في زيارة لي إلى إيطاليا عام 2006، حظيت بالإطلاع على كتاب نشرته حديثاً دار النّشر البهائيّة بإيطاليا Casa Editrice Bahá’í للحبيب علي نخجواني بعنوان Towards World Order. رأيت أن أسميه بالعربية “نحو تحقيق النّظم العالمي البديع“ تأسّياً بترجمة حضرة شوقي أفندي لهذا الاصطلاح الوارد في الكتاب الأقدس بالإنجليزية.
وكما كان حالي دوما، فقد وجدت في بصيرة الحبيب الجليل علي نخجواني الإجابة عن تساؤلاتٍ كثيراً ما راودت ذهني، فقرّرت مستعيناً بالله أن أترجم المحاضرات السّتة التي تكوِّن مَتْنَ هذا الكتاب، حتى يشاركني القارئ العربي العزيز متعة الفهم الأعمق لما تناوله جناب علي نخجواني في تلك المحاضرات من مواضيع.
وقد شرّفني العزيز علي نخجواني بمنحي موافقته على ترجمة الكتاب، كما وافق على العنوان، ثمّ تكرّم الناشر Casa Editrice Bahá’í بالتّصريح لي بترجمة الكتاب أيضا.
لا أعتقد أن المكانة التي يتبوأها العزيز علي نخجواني في قلوب من عرفوه، وهم كُثْر بين البهائيين، في حاجة إلى مثلي أن يعبّر عن إعجابه بمحاضراته وكتاباته، ولكنني أرى نفسي مدفوعاً لأن أقول إن الطريقة الهادئة والمقنعة التي يتحلّى بها حضرته تعتبر فريدة من نوعها. ففي اختياره النّصوص المباركة وربطها بنصوص أخرى توضيحاً لما جاء فيها من مفاهيم، واللّغة السلسة التي تقدّم فهماً أكثر عمقا بأسلوب يجعله سهلاً للجميع تناوله، ما يجعل المستمع أو القارئ يستوعب الكلام ومعانيه بابتهاج وسرور. ومن خاصيّة وجدتها لديه، أنّه لا يتعدّى في حديثه ما ورد في كتابات حضرة شوقي أفندي وبيت العدل الأعظم إلاّ في ما ندر. حتّى إنّ نصوص حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء التي يذكرها نجدها، في الغالب، واردة في كتابات حضرة شوقي أفندي.
من الطبيعي أن لا تفي التّرجمة حقّ الأصل في عذوبة المعاني، ولكن هذا هو مبلغ الجهد ما كان، فأرجو الصفح على ضعف الإمكان.
روشن مصطفى
تونس
نوفمبر 2007
ملحوظة
في أغسطس/آب 2008 وقبل البداية في طبع هذا الكتاب طبقا للطبعة الأولى الإنجليزي بوقت قصير، علمت أن السيّد على نخجواني أضاف فصل تحت عنوان “العهد والميثاق” إلى الطبعة الأولى من الكتاب وتم نشره بالإنجليزيّة في طبعة ثانية.
أسرعت بترجمة هذا الفصل الجديد وتفضّل الأستاذ مصطفى صبري بمراجعته، وأضيف إلى النسخة الأولى، بحيث سيجد القارئ في هذه النسخة الترجمة لكامل الكتاب بما في ذلك الفصل عن “العهد والميثاق” الذي أضيف أخيراً.
من دواعي السرور أنه قد شارك في هذا العمل عدد من الأعزاء يمثلون أربع بلدان من شمال إفريقيا، وهي مصر وتونس والمغرب والجزائر ثم توّج هذه العمليّة حبيب جليل من الأردن.
بادر السيد جمال حسن من مصر، والمقيم حاليا بأوغندا، بمراجعة وتصحيح ترجمة العديد من النّصوص الإنجليزيّة لحضرة شوقي أفندي.
ثم قام الأستاذ الفاضل السيد محمد عثماني كبداني من المغرب بمراجعة الترجمة كلّها وأجرى تصحيحات أوّليّة لها.
أمّا الحبيب عبد الحميد خربوش من الجزائر، والمقيم في فرنسا، فهو أيضاً تتطوّع ببعض الآراء حول بعض الكلمات بعد قراءة الترجمة.
ثمّ أتى دور الأستاذ مصطفى صبري، الذي قبل مشكوراً، مع ما لديه من كثرة الأشغال والأعمال، أن يقوم بالمراجعة النهائيّة. فكان من نصيب هذه الترجمة أن تتوّج بآثار مهارته وعلمه المعترف بهما في مضمار اللغة العربيّة، بجانب غيرها من القدرات التي لا يمكن، بطبيعة الحال، تحديدها أو تعدادها بالتفصيل.
أرجو أن يتمتع القرّاء بهذه الترجمة وبما نقلته إلى العربيّة من مفاهيم ومعلومات.
روشن مصطفى
نظّم المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في إيطاليا، بالتشاور مع هيئة المشاوَرين القارية في أوروبا، دورة لمدة أسبوع في مدينة أكوتو حضرها ستون شابّاً من (24) دولة أوروبية، وذلك لدراسة السمات المختلفة للنّظم العالمي البديع لحضرة بهاء الله.
وتمثّل المذكّرات المرفقة نسخةً عن العروض الستة التي قُدِّمت في ذلك الأسبوع. سيجد القارئ فيها بعض المداخلات في موضوع أو أكثر منها، وحرصاً على تقديمها كما عُرضت، فقد تُرِكت على حالها.
تم ترتيب الأسئلة والإجابات حسب عرض المواضيع في كل يوم، وأدرجت في آخر كل موضوع.
أما النقاط الواردة في المذكرات، فإنها تستند في جزئها الأكبر إلى آثار أمرنا المبارك كما فهمتها. لقد حذّر حضرة شوقي أفندي الأحباء بأنّ المستقبل سوف يشهد هجمات على النّظم الإداري البهائي. أملي في هذه المواضيع وما حوته المذكرات من استنتاجات، أن تساعد المشاركين في هذه الدّورة في الدّفاع عن الأمر المبارك في مَقْبِل الأيام.
علي نخجواني
استجابة لاقتراح من أكوتو (Acuto) قدّمتُ كلمةً حول معني العهد والميثاق البهائي. ثم جاء اقتراح في ما بعد بأن أجمع جوانب هذه الكلمة وأن تتبعها الأسئلة والأجوبة التي نوقشت في تلك الجلسة كتابة.
لقد أُنجِز المطلوب وأضيف إلى الطبعة الثانية لهذا الكتاب في أوّل فصل منه ليكون بمثابة مقدّمة لمواضيع الطبعات السابقة. وأضيف أيضا رسم بياني كملحق، في محاولة لوصف العمليتين التوأمين، الانحلال والتكامل، وكيف تعملان منذ بداية الأمر عام 1844.
علي نخجواني
مُلشايم، فرنسا
يوليو 2007
من الشيّق أن تجلس مع جناب علي نخجواني وتستمتع بحديثه الدافق بأفكاره المنسابة من فكر صافٍ وروح عاشقة وقلب واسع ونفس مكرّسة وعقل راجح، فتشعر بأنه أب حنون وصديق وفيّ وخطيب مفوّه ومسؤول مدبّر عجنته الأيام بوِزْر المسؤولية وعَرَكته بثقل الواجب، فصقلت قدراته وأضحى نبراساً في روح الإيمان والإخلاص والشجاعة والتواضع. فلم نلحظ في حياته إلا كل رائع وعظيم. وها نحن نعيش مع هذا الإنسان الكبير بين دفّتي هذا الكتاب القيّم.
يستعرض الكتاب دروباً إلهية ستسلكها البشرية عبر هذا النفق المظلم لتصل إلى ما قُدِّر لها في النهاية من سعادة وازدهار. ذلك لأن المشهد العالمي اليوم في مأزق شديد وستستمر أركانه في التّدهور والانحلال وتتهاوى حضارته لتبرز معه عوامل البناء والتّكامل داخل الجامعة البهائية وخارجها بفضل عقول تنورت واستفاقت لروح العصر وأصبحت مناصرة لمبادئ حضرة بهاء الله دون وعي منها مستمدّة عزمها من روح وفيوضات حضرته، ليجد العالم نفسه منقاداً نحو تحقيق الصلح الأصغر خلاصاً من بعض مشاكله، ثم الصلح الأكبر نتيجة انبعاث الروحانيّة في جسد الإمكان، ثم الصلح الأعظم عندما تتأسس رابطة شعوب العالم البهائي وثمرتها العصر الذهبي، حتى تبرز للوجود حضارة إنسانية عالمية جديدة تحت ظل نظم حضرة بهاء الله العالمي البديع، وتلك هي السّماء الجديدة والأرض الجديدة.
ويتدرّج الكتاب بنسق أخّاذ في استعراض مسيرة الأمر المبارك منذ تأسيس هيئاته الإدارية في هيكل النظام الإداري الآخذ في التطور، وهو الأداة التي اصطفاها الله ليقوّم بها حياة البشرية وينقلها إلى خلاصها، ذلك النظام الذي هو وليد العهد والميثاق وفريد في تاريخ أنظمة الأديان العالمية بفضل جوهره وطبيعته التي ستحمي الدّين من التّصدّع، وبفضل مبادئه المحكمة وموكب هيئاته الروحانيّة الإدارية التي ستجد أمامها دائماً من القوانين والتوجيهات ما يعينها ويرشدها في القيام بأعباء مسؤولياتها بكل جدارة وأتم وجه ضماناً لاستمرار الهداية الإلهية من مصدر الشّريعة الربانية. إنه نظام إلهي يوفّق بين العناصر الإيجابية لأشكال الحكومات المدنية وكمال الحقائق الإلهية التي يقوم عليها النظم البديع إذا ما تناولنا بالتفصيل مؤسّساته الإدارية وصلاحياتها ومسؤولياتها.
ثم تأتي دراسة تحليلية لدستور بيت العدل الأعظم، الهيئة العليا في النظم العالمي البديع، وكيفية إدارته لشؤون العالم مستقبلاً، وأنه قائم على محافل روحانيّة مركزيّة متطورة متعاونة يعمل الكلّ في ظل دستور صاغته يد القدرة الإلهية ليساير موكب التّقدم الإنساني المتجدّد على الدوام، دستور يضمن للفرد والإنسانية الخير والصلاح ويسير مع ما دعا إليه الدّين من روح وريحان.
ثم يعرج بنا إلى مسيرة الأمر المبارك، والمراحل التي سيمر بها حتماً خلال عصر التّكوين. وحريٌّ بنا أن نتأمل عميقاً في البيانات المباركة التي تشدد على ضرورة تزكية حياتنا الروحانيّة خوفاً من أن نقتل روح الأمر بالإدارة الجافة ونجعل من مؤسّسات أمرنا جسداً بلا روح. فالجامعة البهائية بمكوِّناتها، أفراداً ومؤسّسات، إنما هي المختبر الذي يضم الجميع. فبالمشاركة الفعّالة بروح المحبّة والتواضع يكمن التطور والتعلّم والفهم العميق للمسببات والنتائج في جوّ من التفاني والإخلاص وخلوص النيّة.
مصطفى صبري
وصف حضرة شوقي أفندي النّظام الإداري، وهو البشير لظهور نظم حضرة بهاء الله العالمي، بأنّه وليد العهد والميثاق[1] لهذا فإنّ أي بحث في الجوانب العديدة للنّظم العالمي، يحتاج بالضرورة أن تسبقه دراسة ولو سريعة للعهد والميثاق البهائي، تكون بمثابة المقدّمة لهذا البحث.
العهد والميثاق هو اتّفاق بين طرفين. وعند استعمال هذا العنوان في السّياق الدّيني، فإنّه يعني تحديد إصر العلاقة بين الله ورسله، والصلة بين رسل الله والجنس البشري فيما يتعلّق بنقل السلطة إلى خلفاء مختارين، ثم بالمسؤوليات والواجبات المفروضة على الأفراد والمجتمع للقيام بها، والمراحل التي لابد من اجتيازها للوفاء بوعود الرؤية المستقبلية.
يتفضل حضرة شوقي أفندي في “القرن البديع” بذكر نوعين من العهد والميثاق: الأكبر والأصغر. فالعهد الأكبر، كما وصفه حضرته هو ذلك العهد والميثاق “الذي أبرمه الله منذ الأوّل الذي لا أوّل له على لسان النبيين والمرسلين جميعاً وأخذه من بني آدم كافة بشأن الظهور الجديد” [2]. ويشير هذا الظهور – أي ظهور حضرة بهاء الله – طبقاً لقول حضرة شوقي أفندي دائماً، “إلى انتهاء عهد النبؤات والوعود وابتداء عهد تحقيق النبؤات والوفاء بالوعود”[3]. ويمكننا إدراج العهد والميثاق، الذي أخذه حضرة بهاء الله مع أتباعه فيما يخص المظهر الإلهي القادم بعد مرور ما لا يقل عن الألف سنة، كجزء ثانوي من العهد والميثاق الأكبر.[4]
أمّا العهد والميثاق الأصغر، فهو الذي يبرمه المظهر الإلهي مع جميع أتباعه فيما يخص من يخلفه مباشرة ثمّ فيما يخصّ خلفاءه اللاّحقين، وفيما يخص السّلطات والوظائف التي يعيّنها لهم. وينطبق هذا النوع الأصغر على عهد وميثاق حضرة بهاء الله في تعيينه حضرة عبد البهاء خليفة لحضرته من بعده مباشرة، وكذلك بالنسبة للعهد والميثاق الوارد في الآثار المباركة لحضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء فيما يتعلّق بمسؤوليات المؤسّستين الرئيسيّتين للنّظام الإداري، ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم.
يذكر أيادي أمر الله جورج تاونزاند نوعاً آخر من العهد والميثاق، وهو ما يسميه بـ ”العهد والميثاق الأخلاقي” (أو المعنوي) الذي يتناول أحكام الرسول الإلهي من فروض وواجبات يتحتّم على كل مؤمن أن يتبعها.[5]
إنّ الملاحظات المذكورة في هذه المقدّمة سوف تركّز على السّمات المتعدّدة للعهد والميثاق الأصغر، وهو المشار إليه غالباً بالعهد والميثاق البهائي. سنتحدّث عن مرجعيّة تعيين حضرة عبد البهاء، وعن مبدأ الخلافة كما هو مبيّن في الكتاب الأقدس وألواح وصايا حضرة عبد البهاء، وعن الإشارة التي استبقت مؤسّسة ولاية الأمر التي وردت في آيات الكتاب الأقدس، وعن الترتيبات التي أعدّت لإقامة مؤسّستي ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم. وسوف نقف في الختام، على المراجع الموجودة في الآثار المباركة لأمرنا المحبوب بخصوص قدرة العهد والميثاق ووظائفه.
مقام حضرة عبد البهاء
في إشارة إلى الغصن الأعظم، يتفضل حضرة بهاء الله في سورة الغصن التي نزّلت في أدرنة بما يلي: “قل قد نبت غصن الأمر من هذا الأصل الذي استحكمه الله في أرض المشيئة… فتعالى هذا الصنع المتعالي المبارك العزيز المنيع… قل يا قوم فاشکروا اللّه لظهوره لأنّه لهو الفضل الأعظم عليکم ونعمة الأتم لکم وبه يحيى کلّ عظم رميم… من توجّه إليه فقد توجّه إلى الله فمن أعرض عنه فقد أعرض عن جمالي وكفر ببرهاني وكان من المسرفين.“
وفي الكتاب الأقدس آيتان ترجمهما حضرة شوقي أفندي، تشيران إلى مقام حضرة المولى عبد البهاء. الأولى هي: “اذا غيض بحر الوصال وقضي كتاب المبدء في المئال توجهوا إلى من اراده الله الذي انشعب من هذا الاصل القديم“.[6] والآية الثانية تضيف إلى صلاحيّات حضرة عبد البهاء حقّ تبيين النّصوص: “اذا طارت الورقآء عن ايك الثنآء وقصدت المقصد الاقصى الاخفى ارجعوا ما لا عرفتموه من الكتاب إلى الفرع المنشعب من هذا الاصل القديم“.[7] وحتى يقطع الشك باليقين في مقصده، أعلن حضرة بهاء الله في “كتاب عهدي“، بعد ذكر الآية الأولى من بين آيتيّ الكتاب الأقدس المذكورتين أعلاه: “وكان المقصود من هذه الآية المباركة الغصن الأعظم – أي حضرة عبد البهاء”.
أورد حضرة شوقي أفندي على صفحتين من كتابه “دورة بهاء الله” مقتطفات من بعض ألواح الجمال المبارك التي يؤكّد فيها وبلحن رهيب، ذلك المقام المنيع الذي يتبوأه حضرة عبد البهاء. فعلى أولئك الذين يرغبون في تعزيز إدراكهم للمقام الرفيع الذي كان لـ ”سرّ الله”، أن يقرؤوا تلك الفقرات ويتفكروا في ما تتضمّنه من معانٍ عميقة.
قانون الخلافة وتسلسلها
اعتقد أن من أهم فقرات الكتاب الأقدس الأساسيّة هي الفقرة 42. فيذكر حضرة بهاء الله في هذه الفقرة “الأوقاف المختصة للخيرات“ ويحدّد رجوعها إلى “مظهر الايات“ ما دام على قيد الحياة. ثم يسترسل حضرته ويعلن: “ومن بعده يرجع الحكم إلى الأغصان ومن بعدهم إلى بيت العدل ان تحقّق امره في البلاد… والاّ ترجع إلى اهل البهاء الذين لا يتكلمون الاّ بعد اذنه…“.لتوضيح تسلسل الخلافة التي تحدّدها هذه الفقرة، يشير الشرح رقم 66 للكتاب الأقدس إلى أن كلمة الأغصان تعني سلالة حضرة بهاء الله من الذكور. ثم يتواصل الشرح: “ولهذا التعيين آثار هامّة لا تقتصر على التصرّف في الأوقاف فحسب بل تتعدّى ذلك إلى موضوع خلافته وخلافة حضرة عبد البهاء”.[8] وزيادة في التفصيل لهذا الموضوع تعلن نفس فقرة الشرح رقم 66: “فآيات الكتاب الأقدس هذه قد دَبَّرَت سلفاً أمر الخلافة بأغصان مختارين، وبالتالي مؤسّسة ولاية الأمر، كما تنبأت أيضاً باحتمال انقطاع سلالتهم. وعجّلت وفاة حضرة وليّ أمر الله عام 1957 بتحقيق هذه النبوءة، حيث انقطعت سلالة الأغصان قبل تأسيس بيت العدل الأعظم.[9]
والخلاصة، أن سلسلة الخلافة بعد حضرة بهاء الله، كما وردت في الكتاب الأقدس، تتكوّن من الغصنين المختارين (حضرة عبد البهاء وشوقي أفندي)، ومن الحماة الرئيسيين – أي أيادي أمر الله خلال الفترة بين صعود حضرة شوقي أفندي وتأسيس بيت العدل الأعظم – وأخيراً من بيت العدل الأعظم.
وما ينمّ عن مغزى عظيم هو ما أقامه حضرة بهاء الله من تمييز واضح بين الأغصان بصورة عامة والأغصان “المختارين” الذين جُعِلُوا محور العهد والميثاق. ومثال ذلك ما جاء في الكتاب الأقدس: “ان الله قد امركم بالمودة في ذوي القربى وما قدّر لهم حقّاً في أموال النّاس انه لهو الغنيّ عن العالمين”[10]. ولزيادة التأكيد على هذه القاعدة العامة، فإنّ حضرته كان أكثر تشديداً في “كتاب عهدي” حيث أعلن: “محبّة الأغصان واجبةٌ على الكُلِّ، ولكن ما قَدَّرَ اللهُ لهُمْ حقّاً في أموالِ النّاسِ”[11]. ومع ذلك يأمر حضرته في الكتاب نفسه بأن الأغصان المعينين كخلفاء له، لا يمكن اعتبارهم ضمن مجموع الأغصان بالمعنى العام لهذه التسمية.
أما فيما يخص التّسمية “أهل البهاء“ التي وردت في الفقرة 42 من الكتاب الأقدس والمذكورة أعلاه، نجد التوضيح التالي في الشرح رقم 67 من الكتاب[12]: “… وقد وردت عبارة ‘أهل البهاء’ في الآثار المباركة بمعان متعدّدة.فوصف حضرته ‘أهل البهاء’ في هذا المقام بأنّهم “الّذين لا يتكلّمون إلاّ بعد إذنه ولا يحكمون إلاّ بما حكم الله في هذا اللّوح“. وبعد وفاة حضرة وليّ أمر الله عام 1957 تولّى أيادي أمر الله شؤون الدّين البهائي حتّى انتخاب بيت العدل الأعظم عام “1963.علينا أن نتذكّر في هذا المجال أن في رسالته الأخيرة إلى العالم البهائي، بتاريخ أكتوبر 1957، وصف حضرة شوقي أفندي مسؤوليّات أيادي الأمر بأنهم “الحماة الرئيسيون لرابطة شعوب حضرة بهاء الله العالميّة الجنين The Chief Stewards of Bahá’u’lláh’s embryonic World Commonwealth الذين زوّدهم القلم المعصوم في يد مركز العهد والميثاق بوظيفة مزدوجة هي السهر على سلامة دين والده، وتأمين انتشاره”[13].
معنى كلمة Steward في قاموس أكسفورد هو: “شخص عُهِدَ إليه بإدارة ممتلك شخص آخر”. وقد قام أيادي أمر الله بصفتهم المؤتمنون على الأمر، بإدارة شؤون أمر الله التي عهدت إليهم، بطريقة مثاليّة.
في رسالتهم بتاريخ نوفمبر 1959، أعلن حضرات الأيادي أنّ انتخاب بيت العدل الأعظم سوف يجرى في رضوان 1963، وهو التاريخ الذي يتزامن مع نهاية حملة حضرة شوقي أفندي العالميّة.
عبّر بيت العدل الأعظم بعد تأسّيسه، عن تقديره لأيادي الأمر بكلمات الإجلال التالية: “لم يسجّل تاريخ الأديان برمّته مثل هذا الانضباط الدقيق والولاء الصرف والتجرّد التّام من قبل رؤساء دين يجدون أنفسهم وقد حرموا فجأة من مرشدهم الحائز على الإلهام الإلهي. إن العرفان بالجميل الذي تدين به البشريّة لأجيال قادمة، بل لعصور آتية، إلى تلك الثلّة من النّفوس المكلومة الرّاسخة النبيلة لهو أعظم من أن يقدّر حق التقدير” (مترجم من أوّل رسالة لبيت العدل الأعظم إلى العالم البهائي بتاريخ 30 أبريل 1963).
ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم
بينما نصّت ألواح وصايا حضرة عبد البهاء رسميّا وبصورة جليّة على بعث مؤسّسة ولاية الأمر، نرى في الكتاب الأقدس ما يسلف الإشارة ضمناً لمؤسّسة ولاية الأمر. فقد تناول بيت العدل الأعظم هذا الموضوع في رسالته بتاريخ 27 مايو/ أيار 1980 حيث نقرأ فيها ما يلي: “مع أنّه لا يوجد إشارة بيّنة عن ولاية الأمر في الكتاب الأقدس، إلاّ أنّ في قائمة ‘خلاصة الأحكام والأوامر وترتيبها’ هناك بند ينص عن وجود ‘إشارة إلى تأسيس ولاية أمر الله’. وفي خلاصة لمحتويات الكتاب الأقدس في الصفحة 216 من ‘القرن البديع’ يؤكد حضرة شوقي أفندي أن حضرة بهاء الله قد أسلف ‘الإشارة الضمنية إلى مؤسّسة ولاية الأمر’، ثمّ في صفحة 147 من كتاب
The World Order of Bahá’u’lláh يشير وليّ الأمر إلى ‘آيات الكتاب الأقدس التي يستبق مضمونها بكل وضوح مؤسّسة ولاية الأمر’. إحدى هذه الإشارات نجدها في موضوع حقوق الله المنصوص عليها في الكتاب الأقدس دون تحديد من يتسلّمها ؛ ويملأ حضرة عبد البهاء هذه الفجوة بأن حدّد في ألواح وصاياه ‘وترجع حقوق الله إلى وليّ أمر الله…'”.
وخاصيات أخرى يمكن استخلاصها لهذه المؤسّسة – ولاية الأمر – من معاني الكلمات التي بموجبها تمّ تعيين حضرة عبد البهاء خليفة لحضرة بهاء الله ومبيّناً لتعاليمه. فالمؤمنون مدعوون للتوجه إلى “من أراده الله“ والذي “انشعب من هذا الاصل القديم“، ومطلوب إليهم الرجوع في ما لا يفهموه “إلى الفرع المنشعب من هذا الاصل القديم“. يمكن استخلاص خاصيّة أخرى أيضا مما ورد في الكتاب الأقدس فيما يخصّ التصرّف في الأوقاف العالمية – وهي فقرة لا تُرجِع الأمرَ إلى الأغصان فحسب، بل تحدّد ما يجب عمله إذا ما اختتمت سلسلة الأغصان قبل تحقُّق أمر بيت العدل الأعظم”[14].
أمّا عن مِنْعَةِ مقام ولي الأمر كما نُصّ عليها في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء، قد يكفي ذكر الأفكار والكلمات الرئيسيّة التي وردت في هذا المستند الخالد. يشير حضرة عبد البهاء إلى وليّ الأمر بكونه: “النّور الذي يلوح ويضيء من فجر الهدى من بعدي” و”هو فرع مقدّس مبارك”، و”آية الله والغصن الممتاز ووليّ أمر الله ومرجع … أحباء الله ومبيّن آيات الله” و”تحت حفظ وصيانة الجمال الأبهى وحراسة العصمة الفائضة من حضرة الأعلى… من خالفه… فقد خالف الله… ومن أنكره فقد أنكر الله”. وختاماً: “طوبى لمن استظلّ في ظلّه الممدود على العالمين“.[15]
أمّا فيما يخص بيت العدل الأعظم بصفته رأس الأمر، يشير الكتاب الأقدس إلى أعضائه بأنّهم “أمناء الرّحمن“[16]. وبطريقة مماثلة كُرِّسَت المؤسّسة المُنْتَخَبَة العليا بكونها نقطة التبؤر للأمر من بعد الأغصان[17]، وأيضاً يشار إلى أعضائها بِـ “رجال“[18] بالـ “وكلاء“ (ملحوظة: ترجم حضرة ولي أمر الله هذه الكلمة بـ Deputies of God أي “وكلاء الله” في الكتاب الأقدس بالإنجليزية). وعلاوة على ذلك يؤكّد حضرة بهاء الله في الورق الثّامن من الكلمات الفردوسيّة لتطمئن جامعة المؤمنين أنّ الله[19] “يلهمهم ما يشاء“ – والمقصود هنا أعضاء بيت العدل الأعظم. وتفضّل أيضاً حضرة عبد البهاء في ألواح وصاياه بأنّ بيت العدل الأعظم “تحت حفظ وصيانة الجمال الأبهى وحراسة العصمة الفائضة من حضرة الأعلى”.[20] ثم يشير حضرته إلى ولي الأمر وبيت العدل الأعظم ويؤكد “كل ما يقررانه من عند الله”. ويسترسل حضرته بأن من خالفهم “فقد خالف الله“.[21] ويصف حضرة عبد البهاء بيت العدل الأعظم بأنه “جعله الله مصدر كل خير ومصوناً من كلّ خطأ”[22]، ونقرأ أيضاً في نفس تلك الوثيقة أن قرارات هذه الهيئة أكانت “بالاتفاق” أو “بأكثريّة الآراء” فهو “مراد الله… وكلّ ما يقرّرونه (أي الأعضاء المُنْتَخَبُون) هو كالنص”.[23] ويعلن حضرة عبد البهاء في إحدى ألواحه: “إن قرارات وأحكام بيت العدل الأعظم تجري بإلهام وتأييد روح القدس”.[24] ويصف حضرته بيت العدل الأعظم بأنه تلك: “العصبة الطيّبة الطاهرة، والثُلَّة المقدّسة القاهرة، فسلطتها ملكوتيّة رحمانيّة وأحكامها إلهاميّة روحانيّة“.[25]
وأضاف حضرة شوقي أفندي صوته إلى ما سبق ذكره هنا بقوله إن الأعضاء المنتخبين قد “جُعِلُوا محطّ هذه الهداية الإلهيّة – هداية هي في آن واحد قوام حياة هذا الظهور وسبب حفظه وحمايته”. [26]
قدرة العهد والميثاق ووظائفه
إن “كتاب عهدي”، أي كتاب الوصيّة لحضرة بهاء الله، نجده مطبوعاً ومترجماً إلى العربيّة بكامله في الصفحات 199 – 202 من المجلّد بعنوان “مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله نُزِّلَتْ بعد الكتاب الأقدس”.وفي الجملة الثانيّة مباشرة من الفقرة الأولى نقرأ: “ولكنّنا تركنا في خزائن التّوكّل والتفويض ميراثاً مرغوباً لا عدل له للوارثين”. عامة الأحبّاء فهموا أن هذا “الميراث” يرمز إلى أمر الله. إلاّ أنّه اتضح بعد أن كتب حضرة شوقي أفندي كتاب القرن البديع، أن المقصود من “الميراث” هو في الحقيقة “العهد والميثاق” الذي تركه حضرة بهاء الله “للوارثين”، أي جامعة الاسم الأعظم.[27]
يمكننا القول، في الحقيقة، أن هذه الوثيقة برمتها – “كتاب عهدي” – إنّما تتحدث عن العهد والميثاق في معنييْه الخاص والعام.منحَنَا حضرة شوقي أفندي مختصراً لما يحتوي “كتاب عهدي” في الكلمات التالية: “في هذه الوثيقة الخطيرة التي لا قرين لها ولا شبيه يكشف صاحبها عن طبيعة ذلك “الميراث المرغوب الذي لا عدل له” والذي خلفه “للورّاث” ويعلن من جديد غاية ظهوره، ويوصي “أهل العالم” أن يعتصموا بما هو “سبب ارتفاع مقاماتهم” ويبيّن لهم أنّه قد “عفا الله عمّا سلف”؛ وينبّه على سموّ مقام الإنسان، ويكشف عن الهدف الأوّل لدين الله، ويوجّه أولياء الله وأبناءه إلى الدّعاء لمـلوك الأرض “مظاهر قدرة الحق ومطالع عزّته وثروته”. ويخلع عليهم حكم الأرض، ويختص نفسه بملكه الخاص ألا وهو قلوب النّاس، وينهي عن النزاع والجدال نهياً عظيماً. ويأمر أتباعه بنصرة الحكام الذين هم “مزينون بطراز العدل والإنصاف”. ويوصي الأغصان (أي أبناءه) أن يتدبروا “القوة العظيمة المكنونة، والقدرة الكاملة المستورة في الوجود”، كما يأمرهم، هم والأفنان (ذوي قربى حضرة الباب) والمنتسبين بأن “أنظروا طراً إلى الغصن الأعظم (حضرة عبد البهاء) باعتبار أنّه هو “من أراده الله، الذي انشعب من هذا الأصل القديم” الذي أشير إليه في الكتاب الأقدس.
“ويقضي بأن يكون “مقام الغصن الأكبر” (وهو ميرزا محمد علي) دون مقام “الغصن الأعظم” (وهو حضرة عبد البهاء)، ويدعو الأحباء إلى أن يعاملوا الأغصان بالإجلال والمحبّة، وينصح لهم بأن يحترموا آل بيته وذوي قرباه وذوي قربى حضرة الباب، ولكن “ما قدّر لهم حقاً في أموال الناس”، ويوصي الأغصان والأفنان وذوي قربته “بتقوى الله وبالمعروف وبما ينبغي”، وأن يبتغوا ما “ترتفع بها مقاماتهم”. ويحذر الناس جميعاً من أن يجعلوا “أسباب النّظام سبب الاضطراب، وعلّة الاتحاد علّة الاختلاف” ويختتم ميثاقه بنداء للمؤمنين يوصيهم فيه “بخدمة الأمم” والسعي من أجل “إصلاح العالم”.[28]
أما الفقرة التي تشير إلى قوة وقدرة العهد والميثاق فهي الآتية كاملة: “…إنّ في الوجود قوةً عظيمةً مكنونةً وقدرةً كاملةً مستورةً فكونوا متجهين وناظرين إليها وللاتحاد معها لا إلى الاختلافات الظاهرة منها”.[29] يفتح حضرة بهاء الله مجالاً في هذه الفقرة بأنّ عهد الله وميثاقه سوف يخلق “اختلافات”، مع ذلك فقد برهن تاريخ الأمر بكل فصاحة وفي مرات متكرّرة أن هذه “الاختلافات” لم تؤدِّ أبداً إلى تصدّع أو انقسام في صفوف المؤمنين. لقد أكّد لنا حضرة شوقي أفندي أنه مهما يأتي على يد أعداء الأمر من الخارج أو من الداخل من “صدمات ومخاطر” عرضيّة، فإنها لم تتمكن ولن تتمكن من “النيل من وحدته” وتعجز دائماً عن “عرقلة تقدّمه”. إن “عامل التوحيد الفعّال” للعهد والميثاق كان الغالب دائماً.[30]
لقد أعلن حضرة عبد البهاء بأسلوب توكيدي أن عهد الله وميثاقه لهذه الدّورة “محكم ومتين” بحيث “لم يبرم” مثله “في ظهور أي مظهر من المظاهر المقدّسة من أوّل الإبداع حتّى يومنا هذا”، وأنّه لمن “البديهي أن قوة الميثاق دون سواها هي محور وحدة العالم الإنساني”. وأكد حضرة عبد البهاء أيضاً أن: “سراج الميثاق هو نور الآفاق”، وأن قدرة الميثاق كمثل: “حرارة الشمس التي تربّي جميع الكائنات على الأرض” وأنّها “مغناطيس التأييد”.[31]
لقد أفاض حضرة شوقي أفندي في الكشف عن هذه النقطة الحيويّة بأن أعلن أن الميثاق البهائي “تَرِكَةٌ (أو إرث) للأجيال القادمة” (ترجمة bequeathed to posterity)[32] وبكونه موهوباً “بمقدرة لا تقهر invincible strength” وأيضاً “بمقدرة لا تذلّindomitable strength “، وبأنّه مزوّدٌ “بقوةٍ مُنَشِّطةًenergizing power ” و”إمكانيّة المحافظة على وحدة الأمر المبارك وسلامته ability to safeguard the unity and integrity of the Faith”.[33]
إنّ التأمل في الأبعاد الصحيحة للأزمات التي ولّدها الميثاق يجعل من الواضح أنها لم تكن سوى “مظاهر حتميّة لهذا التطوّر الغيبيّ” للدّين، وعامل “لتطهير حياة الجامعة وتقويتها”. هكذا يمكن اعتبار كل أزمة من تلك الأزمات “بثقة واطمئنان، إنها عناية مستورة وبركة مقنّعة، ووسيلة ربّانيّة لإطلاق المزيد من المقدرة السماويّة”. [34]
حقاً، لقد أعلن حضرة شوقي أفندي بكل وضوح أنّه يجب اعتبار بيان حضرة بهاء الله بأن دورته هي “يوم الله هو نفسه… ولن يعقبه الليل“ بكونه شهادة من حضرة بهاء الله أنه بفضل العهد والميثاق الأصغر “لن يعقب.“. “يوم (ـه)” المجيد “الليل”.[35]
ولا شكّ أنّه بفضل القدرة والسّلطة المستمدة من العهد والميثاق، التي منحها حضرة بهاء الله لحضرة عبد البهاء، قام حضرته بكتابة الألواح الأربعة عشر التي تكوّن خطته الإلهيّة المقدّر لها أن تحقّق الفتح الرّوحاني لهذا الكوكب، وأقدم حضرة شوقي أفندي على إعداد مشاريع التبليغ التي أوكلها إلى المحافل الروحانيّة المختلفة بالعالم، ممهداً بذلك الطريق إلى تدشين الحملة العالميّة،ثمّ علينا أن نتأكّد يقيناً بأنّ نفس تلك القوّة الدّافعة هي السند الشامل لبيت العدل الأعظم اليوم عند قيامه بصياغة أهداف سلسلة مخططات التبليغ والاستحكام في الجامعة البهائيّة بالعالم وفي اتخاذ الخطوات اللاّزمة لإنجازها.
أسئلة في الموضوع
س: هل تنصحنا بقراءة الكتب التي تُكتَب ضد الأمر المبارك، مثل كتب الناقضين، حتى نعدّ أنفسنا للدفاع عن الأمر بصورة أحسن ؟
ج: إن معرفة ما يسوقه الأعداء من مزاعم وحجج يعتبر مفيداً حتّى يمكن تفنيد ادّعاءاتهم. والغرض من الدّورات كهذه هو تحقيق هذا الهدف بالذات.. إلاّ أن الذين يعارضون الأمر عادة لا يقدمون أحاديثهم المثيرة إلاّ وهي مليئة بالسّموم إلى درجة تجعل قراءة كلّ ما يكتبون بمثابة تعريض أنفسنا السّليمة لأنفاس شخص مسلول. ومع ذلك تعاليمنا لا تمنع قراءة تلك الكتب ولكنها تعطي تحذيراً واضحاً. علاوة على ذلك، وبينما يتعرض الأمر إلى موجة بعد موجة من الاعتراض، لاشكّ أنها أكثر شراسة وقسوة مما سبق، فإذا اختار البهائيّون قراءة معمقّة لكلّ المقالات والكتب التي يكتبها أعداء الأمر والناقضون، لضاع كلّ وقتهم في قراءة مثل هذه المواد السامة.
بقراءة الآثار المقدسة بهدف معرفة “ما هو المقصود في كتب الله العزيز الوهّاب”[36]، سنتمكن فوراً من اكتشاف ما يقدّم أعداؤنا، من الداخل كانوا أومن الخارج، ودحض حججهم الباطلة.
س: عيّن حضرة الباب ميرزا يحي كزعيم للجامعة بعد وفاته. هل لدينا نسخ من المراسلات بين حضرة الباب وحضرة بهاء الله ؟ هل كان حضرة بهاء الله على دراية برسالته الإلهيّة قبل معاناته في سياه ﭼال ؟
ج: يتفضل حضرة الباب في “البيان” بأنّه لم يعيّن أيّ خليفة خلال دورته. هذا ما أكده حضرة شوقي أفندي: “لم يعيّن حضرة الباب خليفة ولا نائباً وامتنع عن أن يختار مفسراً أو مبيّناً لتعاليمه”.[37] إنّ حضرته كان بطبيعة الأمر يعرف أن دورته ستكون قصيرة.
ثم استمر حضرة شوقي أفندي موضّحاً أن كلّ ما فعله حضرة الباب “هو أنّه أخذ بنصيحة حضرة بهاء الله ومؤمن آخر من أتباعه، وعيّن ميرزا يحي رأساً صوريّاً انتظاراً لظهور الموعود. وذلك حتّى يتمكن حضرة بهاء الله من أن يرتقي بالأمر العزيز على قلبه في جوّ من الأمن النسبي”.[38]
حتّى الآن، حسب معرفتي، لم يُعثر على المراسلات بين حضرة بهاء الله وحضرة الباب. أمّا أن يكون حضرة بهاء الله على دراية برسالته الإلهيّة قبل معاناته في سياه ﭼال أم لا، فلدينا الجواب بصورة عامّة من حضرة عبد البهاء حول هذا الموضوع الذي يخص جميع رسل الله، حيث تفضّل: “ولا شكّ أن الحقيقة المقدّسة واقفة على سرّ الوجود من البداية وآثار العظمة ظاهرة واضحة فيها من سن الطفولة، فكيف لا يكون لها الشعور حينئذ مع وجود هذه الفيوضات والكمالات؟”[39]
س: بصفته رئيساً لبيت العدل الأعظم، لماذا أشار حضرة شوقي أفندي في “دورة بهاء الله“ إلى علاقته بهذه المؤسّسة، بدعوى، في الظاهر، أنه سيكون متواجداً مع بيت العدل الأعظم ؟
ج: لم يُعَـيَّن حضرة شوقي أفندي رئيساً لبيت العدل الأعظم. تعيين حضرة شوقي أفندي كان “الرئيس المقدّس” لهذه الهيئة. والحقيقة هي أنّه عندما أعلن حضرة شوقي أفندي عام1952 عن عضويّة ووظائف أعضاء المجلس البهائي العالمي – وهو المرحلة “الجنينيّة” و”البشير” لبيت العدل الأعظم،[40] وضع حضرته تمييزاً واضحاً بين المكانة التي تتبوأها أمة البهاء روحيّة خانم، بوصفها “رابط الاتصال المختار” بين حضرته والمجلس، مقارنة بمركز “الرئيس” الأقل درجة الذي اتّخذه مايسون ريمي.[41]
أمّا عن تواجد رجل من سلالة حضرة بهاء الله وليّاً للأمر مع بيت العدل الأعظم، هذا الموضوع درس في الفصل الثاني من هذا الكتاب. وتحديدا باختصار شديد، فإنّ الكتاب الأقدس لا ينص على مثل هذا التّواجد. مع ذلك فأن هناك ما يفيد التّواجد في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء. وفي حين أن التّواجد مذكور فقط في الجزء الأوّل من هذه الوثيقة (ألواح الوصايا)، فإنّها تنص أيضا وبصورة جليّة أن الهداية الإلهيّة لبيت العدل الأعظم لا تتوقف على عضوية ولي الأمر ولا على مشاركته أيضاً.
س: في دار المسافرين السابق الذي كان مجاوراً لمقام حضرة الباب توجد غرفة بها صور لأيادي أمر الله منهم مايسون ريمي. لماذا هذا؟ ألم يكن من الواجب أن تكون هناك صورة محمد على مثلاً بقصر البهجة؟
ج: أي قائمة بأسماء أيادي أمر الله عادة تشمل اسم مايسون ريمي. كذلك أي غرفة تعلّق فيها صور جميع الأيادي لابد أن تشمل مايسون ريمي أيضا، لأن هذا واقع تاريخي.من البديهي أنّه لن يكون من المناسب وضع صورة لمحمد علي بقصر البهجة. ومع ذلك تجميله الخطّي للاسم الأعظم علقه حضرة شوقي أفندي على الحائط الجنوبي في الصّالة الرئيسيّة بقصر البهجة. وبنفس المعنى، نحن نُسَلِّم أن مهندس المعبدين في كمبالا وسيدني وأيضا دار الآثار ومشرق أذكار جبل الكرمل في المستقبل كان مايسون ريمي. لا يمكن التلاعب بأحداث التّاريخ.
س: ما هي الإجابة التي يمكننا تقديمها بخصوص الادعاء بأن حضرة شوقي أفندي بيّن ألواح الوصايا بطريقة في صالح مكانته؟
ج: السؤال يكون مناسباً لو أن حضرة شوقي أفندي كان زعيماً سياسيّاً. إلاّ أن حضرته لم يكن زعيماً علمانيّاً. إنّه تعيّن رسميّاً من طرف مركز عهد حضرة بهاء الله وميثاقه وليّاً لأمر الله، والمبيّن المعتمد لآثار الأمر. نفس ذلك القلم لحضرة عبد البهاء، في ألواح وصاياه، أشار إلى حضرة شوقي أفندي بأنه آية الله، والمختار ليكون السّلطة الملهمة في أمر الله الذي إليه يجب أن يتوجه المؤمنون، وبأنّه “النور الذي يلوح ويضيء من فجر الهدى من بعدي”.[42]
[1] القرن البديع، ص 294.
[2] القرن البديع، ص 43.
[3] المرجع نفسه، ص 128.
[4] الكتاب الأقدس، الآية 37.
[5] المرجع السابق، الآيتان 1 و149.
[6] الكتاب الأقدس، الآية 121.
[7] الكتاب الأقدس، 174.
[8] الكتاب الأقدس، ص 208.
[9] المرجع السابق، الآية 209.
[10] االمرجع السابق، ص 61.
[11] مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله، ص 201 (2006م).
[12] الكتاب الأقدس، ص 209.
[13] الترجمة وردت في “صفحة خالدة في تاريخ ولاية أمر بهاء الله” – ص 11 (مصر 1958).
[14] رسائل بيت العدل الأعظم (الإنكليزي)، ص 450–452.
[15] ألواح الوصايا لحضرة عبد البهاء، ص 3، 11 و12.
[16] الكتاب الأقدس، الآية 30.
[17] المصدر السابق، الآية 42.
[18] المصدر السابق، الآيتان 52 و147.
[19] بخصوص كلمة “الله” في كتاب World Order of Bahá’u’lláh ص 23.
[20] ألواح الوصايا لحضرة عبد البهاء، ص 11.
[21] المصدر السابق، ص12.
