أَنْوارُ الاصْطِبار
أَنْوارُ الاصْطِبار

أَنْوارُ الاصْطِبار

النور والبهاء والتكبير والثناء على أيادي أمره الذين بهم أشرق نور الاصطبار وثبت حكم الاختيار لله المقتدر العزيز المختار. وبهم ماج بحر العطاء وهاج عرف عناية الله مولى الورى. نسأله تعالى أن يحفظهم بجنوده ويحرسهم بسلطانه وينصرهم بقدرته التي غلبت الأشياء. الملك لله فاطر السماء ومالك ملكوت الأسماء.

حضرة بهاءالله

 

إنّ أيادي أمر الله هم نفوس مباركة بحيث تظهر آثار تقديسهم وروحانيّتهم في قلوب الناس. تنجذب القلوب بحُسن نيّتهم وعدالتهم وإنصافهم، وتتأثّر النفوس بحسن أخلاقهم وصفاتهم المرْضية، وتتوجّه الوجوه بشيَمهم وآثارهم الباهرة. إنّه ليس لقبًا يُعطى لأيّ شخص ولا منصبًا يرثه مَن يطلبه… فكلّما استغرق في المحوية ازداد تأييدًا، وكلّما أمعن في الخضوع ازداد تقرّبًا.

مسند لحضرة عبدالبهاء

دار البديع للطباعة والنشر

ص ب 193

منصورية المتن – لبنان

شهر العلاء 176 بديع

آذار 2020م

الطبعة الأولى

 

أنوار الاصطبار

مكرّس إلى جدّتي ماري ويتلي كلارك المؤرّخة، الكاتبة، المهاجرة، المُحسنة المحبّة للخير التي ساهمت محبّتها اللامحدودة في رعايتي في شبابي ودعمي في سنوات حياتي وإلى والدي ومعلّمي الحبيب روس أڤيري هاربر الذي هداني إلى الأمر الكريم لحضرة بهاءالله

المحتوى

مقدّمة لرونالد ر. ويتزل

شكر وتقدير

ملاحظة من الناشر

ملاحظة من المترجم

 1– أيادي أمر الله الذين عيّنهم حضرة بهاءالله من حوالي 1887–1892

الملاّ علي أكبر الشهميرزادي، الحاج آخوند

ميرزا علي محمّد (ابن الأصدق)

ميرزا محمّد تقي (ابن أبهر)

الحاج ميرزا حسن أديب

2 – أيادي أمر الله الذين ذكرهم حضرة عبدالبهاء، 1892–1921

الملاّ محمّد رضا من (محمّدآباد)

محمّد القائني، النبيل الأكبر

الملاّ صادق المقدّس الخراساني (اسم الله الأصدق)

ميرزا علي محمّد ورقاء

3 – أيادي أمر الله الذين أسبغ عليهم حضرة شوقي أفندي هذه الرتبة بعد وفاتهم

(تاريخ إعلان التعيين بين قوسين)

الحاج أبو الحسن الأردكاني (الأمين الإلهي، الحاج أمين) (تمّوز 1928)

عبد الجليل بيك سعد (25 حزيران 1942)

جون هنري هايد دنّ (26 نيسان 1952)

جون إبنزر إسلمنت (30 تشرين الثاني 1925)

لويس جورج غريغوري (5 آب 1951)

كيث رانسوم-كيلر (28 تشرين الأوّل 1933)

محمّد تقي الإصفهاني (15 كانون الأوّل 1946)

مارثا لويس روت (2 تشرين الأوّل 1939)

مصطفى الرومي (14 تمّوز 1945)

روي ك. ويلهلم (23 كانون الأوّل 1951)

4 – أيادي أمر الله الذين عيّنهم حضرة شوقي أفندي في 24 كانون الأوّل 1951

دوروثي بيتشر بيكر

أميليا إنجيلدر كولنز

علي أكبر فروتن

أوغو جياكري

هيرمان غروسمان

هوراس هوتشكيس هولي

ليروي آيواس

وليام سذرلاند ماكسويل

تشارلز مايسون ريمي

طراز الله سمندري

جورج تاونزند

وليّ الله ورقاء

5 – أيادي أمر الله الذين عيّنهم حضرة شوقي أفندي في 29 شباط 1952

شعاع الله علائي

موسى بناني

كلارا دنّّ

ذكر الله خادم

أدلبرت ميولشليغل

سيغفريد شوبفلوخر

كورين نايت ترو

6 – أيادي أمر الله الذين عيّنهم حضرة شوقي أفندي كلاًّ بمفرده

(تاريخ إعلان التعيين بين قوسين)

أمة البهاء روحية خانم (ماري سذرلاند ماكسويل) (26 آذار 1952)

جلال خاضع (7 كانون الأوّل 1953)

بول إدموند هايني (19 آذار 1954)

الدكتور علي محمّد ورقاء (15 تشرين الثاني 1955)

أغنس بولدوين ألكساندر (27 آذار 1957)

7 – أيادي أمر الله الذين عيّنهم حضرة شوقي أفندي في 2 تشرين الأوّل 1957

حسن موقّر باليوزي

أبو القاسم فيضي

هارولد كوليس فيذرستون

جون غراهام فيرابي

رحمت الله مهاجر، بقلم إيران فروتن مهاجر

إينوك أولنغا

جون أولدهام روبارتس

وليام سيرز

 

مسرد الكتب والمراجع

المصادر والملاحظات

المقدّمة

لقد ذكر حضرة بهاءالله مؤسّسة أيادي أمر الله في «الكتاب الأقدس» بقوله:

«طوبى لكم يا معشر العلماء في البهاء تالله أنتم أمواج البحر الأعظم وأنجم سماء الفضل وألوية النصر بين السموات والارضين. أنتم مطالع الاستقامة بين البرية ومشارق البيان لمن في الإمكان طوبى لمن أقبل إليكم ويل للمعرضين.»(1)

في «كتاب عهدي» كتب حضرة بهاءالله، «طوبى للأمراء والعلماء في البهاء».(2) وشرح حضرة شوقي أفندي ذلك في قوله:

العلماء في هذه الدورة المقدّسة هم، من جهة، أيادي أمر الله، ومن جهة أخرى، المبلّغون والناشرون للتعاليم الإلهية الذين وإن لم يبلغوا مرتبة الأيادي قد احتلّت جهودهم مكانة بارزة في ميدان التبليغ.(3)

في ألواح الوصايا يصرّح حضرة عبدالبهاء قائلاً:

إنّ وظيفة أيادي أمر الله هي نشر نفحات الله وتربية النفوس وتعليم العلوم وتحسين أخلاق العموم والتقديس والتنزيه في جميع الشؤون. يجب أن تظهر وتلوح تقوى الله من أطوارهم وأحوالهم وأفعالهم وأقوالهم.(4)

يذكر حضرته أيضًا:

… على أيادي أمر الله أن يكونوا يقظين؛ فبمجرّد أن يقوم أحد بالاعتراض على وليّ أمر الله ومخالفته عليهم أن يخرجوه فورًا من جمع أهل البهاء، ولا يقبلوا منه أيّ عذر أبدًا. كثيرًا ما يتمثّل الباطل المحض في صورة الخير لإلقاء الشبهات.(5)

إنّ الوحدة الحقيقية والوئام والمحبّة المطلقة ما بين الأحبّاء، إلى جانب حظر التفرقة، والغيبة والشقاق، هي أمور مهمّة جدًّا لحماية أمر الله. فالوظيفتان الرئيستان لأيادي أمر الله هما حماية الدين البهائي ونشره. وقد كرّسوا حياتهم لهذين الغرضين الأساسيين.

أيادي أمر الله أفراد عيّنهم حضرة بهاءالله، وعهد إليهم بمهامّ مختلفة، خاصّة فيما تعلّق بحماية أمر الله ونشره. ذكر حضرة عبدالبهاء في «تذكِرة الوفاء» عددًا من المؤمنين البارزين وصرّح أنّهم فازوا بمقام أيادي أمر الله. كما نصّ حضرة عبدالبهاء في «ألواح الوصايا» على سلطة وليّ الأمر لتعيين أيادي أمر الله وفقًا لِما يراه، وبدأ حضرة وليّ أمر الله أوّلاً برفع مقام بعض أحبّاء الله الراحلين إلى مرتبة أيادي أمر الله، ثم اختار أثناء السنوات الأخيرة من حياته اثنين وثلاثين فردًا من قارّات العالم الخمس لهذا المنصب الرفيع.(6)

في تشرين الأوّل 1957 لقّب حضرة شوقي أفندي أيادي أمر الله بأنّهم «الأمناء الرئيسون لجامعة بهاءالله العالمية التي لا تزال في طور الجنين.»(7) بعد وفاة حضرة شوقي أفندي في 4 تشرين الثاني عام 1957، عند منتصف مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني (1953–1963) تقريبًا، اجتمع أيادي أمر الله في المركز العالمي حتى «ينتخبوا من بين مجموعهم تسعة أشخاص، وأن ينشغلوا دائمًا بأداء الخدمات الهامّة لوليّ أمر الله،»(8) وقد أدّى هؤلاء «الأمناء» العمل الذي بدأه حضرة شوقي أفندي وحقّقوا الظفر بالعديد من أهداف الجهاد الروحاني العالمي باسم وليّ أمرهم المحبوب، وأنشأوا أخيرًا مؤسّسة بيت العدل الأعظم في رضوان 1963 في انتخابات جرت في المركز العالمي لأمر الله خلال المؤتمر البهائي العالمي الأوّل.

بعد بضعة أيّام على المؤتمر العالمي الأوّل الذي عقد في لندن للاحتفال بالنصر العظيم لخطّة العشر سنوات، قُدّم بيت العدل الأعظم إلى العالم البهائي للمرّة الأولى. وقد تُليت رسالته الأولى إلى الأحبّاء المجتمعين، الذين استمعوا إلى هذا الثناء على أيادي أمر الله:

إنّ تراتيل الفرح والامتنان، والمحبّة والعشق التي نرفعها الآن إلى عرش حضرة بهاءالله لن تكون كافية، واحتفالات هذا اليوبيل الأعظم التي ننخرط فيها الآن الذي، كما وعدنا وليّ أمرنا المحبوب، لن تكون كاملة إذا لم تتمّ الإشادة في هذا الوقت بأيادي أمر الله. لأنّهم يشاركون في النصر مع قائدهم المحبوب، وهو من رعاهم وعيّنهم. لقد أبقوا السفينة على مسارها وأوصلوها آمنة إلى ميناء السلامة. يستذكر بيت العدل الأعظم، بكلّ اعتزاز ومحبّة، في هذه المناسبة السامية إعجابه العميق بالعمل البطولي الذي أنجزوه. نحن لا نرغب في الخوض في المخاطر المروّعة التي واجهت أمر الله اليافع عندما حُرم فجأة من محبوبنا حضرة شوقي أفندي، وإنّما نريد أن نعترف بكلّ ما يعتمل في قلوبنا من محبّة وامتنان بواقع التضحية، والعمل، والانضباط النفسي والإشراف الرائع من أيادي أمر الله. لا يمكننا أن نفكّر بكلمات أكثر ملاءمة للتعبير عن تقديرنا لهذه النفوس المحبوبة الباسلة من كلمات حضرة بهاءالله نفسه: النور والبهاء والتكبير والثناء على أيادي أمره الذين بهم أشرق نور الاصطبار وثبت حكم الاختيار لله المقتدر العزيز المختار. وبهم ماج بحر العطاء وهاج عرف عناية الله مولى الورى.(9)

في 6 تشرين الأوّل عام 1963 أعلن بيت العدل الأعظم، «بعد دراسة دقيقة للنصوص المقدّسة في جوّ من الخشوع والابتهال» و«بعد التفكير والنظر المطوّل في آراء أيادي أمر الله المقيمين في الأرض الأقدس» «أنّه ليست هناك أيّ طريقة لتعيين أو سنّ تشريع يجعل من الممكن تعيين وليّ أمر ثان يخلف حضرة شوقي أفندي.»(10) وفي تشرين الثاني 1964 أعلنت الهيئة العليا أنّه «ليست هناك أيّ طريقة لتعيين أو سنّ تشريع يجعل من الممكن تعيين أيادي أمر الله.

«إنّ مسؤولية اتّخاذ قرارات بشأن مسائل تمسّ السياسة العامّة التي تمسّ مؤسّسة أيادي أمر الله، والتي كانت سابقًا من اختصاص وليّ الأمر المحبوب، تقع الآن على كاهل بيت العدل الأعظم بصفته المؤسّسة المركزية والعليا لأمر الله التي يجب على الجميع التوجّه إليها.»(11)

في عام 1968 أنشأ بيت العدل الأعظم هيئات المشاورين القارّية بهدف استمرارية وظائف أيادي أمر الله في المستقبل في حماية أمر الله ونشره. في عام 1973 عيّنت الهيئةُ العليا دارَ التبليغ العالمية في الأرض الأقدس، وتضمّ في عضويّتها أربعة من أيادي أمر الله وثلاثة أعضاء من المشاورين.

كلّما توفّي أحد الممثّلين من مؤسّسة أيادي أمر الله الباقين على قيد الحياة، يبدو أكثر أهمّية من أيّ وقت مضى أن نتعلّم شيئًا عن حياة وخدمات هؤلاء المسؤولين رفيعي المقام في أمر الله والذين عانوا طويلاً. بالتالي فإنّ هذا الكتاب لمؤلّفه بارون هاربر هو موضع ترحيب خاصّ في هذا الوقت.

كان في صيف عام 1987 أن استيقظ بارون صباح أحد الأيّام وفي ذهنه فكرة أن يكتب كتابًا عن أيادي أمر الله. ولكونه بهائيًا منذ عام 1967، فقد التقى أيادي أمر الله أمة البهاء روحية خانم، وليام سيرز، علي أكبر فروتن، إينوك أولنغا، جون روبارتس، ذكر الله خادم وطراز الله سمندري، وجميعهم كانوا مصدر إلهام عظيم له. خطر له أنّ القليل قد كُتب عن جميع ‘تلك النفوس المتميّزة’ وأنّ ‘المشروع بدا شيئًا ممكنًا ويريد القيام به’. وهكذا بدأ العملَ الحالي.

تعود الخلفية المهنية للسيّد هاربر إلى الأعمال التجارية، وهو حاصل على درجة الماجستير في المحاسبة من جامعة «شمال ولاية تكساس». في عام 1986 بدأ بمزاولة أعماله المحاسبية الخاصّة، وفي أيلول 1992، هاجر مع زوجته نانسي إلى البرتغال، حيث قام بتدريس مبادئ المحاسبة، التمويل، المحاسبة الإدارية والمحاسبة العامّة في الجامعات الخاصّة والعامّة. في السنوات السابقة هاجرت العائلة إلى الأرجنتين.

خدم بارون في سبعة محافل روحانية محلّية، وفي لجان التبليغ الإقليمية في تكساس والبرتغال وفي اللجنة المركزية للتبليغ في البرتغال. كما قام بالتدريس في صفوف الأطفال وفي المعاهد البهائية وألقى محاضرات في الكلّيّات والأندية وتحدّث في الإذاعة والتلفزيون. وقد كتب عدّة مقالات عن أمر الله وفي موضوع المحاسبة.

تزوّج بارون من نانسي في عام 1972، وهي أستاذة الموسيقى في جامعة أفييرو وعازفة متميّزة في مجال البيانو الكلاسيكي. لديهم ثلاثة أطفال، كريستوفر، ليلى وإريك.

إنّ «لمحات» في سِير حياة أيادي أمر الله لبارون هاربر هي بالفعل مثيرة للمشاعر كما يليق بمقام هذه النفوس الغالية. وبكلمات بيت العدل الأعظم:

لم يسجّل تاريخ الأديان برمّته مثل هذا الانضباط التامّ والولاء الصرف والمحوية الكاملة من قبل رؤساء دين يجدون أنفسهم وقد حرموا فجأة من هاديهم الملهم إلهيًّا. إنّ العرفان بالجميل الذي تدين به البشرية لأجيال قادمة، بل لعصور آتية، إلى تلك الثلّة من النفوس المكلومة الراسخة البطلة يتجاوز أعلى درجات التقدير.(12)

رونالد ر. ويتزل

1.
حضرة بهاءالله، «الكتاب الأقدس»، الفقرة 173.
2.
حضرة بهاءالله، «مجموعة من ألواح حضرة بهاءالله نزّلت بعد الكتاب الأقدس»، الصفحة 199.
3.
بيان لحضرة شوقي أفندي ورد في الفقرة 183 من شرح «الكتاب الأقدس».
4.
حضرة عبدالبهاء، «كتاب عهدي وألواح وصايا حضرة عبدالبهاء»، الصفحة 38.
5.
المصدر السابق، الصفحة 37.
6.
«الكتاب الأقدس»، الشرح، رقم 183، الصفحة 270.
7.
Shoghi Effendi, Messages to the Bahá’í World, p. 127. الترجمة من كتاب «قرن الأنوار».
8.
حضرة عبدالبهاء، ألواح الوصايا.
9.
The Universal House of Justice, Messages from the Universal House of Justice, p. 6.
البيان المبارك في الأخير من «لوح الدنيا».
10.
المصدر السابق.
11.
الترجمة من «ميثاق حضرة بهاءالله»، ص 411.
12.
«بيت العدل الأعظم»، مجموعة نصوص صادرة عن دائرة الأبحاث التابعة لبيت العدل الأعظم، الصفحة 20.

شكر وتقدير

قد يكون البحث في حياة أيّ شخص بارز أمرًا صعبًا، خاصّة عندما يتوجّب على الباحث، في كثير من الأحيان، التمحيص في مصادر مجزّأة غير متّسقة على الدوام من أجل بناء سيرة بدقّة معقولة. فكان إعداد خمسين سيرة حياة موجزة عن أيادي أمر الله، من مجموعة مبعثرة من الأعمال الأدبية التاريخية، والوثائق، والأحداث الإخبارية، والرسائل، والتسجيلات، مهمّة تتّسم بالتحدّي بدرجة كبيرة، إلاّ أنّها ملهمة إلى حدّ كبير. ومع ذلك، عندما نأخذ في الاعتبار أنّه في العقود والقرون القادمة سيجري مزيد من التدقيق في سِير حياتهم وتوصف في أعمال أدبية، سيكون امتيازها فوق تصوّرنا، وعندها يمكن تقدير الطبيعة المتواضعة حقًّا لهذا العمل الحالي.

إنّ المشاكل التي جابهت أيادي أمر الله، والأمور المجهولة والمشكوك فيها التي واجهوها، والمصاعب التي عانوها، والشجاعة التي أظهروها في خدماتهم الخالصة لأمر الله الذي أحبّوه للغاية، كانت هائلة حقًّا بكافّة المعايير. ذلك لأنّهم كانوا حَمَلة رايتنا. فمن خلال إيمانهم الوطيد، ومثابرتهم العنيدة، وإخلاصهم المذهل، تغلّبوا على العديد من العقبات، وأطلقوا في العالم قوى محوّلة هائلة، وفي قيامهم بذلك، أضاؤوا طريقًا من العبودية سوف يلهم مستواها بالتأكيد أتباع حضرة بهاءالله في كلّ أرض ممّن يقرؤون قصصهم، ليسعوا جاهدين من أجل السير على خطاهم.

لمّا بدأ العمل في قصصهم بالظهور، تلقّيتُ المساعدة من العديد من المصادر القيّمة. ففي السنوات الأولى كان الذين قاموا بتشجيعي ومساعدتي ونصحي، بيت العدل الأعظم، أيادي أمر الله وليام سيرز، عضو بيت العدل الأعظم هوبر دنبار، الدكتور تشارلز بيردجس، ستيف بوسرمان، بيل دانينغ، الدكتورة بيتي فيشر، كين غريتون، كونشيتا آيواس، فلور كافلن، ماري كويبلر، الدكتور مايكل ليمون، شيرلي ماسياس، نانسي فيليبس، الدكتور مهدي سمندري، قمبيز فكتوري، كاي زنكي، ولويس ووكر في محفظة الآثار البهائية المركزية في ويلمت، وغيرهم من الأصدقاء الأعزّاء الذين أرسلوا إليّ ذكرياتهم الشخصية.

بعد ذلك كان هناك من تكرّم بالموافقة على قراءة أو مراجعة سبع وعشرين من السِير الذاتية ممّا ألهمني على استكمال المشروع: أيادي أمر الله أمة البهاء روحية خانم، علي أكبر فروتن والدكتور علي محمّد ورقاء؛ سميحة بناني، غلوريا فيضي، مادج فيذرستون، «جاويد دخت» خادم، أورسولا ميولشليغل، مارغريت سيرز، إيران فروتن مهاجر، أودري روبارتس ونينا روبارتس تينيون (الذين قدّموا الأعمال التاريخية والتسجيلات)، بريجيت فيرابي بيلز، هارتموت غروسمان، تشارلز آيواس، لويز بيكر ماتياس؛ عضو بيت العدل الأعظم علي نخجواني والعضو السابق ديفيد هوفمان؛ والدكتورة ويلما إيليس، الدكتورة أغنس غزنوي، نيل غولدن، كلير فريلاند ودونالد فيتزل. وقد قرأ بيت العدل الأعظم المقال الخاصّ بتشارلز مايسون ريمي وقدّم ملاحظات مفيدة لتنقيحه.

كما ينبغي لي التعبير عن عميق امتناني للمساعدة اللطيفة والاقتراحات المقدّمة تلقائيًا في المراحل اللاحقة من الكتاب من طرف عضوَي بيت العدل الأعظم هوشمند فتح أعظم وأديب طاهرزاده، ومن يونس براون، فيليب هاينزوورث (نيابة عن المحفل الروحاني المركزي للمملكة المتّحدة)، الدكتور موجان مؤمن، الدكتور سعيد جلالي، هيلدا رودريغز، الدكتور دوين تروكسل، هــ. كاي ووترمان، المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة، ودائرة السكرتاريا في المركز البهائي العالمي. كما أتوجّه بالشكر إلى ستيفن لامبدن، الذي قدّم لي سِيرًا ذاتية وجيزة كان قد كتبها لموسوعة إيرانيكا عن أيادي أمر الله ابن أبهر وابن الأصدق.

مودة خاصّة لزوجتي، الدكتورة نانسي لي هاربر، التي علّقت على العديد من الفصول والتي دفعتها محبّتها لدوروثي بيكر لكثير من التحضير لسيرة حياتها. وإلى ابنتنا ليلى، التي كانت مساهمتها في مراجعة النصّ لا تقدّر بثمن.

أصبحت الدكتورة ويندي مؤمن، محرّرتي ومعاونتي، صديقة مقرّبة لي وعزيزة عليّ من خلال هذا العمل، وكانت مصدر تشجيع ودعم في المراحل الأخيرة من الكتاب أضفت لمساتها الأخيرة الألق إلى المخطوطة.

أخيرًا أودّ أن أشكر فيوليت نخجواني لتوضيح المراحل الأخيرة لخطّ سير رحلة أمة البهاء. وكذلك إيريكا ليث والدكتور خاضع فناناپزير لمساعدتهما المتفانية، وجوديث أوبنهايمر، التي نتيجة إصرارها أصبح من الممكن إعادة نشر «أنوار الاصطبار». شكر خاصّ أيضًا إلى «جاويد دخت» خادم، هارتموت وأورسولا غروسمان، ومارغريت سيرز لتعاونهم الكريم.

بارون ديمز هاربر

البرتغال

كانون الثاني 2006

ملاحظة من الناشر

قد يتساءل بعض القرّاء ما إذا كان هذا العمل يشمل جميع أيادي أمر الله. لقد تطرّقت دار البحوث في المركز البهائي العالمي إلى هذه المسألة في رسالة إلى الدكتور موجان مؤمن في عام 1991:

تحتوي القائمة الموجودة في «العالم البهائي»، المجلّد 14، على أسماء أولئك المؤمنين الذين كان تعيينهم أيادي أمر الله مدعومًا بوضوح من خلال الأدلّة التي كانت متاحة في ذلك الوقت لتجميع القائمة. في حالة أيادي أمر الله الذين أسماهم حضرة شوقي أفندي، على سبيل المثال، رافق تعيينهم إعلان رسمي عمومي للعالم البهائي.

وأمّا فيما يتعلّق بإمكانية تعريف أفراد آخرين كأيادي أمر الله، فمن المثير للاهتمام ملاحظة أنّ حضرة شوقي أفندي في رسالة مؤرّخة 19 نيسان 1947، كتبت نيابة عن حضرته ردًا عن سؤال حول الإشارات إلى أيادي أمر الله الواردة في «كتاب القرن البديع»، الصفحتين 232، 387، صرّح قائلاً:


سيكون أيادي أمر الله في أيّام حضرة بهاءالله معروفين لدى الأحبّاء بالاسم عندما يُكتب تاريخ أمر الله في بلاد فارس والشرق الأدنى ويصبح متاحًا للعموم.

من وجهة نظر دار البحوث، فإنّ الشروط الواردة أعلاه التي وضعها وليّ أمر الله المحبوب، لم تتحقّق حتى الآن، وسيلزم إجراء بحوث إضافية لتحديد وتأكيد اسم أيّ شخص قد يكون حضرة بهاءالله خاطبه بلقب أيادي أمر الله. حتى يتمّ الانتهاء من هذه البحوث، من الأفضل استخدام تلك الأسماء المدرجة في «العالم البهائي» فقط.

بالنسبة لمرتبة المؤمنين الذين قد يكون حضرة شوقي أفندي قد خاطبهم كأيادي أمر الله ولكن لم تُعلَن أسماؤهم للأحبّاء رسميًا، فهذه أيضًا مسألة تتطلّب المزيد من البحث. في الوقت الحاضر، أوعز بيت العدل الأعظم… أنّ هذه الأسماء لا ينبغي إدراجها في قائمة أيادي أمر الله.

 

ملاحظة من المترجم

تشير الأعوام إلى التقويم الميلادي، ووردت أسماء الأشهر كما هو متّبع في بعض بلدان الشرق الأوسط العربية، وهي معرّبة عن الشهور السريانية. تبيّن الأسطر أدناه تلك الأشهر مقابل الأشهر المعرّبة عن الإنجليزية والمستعملة في الدول العربية الأخرى:

كانون الثاني/يناير، شباط/فبراير، آذار/مارس، نيسان/أبريل، أيّار/مايو، حزيران/يونيو، تمّوز/يوليو، آب/أغسطس، أيلول/سبتمبر، تشرين الأوّل/أكتوبر، تشرين الثاني/نوفمبر، كانون الأوّل/ديسمبر.

استخدمتُ بعض الحروف الفارسية للمساعدة في تلفّظ الأسماء الفارسية من قبيل: پ (لحرف P)؛ گ (لحرف G كما في Good)؛ چ (كما في Chair)؛ ژ (تلفظ مثل حرف J).

1 أيادي أمر الله الذين عيّنهم حضرة بهاءالله من حوالي 1887 – 1892

1842 – 1910 الملاّ علي أكبر الشهميرزادي، الحاج آخوند

Hand of the Cause of God Hají Mullá `Alí-Akbar, known as Hají Ákhúnd,(1842-1910)

ولد الملاّ علي أكبر في قرية شهميرزاد في محافظة خراسان عام 1842 تقريبًا. كان والده الملاّ عبّاس قد أصبح بابيًا في كربلاء، ولكنّ هزيمة البابيين في قلعة الشيخ الطبرسي في عام 1848 جعلته متشككًا في دينه الجديد فضعف تمسّكه به. وهكذا عرف علي أكبر شيئًا عن الدين البابي خلال فترة طفولته، ولكنّه لم يكن مؤمنًا.

بعد أن تزوّج علي أكبر ذهب إلى مشهد لمواصلة تعليمه الديني. وقد كتب حضرة عبدالبهاء بأنّه

دخل… المدارس منذ نعومة أظفاره ونشأ في أحضان العلوم والمعارف وحصل بجدّه واجتهاده على أعلى الدرجات وتضلّع في جميع قواعد القوم والمعارف الملّية والفنون العقلية والعلوم الفقهية وبرع في كلّ ذلك، ثم اندمج في سلك الحكماء والعرفاء والشيخية فنبغ في كلّ ما كانوا عليه وكان من الإشرافيين، غير أنّه كان متعطّشًا للحقيقة ولسدّ رمقه الروحاني بغذاء من المائدة السماوية. ولم يُعِقْه ما لاقاه في هذا السبيل من عقبات كأداء، ولم يصرف ساعات حياته إلاّ في فائدة يستخرجها أو عائدة يستدرجها. ولم يفز بما يأمل فبقي متعطّشًا حيرانًا هائمًا على وجهه في بيداء الطلب حيث لم يجد بين الأحزاب نفحة الميل الشديد ولم يستشمّ منهم رائحة الانجذاب
والعشق الروحاني.(1)

وعندما كان في التاسعة عشر من عمره تقريبًا، وقعت تحت يده نسخة من «كتاب الإيقان» بطريق الصدفة. وبعد مناقشات مع الملاّ صادق المقدّس وغيره، آمن بالبابية في عام 1861.

وما إن اعتنق أمر الله حتى نحّى جانبًا كلّ حذر، وأخذ في تبليغ الدين الجديد في العلن وبكلّ حرّية. وقد ‘قام، بتوفيق من الله، بتبليغ عدد وفير من الأهلين’(2) وهداهم إلى حظيرة أمر الله، ممّا أثار حفيظة طلاّب الدين المتعصّبين الذين دفعوه إلى مغادرة مشهد. ولكنّه بعد عودته إلى قريته، أخذ في تبليغ أمر الله مرّة أخرى، الأمر الذي دفع أعداء الدين إلى شنّ هجماتهم الشرسة عليه، ممّا اضطرّه إلى ترك زوجته وطفله متوجّهًا إلى طهران. وبعد فترة من وصوله إليها سرعان ما عُرف عنه بأنّه بهائي ممّا أثار غضب رجال الدين ثانية على جهوده التبليغية.

وبتحريض من الحاج الملاّ علي الكني، أحد المجتهدين البارزين في طهران، زُجّ به في السجن عام 1868. ومن غير المعروف كم من الوقت بقي مسجونًا، ولكنّه أُطلق سراحه في النهاية بتدخّل ميرزا عيسى، الوزير لدى حاكم طهران.

في تلك الأثناء أرسل حضرة بهاءالله تعليمات إلى الحاج آخوند والسيّد جمال البروجردي لنقل رفات حضرة الباب من مكان مخبئه في ضريح إمام زاده معصوم. وبعد نقله بفترة وجيزة تمّ تعمير الضريح، ولولا هذا النقل لاكتُشف أمرُه بالتأكيد. لم يتمكّن الحاج آخوند والسيّد جمال من العثور على مكان آمن لإخفاء الرفات، فانطلقا به إلى چشمهٔ علي. وفي الطريق تصادف مرورهما بجوار مسجد «ما شاء الله»، الذي كان مهجورًا متهدّمًا، فقاما بوضع التابوت الذي يضم الرفات المقدّس خلف طوب داخل كوّة في الجدار. إلاّ أنّه في اليوم التالي وجدا أنّ المخبأ قد اكتُشف أمره، فنقلا التابوت إلى طهران، مسرعَين به خلسة عبر بوابات المدينة التي يخفرها الحرس. واستأجر الحاج آخوند غرفة في منزل أحد البهائيين، وهو ميرزا حسن الوزير، وأقام فيها مدّة خمسة عشر شهرًا خادمًا قيّمًا على رفات حضرة الباب؛ ومع ذلك، سرعان ما أصبح معروفًا أنّ الرفات موجود في منزل ميرزا حسن الوزير ممّا جعل البهائيين يتوافدون بأعداد كبيرة لتقديم فروض الاحترام والتبجيل. فكان هذا مدعاة لجلب انتباه السلطات إلى مكان وجود رفات حضرة الباب؛ لذلك كتب الحاج آخوند إلى حضرة بهاءالله يسأله ماذا يفعل. فكان ردّ حضرته أن أرسل الحاج شاه محمّد المنشادي لنقل الرفات إلى مكان آخر.

بعد ذلك، عاش الحاج آخوند في منازل مختلفة تعود للبهائيين في طهران وسرعان ما أصبح شخصية بارزة في جامعة الأحبّاء، وغدا واحدًا من القنوات الرئيسة التي أجرى البهائيون من خلالها اتّصالاتهم مع حضرة بهاءالله وتلقّوا ردوده. على مرّ السنين تمكّن الحاج آخوند من إرجاع والده إلى حظيرة أمر الله، فضلاً عن دوره في إيمان شقيقيه وأربع شقيقات له بالدين الجديد.

إلى جانب ذلك، أصبح الحاج آخوند معروفًا تمامًا لدى السلطات وهدفًا للاضطهاد. وبناء عليه اعتُقل عدّة مرّات وسجن في خمس أو ستّ مناسبات على أقلّ تقدير.(3) وقد أمضى في مجموعها حوالي سبع سنوات ‘مكبّلاً بالسلاسل والأغلال في ظلمات سجون إيران الكئيبة.’(4) كتب حضرة عبدالبهاء أنّه كلّما سمع الحاج آخوند عن فورة اضطهاد ضدّ البهائيين، ‘لبس عمامته وتردّى بعباءته واستعدّ لمجيء الشرطة ليعتقلوه’(5) وقد أوضح الحاج ذات مرّة أنّ على المرء أن يستعدّ لتنفيذ إرادة الله لا الهروب منها.

في حدود عام 1870 توجّه الحاج آخوند إلى عكّاء للتشرّف بمقابلة حضرة بهاءالله، وأثناء فترة حجّه توفّيت زوجته. بعد عودته إلى طهران تزوّج من فاطمة بگم وهي سليلة أحد ملوك الصفويين. في وقت زفافه، يقال بأنّه كان يعيش في «غرفة خربة» في حين أنّ ‘ممتلكاته الدنيوية لم تزد على جاعد خروف وإبريق للشاي.’(6) بعد ثلاثة أيّام فقط من الزفاف سُجن الحاج آخوند بناء على أوامر من نائب السلطنة. ومع أنّه عانى الكثير في سجنه، حيث وُضع في زنزانة صغيرة مع سلسلة طوّقت رقبته وحاصر خشبي على قدميه، إلاّ أنّه ‘تحمّل… مشاقّ السجن بروح من السرور والاعتزاز والشكر لربّه.’(7)

عندما قام زملاؤه من أيادي أمر الله بنصحه ذات مرّة بالاختفاء عن أنظار أعدائه خلال شهر محرّم، عندما تثور لدى الكثير من الناس حميّة التعصّب بشكل خاصّ، أجابهم:

حقًّا إنّنا مأمورون في الألواح المقدّسة بالتزام الحكمة. لكنّ الحكمة هنا لا تعني التخوّف وعدم الاتّكال على الله. بل تعني إتقان العمل، والتعامل مع الناس بصدق وكرم وصبر، وتعني بذر بذور تعاليم الله في أراضي الأفئدة الطيّبة الطاهرة، ولا تعني الخوف أو الاختباء.(8)

في عام 1887 اعتقل الحاج آخوند مع عدد من البهائيين. وبعد خروجه من السجن سافر مرّة أخرى إلى عكّاء للتشرّف بمحضر حضرة بهاءالله للمرّة الثانية في عام 1888. وفي حدود هذا الوقت كان أن عيّنه حضرة بهاءالله أياديًا لأمر الله.

تلقّى الحاج آخوند العديد من ألواح حضرة بهاءالله، ألواح أمطر فيها ببركاته على هذه النفس المتوقّدة وأدان أفعال الظالمين الذين اضطهدوا الحاج آخوند. في أحد الألواح يصرّح حضرة بهاءالله أنّ الملأ الأعلى يبكون لمعاناة الحاج آخوند، ويحثّه على الابتهاج لأنّه تحمّل المشاقّ في سبيل الله. في لوح آخر يكتب حضرته أنّ على الحاج آخوند أن يشكر ربّه مرارًا وتكرارًا لأنّه تلقّى الكثير من الغذاء الروحاني والعديد من الفوائد الخالدة. في لوح آخر أيضًا يصرّح حضرة بهاءالله أنّ الله قد اختار الحاج آخوند لخدمة أمره، مشيرًا إلى أنّ أعظم خدمة هي العمل على اتّحاد النفوس وجعلهم يحبّون بعضهم بعضًا.

في نيسان 1891، في محاولة لقمع المطالب المتنامية على إصلاحات دستورية، أمر الشاه باعتقال عدد من الإصلاحيين البارزين. وبالرغم من عدم وجود أيّ علاقة لهما بالتحريض السياسي، فقد ألقي القبض على الحاج آخوند والحاج أمين ووُضعا في السجن بطهران وقزوين مدّة سنتين. وقد وصلت إلى حضرة عبدالبهاء صورة فوتوغرافية لأيادي أمر الله فوصفه كالتالي:

وبينما كان مصفّدًا هو وحضرة أمين الجليل، كانت تبدو عليه، ما يدهش الناظرين من أمارات الرضاء والتسليم وهو تحت السلاسل والأغلال وفي غاية الهدوء والسكون.(9)

وحقيقة الحال إنّ الصفات الروحانية للحاج آخوند قد أدهشت الشاه بالفعل. فعندما كان في السجن في طهران في عام 1882، أعرب الشاه عن رغبته في لقاء هذا السجين المبجّل الشهير، ولكنّه خشية أن يلتقي وجهًا لوجه مع الحاج آخوند، أخذ الشاه ينظر إليه من خلف نافذة. وإذ أُعجب بوقار الحاج آخوند ومشيته، أمر الشاه مصوّره الخاصّ بالتقاط صورة له جالسًا تحت السلاسل والأصفاد.

بينما كان الحاج آخوند والحاج أمين يقبعان في السجن أنزل حضرة بهاءالله «لوح الدنيا»، ذاكرًا اسميهما في مطلعه. وقد تضمّن هذا اللوح ذلك الدعاء المعروف لأيادي أمر الله.

خلال هذا السجن الأخير للحاج آخوند، حدث صعود حضرة بهاءالله، وعندما أطلق سراح أيادي أمر الله في عام 1894 غادر إلى عكّاء. هناك علم بتمرّد ميرزا محمّد علي ضدّ حضرة عبدالبهاء. التقى الحاج آخوند مع ميرزا محمّد علي في محاولة لإقناعه بتغيير موقفه ولكنّه لم يوفّق في ذلك. لدى عودته إلى طهران أخذ يؤكّد للأحبّاء على أهمّية العهد والميثاق ويحاول إحباط أنشطة الناقضين.

في عام 1897 أوعز حضرة عبدالبهاء إلى أيادي أمر الله الذين كانوا في ذلك الوقت يعيشون في طهران، ببدء المشاورات مع البهائيين البارزين في المدينة بشأن التنظيم المستقبلي لجامعة الأحبّاء. أسفرت هذه المشاورات عن تشكيل محفل روحاني على نطاق مركزي في عام 1899. تألّف المحفل من أيادي أمر الله الأربعة وتسعة رجال منتخبين من قبل ناخبين محدّدين عيّنهم أيادي أمر الله. وكانت هذه الهيئة مقدّمة لكلّ من المحفل الروحاني المحلّي في طهران والمحفل الروحاني المركزي في إيران.

توفّي الحاج آخوند في طهران في 4 آذار 1910 ودفن في ضريح الإمام زاده معصوم. وقد أشاد به حضرة عبدالبهاء في كلماته التالية:

استمرّ حضرته بعد صعود المقصود ثابتًا راسخًا للغاية على عهد وميثاق الربّ الودود مناديًا بالميثاق مروّجًا لعهد نيّر الآفاق، وقد هرع في أيّام اللقاء بكمال الاشتياق إلى الساحة المقدّسة وتشرّف بالمثول بين يدي الحضرة وكان مشمولاً بعناية الحقّ وملحوظًا بعين الرعاية والعواطف الرحمانية. ثم عاد إلى إيران مكرّسًا لحظات حياته لخدمة الأمر. وكان شديد المراس في إقامة الحجّة للمناوئين الظالمين رغم التهديد والتخويف من جانب الأعداء ولم يطأطئ لهم الرأس حيث لم يَقوَ أحد على إفحامه وإسكاته. كان يقول كلّ ما عنّ له لأنّه كان واثقًا من نفسه لأنّه كان من أيادي أمر الله، ثابتًا مستقيمًا أرسخ من الراسيات.(10)

هذا وقد سمّي الحاج آخوند من حواريي حضرة بهاءالله من قبل حضرة شوقي أفندي.

 

1.
حضرة عبدالبهاء، «تذكرة الوفاء»، الصفحة 22.
2.
المصدر السابق، الصفحة 23.
3.
Balyuzi, Eminent Bahá’ís, p. 266.
4.
طاهرزاده، «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 4، الصفحة 289.
5.
حضرة عبدالبهاء، «تذكرة الوفاء»، الصفحة 24.
6.
طاهرزاده، «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 4، الصفحة 289. (مع تعديل بسيط)
7.
المصدر السابق. (مع تعديل بسيط)
8.
المصدر السابق، الصفحة 314.
9.
حضرة عبدالبهاء، «تذكرة الوفاء»، الصفحة 24.
10.
المصدر السابق، الصفحتان 24–25.

حوالي 1850 – 1928 ميرزا علي محمّد(ابن الأصدق)

Hand of the Cause of God Mírzá `Ali-Muhammad, known as Ibn-i-Asdaq, (d. 1928)

ولد ميرزا علي محمّد في مشهد، وهو الابن الأصغر لأيادي أمر الله الملاّ صادق المقدّس الخراساني، الذي قاتل في قلعة الشيخ الطبرسي وقاسى التعذيب مع القدّوس في شيراز. وقد منح حضرة بهاءالله الملاّ صادق المقدّس لقب اسم الله الأصدق، كما أظهر الابن الكثير من صفات والده البارزة، فأصبح ميرزا علي محمّد يُعرف باسم «ابن الأصدق».

في عام 1861، عندما كان ابن الأصدق لا يزال صبيًّا صغيرًا، اصطحبه والده إلى بغداد ليحظى بمحضر حضرة بهاءالله. دامت الزيارة سنتين ورسّخت في نفس الصبيّ انطباعًا عميقًا. أثناء إقامتهما في بغداد أنزل حضرة بهاءالله دعاءً لابن الأصدق: «أسألك يا إلهي بأن تشربه من لبن عنايتك ليرفع أعلام نصرتك في صغره ويقيم في كبره على أمرك كما قام في صغره على حكمك…»(1)

لدى عودتهما إلى إيران اعتقل ابن الأصدق ووالده بناء على أوامر من حاكم خراسان. وقيّدا مع بابييْن آخريْن حيث اقتيدوا جميعًا إلى طهران. كانت النية تتّجه نحو إعدامهم، ولكنّ الحكومة أمرت بسجنهم في سياه چال. وهكذا بقوا فيه، مقيدين بالسلاسل معًا، مدّة ثمانية وعشرين شهرًا.

أصيب ابن الأصدق بالمرض أثناء سجنه، ولم يكن لأيّ طبيب أن يعالج بابيًا. في نهاية الأمر لجأ السجّان إلى طبيب يهودي يدعى حكيم مسيح وطلب منه معالجة الصبيّ. فاعتنى به الطبيب مدّة شهرين تقريبًا، وسرعان ما أصبح الطبيب بعدها مؤمنًا.

عندما أطلق سراح ابن الأصدق ووالده من سياه چال، عادا إلى مشهد. وعلى مرّ السنين غالبًا ما كان ابن الأصدق يرافق والده في رحلات تبليغية في جميع أنحاء إيران. تزوّج ابن الأصدق، وهو في ريعان شبابه، من ابنة شقيق الملاّ حسين البشروئي، أوّل مؤمن بحضرة الباب، لكنّها توفّيت ولم تنجب أطفالاً. كان زواجه الثاني من أميرة من القاجار، هي ابنة حفيد فتح علي شاه، عذرا خانم، ضياء الحاجيّة، وكما تدعوها عائلتها آغا جان. كانت آنذاك بهائية، وكانت متعلّمة وموهوبة وضليعة في الشعر والأدب الفارسي. رزق الزوجان بأربع بنات.

عندما كان في الثلاثين من عمره تقريبًا، أرسل ابن الأصدق رسالة إلى حضرة بهاءالله، ملتمسًا منحه مقام «فداء النفس التامّ»، أي الشهادة(2). في كانون الثاني 1880 أجابه حضرة بهاءالله من خلال كاتب وحيه، ميرزا آقا جان:

لقد سألتَ من الحقّ المنيع جلّ كبرياؤه وعظم إجلاله أن يجعل جنابك فائزًا بمقام حيث تتخلّى في سبيل حبّه عن حياتك وروحك واسمك ورسمك ووجودك وفنائك وسُمعتك وعزّتك كلّها أجمعين. لقد تمّ عرض هذه المراتب بكاملها في ساحة الأقدس الأمنع الأعز الأبهى جلّت عظمته

هذا ما نطق به لسان الرحمن في ملكوت البيان إن شاء الله سيُشاهَد بكمال التقديس والتنزيه وبما ينبغي ليوم الله ويفوز بمقام الشهادة الكبرى. في هذا اليوم خدمة الأمر من أعظم الأعمال، يجب على النفوس المطمئنّة الاشتغال بتبليغ أمر الله لتتضوّع نفحات القميص الرحماني في جميع الجهات. هذه الشهادة ليست مقتصرة على الذبح وإنفاق الدم، فيمكن أن يُسجّل الانسان من الشهداء في كتاب الأسماء وهو يتمتّع بنعمة الحياة… طوبى لك بما أردت إنفاق مالك ومنك وعندك في سبيلي.(3)

بعد ذلك بسنتين، في عام 1882، كتب ابن الأصدق مجدّدًا إلى حضرة بهاءالله سائلاً الشهادة. وفي هذه المرّة خاطبه حضرة بهاءالله بـ «الشهيد ابن الشهيد» مجيبًا بقوله:

إنّا كتبنا له هذا المقام الأعلى وهذا الذكر الأسنى طوبى بما فاز به قبل ظهوره وقبلنا منه ما أراد في الله الواحد الفرد العليم الخبير.(4) 

عند تسلّمه هذا الرد كرّس ابن الأصدق بقيّة حياته لتبليغ الدين البهائي والعمل على تشجيع البهائيين. شملت سفراته مناطق شاسعة في إيران زار خلالها الجامعات البهائية في طول البلاد وعرضها، وقد مكّنته صلات زوجته بالأسرة المالكة من تبليغ الدين البهائي بين أفراد طبقة النبلاء الإيرانيين فضلاً عن الأسرة المالكة. وقد أشار ابن الأصدق مرّات عديدة إلى ‘صيد الأسد بدلاً من الثعلب.’(5) انتقل مع زوجته من مشهد إلى طهران، حيث توفّر لهما منزل في واحد من أفضل أحياء المدينة.

شجّع حضرة بهاءالله ابن الأصدق في رحلاته على ترويج «الكلمة» [الإلهية] وأنزل تكريمًا له لوحًا يضمّ هذه الآية المعروفة: «إنّ نفس الحركة لوجه الله في العالم كانت مؤثّرة ولا تزال تكون كذلك.»(6)

كان في لوح أنزله حضرة بهاءالله في نيسان عام 1887، من خلال كاتب وحيه، تكريمًا لابن الأصدق، أن ورد مصطلح أيادي أمر الله لأوّل مرّة.(7) يدعو حضرته ميرزا آقا جان أن يلتمس «من الحقّ الباقي أن يوفّق الأولياء الذين هم أيادي الأمر والمزيّنين برداء التبليغ والقائمين على إعلاء كلمة الله.»(8) 

في لوح آخر كتب إلى ابن الأصدق، أنزل حضرة بهاءالله الدعاء التالي، بعد أن بلغه أنّ البهائيين في طهران قد رتّبوا لعقد مشرق أذكار: «طوبى لمحلّ ولبيت ولمقام ولمدينة ولقلب ولجبل ولكهف ولغار ولأودية ولبرّ ولبحر ولجزيرة ولدسكرة ارتفع فيها ذكر الله وثناؤه

بعد صعود حضرة بهاءالله في عام 1892 شجّع حضرة عبدالبهاء ابن الأصدق على مواصلة تبليغ الشخصيّات البارزة. فبالإضافة إلى تبليغهم في طهران، وسّع نطاق أسفاره حيث قام بزيارة الهند وبورما وتركستان الروسية، ساعيًا دومًا إلى لقاء الوجهاء في كلّ مدينة. في مدينة مرو ابتدأ عمله المبدئي من أجل بناء مشرق أذكار، كما أسّس تكيّة ومدرسة إعدادية. أمّا في موطنه فقد بادر بإنشاء صفوف لتدريب المبلّغات البهائيات.

ابتليت السنوات الأولى من ولاية حضرة عبدالبهاء بمكائد ناقضي العهد والميثاق. فدعا حضرته أيادي أمر الله للتصدّي لإنشطتهم. وهكذا طاف ابن الأصدق وأيادي الأمر الآخرون في أنحاء إيران، موضّحين للبهائيين طبيعة العهد والميثاق وقوّته وعملوا على ترسيخهم فيه. في عام 1899 دعا حضرة عبدالبهاء أيضًا أيادي أمر الله لتشكيل محفل روحاني منتخَب في طهران لإدارة أمر الله. من هذه الهيئة ظهر إلى الوجود المحفل الروحاني المركزي في إيران.

في عام 1919 طلب حضرة عبدالبهاء من ابن الأصدق وأحمد يزداني شخصيًا تقديم لوح مبارك إلى «المنظّمة المركزية للسلام الدائم» في لاهاي. في العام نفسه كتب ابن الأصدق والأيادي الآخرون تفنيدًا لبعض التصريحات التي أدلى بها البروفسور إ. غ. براون حول الدين البهائي. كما سلّم ابن الأصدق إلى الشاه «الرسالة السياسية» التي كتبها حضرة عبدالبهاء خلال فترة حياة حضرة بهاءالله.

امتدّت حياة ابن الأصدق إلى عدّة سنوات من القرن العشرين، وبالتالي فإنّه لم يخدم حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء فحسب بل وحضرة شوقي أفندي أيضًا. لقد عاش إلى ما بعد زملائه الأيادي، وتوفّي في طهران في عام 1928. وقد أسماه حضرة شوقي أفندي من حواريي حضرة بهاءالله.

 

1.
انظر طاهرزاده، «ظهور حضرة بهاءالله» المجلّد 4، الصفحة 293.
مقتبس من كتاب «پيك راستان»، لوحيد رأفتي، الصفحة 45.
2.
طاهرزاده، «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 4، الصفحة 294.
3.
«مؤسسه ايادى امر الله»، الصفحة 468.
4.
المصدر السابق، الصفحتان 468–469.
5.
Balyuzi, Eminent Bahá’ís, p. 174.
6.
بهاءالله، مقتطف اقتبسه حضرة شوقي أفندي في «ظهور العدل الإلهي، الترجمة من «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 4، الصفحة 295.
7.
استخدم حضرة بهاءالله أحيانًا مصطلح «أيادي» في ألواحه السابقة (على سبيل المثال، «سورة الهيكل») ولكن لم يتمّ تسمية شخص معيّن بذلك اللقب.
8.
«مؤسسه ايادى امر الله»، الصفحة 470.
9.
بهاءالله، مقتطف اقتبسه حضرة شوقي أفندي في «ظهور العدل الإلهي، الترجمة من «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 4، الصفحة 308.

منتصف القرن التاسع عشر – 1917 ميرزا محمّد تقي(ابن أبهر)

Hand of the Cause of God Hájí Mírzá Muhammad-Taqí, known as Ibn-i-Abhar (d. 1917)

هناك بيان لحضرة بهاءالله في أحد ألواحه ينصّ على أنّ ابن أبهر ‘خُلق لذكر الله وثنائه وتبليغ أمره والقيام على خدمته.’(1) ولد ميرزا محمّد تقي في أبهر، وهي قرية بين قزوين وزنجان في إيران، لميرزا ابراهيم أبهري، وهو رجل دين آمن بحضرة الباب في الأيّام الأولى لدعوته، ثم انجذب إلى الدين البهائي بعد إعلان حضرة بهاءالله دعوته. في الوقت الذي كان العديد من البابيين مشوّشي الفكر بسبب ادعاءات ميرزا يحيى، نُصح ميرزا محمّد تقي من قبل والده بدراسة كتاب «البيان» حتى يُهدّئ من قلقه واضطرابه. عمل ميرزا محمّد تقي بنصيحة والده وأصبح من أتباع حضرة بهاءالله في عام 1868. خاطب حضرة بهاءالله ميرزا محمّد تقي بابن أبهر.

في عام 1874 توفّي والده مسمومًا في قزوين، وبعد ذلك مرّ ابن أبهر بأوقات عصيبة للغاية حيث صودرت ممتلكاته وعانى العديد من المكائد التي حيكت ضدّه. بعد سنتين على وفاة والده كتب إلى حضرة بهاءالله يسأل عمّا إذا كان الاستشهاد في سبيل الله هو الأكثر جدارة بالثناء والتمجيد أم تبليغ أمره. فأشار جمال القِدم إلى أنّ الثاني هو الأفضل، وحثّ ابن أبهر على تبليغ أمر الله بالحكمة. بعد سنوات لفت حضرة عبدالبهاء أيضًا انتباه ابن أبهر إلى أهمّية الحكمة في التبليغ، ناصحًا بألاّ يكون ولاء شخصيّات بارزة معيّنة لأمر الله معروفًا للجميع. كان ابن أبهر قد نجح في جذب العديد من المثقّفين المرموقين وذوي النفوذ إلى أمر الله.

بعد وفاة والده، انتقل ابن أبهر إلى زنجان، حيث تمكّن من هداية العديد من البابيين للإيمان بأمر حضرة بهاءالله. لا بدّ أنّ تنشيطه لجامعة البابيين في زنجان قد أثار حسد رجال الدين الذين تسبّبوا في سجنه مدّة (14) شهرًا و (15) يومًا. وعلى الرغم من المصاعب الرهيبة التي عاناها فقد كان صابرًا شاكرًا طوال محنته وابتلائه.

في حدود عام 1886 سافر ابن أبهر إلى الأرض الأقدس وتشرّف بمحضر حضرة بهاءالله. وقد عُيّن أياديًا لأمر الله في العام نفسه. ثم وجّهه المظهر الكلّي الإلهي في لوح خاصّ أن «مرّ على البلاد كنسائم الفجر ليجد منك كلّ ذي إقبال عرف ربّك العزيز الفيّاض.»(2) فاتّبع ابن أبهر هذه الوصيّة بقيّة حياته، لتساهم أنشطته التبليغية إلى حدّ كبير في توسيع الجامعة البهائية واستحكامها في إيران.

في عام 1891 اتُهم ابن أبهر ظلمًا بممارسة أنشطة مناهضة للحكومة ممّا أدّى إلى سجنه في زنزانة بطهران. دام سجنه نحو أربع سنوات تعرّض فيها للكثير من سوء المعاملة. حمل عنقه السلاسل التي طوّقت عنق حضرة بهاءالله ذات مرّة. وكان الطعام الذي يقدّم له غير كاف ولا بدّ له من إضافة مؤونة تأتي بها امرأتان بهائيتان. لقد قاسى ألم الضرب على أخمص قدميه بقضبان في مناسبات عدّة. ولمّا أبدى الأحبّاء حزنهم الشديد على هذه العقوبة، كتب إليهم ابن أبهر:

أيليق بمن هو مليك الأمم ومالك العالم أن يقبل البلايا عسى أن تتحرّر الإنسانية من شؤون التعصّبات الجاهلية وقيود محبّة الدنيا الفانية وتتجرّد من المشتهيات الحيوانية النفسانية، بينما لا يبتلى هذا العبد التافه من عباده بالبلايا والمحن المماثلة؟

قسمًا بالله…إنّه في حين الذي كانت رجلاي من الركبتين حتى القدمين في ألم شديد، كانت روحي وحقيقتي على اتّصال بهيج سارّ مع محبوبي، وذاتي مشغول في حوار مع أحبّاء الله… لم أهتمّ أبدًا بما لقيت من آلام وأوجاع. فالألم والتورّم البدني يزولان في ظرف أيّام قليلة، ولا يبقى غير ذكرها في هذه الحياة، بينما بركاتها ستدوم في عوالم الروح إلى الأبد.(3)

كانت هذه مجرّد واحدة من رسائل كتبها ابن أبهر وهو نزيل السجن، وكثير منها مكتوب بأحرف صغيرة جدًّا على أوراق تغليف السكّر والشاي والشموع.

وقع صعود حضرة بهاءالله بينما كان ابن أبهر في السجن. عندما أطلق سراحه في عام 1895، قام بأوّل زيارة حجّ له من بين إحدى عشرة زيارة حجّ إلى الأرض الأقدس، تشرّف فيها بمحضر حضرة عبدالبهاء.

قام ابن أبهر بأسفار عديدة خلال فترة ولاية حضرة عبدالبهاء إلى أن وافته المنيّة؛ فزار عشق آباد وإيران والقوقاز والهند، وزار العديد من الجامعات البهائية، وكان سببًا في إيمان الكثيرين بأمر الله، كما والتقى بالعديد من الشخصيّات البارزة. في عام 1897 شارك في اجتماع أيادي أمر الله الذي أدّى إلى تشكيل المحفل الروحاني الأساسي في طهران، الهيئة الجنينية للمحفل الروحاني المركزي في إيران. رافقه في زيارته إلى الهند في عام 1907 اثنان من الأحبّاء الأمريكيين، هوبر هاريس وهارلان أوبر.

انفطر قلب ابن أبهر بصعود حضرة بهاءالله، وفي حين كان لا يزال قابعًا في السجن نذر أن يكرّس بقيّة حياته لخدمة أمر الله. عندما أطلق سراحه استمرّ متمسّكًا في الوفاء بنذره لدرجة اعتقد أنّ الزواج سيكون بمثابة نقض له. حتى عندما اقترح المولى أنّ الوقت قد حان لزواجه، رفض ابن أبهر فكرة الزواج. في نهاية المطاف أخبره حضرة عبدالبهاء أن يسافر إلى طهران ويتزّوج من منيرة خانم ابنة أيادي أمر الله الملاّ علي أكبر. عندما أبدى اعتراضه مرّة أخرى قال حضرة عبدالبهاء، ‘يا صاحبي الرجل الطيّب! أنا مركز العهد والميثاق، وعندما أخبرك أنّ بزواجك هذا لن تنقض نذرك، فإنّك لن تنقضه!’(4) بعد فترة قصيرة تزوّج ابن أبهر من منيرة خانم.

عمل الزوجان بجدّ في تعزيز تعليم المرأة في إيران، وفي عام 1909 خدما معًا في لجنة خاصّة من أجل تحرير المرأة. ساعد ابن أبهر في تأسيس مدرسة «ترْبِيَتْ» للبنين في طهران، في حين لعبت زوجته فيما بعد دورًا كبيرًا في تأسيس مدرسة البنات.

ذكر حضرة عبدالبهاء أيادي أمر الله ابن أبهر، الشجاع المخلص، في لوح أنزل بعد أن شاهد المولى صورة له مقيّدًا بالأصفاد:

‘… كنت أتأمّل في بعض الصور الفوتوغرافية للأحبّاء وإذا بي أرى صورتك صدفة. وبينما كنت أمعن النظر بشخصك وأنت واقف بكمال السكون والوقار وقد ربطت عنقك بالسلاسل، بلغ بي التأثّر بحيث تحوّل كلّ حزني سرورًا وإشراقًا وحمدت الله لأنّ نيّر العالم الأعظم قد ربّى هؤلاء العباد الذين، حتى وهم مكبّلون بالسلاسل وتحت السيف، يتلألؤون بمنتهى الانشراح والنشوة.’(5)

أنعم حضرة شوقي أفندي على ابن أبهر بلقب حواري حضرة بهاءالله.

1.
طاهرزاده، «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 4، الصفحة 298.
2.
المصدر السابق، الصفحة 297.
3.
المصدر السابق، الصفحة 300.
4.
المصدر السابق، الصفحة 303.
5.
المصدر السابق، الصفحة 298.

1848 – 1919 الحاج ميرزا حسن أديب

Hand of the Cause of God Hají Mírzá Hasan-i-Adíb (1848-1919)

ولد الحاج ميرزا حسن أديب في طالَقان بإيران في أيلول عام 1848. كان رجلاً مميّزًا ومتعلّمًا واحتلّ مرتبة عالية في الأوساط الأدبية، فضلاً عن الدينية. لقد مُنح لقب «أديب العلماء» لإنجازاته الأدبية، التي تضمّنت الشعر وتأليف الكتب وكتابة المقالات عن أعمال من قبيل «نامه دانشوران» التي نُشرت تحت أسماء أمراء القاجار الذين وظّفوه. كان لفترة من الزمن إمام الجمعة ومدرّسًا في «دار الفنون»، وهي مدرسة تأسّست على المبادئ التربوية الغربية.

علم ميرزا حسن أديب بالدين البهائي من خلال صديقه المقرّب الشيخ هادي النجم آبادي، ووجد أنّ آراءه كانت تشبه إلى حد كبير آراء البهائيين. فتحدّث مطوّلاً مع النبيل الأكبر، وفي نهاية الأمر أدرك مقام حضرة بهاءالله واعترف به وأصبح بهائيًا في عام 1889. بعد ذلك بوقت قصير عيّنه حضرة بهاءالله أياديًا لأمر الله. وعلى خلاف غيره من الأيادي الذين عيّنهم حضرة بهاءالله، لم يلتقِ ميرزا حسن بحضرته مطلقًا.

وفور اعتناقه الدين البهائي قام ميرزا حسن أديب على نشر أمر الله بإيمان قوي. فكان مبلّغًا بهائيًا عظيمًا ومصدر قوّة للمؤمنين. وما إن انتشر خبر ولائه الجديد صُرف من عمله مع القاجار. فحوّل مواهبه الكبيرة إلى كتابة أشعار عن ظهور حضرة بهاءالله وتأليف كتب عن تاريخ أمر الله وبراهين أحقّيّته.

شارك ميرزا حسن أديب في اجتماعات أيادي أمر الله في عام 1897 التي أدّت إلى تأسيس المحفل الروحاني الأساسي لطهران. ونظرًا لاهتمامه الكبير بتعليم الشباب البهائي، فقد لعب دورًا هامًّا في تأسيس مدارس «تربيت» في طهران وفي إدارتها.

في عام 1903 ذهب ميرزا حسن أديب إلى إصفهان بتوجيه من حضرة عبدالبهاء. في هذا الوقت تحديدًا كان مجتهد إصفهان، الشيخ محمّد تقي، ابن الذئب، يثير المتاعب للبهائيين في المدينة، ونتيجة لمكائده نزل الغوغاء إلى الشوارع، وأخذوا في مضايقة البهائيين، فنهبوا منازلهم بل وقتلوا بعضهم أيضًا. أدّى وصول ميرزا حسن أديب إلى تفاقم الوضع المتفجّر بالفعل حيث عانى هو الكثير أيضًا. وقد سُجن لفترة وجيزة ولكنّه في النهاية تمكّن من مغادرة المدينة والسفر إلى آباده وشيراز.

من شيراز توجّه ميرزا حسن أديب إلى بومباي وانتهى به المطاف بالأرض الأقدس. فكان حجّه في محضر حضرة عبدالبهاء مصدر إلهام له لمواصلة خدماته الجديرة بالتقدير لأمر الله. بناء على طلب المولى سافر إلى الهند وبورما برفقة الأمريكي البهائي سيدني سبريغ. وعاد أخيرًا إلى إيران، حيث وافته المنيّة يوم 2 أيلول 1919.

خلال حياته تسلّم العديد من الألواح من كلّ من المظهر الكلّي الإلهي وابنه الجليل. وقد عبّر حضرة عبدالبهاء عن رقّة محبّته لأيادي أمر الله هذا فكتب:

هو الله

يا منادي الميثاق الإلهي، قد قرأت ما نظمتَه من شعر، كلّ بيت منه كان درّة درّيّة وفي منتهى اللطافة والتلألؤ واللمعان. أمّا صراخك ونواحك من الهجران فقد أثّر فيّ على نحوٍ لا يمكن تصوّره، فحركّ مني الجنانَ والوجدان وملأني بالحيرة، ولكن ما باليدِ فعله؟ فحضورك هنا في هذه الأيّام محذور. إنّ أنينكَ وحنينكَ له بالغ الأثر في القلوب، ولكنّ وجودك في تلك البلاد أمر في منتهى الضرورة في هذه الأيّام. كن متأكّدًا بأنّه حالما تسمح الظروف فسوف ندعوكَ للحضور دون لحظة تأخير، فأنا في منتهى الشوق للقائك. أملي أن يتيسّرَ ذلك قريبًا، وعليك التحيّة والثناء.(1) ع ع

هذا، وقد سمّى حضرة شوقي أفندي ميرزا حسن أديب بين حواريي حضرة بهاءالله.

 

1.
كتاب «تذكره شعراء قرن اول بهائى» در شرح احوال و آثار جناب آقا ميرزا حسن اديب...، الصفحة 49.

2 أيادي أمر الله الذين ذكرهم حضرة عبدالبهاء 1892 – 1921

حوالي 1814 – 1897 الملاّ محمّد رضا من «محمّدآباد»

كان الملاّ محمّد رضا (الملاّ رضا)، من «محمّدآباد» في يزد، مبلّغًا لأمر الله لا يعرف الخوف وسريع البديهة في حديثه، وكلّما سنحت الفرصة، كان يعلن عن أمر الله بحماس جارف كثيرًا ما أفضى إلى إثارة غضب النفوس المتعصّبة بين مستمعيه وإلحاق الكثير من المعاناة بنفسه ومن يرافقه من الأحبّاء. حتى عندما لم تكن هناك فرصة للتبليغ، كان يتحدّث جهارًا دون تردّد أو وجل لدرجة تثير مخاوف أولئك الأحبّاء الذين يشعرون بالقلق على سلامته. وأكثر ما يعرف عنه دوره في المناظرات التي كانت تدور بين قادة البهائيين من جهة والمسؤولين القاجار من جهة أخرى عندما كان مسجونًا في طهران في عامَيْ 1882 – 1883.

كان الملاّ رضا رجلاً لا يضارعه أحد في الكلام، وفي معرفته بالقرآن الكريم والشريعة الإسلامية والأحاديث، وقد تلقّى علومه ليصبح رجل دين. عُرف بالتقوى والبلاغة والشجاعة. كان ينتمي لعائلة مشهورة. طويل القامة، مهيب المشية، شديد الاصطبار. أصبح بابيًا في السنوات الأولى للدعوة، وبهائيًا بعد قراءة «القصيدة الورقائية»، التي قال عنها ‘أرى موعود البيان متربّعًا على عرش هذه الكلمات.’(1)

عُرف عن الملاّ رضا بأنّه رجل ذوّاق، عاش حياة طيّبة وأكل طعامًا طيّبًا، كما كان سلوكه وأناقته موضع إعجاب الآخرين. قيل إنّه كان يختار خروفًا رضيعًا ويُسمّنه بإطعامه حلويّات تحتوي على المكسّرات والنكهات اللذيذة، وفي الوقت المناسب يدعو الضيوف للمشاركة في وليمته.

‘كان رجلاً واسع الرؤية محبًّا للابتكار والمغامرة’(2) ‘كان الملاّ رضا رجلاً غريب الأطوار وذا نزعة غريبة في التفكير بمقاييسنا.’(3) كما كان يؤمن بأنّ الوحدة العضوية لكافّة المواد سوف تتأسّس في الدورة البهائية، وقال ذات مرّة ‘إذا ما اهتديت إلى الكيمياء التحويلية فسأبني بلدًا أقيم فيه مشرق أذكار من البلّور تتوسّطه قاعة قائمة على خمسة وتسعين عمودًا، وكلّ بوّابة من بوّاباته البالغة قياساتها 19×9 أمتار ستصنع من الذهب الخالص!’(4) في وقت لاحق عثر على بحيرة في ضواحي كرمان حيث شرع في تنفيذ حلمه. فقام وحده بجمع نحو خمسمائة قطعة من أدوات الحفر وشرع في العمل. سار العمل ببطء بسبب تقدّمه في السنّ. ثم ألقي القبض عليه وأُخذ بعيدًا، واستولى الناس من القرى المجاورة على أدواته.

في إحدى المناسبات اعتقل الملاّ رضا في يزد على أثر الأنشطة البهائية. أمر الحاكم أن يعاقب علنًا بالفلقة على سبع من تقاطعات الطرق في يوم واحد. عند كلّ مفترق كان يخلع عباءته وعمامته وجواربه بهدوء ويضعها بجانبه فوق منديل. ثم يستلقي بعد ذلك على الأرض ويغطّي وجهه بحاشية ثوبه ويطلب البدء بإنزال العقوبة. خلال هذه الضربات القاسية لم ينطق ولو مرّة بكلمة أو يومئ بإشارة تدلّ أنّه يعاني من أيّ ألم. ذات مرّة، تحيّر مشاهدوه من هدوئه غير المعتاد، فتصوّروا أنّه انهار. لكنّهم عندما كشفوا عن وجهه وجدوه ينظّف أسنانه بهدوء.

يستذكر الحاج ميرزا حيدر علي أنّ الملاّ رضا اعتاد سرد قصص خيالية لأولئك المجتمعين في المسجد. في إحدى المرّات أعلن أنّ ظهور القائم الموعود، الإمام المهدي، سيحدث في عام 1300هـ (1883م). كان هناك في تلك الأيّام بهائي متميّز اسمه السيّد مهدي يكنّ له حاكم طهران احترامًا كبيرًا. ذات مرّة تناول هذا الحاكم حذاء السيّد ووضعه قرب قدميه عندما كان الأخير يهمّ بمغادرة غرفة الحاكم. في وقت لاحق، عندما وصل السيّد إلى العاصمة، ذهب المؤمنون للترحيب به. فقال لهم الحاج ميرزا حيدر علي، ‘اذهبوا إلى الملاّ رضا وأخبروه أنّ موعوده المهدي موجود هنا الآن.’ لفترة طويلة بعد ذلك كانت هذه مزحة يتناقلها البهائيون.(5)

في الفترة ما بين 1882–1883 جرى اعتقال العديد من البهائيين في مختلف أنحاء إيران، واحتُجز الملاّ رضا في طهران واستُدعي للمثول أمام محكمة كامران ميرزا، ابن ناصر الدين شاه. وإذ واجه جمعًا من الأمراء المرموقين والمسؤولين البارزين في الدولة، أجاب الملاّ دون خوف أو وجل عن كلّ سؤال وموضوع أُثير. خلال هذه الاستجوابات، وجّه الأمير فرهاد ميرزا، وهو عمّ الشاه، كلامه للملاّ رضا قائلاً بأنّه لا ينبغي أن يتجاهل بعض التقاليد الراسخة والموثوق بها، بما في ذلك مكان وجود جابلقا وجابلصا، وهما مدينتان من المفترض أن تكونا مقرّ إقامة الإمام الغائب. فردّ الملاّ رضا بحسم، ‘يا صاحب السموّ! أنت نفسك قد كتبت كتابًا في الجغرافيا. إذا كان مثل هذه المدينة موجودًا، وهي المدينة التي يدّعون أنّ فيها سبعين ألف بوّابة، ووفقًا لآخرين مائة ألف، فمن فضلك قل لي في أيّ جزء من العالم أوردتها في كتاب الجغرافيا الخاصّ بك؛ وبيّن لي أين أشرت إليها ووصفتها في كتابك؛ عند ذلك سأقبل كلّ ما تسوقونه من حجج.’ فغضب الأمير وطالب الملاّ رضا بوقف جداله. ثم ادّعى الأمير أنّ حضرة بهاءالله كان قد احتسى الخمر معه، وبالتالي لا يستحقّ من الملاّ محبّته. ودونما أيّ اضطراب أجاب الملاّ رضا، ‘إنّ سموّكم… يدرك جيّدًا الحكم الإسلامي الذي يقضي بأنّ شهادة الآثم بشأن آثم آخر لا يمكن قبولها. فأنت نفسك قد اعترفت هنا بشرب الخمر، لذا فإنّ شهادتك بشأن حضرة بهاءالله غير مقبولة.’ أسفر هذا الردّ الرائع، وهو نصر وفقًا للقواعد الإسلامية في المناظرة، عن خروج الأمير المهزوم من الغرفة وهو في نوبة من الغضب.

كان الغرض من استجواب الملاّ رضا والبهائيين الآخرين قمع المؤمنين وإهانتهم. يروي ميرزا أبو الفضل ما يلي:

ولإجراء مقاصدهم [قادة البلاد] الفاسدة المستحيلة فقد تمسّكوا بكلّ أنواع الوسائل والدسائس… ومرارًا وتكرارًا عُقدت مجالس مناظرات في مقرّ الحكومة، وطُرحت كلّ أنواع الحجج والاستدلال. من الواضح والمعهود، بالنسبة لهم، أن يبدؤوا المعارضة باللجوء إلى ما يعتبرونه ضروريّات دينية ومذهبية. وعندما يسمعون الإجابات الدامغة ويجدون أنفسهم أذلّاء وعاجزين عن إقامة أيّ دليل، فإنّهم يتحوّلون إلى طلب المعجزات وإظهار خوارق العادات. وبعد أن يُغلبوا ويركعوا على ركبهم مهزومين في هذا المضمار أيضًا، فإنّهم يلجؤون إلى السلاح الأخير للمعتدي سيّئ النيّة، ألا وهو قتل المظلومين وحبس البائسين.(7)

ذات ليلة تلقّى الملاّ رضا دعوة من الأمير كامران ميرزا لتناول طعام العشاء معه، وفي نهايته سأل الأمير ضيفه عمّا إذا كان يعتبر بهاءالله إمامًا أو نبيًّا. أجاب الملاّ إنّ بهاءالله هو مظهر إلهي ينبغي على الجميع الاعتراف به، وخلاف ذلك يكون بمثابة إنكار للأنبياء الذين جاؤوا قبله.

في اليوم التالي جرى استجواب السجناء البهائيين مرّة أخرى. سأل الأمير الحاج آخوند ما اذا كان يعتبر الملاّ رضا صادقًا.

فجاء الردّ، ‘إنّه لا يكذب أبدًا’

عندئذ اتّهم الأمير البهائيين الآخرين بالكذب. ‘لقد كنت تخبرني منذ البداية أنّك ترى في بهاءالله رجعة الحسين، في حين أنّ الملاّ محمّد رضا يقول لي أنّ نور غيب الربوبية مشرق في شخص بهاءالله.’

أجاب الحاج آخوند مندهشًا، ‘يا صاحب السموّ! إنّ الملاّ محمّد رضا هو صوفي البابيين، وشديد التطرّف.’ فقاطعه الملاّ رضا قائلاً: ‘يا صاحب السموّ! اصغ إليّ. إنّ ما قلته هو الحقيقة. إنّ هؤلاء البهائيين هم أهل السماور: عندما يغلي السماور ويجلسون في مكان ما بالأمن والأمان، فإنّهم جميعًا يقولون ما قلت لك بالضبط. هذا هو اعتقاد الجميع؛ ولكن الآن، في وقت الامتحان، فإنّهم يسدلون ستارًا على هذا الاعتقاد ويتّبعون ما يمليه الحذر.’(8) فلم يبق للأمير أيّ شيء آخر يقوله.

بعد ثلاث عشرة سنة على سجنه الأوّل، وقع الملاّ رضا في محرقة الاضطهاد التي تعرّضت لها جامعة البهائيين في أعقاب اغتيال ناصر الدين شاه في عام 1896. في ذلك الوقت، كان الملاّ في مسجد في مدينة قم عندما صاح أحد رجال الدين قائلاً إنّ البابيين قتلوا الملك، ويجب سحقهم. فما كان من الملاّ رضا، الذي كان بين جمهور المستمعين إلى هيجان رجل الدين، إلاّ أن وقف يدافع عن الأحبّاء، ممّا أفضى إلى اتّهامه بأنّه واحد منهم. ودون تردّد اعترف بصحّة ذلك. فألقوا القبض عليه وأرسلوه إلى طهران وسجنوه في سياه چال ذي السمعة السيّئة.

كان آقا سيّد أسد الله رفيق الملاّ رضا في السجن. فتوسّل إلى صديقه أن يأخذ جانب الاعتدال عندما يتحدّث عن الدين البهائي وألاّ يكون صريحًا إلى درجة كبيرة. مع ذلك لم يبالِ الملاّ رضا بما قيل، وحتى في السجن، فقد جذب إليه ‘فُرصًا وقوى روحانية عديدة استمسك بها واستغلّها استغلالاً كاملاً متجاهلاً حقيقة ما ستجرّه عليه وعلى باقي الأحبّاء من أخطار وآلام وعذاب جديد نتيجة هذا التهوّر في التبليغ العلني بين السجناء المتعصّبين ورجال السلطة.’ عندما كان المؤمنون المسجونون يشيرون على الملاّ رضا بإنّ مواجهة الجاهلين لا تؤدّي إلاّ إلى زيادة العداء، ‘كان يجزم بأنّ الأمر عظيم ولذلك سوف يواجه معارضة عظيمة، وهؤلاء الذين يسعون إلى تدنيس اسمه الجميل بالشتم والذمّ لن ينجحوا بالتأكيد في مسّه، وإنّ ما يفعلونه يظهر للجميع سحق غبائهم. وما مثلهم إلاّ كمثل باصق على الشمس وليس ببالغها.’(9)

خوفًا من حدوث عمليّات انتقامية اذا استمرّ الملاّ رضا في تبليغ أمر الله بمثل هذه الجرأة في السجن، قام أصدقاؤه المسجونون بالاتّصال بالسجّان مشهدي علي، وطلبوا منه أن يطلب من الملاّ رضا عدم التحدّث علنًا عن الدين. إلاّ أنّ الملاّ رضا تجاهل التوجيه وسرعان ما أثار غضب السجّان. وكعقاب له، اقتيد إلى ساحة السجن وجُلد بوحشية على ظهره العاري. خلال هذا الضرب ورغم قسوة الحياة في السجن، لم يُظهر أيّ أثر للألم. كان كما لو أنّه فقد كلّ إحساس. بعد الجلد، حاول السيّد أسد الله وضع صفار البيض على ظهر الملاّ رضا الممزّق من أجل تخفيف الألم. لكنّ الملاّ رضا وبّخه قائلاً، ‘هل تعتقد أنّهم عندما كانوا يعاقبونني، أنّي كنت أعي ما كانوا يفعلون؟ يا سيّد! لقد كنت في محضر الجمال المبارك، أتحدّث معه!’(10)

من بين السجناء غير البهائيين الذين شاهدوا هذا الجلد رجل مشهور اسمه غلام رضا خان. فقد أعجب بثبات الملاّ رضا المدهش وتحمّله. وإذ تأثّر للغاية بما شاهده، أصبح مؤمنًا، وفي وقت لاحق شهد أنّه رأى نورًا من خلال ذلك الجلد: ‘لو تُليت على مسمعي مئات الآيات من القرآن الكريم أو طرح أمامي ألف دليل لإقناعي بأحقّية هذه الرسالة، ما تأثّرت كما أثّر فيّ ذلك الهدوء الذي سيطر على ذلك الرجل المسنّ، جريء القلب، الملاّ رضا تحت وطأة كلّ هذا التعذيب.’(11)

مع جلوس مظفّر الدين شاه على سدّة العرش في عام 1896، بدأت معاملة البهائيين بالتغيّر قليلاً. فقد اقتيد خمسة سجناء بهائيون، بينهم الملاّ رضا، من الزنزانة إلى بيت الفرّاش باشي (ضابط الشرطة)، حيث كان من المقرّر أن يطلق سراحهم. أثناء الطريق، انهار الملاّ رضا، نظرًا لتقدّم سنّه وضعفه وما كان للحبس من تأثير شديد فيه. فاستدعي حمّالون لحمله. طوال الرحلة التي استمرّت ساعتين، كان يمزح بخصوص نوعيّة مطيّته بينما كانت النساء البهائيات بين حشود المتفرّجين يتوسّلن إليه أن يبقى صامتًا.

أخيرًا وصلت المجموعة إلى وجهتها. كانوا على وشك أن يفرج عنهم عندما مرّ رجل دين مع طلاّبه أمام المنزل الذي كان السجناء يقيمون فيه. وإذ علم أنّ البهائيين في الداخل، أعرب السيّد عن رغبته في رؤيتهم. رفض معظم البهائيين ذلك، قائلين إنّهم ليسوا في حالة جيّدة. ومع ذلك، أبدى الملاّ رضا رغبته في مقابلة السيّد رغم تحذيرات إخوانه بأنّه يعرّض نفسه لخطر كبير. خلال خمسة عشر دقيقة من دخوله غرفة السيّد اندلع نزاع ساخن، حيث كان السيّد والطلاّب مرتبكين تمامًا أمام براهين السجين وحججه. فبدأ الطلاّب بضرب الملاّ رضا، الذي سُمع وهو يصرخ على السيّد قائلاً، ‘أنت الذي لم تتمكّن من إثبات أحقّية دين أجدادك، كيف تجرؤ أن تطلب منّي أن ألعن صبح الأزل؟ أنت الذي لا تعرف من [هو] ولماذا يجب أن يُلعن، تحاول أن تجعلني ألوّث لساني.’ عندما عاد الملاّ رضا لينضمّ إلى زملائه الأحبّاء القلقين، أعرب عن ارتياحه لأنّه هزم السيّد، وعلّق قائلاً: ‘لقد عرّفته مقامه.’(12)

مع ذلك، كانت الكلمة الأخيرة للسيّد الذي استطاع أن يرسل الملاّ رضا ثانية إلى السجن. ولمّا لم يكن هناك من أحد يعتني به، فقد وافته المنيّة في غضون عشرة أيّام من إعادة سَجنه. أنزل قلم مركز العهد والميثاق ما يلي في حقّ مقامه السامي:

هو الله

عليك التحيّة الوفيّة والثناء الجميل أيّها الجليل الذي فدى روحه في سبيل ربّه تحت السلاسل والحديد أشهد أنّك شربت السلسبيل وسكرت من الرحيق في الكأس الأنيق وأدركت الرفيق الأعلى واستجرت جوار الرحمة الكبرى وبلغت ملكوت الأبهى وسموت إلى السموات العلى وعلوت الدرجة العليا ودخلت الجنّة المأوى وسكنت الحدائق الغلبا وسمعت ألحان طيور القدس في شجرة طوبى ورزقت اللقاء وأوتيت البقاء فسبّح باسم ربّك الأعلى الذي أكرم وأعطى والذي قدّر لك هذه الموهبة الكبرى طوبى لك ولمن زارك في الصباح والمساء والضحى والعشاء إنّ هذا من عطاء ربّك الأولى.(13) 

 

1.
Balyuzi, Eminent Bahá’ís, p. 98.
2.
طاهرزاده، «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 1، الصفحة 89.
3.
المصدر السابق، الصفحة 93.
4.
المصدر السابق، الصفحتان 89–90.
5.
Ḥaydar-‘Alí, Delight of Hearts, p. 92.
6.
Balyuzi, Eminent Bahá’ís, pp. 100–1.
7.
المصدر السابق، الصفحتان 102–103. الترجمة بالاستعانة بالأصل الفارسي في كتاب «الفرائد» لأبو الفضائل، الصفحة 111.
8.
المصدر السابق، الصفحتان 105–106.
9.
طاهرزاده، «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 1، الصفحة 90.
10.
Balyuzi, Eminent Bahá’ís, pp. 107–8.
11.
طاهرزاده، «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 1، الصفحة 92.
12.
Balyuzi, Eminent Bahá’ís, p. 111.
13.
«مصابيح هدايت»، المجلّد الأوّل، الصفحة 245.

1829 – 1892 محمّد القائني، النبيل الأكبر

Hand of the Cause of God Mulla Muhammad-i-Qa’ini, known as Nabíl-i-Akbar (1829-1892)

ولد آقا محمّد القائني، المعروف أيضًا بفاضل القائني، والملقّب بالنبيل الأكبر، في قرية نَو فِرِسْت يوم 29 آذار عام 1829. وإذ تحدّر من عائلة مكوّنة من رجال دين مشهورين، فقد تلقّى تعليمًا دينيًا. بعد دراسته عند معلّمين متميّزين في مشهد، سافر الى سبزوار، حيث تتلمذ لمدّة خمس سنوات على يد الحاج الملاّ هادي، أبرز فيلسوف فارسي في ذلك الوقت. في عام 1852 سافر إلى العتبات المقدّسة في النجف وكربلاء لإكمال تعليمه.

في ذلك الوقت كان اضطهاد البابيين في إيران على أشدّه وأسر واستشهد العديد منهم. عندما وصل آقا محمّد القائني إلى طهران في طريقه الى العراق ألقي القبض عليه باعتباره بابيًا. لمّا ثبتت براءته أطلق سراحه ولكنّ الحادثة تركت في نفسه انطباعًا وعزم على معرفة المزيد عن الدين البابي. في وقت لاحق طلب منه بابيٌّ من قائن أن يبدي وجهة نظره عن بعض كتابات حضرة الباب، وبعد ذلك بوقت قصير أصبح محمّد القائني بابيًا.

في العراق أصبح آقا محمّد تلميذًا للمجتهد الشيخ مرتضى الأنصاري. يصرّح حضرة عبدالبهاء، ‘وفضلاً عن كلّ هذا [علم الفقه الإسلامي] فقد كان النبيل الأكبر غزير المادّة متمكّنًا من حكمة الإشراقيين ومباحث العرفاء وأنواع المعارف الشيخية والفنون الأدبية.’(1) وأخيرًا أصبح ‘هذا الشخص الجليل متفوّقًا على جميع تلاميذ ذلك المجتهد بدرجة أنّ معلّمه قد استثناه ومنحه إجازة الاجتهاد.’(2)

في طريق عودته من المدن الحاضنة للأضرحة توقّف آقا محمّد القائني في بغداد ومكث فيها لفترة. وهنا التقى بحضرة بهاءالله الذي لم يكن قد صرّح بعدُ علنًا عن رسالته. في اجتماعات البابيين، كان آقا محمّد القائني يتّخذ دائمًا موقع الصدارة ويخاطب المستمعين. ولم يكن ليدرك ما يتمتّع به حضرته من معرفة متفوّقة إلاّ بعد سماعه حضرة بهاءالله وهو يشرح مسألة معيّنة.

يصف حضرة عبدالبهاء التقدير والإجلال الذي أصبح آقا محمّد القائني يكنّه بعد ذلك لحضرة بهاءالله:

وبينما كان ذلك الرجل الجليل (النبيل الأكبر) المحترم جالسًا على الأرض ذات يوم في محضر النور المبين (حضرة بهاءالله)، وإذا بالحاج ميرزا حسن عمو معتمد المجتهدين في كربلاء قد حضر ومعه زين العابدين خان فخر الدولة. ولمّا شاهد حضرة النبيل الأكبر جاثيًا على الأرض بكمال الأدب والخضوع والخشوع أخذه العجب وهمس في أذن النبيل قائلاً:

‘يا جناب الآقا ما الذي أتى بك إلى هنا؟’

فأجابه جناب النبيل الأكبر قائلاً: ‘نفس الغرض الذي أتيت أنت من أجله.’

فكان هذا الجواب، وأيم الحقّ، سبب اندهاش الحاج ميرزا حسن عمو وزميله لعلمهما أنّ النبيل الأكبر مشهور بامتيازه وتقواه وتفوّقه على سائر المجتهدين.(3)

بعد عرفانه مقام حضرة بهاءالله، سافر آقا محمّد القائني إلى خراسان، حيث أبدى له أمير قائن منتهى اللطف والاحترام. كان الأمير معجبًا ببلاغة آقا محمّد القائني وعلمه، ممّا جعله يقدّر عاليًا رفقة العالِم. هذا، وقد قام آقا محمّد القائني على تبليغ أمر الله بدرجة من الحرارة والحماس بحيث آمن الكثير من الناس في قائن ما أثار حسد رجال الدين الذين نشروا عنه افتراءات وصلت إلى طهران. عندما سمع ناصر الدين شاه بهذه الأكاذيب غضب كثيرًا، ولرعب الأمير من غضب الشاه انقلب ضدّ آقا محمّد القائني وسرعان ما قامت المدينة كلّها ضدّه فهرب إلى طهران.

وصف حضرة عبدالبهاء حياته وهو هائم طريد:

وانبثت العيون في العاصمة لإلقاء القبض عليه ومعاقبته وأذاه، وذاق من أهل الظلم ضروب الإهانات في كلّ مكان آوى إليه وكانوا لا ينظرون إليه إلاّ شزرًا. وبالآخرة أُجبر على أن يلبس طربوشًا بدل العمامة حتى لا يعرفه المناوئون ويسلم من تحرّشهم وأذاهم.(4)

ورغم هذا، واصل آقا محمّد تبليغ أمر الله في الخفاء. في نهاية المطاف ألقي القبض عليه وسجن في بيرجند. ثم أُرسل إلى مدينة مشهد حيث أطلق سراحه؛ ولدى عودته إلى قائن اعتُقل مرّة أخرى واقتيد إلى طهران. هناك تآمر رجال الدين على قتله، فاضطرّ إلى الفرار مرّة أخرى.

حوالي عام 1874 طلب حضرة بهاءالله من آقا محمّد القدوم إلى عكّاء، وكان في فترة حجّه أن أنزل حضرة بهاءالله «لوح الحكمة» في حقّه.(5) «وقد كشف له في هذا اللوح سرّ النجاح والتأييد في تبليغ دينه.»(6) وهذه هي كلمات حضرة بهاءالله الموجّهة إليه:

«كنّ مبلّغ أمر الله ببيان تحدث به النار في الأشجار وتنطق إنّه لا إله إلاّ أنا العزيز المختار. قل إنّ البيان جوهر يطلب النفوذ والاعتدال. أمّا النفوذ معلّق باللطافة واللطافة منوطة بالقلوب الفارغة الصافية. وأمّا الاعتدال امتزاجه بالحكمة التي نزّلناها في الزبر والألواح.(7)

كما أسبغ حضرة بهاءالله أيضًا على آقا محمّد القائني لقب النبيل الأكبر.

وقد وصف الحاج ميرزا حيدر علي تأثير حديث سمعه من النبيل في قزوين.

من جوانب عظمة هذا الفاضل كانت قدرته التي لا تضاهى في تبيان أيّ موضوع أو مسألة. مثلاً لو قال بأنّ الماء حارّ وجافّ وأنّ النار باردة ورطبة، لما تمكّن أحد أن يقاومه أو أن يثبت عكس ذلك. ومع ذلك فقد لاحظت وقت تلاطم بحر بيانه وحرارة خطابه أنّه لم يكن قطّ ليذكر كلمة في غير موضعها أو يخوض في رأي غير صحيح، وإن ذكّره شخص بخطأ أو تنبّه إليه بنفسه، فإنّه كان يُظهر غفلته واشتباه الأمر عليه.(8)

بقي النبيل الأكبر في عكّاء لفترة قصيرة قبل أن يوعز إليه حضرة بهاءالله بالعودة إلى إيران لتبليغ أمر الله. فقد سافر إلى جميع أنحاء البلاد وكان ملاحقًا مرّة أخرى من قبل السلطات. وعلى الرغم من هذه الأخطار، واصل النبيل الأكبر التبليغ أينما سافر. وقد صرّح حضرة عبدالبهاء، ‘ولم يُثنِهِ شديد الصدمات ولا عظيم البليّات عن نشر النفحات بل كان يزداد توقّدًا.’(9)

اعتقل النبيل الأكبر في نهاية الأمر في سبزوار ولكنّ حاكم المدينة سمح له بالمغادرة إلى عشق آباد ومن هناك سافر مع ميرزا أبو الفضل إلى بخارى، حيث توفّي النبيل الأكبر في 6 تمّوز عام 1892.

منح حضرة عبدالبهاء النبيل الأكبر رتبة أيادي أمر الله وأدرج حضرة شوقي أفندي اسمه بين حواريي حضرة بهاءالله. تعليقًا على سيرة حياته ورتبته، كتب حضرة عبدالبهاء ما يلي:

كان آية الهدى والتقوى في الأمر المبارك، مضحّيًا بالنفس والنفيس بكلّ سرور وانشراح وقد عاف العزّة الدنيوية وأغمض عينيه عن الغِنى والجاه والتربّع في رفعة المناصب وفكّ نفسه من أسْر التقييد وجرّدها من جميع الأفكار غير المجدية. وكان عالمًا فاضلاً… حكيمًا عارفًا، طويل الباع في العلوم الأدبية، فصيح اللسان بليغ التعبير، نطوقًا لا يضارع، وكان في حدّ ذاته جامعة بمعنى الكلمة وكانت خاتمة مطاف بادية الألطاف.(10)

 

1.
حضرة عبدالبهاء، «تذكرة الوفاء»، الصفحة 13.
2.
المصدر السابق.
3.
المصدر السابق، الصفحة 14.
4.
المصدر السابق، الصفحة 15.
5.
انظر طاهرزاده، «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 4، الصفحات 33–48.
6.
المصدر السابق، الصفحة 48.
7.
طاهرزاده، «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 4، الصفحة 48.
8.
طاهرزاده، «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 2، الصفحة 39.
9.
حضرة عبدالبهاء، «تذكرة الوفاء»، الصفحتان 15–16.
10.
المصدر السابق، الصفحة 17.

1800 تقريبًا – 1889 الملاّ صادق المقدّس الخراساني (اسم الله الأصدق)

وصف حضرة عبدالبهاء الملاّ صادق المقدّس الخراساني بأنّه ‘كان إنسانًا مباركًا، وعالمًا فاضلاً، يحترمه الجميع.’(1) وكتب، ‘كان في التبليغ ذا لسان فصيح قويّ الحجّة بدرجة تستوجب الإعجاب، وكان يُقنع مناظريه دون تعقيد أو لَبس.’(2) كان أثناء التبليغ بشوش الوجه يجيب سامعيه بلطف ومرح حتى عندما يلقى خصومة أو عداء. ووفقًا لحضرة عبدالبهاء ‘أمّا طريقته في التبليغ فلا نظير لها.’(3)

ولد الملاّ صادق في مدينة مشهد في بداية القرن التاسع عشر تقريبًا، وفي ثلاثينيات ذلك القرن كان أحد تلاميذ الحاج السيّد كاظم الرشتي، زعيم الشيخية، في مدينة كربلاء المقدّسة. كان مشهورًا بشخصيته وعلمه وبلاغته وحصل من السيّد كاظم على رتبة مجتهد في عام 1843. أثناء وجوده في كربلاء أصبح صديقًا مقرّبًا للملاّ حسين والتقى بالسيّد الشابّ علي محمّد (حضرة الباب)، وأعجب بجلاله بشدّة وهو يصلّي وعيناه تفيضان دمعًا عند ضريح الإمام الحسين.

ذات يوم خلال هذه الفترة في كربلاء دعا الملاّ صادق السيّد علي محمّد لزيارة منزله وحضور «روضة خاني»، وهو اجتماع مخصّص لتلاوة المراثي عن معاناة أحفاد حضرة الرسول محمّد، وخاصّة الإمام الحسين. عندما وصل السيّد علي محمّد إلى الاجتماع، كان السيّد كاظم وتلاميذه جالسين هناك. فنهض السيّد كاظم على الفور وطلب من السيّد علي محمّد شغل مقعد الشرف في صدر الغرفة، وهو طلب أدهش الحاضرين لأنّه كان علامة كبيرة للاحترام. ثم تلا الملاّ حسين قصيدة الشيخ أحمد في سرد معاناة الإمام الحسين. وقد بكى السيّد علي محمّد بمرارة بحيث تأثّر جميع الحاضرين تأثّرًا شديدًا.

في عام 1841 تقريبًا، وبناء على طلب السيّد كاظم، نقل الملاّ صادق مكان إقامته إلى إصفهان، من أجل إعداد الناس لمجيء القائم الموعود. بعد فترة وجيزة على إعلان حضرة الباب في عام 1844، مرّ الملاّ حسين خلال سفره بإصفهان في طريقه إلى طهران لإعلام حضرة بهاءالله عن إعلان حضرة الباب. وكان حضرته قد أخبر الملاّ حسين أنّ الملاّ صادق سوف يعتنق أمره دون تردّد. وهكذا تحدّث الملاّ حسين مع صديقه القديم وزميله التلميذ عن مجيء حضرة الباب دون الكشف عن هويته، قائلاً إنّه يحظر السؤال عن اسمه أو الكشف عنه. ثم سأل الملاّ صادق الملاّ حسين، ‘هل لي أن أعتكف كحروف «حي»، وأسأل الله في صلواتي أن يبيّنه لي برحمته؟’ فأجاب الملاّ حسين، ‘إنّ باب رحمته لن يغلق أبدًا أمام وجه من يجاهد في البحث عنه.’ في وقت لاحق سرد الملاّ صادق قصّة تعرّفه على حضرة الباب:

فانصرفت حالاً من محضره وسألت مضيفه أن يخصّص لي غرفة للخلوة في منزله، بحيث أتمكّن لوحدي من مناجاة الله بلا انقطاع. وفي أثناء مناجاتي تذكّرت وجه ذلك الشابّ الذي رأيته مرارًا في كربلاء وهو واقف يصلّي عند مدخل مرقد الإمام الحسين والدموع تكسو وجهه. فتمثّل ذلك الوجه الآن أمام عينَي. وفي الرؤيا شاهدت ما يبدو أنّه وجهه نفسه، بنفس الملامح التي تُظهر سرورًا لا يمكن وصفه. وابتسم وهو يحدّق بي. فذهبت نحوه متأهّبًا لأرتمي على قدميه، ولكنّني أثناء انحنائي وجدت ذلك الهيكل المنير قد اختفى من أمامي! فذهبت إلى الملاّ حسين وأخبرته بالرؤيا وأنا مستبشر، فاستقبلني بنشوة وأكّد لي بأنّي قد وصلت في آخر المطاف إلى مراد قلبي.(4)

ولإدراكه أنّ رؤياه كانت بخصوص السيّد الشابّ الذي التقى به في كربلاء قبل بضع سنوات، والذي أعجب به كثيرًا، فقد تخلّى الملاّ صادق عن مرتبته الدنيوية ونهض على الفور لترويج أمر حضرته. وفي الصباح التالي على رؤياه غادر إصفهان إلى شيراز للقاء حضرة الباب. استغرقت الرحلة اثني عشر يومًا؛ وفي نهايتها شعر بخيبة أمل للحظات عندما علم أنّ حضرة الباب، يرافقه القدّوس، قد غادر الى مكّة المكرّمة لأداء فريضة الحجّ.

في هذا الوقت كان الملاّ صادق قد أصبح إمامًا يقود الجماعة في الصلاة في المسجد، وقد جعل شيراز مكانًا لإقامته، منتظرًا عودة حضرة الباب. عندما عاد حضرته إلى إيران، أرسل القدّوس إلى شيراز مع لوح يحمل تعليمات إلى الملاّ صادق بخصوص إضافة جملة إلى صيغة الأذان وهي: ‘وأشهد أنّ عليًّا قبل محمّد هو عبد بقيّة الله.’(5) [إشارة إلى حضرة الباب وحضرة بهاءالله على التوالي] وفي إطاعته بما أُمر، أعلن الملاّ صادق هذه الكلمات على المصلّين في المسجد، ما نتج عنه اتّهامه بالكفر من قبل رجال الدين ودعوا إلى اعتقاله قائلين:

‘الويل لنا نحن حماة دين الله، ألا فانظروا كيف أنّ هذا الرجل قد رفع علم الكفر، فليسقط هذا الخائن المارق الذي نطق بالكفر. اقبضوا عليه فإنّه خزي وعار على الدين.’(6)

لدى سماعهم هذا، انضمّ السكّان إلى اللغط والجلبة وسرعان ما ثارت المدينة بأسرها. فتدخّل حسين خان الإيرواني، حاكم محافظة فارس، واستفسر عن سبب هذا الصخب. فقيل له إنّ القدّوس يقوم بإعلان تعاليم شخص يدّعي نزول وحي إلهي جديد، وأنّ الملاّ صادق يدعو الجماهير إلى قبول رسالته.

فبادر حسين خان من فوره وأمر بالقبض على البابييْن. وعندما اطّلع على نسخة من «قيّوم الأسماء» التي كان الملاّ صادق يقرأ منها على المصلّين، سأل الحاكم بغضب عن كلمات حضرة الباب في الفقرة الافتتاحية: واعزل نفسك عن الملك فإنّا نحن قد نرث الأرض ومن عليها بإذن الله الحكيم وإنّه قد كان بالحقّ عليك وعلى الملك شهيدًا.(7) هل يعني هذا أنّه ينبغي على محمّد شاه التنازل عن عرشه وأن يترك حسين خان منصبه؟ فأجاب الملاّ صادق بشجاعة:

‘عندما يتقرّر صدق الرسالة التي أتى بها صاحب هذا الكلمات ويثبت صحّتها، يثبت صحّة كلّ ما نزل من قلمه وما صدر من فمه. فإذا كانت هذه هي كلمات الله فلا يهمّ تنازل محمّد شاه وأمثاله فذلك لا يبدّل شيئًا من أمر الله أو يحجبه ولا يغيّر سلطنة الملك الأزلي القدير.’(8)

لم يُسرّ الحاكم القاسي على الإطلاق من هذا الردّ، ولعن الملاّ صادق، وأمر أن يُجلد ألف جلدة. لم يكن باعتقاد شاهد عيان على هذه العقوبة الوحشية أنّ الملاّ سيبقى على قيد الحياة حتى بعد خمسين جلدة، لأنّه ‘طاعن في السنّ وضعيف البنية.’(9) وكانت ضربات السوط تنزل بشدّة، ولكنّ الملاّ صادق بقي هادئًا طوال محنته. بل شوهد وهو يغطّي فمه بيده لإخفاء ابتسامة. وقد سأله شاهد العيان هذا فيما بعد لماذا كان يغطّي فمه بيده، فأجاب الملاّ صادق بأنّ الجلدات الأولى كانت مؤلمة للغاية ولكن بالنسبة للبقيّة لم تكن ذات بال:

وكنت أتعجّب هل كانت الجلدات التالية تنزل على جسمي أم لا؟ فقد احتلّ روحي إحساس فرح وانشراح، وكنت أجتهد أن أخفي مشاعري وأمنع ضحكي. والآن أدرك كيف أنّ ربّنا المخلّص قادر أن يغيّر الألم بالراحة والحزن بالسرور.(10)

أمر حسين خان أيضًا بحرق لحى الملاّ صادق والقدّوس، وبابي آخر هو الملاّ علي أكبر الأردستاني، وأن تخزم أنوفهم بأسلاك ويقتادوهم خلال المدينة بهذا الرسن. وقد كتب حضرة عبدالبهاء، ‘أمّا هو [الملاّ صادق] فلم ينزعج بل كان دائمًا مسرورًا ضاحك الوجه بشوشًا ولا يسكت عن محادثة رفاقه.’(11)

وإذ اقتيد الثلاثة عبر الأسواق، أوقفهم تاجر رغب في زيادة معاناتهم. فوضع قطعة من الخشب بين القدّوس والملاّ صادق، بحيث كان طرفاها على كتفَي الرجلين، ثم وضع عليها جهاز قياس الوزن وفوقه وزن ثمانين بالة من السكّر بينما هما وقفا تحت حرارة شمس النهار. وكلّما حاولا تحريك قدميهما لضبط حمولتهما، كان مضطهدوهما يلسعونهما بالسوط بقسوة. أخيرًا، وبعد أن أثخنا بالجروح والقروح، سُمح لثلاثتهم بمغادرة المدينة. وكان الملاّ صادق بالتالي أحد أوّل المؤمنين الثلاثة الذين عانوا الاضطهاد في الدورة الجديدة، ولكنّ هذه الحادثة كانت مقدّمة للكثير من المعاناة التي تعرّض لها في حياته.

بعد خروجه من شيراز سافر الملاّ صادق إلى يزد، معلنًا أمر حضرة الباب طول الطريق. مكث في يزد مدّة شهرين، وأرسل مناديًا ليعلن لأهالي البلدة أنّه مبعوث حضرة الباب وسوف يخاطبهم يوم الجمعة في مسجد محلّي. وقد تجمّع حشد كبير يوم الجمعة للاستماع اليه. صعد الملاّ صادق على المنبر وأعلن مجيء الموعود. في البداية لم يثر أحد أيّ اعتراض، ولكن مع مواصلة الملاّ صادق الحديث، ازداد اهتياج الحشد بشكل كبير وأخيرًا انقضّوا على المنبر قاصدين انهاء حياة الملاّ. وكان تدخّل السيّد حسين، أحد رجال الدين المتنفّذين، الذي وعد بأنّه سيجري تحقيقًا في المسألة، هو وحده الذي أدّى إلى تهدئة الحشد.

سافر الملاّ صادق في نهاية المطاف إلى خراسان، مرورًا بكرمان، حيث قاسى المزيد من البلاء. عند وصوله إلى معسكر الملاّ حسين، انضمّ الى العصبة الصغيرة من البابيين الذين انطلقوا تحت الرايات السود نحو مازندران لمساعدة القدّوس، الذي كان في بارفروش. وأثناء سير المجموعة، انضمّ المزيد من البابيين إلى صفوفهم حتى بلغ عددهم نحو ثلاثمائة.

بالقرب من بارفروش واجهت البابيين جماعات مسلّحة من الأهالي، لمنعهم من دخول المدينة. وأطلق الحشد النار على البابيين وقتلوا عددًا منهم، بمن فيهم سيّد كان واحدًا من أنصار الملاّ حسين الثابتين على طول الطريق من مشهد. استلّ الملاّ حسين سيفه من غمده، ثم همز حصانه وسط الحشد ولاحق المعتدي على رفيقه المقتول. ورغم أنّ خصمه احتمى خلف شجرة ووضع بندقيّته أمامه بمثابة درع إضافي، إلاّ أنّ الملاّ حسين كان قادرًا بضربة واحدة من سيفه على قطع جذع الشجرة وماسورة البندقيّة وجسد المعتدي. وبهذا العمل البطولي هُزم الأعداء هزيمة نكراء وفرّوا مرتاعين وجلين.

في الأشهر التالية أظهر الملاّ حسين شجاعة فائقة وبراعة مدهشة في استعمال السيف وهو يشتّت قوّات عدو يفوق البابيين عددًا وعدّة والذي هاجم معقل البابيين مرارًا في قلعة الشيخ الطبرسي. وسرعان ما وجد البابيون أنفسهم يواجهون جيشًا من اثني عشر ألف رجل، وقد فرض حصارًا على القلعة، وقطع عنهم الغذاء والماء وشرع قنّاصته في استهداف البابيين، وأخذ يقصف الحصن ويشنّ عليهم الهجوم بين حين وآخر. مرّة بعد أخرى نهض المدافعون الذين ارتموا على الأرض من شدّة الضعف والإعياء داخل قلعتهم، ليصدّوا بقوّة مذهلة كلّ هجوم شنّه عليهم أعداؤهم.

وأخيرًا أصيب الملاّ حسين بعيار ناري في صدره فحمله شابّان من رفاقه وهو مصاب بجروح قاتلة عائدين إلى الحصن. وقد روى الملاّ صادق والملاّ ميرزا محمّد الفروغي كيفية اللقاء المدهش بين زعيمهم المصاب والقدّوس:

كنّا ضمن الذين بقوا في القلعة مع القدّوس، وبمجرّد دخول الملاّ حسين أمرنا بالخروج لأنّ الملاّ، كان قد أغمي عليه… وبعد لحظة قصيرة دهشنا لدى سماعنا صوت الملاّ حسين يجيب عن أسئلة القدّوس. وتحادثا معًا مدّة ساعتين. ثم أخذنا العجب إذ رأينا ميرزا محمّد باقر متهيّجًا. ثم قال لنا فيما بعد: ‘إنّي كنت ألاحظ القدّوس من ثقب الباب، وبمجرّد أن سمع الملاّ حسين اسمه، رأيته قد قام وجلس حسب عادته راكعًا بجانبه، وكان رأسه منحنيًا وعيناه تنظران للأسفل، وهو يستمع لكلّ كلمة تخرج من فم القدّوس ويجيب عن أسئلته، وسمعت القدّوس يقول له: “لقد سرّعتَ بساعة فراقك وتركتني لرحمة أعدائي فلا يمضي وقت كبير حتى إن شاء الله ألحقك وأجتمع بك وأتذوّق حلاوة النعم الإلهية التي تفوق الوصف. وتمكّنت من سماع ردّ الملاّ حسين بقوله “أفديك بحياتي، هل أنت راضٍ عني؟” ’(12) 

أحزنت وفاة الملاّ حسين المدافعين، كما أحزنت حضرة الباب، الذي أعلن في أحد ألواح الزيارة ‘إنّ تراب الأرض التي دفن فيها الملاّ حسين له خاصّية جلب الفرح للحزانى والبرء للمرضى.’(13)

واصل البابيون، تحت قيادة القدّوس، في قلعة الشيخ الطبرسي نضالهم ضدّ القوّات الحكومية عدّة أشهر. وفي نهاية الأمر أقنعهم أعداؤهم بالاستسلام، ومغادرة القلعة والتخلّي عن أسلحتهم. وما إن غادروا المعسكر حتى هجمت قوات الجيش على البابيين وقتلوا معظمهم. وقد اقتيد القدّوس إلى بارفروش، حيث تعرّض للتعذيب ومن ثُمَّ قُتل. كان الملاّ صادق بين عدد قليل من الناجين.

ذكر حضرة عبدالبهاء، في وصف «المحنة الرهيبة» للبابيين في قلعة الشيخ الطبرسي، أنّ الملاّ صادق ‘لم يعترِه رغم هذه المصائب والشدائد أدنى فتور.’(14) وقد سلّموا الملاّ صادق وأحد الأصحاب من الناجين إلى حسين خان، وهو شخص بارز في مازندران (ليس حاكم فارس) كان والده قد قُتل وهو يحارب البابيين. وكانت نيّته أن يقتل الملاّ صادق ورفيقه أمام والدته وشقيقته، اللتين فجعتا بوفاة والده. وقد شقّوا طريقهم عبر محافظة مازندران، وكان حسين خان يتوقّف في كلّ قرية، داعيًا رجال الدين المحلّيين إلى استجواب الأسرى. عندما سُئل، ردّ الملاّ صادق بكلّ أدب مستشهدًا بأدلّة مقنعة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية. ولمّا كان رجال الدين يُعجبون بعلم الملاّ صادق وبلاغته، لم يعتقد أيّ منهم أنّه يستحقّ الموت. وإذ فُتن حسين خان بهدوء الملاّ صادق ويقينه، قرّر الإبقاء على حياة البابيين.

ومع ذلك، ظلّ الأسرى في متناول قبضة الأمير الذي ترأّس القوّات الملكية أثناء حصار قلعة الشيخ الطبرسي والذي أراد إرسال البابيين إلى طهران ليتمّ إعدامهم. وقد هبّ أحد الرعاة لمساعدتهم وتشجيعهم على الهروب. كان الملاّ صادق في البداية غير راغب على الهرب نظرًا لضعفه الشديد نتيجة الحرمان الذي عاناه في الفترة الأخيرة. مع ذلك، غادر هو ورفيقه وسارا عبر غابات مازندران الكثيفة ليصلا بعد أسبوعين إلى بلدة ميامى، حيث استراحا قبل أن يواصلا طريقهما إلى مشهد.

عاش الملاّ صادق في مشهد نحو اثنتي عشرة سنة. من بين أولئك الذين بلّغهم دين حضرة الباب هناك، كان أحمد اليزدي، الذي نزل في حقّه «لوح أحمد» [بالعربية، بقلم حضرة بهاءالله]. ومع ذلك، وبالتدريج، أصبحت الحياة في مشهد مستحيلة. في عام 1861 سافر الملاّ صادق مع العديد من الأحبّاء إلى بغداد، حيث تشرّف بمحضر حضرة بهاءالله. وقد عرف مقام المظهر الإلهي حتى قبل إعلانه في حديقة الرضوان عام 1863، وبقي نحو أربعة عشر شهرًا في المدينة، بقرب حضرته. ثم وجّه خطاه نحو مسقط رأسه في محافظة خراسان، تنفيذًا لتوجيهات حضرة بهاءالله.

لقي الملّا صادق في خراسان معارضة مريرة من جميع الجهات. ومع أنّه واجهها بشجاعة، إلاّ أنّه في النهاية أمر حاكم خراسان، حسام السلطنة، عمّ الشاه، باعتقاله وأرسله إلى طهران، حيث سجن في سياه چال. وإزاء هذا العمل الوحشي اضطرّ الملاّ صادق أن يأخذ معه ابنه الأصغر، ابن الأصدق، الذي كان طفلاً في ذلك الوقت. وقد احتجزا في الزنزانة نحو سنتين وأربعة أشهر مقيديْن بالسلاسل معًا. تمكّن الملاّ صادق من هداية بعض رفاقه السجناء إلى الإيمان، ولكنّ مشاقّ السجن أدّت إلى مرض الطفل مرضًا شديدًا. في البداية لم يكن من الممكن العثور على طبيب مستعدّ لعلاج مريض بابي. ولكن أخيرًا جرى الاتّصال بطبيب يهودي يدعى حكيم مسيح، والذي وافق على المجيء بسهولة.

اهتمّ الطبيب بعلاج الطفل لمدّة شهرين إلى أن تعافى. في غضون ذلك، سمع الطبيب عن أمر الله من الملاّ صادق وسرعان ما أصبح مؤمنًا، وهو أوّل شخص من أصول يهودية يصبح بهائيًا.(15)

زار العديد من الرجال البارزين الملاّ صادق في السجن وحاولوا إقناعه بكتابة بضعة أسطر إلى ناصر الدين شاه للحصول على أمر بالإفراج عنه. إلاّ أنّ الملاّ رفض تقديم مثل هذا الالتماس. ثم قرّر الشاه فجأة إطلاق سراحه. ولكنّ الملاّ صادق رفض مغادرة الزنزانة من دون رفاقه السجناء. ذهل الشاه جرّاء ذلك، إلاّ أنّه سمح بالإفراج عن جميع السجناء باستثناء ثلاثة.

بعد إطلاق سراحه من السجن، جرى اتّصال بين الملاّ صادق وبعض رجال الدين المتنفّذين الذين سمعوا عن سعة علمه. فسألوه عدّة أسئلة معقّدة وطرحوا عددًا من المعضلات. وبالرغم من أنّ نظرة رجال الدين للدين البهائي لم تكن إيجابية، إلاّ أنّ إجابات الملاّ صادق كانت على نحو لا يمكن لأحد أن يتحدّاه. عندما علم ناصر الدين شاه بذلك، وبّخ عمّه، حسام السلطنة، لأنّه سجن رجلاً كهذا. ثم أمر أن يُعطى الملاّ صادق حصانين وهدية من المال. كما قدّمت له والدة الشاه ملابس تليق بمكانته. وقد أعاد الملاّ صادق كلّ هذه الهدايا الملكية إلى الشاه مع رسالة معربًا فيها عن امتنانه.

وخلال السنوات التسع التالية، روّج الملاّ صادق أمر الله بشكل مستمرّ في خراسان وكاشان وإصفهان ويزد. وكان له دور فاعل في هداية الحاج ميرزا محمّد رضا، وزير خراسان لاحقًا، إلى الإيمان، وكذلك بعض الأفنان. وقد هاجمه باستمرار معارضو الدين وندّدوا به ولكنّه ‘أوْقف كلّ أنفاسه للنداء بملكوت الله.’(16) إلاّ أنّه أصبح في النهاية واهنًا للغاية ولا يمكنه مواصلة عمله.

ومع ضعفه وعيائه، كان يتوق للقيام بحجّ ثانٍ إلى محضر حضرة بهاءالله. ولم يمض وقت طويل حتى استدعاه حضرة بهاءالله نفسه إلى عكّاء، وأوعز إليه أن يصطحب مؤمنًا آخر ليعنى باحتياجاته. بقي الملاّ صادق في عكّاء مدّة أربعة أشهر، وفي نهاية هذه المدّة أنزل حضرة بهاءالله له لوحًا، موجّهًا إيّاه للعودة إلى وطنه.

في طريق عودته إلى الوطن من عكّاء، أعلن الملاّ صادق للجميع عن مجيء يوم الله. عندما وصل إلى همدان في عام 1889، كان منهكًا جسديًا ولكنّه حيّ روحانيًا. ولمدّة اثني عشر يومًا لم يعرف طعم الراحة. في اليوم الثاني عشر، ارتدى أفضل ثيابه وعطّر نفسه بماء الورد والعطر. بعد ساعة طلب من رفيقه مساعدته في خلع ملابسه. وما هي إلاّ لحظة حتى لفظ كلماته الأخيرة: ‘هذا يكفي’، وفارق هذا العالم.(17)

أنعم حضرة بهاءالله على الملاّ صادق بلقب «اسم الله الأصدق» وأنزل العديد من الألواح تكريمًا له، من بينها «لوح الأحباب» وفيه:

يمطر حضرة بهاءالله على اسم الله الأصدق من الثناء بحيث لا يمكن وصفه جميعه. يشير إليه بكونه ممّن أقرّ واعترف بالموعود حالما سمع نداءه… يتّضح من بيانات حضرة بهاءالله في هذا اللوح وغيره بأنّ حضرته اعتبره واحدًا من أخلص أتباعه ومؤمنًا حقيقيًا بكلّ ما في الكلمة من معنى، وأهلاً لأن يُقتدى بسيرته.(18)

وقد ترك لنا مركز العهد والميثاق هذا الثناء:

‘أمّا هو فكان بحرًا زاخرًا بالعلوم وبازًا مرتفعًا في آفاق الفنون المتنوّعة ذا قدرة وقوّة عجيبة واستقامة لا تجارى في التبليغ، براهينه الدامغة وأدلّته المسكتة تتدفّق كالسيل وكان حال تلاوة المناجاة تنهمر الدموع من آماقه كالمطر المدرار، وكان نوراني الطلعة رحماني الأخلاق عالمًا ملهمًا، همّته سماوية وانقطاعه وزهده وورعه وتقواه كان ربّانيًّا.’(19)

بعد عدّة سنوات، تحدّث حضرة عبدالبهاء عن الملاّ صادق، واصفًا إيّاه بأيادي أمر الله وأنّه ‘كان حقًّا خادمًا للربّ من بداية الحياة حتى أنفاسه الأخيرة.’(20)

 

1.
حضرة عبدالبهاء، «تذكرة الوفاء»، الصفحة 18.
2.
المصدر السابق.
3.
المصدر السابق. الصفحة 19.
4.
النبيل الأعظم، «مطالع الأنوار»، الصفحة 90.
5.
Balyuzi, Eminent Bahá’ís, p. 11.
6.
النبيل الأعظم، «مطالع الأنوار»، الصفحة 132.
7.
المصدر السابق، الصفحة 133.
8.
المصدر السابق.
9.
المصدر السابق، ص 134. يُعتقَد أنّ الملاّ صادق كان في الخامسة والأربعين من عمره في هذا الوقت، رغم عدم وجود سجلاّت بخصوص مولده. إذا كان يُعتقَد أنّه كان هرِمًا ضعيف القوى في عام 1845، يمكن للمرء أن يتكهّن فقط حول مدى تقدّم عمره عند وفاته في عام 1889.
10.
المصدر السابق.
11.
حضرة عبدالبهاء، «تذكرة الوفاء»، الصفحة 19.
12.
النبيل الأعظم، «مطالع الأنوار»، الصفحتان 351–352. (مع تعديل بسيط)
13.
المصدر السابق، الصفحتان 383–384.
14.
حضرة عبدالبهاء، «تذكرة الوفاء»، الصفحة 20.
15.
لدى علم حضرته باعتناقه [حكيم مسيح] أمر الله، أنزل حضرة بهاءالله لوحًا تكريمًا له، وهو جدّ لطف الله حكيم، العضو السابق في بيت العدل الأعظم.
16.
حضرة عبدالبهاء، «تذكرة الوفاء»، الصفحة 20.
17.
Balyuzi, Eminent Bahá’ís, p. 22–3.
18.
طاهرزاده، «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 3، الصفحة 264.
19.
حضرة عبدالبهاء، «تذكرة الوفاء»، الصفحتان 20–21. (مع تعديل بسيط)
20.
Balyuzi, Eminent Bahá’ís, p. 23.

1856 -تقريبًا  1896 ميرزا علي محمّد ورقاء

Hand of the Cause of God Mirza ‘Alí-Muhammad Varqá, the father of Rúhu’lláh (d. 1896)

يا من يشرق جمال الله منك، أنا أعرفك. يا ليت وجودي وروحي فداؤك، أنا أعرفك. لو خلف مائة ألف حجاب أخفيت نفسك فوالله يا مظهر الله، أنا أعرفك. لو اخترت الظهور كملك أو كخادم وحدك على ذروة أيّ مقام، وحدك أنا أعرفك.(1)

يا أيّها الأصل، يا فرع دوحة الظهور، في أيّ زيّ، وفي أيّ رداء، وبأيّ عباءة، أنا أعرفك. ورقاء (2)

استشاط حاجب الدولة غضبًا! فقد اغتيل ناصر الدين شاه عشية الاحتفال بيوبيله. فاقتحم رئيس سجن طهران المتوحش الزنزانة، وأرعب السجناء المندهشين، وأحكم تثبيت قيودهم، وأرسل جنودًا إلى أسطح المنازل المجاورة وأعدّ صفًّا من الجلاّدين. وإذ كان عازمًا على الانتقام لموت مليكه قام حاجب الدولة بفكّ قيود البهائيين، وأخرجهم من الزنزانة وأمرهم بالخروج كلّ اثنين معًا عبر الممرّ باتجاه غرفة داخلية.

كان أوّل العابرين في الممرّ ورقاء وابنه البالغ من العمر اثني عشر سنة، روح الله. وما إن دخلا الغرفة الداخلية، حتى واجه حاجبُ الدولة ورقاءَ بتهمة قتل الشاه. عندما أجاب ورقاء بهدوء أنّه لم يكن يعلم أنّه قد ارتكب أيّ خطأ، أغمد مسؤول البلاط الملكي المتعطّش للدماء خنجره في بطن هذا الحواري لحضرة بهاءالله.

‘كيف حالك؟’ سأل حاجب الدولة ضحيّته بابتهاج. ‘أشعر أنّني أحسن منك’ كان ردّ ورقاء وهو يحتضر. وبينما كان يجري تمزيق أوصال الشاعر، أخذ دمه يتدفّق بغزارة في الغرفة، صرخ روح الله، الذي أُجبر على مشاهدة الذبح المروّع: ‘أبي العزيز، عزيزي أبي، خذني، خذني، خذني معك.’ وفي سورة غضبه، أمر حاجب الدولة أتباعه بإحضار حبل حتى يخنق الطفل به.(3)

 

إنّ أوّل عضو من ثلاثة أعضاء من عائلة شهيرة عُيّنوا أيادي أمر الله، هو ميرزا علي محمّد ورقاء، ويتذكّره التاريخ لمحبّته التي لا حدود لها لحضرة بهاءالله، وبلاغته في تبليغ أمر الله واستشهاده مع ابنه، روح الله. استخدم ميرزا علي محمّد لقب «ورقاء» كاسم مستعار، وكان شاعرًا موهوبًا وذا مهارات في مجال الطبّ التقليدي الإيراني.

كان ورقاء من أهل يزد، وتبدأ قصّته مع والده المميّز، الحاج الملاّ مهدي اليزدي الذي لا شكّ أنّ ورقاء ورث بعض صفاته ومواهبه الرائعة. كان الحاج الملاّ مهدي رجلاً متعلّمًا جريئًا ومبلّغًا نطوقًا لأمر الله، وأصبح بابيًا عندما كان وحيد يبلّغ الدين الجديد علنًا في يزد. يذكره حضرة عبدالبهاء كما يلي:

‘كان ماهرًا في تتبّع الأحاديث والأخبار، مفوّهًا في تفسير الآيات بقوّة بيان لا تُضارَع… فصيح اللسان بليغ العبارة في أمر التبليغ يهدي الناس بكلّ اشتياق يتدفّق من فمه سيل الاستشهاد بالروايات والأحاديث المأثورة… كان رجلاً جليلاً دائم التوجّه إلى الربّ الجميل لا يعبأ بحياة النشأة الأولى في عالم الدنيا صارفًا كلّ همّه لبلوغ الموهبة في النشأة الأخرى…’(4)

قام الحاج الملاّ مهدي على تبليغ الدين البابي بدرجة أثارت غضب الشيخ محمّد حسن السبزواري، وهو مجتهد قيادي في يزد. وذات يوم عقد الحاج الملاّ مهدي اجتماعًا كبيرًا ضمّ أكثر من مائتي بابي. فاستشاط المجتهد غضبًا واستدعى الحاج الملاّ مهدي إلى مكتبه، وأمر أن يُجلد بوحشية في محضره وأن يُنفى من يزد. فقام الحاج الملاّ مهدي، مع اثنين من أبنائه الثلاثة، ميرزا حسين وميرزا علي محمّد ورقاء، بمغادرة يزد سيرًا على الأقدام. كان ورقاء، الابن الاصغر للحاج الملاّ مهدي، في الثانية والعشرين من عمره آنذاك.

سافرت العائلة إلى تبريز. وهنا طلب ميرزا عبد الله خان النوري، وهو بهائي بارز في خدمة وليّ العهد، استشارة ورقاء في مشكلة طبّية. كان ميرزا عبد الله خان وزوجته غير قادرين على إنجاب طفل ثان، والأدوية التي تناولاها حتى ذلك الوقت لم تكن مجدية. فوصف لهما ورقاء علاجًا، ولم يمض وقت طويل حتى حملت زوجة ميرزا عبد الله خان بطفل.

بلغت درجة امتنان ميرزا عبد الله خان أنّه أقنع زوجته بتزويج ابنتهما إلى ورقاء. أثمر هذا الزواج أربعة أبناء: عزيز الله، روح الله، وليّ الله وبديع الله، الذي توفّي وهو طفل صغير.

بعد حفل زفافه سافر ورقاء مع والده وشقيقه إلى الأرض الأقدس، وكانت رحلة شاقّة جدًّا كما وصفها حضرة عبدالبهاء:

كابد [الحاج الملاّ مهدي] في رحلته المشاق العديدة ممّا اعتراه في طريقه من طيّ للصحاري وتسلّق للجبال الشامخات والانحدار من سفوحها، مع كلّ هذا، كان يلوح من جبينه نور الهداية وفي قلبه تشتعل نار الاشتياق. لهذا اجتاز الحدود والثغور وطوى الوِهاد والوديان مسرورًا كلّ السرور حتى وصل إلى بيروت وقد تمكّن منه المرض فأقام فيها عدّة أيّام وتأجّجت بين ضلوعه نيران الاشتياق وهاج قلبًا وقالبًا. ولمّا عيل صبره واصل سيره مع شدّة مرضه لأنّه لم يَقْوَ على الانتظار ببيروت متوجّهًا إلى ساحة المقصود سائرًا على الأقدام. ولمّا كان نعلاه لا يقيانه من شديد الرمضاء فقد انسلخ قدماه وانجرحت رجلاه واشتدّ عليه المرض حتى كاد لا يقوى على الحراك ولكنّه واصل سيره قليلاً فقليلاً بكلّ عناء حتى أدرك المكان المعروف بقصر المزرعة وهناك شرب كأس المنون وصعد إلى ملكوت الله ورجعت روحه إلى بارئها بعد أن فرغ من طاقته الصبر وأصبح عبرة للعشّاق وانجذب روحه إلى نيّر الآفاق.(5)

بلغ سموّ مقام الحاج الملاّ مهدي درجة بحيث أنزل حضرة بهاءالله لوح زيارة في حقّه. وقد توقّف حضرته يومًا عند قبره ونزّل آيات عاليات تكريمًا له.

بعد وفاة والده واصل ورقاء سيره إلى قصر المزرعة وتشرّف بمحضر حضرة بهاءالله. وكان هذا اللقاء قد توقّعه ورقاء في المنام قبل عدّة سنوات عندما كان طفلاً. في الحلم كان يلعب بدمى له عندما حضر الله وألقى بها في النار، قائلاً: ‘يا ورقاء! القِ في النار أصنام الأوهام!’(6) وقد نسي ورقاء هذا الحلم إلى أن كرّر له المظهر الإلهي هذه الكلمات نفسها.

ذات يوم، بينما كان ورقاء يحدّق في نشوة في طلعة حضرة بهاءالله، تمنّى أن يعطيه الجمال المبارك دلالة على مقام حضرته. فخطرت فجأة في ذهنه آية من القرآن الكريم. ثم تمنّى أن يكرّر حضرة بهاءالله هذه الآية لتؤكّد له بالفعل أنّها الدلالة التي أرادها. في وقت لاحق من ذلك اليوم قرأ حضرة بهاءالله هذه الآية بالذات. وفي غمرة دهشته وذهوله، تساءل ورقاء بينه وبين نفسه إذا كان بيان حضرته مجرّد صدفة. في تلك اللحظة، نظر حضرة بهاءالله إليه، وتساءل قائلاً: ‘ألم يكن هذا دليلاً كافيًا لك؟’(7) فكانت هذه، وتجارب أخرى خلال هذه الزيارة الأولى، قد حوّلت ورقاء إلى ‘شعلة من النار وقلعة من القوّة ومنجم من العلم والفضائل.’(8)

بعد حجّه، سافر ورقاء إلى تبريز حيث انضمّ إلى زوجته ثانيةً. وعلى مدى الأعوام الاثني عشر التي تلت كانت تبريز موطنه. من هنا خدم أمر الله بشجاعة وبكل فصاحة وبلاغة، وسافر في جميع أنحاء آذربيجان لتبليغ الأمر. وكثيرًا ما كان وليّ العهد، مظفّر الدين ميرزا، يطلب من ميرزا عبد الله خان أن يحضر صهره معه إلى البلاط الملكي حتى يشارك في مناقشات العلماء الذين يتجمّعون هناك من وقت لآخر.

في حدود عام 1882 قرّر ورقاء زيارة أخته الوحيدة، «بي بي طوبى» في موطنه الأصلي يزد، التي تقع ضمن سلطة مسعود ميرزا، ظلّ السلطان. بعد فترة وجيزة من دخوله المدينة، اعتُقل ورقاء واحتجز في سجن المدينة لمدّة سنة كاملة. واقتيد من يزد إلى إصفهان مكبّلاً، حيث يقيم مسعود ميرزا. أخيرًا أعجب ظلّ السلطان بالموهبة الشعرية لورقاء وأطلق سراحه آملاً بتحقيق بعض المكاسب لنفسه.

سافر ورقاء في رحلة حجّه الثاني وتشرّف بمحضر حضرة بهاءالله قبل نحو سنة من صعود حضرته. وكان يرافقه ولداه عزيز الله وروح الله البالغ من العمر سبع سنوات. خلال هذه الزيارة، تحدّث حضرة بهاءالله إلى ورقاء حول مقام حضرة عبدالبهاء وصفاته. كما تحدّث عن ظاهرة تعرف باسم قدرة الأثير العظيم أو الإكسير الأعظم. وأيّ شخص يمتلك هذه القدرة يمكنه أن يفعل أيّ شيء، وأن يمارس تأثيرًا كبيرًا على العالم؛ فمثلاً، كما تفضّل حضرته، إنّ حضرة المسيح كان يمتلك هذه القدرة وقد أحدث ثورة في العالم، وأشار بأنّ حضرة عبدالبهاء يمتلك هذه القدرة أيضًا، لذلك فإنّ مدى تأثيره على عالم الإنسانية سيكون هائلاً. كلمات حضرة بهاءالله هذه أسعدت ورقاء لدرجة أنّه رمى بنفسه ساجدًا عند قدمَي حضرته، وتوسّل أن يستشهد في سبيل المولى، وهي رغبة تحقّقت له لاحقًا.

عندما عاد ورقاء من عكّاء إلى تبريز، أظهرت والدة زوجته، التي لم تكن سعيدة تمامًا من زواج ابنتها من بهائي، عداءً شديدًا له بحيث لم يجد الراحة والاطمئنان في بيته. بلغ من معارضة والدة زوجته أن فكّر ورقاء في طلاق زوجته. ولكنّ والد زوجته أقنعه بالعدول عن هذه الفكرة، ناصحًا إيّاه بالسفر في جميع أنحاء المقاطعة لتبليغ أمر الله بدلاً من ذلك. في الوقت نفسه، فقد والد زوجة ورقاء حظوته لدى وليّ العهد، الذي كان عازمًا على إلقاء القبض عليه. فغادر ميرزا عبد الله خان تبريز على جناح السرعة. وأضحت زوجته الآن تخطّط لقتل ورقاء. ولكنّ خطّتها فشلت، وأدرك ورقاء أنّ الوقت قد حان لمغادرة تبريز للأبد. فأخذ عزيز الله وروح الله معه، وذهب إلى زنجان. كان وليّ الله وبديع الله صغيرين جدًّا لا يتحمّلان أعباء السفر ولا بدّ من تركهما مع والدتهما. وبعد فترة قصيرة وقع طلاق كلّ من ورقاء وميرزا عبد الله من زوجتيهما.

في زنجان تزوّج ورقاء من لقائية خانم، وهي ابنة الحاج إيمان. بعد سنوات أحضر عزيز الله زوجة ورقاء الأولى إلى طهران، حيث أعلنت إيمانها بحضرة بهاءالله وأصبحت بهائية مخلصة.(9)

بعد صعود حضرة بهاءالله، سافر ورقاء مع عزيز الله وروح الله، في رحلة حجّه الثالث والأخير إلى الأرض الأقدس. وهناك أظهر المولى والورقة المباركة العليا درجة خاصّة من الإعجاب والمحبّة لروح الله. ذات يوم سألت بهائية خانم روح الله كيف يبلّغ أمر الله. أجاب الصبيّ بأنّه ينظر في عيون الناس لتحديد الذين لديهم القدرة لتلقّي رسالة حضرة بهاءالله. فطلبت الخانم من روح الله أن ينظر في عينيّ اثنين من أبناء حضرة بهاءالله اللذين انضمّا لاحقًا إلى ميرزا محمّد علي، الناقض الأكبر لعهد حضرة بهاءالله وميثاقه. ففعل روح الله ذلك ثم أخبر الورقة المباركة العليا بعد ذلك وبكلّ أسى إنّ عيونهم كانت لا تستحقّ النظر فيها.

في عام 1896 اضطرّ ورقاء لمغادرة زنجان وخطّط للسفر إلى طهران. وكان حريصًا على اتّباع تعليمات حضرة عبدالبهاء بأخذ ألواحه والمحفوظات البهائية وإخراجها من زنجان. أراد أيضًا أن يرى ميرزا عبد الله خان مرّة أخرى، والذي كان يعيش الآن في العاصمة. وبينما كان يسعى للحصول على ما يلزم من الدواب، عيل صبر ميرزا عزيز الله مع مرور الأيّام، فغادر إلى طهران مشيًا على الأقدام. وبالتالي، عندما ألقي القبض على ورقاء وروح الله والحاج إيمان في وقت لاحق على طريق طهران، للاشتباه في تدبير مؤامرة ضدّ نبيل محلّي، نجا عزيز الله من مشاطرتهم مصيرهم.

بعد إلقاء القبض عليهم، أودع المسافرون الثلاثة في السجن في زنجان. وبأعجوبة، لم يتمّ توقيف الدواب التي حملت الألواح والمحفوظات البهائية بل تابعت طريقها إلى قزوين ووصلت حمولتها الثمينة إلى أيد موثوقة. أمّا الممتلكات الشخصية لورقاء، بما فيها لوحة بالألوان المائية لحضرة الباب، فقد نُهبت.

بعد اعتقاله، كان ورقاء يُستجوب يوميًا تقريبًا من قبل رجال الدين في زنجان وحاكمها علاء الدولة، في محاولة لإقناعه بالارتداد عن دينه ومن ثم تأمين إطلاق سراحه. استمرّ الاستجواب مدّة ستّة عشر يومًا. وأخيرًا، بعد أن تعب الحاكم من حجج رجال الدين التي لا تنتهي، أرسل ورقاء وابنه وبهائيًا آخر اسمه ميرزا حسين، إلى العاصمة ليتقرّر مصيرهم هناك.

