ليس من المفروض أن أقول شيئًا الآن، عليكما أن توافقا أولًا ومن ثم يعطي الوالدان موافقتهما”. لقد قبِلت گلوريا، ولكن السبب الرئيسي وراء ذلك لم يكن حبّها له فقط، وإنما الصفات المميّزة التي كان يتحلّى بها والأعمال الرائعة التي كان يقوم بها والتي ودت في بعض الأحيان أن تشاركه فيها. طلب جناب علائي من فيضي أن يأتي إلى طهران وعندما وصل قال له أنه سأل حضرة ولي أمرالله سؤالًا حول تلوّث الإنسان بالأمور المادّية وعن زواجه فجاءه الرّد التالي من أمين سرّه بتاريخ ٩ يوليو/تموز ١٩٣٨م: “… بالنسبة للبيان المبارك الذي قيل سابقًا للسيد أبو القاسم خان فيضي حول عدم التلوّث، فتفضّل وقال: المقصود عدم التلوّث بالأمور المادّية والشئونات الفانية الدنيوية، وليس الزواج. والآن بالنسبة لزواجه من ﮔلوريا خانم فهو محل تصويب واستحسان ذلك الوجود الأقدس المبارك…”[1] هناك رسالة أخرى من حضرة ولي أمرالله كتبها أمين سرّه إلى السيد رحمت الله علائى بتاريخ ٤ ديسمبر/كانون الأول ١٩٣٨م جاء فيها: “… بالنسبة لزفاف أمة الله ﮔلوريا خانم مع السيد فيضي فتفضّل وقال: إن هذه العلاقة مباركة وميمونة وسيحصل منها نتائج ممدوحة في عالم الأمر…”[2].
وأخيرًا تم الزفاف يوم ٢٦ سبتمبر/أيلول ١٩٣٩م وكان للسيدة نجمية لمعي علائي التي تزوّجها جناب علائي بعد أن تركته زوجته الأولى دور هام في إعداد حفل الزواج وترتيباته وكانت تعامل گلوريا مثل ابنتها تمامًا. استمرت احتفالات الزفاف والاستقبال لمدة يومين، اليوم الأول للأهل والأقارب واليوم الثاني للأصدقاء والمعارف، وكان السيد علائي في غاية السعادة وهو يرى ابنته قد تزوّجت من شخص يكنّ له غاية المحبة والاحترام، وهي مقتنعة به وبمباركة من حضرة ولي أمرالله. روى شهود عيان كيف أن فيضي وگلوريا كانا في غاية الفرح والسرور يوم زفافهما وأن أحد الحضور أعرب عن استغرابه من أن شابًا مثقفًا ومتعلّمًا مثله يعمل في نجف آباد بينما كان بمقدوره أن يحصل على وظيفة محترمة وجيّدة وبراتب عالٍ في طهران، كان من الصعب عليهم أن يفهموا إنّ فيضي كان حقًا منقطعًا عن شئون الدنيا.
[1] خوشه هائى از خرمن ادب وهنر – مجلد ١٠ ص ٩
[2] المرجع السابق – ص ١٠
بعد زواجهما عادا إلى نجف آباد، وانخرطت گلوريا في حياة الجامعة البهائية هناك، وكانت خير ساعد وعضد لزوجها واستطاعت أن توجد منزلًا جذّابًا ومريحًا لها ولزوجها نظرًا للتغييرات التي عملتها في المنزل من ديكور وغيرها. وعلى الرغم من أن البيئة والمحيط الاجتماعي في نجف آباد كانا مختلفان تمامًا عن طهران، إلا أنها قد استطاعت أن تأقلم نفسها مع المحيط المتواضع الجديد وخاصة إنها شعرت أن زوجها يقدّم خدمات إنسانية جليلة. وبناء على طلبه، قامت هي أيضًا بتقديم خدمات مثل إعطاء دروس اللغة الإنجليزية لبعض الطلبة وتعليم التطريز للسيدات، وتدريجيًا أصبح للزوجين شعبية لدرجة أن ضيوف القرية من الأقارب وغيرهم كانوا عادة ما يأتون لزيارتهم. أما السيدة مادر جان، والدة جناب فيضي، فقد كانت تسكن في نفس المنزل وعلاقاتها جيدة مع گلوريا وتهتم بشؤون المطبخ وتعدّ الطعام لهم وتغسل الملابس والصحون في ظروف صعبة، حيث كانت المياه شحيحة والكهرباء غير متوفرة، وفي الليل كانت الإنارة بواسطة مصباح يعمل بالكيروسين وكل ما كان يهمها توفير وسائل الراحة لابنها وزوجته وضيوفهم وكان يساعدها في كل ذلك الصبي هوشنگ.
من إنجازات جناب فيضي أيضًا مساهمته الفاعلة في تأسيس مكتبة بهائية في نجف آباد طبقًا لقرار المحفل المحلي بهذا الخصوص في عام ١٩٣٩م؛ فقد ساهم العديد من الأحباء في إهداء كتبهم الخاصة والألواح المباركة الخطّية للمكتبة وأيضا شراء الأرفف والخزائن والأثاث الخاص بالمكتبة. كانت بعض هذه الكتب بالخط الأصلي لجناب زين المقرّبين وهي نفيسة جدًا، كما شمل الإهداء أيضًا القرآن الكريم والكتب المقدسة الأخرى وأشعار حافظ وسعدي ومولوي واحتوت المكتبة حوالي ستمائة كتاب. وعندما عَلِمَ حضرة ولي أمرالله بذلك أعرب عن سروره وقال إنه سيبعث بعض الكتب من طرفه للمكتبة، وتم تحديد ساعات معينة للأحباء لزيارة المكتبة التي سمّيت باسم “مكتبة زين المقرّبين” نظرًا لأن حضرته يعتبر أول مؤمن في القرية ومن الذين وصفهم حضرة عبدالبهاء: “من أجلّة أصحاب حضرة الأعلى ومن أعاظم أحباب الجمال الأبهى”[1] ومن كوكبة حواريي حضرة بهاءالله الذين منحهم حضرة وليّ أمرالله هذا اللقب. تم تعليق صورة جناب زين المقرّبين في وسط المكتبة مع بعض المبلّغين البارزين.
خلال الفترة التي قضاها جناب فيضي في نجف آباد والتي امتدّت لأربع سنوات ونصف، شهد الجميع بدماثة خلقه وحسن أطواره وخلوصه ومحبته وقلبه الكبير، ولهذا كان محل احترام الجميع وكانوا يأتون إليه لفض نزاعاتهم أو حلّ مشاكلهم الشخصية أو حتى الإستشارة في أمور تتعلق بزواج الابناء والبنات. إن برنامج عمله اليومي لم يكن مجرّد التدريس والإجتماعات، وإنما كان يزور الأحباء في منازلهم حينما تتيح له الفرصة ويشاركهم بقصصه المثيرة عن تاريخ الأبطال في العصر الرسولي ومآثرهم وأحيانًا يقرأ معهم بعض الألواح النازلة من يراعة القلم الأعلى. كما كان يستمتع بالجلوس مع كبار السن للاستماع إليهم عن قصص الرّعيل الأول وعن تاريخ الأمر المبارك في نجف آباد وفي مناطق أخرى من إيران من الذين عاصروا عهد الجمال المبارك وقصص وحكايات تضحياتهم وبطولاتهم. وتجدر الإشارة أن جناب فيضي، أثناء إقامته في نجف آباد، سافر إلى مناطق أخرى من إيران حسب طلب المحفل الروحاني المركزي والتقى بالجامعات البهائية وقام بترجمة بعض توقيعات حضرة ولي أمرالله الإنجليزية إلى الفارسية واستفاد الأحباء منها.
بعد أربع سنوات ونصف قرّر جناب فيضي مغادرة نجف آباد، التي سمّاها “الجنّة”، للخدمة في مكان آخر. يقول في إحدى كتاباته بأن السبب الرئيسي الذي دعاه لذلك هو عدم قدرته على تحمّل كل هذا الحب والعشق الشديد الذي شمله، بالإضافة إلى أنّه كان يعتقد إنه درّب وعلّم عددًا لا بأس به من الشباب البهائي ليأخذوا مكانه في التدريس وحان الوقت ليخدم في منطقة أخرى. وعن أيامه الحلوة في نجف آباد كتب في مذكراته: ]لا يمكنني أن أنسى الأطفال الأعزاء، الذين كانوا يخرجون من صفوفهم ويأخذون أحذيتهم معهم ويسألوني: أستاذ فيضي هل هذا الحذاء للقدم اليمنى أم اليسرى؟ وهناك طفل يضع قطعة من النقود في جيبي ويهمس “هذه للمكتبة” و”هذا للحمام” و”هذا للفقير”، الآباء والأمّهات الذين كانوا يقصدونني ويسألون عن اسم لرضيعهم الجديد[. قبل مغادرته كتب تقريرًا عن جميع فعالياته خلال وجوده في نجف آباد وأرسله إلى حضرة ولي أمرالله الذي أثنى عليه وأبلغ المحفل المركزي بذلك. انتشر خبر رحيله بين الأحباء ولكن لم يحدّد المحفل الروحاني المحلي تاريخًا معيّنًا لمغادرته نظرًا لمعرفته بأن فيضي لا يستطيع تحمّل وداع ألفي مؤمن هم جميعًا أعزّاء وقريبين إلى قلبه. في خريف عام ١٩٤٠م، وبعد أن ودّع أعضاء المحفل الروحاني لنجف آباد، وفي منتصف الليل ركب السيارة ومعه زوجته گلوريا ووالدته العزيزة والصبي هوشنگ وساروا جميعًا في نفس الطريق المؤدي إلى اصفهان الذي أتوا منه قبل أربع سنوات ونصف. إن الفراق كان صعبًا على قلب من عشق الجميع بكل جوارحه ونذر نفسه لخدمة بني الإنسان. لقد ترك ذكرى جميلة ظلت محفورة في ذاكرة الأهالي لسنوات طويلة.
[1] تذكرة الوفاء ص ١٧٧
من نجف آباد ذهبوا إلى اصفهان ومن ثم إلى طهران. وهناك طلب المحفل الروحاني المركزي مقابلة السيد فيضي وزوجته، وفي اللقاء أعرب حضرته عن استعداده لخدمة الأحباء في أية منطقة أو قرية يقرّرها المحفل المركزي، وبعد المشورة قرّر المحفل المركزي الطلب من فيضي وزوجته الذهاب إلى مدينة قزوين لمدة سنة واحدة من أجل تأسيس صفوف للأطفال وعقد جلسات تعمقية للأحباء وتقوية وتعزيز وخدمة الجامعة البهائية هناك. وافق جناب فيضي على ذلك بكل سرور، ثم قام المحفل المركزي باطلاع حضرة ولي أمرالله على هذا القرار وهذه الخطوة، فجاء الرّد التالي في رسالة كتبت بالنيابة عن حضرته بتاريخ ٢٨ ديسمبر/كانون الأول ١٩٤٠م:
]بالنسبة لجناب آقا أبو القاسم فيضي وتجواله وحركته في مناطق إيران لنشر نفحات الرحمن فقد حاز على موافقة حضرته، وقد أكّد على تشجيع هذا الشاب البارز دومًا ومساعدته ماليًا من صندوق الخيرية حتى يحصر أوقاته في الخدمات الأمرية الهامة، لأن خدماته هامة جدًا وأسفاره إلى المراكز الأمرية لها نتائج حسنة. إن هذا العبد لا ينسى الخدمات الممتدة لذلك الخادم الفعّال في نجف آباد، والأمل الوطيد أن يفتخر ويوفّق بخدمات أعظم وإنجازات أهم وانتصارات أجلّ وأشرف. هذا ما أتمّناه له في جميع الشؤون والأحوال. ثم تفضل: طمئنوه من قِبَلي وبلّغوه هذه الرسالة[[1].
تقع قزوين في الشمال الغربي لمدينة طهران وتبعد عنها مسافة ١٦٥ كيلو متر شرق جبال البرز وهي أعلى من سطح البحر بمقدار ١٨٠٠ متر. وصل جناب فيضي وزوجته ووالدته والصبي هوشنگ قزوين بواسطة القطار في شهر أكتوبر/ تشرين الأول عام ١٩٤٠م، ومكثا بدايًة عند أحد الأحباء لمدة شهر واحد ثم انتقلا إلى بيت آخر. ومع وصوله إلى هذه المدينة التاريخية بدأت مرحلة جديدة من خدماته في محيط يختلف بعض الشيء عن نجف آباد. قام بداية بتأسيس ثلاثة أنواع من الصفوف، الأول: للأطفال، والثاني: للشباب الناشئ، والثالث: للشباب والبالغين. كان المشاركون في الصف الثالث بين ٣٠ الى ٤٠ شخصًا، وكان جميع المشاركين يحضرون لصفوفه بروح توّاقة ورغبة جامحة من أجل العلم والمعرفة. في الماضي كانت تعقد الصفوف بمشاركة خمسين شخصًا في البداية، وفي الجلسة الثانية بمشاركة أربعين شخصًا ثم ينخفض عدد المشاركين إلى أن ينتهي الصف تدريجيًا. ولكن لم يكن الوضع كذلك مع فيضي نظرًا لأن المشاركين كانوا يأتون إليه بتوق شديد إلى آخر الجلسات، حيث أن أسلوبه في التدريس ومحبّته ودماثة خلقه جعلته محبوبًا ومقبولًا لدى الجميع.
كان لجناب فيضي برنامج يومي منظّم عبارة عن المشاركة في الصباح الباكر في جلسة مشرق الأذكار مع الأحباء ثم العودة للمنزل وتناوله طعام الإفطار، ثم عقد صف لدراسة الكتاب الأقدس مع مجموعة من الشباب والبالغين حتى الساعة السابعة والنصف صباحًا وبعدها يذهب الشباب إلى مدارسهم والبالغين إلى أعمالهم. وفي العصر من الساعة الرابعة والنصف يتم عقد صفوف أمرية للشباب بعد أن يكونوا قد أنهوا يومهم الدراسي دون تعب أو كلل. ويوم الجمعة كان مخصصًا لصفوف الأطفال في الصباح، وفي العصر للشباب والشباب الناشئ. كما كان هناك صف في المساء لدراسة كتاب “بهاءالله والعصر الجديد” يعقد ثلاث مرات في الأسبوع للذين لم يستطيعوا حضور جلسات العصر. كما كان يتخلل هذه الصفوف برامج لحفظ الشعر الفارسي والمناجاة والألواح المباركة. يروي أحد طلبة فيضي الذي لم يتجاوز عمره سبعة عشر عامًا ما يلي: “لا أدري ما السرّ الموجود فيه الذي يستطيع به أن يعطي الحب للجميع، إنّه يشجّع عندما تكون هناك حاجة لذلك، ويمزح عندما يكون الوقت ملائمًا لذلك، ويحرّك المشاعر عندما يلزم ذلك. لم يحدث أبدًا أن رفع صوته في الصف أو أسكت شخصًا، أو حطّ من شأن طالب”. إنّ دروسه كانت شيّقة لدرجة أن الطلبة كانوا يأتون مبكّرًا للمشاركة في صفوفه، وعند الانتهاء من دراسة كتاب كان يضع الامتحانات للطلبة ويقول لهم إن المفروض أن يكون البهائي صادق وأمين ولذلك لا حاجة لمن يراقبه، ولذلك فإنه يأتي بعد ساعة لجمع الأجوبة.
بالإضافة إلى الدروس التي كان يعطيها فيضي فقد كان يشجّع على الرياضة ويساهم في إعداد الرحلات، وأيضًا قام على تعريف شباب قزوين بشباب المناطق القريبة والمحيطة بالمدينة. وكان لشهر الصيام عام ١٩٤١م طعم خاص لديه، حيث كان يجتمع مع بعض الأحباء ويفطرون سوّيًا وبعدها يقرأون كتاب تاريخ النبيل. خلال شهر الصيام زار قزوين جناب جلال خاضع (الذي أصبح ضمن أيادي أمرالله فيما بعد) وذلك لتشجيع الأحباء، وعندما التقى بجناب فيضي كان انطباعه: “شاب نوراني وشعلة من النار يضيء ويسطع نوره أينما ذهب”. أمضى جناب خاضع جُلّ وقته مع الأحباء من الصّباح حتى المساء يشاركهم القصص والروايات الأمرية ويحثّهم على الخدمة. قبل مغادرته كان قد شجع الأحباء على زيارة المناطق الأخرى بمناسبة حلول عيد النوروز، والالتقاء بأحباء تلك المناطق والاحتفال معهم؛ فقام ثمانية منهم بزيارة مدينتي رشت وبهلوي، وخمسة ذهبوا إلى شيراز، وانضمّ فيضي إلى المجموعة التي ذهبت إلى همدان، بينما ذهبت گلوريا مع الشباب إلى رشت، وهوشنگ ذهب إلى شيراز، وبعد أحد عشر يومًا رجعوا جميعًا بروح معنوية عالية.
عندما توقف جناب فيضي في اصفهان في طريقه إلى قزوين التقى بالعالم البهائي الكبير عبدالحميد اشراق خاوري الذي أخبره بأن هناك أعدادً كبيرة من كُتُب آقا جان حكيم[2] وأوراقًا ثمينة أخرى موجودة في حوزة أحباء قزوين وأنه من الجيّد لو تم جمع كافة هذه الكتب والمراجع في مكان واحد. بعد شهرين من وصول جناب فيضي إلى قزوين قرّر المحفل الروحاني تأسيس مكتبة بهائية باسم جناب حكيم في الجزء الجنوبي من منزله الذي كان مسجّلًا باسم حضرة شوقي أفندي. تعهّد جناب فيضي بإنشاء هذه المكتبة نظرًا لخبرته السابقة في إنشاء مكتبة في نجف آباد، حيث قام بتشجيع الشباب البهائي على مساعدته وترتيب ما هو لازم تحت إشرافه. بداية تم دعوة الأحباء للتبرّع بكتبهم للمكتبة أو تقديم الدعم المالي، وكانت النتيجة استلام حوالي ثلاثة آلاف كتاب والعديد من المجلات والمخطوطات، وهناك من ساهم بفنّه في إعداد الديكور. تم افتتاح وتدشين المكتبة في عصر الثاني عشر من رضوان (مايو/أيار) عام ١٩٤١م بحضور عدد غفير من الأحباء جاء بعضهم من طهران حيث قرئت الأشعار ووزّعت الحلوى والمشروبات وبعض الأحباء قاموا بإهداء المكتبة بعض كتبهم النفيسة. أما أثمن الهدايا فقد كانت من حضرة ولي أمرالله الذي طلب تحويل ملكية المنزل إلى المحفل الروحاني. استفاد عموم الأحباء من هذه المكتبة التي سميّت “حكيم باشي” لدرجة أن العالم والباحث السيد عبدالحميد اشراق خاوري أتى إلى هذه المكتبة عدّة مرّات واستفاد من كتبها في أبحاثه ودراساته، وكان يقول إنها أثمن مكتبة بعد مكتبة طهران الأمرية.
قرّر ثمانية من شباب قزوين تكريس وقتهم مع جناب فيضي والاستفادة منه في دراسة الآثار المباركة وغيرها. كانوا يأتون إلى إحدى غرف المكتبة في الصباح الباكر ويمضون وقتهم في دراسة التوراة والإنجيل والقرآن. وعند الظهيرة يذهبون لتناول طعام الغذاء ثم يأتون الساعة الثانية بعد الظهر لدراسة توقيعات حضرة ولي أمرالله حتى الساعة الرابعة عصرًا. وفي الساعة الرابعة ينضمّون إلى الصّف الخاص بتدريس تاريخ النبيل وكتب أخرى، هذه هي الروح النبّاضة التى كان يتحلّى بها شباب قزوين. وفي إحدى المرّات طلب المحفل المركزي من فيضي أن يدرّس في إحدى المدارس الصيفية في طهران فذهب ومعه بعض طلبته. وفي المدرسة تحدّث فيضي عن تاريخ النبيل مستخدمًا مراجع مختلفة، ومن ضمن المتحدّثين كان السيد عزيزالله مصباح الذي كان يدير مدرسة (تربيت) قبل غلقها.
بعد عودة جناب فيضي من المدرسة الصيفية، كانت رغبته أن يخدم الأمر خارج إيران ولكن المحفل المركزي فضّل بقاءه داخل إيران. في منتصف عام ١٩٤١م، التقى بأحد الزائرين الذين رجعوا توًّا من الأرض الأقدس وقد التقى بحضرة ولي أمرالله واسمه عنايت أحمد ﭘور وقد ذكر ضمن حديثه عن ذكريات هذه الزيارة بأن الهيكل المبارك قال له: “إنني قلت عدّة مرّات لأحباء إيران أن يهاجروا إلى شبه الجزيرة العربية ولكن لم يذهب أحد حتى الآن”[3]. هذا البيان أشعل في قلب فيضي روح الخدمة والهجرة من جديد، وصمّم على تلبية رغبة مولاه بكل جوارحه والمضي قدُمًا إلى تلك المناطق. طلب جناب فيضي من المحفل المركزي إعادة النظر في قراره وإعفائه من مهامه ووافق المحفل المركزي على ذلك. ويوم المغادرة إلى طهران جاء لمحطة القطار جمع غفير من أحباء قزوين لإلقاء النظرة الأخيرة على من شملهم بمحبّته ولطفه وعلمه لمدة عام كامل، فكانت القلوب خافقة بالمحبّة والسرور والعيون دامعة من الفراق بحيث لم يتمالك فيضي نفسه فذرفت عيناه هو أيضًا بالدموع. يقول أحد الشباب من الذين درسوا عنده: “لقد ذهب فيضي ولكن رائحة وجوده عابقة في كل بيت”.
من أهم الخدمات التي أدّاها في قزوين التي امتدت لسنة واحدة هي إعداده لثلاثين شابًا من الشباب الممتازين، بمن فيهم الثمانية الذين مرّ ذكرهم؛ ليكونوا في طليعة خدام العتبة المقدسة. أصبح هؤلاء الشباب فيما بعد سُرُجًا نورانية ومشاعل مضيئة أضاءوا المدن والقرى التي ذهبوا أو هاجروا إليها، ونذكر هنا على سبيل المثال الأعزاء: شهاب زهرائي – مهدي وخسرو خسروي – فرخنده هزاري – احسان زهرائي – روح الله مهرانجاني – بديع الله وولي الله صمداني وروح الله سمندري، ونفوس أخرى تركت موطنها وانتشرت في بقاع العالم المختلفة.
وصل جناب فيضي ووالدته مادر جان وگلوريا إلى طهران وقام باستخراج جواز سفر له وأضاف زوجته على الجواز. ونظرًا لأن رغبته كانت الهجرة إلى إحدى إمارات الخليج فقد كانت قنصليات هذه الإمارات في بغداد تمنح تأشيرة الدخول، ولهذا قرّر أولًا السفر إلى بغداد للحصول على تأشيرة دخول لأي منطقة في الخليج. قام باستخراج تأشيرة دخول له إلى العراق من سفارة المملكة العراقية في طهران بمساعدة السيد ذكر الله خادم الذي كان يعمل بالسفارة والذي أصبح فيما بعد ضمن كوكبة أيادي أمرالله. وعندما حان يوم الرحيل بتاريخ ٧ يناير/كانون الثاني ١٩٤٢م جاء إلى محطة القطار حوالي خمسمائة شخص من الأقارب والأصدقاء لوداع جناب فيضي وحرمه. وما كان ملفتًا للنظر حضور شقيقه الأكبر جناب محمد علي فيضي ومساعدته الشخصيّة له في السفر ومنحه مساعدة مالية كي يتمكّن من الإستقرار في منطقة هجرته، وهو الذي سبق أن ساعده أثناء دراسته في بيروت. إن احترام وتقدير وعرفان جناب أبو القاسم فيضي لأخيه كان عميقًا وحميمًا. ومع صعودهما القطار ارتفع نداء يا بهاء الأبهى بصوت هادئ مهيب من خمسمائة شخص يودّعون من غمرهم بدفء محبّته وبهاء روحه ودماثة خلقِهِ طيلة فترة من الزمن.
ظلّت مادر جان في منزلها بطهران تستذكر الأيام الجميلة التي قضتها مع ابنها في نجف آباد وقزوين وترويها للضيوف والزائرين وتعبّر عن اشتياقها الشديد لرؤيته مرة أخرى. بعد عدة سنوات زار أحد الأحباء جناب فيضي في البحرين وعبّر له عن مدى اشتياق والدته لرؤيته، وإنه على استعداد ليحمل لها منه أية رسالة. كان فيضي تواقًا لرؤيتها أيضًا، فكتب لها رسالة يقول فيها بأن هذه الحياة قصيرة وسريعة الزوال لدرجة أن الإنسان عليه أن يترك متاع الدنيا ويكرّس وقته للخدمة فذلك أفضل له، وبهذه الطريقة يمكن أن يرى والدته في العالم الآخر ويكون اتحاده معها هناك اتحادًا أبديًا.
[1] خوشه هائي از خرمن ادب وهنر – مجلد ١٠ ص ١٠
[2] أول مؤمن بالأمر المبارك من الخلفية اليهودية من همدان
[3] من الذكريات الشفوية للسيدة گـلوريا فيضي المدونة في البحرين عام ١٩٩٦م
كان مسير رحلة قطار جناب فيضي وزوجته ورفاقهما قد بدأ من طهران ثم وصل إلى مدينة أهواز في الجنوب وعند وصولهم لمحطة القطار في أهواز كان جناب خاضع وجمع آخر من الأحباء بانتظارهم، وذهبوا جميعًا لمنزل جناب خاضع الذي أصبح فيما بعد ضمن كوكبة أيادي أمرالله وتعرّفوا هناك على أحباء آخرين. وفي اليوم التالي ذهبوا جميعًا إلى مدينة خرّمشهر ومنها إلى مدينة عبدان الساحلية، وهناك تم توديع الجميع، واستقل جناب فيضي وزوجته سفينة صغيرة متجهة نحو البصرة. وعند وصول السفينة إلى ميناء البصرة لم تسمح السلطات العراقية دخولهما بحجّة عدم وجود ترخيص لهما، ولهذا أجبرا إلى الرجوع إلى خرمشهر. وهناك أمضيا يومًا سعيدًا مع الأحباء الذين استطاعوا مساعدته في ترتيب دخوله للعراق بواسطة سيارة. وفور وصولهما البصرة استقلا سيارة أجرة وذهبا إلى محطة القطار المتّجهة لمدينة بغداد واضطرا أن يشتريا تذاكر من الدرجة الثالثة لعدم توفر غيرها، وكان القطار قذرًا ووضعه مزريًا مليئًا برائحة الدخان. أمضيا الليل في القطار في وضع غير مريح وفي اليوم التالي وصلا بغداد عند الظهيرة، وكان ذلك في منتصف شهر يناير/كانون الثاني عام ١٩٤٢م. سكنا في البداية عند السيد داود طويق بعد إصرار شديد منه، وهو من الأحباء البارزين في العراق وصديق لوالد زوجته ﮔلوريا. في اليوم التالي ذهبا إلى مصوّر لتصوير صورة فوتغرافية معًا تذكارًا لمرحلة جديدة من حياتهما.
ما يلي من معلومات وبحث المؤلف: بعد ذلك جاء أحباء آخرون من إيران للعراق بقصد الهجرة والخدمة للمناطق العربية أيضًا مثل عباس ياورم ونصرت الله روحاني قزويني اللذان هاجرا إلى الكويت ولكن أخرجا منها فيما بعد. وصل عدد الأحباء القادمين من إيران حوالي أربعين شخصًا وكانت الأوضاع متوترة نظرًا لنشوب الحرب العالمية الثانية، وقام هؤلاء الأحباء باستئجار ثلاثة بيوت للسكن، وخُصّصت غرفة واحدة لكل عائلة والجميع بانتظار الحصول على تأشيرات الدخول للدول العربية. ولكن هؤلاء النفوس كانت لهم مشاكل متعددة من ناحية اللغة والاستقرار؛ فكان جناب فيضي مرهمًا مسكّنًا ومطيّبًا لخواطرهم ومساندًا ومعاضدًا لهم، باثًا لروح الوحدة والاتحاد والفرح والسرور في قلوبهم، مشاركًا معهم في الجلسات وعاملًا بما أمرنا به حضرة بهاءالله: “قل يا أحباء الله لا تعملوا ما يتكدّر به صافي سلسبيل المحبة وينقطع به عرف المودّة، لعمري قد خلقتم للوداد لا للضغينة والعناد”[1].
من خدماته التي أدّاها في بغداد إنه قام بعقد دروس تعمّقية أمرية للشباب والكبار، وخلال هذه الدروس، وكعادته، كان يشارك الآخرين بالكلمة الإلهية ويشعل روح الحماس والعشق والمحبّة بين الأحباء. وفي كل ثلاثاء من كل أسبوع كان يجتمع مع الأحباء الإيرانيين ويتحدّث إليهم، ويمضي جلّ وقته، ومعه زوجته ﮔلوريا، في الخدمات الأمرية المتنوعة، كما انتخب عضوًا في لجنة الشباب المركزية في العراق. وخلال إقامته في بغداد قام بزيارة الأحباء القدامى سواء العرب منهم أم العجم، وكان يعشق سماع قصصهم ورواياتهم عن الأيام الأولى من تواجدهم هناك وعلى الأخص فيما يتعلق بزياراتهم وحكاياتهم مع الرموز المقدسة البهائية الثلاث وكان يدوّن فيضي هذه الذكريات وقد نشرت بعضها فيما بعد. من ضمن ذكرياته التي دوّنها كان لقاؤه مع الحاج محمود قصّابجي، وهو من أعمدة الأمر المبارك في العراق، ومن الذين شهدوا في المحكمة بكل شجاعة بأحقية بيت حضرة بهاءالله للبهائيين، وأيضًا ساهموا بكل همّة وانقطاع في بناء ثلاث غرف من غرفات المقام الأعلى وكان محل تقدير وتمجيد حضرة ولي أمرالله وكان آنذاك في الثمانين من العمر، يروي جناب فيضي عنه فيقول:
]كان شخصًا غيورًا ووقورًا ذا جسم طويل وهيكل محترم قلّما شاهدت مثله، وبقول العرب: جميل المنظر، شريف المنزلة، حسن الهيئة، شديد الهيبة، حلو الشمائل، عربي اللسان، جزل الألفاظ، صامتًا ووقورًا. كان طويل القامة، وسيمًا، ذا هيكل ضخم ووجه جميل، يشع من عينيه نور الإيمان والسرور، يحكي جبينه عن المحبة والوفاء، ومهما كان جسمه القوي يبرز شبابه ولكن شعره الأبيض يحكي عن عمر مُلِئَ بالصعاب والمشاق. عندما يحضر في أي محفل، كان يزيد من هيمنة ووقار ذلك المجلس. كان شمعًا مضيئا في كل جمع… من المستحيل أن يأتي لجلسة ولا يتبرّع، كان ينفق من أمواله بكل عشق في سبيل المحبوب. إنه هو من جاء إلى إيران بإذن خاص من الساحة المقدسة لزيارة إيران والأحباء، وساهم في شراء أرض مشرق الأذكار هناك. وهو الذي أسعد وأبهج قلب مركز العهد والميثاق الإلهي في تلك الأيام المليئة بالهمِّ والغم ووافق على تعمير وترميم البيت الأعظم وقد وافق حضرة غصن الله الأعظم على هذه الخدمة العظيمة بعين اللطف والكرم… صرف جناب الحاج محمود قصابجي من جيب كرمه ومن باب رجولته تكاليف البناء الجديد وقام بترميمه بالكامل. كان يأتي كل يوم، وبكل بهجة وسرور مبتهلًا متضرّعًا إلى موقع العمل ويكرم عمّال ذلك البيت بكرمه الكبير… وعلى أي حال، ففي أيام إقامتنا في بغداد ذهبنا يومًا إلى منزل هذا الشخص، عظيم القدر، مع ثلة من المهاجرين الأعزاء، وفور ورودنا أُمِرنا بعدم الجلوس وظهورنا خلف البيت الأعظم، من نظراتنا عرف عن تساؤلنا عن سبب سُكنى الحاج محمود في هذا البيت الصغير، ولهذا وبعد تلاوة المناجاة وشرب الشاي والقهوة قال، صحيح إني أملك العقار الكثير، ولكن رغبتي أن أكون في هذا المكان الصغير الملاصق للبيت الأعظم… سمعنا كلام هذا الرجل الجليل بعين دامعة، ومن ثم قال هذا الفاني: “إن عطية مثل هذه وهو تعمير البيت الأعظم لا تُعطى لأي شخص، قبل ذلك هل رأيتم حلمًا يدّل ويشعر على نزول مثل هذه العناية؟”، قال بابتسامة إلهية واهتزاز عجيب: “نعم رأيت منامًا بأن هناك ازدحامًا شديدًا على سطح البيت المبارك، ذهبت إلى السطح فرأيت منديلًا من الحرير متدليًا من القبة الدائرية والكل يحاول الإمساك به. كنت أتمنى أن أمسكه وعندما مددّت يدي، وقع المنديل بيدي دون أي تعب، فأخذته ووضعته في جيبي، ولم يمض وقت طويل حتى أعْطيتْ هذه الخدمة لهذا العبد”. واليوم كل من يقوم بزيارة المقام الأعلى المقدس، سيزور باب قصابجي وهو باب من الأبواب الثمانية لذلك المطاف للملأ الأعلى. هذا الشخص العظيم قام بعد صعود حضرة عبدالبهاء وبكل عشق ومن أجل إسعاد خاطر القلب الكئيب لحضرة ولي أمرالله ببناء الغرف الثلاثة الباقية من الغرف التسعة للمقام الأعلى. ثم قام ذلك المولى الوفي مستلهمًا من الإلهامات المأخوذه من تراب العتبة المقدسة – هذا ما ألهمني تراب مطاف ملأ الأعلى – بتسمية هذا الباب باسمه تقديرًا لخدماته العالية، وبذلك خلّد هذا الرجل العظيم إلى الأبد[[2].
كما يروي جناب فيضي في مذكراته عن أيام بغداد عن شخص مؤمن عربي باسم جليل ويصفه بأنه كان وقورًا وغيورًا وبشوشًا، يأتي دومًا إلى حظيرة القدس في بغداد للمشاركة في جلسات الأيام المحرّمة لابسًا العباءة العربية ويجلس بصمت ووقار وروحانية في الجلسة ويقرأ لوحًا مباركًا أو مناجاة عندما يطلب منه، وكان صوته جميلًا عذبًا صافيًا وقويًا. انجذب فيضي إلى هذا الشخص وبعد عدّة جلسات تعرّف عليه عن قرب وأخذ يتجاذب الحديث معه، واتضح أنه يعرف الفارسية ولهذا كان حديثهما بالفارسية وبدأت أواصر الصداقة تستحكم بينهما لدرجة أن فيضي زاره عدة مرّات في منزله الذي كان متواضعًا وبسيطًا وقضى فيه ساعات جميلة كان يستذكرها دومًا. أما والدة السيد جليل فكان اسمها فاطمة ولقبها محبوبة وقد عملت لعدة سنوات كخادمة للبيت المبارك في بغداد، وعندما كان حضرة بهاءالله في بغداد ومعه العائلة المباركة، كانت فاطمة خير أنيسة وصديقة للورقة المباركة العليا التي كانت آنذاك في سن الحداثة. يروي جليل ذكرياته لجناب فيضي بهذه العبارات:
]في البيت كنا نتكلّم الفارسية وعندما نردّ على الوالدة بالعربية كانت تقول تحدثوا بالفارسية لأن الجمال المبارك كان يتكلم بها. بعد نفي حضرة بهاءالله إلى الآستانة غرقت والدتي في بحر من الأحزان والآلام وانشغلت بتلاوة الأدعية والمناجاة والبكاء على رحيل مولاها. كانت روح المحبّة والمودّة شديدة بين الأحباء لدرجة إنه أثناء عقد جلسات الدعاء كان الشارع يفرش ببساط وتوضع حوله سُرُج مضيئة وزهور ولا يُسمح لأحد بالمرور وكان الناس يقولون “البابيون عندهم قراءة” أي عندهم جلسة دعاء وتذكّر. كانت الجلسات تمتد إلى أكثر من منتصف الليل، والكل مستمتع بذكر الله، وكأنهم سكارى من خمر محبّة الله ويطلبون المزيد وأحيانًا كانوا يعودون إلى منازلهم مع بزوغ الفجر[[3].
من ذكريات جناب فيضي عن أيام بغداد أيضًا أنه التقى بالسيد سليم نونو بعد رجوعه من الأرض الأقدس وتشرّفه بلقاء حضرة ولي أمرالله. قال السيد نونو بأنه أثناء زيارته لقصر البهجة لاحظ وجود صورة معلقة للسيد خليل قمر نصبها الهيكل المبارك شخصيًا في القصر. يعتبر السيد خليل قمر من المؤمنين الثابتين الراسخين في العراق ومن قرية العواشق التي كانت غالبيتها من المؤمنين في يوم من الأيام. آمن بالأمر المبارك عام ١٨٩٠م عندما كان في الخامسة والعشرين من العمر وأصبح نشطًا وفعالًا، وعلى الرغم من إنه كان قرويًا ولم يكمل تعليمه، ولكنه كان ذا بصيرة روحانية وقلب طاهر ولديه حجّة مفحمة يقنع بها الآخرين. كان ضمن النفوس التي حضرت المحكمة التي كانت تبحث عن ملكية البيت المبارك ودافع بشدة عن أحقية هذا البيت للبهائيين، وساهم بشكل فعّال في بناء حظيرة القدس في العواشق وأصبح سكرتيرًا للمحفل الروحاني لتلك القرية وبعد ذلك عضوًا في أول محفل روحاني مركزي للعراق عندما تأسس عام ١٩٣١م. كما كان له الشرف بزيارة حضرة ولي أمرالله مرتين، وأثناء الزيارة كانت مظاهر الخضوع والخشوع والانكسار والطاعة ظاهرة عليه. من طرائف زيارته لحضرة ولي أمرالله أنه في اليوم الأول قال له حضرة المولى بوجه بسيم: “كيف حالك يا خليل انشاءالله مبسوط”. (كلمة مبسوط من بسط وتعني في اللهجة العراقية من وقع على الأرض وأصبح عاجزًا وتختلف في المعنى عن اللهجة الفلسطينية) لم يقل خليل شيئًا ولكنه كان مستغربًا من هذا السؤال وخاصة إنه قوي البنية وصحته جيدة، ولكن في اليوم الثالث عندما كان خليل جالسًا على الكرسي أمام الهيكل الأنور قال: “من يقدر أن يبسطني وأنا تحت ظلّك يا مولائي”. ضحك حضرة ولي أمرالله بصوت عال وقال: “انشاءالله زين”، ثم قال خليل: “نعم يا مولائي”[4]. يروي خدّام الأرض الأقدس الذين عاصروا وشاهدوا هذا المشهد بأن هذه هي المرّة الأولى التي يضحك فيها الهيكل المبارك بهذا الشكل بعد صعود حضرة عبدالبهاء.
عودة لوضع جناب فيضي وبقية المهاجرين في بغداد، فقد بدأ الشك يدبّ في المسؤولين الحكوميين ويتساءلون عن سبب وجود هؤلاء الإيرانيين في بغداد وخاصة أن عددهم قد ارتفع إلى حوالي ثلاثمائة شخص، كما أن رخصة الإقامة كانت تمنح لهم بصعوبة. تم اتخاذ تدابير للحصول على موافقات لدخول بعض المناطق العربية ولكن الاستجابة كانت صعبة وبطيئة، كما قامت السلطات العراقية بإخراج مجموعة من المهاجرين وأبعدتهم إلى إيران ومنهم السيد/ هوشمند فتح أعظم، الذي أصبح فيما بعد عضوًا في بيت العدل الأعظم. ونظرًا لأن السيد فيضي كان يرغب بالهجرة إلى الإحساء كونها مسقط رأس الشيخ أحمد الإحسائي، فقد بحث كثيرًا في الصحف اليومية العراقية عن الإعلانات التى تدعو للعمل في الدول العربية ولكن دون جدوى، وكاد يفقد الأمل، ولكنه كان صبورًا حليمًا مؤمنًا بأن الصبر هو مفتاح الفرج. ولم يدم ذلك طويلًا حتى لاحظ أن مدرسة في البحرين قد أعلنت عن طلبها مُدرِّسًا لتدريس اللغة الانجليزية في المنامة العاصمة. رأى جناب فيضي أن هذه الوظيفة مناسبة له فتقدم لها بشغف كبير وقام بإرسال طلبه مرفقًا بشهاداته، وبتاريخ ٥ أبريل/نيسان ١٩٤٢م وصله الرّد من وزارة التربية والتعليم بالبحرين بالموافقة على تعيينه في مدرسة ثانوية للأولاد وبها بعض الشروط والاستفسارات التي يجب مراعاتها منها: عليه أن يراعي اللبس العربي في ملبسه وأن تضع زوجته العباءة (الجادر) وأن لا يسافر إلى إيران، كما كان هناك سؤال عن ديانته، وبالطبع كتب جناب فيضي إنه بهائي.
[1] مجموعة من الواح حضرة بهاءالله نزلت بعد الكتاب الأقدس – لوح الحكمة ص ١٢٦
[2] من كتاب “به ياد دوست” ص ٦٤ – ٦٧
[3] المرجع السابق ص ٦٨ – ٦٩
[4] من كتاب “به ياد دوست” ص ٧٨
بتاريخ ١٨ يوليو/تموز ١٩٤٢م وبينما هو مايزال في بغداد استلم من حضرة ولي أمرالله البرقية التالية: “أقدّر بشدة شجاعتكم وتضحياتكم وخدماتكم المخلصة. أدعو الله أن يسرّع في تحقيق أسمى آمالكم”[1]. كان خبر الموافقة على تعيينه في البحرين خبرًا سعيدًا له ولزوجته لأن البحرين كانت تعتبر منطقة عربية وقريبة من الإحساء التي كان يرغب في الأصل الهجرة إليها لخدمة أهلها، كما أن الشيخ أحمد الإحسائي جاء إلى البحرين عام ١٧٩٤ م وبقي فيها لمدة أربع سنوات.[2] قام جناب فيضي بترتيب أموره وشراء التذاكر اللازمة والسفر إلى البصرة، وهناك بقي فيها مضطرًا لمدة خمسة عشر يومًا حتى حصل على مكان على أول سفينة ستبحر الى البحرين نظرًا لأن الحرب العالمية الثانية كانت مستعرة آنذاك وكانت حركة السفن قليلة في الخليج نظرًا لخطورة الوضع.
وأخيرًا أبحر جناب فيضي وزوجته من البصرة إلى جزر البحرين وبعد أحد عشر يومًا وصلا البحرين يوم ٢٥ ديسمبر/كانون الأول ١٩٤٢م وقبل أن ينزل من السفينة صعد إليها رجل بريطاني ورحّب بالسيد فيضي وزوجته وعرّف نفسه بأنه واكلين رئيس دائرة المعارف في البحرين، وهو الشخص الذي كان يراسله فيضي. عندما وصلا البحرين أرسل حضرة ولي أمرالله برقية إلى تلك المنطقة ذكر فيها عن فتح المنطقة وإن السيد فيضي هو “الفاتح الروحاني لشبه الجزيرة”. يعتبر جناب فيضي في الواقع أول بهائي تطأ قدماه البحرين، كانت البحرين آنذاك بدائية والشوارع فيها غير معبّدة والمنازل بعضها من الطين وبعضها مصنوع من جذوع وسعف النخيل وتسمّى (برستي) مع عدم توفر الكهرباء، حتى دورات المياه لم تكن بداخل المنازل وإنما خارجها، لأنهم كانوا يعتقدون إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه دورة مياه، والنساء لَسنَ محجّبات بل منقّبات ولا يتحدثّن مع الرجال، والفقر متفشِّ في جزء كبير من المجتمع بالإضافة إلى الحرارة الشديدة لمدة تسعة أشهر بالسنة وتبلغ أحيانًا خمسين درجة ورطوبة عالية تبلغ أحيانًا تسعة وتسعين بالمائة، وفي بعض المرّات كانت تأتي عاصفة رملية تعكّر الجو تمامًا. أما سكانها فكانوا من ثلاث فئات، الأولى هم البحارنه العرب وغالبيتهم من الشيعة، ثم الفئة الثانية العرب من السنّة ومنهم الأسرة الحاكمة من آل خليفة، والفئة الثالثة أصولهم من جنوب إيران. سكن جناب فيضي وزوجته بداية في منطقة القصيبي في منزل صغير مكوّن من غرفتين، وكانت غرفة نومه صغيرة للغاية بحيث كان يضطر لإبقاء الباب مفتوحًا حتى يتمكن من مدّ رجليه. أمّا المدرسة التي كان يدرّس فيها فكانت أول مدرسة ثانوية في شبه الجزيرة العربية وقد أسّسها شيخ البحرين شخصيًا، والمدرّسون كانوا من لبنان وسوريا ومصر والطلبة كانوا أولاد الطبقة الراقية والتجّار. وكان برنامج فيضي اليومي الذهاب للمدرسة صباحًا للتدريس وترك ﮔلوريا بالمنزل ثم العودة عند الظهيرة للغداء، وفي العصر الذهاب إلى السوق كما كان يفعل جميع المدرسين ومشاهدة الناس والمحلات وتكوين الصداقات.
بعد شهر من إقامته في منطقة القصيبي، انتقل للسكن في منزل صغير أوسع نسبيًا من الأول ويقع بين الأزقّة وقريب من السوق وكان ساقي المياه يأتي بالماء بواسطة قربة مصنوعة من الجلد يوميًا ويستفاد منه في كل شيء من شرب وغسيل واستحمام وغيره. كان هناك شح في المياه بالإضافة إلى عدم وجود مياه صالحة للشرب أصلاً، ولهذا كانت ﮔلوريا تقوم بغلي الماء أولًا ثم تضعه في الهبّان (وعاء ماء فخاري) للتبريد ومن ثم يصبح صالحًا للشرب. وفي الصباح عندما كان جناب فيضي يذهب لعمله كانت نساء الجيران البحارنة يأتين لزيارة ﮔلوريا وقضاء الصباح معها، وكنّ يستمتعّن بذلك نظرًا لكونها أجنبية وقليل من الأجانب كانوا يراودون أهل البلد. تروي ﮔلوريا ذكرياتها عن تلك الأيام وتقول بأن النساء البحارنة كنّ يأتين مع أطفالهنّ المشاغبين وعادة ما كانوا يعبثون ويفتشون المنزل فيفتحون الشنط ودولاب الملابس ويخرجون الملابس منها ويرمونها، ويجلبون معهم المكسّرات (البَنَكْ) ثم يأكلونها ويرمون بقشورها هنا وهناك. كانت النساء يسألن خانم فيضي عن الذهب الموجود عندها، فترد عليهم بأن عندها هذه الساعة اليدوية والخاتم فقط، وكان ردّهن: “زوجك لا يحبّك”. ذلك كانت العادات والتقاليد السائدة في المجتمعات الخليجية آنذاك. كانت هناك ملعقة كبيرة موضوعة على الهبّان وتستخدم في وضع الماء في أناء الماء للشرب. كان الجميع لا يراعون الأمور الصحية، فكانوا النساء وأطفالهن يشربون من هذا الوعاء ويرمون ما لم يشربوه فيه رغم مرض بعضهم. وكان أحد العادات هو البصق في وجه الطفل وفرك البصقة على كامل الوجه لاتقاء شر العين الحسود. بالرغب من أن ﮔلوريا كانت تعتقد إن هذه العادات غريبة ولكن كانت تفضّل الصمت على الاعتراض متوكلّة على الله، محاولة جذب محبّة الجيران وإظهار صداقة حقيقية معهم. كانت النساء يجلسن حتى آذان الظهر ثم يذهبن لبيوتهنّ قبل رجوع أزواجهنّ من العمل.
في مقابل منزلهم كانت تسكن أسرة بستكية (من مدينة بستك بإيران) وكانت لها علاقات طيبة مع فيضي وزوجته. كان لديهم ولد اسمه محمد وكانت السيدة فيضي تحبّه وتزور والدته. في إحدى المرّات جاء الولد راكضًا نحوها وهو في حالة خوف وهلع وتوسّل لها بأنهم سوف يكوون بدنه (الكي بالحديد الساخن). طمأنته خانم فيضي وقالت له لا تخف لن يحصل ذلك، أتى والده بعدها، وقالت له: “سوف لن أعطيك الصبيّ لكي تكووه، قال والده يجب أن نكويه حتى يظل باقي الأولاد سالمين”، قالت ﮔلوريا: “أنتم تريدون أن تقتلوا هذا الولد؟ لن أعطيكم محمدًا”. وفي الختام وعد الأب أن لا يكوي ابنه ثم رجع الولد إلى منزله وهو في حالة من الرعب. ولكن بعد مدة اتضح أنهم فعلًا كووا الابن حيث أنها كانت عادة متبّعة آنذاك عند بعض من الناس في منطقة الخليج.
ذات مرّة جاء أحد المبشّرين المسيحيين لمنزل فيضي وإسمه الدكتور هاريسون. وأثناء الحديث قالت له ﮔلوريا بأن عيون أكثر الناس هنا مريضة وهناك الكثير من الناس إمّا عميان أو مصابون بالتراخوما؛ فقال الدكتور هاريسون أن التراخوما أمر بسيط وهناك أشخاصٌ مصابون بالسل وبأمراض تناسلية أيضًا وكلها أمراض معدية. سألت ﮔلوريا: كيف يمكن أن نقي أنفسنا من هذه الأمراض؟ فقال: لا تسمحوا لهم بدخول منازلكم، نحن لا نسمح لهم بدخول منازلنا، إنّ اتصالنا بهم يتم في المدرسة أو المستشفى أو في الشارع والسوق فقط. ولكن السيدة فيضي لم يعجبها هذا الكلام؛ فقد كانت تعتبر الضيوف أصدقاء لها وسألت الدكتور هاريسون عمّا يجب أن تفعله إذا جاءها شخص إلى المنزل طالبًا كأسًا من الماء للشرب؟ قال لها: ان الكأس الذي شُرِبَ منه إما أن يُرمى أو يُغلى بالماء، ولكن رمي الكأس لم يكن ممكنًا فكانت تقوم بغليه، وفي النهاية وعلى ضوء شحّ المياه كانت تتوكل على حفظ الله ورعايته فتقوم بغسل الكأس بالصابون وعرضه للشمس كي ينشف للتأكد من خلوّه من أية أمراض معدية.
في أحد الأيام دعا أحد الطلبة جناب فيضي إلى الاستحمام في نبع الماء في منطقة عذاري. ذهبا سويًّا ومعهما ﮔلوريا، استحمّ فيضي في النبع، وسألت ﮔلوريا إن كان هناك حمام للسيدات، فقال نعم، وحدّد لها المكان الذي كان عبارة عن غرفة صغيرة مبنية من سعف النخيل وتبعد قليلًا عن نبع الماء ثم قال لها: يمكنك الاستحمام هنا. لاحظت ﮔلوريا بأن هناك جدول مياه عفنة ونتنه تمرّ وسط الغرفة فقررّت عدم الاستحمام.
بعد مدة استطاعت ﮔلوريا الحصول على وظيفة مدرّسة للغة الإنجليزية في المدرسة الأمريكية للبنات؛ وبالتالي تحسّن الوضع المالي بعض الشيء ولهذا انتقلوا للسكن في شارع الشيخ عبدالله في شقة مكوّنة من غرفتين تقع فوق بناية بها محلات تطلّ على الشارع في المنامة مقابل مأتم الصفافير حاليًا، وظلّا في هذا المنزل حتى تركا البحرين نهائيًا عام ١٩٥٧م، ومع تغيير السكن تعرّفت السيدة ﮔلوريا على جيرانها الذين كان بعضهم إيرانيين والبعض الآخر بحارنة، وأوجدت علاقات صداقة جديدة معهم. كان بعض الجيران فقراء وغالبيتهم من البحارنة، وهم شيعة، ويسكنون في منازل تسمّى (برستي) كما سبق وأن ذُكر، وهو منزل مصنوع من الخشب وسعف النخيل، وفي حوش المنزل يتربّى الدجاج والماعز والبقر وأيضًا تتدلى سلّتان من السقف، أحدهما تحتوى على التمر والأخرى تحتوي على الملح. كانت وجبة الفطورعبارة عن عدد من حبّات التمر وبعض القهوة العربية المرّة. وعند الغروب كان الرجال يرجعون من السوق ومعهم عدد من الأسماك تسمّى الصافي. تقوم النسوة بإنزال سلّة الملح وتُمسح الأسماك بالملح الخشن، ثم يتم وضعها على صفيح ساخن للطبخ تحت نار هادئة أشعلت من سعف النخيل. ونظرًا لشحّ المياه، كانت الأسماك لا تُغسل، وأثناء الأكل كانت تفتح بطون الأسماك ويستخرج ما بداخلها وتعطى للدجاج. كما كان هناك بعض الأرز يعدّ من دون زيت لأكله مع السمك.
