كتاب عهدي – ألواح وَصايا حضرة عبد البهاء
كتاب عهدي – ألواح وَصايا حضرة عبد البهاء

كتاب عهدي – ألواح وَصايا حضرة عبد البهاء

مقدّمة

تُشَيَّد صروح الأديان السّماويّة على أساس الكلمة الإلهيّة المُنزَلة على مشارق الوحي ومطالع الإلهام، فتنبعث منها طاقةٌ خلاّقةٌ في العالم تتجدّد بها معالم المدنيّة الإلهيّة في كلّ عصر وزمان طبقًا لناموس التّقدّم والتّرقّي. ولا شك أن المدنيّة الإلهيّة تحتاج إلى ناظم مدبّر وراعٍ يصون هذه الكلمة من الآفات الّتي قد تصيبها والانحراف عن الهدف الّذي أُنزلت لأجله بسبب أهواء النّفوس البشريّة وأوهامها. بناءً على هذا، كانت رسالة حضرة بهاء الله، حسب ما صرّح به حضرة وليّ أمر الله، بحاجة إلى “أداةٍ إلهيّةِ التّقدير مزوّدةٍ بسلطة صريحة، مرتبطةٍ به ارتباطًا عضويًّا لكي تُوَجِّهَ تلك القوى الّتي أطلقها ذلك التّدبير المُرسَل من السّماء، وتُجريها في قنواتها السّليمة، وتؤمّن انسجامَها وتناغمَها، وتضمن حركتها المستمرّة”.[1] تمثّلت هذه الأداة الإلهيّة في شخص حضرة عبد البهاء بعد صعود حضرة بهاء الله، فكان المجسّد لتلك القوّة النّاظمة والمدبّرة والرّاعية والحافظة للكلمة الإلهيّة المؤسِّسة للمدنيّة الإلهيّة. تلك القوّة النّاظمة في الدّور البهائي ليست سوى قوّة العهد والميثاق الّذي أبرمه حضرة بهاء الله مع أتباعه في وثيقة دبّجها بخطّه وسمّاها كتاب عهدي.

عهد حضرة بهاء الله قبيل صعوده بهذه الأمانة، كتاب عهدي، إلى ابنه الأرشد الغصن الأعظم – حضرة عبد البهاء، وفي اليوم التّاسع على صعوده المبارك فُضّ ختم هذه الوثيقة بحضور تسعة شهود من العائلة المباركة ونفر من أصحاب حضرة بهاء الله المقرّبين. في عصر اليوم التّاسع نفسه، وفي جوار الرّوضة المباركة، مرقد هيكل الجمال الأبهى، تُلي كتابُ عهدي في حضور جمعٍ من المؤمنين المهاجرين والمجاورين والزّائرين؛ فأصغى الجميع إلى وصيّة حضرة بهاء الله الّتي قضت بتعيين حضرة عبد البهاء مركزًا لعهده وميثاقه ومبيّنًا لآياته من بعده، وأمرت الكلّ بالتّوجّه إليه دون سواه.لاقت الوصيّة صدى واسعًا من الطّاعة القلبيّة الخالصة لدى عموم الأحبّاء دون استثناء مقرّين بكلّ ما ورد فيها من تدبير إلهيّ.

يصف حضرة وليّ أمر الله كتاب عهدي بأنّه “وثيقةٌ فذّةٌ لا شبيه لها ولا مثيل في كتب الدّورات السّابقة جميعًا بما فيها دورة حضرة الباب”، ثم يسترسلُ حضرته بالقول إنّه لا يوجد “في أيّ كتاب من كتب الدّيانات في العالم بأسره… وثيقةٌ واحدةٌ تُبرم ميثاقًا ذا سلطان مهيمن كذلك الميثاق الّذي أبرمه حضرة بهاء الله”.[2] يلخّص حضرتُه مضمون كتاب عهدي بقوله إنّ حضرة بهاء الله قد كشف في تلك الوثيقة “طبيعة ذلك ‘الميراث المرغوب الّذي لا عِدْلَ له’ والّذي خلّفه ‘للورّاث’، ويُعلن من جديد غايةَ ظهوره، ويوصي ‘أهل العالم’ أن يعتصموا بما هو ‘سبب ارتفاع مقاماتهم’ ويُبيّن لهم أنّه قد ‘عفا الله عمّا سلف’؛ ويُنبّه على سموّ مقام الإنسان، ويكشف الهدف الأوّل لدين الله، ويوجّه أولياء الله وأبناءَه إلى الدّعاء لملوك الأرض، ‘مظاهر قدرة الحقّ ومطالع عزّته وثروته’، ويخلع عليهم حكم الأرض، ويختصّ نفسَه بمُلكه الخاصّ ألا وهو قلوبُ النّاس، وينهى عن النّزاع والجدال نهيًا عظيمًا، ويأمر أتباعَه بنصرة الحكّام الّذين هم ‘مزيّنون بطراز العدل والإنصاف’، ويوصي الأغصان [أي أبناءَه] بأن يتدبّروا ‘القوّة العظيمة المكنونة والقدرة الكاملة المستورة في الوجود’، كما يأمرهم، هم والأفنان [ذوي قُربى حضرة الباب] والمنتسبين بأن ‘انظروا طُرًّا إلى الغصن الأعظم [حضرة عبد البهاء]’ باعتبار أنّه هو ‘مَن أراده الله الّذي انشعب من هذا الأصل القديم’ الّذي أُشير إليه في الكتاب الأقدس. ويقضي بأن يكون ‘مقام الغصن الأكبر’ [وهو الميرزا محمّد علي] دون مقام ‘الغصن الأعظم’ [وهو حضرة عبد البهاء]، ويدعو الأحبّاء إلى أن يُعاملوا الأغصان بالإجلال والمحبّة، وينصح لهم بأن يحترموا آل بيته وذوي قُرباه وذوي قُربى حضرة الباب ولكن ‘ما قدّر الله لهم حقًّا في أموال النّاس’، ويوصي الأغصان والأفنان وذوي قرابته ‘بتقوى الله وبالمعروف وبما ينبغي’ وأن يتبعوا ما ‘ترتفع به مقاماتُهم’، ويحذّر النّاسَ جميعًا من أن يجعلوا ‘أسبابَ النّظم سبب الاضطراب، وعلّة الاتّحاد علّة الاختلاف’، ويختم ميثاقه بنداء للمؤمنين يوصيهم فيه ‘بخدمة العالم’ والسّعي من أجل ‘إصلاح العالم’ ”.[3]

تجدر الإشارة إلى أنّ حضرة بهاء الله، في “كتاب عهدي”، قد ربط تعيينه لحضرة عبد البهاء مركزًا لعهده وميثاقه بآية الكتاب الأقدس: “إذا غيض بحرُ الوصال وقُضي كتابُ المبدأ في المآل توجّهوا إلى من أراده الله الّذي انشعب من هذا الأصل القديم”.[4] قياسًا على ذلك، يكون حضرة عبد البهاء هو المقصود في الآية الأخرى في الكتاب الأقدس: “يا أهل الإنشاء إذا طارت الورقاء عن أيك الثّناء وقصدت المقصد الأقصى الأخفى أرجِعوا ما لا عرفتموه من الكتاب إلى الفرع المنشعب من هذا الأصل القويم”.[5] فبناءً على الآيتين المذكورتين يكون حضرة عبد البهاء هو الغصن الّذي ينبغي على جميع المؤمنين التّوجّه إليه دون سواه، علاوة على كونه المبيّن لآيات الكتاب.

لم يكُن اطّلاعُ المؤمنين بمضمون “ كتاب عهدي” أمرًا مفاجئًا لهم؛ فقد لاحظ كلّ من زار الأرض الأقدس أو هاجر إليها أثناء حياة حضرة بهاء الله المكانة الفريدة الّتي امتاز بها حضرة عبد البهاء عند أبيه الّذي أسبغ عليه ألقابًا من قبيل: ‘غصن الله الأعظم العظيم’ و‘من طاف حوله الأسماء’ و‘سرّ الله الأقوم القويم’[6]. هذا، علاوة على أوصاف أُنزلت من القلم الأعلى في ألواح موجّهة إلى حضرة عبد البهاء مثل قوله الأحلى: “إنّا جعلناك حرزًا للعالمين وحفظًا لمن في السّموات والأرضين وحصنًا لمن آمن بالله الفرد الخبير”،[7] مما ينطبق تمامًا على روح مهمّته الإلهيّة كمركز للعهد والميثاق. يشير حضرة بهاء الله في مناجاته بحقّ حضرة عبد البهاء بقوله: “أسألك بولهي في حبّك وشوقي في إظهار أمرك بأن تقدّر له ولمحبّيهما قدّرتَه لسفرائك وأمناء وحيك”.[8] وهكذا جاء كتابُ عهدي ليؤكّد على تلك القوى الإلهيّة الكامنة في شخص حضرة عبد البهاء، وعلى المقامات الّتي وسَم بها القلم الأعلى غصنَه الأعظم.

كان تعيين حضرة عبد البهاء في كتاب عهدي مركزًا للعهد والميثاق بمثابة الأداة الإلهيّة الّتي صانت الدّين البهائي من التشيُّع والتّفرّق الّذي أصاب الأديان السّماويّة السّابقة بعد غياب مؤسّسيها، فحافظت هذه الأداة على وحدة جماعة المؤمنين في ظلّ الغصن الأعظم بعد صعود حضرة بهاء الله، وحالت دون زرع زؤان الفرقة والانشقاق، وكأنّ العهد والميثاق الّذي تجلّى في كتاب عهدي كان ذلك “الشّهاب الدّرّي” المذكور في لوح ملاّح القُدس، والّذي طرد ويطرد من سماء أمر الله أولئك الّذين “أرادوا أن يصعدوا إلى مقام الّذي جعله الله فوق مراتبهم”، كما وصفهم القلم الأعلى في اللّوح نفسه.[9]

وضع حضرة بهاء الله في آثاره المباركة، خلال السّنوات الأربعين الّتي فصلت بين سنة التّسع في غياهب سجن طهران وسنة صعوده في عكّا، الأسُس الّتي ينبغي أن يُشيَّد عليها النّظم البديع لدين حضرته، ذلك النظم الذي أشار إليه في الكتاب الأقدس بقوله: “قد اضطرب النّظمُ من هذا النّظم الأعظم واختلف التّرتيب بهذا البديع الّذي ما شهدت عينُ الإبداع شبهه”.[10] وقد تُوّج تأسيس هذا النّظم البديع بإعلان كتاب عهدي الّذي نصّ على تعيين حضرة عبد البهاء مركزًا للعهد والميثاق، أي الجهة الّتي وُضع على كاهلها الشّروع برفع أركان متينة على الأساس الّذي وضعه حضرة بهاء الله حتّى يبقى صرحُ دينه مصونًا من التّزلزل والتّصدّع.