كانت رحلتهم إلى طهران على ظهور الخيل صعبة للغاية. فأقدام ورقاء وميرزا حسين كانت مقيّدة بالسلاسل الثقيلة. وأرغم ورقاء على الركوب فوق حقائب السرج، ممّا سبب له الكثير من الألم. عمد الحرّاس إلى مضايقة السجناء وشتمهم وإيذائهم. وكان اثنان منهما على وجه الخصوص يتنافسان فيما بينهما لجعل الحياة صعبة بالنسبة للأسرى. عندما احتجّ حارس برتبة رقيب أوّل على وحشية أحد الحرّاس التي تشبه وحشية «الأزرق»، وهو شامي سيّئ السمعة في التاريخ الإسلامي لتسبّبه في معاناة عائلة الإمام الحسين الأسيرة، ردّ الحارس، ‘ليس الأمر كذلك، ليس كذلك. فهؤلاء الناس هم «الأزرق» في وقتنا الحاضر. الآن يجب علينا أن نأخذ بثأرنا منهم. إنّهم يعتقدون أنّهم الأئمة ونحن أهل الشام، في حين أنّنا نحن الأئمة وهم أهل الشام.’ وكان ورقاء يتألّم بشدّة من كلمات الحارس بحيث قال: ‘عسى الله أن يحكم بيننا. لقد كنتَ وقحًا جدًّا.’ بعد ذلك بوقت قصير، أصاب الحارس ألم شديد في معدته وتوفّي عند الوصول إلى طهران. وقد حزن ورقاء كثيرًا على ما حصل وظلّ يقول: ‘ما كان ينبغي أن أنذره ذلك الإنذار. يجب علينا ألاّ نكيل الشتائم إلى أعدائنا الجاهلين، بل الدعاء من أجلهم.’(10)

فور وصولهم إلى طهران، سُجن البهائيون في عدد من الأماكن واستجوبوا عدّة مرّات. وأخيرًا نقلوهم إلى سجن حكومي في حيّ سبزه ميدان حيث أبقوهم في السلاسل والحواصر وأساءوا معاملتهم وعذّبوهم إلى جانب تركهم دون طعام. ولم يكن لورقاء وابنه أيّ أمل بالخروج من الزنزانة على قيد الحياة.

انتظر الحاج إيمان وميرزا حسين في الممرّ في قلق شديد. كانا مقبلين على مواجهة الموت على أيدي الشيطان حاجب الدولة. كان يمكن سماع أصوات من الجانب الآخر من الحاجز الذي يفصلهما عن غرفة الجلّادين الداخلية. وعلى الفور ظهر فرّاش وأحضر آلة الفلقة. وبعد ذلك بقليل خرج سجّان يحمل خنجرًا داميًا وشرع في غسله في حوض قريب. وفي وقت لاحق ظهر جلاد يحمل ملابس ورقاء.

وبينما كان الرفيقان ينتظران مصيرهما، فتح حاجب الدولة باب الغرفة فجأة وهرب مذعورًا من خلال الممرّ، وهو يصرخ: ‘خذوا هذين وأعيدوهما إلى السجن، سوف أتصرّف معهما غدًا.’(11) وفي حالة من الحيرة والخدر، أعيد الحاج إيمان وميرزا حسين إلى الزنزانة. وتساءلا في قرارة نفسيهما ماذا حدث لروح الله؟ وكيف نجيا من حاجب الدولة عندما حان دورهما؟

في النهاية رُويت القصّة التالية. بعد أن قُتل ورقاء، استدار حاجب الدولة إلى روح الله وقال، ‘لا تبكِ. سوف آخذك معي وأخصّص لك مبلغًا من المال، وأحصل لك على وظيفة من الشاه.’ فأجهش روح الله بالبكاء وقال، ‘أنا لا أريدك. ولا أريد منك مالاً. ولا أريد وظيفة قد تؤمّنها لي. أريد أن أنضمّ إلى والدي.’

فأمسك حاجب الدولة بروح الله، وأدخل رأسه في عقدة الفلقة وخنقه بها حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. وبعد أن ترك الصبيّ الفاقد الحسّ يسقط على الأرض، أمر الجلاد المعجب بنفسه بإدخال البابييْن التالييْن. ولكن في تلك اللحظة بالذات، انتفض جثمان روح الله عاليًا ليسقط أرضًا على بُعد ياردة. وفي فزعه وارتباكه هرب مسؤول البلاط الملكي القاتل ولم يعد.

كان علي محمّد ورقاء عاشقًا مولهًا بكلّ من حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء، وكان رجلاً ذا صفات رائعة وإنجازات عظيمة. وأغدق عليه جمال القِدم وافر نعمه وعطاياه. كان بطلاً صمد أمام أصعب الامتحانات في سبيل مولاه. كان حقًّا رجلاً رائعًا ترك للأجيال القادمة في حياته التي يقتدى بها تراثًا مُلهِمًا لا يقدّر بثمن، وأضاف أبناؤه بريقًا لاسمه وحملوا نوره إلى القرن التالي.

 

1.
Mirza ‘Alí-Muḥammad Varqá, quoted in Balyuzi, Eminent Bahá’ís, p. 75.
2.
المصدر السابق، الصفحة 84.
3.
المصدر السابق، الصفحات 94–96.
4.
حضرة عبدالبهاء، «تذكرة الوفاء»، الصفحتان 106، 107.
5.
المصدر السابق، الصفحة 107. (مع تعديلات)
6.
Balyuzi, Eminent Bahá’ís, p. 77.
7.
طاهرزاده، «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 4، الصفحة 53.

8.
المصدر السابق، الصفحة 54.
9.
في وقت لاحق ‘جرى تكريمها بلوح أنزله حضرة عبدالبهاء، وحصلت من حضرته على لقب أمة الحقّ. إنّي أتذكّرُ [أيادي أمر الله الدكتور ورقاء] مساعدتها لي في طفولتي لحفظ الأدعية والمناجاة البهائية. توفّيت في بيتنا عندما كنتُ في الثامنة أو التاسعة من عمري، ودُفنت في مقبرة عائلتنا وأخيرًا تمّ نقل رفاتها إلى المقبرة البهائية في طهران قبل تدميرها من قبل الغوغاء خلال الثورة.’ من رسالة موجّهة إلى المؤلّف من أيادي أمر الله الدكتور علي محمّد ورقاء.
10.
طاهرزاده، «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 4، الصفحة 59.
11.
Balyuzi, Eminent Bahá’ís, pp. 90–1.
12.
المصدر السابق، الصفحة 95.

3 أيادي أمر الله الذين أسبغ عليهم حضرة شوقي أفندي هذه الرتبة بعد وفاتهم

1831- تقريبًا  1928 الحاج أبو الحسن الأردكاني (الأمين الإلهي، الحاج أمين)

Hand of the Cause of God Hájí Abu’l-Hasan-i-Ardikání, known as Hájí Amín (1831-1928)

عندما سافر الحاج أمين إلى لندن في عام 1912 للقاء حضرة عبدالبهاء، كان بإمكانه أن يشاهد بأمّ عينه ذلك الاحترام واسع النطاق الذي قوبل به نجل حضرة بهاءالله. ولمّا سُئل عن رأيه بشأن هيمنة حضرة عبدالبهاء، تاه في بحر الإعجاب والاندهاش. ولا شكّ أنّه كان يتذكّر تلك الأيّام في عكّاء قبل أكثر من أربعين سنة، عندما كان بمقدوره الاقتراب من المظهر الإلهي فقط في حمّام عامّ، بسبب شدّة التضييق على البهائيين. وقد نُصح وقتها ألاّ يظهر أيّ إشارة تدلّ على تعرّفه على حضرة بهاءالله؛ والآن هناك حشود من الناس تسعى للقاء نجل حضرته.

ولد الحاج أبو الحسن في قرية أردكان قرب يزد، كبُر وأصبح مسلمًا راسخ الإيمان. وكما جرت العادة في تلك الأيّام، رتّب والداه زواجه من ابنة تاجر محلّي وهو في السابعة عشر من عمره. وبسبب إصرار التاجر وخلافًا للعرف، جعل مقرّ إقامته في منزل عروسه بدلاً من منزل والده. نتج عن هذا الترتيب أن صار الحاج أبو الحسن على اتّصال وثيق مع أشقّاء زوجته الستّة، الذين كانوا جميعًا بابيين. جرى إقناع الحاج أبو الحسن بتحرّي حقيقة الدين البابي، وبعد مناقشات مطوّلة، اعتنق أمر حضرة الباب بعد فترة وجيزة من استشهاد حضرته. ثم قام بتبليغ زوجته، التي أصبحت بابية أيضًا.

عندما سمع الحاج أبو الحسن أنّ حضرة بهاءالله أعلن دعوته، اعترف بمقامه على الفور وأصبح بهائيًا. لقد مرّ الحاج بعملية تحوّل روحاني رائع مكرّسًا حياته كلّها للمظهر الإلهي. فغدا مُنكِرًا لذاته تمامًا، منقطعًا عن الأمور الدنيوية ومكرّسًا نفسه لربّه بشكل كامل. سافر في جميع أنحاء بلاد فارس، وقام بزيارة منازل جميع البابيين تقريبًا ليخبرهم بظهور حضرة بهاءالله. وقد أغدق من المحبّة والتشجيع على المؤمنين ما جعلهم يتوقون لزياراته. وكان موضع ترحيب أينما ذهب وكأنّه أحد أفراد الأسرة، حيث عُرف بأنّه يهتمّ حقًّا بسعادة الجميع وتطوّرهم الروحاني.

وأخيرًا أصبح الحاج أبو الحسن مساعدًا مخلصًا لأوّل أمين لحقوق الله، الحاج شاه محمّد المنشادي، أمين البيان، وصار الاثنان يسافران معًا لاستلام حقوق الله نيابة عن حضرة بهاءالله. وسرعان ما صار الحاج شاه محمّد يعتمد على الحاج أبو الحسن، الذي سافر في أنحاء البلاد لكسب رزقه عن طريق التجارة وكتابة الرسائل لأولئك الذين لا يستطيعون الكتابة. وبذلك أصبح الحاج أبو الحسن قادرًا على الاتّصال بالبهائيين وتسليم ألواح حضرة بهاءالله لهم واستلام حقوق الله، فضلاً عن أيّة رسائل أراد المؤمنون إرسالها إلى حضرة بهاءالله. وقد أسبغ حضرة بهاءالله على كلّ من هذين المؤمنيْن لقب «أمين».

بعد فترة وجيزة من وصول حضرة بهاءالله إلى عكّاء، تمكّن الحاج أمين والحاج شاه محمّد من دخول المدينة، متنكريْن بزيّ التجّار العرب. ولمّا أرسلا رسالة شفوية إلى حضرة بهاءالله يعلمان حضرته بوجودهما في المدينة، أذن لهما بلقائه في الحمّامات العامّة. وبالتالي كان الحاج أبو الحسن أوّل بهائي من خارج عكّاء يقابل حضرة بهاءالله داخل أسوار المدينة. إلاّ أنّه عندما ظهر حضرة بهاءالله في الحمّام غلبت العاطفة على الحاج أمين بحيث سقط على الأرض، وأصيب في رأسه إصابة شديدة، فكان لا بدّ من حمله خارجًا وهو ينزف.

في عام 1880 تقريبًا تورّط الحاج شاه محمّد والحاج أمين في مجزرة نالت من الأكراد فكان أن قُتل فيها الحاج شاه محمّد. ورغم إصابة الحاج أمين بجرح في ساقه إلاّ أنّه نجا، ثم عَيّنه حضرة بهاءالله أمينًا لحقوق الله. وبصفته أمينًا للحقوق، قدّم الحاج أمين كلّ ما لديه لأمر الله. ‘وبذل كلّ جهد ممكن ليعلّم المؤمنين، قولاً وعملاً، بأنّ خير ما يكتسب المرء في الحياة هو أن يضحّي بكلّ شيء؛ وقته، مجهوداته، وممتلكاته بل وحتى روحه؛ في سبيل الله.’(1)

أدرك الحاج أمين ما للتضحية من تأثير قادر على التغيير والتحويل فدفعه هذا إلى تقديم كلّ ما يملك لأمر الله. بهذا المثال الذي ضربه، جعل المؤمنين يضحّون أكثر وأكثر عن طيب خاطر. وكأمين لحقوق الله، فقد تفهّم جيّدًا كيف عادت مساهمات الأحبّاء بالفائدة على أمر الله وأنفسهم في آن معًا.

اسألوا الله أن يؤيّد الكلّ بأداء حقوق الله إذ إنّ بالأسباب يرتفع الأمر ويظهر، إذا عرف العباد مقام الأعمال في هذه الأيّام لعمل الكلّ بما ينبغي.(2)

هناك العديد من القصص المنعشة للروح التي تظهر تضحيات الحاج أمين. كان يكره التبذير الذي يضعف من قدرة الأحبّاء على دعم أمر الله. وعندما كان يدعى إلى وجبات الطعام، غالبًا ما كان يصرّ على تناول طبق واحد فقط من أبسط الغذاء ويطلب أن يضاف قليل من الماء إلى الحساء لتعويض حصّته منه، وهي وصفة أصبحت مشهورة بين الإيرانيين باسم «حساء الحاج أمين».

في عام 1891 تمّ اعتقال الحاج أمين بناء على أوامر من ناصر الدين شاه وابنه كامران ميرزا. ولمدّة ثلاث سنوات كان مسجونًا في طهران وقزوين مع أيادي أمر الله الحاج آخوند. وقد التُقطت صورة للإثنيْن مقيديْن بالسلاسل حتى يراها الشاه. بدا عليهما الهدوء والتسليم بالقضاء ما جعل حضرة عبدالبهاء يبتهج من صميم قلبه وهو يحدّق في الصورة ويعلّقها في ردهة منزله مقابل غرفته.

لدى خروجه من السجن، بعد صعود حضرة بهاءالله، واصل الحاج أمين أسفاره، وزار حضرة عبدالبهاء في عكّاء وحيفا عدّة مرّات. وتقديرًا لخدماته، اسمى حضرة عبدالبهاء أحد أبواب المقام الأعلى باسمه.

عاش الحاج أمين أواخر أيّام حياته في طهران، حيث توفّي في عام 1928. وبعد وفاته منحه حضرة شوقي أفندي رتبة أيادي أمر الله، ذاكرًا اسمه بين حواريي حضرة بهاءالله، وأعلم الجامعة البهائية الإيرانية بما يلي:

سبّب صعود حضرة الأمين الإلهي إلى الملكوت الأبهى الكثير من الحزن والأسف والحسرة. لقد قام ذلك الشخص الشخيص والنفس النفيس لسنوات عديدة بخدمة العتبة المقدّسة بعزم ونشاط محيّر للعقول. لم يهدأ للحظة ولم يسترح لدقيقة. في الثبات والوفاء كان قدوة الأصحاب والأبرار، وفي الفداء وعلّو الهمّة وخلوص النية وطهارة الفطرة كان مقتدى الأحباب والأحرار. إنّه من الأيادي الفعّالة لحضرة غيب الأبهى في ذلك القطر المقدّس ومن زمرة الأخصّة والمقرّبين لعتبة الأحدية. مقامه أعلى المقام وخدماته المشعشعة لا يمحيها ممرّ القرون والأعوام.(3)

1.
طاهرزاده، «ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد 3، الصفحة 85.
2.
حضرة بهاءالله، نشرة «حقوق الله»، الصفحة 5. مجموعة أعدّتها دائرة مطالعة النصوص في المركز البهائي العالمي وترجمها السيّد لبيب شهيد. من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل، 143ب، 1986م.
3.
«توقيعات مباركه، 1927–1939»، الصفحة 93.

 – 1942 عبد الجليل بيك سعد

Hand of the Cause of God ‘Abdu’l-Jalíl Bey Sa‘ad (d. 1942)

عُرف عن أيادي أمر الله المصري عبد الجليل بيك سعد شجاعته وعزمه وتصميمه وتضحيته. درس لدى العالم البهائي العظيم ميرزا أبو الفضل، الذي أرسله حضرة عبدالبهاء الى مصر في عام 1895. كان عاشقًا لأمر حضرة بهاءالله، وسعى بكلّ وسيلة لخدمة ربّه.

كان عبد الجليل بيك سعد رجلاً مهيبًا، طويل القامة ويزن أكثر من مائتي رطل إنجليزي. وكان أنيقًا جدًّا في ملبسه، لا سيّما في الاجتماعات البهائية، عادة ما يعتمر الطربوش الأحمر الجميل. وكونه كان قاضيًا في المحاكم المدنية، كان يكتب مقالات ملهمة في موضوع الحرّية الدينية في الوقت الذي كانت تجري فيه صياغة القوانين الدستورية لإيران في عام 1923. مؤكّدًا أنّه ينبغي معاملة جميع الأديان على قدم المساواة في الحرّية، وقد نجح في إقناع المشرّعين بقبول هذا المبدأ.

في عام 1929 واجه الأحبّاء في مصر صعوبات عظيمة بسبب إقرار المحكمة الإسلامية قبل أربع سنوات حكمًا ضدّ البهائيين في كوم الصعايدة. فتمكّن عبد الجليل بيك سعد من تحسين الأوضاع تدريجًا من خلال المفاوضات مع رئيس الوزراء وغيره من كبار المسؤولين.

بعد خمس سنوات، في عام 1934، احتاج الدستور الداخلي للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في مصر إلى المصادقة عليه رسميًا. إلاّ أنّ المحكمة المختلطة رفضت التعامل مع المسألة على أساس أنّ الوثيقة كانت ذات طابع ديني وتعتبر خارج حدود سلطتها القضائية. أيد عبد الجليل بك سعد بإصرار مطالب البهائيين لدى المدّعي العامّ، وأخيرًا أمكن التغلّب على كلّ أنواع الاعتراض وكسب الاعتراف القانوني بهذه الأداة التي كان من شأنها في وقت لاحق تسهيل المعاملات بين الأحبّاء وحكومة مصر.

في الوقت نفسه هاجم الشيخ الخراشي البهائيين في سلسلة من المقالات بعنوان «الدين البهائي وهم مُبهج». وفي دفاعه عن أمر الله نشر عبد الجليل بيك سعد سلسلة من أربعة عشر مقالاً بعنوان «الدين البهائي حقيقة أبدية». وكان الحماس والتفصيل اللذين دافع بهما عن أمر الله على شأن باء الشيخ بهزيمة ساحقة.

نتيجة لذلك، ناشد المتعصّبون السلطات، مطالبين أن يعرفوا كيف يمكن لقاض في بلد مسلم أن يروّج تعاليم دينية من المؤكّد أنّها تخالف الدين الإسلامي. وعندما طلب وزير العدل، الذي ناشده المسلمون، من عبد الجليل بيك سعد وقف كتابة مقالاته، ردّ البهائي المتحمّس، ‘إذا رغبت سعادتكم أن أوقف دفاعي عن معتقدي، ينبغي على الطرف الآخر أيضًا التوقّف عن مهاجمته.’(1) فأحيلت مسألة الحرّية الدينية إلى مجلس النواب، حيث صرّح الوزير أنّه مع أنّ حرّية الدين مقبولة في مصر، إلاّ أنّ كلا الطرفين يجب أن يوقفا نشر المقالات.

في تلك الأثناء، نُقل عبد الجليل بيك سعد إلى منطقة نائية في صعيد مصر حيث اعتقد المسلمون أنّه سيكون في عزلة تامّة، وبالتالي لن يتمكّن من مواصلة أنشطته البهائية. ومع ذلك، وعلى الرغم من عزلته، كان قادرًا على إعلان أمر الله بصوت أعلى. واستفاد من هذه الفرصة بأن ترجم كتاب «مطالع الأنوار» إلى اللغة العربية، وبالتالي منح البهائيين في البلدان الناطقة بالعربية وسيلة لدراسة هذا التاريخ الهامّ عن الدين حيث نُشرت الترجمة في عام 1941، ولكن بسبب الحرب أحيل الموضوع إلى دائرة الإعلام في الحكومة. ولمّا قامت السلطات الإسلامية بمراجعته استنكرته مدّعية أنّه ضدّ الإسلام. فحُظر تداول الكتاب وجُمعت النسخ المطبوعة بكاملها لإتلافها.

غير أنّ عبد الجليل بيك سعد لم تُثنه هذه الأحداث بل عمل بلا كلل حتى تغلّب على المعارضة، وحصل على تصريح بنشر عمله وإذن من السلطات لتوزيع الكتاب في جميع أنحاء مصر. كان نجاحه الذي بدا ميؤوسًا منه في تلك الظروف، دليلاً على بيان حضرة وليّ أمر الله، ‘بالمحاولة والإصرار نضمن النصر النهائي والكامل.’(2)

في عام 1941 استخدم عبد الجليل بيك سعد مرّة أخرى وثيقة الدستور الداخلي [للمحفل الروحاني المركزي] لحثّ وزارة الدفاع الوطني على منح الإذن لبناء حظيرة القدس في القاهرة. وفي عزمه على إكمال بنائها شارك شخصيًا في العمل، من قبيل تحديد الموقع والإشراف على البناء. وقع فريسة المرض خلال هذه الفترة ربّما نتيجة لعمله الشاقّ تحت أشعّة الشمس المحرقة. في 25 أيّار 1942 توفّي فجأة بعد أن أجريت له عملية جراحية.

في رسالة إلى الهند كتبت نيابة عن حضرته، صرّح حضرة شوقي أفندي:

كانت وفاة عبد الجليل بيك سعد خسارة كبيرة لأمر الله في مصر، وقد سرّ حضرة وليّ أمر الله لسماعه أنّ شركاءه في العمل في الهند عقدوا جلسات تذكّرية له. إنّ مثل هذه المناسبات تشكّل شهادات بليغة على المحبّة العميقة التي تربط البهائيين بعضهم ببعض، أيّا كانوا وأينما كانوا.(3)

كما ذُكر عبد الجليل بيك سعد من قبل حضرة شوقي أفندي في برقية إلى المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة وكندا في 25 حزيران 1942:

عبد الجليل بيك سعد أشهر تلاميذ أبو الفضل ومن أوائل أبطال أمر الله في مصر، والإداري البهائي المرموق، والكاتب اللامع، والمبلّغ الذي لا يكلّ، قد صعد إلى الملكوت الأبهى. خسارة لا تعوّض فطرت القلوب حزنًا. أوصي بعقد مجلس تذكّري لائق في مشرق الأذكار لمشاركة الأحبّاء الأمريكيين بالحداد الشامل على أيادي أمر حضرة بهاءالله البارز.(4)

1.
Bahá’í World, vol. 9, p. 598.
2.
Shoghi Effendi, Messages to America, p. 17.
3.
Letter written on behalf of Shoghi Effendi, in Dawn of a New Day, p. 100.
4.
Quoted in a letter to the author from the Department of the Secretariat of the Universal House of Justice.

1855 تقريبًا  – 1941 جون هنري هايد دنّ

Hand of the Cause of God John Henry Hyde-Dunn (1855-1941)

ولد جون هنري هايد دنّ في لندن بإنجلترا. سمع عن دين حضرة بهاءالله في سياتل بولاية واشنطن، وأسّس، مع محبوبته كلارا، أمر الله في قارّة أستراليا. وقد سُمّي بفاتح أستراليا الروحاني(1) من قبل حضرة شوقي أفندي الذي أشاد به في «كتاب القرن البديع» بعبارة ‘هايد دنّ الكبير القلب المقدام’ والذي قام في سنّ متقدّمة مع زوجته، واستقرّا مهاجرَين في أستراليا ‘وهناك استطاعا أن يحملا الرسالة إلى ما لا يقلّ عن سبعمائة بلدة في تلك البلاد.’(2)

هو ابن كيميائي استشاري، وعندما كان طفلاً جلس مرّة على ركبة تشارلز ديكنز. وعندما أصبح شابًّا عمل بائعًا في إنجلترا وفرنسا قبل أن يهاجر مع زوجته الأولى فاني إلى الولايات المتّحدة. ويبدو أنّه اتّخذ اسم «هايد»، الذي كان اسم عائلة والدته، بينما كان في شبابه.

في عام 1905 تصادف وجود هايد في محلّ سمكري صغير عندما سمع بهائيًا يدعى وارد فيتزجيرالد، يذكر لمالك المحلّ بيان حضرة بهاءالله ‘ليس الفضل لمن يحبّ الوطن بل لمن يحبّ العالم’. يستذكر هايد في وقت لاحق كيف أنّ سماع هذا البيان الشهير لحضرة بهاءالله من شخص زار عكّاء وحضرة عبدالبهاء مؤخّرًا، لامس شغاف قلبه المتعطّش الباحث:

وصلتني الكلمات بقوّة ديناميكية، وتبلورت حقيقتها وقوّتها في قلبي – استيقظ وعي جديد، وتوضّح موقف الإنسان تجاه البشرية، وتكشّفت دلالة سيرة المسيح وحبّه. لقد جذبت تلك العبارة المجيدة كلّ وجودي، ووقعت على مسمعي بلحن جديد، مرسلة من الله، إلى مخلوقاته الهائمة على وجهها – رسالة من العلياء إلى أبناء الإنسان.(3)

آمن هايد دنّ بأمر الله على الفور، وسرعان ما ترافق بعد ذلك مع وارد فيتزجيرالد في السفر للقيام بأعمال تجارية ونشر التعاليم. وباتّباع سياسة اقتصادية صارمة، استطاع هايد أن يبلّغ أمر الله حتى عندما كان بلا عمل – فكان يسافر مثلاً إلى والا والا، بولاية واشنطن، لعقد اجتماعات بهائية خلال فترة قصيرة من البطالة. فكانت ممارسة التقشّف في الحياة اليومية تمكّنه، لأكثر من مرّة، من المساهمة في دعم أمر الله وكذلك مساعدة الآخرين عندما وجدوا أنفسهم في ظروف صعبة.

كان في هذه الرحلة إلى والا والا، في حدود عام 1907، أن زار هايد مركزًا طبّيًا والتقى فيه بكلارا ديفيس، فدعاها إلى اجتماع بهائي. انبهرت من طلعة السيّد الإنجليزي المميّزة، حيث قالت بعد عدّة سنوات، ‘… لم أشاهد أبدًا رجلاً مثله، كان هناك شيء جديد في وجهه، نور جديد لم أكن أعرفه في أيّ وجه بشري آخر قابلته من قبل.’(4) ولمّا سمعت رسالة هايد دنّ التي ينشرها، أيقنت أنّها من عند الله.

علمت كلارا أنّ لا هايد ولا وارد كانا يملكان أيّ مال في ذلك الوقت. وعندما حضرت محاضرة ألقياها في إحدى القاعات في يوم الأحد التالي، أصيبت بدهشة عندما طلب السيّد فيتزجيرالد من السيّد دنّ أن يقوم بجمع تبرّعات. ‘كاد الأب دنّ المسكين أن يغمى عليه، لأنّه لا يريد أن يجمع تبرّعات مقابل تقديم الرسالة البهائية.’(5) فقامت كلارا بدفع أجرة سفرهما إلى سياتل.

في عام 1911 كانت لوا غتسنغر تقدّم سلسلة من المحاضرات في سان فرانسيسكو. وكان هايد دنّ، البائع المتجوّل، يذهب إلى هناك كلّما أمكنه ليتعلّم الكثير من «أمّ المبلّغات في الغرب». وخلال هذه الفترة جمعته بثورنتون تشيس وهيلين غودال وإيلا كوبر صداقة متينة.

في السنة التالية بدأ حضرة عبدالبهاء جولته التاريخية في أمريكا التي دامت ثمانية أشهر. أثناء زيارته لشرق الولايات المتّحدة، تساءل العديد من البهائيين في كاليفورنيا عمّا إذا كان سيأتي إلى الجزء الغربي. فأرسل بعضهم إلى حضرته برقيّات يلتمسونه زيارتهم. إلاّ أنّ قوى حضرة عبدالبهاء كانت قد أنهكت بالفعل في ذلك الوقت، والرحلة ستكون طويلة وشاقّة. عندما كان حضرته في نيويورك صرّح أنّه لن يأتي إلى الجزء الغربي إلاّ إذا جذبته محبّة الأحبّاء هناك. وعليه، ظلّ هايد دنّ وويلارد هاتش ومؤمن آخر مستيقظين طوال الليل، يتضرّعون مبتهلين أن يأتي. في صباح اليوم التالي، تلقّوا برقية من حضرته يعلن فيها عن موعد وصوله إلى هناك. وهكذا، عندما وصل حضرته إلى كاليفورنيا، صرّح للأحبّاء عدّة مرّات بأنّ، ‘محبّتكم جذبتني إليكم.’(6)

عندما سمع هايد أنّ حضرة عبدالبهاء قادم إلى سان فرانسيسكو، سعى إلى لقائه. لم يهمّه فقدان وظيفته أو ما سيحدث له. ومن أجل أن يكون بالقرب من المولى، اختار الإقامة في أحد الفنادق بالقرب من المنزل الذي سيقيم فيه حضرة عبدالبهاء. عندما وصل حضرته في سيّارة أجرة إلى ذلك المنزل، كان هايد واقفًا في الجانب الآخر من الشارع ليحظى بلمحة لحضرته. وعندما وصلت كلارا مساء آخر يوم لحضرة عبدالبهاء في كاليفورنيا، وجدت هايد ‘يكاد يجنّ من الفرح والإثارة’.(7) وفي واقع الأمر، بفضل نظرة المولى الثاقبة وكلماته المحيية للروح تشرّب هايد دنّ قوّة المحبّة الشاملة، ملهمة إيّاه لتكريس باقي سنوات حياته لتأسيس أمر الله ونموّه في كاليفورنيا وفي أصغر قارّات العالم.

في صباح اليوم التالي، تجمّعت مجموعة من نحو مائتي شخص لوداع حضرة عبدالبهاء. كان حضرته يمسك بزجاجة كبيرة من ماء الورد فعطّر منها كلّ واحد من الحاضرين. وبنحو عفوي مدّت كلارا يديها الاثنتين وفي داخلها شعور بأنّ عليها أن تقوم بخدمة أمر الله فعطّر حضرته كلتا يديها، أمّا السيّد دنّ فقد عطّره على رأسه.

في عام 1916 توفّيت فاني زوجة هايد دنّ. وهي التي لم تتمكّن من تقبُّل بعض جوانب أمر الله، وربّما نتيجة لذلك، حالت دون استخدام هايد منزلهما لترويج أمر الله. ومع ذلك، ومن خلال تفانيه المحبّ، كانت ‘نهايتها مجيدة: كانت بهائية.’(8)

بعد ستّة عشر شهرًا، في ذكرى استشهاد حضرة الباب، عقد قران هايد وكلارا في سان خوسيه، كاليفورنيا. وأصبح منزلهما مكانًا لاجتماع الأبيض والأسود، الغني والفقير، المتديّن والملحد، والمواطن والأجنبي.

في عام 1919 كان هايد وكلارا دنّّ في عطلة في سانتا كروز، كاليفورنيا عندما تلقّيا «ألواح الخطّة الإلهية». أشار هايد كيف اتّخذا قرارهما للاستجابة للنداء المحفّز من حضرة عبدالبهاء بطلب مهاجرين:

كان كلّ شيء بسيطًا جدًّا – موجة دخلت حياتنا وتملّكتنا ملبية كلّ رغبة لخدمة ديننا المحبوب، دين حضرة بهاءالله وعهده وميثاقه المجيد. الأم [كلارا] كانت تقرأ نداء حضرة عبدالبهاء… وهو يدعو الولايات المتّحدة وكندا، وكان نداؤه نافذًا جدًّا ومثيرًا بحيث اخترق قلوبنا. في أحد الأجزاء يصرّح حضرته: «ليت السفر إلى هذه الجهات كان متيسّرًا لي حتى أقوم به حافي القدمين ولو في أشدّ الفقر صارخًا بأعلى صوتي صرخة ‘يا بهاء الأبهى’ ولكن هذا ليس متيسّرًا لي الآن.» رفعت الأم [كلارا] رأسها وقالت، ‘هل نذهب أيّها الأب [هايد]؟’ فكان ردّي، ‘نعم’، ولم يكن هناك مزيد من النقاش. عدنا إلى سان فرانسيسكو، وبعد بضعة أشهر قدّمت استقالتي (في الشركة التي أعمل فيها)، تخلّينا عن كلّ شيء، واتّخذنا الترتيبات للإبحار السريع.(9)

وصلا إلى سيدني، أستراليا يوم 10 نيسان 1920 على متن السفينة سونوما. وفي الطريق قضيا شهرين في هونولولو يخدمان أمر الله، ثم توقّفا فترة قصيرة في ساموا. وعلى متن السفينة التقت كلارا بمدير الشركة التي كانت قد مثّلتها في أمريكا قبل عدّة سنوات، فعرض عليها وظيفة في فرع شركته في أستراليا. فقبلت هذا العرض غير المتوقّع على الفور، إذ كان هايد مريضًا وغير قادر على العمل.

وفي وقت لاحق استذكر هايد دنّ أنّه ‘في نهاية شهر أيلول، بينما كنت أفرش غطاء المائدة قبل تناول طعام العشاء، سمعت صوتًا، صوتًا يخاطبني به عقلي قائلاً: “قد حان الوقت لأن تكتبَ إلى الشركة في ميلبورن، بخصوص وظيفة.” ’(10)

حمل البريد في تلك الليلة رسالة إلى شركة جيّدة في ميلبورن… إلى من شعرت أنّهم قادرون على تقديم خدمة جيّدة. وفي البريد القادم وصل الردّ (وهو كما يلي) ‘إنّ طلبك للوظيفة مناسب جدًّا…’ (وبالتالي) أمكن الحصول على وظيفة جيّدة حملتني في النهاية إلى جميع أنحاء أستراليا… وإلى نيوزيلندا ومعي الرسالة البهائية… الحمد لله! كان بمقدور الأم [كلارا] التخلّي عن وظيفتها، ويسّر الله لي كسب ما يكفي للسفر في جميع أنحاء القارّة، مصطحبًا الأم إلى المدن الرئيسة.(11)

وهكذا بدأ هايد العمل مع شركة حليب باخوس مارش (بعد فترة وجيزة استملكتها شركة حليب نستله). على مدى أوّل سنتين ونصف كانا يقيمان في مقاطعة نيو ساوث ويلز، في بيت صغير مستأجر في سيدني حيث مكثت فيه كلارا خلال الأسبوع في حين سافر هايد إلى بلدات الريف. كانت كلارا تجتمع مع الناس وتدعوهم إلى اجتماعات في عطلة نهاية الأسبوع، حيث يتحدّث هايد. خلال هذه الفترة ‘زاد الاهتمام بأمر الله وجاء الناس… في جميع الأوقات لرؤيتنا. لم يكن هناك وقت للتنفّس على الإطلاق. فالوقت أمامنا وقت الحرث المتواصل.’(12)

على الرغم من العمل الشاقّ، مضت سنتان قبل أن يعتنق أوّل شخص الدين البهائي. يستذكر هايد هذا الحدث الميمون:

كنت في بلدة ليزمور [تبعد 498 كيلومترًا شمال سيدني] في عمل تجاري وقد جمعت حولي عددًا قليلاً من رجال الأعمال وكنّا نناقش مشاكل العالم والمبادئ البهائية الاثني عشر لحلّها… ولكنّهم كانوا جميعًا في شكّ كبير منها… لذلك اقترح أحدهم دعوة السيّد ويتاكر. فأحضره أصدقاؤه في نشوة انتصار عظيم. سألني سؤالاً واحدًا فقط – الذي اعتقدوا جميعًا أنّه سيكشف خلل الدين والظهور البهائي… سألني، ‘هل تستطيع أن تقول لي ما هي المحبّة؟’ كان جوابي، ‘نعم. فإنّ القانون الكلّي للكون العظيم وقوّته قد تشكّل بفعل المحبّة.’ ثم قال، ‘هل هذا هو المحبّة؟’ ولم يسألني سؤالاً آخر مطلقًا.(13)

في أواخر عام 1922 آمن أوزوالد ويتاكر بالدين البهائي، وكان صديقًا محبًّا ومخلصًا للأب دنّ. وفي وقت لاحق كان مرشدًا لمجموعة دراسية في سيدني. وفي عام 1934 انتُخب عضوًا في أوّل محفل روحاني مركزي للبهائيين في أستراليا ونيوزيلندا.

قرب نهاية عام 1922 ذهب الأب والأم دنّ في عطلة إلى نيوزيلندا لتبليغ أمر الله. فالتقيا هناك بالبهائية الوحيدة في البلاد، مارغريت ستيفنسون، التي آمنت في عام 1913 من خلال قراءة مقال عن الأمر في «الكومنولث المسيحي». تحدّث هايد وكلارا أثناء زيارتهما عن أمر الله في البيوت والكنائس وفي «مركز الفكر الأعلى». وكانت سارة بلونديل، التي عقد في منزلها الاجتماع البهائي الأوّل في نيوزيلندا خلال هذه الفترة، سرعان ما قبلت أمر الله. بقيت كلارا لبعض الوقت في نيوزيلندا للمساعدة في تكوين مجموعة للدراسة بينما عاد هايد إلى أستراليا. قالت مارغريت ستيفنسون لاحقًا إنّ أمر الله بدأ ينتشر في أوكلاند من وقت زيارة دنّ. وقد أشاد حضرة شوقي أفندي، في رسالة مكتوبة [نيابة عن حضرته] في منتصف عام 1923 إلى أحد أفراد الأحبّاء، بأعمال عائلة دنّ في نيوزيلندا كما يلي:

ينقل حضرته إليك تقديره العالي لروعة إيمان الأحبّاء في نيوزيلندا، والتقدير العميق تجاه الخدمات الرائعة لأعزائنا السيّد والسيّدة دنّ، اللذين باركتهما قوّة الروح القدس على نحو رائع.(14)

بعد سنتين ونصف في نيو ساوث ويلز تمّت ترقية هايد في عمله ‘فقد أُعطيتْ لي كلّ القارّة للعمل فيها’.(15) ذهب الزوجان دنّ أوّلاً إلى ميلبورن، حيث مكثا في ولاية فيكتوريا مدّة ستّة أشهر. ومن خلال علاقات عمل هايد تمكّن الزوجان دنّ في النهاية من زيارة كلّ ولاية في أستراليا.

كان في ميلبورن أن سمعت إيفي بيكر، وهي واحدة من أوائل المصوّرين بالألوان في أستراليا، عن الدين البهائي عن طريق هايد ثم أصبحت بهائية. إنّ سجّلها من الصور الفوتوغرافية عن المواقع التاريخية الأثرية في ايران المرتبطة بأمر الله، والذي أنجزته بعد بضع سنوات بتضحية عظيمة، نجده محفوظًا في كتاب «مطالع الأنوار».

في عام 1923 استقرّ الزوجان دنّ في مدينة أديلايد في جنوب أستراليا. وفي أقلّ من سبعة أسابيع على وصولهما، استضافا جلسة ضيافة تسع عشرية حضرها (135) شخصًا. قرب نهاية العام، تقبّل بيرسي وميسي ألموند أمر الله في الاجتماع الذي كان هايد يتحدّث فيه.

بعد عدّة أشهر غادر الزوجان دنّ أديلايد إلى غرب أستراليا، حيث أسّسا صفوفًا دراسية. وقد قابلتهما المبلّغة المتميّزة أونور كمبتون في مدينة بيرث. وكانت قد سافرت من هونغ كونغ إلى ميلبورن في رحلة استغرقت (23) يومًا عبر بحار عاصفة، ثم استقلّت قطارًا لتصل بعد خمسة أيّام الى بيرث. وقد سجّلت في مذكّراتها لشهر تمّوز 1924 ما يلي:

إنّ السيّد والسيّدة دنّ موجودان في بيرث. ما أروع هذا الترحيب! هذا هو النعيم. غرفتي مليئة بأفخر باقات الزهور التي أحضرها معهم خمسة عشر من الأحبّاء، زجاجة عطر، وقلادة بشكل مسبحة رائعة… لديّ صالون في منزل جميل. جاء صحفيون، جاء أصدقاء. في المساء قامت كلارا دنّّ بتدليك ظهري… هذه النفوس الرائعة في أستراليا. يبدو وكأنّ معجزة حصلت بما أنجزه السيّد والسيّدة دنّ. لا حاجة للقول أيّ نوع من المبلّغين هما… يحتاج المرء فقط أن يشاهد وجوه أبنائهما البهائيين المنيرة.(16)

عندما وصلت مارثا روت إلى ملبورن في عام 1924 لاقت ترحيبًا مميّزًا من البهائيين الذين أرسلوا العديد من باقات الزهور وسلال الفاكهة والهدايا المختلفة. كما تلقّت أيضًا تذكرة للسفر بالسكّة الحديد من الزوجين دنّ، يطلبان منها الانضمام إليهما في بيرث.

وصفت مارثا كلارا وهايد دنّ بأنّهما ‘اثنان من البهائيين، بشعر أشيب جميل ووجوه شابّة حلوة… تطفح نورًا ومحبّة.’(17) وكلارا، التي ‘تملك قوّة شفاء مغناطيسية في يديها’،(18) دلّكت ظهر مارثا للتخفيف من آلامها المزعجة، ومع إيفي بيكر، ‘شرعت باستعادة الصحّة الجسدية [لمارثا].’(19)

 

أمضت مارثا خمسة أشهر مضغوطة بالعمل ومتوّجة بالظفر في أستراليا ونيوزيلندا، مشيرة أنّ العمل المجرّد من الأنانية من قبل الزوجين دنّ، وحياتهما المثالية والأساس الذي وضعاه، هي الأمور وراء أيّ نجاح حقّقته في نشر التعاليم البهائية. ومع ذلك، أسرّ الأب دنّ إلى مارثا أنّه يتمنّى أن يكون بمقدوره فعل شيء لأستراليا. وشعرت الأم دنّ أنّها قد فشلت ثم بكت. ومارثا، التي كان مديحها لأعمال الزوجين دنّ لا حدود له وإعجابها يفوق الوصف، قالت عنهما: ‘بمثل هذا التواضع اللطيف أزهرت الحدائق الروحانية في النفوس البهائية أولى براعمها الرائعة في هذه الأرض الجميلة من نصف الكرة الجنوبي.’(20)

في العام نفسه، كتب حضرة شوقي أفندي إلى الزوجين دنّ:

أيّ تشجيع وأيّ مصدر إلهام يتنشّط به المرء بين الحين والآخر بالنسيم المنعش يهبّ من أستراليا البعيدة محمّلاً بعطر محبّتكم وإخلاصكم لأمر حضرته المقدّس. ألف أحسنتما يا حبيبيّ العزيزين! إنّني على يقين أنّ الدفء والمثابرة، والثقة والإيمان من جهتكما سيعمل على تأسيس ديننا الغالي في قلب تلك القارّة التي سوف يتردّد فيها الاسم الأعظم في المستقبل ويُشاد بأعمالكما المجيدة من التضحية بالنفس أنتما اللذين هاجرتما في سبيل أمره إلى تلك المناطق البعيدة. سوف يكون أجركما عظيمًا يفوق التوقّع وسوف تكافأ جهودكما بوفرة من قبل حضرة عبدالبهاء نفسه في العالم الآخر.(21)

قبل نهاية العام، غادر هايد وكلارا غرب أستراليا لزيارة [جزيرة] تسمانيا. وقد استقرّا في شقّة في هوبارت، وعقدا جلسات التبليغ المنزلية ونجحا في تسجيل الآنسة غريتا لامبريل التي انتُخبت لاحقًا عضوًا في المحفل الروحاني المركزي عام 1942 وخدمت سكرتيرًا له عدّة سنوات. واصل الزوجان دنّ زياراتهما إلى عدّة مدن في أستراليا وعادا إلى سيدني في عام 1925.

لا بدّ أنّ الأحداث المثيرة في هذه السنوات المبكرة كانت مصدر إلهام للأب دنّ للتعبير عن هذه المشاعر:

على أيّ نحو غريب تسير الأمور – وبأيّ روعة ينفّذ الله مشيئته ويوجّه بخططه حياتنا ومعها نعمة الحياة، حتى نتمكّن من خدمته… فلا حدود له، لو كنّا فقط مطيعين ومخلصين في الفعل والدافع… يا أحبّاء حضرة بهاءالله (!) ثبّتوا خطاكم وتحيّنوا كلّ فرصة للخدمة بوعي جديد من المحبّة والخدمة، وبذلك نبرّر كوننا بهائيين.(22)

بعد تأسيس أوّل محفل روحاني محلّي في ميلبورن، في كانون الأوّل 1923، تقدّم أمر الله بثبات من خلال محبّة الزوجين دنّ ورعايتهما وعطائهما في السنوات اللاحقة. ومع مواصلة الزوجين دنّ أسفارهما الواسعة في أستراليا ونيوزيلندا، تشكّلت المحافل الروحانية المحلّية، ووصل مبلّغون بهائيون بارزون مثل كيث رانسوم-كيلر وفريد شوبفلوخر، وتأسّست نشرة إخبارية فصلية بهائية، ثم مدرسة صيفية بهائية. تشكّل أوّل محفل روحاني مركزي للبهائيين في أستراليا ونيوزيلندا في عام 1934. وطُلب من كلّ من هايد وكلارا دنّّ إلقاء كلمات في مؤتمر الوكلاء الأوّل. وإذ نهض هايد على قدميه خفق كلّ قلب بالفرح ونطق بالشكر لأنّ هاتين الأداتين المختارتين، اللتين جلبتا التفاهم والسلام لكثير من الحاضرين، كانتا هناك لتوجيههم وحثّهم على الارتقاء إلى مستويات أعلى من الإنجازات في سبيل المحبوب.(23)

في أواخر أيّام حياته، بدأت صحّة هايد في التدهور. في عام 1935 كتب حضرة وليّ أمر الله، من خلال سكرتيره، ما يلي:

بخصوص صحّة العزيز السيّد هايد دنّ؛ لا تكفي الكلمات للتعبير عن حزن حضرة شوقي أفندي لعلمه بتنامي ضعفه جسديًا. أرجو التكرّم بالتأكيد له، وكذلك للسيّدة دنّ، عن دعائه لأجل تحسّن صحّته واستعادة قواه بشكل كامل.(24)

إلاّ أنّه بعد سنة أصبحت صحّة هايد جيّدة بما يكفي لكتابة مقال للعدد الأوّل من «الفصلية البهائية»:

إنّ مناشدتنا للعالم البهائي هي متابعة نداء حضرة وليّ أمرنا المحبوب ورغبته في أن نقرأ وندرس [ألواح] «الخطّة الإلهية» التي وضعت في عام 1917 من قبل حضرة عبدالبهاء، مركز العهد الإلهي، حتى يتيقّظ البهائيون ثانية لطلب حضرة بهاءالله الحثيث لنشر دينه وتبليغ الناس.(25)

وعن كيفية إلهام «ألواح الخطّة الإلهية» الزوجين دنّ للهجرة إلى أستراليا، واصل هايد الكتابة:

امتلأ مخزننا بوفرة من حقائق فيوضاته [حضرة بهاءالله] ورسخ إيماننا في هدفه. كان هذا هو مخزوننا كلّه. الحمد لله الذي جعل الرسوخ يلازمنا. لم يكن انتشار الرسالة الإلهية بفضلنا، ولكن بتوجيه حضرته وعنايته. أيّتها الأخوات والإخوة الأحبّاء في البهاء، إنّ خدمة الهجرة هذه ما زالت تنتظر وتدعو المتطوّعين. لعلّ البعض منكم يستجيب، حيث لا يزال باب ميدان العمل مفتوحًا على مصراعيه وينتظركم. توفّر الأقاليم وجزر البحر ميادين عظيمة من التأييد لأولئك الذين سينضمّون للخدمة الإلهية لإخواننا في البشرية. إنّكم أنتم الذين يطلبونكم بكلّ شوق.(26)

في وصفه دور المهاجرين، واصل هايد القول:

يجب أن يكون المهاجرون أقوياء ومستعدّين لمواجهة كلّ المصاعب التي قد تظهر في طريقهم. فهذه لا شيء مقارنة بمسرّات الاستجابة الحبّية والتأييد الذي يتبع. إنّ الاستعداد لقبول أيّ تقلّبات تحدث هو عنصر أساسي في خدمة الله. فالخدمة توقظ وعينا بمقامنا الحقيقي ومنزلتنا في عالم الإنسانية – المنزلة والمقام الذي قدّره الله لنا لإطلاق الكمالات والفضائل. وبالتالي يصبح الله مشهودًا في عالم الخليقة هذا – هذا هو مقام النفس البشرية. مع أعزّ المحبّة باسمه الجميل…(27)

أمّا عائلة فيتزنر، من أوائل المؤمنين الذين عرفوا عائلة دنّ، فتصف دنّ بأنّه كان ‘يرحّب بالجميع ترحيبًا مفعمًا بالسرور. وكانت ابتسامة حلوة تعلو دائمًا وجهه العزيز… أمّا سلوكه فكان يتّسم دومًا بالمودّة واللطف. كما كان دائمًا يملك الإجابة الجيّدة للمستفسرين. وهو صبور إلى حدّ كبير… كان حسن الهندام (مع ربطة عنق أنيقة)، نظيفًا جدًّا ومرتّبًا وسيم المظهر. شعره أبيض كالثلج… يرتدي دائمًا قمصانًا في غاية النظافة والترتيب.’(28)

قبل ستّة أيّام من وفاته، حضر الأب دنّ ‘«اجتماع الشفاء» في المركز بعد ظهر يوم الثلاثاء، 11 شباط، وكان يبدو في طبيعته المعهودة المشرقة.’(29) إلاّ أنّه لدى وصوله إلى منزله، فقد الوعي لفترة وجيزة. وانتعش ثانية، ولكن بعد ثلاثة أيّام فقد الوعي مرّة أخرى ولم يستعد وعيه. فوافته المنيّة بعد عطلة نهاية الأسبوع صباح يوم الاثنين 17 شباط 1941. وقد أشاد به المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في أستراليا ونيوزيلندا على هذا النحو:

يرتبط تاريخ الدين البهائي في أستراليا ونيوزيلندا خلال السنوات العشرين الماضية بحياة السيّد جون هنري هايد دنّ وأعماله. فقد استجاب السيّد والسيّدة دنّ معًا لنداء حضرة عبدالبهاء إلى المؤمنين الأمريكيين بطلب عاملين في ميادين أخرى. فكان أن سافرا إلى هذه البلدان، أستراليا ونيوزيلندا، وقصّة هجرتهما المشتركة معروفة للجميع وهي موضع تقدير كبير في طول أنحاء هذه الأقاليم وعرضها. قاما وحدهما غير معروفَين لأحد ودون توفّر موارد مادّية على الإطلاق، بإعلان نداء اليوم الجديد في كلّ المدن الرئيسة في أستراليا، وفي أوكلاند، نيوزيلندا. وبكلّ عناية ومحبّة قاما برعاية أمر الله. في السنوات القليلة الأولى تمّ إنشاء ما لا يقلّ عن خمسة محافل روحانية محلّية… وعدد من المراكز التي يقطن فيها أفراد. في عام 1934 انتعش قلب الأب [دنّ] فرحًا لدى رؤية مزيد من الإزهار لجهود أعماله عندما برز المحفل الروحاني المركزي الى حيّز الوجود.

لقد توجّهت كلّ القلوب في تعاطف ومحبّة إلى الأم دنّ عندما أرسل الخبر إلى الأحبّاء بصعود الأب [دنّ] إلى الملكوت الأبهى يوم 17 شباط عام 1941. ولبعض الوقت كانت الخيوط التي تربطه بهذا العالم الأرضي تزداد رقة وضعفًا وقبضته على الحياة ترتخي أكثر، لتهيّئنا بالتالي لتلقّي ضربة الانفصال القاسية. ومع وعينا بالخسارة التي لا تعوّض، فإنّ الحزن على امرئ عاش سنوات طويلة مشرّفة لينجز الكثير، سيكون في غير محلّه. دعونا بدلاً من ذلك أن نشكر الله على الشرف والامتياز الذي أُسبع علينا وعلى الأجيال القادمة التي قُدّر لها أن ترث ثمرة جهوده المجيدة. كان للباحث الصادق دليلاً في الطريق الروحاني.

وبشموله بكمال الموفّقية والتأييد، فقد كان مثالاً رائعًا لمن أصبحت تأييدات الروح فيه قوّة حيّة، تبعث الحيوية والنشاط في كلّ فكر وفعل. وكان حضرة بهاءالله، بصفته تجسيدًا للواقع، النبع الذي استمدّ منه [الأب دنّ] مؤونته المتزايدة باستمرار من العون والمدد الروحاني. لم تكن الرسالة العظيمة التي حملها هي وحدها التي جذبت الاهتمام، بل بالإضافة إلى ذلك، كان هناك ذلك الضوء السحري الذي غمر شخصيّته بالكامل عند تقديم الرسالة، مانحًا إيّاه خاصّية وضعته في مستوى روحاني يسعى إليه الكثيرون متلمسين طريقهم كالعميان، ذروة لا يصلها أحد إلاّ بنبذ كلّ رغبة ومطمح شخصي. كان الجزاء الوحيد الذي نشده هو الفرح والسرور في خدمة حضرة بهاءالله. كلّ طارئ أو حادثة غير متوقّعة قبلها على اعتبار أنّها فرصة يجب اغتنامها لتعزيز مهمّته العليا – نشر الرسالة الإلهية، وبذر البذور التي ستؤتي أُكُلها في النظام العالمي الذي تصوّره حضرة بهاءالله. لم ينحرف عن هذه المهمّة أبدًا ولم يفقد الأمل على الإطلاق، مهما كان الطريق شاقًّا، أو التربة قاحلة، أو كان الحصاد في الظاهر ضئيلاً. كان إيمانه في حتمية النصر النهائي لأمر الله المحبوب ثابتًا كالصخرة التي لا تزحزحها صدمات اللامبالاة أو المحن التي تمرّ بها.

إنّ هذا الإيمان الراسخ، الذي يرضي ويسرّ النفس، المقرون برقّته اللطيفة وقلبه المتفهّم، قد ساهم بدرجة لا يستهان بها في تشكيل شخصيّته الفريدة الجذّابة. إلاّ أنّ إيمانه الشجاع بالقوّة المتأصّلة في أمر الله الذي روّجه هو الذي مكّنه من إضاءة شعلة في هذه الأراضي البعيدة لا يمكن أن تُطفأ أبدًا. فلنتّحد جميعًا في الثناء والشكر لله على ما وهبنا نحن أبناء هذا الجيل من امتياز متمثّل بالصداقة الشخصية مع العزيز الأب دنّ. عسى أن نتحرّك لمحاكاة ما كان عليه من تكريس تامّ.(30)

بعد أربعة أيّام على وفاته، بعث حضرة شوقي أفندي البرقية التالية:

أشارككم الحزن على هذا الفقدان، وأشاطركم أفراح انتصارات حبيبنا الأب دنّ. سيرة حياة رائعة عاشها المحارب المخضرم في أمر حضرة بهاءالله تعكس أصفى بريق لمهمّة تاريخية أنيطت بجامعة الأحبّاء الأمريكيين من قبل حضرة عبدالبهاء. إلى ثلاث بطلات استراحت رفاتهن في قلب بلاد فارس وفي جزيرة في المحيط الهادئ وفي أقصى قارّة أمريكا الجنوبية،(31) أضيف شاهد رابع الآن في أستراليا البعيدة، ما يشهد على أوّل الومضات المحيية التي أضيئت في تلك الأقاليم النائية التابعة روحانيًا للأحبّاء الأمريكيين الذين كُلّفوا بتأسيس أمر الله فيها. وهذا ما يدفعني إلى تهنئتهم على الظفر اللامع للخطّة المقدّر لها أن تحيط بالكرة الأرضية بأسرها. أوصي بعقد جلسة تذكّر مركزية في مشرق الأذكار بما يليق بمقام فاتح أستراليا الروحاني.(32)

في 27 نيسان 1952 تلقّى المحفل الروحاني المركزي في أستراليا ونيوزيلندا رسالة من حضرة شوقي أفندي: ‘اعتبار هايد دنّ من أيادي أمر الله.’(33)

1.
Shoghi Effendi, Messages to America, p. 45.
2.
شوقي أفندي، «كتاب القرن البديع»، الصفحة 363.
3.
To Follow A Dreamtime, p. 1.
4.
Dunn, Recalls Becoming a Bahá’í and Meeting ‘Abdu’l-Bahá, a taped recording, 1954.
5.
المصدر السابق.
6.
Brown, Memories of ‘Abdu’l-Bahá, p. 33.
7.
Dunn, Recalls Becoming a Bahá’í and Meeting ‘Abdu’l-Bahá.
8.
Star of the West, vol. 7, no. 4, p. 30.
9.
Bahá’í World, vol. 9, pp. 594–5.
10.
المصدر السابق، الصفحة 595.
11.
المصدر السابق.
12.
المصدر السابق.
13.
To Follow a Dreamtime, p. 5.
14.
Shoghi Effendi, Arohanui: Letters to New Zealand, p. 3.
15.
Bahá’í World, vol. 9, p. 595.
16.
Cited in Whitehead, Some Bahá’ís To Remember, p. 162.
17.
Garis, Martha Root, p. 187.
18.
Notes of Harold and Florence Fitzner, 4 September 1995.
19.
Garis, Martha Root, p. 188.
20.
Cited in Whitehead, Some Bahá’ís To Remember, p. 161.
21.
To Follow a Dreamtime, p. 9.
22.
To Follow a Dreamtime, pp. 4–5.
23.
To Follow a Dreamtime, pp. 10–11.
24.
Shoghi Effendi, Letters to Australia and New Zealand, pp. 10–11.
25.
To Follow a Dreamtime, p. 11.
26.
المصدر السابق، الصفحتان 11–12.
27.
المصدر السابق، الصفحة 12.
28.
Notes of Harold and Florence Fitzner.
29.
Bahá’í World, vol. 9, pp. 595–6.
30.
Bahá’í World, vol. 9, p. 596.
31.
Keith Ransom-Kehler, Martha Root and May Maxwell.
32.
Bahá’í World, p. 597.
33.
To Follow a Dreamtime, p. 17.

1874 – 1925 جون إبنزر  إسلمنت

Hand of the Cause of God John Ebenezer Esslemont (1874-1925)

ولد في أسرة متميّزة من أبردينشاير، اسكتلندا يوم 19 أيّار 1874. كان جون إسلمنت رجلاً لامعًا أنجز الكثير في حياته القصيرة التي امتدّت (51) سنة. كان الطفل الرابع لجون إي. إسلمنت، التاجر الناجح، ومارغريت ديفيدسون. كان شقيقه الأكبر وليام محاميًا، بينما كان شقيقه الأصغر بيتر يعمل في تجارة الشاي وكاتبًا أيضًا. أمّا عمّ جون، بيتر إسلمنت، فقد أصبح رئيسًا لمجلس بلدية مدينة أبردين كما كان نائبًا في البرلمان، بينما كان أحد أبناء عمومته، جورج، نائبًا في البرلمان أيضًا، وآخر يدعى جيمس أصبح عضوًا في «محكمة أراضي اسكتلندا.

تلقّى جون تعليمه في مدرسة فريهل وكلّيّة روبرت غوردون في أبردين. في عام 1898 تخرّج من جامعة أبردين بدرجة البكالوريوس بامتياز في الطبّ والجراحة، ‘بعد أن فاز بميدالية في الجراحة السريرية وبالمرتبة الثانية للميدالية الذهبية من جائزة جيمس أندرسون في الطبّ السريري في سنته النهائية.’(1) ولكونه الفائز الأوّل في منحة أبحاث فيليبس، أمضى النصف الأخير من عام 1899 في جامعتَي بيرن وستراسبورغ، حيث كتب ونشر بحثًا في علم الصيدلة. في نهاية العام عاد إلى أبردين، وأصبح مساعدًا لأستاذ الكرسي الملكي في المواد الطبّية حيث تابع أبحاثه. كان جون رجلاً ذا اهتمامات متنوّعة. فكان يجيد لغات الإسبرانتو والفرنسية والإسبانية والألمانية وتعلّم الفارسية والعربية في وقت لاحق. كان يحبّ الموسيقى ويملك صوتًا صدّاحًا جيّدًا. كان مهتمًا بشكل خاصّ بعلاج السل – الذي أصابه خلال أيّام دراسته الجامعية – ووضع خطّة متطوّرة من أجل القضاء عليه. كما أولى اهتمامًا نشطًا بمقترحات لإنشاء خدمة الصحّة الوطنية. وأجرى تحقيقًا في أنواع كثيرة من المعتقدات الدينية والنظم الغامضة قبل أن يصبح بهائيًا.

في عام 1901 شعر بانجذاب نحو معلّمة شقيقته في الموسيقى والتي كانت عازفة بيانو بارعة، وأُعلنت خطوبتهما ثم تزوّجا في أستراليا في كانون الأوّل 1902 واستقرّا أوّلاً في ولونجونج، في مقاطعة نيو ساوث ويلز. تولّى جون وظيفة في مستشفى أرارات وأصبح جرّاح المنطقة ومسؤول الصحّة في مقاطعة ألكساندر. لكنّ زواجه لم يكن سعيدًا رغم أنّ جون لم يفصح عن ذلك في العلن مطلقًا، ولم يرزق الزوجان بأيّ أطفال. في عام 1903 غادر جون أستراليا، وعاد إلى أبردينشاير لقضاء فصل الصيف.

مع اقتراب فصل الشتاء في اسكتلندا، غادر جون إلى جنوب أفريقيا، حيث أمل أن يكون المناخ أفضل وأسلم لحالته الصحّية. بقي في جنوب أفريقيا مدّة خمس سنوات يعمل كمسؤول طبّي في مستشفى حكومي في ديربان وفيما بعد جرّاح المنطقة في كرونستاد. كما نشر ورقتي عمل عن ملاحظاته الطبّية هناك.

في عام 1908 عاد إلى بريطانيا حيث أصبح المسؤول الطبّي المقيم للمصحّة الرئيسة في ساوثبورن في بورنموث، وهي واحدة من عديد المؤسّسات التي أنشئت في تلك الأيّام لعلاج السل الرئوي. في أبحاثه لإيجاد علاج لهذا المرض، ربّما ليس مستغربًا أن كان الدكتور إسلمنت من روّاد تطبيق تقنيات جديدة. في ذلك الوقت، كان مرض السلّ منتشرًا على نطاق واسع للغاية: ففي بريطانيا كان واحد من كلّ سبعة بالغين يموت جرّاء هذا المرض.

كان جون إسلمنت يعمل لساعات طويلة في المصحّة الرئيسة. ولكونه من أشد المؤمنين في الحفاظ على الروح المعنوية للمرضى، كان ينظّم المناسبات الاجتماعية لهم، وكثيرًا ما بقي حتى وقت متأخّر من الليل لرعاية مريض مشرف على الموت.

وبينما كان آخرون في مهنة الطبّ منخرطين في نقاش ساخن حول مقترحات الحكومة لتأسيس نظام تأمين صحّي وطني، قام جون وغيره من المهنيين الصحّيين البارزين في عام 1912 بتأسيس جمعية الخدمات الطبّية الحكومية، التي ترى تقديم خدمة كاملة للصحّة الوطنية. وكان جون عضوًا في لجنتها التنفيذية، وكتب المقالة الأولى التي ستنشر في مجلّة الرابطة، «عالم الطبّ». هذا، وقامت الجمعية بجمع احصاءات ومعلومات مفيدة قدّمتها إلى «المجلس الاستشاري للطبّ والخدمات المرتبطة» وأصدرت وثيقة ذات رؤيا بعيدة تضمّنت توصيات أصبحت أساسًا لخدمة الصحّة الوطنية البريطانية.

وكان من خلال عمله مع جمعية الخدمات الطبّية الحكومية أن سمع جون عن الدين البهائي. فقد كانت كاثرين باركر، زوجة أمين سرّ الجمعية، قد قابلت حضرة عبدالبهاء عندما كان في لندن. ومع أنّها لم تكن بهائية، إلاّ أنّها ذكرت الدين في محادثة مع جون في كانون الأوّل 1914 ممّا أثار اهتمام إسلمنت فطلب إعارته بضعة كتيّبات عن الدين البهائي. أعجب كثيرًا بتعاليمه. ثم كتب في وقت لاحق، ‘لقد أذهلني بادئ ذي بدء ذلك الشمول والقوّة والجمال في تلك التعاليم. وأبهرتني تلبيتها للاحتياجات الكبيرة في العالم الحديث على نحو أكثر كمالاً وإرضاء من أيّ عرض للدين كنتُ قد صادفته.’(2)

في غضون بضعة أشهر كان قد قرأ العديد من الكتب البهائية وبلغ افتتانه بأمر الله بحيث التزم بالصيام البهائي في آذار 1915 وألقى محاضرة عن الدين أمام أكثر من ثلاثين شخصًا في نُزل بورنموث التابع للجمعية الثيوصوفية. في الوقت نفسه شرع بسلسلة من المراسلات دامت طيلة حياته مع الدكتور لطف الله حكيم، حيث كتب إليه في 14 آذار 1915:

لقد ملأتني التعاليم البهائية بأمل جديد للعالم. فكما تحدث «معجزة الربيع» في العالم المادّي اليوم، كذلك آملُ أن تُثبت أنّ «معجزة ربيع» مماثلة قادمة إلى العالم الروحاني والاجتماعي، وأن يحقّق حضرة بهاءالله لعالم الإنسانية ما تقوم به الشمس المادّية من أجل الزهور والأشجار.(3)

انخرط جون فورًا في خدمة أمر الله. ففي شهري آذار ونيسان 1915 وصلت مؤمنة من أحبّاء لندن تدعى فلورنس جورج، إلى مدينة بورنموث لمساعدة جون في تأسيس مركز بهائي في البلدة. وقاما معًا بتبليغ أمر الله عن طريق الحديث إلى مجموعات ومنظّمات مختلفة وفي مراكز لتعليم الكبار. في عام 1916 عندما سمع نداءً لجمع الأموال لبناء مشرق الأذكار في أمريكا، قدّم جون مساهمة سخيّة للمشروع وعمل في الحصول على تعهّدات بالتبرّع من مختلف الأحبّاء في بريطانيا. ولاقتناعه بالحاجة إلى لغة عالمية، كان يعمل على تشجيع استخدام الإسبرانتو، وبفضل معرفته بتلك اللغة كان قادرًا على التواصل مع البهائيين في جميع أنحاء العالم. في عام 1916 ترجم مع الدكتور لطف الله حكيم «الكلمات المكنونة» إلى لغة الإسبرانتو.

أعرب جون عن حبّه لأمر الله وإخلاصه له في رسالة خطّها في عام 1916:

ليس هناك حدود لِما يمكن للروح البشرية أن تحقّقه بقوّة الإلهام الإلهي. فبذرة الطبيعة الإلهية موجودة في كلّ إنسان؛ إلاّ أنّ معظمنا لا يُظهرها. وبدلاً من ذلك نقوم بخنقها. فهي مثل نبتة تحتاج إلى الشمس والمطر لنموّها، شمس ومطر المحبّة والفضل الإلهي. ونحن لدينا القدرة إمّا لفتح قلوبنا لتلك المحبّة والفضل أو لرفضهما. ومن خلال تحويل انتباهنا واهتمامنا بعيدًا عن العالم وتوجيههما إلى الله فحسب نستطيع أن ننمو روحانيًا. وتحويل كهذا يعني الاهتمام بحقائق الأشياء ومغزاها الداخلي بدلاً من المظهر الخارجي. وهذا يعني أيضًا أنّ اهتمامنا ومحبّتنا لكلّ شيء خلقه الله في كونه ينبغي أن يزدادا إلى حدّ كبير، إلاّ أنّ علينا أن نعتبر جميع المظاهر الخارجية على أنّها ثياب تكسو الحقائق الداخلية، وأنّها مطالع مجد الله. آه! عسى الناس في جميع أنحاء العالم يتوجّهون قريبًا إلى الله، كما تجلّى في حضرة بهاءالله، بقلوب متواضعة نادمة، تتوسّل من أجل غفرانه تعالى وبركاته وترجو رحمته وعناياته! عند ذلك يأتي ملكوته إلى قلوب البشر ويصبح العالم كلّه وطنًا واحدًا والبشرية جمعاء أسرة واحدة.(4)

كان جون قد بدأ، حتى في ذلك الوقت المبكر من تشرين الأوّل 1916، بتأليف كتاب عن الدين البهائي، ورغم أنّ التقدّم فيه كان بطيئًا جدًّا نظرًا لعمله في المصحّة، إلاّ أنّه بحلول شهر أيّار من عام 1918 كان قد أنجز ما يقرب من نصفه. وفي الوقت الذي كان يكتب الفصل المخصّص للصحّة والشفاء، كتب إلى الدكتور حكيم من منطلق اهتمامه بالمنظور البهائي حول هذا الموضوع:

لقد أجريتُ دراسة خاصّة حول التعاليم البهائية فيما يتعلّق بالشفاء والعلاج… يبدو لي أنّه إذا كان لدينا النوع الصحيح من الإيمان، ينبغي لنا أن نملك قوّة الشفاء – وإذا استطعنا أن ندرك بنحو كاف وجود الله وقدرته ومحبّته، ينبغي أن نتلقّى العلاج لأمراضنا الجسدية كما العقلية، ونكون قادرين على مساعدة الآخرين بالوسائل الروحانية للتخلّص من أمراضهم.(5)

في تمّوز 1918 سافرت إثيل روزنبرغ، وهي من أوائل البهائيين الإنجليز، إلى بورنموث في زيارة. وأثناء وجودها هناك قرأت مسودّة فصول كتاب إسلمنت وفكّرت أنّ واحدًا من الفصول يصلح أن يكون كتيّبًا. وقد عُمل باقتراحها ونُشر كتيّب من 31 صفحة بعنوان «ما هو البهائي» من مؤسّسة مالفينا في غرب كنسينغتون في عام 1919.(6)

أحد الذين التقى بهم جون في بورنموث كان الرائد ويلزلي تيودور بول، الذي تمكّن من زيارة حضرة عبدالبهاء في حيفا في 19 تشرين الثاني 1918. ولا بدّ أنّه تحدّث إلى حضرته إيجابًا عن خدمات إسلمنت لأمر الله، الأمر الذي جعل حضرة شوقي أفندي يكتب على الفور إلى جون:

 

أخي الروحاني العزيز،

… لقد ذكر النقيب تيودور بول… اسمك لمحبوبنا [حضرة عبدالبهاء]، وذكر خدماتك لأمر الله التي لا تعرف الكلل. كم سُرّ المحبوب لسماع ذلك. لقد قام بالدعاء لأجلك وسأل أباه السماوي طلبًا للتأييد والعون.(7)

كانت هذه البداية لصداقة حميمة بين الرجلين، وهذه مسألة نادرة بالنسبة لوليّ أمر الله القادم، الذي لن تتيح له مسؤوليّاته الكثير من الوقت لعلاقات حميمة.

في شهر كانون الثاني 1919 تلقّى جون لوحًا من حضرة عبدالبهاء يطلب منه تقديم نسخة من كتابه ليقوم بمراجعته. فاستجاب جون بإرسال الفصول التسعة الأولى إلى المولى وحفظ اللوح عن ظهر قلب آملاً بتطبيق كلمات حضرة عبدالبهاء في حياته:

لقد تلوت ما نظمتَه من شعر في ثناء الله بما أنار عينيك بنور الهدى، نور وحدانية عالم الإنسانية؛ بحيث فاض قلبك بمحبّة الله، وانجذبت روحك من نفحات الله، وإنّني أتضرّع إلى العناية الإلهية أن تصبح شعلة لذلك الجمع، حتى يتسنّى لنور المعرفة أن يتألّق منك، وأن تكون ثابتًا للعمل وفقًا لمغزى «الكلمات المكنونة» ويهبك الله القوّة في جميع الأحوال… أدعو الربّ أن يؤيّدك في خدمة البشرية جمعاء، بغضّ النظر عن العرق أو الدين. لا بل أن تتعامل مع الجميع وفقًا لتعاليم حضرة بهاءالله، التي هي بمثابة ماء الحياة في هذا العصر المجيد.(8)

أمِل جون في مرافقة الدكتور حكيم لدى زيارته الأرض الأقدس في تمّوز عام 1919، لكنّ حضرة عبدالبهاء طلب من إسلمنت إحضار مخطوطته الكاملة معه، ولكنّها لم تكن جاهزة بعد. وأخيرًا غادر جون إلى حيفا في تشرين الأوّل 1919 بطريق البرّ مرورًا بباريس وروما إلى باري، على الجانب الآخر من نابولي، ليستقلّ السفينة إلى الإسكندرية. في باري التقى بكورين وإدنا ترو اللتين كانتا متوجّهتين إلى حيفا أيضًا، فأمضوا عدّة أيّام معًا، يخرجون في جولات رائعة ويناقشون شؤون العالم. كتبت إدنا في وقت لاحق أنّها وجدت رفقة الدكتور إسلمنت ‘محفّزة’ و‘مبهجة’(9) كانت الأختان ترو أوّل الحجّاج الغربيين الذين وصلوا إلى حيفا بعد الحرب العالمية [الأولى].

أمّا الدكتور إسلمنت الذي استقلّ بعدهن باخرة من باري في وقت لاحق، فقد وصل إلى حيفا في 5 تشرين الثاني، ولكن نظرًا لأنظمة الحجر الصحّي، لم يلتق بحضرة عبدالبهاء إلاّ في اليوم التالي. وبعد وقت قصير من وصوله أصابه المرض، ولذلك لم يتمكّن من حضور العديد من محادثات حضرة عبدالبهاء، وأصيب جون بخيبة أمل كبيرة لأنّ حضرة عبدالبهاء كان أهمّ مصدر للمعلومات لكتابه، كما كان الاجتماع بحضرته السبب الرئيس لرحلته. ولكنّ الدكتور حكيم كان يأتي إلى غرفة جون في كلّ يوم ليخبره بما كان يقوله حضرة عبدالبهاء، كما كان جون أحيانًا في صحّة جيّدة بما يكفي للجلوس مع الحجّاج عندما يجتمعون حول مائدة حضرة عبدالبهاء.

زار حضرة عبدالبهاء مرّة جون في غرفته أثناء مرضه. وعندما سأل جون المولى أن يدعو من أجل صحّته، أجاب حضرة عبدالبهاء:

يسعدني أن أدعو لأجلك. فإنّ الدعاء علاج للروح. سأدعو من أجل صحّتك الروحانية. فهذا أمر ضروري… لقد عانيتُ كثيرًا هنا، وينبغي أن يكون لك نصيب وأن تعاني قليلاً أيضًا.(10)

غادر الحجّاج الأمريكيون حيفا في 27 تشرين الثاني. وتعافى جون بعد ذلك بوقت قصير، وتمكّن من الزيارة مع الحجّاج الإيرانيين، وتلقّى دروسًا في اللغة الفارسية وأعطى دروسًا في الإسبرانتو. كان هو والحجّاج الآخرون يتناولون الطعام كلّ مساء على مائدة حضرة عبدالبهاء، وبعد ذلك كان المولى يتحدّث عن تاريخ أمر الله وتعاليمه. كما قام جون أيضًا بمساعدة حضرة شوقي أفندي والدكتور حكيم في ترجمة لوح حضرة عبدالبهاء الموجّه إلى مؤتمر لاهاي.

ناقش حضرة عبدالبهاء كتاب إسلمنت معه عدّة مرّات وقدّم اقتراحات لتحسينه. ولمّا كان جون قد جمع الكثير من المعلومات الجديدة، فقد تطلّب الكتاب الكثير من المراجعة. وتقرّر أن يعود جون إلى إنجلترا للعمل على المخطوطة، فغادر حيفا يوم 23 كانون الثاني 1920.

أنهى جون عمله في الكتاب في حزيران وفي شهر آب أرسل كافّة الفصول إلى الدكتور حكيم ليتمكّن من ترجمتها إلى الفارسية لمراجعتها من قبل حضرة عبدالبهاء. لدى الانتهاء من كتابه، شرع جون بدراسة اللغة الفارسية، وكان يقضي ساعتين كلّ يوم في تعلّم تلك اللغة. كان شوق جون لدراسة التعاليم البهائية بشكل أوسع بلغتها الأصلية هو الذي دفعه إلى تعلّم الفارسية والعربية. في أيلول جاء حضرة شوقي أفندي إلى بورنموث وزاره لبضعة أيّام في المصحّة.

كان قد تشكّل مجلس بهائي في إنجلترا قبل عدّة سنوات لإدارة شؤون البهائيين على مستوى القطر لكنّه لم يعقد اجتماعًا منذ عام 1916. في مقابلته الأخيرة مع جون في حيفا، أبلغ حضرة عبدالبهاء إسلمنت أن يعيد تأسيس المجلس:

نعلم أنّ هناك عددًا قليلاً جدًّا في إنجلترا الآن، لذا لا داعي لأيّة انتخابات. فليستمرّ الأعضاء الحاليّون، ويمكن إضافة عدد آخر ممّن يريدهم الأحبّاء. ثم دعهم يعملون معًا. أريد منك أن تكون عضوًا فيه [المجلس البهائي] أيضًا.(11)

وعليه، ‘عقد اجتماع تمهيدي يوم 22 تشرين الأوّل 1920’(12) حضره، من ضمن آخرين، الدكتور إسلمنت، إثيل روزنبرغ وفلورنس جورج. اجتمع المجلس رسميًا للمرّة الأولى خلال السنوات الخمس الماضية في يوم 7 كانون الأوّل 1920، وهو لقاء وصفه جون في رسالة إلى الدكتور حكيم بأنّه ‘متناغم جدًّا’:

أعتقد أنّنا جميعًا شعرنا أنّه [اللقاء] أشار إلى بداية عهد جديد من تاريخ أمر الله في هذا القطر. قمت بترتيب الاجتماع وفقًا لنصيحة حضرة عبدالبهاء التي قدّمها بواسطتي بحيث يقوم أعضاء المجلس القدامى الذين لا يزالون قادرين على العمل، بإضافة بعض الأعضاء الجدد الذين يوافق عليهم الأحبّاء، وبعدها على الجميع أن يعملوا معًا.(13)

تمّ تعيين جون من قبل المجلس لجمع التبرّعات وإرسالها إلى مشرق الأذكار في الولايات المتّحدة.

بالإضافة إلى ذلك وعمله في المصحّة، شارك جون في عدد من الأنشطة الأخرى. فتابع دراسته للغة الفارسية، وكان منهمكًا في تعزيز تعلّم واستخدام الإسبرانتو، كما كان أمين السرّ لعصبة اتّحاد الأمم المحلّي، وينظّم المناسبات والاجتماعات البهائية المحلّية، وفي كانون الثاني 1921 بدأ مفاوضات مع مطبعة سوارثمور من أجل طبع ونشر كتابه.

في تشرين الثاني 1921 حدث صعود حضرة عبدالبهاء فجأة، وعمّ الحزن العالم البهائي بأسره. ومع أنّ حضرته كان قد بدأ بمراجعة كتاب جون، إلاّ أنّ الفصول 1 و 2 و 5 وجزء من الفصل الثالث كان قد صحّحها قبيل صعود حضرته.

كتب جون على الفور إلى حضرة شوقي أفندي، الذي كان في هذا الوقت يدرس في [جامعة] أكسفورد، قائلاً:

الأعزّ شوقي

إنّها بالفعل ‘صاعقة من السماء’ عندما استلمتُ برقية تيودور بول صباح هذا اليوم… لا بدّ أنّ الأمر صعب عليك للغاية وأنت بعيد عن عائلتك وحتى عن جميع الأصدقاء البهائيين. ماذا ستفعل الآن؟ أظنّك سترجع إلى حيفا في أسرع وقت ممكن، وفي غضون ذلك يمكنك القدوم إلى هنا على الرحب والسعة لبضعة أيّام… فقط أبرق لي… وسوف أجهّز لك غرفة خاصّة… وإذا كان بمقدوري تقديم أيّ مساعدة وبأيّ طريقة كانت، فإنّ ذلك سيكون من دواعي سروري. يمكنني أن أتخيّل تمامًا مدى ما تشعر به من انكسار القلب، وما أنت فيه من توق لأن تكون في موطنك، والفراغ الرهيب الذي لا بدّ أنّك تحسّ به في حياتك الآن… إنّ السيّد المسيح كان بعد صعوده أقرب إلى محبّيه من ذي قبل، ولذا أدعو عسى أن تكون الحال هكذا بيننا وبين محبوبنا [المولى] أيضًا. علينا القيام بدورنا في تحمُّل مسؤوليّتنا تجاه أمر الله، وستكون روح حضرته وقوّته معنا وفينا.(14)

ذهب جون على الفور إلى لندن، حيث وجد حضرة شوقي أفندي مستلقيًا على السرير غارقًا في الحزن وغير قادر على تناول الطعام أو النوم أو التفكير. فعاد به جون الى بورنموث بينما أجريت الاستعدادات للسفر إلى حيفا. كتب جون إلى الدكتور حكيم:

في بعض الأحيان كان حزينًا جدًّا ويغلبه الأسى، ولكنّه بشكل عامّ أظهر شجاعة كبيرة، ووصل تدريجًا إلى قناعة بأنّه على الرغم من غياب الجسد، فإنّ روح المحبوب كانت قريبة وقويّة ويمكن التواصل معها مثل أيّ وقت مضى، قناعة بدت وكأنّها أنعشت قوّته وأمله.(15)

غادر حضرة شوقي أفندي لندن إلى حيفا يوم 16 كانون الأوّل، ولدى وصوله علم بتعيينه وليًّا لأمر الدين البهائي طبقًا لوصيّة حضرة عبدالبهاء. وتلقّت إثيل روزنبرغ، التي كانت قد وصلت إلى حيفا بعد صعود حضرة عبدالبهاء، تعليمات من وليّ الأمر الجديد للدعوة لإجراء انتخابات لتشكيل محفل روحاني يضمّ مناطق أبعد من حدود لندن. لدى عودتها إلى بريطانيا، جرت الانتخابات في أيّار 1922 لتأسيس «المحفل الروحاني في لندن»، والمعروف أيضًا باسم «المجلس البهائي لعموم إنجلترا». كان هناك عشرة أعضاء منتخَبين بالإضافة إلى اثنين عيّنهم حضرة شوقي أفندي، هما إدوارد هول ممثّلاً مانشستر، وجون إسلمنت ممثّلاً بورنموث. وبسبب مرضه غاب جون عن الاجتماع الأوّل المنعقد يوم 17 حزيران، لكنّه انتُخب نائبًا للرئيس. وقد كتب إلى الدكتور حكيم ‘آمل أن يمثّل تعيين هذا المجلس الجديد بداية حقبة جديدة أكثر ازدهارًا للحركة البهائية في هذا القطر.’(16) في يوم 11 نيسان 1923 شكّل بهائيو بورنموث المحفل الروحاني المحلّي الأوّل، وانتخبوا جون رئيسًا له.

واصل حضرة شوقي أفندي العمل الذي بدأه حضرة عبدالبهاء في مراجعة كتاب جون، رغم أنّ هذا قد تأخّر بسبب غياب حضرته عن الأرض الأقدس. في أوائل عام 1923 بعث حضرته عدّة اقتراحات قائلاً: ‘أنا واثق أنّ كتابك هو أفضل عرض للدين تمّ تقديمه حتى الآن وأنا متأكّد أنّه سوف يثير اهتمامًا هائلاً.’(17) وقد صدر كتاب «بهاءالله والعصر الجديد» أخيرًا في أوائل أيلول 1923 من مؤسّسة جورج ألين وأنوين.

في 20 نيسان 1923 غادر جون بورنموث عائدًا إلى أبردين. ولمّا كان ينوي من عودته أن يقضي وقتًا للاستجمام، فقد شغل إسلمنت نفسه مرّة أخرى بدراسته للغة الفارسية وقراءة كتب تاريخ أمر الله باللغة الفارسية. في تشرين الثاني سافر إلى الجنوب، وتحدّث في كنيسة الموحدين في مانشستر وعاد إلى بورنموث في كانون الأوّل. في عام 1924 زار ستوكنتشيرتش في مقاطعة بكنغهامشاير، وكان هناك أن كتب رسالته الأولى إلى الدكتور حكيم باللغة الفارسية. وقرب نهاية شهر أيّار أكمل كتيّبًا بعنوان «بهاءالله ورسالته»، والتي نشرت بعد ذلك بشهرين. في الوقت نفسه شغل نفسه بتحضير الطبعة الأمريكية من كتابه للنشر، والتي ظهرت أخيرًا في تشرين الأوّل 1924. إلاّ أنّ قدرته على التنفّس قد ساءت مرّة أخرى في حزيران 1924، ممّا اضطرّه للراحة لأكثر من ثلاثة أشهر في تورفينز وفي أبردينشاير.

كان حضرة وليّ أمر الله قد كتب إلى البهائيين في لندن في كانون الثاني 1923 معربًا عن حاجته إلى ‘شخص كَفُؤ ليساعدني في أعمال الترجمة’(18) لكن لم يستجب أحد للنداء. وإذ نُصح بمغادرة اسكتلندا قبل بداية فصل الشتاء، تلقّى جون دعوة من حضرة وليّ أمر الله للحضور إلى حيفا، دعوة قبلها بكلّ سرور. وقد وصل إلى الأرض الأقدس يوم 21 تشرين الثاني 1924.

بدأ جون دروسه في تعلّم الفارسية فورًا. وفي تشرين الثاني ساعد حضرة وليّ أمر الله في ترجمة «لوح أحمد» وبحلول كانون الأوّل كان يقرأ مقتطفات من «تاريخ النبيل» ويترجمها. في شباط 1925 ساعد حضرة شوقي أفندي في ترجمة «الكلمات المكنونة» ومقاطع أخرى من كتابات حضرة بهاءالله. ولمّا كان قلقًا من عبء العمل الذي ألقي على عاتق وليّ الأمر الشابّ، كان جون يتطلّع إلى تقديم أيّة خدمة ممكنة. وعندما طلب منه وليّ الأمر أن يقيم في حيفا، وافق جون بسرعة. بحلول شباط 1925 كان يخدم حضرة شوقي أفندي سكرتيرًا له باللغة الإنجليزية. ومع ذلك، وبعد وقت قصير، تدهورت حالته الصحّية مرّة أخرى. فقد أصابته نوبة من ذات الرئة، من مضاعفات السلّ الذي كان يعاني منه، ألزمته المستشفى لأكثر من أسبوعين في شهر آذار.

أثناء مرضه، قَدِمت مارثا روت إلى حيفا كحاجّة. وأمضت مع الدكتور إسلمنت بعض الوقت بدراسة الإسبرانتو. وقد وجدت أنّ كتابه وسيلة تبليغية ممتازة واعتبرت جون عالمًا عظيمًا. كتبت مارثا في وقت لاحق وهي تتذكّر الوقت الذي قضياه معًا:

كان كلّ ما يفعله يحمل دلالة الكفاءة القصوى… في عملنا بإلاسبرانتو لم يكن يرضى بمجرّد أيّ كلمة، ولكن كنّا نناقش أحيانًا اثنتي عشرة كلمة ونبحث عن معانيها الدقيقة في العديد من المعاجم للعثور على الكلمة التي من شأنها التعبير عن روح كلّ فكرة بكلّ براعة.(19)

في أحد الأيّام، عندما كان طريح الفراش يعاني من شدّة المرض، أخبرت مارثا جون قائلة ‘حتى لو كنت لا تفعل شيئًا، فإنّك لا تزال تفعل الكثير في كلّ يوم، لأنّ كتابك ينشر الرسالة البهائية في كلّ قطر.’(20) وكما كان جون، كانت مارثا قلقة من حجم العمل الذي كان على حضرة شوقي أفندي القيام به:

إنّ الدكتور إسلمنت يساعد حضرته كثيرًا، ولكنّ الدكتور مريض جدًّا، فقد خرج من المستشفى وعاد إلى غرفته في الأسبوع الماضي، ويمكنه الخروج ليمشي قليلاً كلّ يوم. ثم حصلت له انتكاسة، وهو الآن راقد في سريره. صحّته واهنة جدًّا، ولكنّه غال جدًّا لأمر الله بكتاباته، وبما يعرفه من اللغة الفارسية، ومساعدته في أعمال الترجمة. فلندعو له رجاءً كي يكتسب القوّة حتى يخدم لفترة أطول.(21)

بعد خروجه من المستشفى، تقرّر أن يقضي جون فترة نقاهة لبعض الوقت في «الغابة السوداء» في ألمانيا. عمل هناك مع مضيفته على مراجعة الترجمة الألمانية لكتابه.

عاد إلى حيفا قرب نهاية شهر أيلول ولكنّه لم يكن بصحّة جيّدة ما جعله مجبرًا على ملازمة الفراش عدّة أيّام متتالية في كثير من الأحيان. في مطلع تشرين الثاني تعرّض لانتكاسة وعاد مرّة أخرى ليرقد على فراش المرض. في حوالي منتصف الليل يوم 21 تشرين الثاني، بعد سنة واحدة بالضبط من وصوله إلى حيفا، أصابته جلطة دماغية. وعلى أثرها ظلّ معه حضرة شوقي أفندي طوال الليل. في اليوم التالي، أصيب جون بجلطة ثانية ثم ثالثة كانت القاضية وذلك في حوالي الساعة السابعة من يوم 22 تشرين الثاني.

في يوم 23 تشرين الثاني أبرق حضرة شوقي أفندي إلى البهائيين في لندن:

‘وافت المنيّة محبوبنا إسلمنت. شاركوا الأهل والأصدقاء بالأخبار المؤلمة. أحثُّ الأحبّاء على تكريس يوم خاصّ للدعاء والتذكّر على مستوى العالم.’(22)

جرى لفّ جثمان جون إسلمنت بقماش من الحرير الأبيض وتعطيره بعطر الورد. ووضع حضرة شوقي أفندي خاتمه البهائي الخاصّ الذي لبسه لسنوات عديدة، في إصبع جون. دفن جون عند سفح جبل الكرمل، بجانب قبر وكيل الدولة، من أبناء خؤولة حضرة الباب والمشيّد الرئيس لمشرق أذكار عشق آباد. بعد وفاة جون إسلمنت، كتب حضرة شوقي أفندي ما يلي:

بمشاعر الحزن الغامر أنقل إليكم خبر خسارة أخرى شاء الله عزّ وجلّ، بحكمته الغامضة، أن يلحقها بديننا المحبوب. ففي يوم 22 تشرين الثاني، عام 1925 – ذلك اليوم الخالد المقدّس الذي احتفل فيه البهائيون في الشرق بالعيدين التوأم، إعلان دعوة حضرة الباب وعيد ميلاد حضرة عبدالبهاء، صعد الدكتور جون إ. إسلمنت إلى الملكوت الأبهى. وكانت نهايته سريعة وغير متوقّعة. معانيًا من آثار مرض مزمن غادر، سقط في النهاية ضحيّة للمضاعفات الحتمية التي نتجت عنه، ولم يكن إيقاف مساره القاتل ممكنًا، لا بجهود الأطبّاء اليقظين ولا بالعناية المخلصة التي بذلها العديد من أصدقائه.

لقد تحمّل معاناته باصطبار يبعث على الإعجاب، وبتسليم هادئ وشجاعة. وعلى الرغم من قناعته بأن أمراضه لن تتخلّى عنه أبدًا، فقد أفصح في كثير من الأحيان عن رغبته الشديدة بأن يدعو الأحبّاءُ المقيمون في الأرض الأقدس، أثناء زيارتهم المقامات المقدّسة إلى الله الرحيم، أن يطيل أيّامه من أجل استكمال حصّته المتواضعة في خدمة عتبة حضرة بهاءالله. فاستجابت كلّ القلوب بحرارة لهذا الطلب النبيل، إلاّ أنّ الله شاء غير ذلك. فارتباطه الوثيق بعملي في حيفا، وهو ما وضعت فيه أعزّ الآمال، قد قطع فجأة… لقد خدم أمر الله، الذي أحبّه كثيرًا، حتى يومه الأخير بإيمان مثالي وإخلاص غير محدود. كان إيمانه الراسخ ونزاهته السامية ونكرانه لذاته ومثابرته وكدّه، سمات شخصية سيظلّ نبل صفاتها باقيًا إلى الأبد من بعده. وبالنسبة لي شخصيًا كان أعزّ الأصدقاء، ومستشارًا موثوقًا، ومتعاونًا لا يكلّ ولا يملّ، ورفيقًا محبّبًا.

بعيون دامعة أتضرّع على عتبة حضرة بهاءالله… في دعواتي الحارّة، أن تتكشّف في عوالم الغيب بنحو أكمل تلك النفس التي حقّقت بالفعل مكانة روحانية بهذا السموّ في هذا العالم. لأنّه بجمال شخصيّته، ومن خلال معرفته بأمر الله، ومن خلال الإنجازات الواضحة لكتابه، قد خلّد اسمه، وبجدارة محضة يستحقّ أن يعتبر كواحد من أيادي أمر الله.(23)

أصبح كتاب جون إسلمنت، «بهاءالله والعصر الجديد»، واحدًا من أكثر الكتب استخدامًا على نطاق واسع من بين الكتب البهائية. أشار إليه حضرة شوقي أفندي بأنّه ‘نصب تذكاري يخلّد نيّته الخالصة الذي من شأنه وحده، أن يلهم أجيالاً لم تولد بعد لتسير على طريق الحقّ والخدمة بذلك الثبات نفسه، والخلوّ من المباهاة، كما سار مؤلّفه المحبوب.’(24) لقد جرت مراجعته وتنقيحه وتحديثه عدّة مرّات وترجم إلى أكثر من (60) لغة. ولا يزال واحدًا من أشهر الكتب عن تعاليم حضرة بهاءالله.

1.
Momen, Dr John E. Esslemont, p. 2.
2.
المصدر السابق، الصفحة 8.
3.
المصدر السابق، الصفحتان 8–9.
4.
Bahá’í World, vol. 1, p. 134.
5.
Cited in Momen, Esslemont, p. 33.
6.
Weinberg, Ethel Jenner Rosenberg, p. 172.
7.
Cited in Momen, Esslemont, p. 10.
8.
المصدر السابق، الصفحة 11.
9.
المصدر السابق، الصفحة 13.
10.
المصدر السابق، الصفحة 16.
11.
المصدر السابق، الصفحة 21.
12.
Weinberg, Ethel Jenner Rosenberg, p. 174.
13.
المصدر السابق، الصفحة 175.
14.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 46.
15.
Momen, Dr John E. Esslemont, p. 25.
16.
Cited in Weinberg, Ethel Jenner Rosenberg, p. 213.
17.
Momen, Dr. John E. Esslemont, p. 27.
18.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 103.
19.
Garis, Martha Root, p. 214.
20.
Whitehead, Some Early Bahá’ís of the West, p. 178.
21.
Garis, Martha Root, p. 210.
22.
Momen, Dr. John E. Esslemont, p. 36.
23.
Bahá’í World, vol. 8, pp. 934–5.
24.
المصدر السابق.

1874 – 1951 لويس جورج غريغوري

Hand of the Cause of God Louis George Gregory (1874-1951)

كان جميع البهائيين قد تجمّعوا لحضور جلسة الضيافة التسع عشرية التي عُقدت في مكان يبعد نحو ثمانية أو تسعة منازل عن بيتنا. والظاهر أنّ جلسة محفل روحاني محلّي قد دُعي لعقدها بعد الضيافة. ولمّا كان السيّد غريغوري ينزل ضيفًا علينا في ذلك الوقت، فقد طلبت منّي والدتي أن أرشده إلى بيتنا بدلاً من بقائه هناك. لم أكن قد بلغت أكثر من ثماني سنوات من عمري، فقبلت المهمّة بعظيم الشرف. كانت ليلة حالكة السواد وكذلك كان السيّد غريغوري. أتذكّر حتى هذا اليوم تلك اللمحة الوحيدة التي نظرت فيها إليه، فقد تجمّدت نظرتي للحظة على جمال وجهه وطمأنينته، ولكنّ الأهم من ذلك كلّه، ذلك الشعاع الوضّاء الذي كان لافتًا بحيث بدا وكأنّه جزء منه. كنت مذهولة للغاية وحتى في مثل هذا الظلام وفي سواد لون بشرته يمكن أن يكون هناك فيض من النور. لم أتمكّن من تحويل نظري عن وجهه.1

ولد لويس جورج غريغوري، الأمريكي من أصل أفريقي، يوم 6 حزيران 1874، بعد إحدى عشر سنة على إعلان أبراهام لنكولن وضع حدّ للرقّ في الولايات المتّحدة في إعلانه التاريخي عن تحرير العبيد. كان لويس من مواطني تشارلستون في ولاية كارولينا الجنوبية وينتمي إلى الجيل الأوّل من عِرقه الذي ولد في أمريكا حرًّا. توفّي والده بمرض السلّ عندما كان لويس في الخامسة من عمره، فقامت بتربية الصبيّ والدته وجدّته لأمّه– اللتان كانتا حتى عام 1865 من العبيد في مزارع دارلنجتون المملوكة لجورج واشنطن دارغان.

كانت جدّة لويس امرأة قديرة، ورغم كونها أمّيّة، فقد درّسته بكرامة وشجاعة ومرح. كانت من أصل أفريقي نقي، وزوجةً عبدةً للمستشار دارغان ووالدة لويس هي ابنتهما. ومع أنّ دارغان توفّي في عام 1859، إلاّ أنّ لويس كان يعتبر أسلافه الِبيض، ودون مرارة، متميّزين في عملهم في الدين والتعليم وموافقتهم الطوعية على إنهاء العبودية.

في العقود التي تلت الحرب الأهلية عانت الغالبية العظمى من الأمريكيين الأفارقة من الفاقة حيث حرموا من المزايا الاقتصادية الممنوحة للِبيض. إلاّ أنّ عائلة لويس عانت الفقر بشكل خاصّ بعد وفاة والده وجّده الأسود، الذي أصيب بعيار ناري من قبل جماعة كو كلوكس كلان. وكانت جدّته هي التي وفّرت الاستقرار للأسرة خلال هذه الفترة من الصعاب الشديدة.

بينما كان لويس لا يزال طفلاً، تزوّجت والدته من جورج غريغوري الذي ولد حرًّا في حدود عام 1842، والذي أصبح أبا حقيقيًا للويس. كان جورج يملك عقارًا، وقد جلب معه إلى حياتهما الزوجية تقديرًا وإعجابًا بالأدب والموسيقى. وبذلك أضاف لويس إلى الدروس المستفادة من جدّته ووالدته تلك التي تعلّمها من زوج والدته كاحترام الذات، والبراعة والرغبة في التعلّم. في السنوات اللاحقة عهد جورج غريغوري بلويس إلى خيّاط لتعليمه الخياطة ودَفْع رسوم السنة الأولى لدراسته في الكلّيّة.

خلال إعادة الإعمار التي تلت الحرب الأهلية أصبح من حقّ الأمريكيين من أصل أفريقي التصويت في الانتخابات، والعيش في أحياء متكاملة، وتولّي مناصب حكومية، وتلقّي التعويض عن المظالم من خلال المحاكم. إلاّ أنّه مع ذلك، وفي أعقاب انسحاب قوّات الاتّحاد في عام 1877، فإنّ التبعية الاقتصادية، وتفشّي الأمّية وسيادة السكّان الِبيض أدّت بشكل فاعل إلى حرمان السود من حقوقهم المكتسبة خلال إعادة الإعمار. وسرعان ما وجد الأمريكيون الأفارقة أنفسهم محرومين من حقوق الإنسان الأساسية – التصويت، الخدمات العامّة، التعليم الجيّد، حقّ التملّك، الاشتراك في هيئات المحلّفين، وحتى حقّ المواطنة والتمتّع بحماية القانون.

والآن أصبح المظلومون والمعزولون بسبب اللون، من الأمريكيين الأفارقة عرضة للهجمات في كثير من الأحيان، ومصادرة الممتلكات، في أعمال شغب مهّد لها الِبيض من أجل ترويع السود وإجبارهم على الخضوع. وخلال السنوات ما بين عامَي 1884–1900، تعرّض أكثر من (2،500) من الأمريكيين الأفارقة إلى القتل عن طريق الإعدام دون محاكمة، وكانت معظم الحالات تقع في الجنوب. في عام 1915 توسّعت عضوية كو كلوكس كلان بسرعة بانتشار العنف في البلاد بأكملها. وأصبح العام 1919 معروفًا باسم «الصيف الأحمر»، عندما وقعت حوالي (25) حالة من أعمال الشغب العرقية في المدن الأمريكية في النصف الثاني من ذلك العام. وهكذا اجتاحت أعمال الإرهاب مناطق الجنوب والشمال على السواء.

وفي ظلّ هذه الظروف كان على لويس، نظرًا لإحساسه بمعاناة شعبه، إكمال تعليمه ليصبح واحدًا من عدد قليل من الرجال المتعلّمين تعليمًا متميّزًا من عرقه في ذلك الوقت. فقد التحق بمدرسة ابتدائية في تشارلستون، ليكون من بين أوّل جيل من الأمريكيين من أصل أفريقي يملكون الحقّ في التعليم. واصل لويس تعليمه في معهد أفيري في تشارلستون، ليتخرّج في عام 1891، ثم ذهب إلى جامعة فيسك في ناشفيل بولاية تينيسي حيث، بعد السنة الأولى من دراسته فيها، غطّى رسوم الجامعة بمنح دراسية وحصل على أموال إضافية بعمله في الخياطة والعمل كنادل. عندما حصل على درجة البكالوريوس في عام 1896، كان من بين ألفين فقط من الأمريكيين الأفارقة من أصل تسعة ملايين تخرّجوا من جامعة أو كلّيّة. بعد قيامه بالتدريس في معهد أفيري لبضع سنوات، التحق لويس بجامعة هوارد لدراسة القانون، ليتخرّج بدرجة بكالوريوس في الحقوق في عام 1902.

بعد أن حصل على إجازة المرافعة في المحاكم، دخل لويس في شراكة مع محامٍ شابّ في واشنطن العاصمة. وفي عام 1906 تولّى منصبًا في وزارة الخزانة. ولمّا كان يعيش في عاصمة البلاد، شاهد القوى التي تؤثّر على الأمريكيين الأفارقة. كانت أفكار لويس في ذلك الوقت «راديكالية» وكان يميل إلى التحريض لإزالة المظالم التي يعاني منها شعبه. (2) وقد تأثّر بشدّة بالمدعو و. إ. ب. دوبوا وحركة نياغارا، التي طالبت بحقّ الاقتراع لجميع الناس، والتساوي في الحقوق المدنية وتكافؤ الفرص ومجّانية التعليم الإلزامي، وحرّية الالتحاق بالمدارس والكلّيّات العليا، والقضاء على التمييز العنصري، والمعاملة العادلة في العمل وإلغاء قوانين جيم كرو – تلك القوانين التي تهدف إلى عزل الأمريكيين الأفارقة في الأماكن العامّة.

في عام 1907 شجّعه أحد أصدقائه القلائل من البِيض على حضور اجتماع بهائي. ذهب لويس بحكم الصداقة – ليس لأنّه يرغب في الذهاب – والتقى هناك ببولين هانين، التي قدّمت المتحدّثة لذلك المساء، لوا غتسنغر. تحدّثت السيّدة غتسنغر بشكل مقنع عن تاريخ الدين البهائي، واضطهاد واستشهاد البهائيين الأوائل في بلاد فارس. وإذ ثار فضوله واهتمامه بالموضوع، أخذ لويس بدراسة أمر الله. ففي مساء كلّ يوم أحد ولمدّة 18 شهرًا كان يذهب الى منزل جوزيف وبولين هانين للتزوّد بالمعرفة عن الدين الجديد. وقد كتب في وقت لاحق ‘إنّ النور الذي أظهراه للعيان بلغ من الروعة بحيث كنّا، لمدّة سنة تقريبًا، نجلس في ذهول صامت، نستمع إلى محادثاتهما الطافحة بالحِلْم والمحبّة، لا نعرف إن كنّا نريد التقدّم أو التراجع، إلاّ أنّنا كنّا في قبضة قوى سماوية.’(3) وفي حزيران 1909 أصبح لويس غريغوري بهائيًا.

منذ البداية، واجه لويس تفرقة داخل الجامعة البهائية في واشنطن. ورغم توجيهات حضرة عبدالبهاء بعقد لقاءات بين مختلف الأعراق، ظلّت الجامعة لعدّة سنوات متفرّقة في ثلاث مجموعات. الأولى هي التي انتمى إليها الزوجان هانين ولوا غتسنغر ولويس الذين أيّدوا الاجتماعات المختلطة علنًا وشاركوا فيها. أمّا المجموعة الثانية فقد آثرت الفصل العنصري، إذ إنّ الاختلاط العرقي كان غير طبيعي في تلك الأوقات. وفضّلت الثالثة أن يُفسح المجال أمام كلّ مؤمن ليختار بين الاجتماعات المنفصلة أو المختلطة.

أمّا لويس، الذي كان مهذّبًا واضح التعبير، ومتعلّمًا ومتميّزًا، وكان لغزًا من نوع خاصّ في جامعة الأحبّاء. فقد ساعد في إحداث تغيير في الموقف بين الأحبّاء الأوائل عن طريق دفعهم بهدوء ولكن بإصرار، لمواجهة قضيّة التمييز العنصري، مستلهمًا بلا شكّ من كلمات حضرة عبدالبهاء التي كتبها له في أقلّ من خمسة أشهر من اعتناقه أمر الله:

أملي أن تصبح… الوسيلة التي بواسطتها يقوم البِيض والملوّنون بإغلاق عيونهم عن الاختلافات العرقية ليشهدوا حقيقة الإنسانية، التي هي الاتّحاد الشامل للعالم ووحدة الجنس البشري، والانسجام الأساسي للعالم وظهور العناية الإلهية… اعتمد بقدر استطاعتك على الحقّ الأحد، وكن مستسلمًا لإرادة الله، حتى تتمكّن مثل الشمعة أن تشتعل في عالم الإنسانية، وتسطع مثل النجم وتتألّق من أفق الحقيقة وتصبح مصدر هداية لكلا العرقين.(4)

وقد كرّس لويس، الذي كان آنذاك في سنّ الخامسة والثلاثين، وقته الكامل لتحقيق أمل حضرة عبدالبهاء. فدعا نفسه «العامل لوئام الأعراق»، وفي السنوات الأربعين التالية سافر، وكتب، وحاضر وعلّم قضيّة وحدة الأعراق.

سافر لويس في أوّل رحلة تبليغية له في عام 1910. فزار ثماني مدن جنوبية، بما فيها تشارلستون وريتشموند، في ولاية فرجينيا؛ وماكون في ولاية جورجيا، وبالتالي بدأ مسيرته التبليغية التي جعلت منه المبلّغ البهائي الأكثر سفرًا على نطاق واسع في الولايات المتّحدة خلال حياته. وأصبح متحدّثًا عن أمر الله إلى أبناء عرقه وحامل لواء قضيّة اتّحاد الأعراق لجميع الناس. على مدى السنوات التالية كان كثير السفر إلى الجنوب، وغالبًا لعدّة أشهر في كلّ مرّة، وفي كلّ مدينة وجد أناسًا قبلوا رسالة حضرة بهاءالله. أصبح زائرًا مألوفًا في كلّيّات السود ومدارسهم الثانوية في الجنوب وكثيرًا ما حاضر في جامعة فيسك ومعهد تسكوجي. كما بقي على اتّصال وثيق مع كبار المثقّفين السود في ذلك الوقت، وأثار اهتمام جورج واشنطن كارفر بالدين البهائي.

في عام 1911 قام لويس برحلة حجّ إلى الأرض الأقدس. وتزامنت زيارته مع زيارة لويزا ماثيو، المؤمنة البريطانية التي نالت الإعجاب على عشقها لأمر الله. خلال أوّل اجتماع للويس مع حضرة عبدالبهاء، أثار المولى مسألة الصراع بين الأعراق في الولايات المتّحدة. وأخبر لويس أنّ الأعراق يجب أن تتّحد بالمعنى الحرفي، من خلال المصاهرة. وصرّح أنّ التزاوج يمحي الاختلافات العرقية وينتج نسلًا قويًّا، وطلب من لويس استخدام نفوذه لتشجيع تزاوج الأعراق المختلفة.

بينما كان لويس في سفر الحجّ، كتب حضرة عبدالبهاء إلى تشارلز مايسون ريمي، وهو بهائي أبيض في العاصمة واشنطن ما يلي:

لمّا كان كلا العرقين في حفظ ورعاية الله العليم الخبير، لذلك يجب أن تضاء مصابيح الوحدة في تلك الاجتماعات على شأن لا يُشاهَد فيها أيّ تمييز بين الأبيض والملوّن. فالألوان ظاهرة من الظواهر، ولكنّ حقائق الناس هي الأصل والجوهر. عندما توجد وحدة الجوهر فما هي قوّة الظاهرة؟ وعندما يسطع نور الحقيقة، فما هي قدرة ظلام الوهم؟ 

فإن أمكن، اجمعْ هذين العرقين، الأبيض والأسود، في محفل واحد وضعْ قدرًا من المحبّة في قلوبهم على شأن لا يتّحدون فحسب بل يتزاوجون فيما بينهم أيضًا. أيقن أنّ نتيجة ذلك ستمحو الخلافات والنزاعات بين السود والِبيض. عسى أن يتحقّق ذلك بمشيئة الله. فهذه خدمة كبيرة لعالم الإنسانية.(5)

ولعلم حضرته تمامًا بالمخاطر التي تنتظر كلا العرقين إذا سُمح للتمييز العنصري بالتفشّي، حذّر حضرة عبدالبهاء مرارًا وتكرارًا أنّه ‘سوف تزداد العداوة يومًا بعد يوم، وستكون النتيجة النهائية المشقّة وربّما تنتهي بسفك الدماء… وإلى أن يزول هذا التحيّز والتمييز تمامًا من بين شعوب العالم، فلن يجد عالم الإنسانية راحة ولا سلامًا. لا، بل سيزداد الشقاق وسفك الدماء يومًا بعد يوم، وسيُهدم أساس ازدهار عالم الإنسان.’(6) وكتب حضرته أيضًا، ‘إذا لم يوقَف عند حدّه، فإنّ العداء بين الملوّنين والِبيض في أمريكا، سوف يؤدّي إلى كوارث عظيمة.’(7) بعد ربع قرن من الزمان وصف حضرة شوقي أفندي التمييز العنصري بأنّه ‘القضيّة الأكثر تحدّيًا وإلحاحًا التي تواجه الجامعة البهائية.’(8)

وإذ تحوّل لويس روحانيًا نتيجة حجّه هذا، غادر الأرض الأقدس متوجّهًا إلى ألمانيا بناءً على طلب حضرة عبدالبهاء. لدى عودته إلى موطنه استأنف على الفور أنشطته التبليغية، وسافر إلى «غرين إيكر» في ولاية ماين في صيف عام 1911.

وصل حضرة عبدالبهاء في رحلته الممتدّة ثمانية أشهر في ربوع أمريكا في نيسان 1912. وعلى الفور تقريبًا، واجه قضيّة العنصرية وتحدّى ممارسة العزل الاجتماعي. في 23 نيسان أقيمت مأدبة غداء على شرفه في منزل علي قلي خان، القائم بالأعمال الإيرانية في العاصمة واشنطن. وحضرها أيضًا عدد من شخصيّات المجتمع البارزين في واشنطن. وكان حضرة عبدالبهاء قد دعا لويس إلى منزل عائلة خان لمقابلته قبل طعام الغداء. وعندما أُعلن عن البدء بتناول الطعام، تحيّن لويس الفرصة لمغادرة المنزل، ولكن:

كان كلّ الحضور جالسين حين وقف حضرة عبدالبهاء فجأة، وجال بنظره في أنحاء المكان، ثم سأل ميرزا خان، ‘أين السيّد غريغوري؟ أحضِر السيّد غريغوري!’ لم يكن بوسع ميرزا خان سوى البحث عن السيّد غريغوري… أخيرًا دخل السيّد غريغوري إلى الغرفة مع ميرزا خان. وكان حضرة عبدالبهاء في الأثناء… قد أعاد ترتيب أماكن الجلوس ليوفّر مكانًا للسيّد غريغوري، وأتاح له مقعد الشرف إلى يمين حضرته. وأعرب عن سروره البالغ بأن يكون السيّد غريغوري موجودًا، ثم شرع بطريقة طبيعية في إلقاء خطبة عن وحدة الجنس البشري، وكأنّ شيئًا غير عادي لم يحدث.(9)

كانت لويزا ماثيو بين عدد قليل من البهائيين الغربيين الذين سافروا مع حضرة عبدالبهاء إلى أمريكا على متن السفينة سيدريك. ولدى الصعود إلى السفينة في نابولي، تلقّت الايحاء الأوّل بأنّ حضرة عبدالبهاء لديه خطط لها. فقد طلب منها أن ترافقه في المشي على سطح السفينة، وأخبرها إنّه قد ‘زرع بذرة’ في قلبها. وفي وقت لاحق كتبت ما يلي:

في هذه البلاد كشف لي حضرة عبدالبهاء عن مراده في البداية بأسلوب رمزي، حيث ناولني زهرة بيضاء وطلب أن أعطيها للسيّد غريغوري، وبالنظر إليّ بطريقة غريبة، نقل لي ما عناه، بأنّه يرغب في زواجي من السيّد غريغوري. والغريب أنّه بعد ذلك بدأ الحبّ ينمو في قلبي وكذلك الرغبة في الزواج في حين لم يكن يجمعني بالسيّد غريغوري قبل ذلك سوى المودّة كصديق فقط.(10)

وزيادة في التعبير المباشر، نقل حضرة عبدالبهاء إلى لويس ولويزا رغبته في زواجهما. وكان الزواج المختلط غير قانوني في عدّة ولايات أمريكية وبغيضًا في كلّ مكان، وبالرغم من تأكيدات حضرة عبدالبهاء بأنّه سوف يساعد في التغلّب على التمييز، فقد وجد معظم البهائيين صعوبة في تقبّل التزاوج المختلط. وبإطاعة تعليمات حضرة عبدالبهاء بتوخّيهما الحكمة والتعقّل حتى لا يتسبّب في نشر تقارير صحفية مثيرة للمشاعر، تزوّج لويس جريجوري من لويزا ماثيو في حفل هادئ في نيويورك يوم 27 أيلول 1912. وقد وصف حضرة عبدالبهاء هذا الزواج الأوّل بين بهائي أسود وبهائية بيضاء بأنّه ‘مقدّمة لتحقيق الألفة والمودّة بين الأعراق’.(11)

لاقى الزوجان العديد من العقبات في حياتهما الزوجية. فلم يتمكّنا من السفر معًا دائمًا، وكثيرًا ما حُرما من مكان للعيش فيه. ولم يكن بمقدورهما السفر معًا في الجنوب، حيث كان لويس يقوم بالكثير من أعمال التبليغ. واعتُبر زواجهما من قبل العديد من الناس على أنّه جريمة، وحتى العديد من البهائيين شعروا بالحرج في محضرهما. ويتذكّر لويس ‘اللوم القبيح’ الذي تلقّاه من كلا العرقين لاتّخاذه خطوة لم يندم عليها أبدًا. وبروح ساحرة من الدعابة، قال عن تلك السنوات أنّ عدد أصدقائه ‘لم يكن كبيرًا’.

في الأوقات الكثيرة التي كان لويس ولويزا متباعدين نظرًا لأعمالهما التبليغية وظروف الحياة، كانا يشعران بمتعة كبيرة عندما يلتقيان معًا، ويمتلئان شجاعة وإقدامًا من إنجازات بعضهما، وكانا متحابَّين تمامًا. كان لويس يتحدّث عن سعادته لوجوده مع زوجته، عن حبّها الشديد له ونكرانها للذات. قدّمت لويزا إلى لويس التشجيع والاهتمام والتضحية. وتحمّلا المصاعب المالية بمرح وسرور لاعتقادهما المشترك بأنّ العالم يمرّ بمرحلة انتقالية وأنّ بناء نظام عالمي جديد أكثر أهمّية من محاولة تحقيق أمن مؤقّت من النظام القديم. وذات مرّة كشف لويس لصديق عن دخيلة قلبه قائلاً، ‘نأمل أنّ انفصالنا القسري على درب الخدمة في سبيل الأمر الإلهي سيجلب لنا برحمته الوحدة الأبدية في العوالم الإلهية.’(12) وعلّق في وقت لاحق، ‘خلال سنوات الحياة معًا كانت لدينا روح واحدة، وهدف واحد ومحفظة نقود واحدة.’(13)

إذا كان الزوجان غريغوري قد عانيا من حالات سوء الفهم والعداء كزوجين من عرقين مختلفين في عصر التمييز العنصري الراسخ، فقد عانى لويس أيضًا من العديد من الإهانات في أسفاره. ففي زيارة لمقابلة الدكتور أوغو جياكري وزوجته في مدينة نيويورك، كان على لويس استعمال مصعد الخدمات للوصول إلى شقّتهما، ممّا أثار استياء الدكتور جياكري. في مناسبة أخرى حُرم من مقعد في سيّارة بولمان على الرغم من شرائه تذكرة؛ وعندما رفض الانتقال إلى سيّارة جيم كرو، ألقي القبض عليه وقضى ليلة في سجن في ولاية كنتاكي. وعندما تلقّى دعوة لإلقاء محاضرة في إحدى الكلّيّات، لم يقدّم له الطلاّب أيّة ضيافة بعد ذلك وتركوه وحده في محطّة القطارات. رغم هذه الإهانات، لم يظهر لويس الغضب أو نفاد الصبر أو الاستياء. من ناحية أخرى، كان قويًّا جدًّا في دفاعه عن المبدأ.

في عام 1916 وصل أوّل ألواح الخطّة الإلهية من حضرة عبدالبهاء إلى الولايات المتّحدة. وقد دعا حضرة عبدالبهاء بشكل خاصّ إلى قيام مبلّغين لتأسيس أمر الله في ولايات الجنوب، حيث يعيش عدد قليل جدًّا من البهائيين. فاستجاب لويس على الفور. وبحلول 31 تشرين الأوّل كان قد تحدّث فعلاً الى خمسة آلاف شخص في جميع أنحاء الجنوب.

ورغم الصعوبات العديدة، والتوبيخ المتكرّر وغيرها من العوائق، زار لويس المدن والبلدات في جميع أنحاء الجنوب، حيث وصل إلى عدّة آلاف من الناس من كلا العرقين حاملاً إليهم رسالة حضرة بهاءالله. في عام 1917 باع لويس ولويزا منازلهما لتوفير أموال لأسفار لويس. وعندما لم يكن يحاضر في مراكز العلم، والقاعات العامّة والكنائس والنوادي والمنظّمات أو المنازل الخاصّة خلال رحلاته، كان يزور مؤمنًا مريضًا، أو يعقد جلسات «فايرسايد»، أو يكتب مقالاً صحفيًا، أو يساعد في تشكيل محفل روحاني محلّي، أو يخطّط لعقد اجتماع لوئام الأعراق.

في تشرين الثاني 1921 حدث صعود حضرة عبدالبهاء فأوقع العالم البهائي في ارتباك. لم يفهم الكثير من البهائيين الغربيين مقام حضرة وليّ أمر الله، ووجدوا صعوبة في تحويل ولائهم من حضرة عبدالبهاء إلى حضرة شوقي أفندي. أمّا لويس، فلم يجد صعوبة في القيام بذلك:

أظهر موقفه تجاه حضرة وليّ أمر الله ومنذ البداية سمة يعدّها البهائيون ثباتًا على عهد حضرة بهاءالله وميثاقه، وولاءً للشخصيّات الرئيسة في أمر الله ومؤسّساته، ثبات لا يتزعزع بحيث يمنع الفرقة وبالتالي الانقسام في نهاية الأمر.(14)

وفي ظل وليّ أمر الله، واصل لويس السفر لتبليغ أمر الله. وعلّقت ميريام هايني على نجاحه كمبلّغ في عام 1922، فكتبت:

لا أعتقد أنّه خلال الأربع وعشرين سنة أو منذ عام 1895 عندما بدأ أمر الله في هذه البلاد كان لدينا ما يقارب إنجاز لويس على أيّ نحو كان… لأنّها المرّة الأولى التي يتمكّن فيها أيّ مبلّغ مستنير كالسيّد غريغوري من الوصول إلى آلاف وآلاف من الناس، ملوّنين وِبيض. لهذا السبب ينبغي أن نعتبر عمله عملاً روحانيًا في غاية التميّز والروعة.(15)

وكتب هارلان أوبر:

من المحتمل أنّه لا يوجد أيّ فرد مبلّغ في أمر الله قد سافر على نطاق واسع في جميع أنحاء الولايات المتّحدة أكثر من السيّد غريغوري. بمعيشة في منتهى البساطة، وبتضحية في كلّ منعطف، تحدّث في المدارس والكلّيّات والكنائس والمنتديات والمؤتمرات ومع الأفراد في جميع أنحاء البلاد. وبمزيج رائع من الخضوع والشجاعة واللطف والثبات الصلب والاستقامة، التقى بالرفيع والوضيع، الغني والفقير، المتعلّم والجاهل، وناولهم كأس ماء الحياة.(16)

في حين كان لويس يحمل رسالة حضرة بهاءالله إلى سكّان الجنوب في أمريكا، ذهبت لويزا إلى أوروبا الشرقية لتبليغ أمر الله. ومع ذلك، واصل الزوجان غريغوري قضاء الصيف معًا باستثناء الفترة ما بين عامَي 1933–1936، عندما بقيت لويزا في بلغراد لتأسيس جامعة من الأحبّاء هناك. دفع هذا إلى التكهّن في بعض الأوساط حول سلامة حياتهما الزوجية، ولكنّ تفانيهما وخدمتهما لأمر حضرة بهاءالله فقط هو الذي أبقى الزوجين غريغوري متباعدين.

لم يكن لويس مبلّغًا رائعًا لأمر الله فحسب، بل إداريًا مقتدرًا أيضًا. في عام 1912 انتُخب عضوًا في كلّ من «اللجنة العاملة لواشنطن» وفي «الهيئة التنفيذية لوحدة المعبد البهائي»، وخدم في ذلك المجلس مرّة أخرى في عام 1918. وعندما تأسّس المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة وكندا، خدم في تلك الهيئة ما مجموعه أربع عشرة سنة في ثلاث مناسبات منفصلة، من 1922–1924، 1927–1932، ومن 1939 إلى 1946. وحتى عام 1946، عندما انتُخبت إلزي أوستن عضوًا في المحفل الروحاني المركزي، كان العضو الوحيد من أصل أفريقي الذي يخدم فيه. وساعد لويس في صياغة الدستور الداخلي للمحفل الروحاني المركزي، وهو الأنموذج لجميع دساتير المحافل الروحانية المركزية. حضر تقريبًا كلّ مؤتمرات الوكلاء البهائية المركزية من عام 1911 حتى تقاعده، وغالبًا كسكرتير في تلك المؤتمرات، أو مقرّر أو متحدّث فيها.

عُرفت موهبة لويس كمتحدّث بهائي في وقت مبكر من حياته البهائية، عندما خاطب مؤتمر الوكلاء المركزي لوحدة المعبد البهائي في عام 1912، فأفسح لنفسه مكانًا ضمن خيرة المتحدّثين البهائيين في ذلك العصر، مع نبرة صوته الموسيقية وجاذبية شخصيّته. على مرّ السنين حاضر وتحدّث حول مجموعة متنوّعة من المواضيع، من قبيل: «حقيقة الإنسانية»، «عيد الرضوان»، «عرض في الألوهية والإلهام»، «الاعتماد المتبادل بين الأفراد والأمم والأعراق»، و«النظام التعليمي الجديد من حضرة بهاءالله»، «الوحدة الأساسية لجميع الأديان»، و«قوّة الروح القدس». كما كتب أيضًا مقالات لمجلّة «نجمة الغرب»، و«مجلّة النظام العالمي» ومجلّد «العالم البهائي».

أمّا الموضوع الرئيس بالنسبة للويس، فكان قضيّة وحدة الأعراق. فعالج المسألة بالمواجهة المباشرة، كما فعل حضرة عبدالبهاء. فشرح، على سبيل المثال، موضوع ذكاء أصحاب البشرة الداكنة، عظمة الحضارات السوداء السابقة، إنجازات السود المتعلّمين، وعلى قدرتهم على الإنجاز. وبرهن على أنّ ألوان الأعراق نشأت بفعل من الظروف المناخية، ولذلك فإنّ التمييز على أساسها باطل. وتوسّع في شرحه عن قدرة حضرة بهاءالله على تحقيق وحدة الأعراق. وكتب مقالاً تكريمًا للمعلّم الأسود المتميّز جورج و. هندرسون من كلّيّة هندرسون التجارية، كما كتب عرضًا تاريخيًا شاملاً عن وئام الأعراق في أمريكا. وكلّما أُحرز تقدّم في تحسين العلاقات العرقية، مهما كان ضئيلاً، أقرّه لويس عن طيب خاطر.

نجد مثالاً على كتابة لويس وشغفه بوئام الأعراق في هذه المقالة التي نشرت في عام 1933:

تهب قوّة الرسول ولادة جديدة. والتعاليم الجديدة لليوم الجديد كافية للوحدة في جميع ما يتعلّق بالعرق. وهذا العمل هو واحد من أكثر الأعمال لزومًا وتشجيعًا لخدمة الإنسان. فتحقيق العدالة لإخواننا من البشر يوضّح رؤيتنا. فيمكن بل يجب تعليم الجهلاء واجتذاب الغافلين وحتى إحياء «الموتى»! والناس الذين وُلدوا في جو من التمييز ليسوا ميؤوسًا منهم. فظروف وأجواء كهذه تلين وتخضع للتدريب الروحاني. (17)

في عام 1920 ذهبت السيّدة أغنس بارسونز، وهي بهائية من العاصمة واشنطن، للحجّ إلى الأرض الأقدس. أوعز حضرة عبدالبهاء إليها بترتيب عقد مؤتمر في واشنطن حول وئام الأعراق. ولمّا كانت السيّدة بارسونز شخصية بارزة في المجتمع، وسيّدة ثريّة من العرق الأبيض، ونادرًا ما تغامر بالخروج من الدائرة الاجتماعية الخاصّة بها، لذلك كانت مرشّحة غير متوقّعة لوضع مثل هذا البرنامج المثير للجدل. مع ذلك، قبلت التحدّي. وفي شهر أيّار 1921 عقدت أوّل مؤتمر من عدّة مؤتمرات حول وئام الأعراق. وجمع المؤتمر قادة بارعين وأذكياء من كلا العرقين، كما كان كونغرس الولايات المتّحدة ممثّلاً فيه أيضًا. وفي تقريره عن المؤتمر في مجلّد «العالم البهائي»، علّق لويس قائلاً، ‘لقد ذكر عن مصدر موثوق أنّ رئيس الولايات المتّحدة الراحل، السيّد هاردينغ، لدى قراءة التقارير الصحفية التي كانت ودّية جدًّا ونشرت على نطاق واسع، قد قال: “حمدًا لله على ذلك المؤتمر”.’(18) وكشفت رسالة من حضرة عبدالبهاء الأهمّية الحقيقية لهذه التجمّعات:

قل لأصحاب هذا المؤتمر إنّه منذ بداية الزمان لم يعقد واحد أكثر أهمّية منه. فهذا المؤتمر يؤيّد وحدة الجنس البشري. وسوف يصبح سببًا في إزالة العداوة بين الأعراق. وسيكون علّة لاستنارة أمريكا. وعليه، إذا ما أدير بحكمة وبشكل متواصل، فسوف يوقف الصراع المميت بين هذه الأعراق وإلاّ فإنّه سوف يتفجّر.(19)

لقد دعم لويس هذا المؤتمر والمؤتمرات اللاحقة بفعاليّة. ومع أنّه لعب دورًا صغيرًا نسبيًا في البداية وترك المبادرة للسيّدة بارسونز، إلاّ أنّه كان عاملاً مؤثّرًا في مضمون الاجتماعات. وقد حثّ على تبنّي وجهة نظر البهائيين وأوصى بعقد الاجتماعات بانتظام. وأدرك تأثير المتحدّثين الذين تمكّنوا من نقل قوّة المحبّة للحضور، وأهمّية إشراك شخصيّات بارزة من كلا العرقين في البرنامج، والحاجة لدعاية واسعة النطاق.

عُقدت أربعة مؤتمرات لوئام الأعراق بين أيّار 1921 وتشرين الأوّل 1924 وبعد ذلك ضعف الحماس لعقدها. وكان لويس قلقًا من أنّ البهائيين في واشنطن العاصمة سوف يهملون عملهم الخاصّ بوئام الأعراق، لذلك استمرّ في الترويج للمؤتمرات باعتبارها وسيلة لجمع الأعراق معًا. ولكنّ لويس لم يكن ساذجًا، فكان يعرف كيف كانت الأوضاع القائمة بين الأعراق، فكتب:

لا يفهم أيّ من هذين العرقين الطرف الآخر جيّدًا. فالقلق والتخيّلات والتعصّبات والاستياء والمخاوف والأحقاد هي أمور تدمّر الثقة في النوايا الحسنة لبعضهم بعضًا وتنصب جدارًا فاصلاً يُعتقد عمومًا أنّه لا يمكن تجاوزه.

إنّ خطورة الوضع فادحة. فهذه المدينة التي هي فخر الأمة قد تلطّخت بالعار بالفعل من خلال أعمال الشغب والفوضى من جانب الغوغاء، وجرى خلالها إطلاق النار حتى على مسافة مبنى من البيت الأبيض، وهناك مشاهد مشابهة تهدّد بالوقوع باستمرار. يشعر العديد من الناس بالمرارة وشدّ الأعصاب. وهذه المشاعر لا تبشّر بالخير. فحيثما نجد في أيّ مكان في العالم اليوم كراهية فئة لفئة، أو أمّة لأمّة، أو عرق لعرق، فإنّ المأساة تقف لهم بالمرصاد. وقد يتأخّر تفجّرها، ولكن ما لم يتمّ تغيير المشاعر فلا يمكن منعها على الإطلاق.(20)

واقترح لويس كيفية الترويج لمؤتمرات وئام الأعراق:

يتكوّن هيكل مؤتمر الوئام من مجموعة من الناس المنسجمين المتوافقين الراغبين في العمل بهذا الميدان. عليهم أن يجهدوا بكلّ حكمة في توسيع دائرتهم وزيادة عددهم من خلال نقل آمالهم ومُثُلهم للآخرين. إنّ العاملين في مؤسسات الإنعاش الاجتماعي الموجودين في كلّ مجتمع هم غالبًا الأكثر احتمالاً للاستجابة لنداء من أجل الانخراط في هذه الخدمة الإنسانية ويجلبون معهم أنبل كنوز القلب والعقل. كيف يمكن أن تتأثّر نفسية جماهير تُعاني عن طريق علمها أنّ هناك في مكان ما من العالم مجموعة من الناس يؤمنون بترجمة الأفكار السامية إلى أفعال، هو أمر يستحقّ التأمّل والتفكير بأنّ ما يحدث يتأثّر بما ينبغي أن يكون. والواقعي يتأثّر بالمثالي. والمثاليّات ينبغي الاعتزاز بها ونشرها.(21)

كان لويس ج. غريغوري الباعث الرئيس وراء العمل البهائي في وئام الأعراق لأكثر من خمس وثلاثين سنة، فأبقى القضيّة حيّة ووضعها في صدارة اهتمام البهائيين. وفي حين كان اهتمام البهائيين في قضيّة العلاقات العرقية يتراوح بين انحسار ومدّ على مرّ السنين، واصل لويس الترويج لها بكتابة تقارير عن أنشطة وئام الأعراق في أمريكا، والإشادة بدلائل وجود روح جديدة من التفاني بين المؤمنين كلّما ظهرت، والعمل منسّقًا أو متحدّثًا في جلسات الوئام، والسفر مع مختلف المؤمنين الِبيض إلى الجنوب، واستضافة عدد من الحفلات السنوية تكريمًا للجمعية الوطنية لتقدّم السكّان الملوّنين، وحضور مؤتمرات وحدة الأعراق في «غرين إيكر». كما أقرّ ودعم ذلك البيان الرائع حول الأعراق بعنوان «النداء الإلهي لوئام الأعراق».

في عام 1937، وفي انطلاق خطّة السبع سنوات الأولى، سافر الزوجان غريغوري إلى هايتي لمدّة ثلاثة أشهر. وفي وقت لاحق من ذلك العام افترقا ثانية حيث عادت لويزا إلى بلغراد لفترة وجيزة وعاد لويس إلى الجنوب ليؤسّس جامعات بهائية في ولاية ألاباما. وكان نذير الحرب واعتلال الصحّة قد دفعا لويزا للعودة إلى أمريكا. فعاشت في بلدة إليوت بولاية ماين، في حين واصل لويس أسفاره حتى عام 1946.

في عام 1939 أعيد انتخاب لويس في المحفل الروحاني المركزي، ليعمل مرّة أخرى كمدوّن للمحاضر. كما عُيّن، جنبًا إلى جنب مع أميليا كولنز ودوروثي بيكر، في لجنة تطوير المحافل الروحانية، التي من شأنها أن تساعد المحافل الروحانية المحلّية في العمل بشكل أكثر فعالية. كما كان عضوًا في لجنة وحدة الأعراق لعدّة سنوات، وشغل منصب أمين السر فيها مدّة سنتين. في أربعينيات القرن كان لويس عضوًا في لجنة مدرسة «غرين إيكر»، وخدم في هيئة التحرير لكلّ من مجلّد «العالم البهائي» و«الأخبار البهائية».

في عام 1946 اعتلّت صحّة لويس لبعض الوقت. ورغم ادّعائه بأنّه بصحّة جيّدة مثل ما كان عليه سابقًا، فإنّ لويزا الآن تجاوزت سنّ الثمانين وأصبحت واهنة جدًّا. في عام 1947 ذهب لويس إلى بيته الصغير قرب «غرين إيكر» متقاعدًا، حيث استمتع مع لويزا بحياة هادئة في مجتمع لم يثر زواجهما المختلط تعليقًا يُذكر. وكونه توقّف عن السفر، فقد كان لديه الوقت الكافي للكتابة إلى كثير من الناس الذين التقى بهم في رحلاته.

في كانون الأوّل 1948 أصيب لويس بجلطة دماغية. ورغم احتمال بقائه على قيد الحياة بضعة أيّام فحسب، إلاّ أنّ حالته تحسّنت على الفور تقريبًا، وسُمح له بالعودة إلى منزله، حيث تابع مراسلاته، وأخذ يتحرّك في أنحاء المنزل، وعمل قليلاً في الحديقة، وقام بأعز الأعمال بالنسبة إليه – وهو استضافة جلسات «فايرسايد» وصفوف دراسية – حتى نهاية حياته. توفّي لويس غريغوري في يوم 30 تمّوز 1951. وبعد ستّة أيّام أبرق حضرة شوقي أفندي ما يلي:

يغمرنا عميق الأسى والحزن على الخسارة المؤلمة للحبيب الغالي، ذي الفكر النبيل والقلب الذهبي، لويس غريغوري، فخر الأحبّاء الزنوج، شعور تام بفقدان من كان محطّ عظيم المحبّة، ونال إعجاب حضرة عبدالبهاء وثقته. يستحقّ رتبة أيادي أمر الله الأوّل من أبناء عرقه. سوف يمجّد الجيل البهائي من القارّة الأفريقية ذكراه ويسعون لمحاكاة مثاله. أوصي بعقد جلسة تذكّرية في مشرق الأذكار دلالة على الاعتراف بمكانته الفريدة وخدماته المتميّزة.(22)

1.
Elaine Snider Eilers, quoted in Morrison, To Move The World, p. 314.
2.
المصدر السابق، الصفحة 24.
3.
المصدر السابق، الصفحة 4.
4.
مقتطف في المصدر السابق، الصفحة 7.
5.
مقتطف في المصدر السابق، الصفحتان 45–46.
6.
’Abdu’l-Bahá, in Star of the West, vol. 12, no. 6, p. 121.
7.
Quoted in Morrison, To Move the World, p. 59.
8.
Shoghi Effendi, Advent of Divine Justice, p. 33.
9.
Bahá’í World, vol. 12, p. 668.
10.
Quoted in Morrison, To Move the World, pp. 66–7.
11.
المصدر السابق، الصفحة 72.
12.
المصدر السابق، الصفحة 89.
13.
المصدر السابق، الصفحة 70.
14.
المصدر السابق، الصفحة 116.
15.
مقتطف في المصدر السابق، الصفحة 117.
16.
16. Bahá’í World, vol. 12, p. 669.
17.
17. Bahá’í World, vol. 4, p. 487.
18.
18. Bahá’í World, vol. 2, p. 282.
19.
المصدر السابق.
20.
Morrison, To Move The World, p. 154.
21.
Bahá’í World, vol. 4, p. 488.
22.
Bahá’í World, vol. 12, p. 666.

1876 – 1933 كيث رانسوم-كيلر

Hand of the Cause of God Keith Ransom-Kehler (1876-1933)

يقع مرقد كيث رانسوم-كيلر بالقرب من قبري ميرزا محمّد حسن وشقيقه، ميرزا محمّد حسين، على مقربة من إصفهان في إيران. وقد استشهد الشقيقان النيّران في عام 1879. وهما اللذان لقّبهما حضرة بهاءالله بـ«سلطان الشهداء» و«محبوب الشهداء» على التوالي. وقد اشتُهر الأخوان بكرمهما وأمانتهما ولطفهما وتقواهما. وكانت كيث محبوبة أيضًا لكرمها وولائها وإخلاصها واستقامتها. ولو أنّ نصف قرن يفصل بين تاريخ موتهما وموتها، فإنّ ميرزا حسن وكيث واجها قوى الظلام بعزم لا يتزعزع. وقد شعر عامّة الناس بمثال الفضيلة في حياتهما، مثال تحدّته السلطات وخشيت منه الطبقة الحاكمة في أرض مولد حضرة بهاءالله. وقد ذُكرت وفاة كلّ منهما بأنّها خسارة فادحة من قبل رئيس أمر الله في وقتهما.