في صيف عام ١٩٤٣م عندما حان موعد العطلة الصيفية للمدارس، غالبًا ما كان المدرّسون الأجانب يذهبون لبلدانهم لقضاء العطلة الصيفية، فسأل السيد واكلين رئيس دائرة المعارف في البحرين السيد فيضي عن رغبته، فأجاب إنه يرغب بزيارة إيران ولكن طبقًا للتعهد الذي كتبه فلن يستطيع ذلك، ولكن قال له واكلين إنه سوف يحصل له على موافقة بهذا الخصوص. وفعلًا سافر جناب فيضي وزوجته إلى إيران في صيف تلك السنة وعادا إلى البحرين، وعندما عاد، وقبل أن ينزل من السفينة، جاءه السيد واكلين على متن السفينة وقال له بأن دائرة المعارف عدّلت القانون السابق الذي حظر على الرجال والنساء ارتداء الملابس الغربية ويمكنكم من الآن ارتداء ملابسكم الخاصة. ولكن قالت خانم فيضي بأنها لا ترغب في ترك العباءة (الجادر) لأنها تعوّدت عليها ومن الصعب عليها أن تكشف عن كامل وجهها للجميع. كانت خانم فيضي تراعي هذه النقطة، وعندما يأتي رجل لمنزلها لا تختلي به دون وجود جناب فيضي، وتتحدث فقط مع شخصيات معينة مثل الأستاذ العرّيض والأستاذ رضا وشخصين أو ثلاثة من الهنود واللبنانيين.
[1] من كتاب Faizi ص ١٣٩
[2] على الرغم من ان الشيخ احمد الاحسائي ولد بالاحساء حسب المصادر المتوفرة ولكن يشير حضرة ولي أمرالله في أحد رسائله إنه ولد بالبحرين
وتجدر الإشارة إلى أنّ السيدة ميّ ابنة جناب فيضي وُلدت عام ١٩٤٤م في مستشفى النعيم، وفي نفس السنة تعرّف السيد أحمد محسني على جناب فيضي بواسطة أحد أصدقاء محسني وهو السيد فتح علي كرمستجي، وكان هذان الشخصان يأتيان في صباح كل يوم إلى منزل السيد فيضي، وهما في طريقهما إلى العمل ويتحدّثان عن مواضيع مختلفة وتدريجيًا فتح جناب فيضي باب الحديث عن الأمر معهما وصارحهما بالحقيقة، بحيث أن قلوبهما في النهاية خشعت لتعاليم حضرة بهاءالله وخفقت بمحبّته وأظهرا إيمانهما. كما آمن شقيق أحمد محسني أيضًا بالأمر المبارك. كان خبرًا سعيدًا وسارًا على فيضي وطلب منهما مراعاة الحكمة. أصبح هؤلاء الثلاثة مع جناب فيضي وﮔلوريا النواة الأولى للجالية البهائية في البحرين. وفي نفس السنة – أي عام ١٩٤٤م – الذي كان يصادف ذكرى مرور القرن الأول على إعلان دعوة حضرة الباب وبداية القرن الثاني البهائي، أرسلت هذه المجموعة الصغيرة برقية تهنئة بعيد النوروز إلى حضرة ولي أمرالله كان نصّها الآتي: “تهنئتنا بمناسبة الانتهاء المظفّر للقرن الأول من التاريخ البهائي والبداية الجليلة للقرن الثاني. نلتمس التأييد بكل خضوع للمجموعة”[1]. وجوابًا على هذه الرسالة أرسل حضرة شوقي أفندي البرقية التالية المؤرخه ٢١ مارس/آذار ١٩٤٤م: “أذكر المجموعة بكل تقدير حبيّ العميق بهذه المناسبة التاريخية. أدعو الله أن يستمر النجاح الرائع”[2]. وبتاريخ ٢٥ مايو/أيار ١٩٤٤م أرسل حضرة ولي أمرالله البرقية التالية: “تهانينا القلبية بمناسبة الإنجاز التاريخي الفائق. بكل محبة أذكركم في العتبات المقدسة وأفتخر بخدماتكم”[3].
كان أحمد محسني يعمل بالتجارة بين إيران والبحرين ولكن بشكل بسيط، وكلما كان يغادر البحرين ويذهب لإيران، كان يلتقي بالأحباء في مدينة خرمشهر الساحلية، وأخيرًا تم تسجيله في السجلّات الأمرية في إيران ثم رجع إلى البحرين. ونظرًا لأنه كان مؤمنًا جديدًا فقد كان مشتعلًا بنار محبّة الله ويقوم بالحديث مع الآخرين بين الحين والآخر رغم أن فيضي قد نبهّه عدة مرّات بمراعاة الحكمة الشديدة في ذلك. ورغم ذلك قام باطلاع بعض أصدقائه وأقاربه عن إيمانه بحضرة بهاءالله وتحدّث معهم عن الأمر المبارك. بعد فترة ذهب لإيران مرة أخرى ومكث بها هذه المرّة مدة طويلة. كان خال السيد أحمد محسني شخصًا مسلمًا سنيًا، وعندما علم بذلك قام بتحريك عدد من تجّار السوق ضد فيضي، حيث قاموا بكتابة عريضة موقّعة من هؤلاء التجار بأن الأستاذ أبو القاسم فيضي شخص كافر ويقوم بتضليل الشباب وقد تسببت هذه العريضة في النهاية في فقدان فيضي لوظيفته.
كما أنّ بعد ولادة ميMay بستة أشهر، لم تستطع ﮔلوريا التدريس في المدرسة الأمريكية وظلت في المنزل تعتني برضيعتها؛ وبالتالي انقطع دخل الأسرة. ونظرًا لصغر حجم الجزيرة وقلة عدد السكان، انتشرت الشائعات بسرعة بين الناس وفي السوق عن الأستاذ فيضي وديانته، (كان يُعرف فيضي بين الناس بالأستاذ فيضي)؛ وبالتالي ابتعد الناس عنه وانخفض عدد المراودين معه ومع أسرته. كانت هناك خادمة اسمها مريم من بستك من جنوب إيران تأتي لمنزلهم للتنظيف والرعاية وظلت وفيّة لهما حتى آخر أيامها. ونظرًا لعدم وجود دخل للأسرة قالت لها خانم فيضي إنها لا تستطيع دفع راتبها المتواضع ويفضّل أن تبحث عن عمل في مكان آخر، فقالت مريم: “لن أعمل في مكان آخر، إنني لا أعمل من أجل المال، إنني أعمل من أجلك”. من الأصدقاء الذين ظلوا أوفياء معه السيد إبراهيم العرّيض وهو شخص متعلّم ومثقف وليبرالي بحريني كان يفتخر ويعتز ويستمتع بصداقة فيضي، ولم يكن يهتم بآراء الآخرين ولم يكن يبالي إن كان صديقه بهائيًا أم لا، بل كان يرى تلك الصفات الممّيزة في فيضي من حسن الأخلاق وسلامة الطوّية والتواضع بالإضافة إلى علمه وثقافته التي كانت تميّزه عن الغير.
وشهادة للتاريخ، فإن السيد واكلين قد أصدر الشهادة التالية في حق جناب فيضي بتاريخ ٤ يونيو/حزيران ١٩٤٥م ذكر فيها: “انضمّ السيد أبو القاسم فيضي إلى دائرة التعليم في الحكومة البحرينية بتاريخ ديسمبر/كانون الأول ١٩٤٢م كمدرّس للغة الانجليزية في المدرسة الثانوية بالمنامة. وعمل بهذه الوظيفة حتى ٢٣ فبراير/شباط ١٩٤٥م حين طُلبَ منه الاستقالة. وخلال تلك الفترة التي عمل فيها للحكومة أثبت بأنه ليس فقط مدرّسًا ممتازًا، بل قام بعمله من صميم قلبه وروحه. كان له تأثير كبير ونافذ على طلبته وزملائه. إن سبب انهاء خدماته يعود إلى أن بعض الناس قد اعترضوا بشدّة على وجود شخص غير مسلم، بهائي، في مهنة التدريس في مدرسة حكومية. إن تدريس السيد فيضي الآن لأعضاء من الأسرة الحاكمة لهو دليل على قيمة خدماته. اف جي واكلين – مدير التعليم”[4].
تدريجيًا بدأت الأوضاع تزداد سوءًا، فلم يكن لديهما المال الكافي سوى لشراء الخبز والماء فقط ولكن مريم الخادمة المخلصة التي كانت على علم بوضع الأسرة ذهبت مرّة إلى السوق مع أن النسوة لا يذهبن إلى الأسواق وعادت وبيدها مجموعة من تمر الخلاص (نوع من التمور الجيدة) وأهدتها بكل محبّة لخانم فيضي. ونظرًا لأن الحرب العالمية الثانية كانت مشتعلة فلم تكن هناك أطعمة أو أدوية كافية، بل نقص في كل شيء ، وكان الطعام المحلي المتوفّر هو التمر والسمك وهناك بعض البصل والبطاطس يأتي من إيران بواسطة السفن الصغيرة (اللنج) وبصعوبة بالغة ويوزع على فئات معينة من المجتمع. لم يذكر فيضي هذا الوضع لأحدٍ من أحباء إيران ولا للمحفل المركزي هناك بل كان صبورًا، مؤمنًا بقضاء الله وقدره، متحمّلًا كل الصعاب في سبيل محبة الجمال المبارك واضعًا نصب عينيه هذا البيان الجميل من القلم الأعلى: “وان مسّتك البأساء في سبيلي أن اصطبر ولا تجزع وانه يكفيك بالحق ويرفعك إلى مقام قد كان بالحق محمودًا. إن وجدتَ نفسك فريدًا لا تحزن ثم آنس بنفسي وانّا نكون معك في كل الأحيان وفي كل أصيل وبكورا“[5]. لم تكن ﮔلوريا مستعدة لرؤية طفلتها تموت جوعا لذلك ناجت ربها قائلة بأنه سبحانه إذا كان يريد عمل معجزة فليقم بعملها الآن. تروي خانم فيضي ذكرياتها الحلوّة والمرّة عن أيامها في البحرين فتقول أنها وزوجها العزيز كانا سعيدين دومًا لأنهما مازالا في البحرين، منطقة الهجرة، رغم كل الصعاب والمشاق، وإن محبّة ورضاء مولاهم العزيز هو الأهم في حياتهما وفوق أي اعتبار آخر.
في ذلك الوقت كان البريد يأتي بواسطة السفن إلى الميناء وكان الناس يأتون للميناء ليأخذوا بريدهم. ذات يوم رجع فيضي إلى المنزل سعيدًا وقال لزوجته أن المعجزة التي طلبتها طال انتظارها قد تحققت، حيث وصلت رسالة من إحدى المجلات الهندية تقول له: “إن القصة التي كتبتها للمسابقة في السنة الماضية قد حازت على الجائزة الأولى، وقد فقدنا عنوانكم ولكن الآن وجدناه ونرفق لكم شيكًا بقيمة ثمانين روبية قيمة الجائزة”. وهكذا فتح له بابٌ من الرزق من حيث لم يَحتَسب. وبعد مدة طلب المستشار السياسي الإنجليزي منه أن يعلّمه اللغة الفارسية، فكانت تأتي سيارة المستشار الشخصية إلى منزل فيضي وعليها العَلَم البريطاني وتأخذه إلى منزله للتدريس مرّتين بالأسبوع. كانت الناس تراقب ذلك وتتعجب وتعتقد أن المستشار السياسي يتشاور مع فيضي مرّتين بالأسبوع. كان دخل فيضي من التدريس ستين روبية بالشهر، ولكن بعد مدة قال المستشار إنّ عمله قد ازداد وليس له وقت لتعلّم اللغة الفارسية. ومن جهة أخرى، طلب بعض طلبته السابقين وشخصان آخران منه أن يعطي دروسًا خصوصية في اللغة الإنجليزية، فقام بذلك وأصبح له بعض الدخل، وفي السنوات التالية طلب بعض المبشّرين المسيحيين دروسًا في اللغة العربية فقام بترتيب دروس لهم وهكذا أصبح دخله من الدروس الخصوصية.
كانت فرحة فيضي وﮔلوريا شديدة عندما استلما الرسالة التالية المؤرخة ٣٠ ديسمبر/كانون الأول ١٩٤٥م من أمة البهاء روحية خانم: “يجب أن لا تعتقدان إنكما منسيّان لأنكما تخدمان في منطقة بعيدة، بل الأمر على العكس من ذلك، فقد سمعتُ خلال كل هذه السنوات حضرة ولي أمرالله يتحدّث عن أعمالكما بتقدير عال… إنّه (شوقي أفندي) يعتبركما مثالًا يحتذى به لجميع البهائيين الإيرانيين، ويتمنّى منهم أن يحذو حذوكما ويسيروا على خُطى أقدامكما. سيتلو المناجاة من أجلكما…”[6].
من أنشطته في البحرين أيضًا إنه قام بتأسيس نادي رياضي مع الجالية الإيرانية الصغيرة التي كانت موجودة هناك، حيث قاما معًا في عام ١٩٤٦م بتأسيس نادي سُمّي (فردوسي) ودعا الناس إلى المساهمة في تأسيسه. كان فيضي من أوائل المؤسسين له حيث تبرّع بمبلغ خمسين روبية رغم ضعف وضعه المالي، كما تطوّع لتعليم الشباب اللغة الإنجليزية والرياضة في النادي. يتذكر السيد عبدالكريم الخشابي، وهو من مؤسسي النادي، فيضي وهو يقوم بتعليم الشباب التمارين الرياضية الفارسية التقليدية في جو بلغت درجة حرارته ٤٤ درجة مئوية.
[1] من كتاب Faizi ص ١٤٨
[2] المرجع السابق
[3] المرجع السابق
[4] Faizi ص ١٥٥- ١٥٦
[5] آثار قلم اعلى – مجلد ٤ ص ١٧١ طبعة ١٢٥ بديع
[6] Faizi ص ١٥٦
حتى عام ١٩٤٦م لم يثبت مجئ أي شخص بهائي من الخارج للبحرين وكانت هذه المجموعة المكوّنة من خمسة أشخاص تجتمع بين الحين والآخر وتتآنس بذكر الله وتشارك بعضها الكلمة الإلهية من خلال الكتب القليلة التي كانت بحوزة جناب فيضي، حتى جاء شخص يومًا ما لمنزل فيضي بلباس عربي واضعًا العباءة وقال لخانم فيضي: “الله أبهى” ثم تحدّث بالفارسية وقال إنه يعرف السيد عبدالله أنور. قالت له ﮔلوريا أن فيضي ليس بالمنزل، وطلبت منه أن يدخل لحين قدومه. دخل وجلس وبعد بضعة دقائق جاء فيضي وجلس معه وتبادل معه الحديث مستفسرًا عن أحواله، ثم نادى زوجته وقال لها بأن هذا الضيف العزيز هو من الأحباء القدامى وإنّ جدّه خرج من إيران في زمن حضرة بهاءالله ولكنه الآن مستقر في شبه الجزيرة واسمه عم عزيز.[1]
في أوائل عام ١٩٤٦م كتب جناب فيضي رسالة إلى حضرة ولي أمرالله يطلعه فيها على ما تم إنجازه حتى الآن في البحرين، وقد وصله الرّد المؤرخ بتاريخ ١٢ أبريل/نيسان ١٩٤٦م ونصّه الآتي:
]البحرين – جناب السيد ميرزا فيضي عليه بهاءالله، فاز التحرير المنير لذلك الحبيب العزيز الروحاني المؤرخ يوم البهاء من شهر العلاء لعام ١٠٢ بلحاظ مرحمة وعناية حضرة ولي أمرالله أرواحنا فداه، إن مراتب الخلوص والخضوع والانجذاب قد تزيّن وتشرّف بطراز اللطف والمودّة. تفضّل وقال: لقد وصلت رسالة ذلك الخادم الحقيقي اللائق والفعّال والثابت والمنقطع للعتبة المقدّسة وكانت سببًا للسرور والابتهاج الوفير. إن الخدمات المستمرة الجليلة لذلك الشاب النوراني في هذه السنوات الأخيرة زينة لتاريخ أمرالله وقدوة لعموم الأحباء وعلى الأخص أعزائنا في إيران. بالطبع ستبذلون الهمّة في… وتأسيس المحفل الروحاني وستراسلون المراكز الأمرية في الممالك البعيدة بكل حكمة بواسطة محفل العراق وتشجّعون الأحباء…[[2].
في عام ١٩٤٧م جاء شاب إلى منزل جناب فيضي ودقّ الباب ففتحت ﮔلوريا وشاهدت شابًا نحيلًا واقفًا قال لها: “الله أبهى، أعرف عمّك اللواء علائي، عندي رسالة منه”، قالت له: “فيضي ليس في المنزل، رجاء تعال بعد شوية”. وتصادف أن وصل فيضي بعد دقائق واتضح أنه يعرفه فأخذه بالحضن وقال: “عنايت! كيف أتيت إلى هنا؟ ولماذا أصبحت بهذا الشكل؟” هذا الشاب العزيز كان عنايت أخوان الذي وصل من إيران بواسطة لنج (سفينة صغيرة) وقد قيل له بعدم الإتصال بالسيد فيضي وزوجته ولكنه لم يتحمّل ذلك فبحث عنه حتى وجده. يروي عنايت حكاية وروده البحرين بأن رحلته في اللنج كانت صعبة ومتعبة للغاية، حيث كان البحر هائجًا والرياح عاتية لدرجة أنّ رحلته استغرقت اثني وعشرين يومًا في البحر عانى خلالها نقصًا حادًا في الأكل والشرب، ولهذا تدهورت صحّته وأصبح نحيلًا، وفور وصوله إلى البحرين أخذ إلى المستشفى وقضى فيها شهرًا واحدًا للعلاج حتى استعاد صحته تدريجيًا واستطاع الحركة والمشي. ولشدّة شغفه للقاء فيضي، وفور خروجه من المستشفى قام بالسؤال عنه هنا وهناك، وعلى الأخص بين الإيرانيين الساكنين في البحرين حتى عرف مكانه وذهب إليه. وبعد ذلك رجع عنايت أخوان إلى إيران ثم هاجر بعدها إلى مناطق أخرى في الخليج، يعتبر عنايت أول مهاجر من منطقة الخليج زار فيضي وزوجته في البحرين.
بتاريخ ١٦ يوليو/تموز ١٩٤٦م أرسل حضرة ولي أمرالله الرسالة التالية إلى والدة جناب فيضي السيدة صديقة خانم (مادر جان) التي كانت تقيم في طهران جوابًا على رسالتها: “… إن المساعي الجليلة لابنكم البار في البحرين في الحقيقة نموذج لكل أحباء إيران. إن الخدمات الباهرة لذلك الخادم البارز هي محل تقدير وتمجيد الملأ الأعلى. طوبى له ولأمثاله الذين هاجروا أوطانهم لإعلاء أمره الأعز الأقدس العظيم…“[3].
بعد أن عُرِفَ فيضي إنه بهائي، جاءه بعض الأشخاص من أصول إيرانية وقالوا أنّ والدهم أو جدّهم كان بهائيًا أي أنّ لهم جذورًا بهائية وبعضهم أعرب عن إيمانه، وكانت هذه المجموعة تتواصل مع جناب فيضي. ويبدو أن المحفل الروحاني المحلي قد تشكّل حينها ويُعتقد أن ذلك قد تم في عام ١٩٤٨م وقد ضم كلًا من: فيضي وأحمد محسني وفتح علي كرمستجي والأفراد الذين كانت لهم جذور بهائية وتمّ إرسال برقية إلى حضرة ولي أمرالله بهذا الخصوص وجاء الرّد بأن عليهم الاستقامة. ولكن يبدو أن ذلك المحفل لم يجتمع بعد ذلك وانحل لأن بعض أعضائه تركوا الأمر المبارك ولم يكونوا على تواصل مع فيضي، ولكن السيد أحمد محسني ظل على ثباته ورسوخه.
يروي الشهيد جناب مركزي حكاية شيّقة عن جناب فيضي وعن مدى انقطاعه عن الدنيا فيقول أنه يتذكر مرّة أن ابنته مي كانت ترغب باقتناء زيّ معيّن فقام جناب فيضي رغم ضعف امكانياته المادّية بشراءه لها. فرحت مي كثيرًا وذهبت إلى بالكون منزلها، وما أن رأتها ابنة جارتها البحرينية التي كانت في نفس عمرها حتى طلبت الزيّ منها. قامت مي فورًا بإلقائه عليها. قال فيضي لزوجته: أرجو عدم إظهار أي نوع من ردّ الفعل لأن مي عليها أن تتعلم الإيثار منذ طفولتها. إن هذه المآثر نادرًا ما كانت تحصل حينها، بل وحتى في عصرنا الحاضر. هذه هي شيم المقربيّن وسمة المخلصين.
تدريجيًا بدأ الأحباء بالهجرة من إيران إلى البحرين، وبعضهم اضطر إلى الذهاب والعودة عدة مرّات حتى يستطيع الاستقرار، والجميع دون استثناء عانى الكثير من الصعاب والمشاكل المتعدّدة التي ستظل تُذكر كجزء من تاريخ أمرالله المنير في هذه المناطق. هؤلاء الثلة الأولى من المهاجرين النشامى جاءوا من خلفيات وطبقات اجتماعية وثقافية متعددة ومختلفة، ولكن روح المحبّة والمودّة والوحدّة كان فيّاضًا بينهم وكان عشقهم للهجرة والخدمة في سبيل المحبوب لا يضاهيه عشق آخر، وقد صدق بحقّهم هذا البيان المبارك من القلم الأعلى: “إنّ الذين هاجروا من أوطانهم لتبليغ الأمر يؤيدهم الروح الأمين ويخرج معهم قبيل من الملائكة من لدن عزيز عليم. طوبى لمن فاز بخدمة الله لعمري لا يقابله عمل من الأعمال إلا ما شاء ربك المقتدر القدير. انه لسيد الأعمال وطرازها كذلك قدّر من لدن منزل قديم“[4]. على رأس هذه المجموعة الأولى كان جناب فيضي، وهو أقدمهم، وكان خير مرشدٍ وهادٍ وملجأ لهم جميعًا، وقد وصفهم بأنهم حقًا كانوا منقطعين عن شؤون الدنيا يملأ قلوبهم عشق ومحبّة حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء في الدرجة الأولى، ثم محبّة وطاعة محبوبهم حضرة ولي أمرالله ملبّين دعوته في الهجرة تاركين شئون الدنيا وزخرفها عن ورائهم. لقد أحبّوا فيضي من كل قلبهم، فأحبّهم فيضي بكل جوارحه وقاموا معًا بتأسيس نواة لجالية بهائية.
ومع تدفّق المهاجرين لمناطق وأقاليم الخليج، كان فيضي يراسل هؤلاء المهاجرين ويحثّهم على الصبر والاستقامة في سبيل المحبوب، وكانت هناك مراسلات مستمرّة بينه وبينهم. أما رسائله، التي مازالت موجودة حتى اليوم، فكانت خير مَرهَم وعلاج وأمل للذين تركوا أوطانهم وجاءوا إلى هذه المناطق القاحلة في ظروف هي في غاية الصعوبة. فكانت هذه الرسائل تكتب بخط جميل وتعبّر عن إحساس مرهف وحبّ كبير، وكان بعض الأحباء يضعون رسائله في إطارات وتعلّق في منازلهم كلوحات.
تأسّس أول محفل روحاني محلي في البحرين – المنامة – في رضوان عام ١٩٥٠م في منزل مستأجر من قِبل ثلاث عائلات بهائية وشاءت الأقدار أن يكون هذا المنزل مُلكًا لشخص بذل قصارى جهده لنفي جناب فيضي من البحرين في السابق ولكنه لم يفلح. يروي أحد أعضاء المحفل بأن ما قاله فيضي في تلك الليلة التاريخية كان مؤثرًا وعظيمًا، فبعد أن لاحظ أن المحافل الروحانية في العالم تتأسس كل منها على أحد المبادئ البهائية وتوليه اهتمامًا وعناية أكبر، لذلك قال لهم: “لتكن قاعدة محفلنا وأساسه هو المحوية التامة والفناء البحت. يجب أن لا يكون حبِّ الذات موجودًا فينا، يجب أن نكون منقطعين… لأن مولانا قال لا أريد اسمًا أو علامة بعدك.” ومع تأسيس أول محفل روحاني في البحرين أصبحت الأنشطة والفعاليات التي كانت قد بدأت قبل ذلك تحت اشرافه وأصبح للأحباء مؤسسة إلهية التقدير تلجأ إليها. كانت هناك عدة صفوف للتعمّق ودراسة الآثار المباركة والتاريخ، وأيضًا للأطفال صفوف أسبوعية حسب أعمارهم والضيافة التسعة عشرية تعقد بصفة دورية وأيضًا جلسات الأيام المحرّمة، وكانت السيدة ﮔلوريا فيضي ضمن معلّمي صفوف الأطفال. بدأت الأوضاع الاقتصادية تتحسّن تدريجيًا بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ظواهرها أن الحكومة بدأت بمدّ أنابيب المياه للشوارع وبعض المنازل؛ فبادر جناب فيضي بمدّ أنبوب مياه لمنزله على نفقته، وبعد نهاية كل صف دراسة بهائي كان الطلبة يأتون ويستحمّون تحت الماء. في كل عام كان يقام احتفال خاص بمناسبة عيد النوروز السعيد، وفيه يقدّم المحفل الروحاني المحلي هدية صغيرة للأطفال والشباب وعليها عبارة جميلة مكتوبة بخط يد جناب فيضي ومزينة برسوماته.
ازدادت شهرة جناب فيضي في البحرين تدريجيًا، فبالإضافة إلى علمِهِ ومعرفتِهِ، فقد عُرفَت عنه دماثة الخُلق وحُسن الطوّية والتواضع ولطافة المعشر وعُرف بالأستاذ فيضي. كان شابًا وسيمًا ملأهُ الحيوية والنشاط، ودودًا محبًّا للجميع دون تمييز، ومصدرًا للخير والعطاء، وذا مقدرة مميّزة في التأثير على الآخرين وخدمتهم؛ ولهذا ذاع صيته، فبدأ الأحباء وغيرهم يزورونه يوميًا تقريبًا للاستماع إليه، وكان بدوره يرحّب بالجميع بابتسامته وبشاشته المعهودة وفي هذا الوقت آمنت أول امرأة بحرينية بالأمر المبارك.
تروي ابنته السيدة “مي فيضي مور”، بأنه كان هناك لصٌّ معروف في البحرين اسمه غلوم ذو بشرة سمراء، وكان معتادًا على السرقة وعندما يقبض عليه كان يودع بالسجن ثم يخرج منه بعد فترة قصيرة، ولأنه من أصحاب السوابق لم يرض أحد أن يعمل لديه؛ لذلك كان يقوم بالسرقة فيودع بالسجن مرة أخرى وهكذا. تعرّف فيضي على هذا الشخص وكان يحاول مساعدته، رغم إنه كان يعلم بسوابقه، مثلًا عندما كان يشتري شيئًا من السوق كان يطلب منه توصيل الغرض لمنزله ثم يدفع له شيئًا مقابل ذلك. في إحدى المرّات تبضّع جناب فيضي ثم أعطى غلوم ما اشتراه لتوصيله لمنزله، وعندما رجع إلى المنزل بعد فترة، سأل ﮔلوريا إن استلمت المشتريات من غلوم، فقالت: كلا إنّه لم يأتِ، فسألت عن نوعية البضاعة فقال فيضي إنها بعض اسطوانات الغراموفون وأشياء أخرى، فقالت: “إنها بضاعة لها قيمتها ولا أعتقد إننا سنراه بعد اليوم.” ولكن كان جناب فيضي واثقًا بأن غلوم سيأتي بالبضاعة وهذا ما فعل بعد ذلك. وقبل عيد النوروز ذهب فيضي ليشتري هدايا للأطفال بمناسبة قرب العيد ورأى غلوم في السوق وأعطاه الهدايا ليوصلها لمنزله، ولكنه لم يفعل، وظل فيضي هادئًا كعادته واثقًا من أن غلوم سيظهر في وقت ما، وفعلًا جاء بعد مدة وسلّم البضاعة. وأحيانًا عندما كان غلوم في عوز شديد كان يأتي لمنزل فيضي ويطلب بخجل وحياء بعض الروبيات كسلف، وعادة ما كان يُرجّع المبلغ. في إحدى المرّات طلب مبلغًا أكبر من المعتاد ثم اختفى لعدة أشهر، ولكنه ظهر بعد ذلك ورجّع المبلغ وقال إنّ سبب تأخيره إنه كان مسجونًا. إن غلوم رغم إنه كان لصًّا ولكنه كان أمينًا مع فيضي.
وعلى الرغم من تحسّن الأوضاع ولكن دخل الناس بصورة عامة كان ضعيفًا، والفقر منتشرًا، والدخل كان يغطي الاحتياجات بالكاد، ولم تكن جميع المواد الغذائية والأدوية متوفرة، بل كان هناك نقص في كل شيء. ولكن هِمّة الأحباء واستقامتهم كانت عالية وأياديهم البيضاء سخية، حيث تم جمع مبلغ ثلاثمائة روبية في جلسة عقدت لإحياء ذكرى استشهاد حضرة الباب من أجل مساعدة الفقراء والمحتاجين من أهالي البحرين وهو مبلغ كبير قياسًا بأوضاع الأحباء آنذاك.
عُرِفَ عن جناب أبو القاسم فيضي محبّته الفائقة للأطفال، فقد كان بطبيعته يجذب الأطفال نحوه ولهذا أحبّه الأطفال حيث كان يفهم لغتهم ويشعر بأحاسيسهم ويفهم أطوارهم ويستمتع بتدريسهم ولهذا كانوا يحومون حوله مثل الفراشة التي تطوف حول الشمع. يحكى ذات مرة أن جاء الدكتور منوچهر سلمانبور من الكويت إلى البحرين للقاء فيضي وبعد أن ترجّل من السيارة رآه جالسًا في الشارع يلعب مع طفل فاستغرب من ذلك وسأله عن دافعه إلى ذلك، فقال له فيضي أن الولد كان وحيدًا في الشارع ولم يكن هناك من أحدٍ ليلعب معه. كان فيضي يعتبر أطفال البحرين أطفاله وكان سعيدًا بسلوكهم وإنجازاتهم وقلقًا بعض الشيء على صحّتهم وخاصة في فصل الصيف الحار والرطب، حيث كان أطفال مناطق الخليج يصابون بأمراض العيون المختلفة بالإضافة إلى ظهور الدمامل على أجسامهم. ومع قدوم الصيف كان فيضي وزوجته يعدّون زجاجات مياه لغسل عيون الأطفال؛ ليعطونها للأمهات ويشرحون لهنّ كيفية استعمالها في غسل عيون أطفالهم والمحافظة عليها، ولكن الأحباء ذوي البنية الضعيفة أصيبوا بالأمراض ومنهم ﮔلوريا التي ضعفت كثيرًا لدرجة أنها أصبحت هيكلًا عظميًا ولم تعد صحّتها إلى ما كانت عليه حتى آخر أيام حياتها، وفي عام ١٩٥٠م ذهبت إلى إيران للعلاج.
كان فيضي وﮔلوريا يستمتعان بالاستماع إلى الموسيقى الشعبية السائدة آنذاك التي كانت تبث من الراديو، سواء العربية منها أو الفارسية أو الغربية. كما كان فيضي يعشق سماع السيمفونية التاسعة لبيتهوفن وكذلك ألحان الموسيقار البهائي الشهير بيجن خادم الميثاق وغيره، ويثمّن الأصوات الجميلة، وكان صوته هو أيضًا جميلًا جدًا وذا رنّة ملكوتية.
وتجدر الإشارة إلى أن مي ونيسان بنت جناب فيضي وابنه قد دخلا مدارس البحرين التي كانت تدرّس باللغتين العربية والإنجليزية، وبذل والداهما جهدًا كبيرًا في تعليمهما الفارسية قراءة وكتابة داخل المنزل، ولمدة قصيرة فتحت السيدة ﮔلوريا مدرسة ابتدائية صغيرة كانت تضم بين ١٥ إلى ٢٠ عشرين تلميذًا وكان فيضي يساعدها لبعض الوقت.
يوم ١٩ يوليو/تموز ١٩٥٠م كان يومًا سعيدًا في حياة جناب فيضي حيث وصله الخبر أن الصبي هوشنگ موجود على السفينة الراسية على الشاطئ في المنامة؛ فذهب مسرعًا للقائه. وقد علم منه إنه ذاهب إلى بومبي بالهند ومن هناك إلى نيوزيلند للانضمام إلى منوچهر وسهيل علائي[5] لدراسة الزراعة في إحدى جامعاتها. كان فيضي سعيدًا جدًا وهو يرى أن هوشنگ بدأ بتطوير نفسه وأنه عازم على الدراسة والحصول على الشهادة الجامعية وهي أمنيّة كان يتمنّاها فيضي من أجل هوشنگ.
يروي السيد حشمت مؤيد، وهو ضمن مجموعة المهاجرين الأوائل الذين أتوا للبحرين، خواطره أيام زيارته لفيضي بهذه العبارات:
]كان من عادة أحباء البحرين أن يجتمعوا أيام السبت مساءً في منزل ذلك الشخص العظيم (فيضي) من الساعة الثامنة مساء حتى الساعة الحادية عشرة ويستفيضوا من بحره الفيّاض المليء بالروح والمحبة وينعشوا أنفسهم. هذا المنزل الذي يقطنه فيضي منذ خمس سنوات في الواقع هو من البيوت المباركة. في هذا المنزل قرأ فيضي وزوجته الفريدة ﮔلوريا الصلاة والدعاء والمناجاة وتضوّعت نفحات قدس الآيات الإلهية من فميهما الطاهر لفضاء البحرين حيث منشأ حياة الشيخ الأجل.[6] في هذا المنزل سالت الدموع وصعدت الآهات لساحة الغني المتّعال وفيه توقف مهاجرون أعزّاء أمثال: سروستاني – ريحاني – أخوان – مركزي ومسيح روحاني وغيرهم. في هذا المنزل احتضن فيضي هؤلاء بالأحضان وانهالت الدموع، ونزل التأييد وسطعت أشعة حياة جديدة، وفاز المنزل بقدوم أصفياء الله الذين تركوا كل ما لديهم في سبيل الهجرة والخدمة. انعقدت في الليالي والأيام المحافل الملكوتية… هذا البيت في الحقيقة مقدس ومبارك، ياليت يُستملك يومًا وفاءًا لكل هذه التضحيات، ويظل محفوظًا ومصانًا ذكرى لهذه النفوس الطاهرة، وتذكرة لتلك الفترة التاريخية المهيّجة. في أول ليلة وصلنا البحرين لم يكن جناب فيضي قد عاد من دروسه بعد… ومن ثم قد قرّت أعيننا بوروده، إن شكله الجذاب المؤثر النوراني ظهر من بين الأحباء كالشمس الساطعة، ومثل الشمع أضاء تلك الحجرة البسيطة. كان ذلك العزيز وزوجته اللطيفة والأحباء يسألون عن أوضاع إيران… وعن خطة الخمسة والأربعين شهرًا، وكانوا يرغبون بشدّة أن يعرفوا إلى أين وصل هذا المشروع الهام، وما مقدار ما تحقّق منه. تفضل وقال: “إنها سبع سنوات وأنا أقيم ومعي زوجتي في هذه الجزيرة… بجوّها ومائها، وخلال هذه المدة كنا نتمنى دومًا أن يأتي أحباء إيران ويتم تشكيل مجموعة ويكون لنا رفاق في الحديث والفكر والعقيدة، والآن تدريجيًا بدأنا نصل إلى هذا الأمل. من بركة خطة الخمس والأربعين شهرًا ومن فضل المولى الحنون جاء بعض المهاجرين والحمد لله وفق بعضهم بالحصول على الإقامة الدائمة”. كانت خانم فيضي توصينا دائمًا بمراعاة الحكمة في جميع الأمور. كان سلوك حضرة فيضي محبوبًا ومطلوبًا لدرجة أن الناس في البحرين عشقوا هذا الشخص وأصبحوا من مريديه. وكلما كان يمشي في السوق أو الشارع بقامته الرشيدة وهيكله الجميل الوسيم كان الكل يؤدي له التحية والإحترام من وضيع وشريف، وصغير وكبير. فإن كانوا جالسين يقومون احترامًا له، إن كانوا واقفين ينحنون تعظيمًا له، وحتى الأشخاص الذين كانوا لايزالون يكنّون له بعض التعصّب الديني أو المذهبي نتيجة لتحريك الأعداء، فبمروره ولقائه معهم وبنظراته النافذة ومشاعره الفيّاضة كانوا يظهرون له لا إراديًا مراتب الخضوع والاحترام. لم يكن لجناب فيضي أي اهتمام خاص بالأغنياء إلا اذا كانت لديهم خصائل عالية وصفات حميدة، ودون ذلك لم يكونوا محلّ اهتمام خاص بالنسبة له… ولكن إن التقى بفقير أو ضعيف وعلى الأخص إن كان ذا طينة طيبة وشخصية روحانية وعالي الهمّة فإنه يقبل إليه بابتسامة رقيقة ومليحة، وبكل محبة ولطف يسأل عن عمله وأولاده، وأحيانًا يقبّله كأخ عزيز ويطيّب خاطره، ولهذا كان الفقراء والمحتاجون يحبّون هذا الشخص ويحترمونه مثل الوالد العطوف. اهتمام جناب فيضي بالفقراء والمساكين يذكّرنا بعناية حضرة عبدالبهاء، روح ما سواه فداه، بالفقراء والمرضى والمحتاجين، وكيف أن فيضي العزيز يحاول أن يتعلّم من المثل الأعلى للتعاليم البهائية ويقتدي في أعماله وسلوكه بذلك المولى السماوي لأهل البهاء[[7].
دوّن جناب فيضي ذكرياته الجميلة عن تلك الأيام وعبّر عنها بأجمل التعابير وأظهر ما كان يختلج في قلبه من مشاعر وأحاسيس رقيقة، ففي إحدى مذكراته المؤرخه ١٥ ارديبهشت (يوليو/تموز) ١٩٥٠م وصف حال الجامعة بالآتي:
]…إن حياة جامعتنا مثل جديرة بالمشاهدة، إذ يجتمع عدة أشخاص مع بعضهم البعض في منزل واحد منشغلين بذكر المولى العزيز بكل فرح وسرور. في عصر أحد الأيام ذهبتُ مع زوجتي إلى منزل أحدهم ومكثنا هناك حتى الليل. كان السيد عبدالرحيم زاده والسيد روحاني يعودان من السوق ومعهما اللحم والخضروات وغيرها، وعند الظهيرة يعدّ السيد عبدالرحيم زاده الطعام بيده اللطيفة الكريمة. أما السيد سبحاني فقد كان يرجع في الساعة الثالثة والنصف عصرًا من عمله في البناء، ثم يعدّ الأرز، وعند الساعة السابعة مساءًا يكون الكل قد حضر. السيد جابري يقوم بفرش السفرة وجناب روحاني يضع لوازم السفرة من قبيل الصحون والسكاكين وغيرها، ثم يقوم جناب عبدالرحيم زاده بتوزيع الأكل. بعد تناول العشاء يقوم جناب جابري بصب الشاي. كان عالمًا لا يعرفه سوى العشّاق، لم يكن الحديث أبدًا عن ما حصل ويحصل، ولم يكن الحديث إطلاقًا عن الأمور المادّية. كان الكل يعمل، والكل ينفق معًا مع بعض والكل في فرح وسرور… الحمد لله، فإن الأحباء الأعزاء جميعهم أفضل وأطيب وأخلص وأكثر إيمانًا من بعضهم البعض. حضرة عبدالرحيم زاده كان مظهرًا للفداء والروحانية والخلوص والصراحة، لا يفكر قيد إنملة خلافًا للمصالح الأمرية ودومًا يهدي الناس إلى طريق الهداية… الكل على قلب واحد ولسان واحد، لا يعرفون بعضهم ونسوا أنفسهم. الكل كشخص واحد ونفس واحدة، في الأكل والنوم والترفيه كهيكل واحد، وأحيانا يتمازحون بلطف… كل واحد منهم يعمل وليس هناك أي حديث عن المال أو غيره، يصرفون مع بعض والكل سعيد ومسرور شاكرين النِّعَم الإلهية. الخلاصة، ماذا أقول إنّ الحق جلّ وعلا وبعد سنوات من فراق الأحباء الأعزاء تعرّفت على هؤلاء الوجودات المقدسة الذين كل واحد منهم أفضل من الآخر، وفي الحقيقة إذا كان لدي استعداد وقابلية لأخذت من كل واحد منهم درس المحبّة والعشق والعرفان…[[8].
[2] من كتاب “به ياد دوست” ص ٣
[3] خوشه هائى از خرمن ادب وهنر – مجلد ١٠ ص ٧
[4] منتخباتي – فقرة ١٥٧ – ص ٢١٥
[5] منوچهر هو شقيق ﮔلوريا، وسهيل ابن عمها الذي اصبح فيما بعد ضمن هيئة المشاورين
[6] المقصود الشيخ أحمد الأحسائي
[7] من كتاب “به ياد دوست” ص ٣٢ – ٣٥
[8] من كتاب “به ياد دوست” ص ٤٦ – ٤٧
بعد سنة من تشكيل المحفل الروحاني المحلي في المنامة تقرّر تقسيم الجالية إلى عدّة مجموعات لدراسة كتب معيّنة. تم تسمية كل مجموعة باسم الكتاب تحت الدراسة، مثلًا مجموعة: كتاب الإيقان، ألواح الملوك والسلاطين، كتاب المفاوضات، الكلمات المكنونة. كانت العادة أن تعقد الجلسة مرّة في الأسبوع، ومن ثم وفي الضيافة التسع عشرية يقوم شخص واحد من كل مجموعة بشرح ما درسه خلال المدة الماضية، وبهذه الطريقة ارتفع مستوى الثقافة بين الأحباء. صيف عام ١٩٥١م كان من أشد أشهر الصيف حرارة ورطوبة في البحرين، فهناك من ترك البلاد وهناك من ظل صامدًا ومتحمّلًا الحرارة مثل الأحباء. فقد جاءت موجة حرّ شديدة بالإضافة إلى الرّطوبة العالية التي وصلت إلى ٩٩% وأحيانًا غبار كثيف محمّلًا برمال صحراوية، فكان الوضع لا يطاق في بلد هو في الأصل بسيط ووسائل الراحة فيها بسيطة. من آثار هذا الجو أن أصيب الناس بمرض الحَصَف[1] والدمّل، كما تم تعطيل الجلسات الأمرية ما عدا جلسات المحفل الروحاني والضيافة التسع عشرية. كان الأمّهات يشاهدن يوميًا وهن ذاهبات إلى المستشفى الوحيد في البحرين حاملات أطفالهنّ معهنّ وواضعات البرقع على وجوههنّ، وكان هناك نقص شديد في الأدوية فيرجعنّ إلى بيوتهن وهنَّ في حالة إنهاك من الجو السيئ والوضع السائد. العديد من العائلات فقدت طفلًا أو بالغًا ولكن أعضاء الجامعة البهائية لم يَصبهم أي مكروه ولكن معاناتهم كانت شديدة مثل الآخرين.
أما ﮔلوريا وعلى الرغم من ضعفها وحرارة الجو ورطوبته كانت تساعد الناس فتأخذ من يحتاج المساعدة إلى المستشفى وتعتني به. في إحدى المرّات وبينما كانت برفقة إحدى السيدات أخذت معها ابنها نيسان الذي ظهر تحت ذراعيه بعض الدمامل إلى المستشفى. أمّا جناب فيضي فكان في المنزل ولكنه شعر فجأة بإضطراب وهيجان وأن عليه أن يغادر المنزل ولهذا قام فورًا بارتداء ملابسه والتوجّه إلى المستشفى على عجل، وفي الطريق شاهد ﮔلوريا راجعة إلى البيت والدموع تنهمر من عينيها وابنها نيسان بين ذراعيها ملفوفًا بضمادات وهو يكاد يفارق الحياة. من صفات فيضي النادرة إنه كان قوي الحسّ يشعر بمرض الآخرين واحتياجاتهم أو حتى بمن يأتي ويصل للدرجات المؤدية للباب. مثلًا أحيانًا كان يقول لابنته مي أو ابنه نيسان عليكم الذهاب إلى الباب والاستعداد لفتحه لأن السيد فلان أو العم فلان سيأتي. تقول ابنته مي في كتابها: “إنه سحر بحت بالنسبة لي وجواب لأسئلتي المتكررة: كيف عرفت ذلك يا والدي؟ إنك لم تكن واقفًا في الشرفة كي ترى من القادم، ولكنه كان يبتسم. إنه كان يعتقد جازمًا بأن الأرواح التي تحب بعضها بعضًا حبًّا جمًّا بمقدورها أن تكون في تواصل روحي”[2].
عندما كانت ﮔلوريا في إيران في الصيف الماضي، قيل لها بأن الحل الوحيد لإعادة صحّتها وشفائها أن تعيش في إيران، ولكن ذلك لم يكن مقبولًا عندها. وفي هذا الصيف الحار جدًا اقترح عليها جناب فيضي أن تسافر لبعض الوقت إلى لبنان للراحة والاستجمام، ولكنها كانت ترفض السفر من دونه. اقترح أحد الاصدقاء أن تشرب صباح كل يوم شاي “لسان الثور” وهو شراب مكوّن من عشب أوروبي أزرق الزهر لعلاج آلام البطن، فما كان من جناب فيضي إلا أن يقوم في الصباح الباكر من كل يوم بإعداد هذا الشاي وتقديمه لزوجته، وقد ثبتت فعلًا فائدته في تخفيف آلام المعدة ولكن بعد مدة انتهى هذا النوع من الشراب من السوق فعادت آلام معدتها. إنّ حرارة ورطوبة تلك السنة ١٩٥١م كان شديدًا لدرجة أنّ فيضي ذكر إنّه لم يكن باستطاعته الكتابة لأن عرق جسمه كان ينزل على أوراقه ويتلف كل ما يكتبه. خلال هذا الصيف فقد الكثير من قوّته لدرجة إنه عندما كان يعود من دروسه للمنزل في نهاية اليوم من منطقة عوالي يشعر إنه لا يستطيع عمل أي شيء آخر، سوى الراحة ولكنه كان عاشقًا للمطالعة ولا يستطيع الكف عن القراءة مهما كان مرهقًا. كان هناك مقال جيّد ضمن العديد من المقالات في المجلات والدوريات التي كانت تصل إليه تقول بأن الإنسان لا يتعب من العمل وإنّما يتعب فقط من القلق الذي ينتابه أحيانًا. وعندما قرأ فيضي ذلك شعر بأن السبب وراء إجهاده وتعبه هو قلقه المستمر على أصدقائه وأولادهم وشعوره بعدم إمكانية تقديم المساعدة لهم.
وأيضًا من مظاهر حياة الجالية البهائية البارزة في البحرين هو اجتماع الأحباء صبيحة كل يوم جمعة في قطعة أرض في ضواحي البلدة تملكها الجالية المحلية وأسموها “الحديقة” وبها أشجار نخيل وبئر ماء وبعض أنواع المزروعات والخضروات وكانت هناك مضخة ماء لسحب الماء من البئر للري. كانت تلك النزهات ترفيهية وتثقيفية في الوقت نفسه وخاصة للشباب والأطفال الذين كان يعدّ لهم برنامج متنوع تحت إشراف جناب فيضي، كما إنّ الكل كان يشارك في الفقرات الترفيهية والرياضية، وفي المساء يعود الجميع إلى بيوتهم بعد أن يكونوا قد قضوا يومًا سعيدًا مع بعضهم البعض. كان الاتحاد والمحبّة والمودّة سائدة بين الأحباء بشكل عجيب لدرجة أنّ لقمة العيش كانت تقسّم بين الجميع حين الحاجة، والكل يسأل عن صحّة الآخر، وأي ألم للفرد هو ألم للكل، كما كان الأحباء يجتمعون أحيانًا فوق سطح أحد المنازل يتآنسون بذكرالله ويتلون الدعاء والمناجاة ويحكون الروايات الأمرية بكل محبّة ووداد حتى منتصف الليل جالسين على قطعة من الحصير[3] بينهم فانوس يضئ المكان، ثم يتناولون عشاءًا بسيطًا عبارة عن خبز وجبن وفجل وأحيانًا بيض أو بطاطا مسلوقة وموضوعة في صحن واحد كبير يكون قد أحضره الأحباء كلّ حسب إمكانياته.
بعد عدّة سنوات قضاها فيضي في إعطاء الدروس الخصوصية صباحًا ومساءً، جاءه عرض من شركة النفط في البحرين بتعليم وتدريس اللغة العربية للموظفين والعاملين في الشركة من الأوروبيين والأمريكان. عجيب أن يُطلب من شخص إيراني أن يعلّم العربية للأجانب في دولة عربية، وكانت أوقات عمله من العصر حتى المساء فقط ولمدة ثلاثة أيام بالأسبوع في منطقة العوالي مع راتب مجزٍ، وكانت سيارة الشركة تأتي لمنزله وتأخذه وترجعه مساءً؛ وبالتالي تحسّن دخله وتوفّر له بعض الوقت الإضافي كي يمارس هوايته في المطالعة والتأليف والترجمة والمراسلة.
وعلى الرغم من تحسّن دخله فإن حياة العائلة لم تتغير كثيرًا، فجناب فيضي كان يفكر دومًا في مساعدة الفقراء والمحتاجين ويفضّل ذلك على أية زخارف دنيوية وكان حقًا مصداقًا لبيان القلم الأعلى: “طوبى لمن اختار أخاه على نفسه إنه من أهل البهاء في السفينة الحمراء من لدى الله العليم الحكيم“[4]. وكمثال على خصاله الحميدة إنه كان يرفض شراء ثلاجة لمنزله رغم حرّ البحرين الشديد؛ لأنه كان يعلم أن غالبية أصدقائه لم تكن لديهم القدرة على ذلك. كان يشتري قطعًا كبيرة من الثلج وعندما يأتي أحد الأصدقاء لمنزله كان يقدّم له كوبًا من الماء وقطعة ثلج صغيرة فيه حتى يروي ظمأه. وإذا مرض شخص كان يسرع في زيارته وعلاجه على نفقته إن لم يكن قادرًا على ذلك، دون أن يعلم أحد ودون أن يُطلع زوجته أحيانًا. هناك قصص عن مساعداته للآخرين ظهرت بعد وفاته والقصة التالية رواها شاب كان صغيرًا عندما غادر فيضي البحرين:
]كنت في الخامسة عشرة من العمر عندما دقّ باب بيتنا أحد الأشخاص. فتحتُ الباب فشاهدتُ امرأة عجوزة حاملة لحفيدها. كانت إحدى صديقات والدتي فدعوتها للدخول إلى غرفة المعيشة إذ كانت والدتي منشغلة في المطبخ. كانت هناك صورة في الصالة للسيد فيضي التقطت عندما كان يتحدّث في مؤتمر بالهند. وعندما رأت المرأة العجوز هذه الصورة دبَّ فيها الحماس، وسألت: “أهذا فيضي؟” فقلت لها نعم. أخذت الصورة فورًا وقبّلتها وأعطتها إلى حفيدها وطلبت منه أن يقبّلها. أخذتُ أفكر لماذا أظهرتْ هذه المرأة كل هذا الاحترام للسيد فيضي؟ كنت أعتقد أن فيضي محترم وعزيز عند الأحباء فقط ولكن عندما سألتها عرفتُ السبب. فقبل عدة سنوات عندما توفي زوج هذه المرأة وترك لها عدة أطفال لتربيتهم، حاولتْ أن تكسب المال عن طريق بيع الفول السوداني والعلكة وما شابه ذلك، ولكن هذا العمل لم يكن يوفر الدخل الكافي لها. إنّ فيضي هو الذي ساعدها وكان يعطيها راتبًا شهريًا، وقالت: إنّه السيد فيضي الذي ربّى أبنائي وكان كالوالد لهم[[5].
الشيء الإضافي الوحيد الذي اشتراه فيضي هو سيارة سوداء وذلك لكي يسهّل أموره في الانتقال ويساعد الآخرين في تنقلاتهم، ولكنه لم يقم بقيادة السيارة بنفسه وإنّما ﮔلوريا هي التي كانت تقودها وهي ضمن أوائل النساء في البحرين اللواتي تعلّمن سياقة السيارات، فكانت توصل فيضي إلى محل تدريسه في شركة النفط وترجّعه بعد انتهاء عمله. ومع ازدياد شهرة جناب فيضي في إلقاء الكلمات والخطب وإدارة صفوف التعمّق، تمّ دعوته عام ١٩٥٢م للتدريس في إحدى المدارس الصيفية البهائية في ﭘاكستان وفي هذه المدرسة تعرّف على أصدقاء جدد وبدأ يراسلهم كعادته بعد ذلك.
إنّ زيارة أي فرد من خارج البحرين للأحباء كانت مصدر فرح وبهجة لهم. في عام ١٩٥٣م جاء شخص لمنزل فيضي وطرق الباب ففتح له، فكان شخصًا أسمر طويل القامة مهذبًا وسيمًا وبشوشًا، فأخذ فيضي بالأحضان وقام بتقبيله تسع مرّات على كلا الخدّين. لم يكن فيضي يعرف هذا الشخص ولكنه رحّب به وطلب منه الدخول والجلوس. قال إنّ إسمه بشير وهو من أحباء السودان ومن مدينة الخرطوم وكان يعمل في وزارة الزراعة بالسعودية ويبحث عن الأحباء ولكن دون جدوى، حتى جاءه أحد الشباب وأعطاه عنوان جناب فيضي. في عصر ذلك اليوم حضر جميع الأحباء من صغير وكبير ورجل وإمرأة للقاء هذا الضيف العزيز، حيث دار نقاش وحوار ودّي جميل ثم تلا بشير مناجاة. في اليوم التالي أخذ أحد الأحباء بشير إلى المطار للمغادرة ومعه جناب فيضي فقام باحتضانه وتقبيله مودّعًا أمام الناظرين الذين استغربوا من تصرف هذا الرجل الأبيض تجاه العرق الأسود. وأثناء الوداع أخذ بشير قلمًا أخضرًا من جيبه وأعطاه لفيضي قائلا: “إني أحبُّ هذا القلم كثيرًا ولهذا أعطيك إياه”.