عمل حضرة عبد البهاء في السنوات التّسع والعشرين الأخيرة من حياته، بعد صعود حضرة بهاء الله، على حفظ الدّين البهائيّ من سهام شبهات النّفوس الّتي نقضت وصيّة حضرة بهاء الله وسعت إلى بثّ روح الفُرقة بين المؤمنين وانحرافهم عن التّوجّه إلى مركز الميثاق خلافًا لما أمر به القلم الأعلى في كتاب عهدي. كما قام حضرتُه على تثبيت أركان الجامعة البهائيّة الّتي اتّسع نطاقها وانتشرت في أرجاء العالم وذلك من خلال الألواح الّتي كان يُرسلها تباعًا إلى أفراد المؤمنين وإلى الجامعات البهائيّة في الشّرق والغرب، والّتي بلغت عشرات الألوف من الألواح المباركة، وأيضًا من خلال استقبال المؤمنين الّذين كانوا يشدّون الرّحال من الشّرق والغرب إلى عكّا وحيفا للتّشرّف بزيارة حضرته والعتبات المقدسة،ومن ثَمّ نقل نفحات القدس إلى البهائيّين في ديارهم بعد عودتهم حتّى يبقى التّواصل قائمًا وثابتًا بين الجامعات البهائيّة من جهة ومركز العهد والميثاق من جهة أخرى. كذلك قام حضرة عبد البهاء بنفسه على نشر رسالة حضرة بهاء الله وشرح حقائق الدّين البهائيّ للجموع المتعطّشة في بلاد الغرب؛ فسافر إلى القارّتين الأوروبيّة والأمريكيّة بعدما تخلّص من قيود الحبس في عكّا،حيث أمضى عامين متنقّلاً من بلد لآخر لهذا الهدف إلى جانب توثيق علاقة الجامعات البهائيّة الغربيّة بمركز العهد والميثاق. تجدر الإشارة إلى أنّ أمر الله كان قد انتشر في خمسة عشر بلدًا في العهدين الأعلى والأبهى، أما في عهد الميثاق (1892–1921) فقد أضيف إليها عشرون بلدًا أُخَرُ في قارات الأرض الخمس ليصبح دينًا عالميّ النّطاق نتيجة الجهد الّذي قام به حضرة عبد البهاء لنشر نفحات الله بين العالمين.[11]

عندما صعد حضرة عبد البهاء إلى الملكوت الأبهى سنة 1921 كان أمر الله قد صار ثابت البنيان راسخ الأركان لا ثؤثّر فيه أراجيف الّذين نقضوا الميثاق ونكصوا على أعقابهم. بذلك اختُتم العصر الرّسولي الّذي افتُتح مع إعلان حضرة الباب دعوته في شيراز ليلة ميلاد حضرة عبد البهاء عام 1844. وبعبارة أخرى، إنّ العصرَ الرّسولي – وهو المدّة الّتي تأسّس فيها الدّين البهائي من خلال أفعال وأقوال حضرة الباب وحضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء – مطابق لسنوات حياة مركز العهد والميثاق السّبع والسّبعين، وكأنّ حياتَه المباركة كانت بمثابة المقياس لبداية نزول الرّسالة الإلهيّة ليلة ميلاده في مشرق طهران واكتمالها ليلة صعوده في مغرب حيفا.

بلغ العصرُ الرّسوليّ غايتَه مع وثيقة أراد حضرةُ عبد البهاء أن يختتم بها فترة التّأسيس ويفتتح عصر التّكوين الّذي يتمّ فيه العمل على تحقيق معالم المدنيّة الإلهيّة من خلال أدوات نظم حضرة بهاء الله البديع. هذه الوثيقة هي ألواح وصايا حضرة عبد البهاء الّتي وصفها حضرة وليّ أمر الله بـ “دستور الحضارة العالميّة القادمة الّذي يُمكن أن يُعدّ، من بعض وجوهه، متمّمًا لكتاب هو أعظم الكتب شأنًا ألا وهو الكتاب الأقدس”.[12] كتبها حضرة عبد البهاء بخطّه ووضعها في مغلّف مختوم رَقم عليه عبارة “أمانة الغصن الممتاز شوقي أفندي عليه بهاء الأبهى”، ووضعها ضمن أوراقه الخاصّة في غرفته.[13] كان حضرة شوقي أفندي، حفيد حضرة عبد البهاء الأكبر، في لندن عندما وقع الصعود، وفور تبلّغه الخبر المفجع عاد إلى حيفا. وبُعيد وصوله تسلّم الأمانة من العائلة المباركة وعلى رأسهم الورقة المباركة العليا شقيقة حضرة عبد البهاء. بموجب هذه الوصايا أُعلن حضرة شوقي أفندي وليًّا لأمر الله ومبيّنًا لآيات الله، وأرسلت الورقة العُليا هذا النّبأ إلى الجامعات البهائيّة في شتّى أنحاء العالم.

خطّ حضرة عبد البهاء ألواح وصاياه في ثلاث مراحل خلال الفترة الممتدّة بين عامي 1901 و1908، وهي بذلك تتكوّن من ثلاثة ألواح متكاملة. كان حضرته في تلك الفترة محاطًا بالأخطار الّتي حاكها له ناقضو الميثاق بالتّآمُر مع السّلطات العثمانيّة، وهذا ما أشار إليه حضرته في ألواح وصاياه بقوله: “أنا الآنَ في خطر عظيم، وأملُ ساعةٍ من الحياة مفقودٌ، وقد بادرتُ مضطرًّا إلى كتابة هذه الصّحيفة حفظًا لأمر الله وصيانةً لدينه وحفظًا لكلمته وصونًا لتعاليمه”. تدلّ هذه العبارة على أن هدف ألواح الوصايا هو إيجاد الوسائل الّتي تحفظ وتصون أمر الله ودينه وكلمته وتعاليمه بعد غياب مركز العهد والميثاق. تبيّن الألواح أنّ هذا الهدف يتحقق بتفعيل النّظام الإداري لدين حضرة بهاء الله القائم على ركنين هما ولاية الأمر وبيت العدل العموميّ مع ما يتفرّع عنهما من مؤسسات. لذلك يمكن القول إنّ ما قام به حضرة عبد البهاء في السّنوات الّتي تلت كتابة ألواح الوصايا كان بمثابة التّحضير والتّمهيد لتحقيق مضمونها بعد صعوده، وما تاريخ حياة حضرة عبد البهاء إلاّ خير شاهد على ذلك.

“تُعلن ألواح الوصايا العقائد الأساسيّة الّتي يؤمن بها أتباع دين حضرة بهاء الله، وتُبيّن طبيعة رسالة حضرة الباب المزدوجة، وتُصرّح بالمقام الكلّيّ الّذي تفرّد به الجمال الأقدس الأبهى، وتؤكّد أنّه ‘كلٌّ عبادٌ له وكلٌّ بأمره قائمون’. تؤكّد أيضًا على مرجعيّة الكتاب الأقدس، وتُقيم نظام ولاية الأمر منصبًا وراثيًّا، وتوضّح اختصاصاته الجوهريّة، وتقدّم التّدابير اللاّزمة لإجراء انتخاب بيت العدل الأعظم وتحدّد دائرة نفوذه وتبيّن صلتَه بنظام الولاية، وتُوصي بالتزامات أيادي أمر الله، وتنبّه على المسؤوليّات الملقاة على عواتقهم، وتمتدح فضائل الميثاق المنيع الّذي أبرمه حضرة بهاء الله، كما أنّها تمجّد شجاعة أنصار ميثاق حضرة بهاء الله وثباتهم، وتُسهب في ذكر الآلام الّتي عاناها مركز العهد والميثاق، وتستعيد إلى الذّاكرة سلوك ميرزا يحيى المخزي وعدم اكتراثه بإنذارات حضرة الباب، وتفضح في حلقات متتابعة من التّدليلات خيانةَ ميرزا محمّد علي وعصيانه واشتراك ابنه شعاع الله وأخيه ميرزا بديع الله في تلك الخيانة، وتؤكّد أمرَ طردهم، وتتنبّأ بانهيار كلّ آمالهم، وتدعو كلّ الأفنان، أي أقرباء حضرة الباب، وأيادي الأمر وجمهور أتباع حضرة بهاء الله إلى أن ينهضوا متّحدين متآزرين على نشر دينه، وأن ينتشروا في الأرض طولاً وعرضًا ويجاهدوا لإعلاء الكلمة الإلهيّة بلا كللٍ ولا مللٍ متمثّلين بحواريّي السّيّد المسيح، وتحذّرهم من مخاطر الاختلاط بناقضي العهد، وتأمرهم بأن يحفظوا الدّين من هجمات المنافقين وعدوان المغرضين. تنصح ألواح الوصايا أتباع حضرة بهاء الله بأن يُظهروا بسلوكهم عالميّةَ الدّين الّذي يعتنقونه، ويُدافعوا عن مبادئه العُليا. يبيّن حضرة عبد البهاء في هذه الوثيقة أهمّيّةَ حقوق الله المفروضة في الكتاب الأقدس والغاية منها، ويوصي بالخضوع والإخلاص للملوك العادلين، وأخيرًا يُفصح حضرته عن حنينه إلى الشّهادة ويدعو الله أن يقبل توبة أعدائه ويغفر لهم”.[14]

يصف حضرة وليّ أمر الله ألواح الوصايا بأنّها “أعظمُ ما خلّف [حضرة عبد البهاء] للأجيال القادمة من تراث، وأنصع ما فاضت به قريحتُه من فيض، وأقوى ما أعدّ من أداة يستوثق بها من استمرار العصور الثّلاثة [العصر الرّسولي وعصر التّكوين والعصر الذّهبي] الّتي تتألّف منها دورة والده”.[15] مع إعلان ألواح الوصايا افتُتح عصرُ التّكوين لدورة حضرة بهاء الله، ذلك العصر المجيد الّذي قُدّر له أن يشهد تشييد دعائم نظام حضرة بهاء الله الإداري وتوطيدها من خلال مؤسّسة ولاية أمر الله الّتي كانت بمثابة المنطلق للمؤسّسات الإداريّة المحليّة والمركزيّة والعالميّة الّتي تُوّجَت بانتخاب بيت العدل الأعظم عام 1963، “وذلك تمهيدًا للعصر الثّالث والأخير الذّهبيّ الّذي يشهد نهضة النّظم العالمي المنطوي على الثّمرة النّهائيّة الّتي يؤتيها أحدث ظهور إلهيّ للجنس البشريّ، والّتي يُشير نضجُها إلى تأسيس المدنيّة العالميّة وافتتاح ملكوت الآب على الأرض افتتاحًا رسميًّا”.[16]

الناشر

 

[1]       القرن البديع، من آثار حضرة وليّ أمر الله شوقي أفندي ربّاني، ترجمة الدّكتور السّيّد محمّد العزّاوي، منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل، 2002، ص 278.

 

[2]       المرجع السّابق، ص 278.

[3]       المرجع السّابق، صص 279، 280.