ولدت ناني كيث بين في يوم 14 شباط 1876 في دايتون بولاية كنتاكي. والتحقت بمدرسة خاصّة في سينسيناتي ثم تخرّجت من فاسار. وأكملت دراساتها العليا في جامعات ميتشيغان وأريزونا وشيكاغو وحصلت في النهاية على درجة الماجستير. درّست الفرنسية في كلّيّة ألبيون، وترأّست بعد ذلك دائرة الأدب الإنجليزي.

في عام 1903 تزوّجت كيث من رالف (غاي) رانسوم وذهبت معه إلى باريس، حيث درس الفن لبضع سنوات. عندما كانت كيث في الثانية والثلاثين من عمرها توفّي زوجها بمرض السلّ. ومن أجل تنشئة ابنتها جوليا، التحقت كيث بدورة مكثّفة في التصميم، وأصبحت فيما بعد رئيسًا لقسم الديكور الداخلي في متجر كارسون، بيري، سكوت في شيكاغو. في عام 1910 تزوّجت من جيمس كيلر، وهو زميل دراسة سابق في كلّيّة ألبيون والآن هو مسؤول تنفيذي للإعلان من سكّان مدينة نيويورك. كانت وفاة زوجها هذا في عام 1923 مصدر حزن كبير ودائم لها. وفي وقت ما قرب وفاة جيم كيلر كتبت إلى ماي ماكسويل: ‘صَلِّي من أجلي يا ماي، فهذا هو ملجئي الوحيد… خلال هذه العاصفة المريرة من الامتحان حيث كلّ صفة للنور إمّا قد أظلمت أو انسحبت، أمّا أنت فلا زلت تقفين، مثل وجود مبهر على الشاطئ البعيد الذي أكافح باتّجاهه…’(1)

من عام 1918 إلى عام 1922 كانت كيث رئيسة «الزمالة الدينية الليبرالية» في شيكاغو والمستشارة الرئيس لمؤسسة «خدمة الوطن الجميلة». كما شاركت في «أعمال هال للتوطين المنزلي»، وفي إصلاح السجون في «سنغ سنغ»، وفي عمليّات مزارع الفاكهة والدجاج. وأُدرج عملها حول «ملكية البلديّات» في تقرير «المكتب الاتّحادي للعمل والإحصاء». كما نشرت المقالات وألقت المحاضرات في علم النفس والأديان المقارنة والديكور الداخلي، وصدرت أعمالها تحت عناوين مثل «التجربة الإلهية – لماذا تكون غير سعيد؟» «سيكولوجية العلاقات الإنسانية»، «تحقيق الاستفادة المثلى من أنفسنا»، «إرشاد الطفل»، «هل الأخوّة العالمية ممكنة؟»، ‹الغاية الأساسية من الحياة»، «ما هو الشيء الدائم؟»، «الجريمة وعلاجها»، «رحلة الروح»، «جعل المنازل بيوتًا»، «الضرورة الجميلة»، و«الديكور الداخلي».(2)

مع أنّ كيث التقت بحضرة عبدالبهاء في لندن يوم 13 أيلول 1911، إلاّ أنّ ما يقرب من عشر سنوات قد مرّت قبل أن تؤمن في أيّار 1921. ثم انتُخبت عضوًا في المحفل الروحاني المحلّي في شيكاغو وخدمت في منصب أمين السرّ فيه. ومع أنّها كانت جزءًا من نخبة المجتمع في شيكاغو، فقد تخلّت كيث عن نشاطاتها الاجتماعية عندما أصبحت بهائية، ولكنّها استبقت لنفسها ذلك الحسّ بالجمال والأناقة. عندما كانت في إيران في عام 1933 أثارت إعجاب الشابّ ذكر الله خادم الذي وصفها بأنّها ‘المرأة الأكثر أناقة من بين النساء اللواتي قابلهن’:

كانت ترتدي معطفًا جميلاً وأنيقًا من فراء المنك صُمّم على أحدث الأزياء السائدة. وكانت ملابسها رائعة للغاية تشدّ انتباه الناظرين. ومع ذلك كانت ملابسها بمنتهى الوقار والذوق الرفيع… لقد كانت مذهلة.(3)

في حدود عام 1925 أخذت كيث ترتقي إلى مكانة مرموقة في الجامعة البهائية. وحيث إنّها تلقّت تدريبًا في الكهنوت المسيحي، فقد حوّلت مواهبها لخدمة الدين البهائي، من قبيل ترؤس الاجتماعات، والسفر والتبليغ. ظهر العديد من مقالاتها في أوائل مجلّدات «العالم البهائي». في شتاء عام 1926 قامت بأولى زيارتيها للحجّ إلى الأرض الأقدس. وقد تأثّرت عميقًا نتيجة معاناة حضرة وليّ أمر الله وكتبت عنه إلى مؤتمر الوكلاء السنوي المركزي الثامن عشر:

هذا الشابّ الذي لم يبلغ الثلاثين، يعمل من أجلنا ليل نهار، مضحّيًا بكلّ الرغبات والميول البشرية من أجل تعزيز جهودنا… ولا يبغي من الحياة الشخصية أكثر من صورة تُحفر في الذاكرة، ولا تفكير بالذات أكثر من أن يكون نسيمًا عليلاً أو زهرة، إنّه مجرّد قصبة مفرغة للنغم الإلهي. كلّ واحد منّا على استعداد للموت من أجله، ولكن هل يمكننا، عن وعي، أن نعتبر أنفسنا في عداد المستعدّين للعيش من أجله؟(4)

عندما عادت إلى الولايات المتّحدة في ربيع عام 1926 شجّعت كيث البهائيين في مدينة نيويورك على استئجار مركز أكبر اتّساعًا والشروع في برنامج للتبليغ. منذ هذا المنعطف وبعده لم تذق كيث طعم الراحة أبدًا؛ فكان عنوانها الدائم الوحيد نادي فاسار في مدينة نيويورك. في عام 1929 سافرت إلى جزر الهند الغربية وفي عام 1930 بدأت جولة عالمية واسعة النطاق لترويج الدين البهائي، ومنها لم تعد إلى موطنها قطّ. ولدى مغادرتها شيكاغو زارت كلّ محفل روحاني محلّي في طريقها إلى ساحل المحيط الهادئ. ومن هناك أبحرت الى اليابان والصين ونيوزيلندا وأستراليا والهند. أمضت سنة زارت خلالها جامعات الأحبّاء البهائيين في المشرق بهدف تقويتهم وتشجيعهم وكذلك إلقاء محاضرات عامّة عن دين الله. في شانغهاي نفّذت برنامجًا مكثّفًا للتبليغ تضمّن أحاديث إذاعية ومحاضرات عامّة ومقابلات مع التربويين والمسؤولين البارزين.

في اليابان انضمّت كيث إلى أغنس ألكساندر في أنشطتها التبليغية، وبعد ذلك سافرت إلى أستراليا، حيث مرّت بمدن برسبين وسيدني وملبورن. في أديلايد شدّت انتباه الجماهير إليها بمحاضراتها العامّة الملهِمة، وفي محادثاتها الإذاعية ومقابلاتها الخاصّة.

في أوائل عام 1932 وصلت كيث إلى شبه القارّة الهندية، وسافرت إلى رانغون ومندلاي وميامو وكانجانغون وكلكتا وبيناريس ولكناو وأغرا ودلهي وأليغره وأمريتسار ولاهور وكراتشي وبومباي وبونا وحيدر آباد وبوليبور. وقد تحدّثت عدّة مرّات إلى جماهير من البهائيين وغير البهائيين وغطّت موضوعات مثل «الأساس الروحاني للمواطنة»، «الرسالة العظيمة لحضرة بهاءالله»، «التعاليم البهائية: تجعل المرء يتبع دينه بشكل أفضل»، «هل الأخوّة العالمية ممكنة؟» و«الحلّ البهائي للمشاكل العالمية».(5)

بينما كانت في الهند في عام 1932، تلقّت كيث برقية من حضرة شوقي أفندي يطلب منها أن تأتي إلى حيفا وإعداد نفسها لرحلة خاصّة إلى إيران. وإذ أخذتها المفاجأة تمامًا بهذا التطوّر، سافرت كيث إلى الأرض الأقدس على الفور. وكتب سكرتير حضرة شوقي أفندي إلى المحفل الروحاني المركزي الأمريكي: ‘إنّ السيّدة كيث رانسوم-كيلر معنا الآن في حيفا وخلال أيّام قليلة سوف تبدأ رحلتها إلى إيران. لقد قدّمت خدمات رائعة في كلّ من أستراليا والهند، وحضرة شوقي أفندي على ثقة بأنّها ستقوم بالشيء نفسه في إيران.’(6)

عهد حضرة شوقي أفندي إلى كيث بمهمّة حسّاسة: كان عليها محاولة إقناع الشاه بالسماح بنشر الكتب البهائية وتوزيعها في إيران. وكان حضرة شوقي أفندي يأمل في ‘أنّ السلالة الپهلوية الجديدة في إيران ستفتح بسرعة مرحلة جديدة في تطوّر دين حضرة بهاءالله في ذلك البلد’ وكان قد كتب إلى المحفل الروحاني المركزي الأمريكي يوصيه بالسعي للحصول على إذن لطباعة الكتب البهائية في إيران وتأسيس هيئة للطبع والنشر.(7) وعندما رُفض ذلك، كتب حضرة وليّ أمر الله مرّة أخرى إلى المحفل الروحاني المركزي الأمريكي يحثّه على التواصل مع الحكومة الإيرانية مرّة أخرى والإشارة إلى القيمة المعنوية للأدبيات البهائية. وعندما فشلت هذه المحاولة أيضًا، كتب حضرة وليّ أمر الله مرّة أخرى:

‘أحثّكم على أن توجّهوا فورًا التماسًا مكتوبًا إلى الشاه باسم البهائيين في أمريكا تقدّمون فيه السيّدة رانسوم-كيلر ممثّلة مختارة مخوّلة في استئناف طلبنا إدخال الأدبيات البهائية إلى إيران. أكّدوا على التقدير الواسع النطاق للإصلاحات الداخلية، وعلى العُرى الروحانية التي تربط البلدين، وأكّدوا أيضًا على التقدير والإجلال الكبيرين اللذين تبديهما الكتابات البهائية للإسلام، وما يمكن أن تقدّمه هذه الكتابات من قِيَم أخلاقية لإيران. أرسلوا بالبريد نسخة عن التماسكم هذا إلى المحفل الروحاني المركزي في إيران.’(8)

وفي استجابته لذلك، أرسل المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة وكندا التماسًا إلى الشاه:

إنّ السيّدة كيث رانسوم-كيلر، وهي مواطنة أمريكية وعضو في الجامعة البهائية لهذا البلد، وواحدة من التلاميذ المميّزين لتعاليم الدين البهائي وتاريخه، يمكنها، بإذن كريم من جلالتكم، توضيح واستكمال التصريحات التي أدلى بها هذا المحفل الروحاني في العريضة المكتوبة الموجّهة إلى جلالتكم بتاريخ 12 كانون الثاني 1932… إنّ تعيين مندوبة للسفر إلى طهران بغرض تقديم عريضة هذا المحفل الروحاني شخصيًا سوف يوضّح لجلالتكم مدى تأثّر البهائيين الأمريكيين العميق لعدم قدرتهم على التواصل الكامل مع إخوانهم في الدين في إيران بسبب القوانين البريدية التي لا زالت تحظر دخول الكتب البهائية والمجلاّت التي تُطبع في الولايات المتّحدة وكندا.(9)

بينما كانت كيث في حيفا أطلعها حضرة وليّ أمر الله تمامًا على الوضع وأعدّها لمهمّتها. فور وصولها إلى إيران، في 20 آب 1932، أبرقت كيث إلى الولايات المتّحدة قائلة: ‘المهمّة ناجحة.’(10)

وتلقّى المحفل الروحاني المركزي الأمريكي تقريرًا أوفى بعد ذلك بفترة قصيرة:

في 15 آب رأيت صاحب السمو تيمور طاش وتلقّيت منه التأكيد المباشر غير المشروط بالسماح للمطبوعات البهائية بالدخول بحرّية إلى بلاد فارس وكذلك تعميمها.(11)

كما تلقّت كيث أيضًا ضمانات بأنّ كتبها الخاصّة سوف ترسل إلى إيران لاستخدامها الشخصي أثناء وجودها في البلاد.

وبسعادة غامرة، أبرق المحفل الروحاني المركزي الأمريكي إلى وزير البلاط [الملكي] في طهران:

نيابة عن البهائيين الأمريكيين نعرب عن امتناننا الدائم لإزالة الحظر على دخول المطبوعات البهائية إلى إيران. إنّ هذا العمل النبيل من طرف حكومة جلالة الإمبراطور قد ترك انطباعًا عميقًا لدى البهائيين في الولايات المتّحدة وكندا الذين يشعرون فعلاً بارتباط قويّ بموطن حضرة بهاءالله. نودّ أن نؤكّد لسموّكم عن تعاطفنا مع صاحب الجلالة الإمبراطور، وعن اهتمامنا العظيم بالتقدّم والرفاهية لإمبراطوريته وعن رغبتنا في المساعدة في تعزيز مكانتها في جميع أنحاء العالم.(12)

ومع ذلك، فعند اختبارها، ثبت أنّ تأكيدات وزير البلاط الإيراني جوفاء. فعندما شُحنت كتب كيث البهائية من بيروت إلى إيران، تمّت مصادرتها. كما رفض الحاكم العامّ لآذربيجان استقبال كيث. وصدرت أوامر من الشرطة بفرض إلغاء اجتماعات نظّمت إكرامًا لها من قبل البهائيين المحلّيين.

وبشجاعة وإقدام، رتّبت كيث مقابلة مع وزير الشؤون الأمريكية في وزارة الخارجية، الذي أوضح لماذا لا يمكن للمطبوعات البهائية أن تعمّم في إيران: فقد كان مخالفًا للدستور الإيراني الاعتراف بأيّ دين تأسّس بعد الإسلام؛ وكان مخالفًا للدستور السماح بتداول مطبوعات تعارض الإسلام؛ وتداول المطبوعات البهائية قد يسبّب الاضطرابات الداخلية ويؤدّي إلى معاناة البهائيين أنفسهم.

ردّت كيث على هذه الأسطر من التبرير في رسالة الى الشاه نفسه مؤرّخة في 25 شباط 1933:

في تقريري إلى أمريكا سوف أكون مضطرة للاعتراف بأنّي قد أسأت تمامًا فهم الغرض والقصد من المترجم، حيث إنّ التحقيق الشامل يكشف أنّه لا توجد أيّة إشارة في الدستور الإيراني إلى وضع الأديان المؤسّسة بعد الإسلام.

وحيث إنّ كلّ بهائي قبل أن يتمكّن من أن يسمّي نفسه بهائيًا يجب أن يقبل بأحقّيّة النبيّ محمّد… ولأنّ هذا الموقف مؤكّد عليه في الكتب البهائية، فإنّ فكرة استثنائها لأنّها تعارض الإسلام، أخشى أن لا تكون مفهومة… وسوف أنتظر إذن جلالتكم لتقديم نتيجة محادثاتي مع وزارة الخارجية، المرفقة هنا، إلى المراكز البهائية المناسبة في جميع أنحاء العالم؛ حيث ليست لديّ الرغبة، بأن أجد نفسي مخطئة مرّة ثانية في فهم نيّة جلالتكم.(13)

لم تتلقَّ كيث أيّ ردّ على هذه العريضة. فواصلت تقديم العرائض إلى الحكومة، والكتابة إلى كلّ وزير في مجلس الوزراء مناشدة تحقيق العدالة، ومناصرة مبادئ ولاء البهائيين لحكومة بلادهم والتأكيد على حرمة وقداسة الإسلام. ففي رسائل إلى الشاه ذكّرته بشجاعة بدعمه للحرّية الدينية، وأشارت إلى إنجازاته السامية، وذكرت ولاء أفراد من المؤمنين لحكومته، وأوضحت أنّ الكتب البهائية تدعم الإسلام، واستنكرت ما جرى مؤخّرًا من تدنيس صورة حضرة عبدالبهاء من قبل مسؤولين حكوميين. وقد ردّ وزير التربية والتعليم، قائلاً إنّ جميع سكّان إيران، بغضّ النظر عن الجنسية أو الإنتماء الديني، يتمتّعون بالهدوء والأمن في ظلّ حكم الشاه. وأضاف، مع ذلك، لا يمكن السماح بتداول مطبوعات جديدة تعتبر مخالفة للدين الرسمي للدولة.

أعيت كيث الجولات المستمرّّة من الاجتماعات مع مسؤولين لطفاء لكن منافقين، وضعفت صحّتها. ومع ذلك كانت قادرة على تشجيع البهائيين الإيرانيين، الذين أحبّوها للغاية. وعُقدت عدّة اجتماعات في حظيرة القدس في تبريز، حيث التقى عدد كبير من الرجال والنساء البهائيين بالمبلّغة العالمية. وقد زارت ميلان، حيث شعر المؤمنون بأنّ كيث حقّقت نبؤة حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء بشأن الإخوة والأخوات من الغرب الذين سوف يساعدون في ترويج أمر الله في إيران. في طهران استقبلها آلاف من المؤمنين وأعجب الجميع بها. ويتذكّر ذكر الله خادم ما يلي:

علّمتني الكثير! تعلّمت عن الكرم وتقدير كرامة الإنسان. عندما ذهبنا إلى البازار، كانت تبحث عن الباعة الصادقين بشكل خاصّ الذين يعملون بجدّ وتكافئهم بعمليّات شراء كبيرة وإكراميّات سخيّة. وكانت تأخذ الهدايا إلى بعض أولئك الناس خلال عطلاتهم. كانت رحلاتنا إلى البازار عادة لهذا الغرض. وعندما تلاحظ من هم في حاجة إلى المحبّة والحنان، كانت تقوم بزيارتهم بشكل متكرّر أكثر. كان الناس يتجمّعون حولها، منجذبين إليها نظرًا لإخلاصها ومحبّتها، ويقدّرونها بأكثر الطرق سخاءً. كانوا يتضرّعون إلى الله لينزل بركاته عليها ويمطرونها بالثناء. كانوا يشكرون الله على وجودها بينهم. يا لله كم أحبّوها!(14)

كانت كيث نفسها قد تفكّرت بشأن مهمّتها في رسالة إلى المحفل الروحاني المركزي الأمريكي في آذار 1933:

ما أغرب طرق الله، بحيث إنّني، المرأة المسكينة المتقدّمة في السنّ القادمة من الغرب، ألتمس الحرية والعدالة في موطن حضرة بهاءالله…(15)

في الأثناء أصدر المحفل الروحاني المركزي الأمريكي قرارًا قدّمه إلى الوزير الإيراني [المفوّض] في واشنطن في تمّوز 1933:

يبدو أمرًا مرغوبًا فيه إعلام سعادتكم بأنّ مؤتمر الوكلاء المركزي الخامس والعشرين للبهائيين في الولايات المتّحدة وكندا قد اتّخذ بالإجماع القرار التالي: تقرّر، أنّ يقوم مندوبو مؤتمر الوكلاء المركزي السنوي الخامس والعشرين الممثّلين لستّين جامعة بهائية في الولايات المتّحدة وكندا، والمدركين لأعباء الظلم والاضطهاد الذي لا يزال مفروضًا على إخوانهم في إيران، بتوصية المحفل الروحاني المركزي وحثّه لاتّخاذ إجراءات فورية لتحقيق وقف سوء المعاملة المبلّغ عنها ضدّ إخواننا البهائيين، ولتأمين دخول المطبوعات البهائية، واستعادة الحكم الدستوري بشأن طباعة ونشر المطبوعات البهائية في إيران. وإضافة لذلك، تقرّر أن يقوم الوكلاء بالتعهّد بدعم الجامعات البهائية المحلّية للمحفل الروحاني المركزي في جهوده لتنفيذ بنود هذا النداء.(16)

في 26 تمّوز 1933 أرسل المحفل الروحاني المركزي الأمريكي إلى كيث ملخّصًا للإجراءات التي اتّخذها بشأن المسائل التي تؤثّر على المؤمنين الإيرانيين وطلب منها إيصال هذه المعلومات الى الحكومة الإيرانية وتقديم تقرير إليه عن النتائج. في 10 أيلول أبرقت كيث إلى المحفل الروحاني المركزي: ‘لم تَرِدْ إجابة عن العريضة.’(17)

وفي غمرة الإعياء وخيبة الأمل من فشل جهودها، كتبت كيث:

لقد سقطتُ، رغم أنّني لم أتعثّر أبدًا. أشهر من الجهد دون أيّ إنجاز هو السجلّ الذي يواجهني. إذا كان لأيّ شخص في المستقبل أن يهتمّ بمغامرتي الفاشلة هذه، فهو وحده يستطيع القول ما إذا كان جسدي المتعب الهرِم قد سقط إمّا قريبًا أو بعيدًا من ذرى الكياسة واللامبالاة التي تبدو منيعة. إنّ دخان المعركة كثيف جدًّا اليوم وضجيجها صاخب بالنسبة لي لأتأكّد إذا ما كنت قد تقدّمت إلى الأمام أو ذُبحت في دربي.(18)

على الرغم من ضعف حالتها، بقيت كيث نشطة للغاية، رافضة الراحة. من طهران سافرت إلى مدن قم وأران وكاشان، وأخيرًا إلى إصفهان، حيث زارت الأحبّاء، والتقت بالمسؤولين المحلّيين، وبلّغت أمر الله وشاهدت الأماكن المقدّسة البهائية. كان جدولها يغصّ بالاجتماعات وضغط المئات من الناس والمحاضرات العامّة.

في 10 تشرين الأوّل، سقطت كيث مريضة بقشعريرة وحمّى. وخلال الأيّام القليلة التالية ساءت حالتها. في 13 تشرين الأوّل طلبت أن تُرسَل برقية إلى حضرة وليّ أمر الله ملتمسة دعاءه. ثم تمّ تشخيص مرضها بأنّه الجدري. وتراوحت حالتها بين تدهور وتحسّن حتى يوم 22 تشرين الأوّل، عندما فقدت فجأة القدرة على الكلام. وبعد بضع ساعات، تمكّنت بصعوبة من تكرار نداء «يا بهاءالله الأبهى» و«الله أبهى». وفي اليوم التالي وافتها المنيّة.

في 28 تشرين الأوّل، أرسل حضرة وليّ أمر الله البرقية التالية إلى الأحبّاء الإيرانيين:

لقد صعدت المدافعة المقدامة والبشير اللامع لأمر الله منتصرة من أعماق الظلمة إلى مثواها السماوي؛ كانت أعمالها الرائعة مخفيّة عن أعين المتهاونين في تلك الأرض؛ بينما الملأ الأعلى عرفوا قيمتها؛ لقد حازت مرتبة الشهادة وهي واحدة من أيادي أمر الله. سوف يذهب بالتأكيد المحفل الروحاني في طهران بأكمله، بالاشتراك مع مندوبين من شيراز وكرمان وآباده ويزد والموانئ الجنوبية للحجّ إلى قبرها المبجّل نيابة عني.(19)

وكتب المحفل الروحاني المركزي في إيران ما يلي:

قضت عزيزتنا كيث ما يقرب من ستّة عشر شهرًا في إيران؛ وقد دخلت البلاد من الحدود الغربية، فزارت الأحبّاء في كرمانشاه وهمدان وقزوين، بعد قضاء بعض الوقت في طهران والتعافي من المرض سافرت إلى آذربيجان حيث استمدّ الأحبّاء فائدة كبيرة من تبليغها البليغ؛ ثم قامت برحلة أخرى عبر الشرق والشمال، ونعم أحبّاء خراسان ومازندران وگيلان ببركة وجودها بينهم، وحديثها السلس، وحياتها الروحانية. وفي كلّ مكان أسدى الأحبّاء إليها التكريم اللائق، مرسلين ممثّلين عنهم للترحيب بمقدمها في مدنهم، ومرافقتها لمسافة طويلة لدى مغادرتها. وقد شعروا بأنّهم محظوظون في أن يكونوا معها، وحمدوا الله على أنّ قوّة كلمته قد أقامت من المعتقدات القديمة مثل تلك النفوس اللامعة المتفانية لخدمة أمره، ولخلاص كلّ العالم؛ وقاموا بالدعاء من أجل إنجاح مهمّتها الهامّة في هذه البلاد.

أثناء إقامتها المؤقّتة في طهران، جهدت كيث بكلّ ذرّة من كيانها لتحقيق تعليمات حضرة وليّ أمر الله. فكان جهدها الذي لا يكلّ، ورفضها للراحة، مثالين في التضحية، وأعادا إلى الأذهان الإقدامات الحماسية للعصر البطولي لديننا. ففي سبع مناسبات أعدّت وأرسلت إلى صاحب الجلالة الالتماسات المطوّلة التي أثبتت فيها بوضوح ضرورة رفع الحظر المفروض على المطبوعات البهائية، وطلبت إزالة القيود المفروضة على النشاط البهائي. فلم تترك أيّ مرحلة من مراحل عملها دون إنجاز، وفي لقاءاتها مع المسؤولين المرموقين تحدّثت بقوّة وهيمنة مقنعة، فأطلعتهم على المبادئ البهائية وأعلمتهم بعظمة دين حضرة بهاءالله في جميع أنحاء الشرق والغرب، وألقت كلمات لا تعدّ ولا تحصى أمام جماهير من بهائيين وغير بهائيين، موضّحة بكلمات ملهِمة حقيقة الدين وتعاليم المظهر الإلهي الجديد؛ وجميع الذين سمعوها اعترفوا باتّساع معرفتها وقيمة الدين البهائي وتفوّقه على طرق الحياة الأخرى. وأبقتنا أحاديثها أمام البهائيين واعين باستمرار تجاه القضايا الرئيسة التي تواجهنا في هذا الوقت. وفي مواجهة المحن والصعوبات المحدقة بالدين في بلادنا وقفت ثابتة لا تتزعزع، وفي كلّ الأوقات توجّهت بخضوع وابتهال إلى حضرة بهاءالله والتمست الرسوخ والتأييد. وكانت صفاتها الروحانية، وجمال نظرتها قد جذب الناس إليها، وأيقظ أولئك الذين يمكنهم أن يفهموا مقامها؛ كانت مثالاً للبهائي الحقيقي.(20)

في 30 تشرين الأوّل 1933 أرسل حضرة شوقي أفندي البرقية التالية:

حياة كيث الغالية قُدّمت تضحية لدين حضرة بهاءالله المحبوب في أرض موطنه. على تراب فارس من أجل بلاد فارس واجهت وتحدّت وحاربت قوى الظلام بامتياز عال، وإرادة لا تقهر، وولاء مثالي لا يتزعزع. جموع إخوانها الإيرانيين المساكين ينعون الفقدان المفاجئ لمحرّرتهم الباسلة. المؤمنون الأمريكيون ممتنّون وفخورون بذكرى شهيدتهم الأولى والبارزة. وبحزن وقلب مكلوم أرثي الانفصال الدنيوي عن زميلة متعاونة غالية لم تخذل ولم تفتر، ومستشارة محترمة وصديقة مخلصة. أحثّ المحافل الروحانية المحلّية على تنظيم جلسات مناسبة في ذكرى من خوّلتها خدماتها العالمية تبوّء مرتبة مرموقة بين حضرات أيادي أمر حضرة بهاءالله.(21)

في 3 تشرين الثاني أرسل حضرة شوقي أفندي هذه الرسالة: ‘أوعزتُ إلى المحفل الروحاني في إصفهان بدفن كيث بجوار قبر من لقّبه حضرة بهاءالله بسلطان الشهداء’(22) وهكذا دفنت كيث رانسوم-كيلر في قلب البلاد التي خدمتها كما يجب.

على الرغم من شعورها بخيبة الأمل إزاء ما اعتبرته مهمّة فاشلة، تركت كيث تذكِرة مؤثّرة عن قيمة الخدمة في سبيل أمر الله:

ليس هناك شيء في العالم لا معنى له، خصوصًا المعاناة. فالتضحية مع ما يرافقها من عذاب هي بذرة، وكائن حيّ. والإنسان لا يمكنه أن يتلف ثمارها كما يتلف بذور الأرض. فما إن تُزرع حتى تُزْهِر، وأعتقد أنّها تزهر إلى الأبد في حقول الأبدية الجميلة. أمّا بذرتي فسوف تصبح زهرة متواضعة جدًّا، ربّما مثل الزهرة الصغيرة من نبتة «لا تنسني»، المروية بدم القدّوس، والتي قطفتُها في «سبزه ميدان» في بارفروش. فما إن تقع عليها عين الناظر في أيّ وقت حتى يقوم الذي يبدو أنّه يكافح عبثًا برعايتها باسم حضرة شوقي أفندي ويعتزّ بها لذكراه العزيزة.(23)

1.
Bahá’í News, April 1976, pp. 9–10.
2.
‘Presenting Keith Ransom-Kehler’, p. 1.
3.
Khadem, Zikrullah Khadem, p. 26.
4.
Bahá’í News, April 1976, p. 10.
5.
Bahá’í World, vol. 5, pp. 57–8.
6.
المصدر السابق، الصفحة 391.
7.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 335.
8.
المصدر السابق.
9.
Bahá’í World, vol. 5, p. 391.
10.
المصدر السابق.
11.
المصدر السابق، الصفحة 392.
12.
المصدر السابق، الصفحة 391.
13.
المصدر السابق، الصفحة 393.
14.
Khadem, Zikrullah Khadem, p. 25.
15.
Bahá’í World, vol. 5, p. 402.
16.
المصدر السابق، الصفحة 397.
17.
المصدر السابق، الصفحة 398.
18.
«الجوهرة الفريدة»، الصفحة 336.
19.
Khadem, Zikrullah Khadem, p. 26.
20.
Khadem, Zikrullah Khadem, pp. 24–5.
21.
«الجوهرة الفريدة»، الصفحة 336.
22.
Bahá’í World, vol. 5, p. 398.
23.
المصدر السابق، الصفحة 409.

حدود 1860 – 1946 محمّد تقي الإصفهاني

إنّه لمن الصعب إعادة تنظيم تفاصيل حياة محمّد تقي. ولد بالقرب من إصفهان، في سه ده، وهي قرية ذات جامعة بابية نشطة، وفيما بعد بهائية نشطة، تضم مبلّغين وشعراء متميّزين. وربّما عن طريق واحد من هؤلاء البهائيين أن أصبح محمّد تقي نفسه بهائيًا.

في حدود عام 1875 ألقي القبض عليه مع غيره من البهائيين البارزين، وقد تعرّض للضّرب وأرسل إلى سجن في إصفهان. يقال أنّه غادر إيران للاستقرار في مصر في عام 1878، وتوقّف في عكّاء في طريقه.(1) ومع ذلك، كان موجودًا في إيران في آذار 1879 عندما قُتل سلطان الشهداء ومحبوب الشهداء(2) ولذلك فمن المرجح أنّه عاد إلى إيران بعد هذه الرحلة وترك في وقت لاحق ذلك البلد بشكل دائم. زار الأرض الأقدس أربع مرّات خلال أيّام حياة حضرة بهاءالله، وكانت زيارته الأخيرة في عام 1891، وكما زارها مرّات عديدة خلال ولاية حضرة عبدالبهاء. يُعتقد أنّه خلال حجّه الثاني نصحه حضرة بهاءالله بالاستقرار بشكل دائم في مصر.(3) كان حجّ محمّد تقي الأخير في عهد حضرة عبدالبهاء في شباط 1919.

غالبًا ما كان حضرة عبدالبهاء موجودًا في مصر ما بين 1910 و 1913. وبينما كان حضرته هناك، كان في كثير من الأحيان برفقة محمّد تقي وزار منزله، الذي كان مركزًا للعديد من الأنشطة البهائية. وكان في هذا المنزل أن عاش ميرزا أبو الفضل الگلپايگاني السنة الأخيرة من حياته، قبل وفاته في عام 1914، كما توفّيت فيه لوا غتسنغر في عام 1916.

أصيب محمّد تقي بحزن عميق بصعود حضرة عبدالبهاء في عام 1921، وشعر أنّ روح الحياة نفسها قد فارقت العالم. فسافر فورًا إلى حيفا، وبقي فيها 40 يومًا، وكان حاضرًا عند تلاوة وصيّة حضرة عبدالبهاء التي عُيّن فيها حضرة شوقي أفندي وليًّا لأمر الله. ولخوفه من أن يصبح الشابّ حضرة شوقي أفندي عرضة لهجمات ناقضي العهد في مثل هذا الوقت الدقيق من أمر الله، بدأ محمّد تقي كتابة دفاع عن العقيدة البهائية. وبعد أن كتب عدّة مجلّدات، أدرك أنّ حضرة شوقي أفندي كان قادرًا على الدفاع عن أمر الله بنفسه، ولذلك أوقف العمل في كتبه وأودعها في خزائنه.

في عام 1925 بدأت مجموعة من ناقضي العهد يرأسها مصري يُدعى فائق بمهاجمة مؤسّسات أمر الله، وخلق أزمة في المجتمع البهائي المصري. كان محمّد تقي بين المعارضين الرئيسين لهذه المجموعة.

انتخب محمّد تقي عضوًا في أوّل محفل روحاني مركزي في مصر عند تأسيسه في كانون الأوّل 1924. وكان عضوًا في لجنة الطبع والنشر وقام بترجمة كتب بهائية ونشرها. وفضلاً عن كتابة مقالات عن أمر الله، ترجم كتبًا مثل «كتاب الإيقان» و«مفاوضات عبدالبهاء» إلى اللغة العربية.

حفظ محمّد تقي عن ظهر قلب معظم الألواح العامّة لحضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء، وكان قادرًا على سرد أهمّ الأحداث التاريخية لدين الله. كان رجلاً طيّبًا ومضيافًا، ثابتًا بشكل ملحوظ، وعانى طويلاً. أمّا زوجته، التي لم يسجّل اسمها فقد توفّيت قبله، بينما توفّي ابنه البكر، عبد الحسين، وهو من أوائل أفراد الجامعة البهائية السويسرية، في عام 1922.

توفّي محمّد تقي وعلى وجهه «ابتسامة السلام»(4) في 13 كانون الأوّل 1946 في منزله في القاهرة ودفن في الروضة الأبدية البهائية. وعُقدت جلسات تذكّرية في العديد من المراكز البهائية وأرسل حضرة شوقي أفندي برقية بعد وفاته وأسماه من أيادي أمر الله:

القلوب أضناها الحزن لوفاة المحبوب محمّد تقي الإصفهاني المروّج الراسخ لأمر الله. إنّ سجلّ خدماته الطويل الرائع يُعد أنموذجًا خالدًا يستحقّ منحه رتبة أيادي أمر الله. أوصي بعقد جلسات تذكّرية في المراكز المصرية. أساهم بمبلغ 200 جنيه لبناء القبر.(5)

1.
Bahá’í World, vol. 11, p. 500.
2.
المصدر السابق.
3.
المصدر السابق، الصفحة 501.
4.
المصدر السابق، الصفحة 502.
5.
المصدر السابق.

1872 – 1939 مارثا لويز روت

Hand of the Cause of God Martha Root (1872-1939)

كانت مارثا روت في عامها السابع والأربعين عندما تقبّلت بسرور تحدّي «ألواح الخطّة الإلهية». ويقال إنّه بعد الإعلان عن تلك الألواح في مؤتمر الوكلاء البهائي السنوي في عام 1919، شوهدت مارثا تحزم حقائبها وتحجز مقعدًا للسفر إلى أمريكا الجنوبية. وسواء كان ذلك صحيحًا أم لا، فقد كانت، وفقًا لحضرة شوقي أفندي، أوّل من استجاب لنداء حضرة عبدالبهاء المحرّك لإيصال أمر الله إلى كافّة أطراف الأرض.

كانت مارثا بطلة استثنائية لأمر الله. فقد كانت بسيطة عادية المظهر، ذات مكانة متواضعة وصحّة معتلّة وموارد محدودة. ومع ذلك كانت انطلاقتها مثل انطلاقة بديع، الذي تطوّع في أيّام حضرة بهاءالله لحمل لوح مولاه إلى شاه إيران، مع علمه أنّه سيضّحي بحياته لقيامه بذلك.(1) بامتلاكها الإيمان الشجاع والمحبّة العميقة لله، أصبحت مارثا مثالاً «يُحتَذى في الدفاع عن الدين البهائي»،(2) «المنادي الفذّ لأمر الله»،(3) «زعيمة المبلّغين البهائيّين المتجوّلين»،(4) «زعيمة سفيرات» دين حضرة بهاءالله، «وأعلى يد رفعها حضرة بهاءالله منذ صعود حضرة عبدالبهاء»(5) وأسّست سجلاًّ وصفه حضرة شوقي أفندي بأنّه «أقرب نموذج للمثل الذي ضربه حضرة عبدالبهاء بنفسه لمحبّيه أثناء سفراته في ربوع الغرب».(6)

ولدت مارثا في ريتشوود، أوهايو، ونشأت في كامبردج سبرينغز (كامبردج بورو قبل عام 1898)، في ولاية بنسلفانيا، خلال العصر الفيكتوري. وكان والداها، تيموثي تي ونانسي هارت روت، متناوِليْن متدينيْن في الكنيسة المعمدانية، ومتجانسَين محبَّين للمرح ومتماسكَين. وقد أحبّت ماتي، كما كانت تدعى مارثا، أمّها ولكنّها شعرت برابطة خاصّة تجاه والدها. وكان تي تي، كما كان يعرف عمومًا، رجل أعمال ناجحًا يملك مزرعة ألبان، وورشة للرخام، ومصنعًا للأجبان، ويعمل في تجارة الأخشاب وبناء المنازل. كما كان تي تي شمّاسًا في الكنيسة المحلّية، وأعجبت ماتي به بشدّة كرجل يتّصف بالحكمة والكرم والأخلاق الحميدة. كان رجلاً قليل الكلام، صانع سلام في المجتمع وبعيدًا عن هموم الدنيا. وأخبرت ماتي صديقًا أنّه بمقدورها العيش في وئام تامّ مع والدها.(7)

وعلى عكس والدتها، لم يكن لدى ماتي ميل نحو العمل المنزلي. وبدلاً من ذلك كانت تفضّل الكتب والكتابة. وإذ كانت تصل دائمًا إلى ما هو أبعد من حدود عالمها المعروف، زارت مارثا شلالات نياغرا في سنّ 14 وأوروبا في سنّ 17. ثم توسّلت أن يُسمح لها بالدراسة في كلّيّة، الأمر الذي كان غير عادي لامرأة شابّة في ذلك الوقت.

بقيت في كلّيّة أوبرلين في ولاية أوهايو من عام 1889 حتى 1894، حيث درست اللغات والأدب وعلم النفس والرياضيّات والكتاب المقدّس. في عام 1893 أصبحت عضوًا في إليويان، وهي واحدة من أقدم الجمعيّات الأدبية للطالبات. وكان من المقرّر أن تتخرّج من أوبرلين في عام 1895، ولكن بحلول ذلك الوقت كانت قد انتقلت إلى جامعة شيكاغو، حيث تابعت مزيدًا من الدراسات ونشرت عدّة مقالات أدبية. وقد منحت شهادة البكالوريا من شيكاغو في حزيران 1895.

في السنوات التي تلت تخرّجها، درّست مارثا في مدرسة وشغلت منصب مدير مدرسة في يونيون سيتي بولاية بنسلفانيا. ولإدراكها أنّ هذا العمل لا يشبع احتياجاتها، فقد طوّرت سلسلة من المحاضرات الدرامية استنادًا إلى أعمال شكسبير وقدّمتها إلى النوادي والمدارس والكنائس في فيلادلفيا ونيويورك.

في عام 1900، بعد أن توطّدت أسس موهبتها الأدبية، بدأت مارثا العمل كصحفية لدى صحيفة بتسبرغ كرونيكل تلغراف.(8) وفي وقت لاحق من العام نفسه، عملت مع صحيفتَي بتسبرغ دسباتش وبتسبرغ برس، وهكذا انطلقت بمهنتها كصحافية. في حزيران 1901 انتقلت مارثا للعمل لدى المجلّة الأسبوعية «مؤشر الحياة في بتسبرغ». ولمّا كانت هذه الأيّام أيّام افتتان الناس بحياة الأغنياء وبألعابهم، وخصوصًا السيّارات الجديدة، فقد كتبت مارثا عن موضوعات مثل نادي هانت ومناسبات اجتماعية أخرى؛ ولكنّها تخصصت في الكتابة عن السيّارات. وكانت أوّل مقالة من هذا القبيل حول «مرابد» [اسطبلات] السيّارات وأتبعتها بمقالات عن كلّ جوانب السيّارة من المطاط لإطاراتها إلى حالة الطرق. وفي عام 1902 أبحرت الى فرنسا كمحرّرة لقسم السيّارات في صحيفة «مؤشر الحياة في بتسبرغ»، بينما ذهبت في عام 1903 إلى الجزر البريطانية على متن السفينة البخارية سيدريك لتغطية سباق السيّارات في إيرلندا.

وإذ كانت منهمكة في مهنتها كصحافية، صدف أن سمعت مارثا عن الدين البهائي في «مطعم الطفل» في بتسبرغ، حيث ذهبت في عام 1908 لتغطية مؤتمر تبشيري ما بين الطوائف. وكان بعض المندوبين يجلسون في المطعم المزدحم ويناقشون محنة الوثنيين في العالم، عندما علّق روي ويلهلم، الذي صدف أن كان جالسًا بجوار مارثا، بأنّه قد عاد لتوّه من الشرق حيث التقى بأعضاء من أديان أخرى كانوا يدعون ويتضرّعون بهمّة ونشاط من أجل تعزيز الأخوّة بين البشر ويروّجون لها. وقد جلب هذا التعليق اهتمام مارثا، التي كانت في ذلك الوقت محرّرة قسم «المجتمع والدين» في صحيفة بتسبرغ بوست. فقدّمت بطاقتها إلى السيّد ويلهلم، الذي بدأ بإرسال الكتب البهائية إليها والتي لم تهتمّ بها في البداية وأخذت ترسلها إلى الثيوصوفيين وغيرهم من المهتمّين بالمسائل الدينية. ولكنّها في ما بعد بدأت في قراءة بعضها، وأخذ اهتمامها بالدين ينمو بالتدريج. ولكونها مراسلة محقِّقة ومهتمّة بالحصول على كلّ الحقائق، فقد سافرت إلى نيويورك وواشنطن وشيكاغو لمقابلة البهائيين والنقاش معهم حول الظهور الجديد. ومن بين البهائيين الذين التقتهم كان ثورنتون تشيس، أوّل مؤمن أمريكي. وقد تمّت مرافقتها لرؤيته في مطعم كيمبل في شيكاغو، حيث اعتاد هو وبهائيون آخرون التجمّع ومناقشة الدين. تحدّثت مارثا مع السيّد تشيس عدّة ساعات وقالت في وقت لاحق إنّه مهّد الطريق لقبولها الدين. بعد ثلاثة أشهر، في كانون الثاني 1909، أصبحت مارثا بهائية في بتسبرغ.

في وقت لاحق من العام نفسه، نشرت مارثا مقالاً طويلاً في صحيفة بتسبرغ بوست عرضت فيه تاريخ أمر الله وتعاليمه، مقتبسة فيه كلمات حضرة بهاءالله المعروفة جيّدًا مخاطبًا البروفسور إ. غ. براون: «نحن لا نريد إلاّ إصلاح العالم وسعادة الأمم.»(9)

عندما وصل حضرة عبدالبهاء إلى أمريكا في عام 1912، تبعته مارثا في أنحاء مدينة نيويورك وواشنطن وشيكاغو كمراسلة ومؤمنة. وقد تأثّرت بشكل عميق من كلّ شيء يتعلّق بحضرته – كلماته، سلوكه، روحانيته ورسالته. كما أجرت مقابلتين شخصيّتين مع حضرته. في البداية، في بتسبرغ، قدّم حضرة عبدالبهاء إلى مارثا وردة بيضاء، والتي أصبحت، دونما استغراب، زهرتها المفضّلة. وعطّرها بعطر الورد ووضع رأسها على كتفه.

تطوّر لدى مارثا شعور عميق بانعدام الثقة بالأطبّاء نتيجة وقوع حادث في عام 1896، عندما كانت في الرابعة والعشرين من عمرها. وقد أصيبت بجراح خطيرة عندما سقطت من درّاجتها بعد أن اصطدمت بحجر وهي تتّجه إلى أسفل أحد المنحدرات. وأدّت العملية التي تلت إلى جعلها غير قادرة على إنجاب أطفال. تسبّب هذا الحدث في رفضها المساعدة الطبّية، حتى عندما كانت في حاجة ماسّة لها.

والآن، في لقائها مع حضرة عبدالبهاء، أخبرته أنّها اكتشفت وجود تورّم أو اثنين في صدرها لكنّها غير مستعدّة لمراجعة طبيب. فاقترح حضرة عبدالبهاء أن تستخدم الشّبّ (كبريتات الألمنيوم) لتقليص الأورام. ولمّا لم يخبرها عن كيفية استخدامه، فقد أذابت مارثا المركّب في الماء وشربته بدلاً من فركه على المنطقة المتضرّرة. على أيّ حال، كان نموّ الورم في تناقص لعدد من السنوات.

ترك اجتماع واحد مع حضرة عبدالبهاء في مدينة نيويورك انطباعًا عميقًا في مارثا. فقد رافق حضرةَ عبدالبهاء في ذلك المساء وليُّ الله ورقاء، نجل أيادي أمر الله ميرزا علي محمّد ورقاء الذي استشهد في عام 1896 مع ابنه روح الله البالغ من العمر اثنتي عشر سنة. وقد روى حضرة عبدالبهاء قصّة هذين المؤمنَين الصامدَين، طالبًا من وليّ الله الجلوس بالقرب منه. كانت القصّة مؤثّرة لدرجة أنّ حضرة عبدالبهاء عاد إلى غرفته وهو يبكي. بعد عشرين سنة كتبت مارثا روايتها الخاصّة بعائلة ورقاء، بعنوان «ورود بلاد فارس البيضاء».

في عام 1915 بدأت مارثا رحلتها الأولى من بين ثماني رحلات واسعة النطاق. وكان غرضها مشاهدة تأثير الدين البهائي على الناس في بلدان أخرى. فغادرت مدينة نيويورك في 30 كانون الثاني، في منتصف الحرب العالمية الأولى، وسافرت إلى إيطاليا، اليونان، إسبانيا، سردينيا، مصر، الهند، بورما، اليابان وهاوائي قبل العودة إلى الولايات المتّحدة عن طريق سان فرانسيسكو. كانت تنوي زيارة حضرة عبدالبهاء ومرقدَي حضرة الباب وحضرة بهاءالله في الأرض الأقدس، ولكنّها لم تتمكّن من القيام بذلك بسبب الحرب. وفي اليابان التقت أغنس ألكساندر وأصبحتا صديقتين حميمتين. وقامت هاتان السيّدتان معًا، اللتان لا يمكن كبح جماحهما، بإعلان أمر الله من خلال الصحافة اليابانية.

في 7 تشرين الثاني عام 1918، بعد سنتين على وفاة والدتها، وأربعة أيّام قبل توقيع الهدنة إيذانًا بانتهاء الحرب العالمية الأولى، كتبت مارثا إلى حضرة عبدالبهاء عن حنينها للسفر في أنحاء العالم لتبليغ أمر الله. فأجابها حضرته بهذه الكلمات المحرّكة للروح:

إنّ ترويج المبادئ المثالية لحضرة بهاءالله في هذا اليوم، والمسجّلة بوضوح في الكتب، هو روح هذا العصر والعامل المؤدّي إلى تحقّق وعود العون والتأييد. وكلّما تمسّكتِ بذلك أكثر، في أيّ إقدام تقومين به، سوف تجدين أبواب القدرة والقوّة مفتوحة على مصاريعها أمام وجهك. أملي من بركات حضرة بهاءالله أن تصبحي مضحّية بالنفس في سبيل حضرته، وأن تنسي الراحة والهدوء، ومثل طائر سريع الطيران، أن تقطعي مسافات طويلة، وفي أيّ أرض تنزلين عسى أن تردّدي لحن الملكوت وتنشغلين في الأغاني والموسيقى بأحسن النغمات…

ولمّا كانت الآذان منتظرة نداء السلام العالمي، لذا يحسن بك أن تسافري… إلى مختلف أجزاء العالم، وتزأري مثل الأسد في ملكوت الله. وسوف تشهدين نتائج بعيدة المدى وتنالين تأييدات استثنائية.(10)

في مؤتمر الوكلاء البهائي السنوي الحادي عشر الذي عُقد في مدينة نيويورك في نيسان 1919، قُدّمت كافّة ألواح الخطّة الإلهية الأربعة عشر. وقد وصلت خمسة من هذه الألواح إلى أمريكا في عام 1916 وكانت مارثا قد اطّلعت على بعضها على الأقلّ. ولكن في وقت تلاوتها الأولى لم تتمكّن من الاستجابة لها، حيث كانت والدتها قد توفّيت مؤخّرًا وكان عليها رعاية والدها. إلاّ أنّه أمكنها الآن أن تشعر بقوّة الرسالة الصادرة من تلك الألواح وسادها شعور غامر بضرورتها الملحّة. ورغم ما شعرت به من الحيرة والقلق خشية أن يكون قرارها بترك والدها المسنّ خاطئًا، فقد حجزت تذكرة سفر إلى أمريكا الجنوبية على متن سفينة كان من المزمع أن تبحر في 21 حزيران 1919.

إلاّ أنّ إبحار السفينة تأجّل بسبب إضراب، فأبحرت فعلاً بعد شهر. وبعد يومين من الإبحار، قدّمت مارثا عرضًا حول الدين البهائي للركّاب والقبطان وضابط المحاسبة وعدد من الضبّاط. وكان عليها أن تتمسّك بعامود وهي تتحدّث، لأنّ السفينة كانت تتمايل بشكل مخيف.

توقّفت السفينة في محطّات مختلفة على طول الساحل البرازيلي فاستثمرت مارثا هذه المناسبات للإعلان عن التعاليم البهائية وتوزيع نسخ من الكتيّبات الزرقاء «بيغ بن» و«ليتل بن» التي أعدّها روي ويلهلم في عام 1917. إلاّ أنّ أهدافها الرئيسة كانت باهيا وبنما، وهما من الأماكن التي ذكرها حضرة عبدالبهاء في ألواح الخطّة الإلهية. وبدا من المستحيل الوصول إليهما، ولكن في كلتا الحالتين وجدت مارثا طريقة وسبيلاً إلى ذلك.

اضطرّت مارثا أن تستقلّ سفينة ثانية من بيرنامبوكو إلى باهيا، حيث نزلت إلى البرّ مع عدد كبير من حقائبها (معظمها تحوي كتبًا بهائية) وتوجّهت إلى المدينة التي تعاني من تفشّي الحمّى الصفراء حيث استقبلتها مباشرة عاصفة مطرية عنيفة. في باهيا وضعت كتبًا بهائية في المكتبة المحلّية، كما وزّعت كتيّبات ونشرت مقالات في الصحف. وقد جرى تحذيرها من أن تُقطع بها السبل في المدينة لعدّة أشهر، لكنّها تمكّنت من المغادرة، كما كان مقرّرًا، بعد ستّة أيّام.

عندما وصلت مارثا إلى الأرجنتين كانت كلّ الكتب البهائية التي حملتها قد نفدت تقريبًا، هكذا كان مدى كثافة تبليغها لأمر الله. ففي كلّ مكان ذهبت إليه اتّصلت مارثا بالصحف، وألقت المحاضرات وتحدّثت إلى جماعات مثل الثيوصوفيين والإسبرانتيين، فضلاً عن أناس من مختلف أطياف المجتمع. وشعرت أنّها حقّقت أوّل أهدافها. والآن كان عليها الوصول الى بنما.

وجدت مارثا الحلّ بعبور جبال الأنديز على ظهر بغل في درب قديم محفوف بالمخاطر يعلو (10،400) قدمًا فوق مستوى سطح البحر. في نهاية الرحلة، التي كانت ترتدي خلالها ‘ثلاث طبقات من الملابس الداخلية الصوفية، وسترتين ومعطفين ودثارًا’(11) للحيلولة دون التجمّد حتى الموت، قدّمت كتيّبات بهائية إلى المرشدين الذين رافقوها وإلى مسؤولي الجمارك ثم استقلّت القطار إلى فالبارايسو ذات المناخ الاستوائي.

وأدّت المناخات المختلفة والجدول المضغوط من الأنشطة الذي وضعته مارثا لنفسها، إلى تدهور حالتها الصحّية، ولكنّها واصلت العمل. فاستقلّت سفينة تبحر على طول الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية، نزلت منها وقد أصيبت بحالة سيّئة جدًّا من الإنفلونزا، ولكنّها كانت قادرة على إبلاغ الناس في كلّ ميناء عن حضرة بهاءالله. وبحلول ذلك الوقت كانت قد وزّعت كلّ الكتب والمنشورات البهائية وصرفت مبلغ 50 دولارًا، وهو مبلغ كبير في عام 1919، على الصحف والمجلاّت في أمريكا الجنوبية التي تحمل مقالاتها. وحتى هذه كانت قد وزّعتها أيضًا.

وصلت السفينة إلى بنما في 25 تشرين الأوّل 1919 – وبذلك حقّقت مارثا هدفها الثاني. وكما في الأماكن الأخرى، أصبحت تقريبًا كلّ مجموعة ومنظّمة وصحيفة ومجلّة، أداة لإعلان مارثا عن أمر الله.

من بنما سافرت مارثا إلى كوبا، لتقضي يومًا واحدًا وليلتين فقط في هافانا – وكان ذلك وقتًا كافيًا لها لإلقاء محاضرات وإجراء اتّصالات مفيدة.

في رحلاتها حملت مارثا معها، فضلاً عن أكداس المطبوعات البهائية، صورًا للملوك والحكّام الذين خاطبهم حضرة بهاءالله قبل نصف قرن، وصورًا لحضرة عبدالبهاء للنشر في الصحف التي اتّصلت بها. وقد أكّدت أنّ مقالاتها تتمتّع بفرصة أفضل للنشر إذا صاحبتها الصور.

كانت مارثا في رحلة قصيرة إلى المكسيك وغواتيمالا عندما وقع صعود حضرة عبدالبهاء في تشرين الثاني 1921. وفي استعادتها لذكريات أحداث الرحلة لاحقًا، أشارت إلى أنّ ليلة 27 تشرين الثاني ويوم 28 منه كانا الأكثر خطورة بالنسبة لها.

انتقلت مقاليد أمر الله إلى حفيد حضرة عبدالبهاء حضرة شوقي أفندي. في كتابها «الجوهرة الفريدة» تحكي روحية خانم عن معاناة حضرة شوقي أفندي، وخيانة عائلته، إلى جانب تقصير الأحبّاء وتكاسلهم وأعباء عمله ما دفعه إلى حافّة اليأس في بعض الأحيان. كان يعاني تلك المحن ‘مكتويًا بنارها’ لأنّه ‘بدا حقًّا محترقًا بنار الآلام تمامًا’، ‘ثم يهطل عليه بعض الغيث من السماء على شكل بشارات سارّة تساعد في انتعاشه من جديد.’(12) وغالبًا ما جاءته مارثا بتلك الزخّات من الغيث بواسطة أخبار نشاطها التبليغي.

بعد وفاة والدها في عام 1922، تمكّنت مارثا من البدء في أسفارها حول العالم بشكل جدّيّ. وكان حضرة شوقي أفندي يكتب إليها مناشدًا، ‘أتحرّق شوقًا إلى سماع كلّ التفاصيل الدقيقة عن إقداماتك المظفّرة في ميدان الخدمة’ ‘اكتبي لي بالكامل وبلا انقطاع لأنّني توّاق أن أسمع عن نشاطاتك وكلّ تفاصيل منجزاتك’(13) ‘رسائلك… أمدّتني بالقوّة والبهجة والتشجيع في وقت كنتُ فيه حزينًا تعِبًا مُثبط الهمّة.’(14)

كان لدى مارثا الكثير للكتابة عنه. ففي فترة متواصلة تقريبًا من السفر تمتدّ نحو (25) سنة، دارت حول العالم أربع مرّات، مسافرة إلى الشرق الأقصى وأستراليا من 1923–1925؛ وإلى الأرض الأقدس وأوروبا ما بين 1925–1929؛ وإلى الشرق الأوسط والهند والشرق الأقصى من 1929–1931؛ وإلى البلقان والدول الاسكندنافية وأمريكا الشمالية 1932–1937. وإلى الشرق الأقصى والهند وأستراليا ونيوزيلندا من 1937 إلى 1939. كما زارت الصين واليابان أربع مرّات والهند ثلاث مرّات. طوال هذه الجولات، حملت رسالة حضرة بهاءالله بكلّ جرأة إلى الملوك والملكات والأمراء والأميرات والرؤساء والوزراء ورجال الدولة وأساتذة الجامعات، والصحافيين ورجال الدين والشعراء والفنانين وعدد كبير من الناس من مختلف أطياف المجتمع. وحضرت المؤتمرات الدينية، وجمعيّات السلام، وجمعيّات الاسبرانتو ومؤتمرات الاشتراكيين وجمعيّات الثيوصوفيين والنوادي النسائية.

ألقت مارثا محاضرات في أكثر من أربعمائة جامعة وكلّيّة. وزارت جميع الجامعات الألمانية مرّتين عدا اثنتين منها، فضلاً عن ما يقرب من مائة مؤسّسة تعليمية في الصين. ونشرت مقالات لا حصر لها في الصحف والمجلاّت في كلّ بلد زارته تقريبًا. وشاركت في العديد من البرامج الإذاعية. كما وضعت عددًا لا يحصى من الكتب في المكتبات الخاصّة والعامّة وأشرفت على ترجمة كتاب الدكتور إسلمنت «بهاءالله والعصر الجديد» ونشره بعدد كبير من اللغات. وقدّمت الكتب البهائية إلى شخصيّات مرموقة وزارت المواقع التاريخية المرتبطة بأمر الله في إيران وأدرنة. ودون أيّ كلل ساعدت أعضاء مؤسّسات أمر الله الإدارية في جميع البلدان التي تشكّلت فيها المؤسّسات أو جرى إنشاؤها.

فضلاً عن رسائلها إلى حضرة وليّ أمر الله وإلى زملائها البهائيين، أمثال روي ويلهلم، كتبت مارثا كتابًا عن حياة «الطاهرة»، والذي نشر في عام 1938. وكتبت أيضًا بغزارة عن أسفارها وعن أمر الله. في أوائل مجلّدات «العالم البهائي» يمكن للمرء أن يجد مقالات كتبتها مارثا عن تواجد البهائيين في مختلف مؤتمرات وجامعات الاسبرانتو في أمريكا الشمالية وألمانيا وشمال الهند. وكتبت عن بعض الشخصيّات التي التقتها في أسفارها: الملك فيصل ملك العراق، الأمير بول والأميرة أولغا من يوغوسلافيا، الملك هاكون من النرويج، إدوارد بينيس رئيس تشيكوسلوفاكيا والملكة ماري من رومانيا. كتبت عن عظمة الحركة البهائية؛ عن ليو تولستوي والعقيدة البهائية؛ عن رسالة «الطاهرة» إلى العالم الحديث، عن مساهمة روسيا الثقافية للدين البهائي وعن زيارتها إلى أدرنة.

ليس من المستغرب أن كتب حضرة شوقي أفندي، حتى في ذلك الوقت المبكر من عام 1926، عن مارثا، ‘حقًّا لقد شاهدنا تمامًا في حالتها، وبطريقة لا يمكن أن نخطئها، ما لقوّة الإيمان الجَسور أن تحقّقه إذا ما اقترنت بشخصية سامية، وأيّ قوى يمكن لها أن تطلقها، وإلى أيّ ذُرى سامية يمكن أن ترتقي.’(15)

ابتداء من عام 1926، استطاعت مارثا أن تلتقي بماري ملكة رومانيا في ثماني مقابلات على مدى إحدى عشرة سنة، بدءًا من أوّل مقابلة لها في كانون الثاني من ذلك العام، وانتهاء باجتماعهما في شباط 1936. كانت ماري حفيدة فيكتوريا ملكة إنجلترا، واحدة من الملوك الذين خاطبهم حضرة بهاءالله، وأصبحت ماري، من خلال مارثا، أوّل ملكة تعتنق أمر حضرة بهاءالله، وتدافع عن دينه وتؤيّده. واعتبر حضرة شوقي أفندي قبول الملكة للدين والدفاع عنه أمرًا مذهلًا وهامًّا للغاية بالنسبة لتقدّم أمر الله. وقد امتلأ حضرته بالإعجاب البهيج والامتنان.

في أيّار 1937 انطلقت مارثا من سان فرانسيسكو في رحلتها الأخيرة حول العالم. فزارت اليابان والصين والفلبين والهند وأستراليا ونيوزيلندا قبل العودة للوطن، حيث كانت تأمل في المساعدة في خطّة السنوات السبع الأولى. عندما قصف اليابانيون شنغهاي في آب 1937، هربت مارثا على متن سفينة أمريكية إلى مانيلا، حيث شهدت إعصارًا وأسوأ زلزال خلال قرن. ومع وصولها إلى هونولولو يوم 7 حزيران 1939 كانت في غاية المرض والإعياء بحيث توجّب مساعدتها للنزول من السفينة. بعد يومين من وصولها كتبت إلى صديقها روي ويلهلم:

صرخت من الألم في رقبتي والعضلات الملتهبة بشكل رهيب. ظننت أنّني سوف أموت. جئت إلى هؤلاء الأحبّاء، وفعلوا كلّ شيء من أجلي… في الليلة الأولى أرسلوا في طلب طبيبهم. كنت في ألم شديد بحيث كان من الصعب عليّ البلع ولم أتمكّن من رفع رأسي.(16)

وأخيرًا وافقت مارثا على مضض على مراجعة الدكتور مولينو لكنّها رفضت أن تخبره بالطبيعة الحقيقية لمرضها. وإذ حاز على ثقتها، أقنع الدكتور مولينو مارثا أن تؤخذ لها صور بالأشعة السينية، فأظهرت سرطانًا متناثرًا في الثدي ناجمًا عن كتلتين من الورم في صدرها – أورام بدأت قبل أكثر من عشرين سنة.

على مدى الأشهر التالية تدهورت حالة مارثا تدريجًا. وقد توفّيت عن عمر يناهز السابعة والستّين في 28 أيلول 1939 ودفنت في مقبرة نوانو في هونولولو.

وكان حضرة شوقي أفندي نفسه مريضًا جدًّا مع حمّى وصلت حرارته إلى 104 درجات فهرنهايت عندما جاء خبر وفاة مارثا،(17) فجاهد ليتمكّن من الجلوس في سريره ويكتب ما يلي:

يشاركني عدد غير محدود من المعجبين بمارثا في جميع أنحاء العالم البهائي برثائها بعد انتهاء حياتها الأرضية البطولية. يهلّل لها الملأ الأعلى لارتقائها بجدارة مقامًا في مجرّة الخالدين البهائيين. سوف تمجّدها الأجيال القادمة كواحدة في مقدّمة أيادي أمر الله الذين أقامتهم ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء في القرن البهائي الأوّل. يعترف الجيل الحالي من زملائها المؤمنين بأنّها أوّل وأروع ثمار عصر التكوين لدين حضرة بهاءالله التي أثمرها حتى الآن. أوصي بعقد جلسة تذكّرية في مشرق الأذكار تكريمًا يليق بواحدة ألقت أعمالها بريقًا خالدًا على جامعة البهائيين الأمريكيين. أتوق للمساهمة مع المحفل الروحاني المركزي في نفقات تشييد نصب تذكاري في بقعة رمزية كمكان لاجتماع الشرق والغرب اللذين كرّست لكليهما طاقاتها الهائلة بقواها الكاملة بكلّ سخاء.(18)

سألت مارثا نفسها ذات مرّة، أثناء تأمّلها في حياة «الطاهرة»، ‘هل كانت الطاهرة عظيمة بما فيه الكفاية لتقول على الفور، «يا إلهي، إنّي أهب حياتي لتأسيس هذا الأمر بين البشر!» أم إنّها [مارثا] أيضًا كانت تحتاج إلى تدريب من قبل الله الحيّ القيّوم لتتوق إلى فداء حياتها كشهيدة لخدمة هذا الظهور العالمي الجديد؟’(19) إنّ تحقيق مارثا لتوقها ذاك يتجلّى من خلال خدماتها لأمر الله. فأيّ تفسير آخر يمكن أن يكون هناك لعمل نفسٍ تحقّقت معظم إنجازاتها المتميّزة والتاريخية بعد عيد ميلادها الخمسين؟

ومع ذلك لو أنّك كنت قد سألتها عن تأسيس أمر الله، كانت أجابت ببساطة: ‘إذا كنتَ تريد أن تقدّم «الرسالة» إلى أيّ شخص، أحبّهم، وإذا أحببتَهم سوف يستمعون.’ لقد شعرت بأنّنا ‘نعيش لحظات، وليس سنوات.’ وهكذا جعلت كلّ اجتماع مناسبة. كانت تقول، ‘أعط شيئًا دائمًا ولو زهرة، أو بعض الحلوى أو الفاكهة. قم بالدعاء حتى يقبلون منك «الهدية الأعظم».’(20) هكذا كان خضوعها. كتب حضرة شوقي أفندي أفضل وصف لها في «كتاب القرن البديع»:

ولم ينل من همّة هذه المرأة الروحانية النشيطة الطاهرة تقدّم السنّ ولا تدهور الصحّة ولا قلّة الكتب التي عاقت جهودها الأولى، ولا المصادر الهزيلة الّتي ألقت على كاهلها عبئًا فوق عبء، ولم يفتّ في عضدها اختلاف المناخ ولا تباين الأجواء التي تعرّضت لها ولا المشكلات السياسية التي جابهتها، فمضت وحيدة فريدة تكتنفها بين حين وآخر ظروف بالغة الخطورة تنادي الناس من مختلف العقائد ومتباين الألوان ومتعدّد الطبقات إلى رسالة حضرة بهاءالله بصوت جهوري مجلجل، وظلّت كذلك رغم مرضها المؤلم القتّال الذي تحمّلت آلامه بثبات بطولي إلى أن أسرعت إلى وطنها لتشارك في تنفيذ خطّة السنوات السبع الحديثة الابتداء، فخرّت صريعة أثناء الطريق، في هونولولو النائية. وهناك في هذه البقعة الرمزية بين المشرق والمغرب اللذين جاهدت في ربوعهما جهادًا جبّارًا ماتت في الثامن والعشرين من أيلول سنة 1939، فانتهت بذلك حياة يمكن أن تعدّ أطيب ثمرة أنتجها عصر التكوين من دورة حضرة بهاءالله حتى الآن.(21)

1.
From a talk by Dr Duane Troxell to Bahá’ís of Santa Fe, New Mexico, circa 1989.
2.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 117.
3.
المصدر السابق، الصفحة 115.
4.
شوقي أفندي، «كتاب القرن البديع»، الصفحة 458.
5.
المصدر السابق.
6.
المصدر السابق، الصفحة 459.
7.
Garis, Martha Root, p. 12.
8.
The name of Pittsburgh was temporarily changed to Pittsburg between 1894 and 1911.
9.
Garis, Martha Root, p. 43.
10.
Zinky, Martha Root, Herald of the Kingdom, pp. 9–10.
11.
Garis, Martha Root, p. 106.
12.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 112.
13.
المصدر السابق، الصفحتان 113–114.
14.
المصدر السابق، الصفحة 115.
15.
المصدر السابق، الصفحة 113.
16.
Garis, Martha Root, pp. 481–2.
17.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 118.
18.
Shoghi Effendi, This Decisive Hour, p. 42.
19.
Bahá’í World, vol. 8, pp. 646–7.
20.
Schoen, ‘A Love Which Does Not Wait’, Bahá’í News, no. 541, April 1976, p. 4.
21.
شوقي أفندي، «كتاب القرن البديع»، الصفحتان 461–462.

1846- تقريبًا  1945 مصطفى الرومي

Hand of the Cause of God Siyyid Mustafá Rúmí (d. 1942)

كان سليمان خان مبلّغًا جوّالاً شهيرًا مخلصًا لأمر الله لا يكلّ ولا يتعب، وكان يرتدي زيّ الدراويش، ويجوب الأراضي العثمانية من أجل جذب النفوس إلى أمر الله. وحدث أنّ بضعة أفراد من عائلة الأفنان استقرّوا في بومباي وأقاموا مطبعة نشرت المجلّدات الأولى من الكتابات البهائية. وإذ أدركوا أنّ الهنود لديهم استعداد لتقبّل أمر الله، التمسوا من حضرة بهاءالله إرسال مبلّغ بهائي ذي معرفة وخبرة إلى تلك البلاد. وتزامن هذا الالتماس مع الحجّ الثاني لسليمان خان إلى عكّاء، فأوعز إليه حضرة بهاءالله بالذهاب إلى الهند.

بعد وصوله إلى بومباي، جاب سليمان خان، الذي كان يُعرف عمومًا باسم جمال أفندي، جميع أنحاء الهند، مبلّغًا للدين البهائي. ونظرًا لهيكله الوقور ولباسه، كان يُعتبر رجل ثقافة وفكر. وقد أبدى للناس صداقة قلبية ومحبّة حقيقية. كانت محادثاته جذّابة وطريقته في الاستماع للناس تثير الإعجاب. فسعى الناس من خلفيّات متنوّعة للاستنارة بأفكاره. وهكذا جذب العديد منهم إلى أمر الله.

قابل جمال أفندي في مدراس شابًّا يدعى السيّد مصطفى الرومي. وكان السيّد ينتمي إلى عائلة نبيلة من بغداد وجاء إلى مدراس لمساعدة والده المسنّ في أعماله. وكان الرومي يتقن عددًا من اللغات، بما فيها العربية والفارسية والتركية والغوجاراتية والبنغالية والأردو والإنجليزية. عمل في تجارة الأرز، ولكنّه في عام 1876 تعرّض لخسائر فادحة قرّر على أثرها العودة الى العراق. وبينما كان في المراحل الأخيرة من استعداده لمغادرة الهند حضر اجتماع رجال يتناقشون في مختلف المسائل الفلسفية والدينية، فانجذب فورًا للكلام البليغ والأخلاق اللطيفة لجمال أفندي.

كان مصطفى الرومي منجذبًا جدًّا للإسلام وملتزمًا بالشعائر الدينية بعناية. وبمجرّد أن تعرّف على جمال أفندي، انجذب الى شخصيّته القويّة ولم يرغب في الافتراق عنه.

عندما استُدعي جمال أفندي للعودة إلى رامبور في شمال الهند، قرّر مصطفى الرومي التخلّي عن خططه الخاصّة واللحاق بمعلّمه. قضى جمال أفندي عدّة أشهر وهو يبلّغ أمر الله في شمال الهند، وكان مصطفى الرومي رفيقه الدائم. ثم انتهى بهما المطاف بتوجّهما إلى كلكتا. وكان أثناء وجودهما هناك، عند نهاية عام 1877 تقريبًا، أن أصبح مصطفى الرومي بهائيًا. وحتى ذلك الوقت كانت شخصية جمال أفندي هي التي ملكت تفانيه وإخلاصه.

في كلكتا زار مصطفى الرومي وجمالَ أفندي اثنان من البهائيين كانا في طريقهما إلى إيران. تحوّلت محادثتهم إلى موضوع الحرب الروسية التركية ونبوءات حضرة بهاءالله عن تركيا. ثم طلب جمال أفندي من الرومي تلاوة «لوح الرئيس» لحضرة بهاءالله أمام ضيفيهما. وكان لقراءة هذا اللوح تأثيرًا هائلاً على مصطفى الرومي، إذ جلس بعد ذلك وقد عقدت الدهشة لسانه بينما ناقش الرجال أهمّية رسالة حضرة بهاءالله. ومع أنّه كان قد سمع العديد من خطابات جمال أفندي، إلاّ أنّه بدا أنّ مصطفى الرومي قد فهم لأوّل مرّة التأثير الكامل لهذا الظهور الإلهي. فأعلن على الفور إيمانه بحضرة بهاءالله. بعد ذلك بوقت قصير كتب جمال أفندي إلى حضرة بهاءالله مشيرًا إلى أن مصطفى الرومي صار مؤمنًا جديدًا، فأرسل حضرته لوحًا إلى مصطفى الرومي ردًّا على ذلك.

في أيّار 1878 سافر جمال أفندي ومصطفى الرومي بحرًا إلى بورما، حيث كان هناك بالفعل شابّ بهائي فارسي واحد يدعى الحاج السيّد مهدي. وبمرور الوقت أصبح عدد من الناس بهائيين من خلال جهود هؤلاء المؤمنين الثلاثة. في عام 1879 سافر جمال أفندي ومصطفى الرومي مع عدد من المؤمنين الجدد، إلى مندلاي، حيث قاموا بالتبليغ بين المسلمين في المقام الأوّل. وأصبح نحو مائتي شخص بهائيين في الأشهر التي تلت ذلك، وفي أواخر عام 1880 غادر المبلّغان البهائيان مندلاي إلى رانغون. وفي العام التالي عادا ليعملا على تشجيع الجامعة البهائية، وفي وقت لاحق ذهبا إلى الهند.

في الهند قاما بزيارة عدد من المدن، بما فيها مدراس، حيث تمكّن مصطفى الرومي من زيارة والده المسنّ. بعد الهند شرع المبلّغان في رحلة طويلة في أنحاء جنوب شرق آسيا، مبحرَين أوّلاً إلى سنغافورة، ثم إلى جاوا وبالي وسيليبس، ومن ثم العودة من خلال سيام والملايو إلى رانغون. في رانغون، افترق جمال أفندي ومصطفى الرومي، فبقي الأخير في بورما وعاد الأوّل إلى الهند.

في رانغون تزوّج مصطفى الرومي من فتاة هندو-بورمية من عائلة ازدهرت أعمالها التجارية، فانضمّ إلى أنسبائه في أعمالهم. واصلت الجامعات [البهائية] في رانغون ومندلاي نموّها ببطء، فكان حضرة بهاءالله يرسل إلى البهائيين هناك العديد من الألواح عن طريق مصطفى الرومي.

في نهاية القرن التاسع عشر صنع البهائيون في بورما تابوتًا من الرخام الجميل ليضمّ رفات حضرة الباب، وكان مصطفى الرومي واحدًا من بين المؤمنين الثلاثة الذين ساعدوا في دفع ثمنه. وقام مصطفى الرومي في عام 1899، مع نفر آخرين، بنقل التابوت إلى الأرض الأقدس كهديّة إلى حضرة عبدالبهاء، الذي رحّب بهم بكلّ لطف ومودّة. إلاّ أنّ عشر سنوات أخرى مرّت قبل أن يتمكّن المولى، في يوم النوروز من عام 1909، من نقل التابوت إلى المقام على جبل الكرمل، حيث تمّ وضع النعش الخشبي المحتوي على رفات حضرة الباب في داخل التابوت ليُسجّى في المقام الأعلى.

خلال هذه السنوات كان مصطفى الرومي قادرًا على تخصيص جزء من وقته لأمر الله، حيث تطلّب عمله وعائلته الكثير من اهتمامه. إلاّ أنّ أعماله التجارية انتكست وانهارت في عام 1910، وبعد ذلك بوقت قصير توفّيت زوجته. لذا صمّم على تكريس وقته الكامل لخدمة أمر الله.

في عام 1911 عقد مؤتمر للأديان لعموم الهند في مدينة الله آباد، والذي كتب له مصطفى الرومي أطروحة عن تاريخ أمر الله وتعاليمه. أوضحت أطروحته كيف أنّه لا يمكن التغلّب على الخلافات بين مختلف الطوائف المتحاربة في الهند طالما استمرّ الدين والسياسة في التأثير في شؤون الخصوم. ورغم أنّ الرومي لم يتمكّن من حضور المؤتمر بنفسه، إلاّ أنّ بهائيًا شابًّا من الخلفية الهندوسية، يدعى نارايان راو سذجي (وكيل) قرأ الأطروحة نيابة عنه، والتي وُزّعت على نطاق واسع بين الحاضرين.

وفضلاً عن تأسيس الجامعتين البهائيتين في رانغون ومندلاي، كان مصطفى الرومي مسؤولاً أيضًا عن تأسيس الجامعة البهائية في ديدناو، وهي قرية في نطاق بلدة كنجيانغون. أمّا كيف حدث ذلك فهي قصّة مثيرة للاهتمام. فقد قدّم أحد البهائيين من رانغون كفالة لمختار ديدناو عندما تورّط في مشكلة قانونية ولم يكن هناك أحد آخر يساعده. وقد أعجب شيوخ القرية للغاية بما حدث بحيث سألوا البهائيين إلى أيّ دين كان ينتمي مصطفى الرومي. ولمّا علموا أنّه بهائي، رغبوا في معرفة المزيد فجيء بهم إلى مصطفى الرومي، الذي كان مقنعًا جدًّا في عرضه لدرجة أنّ سكّان القرية بأكملها البالغين نحو ثمانمائة شخص اعتنقوا أمر الله. ورغبة منه في مساعدة هؤلاء البهائيين الجدد، حصل مصطفى الرومي على مساعدات مالية من المؤمنين في رانغون وفتح مدرسة في القرية. في السنوات اللاحقة شجّع حضرة وليّ أمر الله الجامعة البهائية في ديدناو بكلّ قوّة على ضرورة الحفاظ على مدرستها، مرسلاً مبلغ 30 جنيهًا إسترلينيًا بواسطة مصطفى الرومي لصيانتها.(1)

تصدّى مصطفي الرومي، وهو المدافع القوي عن العهد والميثاق، بشكل فاعل لجهود ناقضي العهد في نشر دعايتهم في الهند في أعقاب صعود حضرة بهاءالله. وفي عام 1921، عندما صعد حضرة عبدالبهاء، هزم مرّة أخرى تلك النفوس المضلّلة، وذلك من خلال تعليم الأحبّاء الالتزام بمضامين ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء.

كان مصطفى الرومي محبوبًا من قبل حضرة عبدالبهاء، وتلقّى العديد من الألواح من حضرته. زار الأرض الأقدس مرتين خلال فترة حياة حضرة عبدالبهاء ومرّة واحدة بعد صعوده. بعد صعود حضرة عبدالبهاء خدم مصطفى الرومي حضرة وليّ أمر الله بحماس متّقد.

كان السيّد مصطفى الرومي عالمًا باحثًا مطّلعًا على الكتب الدينية لليهود والمسيحيين والمسلمين والبوذيين. فكانت طرقه التبليغية ناجحة جدًّا. وكان قادرًا على تقديم تعاليم هذه الديانات الكبرى في ضوء الرسالة البهائية بطريقة مقنعة. وعندما يقبل الناس أمر الله، كان مصطفى الرومي عندها قادرًا على مساعدتهم في تشكيل مجموعات إدارية واضعًا حجر الأساس للعديد من المحافل الروحانية. وكان أحد أعظم مواطن القوّة لدى مصطفى الرومي قدرته على استحكام الجامعات البهائية الجديدة وكذلك تنشئتها.

كما ترجم مصطفى الرومي العديد من الكتب إلى اللغة البورمية، بما في ذلك «الكلمات المكنونة»، «كتاب الإيقان»، «مفاوضات عبدالبهاء» و«الأدعية البهائية». وجمّع بلغة الأردو «المعيار الصحيح» وأشرف على ترجمة «مقالة سائح» إلى لغة الأردو وألّف كتيّبًا بعنوان «دروس في الدين» باللغة البورمية.

في أوائل الثلاثينيات من القرن انتُخب مصطفى الرومي عضوًا في المحفل الروحاني المركزي للهند وبورما حيث خدم فيه عدّة سنوات. في سنوات لاحقة أقام في ديدناو. وخلال الحرب العالمية الثانية لجأ العديد من البهائيين من رانغون ومندلاي إلى تلك القرية. كان ذلك زمن الحَمية القومية العارمة وكان الناس من الخلفيّات الأجنبية بشكل خاصّ في خطر. فطلب البهائيون من مصطفى الرومي مغادرة القرية لأنّ وجوده فيها أصبح يشكّل خطرًا كبيرًا على حياته، ولكنّه رفض، مشيرًا إلى تقدّمه في السنّ وإصراره على عدم مغادرة المكان الذي اختار أن يخدمه.

في 13 آذار 1945 هاجمت القرية مجموعة من الغوغاء مكوّنة من ثلاثة آلاف شخص، وأحاطوا بها من أجل تخليصها من كلّ نفوذ أجنبي. فأحرقوا المدرسة البهائية، وحظيرة القدس والعديد من منازل البهائيين وسوّوها بالأرض ونهبوا الممتلكات. إلاّ أنّ المأساة الأعظم كانت مقتل أحد عشر من البهائيين في الهجوم، ومن بينهم السيّد مصطفى الرومي. فقد أحرق الغوغاء منزله، وقطعوا رأسه وقطعوا جسده إلى أشلاء. وفي وقت لاحق جمّع البهائيون أجزاء جسده ودفنوه أمام المركز البهائي. في يوم 14 تمّوز 1945 أرسل حضرة وليّ أمر الله برقية إلى البهائيين في الهند وبورما رافعًا مصطفى الرومي إلى رتبة أيادي أمر الله:

القلوب مكلومة بالحزن لصعود المهاجر المتميّز في دين حضرة بهاءالله إلى الملأ الأعلى، الحبيب الصامد والنفس النبيلة صاحب الفكر السامي السيّد مصطفى. إنّ السجلّ الطويل لخدماته الرائعة سواء في مجال التبليغ أو الإدارة يلقي بريقًا لامعًا على كلا العصرين البطولي والتكويني للدورة البهائية. وإنجازاته الرائعة تخوّله حقًّا الانضمام إلى كوكبة أيادي أمر حضرة بهاءالله. ينبغي اعتبار مثواه الأخير في مقدّمة أضرحة جامعة البهائيين البورميين. أوصي بعقد مجالس تذكّرية في كافّة أنحاء الهند تكريمًا لذكراه الخالدة. حثّوا الأحبّاء الهنود والبورميين على المشاركة في تشييد مرقده. أرسلُ مبلغ ثلاثمائة جنيهٍ كتبرّع شخصي من طرفي مساهمة في هذا الهدف المبرور.(2)

في آب 1945 كتب حضرة وليّ أمر الله، من خلال سكرتيره، مرّة أخرى إلى البهائيين الهنود:

لقد شعر حضرته بالحزن العميق لدى سماعه نبأ وفاة أخينا البهائي العزيز جدًّا والمحترم السيّد مصطفى. كان حقًّا مثالاً للتكريس والاستقامة وأحد المهاجرين المتميّزين الذين أنجبهم أمر الله خلال القرن الأوّل من نشوئه. كما حزن حضرته للغاية لسماعه عن دمار حظيرة القدس البهائية وعن محنة البهائيين بشكل عامّ.(3)

وكتب حضرة وليّ أمر الله [عن طريق سكرتيره] مرّة أخرى في كانون الأوّل من العام نفسه:

لقد شعر حضرته بشديد الأسى لدى اطّلاعه على معاناة الأحبّاء البورميين الأعزّاء، ووفاة ذلك النجم الساطع في سماء أمر الله، السيّد مصطفى، ومقتل العديد من الأحبّاء الآخرين!(4)

لقد ضرب مصطفى الرومي بتفانيه ونكرانه للذات خير مثال للبهائيين في كلّ مكان. في عام 1948، وفي رسالة إلى المحفل الروحاني المركزي لأستراليا ونيوزيلندا، مشجّعًا على مواصلة الجهود لتبليغ أمر الله، ركّز حضرة وليّ أمر الله الاهتمام على إنجازات السيّد مصطفى الرومي في بورما:

يمكننا حقًّا أن نقول إنّ هذا الأمر الإلهي هو أمر يمكّن الناس من تحقيق المستحيل! فالبهائيون، في كلّ مكان، في معظمهم، هم أناس لا يتمتّعون بتميّز عظيم من ناحية الثروة أو الشهرة، ولكن بمجرّد أن يبذلوا الجهد وينطلقوا باسم حضرة بهاءالله لنشر دينه، فإنّ كلّ واحد منهم يصبح فاعلاً ومؤثّرًا كجيش! شاهدوا ما أنجزه مصطفى الرومي في بورما… إنّها نوعية التفاني وفداء النفس التي تجلب المكافآت في خدمة هذا الدين لا الوسائل أو القدرة أو الدعم المالي.(5)

 

1.
Shoghi Effendi, Messages of Shoghi Effendi to the Indian Subcontinent, p. 143.
2.
المصدر السابق، الصفحة 260.
3.
المصدر السابق، الصفحة 261.
4.
المصدر السابق، الصفحة 264.
5.
Shoghi Effendi, Messages to the Antipodes, p. 257.

1875 – 1951 روي ك. ويلهلم

Hand of the Cause of God Roy C. Wilhelm (1875-1951)

كان روي ويلهلم رجلاً أسيرًا للعادات. فكان يرتدي بدلات داكنة اللون من الطراز القديم، ويستقلّ القطار إلى وول ستريت، ويشتري صحيفة هيرالد تريبيون، ثم يعمل في المكتب، ويعود إلى منزله في القطار، ويشتري الزهور لأمّه، ويبدّل ملابسه ليرتدي سترة العشاء في المنزل، وينتعل خفًّا ليبدأ فترة أخرى من الاسترخاء في المساء كالعادة. كان رجل أعمال ثريًّا ومحترمًا في تجارة البنّ، في عام 1900 انتقل إلى نيويورك، حيث كان يحضر، دونما رغبة، الاجتماعات البهائية مع والديه عندما يأتون لزيارته. إلاّ أنّ رتابة حياته تغيّرت ذات مساء إلى الأبد:

كان يجلس على سريره، لتبديل حذائه، عندما تحوّلت الغرفة فجأة. فقد تمّ تبييض الجدران، وكانت في الغرفة ثمّة أريكة. وقف بجانب روي شخص مهيب الهيكل ذو لحية سوداء طويلة، يرتدي ما بدا ثوبًا شرقيًا. اقترب الشخص من روي، وخلع خاتمه ووضعه في إصبع روي وخلع خاتم روي ووضعه في إصبعه هو.(1)

تسمّر روي في مكانه من ذلك الظهور الغريب. فالرجل الواقعي ليس عرضة للرؤى أو التجارب النفسية، لذا لم يقدر على التوفيق بين ما رآه وما هو عليه في نفسه.

قرّر أن لا يخبر أحدًا عن هذه التجربة. فرغم كلّ شيء لن يفهم أصدقاؤه «الواقعيّون» أبدًا. أمّا والدته، البهائية الراسخة منذ الأيّام الأولى لأمر الله في أمريكا، فإنّها بالتأكيد سوف تجدّد جهودها لجذبه إلى الدخول في أمر الله.

ولد روي ويلهلم في زاينسفيل بولاية أوهايو، في 17 أيلول 1875. وكانت جدّته لأمّه تعتقد أنّ اليوم الموعود كان وشيكًا ونصحت المقرّبين منها ترقّب هذا الحدث. أمّا والدا روي، فرغم أنّهما كانا أعضاء في الكنيسة، إلاّ أنّه كانت لديهما وجهات نظر غير تقليدية. فعندما كان روي في سنّ الخامسة عشر تقريبًا، أصبحت والدته، لاوري، غير راضية بالعقيدة المسيحية، وبدأت التحرّي والتحقيق في التعاليم والفلسفات الدينية الأخرى. ومثل والدتها، أصبحت مقتنعة بأنّ «اليوم العظيم» قريب.

في عام 1898 تقريبًا استلمت لاوري من أحد الأصدقاء بعض الكتيّبات البهائية، ومختارات من «الكلمات المكنونة» ورسالة حول الدين البهائي. وحالما قرأت هذه، قبلت لاوري التعاليم البهائية. ولتوقها إلى مشاركة الأخبار الجيّدة مع ابنها، أرسلت إليه صورة لحضرة عبدالبهاء ومقالة صحفية قصيرة عن حضرته. فلم يُعجب روي بأيّ منهما، وأعاد قصاصة الصحيفة إلى والدته مع عبارة: «شيء غريب إذا كان صحيحًا» مكتوبة في الهامش.(2)

ومع مرور الوقت وتعمّق معرفتها بالدين، قضت السيّدة ويلهلم المزيد من أوقات فراغها في التبليغ ومراسلة المؤمنين والباحثين في أجزاء مختلفة من العالم. وكلّما زارت ابنها في نيويورك، أخذته إلى الاجتماعات البهائية، ولكنّ روي كان ببساطة غير مقتنع بأنّ الدين البهائي يقدّم طرز حياة يناسب مزاجه. فتحمّل معتقدات والدته لكنّه كان راضيًا عن حياته تمامًا كما هي.

في عام 1907 حصلت لاوري ويلهلم على إذن لزيارة الأرض الأقدس ومقابلة حضرة عبدالبهاء. وطلبت من ابنها مرافقتها. ولمّا كان روي غير مستعدّ لترك والدته تسافر لوحدها في تلك الرحلة البعيدة، فقد وافق. وهكذا، في نيسان 1907 سافر روي ولاوري إلى عكّاء وبيت المولى.

عندما وصلا إلى وجهتهما، وجد روي نفسه فجأة، قد احتُضن بقوّة وبحرارة من قبل حضرة عبدالبهاء. ‘مرحبًا، مرحبًا حقًّا!’ قال حضرة عبدالبهاء لدى وصولهما. ‘لقد كنت في انتظار مجيئكما. فبعون الله قد وصلتما إلى عكّاء… إنّكما تمثّلان كلّ المؤمنين الأمريكيين… الحمد لله إذ جئتما.’(3) وإذ أفاق من صدمة رؤية نفسه محتضَنًا من قبل رجل آخر، شعر روي بتحفّظاته تتلاشى وهو يسترخي في جوّ الترحيب لبيت حضرة عبدالبهاء.

وفي أحد الأوقات خلال الأيّام الستّة من إقامتهما في بيت السجن، حثّ حضرة عبدالبهاء روي على زيارة البهجة. وفي الطريق، اصطحب أحد المؤمنين الإيرانيين روي إلى بيت أبيض صغير اعتاد حضرة بهاءالله الإقامة فيه كلّما زار حديقة الرضوان. ولمّا دخل المنزل، وجد روي نفسه في الغرفة التي شاهدها في رؤياه. فغادر المنزل بسرعة وهو يرتجف مدركًا وجوب مشاركة سرّه مع حضرة عبدالبهاء.

‘لقد مررتَ بتجربة روحانية.’ أخبر حضرة عبدالبهاء روي. ‘وشدّك حضرة بهاءالله إلى دينه.’(4) ومنذ تلك اللحظة أصبح روي ويلهلم بهائيًا.

خلال هذا الحجّ للأمّ والابن، ألمح حضرة عبدالبهاء إلى عظمة الظهور البهائي في المستقبل بهذه الكلمات:

عندما صعدت روح المسيح، كان حواريّوه أحد عشر تلميذًا. وأعظمهم كان بطرس وقد أنكر المسيح ثلاث مرّات، ولكن عندما غادر حضرة بهاءالله هذا العالم كان لديه مائة ألف من المؤمنين الذين كانوا يهتفون «يا بهاء الأبهى» عندما كانوا طعمة السيوف والخناجر، وفي هذه السنوات الأخيرة قُتل كثير من الرجال والنساء في يزد في القيود والأغلال دون أن ينطقوا بصرخة أو شكوى واحدة، بل نطقوا بدلاً من ذلك بالاسم الأعظم. من هذه الحوادث يمكننا أن نحكم على مستقبل هذا الظهور.(5)

تأثّر روي بعمق من حجّه في عكّاء وكتب عنها لاحقًا كتيّبًا بعنوان «من يقرع يُفتح له». وقد وضع على غلافه الأمامي صورة كان قد التقطها لمدخل بيت حضرة عبدالبهاء.(6) وفي مقاله المرسل إلى مجلّد «العالم البهائي» بعنوان «لمحتان عن عبدالبهاء»(7)، تذكّر روي ذلك الحجّ كدليل على قوّة المحبّة والوئام.

في ذلك المقال، يروي مشاهدته في داخل بيت حضرة عبدالبهاء يهودًا ومسيحيين ومسلمين وزرادشتيين وهندوس يعيشون معًا في وحدة مثالية. ويتذكّر كيف ضحّى أفراد عائلة حضرة عبدالبهاء بحياتهم من أجل بعضهم بعضًا ويذكر جلوسه بجوار المولى، الذي وضع ذراعه حوله بينما أمسك بيد والدته في يده. وشهد السخاء الشهير لحضرة عبدالبهاء تجاه الفقراء في عكّاء ورأى الشخصيّات المرموقة من مختلف الخلفيّات والأنظمة يتقرّبون إلى التشاور مع المولى. يتذكّر الطيور الصغيرة وهي تطير في غرف مبنى السجن، والمؤمن الذي انتظر اثنتين وعشرين سنة ليأتي إلى الأرض الأقدس. ومن بين البهائيين الذين التقى بهم «ملاك الكرمل»، الحاج ميرزا حيدر علي، الذي كان قد نفي وسجن لمدّة اثنتي عشرة سنة بسبب إيمانه بالظهور الجديد.

في عام 1908 التقى روي صدفة بمارثا روت في مطعم في بتسبرغ، وأخبرها عن أمر الله، ما غيّر التاريخ البهائي إلى الأبد. كان روي وثورنتون تشيس مرشدَي مارثا. فلم يكُنَا قد قابلا حضرة عبدالبهاء فحسب، بل كانا ناجحَين للغاية في عالم الأعمال، والمحافظة على مزاياهما التنافسية

من خلال النزاهة والممارسات الأخلاقية، ودون السعي للتلاعب أو تشويه سمعة الآخرين في ميدان أعمالهم. كانا كادحَين وتمكّنا من دمج مستوى عال من النشاط التجاري مع العمل لأجل الدين البهائي.(8)

بعد بضعة أشهر من لقاء روي الأوّل مع مارثا، نقلت عائلة ويلهلم أعمالها من وسط الغرب إلى نيويورك وانتقلت الى منزل في غرب إنجلوود بولاية نيوجيرزي. هذا البيت، ببستانه القريب دائم الخضرة، والتلال المحيطة والفضاء المفتوح، سيكون مسرحًا للعديد من الأنشطة البهائية في السنوات المقبلة. فقد عُقدت فيه اجتماعات منتظمة وفي عدد قليل من المنازل الأخرى المجاورة في محاولة لجذب المقبلين، ولكن مرّت سنوات عديدة قبل تأسيس مجموعة بشكل دائم، ما تسبّب في تذكّر روي لتعليق من حضرة عبدالبهاء: ‘حتى الأمور الصغيرة في هذا العالم يتطلّب إنجازها جهدًا كبيرًا.’(9)

في عام 1909 كان روي واحدًا من تسعة أعضاء منتخبين في المجلس التنفيذي لوحدة المعبد البهائي. وباستثناء سنة من المرض، خدم روي في ذلك المجلس وفي الهيئة التي خلفته، المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة وكندا، حتى عام 1946، بصفته أمين الصندوق لسنوات عديدة. وقد حصل على إعجاب زميله عضو المحفل الروحاني المركزي هوراس هولي للسنوات التي قضاها في الخدمة

لم يحقّق أيّ مؤمن أمريكي آخر سجلاًّ من الإنجاز بالمقارنة به. فكأمين للصندوق، كانت نزاهة شخصيته وبساطة وإنسانية عرضه للشؤون المالية بشكل مباشر قد حقّقت تطوّرًا سريعًا للصندوق البهائي كمؤسّسة عضوية في جامعة الأحبّاء.(10)

في عام 1912 جاء حضرة عبدالبهاء إلى أمريكا. وبناء على طلب حضرته، عُقدت ضيافة الوحدة في حدائق منزل ويلهلم في غرب إنجلوود في 29 حزيران 1912 للبهائيين في منطقة نيويورك. ومن بين المائتين وخمسين شخصًا الذين حضروا كانت مارثا روت، لوا غتسنغر، غريس روبارتس، علي قلي خان، مارجوري مورتن، جولييت طومسون وغريس كروغ. وقد خاطب حضرة عبدالبهاء الجمع قائلاً:

إنّ هذا اللقاء لقاء بهيج؛ فقد أتيتم إلى هنا بنيّة خالصة، ومقصد الحاضرين هنا جميعًا هو نيل الفضائل الإلهية… إنّ هذا اليوم يوم جديد، وهذه الساعة ساعة جديدة فيها اجتمعنا. ولا شكّ أنّ شمس الحقيقة سوف تغمرنا بكامل إشراقها، وأنّ ظلام الاختلافات سيتبدّد… وليس لمثل هذه اللقاءات شبيه ولا نظير في عالم البشر الذي يلتفّ الناس فيه لمآرب مادّية أو لترويج مصالح دنيوية، ذلك لأنّ هذا اللقاء هو نموذج لذلك الترابط الروحاني الكامل في عالم الوجود الأبدي.

… فلسوف تعقد مئات الآلاف من اللقاءات تخليدًا لهذه المناسبة، وستعاد فيها نفس الكلمات التي أحدّثكم بها اليوم فيها لعصور قادمة.(11)

وصفت جولييت طومسون في مذكراتها ما كان بالنسبة لها الحدث الأبرز في مجلس ضيافة الوحدة:

بالنسبة لي جاء أجمل مشهد على الإطلاق في وقت لاحق، عندما عاد المولى إلينا بعد حلول الظلام. وكان نحو خمسين أو ستّين شخصًا قد مكثوا هناك، غير قادرين على مفارقة حضرته. وقد جلس المولى على كرسيّ في أعلى الشرفة، وبعض منّا محيطون بحضرته… وجلس الآخرون تحت الشرفة، على النجيل في أنحاء الحديقة وعلى جانبي الممرّ، وقد انتشرت تنانير النساء الصيفية الخفيفة فوق العشب، والشموع الرفيعة في أيديهن (لإبعاد البعوض). في الظلام، وفي ملابسهن الرقيقة، بَدَيْنَ مثل فراشات كبيرة، وكانت الأطراف المشتعلة للشموع التي لوّحن بها تبدو كاليراعات تطير هنا وهناك. ثم تحدّث المولى إلينا مرّة أخرى. كنت واقفة خلف حضرته، على مقربة منه، وقبل أن يبدأ التفت إليّ ونظر نظرة طويلة وعميقة.

قبل أن ينتهى قام من مقعده ومشى في الممرّ وما طفق يتحدّث، مارًّا بين الأجسام القاتمة على العشب بشموعها المضاءة، إلى أن وصل إلى الطريق.(12)

وإذ خرج من الظلام، سمعته جولييت يهتف إليهم، ‘السلام عليكم’. وقد كتبت، ‘عسى أن أتذكّر دائمًا، «وأن أسمع الصوت».’(13)

تمثّل هذه المناسبة «الذكرى العمومية الوحيدة التي يسمح للبهائيين الأمريكيين أن يحيوها عن زيارة حضرة عبدالبهاء».(14) وهذه «النزهة التذكارية» الخالدة، كما أصبحت تُعرف فيما بعد، لا يزال يُحتفل بها سنويًا حتى الآن.

في أحد الأيّام بينما كان في نيويورك، طلب حضرة عبدالبهاء من روي أن يأتي إلى فندق أنسونيا حيث كان يقيم حضرته:

غادر روي على الفور. عندما دخل إلى محضر حضرة عبدالبهاء، لاحظ عددًا من الأحبّاء، بمن فيهم عدد من الإيرانيين جالسين في أنحاء الغرفة. أجلس المولى روي في وسط الغرفة، وبدأ في التحدّث معه عن أهمّية الطاعة، بطريقة فيها تأنيب، ملوّحًا بإصبعه إلى روي. كان يمكن لمعظم الأشخاص الآخرين أن يتململوا ويرتعدوا، أو يندفعوا خارجين من الغرفة، لكنّ روي لم يجفل. استغرب وتحيّر، ولكنّه لم يشكّ في المولى مطلقًا.(15)

علم روي لاحقًا أنّ الغرض من محاضرة المولى الوصول إلى مؤمن إيراني في الغرفة كان يميل نحو نقض العهد.

خلال وجود حضرة عبدالبهاء في أمريكا، قدّمت مارثا روت، من خلال روي ويلهلم، مخطّطًا لرحلة تبليغ عالمية كانت تأمل القيام بها. وتحدّث روي عن الاقتراح إلى حضرة عبدالبهاء، الذي وافق على مضض على ذهاب مارثا، طالما أمكنها الاستمرار في الحصول على راتبها. ومع ذلك، كان حضرته يريد حقًّا أن تبقى في بتسبرغ. وفي ردّه إلى مارثا بتقريره، أعرب روي عن قلق حضرة عبدالبهاء بخصوص سلامتها والمصاعب التي من المرجّح أن تعانيها. وكانت صداقتهما الوثيقة قد مكّنته من تقديم نصيحته الخاصّة:

أعتقد أيضًا يا مارثا، أنّه من الخطأ الإجهاد المفرط لأجل «خلق الظروف». أنا أؤمن بمحاولة الحصول على اللياقة لاغتنام الفرص «عندما» تأتي ثم عدم لفت الأنظار بانتظار وصول تلك الـ «عندما» وأنا أشكّ أنّ تلك الـ «عندما» خاصّتك لتلك الرحلة القصيرة الكبيرة قد وصلت لغاية الآن، على الرغم من أنّني أشعر بنحو ما في كياني أنّها سوف تأتي.(16)

اتّبعت مارثا نصيحتَي حضرة عبدالبهاء وروي وأجّلت جولتها المقترحة، ومع أنّها لا بدّ وقد شعرت بخيبة أمل، إلاّ أنّها انضمّت إلى روي ووالديه في العام التالي في رحلة من قيادة السيّارات والتخييم لمدّة شهر عبر نيو إنجلاند. وكان لكلّ واحد بالذات، مسؤولية محدّدة، إن لم تكن غريبة، في هذه الجولة: كان روي رئيس المهندسين؛ ووالده مسؤولاً عن المؤن. ولاوري «الطاهية الشاعرة»؛ ومارثا الملاّحة. كانت رحلة ناجحة، عمّقت الروابط بين أعضاء عائلة ويلهلم ومارثا وأوجدت الكثير من السعادة. كتب روي ومارثا لاحقًا مقالاً عن المغامرة نشر في «كوليير»، وهي مجلّة أسبوعية شعبية.

كان روي يدرك تمامًا النقص في المطبوعات البهائية. في السنوات التي سبقت إنشاء هيئة الطبع والنشر البهائية، كان في كثير من الأحيان يعدّ في مكتبه البارد بعد منتصف الليل نسخًا عن أحدث ألواح المولى. وقد طبع مئات من هذه النسخ وعمل على تعميمها في جميع أنحاء الجامعة البهائية الأمريكية. وكان روي قد أصيب في ظهره في سنّ السادسة عشر عندما قفز من نافذة حظيرة على مذراة مخفيّة تحت كوم من القش حُمل على ظهر عربة. ولا بدّ أنّ عملاً شاقًّا كهذا قد فاقم الألم الشديد الذي عانى منه في كثير من الأحيان لدرجة أنّه كان أحيانًا يضطرّ للعمل واقفًا.

في مؤتمر الوكلاء البهائي السنوي التاسع، الذي عقد في بوسطن في نيسان 1917، تمّ عرض اثنين من الكتيّبات الصغيرة الزرقاء للتبليغ، واحدة أقلّ من بوصتين مربعة والأخرى أكبر قليلاً. وكان يطلق عليهما اسما «ليتل بن» و«بيغ بن»، وتمّ إعداد هذه الكتيّبات من قبل روي كهدايا صغيرة للبهائيين الذين حضروا مجلس عيد الرضوان قبل المؤتمر، ولكنّها أصبحت شعبية للغاية. تمّ بيع جميع نسخ الطبعة الأولى البالغة (15،000) نسخة بسرعة. وطُبعت (75،000) نسخة أخرى سرعان ما نفدت أيضًا. ونظرًا لترجمتها إلى عدّة لغات، أصبحت أدوات المساعدة التبليغية الأوّلية لمارثا روت عندما بدأت أسفارها العالمية. «كان حضرة عبدالبهاء سعيدًا جدًّا بهذه الكتيّبات بحيث طلب أن تُرسل إليه (100) نسخة من كلّ منهما، ‘لأنّها جديرة بالثناء حقًّا’.(17)

وإذ كان دائمًا يبحث عن وسيلة لنشر رسالة حضرة بهاءالله، لم ينتج روي كتيّباته التبليغية فحسب، بل ضمّن مقتبسات من الكتابات البهائية في الإعلانات عن عمله في المجلاّت التجارية. وعلاوة على ذلك، كان قادرًا في أحاديثه العامّة على تقديم موضوعات جادّة بطريقة مسلّية وبدا أنّه يثير المودّة والثقة في أولئك الذين عرفوه. وقد استثمر الفرص التي تتيحها رحلات عمله في جميع أنحاء البلاد لتبليغ أمر الله إلى أيّ مستمع مستعدّ. وكثيرًا ما زار البهائيين، الذين كانوا يتطلّعون بشوق إلى قدومه، وألقى المحاضرات.

في الوقت الذي كان يخدم عضوًا في المحفل الروحاني المحلّي في مدينة نيويورك في عام 1920، أقنع روي الكهربائي الشابّ، كيرتس كيلسي، بالذهاب إلى الأرض الأقدس لتصميم وتركيب أنظمة الإضاءة الكهربائية في المقام الأعلى لحضرة الباب ومرقد حضرة بهاءالله وفي بيت حضرة عبدالبهاء. وكان روي قد تأثّر بعمق من كلمات حضرة الباب المنزلة أثناء حبسه في قلعة ماه كو:

ما أشدّ احتجابكم أيّها الخلق… أن أسكنتموه [حضرة الباب] بغير الحقّ في جبل [ماه كو] لا يستحقّ أحد من أهله أن يُذكر… وليس في محضره، الذي هو محضري، مصباح واحد يضيء بالليل. على حين تتألّق في المقاصد [أي المعابد] التي ترجع إليه على درجات متفاوتة مصابيح متعدّدة ويتلذّذ كلّ ما على الأرض – وكلّ ما على الأرض خلق من أجله – بآلائه ومع ذلك يحتجبون عنه احتجابًا فيحرمونه حتى من مصباح!(18)

كان روي قد كتب إلى حضرة عبدالبهاء يطلب السماح بإرسال مولّد كهربائي لإنارة المقام الأعلى لحضرة الباب فتلقّى برقية من حضرته تقول أنّ هناك حاجة إلى ثلاثة مولّدات. في غضون أسابيع قليلة، أرسل روي المولّدات إلى حيفا. والآن كان هناك حاجة إلى شخص ما لتركيبها. بعد سنة من تسليم المعدّات، وصل كيرتس إلى الأرض الأقدس لتركيبها، بعد أن تمّ دفع أجرة سفره من خلال بيع سيّارة عزيزة على مالكها، وبعض المال غير المتوقّع من والده وهديّة بقيمة خمسمائة دولار من روي. وهكذا وجد كيرتس كيلسي نفسه في الأرض الأقدس خلال الأشهر الأخيرة من حياة حضرة عبدالبهاء.

طوال فترة ولايته ابتُلي حضرة عبدالبهاء من قبل أولئك الذين يرغبون في تقويض أمر الله، وخلق الانقسامات وإبعاد الآخرين عن مركز العهد والميثاق. واستُنفِدَ الكثير من طاقة حضرة عبدالبهاء للحفاظ على وحدة الدين وحثّ البهائيين على البقاء أوفياء للعهد والميثاق.

وقد نصح حضرة عبدالبهاء، في كثير من الأحيان، روي وغيره مّمن كانوا موضع ثقته، أن يحموا جامعة الأحبّاء من مكائد ناقضي العهد. فعلى سبيل المثال، في صيف عام 1920 كتب حضرته إلى روي:

يجب عليك وعلى جميع الأحبّاء تشجيع النفوس على الثبات في التمسّك بالعهد والميثاق، لأنّ قوّة العهد تجمعهم وتجعلهم موحَّدين ومتآلفين. وخلاف ذلك ينهض كلّ نفس طموح لتحقيق انفصالهم، من أجل جمع بعض النفوس حول شخصه.(19)

وثق حضرة عبدالبهاء بروي ثقة تامّة، وبينما قاربت حياة حضرته على نهايتها، أبرق إلى روي في 8 تشرين الثاني 1921 قائلاً: ‘كيف الأوضاع وكيف صحّة الأحبّاء؟’ فأجاب روي في اليوم التالي: ‘في شيكاغو وواشنطن وفيلادلفيا نقض عنيف متمركز في فيرنالد وداير وواطسون، أمّا في نيويورك وبوسطن فقد رفضوا [الأحبّاء] الانضمام إليهم وتبنّوا سياسة بنّاءة بكلّ صلابة.’(20) لا شكّ أنّ صراحة روي غير المتردّدة في هذه المناسبة، في الكشف عن الوضع الحقيقي لهذه الجامعات البهائية، كانت أحد أسباب الثقة التي وضعها المولى فيه.

في 12 تشرين الثاني ردّ حضرة عبدالبهاء على تقرير روي:

‘من يجالس المجذوم يصاب بالجذام، ومن يكن مع المسيح ينبذ الفريسيين ويمقت يهوذا الإسخريوطي. أن اجتنبوا الناقضين بكلّ تأكيد. أعلموا غودال وترو وبارسونز بهذا تلغرافيًا.’(21)

في وقت لاحق من اليوم نفسه أرسل حضرة عبدالبهاء رسالة ثانية إلى روي: ‘ألتمسُ الصحّة من العناية الإلهية.’(22) كانت هذه الرسائل الأخيرة من حضرة عبدالبهاء التي تلقّاها البهائيون الأمريكيون. أمّا البرقية التالية التي استلمها روي الواردة من الأرض الأقدس، بتاريخ 28 تشرين الثاني 1921، فكانت من الورقة المباركة العليا تبلغه بصعود حضرة عبدالبهاء.

بعد أربعة أشهر، قام حضرة شوقي أفندي، رغم محنته وكربه، باستدعاء مجموعة من البهائيين البارزين إلى حيفا للتشاور معهم حول مستقبل أمر الله. ضمّت هذه المجموعة ماونتفورت ميلز، ومايسون ريمي وروي ويلهلم من أمريكا؛ ولورا وهيبوليت دريفوس بارني من فرنسا؛ وكونسل وأليس شوارتز من ألمانيا؛ والرائد تيودور بول والليدي بلومفيلد وإثيل روزنبرغ من إنجلترا؛ وإيموجين هوغ التي كانت تعيش في حيفا في ذلك الوقت. وجاء مؤمنون آخرون في وقت لاحق.

شعر بعض البهائيين وأعضاء من عائلة حضرة عبدالبهاء بأنّ شباب حضرة شوقي أفندي ينطوي على الافتقار إلى النضج لتصريف شؤون أمر الله، ولكنّه تولّى زمام القيادة بسرعة وفعالية. عهد إلى إثيل روزنبرغ مساعدة البهائيين البريطانيين في تأسيس أوّل محفل روحاني مركزي لدى عودتها إلى وطنها. وأوكل حضرة شوقي أفندي إلى الممثّلين الأمريكيين والألمان مسؤولية إنشاء هيئات إدارية بهائية في بلدانهم، وأخبر روي وماونتفورت ميلز أن يبلغا مؤتمر الوكلاء الأمريكي المقبل أن يكون للمجلس التنفيذي لوحدة المعبد البهائي وظيفة تشريعية وعليه أن يوجّه جميع الشؤون المركزية وليس مجرّد تنفيذ القرارات والتوصيات الصادرة عن مؤتمر الوكلاء السنوي.(23) استغرق تحويل وحدة المعبد البهائي إلى المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتّحدة وكندا ثلاث سنوات: وقد أسمى حضرة شوقي أفندي الهيئة باسم المحفل الروحاني المركزي في عام 1925.

غمر الشعور بفقدان حضرة عبدالبهاء العديد من المؤمنين في الجامعة البهائية الأمريكية الوليدة. في نيويورك بدأ بعض البهائيين الراغبين في خلق الشقاق، بتعميم الشائعات ضدّ روي وماونتفورت ميلز، وكلاهما عضوان في المحفل الروحاني المحلّي. وإذ وجد روي نفسه غير قادر على وقف الشائعات فقد شعر بالاحباط. إلاّ أنّه في ذات ليلة بدا له حضرة عبدالبهاء في المنام:

في المنام كان روي يجلس بجانب المولى في عربة الحنطور العالية الخاصّة بحضرته، وكان حضرة عبدالبهاء ممسكًا بالأعنّة. كان الأمر حقيقيًا بحيث شعر روي بحرارة جسم المولى. أثناء القيادة، استدار حضرة عبدالبهاء وواجه روي مباشرة، وهو يبتسم قائلاً: ‘ولكن سوف أكون معك.’ وعندما استيقظ روي، شعر بأنّ انزعاجه جرّاء تعرّضه للتعسّف، وتلقّي معاملة غير عادلة، قد اختفى.(24)

قرب نهاية شهر آب 1922 كانت مارثا روت مرّة أخرى مع عائلة ويلهلم، وسافرت معهم من «غرين إيكر» في ولاية ماين إلى «القُمرة» في نيو جيرسي، وهو منزل ويلهلم الذي أعيد تصميمه وتسليمه إلى البهائيين في غرب إنجلوود. وبعد مغادرة مارثا الاجتماع البهائي في «القُمرة» إلى مدينتها، أصيب والد روي بجلطة دماغية وراح في غيبوبة إلى أن توفّي في أواخر تشرين الأوّل. وتبع ج. أ. ويلهلم بوقت قصير والد مارثا الذي توفّي في 3 تشرين الثاني 1922.

أثناء سفر مارثا في أنحاء العالم، غالبًا ما أرسل لها روي المال وتراسل الاثنان بانتظام. وكانت مارثا تسدّد لروي ما عليها دائمًا، مهما كان المبلغ. في عام 1925 كتبت إليه بخصوص مبلغ صغير كان يرفض أن تسدّده:

لقد كتب لي ابن عمي سيدني للتوّ بخصوص تلك التسعين دولارًا… أريدك أن تأخذها وسوف أكتب إليك وإلى سيدني رسالة مشتركة من جنيف… أشعر أنّني لا يمكنني أن أكتب إليك عن أيّ شيء إذا لم تأخذ المال – وأنا أعلم أنّك تفعل الكثير جدًّا من أجلي. لا أريدك أن تصل إلى درجة «الإفلاس» وتقلق بشأن المال. لقد أخبرني شوقي [أفندي] عن المصابيح التي أرسلتَها… وأخبرني عن قطعة الأرض… إنّك أنت البهائي المثالي يا روي، وأنا أريدك أن تكون حذرًا وألاّ تعطي أكثر ممّا تستطيع. لا أريدك أن تنزعج بشأن الأمور المالية… فما عملتَه من أجلي ساعدني كثيرًا بحيث يمكنني المضيّ قدمًا دون التوقّف ليوم واحد.(25)

في عام 1928 كتبت تقول: ‘لقد كنتَ طيّبًا جدًّا تجاهي يا روي. ولا يمكنني أبدًا أن أشكرك لِما تعنيه بالنسبة لي، ولكنّ حضرة بهاءالله يعلم مدى عمق تقديري لك! عسى أن يباركك حضرته دائمًا.’(26) وفي العام التالي، بينما كانت مارثا في جولة تبليغية في ألمانيا، أرسل إليها روي مائة دولار عندما بدأ مالها الخاصّ ينفد. في وقت لاحق من العام نفسه وجدت أنّ الشاي، الذي بعثه إليها وهي في أسفارها عبر أوروبا إلى القسطنطينية [إسطنبول]، شيء لا غنى عنه لصحّتها. في عام 1932، بينما كانت مارثا على وشك مغادرة أمريكا مرّة أخرى أيضًا، كتب روي لها:

حسنًا، يا عزيزتي مارثا، انطلقي… نحن نودّ أن تبقي هنا معنا – لكنّك تعلمين جيّدًا أنّ النحلة التي تلازم الخليّة لا تنتج العسل – لذلك نحن سعداء لإنطلاقك نحو عملك الخاصّ – في رعاية الله.

… لا تستنفدي طاقتك كثيرًا ولا سريعًا. فالضغط بأسلوب غير ملائم قد يؤخّر أعلى الكفاءات التي لها الأهمّية في المقام الأوّل نظرًا للعدد القليل جدًّا من العاملين. وحتى الآن، يملأ حضرة بهاءالله «نبع ويلهلم» بالماء بسرعة تفوق كثيرًا ما يُسحب منه… أخبريني في جميع الأوقات بتوقّعاتك المالية الخاصّة، لنقُل لمدّة ستّين إلى تسعين يومًا قادمًا.(27)

امتلك روي معتزلاً جميلاً في تلال ولاية ماين الذي أسماه «إيفرجرين كامب». وكان الممتَلك يضمّ مزرعة عمل صغيرة، تحتوي على خمسمائة من أشجار القيقب وتسعة عشر رأسًا من الماعز. هنا استراحت مارثا مدّة شهرين في عام 1936 قبل الانطلاق في جولة واسعة من المحاضرات على طول الساحل الشرقي الأمريكي ورحلتها التبليغة العالمية الأخيرة. وبعد بضع سنوات، كتب روي هذا الثناء تكريمًا لها:

كانت مارثا فريدة من نوعها. يبدو أنّها وُلدت من أجل عملها الخاصّ هذا. أشكّ في ما إذا كان هناك شخص آخر يضاهيها في جلب الانتباه إلى أمر الله لعشرات الآلاف من الناس في ذلك العدد الكبير من أكناف الأرض. أعتقد أحيانًا أنّ السبب الرئيس لوجودي كان لجعل مارثا تبدأ بالعمل.(28)

 

بهائي آخر دعمه روي في عمله التبليغي كان لويس غريغوري، الذي أوجد معه صداقة وثيقة. على سبيل المثال، في عام 1919 أعطى روي لويس تسعة عشر دولارًا، صرفها لويس على الكتب والنشرات لتوزيعها على الناس.(29)

توفّيت والدة روي عام 1937 إثر نوبة قلبية، ولحزنه الشديد كتب في نعيها الكلمات التالية: ‘مِمّا يعزّيني حقًّا أنّه لديّ الآن تأكيد وليّ أمر الله بأنّ والدتي قريبة الآن من المحبوب.’(30)

ترك روي العمل الإداري البهائي في عام 1946، عن عمر يناهز الحادية والسبعين بسبب مرض خطير. وكان قد خدم الجامعة البهائية باستمرار لمدّة سبع وثلاثين سنة باستثناء سنة واحدة من المرض. تلقّى روي العديد من ألواح حضرة عبدالبهاء، وهذه المختارات القليلة منها تبرز «القيمة الحقيقية لهذا الرجل، وخدمته باعتباره عمادًا راسخًا لدين عالمي جديد»:

إنّك تخدم حقًّا في كلّ منحى، وتسعى جاهدًا أكثر ممّا تسمح به طاقتك وتبذل وتضحّي بالنفس. إنّي مسرور منك إلى أقصى درجة.

إنّك تتفانى في خدمة الملكوت. ولا تهمل حتى لدقيقة واحدة. وقلبك يفيض بمحبّة الله. كن مطمئنًّا بأنّك ستتلقّى تأييدات عظيمة.

لقد أبهج قلبي النظر إلى صورتك، لأنّها مضيئة وسماوية.

إنّي راضٍ ومسرور جدًّا منك لأنّك بهائي حقيقي. بيتك هو بيتي: فلا يوجد فرق على الإطلاق بين بيتك وبيتي.(31)

توفّي روي في لوفيل، بولاية ماين، في 20 كانون الأوّل 1951. وقد واصل خدمة أمر الله حتى بعد وفاته. ففي عام 1953 تمكّن حضرة شوقي أفندي، بعد ثلاثين سنة من الكدّ والجهد، من تملّك أكثر من (23،000) متر مربع حول مقام حضرة الباب، وذلك بفضل الممتلك الذي أورثه روي ويلهلم إلى أمر الله.

بعد رحيل روي رفعه حضرة شوقي أفندي إلى مرتبة أيادي أمر الله في برقية أرسلت إلى الأحبّاء الأمريكيين:

القلب مفعم بالحزن لفقدان بشير ميثاق حضرة بهاءالله، ذي القدر الكبير، محطّ الإكبار العظيم، المحبوب جدًّا روي ويلهلم. فأعمال حياته المتميّزة أثرت حوليّات السنوات الختامية من عصر البطولة وسنوات افتتاح عصر التكوين لأمر الله. وقد حبّبته صفاته الأصيلة للمولى المحبوب، حضرة عبدالبهاء. تؤهّله قداسة حياته، وإيمانه الذي لا يقهر، وخدماته الباهرة على المستوى المحلّي والمركزي والعالمي، وإخلاصه المثالي، للانضمام إلى كوكبة أيادي أمر الله، وتضمن له جزاء خالدًا في الملكوت الأبهى. أوصي بعقد مجلس تذكّري في مشرق الأذكار يليق بخدماته التي لا تنسى ومرتبته السامية.(32)

1.
Rutstein, He Loved and Served, p. 25.
2.
Whitehead, Some Early Bahá’ís of the West, p. 88.
3.
‘Abdu’l-Bahá, quoted in Bahá’í World, vol. 12, p. 663.
4.
Rutstein, He Loved and Served, p. 26.
5.
‘Abdu’l-Bahá, quoted in Bahá’í World, vol. 7, p. 806.
6.
See Bahá’í World, vol. 9, p. 803 for a reproduction of this photograph.
7.
Bahá’í World, vol. 7, pp. 802–7.
8.
Garis, Martha Root, p. 47.
9.
Bahá’í World, vol. 7, p. 540.
10.
Bahá’í World, vol. 12, p. 664.
11.
حضرة عبدالبهاء، من كتاب «ترويج السلام العالمي»، الصفحة 239.
12.
Thompson, Diary of Juliet Thompson, p. 324.
13.
المصدر السابق، الصفحتان 324–325.
14.
Bahá’í World, vol. 12, p. 662.
15.
Rutstein, He Loved and Served, p. 27.
16.
Garis, Martha Root, pp. 57–8.
17.
Quoted in Whitehead, Some Early Bahá’ís of the West, p. 94.
18.
The Bab, Selections, p. 87.
19.
Quoted in Whitehead, Some Early Bahá’ís of the West, p. 95.
20.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 56.
21.
المصدر السابق.
22.
المصدر السابق.
23.
المصدر السابق، الصفحة 64.
24.
Rutstein, He Loved and Served, p. 113.
25.
Garis, Martha Root, p. 226.
26.
المصدر السابق، الصفحة 302.
27.
المصدر السابق، الصفحتان 382–383.
28.
المصدر السابق، الصفحة 494.
29.
Morrison, To Move the World, p. 93.
30.
Bahá’í World, vol. 7, p. 541.
31.
Bahá’í World, vol. 12, p. 664.
32.
المصدر السابق، الصفحة 662.

4 أيادي أمر الله الذين عيّنهم حضرة شوقي أفندي في 24 كانون الأوّل 1951

برقية – 24 كانون الأوّل 1951

الساعة الآن مواتية لاتّخاذ خطوة حتمية طال تأجيلها وتتّفق مع مضامين ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء وبالتزامن مع الخطوات الستّ المذكورة أعلاه من خلال تعيين أوّل كوكبة من أيادي أمر الله، وعددهم اثنا عشر، موزّعين بالتساوي بين الأرض الأقدس، والقارّات الآسيوية والأمريكية والأوروبية. إنّ الخطوة الأولى المتّخذة الآن تعتبر التنمية الكاملة التحضيرية للمؤسّسة المنصوص عليها في ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء، وتتوازى مع الإجراء الأوّلي لتشكيل المجلس البهائي العالمي المقدّر أن يبلغ ذروته بظهور بيت العدل الأعظم. تقيم هذه المؤسّسة الوليدة روابط جديدة تربط المركز البهائي العالمي الآخذ بالبروز بالجامعة العالمية لأتباع الاسم الأعظم الآخذة في الاستحكام، ما يمهّد الطريق لتبنّي تدابير مكمّلة ترمي لتعزيز أسس هيكل النظام الإداري البهائي.

أيادي أمر الله المعيّنون هم: في الأرض الأقدس، سذرلاند ماكسويل، مايسون ريمي، أميليا كولنز، رئيس ونائب رئيس المجلس البهائي العالمي؛ في مهد أمر الله، وليّ الله ورقاء، طراز الله سمندري، علي أكبر فروتن؛ في القارّة الأمريكية، هوراس هولي، دوروثي بيكر، ليروي آيواس؛ في القارّة الأوروبية، جورج تاونزند، هيرمان غروسمان، أوغو جياكري. أنصح أيادي أمر الله التسعة في القارّات الثلاث خارج الأرض الأقدس، بالبقاء في مواقعهم الحالية والاستمرار في تصريف الواجبات الحيوية من قبيل الإدراة والتبليغ إلى حين تعيين وظائف محدّدة كلّما دعت الحاجة إلى ذلك. أحثّ جميع الأيادي التسعة الحضور كممثّلين عنّي في كافّة المؤتمرات البيقارّية الأربعة المقبلة فضلاً عن تولّي أيّة مسؤوليّات ملقاة على عواتقهم في ذلك الوقت كممثّلين منتخبين من قبل الجامعات البهائية المركزية.

قوموا بتعميم نصّ هذا الإعلان على كافّة المحافل الروحانية المركزية.

 

1898 – 1954 دوروثي بيتشر بيكر

Hand of the Cause of God Dorothy Beecher Baker (1898-1954)

تعتبر حياة دوروثي بيتشر بيكر مثالًا يقتدي به جميع الذين يكافحون على هذه الأرض. فقد تعاظمت قدرتها تدريجًا أثناء تحوّلها وانقلابها الروحاني. فأصبحت تجسيدًا لهذه الكلمات المنسوبة إلى حضرة عبدالبهاء: ‘الإيمان مثل المطر: أوّل الغيث قطر ثم ينهمر.’(1)

لقد وُصفت نقطة انطلاق النموّ الروحاني، بأشكال مختلفة، فقيل بأنّها الولادة الجديدة، والقيامة، والتجديد. ويشير حضرة بهاءالله إلى هذه الصحوة بأنّها كتولّد روح الإيمان.(2) وهذه الولادة تحدث من خلال الاعتراف بالمظهر الإلهي للعصر وإطاعة تعاليمه. والوصول إلى هذا المقام هو عين الغرض الذي من أجله خُلق البشر.

بالنسبة إلى دوروثي جاءت هذه الصحوة الروحانية عندما التقت حضرة عبدالبهاء في عام 1912. فقد أخذتها جدّتها، الأم بيتشر – كما كان يدعوها البهائيون – لزيارة المولى في مدينة نيويورك، وقالت دوروثي في وقت لاحق بأنّها تملّكت في تلك الساعة «عشقًا لكافّة الناس».(3) بعد عدّة أيّام كتبت إلى حضرة عبدالبهاء وتوسّلت لخدمته وخدمة أمر والده. فأجاب حضرته على رسالتها، مقدّمًا لها التشجيع الحنون بينما كلّف جدّتها برعاية دوروثي كأنّها ابنته هو.

ولدت في 21 كانون الأوّل 1898 في نيوارك بولاية نيو جيرسي، لهنري ولويلا بيتشر، ويمكن لدوروثي تتبّع أسرة أبيها إلى هنري وارد بيتشر، وهو رجل دين متحرّر بليغ في مواضيع حظر وإلغاء الرقّ؛ وإلى هارييت بيتشر ستو، مؤلّفة كتاب «كوخ العم توم». كانت جدّة دوروثي، إلين توللر بيتشر، ناشطة في الحركات المعنية بحقوق المرأة. وكان كلا والدَي دوروثي متعلمَين تعليمًا جيّدًا: فكان هنري بيتشر خرّيج كلّيّة الحقوق بجامعة هارفارد في حين كانت لويلا خرّيجة «الكلّيّة النسائية التجانسيّة للطبّ والجراحة.»

التحقت دوروثي بمدرسة نورثفيلد سيميناري للشابّات وبمدرسة مونتكلير العاديّة وفي عام 1919 بدأت بمهنة التدريس. في عام 1920 التقت فرانك بيكر، وهو أرمل يكبرها بتسع سنوات وله طفلان صغيران، كونراد وسالي (سارة)؛ وتزوّجا يوم 21 حزيران 1921. أمّا الطفلان، اللذان احترما دوروثي وإن لم يحبّاها، فقد تقبّلاها في نهاية الأمر كبديل لوالدتهما المتوفّاة، وذلك بفضل تصميم دوروثي على إنجاح زواجها. فتخلّت عن حياتها المهنية في التدريس لتوفير منزل مستقرّ ومحبّب للطفلين. في أيّار 1922 رزقت دوروثي وفرانك بابنة، اسمياها لويز.

في عام 1923 انتقلت العائلة إلى بوفالو، بولاية نيويورك، والتي كانت تقع في مركز متوسّط أكثر بالنسبة لعمل فرانك كمدير عامّ لعشرة مخابز للشركة الوطنية للبسكويت. على الرغم من أنّ دوروثي كانت زوجة وأمًّا قديرة، إلاّ أنّها كانت في كثير من الأحيان تشعر بالوحدة عندما كان فرانك غائبًا في رحلات العمل. في أحد الأيّام التقت عرّافة نفسية أصرّت على إخبار دوروثي بمستقبل أطفالها. ولمّا سألتها عن سالي، أجابت العرّافة أنّ مصير سالي كان مختلفًا ولكنّه جميل. كما قالت لدوروثي أن تدرّب جيّدًا الطفل الذي كانت تحمله [على ذراعها]. لاعتقادها أنّها لم تكن حاملاً. تجاهلت دوروثي تنبّؤات العرّافة. وبعد بضعة أسابيع، أكّد الطبيب أنّ دوروثي يمكن أن تتوقّع طفلها الثاني خلال سبعة أشهر. فَوُلِد وليام في تشرين الثاني عام 1923.

كانت في بوفالو جامعة من الأحبّاء البهائيين. ورغم أنّ دوروثي لم تكن بعد قد أصبحت متحدّثة تُلقي المحاضرات العامّة، إلاّ أنّها كانت تستمتع برواية قصص بهائية للأطفال واستضافة جلسات «فايرسايد» أسبوعية. انتخبت عضوًا في المحفل الروحاني المحلّي – وهو أوّل تجاربها الإدارية البهائية. اعتبرت نفسها بهائية لكنّها كانت لا تزال تميل إلى خلط الأفكار البهائية مع التفكير العامّ الدارج حول موضوعات مثل علم التنجيم وعلم الأعداد.

في عام 1926 زار بوفالو الدكتور علي قلي خان، وهو من العلماء البهائيين ودبلوماسي، وتحدّث عن لوح «الوديان السبعة». فقرّرت دوروثي اصطحاب كونراد وسالي، وخلال المحاضرة، رفعت سالي رأسها والدموع تنهمر على خدّيها. وفي وقت لاحق من تلك الليلة عندما وضعتها دوروثي في السرير، قالت سالي: ‘أنا فقط أريدك أن تعرفي أنّني بهائية مهما يكن.’(4)

بعد بضعة أسابيع، خلال رحلة تسوّق مع دوروثي، بدت سالي متعبة بشكل غير عادي. كشف الفحص الطبّي أنّها مصابة بسرطان الدمّ. صعق تشخيص الطبيب الأسرة: كان لدى سالي أسبوعًا واحدًا فقط لتعيش، أو ربّما أكثر من ذلك بقليل. بعد بضعة أيّام توفّيت. انهار فرانك، إذ أنّه بعد فقدان أمّه جرّاء مرض التيفوئيد وزوجته الأولى من الالتهاب الرئوي، كان غير مستعدّ لقبول موت سالي. إلاّ أنّه بعد مرور عدّة ليال على وفاتها، رأت دوروثي نورًا ساطعًا يتدفّق من خلال نافذة غرفة النوم. وعلى ذلك الدرب من النور رقصت سالي وأكاليل من الزهور في شعرها حاملة سلّتين. وهتفت: ‘آه يا مزّ، أنا سعيدة جدًّا! انظري، لدي كلّ ما أريد من الأزهار البرّية!’ ونظرت إلى والدها النائم في السرير. وقالت: ‘أخبريه أنّني سعيدة يا مزّ. أخبريه عن مدى سعادتي.’ وانطلقت بعيدًا وهي ترقص على درب النور.(5)

قرّر فرانك الابتعاد عن مكان يضمّ الكثير من المعاناة وشرع يبحث عن مخبز للبيع على مسافة من بوفالو. في النهاية قرّر بناء مخبز في ليما بولاية أوهايو. بالنسبة لدوروثي، كانت أوهايو «الغرب البعيد» ولم تكن ليما حتى قريبة من الحضارة. ومع ذلك، في عام 1927 انتقلت العائلة إلى منزل واسع في شارع وست إيلم يحمل الرقم 615. وكان يمتلكه في الأصل السيّد والسيّدة برنارد اللذين كانا قد وضعا حرف «ب» كبير على الباب الأمامي الزجاجي. في سنوات لاحقة اعتبرت دوروثي أنّ «ب» ترمز إلى بيكر وبهاءالله.(6)

ازدهر عمل مخبز فرانك – «شركة مخبز فرانك بيكر» – صانعو خبز بليزول. وجاءت الأم بيتشر في سنّ الثامنة والثمانين للعيش مع عائلة بيكر. وكانت أمنيتها أن ترى دوروثي نشطة في الدين البهائي، حيث إنّه حتى ذلك الوقت كان الدين مجرّد «حياتها الأخرى».(7)

شرعت دوروثي والأم بيتشر بدراسة الكتابات المقدّسة لمدّة ساعة يوميًا. وكثيرًا ما تلتا «لوح أحمد» لمدّة تسعة عشر يومًا متتالية من أجل حلّ المشاكل، وهي عادة اتّبعتها دوروثي بقيّة حياتها.

في وقت مبكر من عام 1929 عندما وجدت دوروثي نفسها متعبة نفسيًا نتيجة سنوات من المشقّة، ولكن في صحّة بدنية جيّدة، ذهبت لإجراء فحص طبّي روتيني. ومع أنّها توقّعت تقريرًا جيّدًا، إلاّ أنّها علمت أنّ لديها بقعة على الرئة ما يشير إلى مرض السلّ. ومن صدمتها وقلقها على راحة بال فرانك، لم تخبر دوروثي أحدًا. وعندما اكتشفت وجود تورّم في صدرها بعد بضعة أيّام، لم تخبر حتى طبيبها عنه.

واقتناعًا منها بأنّ ذلك الربيع سيكون الأخير لها في هذا العالم، قرّرت دوروثي حضور مؤتمر الوكلاء السنوي البهائي في شيكاغو. وأملت أن تتلقّى بعض الإشارات في مشرق الأذكار على أنّ حياتها لها قيمتها أو أنّها يجب أن تبقى على قيد الحياة. بعد ثلاثة أيّام من المؤتمر لم تتلقّ أيّة إشارة، وإذ فقدت كلّ أمل لها، خرجت باكية من الباب الجانبي للتمشّي على شاطئ بحيرة ميتشيغان. ولو أنّ أحدًا لم يعلم بمرضها، إلاّ أنّ ألبرت فايل، وهو صديق للأسرة منذ فترة طويلة، تبعها متسائلاً: ‘يا دوروثي، هل أنت على استعداد لمغادرة هذا العالم دون تقديم خدمة كبيرة لأمر الله؟’ وإذ شعرت وكأنّها غريقة تناضل للعودة إلى الحياة، ذهبت دوروثي الى الموقع الذي أرسى فيه حضرة عبدالبهاء حجر الأساس لأمّ المعابد. وقد كتبت في وقت لاحق: ‘لن تُنسى أبدًا تلك الدقائق القليلة في المعبد. كم آلمني حلقي. إنّ ما علمتني إيّاه تلك اللحظات لا يمكن وصفه بكلمات. أعتقد أنّ قلبي قد وُضع عند قدمَي المولى هناك.’(8)

عند عودتها إلى منزلها، كتبت دوروثي رسالتها الأولى إلى حضرة شوقي أفندي، طالبة نصيحته. وأخبرته عن رغبتها في كتابة قصص للأطفال عن تاريخ الدين البهائي، حيث كان هناك القليل جدًّا من المؤلّفات للأطفال. فردّ حضرة وليّ أمر الله بأنّ مجموعة شاملة يتمّ تحضيرها في إيران من شأنها أن تفيدها جدًّا وأنّه يدعو من أجلها في المقامات المقدّسة بأن تقدّم خدمات متميّزة لأمر الله.

ولمّا بدأت تستعيد قواها، عانت دوروثي نكسة أخرى. ففي إحدى أمسيات شهر أيلول فتحت علبة من سمك السلمون لتناول العشاء. وعندما ظنّت أنّ لها رائحة غريبة، ذاقت كمّيّة صغيرة جدًّا قبل رمي البقيّة. وبعد ساعات قليلة أصيبت بتسمّم التعفّن وبقيت فاقدة الوعي خلال الليل، ولم يكن لدى الطبيب أيّ أمل في بقائها على قيد الحياة.

ولكنّ دوروثي عاشت واكتشفت في نفسها إرادة متّقدة للحياة ولخدمة أمر الله. وبتحدّيها لذاتها في تعلّم الكتابات البهائية وممارسة الدعاء والتأمّل، خضعت لتحوّل آخر في روحها.