هناك زائر بهائي مميّز آخر كان يأتي للبحرين بين الحين والآخر وهو الإنجليزي برايان جيدينكزBrian Giddings وكان يعمل قبطانًا لسفينة. ففي أول مرة جاء فيها ذهب لمنزل فيضي وعرّف نفسه فأخذه بالأحضان وكان سروره بالغًا، وما لبث أن تعرّف على باقي الأحباء وتمّ ترتيب لقاء خاص معه ومع أفراد الجامعة. وكلما كانت ترسو سفينته في ميناء المنامة كان يأتي لزيارة الأحباء، ومع كل زيارة كانت أواصر الألفة والمحبّة تتوطد بينه وبينهم.
[1] طفح جلدي مصحوب بوخز وحكة
[2] Faizi ص ١٩٥
[3] البساط الصغير المصنوع من أوراق البردي
[4] مجموعة من الواح حضرة بهاءالله نزلت بعد الكتاب الاقدس – ص ٩٨
[5] من كتاب Faizi ص ٢٠١
عندما طرح حضرة ولي أمرالله خطة العشر سنوات عام ١٩٥٣م، أعلن عن عقد أربع مؤتمرات تبليغية قارية خلال تلك السنة واعتبرها مقدمة لتلك الخطة العالمية. هذه المؤتمرات الأربعة عقدت في كل من كمبالا عاصمة أوغندا وفي شيكاغو بالولايات المتحدة الامريكية وفي استوكهلم عاصمة السويد وأخيرًا في نيودلهي عاصمة الهند. قرّر جناب فيضي وزوجته المشاركة في مؤتمر نيودلهي نظرًا لأنها ضمن قارة آسيا وقريبة من البحرين نسبيًا كما انضمّ إليهما شخص آخر من البحرين. وعندما ركب جناب فيضي وزوجته وابنه وابنته والشخص الآخر السفينة المغادرة إلى الهند، اتّضح أنّ على متنها اثنين وعشرين بهائيًا آخرين ذاهبون جميعًا إلى المؤتمر وهم من مناطق وأقطار مختلفة من الشرق الأوسط. من ضمن ركّاب الدرجة الأولى بالسفينة، كان هناك شخصان عربيان في غاية الثراء ومن أصحاب الملايين وكان الأحباء يتبادلون التحية معهم يوميًا. في إحدى المرّات سأل أحدهم إحدى السيدات البهائيات عن سبب سفرها للهند، فقالت أنها ذاهبة للمؤتمر البهائي في الهند، فسألها عن الفرق بين البهائية والإسلام، ولكن نظرًا لأن لغتها العربية والإنجليزية كانت ضعيفة فقالت له أن أحد أصدقائنا في السفينة يعرف العربية أفضل مني ولربما يكون من الأفضل التحدّث معه. قامت هذه السيدة بتعريف السيد فيضي على هذا الشخص العربي الذي قام بتعريف صديقه العربي الآخر وأخذا يتبادلان الحديث وقام جناب فيضي بالرّد على استفساراتهم، ولكن هذين الشخصين لم يسمحا للسيد فيضي بالحديث وكانا يرددان آيات قرانية مما جعل فيضي يصمت بعض الشيء ويستمع إليهما. أما تلك السيدة البهائية فقد انفعلت وهمست لجناب فيضي بأن الرجلين يستغلان صمته وسكوته، ولكنه قال لها: يجب أن نسمح للآخرين بالتحدّث حتى يفرغوا كل ما لديهم ومن ثم نتحدّث. وهذا ما حدث تمامًا حيث إنهم بعد أن أنهوا كلامهم، أخذوا يستمعون إلى فيضي بكل اهتمام.
استغرقت الرحلة من البحرين إلى بومباي بالهند عشرة أيام وكان الأحباء طوال هذه الفترة في السفينة على تواصل مستمر، يعقدون مشارق الأذكار في الصباح ويجتمعون للاستفادة من ذوي العلم والمعرفة منهم وهم في غاية الفرح والسرور. وأثناء المؤتمر الذي انعقد من ٧ حتى ١٥ أكتوبر/تشرين الأول ١٩٥٣م، كان جناب فيضي المترجم الرئيسي من اللغة الإنجليزية إلى الفارسية وبالعكس، وفي المساء خصّص الوقت لغيرالبهائيين لطرح أسئلتهم واستفساراتهم، وكان فيضي متواجدًا هناك أيضًا للإجابة عن هذه الأسئلة حتى وقت متأخر من الليل. شارك في المؤتمر عشرة أيادي أمرالله وهم حضرات: شعاع الله علائي – دوروتي بيكر – موسى بناني – علي أكبر فروتن – يوغو جايكيري – هوراس هولي – ذكرالله خادم – طراز الله سمندري – ولي الله ورقا وشارلز ميسون ريمي. كان شغوفًا ومتحمّسًا لدرجة إنه أرهق من العمل خلال أيام المؤتمر، لدرجة أنه عندما طلب منه أن يقرأ مناجاة أغمي عليه من شدة التعب والإرهاق. والجدير بالذكر إن هذا المؤتمر هو أول مؤتمر قاري يشارك فيه جناب فيضي وأسرته، وكما تفضّل حضرة ولي أمرالله، فإن هذه المؤتمرات الأربعة هى الأولى من نوعها في تاريخ الأمر المبارك. من المفارقات العجيبة في هذا المؤتمر أن المحفل الروحاني المركزي في الهند كان قد رتّب لمجموعتين يمثلون أولئك الذين حضروا المؤتمر للقاء رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء جواهر لال نهرو. كان اسم جناب فيضي وزوجته موجودين ضمن المجموعة التي ستزور رئيس الجمهورية، ولم يكن أحد يعلم إن جناب فيضي يفضّل زيارة رئيس الوزراء نهرو. ولأسباب لا يعلمها أحد، اتّضح فيما بعد إنّ اسميهما قد أدرجا في كلتا المجموعتين، وبالتالي تحققت رغبة فيضي وﮔلوريا في لقاء نهرو الذي أهدى جناب فيضي كتابين من كتبه موقّعين من قبله.
تحدّثت السيدة ﮔلوريا فيضي في المؤتمر وقالت: “إن المهاجرين للمنطقة العربية فقراء وفقراء جدًا. الناس ينتمون للمذهب السنّي من الإسلام وكانت النصح مراعاة الحكمة عند التكلم عن الأمر حتى يبقوا في منطقة الهجرة ويستمروا في الخدمة. بعد أن طلب حضرة ولي أمرالله من الأحباء الإيرانيين الهجرة إلى المنطقة العربية كان الكثيرون يرغبون بالهجرة ولكن عائلتين فقط من بين أربعين عائلة استطاعت الوصول إلى هناك. نحن في البحرين نستطيع رؤية جميع المهاجرين الذين هم في طريقهم إلى المنطقة العربية. نرى شبابًا أنهوا دراساتهم في المعاهد وحصلوا على الشهادات ولكنهم تركوا ذلك جانبًا ومارسوا أعمالًا مثل النجارة والخياطة وحلاقة الشعر. بعد الانتهاء من دراساتهم يأخذون دورة قصيرة عن بعض الأعمال اليدوية حتى يستطيعون تأمين معيشتهم… تعيش العائلة الكبيرة في غرفة واحدة فقط في الشتاء وخلال أشهر الصيف الحارة والرطبة تعيش فوق سطح المنزل وهو عادة ما يكون مغطّى من جذوع وسعف النخل. المنزل ليس به ماء أو كهرباء، والطعام عبارة عن خبز وأرز وتمر وشاي، وفي الشتاء هناك بعض الخضروات. ولكن لا تعتقدوا أنهم أقل سرورًا وفرحًا عن باقي الناس في مناطق أخرى من العالم…”[1].
بعد انتهاء المؤتمر وحسب تعليمات حضرة شوقي أفندي، قام حضرات الأيادي بالسفر إلى عدة دول للقاء الأحباء وغيرهم. تم تعيين قارة أستراليا ومنطقة أوقيانوسيا لسفر أيادي أمرالله جناب علي أكبر فروتن[2] ونظرًا لضعفه باللغة الإنجليزية فقد استأذن من حضرة ولي أمرالله أن يطلب من جناب فيضي مرافقته للترجمة، فأذنَ له بذلك. رجعت ﮔلوريا ومي ونيسان إلى البحرين بينما استقلّ جناب فروتن وفيضي ومعهما ثمانية من أحباء أستراليا سفينة أبحرت بهم يوم ٢٥ أكتوبر/تشرين الأول ١٩٥٣م إلى أستراليا. استغرقت الرحلة أحد عشر يومًا كان الأحباء خلالها يعقدون جلسات دعاء وأحيانًا جلسات تبليغية (فاير سايد)، وفي إحداها بلغ عدد المشاركين حوالي خمسين شخصًا من ركّاب السفينة. وصلت السفينة ميناء فريمانتلFremantle يوم ٥ نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٥٣م وهو ميناء يقع بالقرب من مدينة ﭘرثPerth في غرب أستراليا.
خلال هذه الرحلة الطويلة، زار جناب فروتن وفي معيّته جناب فيضي اثنين وأربعين مدينة وقرية تواجد فيها الأحباء في كل من أستراليا ونيوزيلندا، وكانا مصدر فرح وبهجة للجميع. يصف أحد الأستراليين من غير البهائيين الذي التقى بجناب فيضي بأن: “لديه تواضعًا فائقًا وخلوًّا كاملًا من حب الذات، وإلى جانب ذلك كان مظهره يدل على النّبل والشرف يمشي كالأمير، وعندما يسير في السوق كان الناس يفسحون له الطريق وكأنهم يؤدون فروض الاحترام لشخصية مَلكية.” كانت هذه الرحلة بالنسبة إليه رحلة انتعاشة روحية، فبعد كل هذه السنين في البحرين كان فعلًا بحاجة إلى تغيير يعبرّ فيه عمّا يختلج في قلبه من آمال كبيرة في مجال خدمة أمرالله. كان سعيدًا وهو يرى بأمّ عينيه سطوع شمس حضرة بهاءالله في أبعد بقاع العالم. شارك حضرات فروتن وفيضي في المدرسة الصيفية التي عقدت في قرية يرنبول Yerrinbool وهي قرية تقع في مقاطعة نيو ساوث ويلز في جنوب شرق أستراليا وذلك خلال الفترة من نهاية ديسمبر/كانون الأول ١٩٥٣م حتى أوائل يناير/كانون الثاني ١٩٥٤م وكانا محل ترحيب واستقبال حار من طرف المشاركين وعلى الأخص أنهم يرون أحد أيادي أمرالله (جناب فروتن) لأول مرة في منطقتهم. وبعد ذلك زارا جزيرة نيوزيلند، وفي مدينة دانيدنDunedin التي تقع في الجنوب من الجزيرة التقيا بأول عائلة بهائية مهاجرة هناك. كان من عادة جناب فيضي أن يعانق الأحباء ولكن رجل العائلة لم يرتح من ذلك لأنه غير معتاد على ذلك، كما إنها ليست من عادات أهل الجزيرة وقد شعر فيضي بذلك. وشاءت الأقدار أن يلتقي جناب فيضي بهذا الرجل بعد خمسة وعشرين سنة في سدني، وعندما اقترب من فيضي ليعانقه تردّد فيضي في الاستجابة نظرًا لموقفه قبل خمسة وعشرين سنة، ولكنهما تعانقا في النهاية. وقد استغرب هذا الشخص من ذاكرة فيضي القوية كيف إنه وبعد مضي كل هذه السنوات لم ينس ردة فعله.
[1] Baha’i World ١٩٥٠ – ١٩٥٤، ص ١٨٤ – ١٨٦
[2] عيّن أيادي أمرالله بتاريخ ٢٤ ديسمبر ١٩٥١م
وعلى الرغم من عدم معرفة التاريخ الدّقيق لرجوع جناب فيضي إلى البحرين ولكن يبدو أنه كان في فبراير/شباط ١٩٥٤م؛ لأنه خلال شهر يناير/كانون الثاني من نفس السنة زار حضرة أيادي أمرالله جناب سمندري وأيضًا أيادي أمرالله جناب موسى بناني وزوجته البحرين ولم يكن فيضي حينها متواجدًا هناك. أقام جناب بناني وزوجته لدى السيدة ﮔلوريا، وأقام جناب سمندري لدى زوجين شابين. إنّ زيارة هذين الشخصين الممّيزين من حضرات الأيادي كانت مغنمًا كبيرًا لعموم أحباء البحرين ومصدرًا لفرحهم وبهجتهم، حيث كانوا يتمنّون زيارة هذه النفوس النفيسة والنجوم البازغة. خلال شهر يناير/كانون الثاني من نفس العام سقطت الطائرة المقلّة لأيادي أمرالله دوروتي بيكر في البحر الأبيض المتوسط وهي في طريقها من روما إلى لندن، بعد أن توقفت في البحرين لتصعد شقيقتان من عائلة يهودية وكذلك شابة من عائلة بحرينية معروفة. كانت معاناة هاتين العائلتين شديدة في البحرين بحيث شعر بها في الواقع كل الأهالي الذين لم يتجاوز عددهم آنذاك بضعة آلاف، وبالطبع كانت وفاة أيادي أمرالله السيدة دوروتي بيكر فقدانًا كبيرًا وخسارة فادحة للعالم البهائي بأسره.
بعد رجوع فيضي إلى البحرين، بدأ بمراسلة الأشخاص الذين تعرّف عليهم أثناء رحلته سواء في الهند أم في أستراليا ونيوزيلندا، وعادة المراسلة هذه كان مُغرمًا بها إلى آخر أيام حياته، وهي صفة تدّل على الوفاء والإخلاص، وغالبًا ما كان يرد على جميع الرسائل التي تصله مهما كانت شخصية المرسل، وهناك مئات الأشخاص إلى يومنا هذا يحتفظون برسائله الروحانية الجميلة المؤثرة والمهيّجة للمشاعر والأحاسيس. ورغم مشاغله المتعدّدة التي بدأت تزداد يومًا بعد يوم، فإنه لم يترك عادة مطالعة الكتب المختلفة. إنّ مطالعاته وقراءته للكتب لم تكن منحصرة بالكتب الأمرية فقط، بل كان يحب قراءة مؤلفات بعض الكتّاب الأوروبيين والأمريكان أمثال: شكسبير Shakespeare، ألكسندر دوماسAlexandre Dumas ، هنري O. Henry، جون شتينبك John Steinbeck، ارنولد توينبي Arnold Toynbee وول دورانت Will Durant. في صيف عام ١٩٥٤م، قضى معظم وقته في قراءة أعمال العالم النفسي الإجتماعي الألماني ستيفان سويجStefan Szweig ومن عاداته أيضًا إنّه كان يقصّ الصور الجميلة والمؤثرة من الصحف والمجلات ويضعها في ألبوم ويشارك مشاهدتها مع أسرته والأحباء وغيرهم.
ومع ازدياد شهرته كانت الجاليات البهائية في منطقة الخليج، حديثة التأسيس، وفي مناطق أخرى من قارة آسيا تدعوه لزيارتها وللقاء الأحباء والمشاركة في إعطاء دروس أمرية في المدارس الصيفية، ولكن صحّة ﮔلوريا كانت في هبوط مستمر. ونظرًا لعدم توفّر العلاج الكافي آنذاك في البحرين؛ قرّر جناب فيضي إرسالها إلى أوروبا عام ١٩٥٥م للعلاج، ولهذا تركت مي ونيسان عند والدهما وغابت عنهم مدة تسعة أشهر. خلال هذه الفترة كان على جناب فيضي أن يعتني بالأولاد بالإضافة إلى المنزل ومسئولياته الأمرية وأيضًا عمله في التدريس، ولكن استطاع إنجاز كل ذلك بفضل التأييدات الغيبية الإلهية التي تشمل المؤمنين والمهاجرين دومًا. وبعد أن عادت ﮔلوريا إلى البحرين وسأل فيضي عن صحتها، قالت أن الأطباء في أوروبا قالوا لها إنها طالما عاشت في البحرين فإن صحّتها لن تتحسن، وعليها أن تغادر إلى مكان آخر أنسب جوًّا، ولكن لم يفكر جناب فيضي وزوجته يومًا ما في ترك مكان هجرتهم.
وتجدر الإشارة إلى أنه في شهر أبريل/نيسان من عام ١٩٥٥م وكان شهر رمضان المبارك عند المسلمين، قام أحد رجال الدين المتعصّبين في إيران واسمه آية الله فلسفي بالهجوم على الأحباء والأمر المبارك بشدة من خلال الراديو والمنابر، وكان يتحدّث يوميًا عند الظهيرة ويهاجم البهائية بألفاظ شديدة ممّا أدى إلى تحريك عامة الناس في إيران الذين قاموا بدورهم بالهجوم على الأحباء ومنازلهم ومحلاتهم وتدميرها وأثاروا فوضى عارمة. كان فيضي يستمع يوميًا إلى رجل الدين هذا، وفي أحد الأيام جاء جاره لمنزله وشاهد فيضي يستمع إلى فلسفي فقال له: “لماذا تستمع إلى هذا الرجل المتعصّب؟ إنني أقفل الراديو كلما يتحدّث هذا الرجل”. هكذا كان مستوى صداقة وإخلاص تلك العائلة لجناب فيضي، وجاء ذلك نتيجة السمعة الطيّبة والأخلاق الحسنة التي عُرف عنه طيلة تلك السنوات.
في ديسمبر/كانون الأول من عام ١٩٥٥م طلب حضرات أيادي أمرالله في إيران من جناب فيضي أن يقوم بزيارة الأحباء في المناطق المحيطة بالبحرين، فقام بزيارة كل من دبي ومسقط والكويت وقطر والعراق في زيارة استغرقت عدة أشهر، حيث شارك في المدارس الصيفية والدروس التعمّقية وكانت إنعاشًا روحانيًا جيدًا لعموم الأحباء. في عام ١٩٥٦م كانت حرارة الصيف شديدة جدًا لدرجة أن فيضي طلب من زوجته أن تسافر ومعها أولادها إلى تركيا وتمكث بعض الوقت هناك عند عمّها السيد نوري علائي، وقد تم ذلك ومكثوا هناك مدة خمسة أشهر. خلال هذه الفترة كانت هناك بعض الاضطرابات السياسية في البحرين وفرض منع التجوّل وأقفلت المحلات والمكاتب لبعض الوقت وأصبحت الأوضاع غير مستقرة ولكن كل ذلك لم يؤثر على ثبوت واستقامة الأحباء الأعزاء المهاجرين الذين كانوا بالطبع بعيدين عن هذه الأمور بل انشغلوا بتلاوة الأدعية والمناجاة. كانت فرصة جيدة لجناب فيضي أن يقضي بعض الوقت في منزله وحيدًا يكتب إلى هنا وهناك ويؤلف ما يجول بخاطره وقد أصيب خلالها بوعكة صحيّة، وكان لقاء الأحبّاء له خير مرهم وعلاج. كما كانت رسائل حضرات أيادي أمرالله أيضًا تصل إلى أحباء البحرين بين الحين والآخر وكلّها تشجيع على الثبات والاستقامة.
عندما طرح المحفل الروحاني المركزي في إيران خطّة الخمسة والأربعين شهرًا عام ١٩٤٦م، هاجرت ثلّة منقطعة من وطنها إيران وقصَدت مناطق وإمارات الخليج واستقرّت فيها بعد معاناة وصعوبة شديدة بهدف خدمة سكان هذه المناطق، وهي مناطق صحراوية في الأصل وذات جوّ حار ورطب ومغبر لا يطاق. في ظل هذه الظروف استقرّ الأحبّاء وسكنوا في هذه المناطق وتحمّلوا الكثير من شظف العيش، متوكّلين على فضل مولاهم ومحبوبهم واضعين نُصب أعينهم خدمة أمره العزيز والبشرية بكل عشق وانقطاع. ومع مرور الوقت ازداد عدد المهاجرين وتم تشكيل محافل روحانية محلية في كل من: الكويت ودبي ومسقط وقطر والبحرين. وعندما طرح حضرة ولي أمرالله خطة العشر سنوات أعلن عن ثمانية وعشرين هدفًا يجب أن يتحقق خلال تلك الفترة، ومن هذه الأهداف كان تأسيس محفل روحاني مركزي في شبه الجزيرة العربية ويكون مقرّه في البحرين. في عام ١٩٥٧م قررّ حضرة ولي أمرالله تشكيل هذا المحفل في رضوان ذلك العام، وطلب من المحفل المركزي في إيران أن يتبنّى تنفيذ ذلك، كما عيّن أيادي أمرالله جناب طراز الله سمندري مندوبًا عن حضرته في هذا المؤتمر، وعيّن المحفل المركزي في إيران عضو المحفل السيد هدايت الله سهراب ليكون مندوبًا عن ذلك المحفل في المؤتمر. إنّه يوم طال انتظاره في تاريخ الأمر المبارك وفي تاريخ أحباء الخليج وفي حياة جناب فيضي تحديدًا.
كان عدد الوكلاء للمؤتمر تسعة عشر وكيلًا حضر ستة عشر منهم والباقي أرسلوا أصواتهم بالبريد. فمن الكويت جاء حضرات السادة: منوجهر سلمانبور وبلبل معاني وخسرو خسروي، ومن قطر السادة: راستان وعلوي ومسيح الله روحاني، ومن مسقط الدكتور نصرالله أفنان، ومن دبي السيد منوجهر آﮔاهي، ومن البحرين كل من جناب أبو القاسم فيضي والسيد أحمد محسني وحشمت الله ثابت. أما الغائبون الثلاثة فكانوا من الكويت كل من: فيروز صميمي ومحسن آموزﮔار وضياء عدل ﭘرور.[1] كان حضرة ولي أمرالله سبق أن أعدّ رسالة للمؤتمر وأرسلها إلى طهران لكي تسلّم الى جناب سمندري مع أربع زجاجات من عطر الورد لتوزيعها على المشاركين. بتاريخ ٢٧ أبريل/نيسان ١٩٥٧م وصل جناب سمندري إلى البحرين وأقام في منزل جناب فيضي، وتجدر الإشارة بأنه سبق أن التقى به في مدينة قزوين عام ١٩٤١م، عندما رجع سمندري من زيارته لحضرة ولي أمرالله وكان جناب فيضي آنذاك يخدم في قزوين كمدرّس لدروس الأطفال والشباب، وهي المرحلة التي سبقت هجرته للعراق ومنها للبحرين.
أمّا مؤتمر الوكلاء المركزي فقد عقد يوم ٣٠ أبريل/نيسان ١٩٥٧م في أرض مشجرة، كان الأحباء يجتمعون فيها عادة وذلك في تمام الساعة الرابعة عصرًا بحضور سبعة وعشرين شخصًا وقد استهلّ المؤتمر بتلاوة بعض الأدعية والمناجاة، ثم ألقى السيد سهراب كلمة قصيرة وبعدها انتخب المؤتمر جناب فيضي رئيسًا له والسيد منوچهر سلمانبور سكرتيرًا، ثم تحدّث جناب سمندري عن أهمية هذا المؤتمر في هذه المرحلة من تاريخ الأمر، ثم قرأت الترجمة الفارسية لرسالة حضرة ولي أمرالله إلى المؤتمر (أصل الرسالة بالإنجليزية) وبعدها قام جناب سمندري بتوضيح وشرح بعض عبارات الرسالة مما زاد من اشتعال وشغف الحاضرين الذين كانوا ينصتون إلى الرسالة باهتمام بالغ، شاكرين مولاهم العزيز على نِعَمِهِ وآلائه، مؤكدين العزم على خدمة أمره العزيز حتى النفس الأخير من حياتهم الفانية. قام بعد ذلك بتوزيع العطر المُهدى من حضرة شوقي أفندي على الحضور، ثم قام الشاعر السيد بلبل معاني بإلقاء قصيدة شعرية جميلة بهذه المناسبة المباركة نالت استحسان الحضور، وانغمس الكل في بحر من السعادة والسرور. وقد تصادف حدوث رعد وبرق شديدين في ذلك اليوم صاحبها هطول أمطار غزيرة وكأن الرحمة الإلهية كانت شديدة النزول على عموم المشاركين في هذا اليوم الميمون التاريخي في شبه الجزيرة.
انعقد اليوم الثاني من المؤتمر في نفس المكان في تمام الساعة التاسعة والنصف صباحًا وبحضور أربعة وأربعين شخصًا منهم ستة عشر وكيلًا في جو غائم وممطر قلّما يحدث في البحرين. تحدّث جناب سمندري بإسهاب عن المهام الجسيمة الملقاة على عاتق المهاجرين وعلى الأخص ضرورة ثباتهم واستقامتهم وانقطاعهم عن شئون الدنيا في مناطق هجرتهم بل خدمتهم لشعوب الأقطار التي يقيمون فيها حتى يفوزوا بالرضاء الإلهي وتحيطهم التأييدات الغيبية. ثم قرأ الدكتور منوچهر سلمانبور مرّة أخرى رسالة حضرة وليّ أمرالله إلى المؤتمر وقام الأحباء بإبداء وجهات نظرهم وإعطاء مقترحاتهم، واستمر الحوار والنقاش في جو روحاني بهيج حتى الظهر. وفي العصر بدأ الجزء الثاني من البرنامج حيث قامت إماء الرحمن بتنظيم ذلك الجزء، وبعد قراءة بعض الأدعية والمناجاة والآثار المباركة، تحدّث جناب سمندري عن دور إماء الرحمن في هذا الظهور وقرأت أيضًا أجزاء من ألواح الوصايا لحضرة عبدالبهاء، ثم تحدّث جناب سهراب وجناب نصرالله أفنان واختتمت الجلسة في المساء.
في اليوم التالي الموافق الثاني من مايو/أيار ١٩٥٧م وهو اليوم الأخير من المؤتمر، فقد خُصّص لانتخاب أعضاء المحفل الروحاني المركزي الأول للمنطقة. بدأت الجلسة في الساعة التاسعة والنصف صباحًا بتلاوة بعض الأدعية والمناجاة ثم قرأت بعض الألواح والبيانات الخاصة بالإنتخابات، ثم أجريت الإنتخابات في جو روحاني جميل، وتمّ تعيين هيئة فرز الأصوات ثم أعلنت النتيجة وأصبح جناب فيضي ضمن أعضاء المحفل. بارك جناب سمندري وجناب سهراب عموم الأحباء بهذا التأسيس الأول من نوعه وتم ابلاغ حضرة ولي أمرالله ومناطق الخليج، وغرق عموم الأحباء في بحر من الفرح والسرور. الجدير بالذكر بأن السيد موسى بناني وحرمه كانا في الأرض الأقدس قبل أيام من تأسيس المحفل المركزي لشبه الجزيرة، وعندما إلتقيا بحضرة ولي أمر الله قال لهما: “إن جناب فيضي هو العمود الثابت لهذا المحفل”.
ومع تأسيس المحفل الروحاني المركزي، دخل الأمر المبارك مرحلة جديدة من تطوّره وتكامله وشعرت المحافل المحلية وعموم الأحباء في شبه الجزيرة بهيئة عليا تشرف على شئونهم. في صيف عام ١٩٥٧م طلب المحفل المركزي في إيران من جناب فيضي أن يأتي ويشارك بالتدريس في مدرسة صيفية. جاء إلى طهران وشارك بالمدرسة التي كانت مدّتها أسبوعان، والتقى بوالدته مادر جان بعد غيبة طويلة امتدت لعشر سنوات. ومع نهاية المدرسة وصله خبر من شقيق زوجته ﮔلوريا بأن ابنه الموجود في ألمانيا لديه بعض المصاعب ويطلب منه السفر إلى ألمانيا لمساعدته على حلِّ مشاكله. وافق فيضي على ذلك، وفي نفس الوقت طلب منه المحفل المركزي في إيران أن يلتقي هناك بالشباب البهائي الإيراني وأن يشارك أيضًا بالمدرسة الصيفية في سويسرا، وبالتالي امتدّت رحلته هذه قرابة الشهرين. إن خطته الأصليه كانت أن يسافر إلى الهند من إيران ويلتقي بالأحباء ثم يعود إلى البحرين، وفي طهران كان أحد أحباء البحرين متواجدًا هناك وعندما سمع عن تأخير رجوع فيضي للبحرين سأل أيادي أمرالله جناب علي أكبر فروتن عن سبب استدعاء فيضي للتدريس في المدرسة بينما هناك في إيران من يستطيع العمل مثله وإنّ حاجته في الخليج ماسة جدًا، ردّ عليه جناب فروتن بأن القرار ليس قراره وإنما قرار المحفل المركزي. عندما غادر جناب فيضي البحرين إلى إيران في بداية الصيف كان كل أمله أن يعود ويستمر في خدمته للتشكيلات والأحباء في كل منطقة الخليج، ولكنه لم يكن يعلم بأن رحلته هذه هي الأخيرة في مغادرة البحرين، وإنها رحلة الوداع وسوف لن يعود اليها أبدًا، وإنما ستكون البحرين وذكرياتها الحلوة والمرّة خلال الأربعة عشر عامًا التي قضاها هناك في ذاكرته فقط. للسيد حسن كرمستجي وهو ابن مهاجر البحرين العزيز المرحوم غلام حسين عبدالرحيم زاده كرمستجي عدّة ذكريات جميلة عن جناب فيضي منذ أن عرفه في صِغَره وقد ذكر لنا الروايات التالية:
كما روت لنا السيدة نغمة محسني، وهي ابنة جناب أحمد محسني، أول من آمن في البحرين، حكاياتها وذكرياتها عن جناب فيضي ووالدها بهذه الكلمات:
]ولد والدي أحمد يوسف محسني عام ١٩١٩م في منطقة العوضية بالمنامة في عائلة سنية شافعية متديّنة، كان أبيه من عائلة الوجيه الشيخ مصطفى بن عبداللطيف العباسي (بستكي) ووالدته كانت مدرّسة دين وعندها مكتب لتدريس القرآن وكانت تمارس أيضًا الخياطة والطب الشعبي. تربّى والدي في هكذا بيت، وكان الابن البكر ولهذا اهتموا بتعليمه الديني وضرورة تمسكه بالفروض والعبادات حيث لم يكن يفوته الصلاة أو الصوم أو الذّهاب إلى المسجد وقد ختم القرآن عندما كان في الثانية عشر من العمر. منذ صغره كان يحسّ بالمسئولية كونه الابن الأكبر؛ ولهذا ساعد والده في جميع مراحل حياته. كانت شخصية والدي محبوبة للجميع حيث كان دمث الاخلاق ويرغب في مساعدة الآخرين وخدمتهم وقد أكمل المرحلة الإبتدائية من الدراسة في مدارس البحرين.
في سنة ١٩٤٣م تعرّف والدي لأول مرة على السيد أبو القاسم فيضي بواسطة صديقه الذي كان يريد أن يستلم رسالة من أهله في إيران بواسطة جناب فيضي، حيث ذهبوا معًا إلى منزل جناب فيضي الذي كان يسكن مقابل مآتم الصفافير بالمنامة. بعد ذلك كان لوالدي عدة زيارات أخرى تكلم مع السيد فيضي ودارت بينهم أحاديث جادة وروحانية. والمعروف عن جناب فيضي أنه كان إنسانًا مؤمنًا ومثقفًا وكاتبًا ومحبّا للخير وكريمًا وحسن الأخلاق، جاء إلى البحرين عام ١٩٤٢م واشتغل مدرّسًا في مدرسة وعُرِفَ عنه حبّه في مدّ يد العون للفقراء والمساكين.
تعرّف والدي على هذه الشخصية العظيمة فانجذب لشخصيته وروحانيته وأخلاقه العالية. وقد روى لنا الوالد، رحمه الله، بأنه رأى في المنام في إحدى الليالي، وقبل أن يلتقي بجناب فيضي، إنه وصديقه (فتح علي) يدخلان بستانًا جميلًا ثم يبدأ صديقه بدفع نخلة ذات أربعة عجلات وكان الوالد جالسًا على النخلة، وعندما دخلا هذا البستان الجميل المملوء بأشجار الفواكه اللذيذة، رأى والدي فجأة أن صديقه قد اختفى وليس معه، وظلّ وحيدًا في هذا البستان.
بدأ الوالد يلتقي بجناب فيضي وبدأت الأحاديث الأمرية والروحانية تزداد في هذه اللقاءات، وكان جناب فيضي يقرأ لوالدي بعضًا من ألواح وبيانات حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء، كما قام والدي بقراءة كتاب الإيقان، عندها انجذب كثيرًا لهذه الكلمات والبيانات، وبدأ قلبه يهتز بنار محبّة الله وأيقن إنها حقًا من عند الله وأن حضرة بهاءالله رسول هذا العصر وهو موعود الأديان كلها. وفي ثالث لقاء له بجناب فيضي أقرّ واعترف وآمن بكل جوارحه بحضرة بهاءالله وأعلن ذلك بكل صراحة له. نصحه جناب فيضي في البداية بعدم الإفصاح عن إيمانه وعقيدته علنًا بل يكتمها حتى يحين الوقت لإفصاحه لمن له آذان صاغية. ولكن والدي المنجذب والمؤمن والعاشق لم يستطع السكوت فأخذ يتحدث ويقول للناس إن قائم آل محمد قد ظهر وأنتم في نوم الغفلة ويقرأ للناس كلمات حضرة بهاءالله وتاريخ الدين البهائي. ولكن أسرته المتديّنة والمتعصّبة لم يقبلوا ذلك فأخذوا بمضايقته ومعارضته وقد حاربوه بشدة لعل وعسى أن يغيّر رأيه وعقيدته ويعود إلى الإسلام.
ولكن والدي الذي كان ثابتًا على إيمانه وإخلاصه تحمّل كل ذلك بصبرٍ كبير وظلّ يعامل أهله بكل محبّة ومودّة، ولهذا احترموه واحترموا عقيدته، بل كانوا يلجأون إليه عند الشدّة وبروز المشاكل طالبين رأيه السديد ووجهة نظره. كما كان له دور كبير في استقرار المهاجرين في البحرين في خمسينيات القرن الماضي لكونه من البحرينيين البهائيين القلّة في ذلك الوقت، وكان على صلة وارتباط وطيد مع المسؤولين في الحكومة وكان يقوم بتسهيل إجراءات دخول الأحباء وتقديم يد العون لهم، كما كان يساعد المرضى في الحي بتوصيلهم بسيارته الى المستشفى. إن حبّ الخير والخدمة كانتا من الصفات البارزة للوالد طيّب الله ثراه.
سمعتُ قصة عن أخته، عمّتي آمنة، عندما كانت فتاة شابة، فقد تعرضت لبروز غدة في معدتها حيث كانت هذه الغدة أو (الكيس المائي) تكبر باستمرار ولم يصدّق أحد من الأهل إنها مريضة وتعاني من هذه الغدة، وكانت والدتها تضربها وتوبخها باستمرار وتعتقد إنها أخطأت وتحمل خطيئتها معها. ولكن والدي أنقذ أخته من الموت، فقد حملها على يديه وأخذها مشيًا على الأقدام إلى المستشفى الأمريكي بالعوضية وبعد أن عاينها الدكتور، قال: “لو تأخرتم يومًا واحدًا لكانت الغدة قد انفجرت وماتت بسببها”. هكذا أنقذ والدي أخته (آمنة) التي طالما كانت حنونة معنا وتحبنا جميعًا رغم اختلاف ديننا.
كان لوالدي أصدقاء وزملاء كثيرون وكان يزور المرحوم الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة – أمير البلاد آنذاك في المناسبات المختلفة وغيرها. كما كان صديقًا للكثير من الوزراء والشيوخ، ونظرًا لأنه كان يعمل في دلالة الأراضي والعقارات خلال الثلاثين السنة الأخيرة من عمره؛ فقد تعرّف على العديد من الناس وتعامل معهم. لدرجة أذكر أنه كان يقول إن الشيخ عيسى كان يقول له: “اطلب أي شيء تريده وأنا ألبّي طلبك”، ولكن كان الوالد يرد عليه: “طال عمرك كل شيء موجود الحمدلله أنا أملك سبعة ملايين، لا أحتاج شيء”. وكان يقصد إن لديه سبعة أولاد. نعم لقد كان غني النفس والروح، قليل الكلام، كثير العمل حتى أن بعض الذين باع لهم الأراضي كانوا لا يدفعون عمولة الدلالة أو يدفعون نصفه أو أقساط ولكنه لم يتذمر قط وكان يسامح ويحب الجميع، هكذا كان أبي أحمد يوسف محسني.
أما عن ذكرياتي الشخصية عن جناب فيضي فأتذكر عندما بدأتُ العمل سنة ١٩٧٥م في شركة ألبا ولم يمضي على بداية عملي أكثر من شهر، كنت أرغب بالحصول على إجازة لمدة أسبوع فذهبتُ إلى مديري السيد جاسم أمير في قسم العلاقات العامة وطلبتُ الإجازة، وقلتُ له إنني أطلب هذه الإجازة وأعرف إنني بدأت العمل من فترة قصيرة جدًا ولكنني أريد هذه الإجازة لأذهب لزيارة شخص عزيز علينا، وعندها سألني من هو هذا الشخص؟ فقلت له “السيد أبوالقاسم فيضي” وعندما قلت له هذا، أجابني بفرح لا مانع من أخذ الإجازة واذهبي لمقابلته. استغربت من كلامه! ثم أكمل وقال: “إن السيد فيضي له فضل كبير على عائلتنا، فعندما كنّا صغار، تركنا والدنا وذهبنا إلى الهند ولم يكن لدينا أحد ليساعدنا ويصرف علينا، فكان السيد فيضي يساعدنا بصورة شهرية ويعطي لوالدتي بعض المال لعدّة أشهر وبناء عليه استطاعت أمي أن تقوم بتربيتنا والصرف علينا”. هذا مثال لم نكن نعرف عنه حتى يوم أخبرنا به السيد جاسم أمير وقد سمعتُ قصص أخرى كثيرة عن عطفه وفضله على أناس كثيرين[.
وروي لنا السيد ورقاء روحاني وهو ابن مهاجر البحرين العزيز المرحوم حسن روحاني الذي يعتبر من الرعيل الأول ومن مؤسسي الجالية البهائية هناك، روى لنا الرواية التالية:
]كنتُ ولازلتُ أعشق أيادي أمرالله جناب فيضي مع إنني لا أتذكره، حيث كان عمري آنذاك سنتين عندما غادر البحرين عام ١٩٥٧م ولم يعد بعدها. للأسف لم يسعفني الحظ في التشرّف بمحضره أو زيارته بعد ذلك. ولكن أعلم أن تأثيره على المجتمع البحريني كان واضحًا ومميّزًا، حيث كانت شخصيته الفذّة مدار حديث الكثيرين من أهالي البحرين لسنوات طويلة. أذكر عندما كنت في الثالثة عشر من العمر أي عام ١٩٦٧م، جاءت إلى منزلنا سيدة كبيرة السن وهي صديقة والدتي رحمها الله، وكانت هذه السيدة تحمل في حضنها طفلة صغيرة، فرحّبت بها ودعوتها للجلوس في الصالة وكانت الوالدة في المطبخ منشغلة بإعداد الطعام. كانت صورة جناب فيضي معلّقة على جدار الصالة فانتبهت هذه السيدة لها وفورًا اتّجهت نحوها وسألتني: “هل هذه صورة جناب أبو القاسم فيضي؟” فقلتُ لها نعم، وفي الحال أخذت الصورة وقبّلتها بلهف ووضعتها على صدرها وقالت للطفلة التي كانت تحملها: “قبّلي هذه الصورة، إنه بابا فيضي”. سألتها بكل عجب كيف تعرفين جناب فيضي؟ فقالت: “كنت أرملة ولي أطفال صغار وكان جناب فيضي يزورنا شهريًا ويعطينا مبلغ من المال، في الواقع كان أكثر من أب لأطفالي الصغار، وإن لم يكن يساعدنا لربما هلكنا من الجوع”. رويتُ ذلك لوالدتي وسألتها إن كانت تعلم بأن جناب فيضي كان يساعد هذه المرأة فأجابت بالنفي. هذه هي بعض الخصال الحميدة لجناب فيضي الذي نذر نفسه لخدمة البشرية[.
ونقل لنا السيد ورقاء روحاني أيضًا الرواية التالية التي سمعها من السيد حشمت الله ريحاني عن كيفية لقاء وتعّرف السيد ريحاني بجناب فيضي لأول مرّة في البحرين عام ١٩٤٩م بما يلي:
“وصلتُ البحرين ولم أكن أعرف أين يسكن جناب فيضي أو يعمل، ولم يسبق لي أن رأيت صورته أو أعرف شيئًا من ملامحه، فعندما سألت الناس عنه قيل لي أن السيد فيضي يمرّ يوميًا من شارع باب البحرين، فإن ذهبتَ إلى هناك فحتمًا ستشاهده. ولهذا ذهبتُ إلى باب البحرين ووقفتُ على أمل أن أتعرّف عليه. وبعد مدّة رأيتُ رجلًا طويل القامة مرتديا بدلة وعلى رأسه قبّعة وفي يده كتابًا يمرّ في الشارع، وما لبث أن شاهد هذا الرجل حمّالا فقيرًا ذي ملابس ممزّقة فتوجّه نحوه وعانقه بحرارة وكأنهما صديقين حميمين. وأثناء ذلك شاهدتُ أن هذا الرجل وأثناء المعانقة ادخل يده في جيبه وأخرج بعض النقود ووضعها في كيس الحمّال الفقير دون أن ينتبه أو يعرف. كانت العادة أن جميع الحمّالين في البحرين يحملون أكياسًا من القماش معلقة برقابهم لوضع النقود فيه. فقلت في نفسي لا يمكن أن يكون هذا الشخص الكريم سوى جناب فيضي الذي عُرِفَ بكرمه وسخاءه. ذهبتُ إليه وتعرّفتُ عليه وأخذني بالأحضان بحيث عمّت الفرحة والسرور كل أركاني”.
كما روي لنا السيد منصور رفيعي، وهو ابن المهاجر العزيز المرحوم حسين رفيعي، من المهاجرين الأوائل في البحرين، ذكرياته وخواطره عن جناب فيضي عندما كان طفلًا، فقال:
]كان والدي رحمه الله من المراودين والمتّصلين دوما بجناب فيضي وكان الأحباء عائلة واحدة ويلتقون ببعض دومًا وروح المحبة والوحدة سائدة بينهم. كنت صديقًا لنيسان ومي، ابناء فيضي، وألعب معهم، ومن عادة جناب فيضي إنه كان يذهب مع والدي حسين رفيعي إلى مكتب البريد القديم عند البحر لاستلام البريد وكنت أرافقهما دومًا. وعندما تصل رسالة لجناب فيضي كنت ألاحظ عليه فرحه الشديد لدرجة إنه لا ينتظر ليعود للمنزل بل كان يفتح المكتوب فورًا ويقرأ الرسالة وأحيانًا يشارك مضمونها مع والدي. في أحد الأيام ذهب والدي لجناب فيضي ورآه مهمومًا وفي حالة تأمل وتفكّر، سأله عن السبب فرد: “إنني أفكر في مستقبل هؤلاء الأطفال، ماذا سيصبحون؟” قال له الوالد: “من الأفضل أن تفكر بابنك ولا اعتقد إنه سيصبح أفضل منك ولكن أولادنا سيصبحون حتمًا أفضل منّا. لا تفكر ولا تزعل”. هذا الجواب أسرّ جناب فيضي وأبهج قلبه. عندما كنت مع نيسان وألعب معه في منزلهم، وعندما لم يكن أحد في المنزل، لاحظت أن نيسان يقوم برمي الصحون والملاعق والأشواك وأشياء أخرى من بلكونة المنزل إلى الشارع حتى يقوم الفقراء بجمعها، حتى أنّ ألعابه الشخصية كان يهديها لغيره، لدرجة إننا نقوم باللعب مع ألعاب بنت الجار وهي من أسرة خوشابي. يبدو أن كرم وعطاء نيسان قد اكتسبه من والده العظيم. والمعروف عن جناب فيضي إنه كان يحب الأطفال كثيرًا ولهذا كان من عادته إنه قبل عيد النوروز من كل عام كان يجمع الأطفال ويأخذهم إلى صالون الحلاقة ويشتري لهم (بوب كورن) وفي طريق عودته يمرّ ومعه الأطفال إلى محل بقالة والدي ويشتري منه ما يحتاجه الأطفال، وبهذه الطريقة كان يساعد الوالد ويسعد الأطفال. عندما كنا نستيقظ من النوم صباح عيد النوروز، اعتدنا أن نحصل على عيدية توضع تحت وسادة النوم وكان يقال لنا إن الله قد أرسل لنا هذه العيدية. وعندما كبرنا عرفنا فيما بعد أن جناب فيضي كان يشتري العيدية ويعطيها للعائلات ويؤكد لهم وضعها تحت وسادة نوم أطفالهم. عليه رحمة الله كان إنسانًا عظيمًا حقًا[.
[1] عدد المذكورين أسمائهم هنا خمسة عشر وكيلًا ولم استطع الحصول على أسماء الأربعة الباقين
كما ذكرنا فقد كان جناب فيضي يعشق المراسلة والمكاتبة، وكان تواصله مع أصدقائه ومحبّيه مستمرًا وعميقًا رغم كل الظروف الصعبة التي مرّ بها في البحرين أو في غيرها من الدول. كان يعبّر عن أحاسيسه الجميلة والمرهفة بأجمل التعابير والجُمل مع مقتطفات من الآثار المباركة وأحيانًا بعض الصور والأشعار. بالإضافة إلى أنّه كان ينقل صورة حيّة عن وضع البلد الاجتماعي والبيئي والأمري ويحثّ الأحباء على الخدمة والتبليغ. ننقل إليكم ترجمة بعض هذه الرسائل، وهي فارسية في الأصل، أثناء تواجده في البحرين، أما الرسالة الأخيرة فقد كتبها من الأراضي المقدسة.
١) رسالة كتبت بتاريخ ٢٥ أغسطس/آب ١٩٥١م
صيف هذه السنة كان عجيبًا وغريبًا جدًا. أولًا بدأ مبكرًا جدًا يعني من أواسط شهر يوليو/تموز لم يكن للهواء وفاء. العقلاء فرّوا من البلاد، والعشّاق من الذين لم يكن لديهم مال مثل أحباء الرحمن مكثوا في البلاد. أخاف أن أكون قد كدّرت خاطركم العزيز إن أطلت الكلام حول هذا الموضوع. باختصار، هذا الفاني وخلال إقامته لمدّة تسع سنوات لم يَرى حرارة ورطوبة عالية مثل هذه. المقيمون هنا منذ زمن يقولون بأنه قبل أربعين سنة سادت حرارة ورطوبة عالية مثل هذه ولكن لم تدم مثل هذه السنة. في السنوات الماضية كان الجو حارًا أيضًا ورطبًا ولكن كان ذلك لمدة يومين أو ثلاثة، ومن ثم يأتي الهواء لمدة يومين أو ثلاثة وبعدها يعود الحرّ والرطوبة. ولكن هذه السنة أصبح الجو هكذا منذ مدة ولم يهب من الشّمال هواء وإنما جاء الهواء من شبه الجزيرة العربية، وهو غبارٌ حار وبه سموم ومليء بالرمل الذي يبدّل الفضاء إلى ظلام، أو إن الهواء يكون قادمًا من جهة البحر ومعه الرطوبة الشديدة وهذا أكثر الأمور شدة وصعوبة. أثر هذه الحرارة على الناس إنها تجعل أجسامهم تمتلئ بدمامل وحبوب حارقة. في هذا الجو الحار يأتي الناس من مسافات بعيدة يحملون أطفالهم تحت العباءة إلى المستشفى. وفي المستشفى هناك طبيب واحد وثلاثمائة مريض والوسائل بدائية والأدوية قليلة، وبطريقة ما يتم إرضاء المرضى، وفي عزّ الظهر يرجعون إلى منازلهم ولكنهم يصبحون أسوأ مما سبق. جميع الأطفال مصابون بهذه الأمراض. البعض إصابتهم حادة لدرجة لا يمكن عمل شيء. يتم لف قطعة من القماش حولهم ونقلهم. هناك ستون شخصًا ماتوا أثناء عملهم في الوزارات الحكومية من شدّة الحرارة. هناك أيضًا أطفال ورجال آخرون ماتوا في القرى والقصبات ولا يمكن إحصاء العدد. ولهذا السبب تم وقف دروس الأخلاق للأطفال، لأنه لم يكن باستطاعتهم لبس الملابس، وكان الذهاب والعودة صعبًا والبقاء في غرفة حارة صعبٌ جدًا. ولهذا فإن دروس الأخلاق حتى الآن معطّلة.
ظهر على جسم نيسان دمامل كبيرة إحداها على جبينه وعدد آخر تحت عضده ممّا جعلته يمشي مثل البهلوان، كنّا نقول له: “نيساني، أين البنادق؟” كان يعرض علينا الدمامل. الخانم (ﮔلوريا) مع تعبها كانت تأخذ الأحباء إلى المستشفى أحيانًا. في أحد الأيام أخذت إحدى السيدات ومعها نيسان، عندما رأى الطبيب الدُمَل على جسم نيسان قام بقطعه بمشرط. في ذلك الوقت كنت بالبيت، انقلب حالي فورًا فارتديتُ ملابسي وذهبتُ إلى المستشفى. رأيت ﮔلوريا تبكي ونيسان في حضنها وهناك عمامة على رأسه وقطعة قماش معلّقة بعضده. أخذته بالحضن وذهبت به إلى المنزل، والحمد لله منذ ذلك الحين لم يظهر على جسمه دمامل بهذا الحجم الكبير. مي أيضًا ظهر على جسمها الكثير من الحبوب لدرجة أنّ إحدى السيدات البريطانيات في شركة النفط أشفقت عليها ودعتها أن تأتي إلى منزلها لعدة أيام حتى تخف الحبوب من الجو البارد في منزلها.