[4]       الكتاب الأقدس، طبعة كندا (بلا تاريخ)، الفقرة 121.

[5]       المصدر السّابق، الفقرة 174.

[6]       وردت في لوح أرض الباء، أدعية حضرة محبوب، طبعة مصر، 1339 هـ، ص 107.

[7]       المصدر السّابق، ص 105.

[8]       المصدر السّابق، ص 110.

[9]       حديقۀ عرفان، منشورات عندليب، كندا، 1994، ص 44.

[10]      الكتاب الأقدس، الفقرة 181.

[11]      انظر حيات حضرت عبدالبهاء، تأليف محمّد علي فيضي، مؤسّسه ملّي مطبوعات أمري، طهران، 128 بديع [1972]، صص 374، 375.

 

[12]      القرن البديع، ص 386.

[13]      حيات حضرت عبدالبهاء، ص 357.

[14]      ملخّص من القرن البديع، صص 386، 387.

[15]      المرجع السّابق، ص 383.

[16]      المرجع السّابق، صص 382، 383.

كتابُ عهدي

إِنّه وإنْ كان الأُفُقُ الأَعلى خاليًا من زُخْرُفِ الدُّنيا، ولكنَّا تركنا في خزائنِ التَّوكُّلِ وَالتَّفويضِ ميراثًا مرغوبًا لا عِدْلَ له للوارثين. لم نتركْ كَنزًا ولم نَزِدْ في المشقّةِ والعناء. أيمُ الله إنّ في الثّروةِ خوفًا مستورًا وخطرًا مكنونًا. انظروا ثمَّ اذكروا مَا أنْزَلَهُ الرَّحمنُ فِي الفُرقانِ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ. ليس لثروةِ العالمِ وفاءٌ وكلُّ ما يأخذُهُ الفَناءُ وقابلٌ للتّغيير ما كان جديرًا بالاعتناء ولنْ يكونَ إلاّ على قَدْرٍ معلوم.

إنّ مقصودَ هذا المظلومِ من حَمْلِ الشَّدائدِ والبلايا، وإنزالِ الآياتِ وإظهارِ البيِّناتِ، إِخمادُ نارِ الضَّغينةِ والبغضاءِ عسى أَن تتنوّرَ آفاقُ أفئدةِ أهلِ العالمِ بنورِ الاتِّفاق، وتفوزَ بالرَّاحةِ الحقيقيَّةِ. ومن أُفُقِ اللَّوحِ الإِلهيِّ يلوحُ ويُشرقُ نيِّرُ هذا البيانِ وعلى الكلِّ أن يكونوا ناظرين إليه: يا أهلَ العالمِ أُوصيكم بما ترتفعُ به مقاماتُكُم. تمسَّكوا بتقوى الله، وتشبَّثوا بذيلِ المعروف. الحقَّ أَقولُ إنّ اللّسانَ خُلِقَ لذكرِ الخيرِ فلا تُدنِّسوه بالقولِ السَّيِّء، عفا الله عمَّا سَلَف. يجبُ على الجميعِ بعد الآن أن يتكلَّموا بما ينبغي، ويجتنبوا اللَّعنَ والطَّعنَ وما يتكدَّرُ به الإِنسانُ. إنَّ مقامَ الإنسانِ عظيمٌ. مُنذ مُدَّةٍ ظهرتْ هذه الكلمةُ العليا من مخزنِ القلمِ الأَبهى: هذا اليومُ يومٌ عظيمٌ ومباركٌ، فكلُّ ما كان مستورًا في الإنسانِ قد ظهرَ اليوم وسوف يظهرُ. مقامُ الإِنسانِ عظيمٌ إِذا تمسَّكَ بالحقِّ والصِّدقِ، وثبتَ على الأمرِ ورسخ. إِنَّ الإنسانَ الحقيقيَّ مشهودٌ بمثابةِ السَّماء لدى الرَّحمن؛ شمسُها وقمرُها سَمْعُهُ وبَصَرُهُ، ونجومُها أَخلاقُهُ المُنيرةُ المُضيئةُ، مقامُهُ أَعلى المقام، وآثارُهُ مربِّيةٌ لعالم الإمكان.

كلُّ مُقْبلٍ وجد اليومَ عَرْفَ القميص وتوجَّهَ بقلبٍ طاهرٍ إِلى الأُفُقِ الأَعلى مذكورٌ من أهلِ البهاء في الصَّحيفةِ الحمراء. خُذْ قدَحَ عنايتي باسمي ثمَّ اشْرَبْ منه بذكري العزيزِ البديعِ.

يا أَهلَ العالمِ إنَّ دينَ الله وُجِدَ من أجل المحبَّةِ والاتِّحاد؛ فلا تجعلوه سببَ العداوةِ والاختلافِ. يرى أَصحابُ البصرِ وأهلُ المنظرِ الأَكبرِ أنّ كلَّ ما هو سببُ حفظِ العبادِ وعلَّةُ راحتِهم واطمئنانِهم قد نزلَ من القلم الأَعلى، ولكنَّ جُهَّالَ الأَرضِ لأنّهم ربيبُو النَّفس والهوى فهم غافلون عن حِكَم الحكيم الحقيقيِّ البالغة، وناطقون وعاملون بالظُّنون والأَوهام.

يا أَولياءَ اللهِ وأُمناءَه إِنَّ الملوكَ مظاهرُ قُدرةِ الحقِّ ومطالعُ عِزِّه وثروتِه، فادعوا من أجلِهم. لقد أنعمَ اللهُ عليهم بحكومةِ الأَرضِ واختصَّ القلوبَ لنفسه.

قد نهى اللهُ عن النِّزاعِ والجدالِ نهيًا عظيمًا في الكتابِ هذا أَمْرُ الله في هذا الظُّهورِ الأَعظمِ وعَصَمَهُ من حُكْمِ المَحْوِ، وزيَّنه بطِرازِ الإثباتِ إِنَّه هو العليمُ الحكيمُ.

ينبغي على الكُلِّ إعانةُ مظاهرِ الحُكْمِ ومطالعِ الأَمرِ المزيَّنين بطِرازِ العدلِ والإنصاف. طوبى للأُمراءِ والعلماءِ في البهاء أُولئك أُمنائي بين عبادي، ومشارقُ أحكامي بين خلقي. عليهم بهائي ورحمتي وفضلي الّذي أحاط الوجودَ. وفي هذا المقامِ نزل فِي الكتابِ الأقدسِ ما تلوحُ من آفاقِ كلماتِه أنوارُ الفضلِ الإِلهِيِّ ساطعةً مشرقةً.

يا أغصاني، إِنَّ في الوجودِ قوَّةً عظيمةً وقدرةً كاملةً مكنونةً ومستورةً، فكونوا ناظرين إليها وإلى تأثيرِها المُوَحِّد لا إلى الاختلافات الظاهرةِ منها.

إنّ وصيَّةَ الله هي: يجبُ على الأغصانِ والأفنانِ والمنتسبينَ طُرًّا أنْ يتوجَّهوا إلى الغصنِ الأعظم. انظروا ما أنزلناه في كتابي الأقدس: “إِذا غيضَ بحرُ الوصالِ، وقُضِيَ كتابُ المبدءِ في المآل، توجَّهوا إِلى مَنْ أراده الله الّذي انشعب من هذا الأصلِ القديمِ”. المقصودُ من هذه الآيةِ المباركةِ هو الغصنُ الأعظمُ. كذلك أظهرنا الأمرَ فضلاً من عندنا وأنا الفضّالُ الكريمُ. قد قدَّرَ اللهُ مقامَ الغصن الأكبر بعد مقامِه إنَّه هو الآمرُ الحكيمُ. قد اصطفينا الأكبرَ بعد الأعظمِ أمرًا من لَدُنْ عليمٍ خبيرٍ.

محبَّةُ الأغصانِ واجبةٌ على الكلِّ، ولكِنْ ما قَدَّر اللهُ لهم حقًّا في أموال النَّاس.

يا أغصاني وأفناني وذوي قرابتي: نوصيكم بتقوى الله، وبمعروفٍ، وبما ينبغي، وبما ترتفعُ به مقاماتُكم. الحَقَّ أقول إِنَّ التَّقوى هي القائدُ الأعظمُ لنُصرةِ أمرِ الله، والجنودُ اللاّئقةُ بهذا القائدِ لم تزل هي الأخلاقُ والأعمالُ الطَّيِّبةُ الطَّاهرةُ المَرضِيَّةُ.

قُلْ يا أيّها العباد لا تجعلوا أسبابَ النَّظْمِ سببَ الاضطرابِ، وعلَّةَ الاتِّحادِ لا تجعلوها علَّةَ الاختلافِ. الأملُ أنْ يتَّجهَ أهلُ البهاءِ إلى الكلمةِ المباركةِ “قُل كُلٌّ من عند الله” فهذه الكلمةُ العليا بمثابةِ الماءِ لإطفاءِ نارِ الضَّغينةِ والبغضاءِ المكنونةِ المخزونةِ في القلوبِ والصُّدورِ. بهذه الكلمةِ الواحدةِ ستفوزُ الأحزابُ المختلفةُ بنورِ الاتِّحادِ الحقيقيِّ. إنَّه يقول الحقَّ ويَهْدي السَّبيلَ وهو المقتدرُ العزيزُ الجميلُ.

احترامُ الأغصانِ ورعايتُهم واجبٌ على الجميعِ لإعزازِ الأمرِ وارتفاعِ الكلمةِ، وهذا الحكمُ مذكورٌ ومسطورٌ في كتبِ اللهِ من قَبْلُ ومن بَعْدُ طوبى لمن فاز بما أُمِرَ به من لَدُنْ آمِرٍ قديم. وكذلك احترامُ الحرمِ وآلِ اللهِ والأفنانِ والمنتسبينَ. ونوصيكم بخدمةِ الأممِ وإصلاحِ العالمِ.

قد نزل من ملكوتِ بيانِ مقصودِ العالمينَ ما هو سببُ حياةِ العالمِ ونجاةِ الأممِ. فأصْغُوا إلى نصائحِ القلمِ الأعلى بالأُذُنِ الحقيقيَّةِ. إنَّها خيرٌ لكم عمَّا على الأرضِ يشهدُ بذلك كتابيَ العزيزُ البديعُ.

ألواح وصايا حضرة عبد البهاء

القسم الأوّل

هوالله

حمدًا لمَن صان هيكلَ أمره بدرع الميثاق عن سهام الشُّبُهات، وحَمَى حِمَى شريعته السّمحاء، ووقى محجّتَه البيضاء بجنود عهوده من هجوم عُصبةٍ ناقضةٍ وثلّةٍ هادمة للبنيان، وحَرس الحِصن الحصين ودينَه المبين برجالٍ لا تأخُذهم لومةُ لائمٍ ولا تلهيهم تجارة ٌ ولا عزّةٌ ولا سلطةٌ عن عهد الله وميثاقه الثّابت بآيات بيّنات من أثر القلم الأعلى في لوحٍ حفيظٍ.