[22] ألواح الوصايا لحضرة عبد البهاء، ص 14.
[23] ألواح الوصايا لحضرة عبد البهاء، ص 19 و20.
[24] مجموعة نصوص بيت العدل الأعظم، ص 23.
[25] المصدر السابق، ص 23 و24.
[26] المصدر السابق، ص 54.
[27] القرن البديع، ص 385.
[28] القرن البديع، ص 290–291.
[29] مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله، ص 201 (2006م).
[30] القرن البديع، ص 83 و84.
[31] القرن البديع، ص289.
[32] ”God Passes By”، ص 239.
[33] الألفاظ الإنكليزيّة كما وردت في ”God Passes By” ص 295.
[34] القرن البديع، ص 83 و84.
[35] القرن البديع، ص 297.
[36] راجع الكتاب الأقدس، الآية 36.
[37] القرن البديع، ص 45.
[38] القرن البديع، ص 45.
[39] من مفاوضات عبدالبهاء، ص 103 طبعة (بروكسيل 1980).
[40] Messages to the Bahá’í World، ص 7 (مترجم عن الانكليزية) (1971).
[41] المصدر السابق، ص 22 (مترجم) (1971).
[42] ألواح الوصايا لحضرة عبد البهاء، ص 3.
حتى
نضع هذا الموضوع في إطاره الصحيح من المفيد حقاً أن نتزوّد بمفهوم عامٍ عن العمليتين التوأمين اللتين ورد ذكرهما مراراً في كتابات حضرة شوقي أفندي، ألا وهما عمليتا الانحلال والتّكامل
(disintegration & integration) اللّتان تتكشّف معالمهما في العالم اليوم.
أعتقد أنّ المثل الآتي الذي أعطاه السّيد المسيح عن “ربّ الكرْم”، قد يقرّبنا من الإدراك بعض الشيء:
“إنسان غرس كرماً وسلّمه إلى كرّامين وسافر زماناً طويلاً. وفي الوقت أرسَل إلى الكرّامين عبداً لكي يعطوه من ثمر الكرم. فجَلَده الكرّامون وأرسلوه فارغاً. فعاد وأرسل عبداً آخر. فجلدوا ذلك أيضاً وأهانوه وأرسلوه فارغاً. ثم عاد فأرسل ثالثاً. فجرحوا هذا أيضاً وأخرجوه. فقال صاحب الكرم ماذا أفعل. أُرسِلُ ابني الحبيب. لعلّهم إذا رأوه يهابون. فلما رآه الكرّامون تآمروا فيما بينهم قائلين هذا هو الوارث. هلمّوا نقتله لكي يصير لنا الميراث. فأخرجوه خارج الكرْم وقتلوه. فماذا يفعل بهم صاحب الكرم. يأتي ويهلك هؤلاء الكرّامين ويعطي الكرْم لآخرين.[1]
سنعرُج الآن على بعض ما ورد فيه من نقاط:
1) ورد في كتاب “القرن البديع”، أن “ربّ الكرْم” إشارة إلى حضرة بهاء الله.
2) الابن لا شكّ إشارة إلى يسوع المسيح، والمثل يوضّح أنّ المسيح استبق أخبار استشهاده.
3) العبيد الذين أرسلهم رب الكرْم هم رسل الله وأنبياؤه.
نلاحظ هنا أن في تسلسل الأحداث تصاعداً في السلطة الممنوحة للذين أُرسلوا.
4) الأب يهلك الكرّامين، وهم بلا شك القادة الدينيون والزمنيون، ويسلّم الكرْم إلى “غيرهم”.
وتقودنا النّقطة الأخيرة إلى لبِّ الموضوع، ألا وهو: إن ظهور حضرة بهاء الله يحمل معه تفكيك النّظم القديم وتأسيس نظم جديد لإدارة الكرْم. هنا تتضح لنا بجلاء عمليتا الانحلال والتّكامل، وهاتان العمليتان مذكورتان أيضا في العهد الجديد حيث نقرأ في رؤيا يوحنّا:
“ثمّ رأيت سماءً جديدةً وأرضاً جديدةً لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا والبحر لا يوجد في ما بعد[2].
هذه الفكرة هي فكرة مثبتة في آثار حضرة بهاء الله المباركة.
فيتفضّل حضرته من ناحية:
لقد حان وقت فناء العالم وأهله[3]
وأنّه:
قبضت العزّة عن طائفتين: الأمراء والعلماء[4]
وفي الوقت نفسه يتفضل:
ترى الأرض حاملة اليوم وعمّا قريب تشاهد أثمارها المنيعة…[5]
ويجمع حضرته العمليتين في آية واحدة:
“عن قريب سوف يطوى بساط العالم ويبسط بساط آخر[6]”
أشار حضرة عبد البهاء أيضاً إلى العمليتين في آثاره المباركة:
الأمراض التي يعاني منها العالم الآن سوف تتضاعف، والظلام الذي يحيط به سوف يشتد[7].
وهذا ما يتكامل مع قوله:
عندئذ ينقلب العالم الإنساني وتظهر الفيوضات الرّحمانيّة[8]
وفي كلماته التالية يمنحنا حضرة شوقي أفندي وصفاً لهاتين العمليتين:
… ومع ذلك يتبيّن وجود عمليّتين ساريتين الآن، كلّ واحدة منهما تسعى بطريقتها الخاصّة وبزخم متسارع، إلى إيصال القوى التي تعمل على تغيير وجه كوكبنا إلى ذروتها. العمليّة الأولى هي في جوهرها عمليّة تكامل، في حين أن الثّانية هي أساساً عمليّة هدّامة. الأولى تكشف في مسار تطورها المضطرد، عن منظومة تستحق أن تعتبر نموذجاً لنظام حكم عالمي، يقترب إليه باضطراد وبتلقائيّة عالم يعتريه هذا الاضطراب المحيّر؛ في حين أنّ الأخرى، وبينما يزداد أثرها المحطّم حدّة، تُعنى، في عنف متزايد، بإزالة الحواجز العتيقة التي تعترض سبيل تقدّم الإنسانيّة نحو الهدف المقدّر لها. تُشَاهَد العمليّة البناءة بكونها مرتبطة بأمر حضرة بهاء الله الوليد، وبكونها الرّائد البشير لنظم عالمي جديد سرعان ما سيقيمه ذلك الأمر المبين. في حين أن القوى الهدّامة التي تتّصف بها العمليّة الأخرى يجب اعتبارها بكونها تلك الحضارة التي أبت أن تستجيب لتوقعات عصر جديد، وبالتالي انحدرت في ترّهات الفوضى والانحطاط.[9]
سيكون مفيداً أن نكوّن صورة في أذهاننا لهاتين العمليتين اللتين اتخذتا بكل وضوح من سنة 1844نقطة الانطلاق. ففي بداية نشأتهما بدتا وكأنهما متوازيتان في حركتهما تعلو الواحدة الأخرى. فمسار الأولى العلوي، وهو أمر الله، يؤثّر على المسار السفلي وينشأ عنه رد فعل سلبي معارض بوعي أو بغير وعي. ومع تواصل هذا التحرّك وتعاظم الفعل ورد الفعل، نرى في مقابِلِهِ المسارين يفترقان: الأمر الإلهي يأخذ مساراً تصاعديّاً في حين ينحدر مسار العالم إلى أسفل. وفي هذا الصدد، ينبئنا حضرة شوقي أفندي بكلماته عن دلالاتٍ في غاية الأهميّة:
على البناة الأبطال لنظم حضرة بهاء الله العالمي الصّاعد أن يتسلقوا قمماً أسمى من البطولة بينما تغوص الإنسانيّة في أعماق اليأس والانحطاط والشّقاق والأسى. فليمضوا قدماً نحو المستقبل وهم على يقين أن ساعة بلوغهم إلى ذروة جهودهم والسانحة الكبرى لأعظم إنجازاتهم لابد وأن تتزامن مع ثوران قيامة مريعة، تكون العلامـة على أنّ البشريّة قد بلغت أدنى درجة الانحطاط لأقدارها المتداعية بانهيار سريع.[10]
فالتفاعل بين المسارين لم يتوقف، ونشاهده الآن بأُمّ أعيننا في هذه الحقبة التاريخية.
تشير تواقيع حضرة شوقي أفندي إلى ظاهرة أخرى، وهي وجود خط ثالث دقيق بين المسارين يكاد لا يُلاحَظ في بدايته، وقد انطلق في مسيرة تطوّر مستمر، إنّه مسار إيجابي جديد نتيجة للتأثير غير المباشر لأمر الله على عقول النّاس وأفئدتهم. ويمثّل القوى التي تتناغم مع روح العصر. إن مناصري هذه القوى لا يعون المصدر الحقيقي لهذه العملية البنّاءة.
هذه الفكرة يشرحها حضرة شوقي أفندي بجلاء في ما يلي:
إنّ وحدة الجنس البشري… تلك الفكرة الرائعة، قد تمثّلت بوادرها الأولى بفضل المجهود الذي قام به بكلّ وعي وإدراك أولئك الذين أعلنوا إيمانهم برسالة حضرة بهاء الله وما حقّقوه من إنجازات متواضعة في البداية،…. وهم يندفعون قدماً لتأسيس ملكوته على هذه الأرض. ثمّ وجد هذا المبدأ مظاهره غير المباشرة في التّغلغل التّدريجي لروح من التّضامن العالمي الذي يبرز تلقائيّاً من وسط الفوضى التي عليها المجتمع المختلّ نظامه.[11]
كما أن حضرة شوقي أفندي قد رأى أيضاً في منظّمة عصبة الأمم التي تأسّست بعد الحرب العالميّة الأولى، خطوة إيجابيّة في نطاق هذا الخط الجديد فكتب يقول:
ومع ذلك وبينما تزداد الغيوم تكاثفاً: ألا يحق لنا أن ندّعي بأنّ هناك بصيصا من الأمل، يومض في الأفق الدّولي في فترات غير منتظمة، ليبدّد من آن لآخر الظلام المحيط بالإنسانيّة؟ هل يكون من الخطأ أن نعتقد أنّه في عالم مضطرب الإيمان ومتقلّب الفكر، في عالم يزداد تسلحا باضطراد، وتسوده كراهية وتناحر لا يخمد لهما أوار، أنّنا نرى بوادر تقدّم للقوى التي تتناغم مع روح العصر، حتّى ولو كان هذا التقدّم في طفرات متقطّعة ؟ بالرغم من انطلاق نعرة صاخبة للقوميّة بعد الحرب (العالميّة الأولى)، تعلو بإصرار وإلحاح متزايد في كلّ يوم، فإن الاتجاه الذي تسير فيه عصبة الأمم وهي لا تزال في طور الجنين ومعرضة إلى أن تَكْسِفَ قواها سحب العاصفة الآتية وتَمْحُوَ آلياتها تماماً لفترة من الزمن – هذا الاتجاه له مغزاه البالغ الأهميّة… إنّ المقصد الرئيسي الذي تسعى لتحقيقه تلك الجهود منذ ميلاد عصبة الأمم لم يكن سوى “ميثاق” عام حول الأمن… لأوّل مرة في تاريخ الإنسانيّة يتجه التفكير الجدّي في منظومة للأمن الجماعي ويتمّ مناقشتها وتجربتها، وهو ما استبق حضرة بهاء الله الإعلان عنه وشرحه حضرة عبد البهاء.[12]
وفي السّياق نفسه، يصف حضرة شوقي أفندي حال العالم بأنّه “قد تقلّص وتغيّر ليصبح كائناً حيّاً واحدا معقّداً للغاية، وذلك نتيجة للتقدّم الرائع الذي أحرزته العلوم الفيزيائيّة (و) اتساع نشاط التجارة والصناعة على نطاق عالميّ”[13]. ثمّ يسترسل ملفتاً النظر إلى أنّه بفضل “قدرة نفثات روح حضرة بهاء الله الإلهيّة” في العالم، “أصبح عدد متزايد من رجال الفكر يعتقدون أن السّلام العالمي ليس إمكانية يقترب العالم من تحقيقها فحسب، بل أنّه (أي السّلام العالمي) نتيجة حتمية لما تقوم به القوى العاملة في عالم اليوم.”
أخذت هيئة الأمم المتّحدة بعد الحرب العالميّة الثّانية مكان عصبة الأمم. وهي ما برحت منذ تأسيسها أكثر من نصف قرن مضى تتطور إيجابيّاً في روحها، وحكمها وتأثيرها. ليس هناك أدنى شك في أن هذه العمليّة الوسطى (الخط الثالث الإيجابي)، التي انبعثت منذ ميلاد أمر الله، سوف تحقّق الصّلح الأصغر في نهاية المطاف.
وصف لنا حضرة شوقي أفندي الصّلح الأصغر بقوله:
“وكما رأى حضرة بهاء الله بنفسه، لابد لهذه العمليّة المتدرجة أن تقود أوّلاً إلى قيام شعوب الأرض على تحقيق ذلك الصّلح الأصغر، دون وعيٍ برسالته الإلهيّة، ولا دراية بأنّهم يطبقون المبادئ الكبرى التي أعلنها حضرته”[14]
ثم يمضي حضرة شوقي أفندي في بيان ما يتوقّعه من مراحل متعاقبة لهذه العملية ويعرّفها كما يلي: “الوحدة السياسية لنصفي الكرة الأرضيّة الشّرقيّ والغربيّ… قيام حكومة عالميّة وتأسيس أركان الصّلح الأصغر كما تنبأ به النبيّ أشعيا”[15]. ثمّ يضيف أن هذه الخطوة تتضمّن: “إعادة تشكيل بنية البشريّة كنتيجة لإقرار عموم أهل العالم بوحدة الجنس البشري وشموليّته…”.[16]
ومن كلمات حضرة بهاء الله الموجّهة لملوك العالم وسلاطينه حول الصلح الأصغر، اقتطف حضرة شوقي أفندي في هذا السياق البيان التالي:
لمّا نبذتم الصّلح الأكبر عن ورائكم تمسكوا بهذا الصّلح الأصغر لعلّ به تصلح أموركم والّذين في ظلّكم على قدر يا معشر الآمرين أن أصلحوا ذات بينكم إذاً لا تحتاجون بكثرة العساكر ومهمّاتهم إلاّ على قدر تحفظون به ممالككم وبلدانكم…. أن اتّحدوا يا معشر الملوك به تسكن أرياح الاختلاف بينكم وتستريح الرعيّة ومَن حولكم إن أنتم من العارفين إن قام أحد منكم على الآخر قوموا عليه إن هذا إلاّ عدل مبين… [17]
وفي لوح آخر يتفضّل حضرة بهاء الله:
لابدّ بر اينست مجمع بزرگى در أرض برپا شود وملوك وسلاطين در آن مجمع مفاوضة در صلح أكبر نمايند وآن إينست كه دول عظيمه براي آسايش عالم بصلح محكم تشبّث شوند واگر مَلِكى بر مَلِكى برخيزد جميع متفقا بر منع قيام نمايند [18]
(وهو ما يمكن تعريبه بالاستعانة بترجمة حضرة شوقي أفندي بالإنجليزيّة، كما يلي)
إنّ الوقت لا بدّ آت عندما تتضح الحاجة إلى إقامة اجتماع عالمي واسع النّطاق، يحضره بالضرورة ملوك الأرض وسلاطينها، فيتفاوضون في طرق ووسائل لوضع أساس صلح محكم بين أهل العالم، لو قام ملكٌ على ملكٍ آخر، على الجميع أن يقوموا على منعه.
من المهم الآن أن نوجّه اهتمامنا إلى “الصّلح الأعظم” ومظاهره.
عرّف لنا حضرة شوقي أفندي “الصّلح الأعظم” بالكلمات التالية:
إنّ الصّلح الأعظم… كما أبدعه حضرة بهاء الله، هو صلح لابد أن يتحقّق كنتيجة عمليّة لتعميم الروحانيّة بالعالم وانصهار كافة أجناسه وملله وشعوبه وطبقاته الاجتماعيّة مع بعضها، لا سبيل إلي استقراره على أي أساسٍ ولا صيانته بأي عامل سوى الأحكام الإلهيّة الواردة في صلب النّظم العالمي المقترن باسمه الأقدس الأبهى.[19]
وقد اعتبر حضرة شوقي أفندي أيضا أنّ الكلمات التاليّة التي وجهها حضرة بهاء الله إلى الملكة فيكتوريا إنّما تشير إلى الصّلح الأعظم وليس إلى الصّلح الأصغر:
والذي جعله الله الدّرياق الأعظم والسّبب الأتمّ لصحته هو اتّحاد من على الأرض على أمر واحد وشريعة واحدة، هذا لا يمكن أبداً إلاّ بطبيب حاذق كامل مؤيّد لعمري هذا هو الحقّ وما بعده إلاّ الضّلال المبين.[20]
وفي لوح آخر يشير حضرة بهاء الله إلى اتحاد من على الأرض. ويقول حضرة شوقي أفندي إنّه إشارة إلى “الصّلح الأعظم”: اليوم لايق آنكه كلّ باسم اعظم تشبّث شوند نيست مهرب ومفرّي جز او وناس را متّحد نمايند[21]
(بالاستعانة بترجمة حضرة شوقي أفندي الإنجليزيّة، يمكن تعريب هذه الآية بما يلي:)
ما يليق اليوم لأهل العالم هو أن يتشبث الكلّ بالاسم الأعظم ويتّحد الجميع، لا مهرب ولا مفّر إلاّ إليه.
في النّصوص المباركة نجد لفظ “الصّلح الأصغر” ولفظ “الصّلح الأعظم”. ونجد أيضا لفظا ثالثا ورد كثيراً في النّصوص وهو “الصّلح الأكبر”. هذا الأخير نجده مترجماً بعدّة ألفاظ، مرّة “Lesser Peace” (الصلح الأصغر)، وأخرى “the Greater Peace” (الصلح الأكبر)، وحتّى “the Most Great Peace” (الصلح الأعظم) في بعض النّصوص. من المهم أن نلاحظ أن حضرة ولي أمر الله المحبوب، بصفته المبيّن لكلمات الله، ترجم “الصّلح الأكبر” بـ ”Lesser Peace” أو “الصّلح الأصغر”، وفي أماكن أخرى بـ ”Most Great Peace” أو “الصّلح الأعظم”، وذلك طبقا لسياق النّص. عند التمعّن في كلّ سياق للنص على حدة، نلاحظ أنّه كلما أشار النّص إلى الحدّ من التسلّح، أو لزوم التشاور بين الأمم، أو إلى مبدأ الأمن الجماعي، ترجم حضرة شوقي أفندي “الصّلح الأكبر” بلفظ “Lesser Peace” أو “الصّلح الأصغر”. ولكن عندما يتجاوز الحديث عن الوحدة السياسيّة إلى الحديث عن الوحدة في كلّ مظاهرها بما في ذلك وحدة الجنس البشري ووحدة الأديان، تصبـح الترجمـة “Most Great Peace” أو “الصّلح الأعظم”.
المتمعّن في قراءة النّصوص لن يجد صعوبة في الوصول إلى أنّ “الصّلح الأكبر” هو مرحلة بين “الصّلح الأصغر” و”الصّلح الأعظم”. في رأيي المتواضع، أعتقد أنّه يمكن بلورة المراحل الثّلاثة في الجمل التاليّة التي استعملها حضرة شوقي أفندي: “الوحدة السياسيّـة” هي “الصّلح الأصغر”؛ “بعث الروحانيّة لدى الجماهير” – “spiritualization of the masses” هو المرحلة الوسطى؛ و”انصهار كافة أجناسه وملله وشعوبه وطبقاته الاجتماعيّة مع بعضها” هو “الصّلح الأعظم”.
يكفي أن نذكر هنا أنّه واضح لي بأن وصف حضرة شوقي أفندي “الدّولة العليا” (super state) وما يلازمها من مؤسّسات كما أورد في كتابه “هدف النّظم العالمي الجديد، هو إشارة إلى المرحلة الوسطى أي “الصّلح الأكبر”، في حين أن معالم “رابطة شعوب العالم البهائي” أو “Bahá’í World
Commonwealth”، كما وصفها حضرة شوقي أفندي بدقّة ومعبِّرة في “الكشف عن المدنيّة العالميّة”، إنّما هي إشارة واضحة إلى “الصّلح الأعظم”.
ومن المهمّ في هذا الصدد أن نلاحظ أنّ حضرة شوقي أفندي في وصفه الدّولة العليا العالميّة، أن أوّل هيئة عالميّة جاء على ذكرها هي “سلطة تنفيذيّة عالميّة” في حين أن ما جاء في وصفـه النيّر لـ ”الصّلح الأعظم” تأخذ “السّلطة التنفيذيّة العالميّة” المركز الثاني، في حين تحتلّ كلمة “السّلطة التّشريعيّة” المركز الأوّل. يمكننا إذاً أن نفترض أنّ السبب في هذا يرجع إلى أنّه خلال هذه المرحلة الوسط أي “الصّلح الأكبر”، فإنّ روح السّلام السائد في العالم سيكون بلا شكّ بهائيّاً في جوهره، ولكن الشّكل الخارجي سوف يستمر لمدّة من الزمن على ما هو موجود من بنية العالم القديم.
يتخذ الفرع التنفيذي في حكومات اليوم عادة، بل غالباً، مركز القيادة ويمثل رئاسة الدّولة. المفهوم البهائي، كما أفهمه، مختلف. فالرئاسة منوطة بالسّلطة التّشريعيّة لا السّلطة التنفيذيّة. لهذا، على ما يبدو، جعل حضرة شوقي أفندي “السّلطة التّشريعيّة العالميّة” هي الهيئة الأولى والرئيسيّة في وصفه “رابطة شعوب العالم البهائي”.
عندما نبحث هذا الموضوع في آثار حضرة عبد البهاء، نشاهد نموذجاً مماثلاً. مثال ذلك لوح حضرة عبد البهاء المعروف باسم “الشّموع السّبعة” الذي أنزله حضرته سنة 1906. هذا التّاريخ هام، لأنّ في هذا اللوح يشير حضرة عبد البهاء إلى “هذا القرن” فيما يتعلّق بإحدى الشّموع، وهي شمعة “وحدة الأوطان”، بحيث يتّضح جليّا أن حضرته كان يقصد القرن العشرين.
الشّموع السّبعة، كما تفضّل حضرة عبد البهاء هي: (1) الوحدة السّياسيّة (2) وحدة الآراء في الأمور العظيمة (أي الشؤون العالميّة – unity of thought in world undertakings) (3) الوحدة في الحريّة (4) الوحدة في الدّين (5) وحدة الأوطان (6) وحدة الأجناس (7) وحدة اللّغة.خمسة من هذه الشموع تمثّل، بدون أدنى شكّ، الخطوات الأوّليّة نحو “الصّلح الأصغر”، في حين أنّ الشّمعة الرابعة والشّمعة السّادسة، أي الوحدة في الدّين ووحدة الأجناس، تشيران إلى نوع من الوحدة التي لا يمكن تحقيقها إلاّ بعد أن يتمّ تعميم الروحانيّة لدى الجماهير.
فالشّمعة الأولى مثلاً، وهي الوحدة السّياسيّة، تحقّقت بالتأكيد بتأسيس هيئة الأمم المتّحدة. الشّمعة الثّالثة، وهي الخاصّة بالوحدة في الحريّة، فإنّها إشارة واضحة إلى اقتراب نهاية الاستعمار الذي امتدّ حتّى النّصف الأوّل من القرن.الشّمعة الخامسة أو وحدة الأوطان، تتمثّل في روح وعي عالمي يعبّر عنه بالاعتراف بأنّنا جميعا، كما تفضّل حضرة عبد البهاء بخصوص هذه الشّمعة، “أهل وطن واحد”، وهو وعي تحقّق كاملاً في القرن العشرين. أمّا مغزى الشّمعتين المتبقيتين، الثّانية والسابعة، أي “وحدة الآراء في الأمور العظيمة (العالميّة)” و”وحدة اللّغة”، فأمرهما واضح لا يحتاج أن نتطرّق إليه.
ونحن البهائيّون، لا تزال أمامنا تحديات كثيرة تتمثل في إدخال المنهجيّة في أعمال التمكين والتدعيم من خلال المعاهد والحلقات الدّراسية، وفي توسيع نشاطنا في تبليغ الأمر بالإعلان عن الأمر المبارك بشكل أكبر، وتقوية نشاط التّبليغ المكثف، وتمسكنا بنمط الحياة البهائيّة جماعيّاً وفرديّاً. علينا أيضا فتح أبواب بيوتنا ومجتمعاتنا للباحثين، والمريدين، وأصدقاء أمر الله الجدد. مثل هذه الأنشطة لابد أن تخلق أمواجاً من التأثير الرّوحاني يكون من شأنه الإسراع بالأنشطة البناءة في التّكامل، التي يقوم بها قادة الفكر من ذوي النوايا الطيّبة وأهل الخير الموجودين في كلّ مكان، في سعيهم إلى إيجاد حلول للمشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة – وهي مشاكل تعوّق من وقت لآخر تقدّمهم نحو الهدف الذي وضعه لهم الجمال المبارك، عندما تفضّل في ألواحه المباركة وبيّن الحدود الدّنيا لمطالب الصّلح الأصغر.
تلخيصاً لما قلت وحتى نتوجّه بفكرنا نحو المستقبل، يمكننا تصوّر الأمور في السيناريو الآتي: سوف يستمر تدهور النسيج الاجتماعي للعالم ونُظُمِهِ السياسيّة وهياكله الاقتصاديّة وقيمه الأخلاقيّة، ليهوى بحضارة اليوم إلى أدنى مستوى من الانحطاط، في حين نستمر نحن البهائيّون، من جهة، في توسيع مجال أمرنا العزيز، وترسيخ أسسه، ونشر أنواره على هذا الكوكب، والإعلان عن رسالته المحيية بين الجماهير؛ في حين ومن جهة أخرى، تستمرّ القوى المتناغمة المستمدّة للنّشاط والسند من فيوضات روح أمر حضرة بهاء الله، في التطوّر والنموّ، وغرس جذورها في أعماق الضمير الإنساني، لتقود البشريّة في نهاية الأمر إلى الازدهار العامّ الناتج عن الصّلح الأصغر؛ بحيث يمكننا أن نتصوّر أنّه سرعان ما سوف يندمج مسارا التّكامل المتوازيان – أي أمر الله (العمليّة الأولى) والحركة البنّاءة التي تقابلها في العالم (العمليّة الثالثة) – في عمليّة واحدة متحدة عضويّاً تدفعها قوة إلهيّة، تقود العالم إلى الصّلح الأعظم ممهدة الطريق أمام قدوم ملكوت الله على الأرض في العصر الذهبي لأمر الله الأبدع العزيز. لكي نفهم بصورة أوضح، المراحل المختلفة التي لابدّ من المرور بها للوصول إلى الصّلح العالمي والمتمثّلة في تعاقب الخطوات التي تتضمّنها النعوت الملحقة بكلمة “الصّلح”، أي “الصّلح الأصغر” و”الصّلح الأكبر” و”الصّلح الأعظم”، يجدر بنا أن نتأمّل في المراحل التي أعلنها حضرة شوقي أفندي لتطوّر أمر الله على المستوى المركزي في تجليه من بلد لآخر قي العالم.
أوجز حضرة شوقي أفندي مراحل تقدّم أمر الله في كلّ قطر بسبع مراحل. سوف أبدأ بالمراحل الأربعة الأولى وهي: المجهوليّة، المظلوميّة، الاستقلال ثم الاعتراف . من الواضح أنّ المرحلة الأولى أي المجهوليّة قد انتهت من العالم، كما أخبر بذلك بيت العدل الأعظم. الأحبّاء بإيران، والأحبّاء بعدد من بلدان الشّرق الأوسط، هم الآن في المرحلة الثّانية أي المظلوميّة. المرحلة الثّالثة، وهي الاستقلال، يتحقّق أمرها عندما تعلن السّلطات الدّينيّة في قطر ما رسمياً، كما حصل في مصر، أنّه نظراً لكون أحكام ومبادئ الدّين البهائي مختلفة عن الشريعة الإسلاميّة فلا يمكن اعتبارها إلاّ بكونها ديناً مستقلاً وليس فرعاً من فروع الإسلام. المرحلة الرّابعة، أي الاعتراف بالأمر، هي عندما تعترف السلطات الحكوميّة بأمر الله في نطاق نظامها القانوني؛ أي عندما تحصل الجامعة البهائيّة على اعتراف بأنها منظمة دينيّة لها الحقّ في إقامة شعائرها المتعلّقة بالأحوال الشخصيّة بصورة رسميّة، مثل عقود الزّواج. هذا هو أرفع مستوى من الاعتراف الذي وصل إليه الأمر في أي قطر حتى الآن، وهو يمثل الحصول على منزلة متساوية لما تتمتّع بها جامعات الأديان الأخرى المعترف بها. قد يحدث أن يتجنب الأمر المبارك في تطوره مرحلة أو أخرى من تلك المراحل الأربعة، وهذا حصل فعلاً، إذ تختلف الظروف السائدة من قطر إلى قطر.
أما فيما يخص المراحل الثلاث المتبقّية، فالمرحلة الخامسة هي اعتبار الأمر المبارك “دين الدّولة” الرسمي في دولة ما. المرحلة السّادسة كما يصفها حضرة شوقي أفندي، هي عندما يندمج النّظام المدنيّ للإدارة الحكوميّة مع المؤسّسات المركزيّة للنظام الإداريّ البهائيّ. وهي كما وصفها حضرة شوقي أفندي بـ ”الدّولة البهائيّة”. المرحلة السّابعة تأتي عندما تتّفق دولة بهائيّة ما مع دول بهائيّة أخرى ليكوّنوا معا أوّل رابطة شعوب بهائيّة – رابطة تمثل المراحل الأوليّة للصلح الأعظم، وتعمل طبقاً للأحكام والمبادئ التي أعلنها حضرة بهاء الله. لابد أنّكم تدركون أنّ البهائيّين لم يتجاوزوا المرحلة الرابعة في أي قطر حتّى الآن. وهذا يعني أن كلّ الجامعات البهائيّة المركزيّة هي الآن تتطوّر ببطء، وفي بعض الأحيان بصعوبة، في المراحل الأربعة الأولى.
إن الانتقال من المرحلة الرابعة إلى الخامسة يتطلب توفّر الظروف الملائمة بنظر بيت العدل الأعظم وضمن إرشاداته وتوجيهاته، ولهذا تفضّل حضرة بهاء الله بأن ” أمور الملّة منوطة برجال بيت العدل الإلهي”[22] يمكننا القول إذاً بكلّ ثقة، إنّ المرحلة الخامسة على المستوى الوطني لأي قطر، هي الاعتراف بكون الأمر “دين الدّولة”، والمرحلة السّادسة، أي قيام “الدّولة البهائيّة”، يتفق والمستوى العالمي مع “الصّلح الأكبر”، الذي تليه المرحلة التالية أي “الصّلح الأعظم”. وإيماننا الراسخ كبهائيين بأن المرحلتين الأخيرتين، بل في الحقيقة، المراحل الثلاث الأخيرة كلّها ما هي إلا جزء من الخطّة الكبرى لله الوهاب المحيط بالممكنات.
أسئلة في الموضوع
س: كتب حضرة شوقي أفندي أن السّنوات القادمة “تحمل“ أحداثا لا يمكن تصوّر هولها ومحناً أقسى مما كانت عليه في السّابق. هل نحن في “السّنوات القادمة“؟ وهل لنا أن نخاف أو نرتعب ؟
ج: كلمة “تحمل” تعني أنّ هناك عمليّة. لا شكّ عندي أنّنا في الفترة المسماة “السّنوات القادمة”، ولكن لم الخوف ؟ لنضع ثقتنا بالله، ونحيا الحياة البهائيّة، ثم نواجه المستقبل بكلّ ثقة. الإيمان لا يكفي؛ يجب أن نثق بالله. وإذا كان لدينا أدنى شكّ، ما علينا إلاّ أن نقوم ونبرهن لأنفسنا حقيقة عونه وتأييده. يتفضّل حضرة شوقي أفندي في إحدى توقيعاته إلى المؤمنين بأمريكا بأنّه: “ليس هناك وقت للضّياع… إنّ السّاحة مهيأة، وتمّ الوعد الثابت الأكيد. لقد تحرّك مشروع الله… تؤازره قوى السّموات والأرض بوسائل الغيب… ليقم مَنْ لديه شّك ويتأكد بنفسه أنّه لوعد حق.”
س: ما هو “العدل الأعظم“؟
ج: أعتقد أنّه إشارة إلى مؤسّسات بيت العدل في مستوياتها الثّلاثة: العالميّة والمركزيّة والمحليّة.
س: هل يحمل الدّخول في دين الله أفواجاً أهميّة بالنّسبة للصّلح الأصغر؟
ج: أنا لا أراه كذلك. فالدّخول في دين الله أفواجاً عمليّة داخليّة في تطوّر تبليغ أمر الله. ما يريده منّا بيت العدل الأعظم هو أن نعدّ أنفسنا من خلال المعاهد والحلقات الدراسيّة ومجالس الدّعاء وصفوف الأطفال، لفتح أبوابنا لدخول الأفواج وتعميق مفاهيمنا في أمر الله بطريقة وافية ومنهجية. تشير كتابات حضرة شوقي أفندي إلى أن الدّخول في دين الله أفواجاً يشكّل المقدّمة لاهتداء الجماهير أو إيمان الجماهير (conversion of the masses).
أمّا الصّلح الأصغر، فسوف يأتي نتيجة مجهود قادة العالم السّياسي، عند اتّفاقهم في نهاية الأمر على تأسيس ما يمكن تسميته بسلام سياسي لا ديني، بين الأمم.
س: هل نعلم متى سيتحقّق الصّلح الأصغر؟ لماذا اعتقدنا أنّ تحققه في سنة 2000؟
ج: عندما سُئِلَ حضرة شوقي أفندي متى سيتأسّس الصّلح الأصغر بالضبط، أجاب بأنّنا لا نعلم ميقاته بالضّبط. أمّا التفكير في سنة 2000، فقد ورد في الشّمعة الخامسة شمعة “وحدة الأوطان” التي قال عنها حضرة عبد البهاء في ذلك اللوح بأنّها “وحدة سوف تظهر بمنتهى القوّة في هذا القرن”. وبما أن ذلك اللوح نزل في سنة 1906، يصبح من الواضح أن كلمة “هذا القرن” تعني القرن العشرين، خاصة وأن اللوح كان موجّها لأحد المؤمنين بالجزر البريطانيّة. النقطة التي غابت عن الأذهان، هي أن حضرة عبد البهاء وضّح في نفس ذلك اللوح معنى مرحلة “وحدة الأوطان”.هي عندما يرى “جميع ملل العالم أنفسهم أهل وطن واحد”، إنّها إشارة إلى وعي لدى أهل العالم بأنّ العالم فعلاً عالم واحد والأرض وطن لكلّ الجنس البشري. هذا الوعي، طبعا، هو خطوة هامة نحو الصّلح الأصغر ولكنّه ليس الصّلح الأصغر.
س: ما العلاقة بين المراحل السّبع في تطوّر الأمر وبين شموع الوحدة السّبعة؟
ج: هاتان عمليتان، واحدة تخصّ نموّ الأمر الدّاخلي بالنسبة لوضعه في العالم الذي من حوله، في حين أن الأخرى توضّح الأوجه المختلفة للسّلام العالمي كما ورد في الآثار المباركة.
س: عندما يصبح الدين البهائي دين الدولة الرسمي في قطر ما، هل ستستمر الدعوة إلى تحرّي الحقيقة ؟
ج: تحري الحقيقة مبدأ سوف يبقى في سموّه مهيمناً طيلة دورة حضرة بهاء الله. يعلّمنا حضرة الباب أن إرادة الله في نشر أمره لم تكن بالقوّة أو الإكراه في أيّ وقت من الأوقات.
س: ما معنى بيان حضرة شوقي أفندي في “الكشف عن المدنيّة العالميّة“ بأن “ يجب أن ينظر إلى أمر حضرة بهاء الله بكونه آخر وأسمى مرحلة في التّطوّر المذهل لحياة الإنسان الجماعيّة على هذا الكوكب“
ج: لقد شبّه حضرة شوقي أفندي عمليّة تكوين الفدراليّة العالميّة بالمراحل التي قادت الجمهوريّة الأمريكيّة لتصبح جامعة موحّدة من ولايات متّحدة، ووصف حضرته العمليّة الأخيرة (أي إقامة فدراليّة الولايات الأمريكيّة) أنها حَدَثٌ يعلن بلوغ الشعب الأمريكي سنّ الرشد، ويستمرّ حضرته في “الكشف عن المدنيّة العالميّة” ليقول:
يمكن أن يشاهد ما حقّقته هذه الأمّة في حدودها الترابيّة بمثابة ذروة ما يمكن أن يصل إليه الإنسان في عمليّة بناء حكومة له. فقد جُمِعَت (في الجمهوريّة الأمريكيّة) العناصر المتباينة والمتنافرة لجامعة منقسمة فيما بينها، وتمّ توحيدها وإدماجها في نظام مترابط منسجم. وبالرغم من أنّه ما زال أمام هذه الجامعة من مجال لتقوية التّماسك فيما بينها، وبالرغم من أنّ ما حقّقته من وحدة لازال في حاجة للدّعم، وبالرغم مما سوف تحقّقه تلك الحضارة من توسّع وازدهار – وهي الحضارة التي ما كان إلاّ لذلك الاتحاد وحده أن يبعثها – بالرغم من كلّ ذلك فإنه يمكن أن يقال أن لبّ هيكل الآليّة الضّرورية لظهور وتطوّر هذه الأمّة قد وُضِعَ، وأنّ الدّفع اللاّزم لتوجيهه وصيانته قد أقيم. لا يمكن تصوّر أيّ مرحلة أسمى أو مرحلة أخرى داخل الحدود الجغرافيّة لتلك الأمّة بعد أن حقّقت وحدتها الوطنيّة، وذلك على الرغم من أنها لم تبلغ بعد إلى ذروة قَدَرِهِا الأسمى كعنصر مؤسّس لكينونة تفوق في مداها تلك الأمة ومن شأنها أن تحتضن البشريّة جمعاء. أمّا عند النّظر إليها (الجمهوريّة الأمريكيّة) ككيان منفرد، عندئذ يجوز التسليم بأنّ عمليّة تكاملها قد بلغ أعلى ومنتهى ما يمكن تحقيقه.
وكما هو الحال بالنّسبة للحدود الجغرافيّة لأمّة، كذلك سيكون الحال بالنّسبة للحدود الجغرافيّة لكوكب الأرض. إنّه في مثل هذا الإطار يجب فهم ما تفضّل به حضرة شوقي أفندي عندما أشار إلى قيام الجامعة العالميّة في الكلمات التّالية:
إنّ رسالة حضرة بهاء الله… يجب أن ينظر إليها… بأنّها مِعْلَمٌ لآخر وأسمى مرحلة في التطوّر المذهل لحياة الإنسان الجماعيّة على هذا الكوكب. إن بروز مجتمع عالمي إلى الوجود، وظهور الوعي بالمواطنة العالميّة، وقيام حضارة وثقافة عالميّة… يجب أن يعتبر، نظراً إلى طبيعة تلك المعالم، وفي نطاق الحياة الدنيا، بمثابة أقصى ما يمكن الوصول إليه من تنظيم للمجتمع الإنساني. أما الإنسان، كفرد، وبالرغم من وصول المجتمع الإنساني إلى هذا الاكتمال، سوف يستمر، بل لابد له، كنتيجة لهذا الاكتمال، أن يستمر، في الرقيّ والنموّ بلا نهاية.
س: يخاطب حضرة بهاء الله الملوك والسلاطين بقوله: “إن قام أحد منكم على الآخر قوموا عليه إنّ هذا إلاّ عدل مبين…“. هل سيكون هناك وضع كهذا بعد استقرار الصّلح الأعظم ؟
ج: إذا قرأنا ما جاء قبل هذه الآية في النّص، يتضح لنا أن هذا التوجيه الخاص بمبدأ الأمن الجماعي ورد في سياق الصّلح الأصغر. من الصعب أن يوجد مثل هذا الوضع بعد استقرار الصّلح الأعظم. ومع ذلك إذا حصل، فإنّ تعليمات حضرة بهاء الله سوف تنفّذ على الفور.
س: إلى أين سوف يؤدّي مسار الانحلال وهل سيتوقف نهائيّاً؟
ج: تَحَدَّّثْتُ عن المسارين المتناقضين للتكامل والانحلال، الأوّل يرمز إلى نموّ وتقوية دعائم أمر الله والثاني يمثّل فساد المجتمع البشري وانهياره. إنّ ما علينا أنّ نتذكّره هو أن حضرة بهاء الله أشار إلى أنّنا نقترب من مرحلة نضوج البشريّة. يشرح لنا حضرة شوقي أفندي هذا النّضوج في الكلمات التالية:
إنّ التغيير الباطني الشامل لكلّ الأشياء، الذي يصعب تعريفه أو تحديده، الذي نقرنه بطور النّضوج المحتوم في حياة الفرد أو في نموّ الثمار، لابد… أن يكون له ما يماثله في تطوّر تنظيم المجتمع الإنساني… إنّ طور النّضوج في عمليّة الحكومة البشريّة يجب أن يبقى دائماً، إذا كنّا فعلاً مدركين لخطورة الدّعوة التي أتى بها حضرة بهاء الله، منسوباً إلى الرّسالة السماويّة التي حملها إلينا حضرته[23].
فلنأخذ حالة واحدة فقط. فكم كان الاقتناع جازماً خلال الأيّام التي سبقت توحيد ولايات شمال القارة أمريكيّة، بأن العوائق القائمة في طريق تحقيق فدراليّتهم بالكامل لا يمكن تخطيها! …هل كان ممكناً لأقلّ من نار حرب أهليّة بما أتت به من عنف وتقلّبات – حرب كادت أن تمزّق الجمهوريّة الأمريكيّة العظيمة – أن تعمل على التحام الولايات مع بعضها البعض، لا في اتحاد وحدات مستقلّة فحسب، بل في دولة، بالرغم من كلّ الاختلافات العرقيّة التي وسمت العناصر المكوّنة لها؟… أنْ لا أقلّ من نار محنة قاسيّة لا نظير لشدّتها، يمكن أن تُصْهِرَ وتُلْحِمَ الكيانات المتنافرة التي تكوّن عناصر مدنيّة اليوم، لتجعلها المكوّنات الأساسيّة المتكاملة لرابطة شعوب العالم المستقبليّة، إنّما هي حقيقة سوف تبرهن على صحّتها شيئا فشيئا الأحداث القادمة.
كما شاهدتم في البيانات المباركة آنفة الذكر، فإنّ معاناة العالم مطلب أساسيّ لحصوله على وعيٍ روحاني. أعتقد أنّي أريد أن أذكر بياناً آخر من بيانات حضرة شوقي أفندي الخطيرة، إضافة إلى ما ذكر في هذا الموضوع:
لابد لعمليّة الانحلال أن تستمرّ بلا هوادة ولا رحمة، ولابدّ أن ينخر التّآكل بصورة أعمق فأعمق في نخاع عصر يتداعى. لا بدّ من المزيد والمزيد من المعاناة لآلام قصوى قبل أن ينصهر في بوتقة البلاء الشامل فرقاء القوميّات والعقائد والطبقات وأجناس البشريّة… محناً لا يمكن تصوّر هولها سوف تتكاتف، وأزمات وتقلبات وحروب ومجاعات وأوبئة لا يمكن أن تخطر على بال سوف تتجمع، لتحفر في نفوس هذا الجيل التائه تلك الحقائق والمبادئ التي ترفّع في يوم ما عن عرفانها وإتّباعها.[24]
تفضّل حضرة عبد البهاء في أحد ألواحه، بأن مسار الانحلال الذي يدفع العالم اليوم نحو الكفر والإلحاد سوف ينحدر به إلى درجة من الارتباك والفوضى في عموم شؤونه بحيث لن يطيق تحملها، وهي مرحلة سوف تقود العالم إلى التوجّه نحو الدّين وإدراك أهميّة الرجوع إلى الله، عندئذ سوف يجد الشباب البهائي الحالي تلك الفرصة الفريدة للإعلان عن أمر حضرة بهاء الله لأناسٍ قلوبهم أكثر تقبلاً لرسالته المباركة حيثما كانوا. وإنّني أرى أنّه من الممكن جداً أن تكون تلك النقطة هي مرحلة الإيمان الجماعي (mass conversion) التي تنبأت بها كتابات حضرة شوقي أفندي، عندما يتضاعف “عدد المؤمنين بأمر حضرة بهاء الله وإمكاناته الماديّة وسلطته الرّوحيّة” بآلاف المرّات.