كلّما شاهدت ﮔلمحمدى في الشارع أو في المنزل كان جسمه يتصبّب عرقًا. كل ما أقول له، عزيزي أنت الآن لديك ولد عمره شهران واسمه نعيم، لا تترشح عرقًا بهذه الكمية، ولكنه لا يقبل. أحيانًا أعتقد إنّه جاء من قاع حوض الماء. مسكين يبدّل لباسه عدّة مرّات يوميًا ويجففّ جسمه بفوطة ولكن دون فائدة، حيث يبتل يوميًا…[1]
٢) رسالة كتبت بتاريخ ١ ديسمبر/ كانون الأول ١٩٥٢م
… في السنة الماضية، أرسل لي أحد المعلّمين من بيروت، والذي لا أعرفه، رسالة بواسطة أحد تلامذته. تقول الرسالة بأنه عضوٌ في أحد أندية المراسلة العالمية وطبع عنوانه في دفتر خاص. استلم مؤخرًا رسالة من سيدة من أهالي جزر فيجي التي تقع في المحيط الهادي مفادها أنّ سيدة أمريكية جاءت إلى الجزيرة قبل مدة وألقت خطبة عن الدين البهائي. غادرت السيدة الأمريكية ولكنها تركت في نفسي رغبة جامحة لمعرفة المزيد. ليس لدي من يخبرني عن المزيد وليس عندي كتاب لأقرأه. أنت القريب من إيران هل لك أن تبحث عن شخص بهائي وتتشاور معه حول هذا الموضوع وتحصل لي على كتاب وترسله؟
قمتُ فورًا بارسال كتاب له. قام المعلّم البيروتي بقراءة الكتاب وأرسله لتلك السيدة. جاء هذا المعلّم عندي قبل أسبوعين وقال أن الكتاب قد وصل للسيدة في فيجي قبل حوالي ستة أشهر وكتبت هذه الورقة. كتبت في الورقة بأنها “قرأت الكتاب، ومن دون سؤال أصبحت بهائية، ولكن عائلتي اضطهدتني كثيرًا وكدت افترق عن زوجي ولكني استقمت ستة أشهر حتى أصبح زوجي بهائيًا واليوم هو أكثر نشاطًا مني في الدين البهائي. هنا توجد جامعة بهائية صغيرة الحجم ونأمل بتأسيس محفل قريبًا وأصبحتُ أمينة لصندوق الجامعة البهائية. بلّغ تحياتي لأخي فيضي وقل له أن يكتب لي”. تفكّروا في مدى سرورنا القلبي من قراءة هذه الرسالة العجيبة وهذه البشارة العظيمة. زوجتي تقرأ الرسالة بعيون دامعة، ونحن الاثنان غارقان في بحر من الحيرة والعجب.[2]
٣) رسالة كتبت بتاريخ ١٣ نوروز ١٠٩ بديع (مارس/آذار ١٩٥٢م)
…قمتُ من النوم البارحة الساعة الخامسة بعد منتصف الليل وانتابتني حالة من الدعاء والتوجّه. أديتُ الصلاة وتلوتُ مناجاة بشكل سريع ثم نمتُ مرتين. رأيت في المنام إنني في محضر حضرة ولي أمرالله، كان الهيكل المبارك جالسًا وواضعًا رجله على الأخرى ويكتب لوحًا. عندما كان يكتب، ركّز هذا العبد الفاني نظره على محياه المبارك، وكما يقال، فديته بروحي وكينونتي. في تلك اللحظة نظر إليّ مبتسمًا وشعرتُ بالخجل. ثم أعطاني اللوح وقال أنه لك، ثم قام من مكانه وأصبحتُ خلفه. قلت له “هل تقبلني شهيدًا؟” قال “كلا” ، قلتُ “في سبيل محبّتكم”، قال “كلا أيضًا”. في هذه الأثناء وصلنا إلى باب عُلم إنه باب البيت المبارك، ثم صافحني باليد. قبّلت عضده المباركه واستأذنت منه أن أقبّله. ولهذا احتضنتُ الهيكل المبارك وأخذت أقبّل صدره وأبكي وكان لابسًا قميصًا خفيفًا. في هذه الأثناء استيقظت من النوم وشاهدت بائع الحليب يدق الباب، ذهبتُ وفتحتُ الباب شاهدتُ أن بريد أمس وقت المغرب قد وصل ورمي به تحت الباب. أخذتُ الرسالة لاحظت إنها من بغداد وفيها كتبتْ كلودت ناوي إنها كانت مع والدها في الأرض الأقدس وقد رجعا إلى إيران وذكرا عن لطف وعناية واهتمام الهيكل المبارك الخاص لجميع المهاجرين في شبه الجزيرة العربية، وقد قال إنه سيكتب رسالة خاصة إلى البحرين…[3]
٤ ) رسالة كتبت بتاريخ شهر النور ١١٠ بديع (أبريل/نيسان ١٩٥٣م)
ألا تسألني من أين جئتُ بهذا القلم الأخضر؟ هذا القلم الأخضر الذي يكتب بالأخضر أيضًا هو سيد الأقلام وله حكاية أود أن أسردها قبل كل شيء. في يوم عيد الفطر السعيد للمسلمين ذهبت لزيارة بعض الأصدقاء ووصلت المنزل وكان الوقت ظهرًا، دقّ الباب شخص، فسألت من أنت؟ قال “أنا، افتح الباب”. جاء إلى أعلى بواسطة السلالم. كان شخصًا أسودًا طويل البنية، حسن الملبس لطيف المعشر، قال الله أبهى وأخذني بالحضن بشدّة. قبّلني تسع مرّات، وقال الله أبهى تسع مرّات. من شدّة تهيّجي لم أعرف ما أعمل. جلس وقال أنني من أحباء خرطوم بالسودان أعمل حاليا بالسعودية منذ عدّة أشهر في مجال الزراعة. بحثت عن الأحباء في كل مكان ولكن لم يرحب بي أحد. حتى سألتُ من أحد الشباب فأعطاني عنوانكم، فتحركتُ فورًا وجئت. لا تعلمون بحالي. يا إلهي ما هذا العالم الذي خلقته؟ لقد أخذته بالحضن بشدة وقبّلته لدرجة لا أستطيع وصفه. جاءت ﮔل (ﮔلوريا) قلت لها تعالي لقد جاء أخي العزيز، صافحته وأخذت تبكي. لم نكن نعلم ماذا نقول أو نفعل. يا إلهي هؤلاء هم الذين وصفهم حضرة عبدالبهاء بأنهم “رجال عينه” وأعزّاء لديه. اسم هذا العزيز هو بشير. إنّه أول من آمن من الخرطوم ويقول بأنه ذُكِرَ في أول توقيعٍ له صادرٍ من الساحة المقدسة “بشرى يا بشير”. كان هناك محفل روحاني في نفس اليوم عصرًا (في المنامة). جاء الرجال والنساء والكبير والصغير واجتمعنا حوله وقرأنا لوح أحمد. قرأ بشير مناجاة ” قلبًا طاهرًا” وطرحتُ أسئلة وردّ عليها. لا تدرون ما هي العوالم التي كنّا فيها. في اليوم التالي أخذنا بشير إلى مدرّج الطائرة. وأمام الناس أخذناه بالحضن وقبّلناه. وكان الكل متحيّرًا ومبهوتًا. وقبل مغادرته أخرج قلمًا من جيبه قدّمه لي وقال بأنه يحبّ هذا القلم كثيرًا ولهذا يرغب أن يكون بحوزتي. قبّلتُ القلم وقلتُ انه أخضر ولهذا فإن هذا القلم هو سيد الأقلام…[4].
٥) رسالة كتبت بتاريخ شهر البهاء ١١٥ بديع (أبريل/نيسان ١٩٥٨م)
السيدة إميليا كولنز في الواقع شخصية لا نظير لها. إنها في سن الرابعة والثمانين ولكن قواها وقدراتها أشبه بشابة في سن الثلاثين وهي تفكر يوميًا في أداء مهامها السّامية. تتصف بصراحة الكلام والرأي ولا تتظاهر ولا تتفاخر هي أيضًا ومخلصة وخدومة. بعيدة عن طلب الشهرة والغرور والتعريف، ومنشغلة دائمًا بعمل الخير. تعمل من غير بهرجة. يداها من أسخى الأيدي في العالم لأنها وضعت كل ما امتلكته على طبق من الإخلاص. إن إنجازاتها في شتى أنحاء العالم مثل مسبحة من المؤسسات الأمرية تمثل خرزاتها حظائر القدس والمراكز الأمرية والأوقاف، وهي خرزات تتلألأ إلى الأبد. لاحظوا محبّة جمال القدم، إن هذه السيدة العزيزة الشريفة لاتعرف كلمة من الفارسية وبعيدة كل البُعد عن الأغنية الفارسية… مع ذلك تأتي بالليل قبل النوم إلى غرفة عملي في البيت المبارك وتنشد أبيات من شعر حافظ وغزليات سعدي وتتلو مناجاة بالفارسية أو آيات من القرآن الكريم أو مناجاة بالعربية أو إحدى المثنويات، وكل ما كان يحلو لها كانت تتلوه. قلتُ لها في إحدى الليالي بأنك بعيدة جدًا عن هذه الكلمات والألحان، قالت نعم، ولكني أغمض عيني وأفكر بأني في محضر الجمال المبارك وهذه نفس الآيات والأشعار التي كانت تُتلى في محضره، إنّها تؤثر في نفسي مثل تلاوة التهويدة قبل النوم[5] ثم أنام بعدها بكل راحة. في الواقع إنّ المحبّة لها تأثير كبير.[6]
[1] من كتاب “به ياد دوست” ص ٤٩
[2] من كتاب “به ياد دوست” ص ٥١
[3] من كتاب “به ياد دوست” ص ٥٢ – ٥٣
[4] من كتاب “به ياد دوست” ص ٥٢ – ٥٣
[5] وتسمّى “تهويدة” وهي الأغنية الهادئة الرقيقة التي تغنيها الأم لتشجع طفلها على النوم.
[6] من كتاب “به ياد دوست” ص ٥٣ – ٥٤
في رسالة طويلة من خمس صفحات مؤرخة أكتوبر/تشرين الأول ١٩٥٧م أرسلها حضرة ولي أمرالله إلى العالم البهائي بمناسبة حلول السنة الخامسة من خطة العشر سنوات (الجهاد الكبير الأكبر الروحاني) أعلن فيها عن عقد خمس مؤتمرات تبليغية قارية في السنة القادمة في كل من: كمبالا بأوغندا وسدني بأستراليا وشيكاغو بأمريكا وفرانكفورت بألمانيا وجاكرتا بأندونيسيا، كما أعلن عن أسماء مندوبيه في كل مؤتمر من هذه المؤتمرات، كما وأشار أيضًا إلى إنجاز مختصر عمّا تحقق من انتصارات خلال تلك الخطة. وفي نفس الرسالة أعلن حضرته عن تعيين ثمانية أفراد في مقام أيادي أمرالله وهم: اينوك أولينكا – ويليام سيرز – جون روبارتس – حسن باليوزي – جون فارابي – كولس فذرستون – رحمت الله مهاجر وأبو القاسم فيضي، وبذلك يكون عدد أيادي أمرالله الأحياء آنذاك وعند الصعود المبارك قد ارتفع إلى سبع وعشرين فردًا. كان جناب فيضي حينها في ألمانيا وكان الخبر بالنسبة له كالصاعقة حيث لم يكن يتوقع ذلك وقال: “إنني لا أستحق مثل هذا المقام، أستغفر الله، أستغفر الله”. ثم أخذ يبكي عندما عرضت عليه البرقية.
وفي ألمانيا استمرّ جناب فيضي في إنجاز مهامه الموكولة إليه من قِبَل المحفل المركزي في إيران وهي لقاؤه بالشباب البهائي وتشجيعهم على الخدمة. في نهاية شهر أكتوبر تم إبلاغ أحباء مدينة فرانكفورت بأنهم سيلتقون بشخصين من أيادي أمرالله وهما جناب خادم وجناب فيضي وذلك مساء يوم ٤ نوفمبر/تشرين الثاني. في ذلك اليوم جاء إلى حظيرة القدس شاب بهائي كان يعرف جناب فيضي منذ صباه للقائه بعد فراق امتد حوالي إثنى عشر عامًا. وعندما وصل إلى حظيرة القدس شاهد فيضي جالسًا في زاوية من غرفة علوية من المبنى وهو يجهش بالبكاء. وما أن رآه فيضي حتى قام واحتضن الشاب وقال له بصوت حزين بأن مولاه قد توفّي في لندن. صعق هذا الشاب بدوره من هذا الخبر المفجع وخرج من حظيرة القدس ليعود إلى منزله، وما أن صار في الشارع حتى التقى بأيادي أمرالله جناب ذكرالله خادم الذي كان عائدًا توًا من باريس ولم يسمع بعد بنبأ الصعود المبارك. أخبره الشاب بالخبر فانهار جناب خادم من هول الصدمة، شعر الشاب بأنه لا يستطيع تركه وحيدًا فأخذه حتى باب حظيرة القدس ثم طلب جناب خادم منه أن يُحضر جناب فيضي، وما أن تقابلا حتى تعانقا في الشارع وكل منهما يبكي بلوعة ومرارة على كتف صاحبه من هذا الخبر المفاجئ ليس بالنسبة لهما فقط وإنّما لكل العالم البهائي.
دخل جناب خادم وجناب فيضي إلى حظيرة القدس حيث كان سكرتير المحفل الروحاني المركزي لألمانيا منشغلًا بالتحدّث مع المحفل الروحاني المركزي للجزر البريطانية حول الترتيبات الخاصة بتشييع جنازة حضرة ولي أمرالله، وكانت أمة البهاء روحية خانم قد طلبت من كافة حضرات الأيادي الحضور إلى لندن، إن استطاعوا، للمشاركة في تشييع جثمان من كان مولاهم وقائدهم. أُلغيَ الاجتماع الذي كان مزمعًا عقده مع الشباب مساء ذلك اليوم ثم ذهب السادة خادم وفيضي إلى القنصلية البريطانية للحصول على تأشيرة دخول إلى بريطانيا ومن ثم ذهب كل منهما إلى فندقه للراحة استعدادًا للسفر. وفي خِضم أحزانه وآلامه استطاع فيضي أن يكتب بعض الكلمات لأحبائه وأعزّائه في البحرين الذين كانوا دومًا في قلبه ووجدانه، فكتب يقول:
]زملائي وأصدقائي الأعزاء في البحرين والمراكز الأخرى، بالأمس استلمنا برقية مفادها أن ندعو ونصلّي من أجل حفظ الأمر المبارك لأن حضرة ولي أمرالله المحبوب مريض للغاية. وبعد ساعة عندما اجتمعنا لترتيب جلسة دعاء، وصلتنا الأنباء بأن تلك الروح المقدسة قد عرجت إلى السماء. وفي العصر استلمنا برقية من روحية خانم بأن علينا أن نكون جميعًا صبورين وأن نتوّجه إلى المؤسسات بقلب واحد وهدف واحد. في المساء استلمتُ برقية أخرى مفادها بأن تشييع الجنازة سيكون يوم السبت الموافق التاسع من نوفمبر في لندن وأن على أيادي أمرالله وأعضاء المحافل الروحانية المركزية وأعضاء هيئة المعاونين الحضور، وبعدها سيجتمع الأيادي… حتى يعلنوا عندها بما يجب عمله. هذا بصورة مختصرة تقرير عن هذه الفاجعة التي أعلم إنكم كنتم بانتظار أخذ العلم عنها، والذي عرضته عليكم على عجالة وبحزن شديد. جلسات التأبين يجب أن تعقد في شتى أنحاء العالم مساء يوم التاسع من نوفمبر… سأبلغ أحبائي بما سيحدث. فيضي[[1].
كان فيضي على اتصال دائم مع الأحباء الذين تركهم في الخليج وكانت نصيحته لهم هو الثبوت والاستقامة ومن ثم الصمود أمام أي هجوم قد يتعرّض له الأمر والتركيز على الوحدة والاتحاد والمحبّة والألفة في جميع مناحي حياتهم، وفي رسالة أخرى كتب:
“ليست لدي القوة أو السعادة أن أكتب لكم بالتفصيل. لا أعلم متى سأتخلص من هذا الحزن العميق… مازلتُ لا أعلم أين سأذهب وماذا سأفعل؟ ولكن ما هو واضح بأن إذن إقامتي للبحرين سينتهي في ٢٥ من هذا الشهر وعليّ تجديده، ولكن كيف وأين فما زلت لا أعلم. أردتُ فقط أن تعلموا إنه إذا لم تسمعوا مني شيئا لمدة من الزمن فهو بسبب حجم العمل ولكنكم دومًا في أدعيتي. والله يشهد أنني كلمّا أغمض عيني فإن منظر منازلكم يمرّ أمامي، أدعو الله دومًا من أجل الأطفال وأرجو أن لا تنسوني في أدعيتكم لأنني بحاجة لها”[2].
إن يوم تشييع الجنازة في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٥٧م كان يومًا مهيبًا في تاريخ الأمر في بريطانيا فقد جاء حوالي ثلاثمائة شخص من شتى أنحاء العالم وعلى رأسهم حضرات أيادي أمرالله وأعضاء الهيئة البهائية العالميةCouncil International Baha’iوأعضاء المحفل الروحاني المركزي في بريطانيا وجمٌّ غفير من المؤمنين والمؤمنات ليلقوا النظرة الأخيرة على مولاهم ومحبوبهم. كان فيضي حاضرًا منكسر الفؤاد، جريح القلب، دامع العين، وما لبث أن توجّهت إليه أمة البهاء روحية خانم وطلبت منه أن يتلو صلاة الميت. إن طلبها هذا وهبه القوة والعزيمة كي يتماسك ويمسح دموع الحزن، ثم أخذ يتلو صلاة الميت بصوته الملكوتي الرنّان ليحظى بهذا الشرف العظيم إلى الأبد.
[1] Faizi ص ٢٢٦ – ٢٢٧
[2] Faizi ص ٢٢٧
بعد انتهاء مراسم تشييع الجنازة ومغادرة المشاركين، اجتمع في قصر البهجة في ١٨ نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٥٧م ستة وعشرون من سبعة وعشرين من حضرات أيادي أمرالله (عدا السيدة كورين ترو؛ لكبر سنّها وعدم مقدرتها على السفر) وفي ١٩ نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٥٧م، أُعلِنَ عن عدم وجود وصية لحضرة ولي أمرالله وفي ٢٥ نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٥٧م أصدر جميع حضرات الأيادي بيانًا تاريخيًا أعلنوا فيه لقاطبة البهائيين في العالم عن عدم وجود وصية أو ذرية لحضرة شوقي أفندي وعدم إمكانيته تعيين من هو بعده نظرًا لأن حضرات الأغصان (المنتسبين لحضرة بهاءالله) كانوا قد توفوا أو نقضوا العهد وأصبحوا ضمن زمرة الناقضين، وبالتالي لم يكن باستطاعته تعيين من سيخلفه، وعلى أي حال فإنّ هذا الموضوع يُعهد به لبيت العدل الأعظم، عندما يتأسس في المستقبل، لكي يقرّر في شأنه. وطبقًا لما هو مذكور في ألواح الوصايا، فقد تقرّر تشكيل هيئة من تسعة أيادي أمرالله تكون مقيمة في الأرض الأقدس ومهمّتها إدارة وتوجيه شوؤن الجامعات البهائية والأحباء والمحافل المركزية في شتى أنحاء العالم حتى يتأسس بيت العدل الأعظم. تكوّنت هذه الهيئة من: أمة البهاء روحية خانم – إميليا كولنز – حسن باليوزي – جلال خاضع – ألبرت مولشكل – شارلز ميسون ريمي – ليروي ايواس – علي أكبر فروتن – وﭘول هني. وبعد فترة وجيزة قدّم السيد ألبرت مولشكل استقالته من الهيئة وانتخب جناب فيضي بديلًا عنه. ومع انتخابه عضوًا في هيئة الأيادي، دخلت مرحلة خدمته للأمر المبارك مرحلة جديدة تختلف عمّا سبق؛ فالأعباء أصبحت ثقيلة وخدماته عالمية والمسئوليات ضخمة وجسيمة، كما أن أمل عودته للبحرين أو إلى المنطقة العربية أصبح معدومًا. كان جميع حضرات الأيادي يجتمعون مرّة واحدة في السنة ولعدة أيام متتالية؛ للاطلاع على سير الأمور وللتشاور فيما بينهم مع هيئة الأيادي عمّا يجب عمله للجامعة البهائية والمراحل التي تمت في تنفيذ خطة العشر سنوات وكل ما يهم الأمر المبارك، ثم الإعداد لتأسيس بيت العدل الأعظم في رضوان (أبريل/نيسان) عام ١٩٦٣م. من المهام الجديدة التي أضيفت إلى كاهل فيضي ترجمته للعديد من الرسائل الفارسية إلى الإنجليزية وبالعكس حيث كان الوحيد من بين أعضاء هيئة الأيادي الذي كان يتقن الفارسية والعربية والإنجليزية بالإضافة إلى قيامه بترجمة أحاديث كل من حضرات الأيادي طرازالله سمندري وموسى بناني وشعاع الله علائي الذين لم يكونوا على إلمام تام باللغة الإنجليزية.
يبدو أن الفترة التي قضاها في خدمة هيئة الأيادي في الأرض الأقدس كانت فترة مليئة بالتحدّيات والصعاب لم يكن يرغب في ذكرها. وعندما سُئل في وقت لاحق، في إحدى المدارس الصيفية في بريطانيا عن ذكرياته أيام خدمته في هيئة الأيادي، كان ردّه بأن تلك الفترة كانت مؤلمة وشاقة لدرجة إنه لا يرغب في الحديث عنها. ولكن رغم مشاغله المتعدّدة ومسئولياته الجسام، لم ينسَ أحباءه وأعزاءه في البحرين الذين قضى معهم أكثر من أربعة عشر عامًا مليئة بالتحدّيات والذكريات الجميلة، وإنّ فراقه عنهم كان صعبًا حقًا فكتب إليهم يقول:
]لقد قلتُ لنفسي، عندما أعود وأعانقكم جميعًا وأحضن الأطفال فإن أحزاني قد تهدأ، ولكن يبدو أن قدري يخطط لشيء آخر وسأكون محرومًا من زيارتكم. عليّ أن أبقى هنا وليس بيدي سوى الطاعة. في هذه الأيام إذا كان بمقدور شخص عمل شيء فعليه أن يفعله. لماذا لم يحضرني الله العليّ القدير إلى هنا عندما كان حضرة ولي أمرالله المحبوب على قيد الحياة؟… صحيح إنني زائر هنا بالنيابة عنكم جميعًا… إنني في خدمة الخانم، ولكني في شوقٍ إليكم. إنّ كل القصص التي جمعتها في رحلاتي لأشارككم إياها، وكل ما أحضرته للأطفال… قد انتهى. يبدو إنّ جزءًا من حياتي قد انتهى وها قد دخلتُ حياة جديدة لا أستطيع أن أتواصل معكم. قبل عدّة ليال عرض علينا الدكتور حكيم الأشياء المتنوعة التي قدّمها له حضرة ولي أمرالله على فترات مختلفة. قلنا له إنك محظوظ ولكنه قال: “لا أريد أيًّا من هذه، أريده هو.” وأنا أيضًا أريدكم، أريد الأطفال. كم من الصبر يحتاجه الإنسان عندما يعلم بأنه فقد شخصًا عزيزًا عليه دون سابق إنذار؟…[[1].
والجدير بالذكر إن السيدة ﮔلوريا فيضي وابنها نيسان وابنتها مي تركا البحرين بعد تعيين جناب فيضي في هيئة الأيادي وذهبوا إلى مدينة موريMurree في باكستان التي تقع في إقليم البنجاب بالقرب من سفوح جبال الهملايا.
كان حجم العمل في الأرض الأقدس ضخمًا وكبيرًا لدرجة إنّه ذكر مرّة بأنه لم يذهب إلى مقام حضرة الباب للزيارة لمدة خمسة عشر يومًا وكان دائمًا يدعو الله أن يُلهِمَهُ القوة والقدرة لأداء المهام الموكولة إليه. من الأمور التي قد يستغربها الإنسان عندما كتب فيضي يقول إنه كان حزينًا طوال إقامته في الأرض الأقدس واستطرد: “إنّه سرّ لربما أستطيع أن أبوح به عندما نلتقي في العالم الآخر. باختصار، ومع أبسط الأعذار فإن قلبي المشتعل ميّال إلى صحراء العرب، إنه كالمجنون يبحثُ عن ليلاه”. ورغم مشاغله استطاع فيضي أن يحافظ على مراسلاته المستمرّة مع المئات من محبّيه من الأحباء والأصدقاء وحتى الأطفال الذين كان يعشقهم حقًا.
كان جناب فيضي على تواصل مستمر مع جناب فروتن في الأرض الأقدس حيث كلاهما كانا عضوين في هيئة الأيادي وعملا معًا على تخفيف آلام أمة البهاء روحية خانم في فقدان زوجها العزيز وكانا خير عضَدٍ لها. قام جناب فروتن بإعطائها بعض الدروس في اللغة الفارسية وتقوية قدرتها على القراءة والتحدّث، أمّا جناب فيضي فكان يعلّمها كتابة الخط الفارسي ويلعب معها لعبة الشطرنج أحيانًا. أقامت السيدة روحية خانم خلال صيف عام ١٩٥٨م في قصر البهجة مع أيادي أمرالله السيدة إميليا كولنز والدكتورة أليس كيدر التي كانت تهتم بصحة أمة البهاء، وعادة ما كان يقضي جناب فيضي عدة أيام معهنّ بعد حضور الاجتماعات. وفي الأمسيات عندما يكونون جالسين جميعًا في شرفة قصر البهجة ينظرون إلى الحدائق الجميلة، كان فيضي ينشد لهم قصائد شعراء الفرس القدامى المشهورين بصوته العذب. كانت روحية خانم معجبة جدًا من صوته ووصفته بأنه “رائع، عميق، مخملي وغنيّ” ولكن للأسف لم يسجّل هذا الصوت الملكوتي. ثمّنت حضرتها كل ما فعله فروتن وفيضي من أجلها، وقد أعربت عن امتنانها العميق لهما، حيث قالت في إحدى خطبها: “… لا أستطيع أن أصف الظروف التي كنتُ فيها، إنّ بقائي حيّة ممّا حدث للعالم البهائي، ولي شخصيًا، من أمر مروّع وهو وفاة شوقي أفندي، يعود إلى لطف ومحبّة هذين الشخصين لي… لقد فعلا كل ما بوسعهما مع إميليا كولنز التي عاشت معي ومن ثم مع الدكتورة كيدر وحاولا أن ينسياني ظروفي الصعبة. ولهذا فإنني مدينة لهذين الاثنين من الأيادي على وجه الخصوص بجزيل الشكر والامتنان لما فعلاه من أجلي شخصيًا”[2].
وخلال تلك الفترة استطاع جناب فيضي أن يتعرّف أكثر، وعلى نحو أفضل، على شخصية أمة البهاء روحية خانم، فوصفها في إحدى رسائله إلى البحرين: “من المستحيل أن نجد شخصية مثل الخانم. أعتقد إن هذه السيدة ليست من النوع البشري، إنها ملاك جاءت إلى الأرض من أجل وليّ أمرالله لتكون رفيقته. لا يضاهيها أحدٌ في الحديث، في الكتابة، في الحكمة وفي اللطف والمحبّة”[3].
ورغم مشاغله المتعدّدة فقد كان على تواصل مستمر مع أحباء الخليج وخاصة البحرين الذين عاش معهم سنوات عديدة، ولم ينسهم لدرجة إنه أرسل مرة مبلغًا من المال كتبرّع لصندوق المحفل باسم والدته ورجاهم أن يقبلوه. وقال: “حتى لو تبرّعت بآلاف الأضعاف فإنني لا أستطيع أن أفي بديني لذلك المحفل الجليل”. وبعد سنوات عندما عَلم بأنّ المحفل قد وضع صورة كبيرة له في مكان بارز في حظيرة القدس، لم يعجبه ذلك، وترجّاهم أن يزيلوها، وذكّرهم بما تعاهدوا به في أول لقاء جمعهم في المحفل بأن لا يتركوا اسمًا أو رسمًا سوى خدمة العتبة المقدسة الإلهية. حقًا هذه هي سمة المخلصين، هذه هي شيم المقرّبين.
وكما ذُكر فقد أعلن حضرة ولي أمرالله في أكتوبر/تشرين الأول ١٩٥٧م عن تشكيل خمسة مؤتمرات تبليغية قارية عام ١٩٥٨م في كل من: كمبالا (أوغندا) – سدني (أستراليا) – شيكاغو (الولايات المتحدة) – فرانكفورت (ألمانيا) – جاكرتا (اندونيسيا)، وعيّن حضرته أيادي أمرالله التالية أسماءهم مندوبين عنه في هذه المؤتمرات وهم بالترتيب: أمة البهاء روحية خانم – ميسون ريمي – يوغو جايكيري – إميليا كولنز وليروي ايواس. شارك جناب فيضي في المؤتمر الذي عقد في جاكرتا بأندونيسيا في سبتمبر/أيلول ١٩٥٨م ومن ثم شارك في مدرسة صيفية عقدت في كراتشي وهناك التقى بزوجته ﮔلوريا وأولاده الذين كانوا يقيمون في إقليم البنجاب، حينها كانت مي تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا ونيسان تسعة أعوام، وكانت فرصة سعيدة لاجتماع الأسرة بعد غيبة طويلة.
كانت علاقة فيضي بزوجته وأولاده حميمة وعميقة، وكان الفراق بالنسبة لهم جميعًا صعبًا ومرًّا، وقد أشار جناب فيضي إلى أمة البهاء روحية خانم إلى قلقه من هذا الفراق، ولهذا، وقبل سفره إلى أندونيسيا لحضور المؤتمر كتبت روحية خانم رسالة إلى ابنته مي مؤرخه ٩ سبتمبر/أيلول ١٩٥٨م وسلّمته إياها لكي يعطيها لها عندما يلتقيان في باكستان، وفي ما يلي أجزاء من هذه الرسالة:
]إن والدك العزيز كان قلقًا جدًا لأنه عندما يقوم بزيارتك أنت وشقيقك ووالدتك فإن عليه أن يترككم مرّة أخرى من أجل الرجوع إلى خدماته الهامة هنا كواحد من حرّاس ديننا العزيز. لقد تذكّر كم كان “الوداع” صعبٌ جدًا عليكم في المرّة الأخيرة ومتخوفًا من أن الوداع هذه المرّة سيجعلك تعانين مرّة أخرى. ولهذا أريد أن أكتب إليك الآن شيئًا عن حياتي وإحساساتي الشخصية… عليك أن تتحمّلي مصاعب الحياة بشكل متزايد وهي مصاعب تأتينا جميعًا مع تقدمنا في العمر. إن الكثير يعتمد على كيفية مواجهتنا لهذه الصعاب فكريًا. عندما كنتُ طفلة، كنتُ دومًا انفصل عن والدتي مي ماكسويل، التي أعشقها، لأنها كانت عضوًا في المحفل الروحاني المركزي ولم تكن بصحّة جيّدة وعادة ما كانت تذهب إلى أمريكا لحضور جلسات المحفل يمتد غيابها أحيانًا لعدة أشهر وكنت أعاني وأتوق لها. كنتُ الطفل الوحيد (وأنت محظوظة أن لديك شقيقًا) وهذا ما جعل الأمور أكثر صعوبة. ولكن عندما أعود وأنظر إلى الحياة الآن أراها بوضع أحسن، في الواقع إنها بركة أن تكون لي أم تضع الأمر المبارك في المقدّمة، بل وتضحّي بطفلها العزيز من أجله. كان ذلك مثالًا حقيقيًا لي، جعلني أفكر ليس فقط في عظمة وقدسية أمرنا المبارك فحسب، بل وأن أكون فخورة بوالدتي كبهائية وكإنسانة نبيلة سامية التفكير. يمكن لأطفال عديدين أن يحبّوا والديهم ولكن لرّبما لا يكون هناك أي سبب يجعلهم يكونون فخورين بهم. ولكنك يا مي يمكنك أن تكوني فخورة بوالدك وذلك بسبب خلوصه العظيم للأمر المبارك ولوليّ أمرنا المحبوب، وهذا ما يجعله يضع الخدمة فوق العائلة وحتى فوق حبّه لكِ الذي هو في غاية العمق والحنان. ولهذا أيتها العزيزة، عندما تعانين مرة أخرى أثناء وداع والدك، عاني بفخر، لعلمك بأن هذا الدين الرائع يستحق كل معاناة، بل كل تضحية حتى بأرواحنا، وكوني سعيدة بأن لكِ والدين بهائيين في غاية الإخلاص وكان حضرة ولي أمرالله المحبوب دومًا سعيدًا وراضيًا عنهما…[[4].
في عام ١٩٦٠م سمحت هيئة الأيادي لأعضائها بإحضار عائلاتهم والسكن في الأرض الأقدس، فاستدعى جناب فيضي زوجته وابنه وابنته الذين كانوا يقطنون في الهند آنذاك وجاءوا إلى حيفا في أوائل عام ١٩٦٠م. بعد يوم من وصولهم دعتهم أمة البهاء روحية خانم إلى مأدبة عشاء في منزل حضرة عبدالبهاء وهو المنزل الذي دخلته ﮔلوريا عندما كانت شابة والتقت فيه بحضرة ولي أمرالله. كانت فرصة جيّدة ليتعرّف أعضاء أسرة فيضي على السيدة الأولى في العالم البهائي. وفي الأيام التالية، رافقهم جناب فيضي لزيارة المقام الأعلى والأماكن المقدسة البهائية الأخرى في كل من حيفا وعكاء. كانت مي تبلغ من العمر ستة عشر عامًا ونيسان إحدى عشرة سنة وقد دخلا المدارس في حيفا وكانت الأسرة على اتصال وثيق مع روحية خانم، وعادة ما تدعوهم ليكونوا معًا أيام الجمع في المساء. عملت ﮔلوريا كمرشدة سياحية مع الدكتور لطف الله حكيم للذين يأتون لزيارة مقامي حضرة الباب وحضرة عبدالبهاء وأيضًا عملت على استبدال الزهور الذابلة بأخرى جديدة في كل من مقام حضرة الأعلى ومقام حضرة عبدالبهاء.
لم يغيّر أيادي أمرالله الإجراءات التي وضعها حضرة شوقي أفندي للزيارة، فكانت مجموعة الزائرين التي تأتي لزيارة الأماكن المقدسة في الأرض الأقدس آنذاك تتكون من ثمانية عشر زائرًا، نِصفَهُم من أحباء الشرق والنصف الآخر من أحباء الغرب (مع العلم بأن اليوم تتكون المجموعة من مائة وخمسين زائرًا)، وكانت المجموعة تسكن في بيتي الزائرين الشرقي والغربي ولمدة تسعة أيام التي هي فترة الزيارة كما هي اليوم. وعادة ما كان الزائرون يلتقون بين الحين والآخر بحضرات أيادي أمرالله المقيمين هناك وكان جناب فيضي يقضي كباقي زملائه من الأيادي بعض الوقت معهم، يستمع إليهم ويروي الحكايات الأمرية الشيّقة التي تعود إلى الرموز المقدسة البهائية، ممّا كان يبهج قلوب الزائرين وتنطبع في ذاكرتهم. في إحدى المرّات كانت من بين الزائرات امرأة بسيطة من إيران اسمها ربابة عملت كخادمة في إحدى المنازل لمدة عشرين سنة وقد جمعت كل مدّخراتها لكي تستطيع أن تأتي للزيارة. كانت ملابسها بسيطة جدًا، كما كانت في غاية الهدوء والتواضع بحيث لم يلتفت أحد إلى وجودها. في الليلة الأخيرة من زيارتها اندفعت فجأة إلى بيت الزائرين واضعة ألبوم صور على صدرها وأخذت تبكي وتنتحب، حاول أفراد المجموعة معرفة سبب اضطرابها وبكائها ولكن دون جدوى؛ فقام أحد الزائرين بأخذ ألبوم الصور منها وفتحه فوجده مليئًا بالصور العديدة للمقامات المقدسة والحدائق والأماكن المقدسة البهائية الأخرى، وقد كتب جناب فيضي بخطه الجميل تحت كل صورة نبذة عنها. اتضح إنّ حضرته قد أعدّ هذا الألبوم خصيصًا لربابة ليهديها إياه يوم مغادرتها، ورمزًا للحب والوفاء وتذكارًا لزيارتها للأرض الأقدس ممّا جعلها تبكي بهذا الشكل وهي التي لم تتوقع أن تقوم شخصيّة مميّزة مثل فيضي بتقديرها. لقد صدق هذا البيان المبارك من حضرة عبدالبهاء في حق فيضي: “كونوا دائمًا سببًا في سرور قلوب الآخرين، لأن أفضل إنسان هو من يكسب القلوب ولا يجرح أحدًا. وأسوأ النفوس هو من يكدّر القلوب ويكون سببًا في حزن الناس. اسعوا دائمًا لسعادة النفوس وفرح القلوب”[5].
من أكبر التحدّيات التي واجهت هيئة الأيادي أثناء فترة السنوات الست التي أدارت فيها زمام الأمر المبارك بكفاءة عالية، كانت ادعاء ميسون ريمي بولاية الأمر في بريل/نيسان ١٩٦٠م. كان رد فعل هيئة الأيادي حازمًا وقويًا حيث رفض جميع حضرات الأيادي والمحافل المركزية في العالم هذا الادعاء جملة وتفصيلا سوى المحفل المركزي في فرنسا الذي وللأسف وافق على ادعاء ريمي بأغلبية خمسة أصوات. بتاريخ ٢٨ أبريل/نيسان ١٩٦٠م أعلنت هيئة الأيادي هذا الخبر للعالم البهائي، وفي بداية شهر مايو/أيار، أرسلت عضو الهيئة أيادي أمرالله جناب أبو القاسم فيضي مندوبًا عنها إلى المحفل المركزي في فرنسا للحديث معهم ومحاولة ثنيهم عن هذا التأييد غير المنطقي الذي يرمز إلى نقض العهد والميثاق، وهو أكبر تحدٍ خطير ومسئولية كبيرة تواجهه في حياته. كان يعلم منذ البداية بأنّ التعامل مع الناقضين مهمّة شاقة وصعبة ولكنه كان متوكّلا على فضل مولاه في جميع مراحل خدماته التاريخية للأمر المبارك؛ ولهذا توجّه إلى باريس وطلب اجتماعًا مع المحفل المركزي فحُدّد له الساعة الثانية عصرًا. في اليوم والساعة المحددة وصل جناب فيضي إلى حظيرة القدس، ولكن قال له رئيس المحفل المركزي، وهو من مؤيدي ريمي، “أن المحفل يود أن يجتمع اجتماعًا خاصًا قبل اجتماعه بكم.” حينها قال فيضي بأن الموعد المحدّد هو الثانية عصرًا وأنا أتيت على الموعد، واذا أردتم الاجتماع كان المفروض أن تجتمعوا قبل ذلك. بدأ الاجتماع وما لبث أن بدأ بعض الأعضاء بالاعتراض عليه، وكان هدف فيضي أن يوضح الأمور ويردّ على أولئك الذين أيدوا ريمي في ادعائه وأن يجاوبوا على سؤالين محددّين. ولكن الجواب كان غريبًا ومدهشًا لدرجة أن جسم فيضي بدأ يرتجف وتجمّدت شفتاه، وفي النهاية سأل عن المؤيدين لريمي فرفع خمسة من الأعضاء أياديهم. نهض فيضي فورًا من مكانه وقال أن مهمته قد انتهت وليس لديه ما يقوله أو يفعله. كان حضرات الأيادي قد قالوا للسيد فيضي إن كانت الأغلبية تؤيد ريمي في ادعائه فيجب حلّ ذلك المحفل وانتخاب محفل آخر مكانه. أمضى جناب فيضي ليل ذلك اليوم يفكر كيف يمكن أن يحل هذه المشكلة بحيث يحافظ على مكانة أمرالله. ولكن في صباح اليوم التالي خرج من حيرته عندما جاءه أربعة من أعضاء المحفل المركزي من الثابتين على العهد والميثاق إلى الفندق معهم استقالات جماعية لخمسة من أعضاء المحفل المركزي المؤيدين لريمي. فيضي أصبح سعيدًا وكأنه مَلِكَ الدنيا، وفورًا أرسل هذه الاستقالات إلى حيفا. كما قام، وحسب الصلاحية المخولة له، بحل المحفل المركزي في فرنسا وأبلغ ذلك هيئة الأيادي الذين قاموا بتاريخ ١٤ مايو/أيار ١٩٦٠م إعلان ذلك إلى عموم حضرات الأيادي في العالم. كما تم الإعلان بأنه، وبصورة مؤقتة، سيقوم المحفل الروحاني لمدينة باريس بمهام المحفل المركزي لحين إجراء انتخابات جديدة للمحفل المركزي، وإن الأعضاء الخمسة المؤيدين لريمي غير مؤهلين للانتخاب. بعد ذلك قام جناب فيضي بزيارة الأحباء في عدّة مراكز أمرية في فرنسا وحثّهم على الثبوت والاستقامة على العهد والميثاق والمشاركة في انتخاب المحفل الروحاني المركزي الجديد. في كلمة ألقاها السيد علي نخجواني بعد وفاة جناب فيضي قال: “إن ما فعله فيضي في تلك الأيام هو حماية أمرالله في فرنسا وفي أوروبا. إن المؤرخين في المستقبل سيشيدون ويقدّرون ما استطاع إنجازه”[6].
كانت مهام ووظائف فيضي في الأرض الأقدس متعدّدة وكثيرة. في رسالة له إلى أحد الأحباء يصف يومه بالآتي: “سأحدّثك عن عمل يوم واحد حتى تعلم حجم العمل الموجود هنا. في الصباح الباكر أذهب إلى موقع مشرق الأذكار… ومن ثم جلسة الأيادي، وفي الثانية عصرًا أترجم لأحد الأيادي الذي يتحدّث إلى الزائرين الغربيين، ومن ثم في الثالثة والنصف أكون مع الزائرين الغربيين في دار الآثار العالمية، وفي الساعة السادسة أذهب إلى مقام حضرة الباب وحضرة عبدالبهاء لتلاوة الأدعية والمناجاة مع الزائرين الشرقيين والغربيين، وفي السابعة أترجم لأيادي آخر في لقاء له مع الزائرين. أذهب إلى منزل حضرة المولى في العاشرة ثم أرجع الى البيت في منتصف الليل. أرى ﮔلوريا ونيسان في الصباح لمدة عشر دقائق فقط، كلاهما تخلّى، الأولى عن كونها زوجتي، والآخر عن كونه ابني”[7].
بعد سنة من ورود مي إلى الأرض الأقدس قرّر جناب فيضي وزوجته إرسالها إلى بريطانيا لتكملة تعليمها وبعد مدّة تزوّجت من مؤمن بريطاني اسمه بيترPeter ثم جاءت ﮔلوريا إلى بريطانيا وسكنت معها لفترة من الزمن، وبعد أن وضعت مي طفلها الأول، جاء فيضي إلى بريطانيا وشاهد حفيدته الأولى وقد لاحظ وجود صورته فقط في غرفة الطفل، وذلك لأنه كان الجد الغائب الوحيد، ولكنه طلب من مي أن تضع صور جميع أجداد الطفل.
قبل عدة أيام من وفاة أيادي أمرالله إميليا كولنز، طلبت مقابلة جناب فيضي. كانت مريضة تعاني من التهاب شديد في المفاصل ولهذا أصبحت طريحة الفراش وتبلغ من العمر ثمانية وثمانين عامًا وتسكن مع روحية خانم في بيت حضرة عبدالبهاء. جاء فيضي إليها، فما أن شاهدته حتى أمسكت بيده ورتبت عليها وقالت: “فيضي، فيضي، لماذا لماذا؟” وتقصد لماذا هي على هذا الحال؟ ثم عانقته وذكّرته إنّه كان يتلو لها أدعية وألواحًا لها، فسألها فيضي إن كانت تود أن يتلو لها مناجاة، وما لبث أن ملأ فضاء الغرفة بصوته الحنون هو يتلو المناجاة الفارسية من حضرة عبدالبهاء التي تبدأ: “أيها المتوّجه إلى الله، أغمض عينك عن جميع ما سوى الله وانظر إلى الملكوت الأبهى، أطلب كل ما تريده منه، بنظرة ستستجاب مائة ألف حاجة…” وبعد الانتهاء من التلاوة طلبت إميليا منه أن يشرح لها معنى الكلمات فقام بشرحها وقال إنّ كلماتها هي في الواقع جواب على أسئلتها عندما يتفضل “إنه يفعل ما يريد أن يفعله”. عانقت إميليا فيضي مرة أخرى وقبّلته، فانهمرت الدموع من عينيه وسالت على وجهها، وبعد يومين أي الأول من يناير/كانون الثاني عام ١٩٦٢م عرج روحها الطاهر إلى الملكوت الأبهى لينضمّ إلى ركب الأوفياء والمخلصين في عالم الأسرار. عليها بهاءالله ورحمته.
في مايو/أيار ١٩٦٢م جاءت مادر جان والدة جناب فيضي إلى الأراضي المقدسة في أول زيارة لها وكانت فرصة طيبة لنيسان وﮔلوريا أن يلتقوا بها. وفور رجوع والدته إلى إيران كان لجناب فيضي رحلة طويلة لأمريكا الجنوبية هي الأولى له، وخلال هذه الفترة غادر نيسان حيفا لينضمّ إلى شقيقته مي ووالدته في بريطانيا. لم يكن فيضي يتوقع من ﮔلوريا أن تصاحبه في رحلاته نظرًا لطول هذه الرحلات ومشاقها، بل كان يشجّعها أن تسافر لوحدها لنشر النفحة المسكيّة الإلهيّة وتكتسب الخبرة والمعرفة في هذا المجال. وفي الواقع كتب فيضي قبل ما يناهز العشرين عامًا إلى المحفل المركزي في إيران، يشجّعه على إرسال النساء من إيران إلى حقل التبليغ العالمي أسوة بأخواتهنّ الأوروبيات والأمريكيات، وكان جواب المحفل المركزي أنّ ﮔلوريا تعتبر شخصية مناسبة لذلك ولكن لم يحدث شيء في ذلك الوقت. في عام ١٩٦٦م دعاها المحفل المركزي في الهند لإلقاء المحاضرات عن الأمر المبارك في الجامعات والكليات الهندية، ثم كانت لها رحلة طويلة إلى كل من ماليزيا وسنغافورة واليابان ونيوزيلندا وأستراليا وساموا وهاواي ثم الولايات المتحدة.
إنّ سفر فيضي إلى أمريكا الجنوبية عام ١٩٦٢م جاء بناء على طلب هيئة الأيادي، كما طلبت الهيئة من باقي أيادي أمرالله أيضًا نفس الشيء ولكن في مناطق مختلفة من العالم وهو السفر للتبليغ ولقاء الأحباء وتشجيعهم وتثقيفهم وهي الوظيفة الأصلية المنوطة بأيادي أمرالله. شملت رحلة فيضي زيارة كل من الأرجنتين وشيلي وبوليفيا وباراغوي والبرازيل وأوروغوي وكولومبيا وكوستا ريكا وبنما وجمهورية الدومنيكان والأكوادور وبيرو والسلفادور وجواتيمالا وهايتي وفنزويلا والهندوراس ونيكاراجوا والمكسيك.[8] من الدول التي كانت قد بدأ فيها دخول أفواج المؤمنين هي بوليفيا وكانت زيارته لها مفيدة ومثمرة جدًا. فقد بدأ بحملة تبليغية ومعه المهاجر والمبلّغ العزيز السيد مسعود خمسي الذي كان عضوًا في هيئة المعاونين آنذاك ومن ثم وفي زمن بيت العدل الأعظم أصبح عضوًا في هيئة المشاورين القارية ثم عضوًا في دار التبليغ العالمية، حيث ذهبا معًا إلى المنطقة التي يقطنها البوليفيون الهنود الأصليون وتقع على مرتفعات جبال الأنديز وكان ترحيب البوليفيين بهما بكلمة “الله أبهى” مما جعل فيضي ينسى تمامًا كل أتعابه ومشاقه.
من ذكرياته الجميلة في بوليفيا إنّه وبينما كان فيضي وخمسي في السيارة ذاهبين لمكان آخر للقاء الأحباء، شاهدا مجموعة من الرجال والنساء والأطفال جالسين على الطريق، وعندما اقتربا منهم نهضوا من مكانهم وجاءوا لتحيّتهم حيث اتّضح أنهم من الأحباء جاءوا من إحدى القرى التي يصعب الوصول إليها وساروا لمسافات طويلة وأخذوا أطعمتهم معهم وجلسوا على الطريق بانتظار مرور ولقاء أيادي أمرالله العزيز جناب فيضي. فبعد اللقاء وتلاوة الأدعية والمناجاة والحديث والمشاركة في الطعام مع فيضي وخمسي رجعوا الى قريتهم بكل روح وريحان. كان فيضي سعيدًا جدًا بهذا اللقاء.
وبينما كان في كولومبيا عازمًا على السفر إلى أمريكا الوسطى، طلبت هيئة الأيادي منه السفر فورًا إلى شيلي حيث بدأت تظهر بوادر النقض بين الأحباء هناك، وظهور من يؤيد ادعاءات ميسون ريمي وعلى الأخص بعض أعضاء المحفل المركزي ومنهم رئيس المحفل. كان هناك أعضاء في المحفل المركزي يرفضون ادّعاء ريمي بشدّة لدرجة إنّهم طلبوا طرد رئيس المحفل، كما وصلت برقية من المركز العالمي تفيد بعدم السماح للمحافل الروحانية والأفراد بلقاء أي من أتباع ريمي. في شهر سبتمبر/أيلول ١٩٦٢م توّجه فيضي فورًا إلى شيلي والتقى ببعض المؤيدين لريمي وتكلّم معهم بكل وضوح وصرامة ولم يكن يتصوّر أن نقض ريمي قد يصل أمريكا الجنوبية. أقام جناب فيضي في شيلي ثلاثة أشهر زار خلالها الأحباء في العاصمة سانتياغو ومن ثم التقى بالمحافل الروحانية المحلية في المدن المختلفة وقد شرح لهم حقيقة الموقف وزيف ادعاءات ريمي، وكانت النتيجة ثبوت غالبية الأحباء على العهد والميثاق، ولكن ظل تسعة أفراد يتبعون ريمي ممّا اضطر هيئة الأيادي أن تعلن عن نقضهم للعهد والميثاق ومن ثم طردهم من الجامعة. وبينما كان طيلة هذه المدة في شيلي، سنحت له الفرصة أن يكتب ما كان يجول بخاطره من أفكار وذكريات، فكتب ثلاثة خواطر باللغة الإنجليزية، الأولى عن الهجرة والمهاجرين، والثانية عن حبّه للسكان الأصليين، والثالثة عن صعود حضرة ولي أمرالله وقد نشرت بعنوانThree Meditations on the Eve of November the fourth أي (ثلاثة خواطر في ليلة الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني). بعد ذلك كانت له رحلة الى هندوراس في شهر فبراير/شباط ١٩٦٣م ومنها إلى جواتيمالا.
[1] Faizi ص ٢٣١
[2] Faizi ص ٢٣٥ – ٢٣٦
[3] المرجع السابق ص ٢٣٦
[4] Faizi ص ٢٣٩ – ٢٤٠
[5] بدائع الآثار مجلد ١ ص ٢٧٢ (مترجم)
[6] Faizi ص ٢٥١
[7] Faizi ص ٢٥١ – ٢٥٢
[8] هذه الزيارات تمت من يونيو/حزيران ١٩٦٢م حتى مارس/آذار ١٩٦٣م
في رضوان عام ١٩٦٣م وبناء على دعوة هيئة أيادي أمرالله المقيمة في الأرض الأقدس عقد في حيفا مؤتمر عالمي لانتخاب أعضاء بيت العدل الأعظم خلال الأيام ٢١ و٢٢ و٢٣ أبريل/نيسان وبحضور حوالي ثلاثمائة مؤمن يمثلون ٥٦ محفلًا روحانيًا مركزيًا وكان ضمن المدعوين حضرات أيادي أمرالله وفرسان أمر حضرة بهاءالله الذين فتحوا المناطق الجديدة في خطة العشر سنوات. وبعد عدة أيام وتحديدًا يوم ٢٨ أبريل/نيسان عقد في مسرح ألبرت هول في لندن المؤتمرالبهائي العالمي الأول وكانت الدعوة عامة وموجّهة لعموم الأحباء وقد حضره حوالي سبعة آلاف شخص يمثّلون مختلف الأعراق والأجناس وقد استغرق المؤتمر خمسة أيام وانتهى يوم ٢ مايو/أيار ١٩٦٣م. لم يشارك جناب فيضي في الأيام الأربعة الأولى من المؤتمر حيث قرّرت هيئة الأيادي إبقاءه في حيفا حتى لا يكون المركز العالمي خاليًا من أي عنصر هام تحسّبًا لأي طارئ، ولكنه استطاع السفر في اليوم الرابع والمشاركة في اليوم الخامس والأخير من المؤتمر وألقى كلمة ختامية قال فيها:
]قبل مائة عام وبينما كان حضرة بهاءالله في بغداد، يتمشى أمام البيت المبارك، ومعه مجموعة من الناس واقفين، بعضهم من الأمراء وأبناء الملوك الإيرانيين والبعض الآخر من كبار العائلات العربية، ومن ثم تفضّل حضرة بهاءالله: “ما الأخبار من المدينة؟ ما الأخبار عن الشهداء؟”. قال أحد الأمراء: “كيف يمكن ذلك، فبينما تحدّث أتباعك عن مواضيع سامية، تتحدّث معنا فقط عن أخبار المدينة والشهداء؟”. مشى حضرة بهاءالله بعض الشيء ثم قال: “إن النفوس التي تستطيع سماع كلامي لم تُخلق بعد”، ثم سار أيضًا وتحدّث بعض الشيء معهم. ومن الأمور التي ذكرها هي “إن كانت هناك لآلئ تحت سبعة بحار فإنني أستطيع استخراجها، وإن كانت هناك جواهر مدفونة تحت سبعة جبال فإنني أظهرها بقدرة وهداية الكلام الإلهي”. في ذلك الوقت من كان يستطيع أن يفهم معنى هذه الكلمات. ولكن اليوم نرى بأمِّ أعيننا تحقق هذه الكلمات. لقد أخرج حضرة بهاءالله اللآلئ من البحار السبعة وأخرج الجواهر من الجبال السبعة وجمعها كلها هنا، من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي إلى جبال بوليفيا، من جميع دول العالم. هؤلاء هم اللآلئ والجواهر التي كان يرغب حضرة بهاءالله في الحصول عليها[[1].
وتجدر الإشارة إلى أنه في اليوم الثالث من المؤتمر الموافق ٣٠ أبريل/نيسان ١٩٦٣م تمت قراءة أول رسالة صادرة عن بيت العدل الأعظم بعد تأسيسه إلى قاطبة البهائيين في العالم. في هذه الرسالة أثنى وأطرى بيت العدل على الجهود الجبارة والحثيثة التي بذلتها هيئة أيادي أمرالله وجميع الأيادي في سبيل حفظ وحماية الأمر المبارك وتوصيل سفينة أمرالله إلى برّ الأمان وتسليم هذه الأمانة الإلهية إلى أمناء أمره الجدد، حيث جاء في هذه الرسالة:
“… إنّ تسابيح الفرح والشكر والمحبّة والتمجيد التي نقدّمها لمقام حضرة بهاءالله غير كافية. وإنّ الاحتفالات بهذا اليوبيل العظيم، وكما وعدنا به وليّ أمرنا المحبوب والذي نحن بصدده الآن، سيكون ناقصًا إن لم نقدّم التقدير والثناء في هذا الوقت إلى حضرات أيادي أمرالله لأنهم يشاركون النصر مع قائدهم المحبوب الذي ربّاهم وعيّنهم. لقد أبقوا السفينة على مسارها الصحيح وأوصلوها إلى شاطئ بحر الأمان. إنّ بيت العدل الأعظم وبكل فخر ومحبّة يُعرِبُ، في هذه المناسبة العظيمة، عن عميق إعجابه بالأعمال البطولية التي قاموا بها. لا نريد أن نسهب في ذكر الأخطار الشديدة التي واجهت الأمر الرضيع عندما حُرِمَ فجأة من حضرة شوقي أفندي المحبوب، بل نقرّ أن نثمّن مع كل المحبّة والتقدير القلبي بحقيقة التضحية والكد والجهد والانضباط والقيادة الفذّة التي قام بها حضرات أيادي أمرالله …”[2].