والتّحيّة والثّناء والصّلاة والبهاء على أوّل غصنٍ مباركٍ خَضِلٍ نضرٍ ريّانٍ من السّدرة المقدّسة الرّحمانيّة منشعبٍ من كلتيّ الشّجرتين الرّبّانيّتين، وأبدعِ جوهرةٍ فريدةٍ عصماء تتلألأ من خلال البحرين المتلاطمين، وعلى فروع دوحة القدس وأفنان سدرة الحقّ الّذين ثبتوا على الميثاق في يوم الطّلاق، وعلى أيادي أمرالله الّذين نشروا نفحات الله ونطقوا بحجج الله وبلّغوا دين الله وروّجوا شريعة الله وانقطعوا عن غير الله وزهدوا في الدّنيا وأجّجوا نيران محبّة الله بين الضّلوع والأحشاء من عباد الله، وعلى الّذين آمنوا واطمأنّوا وثبتوا على ميثاق الله واتّبعوا النّور الّذي يلوح ويُضيء من فجر الهدى من بَعدي ألا وهو فرعٌ مقدّسٌ مباركٌ منشعبٌ من الشّجرتين المباركتين، طوبى لمن استظلّ في ظلّه الممدودِ على العالمين.

يا أحبّاء الله! إنّ أعظم الأمور هو المحافظةُ على دين الله، وصيانةُ شريعة الله، وحمايةُ أمر الله، وخدمةُ كلمة الله. لقد أهرقَ ألوفُ النّفوس دماءَهم الطّاهرةَ في هذا السّبيل، وفَدوا أرواحهم العزيزة، وسارعوا راقصين إلى مقرّ الفداء؛ فرفعوا رايةَ دين الله، وخطّوا بدمائهم آيات التّوحيد. صار صدرُ حضرة الأعلى المبارك – روحي له الفداء – هدفًا لوابلٍ من سهام البلاء، وجُرحت وأُدميت قدما الجمال الأبهى المباركتان – روحي لأحبّائه الفداء – من ضرب العصا في مازندران، وقُيّد عنقُه المقدّس وقدمُه المباركة بالسّلاسل والأغلال في سجن طهران. في مدّةَ خمسين سنة، حلّ به في كلّ ساعة بلاءٌ وآفةٌ، وألمّت به محنةٌ ومصيبة. من جملة ذلك أنّه، بعد الأذى الشّديد، شُرّد من الوطن، وابتُلي بالآلام والمحن، فكان نيّرُ الآفاق في العراق معرِض الكسوف من أهل النّفاق إلى أنْ أُبعد، في آخر الأمر، إلى المدينة الكبيرة، ومن تلك المدينة نُفي إلى أرض السّرّ، ثمّ أُرسل من إقليم البُلغار، في منتهى المظلوميّة، إلى السّجن الأعظم. لقد نُفي مظلومُ الآفاق – روحي لأحبّائه الفداء – أربعَ مرّات من مدينةٍ إلى مدينة حتّى استقرّ في هذا السّجن بحبسٍ مؤبَّدٍ؛ وأضحى في سجن القتلة والسّارقين وقُطّاع الطّريق مسجونًا مظلومًا. كان هذا واحدًا من البلايا الّتي نزلت بالجمال المبارك، وقيسوا على هذا سائر البلايا.

من جملة بلايا جمالِ القِدم ظلمُ الميرزا يحيى وعدوانُه وجَوره وطغيانه؛ فمع أنّ ذلك المظلومَ المسجونَ قد ربّاه منذ صغر سنّه في حضن عنايته، وبَذَلَ له في كلّ حين شتّى أنواع رعايته، ورَفع ذكرَه، وحفظه من كلّ الآفات، وأعزّه في الدّارين، وعلى الرّغم من وصايا حضرة الأعلى ونصائحه المشدّدة وتصريحه بالنّصّ القاطع أنْ “إيّاك إيّاك أن تَحتجب بالواحد الأوّل وما نُزّل في البيان” – والواحد الأوّل هو نفس حضرة الأعلى المباركة وحروفُ حيّ الثّمانية عشر – قام الميرزا يحيى على الإنكار والتّكذيب، وألقى الشُّبهات وأغمض الطّرْفَ عن الآيات البيّنات وتجاوزها. يا ليته اكتفى بذلك! لقد هَدر الدّمَ الأطهر، وصاح “واويلاه”، ناسبًا إلى الجمال المبارك الظّلم والاعتساف؛ فكم من فساد وفتنة أثارهما في أرض السّرّ، إلى أنْ تسبّب ذلك في نفي نيّر الإشراق إلى هذا السّجن الأعظم، وأفل مظلومًا في مَغْرِبِ هذا الحبس.

أيّها الثّابتون على الميثاق! إنّ مركز النّقض وقطب الشّقاق – الميرزا محمّد علي – قد انحرف عن ظلّ الأمر، ونَقَضَ الميثاقَ وحَرّفَ آيات الكتاب وأنزل بدين الله خللاً عظيمًا، وشَتَّتَ حزبَ الله، وقامَ على إيذاء عبد البهاء بغاية البغضاء، وهَاجَم عبد العتبة المقدّسة هذا بمنتهى العداوة؛ فلم يدَعْ سهمًا إلاّ ورشقه إلى صدر هذا المظلوم، ولم يَبْقَ ضرٌّ إلاّ وأباحه، ولم يَتركْ سمًّا إلاّ وجرّعه لهذا المسكين. قسمًا بالجمال الأقدس الأبهى والنّور المشرق من حضرة الأعلى – روحي لأرقّائهم الفداء – قد بكى من هذا الظّلم أهلُ سرادق الملكوت الأبهى، وينوح ويندب الملأ الأعلى، وجزعت وفزعت حوريّات الفردوس، وتئنُّ وتصرخُ طلعات القُدس. بَلَغَ ظلمُ عديم الإنصاف هذا واعتسافُه مبلغًا جعله يضرب بفأسه أصلَ الشّجرة المباركة، ويوجّه إلى هيكل أمر الله طعنةً شديدةً، فأجرى الدّمعَ دمًا من عيون أحبّاء الجمال المبارك، وأسعَد أعداء الله وأفرحهم؛ فكم من طُلاّبٍ للحقيقة جعلهم ينفرون من أمر الله بنقضه للعهد، وأحيا الأملَ في أمّة يحيى اليائسة. لقد جعل نفسَه منفورًا، وجرّأ أعداءَ الاسم الأعظم وشجّعهم. نبذ الآيات المُحْكَمات وألقى الشُّبُهات، ولو لم تصلْ على التّوالي تأييداتُ جمال القدم الموعودة إلى هذا الفاني، لَكان قد مَحى أمرَ الله وأزاله كلّيًّا، وأطاح بالبنيان الرّحمانيّ من أساسه. لكن، ولله الحمد، جاءت نصرة الملكوت الأبهى وهَجمت جنودُ الملأ الأعلى، فارتفع أمرُ الله وعمّ صيتُ الحقّ أصقاعَ العالم. صارت كلمةُ الله مسموعةً في الآفاق، وارتفع عَلَمُ الحقّ، فَبَلَغَتْ راياتُ التّقديس أوجَ الأثير، ورُتّلَت آياتُ التّوحيد. الآنَ، حفظاً وصيانةً لدين الله، ووقايةً وحمايةً لشريعة الله، وصوناً لأمر الله، يجبُ التّشبّثُ بنصّ الآية المباركة الثّابتة في حقّه، قوله تعالى وتقدّسَ: “ولكنّ أحبّائي الجهلاء اتّخذوه شريكًا لنفسي وفسدوا في البلاد وكانوا من المفسدين”. إذ لا يمكن تصوّر انحراف أعظم من هذا. لاحظوا مدى جهل النّاس! فمع أنّ نفوسًا كانت في محضره [حضرة بهاء الله]، إلاّ أنّها راحت تبثّ مثل هذه الأقاويل! إلى أن قال جلّت صراحتُه: “لو انحرف آنًا عن ظلّ الأمر لصار معدومًا صرفًا”. لاحظوا شدّة التّأكيد! إذ صرّح بالانحراف آنًا، لأنّه لو تمَّ المَيْلُ نحو اليمين أو اليسار قيد رأس شعرةٍ، لتحقّق الانحراف، ويتفضّل بقوله: “لصار معدومًا صرفًا”؛ كما تشهدون الآن كيف أنّ غضبَ الله قد أحاطه، وهو يسيرُ نحو الزّوال يومًا بعد يوم، فسوفَ تَرَوْنه وأعوانَه سرًّا وجَهارًا في خسرانٍ مبين.

أيُّ انحرافٍ أعظمُ من نقض ميثاق الله! أيّ انحرافٍ أعظمُ من تحريف الآيات وإسقاط الآيات والكلمات! دقّقوا في إعلان الميرزا بديع الله. أيّ انحراف أعظم من الافتراء على مركز الميثاق! أيّ انحراف أكبرُ من نشر الأراجيف بحقّ هيكل العهد! أيّ انحراف أشدّ من الإفتاء على قتل محور الميثاق مستدلاًّ بآية “مَن يدّعي قبل الألْف”، مع أنّه هو نفسُه لم يَسْتَحِ وقام بادّعاء كهذا في أيّام الجمال المبارك، لكنّ حضرته أسقط دعواه بالبيان الّذي سلف ذكره؛ ونصّ ادّعائه موجودٌ بخطّ يده وممهور بختمه الخاصّ. أيّ انحراف أتمُّ من الكذب والبهتان على أحبّاء الله! أيّ انحراف أسوأ من التّسبّب في حبس أحبّاء الله الرّبّانيّين وسَجْنهم! أيّ انحراف أشدّ من تسليم الآيات والكلمات والمكاتيب إلى الحكومة حتّى تقومَ على قتل هذا المظلوم! أيّ انحراف أعنف من تضييع أمر الله وتلفيق مكاتيبَ ومراسلاتٍ مفتراةٍ وتزويرِها لتتسبّبَ في قَلَق الحكومة وذُعرِها كي يؤدّي ذلك إلى سفك دم هذا المظلوم! وتلك المكاتيب موجودةٌ في حوزة الحكومة. أيّ انحراف أشنع من الظّلم والطّغيان! أيّ انحراف أرذل من تشتيت شمل الفرقة النّاجية! أيّ انحراف أفضحُ من إلقاء الشّبُهات! أيّ انحراف أفظع من تأويلات أهل الارتياب الرّكيكة! أيّ انحراف أخبث من الاتّفاق مع أعداء الله والغُرباء! فقد اتّفقَ ناقضُ الميثاق مع آخرين، قبل بضعة أشهر، على تنظيم لائحةٍ لم يتركوا افتراءً وبهتانًا إلاّ ووضعوه فيها؛ فاعتبَروا عبدَ البهاء، والعياذ بالله، العدوَّ الصّائل والدّاعي إلى الإضرار بمركز السّلطنة العُظمى.