في عام 1931 تحدّثت دوروثي في أوّل مدرسة صيفية في لوهيلين بالقرب من دافيسون، ميتشيغان. وأصبحت مع فرانك أكثر نشاطًا وفاعلية في الجامعة البهائية، ورغم استمرار عضويّتهما في الكنيسة اللوثرية في أوهايو، وعلى عكس العديد من الشركات الأخرى، ازدهر مخبز فرانك خلال فترة الكساد – حيث إنّ كلّ شخص يحتاج الخبز.

في عام 1932 تعرّضت الأم بيتشر لحادثة سقوط، ودخلت في غيبوبة وتوفّيت بعد عشرة أيّام. وقد أشاد بها حضرة وليّ أمر الله للخدمات التي قدّمتها لأمر الله – لقد أوفت بوعدها لحضرة عبدالبهاء برعاية دوروثي جيّدًا.

بعد فترة وجيزة من وفاة الأم بيتشر، استفسر أحد الموظّفين من فرانك إذا كان يعرف شيئًا عن منظّمة تدعى «الوحدة». فقال فرانك إنّه لا يعرف شيئًا عنها ولكنّ زوجته يمكن أن تخبره عن الدين البهائي الذي يدعو لوحدة العالم الإنساني ووحدة الدين. أمضت دوروثي كلّ لحظة فراغ لإعداد كلمة في ذلك الاجتماع الأوّل لأمسيات الأحد. بحلول شباط 1933 تشكّل أوّل مركز بهائي في ليما بثمانية عشر عضوًا. واستلزم الأمر إنشاء صفّين دراسيين لتلبية الطلبات المتزايدة. في ذلك الوقت كانت دوروثي تقضي 20 إلى 40 ساعة في الأسبوع في دراسة التعاليم والتحضير لهذه الصفوف. وسرعان ما أصبح هناك 29 مؤمنًا نشطًا في ليما.

يبدو أنّ نجاح الجامعة البهائية هدّد رجال الدين المحلّيين، الذين بدأوا في إثارة المشاكل. فطلبت دوروثي من حضرة وليّ أمر الله أن يدعو من أجلهم. في 15 نيسان 1934 كتب سكرتير بالنيابة عن حضرته:

إنّ قوى المعارضة التي استغلّها رجال الدين في ليما، ولا يزالون يستغلّونها من أجل مواجهة التقدّم المستمرّّ لأمر الله، سوف تُهزم وتُقهر دون شكّ. فكراهيّتهم، بدلاً من إطفاء شعلة الإيمان في قلوب المؤمنين، سوف تؤدّي إلى زيادة اشتعالها. فعلى الأحبّاء إذًا، أن يكونوا واثقين ومتشجّعين من تأكيد كهذا، وعليهم أن يضاعفوا جهودهم لبسط أمر الله وتوسّعه…(9)

في تشرين الثاني 1935 كتبت دوروثي إلى حضرة وليّ أمر الله تستأذنه لأداء الحجّ. وشعرت أنّ لديها ما يكفي من مالها الخاصّ لتحمّل مصاريف رحلة مكلفة إلى حدّ ما. وبينما رحّب حضرة شوقي أفندي ترحيبًا حارًّا بها، إلاّ أنّه اقترح أن تتبرّع بجزء من أموالها للصندوق المركزي، الذي كان في ذلك الوقت يعاني من عجز. فتبرّعت دوروثي فورًا بمبلغ (2،000) دولار للصندوق، وأجّلت خططها لأداء الحجّ إلى المستقبل المنظور. وقد أصيبت أربع مرّات أخرى بخيبة أمل في رغبتها لأداء الحجّ. وبالرغم من هذه الخيبات، أطاعت دوروثي وبذلت طاقاتها في خدمة أمر الله.

في منتصف الثلاثينيات من القرن وسّعت دوروثي نطاق عملها لأمر الله ليشمل محاضرات عامّة في المدن القريبة مثل كليفلاند، ميلووكي، دايتون وبتسبرغ. وبدأ نجاحها في إلقاء المحاضرات والتبليغ في تحقيق شهرتها على نطاق الوطن. فعلا نجمها بسرعة، وفي عام 1936 حاضرت في مدرسة «غرين إيكر» البهائية. وكان لويس غريغوري، الذي أشار لاحقًا إلى دوروثي بأنّها «في طليعة البهائيين في العالم الغربي»(10)، قد تكلّم معها بعد انتهاء صفّها التدريسي.

قال لها: ‘كانت هذه محاضرة جيّدة جدًّا يا دوروثي.’ «وأنتِ تعتقدين ذلك أيضًا، أليس كذلك؟ تذكّري، في اللحظة التي تبدأين في التفكير أنّ دوروثي بيكر هي التي تنجز هذا العمل، تنتهي خدمتك لحضرة بهاءالله.’(11) وإذ أصيبت بالرعب، أدركت دوروثي الحقيقة. ووطّدت العزم ألاّ تلقي محاضرة مرّة أخرى قبل أن تسأل الله أوّلاً أن يصيبها بالبكم بدلاً من السماح لها بالتحدّث من نفسها.

في عام 1937 انتُخبت دوروثي عضوًا في المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة وكندا. بحلول عام 1939 كانت قد ألقت العشرات من المحاضرات حول أمر الله وكانت تقضي الكثير من الوقت في إدارته.

زخرت السنوات الأولى من أربعينيات القرن بالعديد من الأنشطة البهائية بالنسبة لدوروثي. فلم تخدم في كلّ من المحفل الروحاني المحلّي والمركزي فحسب، بل في ستّ لجان مركزية أيضًا، بما فيها اللجنة المشتركة بين الأمريكتين، والتي كانت تهدف إلى نشر التعاليم البهائية في نصف الكرة الجنوبي، ولجنة وحدة الأعراق المركزية، التي كانت واحدة من الاهتمامات الأساسية بالنسبة لها. فألقت مئات المحاضرات حول الدين البهائي وبدأت الحديث عن التعاليم البهائية في حرم الكلّيّات والجامعات في جميع أنحاء البلاد. وقد كتب حضرة شوقي أفندي إليها في عامَي 1941 و1942 مشجّعًا إيّاها أن تقدّم أكثر ما يمكن بهذا النوع من العمل. بدت قادرة على إلهام رؤية الوحدة الأساسية للبشرية، حتى خلال سنوات الحرب والتمييز العنصري. بحلول عام 1952 كانت قد تحدّثت في مائة وأربعين كلّيّة.

غالبًا ما تأثّر الذين سمعوا دوروثي تتكلّم، تأثّرًا عميقًا. وكانت قبل أن تتحدّث تتلو الدعاء لفترة طويلة، مستخدمة «لوح أحمد». فرغم أنّها درست بجدّ، لكنّها سعت للتكلّم من القلب، وشاع صيتها باعتبارها واحدة من المتحدّثين البهائيين المتميّزين بين أبناء جيلها.

في منتصف أربعينيات القرن سافرت دوروثي إلى المكسيك وكولومبيا وفنزويلا وبيرو والعديد من الأماكن الأخرى في أمريكا الجنوبية والوسطى من أجل تبليغ أمر الله ومساعدة الجامعات البهائية في التغلّب على مشاكلها. تعلّمت دوروثي اللغة الإسبانية بنفسها وعلى الرغم من أنّها لم تكن تتحدّثها بطلاقة تمامًا، ولكن كانت لديها قدرة غير عادية للوصول إلى الناس في الدول اللاتينية. كانوا يحبّون فيها الروحانية والحماس. وبالنسبة إليهم، كانت مبلّغة عظيمة.

في عام 1947 كتبت دوروثي إلى حضرة وليّ أمر الله تسأله كيف ينبغي أن تخصّص وقتها. فأجاب حضرته: ‘لا ترهقي قواك أكثر من اللازم، بل وفّريها لعملك الأساسي في المحفل الروحاني المركزي وفي المناطق المهمّة مثل أوروبا.’(12)

في عام 1948 غادرت لويز للهجرة في البرتغال وسافرت دوروثي إلى أوروبا جوًّا، حيث زارت إنجلترا، إيرلندا، اسكتلندا، النرويج، السويد، الدنمارك، هولندا، بلجيكا، لوكسمبورغ، فرنسا، سويسرا، إيطاليا، إسبانيا والبرتغال. وكتبت في تقريرها:

أوروبا محبطة والناس متشكّكون في الغالب، يعيشون في خوف ولا يؤمنون بشيء. ولكنّ أوروبا تتلمّس طريقها أيضًا، تبحث عن روح لها، وذلك الجزء منها الذي يجد تلك الروح سوف يعمل أيّ شيء تقريبًا للحفاظ عليها. إنّ المؤمنين الجدد هم عيون أوروبا؛ فهم وحدهم يمكنهم أن يتطلّعوا إلى المستقبل. وبالنسبة إليهم فإنّ أمر الله هو الفرق بين كلّ شيء ولا شيء.(13)

في عام 1950 مثّلت دوروثي المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة وكندا، واللجنة المشتركة بين الأمريكتين، في المؤتمر الدولي الرابع للتبليغ لأمريكا الجنوبية المنعقد في ليما، بيرو – وهو الأخير من نوعه قبل تشكيل المحفل الروحاني المركزي في بيرو في عام 1951. وإجمالاً، زارت دوروثي خلال السنوات بين عام 1943 و1952(16) بلدًا في أمريكا الوسطى والجنوبية.

كانت دوروثي مبلّغة ناجحة لأمر الله أينما سافرت. كتبت إلى إحدى صديقاتها:

لديّ فقط قاعدتين أعطيك إيّاهما. الأولى هي: لا تنظري إلى الخلق. بل دعي قلبك يتعلّق بالمحبوب بامتياز. عندها يمكنك خدمة كلّ أطفاله بانقطاع وحبور، ولا تخيّبي أبدًا أمل أيًّا منهم، بغضّ النظر عمّا يفعلونه. عندما يرتكب الناس الأخطاء، فإنّك تشاهدين فقط لحظات هي وصلات بين حالات من الوعي. ليس ذلك مهمًّا. القاعدة الثانية هي هذه: اجعلي من الخدمات الصغيرة شيئًا مفرحًا، لأنّه لا يمكنك أبدًا أن تعرفي ما هو الصغير وما هو الكبير في نظر الله. لقد صرّح حضرة بهاءالله: «إنّ عملاً واحدًا يؤدّى باسمي يساوي أعمال مائة ألف سنة. بل أستغفر الله من هذا التحديد، لأنّ مثل هذا الفعل ليست له مكافاة محدودة.» لذلك عندما تنطقين اسمه المقدّس، ابتهجي، وكوني مطمئنّة في قلبك، واعلمي أنّ هذه مناسبة عظيمة جدًّا، مناسبة للفرح الخالص. إنّه حقًّا ربّ الجنود، وسوف يساعدك في جميع الأوقات.(14)

توكلّت دوروثي تمامًا على قوّة العون الإلهي. وعندما كانت تُسأل كيف تبقى على تلك الدرجة من الهدوء والثقة، كانت دوروثي تجيب دائمًا بأنّ ‘الدعاء وحده يمكن أن يجلب الأمان.’(15) ومع ذلك، لم يكن الدعاء كافيًا للتغلّب على الصعوبات. ففي مقال كتبته للإذاعة شرحت دوروثي الخطوط العريضة لكيفية مواجهة التحدّيات:

يمكن اتّباع ثلاث خطوات لتحقيق النتائج المرجوّة. أوّلاً، كن هادئًا. تأمّل في المشكلة من جميع الزوايا، وتوجّه إلى الله مع رغبة في الاستماع. إذا أمكن، استخدم أحد الأدعية الجميلة لحضرة بهاءالله للهداية. الخطوة الثانية هي الوصول إلى استنتاج واضح بمساعدة كاملة من العقل، والحقائق، وفوق كلّ شيء، الإحساس بأنّ الله يساعدنا. تأتي أحيانًا هذه الخطوة في ومضة واضحة. وأحيانًا لا تأتي. غالبًا ما كنت أنتهي من دعاء طلبًا للهداية دون الشعور بالوصول إلى الجواب، فقط لأجد أنّ كلّ باب قد فُتح للتنفيذ الصحيح. الخطوة الثالثة هي المضيّ قدمًا بشجاعة، مع العلم بأنّ الردّ قد وصل. أبعِد كلّ خوف أو قلق وامش بثقة. تصرّف كما لو تمّ بالفعل إنجاز النتائج المرجوّة. إذا فشلت في القيام بذلك، ربّما يكون دعاؤك مثل طفل جميل وُلد ميّتًا وبالتالي لا جدوى منه لهذا العالم.(16)

قبل نهاية عقد الأربعينيات كان جميع أولاد فرانك ودوروثي قد تزوّجوا. وبحلول عام 1951 كان لديهم جميعًا أطفالهم. في كانون الأوّل من ذلك العام هاتفت إدنا  دوروثي من مقرّ المحفل الروحاني المركزي وقرأت لها برقية من حضرة شوقي أفندي:

إنّ الساعة الآن مواتية لاتّخاذ خطوة حتمية طال تأجيلها وتتّفق مع مضامين ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء وبالتزامن مع الخطوات الستّ المذكورة أعلاه من خلال تعيين أوّل كوكبة من أيادي أمر الله، وعددهم اثنا عشر…(17)

ذهلت دوروثي عندما قرأت إدنا اسمها. ظنّت أنّه لا بدّ قد ارتكبت إدنا خطأ. عندما تمّ تأكيد الخبر، فقدت صوتها لمدّة ثلاثة أيّام.

في عام 1953، بناء على طلب من حضرة شوقي أفندي، حضرت دوروثي كافّة المؤتمرات البيقارّية التبليغية الأربعة بمناسبة مرور مائة سنة على بدء الدور البهائي. في شباط 1953، بينما كانت في طريقها إلى المؤتمر الأوّل، في كمبالا، تمكّنت دوروثي أخيرًا من القيام بالحجّ إلى الأرض الأقدس ولقاء حضرة شوقي أفندي. في عدّة مناسبات قبل ذلك كانت خططها تتأجّل لأسباب مختلفة: احتياجات الصناديق الأمرية، ضرورة وجودها في أوروبا كمبلّغة جوّالة، اضطهاد البهائيين في ليما، التي قيّدت وضعها المالي، والحرب التي جعلت من السفر إلى فلسطين أمرًا مستحيلاً. والآن لديها سبع ليال للدعاء في المقامات المقدّسة والتعلّم من حضرة شوقي أفندي.

في آب 1953، بعد بضعة أشهر على انطلاق مشروع جهاد العشر سنوات الروحاني، عادت دوروثي من رحلاتها إلى الوطن لفترة قصيرة. وأبرقت هي وفرانك إلى حضرة وليّ أمر الله: ‘نعرض الاستقرار في جزيرة في البحر الكاريبي بعد الهند. في انتظار القرار من وليّ أمر الله المبجّل.’ في 7 آب أجاب حضرة شوقي أفندي: ‘أوافق بكلّ حرارة مع دعائي ومحبّتي. شوقي.’(18) وفي ذلك العام استقال أربعة أعضاء آخرون من المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة للقيام بالهجرة.

قبل أن يتمكّن الزوجان بيكر من السفر إلى غرينادا، كان على دوروثي حضور مؤتمر التبليغ البيقارّي الأخير في نيودلهي في تشرين الأوّل 1953. وفي نهاية الحدث، وعندما كانت على وشك الرحيل والعودة إلى الوطن، أبرق حضرة وليّ أمر الله بأنّ عليها هي واثنين آخرَين من أيادي الأمر البقاء في الهند لمدّة شهر آخر. وفي حين سافرت دوروثي في مختلف أنحاء الهند، أعدّ فرانك العدّة للمغادرة إلى غرينادا. ثم تلقّى رسالة أخرى من دوروثي: لقد طلب منها حضرة وليّ أمر الله أن تبقى شهرًا آخر أيضًا.

كان جدول أنشطة دوروثي في الهند مضغوطًا جدًّا. فبحلول نهاية شهر تشرين الثاني كانت قد زارت أكثر من اثنتي عشرة مدينة، وألقت ما يصل إلى ستّ محاضرات في كلّ منها. كانت كلّ ساعة من كلّ يوم زاخرة بالعمل، وكانت دوروثي منهكة وضعيفة تمامًا عند نهاية إقامتها هناك.

وفقًا لأيادي أمر الله الدكتور مهاجر، ‘طلب حضرة وليّ أمر الله من دوروثي بيكر الذهاب إلى الهند واكتشاف سبب عدم تمكّننا من تبليغ الجماهير هناك. ذهبت إلى عدّة قرى ثم قالت: “هذا هو قلب الهند. وسيبدأ التبليغ الجماعي في هذه القرى.” ’(19) وفي وقت لاحق ذهبت شيرين بومان إلى القرى التي قامت فيها دوروثي بتبليغ أمر الله و‘أصبحت قرى بأكملها بهائية’، واحدة تلو الأخرى.(20)

في دلهي سُرقت حقائب دوروثي، لذلك سافرت إلى كراتشي بالملابس التي كانت ترتديها فقط. في 9 كانون الثاني 1954 تحدّثت إلى الأحبّاء في كراتشي داعية إلى قيام تسعة مهاجرين للتبليغ، على الأقلّ، فنهض عشرون شخصًا استجابة لدعوتها. وفي توقها لتقديم شيء لهولاء المهاجرين المرتقبين، قالت درورثي لهم: ‘أتمنّى لو كنت أملك شيئًا، لكن ليس لديّ ما أقدّمه لكم. كلّ ما يمكنني أن أهبه لكم هو حياتي.’(21)

في ذلك المساء، توجّهت دوروثي إلى المطار في رحلة العودة إلى الوطن. بدا أنّ رحلتها سوف تتأخّر، ذلك لأنّ الأوراق المطلوبة للصعود إلى متن الطائرة لم تكن قد استلمت. في اللحظة الأخيرة، جاء بهائي راكضًا يلوّح بالأوراق فوق رأسه. فاستقلّت دوروثي الطائرة بأمان. وقد توقّفت في بيروت ثم في روما حيث أرسلت دوروثي تقاريرها النهائية بالبريد إلى حضرة وليّ أمر الله. في الساعة 9:31 صباحًا من يوم 10 كانون الثاني انطلقت طائرة الكوميت باتّجاه لندن، وجهتها النهائية. في مكان ما فوق البحر بالقرب من جزيرة إلبا، انفجرت الطائرة في الجوّ. وقتل جميع الركّاب. وبعد بضعة أيّام عُثر على الشاطئ على حقيبة يد تعود لأحد الركّاب، وكان بداخلها منشور عن الدين البهائي.

بعد ثلاثة أيّام على وفاة دوروثي أبرق حضرة وليّ أمر الله ما يلي:

القلوب منفطرة حزنًا للوفاة المبكرة لدوروثي بيكر، أيادي أمر الله البارزة، الداعية البليغة لتعاليمه، المؤيِّدة التي لم تكلّ لمؤسّساته والمدافعة الشجاعة عن مبادئه. سجلّها الطويل من الخدمة المتميّزة يثري سجلَات حوليّات السنوات الختامية من العصر البطولي والسنوات الافتتاحية لعصر التكوين من الدور البهائي. أدعو بحرارة لترقّي روحها في الملكوت الأبهى. أؤكّد لأقاربها تعاطفنا الحبّي العميق. تلك الروح النبيلة جنت مكافأة وفيرة. أوصي بعقد مجلس تذكّري في مشرق الأذكار بما يليق بمرتبتها وخدماتها الخالدة…(22)

بعد شهر كتب حضرة شوقي أفندي إلى أيادي أمر الله هيرمان غروسمان:

إنّ الرحيل المفاجئ للعزيزة دوروثي بيكر هو في الواقع خسارة كبيرة لأمر الله، ويترك فجوة حزينة في صفوف أيادي أمر الله. لقد كانت مثالاً يحتذى بطرق شتّى…(23)

1.
From Jean M. Minney, 1970.
2.
حضرة بهاءالله، «كتاب الإيقان»، الصفحة 200. وقد وردت بعبارة “روح الاطمئنان”. وفي موضعين آخرين “روح الإيمان”.
3.
Freeman, From Copper to Gold, p. 313.
4.
المصدر السابق، الصفحة 7.
5.
المصدر السابق، الصفحتان 79–80.
6.
في عدّة مناسبات قالت دوروثي أنّ “هذا سيكون دائمًا بيت الله”. وقد استُخدِم المنزل بحرّية من قبل جامعة أحباء ليما البهائيين حينما كانت عائلة بيكر تعيش فيه وأصبح المقرّ البهائي. انتقلت ملكية المنزل إلى الجامعة البهائية في عام 1963 بعد وفاة فرانك بيكر، الذي تركه لتلك الجامعة في وصيّته. رسالة من ماري كوبلر (Mary Keubler) مع تصنيف (compilation) أعدّته ماي ل. فون (Mae L. Vaughn)، أيلول 1966.
7.
Freeman, From Copper to Gold, p. 83.
8.
المصدر السابق، الصفحة 87.
9.
مقتطف في المصدر السابق، الصفحة 114.
10.
Morrison, To Move The World, p. 276.
11.
Freeman, From Copper to Gold, p. 131.
12.
المصدر السابق، الصفحة 213.
13.
المصدر السابق، الصفحتان 245–246.
14.
المصدر السابق، الصفحة 313.
15.
المصدر السابق، الصفحة 171.
16.
المصدر السابق، الصفحة 147.
17.
Bahá’í World, vol. 13, p. 333.
18.
Freeman, From Copper to Gold, p. 276.
19.
المصدر السابق، الصفحة 298.
20.
المصدر السابق.
21.
المصدر السابق، الصفحة 300.
22.
Bahá’í World, vol. 12, p. 670.
23.
Freeman, From Copper to Gold, p. 308.

1873 – 1962 أميليا إنجلدر كولنز

Hand of the Cause of God Amelia Engelder Collins (1873-1962)

دعاها حضرة شوقي أفندي ‘المعطاءة المتميّزة لأمر الله’(1) لتبرّعاتها السخيّة للدين الذي عشقته للغاية. كانت مسؤولة مباشرة عن مشتريات الأوقاف الأمرية في أفريقيا وأوروبا وأستراليا وإيران وأمريكا الوسطى والجنوبية، وغيسرفيل في كاليفورنيا وعلى جبل الكرمل. وفضلاً عن كرمها المتميّز، كانت أميليا كولنز، صاحبة قلب طاهر ونيّة صافية وتتحلّى بالإخلاص والخضوع ممّا حبّبها للمولى وحضرة وليّ أمر الله، وهي أيادي أمر الله الأولى التي عيّنها حضرة شوقي أفندي في أيّام حياتها.

ولدت في بتسبرغ، بنسلفانيا، وهي السابعة من بين أربعة عشر طفلاً رزقت بهم كاثرين جروف، الأمريكية، وكونراد إنجلدر، الألماني الذي قدِم إلى الولايات المتّحدة في سنّ مبكرة. نشأت ميلي، كما كانت تُعرف، في الطائفة اللوثرية، لتقدّر تلك الصفات من التدبير والطاعة التي تثمّنها الشخصيّات الرئيسة في أمر الله. كانت امرأة شابّة عندما تزوّجت من رجل أعمال ناجح يدعى توماس هـ. كولنز، والذي كانت له مصلحة تعدين في كالوميت بولاية ميتشيغان وبيسبي بولاية أريزونا.

سمعت ميلي عن الدين البهائي من نيلي ستيفيسون فرينش وأصبحت بهائية في عام 1919. وشجعتها صديقاتها البهائيات على إرسال رسالة إلى المولى طلبًا «للتأييد والقوّة».(2) كتبت الرسالة على مضض، ولكنّها قضت ليلتها باضطراب. في الصباح، عندما فتحت ستائر غرفتها ورأت الشمس المشرقة ترسل أشعتها إلى الداخل، سألت نفسها عمّا إذا كانت الشمس بكلّ عظمتها تحتاج إلى رسالة. ثم مزّقت رسالتها، واثقة أنّ روح المولى سوف تفهم. كانت مقتنعة أنّ لا حاجة لإزعاجه بطلباتها التافهة.

بعد فترة وجيزة وصل لوح من حضرة عبدالبهاء، أبقت ميلي محتوياته طيّ الكتمان لبعض الوقت – كانت تقول فقط إنّ حضرة عبدالبهاء خاطبها بـ «سيّدة الملكوت».

بعد صعود حضرة عبدالبهاء في عام 1921، كانت رغبة ميلي الجادّة إرضاء محبوبها حضرة وليّ أمر الله. فكتبت تقول: ‘من بين الخزينة الهائلة لكافّة الكتابات المقدّسة، حفظتُ عن ظهر قلب جملة واحدة وبذلت قصارى جهدي لاتّباع ذلك الحكم الواحد. كان بمثابة مصباح الهداية الذي سلّط الضوء على المسارات المظلمة والغامضة في حياتي. هذه العبارة هي من ألواح وصايا المولى، حيث يصرّح أنّه ينبغي على الأحبّاء أن يجعلوا حضرة شوقي أفندي سعيدًا. فأيّ خطوة اتّخذتها في حياتي، وأيّ صوت انتخابي أدليت به في المحافل الروحانية، وأيّ رحلة قمت بها، وحتى أيّ فكرة خطرت بالبال، كنت أسأل نفسي أوّلاً عمّا إذا كان صوتي، أو كلماتي، أو رحلتي، أو فكرتي ستجعله سعيدًا. وعندما كنت أتأكّد من ذلك، أشرع في العمل دون خوف.’(3) في بعض النواحي صارت ميلي، التي لم ترزق بأطفال، تعتبر حضرة شوقي أفندي مثل ابنها، مع استمرارها في إجلاله واحترامه بكلّ التبجيل اللائق بمقامه.

في أوائل عام 1923 سافرت ميلي في أوّل حجّ لها إلى حيفا برفقة زوجها توم، الذي لم يكن بهائيًا. وغالبًا ما تحدّثت ميلي عن اللطف الكبير والمحبّة التي أبداها حضرة شوقي أفندي لزوجها:

كان حضرة وليّ أمر الله المحبوب ينصحني دائمًا بأن أكون لطيفة ومُحبّة لزوجي قدر الإمكان. حاولت دائمًا اتّباع هذه النصيحة. ولم أقم في أيّ وقت بعصيان توم. فلأجله توقّفت عن عقد اجتماعات في بيتي وحتى الذهاب الى الاجتماعات. مع مرور الوقت، تغيّر قلبه تدريجًا وسمح لي بحضور الاجتماعات وبعقد مجالس الضيافة التسع عشرية في منزلنا. لكنّه لم يصبح بهائيًا في هذا العالم.(4)

ومن جهته، كان توم كولنز معجبًا بحضرة شوقي أفندي. فكتبت ميلي:

لم يكن زوجي بهائيًا، ولكن بعد يومين أو ثلاثة أيّام من رحلة الحجّ، أصبح أسير محبّة حضرة وليّ أمر الله حتى إنّه ذات يوم، بينما كان ينظر إلى المبنى الجديد غير المكتمل لدار ضيافة الحجّاج الغربيين، بدا غاضبًا وهتف قائلاً: ‘كيف يمكن للبهائيين أن يشاهدوا مبنى غير مكتمل كلّ يوم أمام عينَيْ وليّ الأمر؟ يجب [يا ميلي] أن تعملي على إتمام المبنى.’(5)

عندما توفّي توم فجأة على متن سفينة في عام 1937 بينما كان في رحلة إلى أوروبا، أرسل حضرة شوقي أفندي كلمات العزاء إلى ميلي:

أشعر بحزن كبير للوفاة المفاجئة لزوجك الحبيب. وقلبي يفيض بأرقّ مشاعر التعاطف. وأدعو له دعاء خاصًّا. أوصي المدرسة الصيفية في غيزرفيل بإقامة مجلس تذكّري لائق تقديرًا للدعم السخيّ الذي تلقّته مؤسّستهم. عسى أن يساعده محبوبُنا على بلوغ الهدف الذي كان يقترب منه خلال السنوات الأخيرة من حياته.(6)

بعد ذلك بوقت قصير، عندما كانت ميلي في رحلة الحجّ الثانية لها، قال لها حضرة وليّ أمر الله ‘إنّ زوجك في محضر المولى وهو فخور بخدماتك.’(7)

قبل أن تلتقي أميليا كولنز بحضرة شوقي أفندي، كانت تتوق إلى معرفة شيء عن العالم الآخر، واعتقدت أنّ حضرة وليّ أمر الله يمكنه أن ينوّرها بالخصوص. كما كانت تتوق أيضًا لتتعلّم من حضرته الحقائق حول الصلاة والدعاء وتنقية المرء للقلب والروح. خلال قيامها بالحجّ الأوّل، أعطاها حضرة شوقي أفندي بعض الأوراق للدراسة. وظنًّا منها أنّها ستكون الإجابات عن أسئلتها، فقد خاب أملها كثيرًا لاكتشافها أنّ الأوراق كانت معنيّة بالنظام العالمي لحضرة بهاءالله وتأسيسه. عندما سألها حضرة وليّ أمر الله في اليوم التالي عن أفكارها حول الوثائق، أجابت ميلي بصراحة بأنّها لم تفهم أيّ شيء. في وقت لاحق من ذلك اليوم خرج حضرة شوقي أفندي يتمشّى مع ميلي وأوضح حضرة وليّ أمر الله موضوعه بكلّ صبر. ظلّت ميلي تأمل أن يكشف حضرته عن أسرار الصلاة والدعاء والعالم الآخر، لكنّ حضرة وليّ أمر الله ببساطة شرح لها المبادئ الإدارية لأمر الله.

عندما عادت إلى الولايات المتّحدة، ذهبت مباشرة إلى مؤتمر الوكلاء المركزي، لتصل في الوقت المناسب لسماع رئيس المؤتمر يقرأ الرسالة ذاتها التي كانت قد درستها في الأرض الأقدس. ولدى دعوتها للتحدّث أمام الوكلاء، كانت ميلي قادرة على الاعتماد على تفسيرات حضرة وليّ أمر الله لها لمساعدة البهائيين على تقدير وفهم مقصد حضرته وتبديد سوء الفهم.

أدّت ميلي الكثير من الخدمات لأمر الله ولا يمكننا التطرّق إلاّ لعدد قليل منها. في عام 1924، قبل سنة واحدة من الاعتراف الرسمي من قبل حضرة شوقي أفندي بالمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتّحدة وكندا، انتخبت ميلي عضوًا في تلك الهيئة حتى عام 1933 ومرّة أخرى من عام 1938 إلى حين استدعاء حضرة وليّ أمر الله لها إلى الأرض الأقدس في عام 1951. وكانت عضوًا في لجان مختلفة، بما فيها «التبليغ المركزية»، و«تطوير المحافل الروحانية» و«اللجان المشتركة بين الأمريكتين». وبينما كانت على متن سفينة سياحية متوجّهة إلى آيسلندا في عام 1924 قدّمت أمر الله إلى هولمفريدور أرنادوتير، الذي قام بأوّل ترجمة لكتابات بهائية إلى اللغة الآيسلندية.

في عام 1926 أرسلت ميلي مبلغًا كبيرًا من المال إلى الأرض الأقدس حتى يتمكّن حضرة شوقي أفندي من تطوير الممتلكات البهائية هناك. وفي وقت لاحق ساعدت تبرّعاتها على تجميل المنطقة المحيطة بمرقد حضرة بهاءالله وتأثيث مبنى محفظة الآثار العالمية.

في عام 1936 أسّست ميلي وتوم قاعة كبيرة للاجتماعات، والمعروفة باسم قاعة كولنز، في المدرسة الصيفية البهائية في غيزرفيل بولاية كاليفورنيا؛ وفي السنة التالية تبرّعا بمهجع مجهّز تجهيزًا كاملاً يتّسع لخمسين شخصًا. كما اشترت ميلي أيضًا ممتلكًا للمدرسة الصيفية البهائية في دافيسون بولاية ميتشيغان.

كانت ميلي أوّل مساهمة في «صندوق بهائية خانم» لتشييد أمّ المعابد في الغرب، وقدّمت أيضًا مساهمات كبيرة إلى صندوق مشرق الأذكار في بلاد فارس. وقدّمت هدايا من الممتلكات بالقرب من مشرق أذكار ويلميت وجعلت من الممكن شراء 19 موقعًا لمشارق أذكار في أمريكا اللاتينية وأوروبا وآسيا. وتبرّعت بالمبلغ الكامل لشراء العديد من حظائر القدس المركزية والأوقاف الأمرية في خمس قارّات.

في عام 1934 دفعت ميلي تكلفة نشر أولى الكتابات البهائية باللغة الأمهرية. في وقت لاحق تحمّلت تكلفة نشر أربعة مجلّدات من «العالم البهائي».

سافرت ميلي على نطاق واسع خدمةً لأمر الله، وخاصّة بعد وفاة توم. فخلال الفترة بين عامَي 1937 و1953 زارت تقريبًا كلّ مركز بهائي في الولايات المتّحدة وكندا لمساعدة البهائيين في ترسيخ إيمانهم، وذهبت في عدّة مهامّ كلّفها بها حضرة شوقي أفندي. على سبيل المثال، في عام 1942، بناء على طلب من حضرة وليّ أمر الله، سافرت ميلي إلى الأرجنتين لمساعدة البهائيين على إقامة نصب تذكاري يليق بماي ماكسويل، التي وافتها المنيّة هناك ودفنت في مقبرة كويلمس في بوينس آيرس.

كانت ميلي من بين أوائل المبلّغين للهنود الحمر، ونتج عن عملها تشكيل أوّل محفل روحاني محلّي هندي، في ميسي، بولاية نبراسكا. في 22 تشرين الثاني 1946 أرسل حضرة وليّ أمر الله برقية إلى ميلي:

‘إنّ خدماتك العالمية العظيمة، وتفانيك الذي يقتدى به، وهذه الخدمة الرائعة التي قمت بها الآن قد دفعتني إلى أن أخبركِ برفع مقامك إلى مرتبة أيادي أمر الله. فأنتِ أوّل من أُخبر بهذا المقام الرفيع أثناء حياته. أمّا إعلان الخبر فاتركيه لخياري.’(8)

لم يعلن حضرة وليّ أمر الله تعيينها على الأحبّاء حتى 24 كانون الأوّل 1951، إلى جانب أحد عشر آخرين.

في تشرين الثاني 1950 قرّر حضرة وليّ أمر الله إنشاء المجلس البهائي العالمي، وتلقّت ميلي برقية من حضرة شوقي أفندي يدعوها إلى المجيء إلى الأرض الأقدس للخدمة عضوًا في المجلس. في كانون الثاني 1951 أعلن حضرته قراره هذا إلى العالم البهائي، وفي آذار من العام نفسه كتب إلى البهائيين في الشرق والغرب:

إنّ المساعدة التي يقدّمها المجلس العالمي المشكّل حديثًا هي موضع ترحيب كبير وخاصّة من رئيسه، مايسون ريمي، ونائب رئيسه، أميليا كولنز، من خلال الاتّصال مع السلطات وغايته نشر شهرة المركزين الروحي والإداري، واستحكام مؤسّساتهما وتوسيع نطاق نفوذهما، هذين المركزين الثابتين بشكل دائم في الأرض الأقدس ويشكّلان قلب الكوكب بأسره.(9)

على الرغم من أنّ حضرة شوقي أفندي أشار إلى أميليا كولنز بأنّها ‘المعطاءة المتميّزة لأمر الله’، إلاّ أنّه لا ينبغي الظنّ أبدًا أنّ عطف حضرته ومحبّته لها كانا للمنفعة المادّية التي كان بإمكانها تقديمها من أجل أمر الله. في الواقع، كتب حضرة وليّ أمر الله في كانون الثاني 1947 إلى ميلي: ‘إنّ الرتبة السامية التي تحتلينها الآن [كأيادي أمر الله]… قد مُنحت فقط اعترافًا بالخدمات المتنوّعة التي قدّمتيها بالفعل، ولا تهدف، بأيّ حال من الأحوال، إلى التحفيز أو التشجيع في الطريق النهائي للخدمة.’(10) ويعكس العديد من الرسائل التي كتبها لها على مدى السنوات، ذلك التقدير الذي كان يكنّه لها لخدماتها المتنوّعة. في عام 1926 كتب حضرته، ‘يا عزيزتي الغالية وزميلتي في العمل: إنّ ثباتك في الخدمة، ومحويّتك وتفانيك في العمل، يشجّعني كثيرًا ويلهمني في عملي. إنّ خدماتك العديدة، في الماضي والحاضر، سوف تُذكر على الدوام بالثناء والفرح والامتنان.’(11) وكتب مرّة أخرى، ‘إنّني لا أتوقّف عن الدعاء لكِ من أعماق قلبي وأتمنّى لكِ النجاح في العمل المجيد الذي ينتظرك.’(12)

عندما أرسلت ميلي تبرّعها للمساهمة في تشييد البناء العلوي للمقام الأعلى لحضرة الباب في عام 1944، ردّ حضرة شوقي أفندي من خلال سكرتيره، ‘يريدك حضرته أن تعرفي أنّ هذه هي المساهمة الأولى التي تلقّاها لهذه المهمّة المجيدة، وحضرته لا يستغرب أنّها وصلت منك أنت.’(13) وفي مثال آخر، وصلت تبرّعات كلّ من حضرة وليّ أمر الله وميلي في الوقت نفسه؛ فأبرق حضرة شوقي أفندي إليها: ‘إنّ مساهماتنا الأخيرة للحملة التبليغية والمتزامنة هي دليل على تناغم قلبينا لأجل أمر الله النبيل.’(14)

واحد من الأدلّة على سخاء ميلي هو بوّابة كولنز على رأس الطريق المؤدّي إلى ضريح حضرة بهاءالله. كانت ميلي، منذ الطفولة، تريد دائمًا بوّابة. عندما كانت صغيرة السنّ، كانت قد بنت بيتًا صغيرًا للدمى خاصّتها وحاولت أن تصنع بوّابة للمدخل. وعندما قامت هي وزوجها لاحقًا ببناء منزل في نيو إنجلاند، سألها توم عن بوّابة، لكنّها لم تشأ إنفاق المال في ذلك الوقت. وبعد أن اعتنقت ميلي أمر الله نسيت بوّابتها، فضلاً عن أمور دنيوية أخرى. بعد سنوات عديدة، وأثناء خدمة ميلي في حيفا، عرضت على حضرة وليّ أمر الله تبرّعًا لتلبية احتياجاته الشخصية. بعد ذلك بوقت قصير تلقّت رسالة من حضرة شوقي أفندي وصورة لبوّابة كبيرة جدًّا وفخمة. فقد اشترى حضرة وليّ أمر الله البوّابة بالمال الذي عرضته عليه ميلي. وأصبحت هذه البوّابة معروفة باسم بوّابة كولنز.

على الرغم من ثروتها، عاشت ميلي ببساطة، وغالبًا في غرفة واحدة. وكانت تعمد إلى تغيير تصميم ثوب العام الماضي لتجعله مواكبًا للزيّ الدارج، بدلاً من شراء ملابس جديدة. والكماليّات التي حرمت نفسها منها اعتبرها الآخرون من الضروريّات في كثير من الأحيان. تميّزت حياتها بالبساطة وعذوبة الشخصية، ونقاء الدافع والإطاعة الفورية. لم تذكر ميلي شيئًا قطّ عن تبرّعاتها لأمر الله. في الواقع، لم يكن الكثير منها معروفًا لأيادي أمر الله الآخرين إلاّ بعد صعود حضرة شوقي أفندي، عندما قُرئت محاضر المحافل الروحانية المركزية. أرادت أن تبقى تبرّعاتها سرّية. كانت تقول، ‘أرسلوا المال فقط؛ لا تذكروا اسمي.’(15)

في السنوات الأخيرة عانت ميلي من التهاب المفاصل إلى حدّ كبير. وبإذن من حضرة وليّ أمر الله، اعتادت في كثير من الأحيان العودة إلى حرارة صحراء أريزونا كلّ صيف لقضاء فترة من النقاهة والعناية بشؤونها الخاصّة. في اليوم التالي من وصولها مرّة أخرى إلى الأرض الأقدس من إحدى تلك الرحلات في عام 1957، تلقّت نبأ صعود حضرة شوقي أفندي في لندن.

في صباح اليوم التالي غادرت ميلي حيفا إلى إنجلترا، حاملة بتلات ورد من عتبة مقام حضرة الباب. ‘لا تحزني’، قال لها حضرة شوقي أفندي قبل مغادرته إلى لندن في حزيران 1957. أمّا الآن فهي تساعد روحية خانم في ترتيبات الجنازة وقدّمت محبّتها ودعمها لأرملة حضرة وليّ أمر الله في وقت مأساتها وصدمتها. نُثرت بتلات الورد فوق جثمان حضرة شوقي أفندي قبل الدفن.

ربّما كانت ميلي، وهي ترافق زميلتها أيادي أمر الله خلال تلك الأيّام المثقلة بالحزن في لندن، تتذكّر كيف نزع حضرة شوقي أفندي ذات مرّة وشاحه ووضعه حول عنقها عندما كانت مريضة ترقد في سريرها. وكيف أدّى دفء ذلك العمل إلى إسعادها وتسريع شفائها.

بعد صعود حضرة شوقي أفندي، واصلت ميلي، وهي واحدة من أيادي أمر الله التسعة المقيمين في الأرض الأقدس، خدماتها لأمر الله بالرغم من تقدّمها في السنّ. في عام 1958 حضرت المؤتمر البيقارّي في فرانكفورت كممثّلة لحضرة وليّ أمر الله، وفي تشرين الثاني 1960 وضعت حجر الأساس لمشرق الأذكار الأوروبي في ألمانيا. وحضرت كلّ واحد من الاجتماعات الرسمية السنوية لأيادي أمر الله، على الرغم من تدهور حالتها الصحّية وآلامها المستمرّّة. بلغت درجة من الضعف في الاجتماع الرسمي الأخير لها في عام 1961 بحيث اضطرّوا إلى حملها على كرسي إلى الطابق العلوي لحضور الاجتماع. وحتى في ذلك الحين تحدّثت «بقناعة كبيرة وقوّة عظيمة» وتلت دعاء في ضريح حضرة بهاءالله «حلّقت كلّ كلمة منه بأجنحتها إلى الملكوت الأبهى».(16) وبعد ذلك رقدت ميلي طريحة الفراش تمامًا.

وإذ كانت على فراش الموت، طلبت ميلي من أيادي أمر الله السيّد فيضي تلاوة مناجاة لها كما فعل كثيرًا في الماضي. عندما انتهى ترجم لها قائلاً: ‘كانت هذه واحدة من مناجاة المولى التي يوصي فيها بأن نفتح عيوننا لنشاهد عظمة الملكوت الأبهى وجماله… عندما تبسط روح الإنسان جناحيها وتستعدّ للرحلة الأبدية، فإنّه يرى بعض علامات عظمة خلق الله واتّساع العالم الآخر.’(17)

في 1 كانون الثاني 1962 توفّيت أميليا كولنز وهي في أحضان حبيبتها روحية خانم. في اليوم التالي، ووري جثمان ميلي الثرى في المقبرة البهائية، بجانب الأفنان الذي بنى مشرق أذكار عشق آباد. وكانت ميلي في الثامنة والثمانين من عمرها وقت وفاتها. كانت حياتها في الواقع تجسيدًا لكلمات حضرة عبدالبهاء التي كتبها إليها في عام 1919:

من عنايات حضرة بهاءالله، أملي أن تحرزي في كلّ يوم تقدّمًا في الملكوت الإلهي، وأن تصبحي روحًا سماوية، مؤيّدة بنفثات الروح القدس، وأن ترفعي صرحًا يبقى ثابتًا لا يتزعزع إلى الأبد.(18)

لدى وفاتها أبرق حضرات أيادي أمر الله المقيمون في الأرض الأقدس إلى العالم البهائي ما يلي:

بعميق اللوعة نشارك العالم البهائي نبأ وفاة محبوبتنا الغالية أيادي أمر الله المعطاءة المتميّزة لأمر الله أميليا كولنز. ولمحبّتها وتفانيها ودعمها الثابت لحضرة وليّ أمر الله المحبوب في أحلك فترة من حياته، نالت الفضل الفريد المتمثّل في محبّته العميقة وتقديره وثقته وتكريمه لعملها المرتبط ارتباطًا مباشرًا بالمركز العالمي. لن تُنسى خدماتها البارزة في كلّ مجالات النشاط البهائي، كشراء موقع مشرق الأذكار الذي سيبنى في المستقبل على جبل الكرمل، والعطاء السخيّ لتسريع بناء أمّهات المعابد في أربع قارّات، وتملّك الأوقاف لحظائر القدس، والدعم المتواصل للتبليغ على النطاق الوطني والعالمي، فضلاً عن تبرّعاتها السخيّة. نحثّ المحافل الروحانية المركزية على عقد الجلسات التذكّرية خاصّة في مشارق الأذكار إحياء لذكرى القدوة الساطعة التي قدّمتها في الخدمات المتواصلة حتى النفس الأخير.(19)

1.
Shoghi Effendi, Messages to the Bahá’í World. p. 79.
2.
Whitehead, Portraits, p. 74.
3.
Faizi, Milly, p. 18.
4.
المصدر السابق، الصفحة 8.
5.
المصدر السابق، الصفحة 7.
6.
Bahá’í World, vol. 13, p. 836.
7.
Faizi, Milly, p. 9.
8.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 288.
9.
Shoghi Effendi, Messages to the Bahá’í World, pp. 8–9.
10.
Bahá’í World, vol. 13, p. 839.
11.
Faizi, Milly, p. 10.
12.
المصدر السابق.
13.
Quoted in Bahá’í World, vol. 13, p. 837.
14.
المصدر السابق.
15.
Faizi, Milly, p. 20.
16.
المصدر السابق، الصفحة 38.
17.
المصدر السابق، الصفحة 39.
18.
Abdu’l-Bahá, quoted in Bahá’í World, vol. 13, p. 834.
19.
Ministry of the Custodians, p. 333.

1905 – 2003 علي أكبر فروتن

Hand of the Cause of God `Alí-Akbar Furútan (1905-2003)

ولد أيادي أمر الله السيّد علي أكبر فروتن في سبزوار في محافظة خراسان في إيران في 29 نيسان 1905. كان والده الكربلائي محمّد علي السبزواري بهائيًا معروفًا ويبلّغ أمر الله علنًا. عانى الاضطهاد الشديد من سكّان المدينة ومن والدته وزوجته، الذين كانوا من المسلمين المتعصّبين. استمرّ هذا الوضع المزعج إلى أن اعتنقت زوجة محمّد علي أمر الله من خلال حلم عن حضرة عبدالبهاء، عندما كان ابنها في حدود الرابعة من عمره. كما أصبحت والدة محمّد علي مؤمنة أيضًا.
أمضى السيّد فروتن سنوات طفولته في سبزوار، ودرس في «مكتب» (مدرسة تقليدية)، وتعلّم القراءة والكتابة ودراسة القرآن. في عام 1904 تفاقم اضطهاد البهائيين في سبزوار وحكم على محمّد علي بالموت. ولم ينقذه من الإعدام سوى تدخّل مجتهد مرموق في المدينة كان من أقربائه. بحلول عام 1914 وصل الاضطهاد إلى حدّ جعل محمّد علي يقرّر مغادرة المدينة. ورأت زوجته حلمًا عن المولى الذي أمر الأسرة بالهجرة إلى عشق آباد. وهكذا غادرت العائلة بأكملها سبزوار إلى روسيا.
تملّك البهائيون في عشق آباد مدرستين بجوار مشرق الأذكار، واحدة للبنين والأخرى للبنات. بدأ السيّد فروتن دراسته في مدرسة البنين، وبعد إتمام دراسته الابتدائية، طلبت منه لجنة المدرسة تدريس الصف الأوّل عندما كان في الرابعة عشر من عمره فقط. وقد انخرط في هذه الخدمة مدّة ثلاث سنوات ثم انتقل إلى مدرسة ثانوية روسية.
كان السيّد فروتن نشطًا جدًّا في جامعة الأحبّاء في عشق آباد. وبينما كان لا يزال في المدرسة الثانوية عُيّن عضوًا في اللجنة المركزية للشباب، وانتخب أمينًا للسرّ فيها، وأسّس صحيفة أخبار للشباب. وكان أيضًا مديرًا للمكتبة المحمودية البهائية. بدأ بإلقاء المحاضرات في الاجتماعات البهائية وهو لا يزال في ريعان شبابه.
في صيف عام 1923 تلقّى السيّد فروتن تعليمات من المحفل الروحاني المحلّي في عشق آباد للذهاب في رحلة إلى باكو، حيث شارك في بعض الأنشطة التبليغية الناجحة جدًّا لمدّة ثلاثة أشهر.
في عام 1925، بعد الانتهاء من دراسته في المدرسة الثانوية، تمّ تعيين السيّد فروتن مديرًا للمدرستين البهائيتين وروضتَي الأطفال البهائيتين في عشق آباد. ثم حصل على منحة للدراسة في جامعة موسكو، حيث استكمل في عام 1926 دراساته في التربية وعلم النفس الخاصّ بالطفل.
في السنة الأولى في جامعة موسكو، تلقّى رسالة من لجنة التبليغ في عشق آباد تقترح عليه ترك دراسته ومواصلة أنشطته التبليغية. وقد انزعج بشدّة من هذه الرسالة، التي وضعته أمام قرار لا يمكنه أن يتّخذه لوحده. فتشاور مع المحفل الروحاني المحلّي في موسكو الذي نصحه بالكتابة إلى حضرة وليّ أمر الله وطلب هدايته. فتلقّى ردًّا مؤرخًا في 16 تشرين الثاني 1926:
تلقّى حضرة وليّ أمر الله رسالتك… وجلبت لقلبه سرورًا عظيمًا. تحدّث عنك وحمد الله أنّك… مؤيّد بالتأييدات الإلهية في تعليمك، وأنّك تنوي إنهائه وترغب في نشر النفحات الإلهية، وتخدم أمر الله، وتقوم على تبليغه. إنّ هذا المقصد يجذب التأييدات الإلهية وبركات الملكوت الأبدي. لذلك يأمل حضرته أن تحقّق هدفك في نهاية المطاف…
إنّ تبليغ أمر الله ممكن تحت كلّ الظروف، حتى من خلال التجارة والمهن ومن خلال حسن السلوك، حيث قيل إنّ الأعمال الطيّبة والخصال الممدوحة هي في حدّ ذاتها مبلّغة للأمر. وبالتالي، فإنّ أيّ شخص، في أيّ مهنة ينخرط فيها، إذا سلك سلوكًا ممدوحًا وجسّد الكمالات الإنسانية، سيصبح هو نفسه رمزًا لنشر كلمة الله ورافعًا لراية مجد أمر الله.
وبخصوص تحديد واجبك، ذكر حضرة وليّ أمر الله أنّه لا ينبغي لك في أيّ حال من الأحوال الانزعاج والحزن. فإذا لجأت وتشبّثت في كلّ الظروف بحبل المشورة فسوف تؤيَّد في كلّ جهودك. في جميع الحالات، يجب أن ترجع إلى المحفل الروحاني والتصرّف وفقًا لرغبات أعضائه المنتخبين المحترمين وموافقتهم.
مهما كانت نتيجة المشورة مع المحفل الروحاني، فذلك هو المسار الصحيح للعمل وسوف يجلب رضاء الله… لقد تذكّر حضرة وليّ أمر الله المحبوب والديك أيضًا وقام بالدعاء من أجلهما.
وكتب حضرة شوقي أفندي بخطّ يده على هامش هذه الرسالة:
أيّها الصديق الروحاني:
إنّ هذا العبد في هذه البقعة النوراء يدعو لك في العتبة المقدّسة من أعماق قلبه لراحة بالك ولما فيه خيرك ونجاحك، لكي تتمكّن من التفوّق في المعرفة الإلهية والتعلّم الأكاديمي.(1)
ثم تشاور السيّد فروتن مع المحفل الروحاني المحلّي، والذي قرّر بالإجماع أنّه يجب عليه مواصلة دراساته.
في عام 1928 انتخب السيّد فروتن عضوًا في المحفل الروحاني المحلّي في موسكو. كما درّس أيضًا في الصفوف البهائية للأطفال والشباب، وأعطى دروسًا في اللغة الفارسية.
بينما كان في روسيا بدأ السيّد فروتن الأسفار التي من شأنها أن تميّز حياته. على سبيل المثال، في صيف عام 1927 ذهب في رحلة تبليغية إلى القوقاز، حيث زار العديد من الأحبّاء والمهتمّين بالدين في باكو، گنجه وتفليس. وزار ضريح كلّ من ليو تولستوي في يسنايا بوليانا، وتشايكوفسكي في لينينغراد (سانت بطرسبورغ) وإيفان سيرجيفتش تورجنيف، وهو كاتب روسي معروف. كما ذهب أيضًا في رحلات سياحية إلى نيجني نوفغورود، وأستراكان، وسافر إلى أرخانجيلسك للاطّلاع على المدارس في تلك المنطقة كجزء من دراساته الأكاديمية.
أكمل السيّد فروتن دراسته في مجال علم النفس الخاصّ بالطفل في عام 1930. وكانت أطروحته «حول طريقة شابوشنيكوف وكتابه الصوت الحي للأطفال»، قد نُشرت في الجريدة الرسمية لوزارة التربية والتعليم في الاتّحاد السوفييتي في العام نفسه. وعلى الرغم من تفوّقه الأكاديمي، طُرد السيّد فروتن من الاتّحاد السوفييتي لاشتراكه في الأنشطة البهائية. ولدى العودة إلى إيران عبر عشق آباد، كتب إلى حضرة شوقي أفندي لإعطاء صورة شاملة عن الأنشطة البهائية في روسيا، بما فيها تفاصيل نفيه. في شهر أيّار 1930 أجاب حضرة وليّ أمر الله في رسالة خطّية كتبت نيابة عنه:
لقد وصل تقريرك المفصّل المحتوي على أخبار الأنشطة البهائية في روسيا، إلى المحضر الجليل لوليّ أمر الله… كان التقرير شاملاً وكاملاً ومقبولاً في نظر حضرته. وقد أعرب عن رضائه واستحسانه، وأثنى عليك وأبدى إعجابه بروحانيتك وتألّقك ومثابرتك وتفانيك. فمن المؤكّد أنّ ظهور هذه المشاعر السماوية… سوف يزيد من قوّتك الروحانية، ويعزّز تفانيك، ويجلب الفرح والسعادة لقلبك وروحك، وأنّ الآلام والأحزان التي واجهتك ستزول ويطويها النسيان.
إلى هذه ألحق حضرة وليّ أمر الله الملاحظة الهامشية التالية بخطّ يده:
أيّها الصديق الروحاني:
لا تكن منزعجًا ولا حزينًا من الصعوبات الجارية، فإنّ الوضع الحالي في تلك المنطقة لن يستمرّ إلى الأبد. ما سيبقى ويستمرّ هو المؤسّسات التي أنشأها الأحبّاء في تلك الأرض. هناك حاجة إلى الصبر والتحمّل. وسوف يساعد [الربّ القدير] حقًّا الضعيف من خلال قدرة جبروته، ويعين أحبّاءه بملائكة ملكوته الأبهى. في الوقت الحاضر يجب أن تبقى في إيران، والانخراط في أنشطة أمر الله في ذلك البلد. ويحدوني الأمل أنّك في الأيّام القادمة سوف تتمكّن من تقديم خدمات كبيرة ومتميّزة في بلدان روسيا.(2)
في شهر نيسان 1930 حضر السيّد فروتن مؤتمر الوكلاء المركزي البهائي في طهران. فأقرّ له الوكلاء خيارين: إمّا أن يبقى في طهران ليصبح موظّفًا في الحكومة أو أن يذهب الى محافظة آذربيجان كمبلّغ جوّال؛ فاختار الثاني. وبعد بضعة أيّام غادر إلى تبريز، ولدى وصوله بدأ بعقد جلسات «فايرسايد»، والصفوف الدراسية لكلّ من الأطفال والنساء البهائيات.
في عام 1931 تزوّج السيّد فروتن من عطائية خانم، التي كانت من عائلة بهائية مرموقة. وفي وقت لاحق من العام نفسه وصلت إيفي بيكر إلى آذربيجان، بناء على تعليمات من حضرة وليّ أمر الله، لتصوير المواقع التاريخية فيها لكتاب «مطالع الأنوار». فرافقها السيّد فروتن وزوجته إلى سيسان، وهي قرية صغيرة قرب تبريز. وهناك اكتشفا أنّه على الرغم من جامعتها البهائية الكبيرة، لم يكن في سيسان مدرسة بهائية. فسعى الزوجان فروتن للحصول على إذن من حضرة وليّ أمر الله للانتقال إلى القرية لإنشاء مدرسة. فوافق حضرته على خططهما ممطرًا إيّاهما بالتشجيع والتقدير بكلّ محبّة.
كان السيّد فروتن وزوجته يقومان بالتحضيرات اللازمة لانتقالهما إلى سيسان عندما تلقّى السيّد فروتن برقية من المحفل الروحاني المحلّي في طهران، طالبًا منه القدوم إلى العاصمة فورًا. وعلى الرغم من فصل الشتاء القاسي وأوضاع الطريق الصعبة، تمكّن من الوصول إلى طهران للاجتماع بالمحفل الروحاني. أخبره المحفل الروحاني أنّه عُيّن مديرًا لمدرسة «تربيت» للبنين. فأوضح السيّد فروتن أنّ حضرة وليّ أمر الله قد وافق بالفعل على خططه للذهاب إلى سيسان، وبالتالي أرجأ المحفل الروحاني التعيين.
بمساعدة من المحفل الروحاني المحلّي في سيسان وأحبّاء القرية، سرعان ما انتهى بناء المدرسة، وبدأ ما يقارب سبعمائة من البنين والبنات تعليمهم. في نهاية أوّل سنة دراسية أرسل السيّد فروتن تقريرًا إلى حضرة وليّ أمر الله، الذي أجاب من خلال سكرتيره:
لقد وصل تقريرك الشامل المنعش… عن أوضاع البهائيين في سيسان… وأنشطتهم، وجلب الكثير من الفرح والسعادة إلى قلب حضرته… ومن المؤمّل أن تنجح في المستقبل… في تقديم خدمات أكبر، والقيام بمآثر أمجد… نرجو الله أن يؤيّدك ويكرمك أيضًا لتقديم خدمات عالمية.(3)
في عام 1934 انتُخب أوّل محفل روحاني مركزي في إيران. حضر السيّد فروتن مؤتمر الوكلاء وكيلاً عن آذربيجان، وكان أن انتُخب عضوًا في المحفل الروحاني وخدمه كسكرتير له مدّة أربع وعشرين سنة.
في العام نفسه، وبناء على تعليمات من حضرة شوقي أفندي، تولّى السيّد فروتن منصب مدير مدرسة «تربيت»، ليحلّ محلّ السيّد عزيز الله مصباح، الباحث والكاتب المعروف. وعندما رفضت المدرسة أن تفتح أبوابها في أحد الأيّام البهائية المحرّمة في كانون الأوّل 1934، أغلقت وزارة التربية والتعليم المدرسة فضلاً عن جميع المدارس البهائية الأخرى في البلاد بشكل دائم.
في أوائل عام 1941 قام السيّد فروتن، برفقة زوجته ووالدته وابنته البالغة من العمر ثماني سنوات، بأولى أسفار حجّه إلى الأرض الأقدس، حيث قضوا ثلاثة وعشرين يومًا بهيجًا. خاطبه حضرة شوقي أفندي قائلاً، ‘إنّك أمين السر لكلا المحفلين الروحانيين المركزي والمحلّي. وشؤون المحفل الروحاني المركزي تدار بطريقة منظّمة للغاية، أنا شاهد على عملك. إنّ خدماتك الآن محلّية ومركزية، وستكون عالمية في المستقبل.’(4)
خلال السنوات العشر التالية مارس السيّد فروتن عددًا من الأنشطة بالإضافة إلى خدماته كأمين للسرّ للمحفل الروحاني المركزي. في عام 1946 دعته هيئة الإذاعة الإيرانية لتقديم سلسلة من المحاضرات حول التعليم وعلم النفس الخاصّ بالطفل. وبعد ستّة أشهر ألغي البرنامج بتحريض من الملاّوات [رجال الدين]، رغم أنّه في السنوات الأخيرة تمّ نشر نصّ المحاضرات، بعد الحصول على إذن من وزارة التربية والتعليم، تحت عنوان «مجموعه رسالات تربيتي» (مقالات في التربية والتعليم). وفي عام 1950 كتب السيّد فروتن مقالاً لمجلّة «الأخبار البهائية» الصادرة بالإنجليزية إحياء للذكرى المئوية لاستشهاد حضرة الباب. ودائمًا ما كان يشجع الأحبّاء، ويقوم بزيارة العديد من الجامعات البهائية.
في كانون الأوّل عام 1951 عُيّن السيّد فروتن أياديًا لأمر الله. وقد أشار هذا التعيين، كما كتب في وقت لاحق، إلى «تحوّل تاريخي» في «حياته الروحانية».(5) وكان من أوائل مهامّه تشجيع البهائيين الإيرانيين للمساهمة في تأمين تكلفة بناء مقام حضرة الباب.
في عام 1953، في بداية مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني، شرع السيّد فروتن في الخدمات العالمية التي توقّع حضرة شوقي أفندي أن يقوم بها. فقد حضر كافّة المؤتمرات التبليغية البيقارّية – في كمبالا، شيكاغو، ستوكهولم ونيودلهي. من بين الأحداث البارزة أثناء هذه الرحلات كان حفل افتتاح أمّ المعابد في الغرب في ويلمت. في نهاية مؤتمر نيودلهي أوعز إليه حضرة شوقي أفندي بالسفر إلى أستراليا ونيوزيلندا. فأمضى سنة واحدة في الترحال وزار 16 قطرًا في أستراليا وأمريكا الشمالية وأوروبا. وكانت هذه الرحلة واحدة من أطول رحلاته التبليغية.
في عام 1954 قام بحجّه الثاني إلى الأرض الأقدس. وبناء على تعليمات حضرة شوقي أفندي، عاد إلى إيران، وزار جميع المدن الرئيسة والمراكز البهائية في البلاد.
في عام 1955 بدأت موجة من الاضطهاد الشديد ضدّ البهائيين في إيران، ممّا أدّى إلى الاستيلاء على حظيرة القدس في طهران، والاضطرابات المناهضة للبهائيين في جميع أنحاء البلاد، ومقتل سبعة بهائيين في هرمزك. فقام السيّد فروتن، نيابة عن المحفل الروحاني المركزي في إيران، بإرسال العديد من العرائض إلى الحكومة في محاولة لوقف الاضطهاد.
في عام 1956، بناء على تعليمات حضرة شوقي أفندي، سافر السيّد فروتن إلى تركيا لزيارة البهائيين وتشجيعهم. في عام 1957 بدء رحلته إلى إندونيسيا لتمثيل حضرة وليّ أمر الله في مؤتمر جاكرتا الهادف إلى انتخاب المحفل الروحاني الإقليمي الأوّل لجنوب شرق آسيا، وهو واحد من ستّة عشر محفلاً روحانيًا مركزيًا وإقليميًا جديدًا تقرّر تشكيلها في عامَي 1956 و1957.
في صباح يوم 5 تشرين الثاني 1957 تلقّى السيّد فروتن برقية من أمة البهاء روحية خانم، والتي كما كتب لاحقًا، ‘هزّت صميم كياني بعنف وخدّرتني’(6): وافت المنيّة حضرة وليّ أمر الله في لندن يوم أمس. وإذ كان هو نفسه في حاجة إلى مواساة وعزاء، فلم يحضر السيّد فروتن جنازة حضرة وليّ أمر الله، ولكنّه بقي في طهران، بناء على طلب من المحفل الروحاني المركزي في إيران، لدعم الأحبّاء وحضور العديد من مجالس التذكّر.
وفي غمرة قلقه حول مستقبل أمر الله في هذا الوقت غير المستقر، عندما بدا دين حضرة بهاءالله دون راع ومرشد، قرّر السيّد فروتن قراءة رسائل حضرة وليّ أمر الله لشهرَي حزيران وتشرين الأوّل 1957 وأعادة قراءتها فمنحته العزاء والسلوان:
إنّ أمن وأمان هذا الدين النفيس، والمحافظة على الصحّة الروحانية للجامعات البهائية، وحيوية إيمان كلّ فرد من أعضائها… وتحقيق مصيره النهائي، إنّما تعتمد جميعها بشكل مباشر على القيام بشكل لائق بالمسؤوليّات الجسيمة الملقاة الآن على كاهل أعضاء هاتين المؤسّستين [أيادي أمر الله والمحافل الروحانية المركزية].(7)
هذه الإضافة الأخيرة [تعيين كوكبة جديدة من أيادي أمر الله] إلى العصبة رفيعة الشأن من العاملين في النظام الإداري العالمي سريع التطوّر… تستدعي، في ضوء تولّيهم مؤخّرًا مسؤوليّتهم المقدّسة كحماة لدين الله، أن يقوم هؤلاء الأيادي أنفسهم، في كلّ قارّة على انفراد، بتعيين هيئة معاونين إضافية تساوي في عدد أعضائها ما كان قائمًا أصلاً، وأن تُكلّف بواجب محدّد يتمثّل في السهر على حفظ وحماية دين الله.(8)
في 18 تشرين الثاني 1957 انضمّ السيّد فروتن إلى زملائه الأيادي في حيفا في أوّل اجتماع رسمي لهم. وكان من بين الأيادي التسعة المعينين للعمل في المركز البهائي العالمي. وعليه، غادر طهران مع زوجته للاستقرار في حيفا.
في العام التالي قرّر أيادي الأمر أنّ بيت العدل الأعظم سينتخب في عام 1963. وعلى مدى السنوات القليلة التالية زار السيّد فروتن تركيا، وشارك في حفل إرساء حجر الأساس لأمّ معابد أوروبا، وحضر مؤتمر الوكلاء المركزي الأوّل لكلّ من البرازيل وأوروغواي، وزار مختلف جامعات الأحبّاء في الجزر البريطانية. بعد انتخاب بيت العدل الأعظم، بقي السيّد فروتن في حيفا، بوصفه واحدًا من أيادي الأمر المقيمين في الأرض الأقدس.
في عام 1965 طلب بيت العدل الأعظم من السيّد فروتن زيارة تركيا وإيران لتشجيع البهائيين على تحقيق أهداف خطّة التسع سنوات. في وقت لاحق جال عبر الهند، حيث زار مراكز مهمّة واجتمع مع نائب رئيس البلاد ووزير التربية والتعليم.
في عام 1967 عقدت ستّة مؤتمرات بيقارّية في أجزاء مختلفة من العالم إحياء للذكرى المئوية لإعلان حضرة بهاءالله دعوته إلى الملوك والرؤساء. وعيّن بيت العدل الأعظم السيّد فروتن لتمثيله في المؤتمر الذي عقد في كمبالا. وقبل أن يغادر السيّد فروتن الى أوغندا مع الخمسة الآخرين من الأيادي الممثّلين لبيت العدل الأعظم في المؤتمرات، ذهبوا معًا للدعاء في المرقدين المقدّسين، ثم سافروا إلى تركيا، حيث قاموا بالدعاء في بيت حضرة بهاءالله في أدرنة قبل أن يتفرّقوا إلى وجهاتهم المختلفة.
في كمبالا، تجمّع أربعمائة وخمسون بهائيًا من أربع وعشرين دولة لإحياء ذكرى إعلان بهاءالله دعوته إلى ملوك العالم ورؤسائه. وتحدّث السيّد فروتن عن الحياة الشاقّة التي عاشها حضرة بهاءالله في أدرنة. وحثّ البهائيين أن يكونوا متّحدين وأن يطيعوا الأحكام الإلهية ليحرزوا النصر لحضرة بهاءالله. بعد المؤتمر استضافه التلفزيون الوطني مع إينوك أولنغا في مقابلة لمدّة ستّ دقائق، شاهدها أكثر من نصف مليون شخص.
في عام 1968 حضر السيّد فروتن مؤتمر باليرمو، الذي عقد احتفالاً بالذكرى المئوية لوصول حضرة بهاءالله إلى الأرض الأقدس. حضر المؤتمر أكثر من (2300) من البهائيين من سبعة وستّين بلدًا. وفي الجلسة الختامية، واصفًا حبس حضرة بهاءالله في السجن الأعظم، قال السيّد فروتن:
هنا كان حضرة بهاءالله محكومًا بالسجن المؤبّد لكسر إرادة حضرته وإنهاء نفوذه. فردّ بتجديد الإعلان [عن دعوته]. وهنا أنزل العديد من أهمّ كتاباته بما فيها «الكتاب الأقدس»، وهنا توهّجت شعلة نوره ألمع توهّج. السلطان عبد العزيز ميّت ومنسي، في حين احتشد الآلاف من البهائيين للاحتفال بانتصار ضحيّته. ‘لم تمنع السلاسل هذا الدين الإلهي. ولم يصبح السجن عائقًا له… منذ بداية العالم لم يسبق لدين إلهيّ أن أعلن مثل هذا الإعلان الواسع.’ ونحن أيضًا يجب أن نجهد للإعلان عنه ونحن نواجه الشدائد والمحن.(9)
في عامَي 1969، 1970 قام السيّد فروتن بأسفار واسعة في الولايات المتّحدة وكندا وألاسكا وهاوائي حيث توقّف في كثير من المدن وزار العديد من المدارس البهائية، وتحدّث في شتّى المواضيع، بما فيها التمييز الديني والعرقي. وعن العنصرية قال:
يدرك الأحبّاء جيّدًا أنّه لسنوات طويلة كان التمييز العنصري يعكّر صفو سلام البشرية وطمأنينتها، وقد تلطّخت الأرض بدماء الناس في مختلف البلدان. يقول أحد الأعراق، ‘نحن بيض’، وآخر ‘نحن سود’، والثالث ‘نحن حمر’، والرابع، ‘نحن سمر’، ويؤكّد الخامس أنّه أصفر. لقد قاتلوا بعضهم بعضًا ودمّروا منازل بعضهم بعضًا فقط بسبب الاختلاف في اللون الظاهري لجلودهم، والذي لا يرجع إلى شيء سوى تأثير أشعّة الشمس. حتى في الوقت الحاضر لم يتمّ اخماد لهيب نيران هذه الحرائق المدمّرة. فطوبى لنا نحن، أهل البهاء، لأنّنا نتبع هذا البيان الأعلى لحضرة بهاءالله: «أيّها الأحبّاء! قد ارتفعت خيمة الاتّحاد. لا ينظر بعضكم إلى بعض كنظرة غريب إلى غريب. كلّكم أثمار شجرة واحدة، وأوراق غصن واحد.»(10)
في أماكن أخرى تحدّث عن فضل ونعمة الاعتراف بحضرة بهاءالله قائلاً إنّنا لم ندرك حتى الآن حسن حظّنا. وفي حين لا نستطيع أن ندرك مجد حضرة بهاءالله وعظمته، يمكننا أن نسعى جاهدين لإطاعته وتبليغ أمره. وقال إنّ الأحبّاء قلّة في العدد، ولكنّ ما هو الأهمّ من الكمّ هو النوع. وقال يجب أن نبلّغ وفقًا للمثال الذي حدّده حضرة عبدالبهاء، وهو تقديم الرسالة الشافية التي جاء بها حضرة بهاءالله وفقًا لاحتياجات مستمعينا ومعتقداتهم. وبخلاف ذلك يكون العلاج الذي نقدّمه على غرار إعطاء وصفة طبّية دون إجراء فحص. واختتم قائلاً إنّ عون الملأ الأعلى سوف يأتي من خلال قيامنا بالدعاء والصلاة والتفاني والاستعداد للخدمة.
كانت أسفار السيّد فروتن في السنوات اللاحقة واسعة في مداها وعالمية النطاق بكلّ معنى الكلمة، كما كان يأمل حضرة وليّ أمر الله. وكانت أعزّ رحلاته على نفسه عودته في نيسان 1990 إلى الاتّحاد السوفييتي، حيث كان السيّد فروتن قادرًا، بعد انهيار الشيوعية، على العودة إلى الكثير من المواقع التي زارها في شبابه، كما وعده حضرة وليّ أمر الله. في هذه الرحلة قام بزيارة البهائيين في ثماني مدن عبر أربع جمهوريّات من الجنوب إلى الشمال، وحضر المؤتمر المنعقد لإعادة انتخاب المحفل الروحاني المحلّي في موسكو، والذي كان قد انحلّ قبل أكثر من خمسين سنة. في عام 1991 زار موسكو مرّة أخرى، لتمثيل بيت العدل الأعظم في انتخاب المحفل الروحاني المركزي للاتّحاد السوفييتي. في عام 1992 سافر إلى تالين وبودابست لتمثيل بيت العدل الأعظم في مؤتمر الوكلاء المركزي الأول لكلّ من «جمهوريّات البلطيق» والمجر.
كان السيّد فروتن يتحدّث في خمس لغات، ونشر العديد من الأعمال حول تربية وتعليم الأطفال. من بين مؤلّفاته «مبادئ التربية والتعليم»، «مقالات علمية»، «لمحة على التاريخ» و«قصّة قلبي». وكتابه الذي اكتسب شعبية واسعة، «أمّهات، آباء وأطفال» هو ترجمة لكتاب «مقالات في التربية والتعليم» وفي عام 1991 نُشر باللغة الروسية. كما قام بتجميع «قصص عن حضرة بهاءالله».
ولمّا طُلب منه التعليق على تلك الفلسفات التي تشير إلى أنّ ظروف المرء، سواء كانت جيّدة أم سيّئة، هي نتيجة توقّعاته أو مخاوفه، كتب السيّد فروتن:
وفقًا لقواعد علم النفس، فإنّ معتقدات الفرد وأفكاره تشكّل الأساس الرئيس لسلوكه وتصرّفه – ما يعني أنّ أفعاله هي مظاهر معتقداته. وبالتالي، فإنّه يتعيّن على كلّ مؤمن أن يعلم ما الذي حثّ عليه المظهر الإلهي ليفعله، وما الذي نهى عنه. لفهم هذا الهدف وتحقيقه، فكّرتُ دائمًا في آيتين من الكتاب الأقدس – مرّة عندما كنت طالبًا شابًّا في جامعة موسكو محاطًا بالملحدين واللاأدريين، والآن وقد دخلت مرحلة الشيخوخة. والآيتان هما:
«اتلوا آيات الله في كلّ صباح ومساء إنّ الذي لم يتل لم يوف بعهد الله وميثاقه والذي أعرض عنها اليوم إنّه ممّن أعرض عن الله في أزل الآزال…» (الكتاب الأقدس، الفقرة 149).
«اقرئوا الألواح لتعرفوا ما هو المقصود في كتب الله العزيز الوهّاب.» (الكتاب الأقدس، الفقرة 36)
أنا دائمًا أذكر هذا في ملتقياتي مع البهائيين، وأشير خصوصًا إلى هذه النقطة للشباب، بأنّه يجب علينا أن نتصرّف وفقًا لهذه التعليمات المباركة حتى لا نحيد عن الصراط المستقيم، وحتى لا نقع في شِرك فلسفات غير مرغوبة.(11)
سعى السيّد فروتن طوال حياته لخدمة الجامعة البهائية. وخلال السنوات الأخيرة من حياته كان يتّبع برنامجًا مضغوطًا من الأنشطة في المركز العالمي، بما في ذلك اجتماعات دورية مع الحجّاج. وقد وافته المنيّة في يوم العهد والميثاق (26 تشرين الثاني) 2003 في مركز استقبال الحجّاج في حيفا، ودفن في الروضة الأبدية في حيفا.
أعلن بيت العدل الأعظم عن وفاته في الرسالة التالية:
بمشاعر عميقة من لوعة الفقدان، نعلن نبأ وفاة أيادي أمر الله المحبوب علي أكبر فروتن مساء أمس، يوم العهد والميثاق. فبعد أن خاطب جمعًا من الحجّاج كعادته، وتوقّف لتبادل بضع كلمات مع بعض الأحبّاء المتحدّثين بالروسية؛ عندئذ وبينما كان يغادر الغرفة، توقّف قلبه. وهكذا حقّق توقه لخدمة أمر الله حتى النفس الأخير من حياته.
ولد جناب علي أكبر فروتن في سبزوار في إيران، في 29 نيسان 1905، وانتقل مع عائلته إلى عشق آباد فيما كان يعرف آنذاك بتركستان الروسية، وخلال السنوات التي قضاها في المدرسة والجامعة، شارك بنشاط في عمل الجامعات البهائية في عشق آباد وباكو وموسكو ومناطق أخرى من روسيا. في عام 1930 طُرد من الاتّحاد السوفييتي لإفراطه في الأنشطة البهائية، ومنذ ذلك الوقت، قام بدور أكثر أهمّية من أيّ وقت مضى في أعمال الجامعة البهائية في إيران وشؤونها الإدارية. في كانون الأوّل 1951 كان من بين أوّل من عيّنهم حضرة شوقي أفندي أيادي أمر الله. بعد صعود حضرة وليّ أمر الله، كان واحدًا من الأيادي التسعة الذين اختارهم حضرات الأيادي في أوّل اجتماع رسمي لهم، للخدمة كأمناء مقيمين في الأرض الأقدس. وفي السنوات الستّ والأربعين الأخيرة من حياته عمل بلا كلل في المركز العالمي، وقام برحلات إلى شتّى أنحاء العالم، مقدّمًا المساعدة وناصحًا وباعثًا الحماس في نفوس الأحبّاء ومؤسّساتهم المركزية والمحلّية. وتوّجت رحلاته تلك في عامَي 1990، 1991 بزيارة الجامعات البهائية التي أعيد تأسيسها حديثًا في بلدان الاتّحاد السوفييتي.
إنّ إخلاص جناب علي أكبر فروتن لأمر الله ووليّه، ودوره الحيوي في إرساء دعائم النظام الإداري في إيران، ومساهمته في التربية الروحانية والمادّية للأطفال، وخدماته كأيادي أمر الله، ودعمه الدؤوب لبيت العدل الأعظم تشكّل معًا سجلاًّ خالدًا من الخدمة في تاريخ أمر الله. ففكره الثاقب، واهتمامه المفعم بالمحبّة، وما تمتّع به من روح الفكاهة المتألّقة هي ذكريات لا تمحى من قلوب الآلاف من المؤمنين الذين تحدّث إليهم.
وفي دعائنا في المقامات المقدّسة من أجل ترقّي روح علي أكبر فروتن النورانية في الملكوت الأبهى، نتضرّع إلى حضرة بهاءالله أن يبارك بالمثل إثمار البذور التي زرعها في هذا العالم. نتقدّم بتعازينا الحارّة الحبّية إلى بنتيه، إيران مهاجر وپروين فروتن، وإلى حفيداته، وإلى جميع أعضاء أسرته. ونوصي الأحبّاء في جميع الأقطار بإحياء ذكرى وفاته وعقد مجالس تذكّر في جميع مشارق الأذكار تكريمًا له.(12)

1.
Quoted in Furútan, Story of My Heart, pp. 22–3, as revised by Mr Furútan in his review of this article.
2.
Cited in ibid. pp. 37–8 as revised by Mr Furútan in his review of this article.
3.
Cited in ibid. pp. 44–5 as revised by Mr Furútan in his review of this article.
4.
المصدر السابق، الصفحتان 58–59.
5.
المصدر السابق، الصفحة 82.
6.
المصدر السابق، الصفحة 127.
7.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 287.
8.
المصدر السابق.
9.
Furútan, Story of My Heart, p. 142.
10.
المصدر السابق، الصفحتان 145–146. والمقتطف في الآخر من «لوح مقصود».
11.
Letter to the author.
12.
Bahá’í World 2003–2004, p. 229–30.

1896 – 1989 أوغو جياكري

Hand of the Cause of God Ugo Giachery (1896-1989)

كان أوغو جياكري من مواليد باليرمو في صقلية. ولد يوم 13 أيّار، قبل أربع سنوات من بداية القرن العشرين. وفي طفولته اختبرّ نفوذ الكنيسة وتأثيرها في هذا البلد الكاثوليكي، وفي وقت متأخّر من حياته كان لا يزال يتذكّر ذكريات الطفولة لمشهد المهد في وقت عيد ميلاد السيّد المسيح: «سرير الطفل يسوع… محاطًا بملائكة من الطين وتماثيل شخصيّات من الرجال الوجلين والحيوانات والأشجار والزهور والشموع المشتعلة، والموسيقى الصادرة من جرس ميكانيكي، مكرّرًا لحنًا ملائكيًا مرارًا وتكرارًا.»(1)

وكونه أرستقراطيًا بالمعنى الحرفي للكلمة، طوّر أوغو جياكري في شبابه إدراكًا وتقديرًا للبستنة من عمال الحدائق في أملاك عائلته في صقلية. فكان علمه ومعرفته بهذه الهواية أن أفضى بعد سنوات، إلى سرور حضرة وليّ أمر الدين البهائي عندما أبدعا معًا أفكارًا للحدائق في المركز البهائي العالمي. ولمّا كان المناخ والنباتات في أملاك جياكري مماثلة لتلك التي في الأرض الأقدس، تمكّن الدكتور جياكري بوجه خاصّ من إدراك ما تصوّره حضرة وليّ أمر الله لتلك الحدائق.

خلال شبابه درس الدكتور جياكري اللغة الإنجليزية، وهي لغة وصفها بأنّها توفّر حرّية التعبير والتأثير في مجرى حياته. في سنّ المراهقة، حثّه مدرس للغة الإنجليزية، كان معجبًا به للغاية، على قراءة أعمال شكسبير وبايرون وشيلي. ونتيجة لذلك، كما قال، تأجّج تحيّزه لتلك اللغة.

وصف أوغو جياكري ذات مرّة تعليمه بأنّه استند أساسًا على الثقافتين اليونانية والرومانية، وتذكّر كيف أنّه في طفولته، افتتن بما أخبره مدرّس مثقّف من حكايات الأساطير اليونانية. وقد حصل على ثلاث شهادات: اثنتان من المعهد الملكي الفنّي في باليرمو، والثالثة دكتوراة في الكيمياء من جامعة باليرمو الملكية. وعندما كان شابًّا خدم أيضًا ضمن حرس ملك إيطاليا من رماة القنابل.

لعدّة سنوات درّس الدكتور جياكري الكيمياء على مستوى الجامعة وأجرى بحوثًا في مجال الكيمياء غير العضوية والمعادن. وكان مهتمًّا أيضًا بمجال الخدمات المصرفية الخارجية والتجارة السياحية. وعمل لعقدين من الزمن على تطوير السفر السياحي إلى جميع القارّات. وكانت هوايته علم الآثار، الذي حاضر فيه على نطاق واسع.

كان خلال فترة عمله في وكالة سياحية في إيطاليا، أن التقى الدكتور جياكري باثنتين من البهائيات، السيّدة لولي ماثيوز وابنتها واندن وقد سافروا معًا إلى الولايات المتّحدة في أيلول 1924.

وبينما كان في الولايات المتّحدة التقى الدكتور جياكري بمن أصبحت زوجته الحبيبة، أنجلين وسترجرين، من خلال أصدقاء مُشتَرَكين. وكانت أنجلين مواطنة من السويد من أقرباء العائلة المالكة، وقد تلقّت تعليمها في موطنها وفي إنجلترا. وكانت تعشق الرياضيّات والفنون الحرّة، والأدب والشعر. وعندما كانت طفلة صغيرة درست الموسيقى وأصبحت عازفة كمان بارعة. وأثناء وجودها في بوسطن في بداية عشرينيات القرن تعرّفت على الدين البهائي. فاعتنقته على الفور بكلّ إخلاص وصدق، وخدمته بحماس رائع. أمضت الكثير من الوقت مع أولئك المؤمنين الأوائل الذين كانوا في محضر حضرة عبدالبهاء ودوّنت ملاحظات دقيقة عن تجاربهم.

كان أوغو جياكري مخلصًا تمامًا لأنجلين. وقد تزوّجا في مدينة نيويورك يوم 24 شباط 1926. أصبح الدكتور جياكري بهائيًا إمّا قبل أو بعد فترة وجيزة من زواجه. واستقرّ الزوجان جياكري في نيويورك. وقد كتب الدكتور جياكري أنّ أنجيلين رتّبت حفلات موسيقية بهدف جذب أصحاب النفوذ إلى أمر الله. وفتحت بيتها للباحثين عن الحقيقة وفتحت القلوب ‘ببلاغتها الشجية’.(2) وكان الدكتور جياكري نفسه بهائيًا نشطًا منذ البداية، حيث خدم كرئيس للجنة التبليغ في ولاية نيويورك وأمين لصندوق المحفل الروحاني المحلّي لمدينة نيويورك. وحتى في وقت مبكر من عام 1924 أصبح أوغو جياكري مدركًا للمكانة الروحانية السامية لحضرة وليّ أمر الله من خلال رسائل حضرته المكتوبة بلغة إنجليزية مهيبة. وإذ كشف عن شغفه الخاصّ بتلك اللغة، وصف الدكتور جياكري كتابات حضرة شوقي أفندي كما يلي:

عندما ظهرت أولى رسائل حضرة شوقي أفندي، لتتبعها سريعًا تراجمه للكتابات المقدّسة، كان من الواضح أنّ أسلوبًا جديدًا قد أزهر وأينع، ومعيارًا جديدًا قد تأسّس وترسّخ، وتوازنًا مثاليًا قد تحقّق بين اللغتين الشرقيتين الشعريتين المنمّقتين للنصوص الأصلية والتعابير العقلانية الغربية. أتذكّر قضاء ساعات طويلة في القراءة أعيش فيها بكلّ كلمة، وأشعر بفرحة كونها جزءًا من حقيقة ما تعكس عالم الغيب المجهول لمعظم البشر حتى الآن.(3)

حقّق حضرة شوقي أفندي ككاتب درجة من العبقرية لا يمكن لأحد بلوغها. فكان يتعامل مع الموضوع غير المادّي بطريقة لا يمكن لكاتب آخر مجاراتها… اخترق قلمه أبعد حالات المشاعر الإنسانية، ليجلب الدموع إلى العيون ويعتصر القلب بمجموعة متنوّعة من المشاعر الجديدة. وعلاوة على ذلك، فقد بلغ في تراجمه أسلوبًا في استخدام اللغة الإنجليزية كان أسمى شكل من أشكال الملاحم. لأنّ حياته امتزجت بالتضحية والمعاناة ونكران الذات، وأصبح عقله قناة نقية للروح؛ فكان بإمكانه أن يترجم في إيقاعات وافرة وعبارات متقنة، أسرار العقل الباطن في تدفّق للإلهام الذي انهمر من مصادر إلهية.(4)

وقد كافح الدكتور جياكري نفسه في ترجمة الكتابات المقدّسة الرئيسة في أمر الله إلى الإيطالية. واعتقد أنّ الترجمة فنّ يتطلّب المعرفة والخيال والتمكّن من اللغتين من أجل الإبقاء على أسلوب النصّ الأصلي وشكله وطبيعته. هذا أمر صعب خاصّة في الحالات التي تكون فيها اللغتان مختلفتين في التراكيب النحوية المختلفة أو أنّهما تفتقران لبعض الكلمات المتطابقة. وبالتالي توجّه أوّلاً إلى مهمّة أسهل نوعًا ما. ففي عام 1946، وبمساعدة من أنجلين، ترجم كتاب إسلمنت «بهاءالله والعصر الجديد» إلى الإيطالية.

في عام 1946 أطلق حضرة شوقي أفندي خطّة السبع سنوات الثانية لأمريكا الشمالية، جاعلاً انتشار الدين البهائي في أوروبا هدفًا رئيسًا لها. فقرّر الزوجان جياكري بيع منزلهما في نيويورك والاستقرار في روما كمهاجرين، وأبحرا إلى أوروبا في شباط 1947.

شعرت أنجلين خاصّة بالأسى بسبب الظروف التي وجداها في روما، التي احتُلّت مؤخّرًا من قبل قوّات الحلفاء. كان البؤس والدمار منتشرين على نطاق واسع في إيطاليا، وكان هناك العديد من الأطفال يلفحهم البرد والجوع يعيشون في الشوارع. ومع ذلك فقد ابتهج الزوجان جياكري إلى حدّ كبير من البرقية المشجّعة من حضرة وليّ أمر الله: ‘دعائي لاستمطار البركات الموفورة للمهمّة النبيلة.’(5) في رضوان عام 1948 تمّ انتخاب أوّل محفل روحاني محلّي في روما. فطلب حضرة شوقي أفندي صورة لأعضاء هذا المحفل، ورتّب لصنع إطار لها، ووضعها على رأس سريره في الغرفة التي كان يشغلها كلّما بات ليلة في قصر البهجة.

ومن خلال ما أسماه «محاسن الصُّدَف»(6) بدأ الدكتور جياكري علاقة عمل مع حضرة شوقي أفندي فور وصوله إلى إيطاليا تقريبًا. ورغم أنّه كان «غير معروف تقريبًا»(7) لحضرة وليّ أمر الله، فقد أوكل حضرة شوقي أفندي إليه مسؤولية تأمين الرخام المنحوت وغيره من المواد للهيكل الخارجي لمقام حضرة الباب، الذي كان في بداية بنائه. وهكذا بدأ ارتباط لمدّة تسع سنوات، عمل خلالها الدكتور جياكري عن كثب مع حضرة شوقي أفندي في ذلك المشروع وغيره من المشاريع. وكتب بعد سنوات ‘كانت أعظم هدية تلقّيتها من العلي القدير خلال حياتي’

كان شرف الارتباط الوثيق مع حضرة شوقي أفندي لعدد من السنوات. لن تقدر الكلمات أبدًا على وصف عمق تفانيّ ومحبّتي لحضرته، ولا وصف التحوّل الذي ملكني تحت تأثير مودّته الدافئة؛ تأثير غيّر شخصيّتي ونظرتي للحياة وعاداتي، وفتح عينَيْ أمام مشهد لا ينتهي من تطلّعات وآفاق جديدة.(8)

كان اختيار موقع مقام حضرة الباب قد تمّ من قبل حضرة بهاءالله حيث لفت نظر ابنه الأكبر إليه في إحدى زياراته لجبل الكرمل في أواخر أيّام حياته. في عام 1899 وصل الرفات المختلط الممزّق لحضرة الباب ورفيقه في الاستشهاد، ميرزا محمّد علي الزنوزي، الأنيس، إلى عكّاء عبر طريق غير مباشر من إيران، بعد أن سلم طيلة خمسين سنة قمرية من الإخفاء في ظروف خطيرة مقلقة. في العام نفسه، وضع حضرة عبدالبهاء حجر الأساس لهذا الصرح الذي سيحتضن رفات حضرة الباب، الصرح الذي سيشرف حضرته على بنائه خلال السنوات العشر التالية.

خلال تلك السنوات، أخّر الناقضون أعمال حضرة عبدالبهاء وقاوم البيروقراطيون الحكوميون حضرته وعوّقت الظروف جهوده لاستكمال المهمّة التاريخية الموكلة إليه من والده المحبوب، ممّا جعله يصرخ، «رفعتُ كلّ حجر في ذلك البناء وكلّ حجر في تلك الطريق بدموع لا نهاية لها وجهد لا حدّ له ووضعته في مكانه.(9) وأخيرًا، في نوروز عام 1909، تمكّن، بيديه الكريمتين، من وضع النعش الخشبي، الذي يحتوي الرفات المقدّس، في تابوت من الرخام. وبعد سنوات كتب حضرة شوقي أفندي، وكان آنذاك في سنّ الثانية عشرة عندما شهد هذا الحدث المؤثر، ما يلي:

فلمّا انتهى كلّ شيء وأودع بعد أمد طويل رفات المظهر الإلهي الشيرازي الشهيد مقرّه الأخير في صدر جبل الله المقدّس خلع حضرة عبدالبهاء عمامته، وخلع نعليه، ونزع عباءته وركع بين يدَيْ التابوت وكان ما زال مفتوحًا، وشعره الفضّي يتماوج حول رأسه وأسارير وجهه تتألّق بالبِشر، ثم استراح بجبينه على حافّة التابوت الخشبي، وشهق شهيقًا عاليًا ثم بكى بكاء أبكى من كان حوله.(10)

مرّت عدّة سنوات قبل أن يشعر حضرة شوقي أفندي أنّ الوقت ملائم لإقامة البناء الفوقي حول الصرح الأصلي وفقًا لتعليمات حضرة عبدالبهاء. في عام 1915 ذكر حضرة عبدالبهاء لأحد الحجّاج، ‘سوف يرتفع المقام الأعلى لحضرة الباب بطراز هو الأجمل والأجلّ.’(11) في عام 1928 بدأ حضرة شوقي أفندي بحفر الصخر خلف المقام الأعلى، ثم بُنيت ثلاث غرف بجانب الغرف الستّ الأصلية التي أكملها المولى. في وسط البناء المربع استقرّ رفات حضرة الباب. توخّى حضرته [المولى] إقامة رواق مهيب حول البناء. في عام 1942 طلب حضرة شوقي أفندي من سذرلاند ماكسويل تصميم الرواق والقبّة. بعد سنتين تمّ الانتهاء من عمل مجسّم للبناء المقترح وأُعلمت الجامعة البهائية الأمريكية بنيّة حضرة وليّ أمر الله إكمال المقام بأسرع ما تسمح به الظروف.

أوكل حضرة شوقي أفندي إلى وليام سذرلاند ماكسويل مهمّة تحديد المواد المناسبة والحرفيين لبناء المقام. وإذ كان غير قادر على إبرام أيّة عقود في فلسطين بسبب حرب الاستقلال المستعرة آنذاك، ذهب السيّد ماكسويل إلى إيطاليا آملاً التعاقد مع شركة في كارّارا لتوريد أعمدة من الغرانيت للرواق. في رسالة الى أوغو جياكري بتاريخ 6 نيسان 1948، طلب منه حضرة وليّ أمر الله، بواسطة روحية خانم، مساعدة السيّد ماكسويل في التعامل مع الشركات الإيطالية.

وإذ شعر الدكتور جياكري أنّ وجوده في إيطاليا في هذا الوقت من الحاجة الملحّة كان بفعل العناية الإلهية، فقد التقى السيّد ماكسويل بعد نحو عشرة أيّام. وتمكّنّا معًا من تحديد أفضل أنواع الرخام للرواق وإبرام العقود اللازمة. وبذلك تأسّست علاقة وثيقة بين السيّد ماكسويل، المفوّض من حضرة وليّ أمر الله، والمهندسين المعماريين والخبراء الفنّيين في شركة المقاولات. وكان دور الدكتور جياكري ‘أن يكون بمثابة الممثّل الشخصي لحضرة وليّ أمر الله لاختيار المواد، والإشراف على نحتها الفنّي، والعمل على تعبئة المواد المكتملة وتغليفها وشحنها، وكذلك تأمينها، وأن يكون وكيل التخليص المكلّف بمتابعة البريد الضخم وتبادل البيانات الفنّية.’(12)

على مدى السنوات الخمس التالية كانت مساهمة أوغو جياكري في العمل في بناء المقام مساهمة مذهلة، ولكنّ الصعوبات التي واجهها كانت هائلة. فكان انتهاء الانتداب البريطاني في عام 1948 قد أثار هجرة جماعية لِما يقرب من جميع الحرفيين الفلسطينيين، فتوجّه نظر حضرة وليّ أمر الله إلى إيطاليا لجلب المواد والحرفيين. إلاّ أنّ الخدمات العامّة في إيطاليا كانت شبه معدومة؛ فقد تضرّرت السكك الحديدية بشدّة. ودُمرت عربات السكك غير المقطورة أو صودرت؛ وكان الشحن في حالة جمود؛ والملايين من السكّان الذكور لا يزالون أسرى الحرب في كلّ قارّة تقريبًا؛ وروما ما زالت محتلّة من قبل قوّات الحلفاء؛ والتعويضات المدفوعة إلى دول الحلفاء كانت مذهلة؛ وكان الغذاء والكهرباء والماء إمّا عرضة للتقنين أو غير متوفّرين. بطبيعة الحال، كانت القوّة الصناعية في البلاد موجّهة إلى إعادة البناء وليس للمشاريع الخارجية. وكان الطلب على مواد البناء في إيطاليا نفسها قد وصل درجة يكاد يكون من المستحيل الحصول عليها للتصدير، وكلّ مادّة – بما فيها الإسمنت والصلب والخشب والمسامير والأسلاك والأنابيب، والطلاء، والمفاتيح الكهربائية والقوالب – كان يلزمها الحصول على رخصة تصدرها وزارة الصناعة والتجارة. وكانت الإجراءات الطويلة اللازمة للحصول على هذه التراخيص، وموافقة وزارتَي التجارة الخارجية والمالية، تستغرق ساعات عديدة ينتظر خلالها الدكتور جياكري في مكاتب مختلفة في جميع أنحاء روما، ويملأ أعدادًا كبيرة من النماذج.(13) كانت المساحة المطلوبة للشحن غير متوفّرة تقريبًا، ومياه البحار لا تزال مزروعة بالألغام، وغالبًا ما صودر الشحن قبالة شواطئ الأرض الأقدس من جانب سفن حربية معادية.

في اقتصاد إيطاليا المنهار بحث أوغو جياكري عن مقالع الحجارة التي تلبّي احتياجات سذرلاند ماكسويل والتي لم تُفجر الطرق المؤدّية إليها من قبل العدو المتراجع، فترجم بدقّة المناقشات التي جرت باللغتين الإنجليزية والإيطالية، ونسخ رسومًا وخططًا ونقل بدقّة عددًا لا يحصى من التفاصيل الفنّية والشروط إلى المركز العالمي في وقت كانت فيه وسائل الاتّصال مع الأرض الأقدس غير مضمونة. وفضلاً عن مواجهة كلّ هذه الصعوبات، كان يتعرّض بانتظام للمضايقة من قبل الشرطة لكونه بهائيًا.

كما حدثت أزمات غير متوقّعة أيضًا. فقد حدّد الجفاف في عام 1949 الطاقة الكهربائية الصناعية إلى ثلاثة أيّام عمل من كلّ أسبوع، مقلّصًا استخدام الثاقبات الهوائية الكبيرة والأزاميل والمناشير القاطعة. كما توفّي شريك في شركة المقاولات الرئيسة بشكل غير متوقّع. ولم تصل البواخر كما كان مقرّرًا، تاركة البضائع المتّجهة إلى الأرض الأقدس على رصيف الميناء لأيّام وأيّام. وأجبر زلزالٌ اجلاءَ سكّان بلدة ساحلية بأكملها، دون ترك أحد لتحميل السفينة. وارتعب ربّان سفينة أخرى من طائرة محلّقة بينما كان يجري تفريغ حمولتها من البضائع في حيفا، وعاد على عجل الى إيطاليا ونصف البضائع لا تزال على متنها. كما اندلع حريق في باخرة أخرى. ومن سفينة أخرى سقط صندل بحمولة كاملة من الحجارة إلى قاع البحر في ميناء حيفا. وفي وقت لاحق، وافت المنيّة وليام س. ماكسويل، المهندس المعماري، في عام 1952.

رغم هذه العقبات الهائلة، أشرف الدكتور جياكري على تحقيق نهاية ناجحة للعمل الذي تمّ على أيدي عشرات الرجال والحرفيين الذين حملوا أطنانًا من الرخام والغرانيت والأعمدة المنحوتة، والأعمدة المتوَّجة، وتيجان الأعمدة، وألواح الزجاج الملوّن، وأقواس الأروقة والجدران، والزوايا الضخمة، والأفاريز ولوحات درابزين جُهّزت جميعها للشحن في ما وُصف بأنّه أكبر مبنى جاهز في أيّ وقت مضى ينتقل من القارّة الأوروبية إلى أيّ نقطة أخرى في العالم. تطلّب الأمر سبع عشرة باخرة مختلفة على مدى تسعة عشر شهرًا لشحن ما يقرب من ثمانمائة طن من المواد الجاهزة في ألف وثمانمائة حاوية خشبية. ونُقلت خلال هذه الفترة (4587) قطعة جاهزة من إيطاليا إلى جبل الكرمل.(14)

ونظرًا للظروف السياسية والاقتصادية غير المستقرّة في الأرض الأقدس، كانت خطّة حضرة وليّ أمر الله الأصلية تقضي بإكمال رواق المقام فقط، في الوقت المناسب للاحتفال بالذكرى المئوية لاستشهاد حضرة الباب في عام 1950. ومع ذلك، فإنّ جمال الرواق وهو يتكشّف على جبل الكرمل قد حرّك حضرته للانتهاء من البناء الفوقي بأكمله. لذا بعث حضرته، في اليوم الأوّل من أيلول 1950 برقية الى الدكتور جياكري يطلب تقدير التكلفة والوقت لاستكمال المثمّن. وقد تمّ في نهاية المطاف توقيع عقد في روما، يوم 21 تشرين الأوّل، لشراء رخام كيامبو الذي سيُنحت منه المثمّن.

وحالما بدأ قطع الحجر ونحته تقرّر أنّ الضريح الداخلي الأصلي لن يدعم المثمّن والاسطوانة والقبّة، التي كان وزنها مجتمعة يقدّر بنحو ألف طن. وقد طُلب من أوغو جياكري توفير مائة ألف رطل من الإسمنت وثمانية أنابيب مانسمان ضخمة – أعمدة جوفاء من الصلب ارتفاعها خمسة عشر قدمًا وعرضها قدم واحد – بحيث يجري إنزال ثمانية ركائز ضخمة من خلال الضريح الأصلي إلى قلب الصخر. بعد العديد من الصعوبات الناشئة عن الأنظمة الحكومية الإيطالية، تمكّن الدكتور جياكري في نهاية المطاف من إرسال هذه المواد إلى حيفا على متن سفينتين في نيسان 1951.

وفي تلك الأثناء طلب حضرة شوقي أفندي من الدكتور جياكري تزويده بالمزيد من التقديرات لاستكمال الاسطوانة والقبّة، وإبرام العقود للحصول على درابزين جميل من الحديد المطاوع للمثمّن، وإطارات النوافذ الحديدية، وزجاج النوافذ الملون، وباب من البلّوط مع شبك من الحديد المطاوع، ونحو (12٫000) بلاطة بخمسين حجمًا مختلفًا للقبّة، وذهبٍ لتغطية البلاط، وتزيين الشرفات خارج الضريح، وأعمدة الإنارة وبوّابات حديدية ذات تصميم فنّي. وكان إجمالي الحمولات من إيطاليا قد ارتفع الآن إلى ألف وستمائة طن.(15)

وبعد عدّة سنوات علّق أوغو جياكري على فترة الخمس سنوات التي استغرقها تشييد البناء الفوقي لمقام حضرة الباب، حيث كان خلالها، بطريقة أو أخرى، قادرًا على التغلب على الكثير من العقبات من أجل تنفيذ تعليمات حضرة شوقي أفندي في مواعيدها النهائية:

ما زلت متحيّرًا كيف أمكن الحصول على كلّ ما هو مطلوب وبكمّيّات كبيرة كتلك. أستطيع فقط القول إنّني كنت واثقًا تمامًا من القوّة التي تنبع من المركز العالمي لأمر الله؛ كنت أعرف أنّه إذا طلب حضرة وليّ أمر الله شيئًا، فقد تم حلّ تسعة أعشار المشكلة… لم أكن أُعلم حضرته عن العقبات، والعمل المرهق، والهمّ والغمّ للحصول على التراخيص، ولا عن ساعات عديدة من العمل المطلوب في كلّ يوم، شهرًا بعد شهر لنحو خمس سنوات. كنت مضطرًا إلى التحرّك بسرعة من وزارة إلى وزارة، من لجان إلى أفراد المسؤولين، جميعهم منتشرون في أنحاء مختلفة من روما، والانتظار لساعات طويلة في الأروقة، وملء استمارات وحتى دفع الرسوم مقدّمًا من أجل أن تتمّ دراسة الطلبات. وأنا واثق أنّ حضرة وليّ أمر الله كان يعرف جيّدًا مدى قلقي وهمومي وآلامي.(16)

كان حضرة وليّ أمر الله يعلم فعلاً مدى تفاني الدكتور جياكري في مهمّته والصعوبات التي واجهها في تنفيذها. بينما كان أوغو جياكري في رحلة حجّ في عام 1952، خاطبه حضرة شوقي أفندي والجالسين على مائدة الطعام قائلاً:

إنّ الخدمة التي تقدّمها لا تُقدّر بما فيه الكفاية في هذا اليوم، ولكن سيتمّ تقديرها بالكامل في المستقبل… لقد عملتَ لفترة طويلة لوحدك. ولا أحد يقدّر هذا أكثر منّي أنا. عندما تكون وحيدًا، يكون لديك مثل هذا الثقل الكبير لتحمله. لقد أدّيت لوحدك خدمة تاريخية لأمر الله.(17)

كتب الدكتور جياكري، الذي كان يشعر بالحرج من كلمات حضرة شوقي أفندي في الثناء والامتنان، أنّ حضرة وليّ أمر الله ‘كان دائمًا على استعداد للمواساة، شفاهة أو كتابة، والتشجيع والثناء والتحفيز لدرجة أنّ المرء يشعر بالحاجة لأن يضع تحت تصرّف حضرته حياته ووقته وممتلكاته ضمن نطاق إمكاناته.’(18)

تفتحت ‘محبّة أوغو جياكري لحضرة وليّ أمر الله… لتزهر تفانيًا ثابتًا غير محدود’(19) وشعر ‘برباط غامض متين لا تُفصم عُراه’ ‘أثّر فيه وهداه’ ‘في كافّة الأنشطة المتعدّدة’ التي طلب منه حضرة شوقي أفندي أداءها.(20) وقد تعلّم من حضرة وليّ أمر الله صفةً حقّقت انتصارات في فترات زمنية قصيرة بشكل مثير للدهشة:

كانت المثابرة واحدة من أنبل صفات حضرة شوقي أفندي، وقد علّمتني الكثير من الدروس. تعلّمت الكثير من حضرته في متابعة وإنجاز أيّ مهمّة معيّنة. فجزء من الطبيعة البشرية أن تستسلم عندما تفشل المحاولات في البداية؛ ولا يثابر سوى عدد قليل في مسعى عندما تكتنف المرء عقبات من كلّ الأنواع. كانت تعليمات حضرته لي، التوجّه دائمًا الى السلطات العليا، والسعي دائمًا إلى الأفضل، وإنجاز الأمور في أقصر وقت ممكن، والمثابرة في جميع الظروف، وقد أصبحت طبيعتي الثانية في حين كان لي شرف العمل من أجل أمر الله تحت قيادته الشخصية. في كلّ رسالة تقريبًا تلقّيتها من حضرته على مدى سنوات عديدة، كانت تتكرر كلمة «المثابرة». كان لها قوّة التعويذة بالنسبة لي…

لو أنّني أردت أن أروي كلّ الصعوبات، وبعضها لا يمكن التغلّب عليها تقريبًا، التي واجهتها خلال سنوات الإشراف على إنتاج الرخام المنحوت وغيره من المواد اللازمة لبناء مقام حضرة الباب ومحفظة الآثار العالمية، لكان لزامًا عليّ الكتابة على نحو مطوّل أكثر من ذلك. في كلّ حالة تقريبًا لم أكن أزعج حضرة وليّ أمر الله بهذه العقبات. بارتدائي درع المثابرة ويقيني بأنّ دعواته كانت تتبعني… كنت أعرف أنّ المستحيل يمكن أن يتحقّق.(21)

وإذ تفكّر مليًّا في تحدّي ترتيبات الشحن في عام 1948، عندما كانت السفن المتاحة قليلة جدًّا وكان الحيّز المتوفّر عليها غير كاف، وصف الدكتور جياكري السمة الأساسية وراء المثابرة. فكتب: ‘الإيمان فقط كان يمكنه أن يزيل الصعوبات.’ وأضاف: ‘لو أصابني الإحباط أو اليأس ولو للحظة وجيزة واحدة، لانقطعت هذه السلسلة الكاملة من الأحداث المذهلة. لم يساورنا الشكّ أبدًا تحت أكثر الظروف ضيقًا وإزعاجًا، شاعرين بالثقة بأنّ حلاًّ مناسبًا سيكون قريبًا في متناول اليد. كان هذا هو الدرس الذي تعلّمته في العمل مع حضرة شوقي أفندي.’(22)

وهكذا لم يكن الدكتور يمتلك الإيمان الذي مكنّه من إنجاز الكثير من الأمور الصعبة، والتفاني في الدين البهائي فحسب، بل كان أيضًا مخلصًا تمامًا لحضرة وليّ أمر الله، الذي كانت تربطه به علاقة عميقة. جعلته رؤيته للمستقبل طموحًا لتقدّم أمر الله، لكنّه لم يكن طموحًا لنفسه. في الواقع، حذّر البهائيين بأنّ الطموح الشخصي يمكن أن يدمّر الفرد.(23)

وفي قناعة حضرته بالانتصار النهائي لأمر حضرة بهاءالله صرّح حضرة شوقي أفندي ذات مساء إلى الدكتور جياكري والحجّاج الآخرين، ‘إذا كان لي أن أتأثّر بحالة الفوضى السائدة في العالم، لوقفتُ مكتوف الأيدي ولم أنجز شيئًا.’ وقد شعر أوغو جياكري أنّ هذا الإيمان غير المحدود لدى حضرة شوقي أفندي في انتصار الدين ‘زوّده بالقدرة على إنجاز الأمور التي تُعتبر وفقًا للمعايير الإنسانية في غاية الصعوبة، بل مستحيلة’.(24)

تلقّى الدكتور جياكري عشرات الرسائل من حضرة وليّ أمر الله قدّمت له الهداية والتشجيع والثناء والامتنان. ثم أبرق حضرة شوقي أفندي في كانون الأوّل 1951 إلى العالم البهائي أنّ أوغو جياكري عُيّن ضمن الكوكبة الأولى من أيادي أمر الله. وبعد بضعة أشهر، في آذار عام 1952، تمّ تعيين الدكتور جياكري عضوًا في المجلس البهائي العالمي. وأضيف تكريم آخر إليه عندما أعلن حضرة شوقي أفندي، في برقية إلى المؤتمر البيقارّي في نيودلهي، أنّه سمّى الباب على الجانب الغربي من مقام حضرة الباب «باب جياكري».

أشعر أنّي مدفوع للطلب من الحاضرين في المؤتمر عقد مجلس تذكّري للإشادة بأيادي أمر الله سذرلاند ماكسويل، المهندس المعماري الخالد المصمّم للرواق والبناء الفوقي للمقام الأعلى. علاوة على ذلك أشعر بضرورة الإقرار في الجلسة نفسها بالجهود التي لا تكلّ والمثابرة من قبل أيادي أمر الله أوغو جياكري، في التفاوض على العقود، ومعاينة جميع المواد المطلوبة وإرسالها لبناء الصرح، فضلاً عن الاجتهاد ودوام الاعتناء من قبل أيادي أمر الله ليروي آيواس في الإشراف على بناء كلّ من الاسطوانة والقبّة. وإلى البابَيْن للمقام اللذين جرت تسميتهما مؤخّرًا تكريمًا لأوّل اثنين من الأيادي المذكورَين آنفًا، فإنّ باب المثمّن المضاف الآن، سوف يسمّى من الآن فصاعدًا باسم الأيادي الثالث الذي ساهم في تشييد الصرح المقدّس الجليل.(25)

في شباط 1952 قام أوغو جياكري بأوّل حجّ له. وفي محضر حضرة شوقي أفندي، ملأه إحساس بالاستمرارية والأمان، وأنّ المسائل الطارئة تفقد أهمّيّتها، والعقبات الموجودة بداخله تتلاشى. شعر بإحساس جديد من الحرّية والمنظور الصحيح حيال الأشياء. على مدى أسابيع أحسّ أنّ حضرة وليّ أمر الله يقوم بتنويره بشأن كلّ موضوع يمكن أن يتصوّره العقل، فإدراك حضرته الروحاني كان مذهلاً ومعرفته هائلة.

في الشهر التالي، أشار حضرة شوقي أفندي بأنّه يريد استمرار خدمات أوغو جياكري بعد الانتهاء من تشييد مقام حضرة الباب. جلب هذا الخبر للدكتور جياكري الكثير من السعادة الداخلية، حيث تمنّى فقط المساعدة في تخفيف أعباء حضرة شوقي أفندي. وفي تكليفه الدكتور جياكري بشراء موادّ مثل الركائز، وكتل الرخام والأعمدة وأحواض الطيور لتجميل الحدائق في المركز العالمي، أخبر حضرة شوقي أفندي أوغو جياكري أنّ مقامًا عظيمًا بروعة لا توصف سيبنى في العقود المستقبلية للمظهر الكلّي الإلهي. أمّا المتطلّب الحالي فهو مجرّد تجميل ضريح حضرة بهاءالله.(26)

وبالتالي، قرب نهاية شهر نيسان 1952 بدأ حضرة شوقي أفندي بإدخال تحسينات جذرية على الأرض المحيطة بالمرقد المبارك في البهجة. وقد دُهش الدكتور جياكري من التغييرات التي أجريت في مثل ذلك الوقت القصير بتوجيه بارع من حضرة وليّ أمر الله. فخلال أسبوع واحد من العمل المكثّف تحوّلت الحدائق في البهجة من «بحر من الرمال» إلى «حديقة وجنّة ذات جمال لا يضاهى».(27) وفي وقت لاحق، تسلّم أوغو جياكري رسمًا من حضرة شوقي أفندي لباب جديد لضريح حضرة بهاءالله، مع طلب لوضع مخطّط بمقياس رسم والحصول على تقديرات لتكلفة العمل. وقد أنجزت هذه المهمّة على مدى عدّة أشهر. فأرسل حضرة شوقي أفندي وقد سُرّ من ‘بساطة الباب وتنفيذه المثالي وزخرفته الجميلة للغاية’، برقية إلى الدكتور جياكري يشكره على عمله، رسالة جلبت ‘الكثير من البهجة’ إلى قلبه.(28)

إلاّ أنّه خلال هذه الفترة نفسها، كان حضرة شوقي أفندي هدفًا لهجوم ناقضي العهد والميثاق، الذين سعوا لمنعه من المضيّ قدمًا في خططه لتجميل أراضي البهجة من خلال اتّخاذ إجراءات قانونية ضدّه ودعوته كشاهد في قضيّة تنظر فيها المحكمة. وبينما أخذت تتكشّف هذه الفترة المضطربة، شارك حضرة شوقي أفندي أوغو جياكري بتاريخ السلوك الغادر لناقضي العهد والميثاق. وإذ تألّم من المعاناة الواضحة لحضرة وليّ أمر الله من هذا الهجوم الأخير، فإنّ الدكتور جياكري

أصبح واعيًا بأنّ الميثاق الإلهي قد هوجم بشدّة من قبل أناس شيطانيين لا يرحمون، وأنّه في حين كانت غالبية المؤمنين في جميع أنحاء العالم غير مدركة لهذا الخطر المميت، كان حضرة شوقي أفندي، وحيدًا فريدًا، المُدافع عن الميثاق، ولا يحفظه سوى درع إيمانه بالله وميثاقه.(29)

وبينما أصغى أوغو جياكري، شرع حضرة شوقي أفندي 

بالدخول في تفاصيل الاستفزازات والمكائد الوحشية والعداء والتحدّي العلني، في بعض الأحيان وبالتحالف مع أعداء الأمر الخارجيين الألدّاء، للغرض الصريح المتمثّل في تدمير العهد والميثاق الإلهي، وهو جنون روحاني لوّث تقريبًا جميع الأعضاء الباقين على قيد الحياة من عائلة حضرة بهاءالله.(30)

اضطرّ الدكتور جياكري إلى كبح نفسه من احتضان حضرة شوقي أفندي بين ذراعيه، وكم تمنّى حماية حضرة وليّ أمر الله من مزيد من المعاناة والتأكيد لحضرته أنّ هناك الآلاف من المؤمنين الذين كانوا على استعداد لسفك دمائهم من أجله. في وقت لاحق، كان أوغو جياكري واحدًا من ثلاثة ممثّلين أرسلهم حضرة وليّ أمر الله إلى القدس لتقديم احتجاج لرئيس الوزراء بأنّ قضيّة المحكمة المتعلّقة بالبهجة كانت مسألة دينية بحتة. تكلّل هذا الالتماس بالنجاح وسُحب الموضوع من المحاكم المدنية. وهكذا ساعد الدكتور جياكري في منع المزيد من مكائد ناقضي العهد والميثاق.(31)

في تمّوز 1953 سافر الدكتور جياكري الى ستوكهولم لحضور المؤتمر البيقارّي كممثّل خاصّ لحضرة وليّ أمر الله، ‘حيث أنّه تشرّف بالارتباط المباشر بالمشاريع التي دشّنت حديثًا في المركز العالمي لأمر الله’.(32) حمل معه نسخة عن صورة صغيرة لحضرة الباب ليزورها البهائيون في المؤتمر التاريخي، ورسالة من حضرة شوقي أفندي توضّح طبيعة مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني العالمي والغرض منه، وحشد المشاركين وحثّهم على تنفيذ المهامّ التي تنتظرهم.

وبعد بضعة أشهر، في شهر تشرين الأوّل، سافر أوغو جياكري إلى المؤتمر البيقارّي في نيودلهي حاملاً رسمًا بالقلم والحبر للمبنى المستقبلي لمحفظة الآثار العالمية لعرضه على المشاركين. على مدى السنوات الأربع التالية كان يعمل على بناء ذلك المبنى، وإجراء العديد من المهامّ نفسها التي كان يؤدّيها في البناء الفوقي لمقام حضرة الباب. وفي وصفه حجم هذا المشروع، كتب ما يلي:

تطلّب استخدام سبعة عشر سفينة لحمل ما مجموعه ألف طن من الرخام المنحوت لمبنى محفظة الآثار من إيطاليا إلى حيفا. واستخدمت سفن أخرى لنقل الهياكل الفولاذية، والإسمنت، وبلاط الأرض والسقف، والخشب، والزجاج الملون والشفاف، وأطر النوافذ الحديدية الصغيرة والكبيرة، والورنيش والطلاء للداخل، والثريّات، والأسلاك الكهربائية وغيرها، والأبواب البرونزية للمدخل الرئيس والدهليز، وخشب البلّوط للدرابزينات، وقواعد للشرفات، وأعمدة الإنارة وأشياء أخرى كثيرة، مثل مصاعد السلاسل، والمسامير، وأنابيب الصرف. كان وزن «ثلث» كلّ عمود طُنّين، ووزن كلّ تاج عمود مع زخارفه الستّة طن واحد. وكان وزن بلاط السقف أربعين طنًّا معبّأً في (7200) صندوق من الورق المقوّى مع استخدام إضافي لِما يقرب من (25٫000) متر من الورق الشمعي في شرائط.(33)

كان حضرة شوقي أفندي لعدّة سنوات يتخيّل في ذهنه بناء مشرق أذكار على جبل الكرمل لتحقيق واحدة من أماني حضرة عبدالبهاء. وقد تمّ الانتهاء من إعداد تصميم له في أيّار 1952، وصُنع منه مجسّم خشبي في روما. ثم عُرض هذا المجسّم في مؤتمر شيكاغو البيقارّي لعام 1953 وبعد ذلك وُضع في القاعة الرئيسة لقصر البهجة، في انتظار اليوم الذي يمكن أن يشيّد فيه المعبد. خطّط حضرة شوقي أفندي لوضع علامة في منتصف الأرض المخصّصة لمشرق الأذكار وطلب من أوغو جياكري إبداء رأيه حول ما هو مناسب لذلك. فاقترح الدكتور جياكري مسلّة مثل التي استخدمها الرومان للاحتفال بالأحداث العظيمة. فأعجب حضرة وليّ أمر الله بهذه الفكرة وطلب من أوغو جياكري الإشراف على بنائها. على مدى الأشهر القليلة التالية صُنعت المسلّة في إيطاليا وشحن الدكتور جياكري أكثر من عشرين طنًّا من الرخام إلى الأرض الأقدس. إلاّ أنّ المشاكل مع الدول المجاورة حالت دون إقامة المسلّة حتى عام 1971، لأسباب أمنيّة.

في مناسبة حجّهما في كانون الأوّل 1954، دُعي الدكتور جياكري وأنجلين لمرافقة حضرة شوقي أفندي إلى موقع المعبد على جبل الكرمل. فقاموا هناك بالدعاء معًا وتصوّروا شكل بيت العبادة المستقبلي. في 25 كانون الأوّل، بعد سلسلة من أيّام لا تنسى في المركز العالمي، غادر الزوجان جياكري محضر حضرة شوقي أفندي للمرّة الأخيرة.

في يوم 4 تشرين الثاني 1957، طار صواب أوغو جياكري وخارت قواه جراء اتّصال هاتفي في وقت مبكر من بعد الظهر من أمة البهاء روحية خانم، تبلغه بأنّ حضرة وليّ أمر الله قد توفّي. فتمكّن من الحصول على مقعد في طائرة من روما إلى لندن فورًا، والانضمام إلى روحية خانم، حسن باليوزي، وجون فيرابي في حظيرة القدس. في الأيّام اللاحقة، ساعد في اختيار المقبرة، وبقعة للدفن وتابوت مناسب. وقام مع روحية خانم وحسن باليوزي بتسجيل وفاة حضرة شوقي أفندي رسميًا. واستُخدم عطر الورد الذي أعطاه حضرة شوقي أفندي لجياكري في وقت سابق، لتعطير جثمان حضرة وليّ أمر الله، ووُضع في فم حضرته حجر خاتم بهائي [بالاسم الأعظم] الذي كان يحمله في جيبه. وسهر الدكتور جياكري مع زملائه الأيادي حول النعش. في مراسم الجنازة، أحسّ قلبه يدق إلى درجة الانهيار.(34)

قرّرت روحية خانم أنّ أنسب نصب تذكاري لمرقد حضرة شوقي أفندي هو عمود من الرخام. فدعي الدكتور جياكري للإشراف على إعداد الرخام وغيره من المواد اللازمة للنصب. وفي الأثناء، اشترت روحية خانم حجر دوفر ليشيَّد به سور يحيط ببقعة الأرض التي سيقام عليها النصب، فضلاً عن الجِرار الحجرية وبوابة حديدية ضخمة للمدخل. في تشرين الأوّل 1958 أشرفت على تشييد المرقد.

في عام 1957 كان أوغو جياكري قد أتمّ عامه الستّين. تسع سنوات من خدمة حضرة وليّ أمر الله والتعاون الوثيق مع آية الله على الأرض قد أتت فجأة إلى نهايتها. ولمّا كان رجلاً متواضعًا، فقد كان متردّدًا في ذكر خدماته الجليلة الخاصّة، واختار بدلاً من ذلك أن يثبّت عينيه على حضرة وليّ أمر الله الذي أحبّه جدًّا: وليّ الأمر الذي، فضلاً عن استدعائه للمساعدة في المشاريع في المركز العالمي، قد طلب مساعدته في اختيار موقع لأوّل مشرق أذكار في إيطاليا، وتمثيله في المؤتمرات البيقارّية في ستوكهولم وفي نيودلهي في عام 1953، والذهاب إلى إيران بعد تلك المؤتمرات من أجل تشجيع المحافل الروحانية والأفراد لتحقيق أهداف مشروع الجهاد الروحاني العالمي، واتّخاذ خطوات تهدف إلى تشكيل أوّل محفل روحاني مركزي للبهائيين في إيطاليا وسويسرا، وتلقّي التبرّعات للصندوق البهائي القارّي الأوروبي، وتولّي رئاسة لجنة الاستئناف الدولية للأمم المتّحدة فيما يتعلّق باضطهاد أمر الله في إيران في عام 1955، وتمثيل حضرته في مؤتمر الوكلاء المركزي لشبه جزيرة آيبيريا في عام 1957. وكما كانت باهرة خدماته تلك، وكما كانت قليلة توقّعاته في عام 1957، فلا زالت أمامه اثنتان وثلاثون سنة من العمل لأجل أمر الله يضعها تقدمة عند أقدام حضرة شوقي أفندي.

في أيّار 1958 مثّل الدكتور جياكري حضرة وليّ أمر الله في المؤتمر البيقارّي في شيكاغو وعرض شمائل كلّ من حضرة بهاءالله وحضرة الباب للمشاركين. في شهر تمّوز من العام نفسه حضر المؤتمر البيقارّي في فرانكفورت وفي العام التالي زار المراكز البهائية في شبه جزيرة آيبيريا، بنما، المكسيك، هندوراس البريطانية، هاييتي، جمهورية الدومينيكان، جامايكا، كوبا، بورتوريكو وجزر العذراء. في عام 1960 زار تلك البلدان نفسها فضلاً عن نيكاراغوا، غواتيمالا، كوستاريكا والولايات المتّحدة. وقد مثّل المركز العالمي في مؤتمرات الوكلاء المركزية لهاييتي وفنزويلا في عام 1961 وإيطاليا وسويسرا في عام 1962. (35) وكان عضوًا في المجلس البهائي العالمي حتى عام 1961، وخدم في منصب رئيس المحفل الروحاني المركزي لإيطاليا وسويسرا من عام 1953 حتى 1964، وكان رئيسًا لكلّ من المحفل الروحاني المحلّي في روما واللجنة المركزية للتبليغ في إيطاليا خلال هذه
السنوات.

عندما عاد الزوجان جياكري إلى أمريكا واستقرّا في ولاية كاليفورنيا في عام 1964، كان أوغو جياكري قادرًا على السفر في كثير من الأحيان إلى أمريكا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي. وسافر أيضًا إلى أوروبا، إندونيسيا، أستراليا، نيوزيلندا ومنطقة المحيط الهادئ. ومثّل المركز العالمي في مؤتمرات الوكلاء لجزر ليوارد وويندوارد والعذراء، وفي بليز، وفي أستراليا في عام 1967.

وكان خلال رحلته إلى منطقة المحيط الهادئ في عام 1967، أن سافر الدكتور جياكري إلى ساموا وقدّم «إعلان حضرة بهاءالله» إلى صاحب السموّ ماليتوا تانومافيلي الثاني في 27 تشرين الأوّل. أدّت المناقشات بين الرجلين إلى بحث وتحرّي ماليتوا عن الدين البهائي بشكل أوسع، وفي نهاية المطاف إلى تقبّله. عاد الدكتور جياكري إلى ساموا في عام 1968 لتأكيد ولاء ماليتوا لدين الله. ففي مقابلتين يومَي 16 كانون الثاني و 11 شباط أعلن سموّه إيمانه بحضرة بهاءالله وأبلغ الدكتور جياكري بيت العدل الأعظم، رغم أنّ الإعلان العامّ لم يصدر حتى آذار 1973.(36)

في 9 نيسان عام 1968، بناء على طلب بيت العدل الأعظم، قدّم الدكتور جياكري «إعلان حضرة بهاءالله» إلى الفاتيكان من خلال الكاردينال باولو موريلا في مدينة الفاتيكان. في آب من ذلك العام مثّل بيت العدل الأعظم في مؤتمر المحيطات في باليرمو، صقلية.

ألّف الدكتور جياكري العديد من المقالات عن الدين البهائي باللغتين الإنجليزية والإيطالية، وكتب مقالاً رائعًا بعنوان «إله واحد، حقيقة واحدة، شعب واحد» حيث قارن منشور البابا يوحنّا الثالث والعشرين لعام 1963 مع تعاليم حضرة بهاءالله، موضّحًا كيف يوازي المنشور مبادئ السلام التي أعلنها مؤسّس الدين البهائي.(37)

وفي الأثناء بدأت أنجلين، بعد أن انقطعت عن أصدقائها في إيطاليا بشكل مؤلم في عام 1964، أنشطة تبليغية مكثّفة، بما في ذلك عدّة جلسات «فايرسايد» ورحلات تبليغية أخذتها إلى أريزونا، أوريغون، واشنطن ويوكون. وقد سمّيت باسمها غرفة كبيرة تستخدم كمدرسة بهائية، تقع إلى الشمال من وايتهورس قادرة على استيعاب أربعين طالبًا، تكريمًا لها. في ألاسكا كسبت مودّة الهنود الحمر، وأسبغ شيوخ إحدى القبائل عليها لقب «أميرة قبيلة نسر تلينغيت». لقد أحبّت شعوب المناطق القطبية الشمالية من الكوكب، وزارت دول الشمال من فنلندا إلى ألاسكا.

في عام 1969 استقرّ أوغو وأنجلين جياكري في إمارة موناكو وتركّزت أنشطة الدكتور جياكري حول خمسة عشر دولة في أوروبا والشرق الأدنى. حضر في كلّ عام العديد من المدارس الصيفية الأوروبية، وغالبًا ما رافقته أنجلين. في عام 1975 زار إيران وفي عام 1976 رافق ماليتوا في زيارة إلى مرقد حضرة شوقي أفندي في لندن. في العام نفسه استمع إليه مائة وثلاثون من البهائيين وهو يتكلّم عن «ألواح الخطّة الإلهية» عند بحيرة غاردا، وحضر أيضًا المؤتمر التبليغي المركزي في فرنسا. قدّم التعاليم البهائية لفرانز جوزيف الثاني، أمير ليختنشتاين ومثّل بيت العدل الأعظم في المؤتمر الدولي في هلسنكي.

في عام 1975 أعلن بيت العدل الأعظم أنّ العمل سيبدأ قريبًا في بناء مقرّه على جبل الكرمل. وانهمك الدكتور جياكري مرّة أخرى في العمل الذي كان في أحد الأوقات قد تعهّده لحضرة شوقي أفندي. في حزيران 1981 رافق الكونت باولو مارزوتو، رئيس الشركة في كيامبو في إيطاليا، التي تعهّدت بأعمال الرخام، وبعض عمّال الرخام، إلى حيفا لمشاهدة البناء المكتمل.

في عام 1980 ضعفت صحّة أنجلين، فحزنت لأنّها لم تعد قادرة على السفر ورؤية الأحبّاء. أثناء مرضها ‘كرّس الدكتور جياكري نفسه تمامًا لرعايتها، وكثير من الناس المحيطين به في موناكو تأثّروا بعمق من إخلاصه التامّ وحنانه تجاهها.’(38) وجاءت نهاية حياتها فجأة في 23 نيسان 1980. فدفنت بالقرب من موناكو في مقبرة كاب دايل، التي تواجه البحر الأبيض المتوسّط. وقام زوجها الذي انفطر قلبه حزنًا بتصميم القبر. بعد وفاتها كتب هذه الكلمات الشعرية:

الجمال المهيب لأرض مولدها، المرصّعة بآلاف من الأنهار والبحيرات، والتي تتخلّلها الغابات الهادئة ذات الجلال، طبع نفسه على روحها اللطيفة ووجد انعكاسًا في شخصيتها الصافية. هي حسّاسة للغاية تجاه الإبداع الإلهي والتناغم الرائع الذي يحكم الكون، فوجدت الكمال في كلّ المخلوقات. والسعادة الداخلية التي غمرت وجودها بلغت ذروتها من محبّتها الفريدة للخالق.(39)

سافر الدكتور جياكري ثلاث مرّات إلى ساموا. في يوم 31 كانون الثاني 1980 استقبله صاحب السموّ ماليتوا تانومافيلي الثاني في مقابلة رسمية. في أيلول 1982 زار الدكتور جياكري ساموا بعد أن مثّل بيت العدل الأعظم في مؤتمر كانبيرا العالمي. وبعد ذلك حُدّ من أسفاره كثيرًا بسبب عمره وعجزه. ومع ذلك، تمنّى كثيرًا زيارة صديقه في ساموا مرّة أخرى، وهكذا سافر عائدًا إلى جنوب المحيط الهادئ في عام 1989.

بعد وصوله في 16 نيسان، استُقبل الدكتور جياكري رسميًا من قبل صاحب السموّ ماليتوا تانومافيلي الثاني الذي سار مسافة طويلة إلى الطائرة ووضع إكليلاً من الزهور حول عنق أوغو جياكري. ثم اصُطِحب الدكتور جياكري إلى سيّارة الليموزين الملكية.

خلال الأشهر الثلاثة التالية التقى صاحب السموّ في كثير من الأحيان واستُقبل رسميًا في فيليما. وحضر العديد من جلسات الدعاء في مشرق الأذكار، وتحدّث إلى الأحبّاء عمومًا وشخصيًا. إلاّ أنّه كان يعاني من الألم. وإذ كان يخطّط للعودة إلى الوطن في أوروبا، تعرّض لتغيير مفاجئ في حالته الصحّية. فأدخل إلى المستشفى، حيث وافته المنيّة مساء يوم 5 تمّوز.

حضر مراسم جنازته صاحب السمو ماليتوا تانومافيلي الثاني، ورئيس الوزراء، وأربعة وزراء من الحكومة، وأربعة مشاورين وخمسة من أعضاء هيئة المساعدين، وممثّلين عن ستّ جامعات بهائية مركزية في منطقة المحيط الهادئ، وأكثر من مائتين من الأحبّاء من أجزاء كثيرة من البلاد. وتحدّث المشاور السيّد علائي ببلاغة عن العلاقة الفريدة بين الدكتور جياكري ونموّ أمر الله في ساموا. تليت الأدعية باللغات الإيطالية، الفارسية، الإنجليزية، الماورية، لغة تونجا، الفيجية ولغة ساموا. ووري جثمانه الثرى على سفح الجبل في تيابابتا في أبيا، المطلّة على المحيط الهادئ. 

أرسل بيت العدل الأعظم هذه البرقية في ذكرى حياته الرائعة:

نشعر بالحزن العميق لفقدان أيادي أمر الله الباسل المثابر المحبوب الغالي المتميّز الدكتور أوغو جياكري. جاءت وفاته أثناء زيارة تاريخية إلى ساموا لتضيف أمجادًا جديدة لتاج الخدمة الذي فاز به بالفعل خلال ولاية وليّ أمر الله المحبوب، وتعزّز التميّز الروحاني لمنطقة المحيط الهادئ الشاسعة، المباركة بالفعل بوجود قبور أربعة من أيادي الأمر الآخرين.

إنّ إنجازاته الرائعة عضوًا متفرّغًا في المجلس البهائي العالمي فيما يتعلّق بتشييد البناء الفوقي لمقام حضرة الباب، ما دفع حضرة وليّ أمر الله إلى تسمية أحد الأبواب لذلك الصرح النبيل باسمه، وجهوده المضنية على المستوى المحلّي والمركزي والعالمي لتعزيز وترويج المصالح العليا لأمر الله، وإنجازه الملحوظ في إنشاء المحفل الروحاني المركزي لإيطاليا وسويسرا عشيّة إطلاق مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني، وصفاته البارزة من الحماس والإخلاص والعزم والمثابرة، والتي ميّزت سجلاًّ خالدًا من جهوده الشاقّة – تتضافر كلّها لتزيّن وافرًا سجلاّت تاريخ أمر الله خلال فترة جهوده الرائعة والدؤوبة، ولا شكّ سوف تضمن له الثواب الجزيل في الملكوت الأعلى.

ننصح كافّة المحافل الروحانية المركزية بعقد جلسات تذكّرية لائقة تكريمًا له، ولا سيّما في مشارق الأذكار عرفانًا بمنزلته الفريدة وخدماته الرائعة.(40)

 

1.
Giachery, Shoghi Effendi, p. 111.
2.
Bahá’í World, vol. 18, p. 718.
3.
Giachery, Shoghi Effendi, p. 6.
4.
المصدر السابق، الصفحة 31.
5.
المصدر السابق.
6.
المصدر السابق، الصفحة 8.
7.
المصدر السابق. (جزء من الترجمة مصدره كتاب «قرن الأنوار»، والباقي للمترجم)
8.
المصدر السابق، الصفحة 1.
9.
شوقي أفندي، «كتاب القرن البديع»، الصفحة 323.
10.
المصدر السابق، الصفحة 324. (مع تعديلين)
11.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحتان 262–263.
12.
Giachery, Shoghi Effendi, p. 75.
13.
المصدر السابق، الصفحات 69، 77–78.
14.
Giachery, ‘An Account of the Preparatory Work in Italy’, Bahá’í World, vol. 12, p. 243.
15.
ibid. p. 245; Giachery, Shoghi Effendi, p. 105.
16.
Giachery, Shoghi Effendi, p. 78.
17.
المصدر السابق، الصفحة 79.
18.
المصدر السابق، الصفحة 20.
19.
المصدر السابق، الصفحة 24.
20.
المصدر السابق، الصفحة 56.
21.
المصدر السابق، الصفحة 25.
22.
المصدر السابق، الصفحة 81.
23.
Agnes Ghaznavi-Fischer, letter to the author, 19 September 1995.
24.
Giachery, Shoghi Effendi, p. 32.
25.
Bahá’í World, vol. 12, p. 239.
26.
Giachery, Shoghi Effendi, p. 126.
27.
المصدر السابق، الصفحة 127.
28.
المصدر السابق، الصفحة 136.
29.
المصدر السابق، الصفحة 17.
30.
المصدر السابق، الصفحة 123.
31.
Rabbani, Priceless Pearl, p. 291
32.
Shoghi Effendi, Messages to the Bahá’í World, p. 46.
33.
Giachery, Shoghi Effendi, p. 167.
34.
المصدر السابق، الصفحات 175–181.
35.
Bahá’í World, vol. 13, p. 385.
36.
Bahá’í World, vol. 15, pp. 180–3.
37.
Giachery, ‘One God, One Truth, One People’, Bahá’í World, vol. 14, pp. 612–19.
38.
Ghaznavi-Fischer, letter to the author, 19 September 1995.
39.
Bahá’í World, vol. 18, p. 717.
40.
Bahá’í International News Service, July 1989, p. 1.