كان سروره بالغًا عندما تم انتخاب بيت العدل الأعظم، تلك المؤسسة الإلهية التي طال انتظارها، كما إنّ خضوعه وخشوعه وطاعته وولاءه لها كان فوق أي تصوّر. وكذلك احترامه وتقديره وإعجابه بحضرات أعضاء تلك المؤسسة العليا كان شديدًا أيضًا. كتب في إحدى رسائله: “والآن وبعد وجود بيت العدل الأعظم، وأنا أرى كل يوم هؤلاء النفوس النفيسة وما لديهم من فائق المحبّة والطاقة والحماس والاخلاص، أشعر بأني لم أعد متعبًا حتى لو كانت هناك جبالٌ من العمل والمسئوليات ملقاة على عاتقي، وأحس بنفسي اكثر سعادة واستعدادًا وفي حالة معنوية أسمى من أي وقت مضى”[3]. وفي رسالة أخرى كتب: “يرجى الدعاء حتى يعرف الأحباء في أي يوم هم يعيشون. لو إنهم يفهمون إلى ماذا يرمز بيت العدل، سيضحّون بكل ما لديهم من أجل مساعدة بيت العدل”[4]. وأيضًا: “إن كنت تعلم ماذا يعني وجود بيت العدل بيننا؟ وإن كان الأحباء حقيقة يعلمون ذلك، فسيزول حزنهم وسيضحّون بكل ما يملكون من أجله، بحيث يكتسب القوة يومًا بعد يوم، وتزداد عظمته. إنّ كل عضو من أعضائه الأعزّاء يعمل بكلّ جدّيةٍ وإخلاصٍ ونكرانٍ للذات لدرجة لا أستطيع وصفها. إنهم يعملون بجهد جبّار بحيث أصبح أحيانًا قلقًا على صحّتهم”[5].
من أمتع اللحظات التي كان يقضيها حضرات أيادي أمرالله في الأرض الأقدس هو اجتماعاتهم المشتركة مع بيت العدل الأعظم، تلك المؤسسة المعصومة والمُلهمة التي ستقود البشرية إلى مصيرها المحتوم. أضاف فيضي قائلًا: “في الواقع يمكن للمرء أن يرى بوضوح كيف يمكن للقلوب الطاهرة والأرواح المنيرة أن تكون محلًا لتجلّي الإرادة الإلهية. إنه لمدهش وممتع حقًا ملاحظة ذلك”[6].
في شهر يونيو/حزيران ١٩٦٣م تم حلّ هيئة أيادي أمرالله وأصبح بيت العدل الأعظم المرجع الأعلى المقدّس المصون الوحيد الذي تتّجه إليه آمال وتطلعات عموم البهائيين في العالم، وأصبحت فعاليات وأنشطة حضرات الأيادي تحت إشراف وهداية وتوجيه هذه المؤسسة الإلهية. أما حضرات الأيادي فقد كانوا على علم تام بالوظيفة المقدسة المخوّلة إليهم من حضرة بهاءالله، وهي تبليغ وترويج ثم حماية وحفظ الأمر الكريم وكان ذلك هو السبب الرئيسي الذي دعاهم إلى الطلب من كافة أعضاء المحافل الروحانية المركزية بعدم انتخابهم لعضوية بيت العدل الأعظم، وهو رمز لإنكار الذات، حتى يتفرّغوا تمامًا لمهامهم الأساسية الملقاة على عاتقهم. ولهذا قاموا جميعًا وبكل تجرّد وانقطاع بالسفر والترحال إلى شتى بقاع العالم رافعين راية يا بهاء الأبهى. هذه الرحلات جميعها كانت بتوجيه وهداية بيت العدل الأعظم الذي كان خير سندٍ وعضدٍ لهم.
بالنسبة لجناب فيضي فبعد المؤتمر العالمي في لندن ذهب في رحلة تبليغية إلى أمريكا الجنوبية ثم إلى الولايات المتحدة ثم عاد إلى الأرض الأقدس ومنها إلى إيران حيث مكث فيها خمسة وأربعين يومًا. كان ذلك في آواخر عام ١٩٦٣م وبداية عام ١٩٦٤م وكانت رغبة الأحباء شديدة في لقاء أي من حضرات أيادي أمرالله الأعزاء، ذكرى حضرة ولي أمرالله المحبوب، ولهذا كان لجناب فيضي برنامجه اليومي الذي يبدأ من الصباح وينتهي في المساء. كان ذلك في شتاء طهران حيث البرد الشديد والثلوج تغطي الأرجاء، فكان صعبًا عليه التأقلم مع هذا البرد بعد أكثر من أربعة عشر عامًا قضاها في البحرين في جو حار ورطب، ولكن حرارة محبّة الأحباء له وعشقه لهم أدفأت جسمه. كان الشباب في غاية الشوق والرغبة في معرفة المزيد عن الأمر المبارك وفي حضور الجلسات، ومثلًا عندما كانت اللجنة الخاصة تدعو مائة شخص للحضور يأتي خمسمائة شخص. في جميع اجتماعاته شجّع الأحباء على طرح أسئلتهم حيث كان يعتقد أن هذه الأسئلة تعبّر عن طبيعة مجتمعهم والمشاكل والنقائص التي يعانون منها، وكان يردّ عليهم بكل محبّة حسب خبرته الطويلة التي اكتسبها سواء في مناطق هجرته أو أثناء خدمته في هيئة أيادي أمرالله في الأرض الأقدس. كما كان يقوم بعد اجتماعاته الصباحية بزيارة المبلّغين البارزين في إيران، وأيضًا الفقراء والمرضى الذين لا يستطيعون حضور الاجتماعات ويستمع إلى قصصهم وتجاربهم ويشاركهم ذكرياته ويبث روح الوحدة والاتحاد والمحبّة والألفة في قلوب كل من كان يجتمع بهم. لقد كان فيضي نافذًا في بصيرته، واسعًا في معرفته، عظيمًا في عطائه، عميقًا في فهمه، شامخًا في تواضعه، لم يميّز في أي يوم، أي شخص بمكانته أو بثروته أو بجاهه، بل كان ينظر إلى الجميع بنظرة واحدة عاملًا بما تفضّل به القلم الأعلى: “إيّاكم أن تخوّفكم شئونات العالم تمسّكوا بالأعمال والأخلاق وبما يرتفع به مقام الإنسان، كذلك أمرناكم من قبل وفي هذا المقام الرفيع. احفظوا مقاماتكم وما قدّر لكم من لدن مقتدر قدير“[7]. أُعجِبَ جناب فيضي خلال رحلته هذه بفعاليات شباب إيران وحماسهم وإيمانهم وشغفهم الكبير لخدمة الأمرالمبارك وعلى الأخص تطوّرهم في إلقاء الخطب وعقد الصفوف لتدريب المبلغين رغم التحدّيات الكبيرة التي كانت تواجههم. وحول هذه الصفوف كتب إلى بيت العدل الأعظم ما يلي:
“دعني أصف لكم أحد صفوفهم. في يوم معيّن يتم دعوة الوالدين والأصدقاء لملاحظة الامتحان النهائي لصف إلقاء الخُطب العامة. كانت هناك مجموعتان، كل مجموعة تتكون من أكثر من ثلاثين ولدًا وبنتًا تكون تحت إشراف وتوجيه ثلاثة مدرسين. أعضاء كل صف كانوا قد شاركوا في العديد من الرحلات التبليغية من طهران إلى العديد من مناطق إيران وعلى الأخص القرى. تعهّد كل واحد منهم أن يحفظ أكثر من ٧٥ مقتطفًا من الكتابات المقدسة… كل واحد منهم كان يحفظ على الأقل خمسة ألواح طويلة بالفارسية أو العربية رغم أن وسائل المواصلات لم تكن ملائمة أو مريحة أو متوفرة أو رخيصة، ولكن نادرًا ما كان يتأخر أحد من الطلبة عن أي من الصفوف. وعندما كانوا يلقون الخطب أو يقرأون الألواح أو ينقلون مقتطفات من الآثار المقدسة فإنّ تلفّظهم وإلقاءهم كان واضحًا ونافذًا. في نهاية اللقاء كنا سعداء بإلقاء نظرة على العديد من الكتب التي استنسخها الطلاب والكتب المختلفة التي استخدموها كمراجع خلال العام. عندما طلبوا مني أن أقول لهم شيئًا شعرت بسعادة غامرة لدرجة صعب عليّ الكلام. في نهاية اليوم وعدوا بإكمال دراساتهم حتى يكونوا على استعداد لخدماتهم المستقبلية. بعيون دامعة أعربوا عن خضوعهم وخشوعهم واحترامهم وولائهم لبيت العدل الأعظم وبعثوا برسالة مفادها إنهم مستّعدون للمشاركة في الخطة السنوية الجديدة المعدّة من قبل تلك الهيئة العليا”[8].
من طهران ذهب إلى اصفهان وفيها قضى خمس ليال، منها ليلة واحدة في قرية نجف آباد المجاورة التي هاجر إليها قبل أكثر من ثلاثين سنة معلّمًا للأطفال والشباب وأمضى فيها أربع سنوات ونصف، وها هو يعود إليها اليوم بعد خدمات طويلة أدّاها في البحرين وفي هيئة أيادي أمرالله، فاستقبل استقبال الفاتحين. كان الترحيب به جميلًا ورائعًا حيث نُصبت خيمة كبيرة في فناء أحد المنازل والأرض كانت مغطاة بالسجّاد وجلس عليها أكثر من ألف بهائي متلهفين لسماع بيانات أيادي أمرالله جناب أبوالقاسم فيضي. كان من بين الحضور من عانى الكثير من المشاق والمتاعب أثناء موجة الهجوم على الأحباء عام ١٩٥٥م لعدة أشهر، كان هؤلاء الأحباء محرومين من شراء المؤن من السوق وكان هناك من يراقبهم ويمنعهم من التسوق بل حتى مُنِعوا من جني محاصيلهم وكذلك من استخدام وسائل المواصلات. واقفًا في وسط هؤلاء البهائيين الشجعان الثابتين لم يستطع فيضي أن يتفوّه بكلمة، وعندما نظر إلى وجوههم النورانية استطاع التعرّف على العديد منهم، حيث كان يدرّس بعضهم في طفولتهم وشبابهم والبعض من كان يجلس في حضنه. لقد كانت محبّتهم له فيّاضة وعشقهم شديدًا، لدرجة إنّه تمالك نفسه ونزولًا لرغبتهم بدأ بالحديث. كانت بداية حديثه عن أحباء بوليفيا وتضحياتهم وإقداماتهم ثم تحدّث عن نمّو وتطوّر الأمر السريع في الهند وأفريقيا ثم روى بعض القصص التبليغية التي جمعها خلال رحلاته حول العالم. عندها شاهد الدموع تنهمر على الوجوه وكأن التعابير المرسومة عليها تقول له: “رغم القيود التي تكبّلنا وعدم استطاعتنا حمل النور الإلهي بحرية لأقطار أخرى، ولكن إخواننا وأخواتنا في بقاع العالم الأخرى وعن طريق خدماتهم المتفانية أخذوا هذا النور حتى إلى المناطق المظلمة والنائية من أكناف العالم”.
قبل توجّهِهِ من اصفهان إلى شيراز أبرق إلى أيادي أمرالله في المركز العالمي يطلب منهم تعيين يوم وساعة محدّدة يذهبون فيها إلى المقام الأعلى حتى يتوجّه هو بدوره إلى بيت شيراز لينضمّ إليهم روحيًّا، وبذلك تمتد سلسلة مغناطيس روحانية بين نقطة البداية ونقطة النهاية، منزل حضرة الأعلى المبارك في شيراز ومقامه الأعلى على جبل الكرمل. ولسوء الحظ لم يتلق ردًّا. أمضى حضرته خمسة أيام في شيراز، وفي أحد الأيام شعر بقوة غامضة تجذبه لزيارة بيت حضرة الباب، مركز حجّ أهل البهاء ومن أقدس بقاع العالم، وعندما دخل البيت المبارك بكل احترام واجلال ذُهل بتواضع ذلك المكان وصِغَر غرفاته والبركة الصغيرة في فنائه مقارنة بعظمة وشموخ أمر حضرة الباب الذي علا صيته اليوم في شتى بقاع العالم، فكتب يقول: “إنّ تلك الغرفة صغيرة الحجم، ولكن بأمره ومشيئته الغالبة أصبحت مصدرًا لكل البركات ومنبعًا للتجدّد الروحي للجنس البشري والنقطة الأولى التي تنطلق منها القوى للفتح الروحاني للعالم”. وبكل خضوع وخشوع دخل تلك الغرفة المقدسة التي أعلن فيها حضرة الباب دعوته أمام الملا حسين بشروئي في ٢٣ مايو/أيارعام ١٨٤٤م ووضع جبين الشكر والامتنان على عتبتها حامدًا شاكرًا مولاه على نِعَمهِ وآلائه. وفي نفس اليوم وفي نفس الساعة، كان زملاؤه الأعزاء حضرات أيادي أمرالله قد اجتمعوا في المقام الأعلى منضميّن معه في تلاوة الأدعية والمناجاة في تلك البقعة المقدسة.
[1] فاتح دلها، ص ٣٢ – ٣٣
[2] Faizi ص ٢٥٩ – ٢٦٠
[3] Faizi ص ٢٦٠
[4] Faizi ص ٢٦٠
[5] Faizi ص ٢٦٠ – ٢٦١
[6] Faizi ص ٢٦١
[7] آثار قلم أعلى، مجلد ٢ ص ٩٣
[8] Faizi ص ٢٦٢
توفّت مادر جان والدة جناب فيضي في يوليو/تموزعام ١٩٦٦م. ففي ذلك الشهر استلم فيضي وهو في الأرض الأقدس برقية من المحفل المركزي في إيران مفادها أنّ والدته مريضة بشدة وهي بالمستشفى، وما لبث أن أحيط بمحبة وعطف العاملين في المركز العالمي. ولكنها في الواقع كانت قد توفيّت ولهذا قام أعزّ أصدقائه وهما حضرات علي نخجواني وهوشمند فتح أعظم، أعضاء بيت العدل الأعظم، بإبلاغه هذا الخبر الحزين ولكن بكل رقّة وشفقة. فعند وصول الخبر توجّها إلى شقته في الخامسة عصرًا وذهب فيضي إلى المطبخ لإعداد الشاي لهما وعندما رجع إلى الصالة رأى ظرفًا قد وُضع على الطاولة ففتحه فوجد به صورة لحضرة عبدالبهاء وورقة كتب عليها بيت شعر من الشاعر الإيراني حافظ : “إنني ذاهب إلى الجنّة العليا لأنني طير من تلك الحديقة”. عَرَفَ فيضي فورًا ما يعني ذلك، فتمالك نفسه ولم يذرف الدموع في حينه، ثم شمله عطف ومحبّة حضرات نخجواني وفتح أعظم. في إحدى رسائله كتب: “إنني لست حزينًا من رحيلها، بل سعيدًا لأنها رحلت من دون ألم كثير، ولكن أبكي لأنني لم أفعل أي شيء من أجلها. آمل أن أعمل شيئًا حتى تكون سعيدة في الملكوت الأبهى”[1]. والجدير بالذكر إنه قبل ساعتين من وفاتها وصلت لها رسالة محبّة من أمة البهاء روحية خانم بواسطة أحد الزائرين الذين رجعوا أخيرًا من الأرض الأقدس، احتوت هذه الرسالة على بطاقة خاطت عليها الخانم تسعة ياسمينات بيضاء فوّاحة على شكل دائرة وفي وسطها كتبت بالفارسية: “إلى مادر جان”. كان هذا الكرت بحوزة جناب محمد علي فيضي، شقيق جناب فيضي، وقد سلّمه لأحد أعز أصدقاء العائلة لكي يستفيد منه في الوقت المناسب. في يوم تشييع الجنازة طلب هذا الصديق العزيز، أن يكون وحيدًا لبضع دقائق مع المرحومة مادر جان؛ ولعلمِهِ كم هي عزيزة، قام بكل هدوء وسكينة بإزاحة الكفن من على محياها الجميل ووضع بطاقة روحية خانم على قلبها، ثم قبّل جبينها وألقى نظرة الوداع الأخيرة على من أنجبت وربّت من كان له الفضل في تربية الألوف من الأطفال والشباب، ثم أسدل الغطاء بكل لطف على وجهها لتصبح في ذاكرة التاريخ. عليها بهاءالله ورحمته.
[1] Faizi ص ٢٦٥
بعد صعود حضرة ولي أمرالله قامت أمة البهاء روحية خانم بكتابة كتاب باسم “الجوهرة الفريدة”[1] وهو كتاب كبير ومُسهب في شرح تاريخ حياة حضرة ولي أمرالله المحبوب من ولادته حتى وفاته، وقد تضّمن الكتاب كل ما قام به الغصن الممتاز من إنجازات وأعمال وكتابات وانتصارات وفتوحات، وأيضًا ذكرياتها الجميلة والمرّة خلال العشرين سنة التي قضتها مع الهيكل المبارك والتي كان لها الشرف في مصاحبته حتى اللحظات الأخيرة من حياته. قام جناب فيضي وبكل شغف ورغبة بترجمة هذا الكتاب عام ١٩٦٧م إلى اللغة الفارسية حيث كان يقضي كل يوم من الصباح الباكر وحتى الليل في منزل حضرة عبدالبهاء بهذا العمل الجليل وقد أنهى الترجمة قبل صدور الكتاب الأصلي الذي كان باللغة الإنجليزية، ويعتبر هذا العمل من أهم الأعمال الأدبية التي قام بها جناب أبو القاسم فيضي.
عقد بيت العدل الاعظم مؤتمرًا في مدينة ﭘالرمو بجزيرة صقلية الإيطالية من ٢٣ إلى ٢٥ أغسطس/آب ١٩٦٨م بمناسبة مرور مائة عام على وصول حضرة بهاءالله للأراضي المقدسة. حضر هذا المؤتمر حوالي ٢٣٠٠ شخص يمثّلون ستة وسبعين دولة وإقليمًا، وقد مثّل الهيئة العليا أيادي أمرالله جناب يوغو جايكيري، وكان من بين الحضور أحد عشر من حضرات أيادي أمرالله منهم جناب فيضي الذي تحدّث عن رحلة نفي حضرة بهاءالله حتى وصوله للأراضي المقدسة. كان من ضمن حديثه روايات وقصص مؤثرة عن المؤمنين الأوائل وبطولاتهم ومآثرهم وتضحياتهم وعن معاناة حضرة بهاءالله وعائلته الكريمة خلال فترة النفي الطويلة، وأيضا أشار إلى حواريي سيدنا المسيح وكيف أنهم انتشروا في شتى بقاع الأرض ونشروا دين السيد المسيح وطلب جناب فيضي من الحضور التأمل والتفكّر في ما إذا قام الأحباء بنفس الحماسة والشهامة التي قام بها حواريو المسيح فكيف ستكون نتائج إقداماتهم وجهودهم؟
في نهاية المؤتمر، وبناء على دعوة بيت العدل الأعظم، سافر إلى الأراضي المقدسة أكثر من ألفي شخص من المشاركين في المؤتمر لزيارة المركز العالمي وكانت فرصة جيدة لجناب فيضي أن يلتقي بالعديد منهم عن قرب. وكان من بين الحضور حضرة أيادي أمرالله جناب طراز الله سمندري ولكن بعد انتهاء المؤتمر تدهورت حالته الصحية وأدخل المستشفى، وقد زاره فيضي عدة مرّات إلى أن توفّى هناك في الثاني من سبتمبر/أيلول ١٩٦٨م. كان فيضي يعشق جناب سمندري ويرى فيه نموذجًا للفرد البهائي المجاهد المنقطع المتواضع المبلّغ العاشق لحضرة بهاءالله والقدوة الحسنة له، ولهذا كان هناك أوجه شبه متعدّدة بين هاتين الشخصيتين المتميّزتين العظيمتين. كان من المفترض على جناب سمندري أن يتلو لوح الزيارة في يوم الاحتفالية بناء على طلب من بيت العدل الأعظم، ولكن لمرضه طُلب من فيضي أن يقوم بذلك.
استمرّ حضرات الأيادي في تنفيذ المهام الموكولة إليهم في تبليغ وترويج وحفظ وحماية الأمر المبارك في شتى بقاع العالم وذلك تحت توجيه وهداية بيت العدل الأعظم، ولكل أيادٍ برنامجه الخاص في هذا الخصوص. أما جناب فيضي فعندما كان في الأرض الأقدس كان يقوم يوميًا في الخامسة صباحًا ويعمل بجدّ واجتهاد حتى منتصف الليل، وخلال هذه الفترة كان يرجع لمنزله لتناول طعام الغداء ثم يعمل لمدة ساعتين حتى الخامسة مساء ثم يذهب إلى مكتب حضرات الأيادي ويظل يعمل هناك حتى الساعة العاشرة أو الحادية عشرة مساء. من المهام التي كان يقوم بها قراءته للتقارير المتعدّدة التي كانت ترد للمركز العالمي وعلى الأخص من منطقة الخليج حيث أنّه كان مشتاقًا جدًا لقراءة ومعرفة التطوّرات التي حصلت هناك وهو من مؤسسي الأمر فيها، وكان يشعر بالفخر والامتنان من السرعة التي تطوّر فيها الأمر وورود الكثير من المهاجرين الجدد وتشكيل محافل روحانية جديدة فيها.
كانت علاقة فيضي مع الخادمين في المركز العالمي حميمة، وكانوا يعتنون به في غياب ﮔلوريا وكان الأحباء يستمتعون بصحبته والسماع إليه وإلى أحاديثه الشيّقة. وأحيانا كانت تأتي مجموعة من الخادمين إلى شقته ويجلسون معًا لعدّة ساعات يتجاذبون الحديث بكل محبّة ومودّة ويتقاسمون الطعام الذي كانوا قد جلبوه معهم، ويكون دور جناب فيضي إعداد الشاي لهم، ثم يشارك الكل في غسل الصحون وتنظيف المكان ثم يتركون الشقة بكل روح وريحان. في يناير/كانون الثاني عام ١٩٦٥م عندما انتقل إلى شقته الجديدة كتبت أمة البهاء روحيه خانم رسالة إلى مي فيضي تقول فيها: “اليوم سأذهب مع حضرات نخجواني وفتح أعظم وسليم نونو وآموز جبسون وزوجاتهم إلى شقة والدك الجديدة لتكون حفلة عشاء مفاجأة وكل واحد منا سيأخذ شيئًا معه… أنّه لا يعلم وبالتالي لا مجال له ليعترض على ذلك”[2].
أما بالنسبة لصحّة جناب فيضي، فقد كان يعاني من مرض السكري وأحيانا يستخدم علاج الأنسولين. كان عليه مراعاة طعامه ولكنه لم يكن يفعل ذلك بانتظام، كما أن ضغط العمل وأسفاره من دولة لأخرى وأيضًا تغيير المكان من فندق لآخر، كل ذلك لم يكن في صالح صحّته. وعند اعتلال صحّته لم يكن يبوح بذلك لأحد وإنما وكما قال لأحد أصدقائه بأن “هناك الكثير من العمل يجب إنجازه وليس هناك وقت للراحة”. قالت روحية خانم عنه في إحدى المرّات: “إنّه لا يُعطي الاهتمام الكافي لطعامه، وعقله ليس علميًا مثل الكثير من الناس”[3]. إن ذلك لا يعني عدم اهتمامه بجسمه، وإنما لم يكن ذلك من أولوياته، بل أولوياته كانت خدمة أمرالله العزيز والأحباء. وعندما تكون زوجته ﮔلوريا معه تقوم بالتحكم في طعامه وتراعي ما يجب تناوله من عدمه وأحيانًا كان يتجاهل نصائحها. تعتقد أمة البهاء روحية خانم بأن جناب فيضي كان يمكن له أن يعيش لفترة أطول لو اهتمّ بصحّته بشكل أفضل وراعى نوعية طعامه وكانت ترجوه أن يراعي صحّته عندما يبدأ برحلة طويلة.
أثناء رحلة له للهند في فبراير/شباط ١٩٦٩م كان يبدو عند وصوله في حالة سيئة وكان يشعر بالتعب والإرهاق بسهولة، وعندما راجع الطبيب قال له بأنه قد أصيب بسكتة قلبية في الأيام القليلة الماضية وعليه بالراحة التامة. مكث في فراشه بالفندق عدّة أيام ولكن الأحباء لم يستطيعوا فراقه فكانوا يأتون لزيارته والسلام عليه، وكعادته كان يرحّب بالجميع، وفي النهاية اضطرّ طبيبه المعالج أن يأخذه إلى المستشفى حيث أوقات الزيارة محددة. يقع هذا المستشفى أمام البحر وفي موقع جميل وكان يقضي فيضي أوقات فراغه في الردّ على المراسلات وتحرير المؤلفات. استغرب الطبيب من سرعة شفائه وعلّق قائلًا بأن شفاءه قد تحقق بفعل قوى أخرى لاشأن لها بالأدوية، ولم يكن على علم بتلك القوى الغيبية الإلهية التي كانت تحيط بحضرة الأيادي وخاصة أدعية بيت العدل الأعظم في حقّه. بعد شفائه استمرّ في رحلاته في شتى أنحاء شبه القارة الهندية ثم غادرإلى طهران في أبريل/نيسان ١٩٦٩م وسكن في منزل إبنة أخيه السيدة قدسية فيضي مهاجر وعائلتها. استمرّ فيضي في تقديم خدماته المميّزة متجاهلًا صحّته وحالة قلبه، ولهذا أدخل المستشفى خلال أقل من شهر. وكعادة الأحباء تدفقوا لزيارته لدرجة أن غرفته لم تستوعبهم، ولهذا كان الزوّار يتجمّعون في غرفة خاصة بالمستشفى ويأتي لهم جناب فيضي بكل تواضع ويرحّب بهم ويتحدّث معهم وفي النهاية يقول لهم: “الآن تحدّثوا أنتم وأنا أستمع إليكم”[4]. في أحد اللقاءات بدأت سيدة بالتذمّر واشتكت إليه من محفلها الروحاني المحلي وكانت عباراتها غير لائقة وفيها اتهام للمحفل، ممّا أغضب جناب فيضي الذي قام من مكانه فجأة وتوجّه نحو باب الغرفة وقال بخشونة: “لا أستحمل أي شخص يتحدّث بهذا الشكل عن المحافل الروحانية”[5]. إنّ فيضي رغم محبّته وقلبه الكبير لم يكن يسمح لأي شخص أن يتعرّض أو يهاجم المؤسسات والشؤون الأمرية ولو ببنت شفة، بل كان يشجّع الكل على الإلتفاف حول هذه المؤسسات وطاعتها، فهي من المهام الأساسية لأي فرد مؤمن، وكان يوجّه الأفراد بما يجب أن يقوموا به.
إنّ لقاءه بالأحباء، وعلى الرغم من أنّها كانت متعة روحية حقيقية له، ولكن كان ذلك على حساب صحّته وسلامته، ولهذا ترك المستشفى وسكن في منزل بشمال مدينة طهران دون اطلاع أحد على مكانه أو رقم هاتف منزله سوى عدد قليل جدًا من الأحباء، وبالتالي أصبح له بعض الوقت لمراجعة ترجمته الرائعة لكتابThe Priceless Pearl “الجوهرة الفريدة” من تأليف أمة البهاء روحية خانم. وبعد أن تعافى وتحسّنت صحته ذهب إلى خيّاط بهائي وطلب منه أن يخيّط له بدلة على مقاسه من أجل إرسالها إلى أحد الأحباء في الولايات المتحدة كانت له علاقة وثيقة مع فيضي. في رسالة له عن هذه البدلة كتب فيضي إنّه يرسل هذه البدلة ليس لأن صديقه بحاجة إليها ولكن لأنها صادرة من الأرض التي ولد فيها حضرة بهاءالله، فكتب لصديقه يقول: (لقد أعددتها حسب قياسي لأني أعتقد أن مقاسك هو مقاسي. إن القلبين اللذين يخفقان بمحبّة واحدة يجب أن يكونا في جسمين مقاسيهما واحد. انني آمل وأدعو أن تعجبك وتقبلها من أخيك المتواضع).
مراسلات فيضي لم تنحصر مع البهائيين فقط، وإنما مع كل من كان يعرفهم، ومثال على ذلك كان هناك شخص اسمه رالف ألبرغRalph Elberg كان يعمل كمدير لمكتب سفريات باسم بلتورزPeltours في مدينة حيفا وكان فيضي يشتري دومًا تذاكر سفره منه، وكان شخصًا مخلصًا لفيضي ونمت بينهما علاقة مودة. اعتاد فيضي أن يرسل له أثناء رحلاته العالمية الطويلة معلومات عن الدول التي يسافر إليها ممزوجة بروح التعاليم المباركة. فمن بوليفيا كتب إليه ما يلي: ]لقد تحدّثت عنك بشكل خاص إلى العديد من أصدقائي وعن روح محبّتك الجميلة وصداقتك… في أحد الاجتماعات وبعد حديث طويل عندما فتح باب النقاش الودّي والأسئلة، سأل أحد الحضور فورًا: ماذا جَلبتَ معك من الشرق؟ قلت له: “هل سألت الشمس في أي وقت ماذا أحضرتِ من الشرق؟ لقد جلبت لكم نورالمعرفة ودفء المحبة الإلهية حتى تحبّوا شعوب العالم من دون تمييز للجنس أو اللون أو السياسة”[[6].
بعد وفاة جناب فيضي كتب ألبرغ إلى ﮔلوريا: ]كان إنسانًا مفعمًا بالمحبّة والفهم والاحترام والعاطفة تجاه كل من يقابله. لقد جلب معه شعاعًا من النور ترك دائمًا كل من قابله ولديه انطباع بأنه قد عرف شخصًا خاصًا ومميّزًا. إنني محظوظ بأنه خاطبني “بالصديق” و”الأخ”، لا يمكنني أن أنساه[[7].
[1] The Priceless Pearl
[2] Faizi ص ٢٧٤
[3] Faizi ص ٢٧٦
[4] Faizi ص ٢٧٨
[5] Faizi ص ٢٧٨
[6] Faizi ص ٢٨٠
[7] المرجع السابق
رغم المسؤوليات الكبيرة التي كانت ملقاة على عاتق جناب فيضي في مجال تبليغ وترويج وحفظ وحماية الأمر المبارك، إلّا أنّه كان حريصًا أن يعطي بعض الوقت لأسرته ويتواصل معهم أينما كان. وكما ذكرنا فإن ابنه نيسان وابنته مي استقرّا في بريطانيا وأكملا دراساتهما هناك وتزوّجا. وبين الحين والآخر كانا يسافران للأرض الأقدس لزيارة الأماكن المقدّسة وزيارة والدهم الماجد. في فبراير/شباط ١٩٧٠م قام نيسان ومي بزيارة والدهما في حيفا بينما كانت ﮔلوريا في رحلة تبليغية. وصف فيصي لقاءه معهما: “يخالجني شعور مختلف في اليوم الذي يأتيان فيه، أشعر بالسعادة وحتى في الاجتماعات أشعر بنشوة…”[1]، وعندما علم بقدوم ابنه نيسان وزوجته زهرة (ابنة احسان زهرائي) كتب يقول: “لا تعلمون بحالي عندما علمتُ بقدومِكما، فقد بدأتُ بإخفاء الكتب والأوراق والأشياء الجميلة لأنه بمجرّد أن يصل نيسان سيبدأ بفتح جميع الصناديق مثل الفأر”[2]. كان نيسان بارعًا في قول النكت وتقليد الآخرين لدرجة أن الجميع كان يضحك من قوة مزاحه. وكان والده يطلب منه أحيانًا أن يتوقف لأنه من شدة الضحك كان يشعر أن ضلوعه ستنكسر وكان ذلك خطيرًا على صحّته، وفي غياب نيسان كان يشعر فيضي بفراغ كبير.
عندما وُلِدَ أول حفيد له كان مسافرًا في أفريقيا، حيث ولد ﭘول فيضيPaul-Faizi وهو الطفل الأول لمي وبيتر في بريطانيا وبعد خمسة أشهر استطاع رؤية حفيده واحتضانه. كتب يقول: “لا أستطيع الانتظار، أريد أن أعرف كيف شكله، لا أستطيع سوى أن أفكّر فيه، أكاد أجن، أحاول أن أكون صبورًا”[3]. وبعد فترة رُزِقَ ابنه نيسان بطفله سمّاها “جهره” وأصبحت الحفيد الثاني. وبعد ذلك جاء الحفيد الثالث والرابع توماس وآرام Thomas & Aram مما زاد من فرح وبهجة فيضي وﮔلوريا. وعلى الرغم من أن فيضي كان في أغلب الأوقات بعيدًا عن زوجته وأولاده إلّا أنه كان على اتصال دائم ووثيق معهم، وكان يطلب من ابنه وابنته دوام المراسله معه ومع والدتهم واطّلاعهما عن أخبارهما وأخبار أحفادهما. وعندما كانت تصله رسائل منهما كان يرسلها لگلوريا أينما كانت، ويكون كل واحد منهم على اطّلاع بأخبار العائلة. في إحدى زيارات نيسان وزوجته وابنته لوالده كتب جناب فيضي لزوجته يصف حفيدته جهره بما يلي:
“إن جلالتها جهره تأتي إلى غرفتي كل يوم كي تخوّفني، وعليّ أن أتظاهر بأنني أقفز من فراشي حتى تضحك السيدة ومن ثم تتقلّب على فراشي لبعض الوقت، ومن ثم نذهب إلى الطاولة معًا. ولكن بالأمس، وهو يوم مغادرتهم لم تأت ولم تودعني… إن مكان الأولاد فارغ جدًا ولم يعدّ لي صبر أو طاقة للعمل. أسير في الغرف وأجلس في الزاوية وأذكرهم. يا له من حلم، ومهما كان فقد ذهب”[4].
كان فيضي يرغب في معرفه سلوك وتصرفات أحفاده حتى يعطي التفسير الاجتماعي لها فكتب في إحدى المرّات:
“إنني سعيد بأني عرفت بأن ﭘول فيضيPaul Faizi مشاغب جدًا ومستقل وهذا دليل على أن صحته جيدة. إنني أيضًا سعيدٌ جدًا لعلمي بأن جهره تتحدّث كثيرًا وهذا دليل إنها حقًا سيدة”[5].
وفي بعض المرّات كان يكتب رسائل لأحفاده يخبرهم فيها عن الدولة التي هو فيها، مثلًا، في إحدى المرّات وبينما كان في البرازيل كتب إلى حفيدته جهره ما يلي:
“هناك شيئان هامان في البرازيل، أحدهما كرة القدم والآخر المهرجان أو الكارنفال. المهرجان جميل جدًا فهناك الألوف من الرجال والنساء يلبسون ألبسة خاصة ويعزفون الموسيقى ويرقصون لعدة أيام وليالٍ. إنهم يرقصون رقصة السامبا وهي صعبة ولكنها رقصة رائعة”[6].
وفي رسالة أخرى وعندما كان حفيده ﭘول فيضي وجهره معًا في قبرص كتب لهما:
“إنني سعيد جدًا بأنكما معًا وتقضيان وقتًا طيبًا جدًا في قبرص. كنت أتمنى أن تكون ذراعاي طويلتان جدًا حتى أحتضنكما سويًا.عناق حار لكما أيها الشيطانان، الشيطانان الصغيران، إني أحبُّ الشياطين الصغار”[7].
وعلى الرغم من أن فراقه لأحفاده كان صعبًا ومؤلمًا ولكنه عندما كان يرى فراق بعض الأهالي لأولادهم الذين يذهبون للهجرة في المناطق النائية دونما أمل في لقائهم ثانية، كان يتقبل الوضع ولا يتذمّر.
[1] Faizi ص ٢٨٣
[2] Faizi ص ٢٨٣
[3] Faizi ص ٢٨٣
[4] Faizi ص ٢٨٥
[5] المرجع السابق
[6] المرجع السابق
[7] Faizi ص ٢٨٦
في عام ١٩٧٢م وبينما كان في مدينة ﭘونه Poona الهندية ويتحدّث في صالة مليئة بالبهائيين سقط فجأة على الأرض، فأخذ فورًا إلى المستشفى ووُضِع تحت المراقبه والعلاج، فشخّص الأطباء حالته أنها نوبة قلبية ووضع في غرفة العناية الخاصة ولم يسمح لأحدٍ بزيارته. عَلِمَ المحفل الروحاني المركزي بالهند بالنبأ وأطلع بيت العدل الأعظم الذي أرسل بدوره البرقية التالية:
“طمئنوا أيادي أمرالله جناب فيضي بدعائنا الحار في العتبات المقدسة من أجل استعادة كامل صحّته حتى يعود بأسرع وقت إلى أداء خدماته القيّمة للغاية. ألحّوا في الطلب منه تأجيل رحلاته واتباع المشورة الطبية وأبلغوه بمحبتنا القلبية العميقة. أخبروا بيت العدل الأعظم باستمرار عن حالته الصحيّه ونصيحة الطبيب”[1].
وبفضل أدعية بيت العدل الأعظم استعاد جناب فيضي صحته بعض الشيء وبادر بإبلاغ الساحة المقدسة بذلك وأطلعهم على قدرته على القيام بوظائفه، فردّ عليه بيت العدل بالبرقية التالية:
“نشكرك على برقيتك. نشعر بشدّة بأن واجبك الأول يجب أن يكون استعادة صحتك ثم يمكنك تعديل أو تأخير برنامجك تبعًا لذلك. ولربما بمقدورك الأخذ بعين الاعتبار أيضا إمكانية السفر وقتما أمكن إلى الولايات المتحدة للرعاية الطبية استعدادًا للمشاركة في المدارس الصيفية كما خُطّط لها. يرجى إبلاغنا واطمئن بالأدعية الحارة. مع محبتنا”[2].
ومن أجل متابعة علاجه سافر من الهند إلى منتجع صحّي في ألمانيا حيث الوضع والجو مختلف تمامًا عن حياته المعتادة من مقابلة الناس وإلقاء الخطب والردّ على الاستفسارات والأسئلة وعدم توفر الوقت الكافي للنوم أو الراحة. فكتب إلى أحد أصدقائه يقول: “لا أسمع صوتًا لوقع الأقدام، أو رائحة الطهي أو ضحك الأصدقاء”[3]. وفي المنتجع لا يتكلم أحدٌ الإنجليزية وهو لا يعرف الألمانية، فلم يكن له من وسيلة سوى الراحة التامة. كان عليه أن يفقد خمس كيلو جرامات من وزنه، وبالتالي أخذ يتّبع برنامجًا غذائيًا خاصًا مكوّنًا من شوربة خضار ولحم مسلوق، وهو نوعية من الطعام تختلف تمامًا عمّا اعتاد عليه خلال الأشهر الماضية. لم يعده الأطباء باستعادة صحته وعافيته تمامًا ولكن فيضي كان متفائلًا وراضيًا بما قدّر له لدرجة أنه لم يفقد الأمل يومًا بأنه سيعمل شيئًا للأمر المبارك حتى النفس الأخير من حياته كما كان يتمنّى دومًا.
ومع تحسّن صحته التدريجي في المنتجع بدأ الملل يصيبه من المكان نظرًا لوحدته الشديدة وأخذ ينظر إليه كسجن. كان يقضي معظم وقته في الكتابة ولكن ذلك أيضًا له حدود وكان يأمل من الأطباء أن يسرّحوه حتى يقوم برحلاته إلى أوروبا والولايات المتحدة حسب البرنامج المعدّ له. اكتشف أن المشكلة التي كان يعاني منها في قلبه مريرة وغير مشجّعة ولكنه اعتبرها موهبة جعلته يتقرّب بواسطتها إلى الله أكثر وأكثر ويطلب عونه وعنايته. كان يتوجّه في صلاته وأدعيته دومًا إلى حضرة بهاءالله ويطلب منه أن يساعده على خدمة الأحباء الذين وهبهم حياته التي اتّسمت بالخدمة والعبودية. من الرسائل العديدة التي كتبها بينما كان في المنتجع جوابًا لوالدين فقدا ابنهما واعتبرا ذلك عقابًا لهما على تركهما لمنطقة الهجرة فكتب فيضي لهما:
]… لا أريد أن تكونا حزينين لأن ذلك عكس رغبة حضرة بهاءالله. ولا أريد منكما أن تكونا خائفين منه لأنه جاء للمحبّة وليس للخوف، ولا أريد من الأحباء أن يقضوا وقتهم في مناقشة المصائب لأننا هنا حتى نزيل هذه المصائب. هل تذكران عندما كنت في هاواي وسألني الأحباء عن المصائب التي لم تحدث بعد، حينها فقدت أعصابي. إنّه مثل شخص يرتجف بردًا في وسط الصيف لأن شتاءً باردًا قادم. تحدّث حضرة بهاءالله عن هذه المصيبة ولكنها مصدر فرح وسرور للأحباء والسبب أولًا: إنّ حضرته يقول للأحباء ويوصيهم أن يكونوا منشغلين تمامًا بتبليغ أمرالله حتى عندما تأتي المصيبة يمكنها أن تمرّ دون المساس بنا. ثانيًا: ذكر حضرته إنه بعد تلك المصيبة فورًا سيتنبّه العالم إلى عظمة وجلال أمرالله. لذلك لماذا نشعر بالخوف من ظهور شيء مقدّر له أن يكون إعلانًا لصباح عظيم في حياة الإنسان؟ هناك شيئان مختلفان يخلط بينهما الأحباء عادة، الأول هو أوامر حضرة بهاءالله والآخر هو التشجيع. إذا لم نطع أوامره بالطبع ستكون النتيجة هي العقاب. والعقاب ليست هي الحوادث التي تقع في الحياة ونقول إنها هي العقاب… هذه استنتاجات خاطئة وعادة ما يقوم بها الأحباء من دون نصوص معتمدة في الآثار المباركة. سنّ حضرة بهاءالله حكم الصلاة والصيام… إلخ، والآن لنفترض أن شخصًا بهائيًا لا يصلّي أو يصوم، يجب أن لا نفكّر بأن هناك مصيبة قد تنزل عليه. لنفترض أن منزله قد تهدم وسقط، فإذا قال أحد بأنّ هذا الحدث وقع في حياته لأنه لم يصلِّ، فإن ذلك خطأ تمامًا. ليس هناك علاقة بين الاثنين. أن عقاب الشخص الذي لا يصلّي هو حرمانه وفقدانه للراحة والاطمئنان، هذا هو نتيجة عدم طاعته لهذا الحكم. إن العقاب هو من نفس نوع العمل الذي نقوم به.
والآن هناك أشياء نُشجّع على عملها في الأمر المبارك مثل الهجرة وغيرها. فإن لم يقم شخص بالهجرة لمكان معيّن فهو ليس بعاصٍ، أنه لم يكسر أحكام حضرة بهاءالله. التشجيع بأن يظل المهاجرون في أماكنهم واذا رجع شخص من محلِّ هجرته فهو ليس بعاصٍ ولن يتعرّض للغضب الإلهي وليس هناك جزاء منصوص في حقّه. هناك أكثر من خمسين ألف بهائي يقطنون في طهران، هل جميعهم عاصون لأنهم لم يقوموا بالهجرة؟ هناك أكثر من ألف شخص رجعوا من مواقع هجرتهم لأسباب مختلفة، هل يمكن أن نسمّيهم عاصين ومعرّضين للغضب والعقاب الإلهي؟ هذه هي الاستنتاجات الخاطئة التي يتوصّل إليها الأحباء وعادة ما تكون سببًا لخيبات الأمل والفزع وحتى الانسحاب من الأمر المبارك.
إن ديننا دين السرور والإعتدال… هناك العديد من الأبواب مفتوحة لنا لندخلها ونعمل ما هو ضمن قدراتنا وطاقاتنا. وإن أصبحت عضوًا في لجنة أو في المحفل الروحاني المحلي أو المركزي أو عملت جلسة فاير سايد صغيرة أو قمت بزيارة مريض في المستشفى… إلخ، كلها نفس الشيء. فهي فُرص أعطيت لكل فرد حتى يكون سعيدًا ومبتهجًا. كان حضرة عبدالبهاء عادة ما يسأل الأحباء: هل أنتم سعداء؟ إن لم تكونوا سعداء الآن، فمتى ستكونون سعداء إذًا؟ لا يوجد في أي دين وصف أو تعريف عن العظمة والجلال والسعادة المتناهية للحياة بعد الموت أكثر مما هو موجود لديننا. ولهذا فإن القول لأننا رجعنا من محل هجرتنا فإن الله قد أخذ عزيزنا، فإن ذلك وحسب فهمي يعادل الإيمان بإله غاضب ومنتقم. إننا مثل الديدان الصغيرة في التفاح الذي على الشجرة في الحديقة التي تقع في القرية بالقرب من المدينة في الدولة التي تقع في قارة كبيرة على هذا الكوكب. وهو جزء من النظام الشمسي وهو واحد من العديد من أنظمة الكواكب الشمسية. ونحن الديدان الصغيرة نرغب في فهم وإدراك جميع العلاقات الضرورية لجميع الأحداث. هل هذا ممكن؟ كلّا، أبدًا فماذا يجب أن نفعل إذًا؟ علينا أن نكون سعداء مع كل ما يحدث، واعتباره كجزء من خطة إلهية كبيرة. أعزائي الأحباء، رجاء لا تفكّروا أبدًا بأن الله غاضب عليكم، فلو كان غاضبًا عليكم، لما أعطاكم أجمل هدية وهي دينه. إنني واثق بأنه لمن المحزن تحمّل فقدان شخص عزيز، إنني مازلت أندب فقدان توأمينا… ولكن لن أقول أبدًا إن موتهما كان عقابًا، علينا أن نفكر دومًا بأننا قريبًا سنلتحق بهم ونكون معهم إلى أبد الآبدين. كونا سعيدين وراضيين صديقي العزيزين[[4].
[1] Faizi ص ٢٨٦
[2] Faizi ص ٢٨٧
[3] Faizi ص ٢٨٧
[4] المرجع السابق ص ٢٨٨ – ٢٩٠
من ملامح شخصية فيضي إنه كان يعدّ خُطبِهِ وكلماتهِ بصورة جيدة قبل إلقائها حول موضوع معين. فكان يتبع تسلسلًا منطقيًا لما كان يريد إيصاله، وكان حريصًا على دقة المعلومات ومناسبتها حسب الزمان والمكان آخذًا بعين الاعتبار أن مهمّته الرئيسية هي تشجيع وتشويق الأحباء على القيام بالخدمة ونصرة الأمر المبارك وتعزيز إيمانهم وثقتهم بالمؤسسات الأمرية. كان فيضي ملمًّا بأربع لغات هي الفارسية والعربية والإنجليزية والفرنسية ولكن تمكّنه من هذه اللغات كان بدرجات مختلفة. لا شك أن لغته الأولى كانت الفارسية ثم تأتي الإنجليزية والعربية ولكن لغته الفرنسية لم تكن بأي حال على قدم وساق مع اللغات الثلاث الأخرى. وعندما كان يسافر إلى دول العالم المختلفة كان يتحدّث غالبًا اللغة الإنجليزية وأحيانًا كان هناك من يترجم إلى اللغة المحلية. إنّ لغته العربية كانت لقراءة الألواح والآثارالمباركة العربية ولم نسمع عنه إنه تحدّث أمام الجمهور بالعربية ولكنه كان يجيدها قراءةً وكتابةً. وعندما يكتب الرسائل، وبأي لغة كان يكتبها، كانت هناك روح نبّاضة وجيّاشه مفعمة بالإيمان دالّة على حبِّ عميق من شخصية عشقت البشرية بكل جوارحها، ولهذا حظي المئات ولربما الألوف من الأحباء وغيرهم باستلام رسائله ورقائمه مصحوبة بخطوطه الجميلة التي مازالوا يحتفظون بها إلى اليوم.
كان فيضي يمتاز بطرح الأمثلة والتشبيهات في أحاديثه وخُطَبِهِ وكان موفقًا بهذه الطريقة في الإجابة على العديد من الأسئلة التي تطرح عليه. في إحدى الجلسات شبّه القلب الإنساني بالأناء الزجاجي الشفاف الموضوع على الطاولة وأن جماله يظهر مما يوضع فيه، وأن الزجاج نفسه لا لون له وعندما يكون فارغًا يسمح لكل ما يوجد فيه أن يُرى من خلاله، وجمال الإناء يأتي مما يوضع فيه ويكون لون الإناء من لون المادة التي توضع فيه، ولهذا فإن اللون الجميل يبدو جميلًا للعيان والعكس صحيح.
في رحلاته كان يحمل حقائب قليلة إحداها كان بها القليل مما يحتاجه من ملابس ولوازم شخصية وفي حقيبته اليدوية أوراقه ومستنداته التي يحتاج لها لخُطبِهِ وكلماته. كان يغسل ملابسه في الفندق بنفسه عندما يتوفر لديه بعض الوقت. في إحدى المرّات أهدى له رجل وزوجته بعض القمصان فقال لهما إنه فعلًا لا يحتاج لها وأن لديه ما يكفيه، ولكن مع إصرارهما أخذ قميصًا واحدًا فقط مما أحضراه له وأعطاهما أحد قمصانه ليهباه لشخص محتاج.
كان فيضي عالي النفس والهمّة، نادرًا ما كان يقبل الهدايا ولا يرضى أبدا أن يقبل أية أموال، ولكن حسن نيّة الأحباء والمؤسسات الأمرية كانت تدفعهم إلى تقديم بعض المال له من أجل تغطية مصاريف سفره والتي عادة ما كان يرفض قبولها. في إحدى المرّات أرسل له أحد المحافل الروحانية شيكًا بعد أن قام بزيارة جامعته، فكتب له:
“بالنسبة إلى الشيك، يرجى العلم بأنه أينما نذهب نحن (أيادي أمرالله) فإننا ندفع مصاريفنا، إننا لا نقبل هدايا أو دعمًا أومساعدة مالية. لقد ضرب لنا حضرة عبدالبهاء مثلًا يُحتذى فعندما أعطوه شيكًا، أمسَكَه بيده ثم ردّه لهم. ولهذا فإن الأحباء الأعزاء عليهم أن لا يتضايقوا اذا أعدّت لهم الشيك مع كل محبّتي وإخلاصي. أرجو منكم أن تشرحوا ذلك لمحفلكم الروحاني المحلي العزيز واطلبوا منهم أن يقبلوا ذلك، ولا يسمحوا لي بالتفكير بأية استثناءات. الشكر القلبي الجزيل للأفكار الجميلة والمحبّة والإخلاص التي دفعت محفلكم الروحاني المحلي لإرسال هذا الشيك. وتلك سعادة لا يمكن الحصول عليها بكنوز العالم”[1].
في عام ١٩٧٠م قام جناب فيضي برحلة تبليغية طويلة في قارة أفريقيا زار فيها العديد من الجامعات البهائية وقد عبّر عن مشاعره بهذه الكلمات: “لا شيء في هذا العالم يستحق أن نهتم به سوى أمواج الحب، وهو الحب الإلهي الحقيقي الذي يخترق ويجدّد ويشفي ويخلق الإنسان من جديد”[2]. وعندما كان في مدينة كنشاسا عاصمة الكونغو الديمقراطية كتب:
]كلّما أسافر أكثر وألتقي بأناسٍ ودولٍ وشعوب أكثر ازداد اقتناعًا بأنه لا شيء سوى المحبّة الحقيقية يمكنه أن ينقذ بني البشر من خضم المآسي والحماقات التي أوجدوها بأيديهم… على المهاجرين أن لا يدخلوا المجتمع الإنساني مع أدنى شعور بالفوقية أو لا سمح الله مع الإحساس بأنهم هناك حتى يعلّموا “التمدّن” لهؤلاء الناس أو النمط الغربي في الحياة. مثل هذا النهج ينتهي إلى الفشل الذريع. علينا أن نذهب ونبحث عن الأعضاء المفقودين من عائلاتنا وأشقائنا وشقيقاتنا ونتعلّم التواضع والصبر منهم. أننا بحاجة إلى المئات من المبلّغين والمتحدّثين والسيّاح والكتّاب والممثلين والموسيقيين… إلخ حتى ينتشروا قاطبة في كافة الأراضي الشاسعة القاحلة، ومن خلال المهارات الإلهية الممنوحة لهم ومواهبهم وقدراتهم يقومون بتطهير قلوب الأمم والشعوب والأجناس. إن العالم كله لنا إن فزنا بمجرّد لمحة من هذا الظفر المجيد…[[3].