س: متى تنتقل الجامعة البهائيّة من مرحلة “الاعتراف“ إلى مرحلة “دين الدّولة“ في قطر ما ؟
ج: يشير حضرة شوقي أفندي إلى “أغلبيّة” سكان القطر. لم يحدّد حضرته حجم هذه الأغلبيّة التي يجب أن تكون عليه. وبما أن الموضوع يخص “الأمور السّياسيّة”، لذا يجب الرجوع إلى بيت العدل الأعظم عند ورود مثل هذا الوضع.
س: عندما تتأسّس “الدّولة البهائيّة“ في بلد ما، هل سيكون لغير البهائيّين الحق في التصويت والتعيين في مناصب إدارة الدّولة ؟
ج: كلّ ما يمكنني أن أقوله هو أن النّصوص المباركة لم تتعرّض لهذا الموضوع، لذا يجب الرجوع إلى بيت العدل الأعظم استنادا إلى النّص: “والأمور السّياسيّة كلّها ترجع إلى بيت العدل”.[25]
س: إضافة إلى هيئة الأمم المتّحدة التي ذكرتها، ماذا تقول في منظمات مثل الاتّحاد الأوربي والبنك العالمي وصندوق النقد الدّولي؟
ج: كلّ هذه مظاهر تدلّ على وعي البشريّة بضرورة التّضامن العام، وهو ما أشار إليه حضرة عبد البهاء في “الشّمعة الثّانية” حيث تفضّل بأنها “وحدة الآراء في الشؤون العظيمة”. والأمثلة التي أنت ذَكَرْتَهَا (أو ذَكَرْتِهَا) ما هي إلاّ بعض من عديد الأمثلة للجهود الرّامية إلى خلق مشاريع لترويج مصالح عموم الطبقات والأجناس والشعوب المكوّنة للمجتمع العالمي. هناك مثلاً منظّمة الصّحة العالميّة واليونسكو واليونساف والصّليب الأحمر والوكالات المختلفة التي تعمل اليوم في ميادين حماية البيئة والبحوث البحريّة واكتشاف النّظام الشّمسي وترويج القيم الإيجابيّة للعولمة ومحو الأميّة الخ… فمثل تلك المشاريع العالمية لم تكن موجودة من قبل، إنها لم تبدأ وترتقي على المستوى العالمي إلاّ في بداية القرن العشرين. لهذا وصف حضرة عبد البهاء القرن العشرين بأنّه “قرن الأنوار”. وعلاوة على ذلك نرى أن حضرة بهاء الله توجّه إلى كامل حكّام نصف الكرة الأرضيّة الغربي، ناصحاً، بل مسندا إليهم مهمّة خاصة، وخاطبهم وكأنّهم قادة وحدة جغرافيّة واحدة. ألا يتضمّن هذا، عمليّة تضامن “للعناصر المكوّنة” لهذه الوحدة ؟ لقد بُذِلَت عدة جهود من أجل تحقيق هذا الهدف، مع ما تعرّضت له من نكبات ونكسات. أشار حضرة شوقي أفندي في كتابه “قلعة الإيمان” (Citadel of Faith)، إلى أنّ نصف الكرّة الأرضيّة الشّرقي هو نظير لنصف الكرة الأرضيّة الغربي، كما سبق وتفضّل حضرة بهاء الله، وتوقّع بالخصوص أن تحصل وحدة سياسيّة بين نصفي الكرة الأرضيّة كخطوة نحو استقرار السّلام العالمي. ثمّ يصف لنا حضرة شوقي أفندي الخطوات التي يمرّ بها التّطوّر الاجتماعي للبشريّة في مسيرته نحو بلوغه طور النّضوج، في العبارات المُلْهَمَة التّالية:
لقد انقضت عصور البداءة والطّفولة الطّوال، التي كان لابدّ للجنس البشري أن يمرّ بها. وما تعانيه الإنسانيّة الآن هي اضطرابات لا مفرّ منها مرتبطة بالفترة الأكثر تمرّداً في تطوّرها، ألا وهي فترة المراهقة عندما يصل فيها طيش الشّباب وعنفوانه إلى ذروتهما، ثم لابد وأن يحلّ محلّهما تدريجيّا ما يتّسم به طور الرّجولة من هدوء وحكمة ونضج. عندئذ يصل الجنس البشري إلى قوام النّضوج الذي يمكّنه من نيل القوى والقدرات التي لابد وأن تتوفّر لكي يبلغ أوج ازدهاره. إنّ توحيد الجنس البشري إنّما هو الصّفة المميّزة للطّور الذي يقترب منه المجتمع البشري اليوم. لقد جرّب العالم ونجح في تحقيق الوحدة في العائلة، ثمّ القبيلةّ، ثمّ دولة المدينة، ثم الأمّة. الهدف الذي تناضل من أجله الإنسانيّة المرهقة الآن إنّما هو وحدة العالم. فبناء الأمّة بلغ نهايته، والفوضى الكامنة في سيادة الدّولة وصلت أقصاها. وعلى العالم الذي يتدرّج نحو البلوغ أن يترك عبادة هذا البُدّ[26]ويقر بوحدة وشموليّة الأواصر الإنسانيّة ويقيم نهائيّا وعلى نحو لا رجعة فيه كافة الآليات التي تجسّم أسمى ما في ذلك المبدأ الأساسي الذي لابدّ منه.
[1] لوقا – الإصحاح 20، الآيات 9–16.
[2] رؤيا يوحنا اللاهوتي، الإصحاح 21، الآية 1.
[3] الأصل الفارسي “هنگام فناي عالم واهل آن رسيد”، (قد ظهر يوم الميعاد ص 1)
والإنكليزي: The time for the destruction of the world and its people hath arrived
[4] القرن البديع، ص 280 – معرّب عن: از دو طائفه عزت برداشته شد امراء وعلماء.
[5] القرن البديع، ص 264 الأصل الفارسي: حال ارض حامله مشهود زود اس كه اثمار منيعة واشجار باسقة واوراد محبوبة ونعماء جنية مشاهدة شود.
[6] الأصل الفارسي: زوداست بساط عالم جمع شود وبساط ديـﮕر ﮔسترده ﮔردد – منتخباتي از آثار حضرت بهاء الله ص 13.
[7] الأصل الفارسي كما يلي: اين امراض مزمنه شفا ميابد بلکه روز بروز سخت تر شود وبدتر گردد.
[8] مترجم عن الأصل الفارسي: تا عالم انسانی منقلب شود وفيوضات رحمانی رخ بگشايد – منتخبات فقرة 224.
[9] الكشف عن المدنيّة العالميّة.
[10] Citadel of Faith
[11] هدف النّظم العالمي البديع.
[12] الكشف عن المدنيّة العالميّة.
[13] هدف النّظم العالمي البديع.
[14] قد جاء اليوم الموعود.
[15] Citadel of Faith
[16] قد جاء اليوم الموعود.
[17] منتخباتي أز آثار حضرت بهاء الله، رقم 119، ص 163.
[18] المصدر السابق، رقم 117، ص 159–160.
[19] الكشف عن المدنيّة الإلهيّة.
[20] ألواح حضرة بهاء الله إلى الملوك والرؤساء، ص 60 (طبعة 1983).
[21] منتخباتي أز آثار حضرت بهاء الله، رقم 100، ص 133.
[22] مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله، “البشارة الثالثة عشر”، ص 55.
[23] الكشف عن المدنيّة العالميّة (World Order 361–4)
[24] الكشف عن المدنيّة العالميّة (World Order 193)
[25] مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله، “البشارة الثالثة عشر”، ص 55.
[26] الأصل الإنكليزي –fetish –: شيء كانت الشعوب البدائيّة تعتبر أنّ له قدرة سحرية على حماية صاحبه ومساعدته.
في الكتاب الأقدس
وألواح وصايا حضرة عبد البهاء
وصف
حضرة شوقي أفندي الكتاب الأقدس لحضرة بهاء الله وألواح وصايا حضرة عبد البهاء على أنّهما المخزنان الرئيسان الحافظان “لتلك العناصر الثمينة الفريدة للحضارة الإلهيّة التي يعتبر تأسيسها الهدف الرئيس للدّين البهائي”[1]وبأنهما “المستأمنان التوأمان على العناصر المقوّمة للدّولة العليا التي استبقت إقامتها التعاليم البهائيّة”([2].ثم يصف حضرته الكتاب الأقدس بأنّه “دستور الحضارة العالميّة المستقبلية”([3]. ويصف حضرته أيضاً ألواح وصايا حضرة عبد البهاء بالتسمية نفسها[4].
من الجدير بالذكر أن نعرف أنّ أحباء إيران عندما قرؤوا الكتاب الأقدس للمرة الأولى، ومع أنّهم أولوه كامل الاحترام، إلاّ أنّهم اعتبروه مجرّد أُمِّ الكتاب لحضرة بهاء الله أو كتاب الأحكام، مثل ما كان القرآن أُمَّّ الكتاب بالنّسبة للعالم الإسلامي. لم تُفْهَم بعض آيات الأقدس فهماً صحيحاً، بل للأسف أن البعض منها أسيء فهمها. مثال ذلك تلك الآية المشهورة بالكتاب الأقدس التي أعلنت عن قيام النّظم البديع، حيث فَهِمَهَا الأحبّاء على أنّها تعني أن نظام آيات الكتاب الأقدس نزّلت بترتيب خاص ومغاير لنظام الآيات في البيان وجميع الكتب المقدّسة للدّورات السّابقة.
يوجد أيضا في البيان الفارسي آية تشير إلى نظم حضرة بهاء الله. فهم الأحباء هذه الآية المتماثلة الموجودة في البيان الفارسي والتي استبقت نظم حضرة بهاء الله، بنفس الطريقة، أي أنّ أُمُّ الكتاب لحضرة بهاء الله لن يكون مثل البيان مقسّم إلى فصول وآيات، بل سينفرد بشكل خاص به. وبقي الحال على هذا الفهم إلى سنة 1934، أي بعد قيام مؤسّسة ولاية الأمر بثلاث عشرة سنة، عندما ترجم حضرة شوقي أفندي هذه الآية الأساسيّة في أُمُّ الكتاب لحضرة بهاء الله، فاتضح للبهائيّين في الشّرق والغرب لأوّل مرة أن “النّظم” المذكور ليس له صلة لا بالشكل ولا بالأسلوب في الكتاب الأقدس، بل كان إعلاناً بأن رسالة حضرة بهاء الله هي الـمُنْجِبَةُ لمنظومة عالميّة جديدة لإدارة شؤون العالم وتأسيس ملكوت الله الموعود على الأرض.
أما فيما يخص ألواح وصايا حضرة عبد البهاء، فقد اعتبرها البهائيون في الشّرق والغرب بمثابة امتداد لميثاق حضرة بهاء الله في منح حضرة عبد البهاء صلاحية تعيين مَن يخلفه من بعده. وعليه، رأى البهائيون بالعالم في حضرة شوقي أفندي خليفة لحضرة عبد البهاء. بحيث يصبح حضرة شوقي أفندي المبيّن للكلمة الإلهيّة ومركز أمر الله ومرجع الجميع. كلّ هذا كان بطبيعة الحال صحيحاً، ولكنه كان تقييماً ساذجاً وبسيطاً مقارنة بما تفضّل به حضرة شوقي أفندي فيما بعد بأنّ ألواح الوصايا هي “دستور الحضارة العالميّة المستقبلية”.
رفع حضرة شوقي أفندي الحجب بالتدريج. ففي عام 1923، مثلاً، وكان لم تمض سنتان على صعود حضرة عبد البهاء، وصف حضرته ألواح الوصايا بأنّها “مدهشة في جميع أوجهها” وأنّ محتواها “تحدّى وأربك أعظم العقول ذكاءً”.وكتب حضرته إلى أحبّاء إيران ما يلي:
…سوف يستوي بيت العدل الأعظم الإلهي ويستقرّ في مستقبل الأيّام. وعندما يرتفع هذا البنيان الأعظم…. تنكشف وتظهر بالتـّدريج النـّوايا المقدّسة الإلهيّة والحِكَم والمعاني الكلّيـّّة والرّموز والحقائق الملكوتيّة، وهي ودائع من رسالة حضرة بهاء الله الغيبيّة في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء المباركة[5].
وفي سنة 1924 كتب حضرته ما يلي:
إنّ مولانا المحبوب في ألواح وصاياه المباركة؛ لا يدعونا فحسب إلى تبنّي نظم حضرة بهاء الله العالمي الجديد بدون تحفّظ، بل أيضاً كشف النّقاب عن أهليّته لجميع أهل العالم. إنّه لسابق لأوانه وجرأة مفتعلة من طرفنا أن نحاول تقدير قيمتها كاملاً، أو نقف على دقيق معانيها في غضون مدّة قصيرة كهذه من الزّمن منذ استهلالها.لكي نحصل على فهم أكثر وضوحا وشموليّة لما تقدّمه وتتضمّنه (ألواح الوصايا) علينا أن نعتمد على الزمن وهداية بيت العدل الأعظم الإلهي[6].
وبعد خمس سنوات، إي في سنة 1929، أطلق حضرته على ألواح الوصايا اسم “المستودع الرئيسي الحافظ للعناصر الثمينة الفريدة لتلك الحضارة الإلهيّة” وأضاف التذكير التالي:
إنّنا فعلاً نقف قريباً جدّاً من وثيقة ( ألواح الوصايا ) على هذا القدر الكبير من العظمة والأهميّة بحيث لا يمكننا أن ندّعي أنّنا فهمنا بصورة كاملة كلّ ما تتضمّنه من معان أو نفترض أنّنا أدركنا الأسرار الخفيّة العديدة التي لاشكّ أنّها موجودة فيها. إنّ الأجيال القادمة وحدها هي القادرة على فهم المعاني العظيمة المكنونة في هذه الرّائعة السّماويّة التي أبدعها باني العالم الماهر من أجل توحيد ونصرة أمر حضرة بهاء الله العالمي النّطاق.[7]
لم يقف حضرة شوقي أفندي عند هذا البيان؛ بل استمرّ حضرته في تقييم وتمجيد العناصر الغيبيّة التي تضمنتها ألواح وصايا حضرة عبد البهاء. في 25 مارس/آذار 1930، صَعَّدَ في بياناته من درجة التمجيد لألواح وصايا حضرة عبد البهاء بقوله: “ما تتضمنه وصيّة حضرة المولى أكثر بكثير من أن يدركه الجيل الحالي. إذ إنّه يحتاج إلى ما لا يقل عن مائة سنة من العمل قبل أن تظهر كنوز الحكمة المكنونة فيها..”.
إلاّ أنّ عقول الأحبّاء تحيّرت في البحث عن تلك العناصر الغيبيّة. أين هي؟ هل يمكن أن تكون نسبة إلى فهمنا المحدود لمقام ولاية الأمر؟ هل الغيبيّات تخصّ الطريقة التي سيعمل بها بيت العـدل الأعظم ؟ لماذا ضرورة مرور كلّ هذا الزمن حتّى يتمكّن الأحبّاء من فهم تلك الوثيقة التي بدت وكأنها وثيقة واضحة عن مستقبل الإدارة لأمر الله ؟
سوف أتناول الآن هذه الأسئلة.
يتفضّل حضرة شوقي أفندي أنّه ليس هناك من تضارب أو تعارض فيما يتضمّنه الدّستوران، أي الكتاب الأقدس وألواح وصايا حضرة عبد البهاء، بل “يؤيّد كلّ منهما الآخر ويكوّنان جزأين لا يتجزءان من وحدة واحدة كاملة”. مع ذلك التعارض بين المستندين موجود، ومع أنّه سطحي لكنه هام، فبينما يوجد في الكتاب الأقدس ما يدلّ على أنّه سوف يأتي زمن لن يكون فيه أغصان وهذا يعني انتفاء وجود ولاة أمر آخرين، نجد أنّ ألواح وصايا حضرة عبد البهاء تتضمّن وجود سلسلة من ولاة الأمر.
فآية الكتاب الأقدس التي تشير إلى الأغصان وردت في الفقرة 42 كما يلي:
قد رجعت الاوقاف المختصّة للخيرات إلى الله مظهر الآيات ليس لاحد ان يتصرّف فيها الاّ بعد اذن مطلع الوحي ومن بعده يرجع الحكم إلى الاغصان ومن بعدهم إلى بيت العدل ان تحقّق أمره في البلاد ليصرفوها في البقاع المرتفعة في هذا الأمر وفيما أمروا به من لدن مقتدر قدير والاّ ترجع إلى اهل البهآء الّذين لا يتكلمون الاّ بعد اذنه ولا يحكمون الاّ بما حكم الله في هذا اللّوح اولئك اوليآء النّصر بين السموات والارضين ليصرفوها فيما حدّد في الكتاب من لدن عزيز كريم.
وفي الشرح رقم 66 و67 في الكتاب الأقدس نقرأ ما يلي:
66 – الأغصان (42)
«الأغصان“ جمع غصن لغةً كلّ من انشعب من أصل الشجرة. وقد أطلق حضرة بهاء الله كلمة “الأغصان” على سلالته من الذكور. ولهذا التعيين آثار هامّة لا تقتصر على التّصرّف في الأوقاف فحسب بل تتعدّى ذلك إلى موضوع خلافته[8] (انظر الشرح فقرة 145) وخلافة حضرة عبد البهاء وقد عيّن حضرة بهاء الله في “كتاب عهدي” ابنه البكر، حضرة عبد البهاء، ليكون مركز العهد والميثاق، وليتولّى رئاسة الدّين من بعده. وعيّن حضرة عبد البهاء بدوره في “ألواح الوصايا” سبطه البكر، شوقي أفندي، ليحمل أعباء ولاية الأمر ورئاسة الدّين من بعده.
فآيات الكتاب الأقدس هذه قد دبّرت سلفاً أمر الخلافة بأغصان مختارين، وبالتّالي قيام ولاية الأمر، كما تنبأت أيضا باحتمال انقطاع سلالتهم. وعجّلت وفاة حضرة ولي أمر الله عام 1957 بتحقيق هذه النبوءة، حيث انقطعت سلالة الأغصان قبل تأسيس بيت العدل الأعظم [9]
67 – ترجع إلى أهل البهاء (42)
توقّع حضرة بهاء الله انقطاع تسلسل الأغصان قبل قيام بيت العدل الأعظم فأمر في هذه الحالة بأنّ “الأوقاف المختصة للخيرات…. ترجع إلى أهل البهاء” وقد وردت عبارة “أهل البهاء” في هذا المقام بأنّهم«الّذين لا يتكلمون الاّ بعد اذنه ولا يحكمون الاّ بما حكم الله في هذا اللّوح”. وبعد وفاة حضرة وليّ أمر الله عام 1957، تولّى أيادي أمر الله شؤون الدّين البهائي حتّى انتخاب بيت العدل الأعظم عام 1963.[10]
هناك نقطة هامة بالنّسبة للأغصان تحتاج إلى بعض التوضيح. ففي آثار حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء يوجد تمييزاً واضحاً بين الأغصان الذين يعيّنون رؤساء للأمر ومبيّنين للتعالم الأمريّة وباقي الأغصان الآخرين. فيما يخص الآخرين من الأغصان، يتفضّل قلم حضرة بهاء الله في “كتاب عهدي”: “محبّة الأغصان واجبة على الكلّ، ولكن ما قدّر الله لهم حقاً في أموال النّاس”.هذا التّحريم في الحصول على بعض الحقوق يرجع إلى ما هو ممارس في بعض الفرق الإسلامية حيث تعطى بعض الامتيازات لسلالة الرّسول محمد وتسمح لهم الاستفادة من بعض المنافع الماليّة من الغير.
تؤكّد الألواح والوصايا بكلّ وضوح على أنّه: “يجب على وليّ أمر الله أن يعيّن في زمان حياته من هو من بعده لكيلا يحصل الاختلاف بعد صعوده”. ثمّ تؤكد أيضا أن ولي أمر الله هو “الرئيس المقدّس” لبيت العدل الأعظم و”العضو الأعظم الممتاز الذي لا ينعزل”. وأيضا:
وعلى أيادي أمر الله أن ينتخبوا تسعة أفراد من جمعهم ليشتغلوا على الدّوام بالخدمة المهمّة لولي أمر الله…. وعلى هؤلاء التّسعة أن يصدّقوا، إما بالاتفاق أو بأكثريّة الآراء على الغصن المنتخب الذي يعيّنه ولي الأمر بعده.[11]
إحدى المزايا المدهشة لألواح ووصايا حضرة عبد البهاء هي مرونتها. فمن ناحية تقيم بيت عدل أعظم برئاسة ولي الأمر وعضويته، ومن ناحية أخرى، وفي الوثيقة نفسها، يتوقع واضع الوصايا قيام بيت عدل أعظم يتمتّع بنفس الهداية الإلهيّة، ولكن بدون ولي الأمر ولا عضويته. إذ يتضح من فقرتين لنصوص ألواح الوصايا، أن الأعضاء المنتخبين لبيت العدل الأعظم هم محط هداية إلهيّة مستقلّة، لا تتوقّف على وجود ولي الأمر رئيساً مقدّساً لهذه المؤسّسة. المرجع الأوّل هو ما يلي:
والفرع المقدّس – أي ولي أمر الله – وبيت العدل العمومي الذي يؤسّس ويشكل بانتخاب العموم، كلاهما تحت حفظ وصيانة الجمال الأبهى وحراسة العصمة الفائضة من حضرة الأعلى، روحي لهما الفداء، كلّ ما يقرّرانه من عند الله. من خالفه وخالفهم فقد خالف الله….[12]
والمرجع الثاني نجده في القسم الثاني من ألواح وصايا حضرة عبد البهاء الذي كتب في أغلب الظنّ عام 1907. هذه كلمات حضرة عبد البهاء: “أيّها الأحبّاء الأعزاء، أنا الآن في خطر عظيم، وأمل ساعة في الحياة مفقود. فاضطررت لتحرير هذه الورقة حفظاً لأمر الله وصيانة لدينه وحفظاً لكلمته وصوناً لتعاليمه”[13]
في هذا الجزء من الوصيّة، الذي كُتِبَ عندما كان حضرة شوقي أفندي في العاشرة من عمره تقريباً وفي فترة وصَفَهَا حضرة شوقي أفندي فيما بعد على أنّها: “أظلم فترات حياة حضرة عبد البهاء تحت حكم عبد الحميد، عندما كان حضرته مهدّداً بالترحيل إلى أقاصي مناطق إفريقيا الشّماليّة”، كتب حضرة عبد البهاء ما يلي:[14]
…ومرجع الكلّ – الكتاب الأقدس – وكلّّ مسألة غير منصوصة ترجع إلى بيت العدل العمومي، وكلّ ما يقرّره بيت العدل بالاتّفاق أو بأكثريّة الآراء هو حق وهو مراد الله. من تجاوز عنه فهو ممّن أحب الشّقاق وأظهر النفاق وأعرض عن ربّ الميثاق. والمراد هو بيت العدل العمومي الذي ينتخب من جميع البلاد بمعنى أن أحبّاء الشّرق والغرب الموجودين ينتخبون الأعضاء… ويجتمع هؤلاء الأعضاء في مكان ويتذاكرون فيما وقع فيه الاختلاف أو في المسائل المبهمة أو في المسائل الغير المنصوصة وكلّ ما يقرّرونه إنّه كالنّص.
وكما هو مذكور في رسالة بيت العدل الأعظم المؤرّخة 9 مارس/آذار 1965، فقد وجّه حضرة عبد البهاء في ذلك الوقت بالذات، لوحاً إلى ابن عمّ حضرة الباب الحاج ميرزا تقي أفنان، وهو كبير بناة مشرق أذكار عشق آباد، ضمّنه شرحاً للمخاطر التي تهدّد حياته ومخبراً إيّاه أنّ حضرته كتب وصيّة فيها تعليماته لانتخاب بيت العدل الأعظم. ثمّ طلب إليه في ذلك اللّوح أنّه إذا ما تحقّقت تلك المخاطر على حياته، فعليه أن يأتي فوراً إلى الأرض الأقدس، ويفتح الوصيّة وينفذ التّعليمات.
إلاّ أنّ الاحتياطات هذه التي اتّخذها حضرة عبد البهاء لم تطبّق لعدم الحاجة. إذ أطاح حزب تركيا الفتاة بالسّلطنة العثمانيّة، وخرج حضرة عبد البهاء من السّجن وقام بنشاط مكثّف لأكثر من عقد من الزمن. ألا يمكن لنا إذاً أن نفترض أن ما جرى لم يكن سوى تقدير من إرادة الله الغيبيّة حتّى يتمكّن حضرة عبد البهاء من ترك دليل واضح للأجيال القادمة، وبطريقة طبيعيّة وعمليّة، أن بيت العدل الأعظم يستطيع بكل تأكيد أن يعمل بكامل إمكانياته دون الوجود العنصري لولي أمر الله كرئيس له؟
إنّ الهداية الإلهيّة الخاصة والمباشرة التي سوف تشمل بيت العدل الأعظم بأعضائه المنتخبين خلال هذه الدّورة بأكملها، إنّما هي حقيقة تؤكّدها كلمات حضرة شوقي أفندي التي وردت في توقيعه “دورة بهاء الله”، حيث نقرأ:
إنّ أعضاء بيت العدل الأعظم في اضطلاعهم بشؤون أمر الله الإداريّة وبمهمّة سنّ الأحكام اللاّزم إضافتها إلى أحكام الكتاب الأقدس، لا يكونون، بحسب بيانات حضرة بهاء الله الصّريحة، مسئولين أمام أولئك الّذين يمثلونهم… عليهم أن يستجيبوا، بتضرّع وخشوع، لما يوحي ويملي عليهم وجدانهم. …إنّهم هم الّذين “يلهمهم ما يشاء”، وليس جمهور الّذين ينتخبونهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهم الّذين جعلوا محط هذه الهداية الإلهيّة، التي هي في آن واحد قوام حياة هذا الظهور وسبب حفظه وحمايته…[15]
في ضوء ما حدث بعد وفاة حضرة شوقي أفندي الذي لم يترك وصيّة ولم يعيّن أثناء حياته غصناً ليخلفه (وهو التعيّين الذي يجب أن يوافق عليه أيادي أمر الله التّسعة بالأرض الأقدس)، أصبح من الواضح الجليّ لأيادي أمر الله وكامل العالم البهائي أن الوضع الثاني الوارد بألواح الوصايا كان واقعا محتوماً، ولم يكن مطابقاً تماماً مع ما ورد بألواح الوصايا بالذات فحسب، بل لنصوص الكتاب الأقدس أيضاً.
قد يكون من المفيد هنا أن نستعرض باختصار ألواح وصايا حضرة عبد البهاء في ضوء ما ورد في “كتاب عهدي” لحضرة بهاء الله.[16] في هذه الوثيقة، عيّن حضرة بهاء الله الغصن الأعظم حضرة عبد البهاء خليفة له. ثمّ يستمرّ حضرة بهاء الله بقوله “قد اصطفينا الأكبر بعد الأعظم أمراً من لدن عزيز خبير” (الغصن الأكبر هو الميرزا محمد علي والغصن الأعظم هو حضرة عبد البهاء). هذا يعني أن بعد حضرة عبد البهاء يكون الميرزا محمد علي، الأخ غير الشّقيق لحضرة عبد البهاء، هو مركز العهد والميثاق، شرط أن يكون مستقيماً على العهد والميثاق ومقتنعا بأنّ مقامه يأتي بعد المقام المقصور على حضرة المولى. ولكن قبل دفن حضرة بهاء الله وبينما كان حضرة عبد البهاء بصدد غسل جثمان والده المبارك بيديه، كان الميرزا محمد علي وإخوته وصهره وأفراد من عائلته المقرّبين قد تآمروا على معارضة حضرة عبد البهاء.
أول خيانة قاموا بها سرقة صندوقين فيهما وثائق وأوراق تركها حضرة بهاء الله أمانة عند حضرة عبد البهاء، وكان من ضمنها عدد من أختام حضرة بهاء الله. بعد ذلك قام محمد علي بشنّ تهجماته المتلاحقة ضد شخص حضرة عبد البهاء بإرسال الرسائل المتنوعة، يتلوها المبعوثون، في محاولة لإثبات إدعائه بأنّه هو المقصود في وصيّة حضرة بهاء الله، ساعياً في الوقت نفسه إلى تشويه سمعة حضرة عبد البهاء، زاعماً أنّ حضرته ادّعى أنّه مظهر إلهي. يجب أن نتذكر هنا أن الميرزا محمد على كان قد ادّعى، أثناء حياة والده، أنه ‘حامي حمى الدّين’، وحامل لواء ‘الموحّدين’، و’الأصبع’ المشيرة إلى مولاه، وراعي العائلة المباركة، والناطق بلسان ‘الأغصان’، والمعتصم بحبل الآثار المقدّسة…[17]الأمر الذي دفع والده، حضرة بهاء الله، إلى معاقبته بصفعة على وجهه بيده.
في أحد ألواحه إلى أحبّاء إيران، تفضّل حضرة بهاء الله وأعلن بالتحديد أنّه لم يسند أي مقام روحاني إلى محمد علي مضيفاً بياناً صريحاً “وإذا انحرف آناً عن ظلّ الأمر فيكون معدوما صرفا”. أورد حضرة عبد البهاء ذكر هذا البيان في ألواح وصاياه[18]، ثمّ عدّد صنوف الانحراف التي سلكها محمد علي، بما في ذلك مؤامرته لقتل حضرة عبد البهاء، ووصل حضرته إلى النتيجة التي لا يمكن الطعن فيها، بأنّ محمد علي قد نقض العهد والميثاق وبذلك فَقَدَ أهليته للخلافة من بعده.
الكثير من تلك الانحرافات كانت معروفة لدى الأحبّاء في إيران أثناء حياة حضرة عبد البهاء. والبعض كانوا يتساءلون: ماذا سوف يحصل بعد الصعود المبارك؟ كان حضرته يجيب أحياناً إنّ بيت العدل سوف يؤسّس، وفي مرّات أخرى كان يتفضّل بأنّ هذا “سرّ مكنون” وأنّه “سوف يأتي وقت انبلاج نوره وتجلّي آثاره وانكشاف أسراره”.
في كتابها “الجوهرة الفريدة”، تورد روحيّة خانم ذكريات طبيبة ألمانيّة تدعى الدكتورة فالشـير Dr. J Fallscheer التي كانت تسكن حيفا وتعنى بسيدات العائلة المباركة. في تلك الذكريات التي نشرت أوّلاً بالألمانيّة، تقول الطبيبة أنها علمت من حضرة الورقة المباركة العليـا أنّ شوقي أفندي مقدّر له أن يخلف المولى. وفي ذات يـوم، في أغسطس/آب 1910، اتجه حضرة عبد البهاء إلى Dr. Fallscheer بعد أن ترك شوقي أفندي الغرفة التي كانا فيها، وقال:
ما رأيكِ في إليشيعي (my Elisha) القادم ؟ … هل تعلمين لماذا؟ …بهاء الله … المظهر المبارك ذكرّني بأنّ عليّ … أن أحافظ من بين أبنائي وأحفادي على من يختاره الله… أبنائي صعدوا إلى العالم الآخر في الصغر، ولا يوجد من بين سلالتي، من بين أقربائي سوى شوقي الذي أرى في أعماق عينيه سمات من يستطيع أن يحمل الأعباء الجسام بدافع ذاتي عظيم.
لا يفوتني أن أشارككم بحقيقة في هذا الصدد. لقد تولّدت لدى بعض المؤمنين الأوائل في إيران قناعة بأنّ حضرة عبد البهاء سوف يعيّن أحد أحفاده خليفة له، طالما أنّ ميرزا محمد علي قد نقض العهد والميثاق.لم تكن تلك القناعة مبنية على ذكريات الدكتورة الألمانيّة، التي لم تكن متوفّرة باللّغة الفارسيّة بطبيعة الحال، لكنهم وصلوا إليها على أساس ما ورد في لوح “ملاّح القدس”. هذا اللوح يبرز ثلاث شخصيّات (1) “ملاّح القدس” وهو حضرة بهاء الله نفسه؛ (2) “حوريّة الرّوح” التي “أشرقت أنوار جبينها من الأرض إلى السماء” أي حضرة عبد البهاء؛ ثمّ (3) “جارية من جواريها الأحلى” التي سمّيت أيضاً “حورية القرب” التي “عطّرت كلّ الأشياء في أراضي القدس” والمعني هنا حضرة شوقي أفندي. واكتسبت تلك التخمينات أهمية أكبر عندما كتب حضرة عبد البهاء في أحد ألواحه الأخيرة “ادرسوا لوح ملاح القدس حتى تصلوا إلى الحقيقة وتلاحظوا كيف تنبأ جمال القدم بكل الوقائع الآتية، إنّ في ذلك لعبرة للمتبصرين وموهبة للمخلصين”.[19]
علينا الآن أن ننتقل إلى موضوع حكم الوراثة، ليس فقط بالنسبة لحضرة شوقي أفندي كوليّ لأمر الله، بل إلى النّظام الإداري نفسه الذي أشار إليه حضرة شوقي أفندي مرارا على أنّه “وليد العهد والميثاق”.[20] وفي موقع فريد أشار حضرة شوقي أفندي إلى ألواح وصايا حضرة عبد البهاء بأنها “وليد العهد والميثاق” – وَليدٌ وُلِدَ من تفاعل الطّاقات الخلاّقة لأحكام حضرة بهاء الله في عقل حضرة عبد البهاء. ويجب ألا تشوشنا حقيقة أن يطلق لفظ “وليد العهد والميثاق” على دستور النّظام الإداري (ألواح الوصايا) وفي نفس الوقت على النّظام (الإداري) نفسه، إذ إنّ الأوّل يخصّ تأسيس الكينونة بالآثار المباركة، والثاني يشير إلى بروز هذه الحقيقة لكي يشاهدها الجميع.
يجب ألاّ يغيب عن الأذهان في هذا السياق أنّ العهد والميثاق البهائي ليس شيئاً بدأ بولاية حضرة عبد البهاء وانتهى بانتهائها. فبينما كان حضرة عبد البهاء مركز العهد والميثاق وسوف يكون كذلك دائما، فإنّ العهد والميثاق البهائي هو مُقَوِّمٌ جوهريّ لن ينفصم عن أمر حضرة بهاء الله حتّى نهاية هذه الدّورة. لقد أشار حضرة عبد البهاء في أحد ألواحه إلى مرحلة ولايته بكونها “صبح” العهد والميثاق البهائي. مما يعني أنّ التجلّي الكامل للعهد والميثاق خلال يوم دورة حضرة بهاء الله لم يزل آتٍ. تتضح هذه النقطة الهامّة في الجزء التالي من رسالة كتبت نيابة عن حضرة شوقي أفندي:
أمّا فيما يخص معنى العهد والميثاق: فإن حضرة وليّ أمر الله يرى أن هناك شكلين للعهد والميثاق كلاهما مذكور بوضوح في آثار الأمر المباركة. أوّلاً هناك العهد والميثاق الذي يبرمه كل رسول مع الإنسانيّة، أو بالأحرى، مع قومه، أن يؤمنوا بالمظهر اللاّحق ويتّبعوه بوصفه التجلّي اللاّحق للحقيقة ذاتها. والشّكل الثّاني للعهد والميثاق هو ذلك الذي أبرمه حضرة بهاء الله مع قومه أن يقبلوا حضرة المولى. وليس هذا إلاّ لمجرّد تأسيس وتقوية تعاقب سلسلة الأنوار التي تتلو كلّ مظهر إلهي. وينضوي تحت هذا الشّكل نفسه العهد والميثاق الذي قطعه المولى مع البهائيّين أن يقبلوا الإدارة التي رسم حضرته معالمها من بعده…[21]
يدلّ هذا النّص بكلّ وضوح على أنّ “الإدارة”، طبقا للعهد والميثاق، هي ما تركه المولى خليفة له بيننا. إنّه في ضوء هذا علينا أن نفهم معنى اللّفظ الذي تفضّل به حضرة شوقي أفندي في وصف ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم كونهما “الخليفتين المختارين” لحضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء. ويجب أن نتذكّر أن حضرة شوقي أفندي استعمل لفظ “النّظام الإداري” لأوّل مرة في توقيعه “دورة بهاء الله” في فبراير/شباط عام 1934. قبل ذلك التاريخ وخلال السّنوات الثّلاثة عشرة الأولى من ولايته للأمر، أي من عام 1921 إلى عام 1934، كان حضرته يشير إلى النّظام الذي أبدعه حضرة بهاء الله بلفظ “الإدارة البهائيّة”. وبما أن الرّسالة التي ورد فيه المقتطف الذي ذكرْتُهُ والخاص بالعهد والميثاق البهائي، مؤرّخة في عام 1932، يصبح من الواضح أنّه علينا أن نفهم أن ما كان مقصوداً من “الإدارة التي رسم حضرته معالمها من بعده” هو النّظام الإداري.
يشير حضرة شوقي أفندي في توقيع “دورة بهاء الله” إلى أنّ للنّظام الإداري قائمتين pillars: ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم. إحدى الطرق التي يمكننا أن نفهم بها كلمة “قائمتين” هي أنّ هناك عمودين columns وفوقهما مبني. فإذا نُقِلَ أحد الأعمدة فلابدّ للمبنى أن يميل ويتهدم. ولكن عندما نقرأ كتابات حضرة شوقي أفندي بإمعان واهتمام يتّضح أن الذي يقصده حضرته بكلمة “قائمتين” هو مؤسّستين تدعم ثبات واستقرار المبنى.
فمثلاً، يشير حضرة شوقي أفندي في توقيع “دورة بهاء الله” إلى هاتين المؤسّستين بأنهما وسيلتا “دعامة” – buttress – لهيكل النّظام الإداري. “الدّعامة” تسند المبنى وتقوّيه. ثمّ استعمل حضرة شوقي أفندي مجازات أخرى أيضاً للدّلالة على هاتين المؤسّستين. ففي إحدى تواقيعه، مثلاً، يصف ولاية الأمر على أنّها “حجر الزّاوية الرئيسي للنظام الإداري”. فعلاقة حجر الزاوية بالمبنى تختلف عمّا تقوم به “القائمة” أو “الدّعامة”. فحجر الزّاوية هو أساس للمبنى ولا غنى عنه، لأنّه الحجر الأوّل، الذي يحدّد بداية القاعدة التي سيقام عليها المبنى.
نفس المجازين “القائمة” و”الدّعامة” يطلقان أيضاً على مؤسّسة بيت العدل الأعظم، ولكن عند استعمال فكرة المبنى، يصف حضرة شوقي أفندي بيت العدل الأعظـم بكونـه “قمة (apex) النّظام الإداري البهائي”.[22]ويشير إليه أيضاً بكونه “أبـهى إكليل” (crowning glory) للمؤسّسات الإداريّة لأمر الله، و”الأداة الأسمى (supreme organ) لرابطة الشعوب البهائيّة”، وأيضاً “الملجأ الأخير لحضارة مترنّحة”. ومع أنّنا لسنا كلّنا مهندسين معماريين، إلاّ أنّه من السهل علينا أن نفهم أنّ أوّل وحدة في بناء المبنى هي حجر الزاويّة، وآخر وحدة هي القمّة. إنّه لمن العجيب هنا أن نتذكر في هذا المجال، ما جاء في توقيع من تواقيعه الفارسيّة إلى أحبّاء الشّرق، حيث أشار إلى ولاية الأمر بكونها “القائمة الأولى” وبيت العدل الأعظم “القائمة الثّانية”[23] وقد يعني هذا أنّها الأولى في المقام أو في الزّمن. أمّا فيما يخص الزمن، فإنّ هذا ما حصل فعلاً. عندما ينتقل أحد الخلفاء من المشهد، وهو ما قدّره الله بالنّسبة لحضرة ولي الأمر، فمن الطبيعي للخليفة الثاني، أي بيت العدل الأعظم، أن يتولى القيام برئاسة الأمر المبارك.
عندما نتحدّث عن المؤسّستين: ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم، قد يربك تفكيرنا ما جاء في فقرتين من توقيع حضرة شوقي أفندي “دورة بهاء الله” اللتين تبرزان الأوجه الجوهريّة لهذين الخليفتين لمؤسّسي أمر الله. فقرة تبدأ “إذا تُفْصَل مؤسّسة ولاية الأمر عن نظم حضرة بهاء الله العالمي يصبح هذا النّظم مبتوراً ….”، والفقرة الأخرى تبدأ “إذا جُرِّدَ هذا النّظام الذي أقامه حضرة عبد البهاء في وصيّته المباركة، من مؤسّسة بيت العدل الأعظم التي لا تقلّ جوهريّة (عن ولاية الأمر)، فإنّه يصبح مشلولاً” طبقا لهاتين الفقرتين، وفي ضوء ما حدث فعلاً حيث إنّ حضرة شوقي أفندي لم يترك وصيّة ولم يعيّن من يجلس على كرسي ولاية الأمر من بعده، لابدّ وأن يكون نظم حضرة بهاء الله العالمي من دون ولي أمر الله قد أضحى مبتوراً، وأنّ نفس هذا النّظم في غياب بيت العدل الأعظم الذي سيشرّع فيما لم يكن منصوصاً عليه في أحكام حضرة بهاء الله، لابدّ وأن يكون قد أصابه الشّلل. لكنّنا عشنا 36 سنة في ظلّ كمال نشاط مؤسّسة ولاية الأمر وعملها المكثف، والآن لدينا بيت العدل الأعظم، وصرح النّظم العالمي لا هو مبتور ولا هو مشلول.
قد تراود بعض الأذهان فكرة: لماذا لم يترك حضرة شوقي أفندي وصيّة. هل هي مصادفة عرضيّة أم إجراء اتّخذ عن وعيّ تام ؟ في كتاب السيّدة ڤيولت نخجواني[24] الذي يحكي عن حضرة أمة البهاء روحيّة خانم يتضح لنا أن في أواخر أيامه وتوقعاً لوفاته، وجّه حضرة شوقي أفندي نصيحته إلى روحيّة خانم فيما يتعلّق بما عليها أن تقوم به من أسفار بعد صعوده. وفهمنا أيضاً أنّه في الأيام الأخيرة من حياته التي قضاها في لندن لم يكن حضرته راغباً في الرّجوع إلى حيفا وأنّ عليها أن ترجع وحدها.
فالشخص الذي يهتم بأحوال زوجته من بعده ويشير عليها بما يجب القيام به بعد وفاته، ألم يكن عليه بالأحرى أن يفكّر، بصفته وليّاً للأمر ورأس هذا الدّين والحافظ والمسؤول الرئيسي عنه، – أن يفكّر في مصالح ومستقبل الأمر الذي طلب إليه حضرة عبد البهاء صونه وترويجه؟ الاستنتاج الوحيد المعقول هو أن حضرته كان يعلم بأنّه سيغادر هذا العالم ويعرف أنّه لم يعيّن غصناً آخراً ليخلفه كوليّ للأمر، وأنّ حضرته اختار ألاّ يترك وصيّة. إن بيت العدل الأعظم فكّر في هذه المعضلة وأعلن ما يلي: “لا يمكن أن يؤخذ على حضرة شوقي أفندي أن في عدم تركه وصيّة تقصير في طاعته لحضرة بهاء الله. بل على العكس، علينا الإقرار بأنّ في صمته حكمة ودليلاً على عصمته”.
إنّي أذكر لبّ محادثاتي الشخصيّة مع العديد من الأحبّاء عندما أدركنا في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1957 أن حضرة شوقي أفندي قد صعد فجأة ولم يعيّن من يخلفه وليّاً للأمر وأن حضرته لم يترك وصيّة. فانتهينا فيها إلى أنّه يجدر بنا دراسة ألواح وصايا حضرة عبد البهاء وكتابات حضرة شوقي أفندي بكلّ روية من جديد حتّى نتمكن من فهم أوضح لما تتضمنه هذه المستندات الملْهَمَة من مضامين خفيّة وأسرار غيبيّة.