1899 – 1968 هيرمان غروسمان

Hand of the Cause of God Hermann Grossmann (1899-1968)

في العقود الأولى من القرن العشرين، في ظلّ حكم القيصر ويلهلم الثاني، كان الألمان مدركين لواقع النظام الطبقي، ويحترمون النظام الملكي، بارعين في حفظ السجلاّت، ومقيدين بشكل صارم بمئات من القوانين التافهة. كانوا أسرى التقاليد، واثقين من تفوّق العرق الألماني وتوّاقين لمغامرة عسكرية. عندما اندلعت الحرب، لا محالة، في عام 1914، كانت ألمانيا ثاني أكبر دولة صناعية في العالم، خلف الولايات المتّحدة بقليل.

كونه ألمانيًا، عانى هيرمان غروسمان خلال حربين عالميتين، الأولى كجندي في الحرب العالمية الأولى ولاحقًا كبهائي في الحرب العالمية الثانية. ولد في روساريو في الأرجنتين وترعرع في ظلّ والدَين محبّين متسامحَين، وخلال السنوات العشر الأولى من حياته واجه هيرمان في مسقط رأسه شعوبًا مختلفة الأعراق والمعتقدات ممن عاشوا معًا في صداقة وحرّية. بعد عودة عائلته إلى ألمانيا، وجد المواقف المثيرة للجدل والمتعصّبة في الرايخ الإمبريالي في تناقض حادّ مع تجاربه المبكرة في الأرجنتين.

وإذ كان شابًّا حسّاسًا، فقد رفض هيرمان التفكير الجامد من قبل مواطنيه. وكانت خدمته في الجيش الألماني في فرنسا خلال السنتين الأخيرتين من الحرب العالمية الأولى تجربة ساحقة محطِّمة. فعاد إلى موطنه في حالة من الضجر وخيبة الأمل واليأس. وبينما ناضلت الأمّة الألمانية المهزومة ضدّ الفوضى والاضطرابات وتفشّي التضخم، بحث هيرمان عن حلول للعذاب والمعاناة. هل قُدّر للإنسانية تحمّل البؤس والكراهية والدمار؟ إذا خلق الله البشرية من أجل المحبّة وأرسل كينونات سماوية متعاقبة لتنوير الأرض، فربّما حان الوقت لرسول آخر أن يأتي؟

بينما كان الأمريكيان البهائيان هارلان وغريس أوبر في رحلة الحجّ إلى الأرض الأقدس في عام 1920، طلب منهما حضرة عبدالبهاء السفر إلى ألمانيا. وقد قبلوا دعوة للتحدّث عن الدين البهائي إلى الجمعية الثيوصوفية في لايبتزيغ في تمّوز من ذلك العام. كان هيرمان طالبًا في جامعة لايبتزيغ وقرّر حضور الاجتماع. ولدى وصوله متأخّرًا، رأى امرأة متألّقة تعلن للجمهور أنّ جميع الناس أوراق شجرة واحدة وأزهار حديقة واحدة. وقد انجذب الشابّ فورًا إلى الرسالة وقَبِلَ الظهور الجديد على الفور.

كما جرت العادة، كتب هيرمان رسالة الى حضرة عبدالبهاء معلنًا قبوله أمر الله ومعبّرًا بحماس عن امتنانه العميق لأنّه أتيح له العثور على الحقيقة الإلهية، ورغبته في خدمة الدين البهائي. فأجاب حضرة عبدالبهاء في 9 كانون الأوّل 1920:

يا من استرشد بنور الهدى! لقد وصلت رسالتك التي تشير أنّك توجّهت بوجهك إلى الملكوت الأبهى. فاشكر الله الذي جعلك تخرق الحجبات، وتشهد جمال شمس الحقيقة، وتسير في درب الملكوت. ينبغي لك أن تكون شاكرأ ممتنًّا إلى الأبد لأولئك الذين كانوا سبب هدايتك، لأنّهم منحوك الحياة السماوية وأعانوك للقبول في هذا الملكوت المتألّق. وعليك البهاء الأبهى.(1)

منذ ذلك الوقت كرّس هيرمان حياته لدراسة الكتابات البهائية وخدمة أمر الله.

أصبحت لينا بينكه بهائية في الليلة نفسها مثل هيرمان، وبعد فترة وجيزة آمن زوجها أيضًا بأمر الله. وفي وقت قصير أصبح الزوجان بينكه وهيرمان زائرين لألما نوبلوك بانتظام، والتي كانت تعيش في لايبتزيغ. أصبحت الآنسة نوبلوك بهائية في عام 1903 واستقرّت في ألمانيا في عام 1907 بناء على طلب حضرة عبدالبهاء لتأسيس أمر الله في ذلك القطر. ولذلك كانت ألما قادرة على رعاية هيرمان والزوجين بينكه في أمر الله ومساعدتهم في تعميق فهمهم لتعاليمه.

قبل انقضاء فترة طويلة عاد هيرمان إلى هامبورغ. وكم كان فرحه عظيمًا عندما قبلت والدته وشقيقته دينه الجديد. بدأ هيرمان فورًا خدمة أمر الله. فحصل على الدكتوراه من جامعة هامبورغ في عام 1923 عن أطروحته حول استخدام بدائل الجلود في صناعة الأحذية وبدأ العمل كمدير مشارك في كوخ وشركاه، وهي شركة تنتج بدائل الجلود ومنتجات الورق المقوّى.

خلال فترة من التدريب العملي في مصنع في بيرماسنز، التقى هيرمان بآنّا هارتموث، وتزوّجا في عام 1924. عاش الزوجان في البداية في هامبورغ، ثم انتقلا إلى فاينهايم وأخيرًا، في عام 1933، بنى هيرمان منزلاً في نيكارغيموند لعائلته، وآخر لوالديه وشقيقته. أصبح بيت غروسمان النقطة المحورية للنشاط البهائي وصار الناس من خلفيّات ورتب متنوّعة موضع ترحيب فيه. في عام 1925 رزق هيرمان وآنّا بمولودة سميّت سوزان بهية، وبعد خمس سنوات رزقا بابنهما هارتموت هارلان.

في عشرينيات القرن قام هيرمان مع شابّ بهائي آخر، بنشر مجلّة شهرية بلغة الاسبرانتو تسمّى «لا نوفا تاغو» (اليوم الجديد). وغالبًا ما كانت تنشر فقط بفضل الجهد الكبير والتضحية العظيمة من جانب هيرمان، وحقّقت المجلّة انتشارًا في جميع أنحاء العالم ممّا أسعد حضرة شوقي أفندي فكتب:

سررت سرورًا عظيمًا بالاطّلاع على العدد الأوّل من «جريدة الاسبرانتو البهائية» وبعلمي عن البداية الرائعة التي قمت بها على درب سوف يقودك في النهاية إلى نجاح مجيد دائم بكلّ تأكيد.(2)

كان هيرمان مهتمًّا بشكل خاصّ بالمواضيع المتعلّقة بتوافق العلم والدين، وبحاجة الإنسانية إلى إيجاد الوحدة والاتّحاد في تعدّدها وتنوّعها، وأكّد على هذين الموضوعين خاصّة عندما كان يتحدّث إلى الشباب البهائي. فجمع نصوصًا حول هذه المواضيع، معتقدًا أنّها ستكون مفيدة في جامعة بهائية في المستقبل. كما أنتج عددًا من الكتابات الرئيسة التي استندت على هذه المجموعات من النصوص: «المسألة الاقتصادية وحلّها وفقًا للتعاليم البهائية»، «فجر عصر جديد»، «تغيير جذري إلى الوحدة»، و«ما هو الدين البهائي؟» وكان مقصده في إنشاء «معهد للدين والعلم» قد نال موافقة حضرة وليّ أمر الله وتشجيعه.

انتخب هيرمان عضوًا في المحفل الروحاني المركزي لألمانيا والنمسا في غضون سنوات قليلة من تأسيسه في عام 1922، وربّما في عام 1924، وساعد في وضع المؤسّسة على أسس سليمة. في ثلاثينيات القرن، وبتشجيع من حضرة وليّ أمر الله، بدأ البهائيون الأوروبيون بعقد المدارس الصيفية حول أمر الله. فكان المؤمنون يجتمعون لبضعة أيّام أو أسبوع، لتعميق معرفتهم بالتعاليم من خلال المحاضرات والمناقشة والزمالة. وكان هيرمان يقوم بالتدريس في كثير من الأحيان في هاوسل (البيت الصغير) قرب إسلنغن.

أولى هيرمان اهتمامًا خاصًّا بتعليم الأطفال البهائيين، وأثناء وجوده في هامبورغ كان يعقد صفوف أطفال منتظمة، ونشر العديد من الكتيّبات والمناهج الدراسية، وكذلك مجلّة مصوّرة تدعى داس روزنجارتلين (حديقة الورود الصغيرة). فتأسّست في عدّة بلدات في ألمانيا مجموعات من «حديقة الورود الصغيرة» لتعليم الأطفال البهائيين. في عام 1935 كتب هيرمان إلى حضرة وليّ أمر الله حول الترجمة التي قام بها مؤخّرًا لكتاب «الوديان السبعة» إلى اللغة الألمانية. فأجاب حضرة شوقي أفندي من خلال سكرتيره:

يرغب حضرته أن أهنّئك بحرارة على هذه الخدمة العظيمة التي تمكّنتَ من تقديمها لأمر الله، والتي لا شكّ سوف تعمل على إثراء سجلّ مساهماتك المتعدّدة خلال السنوات القليلة الماضية التي قمت بها ببراعة من أجل انتشار أمر الله في جميع أنحاء ألمانيا.(3)

وأضاف حضرة وليّ أمر الله بخطّ يده:

 

زميل العمل العزيز الجليل:

أنا متلهّف لأعلم أنّك استعدت صحّتك تمامًا، لأنّني أعتقد أنّ خدماتك ثمينة جدًّا لأمر الله الذي تخدمه في هذه الأيّام المضطربة. أرحب بتعاونك الفاعل الذي لا يفتر، على الرغم من العقبات التي تواجهك في العديد من مجالات النشاط البهائي. وأنا واثق أنّه نتيجة لجهودك المضنية سوف تستحكم المؤسّسات الإدارية في بلدك وتنتشر أكثر ويتلقّى أمر التبليغ زخمًا إضافيًا.(4)

في عام 1937 سافر هيرمان مع زوجته وأخته في رحلة الحجّ. لمدّة تسعة أيّام استمتعوا بدفء شمس محضر حضرة شوقي أفندي. ففي محادثاته مع الحجّاج، شرح حضرة وليّ أمر الله مرارًا وتكرارًا طبيعة النظام الإداري الجنيني لأمر الله. وكان هيرمان يتوق إلى إيجاد سبل لزيادة وعي المؤمنين بأهمّية نظام حضرة بهاءالله العالمي الآخذ بالبروز.

أحضر هيرمان معه في حجّه اللوح الأصلي الذي استلمه في عام 1920 من حضرة عبدالبهاء، وقدّمه هدية لحضرة شوقي أفندي. وإذ تقبّل الوثيقة بحرارة، سأل حضرة وليّ أمر الله هيرمان إذا كان على بيّنة من أهمّية اللوح المبارك. فأجاب هيرمان، بعد شيء من التفكير، إنّ عبارة ‘ينبغي لك أن تكون شاكرأ ممتنًّا إلى الأبد لأولئك الذين كانوا سبب هدايتك’ كانت ذات أهمّية خاصّة. إلاّ أنّ حضرة شوقي أفندي قال إنّه يشعر بأنّ الفقرة الأهمّ هي ‘فاشكر الله الذي جعلك تخرق الحجبات… وتسير في درب الملكوت’.(5) وفي رسالة مؤرّخة 14 تشرين الأوّل 2000، كتب هارتموت غروسمان: ‘قال والدي أنّ حضرة شوقي أفندي أخبره بأنّ هذه الكلمات في اللوح المبارك جعلته يقرّر تعيين هيرمان في منصب أيادي أمر الله.’

في إحدى المرّات سأل حضرة شوقي أفندي هيرمان إذا كان يرغب ذات يوم في العودة إلى أمريكا الجنوبية. أجاب هيرمان بأنّه استغرق وقتًا طويلاً للاستقرار في ألمانيا ولكنّه الآن سعيد هناك. ثم ابتسم حضرة وليّ أمر الله وقال ربّما في أحد الأيّام سيكون هيرمان سعيدًا للعودة إلى أمريكا اللاتينية. بعد سنوات عديدة، عندما طلب حضرات أيادي أمر الله من هيرمان الذهاب إلى أمريكا الجنوبية لمساعدة الأحبّاء في استكمال أهداف مشروع العشر سنوات من الجهاد الروحاني، تذكّر تلك المحادثة.

عاد هيرمان من الحجّ وقد تغلغلت محبّته لحضرة شوقي أفندي إلى صميم كيانه. كان الغرض المحرّك لحياته الآن تحقيق السعادة لمحبوبه، وصمّم على نشر التعاليم البهائية بقوّة ونشاط أكثر من أيّ وقت مضى.

ومع ذلك، بعد شهر واحد فقط على عودته من الحجّ حدث ما حدّ من عزيمته. ففي 21 أيّار 1937 مُنع أمر الله ومؤسّساته الإدارية من أيّ نشاط بأمر خاصّ من الرايخ فهرر س. س. ورئيس الشرطة السرّية الألمانية (الغستابو) هاينريش هيملر. تمّ نشر الإعلان عن الحظر في كلّ الصحف الألمانية في حزيران. وكانت الجهود المبذولة لإبطال المرسوم عقيمة. وقد جرت مداهمة منازل البهائيين في جميع أنحاء البلاد، ومصادرة الكتب البهائية والرسائل والوثائق والمواد الأخرى المتعلّقة بأمر الله، من بينها مخزون «لا نوفا تاغو»، وإتلافها. ومُنع البهائيون من التجمّع واحتُجز عدد من المؤمنين وأرهبوا وسجنوا أو جرى ترحيلهم، وبعضهم هلك. كان هيرمان ضحيّة اضطهاد بشكل خاصّ حيث رفض بثبات أن يصبح عضوًا في الحزب الوطني الاشتراكي.

في ليلة واحدة فقد هيرمان معظم مكتبته البهائية القيّمة للغاية فضلاً عن المحفوظات، بما في ذلك ما يقرب من جميع السجلاّت المتعلّقة بنموّ وتطوّر أمر الله في ألمانيا، والتي كان قد جمعها بجهد كبير على مدى عشرين سنة. وعن تلك الفترة قال هيرمان، «لولا اعتقادي أنّها كانت تضحية من أجل حضرة بهاءالله، لما استطعت تحمّل تلك الخسارة.(6) في عام 1943 تمحورت موجة أخرى من الاضطهاد حول البهائيين في منطقة هايدلبرغ واعتقل هيرمان وتمّ تغريمه. ثم خسر المزيد من الوثائق البهائية القيّمة، مع أنّ جزءًا صغيرًا من المحفوظات نجا، ونجح هيرمان في الحصول على إذن للتبرّع بها إلى مكتبة جامعة هايدلبرغ.

كان اضطهاد البهائيين في ألمانيا على نطاق واسع. في عام 1939 صودرت كتب مارتا براونز-فوريل ومراسلاتها، وهي عضو سابق في المحفل الروحاني المركزي المحظور حينها، كما احتُجزت واستُجوبت بوقاحة مدّة أربع ساعات. كما سُجن بول كولر مدّة تسعة وتسعين يومًا، وهو الذي كان قد أعدّ نسخًا عديدة من أحد أدعية حضرة بهاءالله. أمّا زوجة هيرمان، آنّا، وهي أيضًا عضو سابق في المحفل الروحاني المركزي، فقد استجوبها الغستابو ‘لإبقائها على علاقات مشبوهة’ مع عضو آخر سابق في ذلك المحفل.(7) أمّا شقيقة هيرمان، إلسا ماريّا غروسمان، فقد استجوبها عضو في الغستابو ولوّح مهددًا بمسدس في وجهها بينما صودرت كتبها ومراسلاتها الخاصّة ومختلف الممتلكات الشخصية الموجودة لديها. واعتُقلت دون توجيه تهمة وقضت تسعة أيّام في زنزانة سجن.

في أيّار 1944 اتُخذت إجراءات قضائية عمومية ضدّ سبعة من المؤمنين وأصدقاء محبّين لأمر الله – بينهم آنّا غروسمان – وقد تمّ استجوابهم في محكمة سوندرگيرخت في دارمشتات، واتُهموا زورًا ‘باستئناف تنظيم المذهب البهائي المنحلّ والمحظور.’(8)

على الرغم من أنّ هيرمان غروسمان كان منخرطًا في الكثير من الأنشطة البهائية في ألمانيا، إلاّ أنّه نجا مصادفة من الغستابو، وكان بالتالي حرًّا للدفاع عن دين حضرة بهاءالله في مركز الشرطة العسكرية في كارلسروه وكذلك أمام محاكم دارمشتات وهايدلبرغ حيث نجح في الدخول كشاهد للدفاع عن المتّهمين السبعة.(9) وفي مرافعته حول الطابع غير السياسي لأمر الله، طلب هيرمان أن يُرفع الحظر ضدّه، مشيرًا إلى أنّ اتّهام أمر الله بأنّه كان معاديًا للدولة، قد تجاهل تمامًا موقف البهائيين في ألمانيا وجميع أنحاء العالم. ولمّا سُئل عن الطابع العالمي لأمر الله، أجاب هيرمان إنّ دين الله يمثّل نظامًا عالميًا لا يستثني أيّ نظام وطني. ومع ذلك، اتُّهم في عام 1944 أنّه كان ناشطًا في قيادة ‘المذهب البهائي المحظور’ وبالتالي فُرضت عليه غرامة باهظة.

نهض البهائيون الألمان بعد الحرب لإعادة بناء جامعتهم المدمَّرة. في 14 آب 1945 أصدر جيش الاحتلال الأمريكي تصريحًا للبهائيين في المناطق الغربية يمكّنهم من استئناف ممارسة أنشطة دينهم. مُنح هيرمان إذنًا لزيارة البهائيين في منطقة هايدلبرغ وفي إقليم بادن-فورتمبيرغ، لإعادة تنظيم جامعات الأحبّاء، وعقد الاجتماعات وطباعة المواد البهائية. وانطلق على الفور لإنتاج الكتيّبات البهائية، ومواد الدراسة، ومقتطفات من الكتابات البهائية. كما ترجم وجمع وحررّ عددًا من الكتيّبات الصغيرة لدعم العمل التبليغي. أمّا المطبوعات القليلة التي نجح في إنقاذها فقد أنتج منها نسخًا بواسطة آلة النسخ وجمعها في ملزمة مع غلاف مقوّى. وقد نجا منزل غروسمان في نيكارغيموند من الدمار وأصبح مرّة أخرى نقطة محورية في النشاط البهائي.

وإذ سُرّ من جهودهم، كتب حضرة وليّ أمر الله إلى البهائيين الألمان يوم 30 كانون الأوّل 1945:

يمتلئ قلبي بالفرح والاعتزاز والامتنان وأنا أشاهد، من خلال استلام رسالتكم التي لاقت ترحيبي، الأدلة الواضحة على حماية الله القدير وعلى حيوية إيمان المؤمنين الألمان الذين طالت معاناتهم، والذين كدحوا بكلّ تفان وبسالة خلال فترة طويلة جدًّا وحاسمة، والذين نجحوا كجامعة بهائية في النجاة من أعظم محنة في تاريخ دينهم في تلك البلاد. كان دعائي خلال هذه السنوات الزاخرة بالمخاطر والإجهاد والقلق والترقّب، قد شملهم باستمرار، وابتهجُ لعلمي بسلامتهم ووحدتهم وحماسهم وتصميمهم على النهوض لاستئناف العمل العظيم والتاريخي المقدّر لهم إنجازه وإيصاله إلى نهاية مظفّرة في السنوات القادمة… أناشد مختلف الجامعات البهائية في الشرق والغرب تقديم المساعدة بأيّ طريقة ممكنة لهذه المهمّة الشاقّة المتمثّلة في إعادة الإعمار التي تواجه الآن المؤمنين الألمان… راجيًا التأكيد لهم جميعًا على حبّي الكبير، وإعجابي الشديد، وآمالي المشرقة حول مستقبلهم، وامتناني القلبي المخلص لمثابرتهم ودعائي الحارّ لنجاحهم في المستقبل.(10)

في كانون الثاني 1946 صدرت الطبعة الأولى من «الأخبار البهائية اليومية» التي كان هيرمان محرّرها. وأعيد تأسيس المحفل الروحاني المركزي في 6 نيسان 1946، عندما اجتمع مائة وخمسون من البهائيين في شتوتغارت في غرفة دمّرها القصف وأعيد ترميمها لسماع خبر إعادة تأسيس الجامعة البهائية الألمانية. وقام هيرمان، الذي كان رئيسًا لمؤتمر الوكلاء، بإلقاء خطاب بليغ حول الأنشطة في هايدلبرغ ونيكارغيموند. وفي خطاب ثان شدّد على أهمّية العمل التبليغي وكيف لا يمكن جذب الجماهير إلاّ ببذل أقصى الجهد لإنقاذهم من خيبة الأمل والتمرّد والعناد. ولم يُنتخب هيرمان عضوًا في المحفل الروحاني المركزي فحسب بل انتُخب رئيسًا له أيضًا.

كان هيرمان ضمن الكوكبة الأولى من أيادي أمر الله الذين عيّنهم حضرة شوقي أفندي يوم 24 كانون الأوّل 1951. ولمّا كانت إحدى مهامّه كأيادي أمر الله حماية الجامعة البهائية من أولئك الذين نقضوا العهد والميثاق، كرّس هيرمان نفسه لدراسة طبيعة العهد الإلهي في التاريخ الديني. وكان من نتيجة بحثه أن نشر في عام 1956 كتابه صغير الحجم «العهد الإلهي في الأديان السماوية». في ذلك العام نفسه ألّف كتابًا أيضًا بعنوان «المؤمن البهائي والجامعة البهائية».

في تمّوز 1953 حضر هيرمان المؤتمر البيقارّي في ستوكهولم، السويد. وعندما بدأت الاضطهادات العنيفة ضدّ المؤمنين في إيران في عام 1955، أصبح هيرمان عضوًا في لجنة الاستئناف الدولية للأمم المتّحدة. وحضر مؤتمر الوكلاء الأوّل لدول البنيلوكس في نيسان 1957 كممثّل عن حضرة شوقي أفندي.

في ربيع عام 1957 قام هيرمان وآنّا بالحجّ الثاني إلى الأرض الأقدس. وقد تتبّع حضرة شوقي أفندي مع الحاج الذي فكّر كثيرًا بخصوص النظام العالمي لحضرة بهاءالله، التفتّح التدريجي لذلك النظام، وناقش معه تصميم أمّ المعابد الذي سيتمّ بناؤه بالقرب من فرانكفورت، والذي أحضر الزوجان غروسمان مخطّطات بنائه نيابة عن المحفل الروحاني المركزي.

بعد أشهر معدودات على صعود حضرة شوقي أفندي، اجتمع أيادي أمر الله رسميًا لأوّل مرّة. وقد كانت مساهمات هيرمان في المناقشات موضع تقدير كبير. في عام 1959 طلب منه حضرات أيادي أمر الله العودة إلى أمريكا الجنوبية لمساعدة المؤمنين على استكمال أهدافهم في مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني.

غادر هيرمان إلى أمريكا الجنوبية في أوائل عام 1959، وسافر حول أنحاء القارّة وإلى بلدانها الداخلية. إلاّ أنّه عانى صحّيًّا من الارتفاعات الشاهقة في الألتيبلانو ومن إصابته بحمّى التيفوئيد، ممّا اضطرّه الى تأجيل المزيد من الرحلات.

كان في أمريكا الجنوبية في هذا الوقت اثنان فقط من المحافل الروحانية المركزية، كلّ منها مسؤول عن خمسة بلدان. ألهمت تقارير هيرمان الحماسية إلى حضرات أيادي أمر الله حول تطوّر أمر الله في أمريكا اللاتينية، تصميمهم للعمل من أجل إنشاء عشرة محافل روحانية جديدة في رضوان 1961.

في كانون الثاني 1960 عاد هيرمان إلى أمريكا الجنوبية مع زوجته آنّا، في أطول زيارة له للمنطقة. قضى أكثر من سبعة أشهر مسافرًا في جميع أنحاء القارّة، يساعد البهائيين في تهيئة الأوضاع اللازمة لانتخاب محافلهم الروحانية المركزية. في عام 1961 عاد مرّة أخرى ليشهد ولادة هذه المؤسّسات المركزية، داعيًا إيّاها الى حمل تعاليم حضرة بهاءالله إلى السكّان الأصليين.

كانت رحلة هيرمان الأخيرة في أمريكا الجنوبية في عام 1962. ومن الخدمات الدائمة التي قدّمها حماية أمر الله في أمريكا الجنوبية من الهجمات ضدّ العهد والميثاق من الداخل والخارج على حدّ سواء، ممّا وقى العديد من الجامعات المحلّية من الأثر الخطير للنقض. وإذ استنفدت قواه من أسفاره الواسعة في جميع أنحاء القارّة، عاد إلى ألمانيا في تشرين الأوّل وهو في أشد الحاجة للراحة. ومع أنّه كان قادرًا على حضور انتخاب بيت العدل الأعظم والمؤتمر العالمي في لندن عام 1963، إلاّ أنّ أسفاره بعد ذلك أصبحت أقصر وأقلّ تواترًا. في عام 1965 ألّف كتيّب «ما هو الدين البهائي؟».

كان هيرمان حاضرًا في المؤتمر العالمي الذي عقد في فرانكفورت في تشرين الأوّل 1967، مع زملائه الأيادي جون فيرابي وأدلبرت ميولشليغل وبول هايني، ولكنّ صحّته سمحت له الحضور ليوم واحد فقط. بعد تسعة أشهر، في 7 تمّوز عام 1968، وافته المنيّة، وأخلد للراحة في مقبرة نيكارغيموند المواجهة لوادي نيكار الجميل الوادع. وقد خُلّدت مراسم الجنازة بهذه الكلمات:

الآن على المنحدر بدت روحه متحرّرة من كلّ معاناة، كما لو أنّ قلبه سينبض مرّة أخرى، هو الذي كرّس جلّ حياته لتأسيس أمر الله في قلب أوروبا، وفي أمريكا اللاتينية وفي البشرية جمعاء. كان حقًّا مؤسّس أمر الله في هذه الأراضي، مربيًا عظيمًا، وباحثًا وأخًا حقيقيًا. ونحن ننظر إلى الورود والزنابق البيضاء بلون الثلج في جمالها التعبّدي، وإلى القرنفل القرمزي وإلى الهدايا الأخيرة من المؤسّسات البهائية… أدركنا أنّ محبوبنا أيادي أمر الله قد حُرّر الآن لممارسة نفوذه كما لم يحدث من قبل وبطريقة أقوى من كلّ الأشياء الفانية في هذا العالم.(11)

أبرق بيت العدل الأعظم إلى العالم البهائي ما يلي:

نعلن بحزن شديد وفاة أيادي أمر الله هيرمان غروسمان الذي كان موضع الإعجاب الكبير من حضرة وليّ أمر الله المحبوب. فقدانه المؤلم سيحرم كوكبة أيادي أمر الله من متعاون بارز ويحرم الجامعة البهائية العالمية من مدافع ومروّج قويّ لدين الله. لقد خلّد ولاؤه الشجاع خلال السنوات الصعبة من الامتحانات والاضطهاد في ألمانيا وخدماته المتميّزة في أمريكا الجنوبية، حوليّات أمر الله. ندعو كافّة المحافل الروحانية المركزية لعقد الجلسات التذكّرية بما يليق برتبته السامية وخدماته المثالية. نطلب من المسؤولين في أمّهات المعابد ترتيب جلسات التذكّر في القاعات الرئيسة.(12)

1.
Bahá’í World, vol. 15, pp. 417–18.
2.
Shoghi Effendi, Light of Divine Guidance, vol. 1, p. 25.
3.
المصدر السابق، الصفحة 78.
4.
المصدر السابق، الصفحتان 79–80.
5.
Bahá’í World, vol. 15, p. 419.
6.
المصدر السابق.
7.
Bahá’í World, vol. 10, p. 21.
8.
المصدر السابق، الصفحة 22.
9.
المصدر السابق.
10.
Shoghi Effendi, Light of Divine Guidance, vol. 1, pp. 101–2.
11.
Bahá’í News, September 1968, p. 3.
12.
المصدر السابق، الصفحة 1.

1887 – 1960 هوراس هوتشكيس هولي

Hand of the Cause of God Horace Hotchkiss Holley (1887-1960)

كان هوراس هوتشكيس هولي(1) رجلاً ذا مواهب عدّة: إنسان روحاني يمتلك قوّة باطنية، وفكرًا رائعًا وتفانيًا لا يكلّ. خدم عضوًا في المحفل الروحاني المركزي الأمريكي وسكرتيرًا له مدّة أربع وثلاثين سنة من أصل كامل خدمته فيه التي امتدّت ستًّا وثلاثين سنة. ألّف عددًا كبيرًا من الكتب والأعمال الأدبية حول أمر الله خلال نصف قرن قضاه كواحد من أتباع حضرة بهاءالله، وحاز على إعجاب حضرة وليّ أمر الله لصفاته اللامعة واجتهاده الرائع.

ولد في 7 نيسان 1887 في تورينغتون، بولاية كونيتيكت في عائلة متزمّتة دينيًا، وينحدر من عرق عُرف بالعزم والتصميم والاعتماد على النفس وقلّة الكلام. ويعدّ هوراس واحدًا من بين أسلافه المربّين ورجال الدين الأبرشيين المشهورين من نيو إنجلاند. كان والداه من الأثرياء، ولكن عندما كان هوراس طفلاً عانى والده من انهيار عصبيّ وتوفّي في عام 1896. ولمّا بلغ هوراس الرابعة عشر دخل مدرسة لورنسفيل وهي مدرسة خاصّة في نيو جيرسي، حيث أظهر اهتمامًا بالأدب وبدأ بكتابة الشعر. غادر لورنسفيل في عام 1906 لدراسة الأدب في كلّيّة وليامز في وليامزتاون، بولاية ماساشوستس، وهناك كان عضوًا في «أخوّة فاي دلتا ثيتا» وفي «جمعية غارغويل».

لدى مغادرته الكلّيّة في عام 1909، انطلق هوراس إلى أوروبا لقضاء الصيف هناك والعودة إلى «وليامز» لإكمال تعليمه. ولكنّه في طريق العودة التقى ببيرثا هربرت، وهي فنانة شابّة، كانت في عام 1907 قد عرّفت الليدي بلومفيلد على الدين البهائي بينما كانت في حفل استقبال في باريس.(2) كانت بيرثا فتاة طويلة القامة رشيقة ذات عينين داكنتين برّاقتين ووجه متوهّج. (3) أعارت بيرثا هوراس كتابًا ليقرأه بعنوان «عبّاس أفندي، حياته وتعاليمه» من تأليف مايرون فيلبس.

أعجب هوراس البالغ من العمر اثنتين وعشرين سنة بالحكمة وشمولية الروح والمحبّة المتجسّدة في شخص حضرة عبدالبهاء. وقد كتب في وقت لاحق، ‘ودون معرفة ما يعنيه ذلك، أصبحتُ بهائيًا.’(4)

تمكّن هوراس من البقاء في أوروبا للدراسة والسفر بفضل إرث ورثه. تزوّج من بيرثا في تشرين الأوّل 1909 في باريس، وانتقلا إلى إيطاليا، حيث ولدت ابنتهما الأولى، هيرثا. كانا يعيشان في سيينا عندما سمعا في أواخر آب 1911 عن وصول حضرة عبدالبهاء إلى تونون-ليه-باين في فرنسا. ولمّا كانا يأملان في القيام بحجّ إلى الأرض الأقدس، فقد انتهزا الفرصة للقاء المولى عند بحيرة ليمان.

وصلت العائلة إلى تونون-ليه-بان بعد ظهر يوم 29 آب. وشعر هوراس أنّه لو شاهد حضرة عبدالبهاء حتى من بعيد فسوف يكون راضيًا:

رأيت بينهم رجلاً مسنًّا مهيبًا يرتدي ثوبًا بلون القشدة، وكان شعره ولحيته البيضاء يلمعان تحت ضوء الشمس. بدا على حضرته جمال في القوام، وانسجام واضح في الموقف واللباس لا أعتقد أنّي شاهدته أو فكّرت بوجوده عند الرجال. ومن دون وجود تصوّر لديّ عن المولى على الإطلاق، عرفت أنّه هو. أصابت جسمي كلّه صدمة. قفز قلبي من مكانه، ضعفت ركبتاي، وتدفّق شعور لذيذ قويّ إيجابي من الرأس إلى القدم… أردت أن أبكي من السعادة المطلقة – بدا ذلك أنسب شكل للتعبير عن الذات يمكنني أن أقوم به… فاستسلمت لشعور قدسي تضمّن أكثر من حلّ للمشاكل الفكرية أو الأخلاقية. فالنظر الى إنسان رائع جدًّا، والاستجابة التامّة لسحر محضره – جلب لي السعادة المستمرّّة… كنت راضيًا بالبقاء بعيدًا عن الأضواء.(5)

أعطى حضرة عبدالبهاء كلّ واحد من الحاضرين خاتمًا بهائيًا [خاتم الاسم الأعظم] كهديّة. وبينما كان هوراس وبيرثا يستعدّان للمغادرة، طلب هوراس من حضرة عبدالبهاء أن يمسك الخاتم بيديه كبركة منه لابنتهما الرضيعة التي كان يرغب في إعطائها الخاتم. نشر هوراس قصّة هذه الزيارة في وقت لاحق من ذلك العام تحت عنوان «حاجّ إلى تونون».(6)

في عام 1912 انتقل هوراس وبيرثا إلى باريس واسقرّا في منزل هناك. أدارت بيرثا مصلحة أعمال في التصميم ناجحة، بينما قام هوراس بتأسيس وإدارة «معرض آشور للفنّ الحديث». وحصل هوراس مرّة أخرى على شرف لقاء المولى وسماع العديد من محادثاته عندما زار حضرة عبدالبهاء باريس خلال النصف الأوّل من عام 1913. وكان في هذا العام أيضًا وهو في باريس، أن نشر هوراس أوّل كتبه في الشعر وأوّل مؤلَّف كبير عن الدين البهائي، بعنوان «البهائية: الدين الاجتماعي الحديث»(7) الذي يركّز على التعاليم الاجتماعية لأمر الله. أرسل هوراس نسخة من كتابه البهائي إلى حضرة عبدالبهاء، الذي أرسل في أيلول 1913 إلى هوراس من الرملة في مصر، أوّل لوحين كتبهما حضرته إليه:

إنّ هدفك هو تقديم خدمة للملكوت الأبهى وترويج تعاليم حضرة بهاءالله. ومع أنّ مجد هذه الخدمة وعظمتها غير معروفَين في الوقت الحاضر، ولكن في العصور القادمة سوف تكتسب أهمّية قصوى وتجذب انتباه رجال العلم.(8)

بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى كان الزوجان هولي من بين الذين فرّوا من باريس، فذهبا أوّلاً إلى لندن ومن ثم إلى نيويورك، حيث سكنوا مع عائلة كيني، وهي عائلة بهائية معروفة. استقرّ الزوجان هولي أخيرًا في قرية غرينتش وانخرطا في المجتمع الأدبي والفنّي البوهيمي مثلما كان حالهما في باريس إلى حدّ بعيد. ولدت ابنتهما الثانية، مارسيا، في عام 1916. استمرّ هوراس في الكتابة ونشر المزيد من الشعر والمسرحيّات. أنتج كتابًا آخر عن الدين البهائي، بعنوان «المبدأ الاجتماعي»، والذي نشر في عام 1915.(9)

في نيويورك أخذ زواج هولي بالتدهور تدريجًا. فدخْلهما الخاصّ لم يعد يكفي في نيويورك كما كان الحال في أوروبا، والأموال التي تلقّياها من كتابات هوراس وأعمال بيرثا الفنّية لم تعوّض الفارق. فأصبح هوراس كاتبًا للاعلانات لزيادة دخله حيث عمل مع «شركة العصر الحديدي للنشر» من عام 1918 إلى 1920. لم تكن صعوبات الزوجين هولي مالية فقط: فقد كان زواجهما تحت ضغط وتوتّر لبعض الوقت، والأوساط التي تنقّلا بينها لم تساهم في استقرار العائلة. ويبدو أنّ هوراس كتب إلى حضرة عبدالبهاء عن كربه، لأنّه في اللوح الثاني إليه، كتب المولى، ‘كلّ ما كتبتَه كان صرخة من أعماق قلب صادق.’(10)

في عام 1919 وقع طلاق الزوجين هولي، ولكنّ الصعوبات استمرّت. لم تكن هناك مشاكل مالية فحسب، ولكنّ ابنتهما هيرثا عانت في فترات متلاحقة من اضطراب عقلي كان علاجه مكلفًا جدًّا لجميع أفراد العائلة، سواء ماليًا أو عاطفيًا. في وقت لاحق من عام 1919 تزوّج هوراس من دوريس باسكال، التي التقى بها أوّل مرّة في باريس. وقد خدما معًا أمر الله مدّة إحدى وأربعين سنة.

في عام 1921 ترك هوراس عمله لدى «العصر الحديدي للنشر» لتولّي منصب رئيس قسم النسخ في «وكالة ريدفيلد للإعلان»، حيث عمل فيها حتى عام 1925. نشر كتابه الثالث عن أمر الله في عام 1921، بعنوان «البهائية، روح العصر»، والذي قدّم الدين البهائي من وجهة نظر عدد من المعتقدات والفلسفات الدينية المختلفة.(11)

منذ وقت وصوله إلى نيويورك، كان هوراس نشطًا في الجامعة البهائية، وفي أوائل عشرينيات القرن أصبح منهمكًا بنحو متزايد في خدمة أمر الله. في عام 1921 أعدّ مجموعة شاملة بالإنجليزية من الكتابات البهائية بعنوان «الكتابات البهائية المقدّسة»، التي عُدلت لاحقًا من قبله ونشرت بعنوان «الدين البهائي العالمي». في عام 1923 تمّ انتخابه عضوًا في المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة وكندا، وانتخب سكرتيرًا له في الأعوام من 1924–1930 ومن 1932–1959. وساهم بمواضيع لمجلّة «نجمة الغرب»، وابتكر مجلّة «الأخبار البهائية» وعمل محرّرًا لها، واقترح فكرة إصدار «كتاب بهائي سنوي»، الذي أصبح فيما بعد مجلّد «العالم البهائي»، وكان القوّة المحرّكة للجنة النشر البهائية. كما شغل منصب رئيس تحرير «مجلّة الوحدة العالمية»، وعمل مع «مؤسّسة الوحدة العالمية».

في هذه الفترة المبكرة من تاريخ أمر الله لم يكن مطلوبًا من البهائيين أن ينأوا بأنفسهم عن انتماءات كنيستهم حيث كان هوراس عضوًا نشطًا في كنيسة القدّيس مرقس الأسقفية في نيويورك، والتي طوّرت برئاسة الدكتور وليام نورمان غوثري علاقة مع الجامعة البهائية في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى. كما خدم هولي في منصب مراقب ثانوي لمجلس الكنيسة في الفترة من 1928–1933، فكان يكتب المواد الدعائية للكنيسة، ويعمل كمدير بدوام جزئي لمباني الشقق المستأجرة ومسؤول عن جهود جمع الأموال. ونتيجة لخلاف بين مجلس الكنيسة ورئيسها بخصوص الشؤون المالية، ترك هوراس الكنيسة في عام 1933 إلى جانب العديد من البهائيين وغيرهم.

كان حضرة شوقي أفندي يقدّر كثيرًا عمل هوراس لأجل أمر الله. فقد كتب في منتصف عشرينيات القرن:

إنّ مساهمتك الشخصية في كثير من جوانب الحركة [أمر الله] ومراحلها، والمنجزة بجدّ ومثابرة، وبشكل فاعل ومتقن، هي حقًّا مصدر فرح وإلهام لي.(12)

كان حضرة وليّ أمر الله في حاجة ماسّة لبهائيين قادرين على العمل معه في حيفا. بعد وفاة جون إسلمنت في تشرين الثاني 1925 كتب حضرة شوقي أفندي إلى هوراس في أيّار 1926:

كثيرًا ما كنت أشعر برغبة شديدة لوجود متعاون مثلك يعمل إلى جانبي هنا في حيفا. أفتقد وجود الدكتور إسلمنت بقوّة وأملي أن تمكّنني الظروف هنا وفي الخارج من التأسيس لهذا العمل في حيفا على أساس أكثر انتظامًا. أنا في انتظار الوقت المناسب.(13)

ومع ذلك فقد أدرك حضرة شوقي أفندي أنّ هناك حاجة لهوراس في الولايات المتّحدة، فكتب في حزيران 1926 لاثنين من أصدقاء هوراس:

هوراس بالطبع هو الرجل المثالي، لكن يجب ألاّ يترك موقعه في الوقت الحالي.(14)

لم يذهب هوراس أبدًا إلى حيفا للعمل مع حضرة شوقي أفندي. في عام 1925 أصبح سكرتيرًا متفرّغًا للمحفل الروحاني المركزي، متخلّيًا عن ميدان عمله الخاصّ لأجل خدمة أمر الله. ورغم انتقادات بعض زملائه من المؤمنين وعدم شعوره بالارتياح نظرًا لحاجته إلى دعم من الصناديق البهائية، قبل هوراس تلك الوظيفة من أجل أن يكرّس لأمر الله الوقت الذي يستحقّه. كتب حضرة شوقي أفندي إلى المحفل الروحاني المركزي ما يلي، وهو يدرك جيّدًا ظروف هوراس:

ابتهج لعلمي أنّ طرقًا وموارد قد وُجدت لتمكين سكرتير المحفل الروحاني المركزي، الذي يؤدّي بمثل هذا الأسلوب المثالي الواجبات المتعدّدة المتعبة لوظيفة على هذه الدرجة العالية من المسؤولية بمثل تلك الطريقة المثالية من تكريس جلّ وقته في السعي من أجل تحقيق مهمّة تستحقّ التقدير البالغ. إنّني مدرك تمامًا لذلك الحرمان والتضحية اللتين يستلزمهما هذا العمل الشاقّ منه.(15)

والآن مع وجود سكرتير بدوام كامل في موقع مكرّس لخدمة المحفل الروحاني المركزي، والمسؤول في المقام الأوّل عن تنفيذ الخطّة الإلهية التي وضعها حضرة عبدالبهاء، أمكن لحضرة شوقي أفندي الشروع في عملية تطوير النظام الإداري البهائي أكثر اكتمالاً. لم يستوعب هوراس تعليمات حضرة شوقي أفندي وتفسيراته للتعاليم البهائية فحسب، بل سرّ أيضًا لِما شاهده من اتّساع رؤية حضرة وليّ أمر الله. ولمّا كان حضرته قد وصفه بأنّه كان في طليعة مناصري الإدارة البهائية في العالم،(16) فقد قُدّر لهوراس القيام بدور هامّ وتاريخي في تفتّح النظام الإداري البهائي خلال باكورة عصر التكوين، دور قدّره حضرة شوقي أفندي بشكل كبير:

إنّ قلمك المتأهّب، وعقلك الذكي، وحيويّتك الرائعة وقدرتك على التنظيم، وفوق كلّ ذلك ولاءك الراسخ، هي مواهب أقدّرها عظيم التقدير وأنا ممتنّ لها للغاية.(17)

أودّ أن أوكّد لك ثانية تقديري الشديد لجهودك المستمرّّة لتعزيز الأعمال الأمرية في جميع أنحاء أمريكا.(18) أؤكّد لك إعجابي المتزايد بخدماتك التي لا تضاهى.(19)

كان هوراس هولي ضليعًا في الإجراءات البهائية الصحيحة وباحثًا في التعاليم البهائية. كان، بالاشتراك مع المحامي البهائي ماونتفورت ميلز، مسؤولاً إلى حدّ كبير عن صياغة إقرار الإئتمان والقوانين الفرعية التي اعتمدها المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة وكندا في نيسان 1927 والذي أصبح أنموذجًا لجميع هذه الأدوات القانونية المفيدة لأمر الله في الجامعات البهائية المركزية الأخرى.

خدم هوراس في هيئة تحرير مجلّد «العالم البهائي»، وكتب الكثير من المواد للنشر. كما كتب البيان الذي عنوانه «أهداف ومقاصد الدين البهائي»، الذي ظهر في بداية كلّ مجلّد من الثالث إلى الثالث عشر أو قرب بدايته، كما كتب كلّ تقرير يلقي «نظرة عالمية على الأنشطة البهائية الجارية» – وهو سجلّ تاريخي لنموّ أمر الله وشرح للأحداث الجارية – من المجلّد الثاني إلى الحادي عشر. وكان التقرير مقالاً أساسيًا شعر حضرة شوقي أفندي أنّه لم يكن هناك بهائي آخر مؤهّل لإعداده. أولى حضرة وليّ أمر الله أهمّية كبرى لنشر مجلّد «العالم البهائي»، الذي اعتقد حضرته أنّه مناسب للعموم والباحثين والمكتبات العامّة وأداة هامّة ‘لإزالة التحريفات الخبيثة وسوء الفهم المؤسف الذي ألقى بظلاله فترة طويلة وعلى نحو خطير على أمر حضرة بهاءالله المنير.’(20) وكان المقال مصدرًا قيّمًا للمعلومات للمؤرّخين البهائيين، وغطّى مواضيع من قبيل اضطهاد أمر الله في إيران وألمانيا وروسيا وتركستان؛ تأسيس أو إعادة تأسيس وتسجيل الهيئات الإدارية؛ أنشطة المبلّغين الجوّالين؛ التقدّم في بناء مشرق أذكار ويلمت؛ إنشاء وافتتاح وصيانة المقامات المقدّسة البهائية والمدارس والمواقع التاريخية؛ الزيادة في عدد التراجم والمطبوعات البهائية؛ توسعة الأوقاف البهائية؛ الإحصاءات المتعلّقة بنموّ المحافل الروحانية وجامعات الأحبّاء والمراكز؛ التقارير السنوية للمحافل الروحانية المركزية؛ أنشطة المدارس الصيفية البهائية؛ تدريب المبلّغين وأنشطة الشباب؛ نموّ وتطوّر أمر الله عمومًا في جميع أنحاء العالم. بينما جمع حضرة شوقي أفندي بنفسه الكثير من البيانات، كان هوراس هو الذي كتب المادّة وقام بتحرير باقي المواد. أبرق حضرة وليّ أمر الله إلى هوراس، ‘رسالة مفصّلة أرسلت بالبريد من أجل مجلّد «النظرة العالمية»، واثق من براعة معالجتك للبيانات التي جُمِعت’.(21)

بالإضافة إلى ذلك، والعمل الإداري الذي قام به، أعدّ هوراس دليلاً لدراسة كلّ من «كتاب الإيقان» و«كتاب القرن البديع»، كما كتب مقدّمة كلّ من كتاب «الدين البهائي العالمي»، «نظام بهاءالله العالمي»، «سرّ المدنية الإلهية»، «أسس الوحدة العالمية»، «حقيقة الإنسان» «رسائل للعالم البهائي»، و«الإدارة البهائية». وكتب مقالات «في ذكرى» لمجلّد «العالم البهائي» عن حياة كلّ من ماونتفورت ميلز، جورج لاتيمر وروي ويلهلم. وكسكرتير للمحفل الروحاني المركزي كتب رسائل إلى رضا شاه پهلوي والرئيس هاري ترومان. هذا، وتشمل أعماله الخاصّة «الاقتصاد العالمي لبهاءالله»، «الأساس الروحاني للسلام العالمي» «الدين والنظام العالمي»، «المبدأ البهائي للحضارة»، «الوضع الانساني»، «الدين البهائي واليد العاملة»، «جذور النزاع»، «تحدّي الفوضى»، «التواصل مع اللامحدود»، و«عهدنا مع عبدالبهاء». كما كتب أيضًا كتابًا تمهيديًا حول الدين البهائي بعنوان «دين للبشرية»، والذي نشر في عام 1956 وفيه بعض المواد المذكورة أعلاه.(22)

كما وضع هوراس عناوين لرسائل حضرة وليّ أمر الله العامّة إلى أمريكا، مثل «قد أتى اليوم الموعود»، و«دورة بهاءالله» وكذلك اقتراحه العناوين الفرعية الموجودة في هذه النصوص. ومع مثل هذا النتاج الهائل، ليس من المستغرب أن يكتب حضرة شوقي أفندي إلى هوراس:

أقدّر كثيرًا، كما تعلم، تقديمك لمختلف جوانب أمر الله، الذي لأجل انتشاره واستحكامه والدفاع عنه، جاهدتَ خلال سنوات عديدة دون كلل وخدمتَه بمثل هذا التميّز.(23)

على مرّ السنين أسّس هوراس نوعًا من الصداقة الحميمة مع حضرة وليّ أمر الله قائمة على عبء العمل المشترك بينهما:

يسرّ حضرته دومًا أن يسمع منك لِما يكنّه لك من عطف كبير، إذ يدرك تمامًا ما أنت فيه من الإفراط في عمل شاقّ مستمرّّ. ولمّا كان هو نفسه تحت ضغط مستمرّّ من ضيق الوقت، فهو يعلم جيّدًا ما يعنيه ذلك!… ويأمل أن تكون في صحّة جيّدة ولا تبالغ في بذل الجهد – رغم أنّه يعرف من خبرته الطويلة أنّه يكاد يكون مستحيلاً عدم الإفراط في بذل الجهد عندما يستمرّ تراكم أعمال أمر الله!(24)

في أواخر ثلاثينيات القرن أبدى حضرة شوقي أفندي رغبته في أن ينتقل المقرّ المركزي الإداري للدين البهائي في الولايات المتّحدة من نيويورك إلى ويلمت بحيث يكون المقرّ الروحي والإداري معًا. كان هذا يعني أن يترك الزوجان هولي منزلهما في نيويورك للعيش في بلدة صغيرة في وسط الغرب، حيث سيعيق استمرار تدفّق الزوّار [لمشرق الأذكار] عملهما. فهم حضرة وليّ أمر الله مشاعر هوراس بخصوص ذلك فأبرق إليه: ‘أدركُ وأقدّر بعمق تضحيتك الشخصية بالراحة نتيجة الانتقال إلى جوار مشرق الأذكار. مع محبّتي العميقة.’(25)

بانتقاله إلى ويلمت في عام 1939، أصبح هوراس منخرطًا تمامًا في أنشطة الجامعة البهائية المحلّية، فضلاً عن الخدمة في اللجان المركزية. فأدار صفوفًا دراسية في موضوعات مثل الإدارة البهائية، التحوّل الشخصي والسلام العالمي، وألقى العديد من المحاضرات العامّة، واستضاف جلسات الضيافة التسع عشرية، وشارك في العديد من الندوات وأصبح عضوًا في نادي الروتاري وأسّس لجنة ويلمت التاريخية وكان رئيسًا لها عدّة سنوات. خلال الحرب خدم كمراقب أثناء الغارات الجوّية. وكثيرًا ما عقد دورات دراسية في «غرين إيكر» خلال الصيف، حيث كان هو ودوريس يملكان بيتًا صغيرًا.

ليس غريبًا على هوراس أن يبالغ في إجهاد نفسه فكان أن تراجعت صحّته وضعف. في عام 1944 أصيب بنوبة قلبية ونقل على أثرها الى المستشفى حيث أمضى بعض الوقت. ومنذ ذلك العام وما بعده أصيب هوراس بنوبات متكرّرة من المرض، سواء بسبب قلبه أو حالة من التوتّر العصبيّ أصابته في وقت لاحق سبّبت له ألمًا يكاد يكون مستمرًّّا. كما كان يعاني أيضًا من مشاكل في البصر. وهذا ما أقلق حضرة وليّ أمر الله فأرسل إليه عدّة رسائل معربًا عن أمله بالشفاء العاجل:

دعائي إلى الله العلي القدير أن يمنحك كلّ القوّة التي تحتاجها لتمكّنك من تحقيق انتصارات أكبر في سياق جهادك التاريخي لتأسيس دينه الكريم وتوطيد مؤسّساته الناشئة. كن سعيدًا، وابق مطمئنًّا، وامض مثابرًا. أخوك المخلص والممتنّ.(26)

رغم حالة الضعف التي يعاني منها، كان هوراس ممثّلاً لآخر محفل روحاني مركزي في الولايات المتّحدة وكندا في المؤتمر الذي عقد في مونترِيال في عام 1948 لانتخاب المحفل الروحاني المركزي المنفصل لكندا. في عام 1951، مثّل المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة، مع دوروثي بيكر، في مؤتمر الوكلاء في مدينة بنما لانتخاب المحفل الروحاني المركزي لأمريكا الوسطى.

ربّما كان سوء حالته الصحّية هو الذي أظهر طبيعة هوراس الصوفية من جديد. فقصيدته بعنوان «الله أبهى!» ظهرت في المجلّد الثاني عشر من «العالم البهائي»:

وراء مدى النجم الأبعد Beyond the sweep of farthest star
وفي ظلال جمال الورد Beneath the beauty of the rose
تضيء أماراته من بعيد His tokens shine remotely far
بهاؤه قريب على نحو لا يوصف. His glory stands ineffably close.
(متألّقٌ قلبُ ذاك الذي يعرف). (Radiant the heart of him who knows.)

 

لم يعد ضعيفًا كاعتقادٍ بائدٍ No longer weak as creed outworn
لم يعد معتمًا كأملٍ مفقود No longer dim as hope denied
تعلن مشيئته صبحًا سماويًا His will proclaims celestial morn
داخل سجن فخرنا الحصين. Within the dungeon of our pride
(قوّته لن يسخر منها بشر). (His power no people can deride.)

 

سوط يجلد كلّ خوف مرير A scourge He gives each bitter fear
يهيّئ للموت كلّ كره حرون. He arms for death each sullen hate.
يعرف عشّاقه أنّه هنا His lovers know that He is here
يمحو الخطيئة في الناس والبلاد، Destroying sin in man and state,
(العالم شاهد على قَدَره.) (The world is witness to its fate.)

 

بهاؤه يأسر الشرق والغرب His glory seizes East and West
يُذهِل الأمّة والطائفة والقبيلة Confounding nation, sect and clan
بوتقة ملتهبة للامتحان A fiery crucible to test
الروح نُفخت في الإنسان. The soul committed unto man.
(غاية الحياة منذ بدء الزمان.) (The goal of life since time began.)

 

يبني على عصرنا المهدّم He builds upon our ruined age
مملكة صلاح ثابت محتّم. A kingdom righteous, firm and sure.
انظر! تراثنا القديم Behold! Our ancient heritage
يستدعى الودعاء، ينتظر الأطهار. Summons the meek, awaits the pure.
(سلامه إلى الأبد دائم باستمرار.)(27) (His peace forever will endure.)

 

في 24 كانون الأوّل 1951 تلقّى هوراس برقية من حضرة وليّ أمر الله تفيد بتعيينه واحدًا من أيادي الأمر الثلاثة في أمريكا، أي مع دوروثي بيكر وليروي آيواس. ومع بقائه في وظيفته سكرتيرًا للمحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة، أصبح لدى هوراس الآن مجموعة جديدة من المسؤوليّات. في عام 1953 حضر المؤتمرات البيقارّية الأربعة التي دعا إلى عقدها حضرة شوقي أفندي في كمبالا وستوكهولم وشيكاغو ونيودلهي. في نهاية العام، بعد ثلاثة عقود من التعاون عن طريق المراسلة، التقى هوراس أخيرًا بحضرة وليّ أمر الله عندما ذهب للحجّ في كانون الأوّل.

في عام 1957، حضر هوراس مؤتمر الوكلاء في ليما عاصمة بيرو ممثّلاً شخصيًا لحضرة شوقي أفندي، حيث جرى انتخاب المحفل الروحاني المركزي الأوّل لدول شمال أمريكا الجنوبية. كان هوراس مريضًا في المستشفى عندما توفّي حضرة شوقي أفندي في تشرين الثاني 1957 ولم يتمكّن من حضور الجنازة في لندن. ورغم أنّ الألم المستمرّّ في ساقيه، وضعف قلبه قد تركاه عاجزًا تقريبًا، إلاّ أنّه حضر الاجتماع الرسمي الأوّل لأيادي أمر الله في البهجة في وقت لاحق من ذلك الشهر، حيث كتب المسودّة الأولى لإعلان حضرات الأيادي الذي أسّس سلطة الأمناء للسنوات الستّ التالية.

في الاجتماع الرسمي لعام 1959 انتخبه زملاؤه الأيادي ضمن أيادي أمر الله المقيمين في الأرض الأقدس. عاد إلى الولايات المتّحدة لتنظيم شؤونه وتقديم استقالته من المحفل الروحاني المركزي. وصل إلى الأرض الأقدس في اليوم الأخير من عام 1959. وفي ذلك الوقت عندما كان مُقعدًا تقريبًا، حضر هوراس اجتماعات زملائه الأيادي، يستمع بانتباه ولكن مدّخرًا قوّته المتضائلة إلى حين الطلب منه إبداء الرأي. فيشير إلى موافقته عند الضرورة بتحريك رأسه أو التلويح بيده. لقد ساعدت مساهمات هوراس في تلك الاجتماعات على نحو لا يقدّر بثمن، خاصّة خلال فترة انشقاق مايسون ريمي عندما كان بمقدوره تقديم مشورة قيّمة ناضجة حكيمة.(28)

في مساء يوم 12 تمّوز 1960 انهارت قوى هوراس هولي فجأة وتوفّي على الفور. عُقدت جلسة تذكّرية جميلة في صالة منزل المولى. بعد أقلّ من أربع وعشرين ساعة على وفاته، أخلد إلى الراحة في المقبرة البهائية، قرب قبرَي الدكتور إسلمنت والحاج ميرزا تقي، الأفنان الذي بنى مشرق أذكار عشق آباد. وفي استرجاعهم لذكريات السنوات العديدة من التفاني والخدمات التي قام بها هوراس، والتكريم الوفير الذي تلقّاه من حضرة شوقي أفندي والعون الذي لا يقدّر بثمن الذي أسداه كأيادي أمر الله، أبرق الأمناء إلى العالم البهائي:

بالحزن والأسى نعلن عن وفاة أيادي أمر الله المحبوب المتميّز هوراس هولي في حيفا. ذلك البطل البارز لأمر الله منذ أيّام المولى الذي أشاد به حضرة وليّ أمر الله لمساهمته الفريدة في تطوير النظام الإداري. كانت خدماته، التي لا تكلّ في حماية أمر الله والتبليغ والشؤون الإدارية التي بلغت ذروتها خلال خدمته في الأرض الأقدس، أمثلة ملهمة للأجيال الحالية والقادمة من البهائيين. شاركوا الرسالة أعلاه مع أيادي أمر الله وكافّة المحافل الروحانية المركزية. نحثّ على عقد جلسات تذكّرية في مشرق الأذكار والجامعات المحلّية في الولايات المتّحدة.(29)

1.
ورد اسمه في شهادة ميلاده هوراس ألفرد (Alfred) هولي. ويبدو أنّه كان يفضّل هوتشكيس، وهو اسم مرموق في عائلته. رسالة إلى المؤلّف من كلير فريلاند.
2.
See Blomfield, Chosen Highway, pp. 1–2.
3.
Whitehead, Some Bahá’ís to Remember, p. 217.
4.
Bahá’í World, vol. 13, p. 850.
5.
المصدر السابق، الصفحة 851.
6.
Holley, A Pilgrim to Thonon, Letchworth: Garden City Press, 1911.
7.
Holley, Bahaism: The Modern Social Religion, London: Sidgwick and Jackson; New York: Mitchell Kennerly, 1913.
8.
Bahá’í World, vol. 13, pp. 251–2.
9.
Holley, The Social Principle, New York: L. J. Gomme, 1915.
10.
Bahá’í World, vol. 13, p. 852.
11.
Holley, Bahai, the Spirit of the Age, London: Kegan Paul Trench Trubner, 1921.
12.
Bahá’í World, vol. 13, p. 853.
13.
المصدر السابق.
14.
المصدر السابق.
15.
المصدر السابق، الصفحتان 853–854.
16.
Whitehead, Some Bahá’ís to Remember, p. 247.
17.
Bahá’í World, vol. 13, p. 855.
18.
المصدر السابق، الصفحة 853.
19.
المصدر السابق، الصفحة 855.
20.
Shoghi Effendi, Bahá’í Administration, p. 157.
21.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 236.
22.
Holley, Religion for Mankind, London: George Ronald, 1956.
23.
Bahá’í World, vol. 13, p. 855.
24.
المصدر السابق.
25.
المصدر السابق.
26.
المصدر السابق، الصفحة 856.
27.
Bahá’í World, vol. 12, p. 935.
28.
Ministry of the Custodians, p. 227.
29.
المصدر السابق، الصفحة 217–218.

1896 – 1965 ليروي آيواس

Hand of the Cause of God Leroy C. Ioas (1896-1965)

كان ليروي آيواس، المعروف بلقب «هرقل وليّ أمر الله»، محطّ ثناء حضرة شوقي أفندي لِما كان عليه من ‘اليقظة والحذر الموصول، والتضحية بالنفس، والتفاني في سبيل أمر الله في كافّة مجالات أنشطته المتعدّدة’، ومن أجل ‘نضاله المذهل’ و‘جهوده الهائلة’.(1)

في خدمته للدين البهائي بجدّ واجتهاد لأكثر من نصف قرن، كان ليروي أيضًا رجل أعمال ناجح في مجال صناعة السكك الحديدية، ويعمل أساسًا لشركة «جنوب المحيط الهادئ». على مدى السنوات الأربعين التي قضاها في أعمال السكك الحديدية، ترقّى من وظيفة بسيطة ليصبح مدير إدارة نقل الركّاب للشركة في شرق الولايات المتّحدة. كان ‘رجلاً عمليًا، ذا تحصيل متميّز في مجال الأعمال التجارية، داهية في الذكاء، صاحب عزم وتصميم، يعمل بجدّ، لا يرضى إلاّ بالنجاح… فطنًا، لا يحيد عن الحقّ، وموضع ثقة’.(2)

كان ليروي واحدًا من عشرة أطفال لتشارلز وماريّا آيواس وكلاهما من المهاجرين الألمان. ولد في 15 شباط 1896 في ويلمنجتون، إلينوي. كان تشارلز آيواس محاميًا ومحاسبًا قانونيًا من خلفية لوثرية، وقد جاء إلى الولايات المتّحدة من ميونيخ في عام 1880. أمّا ماريّا آيواس فقد كانت مصوّرة، كاثوليكية المنشأ. انضمّ الزوجان آيواس إلى الكنيسة الميثودية وكان لهما اهتمام مشترك في موضوع عودة المسيح: عندما كان تشارلز طفلاً أخبرته والدته بأنّه قد يعيش ليرى المسيح يأتي مرّة أخرى.

في نهاية المطاف تعرّف الزوجان آيواس بالدين البهائي وحضرا دروسًا كان يقدّمها بول ديلي من شيكاغو. في الدرس رقم (12) درسوا عن حضرة بهاءالله. وفي وقت لاحق أخبرت ماريّا ابنتها:

[وعندما قيل لنا] إنّ الله بمحبّته ورحمته للبشرية قد تجلّى مرّة أخرى بروحه على الأرض في هيكل بشري في حضرة بهاءالله ساد سكون في تلك الغرفة – بدا كأنّ أنفاس الجميع قد توقّفت؛ وبدا ذلك أكثر ممّا تتحمّله قلوبنا.(3)

أصبح تشارلز وماريّا بهائيين في تمّوز 1898.

منذ سنّ الشباب كان ليروي معروفًا بإدراكه الروحاني اللافت للنظر. كان في السادسة عشر من عمره عندما قَدِم حضرة عبدالبهاء إلى أمريكا. فاتّخذ ليروي المولى فورًا مرشده في الحياة. في أحد الأيّام قاد الشابُّ والدَه إلى المولى عبر ردهة الانتظار المزدحمة بالناس في فندق ووجدا المولى خارج المدخل الجانبي للفندق كما تجد العثّة مصباحًا. وكان ليروي حاضرًا عندما وضع حضرة عبدالبهاء حجر الزاوية لمبنى مشرق الأذكار في ويلمت. وفي وقت لاحق أعطى دروسًا بهائية في ذلك الموقع عندما كان في مقتبل شبابه.

في عام 1919 تزوّج ليروي من سيلفيا كولمان واستقرّ الزوجان في سان فرانسيسكو وأقاما فيها سبعًا وعشرين سنة. لدى وصوله، أرسل ليروي إلى حضرة عبدالبهاء رسالة يطلب فيه ‘أن يبعث الحيوية في هذا المتعثّر بفضل القدرة الإلهية، حتى يؤدّي شيئًا من الخدمة التي قد تفضي إلى بهجة قلب حضرة عبدالبهاء.’(4)

بدأ الزوجان آيواس التبليغ في سان فرانسيسكو عن طريق دعوة الناس إلى منزلهما لأمسية اجتماعية. تعرّف العديد من الناس على أمر الله بهذه الطريقة. بعد نحو سنة ونصف على وصول ليروي إلى المدينة انتُخب عضوًا في المحفل الروحاني المحلّي. وبعد بضعة أشهر، فُجع البهائيون في كلّ مكان بصعود حضرة عبدالبهاء. كان ردّ فعل ليروي أن حمل المزيد من المسؤوليّات لأمر الله. فأصبح عضوًا في عدّة لجان بهائية محلّية وعُيّن سكرتيرًا لمراسلات المحفل. في عام 1923 بدأ بترؤّس الاجتماعات العامّة، وبعد فترة قصيرة أصبح هو المتحدّث في هذه الاجتماعات.

ولدت الابنة الأولى للزوجين آيواس، ماري لورين، في عام 1920. وطلب ليروي من بهائي كان ذاهبًا للحجّ أن يلتمس من حضرة عبدالبهاء إعطاء الطفلة اسمًا فارسيًا. وبعد وقت قصير تلقّى ليروي قطعة صغيرة من الورق عليها اسم «فرُّخ» (سعيدة جدًّا) مكتوبًا بقلم رصاص. منذ ذلك الوقت أصبحت ماري معروفة بهذا الاسم.

ولدت الابنة الثانية، أنيتا، للزوجين آيواس في عام 1921، وانتقلت الأسرة لبضع سنوات إلى بيرلنغيم، جنوب سان فرانسيسكو. في عام 1925 وفّرت إيلا غودال كوبر للبهائيين هناك منزلاً كبيرًا على الطراز الفيكتوري في سان فرانسيسكو استخدموه كمركز بهائي لهم. ولمّا كان المنزل يحتاج لمن يسكنه لأغراض التأمين، فقد انتقلت عائلة إيوس إليه وحافظت على المركز مفتوحًا للاجتماعات العادية أيّام الأربعاء، وجلسات «فايرسايد»، والصفوف الدراسية، واجتماعات المحفل الروحاني واللجان، وإحياء ذكرى الأيّام المقدّسة والاحتفال بالضيافات التسع عشرية.

في عام 1926 جاءت المبلّغة البهائية العظيمة أورتشيلا ركسفورد إلى سان فرانسيسكو في جولة لإلقاء المحاضرات. بعد هذه الجولة نظّمت أورتشيلا للبهائيين المحلّيين صفوفًا دراسية للمهتمّين. وهكذا، سرعان ما وجد ليروي نفسه يدير صفوفًا لمائة شخص في أوكلاند، التي تبعد ساعة ونصف على متن عبّارة. ورغم أنّ الصفوف كانت ناجحة للغاية – حيث أثمرت جامعة بهائية من خمس وثلاثين عضوًا – فقد شعر ليروي بخيبة أمل لعدم وجود غيره من البهائيين للمساعدة في أعمال التبليغ، فوجد الوضع ‘غير مشجّع على الإطلاق’.(5) كان الزوجان آيواس مضيافَين جدًّا ومنزلهما مفتوح دائمًا للاجتماعات والأمسيات الاجتماعية، والتجمّعات الشبابية والصفوف الدراسية. وفي الوقت نفسه أصبح ليروي رئيسًا للمحفل الروحاني وعضوًا في «لجنة التبليغ للولايات الغربية». لقد تأثّرت صحّته بهذا الإجهاد الناجم عن تحمّل عبء كلّ هذه الأنشطة، فصمّم على تغيير هذا الوضع. بعد فترة من التأمّل والتفكير، شعر أنّ الحلّ يكمن في الوصول إلى قادة البلاد وتزويدهم بمعلومات عن أمر الله، وإيجاد وسيلة لتطوير مبلّغين لأمر الله ووضع خطّة للتبليغ من شأنها توحيد كافّة الجهود الفردية لتكون أكثر تأثيرًا. وكونه اعتاد على معرفة الخطوات اللازمة لحلّ المشاكل، اقترح ليروي المضيّ في ثلاث خطط تبليغية مختلفة:

الأولى عقد مؤتمرات كبيرة جدًّا للوحدة والاتّحاد في هذه المنطقة الليبرالية الغربية… والثانية خطّة التبليغ المعدّلة التي اكتملت أخيرًا في خطّة السنوات السبع الأولى… والثالثة إيجاد مكان يتجمّع فيه الناس لمدّة أسبوع أو اثنين لغرض مزدوج يتمثّل في تعميق فهمهم لأمر الله وإعدادهم للتبليغ العامّ.(6)

وقد أثّرت المشاريع التي انطلقت من هذه الأفكار بشكل كبير في نموّ الدين البهائي في أمريكا الشمالية والعالم البهائي ككلّ.

في عام 1912 تأثّر حضرة عبدالبهاء عميقًا بما لمسه لدى الأحبّاء، الذين تجمّعوا في سان فرانسيسكو لوداعه، من وحدة واتّحاد، وأعرب عن أمله بأن تكون «الصداقة» التي تجمعهم «أداة تقود إلى الروحانية في العالم» وتنوير البشرية جمعاء.(7) تذكّر ليروي هذه الكلمات وشرع في إجراء الترتيبات لعقد مؤتمر الصداقة كوسيلة لتنفيذ فكرته الأولى.

عندما طرح ليروي اقتراحه هذا أوّل مرّة على المحفل الروحاني، لم يوافق على الفكرة، ولكن عندما عرضه عليه مرّة ثانية عيّنه المحفل الروحاني لدراسة الاحتمالات. وبينما أظهرت الدراسات الأوّلية التي أجراها ردّ فعل إيجابي لهذه الفكرة، عيّن المحفل الروحاني إيلا غودال كوبر وكاثرين فرانكلاند لمساعدته. أخذ ليروي إجازة لمدّة سنة للإعداد للمؤتمر وتنظيمه، وفاز البهائيون الثلاثة بدعم من الدكتور ديفيد ستار جوردان، والمستشار الفخري لجامعة ستانفورد، والحاخام رودولف الأوّل كوفي من معبد سيناء وغيرهم من القادة المدنيين والدينيين. وشغل الدكتور جوردان منصب الرئيس الفخري.

انعقد المؤتمر العالمي للوحدة والاتّحاد في الفترة من 20 إلى 22 آذار 1925 في سان فرانسيسكو. وإذ اعتُبر ناجحًا للغاية، أُرسل تقرير بهذا الحدث إلى حضرة شوقي أفندي، الذي هنّأ اللجنة على المضمون العميق للمؤتمر، وقال إنّه يأمل بأن ‘يكون نقطة انطلاق لمزيد من التطوّرات الهامّة’.(8) تبنّى المحفل الروحاني المركزي الفكرة، وخلال السنتين التاليتين رعى البهائيون سلسلة من «المؤتمرات العالمية للوحدة والاتّحاد» في ستّ عشرة مدينة في الولايات المتّحدة وكندا.

أعجب الدكتور جوردان جدًّا بصفات الشابّ ليروي بحيث عرض عليه منحة دراسية إلى جامعة ستانفورد. ولكن للأسف، لم يتمكّن ليروي من قبول هذا العرض اللطيف السخيّ للحصول على التعليم الجامعي. فقد شعر أنّ احتياجات أسرته المتنامية ومسؤوليّاته البهائية كانت بالفعل ملحّة جدًّا.

بدأ ليروي البحث عن وسيلة لتنفيذ مقترحاته الأخرى: أن يجمع الناس معًا في دراسة جادّة للتعاليم ووضع خطّة للتبليغ. ناقش أفكاره مع جون ولويز بوش، اللذين كانا قد قرّرا تكريس ممتلكاتهما في غيزرفيل، كاليفورنيا، للخدمة البهائية. في 1 آب 1925 تجمّع نحو مائة من المؤمنين من تسع جامعات للأحبّاء في غيزرفيل لحضور مجلس الضيافة التسع عشرية والاحتفال بعيد ميلاد جون بوش السبعين. وهناك ناقشوا خطّة تبليغ موحّدة وعزموا على الاجتماع معًا كلّ سنة. بعد ذلك، عيّن المحفل الروحاني المركزي ليروي وجون بوش وجورج لاتيمر للعمل من أجل تأسيس مدرسة بهائية دائمة. تمّ اختيار غيزرفيل مكانًا للمدرسة وعقدت الدورة الأولى في عام 1927. أخذ ليروي إجازة من العمل لمدّة يومين لإلقاء كلمة في هذه الدورة الأوّلية. كانت المدرسة ناجحة جدًّا بحيث كتب حضرة وليّ أمر الله بعد اثنتي عشرة سنة، من خلال سكرتيره، إنّ ‘المساهمة الفريدة لمدرسة غيزرفيل الصيفية… كانت تعليم الأحبّاء وإلهامهم للارتقاء إلى المستوى العالي الذي تغرسه التعاليم في الأذهان، وبالتالي تبليغ أمر الله من خلال قوّة المثال والقدوة’.(9)

وهكذا، نجد أنّ نشاط ليروي التبليغي قد أوصله إلى وادي سان خواكين في جنوب كاليفورنيا وإلى أريزونا. كما شارك بكثافة في الأنشطة التبليغية في منطقة سان فرانسيسكو ومن ضمنها المكتبة وغرفة القراءة اللتين افتتحهما المحفل الروحاني في أواخر عشرينيات القرن، وكذلك نشاطه في «لجنة الصداقة بين الأعراق» التي أسّسها البهائيون.

في عام 1932 انتخب ليروي عضوًا في المحفل الروحاني المركزي. استقبل حضرة شوقي أفندي انتخاب هذا العضو الأصغر سنًّا مع ‘شعور عميق بالرضا’ وتطلّع إلى ما سيقدّمه ليروي من ‘الأفكار المقترحة والقدرة التنفيذية’ و‘دفعة جديدة… إلى العمل الذي نهض المحفل الروحاني لإنجازه’.(10)

بعد انتخاب ليروي عضوًا في المحفل الروحاني المركزي عُيّن مباشرة في اللجنة المركزية للتبليغ، حيث خدم رئيسًا لها مدّة أربع عشرة سنة. وخلال هذه الفترة كان حضرة شوقي أفندي يقود الجامعة البهائية نحو القيام بمهامّها في إطار الخطّة الإلهية. في عام 1935 قدّم ليروي إلى حضرة وليّ أمر الله خطّة اللجنة لتأسيس أمر الله في اثنتي عشرة ولاية لا يقطنها بهائيون حتى ذلك الوقت. صادق حضرة شوقي أفندي بكلّ سرور على الخطّة. وفي مؤتمر الوكلاء التالي، في نيسان 1936، وجّه حضرة وليّ أمر الله الجامعة البهائية الأمريكية إلى تركيز اهتمامها على تأسيس أمر الله في كلّ ولاية ضمن الجمهورية الأمريكية وفي كلّ جمهورية في القارّة الأمريكية. وهكذا أطلق خطّة السنوات السبع الأولى لمواجهة هذا التحدّي العظيم.

مع نهاية الخطّة، تأسّست محافل روحانية جديدة في أربع وثلاثين ولاية من أمريكا الشمالية والمقاطعات الكندية لم توجد فيها محافل روحانية من قبل. كما تضاعف ثلاث مرّات عدد المراكز التي يقطن فيها بهائيون. تحقّقت جميع الأهداف في أمريكا اللاتينية. كانت تلك سنوات من العمل والقلق والضغط النفسي لأعضاء اللجنة المركزية للتبليغ والمحفل الروحاني المركزي، خاصّة لليروي، الذي خدم في كلتَي الهيئتين. أعجب حضرة شوقي أفندي كثيرًا بعمل ليروي في ‘لجنة التبليغ المركزية المهمّة جدًّا’، وأشاد بعملها واصفًا إيّاه ‘مذهل حقًّا، جدير بالثناء الرفيع ورائع في جميع جوانبه».(11) كتب حضرة شوقي أفندي إلى سيلفيا أنّه ‘لولا الإيمان الراسخ والتفاني الدؤوب’ اللذين ‘أسبغهما ليروي على العمل التبليغي في أمريكا الشمالية، ربّما لم تسر الخطّة قدمًا بتلك السلاسة إلى النصر كما فعلت’.(12)

في عام 1946 غادرت سيلفيا وليروي سان فرانسيسكو إلى شيكاغو، حيث نُقل ليروي بحكم وظيفته بعد ترقيته. وكونه عضوًا في مجلس أمناء مشرق الأذكار لمدّة أربعة عشر سنة، أصبح ليروي في وضع يمكّنه من تكريس المزيد من الطاقة للعمل في وقت يجري فيه الانتهاء من الزخرفة الداخلية والمناظر الطبيعية للأرض حول المعبد. بعد ثمانية عشر شهرًا من وصوله، تمّ تعيينه عضوًا في الوفد المؤلّف من خمسة أشخاص أقوياء لحضور مؤتمر الأمم المتّحدة حول حقوق الإنسان في جنيف كممثّلين عن الجامعة البهائية العالمية. كما شارك في المؤتمر الأوروبي الأوّل للتبليغ في المدينة نفسها، وزار جامعات بهائية في الدول الأوروبية العشر الهدف. في العام التالي عُيّن في لجنة التبليغ الأوروبية. في عام 1950 انتخب أمينًا لصندوق المحفل الروحاني المركزي.

خلال السنوات التي كان ليروي يتولّى فيها المزيد من المسؤوليّات داخل أمر الله، كان نشطًا اجتماعيًا أيضًا. في سان فرانسيسكو كان عضوًا في أندية «الكومنولث» و«كيوانيس» و«كوزموس»، وكان أيضًا أوّل عضو أبيض في سان فرانسيسكو في الرابطة الوطنية لتعزيز تقدّم الملوّنين. في شيكاغو كان عضوًا في أندية «الروتاري» و«سكال» و«رابطة الاتّحاد» وخدم عضوًا في «اللجنة التنفيذية للجمعية الأمريكية لضبّاط حركة المسافرين».

في ربيع عام 1951 طلب حضرة وليّ أمر الله من أميليا كولنز السفر إلى الولايات المتّحدة للتشاور مع المحفل الروحاني المركزي بشأن الأحداث في حيفا. وبينما كانت في شيكاغو تحدّثت مطوّلاً مع ليروي حول الأوضاع في الأرض الأقدس وهموم حضرة وليّ أمر الله. وقد أثّرت أخبارها على ليروي بقدر ما حصل تقريبًا حين صعود المولى قبل نحو ثلاثين سنة. في تشرين الأوّل من ذلك العام أرسل حضرة شوقي أفندي رسالة إلى ليروي عن طريق سكرتيره أعرب فيها عن أمله في أن ‘يأتي الوقت عندما تتمكّن من تكريس المزيد من الوقت للعمل، وعالميًا، كما على المستوى المركزي’.(13)

في كانون الأوّل 1951 عُيّن ليروي أياديًا لأمر الله. وبعد شهرين، في 12 شباط، تلقّى رسالة كتبت نيابة عن حضرة وليّ أمر الله:

إنّ ما يحتاجه [شوقي أفندي]، وقد أقول بشكل ملحّ، مؤمن قادر مكرّس ليأتي ويقوم بالعمل الجاري هنا، حتى يريح حضرته من الضغط المستمرّّ ومن التفاصيل، وأن يعمل أمينًا عامًّا للمجلس البهائي العالمي. فإذا قبلت القيام بذلك فسيكون خدمة لا تقدّر بثمن لحضرته ولأمر الله.(14)

كان على ليروي اتّخاذ قرار ‘صعب بشكل رهيب’ – ‘أصعب قرار كان عليّ اتّخاذه في حياتي البهائية بأسرها’، هذا ما كتبه إلى بول هايني(15) – ولكنّه أبرق إلى حضرة وليّ أمر الله:

تلقّيت الرسالة للتوّ. سيلفيا وأنا تأثّرنا بعمق للفوز بشرف خدمة وليّ الأمر المحبوب. سوف أصل في العاشر من آذار إذا كان هذا مُرضيًا. مع محبّتي وإخلاصي.

أجاب حضرة وليّ أمر الله: ‘مرحبًا. مع محبّتي. شوقي.’(16)

قلّة من الناس فهموا قرار ليروي المفاجئ وغير المتوقّع بالاستقالة من عمله ووظائفه ذات المسؤولية في مقرّ المحفل الروحاني المركزي؛ وقد ذُهل العديد من الزملاء والأصدقاء في جميع أنحاء الولايات المتّحدة. أمّا شركاؤه في العمل فقد احترموا قراره واعتبروه نابعًا من الشجاعة والمبدأ – حيث لم يخفِ ليروي أبدًا ولاءه للدين البهائي – في حين إنّ البهائيين والمؤسّسات البهائية غمروه برسائل الاحترام والثناء. لقد أثّرت سنوات خدمة ليروي الطويلة عميقًا في البهائيين الأمريكيين وسوف يفتقدونه بشدّة.

بعد ثلاثة أسابيع، في 17 آذار، وصل ليروي إلى حيفا. وما هي إلاّ بضعة أيّام حتى استقرّ في عمله الجديد كأمين عامّ للمجلس البهائي العالمي البالغ من العمر سنة واحدة، وسرعان ما أصبح مساعدًا لحضرة وليّ أمر الله أيضًا. كان واحدًا من أيادي أمر الله الأربعة الذين طلب منهم حضرة وليّ أمر الله العيش في الأرض الأقدس، وسرعان ما أصبح يقوم بمهامّ ضخمة تحت إشراف حضرته من قبيل: تقوية الروابط بين المجلس والسلطات المدنية في الدولة الوليدة؛ التفاوض على شراء العقارات على جبل الكرمل وبالقرب من مرقد حضرة بهاءالله؛ إنشاء فروع في الدولة لأربعة محافل روحانية مركزية [في الخارج] تُسجّل باسمها هذه العقارات؛ الدفاع عن أمر الله بقوّة ضدّ ناقضي العهد الذين سعوا لمعارضة خطط حضرة وليّ أمر الله؛ الإشراف على بناء الاسطوانة والقبّة لمقام حضرة الباب؛ والإشراف على بناء محفظة الآثار العالمية بين عامَي 1955 و 1957. وعندما تمّ الانتهاء من بناء مقام حضرة الباب في تشرين الأوّل 1953، أكرم حضرة شوقي أفندي ليروي بتسمية الباب المثمّن للمقام باسمه.

أنجز ليروي جميع مهامّه على الرغم من ‘التقشّف في الدولة الجديدة، وظروف العمل، والإجراءات المطوّلة للسلطات الرسمية، والأعباء المفرطة التي سعوا جاهدين لحملها، وحتى عدم خبرتهم للقيام بالمهامّ الموكلة إليهم’.(17) من أجل تعزيز العلاقات مع قادة الأعمال والمجتمع المدني، انضمّ ليروي إلى مختلف النوادي والجمعيّات، تمامًا كما في أمريكا. فكانت أوّل محاضرة عامّة له في الأرض الأقدس أمام «نادي روتاري حيفا» بعد ستّة أشهر فقط على وصوله، ممّا أدّى إلى مزيد من الدعوات للتحدّث في نوادي الروتاري في جميع أنحاء البلاد. وفي وقت لاحق، تحدّث ليروي حول السلام في العالم في نادي الروتاري في القدس، وكان ذلك مدعاة لرضا حضرة شوقي أفندي البالغ.

وهكذا أدّى ضغط هذا العمل الكبير إلى تدهور صحّة ليروي. بحلول تشرين الأوّل 1953 كان قلبه قد ضعف بالفعل واحتاج إلى فترات طويلة من الراحة سعى لقضائها سنويًا في أمريكا أو أوروبا. ومع ذلك ورغم سوء حالته الصحّية، واصل ليروي خدمة حضرة وليّ أمر الله، فشاركه في المراسلات الضخمة، التي ازدادت الآن مع إطلاق مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني في عام 1953، والسفر عبر أربع قارّات لزيارة الجامعات البهائية.

مثّل ليروي حضرة شوقي أفندي في أوّل المؤتمرات البيقارّية الذي عقد في كمبالا في عام 1953، فقرأ رسالة حضرة وليّ أمر الله، وعرض خرائط تبيّن أهداف مشروع الجهاد الروحاني. حضر حفل تدشين حظيرة القدس في لندن في عام 1955. وأرسله حضرة وليّ أمر الله إلى فرانكفورت بألمانيا، في عام 1956 للتشاور مع المحفل الروحاني المركزي حول عمله الهامّ في إنشاء مشرق الأذكار الأوروبي الأوّل. في عام 1958 حضر المؤتمرات البيقارّية في جاكرتا وسنغافورة وويلمت.

ربّما أهم خدمة قدّمها ليروي لحضرة وليّ أمر الله كانت سعيه ليضمن لأمر الله الممتلكات حول ضريح حضرة بهاءالله التي كانت لمدّة ستّين سنة في أيدي ناقضي العهد والميثاق. وفي حزيران 1957 تمكّن حضرة وليّ أمر الله من إرسال برقية إلى العالم البهائي تفيد بأنّ ‘الانتصار’ على الناقضين قد أحرز. وبحلول أيلول كان حرم الضريح المقدّس قد تطهّر منهم ومن كافّة متعلّقاتهم. وقال حضرة شوقي أفندي لليروي إنّ تلك الخدمة كانت ‘ذهبية’.(18) بعد ذلك بوقت قصير، صعد حضرة شوقي أفندي إلى الملكوت الأبهى في لندن، وفجع بذلك العالم البهائي قاطبة.

عند صعود حضرة شوقي أفندي، بقي ليروي في حيفا للقيام بجميع الإجراءات اللازمة في حين سافر أيادي أمر الله الآخرون إلى لندن لتشييع جثمان حضرة وليّ أمر الله. أعلم ليروي الحكومة أنّ حضرة شوقي أفندي قد وافته المنيّة، ثم وضع حرّاسًا على الأماكن المقدّسة وحول منزل حضرة وليّ أمر الله، وبعد ذلك غادر إلى لندن ليصلها صباح يوم الجنازة. كان يحمل معه بعض الأغراض التي طلبتها روحية خانم: سجّادة صغيرة من ضريح حضرة بهاءالله لتوضع تحت النعش في اللحد، وغطاء من الحرير الأزرق مطرّز بماء الذهب ليفرش فوق النعش.

عاد ليروي إلى حيفا في الليلة التي تلت الجنازة. وفي غضون أيّام قليلة وصل جميع أيادي أمر الله إلى حيفا عدا كورين ترو وذلك لبحث مستقبل أمر الله. في 15 تشرين الثاني قام أيادي أمر الله الأربعة المقيمون في الأرض الأقدس – روحية خانم، أميليا كولنز، تشارلز مايسون ريمي وليروي آيواس – يرافقهم أوغو جياكري، بدخول شقّة حضرة وليّ أمر الله وختموا خزانته ومكتبه. ووُضعت مفاتيح خزنة حضرة شوقي أفندي في ظرف مختوم أودع في خزنة ليروي. بعد أربعة أيّام، في صباح يوم 19 تشرين الثاني، دخل تسعة ممثّلين من أيادي أمر الله بالنيابة عن جميعهم، ومن بينهم ليروي، إلى شقّة حضرة وليّ أمر الله، وفضّوا الأختام وفحصوا محتويات خزنته ومكتبه. في نهاية بحثهم الدقيق أبلغوا الأيادي الآخرين: لم يترك حضرة وليّ أمر الله وصيّة. بعد الاهتداء بمضامين ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء، اختار الأيادي من بينهم تسعة للخدمة في الأرض الأقدس نيابة عنهم والقيام بدور «الأمناء»، في انتظار انتخاب بيت العدل الأعظم. وكان ليروي بين التسعة المختارين.

أدّى عمل ليروي في الأرض الأقدس بعد صعود حضرة شوقي أفندي إلى استنزاف المزيد من صحّته المعتلّة. ورغم نصح الأطبّاء له بالراحة من أجل قلبه، أبقى على جدول أعمال مزدحم إلى حدّ ما خلال السنوات الخمس والنصف التالية، مسافرًا على نطاق واسع أكثر من أيّ وقت مضى لأجل أمر الله. في عام 1960 سافر إلى الولايات المتّحدة لحضور حفل زفاف ابنته أنيتا. ولكنّ هذا الحدث المفرح قد أعقبه، في نيسان1960، الوفاة المفاجئة لابنة ليروي الكبرى، فرّخ، التي كانت في عامها الأربعين. وبينما كان في الولايات المتّحدة حضر ليروي مؤتمر الوكلاء البهائي السنوي، وزار المدرسة الصيفية في غيزرفيل وسافر إلى مختلف الجامعات البهائية. في العام التالي كان في سويسرا، حيث زار المحافل الروحانية المحلّية الاثني عشر في البلاد. في عام 1962 قام بجولة في أوروبا شملت زيارات إلى فنلندا والسويد والدنمارك ولوكسمبورغ وألمانيا.

في نيسان عام 1963 جرى انتخاب بيت العدل الأعظم الذي تسلّم من «الأمناء» زمام إدارة أمر الله، واحتفظ الأيادي بمسؤوليّاتهم الأساسية في حماية أمر الله ونشره. بعد وقت قصير من الانتخاب، عُقد أوّل مؤتمر عالمي بهائي في لندن. ثم أصيب ليروي بالالتهاب الرئوي في افتتاح المؤتمر، واضطرّ للراحة في ألمانيا لعدّة أشهر بعد ذلك.

في تشرين الأوّل 1963 حضر ليروي اجتماع الأيادي مع بيت العدل الأعظم، ثم غادر إلى الولايات المتّحدة بقصد قضاء فترة للنقاهة. ولكنّه بدل ذلك، شرع في آخر رحلة تبليغية كبيرة سافر فيها متنقّلاً عبر جنوب البلاد وغربها. ورغم ضعف جسمه ومعاناته من التهاب الشعب الهوائية المزمن وكذلك ضعف قلبه، فقد ألهب حماس الأحبّاء عامّة والشباب بشكل خاصّ، لتقبّل تحدّيات خطّة التسع سنوات. ولدى عودته إلى ويلمت في نيسان 1964، مثّل الأيادي المقيمين في الأرض الأقدس في مؤتمر الوكلاء السنوي الذي دشّن بدء الخطّة.

شعر ليروي بالإنهاك في نهاية هذه الجولة فأخذ فترة من الراحة حتى تشرين الأوّل، ثم عاد إلى الأرض الأقدس. وبعد تسعة أشهر، في 22 تمّوز 1965، وافته المنيّة بعد بضعة أسابيع قضاها في المستشفى، وكان يبلغ من العمر تسعًا وستّين سنة. دفن في المقبرة البهائية على سفح جبل الكرمل. وعقدت له مجالس تذكّرية في مشرق الأذكار في ويلمت، وفي مدرسة غيزرفيل وفي الجامعات البهائية في جميع أنحاء العالم. وأطلق اسمه على بستان من أشجار السيكويا في غيزرفيل تكريمًا لذكراه، وفي سنوات لاحقة حمل اسمه بستان مماثل في مدرسة بوش في ولاية كاليفورنيا.

بعد وفاته أبرق بيت العدل الأعظم إلى العالم البهائي:

نعلن بحزن عميق وفاة أيادي أمر الله البارز ليروي آيواس. لقد توّجت خدماته الطويلة للجامعة البهائية في الولايات المتّحدة بتعيينه أياديًا لأمر الله ما مهد الطريق لخدمات تاريخية متميّزة في الأرض الأقدس. كان تعيينه أوّل سكرتير للمجلس البهائي العالمي، والممثّل الشخصي لحضرة وليّ أمر الله في مؤتمرين بيقارّيين؛ وإطلاق اسمه على الباب المثمّن لمقام حضرة الباب من قبل حضرة وليّ أمر الله المحبوب، وإشرافه على العمل في إسطوانة وقبّة المقام الأعلى المقدّس، ودوره الملحوظ في بناء محفظة الآثار العالمية؛ قد ضمنت جميعها خلود اسمه في سجلاّت تاريخ أمر الله. لقد أخلد للراحة في المقبرة البهائية قرب زملائه من الأيادي. نوصي بعقد جلسات تذكّرية لائقة.(19)

 

1.
Bahá’í World, vol. 14, p. 291.
2.
المصدر السابق.
3.
Stockman, The Bahá’í Faith in America, vol. 1, p. 78.
4.
Bahá’í World, vol. 14, p. 292.
5.
المصدر السابق.
6.
المصدر السابق.
7.
المصدر السابق.
8.
المصدر السابق.
9.
المصدر السابق، الصفحة 293.
10.
المصدر السابق.
11.
المصدر السابق، الصفحة 294.
12.
المصدر السابق.
13.
المصدر السابق، الصفحة 295.
14.
Chapman, Leroy Ioas, p. 157.
15.
Bahá’í World, vol. 14, p. 295.
16.
Chapman, Leroy Ioas, p. 157.
17.
المصدر السابق، الصفحة 296.
18.
المصدر السابق، الصفحة 297.
19.
Universal House of Justice, Messages from the Universal House of Justice, p. 66.

1874 – 1952 وليام سذرلاند ماكسويل

Hand of the Cause of God William Sutherland Maxwell (1874-1952)

جبل الكرمل، ويعني «كرم الربّ»، هو أحد أهم المعالم التاريخية في الشرق الأوسط؛ فحول سفحه نشأت الحضارات الكبرى القديمة في العصور التوراتية وامتدّت لأجيال. واليوم، في وسط منحدراته يرتفع صرحٌ فخمٌ ذو قبّة مذهّبة يزوره عشرات الآلاف من الناس. هذا هو المقام البهائي الشهير حيث يرقد حضرة الباب، المبشّر بمؤسّس الدين البهائي. وصف حضرة وليّ أمر الله، حضرة شوقي أفندي مقام حضرة الباب، في برقية موجّهة إلى البهائيين في العالم، بأنّه ‘ملكة الكرمل تتوّج جبل الربّ بتاج مذهّب وهّاج ورداء أبيض يلفّه حزام أخضر زمردي، فتسحر كلّ ناظر سواء من الجوّ أو البحر أو السهل أو الجبل.’ صمّم هذا الهيكل الفوقي المهيمن المحيط بالمرقد المهندس المعماري الكندي البارز وليام سذرلاند ماكسويل.

ولد وليام سذرلاند ماكسويل في مونترِيال، كندا بتاريخ 14 تشرين الثاني 1874. وبعد دراسته الثانوية، عمل في المكتب المعماري التابع لشقيقه الأكبر إدوارد في مونترِيال، وبحلول عام 1895 واصل تدريبه في شركة معمارية كبرى في وينسلو وويثيريل في بوسطن. وقادته موهبته غير العادية في الرسم والتصميم في النهاية إلى باريس، حيث قُبل للعمل في مرسم المهندس المعماري المعروف باسكال، وهو مهندس بارز له ارتباط وثيق مع «مدرسة الفنون الجميلة». بعد تجربته الأكاديمية هناك، عاد إلى كندا، حيث انضمّ إلى شقيقه في مهنته في الهندسة المعمارية.

قبل الحرب العالمية الأولى، كانت شركة إدوارد و«و. س. ماكسويل» واحدة من أبرز وأكبر الشركات في كندا. وقد صمّم الأخوان ماكسويل العديد من المعالم الكندية، مثل «مبنى البرلمان» في ريجينا، «فندق باليسير» في كالغاري، «ومتحف الفنون الجميلة»، و«كنيسة المسيح» و«جناح الممرّضات» في مستشفى فكتوريا الملكي في مونترِيال. فأصبحت المعرفة والقدرة والفطنة من جانب الأخ الأكبر، مع موهبة التناسب والتصميم من سذرلاند الأصغر سنًا، مزيجًا ناجحًا أدّى إلى امتلاكهما أكبر المكاتب المعمارية في كندا في تلك الفترة.

في عام 1902 تزوّج وليام سذرلاند ماكسويل من ماي إليس بولز، التي التقاها عندما كان في باريس ومن خلال شقيقها راندولف بولز الذي كان طالبًا في الهندسة المعمارية في «مدرسة الفنون الجميلة» أيضًا. بعد زواجهما في لندن عادا للعيش في مونترِيال. بعد سبع سنوات سافر الزوجان معًا للحجّ إلى الأماكن البهائية المقدّسة في حيفا وعكّاء. ورغم معرفته بأمر الله لِما يقرب من عقد من الزمن من خلال زوجته ماي – أمة حضرة عبدالبهاء المحبوبة – كان سذرلاند يعتقد أنّ الله يمكن أن يُعبد مباشرة لا من خلال أيّ وسيط. لدى لقائه حضرة عبدالبهاء، تعلّم سذرلاند من حضرته أنّه مهما كانت الصورة التي قد يتخيّلها المرء عن الله فهي نتاج خياله الخاصّ، وأنّ الوسيط ضروري لإجراء اتّصال بين الجوهر اللاّمحدود وحالة الإنسان المحدودة. هذا هو دور من ندعوه المظهر الإلهي حتى يجلب إلى هذا العالم المحدود ذلك الجوهر الغيبي – أي الله.

من ذلك اللقاء مع حضرة عبدالبهاء، نبتت بذرة الإيمان في سذرلاند. أمّا «الطائفة الدينية الشرقية» التي تنتمي إليها السيّدة ماكسويل فقد بدت غريبة جدًّا لأكثر السكّان الكنديين الفرنسيين الكاثوليك الذين يشكّلون معظم سكّان مونترِيال؛ ومع ذلك فإنّ سذرلاند، الذي خاطر بتلقّي اللوم والنقد من الجاهلين [بحقيقة الدين]، لم يتردّد في قبول حضرة بهاءالله ودعم الأنشطة البهائية. وهكذا أصبح منزل سذرلاند وماي ماكسويل – وهو اليوم ممتلك تاريخي بهائي – مركزًا للنشاط البهائي في كندا في ذلك الوقت. خدم سذرلاند مدّة عقود كعضو، وغالبًا كرئيس، للمحفل الروحاني المحلّي في مونترِيال. وفي العمل التبليغي كان الشريك الصامت لكن المستعدّ لزوجته ماي. خلال تلك السنوات المبكرة أصبح سذرلاند يُعرف كرجل وصفت طبيعته بأنّها «كلّ الخير».(2) وقيل، على سبيل المثال، أنّه ما تقرّب إلى شخص إلاّ بروح المودّة واللطافة والرأفة. كان أيضًا يتحلّى بالحكم السليم بشكل ملحوظ.

في عام 1912 زار حضرة عبدالبهاء مونترِيال، وقضى الأيّام الثلاثة الأولى من زيارته القصيرة هناك في منزل عائلة ماكسويل. ولا شكّ أنّ حضرته في هذا الوقت قد تعرّف على ابنة مضيفيه الرضيعة، ماري سذرلاند ماكسويل. فأثناء حجّ الزوجين قبل ثلاث سنوات كان حضرة عبدالبهاء قد وعد بالدعاء بأن تُرزق ماي وسذرلاند بطفل.

كان سذرلاند فنّانًا موهوبًا، ولديه معرفة موسوعية بكلّ أنواع الفنون، والقدرة الإبداعية لجلب أشياء جديدة إلى حيّز الوجود.(3) فعلى سبيل المثال، صمّمت شركة إدوارد و«و. س. ماكسويل» خطوط المبنى المكوّن من سبعة عشر طابقًا المسمّى شاتو فرونتيناك، بما في ذلك الكثير من التفاصيل الداخلية، بدءًا من الدرابزينات الحديدية إلى الأثاث، شبكات الحماية، المصابيح، السقوف واللوازم الداخلية للمصاعد، مثل هذه التفاصيل غالبًا ما كان يصمّمها سذرلاند، الذي كان بمقدوره أن يرسم وينحت ويلوّن ويصنع المجسّمات
بقدرة فائقة.

لا شكّ أنّ إنجازات سذرلاند قد منحته العديد من الألقاب: أصبح زميلاً في المعهد الملكي للمهندسين المعماريين البريطانيين؛ وزميلاً للمعهد الملكي المعماري الكندي ولاحقًا رئيسًا له؛ وأكاديميًا في الأكاديمية الملكية الكندية؛ وعضوًا ورئيسًا لجمعية المهندسين المعماريين لمقاطعة كيبيك؛ وعضوًا مؤسّسًا لنادي «القلم وقلم الرصاص»؛ وكذلك نادي الفنون في مونترِيال. مع اقتراب حياة سذرلاند من مغربها، فإنّ تلك الألقاب التي يُحسد عليها سيحجبها ذلك الشرف الذي يمكن لله وحده أن يمنحه لرجل ذي شخصية طيّبة تتحلّى بالنزاهة والموهبة.

في معظم سنوات بلوغه ونضجه انشغل وليام سذرلاند ماكسويل بمتطلّبات مهنته. باستثناء حضور بعض مؤتمرات الوكلاء السنوية البهائية، وزيارة مدرسة «غرين إيكر» البهائية، والخدمة عضوًا في المحفل الروحاني المحلّي في مونترِيال، فإنّ سذرلاند لم يأخذ دورًا بارزًا في مقدّمة العمل التبليغي البهائي.

في الستّينيات من عمره، حدث أمران غيّرا مجرى حياته بشكل درامي. جاء الأوّل في عام 1937 على شكل برقية تطلب منه الحضور من أجل زواج ابنته، ابنته الوحيدة، من حضرة وليّ أمر الدين البهائي. كانت زوجته وابنته بالفعل في حيفا بعد إقامة لمدّة سنتين في فرنسا وبلجيكا وألمانيا. وجاء الثاني في عام 1940، عندما فازت ماي بإكليل الشهادة. فبجسمها الضعيف، ولكن مع ذلك التوق إلى أن تكون أكثر جدارة من ابنتها الحبيبة، وعن عمر يناهز السبعين نهضت لتسافر في رحلة تبليغية إلى الأرجنتين، ولدى وصولها بوينس آيرس، أصيبت بنوبة قلبية في 1 آذار 1940 كانت قاتلة. بعد وفاتها، دعا حضرة شوقي أفندي سذرلاند لنقل مقرّ إقامته إلى حيفا، وهو ما فعله، فترك مونترِيال في شهر أيّار من ذلك العام. لدى وصوله حيفا، أقام في دار ضيافة الحجّاج الغربيين. منذ ذلك الحين وحتى وفاته، كان الرجل المعروف في الغالب باسم «زوج ماي ماكسويل» مرتبطًا بشكل وثيق مع صهره [شوقي أفندي] المحبوب في مجموعة متنوّعة من المشاريع، بما في ذلك تشييد المبنى الفوقي لمقام حضرة الباب.

بالنسبة لسذرلاند، فإن هذا التغيير في الإقامة من حياة الهدوء الروتينية في كندا إلى المركز العالمي للدين البهائي في الشرق الأوسط، لا بدّ كان مصدر تحدٍ كبير بالتأكيد. كان قريبًا ليس فقط من الاضطرابات الناشئة عن اثنين من الصراعات المتعاقبة – واحد شمل العالم بأسره، والآخر الدولة الناشئة – ولكن أيضًا من التطوّرات التاريخية التي كانت تحدث على جبل الكرمل.

فبفضل نبل شخصيته والتفاني لأمر الله والمحبّة لحضرة وليّ أمر الله، تمتّع سذرلاند بعلاقة حميمة مع حضرة شوقي أفندي لم يفز بمثلها إلاّ عدد قليل. أغدق حضرة وليّ أمر الله، الذي كان في أربعينيات القرن مشغولاً بشكل متزايد بعمله، ويعاني من الأزمات داخل عائلته في آنٍ معًا، بدفء محبّته على سذرلاند ماكسويل.

عندما كان سذرلاند يأتي برسومات جديدة إلى حضرة شوقي أفندي في غرفة نومه، كان حضرة وليّ أمر الله يدعوه أحيانًا للجلوس قرب سريره حتى يتمكّنا من مراجعتها معًا بدقّة. وعندما كان حضرة وليّ أمر الله يعطّر سذرلاند بحماس بعطر الورد، كانت ردّة فعل الرجل الأكبر سنًّا، طاهر القلب، غير المعتاد على العادات الشرقية، خليطًا غريبًا من الروْع والفرح.

في خضمّ هذه اللحظات الحميمة، كان أحد جوانب حياة سذرلاند ماكسويل المجيدة يتقدّم نحو قمّة مجده بقوّة وثبات. فبعد سنتين على وصوله إلى الأرض الأقدس، طلب منه حضرة وليّ أمر الله عمل تصميم المبنى الفوقي لمقام حضرة الباب. وفي تزويد سذرلاند بإشارات سطحية لِما ينبغي أن يكون عليه المقام في النهاية، وصف حضرة شوقي أفندي الصرح بأنّه يتطلّب قبّة ورواقًا وأوضح أنّ المبنى يجب أن لا يكون غربيًا أو شرقيًا بحتًا في الطراز، ويجب ألاّ يظهر كمسجد أو كنيسة. وترك سذرلاند ليتصوّر تصميمه الخاصّ.

في عام 1891 كان حضرة بهاءالله قد عيّن لحضرة عبدالبهاء موقع مقام المبشّر بحضرته. بعد سبع سنوات، أوعز المولى إلى ميرزا أسد الله الأصفهاني بنقل رفات حضرة الباب بأقصى قدر من الرعاية من إيران إلى الأرض الأقدس. وفي الوقت نفسه أقام حضرة عبدالبهاء، ‘بدموع لا نهاية لها وجهد لا حدّ له’،(4) بناءً بسيطًا من ستّ غرف لتضمّ رفات حضرة الباب وجهّز الطريق المؤدّي إليه. في عام 1909 تمكّن حضرته من إيداع رفات المبشّر الشهيد داخل الصرح، في تابوت من الرخام قدّمه بهائيو بورما.

ولمّا لم يتمكّن حضرته بنفسه من إنجاز أيّ تطوّر آخر على مبنى المقام، أعرب حضرة عبدالبهاء عن مفهومه للهيكل النهائي: أن يكون بناءً من تسع غرف وأن يحيط به رواق وتعلوه قبّة. لم تفارق أفكار جدّه المحبوب هذه أبدًا ذهن حضرة شوقي أفندي. ولكنّه، حتى أربعينيات القرن، كان يفتقر الى المهندس المعماري والمال لإضافة أيّ شيء أكثر من ثلاث غرف فقط إلى الهيكل الأصلي.

بحلول عام 1944 وضع سذرلاند ماكسويل، بالتعاون الوثيق مع حضرة شوقي أفندي، تصميمًا وأنموذجًا للمبنى الفوقي. وتمّ الكشف عن هذا الأنموذج في دار ضيافة الحجّاج الشرقيين، بالقرب من مقام حضرة الباب، وذلك في 23 أيّار 1944 في الذكرى المئوية لإعلان دعوة حضرة الباب، وأمام مجموعة من الزوّار البهائيين من مختلف البلدان. بعد يومين أعلن حضرة وليّ أمر الله بفرح وابتهاج إلى العالم البهائي ما يلي:

… أعلنوا للأحبّاء البشرى السارة بأنّ الذكرى المئوية لإعلان المبشّر الشهيد دعوته قد تميّزت بالقرار التاريخي استكمال تشييد مقام حضرته الذي بدأ ببنائه حضرة عبدالبهاء في البقعة التي اختارها حضرة بهاءالله نفسه. لقد كُشف الستار في حضور الأحبّاء المجتمعين عن مجسّم القبّة الذي تمّ تصميمه حديثًا. ندعو لإزالة العوائق سريعًا أمام إنجاز الخطّة المذهلة التي تصوّرها مؤسّس الدين (حضرة بهاءالله) وتحقيق الآمال العزيزة على قلب مركز عهده وميثاقه.’(5)

في رسالة إلى لجنة البناء والتخطيط المحلّية في مدينة حيفا في عام 1947، وصف حضرة شوقي أفندي خطّته لاستكمال مبنىً في غاية الجمال، وأرسل طيّ رسالته الرسومات التصوّرية للهيكل المكتمل بشيء من التفصيل تظهر القبّة المذهّبة للمقام في المستقبل. وأنهى حضرة شوقي أفندي رسالته قائلاً: ‘إنّ المهندس المعماري لهذا البناء الضخم هو السيّد و. س. ماكسويل، زميل في المعهد الملكي للمهنسين المعماريين البريطانيين (FRIBA)، وزميل في المعهد الملكي للهندسة المعمارية في كندا (FRAIC)، وزميل في الأكاديمية الملكية الكندية للفنون (RCA)، وهو مهندس كندي شهير… أرى أنّ تصميمه الجميل في استكمال مقام حضرة الباب سيضيف الكثير إلى مظهر مدينتنا، وسيكون عامل جذب إضافي للزوّار.’(6)

في عام 1948 عانى سذرلاند وعائلته الحبيبة المخاطر المرتبطة بالحرب في فلسطين. خلال تلك الحرب، كان السفر والاتّصالات محدودة أو مقطوعة تمامًا. اندلع اطلاق نار كثيف في محيط المركز البهائي العالمي. وانسحب أهل البلاد أمام القوى المضادّة.

في خضمّ هذه الاضطرابات، قرّر حضرة وليّ أمر الله إرسال سذرلاند في مهمّة إلى إيطاليا لينضمّ إلى الدكتور أوغو جياكري. وهناك بدأ الرجلان التعاون من أجل تشييد المبنى الفوقي لمقام حضرة الباب. فأوكل حضرة شوقي أفندي إلى السيّد ماكسويل مهمّة البحث عن المواد المناسبة والحرفيين لتنفيذ تصاميمه للمقام. إلاّ أنّ رحيل والدها عن حيفا سبّب لروحية خانم قلقًا شديدًا على سلامته. فللوصول إلى المطار، كان على السيّد ماكسويل ورفيقه في السفر، بن ويدن، السفر في سيّارة أجرة مصفّحة. ثم غادرا من مطار اللّد في 16 نيسان 1948 على متن واحدة من الطائرات الأخيرة التي تمكّنت من الخروج، ولم يُسمع عنهما شيء لفترة من الوقت. ولمّا كان غير قادر على الاتّصال للتأكيد على وصولهما بسلام، لم يكن سذرلاند يعلم أنّ ابنته الحبيبة وحضرة وليّ أمر الله كانا خائفَين على حياته.

كان الدكتور جياكري في استقبال طائرتهما في مطار تشامبينو في روما. ومع أنّ الأمّة الإيطالية بأكملها كانت تعاني من الدمار الكبير الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية، فقد جلبت إقامة السيّد ماكسويل في روما فرحًا كبيرًا إلى الدكتور والسيّدة جياكري. وكان الزوجان جياكري قد أقاما في فندق سافويا لعدم توفّر الشقق، ولكنّهما كانا في منتهى السعادة بلطف السيّد ماكسويل ومزاحه ومحبّته اللامحدودة لحضرة وليّ أمر الله. خلال الشهر الذي غاب فيه عن حيفا، كان سذرلاند قادرًا، بمساعدة الدكتور جياكري، على إبرام العقود اللازمة لشراء اللوازم؛ فعاد إلى حيفا في 15 أيّار وأكّد لحضرة وليّ أمر الله أنّ تشييد المبنى الفوقي أصبح أمرًا حتميًا.

في عام 1948 بدأ تشييد المبنى الفوقي لمقام حضرة الباب، على الرغم من الصعوبات الجمّة المفروضة داخل الدولة الناشئة بعد ويلات الحرب العالمية. بدأت الأعمدة والأروقة بالظهور تدريجًا، وكذلك المثمّن، والرواق بنوافذه الثمانية عشر تكريمًا لحروف «حي»، وأخيرًا، التاج والقبّة مع بلاطها الذهبي.

أنجز بناء المقام الرائع في عام 1953، وبخصوص هذا الصرح وأهمّية موقع رفات حضرة الباب المقدّس الذي يضمّه الصرح وضع حضرة شوقي أفندي الأمور في منظورها الصحيح في رسالة كتبها في آذار 1951:

لأنّ رفاته المقدّس يمثّل قلب ومحور ما يمكن اعتباره تسع دوائر ذات مركز واحد، وبذلك يوازي ويضيف تأكيدًا أكثر إلى مركزية المقام الذي منحه مؤسّس ديننا لمن ذكره بقوله: ‘الحمد لله الذي أظهر النقطة وفصّل منها عِلم ما كان وما يكون’ و‘النقطة التي بها ذُوِّت من ذُوِّت’.

«أقصى دائرة من هذه الدوائر التسع المحيطة بهذا النظام متّسع الأرجاء هي الكرة الأرضية بأسرها التي أصبحت مثالاً مرادفًا في هذا العالم الدنيوي لذلك المركز المرموق الذي أسبغ على المبشّر بديننا في العوالم الغيبية. وفي قلب هذه الكرة الأرضية تقع «أقدس بقعة» أجلّها حضرة عبدالبهاء فوصفها بأنّها «وكر الأنبياء» والتي ينبغي اعتبارها قلب العالم وقبلة الأمم. وفي قلب أقدس بقاع الأرض هذه يرتفع جبل الربّ، جبل الله وكرم الله ومقام حضرة إيليّا الذي كان حضرة الباب رمز رجعته. وتستريح على صدر هذا الجبل المقدّس الممتلكات الشاسعة التابعة للمقام الأعلى على الدوام والتي تشكّل حرمه الأقدس. وفي قلب هذه الممتلكات الشاسعة المعترف بها دوليًا كوقف للدين البهائي ينبسط الحرم الأقدس الذي يتألّف من فناء يضمّ جنائن وحدائق مدرّجة تغدق على كلّ ما يجاورها زينة ورونقًا وتكسبها جاذبية فريدة. وفي حضن هذا المحيط الأخضر البهيج يرتفع المقام الأعلى بكلّ جماله وروعته، الصدَفة التي روعي في تصميمها تجميل البناء الأصلي والمحافظة عليه. وهو البناء الذي رفعه حضرة عبدالبهاء ليكون مثوى المبشّر الشهيد بديننا الكريم. وفي قلب هذه الصدفة أودعت تلك اللؤلؤة النفيسة، قدس الأقداس، حيث الحجرات التي شيّدها حضرة عبدالبهاء تشكّل الضريح نفسه. وفي قلب قدس الأقداس هذا يوجد المقرّ الذي يرقد فيه أقدس تابوت. وفي قلب هذا اللّحد يرقد التابوت المرمري الذي أودعت فيه تلك الجوهرة التي لا تثمّن ألا وهي رمس حضرة الباب المقدّس.» وهذا الرمس نفيس جدًّا بحيث إنّ التراب نفسه الذي يحيط بالصرح الذي يحتضن هذا الرفات أشاد به مركز عهد وميثاق حضرة بهاءالله في أحد ألواحه التي سمّى فيها الأبواب الخمسة الموجودة في الحجرات الستّ التي بناها حضرته في البداية بأسماء خمسة من الأحبّاء ذوي العلاقة بتشييد المقام الأعلى، بأنّه [التراب] قد وُهب من القدرة ما ألهمه منح تلك الأسماء، بينما أشاد بالتابوت نفسه الذي يحتضن الرمس واصفًا إيّاه بمطاف الملأ الأعلى.(7) 

سأل الدكتور جياكري نفسه عدّة مرّات ما إذا كان بمقدور أيّ مهندس معماري آخر أن ينافس السيّد ماكسويل في تصوّر المبنى الفوقي وتصميمه. فكتب الدكتور جياكري عن عمل سذرلاند المكتمل قائلاً:

يعرض الصرح بأكمله مجموعة كبيرة ومتنوّعة من جواهر العمارة والفنّ، نتاج من الإبداع والذوق الرفيع للسيّد ماكسويل. قدّره حضرة شوقي أفندي عاليًا وأبدى إعجابه بكلّ تعبير عن هذا الذوق الذي تجلّى في تفاصيل الزخارف التزيينية التي تكثر في كافّة أنحاء الصرح. ويبيّن كلّ حجر تقريبًا جمال المواهب الفنّية لماكسويل؛ في بعض الحالات تشبه رقّة التصميم قطعة جميلة من التطريز أو المجوهرات اليدوية. وقد يستلزم الأمر الكثير من المساحة والوقت للدخول في تفاصيل كافّة الأفكار الرئيسة التي تدخل في تجميل كلّ إفريز، حبل من الورد، قالب، إكليل، أرابيسك، طرف قبّة، ورقة، زهرة، وردة، شكل وردة، سبحة، والتي تثري مظهر كلّ قطعة أساسية من الرخام، أو الغرانيت أو الحديد المطوّع، أو الزجاج المكوِّن للصرح.(8)

بينما كان العمل جاريًا في بناء مفخرة تصاميمه، مرض سذرلاند في شتاء 1949–1950 مرضًا شديدًا. كان المهندس يبلغ من العمر خمسًا وسبعين سنة وغدا غير قادر على التعرّف بوعي على المحيط من حوله أو أسرته، واعتبر الأطبّاء المحلّيون حالته ميؤوسًا منها. كان حضرة شوقي أفندي مصمّمًا على إنقاذ حياة سذرلاند، فأرسله حضرته إلى سويسرا برفقة ابنته روحية خانم وممرّضة مدرّبة، حيث حقّق انتعاشًا ملحوظًا واستعاد كلّ قدراته.

لكنّه كان واهنًا، لأنّه أصبح معرَضًا لنوبات متكرّرة في المرارة تطلّبت اتّباع نظام غذائي خاصّ من المواد الغذائية الطازجة، فكانت صحّته تتراوح بين تدهور وتحسّن، انهيار ثم تعافٍ. وفي شوقه لرؤية وطنه الحبيب، وبموافقة حضرة شوقي أفندي، سافر عام 1951 إلى مونترِيال مع ممرّضته المخلصة، حيث توفّي بعد أقلّ من سنة، في 25 آذار 1952.

في يوم 24 كانون الأوّل عام 1951، أي قبل ثلاثة أشهر من وفاته، عيّن حضرة شوقي أفندي سذرلاند ماكسويل أياديًا لأمر الله. وفي تواضع وتأثّر عميق عند تلقّي خبر هذا الشرف العظيم قال، ‘لم أفعل كلّ شيء لوحدي؛ فهناك آخرون ممّن ساعدوا.’(9)

بعد أن حضرت روحية خانم المؤتمر البهائي البيقارّي عام 1953 في شيكاغو، سافرت إلى موقع قبر والدها. وهناك حقّقت رغبة حضرة شوقي أفندي بأن يرشّ عطر الورد، الذي أعطاها إيّاه، على قبر سذرلاند، وتضع الزهور من مقام حضرة الباب على مرقده. عندما عادت إلى حيفا ومعها صور فوتوغرافية عن زيارتها لقبر والدها الحبيب، نظر إليها حضرة شوقي أفندي طويلاً واحتفظ بها لنفسه.

أبرق حضرة شوقي أفندي، الذي كان حزنه شديدًا، إلى العالم البهائي، بعد يوم من وفاة سذرلاند ماكسويل، ما يلي:

بقلب حزين أعلن من خلال المحافل الروحانية المركزية انتقال أيادي أمر حضرة بهاءالله المبجّل والغالي سذرلاند ماكسويل إلى مجد الملكوت الأبهى. إنّ دورة حياته الطاهرة التي امتدّت ثمانين سنة تقريبًا أثرت مسار ولاية حضرة عبدالبهاء، وخدماته في كندا شرّفت عصر التكوين لأمر الله، وعقد من الخدمات في الأرض الأقدس خلال أحلك أيّام حياتي، وتكريمه المضاعف بارتباطه بتاج الشهادة الذي فازت به ماي ماكسويل وبالشرف الذي لا يضاهى الذي أنعم على ابنته بالزواج، قد اكتمل، ثم تعيينه مهندسًا لرواق مرقد حضرة الباب والمبنى الفوقي، وكذلك ترقيته إلى رتبة أيادي أمر الله. أوصي جميع المحافل الروحانية المركزية بعقد الجلسات التذكّرية خاصّة في مشرق أذكار ويلمت وحظيرة القدس في طهران. لقد وجّهتُ تعليماتي إلى أيادي الأمر في الولايات المتّحدة وكندا هوراس هولي وفريد شوبفلوخر بحضور الجنازة في مونترِيال كممثّلين عنّي. وإنّي مدفوع لتسمية باب مقام حضرة الباب الجنوبي باسمه إقرارًا بخدماته الفريدة لثاني أقدس مقام في العالم البهائي. مرتبة أيادي أمر الله تنتقل الآن إلى ابنته المميّزة أمة البهاء روحية خانم التي قدّمت بالفعل ولا تزال تقدّم خدمات مضحّية بالنفس ليست أقلّ شأنَا في المركز العالمي لدين حضرة بهاءالله.(10)

في ختام السنة المقدّسة، بمناسبة مرور مائة سنة على مولد دين حضرة بهاءالله أبرق حضرة شوقي أفندي في 7 تشرين الأوّل 1953 إلى المؤتمر البيقارّي التبليغي الرابع والأخير لتلك السنة المميّزة، الذي عقد في نيودلهي، الرسالة التالية معلنًا الانتهاء من تشييد المبنى الفوقي لمقام حضرة الباب:

نشارككم بسعادة غامرة ما يلي… الإعلان… مشروع عمره خمس سنوات، بتكلفة بلغت ثلاثة أرباع مليون دولار، يشكّل المرحلة الأخيرة من العهد الأوّل لعملية التطوّر التي بدأت منذ أكثر من ستّين سنة مضت من قبل مؤسّس الدين في قلب جبل الربّ، قد اكتمل… حشود من الزوّار تتجاوز الألف وتتنامى باطّراد يأتون من قريب وبعيد ولأيّام عديدة تتدفّق عبر البوّابات المؤدّية إلى داخل المقام المهيب يؤدّون مراسم الولاء إلى ملكة الكرمل وهي تجلس على عرش جبل الربّ متوّجة بتاج وهّاج من الذهب ومرتدية رداءً أبيض يلفّه حزام أخضر زمردي، فتسحر كلّ ناظر سواء من الجوّ أو البحر أو السهل أو الجبل. أطلب من الحاضرين في المؤتمر عقد مجلس تذكّر تكريمًا لأيادي أمر الله سذرلاند ماكسويل المهندس المعماري الخالد لرواق المقام الأعلى والمبنى الفوقي.(11)

1.
Shoghi Effendi, Messages of Shoghi Effendi to the Indian Subcontinent, p. 357.
2.
Bahá’í World, vol. 12, p. 658.
3.
المصدر السابق.
4.
شوقي أفندي، «كتاب القرن البديع»، الصفحة 323.
5.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحتان 233–234.
6.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 269.
7.
Shoghi Effendi, Citadel of Faith, pp. 95–6.
ترجم مع الاستعانة بالأصل الفارسي من كتاب «توقيعات مباركه، 1945–1952»، الصفحتين 252–253.
8.
Ugo Giachery, Shoghi Effendi, p. 93.
9.
Bahá’í World, vol. 12, p. 661.
10.
Shoghi Effendi, Research Department, Bahá’í World Centre.
11.
Shoghi Effendi, Messages of Shoghi Effendi to the Indian Subcontinent, p. 357.

1874 – 1974 تشارلز مايسون ريمي

ولد تشارلز مايسون ريمي في عائلة بارزة في برلنغتون بولاية أيوا، في 15 أيّار 1874 وعاش معظم طفولته في واشنطن العاصمة. درس في جامعة كورنيل من عام 1893–1896 لكنّه لم يحصل على الشهادة الجامعية. في عام 1896 ذهب إلى باريس، حيث درس الهندسة المعمارية في جامعة السوربون حتى عام 1903.

نشأ ريمي في خلفية أسقفية، وفي شبابه كان مسيحيًا مقتنعًا ومحافظًا. توسّعت اهتماماته الدينية بعد قراءة كتاب جيمس فريمان كلارك بعنوان «عشرة أديان عظيمة» وانخرط في دورة عن البوذية في جامعة كورنيل. وقد تأثّر أيضًا بالمناخ الفكري المصاحب لنهاية القرن التاسع عشر في باريس.

من خلال راندولف بولز، الذي كان زميل دراسة له في الهندسة المعمارية، عرف ماي بولز معرفة سطحية في حفل استضافته فوبي هيرست. عندما علم أنّ لدى الآنسة بولز معتقدات دينية غريبة، قام بالاتّصال بها. وفي استجابتها لاستفسار مايسون ريمي، أعطته ماي في خريف عام 1899 كتيّب إبراهيم خيرالله «اثنا عشر درسًا»(1). وقد كتب ريمي هذه الملاحظة:

تخلّلت هذه الدروس أدعية وقد انضممتُ إليها في هذا التمرين الروحاني بترقّب كبير لِما سيأتي بعد ذلك.(2)

رغم أنّ الدروس يفترض بها أن تكون سرّية، فقد شارك مايسون ريمي كلّ درس مع زميل غرفته، هربرت هوبر، الذي آمن بعد اعتناق ريمي أمر الله. في صباح يوم 31 كانون الأوّل 1899، كشفت ماي لمايسون عن «لُباب» الدروس – معلومات عن حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء. كتب مايسون ريمي في وقت لاحق ما يلي:

لقد آمنتُ لحظة إخباري، ووجدت نفسي في نشوة عارمة. وصلت إلى مسكني، وعقلي في دوّامة؛ كنت في السماء السابعة. لا أتذكّر كيف وصلت إلى المنزل…(3)

وعليه، فقد أصبح تشارلز مايسون ريمي البهائي الثالث في باريس. جذب الحبّ الشديد الذي تكنّه ماي بولز لحضرة عبدالبهاء المزيد من المؤمنين إلى أمر الله في باريس. ومن بين هؤلاء لورا بارني، هيبوليت دريفوس، ماريون جاك والإنجليزي توماس بريكويل. عندما توفّي بريكويل، كان مايسون ريمي هو الذي كتب إلى حضرة عبدالبهاء عن مراسم الجنازة التي رتّبها له بهائيو باريس، مرفقًا مع رسالته بعض الزهور التي وضعت على القبر. وفي الردّ تلقّى ريمي مديح حضرة عبدالبهاء الجميل لتوماس بريكويل، الذي أُنزل قبل إخبار حضرته بوفاة الشابّ.(4)

كان لدى البهائيين في هذه الفترة الكثير من المفاهيم الخاطئة عن أمر الله وعن مقام حضرة عبدالبهاء. كان هناك القليل من المطبوعات عن أمر الله، والكثير من المعلومات اقتصر على ما جاء به خيرالله والقلائل الذين تمكّنوا من السفر للحجّ إلى عكّاء. عندما علم البهائيون الغربيون أنّ الكثير من المعلومات التبليغية من خيرالله كان عار عن الدقّة، أصبحت الأزمة العقائدية امتحانًا شديدًا لإيمان كثير من المؤمنين. بعد أن انشقّ خيرالله في عام 1900 وتحالف مع ناقضي العهد في الأرض الأقدس، ترك مئات من البهائيين أمر الله.

بدأت الهداية ترد من الأرض الأقدس تدريجًا. فقد بعث حضرة عبدالبهاء مبلّغين إيرانيين لتعميق الأمريكيين، وكتب العديد من الألواح إلى المؤمنين الغربيين. كما أنّ الحجّاج العائدين قد ساعدوا في زيادة معرفة البهائيين لدينهم، ففهموا بالتدريج مبادئه الأوّلية. وريمي، الذي أصبح واحدًا من أكثر المؤمنين دراية ونشاطًا في أمريكا، اعتمد على معرفته الابتدائية الخاصّة، كما يتّضح من محاضرة ألقاها في «غرين إيكر» في السنوات الأولى من القرن:

كنت أودّ بكلّ سرور تنويع حديثي وإدخال أشياء وأفكار من شأنها أن تضيف قليلاً من التنوّع إلى ما اعتدت أن أقوله للناس، ولكنّني لم أكن أعرف الكثير عن الدين البهائي وكنت أكره أن أضيف إلى مخزوني الهزيل من المعلومات التي أخبر الناس بها أيّ شيء لم أكن متأكّدًا منه. وأنا، مثل كثيرين آخرين من المؤمنين الأوائل، كنت أعرف القليل من التعاليم، ولكن كان هناك شيء واحد نعرفه هو أنّ «الربّ قد جاء»، ومن هذا كنا متيقّنين جدًّا بالفعل وهذا ما أكّدناه مرارًا وتكرارًا… وفي نهاية المطاف وشيئًا فشيئًا أضفنا المعارف الأخرى عن التعاليم إلى هذه المعرفة.(5)

وإذ أخذ الاطّلاع على التعاليم الأخلاقية والاجتماعية البهائية بالانتشار تدريجًا خلال السنوات الأولى من القرن العشرين، أفسح تركيز خيرالله على النبوءات التوراتية الطريق أمام الكتابات حول الإصلاح الاجتماعي، والذي أدّى إلى توسيع فهم البهائيين ومكّنهم من جذب الآخرين إلى أمر الله. كان كتاب «الظهور البهائي» الذي كتبه ثورنتون تشيس، عملاً بارزًا في مجال التطوّر الروحاني. وعزّزت ترجمة أنطون حدّاد للكتاب الأقدس وألواح أخرى لحضرة بهاءالله، الفهم والانتشار للتعاليم البهائية الاجتماعية في القارّة الأمريكية. وسرعان ما بدأ مايسون ريمي في تأليف كتيّبات عن الدين البهائي ونشرها بمجهود شخصي وموّلها من حسابه الخاصّ. في شباط 1905 نُشر أوّل كتيّب له بعنوان «الوحدة والاتّحاد: ظهور حضرة بهاءالله».(6)

على مرّ السنين أنتج ريمي كمّية كبيرة من الكتابات البهائية، بما فيها المزيد من الكتيّبات والعديد من الكتب، ومجموعة بيانات حول العهد والميثاق، ومجموعة من (56) كتابًا من مكتبته الشخصية بعنوان «ذكريات بهائية، يوميّات، رسائل ووثائق أخرى»، ومجموعة من (119) كتابًا تدعى «ذكريات ورسائل». ويورد «مراجع الكتابات الإنجليزية عن الديانتين البابية والبهائية، 1844–1985» الذي كتبه وليام كولنز قائمة تضمّ أكثر من (55) عملاً كتابيًا منفصلاً لريمي.(7)

في حزيران 1906 كتب حضرة عبدالبهاء إلى جمعية النشر البهائية مؤكّدًا على أهمّية تشكيل محفل روحاني في واشنطن وإقامة علاقات بينه وبين المحفلين الروحانيين في شيكاغو ونيويورك. كتب ثورنتون تشيس، نيابة عن بيت الروحانية في شيكاغو إلى مايسون ريمي يسأل عمّا إذا كان المؤمنون في واشنطن يفكّرون في تنظيم أنفسهم. فأجاب ريمي:

نحن هنا لسنا جمعًا منظّمًا، وليس لنا وضع على هذا النحو كما هو لكم في شيكاغو، أو للمؤمنين في نيويورك… من المحتمل أن يمرّ وقت طويل قبل أن يكون لدينا محفل منظّم… أعني بذلك أنّني أشعر أنّ على أمر الله في واشنطن أن يمرّ عبر مراحل من التطوّر قبل أن يتحقّق هذا.(8)

ومع ذلك، بعد ستّة أشهر فقط من كتابة هذه الرسالة، تمكّن ريمي، المنظِّم الممتاز، من إقناع بهائيي واشنطن بتشكيل هيئة استشارية، وهكذا تأسّس محفل روحاني من تسعة أفراد في 14 آذار 1907 وسمّى نفسه بـ «اللجنة العاملة»، وسرعان ما تلقّى أعضاؤه لوحًا من حضرة عبدالبهاء يشجّعهم على الاستقامة والمثابرة.

كتب حضرة عبدالبهاء أيضًا إلى مايسون ريمي يشيد به وبخدماته لأمر الله: «حقًّا إنّك خدمت في واشنطن دون أيّ إرادة سوى إرادة الله في هدفك وقد جعلتني مسرورًا ونلتَ رضائي.» في هذا اللوح نفسه أنزل حضرة عبدالبهاء هذه الكلمات الرقيقة: «إنّ وجهك هذا الذي يجذب القلوب أجمل بكثير وأفضل من هذه الوردة، لإنّه الجمال الذي يرافقه التنوير.»(9)

مثل العديد من البهائيين في تلك الأيّام، تراسل مايسون ريمي مع حضرة عبدالبهاء حول شؤون تتعلّق بأمر الله وبخصوص استفسارات شخصية، فيتسلّم ألواح المولى حاملة الهداية والتنوير والتشجيع. كتب العديد من المؤمنين إلى حضرة عبدالبهاء ملتمسين توضيح التعاليم ومقام كلّ من حضرة بهاءالله والمولى. وعن مثل هذا السؤال تلقّى ريمي هذا الردّ الشهير:

بخصوص مقام هذا العبد: مقامي عبدالبهاء، اسمي عبدالبهاء، أهليّتي عبدالبهاء، ومديحي عبدالبهاء، ولقبي عبدالبهاء.(10)

في لوح آخر، والذي خاطب فيه حضرة عبدالبهاء مايسون ريمي بقوله: «أيّها الثابت على الميثاق»، أوجز المولى المؤهّلات السبعة للروح المستنيرة إلهيًا: المعرفة والإيمان والصمود والصدق واستقامة الأخلاق والإخلاص والمحوية أو الخضوع. فكتب حضرة عبدالبهاء إلى ريمي «إنّ الصدق أساس جميع الفضائل في عالم الإنسان. ومن دون الصدق يكون التقدّم والنجاح للروح في جميع العوالم الإلهية مستحيلاً.» وكتب بأنّ التواضع يعني أنّ الإنسان يجب أن يصبح فانيًا في الله. ويجب أن ينكر ذاته حتى يسمو بالتالي إلى مقام التضحية… فعندما يبلغ إلى هذا المقام، فإنّ تأييدات الروح القدس ستصله لا محالة، وبهذه القوّة يمكن للإنسان أن يقاوم أهل الأرض جميعًا.»(11)

في لوح إلى مايسون ريمي، لم يترجم حتى الآن [إلى الإنجليزية]، نصح حضرة عبدالبهاء الشابّ بالسفر إلى جميع مدن الولايات المتّحدة، بما فيها هونولولو، لدعوة كلّ الأحبّاء إلى الثبات على الميثاق، وأن يُفرِحهم جميعًا بروح الميثاق، وأن يوجّه كلّ نفس لنشر التعاليم.(12) ولمّا كان ريمي يمتلك موارد مالية كبيرة – كان قد ورثها – لذا كان قادرًا على تحقيق أمل حضرة عبدالبهاء. فما بين عامَي 1906–1911 سافر إلى جميع أنحاء الولايات المتّحدة، مشدّدًا على ضرورة الثبات على الميثاق، ومروّجًا لتشكيل محافل روحانية محلّية بهائية. أصبح معروفًا جدًّا لموقفه من الميثاق بحيث تمّ تعيينه بعد سنوات عديدة، في عام 1918، في «لجنة التحقيق» في شيكاغو للنظر في احتمال نقض الميثاق.

في عامَي 1907 و1908 قام مايسون ريمي برحلتَي حجّ إلى الأرض الأقدس حيث قابل حضرة عبدالبهاء ثم شرع في رحلاته خدمة لأمر الله. ففي عام 1907 سافر إلى غرب أوروبا، وفي عام 1908 دمج رحلة حجّه بأسفار إلى إنجلترا وألمانيا وتركستان وإيران. في عكّاء تحدّث حضرة عبدالبهاء عن الحاجة الملحّة لتوحيد الأحبّاء الغربيين والشرقيين. في القسطنطينية انضمّ إليه سيدني سبريغ وسافرا معًا إلى أوديسا وباكو وعشق آباد، حيث تلقّيا ترحيبًا رائعًا. تمكّن ريمي من زيارة وتفحّص المعبد وملحقاته، وفي وقت لاحق أعدّ أوّل موضوع غربي يُكتب عن مشرق أذكار عشق آباد، وأكمل وصف متاح باللغة الإنجليزية.(13) وفي معرض تعليقه على أهمّية بناء معبد في شيكاغو، كتب ريمي:

كان إنشاء هذا المعبد في الشرق مصدرًا كبيرًا من القوّة للناس هناك، فمن خلاله أمكن للبهائيين التعبير عن وحدتهم ليصبحوا أقوى وأكثر اتّحادًا من أيّ وقت مضى. والآن في أمريكا ينهض البهائيون لبناء مشرق أذكار. مَنْ يمكنه تقدير الأثر الناتج عن هذا المبنى؟ سيكون باعث قوّة كبيرة ووحدة بين المؤمنين في نصف الكرة الغربي… فتشييد معبد في الغرب سيعزّز من مكانة الأمر المقدّس في الشرق أكثر من أيّ شيء يمكن أن يحدث في هذا البلد… تتوجّه عيون سائر الأحبّاء في جميع أنحاء العالم البهائي بترقّب نحو هذا البلد.(14)

استُقبل ريمي وسبريغ استقبالاً حارًّا في إيران، وعقدا الكثير من الاجتماعات الخاصّة في العاصمة. وكانت زيارتهما، كما رغب حضرة عبدالبهاء، قد عزّزت العلاقات التي تربط الجامعتين البهائيتين الأمريكية والإيرانية. وقد أعجب ريمي بشكل خاصّ بموقف البهائيين الإيرانيين تجاه النساء، وخاصّة فيما يتعلّق بتعليمهن وتدريبهن وحرّيتهن.