وعندما كان في دولة بنين كتب:
“… إنّ هوّة الفقر وغياهب الجهل سحيقة بحيث لا يمكن قياسها أو وصفها. على الإنسان أن يرى الأطفال الأبرياء الصغار، فجميعهم عُراة يسبحون في غبار الشوارع. على المرء أن يذهب إلى الغرفة الضيقة السوداء التي تسمّى بالمركز البهائي. إن الغرور الزائف والعداء يجعل الإنسان لا يعلم أية دولة مع حرب مع أية دولة أخرى. في هذه الدول التي تعاني من فقر مدقع وإهمال شديد قمتُ مرّات عديده بنقل كلمات حضرة ولي أمرالله عندما شرح بأنّ هناك ثلاثة أصوات مرتفعة، الأولى: عن الحرب وهو صوت مرتفع وقوي ويبعث على الخوف، والثانية، عن السلام ويرفعه البهائيون ولكنه في الواقع ضعيف، والصوت الثالث صادر من أعماق قلب الإنسانية وهو الصوت الأقوى. إنّ جماهير الناس تبكي من الدمار والخراب ويبحثون عن مخرج لكل هذه الظروف غير المواتية. ولكن للأسف فإنّ هذه الأصوات خانقة ويظل الإنسان في اضطراب وفقر وفجور مثلما أشاهدهم في كل مكان، عدا الساعات التي أقضيها مع الأحباء فعادة ما أكون في غرفتي ومنشغلًا بالدعاء والمناجاة آمل بأن الله سبحانه وتعالى سيولّى وجهه إلى شطر هذه القارة حتى يخفف من إخفاقاتها وتكون ساعة خلاصها قريبة. إنّ مهاجرينا الأعزاء في هذه البقاع من العالم يجسّدون التضحية… هناك العديد منهم وأمام كل واحد منهم أسجد لهم مُقدّرًا ومُعجبًا بما قاموا به”[4].
وعندما كان في غابون وقعت حادثة تأثر منها جناب فيضي بشدّة. ففي أحد الأيام دخل جندي إلى أحد الجلسات وأخذ يستمع، ثم جاء مرّة بعد أخرى لمدّة ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث وقف وقال: “يرجى قبولي كواحد منكم”[5]. وعندما سأله فيضي عن السبب الذي دفعه إلى الإيمان ردّ عليه: “يجب أن نبحث عن الله، الله لا يبحث عنا”[6]. ومع تقدّم سنّه كانت الرحلات الطويلة متعبة له ولكن كان حريصًا جدًا على الإعداد الجيّد لأي كلمة أو خطبة يريد إلقاءها، وكان يطلب دومًا العون والعناية واللطف والرحمة من الجمال المبارك حتى يؤيده على أداء مهامه ووظائفه. وفي جميع الحالات كان التأييد الإلهي شاملًا إياه.
في شهر مايو/أيار ١٩٧٤م كانت له رحلة طويلة إلى دول ومناطق أمريكا الجنوبية وقد بدأها بالبرازيل ثم الأرجنتين ثم بوليفيا وبيرو والسلفادور وبنما، وفي شهر يوليو/تموز سافر إلى سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة. وُصِفتْ رحلته إلى أمريكا الجنوبية بالتقرير التالي: “كان كالشهاب الثاقب، يظهر في الشمال ويضيء في وسط السماء ثم يمرّ بالأفق الجنوبي ثم يختفي من أنظارنا في الأرجنتين ولكن يترك شعاعًا من النور الساطع”[7].
عندما كان في ساوباولو تحدّث أمام مجموعة من الشباب وحذّرهم من تأثر المحيط والمجتمع عليهم حيث قال: “يمكنك مدّ يدك لرجل غارق كي تسحبه إلى الأعلى، ولكن إن أعطيته كلا اليدين فإنّه يسحبك. كونوا حذرين من رفقائكم وتأثيراتهم”[8]. عقد جلسة نقاش وتعميق لمدة عشرة أيام لدراسة ألواح الخطّة الإلهية لحضرة عبدالبهاء وملاحظات وتعليقات حضرة ولي أمرالله وبيت العدل الأعظم على هذه الخطة وركّز بأن هدف هذه الألواح ثم الخطط التي يطرحها بيت العدل الأعظم هي تأسيس ملكوت الله على الأرض المبشّر به في الكتب المقدسة. وعندما غادر بوليفيا كتب: “… إن فراقي عنهم صعب جدًا عليّ، لدّي قلب واحد وألف عاشق، قطعتُ قلبي إلى قِطع وأعطيته إلى كل واحد، خوفي عندما أصل إلى الأرض الأقدس لم يبقى لي شيء منه”[9]. في إحدى المرّات سُئل جناب فيضي عن أكثر الشعوب تقدّمًا ممّن قابلهم طيلة حياته فقال إنهم البوليفيون ثم اليابانيون ثم الهنود.
ومن أمريكا الجنوبية سافر إلى الولايات المتحدة وهاواي في يوليو/تموز ١٩٧٤م حيث تحدّث في عدة اجتماعات عن مواضيع متعدّدة مثل الدعاء والمناجاة وتعليم الأطفال والحياة البهائية وكان يركّز باستمرار على أهمية دمج تطبيق التعاليم البهائية في حياتهم اليومية… إلخ، ثم سافر إلى كندا، وفي لقاءاته هناك وصفته ابنته مي بالآتي: “إن عمق معرفته بالتعاليم المباركة وتاريخ الأمر، واحساس المودّة التي كان يولّدها حتى في أكبر الاجتماعات، وصَبره الطويل ومحبّته ولباقته، كل ذلك ساهم في إيجاد جو أسَرَ القلوب والعقول معًا”.
هناك نقطتين أشار إليهما فيضي باستمرار حول هذه الرحلة: الاستحكام والعلاقة بين الفرد المؤمن والجامعة البهائية. وعندما سُأل ماذا يعني “الاستحكام” كان ردّه بأن الجامعة تستحكم عندما “تُطاع قرارات المحفل الروحاني من قِبَل المؤمنين”. أما بالنسبة لعلاقة الفرد بالجامعة البهائية أشار إلى بيان حضرة عبدالبهاء الذي قال بأن الحياة البهائية مثل الماء والسمك. فعندما نقرّر بأننا قد تعبنا من وجودنا في المحفل وتعبنا من حضورنا الضيافة التسع عشرية وتعبنا من كل شيء وبدأنا نفكر بالانسحاب من أنشطة الجامعة البهائية فإن “اعتزالنا سوف ينمو كمًّا وشدّة” حتى نصل إلى مرحلة لا نعتبر أنفسنا بهائيين. في هذه المرحلة من تطوّرنا قد تكون هناك اصطدام بين الشخصيات ومشاكل أخرى في الجامعة التي تعكّر الماء ولكن، وكما قال حضرة عبدالبهاء، مهما كان الماء عكرًا فإن خرج السمك منه فسيموت.
سافر بعد ذلك إلى ألاسكا في أول رحلة له لهذه المنطقة النائية وشارك بالمدرسة الصيفية هناك من ١٠ إلى ١٤ أغسطس/آب ١٩٧٤م وفي إحدى الليالي وبينما كان يتناول الطعام مع مجموعة من الأحباء سأله واحد منهم: كيف تستطيع أن تؤدي كل هذه الأعمال التي تقوم بها؟ فكّر فيضي لدقيقة وقال: أؤدي كل هذه الأعمال لأني يجب أن أؤديها.
[1] Faizi ص ٢٩٢
[2] Faizi ص ٢٩٢
[3] Faizi ص ٢٩٢ – ٢٩٣
[4] المرجع السابق ص ٢٩٣ – ٢٩٤
[5] Faizi ص ٢٩٤
[6] المرجع السابق
[7] المرجع السابق
[8] Faizi ص ٢٩٥
[9] المرجع السابق ص ٢٩٥
كان جناب فيضي مثالًا يحتذى به في الإنقطاع عن شؤون الدنيا حيث لم يسعده شيء في هذه الحياة الفانية ولم ينشد سوى خدمة ونصرة أمرالله، كان مشعلًا مضيئًا وراية خفاقة وعَلمًا من أعلام العزّ والنصر، واضعًا دومًا نُصبَ عينيه وظائف حضرات أيادي أمرالله المذكورة في النصوص المباركة. جاء في ألواح الوصايا: “والتحية والثناء والصلاة والبهاء… على أيادي أمرالله الذين نشروا نفحات الله ونطقوا بحُجج الله وبلّغوا دين الله وروّجوا شريعة الله وانقطعوا عن غير الله وزهدوا في الدنيا وأجّجوا نيران محبّة الله بين الضلوع والأحشاء من عباد الله…”[1] لقد عمل فيضي على نشر نفحات الله حتى النفَس الأخير من حياته، وكان تعيينه كأيادي أمرالله نقطة انطلاقة ليجوب العالم رافعًا راية يا بهاء الأبهى.
قضى الأشهر الستة الأخيرة من عام ١٩٧٤م في أمريكا الشمالية وبريطانيا والنرويج ولوكسمبرج واليونان وسويسرا وإيطاليا والنمسا وتركيا وفي نهاية المطاف وصل إلى حيفا في ٢٢ يناير/كانون الثاني عام ١٩٧٥م. إن وصوله لحيفا لم تكن للراحة وإنما كما قال: “إنني كالسيّارة فبعد السباق عليها أن تذهب للكراج لبعض الوقت للتصليح”. أثناء وجوده في حيفا هذه المرّة قام بتحرير كتيّب بالفارسية عن العهد الإلهي في ثمانين صفحة ثم سافر في شهر مارس/آذار إلى جزر سولومون الواقعة في المحيط الهادي، وعاد إلى حيفا استعدادًا للسفر إلى أوربا للمشاركة في عشرة مدارس صيفية ابتداءًا من شهر يوليو/تموز ١٩٧٥م هكذا كانت حياة شخص شرب من كأس الإيقان ونذر نفسه للرحمن.
أولى المدارس التي شارك فيها كانت في هولندا ثم الدنمرك ثم بلجيكا وفي ٢٣/٨/١٩٧٥م مشارك في مدرسة صيفية في نورماندي بفرنسا. وفي ٢٧/٨/١٩٧٥م في مدرسة صيفية في لوكسمبرج في ٣١/٨ في إيطاليا وفي ٤/٩/١٩٧٥م في النمسا وفي ١/١٠/١٩٧٥م عاد إلى حيفا. وبعد شهر سافر إلى إيران وخلال رحلته زار مدن: شيراز واصفهان ويزد وكرمان ورفسنجان وزاهدان وبندر عباس. امتدّت رحلته هذه حتى فبراير/شباط ١٩٧٦م، في شهر مارس/آذار سافر إلى اليونان ومنها إلى تركيا وفي شهر مايو/أيار ١٩٧٦م عاد إلى حيفا.
في جميع أسفاره ورحلاته ولقاءاته واجتماعاته مع الأحباء وغيرهم كان أيادي أمرالله جناب أبوالقاسم فيضي شعلة مضيئة وسراجًا منيرًا، يُلهب السامعين بكلماته ويُنعش القلوب بنفحاته ويحثّ الأحباء على الخدمة والطاعة وعبودية العتبة المقدسة. كان حقًا مصداقًا لبيان القلم الأعلى قوله تبارك ذكره: “من عَرَفني يقوم على خدمتي بقيامٍ لا تقعده جنود السموات والأرضين”[2]. وأيضًا: “ايّاكم أن يمنعكم الدنيا وما فيها عمّا قدّر لكم في سماء عزّ رفيعًا. فاشددّ ظهرك لنصرالله وأمره ثم لخدمة الله وعزّه وكذلك يأمرك قلم العزّ من جبروت عزّ منيعًا”[3].
في عام ١٩٧٣م طرح بيت العدل الأعظم مشروع خطة السنوات الخمس من ١٩٧٤م حتى ١٩٧٩م ومن ضمن أهداف هذا المشروع كان عقد ثمانية مؤتمرات تبليغية عالمية وقد عيّن بيت العدل الأعظم حضرات الأيادي كمندوبين في هذه المؤتمرات. عُيّن جناب فيضي مندوبًا عن بيت العدل الأعظم في المؤتمر الذي عُقد في أوكلاند بنيوزيلندا من ١٩ حتى ٢٢ يناير/كانون الثاني ١٩٧٧م. وقبل أشهر من انعقاد المؤتمر بدأ يستعد للرحلة التي امتدت لمناطق عديدة في المحيط الهادي وأخذ معه أكثر من عشرين درسًا تعمّقيًا لكي يستفيد منه في تلك المناطق. وعلى الرغم من الضعف الذي كان يشعر به ولكنه كان واثقًا من تأييدات الملأ الأعلى التي كانت دومًا خير سند له. من عادة جناب فيضي أن لا يُبرز أو يُظهر ضعفه وتعبه لأي أحدٍ وإنما كان إيجابيًا دومًا في قبول خدمة الأحباء أينما كانوا. ومع ذلك وفي رسالة بيت العدل الأعظم إلى المحافل المركزية حول زيارته المرتقبة أشارت الهيئة المقدسة إلى مراعاة صحّته وعدم حَملِه على مالا طاقة به. وكمثال على ذلك الرسالة التالية من بيت العدل الأعظم المؤرخة ١ نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٧٦م إلى المحفل الروحاني المركزي لنيوزيلندا:
“من الأهمية أن يُدرك محفلكم واجباته حتى يكون الحبيب فيضي محفوظًا من إلحاحات الأحباء ومن ضغوطات برامج كثيرة التطلب. وعلاوة على تشرّفكم بلقائه وتوصيله حسبما يستدعي ذلك، يجب أن لا تكون هناك برنامج للسيد فيضي في الصباح إلا إذا طلب هو تغيير هذا النمط… لا تضعوا أية برامج له سواء يوم وصوله أو يوم مغادرته. كما يرجى عدم إقامة جناب فيضي في منزل خاص مهما كان مريحًا، وإنما يجب التأكد من منحه خصوصيّته في فندق حيث يستطيع الحصول على فترات الراحة اللازمة ومتابعة دراساته ومراسلاته”[4].
بدأت رحلة جناب فيضي الطويلة في بداية شهر نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٧٦م حيث غادر حيفا إلى قبرص ومكث بها أسبوعين ثم إلى تركيا ومنها إلى الهند ثم إلى سنغافورة التي وصلها يوم ٦ ديسمبر/كانون الأول ١٩٧٦م وبقي فيها أربعة أيام ثم غادر إلى بابوا نيو غينياPapua New Guinea وظل بها يتنقل بين مُدُنها ويلتقي بالأحباء حتى غادرها يوم ٢٤ ديسمبر/كانون الأول إلى جزر سولومون Solomon ومكث بها حتى يوم ٤ يناير/كانون الثاني ١٩٧٧م حيث غادرها إلى جزر نيوهيبرديز New Hebrides ومن هناك ذهب إلى جزر نيوكالدونيا New Caledonia وظل بها سبعة أيام ثم غادر إلى جزيرة نيوزيلندا ليصلها يوم ١٧ يناير/كانون الثاني ١٩٧٧م استعدادًا للمشاركة في المؤتمر التبليغي العالمي الذي سيبدأ يوم ١٩ يناير/كانون الثاني وقد انتهى المؤتمر يوم ٢٢ يناير/كانون الثاني ١٩٧٧م. اشترك في هذا المؤتمر حوالي ١٢٠٠ شخص وكانت روح الوحدة والمحبة فيّاضة في جميع المشاركين وقد أرسل بيت العدل الأعظم رسالة خاصة للمؤتمر وبعد الانتهاء أرسل جناب فيضي رسالة إلى أحد الأحباء ذكر فيها:
“كنت أغنّي أغنية واحدة فقط في قلبي وروحي، يا إلهي أين سياه چال وأين نيوزيلندا؟ كيف يمكن لسجين تلك الحفرة أن يأتي بنفسه إلى هنا؟ ما هي القوة التي جعلت تمّوجات قلب طهران أن تصل إلى قلب المحيط الهادي وتخلق إثارة كهذه، لدرجة أن الأحباء يضحكون ويتنهدون معًا ويصلّون معًا، ويعانقون بعضهم بعضًا ورغم ذلك هم كارهون للفراق؟”[5].
مكث جناب فيضي في منطقة المحيط الهادي عدة أشهر يتنقل بين جزرها ودولها، فمن نيوزيلندا سافر إلى جزر ساموا وظل بها لمدة أسبوعين ثم سافر إلى تونغو وظل بها لمدة أسبوع ثم إلى جزر فيجي Fiji وظل بها لمدة عشرة أيام وخلال تواجده في جزر فيجي سنحت له الفرصة وبالتعاون مع الأحباء إهداء نسخة من رسالة “إعلان بهاءالله”[6] إلى رئيس قسم التربية في جامعة ساوث باسيفيك. وبعد ذلك غادر إلى جزر جيلبرت Gilbert وظل بها لمدة أسبوع ثم إلى جزر مارشال Marshall وظل بها لمدة أسبوع ومن ثم إلى جزر نيوهيبرديز وظل بها لمدة خمسة أيام ثم الى جزر نيوكالدونيا. وبتاريخ ٢٤ مارس/آذار وصل إلى مدينة برزبن Brisbane بأستراليا وفي ٩ أبريل/نيسان غادرها إلى جزر نيوهيبرديز استعدادًا للمشاركة في أول مؤتمر وكلاء مركزي نيابة عن بيت العدل الأعظم، وكان تأسيس هذا المحفل ضمن أهداف خطة الخمس سنوات. عقد المؤتمر من ٢٢ أبريل/نيسان الى ٢٤ أبريل/نيسان ١٩٧٧م وبحضور جناب فيضي والوكلاء وجمع غفير من الأحباء وتم تشكيل المحفل الروحاني المركزي لجزر نيوهيبرديز في العاصمة بورت فيلا Port Vila في جو غامر بالفرح والسرور.
وفي ٢٦ أبريل/نيسان غادرالجزيرة إلى سدني بأستراليا حيث شارك في مؤتمر الوكلاء المركزي ثم قام بزيارة المدن والمناطق الأسترالية لمدة عشرين يومًا مثل ملبورن وأدليه وبرث إلى أن غادر إلى جزر موريشوس بتاريخ ٢٤ مايو/أيار ١٩٧٧م. في جميع النقاط التي سافر إليها كان فيضي نورًا مشعًا وسراجًا منيرًا ورحمة وبركة لكل من التقى به واستفاض من فيضه.
أثناء تنقله بين جزر المحيط الهادي أو بما يعرف بمنطقة بانوليشيا التقى بمشاور تلك المنطقة السيد سهيل علائي وزوجته ليليان وذلك في جزر ساموا وهما من المهاجرين القدامى في تلك المنطقة وهو ابن عم السيدة ﮔلوريا فيضي. يروي السيد سهيل علائي بأنه طلب من أحد الشباب البهائي أن يأتي لمنزل السيد فيضي عندما يكون لوحده ويهتم به وباحتياجاته وأن يبقيه في فراشه للراحة نظرًا لحالات الضعف المختلفة التي انتابته أثناء رحلته. وبعد أن أتى هذا الشاب وترك السيد علائي المنزل قام السيد فيضي من فراشه بعد ساعة وترك غرفته وذهب للقاء هذا الشاب والتحدّث معه، وتكررّ نفس الشيء لعدة أيام لدرجة أنه في أحد الأيام وقع جناب فيضي على الأرض بينما كان واقفًا فسارع هذا الشاب البهائي لمساعدته وأخذه لغرفته، فما كان من جناب فيضي إلا أن نظر إليه بابتسامة وقال له: “لا تقل شيئًا عن هذا للسيد علائي”.
وفي ساموا تم ترتيب لقاء له مع رئيس الدولة صاحب السمو ماليتو تانومافيلي الثاني وهو أول رئيس دولة يؤمن بالأمر المبارك في تلك المناطق، وصف جناب فيضي الرئيس: “أنه رجل عزيز وطاهر وطيب”. وعندما كان في جزر فيجي من ٢١ فبراير/شباط حتى الأول من مارس/آذار ١٩٧٧م ذكر المحفل الروحاني المركزي لفيجي في تقريره بأن رحلته كانت: “في الوقت المناسب وتبعث على الإلهام ومثيرة ولا يمكن نسيانها… أدّت إلى ظهور موجة من الفعاليات غير المسبوقة مع إعلان عن الأمر. وقد بثَّ في الجامعة إرادة قوية على أن يعيشوا الحياة البهائية وأن يعلنوا الأمر وينشروا تعاليم حضرة بهاءالله بشكل واسع ولأبعد المناطق”[7]. خلال جميع رحلاته كان فيضي مهتمًا ليس فقط بالجامعات البهائية في الأقطار التي يزورها، وإنما بالقطر نفسه أيضًا وشعبه وتراثه وطبيعته وعاداته وتقاليده وفنونه، مثلًا عندما كان في جزر فيجي أعجب بهذه الجزر التي اعتبرها من أجمل جزر المحيط الهادي وقد كتب عنها: “كل نبتة ووردة فيها عظيمة للغاية وفي تفتح دائم لدرجة أن الإنسان يعتقد أن الطبيعة هنا تعمل على نحو مفرط وكل شيء مبالغ فيه سواء في الحجم أو الجمال”[8].
استقبل أهالي هذه الجزيرة فيضي “كواحد منهم” وهناك قصة وراء هذا الرابط الروحي بينه وبين أهالي تلك الجزيرة. وهذه القصة ترجع بداية إلى أوائل الأربعينيات من القرن العشرين عندما كان فيضي يلتقي بالأحباء في البحرين. في إحدى الليالي شارك جناب فيضي الأحباء برسالة وصلته من شاب كان عضوًا في نادي المراسلات. الرسالة كانت من سيدة من جزر فيجي تقول فيها:
“هناك سيدة أمريكية جاءت إلى جزر فيجي ومكثت فيها ليلة واحدة وتحدثت عن ديانة معينة غير معروفة تمامًا عندنا في هذه المنطقة، وللأسف غادرت هذه السيدة دون أن تعطينا أي كتاب ولا حتى أي عنوان. الشيء الوحيد الذي أذكره بأن هذا الدين اسمه البهائية ونشأ في المنطقة العربية. وبما أنكم تعيشون في المنطقة العربية هل من الممكن أن تساعدني وتبحث وترسل لي بعض الكتب عن هذا الدين. إنني متأثرة جدًا بما قالته تلك السائحة الأمريكية”[9].
تأثرت المجموعة الصغيرة في البحرين من هذه الرسالة وبالفرصة التي اتاحتها لهم ليعبّروا بعض الشيء عن توقهم الشديد وطلبوا من ذلك الشاب العضو في نادي المراسلات والذي استلم هذه الرسالة أن يعطيهم عنوان هذه السيدة من جزر فيجي حتى يرسلوا لها الكتب التي طلبتها. كما أن الشاب نفسه طلب بعض الكتب ليعرف عن الدين البهائي ولكن وطبقًا لتوجيهات حضرة ولي أمرالله آنذاك لم تكن الظروف مواتية لإعطاء الكتب داخل البحرين، فأخبره جناب فيضي بتعذر ذلك. قامت المجموعة الصغيرة من أحباء البحرين بإرسال طرد من الكتب إلى تلك السيدة في جزر فيجي وانتظروا وصول ردّ منها وعيونهم مسمرة على يدي ساعي البريد في أصعب امتحان للصبر مرّوا به وبعد ستة أشهر استلموا الردّ. قالت هذه السيدة واسمها زينب إنها استلمت الكتب وقرأتها بدقة لعدة أشهر وأصبحت بهائية. ولكنها قالت أن زوجها لم يكن مهتمًا أبدًا بقراءة أي شيء يتعلق بالدين. في نوروز السنة التالية، استلمت هذه المجموعة رسالة أخرى من زينب تقول إن جزر فيجي أصبح فيها مجموعة من البهائيين وإنها سكرتيرة تلك المجموعة وزوجها أمين الصندوق. وهكذا أصبح أحباء البحرين الذين حرموا من التبليغ آنذاك سببًا في إيمان هذه العائلة وفي تأسيس الأمر المبارك في جزر فيجي التي تبعد ملايين الأميال عن البحرين.
وعندما كان في بابوا نيو غينيا Papua New Guine كتب فيضي إلى أحد أصدقائه: “كان لي الشرف أن أزور أفقر أتباع حضرة بهاءالله. إن الجمال ودماثة الخُلق والرضا والقناعة واضحة بينهم. وحتى الأطفال رغم أنهم كانوا عراة ولكن آثار النُبل واضحة عليهم بشكل كبير. في أماكن أخرى وعلى الرغم من أن الأطفال يتم الاعتناء بهم ويلبسون ويأكلون بشكل جيد ولكن يسيطر على غالبيتهم الطمع وقلة الأدب وسوء الخلق والنهم. إن الأطفال مع عيونهم السوداء الكبيرة ووجوههم المبتسمة وخدودهم المستعدة دائمًا لتلقي قبلة وعناقًا وقد يكونون جائعين، ولكنهم لا يهجمون على طاولة الطعام مثل أطفال المناطق الأخرى، بل ينتظرون عندما تعطى لهم حصتهم الصغيرة ويكونون في غاية السعادة والرضى. إن الناس هنا لديهم درجة من الكرامة قد تكون نتيجة الكثير من الاضطهاد. إنهم حاسروا الرأس وعُراة الأقدام مع طقم واحد من الملابس الداخلية وزوج من الشورتات وهم يسلكون الطريق الوعر في الغابة ويقومون بتبليغ أمر حضرة بهاءالله. وعندما أراهم أو أفكر فيهم فإنني أبكي من داخل روحي وأوبّخ نفسي مرارًا وأقول: من أنتَ؟ وماذا أنت؟ هل يمكنك لك أن تسير في هذه الطرق الخطرة؟”[10].
بعد هذه الرحلة، ومع بلوغه سن السبعين بدأت صحّته بالتدهور تدريجيًا؛ فقد استنزفت الرحلة ما تبقّى من قواه وحيويته، فآثار المرض والتعب والضعف أصبحت واضحة عليه وأحيانًا كان يفقد توازنه وكان يصعب عليه صعود السلّم. وكتب مرّة إنه عندما سيعود إلى البيت سينام وينام وينام، ولكنه وكما قال: “مع هذا القلب المتعب وهذا الجسم المريض وهذا الصدر الملتهب كيف استطعت السفر حتى الآن؟ إنها القوة الإلهية فقط التي تحّركني إلى الأمام”[11]. ومع كل آلامه وضعفه لم يكن يبوح بها لأحد وإنما كان مصرًّا على زيارة كل المناطق والجزر والنقاط التي كانت في برنامجه دون نقصان. إنّ عزيمته كانت ثابتة وإرادته قوية متوكلًا على فضل مولاه أينما ذهب وأينما حلّ.
بعد هذه الرحلة الطويلة في منطقة المحيط الهادي التي امتدت لأكثر من ستة أشهر غادر مدينة ﭘرث الأسترالية يوم ٢٤ مايو/أيار ١٩٧٧م ليصل إلى جزر موريشوس ويمكث هناك أسبوعًا ليغادرها إلى جزيرة مدغشقر التي تقع في شرق أفريقيا. ومن ثم ومنذ الأول من يونيو/حزيران ١٩٧٧م كانت له رحلة طويلة في أفريقيا حتى نهاية العام.
وبالنسبة لعام ١٩٧٨م فلا توجد معلومات دقيقة وموثقة عن الأشهر الست الأولى التى قضاها من ذلك العام ولكن يبدو أنه قضى جزءًا منها في قبرص والأرض الأقدس. كان فيضي يسافر إلى قبرص بين الحين والآخر لزيارة ابنته مي التي كانت تعيش هناك مع زوجها بيتر وأولادهما. ففي الأول من يوليو/تموز ١٩٧٨م سافر إلى قبرص ومكث هناك لمدة أسبوع ثم غادر إلى لندن حيث كان يعيش ابنه نيسان وزوجته زهرة وأولادهما ومن ثم قرّر المشاركة في عدة مدارس صيفية كانت تعقد في أوروبا بناء على دعوة مسبقة وجهت إليه.
أولى هذه المدارس التي شارك فيها كانت في النرويج وقد عقدت من ١٨ حتى ٢٣ يوليو/تموز ثم شارك في المدرسة الصيفية التي عقدت في فنلندا من ٢٦ حتى ٣٠ يوليو/تموز ثم في السويد من ١ حتى ٦ أغسطس/آب ١٩٧٨م ثم الدنمارك من ٨ حتى ١٧ أغسطس/آب ثم لوكسمبرج من ١٨ حتى ١٩ أغسطس/آب ثم أيسلندا من ٢٠ حتى ٢٤ أغسطس/آب ثم بريطانيا من ٢٩ أغسطس/آب حتى ٢ سبتمبر/أيلول ثم ألمانيا، ولكن ما أن وصل ألمانيا حتى أصيب جناب فيضي بوعكة صحية لم يستطع المشاركة فيها ولهذا ألغيت المدرسة وفي ١٢ أكتوبر/تشرين الأول سافر إلى اليونان ولكن لم يستطع المشاركة أيضًا لمرضه وأخيرًا عاد يوم ٧ أكتوبر/تشرين الأول إلى قبرص لزيارة ابنته مي وأسرتها. وفي أوائل نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٧٨م عاد إلى الأرض الأقدس.
[1] الواح وصايا حضرة عبدالبهاء ص ٢٥ – ٢٦
[2] الكتاب الأقدس – فقرة ٣٨
[3] لئالئ الحكمة – مجلد ١ ص ٣٤
[4] Faizi ص ٢٩٩
[5] المرجع السابق ص ٢٩٩ – ٣٠٠
[6] The Proclamation of Baha’u’llah
[7] Faizi ص ٣٠٠
[8] المرجع السابق ص ٣٠١
[9] المرجع السابق ص ٣٠١
[10] Faizi ص ٣٠٣
[11] المرجع السابق ص ٣٠٣
إن الحياة العظيمة والشريفة التي قضاها جناب فيضي طيلة حياته في خدمة وعبودية أمر حضرة بهاءالله لهي مليئة بالحكايات والعِبَر التي يعجز القلم عن ذكرها جميعًا. وهي حكايات مليئة بالمواقف البطولية والأحداث التي تحكي عن شخص حاول أن يكون بهائيًا مثاليًا متفانيًا في خدمة الإنسانية ودينه الذي أحبّه بكل جوارحه، وقد ذُكرت العديد من هذه الحكايات في الفصول السابقة وسنروي هنا البعض الآخر.[1]
١) في إحدى رحلاته إلى أيرلندا قال السيد فيضي لأحد الأحباء: “عندما نتلو الدعاء يجب أن نتلوه لكي نكون مذعنين للإرادة الإلهية. إنه يستجيب لنا دومًا وأحيانًا يستجيب لنا بشكل سلبًا. إننا لا نتوقع هداية خاصة ولكنها تأتي أحيانًا.” وتحدّث عن أحد اسباب وجود المشاكل داخل الجامعة فقال: “في الجامعات عندما تكون المشاكل شخصية، يعاني العمل الأمري… في جميع الجامعات عندما يبدأ شخص بالسيطرة تبدأ معاناة العمل… عندما تتشكل أي جامعة على أساس خاطئ فإن المشاكل التي كانت موجودة منذ البداية يبدو أنها ستستمر لعدة سنوات. يجب علينا أن نحاول أن نفكر بشكل عالمي وليس محلي. وبدلًا من أن نصرف أموالًا كثيرة على الاحتياجات المحلية يجب علينا أن نفكر بالاحتياجات العالمية”.
كان فيضي يؤمن إيمانًا راسخًا بالدعاء وأهميته وقوّته، وكان من عادته أن يتلو الدعاء لنفسه بصوت خافت يوميًا. وعندما كان مقيمًا في حيفا كان يعدّ قائمة بالأسماء التي كانت بخاطره حتى يتلو لها الدعاء والمناجاة في العتبات المقدسة. كانت القائمة تضم أسماءًا متعدّدة لأشخاص في أبعد نقطة في جنوب أمريكا الجنوبية إلى باقي الأشخاص ممّن عرفهم في شتى بقاع العالم. ورغم ذلك كان يؤمن بأن الدعاء وحده غير قادر على تلبية احتياجاتنا إن لم تصاحبه عزيمة وإرادة وعمل. وعندما كتب له أحد المؤمنين بأنه رغم مرضه سوف يستمر بالخدمة حيث يقيم وسيستمر بالدعاء، ردّ عليه جناب فيضي بأن الدعاء وحده غير كافٍ، بل عليه مراجعة الطبيب في مكان آخر وأضاف: كيف ستتمكن من الخدمة وأنت مريض؟
٢) سألته مرّة سيده بهائية ألمانية في أحد الاجتماعات عن الصلاة. فقالت إنها تقوم بقراءة الأدعية في أي وقت تشعر إنها بحاجة للتواصل مع الله ولكنها لا تدرك لماذا لا تستطيع أن تفعل الشيء نفسه مع الصلاة المفروضة، ولماذا يجب ان تصلّى في أوقات محددة؟ ولماذا يجب أن تتوضأ؟ ولماذا ولماذا؟ وفي الجواب سألها جناب فيضي عمّا يجب أن تعمله لو استلمت رسالة من المدير العام في المكان الذي تعمل فيه وطلب منها أن تشارك في جلسة خاصة معه في تاريخ ووقت معيّن للحديث عن موضوع هام. ردّت عليه السيدة قائلة بأنها سوف تستعد للجلسة وتتأنّق وتذهب إلى مكتب المدير العام قبل عدة دقائق من الوقت المحدّد حتى تتأكد بأنها لن تتأخر عن اللقاء. ثم سألها فيضي عمّا ستفعله إن استلمت رسالة من المدير العام، بدلًا من الدعوة، يطلب فيها وجهة نظرها حول موضوع معيّن. قالت السيدة: “في هذه الحالة سوف أقرأ الرسالة بتمعّن قبل إرسال الجواب”. ثم قال لها فيضي بأنه من وجهة نظره، فإن الصلاة كأنها دعوة لجلسة خاصة مع المدير العام، لقد وُجّهت لنا دعوة في وقت محدّد وفيها تكون أبواب الرحمة مفتوحة على مصراعيها للدخول فيها ويجب أن نكون قد هيأنا أنفسنا لهذا الوقت الخاص للتواصل مع الخالق ونحن متوضّئين. كما أن أدعيتنا الأخرى لها نفس حالة التواصل المطلوبة وتتطلب فقط تركيزًا من القلب والعقل.
٣) شخصية فيضي كانت مميّزة لدرجة تجذب إليها كل من تقابله أو تلتقي به وخاصة من الشباب والصغار. فالروح الطلقة والابتسامة الدائمة والنورانية الفيّاضة كانت من سماته المميّزة. كان يشجع الشباب دومًا على الاستفادة من طاقاتهم وقدراتهم في خدمة أمرالله. في إيران كانت هناك مجلّتان تصدران بصورة منتظمة للشباب والأطفال هما گلوري وورقا وكان جناب فيضي خير داعم ومساند لهما. بعد وفاته وتكريمًا لدوره الداعم لمجلة گلوري Glory تم تخصيص العدد العاشر من المجلة إحياءً لذكراه العطرة فجاء في افتتاحيتها:
“مع أجمل وأعزّ الذكريات للمؤسس الوالد حضرة أيادي أمرالله المحبوب جناب أبو القاسم فيضي الذي كان توجيهه واهتمامه الممزوجان بالمحبة هما مصدر إلهام مستمر لنا. إنه كان أول شخص تصوّر إصدار مجلة خاصة لتعميق الشباب وعهد بالفكرة إلى شباب الهند. ومع حماس مميّز وإراده قوية قام بتطوير المجلة على الرغم من التحدّيات العديدة التي واجهتها، وكان نورًا من الثقة يهدي مجلة گلوري في ارتقائها إلى مستويات أعلى فأعلى من التقدّم. والآن ونحن قريبون جدًا من النتيجة المظفّرة للسنة العاشرة لمجلة گلوري فإنه (رحمه الله) غير موجود بيننا. وليس بمقدورنا سوى أن نقرّ له بالفضل والعرفان الأبوي ونعيد تكريس أنفسنا لندرك الهدف من مجلة گلوري ونحن نفكر فيه وهو في الملكوت الأبهى”.
مثال آخر على طريقة تشجيعه للشباب كان عندما شارك في المدرسة البهائية في ﭘنج گنى خلال إحدى زياراته للهند. فبينما كان في طريقه إلى تلك المدرسة توجّه في حديثه فجأة إلى إبنة صديقه واسمها شيرين وهي شابة يافعة تعشق الموسيقى وطلب منها أن تضع لحنًا موسيقيًا لأغنية عن هيروشيما وأخبرها إن ما حدث هناك كان حدثًا تاريخيًا هامًا. لم تستوعب شيرين في ذلك الوقت ما طلبه جناب فيضي منها. وفي طريق العودة عندما كان راجعًا إلى بومبي أصيب بوعكةٍ صحية اضطر للذهاب إلى المستشفى ولم يُسمح لأحد بزيارته. عندما سمعت شيرين بذلك تأثرت بشدّه نظرًا لمحبّتها واحترامها الشديد لحضرة الأيادي ورغبة منها بجعله سعيدًا تذكرت ما طلبه منها فقامت فورًا بكتابة وتلحين أغنية “هيروشيما”، وما أن انتهت منها حتى سارعت إلى المستشفى ولم يكن يُسمح لأحد زيارة جناب فيضي سوى القليل ولكنها استطاعت الدخول إلى غرفته وعرضت عليه الأغنية فقرأها وابتسم وأومأ برأسه دون أن يستطيع الحديث، ولكن من تعابير وجهه كانت علائم الرضا واضحة عليه. بعد عدة أشهر استلمت شيرين رسالة من جناب فيضي يخبرها فيها بأنه أرسل أغنيتها إلى الفرقة النمساوية “مطالع الأنوار”Dawn Breakers التي ستقوم بتلحينها وغنائها. وبعد عدّة سنوات انضمّت شيرين للفرقة الموسيقية نفسها.
٤) قام شابان بهائيان في تركيا بالبدء بتحرير مجلة بهائية وما أن علم جناب فيضي بذلك حتى قام بتشجيعهما، ونصحهما مرّة أن يكتبا عن الأحباء الذين هاجروا من تركيا وطلب منهما أن يكتبا عنهم بأسلوب معتدل بحيث لا يبالغا في وصف الأفراد كما يفعل الإيرانيون. ومثال على ذلك، إذا حصل شاب بهائي على درجة الدكتوراة يمكن الكتابة بصورة مختصرة عن رسالته ومحتواها وأهميتها بشكل موضوعي ومعتدل. وإذا كان أحدهم متحمسًا لكتابة الشعر فعليهما نشر قصائده، وإذا عرفا شابًا يملك أسلوبًا جيدًا في التعبير والكتابة فعليهما تشجيعه ونشر مقالاته. كما شجع الشباب على الكتابة عن تاريخ الرعيل الأول من المهاجرين، وعندها سيشعر الشباب أن المجلة ملكهم وتعود لهم.
٥) إن ارتباط فيضي مع مجلة الأطفال “ورقا” كانت وثيقة أيضًا. يعتبر المهندس فريبرز صهبا من مؤسسي هذه المجلة ويروي في إحدى خُطبهِ في السنوات الأخيرة في أكاديمية لاندگ في سويسرا بأنه عندما كان في زيارة لطهران طلب جناب فيضي اللقاء مع مجموعة من المؤلفين البهائيين والمهتمين بأمور التربية والتعليم. خلال هذا اللقاء أكد فيضي على أهمية إعداد مجلات بهائية وكتب للأطفال، وبعد مناقشات عديدة لم يحدث شيء. انزعج المهندس صهبا الذي حضر الاجتماع وكان معه خطيبته آنذاك الآنسة گلنار رفيعي لعدم الأخذ باقتراح جناب فيضي فتحدّث معها عن الموضوع فقرّرا معًا التحدّث مع مجموعة من الشباب البهائي لكي يعملوا شيئًا مشتركًا. وقد حدث ذلك بالفعل وقامت المجموعة بجمع وتهيئة مقالات ومواضيع متنوّعه وإعداد مجلة وتقديمها للمحفل الروحاني المركزي في إيران للموافقة وسميّت “ورقا” وتمت الموافقه عليها. وقد حصلت المجلة على الدعم الكامل من المؤسسات الأمرية. وما أن استلم جناب فيضي نسخة منها حتى قام بكتابة رسالة تهنئة وتبريك أعرب فيها عن سروره البالغ من صدور العدد الأول رغم الصعاب والتحدّيات التي واجهتها المجلة، وأرفق برسالته مبلغ خمسمائة دولار كتبرّع شخصي ودعم لها قائلًا إن “المولود الجديد” بحاجة إلى هدية. ونظرًا لأن المهندس فريبرز صهبا وزوجته كانا من مؤسسي هذه المجلة وكان لهما دورٌ كبير في الإصدار والنشر فقد غمرهما جناب فيضي بمحبّته اللامتناهية من خلال عشرات الرسائل الجميلة التي أرسلها لهما أينما كان في العالم ولم ينسَ دورهما الفعال في إصدار المجلة التي استفاد منها العديد من الأطفال والشباب. كما كان فيضي يوجّه هيئة تحرير هذه المجلة بين الحين والآخر حول المواضيع التي يجب أن تنشر ويجب أن يعرفها الأطفال ولهذا أخذت هذه المجلة تقوى يومًا بعد يوم وقد ذاع صيتها وشهرتها. وعندما قام المهندس فريبرز صهبا بتصميم مشرق الأذكار في الهند وأعدّ نموذجًا له أخذه معه إلى الأرض الأقدس وكانت رغبة جناب فيضي أن يراه أولًا قبل عرضه على بيت العدل الأعظم مع أن صحّته كانت سيئة، وما أن رآه حتى قال له: “أريد أن أقول لك أن حضرة بهاءالله أعطاك هذا المعبد كهدية مقابل مجلة ورقا”. هذا هو الثواب الذي أعدّه الله للمؤمنين.
٦) بعد أن شارك جناب فيضي في مدرسة صيفية في فرنسا عام ١٩٧٥م كتب حضرته الرسالة التالية عن الشباب في الجامعة البهائية إلى المحفل المركزي في فرنسا وهي تنطبق على كل جامعة بهائية في العالم”… إنه واجب علينا أن نطلق هذه النار من الحماس عن طريق إعداد كتابات ومطبوعات بهائية مناسبة وكافية حول الحقائق الأساسية لأمرنا العزيز ونجعلها متاحة للأرواح الشابة والمشتاقة والتوّاقة. وعندما يتعمّقون في النظام العالمي والمبادئ العالمية للأمر المبارك سوف لن يخافوا أبدًا من التحدّيات التي قد تواجههم في ميدان التبليغ. وعندما تكون المعرفه الإلهية سلاحهم والحياة البهائية طرازهم ولباس الميثاق زينتهم، سيستحقون في هذا العالم شرف كونهم مهاجرين ومبلغين وأبطالًا وحماةً للأمر الذي عشقوه بكل محبة وشجاعة”.
٧) أثناء إحدى زياراته العديدة لألمانيا قال جناب فيضي مرّة لشاب بهائي بأنه سمع بأن هناك حبرًا أبيض اللون يستخدم لتصحيح الأخطاء المكتوبة، وطلب منه أن يشتري له بعضًا منه. ذهب الشاب البهائي الذي كان سعيدًا بأن حضرة الأيادي قد طلب منه أن يفعل شيئًا، واشترى أكبر عبوة من الحبر الأبيض وأخذها لجناب فيضي وبكل فخر قال: “اشتريت أكبر ما وجدته” ألقى جناب فيضي نظرة على العبوة وقال له ضاحكًا: “ابني هل تعتقد إنني سأخطأ كل هذه الأخطاء؟”.
٨) في إحدى السنوات رَغِب نيسان ابن جناب فيضي أن يذهب للهجرة لمنطقه معيّنة، فكتب لوالده الذي شجّعه على ذلك ونصحه أن يبقى ثابتًا مستقيمًا في منطقة هجرته مهما كانت الظروف، فتلك هي سمة المهاجرين في سبيل الله. وكان نيسان وهو ابنه الوحيد وفلذة كبده يراسل والده أينما كان، وكان يستلم منه سيلًا من الرسائل المشجّعة والبهيجة. في رسالة منه لابنه نيسان قال: ]يبدو إنك لا تعرف المثل الإيراني الذي يقول: “يمكنك قفل أبواب المدينة ولكنك لا تستطيع أن تقفل أفواه الناس”. عليك ألا تتوقع أبدًا الكثير من الناس بل عليك أن ترّكز على حبّك للأمر المبارك الذي تضّحي كل شيء في سبيله[. ثم أعطى جناب فيضي أمثلة عن حياته مثل الإشاعات الكاذبة التي انتشرت عندما ترك شركة النفط في طهران وذهب إلى قرية نجف آباد للخدمة فكتب: “لقد أصررت على المضي قدُمًا في طريقي… وسرتُ إلى الأمام في مهمتي مركّزًا على السعادة التي تولّدت في قلب محبوب كل القلوب. الناس ليس لهم برنامج في الحياة أو هدف محدّد غير تلبية بعض الأهداف الطموحة في الحياة. إنهم لا يستطيعون أن يتحكموا بألسنتهم لهذا فإن الإنسان الذي لديه إرادة وعزيمة يجب عليه ألا يفكر أبدًا بأمور مثل هذه ولو للحظة. ضع هدفك أمامك وتقدّم نحوه. إن حضرة وليّ أمرالله الذي يتوقّع منك تقديم خدمات سامية كالتي نقدمها للأمر المبارك سيضع دون شك يَدَهُ الكريمة على عاتقك وسيعبّر عن سعادته ورضاه بأبدع الكلمات. هذا هو فضل الدارين. إنني أشعر بقلقك بشدة وأشاركك اضطرابك ولكن في نفس الوقت أفتخر بك للغاية”.
٩) في أحد الأيام كان فيضي يقرأ ذكريات الدكتور يونس أفروخته خلال السنوات التسع التي قضاها بالقرب من حضرة عبدالبهاء في فلسطين وعلى الأخص تلك الفترة التي شهدت مجئ الهيئة التفتيشية من استانبول والأخطار التي أحاطت بحضرته. انتبه فيضي إلى فقرة من هذه الذكريات تشير إلى هدوء وسكون حضرة عبدالبهاء خلال تلك الفترة وقام بترجمتها وشارك البعض بمضمونها وهي:
“أجعلُ أشرعة المركب قوية جدًا، الحبال محكمة ومشدودة وكل شيء في وضع جيد ومن ثم أضع هدفي منظورًا أمامي وأعمل تجاهه ولا يمكن لأي عاصفة أن تحيدني عن المسار. وإذا غيّرت طريقي مع كل موجة فسوف لن يكون هناك نجاح. انظر إلى أشعة الشمس إنها منتشرة في كل مكان ولكن إن جعلتها تعبر من خلال عدسة وتركز على نقطة عندئذ سيحدثُ حريقٌ كبيرٌ. انظر إلى البخار الخارج من الماء المغلي، إن جعلته مركزًا في اتجاه واحد، فإنه ورغم ضعفه سيحرّك القطارات والسفن”.
آخذًا مثال حضرة عبدالبهاء في حرصه الشديد على نمو وتقدم أمرالله بعين الاعتبار فإن اهتمام فيضي كان منصبًّا على تشجيع الأحباء بالاقتداء بالمثل الأعلى في الدين البهائي، وأن يكون اهتمام الأحباء وشحذ هممهم في توجيه جميع الطاقات والامكانيات والموارد لنصرة أمرالله. جاء في جوابه لإحدى السيدات في معرض حديثه عن احتياجات الأمر ما يلي:
]بالنسبة إلى إمكانية هجرتكم، أود أن أشير إلى النقاط التالية والتي آمل أن تكون وسيلة للتقدم نحو مستقبلكم المنشود:
وفي رسالة له بعد عدة سنوات كتب: بالنسبة للمهاجرين الذين سألوني عن تغيير مناطق هجرتهم فقد قلت لهم بكل ثبات: “لا” لأسبابي المتواضعة:
١٠) عندما كان فيضي يسمع بأن شخصًا يودّ أن يترك كل شيء ويذهب إلى الهجرة كان يقول له: “الذهاب إلى الهجرة من دون أن يكون لك دخل ليس عملًا صحيحًا”. وكان ينصحه بأن ينظّم وقته ويعمل بصبر ويضع خطة له ويحدّد مكان هجرته ولكن “عندما لا يريد الله شيئًا أن يحدث يجب علينا ألا نطلبه بالقوة أو الإصرار… اتلوا الدعاء ولكن لا تصرّ. إنَّ خططك ستتحقق عاجلًا أم آجلًا بالإرادة الإلهية.
١١) ردّ فعل السيد فيضي لحسرة شاب اضطر إلى الانتقال إلى لندن بدلًا من محل هجرته كان كالآتي: “بالنسبة إلى الانتقال إلى لندن لا أريد أن تشعر بالذنب وتقول بأنك قد أخفقت. إن ديننا هو دين المنطق والحداثة، علينا أن نعمل ونعمل بأقصى ما في وسعنا ولكن عندما تسير الأمور عكس خططنا، وهي قوة لا نستطيع محاربتها أو التخلّص منها، علينا أن لا نعتبر ذلك فشلًا… إننا مثل قطع الشطرنج التي تحرّكها يد الله العلي القدير. إنه يحرّكنا في أي اتجاه يرى إنه الأفضل بالنسبة لنا بشرط ان نسلّم أنفسنا ليد قدرته”.
١٢) كان جناب فيضي يعتقد أن العنصر الأهم في خدمة أمرالله هو المبادرة الفردية. لقد شرح هذه النقطة لأحد الأصدقاء فقال: ]هناك أشخاص لم يرافقوا حضرة بهاءالله بأجسادهم أبدًا في رحلات نفيه، ومع ذلك سمّاهم المرافقون الممتازون. هناك أيضًا أشخاص لم يُقتلوا ولكنهم سُمّوا بالشهداء. وسمّى حضرة عبدالبهاء بابين من أبواب المقام الأعلى باسم شخصين لم يساهما فعليًا في بناء المقام ولكن حسب تعبيره قال بأنهما: “كانا مرتبطين روحيًا مع ذلك الصرح المقدس”[.
١٣) عندما تم فتح مركز جديد لأمرالله كتب فيضي إلى المهاجر الوحيد هناك: “إن حدثًا مثل هذا مع إنه شيء بسيط بالنسبة لأعين أهل العالم غير البصيرة ولكننا نعتبره فتحة صغيرة نحو الأبدية”. وإلى مهاجر آخر كتب فيضي: “كلما كانت المهام أصعب، كانت النتائج كثيرة. تأكد عزيزي بأن حضرة بهاءالله لن يتركك وحيدًا وبالتأكيد سيأخذكما أنتما الاثنان تحت جناحي حفظه وحمايته ومحبّته. ومهما كانت قلوب الناس متحجّرة وآفات أرواحهم صلبة وسلوكهم عنيفًا ومتهورًا ولكنهم في النهاية سيستسلمون. أقول هذا مع كل محبتي كأخ إلى أخته المهاجرة وكشخص لديه خبره طويلة في الهجرة. عندما يذهب المهاجرون إلى هدف معيّن فإنهم يتعرّضون لامتحانات صعبة متعدّدة. أحيانًا يفقدون أطفالهم وصحّتهم وكل مالهم وفي النهاية كل آمالهم. في هذا الوقت يمكن حدوث أمرين: الأول، إما إنهم سيتركون أماكن هجرتهم ويعودون إلى موطنهم، والثاني، سيبدأون بالمقاومة والثبات. في الحالة الأولى لا شيء يحدث، وسيكونون مرّة أخرى أفرادًا بهائيين. في الحالة الثانية فإنهم بالتأكيد سينجحون وستفتح لهم جميع الأبواب وسيحصلون على وظائف وتتهيأ لهم المنازل وتفتح الأذرع لاستقبالهم، بل وأبعد من ذلك سيصبح كل فرد ملجأ وحيدًا للناس الذين سيأتون إليهم طلبًا للنصيحة والراحة والتوجيه والمواساة. انها تلك اللحظات فقط التي يشعر فيها المهاجرون بأنهم محاطون بالرحمة والفضل الإلهي. جاء في القرآن الكريم بأن الناس عليهم ألا يفكروا بأنهم سيتركون دون امتحانات إلهية… أقول هذا من باب خبرتي أيضًا، حاولوا أولًا أن تكسبوا ثقة الناس ولا تحدّثوهم مباشرة عن الأمر المبارك أولًا… كل روح لها الوقت المناسب لنضجها. مثل الثمار، فإن تجاوب الناس من خلفيات مختلفة سيأتي في أوقات مختلفة. وإذا نضجت كل الثمار في وقت واحد فإن الجنس البشري لن يشهد عظمة الصيف وجمال الخريف”.
١٤) كان فيضي يشعر بالحزن عندما يأتيه الأحباء ويبوحون بمشاكلهم ويطلبون منه الحل. من عاداته أنه كان يوجّههم إلى محافلهم المحلية لحل تلك المشاكل. وحول هذا الموضوع كتب في إحدى رسائله: “أحيانًا أصبح مرهقًا جدًا وعلى الأخص عندما يطرح الأحباء عليّ مشاكلهم الزوجية. إنني لا أستطيع عمل شيء وأنا لا أتدخل أبدًا في أمور كهذه…”. في عام ١٩٧٢م عندما كان في رحلة علاج طويلة في لندن جاءه أحد الأحباء وأخذ يشتكي له عن شخص آخر أساء استخدام أمواله. جلس فيضي بهدوء واستمع إلى الرجل وعندما انتهى من حديثه قال له فيضي أنه ليس بتاجر، ولا يعرف شيئًا عن الأمور التجارية ثم اقترح عليه إنه من الأفضل التوجّه إلى المحفل الروحاني لطلب النصيحة والإرشاد.