سوف أشارككم الآن رؤيتي الشخصيّة حول ما يمكن أن يراه البعض مأزقاً في أقدار أمرنا المحبوب. في حديثه مع أيادي أمر الله وزائرين حجاج للمقامات المقدّسة، أشار حضرة شوقي أفندي كثيرا إلى أن توقيعه “دورة بهاء الله” يعتبر بمثابة وصيته. وتنقل أمة البهاء روحيّة خانم في كتـابـها ”The Priceless Pearl” عن حضرة شوقي أفندي أنّه أشار إلى “أنّه ذكر كلّ ما أراد قوله، بطرق عديدة، في (توقيع)”دورة بهاء الله””. بجانب هذا القول، علينا أن نلاحظ ما ذكره حضرة شوقي أفندي في توقيعه “دورة بهاء الله” بخصوص ألواح وصايا حضرة عبد البهاء حيث جاء: “وبالتالي يجب اعتبار ألواح وصاياه المباركة بمثابة أداة وصلٍ دائمة سرمديّة أبدعها عقل سرّ الله الأكرم لضمان الاستمراريّة في العصور الثّلاثة التي تمثل في مجموعها الدّورة البهائيّة”. ثم يؤكّد حضرة شوقي أفندي في التوقيع نفسه: “إنّ المحور الذي تدور حوله مؤسّساته (النّظام الإداري) إنما هو النّصوص الثابتة في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء”.
علينا إذا، نحن البهائيّين، ألا نعتبر أننا عشنا 36 سنة فقط في ظلّ ألواح وصايا حضرة عبد البهاء، بل إنّ كامل المجتمع العالمي البهائي يعيش الآن وسيستمر كذلك في العيش في المستقبل في ظلّ هذا المستند نفسه حتّى نهاية هذه الدّورة (دورة حضرة بهاء الله)، لأنّ هذا المستند هو أداة وصل عصر التكوين بالعصر الذهبي.
هناك أيضا موضوع آخر يحتاج إلى بعض التوضيح، ذلك لأنّ نوعاً من الارتباك، للأسف، سيطر على أذهان بعض الأحبّاء بخصوص مجالات العصمة الخاصّة بكلّ من ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم. لقد تحدّدت في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء وفي توقيع “دورة بهاء الله” لحضرة شوقي أفندي مجالات المسؤوليّة لكلّ من هاتين المؤسّستين، وهي أن “التبيين” مقصور على ولاية الأمر و”التشريع” مقصور على بيت العدل الأعظم. إلاّ أنّه لا يوجد لا في ألواح الوصايا ولا في “دورة بهاء الله” أيّ تقييد يجعل العصمة محدودة في هذين المجالين.يشير حضرة شوقي أفندي في “دورة بهاء الله” إلى المؤسّستين، ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم، مؤكّداً: “لا يمكن لأيّ منهما في الحال أو الاستقبال، أن يتجاوز على المجال المقدس المحدّد للآخر”.ثمّ تشير ألواح وصايا حضرة عبد البهاء إلى هاتين المؤسّستين بتأكيد صريح: “كلّ ما يقرّرانه من عند الله”.هذا لا يدل على مجال فسيح فقط، إنّها دلالة مطلقة تماماً.
طبقاً لألواح الوصايا، فإنّ بيت العدل الأعظم، بالإضافة إلى كونه الهيئة المشرّعة، هو “مرجع كل الأمور” ويتذاكر “في كلّ ما وقع فيه الاختلاف” ويحلّ “المسائل المبهمة”.نرى في توقيع “دورة بهاء الله” أنّ حضرة شوقي أفندي أسند إلى بيت العدل الأعظم مسؤوليّة أخرى هي “تطبيق” الأحكام التي أعلن عنها حضرة بهاء الله، والاضطلاع “بشؤون أمر الله الإداريّة” والمحافظة على “سلامة” التعاليم و”مرونتها” و”وحدة” أحبّاء الله.
لقد رأينا في توقيع من تواقيع حضرة شوقي أفندي الأولى الذي ذكرناه آنفا، كيف أعطانا حضرته رؤية عجيبة لأعمال بيت العدل الأعظم عندما تفضّل: “لكي نحصل على فهم أكثر وضوحا وشموليّة لما تقدّمه وتتضمّنه (ألواح وصايا حضرة عبد البهاء) علينا أن نعتمد على الزّمن وهداية بيت العدل الأعظم الإلهي”.
إنّ دستور المحافل الروحانيّة المركزيّة، قام بإعداده المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة بإشراف مباشر من حضرة شوقي أفندي. وأراد حضرة شوقي أفندي أيضاً أن تتبنّى جميع المحافل الروحانيّة المركزيّة بنود هذا الدّستور. ثمّ تفضّل حضرته بأنّه نظراً لوجود مطالب ثانويّة قانونيّة في هذا الدّستور تخص الهيئات المسجلة رسميّا في كلّ قطر، فإنّ كل محفل روحاني مركزي يمكنه أن يعدّل من هذه البنود الثانويّة بما يلائم القوانين الجارية ببلاده. أمّا المبادئ والتعاليم الأساسيّة البهائيّة التي يحويها الدّستور، فيجب أن تتضمنها جميع الدّساتير البهائيّة في العالم.في إطار ما نحن بصدده، من المهم أن نلاحظ ما ورد بالمادّة التّاسعة من مواد دستور المحافل الروحانيّة المركزيّة:
المادّة التاسعة
إنّه وإن كان هذا النّظام يخوّل للمحفل الروحاني المركزي السّيطرة العليا والسّلطة التنفيذيّة التّامة وجميع المسائل التي تمسّ الدّين البهائي وشؤونه في …. فإنّ جميع قراراته وأعماله يجب أن تكون حائزة لرضاء واعتماد حضرة ولي أمر الله أو بيت العدل الأعظم.[25]
السبب الذي جعلني آتي بهذا البند بالخصوص الذي صيغ بعناية وحاز على موافقة حضرة شوقي أفندي، هو للفت نظر حضرتكم إلى كلمة “أو” الواردة في السّطر قبل الأخير. فلو استبدل هذا الحرف ب “و” بدلاً من “أو”، تصوّروا مشقّة المجهود الذي كان على المحافل الروحانيّة المركزية أن تبذله مع حكوماتها ليعدّل كلّ محفل روحاني هذا البند في دستوره.
أقول أيضاً إن نطاق المسؤوليّات المحدّدة لكلّ من هاتين المؤسّستين، ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم، شيء، والعصمة الموهوبة لأعمال كلّ منهما في تعزيز أمر الله وصونه، شيء آخر. إنّ الفصل بين هذين الموضوعين لم يكن واضحاً عند بعض العقول مما أدّى إلى الارتباك الفكري من سوء الحظّ. لا شكّ أن قليلاً من التفكير والتدبّر في هذه النّقطة لابد أن يزيل كلّ الشّكوك.
أسئلة في الموضوع
س: هل لك أن تحدّثنا عن ألواح وصايا حضرة عبد البهاء، متى كتبت وفي أي الظروف ؟
ج: ألواح الوصايا مكوّنة من ثلاثة أجزاء. لم تسجل عليها تواريخ. لكن من سياق النّص يمكننا أن نقول أن الجزء الأول كتبه المولى في الفترة التي وصلت فيها لجنة التحقيق الأولى إلى الأرض الأقدس أو بعد ذلك مباشرة. الجزء الثاني لابد وأن كتب عند وصول لجنة التّحقيق الثّانية في عام 1907، لأنّ في هذا الجزء يتفضّل حضرة عبد البهاء “أنا الآن في خطرٍ عظيم”. ليس لدينا حتى الآن ما يفيدنا بتاريخ كتابة الجزء الثالث.
س: هل كان الاجتماع الأوّل لأيادي أمر الله وتعيين تسعة من بينهم للعمل بالأرض الأقدس، تحقيقاً لما ورد في ألواح الوصايا ؟
ج: لا يبدو لي الأمر كذلك، لأن اختيار التّسعة كان مبنياً على مدى إمكانية كل منهم في البقاء بالأرض الأقدس أو الانتقال إليها، ولم يكن نتيجة لعمليّة انتخاب. أمّا الأيادي التّسعة المنتخبون الذين ورد ذكرهم في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء فالمقصود منهم هو مساعدة حضرة شوقي أفندي في إنجاز مهام مسؤولياته أثناء حياته.
س: كيف تمّت صيانة وحدة الأمر خلال فترة الست سنوات أو ما يقاربها التي فصلت بين صعود حضرة شوقي أفندي وانتخاب بيت العدل الأعظم؟
ج: وضّح الأيادي في رسائلهم إلى العالم البهائي بأنه طالما أن البهائيين في العالم البهائي طراً منشغلون تماما في تحقيق أهداف مشروع العشر سنوات، فجميع الجهود المبذولة مكلّلة بالهداية المعصومة لتحقيق الأهداف التي وضعها حضرة شوقي أفندي للحملة الرّوحيّة. بعد انتهاء الحملة الرّوحيّة لم يكن هناك من خيار سوى تأسيس بيت العدل الأعظم، ليعمل العالم البهائي مرّة أخرى في ظلّ هداية إلهيّة. يتضح إذاً أن صيانة وحدة الأمر لم تكن إلاّ بفضل قوّة العهد والميثاق.
س: إذا تمّ العثور على الصندوقين اللذين سرقهما الناقضون، ماذا سيكون الموقف حيال إمكانيّة وقوع تزوير لما احتواهما من نصوص مقدّسة ؟
ج: في تلك الحالة يرجع القرار إلى بيت العدل الأعظم طبعاً. ذكرت روحيّة خانم مرارا أن حضرة شوقي أفندي قال أكثر من مرّة أنّه لا يوجد أي ضمان في أن تلك المستندات لم يعبث بها الناقضون.
س: ماذا كان مآل الهيئة البهائية العالمية International Bahá’í Council بعد صعود حضرة شوقي أفندي في عام 1957 ؟
(ملحوظة: “الهيئة البهائية العالمية” هو تعريب للتسمية الفارسية التي وردت في توقيع بالفارسيّة لحضرة شوقي أفندي. الترجمة العربيّة للفظ International Bahá’í Council هو المجلس البهائي العالمي)
ج: استمرّت الهيئة البهائية العالمية (أو المجلس البهائي العالمي International Bahá’í Council) تحت إشراف “حماة” الأمر، أي أيادي أمر الله، الذين كانوا مقيمين في الأرض الأقدس، حتّى عام 1961، عندما جرى انتخاب عالمي بالمراسلة قام به أعضاء المحافل الروحانيّة المركزيّة التي كانت قائمة حينذاك. عمليّة الانتخاب هذه، أفرزت عن عضويّة جديدة.
س: هل أنّ آثار حضرة ولي أمر الله تمثّل مؤسّسة ولاية الأمر ؟
ج: من الطبيعي أنّه لا يمكن القول أن ولاية الأمر كمؤسّسة مستمرة موجودة في آثار حضرة ولي أمر الله . وكما أنّ وظيفة مركز العهد والميثاق غير موجودة حالياً كمؤسّسة مستمرة، إلاّ أنّنا نهتدي بالرجوع إلى آثار حضرة عبد البهاء المكتوبة. وبنفس الطريقة، نتوجه إلى كتابات حضرة شوقي أفندي بصفته المبيّن لأمرنا لنهتدي بما أفاض به من المعاني والمقاصد التي تضمنته آثار أولئك الذين كان بأيديهم زمام شؤون الأمر من قبله.
س: أعتقد أن حضرة عبد البهاء أعطى بديلين للخلافة من بعده، وهما بيت العدل بوجود ولي الأمر وبيت العدل بدون حضرته، وذلك حماية لحضرة شوقي أفندي. هل تعتقد أن حضرة عبد البهاء كان يعلم ماذا سيحصل لحضرة شوقي أفندي في فترة ولايته؟
ج: يتفضّل حضرة شوقي أفندي في “دورة بهاء الله” بأنّه: “… قد امتزج في شخص حضرة عبد البهاء بتوافق وانسجام تامّيْن، ما لا يمكن جمعه في أيّ شخص، ألا وهو الصّفات المميِّزة للطبيعة البشريّة مع المعرفة والكمالات فوق البشريّة”. يتضح إذاً أنّه لا يمكن لأيّ كان أن يتجاهل حقيقة سرّ حضرة عبد البهاء “المعرفة والكمالات فوق البشريّة” عند البحث أو النّقاش. في ضوء هذا، يصبح من المعقول جداً، في اعتقادي، أن نستنتج بكلّ ثقة، أن حضرة عبد البهاء كان على دراية، في أعماق سرّه، بما سيحدث في المستقبل.
أمّا فيما يخص موضوع استعمال اختيارين بالنّسبة لبيت العدل، وفي ضوء ما حصل للأغصان، حيث نقضوا كلّهم العهد والميثاق في حياة حضرة شوقي أفندي، فإنّي أميل إلى الاتّفاق معك أن حضرة عبد البهاء أراد بهذا حماية حضرة شوقي أفندي.
في فترة ولاية حضرة شوقي أفندي كان هناك سبعة أغصان، كلّهم أحفاد لحضرة عبد البهاء، منهم أخوان اثنان لحضرة شوقي أفندي، والخمسة الباقون، أولاد خالة له.أوّل إشارة من حضرة شوقي أفندي عن “ولاة الأمر في المستقبل” وردت في “دورة بهاء الله” (1934). في ذلك الوقت كان الأغصان السبعة كلّهم على قيد الحياة وفي الظاهر مخلصين للعهد والميثاق. وأشار حضرته مرّة أخرى إلى ولاة للأمر في المستقبل في توقيع إلى أحد المؤمنين في نوفمبر/تشرين الثاني 1948. في ذلك الوقت كان هناك بعض الأغصان مخلصين للعهد والميثاق. وفي إحدى توقيعاته إلى أحبّاء الشّرق بتاريخ رضوان 105، أي قبل صعوده بثماني سنوات تقريباً، توجّه حضرته بمناجاة يبتهل فيها من حضرة بهاء الله أن تتوب إلي رشدها “فئة المتكبرين والخادعين والمنحرفين والمنفصلين عن جامعة أتباع أمرك ووفقهم على تلافي ما فات عنهم”. هكذا تشاهدون أن حضرته كان يأمل دائما أن يتوب بعض من الأغصان، ولكن هذا لم يحصل. طبعاً حضرة شوقي أفندي لم يكن لديه ذرّية ففرضت الظروف عدم تَمَكُّنِهُ تعيين وليّاً للأمر خلفا له طبقا للشروط الواردة في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء.
[1] World Order 3–4
[2] World Order 16
[3] القرن البديع ص 261.
[4] القرن البديع ص 403.
[5] من توقيع إلى أحبّاء الشّرق بتاريخ 19 ديسمبر 1922 – “بيت العدل الأعظم – مجموعة نصوص” ص 35.
[6] من توقيع بتاريخ 23 فبراير 1924 – ”بيت العدل الأعظم – مجموعة نصوص” ص 36.
[7] من توقيع بتاريخ 27 فبراير 1929 – “بيت العدل الأعظم – مجموعة نصوص” ص 44.
[8] الكتاب الأقدس، (أنظر الشرح فقرة 145) ص 248.
[9] المرجع السابق، (أنظر الشرح فقرة 67) ص 209.
[10] الكتاب الأقدس، (أنظر الشرح فقرة 183) ص 270.
[11] ألواح الوصايا لحضرة عبد البهاء (طبعة مصر) ص 13.
[12] ألواح الوصايا لحضرة عبد البهاء، (طبعة مصر) ص 11.
[13] المرجع السابق، ص 19.
[14] ألواح الوصايا لحضرة عبد البهاء، (طبعة مصر) ص 19–20.
[15] من توقيع بعنوان دورة بهاء الله مؤرّخ 8 فبراير 1934 – ”بيت العدل الأعظم – مجموعة نصوص” ص 53 – 54.
[16] “كتاب عهدي” منشور ترجمته إلى العربيّة في “مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله” ص197 إلى 201.
[17] القرن البديع ص 301.
[18] ألواح الوصايا لحضرة عبد البهاء، ص 6.
[19] (مكاتيب عبد البهاء 1 طبعة البرازيل العزة 139 – 1982م ص 183 الأصل الفارسي كما يلي: “لوح ملاح القدس رابخوانيد تابحقيقت يى بريد وملاحظه نمائيد كه جمال مبارك وقايع آتيه را از بيش بتمامه خبر داده اند إنّ في ذلك لعبرة للمتبصرين وموهبة للمخلصين”).
[20] القرن البديع، ص 294.
[21] أنوار الهداية رقم 593.
[22] القرن البديع، ص 409.
[23] قد يُفهم من النصّ الفارسي “الجناح” بدلاً من “القائمة”، إلاّ أنّ الحبيب نخجواني استعمل كلمة pillar.
[24] Violette Nakhjavani, ‘A Tribute to Amatu’l-Baha Rúhiyyih Khanum
[25] العالم البهائي (1938–1940) ج 8 ص 398.
كتب
حضرة شوقي أفندي في 18 أكتوبر/تشرين الأوّل 1927، رسالة إلى المحفل الروحاني المركزي بأمريكا وكندا بخصوص دستور المحفل الروحاني المركزي، جاء فيها:
كلّ ما يمكنكم تخيّله هو صورة باهتة لما سيكون لإعلانه وتوزيعه من عزاء وتشجيع لأولئك الكادحين الصبورين العاملين بالبلدان الشّرقيّة… لا يمكنكم أن تدركوا القدْر الكبير الذي سيساهم به (دستور المحفل الروحاني المركزي بأمريكا) لتمهيد السّبيل لإعداد الصّيغة الأوليّة لدستور الجامعة البهائيّة العالميّة، الذي سيشكّل القاعدة الدّائمة التي عليها سوف يرتكز البنيان المنعّم المقدّس لأوّل بيت عدل عمومي ويزدهر شأنه.
وفي رسالة إلى البهائيّين بإيران حول الموضوع نفسه، يشير حضرة شوقي أفندي إلى أهميّة قيام المحفل(الروحاني) المركزي بإيران على إعداد دستور له، مضيفاً أن دستور المحافل (الروحانيّة) المركزيّة هو “النّاموس الأكبر” لأمر الله وأن دستور بيت العدل الأعظم هو “النّاموس الأعظم”. وفي توقيعه “دورة بهاء الله” في عام 1934، أشار حضرة شوقي أفندي مرّة أخرى إلى الدستور الذي سوف يعد في المستقبل للهيئة العليا لأمر الله.
تمكّن بيت العدل الأعظم بعد تشكيله في عام 1963، من تدشين مشروعه الأوّل للتّبليغ والتمكين في أبريل/نيسان من العام الذي تلاه، وهو مشروع التّسع سنوات. وكان من بين أهدافه في المركز العالمي، إعداد دستور بيت العدل الأعظم الذي به يتحدّد سير أعماله وشؤون الجامعة البهائيّة حول العالم. فأخذت عمليّة إعداد ذلك الدّستور الجزء الأكبر من سنوات المشروع التّسعة، ليس لكثرة مشاغل واهتمامات بيت العدل الأعظم المتزايدة فحسب، بل لما احتاجه هذا العمل الحيويّ من دقّة وتركيز كبيرين أيضا.
أرسل بيت العدل الأعظم بتاريخ 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1972، الرّسالة التّالية إلى المحافل الروحانيّة المركزيّة بالعالم:
بقلوب مفعمة بالامتنان والسرور نعلن للعالم البهائي كافة عن اتّخاذ خطوة عميقة الدّلالة في تجلّي الكشف عن رسالة الهيئة العليا لرابطة الشّعوب البهائيّة العالميّة، ألا وهي صياغة دستور بيت العدل الأعظم. بعد الدّعاء بخشوع وامتنان لدى العتبات الثّلاثة المقدّسة بالبهجة وحيفا في يوم الميثاق، اجتمع الأعضاء بقاعة الجلسات المجاورة للبيت المبارك لحضرة المولى عبد البهاء، ووضعوا توقيعاتهم ومهروا بالخاتم على تلك الأداة التي استبقت آثار ولي أمر الله المحبوب ذكرها، والتي مجّدها حضرته بكونها “النّاموس الأعظم” لأمر حضرة بهاء الله. إنّنا واثقون تماما من أن الإجراء الذي اتّخذ للتوّ سوف يزيد من تقوية الأواصر التي تربط المركز العالمي مع الجامعات المركزيّة والمحليّة في جميع أنحاء العالم، وتنطلق به طاقات جديدة ويرفع من الحماس والثّقة لدى العاملين الأبطال بكلّ جهد واجتهاد بكرمه المقدّس للإتيان بالبشريّة تحت ظلّ خيمة عهده وميثاقه المجيد.
طبع دستور بيت العدل الأعظم ونشر في كتاب منفصل من 14 صفحة. كما نشر في “العالم البهائي” (المجلّد 15، ص 555-564). يتكوّن الدّستور من جزأين: “الميثاق” ويقع في خمس صفحات، و”النّظام الدّاخلي” ويقع في تسع صفحات. يسبق جزء “الميثاق” مقدّمة عبارة عن فاتحة لوح حضرة بهاء الله إلى “ابن الذئب” الذي وصفه حضرة شوقي أفندي بأنّه “أبرز الألواح الأخيرة التي فاضت من قلم حضرة بهاء الله”.[1]
هذه المقدّمة المتكوّنة من نفس كلمات حضرة بهاء الله، سوف أذكرها بكاملها فيما يلي:
بسم الله الفرد الواحد المقتدر العليم الحكيم
النّور السّاطع من أفق سماء العطاء والصّلاة المشرقة من مطلع إرادة الله مالك ملكوت الأسماء على الواسطة الكبرى والقلم الأعلى الذي جعله الله مطلع أسمائه الحسنى ومشرق صفاته العليا وبه أشرق نور التّوحيد من أفق العالم وحكم التفريد بين الأمم الذين أقبلوا بوجوه نوراء إلى الأفق الأعلى واعترفوا بما نطق به لسان البيان في ملكوت العرفان والملك والملكوت والعظمة والجبروت لله المقتدر العزيز الفياض
من المهمّ أن نلاحظ أن حضرة بهاء الله تفضّل في هذا النّص بالكلمات التّالية: “وبه أشرق نور التوحيد من أفق العالم وحكم التفريد بين الأمم“، كما أن الكلمات “الملك والملكوت لله…” أيضا لها مغزاها عندما نتذكّر ما جاء في رؤية يوحنّا التي ذَكَرْتُهَا آنفا، حيث كان الوعد بظهور أرض جديدة وسماء جديدة (الرؤيا 21 – 1). لاشك أن المقصود “بالأرض” هي الحضارة المدنيّة التي سيقيمها أمر الله، في حين أن الـ ” سماء” التي ذكرها حضرة بهاء الله في هذا النّص إنّما هي سماء رسالته المنزّلة.
بعد هذه المقدّمة المثقلة بوزر المسؤوليّة التي أنزلها حضرة بهاء الله والملائمة كمقدّمة لنصّ “الناموس الأعظم”، عبّر بيت العدل الأعظم عن ابتهاجه وامتنانه في الجملة التّالية: “بقلوب مفعمة بالشكر والسرور نشهد على شمول الرحمة الإلهيّة ومطلق العدالة السّماويّة وتحقُق الوعود الإلهيّة القديمة”.[2]
ثم جاءت الفقرة التي تلتها مؤلفة من 17 سطر ووردت فيها النقاط التالية بكل وقار ووضوح:
منبع العدل
مؤسّس النّظام البديع العالمي
مطلع الأمر
مصدر الإلهام وواضع أساس المدنيّة الإلهيّة في العالم
رافع لواء السّلام الأعظم
مشرّع دين الله وقاضيه
مؤلّف القلوب
محيي الأمم
الفقرة التالية نصّ مقتبس من لوح مقصود الذي نزّل في عكاء ووصفه حضرة شوقي أفندي بأنّه أحد ألواح حضرة بهاء الله المنزّلة عندما كانت رسالته تقترب من نهايتها، وفيها “أعلن” حضرته، “بعض المبادئ والأفكار التي تقع في صميم دينه”.[3] هذه الفقرة وثيقة جدا بالموضوع لأنها توضّح هدف “دين الله ومذهبه”. فيتفضّل حضرة بهاء الله بأنّ هذا الهدف هو: “حفظ العالم واتّحاده واتفاقه ومحبته وألفته…” ثم يتفضّل في نفس الآية ويؤكّد أن أمره هو “الصراط المستقيم” وأن نظمه العالمي الجديد هو “الأسّ المحكم المتين” الذي لن “تزعزعه حوادث الدنيا ولا يقوّض أركانه مدى الزّمان”.
والفقرة التالية هي نصّ من ألواح وصايا حضرة عبد البهاء التي تحدّد مجال مسؤوليّة بيت العدل الأعظم، ألا وهيَ البتّ في “كلّ مسألة غير منصوصة” في الكتاب الأقدس وأنّه “مرجع الجميع”.
ثم تأتي الفقرة التي تحدّد “مصدر سلطة بيت العدل الأعظم ووظائفه ونطاق أعماله” أي “أس الأساس” لبيت العدل الأعظم. وكلها منبعثة من “الآيات المنزّلة من يراعة حضرة بهاء الله” و”ما بيّنه ووضّحه” حضرة عبد البهاء وحضرة شوقي أفندي بصفتهما المبيّنين الوحيدين للكلمة الإلهيّة. وتؤكد هذه الجملة الواردة في الدّستور أيضا بكلّ وضوح أن حضرة شوقي أفندي هو “المبيّن الوحيد المنصوص عليه بعد حضرة عبد البهاء”، وهذا يعني أن بيت العدل الأعظم يمتنع تماما عن القيام بأي تبيين للنّصوص.
الجملة الأخيرة في هذه الفقرة ذات شأنٍ عظيم من الأهميّة، إذ إنّها تقرّر بصورة مطلقة “إنّ سلطة هذه النّصوص سلطة مطلقة وقاطعة وهي المرجع الثابت الذي لن يتغيّر حتّى يظهر في العالم مظهر أمر إلهي جديد بمشيئة الله، ويوضع يومئذ زمام الأمر والحكم في قبضة قدرته.”
والفقرة التالية تذكّر بصعود حضرة شوقي أفندي دون قيام حضرته بتعيين وليّ للأمر خلفا له. فنظراً لهذا الوضع يعلن بيت العدل الأعظم أن “رئاسة أمر الله ترجع” إليه بصفته ” الهيأة العليا “ومرجع أهل البهاء”.
هكذا تصبح إدارة خدمات أيادي أمر الله وضمان استمرار ما أوكل إليهم من مسؤوليّة حماية أمر الله ونشره، ثمّ تسلّم حقوق الله والتّصرف فيها، ترجع كلّها إلى بيت العدل الأعظم.
لعلّه من الضروري هنا أن نذكر توضيحاً حول تسلّم حقوق الله والتصرف فيها. أعلن حضرة بهاء الله عن حكم حقوق الله في الفقرة 97 من الكتاب الأقدس. يتفضّل حضرة بهاء الله في هذه الآية أن حقوق الله “لله فاطر الأرض والسماء”. فليس في الكتاب الأقدس أو في آثار حضرة بهاء الله الأخرى، أي ذكر عن الجهة التي تتسلّم حقوق الله من بعد صعود حضرته. إلاّ أنّه كان واضحاً أيضاً أن الذي عُيِّنَ خلفاً لحضرة بهاء الله، أي حضرة عبد البهاء، مركز العهد والميثاق مرجع الجميع، هو الذي يتسلّم حقوق الله بلا أدنى شك. ثمّ يتفضّل حضرة عبد البهاء في ألواح وصاياه “وترجع حقوق الله إلى وليّ أمر الله”،[4] وذلك لأنّ حضرة شوقي أفندي كان المؤسّسة التي يرجع إليها الجميع بعد حضرة عبد البهاء.
تبعا لهذا المنهج، وجد بيت العدل الأعظم، وهو الخلف، لا لحضرة شوقي أفندي فحسب، بل لحضرة عبد البهاء وحضرة بهاء الله أيضاً، أنّه من البديهي والصّواب أنّه المؤسّسة المقدّر لها تسلّم حقوق الله والتّصرف فيها بنفس الرّوح الواردة في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء، وطبقا للمقصد الذي بيّنه، ألا وهو: “لتصرف في نشر نفحات الله وارتفاع كلمة الله والأعمال الخيريّة والمنافع العموميّة”.[5] وفي ضوء هذه الأحوال، يزداد المغزى قدراً من كلمات حضرة بهاء الله التّالية: “للحقوق الإلهيّة قرار معيّن، وبعد أن يتحقّق وجود بيت العدل سيظهر حكم ذلك على ما أراد الله”.[6]
لقد استعرضنا حتّى الآن الفقرات الست الأولى من نصّ الدّستور. تتبع هذه الفقرات الست، فقرات خمس بعنوان “صلاحيّات وواجبات بيت العدل الأعظم”. أود أن أوضّح بهذا الخصوص أن بيت العدل الأعظم كلّف دائرة الأبحاث التّابعة له، بجمع كل النّصوص الموجودة في آثار حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء وحضرة شوقي أفندي المتعلّقة بموضوع بيت العدل الأعظم وصلاحياته وواجباته، وتقديمها إليه. العديد من هذه النّصوص كان مترجما إلى الإنجليزيّة، أو كانت ضمن كتابات حضرة شوقي أفندي الإنجليزيّة. مع ذلك، كان بينها الكثير الذي احتاج إلى التّرجمة أيضاً. قُدِّمَت جميع هذه النّصوص كاملة لدراسة بيت العدل الأعظم. كلّ ما جاء في هذه الفقرات الخمس دون استثناء، مأخوذ من تلك النّصوص. أملي أن يقوم طلاّب وباحثون في الأمر المبارك عن قريب، بتعريف تلك الصّلاحيّات والواجبات المذكورة في هذه الفقرة والبحث عن جذورها في آثار حضرة بهاء الله المباركة وفيما قدّمه حضرة عبد البهاء وحضرة شوقي أفندي من بيانات.
لا يتّسع مجال عرضي هذا لتقديم قائمة بالمراجع التي تحدّد صلاحيّات وواجبات الهيئة العليا كما وردت في الفقرات الخمس آنفة الذكر. إلاّ أنّني سوف أستعرض كلّ فقرة على حدة وأشرح أوجهها التي قد تحتاج إلى توضيح.
الفقرة الأوّلى: “ضمان الحفاظ على النّصوص المقدسة وحمايتها من التحريف وسوء التصرّف، تحليل الآيات والآثار المباركة وتصنيفها وتنسيقها، والدفاع عن أمر الله وحمايته وتخليصه من قيود القمع والاضطهاد”.[7]
لا شكّ أن الحفاظ على النّصوص هو من المسؤوليات الأولى لرأس الأمر. لهذا أقام حضرة شوقي أفندي دار الآثار العالميّة التي أضاف بيت العدل الأعظم إليها مبنى مجهّزاً بأحدث الوسائل العلميّة للحفاظ على الأوراق والمستندات والأعمال الفنيّة.
الحماية “من التحريف وسوء التصرّف” المذكور هنا يعني المحافظة على الآثار المقدّسة من أي إتلاف وأيضاً الحفاظ على قدسيتها وسلامتها.
أمّا فيما يخص عمليّة “تحليل الآيات والآثار المباركة وتصنيفها وتنسيقها”، فإنّ دائرة الأبحاث تقوم بذلك نيابة عن بيت العدل الأعظم وطبقا لتعليماته. هذه الأعمال تتم حاليّا بالمبنى الموجود في القوس والمعروف لدى الأحبّاء بمركز دراسة النّصوص.
مسؤوليّة “الدفاع عن أمر الله وحمايته” مذكورة نصاً في كلمات حضرة بهاء الله التي يخاطب فيها رجال بيت العدل الأعظم في الكتاب الأقدس[8]:
يا رجال العدل كونوا رعاة اغنام الله في مملكته واحفظوهم عن الذّئاب الذين ظهروا بالاثواب كما تحفظون ابنآئكم كذلك ينصحكم النّاصح الامين
ثم تنتهي هذه الفقرة الأولى ببيان عن مسؤولية بيت العدل الأعظم في تخليص أمر الله “من قيود القمع والاضطهاد”.
المرحلة الثّانية لأمر الله في مسيرة تطوّره هي الخلاص من قيود القمع والاضطهاد. ويتحقّق هذا الخلاص عندما تعلن السُلطات الدّينيّة في قطر ما قرارها بأنّ أحكام ومبادئ الدّين البهائي تختلف عن أحكام ومبادئ دين الدّولة ومنفصلة عنها. لقد نجحت الإجراءات التي اتخذتها المحافل الروحانيّة المركزيّة بالعالم والجامعة البهائيّة العالميّة (ومركزها نيويورك)، وهم يعملون بتوجيه من بيت العدل الأعظم، في حماية الجامعة البهائيّة بإيران من النوايا المبيّتة لحكومة إيران بتدمير أمر الله واقتلاع جذوره من موطن حضرة بهاء الله نفسه. ومن المؤمّل طبعا هو أن تنجح هذه المساعي في تخليص أمر الله من براثن عدوّ عتيد، سعى بكلّ جهد خلال العقود السّتة عشر منذ نشأة أمر الله إلى خنق هذا الأمر ومحوه بالكليّة.
الفقرة الثّانية: تتعلّق برمتها بمسؤوليّات بيت العدل الأعظم في الميادين الثّلاثة: النّشر، التوسّع، والتّمكين. أول إنجاز جزئي ومبدئي في هذا المجال تمثّل في نشر “خلاصة أحكام وأوامر الكتاب الأقدس وترتيبها”، ومن ثمّ ترجمة كامل الكتاب الأقدس إلى الإنجليزيّة مع ملحقات وشروح وافرة؛ ثمّ نشر التّراجم الجديدة من كتابات حضرة بهاء الله وحضرة الباب وحضرة عبد البهاء؛ خاصّة نشر كتاب “The Proclamation of Bahá’u’lláh” بالإضافة إلى رسالتين موجهتين إلى أهل العالم وقادة الأديان على التوالي.
إنّ الإشارة في هذا الفقرة إلى “الاهتمام بتحسين الأخلاق والاتصاف بصفات وخصائل رحمانيّة تتميّز بها الحياة البهائيّة الفرديّة والجماعيّة”، يتمثل بأحسن صورة في الأهميّة التي أوليت بمعاهد التّبليغ، والحلقات الدراسيّة، ومجالس الدّعاء، وصفوف الأطفال، وتقسيم كل جبهة داخليّة إلى مجموعات، كما هو الحال في المشروع الحالي. أمّا فيما يخص الجزء الأخير في هذه الفقرة، أي: “السّعي الحثيث في تقوية أواصر التآلف والتفاهم بين الأمم والشّعوب واستقرار السّلام العالمي، والمجاهدة في سبيل تهذيب النفوس وتنويرها وإصلاح العالم وتقدّمه”، فإنّها أهداف تتحقّق طلائعها في هذا الوقت وعلى المستوى العالمي، بفضل ما يقوم به مكتب جامعتنا البهائيّة العالميّة في نيويورك وجنيف وبعض عواصم مختارة في أوروبا.
والفقرة الثالثة: تتناول المسؤوليّة الأساسيّة الحيويّة لبيت العدل الأعظم كونه الهيئة التّشريعيّة العليا والمؤسّسة التي يرجع إليها الجميع للفصل في المسائل التي أوجدت الخلاف بين الأحبّاء وتوضيح المواضيع المبهمة. وكما ذكرْتُ آنفاً فإنّ هذه المهام مرجعها آثار حضرة بهاء الله وألواح وصايا حضرة عبد البهاء.
الجزء التّالي من هذه الفقرة يبدأ بالمسؤوليّة الملقاة على عاتق بيت العدل أن يحفظ حقوق الأفراد وحريّتهم وابتكارهم ومبادراتهم، وهذا يفتح الباب أمام الأفراد الذين يرون أنّ حقوقهم الأساسيّة قد أهدرت من قبل مؤسّسات محليّة أو مركزيّة في بلد ما، أن يلجؤوا إلى بيت العدل الأعظم لإنصافهم في شكواهم.
أمّا الجزء الأخير من هذه الفقرة فإنّه يُعْنَى بتنمية الأقطار وتعمير البلاد. هذه المهام سوف يقوم بها بيت العدل الأعظم بأحسن ما يكون عندما يستقر نظم حضرة بهاء الله العالمي في العالم ويعترف العالم بالأمر المبارك، وتعتبر دول العالم أن بيت العدل الأعظم هو الهيأة العليا لهذا النّظم.
الفقرة الرّابعة: تحدّد مسؤوليات بيت العدل الأعظم في ترويج وتطبيق أحكام أمر الله ومبادئه عندما يحين وقتها (كما كان شأن قانون حقوق الله والأحكام الخاصّة بالصلاة والصوم)؛ والحفاظ على حسن الأخلاق الذي تفضّل حضرة شوقي أفندي بأنّه يضم صفات “العدل، والإيفاء بالحق، والصدق، والأمانة، والإنصاف، والجدّيّة، والجدارة بالثقة”، وهي الصّفات التي يجب أن تميّز “كلّ وجه من أوجه حياة الجامعة البهائيّة”.
ثم يأتي موضوع إنماء المركز الروحاني والإداري لأمر الله بالأراضي المقدسة. فإقامة دار التّبليغ العالميّة (بعد أن تمّ تعيين هيئات المشاوَرين ثمّ إضافة المساعدين إلى هيئات المعاونين)، وتشييد المباني حول القوس، وتوسيع الحدائق بالبهجة، وبناء المدرّجات حول مقام حضرة الباب، وتشييد منزلين جديدين لنزول الحجاج واحد في البهجة والآخر في حيفا. كل ذلك يعتبر بعضاً من التطورات الواضحة التي تمّت في العقود الأربعة الماضية والتي تندرج في نطاق قيام بيت العدل الأعظم بهذه المسؤوليّة.
ثم يوجد في هذا القسم ذكر إحدى مهام بيت العدل الأعظم الملفت للنظر. وهو التأكد من أنّه لن تقوم أية مؤسّسة من مؤسّسات الأمر بتجاوز حدودها أو التقصير في القيام بواجباتها ومهامها. هذه المهمّة تتطلب من بيت العدل الأعظم دوام اليقظة ثمّ التدخّل المناسب إذا ما وجد أي تهاون في مصالح الأمر الأساسيّة. أمّا الجزء الأخير من هذا القسم، يعنى بإدارة الأموال والممتلكات الأمريّة، وهو موضوع لا يحتاج إلى التوسع فيه.
الفقرة الخامسة والأخيرة: تخص السّلطة القضائيّة لبيت العدل الأعظم في الفصل في الخلافات والحكم في المنازعات وتنفيذ القرارات وتحديد العقوبات. ويتوّج المسؤوليّات القضائيّة لبيت العدل الالتزام “ترويج العدالة الإلهيّة وحمايتها، (لأنها) الضمان الوحيد لتأمين سيادة القانون والنّظام وتثبيت دعائمهما في العالم”. بهذا تنتهي الفقرات الخمس التي تقدّم باختصار صلاحيّات وواجبات بيت العدل الأعظم.
الصلاحيات التّشريعيّة المذكورة أعلاه ستبقى ثابتة لبيت العدل الأعظم. ومع ذلك لا يوجد فيها ما يمنع بيت العدل الأعظم من توفير الأسباب لتشييد مؤسّسات منفصلة على المستوى العالمي تتولّى القيام بمهام تنفيذيّة وقضائيّة يقوم بها بيت العدل الأعظم حاليّاً.
الفقرة التّالية تقدّم نصّاً مقتبساً من “دورة بهاء الله” لحضرة شوقي أفندي. يذكر فيها ثلاث تسميات أو ألقاب لأعضاء بيت العدل الأعظم ألا هي: “رجال العدل” و”أهل البهاء الذين ذكرهم في كتاب الأسماء”، ثمّ “وكلاء الله بين عباده ومطالع الأمر في بلاده”. تسمية “رجال العدل” واردة في الكتاب الأقدس[9]. و”أهل البهاء الذين ذكرهم في كتاب الأسماء” وردت في لوح الكرمل[10]. و”وكلاء الله بين عباده ومطالع الأمر في بلاده” وردت في لوح “البشارات” لحضرة بهاء الله[11]. في نفس لوح البشارات وفي نفس البشارة الثّالثة عشر، يتفضّل حضرة بهاء الله بأنّ: “والأمور السّياسيّة كلُّها ترجع إلى بيت العدل. وأمّا العبادات فترجع إلى ما أنزله الله في الكتاب”. ويسترسل في البشارة نفسها مضيفاً: “إنّ مربّي العالم هو العدل لأنّه حائز للرّكنين المجازاة والمكافأة”. إلى أن يقول حضرته بأنّ أعضاء بيت العدل الأعظم “ملهمون بالإلهامات الغيبيّة الإلهيّة”.
أمّا بالنسبة لتسميتهم “أهل البهاء” التي وردت في لوح الكرمل، فقد سأل العديد من الأحبّاء عن ماهية “كتاب الأسماء” الذي يذكر فيه أولئك الأمناء. هناك لوح لحضرة الباب معروف باسم “كتاب الأسماء”، إلاّ أنّه لا يوجد فيه ما يشير إلى أهل البهاء. سوف أشارككم بفهمي الشخصي لهذا الموضوع. ترجم حضرة شوقي أفندي كلمة “الأسماء” إلى الإنجليزيّة في بعض الأحيان بكلمة “الأسماء” (Names) وفي مرات بكلمة “الألقاب” (Titles)وذلك قرينة بسياق الموضوع. في المعنى الأوّل تشير كلمة الأسماء إلى الصّفات والنّعوت الإلهيّة السّماويّة، مثل “الأسماء الحسنى”. أمّا المعنى الثّاني، أي “الألقاب”، فمن الممكن أنّها تشير إلى التّسميات أو الألقاب التي تمنح للأفراد تقديراً لهم أو لإعطائهم مقاماً معيّناً. نجد في الآثار المباركة لأمر الله ألقاباً مثل “مركز العهد والميثاق”، و”وليّ أمر الله”، و”أيادي أمر الله”، و”بيوت العدل”، و”أمناء الرحمن”، و”فرسان بهاء الله” وألقاباً أخرى. لذلك يمكن أن يكون “كتاب الأسماء”، كتاب أسرار الله، المسجّلة فيه تلك التّسميات والألقاب التي مُنِحَت لوزرائه، وناشري نفحاته، وحُماة أمره و/أو المدافعين عن دينه، أكانوا فرادى أم جماعات.
أمّا بالنّسبة للفقرة التي وردت في توقيع “دورة بهاء الله”، التي تبدأ “يستفاد من بيانات حضرة بهاء الله… أنّ أعضاء بيت العدل الأعظم، في حالة اضطلاعهم بشؤون الدين الإداريّة…”[12]، نجد أن حضرة شوقي أفندي قد ضمّنها ثلاث نقاط هامّة. الأولى هي أن على أعضاء بيت العدل الأعظم، عند الإطلاع بمهامهم، أن يسترشدوا بما تمليه عليهم ضمائرهم الخاشعة وليس بمشاعر وقناعات الذين انتخبوهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة ؛ الشيء الذي يعني بوضوح أنّهم مسئولون أمام الله وليس أمام الذين يمثلونهم. هنا نجد رفضاً واضحاً لإحدى الوجوه الأساسيّة للنظام الديمقراطي، إذ إنّ جميع الديمقراطيّات تجعل المنتخَبين مسئولين أمام الناخبين. لهذا السّبب نجد الحكومات ذات النّظم الديمقراطيّة تلجأ إلى الاستفتاءات الشعبيّة لتقف على ما قد يقرّه الرأي العام في بعض المواضيع.
النّقطة الثّانية هي أن عليهم الاطلاع على الأحوال السّائدة في الجامعة. هذه المهمّة تحاكي عمليّة الاستفتاءات، وهي مهمّة وجدت في منظومة النّظام الإداري البهائي لتعوّض ما سلب من عامّة النّاخبين من سلطة. لا شكّ أن من واجب أعضاء بيت العدل كأفراد أن يكونوا يقظين لمشاعر عامة الجامعات وآرائهم، وعلى النّطاق المؤسّسي يتعرّفون على إحساسات أفراد الجامعة وتوجهاتهم بالاعتماد على هيئات ملتزمة تتصف بالإخلاص مثل مؤسّسة المشاوَرين.
النقطة الثالثة هي نصّ لحضرة بهاء الله يؤكد حضرته فيه “إنه يلهمهم ما يشاء”. يأتي بعد هذا النّص، توضيح من حضرة شوقي أفندي أن الأعضاء المُنْتَخَبين – وأرجو أن أؤكّد على كلمة “المُنْتَخَبين” الواردة في هذه الفقرة – “هم الّذين جُعِلُوا محط هذه الهداية الإلهيّة – هداية هي في آن واحد قوام حياة هذا الظهور وسبب حفظه وحمايته…”[13]
لقد عيّن حضرة عبد البهاء شوقي أفندي رئيساً وعضواً لبيت العدل الأعظم. لم يكن حضرة شوقي أفندي عضواً منتخباً لهذه الهيئة العليا. بهذا البيان يؤكد لنا حضرة شوقي أفندي وهو المبيّن لكلمات الله، أنّ الأعضاء المنتخبين هم الذين جُعِلوا محطّ هذه الهداية الإلهيّة الموعودة.