وهنالك الكثير من قَبيل هذه المفتريات العديدة الشّديدة، فتسبّبوا في تشويش أفكار حكومة السّلطان، حتى آلَ الأمرُ إلى حضور هيئة تفتيش من مركز حكومة جلالة السّلطان، فقامت، خلافًا لعدل السّلطان وإنصافه، بالتّحقيق بمنتهى الاعتساف، ممّا يدلّ على أنّ أصحابَ النّوايا السّيّئة تجاه الله الحقّ قد التفّوا حول تلك الهيئة وشرحوا وفصّلوا لها مضمون اللاّئحة بل زادوا عليها؛ فصدّق هؤلاء، دونما تحقيق، أنّ هذا العبد، معاذ الله، قد رفع رايةً في هذه المدينة ودعا النّاس إلى التّجمّع تحت هذا اللواء، وأنّه قد أسّس سلطنةً جديدةً وبنى قلعةً في جبل الكرمل، وجعل جميعَ أهالي هذه الدّيار تابعين ومطيعين له، ففَرّق دينَ الإسلام، وعَقَد اتّفاقيّة مع المسيحيّين، قاصدًا بذلك، معاذَ الله، أنْ يُحدِث شَرْخًا كبيرًا في السّلطنة العُظمى، إلى ما هنالك من قَبيل هذه المفتريات، أعاذنا الله من هذا الإفك العظيم.

واقع الحال هو أنّ النّصوص الإلهيّة تمنعنا عن الفساد، وتأمرنا بالصُّلح والصّلاح، وتحضّنا على الصّدق والأمانة والمودّة مع جميع أقوام العالم وأُممه وعلى إطاعة الحكومات والسّعي لما يعود عليها بالخير. إنّ الخيانة للسّلطنة العادلة هي خيانةٌ لله الحقّ، والسّعيُ لما يُسيءُ إلى الحكومة إنّما هو تمرّدٌ على أمر الله. مع وجود هذه النّصوص القاطعة، كيف يمكنُ لهؤلاء المسجونين أن يتصوّروا مثل هذا التّصوّر الباطل، وكيف يمكنهم القيام بمثل هذه الخيانة بينما هم محبوسون في هذا السِّجْن! لكن ما الفائدةُ وقد صدّقت هيئةُ التّفتيش افتراءات أخي وأصحاب النّوايا السّيّئة، وقدّمتها إلى محضر السّلطان. والآن، هذا المسجون محاط بطوفان عظيم إلى أن تَصْدُرَ إرادةُ حضرة السّلطان أيّده الله على العدل؛ إمّا لي وإمّا عليّ! إنّ عبد البهاء مهيّأٌ، في كلّ الأحوال، للتّضحية بنفسه في منتهى السّكون والهدوء، وفي غاية التّسليم والرّضا. فإذًا أيّ انحراف أشنعُ وأفظعُ وأقبحُ من هذا!

كذلك يفكّر مركز البغضاء في قتل عبد البهاء، وهذا ثابتٌ وواضحٌ ومحقّقٌ في وثيقةٍ بخطّ الميرزا شعاع، مُرفقةٍ بالوصيّة هذه، تؤكّد أنّهم بصدَد القتل بكلّ حيلةٍ ودهاء؛ وهذا نصّ عبارة الميرزا شعاع في الرّسالة حيث كتب: “إنّي ألعن مسبّب هذا الاختلاف في كلّ آنٍ وأقول: ربّ لا يرحمُه، وآمَلُ أن يَظهرَ سريعًا مَظهرُ يَبْعثُ مع أنّه ظاهر مشهود في ثوب آخر، ولا أستطيع أن أشرح أكثر”. إنّ المقصود من هذه العبارة هو الآية المباركة: مَن ادّعى قبل الألْف. فلاحظوا كيف أنّهم بصدد قتل عبد البهاء؛ وافهموا، بالفراسة، من عبارة “لا أستطيع أن أشرح أكثر”، كيف أنّهم يُمهّدون ويتدبّرون أمورَهم بهذا الخصوص؛ إذ لو أفصحوا عن أكثر من ذلك، وقد يُعثَر على هذه الورقة، سيفشل عندئذ ما كانوا قد مهّدوا له ودبّروه. إنّ هذه العبارة مجرّد تّبشير باتّخاذ القرار والتّدبير اللاّزمين لذلك.

إلهي إلهي ترى عبدك المظلوم بين مخالب سباع ٍ ضاريةٍ وذئابٍ كاسرةٍ ووحوش ٍ خاسرةٍ. ربّ وفّقني في حبّك على تجرّع هذه الكأس الطّافحة بصهباء الوفاء الممتلئة بفيض العطاء حتّى يحمّر قميصي بدمي طريحاً على التّراب صريعًا لا حِراكَ للأعضاء، هذا مُنائي ورجائي وأملي وعزّي وعلائي، ولْيَكُنْ خاتمةُ حياتي ختامَ مسكٍ يا ربّي وملاذي، وهل من موهبة أعظم من هذا؟ لا وحضرةِ عزّك، وإنّي أشهدك أنّني أذوق هذه الكأسَ في كلّ الأيّام بما أكتسبت أيدي الّذين نقضوا الميثاق وأعلنوا الشّقاق وأظهروا النّفاق وأظهروا في الأرض الفساد، وما راعوا حرمتك بين العباد، ربّ احفظ حِصن دينك المبين من هؤلاء النّاكثين، واحرس حِماك الحصينَ من عُصبة المارقين، إنّك أنت القويّ المقتدر العزيز المتين.

الخلاصة، يا أحبّاء الله، هي أنّ مركز النّقض، الميرزا محمّد علي، وطبقًا للنّصّ القاطع الإلهيّ، قد سقط بسبب هذه الانحرافات الّتي لا تُحصى، وانفصل عن الشّجرة المباركة، وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفُسَهم يظلمون.

إلهي إلهي، احفظ عبادك الأمناء من شرّ النّفس والهوى، واحرسهم بعين رعايتك من الحقد والحسد والبغضاء، وأدخِلْهم في حصن حصين كلاءتك من سهام الشّبهات، واجعلهم مظاهر آياتك البيّنات، ونوّرْ وجوههم بشعاعٍ ساطعٍ من أفق توحيدك، واشرح صدورهم بآياتٍ نازلةٍ من ملكوت تفريدك، واشدُدْ أزورهم بقوّةٍ نافذةٍ من جبروت تجريدك، إنّك أنت الفضّال الحافظ القويّ العزيز.

أيّها الثّابتون على الميثاق! عندما يقصد هذا الطّائر المظلوم كسير الجناح الملأَ الأعلى، وينطلق إلى عالم الغيب، ويستقرّ جسدُه تحت طبقات الثّرى أو يُفقَد، يجب على الأفنان الثّابتين الرّاسخين على ميثاق الله، والّذين نبتوا من سدرة التّقديس، أن يقوموا مع حضرات أيادي أمر الله عليهم بهاء الله ومع جميع الأحباب والأصحاب متّفقين، على نشر نفحات الله وتبليغ أمر الله وترويج دين الله من صميم القلب والوجدان؛ فلا يهدأون دقيقةً ولا يستريحون آنًا، ينتشرون في الممالك والدّيار، ويتغرّبون في كلّ البلاد، ويهيمون في جميع الأقاليم؛ لا يسكنون دقيقةً، ولا يَرتاحون قَيْدَ آنٍ، ولا يطلبون نَفَسًا واحدًا من الرّاحة. يُطْلِقُونَ في كلّ بلد صيحة “يا بهاءُ الأبهى”، وتُطبّق شهرتُهم الآفاقَ في كلّ مدينة، ويَضيئون كالشّمع في كلّ جمع، ويوقدون نار العشق في كلّ محفل، حتّى تُشرقَ أنوار الحقّ في قطب الآفاق ويجتمعَ جمٌّ غفير من النّاس في الشّرق والغرب في ظلّ كلمة الله، وتهبّ نفحات القدس وتستنير الوجوهُ وتصير القلوبُ ربّانيّةً والنّفوسُ رحمانيّةً.

إنّ أهمّ الأمور في هذه الأيّام هو هدايةُ المِلَل والأُمم. يجب اعتبار التّبليغ أمرًا هامًّا إذ إنّه أُسّ الأساس. لقد اشتغل هذا العبد المظلوم ليلَ نهار على ترويج أمر الله والتّشويق للخدمة؛ فلم يهدأْ دقيقةً إلى أن أحاط صيتُ أمر الله الآفاق، وأيقظ نداء الملكوت الأبهى الشّرقَ والغربَ. فبمثل هذا فليعمل الأحبّاء. هذا هو شرطُ الوفاء وهذا مُقْتَضى عبوديّة عتبة البهاء.

لقد نسي حواريّو حضرة الرّوح أنفسَهم وجميعَ الشّئون الدّنيويّة كلّيًّا؛ فتركوا الرّاحة والرّخاء وتقدّسوا وتنزّهوا عن الأهواء والشّهوات، ونبذوا كلّ العلائق، وانتشروا في الممالك والدّيار، وقاموا على هداية مَن على الأرض حتّى بدّلوا الأرضَ غيرَ الأرض وأناروا العالم التّرابيّ، وفي خاتمة الحياة ضحّوا بأنفسهم في سبيل ذلك الحبيب الرّحماني، واستُشهد كلّ واحد منهم في إحدى الدّيار، فبمثل هذا فلْيَعْمَلِ العاملون.

أيّها الأحبّاء الأودّاء! بعد فُقدان هذا المظلوم، يجب على أغصان السّدرة المباركة وأفنانها وأيادي أمر الله وأحبّاء الجمال الأبهى أن يتوجّهوا إلى فرع السّدرتين الّذي نَبَتَ من الشّجرتين المقدّستين المباركتين، وثمرة اقتران فرعيّ الدّوحة الرّحمانيّة، أي شوقي أفندي؛ إذ إنّه آيةُ الله والغصنُ الممتاز ووليُّ أمر الله ومرجعُ جميع الأغصان والأفنان وأيادي أمر الله وأحبّاء الله، وهو مبيّن آيات الله ومِن بعده بِكرًا بعد بكرٍ، أي في سلالته.