١٥) كان فيضي أبًا مثاليًا في توجيه وتربية أولاده رغم مشاغله المتعدّدة وأسفاره الكثيرة. لم يغب عن باله يومًا إسداء النصح لابنته مي وأسرتها وأيضًا لنيسان وأسرته. فبعد زواج نيسان من زهرة إحسان زهرائي كتب لهما: “طالما إنكما تحبّان بعضكما البعض وتضحّيان من أجل بعضكما البعض فإن الوسائل المادية لا قيمة لها”. كان نيسان وزهرة شابين ومازالا يدرسان عندما قرّرا الزواج وعادة ما كانا يطلبان رأي والديهما وهدايتهما عندما يرغبان في اتخاذ قرار هام. هناك العديد من الرسائل وجهها جناب فيضي إلى نيسان وزوجته حول مواضيع متعددة ويمكن لأي شخص الاستفادة من مضامينها. وعندما رزقا بأول مولود لهما كتبت زهرة إلى جناب فيضي تسأل عمّا تفعله بخصوص دراستها فردّ عليها:
“إن مشكلتك يمكن أن تحل بواسطة نفسك بعد المشورة المصحوبة بالدعاء والمناجاة. إني لا أتدخل في حياتكما المشتركة ولا أرغب أبدًا في أن يُملي أي شخص عليك أو على نيسان ما يجب عمله. صحيح إنه إبني ولكن عندما أعطيت موافقتي على زواجكما كان ذلك يعني إنه بالغ بما فيه الكفاية ليعيش في سلام تام ومحبّة ومودّة مع الفتاة التي يحبّها. ولهذا فإن ما أكتبه لك لا أقصد منه أبدًا الإجبار على الطاعة. إن اقتراحاتي ستكون على شكل أسئلة. قوما بدراستها معًا وأخرجا بنتائج مرضية. فليقل كل منكما: فلنسأل أنفسنا ما هو الهدف الرئيسي لحياتنا معًا؟ عندما يتحدّد الهدف فإن باقي الأمور ستتشكل وتتمحور تبعًا لذلك. افترض إن الهدف الوحيد والفريد لكليكما هو تكريس حياتكما الثمينة من أجل خدمة أمرالله الذي هو الهدف السامي للكل”.
ثم طرح عليهما عدة أسئلة ليفكرا: ما هي مسئوليتها نحو طفلتها؟ هل تحتاج الطفلة إلى من يطعمها في الوقت المناسب ويغيّر حفاضاتها؟ أو هل لديها احتياجات أخرى؟ لقد كان يؤمن إيمانًا راسخًا بأن الطفل يحتاج إلى لمسة والديه، ورعايتهما وحضنهما وحتى رائحتهما ومن ثم نصحهما بالآتي:
“رجاء المحافظة على روح المحبّة والألفة السائدة بينكما الآن. لا تفعلوا شيئًا من جانب واحد. فإن كلمة واحدة، وعمل واحد، وحتى إشارة واحدة لا تنم عن المحبّة فإنها تضر حياتكما ولو بعد عشرين سنة. لربما يفوز أحدكما بأمر ما ولكن يجب أن يكون مبنيًا على انسجام تام وفهم مشترك ومحبّة وتقارب تام بينكما، ممّا سيجعل حياتكما معًا مثمرة جدًا، وسيترعرع أولادكما في جو مفعم بالمحبّة والوحدة وستتهيأ مواهبهما للتعلم… لا تقربوا أي محاولة ستؤدي، لا سمح الله، إلى ابتعادكما عن بعضكما وحتى لمترٍ واحدٍ. فهذا المتر سيكون في المستقبل كبعد الشرق عن الغرب… ولهذا أرجو منكما أن تدرسا الوضع وتخرجا بقرار موّحد وودّي وموافق عليه بكل محبة من قبل كليكما… وكما قلت سابقًا، لا أسمح لأي شخص أن يخطط لكما أو يُملي عليكما أو يحثكما على ما يجب عمله. إنها حياتكما عليكما أن تديراها بنفسيكما حيث قال حضرة ولي أمرالله بأنه لا توجد مشكلة في العالم بأسره لا يمكن حلّها عن طريق المحبّة والحكمة”.
١٦) كتب جناب فيضي إلى شابّة بهائية عانت الكثير من المآسي والمحن فقال: “كوني في القمّة ولا تهتمي للذين يفضلون العيش في أعماق وادي البؤس. انظري إلى ذلك الصباح الجميل وستكون حياتك مليئة بالتأييدات والتقدم والسعادة والإنجازات الروحية العظيمة”.
١٧) كان فيضي يبتعد عن إخبار الروايات الأمرية المنقولة سمعًا وغير المتأكّد من صحّتها وقد شرح في إحدى رسائله بأننا في هذا الظهور لدينا التعاليم والأحكام والمبادئ البهائية الموثّقه من حضرة بهاءالله، كما لدينا تاريخ الأمر الموثّق المذكور في كتاب “مطالع الأنوار” وأيضًا كتاب “تذكرة الوفاء” وهو كتاب يحتوي على تاريخ حياة ثمانية وستين مؤمنًا مميّزًا ذكروا بقلم حضرة عبدالبهاء. أما ما كان يقلق فيضي هو نقل حكايات وروايات ضعيفة عن أمرالله رغم أنها قد تكون مسلّية ومثيرة للقارئ، ولكن لا أساس ولا صحة لها ولربما تكون خطرة في نقلها وتداولها. وفي موضوع كتابة قصص أمرية للأطفال أعرب فيضي في إحدى رسائله بأن ذلك شيء جيد ولكن يجب ألا يتناول فقط حياة شهداء الأمر لأن ذلك يفتقر إلى الحكمة وحسب قوله: عندنا أبطال وفرسان كثيرون:
“دعونا نكتب عنهم ونستخدم أرق وأجمل التعابير ونعزّز قصصهم بالحكايات المليئة بالتضحيات. قصص عن أول رجل أو امرأة آمن في ذلك البلد. من كان أول من آمن في سويسرا؟ أو في ألمانيا؟… إلخ، إنها قصص رائعة وبمقدور الأطفال قراءتها واستيعابها. لدينا قديسين وأبطالًا في الأديان السالفة وبما أننا نؤمن بجميع الأديان فعلينا أن نجعل الأولاد يتذوقون الجمال والمواهب الروحية لكل الأديان”.
لسنوات كان فيضي يستمتع بمرافقة الرعيل الأول من المؤمنين الذين حملوا راية الأمر وضحّوا بالغالي والنفيس من أجله وكان يستمع إلى حكاياتهم وقصصهم ويدوّنها ويعتبرها جزءًا لا يتجزأ من تاريخ أمرالله المنير. وكان يضرب بحضرة عبد البهاء خير مثال، الذي استطاع رغم انشغاله وظروف حياته القاسية أن يكتب تاريخ حياة المؤمنين الأوائل وعلى الأخص الذين رافقوا حضرة بهاءالله في مراحل نفيه مثلما جاء في كتاب تذكرة الوفاء. كان فيضي موقنًا بأن شعوب العالم في المستقبل ستكون متعطّشة وأكثر رغبة في معرفة تاريخ الأبطال ومؤسسي الدين البهائي في جميع البلدان.
١٨) كان فيضي يعتقد بأن الأحباء عليهم أن يتركوا تدريجيًا العادات والتقاليد التي ورثوها عن خلفياتهم الدينية أو العرقية والتي أدخلوها معهم إلى أمرالله بما يتلاءم مع التعاليم والمبادئ السامية التي أتى بها حضرة بهاءالله. وكان يؤمن بإمكانية ذلك ولكن بالتدريج وعلى الأخص مع المؤمنين الجدد. كتب في إحدى رسائله: “… إذا تم ممارسة عادات معينة سيصبح صعبًا جدًا التخلّص منها في المستقبل ولهذا يجب التوقف عن ممارستها الآن. عندما أدخل في اجتماع أو لقاء يقوم رئيس الجلسة من مكانه ويؤشر بيديه للحضور القيام والوقوف. لا أستطيع أن أصف مدى انزعاجي من ذلك. إنه يذكرني باجتماع رجال الدين والملالي في مدينتي قم واصفهان والاعتراضات التي كان من الممكن إثارتها إن لم يقف شخص عند دخول هؤلاء… يا إلهي امنحنا بعض الاعتدال، إذا كانوا يرغبون في إظهار المحبّة والاحترام فكم سيكون من الأفضل أن يصغوا إلى ما يقال”.
١٩) عندما استقال جناب فيضي من عمله في شركة النفط الإيرانية ليدرّس الأطفال البهائيين في قرية نجف آباد القريبة من اصفهان لم يفهم مديره في الشركة هذا التصرّف، ولم يستطع أن يستوعب كيف يمكن لشاب متعلّم ومثقّف أن يترك وظيفة محترمة في شركة معروفة ليدرّس أطفال قرية نائية ويكون شخصًا مغمورًا لا شأن له، وقد حاول هذا المدير أن يثنيه عن الاستقالة. بعد عدّة سنوات وبعد تبوّئه مقام أيادي أمرالله وعندما وصل إلى مدينة شيراز بالطائرة من طهران كان في المطار عدد كبير من الأحباء جاءوا لاستقباله وتصادف أن يكون مديره السابق في شركة النفط موجودًا بالمطار، وبعد أن تقابلا وتبادلا التحية تساءل هذا المدير عن سبب وجود هذا الجمع الغفير من الناس في المطار. قال له فيضي بابتسامته المعهودة وبشاشته: “إنهم بهائيو شيراز جاءوا لاستقبالي”. استغرب المدير من ذلك، ولكنه تذكر أن فيضي قبل عدة سنوات آثر على نفسه ترك وظيفته المرموقة والذهاب إلى قرية نائية لتدريس الأطفال البهائيين ولربما هذه هي النتيجة من شخص نذر نفسه لخدمة البشرية.
[1] هذه الفقرات التسعة عشر منقولة ومترجمة بتصرّف عن كتاب Faizi من ص ٣٠٤ حتى ٣٢٩
تحدّثنا في بداية هذا الفصل عن رحلته الطويلة إلى جزر المحيط الهادي وأستراليا ثم رحلته لقارة أفريقيا ثم أوروبا ومشاركته في المدارس الصيفية هناك حتى عودته إلى الأرض الأقدس في بداية شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام ١٩٧٨م. إن تدهور صحّته وضعفه غدا واضحًا ولكنه كان مصمّمًا على خدمة أمر مولاه حتى الرمق الأخير من حياته الفانية. كتب إلى أحد أصدقائه قائلًا: “عندما يسقط المطر نفتح المظلة وعندما تنزل الثلوج ويصبح الجو باردًا نرتدي المعطف من أجل حماية أنفسنا من البرد، ولكن عندما نتقدم في السن لا نستطيع أبدًا ان نوقف هجوم المطر والثلوج”[1].
بدأ فيضي في تجميع وتنظيم أوراقه واكمال رواياته وقصصه التي كتبها طوال حياته لأنه “لم يرغب في ترك الأمور غير مكتملة أو غير منفّذة” وجعلها في صورة نهائية حتى تكون في متناول واستفادة الآخرين بعد رحيله من هذا العالم. كان مكتبه في حيفا مليئًا بالأوراق والرسائل والكتب والمجلات وفي وضع غير منظّم ولكن فيضي كان يعلم بمكان كل ورقة أو كتاب. وعلى الرغم من أنه كان يعاني من مرض السكري ومن أمراض القلب ولكنه لم يقطع علاقاته ومراسلاته مع أصدقائه وأحبابه. فكان يردّ على كل رسالة تصله وقد استفاض من فيضه الألوف من المعجبين به ومازالت هذه الرسائل موجودة إلى اليوم بما فيها من معاني النبالة والأصالة التي كانت تصدر من قلم من اختاره الله ليكون مبلّغًا ومروّجًا لأمره العزيز. كتب إلى مجموعة من أصدقائه: “إنكم جميعًا معي، حاضرون في أدعيتي وقريبون مني في حرم المقامات المقدسة، وقريبون لدرجة إنني أشعر بأياديكم وكأنها موضوعة على كتفي تدفعني للسير إلى الأمام مع أن الحمل ثقيل جدًا”[2].
في ٢١ فبراير/شباط ١٩٧٨م وصل إلى حيفا السيد محمد علي فيضي شقيق جناب أبو القاسم فيضي وكانت فرصة سعيدة لكليهما الالتقاء بعد غيبة طويلة. إن علاقة الشقيقين كانت وثيقة ومتينة ولم يفرقهم شيء سوى خدماتهما الأمرية الطويلة التي تخللتها في البداية دراسة جناب فيضي في بيروت ثم هجرته إلى نجف آباد لأكثر من أربع سنوات ثم سفره إلى بغداد وهجرته إلى البحرين التي امتدت لأكثر من أربعة عشر عامًا. ولكن طوال هذه السنوات وأينما سنحت له الفرصة كان يلتقي بأخيه في إيران. والجدير بالذكر أن جناب محمد علي فيضي يُعتبر من أحد كبار الكتّاب والمؤلفين المعروفين حيث قام بتأليف عدة كتب أمرية بالفارسية منها: ملكة كرمل – حضرة النقطة الأولى – خاندان أفنان – حضرة بهاءالله – حضرة عبدالبهاء – أخلاق بهائي – لئالي درخشان – راهنمائي تبليغ – خطابات قلم أعلى، وهو يكبر جناب أبو القاسم فيضي بست سنوات.
من المشاكل الصحّية التي واجهته خلال هذه الفترة كانت تتعلق بإصبعين من أصابع يده اليسرى حيث لم يكن باستطاعته ثنيهما فقال له الأطباء إنه بحاجة إلى عملية جراحية. تذكّر جناب فيضي بأنه عندما كان في مدرسة (تربيت) كان أحد معلميه وهو جناب فاضل الشيرازي يستخدم بصورة مستمرة كرة من الشمع يديرها في يده. فقام بعمل نفس الشيء لمدة أسبوع فحصل على نتائج باهرة وبعد مراجعته الطبيب قال له بأنه لا حاجة لعملية جراحية.
تحسّنت صحة فيضي بعض الشيء وخاصة بعد رعاية السيدة ﮔلوريا له، ولهذا ومع اقتراب فصل الصيف عام ١٩٧٨م أذن له طبيبه بالسفر. حضر ثلاث مدارس صيفية في أوروبا وزار سبع جامعات بهائية في سبع دول أوربية خلال شهري يوليو وأغسطس وهي بالترتيب: قبرص – بريطانيا – النرويج – فنلندا – السويد – الدنمارك – لوكسمبرج – أيسلندا والنمسا وألمانيا. كانت رحلته إلى النمسا بالذات موفّقة جدًا وقد سعِدَ بها وأنعشت روحه ومعنوياته. فخلال وجوده لمدة عشرة أيام لاحظ رغبة وشغف الأحباء في التعلّم وكسب المزيد من المعلومات عن الأمر المبارك الشيء الذي أسعده. في شهر سبتمبر/أيلول وبينما كان في الدنمارك شعر بوعكة صحية اضطرته إلى مراجعة الطبيب، ثم قام بعمل فحوصات وكانت النتيجة أن الطبيب أخبره بعدم وجود مرض السكري وأن الألم في كتفيه سوف يزول تدريجيًا ولهذا استطاع أن يشرب القهوة ويأكل الكيك بعد أن كان ذلك محظورًا عليه بواسطة برنامج رجيم قاس فرضته عليه زوجته ﮔلوريا. وعلى الرغم من هذا التحسّن النسبي في صحته لم يكن يشعر باسترداد صحته تمامًا. ولكن مع استمرار سفره وانهماكه بالأنشطة والفعاليات الأمرية أخذ يتجاهل صحّته ولهذا أصيب بضعف عام وخاصة بعد وصوله لندن في أكتوبر/تشرين الأول ١٩٧٨م ولقائه بابنه نيسان وزوجته زهرة حيث كان منهكًا وضعيفًا. وعلى الرغم من أنه لم يبلّغ بيت العدل الأعظم عن وضع صحّته فقد استلم نيسان البرقية التالية من بيت العدل الأعظم بعد وصول والده إلى لندن:
“يرجى إبلاغ والدك العزيز عن قلقنا من عدم وجود أخبار عن صحّته، دعه يتصل بنا أينما كان”[3].
قام نيسان بالرّد على تلك البرقية، ومن ثم أرسل بيت العدل الأعظم البرقية التالية له التي تدل على مدى اهتمام وحرص الساحة المقدسة على صحّة وسلامة جناب فيضي:
]بعد ارسالك برقية عن والدك “فنحن في غاية القلق حول عودة اعتلاله الصحي، لهذا نحثك على إعادة النظر في برنامج الرحلات الأوربية والأخذ بنصيحة الأطباء وندعو له في العتبات المقدسة بحرارة”. نطلب منك أن تضغط على والدك لإعطاء الأولوية لصحّته. من بين الاحتمالات التي قد تفكر فيها أن يبقى موجودًا في لندن أو يرجع إلى حيفا. نعتقد أن الوالدة مازالت في طهران. نطمئنكم بالأدعية حتى تصلو إلى اتخاذ القرار الصحيح[[4].
بعد وصول هذه البرقية قرّر جناب فيضي البقاء لبعض الوقت في لندن مع ابنه نيسان للراحة والاستجمام. كان نيسان سعيدًا بأن يكون في خدمة والده العظيم وأن يردّ له بعض الدين الكبير من شخص نذر نفسه لخدمة البشرية، فقام وزوجته زهرة بوضع برنامج علاجي يومي صارم له مّما أثر في تحسّن صحته. وبعد مدة عقد جلسات تعمّق للأحباء كعادته وبدأ يقبل دعوة الآخرين وزيارتهم، وما أسعده حقًا أثناء إقامته في منزل ابنه في لندن وجود حفيديه العزيزين جهرة وآرام، ولكن بوجه عام لم تكن صحته كما كانت في السابق، فآثار الضعف والشيخوخة كانت واضحة عليه.
في إحدى الليالي والأمسيات وبعد تناوله الطعام حيث كان مدعوًا للعشاء في منزل صديق جاءت ابنة صاحب المنزل الصغيرة ومن باب عشقها واحترامها لجناب فيضي قدّمت له علبة شكولاتة فأخذ واحدة متناسيًا خطورة ذلك على صحّته ووضعها في فمه وقبّل الطفلة. وأثناء عودته للمنزل وعندما قيل له عن أضرار الشكولاتة لصحّته قال إنه كان يفضّل الموت على رفض طلب هذه الطفلة.
عندما كان فيضي يشعر بالتعب كان يضع يده على قلبه لبضع دقائق ويقول “قلبي يشعر بالتعب” ولهذا أخذه نيسان إلى أخصائي القلب في لندن. وبعد فحصه اتّضح أن إحدى شرايين قلبه مسدودة جزئيًا، وإن إجراء عملية جراحية له يشكل خطرًا على حياته، وإنه سوف لن يعيش طويلًا. كما نصحه الطبيب بالاعتدال في نشاطاته وعدم إرهاق نفسه والراحة، ثم أوصى له ببعض العلاج لآلام ظهره وكتفيه. لم يقل فيضي لأي من أفراد أسرته إنه سيعيش لسنوات قليلة فقط ولكن وجدت في مذكراته هذه الجملة: “يا بهاءالله، فديتك بروحي… إن قلبي مرهق جدًا لدرجة انه لم يبق لي سوى أربع أو خمس سنوات من الحياة وهذا يعني بأن نفَسي الأخير سيكون عام ١٩٨٣م”.
[1] Faizi ص ٣٣٠
[2] المرجع السابق ص ٣٣١
[3] Faizi ص ٣٣٢
[4] المرجع السابق ص ٣٣٢
بعد أن استعاد جناب فيضي بعضًا من صحّته أثناء تواجده في لندن عند ابنه نيسان وسمح له الأطباء بالسفر، غادر إلى قبرص ليمضي بعض الوقت عند ابنته مي وزوجها بيتر وولديهما قبل أن يعود إلى حيفا. تقول مي فيضي في مذكراتها بأن والدها على الرغم من أنه كان يتظاهر بأن صحّته جيّدة وبإمكانه الحركة ولكن مظاهر الضعف وكبر السّن كانت واضحة عليه، فلم يعد بإمكانه النهوض والحركة والخدمة من الصباح الباكر حتى منتصف الليل كما كانت عادته خلال السنوات الماضية من حياته الشريفة التي قضاها في خدمة وعبودية العتبة السامية. إن ما قام به كان مصداقًا لقول حضرة بهاءالله في الكتاب الأقدس: “قوموا على خدمة الأمر في كل الأحوال إنه يؤيدكم بسلطان كان على العالمين محيطًا”[1].
في أواخر عام ١٩٧٨م عاد إلى حيفا ومارس مهامه العادية في استقبال الزائرين والحديث معهم، ولكنه لم يكن بتلك القوة والنشاط السابقين. والجدير بالذكر أن بيت العدل الأعظم كان قد أسسّ مؤسسة دار التبليغ العالمية في يونيو/حزيران عام ١٩٧٣م وأعلن حين التأسيس أن جميع حضرات أيادي أمرالله هم أعضاء في هذه المؤسسة بالإضافة إلى ثلاثة مشاورين هم: هوبر دنبار وفلورنس ميبري وعزيز يزدي. كان جناب فيضي أحد أعضاء هذه المؤسسة وكان دائم الحضور والمشاورة مع باقي الأعضاء. من الوظائف التي حدّدها بيت العدل الأعظم لمؤسسة دار التبليغ العالمية هي:
وحسب توجيه بيت العدل الأعظم فإن جميع حضرات الأيادي أينما تواجدوا في العالم يمكنهم حضور جلسات دار التبليغ العالمية أثناء وجودهم في الأراضي المقدسة ويحق لهم تقديم اقتراحاتهم ووجهات نظرهم ومشاركة باقي الأعضاء خبراتهم في مجال تبليغ ونشر وتوسعة واستحكام وحماية الأمر المبين. كان فيضي واحدًا من هؤلاء النفوس التي قدّمت الكثير من خبراتها وتجاربها حول العالم لهذه المؤسسة التي تعتبر الذراع الأيمن لبيت العدل الأعظم. ولكن الآن أصبح جناب فيضي تقريبًا في منتصف السبعينات من العمر ويعاني من مشاكل صحّية ولم يكن بنفس قدراته السابقة لدرجة أنه كان يحتاج إلى سيارة في كل مرّة يزور فيها بيت الزائرين عندما يلتقي بهم. أرسل له طبيبه الخاص في ألمانيا الدكتور عنايتي بعض الأقراص من الفيتامينات للتقوية ولكن لم يجد ذلك نفعًا، فالصحة مازالت ضعيفة ومشاكل القلب والعين والذاكرة في ازدياد. ولهذا قلّت فعالياته إلى حدّ كبير ولم يكن باستطاعته حضور جميع جلسات دار التبليغ العالمية. أخذ يقضي الكثير من وقته في منزله مع زوجته يراسل أصدقاءه ويتأمل حياته ويستعيد الذكريات ويستقبل بعض الأحباء. لم تعد ﮔلوريا تسافر كثيرًا مثل الماضي فكان عليها تمضية كل وقتها في خدمة زوجها المحبوب. كان فيضي يعاني من طنين في الأذن لسنوات طويلة مما أدى إلى إصابته بالدوار وكان ينام بصعوبة، بالإضافة إلى ذلك ازدادت آلام الظهر وكانت ﮔلوريا تسخّن قطعة قماش وتضعها حول عنقه لتخفيف الألم، كما بدأت الذاكرة تضعف تدريجيًا.
ولكن كانت تصله دومًا الأخبار الأمرية وتقارير المحافل الروحانية المركزية، وما كان يسعده حقًا قراءته للانتصارات والفتوحات والإنجازات التي كانت تقلل من آلامه الجسمية وتنعش روحه وتفرح فؤاده. وعندما كانت تتحسّن صحّته بعض الشيء ويستطيع المشي يقوم بالسير على الأقدام إلى منزل حضرة عبدالبهاء ودخوله من الباب الخلفي حيث لا يوجد درج كثير، ويحضر اجتماعات حضرات الأيادي وأحيانا يقوم بكتابة بعض الشعر أو مقتطفات من الآثار المباركة بخطّه الجميل ومن خلالها كان يعرب عما يختلج في قلبه من آمال وأمنيات وأحاسيس مرهفة.
عام ١٩٧٩م لم يكن عامًا سعيدًا له وخاصة بعد سماعه أخبار اضطهاد الأحباء في إيران أثناء وبعد الثورة الإيرانية التي قامت في فبراير/شباط ١٩٧٩م. أخبار أحباء مهد أمرالله التي كانت تصل للأرض الأقدس وإلى شتى بقاع العالم كانت سيئة ومحزنة لدرجة شغلت بال عموم المؤسسات الأمرية والبهائيين في العالم. فجلسات الدعاء والتضرع والابتهال كانت منتشرة في شتى بقاع العالم وبيت العدل الأعظم دائم الاهتمام بما يجري في مهد أمرالله. إن ازدياد المشاكل ومعاناة الأحباء في إيران كانت تدمع عيني جناب فيضي وتثقل كاهله ولكن لم يكن بيده من حيلة سوى التوجّه إلى العتبات المقدسة والدعاء والمناجاة وطلب التأييد والعون والعناية.
في رضوان عام ١٩٧٩م جاءه صهره بيتر Peter ومعه ابنه ﭘول فيضيPaul Faizi ذي التسع سنوات. كان فيضي وﮔلوريا سعيدين جدًا بلقائهما. وفي شهر يونيو/حزيران جاءت ابنتهم مي مع ابنها الثاني توم Tom. كان فيضي يمضي الصباح يلعب مع حفيده توم وفي العصر ينام بعض الشيء وقد طلب من توم عدم ازعاج جدّه أثناء نومه. ولكنه كان مشاغبًا بعض الشيء حيث يقوم بالتسلّل خلسة إلى غرفة نومه وبهدوء يصعد إلى فراشه وينام بجواره. في شهر يوليو/تموز من نفس العام استطاع فيضي أن يعود للكتابة بعض الشيء وكان يرغب في كتابة مقالات أمرية للشباب ولكنه كان يشعر بالضعف ولهذا كتب: “إن لم أستطع تأدية هذه الخدمة البسيطة فلا معنى لحياتي”.
رجعت مي وزوجها بيتر وولديهما في نفس صيف عام ١٩٧٩م ليقضوه مع والدها في حيفا لمدة شهر واحد حيث أذن لهما بيت العدل الأعظم، وكان ممتعًا جدًا لجناب فيضي أن يرى أحفاده ويلعب معهم، وعندما حان وقت الرحيل إلى قبرص حيث مكان إقامتهما كتبت مي: “لم يتحدث والدي كثيرًا في اليوم الذي أردنا أن نبحر إلى قبرص. كان هادئًا وغارقًا في أفكاره، وبعد أن ودّعناه وذهبنا إلى السيارة التي كانت بانتظارنا لتأخذنا إلى الميناء، رجعتُ راكضة إلى الشقة لأراه مرة أخرى. كان جالسًا على كرسيه ورأسه منحن بعض الشيء، لم يرفع رأسه، حضنته من الخلف وقبّلت رأسه ولكنه لم يتحرّك، بإحساس عميق في قلبي شعرت بأنه لربما يكون آخر مرة أراه”[2].
مع حلول شهر أغسطس/آب ١٩٧٩م بدأ فيضي يشعر ببعض التحسّن وخفّ الوهن عليه بعض الشيء وأخذ يشغل وقته بتلاوة الأدعية والمناجاة ويردّ على مراسلات الأحباء والأصدقاء والمهاجرين، وكثيرًا ما كان يتلو الدعاء بعد منتصف الليل في خلوة مع خالقه ووصال مع بارئه. كان يعلم أنه لم يعد يستطيع أن يخدم الأمر بجسمه ولكنه كان يستطيع أن يدعو ويصلّي للمهاجرين والمجاهدين ولعشّاق أمر الله أينما كانوا. كان يعتقد أن الأحباء بحاجة دومًا أن يشربوا من “خمر محبة الله” حتى ينهضوا بكل ما لديهم وينصروا ويعزّزوا دين الله. في الساعات الأولى من بزوغ الفجر كان ينظر إلى صور أحفاده ويتحدّث معهم ويتلو الدعاء ليس لهم فقط، وإنما من أجل جميع أطفال العالم. كان من طبيعته أن يصلّي ويدعي للآخرين وعلى الأخص المهاجرين والأطفال ويسأل الله أن يمدّهم بتأييداته وينصرهم بجنوده. لم ينشد فيضي في حياته عظمة سوى عظمة أمر الله ولم يعمل شيئًا سوى خدمة البشرية. أمضى حياته يعيش بكل تفانٍ وإخلاص في خدمة بني الإنسان وتردّدت حكاياته وقصصه أيام وجوده في نجف آباد أو البحرين أو العراق على أفواه الناس. تحرّك ولم يترك ميدانًا من ميادين الخدمة إلاّ وله فيه صولة وجولة، متفانيًا في عطائه، مخلصًا في دينه، شاكرًا ربه، حامدًا مولاه على جميع نِعَمِهِ وآلائه. فهنيئًا له من هذا الفضل العظيم.
كما ذكرنا في الفصل الأول، فقد زار جناب فيضي أثناء دراسته في بيروت الأرض الأقدس عدة مرّات والتقى بحضرة وليّ أمرالله، وأثناء إحدى زياراته طلب منه حضرة المولى أن يذهب ويلتقي بالورقة المباركة العليا ويعزف بعض الموسيقى ويغنّي بعض الترّنمات الحديثة التي كانت رائجة آنذاك في إيران. إنّ لقاء فيضي بالورقة المباركة العليا كان له عظيم الأثر في فؤاده ووجوده، وقد شعر الآن بأن عليه أن يقدّم شيئًا عرفانًا وتقديرًا لها. كان يرغب في كتابة كتيب عن تاريخ حياتها بالإنجليزية أولًا ثم بالفارسية. ولكن ظلّ هذا الأمر معلّقًا ولم ينجز تمامًا حيث أن الضعف والمرض حالا دون إكمال هذا العمل ولكن استطاع أن يكتب الجزء الأكبر منه أثناء حياته، وبعد وفاته أكملت الكتيب زوجته الوفية.
إنّ المؤمن عادة ما يشعر بقرب خاتمة حياته، وهكذا كان حال جناب فيضي الذي تشرّب من نبع الإيمان منذ شبابه، ولهذا فإن فراقه كان صعبًا على كل الذين عرفوا هذه الشخصية العظيمة والخُلق العالي الذي كان يتحلّى به. كتب لأحد أصدقائه: “أتمنّى العروج إلى العالم الآخر بأسرع وقت حتى لا أعاني الكثير من الفراق. أينما أذهب فإن الأحباء كرماء وودودون جدًا لدرجة إني أفتقدهم جميعًا”[3]. كان فيضي يضع الرسائل التي تصله على مكتبه بترتيب التاريخ ويردّ عليهم بنفس الترتيب.
خلال الأشهر الأخيرة من حياته كان يتلو الكثير من الأدعية والمناجاة ويغمر الكل بمحبّته ولطفه اللامتناهيين. ومع أن الكتابة بالنسبة له أصبحت صعبة جدًا وكان ذلك واضحًا من خطّه ولكن لم يترك أحدًا ألا وأرسل إليه رسالة وأجابه وشمَله بمحبّته. كان هناك بعض الأفراد تربطهم مع فيضي روابط وثيقة من الحب والوداد مثل الحبيب آموز جبسون الذي كان حينها عضوًا في بيت العدل الأعظم، فكتب عنه يقول:
“أخي العزيز فيضي، الله أبهى، لتشملك بركات حضرة بهاءالله، أنت وأعزائك، ليوجّه بهاءالله خطواتك ويساعدك في مسعاك لخدمته. ليسطع نوره على عينيك ووجهك العزيز. لتستمر محبته الشاملة تملأ قلبك عسى أن يكون شعور كل من يلتقي بك هو نفس شعوري تجاهك وهو الحب الخالص. أخي العزيز: إن هذه الرسالة هي تعبير عن الشكر للورق الجميل الذي أعطيتني إياه قبل عدة سنوات لأكتب عليه لأولادي. كان عزيزًا عليّ لدرجة أنني استخدمته لرسائل خاصة. إن الصفحات الخمس الأخيرة كانت حتى لمناسبات أكثر خصوصية. مع عميق المحبّة، آموز”[4].
خلال الأشهر الأخيرة من حياته كان فيضي يتمنّى ترك هذه الحياة الفانية والعروج إلى العوالم اللامتناهية في الملكوت الأبهى وقد عبّر عن ذلك بقوله : “إن الحياة لا قيمة لها إن مضت في عزلة” [5] كان يعلم أن حياته قد شارفت على النهاية وعلى الأخص أن صديقه وحبيبه ورفيق دربه أيادي أمرالله جناب حسن باليوزي قد توفي في فبراير/شباط عام ١٩٨٠م. وقد كتب رسالة إلى أحد أقرباء باليوزي يستذكر فيها أيام دراستهما في بيروت والذكريات الجميلة ثم قال: “والآن ماذا بمقدوري أن أفعل؟ من الصعب عليّ أن أتحمل هذا الفراق”[6].
في شهر فبراير/شباط عام ١٩٨٠م وبناء على دعوة من الدكتور داريوش حقيقي وهو طبيب بهائي متخصّص في أمراض القلب سافر جناب فيضي ومعه زوجته إلى الولايات المتحدة للعلاج وأقاما في منزل الدكتور حقيقي. وما أن وصل إلى عيادته حتى بدأ بالفحوصات الطبيّة وكانت النتيجة بأن عليه أن يأخذ بعض الأدوية لتهدئة مشاكل قلبه. أما بالنسبة لعينيه فقد كان يعاني من أعتام في عدسة العين اليمنى، وتم إزالة ذلك مما أسعده كثيرًا، ولكن بالنسبة لفقدان الذاكرة التدريجي فلم يستطع الدكتور حقيقي أن يعمل له شيئًا. ورغم ذلك فإن هذه الرحلة أعادت له الصحّة والنشاط بعض الشيء وخاصة بعد لقائه بشقيقه جناب محمد علي فيضي الذي كان يعيش في الولايات المتحدة آنذاك مع ابنته. رسائل جناب فيضي التي كتبها أثناء تواجده هناك تدل على فرحه وسروره واعتدال مزاجه، وفي طريق عودته إلى الأرض الأقدس توقف بعض الشيء في لندن، وحظي ابنه نيسان وزوجته زهرة بشرف لقاء والديهما الحنونين وكان هذا اللقاء هو الأخير.
بعد عودته إلى حيفا ظلّ يمارس حياته اليومية بهدوء واستمر في مراسلاته مع أصدقائه ومحبّيه وبدأت رسائله تعبّر عن وضعه الذهني الضعيف والصعوبات الجسمية التي كان يعاني منها وبدأت أعراض المرض تظهر عليه مرة أخرى. ولكن عندما يكون في وضع مزاجي جيد كان يستقبل زائري الأعتاب المقدسة ويتحدّث معهم ويشاركهم بذكرياته وحكاياته الشيّقة بل وحتى يشاركهم ببعض الآثار المباركة ويحيطهم بعطفه الأبوي كما كان يفعل دومًا. في الأيام الأخيرة من حياته كان السيد عطية حقيقي وهو من خدّام الأرض الأقدس وصديق لجناب فيضي يأتيه عصر كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع ويذهبان معًا للمشي حتى نهاية الشارع الذي يقع قرب مسكنه، وبعد مضي بعض الوقت أصبح هذا المشي أيضًا صعبًا على جناب فيضي.
ومع مرور الوقت أخذ فيضي يستعد للعروج إلى العوالم الإلهية وكانت الرسائل التي يكتبها للأحباء والأعزاء تفوح منها رائحة الفراق وكان يقضي معظم وقته في الدعاء والتأمل. في رسالته الأخيرة لواحد من أعزّ أصدقائه وهو الحبيب سليم نونو من أحباء العراق ومن أعمدة الأمر المبارك في ذلك القطر الجليل، وبعد أن تبادلا مشاعر حبّهما وتقديرهما لحضرة ولي أمرالله كتب إليه يقول: “كن سعيدًا دومًا وعالي الهّمة وفرحًا وليكن قلبك مطمئنًا لأنه ليس منفصلًا عنك”[7].
كما أن السيد علي نخجواني ورغم مشاغله المتعدّدة نظرًا لعضويته في بيت العدل الأعظم آنذاك كان على تواصل مستمر مع جناب فيضي طيلة إقامته في الأرض الأقدس، وكان دائم السؤال عنه وعن صحّته. في إحدى زياراته قال له جناب فيضي بأنه عندما كان شابًا وانضم إلى مدرسة (تربيت) حلم بأنه أثناء المنام جاءه حضرة عبدالبهاء وقال له: “تعال هنا” ثم ذهب إليه. قام حضرة المولى بفرك صدر جناب فيضي بيديه وبدأ فيضي يشعر بدفء وحرارة في صدره وقلبه. وبعد وفاة جناب فيضي قال جناب نخجواني: “… إن هذا الدفء والحرارة في قلب جناب فيضي الذي شعرنا به جميعًا كان شيئًا خاصًا جدًا. إن هذا الدفء يمكنك الشعور به في صوته وفي نظرته وفي كلماته وفي رسائله… وأثناء تلاوته المناجاة لا بد إنه حصل على ذلك من هذا المصدر من الدفء الروحاني والمحبّة من حضرة المولى”[8].
في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول عام ١٩٨٠م تدهورت صحة جناب فيضي بشكل كبير وكانت السيدة ﮔلوريا تقضي كل وقتها في رعايته والاهتمام به. في عصر يوم ١٩ نوفمبر/تشرين الثاني أخذ جناب فيضي حمامًا وكان يشعر بألم في ظهره وطلب من ﮔلوريا أن تدلّك له ظهره ثم استلقى على الفراش ووضع يدي زوجته الباردتين على صدره الدافئ. في عصر ذلك اليوم كان السيد علي نخجواني في لقاء مع المشرفين على بيت عبود في عكا وكان مدعوًّا لتناول طعام العشاء معهم. انتهى ذلك الاجتماع في الساعة الخامسة عصرًا وطلب السيد نخجواني منهم تناول العشاء مبكرًا حتى يقوم بزيارة جناب فيضي في حيفا. وبعد انتهاء العشاء رجع جناب نخجواني إلى حيفا فورًا وكان الطريق من عكا إلى حيفا مليئًا بالإشارات الضوئية لدرجة أن من ضواحي مدينة حيفا إلى منزل جناب فيضي كان هناك حوالي خمسة وعشرون إشارة مرور. هناك شيء غريب حدث في مساء ذلك اليوم وقد كتب عنها السيد نخجواني ما يلي:
“هذه الإشارات الضوئية في ذلك المساء يبدو أنها كانت تحت رقابة قوى ملائكية من الملأ الأعلى. كل إشارة من هذه الإشارات الضوئية، وهذا ليس بمبالغة، كان إمّا لونه أخضرًا أو تحوّل توًا إلى اللّون الأخضر عندما عبرتها سيارتي الصغيرة (بيجو). ذهلتُ من ذلك، هل هذا فعلًا حقيقة؟ أم حلم؟ أم إنها معجزة من نوع ما؟”[9].
وما أن وصل جناب نخجواني إلى شقة جناب فيضي حتى هرع إلى الباب الأمامي ودقّ الباب. قامت ﮔلوريا بفتحه وكانت في حالة من التهيّج والقلق وقالت له وهي تشرع الاتصال بالطبيب هاتفيًا: “إنه في هبوط مستمر” هرعا إلى غرفة نومه فكان فيضي جالسًا على فراشه وعيناه مغلقتان ويعاني صعوبة في التنفس. كان صديقه جالسًا بالقرب منه وقد ضمّه بين ذراعيه بلطف، وخلال أقل من دقيقة تنفّس حضرة أيادي أمرالله جناب أبو القاسم فيضي نفَسَه الأخير لتصعدَ روحُه إلى بارئها وينضمّ إلى كوكبة الخالدين ليكون في محضر الجمال الأقدس الأبهى وحضرة الربّ الأعلى وجميع الأنبياء والمرسلين، خالدًا مخلدًا في الملكوت الأبهى. عليه بهاء الله ورحمته.
من آخر الأوراق التي وُجدت على مكتبه ولم تُرسل كانت رسائل كتبها لبعض الأحباء والأصدقاء ومعها بعض الهدايا ومقتطفات من الآثار المباركة مخطوطة بخطّه الجميل. كان فيضي حتى النفس الأخير من حياته الفانية ينشر رائحة المحبّة والوداد بين الناس، وكان قلبه وحتى آخر دقاته عينًا يفيض بصافي زلال العرفان الإلهي.
ومع انتشار خبر صعوده تدفّقت مئات الرسائل والبرقيات من كافة المحافل الروحانية المركزية والأفراد إلى المركز العالمي في عزائه والثناء عليه، وكلها حَملت تعابير العشق والمحبّة الدفينة لمن غمرهم بدفء محبّته وبهاء روحه لعقود من الزمن. إن الإكليل المتوّج لهذه الرسائل كانت رسالة بيت العدل الأعظم الإلهي التي أرسلها إلى كافة المحافل الروحانية المركزية في العالم بتاريخ ٢٠ نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٨٠م جاء فيها:
“إن القلوب ملئت بالأحزان من صعود ذلك الذي لم يعرف الكلل والمضحي بنفسه أيادي أمرالله العزيز أبو القاسم فيضي. إن جميع البهائيين في العالم يندبون فقدانه. إن إنجازاته القيّمة منذ باكورة حياته في مهد أمرالله من خلال تعليمه الأطفال والشباب، وتشجيع الأحباء وترويجه للفعاليات التبليغية جعلت حضرة ولي أمرالله أن يصفه بالشاب الفعّال المميّز النوراني. وهجرته لاحقًا إلى الأراضي المجاورة لإيران أدّت إلى فوزه بلقب الفاتح الروحاني لتلك الأراضي. وبعد أن عيّن أياديًا لأمر الله لعب دورًا هامًا في هيئة أيادي أمرالله المقيمة في الأرض الأقدس ثم قام برحلات واسعة ودبّج أعمالًا أدبية واستمر في مراسلاته المكثفة الملهمة مع الوضيع والشريف ومن الشيب والشباب، إلى أن تحرّرت روحه وعرجت بعد مرض طويل إلى الملكوت الأبهى. ندعو الأحباء في كل مكان إلى عقد جلسات تأبين لائقة على شرفه بالإضافة إلى جلسات عزاء خاصة له في كافة مشارق الأذكار في جميع القارات. عسى أن تستمر حياته النورانية المثالية التي كرّسها للخدمة في إلهام مُعجبيه في كل مكان. داعين في العتبات المقدسة حتى تنغمس روحه المشعشعة النبيلة في بحر الرحمة الإلهية وتستمر في الترّقي المتواصل في العوالم الغيبية اللامتناهية”[10].
من البرقيات المؤثرة والجميلة التي وصلت إلى المركز العالمي برقية من أيادي أمرالله جناب ويليام سيرز ذكر فيها: “إن حلاوة خاصة قد رحلت عن العالم وعن قلبي”[11].
بعد يوم من وفاته وصلت كريمته مي مع زوجها بيتر وابنيها ﭘول فيضي وتوماس من قبرص إلى الأرض الأقدس، وبعدها بيوم وصل نيسان من لندن. تم ترتيب تشييع جنازة جميلة ولائقة وأجريت مراسم صلاة الميت وتلاوة الأدعية والمناجاة يوم ٢٣ نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٨٠م في منزل حضرة عبد البهاء الذي كان آنذاك مقرًّا لبيت العدل الأعظم. كان من بين الحضور حضرات أيادي أمرالله جناب علي أكبر فروتن وجناب ﭘول هني وأعضاء بيت العدل الأعظم والمشاورون العالميون أعضاء دار التبليغ العالمية وخدّام المركز العالمي وأعضاء أسرة فيضي الكريمة. كان التابوت ملفوفًا بقطعة قماش حرير أخضر اللون، وهو اللون المفضّل لدى فيضي وعليه تطريز ذهبي جميل. وضع فوق رأس التابوت إكليل من الزهور مهداة من أمة البهاء روحية خانم، التي كانت حينها في كندا، وعلى أسفل التابوت وُضِع إكليل آخر من زملائه أيادي أمرالله، ثم وُضعت مجموعة من الأكاليل والباقات من المحافل المركزية والأحباء حول التابوت على الأرض. كانت مراسم تلاوة صلاة الميت مؤثرة وهادئة ومهيبة وكانت آثار الحزن والفراق واضحة على كل الحضور، وما زاد من تأثر وحزن الجميع تلاوة مناجاة بواسطة حفيده الأكبر الطفل ﭘول فيضي الذي جعل الحضور يتذكر حب وعشق جناب فيضي للأطفال.
وبعد الانتهاء من مراسم الصلاة خرج من القاعة عشرة أطفال بكل هدوء وسكينة، يحمل كل واحد منهم إكليلًا من الزهور ثم تبعهم ممثلون عن بيت العدل الأعظم ودار التبليغ العالمية، ثم حمل مجموعة من الأحباء وعلى رأسهم نيسان وﭘيتر النعش وتحرّكوا خارجين من منزل حضرة عبدالبهاء حيث كانت هناك سيارة خاصة تنتظرهم لحمل التابوت إلى مثواه الأخير. من الصُدف العجيبة أن جناب فيضي وخلال كل هذه السنوات الطويلة من الخدمة وعندما كان يريد أن يسافر من الأرض الأقدس كان يذهب أولًا إلى منزل حضرة عبدالبهاء وإلى غرفة حضرة المولى تحديدًا، ويتلو الدعاء والمناجاة ويطلب التأييد والتوفيق والهداية ثم يخرج من المنزل ويستقل سيارة تأخذه إلى المطار. وشاءت الأقدار أن يخرج جناب أبوالقاسم فيضي من نفس المكان، ولآخر مرة، ولكن هذه المرّة مسجيًّا في تابوته إلى مقرّه الأبدي، ليستقر مع الأولياء والأصفياء في الروضة الأبدية، عليه غفران الله ورحمته.
[1] الكتاب الأقدس – فقرة ٧٤
[2] Faizi ص ٣٣٨
[3] Faizi ص ٣٤٠
[4] Faizi ص ٣٤٠ – ٣٤١
[5] Faizi ص ٣٤١
[6] المرجع السابق ص ٣٤١
[7] Faizi ص ٣٤٤ – ٣٤٥
[8] Faizi ص ٣٤٥
[9] Faizi ص ٣٤٧
[10] Faizi ص ٣٤٨
[11] المرجع السابق ص ٣٤٨
تمتاز الآثار الكتابية التي تركها لنا جناب أبوالقاسم فيضي على مدى أكثر من خمسين سنة بتنوّعها وتعددّها، فحضرته كان أديبًا بارعًا ومثقفًا مطّلعًا على مختلف الأمور، ومؤلفًا ومترجمًا ماهرًا متمكّنًا من اللغات الفارسية والعربية والإنجليزية وبعض الفرنسية. يمكن تلخيص المواضيع التي كتبها أو ترجمها بالآتي: تاريخ حياة بعض النفوس المميّزة في تاريخ أمرالله سواء من الخادمين أو المهاجرين أو الشهداء – شرح لرحلات بعض النفوس – العهد والميثاق – وظائف الأحباء – روايات وقصص متنوعة – ترجمة لآثار حضرة ولي أمرالله الإنجليزية وكتب ومقالات أخرى – ذكرياته عن المؤتمرات والرحلات التي قام بها – ومقالات متفرّقة عديدة. كما أن العديد من هذه المقالات نشرت في العديد من المجلات الأمرية وغير الأمرية.
بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من المقالات كتبها جناب فيضي باللغة الإنجليزية ونُشرت في المجلات البهائية في أمريكا وبريطانيا وأستراليا وكندا.
هناك العشرات بل المئات من الناس ممّن التقوا بجناب فيضي وجلسوا وتحدّثوا معه، منهم من كانت علاقته عابرة ومنهم من امتدت لعدة أشهر بل لسنوات. السمة المشتركة لكل الذين التقوا بهذه الشخصية العظيمة إنهم أقرّوا بقوته الجاذبة التي قلّما توجد في إنسان آخر. فالبشاشة وطلاقة الروح ورحابة الصدر كانت تجذب وتريّح كل من تحدّث إليه. في الواقع إن هذه النفوس النفيسة المختارة من قبل الحق تبارك وتعالى تتّصف بصفات هي من الصفات والنعوت الإلهية وهم ممّن بعثهم الحق واختارهم لنصرة أمره وإعلاء كلمته. فالتواضع والخضوع والخشوع ونكران الذات واللطف والأدب هي من سجايا المقرّبين، وعندما يكون المرء علاوة على ذلك عالمًا ومطّلعًا ومثقّفا يكون حقًا من العلماء الذين ذكرهم حضرة بهاء الله في الكتاب الأقدس: “طوبى لكم يا معشر العلماء في البهاء، تالله أنتم أمواج البحر الأعظم وأنجم سماء الفضل وألوية النصر بين السموات والأرض. أنتم مطالع الاستقامة بين البرية ومشارق البيان لمن في الإمكان طوبى لمن أقبل إليكم وويل للمعرضين”[1].
كان جناب أبو القاسم فيضي منذ إيمانه بالأمر المبارك ناذرًا نفسه لخدمته، مضحّيًا في سبيله، متفانيًا في عطائه، لم ينشد في حياته عظمة سوى رفعة الأمر العظيم وخدمة بني الإنسان. هاجر إلى نجف آباد ثم قزوين ثم بغداد وأخيرًا إلى البحرين في ظروف هي الأصعب والأقسى من نوعها، وتحمّل شظف العيش وقسوة الحياة بصبرٍ دون كلل، وظل ثابتًا مستقيمًا على أمر مولاه في أحلك الظروف حتى تأسسّت الجامعة البهائية والمؤسسات الأمرية تدريجيًا في البحرين والمناطق المجاورة، وشهد بأمّ عينيه ارتفاع أعلام النصر في تلك المنطقة. كان إكليل أعماله الجليلة تتويجه أياديًا لأمر الله لينطلق بعد ذلك بقوة كبيرة وإرادة لا تكلّ. جاب العالم وجلس مع الكبير والصغير والغني والفقير، وتحدّث في الجلسات والمدارس الصيفية والمؤتمرات والندوات بروحانية وطلاقة عالية، فشملته ألطاف وعنايات الحق. عمل كل ما في وسعِه لنصرة أمر الرحمن، فكانت ملائكة التأييد تطوف حوله وتشمله أينما حلّ وارتحل. رحل عن هذا العالم تاركًا ميراثًا روحانيًا عظيمًا هو خدماته وذكراه الطيبة العطرة التي توارثتها الأجيال، جيلًا بعد جيل حتى يومنا هذا وما زلنا ننعم بذكراها. أمّا ما قيل عنه فهو الكثير، ننقل هنا بعض الذين تحدّثوا عنه من مواقع مختلفة:[2]
[1] الكتاب الأقدس – فقرة ١٧٣
[2] جميع المقتطفات منقولة ومترجمة من كتاب Faizi من صفحة ٣٥١ حتى ٣٧٤
أتذكر أول مرّة عرفتُ بوجوده… كان حضرة شوقي أفندي قد استلم رسالة منه أو عنه… وقلت لشوقي أفندي: “من هو فيضي؟” ردّ عليّ: “آه إنه رجل رائع”. أينما ذهب من الصباح حتى منتصف الليل كان الأحباء هناك، واحدٌ منهم أو عشرة، أكان اجتماعًا واحدًا أو ثلاثة أو أربعة اجتماعات باليوم، أو أيًّا ما كان. وأخيرًا وبعد أن كبِر في السن وأصابه الضعف والوهن وظهرت مشاكل في قلبه عندها كان عليه أن يعتني بنفسه أكثر قليلًا، وأثناء سفره كان هناك بهائيون يكرّسون أنفسهم لمرافقته والاعتناء به… كان عطاء فيضي مستمرًا دون انقطاع، وقد أعطى حتى النفس الأخير من حياته، وحتى آخر قطرة من دمه، وحتى آخر ألطاف قلبه المحبّ الكبير والعظيم. إنّ قلبه كان مثل النور الذي تشع منه المحبّة والتشجيع واللطف بالإضافة إلى علمه الغزير عن التعاليم المباركة وعرفانه عن الدين البهائي وأيضًا موهبته كمتحدّث ومهارته كخطّاط… عندما كنت في رحلة لأمريكا الجنوبية قبل عدة سنوات جاءتني امرأة بهائية من بوليفيا وقالت لي: “عندما تعودين هل من الممكن ان تبلّغي السيد فيضي رسالة مني؟ قولي له بأنه أثناء أقسى وأصعب سنة في حياتي كلها كانت رسائله هي التي آزرتني. إنه الشخص الذي أنجدني… كانت مراسلات فيضي مذهلة فحتى نهاية حياته كانت هناك كومة من الرسائل يجب أن تُرسل إلى شتى بقاع العالم. لقد واظب على ذلك حتى أثناء ضعفه وآلامه الشديدة التي تحمّلها خلال السنتين الأخيرتين من حياته… ومع كل هذه الظروف الجسيمة الصعبة، لم يمتنع فيضي عن الاستمرار في مراسلاته، وأعتقد إننا أحيانًا نقلّل من أهمية هذا النوع من العمل الذي يؤثر على حياة عشرات بل مئات من النفوس… فيضي كان يساعد الناس على تحسين نوعياتهم كأفراد بهائيين. لقد ساهم في صقل شخصياتهم وتوسيع فهمهم للأمر المبارك وتعزيز خلوصهم وزيادة رغبتهم في القيام على الخدمة في ميدان الهجرة من أجل خدمة حضرة بهاءالله، بل وان استدعت الضرورة التضحية بحياتهم. كان يتّصف وكما قلت بهذه الصفات الحسنة الجيدة. لقد كان مثل الموقد يعطي الحرارة والمودّة بواسطة روحه، وكان الأطفال يعشقونه. أعرف شخصين فقط في العالم البهائي من الذين لديهم هذه العاطفة الهائلة تجاه الأطفال، أحدهم جناب فيضي والآخر صديقه العزيز السيد علي نخجواني. هذان الرجلان عندما يريان أي شيء يقع تحت عنوان طفل سواء في الشارع أو في جلسة أمرية أو حتى في أي مكان، يرق قلبهما ويذوب مثل كرات الزبدة… كانا يتحلّيان بهذه الصفة المميّزة التي كانت في غاية العذوبة والحلاوة، والطريقة التي كان فيضي يتعامل بها مع الأطفال كانت رائعة حقًا. أعتقد أننا جميعًا نفتقد فيضي. بالتأكيد إن العالم بالنسبة لي أصبح مكانًا أكثر فتورًا عندما غابت عنّا روح في غاية الدفء والمحبة، بل أصبح العالم أكثر برودة الآن في عدم وجود فيضي.