الفقرة الأخيرة من الدّستور، تذكر تاريخ أوّل انتخاب لبيت العدل الأعظم طبقا لما جاء في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء واستجابة لدعوة حضرات أيادي أمر الله الذين وصفهم حضرة شوقي أفندي بكونهم “الحماة الرئيسيون لرابطة شعوب حضرة بهاء الله العالميّة الجنين”.
كذلك ورد في هذه الفقرة لقبان أعطاهما حضرة شوقي أفندي لبيت العدل الأعظم، ألا وهما “التّاج الجليل” لمؤسّسات حضرة بهاء الله الإداريّة، و”النّواة والبشير” لنظْمه العالمي.
يلي هذه الفقرة مكان مُهِرَت فيه إمضاءات الأعضاء التّسعة لبيت العدل الأعظم بتاريخ 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1972، وهو يوم العهد والميثاق. في هذه الفقرة تسجل تاريخ توقيع الدّستور والمكان مدينة حيفا، ثمّ الختم البارز لبيت العدل الأعظم.
يأتي النّظام الدّاخلي التّابع للدّستور كمرفقات لذلك المستند. بعد المقدّمة للنّظام الدّاخلي نجد 11 مادة بالعناوين التالية:
المادّة الأولى
|
– العضويّة في الجامعة البهائيّة
|
المادّة الثّانية
|
– المحافل الروحانيّة المحليّة
|
المادّة الثّالثة
|
– المحافل الروحانيّة المركزيّة
|
المادّة الرّابعة
|
– واجبات أعضاء المحافل الروحانيّة
|
المادّة الخامسة
|
– بيت العدل الأعظم
|
المادّة السّادسة
|
– الانتخابات البهائيّة
|
المادّة السّابعة
|
– حق إعادة النظر
|
المادّة الثّامنة
|
– الاستئناف
|
المادّة التّاسعة
|
– هيئات المشاوَرين
|
المادّة العاشرة
|
– هيئات المعاونين
|
المادّة الحادية عشرة
|
– التّعديل
|
بعض هذه المواد تخصّ أمورا عامّة، مثل العضوية بالجامعة البهائيّة، المحافل (الروحانيّة) المحليّة والمركزيّة ومسؤوليّاتها، وكذلك كيفيّة إجراء الانتخابات البهائيّة وحقّ الاستئناف. لن أتحدّث عن هذه المواد لأنها مواضيع معروفة لدى البهائيين في كل الأقطار. سوف أتناول بالحديث تلك المواضيع التي تخصّ مباشرة عمل بيت العدل الأعظم ومجال سلطته.
سوف نتناول أولاً المقدّمة القصيرة، والتي تعطي تعريفاً مختصراً وكاملاً للنّظام الإداري المعمول به حاليّاً في العالم البهائي. تشير الفقرة الأولى إلى بيت العدل الأعظم كونه “الهيأة العليا للنظام الإداري”. ثمّ تذكر المقدّمة أن هذا النّظام يتكوّن من جزأين: (1) مجالس منتخبة على المستوى المحلّي والمركزي والعالمي مخوّل لها ممارسة السلطات الثّلاثة، ألا وهي: التّشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة. ثمّ (2) أفراد من المؤمنين يُعَيَّنون للقيام بمهام خاصّة في مجال حماية ونشر دين الله.
الفقرة الثّانية تحدّد علاقة النّظام الإداري بالنّظم البديع، أي أن الأول يعتبر النواة والنموذج للثاني. وتضم الفقرة تعريفاً للنّظام الإداري بكونه يندفع بقوّة إلهيّة ويتسع عضويّاً. وبأنّ هذا التطوّر سوف يتحقّق بفضل بعث هيئات مساعدة وفرعيّة، وأيضا بتضاعف الأنشطة البهائيّة وتنوّع وظائفها، كلّها موجّهة نحو تعزيز رقيّ الجنس البشري.
لنترك المواد الأربع الأولى كما قلنا، ونركز اهتمامنا بالمادّة الخامسة التي تتكوّن من ستة بنود. مقدّمة هذه المادّة تنصّ على أنّ عضويّة بيت العدل الأعظم تتكوّن من “تسعة أعضاء من الرجال” يتمّ انتخابهم من بين أفراد الجامعة البهائيّة حول العالم. فيقوم أعضاء المحافل الروحانيّة المركزيّة القائمة في العالم، بانتخاب أعضاء بيت العدل الأعظم. كلّ بهائي بالغ وسليم الوضع الإداري من الذكور في العالم، مؤهّل لأن يُنْتَخَب. يعلم البهائيون أن العدد تسعة ويمكن أن يُزادَ العدد في المستقبل طبقا لما ورد في الكتاب الأقدس[14] “وإن زاد لا بأس”.
هناك سؤال كثيرا ما يطرح، وهو “لماذا تقتصر عضويّة الهيأة العليا على الرجال ؟” أعتقد أن أسلم جواب عن هذا السؤال ما تفضّل به حضرة عبد البهاء :
وأمّا بيت العدل بنصوص قاطعة في شريعة الله اخْتُصَّ بالرّجال حكمةً من عند الله وسَيُظْهِرُ هذه الحكمة كظهور الشّمس في رابعة النّهار.[15]
هذا النّص الذي تفضّل به المولى يقفل باب التخمين والنقاش. أعتقد أنّ ما يعنيه حضرة عبد البهاء هو أنّه لم يصل العالم بعد ولم تصل الجامعة البهائيّة أيضا إلى مستوى النّضوج. عندما يصل هذا العالم الذي يتطوّر بسرعة، إلى تلك المرحلة، يكون قد بلغ سِنّ الحكمة الثاقبة والإدراك المتّزن. عندئذ فقط يتّضح له جليّا لماذا وضع حضرة بهاء الله ذلك القانون ضمن أوامره.
وكما قلت لكم، هذه المادّة تحتوي على ستّة بنود، أوّلها وهو الجزء الأكبر منها بدوره مقسّم إلى فصول. أول بند مجزأ إلى تسعة فصول من
(أ) إلى (ط). النّقاط الهامّة في هذه الفصول هي الآتي:
1) يعاد انتخاب بيت العدل الأعظم كلّ خمس سنوات مرّة واحدة إلاّ إذا اتّخذ بيت العدل الأعظم قرارا خلافه. وسيبقى المُنْتَخَبُون أعضاءً حتى يتم انتخاب من يخلفهم ويجتمعوا في أول جلسة لهم.
2) إنّ الوظيفة الأساسيّة للمؤتمر العالمي هي انتخاب أعضاء بيت العدل الأعظم، وعقد المشورة في القضايا التابعة للأمر البهائي في العالم أجمع، ورفع التّوصيات والاقتراحات إلى بيت العدل الأعظم لدراستها.
3) إذا رأى بيت العدل الأعظم عند حلول موعد الانتخابات أنّ انعقاد المؤتمر العالمي أمر غير عملي أو مخالف للحكمة، عندئذ سيحدّد كيفية إجراء الانتخابات. على هذا الأساس اتّخذ بيت العدل الأعظم القرار بعدم عقد المؤتمر السنوي عام 2003، وهي المرّة الأولى التي اتخذ فيها مثل هذا القرار منذ تأسيسه، وطلب إلى أعضاء المحافل الروحانيّة المركزيّة الإدلاء بأصواتهم عن طريق البريد، لأنّ عقده كان غير عملي ومخالفاً للحكمة نظرا إلى حالة عدم الاستقرار التي كانت موجودة بالبلد ومخاطر التنقّل الدّولي خلال شهر أبريل/نيسان من عام 2003.
4) إذا أرسل عضو من أعضاء المحفل الروحاني المركزي صوته بواسطة البريد، ثم خرج من عضويّة المحفل الروحاني المركزي في الفترة بين إبداء صوته حتى موعد فرز الأصوات، فسيؤخذ بصوته حين الفرز إلاّ إذا وصل إلى هيئة الفرز صوت العضو الذي انتُخِبَ بدلاً عنه في الفترة نفسها.
5) في حالة وقوع التّساوي في الأصوات، يجب التصويت مرّة أخرى أو عدّة مرّات بين الذين تعادلت أصواتهم. ونظراً إلى أنّ المؤتمرات العالميّة تعقد بعد فترة الرّضوان، سيكون النّاخبون في هذه الحالة هم أعضاء المحافل الروحانيّة المركزيّة في الوقت الذي يتم فيه كلّ انتخاب لاحق.
البند الثاني يخص الشغور في عضويّة بيت العدل الأعظم. يأخذ هذا البند في الاعتبار أربع احتمالات: (1) وفاة عضو من الأعضاء، (2) عزل أحد أعضاء بيت العدل إذا “اقترف… ذنباً يلحق ضرّه العموم”،[16] (3) إعفاء أي عضو من أعضاء بيت العدل الأعظم إن رأى بأنّ ذلك العضو أصبح غير قادر على القيام بمهام عضويته، (4) إذا استقال أحد الأعضاء ووافق بيت العدل الأعظم على استقالته.
الاحتمالان الأول والرابع حدثا في الماضي، أمّا الثاني والثالث فلم يجر تطبيقهما حتّى الآن، ونأمل ألاّ يكون هناك ما يدعو إلى تطبيق أيّ منهما.
البند التالي يخص الانتخابات التكميليّة. إذا حصل شغور في عضوية بيت العدل الأعظم في الفترة ما بين مؤتمرين عالميّين، يكون الناخبون في هذه الحال هم أعضاء المحافل الروحانيّة المركزيّة القائمة في ذلك الوقت. وإذا رأى بيت العدل الأعظم أن الشّغور حدث قريبا جدا من موعد المؤتمر العالمي العادي، فإنّه لن يدعو إلى عملية انتخاب تكميليّة وفي هذه الحالة يستمر في العمل بثمانية أعضاء.
البند الرابع يضع الإجراءات لعقد جلسة بيت العدل الأعظم الأولى بعد الانتخابات، وينص هذا البند أيضاً بوضوح أنّه لا يوجد لأعضاء بيت العدل الأعظم وظائف تنفيذيّة، وأن جلساته تدار بالطريقة التي يقرّرها بين الحين والآخر. ومن المعلوم أنّه في الوقت الحالي من سير أعمال بيت العدل الأعظم، يتولى رئاسة الجلسات أحد الأعضاء في كلّ أسبوع بالتّناوب حسب الترتيب الأبجدي.
كما يبيّن هذا البند أيضا الوضع عندما يكون النّصاب أقل من كامل أعضاء بيت العدل الأعظم التّسعة، مما يعطي للأعضاء فرصة أخذ إجازة سنويّة أو في فترات يحدّدونها بحيث لا يؤثر ذلك على سير أعماله. وبالطبع لا يمنع هذا بيت العدل الأعظم من الاتّصال بالعضو الغائب تلفونيّاً أو بأسلوب آخر لأخذ رأيه في مواضيع يجري بحثها.
البندان الأخيران يخصّان التوقيع على رسائل بيت العدل الأعظم بالإنجليزيّة أو الفارسيّة، وختمها بالختم الخاص به. يضع بيت العدل الأعظم الإجراءات المحدّدة لتسجيل قراراته.
القسم التالي، يعدّ فريداً بالنّسبة لعمل بيت العدل الأعظم، وهو المادّة السّابعة بعنوان “حق إعادة النّظر”. هذه المادّة تضم قسمين، القسم الأوّل يعتبر امتداداً لمادة مماثلة واردة في الدّساتير المركزيّة والتي تخوّل لرأس الأمر تعديل أو مراجعة قرارات أو إجراءات تتّخذها هيئات النّظام الإداري الأخرى. والجزء الثاني يخص الحالات التي يتخلّف فيها محفل روحاني، مركزيّاً كان أو محليّاً، عن اتخاذ الإجراء اللازم أو الوصول إلى القرار الملائم بالنّسبة لمسألة يرى بيت العدل الأعظم أنّها حيويّة لمصلحة الأمر وتحتاج إلى إجراء خاص. في مثل هذه الحالات يعطي بيت العدل لنفسه الحقّ في القيام بالإجراء اللازم مباشرة.
سنتناول الآن المواد الثّلاثة الأخيرة من النّظام الدّاخلي وهي: المادّة التّاسعة الخاصّة بهيئات المشاوَرين؛ ثمّ المادّة العاشرة الخاصّة بهيئات المعاونين؛ والمادّة الحادية عشر بعنوان “التّعديل”. والمادّة التّاسعة تسمح لبيت العدل الأعظم أن يعيّن أشخاصاً يعهد إليهم بمهام صيانة الأمر ونشره. هذه المهام وردت في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء بأن يقوم بها حضرات أيادي أمر الله. ينتظر من كل مشاوَر قيامه بواجباته في النّطاق الإقليمي المحدّد له، وذلك لمدّة زمنيّة يحدّدها بيت العدل الأعظم. هذه المدّة هي خمس سنوات حالياً. وتنص هذه المادّة أيضا على أنّه لا يمكن انتخاب المشاوَر في الهيئات الإداريّة المحليّة أو المركزيّة نظراً إلى طبيعة العمل المنوط به. إذا انتخب المشاوَر عضواً في بيت العدل الأعظم فعليه طبعاً التّخلي عن مرتبة المشاوَر.
المادّة العاشرة تحدّد وظائف أعضاء هيئات المعاونين بكونهم وكلاء ومساعدين ومستشارين للمشاوَرين. تخصّص لكل عضو من المعاونين منطقة محدّدة لخدماته. على عكس المشاوَرين، فإنّه يمكن انتخاب المعاونين لأيّ من الهيئات المُنْتَخَبَة، وفي هذه الحالة عليه الاختيار، إما البقاء بهيئة المعاونين أو قبول عضويته في الهيئة التي انتخب لها. هنا أيضا، إذا انتخب المعاون عضواً في بيت العدل الأعظم، فإنه يتخلّى تلقائيا عن مرتبة المعاون. دورة خدمة هيئات المعاونين هي خمس سنوات حاليّاً أيضاً.
وتبعا لما أشار إليه حضرة شوقي أفندي، هناك هيئتان للمعاونين، واحدة للحماية والأخرى لنشر الأمر. يقرّر بيت العدل الأعظم عدد المعاونين لكلّ قارة، ثم يقوم المشاوَرون بدورهم على تقسيم هذا العدد على المنطقة الموكولة إليهم ، حسب احتياجات كلّ بلد أو جزء منه.
تنص المادّة الأخيرة أنّه لابد من حضور كافة أعضاء بيت العدل الأعظم عند اتخاذ قرار يخص التعديل في الدّستور. لم يجر حتى الآن أي تعديل على الدّستور، علما بأن هناك قرارين هامّين اتخذهما بيت العدل الأعظم منذ الإعلان عن الدّستور، يخص أحدهما هيئات المشاوَرين والآخر هيئات المساعدين، سوف يدرج هذان القراران بالدستور فيما بعد كتعديلات للبنود المتعلّقة بالهيئتين. القرار الأوّل يخص إحداث دار التّبليغ العالميّة في الأرض الأقدس، والثاني الإذن لأعضاء هيئات المعاونين بتعيين مساعدين لهم. هذان التّعديلان يخلو منهما الدّستور الحالي لأنّهما اتّخذا بعد إصدار الدّستور في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1972.
أسئلة في الموضوع
س: هل ورد ذكر السلطات الثّلاث لبيت العدل الأعظم، التّشريعيّة والتّنفيذيّة والقضائيّة في النّصوص المباركة؟
ج: في توقيعه “الكشف عن المدنيّة العالميّة”، يصف حضرة شوقي أفندي المؤسّسات الرئيسيّة لنظم رابطة الشّعوب العالميّة البهائيّة بأنّها “سلطة العالم التّشريعيّة” و”سلطة العالم التّنفيذيّة” و”سلطة العالم القضائيّة”.
ثم في بيان بعنوان “إجراءات المحافل الروحانيّة المحليّة” الذي نشر في كلّ مجلّدات “العالم البهائي” التي صدرت في حياة حضرة شوقي أفندي، نجد هذه السّلطات الثّلاث مذكورة الواحدة تلوّ الأخرى. مثال ذلك، نشاهد هذا البيان منشوراً في مجلد “العالم البهائي” عدد 12، وهو آخر مجلد صدر في حياة حضرة شوقي أفندي، والسّلطات الثّلاث مذكورة بالصفحة 297.
س: هل سيعترف بيت العدل الأعظم بالمظهر الإلهي القادم؟
ج: لم أر شيئاً حول هذا الموضوع في الآثار المباركة. ولكن، عندما سأل أحد الزّائرين حضرة شوقي أفندي نفس هذا السؤال بالذّات، تفضّل بأنّ بيت العدل الأعظم سوف يعترف بدون شكّ بالمظهر الإلهي الجديد ويقدّمه للجامعة. هل سيقبله عامّة الجامعة وخاصتها أم يرفضونه، يبقى في دائرة التخمين، ولا أريد الخوض في هذا المجال.
س: ما هي المعايير التي يبني عليها بيت العدل (الأعظم) قراره فيما يتعلّق بمدة خطط التّبليغ؟
ج: من الواضح أن بيت العدل الأعظم يأخذ في اعتباره في هذا الخصوص العديد من العوامل، مثل عناصر القوى ومكامن الضّعف بالجامعة البهائيّة، التّطوّرات العالميّة واتجاهاتها، ما سيوفّره المستقبل من فرص وإمكانات لأمر الله في مسيرته نحو قَدَره المحتوم.
س: ما هو الفارق الدّقيق بين التّبيين (interpretation) والشّرح
(ilucidation) المذكوران في دستور بيت العدل الأعظم؟ كيف يمكننا التأكّد من أننا لسنا بصدد “تبيين“ الكلمة الإلهيّة أثناء تعمقنا في الأمر؟
ج: كان لحضرة شوقي أفندي في مدة تولّيه دفّة الأمر المبارك هدفان يسعى إلى تحقيقهما: تأسيس بيت العدل الأعظم وتحقيق ما جاء في ألواح الخطّة الإلهيّة لحضرة عبد البهاء بأسلوب منهجي ومنظّم. حضرة شوقي أفندي كان موهوباً بملكة معرفة فكر حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء. وفي يقيني، فإنّ حضرته أعطانا تعريفاً “للتبيين” في توقيعه “دورة بهاء الله” حيث يتفضّل بكل وضوح أن “وليّ الأمر قد وُهِبَ القدرات الخاصّة واللاّزمة التي تمكّنه من إبراز فحوى بيانات حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء والكشف عن مضامينها”. هذه موهبة اختُصَ بها وليّ أمر الله ومن قبله حضرة عبد البهاء، لأنّهما كانا على علم بالرؤية المودعة في أمر الله المقدس، وعلى مقدرة للكشف عن طبيعة تلك الرؤية وأبعادها.
أما فيما يخص “الشّرح”، فإنّنا نعلم ما تفضّل به حضرة شوقي أفندي من أن في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء أسرارا سوف يُكْشَف النّقاب عنها تدريجيّاً بعد انتخاب بيت العدل الأعظم. فرسائل بيت العدل الأعظم حول مسألة ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم والتي نشرت ضمن مجلّدات رسائله تعتبر شروحاً. ومثال آخر نجده في الإشارة الواردة في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء وفي خطابات أخرى لحضرته والخاصة “بالمحكمة العموميّة”.[17] ففي إحدى رسائله إلى المحفل (الروحاني) المركزي الأمريكي، يتفضّل حضرة شوقي أفندي بما يلي:
إشارة إلى النقطة التي أثارتها رسالة السكرتير والمتعلّقة بطبيعة دار التحكيم العالميّة ومجال عملها، فإنّ هذا الموضوع وما يماثله سوف يتم شرحه وتوضيح أموره من قبل بيت العدل الأعظم، الذي، طبقاً لصريح توجيهات حضرة المولى، لابد أن ترجع إليه كلّ الشؤون الهامة والأساسيّة.[18]
يوجد العديد من الأسئلة التي قد تخطر على البال فيما يخص هذه المحكمة العموميّة: من سينتخب أو يعيّن هذه المحكمة؟ هل سيكون لها مدّة عمل محدّدة؟ هل سيكون النّساء والرجال أهلاً على السواء لعضويّتها؟ كيف ستكون علاقتها ببيت العدل الأعظم؟ كل هذه مسائل لم يُبَتُّ فيها وليست واضحة، وألواح وصايا حضرة عبد البهاء تقول بوضوح أن “جميع المسائل المشكلة”[19] وكذلك “كلّ ما وقع فيه اختلاف”[20] و”المسائل المبهمة”[21] سوف تجد حلّها عند بيت العدل الأعظم بإصدار التشريع اللازم.
بالنّسبة للحلقات الدّراسيّة ودورات التعمّق والتّفاسير التي يقدّمها الأفراد المشاركون، فإنّه أمر مختلف تماماً. في مثل هذه المناقشات ليس مسموحا لنا أن نقدّم فهمنا للنّصوص فحسب، بل هناك تشجيع على ذلك. ما هو ممنوع في الأمر المبارك هو أن يقوم فرد أو مجموعة أفراد بتقديم تفاسير يعتبرونها رسميّة، وينشغلون بترويجها بين الأحبّاء. أمّا أن نستعمل قدراتنا الفكريّة في فهم النّصوص المباركة واستيعابها، فهذا شيء مفيد جداً.
س: هل وجدت فارقاً في المشاوَرات بين ما كنت عضواً في بيت العدل الأعظم وعضواً في الهيئات الأخرى ؟
ج: لا أذكر بأن أحدا سألني هذا السؤال من قبل. كنت ذكرت لكم الآية بالكتاب الأقدس التي تبيّن كيف يجب أن يكون عليه أعضاء المحافل الروحانيّة المحليّة. تذكرون ما تفضّل به حضرة بهاء الله: “ويرون كأنهم يدخلون محضر الله العلي الأعلى ويرون من لا يرى”.[22] الوعي بالتواجد في محضر الجمال المبارك في قاعة جلسات المحفل الروحاني وبيت العدل الأعظم هو مسؤوليّة ملقاة على عاتق كل عضو مُنْتَخَب. صحيح أن الدّخول إلى قاعة جلسات بيت العدل الأعظم وامتياز المشاركة في مشاوراته يجعل وعي العضو أكثر عمقاً بأنّه في محضر روح مؤسّس الأمر المبارك. كم سيكون رائعاً أن تصل أعداد متزايدة من المحافل الروحانيّة المحليّة إلى درجة من الوعي الروحاني يمكّن أعضاءها من تطبيق ما يدعوهم إليه حضرة بهاء الله في الكتاب الأقدس. عندما يُجري أعضاء المحفل الروحاني مشاوراتهم وفعالياتهم في جوّ كهذا، فلابد أن يشملهم التّأييد الإلهي والتّوفيق الربّاني. بعد أن عدّد المسؤوليّات الروحانيّة لأعضاء مجالس الشورى يتفضّل حضرة عبد البهاء بما يلي: “فإذا ما سعوا لتحقيق هذه المطالب ستهبط عليهم نعمة الروح القدس، ويصبح ذلك المحفل محط العنايات الإلهيّة وتتضافر التأييدات الإلهيّة لمساعدتهم، وتتجدّد لديهم الفيوضات الرّوحيّة يوما بعد يوم”.[23]
س: هل يرجع بيت العدل الأعظم إلى كتاب “البيان“ بالإضافة إلى آثار حضرة بهاء الله المباركة؟
ج: أحد المباني الواقعة على “القوس” هو مبنى “مركز دراسة النّصوص”. ودائرة الأبحاث التابعة لبيت العدل الأعظم موجودة بمكاتبها في ذلك المبنى. هذه الدّائرة متخصّصة في تقديم النّصوص التي لها شأن مباشر أو غير مباشر بالمواضيع التي يحتاج إليها بيت العدل الأعظم لمعالجة مسألة تتعلّق بالتّشريع أو لها صلة بالتّشريع. تقدّم دائرة البحوث إلى بيت العدل الأعظم النّصوص من آثار الأديان السّابقة بما في ذلك آثار حضرة الباب، وذلك حسب ما تتطلبه الحاجة.
قد يتعلق عمل بيت العدل الأعظم أيضاً في أمور علمانية وعلمية في خاصّيتها مما تستدعي المعرفة في ميادين مختلفة عادة ما تكون معطياتها والمعلومات عنها ليست في نطاق دائرة البحوث، فيرجع بها إلى مؤسّسة أخرى، سوف تأخذ مكانها هي أيضا ضمن مباني “القوس” في السّنوات القادمة. لهذا بالذّات، أعلن بيت العدل الأعظم في رسالة له بتاريخ 31 أغسطس/آب 1987 ما يلي شارحا المسؤوليّات الفوريّة والمستقبليّة لـ “المكتبة البهائيّة العالميّة”:
هذه المكتبة هي الأمانة المركزيّة لكلّ ما كُتِبَ ونُشِرَ عن الأمر المبارك، والمصدر الذي لا غنى عنه للمعلومات بالنّسبة لمؤسّسات المركز العالمي في كلّ المواضيع الخاصّة بأمر الله وأحوال البشريّة. لسوف تنمو وظائفها في العقود القادمة، لتعمل مركزاً حيويّاً للمعرفة في كل الميادين، وتصبح النواة لمؤسّسات عظمى للبحوث والاكتشافات العلميّة.
تتخذ المكتبة البهائيّة العالميّة مقرها حاليّاً في مبنى مركز دراسة النّصوص، ولكن في المستقبل سوف يكون لها مبناها المستقل مقابل مبنى دار الآثار العالميّة.
بهذه الصورة في المخيّلة يمكننا أن نتصوّر بيت العدل الأعظم في وسط القوس. على يساره مركز دراسة النّصوص الذي يقدّم له المعلومات عن الآثار الدّينيّة، وعن يمينه مؤسّسة تقدّم له المعلومات في الميادين العلميّة والعلمانيّة من المعرفة. هكذا نشاهد على جبل الله، اتفاق الدّين والعلم في خدمة الهيئة العليا لأمر الله.
س: هل هيئة المشاوَرين مؤسّسة مختلفة عن أيادي أمر الله؟
ج: طبقا لما جاء في ألواح وصايا المولى، يعيّن ولي الأمر أيادي أمر الله. لم يحدّد حضرة عبد البهاء مدّة خدمتهم، لذلك استمر الذين عيّنوا في مناصبهم مدى حياتهم، كذا الحال كان مع أيادي أمر الله الذين عيّنهم حضرة بهاء الله. أمّا المشاوَرون فيعيّنهم بيت العدل الأعظم لدورة مدّتها خمس سنوات.
علاوة على ذلك، كان على أيادي أمر الله انتخاب تسعة من بينهم للتصديق على اختيار ولي الأمر لمن سيخلفه. مثل هذه السّلطة لم تُخَوَّل لمؤسّسة المشاوَرين.
هناك فارق ثالث، فنصوص ألواح وصايا حضرة عبد البهاء قد منحت أيادي أمر الله السّلطة طرد أيًّ شخص يعارض ولي الأمر حتّى لو كان هذا الشّخص من أيادي أمر الله. هذا التفويض الموجود بألواح الوصايا استعمله الأيادي عندما اضطّروا إلى طرد مايسون ريمي عندما ادّعى لنفسه ولاية الأمر. لم تعط مؤسّسة المشاوَرين مثل هذه السلطة – أي سلطة الطرد.
س: كم هي المدّة بين جلسات بيت العدل الأعظم؟ لماذا تسجل قراراته؟
ج: يجتمع بيت العدل الأعظم في الوقت الحالي ثلاثة أيام في الأسبوع، وطبقا لمتطلبات جدول الأعمال، قد يمتد الاجتماع إلى اليوم الكامل. قد يتغيّر هذا النمط في المستقبل، إذ لا يوجد بند محدّد في هذا الخصوص. من الواضح أنه لابد من وجود سجلّ لقرارات بيت العدل الأعظم. طريقة تسجيل هذه القرارات يمكن أن تتغيّر طبعا من وقت لآخر.
س: فيما يتعلّق بشغور في عضويّة ببيت العدل الأعظم، ماذا يمكن أن يكون عليه “…ذنبا يلحق ضرّه العموم“؟[24]
ج: هذه الجملة مأخوذة من ألواح وصايا حضرة عبد البهاء. الأمر موكول لبيت العدل الأعظم ليقرر إذا كان سوء سلوك أو سوء تصرّف أحد أعضائه على قدر يلحق ضرّه سلامة أمر الله. من الطبيعي أن تُدْرَس كل حالة بمفردها، وحسب معلوماتي، لم يحدّد بيت العدل الأعظم أي تعريف لهذه المسألة بعد.
س: لا يوجد لبيت العدل وظائف تنفيذية (Officers). ما هي الوظائف التّنفيذيّة في هذا السّياق؟
ج: هذا المصطلح يرجع إلى النّظام الدّاخلي في دستور المحافل الروحانيّة المحليّة والمركزيّة، وواضح أن المقصود منها تلك الوظائف المعتادة في الهيئات الاستشارية البهائيّة أي: رئيس ونائب رئيس وسكرتير وأمين للصّندوق. بيت العدل الأعظم ليس له رئيس، والرئاسة يتناوبها الأعضاء فيما بينهم أسبوعيّا حسب أبجديّة الأسماء. أعمال السّكرتير وأمين الصّندوق متسعة ومعقّدة بدرجة تطلبت قيام أقسام خاصّة بأداء مهام هاتين الوظيفتين. تعمل هذه الأقسام تحت إشراف لجان منفصلة ذات إجراءات منهجيّة
(Policy Committees) مكوّنة من أعضاء من بيت العدل الأعظم يديرون تلك الأقسام ويشرفون على عملها. يجب الإشارة في هذا الصّدد إلى أن الأمور الغير مذكورة في دستور بيت العدل الأعظم، والتي هي بالضرورة ليست سوى تفاصيل، كلّها قابلة للتّغيير من آن لآخر من قبل بيت العدل الأعظم، وكلّما دعت الحاجة.
س: كيف يمكننا أن نفهم مفهوم “العصمة“؟
ج: يتفضّل حضرة بهاء الله في لوح الإشراقات بأن للعصمة مراتب عديدة.[25] وفي كتاب المفاوضات، يوضّح حضرة عبد البهاء أن هناك نوعين من العصمة، العصمة “الذاتيّة” والعصمة “الصفاتيّة”.[26] العصمة الذاتيّة مختصة بالمظهر الإلهي ولا يشاركه أحد في هذا الامتياز. العصمة الصفاتيّة هي عصمة موهوبة لأولئك الذين لا يمتلكون ذاتيّاً النّور الإلهي بل يأتيهم هذا النّور من منبعه. يتفضّل حضرة عبد البهاء في هذا المقال أن هؤلاء النّفوس “واسطة الفيض بين الحق والخلق”. ثم يستمر حضرته: “فإذا لم يحفظ الحق هؤلاء من الخطأ لتسبّب من خطئهم وقوع كلّ النفوس المؤمنة في الخطأ. ويتهدم أساس الدّين الإلهي بالكليّة. وهذا لا يليق بحضرة الأحديّة”.
وفي نفس المقال يعطي حضرة عبد البهاء مثالين للعصمة الصفاتيّة، المثال الأوّل أخذه حضرته من الدّين البهائي. فيَذْكُر حضرته مؤسّسة بيت العدل الأعظم الذي قراراته “تحت عصمة الحق وحمايته”. المثال الآخر الذي أعطاه حضرة عبد البهاء من الدّورة المسيحيّة، عن سيدنا المسيح الذي كان “مظهر يفعل ما يشاء” وحائز على العصمة الكبرى، في حين أنّ الحواريين كانوا في ظلّ حضرة المسيح ويستفيضون من عناياته الخاصّة. المثير في هذا الخصوص أن نلاحظ أنّه ورد ذكر حواريّي السيّد المسيح وأئمة الرّسالة المحمديّة على أنهم ينتمون إلى مقام واحد، كلٌّ بالنّسبة لدورته.[27]
من الجدير أن نلاحظ أيضاً أنّ السّلطة التي مُنِحَت لحواريّي السيّد المسيح، وردت في العهد الجديد، عندما توجّه السيّد المسيح إلى الحواريين بالكلمات التّالية: “فالحق أقول لكم: إنّ كلّ ما تربطونه على الأرض يكون قد ربط في السّماء، وما تحلّونه على الأرض يكون قد حلّ في السّماء”.[28]
أعتقد أن هناك طرقا أخرى عديدة لمعرفة مفهوم العصمة في الأمر المبارك، وما شاركتكم به هو مجرّد فهمي البسيط وغير الوافي لهذا الموضوع، الذي أعتقد أنّه سوف يُدرس دراسة أكثر عمقاً في المستقبل من قبل الباحثين في دين الله، وقد يثريه بيت العدل الأعظم بشروح أخرى، إذا ما رأى ضرورة لذلك.
[1] القرن البديع ص 267.
[2] دستور بيت العدل الأعظم (طبعة البرازيل 1999)، ص 8.
[3] القرن البديع، ص 264.
[4] ألواح وصايا حضرة عبد البهاء (طبعة مصر 104 ب) ص 16.
[5] المرجع السابق، ص 16.
[6] حقوق الله، رقم 59 (طبعة البرازيل 1986)، ص 22.
[7] دستور بيت العدل الأعظم (طبعة البرازيل 1999)، ص 11.
[8] الكتاب الأقدس، الآية رقم 52.
[9] الكتاب الأقدس، الآية 52.
[10] منتخباتي أز آثار حضرت بهاء الله، رقم 11، ص 19.
[11] مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله، “البشارة الثالثة عشر”، ص 55.
[12] دورة بهاء الله، ص 14.
[13] بيت العدل الأعظم – مجموعة نصوص، ص 98.
[14] الكتاب الأقدس، الآية 30.
[15] من مكاتيب عبد البهاء – (طبعة البرازيل – 1982)، ص 130.
[16] ألواح وصايا حضرة عبد البهاء، طبعة مصر، ص 15.
[17] ألواح وصايا حضرة عبد البهاء طبعة مصر ص 14. “المحكمة العموميّة” بالإنكليزيّة
Supreme Tribunal
[18] Bahá’í Administration ص 74.
[19] ألواح وصايا حضرة عبد البهاء، (طبعة مصر) ص 15.
[20] المصدر السابق، ص 20.
[21] المصدر السابق، ص 20.
[22] االكتاب الأقدس، الآية 30.
[23] المحافل الروحانيّة المحليّة، تعريب الدكتور سهيل بشروئي، طبعة بيروت 1971، ص21.
[24] ألواح وصايا حضرة عبد البهاء، طبعة مصر، ص 15.
[25] مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله، (دار النشر ببلجيكا – 1980)، الإشراقات، ص8.
[26] النور الأبهى في مفاوضات عبد البهاء، طبعة مصر 1928، ص 152.
[27] النور الأبهى في مفاوضات عبد البهاء، (طبعة مصر 1928)، ص 52.
[28] إنجيل متّى 18 : 18.
سوف
أبدأ هذا الجزء ببعض من كلمات حضرة بهاء الله التي تلقي الضوء على مدى إبداع رسالته المباركة وحيويتها. بعض من المقتطفات تكفي للإيفاء بما نريده. نقرأ على سبيل المثال (من لوح الدّنيا)[1]:
قَدْ نُفِخَتْ بِحَرَكَةٍ مِنَ الْقَلَمِ الأَعْلَى رُوحٌ جَدِيدَةٌ لِلْمَعَانِي فِي أَجْسَادِ الأَلْفَاظِ بِأمر مِنَ الآمر الْحَقِيقِيِّ. وَآثَارُهَا ظَاهِرَةٌ لاَئِحَةٌ فِي جَمِيعِ أَشْيَاءِ الْعَالَمِ…
فَعَلَّمَ طُيورَ الأَفْئِدَةِ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْعَالِيَاتِ طَيَرَانَاً جَدِيداً..
إِنَّ الْعَالَمَ تَنَوَّرَ بِأَنْوَارِ نَيِّرِ الظُّهُورِ…
وَالآنَ غَدَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْبُلْدَانِ مُسْتَعِدِّينَ لِلإِصْغَاءِ إِلَى الْكَلِمَةِ الْعُلْيَا الَّتِي أُنِيطَ بِهَا بَعْثُ النَّاسِ وَحَشْرُهُمْ جَمِيعاً.
يضيف حضرة عبد البهاء صوته إلى صوت حضرة بهاء الله بهذه الكلمات:
في كلّ دورة كان نور الهداية مسلطاً على موضوع رئيسي واحد… في هذا الأمر البديع… أساس دين الله وطلعة شريعته النّوراء هو عرفان وحدة البشريّة.[2]
الكلمة التي وردت كثيراً في النّصوص المباركة للدّلالة على تفرُّد أمر الله وملاءمته للعصر ، هي كلمة “بديع”. فمثلاً وصف التقويم البهائي الجديد على أنه تقويم “بديع”. ثمّ نجد أن حضرة بهاء الله تفضّل وأفاض على الشاب البالغ من العمر 17 عاماً، والذي حمل لوحه المبارك إلى شاه إيران بلقب “بديع”. وفي إشارة لحضرته في أحد ألواحه إلى “بديع”، وكأنّه أراد بسط معنى لهذا اللّقب فتفضّل قائلاً “ونفخنا في قلبه روح القدرة والاقتدار”[3]. ترجم حضرة شوقي أفندي كلمة “بديع” بعدّة ألفاظ حسب سياق النّص، فعبّر عنها بكلمات “الجديد” (new)، و”الرائع” (wondrous)، و”العجيب” (wonderful)، و”المدهش” (marvellous)، و”بلا نظير” (incomparable) و”الفريد” (peerless). ونجد أيضا مثلاً آخراً في “النّظم العالمي الجديد” وأصله نظم الله العالمي “البديع”.
قد يفيد أيضاً أن نلقي نظرة سريعة على الألقاب الواردة في الكتب السّماويّة السّابقة عن مقام حضرة بهاء الله وتفرُّد يومه العظيم. يشير أشعيا إلى حضرة بهاء الله بـ “العجيب” و”رئيس السّلام”[4]، وإليه أشار حجّي
بـ ”مشتهى كلّ الأمم”[5]، ومجّده حزقيال بقوله: “ويكون الربّ ملكا على كلّ الأرض”[6].
وفي نبِؤات زردشت التي تتحدّث عن “الموعود”، أنّه سوف “يفتتح عصر البركة والسّلام”[7].
وفي الصلاة المسيحيّة يطلب يسوع المسيح أن يأتي “ملكوت” الآب[8]، وعرّف يومه بأنّه فترة “التجديد”[9]. وأشار بطرس رسول سيدنا عيسى الأوّل إلى يوم حضرة بهاء الله بـ “أوقات الفرج” و”أزمنة ردّ كلّ شيء التي تكلّم عنها الله بفم جميع الأنبياء المقدّسين منذ الدّهر”[10]. ومجّد يوحنا اللاّهوتي رسالة حضرة بهاء الله وشريعته بـ “سماء جديدة وأرض جديدة” [11].
ويصف سيدنا محمد رسول الله (ص) يوم حضرة بهاء الله بأنّه اليوم الذي تكون فيه قد “أشرقت الأرض بنور ربها”[12].
ويشير حضرة بهاء الله بنفسه إلى يومه هذا بأنّه “الرّبيع الذي لن يخلفه خريف”[13]، وبأن هذا “… يوم الله هو نفسه إذاً ظهر بالحق ولن يعقبه الليل…”[14]، وبأنّه “بمثابة البصر للقرون والأعصار”[15]. ويمنح مدينة طهران، المكان الذي ولد فيه، كُنْيَة “أم العالم”[16]، وفي الكتاب الأقدس[17]،قد جعلك الله مطلع فرح العالمين”.
ثم يعلن حضرة بهاء الله، “تالله الحق إنّ الأمر عظيم عظيم. هذه كلمة كرّرناها في أكثر الألواح لعلّ ينتبهون بها العباد”[18].
وأيضا: “… إنّه وضع أمره على أساس ثابت راسخ متين لا تزعزعه أرياح العالم ولا إشارات الأمم…”[19]
وأيضاً: “ويبعث بإرادته خلقا ما اطلع بهم أحد إلا نفسه المهيمن القيوم ويطهرهم عن دنس الوهم والهوى”[20].
وتأتي كلمات حضرة عبد البهاء التّالية مؤكِّدة على ذلك:
“قد أحاط إشراق أنوار رحمة الله أمم الأرض وشعوبها، وغمر العالم مجده المنير..”
“تنقضي قرون، بل عصور، قبل أن تشرق شمس الحقيقة في صيف بهائها مرة أخرى أو تتلألأ ثانية في ربيع مجدها… فما أولانا بالشكر إذ جعلنا الله في هذا اليوم مهبطاً لهذا الفضل العظيم”
“سوف ينكشف ويظهر تدريجيا كل ما هو مكنون في خزائن هذا الدور المقدس لأنّ الآن بداية نموه وبروز مطلع آياته”[21].
ويمجّد حضرة شوقي أفندي حضرة بهاء الله بألقاب من قبيل: “منبع العدل الأعظم”، و”المعلن عن بلوغ الجنس البشري جميعا إلى الرشد”، و”منظّم الكوكب بأكمله”.
بهذه الرؤية الشاملة لضخامة وعظمة وتفرُّد الدّورة التي افتتحها حضرة بهاء الله، علينا أن ننظر بما لدينا من إدراك محدود إلى النّظم العجيب الذي تركه حضرته للبشريّة. فلنذكر بأن حضرة بهاء الله أشار إلى عهده وميثاقه في أوّل “كتاب عهدي”، وأوضح حضرة شوقي أفندي أن الميراث المرغوب المذكور في تلك الآية “ولكنّنا تركنا في خزائن التّوكّل والتّفويض ميراثاً مرغوباً لا عدل له بين الوارثين”[22]، إنّما هو عهد وميثاق حضرة بهاء الله الذي أورثه لوارثيه[23]. من المهمّ أن ندرك أننا نحن هم “الوارثون” لميراث حضرة بهاء الله والذي هو العهد والميثاق.
النّظام الإداري هو وليد العهد والميثاق، وهو إثمار عهد الله وميثاقه لهذا اليوم. فالعهد والميثاق البهائي لا مريّة أنّه فريد فعلاً، فيخبرنا حضرة عبد البهاء أنّه “الذي اختصه لهذا الظهور إظهاراً لقدرته وإثباتاً لعظمته” و“العهد الذي أخذه الله في ذر البقاء لمركز الميثاق”[24].
وإعلاناً لميزة هذا النّظم المدهشة الفريدة، تفضّل حضرة بهاء الله في الكتاب الأقدس: “قد اضطرب النّظم من هذا النّظم الاعظم واختلف التّرتيب بهذا البديع الّذي ما شهدت عين الابداع شبهه”[25].
عندما ننظر إلى الأديان الموجودة بالعالم اليوم، نجد أن أتباع المسيحيّة والإسلام يتطلّعون إلى اكتساب قلوب كلّ البشر وترويج دينهم ليجعلوا منه الدّين المهيمن في كافة أنحاء العالم. كلّ منهما لديه تنظيم تبشيري متقن ينْشط في أغلب بلدان العالم الثّالث. وتشتمل أنشطة هذه التنظيمات، على سبيل المثال، على تشييد المدارس والمستشفيات المفتوحة فقط للمستعدّين للدّخول في دينهم، وتقديم المنح للدّراسات المتقدّمة بالخارج، وتوزيع المطبوعات مجّاناً، وإقامة أماكن للعبادة كالكنائس والمساجد.
ثم نجد أن البوذيّة نجحت في العقود الأخيرة، في اكتساب بعض المؤمنين، خاصّة في الغرب؛ إلاّ أنّها بعيدة كلّ البعد من أن تسعى إلى جمع العالم تحت لوائها، وتبقى حركة فلسفيّة هادئة ينحصر اهتمامها أساساً في تطهير النّفس معنويّاً وأخلاقيّاً. يبدو لي أنّه نظراً للأسباب المذكورة أعلاه، اختصر حضرة شوقي أفندي مقارنته المنظومة البهائيّة للتّضامن العالمي مع التّنظيم الدّيني المسيحي والإسلامي فقط.