في تشرين الثاني 1909 غادر مايسون ريمي وهوارد ستروفن كاليفورنيا في أوّل رحلة تبلييغية بهائية «حول العالم». على مدى سبعة أشهر زارا جزر هاوائي واليابان والصين وبورما والهند وعكّاء. في هاوائي، حثّ الزائران بهائيي هونولولو على عقد أوّل اجتماع عامّ لهم. قرّروا أيضًا إقامة جامعة من الأحبّاء لها هيئة إدارية منتخبة. في اليابان، أعجب ريمي بصفات اليابانيين بحيث كتب الى بيت الروحانية في شيكاغو قائلاً إنّ اليابانيين المثقّفين البارزين يُبدون تقبّلاً لأمر الله، وهناك حاجة إلى آلاف من المبلّغين البهائيين. من المحتمل أنّ ريمي وستروفن كانا أوّل بهائيين غربيين زارا الصين. كتب ريمي إلى بهائيي واشنطن العاصمة حول الفرص التجارية الممتازة في اليابان والصين، والتي يمكنها أن تسهّل توطّن شبّان من أمريكا. في بورما، زار ريمي وستروفن البهائيين في رانغون ومندلاي وديدناو، حيث آمن أربعمائة أو خمسمائة شخص بالدين البهائي منذ عام 1907. وأكّدت الرسائل التي أرسلها ريمي إلى وطنه على أهمّية التربية والتعليم في هذا الجزء من العالم. زار الرجلان مختلف جامعات الأحبّاء في الهند، وتحدّثا في نُزل الثيوصوفية والكلّيّات. من الهند أبحر المسافران إلى عكّاء. وقد أخبرهما حضرة عبدالبهاء أن يشجّعا البهائيين، وخصوصًا المبلّغات، على الذهاب إلى الهند.

عندما عاد إلى الولايات المتّحدة في منتصف حزيران 1910، كتب مايسون ريمي عن رحلته في مجلّة «الأخبار البهائية»، مؤكّدًا في مقاله بأنّ المحبّة والوحدة بين المؤمنين الشرقيين ومبادرات البهائيين الأمريكيين وأنشطتهم يجب ضمّها معًا وبذلك يمكن الإنطلاق بأعمال جيّدة. كان اهتمام ريمي باقامة علاقات الوحدة بين الشرق والغرب قد أشركه في أعمال «الجمعية الفارسية الأمريكية للتربية والتعليم»، والتي أصبح نائب الرئيس الفخري لها. وكانت هذه قد تأسّست في عام 1910 برعاية الجامعة البهائية في واشنطن العاصمة للمساعدة في تطوّر التربية والتعليم والتنمية الاقتصادية في إيران.

في عام 1911 سافر مايسون ريمي إلى إنجلترا لسماع أوّل خطاب علني لحضرة عبدالبهاء في الغرب، والذي ألقي في سيتي تمبل في لندن. في عام 1914 سافر مع جورج لاتيمر إلى أوروبا بأمر من حضرة عبدالبهاء، وعبرا خطوطًا عسكرية لتبليغ أمر الله في فرنسا وإنجلترا وألمانيا قبل الإبحار إلى عكّاء للإقامة مدّة أسبوعين. في لوح إلى أغنس ألكساندر حوالي تلك الأوقات أشاد حضرة عبدالبهاء بريمي قائلاً: «في الواقع إنّ ذلك الشابّ هو ابن الملكوت وبشير ظهور حضرة بهاءالله.»(15)

في 8 آب 1910 قام ريمي، الذي بقي على اتّصال مع مرشده من باريس، بالذهاب مع جولييت طومسون الى مستشفى هانيمان في مدينة نيويورك، حيث أنجبت ماي ماكسويل ابنتها ماري، التي أصبحت في ما بعد أمة البهاء روحية خانم. كما وصل سذرلاند ماكسويل في وقت لاحق من مونترِيال، حيث أقام الزوجان منذ زواجهما في عام 1902.(16)

وكواحد من أبرز أوائل المؤمنين وكمهندس معماري، لعب مايسون ريمي دورًا هامًّا في بناء معبد ويلمت. فعندما كتب بهائيو واشنطن العاصمة إلى مركز العهد والميثاق في عام 1906، طالبين الإذن من حضرته لبناء معبد خاصّ بهم، حثّهم حضرة عبدالبهاء في تعليمات شفهية إلى مايسون ريمي، على دعم العمل في شيكاغو. وبعد زيارة إلى شيكاغو في أواخر كانون الأوّل 1907، أوصى ريمي بأن ترسل جامعة أحبّاء واشنطن رسائل إلى البهائيين في جميع أنحاء البلاد تقترح إنشاء «فروع المعبد» لمنظّمة المعبد المركزية في كلّ جامعة بهائية محلّية، وأن يكون «بيت الروحانية» في شيكاغو هيئة التنسيق المركزية. أرسلت واشنطن ثلاث رسائل دورية، وكانت النتيجة أنّ العديد من الجامعات البهائية شكّلت لجان معبد، وبالتالي، منظّماتهم البهائية الأولى.

في رحلاته في جميع أنحاء الولايات المتّحدة تمكّن مايسون ريمي من الحصول على منظور لأمر الله على مستوى البلاد افتقر إليه العديد من البهائيين. فقد فهم جيّدًا الحاجة إلى مستوى أعلى من التماسك بين البهائيين واعتقد أنّ الاتّصالات المنتظمة فيما بينهم من شأنها أن تساعد في تحقيق هذه الغاية. وإذ تعاظم الاهتمام ببناء معبد بهائي لأمريكا الشمالية، أصبحت الحاجة إلى وسيلة لتداول الأخبار ضرورة قصوى. كتب مايسون ريمي هذه الملاحظة:

في الوقت الحاضر، لم يبتكر أيّ ترتيب منهجي لإعلام مختلف المحافل الروحانية بالتقدّم المحرز في أعمال المعبد. فإذا ما أُريدَ المحافظة على اهتمام الناس، يجب أن يكونوا على اتّصال دائم ومستمرّّ مع المركز. الآن السيّدة ترو وآخرون يكتبون مئات الرسائل – العادية – ويستهلكون الطاقة والوقت ولكنّهم لا يصلون إلاّ إلى عدد محدود من الناس. هناك حاجة إلى جهاز لإبقاء المؤمنين على اتّصال. فالعمل في المعبد يحتاج إلى هذا الجهاز أكثر من أيّ شيء آخر.(17)

على الرغم من مقاومة كورين ترو لفكرة مجلّة شهرية في شيكاغو، إلاّ أنّه من خلال تأثير جامعة أحبّاء واشنطن سرعان ما صدرت أوّل نشرة. ففي آذار 1910 ظهرت مجلّة «الأخبار البهائية». وبعد سنة تغيّر الاسم إلى «نجمة الغرب».

في أوّل مؤتمر وكلاء بهائي سنوي للمؤمنين الأمريكيين، الذي عقد يومَي 20 و 21 آذار 1909 في شيكاغو، تأسّست «وحدة المعبد البهائي» كهيئة مركزية تضمّ ممثّلين من مختلف الجامعات البهائية في أمريكا الشمالية. تمّ تعيين تسعة أفراد للعمل في المجلس التنفيذي، من بينهم تشارلز مايسون ريمي. وكأوّل مؤسّسة مركزية بهائية في العالم، نشر المجلس كتابات بهائية، ونسّق الأنشطة التبليغية في جميع أنحاء القارّة، وساعد المؤمنين في الأماكن المنعزلة، وأشرف على عمل مشروع المعبد. خدم مايسون ريمي في تلك الهيئة في الفترات 1909–1910، 1911–1912، 1918–1920، 1921–1924.

بعد تشكيل «وحدة المعبد البهائي»، كان التقدّم بطيئًا نحو بناء مشرق الأذكار. ومع أنّ الأرض تمّ شراؤها في ويلمت، من ضواحي شيكاغو، في وقت مبكر من عام 1908، لم يوضع حجر الأساس إلاّ في عام 1912، عندما زار حضرة عبدالبهاء أمريكا. على مدى السنوات الثماني التالية عمل المجلس التنفيذي لوحدة المعبد البهائي على جمع المال اللازم لبدء المشروع. في الوقت نفسه، دُعي المهندسون المعماريون لتقديم المخطّطات للبناء المقترح. وأخيرًا، في مؤتمر الوكلاء البهائي السنوي عام 1920، كان عليهم اتّخاذ قرار نهائي بشأن تصميم البناء. ورغم أنّ خمسة عشر تصميمًا على الأقلّ كان معروضًا، إلاّ أنّه لم يكن سوى ثلاثة مهندسين حاضرين: سذرلاند ماكسويل، لويس بورجوا وتشارلز مايسون ريمي.(18) ومُنح كلّ مهندس عشرون دقيقة لشرح مفهومه. روى مايسون ريمي عن ‘السنوات الطوال التي أمضاها في إعداد تسعة تصاميم، كلّ منها يقوم على نمط مختلف من الهندسة المعمارية. ومع أنّه عرض التصاميم التسعة جميعها، إلاّ أنّه أوصى بواحد فقط ليدرسه الوكلاء – تصميم من الطراز الهندي، وقُدّم كنموذج من المناظر الطبيعية – لأنّه شعر أنّ حجمه وتكلفته معقولة.’(19) قُدّرت تكلفة تصميم ريمي بأقلّ من ستمائة ألف دولار مقارنة بتكلفة تصميم بورجوا البالغة مليونًا وخمسمائة ألف دولار. بعد نقاش مستفيض جرى تصويت غير رسمي:

كان الإعلان أغلبية واضحة لنموذج بورجوا. ثم حصل أنّ السيّد ريمي، المهندس الآخر الوحيد الحاضر في هذا الوقت، ارتقى إلى أسمى ذرى نكران الذات. وأعرب عن رأي مفاده أنّ(20) ‘لا شيء يرضي حضرة عبدالبهاء في هذه المداولات، أكثر من أن نجعل التصويت بالإجماع لنموذج السيّد بورجوا.’(21)

تلى ذلك تصفيق حادّ، ونهض الوكلاء واقفين دلالة على موافقتهم على الاقتراح. أشاد حضرة عبدالبهاء، في لوح إلى كورين ترو، بمايسون ريمي لِما قام به.

تأثّرت بعض جوانب تصميم بورجوا بعمل ريمي. فقد ساعدت التصاميم التي أعدّها ونشرها ريمي في عام 1917، بورجوا على حلّ المشاكل المعمارية في الطابق الأوّل. وفي وقت لاحق، اقترح مايسون ريمي بعض التعديلات على التصميم لجعله أكثر متانة وأقلّ تكلفة. وأوصى أيضًا أن يقدّم التصميم للمراجعة من قبل هيئة من المهندسين المعماريين والمدنيين من ذوي الخبرة في مشاريع البناء الكبيرة، وهي خطّة وافق عليها حضرة شوقي أفندي.

في آذار 1922 كان مايسون ريمي من بين مجموعة صغيرة من المؤمنين القدامى من الغرب والشرق الذين دعاهم حضرة شوقي أفندي للقدوم إلى حيفا والتشاور بشأن تقدّم أمر الله في أعقاب صعود حضرة عبدالبهاء. اعتبر بعض المؤمنين أنّ حضرة شوقي أفندي غير ناضج وعديم الخبرة، واعتقد بعض أفراد العائلة وبعض البهائيين من كبار السنّ وحتى محافظ حيفا أنّه ينبغي تشكيل بيت العدل الأعظم على الفور. بعد أن خلص إلى أنّ تشكيل الهيئة العليا سيكون سابقًا لأوانه في ذلك الوقت، أمر حضرة شوقي أفندي ضيوفه بالعودة إلى بلدانهم للعمل من أجل إنشاء المؤسّسات الإدارية البهائية المحلّية والمركزية. بينما كان مايسون ريمي في حيفا ناقش حضرة شوقي أفندي معه خططًا لبناء ضريح لحضرة عبدالبهاء، وموقع المعبد البهائي في المستقبل على جبل الكرمل وخطّة تشجير أراضي الممتلكات البهائية واستصلاحها.

خلال الفترة بين عامَي 1922 و 1950، عندما طلب منه حضرة شوقي أفندي المجيء إلى المركز العالمي أدّى تشارلز مايسون ريمي العديد من الخدمات للدين البهائي. فكان عضوًا في لجنة بناء مشرق الأذكار، التي أشرفت على أعمال بناء المعبد. في عام 1925 قام بتصميم أوّلي للمبنى الفوقي يتمثّل في قبّة ضخمة لمقام حضرة الباب. في العام التالي أعدّ إعلانات ووزّع برامج بخصوص مؤتمر الصداقة والوئام في فيلادلفيا. في ثلاثينيات القرن خدم في لجان بهائية مركزية، وشارك في العمل التبليغي تحت إشراف اللجنة المركزية للتبليغ، وخدم عدّة سنوات في لجنة التبليغ الإقليمية لولايات ماريلاند وديلاوير وفرجينيا ووست فرجينيا.

في القدّاس الذي أقيم لروح الملكة ماري من رومانيا في الكاتدرائية الوطنية في واشنطن العاصمة يوم 25 تمّوز عام 1938، كانت الجامعة البهائية الأمريكية ممثّلة بإكليل من الزهور، وذلك بفضل مبادرة مايسون ريمي وبُعد نظره. في عام 1939 صمّم ريمي النصب التذكاري لمارثا روت على شكل لوح نقش عليه الاسم الأعظم، وكلمات لحضرة بهاءالله حول التبليغ وكلمات حضرة شوقي أفندي التي أنعم فيها عليها مقامًا روحانيًا ساميًا. في أيّار 1948 كان مايسون ريمي عضوًا في الوفد البهائي المؤلّف من خمسة من الأعضاء يمثّلون الجامعة البهائية العالمية في مؤتمر الأمم المتّحدة حول حقوق الإنسان في جنيف.

خلال هذه الفترة أيضًا استمرّ ريمي في أسفاره خدمة لأمر الله؛ ففي الأعوام 1943، 1944 و 1947 زار الجنوب الأمريكي، وفي عام 1946 زار الوسط الغربي الأمريكي. بين عامَي 1946، 1947 ذهب إلى مدن في البرازيل وكولومبيا وتشيلي وكوبا وبنما وبيرو. من عام 1947–1949 سافر عدّة مرّات إلى أوروبا.

في تشرين الثاني 1950 بعث حضرة شوقي أفندي برقيّات إلى لطف الله حكيم، وجيسي وإثيل ريفيل، وأميليا كولنز، ومايسون ريمي يدعوهم فيها للمجيء إلى حيفا. بعد ظهر أحد الأيّام عندما تجمّعوا في دار ضيافة الحجّاج الغربيين مع روحية خانم وغلاديس وبن ويدن، أعلن حضرة وليّ أمر الله عن نيّته تشكيل المجلس البهائي العالمي من هذه المجموعة. في برقية مؤرّخة 9 كانون الثاني 1951 أعلن حضرة شوقي أفندي رسميًا قراره إلى المحافل الروحانية المركزية في الشرق والغرب:

أعلن للمحافل الروحانية المركزية في الشرق والغرب القرار الهامّ التاريخي بتشكيل المجلس البهائي العالمي الأوّل، بشير المؤسّسة الإدارية العليا المقدّر لها الظهور في تمام الوقت في نطاق وتحت ظلّ المركز الروحي العالمي لأمر الله الذي تأسّس بالفعل في مدينتَي عكّاء وحيفا… إنّ الهيئة الوليدة التي أنشئت الآن مكلّفة بوظيفة ثلاثية: أوّلاً، إقامة حلقة الاتّصال مع سلطات الدولة الناشئة حديثًا؛ ثانيًا، مساعدتي في الاضطلاع بمسؤوليّاتي المتّصلة بتشييد الهيكل الفوقي العظيم للمقام المقدّس لحضرة الباب؛ ثالثًا، إجراء مفاوضات مع السلطات المدنية بخصوص شئون الأحوال الشخصية. لهذه المهامّ سيضاف المزيد من الوظائف في مسار تطوّر هذه المؤسّسة العالمية الجنينية الأولى… إنّ تحوّلها لاحقًا إلى هيئة منتَخبة، وتفتّحها إلى بيت العدل الأعظم، وإيناع ثمارها النهائية من خلال إقامة المؤسّسات المساعِدة المتعدّدة التي تُشكّل المركز الإداري العالمي، مقدّر لها أن تنشأ وتعمل وتبقى بصورة دائمة في الجوار القريب من المرقدين المقدّسين التوأم.(22)

سجّلت روحية خانم ردّ فعل المجتمعين في دار ضيافة الحجّاج الغربيين كما يلي: ‘تأثّرنا جميعًا بهذه الخطوة ذات الطابع غير المسبوق وبتلك العناية اللامتناهية التي أسبغها على أولئك الحاضرين وعلى العالم البهائي بأسره أيضًا.’(23) عيّن حضرة شوقي أفندي ريمي رئيسًا للمجلس.

هذه الخطوة واكبها تطوير مؤسّسة أيادي أمر الله. ففي 24 كانون الأوّل 1951 أبرق حضرة شوقي أفندي إلى العالم البهائي ما يلي:

لقد حان الوقت لاتّخاذ خطوة وردت في وصيّة حضرة عبدالبهاء، اضطرّ تأجيلها لمدّة طويلة، ومقترنة بالخطوات الستّة المذكورة أعلاه، ألا وهي تعيين أوّل دفعة من اثني عشر أيادي أمـر الله، موزّعين بالتساوي بين الأرض الأقدس وقارّات آسيا وأمريكا وأوروبا. إنّ هذه الخطوة الأوّلية تُعتبر تمهيدية للتطوّر الكامل للمؤسّسة الوارد ذكرها في وصيّة حضرة عبدالبهاء، وتتوازى مع الإجراء التمهيدي الذي اتّخذ لتأسيس المجلس العالمي المقدّر أن يبلغ ذروته بتأسيس بيت العدل الأعظم.(24)

من بين الأسماء الاثني عشر الذين ذكرهم حضرة شوقي أفندي كان تشارلز مايسون ريمي.

في 8 آذار 1952 أعلن حضرة شوقي أفندي عن توسيع عضوية المجلس البهائي العالمي والذي يضمّ الآن أمة البهاء روحية خانم، وهي رابطة الاتّصال بين حضرة وليّ أمر الله والمجلس؛ تشارلز مايسون ريمي رئيسًا؛ أميليا كولنز، نائبًا للرئيس، أوغو جياكري، عضوًا متفرّغًا؛ ليروي آيواس، أمينًا عامًّا؛ جيسي ريفيل، أمينًا للصندوق، إثيل ريفيل، سكرتيرًا مساعدًا للغرب؛ ولطف الله حكيم، سكرتيرًا مساعدًا للشرق. في أيّار 1955 ارتفع عدد الأعضاء إلى تسعة بتعيين سيلفيا آيواس.

خفّف المجلس عن كاهل حضرة شوقي أفندي عبء العديد من المهامّ المرهقة، وكان حضرته ممتنًا بشكل خاصّ لمايسون ريمي وأميليا كولنز للأعمال التي قاما بها:

أرحّب جدًّا بالمساعدة من المجلس العالمي المشكّل حديثًا، وخاصّة من رئيسه، مايسون ريمي، ونائب رئيسه، أميليا كولنز، من خلال اتّصالهما بالسلطات من أجل نشر شهرة المركزين العالميين التوأم الروحي والإداري، واستحكام مؤسّساتهما وتوسيع نطاق النفوذ المنبثق منهما.(25)

في عام 1952 طلب حضرة شوقي أفندي من مايسون ريمي إعداد تصميم لمبنى محفظة الآثار البهائية العالمية، باستخدام تناسب أجزاء مبنى البارثينون في أثينا. ومع أنّ ريمي نفّذ تصميم المبنى، إلاّ أنّ حضرة شوقي أفندي ‘هو الذي وضع التصميم، حتى إنّ مهندسه المعماري صرّح بشكل قاطع بأنّه من تصميم حضرة شوقي أفندي وليس من تصميمه’.(26) في واقع الأمر كان حضرة شوقي أفندي يعطي توجيهاته في الرسم للمهندس المعماري خلال العديد من الأمسيات في دار ضيافة الحجّاج، مضيفًا تحسينات على المخطّطات إلى أن حقّق المبنى المقترح تناسبًا أكمل. أرسل حضرة شوقي أفندي رسمًا مبدئيًا للبناء ليعرض في المؤتمر البيقارّي في نيودلهي في تشرين الأوّل 1953.

وافق حضرة شوقي أفندي أيضًا على تصاميم مايسون ريمي لمشارق الأذكار التي بنيت في كمبالا وسيدني والذي سيبنى في إيران. كما صمّم مايسون ريمي مشرق الأذكار الذي سيبنى على جبل الكرمل – وهو الوعد الذي قطعه له حضرة عبدالبهاء – وقدّم العديد من الاقتراحات لتصميم مقام حضرة الباب.

طلب حضرة وليّ أمر الله من أيادي أمر الله حضور المؤتمرات البيقارّية في عام 1953 الداعية لإطلاق مشروع السنوات العشر للجهاد الروحاني. مثّل مايسون ريمي حضرة شوقي أفندي في مؤتمر نيودلهي وحضر مؤتمرات كمبالا وويلمت وستوكهولم. دعا حضرة شوقي أفندي لعقد خمسة مؤتمرات بيقارّية أخرى عند منتصف الخطّة، في عام 1958، وعيّن مرّة أخرى الأيادي الذين سيمثّلونه. فطلب من مايسون ريمي أن يكون ممثّله في مؤتمر سيدني. ولكن قبل أن تُعقد هذه المؤتمرات صعد حضرة شوقي أفندي إلى الملكوت الأبهى في لندن، في 4 تشرين الثاني 1957.

ذهب مايسون ريمي فورًا إلى إنجلترا. وفي مساء يوم 8 تشرين الثاني اجتمع الأيادي الموجودون آنذاك في لندن ووضعوا برنامج الجنازة. في اليوم التالي انطلق موكب الجنازة المؤلّف من نحو ستّين سيّارة من حظيرة القدس في لندن إلى «المقبرة الشمالية العظمى». وقد رافق مايسون ريمي كلاّ من روحية خانم وأميليا كولنز في السيّارة الأولى.(27)

في 15 تشرين الثاني دخل إلى شقّة حضرة وليّ أمر الله في حيفا كلّ من روحية خانم، مايسون ريمي، أميليا كولنز، أوغو جياكري وليروي آيواس، وختموا بالأشرطة والشمع خزنة حضرته حيث كان يحتفظ بالوثائق الهامّة. بعد ذلك وُضع مفتاح الخزنة في مغلف وختموه ووقّع عليه خمسة من أيادي أمر الله ووضعوه في خزنة ليروي آيواس. كما ختموا أيضًا أدراج مكتب حضرة شوقي أفندي ووقّعوا على الأختام وصدّقوا عليها.

بعد أربعة أيّام، في 19 تشرين الثاني، قام هؤلاء الأيادي الخمسة أنفسهم، ومعهم أيادي أمر الله حسن باليوزي، هوراس هولي، موسى بناني، وعلي محمّد ورقاء بدخول شقّة حضرة وليّ أمر الله. بعد التأكّد من سلامة الأختام، قاموا بتفتيش مكتب حضرة شوقي أفندي وخزنته. ‘بعد تفتيش دقيق وقّع الأيادي التسعة على وثيقة تشهد أنّهم لم يعثروا على أيّ وصيّة من أيّ نوع على الإطلاق كتبها حضرة شوقي أفندي. ثم أرسل تقرير بهذه المعلومات للهيئة الكاملة من الأيادي المجتمعين في قصر حضرة بهاءالله في البهجة المجاور لمرقده.’(28)

في يوم 25 تشرين الثاني 1957 أصدر مايسون ريمي وزملاؤه من أيادي أمر الله ‘إعلانًا بالإجماع من سبعة وعشرين من أيادي أمر الله’ يفيد بأنّ حضرة شوقي أفندي وافته المنيّة ‘دون تعيين خلف له’.(29) كما أصدر الأيادي أيضًا «إعلانًا» موجّهًا إلى البهائيين في الشرق والغرب، موقّعًا شخصيًا من قبل جميع أيادي أمر الله عدا كورين ترو، التي وقّعت توقيع إفادة إنّ ‘شوقي أفندي لم يترك أيّ وصيّة. كما شهد الإعلان أيضًا أنّ حضرة وليّ أمر الله المحبوب لم يترك أيّ وريث.’(30)

وجميع الأغصان كانوا إمّا متوفّين أو أُعلنوا ناقضين للعهد والميثاق من قبل حضرة وليّ أمر الله لخيانتهم لوصيّة المولى وعدائهم لحضرته وهو المعيّن أوّل وليّ لأمر الله في تلك الوثيقة المقدّسة.(31)

في ذلك التاريخ نفسه كان تشارلز مايسون ريمي بين تسعة من الأيادي الذين عُيّنوا وفقًا لوصيّة حضرة عبدالبهاء لخدمة مصالح أمر الله في المركز العالمي. وتحت تسمية «أيادي أمر الله المقيمون في الأرض الأقدس»، أو قانونيًا، باسم «أمناء الدين البهائي العالمي»، فوجّهوا الجامعة البهائية في جميع أنحاء العالم خلال السنوات الخمس والنصف التالية إلى حين انتخاب بيت العدل الأعظم في عام 1963. وقبل صعوده بقليل كتب حضرة شوقي أفندي، في تشرين الأوّل عام 1957، إلى العالم البهائي معرّفًا أيادي أمر الله بأنّهم ‘الأمناء الرئيسون لكومنولث حضرة بهاءالله العالمي الجنيني، الذين أوكل إليهم القلم المعصوم لمركز العهد والميثاق الوظيفة المزدوجة المتمثّلة في السهر على حفظ وسلامة دين والده وضمان نشره وترويجه.’(32). وعليه، فإنّ هذا، إلى جانب مضامين ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء، قد ضمن ولاء ودعم البهائيين في جميع أنحاء العالم.

بعد إعلانهم التاريخي، شارك الأمناء مع مختلف المحافل الروحانية المركزية والإقليمية بنسخ من الوثائق المتعلّقة بتأسيس وصاية الأمناء. فأرسلت كافّة هذه المحافل خطابات الاعتراف بالأمناء إلى المركز العالمي، لتمكينهم من الحفاظ على ممتلكات أمر الله وتحمّل المسؤولية القانونية لشؤون دين الله. كان دعم هذه المؤسّسات البهائية قد مكّن الأمناء من قيادة الأنشطة العالمية لأمر الله.

في عام 1958 عُقدت المؤتمرات البيقارّية التي كان قد دعا إليها حضرة وليّ أمر الله. وقد عُهد إلى أيادي أمر الله المعيّنين من قبل حضرة شوقي أفندي، باعتبارهم ممثّليه الخاصّين للمؤتمرات في كمبالا وسيدني وفرانكفورت، بحمل وديعة ثمينة عبارة عن:

عيّنة من التراب المبارك من داخل ضريح حضرة بهاءالله، وخصلة من شعره الثمين، ونسخة عن شمائله المقدّسة، ليعرضوها أمام الأحبّاء المجتمعين في هذه المؤتمرات. سيكلَّف اثنان من هؤلاء الممثّلين، نيابة عنّي، بإيداع ذلك التراب المبارك في أساسات المعبدين المقرّر أقامتهما في القارّتين الأفريقية والأسترالية.(33)

مثّل مايسون ريمي حضرة وليّ أمر الله في مؤتمر سيدني في آذار 1958. وفي حفل مؤثّر في حظيرة القدس قدّم الرسالة الموجّهة من الأيادي في الأرض الأقدس، وعطّر الأحبّاء بعطر الورد بينما تركّزت أنظارهم على الآثار الثمينة التي بعث بها حضرة شوقي أفندي. في اليوم الثاني من المؤتمر، وضع مايسون ريمي وكلارا دنّّ التراب المبارك من الضريح الأقدس وقطعة جصّ من زنزانة حضرة الباب في ماه كو في أساسات مشرق الأذكار، في موقع يكون مباشرة تحت مركز القبّة. وفي وقت لاحق، في أيّار 1958، حضر مايسون ريمي المؤتمر البيقارّي في ويلمت.

في الاجتماع الرسمي الثالث للأيادي الذي عقد في البهجة في تشرين الأوّل والثاني عام 1959، قرّر أيادي أمر الله الدعوة إلى تجديد انتخاب المجلس البهائي العالمي في رضوان 1961، المجلس الذي عيّنه أصلاً حضرة شوقي أفندي في عام 1951. وفي رسالتهم المؤرّخة في 4 تشرين الثاني 1959 ذكروا أنّه:

بذلك سوف تدخل المؤسّسة الجنينية، التي أسّسها وأشاد بها حضرة وليّ أمر الله المحبوب، مرحلتها النهائية التي تسبق انتخاب بيت العدل الأعظم.(34)

لم يكن اسم مايسون ريمي بين أيادي أمر الله الذين وقّعوا على هذه الرسالة. في 5 تشرين الثاني 1959 أبرق الأمناء أنّ مايسون ريمي غير قادر على الخدمة كواحد من الأمناء:

نعلن لكافّة المحافل الروحانية المركزية عن اختيار هوراس هولي وجون فيرابي لعضوية هيئة أيادي أمر الله التسعة المقيمين في الأرض الأقدس بدلاً عن مايسون ريمي وحسن باليوزي غير القادرين على الخدمة هناك باستمرار.(35)

لدى عودته الى واشنطن من الأرض الأقدس، قام مايسون ريمي، المتقدّم في السنّ، وبالرغم من الخدمات العديدة التي امتدّت ما يقرب من ستّة عقود، بالابتعاد عن أمر الله. في نيسان 1960، وفي سنّ السادسة والثمانين، أصدر تشارلز مايسون ريمي فجأة بيانًا معلنًا نفسه وليًّا ثانيًا لأمر الله. ‘هذا العرض الغريب والمفاجئ من الزهوّ والغرور غير المتوقّعَين’(36) من جانب أيادي أمر الله الذي أحبّه حضرة عبدالبهاء كثيرًا والمتميّز في أمر الله، قد أضاف المزيد من الأعباء إلى قلوب زملائه المنكسرة. إنّ علّة إصداره مثل هذا الادّعاء في ضوء التوجيهات الواضحة في ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء لهو أمر محيّر. علّقت روحية خانم على سلوكه الغامض قائلة:

كانت وفاة حضرة شوقي أفندي في الواقع مثل سهم أطلق واخترق قلوبنا. كلّ واحد [من أيادي أمر الله] قد كافح مع الفجيعة بطريقته الخاصّة. أحدنا هو مايسون ريمي، من أقدم الأيادي والأكثر تميزًا، قد وجد حلاً لمعضلته الشخصية بالوصول إلى نتيجة مفادها أنّ الدين البهائي لا يمكن أن يستمرّ من دون وليّ للأمر وأنّه خليفة حضرة شوقي أفندي بلا شكّ.(37)

اعتبر زملاء مايسون ريمي من أيادي أمر الله في البداية أنّ مطالبه المنافية للعقل ‘دليل على حالة الاضطراب العاطفي العميق’ كانوا يأملون أن يتعافى منها قريبًا.(38) إلاّ أنّه في وقت لاحق، خلصوا على مضض إلى أنّ انشقاقه عن التعاليم البهائية كان ‘حملة تتّسم بالإصرار ومدروسة جيّدًا’،(39) لأنّه ألحق بإعلانه الأصلي تصريحات أخرى تضمّنت «مسألة الولاية»، و«المنشور» الأوّل إلى العالم البهائي. في هذه الوثيقة الأخيرة أشار مايسون ريمي إلى جميع أيادي أمر الله بأنّهم ناكثون، ودعا البهائيين إلى التوجّه إليه للهداية.

استجاب عدد قليل جدًّا من البهائيين لدعوة مايسون ريمي. وأبرق الأمناء إلى أيادي أمر الله القارّيين وإلى كافّة المحافل الروحانية المركزية في 28 نيسان طالبين منهم أن يتبرّأوا من ادّعاءات ريمي. بحلول 10 أيّار 1960 وصل تسعة وعشرون ردًّا إلى المركز العالمي من المحافل الروحانية المركزية ومؤتمرات الوكلاء المركزية في أنحاء العالم، كلّ واحد منها يعلن الولاء للأمناء ويرفض تأكيدات ريمي تمامًا. وبحلول نهاية أيّار ارتفع هذا الرقم إلى خمسة وثلاثين ردًّا. كما استنكر المجلس البهائي العالمي، في اجتماعه يوم 27 نيسان، ادّعاءات ريمي بالمثل. وحده المحفل الروحاني المركزي الفرنسي قد صوّت لصالح ادّعائه حيث وافق ثمانية منهم في التصويت الأوّل وفي الثاني دعم خمسة من أعضائه فقط تأكيدات مايسون ريمي. تمّ حلّ المحفل الروحاني المركزي وجرت الدعوة لانتخابات جديدة. في 15 حزيران تمكّن الأمناء من الكتابة إلى أيادي أمر الله القارّيين بأنّه ‘يبدو أنّ خمسة عشر من الأحبّاء فقط في جميع أنحاء العالم قبلوا ادّعاء مايسون ريمي، منهم حوالي عشرة في فرنسا وخمسة في الولايات المتّحدة.’(40)

بعد فترة مؤلمة من التشاور بالبريد، أبرق أيادي أمر الله إلى كافّة المحافل الروحانية المركزية يوم 26 تمّوز:

إنّ هيئة أيادي أمر الله بكاملها المطيعة لمضامين ألواح وصايا مركز العهد والميثاق ولما ورد في رسائل وبرقيّات حضرة وليّ أمر الله المحبوب التي تملي عليهم حماية أمر الله المقدّس من هجمات الأعداء من الداخل والخارج، تعلن إلى العالم البهائي أنّ مايسون ريمي ناقض للعهد ومطرود من أمر الله. تأتي هذه الخطوة في أعقاب فترة طويلة من الصبر والتحمّل لأعطائه فرصة لسحب ادّعائه المخزي بحقّه في ولاية أمر الله المقدّسة ما يشكّل ادّعاء هرطقة مناقض لمضامين ألواح وصايا المولى الصريحة. وعلى الرغم من الرفض العالمي الشامل والشجب من قبل كافّة أيادي الأمر والمجلس البهائي العالمي وكافّة المحافل الروحانية المركزية، استمرّ ريمي في التحريض والمطالبة التي لا أساس لها والسعي بنشاط لإيجاد الفرقة والاختلاف بين صفوف الأحبّاء ولخلق الشكوك في قلوب المؤمنين وتقويض أنشطة مؤسّسة أيادي أمر الله والأمناء الرئيسيين المكرّسين جهودهم لتحقيق أهداف مشروع العشر سنوات لحضرة وليّ أمر الله المحبوب. ووفقًا لأحكام ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء ندعو الأحبّاء في كلّ مكان إلى تجنّب ريمي وأيّ شخص يعاشره أو يدعم مزاعمه بفاعلية. كلّنا ثقة أنّ جامعة الاسم الاعظم متّحدة بإخلاص في إدانة هذه المحاولة الأخيرة المشؤومة لتعطيل أمر الله المقدّس، وستخرج منتصرة قويّة متحفّزة، وستنطلق قدمًا لتحقيق الأهداف المتبقّية من مشروع الجهاد الروحاني المجيد الذي يطوّق العالم.(41)

وطُرد أيضًا خارج أمر الله عدد قليل من المؤمنين في أوروبا والولايات المتّحدة وأماكن أخرى ممن أيّدوا ادّعاء ريمي. وفي وقت لاحق أثار بعض أبرز أتباع ريمي سلسلة من النزاعات فيما بينهم أدّت إلى تشرذم أنصاره ويأسهم.

كان عدم ولاء تشارلز مايسون ريمي تجربة مريرة مأساوية لأولئك الأيادي الذين عرفوه وأحبّوه لفترات طويلة من حياتهم. وزاد انشقاقه من أعباء الأمناء الرئيسيين وأحزن قلوبهم. ودون كلل في قيامهم بدورهم لضمان سلامة أمر الله في جميع أنحاء العالم، بينما أخذت دراما ريمي تتكشّف وتفني نفسها بنفسها، أشاد بيت العدل الأعظم بأيادي أمر الله في رسالته الأولى يوم 30 نيسان 1963، والتي أقرّت ‘بالتضحية، والعمل، والانضباط الذاتي، والإدارة الرائعة’(42) من قبل الأيادي خلال هذا الوقت الحرج من تاريخ أمر الله.

توفّي تشارلز مايسون ريمي قبل أشهر قليلة من عيد ميلاده المائة بتاريخ 4 شباط 1974. وفي 5 نيسان 1974 أبلغ بيت العدل الأعظم العالم البهائي ما يلي:

لقد توفّي تشارلز مايسون ريمي، الذي أدّت محاولته المتغطرسة لاغتصاب ولاية أمر الله بعد وفاة حضرة شوقي أفندي إلى طرده من صفوف المؤمنين، في فلورنسا بإيطاليا بالغًا مائة سنة من عمره ليدفن دون الشعائر الدينية التي نبذها أتباعه السابقون. إنّ تاريخ هذا الانشقاق المحزن من قبل واحد تلقّى التكريم الوافر من كلّ من المولى ووليّ الأمر يشكّل مثالاً آخر على عدم جدوى كلّ المحاولات الرامية إلى تقويض العهد المنيع لأمر حضرة بهاءالله.(43)

1.
Stockman, Bahá’í Faith in America, vol. 1, ch. 6.
2.
Stockman, Bahá’í Faith in America, vol. 2, p. 152.
3.
المصدر السابق.
4.
‘Abdu’l-Bahá, Selections, pp. 196–9.
5.
المصدر السابق، الصفحة 232.
6.
Collins, Bibliography of English-Language Works, p. 135.
7.
المصدر السابق، الصفحات 133–135.
8.
Stockman, Bahá’í Faith in America, vol. 2, p. 222.
9.
ibid. p. 458 (identified by Stockman, ibid. p. 463).
10.
‘Abdu’l-Bahá, Tablets of Abdul Baha Abbas, vol. 2, p. 466 (identified by Stockman, Bahá’í Faith in America, vol. 2, p. 463).
11.
المصدر السابق، الصفحة 384.
12.
Letter to the author from the Archives Office, Bahá’í World Centre, 3 January 1997.
13.
Bahá’í World, vol. 2, pp. 121–2.
14.
Stockman, Bahá’í Faith in America, vol. 2, p. 291.
15.
Japan Will Turn Ablaze, p. 11.
16.
Letter to the author from Nell Golden, secretary to Amatu’l-Bahá Rúḥíyyih Khánum.
17.
Stockman, Bahá’í Faith in America, vol. 2, p. 319.
18.
For the designs of Mr Maxwell and Mr Remey see Bahá’í World, vol. 8, pp. 511–12; another view of Mr Remey’s design, as well as his description of it, can be found in Star of the West, vol. 11, no. 5, pp. 85–7.
19.
Whitmore, Dawning Place, p. 88.
20.
Star of the West, vol. 11, no. 4, p. 67.
21.
Whitmore, Dawning Place, p. 94.
22.
Shoghi Effendi, Messages to the Bahá’í World, pp. 7–8.
23.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 281.
24.
شوقي أفندي، Messages to the Bahá’í World. الترجمة من «مجموعة نصوص صادرة عن دائرة الأبحاث التابعة لبيت العدل الأعظم»، من منشورات دار النشر في البرازيل، شهر البهاء 164ب، نيسان 2007م.
25.
المصدر السابق، الصفحتان 8–9.
26.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 159.
27.
Giachery, Shoghi Effendi, pp. 178–9.
28.
Bahá’í World, vol. 13, p. 341.
29.
Ministry of the Custodians, p. 29.
30.
المصدر السابق، الصفحة 35.
31.
المصدر السابق، الصفحتان 35–36.
32.
Shoghi Effendi, Messages to the Bahá’í World, p. 127.
33.
Shoghi Effendi, quoted in Bahá’í World, vol. 13, p. 315.
34.
المصدر السابق، الصفحة 168.
35.
المصدر السابق، الصفحة 165.
36.
Rúḥíyyih Khánum, Introduction, Ministry of the Custodians, p. 16.
37.
المصدر السابق، الصفحة 16.
38.
Ministry of the Custodians, pp. 196–7.
39.
المصدر السابق، الصفحة 224.
40.
المصدر السابق، الصفحة 208.
41.
المصدر السابق، الصفحة 223.
42.
The Universal House of Justice, Wellspring of Guidance, p. 2.
43.
The Universal House of Justice, Messages from the Universal House of Justice, p. 271.

1874 – 1968 طراز الله سمندري

Hand of the Cause of God Taráz’u’lláh Samandarí (1874-1968)

ولد طراز الله سمندري في عائلة شهيرة. كان جدّه الكبير الحاج رسول رجلاً تقيًّا من أتباع الطريقة الشيخية، وقد التقى حضرة الباب مرّات عدّة في ضريح الإمام الحسين نحو عام 1841 وانجذب إلى حضرته كثيرًا. كان جدّ طراز الله تاجرًا شهيرًا يحظى باحترام كبير في قزوين وقد اعترف بأمر الله منذ أوائل أيّام الظهور. كان والده من حواريي حضرة بهاءالله ويدعى الشيخ محمّد كاظم سمندر.

ولد طراز الله سمندري في قزوين بإيران، في 16 تشرين الأوّل 1875، وأشرف على تربيته والداه وجدّته التي كانت واحدة من صاحبات الطاهرة. منح حضرة بهاءالله الطفل الرضيع اسم طراز الله. خاطبه حضرة بهاءالله باسم طراز أفندي، وحضرة عبدالبهاء باسم ميرزا طراز وحضرة شوقي أفندي باسم جناب سمندري. في غضون بضعة أشهر على ولادة طراز الله، رزق عمّ والدته وزوجته بطفلة سمّيت طرازية. بعد واحد وعشرين سنة تزوّج هذان الطرازان.

أنزل حضرة عبدالبهاء أدعية ومناجات لطراز الله، بما فيها هذا الدعاء:

اشرح صدره بنور معرفتك واطلق لسانه بالأنفاس المحيية من قوّتك السماوية. مكّنه من ترتيل آيات الوحدانية الإلهية في المجالس… امنحه فرح النظر إلى النور اللامع من رحمتك في الجنّة الأخفى ومكّنه من كشف دلائل نعمتك بين عبادك بظهور علامات فضلك في هيكله اللميع.(1)

أسكن والد طراز الله مع الأسرة عالِمًا متميّزًا وخطّاطًا بارعًا يدعى الملاّ علي معروف باسم «جناب المعلّم»، والذي تعرّف إلى الدين البهائي بواسطة سمندر. وقد أسند إليه تعليم طراز الله وإخوانه وأبناء عمومته، فتلقّى طراز الله الكثير من تعليمه منه. أشاد حضرة بهاءالله بجناب المعلّم باعتباره أوّل معلّم يطبّق المبادئ البهائية في التعليم. وقد تعلّم الشابّ الناشئ طراز الله تحت إرشاده اللغة الفارسية والعربية والنحو ومسك الدفاتر الابتدائي وفن الخطّ. أظهر الصبيّ موهبة في فن الخطّ وكان يقوم باستنساخ الأدعية والألواح بخطّ يده الجميل:

نما فيّ بالتدريج عشق شديد لتدوين الكتابات المقدّسة. في سنّ الثانية عشرة كنتُ غالبًا استيقظُ أربع ساعات قبل الفجر وأشغل نفسي باستنساخ الكتابات المقدّسة. كنتُ أشعر بالفرح العارم ولا أتعب على الإطلاق. في وقت لاحق، حتى أثناء السفر على الطرقات، أو في قطار، أو في سفينة، أو أثناء التوقّف، كنت مشغولاً باستنساخ الكتابات المقدّسة.(2)

أصبح طراز الله لاحقًا أستاذًا بارزًا في ذلك الفنّ وواحدًا من أبرز الخطّاطين في إيران. أصبح ضليعًا في الكتابات البهائية جرّاء استنساخ العديد من الآثار الكتابية المقدّسة. وهكذا، رغم أنّه كان يفتقر إلى التدريب الأساسي، فقد كان محترمًا كرجل عالي الثقافة يمكنه دومًا الرجوع إلى النصوص ذات الصلة عند الحاجة. كما مكّنته حرفته من التعرّف، بدرجة فريدة من نوعها، على فنّ الخطّ لدى كلّ من حضرة الباب وحضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء ومختلف كاتبي الوحي الذين عملوا لديهم؛ وفي سنوات لاحقة استخدم هذه المهارة لتحديد ألواح لا تعدّ ولا تحصى من حيث أصالتها وصاحبها.

عندما كان طراز الله في الثالثة عشر من عمره انضمّ إلى مكتب والده وتعلّم مهارات التجارة. لقد درس بجدّ وكدّ، ولكنّه كان يتوق إلى التشرّف بمحضر حضرة بهاءالله. في سنّ السادسة عشر سنحت له الفرصة للذهاب في رحلة الحجّ، وفي أوائل تشرين الثاني عام 1891، غادر إلى الأرض الأقدس مع خالته وأخته وعدد قليل من الأصدقاء. وصف لاحقًا لقاءه مع حضرة بهاءالله فقال:

في اليوم الثالث من الوصول إلى عكّاء، تمّ استدعائي وكان لي شرف الدخول إلى محضره المبارك في بيت عبّود. كان حضرته يجلس على كرسي وأمرني بالجلوس. قدّم خادم الشاي، ولكنّني لم أتمكّن من الشرب بتاتًا. كنت غارقًا تمامًا في محيط العظمة والجبروت بحيث لم أقدر على إلقاء نظرة على طلعته الفريدة وجماله… تشرّفت مرّة أخرى بمحضره في القصر بينما كان ينزل الآيات المقدّسة. ولم يكن هناك أحد سوى كاتب الوحي. بينما كان ذلك التجسيد للجبروت والعظمة يسير حين إنزال الآيات وتلاوتها، تمكّنت من إلقاء نظرة كافية على طلعته التي عكست عظمة إلهية ونفوذًا سماويًا. في حين إنزال الآيات كان وجهه الكريم منيرًا؛ وأحيانًا كان يومئ بيده ويحدّق في البحر. كان كاتب الوحي يكتب بسرعة كبيرة. وقد غطّت الأرض صفحات وصفحات من الألواح؛ ربّما نزّل ما يعادل خُمس حجم القرآن الكريم خلال تلك الساعات القليلة. كانت الكلمات تتدفّق من فمه المبارك، تلاوةً أحيانًا وبمنتهى العظمة والجبروت في أحيان أخرى.(3)

مكث طراز الله في عكّاء مدّة سبعة أشهر، وعندما وقع صعود حضرة بهاءالله في أيّار 1892 كان في الأرض الأقدس. وقد روى العديد من القصص عن فترة حجّه هذه طوال حياته. منها على سبيل المثال: في اليوم الأوّل من عيد الرضوان، كان هو مع ثلاثة من المؤمنين الآخرين يجلسون على الأرض أمام حضرة بهاءالله الذي كان يجلس على كرسي. بدأ حضرة بهاءالله بتلاوة لوح السلطان. قال طراز الله إنّ ‘التجربة الروحانية والنشوة كانتا فوق الوصف.’(4)

في يوم عيد النوروز كان حضرة بهاءالله قد بعث إلى الشابّ هدية من الملابس – رداء، قميصًا، حزامًا وجوارب. في وقت لاحق من ذلك اليوم استقبل حضرته الضيوف في حديقة «الجنينة» ومرّة أخرى وجد طراز الله، البالغ من العمر ست عشرة سنة، نفسه في محضر حضرة بهاءالله. أنزل حضرته بعض الآيات، ثم دُعي الضيوف إلى المأدبة ونظم الشاعران النبيل وعندليب قصائد لهذه المناسبة. وصف طراز الله الحديقة لاحقًا بأنّها «عرش السموات العلى».(5) بعد ذلك رافق طرازُ الله وقلّة آخرون حضرةَ بهاءالله عائدين إلى البهجة. قال طراز الله سمندري للبهائيين الذين اجتمعوا في قاعة ألبرت في لندن عام 1963: ‘سوف يستغرقني الأمر أيّامًا لأخبركم عن السبعة أشهر التي أمضيتها في محضره قبل اثنتين وسبعين سنة.’(6)

أثناء وجوده في الأرض الأقدس، أدرك طراز الله المقام الحقيقي للغصن الأعظم. ذات يوم، بعد أن عانى من المرض عدّة أيّام وكان غير قادر على التشرّف بمحضر حضرة بهاءالله، توسّل طراز الله لمقابلة حضرته. عندما مُنح الإذن بذلك، أبدى حضرة بهاءالله ملاحظته إلى الشابّ الذي اشتكى من عدم رؤية حضرته مدّة أسبوعين. ألم ترَ حضرة عبدالبهاء؟ ‘نعم، يا مولاي، رأيتُه كلّ مساء وكلّ صباح’ أجاب طراز الله. ‘إذًا لماذا تشتكي بأنّك لم تنل مكافاة الحجّ؟’ سأله حضرة بهاءالله.(7)

قبل تسعة أشهر من صعوده، أعرب حضرة بهاءالله عن رغبته في مغادرة هذا العالم. خلال الأشهر الأخيرة من حياته لم يتحدّث بصراحة عن اقتراب نهاية حياته، ولكن بالنسبة لأولئك المؤمنين الذين تشرّفوا بمحضره أصبحت نهاية حياته الدنيوية واضحة على نحو متزايد. بعد خمسين يومًا على النوروز عام 1892 أصابت حضرته حمّى مستمرّّة أضعفت هيكله. وقع أحبّاؤه في حزن ويأس واضطراب. قبل ستّة أيّام من صعوده، استدعى المؤمنين الذين كانوا موجودين في القصر للقاء أخير.

ترك طراز الله، الذي كان من بين أولئك المدعوّين، هذه الرواية عن اجتماعه الأخير مع حضرة بهاءالله:

كان ذلك في اليوم العاشر أو الحادي عشر على مرض حضرته، قبل غروب الشمس بقليل جاء الخبر بأنّه سمح لجميع الذين كانوا في القصر – المقيمين الدائمين، الحجّاج، الخادمين – أن يذهبوا لمقابلته، وهكذا دخلتُ إلى محضره. كان فراشه في منتصف الغرفة على الأرض، وكان يتّكئ على وسادتين أو ثلاث. بدا واهنًا للغاية وصوته ضعيفًا. بعد بضع كلمات ترحيب لطيفة، تلفّظ بعض الكلمات التي تدلّ على الفراق. نصحنا بالمحبّة والاتّحاد واقتبس جُملاً من «الكتاب الأقدس» [فيما يتعلّق بصعوده]. يمكن للمرء أن يتصوّر كيف كان شعور الجميع بعد سماع هذه الكلمات. صاح عندليب وقد غلبه الحزن ودموعه تتدفّق: ‘يا بهاء! يا بهاء!’ ثم منحنا حضرته الإذن بالمغادرة. سجدنا عند قدميه وقد غمرنا الحزن وقلوبنا طافحة بالأسى ثم قمنا بالطواف حول حضرته وغادرنا الغرفة.(8)

ذكر السيّد سمندري الآيات التي كرّرها حضرة بهاءالله في ذلك اليوم من «الكتاب الأقدس»:

يا أهل الأرض إذا غربت شمس جمالي وسترت سماء هيكلي لا تضطربوا قوموا على نصرة أمري وارتفاع كلمتي بين العالمين. إنّا معكم في كلّ الأحوال وننصركم بالحقّ إنّا كنّا قادرين. من عرفني يقوم على خدمتي بقيام لا تقعده جنود السموات والأرضين.(9)

في هذا الاجتماع النهائي مع البهائيين شدّد حضرة بهاءالله على أهمّية الثبات على العهد والميثاق ولسبب وجيه. فقد أثّر نقض العهد من قبل إخوة حضرة عبدالبهاء مباشرة بعد صعود حضرة بهاءالله على طراز الله بشكل مباشر. كانت شقيقته ثُريّا متزوّجة من ‘ميرزا ضياء الله المذبذب’،(10) الابن الثالث لحضرة بهاءالله، وانضمّت إلى صفوف ناقضي العهد. بعد وفاة زوجها في عام 1898 أبقيت في قصر البهجة ضدّ إرادتها. عندما جاء والدها ليأخذها إلى موطنها، تعرّض للهجوم والضرب بأمر من ميرزا محمّد علي وطُرد من البهجة.(11)

في اليوم التاسع على صعود حضرة بهاءالله، فُضّ ختم كتاب عهده وتُلي أمام مجموعة من تسعة رجال تمّ اختيارهم من عائلة حضرته. في فترة ما بعد الظهر تُلي الكتاب للمرّة الثانية في ضريح حضرة بهاءالله أمام لفيف من العائلة والبهائيين، بمن فيهم طراز الله سمندري. بعد قراءة الوثيقة طلب حضرة عبدالبهاء من الحجّاج أن يذكروا كلّ ما شهدوه للبهائيين الإيرانيين لدى عودتهم إلى موطنهم. بعد شهر على صعود حضرة بهاءالله غادر طراز الله إلى إيران، مسافرًا على ظهر بغل عبر تركيا لتجنّب منطقة موبوءة بالكوليرا.

توجّه طراز الله سمندري في عام 1898 إلى الأرض الأقدس في حجّه الثاني وأقام في عكّاء مدّة أربعة أشهر، وحجّه الثالث في عام 1904. وخلال زيارة السيّد سمندري التي امتدّت أربعين يومًا أراه حضرة عبدالبهاء لفافة طويلة نقشت عليها أسماء البهائيين الأمريكيين الذين أظهروا ولاءهم الدائم للمولى. طلب حضرة عبدالبهاء من طراز الله أخذ اللفافة إلى إيران وتركستان، حتى يشاهدها البهائيون ويقوم بتشجيعهم على النهوض وتكريس أنفسهم لخدمة أمر الله.

عندما وصل السيّد سمندري الى إيران التقى بعلي أكبر الرفسنجاني الذي سيكون رفيقه في السفر. انطلق الرجلان في حوالي شهر تشرين الأوّل 1904 لإنجاز المهمّة المحدّدة لهما من قبل حضرة عبدالبهاء. على مدى السنوات الخمس التالية كان تنقّلهم بواسطة البغال والحمير والعربات وسيرًا على الأقدام بين العديد من القرى النائية في إيران وتركستان. كان ذلك وقتًا محفوفًا بالأخطار على البهائيين في إيران نظرًا لعدم الاستقرار السياسي في البلاد. وكان السيّد سمندري ورفيقه في فارس عندما استشهد ثمانية عشر مؤمنًا في نيريز. وساعد هو مع السيّد الرفسنجاني في رعاية أولئك الذين فرّوا من الاضطهاد. وكان حضرة عبدالبهاء في غاية السرور من نجاح المسافرَين، وشجع المؤمنين الآخرين على اتّباع خطاهما.

وكان في حوالي عام 1895 أن تزوّج السيّد سمندري من ابنة عمّه طرازية. وبينما كان زوجها بعيدًا في رحلته الطويلة تلقّت لوحًا من حضرة عبدالبهاء ‘دعائي أن يكون هذا الانفصال المؤقّت سببًا في لمّ الشمل الأبدي’.(12)

قرب نهاية عام 1909 دعا حضرة عبدالبهاء السيّد سمندري والسيّد الرفسنجاني إلى الأرض الأقدس. وبينما كانا هناك أخبرهما حضرة عبدالبهاء أنّ خدماتهما ‘لن تُمحى أبدًا من قلوب وذاكرة الأحبّاء الذين التقوا بهما.’(13)

بعد رحلته الطويلة عانى طراز الله من تدهور صحّته ونُصح بالعودة إلى قزوين، حيث أقام فيها ومارس تجارته خلال السنوات السبع عشرة التالية التي كان فيها يبلّغ أمر الله بنشاط، ويتراسل مع العديد من المراكز البهائية، وخدم في المحفل الروحاني سكرتيرًا وأصدر نشرة أخبار بهائية. طلب منه حضرة وليّ أمر الله، حضرة شوقي أفندي، استنساخ مختلف الألواح التي تلقّاها البهائيون في إيران والتحقّق من صحّتها. وأسفرت هذه المهمّة الأخيرة عن مجموعة من ثمانية عشر مجلّدًا من وثائق لا تقدّر بثمن.

بعد حوالي ستّ سنوات على صعود حضرة عبدالبهاء طلب المحفل الروحاني في طهران من السيّد سمندري القيام برحلة تبليغية إلى آذربيجان. وبتشجيع من حضرة شوقي أفندي، الذي دعاه ‘دعامة قويّة’ ومثالاً على ‘الطاعة والتفاني’،(14) غادر السيّد سمندري إلى تبريز في شباط 1928، مع زوجته واثنين من أبنائه. وبعد هذا التاريخ لم يكن لديه منزل مستقرّ أبدًا، حيث أمضى السنوات الأربعين التالية في السفر وتبليغ أمر الله. في بداية الرحلة بدأ بكتابة مذكّراته، التي دأب على كتابتها يوميًا والمحفوظة الآن في محفظة الآثار العالمية في حيفا.

في عام 1933، بناء على طلب المحفل الروحاني الأساسي لطهران، أوقف السيّد سمندري أسفاره لبضعة أشهر لإدارة المكتب المركزي البهائي في طهران، ولكن سرعان ما طلب منه حضرة وليّ أمر الله استئناف رحلاته. بعد وفاة ابنهما الأكبر في عام 1940، دُعي الزوجان سمندري للذهاب إلى حيفا، حيث أمضيا خمسين يومًا. خلال هذا الحجّ أخبر حضرةُ وليّ أمر الله السيّدَ سمندري أنّه ‘قد أتت الدورة الأولى من خدماتك إلى نهايتها؛ والآن تبدأ الدورة الثانية.’(15) كانت مهمّته الخاصّة تشجيع البهائيين على الهجرة إلى البلدان المحيطة بإيران. فلمّا عاد إلى الوطن، تشاور السيّد سمندري مع المحفل الروحاني المركزي وشُكّلت لجنة للهجرة.

في عام 1945 طُلب من السيّد سمندري الذهاب الى شيراز للعمل على حماية أمر الله من ناقضي العهد. بقي هناك مدّة سبع سنوات تقريبًا. خلال هذه الفترة توفّيت زوجته في 7 تشرين الثاني 1947 في موقع هجرتها في زنجان، ولم يكن السيّد سمندري قد رآها منذ ثلاث سنوات.

في 24 كانون الأوّل 1951 كان السيّد سمندري من بين اثني عشر من الأحبّاء الذين عيّنهم حضرة شوقي أفندي في مرتبة أيادي أمر الله. وبناء على طلب حضرة وليّ أمر الله حضر جميع المؤتمرات البيقارّية الأربعة في عام 1953، وزار العديد من المراكز في أوروبا وأمريكا. في عام 1957 كان ممثّلاً لحضرة شوقي أفندي في مؤتمر الوكلاء الأوّل للمحفل الروحاني المركزي في شبه الجزيرة العربية.

في تشرين الثاني 1957 وصل النبأ المفاجئ بصعود حضرة شوقي أفندي. سافر السيّد سمندري إلى لندن لحضور الجنازة، وبعد ذلك إلى حيفا لحضور الاجتماع الرسمي الأوّل لأيادي أمر الله. حضر كلّ اجتماع رسمي لاحق واستطاع خلال هذه الزيارات إلى الأرض الأقدس التعرّف على العديد من الألواح المباركة. سافر على نطاق واسع خلال ولاية الأيادي، فزار، من بين أماكن أخرى، مصر وأوغندا والصومال في عام 1958؛ تركيا في عامَي 1960 و1962؛ شبه القارّة الهندية في عامَي 1959 و 1962. وحضر المؤتمرَين البيقارّيين في كمبالا في كانون الثاني 1958 وجاكرتا - سنغافورة في أيلول. كما حضر مؤتمر الوكلاء الأوّل لانتخاب المحفل الروحاني المركزي في بورما في عام 1959.

كانت قامة طراز الله سمندري قصيرة ولكنّها منتصبة. حركاته سريعة، وكذلك مشيته، وعيناه نفّاذتان، وشعره داكن، ويداه حسّاستان ونطقه قوي. كان ينهض من نومه مبكرًا. يأخذ قسطًا من الراحة فقط لاستعادة قوّته وإعداد نفسه لخدمة الآخرين. كان محافظًا على وقاره، ويبدي من المجاملة واللطف ما جذب وألهم أجيالاً من الشباب للسير على دروب الخدمة.

كان لديه أيضًا حسّ قويّ بالفكاهة. فذات مرّة كان في الفلبين مع أيادي أمر الله الدكتور مهاجر، الذي طلب منه بيت العدل الأعظم زيارة إحدى البلاد الصعبة للغاية لأجل حماية أمر الله.

ذهب [الدكتور مهاجر] إلى السيّد سمندري وقال له بلطف: ‘يا عزيزي سمندري، لقد تلقّيت اليوم دعوة للذهاب إلى… ولمّا كان ذلك البلد في طريقك فأريد أن أكتب لهم أنّهم سيحظون بموهبة زيارتك بدلاً منّي. فانفجر السيّد سمندري ضاحكًا وقال: «أنتم الشباب تعتقدون أنّ بإمكانكم أن تخدعوا هذا الرجل العجوز؟ فكلّما طُلب مني أن أذهب إلى هناك… كنت أبكي بكلّ معنى الكلمة. أعتقد أنّه ينبغي أن ينعموا ثانية بأفضال زيارتك هذه المرّة.’(16)

ومن فرط محبّته لرحمت الله مهاجر، ذهب السيّد سمندري إلى ذلك البلد.

في عام 1967 سافر السيّد سمندري إلى أدرنة مع أيادي أمر الله آخرين للدعاء في بيت حضرة بهاءالله قبل حضور المؤتمر البيقارّي في ويلمت في تشرين الأوّل بصفته ممثّلاً لبيت العدل الأعظم. ومع أنّ عمره كان يبلغ الآن 92 سنة، فقد سافر في أشهر الشتاء الباردة إلى ألاسكا وكندا والعديد من المدن في الولايات المتّحدة. ورغم الضعف والحمّى، أجريت معه مقابلات صحفية من قبل العديد من الصحف الأمريكية. وقد جاء في تقرير لصحيفة لوس أنجلوس تايمز: ‘مسنّ فارسي يشبّه نفسه بالحواري بطرس: ويؤكّد أنّ هناك فارقًا واحدًا فقط، “الحواري سمع الابن، أمّا أنا فقد رأيت الآب” ’(17)

في أسفاره في الولايات المتّحدة تحدّث السيّد سمندري عن الامتحانات والكوارث التي ستحلّ بالعالم وعن أهمّية الثبات. وأكدّ على الإيمان القوي لتلاميذ السيّد المسيح، الذين طلب حضرة عبدالبهاء من البهائيين في ألواح وصاياه الاقتداء بهم.

بدا الاضطراب على مجموعة من المؤمنين عندما سمعوا تصريحاته حول الكوارث القادمة وسألوه ما إذا كان المؤمنون سيكونون محفوظين. فأجاب عن هذا السؤال بحزم: ‘سوف يكون أمر الله محفوظًا.’(18)

قال إنّ أمر الله يتقدّم من خلال الامتحانات والمحن. وإن ذلك كان دائمًا إرادة الله. فقد احتمل المسيح المصائب العظيمة والضغوط الشديدة مدّة ثلاث سنوات، مضحّيًا بالراحة وأخيرًا بحياته. تلاميذه أيضًا تخلّوا عن الراحة والطمأنينة لنشر المسيحية حتى ضحّوا بحياتهم واحدًا تلو الآخر. كما عانى حضرة الباب مدّة سبع سنوات في سبيل دين من سيخلفه ومن أجل البشرية. وتصرّف حروف «حي» تمامًا كما فعل الحواريون، فضحّوا بكلّ ما لديهم من أجل أمر الله.

وفي مناسبة أخرى، أخبر السيّد سمندري مستمعيه بأنّ الثبات قد وُجد في دماء شهداء إيران وفي صبر وجلد الرجال والنساء والأطفال الذين بقوا في مواقع هجرتهم بغضّ النظر عن الصعوبات. قال إنّ الثبات هو القوّة التي تحقّق الانتصارات لأمر الله وهو سجيّة مميّزة تُولد من محبّتنا لحضرة بهاءالله وأمره الرائع.

بعد نحو عام من أسفار واسعة النطاق، عاد طراز الله سمندري إلى الأرض الأقدس في شهر آب 1968 لحضور الاحتفال بالذكرى المئوية لوصول حضرة بهاءالله إلى تلك الشواطئ. ولكّنه ما إن وصل حتى تدهورت صحّته واضطرّ لدخول المستشفى. ورغم أنّه لم يتمكّن من حضور الاحتفالات، إلاّ أنّه نجا ليشهد الذكرى المئوية لنزول حضرة بهاءالله في الأرض الأقدس. ثم وافته المنيّة يوم 2 أيلول 1968.

رافق ما يقرب من ألف بهائي، من الذين حضروا فعاليّات الاحتفال، نعش السيّد سمندري من بيت حضرة عبدالبهاء إلى المقبرة البهائية على سفح جبل الكرمل. ودفن بجوار الحاج ميرزا حيدر علي، وهي رغبة طالما عبّر عنها. ‘كانت جنازة من أكبر الجنائز وأكثرها تأثيرًا في النفس منذ زمن المولى.’(19)

وهكذا أخلد للراحة أيادي أمر الله الوحيد الذي خدم دين الله خلال ولاية كلّ من حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء وحضرة شوقي أفندي والأمناء الرئيسيين وبيت العدل الأعظم؛ والذي كان منذ فترة طويلة قد تلقّى هذه الكلمات الخالدة من حضرة وليّ أمر الله:

إنّ الخدمات الرائعة المستمرّّة المخلصة التي قام بها ذلك الذي اختاره ربّ الخلائق أجمعين، محفورة على قلبي ومنقوشة بأحرف أبدية في سجلاّت الملكوت الأبهى؛ ومرور العصور والقرون لا يقدر على محوها أبدًا.(20)

في 3 أيلول أبرق بيت العدل الأعظم إلى العالم البهائي ما يلي:

نعلن بقلوب حزينة وفاة أيادي أمر الله درع دينه المحبوب الغالي طراز الله سمندري في السنة الثالثة والتسعين من حياته غداة الاحتفال بالذكرى المئوية لوصول حضرة بهاءالله إلى الأرض الأقدس. بقي وفيًّا حتى الرمق الأخير لكلّ من ربّه ومولاه ووليّ أمر دينه. واصل الخدمة المخلصة المتفانية بلا هوادة حتى سقوطه مريضًا خلال آخر مهمّة تبليغية. وإذ تجاهل مرضه وصل إلى الأرض الأقدس ليشارك في الاحتفال بالذكرى المئوية. ستبقى ذكراه إلى الأبد في قلوب الأحبّاء في الشرق والغرب الذين سافر إلى بلدانهم حاملاً رسالة ربّه، والذين خدم جامعاتهم البهائية بإخلاص، هذا البقيّة الباقية من العصر البطولي الغالي الذي تشرّف بمحضر الجمال المبارك في العام الذي وقع فيه صعوده، قد أُخلد الآن إلى الراحة على سفح جبل الربّ وسط حشد من الأحبّاء تجمّعوا بالقرب من البقعة ذاتها التي وطئتها أقدام حضرة بهاءالله عندما شرّف هذه الشواطئ المقدّسة أوّل مرّة. نطلب من جميع المحافل الروحانية المركزية عقد مجالس تذكّرية ومن ضمنها أمّهات مشارق الأذكار الأربعة في العالم البهائي بما يليق بحياة طويلة مكرّسة من الخدمة المثالية لربّ الجنود أدّاها من كان قد أكّد له مركز العهد والميثاق بالترحيب الحبّي به في محضر حضرة بهاءالله في الملكوت الأبهى. نقدّم تعاطفنا القلبي ونؤكّد دعاءنا لأفراد أسرته المميّزين.(21)

1.
Bahá’í World, vol. 15, p. 410–11.
2.
Samandari family papers.
3.
المصدر السابق.
4.
Bahá’í World, vol. 15, p. 411.
5.
Ṭarázu’lláh Samandari, In His Presence.
6.
المصدر السابق.
7.
Bahá’í World, vol. 15, p. 412.
8.
Samandari family papers.
9.
حضرة بهاءالله، «الكتاب الأقدس»، الفقرة 38.
10.
شوقي أفندي، «كتاب القرن البديع»، الصفحة 288.
11.
.طاهرزاده، «ميثاق حضرة بهاءالله»، الصفحة 190 – الحاشية
12.
Bahá’í World, vol. 15, p. 413.
13.
المصدر السابق.
14.
المصدر السابق، الصفحة 414.
15.
Samandari family papers.
16.
Muhajir, Dr Muhajir, p. 659.
17.
Bahá’í News, April 1968, p. 3.
18.
From a talk given by Mr Samandari in Fort Worth, Texas, 1968.
19.
Bahá’í World, vol. 15, p. 416.
20.
المصدر السابق، الصفحة 414.
21.
المصدر السابق، الصفحة 416.

1876 – 1957 جورج تاونزند

Hand of the Cause of God George Townshend (1876-1957)

ولد جورج تاونزند، الذي كان في وقت ما كاهنًا في كاتدرائية القديس باتريك في دبلن، ورئيس شمامسة كلونفيرت، يوم 14 حزيران 1876 في عائلة أنجلو-إيرلندية كبيرة ومزدهرة. تزوّج والده، تشارلز أونياك تاونزند مرّتين وأنجب 14 طفلاً. كان تشارلز رجل أعمال ناجحًا، محسنًا، قاضيًا للصلح وإداريًا في دبلن في أواخر القرن التاسع عشر. دشّن مشروع مشفى للفقراء، وأسّس وكالة ناجحة جدًّا للعقارات، وفي منصب سكرتير ونائب رئيس «الجمعية الملكية في دبلن»، ساهم مساهمة عظيمة في رفع مستوى الزراعة في إيرلندا. كان صاحب العمل الأوّل الذي عمل عنده جورج برنارد شو.

كان جورج الطفل الأوّل لتشارلز من زواجه الثاني من أنّا ماريّا روبرتس، وتمتّع بطفولة مثالية وأصبح فارسًا جيّدًا. عندما كان في العاشرة من عمره أُرسل إلى إنجلترا للدراسة، أوّلاً إلى مدرسة وينياردز في واتفورد ثم إلى أپنگهام، وهي مدرسة حكومية شهيرة في رتلاند، وفيها حصل على منحة دراسية، حيث أبلى بلاء حسنًا في الأدب والرياضة. نتيجة لهذه الإنجازات، أسندت إليه مهمّة تلميذ مفوّض[طالب يكلّف بمسؤوليّات معيّنة تساعد الأستاذ] وانتُخب عضوًا في «جمعية الاتّحاد» وفي «لجنة الألعاب الرياضية».

 

في الفترة بين عامَي 1895 و1899، التحق جورج بجامعة أكسفورد كطالب جامعي يتلقّى معونة مالية، ليدرس في كلّيّة هرتفورد العلوم الكلاسيكية واللغة الإنجليزية. ولكنّه لم يحقّق أيّ تميّز دراسي خاصّ، وتلقّى الدرجة الثالثة في الدراسات اللاتينية واليونانية. إلاّ أنّه استمرّ في التفوّق بالرياضة، حتى إنّه عندما تخرّج بدرجة بكالوريوس متواضعة، كان قد حصل على عدد من الكؤوس في ألعاب القوى ولكنّ لم تكن لديه خطط لممارسة مهنة. في السنوات اللاحقة أسرّ لابنته أونا أنّه ‘لم يعمل بجدّ’، لأنّ اهتمامه الوحيد كان ألعاب القوى.(1)

أمضى جورج السنوات الأربع التالية على خلاف مع نفسه. يكتب ديفيد هوفمان أنّ جورج عاش مع عائلته إرضاءً لوالدته، وانضمّ كمتدرّب إلى مكتب محاماة في دبلن. في وقت ما خلال هذه السنوات الأربع أصبح كاتبًا رئيسًا لصحيفة التايمز الإيرلندية. في نهاية هذه الفترة حصل على درجة جامعية في القانون، ورخصة مزاولة المحاماة في تشرين الأوّل 1903. ورغم استمراره في دفع مستحقّات كانت عليه للجمعية القانونية حتى عام 1920، إلاّ أنّه لم يسبق له أن رافع في أيّ قضيّة، وأعرب لوالده عن نفوره من هذا الميدان. فعرض عليه تشارلز أونياك على الفور فرصة السفر إلى أيّ مكان في العالم لمدّة سنتين، وهكذا تخلّى جورج، في سنّ السابعة والعشرين، عن مهنته الناشئة في ميدان القانون ليذهب إلى جبال روكي الأمريكية.

عاش السنتين التاليتين كالرحّالة الهائم على وجهه، حرًا طليقًا قانعًا بتسكّعه هذا. ولعدم وجود عنوان دائم له، أمضى أيّامه في العزلة والتأمّل وعلى سرج الحصان. وفي تجواله في تلك المنطقة ذات الجلال والمهابة، عمل في صناعة الأخشاب عند نفاد أمواله، وشارك في مكافحة حرائق الغابات، وزار متنزّه يلوستون، وأحيانًا كان يضيّع طريقه عن عمد.

ذات يوم وقعت في يده نسخة من باغافاد غيتا. دفعه هذا الكتاب المقدّس إلى التركيز على المسائل الروحانية، الأمر الذي أدّى إلى قراره بأن يكرّس نفسه للبحث عن معرفة الله. وإذ وُلد من جديد، وجد جورج الآن لنفسه هدفًا في الحياة. ولمّا كان غير متأكّد من كيفية المضي قدمًا، قرّر الالتحاق بالكنيسة بعد تفكير عميق. وفي عام 1905 أصبح شمّاسًا وعُيّن في العالم التالي كاهنًا في الكنيسة الأسقفية الأمريكية في سولت ليك سيتي. ألقيت على كاهله مسؤولية البعثة التبشيرية المتوجّهة إلى المورمون والهنود في سانت ماري في بروفو بولاية يوتا من عام 1904–1909.

وفي وقت لاحق، أصبح جورج مساعد مدير في «دائرة الملحق الجامعي» في «جامعة الجنوب» في سيواني بولاية تينيسي، وفي عام 1912 عُيّن أستاذًا مساعدًا في قسم اللغة الإنجليزية. في عام 1910 التقى نيلي جينينغز روش، من حفيدات أحفاد الجنرال جيمس روبرتسون، الذي أسّس مدينة ناشفيل. في غضون ثلاث سنوات تمّت خطبتهما بقصد الزواج. سافر جورج في تمّوز 1913 إلى إيرلندا لإجراء الترتيبات اللازمة.

في الأثناء أصبحت نيلي مقتنعة بأنّ جورج مع ما له من قدر روحاني واضح لا يناسبه الزواج منها(2). لذلك، بعد وقت قصير من وصول جورج إلى إيرلندا، أرسلت إليه برقية تفيد بإلغاء الخطوبة. وفي غمرة ذهوله عاد جورج إلى سيواني وبقي فيها ثلاث سنوات.

في عام 1916 عاد جورج الى إيرلندا بقصد الزيارة. وبينما كان هناك أصابه شكل من أشكال التهاب العصب تركه أعمى لعدّة أسابيع. فاستقال من عمله في سيواني بإرسال برقية وتولّى مهامّ راعي أبرشية في بوترزتاون في مقاطعة دبلن.

في شتاء عام 1916، بينما كان يتعافى من عماه، تلقّى جورج اثنين أو ثلاثة كتيّبات عن الدين البهائي من لويز فينلي، مسؤولة المكتبة في سيواني. وإذ أثار ذلك اهتمامه، كتب إلى العنوان المدرج على الكتيّب طالبًا بعض الكتب، وفي تمّوز 1917 تلقّى المجلّدات الثلاثة من «ألواح عبدالبهاء عبّاس». وفي يوم استلامه الكتب التقى جورج بآنّا سارة (نانسي) ماكسويل، التي أصبحت زوجته في عام 1918. رزقا بطفلين، بريان الذي ولد في عام 1920، وأونا، التي ولدت في عام 1921. وفي آذار 1919 أصبح جورج كاهن رعية أهاسكراغ في مقاطعة غالواي، وفي 10 حزيران كتب رسالته الأولى إلى حضرة عبدالبهاء:

أودّ أن أعبّر عن امتناني للنور والسموّ الروحاني والسعادة والبهجة التي تأتيني من خلال معرفة تعاليمك، والتقارير عن حياتك، ومن خلال كتابات حضرة بهاءالله. وأن أتقدّم بشكري المتعاظم من أعماق القلب لهذه الفائدة غير العادية.

مع علمي بأنّك غارق في اهتماماتك وعملك الهامّ، فقد وجدت نفسي مضطرًّا لأن أغامر بالتطفّل عليكم، وهو أنّي قرأت ذات يوم في الكتاب الثاني من ألواحك أنّه من الضروري لكلّ نفس مؤمن (بربّه) أن يرسل إلى عبدالبهاء إقرارًا بوحدانية الله.

… وددت أن أشكرك وأطلب منك المساعدة حتى أنطلق مسرعًا من «وادي الطلب» إلى «وادي العشق». لست عديم الصبر؛ ولا حتى قليله! فأنا مستعدّ تمامًا للسفر لمائة ألف سنة، – ولكنّني جائع ووعائي فارغ!(3)

ردّ حضرة عبدالبهاء بعد ستّة أسابيع، في 24 تمّوز 1919:

دعائي لأجلك أن تتوهّج نار المحبّة في قلبك وأن تُثار وتتحرّك الأحاسيس الروحانية في نفسك، حتى تنشط وتطير وتعلو إلى «الصديق المثالي»، وحتى تضحّي بروحك لمحبوب العالم وتكرّس حياتك لنشر النفحات الإلهية. فإذا أدركت ذلك الفضل ستصبح آية الهداية وشمعة منيرة في مجمع الرجال، وتتعمّد بروح الحياة ونار محبّة الله، وتولد من جديد من عالم الطبيعة وتنال الحياة الأبدية.(4)

بعد بضعة أشهر على استلام هذا اللوح، في عام 1920، أرسل جورج شهادة اعترافه بأمر الله إلى حضرة عبدالبهاء على شكل قصيدة نُشرت في وقت لاحق تحت عنوان «الاعتراف»، والتي تبدأ كما يلي:

تحيّة إليك، يا سليل المجد، يا من يتدفّق بيانه إلى الأرجاء حاملاً فرحة المعرفة السماوية ونور أعظم الأيّام! شاعر الأسرار مرتّلاً في نشوةٍ جمالَ الله، لك الشكر والثناء!(5)

أجاب المولى في 19 كانون الأوّل 1920:

لقد وصل تحريرك. وكلّ كلمة فيه تشير إلى تقدّم وارتقاء روحك ووجدانك. فأحاسيسك السماوية هذه تشكّل المغناطيس الذي يجذب تأييدات الملكوت الإلهي؛ وبالتالي ستُفتح أبواب الحقائق والمعاني أمامك، وتحيطك تأييدات الملكوت الإلهي… يحدوني الأمل أن تنضوي كنيستك تحت أورشليم السماوية.(6)

منذ ذلك الوقت كرّس جورج كلّ طاقاته لمحاولة جعل زملائه من رجال الدين في الكنيسة في إيرلندا يفهمون حضرة بهاءالله. لم يكن الدين البهائي قد وصل بعد إلى مرحلة في تطوّره بحيث يتمكّن البهائيون من فصل أنفسهم عن الانتماءات الدينية السابقة. وهكذا بقي جورج تاونسند واحدًا من رجال الدين، رغم كونه بهائيًا بوضوح وجلاء. في يوم 16 تشرين الثاني 1921 كتب جورج مرّة أخرى إلى حضرة عبدالبهاء:

إنّ الحقيقة التي نطقتَ بها أحاطت بي وملكت على نفسي. فليس لي من فكرة أو أمل أو شوق غير هذا… متحرّرًا، بكلّ طواعية، وبأغنية التهليل في قلبي والتمجيد على شفتَيْ، أعلن عن هذا الاستسلام. فلا قِبَلَ لي بالحياة والبقاء والعمل سوى أن أسلّم نفسي هكذا. فلم يعد ما أفرّ منه محتملاً. وما أتوجّه إليه هو الحقيقة، حقيقة ما فطر عليه كلّ البشر والعالم أجمع بمثل ما أنا عليه أيضًا…

هذا هو الشيء الوحيد الذي أنشده: أن أنال الحكمة للفهم، والثبات للإطاعة المطلقة لأوامر الله.(7)

وصلت الرسالة إلى حيفا في 8 كانون الأوّل 1921، بعد أقلّ من أسبوعين على صعود حضرة عبدالبهاء.

بعد صعود حضرة عبدالبهاء أصبحت حياة جورج صراعًا دائمًا لتحرير نفسه من فروضه الكنسية بينما عمل في خدمة حضرة شوقي أفندي. لم يتحقّق الأمر الأوّل قبل مرور ستّ وعشرين سنة أخرى؛ والأمر الآخر أنجزه بمساعدة حضرة شوقي أفندي في أعماله بالترجمة.

كان لدى حضرة شوقي أفندي عدد قليل من المساعدين في عشرينيات وثلاثينيات القرن، لذلك رحّب بعرض جورج الوارد له في 27 شباط 1926 للمساعدة في أعمال ترجمة الكتابات المقدّسة. استجاب حضرة شوقي أفندي فورًا إلى ‘زميل العمل العزيز’، مرسلاً إليه في 28 آذار الجزء الأوّل من ترجمته للكلمات المكنونة. بعد ثلاثة أسابيع أعاد جورج التراجم مع ملاحظاته. ردّ حضرة وليّ أمر الله بما يلي:

أقدّرُ للغاية اقتراحاتك القيّمة، وأنا سعيد لعلمي أنّك ستستمرّ في الأيّام القادمة بالتعاون معي في مثل هذا العمل الشاقّ والحسّاس.(8)

وهكذا ولدت علاقة نادرة ورائعة كان لها أن تدوم حتى وفاة جورج في عام 1957. وخلال هذا الوقت كتب حضرة شوقي أفندي (147) رسالة إلى جورج وكتب جورج أكثر من (200) رسالة إلى حضرة وليّ أمر الله. يكتب هوفمان أنّه خلال هذه الفترة البالغة (31) سنة ساعد جورج في تحرير وإضفاء الصبغة الإنجليزية على التراجم التي قام بها حضرة وليّ أمر الله ونصحه بخصوص نقاط معيّنة من الاصطلاحات الإنجليزية، وراجع تراجم من قبيل «الكلمات المكنونة» (1926–1927)؛ «كتاب الإيقان» (1930)؛ «مطالع الأنوار» (1930–1931)؛ «منتخباتى از آثار حضرت بهاءالله» (1934–1935)؛ «مناجاة حضرة بهاءالله» (1937)؛ و«لوح ابن الذئب» (1940). بالإضافة إلى ما ذُكر ساعد جورج حضرة وليّ أمر الله في تأليف كتابه عن تاريخ أمر الله، «كتاب القرن البديع» (1943–1944). كما كتب أيضًا المقدّمة لكتاب «مطالع الأنوار» و«كتاب القرن البديع»، حيث عمل في تعاون وثيق مع حضرة شوقي أفندي، وبتوجيه من حضرته، اختار العنوانين لهذين الكتابين.

كان حضرة شوقي أفندي، بطبيعة الحال، كونه المفسّر الوحيد للكلمة الإلهية، الحَكَم النهائي بخصوص النصّ المترجم. وهكذا، في حين قدّم جورج المشورة اللغوية والتعابير ومسائل تتعلّق بأسلوب اللغة الإنجليزية الأدبية وما شابه ذلك، والتي قبلها حضرة وليّ أمر الله أو رفضها حسب تقديره، فإنّ التراجم هي لحضرة شوقي أفندي وتحمل سلطة وليّ الأمر.

لم يعلم أحد، عدا حضرة شوقي أفندي وجورج نفسه وإثيل روزنبرغ، عن ذلك التعاون بين الرجلين في الأيّام الأولى، لأنّ جورج رجا حضرة وليّ أمر الله عدم نشر اسمه على صفحة عنوان «الكلمات المكنونة» أو مقدّمة «مطالع الأنوار» الذي كان يرغب فيه حضرته. شعر جورج أنّ هذا التعريف مع الظهور الجديد سيضرّ بفرصته في اجتذاب كنيسته «تحت أورشليم السماوية» كما كان يأمل المولى. قبل حضرة شوقي أفندي رجاءه وبالتالي نصّت صفحة العنوان في «الكلمات المكنونة» بأنّ الترجمة تمّت ‘بمساعدة بعض الأحبّاء الإنجليز’.(9) وفي وقت لاحق غيّر جورج رأيه فأعلن حضرة وليّ أمر الله منتصرًا على صفحة عنوان «كتاب القرن البديع» أنّ المقدّمة كُتبت من قبل جورج تاونزند، م. آ.، كاهن في كاتدرائية القديس باتريك في دبلن، رئيس شمامسة كلونفيرت.(10)

كتب جورج أكثر من ستّين عملاً أدبيًا ما بين كتب ونشرات وقصائد وتعليقات تعود إليه شخصيًا. وبناء على طلب حضرة شوقي أفندي ساهم بمقالات وقصائد لمجلّدات متتالية من «العالم البهائي» وأعدّ وقدّم مقالاً حول «خطّة بهاءالله الأساسية للتآلف العالمي» إلى المؤتمر الأوّل للكونغرس العالمي للأديان في لندن في عام 1936. ربّما كانت أشهر أعماله ثلاثيّته في الكتاب المقدّس والدين البهائي: «موعود كلّ العصور»، «قلب الإنجيل» و«المسيح وبهاءالله».

كان حضرة وليّ أمر الله يقدّر ويثمّن عاليًا مقدرة جورج في الكتابة. في عام 1955 أخبر حضرة شوقي أفندي جون فيرابي، عندما كان في حيفا، أنّ جورج ‘أفضل كاتب لدينا. يجب الاعتناء به. إنّه أفضل الكتّاب المعاصرين.’(11) شعر حضرة شوقي أفندي بقوّة بأنّ جورج ينبغي عليه أن يركّز طاقاته في الكتابة بحيث كتب إليه في حوالي عام 1948 ما يلي:

أشعر بقوّة أنّه يجب عليك التركيز في السنوات المقبلة، على الكتابة عن أمر الله الذي يمكنك أنت أكثر من أيّ شخص آخر في جميع أنحاء العالم البهائي، أن تثري أدبيّاته. (12)

بعد خدماته لحضرة شوقي أفندي، كان هدف جورج تاونسند الثاني تحرير نفسه من كنيسة إيرلندا. في السنوات الأولى من خدمته في الكنيسة تمسّك بنصيحة حضرة عبدالبهاء بأنّه لا ينبغي ‘خرق الأستار’(13) بدل ذلك شعر أنّ أمر الله من شأنه أن يثري المسيحية ويطهّرها ويعيد بناءها. في أبرشيته النائية في غالواي بقي على الغالب، ولعدّة سنوات، جاهلاً بتلك التغييرات العميقة التي تهزّ المسيحية والكنيسة. كان يأمل، بل ويعتقد لفترة من الوقت أنّ المسيحية برمّتها ستُمنح في يوم ما حياة جديدة بفضل تعاليم حضرة بهاءالله.

مع ذلك، وبالتدريج، أخذ يدرك أنّ المادّية واللاأدرية والإلحاد قد عملت على تحطيم تضامن المسيحية بشكل يدعو لليأس. كان يتوق، حتى منذ ذلك الوقت المبكر في عام 1926، للتحرّر بوسيلة أو أخرى، من واجباته الدينية [في الكنيسة] التي شعر أنّها تحدّ من خدماته لحضرة بهاءالله وتفصل بينه وبين زملائه من المؤمنين. في عام 1933 انتُخب واحدًا من بين ثمانية في كلّ إيرلندا، كاهنًا لكاتدرائية القديس باتريك في دبلن وتقلّد منصب رئيس شمامسة كلونفيرت.

في الأثناء أعلن وحده ودون مساعدة، ولكن بمنتهى الذكاء والصراحة، عن دين حضرة بهاءالله. ففي كتابه «موعود كلّ العصور» أعلن عن مجيء حضرة بهاءالله، وأرسل هذا العمل إلى زملائه من رجال الدين. في صفوف تدريسه للكتاب المقدّس تحدّث بصراحة عن حضرة عبدالبهاء. وفي «صحيفة كنيسة إيرلندا» عمّم مقالته «تأمّلات في الكلمات المكنونة». ولكنّ عمله الأدبي استُقبل بعدم المبالاة المطلقة من قبل زملائه من رجال الكنيسة.

وبينما أشاد حضرة وليّ أمر الله بأفعاله الشجاعة في إعلان أمر الله، فقد أجّل جورج عزمه على مغادرة الكنيسة وتكرّر ذلك عدّة مرّات وإلى أجل غير مسمّى من قبل زوجته، التي كانت غير راغبة في التخلي عن طريقة آمنة للحياة لبدء مستقبل مجهول دون وظيفة ومعاش تقاعد. ففي أكثر من مناسبة، عندما فكّر جورج صراحة عن رغبته في الانفصال عن الكنيسة، هدّدت نانسي بتركه أو مجرّد التنديد به علنًا. وبالنسبة إلى جورج، كان تفكّك عائلته بمثابة كارثة لأمر الله وسيؤدّي إلى تقويض هيبته أمام من كانت أقصى آماله التأثير عليهم داخل الكنيسة.

ونتيجة لمعارضة نانسي، لم يتمكّن جورج من مغادرة الكنيسة حتى عام 1947، عندما بلغ السبعين من عمره. في 12 آذار من ذلك العام كتب إلى حضرة شوقي أفندي:

بعد اجتماع عمل في 4 آذار أراني الأسقف رسالة جوّية موجّهة من الأبرشية الإنجليكانية إلى رئيس أساقفة كانتربري تشكو من «موعود كلّ العصور»، وهو كتاب كما قال، يرفع مقام حضرة بهاءالله على حساب السيّد المسيح، وعدا ذلك كان كتابًا مكروهًا… وقال الأسقف إنّ كلّ ما يريد أن يسمعه هو ما إذا كان الكتاب قد حطّ من مقام السيّد المسيح. قلت لا بالتأكيد؛ ولكن لديّ الكثير لأقوله له. وأنا شخصيًا أعتقد أنّ حضرة بهاءالله كان عودة السيّد المسيح… في مقدّمة «كتاب القرن البديع» أوردت أكثر ممّا كتبته في «موعود جميع العصور»، وقمتُ بإرساله إليه؛ كنت أنوي أن أقول أكثر من ذلك وعلى استعداد لمغادرة الكنيسة. لم أقم بسحب شيء ولم أعدّل شيئًا كتبته. إنّ الأسقف لطيف جدًّا، وضيّق الأفق جدًّا؛ وكان في حيرة تامّة. سأل عددًا من الأسئلة… إنّ رحيلي بات مؤكّدًا وقريبًا.(14)

قبل عدّة سنوات، وعدت نانسي بدعم جورج إذا تعرّض للهجوم بسبب نشره كتاب «موعود جميع العصور». والآن وفت بوعدها مع أنّها غير مسرورة. في يوم 30 أيلول 1947، وبالتشاور مع المحفل الروحاني المركزي للجزر البريطانية، تخلّى جورج عن ارتباطاته بالكنيسة، واستقال من جميع مناصبه الدينية. وإذ حافظ على وحدة أسرته، انتقل مع زوجته وابنته إلى منزل من طابق صغير في إحدى ضواحي دبلن باعتباره عضوًا يحقّ له الانتخاب في الجامعة البهائية.

بعد وقت قصير على استقالته من الكنيسة عمل جورج مع المحفل الروحاني المركزي للجزر البريطانية في «عملية تاونزند»، وهو جهد كبير لترويج الدين البهائي. في كتابه «الكنيسة القديمة والدين العالمي الجديد» صرّح جورج بالسبب الذي جعله يتخلّى عن ارتباطاته الكنسية – ‘أن أكون مخلصًا للسيّد المسيح كما عرفته’ – وأصدر تحدّيًا إلى جميع المسيحيين لقبول السيّد المسيح في ظهوره الجديد ‘في مجد الآب’. وقد أُرسل هذا إلى أكثر من ثمانية آلاف شخص في الجزر البريطانية، بمن فيهم جميع الأساقفة وكبار رجال الدين وأعضاء مجلسَي البرلمان والقادة السياسيين. بالإضافة إلى ذلك، وبناء على طلب حضرة شوقي أفندي، أُطلقت عدّة حملات مماثلة في أستراليا وكندا والولايات المتّحدة، وقام العديد من الجامعات البهائية الأوروبية بترجمة المقال للغرض نفسه. ومع ذلك كانت الاستجابة من الكنيسة لا تُذكر.

إنّ حياء جورج تاونزند وطبيعته المتواضعة وذهوله الفكري العَرَضي قد جعل الناس يغفلون في البداية عن قوّة عريكته وشخصيته. وصف السيّد أديب طاهرزاده ردّة فعله عندما قابل جورج أوّل مرّة في مانشستر في عام 1950:

بصراحة لم أتأثّر حقًّا في تلك المرحلة. كان يتحدّث في المركز [البهائي] واعتقدتُ أنّني ذاهب للاستماع إلى شخصية عظيمة وقويّة؛ ولكن بسبب وداعته الرائعة وتواضعه المدهش… لم أصدق أنّ هذا كان جورج تاونزند الشهير الذي سمعت عنه.

أدركت لاحقًا أنّ ذلك كان حقًّا مصدر عظمته – خُضوعه ووداعته. أدركت إذ نظرت إلى الوراء، أنّه لم يتحدّث أبدًا عن نفسه، وعن الأشياء التي فعلها من أجل أمر الله. لم يقل أيّ شيء، على سبيل المثال، عن عمله لحضرة شوقي أفندي… كانت نانسي هي التي اعتادت أن تقول لي كلّ هذه الأشياء، وكان جورج يستمع فقط ويقول القليل جدًّا.(15)

كان جورج وحيدًا للغاية في موقع هجرته الأمرية في دبلن وعانى العديد من المصاعب في بيته البسيط. قام بالكثير من الأعمال المنزلية وتعامل مع العديد من المشاكل والمضايقات. ربّما كانت أعظم مشقّة له اعتماده على الصندوق البهائي: كان المحفل الروحاني المركزي للجزر البريطانية، بموافقة حضرة وليّ أمر الله، قد وفّر له دخلاً صغيرًا يضاف إلى ريع ضئيل حصل عليه من كتبه. بعد انفصال جورج عن الكنيسة سخّر كلّ طاقاته للدين البهائي. فحضر المؤتمرات والمدارس الصيفية ولكن، الأهم من ذلك كلّه، أنّه كَتَب.

في 24 كانون الأوّل 1951 تلقّى جورج اتّصالاً هاتفيًا من سكرتير المحفل الروحاني المركزي في لندن، الذي قرأ عليه نصّ برقية من حضرة شوقي أفندي:

أنقل لك بشرى ترقيتك إلى مرتبة أيادي أمر الله. جرى الإعلان رسميًا بتوجيه رسالة عامّة إلى كافّة المحافل الروحانية المركزية. عسى أن تتيح لك هذه الوظيفة المقدّسة إثراء الخدمات القياسية التي قدّمتَها بالفعل لأمر حضرة بهاءالله.(16)

بعد ثلاثين سنة من تطوير النظام الإداري، عيّن حضرة شوقي أفندي الكوكبة الأولى من أيادي أمر الله وعددهم اثنا عشر. أجاب جورج حضرةَ وليّ أمر الله في يوم 14 كانون الثاني 1952 بما يلي:

من صميم قلبي، وبخضوع عميق أشكرك على الفضل الذي أسبغته عليّ بتعييني أيادي أمر الله. في استجابتي أودّ الآن أن أقدّم ولائي الكامل إليك كوليّ لأمر الله وأصرّح برغبتي المتّقدة في تقديم نفسي بكاملها وجميع ما أملك لخدمة دين حضرة بهاءالله. عسى أن يمنحني حضرته دومًا محبّة أكثر دفئًا وحكمة أشدّ عمقًا لاتّباع إرادته وأن أشهد على أحقّيته.(17)

مع تعيين جورج أياديًا لأمر الله لم يتمكّن من تحقيق أعزّ رغباته – أداء الحجّ إلى الأرض الأقدس والاجتماع بحضرة شوقي أفندي، إيقاظ الكنيسة في إيرلندا، زيارة أمريكا ثانية، وتحقيق دعم نانسي الصادق لعمله. ذلك لأنّ حالته الصحّية أصبحت لا تساعده على السفر والتنقّل فشجّعه حضرة شوقي أفندي على إكمال عمله الأخير، كتاب «المسيح وبهاءالله»، الذي انتظره حضرة وليّ أمر الله بفارغ الصبر.

في عام 1953 قام جورج برحلته الوحيدة كأيادي أمر الله، الى ستوكهولم لحضور أحد المؤتمرات البيقارّية التبليغية الأربعة التي دعا إلى عقدها حضرة وليّ أمر الله. في عام 1954 عيّن جورج اثنين من أعضاء هيئة المعاونين، دوروثي فيرابي وماريون هوفمان، لمساعدته في عمله كأيادي ‘لتعزيز الصحّة الروحانية للبهائيين في كامل منطقة الجزر البريطانية، بما في ذلك جزرها، النرويج، جزر فارو وآيسلندا.’(18)

خلال السنوات الأخيرة من حياته كان جورج طريح الفراش بشكل دوري في دور الرعاية الصحّة في دبلن. ومع ذلك استمرّ في إغداق محبّته وتوجيهه على المؤمنين. وإذ كان غير قادر على حضور المؤتمرات والمدارس الصيفية في بريطانيا مع تدهور حالته الصحّية، لكنّه كان حاضرًا في كلّ منها من خلال الرسائل الصادرة والواردة. لقد جعلت حالته الصحّية السيّئة من عمله في كتابه أمرًا صعبًا، لكنّه لم يتخلَّ عنه:

في هذا الوقت… كان قادرًا على التحدّث والكتابة بصعوبة، وازدادت مع مرور الشهور. قرب النهاية بدا أنّه يعمل على أجزاء كاملة من كتابه أو حتى الكتاب بكامله في ذهنه، ثم يكثّفها في رأسه على شكل فقرات يسمح له طولها بإملائها.(19)

في اليوم الأخير من حياته وصلت إلى يدَي جورج تاونزند نسخة من كتابه المنشور «المسيح وبهاءالله». توفّي في مستشفى شارع باغوت في دبلن يوم 25 آذار 1957، وبعد تلاوة صلاة الميّت البهائية، دفن في باحة كنيسة إنيسكري، على مقربة من قبرَي والدته وشقيقته. ربّما كانت ابتهالاته لحضرة بهاءالله قد وصلت إلى أذهان أولئك الذين تفجّعوا عليه:

أيّها المحبوب الأوحد! بقلب مشتعل

وكلّ أشواقي المنصهرة في رغبة واحدة 

أن أجعل روحي قيثارة ذات أوتار عديدة

لتعزف عليها يدك العزيزة.

أنحني تحت مقعد رحمتك وأدعو

عسى بقوّة محبّة خالصة

أطأ بأقدام ثابتة على الدرب الأحمر الخفيّ

إلى حيث تطمح آمالي.

لقد نسيت الكلّ حبًّا لك

ولا أروم فرحًا آخر من القدر

سوى الاستغراق في لجّة وحدتك

Only Beloved! With a heart on fire

And all my longings set in one desire

To make my soul a many-stringed lyre

For Thy dear hand to play.

I bend beneath Thy mercy-seat and pray

That in the strength of perfect love I may

Tread with firm feet the red and mystic way

Whereto my hopes aspire.

I have forgotten all for love of Thee

And ask no other joy from destiny

Than to be rapt within Thy unity

و – مهما حدث –

ألاّ أسمع صوتًا على الأرض إلاّ نداءك العذب،

وأمشي بين شعبك كعبد لك

وأرى جمالك يتنفّس

في النشوة الأبدية بأسرها.

And – whatso’er befall –

To hear no voice on earth but Thy sweet call,

To walk among Thy people as Thy thrall

And see Thy beauty breathing throughout all

Eternal ecstasy.

قدني إلى الأمام يا سيّدي، وسط طرق العالم الرحب،

لأدلي بشهادتي وأشدو

أغنية طلوع فجر يوم الأيّام.

وأجعل حياتي كلّها شعلة واحدة

من تضحيات ستعلن

مجدًا جديدًا لاسمك القديم.

ودع موتي يرفع إلى ذرى أعلى

أنشودة الثناء نفسها ابتهاجًا بالنصر!(20)

Lead me forth, Lord, amid the wide world’s ways,

To bear to Thee my witness and to raise

The dawn song of the breaking day of days.

Make my whole life one flame

Of sacrificial deeds that shall proclaim

The new-born glory of Thy ancient name;

And let my death lift higher yet the same

Triumphal chant of praise!

 

وقد لخّصت برقية حضرة وليّ أمر الله السجلّ البطولي لحياته:

بالحزن العميق أنعى وفاة المحبوب الغالي موضع الإعجاب الوفير وصاحب الموهبة العظيمة أيادي أمر الله جورج تاونزند. جاءت وفاته، غداة نشر ذروة إنجازاته، لتحرم أتباع حضرة بهاءالله البريطانيين من أشهر متعاون متميّز، بل لتحرم أمر الله نفسه من واحد من أشدّ مناصريه رسوخًا. كانت صفاته النبيلة وعلمه وكتاباته المتحدّية ومنصبه الكنسي الرفيع لا نظير لها في أيّ بهائي في العالم الغربي وخوّلته مع توماس بريكويل والدكتور إسلمنت أن يكون واحدًا من ثلاث شخصيّات بارزة ألقت بريقًا لامعًا على سجلاّت الجامعات البهائية الإيرلندية والإنجليزية والاسكتلندية. يشكّل دفاعه الشجاع عن أمر الله الذي أحبّه جدًّا وخدمه بكلّ بسالة، علامة هامّة في التاريخ البهائي البريطاني. يستدعيّ مقامه الرفيع هذا تكريمًا لذكراه على مستوى مركزي من قبل الوكلاء المجتمعين والمدعوّين في مؤتمر الوكلاء البهائي البريطاني المقبل. أكّدوا لأقاربه تعاطفي الحبّي العميق لهم على هذه الخسارة الفادحة. وإنّي واثق من ثوابه الجزيل في الملكوت الأبهى.(21)

كانت علامة قبر جورج تاونزند عبارة عن حجر وفوقه حجر آخر على شكل كتاب مفتوح، نقش عليه هذا النصّ: «ورأيت سماء جديدة وأرضًا جديدة».

 

1.
Hofman, George Townshend, p. 14.
2.
المصدر السابق، الصفحة 39.
3.
مقتطف في المصدر السابق، الصفحة 45.
4.
مقتطف في المصدر السابق، الصفحة 47.
5.
مقتطف في المصدر السابق، الصفحة 49.
6.
مقتطف في المصدر السابق، الصفحة 50.
7.
مقتطف في المصدر السابق، الصفحة 52.
8.
المصدر السابق، الصفحة 57.
9.
Bahá’u’lláh, Hidden Words, title page. Ethel Rosenberg also assisted in the translation.
10.
Letter to the author from David Hofman, 1992.
11.
Hofman, George Townshend, p. 241.
12.
المصدر السابق، الصفحة 334.
13.
«كتاب عهدي وألواح وصايا حضرة عبدالبهاء»، الصفحة 52.
14.
Hofman, George Townshend, pp. 186–7.
15.
المصدر السابق، الصفحتان 335–336.
16.
المصدر السابق، الصفحة 348.
17.
المصدر السابق، الصفحة 349.
18.
المصدر السابق، الصفحة 355.
19.
Bahá’í World, vol. 13, p. 844.
20.
Hofman, George Townshend, p. 318.
21.
المصدر السابق، الصفحة 365.

1884 – 1955 وليّ الله ورقاء

Hand of the Cause of God Valíyu’lláh Varqá (1884-1955)

كان وليّ الله خان ورقاء الابن الثالث لميرزا علي محمّد ورقاء، الذي ضحّى بحياته من أجل أمر الله مع ابنه روح الله في عام 1896، وحفيد الحاج الملاّ مهدي اليزدي. والدته فاطمة، هي ابنة الحاج ميرزا عبد الله خان النوري من مازندران. كان جدّاه مؤمنَين مخلصَين لأمر حضرة بهاءالله. ولد وليّ الله في عام 1884 في تبريز، وقضى سنواته الأولى مع عائلته في تبريز في منزل جدّته لأمّه، وهي امرأة من قبيلة شَهْسَوَن ومسلمة متعصّبة.

كان ميرزا عبد الله خان من رجال بلاط وليّ العهد، الأمير مظفّر الدين ميرزا، ولكنّه فقد حظوته عندما قدّم أعداء أمر الله تقارير كاذبة إلى الأمير تشير إلى أنّه [ميرزا عبد الله] سمح للبهائيين بالتجمّع في منزله للقيام بأنشطة مناهضة للحكومة. ولذلك أُجبر على ترك تبريز والانتقال إلى طهران.

كانت زوجة ميرزا عبد الله خان معادية بشدّة لأمر الله، لذلك لم تترك والد وليّ الله بسلام في المنزل وسرعان ما سعت إلى موته باستئجار قاتل مأجور. ولذلك اضطرّ إلى الفرار من تبريز، وهذا ما فعله في جوف الليل. وإذ غضبت حماته على نجاته من براثنها، سعت لاستصدار مذكّرة إعدامه عن طريق المجتهد المحلّي الذي تربطها به صلة قرابة. ونتيجة لعدائها ومكائدها اتّسعت الهوّة بينها وبين زوجها وبين علي محمّد ورقاء وزوجته بحيث لم يبق بديل سوى الطلاق.

ولمّا كانا صغيرين جدًّا، تُرك وليّ الله وشقيقه بديع الله في رعاية الأمّ والجدّة، في حين رافق الابنان الأكبر سنًا والدهما إلى زنجان. توفّي بديع الله وهو طفل. وكانت كراهية الجدّة لأمر الله عميقة جدًّا، وتقوم بشتم علي محمّد ورقاء وذمّه إلى حدّ جعل وليّ الله يبكي لانحراف والده الواضح عن الدين الحقّ.

عندما كان وليّ الله في سنّ السادسة عشر قام عمّه، الحاج مير حسين، بنقل الشابّ من منزل جدّته إلى منزله الخاصّ في بلدة مياندوآب. وتحت تأثير هذا البهائي المتديّن، أصبح وليّ الله نفسه مؤمنًا قبل سنّ العشرين بقليل.

وإذ أصبح بهائيًا راسخًا، شعر وليّ الله بتوق لزيارة المرقدين المقدّسين ومركز العهد والميثاق. فغادر مياندوآب إلى تبريز، حيث تقرّر انضمامه إلى مؤمن آخر كرفيق له في السفر إلى عكّاء. إلاّ أنّ المحفل الروحاني المحلّي في تبريز تشاور بخصوص الشابّ وليّ الله ووجّهه للانضمام إلى شقيقه عزيز الله في طهران. كتب وليّ الله لاحقًا: ‘كان إقناعهم بالرجوع عن قرارهم أمرًا مستبعدًا، وبالتالي كنت مضطرًّا للمغادرة إلى طهران.’(1)

التحق وليّ الله بمدرسة «تربيت» في طهران حيث بدأ دراسته. وشرع في أوقات فراغه بدراسة اللغتين الإنجليزية والعربية، وفيما بعد التحق بالمدرسة الأمريكية الثانوية في المدينة.

في نهاية المطاف، وبعد الحصول على إذن من أخيه، سافر وليّ الله للحجّ إلى عكّاء والتقى بحضرة عبدالبهاء. من عكّاء واصل سفره الى بيروت، حيث واصل دراساته. في كلّ صيف من إقامته في بيروت كان يتلقّى دعوة من حضرة عبدالبهاء للمجيء إلى عكّاء، حيث أتيحت له الفرصة لدراسة أمر الله والالتحاق بدورات مع طلاّب آخرين بإشراف الحاج ميرزا حيدر علي.

عزم وليّ الله على مواصلة دراساته في إنجلترا، ولكن في عام 1909 أوعز إليه حضرة عبدالبهاء بالعودة إلى طهران. بينما كان في طهران تزوّج من بهيّة خانم، ابنة صنيع السلطان. وقد رزقا بعشرة أطفال، توفّي ثلاثة منهم في سنّ الطفولة. كان السبعة الباقون جميعًا مؤمنين راسخين في أمر الله.

بعد زواجه عمل وليّ الله سكرتيرًا في المفوّضية الروسية لفترة من الوقت. في عام 1912 حصل على إذن للانضمام إلى مرافقي حضرة عبدالبهاء في أمريكا، حيث عمل كأمين للصندوق لحضرة عبدالبهاء وأحيانا كمترجم له. رافق المولى أيضًا في رحلاته إلى لندن وباريس.

عندما عاد وليّ الله إلى طهران وجد وظيفة كسكرتير مترجم أوّل في السفارة التركية، حيث كسب احترام زملائه في العمل بفضل طريقة أدائه واجباته. أخبر العديد من زملائه عن الدين البهائي وأصبحوا ودودين تجاه البهائيين. إلاّ أنّه خلال الحرب العالمية الثانية، وبعد عدّة سنوات من الخدمة، طُلب منه القيام بمهمّة لها علاقة بالسياسة فاستقال من منصبه على الفور.

في شبابه خدم وليّ الله كعضو في المحفل الروحاني المحلّي في طهران وفي لجان بهائية مختلفة. وعندما تأسّس المحفل الروحاني المركزي في إيران في عام 1934، انتُخب عضوًا فيه، ولمنصب الرئيس أحيانًا.

في عام 1938 توفّي أمين حقوق الله، الحاج غلام رضا الإصفهاني، والمعروف باسم أمين الأمين. فقام حضرة شوقي أفندي عندئذ بتعيين وليّ الله في تلك الوظيفة. وكأمين لحقوق الله، كان وليّ الله على اتّصال منتظم مع حضرة شوقي أفندي الذي كان يمدحه مرارًا على كفاءته وإخلاصه في أداء مهامّه.

كان وليّ الله بين أفراد الكوكبة الأولى من أيادي أمر الله الذين عيّنهم حضرة وليّ أمر الله يوم 24 كانون الأوّل 1951. وبناء على طلب حضرة شوقي أفندي في عام 1953، حضر مؤتمرَين بيقارّيين في كمبالا وشيكاغو. ثم طلب منه حضرة وليّ أمر الله السفر إلى أمريكا الجنوبية، حيث زار البهائيين وبلّغ أمر الله لمدّة ستّة وأربعين يومًا. في تمّوز غادر إلى أوروبا للمشاركة في مؤتمر ستوكهولم وزيارة العديد من المدن في ألمانيا.

وبينما كان في ألمانيا، مرض وخضع لعملية جراحية في مدينة أُولْم. لكنّه لم ينتظر الشفاء التامّ فسافر إلى الهند للمشاركة في مؤتمر نيودلهي، ثم إلى العراق ومصر وسوريا وتركيا للاجتماع مع الجامعات البهائية. أثناء وجوده في العراق مرض مرّة أخرى واضطرّ للراحة في حظيرة القدس ببغداد قبل استئناف جولته. كما أنّ الطقس البارد في تركيا قد أثّر سلبًا على صحّته، فعاد إلى إيران لمدّة ثلاثة أشهر قبل الذهاب في رحلة حجّ ولقاء حضرة شوقي أفندي. ساهمت زيارته، التي استمرّت أسبوعين في الأرض الأقدس، إلى حدّ كبير في حماسه وإنعاش روحه.

لدى مغادرة الأرض الأقدس، ذهب وليّ الله، بناء على تعليمات من حضرة وليّ أمر الله، إلى ألمانيا، حيث انضمّ إلى أيادي أمر الله الآخرين، وتابع علاجه الطبّي. ثم سافر إلى النمسا، ومكث في فيينّا نحو ثلاثة أشهر، ألقى خلالها محاضرات عامّة أمام حشود كبيرة، وبلّغ أمر الله قبل عودته إلى إيران.

في عام 1955 اضطرّته آلام شديدة لتلقّي علاج طبّي في أوروبا مرّة أخرى. فأُدخل إلى المستشفى في توبينغن، حيث توفّي في 12 تشرين الثاني. أصدر حضرة شوقي أفندي تعليماته بأن يُشيّد نصب تذكاري على نفقته الخاصّة على قبر السيّد ورقاء في شتوتغارت. وفي 15 تشرين الثاني أبرق حضرة وليّ أمر الله إلى العالم البهائي:

نشعر بالحزن العميق لخسارة أيادي أمر الله، أمين حقوق الله المثالي، الممثّل المميّز الأجلّ للجامعة البهائية العالمية، نجل وشقيق الشهيدين التوأم الخالدَين من شهداء أمر الله، التلميذ الغالي لمركز العهد والميثاق. يمتدّ السجلّ الساطع لخدماته على مدى نصف قرن والذي أثرى سجلاّت عصرَي البطولة والتكوين للدورة البهائية. ثوابه في الملكوت الأبهى لا يقدّر. أوصي بإقامة نصب تذكاري على قبره بما يليق به وعلى نفقتي الخاصّة. تقع مسؤولية أمانة حقوق الله الآن على ابنه علي محمّد. أطلب من المحفل الروحاني في طهران عقد جلسات تذكّرية لائقة في محافظات العاصمة تكريمًا لذكرى العماد العظيم لمهد دين حضرة بهاءالله. لقد رُقّي الآن أمين الحقوق المعيّن حديثًا إلى رتبة أيادي أمر الله.(2)

عندما سُئل لماذا سُمي والده أياديًا لأمر الله، أجاب الدكتور علي محمّد ورقاء، ‘لأن حضرة شوقي أفندي أدرك فيه تلك القدرة، والتفاني والإخلاص. كان لديه شعور بالمحوية. لقد كرّس حياته وعقله وصحّته لأمر الله. كان أمر الله بالنسبة إليه فوق كلّ شيء.’(3)

1.
Bahá’í World, vol. 13, p. 832.
2.
المصدر السابق، الصفحة 831.
3.
An interview with Hand of the Cause, Dr ‘Alí Muḥammad Varqa, 1990.

أيادي أمر الله الذين عيّنهم حضرة شوقي أفندي في 29 شباط 1952

برقية – 29 شباط 1952

أُعلنُ للأحبّاء في الشرق والغرب، من خلال المحافل الروحانية المركزية، عن التعيينات التالية لرفع عدد أيادي أمر الله الحاليين إلى تسعة عشر. لكندا والولايات المتّحدة الأمريكية: فْرِدْ شوبفلوخر وكورين ترو على التوالي. لمهد أمر الله: ذكر الله خادم وشعاع الله علائي. لألمانيا وأفريقيا وأستراليا: أدلبرت ميولشليغل وموسى بناني وكلارا دنّّ على التوالي. إنّ أعضاء الهيئة الموقّرة المكلّفين، وفق ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء، بالوظيفة المزدوجة المقدّسة المتمثّلة بنشر أمر الله وحماية وحدة دين حضرة بهاءالله، والمقدّر لهم أن يتولّوا فرديًا بمرور الزمن توجيه المؤسسات الموازية لتلك التي تتمحور حول بيت العدل الأعظم، الهيئة التشريعية العليا في العالم البهائي، يتمّ الآن اختيارهم للخدمة من جميع قارّات العالم الخمس، وتمثّل خلفياتُهم الديانات العالمية الرئيسة الثلاث للبشرية.

1889 – 1984 شعاع الله علائي

Hand of the Cause of God Shu’á’u’lláh `Alá’í (1889-1984)

عندما كان شعاع الله في السابعة من عمره كتب والده إلى حضرة عبدالبهاء وتلقّى في الردّ لوحًا مباركًا من حضرته. في هذا اللوح، يتناول حضرة عبدالبهاء معنى اسم شعاع الله، «شعاع شمس الألوهية»، ويأمره بالإشعاع وإنارة الآفاق. أمر الأب ابنه شعاع الله بحفظ هذه الكلمات الثمينة في ذاكرته:

يا شعلة محبّة الله! ينبغي للشعاع إلقاء الضوء، وللشمس الشروق؛ ينبغي للبدر أن يلمع وللنجم أن يسطع. ولمّا كنتَ شعاعًا، التمسْ من الربّ أن يمكّنك من إعطاء الإضاءة والنور، وتنوير الآفاق وإشعال العالم بنار محبّة الله. أملي أن ترتقي إلى هذا المقام لا بل تتجاوزه. وعليك بهاؤه الأبهى.(1)

قال السيّد علائي في مقابلة معه عندما كان عمره 84 سنة، إنّ هذه الكلمات أصبحت بالنسبة إليه ‘الهادي والملاذ في الحياة’.(2)

ولد شعاع الله في عائلة بهائية في طهران في 16 تشرين الثاني 1889. كان والده، السيّد محمّد ناظم الحكماء، حاصلاً على عدّة درجات في الفقه ومن المفروض أن يصبح من رجال الدين، تبعًا لتقاليد عائلته. عندما أصبح صديقه المقرّب «عندليب» بهائيًا، حاول السيّد محمّد إعادته إلى ما كان يعتقد أنّه الصراط المستقيم. وبدلاً من ذلك، أصبح هو بهائيًا وكان له من العمر تسعة عشر سنة، وترسّخ إيمانه في وقت لاحق عندما تلقّى لوحًا موجّهًا إليه من حضرة بهاءالله دون طلب. ولمّا كان جريئًا في إعلانه عن الدين البهائي، فقد حُكم على السيّد محمّد بالموت ككافر مرتدّ في مسقط رأسه لاهيجان (گيلان)، ولكنّه هرب إلى طهران حيث أصبح في نهاية المطاف طبيبًا لحرّاس الشاه وأهل بيته.

كانت والدة شعاع الله خديجة (المعروفة باسم «بيبي جان»)، من أقرباء ميرزا أحمد الأزغندي من خراسان، واحدة من أوائل المؤمنات المشار إليها في كتاب «مطالع الأنوار».

درس شعاع الله في المنزل حتى سنّ العاشرة عندما أرسل الى مدرسة «تربيت» التي افتتحت حديثًا في طهران. بعد ذلك التحق بكلّيّة الطبّ، ولكنّه غادرها بعد فترة لدراسة المحاسبة في كلّيّة العلوم التطبيقية في طهران.

عمل شعاع الله في البداية في وزارة الجمارك بطهران. عندما بلغ التاسعة عشر من عمره شغل منصب المسؤول المالي لقسم الشرطة. ولمّا وجد الخزينة فارغة، جمع مبلغًا كبيرًا من الرسوم على الفودكا والتبغ والأفيون وضرائب بوّابة المدينة على السلع والمنتوجات التي تدخل المدينة المسوّرة قادمة من الريف. من عام 1914–1919 شغل منصب أمين صندوق وزارة العدل، حيث وطّد سمعة شخصية من الموثوقية العالية ما جعل أطراف الدعاوى، وحالات التقاضي والتحكيم يودعون أموالهم في عهدته إلى حين صدور قرارات المحاكم حول وجهة الأموال المتنازع عليها. كما تمّ اختياره للذهاب إلى جبهات الحرب في الشمال لدفع متأخّرات الرواتب للجنود. وقد نفّذ هذه المهمّة على خير ما يرام في درجات حرارة دون الصفر في فصل شتاء عام 1921، الأمر الذي أدّى إلى ترقيته إلى رئيس ضبط الأموال في الجيش، وهو المنصب الذي شغله لمدّة خمس وعشرين سنة، ورُقّي إلى رتبة جنرال.

ترك الجنرال علائي الجيش لبضع سنوات، وشغل منصب المدير العامّ للمالية في وزارة البرق والبريد خلال الفترة التي كان يجري تحديثها بالكامل. عاد إلى الجيش في عام 1930، ولكنّه شغل أيضًا منصب رئيس «شركة سجّاد إيران» وكذا الأمر في مجلسَي الإدارة للبنك الملّي لإيران (البنك الوطني ثم المركزي في وقت لاحق) منذ إنشائه في عام 1927، ولبنك سِپَه لمدّة ثلاثين سنة. وغالبًا ما كان يُفوَّض بإدارة اللجان الحسّاسة، وأشرف مرّة على جرد مجوهرات التاج، التي قُدّرت قيمتها بمبلغ سبعة مليار من الدولارات.

عندما كان في الثامنة عشر من عمره فقط عُيّن علائي عضوًا في لجنة «محفل مرتب»، التي أسّسها أيادي أمر الله بمثابة جنين المحفل الروحاني الأساسي لطهران. وكانت مسؤوليّتها تتمثّل في عقد اجتماعات البهائيين في طهران والقيام ببعض وظائف محفل روحاني محلّي. في عام 1913م انتُخب علائي عضوًا في المحفل الروحاني المحلّي في طهران، الذي خدم فيه دون انقطاع لمدّة ثلاثين سنة.

تزوّج علائي من ابنة عمّه فروغية علائي عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره. كانت تمتلك الحكمة والصبر والفطرة السليمة. رزقا بخمسة أطفال: حشمت، مهرنگيز، بهجت، فرحنگيز وأمير.

في عام 1934 تأسّس المحفل الروحاني المركزي في إيران وانتُخب شعاع الله عضوًا فيه. وقد خدم في تلك الهيئة حتى عام 1952، عندما دعاه حضرة وليّ أمر الله للقيام بمهامّ في أنحاء العالم. في عام 1944 هاجر مع عائلته إلى تجريش، وهي قرية في ضواحي طهران، وسرعان ما انتُخب عضوًا في محفلها الروحاني المحلّي.

في 29 شباط 1952 عُيّن الجنرال علائي أياديًا لأمر الله، فبدأ على الفور تقريبًا أسفاره العالمية. في عام 1952 سافر مع زوجته للحجّ إلى الأرض الأقدس. وبعد ذلك سافر إلى مصر والسودان والعراق. حضر المؤتمرات البيقارّية الأربعة التي عقدت في عام 1953 في كمبالا وويلمت ونيودلهي وستوكهولم، وزار مراكز بهائية في الولايات المتّحدة، ألمانيا، إيطاليا، سويسرا، هولندا، الهند، الباكستان، مصر، لبنان، سوريا وتركيا. في عام 1956 سافر إلى الهند وسيلان وإندونيسيا وماليزيا، ثم شارك في أوّل مؤتمر تبليغي لجنوب شرق آسيا في آب. في نيسان 1957 مثّل حضرة شوقي أفندي في مؤتمر الوكلاء الافتتاحي لانتخاب المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الباكستان. في عام 1959–1960 زار الهند والباكستان وهونغ كونغ وماكاو واليابان وفيتنام وماليزيا. في نيسان 1961 مثّل المركز البهائي العالمي في مؤتمرَي الوكلاء الافتتاحيين لكولومبيا وجامايكا، وحضر في عام 1962 تشكيل المحفل الروحاني المركزي في سريلانكا. من نيسان الى تشرين الثاني 1961 زار الولايات المتّحدة، فرنسا، بلجيكا، هولندا، ألمانيا، إيطاليا، سويسرا وتركيا. في سبعينيات القرن ركّز الجنرال علائي على مهمّة حماية أمر الله في إيران، لكنّه استمرّ في السفر. ففي عام 1975م، على سبيل المثال، زار أوروبا والمملكة المتّحدة، وتمكّن من مغادرة إيران في عام 1977 و 1978 للتشاور مع دار التبليغ العالمية في حيفا. وبالمحصلة سافر إلى أكثر من خمسة وثلاثين بلدًا، بعضها لأكثر من مرّة، وإلى كافّة القارّات باستثناء أستراليا. بالإضافة إلى ذلك، ساعد الجنرال علائي في إدارة الممتلكات البهائية في إيران، وهي خدمة غالبًا ما كانت تنطوي على مفاوضات هامّة مع الحكومة. ونظرًا لسمعته كرجل أعمال مالي، ورتبته في الجيش كجنرال، وعلاقاته مع القنوات الدبلوماسية، فضلاً عن محض قوّة شخصيته، كان يمكنه الحصول على مواعيد للقاء كبار مسؤولي الحكومة والتفاوض من أجل الاعتراف بالدين البهائي وحماية البهائيين.

في عام 1978 غادر الجنرال علائي إيران إلى فرنسا، حيث عاش حتى عام 1981، عندما استقرّ في سكوتسديل بولاية أريزونا. هناك، في عام 1984، في عيد ميلاده السادس والتسعين، وافته المنيّة بسلام بوجود أفراد الأسرة المقرّبين والأصدقاء المخلصين.

أشاد بيت العدل الأعظم بسجلّ حياته المميّز في برقية بتاريخ 18 تشرين الثاني 1984:

بحزن عميق نعلن عن وفاة أيادي أمر الله شعاع الله علائي في 16 تشرين الثاني، منهيًا بذلك أكثر من سبعين سنة دون انقطاع من الخدمات المكرّسة لعتبة حضرة بهاءالله. كان قلعة من القوّة في مهد أمر الله حيث خدم بتفان بارز في مؤسّساته الإدارية الناشئة منذ بدايتها. تشهد عضويته لعقود عديدة في المحفل الروحاني المركزي الذي كان رئيسًا له في كثير من الأحيان، على ثقة البهائيين في إيران التي وضعوها في شخصه النبيل. كانت شجاعته النموذجية عند تمثيل مصالح أمر الله لدى دوائر الدولة العليا، ونزاهته عند اضطلاعه بالواجبات الرسمية، قد عززتا مكانة وهيبة أمر الله العزيز الذي ناصره بمنتهى الجدّ والإخلاص طيلة حياته. لقد توجّت إنجازاته المتعدّدة بشرف تعيينه أياديًا لأمر الله في 29 شباط 1952. ومكّنه هذا التعيين من بسط مجال خدماته لأمر الله إلى الساحة العالمية. ندعو في العتبات المقدّسة لترقّي روحه المتألّقة في الملكوت الأبهى. نوصي بعقد المجالس التذكّرية في العالم البهائي بما في ذلك كافّة مشارق الأذكار.(3)

1.
Bahá’í World, vol. 19, p. 593.
2.
المصدر السابق.
3.
المصدر السابق، الصفحتان 594–595.

1886 – 1971 موسى بناني

Hand of the Cause of God Músá Banání (1886-1971)

كان موسى بناني رجلاً ذا حيوية لافتة للنظر وحزم استثنائي وإطاعة فورية وتواضع مطلق. ولد في عائلة يهودية في بغداد، وعانى الكثير من الحرمان وهو طفل. توفّي والده وهو في الرابعة من عمره. بعد وفاة والده لم يسمح له كفاحه من أجل العيش بأيّة فرصة للذهاب إلى المدرسة. ‘وحتى نهاية حياته كان يستطيع القراءة والكتابة الفارسية والعربية بالحروف العبرية فقط التي تعلّمها وهو طفل صغير.’(1) وعندما كان في السابعة عشر من عمره غادر المنزل لوحده، ولحق بشقيقه الأكبر إشراق إلى كرمانشاه في إيران.

آمن إشراق بالدين البهائي في إيران ولكنّ موسى، الذي عمل تاجرًا في كرمانشاه لتأمين معيشته، لم يكن مهتمًّا بالدين. على كلّ حال، حدث أن زار البلدة في عام 1911 كلّ من فاضل المازندراني، وهو مبلّغ بهائي بارز، والسيّد عبد الحسين الأردستاني. التقطت لهما صورة مع أفراد الجامعة البهائية المحلّية في اجتماع ضمّهم معًا، بمن فيهم إشراق. وفي وقت لاحق استخدمت السلطات هذه الصورة لتحديد هويّات الأحبّاء وإلقاء القبض عليهم. فاعتقل موسى بناني الذي يشبه شقيقه، بطريق الخطأ.

في السجن، حاولت السلطات إجبار البهائيين على إنكار دينهم. أُجبر السيّد بناني على مشاهدة السيّد أبرار أثناء تعذيبه، وهو رجل كبير في السن ورفيقه في الزنزانة والذي رفض ببطولة إنكار عقيدته. ضمن موسى إطلاق سراحه بإخبار سجّانيه بأنه لم يكن بهائيًا وقيامه بشتم الدين وسبّه. ورغم سعادته لإطلاق سراحه، إلاّ أنّ السيّد بناني ‘أصيب باضطراب روحاني شديد، ونوبات من عذاب الضمير. وأخذ يوبّخ نفسه بكلّ مرارة لأنّه تعجّل وندّد بدين كان يعرف القليل عنه.’(2) بدأ بدراسة أمر الله وحضور الاجتماعات المخصّصة لطالبي الحقيقة، وأصبح في نهاية الأمر بهائيًا في باكورة عام 1913.

إنّ التحوّل الذي طرأ على حياة السيّد بناني بعد إيمانه، قد أدهش الكثيرين ممّن عرفوه. وصمّم ألاّ يتزوّج إلاّ من بهائية، حتى يترعرع أطفاله في ظل أمر حضرة بهاءالله. وبزواجه من سميحة رفيعي الأردستاني في عام 1925، أصبح صهر السيّد عبد الحسين الأردستاني، المبلّغ البهائي نفسه الذي أدّت زيارته إلى كرمانشاه في عام 1911 إلى اعتقال موسى وإيمانه لاحقًا بأمر الله. رزق الزوجان بناني بستّة أطفال.

كان السيّد بناني رجل أعمال ناجحًا، ومع بداية الحرب العالمية الأولى كان قد جمع رأس مال كاف للاستفادة من الفرص التي أتاحها اقتصاد الحرب. ومع ذلك، أدّى انهيار الاقتصاد في نهاية الحرب الى إفلاسه. في عام 1920 انتقل إلى طهران، حيث أعاد بناء ثروته. واقتناعًا منه بأنّ الإفلاس كان له ما يبرره أخلاقيًا في ضوء ربحه المفرط في زمن الحرب، ورغم عدم وجود ما يلزمه قانونيًا بأيّ شيء، فقد سعى للاتّصال بكافّة دائنيه ودفع لهم ديونه. عندما أدرك دائنوه أنه كان يتصرّف طبقًا لمبادئه كبهائي، أصبح الكثير منهم بهائيين.

في عام 1934 سافر السيّد بناني إلى الأرض الأقدس، حيث قضى ستّة وعشرين يومًا كحاجّ في محضر حضرة شوقي أفندي. هذه التجربة

خلقت شعلة ملتهبة من المحبّة والولاء أذابت وصهرت جوهر وجود موسى بناني. ظلّ تفانيه لحضرة شوقي أفندي السمة المميّزة لشخصيته حتى نهاية حياته. وبدوره، شاهد حضرة وليّ أمر الله تلك البساطة والصراحة والطاقة غير المحدودة والإمكانات الروحانية لدى موسى بناني، فقام برعاية هذه الصفات وتعزيزها بما أغدقه عليه من محبّة مبهجة.(3)

أثناء ذلك الحجّ أخبر حضرة شوقي أفندي مجموعة من الحجّاج أنّ السيّد بناني كان ‘واحدًا يعادل ألفًا’،(4) وأرسله إلى مصر للقاء البهائيين وتشجيعهم في القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية.

عندما عاد إلى إيران، خدم السيّد بناني عضوًا في اللجنة المركزية المسؤولة عن تحديد المواقع التاريخية المرتبطة بأمر الله وامتلاكها. وقد تمكّنت اللجنة من شراء المنزل الذي ولد فيه حضرة بهاءالله في طهران وترميمه.

مع اندلاع الحرب في عام 1939، في وقت كان فيه معظم شركاء السيّد بناني في العمل يستعدّون للاستفادة من اشتعال الحرب، أغلق موسى مصلحته التجارية وعاش على الدخل العائد إليه من ممتلكاته. كان دقيقًا في دفع التزاماته لحقوق الله، مصرًّا على دفعها فور استحقاقها.

بحلول عام 1950 أصبح السيّد بناني يملك موارد مادّية معتبرة. وكان قد بنى وانتقل إلى منزل فاخر ويتطلّع إلى تقاعد مريح. عندئذ أحضر عزيز يزدي، وهو صديق للعائلة، إلى منزل بناني برقية من حضرة شوقي أفندي قُدّر لها أن تغيّر مجرى حياة موسى.

مع بداية عام 1950 كان أمر حضرة بهاءالله قد لامس فقط السواحل الشمالية والطرف الجنوبي لقارّة أفريقيا الشاسعة. في نيسان من ذلك العام أرسل حضرة وليّ أمر الله برقية إلى مؤتمر الوكلاء البهائي السنوي للجزر البريطانية، لافتًا النظر إلى أفريقيا:

إنّ الوقت ملائم الآن لجامعة المؤمنين المتحفّزة المتماسكة لكي تعدّ نفسها للشروع بعد سنة واحدة من الراحة للقيام بمهمّة تاريخية أخرى بمناسبة الافتتاح الرسمي لخطّة سنتين تشكّل تمهيدًا لبدء حملة منظّمة تهدف إلى حمل شعلة أمر الله إلى أراضي القارّة السوداء… لقد دقّت الساعة لاتّخاذ خطوات أوّلية لنصب راية أمر الله وسط القبائل الأفريقية المذكورة في لوح مركز العهد والميثاق.(5)

أضحت خطّة السنتين التي أشار إليها حضرة شوقي أفندي معروفة باسم «حملة أفريقيا» ووضعت تحت إشراف المحفل الروحاني المركزي للجزر البريطانية. في آب 1950 دعا حضرة شوقي أفندي الجامعة البهائية الأمريكية لتقديم مساعدتها للمشروع الذي وصفه بأنّه:

يشكّل معلمًا هامًّا في تفتّح أمر الله على المستوى العالمي، مكملاً العمل الذي انطلق قبل خمسين سنة في قارّة أمريكا الشمالية… ومن شأنه أن يدعم استهلال العمل نحو عمليّات واسعة النطاق موجّهة للانطلاق في فترة لاحقة من تفتّح الخطّة الإلهية الهادفة إلى دخول الجماهير غير المتحضّرة والمضطهدة في القارّة التي بدأت تصحو بسرعة.(6)

قبل نهاية العام، طُلب من المحافل الروحانية المركزية في إيران ومصر والهند المشاركة أيضًا.

كانت هذه هي البرقية التي شارك بها عزيز يزدي صديقه موسى بناني الذي استجاب لها فورًا. فأنهى كل ّما يتعلّق بعمله، وغادر إيران متخلّيًا عن الحياة المريحة. في عام 1951 قام بالهجرة الأمرية إلى كمبالا، أوغندا، مع زوجته سميحة، وابنته فيوليت، وزوج ابنته علي نخجواني، وحفيدته بهيّة. كان استقراره من جديد في أرض لم تفتح سابقًا لأمر الله قد أسعد قلب حضرة وليّ أمر الله، الذي أرسل هذه البرقية بتاريخ 17 كانون الثاني 1951:

أعلموا موسى بناني بموافقتي الأكيدة على هجرته إلى أفريقيا مع نخجواني. دعائي الحارّ لنجاحه والعائلة بأسرها.(7)

وصلت عائلة بناني إلى مكان هجرتها في وقت كانت «حملة أفريقيا» تنطلق على قدم وساق. اشترى السيّد بناني منزلاً يحمل الرقم 3 في شارع كيتانته في كمبالا، حيث أدّى دفء الأسرة الإيرانية إلى جذب الكثير من المستفسرين. في وقت لاحق من ذلك العام انضمّ إلى عائلتَي بناني ونخجواني فيليب هاينزوورث، وهو مهاجر من إنجلترا. وسرعان ما أينعت أولى ثمار العمل التبليغي: أوّل اثنين من الأفارقة يعتنقون أمر الله، كريسبيان كاجوبي من قبيلة بوغندا، وفريدريك بيغابوا من قبيلة متورو، حيث أصبحا بهائيَين في كمبالا.

في شباط 1952 ذهب السيّد بناني للحجّ الثاني برفقة زوجته. كان العمل التبليغي يمضي قدمًا في أفريقيا. وهكذا كان لمّ الشمل مع حضرة وليّ أمر الله مناسبة سعيدة على وجه الخصوص. وفي كلّ يوم كان حضرة شوقي أفندي يعطي السيّد بناني تعليمات مفصّلة لتطوير أمر الله في أفريقيا.