إنّ الفرعَ المقدّس، وليَّ أمر الله، وبيت العدل العموميّ الّذي يتأسّس ويتشكّلُ بانتخاب عامّ، هما تحت حفظ الجمال الأبهى وصونه، وتحت حراسة حضرة الأعلى والعصمة الفائضة عنه – روحي لهما الفداء. إنّ كلَّ ما يقرّرانه هو من عند الله، مَن خالفه وخالفهم فقد خالف اللهَ، ومَن عصاهم فقد عصى الله، ومَن عارضه فقد عارض الله، ومَن نازعهم فقد نازع الله، ومَن جادله فقد جادل الله، ومَن جحده فقد جحد الله، ومَن أنكره فقد أنكر الله، ومَن انحاز وافترق واعتزل عنه فقد اعتزل واجتنب وابتعد عن الله؛ عليه غضبُ الله، عليه قهْرُ الله، وعليه نقمةُ الله. يبقى حِصْنُ أمر الله المتين محفوظًا مصونًا بإطاعة مَن هو وليّ أمر الله، ويجبُ على أعضاء بيت العدل وجميع الأغصان والأفنان وأيادي أمر الله كمالُ الطّاعة والتّسليم والانقياد والتّوجّه والخضوع والخشوع لوليّ أمر الله، فلو خالفت نفْسٌ تكون قد خالفت الحقّ، وتصبح سببًا في تشتيت أمر الله، وعلّة لتفريق كلمة الله ومظهرًا من مظاهر مركز النّقض. حذار حذار من أن يحدث مثلما حدث بعد الصّعود لمّا أبى مركز النّقض واستكبر، وتذرّع باطلاً بذريعة التّوحيد؛ فحرم نفسه، وشوّش النّفوس، وبثّ فيها السّمومَ. لا شكّ أنّ كلّ مغرور أراد الفسادَ والتّفرقة لا يعلن صراحةً عن نواياه المغرضة، بل يتشبّث بوسائلَ عدّةٍ وبأعذارٍ أشبه بالذّهب المغشوش، ويتسبّب في تفريق جمع أهل البهاء. القصد هو أنّ على أيادي أمر الله أن يكونوا يقظين؛ فبمجرّد أن يقومَ أحدٌ بالاعتراض على وليّ أمر الله ومخالفته عليهم أن يُخرجوه فورًا من جمع أهل البهاء، ولا يقبلوا منه أيّ عذر أبدًا. كثيرًا ما يتمثّل الباطلُ المحضُ في صورة الخير لإلقاء الشّبهات!

يا أحبّاء الله! على وليّ أمر الله أن يُعَيِّنَ، أثناءَ حياته، مَن هو بَعده حتّى لا يحدث الاختلافُ بعد صعوده. يجب أن يكون الشّخصُ المعيّن مظهرَ التّقديس والتّنزيه وتقوى الله، ومظهرَ العلم والفضل والكمال. لهذا، لو لم يكن الولد البكر لوليّ أمر الله مظهرَ الولدُ سرُّ أبيه، أي لم يكن من عنصره الرّوحانيّ، ولم يجتمع فيه شرفُ الأعراق مع حُسن الأخلاق، عليه أن يَختار غصنًا آخَرَ.

على أيادي أمر الله أن ينتخبوا من بين مجموعهم تسعةَ أشخاص، وأن ينشغلوا دائمًا بأداء الخدمات الهامّة لوليّ أمر الله، ويتمُّ انتخابُ هؤلاء الأشخاص التّسعة إمّا بإجماع مَجْمَع الأيادي أو بأكثريّة الأصوات. يجب على هؤلاء الأشخاص التّسعة أن يُصدّقوا، إمّا بالإجماع أو بأكثريّة الأصوات، على الغُصن المنتَخَب الّذي يعيّنه وليُّ أمر الله من بعده، ويجب أن يتمّ هذا التّصديق بطريقة لا يُعرف فيها المؤيّد من المعارض.

أيّها الأحبّاء! على وليّ أمر الله أن يسمّي أيادي أمر الله ويعيّنهم؛ وعلى الكلّ أن يكونوا في ظلّه وتحت حُكْمه. لو تمرّد أحدٌ من الأيادي، أو من غير الأيادي، وأراد الانشقاق عليه غضبُ الله وقهرُه لأنّه يصير سببَ تفريق دين الله.

إنّ وظيفة أيادي أمر الله هي نشرُ نفحات الله وتربيةُ النّفوس وتعليم العلوم وتحسين أخلاق العموم والتّقديس والتّنزيه في جميع الشّؤون. يجب أن تَظْهَرَ وتلوحَ تقوى الله من أطوارهم وأحوالهم وأفعالهم وأقوالهم.

إنّ مجمعَ الأيادي هذا هو تحت إدارة وليّ أمر الله الّذي يجب أن يحضّهم دائمًا على السّعي والكدّ والجُهد في نشر نفحات الله وهداية مَن على الأرض، لأنّ بنور الهداية تستنير جميع العوالم، فلا يجوز الفتور في هذا الأمر المفروض على كلّ النّفوس، ولو لدقيقة واحدة، حتّى يصير عالمُ الوجود جنّةَ الأبهى، والبسيطةُ الغبراءُ الجنّةَ العُليا، ويزول النّزاع والجدال بين الأمم والملل والشّعوب والقبائل والدّول، ويصير كلُّ مَن على الأرض ملّةً واحدةً وجنسًا واحدًا ووطنًا واحدًا، وإنْ وقع خلافٌ، تَفْصِلُ في الدّعوى محكمةٌ عموميّة تَشملُ أعضاء من جميع الدّول والملل، وتُصدر حُكمًا قاطعًا.

يا أحبّاء الله! في هذا الدّور المقدّس يمتنع النّزاع والجدال، وكلّ مُعتدٍ محرومٌ من عناية الله. يجب معاملة جميع الطّوائف والقبائل، أصدقاء كانوا أم غرباء، بمنتهى المحبّة والصدق والأمانة والمودة القلبية، بل ويجب أن تبلغ الرّعاية والمحبّة مبلغًا يجعل الغريب يرى نفسَه صديقًا، ويعتبر العدوُّ نفسَه حبيبًا؛ أي لا يتراءى له تفاوتٌ في المعاملة أبدًا، لأنّ الإطلاق أمرٌ إلهيّ والتّقييد من خصائص الإمكان. لهذا، يجب أن تَظهر الفضائلُ والكمالات من حقيقة كلّ إنسان، ويشمل ضياؤها الجميعَ. إنّ أنوار الشّمس، مثلاً، تُضيءُ العالمَ، وشآبيبَ الرّحمة الرّبّانيّة تُبْذَلُ للعالَمين. إنّ النّسيمَ المحيي للنّفوس يُنعشُ كلَّ ذي روح، والمائدةُ الإلهيّة تغدو من نصيب جميعِ الكائنات الحيّة. كذلك، يجب أن تشمل عواطفُ عباد الله وألطافُهم جميعَ البشر بنحوٍ مطلق. لا يجوز أبدًا التّقييد والتّخصيص في هذا المقام.

إذًا، يا أيّها الأحبّاء الأودّاء، عاملوا جميع الملل والطّوائف والأديان بكمال الصّدق والأمانة والوفاء والمودّة والمحبّة ملتمسين الخير لهم، حتّى ينتشي عالمُ الوجود من كأس فيض البهاء، ويزولَ الجهلُ والعداوة والضّغينة والبغضاء عن وجه الغبراء، فتتبدَل ظُلمةُ التّباعُد بين جميع الشّعوب والقبائل بأنوار الاتّحاد. لو أبْدَتِ الطّوائفُ والمللُ الأخرى لكم الجفاء أظهروا لهم الوفاء، ولو ظَلموكم قابلوهم بالعدل. إنِ اجتنبوكم فاجتذِبوهم، وإنْ عادوكم فأحبّوهم، ولو أعطوكم سمًّا امنحوهم شَهْدًا، وإنْ أصابوكم بجُرح كونوا لجرحهم مرهمًا، هذا صفةُ المخلصين وسِمةُ الصّادقين.

أمّا بيتُ العدل الّذي جعله الله مصدرَ كلّ خير ومصونًا من كلّ خطأ، فيجب أن يُشَكَّلَ بانتخاب عامّ، أي من قِبَل النّفوس المؤمنة، وينبغي أن يكون أعضاؤه مظاهرَ تقوى الله ومطالعَ العلم والعرفان، ثابتين في دين الله وساعين لخير جميع نوع الإنسان؛ والمقصود هو بيت العدل العموميّ، أي يتشكّل بيتُ عدلٍ خصوصيٍّ في جميع البلاد، وتنتخب بيوتُ العدل تلك بيتَ العدل العموميّ. إنّ هذا المجمع هو مرجع جميع الأمور، وهو المؤسّس للقوانين والأحكام غير الموجودة في النّصوص الإلهيّة، وتُحلّ جميعُ المسائل المُشكلة في هذا المجلس، ويكون وليُّ أمر الله الرّئيسَ المقدّسَ لهذا المجلس والعضوَ الأعظم الممتاز الّذي لا يَنعزِل؛ فلو لم يحضرْ الاجتماعات شخصيًّا يُعيّن عندئذٍ نائبًا ووكيلاً، ولو اتّفق أن ارتكبَ عضوٌ من الأعضاء ذنبًا يعود ضرره على عموم النّاس، فلوليّ أمر الله صلاحيّةُ طرده، ومن ثمّ على الملّة انتخاب شخص آخر. إنّ بيتَ العدل هذا هو مصدر التّشريع، والحكومة هي القوّة التّنفيذيّة؛ فيجب أن يكون التّشريعُ داعمًا للتّنفيذ، ويجب على التّنفيذ أن يصير ظهيرًا ومُعينًا للتّشريع حتّى يغدو بُنيانُ العدل والإنصاف متينًا ومُحْكَمًا من ارتباط هاتين القوّتين والتئامهما، فتصير الأقاليم جنّةَ النّعيم والفردوس الأعلى.

ربّ وفّق أحبّاءك على الثّبوت على دينك والسّلوك في سبيلك والاستقامة على أمرك، وأيّدهم على مقاومة النّفس والهوى واتّباع نور الهدى، إنّك أنت المقتدر العزيز القيّوم، وإنّك أنت الكريم الرّحيم العزيز الوهّاب.

يا أحبّاء عبد البهاء! لقد مَنَّ الله على عباده، بمَحْضِ ألطافه غير المتناهية، بتعيين حقوق الله، وإلاّ فإنّ الحقّ وعبادَه مستغنون عن الكائنات، والله غنيٌّ عن العالَمين. أمّا فريضةُ الحقوق، فهي سبب ثبوت النّفوس ورسوخها، وعلّة البركة في جميع الشّؤون. تعود حقوق الله إلى وليّ أمر الله حتّى ينفقها في نشر نفحات الله وارتفاع كلمة الله والأعمال الخيريّة والمنافع العامّة.

يا أحبّاء الله! يجب أن تخضعوا لعرش سلطنة كلّ ملك عادل، وتخشعوا للسّدّة الملكيّة لكلّ سلطان كامل. اخدموا الملوك بمنتهى الصّدق والأمانة، وكونوا مطيعين طالبين للخير. لا تتدخّلوا في الأمور السّياسيّة من دون إذنهم وإجازتهم، إذ إنّ خيانة أيّ ملك عادل هي خيانةٌ لله.