في مقارنته النّظام الإداري لأمر الله بالتّنظيم الموجود في المسيحيّة والإسلام، دعا حضرة شوقي أفندي أحبّاء الغرب في رسالة بتاريخ مارس/آذار 1930، أن يتدبّروا الأسئلة التّالية:
ترى أين وكيف يختلف النّظام الذي شيّده حضرة بهاء الله عن المؤسّسات التي أقيمت في المسيحيّة والإسلام، في الوقت الذي قد يشاهد هذا النّظام حسب الظاهر وكأنّه إعادة لنفس تلك المؤسّسات؟ أليست المؤسّستان التوأمان لبيت العدل وولاية الأمر، ومؤسّسة أيادي أمر الله، ومؤسّسة المحافل (الروحانيّة) المركزيّة والمحليّة، ومؤسّسة مشرق الأذكار، سوى أسماء أخرى لمؤسسات البابوية والخلافة وما صاحبهما من تنظيمات كهنوتيّة يدعمها ويناصرها المسيحيون والمسلمون؟ ما هو يا ترى العامل الذي سوف يحمي هذه المؤسّسات البهائيّة، وهي التي تتشابه إلى حدّ كبير في بعض أوجهها مع المؤسّسات التي أقامها آباء الكنيسة وصحابة محمد، من تدهور سمعتها وتصدّع وحدتها وانقراض تأثيرها، الذي أصاب كلّ تنظيمات السّلطات الدّينية الأخرى؟ لماذا لن يؤول شأن المؤسّسات البهائيّة، بمرور الزمن، إلى نفس المصير الذي حاق بالمؤسّسات التي رعاها الذين خلفوا المسيح ومحمد؟[26]
ثم يلتفت حضرة شوقي أفندي ببصيرته الحادة إلى مواطن ضعف الدّورة المسيحية:
أعتقد أنّه لا يوجد مَنْ يشكّك في أن السبب الأساسي من وراء الانهيار الذي أصاب تماسك الكنيسة المسيحيّة بغير رجعة، والتقويض الذي طرأ على نفوذها على مدى الزمن، يرجع إلى أنّ الصِّرح الذي تولّى آباء الكنيسة تشييده بعد وفاة الحَوَارِي الأوّل لم يكن صرحاً قائما بأي حال على توجيه واضح من المسيح نفسه. فقد استندت كامل سلطة إدارتهم وأوجهها على ما أمكن تبريره من استنتاج واستنباط غير مباشر، برجوعهم إلى مراجع مبهمة ومقتضبة متناثرة بين أقوال المسيح التي وردت في الإنجيل. لم تكن أي من مناسك الكنيسة، ولا أي من الطقوس والمراسم التي أمعن في تدبيرها آباء المسيحية وواظبوا عليها بكلّ تباه وافتخار، ولا أيّ من صنوف الضبط القاسي الذي فرضوه بصرامة على أوائل المسيحيين في مراحل نموّهم وتطوّرهم، مستنداً إلى تفويض مباشر من السّيد المسيح ولا نابعاً من محكم بيانه. لم يأت المسيح بأيٍّ منها، ولم يصبغ على أيٍّ كان سلطةً تسمح بتبيين كلمته أو بإضافة ما لم يكن قد فرضه حضرته في صريح دعوته[27].
ثم يعلّق حضرة شوقي أفندي على أخطاء الإدارة في الدورة المحمديّة فيما يلي:
أمّا فيما يخص الرّسالة المحمديّة… على الرغم من أنّ رسالة حضرته من حيث الإدارة بالخصوص، تعدّ أكثر شمولاً وتحديدا في مضمونها بالمقارنة مع رسالة السّيد المسيح، إلاّ أنّه، وفيما يخص موضوع الخلافة، لم تُعْطَ أيّ تعليمات مُدوّنة مُلزمة وحاسمة، لأولئك الذين كانت مهمّتهم نشر أمره. ذلك لأنّ نصوص القرآن الكريم الذي بقت أحكامه الخاصّة بالصلاة والصوم والزّواج والطلاق والميراث والحج وما يماثلها سليمة ومعمولاً بها بعد مضي أكثر من ألف وثلاثمائة سنة، لم تعط أيّة توجيهات محدّدة بشأن حكم الخلافة، منبع كلّ النّزاع والخلاف والانقسام الذي مزّق الإسلام وشوهّ سمعته[28].
ثم يجمع حضرة شوقي أفندي أفكاره هذه فيما يلي:
“ينبغي لنا أن نلاحظ أن النّظام الإداري….بفضل جوهره وطبيعته فريد في تاريخ أنظمة الأديان العالمية. ومما يمكننا الجزم به عن ثقة واطمئنان هو أنّه لم يؤسّس أي من مظاهر الله السابقين لحضرة بهاء الله على الإطلاق… رسميّاً وكتابيّاً ما يمكن أن يشابه النّظام الإداري الذي أسّسه المبيّن[29] المختار لتعاليم حضرة بهاء الله، وهو نظام من شأنه أن يحمي الدّين من التّصدع والانشقاق حماية لا شبيه لها في أي دين سابق ، وذلك بفضل المبادئ الإداريّة التي أحكم مؤسّسه صياغتها والهيئات التي أنشأها وحق التّبيين[30] الذي زوّد به ولي أمره.”[31]
هذه الكلمات لحضرة شوقي أفندي إنما هي أسلحة وأدوات لنا لنشر الأمر والدّفاع عن مصالحه.
ثمّ يتفضّل أيضاً بقوله:
… على خلاف الدّورات السّابقة، فإنّ حواريّي حضرة بهاء الله المنتشرين في كل مكان، وأينما يعملون ويكدحون، يجدون أمامهم وبلغة واضحة جليّة رائعة، كلّ الأحكام والقوانين والمبادئ والمؤسّسات والتوجيهات التي يحتاجون إليها لمباشرة مهامهم وانجازها على أتمّ وجه. ففي كل من ما تتضمنه الإدارة البهائيّة من وسائل، وفي موضوع الخلافة كما جسمتها المؤسستان التوأمان لبيت العدل الأعظم وولاية أمر الله، يجد أتباع حضرة بهاء الله ما يمكنهم اجتذابه لمساندتهم من دّلائل لا تُدْحَض لهداية إلهيّة لا يمكن لأي كان أن يقاومها ولا لأي كان أن يقلّل من شأنها أو يتجاهلها. في ذلك تكمن قوة الوحدة في أمر الله، وشرعيّة الرسالة التي تدّعي باستحقاق أنها لا تشوه من سمعة الأديان السابقة أو تقلّل من قيمتها، بل تعمل على الوصل بينها وتوحيدها وتحقيق وعودها.[32]
قدّم حضرة الباب في كتابه البيان الفارسي حقيقة جوهريّة عندما تفضّل: “أنّ سبيل الهداية هو الحب والرأفة، وليس الشدّة والإجبار. هذه سنة الله من قبل ومن بعد”[33]
ولسوء الحظ رأينا في تاريخ الأديان السّابقة القادة الدّينيين والحكام الذين تأثروا بهم، يستعملون كلّ أنواع الإجبار. السّبب في ذلك هو عدم وجود عهد وميثاق أو سلطة مركزيّة معتمدة تحفظ للمخلصين سيرهم على الطريق المستقيم.
ومن النتائج الأخرى لغياب عهد معتمد في الدّورات السّابقة، لجوء القادة الدّينيين إلى استنتاج تفاسير فرديّة وترويجها، وكانت هذه في أغلب الأحيان متضاربة أدّت بدورها إلى الانقسام الطائفي والنزاع بين الأديان، وحتى إلى التطاحن بين فئات الدّين الواحد.
أمّا وجه التميّز في رسالة حضرة بهاء الله، هو ذلك “الميراث المرغوب” الذي تُرِكَ لنا نحن “الوارثين”، ألا وهو عهده وميثاقه المنيع. مركز هذا العهد والميثاق هو سرّ الله حضرة عبد البهاء، ومنه انبعثت هيئتان هما ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم. هذان الكيانان، في دورانهما في فلكيهما حول مركز العهد والميثاق، يتلقيا إلهامهما مباشرة من حضرة بهاء الله وحضرة الباب. وهذا ما هو واضح كلّ الوضوح في ألواح وصايا المولى المحبوب.
لعله من الممكن أن نستنتج القول بأن “الوحي” الإلهي هو بمثابة السّماء التي ظهر فيها المظهران التوأمان أو الشمسان لهذه الدورة والشمس الرئيسيّة هي حضرة بهاء الله. وكما أن لكلّ سماء أرضاً، لذا يكون أرض هذا الظهور هو عالم “الخلق” أو جامعة أتباع مظهر الله.
بين عالم “الوحي” وعالم “الخلق”، يوجد عالم “الإلهام”. “الإلهام” في هذا الدور، ممثل أولاً وقبل كلّ شيء في حضرة عبد البهاء “قمر” فلك دورة الله المقدّسة، “الجوهر” الذي “تطوف حوله كلّ الأسماء”.
“الأفلاك” التي تدور حول “القمر” أو المولى، هي ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم. يستمد هذان الكيانان أثناء طوافهما حوله، الإلهام من حضرة بهاء الله وحضرة الباب مباشرة كما ذكرت آنفا، وكما هو منصوص في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء. يمكننا في آخر الأمر، أن نتجرأ ونستخلص مما سبق أنّ عالم الإلهام الموجود بين السّماء والأرض هو عالم “وما بينهما” الذي ذكره حضرة الباب مرارا في آثاره المباركة.
لنتوجه الآن إلى أشكال الحكومات العلمانيّة القائمة في العالم، لنبيّن أوجه الشّبه وأنواع تباينها مع النّظام الإداري البهائي. لحسن الحظ، إنّ حضرة شوقي أفندي قد أسهب في الكتابة عن هذا الموضوع. يشير حضرته في “دورة بهاء الله” إلى الأشكال القياسيّة الثّلاث للحكومات التي عيّنها (الفيلسوف) أرسطو ألا وهي الديمقراطيّة والأرستقراطية والأوتوقراطيّة. ثمّ يستمر حضرته فيشرح ما هي العناصر السليمة لتلك النّظم الحكومية التي جرى الحفظ عليها، وأين عيوبها المتأصلة فيها التي أزيلت:
ينضوي في هيكل هذا النّظام الإداري الوليد، عناصر موجودة في كلّ من الأشكال الثّلاثة المعروفة للحكومات العلمانيّة، دون أن تكون مجرّد نسخة مطابقة لأي منها، ودون أن يُدْخِلَ في آليّاته أيّا من الأوجه المعيبة المتأصلة فيها. فهو يمزج ويوفّق، بكيفيّة لم تقدّمها أي حكومة صاغتها أيادٍ بشريّة، بين الصحيح المفيد الموجود بدون شك في كلّ من هذه الأشكال الثّلاثة، دون المسّ من كمال الحقائق الإلهيّة المنبع التي يقوم عليها نّظام حضرة بهاء الله الإداري.[34]
ثم يتفضّل حضرة شوقي أفندي بهذه الرؤية التي تبيّن الصّفة الفريدة للنظام الإداري البهائي:
“لا يمكن بأية حال من الأحوال أن يقال بأن نظام دين حضرة بهاء الله الإداري يطابق في شكله أو يتفق في نظريته مع أي نوع من أنواع النّظم الديمقراطية أو الاستبدادية المطلقة {الأوتوقراطية} أو أي نظام أرستقراطي محض… – (إنّ) السّلطة الوراثية التي على ولي أمر النّظام الإداري مباشرتها، وحق تبيين[35] الآثار المقدّسة الذي يقتصر عليه وحده؛ وصلاحيّات بيت العدل الأعظم وسلطاته، وهي الهيئة التي تنفرد بالحق المطلق بالتشريع في الشؤون التي لم ترد صراحة في الكتاب الأقدس؛ والأمر القاضي بإعفاء أعضاء بيت العدل الأعظم من أي مسؤولية تجاه أولئك الذين يمثلونهم، وعدم اضطرارهم الأخذ بآرائهم أو قناعاتهم أو ميولهم؛ والإجراءات المحدّدة التي تضمن لجمهور المؤمنين الانتخاب الحرّ والديمقراطي للهيئة التشريعية الوحيدة في الجامعة البهائية العالمية – هذه من بين المعالم التي يتميّز بها النّظام الماثل في ظهور حضرة بهاء الله عن أي نظام حكومي بشري موجود الآن”.[36]
قد يكون من المناسب الآن أن نفكّر في تعريف الاصطلاحات المنعوتة بها الأشكال القياسيّة الثّلاثة للحكومة التي حدّدها أرسطو. “الديمقراطية” هي حكومة يختارها الشّعب، من الشّعب وإلى الشّعب. “الأرستقراطيّة” هي حكومة من القلائل المختارين، يتصرّفون بشكل مستقلّ عن تفكير الشّعب وأرائه، وذلك استنادا إلى امتيازات خاصّة استثنائيّة يتمتعون بها. “الأوتوقراطية” هي حكومة الشخص الواحد أو الهيئة الواحدة، ذات قرار مطلق غير خاضع لسلطة الآخرين أو مراقبتهم. هكذا يتّضح أنّ موضع السلطة للحكومات الثّلاثة ينتقل في مداه من الشّعب، إلى القلائل المختارين وأخيراً إلى الكيان الواحد.
ما تبقى تحديده الآن هو تلك الأوجه المعروفة بأنّها مفيدة في الأشكال الثّلاثة المذكورة للحكومة ونراها موجودة في النّظام الإداري البهائي، ثمّ الأوجه التي تعتبر غير مفيدة وبالتالي أسقطها النّظام الإداري البهائي.
أذكر أنّه كانت هناك مناقشات حول هذا الموضوع خلال فترة ولاية حضرة شوقي أفندي، وكيف حدّد الباحثون والدّارسون في الأمر تلك الأوجه في ذلك الوقت. اعتُبِرَت مؤسّسة ولاية الأمر هي “الأوتوقراطيّة” في شكل تعيين إلهي. واعتُبِرَت مؤسّسة أيادي أمر الله بمثابة “الأرستقراطيّة” في الأمر. أما “الديمقراطية”، فشوهدت في انتخاب أعضاء بيت العدل الأعظم.
إلاّ أنّه بصعود حضرة شوقي أفندي وإدراكنا أنّ ولاية الأمر لم تبق معنا كمؤسّسة، ثم عندما قرّر بيت العدل الأعظم أنّه لا يستطيع تعيين أيادي أمر الله آخرين أو التشريع بما يجعل تعيين أيادي أمر الله آخرين أمراً ممكناً، أصبح من الواضح أن هذين العنصرين للنّظام الإداري اللذين كانا موجودين خلال ولاية حضرة شوقي أفندي، لا يمكن إعادتهما بعد صعود حضرته.
أو بمعنى آخر، كما أنّ شأن البداءة التي كانت عليها الإدارة البهائيّة في عصر حضرة عبد البهاء لم تكن سوى مؤقتة، كذلك فإنّ المنهج الذي كانت عليه الإدارة البهائيّة خلال ولاية حضرة شوقي أفندي لا يمكن إعادته بنفس الصّورة بعد صعود حضرته.
برزت هذه النّقطة بصورة أكثر حدّة عندما اتّضح أن حضرة شوقي أفندي كان قد أعلن بكلّ وضوح، قبل أن يُقَدِّمَ رأيه في توقيعه “دورة بهاء الله” عن الفروق بين النّظام الإداري البهائي والأشكال الثّلاثة للحكومة العلمانيّة، أنّ حضرته ينوي توضيح “النّظرية” التي بني عليها النّظام الإداري البهائي. لذلك كان علينا جميعا أن ننظر إلى المبادئ الأساسيّة التي تسير بموجبها المؤسّسات الرئيسيّة للنّظام الإداري، مع التّطلع إلى اليوم الذي سوف تصبح فيه تلك المؤسّسات، النّواة والنّموذج لنظم حضرة بهاء الله العالمي.
مثلاً، يشير حضرة شوقي أفندي بشكل واضح في “دورة بهاء الله” إلى أن القاعدة التي بُنِيَ عليها النّظام الإداري البهائي تجعله يميل إلى “طرق ديمقراطيّة في إدارة شؤونه”[37]. ومع ذلك، كلّ من يقرأ ألواح وصايا حضرة عبد البهاء فيما يخص مدى السّلطة المخوّلة لولي الأمر، يتراءى له بسهولة أنّه كان لحضرته سلطة لا تقبل أي تحدّ فيما يخصّ أيادي أمر الله. فحضرته كان يعيّنهم، وفي إمكانه طردهم إذا رأى ذلك، كذلك أعضاء بيت العدل الأعظم الذين طلب إليهم “كمال الطّاعة والتمكين والانقياد والتّوجه والخضوع والخشوع لولي أمر الله”[38]. وطبقا لألواح الوصايا، أمر “كمال الطاعة” هذا يشمل كلّ الأحبّاء، بل تشترط ألواح الوصايا أنّه على “جميع الأغصان والأفنان وأيادي أمر الله”[39] الالتزام بقرارات وتوجيهات ولي الأمر. ثم تمنح ألواح الوصايا أيضاً، لولي الأمر سلطات أبعد، ذلك بأنّه يحق له طرد أيّ من أعضاء بيت العدل الأعظم الذي يرى حضرته أنّه “اقترف ذنبا يلحق ضرّه العموم”.[40] من المؤكد أن مثل هذا السيناريو إنّما يصوّر النّظام الإداري البهائي كونه منظومة تميل ميلاً قويّاً لا إلى ممارسات ديمقراطيّة بل إلى مناهج أوتوقراطية في إدارة الأمر.
يجب أن نتذكّر أيضاً ما تفضّل به حضرة شوقي أفندي في “دورة بهاء الله” بأنّه في الوقت الذي لا يمتلك حضرة عبد البهاء مقام النبوة، إلاّ أن حضرته كان موهوباً “بالمعرفة والكمالات فوق البشريّة”[41]. في ضوء هذا البيان، وفي غياب الهيكل العنصري لولاية الأمر في النّظام الإداري، ألا يمكننا أن نخاطر ونفترض أن حضرة عبد البهاء كانت لديه رؤية بأنّ نموّ النّظام الإداري من بعده سوف يكون على مرحلتين: الأولى، وهي مؤقتة، برئاسة ولي الأمر، يكون عنصر الأوتوقراطيّة هو الصّفة المهيمنة؛ والمرحلة الثّانية التي ستمتد إلى المستقبل، وبيت العدل الأعظم أداته العليا، يكون عنصر الديمقراطيّة هو الصّفة المهيمنة؟
دعونا الآن نكتشف وجوه المقارنة بين النّظام الإداري والحكومات العلمانيّة. فمثلاً انتخاب أعضاء بيت العدل الأعظم وأعضاء المحافل الروحانيّة، المحليّة والمركزيّة، ولو أنّها خالية من الترشيح والحملات الانتخابيّة، هو إجراء ديمقراطي صرف. وعلى النسق نفسه، فإنّ المشورة البهائيّة، التي تمتاز كل الامتياز بالوقار والتّفاهم مقارنة بما نشاهده في المناقشات البرلمانيّة بالمجالس التشريعيّة الموجودة في العالم، إنّما هو وجه ديمقراطي آخر مندمج في المنظومة الإداريّة البهائيّة. وصفة ديمقراطيّة ثالثة للنظام الإداري البهائي توجد في درجة الاستقلالية التي تتمتع بها الهيئات المنتخبة على المستويين المحلّي والمركزي. هذه هي في حدّ ذاتها اللامركزيّة في الأمور الإداريّة التي يزداد تطبيقها وتقدير قيمتها من قبل العديد من البلدان الديمقراطيّة في العالم. التباين الجليّ هو أنّ المُنْتَخَبين في النّظام البهائي ليسوا مسؤولين أمام أولئك الذين انتخبوهم. فالأعضاء المنتخبون مرتبطون في خدماتهم بمسؤوليّة أخلاقيّة وروحانيّة، ولذلك فإنّ مسؤوليتهم الوجدانية تكون أمام الله، الله وحده، هذا ما تؤكّده تعاليم أمرنا العزيز.
أمّا فيما يخص الارستقراطيّة، فهناك قليل من التّشابه موجود في مؤسّسة المشاوَرين على المستوى العالمي والقاري وأيضا في أعضاء هيئات المعاونين ومساعديهم في نطاق المناطق الجغرافيّة المحدودة. إلاّ أنّ هؤلاء الأفراد المعيّنين لا يمتلكون سلطة اتّخاذ القرار وتقتصر مهمتهم في النهاية على الطّابع الاستشاري، بخلاف ما هو موجود في النّظام الأرستقراطي الذي يعطي لمجموعات صغيرة مختارة صلاحيات وامتيازات خاصّة. التّشابه الأكثر وضوحاً هو أنّ سلطة اتّخاذ القرار في النّظام الإداري البهائي منوط إلى القلّة المنتخبة، أي أعضاء المحافل (الروحانيّة) المحليّة والمركزيّة وأعضاء الهيئة العليا – كلّهم ليسوا مسؤولين أمام مُنْتَخِبِيهم. غير أنّ وجه الخلاف هنا يكمن في أنّ الأعضاء المنتخبين لتلك المجالس ليسوا من طبقة النبلاء ولا يتبوءون مناصبهم على أساس الأصل (العائلي) أو الإرث. إذ طبقا للنّظام الإداري، يأخذ هؤلاء مناصب سلطتهم نتيجة للإجراء الديمقراطي في الانتخابات البهائيّة.
أخيرا، وبالنسبة للأوتوقراطيّة، نجد وجه تّشابه في مصدر السلطة كما هو مدوّن في دستور بيت العدل الأعظم حيث جاء:
“إن مصدر سلطة بيت العدل الأعظم ووظائفه ونطاق أعماله كلها منبعثة من الآيات المنزّلة من يراعة حضرة بهاء الله، فهذه الآيات الباهرات وما بينّه ووضحّه مركز الميثاق وحضرة ولي أمر الله ، الذي هو المبيّن الوحيد المنصوص عليه بعد حضرة عبد البهاء، كلّ ذلك يعتبر مرجعاً مطاعاً لبيت العدل الأعظم وأس أساسه. إن سلطة هذه النّصوص المباركة سلطة مطلقة وقاطعة وهي المرجع الثّابت الذي لن يتغير حتى يظهر في العالم مظهر أمر الهي جديد بمشيئة الله، ويوضع يومئذ زمام الأمر والحكم في قبضة قدرته”.[42]
هكذا يتضح أن الصّفة الأوتوقراطيّة في النّظام الإداري هي السّلطة الإلهيّة المودعة في النّص المقدّس لمؤسّس أمر الله وللشّخصين المفوّضين بحق التبيين لكلمته المنزّلة. أمّا أوجه الخلاف فموجودة في المجال أللاّمحدود للتشريع في الأمور الثانويّة المتمّمة للأحكام التي أنزلها حضرة بهاء الله، وتطبيق تلك الأحكام على نطاق عالمي، ثمّ التّشريع في الأمور التي لم يرد ذكرها في النّص المقدّس وآثار التبيين الموثّقة. هذه المسؤوليّات يقوم بها بيت العدل الأعظم، المشرّع الأعظم لرابطة شّعوب العالم البهائي.
أرجو أن أختم هذا الجزء بتأكيد قاطع لحضرة ولي أمر الله، وحضرته ينظر إلى المستقبل، ويشاهد النّظام الإداري ينمو ويتّسع ليواجه المدنيّة التي تتقدّم وتتطوّر باستمرار. يتفضّل بما يلي:
بعد الطرح جانباً بصورة قاطعة ودائمة للشّرور المسلّم بوجودها متأصلةً في كلّ واحدة من تلك المنظومات، لا يمكن لهذا النّظام الفريد، مهما طال به الزّمان ومهما اتسعت وانتشرت أثاره، أن ينحدر إلى أي شكل من أشكال الاستبداديّة (despotism) أو حكم القلّة (oligarchy) أو الدّهمائيّة (demagogy)، التي من شأنها، عاجلاً أم آجلاً، أن تفسد آليّة كلّ المؤسّسات السّياسيّة من صنع الإنسان التي بالضرورة معيبة في جوهرها.[43]
تحتاج الكلمات الثّلاثة “الاستبداد” (despotism) وحكم أقلية من الأعيان “الأوليغاركيّة” (oligarchy)، وحكم “الدّهمائيّة” (demagogy)، إلى بعض التوضيح. “الاستبداد” يعني الدكتاتوريّة أو الحكم الاستبدادي من قبل حاكم طاغية. “الأوليغاركيّة” تعني حكومة تهيمن عليها جماعة صغيرة همها الاستغلال وتحقيق المنافع الذاتية. “الدّهمائيّة” تعني حكومة من قادة أنانيّين سياسيّين منْتَخَبِين قدّموا وعودا كاذبة للناخبين واستغلوا تعصب الشّعب وجهله.
هنا يطمئننا حضرة شوقي أفندي، وهو المبيّن لتعاليمنا، بأنّه لن تتمكّن أبداً أي من مفاسد تلك النّظم الضّارة من الحكومات، من النيل من النّظام الإداري البهائي إلهيّ التقدير والتدبير، أو أن يبطئ ترقيه في معراج إنضاجه ليصبح النّظام العالمي، أو يعوق إثماره الكامل إلى تأسيس رابطة شّعوب العالم البهائي في المستقبل.
هناك توقيع رائع من ولي أمر الله المحبوب، كتب بالفارسيّة صدر عام 1929 موجّه إلى الأحبّاء بإيران. كان قد وقعت آنذاك اضطّهادات أليمة بمهد الأمر المبارك. أشار حضرته في تلك الرّسالة إلى الأحبّاء الإيرانيّين بالصّبر والتّشبّث بأهداب رداء أمر الله الأقدس المنيع. إن الله هو الحافظ الحارس ويد الغيب تهيمن على الأمور. عندما يحين الوقت سوف يقوم أكاديميون منصفون، ولو لم يكونوا بهائيّين، ويدافعون عن هذا الأمر ويردّون للمؤمنين حقوقهم المسلوبة.
لقد علّمنا حضرة شوقي أفندي كيف نقدّم أمر الله ونبرز للعالم الخارجي الأوجه الممتازة لنظمه العالمي. إنّه لفي استطاعة الشّباب البهائي، وهم الطلاّب المجتهدون والمتعمقون الجادّون في دراسة الأمر، أن يشرحوا بطريقة حكيمة إلى أساتذتهم المتفتحين وزملائهم المخلصين امتياز المنظومة البهائيّة وكمالها كنظام عالمي، دون إعطاء أي انطباع بأنّهم يسعون إلى كسب هؤلاء إلى الأمر المبارك. لأنّ من بين هؤلاء الأكاديميين والمفكرين المتبحرين في العلم المستقلين المنصفين الرأي، سوف يقوم قادة فكر شجعان بدافع الدفاع عن الأمر المبارك بروح الموضوعيّة والإنصاف وإثبات أحقيته في الوجود في إيران وفي البلدان الأخرى التي يعاني فيها أتباع أمر الله من الاضطهاد.
يمرّ العالم اليوم بفترة إلحاد بالله. ولكن سرعان ما سوف يدير ظهره عن نظريّته الماديّة ويقرّ بحاجته إلى الدّين. لاشك في أنّه علينا نحن البهائيين، أن نقوم بدور رئيسي لخلق هذا الوعي – وعي سوف يؤدّي حتما إلى بعث الروحانيّة لدى الجماهير وفي نهاية المطاف إلى القبول الصادق بشرعية أمر الجمال المبارك وأحقيّته. ما قدّمته إليكم مبني على فهمي الشخصي للتّعاليم الأمرية حول هذا الموضوع.
كوننا شباباً بهائيّين، علينا أن نعدّ أنفسنا لهذه التّطورات السّارة البهيجة ونتوسل إلى حضرة بهاء لله أن يقبلنا ويجعلنا أداة لتحقيق مقصده الأسمى. إذا شعرنا بأنّنا لا نستحق هذا الفضل، فلا بأس في ذلك، لأنّ الأمور يجب أن تكون هكذا. لنضع ثقتنا في حضرته ونواجه المستقبل بكلّ ثّقة وتفاؤل.
أسئلة في الموضوع
س: مطلوب منّا كبهائيّين أن نتعاون مع الجمعيّات والحكومات التي تتناغم أهدافها مع الرؤية البهائيّة. كيف يمكننا أن نقوم بذلك دون الانخراط مع الأحزاب السّياسيّة وبعيدا عن مفاسد سياساتها ؟
ج: تعاليمنا تشير بوضوح إلى أنّ علينا المعاشرة مع كلّ شرائح المجتمع الخارجي، بما في ذلك قادة الأديان وشخصيّات السّياسة وقادة الفكر وأفراد المجتمع العاديّين. فإذا انتابتنا أي مشاعر من الشك تجاه الأحزاب السّياسيّة، فعلينا استشارة محفلنا الروحاني المركزي.
المهم أن يكون لدينا الشّجاعة والعزم على الاندماج مع جميع طبقات المجتمع. سوف يؤيّدنا الله على التّعرّف إلى تلك النّفوس المستعدّة، فإمّا أن يرسلهم إلينا أو يرسلنا إليهم.
س: ماذا يعني “الربيع الذي لن يخلفه خريف“ و“…يوم الله هو نفسه إذاً ظهر بالحق ولن يعقبه الليل…“
ج: فهمي لهذين النّصين هو أنّهما إشارة إلى العهد والميثاق. يِؤكد لنا حضرة بهاء الله أن أمره المنيع لن تعتريه الطائفيّة والانقسام داخل الجامعة، كما حدث في المنظومات الأخرى. سوف تبقى الجامعة متّحدة طوال دورة حضرة بهاء الله. وقد ذهب حضرة عبد البهاء إلى حدّ أعلن فيه أنّ “من البديهي أنّ قوّة الميثاق دون سواها هي محور وحدة العالم الإنساني”.[44]
س: يشير حضرة بهاء الله في البشارة الخامسة[45] إلى أنّ الجمهوريّة نفعها راجع إلى العموم وفي الوقت نفسه يمتدح شوكة السّلطنة، ثمّ يستحسن حضرته الجمع بين الاثنين. ماذا يعني هذا؟
ج: في “لوح الدّنيا” يتفضّل حضرة بهاء الله: “ويبدو أنّ ما تتمسك به الأمّة الإنجليزيّة في لندن مستحسن إذ إنّها مزيّنة بكلا النورين: الملكيّة واستشارة الأمّة”[46]. أعتقد أن حضرة بهاء الله يتحدّث هنا عن الملكية الدّستوريّة كنظام مقبول لحكومة وطنيّة.
س: كيف نشرح لغير البهائيّين دور هيأتنا العليا ووظائفها؟
ج: أقترح تجنُّب الإشارة إلى موضوع “العصمة” بصورة تلقائية عند تقديم أمر الله للطالبين. يمكننا الإشارة إلى بيت العدل الأعظم بأنّه المجلس المنتخب الأعلى لدى الجامعة البهائيّة وأنّه رأس الأمر.
[1] مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله (طبعة البرازيل 1980)، ص 102 – 106.
[2] World Order ص 36 (مترجم عن الإنكليزيّة).
[3] “لوح السحاب”، كتاب مبين، ص 150.
[4] القرن البديع ص 122.
[5] القرن البديع، ص122.
[6] المصدر السابق، ص 122.
[7] المصدر السابق، ص122.
[8] هكذا يكتبها المسيحيّون.
[9] القرن البديع، ص123.
[10] المصدر السابق، ص123.
[11] المصدر السابق، ص123.
[12] المصدر السابق، ص124 عن القرآن الكريم – سورة الزمر 69.
[13] القرن البديع، ص 126.
[14] “سورة الهيكل” من كتاب مبين، (طبعة ثالثة بكندا – 1996) ص 20.
[15] القرن البديع ص126.
[16] المصدر السابق، ص130.
[17] الكتاب الأقدس، الآية 91.
[18] المرجع في “نار ونور” من توقيع لحضرة شوقي أفندي إلى أحباء إيران بتاريخ 6 ماي 1925.
[19] مجموعة نصوص “بيت العدل الأعظم” بالعربي.
[20] “سورة الهيكل” من كتاب مبين، (طبعة ثالثة بكندا – 1996) ص 5.
[21] هذه المقتطفات الثّلاثة لحضرة عبد البهاء مترجمة من نصوص حضرة شوقي أفندي الإنكليزيّة التالية:
“The effulgence of God’s splendorous mercy hath enveloped the peoples and kindreds of the earth, and the whole world is bathed in its shining glory…”(WO 111). “Centuries, nay ages, must pass away ere the Day-Star of Truth shineth again in its mid-summer splendour or appeareth once more in the radiance of its vernal glory… How thankful must we be for having been made in this Day the recipients of so overwhelming a favour!” (111). “Whatsoever is latent in the innermost of this holy cycle shall gradually appear and be made manifest, for now is but the beginning of its growth and the dayspring of the revelation of its signs.(146).
[22] “كتاب عهدي” – مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله، (طبعة البرازيل – 1980) ص 197.
[23] القرن البديع، آخر ص 385.
[24] المصدر نفسه، ص 289.
[25] الكتاب الأقدس، الآية 181.
[26] World Order ص 18–19 مترجم من الأصل الإنكليزي.
[27] World Order ص 20 مترجم من الأصل الإنكليزي.
[28] World Order ص 21 مترجم من الأصل الإنكليزي.
[29] في القرن البديع “مفسّر”.
[30] في القرن البديع، “التفسير”.
[31] القرن البديع، ص 400 – 401.
[32] World Order ص 21–2.(مترجم من الأصل الإنكليزي).
[33] مترجم من “منتخبات آيات از آثار حضرت نقطة اولى” ص 52.
[34] World Order 152–153 “دورة بهاء الله”.
[35] في القرن البديع، “تفسير”.
[36] القرن البديع، ص 401.
[37] World Order ص 154 (مترجم عن الإنكليزيّة).
[38] ألواح وصايا حضرة عبد البهاء، (طبعة مصر) ص12.
[39] المصدر السابق، ص 12.
[40] المصدر السابق، ص 15.
[41] “superhuman knowledge and perfection” World Order، ص 134 (مترجم عن الانكليزية).
[42] دستور بيت العدل الأعظم، ص 10.
[43] World Order ص 154 (مترجم عن الإنكليزيّة).
[44] القرن البديع، ص 289.
[45] هكذا في السؤال، ولكن الصحيح هو “البشارة الخامسة عشر”، (راجع مجموعة ألواح حضرة بهاء الله – “البشارات”.
[46] مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله “لوح الدنيا”: – (طبعة بروكسيل 1980) ص 110.
عند
الحديث عن دور “الغرب” أو “أمريكا” في نموّ وتطوّر مقدرات أمر الله، من المهمّ أن نحدّد الفرق في المعنى الصحيح للمصطلحات الجغرافيّة الواردة في الآثار الأمريّة. فمثلاً نجد أحياناً ببساطة كلمة “الغرب”، وأحياناً كلمة “الأمريكيتين”، والمقصود منهما القارة الأمريكيّة أو نصف الكرة الأرضيّة الغربي. ثمّ هناك أيضاً الإشارة إلى “أمريكا الشّماليّة” والمقصود هنا هو الولايات المتّحدة وكندا. وأخيراً كلمة “أمريكا” بمفردها تعني في أكثر الأحيان الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
أنزل حضرة الباب في بداية رسالته لوح “قيّوم الأسماء”، وفيه خاطب “أهل الغرب” وأمرهم “أن اخرجوا من دياركم” لنصر الله “فأصبحوا في دين الله الواحد إخواناً على خطّ السواء”[1].
ما يمكننا تحديده هو إنّ أوّل إشارة وردت فيما نزّل من قلم حضرة بهاء الله عن الدّور الذي ستؤديه جمهوريّات نصف الكرة الغربيّ، كانت في الكتاب الأقدس عندما خاطب حضرته “ملوك أمريكا ورؤساء الجمهور فيها” في فقرة كاملة بالكتاب الأقدس مكوّنة من سبع آيات. هذا نصّها:
يا ملوك أمريقا ورؤسآء الجمهور فيها اسمعوا ما تغنّ به الورقآء على غصن البقآء إنّه لا إله إلاّ انا الباقي الغفور الكريم * زيّنوا هيكل الملك بطراز العدل والتّقى ورأسه باكليل ذكر ربّكم فاطر السّمآء كذلك يأمركم مطلع الاسماء من لدن عليم حكيم * قد ظهر الموعود في هذا المقام المحمود الّذي به أبتسم ثغر الوجود من الغيب والشّهود اغتنموا يوم الله انّ لقآئه خير لكم عمّا تطلع الشّمس عليها إن أنتم من العارفين * يا معشر الأمرآء اسمعوا ما ارتفع من مطلع الكبريآء انّه لا اله الاّ انا النّاطق العليم * اجبروا الكسير بايادى العدل وكسّروا الصّحيح الظّالم بسياط اوامر ربّكم الآمر الحكيم *[2].
الجمل الأولى التي تنتهي “ان أنتم من العارفين” تخصّ العدل والتّقى وذكر الله وظهور الموعود. عندما كنت في إيران كنت أحضر الدّروس التي كان يقدمها المتعمقون في الأمر عن الأقدس. الشّرح الذي أعطى لنا عن هذا النّص كان أن الجمل الخمسة الأولى موجّهة إلى رؤساء الجمهور في القارة الأمريكيّة، أمّا الجملتان الأخيرتان اللتان تبدءان بـ “يا معشر الأمرآء…” فالتوجيه هنا إلى الرؤساء في كلّ الكرة الأرضيّة.
في توقيع لحضرة شوقي أفندي بتاريخ يونيو/حزيران 1947 إلى الجامعة البهائيّة الأمريكيّة، أعطى حضرته ترجمة لهذا الجزء من الكتاب الأقدس. عندئذ فهمنا أن إدراك حضرة شوقي أفندي يختلف عن فهم مدرسينا المتعمقين، لأن ترجمته جعلت من “… ملوك أمريقا ورؤسآء الجمهور فيها…” و”…معشر الأمرآء…” جميعا مجموعة واحدة من القادة.
أكرّر أن أهمية هذه الترجمة لحضرة شوقي أفندي تكمن في تبيينه بأن التوجيه المتضمِّن الجملتين الأخيرتين ليس بواجب على حكام العالم قاطبة ولكنه تعبير عن إرادة الله في تعيين مهمّة خاصة إلى الحكام في نصف الكرة الأرضيّة الغربي. سوف أعيد تلاوة الجملتين لبيان أهمية ما ورد بهما، ليس من وجهة النّظر البهائيّة فحسب، بل أيضا بالنّسبة للوضع السّياسي القائم على السّاحة العالميّة الآن:
يا معشر الأمرآء اسمعوا ما ارتفع من مطلع الكبريآء انّه لا اله الاّ انا النّاطق العليم * اجبروا الكسير بايادى العدل وكسّروا الصّحيح الظّالم بسياط اوامر ربّكم الآمر الحكيم *
تلاحظون هنا، أنّ حضرة بهاء الله كلّف حكام نصف الكرة الغربي بأن “اجبروا الكسير” و”كسروا الصّحيح”. المقصود بالكسير، في رأيي هو إشارة إلى العظام المكسورة للجامعة البهائيّة المقيمة تحت نير الأنظمة الظّالمة المستبدة في الشّرق، خاصة في إيران. كما أنّ هذه الكلمة تشير بصورة عامّة إلى كلّ الأقليّات المستضعفة والمضطّهدة في جميع أنحاء العالم.
التّكليف الذي أمر به حضرة بهاء الله لا ينتهي بجبر الكسير، لأنّ حضرته طلب من الأمريكتين تكسير الصحيح الظالم. هذا يذكرنا بإحدى الكلمات المكنونة لحضرة بهاء الله حيث يتفضّل: “يا ظلمة الأرض كُفوا أيديكم عن الظّلم، لأنّي قد أقسمت ألاّ أتجاوز عن ظلم أحد، وهذا عهد حتمته في اللوح المحفوظ وختمته بخاتم العزّة”[3]. ومع أنّه بموجب آيات الكتاب الأقدس يكون قد وضع حضرة بهاء الله مسؤولية خاصة على أكتاف الحكّام الذين يمسكون بزمام القدرة والسلطة في نصف الكرة الغربي، فإن هذا لا يعني أن الحكّام في أماكن أخرى من العالم يمكنهم أن يتجاهلوا ما حولهم من ظلم. كلّ ما في الأمر هو أنّ المقتدر القدير ينتظر من حكّام النّصف الغربي للكرة الأرضيّة أن يكونوا في مقدّمة المنصفين للمظلومين، والواقفين في وجه الظالمين، والمُعَاقِبِين للطاغين.
ومما يلفت النّظر، أنّ خطاب حضرة بهاء الله إلى حكّام القارة الأمريكيّة، مع أنّه ينم عن السلطة والأمر، إلاّ أنّه يختلف عن أسلوب ألواحه إلى حكام أو ملوك العالم الآخرين. إذ في ألواح الآخرين نجد عبارات التوبيخ واللّوم وفي بعض الأحيان الإنذار بالعقاب الإلهي.
هناك تنبؤ خطير أيضا لحضرة بهاء الله بخصوص السّلطنة التي ستتحقّق لرسالته المقدّسة بفضل أولئك الذين سينصرون أمره في الغرب. فيتفضّل حضرته: “قل إنّه قد أشرق من جهة الشّرق وظهر في الغرب آثاره تفكّروا فيه يا قوم ولا تكونوا كالّذين غفلوا إذ جآئتهم الذّكر من لدن عزيز حميد”.[4]
ورُوِيَ أن حضرة بهاء الله قال “لو أنّ هذا الأمر كان ظهر في الغرب… لاتّضح كيف يعتنق أهل الغرب أمرنا”[5]
ثم يشهد بذلك حضرة عبد البهاء حين كتب: “كان النّور الإلهي، منذ البدء إلى وقتنا هذا، يسطع من الشّرق على الغرب. إلا أن سطوعه في الغرب كان أقوى وأشد. تأملوا أمر السّيد المسيح روحي فداه ! فقد ظهر من الشّرق. فلما أشع بنوره على الغرب فاق انتشار نور الملكوت في الغرب انتشاره في الشّرق” ثمّ يؤكد حضرته ” عما قريب تلاحظون أن الغرب أصبح شرقاً من أنوار حضرة بهاء الله . وتهطل رحمة الربّ فتهتزّ لها القلوب وتربو”.[6]
وفي إسهاب حول نفس هذا الموضوع، يصف حضرة شوقي أفندي أوربا بأنّها “مشهد لأعظم مآثر أتباع أليسوع المسيح” وتحقّقت فيها أيضاً “بعض من ألمع الفتوحات التي بشّرت باقتراب العصر الذهبي للإسلام”.
تجدر الإشارة هنا أنّه لا شكّ في أنّه كان لكلّ من المسيحية والإسلام عهد (وميثاق)، إلاّ أنّ حضرة شوقي أفندي يوضّح لنا بأنّ تلك العهود لم تكن قويّة ثابتة أو منيعة كالعهد والميثاق في أمر حضرة بهاء الله. من ذلك نذكر أن بولس، الذي كانت علاقته متوتّرة وبغيضة مع بطرس وهو الأحق بالخلافة، تمكن (أي بولس) من القيام بدور كبير في نشر أمر سيدنا عيسى على أرض أوروبا. وعلى نفس النمط، نرى أن السنّة في الإسلام، وليس الشّيعة الذين تمسكوا بشرعيّة الخلافة، هم الذين تمكّنوا من تحقيق العصر الذهبي للإسلام في القارة الأوروبيّة. هكذا نرى أنّه مع غموض وميعة عهود الأدوار السّابقة، كأن الله سمح لألئك الذين أنكروا مضمونها، بل استهزؤوا بها، مثل بولس في المسيحيّة وقادة السنّة في الإسلام، من أن يقودوا الأتباع خلال مدّة معيّنة من الزّمن إلى تحقيق مآثر وفتوحات تحت لواء أمر الله المقدس.
أعيد للذاكرة أنّ نور أمر الله لم يكن قد أضاء الغرب أثناء ولاية حضرة بهاء الله. بعد صعود حضرته بسنة، وفي سبتمبر/أيلول 1893، رأينا مَعْلَماً في تاريخ الأمر، تمثّل في ذكر الأمر المبارك علناً ولأوّل مرة في النّصف الغربي من الكرة الأرضيّة، في البرلمان العالمي للأديان الذي عقد في شيكاغو. بعد هذا الحدث مباشرة، دخل أوّل فوج من المؤمنين الجدد في ظلّ أمر الله؛ وفي ديسمبر/كانون الأوّل 1898 زارت أوّل مجموعة من الزائرين الحجّاج الأمريكان مقام حضرة بهاء الله ونزلوا ضيوفاً على حضرة عبد البهاء. لا شكّ أن واحد من أولى أهداف حضرة عبد البهاء في حياته كان زيارة شمال أمريكا لتشجيع أتباع أمر والده الجليل وتدعيمهم، ووضع حجر الأساس لمشرق الأذكار الذي أصبح أم المعابد في الغرب.