أثناء وجود الزوجين بناني في المركز العالمي، وقع حدثان هامّان؛ فقبل مغادرتهما كمبالا تمّ الاتّفاق على أن يعقد المهاجرون اجتماعًا خاصًّا للمستفسرين الأفريقيين أثناء وجود الزوجين بناني في حيفا. تقرّر توقيت الاجتماع ليتزامن مع وقت زيارة حضرة شوقي أفندي المعتادة للمقامات المقدّسة. في الوقت المعيّن قام حضرة وليّ أمر الله والسيّد بناني بالدعاء معًا في المراقد من أجل تقدّم مسيرة أمر الله. في صباح اليوم التالي أعلن إينوك أولنغا إيمانه بحضرة بهاءالله أمام المهاجرين في كمبالا. بحلول 21 نيسان 1952 أصبح عدد المؤمنين الجدد كافيًا لانتخاب أوّل محفل روحاني محلّي أوغندي في كمبالا. كان إينوك أولنغا من بين الأعضاء المنتخَبين. بحلول تشرين الأوّل كان هناك مائة مؤمن في أوغندا.

وقع الحدث الهامّ الثاني في اليوم الأخير من حجّ الزوجين بناني. فبينما كانا يستأذنان حضرة وليّ أمر الله للمغادرة، أخبرهما بما سبق وأعلنه للعالم البهائي في 29 شباط: لقد رُقّي السيّد بناني، «الفاتح الروحاني لأفريقيا»، إلى رتبة أيادي أمر الله.

أُعلنُ للأحبّاء في الشرق والغرب… عن هذه التعيينات، رفع عدد أيادي أمر الله الحاليين إلى تسعة عشر… بتعيين أدلبرت ميولشليغل وموسى بناني وكلارا دنّ لألمانيا وأفريقيا وأستراليا على التوالي.(8)

بتواضعه المعهود احتجّ موسى قائلاً:

أنا لست مستحقًّا لهذا. لا أستطيع القراءة أو الكتابة. لساني ليس بليغًا. امنح هذا الرداء لعلي نخجواني الذي يقوم بحصّة الأسد في التبليغ بأفريقيا.(9)

فأجاب حضرة شوقي أفندي، ‘إنّ قيامك هو الذي فتح القارّة. سيأتي دور علي لاحقًا.’(10)

وجّه حضرة شوقي أفندي أيادي أمر الله لحضور جميع المؤتمرات التبليغية البيقارّية الأربعة التي دعا لانعقادها من أجل إطلاق مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني. لعب السيّد بناني دورًا رئيسًا في تنظيم أوّل المؤتمرات الأربعة، الذي عقد في كمبالا بين 12–18 شباط 1953. في خيمة كبيرة نصبت في ساحة حظيرة القدس في كمبالا، اجتمع (232) بهائيًا يمثّلون (30) مجموعة عرقية ونحو (19) قطرًا لسماع تفاصيل خطّة قدّر لها إيصال الدين البهائي إلى جميع أنحاء العالم.

بعد مؤتمر كمبالا سافر السيّد بناني الى الولايات المتّحدة لحضور المؤتمر في ويلمت في نيسان وأيّار. ثم أمضى الشهرين ونصف التالية متنقّلًا في أمريكا لزيارة الجامعات البهائية قبل مواصلة السفر إلى مؤتمرَي ستوكهولم ونيودلهي في تمّوز وتشرين الأوّل.

كما زار السيّد بناني البهائيين في جميع أنحاء أفريقيا. واحدة من أولى رحلاته كانت مع أيادي أمر الله السيّد خادم وزوجتيهما في عام 1953. زاروا كلّ بلد تقريبًا، في جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية، يقطن فيه بهائيون بما في ذلك كينيا، إثيوبيا، تنجانيقا، روديسيا، جنوب أفريقيا، أنغولا، الكونغو البلجيكية، ليبيريا، سيراليون، المغرب وتونس.

بقي السيّد بناني على اتّصال مع البهائيين من خلال «نشرة بناني»، وهي رسالة إخبارية كان يصدرها من وقت لآخر ما بين عامَي 1953–1956 تقريبًا، ويرسلها إلى كلّ محفل روحاني محلّي وكلّ مهاجر وكلّ بهائي في مكان معزول في أفريقيا، فضلاً عن أعضاء هيئة المعاونين والمحافل الروحانية المركزية التي لديها مسؤوليّات في أفريقيا.

في برقية لحضرة وليّ أمر الله في عام 1954، موجّهة إلى أيادي أمر الله وجميع المحافل الروحانية المركزية، دعا فيها إلى تعيين هيئات معاونين في كلّ قارّة من العالم:

إنّ الساعة مواتية لقيام أيادي أمر الله الخمسة عشر المقيمين خارج الأرض الأقدس بتعيين هيئات معاونين خلال عيد الرضوان، لكلّ قارّة على حدة، من بين البهائيين المقيمين في تلك القارّة، والتي يعمل أعضاؤها كممثّلين ومعاونين ومشاورين لأيادي أمر الله، ويجب أن يمدّوا يد المساعدة على نحو متزايد لتعزيز مصالح خطّة العشر سنوات للجهاد الروحاني.(11)

عندما طلب منه حضرة شوقي أفندي أن يعيّن هيئة من تسعة أعضاء للمساعدة في الحملة التبليغية، اختار السيّد بناني لعضوية هيئة المعاونين الأفريقية كلاًّ من جون ألين، إلزي أوستن، علي نخجواني، جلال نخجواني، جون روبارتس، وليام سيرز، محمّد مصطفى سليمان، فاليري ويلسون وعزيز يزدي.

في ربيع عام 1954 تلقّى موسى بناني برقية من حضرة وليّ أمر الله يطلب منه شراء أرض لموقع مشرق أذكار. ورغم أنّه كان قد خضع للتوّ لجراحة في العين، ولا يزال يتعافى منها، فقد قام على الفور للبحث عن العقار المناسب. خلال أسبوع كان قادرًا على إرسال برقية إلى حضرة وليّ أمر الله يعلمه عن اختيار الموقع وشرائه.

توسّع أمر الله بسرعة في أفريقيا؛ فبحلول عام 1955 كان هناك أكثر من (120) محفلاً روحانيًا محلّيًا في القارّة، مع (31) محفلاً جديدًا شكّلت في وسط وشرق أفريقيا وحدها. شكّلت أوغندا (17) محفلاً جديدًا، وزادت عدد مؤمنيها الأفارقة إلى ما يقرب من (900) وعدد المراكز إلى أكثر من (100). شكّلت كينيا (8) محافل جديدة وتنجانيقا محفليْن؛ انتظمت المحافل المحلّية لأوّل مرّة في الكونغو البلجيكية، رواندا-بُوروندي، زنجبار، جزر سيشيل، أشانتي، الكاميرون الفرنسية وجزر الكناري. وفي الكاميرون البريطانية، حيث هاجر إينوك أولنغا في تشرين الأوّل 1953، تشكّلت (8) محافل جديدة. كما فُتحت أخيرًا لأمر الله غينيا الإسبانية، وجزر القمر وجزيرة سانت توماس. أبرق حضرة شوقي أفندي إلى موسى بناني في نيسان 1955 ما يلي:

بهجتنا عظيمة، وإعجابنا عميق، ونلهج بالامتنان للإنجازات الرائعة للأحبّاء البواسل الملوّنين والِبيض من المهاجرين والمبلّغين والإداريين في أربع مناطق من القارّة الأفريقية. عسى أن يشملهم جميعًا دعاؤنا الحبّي الحارّ.(12)

بلغت سعادة حضرة شوقي أفندي من نمو أمر الله حدًّا جعله يدعو في آب 1955 لإنشاء مشرق أذكار، يكون أمّ المعابد في أفريقيا، بوصفه ‘العزاء الأكبر لجماهير الإخوة البواسل المظلومين في مهد أمر الله’.(13) في العام التالي انتُخبت أربع محافل روحانية إقليمية جديدة في الرضوان: وسط وشرق أفريقيا ومقرّه في كمبالا، جنوب وغرب أفريقيا ومقرّه في جوهانسبرغ، وشمال غرب أفريقيا ومقرّه في تونس، وشمال شرق أفريقيا ومقرّه في القاهرة. وقد حضر السيّد بناني سائر مؤتمرات الوكلاء الافتتاحية الأربعة بصفته الممثّل الشخصي لحضرة وليّ أمر الله.

كان صعود حضرة شوقي أفندي في تشرين الثاني 1957 ضربة موجعة للسيّد بناني، ‘لكنّها ضاعفت تصميمه على تحقيق خطط حضرة شوقي أفندي’.(14) قبل وقت قصير من صعوده، دعا حضرة شوقي أفندي في تشرين الأوّل عام 1957، إلى انعقاد خمسة مؤتمرات بيقارّية متعاقبة في كمبالا، سيدني، شيكاغو، فرانكفورت وجاكرتا خلال عام 1958. حضر السيّد بناني المؤتمر في كمبالا في كانون الثاني، وفي فرانكفورت في تمّوز. في اليوم الرابع لمؤتمر كمبالا وضع كلّ من ممثّلة حضرة وليّ أمر الله، روحية خانم، وموسى بناني هديّتين في أساسات أمّ المعابد لأفريقيا مُقدّمتين من حضرة وليّ أمر الله: علبة فضّية تحتوي على عيّنة من التراب المقدّس من ضريح حضرة بهاءالله، وصندوق خشبي يحتوي على قطعة جصّ من زنزانة سجن حضرة الباب في قلعة ماه كو.

في عام 1958 أقيم نصب تذكاري من رخام كارّارا الأبيض فوق ضريح حضرة شوقي أفندي. ‘عمود واحد من الرخام، يتوّجه تاج على الطراز الكورنثي وفوقه كرة تمثّل خارطة العالم، وتظهر قارّة أفريقيا في الواجهة الأمامية…’(15) كانت الانتصارات في أفريقيا قد جلبت فرحًا كبيرًا لحضرة وليّ أمر الله في السنوات الأخيرة من حياته. واصل أمر الله نموّه بسرعة في أفريقيا لبقيّة مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني. وبحلول نهايته في عام 1963 كان هناك بهائيون في (2655) جامعة محلّية عبر القارّة و (1076) محفلاً روحانيًا محلّيًا أكثر من نصفها في أوغندا. وقد دخل حظيرة أمر الله أكثر من أربعين ألف مؤمن جديد في وسط وشرق أفريقيا، أكثر من نصفهم يعيشون في الكونغو.

خلال السنوات الأخيرة من حياته عانى موسى بناني من مشاكل صحّية متزايدة. في آب 1960 تعرّض لسكتة دماغية تركته مشلولاً في أسفل جانب واحد من جسمه. في نهاية الأمر تحتّم بتر إحدى ساقيه، كما فقد بَصَره في عين واحدة. في عام 1961 كتب الأمناء الرئيسون إلى أيادي أمر الله في الميدان [غير المقيمين في الأرض الأقدس] عن ‘الحالة الصحّية الحرجة للسيّد بناني… التي تمنعه من التحرّك من مكان لآخر’(16) وكتبوا بعد شهر واحد فقط أنّهم ‘يفكّرون كثيرًا بالعزيز موسى بناني، حيث إنّ حالته الصحّية لا تزال تمنعه من المشاركة الفعلية في شؤون أمر الله’.(17)

في تشرين الأوّل 1967 عُقدت ستّة مؤتمرات بيقارّية في وقت واحد لإحياء الذكرى المئوية لإعلان حضرة بهاءالله إلى ملوك العالم وحكّامه. كان أيادي أمر الله موسى بناني حاضرًا في المؤتمر الذي عقد في كمبالا. وفي اليوم الأخير من المؤتمر،

حُمل الحبيب العزيز آقا جان، و‘والدنا العزيز’… نزولاً على الدرج إلى القاعة بين ذراعَي صديق محبّ، ووُضع بلطف في كرسيه المتحرّك واقتيد إلى منصّة المتحدّثين. وقف كلّ مؤمن على قدميه بشكل تلقائي، في محبّة صادقة عميقة وباحترام وتكريم. هنا بطل أفريقيا، مثخن بالجراح ولكنّه ثابت مستقيم، ذلك هو السيّد بناني، المهاجر لستّة عشر سنة في أفريقيا، وفي أيّام حياته الأخيرة، يعاني من المرض والعمى تقريبًا نتيجة مرض السكّري، والشلل في جانبه الأيمن جرّاء سكتة مدمّرة. والآن جاء مباشرة من سرير المرض، مبتور الساق اليسرى من فوق الركبة قبل ثلاثة أسابيع لوقف امتداد الغرغرينا الشرس. أنشدنا «الله أبهى» عندما دخل؛ واستمعنا باهتمام لرسالته تترجمها لنا ابنته فيوليت نخجواني؛ أعجبنا بضبطه الصارم للنفس وهو جالس في وضع جسديّ يبدو واضحًا أنّه مرهق طوال أحاديث زملائه الأيادي. بدا أنّ عصرًا قد ولّى وانتهى؛ شعرنا بذلك. هل يا ترى سيأتينا مثله بين ظهرانينا مرّة أخرى؟ لا بأس – لقد عشنا مع المثال السامي من تفانيه وولائه وإطاعته وتضحيته وخدماته ومعاناته الطويلة؛ ألا تكفي هذه النعمة؟ أليست هذه هي الدروس التي لا يمكن لأيّ بلاغة أن تلقّنها؟ ما أعظم حكمة الله؛ فهنا، وبين هؤلاء الناس البسطاء الأمّيين في أفريقيا، قد وضع سبحانه وتعالى عملاقًا علّم كلّ أفريقيا معنى كلمة «مخلص» دون معونة الكلمات.(18)

في السنوات المتبقّية من حياته كان موسى بناني غير قادر على الحركة والانتقال من مكان لآخر، إلاّ أنّ ‘دعاءه اليومي كان يتلى لأجل تلك الجامعات البهائية التي تعاني من شدّة أو ضائقة.’(19) توفّي في 4 أيلول 1971، وتنفيذًا لرغبته الأخيرة، دفن ‘في المكان المفضّل له من تربة أفريقيا، في ظلال أمّ المعابد لتلك القارّة.’(20) لدى وفاته أبرق بيت العدل الأعظم إلى العالم البهائي ما يلي:

ننعى بحزن عميق حبيبنا الغالي أيادي أمر الله موسى بناني، ونستذكر بأعمق العواطف خدماته طويلة الأمد المتّسمة بالتفاني والتواضع في مهد أمر الله، وهجرته التي يقتدى بها إلى أوغندا التي بلغت ذروتها بتعيينه أياديًا لأمر الله لأفريقيا، ونيل ثناء حضرة وليّ أمر الله المحبوب كونه الفاتح الروحاني لتلك القارّة. لقد وري جثمانه ثرى أفريقيا في ظلال أمّ المعابد، ممّا يعّزز المجد الروحاني لتلك البقعة المباركة. دعاؤنا الحارّ في المقامات لأجل ترقّي روحه النبيلة. عسى أن تقتدي أفريقيا الآن، وقد سُلبت من مُدافع جليل مروّج لأمر الله، بمثاله بما يُفرِح قلبه في الملكوت الأبهى. انقلوا إلى عائلته أرقّ مشاعر العزاء والمواساة. نوصي بعقد مجالس تذكّر في جميع الجامعات البهائية في العالم واجتماعات لائقة في أمّهات المعابد.(21)

1.
Bahá’í World, vol. 15, p. 421.
2.
المصدر السابق، الصفحة 422.
3.
المصدر السابق.
4.
المصدر السابق.
5.
Shoghi Effendi, Unfolding Destiny, p. 245.
6.
Shoghi Effendi, Citadel of Faith, pp. 87–8.
7.
Shoghi Effendi, Unfolding Destiny, p. 257.
8.
Shoghi Effendi, Messages to the Bahá’í World, pp. 20–1.
9.
Bahá’í World, vol. 15, p. 423.
10.
المصدر السابق.
11.
Shoghi Effendi, quoted in Bahá’í World, vol. 12, p. 377.
12.
Bahá’í World, vol. 13, p. 285.
13.
Shoghi Effendi, Messages to the Bahá’í World, p. 90.
14.
Bahá’í World, vol. 15, p. 423.
15.
Rabbani, Guardian of the Bahá’í Faith, p. 238.
16.
Ministry of the Custodians, p. 320.
17.
المصدر السابق، الصفحة 328.
18.
Bahá’í World, vol. 14, p. 248.
19.
Bahá’í World, vol. 15, p. 423.
20.
المصدر السابق.
21.
المصدر السابق، الصفحة 421.

1869 – 1960 كلارا دنّ

Hand of the Cause of God Clara Dunn (1869-1960)

كانت كلارا دنّ تعتزّ بمناجاة أنزلها حضرة عبدالبهاء فحفظتها، وكانت تُشاهَد في شيخوختها رافعة يديها متوسّلة إلى ربّها بكلمات هذه المناجاة العزيزة جدًّا على قلبها:

إلهي وموئلي عند لهفي وملجأي ومهربي عند اضطرابي وملاذي ومعاذي عند اضطراري وأنيسي في وحشتي وسلوتي في كربتي وجليسي في غربتي وكاشف غمّتي وغافر حوبتي. إنّي أتوجّه إليك بكلّيّتي وأتضرّع إليك بحقيقتي وكينونتي وهويّتي وجناني ولساني أن تحفظني عن كلّ شأن يخالف رضاك في دور فردانيتك وتطهّرني من كلّ وضر يمنعني عن التنزيه والتقديس في ظلّ شجرة رحمانيتك املأ قلبي بمحبّة خلقك واجعلني آية رحمتك وسمة عنايتك وموفّقًا على التأليف بين أحبّتك وخالصًا لوجهك وناطقًا بذكرك وناسيًا لشؤوني ومتذكّرًا لشؤونك…(1) ع ع

تأثّر العديد من المؤمنين من منظر الأم دنّ وهي تتلو هذه المناجاة. فالكلمات التي تلفظها، بأهمّيّتها الخاصّة في حدّ ذاتها، كانت تكشف شيئًا من عمق حنينها للتقرّب إلى الله وحبّها الشديد لأمره المبارك. لقد رعت الجامعة البهائية في القارّة الأسترالية لأكثر من أربعين سنة كما ترعى الأمّ أولادها. وبينما اقتربت أيّامها على هذه الأرض من مغربها، بقيت حياتها الغالية مكرّمة عزيزة على قلوب من عرفها من البهائيين الذين ارتبطت مصائرهم الروحانية بمصيرها إلى الأبد.

ولدت كلارا في لندن يوم 12 أيّار عام 1869،(2) وهي المولود السادس لتوماس وماريّا هولدر. كان والدها ميثوديًا متزمّتًا، ووالدتها الإيرلندية الجذّابة كاثوليكية. انتقلت العائلة إلى ألينديل في كندا وعمر كلارا سنة واحدة تقريبًا، ولكنّ الفقر والمجادلات الدينية العنيفة بين والديها جعلت طفولة كلارا غير سعيدة.

تزوّجت كلارا في تورونتو، وهي في السادسة عشر من عمرها من وليام ألين ديفيز الذي يكبرها بثلاث سنوات، وذلك للهرب إلى حدّ ما من التوتّرات العائلية. بعد حوالي خمسة عشر شهرًا على زواجهما، ولد طفلهما الوحيد ألِن الابن، في 8 نيسان 1887. كان الزوجان يعيشان في أونتاريو في ذلك الوقت. بعد سنة توفّي ديفيز بشكل مأساوي في حادث قطار، تاركًا كلارا لتنشئة الطفل الصغير.

قرّرت كلارا أن تعمل ممرّضة لإعالة نفسها، أمّا ألِن الصغير فقد تولّى رعايته شقيقها الأكبر. ولكنّ كلارا لم تكن سعيدة لأنّها لم تستطع تنشئة طفلها بنفسها وشعرت بأنّها هي المُلامة على كثير من مشاكله.

عملت كلارا عدّة سنوات ممرّضة بشكل أساسي بين الفقراء. ولكنّها أصيبت بحمّى التيفوئيد وتركت وظيفتها. ثم انتقلت إلى الولايات المتّحدة وكانت تبلغ من العمر ثلاثًا وثلاثين سنة واستقرّت في والا والا بولاية واشنطن. وسرعان ما وجدت عملاً هناك.

في عام 1907 التقت كلارا بهايد دنّ حيث كانت تعمل في مركز طبّي عندما جاء إلى مكتبها لوضع إعلان عن اجتماع بهائي. سألها اذا كانت مهتمّة بالمسائل الروحانية. فكان جوابها: ‘سأكون مهتمّة لو كنت أعرف أيّة أمور روحانية.’ فأخبرها هايد أنّ هناك رجلاً في الفندق لديه رسالة رائعة يشاركها مع الآخرين. فأجابت: ‘آه، وهل أنت ذلك الرجل صاحب الرسالة الذي تتكلّم عنه؟’

أجاب: ‘لا، بل رجل أفضل منّي بكثير، وقد سافر إلى عكّاء وزار هذا الشخص الرائع في السجن. هلاّ أتيت للتحدّث معه في الفندق؟’ فقالت كلارا إنّها ستأتي.(3) استمعت كلارا لصديق هايد، السيّد وارد فيتزجيرالد وهو يقدّم الدين البهائي في الفندق، ولكنّها لم تتأثّر بحديثه. بدا لها إنسانًا مادّيًا. سألت إذا كان ذلك الدين ‘لكلّ شخص في العالم، ولكلّ نوع ولون’.(4). ولمّا تأكّد لها ذلك، أصبحت كلارا مقتنعة بأحقّية الدين البهائي.

على مدى السنوات الخمس التالية كافحت كلارا دون توقّف لنشر تعاليم الدين. ومع أنّ إيمانها كان راسخًا وجهودها نابعة عن عزم وتصميم، إلاّ أنّها لم تتمكّن من تسجيل شخص واحد في أمر الله. بدأت ظروفها المادّية في التدهور. نعتها أحد الأطبّاء في المركز الطبّي بأنّها دجّالة، لذلك اضطرّت إلى ترك وظيفتها في التمريض. بلغ ألمها النفسي حدًّا جعلها تصاب بانهيار عصبيّ واضطرّت لدخول المستشفى. قامت امرأة عطوفة بأخذ كلارا للعيش معها، وسمحت لها بالنوم في العلّية. ومع ذلك، حذرت المرأة كلّ معارفها بأنّ كلارا ‘تنتمي إلى دين مهووس’ وأنّها مجنونة تمامًا.(5)

تحسّنت صحّة كلارا تدريجًا، ولكنّ ظروفها المادّية لم تتحسّن. ورغم صعوبة وضعها قرّرت أن تسافر للقاء حضرة عبدالبهاء بطريقة ما عندما سمعت أنّه قادم إلى سان فرانسيسكو.

كانت كلارا قد التقت بشابّة بهائية من سبوكين كان والدها السيّد بايلي، عمدة بلدة صغيرة قرب والا والا. أرسلت الآنسة بايلي والدها إلى كلارا آملة أن يصبح بهائيًا. ولكن بدلاً من ذلك، زار كلارا في شقّتها ثلاث مرّات، وفي المرّة الثالثة طلبها للزواج منه ولكنّها رفضت. والآن، وقد علمت بزيارة حضرة عبدالبهاء إلى كاليفورنيا، قرّرت كلارا أن تطلب من خاطِبها الحصول على قرض لتغطية نفقات الرحلة.

استقلّت عربة ترام وذهبت إلى منزله. وعندما قرعت الجرس استقبلتها مدبّرة المنزل بفظاظة، والتي كان لديها خططها الخاصّة بخصوص السيّد بايلي من أجل وضع يدها على أمواله لتعليم بناتها. كانت تعرف أنّ كلارا أصبحت موضع اهتمامات مخدومها العاطفية وبالتالي مصدر تهديد لنواياها الزوجية الخاصّة. سألت كلارا إذا كان السيّد بايلي في المنزل. فأجابت مدبّرة المنزل: ‘نعم، ولكن لا يمكنك رؤيته، إنّه مريض!’

طلبت كلارا أن تدلّها على مكان غرفته. وقد تحدّثت عن الحادثة بعد اثنتين وأربعين سنة فقالت لا شيء على وجه الأرض كان يمكنه أن يوقفها. وعندما لم تخبرها المدبّرة، وجدته كلارا بنفسها وطلبت منه الحصول على القرض. بدأ السيّد بايلي بالقهقهة. فقالت كلارا: ‘يا سيّد بايلي! ليس الأمر مضحكًا.’ فأجاب السيّد بايلي: ‘حسنًا، عفوًا، هلاّ عذرتني؟ لقد أرسلت ابنتي برقية هذا الصباح قائلة: يا أبي، أرسل لي مالاً على الفور لأذهب إلى سان فرانسيسكو لرؤية عبدالبهاء. فقلت لمدبّرة منزلي، لقد جنّت ابنتي. والآن تأتي المرأة التي عشقتها وتسأل السؤال نفسه.’(6)

حصلت كلارا على القرض من السيّد بايلي، وفي تلك الليلة بالذات استقلّت قطارًا إلى الجنوب. في بورتلاند صادفت والد جورج لاتيمر، وهو أيضًا بهائي، الذي كان يدير غرفة الطعام. قال لها إنّ جورج ووالدته كانا بالفعل في سان فرانسيسكو في زيارة لحضرة عبدالبهاء. فاستقلّت كلارا قطارًا ثانيًا تابعًا لشركة شاستا المحدودة في لحظة انطلاقه من المحطّة. كانت في غاية الحماس لدرجة لم تتمكّن من تناول الطعام.

عندما وصلت كلارا إلى سان فرانسيسكو أربكها اتّساع المدينة ونشاطها الصاخب. وإذ وجدت نفسها محاطة بمباني العبّارات وموظفي الفنادق ينادون بأسماء فنادقهم، عرفت فقط أنّ بمقدورها أن تجد حضرة عبدالبهاء في «ماركت ستريت». فتمكّنت من العثور على الترام المتّجه إلى هناك وسألت بائع التذاكر عن كيفية العثور على بعض الإيرانيين. فقال لها إنّ الترام يتوقّف أمام منزلهم.

وصلت كلارا إلى المنزل ولكنّها لم تستطع الدخول في البداية. قرعت جرس الباب عدّة مرّات دون جواب من أحد. وفي غمرة شعورها بالجوع والتعاسة بعد سفر دام أربعًا وعشرين ساعة من دون طعام، أجهشت في البكاء. عندئذ انتابها شعور بالغضب حيث فكّرت كيف أنّها سافرت ألف ميل لتكتشف أنّ لا أحد يفتح لها الباب. من مكانها حيث تقف، كان يمكنها رؤية أشخاص داخل المنزل ووجوههم مشرقة. عادت وقرعت الجرس عدّة مرّات، وأخيرًا حاولت فتحه فوجدت أنّه لم يكن موصدًا.

وسرعان ما قادها شخص إلى محضر حضرة عبدالبهاء في غرفته. كان حضرته منهك القوى محني الظهر وبدا لها لونه مكفهِرًّا. علمت فيما بعد أنّه كان قد انتهى لتوّه من مقابلة عشرات الصحفيين. وأدركت أنّه محى ذنوبهم وملأ قلوبهم بمحبّته. قال لها: ‘إنّي مُتعَب جدًّا.’ تأثّر قلب كلارا بشدّة ورجته أن يسمح لها بمغادرة غرفته.(7)

خلال أقلّ من نصف ساعة، دعا حضرة عبدالبهاء كلارا لمشاركته تناول طعام العشاء. ولدهشتها بدا لها أنّ حضرته استعاد حيويّته بالكامل، وبدا كأنّ طوله سبعة أقدام. وروت لاحقًا: ‘آه، كانت ابتسامته جميلة جدًّا!’ بدا ‘مشرق الوجه جليلاً’.(8)

روى حضرة عبدالبهاء على مائدة العشاء قصّة عن سيّدة مسنّة أخذت بطّة إلى السوق، معلنة أن بطّتها كبيرة ورائعة بشكل استثنائي. وبينما كان يروي القصّة، كان حضرة عبدالبهاء ينظر إلى كلارا أغلب الوقت. فأدركت أنّه يعلّمها درسًا ما. قالت في نفسها، عندما أروي قصّة اعتدت أن أميل فيها إلى المبالغة. فلو غفر الله لي، لن أفعل ذلك مرّة أخرى.(9)

بعد عشاء من الأرز الفارسي الرائع، والكثير من الغبطة والفرح، صعد حضرة عبدالبهاء إلى غرفته. اقترب هايد دنّ من كلارا وقال: ‘كنت أنا الذي عليه أن يفتح الباب.’ أجابت كلارا، ‘الحمد لله أنّك تركته غير موصد حتى أتمكّن من الدخول.’(10)

بعد سنوات وصفت كلارا انطباعاتها الأولى عن المولى:

كان هناك شيء عن محضره لا يمكن وصفه. عندما سأل أحدُهم حضرة شوقي أفندي عن مقام حضرة عبدالبهاء، بينما كنتُ مع حضرة وليّ أمر الله في حيفا، أجاب حضرته [شوقي أفندي]: ‘إذا كان هو سرّ الله، فمن ذا الذي يعرف مقامه؟ هل بإمكان أيّ إنسان، إذا كان حضرته سرّ الله، أن يفهم مقامه؟’(11)

في صباح اليوم التالي، كانت كلارا حاضرة لدى مغادرة حضرة عبدالبهاء، فقالت: كان لديه زجاجة كبيرة من ماء الورد، وعندما نزل حضرته الدرج شعرت بنسيم متميّز من الروح يهبّ على وجهي. جاء بيننا وعطّر الجميع.(12)

بعد أقلّ من خمس سنوات، تزوّج كلارا وهايد، في 9 تمّوز 1917. وفي عام 1919 ذهبا في عطلة إلى سانتا كروز، بولاية كاليفورنيا، عندما حصلا على نسخة من ألواح الخطّة الإلهية، وقرءا الألواح ونداء حضرة عبدالبهاء إلى قيام مهاجرين، قرّر الزوجان الذهاب إلى أستراليا مع أنّهما كانا يقتربان من سنّ التقاعد.

وُضعت خطط قيد التنفيذ. ومع ذلك تساءلت كلارا عمّا إذا كان ينبغي ذهاب كليهما. وأثناء مواصلتهما استعداداتهما، كتب السيّد هايد إلى المولى طالبًا المشورة. في أحد الأيّام، بعد ما بدا انتظارًا أزليًا، وصلت برقية من حضرة عبدالبهاء: ‘جدير بالثناء العظيم’، ممّا أبهج هايد وكلارا.(13) في كانون الثاني 1920 أبحرا على متن السفينة البخارية سونوما ووصلا إلى سيدني في 10 نيسان. كان مشروع هجرتهما مغامرة ناجحة:

لم يكُنَا في سنّ الشباب، ولكنّهما تخلّيا عن كلّ شيء وأبحرا إلى أستراليا، وعمليًا جيوبهما فارغة. ناضلا ضدّ التقلّبات والتغيّرات، وأصبحا ناجحَين في الأعمال التجارية، وكانا نموذجَين للمحبّة والاتّحاد. وأينما ذهبا، زرعا بذور وحدانية الإنسانية. كانا يتدفّقان طاقة، ومثالاً قويًا يقتدي به كلّ من التقى بهما. بدأ أمر الله بالانتشار، ليس بأعداد كبيرة، ولكن بتواضع وثبات.(14)

خلال الإحدى وعشرين سنة التالية أنشأ كلارا وهايد دنّ جامعة بهائية واسعة النطاق، والعديد من المحافل الروحانية. أخذت أعداد المؤمنين تنمو باطّراد مع انتقالهما من مكان لآخر، وغالبًا ما كانا يؤسّسان بيتًا لسكنهما لفترة من الوقت من أجل تسهيل نموّ أمر الله في ذلك المكان. كانا موضع محبّة كبيرة بحيث أصبحا يُعرفان باسم الأمّ والأب دنّ.

بعد وصولهما إلى أستراليا بفترة، تلقّت كلارا رسالة من مؤمن خاطبها بعبارة «أمّي العزيزة». عندما قرأت الرسالة تذكّرت كلارا حلمًا علمت فيه أنّها سوف تدعى في يوم من الأيّام «الأمّ» من قبل كثير من الناس. كتبت كلارا في الردّ قائلة إنّها وهايد كانا مسرورين بهذه التسمية: «الأب والأمّ»، لكنّها سألت أيضًا حضرة وليّ أمر الله إذا كان ينبغي للمؤمنين أن يدعوهما على هذا النحو. فأجاب حضرته: ‘نعم، إنّكما كوالِديهم.’(15)

شعر الأحبّاء يقينًا بأنّ الزوجين دنّ كانا يناشدان الروح القدس من أجل منحهما القوّة والهداية لخدمة أمر الله. جذب الأب دنّ الناس بابتسامته الحلوة الرقيقة وطبيعته اللطيفة الودودة؛ كان يملك دائمًا إجابة جيّدة عن اسستفسار طالب الحقيقة. كما امتلكت الأم دنّ شخصية جذّابة، وكانت ترتدي زيًّا فخمًا، وتعكس نورًا رائعًا ويتجلّى فيها جمال الروح القدس. جذبت كلارا الناس إلى الاجتماعات البهائية، بينما رسّخ هايد أولئك الناس الذين ألهمتهم كلارا. وكيفما فعلا ذلك فإنّه كان ناجحًا. سمع العديد من الناس عن أمر الله من خلال الزوجين دنّ. وعندما سأل شخصٌ حضرةَ وليّ أمر الله ما هي أفضل طريقة لتبليغ أمر الله، قال حضرة شوقي أفندي أن تحذو حذو الزوجين دنّ وتفعل ما فعلاه.(16)

في آب 1931 وصلت كيث رانسوم-كيلر إلى أستراليا، وتنقّلت بين بريسبين وسيدني وملبورن وأديلايد، حيث كان الزوجان دنّ يقومان بزيارة. ألقت العديد من المحاضرات العامّة عن أمر الله في أديلايد. وقد أعجب الأب دنّ بها فقال: 

مع أنّها لم تمكث معنا حتى الآن سوى بضعة أيّام، إلاّ أنّها ألقت العديد من المحاضرات العامّة الجذّابة والمثيرة للاهتمام، وأبقت مستمعيها مستغرقين في الانتباه، مانحة كلّ واحد مَيلًا أو رغبة في المزيد من الغذاء الروحاني. أصبح العديد من القلوب منتشية توّاقة تستعلم عن المحاضرات العامّة.(17)

بعد أن غادرت أستراليا، كتبت كيث إلى «الأخبار البهائية» قائلة إنّها ألقت سلسلة من المحاضرات العامّة في أديلايد وأنّ ‘السيّد والسيّدة دنّ عبّرا عن سرورهما من ذلك’(18) ومن الواضح أنّها كانت مسرورة منهما أيضًا. ففي مقال حول المهاجرين كتبت تقول:

إنّ السيّد والسيّدة دنّ (المسمّيان تحبّبًا بالأب والأمّ من قبل جميع البهائيين) زوجان بجمال فريد في الشخصية والصفات على السواء. يملك السيّد دنّ أندر مزاج وأكثره سحرًا: فهو محبّ، متسامح، لطيف… وتعيش هي [كلارا] في المحضر الإلهي بنوع من الرهبة والإخلاص الصادق الذي يؤكّد للبشر على قوّة الله تعالى ولطفه. [حتى في مرضها الخطير كانت لا تزال] تخدم وتعمل… إلى أن نقلت مثابرتها على القيام بذلك رسالتها العظيمة الخاصّة بها.(19)

بعد مغادرة كيث بوقت قصير ذهبت الأمّ دنّ للحجّ إلى الأرض الأقدس. لم يتمكّن هايد من مرافقتها بحكم عمله. وهناك سجلّ لتواقيع الزائرين في قصر البهجة عليه توقيعها مؤرّخ في 15 كانون الثاني 1932. كان حضرة شوقي أفندي ينتظر وصولها بفارغ الصبر. وفي رسالة مؤرّخة في 17 كانون الأوّل 1931، ربّما موجّهة إلى أيمي ديونغ من نيوزيلندا، كتب سكرتير حضرته ما يلي:

أعتقد أنّ السيّدة دنّ تخطّط للمجيء في ربيع هذا العام لزيارة حيفا. ربّما تجتمعين بها قبل أن تبدأ رحلتها. ينتظر حضرة شوقي أفندي بفارغ الصبر رؤية هذه النفس النبيلة التي أدخلت أمر الله إلى أستراليا، وكانت مضحّية بالنفس بشكل عظيم في خدماتها.(20)

بينما كانت في رحلة الحجّ، أعرب حضرة وليّ أمر الله لها عن رغبته في أن يشكّل البهائيون في أستراليا ونيوزيلندا أوّل محفل روحاني مركزي لهما في أقرب وقت ممكن. وقد كتب غراهام هاسال هذه الملاحظة:

في ذلك الوقت المبكر من عام 1925، وبمعرفة حضرة وليّ أمر الله، وُضعت خطط لانتخاب محفل روحاني مركزي في عام 1926، إلاّ أنّها تأجّلت بعد وصول رسالة من حضرته؛ إذ كانت هناك حاجة لمزيد من المحافل تعمل في انسجام.(21)

شعر حضرة وليّ أمر الله الآن أنّ الوقت مناسب لتأسيس محفل روحاني مركزي. ولدى عودتها الى سيدني، نقلت كلارا هذه الرسالة إلى الأحبّاء. كتب المحفل الروحاني المحلّي في سيدني إلى المحافل الروحانية الأخرى في أستراليا ونيوزيلندا، وجرى تحديد موعد لمؤتمر الوكلاء المركزي الأوّل في أيّار 1934. كتب حضرة وليّ أمر الله إلى مؤتمر الوكلاء والمحفل الروحاني المركزي الجديد في 15 أيّار 1934 ما يلي:

مسرور لعلمي بالخطوة الهامّة التي اتّخذها البهائيون في أستراليا ونيوزيلندا. سوف يعزَّزون بالتأكيد بجنود من الملكوت الأعلى، ويستحقّون الثناء والإعجاب من إخوانهم المؤمنين في جميع أنحاء العالم. إنّ الثبات والتعاون والوحدة والالتزام الثابت بالمبادئ الروحانية والإدارية لأمر الله ضروريٌّ خلال هذه الأيّام حيث يجري وضع أسس بيت العدل الأعظم من خلال جهودكم المخلصة في بلادكم. سأواصل الدعاء من أعماق قلبي من أجلكم.(22)

استمرّت الجامعة البهائية الأسترالية في النموّ والتطوّر. فاشترى ستانلي ومارييت بولتون قطعة أرض في يرينبول لتكون موقعًا لمدرسة صيفية بهائية. ووضع الأب دنّ حجر الأساس لأوّل مبنى في 11 تشرين الأوّل 1936.(23) في 2 أيّار 1937، وبعد انعقاد مؤتمر الوكلاء المركزي، جرى حفل افتتاح مع تلاوة الأدعية، وإلقاء كلمات بالمناسبة، وغرس أشجار، وشرب الشاي بعد الظهر.(24) عقدت أوّل مدرسة صيفية بهائية في يرينبول من 8–23 كانون الثاني 1938.(25) افتتحت قاعة هايد دنّ التذكارية رسميًا في كانون الثاني 1943(26) وجُهّزت غرفة مجاورة لاستخدام الأمّ [دنّ] عندما حضرت إلى المدرسة. ولمّا كان يتحتّم تخزين المياه في خزانات مقامة على قواعد ضخمة، فقد استخدم سقف هذه الغرفة ليشكّل قاعدة لخزّان للمياه.

في عام 1941 ترمّلت كلارا للمرّة الثانية، عندما وافت المنيّة هايد يوم 17 شباط. بدت رابطة الجأش بشكل رائع أثناء تشييع جنازته. بعد فترة وجيزة من الجنازة أشاد حضرة وليّ أمر الله بشجاعتها، قائلاً إنّه سُرّ لأنّها تقبّلت وفاة الأب دنّ ‘بمثل هذه الروح البهائية النبيلة المثالية’.(27) وفي الرسالة نفسها طلب حضرة وليّ أمر الله أن تُرسل إليه ثلاث صور جيّدة لهايد دنّ وبعض الصور لقبره وشاهد قبره. ثم كتب بخطّ يده، مخاطبًا البهائيين الأستراليين:

لقد فقدت جامعة الاسم الأعظم في تلك الجزر النائية قائدًا عظيمًا، ومؤيّدًا راسخًا لنظام حضرة بهاءالله العالمي الجديد. ومع ذلك، فإنّ التأثير الذي أحدثه سوف يستمرّ باقيًا، والمثال الذي وضعه سوف يلهم الجيل الصاعد للقيام بأعمال كبيرة ورائعة مثل تلك التي سوف تبقى إلى الأبد مرتبطة باسمه. من مقامه الرفيع سوف يلتمس صديقنا العزيز، السيّد هايد دنّ، لكم التأييد، وعليكم بدوركم، السعي جاهدين للاقتداء بشخص سوف يعترف المؤرّخون البهائيون ويشيدون به كفاتح أستراليا الروحاني. سأدعو لأبنائه الروحانيين الأعزّاء من أعماق قلبي.(28)

وإذ اقترب عام 1941 من نهايته وأصبحت الحرب تهدّد القارّة الأسترالية، كتب حضرة شوقي أفندي إلى المؤمنين في ‘الموقع الأبعد من مواقع ديننا الحبيب’، يشجّعهم على عدم السماح لأيّ اضطراب، أو معاناة، أو قلق أن يكسف روعة إيمانهم، أو يحيدهم عن هدفهم السامي، أو يسبّب أيّ انقسام في صفوفهم، أو يتدخّل في الاستحكام المطّرد والتوسّع المنتظم في أنشطتهم ومؤسّساتهم.(29)

وبينما استمرّت الحرب، وكانت الأوضاع متقلّبة وغير معلومة، شجّع حضرة شوقي أفندي جامعة الأحبّاء الأستراليين على الإسراع في تشييد نصب تذكاري للأب دنّ، وأكدّ للأمّ دنّ أنّ المؤمنين في أستراليا في المستقبل سوف يكرمون قبره ويعتزّون به. ناشد حضرة شوقي أفندي المحفل الروحاني المركزي أن يعتني بالأمّ دنّ في مرحلة تقدّمها بالسنّ لأنّها ‘تستحقّ أعظم المحبّة والتقدير نظرًا للخدمات الخالدة التي قدّمتها والأب دنّ لأمر الله هناك’.(30)

في 21 أيّار 1944 افتُتحت حظيرة القدس المركزية رسميًا في سيدني. أشاد حضرة شوقي أفندي بالمحفل الروحاني المركزي لتملّكه العقار، مؤكّدًا أنّ «المركز» سيكون ‘بمثابة مغناطيس قويّ يجذب البركات العميمة من العلي القدير، وسوف يضفي زخمًا هائلاً على الأنشطة المنظّمة للمؤمنين في أستراليا ونيوزيلندا’.(31) حضر المؤمنون من مختلف جامعات الأحبّاء الأستراليين وتواجدت الصحافة في حفل الافتتاح. استذكرت كلارا في خطابها الافتتاحي لقاءها مع حضرة عبدالبهاء، وقالت إنّ حظيرة القدس كانت نتاج جهود المؤمنين، وأعربت عن ثقتها بأنّهم سوف يدفعون أمر الله قدمًا.

بعد ثلاث سنوات أطلق المحفل الروحاني المركزي، بناء على طلب حضرة وليّ أمر الله، خطّة لمدّة ستّ سنوات تهدف إلى تأسيس النظام الإداري في جميع أنحاء أستراليا ونيوزيلندا. وللمساعدة في الخطّة، سافرت الأم دنّ إلى ولايتَي نيو ساوث ويلز وتسمانيا، حيث برز الكثير من الاهتمام بأمر الله.

شجّع الختام الناجح لهذه الخطّة حضرة شوقي أفندي لتحدّي المؤمنين في أستراليا ونيوزيلندا بمهمّة أعظم:

إنّ الختام المظفّر للخطّة التي وضعها محفلكم الروحاني، والذي سوف تعترف به الأجيال القادمة كمَعلَم ذي أهمّية قصوى في نموّ دين حضرة بهاءالله في أقصى حدود الكرة الأرضية، قد ملأ قلبي بالفرح والامتنان، وأثار عميق الإعجاب في قلوب أتباع أمر الله في نصفَي الكرة الأرضية، وأهّل تمامًا الجامعات البهائية في أستراليا ونيوزيلندا وتسمانيا للشروع في خطّة العشر سنوات خاصّتهم، والتي تشكّل مرحلة في غاية الأهمّية والحيوية في الجهاد الروحاني العالمي الذي أطلقته شقيقاتها من الجامعات البهائية في كلّ قارّة من قارّات العالم.(32)

في 29 شباط 1952 عُيّنت كلارا دنّّ أياديًا لأمر الله. والآن وقد أصبحت في منتصف الثمانينيات من عمرها، كانت واهنة ولكنّها تمتلك شخصية نابضة بالحياة وذاكرة رائعة.

حضرت كلارا في العام التالي مؤتمر الوكلاء المركزي اليوبيلي الذي استغرق أربعة أيّام. وهناك نصحت الحاضرين بأن يحبّوا بعضهم بعضًا بالأسلوب نفسه الذي جذب به المولى الجميع بمحبّته. قالت إنّ النجاح يعتمد على رعاية هذه المحبّة. وفي غضون أسابيع قليلة من هذا المؤتمر هاجرت إلى نيوكاسل، على ساحل نيو ساوث ويلز.

في تشرين الأوّل من العام نفسه، حضرت كلارا مؤتمر نيودلهي البيقارّي التبليغي. وشكّل حضور ما يقرب من (500) من المؤمنين من (31) دولة لهذا المؤتمر واحدًا من أوّل البراهين الملموسة على بروز اتّحاد عالمي – تجمّع عالمي لا بدّ أنّه أسعد قلب الأمّ دنّ سعادة غامرة. وباعتبارها واحدة من المهاجرين الأوائل المتحدّثين في هذه المناسبة، قالت:

هذه هي أروع مناسبة في حياتي. لقد استجاب زوجي الراحل، جون هنري هايد دنّ، وأنا للنداء الإلهي. أريد أن أقول لهؤلاء الذين لبّوا نداء حضرة وليّ أمر الله، أن ينهضوا ويذهبوا. سيكون ذلك مصدر أعظم فرح وسرور في حياتكم، حتى لو أتت الامتحانات، فنحن في حاجة إليها لتختبرنا. لقد دفع حضرة بهاءالله الثمن، ورسم لنا الطريق، وقدّم لنا المولى القدوة والمثال لنتّبعه. ليس لدينا شيء نخافه. إذا كنّا نملك الإيمان، يمكننا أن نغزو العالم كلّه. فالملأ الأعلى ينتظر لمساعدتنا.(33)

في عام 1954 حضرت كلارا المدرسة الصيفية البهائية في نيوزيلندا. كتب حضرة وليّ أمر الله لاحقًا إلى المحفل الروحاني المركزي قائلاً إنّ قيامها بهذا في ذلك السنّ ‘كان بالتأكيد إنجازًا رائعًا’.(34) ومع ذلك، ورغم تقدّمها في السنّ، زارت كلارا في السنوات الثلاث التالية كلّ ولاية أسترالية، وفي المدرسة الصيفية السنوية البهائية الحادية والعشرين في يرينبول، التي عقدت في نهاية عام 1956، كانت حاضرة في كلّ جلسة. في رضوان عام 1957 حضرت، ممثّلة لحضرة وليّ أمر الله، انتخاب أوّل محفل روحاني مركزي للبهائيين في نيوزيلندا، الذي جرى في حظيرة القدس في أوكلاند.

في عام 1957 توفّي ألِن ابن كلارا الذي سبق أن تركته في رعاية أخيها قبل سنوات عديدة. في رسالة كُتبت نيابة عن حضرة شوقي أفندي حملت إليها التعازي:

لقد آلم حضرتَه سماعُ خبر وفاة ابن الأمّ دنّ العزيزة. فرغم إخلاصها وثباتها، لا شكّ أنّ هذا المصاب كان ضربة قاسية لها في سنّها؛ ويأمل أن يفعل الأحبّاء كلّ ما في وسعهم لمواساة هذه الروح النفيسة ورعايتها – وهي أمّ جامعتهم البهائية. يرجى أن تؤكّدوا لها أنّه يدعو في المقامات المقدّسة من أجل ترقّي روح ابنها.(35)

في غضون أربعة أشهر، وافت المنيّة حضرة شوقي أفندي نفسه، ليغرق العالم البهائي في الحزن والجزع. فسافرت كلارا، وهي الآن في أواخر الثمانينيات من عمرها، إلى الأرض الأقدس برفقة أيادي أمر الله كوليس فيذرستون، حيث حضرت جلسات الاجتماع الرسمي الأوّل للأيادي. وقد قامت السيّدة مارجوري باوز بمرافقة الأم دنّ ورعايتها في الرحلة، إذ كانت كلارا خائرة القوى، وتعاني بشدّة من آثار مطاعيم السفر الإلزامية.(36)

بعد بضعة أشهر حضرت كلارا ثاني المؤتمرات البيقارّية الخمسة التي دعا حضرة شوقي أفندي لعقدها، وذلك في سيدني، وحكت للحاضرين عن تلك التجارب المبكرة لهجرتها. في وقت لاحق من اليوم نفسه حضرت مراسم وضع حجر الأساس لمشرق الأذكار الأسترالي. وقد شارك أكثر من (250) شخصًا في الحدث التاريخي حيث وضعت كلارا دنّّ في أساسات أمّ المعابد قطعة جصّ من زنزانة حضرة الباب عندما كان مسجونًا في قلعة ماه كو.

عاشت كلارا سنواتها الأخيرة في شقّة في مبنى حظيرة القدس في سيدني. وشاهدت أولادها الروحانيين يغادرون أستراليا كمهاجرين لفتح مناطق جديدة في جزر المحيط الهادئ. وشهدت تشييد أمّ المعابد في أستراليا. كما عاشت لترى انتخاب المحفل الروحاني الإقليمي لجزر جنوب المحيط الهادئ. ولكن، الأهمّ من ذلك كلّه، شهدت حقيقة كلمات حضرة عبدالبهاء الموجّهة إليها وإلى جون هنري هايد دنّ منذ زمن بعيد: ‘ابذرا بذرة نقيّة – حتى تجنيا قريبًا حصادًا موفورًا.’(37)

ظلت نابضة بالحياة حتى نهاية أيّامها، محتفظة بروح الفكاهة الإيرلندية، مبهجة من هم حولها. عديدة كانت تلك الأدعية التي أمكنها تلاوتها من الذاكرة، ولكن عشيّة وفاتها، كان يمكن سماع تلاوتها لدعاء كان الأحبّ إلى قلبها:

إلهي وموئلي عند لهفي وملجأي ومهربي عند اضطرابي ربّ ربّ لا تقطع عنّي نفحات عفوك وفضلك ولا تحرمني عن معين عونك وجودك. واحفظني في ظلّ جناح حمايتك وارعني بعين حمايتك. وانطقني بثنائك بين بريّتك حتى يرتفع ضجيجي في المحافل العلياء وينحدر من فمي ذكرك انحدار السيول من الأتلال. إنّك أنت الكريم المتعال وإنّك أنت العزيز القدير.(38)

أخلدت كلارا دنّّ للراحة بجوار قبر زوجها في مقبرة ورونورا في سيدني. أرسل أيادي أمر الله في الأرض الأقدس البرقية التالية إلى كافّة المحافل الروحانية المركزية:

بحزن عميق نعلن وفاة أيادي أمر الله كلارا دنّّ، العضو المميّز في الجامعة البهائية الأمريكية التي قامت مع هايد دنّ بالفتح الروحاني لأستراليا استجابة لنداء المولى في الخطّة الإلهية فقامت بحمل رسالة أمر الله إلى أقاصي الكرة الأرضية وأدّت خدمة فريدة بهجرتها التي لا تنسى خلال فترة أربعين سنة. نوصي بعقد جلسة تذكّرية في مشرق الأذكار. شاركوا الرسالة مع أيادي أمر الله والمحافل الروحانية المركزية.(39)

1.
«مجموعه مناجاتها حضرت عبدالبهاء»، المجلّد 2، الصفحتان 74–75.
2.
صرّحت السيّدة مادج فيذرستون أنّ هذا التاريخ لم يتمّ التأكّد منه. رسالة إلى المؤلّف من السيّدة فيذرستون.
3.
Dunn, Recalls Becoming a Bahá’í.
4.
Whitehead, Some Bahá’ís to Remember, p. 155.
5.
المصدر السابق.
6.
Dunn, Recalls Becoming a Bahá’í.
7.
المصدر السابق.
8.
Bahá’í World, vol. 13, p. 859.
9.
Dunn, Recalls Becoming a Bahá’í.
10.
Whitehead, Some Bahá’ís to Remember, p. 156.
11.
Dunn, Recalls Becoming a Bahá’í.
12.
Whitehead, Some Bahá’ís to Remember, p. 157.
13.
Bahá’í World, vol. 13, p. 860.
14.
Garis, Martha Root, p. 188.
15.
To Follow a Dreamtime, p. 4.
16.
Harold and Florence Fitzner, from notes provided to the author by Mrs Madge Featherstone.
17.
Whitehead, Some Bahá’ís to Remember, p. 164.
18.
المصدر السابق.
19.
المصدر السابق.
20.
Shoghi Effendi, Messages to the Antipodes, p. 63.
21.
Hassall, Bahá’í Faith in Australia 1920–34, pp. 12–13.
22.
Shoghi Effendi, Messages to the Antipodes, p. 95.
23.
Bahá’í World, vol. 7, p. 514.
24.
Bahá’í News, no. 114, February 1938, p. 8.
25.
To Follow a Dreamtime, p. 14.
26.
Hassall, Yerrinbool Bahá’í School 1938–1988.
27.
Shoghi Effendi, Messages to the Antipodes, p. 167.
28.
المصدر السابق، الصفحة 168.
29.
المصدر السابق، الصفحة 180.
30.
المصدر السابق، الصفحة 220.
31.
المصدر السابق، الصفحة 209.
32.
المصدر السابق، الصفحة 342.
33.
Whitehead, Some Bahá’ís to Remember, p. 171.
34.
Shoghi Effendi, Messages to the Antipodes, p. 364.
35.
المصدر السابق، الصفحة 440.
36.
Letter to the author from Mrs Madge Featherstone, 19 December 1995.
37.
To Follow a Dreamtime, p. 4.
38.
«مجموعه مناجاتها حضرت عبدالبهاء»، المجلّد 2، الصفحتان 75–76.
39.
Ministry of the Custodians, p. 245.

1904 – 1986 ذكر الله خادم

Hand of the Cause of God Dhikru’lláh Khádim (1904-1986)

حلم أنّ الاسم الأعظم سقط على الأرض، وأنّه كان يسير في جنازة كبيرة. في الحلم، أصيب بمرض وشعر بحزن شديد وعجز. استيقظ، مقتنعًا أنّ شخصًا عظيمًا في العالم البهائي قد وافته المنيّة.

في الأيّام التالية، أدّى ما يترتّب عليه من مسؤوليّات في حالة من القلق والاضطراب. عادة ما كان مصدر فرح وإلهام للأحبّاء، ولكنّ السيّد خادم كان غير قادر على حبس الدموع وهو يقف على المنصّة أمام جمع من المؤمنين المحبّين ولكنّهم قلقون. سألوا بشكل طبيعي: ‘ما الذي يزعجك؟’ ولكن للأسف، كان أيادي أمر الله، البالغ من العمر 53 سنة، غير قادر على تفسير ما يحدث.

بعد أسابيع قليلة على هذا الحلم المزعج، كان السيّد خادم في ألمانيا عندما تلقّى هذا الخبر: وافت المنيّة حضرة وليّ أمر الله صباح ذلك اليوم بالذات. هرع السيّد خادم إلى المركز البهائي وتلقّى تأكيدًا على التقرير. غدا مريضًا غارقًا في الحزن ولا حول له ولا قوّة، تمامًا كما حدث في الحلم.

هذا واحد من أسرار الله العظيمة – القدرة على رؤية الأحداث قبل وقوعها. قُدّر للسيّد خادم، الذي كانت محبّته وإخلاصه لحضرة وليّ أمر الله مثالاً أصيلاً للمؤمنين طوال حياته الطويلة اللامعة، أن يقدّم ثماني وعشرين سنة أخرى من الخدمات المتفانية قبل أن يرى في حلم آخر عروجه هو للحجّ إلى العوالم الأخرى.

ولد ذكر الله خادم في طهران عام 1904، وكان الطفل الثاني لميرزا نصر الله ورضيّة خانم. وقد أنعم حضرة عبدالبهاء باسم «خادم» على ميرزا نصر الله لخدمته المخلصة في دار ضيافة الحجّاج لمدّة أربع سنوات بعد صعود حضرة بهاءالله. في لوح إلى والدة ميرزا نصر الله، أشاد حضرة عبدالبهاء بخدمات ابنها:

لو تعلمين بأيّ عناية فُزتِ وبأيّ موهبة أُيّدتِ، بكلّ تأكيد ستبسطين جناحيك وتطيرين… سوف تسطع عن قريب الآثار الباهرة لهذه المواهب كطلوع الشمس من أفق الوجود. وهذه العناية ستنير مشكاة تلك العائلة كالشمع النوراني، وسوف يتوفّق في الخدمة بما يكون سببًا لسعادتك عن قريب وستحظين وتفرحين لمشاهدته.(1)

عندما قرأت رضيّة خانم هذا اللوح شعرت أنّ بركة عظيمة ستحلّ على عائلتها.

كان ذكر الله طفلاً استثنائيًا جدًّا ربّاه والده أن يكون حريصًا على الاستفادة من قدراته. كانت لديه ذاكرة ممتازة، لذلك طلب ميرزا نصر الله من ابنه حفظ مقتطفات من الكتابات البهائية يوميًا وتلاوتها قبل تناول طعام الفطور. وفي ثباته على الطاعة لحضرة عبدالبهاء، لا شكّ أنّ ميرزا نصر الله قد نقل لابنه هذا الشعور بالولاء والإيمان القوي.

وذات مرّة، عندما لم يُعط ذكر الله وظيفة كان يرغب فيها بشدّة، أدرك والده خيبة أمل ابنه، فواساه قائلاً:

يا عزيزي وفؤادي! لماذا تعذّب نفسك بما يحدث في هذا العالم؟ ألا يعرف الربّ قلوبنا؟ إنّه يعلم. ويقدّر لك كلّ ما فيه خيرك! ‘عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئًا وهو شرّ لكم. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.’… كن سعيدًا بأيّ شيء قدّره الله لك.(2)

عاشت عائلة خادم في «حيات باغ» في طهران وهو مجمع لمنازل البهائيين حول حديقة كبيرة، وتمّ شراؤه بناء على تعليمات من حضرة عبدالبهاء. ولكنّ الحياة في الحيّ كانت صعبة للغاية؛ فالأطفال البهائيون كانوا يُلعنون ويُرشقون بالحجارة، وغالبًا ما يضطرّون للهرب من مضطهديهم. ذات يوم ركض ذكر الله إلى والده في المنزل وأذنه دامية نتيجة إصابتها بحجر حادّ.

تلقّى ذكر الله تعليمه في دار الفنون وبعد ذلك درّس لفترة وجيزة في مدرسة «تربيت»، وهي مدرسة ثانوية بهائية في طهران. ثم ذهب للعمل في جنوب البلاد كمترجم ومدرّس للغة الفارسية في شركة النفط الأنجلو-فارسية. قام بتدريس اللغة الفارسية للموظفين الناطقين بالإنجليزية باستخدام طريقة تدريس متسارعة قام بتطويرها، وفتح مدرسة للغة تستخدم هذا الأسلوب. وقد عُيّن في النهاية مساعدًا شخصيًا للمدير العامّ البريطاني للشركة.

في عام 1925 قام ذكر الله برحلة حجّه الأوّل من بين ستّ زيارات حجّ إلى الأرض الأقدس. وقبل أن يُمنح الإذن بالذهاب، كان يتحرّق شوقًا ليكون بالقرب من وليّ أمر الله الجديد، ممتلئًا بحماس عارم واشتياق جامح بحيث سعى بكل همّة أن يحظى برفقة أيّ شخص ينوي القيام بالحجّ أو كان عائدًا منه، وذلك للتخفيف من ألم انتظاره الذي بدا بلا انتهاء. وأحد هؤلاء كان الحاج أمين، أمين حقوق الله، الذي نصح الشابّ بعدم إرسال رسالة شديدة اللهجة للحصول على إذن وليّ الأمر، ولكن بلهجة ألطف، مقترحًا بأنّ ‘فردوس رضاء المحبوب أفضل من جنّة الحجّ’.(3) ولكنّ ذكر الله لم يقوَ على الانتظار. فقد عيل صبره. ودون الحصول على إذن، سافر عن طريق بغداد إلى حيفا، ليصل الى بيت حضرة عبدالبهاء، حيث أدرك فجأة مدى تهوّره. لحسن الحظ حصل في تلك اللحظة، على رسالة الإذن الثمينة، التي أعدّت في ذلك اليوم بالذات.

بالنسبة لذكر الله، كان مجرّد الوجود في محضر حضرة وليّ أمر الله في حدّ ذاته كافيًا لجعل الحجّ مناسبة لا تُنسى. ولكن كان هناك العديد من الأمور البارزة الأخرى. فخلال هذا الحجّ أضاف حضرة وليّ أمر الله الغرف الثلاث الإضافية لمقام حضرة الباب. وقد طُلب من ذكر الله الإمساك بأحد طرفي الخيط بينما كان حضرة وليّ أمر الله يحدّد موقع الغرف الجديدة. طلب حضرة شوقي أفندي من ذكر الله أن ينقل إلى الشباب في إيران محبّة وليّ أمر الله وتشجيعه، ورغبته في أن يتعمّقوا في أمر الله، وأمله أن يدرسوا اللغة الإنجليزية. عندما التمس ذكر الله الحصول على صورة لحضرة وليّ أمر الله، أعطاه حضرة شوقي أفندي صورة لحضرة عبدالبهاء يحمل وردة، وهي صورة كانت عزيزة جدًّا على قلب ذكر الله.

عندما عاد من الحجّ أصبح ذكر الله رجلاً مختلفًا. ورغبته الوحيدة أصبحت إرضاء حضرة شوقي أفندي، وانحصر فكره في خدمة ربّه. وفي سنوات لاحقة كثيرًا ما كان يتحدّث عن هذا الحجّ الأوّل وما كان له من تأثير محوّل في نفسه.

في حدود عام 1930 ترك السيّد خادم منصبه في شركة النفط وعاد إلى طهران، حيث عمل مترجمًا في السفارة العراقية حتى عام 1944. في عام 1933 جرى تعريف ذكر الله إلى الآنسة “جاويد دخت” جاويد في منزل والديها، كما كان العرف. وقد رافقته في هذه الزيارة كيث رانسوم-كيلر. تزّوج ذكر الله و“جاويد دخت” يوم 3 تشرين الأوّل 1933 ورزقا بخمسة أطفال: موژان، جينا، رياض، رامين وماي.

خلال أواخر ثلاثينيات القرن، جال السيّد خادم على نطاق واسع في جميع أنحاء إيران. فكان يسافر بالسيّارة مع زوجته – رفيقة سفره الدائمة – عبر طرق وعرة وخطرة كلّ أسبوع للقاء المؤمنين والقيام بمهامّ لحضرة وليّ أمر الله. وعندما زارا كلّ مدينة في إيران، طلب وليّ الأمر منهما أن يزوراها كلّها مرّة ثانية.

إحدى هذه الرحلات كانت إلى نيريز، حيث من المفترض أن يلتقط السيّد خادم صورًا لقبور الشهداء. وبينما كان يفعل ذلك، ألقي القبض عليه واقتيد إلى السجن:

أطلق سراح السيّد خادم بمساعدة البهائيين. وأعيدت إليه الكاميرا والصور الفوتوغرافية. في محكمة نيريز وُجّهت لائحة اتّهام طويلة ‘بجرائم’ السيّد خادم وأرسلت إلى طهران لعقد جلسة استماع. وهناك أدّت لائحة الاتّهام إلى دعاية واسعة لأمر الله لأنّ السيّد خادم تمكّن من الإدلاء بشهادة عمومية على أحقّية أمر الله في معرِض إثبات براءته الشخصية. وقد بعث تقريرًا كاملاً مرفقًا بلائحة اتّهام المحكمة إلى حضرة وليّ أمر الله المحبوب.(4)

في مناسبة أخرى أوقف الزوجين خادم على الطريق رجل مميّز، حيث اقترب منهما وحيّاهما. وأوضح أنّه حلم في الليلة الماضية أنّ ركاب سيّارة زرقاء سيصلون صباح اليوم التالي حاملين تحيّات حضرة وليّ أمر الله المحبوب. وكان مقتنعًا بذلك إلى حدّ كبير بحيث أسرع إلى الطريق فور استيقاظه وارتداء ملابسه. كان الزوجان خادم يقودان سيّارة زرقاء ويحملان بالفعل تحيّات حضرة وليّ أمر الله. كان اجتماعهما بالبهائيين في ذلك اليوم قد ‘خلق روابط محبّة روحانية ربطت قلوبنا إلى الأبد’.(5)

شجّع حضرة شوقي أفندي السيّد خادم على استخدام مهاراته في اللغة الإنجليزية لترجمة الكتابات البهائية من الإنجليزية إلى الفارسية. في رسالة مؤرّخة في 15 آذار 1932، وجّهه حضرة شوقي أفندي للاتّصال بالمحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة للحصول على المواد. وزعت تراجمه في نهاية المطاف على البهائيين الإيرانيين من خلال «لجنة الشرق والغرب» التابعة للمحفل الروحاني المركزي في إيران. وشملت هذه المواد مقالات من مجلّد «العالم البهائي»، و«ظهور العدل الإلهي» و«قد جاء اليوم الموعود».

في عام 1938 انتُخب السيّد خادم عضوًا في المحفل الروحاني المركزي في إيران، وبقي يخدم في تلك الهيئة حتى عام 1960. وحينما كان في الأرض الأقدس في عام 1940، طلب حضرة وليّ أمر الله من السيّد خادم إيجاد سبل تتيح للبهائيين الإيرانيين القدوم للحجّ. وطلب منه أيضًا تشجيع البهائيين الإيرانيين على الهجرة. لدى عودته إلى إيران، تمكّن السيّد خادم من الوفاء بهذين المطلبين، حيث وجد طريقًا للحجّاج عبر العراق إلى الأرض الأقدس ونجح في تسهيل مغادرة العديد من المهاجرين.

بين عامَي 1940 و 1957 عُهِد إلى السيّد خادم مهمّة استلام البريد والبرقيّات من حضرة شوقي أفندي الموجّهة إلى المؤسّسات والأفراد في إيران. وتضمّنت إحدى هذه الرسائل تعليمات للمحفل الروحاني المركزي بإقامة احتفالات خاصّة في شيراز بمناسبة الذكرى المئوية لإعلان دعوة حضرة الباب. وأخرى كانت رسالة حضرة وليّ أمر الله الموجّهة إلى ذلك الاحتفال. كان ذلك في منتصف الحرب العالمية الثانية والخدمة البريدية معدومة. أرسلت الرسالة عن طريق بغداد ولكنّها لم تكن قد وصلت بعد إلى طهران. وإذ لم يتبق كثير من الوقت، سأل السيّد خادم طيّارًا بهائيًا إذا كان بإمكانه الطيران إلى بغداد وإحضار الرسالة. ورغم أخطار الطيران خلال الحرب، فقد وافق الطيّار. وعند وصول رسالة حضرة شوقي أفندي إلى طهران، حملها السيّد خادم في سيّارة وتوجّه بها إلى شيراز، مستخدمًا أربعة إطارات احتياطية اقترضها من أحد الأصدقاء. وقد وصل بعد غروب شمس يوم الاحتفال بساعتين تمامًا أي في الوقت المناسب لنقل الرسالة الخاصّة من حضرة شوقي أفندي إلى البهائيين المجتمعين.

في صباح أحد أيّام الجمعة أثناء شهر الصيام في عام 1952 وصلت برقية من حضرة وليّ أمر الله، مؤرّخة في 28 شباط وموجّهة إلى السيّد خادم نفسه:

أنقلُ إليك بشرى ترقيتك إلى رتبة أيادي أمر الله. وقد أعلنتُ هذا التعيين رسميًا في رسالة عامّة موجّهة إلى كافّة المحافل الروحانية المركزية. عسى أن تتيح لك هذه الوظيفة المقدّسة إثراء سجلّ الخدمات التي قدّمتَها لدين حضرة بهاءالله.(6)

بدا كأنّه غير مصدّق في البداية، إلى أن أخطر حضرة شوقي أفندي العالم البهائي رسميًا، لم يُعلِم السيّد خادم أحدًا عن تعيينه باستثناء زوجته ووالدته. وقد أمضى بقيّة حياته داعيًا بكلّ حرارة، ليلاً ونهارًا، لأن يصبح جديرًا بهذا التعيين.

بعد أيام قليلة، في 11 آذار عام 1952، كان من المقرّر أن يغادر الزوجان خادم للقيام بالحجّ. وفي ذلك الحجّ بالذات تلقّى السيّد خادم نعمة كان يتوق ويدعو لنيلها: أن يحمل نسخة ثمينة للغاية من «كتاب الإيقان» إلى الأرض الأقدس. كان هذا المجلّد نسخة بخطّ يد حضرة عبدالبهاء، ويحتوي على ملاحظات من حضرة بهاء الله وضعت في الهوامش. لسنوات عديدة كان المجلّد في حوزة فاطمة خانم أفنان، ومنذ عام 1948 في خزنة في طهران من قبل المحفل الروحاني المركزي لإيران. قبل يومين من مغادرة الزوجين خادم المقرّرة، أبرق حضرة ولي أمر الله بتعليمات لإحضار المجلّد إلى حيفا. تملّكت السيّد خادم نشوة فرح، وخلال الرحلة التي استغرقت خمس ساعات قرأ الكتاب الذي أوكل إليه تسليمه بأكمله.

في هذا الحجّ السادس والأخير الذي فاز فيه السيّد خادم بمحضر حضرة شوقي أفندي، طلب منه حضرة وليّ أمر الله المحبوب أن يتلو مقطعًا من لوح «قيّوم الأسماء». وفي وقت لاحق استذكر السيّد خادم تلك المناسبة الخالدة:

كانت تلك الصفحات المكتوبة بخطّ حضرة وليّ أمر الله المحبوب، ثمينة جدًّا. تمنّيتُ من كلّ قلبي أن أتمكّن من الحصول عليها. كم كنت سأعتزّ بمثل هذه الهديّة! ولكن بالطبع لم أقل شيئًا. توسّلت إلى حضرة بهاءالله لتحقيق هذه الرغبة الشديدة. ولكن للأسف، لم تتحقّق في ذلك الوقت. وإذ انتهيت من التلاوة، مدّ حضرة وليّ أمر الله المحبوب يده لاستعادة تلك الصفحات الثمينة.(7)

في 25 آذار وصلت برقية ثانية من حضرة شوقي أفندي تشير إلى السيّد خادم بلقب «أيادي أمر الله المتجوّل».(8) بعد ذلك بوقت قصير، ترك السيّد خادم وظيفته في العمل ليكون في خدمة حضرة شوقي أفندي بدوام كامل. فبدأ بالسفر بشكل مستمرّّ. خلال مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني زار مراكز بهائية في إيطاليا، بلجيكا، سويسرا، ألمانيا، النمسا، فرنسا، إسبانيا، البرتغال، إنجلترا، اسكتلندا، إيرلندا، النرويج، السويد، الدنمارك، هولندا، لوكسمبورغ، كوبا، جامايكا، هايتي، بورتوريكو، فنزويلا، كولومبيا، بنما، كوستاريكا، نيكاراغوا، هندوراس، السلفادور، غواتيمالا، المكسيك، الولايات المتّحدة، قبرص، لبنان، الباكستان، الهند، تايلاند، هونغ كونغ، اليابان، تايوان، ماكاو، الفلبين، شرق وغرب ماليزيا، بورما، العراق، إيران، اليابان، كندا، فنلندا، إندونيسيا، يوغوسلافيا وأفريقيا. حضر مؤتمرات تبليغية في بروكسل، كمبالا، شيكاغو، أستراليا، سنغافورة وبنما سيتي. فمنذ تعيينه أياديًا لأمر الله، زار السيّد خادم أكثر من ألف مركز بهائي، والعديد منها أكثر من مرّة.

في 1 أيّار 1953، بناء على تعليمات حضرة وليّ أمر الله، حضر السيّد خادم حفل تدشين أمّ المعابد في الغرب، مع أحد عشر من أيادي أمر الله الآخرين. وهناك وجد تعليمات من حضرة شوقي أفندي طالبًا منه تلاوة مجموعة مختارة من كتابات حضرة الباب. كان هذا هو النصّ نفسه الذي كان يتوق إلى امتلاكه أثناء الحجّ في العام الماضي! وإذ هيمنت عليه الحيرة من استلام تلك الصفحات الثمينة بشكل غير متوقّع، تذكّر في خشية رهيبة وعد حضرة شوقي أفندي قبل ستّ عشرة سنة بأنّه سيتلو المناجاة في حفل تدشين مشرق الأذكار في ويلمت.

في تشرين الثاني 1957 جاء الخبر المأساوي بوفاة حضرة شوقي أفندي. وبذلك تحقّق الحلم الذي رآه السيّد خادم قبل بضعة أسابيع. كتب السيّد خادم في وقت لاحق حول التأثير المدمّر لذلك الحدث عليه قائلاً:

طوال سنة بكاملها كنت في عذاب شديد وعدّة مرّات كرّرت لنفسي قصيدة للنبيل الزرندي يشير فيها إلى فقرة في القرآن الكريم: «وأتت كلّ واحدة منهن سكينًا وقالت اخرج عليهن فلمّا رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرًا إن هذا إلاّ ملك كريم(9)

من تشرين الأوّل إلى كانون الأوّل 1958 كان السيّد خادم العضو البديل الذي يمكن أن يحلّ عند الضرورة محلّ أيّ عضو من أيادي أمر الله التسعة المقيمين في الأرض الأقدس. في عام 1959 كان يمثّل الأيادي في انتخاب المحفل الروحاني المركزي في تركيا. بين شهرَي تمّوز وأيلول 1959 قام بجولة في أوروبا.

في الاجتماع الرسمي لأيادي أمر الله في عام 1959 تبيّن لهم واضحًا أنّه من المفيد أن يقيم أيادي آخر في نصف الكرة الغربي. فتطوّع السيّد خادم للقيام بذلك. وهكذا، في صيف عام 1960 استقرّ الزوجان خادم في الولايات المتّحدة. جلبت هذه الخطوة العديد من التحدّيات: فقد توجّب على السيّد خادم تصريف شؤون العائلة في إيران، والتكيّف مع الثقافة الأجنبية وتحسين لغته الإنجليزية. تقبّل هذه الصعوبات بطيب خاطر لمساعدة أمر الله. قدّم خدماته لفترة وجيزة في كلّ من الأمريكتين والجزر المحيطة. وأخيرًا تولّى الدكتور جياكري خدمة أمر الله في أمريكا الوسطى بينما تولّى السيّد خاضع المسؤولية في أمريكا الجنوبية.

في نيسان 1963، حضر السيّد خادم مؤتمر الوكلاء العالمي الأوّل في حيفا، حيث تمّ انتخاب بيت العدل الأعظم. ثم سافر إلى لندن لحضور المؤتمر العالمي البهائي الأوّل، حيث تجمّع سبعة آلاف بهائي من جميع أنحاء العالم للاحتفال بالذكرى المئوية لإعلان دعوة حضرة بهاءالله. بالطريقة نفسها التي خدم فيها حضرة وليّ أمر الله، أصبح السيّد خادم يقوم على خدمة بيت العدل الأعظم، وعلى استعداد دائمًا لتلبية رغباته. فأينما ذهب، كان يشدّد على أهمّية إطاعة هذه المؤسّسة وتوقيرها.

بعد انتخاب بيت العدل الأعظم واصل السيّد خادم سفراته، ولكنّه أمضى مزيدًا من الوقت أيضًا في دراسة الكتابات البهائية والكتب المقدّسة الأخرى والوثائق التاريخية. في عام 1972 طلب منه بيت العدل الأعظم إجراء بحث حول الأماكن المرتبطة بحياة الشخصيّات الرئيسة في أمر الله وتوثيقها. حصل فورًا على مكتب متواضع في إيفانستون، بولاية إلينوي، وبمساعدة سكرتيرة بدوام جزئي، بدأ العمل في المشروع الذي وصفه بأنّه «سجلّ الأماكن البهائية المقدّسة». قرأ جميع المصادر المتاحة عن تاريخ أمر الله والمؤمنين الأوائل، ودرس الروايات والقصص باللغات الفارسية والعربية والإنجليزية والفرنسية. وتراسل مع أيّ شخص كان يعتقد بإمكانه المساعدة في تحديد المواقع المختلفة، وأيضًا مع المحافل الروحانية المركزية والمحلّية والمؤمنين الأوائل.

أكمل العمل المؤلَّف من (134) مجلّدًا في خمس سنوات وأرسله إلى بيت العدل الأعظم في عام 1977. وقد أثنى بيت العدل الأعظم على خدماته بما يلي:

بالنيابة عن المؤرّخين البهائيين في المستقبل، إلى جانب الجامعة البهائية طرًّا، نعبّر عن عميق امتناننا للبحث الدقيق والتحقيق الشامل اللذين أجريتهما عن المواقع التاريخية والأثرية المبجّلة لارتباطاتها المقدّسة بالماضي.(10)

قال السيّد خادم: ‘أنا الآن مرتاح البال.’

انشغل السيّد خادم منذ فترة طويلة بالشؤون المالية لأمر الله. في خمسينيات القرن خدم أمينًا لصندوق المحفل الروحاني المركزي في إيران، وكان شخصيًا مدركًا لفوائد دفع حقوق الله. ويعتقد أنّه إذا طبّق بيت العدل الأعظم حكم حقوق الله على البهائيين الأمريكيين فسيتمّ تلبية كافّة الاحتياجات المالية لأمر الله. في مؤتمر الوكلاء المركزي السنوي الأمريكي الخامس والسبعين، الذي عقد في عام 1984، قام السيّد خادم بكلّ قوّة وبإسلوب مقنع على تشجيع الأحبّاء لرفع التماس إلى بيت العدل الأعظم للحصول على إذن لتطبيق حكم حقوق الله عليهم. أجاب بيت العدل الأعظم في كانون الثاني 1985 أنّه سيقوم بترجمة النصّ المتعلّق بحقوق الله إلى اللغة الإنجليزية حتى يتسنّى لكافّة المؤمنين الاعتياد على هذا الحكم.

في عام 1986 بدأ السيّد خادم يعاني بشكل متزايد من آلام في الظهر. لقد تمتّع طوال حياته بصحّة ممتازة، ولكنّه الآن أصبح يعاني من السرطان النقيلي. في شهر تمّوز أصبح طريح الفراش. وخلال الأشهر التالية حضّ البهائيين بأن يتحلّوا دائمًا بالشجاعة والحماس وأن يكونوا متّحدين ومستعدّين للتضحية بالنفس.’(11) في رسالة الى المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتّحدة، كتب ما يلي:

أودّ أن أشكركم من أعماق قلبي، كممثّلين عن الجامعة البهائية الأمريكية، على كلّ الحنان واللطف الذي أبديتموه نحوي على مدى السنوات الستّة والعشرين الماضية. إنّني مدين جدًّا لحضرة وليّ أمرنا المحبوب لإرسالي إلى الغرب لأشهد الانتصارات المجيدة التي أحرزها ديننا الحبيب. وأنا أنظر إلى الوراء على مدى سنوات، لا يمكنني سوى الدعاء بتواضع وأقول:

‘ربّ زدني فيك حيرةً!’

أرجو أن تتأكّدوا من عميق امتناني ومحبّتي لكلّ واحد منكم ولأفراد الجامعة البهائية الأمريكية بأكملها. كنت أفكّر فيكم وفي المهمّة الثقيلة في السنوات المقبلة، خصوصًا هذه السنوات الحاسمة القادمة من خطّة الستّ سنوات. أتمنّى لكم بركات حضرة بهاءالله وعونه في تعزيزكم باستمرار وحدة الأحبّاء وارتقائكم إلى المصير السامي الذي ينتظركم… عسى أن يستمرّ حضرته في هدايتكم لتحقيق ما قُدّر من مصير مجيد لهذه الجامعة الرائعة على النحو الذي توخّاه المولى المحبوب. دعائي أن يحميكم حضرته وأن يحيطكم ببركاته وعناياته.(12)

توفّي ذكر الله خادم في حوالي الساعة الرابعة من صباح يوم 13 تشرين الثاني 1986. أرسل أصدقاؤه ومعارفه مئات رسائل المحبّة إلى عائلته. كما أرسل بيت العدل الأعظم هذه الرسالة إلى البهائيين في كلّ مكان:

نعلن بقلوب حزينة وفاة أيادي أمر الله المحبوب العزيز والمُدافع المقدام الذي لا ينثني عن دين الله ذكر الله خادم. كانت خدماته المتميّزة لأمر الله، وتكريس نفسه بالكامل للمهامّ الموكلة إليه من قبل حضرة وليّ أمر الله المحبوب، وجهوده المتميّزة كعضو في المحفل الروحاني المركزي في مهد أمر الله، وتحفيزه القيّم والمنعش للروح المبذول لجميع مؤمني أمريكا الشمالية، لا سيّما الجامعة البهائية في الولايات المتّحدة، ومساعيه الحثيثة من خلال محاضراته وكتاباته في الحفاظ على العهد والميثاق، وغرسه المحبّة والتقدير لحضرة شوقي أفندي، ما ألقى بريقًا لا يخفت خلال فترة عمله الرائع ضمن الأمناء الرئيسين لأمر الله. نرفع الدعاء لدى العتبات المقدّسة لتقدّم روحه المتألّقة في الملكوت الأبهى. نحثّ على عقد جلسات تذكّرية لائقة باسمه في كافّة مشارق الأذكار وكذلك في سائر الجامعات البهائية المحلّية.(13)

1.
مكاتيب عبدالبهاء، المجلّد السابع، الصفحة 238. (مترجم عن الفارسية)
2.
Khadem, Zikrullah Khadem, p. 7.
3.
المصدر السابق، الصفحة 9.
4.
المصدر السابق، الصفحة 30.
5.
المصدر السابق، الصفحة 31.
6.
المصدر السابق، الصفحة 47.
7.
المصدر السابق، الصفحة 93.
8.
المصدر السابق، الصفحة 52.
9.
المصدر السابق، الصفحة 119.
10.
المصدر السابق، الصفحة 144.
11.
المصدر السابق، الصفحة 149.
12.
المصدر السابق، الصفحة 150.
13.
Bahá’í News, December 1986, p. 2.

1897 – 1980 أدلبرت ميولشليغل

Hand of the Cause of God Adelbert Mühlschlegel (1897-1980)

طغى على روحية خانم حزن شديد. في صباح يوم الاثنين 4 تشرين الثاني 1957، بعد ليلتين قضتهما دون أن تعرف للراحة طعمًا، شعرت بحزن لم تعرف له سببًا، ولمّا دخلت غرفة زوجها المحبوب وجدته قد فارق الحياة. خلال دقائق اتّصلت بطبيب حضرته، الذي وصل بسرعة. أُجري تدليك لقلب حضرة وليّ أمر الله ولكن بلا جدوى. كان سبب الوفاة: جلطة في الشريان التاجي سبّبتها الإنفلونزا الآسيوية.

في ذلك اليوم الأوّل الكارثي تمكّنت روحية خانم من الاتّصال بحضرات أيادي أمر الله، حسن باليوزي وجون فيرابي وأوغو جياكري، طالبة منهم الحضور ثم أرسلت برقيتين لإخطار العالم البهائي، تفيد الأولى أنّ حضرة شوقي أفندي كان مريضًا، والثانية قد وافته المنيّة. وصلت ميلي كولنز في اليوم التالي قادمة من حيفا لتكون مع روحية خانم خلال هذا الوقت العصيب.

في صباح يوم الثلاثاء تحدّثت روحية خانم مع أيادي أمر الله أدلبرت ميولشليغل هاتفيًا وسألت إن كان بإمكانه تجهيز جثمان حضرة وليّ أمر الله للدفن. ولمّا كان طبيبًا ورجلاً معروفًا بروحانيته، شعرت روحية خانم أنّ بمقدوره تحمّل حزن هذه الخدمة الأخيرة بروح من التكريس والتعبّد اللازمة لمثل هذه المناسبة المقدّسة. وصل أدلبرت ميولشليغل في تلك الليلة مع أيادي أمر الله هيرمان غروسمان. وبمساعدة هؤلاء الأيادي الستّة، أجرت روحية خانم الاستعدادات للجنازة.

بعد ظهر يوم الخميس ذهبت روحية خانم مع الدكتور ميولشليغل لغسل جثمان حضرة وليّ أمر الله استعدادًا لدفنه. تركت مناشف مع الدكتور ميولشليغل وكذلك ملابس وقطعة صابون ونوعية جيّدة من الحرير الأبيض ليُكَفّن به الجثمان، وانتظرت روحية خانم في غرفة مجاورة لمدّة ساعة ونصف بينما قام زميلها الأيادي بمهمّته الجليلة. وقد سجّل أدلبرت ميولشليغل لاحقًا ما يلي:

شيء جديد حدث لي في تلك الساعة لا أستطيع وصفه حتى بعد مرور بضعة أيّام، ولكن يمكنني أن أذكر تلك الحكمة والمحبّة اللتين شعرت أنّهما ينهمران عليّ. في تلك الغرفة – التي بدت مختلفة جدًّا في عيون أهل الدنيا – كانت هناك قوّة روحانية هائلة شعرت بمثلها في حياتي في المقامات المقدّسة فقط. كانت أوّل صورة انطبعت في ذهني ذلك التباين بين الجسم المتروك والوجه الجليل المهيب المتحوّل إلى هالة من مجد، صورة لنشوة انتصار الحياة الأبدية على العابرة بما يحرّك الروح. أمّا الصورة الثانية التي تراءت لي وأنا أدعو وأفكّر وأقوم بما وجب عليّ فعله بعناية، هي أنّه بهذه الدرجة من التكريس لعمل الله، يجب أن أعمل طوال حياتي، ويجب أن تعمل الإنسانية ألف سنة، من أجل بناء ‘الملكوت’ على الأرض. وكانت الفكرة الثالثة، وأنا أغسل كلّ عضو من جسد حضرته وأعطّره، هي أنّني شكرت هاتين اليدين الحبيبتين اللتين عملتا وكتبتا لتأسيس العهد والميثاق، والقدمان اللذان سارا من أجلنا، وذلك الفم الذي تحدّث إلينا، وذلك الرأس الذي فكّر من أجلنا، فدعوت وتأمّلت وتضرّعت أنّه في الوقت القصير المتبقّي لي، أن تسارع أعضاء جسمي إلى متابعة طريق حضرته في الخدمة؛ وآخر أفكاري كانت عن حزني وكربي لشعوري بعدم استحقاق يدَيْ لمسح ذلك الجبين المبارك بعطر الورد كما كان المعلّمون في الماضي يفعلون لتلاميذهم. ومع ذلك أيّة امتيازات هذه، وأيّ واجبات تقع على عاتقنا، نحن الأحياء، في أن نعنى بالماضي الفاني ونقدّسه إلى الأبد. كان هناك قدر كبير من الرحمة والمحبّة والحكمة مكنونًا في هذه الساعة.(1)

ولد أدلبرت ميولشليغل في 16 حزيران 1897 في برلين. كان والده طبيبًا رفيع المكانة في الجيش في خدمة ملك فورتمبيرغ وكانت والدته ابنة قسّ بروتستانتي. انتمى كلاهما إلى أسر قديمة في المدينة الإمبراطورية السابقة بيبرارخ آن دير ريس، شوابيا العليا. أمضى أدلبرت طفولته، التي وصفها بالبهيجة، في لودفيغسبورغ وشتوتغارت. وقد شجّع الوالد، وهو رجل منضبط ذو موقف عملي تجاه الحياة، الصبيّ الصغير على ممارسة الرياضة وأثّر على اختياره لمهنته. أمّا من والدته المتألّقة فقد تلقّى أدلبرت الميل الشديد نحو القيم الروحانية. قدّم والداه إليه الكثير من المحبّة والاهتمام.

أنهى أدلبرت دراسته الثانوية أثناء الحرب العالمية الأولى ثم خدم في المجال الطبّي، لكنّه شعر بتوق متنام للتنوير الروحاني. كان مقتنعًا بأنّ عصرًا جديدًا قد بدأ بالظهور. بعد الحرب درس الطبّ في فرايبورغ ببرايسغاو، غرايفسفالد وتوبنغن. بينما كان في غرايفسفالد في عام 1920 تلقّى رسالة من والدته تقول له إنّها وجدت في شتوتغارت دينًا جديدًا وعالميًا، وهو الدين البهائي. فدرس المادّة القليلة المتاحة في ذلك الوقت، وأدرك أنّها الحقيقة التي كان يبحث عنها. كتب رسالة إلى حضرة عبدالبهاء يؤكّد إيمانه بحضرة بهاءالله. وفي 16 تشرين الأوّل 1920 تلقّى لوحًا من المولى:

يا ابن الملكوت! لقد وصلت رسالتك التي كانت مثل لفافة المسك. ما إن فتحتها حتى تنسّمتُ منها عطر محبّة الله. أملي أن يغدو غديرك بحرًا ويموج بنسائم الهداية الإلهية، فيُلقي موجة إلى الشرق وأخرى إلى الغرب. كن شاكرًا جدًّا لمبلّغتك وأظهر لها امتنانك القلبي والروحاني، لأنّها السبب في سماعك الدعوة الإلهية، ومن خلالها حظيتَ بالبركة الأبدية. كنتَ أرضيًا فأصبحت سماويًا؛ كنتَ في الظلمة فوصلت إلى النورانية؛ كنتَ من عالم المادّة فبتّ إلهيًا؛ ونلتَ حصة ونصيبًا من المواهب الأبدية. كن مفعمًا بالبهجة واستمِدّ الفرح من ألحان الملأ الأعلى!(2)

في عام 1922 فتح أدلبرت عيادة طبّية في محيط من الطبقة العاملة في شرق شتوتغارت. وسرعان ما شارك في أعمال التبليغ للجامعة البهائية الألمانية الصغيرة، وذلك بإلقاء المحاضرات وترجمة كتابات بهائية إلى اللغة الألمانية. كتب ميلودراما للمؤتمر البهائي الثالث، الذي عقد في أيلول 1924. في عام 1924 انتُخب عضوًا في المحفل الروحاني المركزي في ألمانيا، حيث خدم في تلك الهيئة إلى أن حُلّت في عام 1937.

في عام 1926 تزوّج أدلبرت من هيرما ويدلي، التي وُلدت في شتوتغارت في عام 1902. كانت هيرما تملك مزاجًا مبهجًا وطبيعة مفعمة بالحيوية تحبّ المرح والمزاح وكانت محبوبة جدًّا. ولكونها زميلة حميمة لأدلبرت في جميع أنشطته البهائية، وتهتمّ بالآخرين، سرعان ما أصبح منزل ميولشليغل مركزًا للنشاط البهائي والضيافة والمودّة. رزق الزوجان ميولشليغل ببنتين وثلاثة أولاد، توفّي أحدهم في مرحلة الطفولة المبكرة.

في حدود عام 1930 بدأ أدلبرت ترجمة «كتاب الإيقان» إلى اللغة الألمانية. كتب إلى حضرة شوقي أفندي بخصوص ترجمته في أيّار 1930 وتلقّى ردًّا في حزيران:

بخصوص ترجمته لكتاب الإيقان، فقد انتهى حضرة شوقي أفندي منها، ولكنّها تحتاج إلى مراجعة متكرّرة وإعادة طباعة، ولا يمكنه هذا قبل الصيف. يعتقد حضرته أنّها ستكون جاهزة للنشر بحلول الخريف المقبل. لذلك ينصحك حضرة شوقي أفندي بالانتظار حتى ذلك الحين قبل أن تتّخذ أيّ قرار بشأن ترجمتك الألمانية. يقدّر حضرة شوقي أفندي كثيرًا الخدمة التي تؤدّيها. إنّ «الإيقان» أهم كتاب كتب عن المغزى الروحاني لأمر الله. لا أعتقد أنّ أيّ شخص بمقدوره أن يعتبر نفسه ضليعًا في التعاليم ما لم يدرسه جيّدًا. لذلك فإنّ نشره باللغة الألمانية المفهومة سيكون واحدًا من أعظم الخدمات المقدّمة لأمر الله في تلك البلاد.(3)

في نهاية عام 1931 أرسل حضرة وليّ أمر الله إلى أدلبرت ترجمته الإنجليزية لكتاب الإيقان، التي أمل حضرته أن تساعد أدلبرت في مراجعة ترجمته الألمانية. في شباط 1932 كتب حضرة شوقي أفندي مرّة أخرى إلى أدلبرت حول ترجمته لكتاب الإيقان، مبديًا أسفه لأنّ عدم معرفة اللغة الفارسية قد حال دون رجوع الدكتور ميولشليغل الى النصّ الأصلي:

يأمل حضرته بإخلاص أنّه قبل مرور فترة طويلة سيكون لدينا بعض الأعضاء الأصغر سنًا من البهائيين الألمان الذين يجعلون الترجمة عمل حياتهم، وبأخذ هذا الخيار بعين الاعتبار يجرون دراسة شاملة للفارسية والعربية. سوف يقدّمون بالتأكيد خدمة رائعة لأمّتهم فضلاً عن أمر الله ككلّ.(4)

لم يكن حضرة وليّ أمر الله يعلم أنّ أدلبرت قد حقّق بالفعل بعض البراعة في اللغة الفارسية. إلى هذه الرسالة أضاف حضرة شوقي أفندي بخطّ يده:

أودّ أن… أؤكّد لك عن بالغ تقديري القلبي المخلص لمساعيك السامية الدّؤوبة لنشر واستحكام أمر الله في تلك الأرض. لقد مرّ المؤمنون الألمان بامتحانات غير مسبوقة في شدّتها. نجوا من العاصفة بروح مدهشة وتصميم رائع جدير بالثناء. كانت هذه الامتحانات مرسلة من عند الله، وسوف تعمل على تعميق جذور أمر الله في ذلك البلد الواعد. متمنيًا لك النجاح في جهودك المخلصة، وأؤكّد لك دعائي بالنيابة عنك.(5)

بعد حوالي ثلاثة أشهر ونصف على تولّي أدولف هتلر السلطة في ألمانيا، كتب حضرة شوقي أفندي، من خلال سكرتيره، إلى أدلبرت ميولشليغل في 16 أيّار 1933:

إنّ حضرة وليّ أمر الله… يأمل بإخلاص أن تكون التقارير التي نتلقّاها هنا عن المشاعر السائدة في ألمانيا منافية للحقيقة، وأن تكون بمثابة بعث جيل جديد بدل أن تكون تقهقرًا نحو ماض ميّت. لأنّنا مهما قلنا عن ألمانيا، علينا أن نعترف أنّ شعبها قد وهب حيوية روحانية متفوّقة جدًّا على كثير من الأعراق الأخرى. وكونها تقع في قلب هذه القارّة المأهولة بالسكّان، وألهمت بتلك الروح الدينية القويّة، فبمقدور ألمانيا بسهولة إنجاز مهمّة رائعة في تجديد العالم.(6)

وإذ تدهور الوضع السياسي في ألمانيا، أوجز حضرة وليّ أمر الله واجبات المؤمنين تجاه الحكومة وتجاه دينهم، في رسالة مؤرّخة في 11 شباط 1934 كتبت نيابة عنه إلى المحفل الروحاني المركزي الألماني:

في البداية يجب أن يكون واضحًا دون لبس أنّ الدين البهائي كونه في الأساس حركة دينية ذات طابع روحاني يسمو فوق كلّ حزب أو جماعة سياسية، وبالتالي لا يمكن ولا ينبغي السلوك بما يتعارض مع المبادئ والقوانين والعقائد لأيّ حكومة. إنّ إطاعة القوانين والأوامر الصادرة عن الدولة واجب مقدّس حقًّا على كلّ بهائي وفيّ مخلص. لقد حثّنا جميعًا كلٌ من حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء أن نكون مطيعين وأوفياء للسلطات السياسية في بلداننا. وبناء عليه، يترتّب على أحبّائنا الألمان واجب مقدّس بإطاعة النظام السياسي القائم بإخلاص، مهما تكن وجهات نظرهم الشخصية والانتقادات الموجّهة لِما يفعله. لا شيء يتعارض مع روح أمر الله أكثر من التمرّد العلني ضدّ السلطات الحكومية في بلد ما…

وفي حين ينبغي على الأحبّاء إطاعة الحكومة التي يعيشون في ظلّها، حتى تحت خطر التضحية بكافّة شؤونهم الإدارية ومصالحهم، فيجب ألاّ تتعرّض معتقداتهم الدينية وقناعاتهم الراسخة للانتهاك والتجاوز من قبل أيّ سلطة مهما كانت وتحت أيّ ظرف من الظروف. وبالتالي، يجب أن يكون هناك تمييز ذو أهمّية جوهرية، بين الأمور الروحانية والإدارية. ففي حين أنّ الأولى هي أمور مقدّسة لا ينبغي انتهاك حرمتها، ولا يجوز أن تخضع للمساومة، تبقي الثانية أمورًا ثانوية، ويمكن التخلّي عنها بل حتى التضحية بها في سبيل إطاعة قوانين الحكومة وأنظمتها. إنّ إطاعة الدولة مبدأ حيوي من مبادئ أمر الله بحيث لو قرّرت السلطات في ألمانيا اليوم منع البهائيين من عقد أيّ اجتماع أو نشر أيّ كتابات، فعليهم الإطاعة والانقياد مثلما فعل أحبّاؤنا الروس في ظلّ النظام السوفييتي. ولكن، كما سبق ذكره، فإنّ مثل هذا الولاء يقتصر فقط على الأمور الإدارية التي لو أوقفت ستؤدّي إلى إعاقة تقدّم أمر الله لبعض الوقت. أمّا في مسائل العقيدة، فلا ينبغي السماح بأيّة مساومة مهما كانت، حتى ولو أدّى ذلك إلى الموت أو الترحيل.(7)

في وقت لاحق من ذلك الشهر طلب حضرة وليّ أمر الله من أدلبرت كتابة مقال باللغة الألمانية لوضعه في مجلّد «العالم البهائي». في نيسان أجاب الدكتور ميولشليغل حضرة شوقي أفندي، مرفقًا مقالاً وشِعرًا. كان عنوان مقاله «المرقدان المقدّسان» وقصائده «الإيمان»، «الله، النبي، الرجل» و«نشيد». وقد نشرت هذه في المجلّد السادس (1934–1936). وفي ذلك العام نفسه ترجم أدلبرت «كتاب عهدي»، وصيّة حضرة بهاءالله، إلى اللغة الألمانية. كتب إليه حضرة وليّ أمر الله ما يلي:

أقدّر كثيرًا هذه الشواهد الحديثة من أعمالك المستمرّّة الذكيّة والمفيدة جدًّا من أجل فهم أفضل وانتشار أوسع للحقائق الجوهرية الأساسية لديننا الحبيب. إنّك بالفعل أحد أعمدة النظام الإداري الذي يرفع رأسه في قلب بلدكم الحبيب الواعد رغم عواصف وامتحانات السنوات الأخيرة، ثابر وكن سعيدًا ومطمئنًّا.(8)

تابع أدلبرت توفير التراجم الألمانية للكتابات البهائية، ليحصل تدريجًا على معرفة عملية باللغات الأوروبية الأخرى، وكذلك باللغة العربية. كان من المتحمّسين للغة الإسبرانتو، حتى إنّه منذ بواكير عام 1925 حضر مؤتمر الإسبرانتو الذي حضرته مارثا روت أيضًا. وقد كتبت ما يلي: ‘ألقى أدلبرت ميولشليغل، البهائي المغرم بالإسبرانتو من شتوتغارت، كلمة جميلة حول تعاليم حضرة بهاءالله بخصوص لغة عالمية مساعدة.’(9)

في عام 1934 كتب الدكتور ميولشليغل إلى حضرة وليّ أمر الله يطلب الإذن لأداء الحجّ. في تشرين الثاني رحّب حضرة شوقي أفندي بالزوجين ميولشليغل في رسالة كُتبت بالنيابة عنه:

إنّ أمل حضرته الصادق والعزيز على قلبه في أنّ هذا الحجّ، بالإضافة إلى بركاته الروحانية المتعدّدة، سيمنحك فرصة كاملة لتناقش مع حضرته تفاصيل ظروف أمر الله في ألمانيا، وخصوصًا ما يتعلّق بالطرق والوسائل التي يمكن للأحبّاء من خلالها أن يوسّعوا ويرسّخوا أسس الإدارة [البهائية] على أفضل وجه في ذلك البلد.(10)

بعد تأخير طويل، ذهب الدكتور ميولشليغل وهيرما للحجّ إلى الأرض الأقدس في عام 1936. وأدّى اجتماعهما بحضرة شوقي أفندي إلى زيادة تفانيهما لأمر الله. فقد نفث فيضًا روحانيًا يؤازرهما في السنوات الطويلة القادمة من الاضطهاد والحرب. وفي إحدى المناسبات مشى حضرة شوقي أفندي وأدلبرت لوحدهما في الحدائق لمدّة ربع ساعة.

في عام 1937 حُظرت كافّة الأنشطة والمؤسّسات البهائية في ألمانيا بأمر من الغستابو، وذلك بسبب «التعاليم العالمية والسلمية» لأمر الله،(11) وصودر جزء كبير من الكتب البهائية في مكتبة الدكتور ميولشليغل. في وقت لاحق من ذلك العام، ونظرًا لصوتها الجميل، تمكّنت هيرما ميولشليغل، من الحصول، بعد بعض الصعوبات، على إذن الحكومة للسفر بانتظام إلى زيوريخ لتأخذ دروسًا في الغناء. فمكّنتها هذه الفرصة أن تكون بمثابة قناة اتّصال بين المركز البهائي العالمي والبهائيين الألمان. في شباط 1938 كتب حضرة شوقي أفندي، مشيدًا بخدماتها:

إنّ الخدمات التي تقدّمينها في هذه الأيّام المشحونة بالتوتّر والاضطراب، هي موضع تقدير كبير وتستحقّ أعظم الثناء.(12)

بعد ثلاثة أشهر كتب حضرته مرّة أخرى:

متمنيًا لكِ ولزوجكِ العزيز المتميّز، أقصى درجات النجاح في مساعيكما النبيلة والمتواصلة لتعزيز أمر الله وحمايته في هذه الأيّام المليئة بالتوتّر والامتحانات، وأؤكّد لكما امتناني الحبّي الدائم.(13)

نتيجة لشجاعة هيرما ميولشليغل، استمرّت الهداية المطلوبة جدًّا في التدفّق من حضرة وليّ أمر الله إلى المؤمنين المطوّقين في ألمانيا في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية.

مع بداية الحرب في عام 1939، أُسدل ستار من الغموض على الجامعة البهائية الألمانية. فقد حُظرت المؤسّسات الإدارية ولم تجتمع. تعرّض البهائيون للتهديد والترهيب؛ وأوقفت الاجتماعات البهائية. واصل الدكتور ميولشليغل ممارسة مهنته الطبّية طوال فترة الحرب، وعمل أيضًا كمرافق طبّي في الدفاع المدني. في عام 1944 قُصف منزل العائلة. في نهاية الحرب، نجا الدكتور ميولشليغل ممّا يتهدّد مصير الآلاف من المدنيين الألمان الذين أجبروا على العمل في فرنسا وذلك بانتقاله بسرعة وتغلغله بين حشد من الناس في مدينة كارلسروه، بعد ذلك عاد ماشيًا إلى شتوتغارت عبر الحقول في الليل.

بعد عام 1945 أعاد الدكتور ميولشليغل وهيرما تأسيس مركز للنشاط البهائي في منزلهما الجديد واستخدمت هيرما مواهبها كإدارية ومعلّمة. خلال تلك السنوات الصعبة بعد الحرب، عمد أدلبرت إلى تأليف الأغاني والقصائد للتخفيف من عبء صعوباتهما المادّية. وقام مع هيرما بتوفير منزل احتضن الجميع بالدفء والفكاهة، مكانٍ أقام فيه العديد من البهائيين الإيرانيين الشباب عند وصولهم للدراسة في ألمانيا قبل أن يجدوا أماكن للإقامة في المدن الألمانية المدمّرة.

في آب 1945 حصل البهائيون الألمان على إذن من حكومة الاحتلال في ألمانيا في إعادة تنظيم أنفسهم، وفي نيسان 1946 أعيد تأسيس المحفل الروحاني المركزي لألمانيا والنمسا حيث انتُخب أدلبرت في هيئته، وظلّ يُنتخب عضوًا حتى عام 1959، وغالبًا كرئيس. في 29 شباط 1952 أبرق حضرة شوقي أفندي إلى العالم البهائي أنّ عدد أيادي أمر الله قد رُفع إلى تسعة عشر بارتقاء سبعة من المؤمنين إلى هذه المرتبة. وكان من بينهم أدلبرت ميولشليغل.

شارك الدكتور ميولشليغل في العام التالي في مؤتمر بيقارّي في ستوكهولم، وفي عام 1957 مثّل حضرة وليّ أمر الله في مؤتمر الوكلاء لانتخاب أوّل محفل روحاني إقليمي للدول الإسكندنافية وفنلندا.

بعد صعود حضرة وليّ أمر الله في عام 1957، انتخب أيادي أمر الله من بينهم تسعة أعضاء لرعاية مصالح أمر الله في الأرض الأقدس. انتُخب الدكتور ميولشليغل في البداية في الهيئة لكنّه لم يكن قادرًا على الخدمة في تلك الوظيفة الجليلة فاختير أبو القاسم فيضي ليحلّ محلّه. ومع ذلك عمل الدكتور ميولشليغل كأمين بديل [للأمناء الرئيسين] إلى جانب أوغو جياكري، جون فيرابي، شعاع الله علائي، علي محمّد ورقاء ووليام سيرز. كتب الأمناء الرئيسون إلى كافّة المحافل الروحانية المركزية في 8 آب 1958 ما يلي:

كان لهذا الترتيب [الأمناء البدلاء] أعظم الفوائد حيث أمدّنا بتقارير مباشرة عن وضع أمر الله في مختلف المجالات ومكّن هؤلاء الأمناء المؤقّتين من تلمّس الاحتياجات العامّة لأمر الله بشكل أفضل ممّا تُرى من المركز العالمي.(14)

في عام 1958 غادر أدلبرت وهيرما شتوتغارت وهاجرا إلى مراكز مختلفة، ليستقرّا في النهاية في توبنغن. في تمّوز 1958 شارك أدلبرت في المؤتمر البيقارّي في فرانكفورت، وفي وقت لاحق من ذلك العام حضر مؤتمر الأيادي الأوروبيين. بعد المؤتمر كان يعتزم السفر عبر الدول الإسكندنافية، إلاّ أنّه في عشية رحيله أصيب بنوبة قلبية ممّا اضطرّه الى إلغاء رحلته. قرب بداية عام 1959، تقاعد من واجباته الطبّية. ومنذ ذلك الوقت كرّس كامل وقته لخدمة أمر الله.

في السنوات التي سبقت انتخاب بيت العدل الأعظم انشغل أدلبرت بعدّة أمور. ففي عام 1960 ساعد المحفل الروحاني الإقليمي للدول الإسكندنافية وفنلندا في عمله في ميدانَي التبليغ والاستحكام. وعندما أعلن تشارلز مايسون ريمي إدّعاءه الذي لا أساس له ليكون وليّ أمر الله الثاني، سارع الدكتور ميولشليغل إلى ألمانيا لضمان ولاء المحفل الروحاني المركزي والمؤمنين للأمناء. في عام 1962 مثّل المركز العالمي في مؤتمر الوكلاء الافتتاحي للمحفل الروحاني المركزي لكلّ من فنلندا والسويد. ورغم اعتلال صحّته، واصل أسفاره إلى أجزاء مختلفة من أوروبا، حيث زار كلّ مدرسة صيفية أوروبية تقريبًا. أثناء زياراته إلى الدول الأوروبية خلال الفترة بين عامَي 1953، 1963، ساعد في زيادة عدد المحافل الروحانية المركزية في القارّة من ثلاثة إلى ستّة عشر.

في عام 1964 توفّيت هيرما بعد مرض طويل وصعب، كان أدلبرت خلاله دائم الاهتمام بها ورعايتها. وعندما وافتها المنيّة كتب يقول:

بعد معاناة شديدة، صعدت متألّقة إلى الموطن الأبدي، الذي تفكّرت كثيرًا في بركاته عندما كانت تعيش على هذه الأرض.(15)

لقد ذكرها بيت العدل الأعظم في برقيّته التي بعثها بعد وفاتها: أحزنتنا الأنباء. نؤكّد دعاءنا لدى العتبات المقدّسة بالنيابة عن روح هيرما ميولشليغل التي انتقلت الآن إلى عالم البقاء. إنّ روحها المطمئنّة وتضحيتها بالنفس جديران بالاقتداء من قبل كافّة المؤمنين.(16)

بعد وفاة زوجته، انتقل أدلبرت إلى فيينّا للمساعدة في تقوية الجامعة البهائية النمساوية. بعد مرور سنة على انتقاله تزوّج من أورسولا كولر، سكرتيرة المحفل الروحاني المركزي في النمسا. وقد أصبحت رفيقته المقرّبة ومعاونته.

واصل الدكتور ميولشليغل رحلاته في أوروبا لنحو عقد من الزمن. وعندما أسّس بيت العدل الأعظم هيئات المشاورين القارّية في عام 1968، وأزيل جزء من عبء العمل عن أكتاف أيادي أمر الله، تمكّن الدكتور ميولشليغل من القيام بأوّل رحلة له إلى قارّة أخرى لخدمة أمر الله. في عام 1969–1970 سافر، بناء على طلب بيت العدل الأعظم، إلى إيران، الهند، الباكستان، بنغلاديش، سريلانكا، سيكيم ونيبال لمساعدة المؤمنين في مجهوداتهم التبليغية.

في عام 1970 انتقل مع أورسولا الى فرايبورغ في سويسرا لمساعدة المحفل الروحاني المركزي في الفتح الروحاني لإحدى المقاطعات المتحدّثة بالفرنسية. وللحصول على تصريح إقامة، التحق أدلبرت بجامعة فرايبورغ كطالب في الدين المقارن. بحلول عام 1974 توطّدت أركان جامعة قويّة وطلب بيت العدل الأعظم من الزوجين ميولشليغل الاستقرار في هوفهايم بألمانيا، بالقرب من أمّ المعابد في أوروبا. ومرّة أخرى أصبح بيتهما مركزًا للأنشطة البهائية وحسن الضيافة.

في عام 1971 سافر الدكتور ميولشليغل إلى أفريقيا، حيث حضر مؤتمر الوكلاء لتأسيس المحفل الروحاني المركزي لكلّ من ليسوتو وسوازيلاند. في عام 1972 حضر مؤتمر الوكلاء الأوّل لانتخاب المحفل الروحاني المركزي في جزر سيشيل. وتحدّث في مؤتمرات الشباب البهائي العالمية في فيش بسويسرا في عام 1971، وفي سالزبورغ بالنمسا؛ بادوا بإيطاليا. وبلون بألمانيا، في عام 1972. وفي عام 1975 زار أمريكا الجنوبية. في كلّ هذه الأنشطة كانت ترافقه أورسولا.

وعلى الرغم من تفاقم ضعف قلبه، هاجر أدلبرت وزوجته إلى أثينا في عام 1977. كان عمر الدكتور ميولشليغل آنذاك ثمانين سنة، ولكنّه لا يزال قادرًا على حضور مؤتمر الوكلاء الذي انتخب أوّل محفل روحاني مركزي لليونان في ذلك العام.

بعد هذا عاش الدكتور ميولشليغل حياة أقلّ حركة وانطلاقًا بكثير. فدفء المحبّة والانسجام في منزله قد جذبا الكثير من الناس. ورغم أنّه بقي أوّلاً ملازمًا منزله، ثم كرسيه وأخيرًا سريره، إلاّ أنّه كان بالنسبة للعديد من الناس مصدر إلهام. كتب على مرّ السنين العديد من المقالات حول مواضيع بهائية، ظهر بعضها في مجلّد «العالم البهائي» ودوريات أخرى، وكانت في ذهنه فكرة أساسية تتمثّل في كتابة تاريخ للعالم تُعامَل فيه جميع الثقافات على قدم المساواة. في عام 1977 نشرت مؤسّسة بهائي-فيرلاغ مجموعة من قصائده. والآن كرّس نفسه لإعداد كتاب عن التطوير الذاتي لخصائص المرء البهائية وتحقيق النضج في أمر الله. وقبل أن يتمكّن من إنهاء العمل وافته المنيّة في 29 تمّوز 1980. دفن قرب شاطئ البحر الأبيض المتوسط في القطاع البروتستانتي من مقبرة أثينا الأولى. حضر جنازته أحبّاء من ثمانية بلدان. وقد أبرق بيت العدل الأعظم إلى العالم البهائي ما يلي:

نعلن بقلوب حزينة وفاة أيادي أمر الله المحبوب أدلبرت ميولشليغل. لقد لحقت الخسارة المؤلمة بالعالم البهائي برمّته وشعرت بها خصوصًا أوروبا، الساحة الرئيسة لخدماته المتميّزة لأمر الله. خدم عدّة سنوات عضوًا في المحفل الروحاني المركزي لألمانيا، وبعد ترقيته إلى رتبة أيادي أمر الله أصبح واحدًا من البناة الأبطال للجامعة البهائية الأوروبية الناشئة، حيث سافر باستمرار لتشجيع ورفع معنويّات الأحبّاء المقيمين وأداء خدماته في المناطق الأكثر حاجة. وفي النهاية هاجر إلى اليونان مضحّيًا بروحه في موقع هجرته. كان استعداده الدائم للخدمة وقدرته على كسب محبّة المؤمنين وغيرهم على السواء بفضل وداعته المُحبّة وتواضعه الوقور ومرحه البهيج وبحثه المتواصل عن المعرفة وتفانيه الكلّي للجمال المبارك، ما يقدّم مثالاً رائعًا للحياة البهائية. ننصح الأحبّاء بإحياء ذكرى وفاته ونطلب عقد جلسات تذكّرية لائقة في كافّة أمّهات المعابد.(17)

1.
Bahá’í World, vol. 13, pp. 218–20.
2.
Bahá’í World, vol. 18, p. 611.
3.
Shoghi Effendi, Light of Divine Guidance, vol. 1, p. 37.
4.
المصدر السابق، الصفحة 40.
5.
المصدر السابق، الصفحتان 40–41.
6.
المصدر السابق، الصفحة 47.
7.
المصدر السابق، الصفحتان 54–55.
8.
المصدر السابق، الصفحتان 62–63.
9.
Garis, Martha Root, p. 232.
10.
Shoghi Effendi, Light of Divine Guidance, vol. 1, p. 63.
11.
Cameron and Momen, Basic Bahá’í Chronology, p. 250.
12.
Shoghi Effendi, Light of Divine Guidance, vol. 1, p. 91.
13.
المصدر السابق، الصفحتان 95–96.
14.
Ministry of the Custodians, p. 108.
15.
Bahá’í World, vol. 14, p. 368.
16.
المصدر السابق، الصفحة 367.
17.
Bahá’í World, vol. 18, p. 613.

1877 – 1953 سيغفريد شوبفلوخر

Hand of the Cause of God Siegfried Schopflocher (1877-1953)

ولد فريد شوبفلوخر في ألمانيا ونشأ يهوديًا أرثوذكسيًا. عندما تخرّج من المدرسة أصبح ملحدًا، وفي الوقت نفسه كان يبحث عن تعبير ديني أكثر عالمية. في مطلع القرن التاسع عشر هاجر إلى كندا، حيث أصبح رجل أعمال ناجحًا في مونترِيال. وكان مؤسّس ورئيس شركة «أشغال البودرة البرونزية المحدودة الكندية»، التي أصبح لديها مكاتب في أجزاء كثيرة من العالم، وملكت حقوق براءات الاختراع العالمية للبودرة البرونزية.

في عام 1918 تزوّج فريد من فلورنس إيفالين «لورول» سنايدر في كنيسة ماربل كوليجييت في مدينة نيويورك. ولدت لورول في عام 1886 من أب سويسري وأمّ من نيويورك في بيت عُرف بالثراء والغنى، وفيه أصابها ‘الضجر على نحو مفاجئ’.(1) ومع أنّ أسفارها قد خفّفت من مللها إلى حدّ ما، إلاّ أنّ اتّصالها بالدين البهائي هو الذي أعطى معنىً لحياتها.

بعد وقت قصير من زواجها التقت لورول بماي ماكسويل، التي كانت تسكن في مونترِيال. دعتها السيّدة ماكسويل إلى «غرين إيكر»، وفي عام 1920 أصبحت لورول بهائية. وإذ فتنت بسحر المدرسة الصيفية البهائية المستقبلية، دعت زوجها للزيارة ومشاركتها إنجذابها إلى «غرين إيكر» والدين البهائي على السواء. وأثناء زيارة إلى هناك في صيف عام 1921 أعلن فريد شوبفلوخر إيمانه بالدين البهائي، ليكون أوّل يهودي في مونترِيال يصبح بهائيًا.

تصوّرت سارة جين فارمر، فكرة إنشاء مدرسة صيفية مكرّسة للمُثُل العليا من السلام والوحدة الدينية فأنشأت «غرين إيكر» حيث أطلقت حلمها في عام 1894، ورُفع أوّل علم معروف للسلام في العالم في «غرين إيكر». كان نجاح هذا المكان في جذب المهتمّين بالدين والعلماء والمربّين إلى المنتجع قد تجاوز أعزّ آمالها. بعد أن أصبحت الآنسة فارمر بهائية في عام 1900، تركّز العديد من البرامج المقدَّمة في «غرين إيكر» على التعاليم البهائية. وقد زار حضرة عبدالبهاء المدرسة لمدّة أسبوع في عام 1912.

مع ذلك، عانت المدرسة الكثير من الصعوبات المالية على مرّ السنين. وبحلول عام 1912 أصبحت سارة فارمر غير قادرة على الاستمرار بصفة مديرة المدرسة بسبب تدهور صحّتها. فانتقلت «غرين إيكر» بملكيّتها وإدارتها إلى «زمالة غرين إيكر». أدارت الزمالة وعدد من الأمناء شؤون المدرسة حتى عام 1925. تحدّث فريد، نيابة عن الأمناء، في الاجتماع السنوي للزمالة المنعقد في «غرين إيكر»، حيث اقترح المجلس أن تصبح المدرسة تحت إشراف وإدارة المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتّحدة وكندا مباشرة:

إنّ ما تمّ إنجازه يرجع فقط إلى تعاون أعضاء هذه الزمالة التي من دونها لا يستطيع مجلس الأمناء أن يفعل أيّ شيء. إنّها روح التعاون والتنسيق التي حقّقت التحسينات المادّية والأساسية في السنوات القليلة الماضية – وأعبّر أيضًا عن امتناني تجاه «غرين إيكر» لأنّني خبرت فيها عمليًا تلك الصداقات الحقيقية والمحبّة التي لم أعرفها أبدًا من قبل، وحاولت أن أضع في العمل روحَ المحبّة والخدمة. لا يوجد هناك تصوّف أكبر يمكن للمرء أن يَخْبَرَه في اعتقادي من ذلك الذي يجده رجل أو امرأة لأوّل مرّة عندما يتّصلون حقًّا بتلك الروح الحقيقية من الخدمة المُحبّة التي هي نكران الذات والمثالية التي يروّج لها القلب الذي لمسته محبّة الله؛ فقط من أجل الله يخدمون ولأجل تقدّم أمره؛ وهذا هو دَيني إلى «غرين إيكر». عندما جئت إلى هنا أوّل مرّة قُدِّم لي كتيّب صغير يتحدّث عن مُثُل هذا المركز، وقلت: هل هذا ممكن؟ فكّرت في نفسي إنّه من غير الممكن أن يوجَد مثل هذا المكان!… وصلت إلى استنتاج مفاده أنّه لم يكن «غرين إيكر» بمظهره الخارجي، حتى مع موقعه الجميل والمناطق المحيطة به، بل المعنى العميق الذي يمثّله «غرين إيكر» ومُثُله، ومنبره العالمي، ومغزاه الروحاني العميق، ومعاييره من الوحدة والتضامن الإنساني الذي أحببته كثيرًا وحاولت أن أتبّعه، والذي نجح كثيرون في اتّباعه، وسوف ننجح جميعًا في هذا المسعى من خلال التعاون والخدمة المتفانية، وسيكون شرف لنا أن نسمو بالآخرين، ونسعى أن يتمتّعوا هم أيضًا بهذه السعادة والمحبّة والصداقة. ذاك هو تصوّف «غرين إيكر»، وذاك هو التصوّف الصحيح. هناك برهان على روح المحبّة في العمل. كانت هذه الروح البهائية هي التي شدّتني… هناك قرار سيأتيكم أعدّه مجلس الأمناء في جوّ من الوحدة المطلقة مع مراعاة كبرى لإدراك أهمّيته. وبتبنّي قرار كهذا، سنتمكّن بالتأكيد من الحصول على دعم كلّ أصحاب فكرة «غرين إيكر» في العالم، والذي سيربطنا جميعًا بلا شكّ في علاقة مع «غرين إيكر».(2)

على مدى السنوات تبرّع فريد بالعديد من الممتلكات الهامّة إلى «غرين إيكر» وشارك بنشاط في صيانته وتوسيع منشآته.

لم تمرّ فترة طويلة على اعتناق فريد الدين البهائي قبل أن يُنتخب عضوًا في المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة وكندا، ليخدم في تلك الهيئة مدّة خمس عشرة سنة في أوقات مختلفة بين عامَي 1924، 1947. وعندما شكّلت كندا محفلها الروحاني المركزي المستقلّ في عام 1948، انتُخب فريد عضوًا فيه، ليخدم حتى وفاته في عام 1953. وكان من خلال جهوده إلى حدّ كبير، وجهود هوراس هولي، أن أصبح المحفل الروحاني المركزي في كندا قادرًا على الحصول على الاعتراف الرسمي كهيئة مسجّلة بموجب قانون صادر عن البرلمان الكندي.

شؤون فريد التجارية أوصلته إلى أجزاء كثيرة من العالم. قام بأولى رحلاته العديدة إلى حيفا في عام 1922. وهناك التقى بحضرة بحضرة شوقي أفندي وعلى الفور كرّس نفسه لخدمته. من جانبه، وجد حضرة شوقي أفندي أنّ فريد ‘تلميذ لحضرة عبدالبهاء متحمّس واعد’.(3) غالبًا ما كلّف حضرة شوقي أفندي فريد بمهامّ محدّدة لتنفيذها أثناء رحلاته العالمية، وشجّعه على زيارة الجامعات البهائية أينما ذهب. في هذه الرحلات توصّل فريد إلى تقدير ‘الرابطة غير العادية التي تربط بين المؤمنين في جميع أنحاء العالم في محبّتهم لدين مشترك’. وقال: ‘عادة ما يكون من المستحيل بالنسبة لشخص غربي إجراء اتّصالات مع طيف واسع جدًّا من الشعوب في الشرق والغرب… ولكنّ جامعة المؤمنين في جميع أنحاء العالم أزالت كلّ الحواجز’.(4)

كانت مارثا روت واحدة من البهائيين الذين التقاهم فريد في أسفاره حيث كانت في بورسعيد في عام 1925، في انتظار الإبحار إلى أوروبا. كانت قد غادرت حيفا للتوّ وتشعر بالتجدّد واستعادة العافية، وزاد من بهجتها أخبار الوطن التي كان يحملها فريد. عندما استقلّت سفينتها صعد فريد لوداعها مع هدايا من الشوكولاتة والقليل من المال لاستخدامها في توفير ‘وسائل الراحة’ لها. وقد كتبت مارثا إلى عائلة ويلهلم بأنّ هذه الأموال ‘ستكون مساعدة كبيرة في أعمال الإعلان [عن أمر الله] التي أتوق جدًّا للقيام بها – إنّ «راحتي» هي في ترويج أمر الله. سوف أستخدمها بعناية فائقة وأعتقد أنّني سأكتب لاحقًا إلى السيّد شوبفلوخر وأقول له كيف أنفقت كلّ جنيه إسترليني. هناك الكثير ممّا ينبغي القيام به، وكلّ شيء يكلّف كثيرًا.’(5)

في عام 1936 سافر فريد إلى أستراليا. وكان حضرة وليّ أمر الله حريصًا على أن تستفيد الجامعة البهائية هناك على أفضل وجه من جولة فريد. ففي رسالة مؤرّخة في 25 أيلول 1936، كُتبت بالنيابة عن حضرته، طلب منهم تمكينه [فريد] من زيارة كلّ جامعة بهائية في أستراليا، وإن أمكن، نيوزيلندا:

إنّ السيّد شوبفلوخر معروف لكم بالتأكيد وللعديد من الأحبّاء في أستراليا. إنّه حقًّا واحد من أبرز المؤمنين في الغرب. لديه معرفة عميقة بأمر الله وخاصّة بالإدارة، وساهم بنصيب مميّز في سبيل تأسيسها واستحكام دعائمها في الولايات المتّحدة. كان لسنوات عديدة عضوًا في المحفل الروحاني المركزي الأمريكي، وأظهر سجايا عاطفية وفكرية قلّما تمكّن زملاؤه الأعضاء من إظهارها. لقد دعم مؤسّسات أمر الله المختلفة بالوسائل المعنوية والمالية وبكلّ شجاعة وسخاء… حقًا إنّ الأحبّاء مدينون له بدَين عظيم، ومهما أظهروا من امتنان فلن يكون مبالغًا فيه لِما أنجزه بشكل رائع ولا يزال، من أجل أمر الله في الغرب.(6)

بعد أكثر من أربعة أشهر بقليل، وفي رسالة خطّية مؤرّخة في 4 شباط 1937 كتبها سكرتيره شكر حضرة وليّ أمر الله المحفل الروحاني المركزي لأستراليا ونيوزيلندا على ترحيبه الحارّ بالسيّد شوبفلوخر:

إنّ أمل حضرته الكبير بأنّ الروح التي أطلقتها زيارته سوف تستديم حيوية الأحبّاء لفترة طويلة في مهامّهم الجسيمة المتمثّلة في توسيع أسس النظام الإداري في جميع أنحاء تلك القارّة.(7)

وكجزء من الجولة نفسها، سافر فريد إلى الهند. وكتب حضرة شوقي أفندي إلى المحفل الروحاني المركزي هناك في 7 كانون الثاني 1937 معربًا عن ثقته

بأنّ الخطوات التي اتّخذتموها لإنجاح رحلته [فريد] سوف تساعد كثيرًا في منح أمر الله شهرة واسعة كان يحتاجها منذ وقت طويل. فالفرصة التي عُرضت لكم رائعة حقًّا، وإنّكم بالتأكيد تستحقّون التهنئة الحارّة لقدرتكم على الاستفادة التامّة منها.(8)

بينما كان فريد شوبفلوخر يسافر ويخدم أمر الله، كانت زوجته [لورول] تضفي بريقًا على درب خدمتها الخاصّة. فقد جالت العالم تسع مرّات لأجل أمر الله، وزارت ستّة وثمانين بلدًا، بما فيها روسيا السوفييتية، وكثير منها لأكثر من مرّة. وكانت من بين أوائل المبلّغين الجوّالين في أمريكا الوسطى والجنوبية والقارّة الأفريقية. وقد أشادت كيث رانسوم-كيلر بعملها التبليغي في هاوائي واليابان والصين، في حين ذكرت أغنس ألكساندر أسفار لورول في بورما والهند وإيران والعراق. وتصف إحدى القصص لورول بأنّها ‘غامرت بالذهاب إلى مناطق صعبة الوصول، بل خطرة حتى للسفر. بقلب شجاع وحماس متّقد للدين البهائي تمكّنت من الوصول إلى العديد من الرجال والنساء البارزين في الشرق وتقديم رسالتها إليهم.’(9)

كانت إحدى أعظم خدمات فريد شوبفلوخر لأمر الله ذلك الزخم الذي أعطاه لبناء مشرق الأذكار في ويلمت. ومع أنّه كان هناك الكثير من الاهتمام بالمعبد، ولكن لم يكن لدى المحفل الروحاني المركزي ما يكفي من المال لبدء العمل في البناء الفوقي. في كانون الأوّل 1925 وضع «خطّة العمل الموحّد» لجمع مبلغ (400٫000) دولار في غضون ثلاث سنوات، وهو ما يكفي لبناء أوّل وحدة من البناء الفوقي. بحلول نهاية عام 1926، بلغت التبرّعات المتجمّعة (51٫039) دولارًا فقط، كما كانت تبرّعات عام 1927 مخيبة للآمال بالقدر نفسه.

في مؤتمر الوكلاء المركزي لعام 1928 استمع الوكلاء إلى ألين مكدانيال، رئيس المحفل الروحاني المركزي، يقدّم تقريرًا عن محادثة أجراها مؤخّرًا مع حضرة وليّ أمر الله في الأرض الأقدس. لقد اعتقد حضرة شوقي أفندي أنّ البهائيين قد فقدوا الثقة في المحفل الروحاني المركزي. وصرّح أنّه ينبغي للمحفل الروحاني الجديد طمأنة المؤمنين بأنّه لن يتجاوز ميزانيّته، كما فعل في السنوات السابقة، وسيخصّص كلّ الأموال الواردة فوق احتياجات الميزانية لصندوق المعبد. لدى سماعه هذا، أعلن فريد للمؤتمر أنّه سيقدّم مساهمة خاصّة بمبلغ (25٫000) دولار. وقد ألهم كرمه غير المتوقّع المندوبين الآخرين بالتعهّد بمبلغ إضافي بلغ (15٫000) دولارًا. وفي غمرة سروره العارم، قرّر المحفل الروحاني المركزي في وقت لاحق تحويل مبلغ (25٫000) دولار إلى حساب صندوق المعبد. بعد ذلك، ازدادت التبرّعات بشكل كبير، بحيث ظهر في صندوق المعبد في بداية آذار 1929 رصيد بلغ (87٫000) دولار.

في حدود هذا الوقت، وصلت لورول شوبفلوخر إلى حيفا بعد رحلة طويلة في الهند. وأثناء ترحيب حضرته بها، سلّمها حضرة شوقي أفندي برقية واردة من زوجها كتب فيها: ‘هل أنتِ على استعداد للتبرّع بمبلغ (50٫000) دولار للمعبد، ما قد يعني أنكِ لن تحصلي على كاديلاك جديدة هذا العام؟’ وقد أشارت لورول إلى هذا الحادث بعد ثلاثة عقود فقالت:

ضحكتُ بصوت عال وابتسم حضرة شوقي أفندي وهو يسأل، ‘ما رأيك في هذا؟’ ضحكتُ مرّة أخرى وقلتُ لِمَ لا تكون (100٫000) دولار؟’ فكتبتُ نصّ برقية على منديل المائدة وأرسلتُ فوجيتا، خادم المولى الياباني المسنّ إلى مكتب التلغراف… جاء الردّ، ‘لقد فزتِ، مع محبّتي إلى حضرة شوقي أفندي وإليكِ. فريد.’(10)

وهكذا، تمكّن المحفل الروحاني المركزي في 16 آذار من إضافة مبلغ (110٫000) دولار إلى صندوق المعبد.

في عام 1937 أُطلقت أوّل خطّة سبع سنوات. كان أحد أهداف الخطّة جمع مبلغ (350٫000) دولار لاستكمال الزخرفة الخارجية لمشرق الأذكار. تقرّر أن تنجز أعمال البناء على مراحل، حال توفّر المال. في الأسابيع الافتتاحية للخطّة تعهّد فريد شوبفلوخر بمبلغ (100٫000) دولار إضافي إلى مشروع المعبد – وهو ليس بالمبلغ الصغير في تلك الأوقات، وخاصّة في وسط الكساد العظيم.

فهم سيغفريد شوبفلوخر في وقت مبكر أهمّية المعبد وقدرته في التأثير على نموّ أمر الله. فلم يساهم ماليًا في صندوقه فحسب بل حفّز أيضًا حماسًا جديدًا لاستكمال زخرفته الخارجية في وقت فقد فيه كثيرون الاهتمام به. كان تفانيه من أجل بناء المعبد محلّ تقدير كبير من قبل حضرة ولي أمر الله الذي أسماه «الباني الرئيس للمعبد».(11) فقد شعر حضرة شوقي أفندي أنّ مساعدة فريد السخيّة والتي لا تفتر كانت مسؤولة بشكل رئيس عن عملية بناء المعبد بشكل منتظم وفاعل.

علم فريد عن تعيينه أياديًا لأمر الله مباشرة من حضرة وليّ أمر الله خلال إحدى زياراته لحيفا. كانت روحية خانم موجودة بجانب طاولة دار ضيافة الحجّاج عندما أخبر حضرة شوقي أفندي فريد بقراره: ‘امتقع لون فريدي حتى ظننت أنّه سيغمى عليه!’(12) أعلن حضرة وليّ أمر الله تعيينه رسميًا، مع ستّة أيادي آخرين، في يوم 29 شباط 1952.

كانت المهمّة الخاصّة لسيغفريد شوبفلوخر، وهو واحد من ثلاثة أيادي أمر الله مولودين في ألمانيا، مساعدة المحفل الروحاني المركزي في كندا في إنشاء حظيرة القدس المركزية الخاصّة به. في عام 1953 حضر مؤتمر الوكلاء المركزي الكندي ثم المؤتمر البيقارّي في شيكاغو. زار غرب كندا في أواخر شهر حزيران، لتعميق فهم البهائيين لدور أيادي أمر الله واطّلاعهم على الخدمات الهائلة التي يقوم بها حضرة وليّ أمر الله. كان يعتزم حضور المؤتمر البيقارّي في نيودلهي، ولكنّه مرض قبل سفره بأيّام قليلة. وفي 27 تمّوز 1953 وافته المنيّة ودفن بالقرب من قبر سذرلاند ماكسويل في مقبرة ماونت رويال في مونترِيال. لدى وفاته أبرق حضرة وليّ أمر الله ما يلي:

حزننا عميق على وفاة المحبوب العزيز أيادي أمر الله الراسخ المتميّز فريد شوبفلوخر. عديدة كانت خدماته الرائعة الممتدّة على مدى ثلاثين سنة في ميادين التبليغ والإدارة في الولايات المتّحدة وكندا وفي مؤسّسات المركز البهائي العالمي، خدمات أثرت بشكل كبير سجلاّت عصر التكوين لأمر الله. ثوابه الوافر أكيد في الملكوت الأبهى. أوصي المحفل الروحاني المركزي الأمريكي بعقد جلسة تذكّرية لائقة في مشرق الأذكار الذي ساهم فريد في إنشائه بسخاء. كما أوصي بعقد جلسة تذكّرية في منزل ماكسويل تخليدًا لدوره البارز في قيام النظم الإداري لأمر الله في كندا. أحثّكم على ضمان دفنه قريبًا من مثوى أيادي أمر الله المتميّز سذرلاند ماكسويل.(13)

1.
van den Hoonaard, Origins of the Bahá’í Community of Canada, p. 75.
2.
Bahá’í Year Book, p. 93.
3.
Shoghi Effendi, Messages to Canada, p. 12.
4.
Bahá’í World, vol. 12, p. 665.
5.
Garis, Martha Root, p. 217.
6.
Shoghi Effendi, Messages to the Antipodes, pp. 118–19.
7.
المصدر السابق، الصفحة 125.
8.
Shoghi Effendi, Messages to the Indian Subcontinent, p. 153.
9.
Bahá’í World, vol. 15, p. 488.
10.
Quoted in Whitmore, Dawning Place, p. 132.
11.
Bahá’í World, vol. 12, p. 664.
12.
Rúḥíyyih Khánum, Introduction, Ministry of the Custodians, p. 4.
13.
Bahá’í World, vol. 12, p. 664.

1861 – 1961 كورين نايت ترو

Hand of the Cause of God Corinne Knight True (1861-1961)

عندما ولدت كورين ترو في مقاطعة أولدهام بولاية كنتاكي يوم 1 تشرين الثاني 1861، كان أبراهام لنكولن رئيسًا للولايات المتّحدة. قبل إحدى عشرة سنة فقط من ولادة كورين، استشهد المبشر بالظهور البهائي، حضرة الباب، في بلاد فارس البعيدة. ولم يكن حضرة بهاءالله، المظهر الكلّي الإلهي، الذي كرّست كورين أكثر من ستّين سنة من الخدمة لحضرته، قد أعلن دعوته لأتباعه إلاّ بعد سبعة عشر شهرًا من مولدها. كما مرّ نصف قرن آخر على مولدها قبل أن يقوم حضرة عبدالبهاء برحلته التاريخية إلى أمريكا.