هذه نصيحةٌ منّي وفرضٌ عليكم من عند الله فطوبى للعاملين. ع ع

(لقد كانت هذه الصّحيفة محفوظةً تحت الأرض مدّة طويلة، فتركت الرّطوبة أثرًا عليها. لمّا أُخرجت لوحظ أنّ الرّطوبة قد أثّرت على بعض المواضع فيها، ولمّا كانت البُقعة المباركة في أشدّ انقلاب، تُركت الصّحيفةُ على حالها. ع ع)

القسم الثّاني

هو الله

ربّ ورجائي ومُغيثي ومُنائي ومجيري ومعيني وملاذي، تراني غريقًا في بحار المصائب القاصمة للظّهور والرّزايا المضيّقة للصّدور والبلايا المشتِّتة للشّمل والمِحَن والآلام المفرّقة للجمع، وأحاطتني الشّدائدُ من جميع الجهات، وأحدقت بي المخاطر من كلّ الأطراف، خائضًا في غِمار الطّامة الكبرى، واقعًا في بئر لا قرارَ لها، مضطَهَدًا من الأعداء، ومحترقًا في نيران البغضاء من ذوي القُربى الّذين أخَذْتَ منهمُ العهدَ الوثيقَ والميثاقَ الغليظَ أنْ يتوجّهوا بالقلوب إلى هذا المظلوم، ويدفعوا عنّي كلَّ جَهُوْلٍ وظَلُوم، ويُرجعوا ما اختَلفوا في الكتاب إلى هذا الفريد الوحيد حتّى يَظْهَرَ لهم الصّوابُ، ويَنْدَفِعَ الشُّبهاتُ، وتَنْتَشِرَ الآياتُ البيّناتُ.

ولكنّهم يا إلهي، تراهم بعينك الّتي لا تنام نقضوا الميثاق ونكصوا على الأعقاب، ونكثوا العهد بكلّ بُغض وشِقاقٍ، وقاموا على النّفاق واشتدّ بذلك السّاقُ بالسّاق.

وقاموا على قَصْم ظَهري وكَسْر أزْري بظلم لا يُطاق، ونشروا أوراق الشّبهات، وافتروا عليّ بكلّ كذب واعتساف، ولم يكتفوا بذلك بل زعيمُهم تجاسر يا إلهي بتحريف الكتاب وتبديل فصل الخطاب وتبعيض آثار قلمك الأعلى وتلصيق ما كتبتَه بحقّ أوّل ظالم ظلمك وأنكرك وكفر بآياتك الكبرى بما أنزلته بحقّ عبدك المظلوم في الآفاق، حتّى يخدع النّاس ويوسوس في صدور أهل الأخلاص، كما أقرّ واعترف به زعيمُهم الثّاني بخطّه وختمه ونشره في الآفاق، فهل يا إلهي ظلمٌ أعظمُ من هذا؟ ولم يكتفوا بذلك، بل سعوا بكلّ فسادٍ وعنادٍ وكذبٍ وبهتانٍ وافتراءٍ وازدراءٍ عند الحكومة بهذا القُطر وسائر الجهات ونسبوا إليّ الفساد وملأوا الآذان بما يشمئزّ منه الأسماع، فخشيت الحكومةُ وخاف السّلطان وتوّهم الأعيان، فضاقت الصّدور وتشوّشت الأمورُ واضطربت النّفوس واضطرمت نيرانُ الحسرة والأحزان في القلوب وتزلزلت وتفرّقت أركانُ الأوراق المقدّسة وسالت أعْيُنُهُنَّ بالعَبرات وصعدت من قلوبهنّ الزّفرات واحترقت أحشاؤهنّ بنار الحسرات حزنًا على عبدك المظلوم بأيدي هؤلاء الأقرباء الأعداء.

ترى يا إلهي يبكي عليّ كلّ الأشياء، ويفرح ببلائي ذوو القُربى، فوعزّتك يا إلهي بعضُ الأعداء رثوا على ضرّي وبلائي، وبكوا بعضُ الحُسّاد على كربتي وغربتي وابتلائي، لأنّهم لم يروا منّي إلاّ كلَّ مودّة واعتناء، ولم يشاهدوا من عبدك إلاّ الرّأفةَ والولاء، فلمّا رأوني خائضًا في عُباب المصائب والبلاء وهدفًا لسهام القضاء، رقّوا لي وتدمّعت أعينُهم بالبكاء، وقالوا: نشهد بالله بأنّنا ما رأينا منه إلاّ وفاءً وعطاءً والرّأفةَ الكبرى، ولكنّ النّاقضين النّاعقين زادوا في البغضاء واستبشروا بوقوعي في المحنة العظمى وشمّروا عن السّاق واهتزّوا طربًا من حصول حوادثَ محزنةٍ للقلوب والأرواح.

ربّ إنّي أدعوك بلساني وجَناني أن لا تؤاخذهم بظلمهم واعتسافهم ونفاقهم وشقاقهم لأنّهم جهلاء بلهاء سفهاء لا يفرّقون بين الخير والشّرّ ولا يميّزون العدلَ والإنصافَ عن الفحشاء والمنكَر والاعتساف، يتّبعون شهواتِ أنفسهم ويقتدون بأنقَصِهم وأجهلهم، ربّ ارحمْهم واحفظْهم من البلاء بهذا الأثناء، واجعلْ جميعَ المحن والآلام لعبدك الواقع في هذه البئر الظّلماء، وخصّصني بكلّ بلاءٍ، واجعلني فداءً لجميع الأحبّاء فديتُهم بروحي وذاتي ونفسي وكينونتي وهويّتي وحقيقتي يا ربّي الأعلى. إلهي إلهي، إنّي أكُبُّ بوجهي على تراب الذُّلّ والانكسار وأدعوك بكلّ تضرّع وابتهال أن تغفر لكلّ مَن آذاني وتعفو عن كلّ من أرادني بسوءٍ وأهانني، وتبدّلَ سيّئات كلّ من ظلمني بالحسنات، وترزقَهم من الخيرات، وتقدّرَ لهم كلَّ المسرّات، وتنقذَهم من الحسرات، وتقدّرَ لهم كلَّ راحة ورخاء وتختصَّهم بالعطاء والسّرّاء.إنّك أنت المقتدر العزيز المهيمن القيّوم.

أيّها الأحبّاء الأعزّاء! أنا الآنَ في خطر عظيم، وأمل ساعةٍ من الحياة مفقودٌ، وقد بادرتُ مضطرًّا إلى كتابة هذه الصّحيفة حفظًا لأمر الله وصيانةً لدينه وحفظًا لكلمته وصونًا لتعاليمه. قسمًا بجمال القدم، إنّ هذا المظلوم لم ولن يحمل بغضًا ولا يضمر سوءًا لأحد ولا ينطق بكلمةٍ سوى لذكر الخير؛ لكنْ لديّ تكليفًا شديدًا وأنا مضطرُّ ومُجْبَرٌ على حفظ أمر الله وصونه ووقايته. لهذا، أوصيكم، وأنا في مُنتهى الحسرة والأسف، بأن تحافظوا على أمر الله، وتصونوا شريعة الله، واحذروا الاختلاف أشدّ الحَذَر. إنّ أساس عقائد أهل البهاء – روحي لهم الفداء – هو أنّ حضرة الرّبّ الأعلى مظهرُ الوحدانيّة والفردانيّة الإلهيّة، وهو المبشّر بجمال القدم. وأنّ حضرة الجمال الأبهى – روحي لأحبّائه الثّابتين فداء – هو المظهر الكلّيّ الإلهيّ ومطلع الحقيقة المقدّسة الرّبّانيّة، وما دون كلٌّ عباد له وكلٌّ بأمره يعملون. ومرجع الكلّ هو الكتاب الأقدس، وكلّ مسألة غير منصوصة تعود إلى بيت العدل العموميّ؛ فما يُقَرّه بيت العدل بالإجماع أو بأكثريّة الأصوات فهو الحقّ وهو مُرادُ الله، مَن تجاوز عنه فهو ممّن أحبّ الشّقاق وأظهر النّفاق وأعرض عن ربّ الميثاق. لكنّ المقصود هو بيت العدل العموميّ الّذي يُنتخَب من قِبَل جميع البلاد؛ أي يَنْتَخِبُ الأحبّاءُ الموجودون في الشّرق والغرب أعضاء حسَب طريقة الانتخاب المتعارف عليها في بلاد الغرب، مثل بلاد الانجليز.

يجتمع هؤلاء الأعضاء في مكان معيّن، ويتشاورون في كلّ ما وقع فيه اختلافٌ، أو في المسائل المبهَمة، أو في الأمور غير المنصوصة، وكلُّ ما يتقرّر يكون بمثابة النّصّ. ولمّا كان بيت العدل هو مشرّع قوانين المعاملات غير المنصوص عليها، يمكنه أن يكون ناسخًا لها أيضًا، بمعنى أنّ بيت العدل قد يشرّع اليوم قانونًا في مسألة ما، ويضعه موضع التّنفيذ، لكنْ بعد مئة عامٍ يتغيّر الوضعُ العامُّ كلّيًّا، وتَختلف الأزمنةُ، فيستطيع بيتُ عدلٍ آخَرُ أن يغيّر تلك المسألة القانونيّة حسَب مقتضى الزّمان، إذ إنّها ليست نصًّا إلهيًّا صريحًا. المشرّع هو بيتُ العدل والنّاسخ هو بيتُ العدل أيضًا.

قصارى القول، إنّ اجتنابَ النّاقضين والابتعادَ عنهم هو من أعظم أُسُس أمر الله لأنّهم سوف يمحون أمر الله ويسحقون شريعة الله كلّيًّا، ويهدرون كلّ المجهودات. أيّها الأحبّاء! ينبغي عليكم الرّأفةُ بحضرة الأعلى والوفاءُ للجمال المبارك، والسّعي، بكلّ القوى، حتّى لا تذهبَ هدرًا جميعُ هذه البلايا والمحَن والآلام والدّماء النّقيّة الطّاهرة الّتي سُفكت في سبيل الله. أنتم تعلمون ما قام به مركز النّقض الميرزا محمّد علي وأعوانه؛ فأحد أفعال هذا الشّخص هو تحريف الكتاب، والحمد لله فإنّ جميعكم يعلم ذلك، وهو أمر مُثْبَتٌ وواضحٌ، وهو مؤكّدٌ بشهادةِ أخيه، الميرزا بديع الله، الموجودةِ والمطبوعةِ بخطّه وختمه. هذه سيّئةٌ من سيّئاته، فهل يمكن بعد ذلك تصوُّرُ انحراف أعظم من تحريف الكتاب؟ لا والله! وقد دُوّنت سيّئاتُه في صحيفة خاصّة، سوف ترونها إن شاء الله.

خلاصة القول، إنّ هذا الشّخص، حسب النّصّ الإلهيّ، ساقطٌ بأقلّ انحراف، فكيف بهدم البنيان ونقْض العهد والميثاق وتحريف الكتاب وإلقاء الشّبهات والافتراء على عبد البهاء بادّعاءات ما أنزل الله بها من سلطان، وبثّ الفساد، والسّعيِ لسفك دم عبد البهاء، وغير ذلك من تفاصيل تعرفونها. لذلك، من المعلوم أنّه لو تمكّن هذا الشخصُ من إحداث خرق في أمر الله لَمحاه وأزاله كلّيًّا. حذار الاقتراب من هذا الشخص، فذلك أسوأ من الاقتراب من النّار.