خلال الحرب العالميّة الأولى، وفيما بين سنة 1916 و1917، كشف حضرة عبد البهاء عن ألواح خطّته الإلهيّة، وأكدّ حضرة شوقي أفندي أنّ هذا الكشف كان بتأثير وإلهام من خطاب حضرة بهاء الله إلى حكام أمريكا. أرسل حضرة عبد البهاء هذه الألواح إلى الجامعتين البهائيتين بالولايات المتّحدة وكندا. وصف حضرة شوقي أفندي هذه الألواح بأنّها دستور نشر أمر الله في جميع أنحاء العالم.[7] تضفي هذه الألواح على الجامعة البهائيّة الأمريكيّة ما أسماه حضرة شوقي أفندي سلطة روحيّة عليا فريدة.[8]
ما تفضّل به حضرة عبد البهاء عن الجامعة البهائيّة الأمريكيّة وما ستحقّقه من إنجازات في المستقل هي حقّاً غاية في الإعجاب:
لاحظوا أية أبواب فتحها لكم حضرة بهاء الله، وأي مقام رفيع أعلى قدره لكم، وأية موهبة يسّرها لكم… وكذلك ما نلتموه من نجاح ليس الآن معروفا، أرجو أن تهتزّ منه الآفاق قريباً… وكذلك ما ستحقّقونه من إنجازات في المستقبل لم يُكشف عنها بعد ….. إنّ أمنية عبد البهاء… أن توصلوا صيت أمر الله إلى الشّرق والغرب… وحينما يصل هذا النّداء الإلهي من قارة أمريكا إلى قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا واستراليا وحتّى جزر المحيط الهادي، يجلس أحباء أمريكا على عرش السّلطنة الأبدية ويطبق صيت نورانيتهم وهدايتهم كل الآفاق ويحيط صدى عظمتهم جميع العالمين”.[9]
بهذه العظمة سيكون شأنهم.
في الفترة الأخيرة من ولاية حضرة عبد البهاء، تمكّن حضرته من مشاهدة الثِمار الأولى للانجازات التي حققتها الجامعة البهائيّة الأمريكية: كتأسيس أوّل “بيت الروحانيّة” House of Spirituality في شيكاغو، وتشكيل دار النّشر البهائيّة، وإقامة “هيئة الزمالة في جرين أيْكار “Green Acre، وإصدار مجلة “نجم الغرب “Star of the West، وتسجيل “هيئة وحدة المعبد البهائية”[10] المنبثقة عن أوّل مؤتمر مركزي بهائي، وتشكيل اللجنة التنفيذيّة لمشرق الأذكار. كلّ هذه الإنجازات تحقّقت في الميدان الإداري من الأنشطة البهائيّة. أمّا فيما يخص ميدان تبليغ أمر الله، فقد شاهد حضرة عبد البهاء ما قام به أعضاء من الجامعة البهائيّة الأمريكية من خدمات كمهاجرين أو مبلّغين سيّارين في ألاسكا، ثمّ في قارة أوروبا: فرنسا، وبريطانيا العظمى، وألمانيا، بالإضافة إلى دول البلطيق، وشبه جزيرة البلقان واسكندينافيا. ثمّ سرّ حضرته بنشاط التّبليغ الذي امتدّ إلى ما وراء أوروبا ليصل إلى جزر الهند الغربيّة، وأمريكا اللاّتينيّة، وجنوب إفريقيا، والصّين، واليابان، والهند، وتاهيتي، والقارة الاستراليّة بما في ذلك تاسمانيا نيوزيلاندة. وهكذا، عند صعود حضرة عبد البهاء كان قد أضاء نور أمر والده الجليل 35 بلداً من بلدان العالم، جزء منها فتحه أحبّاء من الشّرق والجزء الأكبر كان من نصيب المؤمنين من الولايات المتّحدة.
مع بداية عصر التكوين لأمر الله، بعد صعود حضرة عبد البهاء، كان على حضرة شوقي أفندي أن يضع أساس النّظام الإداري في ضوء الخطوط العريضة التي وردت في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء. فدعا الجامعات البهائيّة بالشّرق وبالغرب إلى تأسيس المحافل الروحانيّة المحليّة على أسس سليمة، ثمّّ إلى تشكيل المحافل الروحانيّة المركزيّة حيثما تسمح الظروف.
ركّز حضرة شوقي أفندي اهتمامه الخاص على الجامعات البهائيّة بالولايات المتّحدة وكندا، التي كانت تكوّن جبهة داخلية واحدة في ذلك الوقت. أعطى حضرته تلك الجامعات التعليمات الأساسيّة عن مبادئ الإدارة لشؤون الأمر. وبعد أن أطلق على المؤمنين الأمريكان صفة “أحفاد مطالع الأنوار الروحانيين “The spiritual descendants of the Dawn-Breakers، مدح تكريسهم لأمر الله وشجّعهم على السّير في خطوات أبطال عصر سابق لكي يصبحوا “الشهداء الأحياء المضحّون بالنفس”. ولم يطل الوقت بعد ذلك حتى نعت حضرته الجامعة البهائيّة الأمريكية بـ ”مهد النّظام الإداري”.
ثمّ أوضح حضرة شوقي أفندي بعد ذلك بقليل، أن الله اختار لذلك البلد أن يكون مميّزاً لما به من شرور واضحة ومتفشية في حياة أهله. الشرور التي عدّدها وهي عكس الفضائل والكمالات التي يتحلّى بها بناة نظام الله الإداري، هي كالآتي: (1) الانغماس “في بحر الماديّة”، (2) الوقوع فريسة لتعصّب عنصري الأقسى فتكاً والأقدم عهداٌ، و(3) ضحيّة “الفساد السّياسي، والتمرّد على القوانين والانحطاط في القيم الأخلاقيّة”.
قبل أن تصبح الولايات المتحدة مهد النّظام الإداري، كانت بلاد فارس قد سميت بـ ”مهد أمر الله “The Cradle of the Faith. لنفس الغرض في مقارنة الشرّ بالفضيلة، وفي نظرة على بلاد الفرس في القرن التّاسع عشر، وصف حضرة شوقي أفندي أمّة مهد الأمر الإلهي بكونهم “الأكثر تخلّفاً، والأكثر جبناً، والأكثر انحرافاٌ” – أمّة “انحدرت إلى أعماق ذّل، وأظهرت انحرافاً، على قدر لم يشاهد شبهه في عصره”. من قوم كهذا، بعثت رسالة حضرة بهاء الله أبطالاً وشهداءً وقدّيسين سوف يبقى ذكراهم فخراً وجلالاً لهذه الدّورة المجيدة.
لم يتوقف حضرة شوقي أفندي خلال ستّ عشرة سنة أو أكثر، عن إرسال توجيهاته العامّة والمفصّلة إلى المحفل الروحاني المركزي بأمريكا ليمكّنه من تشييد هيكل متكامل طبقاً لما ورد في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء. وكما رأينا في الحديث السّابق، فقد نعت حضرة شوقي أفندي ألواح الوصايا بدستور الحضارة العالميّة المستقبلية. قبل ذلك كانت هذه الوثيقة معروفة بعنوان متواضع هو”دستور تأسيس النّظام الإداري”، لأنّ النّظام الإداري سوف يؤدّي إلى النّظم العالمي، الذي بدوره سوف تتولّد عنه المدنيّة البهائيّة العالميّة.
كانت هذه السّنوات الستّ عشرة، سنوات قاسية في حياة حضرة شوقي أفندي. إذ قام ناقضون في الغرب مثل أحمد سهراب، وهاجموا حضرته لأنّه ركّز اهتمامه على الأمور الإداريّة، واتهموه بتجاهل ما جاء في ألواح الخطّة الإلهيّة. لم يتمكنوا من تقدير ما كان يقوم به حضرة شوقي أفندي. شوقي أفندي كان يبني النّظام الإداري ومؤسّساته بالصّبر والمثابرة لتكون الأدوات التي سوف تحقق رؤية حضرة المولى بكلّ منهجيّة. واضطر حضرته أن يشرح للأحبّاء أن النّظام الإداري ليس فكرة مبتدعة تُفْرَضُ على البهائيين في العالم، وإنّما نظم سوف تعمل هيئاته، عندما تنال القدر الكافي من الكفاءة، على تعزيز المقصد الأعلى الذي من أجله جاء الأمر في الآثار المباركة بتأسيسه.
في نهاية هذه السّنوات الستّ عشرة، قال حضرة شوقي أفندي للمؤمنين الأمريكان أنّهم أصبحوا على استعداد لقطع المسافة الأوّلى من تحقيق ما جاء في الدّستور الآخر لحضرة عبد البهاء الذي وصفه حضرة شوقي أفندي بدستور نشر أمر الله في جميع أنحاء العالم، ألا وهو ألواح الخطّة الإلهيّة. المسافة الأولى كانت خطّة السّبع سنوات الأوّلى للجامعة البهائيّة بأمريكا الشّماليّة. الأهداف الرئيسيّة لهذه الخطّة التي امتدت من 1937 إلى 1944، كانت (1) إنهاء التشطيبات الخارجيّة لمشرق أذكار ولمت (2) تشكيل محفل روحاني في كلّ ولاية وإقليم بشمال أمريكا وألاسكا، (3) تأسيس مركز أمري في كلّ جمهوريّة من جمهوريّات أمريكا اللاّتينيّة وفي (جزر) الكاريبـي.
هذه الخطّة كانت أوّل حملة منظّمة للتّوسّع والتّمكين لأمر الله في مساحة جغرافيّة معيّنة لأية جامعة بهائيّة. وكما قلت قبل قليل، إنّها كانت أيضاً أوّل خطّة منهجيّة للتّبليغ يقوم بها المؤمنون الأمريكان، تحت وصاية ألواح خطّة حضرة عبد البهاء الإلهيّة.
جُمِعَت أخيرا رسائل حضرة شوقي أفندي التي وجّهها حضرته إلى البهائيّين بأمريكا الشّماليّة فيما بين عاميّ 1932 و1946 في مجموعة نصوص بعنوان “هذه السّاعة الحاسمة “This Decisive Hour. نصف المجموعة، أو ما يزيد عن 80 صفحة منها رسائل حضرة شوقي أفندي التي أرسلت إلى المحفل الروحاني المركزي لشمال أمريكا خلال فترة خطّته الأولى للسّبع سنوات. كان حضرته يوجّه خطواتهم لتحقيق أهدافهم، ويشجعهم على التّغلّب على صعوبة الخطوات التي يخطونها رغم قلّة عددهم والمصاعب والمخاوف التي كانت تواجههم، ويثني على وفائهم ويحيّي تكريسهم وإخلاصهم وثباتهم وتفانيهم الذي قبلوه في سبيل محبتهم للجمال المبارك.
انتهت تلك الخطّة التاريخيّة الأولى في العالم البهائي في عام 1944 عشيّة الذكرى المئويّة لإعلان حضرة الباب دعوته في شيراز، وبداية القرن الثاني للدّور البهائي. عندما نظر حضرة شوقي أفندي إلى السّنوات الثّلاث وعشرين الأولى من عصر التكوين لأمر الله، قرّر أن العهد ((Epoch الأول لهذا العصر قد وصل إلى نهايته. كانت الجامعة البهائيّة الأمريكيّة قد تقدّمت على العالم البهائي في وضع أساس النّظام الإداري واستعمال مؤسّسات ذلك النّظام أدوات للقيام بأوّل خطّة للتّبليغ والتمكين في تاريخ الأمر المبارك. وكان النّصر حليفهم في كلا الميدانين للخدمة الأمريّة: الإدارة والتّبليغ. وكان حضرة شوقي أفندي مسروراً منهم وفخوراً بهم، وقدّم مؤسّساتهم وخطتهم إلى العالم البهائي بأكمله نموذجاً يحتذى به. فنال المؤمنون الأمريكان بذلك إكليل النّصر بكل جدارة.
أصبح العالم البهائي إذاً مستعدّاً للدّخول في العهد الثاني من عصر التكوين. شهدت هذه المرحلة الثّانية تدشين خطّة السّبع سنوات الثّانية للبهائيّين الأمريكان، التي امتدت من عام 1946 إلى عام 1953. وفي الوقت نفسه، طلب حضرة شوقي أفندي من جميع المحافل الروحانيّة المركزيّة الأخرى الانطلاق بخطّط للتّبليغ، ضمن الظروف المتاحة ببلدانهم، وبالاستفادة من خبرات الجامعة البهائيّة الأمريكيّة.
قد يكون من المفيد أن نتحدث عن بعض الأفكار حول موضوع العهود أو المراحل (Epochs) المذكورة في كتابات حضرة شوقي أفندي. تصوّر حضرته سلسلتين أو نوعين من المراحل ووضع لكلّ منهما خطوطا: الأولى تتعلّق بتطوّر عصر التكوين ، والأخرى تخص تنفيذ مشاريع ألواح الخطّة الإلهيّة لحضرة عبد البهاء.
فيما يخص عصر التكوين ، فقد بدأ العهد الأوّل في عام 1921 وانتهى في عام 1944. كتب حضرة شوقي أفندي بعد ذلك بأن المرحلة الثّانية سوف تنتهي في عام 1963 مع نهاية مشروع العشر سنوات. وقد مرّت مرحلتان أخريان في ظل هداية بيت العدل الأعظم، ونحن الآن في العهد الخامس من عصر التكوين.
فيما يخص السّلسلة الثّانية، أي تنفيذ مشاريع ألواح الخطّة الإلهيّة لحضرة عبد البهاء، فقد أشار حضرة شوقي أفندي إلى أنّ مرحلتها الأولى بدأت في عام 1937، مع بداية مشروع السّبع سنوات الأوّل لأمريكا، وتنتهي في عام 1963 مع نهاية مشروع العشر سنوات. نحن الآن في المرحلة الثّانية من ألواح الخطّة الإلهيّة، وسوف يحدّد بيت العدل الأعظم متى ينتهي هذا العهد الثاني.
هكذا أعدّ حضرة شوقي أفندي كامل العالم البهائي تدريجيّا لليوبيل العظيم في عام 1953، عندما أعلن عن الأهداف السّبعة وعشرين لخطة العشر سّنوات المقدّر لها أن تحتضن العالم وتزلزل العالم. في هذه الخطّة العشريّة، أقرّ حضرة شوقي أفندي أنّه أسند نصيب الأسد من أهدافها إلى الجامعة البهائيّة الأمريكيّة.
مجّد حضرة شوقي أفندي الجامعة البهائيّة الأمريكيّة في مراسلاته العديدة خلال السّنوات الستّ وثلاثين لولايته الأمر المبارك، بنعوت مثل:
¨ أمناء الخطّة الإلهيّة المغبوطون (envied custodians)
¨ البناة والمدافعون الرّئيسيون لنظم عظيم
¨ الأنصار المميّزون لأمر نفيس ذي مجد عظيم
¨ جامعة مُنِحَت أوّليّة روحيّة
¨ جامعة سخيّة المواهب عظيمة البركات
¨ المنفّذون للتفويض الصادر من حضرة عبد البهاء
¨ الجامعة البهائيّة الأمريكية ذات الفكر العظيم والقلب الجريء والروح المجيد
¨ حاملو مشعل حضارة مقدّر لها أن تطوّق العالم
¨ جامعة عزيزة، موهوبة، ثابتة
¨ القيّمون المميزون والمدافعون الشجعان عن حصن أمر الله الحصين
¨ الجامعة البهائية الأمريكيّة الباسلة
¨ هذه الجامعة… وفيرة البركات
¨ حاملو لواء جيش ربّ الجنود الفاتح
يوجد في التنبؤات عن المساهمة التي سيقدمها الغرب في المستقبل، وخاصة المؤمنين الأمريكان، توكيد خاص بشأن تحرير أمر الله ونصرته في بلد مهده. فقد كتب حضرة شوقي أفندي أن “الخلاص الموعود” للجامعة البهائيّة الإيرانيّة، “كما تنبأ حضرة عبد البهاء، سوف يظهر أولاً نتيجة لمجهود إخوانهم” في أمريكا. وذكر أيضا حضرته البيان الآتي لحضرة المولى:
عن قريب سوف يأتي إخوتكم من أوروبا وأمريكا إلى إيران، فيقومون بالإعلاء من شأن الفنون والصنائع بما لم يسبق له مثيل. ويعملون على تنمية مؤسّسات الحضارة الحقيقية، وتعزيز تطوّر الزّراعة والتّجارة، وتأييد انتشار التّعليم… إنهم لقادمون، إنهم لمساهمون في جعل ارض إيران غبطاً لشعوب العالم وأممه ومحطّ إعجابهم.[11]
وفي نظرة لحضرة شوقي أفندي إلى ما هو أبعد من إيران، يذكر حضرته عزيز آمال حضرة عبد البهاء في أن تحقّق الولايات المتّحدة الاعتراف العام بأمر الله في كلّ العالم.
كتب حضرة عبد البهاء بخصوص نصف الكرة الغربي ما يلي: ” كذلك أصبحت القارة الأمريكية اليوم عند الله ميداناً لإشراق الأنوار وموطناً لظهور الأسرار، ومنشأ الأبرار ومجمع الأحرار”.[12]
وكتب أيضا : ” تقدّم القارة الأمريكية الأدلة والإشارات على تقدّم عظيم، ومستقبل ذي وعد كبير، لأن نفوذها وأنوارها بعيدا التأثير، إنّها ستتقدم كلّ الدّول روحانياً”.[13] من الملاحظ هنا أن هذه القيادة الروحانيّة لا ترجع إلى الولايات المتّحدة فقط، ولكن إلى أهل القارة الأمريكيّة برمّتها.
أمّا فيما يتعلّق بالأمّة الأمريكية على وجه الخصوص، فإنّ حضرة عبد البهاء قد تفضّل في إحدى خطبه قائلاً: “لتكن الديمقراطيّة الأمريكية هذه أوّل أمّة ترسي أساس اتّفاق الأمم. لتكن أوّل أمة ترفع صيحة وحدة العالم الإنساني. لتكن أوّل من ينشر لواء الصلح الأعظم…”.[14] لفت حضرة شوقي أفندي أنظارنا أكثر من مرة إلى التّشابه القريب للأحداث التي أدت إلى التحام الولايات الأمريكيّة في فدراليّة واحدة، وما يحدث على السّاحة العالميّة طبقا للخطّة الإلهيّة الكبرى التي تعمل على إدماج الكِسرات المتناثرة التي آل إليها العالم المتمزّق في “وحدة واحدة، صلبة متماسكة، قادرة على تحقيق إرادته (الإلهيّة) لبني الإنسان”.[15]
وقد ذهب حضرة عبد البهاء إلى حدّ إسداء النّصح التّالي إلى أحد كبار المسؤولين في الحكومة الفدراليّة للولايات المتحدة الذي سأل حضرته عن أحسن وسيلة تمكّنه من خدمة مصلحة حكومته وشعبه: “إنّك تستطيع أن تخدم بلدك على أحسن وجه… إذا سعيت بكلّ ما في وسعك كأحد مواطني العالم للمعاونة في تطبيق مبدأ الفدراليّة الذي ترتكز عليه حكومة بلدكم في العلاقات السارية اليوم بين شعوب العالم وأممه”.[16]
هذا البيان لحضرة عبد البهاء يتضمن نقطتين أساسيتين: (1) إنّ حضرة عبد البهاء يرى أنّ هيكل الفدراليّة، كما هو قائم الآن في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، بما في ذلك إعطاء الحكم الذاتي لكلّ ولاية فدراليّة في البلاد، إنّما هو نظام مقبول لتنظيم العالم. (2) إنّ أفضل طريقة لتعزيز مصالح الجزء هو أن يُدَعِّّم الجزء مصلحة الكلّ.
إنّنا نجد هذه النّقطة الثّانية، أكثر تفصيلاً في البيان التّالي لحضرة شوقي أفندي:
إن أتباع الدّين البهائي … في رؤيتهم للجنس البشري ككيان واحد، وتمسكهم تماماً بمصالحه الحيويّة، لن يتردّدوا في إخضاع كل مصلحة خاصة، سواء كانت شخصيّة أو إقليميّة أو وطنيّة، للمصلحة العليا لعموم البشريّة، مدركين جيّدا أنّ في عالم يتألف من شعوب وأمم يعتمد بعضها على بعض، فإنّ أفضل وسيلة للوصول إلى
مصلحة الجزء هي تحقيق فائدة الكلّ، وأنّه لا فائدة ترجى لأي عضو من الأعضاء إذا ما أهملت المصالح العامة للكيان نفسه.[17]
لا شكّ أنّ الفقرة التّالية التي كتبها حضرة شوقي أفندي عن “قَدَر أمريكا” Destiny of America، كان في ضوء المبدأ أن مصالح الشّعوب والأمم تتوقف على بعضها البعض، حيث جاء:
إنّ العالم يمضي قدماً. وشؤم أحداثه تتكشّف بعجلة مذهلة. زوبعة انفعالاته عاصفة وذات عنف مخيف، ينسحب إلى دوّامتها العالم الجديد دون وعيّ ولا إدراك… ترى جمهوريّة الغرب الكبرى على وجه الخصوص نفسها أكثر تورّطا يوماً بعد يوم… العالم يتقلّص إلى الجوار. وعلى أمريكا، طواعية أو كرهاً ، أن تواجه هذا الوضع الجديد وتتعامل معه. ومن أجل أمنها الوطني على الأقل، وبجانب ما قد يكون هناك من دّوافع إنسانيّة، عليها أن تتحمّل مسؤوليّة الالتزامات التي تفرضها عليها هذه الجيرة الجديدة الوجود. وعلى الرّغم مما قد يكون في ذلك من تناقض، فإنّ أملها الوحيد في انتشال نفسها من الأخطار التي تتجمع من حولها هو أن تقع في شَرَكِ نفس شبكة الزّمالة العالميّة تلك، التي تحيكها الآن يد عناية إلهيّة لا تدركها العقول.[18]
بالرغم من أن حضرة شوقي أفندي كتب هذه الكلمات في ديسمبر/كانون الأوّل 1938، أي قبل 66 سنة، إلاّ أنّها تبدو وكأنها كتبت في الأسبوع الماضي. لا شكّ أنها كلمات تحكي في جوهرها عن المستقبل.
والخلاصة هي أننا نشاهد أنّ حضرة بهاء الله قد قدّر للجامعة البهائيّة الأمريكية لا أن تكون مهد النّظام الإداري فحسب، بل المرشد إلى إقامة نظم حضرة بهاء الله العالمي أيضاً – بل والعصر الذهبي لأمر الله في الحقيقة.[19] أو بمعنى آخر، أنّها ستكون الأداة الرّئيسيّة المقدّر لها أن تقيم كينونة تنمو لتصبح رابطة الشعوب العالم البهائيّة المستقبليّة.
لا يسعني، ونحن ننظر إلى المستقبل القريب والبعيد لهذه الجامعة العزيزة المختارة الواعدة، إلاّ أن أذكر كلمات حضرة ولي أمر الله المحبوب التّالية في ختام هذا الموضوع:
من يدري أن (السّنوات القادمة) لن تشهد أحداثاً حَمْلُهَا أثقل ممّا يمكن تصوره، ومحناً تفوق في قسوتها ما عرفته الإنسانيّة حتّى الآن، وصراعات أكثر دماراً ممّا حلّ بها حتى اليوم. ولكن مهما كانت الأخطار شديدة، فإنها لا يجب أن تبهت من إشراق إيمانهم الوليد أبداً. ومهما كان النّزاع والفوضى مربكاً، يجب ألاّ يُُغَشِِّي أبداً رؤيتهم. ومهما كانت وطأة البلايا مؤلمة، يجب ألاّ تنال من عزيمتهم أبداً. ومهما كانت الاستنكارات صاخبة، يجب ألاّ تستنزف من إخلاصهم أبداً. ومهما كانت التقلبات جائرة، يجب ألاّ تثنيهم عن مسارهم أبداً… فعلى النقيض تماماً من التراخي في عزمهم، وعلى النقيض تماما من التغافل عن مهمتهم، ومهما صارعتهم الأحداث، عليهم ألاّ ينسوا بتاتاً، أنّ تزامن هذه الأزمات المزلزلة للعالم مع التجلّي المضطرد لثمار واجبهم إلهي المصدر، إنّما هو في حدّ ذاته عمل العناية الإلهيّة، وتدبير من حكمة غيبيّة، ومقصد لإرادة جبريّة، إرادة توجّه وتتحكّم، بطريقتها الخفيّة، في كلّ من مقدّرات أمر الله والمصائر البشريّة. وليست هذه العمليّات المتواكبة من صعود وهبوط، وتحلّل وتكامل، ونظام وفوضى، مع ما يتواصل بينها من تأثير متبادل وفعل وانفعال، ليست إلاّ أوجه ظاهرة لخطّة أكبر، واحدة لا تتجزأ، منبعها هو الله جلّ جلاله، مبدعها حضرة بهاء الله، ومسرح أحداثها هو كوكب الأرض بأسره، وغاية مراميها هي وحدة الجنس البشري والسّلام للبشريّة جمعاء.[20]
يكشف لنا حضرة شوقي أفندي بثقة تامّة عن رؤيته فيما يخص قَدَرَ أمريكا بأن هذه الأمّة سوف:
ترفع صوتها في مجامع الأمم، وتضع بنفسها حجر الزّاوية لسلام عالمي دائم، وتعلن عن تضامن البشريّة واتحادها ونضوجها ، وتساهم في إرساء قواعد ملكوت الصلاح الموعود على بسيط الغبراء. عندئذ، وعندئذ فقط، ستتمكّن الأمة الأمريكيّة، بينما تعمل جامعة المؤمنين الأمريكان من باطنها على إكمال مأموريتهم إلهيّة التّعيين، من تحقيق قدرها المجيد الذي تعجز الألسن عن وصفه والذي اختصها به المقتدر القدير.[21]
أسئلة في الموضوع
س: يرجى توضيح وصف حضرة ولي أمر الله للجامعة الأمريكيّة بأنها “envied community“. إذ إنّ كلمة “envy“ لها معنى سلبي قد يساء فهمه.
ج: كلمة “envy” لها معنى مزدوج بالإنجليزيّة، أحدهما سلبي أو ازدرائي والآخر إيجابي. معناها السلبي هو الحسد، ولكن معناها الإيجابي هو الطّموح ليكون مثل شخص آخر. أعتقد أنّه علينا فهم الوصف “envied
community” في معناه الأخير. بالفارسيّة والعربيّة يوجد كلمتان مختلفتان لكلمة “envy”: معنى إيجابي وآخر سلبي.
س: تقول أمريكا إنّ رسالتها القضاء على الاستبداد وتحرير المظلومين. ألا يمكن تحقيق ذلك بطريقة تضفي الشرعيّة على التعاون الدولي؟
ج: لا أريد أن أدخل في تعليق حول المشهد الدّولي الحالي. مع ذلك، يؤكّد لنا حضرة شوقي أفندي، أن في المستقبل “سوف ترفع” الأمّة الأمريكيّة “صوتها في مجامع الأمم”. وهذا يعني بالنسبة لي تعاوناً ومساندة على نطاق عالمي.
س: كيف يمكننا أن نطمئن أصدقاءنا من غير البهائيين بأن في المستقبل لن يبقى بلد لديه من الجيش والعتاد ما يفوق حاجته في المحافظة على أمنه وأرضه بعكس ما نراه اليوم ؟
ج: إنّ العالم الذي نراه اليوم هو عالم تسوده الفوضى نتيجة مشاعر الارتياب، والمنافسة، والشكوك بين الأمم. هذا يشبه فترة الاضطراب في سن المراهقة للجنس البشري. يخبرنا حضرة بهاء الله أننا على أعتاب بلوغ العالم سن الرّشد، ولكننا لم ندخل هذه المرحلة بعد. إنّنا ننظر إلى العالم بمنظار اليوم، ولكن حضرة بهاء الله يرى المستقبل. حضرته كان يعلم أن العالم سينضج مثل ما تنضج الشجرة. الله غرس هذه الشجرة، وحضرة بهاء الله، المظهر الإلهي الأعلى لهذا اليوم، هو الذي يعتني بهذه الشجرة. نظرة حضرة بهاء الله للمستقبل البعيد نظرة تفاؤل، وليست نظرة تشاؤم. المستقبل القريب رآه حضرته بأنّه مظلم، وقال حضرته هذا في ألواحه؛ ولكن المستقبل البعيد مشرق، لأن حضرته يرى عمليّة حضاريّة دائمة التطوّر دائمة التقدّم – من فكرة القبيلة إلى قيام دولة المدينة ثم إلى الحضارة الوطنيّة وفي النّهاية الحكومة العالميّة، والسّلام العالمي والمدنيّة العالميّة.
[1] القرن البديع، ص 307.
[2] الكتاب الأقدس، الآية 88.
[3] الكلمات المكنونة (بالفارسية) رقم 64. (مترجم، طبعة بغداد 1957).
[4] لوح الأقدس – كتاب مبين ص 141. (ورد في World Order p. 78).
[5] القرن البديع، ص 307.
[6] القرن البديع، ص 307.
[7] charter for the promulgation of the Faith throughout the world (مترجم).
[8] unique spiritual primacy – p. 77, World Order(مترجم).
[9] ألواح الخطّة الإلهية لحضرة عبد البهاء ص 17 و22 (الترجمة العربيّة الطبعة الثانية).
[10] Bahá’í Temple Unity هيئة مركزيّة تشكلت في شيكاغو في عام 1909 بعد مؤتمر اجتمع فيه 39 وكيل يمثلون 36 مدينة بالولايات المتّحدة. حلّ محلّ هذه الهيئة المحفل الروحاني المركزي بالولايات المتّحدة في 1925.
[11] الإنكليزي كالآتي:
“Erelong will your brethren from Europe and America journey to Persia. There they will promote to an unprecedented degree the interests of art and industry. There they will rear the institutions of true civilization, promote the development of husbandry and trade, and assist in the spread of education. . . . Assuredly they will come; assuredly they will contribute in making of the land of Iran the envy and the admiration of the peoples and nations of the world.”
[12] ألواح الخطّة الإلهيّة المعرّبة عن الفارسيّة – الطبعة الثانيّة – ص 29.
[13] من كلمة ألقاها حضرة عبد البهاء في 6 مايو 1912 بمصحة الدكتور سوينجل – كليفلاند – أوهايو (مترجم عن الإنكليزيّة).
[14] من كلمة ألقاها حضرة عبد البهاء في 20 أبريل 1912 في وشنجتن (مترجم عن الإنكليزيّة).
[15] النّص الأصلي في Promised Day is Come p. 203 (مترجم عن الإنكليزيّة).
[16] النّص الأصلي فيWorld Order of Bahá’u’lláh p. 37 (مترجم عن الإنكليزيّة).
[17] Call to the Nations xvii-xviii (مترجم عن الإنكليزيّة).
[18] Advent of Divine Justice p. 87–90 (مترجم عن الإنكليزيّة).
[19] Advent of Divine Justice p. 20 (مترجم).
[20] Advent of Divine Justice p. 72–3 (مترجم عن الإنكليزيّة).
[21] Advent of Divine Justice p. 90–1 (مترجم عن الإنكليزيّة).
الجوهر والشّكل (الأمراء والعلماء)
بدأ
عصر التكوين لأمر حضرة بهاء الله في نوفمبر/تشرين الثاني 1921 بصعود المولى المحبوب وتلاوة ألواح وصاياه المباركة. وفي مدّة مقدارها 77 سنة، أي من عام 1844 إلى عام 1921، تأسّس أمر الله لا في مهد مولده فحسب، بل نجح أيضا في توسيع عملياته وامتداد نشاطه إلى 35 بلداً من بلدان العالم.
تحقّق هذا الإنجاز الرّائع بالرغم من عدم وجود جهاز منظّم ومنهجي لتنسيق مجهود الأحبّاء وتنشيطه. ورغم الاضطهاد، والتّرحيل، واستشهاد حضرة الباب، وما تلاه من سجن ونفي متكرّر ومراقبة قويّة لمؤسّس ديننا ومركز عهده، فقد تمكّن أمر الله العزيز من التّغلّب على أمواج القمع هذه، بفضل المعرفة فوق البشريّة لرؤوس ديننا الأجلاء وعبقريّتهم الإداريّة.
من خلال التعليمات المفصّلة التي أصدرتها شخصيات الأمر الإلهي الرئيسيّة إلى حروف الحي، وإلى حواريّي حضرة بهاء الله، ومريدي حضرة عبد البهاء، وأيادي أمر الله، وآخرين من المبلّغين المقتدرين والمروّجين لكلمة الله، لم تتق الجامعة البهائيّة شرور الانشقاق فحسب، بل استمرت عناصرها في التوسع والنموّ على نطاق متواصل. يلخّص لنا حضرة شوقي أفندي في رسالتين لحضرته ما سماه “وميضاً ضئيلاً” (دورة بهاء الله) واتّخاذ “خطوات تمهيديّة” (القرن البديع) خلال العصر البطولي لأمر الله تتطلعاً لتأسيس النّظام الإداري في المستقبل.
هذا ما تفضّل به:
ففي ألواح حضرة بهاء الله التي عيّنت بالتحديد بيت العدل العالمي وبيوت العدل المحلية وأقامتها رسميّا؛ وفي مؤسّسة أيّادي أمر الله التي أماط اللّثام عنها أوّلاً حضرة بهاء الله ومن بعده حضرة عبد البهاء؛ وفي مؤسّستي المحافل (الروحانيّة) المحلّيّة والمركزيّة التي بدأت تعمل وهي مازالت في مرحلة الجنين قبل صعود حضرة عبد البهاء؛ وفي السّلطة التي اختار مؤسّس أمر الله ومركز عهده أن يمنحاها في ألواحهما لهاتين المؤسّستين؛ وفي نظام صندوق الخيريّة المحلّي الذي تأسّس طبقاً لتعليمات حضرة عبد البهاء الدقيقة إلى بعض من المحافل (الروحانيّة) المحلّيّة في إيران؛ وفي آيات الكتاب الأقدس المتضمّنة بوضوح قيام مؤسّسة ولاية الأمر؛ وفي الشرح الّذي أكّد حضرة عبد البهاء في أحد ألواحه مبدأ الوراثة وحق “البِكر بعد البِكر” كما أقرّه أنبياء الله السّابقون – في كلّ هذا يمكن لنا أن نتبيّن وميضاً ضئيلاً لكفاءة ذلك النّظام الإداري ونكتشف الملامح الأوّليّة لصفاته الممتازة، وهو النّظام الذي قدّر أن تعلن عنه وصية حضرة عبد البهاء في وقت لاحق وتقيمه رسميا.[1]
أمّا المقطع الثّاني فيقول:
وينبغي أن لا يغرب عن البال …أنّ الخطوات التّمهيدية الرّامية إلى الكشف عن مجال هذا النّظام الإداري ونفاذه، وهو النّظام الذي أقيم الآن بعد صعود حضرة عبد البهاء إقامة رسمية، قد اتخذها حضرة عبد البهاء نفسه من قبل، لا بل قد اتخذها من قبله حضرة بهاء الله أثناء السّنوات السّابقة مباشرة لصعوده. ومما يمكن أن يعد بشيراً بالمؤسّسات التي من شأنها أن تتأسّس تأسيساً دائماً منظماً في أرجاء العالم البهائي بعد انتهاء عهد البطولة المجيد مباشرة، تعيين حضرة بهاء الله لبعض البارزين من المؤمنين في إيران كـ ”أيادي الأمر”، وشروع حضرة عبد البهاء في إقامة المحافل (الروحانيّة) المحلّية ومجالس الشورى في المراكز البهائية البارزة في كلّ من الشّرق والغرب، وتشكيل “هيئة وحدة المعبد البهائية”[2] في الولايات المتحدة الأمريكية، وإنشاء صناديق الخيريّة المحلّية لمساندة الفعاليات البهائية، وشراء الأراضي المكرّسة للأمر ومؤسّساته المقبلة، وإنشاء دور نشر الكتب البهائية، وتشييد أوّل “مشرق الأذكار” في العالم البهائي، وبناء مقام حضرة الباب على جبل الكرمل، وبناء دور ضيافة يستريح فيها المبلغون المتجولون والزائرون – تعتبر هذه بشائر للمؤسسات المقدّر لها أن تشكّل فور إتمام العصر البطولي لأمر الله، وتؤسّس بصفة دائمة وبكيفية منظّمة في كافة أنحاء العالم البهائي.[3]
وكما تلاحظون، يوجد في المقطع الثاني تكرار لبضع نقاط، لكنّه يحتوي أيضا على عناصر إضافية عديدة. سأعطيكم حالة واحدة، كمثل للأسلوب البدائي الذي كانت الهيئات الاستشارية تدير شؤونها في بداية تشكيلها أثناء ولاية حضرة عبد البهاء:
المحفل الروحاني المحلي في طهران الذي تشكل في عام 1897، كان أول محفل في القطر كلّه. وبما أنّه لم يكن لديهم “إجراءات إداريّة”، قرّروا أن يكون لهم ختم مقسّم إلى تسعة أجزاء. فكلّما اجتمع المحفل واتّخذ قراراً، كان على السكرتير كتابة الرّسالة في الاجتماع وقراءتها على الأعضاء. كل عضو كان يحتفظ بجزء من الختم، وبعد الموافقة على الرّسالة، يقدم كل عضو الجزء الذي معه لتركيبه في إطار خاص مع الأجزاء الأخرى ليكتمل الختم وتختم الرّسالة المصادق عليها. في نهاية الاجتماع، طبعا، يرجع كل عضو إلى بيته وفي جيبه جزؤه من الختم.
كان بدائيّاً أيضا حال أوّل محفل (روحاني) محلّي بالولايات المتحدة الذي تأسّس في شيكاغو، والذي اتّخذ الاسم الذي خاطبه به حضرة عبد البهاء: بيت عدل شيكاغو. إلاّ أنّ حضرته رأى فيما بعد أنّه من الأنسب مؤقتّاً استعمال اسم المحفل الرّوحاني المحلّي.
بتوجيه وعناية من حضرة ولي أمر الله، ارتفعت عنقاء الإدارة البهائية من رماد هذه البشائر لمؤسّسات ديننا العزيز ورواده الأوّلين. ثمّ بعد الإعلان عن ألواح وصايا حضرة عبد البهاء، عمل حضرة شوقي أفندي خلال الأشهر العديدة، بل السّنوات في بعض الحالات، ليوضّح للأحبّاء في عدّة بلدان في الشّرق وبالغرب، أينما وجد العدد الكافي من الأحباء، تلك المتطلبات الضرورية لتشكيل محافلهم الروحانيّة المحليّة على أساس دستوري سليم، ثم توجيههم إلى كيفيّة انتخاب وكلائهم طبقا لقاعدة النّسبية لتمكينهم من عقد مؤتمراتهم السّنوية، وأخيرا توجيههم نحو تشكيل محافلهم الروحانيّة المركزيّة وهي بمثابة الأعمدة الحاملة للقبّة، القبّة هي بيت العدل الأعظم المرتقب.
وكما قلت سابقاً، كان حضرة شوقي أفندي يشير في كتاباته إلى الهيكل الإداري الذي كان يوجّه البهائيين إلى إقامته بـ ”الإدارة البهائيّة”. واستعمل حضرته لفظاً مماثلاً بالفارسيّة في رسائله إلى الأحبّاء في الشّرق. وكان لابد من مرور 13 سنة، ليستعمل حضرته اللفظ الملائم ألا وهو “النّظام الإداري البهائي” للإشارة إلى المنظومة الإداريّة التي بدأت تعمل طبقاً للمعالم التي رسمها حضرته.
كان الهيكل الإداري الجاري بناؤه وبدأ ظهوره، في السنين الأولى من ولاية حضرة شوقي أفندي، بسيطاً في خاصيته ومداه. لذلك، كان من المناسب تسميته بـ ”الإدارة البهائيّة”. ومن ناحية أخرى، وبنظرة أبعد، علينا أن نتذكّر أن حضرة شوقي أفندي كان أساساً شخصاً متواضعاً. فمثلاً، عندما كان بصدد ترجمة ألواح وصايا حضرة عبد البهاء فور صعود المولى مباشرة، استعمل حضرته الحروف الأولى الصغيرة لكلمتي guardian وbranch (ولي الأمر وغصن) كلما أشارت الكلمة إلى شخصه. ولكن، بعد 13 سنة، وعندما كان حضرته يقتبس في “دورة بهاء الله” من ألواح وصايا حضرة عبد البهاء، استعمل الحروف الأولى كبيرة للكلمتين Guardian وBranch. من الممكن جداً أنّ حضرته شعر حينذاك أنّ مكانته كوليّ للأمر أصبحت أكثر تفهماً وقبولاً لدى المؤمنين.
جميعنا يذكر الآية المشهورة في الكتاب الأقدس التي تعلن رسميّا عن نظم حضرة بهاء الله العالمي الجديد، ونظراً لأهميّتها سأضعها أمامكم مرة أخرى : “قد اضطرب النّظم من هذا النّظم الأعظم واختلف الترتيب بهذا البديع الذي ما شهدت عين الابداع شبهه“.[4]
إلى أن حلّ ذلك اليوم من عام 1934 عندما ترجم حضرة شوقي أفندي هذه الآية الأساسيّة من أمّ كتاب حضرة بهاء الله، كان فهم عموم البهائيين لها هو أن نظام الآيات كما هي واردة في الكتاب الأقدس لها ترتيب خاص يختلف عن ترتيب آيات كتاب البيان وكلّ الكتب المقدّسة للدورات السّابقة. هناك آية في كتاب البيان تشير إلى “نظم” حضرة بهاء الله. هذه الكلمة التي تطابق ما ورد في الكتاب الأقدس، فُهِمَت أيضا بالمعنى نفسه؛ أي، أن الكتاب الأقدس، على خلاف البيان، سيكون له تصميم فريد خاص به.
عندما كنت في زيارة بالأرض الأقدس في عام 1957، ذكر حضرة شوقي أفندي هذه الآية من الكتاب الأقدس. ثمّ توقف حضرته لحظة بعد تلاوتها، انتهزت الفرصة وذكرت لحضرته أن المتعمقين في الأمر في إيران أساؤوا كلّياً فهم معنى هذه الآية، وأنّه في صفوف الدّراسة التي كنت أحضرها، هذا المعنى الخاطئ كان يدرّس للطلبة. ثم أضفت: “إلى أين كان سيؤول العالم البهائي بدون ولي الأمر المحبوب؟”. عندها ابتسّم حضرة شوقي أفندي وقال: “نيكولا Nicolas فهم، ولكن الأحبّاء لم يفهموا”. كان السيد نيكولا مستشرقاً فرنسيّاً، ومع أنّه لم يكن بابيّاً ولا بهائيّاً، إلاّ أنّه كان معجباً بحضرة الباب، وترجم كلاًّ من البيان الفارسي والبيان العربي إلى الفرنسيّة.
عندما يقرأ المرء تواقيع ولي أمر الله التي صدرت خلال ولايته بالإنجليزيّة والفارسيّة ، ليس من الصعب عليه إدراك أنّ لحضرته كان هدفان رئيسيّان. أمّا الأوّل، فقد كان واضحاً لدى حضرته أن بيت العدل الأعظم، وهو الوحدة الأخيرة في صرح النّظام الإداري، يمثل القبّة، التّاج، رأس البناء، وذكر هذا بوضوح في كتاباته. لا يمكن لهذه القبّة أن تتعلّق في الهواء دون أن ترتكز على أعمدة. وما هذه الأعمدة سوى المحافل الروحانيّة المركزيّة. حتى تسعة منها كانت تفي بالمطلوب، من الطبيعي كلّما ازداد عددها كلّما كان أفضل. هذه المحافل (الروحانيّة) المركزيّة كان لابد لها أن تقوم على أساس متين من المحافل الروحانيّة المحلّية، التي بدورها كان يجب أن تشكّل على قاعدة سليمة وقويّة. وقد كتب حضرة شوقي أفندي مبكراً في مارس/آذار 1923 ما يلي: “عندما تعمل هذه المحافل المحلّية منها والمركزيّة، بكامل الانسجام والهمّة والفعاليّة في جميع أنحاء العالم البهائي، تكون قد توفّرت الوسيلة الوحيدة لتأسيس بيت العدل الأعظم”.[5]
الهدف الثّاني الذي ركّز حضرته اهتمامه عليه هو استخدام هذه المؤسّسات الإداريّة في تنشيط عمليّة التّبليغ بطريقة منسجمة ومنهجيّة. لم يكن هناك دستور أكثر جدارة لمثل هذا النّشاط العالمي من ألواح الخطّة الإلهيّة لحضرة المولى. لذلك لم تكن إرادة حضرته رؤية كلّ محفل (روحاني) مركزي مشغولاً بتحقيق أهداف لمشروع خاص بالتّبليغ والتمكين في منطقة نفوذه فحسب، بل كان هدفه الأبعد بناء الجسور بين هذه المحافل المركزيّة.