لا يحب فيضي أن يتحدّث أحد عن صفاته، ولهذا سكتنا عنه طيلة حياتنا ولكن حان الوقت لنتحدّث عنه. لم يكن يرى السوء في أي شخص، وعادة ما كان يقول إن كل زهرة لها لون وشكل ورائحة مختلفة ولكنها كلها أزهار. من الأنانية أن ترغب زهرة منها أن تكون باقي الأزهار مثلها. علينا أن نحب كل شخص كما هو وليس كما نحن نريد أن يكون، وإلا لأصبح الشخص مثلك وهذا يعني إنك تحبّ نفسك. هذه أنانية.
أتذكر أن المبشّرين المسيحيين كانت لديهم دار للأيتام. كلّما رأى هؤلاء الأطفال اليتامى فيضي كانوا يصيحون “العم فيضي العم فيضي” كانوا يطلبون كل ما يريدونه منه وكأنهم وجدوا والدهم وكان فيضي دومًا كريمًا معهم… لم يكن يفرّق بين الصديق والغريب… بعد عشرين سنة من مغادرته للبحرين مازال الناس الذين عرفوه يسألون عنه ويرغبون في لقائه.
كان لجناب فيضي علاقة خاصة مع ثلاثة من حضرات أيادي أمرالله… أحدهم كان جناب باليوزي… والآخر كان جناب بناني… كان فيضي يعشق بناني… لأن جناب بناني كان طاهر القلب ومنفتحًا وصريحًا ونزيهًا وكان فيضي يعشق هذه الصفات. أما بالنسبة لتواضعه… فقد كان اثنان من حضرات الأيادي لا يرغبان بأن يسميّا أيادي، أحدهما السيد بناني والآخر جناب فيضي. وكان فيضي يشعر بالحرج عندما يقدم أحد على تعريفه كشخصية كبيرة في الأمر، لم يكن يحب ذلك. أتذكّر حين استلام جناب بناني رسائل من جناب فيضي كان الأمر بمثابة عيد له، وكان يقول ها قد وصلت رسالة فيضي. هناك اثنان من أيادي أمرالله كانت لهما علاقات خاصة مع السيد بناني فيما يخصّ مراسلاته. أحدهما كان جناب فيضي والآخر السيد سمندري. وكانت كتابتهما للسيد بناني شيئًا خاصًا، حيث كان يضع كل شيء جانبًا ويطلب من زوجته العزيزة ان تقرأ هذه الرسائل التي كانت جميلة جدًا… ويقول لها: “إقرئيها مرة أخرى ثم أخرى”، كان يغمس نفسه وروحه في المحبّة والمودّة التي تنبعث من هذه الرسائل.
والدكم كان فريدًا من نواحٍ متعددة. منها الطريقة التي كان يجسّد بها في حياته اليومية روح التّواضع الأصيل النابع من المحبّة والانقطاع الحقيقي وخلوص النيّة ونكران الذات. إن جمهور البهائيين في الشرق والغرب كانوا يستمعون إلى خُطبهِ بإعجاب كبير وهو يتحدّث بوقار وسكينة وعاطفة مؤثرة. كل كلمة من كلماته كانت تنفذ إلى أعماق قلوب مستمعيه، وذلك لأنهم عرفوا أن سلوكه الظاهري كان يعكس حقيقة ذاته وإذا كان يعطي أية نصيحة أو توجيه فقد كان هو أول من يمتثل لها. لا شك أن كل من قابله تأثّر به إيجابًا ولربما استمر هذا التأثير فيه طيلة حياته، وذلك بنفوذ حضوره وشخصّيته الودّية الدافئة.
لم أتأثر طيلة الخمسة والعشرين عامًا من حياتي كفرد بهائي بشخصية من بين العديد من البهائيين الذين قابلتهم كأيادي أمر الله جناب فيضي، الذي أثّر في تعميق فهمي للحياة البهائية… من ميزاته إظهار المحبّة والتسامح والصبر والتحمّل والاهتمام بأدق الجزئيات حتى يرى أن كل فرد أصبح سعيدًا وكان قادرًا على الصمود في وجه أكثر عواصف الانفعالات البشرية عنفًا لتهب قي وجهه بكل هدوء. وكان يستطيع أن يميّز ويقوّم فورًا أية مظالم شديدة نظرًا لهدوئه وخلوصه الذي تعبر عنه شخصّيته بكاملها.
انطباعي الأول البارز عن جناب فيضي هو طريقة تعامله الجيد مع الأطفال في المدرسة (حينها لم أكن أعلم شيئًا عن خبرته الطويلة عن الشباب وأيضًا فهمه لهم). إن أسلوبه في جذب الأطفال الخجولين الذين كانوا يحاولون التغيّب عن ناظريه أثناء فترة طرح الأسئلة وأيضًا طريقة تواصله معهم كان متعة صرفة للناظرين. لم أرَ مطلقًا أي شخص باستثناء لربما السيد فروتن لديه هذا الأسلوب الناجح لجذب الاطفال مثل جناب فيضي.
أتذكر عندما ذهبت لزيارة اثنين من أولاد عمي (أو خالي) اللذين كانا من مهاجري البحرين وقد جاءا إلى إيران لزيارة العائلة، فعندما رنّ جرس التلفون وقالت والدتهما بأن السيد فيضي في طهران. نهض ولدا عمّي من مكانهما بسرعة البرق وتركانا وذهبا لزيارته بكل شوق. لم يسبق لي أن التقيت به وقد ضايقني ذلك. بعد عدة سنوات وعندما ذهبت لزيارة الأرض الأقدس عام ١٩٦١م التقيت بجناب فيضي لأول مرة. ومثل أولاد عمّي فقد سحرتُ به وفهمت سلوكهم وعرفت بأنني كنت سأتصرف مثلهم… وعندما عدتُ من الزيارة كتبتُ إلى جميع من التقيت بهم وممّن غمروني بلطفهم. الشخص الوحيد الذي ردّ على رسالتي كان السيد فيضي مع أنني لم أكن اتوقع أي ردّ منه، لأنني كنت أعلم بمدى انشغاله. واستمرّت هذه المراسلات مع جناب فيضي حتى نهاية حياته.
أثناء أول زيارة له للنمسا ذهبنا إلى المطار لنستقبله ونرحّب به وأخذت معي إبني الصغير ذي العامين. تأثّر إبني بشدّة من لطف ومحبّة جناب فيضي لدرجة أنه لم يكن يرغب في تركه، ولم ينسه إبني أبدًا لدرجة أنه في كل ليلة وقبل نومه كان يطلب مني ان أحكي له قصة وصول جناب فيضي إلى المطار من لحظة وصول طائرته حتى النهاية.
كان يطلب مني أحيانًا أن أشتري حاجياته ولكن لم يكن يقبل أبدًا أن أدفع بدلًا منه، بل كان يصرّ دائمًا على الدفع. لم يكن يقبل الهدايا، وإذا قبِل كان يهديها لشخص آخر. الأشياء الوحيدة التي لم يكن يتخلّى عنها مباشرة هي الأوراق والأظرف، التي كنت دائمًا أحاول أن أبحث عن أوراق بها ورود وزخارف من أجل مراسلاته. في أحد الأيام وبعد إصرارٍ متكرّرٍ منيّ وافق أن يخبرني عمّا يحتاجه، ولهذا قمت بكل سرور بشراء ما طلبه. وفي أول رسالة استلمتها منه بعد أن عاد إلى حيفا كان سند قبض تبرّع منه باسمي إلى بيت العدل الأعظم.
عندما انتقل هوشند فتح أعظم إلى المركز العالمي مع أسرته بعد انتخابه عضوًا في بيت العدل الأعظم الأول رغِبت زوجته شفيقة أن تجعل احتفالها بعيد النوروز مع أولادها الثلاثة احتفالًا لا ينسى في الأرض الأقدس. كانت الملابس والأحذية التي تباع في المحلّات التجارية بمدينة حيفا في تلك الأيام بسيطة وبدائية ولهذا قرّرتْ أن تذهب إلى تل أبيب لتشتري نوعية أفضل وأحدث ولكنها كانت حديثة الإقامة في البلد وتزعجها القيادة في الطرقات التي لا تحمل إشارات أو علامات ومن غير أسماء أو اتجاهات. فكل من كان يذهب إلى المطار كان عليه أن يعتمد على معالم معيّنة ليذهب في الاتجاه الصحيح ومثال على ذلك، “عليك أن تنعطف إلى اليمين عند الشجرة الكبيرة عند متفرق الطرق، وبعد الجسر الخشبي انعطف إلى اليسار… إلخ”. هتف فيضي في ذلك المساء الذي دار فيه هذا النقاش قائلًا لها: “لا تخافي سأذهب معك”.
كان ذلك خلال شهر الصيام ولهذا تحرّكا سويًّا في الصباح الباكر من اليوم التالي. في خضم قلقها خوفًا من الضياع في الطريق إلتفت السيدة شفيقة فتح أعظم إلى جناب فيضي وهما يخرجان من حيفا وطلبت منه أن ينتبه إلى المعالم البارزة حتى تكون رحلة عودتهم سهلة. ردّ جناب فيضي بهدوء واطمئنان مع بريق في عينيه: “لا تقلقي إنني حذر ومنتبه، كان هناك رجل مسنّ بلحية بيضاء واقفًا عند الزاوية على مفترق الطريق الذي مررنا منه”.
من قصص فيضي: كان هناك حاكم لديه إبنة جميلة يريد الكثيرون خطبتها. أخيرًا أعلن الحاكم بأن كل من يرغب بخطبة ابنته عليه أن يقدم هدية لها، وأن ابنته ستتزوج من يقدم لها الهدية التي تعجبها. تدفقت العديد من الهدايا من شتى الأطراف إلى القصر، منها الحُصُن الجميلة والجمال بيضاء اللون والمجوهرات الثمينة. بعد مدة أعلن الحاكم أن ابنته أصبحت مريضة ثم توفيت. جاء جميع الرجال الذين أرسلوا لها الهدايا وأخذوا هداياهم التي أرسلوها باستثناء شخص واحد، قال بأن الهدية كانت من أجل حبّه لابنة الحاكم وليست لأنها كانت شرطًا للزواج. أصبح واضحًا بأن إعلان الحاكم عن وفاة ابنته كان امتحانًا، وأخيرا فاز هذا الشخص بالزواج منها.
كزائر للعتبات المقدسة عام ١٩٦٤م فقد كان لي عظيم الشرف أن يصطحبني السيد أبو القاسم فيضي لزيارة الأماكن المقدسة. كم كان صبورًا وأي خفة ظل ولطف تحلّى بها وستظل زيارتي تلك دائمًا تجربة ومثالًا رائعا طوال حياتي بأسرها… كان رجلًا كثير المشاغل ومع ذلك لديه الوقت للرّد على الأسئلة العرضية، ويبدو إنه يملأ أوقاته الخاطفة وهو يتنقل بين قطر وآخر… حقيقة أنه كان لديه الوقت ليكتب لي ما يجول بخاطره.
أبو القاسم فيضي هو من ألهم أولادي بطريقة لا يمكن لأي شخص آخر أن يقوم بها. جميع أولادي الثلاثة كان لهم شرف الفوز بنصيب من محبّته ولطفه… في وقت ما طلبتُ من زوجك العزيز أن يتلو دعاء في مشرق الأذكار بألمانيا. حينها كنا نراعي الرسميّات إلى حدّ ما وتوقّعنا من القراء أن يصعدوا المنصّة للتلاوة، ولكن اختار فيضي أن يتلو الدعاء بصوته الدافئ والودّي جالسًا في مكانه وسط الجمهور وتحت الاسم الأعظم. خلال مؤتمرات الوكلاء المركزية بألمانيا وفي المدارس الصيفية كان شخصية بارزة… مازلتُ أحملُ في إصبعي الخاتم الذي أهداه لي في صباح أحد الأيام في مدينة ريميني Rimini بعد أن سمع أن خاتمي إمّا سُرق أو فُقدَ في البحر. وأيضًا البطاقات والزهور الجميلة المتعددة التي تعبّر كلها عن معاني كثيرة…
كان للسيد فيضي تأثيرٌ كبيرٌ عليّ في كل مرّة يتحدّث بها في مؤتمر أو في مدرسة صيفية. كلماته مازالت عالقة في ذهني حتى هذا اليوم، لربّما لأنه لم يكن يذكر نقاطًا كثيرة، ثم يقوم بتوضيح ما يقوله بطريقة جميلة جدًا بمقتطفات من الآثار المباركة بحيث تترسخ تلك النقاط في الأذهان.
سأتذكر دائمًا أيادي أمرالله السيد فيضي لأنك عندما تقابله فإن أثر محبّته وشخصيته لا يمكن أن يُمحى.
خلال زيارتي للعتبات المقدسة عام ١٩٦٥م قرّرتُ أن أهاجر إلى بليز Belize وكان تشجيع السيد فيضي هو الذي دفعني إلى ذلك. وفي الواقع كان السيد فيضي هو أول من أخبرني عن أمريكا الوسطى واقترح دولة بليز… من المثير للاهتمام بأن الجميع كانوا يشّجعونني على الزواج أولا ثم الهجرة بعد ذلك. ولكن فيضي كان من القلائل من أصدقائي الذي قال لي “اذهبي” غير مبالٍ بأنني شابة إيرانية عمري ٢٥ سنة وغير متزوجة… كل رسالة استلمتها منه كانت مثل الدواء الشافي لكل أمراض الوحدة والمعاناة التي تحيط بالمهاجرين للمناطق النائية والأراضي الأجنبية. وهو الذي شجّعني على البقاء والمثابرة وهو الذي شملني بمحبّته ودعمه لاحقًا عندما قرّرتُ بعد سبع سنوات من الهجرة منعزلة أن أتزوّج جون. ولم يعاتبني ولو للحظة على رغبتي بالزواج من شخص غير بهائي أو أن هذا الزواج قد يؤدي إلى مغادرة دولة بليز جبرًا.
اكتشفتُ أن في قلبه مكانة خاصة للمهاجرين. لقد لاحظته مع أفراد مختلفين وكان لطيفًا مع الجميع ولكن كان يهتم بالمهاجرين على وجه الخصوص. عندما جاء إلى مانيلا عام ١٩٧٠م قال بأنه أتى فقط لكي يحضن الطلبة الإيرانيين ويقول لأهاليهم في إيران إنه فعلًا حضنهم… أحيانا كنت أراه متضايقًا. أتذكر مرة عندما رمى برسالة وقال: “لماذا يكتبون لي ذلك، هذا لا يخصّني”. (كانت رسالة من أحد البهائيين في… مع مشكلة في منطقته المحلية وهو أمر يخص المحفل المركزي وليس أيادي أمر الله). نعم، جناب فيضي كان شخصًا مميّزًا جدًا وكان له تأثير كبير على الذين عرفوه. لا أدري لماذا، ولكن سألته مرة عن السبب، فأجاب: “إنها المحبّة”.
… إنه حزنٌ أصاب كل مدينة أو قرية زارها جناب فيضي. العين التي رأته مرة واحدة بكت عليه، ولم يكن هناك حاجة للأحباء أن يقضوا وقتًا طويلًا معه حتى يحبّوه. إن جاذبيته الروحانية كانت كبيرة لدرجة أن لمحة أو بضع كلمات منه كانت تأسر قلب الحبيب والغريب، والذين كانوا في محضره شعروا بتواضعٍ أكبر أمام عظمة روحه وانقطاعه ومحبّته الحميمة للجميع. هناك تأكيد واضح في كتابات حضرة عبدالبهاء بأنه إذا قام البهائيون على تنفيذ حكم واحد من أحكام حضرة بهاءالله فسوف يفتحون العالم. الفرد البهائي الذي استطاع أن يطبق حكمًا واحدًا أو تعليمًا واحدًا من هذه التعاليم على نحو أتم هو جناب فيضي وهذا الحكم هو حكم المحبّة. إن محبّته للبهائيين وغير البهائيين على حدّ سواء كانت عميقة جدًا وشاملة للغاية لدرجة أنه كان يبدو من المستحيل تقريبًا أن يستطيع إنسان الوصول إلى هذه الدرجة من المحبّة. لم يكن يتحمل استماع أي نقد عن أي فرد بهائي حتى لو كان مسوغًا. ولو تجرأ شخص واستغاب شخصًا آخر اختفت ابتسامته اللطيفة من محياه وكأن ذلك الشخص الذي تكلموا عنه بالسوء هو أعزّ أصدقائه ولرأيت الحزن في عينيه. عادة ما كان فيضي يظل صامتًا بضع دقائق ثم يتحدّث وبكل جدّية عن بعض الصفات الجيّدة لذلك الشخص. لم يفشل أبدًا في إيجاد صفات جيّدة في شخص ما، ومن ثمّ يثني على ذلك الشخص. بهذه الطريقة كان يُسكِت الشخص المنتقد أو يغيّر الموضوع. كان والدًا وأخًا حقيقيًا لكل الأحباء. إن محبّته الغامرة لم تكن تسمح له بأن يرى نقائص أو عيوب الآخرين… هناك مئات الأشخاص الذين تسلّموا رسائل من جناب فيضي في شتى بقاع العالم. إن استمراريّته في المراسلات كانت وجهًا آخر من ميّزاته المدهشة وهي مثل زخّات أمطار الربيع تهب الحياة للأرواح العطشى. وإن لم يرسل الأحباء رسائل له كان بسبب رغبتهم في عدم إزعاجه، ولكنه كان يرسل لهم رسائل ومعها هدايا… الحبيب فيضي كان مثل الشمع الذي يذوب قطرة قطرة لكي ينير قلوب ألوف البشر.
هذه قصة منامي عن جناب فيضي في ٥ يوليو/تموز ١٩٨١م: (كنت طفلة صغيرة في الخامسة أو السادسة من عمري ومرتدية ثوب النوم الأبيض الطويل الذي يلبسه الأطفال وأيضًا مرتدية جوارب بيضاء سميكة. استيقظتُ من النوم فجرًا في بيت الزائرين في الأرض الأقدس. تركتُ الفراش ونزلتُ من السلالم بهدوء إلى فناء المنزل ثم ارتقيت سلالم أخرى. أذكر أن عواميد الدرابزين كانت جميلة وبلون خشبي غامق مع وجود سجاد على السلالم. كان الفجر هادئًا ونضرًا مع نفحات عطرة وجو رائع من الترقّب. كنت أرغب في مشاهدة طلوع الشمس على المقام الأعلى من أعلى نقطة يمكن أن أصل إليها. تسلّقت للوصول إلى النافذة في أعلى السلالم حيث اصطدمت بهذا الرجل وهو بزي أسود. أُلقي نظرة على هذا الرجل الذي له مظهر الجد، نظر إليّ وضحك مثلما يضحك الإنسان على عمل رائع وجيّد يقوم به الطفل. كان الضحك مفعمًا بروح المحبّة والسعادة الفائقة. يبدو أنه كان خارج فراش نومه في تلك الساعة لنفس السبب والهدف، ولربما كنتُ قد أمسكتُ به متلبّسا أيضًا ثم مسك بيديّ وخرجنا إلى الحدائق لنرى بزوغ الفجر.
من الصعب أن أصف مشاعري خلال المنام، الدهشة والإعجاب بالفجر، الحسّ بالمغامرة ومن ثم المحبّة واللطف والمرافقة لهذا الرجل. شعرتُ بأنني محبوبة حقًا وبأنني مقبولة نتيجة لتلك المحبّة. هذا الحلم كان قبل أسبوعين من أول زيارة لي في يوليو/تموز عام ١٩٨١م لم يكن لديّ تصوّر حول المقامات المقدّسة والحدائق ولكن يبدو أن حلمي كان في البهجة على الأقل مع شعوري بالحدائق.
هذا المنام كان قبل اليوم الذي من المفترض أن أقدم فيه امتحانًا هامًا هو حصيلة ما درسته في الجامعة خلال أربع سنوات. كنت أفكّر في هذا المنام وأشعر الشعور بجمال الفجر وبمحبّة ذلك الرجل وكنت هادئة ومطمئنة في وسط الاضطراب والتشويش الصادر عن ألفين من الأشخاص يؤدون نفس الامتحان (لقد نجحت).
لم أكن أعلم من هو هذا الرجل حتى كنت في منزل ماري آن جورسكي بعد زيارتي حيث عرضت ماري صورًا للعاملين في المركز العالمي. من بين الصور كانت صورة الشخص الذي جاءني في المنام بنفس الابتسامة ونفس البدلة، إنه جناب فيضي. إنني بهائية منذ ست سنوات وأخجل من القول إنني لم أقرأ شيئًا لجناب فيضي أو أشاهد صورته. أعلم بأنه أيادي أمرالله ولكن لم يكن لي اتصال به.
استلم جناب فيضي توًّا رسالة من السيد فرانك خان، ومن ثم استلم رسالة أخرى من ابنه الدكتور بيتر خان. في جواب السيد فيضي على الدكتور بيتر خان ذكر ما مضمونه: “لقد استلمت رسالة من الأب ومن الابن وأنا الآن أكتب إلى الروح القدس”.
حتى عندما كان يجمعنا لنقضي بعض الوقت معًا كان يبتكر ألعابًا يمكن أن نتعلّم من خلالها درسًا. من هذه الألعاب كان أن يطرح شخص سؤالًا على شخص ما، ولكن هذا الشخص لا يحق له الإجابة بل يجيب عنه من كان يجلس بجواره. كان ذلك ترفيهًا لتمضية الوقت وأيضًا درسًا جيّدًا بأن لا نتدخل في شيء لا يعنينا وأن لا نعبّر عن رأينا عن سؤال لم يُطرح علينا مباشرة. كان فيضي مصدرًا للسعادة والبهجة في كل اجتماع. وبغض النظر عمّا كان يعانيه من صعاب أو مشاكل ففي اللحظة التي يقابل فيها شخصًا أو يدخل في اجتماع كان أول شيء يفعله هو جلب السعادة والسرور بدلًا من أن يحمّل أحدًا عبء مشاكله الشخصية.
لم ينسَ أصدقاءه أبدًا، وبالنسبة إلى محبّته للآخرين لم يكن يميّز بين أحد سواء من يعرفهم أو من لا يعرفهم. إذا رأى شيئا جيدًا في شخص أطراه. لم أسمع منه قولًا سلبيًا عن أي شخص أبدًا. إذا دخل معبدًا به تماثيل فانه يُعجب بمن قام بصنع التمثال. وإذا سمع أذان الصلاة بصوت جميل يبتهج من صميم قلبه، وإذا مرَّ بمسجد جميل فإنه يقدّر أعمال الموزاييك والآجر. دُعي في إحدى الليالي لمنزل أحد المسؤولين أثناء زيارة له لمدينة بومباي وطلب مني أن أصاحبه. قلت له إن لباسي يحتاج إلى كيّ، وفي كل الأحوال يجب أن أرتدي بدلة مع رباط عنق في مناسبة كهذه. فأجابني بأن لباسه غير مكويّ أيضًا. ثم أخرج فيضي سترة مجعّدة من حقيبته وارتداها حتى لا أشعر بالحرج.
في الخمسّينات من القرن الماضي لم يكن هناك خضار في قطر. وكانت العائلات الإيرانية المهاجرة قليلة العدد وتشتاق أحيانًا لمشاهدة مجرد ورقة عشب. في أحد أعياد النوروز استلم الأحباء طردًا من البحرين وعندما فتحوه في اجتماع لهم رأوا أن جناب فيضي قد أرسل لهم عدة ربطات من الثوم الأخضر لكل عائلة حزمة. جلس الأحباء بكل هدوء وحدّقوا في الثوم الأخضر وهو أول خضار يرونه بعد زمن طويل، وانغمروا في المحبّة التي جاءت مع كل حزمة.
كان السيد فيضي يشجّع الخصال الحميدة في كل إنسان. لم ألتق حتى الآن بشخص يملك كل هذه المحبّة الكبيرة والحنان. كثيرًا ما سَمعتُ السيد ويليام سيرز يقول: “انتظر حتى تلتقي بالسيد فيضي إنه مائتا باوند من المحبّة”… إن شرحه للآثار المباركة ومعرفته بالقرآن الكريم والإنجيل كان رائعًا. لم نكن نرغب أن يتوقف عن ذلك، وكلما تكلّم أكثر زاد شوقنا لنستمع إليه أكثر وأكثر. كان يتحدّث من صميم قلبه وحديثه ينفذ إلى أعماق أرواحنا… إن ملكة المزاح والدعابة كانت تصاحبا كل خطبة يلقيها وعادة ما كان يترك مستمعيه وهم في نشوة من السعادة والسرور. وعلى الرغم إنه كان أصلًا من مدينة قُم فقد كان يلتمس مازحًا “رجاء لا تعرّفوني بأني من قم”، ومن يعرف مدينة قُم سيفهم هذه النكتة… وعلى الرغم من تبوئه مقام أيادي أمر الله العظيم ولكنه لم يضع نفسه فوق أي شخص أو توقّع أي مكافأة نظير خدماته للأمر المبارك. قال بأن الدرس الأساسي للإنسان أن يدرك بأنه لا شيء أمام قدرة الله تعالى وحكمته وإرادته، وأن أمره هو الالتزام الأسمى لكل عصر. علينا أن ندرك بأنه مهما نكون أو أية مكانة أو رتبة نتبوؤها في أمرالله، نحن “لا شيء” سوى إن الله اختارنا بإرادته لنخدمه.
لا أدري كيف أستطيع أن أشرح الخصال الإنسانية العظيمة لهذا الشخص العظيم. كان يحاول دائمًا أن يتذكّر ويجد المناسبات لكي يقول شيئًا حَسَنًا عن الناس ويثني عليهم مهما صغر حجم إنجازاتهم.
يعتبر السيد بهرام صادقي من أشهر الكتّاب في إيران ويحظى باحترام ومحبّة طلاب الجامعة. لم يكن يعلم أحد بأنه كان بهائيًا، وعندما انخرط بالسياسة لم يتطرّق إلى ذكر اسم الأمر المبارك. كانت لي صداقة معه في تلك الأيام وعادة ما كنت أستشيره فيما يتعلق بمجلة الأطفال “ورقا” وكان يعرب عن رأيه ولكن لم يشر مطلقًا بأنه كان بهائيًا في يوم ما. سَمِعتُ بأنه كان في قرية نجف آباد عندما كان جناب فيضي هناك، وكنت أتمنى دائمًا أن أقرّبه إلى الأمر بشكل ما. خلال هذه الفترة من صداقتي مع بهرام جاء السيد فيضي إلى طهران ولكنه للأسف كان مريضًا وطبيبه لم يسمح لأي شخص بزيارته. على أي حال، في أحد الأيام طلبني السيد فيضي للقائه. خلال حديثي معه ذكرتُ أن السيد بهرام صادقي كان شخصًا مرموقًا واحتلّ منصبًا عاليًا في الأوساط العلمية وهو محبوب ومعروف ولكنه لم يلتقِ بأي بهائي. قلت للسيد فيضي بأن بهرام يعرفه (أي يعرف فيضي) منذ أيام نجف آباد وإذا سمح لي فإنني أرغب بأن يأتي معي لزيارته. لم يتذكر جناب فيضي السيد بهرام ولكنه قال بأنه سيكون سعيدًا بلقائه. وعلى الرغم من عدم سماح الأطباء بالزيارة فقد أشار إلى ضرورة إحضار صديقي.
قلت لبهرام بأنني سمعت أنك تعرف السيد فيضي منذ أيام نجف آباد فقال: “نعم، إنني معجب به كثيرًا”. قلت له بأن جناب فيضي في طهران وقد تحدثتُ إليه، وإذا رغب يمكننا أن نذهب سويًا للقائه. فكان جوابه بأنه سوف يأتي وبكل سرور. لقد تفاجئت بهذا الجواب حيث لم أتوقع بأنه سيوافق على الاجتماع.
كان جناب فيضي وحيدًا وجالسًا على فراشه بملابس النوم. حيّا السيد بهرام بكل لطف واحترام. لم أقل شيئًا وبقيتُ ساكتًا. أبدى جناب فيضي احترامًا فائقًا تجاه بهرام وكأنه هو الذي طلب اللقاء. ثم قال له بأنه سمع أنه قد حقّق شهرة واسعة وأنه سعيد من ذلك وسيتلو الدعاء له. تحدّثا لمدة ساعة واحدة. منذ بداية الحديث كان واضحًا بأن السيد بهرام كان كاتبًا شهيرًا وأن مرافقته وفرصة الحديث معه يتوق لها جميع الطلبة الجامعيين. على أي حال، شعرتُ بأن بهرام بدأ تدريجيًا، ومع محبة وحرارة جناب فيضي، يذوب وينصهر حتى وصل إلى نقطة السكوت.
أثناء الطريق لمنزله لم يقل بهرام شيئًا. ثم قال وبغصّة في حنجرته: “هذا اللقاء غيّر حياتي تمامًا” أشعر بأنني قد ضيّعت حياتي، لقد مرّت هكذا… بعد عدّة سنوات سمعتُ بأن بهرام يعقد مجالس الضيافة التسع عشرية وقد أجرى عقد زواج بهائي ثم توفي قبل الثورة الإيرانية مباشرة. النقطة هنا بأن زيارته القصيرة هذه لجناب فيضي أدّت إلى تقليب روحه لدرجة أن حياته بأسرها تغيّرت تمامًا.
أثناء إقامتنا في بريطانيا جاء أحد مهاجري الهند إلى لندن للعلاج وللقاء أخصائي أمراض القلب. عندما عرف الطبيب بأن مريضه أصلًا من إيران قال له بأنه كان يعالج مريضًا آخر من إيران قبل فترة، ولكن هذا المريض لم يكن إنسانًا بل ملاكًا ولكن جناحيه غير ظاهرين. سأل المريض الطبيب عن اسمه ولكن لم يتذكر الطبيب اسمه فورًا، ولهذا اتصل بالممرّضة وطلب منها أن تبحث في السجلات الطبية عن اسم الرجل الذي جاء للعيادة قبل فترة من الزمن والذي عندما أنهى الجراحة أخبرها بأنه كان ملاكًا. بعد عدة دقائق رجعت الممرّضة وقالت: “أبو القاسم فيضي”.
خلال الفترة القصيرة لزيارة جناب فيضي والتي كان خلالها مريضًا استطاع أن يؤثر في قلب هذا الطبيب الذي لم يكن يعلم شيئًا عن الدين البهائي أو عن مكانة جناب فيضي في الجامعة البهائية.
كان فيضي بفطرته الطيبة يتحمّل أية انتقادات توجّه إليه، ولكن عندما يشعر بأن هناك هجومًا على عظمة أمرالله، مهما كان بسيطًا، فإنه يزأر كالأسد ولا يتراجع قيد أنملة عن الدفاع عن أمر الله.
كان متواضعًا جدًا. لم أشعر أبدًا بأنني مرتبك أو خائف من شخصيته. شعرت بأنني أستطيع الحديث معه دون أن أفكر فيما سأقوله وبكل سهولة واطمئنان. لا أذكر أبدًا بأنه صحّح أقوالي. كانت له طريقة في شرح الحقائق الروحية بطريقة سهلة جدًا. ولم يكن متطرّفًا أبدًا أو يُشعِرَ الآخرين بأنه يعرف أكثر منهم.
كان صادقًا ومخلصًا… لطفه وسلوكه مع الجميع كان واحدًا… لم أره حزينًا أبدًا، كان دائم الابتسامة… لم يشتكِ من أي شخص، بل يتحدّث عن خدماتهم وإنجازاتهم بطريقة تجعل الإنسان يشتاق للخدمة طوعًا. لم يقل لأي شخص أبدًا أن يبدي اهتمامًا أو يعمل كما يُقال له، بل كان يبحث عن مواهب الأفراد ومهاراتهم ثم يساعدهم على تقويتها. لم يهتم أبدًا بنقائص الأفراد، وأقولها بكل صراحة بأنه لم يكن يرى تلك النقائص أبدًا لأن كل اهتمامه وتركيزه كان على المحبّة الخالصة واللطف والبهجة.
إن شغف الأحباء وغير الأحباء وحماسهم للقاء جناب فيضي كان كبيرًا لدرجة أنني قلّما رأيته وحيدًا… وكان يحدث أحيانًا أن نقوم بزيارة غير متوقعة له، وفي كل مرّة كان يرحّب بنا بطريقة وكأنه كان ينتظرنا منذ ساعات. نادرًا ما كان الأفراد ينتظرونه، بل كان دائمًا في الغرفة ينتظر الناس أو واقفًا عند أعلى الدرج مستعدًا لاستقبالهم. عندما كنا جميعًا مع بعضنا لم يكن الحديث أبدا عن الرتب والمقامات، كنّا نتعاشر كأعضاء في أسرة واحدة بطمأنينة وراحة تامة. كان جعبة فيضي دومًا مليئة بالقصص والروايات وكان دائمًا يقول اسم الراوي… ولكن الأهم من ذلك كله أنه كان يستمع منصتًا إلى قصص الآخرين. خلال كل المدة التي عرفته فيها لم أسمعه قط يقول إنه فعل هذا أو ذاك أو أن تلك كانت فكرته. كان دائما يشير إلى الآثار المباركة وإلى المؤمنين الأوائل وإنجازاتهم.
كنت مؤمنًا جديدًا عندما جاء السيد فيضي إلى قبرص. من أولى أسئلتي له “لماذا يجب أن نتلو الدعاء؟” جوابه كانت بسيطًا ومازلت أتذكره حتى اليوم: “أنك في مكان مظلم وتحتاج إلى نور حتى ترى طريقك. إن الدعاء يساعدك على اكتشاف مفتاح النور”.
تشبيه آخر بسيط وعميق في آنٍ معًا أعطاه جناب فيضي عندما سألته عن الامتحانات. قال، إنه عندما كان يزور الأحباء في أفريقيا تم طرح نفس السؤال في الجلسات. أجاب أحد الأحباء جوابًا أسعد جناب فيضي: “إن صانع الآلات الوترية يقضي وقتًا طويلًا في صنع الآلة وعندما ينتهي أخيرًا منها فأوّل شيء يقوم به هو النقر على الأوتار حتى يختبر ما صنعه ويتأكد بأنه قادر على إخراج أنغام جميلة”.
في أحد الأيام كنت مع صديقة برحلة برفقة جناب فيضي من قزوين إلى طهران. كنّا نتحدث عن مواضيع شتى عندما التفت إلينا جناب فيضي فجأة وقال: “المرأة هي ملكة المنزل. هذه الملكة يجب أن يكون باب منزلها مفتوحًا للجميع، وعليها أن تكرم وفادة الجميع باستثناء ضيف واحد غير مرحّب به وهو الغيبة”.
في يوم لا يُنسى عندما تم ترتيب جلسة لجناب فيضي قام رئيس الجلسة وكمقدّمة افتتح الجلسة بالتعريف به وبإنجازاته. نهض جناب فيضي بأعين دامعة ثم قال بصوت حزين: “أعزائي، إن ميسون ريمي قد سقط من أعلى قمّة في الأمر بسبب كل هذا الثناء والإطراء. أرجوكم أن لا ترموني في وسط امتحان كبير كهذا”… أتذكر بأنني أخذتُ ابني ذا الأربع سنوات إلى أحد جلسات جناب فيضي وكنت أشعر بفخر لأنني استطعت أن أجعله يجلس هادئًا. خلال الاستراحة احتضن جناب فيضي ابني وتوجّه إلّي وقال: “هذا الطفل بريء ولطيف ولكن يا عزيزتي عليك أن لا تجبري طفلًا بهذا السن أن يجلس في جلسة رسمية، بينما ينبغي له أن يلعب ويركض في الأرجاء، وإلّا، لا سمح الله عندما يكبر سيسأم من هذه الاجتماعات.”
مارك بناتر البالغ من العمر عشر سنوات والذي كان في زيارة للعتبات المقدسة مع والديه في شهر يناير/كانون الثاني عام ١٩٦٧م بدأ يشعر بألم شديد في بطنه، وتم تشخيص مرضه بأنه انفجار في الزائدة الدودية، ولهذا أخذ فورًا إلى المستشفى. بعد نصف ساعة من دخوله للمستشفى جاءه السيد فيضي ليكون بجانبه من أجل دعمه ودعم والديه. تبادل مارك مع جناب فيضي القصص والحكايات والمزاح حتى جاءت الممرضة لتجهّز المريض للعمليّة الجراحية، ولكن عاد فيضي إلى جوار سريره واستمر في سرده للقصص عن شخصية من أفلام الكاوبوي الغربية الفكاهية. تذكّر مارك أنه كان ينظر إلى أسفل الرواق وهو في طريقه إلى غرفة العمليات وشاهد جناب فيضي والسيدة فيوليت نخجواني ووالديه جالسين على المقعد الطويل منتظرين. قيل له فيما بعد بأن جناب فيضي لم يترك المستشفى حتى خرج مارك من غرفة العمليات واطمأن عليه. تذكّر فيضي بأن مارك قال له بأنه قد جمع طوابع بريدية وسيرسل له ظرفًا صغيرًا به طوابع مستعملة بعد رجوع والديه إلى بلدهم.
أمضى نيسان وأسرته اليافعة سنة واحدة في طهران عام ١٩٧٥م محاولًا الحصول على إعفاء من الخدمة العسكرية باعتباره الابن الوحيد لجناب فيضي. رفض أن يدفع رشوة للمسئولين، ونتج عن ذلك أن نتيجة العملية التي لا تستغرق أكثر من أسبوعين استغرقت تسعة أشهر من المعاناة ذاهبًا من مكان إلى مكان آخر، ومن دائرة إلى دائرة أخرى دون الوصول إلى نتيجة. مضت ستة أشهر وتم استكمال كل الأوراق والمطالب دون وجود أي عذر لرفض طلبه. في هذه المرحلة وعند انتظار نيسان لعدة ساعات لتقديم ملف ضخم من المستندات إلى مكتب الضابط، أصرّ هذا الضابط بأنه يريد أن يشاهد والده وهو يوقّع على ورقة أمامه بأن نيسان هو ابنه الوحيد. وقد أدّى ذلك إلى سفر جناب فيضي إلى إيران من أجل مساعدة ابنه.
عندما وصل جناب فيضي إيران كانت القوانين قد تغيّرت ثانية. في هذه المرّة أصرّ الجيش أن يقابل هيئة عسكرية. أحد الأحباء من الذين لديهم خبرة في هذه المواضيع عرض على نيسان المساعدة، وتم تعيين يوم معيّن لمقابلة جناب فيضي مع الهيئة العسكرية. الرُّتَب والمقامات لها وزن كبير في إيران وعلى الأخص في الجيش الذي ينظر بازدراء إلى جميع المدنيين، وعلى الأخص الذين يطلبون الإعفاء من الخدمة العسكرية. بالإضافة إلى ذلك فقد علمت الهيئة بأن نيسان بهائي ووالده شخصّية بارزة في الجامعة البهائية.
أحد الموظفين الذين كانوا في الغرفة قبل المقابلة قال لذلك الحبيب فيما بعد بأن الضباط الخمسة الكبار الذين سيجرون المقابلة قررّوا بأنه عندما يأتي جناب فيضي فإنهم سيحرصون على معاملته بقلّة احترام قدر الإمكان. الكراسي الوحيدة في الغرفة كانت تلك التي يجلس عليها الضباط الذين سيجرون المقابلة.
جناب فيضي الذي كان يتوقّع المشاكل سحب أكتافه إلى الخلف، وكان أول من يدخل الغرفة بطبيعته الجذابة وأسلوبه الوقور. فور دخوله قام جميع الضباط الخمسة لا إراديًا من أماكنهم، ثم عرض أحدهم كرسيه لجناب فيضي للجلوس عليه وطلبوا من الموظف المسؤول بأن يأتي بكرسي مريح أكثر له. أصبحت المقابلة شكلية ولم تطرح أي أسئلة على جناب فيضي ثم وقّع على الأوراق اللازمة وعندما قام من مكانه لتوديع الضباط الخمسة قاموا من أماكنهم مرة أخرى بكل احترام لتوديعه. وقد مُنح إعفاء نيسان من الخدمة العسكرية في نفس اليوم.
خلال رحلاته المتعدّدة لإيران جاء أحد الآباء مع زوجته وابنهما إلى جناب فيضي حتى يقنع ابنهما بالزواج من مسلمة دون مراعاة للأحكام البهائية الخاصة بالزواج. فجأة رفع جناب فيضي الهادئ الصبور صوته وقال غاضبًا: “يا مدام إن المؤسسات البهائية تنظر في هذه الأمور وليس أيادي أمرالله، ثانيًا كيف تسمحين لنفسك بالتفكير في هذه الأمور؟ من الذي يسمح بالعمل خلاف الأحكام الأمرية؟ أي زواج هذا الذي من أجله سيخالف ابنك الأحكام الإلهية؟” حاولتُ إخراج الزوجين من الغرفة، وكانت علامات الأسى والاكتئاب تلوح على وجه فيضي الحنون.
في إحدى الليالي وبعد أن ألقى جناب فيضي كلمته في حظيرة القدس المحلية وخلال الاستراحة جاءه شابان وطلبا منه أن يفصل في النقاش الدائر بينهما. أحد الشابين كان يؤمن بأن الإسلام مقارنة بباقي الأديان أقل أهمية ومقامه أدنى من باقي الأديان وكان يتوقع من جناب فيضي تأييد كلامه. أمّا صديقه فقد كان يعتقد بأن مكانة الإسلام مثل باقي الأديان. قام جناب فيضي بوضع يديه على كتفي الشابين وقال لهما بابتسامة بأن معيارنا هو تعاليم حضرة بهاءالله، ثم قال لهما: “ادرسوا كتاب الإيقان وستجدون الإجابة”، تجنّب فيضي إصرار الشابين على الحصول على الإجابة منه وقبل مغادرته قال مرة أخرى ضاحكًا وبكل لطف بأن عليهما أن يدرسا الكتاب ويعطوهما الإجابة في اليوم التالي. بهذه الطريقة استطاع جناب فيضي أن يوجّه الشابين إلى الجهة التي يمكن الحصول منها على الإجابة، وفي نفس الوقت تجنّب إحراج الشاب الذي كان يعتقد بأن الإسلام في مرتبة أدنى من باقي الأديان أمام صديقه وأمامه هو.
بعد أن أنهيت السنوات الأولى من المدرسة في إيران التحقت بوالدي في حيفا وكنت أتحدّث الفارسية فقط. وقد تم تسجيلي للالتحاق بمدرسة الراهبات (دير الناصرة) وهي مدرسة تقع أسفل المقام الأعلى ولغتها الأساسية هي العربية… مدرّسي الأول في اللغة العربية كان جناب فيضي الذي أعدّ مشكورًا دورة خاصة لي، وعادة ما كنت أراه في أيام الأربعاء بعد المدرسة. وأثناء كتابتي لهذه الأسطر أرى نفسي صاعدة على السلالم إلى شقته بكل شوق ورغبة. فيطلب منيّ أن أترجم فقرات وأحيانًا أجزاء من الآثار المباركة الفارسية (السهلة نسبّيًا) إلى العربية والإنجليزية والفرنسية. وبالصدفة أصبحت السيدة ﮔلوريا فيضي أول مدرّسة لي للغة الإنجليزية. كان جناب فيضي يعقد جلسات في بيت الزائرين في حيفا كل أسبوعين. (استمر جناب فروتن في عقد مثل هذه الجلسات خاصة عندما كان جناب فيضي مسافرًا)، وكان يشارك فيها الآباء والأمهات والأحباء المتحدّثون باللغة الفارسية والأطفال أيضًا (بعضنا كان حينها في سن الشباب الناشئ) وكنا نقف ونقرأ ما كنا قد أعددناه أو نلقي كلمة عن موضوع ما. كنّا نعلم جميعًا بأنه علينا أن نعدّ شيئًا وأن نكون مستعدين لتقديمه في اليوم المحدّد. كان جناب فيضي يؤمن بضرورة منح الفرصة للأطفال كي يقفوا ويمارسوا إلقاء الخُطَب حتى تُبنى ثقتهم وتعزّز معارفهم… إلخ، وكان دائمًا حريصًا على تطوير هذه المهارات. كان في الواقع محبًّا للأطفال وقد أحاطنا بمحبّته ورعايته. مازلت أسمع صوته يُعرب عن سعادته ويُثني علينا ويشجعنا بكل فخر.
إن التواجد مع جناب فيضي كان دائمًا مثل الحضور في صف بهائي أو تعليم مدى الحياة وغير متعب أبدًا بل متعة. كان المرء يشعر بالراحة ويتعلم أشياء كثيرة من مجرّد الاستماع أو مشاهدة جناب فيضي وطريقة تعامله مع الآخرين وعلى الأخص مع الأطفال. كان هناك دفءٌ ذاتيٌ في وجوده، وكان حقيقة نبعًا للمحبة، إنني أفتقده كثيرًا.
عندي رسائل من جناب فيضي كتبها عندما كان مسافرًا أو عندما كنت أدرس في بريطانيا وبعضها مؤثر للغاية. هناك رسالة دفعتني للبكاء حيث شعرتُ بأنه رغم اعتلال صحّته وتعبه ولكنه كان يجلس ويكتب لي بدلًا من أن يخلد للراحة. عادة ما كان يرسل لي بطاقات بريدية إذا حضر مؤتمرًا كبيرًا مع صورة المباني التي عُقد فيها المؤتمر… إنني مدين لجناب فيضي (بالطبع لوالدّي أيضًا). لقد علّمني بأفعاله ومنه فهمتُ ماذا يعني بأن “الأعمال أعلى صوتًا من الأقوال”. إذا كان لي في هذا العالم الفاني أن أقدّر وأدرك شيئًا أو أرى لمحات من “التضحية” فأعتقد أنه بسبب جناب فيضي وبعض الأحباء الآخرين. كان وجهه يشعّ بالمحبّة والدفء. عندما كان يدخل غرفة كان يجعل كل فرد فيها يشعر بأنه شخص مميّز… كانت لديه قدرة عظيمة في بناء الإنسان، ومع ذلك كان في قمة التواضع، وواسعٌ في العلم والمعرفة، ومع ذلك ففي الطريقة التي كان يستخدمها لتوصيل علمه يُشعر الإنسان بأنه يعرف الموضوع. كل ذلك بسبب أنه كان ماهرًا جدًا في التعليم، فقد كان قادرًا على كسر الحاجز الذي يوضع عادة بين الطالب والمعلّم. كان دائمًا يثني ويقدّر أي إنجاز. لا يمكن للمرء أن يملّ من الجلوس معه. إن كنت صادقة في حقّه دعني أقول بأنني كنت مثل الفراشة التي تريد أن تدور حوله وتحفظه لأنه لم يكن يهتم بنفسه أبدًا. من عادته أن يعطي الآخرين كل شيء يمتلكه. أحيانًا كان الأحباء يقدّمون له الهدايا مثل القميص، فكان يقول فورًا لوالدي: “جناب يوسف ﭘور لديّ قمصان عدّة، خذ هذا وأعطه لمن يحتاجه”. ولكن ما كان يجرحني حقًا بأنه كان يفدي بنفسه أيضًا، يعمل جاهدًا ولا يعتني بنفسه. وعلى الرغم من كثرة مشاغله ولكنه لم يشتكِ أبدًا واستمر في الاهتمام بالآخرين بمن فيهم هذه الأمة الصغيرة الفانية.
علّمني جناب فيضي بأن أعمالنا في الحياة يجب أن يكون لها هدف، ومحور هذه الأعمال يجب أن يكون أمرالله، وإن خدمة الأمر لا تتوقف عند ساعة معيّنة لأنها الخامسة مساءًا مثلًا، فخدمة الأمر جهود مستمرة. كما أن فيضي قرّبني أكثر إلى حضرة شوقي أفندي وجعلني أعشق حضرة ولي أمرالله، وذلك عندما تحدّث عن عينيه ومدى دفئها وجمالها ونفوذها. وكلّما كان يتحدّث عن حضرة شوقي أفندي يمكن أن تشاهد عينيه وقد أنارتا. ولكن فيها ذرّة من الحزن لأنه جسديًا لم يعد بيننا.
دخلتُ المطبخ (في بيت عبّود عندما كنت في زيارة للأرض الأقدس) لإعادة بعض الصحون فوجدتُ زوجك (فيضي) جالسًا في زاوية يتحدّث إلى بعض الأطفال. على الطاولة كانت هناك فواكه وكما أتذكّر لونها أصفر وعندما قُطعت كانت بداخلها بذور سوداء. لم أستطع أن أجد حبّة ناضجة حتى آكلها وكنت أرغب في تذوّقها. جاء جناب فيضي إلى الطاولة وأخذ حبّة من هذه الفواكه وقطعها لعدة قطع ووضع واحدة منها في فمي. بدأ أنه كان سعيدًا ليرى أنني كنت راضية بالطعم الناضج والحلو لهذه الفاكهة التي كانت جديدة عليّ. ثم استمر في قطع الفاكهة وإطعامي بيده حتى شبعتُ تمامًا. لا أتذكر نوع الفاكهة أو حتى طعمها ولكن أتذكر أيادي أمرالله جناب فيضي وهو يُطعمني بيده، وسأتذكر ذلك لما تبقى لي من عمري. وكلّما أفكّر في تلك اللحظات الثمينة أشعر بروعة الذكرى، وعن مدى تواضع ومحبّة هذا الخادم لحضرة بهاء الله. كل فرد من حضرات الأيادي كانت له ميزة خاصة، وبالنسبة لجناب فيضي، فمن سجاياه التواضع وإبراز المحبة اللامتناهية لكل من يقابله، وأيضًا صبره في تعليمنا أمرالله سواء في شكل قصة أو من خلال الأمثلة.
الزيارة عام ١٩٧٧م كانت مباركة بعدة لقاءات عُقدت مع حضرات أيادي أمرالله جناب ﭘول هني وأبو القاسم فيضي. في كل مساء كان أحد حضرات الأيادي أو عضو من أعضاء بيت العدل الأعظم أو مشاور يأتي للتحدّث إلينا. في كل مساء كنت أرغب في السؤال عن إمكانية تقديم طلب للعمل في المركز العالمي ولكن كنت خجلًا من طرح السؤال. في آخر أمسية كان جناب فيضي معنا وقرّرت أن أسأله عمّا إذا كان عليّ تقديم طلب للعمل في حيفا. مرة أخرى لم أستفد من الفرصة لأني شعرتُ بعدم الاستحقاق. وعندما وقف جناب فيضي وتوجّه نحو باب بيت الزائرين انزعجتُ جدًا لأني فقدتُ آخر فرصة لي لأحظى بنصيحته. فجأة توقف عند الباب المفتوح واستدار ليواجه الزائرين ثم قال: “الخدمة في المركز العالمي أفضل من الخدمة في أي مكان آخر، ولكن التبليغ أفضل من ذلك”، لقد حصلتُ على الإجابة وبمثل هذه الطريقة المفاجئة والمثيرة.
مازلت أسمع كلماته وهو يشرح لنا معنى بعض المفاهيم المختلفة. لم تكمن الأهمية والتأثير في التوضيحات على الرغم من بساطتها الرائعة ولكن في الروح التي شرحت بها والتي تنفذ إلى أعماق القلب، وساد جوٌّ من الهدوء والسلام أثناء حديثه. كان شخصًا لطيفًا ونبيلًا وساحرًا ومحبًّا لدرجة أنه كان يأسر القلوب. ويكاد المرء أن ينخرط في البكاء من جمال إخلاصه وتكريسه للأمر المبارك.
إن محبّته المتفانية وعاطفته الخالصة تؤثران في أعماق النفس… كان للسيد فيضي تلك الخاصية الرائعة ليتحدّث اليك أو يجيبك وكأنك الشخص الأكثر أهمية في الغرفة. كان يعامل الكل بكل تواضع ومحبّة وعيناه تعكسان روحه النبيلة.