سبحان الله! لمّا وَجَدَ الميرزا بديع الله أنّ الإيمانَ واتّباعَ العهد والميثاق لا يتوافقان مع تحقيق أهواء نفسه، وذلك بعدما أعلن بخطّه نَقْضَ هذا الشّخص وتحريفَه للكتاب، تأسّفَ وأظهر النّدم، وأراد، خِفْيةً، أن يجمع صحفه المطبوعة؛ وائتلَفَ سرًّا مع مركز النّقض، وكان ينقل إليه يوميًّا ما كان يجري في البيت والحَرَم، وله يدٌ طولى في المفاسد الأخيرة. الحمد لله، كانت الأمور قد انتظمت، والأحبّاء قد استراحوا قليلاً، ولكنْ منذ اليوم الّذي دخل فيه بيننا مرّة أخرى عاد الفساد وتجدّد ثانيةً، وسيتمّ تدوينُ بعض مكائده وتحريضه على الفساد في صحيفة منفردة.

القصد هو أنّ على أولياء العهد والميثاق أن يكونوا يقظين، لئلاّ يجد هذا الشّخص المُحَرِّك المُتَحَرِّك، بعد هذا المظلوم، منفذًا يتسلّل منه، ليبثّ الشُّبُهات والفساد سرًّا، ويقتلع أمرَ الله من الجذور كلّيًّا. من المُحَتَّم ألف مرّة وجوبُ تجنُّب المعاشرة معه؛ فكونوا حذرين متنبّهين، وتحقّقوا وتفحّصوا إنْ كان لدى أيّ شخص أدنى علاقة به، سرًّا أم جَهرًا، أخرجوا ذلك الشّخص أيضًا من بينكم، لأنّه سيكون سببًا للفتنة والفساد.

يا أحبّاء الله! اجهدوا من صميم أنفسكم حتّى تحفظوا أمر الله من هجوم النّفوس غير المُخْلِصَة، إذ إنّ مثل هذه النّفوس تصير سببًا في اعوجاج ما استقام من الأمور، فتُعطي مساعي الخير نتيجةً عكسيّةً.

إلهي إلهي، أشهدك وأنبياءَك ورسلَك وأولياءَك وأصفياءَك بأنّي أتممتُ الحجّة على أحبّائك، وبيّنتُ لهم كلّ شيء حتّى يحافظوا على دينك والطّريقة المستقيمة وشريعتك النَّوراء، إنّك أنت المُطَّلِعُ العليم.                                 ع ع

القسم الثّالث

هو الله الشّاهد الكافي

ربّ ومحبوبي ومقصودي، إنّك لتعلم وترى ما ورد على عبدك المتذلّل بباب أحديّتك، وما جَنى عليه أهل الجفاء النّاقضون لميثاق فردانيّتك النّاكثون لعهد حضرة رحمانيّتك، إنّه ما من يومٍ إلاّ رموني بسهام البغضاء، وما من ليلٍ إلاّ وبيّتوا يُشاورون في ضرّي في السّرّ والخفاء، وما من صباح إلاّ ارتكبوا ما ناح به الملأُ الأعلى، وما من مساء إلاّ أن سلّوا عليّ سيفَ الاعتساف ورشقوني بنِصال الافتراء عند الأشقياء، معَ ذلك صَبَرَ عبدُك المتذلّلُ إليك، واحتمل منهم كلّ بلاء وأذى مع قدرته على إزهاق كلمتهم وإخماد جَمرتهم وإطفاء نيران طغيانهم بقوّتك وقدرتك.

وترى يا إلهي لم يَزِدْهُمْ صبري وتحمُّلي وصمتي إلاّ ظلماً وعُتُوًّا واستكبارًا، فوعزّتك يا محبوبي طَغَوْا وبَغَوْا حتّى لم يَدَعُوْنِي آنًا مستريحَ الفؤاد ساكنَ الجأش حتّى أقومَ على إعلاء كلمتك كما ينبغي بين الورى، وأخدمَ عتبة قدسك بقلب طافح بسرور أهل ملكوت الأبهى.

ربّ قد طفح عليّ كأسُ البلاء واشتدّت اللّطمات عليّ من جميع الجهات، وتتابعت سهام الرّزيّة وتوالت أسِنَّةُ المصيبة، فعجزتُ من الشّدائد ووَهَنْتْ منّي القوى من هجوم الشّارد والوارد من الأعداء، وأنا فريد ووحيد في هذه الموارد، ربّ ارحمني وارفعني إليك وأسقني كأس الفداء، فقد ضاقت عليّ الأرضُ بِرَحْبِها. إنّك أنت الرّحمن الرّحيم، وإنّك أنت الفضّال الكريم. ع ع

 

يا أحبّةَ هذا المظلوم الحقيقيّين المخلصين الأوفياء! من المعلوم والمشهود لدى الجميع أيّ مصائب وبلايا وَقَعَ فيها هذا المظلومُ المسجونُ على يد ناقضي الميثاق بعد صعود نيّر الآفاق عندما كان في أوْج الاحتراق من نار الفراق.

اغْتَنَمَ جميعُ أعداء الله في كلّ أنحاء العالم أفولَ شمس الحقيقة ليهجموا بغتةً وبكلّ قواهم. في مثل هذه الحالة وهذه المصيبة، قام النّاقضون على الأذى والبغضاء بمنتهى الاعتساف؛ فأبدوا في كلّ لحظةٍ مائةَ ألف جفاء، وقاموا بفساد عظيم، وبهدم بنيان الميثاق، وكان هذا المظلومُ المسجونُ يُبادر، بهمّة تامّة، إلى السَّتْر والكتمان عسى أن يندموا ويأسفوا. غير أنّ الصّبر على هذا الجفاء واحتماله صارا سببًا في ازدياد جرأة أهل الطغيان وجسارتهم، حتّى كتبوا بخطّهم صحائف الشُّبُهات ونشروها مطبوعةً في جميع الجهات، وظنّوا أنّ هذيانًا كهذا يؤدّي إلى زوال العهد والميثاق.

لهذا، قام أحبّاء الله بمنتهى الثّبوت والثّقة، وقاوموا أعداءَ الميثاق بقوّةٍ ملكوتيّةٍ وقدرةٍ جبروتيّةٍ وتأييدٍ سماويٍّ وتوفيقٍ صمدانيّ وموهبةٍ ربّانيّةٍ، فردّوا على رسالة الشّبهات والأوراق النّاريّة، في نحو سبعين رسالة، بالبراهين القاطعة والأدلّة الواضحة والنّصوص الإلهيّة، فرجع كيدُ مركز النّقض إلى نَحره وباء بغضب من الله وضربت عليه الذّلّة والهوان إلى يوم القيام، فتَبًّا وسَحقًا وذُلاًّ لقوم سوءٍ أخسرين.

لمّا خاب أملهم بأحبّاء الله وباءوا بالخسران، ورأوا رايةَ الميثاق خفّاقةً في جميع الآفاق، وشاهدوا قوّةَ عَهْد حضرة الرّحمن، تأجَّجَت نارُ الحسد في صدورهم على شأن لا يُذكر بالبيان؛ فاعتمدوا، في غاية الهمّة والقوّة والبغضاء والعداوة، طريقةً أخرى وسلكوا سبيلاً مختلفًا، ووضعوا مخطّطًا آخر؛ فتبادر إلى فكرهم أن يُؤجّجوا نائرةَ الفساد لدى الحكومة، ويصوّروا هذا المظلومَ المسجونَ مُفسدًا ومعاندًا للدّولة ومُبغضًا لعَرْش السّلطنة ومُعاديًا له، عسى أن يُعْدَمَ عبدُ البهاء ويُقتَل، فيُفسَح ميدانٌ ما لأعداء الميثاق، يصولون فيه ويجولون، ويُلقون بالجميع في الخسران، ويهدمون بنيان أمر الله من أساسه كلّيًّا؛ إذ إنّ أسلوبَ حزب الكذب هذا وسلوكَه هما بمثابة الفأس الموجّهة إلى الشّجرة المباركة. لو سنحت لهم الفرصة لَمَحَوْا وأبادوا أمرَ الله وكلمةَ الله وأنفسهم في أيّام قليلة.

لهذا، يجب على أحبّاء الله أن يحترزوا من هؤلاء ويجتنبوهم بالكلّيّة، وأن يقاوموا دسائسهم ووساوسهم، ويحافظوا على شريعة الله ودين الله؛ فينهمك جميعُ الأحبّاء في نشر نفحات الله، ويجتهدون في التّبليغ.

لو صار شخصٌ أو مجمعٌ حائلاً دونَ نشرِ أنوار الإيقان، فعلى الأحبّاء أنْ ينصحوهم بأنّ التّبليغَ هو أعظمُ موهبةٍ إلهيّة، وهو سببٌ للتّأييد، وهو أوّل تكليف لنا؛ فكيف يُمكن أن نحرم أنفسَنا من هذه الموهبة؟ بل إنّنا نفدي نفوسَنا وأموالنا وراحتنا ورخاءنا من أجل الجمال الأبهى ونبلّغَ أمرَ الله، لكنْ بالحكمة المذكورة في الكتاب وليس بخَرْق الأستار، وعليكم البهاءُ الأبهى.

يا أحبّاءَ عبد البهاء الأوفياء! يجب أنْ تُحافظوا على فرع الشّجرتين المباركتين وثمرة السّدرتين الرّحمانيّتين – شوقي أفندي – غاية المحافظة، لئلاّ يقع على خاطره النورانيّ غُبار الكدر والحزن؛ فيزداد فرحُه وسرورُه وروحانيّتُه يومًا فيومًا حتّى يصيرَ شجرةً مثمرةً.

إذ هو وليُّ أمر الله بعد عبد البهاء، ويجب على جميع الأفنان والأيادي وأحبّاء الله أن يُطيعوه وأن يتوجّهوا إليه، مَن عصى أمرَه فقد عصى الله، ومَن أعرض عنه فقد أعرض عن الله، ومَن أنكره فقد أنكر الحقَّ. حذار من أن يأوّلَ أحدٌ هذه الكلمات، فيتذرّع كلُّ ناقضٍ ناكثٍ بذريعةٍ، ويَرفع رايةَ التّمرّد، ويتفرّد برأيه، ويشرع بابَ الاجتهاد، مثل ما حصل بعد الصّعود؛ لا يحقُّ لأحدٍ أن يأتي برأيٍ من عنده أو يُعبّر عن اعتقادٍ خاصٍّ لديه. يجب على الكلّ الاقتباس من مركز الأمر وبيت العدل، وما عداهما كلُّ مخالفٍ في ضلال مبين.

وعليكم البهاء الأبهى.

{عبد البهاء عبّاس}