قد يكون من المفيد أن نخرج قليلاً عن الفكرة الرئيسية لحديثنا. عندما أنهى البهائيون البريطانيّون مشروعهم للسّنوات الستّة في عام 1951، أبلغ حضرة شوقي أفندي المحفل المركزي ببريطانيا أنّه يريد منهم البدء فوراً في مشروع مدّته سنتان ، يهدف أساساً إلى إرسال مهاجرين إلى شرق وغرب إفريقيا وتنشيط أعمال التّبليغ والتّمكين هناك. وطلب حضرته أيضا من المحافل الروحانيّة المركزيّة بالولايات المتّحدة وإيران ومصر والهند، التّعاون مع المحفل (الروحاني) المركزي البريطاني في هذا المشروع. وفي رسالته لافتتاح مشروع السّنتين لهذا التّعاون بين المحافل المركزيّة، استَبَقَ حضرته فأخبر عن مرحلة لاحقة تشترك جميع المحافل الروحانيّة المركزيّة بالعالم في نشاط مماثل. من الواضح أن هذا كان إخباراً مسبّقاً من حضرته عن حملة العشر سنوات. ثم يستمر حضرته ليعلن أن مثل هذه المشاريع إنّما هي مقدّمة لمشاريع للتّبليغ والهجرة في المستقبل يقوم بها ويشرف على تنفيذها بيت العدل الأعظم.
في تعليق من بيت العدل الأعظم حول تأسيسه، كتب بتاريخ 9 مارس 1965 في إحدى رسائله الأولى ما يلي:
وكان حضرة وليّ أمر الله قد أعطى العالم البهائي مشروعات دقيقة ومفصّلة لفترة تنتهي في رضوان 1963، أي نهاية خطة العشر سنوات. ومن بعد ذلك وحتّى لا يتعرّض أمر الله إلى المخاطر، كان لابد من وجود هداية إلهيّة. أصبح ذلك سبباً ثانياً ملحّاً للدّعوة لانتخاب بيت العدل الأعظم. ويؤكد صحّة اختيار هذا الوقت أيضا ما ورد في توقيعات حضرة شوقي أفندي من إشارات إلى أن هناك مشروعات عالميّة بعد خطة العشر سنوات، سوف يشرف على تنفيذها بيت العدل الأعظم. وردت إحدى هذه الإشارات في الفقرة التّالية من رسالة إلى المحفل الرّوحاني المركزي للجزر البريطانيّة بتاريخ 25 فبراير/شباط 1951 بشأن مشروع السّنتين الذي سبق خطة العشر سنوات مباشرة:
لابد وأن يتوقّف على نجاح ذلك المشروع الضّخم في إمكاناته الرّوحيّة (الحملة الإفريقية)، والذي ليس له في السّابق من مثيل، الشّروع في إنجازات تقوم على تحقيقها جميع المحافل (الروحانيّة) المركزيّة القائمة بكامل العالم البهائي، خلال فترة لاحقة في عصر التّكوين لأمر الله. تلك الإنجازات، هي في حدّ ذاتها مقدّمة لانطلاق مشاريع عالميّة النّطاق في مراحل قادمة من نفس ذلك العصر، مقدّر أن يباشر تنفيذها بيت العدل الأعظم، وهو رمز وحدة تلك المحافل (الروحانيّة) المركزيّة والمنسّق والموحّد لأنشطتها.[6]
أرسل حضرة ولي الأمر رسالة مماثلة إلى المحفل (الروحاني) المركزي بالولايات المتّحدة. كنت حينذاك في طهران، وكنت عضواً في المحفل (الروحاني) المركزي لإيران. أذكر الحيرة التي ولّدتها هذه الرّسالة. لا لأنّ انتخاب بيت العدل الأعظم بات قريباً، بل لأن تلك الهيئة، وهي أساساً هيئة تشريعيّة، سوف تقوم، طبقاً لما جاء في رسالة حضرة شوقي أفندي بتاريخ 25 فبراير/شباط 1951، وتباشر تنفيذ أنشطة التّبليغ في المستقبل، بعد أن كان ولي أمر الله يباشر تنفيذ أعمال التّبليغ بنفسه حتّى الآن.
عندما اجتمع في حيفا أيادي أمر الله الذين كانوا موجودين بالعالم في نوفمبر/تشرين الثاني 1957 بعد صعود حضرة ولي الأمر، وهم الذين لقّبهم حضرته في رسالته بتاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأوّل من نفس العام بأنّهم “الحماة الرئيسيّون لرابطة شعوب حضرة بهاء الله العالميّة الجنين”، سرعان ما أدركوا أنّه لا خَيار للعالم البهائي سوى التحرّك قدماً والاستمرار في العمل في هدي أهداف خطة العشر سنوات حتّى عام 1963 عندما يتأسّس بيت العدل الأعظم. ذكر حضرة شوقي أفندي في أواخر أيّام حياته، أكثر من مرة في كتاباته أنّه في ذلك اليوم سوف تتحقّق نبوة دانيال النبي عن الـ 1335 يوماً، وأنبأ عنه حضرة عبد البهاء بقوله: “وفي ذلك اليوم يبتهج المخلصون بفرح عظيم”.[7]
كنت أشرت في محادثاتي أن الهدف بعيد المدى لأمر حضرة بهاء الله هو استتباب الصلح الأعظم، الذي سينجب المدنيّة (أو الحضارة) البهائيّة التي لم يشهد الجنس البشري شبهها. النّظام الإداري الذي سبقته الإدارة البهائيّة، ليس إلاّ الخطوة التمهيديّة في هذه العمليّة. هذا النّظام الإداري وصفه حضرة شوقي أفندي على أنّه المرحلة الجنينيّة التي سوف تؤدّي إلى ظهور نظم حضرة بهاء الله العالمي. وهذا بدوره سوف يتطوّر إلى رابطة شعوب العالم البهائي، التي بدورها ستأتي بالصلح الأعظم وبالتالي المدنيّة العالميّة البهائيّة. نلخّص الموضوع إذاً: المراحل التي ستتطوّر من خلال هذه العمليّة هي: الإدارة البهائيّة، النظام الإداري البهائي، ثم نظم حضرة بهاء الله العالمي الجديد – الذي سيعلن عن قدوم عصره الذّهبيّ، ثم رابطة شعوب العالم البهائي، ثم الصلح الأعظم، وفي النهاية ميلاد المدنيّة الجديدة الموعودة.
لقد وضّح حضرة شوقي أفندي، أكثر من مرّة، أن هناك فرقاً بين النّظام الإداري والنّظم العالمي. الأوّل، كما ذكرت الآن، هو مرحلة الجنين بالنسبة للثّاني، والثّاني هو النّظم العالمي الجديد الذي لم يولد بعد. قد ترى عين النّاظر الجاهل في فقدان التّناسب والتّناسق بين الأجزاء المختلفة للجنين سمة الرّداءة والتّنافر والنّقص. أمّا في عين النّاظر الحكيم الذكيّ، فإنّ عدم التّناسب والتّناسق ليس إلاّ مرحلة ضروريّة، لا في تطوّر مخلوق يبدو قبيحاَ، بل في تطوّر جنين غاية في الحسّاسيّة، ينمو باستمرار وينضج عضويّاً باضطراد. وعندما تحين لحظة القدر، ويتم الميلاد، يصبح ما كان جنيناً، بهجة لكلّ عين – طفلاً فاتناً بابتسامة ساحرة.
أمّا ما يجعلني أسوق هذه المقارنة قصدي أن أبيّن الاختلاف بين وجهتي النّظر: هناك النّظرة المدروسة، المتمكنّة من معلوماتها والحكيمة في استنتاجها، في حين أن الأخرى غير مدروسة، طائشة ومتهوّرة. يؤسفني القول أنّنا نسمع تعليقات كثيرة من النّوع الثّاني من بهائيين حولنا، تصدر غالباً عن حسن نيّة، ولكنهم لسوء الحظ لم يوفقوا إلى فهم ما هي العمليّات التي تتفاعل من حولنا الآن. فعندما يشاهدون بعض الارتباك أو عدم إتقان في سير عمل مؤسّساتنا الجنينيّة، يطلقون أصوات الانتقاد بسرعة، التي، ومع أنّه لا يقصد بها سوء، فغالبا ما تثير الاستياء، وأحياناً تكون هدّامة.
إنّ تأكيد حضرة عبد البهاء على ضرورة تحكّم المبادئ الروحانيّة في حياة الجامعة البهائيّة ووجوب تميّزها بها، جعل الكثير من البهائيّين في الغرب يعتقدون خطأً أن التنظيم شيء غريب على أهداف ومقاصد الدّين البهائي.
ومن العجيب أن في أواخر حياة حضرة عبد البهاء، انتشرت بين أحبّاء الولايات المتّحدة روايات حجيج (pilgrim’s notes) دوّنها أحد زوّار الأرض الأقدس، مفادها أنّه لا يوجد تنظيم في الدّين البهائي. عندما سئل حضرة عبد البهاء عن صحّة هذا القول، أكّد حضرته عدم صحته تماماً. بقيت هذه الفكرة للأسف عالقة في بعض الأذهان، بحيث عندما بدأ حضرة شوقي أفندي في دعوة الأحبّاء إلى إقامة أسس محافلهم المحلّية، وجد نفسه مضطراً مرة أخرى إلى الإعلان عن بطلان ما جاء بتلك المذكرات المنسوبة إلى حضرة عبد البهاء.
ففي فبراير/شباط 1929، كتب حضرته إلى الأحبّاء بالولايات المتّحدة وكندا ما يلي:
إنّني في حيرة من أن أفهم تلك العقليّة الغريبة التي تميل إلى التّمسّك بما يُدَّعَى بكونه المرجع الوحيد لحقيقة التّعاليم البهائيّة، ما هو ترجمة غامضة وغير موثّقة لبيان شفهي لحضرة عبد البهاء، في تحدّ وتجاهل تام للنّصوص الموجودة في كامل آثاره المعترف بها في عموم العالم. وإنّي لأشعر برثاء حقيقي على ما حدث في الآونة الأخيرة من تشويهات مزرية راجعة إلى عجز المترجم استيعاب ما قصده حضرة عبد البهاء وافتقاره إلى القدرة على وضع صياغة سليمة لتلك الحقائق التي كشفها له حضرة المولى. معظم الارتباك الذي شاب فهم الأحبّاء راجع إلى هذا الخطأ المزدوج الناجم عن نقل غير دقيق لبيان لم يفهم سوى جزء منه فقط. بل إنّ المترجم (الفوري) أخفق في أكثر من موضع في إيصال المحمل الصّحيح للأسئلة التي طرحها المستفسر، وتسبّب بعدم كفاءته في الفهم والتعبير عند نقل جواب حضرة عبد البهاء، في تداول مفاهيم تتناقض كليّة مع صحيح روح الأمر المبارك ومقصده.[8]
وفي نفس التاريخ كتب حضرة شوقي أفندي:
إنّني أتساءل، هل يمكن لمن يشاهد السِّمة العالميّة للأمر، وتأثيراته الواسعة المترامية الأطراف، وتزايد تشعب شؤونه، وتنوّع أتباعه، والاضطراب الذي يعصف بدين الله الوليد من كلّ الجهات، أن يشك، ولو للحظة، في ضرورة وجود نوع من الآليّة الإداريّة التي تضمن وحدة هذا الأمر، وتحفظ هويته، وتحمي مصالحه، في خضم الزوابع والقلاقل التي ابتليت بها مدنية تتصارع مع أسباب تدهورها ؟ إنّ إنكار شرعيّة محافل وزراء أمر حضرة بهاء الله المُنْتَخَبُين، هو بمثابة رفض لتلك الألواح التي لا حصر لها لكلّ من حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء التي أشادا فيها بمنزلة “أمناء الرّحمن”، وعدّدا حقوقهم وواجباتهم، وأكّدا عظمة رسالتهم، وأوضحا جسامة مهمتهم، وحذّراهم من الهجمات التي عليهم أن يتوقّعوها نتيجة عدم حكمة أحبائهم من ناحية ومن خبث أعدائهم من ناحية أخرى.
نحمد الله على هذه التوجيهات، لأن بها تم التّغلّب على الهجمات التي استهدفت حضرة وليّ الأمر من أفراد مثل روث وايْت Ruth White وأحمد سهراب. إن الوضوح الذي تحلّت به بيانات حضرة شوقي أفندي وثبات الأحبّاء وتمسكهم بما جاء في ألواح وصايا حضرة عبد البهاء، وضع حدًّا لهذا الخلاف.
نكتفي بهذا القدر فيما يخص شكل النّظام الإداري وضرورته وعدم إمكانيّة الاستغناء عنه. ولكن إن لم تتجل الرّوح في الشّكل، يبقى الشّكل هيكلاً لا حياة فيه. لهذا دأب حضرة شوقي أفندي منذ بداية بيانه للمبادئ التي تكوّن أساس الإدارة في أمر الله، على تذكير الأحباء بالضرورة القصوى لتنمية وتعزيز الروح التي يجب أن يتحلى بها لبّ تلك الإدارة وينير السبيل الذي على مؤسّساتها أن تسلكه.
وقد جرى من قلم حضرة شوقي أفندي نصائح كالتي وردت في المقتطفات الثّلاثة التي سنذكرها.
فقد كتب حضرته في مارس/آذار 1923 ما يلي:
وكما ينبّهنا حضرة المولى دائما من مقامه الأعلى، علينا الاحتراز من أن يتسبّب اهتمامنا الزّائد بما هو ثانويّ الأهميّة، وصرفنا وقتاً أطول مما يلزم في الانشغال بدقائق شؤوننا وأنشطتنا، في إهمالنا لما هو أهمّ التزاماتنا وأكثرها إلحاحاً، ألا وهو أن ننسى كلّ همومنا ونبلّغ أمر الله، ناقلين رسالة الخلاص هذه إلى كلّ حدب وصوب لعالم ضربته البلايا والمحن.[9]
وفي فبراير/شباط 1929 كتب يقول:
والآن، يتعيّن علينا أن نفكّر مليّاً في المقصد المحيي لهذه المؤسّسات إلهيّة التّعيين ووظائفها الأوليّة، لأنّه لا يمكن برهان قداسة صفاتها وعموميّة صلاحياتها إلاّ بفضل الرّوح الذي تنشره والعمل الذي تؤدّيه بالفعل. ولا داعي لأن أسهب فيما ذكرته مراراً وأكدته تكراراً من أنّه يجب اعتبار الإدارة أداة لأمر حضرة بهاء الله وليست بديلاً عنه، وأن يُنْظَر إليها بكونها قناة يمكن لعنايته الموعودة أن تجري فيها ، وأن يُحْتَرَز من تصلّب قد يؤدي إلى تعويق وتقييد القوى المُحَرِّرَة المنبعثة من رسالة حضرته… من المؤكّد أنّ على أولئك الذين ائتُمِنوا على هذا الميراث النّفيس أن يحترزوا بكلّ تضرع وابتهال من أن تحتلّ الأداة مكانة الأمر نفسه، أو أن يحجب الاهتمام المفرط بدقائق تفاصيل إدارة شؤون الأمر رؤية مروّجيه، أو أن تُكْسِف المحاباة والطّموحات والانهماك في الشؤون الدّنيويّة، بمرور الأيام، إشعاع دين حضرة بهاء الله، وتُكَدّر صفاءه وتُضْعِف فعّاليته.[10]
علينا أن نعي ما يجب تجنبه ونحن نؤدي واجبنا في خدمة هذا الأمر: المحاباة، حب التملك والرئاسة والانهماك في الشؤون الدّنيويّة.
في ديسمبر/كانون الأوّل 1935، كتب حضرة شوقي أفندي في رسالة إلى أحد المؤمنين:
إنّ الدّين البهائي، مثل باقي الأديان السّماويّة. روحاني في أساسه وطبيعته. هدفه الأسمى هو تطوير الفرد والمجتمع، من خلال اكتساب الفضائل والقدرات الروحانيّة. إنّها النّفس البشريّة التي يجب تغذيتها أوّلاً. الصلاة والمناجاة أحسن السّبل لتوفير هذا الغذاء الرّوحاني. لن يكون للأحكام والمؤسّسات (الأمرية) أثر فعال، في رؤية حضرة بهاء الله، إلاّ عندما نهذّب ونزكّي حياتنا الرّوحيّة الدّاخليّة. وإلاّ ينحط الدّين إلى محض تنظيم، ويصبح شيئاً ميّتاً.[11]
علينا أن ندرك أنّه في إهمالنا تزكية حياتنا الرّوحيّة الدّاخليّة، قد نقتل روح الأمر ونجعل مؤسّسات النّظام الإداري أشياءًً مجرّدةً من الحياة.
يجب أن نتذكّر أيضا أن مثل هذه البيانات الصّادرة من حضرة شوقي أفندي، تتفق كلّ الاتفاق مع ما ورد في الكتاب الأقدس حيث تفضّل حضرة بهاء الله بأنّه عندما يجتمع أعضاء بيوت العدل: “يُرَون كانّهم يدخلون محضر الله العليّ الأعلى ويَرُون من لا يرى”. وعلاوة على ذلك يطلب منهم حضرة بهاء الله أنّه “ينبغي لهم ان يكونوا امنآء الرّحمن بين الامكان ووكلآء الله لمن على الارض كلها ويشاوروا في مصالح العباد لوجه الله كما يشاورون في امورهم ويختاروا ما هو المختار كذلك حكم ربّكم العزيز الغفّار ايّاكم ان تدعوا ما هو المنصوص في اللّوح اتّقوا الله يا اولى الانظار”. في هذه الآيات الخالدات من الكتاب الأقدس، يحث حضرة بهاء الله أعضاء المحافل الروحانيّة لا أن يكونوا في غاية الروحانيّة فحسب بل يكونوا أيضا ناكرين للذات، محبّين للغير، وعالميّين في التفكير أيضا.
ثم يستمرّ حضرة شوقي أفندي ليوضّح: “ليكن مفهوما أن الفكرة الأساسيّة القائم عليها أمر الله ليست السّلطة الدّكتاتوريّة ولكن الزّمالة المفعمة بالتّواضع، وليس القدرة المُسْتَبِدَة ولكن روح المشاوَرة الصّريحة الودّية”.[12] وقد بيّن حضرة شوقي أفندي المسؤوليّات الروحانيّة للوكلاء المُنْتَخَبين في الأمر بما يلي:
فوظيفتهم ليست في إملاء إرادتهم، بل هي إجراء المشورة، وإجراؤها بقدر الإمكان ليس فيما بينهم فقط بل ومع الأحباء الذين يمثّلونهم. عليهم أن ينظروا لأنفسهم من زاوية واحدة فقط وهي أنهم أدوات اختيرت حتى يتم بواسطتها تمثيل أمر الله تمثيلاً أكثر كفاءة ووقاراً. وعليهم أن لا ينقادوا للافتراض بأنهم الزينة الرئيسية لهيكل الأمر، أو بأنهم في ذاتهم أسمى من الآخرين مقدرة واستحقاقاً، أو بأنهم المروّجون الوحيدون لتعاليم الأمر ومبادئه. عليهم أن يباشروا مهامّهم بمنتهى التواضع، وأن يحاولوا ليس فقط اكتساب ثقة الذين يقومون هم بخدمتهم واحترامهم ومؤازرتهم الصادقة، بل واكتساب تقديرهم ومحبتهم الحقيقية أيضاً، وأن يحققوا ذلك بواسطة ما يتحلّون به من سعة الصدر، وما لهم من شعور سامٍ بمبادئ العدالة والواجب، وما عندهم من نزاهة وتواضع وإخلاص كامل لتقدم مصالح الأحباء وخيرهم، ولمصالح الأمر وخيره، ولمصالح الإنسانية وخيرها. وعليهم في جميع الأحوال تجنّب روحَ السؤدد الخصوصية وجو الغموض والسّريّة، ويحرروا أنفسهم من مواقف التّحكّم، ويبتعُدوا عن كل أنواع التعصب والانفعال في مداولاتهم. عليهم في حدود الحكمة الرشيدة أن يضعوا الأحباء موضع الثقة فيحيطوهم علماً بما عندهم من مشروعات، ويطلبوا من هؤلاء مشاورتهم بما لديهم من مشاكل وهموم ويسألوهم النصح والإرشاد…
فعندما يُدعى هؤلاء (أعضاء المحافل الروحانيّة) لاتخاذ قرار ما، عليهم التوجّه إلى الله عن طريق الدعاء بعد إجراء المشاوَرة الودّية الخالصة الجدّية وأن يسجّلوا أصواتهم بكل جدّ وإيمان وشجاعة، وأن يخضعوا لقرار الأغلبية”.[13]
تلاحظون في النّص المذكور أعلاه ، أن الرّوح والشّكل مهمّان، والأكثر أهميّة هو روح المحبّة، والتّواضع، والتّكريس، التي يجب أن تسود التّشاور وفعاليّات كلّ مؤسّسات الأمر المبارك المنتخبة.
ولا شك أن تلك الروح يجب أن تكون هي القوة الدّافعة التي تلهم أولئك المميّزين المعيّنين الحائزين على شرف الخدمة والعمل على ترويج وحماية الدّين، مثل المشاوَرين وأعضاء هيئة المعاونين ومساعديهم.
عندما سئل حضرة شوقي أفندي عن مؤهلات المؤمن الحقيقي، وذلك لمساعدة المحافل الروحانيّة في دراسة قبول مطالب المؤمنين الجدد لانضمامهم إلى الجامعة البهائيّة، ذكر حضرته أن إحدى المؤهلات الأساسيّة هي: “الارتباط الوثيق بروح وشكل الإدارة البهائيّة القائمة اليوم”.[14] هذه إحدى المبادئ الإداريّة الحيوية في أمرنا العزيز. الفرد جزء حيوي في جامعته. لا يمكنه أن ينفصل، بل من واجبه ألاّ ينفصل، عن نشاط الجامعة. من مميزات أمرنا أنّ كلّ فرد عليه المساهمة في حياة الجامعة، التي بدورها، ومع نموّها، تأتي بالأثر الطيّب على الفرد وتعزّز رقيّه الرّوحاني. يتفضّل حضرة بهاء الله في الكتاب الأقدس إن الأفراد مثل الأعضاء التي تكوّن جسم الإنسان. هذا يعني أن خير الجزء هو خير الكلّ، والضرر الذي يلحق بالجزء يلحق بالكلّ. وعلاوة على ذلك فإنّه يمكن للجامعة أن تكون بمثابة المخبر حيث يعبّر الفرد عن مُثُلِ الأمر ومبادئه التي تشرّب بها بفضل تحقيق فعّاليّات ملموسة بناءة. فتصبح المشاركة في عمل الجامعة عمليّة تعلّم نحو الفهم الأعمق في كيفيّة تحقيق النّظريّة التي يدعو إليها الأمر المبارك في الميدان العملي للخدمة. كلّ هذا يعني أنّ علينا، كبهائيّين مخلصين، تحاشي الوقوع في حبائل طرفي التطرّف: (1) تمسّك بأحكام وأوامر الأمر المتعلّقة بالفرد، دون الارتباط بالجامعة، و(2) انخراط كلّي في أنشطة الجامعة، دون التّحلّي بالحياة البهائيّة التي هي فرض على كلّ إنسان.
الجزء الأخير من هذا القسم خاص بالأمراء والعلماء: من هم وكيف يُكَمِّل كل منهما الآخر، وما هي الرّوابط الروحانيّة التي تربطهم معا ثمّ مع باقي أفراد الجامعة. في توضيح لهذه المسألة، كتب بيت العدل الأعظم في رسالة بتاريخ 23 أبريل/نيسان 1972 ما يلي:
يتفضّل حضرة بهاء الله في كتاب عهدي “طوبى للأمراء والعلماء في البهاء”، وفي إشارة إلى هذه الآية بالذات تفضّل حضرة ولي الأمر المحبوب بما يلي بتاريخ 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1931: “العلماء في هذا الدور[15] المقدّس هم من جهة، أيادي أمر الله، ومن جهة أخرى، المبلّغون والنّاشرون للتّعاليم الإلهيّة الذين وإن لم يبلغوا مرتبة الأيادي إلاّ أنّ جهودهم قد احتلّت مكانة بارزة في ميدان التّبليغ. أمّا الأمراء فهم أعضاء بيوت العدل المحلّية والمركزيّة وبيت العدل الأعظم[16]. وستحدّد وظائف كلّ من هذه النّفوس مستقبلاً.”[17]
بعد اقتباس بيان حضرة ولي الأمر، علّق بيت العدل الأعظم بما يلي:
وينسحب وصف “العلماء” كما أعطاه لنا حضرة ولي الأمر المحبوب على أيادي أمر الله والمشاوَرين وأعضاء هيئات المعاونين… عندما قرّر بيت العدل الأعظم، بعد صعود حضرة شوقي أفندي، أنّه لا يمكنه التشريع بما يسمح بتعيين أيادي أمر الله آخرين، أصبح من الضروري بعث مؤسّسة جديدة، يعينها بيت العدل الأعظم بنفسه، وذلك للامتداد إلى المستقبل بمهمتيّ حماية الأمر المبارك ونشره المنوطتين بأيادي أمر الله، وبأخذ هذا الغرض في الاعتبار يتسنى بهذه الكيفيّة تطوير مؤسّسة الأيادي لتتمكّن من رعاية المؤسّسة الجديدة والعمل بتعاون وثيق معها لأطول مدّة ممكنة. كان من الضروري أيضا ترتيب الأمور بحيث تتم الاستفادة بأقصى ما يمكن من الخدمات الفريدة للأيادي أنفسهم…”[18]
وفي الرسالة نفسها يشير بيت العدل الأعظم إلى ما جاء في رسالة لحضرة شوقي أفندي بما يلي:
في رسالة كتبت بتاريخ 14 مارس/آذار 1927 إلى المحفل الروحاني للبهائيين باسطنبول، شرح سكرتير حضرة ولي الأمر، نيابة عن حضرته، مبدأ العمل بأغلبيّة الأصوات في الأمر. وقد بيّن حضرته كيف كان بعض الأفراد في الماضي “الذين اعتبروا أنفسهم أعلى معرفة وأسمى مقاماً” هم سبب التفرقة، وأنّ أولئك “الذين ادّعوا أنّهم الأكثر امتيازاً” برهنوا على أنّهم كانوا “دائماً مصدر النزاع”. ثمّ يستمر حضرته “لكن الحمد لله فإنّ القلم الأعلى قد تخلص من الآراء الصّلبة المستبدة للعلماء والحكماء، ورفض إصرار الأفراد على زعمهم بكونهم الفيصل المعتمد، حتّى لو كانوا ممن َشهِدَ لهم بكونهم أكثر القوم تضلعاً وعلماً، وأمر بإرجاع الأمور إلى مراكز مسئولة ومحافل مختصة. ومع ذلك، لم يمنح أي محفل السّلطة المطلقة للنّظر في الأمور العامة ذات الأثر على مصالح الأمم. على عكس ذلك، فقد وضع جميع المحافل تحت ظلّ بيت عدل واحد، المركز الإلهي التّعيين، بحيث لا يوجد سوى مركز واحد وكلّ ما سواه مندمج في هيكل واحد يدور حول محور واحد واضح جليّ، بذلك يجعل الجميع محفوظين من الشّقاق والانقسام”.[19]
بعد أن اقتبس هذه الفقرة من رسالة حضرة شوقي أفندي، وصل بيت العدل الأعظم الى الاستنتاجات التالية:
بعد أن أقصى حضرة بهاء الله نهائيّا تلك الشرور المسلّم بوجودها متأصلة في مؤسّسات “العلماء” بالدّورات السّابقة، ضمّن حضرته في نظامه الإداري تلك العناصر الحميدة الموجودة بتلك المؤسّسات، عناصر ذات قيم أساسيّة لتقدّم أمر الله، وهو ما يمكن إدراكه حتّى من قراءة سريعة لرسالة حضرة وليّ الأمر بتاريخ 4 يونيو/حزيران 1957.
إنّ وجود مؤسّسات بمثل هذا المقام الرفيع، مكوّنة من أفراد يؤدّون دوراً على هذا القدر من الحيوية، ولا يملكون أيّة سلطة تشريعيّة أو إداريّة أو قضائيّة، ومجرّدون تماماً من أية وظائف كهنوتيّة أو أيّة صلاحيّة لتقديم تفاسير معتمدة، إنّما هو واحد من ملامح النّظام الإداري الذي لا نظير له في الديانات السابقة. إن حداثة هذا المفهوم وتفرده يجعله أمراً صعب الاستيعاب ؛ ولكن مع نموّ الجامعة البهائيّة وترقي قدرة المؤمنين على التأمّل مليّاً في هيكلها الإداري بمنأى عن مفاهيم العصور الغابرة، سوف يتسنى لنا الفهم الكامل لذلك التّوافق الحيوي بين “الأمراء” و”العلماء” في الأمر، والإدراك التّام لما لذلك التفاعل بينهما من أهميّة تجل عن الحصر.[20]
بعد مضيّ حوالي ست سنوات، تقدم أحد المؤمنين بسؤال له علاقة بهذا الموضوع، الأمر الذي استدعى توضيحا آخرا للمسألة. في 27 مارس/آذار 1978، صدر من دائرة السكرتارية نيابة عن بيت العدل الأعظم التّوضيح التالي:
لهيئة المشاوَرين مسؤوليّة خاصة هي حماية أمر الله ونشره في منطقة قاريّة بها عدد من الجامعات المركزيّة. فعند قيامها بهذه المهام فإنّها لا تدير شؤون المحافل الروحانيّة أو أفراد المؤمنين ولا تأمرهم، ولكنها تشغل مقاماً يمكنّها من الدّراية الكاملة بمجرى الأمور ويوجب على المحافل الروحانيّة أخذ نصائحها وتوصياتها بغاية الاعتبار. ومع ذلك فإنّ جوهر العلاقات بين المؤسّسات البهائيّة هو المشورة الوديّة والرغبة المشتركة لخدمة أمر الله وليس مسألة المقام أو المركز.
إنّه لواضح من آثار حضرة بهاء الله، وكذلك من آثار حضرة عبد البهاء وبيانات حضرة ولي الأمر، أنّ سلامة سير عمل المجتمع البشري يتطلّب حفظ المقامات والطبقات بين أعضائه. وعلى الأحباء الإقرار بهذه الحقيقة دونما أيّة حسد أو غيرة، ويتعيّن على الذين يتبوّؤون المناصب ألاّ يستغلّوا مكانتهم أو يعتبروا أنفسهم أعلى من الآخرين بأيّ حال من الأحوال.
تفضّل حضرة بهاء الله بالبيان التالي حول هذا الموضوع:
از جمله اتحاد مقام است واوست سبب قيام أمر وارتفاع آن ما بين عباد برتري وبهتري كه بميان آمد عالم خراب شد وويران مشاهده گشت. نفوسيكه از بحر بيان رحمن آشاميده اند وبأفق اعلى ناظرند بايد خودرا در يك صقع ويك مقام مشاهده كنند. اگر اين فقره ثابت شود وبحول وقوة الهى محقق گردد عالم جنت ابهى ديده شود بلى انسان عزيز است ﭼـه كه در كل
آيۀ حق موجود ولكن خودرا اعلم وارجح وافضل واتقى وارفع ديدن خطائيست كبير. طوبى از براى نفوسى كه بطراز اين اتحاد مزينند ومن عند الله موفق گشته اند.[21]
(وهذه ترجمة إلى العربي، غير معتمدة)
من بين عوالم الاتحاد، اتحاد المقام، وهو سبب قيام الأمر وارتفاعه بين العباد. منذ أن برز طلب التفضيل والامتياز، تمّ خراب العالم وظهر دماره. إن النّفوس التي شربت من بحر بيان الرحمن وشخَصت بأبصارها إلى الأفق الأعلى يجب أن يشاهدوا أنفسهم في صقع واحد ومقام واحد مع الآخرين. فلو ثبتت هذه المسألة وتحقّقت بحول الله وقوته، يصبح العالم جنة الأبهى. نعم إن الإنسان عزيز، إذ أودع في كلّ واحد آية الحق، أمّا أن يعتبر نفسه أعلم أو أرجح أو أفضل أو أتقى أو أرفع لهو خطأ كبير. طوبى لنفوس تزينت بطراز هذا الاتحاد وتوفّقت به من عند الله.
إلى هنا ينتهي النّص لحضرة بهاء الله.
ثم تستمر رسالة بيت العدل:
إن اللّطافة والتبجيل والوقار والتقدير لمقام الغير وخدماتهم لمن الفضائل التي تساهم في تحقيق الألفة والفلاح في كلّ مجتمع بهائي، أمّا الغرور وتعظيم النفس فهما من كبائر المعاصي المهلكة…
يأمل بيت العدل أن يتذكّر أحباء الله أن الهدف الأسمى لحياة كلّ نفس يجب أن يكون الحصول على الكمال الرّوحاني – الفوز برضاء الله. إنّ الله وحده هو الذي يعلم المكانة الروحيّة لكلّ نفس. هذا يختلف كلّ الاختلاف عن المقامات والرتب التي يتبوأها الرجال والنّساء في مختلف قطاعات المجتمع . المتطلّع إلى رضاء الله يرتضي بكل فرح وابتهاج أيّ عمل أو مركز يناط به في أمر الله ويسرّ خاطره بخدمة الله في كلّ الأحوال.[22]
يعطينا بيت العدل الأعظم في هذه الرّسالة توضيحا فريدا في فلسفة التّنظيم الإداري. النّقطة الأولى هي قبول بيت العدل للسّياسة المتّبعة عموما في أي نوع من أنواع الإدارة العلمانيّة أو الدّينيّة، وهي: إنّه بدون مراكز ومقامات لا يمكن لأية منظمة أن تعمل بطريقة فعّالة. بعد هذا التأكيد، واستنادا لنصّ حضرة بهاء الله الرائع، ينصح بيت العدل الأمراء البهائيين والعلماء البهائيين فيقول لهم ما معناه: لا تنشغلوا بدوام مراكزكم أو عدم احترامها ممن أقلّ منكم مقاما أو خدمة، ولكن لا تجعلوا هذا الاعتبار السّطحي يملؤكم بالغرور، ولا تتركوه يخدعكم بالاعتقاد أنّكم معنويّاً أو جوهريّاً أفضل منهم. المقامات الحقيقية لا يعلمها إلاّ الله وستتضح للعباد عياناً فقط في العالم الآخر. لذا لا تعاملوا الآخرين بتكبّر، ولا تفتخروا بأنفسكم عليهم لمجرّد أن امتيازاً مؤقتاً أعطى لكم في هذا العالم. (هذه طبعاً كلماتي الشخصيّة ولكنها تلخيص لنصائح وتوجيهات بيت العدل الأعظم) يتفضّل حضرة بهاء الله في إحدى ألواحه بأنّه كلّما ازداد تقوانا وخشوعنا لله، كلّما تقربنا إلى الله في هذه الدّنيا وفي الآخرة.
إنّني لا أعرف أي تنظيم إداري، دينيّاً كان أم علمانيّاً، يندمج في هيكله مفهوم بمثل هذه الأصالة الأخلاقيّة والروحانيّة. هذا القوام هو الذي يحيي الرّوح في جامعتنا وفي أنشطتنا الإداريّة. إنّها إحدى الملامح المميّزة للنّظام الإداري البهائي، الذي لم تبدعه أيادٍ بشريّة، إذ هو في جوهره منظومة إلهيّة وفي حماية ملكوتيّة مقدّر لها أن تحتضن البشريّة وتوحدها وترتفع بها إلى أعلى العليين.
أسئلة في الموضوع
س: قال أحد أصدقائي من غير البهائيين أنّه ليس من الإنصاف في نظره أن ينتخب فقط البهائيون “المشهورون“ وأن ظهورهم بارزين في الجامعة قد يكون نوعاً من الحملة الانتخابية المخفيّة. ما رأيكم؟
ج: استعمال كلمة “المشهورون” في هذا السّياق ليس بدقيق ولا بصحيح. يشير حضرة عبد البهاء في أحد ألواحه إلى الأعضاء المنْتَخَبين بأنّهم نفوس ذوو سمعة طيّبة الذين تنتشر بين الناس أسماؤهم كرائحة المسك. قد يكون بعض البهائيين مشهورين دون أن تكون سمعتهم طيّبة. علينا أن ننظر في الانتخابات البهائيّة إلى ما هو معروف من صفات أفراد المجتمع البهائي. هذه الصفات هي ولاء لا شك فيه، إخلاص يتصف بالتفاني، عقل راجح، مقدرة معترف بها، وخبرة ناضجة.[23] علينا أن نتذكر، عند قيامنا بالانتخاب، أن نَقْْدِم على هذه العمليّة بالدّعاء والتضرّع متوسلين إلى الجمال المبارك أن يهدينا السبيل.
س: كتب حضرة شوقي أفندي في كتاباته عن “التدبير الإلهي“ – Divine Economy ، هل يمكن شرح ما يعنيه؟
ج: إذا بحثت عن معنى كلمة Economy في قاموس محترم سوف تجد أنّ إحدى معانيها هو منظومة للإدارة. أعتقد أنّ علينا أن نفهم معنى المرجع الذي ذكرته بأنّ استعمال حضرة شوقي أفندي لهذا التعبير ينطبق على النّظام الإداري.
س: إحدى الصّفات الأساسيّة المطلوب توفّرها عند أعضاء المحافل (الروحانيّة)، طبقا لبيان حضرة عبد البهاء، هي “خلوص النيّة“، وحضرته ذكر هذه الصفة في مقدمة الفضائل الأخرى. فما هو مفهومكم عن خلوص النيّة؟
ج: يشير حضرة بهاء الله في الكلمات المكنونة الفارسيّة إلى “الأعمال الطيّبة الطّاهرة” وبأنّه “عمّا قريب لن يرتضى صيارفة الوجود بين يدي المعبود إلاّ التقوى الخالصة، ولن يقبلوا إلاّ العمل الطّاهر”. إنّ فهمي لخلوص النيّة هو أن يكون المراد من الخدمة في العمل الإداري أو في ميدان التّبليغ، اكتساب رضاء الجمال المبارك فقط ولا شيء آخر. اعتقد أن خلوص النيّة يتطلّب منا وضع كلّ الاعتبارات الأخرى جانباً، سواء كانت دنيويّة خارج حظيرة الأمر المبارك، أم مكافآت روحانيّة داخل الأمر، أو كما يعبّر عنها في بعض الأحيان “في رحبة” دين الله الأقدس. أعتقد أن هذا هو معنى الجملة الواردة في مناجاة اللقاء (لوح الزيارة) لحضرة عبد البهاء: “حقّقني بالفناء في فناء باب إلوهيتك وأعنّي على المواظبة على الانعدام في رحبة ربوبيتك“. إذا أردنا لنوايانا أن تكون خالصة، علينا أن نثق كلّ الثقة في أنّ الله يرانا وأنّه يعرفنا. يجب أن يكون حافزنا الوحيد لكلّ ما نقدّمه من نشاط بهائي ونقوم به من إطاعة لأوامره هو أن تحظى هذه الأعمال المتواضعة التّافهة، بقبوله جل وعلا.
س: أين يوجد في نص الكتاب الأقدس ما يشير إلى مؤسّسة ولاية الأمر؟
ج: كتب حضرة شوقي أفندي في فبراير/شباط 1929: “إنّ في ترك حضرة بهاء الله بعض الأمور دون تحديد أو تعيين في كتاب أحكامه، يكون قد تعمّد حضرته ترك فجوات في النّظام العام للدّورة البهائيّة، أكملتها النّصوص البيّنة لألواح وصايا المولى”.[24] إحدى “الأمور” التي لم تحدّد هي مسألة من يتسلّم حقوق الله بعد حضرة بهاء الله. الاستنتاج الواضح كان، طبعاً، أن الذي يخلف حضرة بهاء الله، شخصاً كان أم مؤسّسة، ويشغل أوتشغل مركز رئاسة أمر الله، يتسلّم أو تتسلّم حقوق الله. لذلك كانت حقوق الله تُسَلَّم إلى حضرة عبد البهاء ثم بعد ذلك إلى حضرة ولي الأمر استناداً إلى ألواح الوصايا. هذه واحدة من الدلائل على الإشارة المسبّقة على مؤسّسة ولاية الأمر، وكنت ذكرت هذه النقطة في السّابق. المكان الآخر في الكتاب الأقدس الذي يمكن أن يكون أيضاً إشارة إلى ولاية الأمر، هو الآية التي يتفضّل حضرة بهاء الله بقوله الأحلى: “ارجعوا إلى ما لا عرفتموه من الكتاب الى الفرع المنشعب من هذا الاصل القويم”.[25] تعطي هذه الآية مسؤوليّة التبيين “للفرع”، ويبدو أن هذه هي الآية الثّانية التي استبقت مقام ولي الأمر كالمبيّن لكلمات الله.
[1] من توقيع بعنوان دورة بهاء الله مؤرّخ 8 فبراير 1934 – بيت العدل الأعظم – مجموعة مستندات، ص 50.
[2] Bahá’í Temple Unity هيئة مركزيّة تشكلت في شيكاغو في 1909 بعد مؤتمر اجتمع فيه 39 وكيل يمثلون 36 مدينة بالولايات المتّحدة. حلّ محلّ هذه الهيئة المحفل الروحاني المركزي بالولايات المتّحدة في 1925.
[3] القرن البديع، ص 405.
[4] الكتاب الأقدس، الآية 181.
[5] بيت العدل الأعظم – مجموعة نصوص ص 36.
[6] بيت العدل الأعظم – مجموعة نصوص، ص 71 – 72.
[7] توقيع حضرة شوقي أفندي إلى العالم البهائي بتاريخ 8 أكتوبر 1952 (مترجم عن الإنكليزيّة).
[8] p. 4 –5 World Order (مترجم عن الإنكليزيّة).
[9] Bahá’í Administration p. 42. (مترجم عن الإنكليزيّة).
[10] p. 9–10 World Order (مترجم عن الإنكليزيّة).
[11] ورد في رسالة لبيت العدل الأعظم Messages from the Universal House of Justice
(مترجم عن الإنكليزيّة). ¶397.2c
[12] p 63 Bahá’í Administration (مترجم عن الإنكليزيّة).
[13] كتيب المحفل الروحاني المحلي ص 33–34. ثمّ ص 24، تعريب الدكتور سهيل بشروئي (مع تعديل بسيط في كلمات قليلة).
[14] p 90 Bahá’í Administration (مترجم عن الإنكليزيّة).
[15] ممكن أن يكون “الكور” – راجع الكتاب الأقدس، الشرح 183، ص 270 (مترجم).
[16] ممكن أن يكون “العمومي” إذ أنّ الأصل الإنكليزي International Houses of Justice كما ورد في ترجمة ألواح وصايا حضرة عبد البهاء حيث نقرأ “بيت العدل العمومي”.
[17] “راجع الكتاب الأقدس، الشرح 183، ص 270 (مترجم).
[18] رسائل بيت العدل الأعظم الفقرة 111.4 و111.6، ص 215 (مترجم).
[19] رسائل بيت العدل الأعظم الفقرة 12. 111، ص 216 (مترجم).
[20] رسائل بيت العدل الأعظم الفقرة 13. 111 و111.14، ص 217 (مترجم).
[21] “ادعيه حضرت محبوب” ص 396 و397 (طبعة مصر 1339هـ).
[22] رسائل بيت العدل الأعظم الفقرة 5 – 4. 111
[23] “المحفل الروحاني المحلّي” ص 12 (طبعة بيروت 1971).
[24] World Order of Bahá’u’lláh، ص 4 (مترجم عن الإنكليزيّة).
[25] الكتاب الأقدس، الآية 174.
Advent of Divine Justice
Bahá’í Administration
Bahá’í Prayers, 1975, British Edition
Bahá’í World Volume XIII
Compilation of Compilations
Citadel of Faith
Compilation on Huqúqu’llàh
Call to the Nations (XVII – XVIII)
Constitution of the Universal House of Justice
Epistle to the Son of the Wolf
God Passes By
Gleanings from the Writings of Bahá’u’lláh
Kitáb-i-Aqdas
Lights of Guidance
Messages to the Bahá’í World 1950-57
Messages from the Universal House of Justice 1963-86
Promised Day is Come
Persian Hidden Words
Priceless Pearl
Some Answered Questions
Selections from the Writings of ‘Abdu’l-Bahá
Selections from the Writings of the Báb
Tablets of Bahá’u’lláh, revealed after the Kitáb-i-Aqdas
This Decisive Hour
Wider Horizon- selected letters 1983-1992
World Order of Bahá’u’lláh
Will and Testament of ‘Abdu’l-Bahá