خلال حياتها الطويلة الزاخرة بالأحداث، أنجبت كورين ثمانية أطفال خلال سبع وعشرين سنة من الزواج، وعاشت بعد وفاة زوجها مدّة اثنتين وخمسين سنة. كان لها أن تشهد جنود الاتّحاد في الحرب الأهلية وهم يغزون منزل والديها، ونهاية العبودية، و«الموقف الأخير لكستر»، والثورة الصناعية، والضجّة حول جيسي جيمس والولد بايلي، وإقامة تمثال الحرّية، وابتكار المصباح الكهربائي، والانتقال من العربة إلى السيّارة، و«فرسان تيدي روزفلت العنيفون»، والأخوين رايت في كيتي هوك، وسقوط الملوك من عروشهم، وودرو ويلسون وعصبة الأمم، والحظر، والكساد الكبير، وصعود هتلر وسقوطه، والقنبلة الذرّية، والسفر بالطائرة النفّاثة، وسبوتنيك وصعود جون ف. كينيدي إلى سدّة الرئاسة الأمريكية.

كان والدا كورين، موزس ومارثا نايت، من أصحاب المزارع في كنتاكي ممّن ضمنت لهم النزعة الأرستقراطية الجنوبية إكمال كورين تعليمها في مدرسة ثانوية جنوبية حتى عندما انتقلت العائلة إلى الشمال. وكونها تأثّرت بثقافة الجنوب وسحره الفتّان، فقد أحبّت كورين حضور الحفلات وركوب الخيل ومرافقة والدها في أنحاء المزرعة رغم تقدّمها أكاديميًا.

كان موزس قسيسًا برسبتاريًا، لكنّ مرضًا أصابه في حلقه أجبره على التقاعد من الكنيسة وهو لا يزال شابًّا. ومع ذلك كان يقرأ الكتاب المقدّس يوميًا، وعاش وفقًا لناموسه بأمانة، ونمّت كورين معرفة واسعة بالكتاب المقدّس ساعدتها كمبلّغة بهائية في السنوات اللاحقة. في غضون ذلك سلّمت قلبها للمسيح، ولكنّها في كثير من الأحيان كانت تقول عندما كانت طفلة ‘كم سيكون رائعًا لو عشنا في الأيّام التي كان فيها المسيح على الأرض.’(1)

عندما كانت كورين في سنّ الرابعة عشر من عمرها انتقلت العائلة أوّلاً إلى لويزفيل ثم إلى شيكاغو بعد ذلك بسنة. كانت كورين في المراحل الأخيرة من المدرسة وتسكن بعيدًا عن العائلة عندما قَدِم جيران جدد من ولاية ماين وسكنوا البيت المجاور لمنزل عائلتها. لدى عودتها إلى البيت لقضاء عطلة، التقت بابن الجيران، موزس أدامز ترو. وسرعان ما وقع الاثنان في الحبّ وسعيا للحصول على الموافقة على زواجهما. ولمّا عارض السيّد نايت زواج كورين من مواطن من الشمال ولم يمنح موافقته، هرب موزس ترو وكورين، بقصد الزواج، يوم 24 حزيران 1882. وفي حيرته، كان ردّ فعل موزس نايت، وفقًا لعادات الجنوبيين الخاصّة بالهيمنة الأبوية الذكورية تجاه عدم احترام طفلته المفضّلة لديه، أن رفض مقابلتها أو التحدّث إليها لمدّة تسع سنوات وحرمها من الميراث في وصيّته. بل حتى رفض أن يرى هارييت، أوّل حفيدة له، والتي ولدت في آب 1883.

بعد ولادة هارييت انتقل الزوجان ترو إلى ميتشيغان وعاشا فيها لمدّة ثماني سنوات. خلال هذه الفترة رزقت كورين بأربعة أطفال آخرين: لورنس، تشارلز (ديفيس)، إدنا وآرنا. في نهاية المطاف غفر موزس نايت لابنته لتعود مع عائلتها إلى شيكاغو للعيش في منزل أعطاه لها. ومع ذلك، فقد أصبح ذلك المنزل مصدر مأساة عندما سقطت هارييت على درج الطابق تحت الأرضي في عام 1892 وتوفّيت متأثّرة بجراحها. وجدت كورين أنّ إيمانها بالله قد اهتزّ بشدّة؛ إذ لم تفهم الحكمة من موت هارييت. لماذا يأخذ الله مثل هذه الإنسانة الرقيقة بعيدًا عنها؟

لم يتمكّن أحد من مواساة كورين، ولم تجد العزاء في المسيحية التقليدية. سعى موزس وكورين للحصول على إجابات في «الوحدة» – حركة تقدّمية داخل المسيحية – في «كريستيان ساينس» و«ديفاين ساينس». وأخيرًا خفّت حدّة الألم على موت هارييت، وبعد أربعة عشر شهرًا من الحادث أنجبت كورين توأمًا، كينيث وكاثرين. وفي عام 1896 ولد نثانيال.

في أواخر عام 1898 اجتاحت الدفتريا مدينة شيكاغو. وأصيب العديد من أطفال ترو بالمرض الذي يمكن أن يؤدّي إلى الاختناق وتلف القلب. قضى الزوجان ترو ليالي عديدة قلقين وساهرين على رعاية الأطفال المرضى. وذات ليلة في نهاية أيّار 1899 كان نثانيال الصغير، الذي تأثّر بالمرض بشدّة، يجلس في حضن والدته. ‘بدا كأنّه يحدّق في الفضاء، ووجهه منير. فجأة رفع يديه نحو السقف وتوسّل: “آه، العب معي.” ’ وفي اللحظة التالية فارق الحياة. وفي حزنها من هذه المصيبة الأخيرة، اعتقدت كورين أنّه في اللحظات الأخيرة اتّصلت أرواح من العالم الآخر بنثانيال.(2)

غالبًا ما تأتي إجابات من الربّ الرحيم في خضمّ أزمة ومصيبة، فبعد عدّة أشهر على وفاة نثانيال، دُعيت كورين من قبل صديقة لها لسماع محاضرة عن الدين قدّمها ثلاثة من الإيرانيين. على الفور تقريبًا، شعرت من المحاضرة أنّها أسلمت نفسها لرسالة الله لهذا العصر ونذرتها للدين البهائي.

بعد ذلك أخذت كورين تحضر بانتظام الاجتماعات الأسبوعية كانت تُتلى فيها مقتطفات من «كتاب الإيقان»، «الكلمات المكنونة»، و«ألواح حضرة عبدالبهاء». ولمّا لم تكن هناك كتب بهائية باللغة الإنجليزية، فقد كانت هذه المقتطفات تُنسخ على صحائف من الورق ليتمّ توزيعها على من يرغب. حصلت كورين على نسخ من بعضها ودرستها بجدّية ممّا ساعدها في زيادة محبّتها لله وعرفانه. كانت تدعو لعلّ زوجها يعتنق الظهور الجديد أيضًا، لكنّها لم تخبر والديها عنه لشعورها بأنّهما لن يتفهّماه.

أصبحت كورين بهائية في أواخر عام 1899 تقريبًا. ومثلها مثل جميع المؤمنين الجدد، شُجعت على الكتابة إلى حضرة عبدالبهاء. مرّت أشهر قبل أن تتلقّى لوحًا من حضرته مُرسلاً من الأرض الأقدس بواسطة لوا غتسنغر في تشرين الأوّل 1900. ساعدها هذا اللوح في فهم مغزى وفاة نثانيال ذي الثلاث سنوات:

لا تحزني ولا تضطربي للخسارة التي حلّت بكِ – خسارة أجرت الدموع، وأصدرت التنهّدات، وجلبت الأحزان، وأحرقت القلوب في عذاب عظيم؛ ولكن اعلمي، لهذه علاقة فقط بالجسم المادّي، وإذا أنت نظرت في هذه المسألة بعين الإدراك والفطنة، فسوف تجدين أنّ لا قدرة له [الجسم المادّي] على الإطلاق، لأنّ الانفصال يعود إلى خصائص الجسم. ولكن فيما يتعلّق بالروح، اعلمي أنّ ابنك الطاهر سوف يكون معك في ملكوت الله وسوف تشاهدين وجهه المبتسم، وجبينه المنير، وروحه الوسيم، وسعادته الحقيقية. وبالتالي، سوف تنعمين بالمواساة والعزاء وتحمدين الله على فضله عليك.(3)

بعد بضعة أسابيع على وصول لوح حضرة عبدالبهاء، أصابت الدفتيريا كينيث البالغ من العمر سبع سنوات، وتوفّي يوم 14 كانون الثاني 1901. ومرّة أخرى واسى حضرة عبدالبهاء كورين، في لوح أرسل في أيّار 1901:

لا تحزني من المصيبة التي ألمّت بكِ فجأة وسوء الحظ الذي أثقل عليكِ. ينبغي لمثلك تحمّل كلّ امتحان، والسرور بكلّ ما هو مقدّر، وتفويض جميع شؤونك إلى الله حتى تصبحي روحًا هادئًا مقبولاً راضيًا أمام الله. اعلمي أنّ ابنك الحبيب قد حلّق بجناح الروح، عاليًا إلى أسمى ذروة لا نهاية لها أبدًا في ملكوت الله. افرحي بهذه النعمة الكبرى… حقًّا أقول لك، لو أنّك تعلمين في أيّ مقام هو ابنك، لاستضاء وجهك بأنوار السعادة.(4)

في لوح آخر من حضرة عبدالبهاء، وجدت كورين دستور حياة ستتبعه لبقيّة حياتها:

اجعلي إيمانك بالله وانظري إلى الملكوت الأعلى وانجذبي إلى الجمال الأبهى؛ اثبتي على الميثاق وتوقي إلى الصعود إلى سماء نير الآفاق. انقطعي عن الدنيا، وانعمي بحياة جديدة بنفحات القدس في الملكوت الأعلى. كوني مناديًا للمحبّة، واعطفي على نوع الإنسان. أحبّي كلّ البشر وشاركيهم أحزانهم. كوني من الذين يرعون السلام في الآفاق. قدّمي صداقتك، وكوني جديرة بالثقة. كوني مرهمًا لكلّ جرح، ودواء لكلّ مرض. كوني سببًا لألفة النفوس ورتّلي آيات الهدى. انشغلي بعبادة الحقّ، وانهضي لهداية الخلق. أطلقي لسانك بالبيان، واجعلي وجهك مشرقًا بنار محبّة الله. لا تستريحي للحظة واحدة، ولا تطلبي نفَسًا من الراحة. حتى تصبحي آية محبّة الله وراية موهبة الله.(5)

تعزّز إيمان كورين من خلال كلمات حضرة عبدالبهاء وأصبحت هادئة صابرة ثابتة. استغرب زوجها من قوّتها الجديدة. إلاّ أنّه لم يشاركها في دينها. وإذ زاد انخراط كورين في شؤون دينها الجديد، طلبت مشورة حضرة عبدالبهاء. فقال لها:

أمّا قرينك الكريم يقتضى أن تعامليه أحسن معاملة وتواظبي على رضائه والمداراة معه في كلّ الأحوال حتّى يری بأنّك بتوجّهك الى ملكوت الله زادت رأفتك معه ومحبّتك لله ومراعاتك لرضائه في كلّ حال…(6)

إلاّ أنّ كورين كانت تتمنّى أن تعمل وزوجها معًا في خدمة أمر الله. وإذ أدرك حضرة عبدالبهاء مدى قلقها، أنزل لها المناجاة المعروفة الآن الخاصّة للأزواج:

إلهي إلهي إنّ أمتك هذه تتضرّع إليك وتتوكّل عليك وتتوجّه إليك طالبة شمول ألطافك الرحمانية وظهور أسرارك الروحانية وسطوع أنوارك السبحانية ربّ ربّ نوّر بصيرة قريني واشرح صدره بنور معرفتك واجذب فؤاده إلی جمالك المبين وبشّر روحه بظهور نورك المنير ربّ اكشف عن بصره الغطاء واجزل عليه العطاء وأسكره من صهباء محبّتك بين الوری واجعله من ملائكتك يمشي علی الأرض وروحه متطائر في السماء واجعله سراجًا يتلئلأ بنور عرفانك بين الملأ إنّك أنت الكريم العزيز الوهّاب.(7)

في الأيّام الأولى من القرن العشرين، كانت المرأة لا تزال تُعتبر الجنس الأدنى درجةً. فلم يكن باستطاعتها التصويت في الانتخابات، والخيارات المهنية المتاحة لها محدودة وغالبًا لا تستطيع مشاركة الرجال في الشؤون التجارية. وبالتالي، عندما شعر بعض المؤمنين الأوائل أمثال ثورنتون تشيس وكورين ترو بالحاجة إلى إنشاء هيئة إدارية للدين البهائي، اتّبعوا بشكل طبيعي العرف السائد في ذلك العصر وشكّلوا مؤسّسة أعضاؤها من الرجال فقط. تأسّس «بيت عدل شيكاغو» (الذي أعيدت تسميته إلى بيت الروحانية في العام التالي) في عام 1901. ولمّا لم يكن لهن حقّ في العضوية، فقد شكّلت النساء في نهاية المطاف «محفل النساء للتبليغ» بعد أن كتب حضرة عبدالبهاء إلى كورين ما يلي:

وأمّا أنتنّ أيّتها المنجذبات بنفحات الله أسّسن محافل روحانية ومجامع ربّانية التي هي أساس لنشر نفحات الله وإعلاء كلمة الله وسطوع سراج موهبة الله وترويج دين الله ونشر تعاليم الله فهل من موهبة أعظم من هذا.(8)

عملت هاتان المؤسّستان في مسارين متوازيين. فركّز بيت الروحانية طاقاته على تنظيم شؤون جامعة الأحبّاء، وكانت قراراته تصدّق في اجتماع الجامعة الأسبوعي الذي يحضره البهائيون والمستفسرون معًا. بينما ركّز محفل التبليغ أكثر على تبليغ أمر الله من خلال تنظيم الاجتماعات والمجموعات الدراسية والاجتماعات العامّة.

في عام 1903، ألهمت أخبارُ مشرق أذكار عشق آباد بيتَ الروحانية لطلب إذن حضرة عبدالبهاء لبناء مشرق أذكار في أمريكا. وإذ وافق حضرة عبدالبهاء على الاقتراح، أوكل إلى كورين مسؤولية المساعدة في إنشائه. وفي دهشتها وجدت كورين نفسها في مواجهة ما يمكن أن يكون التحدّي الأكبر لأيّ مؤمن في مطلع القرن العشرين. كانت تعتقد أنّها تفتقر إلى العديد من المهارات اللازمة للقيام بهذه المهمّة، كونها ربّة منزل في مجتمع ذكوري. ولكن عندما كتب حضرة عبدالبهاء مصدرًا تعليماته إليها عن المعبد، بصفتها رئيسة محفل النساء للتبليغ، أثارت هذا الموضوع أمام العضوات. فقمن بعد ذلك بجمع بعض المال، وفتحن حسابًا مصرفيًا وعيّنّ أمينة للصندوق.

بعد ثلاث سنوات على إطلاق مشروع المعبد، وقع حادث في البحر للورانس، الابن الأكبر لكورين، ومات. دفعت وفاته المفاجئة كورين لطلب إذن لزيارة عكّاء. وإذ رحّب بكورين للمجيء إلى عكّاء كابنته، تحدّث حضرة عبدالبهاء معها عن الحاجة إلى الامتحانات، حيث لمست كلمات حضرته أعماق الحزن الكامن في داخلها.

شبّه حضرته الامتحانات بسفينة محمّلة بالطعام متوجّهة إلى شعب يعتمد على تلك المؤن، وتتقاذفها الرياح الشديدة والأمواج العاتية. كان الركاب على متنها قلقين متوجّسين. ولكنّ السفينة ينبغي لها أن تمضي قدمًا لأنّها تحمل الغذاء الذي من شأنه أن يكون سببًا للحياة. لذلك يجب على الإنسان أن يعاني من رياح الامتحانات وأمواجها لجلب الحياة
للناس.(9)

جلبت كورين معها إلى الأرض الأقدس لفافة ورق حملت ما يقرب من ثمانمائة توقيع من البهائيين في جميع أنحاء أمريكا الذين التمسوا من حضرة عبدالبهاء الإذن للبدء في بناء المعبد. وكانت العريضة، التي أطلق فكرتها محفل النساء للتبليغ، تنصّ على ما يلي: ‘نحن الموقّعين أدناه، نرغب في القيام بإنشاء أوّل مشرق أذكار في أمريكا امتثالاً للألواح النازلة بشأن هذا الصرح الروحاني العظيم.’(10) عندما قدّمت كورين إلى حضرة عبدالبهاء الهدايا التي بعث بها المؤمنون الأمريكيون، أمسك حضرته بالعريضة، ورفعها عاليًا وهتف: ‘هذا… هذا هو ما يعطيني الفرح العظيم. عودي… عودي واعملي من أجل المعبد؛ فهو عمل عظيم، وأفضل شيء يمكنك القيام به أيّتها السيّدة ترو.’(11)

عندما عادت إلى أمريكا، كتبت كورين كتيّبًا بعنوان «ملاحظات كُتبت في عكّاء» التي روت فيه تجربتها عن الحجّ، مشيرة إلى حماس حضرة عبدالبهاء لمشروع المعبد، موضّحة كيف أعطى المولى توجيهاته إليها عن موقع المعبد – في قطعة أرض واسعة – وأبعاده بشكل عامّ:

ذكر حضرته أنّ بناء المعبد سيتطلّب الكثير، لكن ينبغي لنا عقد اجتماعات حول سير المشروع، والعمل بجدّ والتوسّل الى الله وسوف يبارك جهودنا… قال حضرته أنّ المعبد هو أعظم شيء في هذا اليوم لارتفاع أمر الله.(12)

لدى عودتها إلى الوطن، وإذ استذكرت طاقة المولى الرائعة في العمل، فقد كرّست كورين نفسها لأمر الله. أخذت تفكّر بمشروع المعبد كلّ يوم، وعملت على زيادة التبرّعات له. وفضلاً عن تولّيها منصبَين في محفل النساء للتبليغ، كانت تستضيف اجتماعات تبليغية منتظمة في منزلها.

إنّ ما تعلّمته كورين أثناء الحجّ، ساعدها أن تفهم أنّ المعبد لأمريكا، وليس لشيكاغو فقط. وبالتالي، أيقنت أنّ مسؤولية بنائه تقع على كاهل كلّ البهائيين في البلاد. وفي إشارتها إلى أنّ الإنسان ينبغي عليه أن يسعى لإدراك الخدمة التي يريده الله أن يؤدّيها، قالت:

‘يأتي إلينا المرسلون بمنهج الله وعلى الإنسان أن يضحّي بإرادته تمامًا وبحكمه واجتهاده واستنباطه فيقبل الأوامر الصادرة من الناطق بلسان الحقّ. فالألواح المباركة تكشف لنا… بأنّ الأمر الأكثر أهمّية في هذا اليوم إقامة مشرق الأذكار وتأسيس معبد…’(13)

لا شكّ أنّ كلمات كورين كانت مستوحاة من بيان حضرة عبدالبهاء، الشهير الآن، عن المعبد:

قد جاء الآن اليوم الذي سيقام فيه الصرح الإلهي، الحرم المقدّس، المعبد الروحاني، في أمريكا! أتوسّل إلى الله أن يساعد الأحبّاء الراسخين في إنجاز هذه الخدمة الكبيرة بحماسة تامّة لرفع هذا الهيكل العظيم الذي سيُشتهَر في جميع أنحاء العالم. سيكون عون الله مع الأحبّاء في تلك المنطقة عسى أن ينجحوا في القيام بمهمّتهم، لأنّ الأمر عظيم عظيم. فهذا هو أوّل مشرق أذكار في تلك البلاد ومنه سيرتفع ثناء الله عاليًا إلى ملكوت الأسرار، ويُسمع تهليل تسبيحه وتمجيده من العالم بأسره!

كلّ من ينهض لخدمة هذا البناء ستعضده قوّة عظيمة من ملكوته الأعلى وستتنزّل عليه بركات روحانية سماوية تملأ قلبه بعزاء رائع وتنور عينيه بمشاهدة الربّ الأبدي المجيد!(14)

مع أنّ عملها للمعبد أصبح أشهر خدمة أدّتها كورين للدين البهائي، إلاّ أنّها كانت مبلّغة رائعة أيضًا. ولمّا كانت محافظة بطبيعتها، فقد مالت إلى احترام خصوصية الناس. ومع تغلّبها على إحساسها بعدم الكفاءة والأهلية، بلّغت أمر الله بعرفانها أنّ رسالة حضرة بهاءالله لا غير يمكنها أن تنقذ حضارة غارقة. فأدخلت أمر الله إلى ميتشيغان، وساعدت في إنشاء جامعات بهائية في غراند رابيدز، موسكيغون، غراند هيفين وفروتبورت. وفي حين واصلت التبليغ في شيكاغو، كانت فاعلة جدًّا في إيصال أمر الله إلى العديد من المناطق في ميلووكي.

استذكر أطفال كورين كيف كانت أمّهم تخبر الناس عن أمر الله في صالة الاستقبال. فكانت تعرض الرسالة الإلهية بهدوء، وغالبًا ما تستخدم معرفتها الواسعة بالكتاب المقدّس لتعزيز عرضها. خلقت شخصيتها الديناميكية جوًّا روحانيًا بتمسّكها بالمعايير والمبادئ البهائية. مرّ بمنزلها أناس من جميع أنحاء العالم ومن مختلف المنابت سواء المبلّغين الجوّالين، أو المرضى المتعافين من عمليّات جراحية، أو الأشخاص المعوزين، أو حضرة عبدالبهاء نفسه، غالبًا ما وجدت بنات كورين منزلهن ممتلئًا بالكامل بأناس غير عاديين ورائعين.

شكّل بيت الروحانية فِرَقًا للبحث عن أرض لموقع المعبد. وقد وجدت كورين، التي كانت في مقدّمة الباحثين، مع مؤمن آخر، الموقع في غروس بوينت. في عام 1908 أقنعت كورين بيت الروحانية بشراء العقار، فتمّ شراء قطعتين على منحدر يطلّ على بحيرة ميتشيغان في قرية ويلمت. كما حصل بيت الروحانية على خيار أيضًا لامتلاك اثنتي عشرة قطعة مجاورة قام بشرائها في النهاية. لم يسرّ الجميع بالقرار. لقد شعر ثورنتون تشيس أنّ القرار ‘يفتقر بعض الشيء إلى الحكمة، فموقع المعبد بعيد في الريف، ويتطلّب من المرء ساعة ونصف إلى ساعتين بأفضل وسيلة للمواصلات لبلوغه، ناهيك عن مسافة طويلة من المشي للجهة الأبعد.’(15)

ومع ذلك، تشكّلت في العام التالي «وحدة المعبد البهائي» لتنسيق جميع جوانب بناء المعبد. انتُخبت هذه الهيئة في مؤتمر الوكلاء الذي عقد في منزل ترو الجديد في شارع كينمور، لينبثق عنها في النهاية المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة وكندا. كانت كورين واحدة من ثلاث نساء انتُخبن عضوات في المجلس التنفيذي المكوّن من تسعة أعضاء، وعُيّنت سكرتيرًأ للشؤون المالية.

خلال هذه الفترة المحمومة كان موزس ترو ضالعًا بعمق في الأنشطة البهائية، مع أنّه لم يجاهر بإيمانه علنًا. كان يفتقد وجود كورين عندما تكون بعيدة عن المنزل، ولم يتعافَ أبدًا من صدمته بوفاة ابنه لورانس. في يوم 26 تشرين الثاني 1909 قال لبيرسي وودكوك، وهو بهائي من نيويورك، ‘إذا كان الظهور هو كما تقول يا سيّد وودكوك، أنا إذًا بهائي.’(16) وبعد خمسة عشر يومًا مات بسكتة قلبية وله من العمر اثنتان وخمسون سنة.

كان رد فعل كورين لوفاة موزس أن تنهمك في عملها البهائي، وأن تحافظ على سيرها الدؤوب في درب خدمة أمر الله انعكاسًا لصفاء سريرتها وخضوعها المطلق لإرادة الله. كتبت ردًّا إلى واحدة من مئات الأشخاص الذين كتبوا إليها في هذا الوقت فقالت:

لمّا كان هذا ربيع أمر الله فإنّ عواصف رعدية عظيمة يجب أن تواكب تأسيسه، وستتمكّن كلّ نفس من معرفة مدى عمق تغلغل جذور قلبه في «العمل»، وإذا كانت متجذّرة بعمق وثبات فلا تزيدها العواصف إلاّ قوّة. ادعي أيّتها الأخت العزيزة بأن لا أتزعزع من هذه الكارثة.(17)

وفي رسالة أخرى، قالت:

ذكر حضرة بهاءالله أن كلّ دمار يتبعه بناء. لذلك على الرغم من أنّ عائلتي الجسمانية تتدمّر بسرعة، ولكن من خلال كلمة حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء فإنّ أسرة الأبهى الروحانية تنمو وتنمو، وإنّي أجد نفسي مع إخوة وأخوات في جميع أنحاء العالم يحبّون بتلك المحبّة الروحانية الصافية.(18)

في عام 1910 أصيب ديفيس ابن كورين بمرض السلّ بينما كان يعمل في مخيّم لقطع الأخشاب في أوريغون. ورغم قلقها على صحّة ابنها، فقد واصلت كورين العمل من أجل مشروع المعبد. وأخذت تتردّد أخبار بأنّ حضرة عبدالبهاء قد يأتي إلى أمريكا. كانت كورين تتوق أن ينعم البهائيون بالمزيد من الوحدة والاتّحاد. في عام 1911 كتب حضرة عبدالبهاء يخبرهم: ‘إذا كنتم تتوقون للقائي، وإذا كنتم حقًّا تتطلّعون إلى زيارتي لكم، فلا بدّ أن تغلقوا أبواب الاختلاف وتفتحوا أبواب المودّة والألفة والمحبّة. يجب أن تخفقوا كقلب واحد وتهتّزوا كروح واحدة.’(19) كانت كورين تعتقد أنّ بناء المعبد سيقارب بين البهائيين، لذلك استمرّت في حثّهم نحو جهد أكبر. إلاّ أنّها وجدت أنّ ذلك قد خلق المزيد من الانقسام في كثير من الأحيان، وهو ما أفزعها كثيرًا.

في نيسان 1912 وصل حضرة عبدالبهاء إلى أمريكا. دعته كورين لزيارة منزلها معلّلة ذلك بأنّها وآرنا كانا ضيفين في منزله. وافق حضرته ووصل إلى شيكاغو في 29 نيسان.

في هذا الوقت كان ابنها ديفيس يعاني من مرض السلّ نحوًا من سنتين. عندما جاء حضرة عبدالبهاء إلى منزل عائلة ترو طلب أن يرى الشابّ وقضى معه وقتًا طويلاً. وعندما خرج من غرفة ديفيس، صرخ قائلاً: ‘يجب أن تتوقّف المصائب في هذا المنزل.’(20) امتلأت كورين بسعادة غامرة. وشعرت بثقة أكيدة أنّ ابنها المتبقّي سيتعافى. في الواقع، في نهاية زيارة حضرته قال المولى لكورين إنّ ديفيس شابّ رائع ووجده أفضل بكثير ممّا كان متوقّعًا. طلب من كورين مرافقته لحضور خطاباته التي سيلقيها في ذلك اليوم. إلاّ أنّه، بينما كانت كورين بعيدة عن المنزل، توفّي ديفيس. عندها فقط أدركت كورين أنّ حضرة عبدالبهاء كان يشير إلى حالة ديفيس الروحانية لا الجسمانية.

كان اليوم التالي المناسبة التاريخية التي وضع فيها حضرة عبدالبهاء حجر الأساس للمعبد. وإذ وقفت بين ما يقرب من أربعمائة شخص في انتظار وصول حضرة عبدالبهاء، تساءلت كورين إذا كانت المأساة الإنسانية التي تطاردها بلا هوادة ستتوقّف في أيّ وقت. في وقت لاحق أفضت بمكنون قلبها لحضرة عبدالبهاء سائلة عن زوجها. فأكّد لها حضرة عبدالبهاء أنّه سيتمّ لمّ شملهما في العالم الآخر وأنّ موزس آمن بحضرة بهاءالله. فقالت كورين لحضرته: ‘لقد مرّت عليّ محن وبلايا كثيرة… عشت حياة حزينة – أشياء حزينة أتحمّلها.’ فأجابها: ‘أعرف، أعرف، سيّدة ترو، لأنّني أنا الذي أرسلتها إليكِ.’(21)

على مدى السنوات التالية عملت كورين بجدّ لزيادة التبرّعات لصندوق المعبد. وكلّما وصل تبرّع كانت ترسل رسالة شخصية تحمل الشكر والتشجيع للمتبرّع. في أيّار 1914 خاطبت البهائيين الأمريكيين من خلال مجلّة «نجمة الغرب»:

لا ينبغي لأتباع حضرة بهاءالله التوقّف للحظة في المسعى الكبير لاستكمال مشرق الأذكار. يتفضّل حضرة عبدالبهاء قائلاً: ‘إنّ أهم شيء في هذا اليوم هو البناء السريع للصرح. إنّ سرّه لعظيم ولا يمكن الكشف عنه الآن وسيغدو واضحًا في المستقبل…’ 

فالمبلغ المقرّر لصندوق البناء قد ذُكر، أليس هذا في حدّ ذاته دعوة للبهائيين، فرديًا وجماعيًا، لبذل كلّ جهد ممكن لرفد الصندوق؟ إنّها دعوة إلى النشاط. العمل، العمل، العمل! – حتى يقوم غصن الله الأعظم بوضع حجر الأساس لهذا الصرح ويفيض عليه ببركاته، وهو ما من شأنه أن يعطيه درجة من الأهمّية الفائقة طوال عصور لا تحصى.(22)

عملت كورين في مشروع المعبد وبلّغت أمر الله إلى درجة الإنهاك. لم يكن لبناء المعبد أن يبدأ إلاّ بعد جمع مبلغ (200٫000) دولار، وكان حضرة عبدالبهاء قد نصح «وحدة المعبد البهائي» بعدم تحمّل أيّ ديون. في عام 1914 اندلعت الحرب العالمية الأولى، وأصبح من الصعب الاتّصال بحضرة عبدالبهاء. ووقعت الفُرقة والاختلاف بين أعضاء الجامعة البهائية في شيكاغو وقُدّمت الشكاوى حول عمل كورين كسكرتير للمالية. ومع أنّها بُرّرت تمامًا، إلاّ أنّ الحادث أصاب كورين بالأسى العميق واستنزفها عاطفيًا. ومع ذلك، واصلت تعزيز صندوق المعبد، مخاطبة مؤتمرًا في شيكاغو في عام 1917، عندما كان الصندوق يحتاج لنحو (67٫000) دولار لتحقيق هدفه، فقالت:

في هذا اليوم أشرقت شمس الحقيقة الروحية مرّة أخرى في المشرق، ويُشاهَد إشعاعها وتألّقها في الغرب أيضًا. لقد صرّح حضرة بهاءالله أنّ العائلة البشرية كانت واحدة في وقت من الأوقات، يعيش أفرادها جنبًا إلى جنب في تآلف عظيم. ثم تسلّلت الخلافات وظهر التحيّز العنصري والديني حتى ترسّخت الفتنة والكراهية بين أبناء الإنسان. إنّ الهدف العظيم للحركة البهائية هو استعادة أساس التضامن الإنساني. ومشرق الأذكار هو الرمز الخارجي للحقيقة الروحية الداخلية التي تحقّق إنجاز هذا العمل المجيد. إنّ أولئك الذين ينضمّون بإخلاص إلى بناء هذا الصرح الفريد والرائع يتشاركون فضل الله وبركاته وهم تحت حفظه وحمايته.(23)

كانت رغبة كورين الحارّة استكمال الصرح في أيّام حياة حضرة عبدالبهاء، ولا بدّ أنّها عانت داخليًا عندما تأخّر بناء الأساس حتى عام 1920. في عام 1919 ذهبت في رحلة حجّها الثاني إلى الأرض الأقدس، وفي طريقها اجتمعت مع ابنتها إدنا في فرنسا. وبينما كانتا في إيطاليا، بانتظار الصعود إلى متن السفينة المتّجهة إلى الإسكندرية، التقتا بجون إسلمنت، الذي كان في طريقه إلى الأرض الأقدس للتشاور مع حضرة عبدالبهاء حول كتابه عن الدين
البهائي.

بينما كانت كورين في رحلة الحجّ تحدّث حضرة عبدالبهاء معها بخصوص المعبد، ولكن لم يبدُ على الإطلاق أنّه يشعر بالقلق إزاء تقدّمه البطيء. قبل مغادرتها حيفا ائتمنها حضرة عبدالبهاء على رسالة للبهائيين الأمريكيين. لم تكن للرسالة أيّ علاقة بالمعبد، بل كانت تخصّ الثبات على العهد والميثاق:

رسالتي لهم هي أنّهم يجب أن يكونوا متّحدين، وأن يبقوا ثابتين راسخين، وأن يتوجّهوا دائمًا إلى الملكوت، وأن يكونوا مظاهر الصدق والإيمان والتآلف والتضحية بالنفس.(24)

عندما عادت كورين إلى الوطن واصلت عملها في تعزيز صندوق المعبد. في مؤتمر وحدة المعبد البهائي في عام 1920 تمّ اتّخاذ القرار بشأن تصميم المعبد واختيار المهندس المعماري. أرسلت المخطّطات إلى حضرة عبدالبهاء للموافقة عليها؛ فوافق حضرته على الفكرة والتصوّر العامّ ولكنّه اقترح أن يكون المبنى المقرّر على مقياس أصغر بحيث لا يكلّف أكثر من مليون دولار. بحلول هذا الوقت كان مبلغ (200٫000) دولار المطلوب موجود في البنك وأملت كورين أن يقام الصرح على وجه السرعة.

بعد حوالي ثمانية أشهر على انتهاء المؤتمر كتب حضرة عبدالبهاء إلى كورين يخبرها أن ‘تُحال جميع الشؤون المتعلّقة بمشرق الأذكار إلى مؤتمر الوكلاء السنوي.’(25) وجدت كورين، التي كانت منذ فترة طويلة حلقة الاتّصال بين مشروع المعبد وحضرة عبدالبهاء، أنّ من الصعب عليها اتّباع هذه النصيحة. عندما برزت مشاكل جديدة توجّهت، كعهدها دائمًا، إلى حضرة عبدالبهاء طلبًا للنصيحة، فردّ حضرته ببرقية قائلاً: ‘جميع الشؤون المتعلّقة بالمعبد العالمي تُحال إلى مؤتمر الوكلاء العامّ. لا يمكنني أن أتدخّل. ارفعي كلّ شيء إلى مؤتمر الوكلاء.’(26) كانت هذه آخر رسالة تسلّمتها كورين من المولى. وبعد تسعة أشهر صعدت روحه إلى بارئها.

بعد صعود حضرة عبدالبهاء ساعدت كورين البهائيين في فهم مصطلحات ألواح الوصايا وإطاعة وليّ أمر الله الجديد، حضرة شوقي أفندي. كانت أوقاتًا صعبة بالنسبة للكثيرين، ‘عملت كورين بجدّ على مساعدة الأحبّاء في قطع طريق الشائعات والمعلومات الخاطئة والقلق والجهل، في الحصول على بصيرة دقيقة وسليمة عن ولاية أمر الله.’(27)

في عام 1922 دعا حضرة شوقي أفندي عددًا من البهائيين، بمن فيهم كورين، إلى حيفا لمناقشة مستقبل أمر الله. كانت آنذاك تبلغ الستّين من عمرها، وكان عمر حضرته خمسًا وعشرين سنة، ولكن عندما التقت حضرة وليّ أمر الله لم يكن هناك شكّ في ذهنها أنّه كان قادرًا على قيادة أمر الله.

تطوّرت النواحي الإدارية للجامعة البهائية الأمريكية في السنوات اللاحقة لذلك الحجّ الثاني بفضل توجيهات حضرة شوقي أفندي وهدايته، وحقّقت مؤسّستها المركزية عملية الانتقال من «وحدة المعبد البهائي» إلى المحفل الروحاني المركزي. بحلول عام 1925 أصبح الانتقال كاملاً بانتخاب المحفل الروحاني المركزي الجديد بالاقتراع السرّي. ورغم أنّها خدمت في «وحدة المعبد البهائي» منذ إنشائها حتى عام 1923، لم تُنتَخب كورين في الهيئة الجديدة. ومع ذلك، استمرّت في منصبها كسكرتيرة مالية لمجلس إدارة المعبد.

بدأ المعبد يأخذ شكله تدريجًا. وكان مؤتمر الوكلاء المركزي لعام 1928 أوّل مؤتمر يعقد في «قاعة مؤسّسة المعبد». شعرت كورين أنّه ينبغي لها الاقتراب أكثر من المعبد لمراقبة تطوّره. في عام 1930 انتقلت إلى ويلمت، وسكنت على بعد خمسة مبان فقط من المعبد. في غضون سنة، بدأ العمل في البنية الفوقية للصرح وسافرت كورين مرّة أخرى إلى حيفا.

لقد تطوّرت كورين في استقامتها ويقينها بينما كانت تتقدّم في عمرها. كتب إليها حضرة شوقي أفندي بعد عودتها من الحجّ في عام 1931، قائلاً: ‘إنّ إيمانكِ الراسخ الذي لا يتزعزع، وتفانيكِ اللامحدود، ورعايتكِ الحثيثة للحفاظ على مكانة أمر الله وتوسيع نطاقه، هي من بين أغنى الأصول التي يمتلكها دين حضرة بهاءالله في تلك البلاد.’(28)

عندما عادت كورين من سفر الحجّ، كان تشييد البنية الفوقية للمعبد قد اكتمل وبإمكانها مشاهدته من منزلها. كان حضرة وليّ أمر الله قد طلب من كورين اعتبار المعبد كأوّل وأقدس واجب عليها، لكنّها كانت مشغولة أيضًا في عدّة مشاريع أخرى. فكانت رئيسة لجنة مسؤولة عن فهرسة وتحرير ألواح غير منشورة لحضرة عبدالبهاء، بينما في عام 1933 خطّطت لعقد الجلسات التعبّدية في المعبد، وتحدّثت في الاجتماعات العامّة الأسبوعية في «قاعة المؤسّسة». وكانت عضوًا في المحفل الروحاني المحلّي في ويلمت وعقدت صفوفًا دراسية وجلسات «فايرسايد» في بيتها.

بمرور الوقت أصبحت كورين تُعرف باسم الأم ترو. ومع تقدّمها في السنّ أصبحت هذه المؤمنة المخضرمة «أمّ المعبد» والمبلّغة الشهيرة والصديقة، مثل الأمّ لجميع الذين عرفوها. في عام 1937 أطلق حضرة شوقي أفندي مشروع السبع سنوات الأوّل، فتركّزت أفكار كورين على كيفية تحقيق أهدافه. في عام 1943 تمّ تعريفها بأنّها ربّما كانت المؤمنة الوحيدة التي حضرت كافّة مؤتمرات الوكلاء السنوية الخمسة وثلاثين.

شهد العام التالي مرور مائة سنة على الدين البهائي. طُلب من كورين المشاركة في الاحتفال. وعلى الرغم من أنّها كانت في سنّ الثالثة والثمانين آنذاك، إلاّ أنّها تحدّثت عن «مشرق الأذكار العالمي» وكتبت تاريخًا عن تطوّر المعبد من عام 1903 إلى 1915. وبعد بضعة أشهر خاطبت جلسة خاصّة للمؤمنين في أمريكا اللاتينية احتفالًا بالذكرى المئوية لميلاد الدين [1844].

في عام 1947، وهي في السادسة والثمانين، أبحرت كورين إلى أوروبا مع ابنتيها كاثرين وإدنا. فزار الثلاثة أماكن هجرة بهائيين إلى هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ وسويسرا. بعد ثلاث سنوات تحدّثت كورين في «مأدبة الوحدة» في مؤتمر التبليغ الأوروبي في كوبنهاغن، كونها واحدة من عدد قليل من المؤمنين الذين عرفوا المولى شخصيًا. لدى العودة إلى الوطن شغلت نفسها بمراجعة كتاب «ترويج السلام العالمي» لأجل المحفل الروحاني المركزي.

قدّر حضرة شوقي أفندي بعمق اخلاص كورين لأمر الله:

يمتلئ قلبي بالامتنان للشواهد الجديدة على نشاطك الذي لا يكلّ، والولاء المثالي، والاستقامة والتفاني، التي أظهرْتِها بقوّة في الأشهر الأخيرة. إنّك حقًّا مصدر قوّة كبير في هذه الأيّام المشحونة بالتوتّر والامتحان، مصدر جدير بالثقة المطلقة التي وضعها فيك حضرة عبدالبهاء. ثابري في عملك المبرور، واطمئني من استمرار دعائي وصلواتي من أجلك وابنتيك العزيزتين.(29)

وبعد ستّ عشرة سنة، في 26 آذار 1952، عندما كانت كورين في الحادية والتسعين من عمرها، أبرق إليها حضرة شوقي أفندي قائلاً:

أنقل إليك بشرى رفع مرتبتك إلى أيادي أمر الله. أُعلن هذا التعيين رسميًا في رسالة عامّة موجّهة إلى كافّة المحافل الروحانية المركزية. عسى أن تتيح لك هذه الوظيفة المقدّسة إثراء سجلّ خدماتك لأمر حضرة بهاءالله.(30)

استقبلت كورين ترو تعيينها دون اعتراض. كان قلقها حول كيفية خدمتها لأمر الله بأقصى فعالية في دورها الجديد. في وقت لاحق من العام نفسه ذهبت في رحلة حجّها الأخير والأكثر تميزًا.

عندما وصلت كورين ترو إلى الأرض الأقدس، وجدت حضرة شوقي أفندي متحمّسًا يملأه توقّع بانتصارات كبيرة تُحرز أثناء مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني القادم. قضى حضرة وليّ أمر الله الكثير من الوقت مع كورين مبتهجًا بذكرياتها عن الأيّام الأولى لأمر الله في أمريكا. وقد ذكر ليروي آيواس، الذي عاش في ذلك الوقت في المركز العالمي، أنّه لم يرَ حضرة شوقي أفندي يستجيب لأحد كما فعل مع كورين.

بعد ستّة أشهر صحبتها ابنتاها إلى حفل تدشين مشرق الأذكار في ويلمت، الذي أشادت به الصحافة كأعجوبة معمارية، والذي جذب مئات الأشخاص من مختلف الطبقات والبلدان والأعمار إلى الحفل. يا ترى ماذا كانت الأفكار التي دارت في خلد كورين ترو وهي تجلس تحت القبّة الرائعة؟

في عام 1957 وصل الخبر المفجع بصعود حضرة شوقي أفندي. وفي خشيتها من أن تقتل الصدمة والدتها، اندهشت إدنا عندما قالت كورين بعد بضع لحظات من الصمت وبثقة، ‘لا بد أنّكِ تعلمين أنّ هذه هي إرادة الله.’(31)

لم تتمكّن كورين من حضور الاجتماع الرسمي لأيادي أمر الله المنعقد في حيفا بعد صعود حضرة شوقي أفندي، وذلك بسبب ضعفها وسوء حالتها الصحّية. ومع ذلك، بقي أيادي أمر الله الآخرون على اتّصال وثيق بها، مقدّمين التقارير حول تطوّرات أمر الله. كان أحدها رسالة شخصية من أيادي أمر الله وليام سيرز لاقت تقديرًا خاصًّا:

هذه رسالة محبّة تحمل معها عميق تقديري لجميع خدماتك الجليلة لديننا الغالي. إنّ تفانيكِ وتضحيتكِ في المساعدة على رفع أقدس صرح للعبادة في ويلمت، يعدّ إنجازًا خالدًا. لقد صرّح المولى المحبوب أنّه عندما يتمّ الانتهاء من تشييد المعبد، سيجري من تلك النقطة النوراء، أمر حضرة بهاءالله إلى جميع أنحاء العالم. وقد تحقّقت هذه النبوءة في عام 1953، مع انطلاق الجهاد الروحاني العالمي العظيم، وجميع الانتصارات التي شاهدْتِها وسَعِدْتِ بها يمكن إرجاعها مباشرة إلى بناء ورفع هذا الصرح العظيم الذي يرتبط اسمه باسمك إلى الأبد.(32)

خلال الأسابيع الأخيرة من حياتها، سُمعت كورين وهي تقرأ بصوت قويّ مقاطع حفظتها من الكتابات المقدّسة. بقيت طريحة الفراش معظم الأشهر الأخيرة من حياتها، وتوفّيت بهدوء في 3 نيسان 1961 وهي في التاسعة والتسعين من عمرها. وقد صدر عن أيادي أمر الله في الأرض الأقدس هذا التكريم:

نعلن بحزن عميق فقدان حواري حضرة عبدالبهاء المتميّزة، أيادي أمر الله كورين ترو التي كانت لها علاقة طويلة الأمد بالأيّام الأولى لأمر الله في أمريكا، وتشييد أمّ المعابد في الغرب. إنّ تأييدها القوي الذي لا يكلّ للعهد والميثاق، ودعمها الثابت الراسخ لحضرة وليّ أمر الله المحبوب في كلّ مرحلة من مراحل تفتّح النظام العالمي، لن ينسيا، وقد أثريا سجلّ أمر الله في العالم الغربي. نحثّ على عقد جلسة تذكّرية لائقة في مشرق الأذكار.(33)

 

1.
Bahá’í World, vol. 13, p. 846.
2.
Rutstein, Corinne True, p. 22.
3.
ترجم عن الإنجليزية. ‘Abdu’l-Bahá, Tablets, pp. 85–6.
4.
المصدر السابق، الصفحة 86. ترجم عن الإنجليزية.
5.
«منتخباتى از مكاتيب حضرت عبدالبهاء»، المجلّد الأوّل، رقم 10، الصفحة 24. ترجم عن الفارسية.
6.
المصدر السابق، رقم 91، الصفحة 119.
7.
المصدر السابق، رقم 90، الصفحة 118.
8.
المصدر السابق، رقم 38، الصفحة 78.
9.
Rutstein, Corinne True, p. 59.
10.
‘Mother of the Temple’, Bahá’í News, January 1976, p. 6.
11.
المصدر السابق، الصفحة 7.
12.
True, Notes Taken at Acca, p. 21.
13.
‘Mother of the Temple’, Bahá’í News, January 1976, p. 5.
14.
‘Abdu’l-Bahá, Tablets of Abdul Baha Abbas, pp. 96–7.
15.
Cited in Rutstein, Corinne True, p. 80.
16.
المصدر السابق، الصفحة 87.
17.
‘Mother of the Temple’, Bahá’í News, February 1976, p. 16.
18.
المصدر السابق.
19.
Cited in Rutstein, Corinne True, p. 95.
20.
المصدر السابق، الصفحة 99.
21.
المصدر السابق، الصفحة 109.
22.
Star of the West, vol. 5, no. 4, p. 56.
23.
Star of the West, vol. 8, no. 14, pp. 202–3.
24.
Star of the West, vol. 10, no. 17, p. 306.
25.
Cited in Rutstein, Corinne True, p. 149.
26.
المصدر السابق.
27.
المصدر السابق، الصفحة 152.
28.
المصدر السابق، الصفحة 177.
29.
المصدر السابق، الصفحة 200.
30.
‘Mother of the Temple’, Bahá’í News, January 1976, p. 23.
31.
المصدر السابق، الصفحة 24.
32.
Cited in Rutstein, Corinne True, p. 213.
33.
Ministry of the Custodians, p. 257.

أيادي أمر الله الذين عيّنهم حضرة شوقي أفندي كلاًّ بمفرده

1910 – 2000 أمة البهاء روحية خانم (ماري سذرلاند ماكسويل)

Hand of the Cause of God Amatu’l-Bahá Rúhíyyih Khánum (1910-2000)

كانت أمة البهاء روحية خانم ابنة وليام سذرلاند ماكسويل وماي بولز ماكسويل. ينتمي والدها إلى عائلة من الاسكتلنديين الكنديين القدامى، وأحد أيادي أمر الله، والمهندس المعماري المتميّز الذي صمّم البناء الفوقي لمقام حضرة الباب. كان رجلاً ورعًا طاهرًا، وواحدًا من قلّة كانت لديهم علاقة شخصية وثيقة مع حضرة وليّ أمر الله. أمّا والدتها فكانت أمريكية وأوّل بهائية في أوروبا ولاحقًا في مونترِيال، وقد منحها حضرة شوقي أفندي لقب «أمة حضرة عبدالبهاء المحبوبة» و«التلميذة المتميّزة» لحضرته. لقد فازت «بالشرف الذي لا يقدّر بثمن» وهو «الموت شهيدة» عند وفاتها في عام 1940.(1)

ولدت أمة البهاء روحية خانم، واسمها الأصلي ماري سذرلاند ماكسويل، بعد ثماني سنوات من زواج والديها. كان مولدها في 8 آب 1910 استجابة لدعائهما في المرقد المقدّس في عكّاء، حينما كانت ماي وسذرلاند ماكسويل في رحلة الحجّ في شباط 1909. سبق لماي أن قامت بحجّها الأوّل عام 1899، والآن استقبلتها منيرة خانم، حرم حضرة عبدالبهاء بهذه الكلمات: ‘أوّلاً جئتِ فتاة شابّة، والآن مع زوجك؛ وفي زيارتك القادمة سوف تأتين مع طفلك!’(2) كان الزوجان ماكسويل يقتربان من منتصف العمر عندما ولدت ماري، وتلقّيا رسالة من حضرة عبدالبهاء في عام 1911:

كانت أعزّ رغباتكما إنجاب طفل، ومن أجلها قمتما بالصلاة والدعاء وأنتما في عكّاء. حمدًا لله أنّ دعاءكما استجيب ورغبتكما تحقّقت. لقد أزهرت في حديقة الوجود وردة بأقصى درجة من النضارة والعطر والجمال.(3)

في عام 1913 كتب حضرته لهما: ‘أدعو الله أن تصبح هذه الطفلة عظيمة ورائعة في الملكوت الإلهي’.(4)

في عام 1912 زار حضرة عبدالبهاء مونترِيال، ومكث ثلاث ليال في منزل ماكسويل. كان عمر ماري آنذاك سنتين، وقد أغدق عليها حضرة عبدالبهاء بفيض محبّته. وفي وقت لاحق من ذلك العام اصطحبتها والدتها إلى نيويورك والتقت بالمولى مرّة أخرى.

عندما كانت طفلة، تلقّت ماري الكثير من التوجيه الروحاني من والدتها. وفي حوالي عام 1914، وماري لا تزال طفلة صغيرة جدًّا، فتحت السيّدة ماكسويل مدرسة مونتيسوري التي كانت ربّما الأولى في شرقي كندا بل فيها قاطبة، وذلك في منزلهم لأجل ماري وقليل من الأطفال الآخرين. جرى تعليم ماري إلى حدّ كبير في المنزل مع مدرّسين خصوصيين. ‘بما وُهبت به من طاقة هائلة وعقل باحث بكلّ تركيز، استكملت هذا المنهاج الأساسي مع مجموعة منتقاة من الدراسات التي شملت مواضيع متنوّعة مثل الاقتصاد والأدب واللغة الألمانية.’(5) عندما كبرت ماري سجّلت للدراسة في جامعة ماكغيل كطالبة بدوام جزئي.

كان تأثير والدَي ماري عليها كبيرًا: ‘كانت الروابط العائلية وثيقة فوق العادة، فكان أن تأثّرت ماري بقوّة بروح التسامح والنظرة العالمية التي كانت تحرّك والدتها، وبإبداعات والدها.’(6) كانت ماي ماكسويل شخصية مستقلّة، تتوق للحقيقة وجريئة في نشاطها التبليغي، ودودة وتُظهر تعاطفًا خاصًّا لمن هم أقلّ حظًا. ذكر حضرة عبدالبهاء إنّ ‘ماي ماكسويل بهائية حقًّا، فهي لم تتنفس نفسًا أو تنطق بكلمة إلاّ في خدمة أمر الله.’ ‘كلّ من يلتقي بها يشعر بمعشرها بإحساسات الملكوت. فرفقتها تسمو بالروح وترتقي بها.’(7) كان سذرلاند ماكسويل رجلاً يتمتّع بملكة حسن الحكم والتقدير والاستقامة والصدق واللطافة والودّ والحفاوة(8)، هو الذي أورث ابنته تقديره الفنّي وموهبته. كان حضرة عبدالبهاء يحبّ سذرلاند كثيرًا وأخبر ماي خلال زيارته لمونترِيال أنّ عليها أن لا تهمل زوجها الآن بعد أن أصبح لديها طفلة.(9)

عندما كان عمرها ثماني سنوات، كانت ماري مع الأطفال البهائيين الذين شاركوا في حفل كشف الستار عن ألواح الخطّة الإلهية في مؤتمر الوكلاء السنوي البهائي الحادي عشر في نيويورك في عام 1919. وألقت أوّل محاضرة بهائية عندما كانت في الخامسة عشر من عمرها. كانت أوّلاً عضوة في لجنة الشباب البهائي في مونترِيال، وفي وقت لاحق في لجنة الشباب للولايات المتّحدة وكندا، وكانت عضوًا مؤسِّسًا لزمالة الشباب الكندي للسلام.

قامت ماري بثلاث زيارات للحجّ إلى الأرض الأقدس. الأولى في عام 1923 مع والدتها التي لم تكن أبدًا قويّة البنية، وقد تعرّضت لانهيار كامل بعد صعود حضرة عبدالبهاء. شعر سذرلاند ماكسويل وقتها أنّ الأمل الوحيد لزوجته في استعادة صحّتها هو قيامها بالحجّ لرؤية حضرة شوقي أفندي. وهكذا وصلت ماري وأمّها إلى حيفا في نيسان 1923 لزيارة وليّ أمر الله الجديد الذي كان ‘بالفعل هو من بعث الحياة في امرأة قَضَّها المرض الشديد وأقعدها عن المشي ولو خطوة واحدة’.(10) بقيتا في الأرض الأقدس ومصر مدّة سنة تقريبًا، وفي مناسبتين أمضتا عدّة أشهر في حيفا. كان حضرة شوقي أفندي مثقلاً في ذلك الحين بعبء مكائد ناقضي العهد، فكان تأثّر الشابّة ماري بمعاناته كبيرًا:

لن أنسى أبدًا منظره حينما استدعاني ووالدتي إلى غرفة نومه عام 1923. وقفنا حينها عند حافّة سريره حيث كان يستلقي، وبدا لنا واضحًا منهك القوى كسير القلب وتحت عينيه ظلال سوداء قاتمة. أخبرنا بأنّه لا يستطيع التحمّل وسوف يبتعد.(11)

قامت ماري بالحجّ في سفرها الثاني في عام 1926، عندما كانت برفقة جولييت طومسون وديزي سميث، وهما من أصدقاء والدتها. في عام 1937 جاءت إلى حيفا للمرّة الثالثة، لتصل في كانون الثاني مع والدتها. في يوم 24 آذار تزوّجت من حضرة شوقي أفندي في احتفال بسيط في غرفة الورقة المباركة العليا في حيفا. وقد كتبت والدتها في وقت لاحق ما يلي:

مرّ وقت عانيت فيه من ضعف الأمومة والرغبة الغريزية في الحماية في مقابل الحرمان من الوسائل الحياتية الخارجية، وخلق الانضباط الصارم في حياة طفلتي… وكنت كلّما أشاهد ذلك التغيير العميق والروحاني في روحية خانم سنة بعد سنة… أتعجّب في فضل الله وكمال صنعه.(12)

كان زواج روحية خانم من حضرة شوقي أفندي متواضعًا بسيطًا ولكنّه تاريخيًا رغم ذلك. لم يعلم أحد باستثناء الزوجين، ووالديهما وشقيق واحد وشقيقتين لحضرة شوقي أفندي، أنّ حفل الزفاف كان سيتمّ. في تلك المناسبة، كانت ماري ترتدي اللون الأسود بالكامل – كما هو معتاد بين النساء الشرقيّات في ذلك الوقت – باستثناء بلوزة بيضاء من الدانتيل. توجّه الزوجان بالسيّارة إلى البهجة، حيث أمسك حضرة شوقي أفندي بالخاتم الذي سبق أن أعطاه لماري، ووضعه في إصبعها. كان هذا خاتمًا ذهبيًا بسيطًا، نقش عليه رمز الاسم الأعظم كانت الورقة المباركة العليا قد أعطته لحضرة شوقي أفندي. ثم دخل حضرة شوقي أفندي إلى الضريح الداخلي لحضرة بهاءالله، وجمع بعض التويجات والزهور من العتبة المباركة ثم تلا لوح الزيارة. بعد ذلك عاد الزوجان إلى حيفا وذهبا إلى غرفة الورقة المباركة العليا، حيث جرت مراسم الزواج. ‘لم يكن هناك احتفال ولا زهور ولا مراسيم مُعَدَّة مسبقًا ولا ثوب زفاف ولا حفل استقبال.’(13) ثم ذهبت ماري، روحية خانم الآن، السيّدة ربّاني، إلى دار ضيافة الحجّاج الغربيين للانضمام إلى والديها بينما عاد حضرة شوقي أفندي إلى ممارسة عمله.

بالرغم من بساطة الزفاف، اعتبر حضرة شوقي أفندي زواجه حدثًا هامًّا. فقد أغدق على والدَي روحية خانم بتهانيه أثناء العشاء في ذلك المساء، وقدّم حفنة الزهور التي جمعها إلى ماي في ذكرى هذه المناسبة. تمّ إرسال خبر الزواج برقيًا إلى الجامعات البهائية في أمريكا وإيران بتوقيع والدة حضرة شوقي أفندي:

«أعلِنوا للمحافل الروحانية نبأ الاحتفال بزواج وليّ الأمر المحبوب. شرف لا يُثمّن أسبغ على أمة بهاءالله روحية خانم الآنسة ماري ماكسويل. الوحدة التي أعلنها الدين البهائي بين الشرق والغرب قد ترسّخت.(14)

بهذا الإعلان تدفّق سيل من التهاني من البهائيين في أنحاء العالم.

بعد زواجه، استمرّ عمل حضرة شوقي أفندي وانتصاراته وأزماته كما كان الأمر من قبل، عدا أنّ لديه الآن رفيقة مخلصة تقاسمه بعضًا من أعبائه. عملت روحية خانم كسكرتيرة لحضرة شوقي أفندي مدّة ستّ عشرة سنة من أصل عشرين سنة قضياها معًا. كانت الى جانبه عندما: خاطب بهائيي الغرب في «ظهور العدل الإلهي» و«قد أتى اليوم الموعود»، ونجا حضرته من السقوط في يد القوّات النازية الغازية في فرنسا، وسافر عبر أفريقيا من الجنوب إلى الشمال كأسلم طريق بين لندن وحيفا في عام 1940، وكتب «كتاب القرن البديع»، وبقي في حيفا خلال الحرب الأهلية الخطيرة، وأشرف على تكملة البناء الفوقي لمقام حضرة الباب، ونجح في تأمين امتلاك قصر المزرعة، وشهد نفور عائلته وعدم ولاء أفرادها، وأطلق مشروع الجهاد الروحاني العالمي المقدّر له وصول ذروته بانتخاب بيت العدل الأعظم الأوّل، وواجه أسوأ أزمة يمرّ بها أمر الله في أرض مهده في عام 1955، وأشرف على انتشار أمر الله في مائة وخمسة وسبعين بلدًا في جميع أنحاء العالم.

كانت روحية خانم الرفيقة المساعدة التي لا تكلّ لحضرة شوقي أفندي. وكسكرتيرته، كانت تستمع إليه بعناية عندما يملي عليها رسائل لا حصر لها، أو يلخّص ردودًا على الفيض المتواصل والمتزايد من البريد الوارد، أو يقرأ بصوت عال تراجمه ورسائله. عملت معه لساعات على «كتاب القرن البديع»، حيث كانت تقرأ المخطوطة الأصلية، وتدقّق النصّ وتجري التصحيحات، وتضيف باليد «علامات ضبط اللهجة» التي تبدو لا نهاية لها. كانت تعمل ترتيبات السفر، وتلتقي الشخصيّات البارزة، تدير منزل الأسرة وتمثّل حضرته في مناسبات وفعاليات. ساعدته في صنع خرائطه، ورعته في تجاوز الأزمات والمرض والإرهاق.

وكما جاهدت روحية خانم للتخفيف عن حضرة شوقي أفندي بعض أعبائه، عانت معه أحزانه وآلامه. قالت إنّه أشبه بمقياس الضغط الجوّي (بارومتر) لأمر الله، مسجّلاً الأخبار الجيّدة والسيّئة بالفرح أو الترح. عندما يقوم بعض الأفراد الطائشين أو المؤسّسات بتصرّف أرعن يضيف إلى كاهله عبئًا جديدًا، كانت تنزعج. وعندما كانت ضغوطُ اقتضاء رجوع كلّ شيء إليه تتعبه أو تحزنه، تشاركه قلقه. وعندما تنكّر له أفراد عائلته واحدًا تلو الآخر، كانت تقاسمه حزنه وألمه. وعندما ينطرح منهك القوى أو يبكى من وطأة محنه، دعت وتوسّلت إلى الله. كم من مرّة كانت ترقبه روحية خانم وهي تعاني إلى جانبه فتدعو وتبتهل وتتساءل ما إذا كانت شمعة حياة حضرة شوقي أفندي ستطفأ سريعًا نتيجة همومه.

وفي إشارتها إلى تحذير حضرة عبدالبهاء بأن لا يقع على خاطر حضرة شوقي أفندي النوراني غبار الكدر والحزن، سجّلت روحية خانم في مذكراتها ما يلي:

لم أكن أتمنّى حتى للشيطان ما يقاسيه حضرة شوقي أفندي وأنا من معاناة؛ معاناة لا أستطيع وصفها إطلاقًا – معاناة ذهنية، وضاغطة على الأعصاب… وحيدًا… يعمل، ويعمل، ويعمل طيلة اليوم. شراء أراضٍ، مشاكل، رسائل، استفسارات، نزوع للأذى، نوايا سيّئة، شكّ وارتياب، وهكذا إلى ما لا نهاية.(15)

‘أظنّ أنّ هناك عددًا من أنواع الجحيم بقدْر نفوس العباد. ولكن ليس الكثير منهم، كما أتمنّى، يعيشون في الجحيم الخاصّ بنا أنا وحضرة شوقي أفندي. (لأولئك الذين قد لا يتفهّمون… فأعني بها الكرب الشديد والمعاناة الحارقة).(16)

أنعم حضرة شوقي أفندي على روحية خانم لقب «أمة البهاء»، وربّما كانت إشادته بها أعظم شهادة على الدور الذي لعبته إلى جانبه:

كانت عضوًا في تلك الجامعة نفسها [كندا] تلك التي فازت بالتميّز الخالد بأن دُعيت لتكون رفيقة دربي، ودرعي في درء سهام ناقضي العهد، ومعاوِنتي التي لا تكلّ في المهامّ الشاقّة الملقاة على كاهلي.(17)

على مرّ السنين، سافرت روحية خانم وحضرة شوقي أفندي في رحلات معًا إلى إنجلترا وأوروبا وأفريقيا. وجلسا في مجلس العموم في شرفة الضيوف خلال إحدى الجلسات، وأدركت روحية خانم كيف أنّ هذا المشهد لا بدّ وأنه قد أثّر في حضرة شوقي أفندي عندما كان شابًّا. زارا معًا المتاحف الأوروبية الشهيرة والمعارض الفنّية، وسرّها حبّه للتماثيل والجمال. عندما سافرا عبر أفريقيا، فاجأها حضرة شوقي أفندي برغبته في رؤية الكونغو البلجيكية. سافرا عدّة مرّات إلى سويسرا، حيث كانت سعيدة لرؤيته يستمتع بجمال الطبيعة في الريف.

في عام 1951 أسّس حضرة شوقي أفندي المجلس البهائي العالمي باعتباره مقدّمة لتشكيل بيت العدل الأعظم. وفي 8 آذار عام 1952 قام حضرته بتوسيع عضوية المجلس مضيفًا، من بين آخرين، أمة البهاء روحية خانم كحلقة وصل بينه وبين المجلس. بعد ثمانية عشر يومًا، عُيّنت روحية خانم في وظيفة أيادي أمر الله في مكان والدها، الذي وافته المنيّة يوم 25 آذار 1952. وعن تعيينها، والآخرين، كتبت في وقت لاحق:

أن تحاول وصف مشاعر الذهول المجبولة بالإحساس بعدم اللياقة والاستحقاق إلى جانب رهبة هذا الخبر المشرّف التي تنتاب متلقّيه، إنّما يعدّ ضربًا من المستحيل. فقد تلقّاه كلّ قلب وكأنّه سهم اخترقه فأيقظ فيه حبًّا أكبر لوليّ أمر الله ووفاءً وإخلاصًا لم يكن فيه بهذا القدر من قبل.(18)

بعد خمس سنوات ونصف على تعيينها، أصيبت روحية خانم بصدمة عنيفة تركتها حزينة تتألّم بصعود حضرة شوقي أفندي المفاجئ والمبكر بينما كانا في لندن. وقد وصفت الألم الذي لا يطاق تقريبًا في صباح يوم 4 تشرين الثاني 1957 فكتبت: ‘وأنا في لجّة أحزاني في ذلك اليوم الأسود الرهيب’.(19) كان شاغلها الأوّل حماية أمر الله، ما دفعها لنقل الخبر إلى العالم البهائي في برقيّتين، في الأولى تطلب من البهائيين الدعاء من أجل الحماية الإلهية، وفي الثانية أعلنت عن وفاة حضرة شوقي أفندي:

محبوب قلوب الجميع حضرة شوقي أفندي، الوديعة المقدّسة التي منحها المولى للأحبّاء، قد وافته المنيّة إثر إصابته بنوبة قلبية مفاجئة أثناء نومه بعد أن أصيب بالإنفلونزا الآسيوية. ناشدوا الأحبّاء أن يبقوا ثابتين راسخين، وأن يلتفّوا بكلّ محبّة حول مؤسّسة الأيادي التي تأسّست حديثًا واستحكمتْ أركانُها بجهود وليّ الأمر المحبوب. فوحدة القلوب ووحدة الهدف فحسب كفيلان بأن يُثبتا، كما ينبغي ويليق، إخلاصَ جميع المحافل الروحانية المركزية والأحبّاء لوليّ الأمر الراحل الذي فدى نفسه بالكلّيّة لخدمة أمر الله.(20)

عجّلت وفاة حضرة شوقي أفندي بقدوم أسوأ أزمة شهدها أمر الله الناشئ حتى الآن. لأوّل مرّة في تاريخه البالغ (113) سنة، أصبح دين حضرة بهاءالله مجرّدًا من قائد معزّز بالهداية الإلهية. لم يتمكّن أيّ نظم ديني في الماضي من تجنّب الانشقاقات بعد وفاة مؤسّسه، عندما تُركت مسائل العقيدة لِما يمليه الأتباع. ومع ذلك، قام البهائيون الآن بالالتفاف حول أيادي أمر الله لأنّ حضرة شوقي أفندي، في التزامه بوصيّة حضرة عبدالبهاء، قد أوكل للأيادي حماية أمر الله ووضّح علاقتهم بالمحافل الروحانية المركزية. وبذلك زال الخطر المحتمل بتجزئة أمر الله وأمكن التغلّب عليه.

قبل وفاته بخمسة أشهر فقط، وفي يوم 4 حزيران 1957، كان حضرة شوقي أفندي قد أبرق ما يلي:

إنّ مؤسّسة أيادي أمر الله المعيّنة إلهيًا، والمكلّفة بالسلطة الممنوحة في وصيّة مركز العهد بوظيفتين توأم هما حماية أمر حضرة بهاءالله وترويجه، تدخل الآن مرحلة جديدة في عملية تكشّف مهمّتها المقدّسة. وقد أضيف الآن إلى مهامّهم الموكولة حديثًا – وهي مساعدة المحافل الروحانية المركزية والعالم البهائي في الهدف المحدّد المتمثّل في التنفيذ الفاعل لخطّة الجهاد الروحاني العالمي – واجب أساسي في رعاية وتأمين حماية الجامعة البهائية العالمية، وذلك بالتعاون الوثيق مع هذه المحافل الروحانية المركزية نفسها.(21)

في هذه البرقية الرائعة واصل حضرة وليّ أمر الله الكتابة ليصف الأخطار التي يتعرّض لها أمر الله وكرّر توضيح أهمّية تعاون المحافل الروحانية المركزية الوثيق مع الأيادي. وفي رسالته الأخيرة إلى العالم البهائي، في تشرين الأوّل 1957، وصف حضرة شوقي أفندي أيادي أمر الله بأنهم ‘الأمناء الرئيسون لكومنولث حضرة بهاءالله الجنيني، الذين أوكل إليهم القلم المعصوم لمركز عهده الوظيفة المزدوجة المتمثّلة في حماية أمن وسلامة دين والده وضمان نشره وترويجه.’(22)

أكّدت هذه الرسائل المهمّة للغاية أنّ المحافل الروحانية المركزية والإقليمية، جنبًا إلى جنب مع جامعة المؤمنين، سوف تتمسّك بمؤسّسة أيادي أمر الله. ومع ذلك، فبينما تجمّع الأيادي في لندن لحضور جنازة حضرة شوقي أفندي، اتّخذت روحية خانم، وهي في غمرة حزن جعلها عاجزة تقريبًا، تلك الاحتياطات اللازمة لحماية دين الله من أيّ هجوم محتمل. في اليوم نفسه الذي توفّي فيه حضرة شوقي أفندي هاتفت المجلس البهائي العالمي في حيفا، متحدّثة إلى أمينه العامّ، ليروي آيواس، ورتّبت معه أن يبقى باب شقّة حضرة وليّ أمر الله مختومًا بحيث لا يمكن لأحد أن يدخلها إلى أن يتمكّن الأيادي من اتّخاذ الإجراء المناسب. ثم استكملت الترتيبات لكي يقوم السيّد آيواس بإخطار سلطات الدولة بوفاة حضرة شوقي أفندي. وقد كتبت عن حزنها الخاصّ في قصائد تدمي القلب، كُتبت الأولى بعد أقلّ من شهر على وفاة وليّ الأمر، وحُفظت هذه القصائد بين أوراقها الشخصية إلى أن تمّ نشرها في وقت لاحق بعد ثلاثين سنة تقريبًا.(23)

أثناء جنازة حضرة شوقي أفندي في 9 تشرين الثاني، كان زملاؤها الأيادي الدعم والسند لروحية خانم خاصّة أميليا كولنز. وبنفسية محطّمة عادت إلى حيفا بعد الجنازة بوقت قصير. في 15 تشرين الثاني دخلت مع أربعة من أيادي أمر الله الآخرين إلى شقّة حضرة وليّ أمر الله وقاموا بختم خزنته ومكتبه بشريط وبالشمع الأحمر. في 19 تشرين الثاني قامت روحية خانم مع ثمانية آخرين من أيادي أمر الله اختارتهم بنفسها، بدخول الغرفة ثانية لتفحّص الأختام من أيّ عبث وفحص محتويات الخزنة والمكتب. لم يُعثر على أيّ وصيّة أو عهد من حضرة وليّ أمر الله. تجمّع أيادي أمر الله في أوّل اجتماع رسمي لهم في قصر حضرة بهاءالله في البهجة وأصدروا إعلانًا في 25 تشرين الثاني يفيد بأنّ وليّ الأمر لم يترك أيّ وصيّة ولم يعيّن وريثًا له.

تنصّ ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء بأنّه ‘على أيادي أمر الله أن ينتخبوا من بين مجموعهم تسعة أشخاص، وأن ينشغلوا دائمًا بأداء الخدمات الهامّة لوليّ أمر الله’.(24) والآن بعد أن وافت المنيّة حضرة وليّ أمر الله، كتبت روحية خانم في وقت لاحق، ‘واجه الأيادي الواجب الذي لا مفرّ منه المتمثّل بالتصويت من بين أعضاء مؤسّسة الأيادي لمن… يقبل بالعيش والخدمة في المركز العالمي باعتباره واحدًا من الأمناء التسعة القانونيين’.(25) ولمّا كانت روحية خانم، بالفعل أيادي أمر الله ومقيمة في الأرض الأقدس، فقد عُيّنت واحدة من الأمناء.

شاركت روحية خانم في كلّ اجتماع رسمي للأيادي ومثّلت المركز العالمي في العديد من المؤتمرات ومؤتمرات الوكلاء المركزية والأحداث بين عام 1958 وانتخاب بيت العدل الأعظم في عام 1963، وهي: المؤتمر البيقارّي في كمبالا في عام 1958 (وفيه مثّلت حضرة وليّ أمر الله)؛ مؤتمر الأيادي الأوروبيين في كوبنهاغن في عام 1959؛ مؤتمر الوكلاء للولايات المتّحدة وكندا في عام 1960؛ تدشين أمّ المعابد لأفريقيا في كانون الثاني 1961، ولأستراليا في أيلول 1961؛ ومؤتمر الأيادي الأوروبيين في لوكسمبورغ في عام 1962. زارت أيضًا مراكز بهائية في أوغندا وكينيا وتنجانيقا وأستراليا وماليزيا وإندونيسيا وفيتنام وكمبوديا وتايلاند وبورما.

في نيسان عام 1963 انتُخب بيت العدل الأعظم. بعد الانتخاب مباشرة، اجتمع بهائيون من جميع أنحاء العالم في لندن في أوّل مؤتمر بهائي عالمي، بمناسبة مرور مائة سنة على إعلان حضرة بهاءلله والختام الناجح لخطّة العشر سنوات للجهاد الروحاني. كانت روحية خانم أوّل المتحدّثين في الجلسة الافتتاحية واختتمت حديثها بهذه الكلمات:

إنّي متأكّدة أنّ المؤمنين في هذه الغرفة وإخوانهم المؤمنين في جميع أنحاء العالم سوف يواجهون المستقبل الآن بتصميم جديد لإحراز المزيد من الانتصارات الرائعة وأكثر ممّا تحقّق في الماضي. هذه هي الطريقة التي نظهر بها محبّتنا لحضرة بهاءالله، محبّتنا لحضرة عبدالبهاء وامتناننا لفضل الخطّة الإلهية وعناياتها؛ وهذه هي الطريقة التي نظهر بها محبّتنا لوليّ أمر ديننا، الذي أفنى نفسه وأحرقها في قيادته إيّانا على الطريق، وفي توضيحه لنا كيف ننطلق إلى الأمام، وما يجب علينا فعله. إنّي متأكّدة أنّ كلّ بهائي سوف يبذل قصارى جهده في السنوات القادمة.(26)

كان حضرة شوقي أفندي قد ألمح مرّة واحدة فقط إلى ما قد تفعله روحية خانم بعد وفاته: افترض حضرته أن تسافر وتزور الأحبّاء في بلدان مختلفة وتشجّعهم. بعد انتخاب بيت العدل الأعظم، قامت روحية خانم، وهي تقدّم المثل للبهائيين في كلّ مكان عن إمكانيّات ترويج أمر الله، بسفر استثنائي مدهش حول العالم. في سنّ الثالثة والخمسين من عمرها شرعت في سلسلة من الرحلات على مدى ثلاثين سنة تلت، قطعت فيها أكثر من (100٫000) ميل برًّا وحوالي نصف مليون ميل جوًّا. خلال حياتها زارت نحو (185) من البلدان ومن الجزر والأقاليم الرئيسة.

في عام 1964 أمضت روحية خانم تسعة أشهر في شبه القارّة الهندية، سبعة منها في الهند نفسها، حيث قطعت أكثر من (50٫000) ميل جوًّا وبالسكّة الحديد والسيّارة والعربة لزيارة البهائيين في القرى والبلدات في جميع أنحاء البلاد.(27) وفي عام 1967 جالت لمدّة سبعة أشهر في بنما وتسع دول في أمريكا الجنوبية. في 5 آب 1969 وصلت مع رفيقتها، فيوليت نخجواني إلى كمبالا في بداية «رحلة السفاري الأفريقية العظيمة»، التي قامت بها على أربع مراحل انتهت في شباط 1973.(28) خلال السفاري قادت روحية خانم سيّارتها من طراز لاند روفر نحو (36٫000) ميل عبر أربع وثلاثين دولة أفريقية واستقبلها سبعة عشر رئيس دولة. وجّه إليها بيت العدل الأعظم كلمات الثناء هذه على رحلتها الرائعة:

كانت رحلاتكِ في القارّة الأفريقية فريدة لا مثيل لها في عدد البلدان التي قمتِ بزيارتها والمقابلات مع رؤساء الدول ما أحدث شهرة واسعة وتشجيعًا محبّبًا وإنعاشًا روحانيًا، كانت التضحية البطولية بالنفس مثالاً يحتذى حيث تجلّت خلال هذه الفترة الطويلة في ظلّ هذه الظروف الشاقّة. فلتطمئني بأنّ الروح المجيدة لوليّ الأمر المحبوب وبرفقة الروحَين المتألّقتين لوالديكِ الكريمين هي الآن في غاية الابتهاج، وتفتخر على نحو استثنائي بمدى ونوعية ثمار مساعيكِ. أفكارنا المُحبّة معك في هذا اليوم ونرفع الدعاء بحرارة في المقامات ملتمسين أن تشملك بركات حضرة بهاءالله وعناياته أكثر وأكثر وتهدي خطواتك لتعزيز جهودك الهائلة. إنّ روح محبّتك وإخلاصك وتكريسك قد تجلّت بتألّق يجسّد مثالاً يقتدي به عشّاقه المتحمّسون الذين يكدّون في كافّة القارّات كما تقتدي به أجيال لم تولد بعد لا تعدّ ولا تحصى.(29)

في عام 1973 جالت روحية خانم في أنحاء ألاسكا، وفي عام 1974 قامت بأوّل زيارة لها إلى الصين، وزارت أيضًا الهند وسيكيم ونيبال. في عام 1975م شرعت في «حملة الضوء الأخضر» لمدّة سبعة أشهر، حيث سافرت معظم الرحلة بالقوارب لمسافات تعدّت الثمانية آلاف ميل في حوض نهر الأمازون. في عام 1977 بدأت في رحلتها الثالثة إلى الهند وذهبت الى تايلاند وبورما وهونغ كونغ واليابان وأستراليا قبل أن تعود إلى الهند في تشرين الأوّل لوضع حجر الأساس لمشرق أذكار نيودلهي. في عام 1978 زارت عدّة بلدان أوروبية، وقضت تسعة أسابيع في اليابان، ثم سافرت إلى تايوان وهونغ كونغ وماكاو. وأمضت أيضًا عشرة أسابيع في منطقة المحيط الهادئ في أعقاب مؤتمر تدشين بناء مشرق أذكار ساموا. في عام 1981 زارت اثني عشر بلدًا في أمريكا الوسطى وكذلك اسكتلندا وجزر بحر الشمال وقبرص. في عام 1982م أمضت خمسة أسابيع في هاييتي قبل سفرها إلى كندا والولايات المتّحدة وغرينلاند وآيسلندا والمملكة المتّحدة. في عام 1983 زارت تركيا وبلدانًا في أوروبا، بينما في عام 1984–1985، قامت بجولة في ستّ وعشرين دولة في آسيا ومنطقة المحيط الهادئ، بما فيها الهند وتايلاند وكوريا وغوام وبابوا-غينيا الجديدة وساموا وميكرونيزيا وميلانيزيا وبولينيزيا واليابان. في عام 1988 سافرت على نطاق واسع في جميع أنحاء الصين، وزارت البلاد مرّة أخرى في عام 1989 عندما أمضت أيضًا أسبوعًا في منغوليا. في عام 1990 ذهبت إلى الأرجنتين لحضور مؤتمر خاصّ لإحياء الذكرى الخمسين لوفاة والدتها هناك قبل أن تسافر إلى أوروبا والشرق الأقصى والصين والتيبت. في عام 1992 مثّلت بيت العدل الأعظم في المؤتمر العالمي البهائي الثاني في نيويورك. في عام 1993 قامت برحلة شاقّة لمدّة أربعة أشهر إلى ثلاثة عشر بلدًا وإقليمًا من الاتّحاد السوفييتي السابق، وشملت مناطق من ياكوتسك في سيبيريا إلى دول البلطيق في الغرب، ومعظم جمهوريّات آسيا الوسطى وروسيا الوسطى. شهد عام 1994 وجود روحية خانم في منغوليا للمرّة الثانية، وكذلك تركيا ولندن. في كثير من رحلاتها هذه زارت روحية خانم الشعوب البدائية في هذه المناطق النائية من الكوكب، قائلة عن القرويين البسطاء الذين التقتهم:

كانت لي تجارب رائعة مع أبناء القبائل وسكّان القرى… وقد قلت مرّات عديدة، ‘آه! لو تمكّن البهائيون من أن يروا هذا. لو كان في استطاعتهم أن يعرفوا ما هو شعور التواجد في هذه الأماكن، وأن يكون بمقدورهم لقاء هؤلاء الناس، ورؤية كم هم رائعون، حتمًا سيشعرون [البهائيون] باستجابة شخصية أكبر لألواح الخطّة الإلهية، وللنداءات التي أطلقها مرارًا وتكرارًا المولى وحضرة شوقي أفندي، والآن بيت العدل الأعظم.’(30)

أينما توجّهت، شجّعت أمة البهاء المؤمنين على تبليغ أمر الله وجذب أعداد متزايدة من النفوس الجديدة إلى دين الله.

روت أمة البهاء ذات مرّة قصّة حول بيان حضرة شوقي أفندي كيف أنّه يمكن للمؤمنين توجيه دعائهم إلى النفوس المقدّسة التي وافتها المنيّة – وإلى أفراد أسرهم، إلى أولئك الذين يحبّونهم وبالطبع إلى حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء – طالما أنّهم يدركون مقاماتهم. وقالت إنّها كثيرًا ما توجّهت بقلبها في الدعاء إلى أبيها أو أمّها طلبًا للمساعدة. بعد وفاة حضرة شوقي أفندي، عندما كانت تحاول إكمال عمله في مبنى محفظة الآثار العالمية، كثيرًا ما كانت تتوجّه الى والدها لأنّه كان فنانًا ومهندسًا معماريًا عظيمًا وشعرت أنّه كان يساعدها من العالم الآخر. وأثناء رحلاتها الطويلة الشاقّة عبر أفريقيا، كلّما برزت مشاكل في السيّارة، كانت تدعو الملأ الأعلى وتهتف بأنّه لا بدّ أن يكون هناك شخص ما يعرف عن السيّارات! وقالت إنّ ذلك كان ينجح دائمًا.

وصفت فيوليت نخجواني، رفيقة سفر روحية خانم، كيف بلّغت أمة البهاء أمر الله:

لا تستخدم [روحية خانم] مطلقًا الكلمات التي تسيء إلى الناس أو تهين معتقدات الآخرين. فهي تبرز نقاط التشابه وتشجّع الجميع. لا يمكنني أبدًا أن أتذكّر في هذه السنوات العديدة التي تشرّفتُ بالتواجد في لقاءاتها، سماع كلمة انتقاد للأديان الأخرى أو قادتها، أو كلمة جدال أو نزاع. ونتيجة لهذا الموقف، فإنّ الناس في نهاية اجتماعاتها ينجذبون إليها وإلى أمر حضرة بهاءالله، بغضّ النظر عن مزاجهم الذي جاءوا فيه. في كثير من الأحيان أشادت بكل إخلاص، في خطاباتها وفي المقابلات التلفزيونية والإذاعية، بخدمات المبشّرين المسيحيين في أفريقيا، مذكّرة الناس بالقدر الكبير من أعمال الخير التي قاموا بها في الماضي وما زالوا يفعلون.(31)

أتقنت روحية خانم أربع لغات – الإنجليزية والفارسية والألمانية والفرنسية – وكتبت خمسة كتب: «وصفة للحياة»، «الجوهرة الفريدة»، «دليل المهاجرين»، «محبوب العالم»، و«وليّ أمر الدين البهائي». في عام 1996 نشرت مجموعة من قصائدها التي كُتبت في الأشهر التي تلت وفاة حضرة شوقي أفندي، بعنوان «قصائد الوفاة». قامت بتجميع وكتابة المقدّمة لكتاب «الأمناء الرئيسون 1957–1963» وأنتجت فيلمين وثائقيين كاملين (ساعتين) بعنوان «حملة الضوء الأخضر» و«الحجّ». كما كتبت العديد من المقالات والمسرحيّات.

أرست روحية خانم حجر الأساس لمشارق الأذكار في كمبالا (1958)، بنما (1967)، نيودلهي (1977) وساموا (1979) ومثّلت المركز البهائي العالمي في احتفالات افتتاح مشارق الأذكار في ويلمت (1953)، كمبالا وسيدني (1961)، فرانكفورت (1964)، بنما (1972)، ساموا (1984) ونيودلهي (1986).

في عام 1996 حضرت أمة البهاء الاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الجامعة البهائية في البرازيل. في 7–8 آب من ذلك العام، بعد زيارتها البرازيل، حضرت الاحتفال بالذكرى الخمسين لدخول الدين البهائي إلى البرتغال والذي حضره ثلاثمائة من المؤمنين، يمثّلون أكثر من ثمانية بلدان، منهم أفراد من العرق الغجري.

كانت آخر رحلة لها في صيف عام 1997، عندما حضرت مؤتمرًا بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس أمر الله في إسبانيا. في تلك المناسبة التاريخية حضر ألف وخمسمائة من المؤمنين من أربع وأربعين دولة في «قصر المؤتمرات» الجديد في مدريد. لقي المؤتمر تغطية إعلامية وتلفزيونية متميّزة. من مدريد حضرت أمة البهاء مؤتمرًا في إقليم الباسك في شمال إسبانيا، تبعه اجتماع في أليكانتي في الجنوب نُظّم في المقام الأوّل للبهائيين الغجر. في شهر آب زارت لوكسمبورغ، حيث خاطبت مائتين وثلاثين من الأحبّاء، وحثّتهم على تبليغ مبادئ أمر الله بشكل خاصّ، وفي أيلول زارت أكاديمية لاندغ في سويسرا لتأسيس «كرسي ربّاني للتاريخ البهائي». وهناك تحدّثت عن حياة والدتها وشاركت في تسليم الشهادات إلى أوّل دفعة من خرّيجي الأكاديمية بدرجة الماجستير. في حيفا في شهر نيسان 1998، وللمرّة الأخيرة، افتتحت مؤتمر الوكلاء البهائي العالمي – حيث درجت على افتتاح كلّ مؤتمر منذ أوّل انعقاد له في عام 1963.

ولمّا كانت أيادي أمر الله الشجاعة التي لا تكلّ، فإنّ قصيدتها «هذا هو الإيمان»، والتي نظمتها في عام 1953، تعطي بصيرة نافذة في التأثير النبيل الذي وجّه حياتها الطويلة والرائعة:

أن تمشي حيث لا طريق

أن تتنفس حيث لا هواء

أن ترى حيث لا ضوء –

هذا هو الإيمان.

To walk where there is no path

To breathe where there is no air

To see where there is no light –

This is Faith.

أن تصرخ في السكون،

سكون الليل

ودون سماع صدى ما تؤمن به

وتبقى مؤمنًا –

هذا هو الإيمان.

To cry out in the silence,

The silence of the night,

And hearing no echo believe

And believe again and again –

This is Faith.

أن تمسك حصى وتراها جواهر

أن تزرع عِصِيًّا وتراها غابات

أن تبتسم بعيون باكية –

هذا هو الإيمان.

To hold pebbles and see jewels

To raise sticks and see forests

To smile with weeping eyes –

This is Faith.

أن تقول: ‘يا الله، إنّي أؤمن’ 

والغير منكرون،

‘أسمعُ’ حيث لا جواب،

To say: ‘God, I believe’ when

others deny,

‘I hear’ when there is no answer,

 

‘أرى’ ولو أنّ شيئًا لا يُرى –

هذا هو الإيمان.

’I see’ though naught is seen –

This is Faith.

والحبّ المتّقد في القلب،

الحبّ الضاري يصرخ

مخفي أنت ولكنّك هناك!

فاحجب وجهك وأصمِت لسانك

إلاّ أنّني أراك وأسمعك، يا حبيبي،

اضربني واطرحني على الأرض العارية،

ومع ذلك أنهض وأحبّك، يا حبيبي!

هذا هو الإيمان.(32)

And the fierce love in the heart,

The savage love that cries

Hidden Thou art yet there!

Veil Thy face and mute Thy tongue

Yet I see and hear Thee, Love,

Beat me down to the bare earth,

Yet I rise and love Thee, Love!

This is Faith.

 

في يوم 19 كانون الثاني 2000 غادرت أمة البهاء روحية خانم هذه الحياة الدنيا، تاركة وراءها الكثير من المعجبين والمحبّين في جميع أنحاء العالم الذين لم ترتح قلوبهم المكلومة إلاّ بالتفكّر في هذه الكلمات من بيت العدل الأعظم:

إلى البهائيين في العالم،

في الساعات الأولى من صباح هذا اليوم، تحرّرت روح أمة البهاء روحية خانم، الزوجة المحبوبة لحضرة شوقي أفندي، والرابطة الأخيرة المتبقّية للعالم البهائي مع عائلة حضرة عبدالبهاء، من قيود هذا الوجود الدنيوي. في غمرة حزننا، تقوّينا ثقتنا بأنّها التحقت بمجد الملأ الأعلى في محضر الجمال الأبهى.

لكلّ من لمست قلوبهم بعمق كبير، فإنّ الحزن الناجم عن هذه الخسارة التي لا تُعوّض، سوف يهدأ، عندما يشاء الله، بالوعي بذلك الفرح الذي سيكون من نصيبها باتّحادها ثانية مع حضرة وليّ أمر الله ومع المولى، الذي كان نفسه قد رفع الدعاء في المرقد الأقدس أن ينعم على والديها بطفل. عبر القرون القادمة، سوف يتفكّر أتباع حضرة بهاءالله بإعجاب وامتنان في نوعيّة الخدمات – الوهّاجة الغالبة المتّسمة بالذكاء – التي أدّتها لأجل حماية أمر الله وترويجه.

في شبابها تميّزت أمة البهاء بالفعل من خلال أنشطتها في أمريكا الشمالية، وبعد ذلك قدّمت خدمات جليلة لأمر الله في أوروبا، أكان ذلك مع والدتها العزيزة أم لوحدها. كانت رابطتها الحميمة لعشرين سنة مع حضرة شوقي أفندي قد استدعت من قلم حضرته أوسمة من قبيل ‘مُساعِدتي’، ‘درعي’، ‘معاوِنتي التي لا تكلّ في المهامّ الشاقّة التي أحملها على عاتقي.’ ولهذه الإشادات أضاف في عام 1952 قراره برفعها إلى رتبة أيادي أمر الله، بعد وفاة والدها اللامع.

إنّ صدمتها المدمّرة لرحيل حضرة وليّ أمر الله المحبوب قد قوّت تصميمها وشحذت عزمها على القيام بنصيبها، مع أيادي أمر الله الأخرين، لأجل تحقيق النجاح المؤزّر لمشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني، والقيام في ما بعد بأسفارها العالمية التاريخية المتّسمة بالجرأة والبسالة.

إنّ حياتها النبيلة في منشئها، الحاسمة جدًّا في الحفاظ على سلامة أمر الله، والغنية للغاية في خدماتها المكرّسة المتواصلة والمتفانية، تدفعنا للدعوة لإحياء ذكراها بشكل لائق من قبل الجامعات البهائية على الصعيدين المركزي والمحلّي على حدّ سواء، وكذلك عقد اجتماعات خاصّة في ذكراها في جميع مشارق الأذكار.

بقلوب توّاقة نبتهل لدى العتبة المقدّسة أن تشمل روحها عنايات الله اللامحدودة وهي تتبوّأ مقامها اللائق بها والذي استحقّته عن جدارة بين الملأ الأعلى في الملكوت الأبهى. بيت العدل الأعظم.(32)

جرت مراسم الجنازة في بيت المولى في حيفا، الذي كان منزلها لأكثر من ستّين سنة، وذلك بحضور أعضاء بيت العدل الأعظم ودار التبليغ العالمية، وأفراد الأسرة، وجمع من الحجّاج، وضيوف مدعوّين والموظفين العاملين في المركز العالمي. بعد المراسم، أخلد جثمان أمة البهاء روحية خانم للراحة الأبدية في الحديقة المقابلة لبيت المولى الواقعة بين دارَي ضيافة الحجّاج التاريخيتين حيث كانت تقيم خلال أسفار حجّها إلى الأرض الأقدس.

 

1.
Bahá’í World, vol. 8, p. 631.
2.
المصدر السابق، الصفحة 637.
3.
المصدر السابق.
4.
المصدر السابق.
5.
Douglas Martin, in Rabbani, Poems of the Passing, p. x.
6.
المصدر السابق.
7.
Bahá’í World, vol. 8, p. 638.
8.
Bahá’í World, vol. 12, p. 658.
9.
المصدر السابق.
10.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 170.
11.
المصدر السابق، الصفحة 133.
12.
Bahá’í World, vol. 8, p. 641.
13.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 171.
14.
المصدر السابق.
15.
المصدر السابق، الصفحة 189.
16.
المصدر السابق، الصفحة 199.
17.
Shoghi Effendi, Messages to Canada, p. 141.
18.
روحية ربّاني، «الجوهرة الفريدة»، الصفحة 288.
19.
المصدر السابق، الصفحة 484.
20.
المصدر السابق، الصفحة 485.
21.
Bahá’í World, vol. 13, p. 338.
22.
Shoghi Effendi, Messages to the Bahá’í World, p. 127.
23.
See Rabbani, Poems of the Passing.
24.
«كتاب عهدي وألواح وصايا حضرة عبدالبهاء»، الصفحة 38.
25.
Rúḥíyyih Khánum, Introduction to Ministry of the Custodians, p. 10.
26.
Bahá’í World, vol. 14, pp. 62–3.
27.
This journey is documented in Nakhjavání, Amatu’l-Bahá Visits India.
28.
This journey is documented in Nakhjavání, The Great African Safari.
29.
Bahá’í World, vol. 15, p. 588.
30.
Bahá’í News, January 1976, p. 20.
31.
Bahá’í News, June 1973, pp. 18–19.
32.
Rabbani, ‘This is Faith’, 1953.
33.
Bahá’í World 1999–2000, p. 194–5.

1897 – 1990 جلال خاضع (جلال الله خاضع)

Hand of the Cause of God Jalál Kházeh, also transliterated as Jalál Kháḍih (1897-1990)

تلقّى جلال خاضع العديد من رسائل الإطراء والتشجيع من محبوبه حضرة وليّ أمر الله: ‘أنا فخور بخدماتك في تشجيع الأحبّاء في المراكز على القيام والمشاركة في مشروع الجهاد الروحاني’؛ ‘شجّعوه [أي خاضع] على مواصلة رحلاته وأكّدوا له على مدى تقدير حضرة وليّ أمر الله العميق لخدماته الرائعة’؛ ‘أُقدِّرُ بعمق خدماته المستمرّّة… تترك رحلاته إلى الجامعات البهائية والمراكز المختلفة انطباعًا باقيًا في نفوس الأحبّاء’(1) كشف السيّد خاضع، الذي ينير مثاله في الخدمة لأمر الله معاني ‘الاصطبار البطولي’ و ‘الإقدام الراسخ’، في سيرته الذاتية بعد عدّة سنوات، عن ردّ فعله باستغراب حيال هذا العطف الودود، كتب يقول: ‘إذا خطونا خطوة واحدة بصدق وإخلاص في سبيل حضرته الرفيع، فإنّه يتقدّم نحونا ألف خطوة بطيبة قلبه وفضله’.(2)

ولد جلال الله خاضع في 24 شباط عام 1897 في طهران. كان والده غلام رضا، من أهالي قرية سِدِه قرب إصفهان، حيث اضطرّ إلى مغادرتها بسبب الاضطهاد. كانت أوّل زوجة لغلام رضا قد تركته للزواج من مسلم، وبعد ذلك تزوّج من جمالية الطهراني، ابنة الكربلائي مهدي الطهراني، والذي سبق أن سجن لمدّة ثلاث سنوات في سياه چال بطهران بسبب دينه. كان أطفال غلام رضا وجمالية هما جلال الله وفَرْخُنْدِه.

عانى غلام رضا من حالة صحّية سيّئة وتوفّي عن عمر يناهز الخامسة والثلاثين. كان جلال حينها في السابعة فقط من عمره وأخته في الخامسة. ربّت الأم الطفلين وأشرفت على تعليمهما. تلقّى جلال تعليمه الابتدائي في مدرسة «تربيت» في طهران وفي الصفوف البهائية الأسبوعية بإشراف آقا محمّد حسين أُلفت وعلي أكبر الرفسنجاني. وفي ظلّ توجيه والدته وتعليمات هذين العالمين الكبيرين، ترعرع جلال وإيمانه في أمر الجمال المبارك مترسّخ بثبات.

منذ سنّ السابعة عشر درس جلال مهنة الطبّ البيطري، ثم مارسها وهو يعمل في الغالب ضابطًا في الجيش. في سنّ التاسعة عشر رُفّع إلى رتبة ملازم أوّل. خلال سنوات خدمته في الجيش عمل في العديد من المدن، بما فيها قزوين، همدان، كرمانشاه، سنندج، خرّم آباد، بروجرد والأهواز. في كلّ من هذه الأماكن خدم عضوًا في المحفل الروحاني المحلّي، وفي لجان بهائية. تقاعد من الجيش برتبة عقيد في عام 1943.

عندما كان جلال في التاسعة عشر من عمره تزوّج من جمالية، ابنة الأستاذ حسن علي معمارباشي الكاشاني. وقد رزقا بابنين وثلاث بنات.

في غضون سنة بعد تقاعده انتُخب جلال خاضع عضوًا في المحفل الروحاني المركزي في إيران. كان مؤتمر الوكلاء المركزي في ذلك العام مناسبة خاصّة، لأنّه عُقد في شيراز في الذكرى المئوية الأولى لإعلان حضرة الباب، وحضره السيّد خاضع كوكيل. خدم في المحفل الروحاني المركزي لمدّة خمس سنوات، وفي ما بعد انتُخب عضوًا في المحفل الروحاني المحلّي لطهران وسكرتيرًا له مدّة ثلاث سنوات. وإلى جانب مهامّه الإدارية، سافر السيّد خاضع على نطاق واسع في إيران لتبليغ أمر الله وتشجيع المؤمنين – خدمات عادت عليه بالكثير من الثناء والتشجيع من حضرة وليّ أمر الله. وأخيرًا استقال من خدمته في المحفل الروحاني في نهاية عام 1951 لتكريس وقته للتبليغ الجوّال.

في حدود هذا الوقت حصل على إذن من حضرة وليّ أمر الله للذهاب للحجّ، في آذار عام 1952 إلى الأرض الأقدس لزيارة الأماكن المقدّسة في حيفا وعكّاء ولقاء حضرة شوقي أفندي. غيّر هذا اللقاء حياة جلال، وفي كثير من الأحيان بعد ذلك وصف نفسه بأنّه ‘خَلْقٌ جديدٌ’. أوكل حضرة شوقي أفندي إلى مريده مهمّة خدمة أمر الله في أنحاء بلاد فارس، وخصوصًا تعريف الأحبّاء بأهداف مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني وشحذ هممهم لتحقيقها. وأكّد حضرة وليّ أمر الله أنّه يجب إعطاء الأفضلية للمراكز المنعزلة أكثر من المراكز التي تضمّ مجموعات، حيث صرّح ‘إذا لم نقم بزيارة الأحبّاء المنعزلين في مواقعهم كمهاجرين أو لأيّ سبب آخر، فإنّ شجرة حياتهم الروحانية سوف تذبل.’(3)

توجّه إلى المحفل الروحاني المركزي وطلب معرفة عدد المراكز البهائية في بلاد فارس. فأعطاه قائمة تضمّ ألف مركز، شملت المحافل الروحانية والمجموعات والمؤمنين في المراكز المنعزلة. في وقت لاحق وجد السيّد خاضع أنّ كلّ مركز يتطلّب التزامًا بثلاثة أيّام من الوقت نظرًا لرداءة الطرق. فعليه السفر ماشيًا وبالدرّاجة وعلى ظهر الحصان والحمار وبالسيّارة لإكمال المهمّة التي حدّدها له حضرة وليّ أمر الله. أدرك أنّ هذه المهمّة ستتطلّب ثماني سنوات من السفر المتواصل.(4)

ولإدراكه دائمًا أهمّية زيارة المؤمنين في المراكز المنعزلة، سافر السيّد خاضع ذات مرّة مسافة خمسين كيلومترًا راكبًا بغلاً مدّة يومين عبر الغابات والجبال لملاقاة المؤمن الوحيد في ديلمان. في نهاية رحلته المرهقة تطلّب الأمر حمله إلى داخل غرفة في منزل المؤمن حيث سقط منهارًا على الأرض غير قادر على التفوّه بكلمة واحدة. بعد أن استراح وعندما علم مضيفه أنّ السيّد خاضع مبعوث من قبل حضرة وليّ أمر الله المحبوب، غلبت عليه العواطف بحيث أصرّ على الطواف حول ضيفه. كتب جلال خاضع بعد سنوات قائلاً: ‘بدأ يدور حولي عدّة مرّات وهو يتلو الألواح المباركة والمناجاة ويذرف الدموع… شعرت أنّ هذا الرجل بذل جهدًا وقوّة جعلتني أجلس في مكاني.’(5)

بأمر من حضرة وليّ أمر الله، حضر جلال خاضع المؤتمر البيقارّي في كمبالا بأوغندا عام 1953، وبعد ذلك زار الجامعات البهائية في كينيا وإثيوبيا وإريتريا وعدن ومسقط والبحرين والكويت.

في إحدى سفراته في أنحاء إيران، أيقظه بعض الأحبّاء من النوم في الساعة الرابعة من صباح أحد الأيّام في أواخر كانون الأوّل 1953، حيث وصلت برقية تفيد بتعيينه أياديًا لأمر الله، وكان الأحبّاء يرغبون في تهنئته. وإذ أربكه الخبر، انزوى ليناجي ربّه. ذكر السيّد خاضع بخصوص تعيينه: ‘الله وحده يعلم بما آلت إليه حالي عندما قرأت هذه البرقية. فمن ناحية رأيت ضعفي، ومن أخرى رأيت صعوبة ما ينتظرني، فبدأت نار اليأس وقلّة الحيلة تلتهمني.’(6)

في رضوان عام 1954، أعيد انتخاب جلال خاضع عضوًا في المحفل الروحاني المركزي. ومع ذلك واصل أسفاره الواسعة في إيران، ممّا دفع حضرة وليّ أمر الله إلى التعليق في رسالة كتبت بالنيابة عن حضرته، ‘إنّ خدماتك ورحلاتك تقدّم مثالاً للأحبّاء في إيران’.(7)

حتى ذلك الوقت، كان ميدان خدمة السيّد خاضع مقتصرًا تقريبًا على إيران، أمّا الآن فتقرّر أن يعمل في الساحة العالمية. في نيسان 1957 مثّل حضرة وليّ أمر الله في الانتخاب الأوّل للمحفل الروحاني الإقليمي لشمال شرق آسيا، الذي جرى في طوكيو. من هناك سافر إلى كوريا وتايوان وهونغ كونغ وبورما والباكستان، حيث زار البهائيين وشجّعهم.

بعد صعود حضرة وليّ أمر الله لم يستطع السيّد خاضع أن يحقّق هدفه بزيارة جميع المراكز البهائية في إيران. وباعتباره واحدًا من أيادي أمر الله التسعة العاملين كأمناء رئيسين خلال الفترة الفاصلة، عاش مع زوجته في الأرض الأقدس من تشرين الثاني 1957 حتى أيلول 1963.

خلال تلك السنوات كانت سفراته على نطاق عالمي، فضلاً عن خدمة أمر الله في الأرض الأقدس. وقد طلب منه حضرات أيادي أمر الله زيارة جميع المراكز البهائية الهامّة في إيران ليشرح للأحبّاء سبب عدم وجود وليّ لأمر الله ويُدخل السكينة والاطمئنان إلى قلوبهم بشأن وضع أمر الله. في عام 1958، حضر المؤتمر البيقارّي في فرانكفورت، وبعد ذلك زار الجامعات البهائية في هولندا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا والنمسا والمملكة المتّحدة وتركيا. في عام 1960 قضى خمسة أشهر في الهند وسريلانكا.

عندما قرّر بيت العدل الأعظم المنتخب حديثًا في عام 1963 أنّه ينبغي لخمسة من أيادي أمر الله البقاء في الأرض الأقدس، اختار السيّد خاضع أمريكا الجنوبية كميدان لخدماته. فاستقرّ مع زوجته في كامبيناس، في ولاية ساو باولو في البرازيل. ومن ذلك الموقع استطاع أن يخدم عشرة محافل روحانية مركزية ومراكزها البهائية. وعلى مدى السنوات الستّ التي تلت قام بأسفار واسعة في جميع أنحاء القارّة. ساعد أيضًا في تطوير نشرة أخبار بهائية في أمريكا اللاتينية، وزار أمريكا الشمالية وأمريكا الوسطى وأوروبا، وفي عام 1968 حضر في بوليفيا الجلسة الافتتاحية لهيئة المشاورين القارّية الأولى في أمريكا الجنوبية.

في عام 1969 عاد السيّد خاضع لفترة وجيزة إلى إيران قبل الشروع في رحلة لمدّة ستّة أشهر في ستّ عشرة دولة أوروبية. في نهاية الأمر، عانى من تبعات ضعف القلب ودخل المستشفى. ومع ذلك، حضر في رضوان 1970 مؤتمر الوكلاء المركزي الافتتاحي لداهومي وتوغو والنيجر في كوتونو ولغانا في أكرا، وبعد أربعة أشهر حضر مؤتمر المحيطات في موريشيوس. ثم عاد إلى إيران، حيث ألهم الأحبّاء بالقيام بنشاط تبليغي ناجح في الأقاليم. في عام 1972 مثّل بيت العدل الأعظم في مؤتمر الوكلاء المركزي الافتتاحي لكلّ من سنغافورة وشرق ماليزيا وبروناي. ورغم استمرار تدهور حالته الصحّية فقد سافر حول العالم في عام 1973، حيث زار الهند، اليابان، ألاسكا، كندا، الولايات المتّحدة وسويسرا. في العام التالي عاد إلى أمريكا الجنوبية في جولة مطوّلة أعقبها بزيارات إلى العديد من المراكز المحلّية في جزر الكاريبي.

وبينما كان في ألاسكا، شرح بعض المؤمنين من السكّان الأصليين الحاضرين في تجمّع كبير حضره أيضًا مؤمنون أمريكيون، للسيّد خاضع أنّ الأمريكيين لم يعطوهم فرصة للاشتراك في المشاورات وإبداء آرائهم. ولأنّ الأمريكيين كانوا على درجة عالية من العلم، فإنّهم يدركون الأمور بسرعة كبيرة وبعد ذلك يتّخذون القرارات، وأوضح الهنود أنّهم يجب أن يفكّروا في القضايا نفسها قبل التوصّل إلى نتيجة. وهكذا، من خلال دفء محبّته وحضوره الودود ونصائحه الحكيمة نجح السيّد خاضع نجاحًا باهرًا في أن يتوصّل الهنود والأمريكيون إلى تفاهم فيما بينهم. فما كان من الهنود إلاّ أن اعتبروه جَدًّا لهم ولقبّوه كييالهوي أي «صانع السلام». فاحتضن الأمريكيون الأحبّاءَ الهنود كإخوة وطلبوا أن يسامحوهم.(8)

خلال سنة ونصف بعد ذلك قام جلال خاضع بتجميع دليل قيّم جدًّا للمحافل الروحانية في إيران. في عام 1976، ومن منزله في بابُلسَر، انطلق لزيارة البهائيين في جميع المراكز تقريبًا في محافظتَي مازندران وگيلان. ورغم سوء حالته الصحّية، حضر مؤتمر الوكلاء العالمي في حيفا في عام 1978. ولدى عودته الى إيران فُجع بوفاة زوجته المحبوبة. بعد ذلك بقليل وجد نفسه في خطر داهم عندما دخل الحرس الثوري للجمهورية الإسلامية منزله واستجوبوه وصادروا جميع مراسلاته البهائية ووثائقه وكتبه. وبناء على نصيحة المحفل الروحاني المحلّي، غادر بابلسر إلى طهران وبقي بعيدًا عن الأنظار واضطرّ إلى تغيير مكان إقامته من حين لآخر. عندما صدرت أوامر بإلقاء القبض عليه في عام 1984، ساعدته ابنته نورانية والبهائيون على مغادرة البلاد. فغادر إيران، مع اعتلال صحّته وتراجعها وضعف بصره، عبر مسار صعب وخطر جدًّا ليصل في نهاية الأمر إلى الباكستان، حيث أقام أوّل مرّة في كويتا ثم في كراتشي، كلاجئ لمدّة أربعة أشهر تقريبًا.

بعد تلقّيه تصريحًا بالهجرة إلى كندا، توجّه السيّد خاضع وابنته إلى تورونتو. في ذلك الوقت كان عمره سبعًا وثمانين سنة وضعيفًا جدًّا، وفي السنوات المتبقّية من حياته كان يمكنه خدمة أمر الله فقط من خلال تقديم النصح للأحبّاء. ونظرًا للأنباء الواردة عن سجن بهائيين إيرانيين واستشهادهم، فقد ساءت حالته وتوفّي في 21 شباط عام 1990.

حضر نحو مائتين وخمسين شخصًا مراسم الجنازة بعد ظهر يوم 27 شباط. في ذلك المساء أقيم حفل تأبين في قاعة كبيرة في «مركز العلوم في أونتاريو»، بحضور ما يقرب من خمسمائة شخص. بعد شهرين أقيم حفل تأبين نيابة عن المحفل الروحاني المركزي للمملكة المتّحدة في لندن. شاركت عضو هيئة المعاونين، السيّدة شمسي نويدي، الحاضرين بلمحات عن شخصية السيّد خاضع، التي تبرز كلاًّ من قوامه الوسيم وشخصيّته الدافئة.

كان السيّد خاضع يتحدّث الإنجليزية بشكل جيّد، وقليلاً من الإسبانية، ويتقن الفارسية والعربية على حدّ سواء. كان بليغًا في أحاديثه العامّة مثيرًا إعجاب الناس في معرفته بأمر الله.

تحمل كلمة «خاضع» في مضمونها معنى التواضع باللغتين العربية والفارسية. وهكذا كان الناس يتأثّرون من تواضعه في محضره. قبل عدّة سنوات، عندما أكرمه حضرة وليّ أمر الله بتعيينه أياديًا أمر الله، أرسل جلال الله خاضع هذا الابتهال الرقيق إلى محبوبه في برقية:

فالمستقبل بين يدَي هذا العبد. فإمّا أن أجد بقعة في جنّة القرب من حضرته باجتذاب فضل الله الحافظ الفريد وعنايته، أو أن أكون إنسانًا مهمِلاً وغير مكترث تحرقه نار البعد عن الله. وعليه، فإنّني أرجو دعمك ومساعدتك لعلّ يتمكّن الأزر الضعيف لهذا الفاني من حمل هذا العبء الثقيل، ويبلغ نهاية حسنة في هذا العالم العابر.(9)

كان محبوبه حضرة شوقي أفندي، وقد استشرف المستقبل، يعلم أنّ السيّد خاضع سيصل فعلاً إلى نهاية حسنة، بحيث أجاب: ‘كن مطمئنًّا، أثق بنجاحك الكبير. شوقي.’(10) 

أعلن بيت العدل الأعظم نبأ وفاته بهذه الكلمات:

بحزن عميق نعلن عن وفاة المروّج لأمر الله الصامد الدؤوب أيادي أمر الله جلال خاضع. إنّ مساعيه الحثيثة في مهد أمر الله والأرض الأقدس وأمريكا اللاتينية وأسفاره في جميع أنحاء العالم بعد صعود حضرة وليّ أمر الله، تعدّ جميعها مثالاً مشرقًا للتفاني الذي لا يتزعزع، والشجاعة والولاء الراسخ، والمثابرة الحثيثة. لن يُنسى أبدًا سجلّه الخالد من الخدمات الجليلة كمبلّغ ومُدافع عن أمر الله. سوف تشفع روحه النبيلة الآن في الملكوت الأبهى بلا شكّ لصالح الجامعة البهائية الإيرانية التي خدم مصالحها الحيوية بمثل هذا التميّز الكبير على مدى عدّة عقود. نرفع الدعاء بحرارة في المقامات المقدّسة لتقدّم روحه المنيرة في العوالم العليا. ننصح الأحبّاء في كلّ مكان بعقد جلسات تذكّرية لائقة تكريمًا له وخاصّة في جميع مشارق الأذكار.(11)

1.
Bahá’í World, vol. 20, pp. 790, 789, 791.
2.
المصدر السابق، الصفحة 790.
3.
المصدر السابق.
4.
Khazeh, Talk by Jalal Khazeh.
5.
Bahá’í World, vol. 20, p. 791.
6.
المصدر السابق، الصفحة 792.
7.
المصدر السابق، الصفحة 790.
8.
Khazeh, Talk by Jalal Khazeh.
9.
Bahá’í World, vol. 20, p. 792.
10.
المصدر السابق.
11.
المصدر السابق، الصفحة 788.

1909 – 1982 بول إدموند هايني

Hand of the Cause of God Paul Edmond Haney (1909-1982)

كان جدّ بول هايني لأبيه، القسّ ريتشارد هايني، وهو كاهن ميثودي معروف، أحد المؤسّسين الستّة لجامعة نورث ويسترن في إيفانستون، بولاية إلينوي. أمّا والد بول، تشارلز فريبورن هايني، فكان أحد أولاد القسّ هايني السبعة. كان محاميًا وناجحًا في العديد من الأعمال التجارية. في عام 1893 تزوّج من ماري آيدا باركهرست من مدينة نيويورك. عندما كانت ماري شابّة بدأت سعيها الروحاني وراء الحقيقة، فتنقّلت من كنيسة إلى أخرى.

ولعدم استقرارهما الروحاني ظلّ الزوجان هايني يبحثان باستمرار للحصول على إجابات مرضية. في شهر كانون الثاني من عام 1900 لاحظا زوجين شابّين يلتقيان بمجموعة من الرجال يرتدون الملابس الشرقية. ولمّا انجذب الزوجان هايني إلى المجموعة فقد تقدّما وعرّفا نفسيهما إلى تشارلز وإليزابيث غرينليف، اللذين قدّما لهما رسالة حضرة بهاءالله. يمكن القول بأنّهما منذ ذلك الوقت أصبحا بهائيين.

في وقت مبكر من حياتها البهائية أعطيت ماري اسم مريم من قبل حضرة عبدالبهاء. في عام 1909 قام تشارلز ومريم بالحجّ إلى الأرض الأقدس، متنعّمَين بمحضر حضرة عبدالبهاء لمدّة تسعة أيّام كضيوف في منزله. نشرت مريم في وقت لاحق مذكّرات حجّها بعنوان «مأدبة سماوية». وذات يوم قال المولى للزوجين هايني:

يتحقّق إيصال الرسالة [الإلهية] في هذا اليوم بواسطة تأييدات الروح القدس، وليس بذخيرة من المعرفة أو امتلاك الحقائق. يأتي الحصول على تأييدات الروح القدس بجذب القلوب. ودون هذه الانجذابات لا يمكن الحصول على تلك التأييدات. الدليل على ذلك واضح بيّن. فتلاميذ السيّد المسيح، باستثناء القدّيس بولص، لم يكونوا رجالاً متعلّمين ولكنّهم بلّغوا العالم. إنّهم بقوّة جذب القلوب والحماس المتّقد والانقطاع عن العالم ومنحهم إكسير الحياة، قاموا بتبليغ الكلمة. وقد أثبت ذلك أنّه مغناطيس جذب تأييدات الروح القدس.(1)

كانت مريم تنتظر مولودًا في وقت الحجّ، فمنح حضرة عبدالبهاء بركاته للطفل الذي لم يولد بعد. بعد الحجّ بستّة أشهر أنجبت مريم ابنها في لوس أنجلوس. كتب الزوجان هايني فورًا إلى حضرة عبدالبهاء، وفي ردّه منحه اسمه – عبدالبهاء – وكذلك اسم بول. وبعد فترة من الوقت سألت كورين ترو المولى إذا كان قد أعطى بالفعل اسم عبدالبهاء لبول هايني. وفي رسالة الى مريم هايني كتبت كورين، ‘أكّد حضرته ما أُعطي لكما. اسم بول للعالم الخارجي. أمّا اسمه الحقيقي فهو عبدالبهاء.’(2)

تلقّت مريم العديد من ألواح حضرة عبدالبهاء، وكثير منها تضمّن ذِكر ابنها: ‘إنّ المولود الجديد مبارك ومقبول في الملكوت الإلهي. فهو خادم للجمال المبارك وينتمي إليه. فاشكري الله بما أيّدك للحصول على مثل هذه البركة… أسألُ الله أنّ ينمو حامل اسمي، عبدالبهاء، ويترقّى يومًا بعد يوم وأن يستضيء وجهه المشرق بنور العناية العظمى.’(3)

توفّي تشارلز هايني في عام 1919، عندما كان بول في العاشرة من عمره. كتبت مريم إلى حضرة عبدالبهاء تسأله ما يريده أن تفعل. فوجّهها حضرة عبدالبهاء للذهاب إلى واشنطن العاصمة. فنشأ بول في العاصمة الأمريكية، وأصبح معروفًا بسحر شخصيته وقامته الطويلة بشكل غير عادي. كانت عيونه زرقاء وشعره أحمرًا، ‘طلق المحيّا جميل الطلعة بهيج المزاج’. (4) كان لمريم تأثير عميق في ابنها. عندما التحق بالمدرسة الثانوية المركزية طمأن بول والدته بأنّه لا تعنيه حياة الطيش التي يستمتع بها العديد من الشباب الآخرين على ما يبدو. ‘كان يستمتع بكونه محتشمًا ذا نزعة روحانية ويهتمّ بالآخرين.’(5)

وعندما كبر، حضر بول المدرسة الصيفية في غرين إيكر والعديد من الأنشطة البهائية. وقد عُيّنت والدته في اللجنة المركزية للتبليغ التي أنشئت حديثًا عندما كان بول في الحادية عشر من عمره وقد رافقها إلى عدد من مؤتمرات الوكلاء المركزية والمؤتمرات البهائية الأخرى. كوّن بول على مرّ السنين صداقة وطيدة مع ماري ماكسويل ونال إعجاب ماي ماكسويل. مع اقتراب عيد ميلاده الخامس عشر، كتبت ماي إلى مريم: ‘لدي حُبّ غريب لذلك الفتى العزيز المبارك’.(6) بعد سبع سنوات، عندما عُيّن بول في اللجنة المركزية للتبليغ في سنّ 22، كتبت ماي:

أمّا بالنسبة إليك يا عزيزي بول، فإنّي أشعر أنّك تجلب معك إلى ميدان التبليغ المركزي ليس الإيمان الراسخ، وروح التفاني والتضحية التي ميّزت ذلك الجيل الأكبر سنًّا من البهائيين والتي تأسّس عليها ديننا الحبيب في أمريكا فحسب، بل الرؤية التقدّمية، والآفاق عالمية النطاق، والحياة المثيرة والحركة التي يُعتبر وليّ أمرنا الشابّ رئيسها ومصدرها.(7)

التحق بول بجامعة نورث وسترن، مستفيدًا من المنح الدراسية المقدّمة إلى الأبد لنسل مؤسّسي الجامعة، لدراسة الاقتصاد والحصول على الماجستير في إدارة الأعمال. وقد ظهرت مقالته الأولى، «التنظيم الاقتصادي للمجتمع في النظام العالمي الجديد»، في «المجلّة البهائية» عدد شهر كانون الثاني لعام 1934.

بحلول هذا الوقت كان بول قد أصبح اقتصاديًا محترفًا، وتمحورت حياته حول مهنته وخدمته للدين البهائي. وفضلاً عن كونه عضوًا في اللجنة المركزية للتبليغ، كان عضوًا في لجنة الشباب المركزية الأولى في الولايات المتّحدة. في عام 1940 التقى بهيلين مارجري ويلر في غرين إيكر، وفي عام 1942 تزوّجا وأقاما في واشنطن العاصمة بالقرب من والدته مريم. في عام 1946 انتخب بول عضوًا في المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة وكندا. في عام 1948 انتخبت كندا محفلها الروحاني المركزي المستقلّ وكان بول ممثّلاً للولايات المتّحدة عند تشكيله. شغل منصب رئيس المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة من عام 1950 إلى عام 1957. كما شغل منصب رئيس لجنة أمناء بناء المعبد ومثّل المحفل الروحاني المركزي الأمريكي في تشكيل المحفل الروحاني الإقليمي في أمريكا الجنوبية في عام 1951 والمحفل الروحاني الإقليمي لإيطاليا وسويسرا في عام 1953.

في كانون الثاني عام 1954 توفّيت أيادي أمر الله دوروثي بيكر في حادث تحطّم طائرة بالقرب من جزيرة إلبا. وفي آذار تلقّى بول برقية من حضرة وليّ أمر الله:


أعلنُ عن رفع رتبتك إلى أيادي أمر الله وأثق بشمول النعم الإلهية لخدماتك في المستقبل.(8)

أبرق بول الردّ التالي:

غمرني هطول فضل حضرة وليّ أمر الله المحبوب. ألتمس العون الإلهي في تقديم خدمات مقبولة وفي تجاوز الشعور بعدم الاستحقاق المطلق. مع محبّتي. المخلص بول هايني.(9)

في 19 آذار أبرق حضرة وليّ أمر الله إلى المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة:

أعلنُ إلى كافّة المحافل الروحانية المركزية عن رفع رتبة بول هايني إلى أيادي أمر الله.(10)

بعد فترة وجيزة من تعيين بول، تلقّت مريم هايني رسالة كُتبت نيابة عن حضرة شوقي أفندي:

يأمل حضرته أن يتمكّن العزيز بول، على نحو متزايد باستمرار، من تقديم الخدمات الهامّة لأمر الله. لا شكّ بأنّكِ ووالده في الملكوت الأبهى في غاية الفرح لتشاهدا كيف تحقّقت آمالكما العزيزة في هذا الابن الذي هو في غاية التفاني والإخلاص، ويعتبر مصالح أمر الله في الجوهر واللب تمامًا.(11)

رغم أنّه أصبح أياديًا لأمر الله، بقي بول عضوًا في المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة لمدّة ثلاث سنوات أخرى، ممثلاًّ له في مؤتمر الوكلاء المركزي السنوي الأوّل لجنوب وغرب أفريقيا في عام 1956. وفي العام التالي كان يمثّل حضرة وليّ أمر الله في مؤتمر الوكلاء الأوّل لألاسكا في أنكوريج، حيث قام بتعطير جميع الحاضرين بعطر الورد.

تبع صدمةَ الوفاة المفاجئة لحضرة شوقي أفندي في لندن في تشرين الثاني عام 1957، ثقلُ المسؤوليّات الإضافية لأيادي أمر الله الذين تجمّعوا في الأرض الأقدس بعد جنازة حضرة وليّ أمر الله لمناقشة مستقبل الأمر الكريم. كانت إحدى المهامّ الرئيسة انتخاب تسعة من مجموع الأيادي لمواصلة عمل حضرة وليّ أمر الله في المركز العالمي. وقد وصفت روحية خانم لاحقًا هذا الاجتماع الرسمي الأوّل لأيادي أمر الله:

كنّا نواجه واجبًا لا مفرّ منه وهو أن ننتخب من بين أيادي أمر الله عضوًا ذاك الذي إذا اختاره كلّ واحد منّا، يقبل أن يعيش ويخدم في المركز العالمي باعتباره واحدًا من تسعة أمناء شرعيين. بالنسبة لأولئك الذين لم يكونوا بالفعل جزءًا من هيئة الأيادي في حيفا، كان هذا يعني حرفيًا حرق كلّ الجسور من ورائهم. أستطيع أن أتذكّر كلمات بول هايني، وهو خبير اقتصادي حصل على ترقية مؤخّرًا في الشركة الاستثمارية البارزة التي كان يعمل فيها لعدّة سنوات، مع ضمان زيادات مالية ومعاش كبير لدى التقاعد، عندما أحنى رأسه وقال: ‘إنّك تتلقّى الدعوة مرّة واحدة فقط’.(12)

شكّلت هذه التضحية صعوبة مضاعفة لبول الذي سينفصل من الآن فصاعدًا عن أمّه الحبيبة. كتبت مريم، التي كانت في الخامسة والثمانين من عمرها، إلى روحية خانم في نيسان عام 1958:

إنّ بول الحبيب صاحب قلب طاهر جدًّا، وضمير حيّ، وروح نبيلة بحيث عندما جاءته هذه النعمة العظيمة والشرف الكبير – أي كونه واحدًا من تسعة أيادي أمر الله الذين سيعيشون في حيفا – قال إنّه لم يكن ليطيق العيش مع نفسه لو لم يقبل هذا الفضل الروحاني الهائل… بطبيعة الحال إنّني أفتقد بول – طاهر القلب – ولكنّني أومن أنّني معه يوميًا في خدماته. البعد لا يشكّل فراقًا حقيقيًا عندما يكون هناك تفاهم ومحبّة.(13)

أصبحت حياة بول الآن موجّهة بالكامل نحو خدمة أمر الله. فقد مثّل أيادي أمر الله في العديد من مؤتمرات الوكلاء المركزية، بما في ذلك تلك التي عُقدت في المكسيك والولايات المتّحدة في عام 1961 وفي إسبانيا والبرتغال في عام 1962. ساعد زملاءه الأيادي في العمل على حلّ المشاكل المؤلمة التي أحدثها انشقاق تشارلز مايسون ريمي، وهي بالنسبة إليه تجربة مريرة ومأساوية جدًّا، حيث كان هو وريمي صديقين. في عام 1963 كان بول موجودًا في حيفا لانتخاب بيت العدل الأعظم الأوّل، وفي المؤتمر العالمي الذي أعقبه في لندن كان له شرف الإعلان عن نتائج الانتخابات للبهائيين المجتمعين. وألقى أيضًا خطابًا متميّزًا عن أهمّية المركز البهائي العالمي.

أعدّ بول البيان الذي حدّد بوضوح ودقّة وعرّف أيادي أمر الله وأنشطتهم في الفترة بين وفاة حضرة وليّ أمر الله وانتخاب بيت العدل الأعظم، بعنوان «مؤسّسة أيادي أمر الله».(14) وفي عام 1963 طلب بيت العدل الأعظم من بول أن يكون واحدًا من خمسة أيادي يقيمون في الأرض الأقدس. وقد عُيّن في لجنة التحرير التي جمعت معلومات من العالم البهائي كلّه، ثم قامت بتصنيفها وتحريرها ومن ثم توزيعها على كافّة المحافل الروحانية المركزية. في رضوان عام 1965 كان يمثّل بيت العدل الأعظم في مؤتمر الوكلاء السنوي السادس والخمسين للولايات المتّحدة.

في أيلول عام 1965 وافت المنيّة مريم والدة بول. وقد أرسل بيت العدل الأعظم برقية إلى المحفل الروحاني المركزي للولايات المتّحدة قائلاً:

نعلن بحزن وفاة مريم هايني خادمة حضرة بهاءالله المخلصة ووالدة أيادي أمر الله الحبيب بول هايني. يمتدّ تفانيها لأمر الله لأكثر من خمس وستّين سنة كانت فيها مؤيّدة قويّة للعهد والميثاق منذ الأيّام الأولى من الامتحانات. قامت بنشاط لا يعرف الكلل لتعميم ألواح المولى مؤدّية خدماتها على المستويين المركزي والعالمي بولاء وصدق وإخلاص. سوف تلقى بالتأكيد الترحيب الحارّ في الملكوت الأبهى.(15)

منذ ذلك الوقت سافر بول في رحلات ذات نطاق واسع. في عام 1967 مثّل بيت العدل الأعظم في المؤتمر البيقارّي في فرانكفورت، وهو واحد من ستّة مؤتمرات تُعقد بمناسبة مرور مائة سنة على إعلان دعوة حضرة بهاءالله إلى الملوك والحكّام. قبل المؤتمر، زار بول وخمسة آخرين من الأيادي بيت حضرة بهاءالله في أدرنة للدعاء والمناجاة؛ بعد ذلك زار كلاًّ من الدول الإسكندنافية والنمسا وإسبانيا وبلجيكا وسويسرا والمملكة المتّحدة.

في عام 1970 مثّل بول بيت العدل الأعظم في مؤتمر الوكلاء المركزي الافتتاحي لبوتسوانا وملاوي، وسافر عبر أوغندا وكينيا وتنزانيا وروديسيا وجنوب أفريقيا. وشارك في مؤتمر شمال الأطلسي للمحيطات في ريكيافيك بآيسلندا في عام 1971. سافر في المملكة المتّحدة في عام 1973 وفي الولايات المتّحدة في عام 1974. حضر مؤتمرات للشباب في هولندا وسويسرا في عام 1975. وفي عام 1977 حضر مؤتمرات التبليغ العالمية في باهيا، البرازيل، وميريدا، المكسيك، وسافر في بنما ومنطقة البحر الكاريبي. حضر مؤتمرًا للشباب في ألمانيا في عام 1980، وزار مراكز بهائية في سويسرا، وشارك في المؤتمر الذي عقد في ماليزيا. في عام 1981 مثّل بيت العدل الأعظم في الاجتماع الافتتاحي لهيئة المشاورين القارّية في آسيا، وسافر عبر الهند والباكستان بعد ذلك. حضر المؤتمر الدولي في كيتو بالإكوادور في عام 1982، والمؤتمرات اللاحقة في كوستاريكا وبنما.

ومثّل بول أيضًا المركز العالمي في مناسبات دبلوماسية في القدس. في عام 1967، أثناء حرب فيتنام، طلب منه بيت العدل الأعظم التشاور مع المحفل الروحاني المركزي الفيتنامي حول تطور أمر الله في ذلك البلد مستقبلاً.

كان بول لاعب غولف متحمّسًا وأحد الأعضاء المؤسّسين لنادي قيصاريّة للغولف قرب حيفا. وشارك في كثير من الأحيان كحكم في المسابقات والبطولات. يقول وفي عينيه بريق، إنّ لعبة الغولف هي «دينه الثاني».

في 3 كانون الأوّل عام 1982 توفّي بول على الفور في حادث سيّارة. أرسل بيت العدل الأعظم البرقية التالية إلى العالم البهائي:

بقلوب مفجوعة نعلن عن الخسارة المفاجئة التي لا تعوّض بفقدان أيادي أمر الله البارز الغالي المدافع الراسخ القوي عن العهد والميثاق بول هايني في حادث سيّارة في 3 كانون الأوّل. هذا الخادم المميّز لحضرة بهاءالله قد باركه حضرة عبدالبهاء في طفولته عندما تشرّف بمحضره الأنور. إنّ دماثته الطبيعية؛ تواضعه الأصيل؛ محبّته الصادقة اللامتناهية؛ استقامته ونزاهته؛ إخلاصه وتفانيه لأمر الله منذ سنوات شبابه؛ مصداقيّته التي لا تفتر؛ اهتمامه الدقيق بالتفاصيل؛ كلّها قد وسمت خدماته التاريخية على الصعيدين المركزي والعالمي. شملت جهوده الدؤوبة التي امتدت لأكثر من نصف قرن عضويته في المحفل الروحاني المركزي الأمريكي لفترة طويلة. منذ عام 1954 كرّس طاقاته كعضو في مجموعة الأمناء الرئيسين لأمر الله ولاحقًا كعضو في هيئة أيادي أمر الله المقيمين في الأرض الأقدس في واحدة من أشدّ الفترات حرجًا في التاريخ البهائي. كانت حياته الأرضية خلال العقد الماضي مكرّسة بالكامل لتطوير دار التبليغ العالمية التي شُكّلت حديثًا. سوف تفخر الأجيال القادمة بإنجازاته الخالدة وتُلهم من اصطباره الفريد. نرفع الدعاء بحرارة لدى العتبات المقدّسة لتقدّم روحه النبيلة في الملكوت الأبهى. ننصح بعقد جلسات تذكّرية في جميع أنحاء العالم البهائي بما في ذلك كافّة مشارق الأذكار وبما يليق برتبته العالية وخدماته الجديرة بالثناء والتقدير.(16)

1.
Whitehead, Some Early Bahá’ís of the West, p. 158.
2.
Bahá’í World, vol. 18, p. 614.
3.
المصدر السابق.
4.
المصدر السابق.
5.
المصدر السابق، الصفحة 615.
6.
المصدر السابق، الصفحة 614.
7.
المصدر السابق، الصفحة 615.
8.
المصدر السابق، الصفحة 616.
9.
المصدر السابق.
10.
المصدر السابق.
11.
From a letter written on behalf of Shoghi Effendi, 8 May 1954, cited in Whitehead, Some Early Bahá’ís of the West, p. 168.
12.
Rúḥíyyih Khánum, Introduction to Ministry of the Custodians, p. 10.
13.
Bahá’í World, vol. 18, p. 617.
14.
See Bahá’í World, vol. 13, pp. 333–79.
15.
Bahá’í World, vol. 14, p. 346.
16.
Bahá’í World, vol. 18, pp. 617–18.

1912 – 2007 الدكتور علي محمّد ورقاء

Hand of the Cause of God `Alí-Muhammad Varqá (1911-2007)

ولد علي محمّد ورقاء في عام 1912 أي خلال رحلات حضرة عبدالبهاء التاريخية إلى الغرب. كان والده وليّ الله عضوًا في الوفد المرافق لحضرة عبدالبهاء. عندما ولد علي محمّد في طهران التقط له عمّه عزيز الله صورة فوتوغرافية وأرسلها إلى حضرة وليّ أمر الله. عرض أحد المؤمنين الصورة على حضرة عبدالبهاء الذي كتب على ذراعَي الطفل «يد مؤيّدة»، وأعطى الطفل اسم علي محمّد تيمنًا بجدّه الشهيد، ميرزا علي محمّد ورقاء.

حصل علي محمّد ورقاء على درجات علمية في الاقتصاد والتاريخ من جامعة طهران وكلّيّة تدريب المعلّمين. في عام 1935 تزوّج من روحانية مهتدي ورزقا بثلاث بنات، إلاهة ونديّة وفرانة. في عام 1946 خصّصت له منحة حكومية للدراسة في باريس، وفي عام 1950 حصل على الدكتوراه من كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة السوربون بأطروحة عنوانها «المشاكل الهيدروليكية الزراعية والريّ في إيران».

عندما عاد إلى إيران في عام 1950، عُيّن أستاذًا مساعدًا في جامعة تبريز. بعد ذلك أصبح أستاذ الجغرافيا الطبيعية والجيومورفولوجيا في جامعة طهران. خلال هذه الفترة خدم في مختلف اللجان البهائية المركزية والمحلّية حتى وفاة والده.

في عام 1938 عُيّن والد الدكتور ورقاء أمينًا لحقوق الله، وفي عام 1951 أياديًا لأمر الله. عندما وافته المنيّة في تشرين الثاني عام 1955، عيّن حضرة شوقي أفندي الدكتور ورقاء ليحلّ محلّ والده:

الحزن العميق لخسارة أيادي أمر الله، أمين الحقوق المثال والقدوة… تنتقل وظيفته كأمين للحقوق الآن إلى ابنه علي محمّد… أمين الحقوق المعيّن حديثًا يرتقي الآن إلى رتبة أيادي أمر الله.(1)

في نيسان عام 1957 مثّل الدكتور ورقاء حضرة شوقي أفندي في مؤتمر الوكلاء الافتتاحي لانتخاب المحفل الروحاني الإقليمي للأرجنتين وتشيلي وأوروغواي وباراغواي وبوليفيا، وسافر بعد ذلك لحضور مؤتمرات إقليمية في خمس مدن في الأرجنتين وتشيلي.

في تمّوز عام 1957 جرى التعرّف على رفات ميرزا بزرگ، والد حضرة بهاءالله، وأعيد دفنه في مقبرة بهائية في العراق. في 27 تمّوز قام الدكتور ورقاء وزملاؤه أيادي أمر الله السيّد فروتن، الجنرال علائي والسيّد سمندري، بالسفر الى العراق لزيارة القبر وتقديم فروض الإجلال والتقدير نيابة عن حضرة شوقي أفندي لتلك «الشخصية المباركة المبجّلة».(2) وفي وقت لاحق، سافر إلى بيروت لشراء حظيرة قدس للبنان نيابة عن حضرة شوقي أفندي.

بعد صعود حضرة شوقي أفندي في تشرين الثاني عام 1957، حضر الدكتور ورقاء الاجتماع الرسمي لأيادي أمر الله في الأرض الأقدس. وكممثّل عن البهائيين في آسيا، كان من بين الأيادي التسعة الذين قاموا في يوم 19 تشرين الثاني، بدخول غرفة حضرة وليّ أمر الله المختومة بالشمع الأحمر للبحث عن وصيّة، وقاموا بالتوقيع على بيان رسمي بعد ذلك:

وجدوا أنّ الأختام الموضوعة على الخزنة من قبل الأيادي الخمسة في الأرض الأقدس كانت سليمة ولم تمسّ؛ وبالمثل كانت الأختام التي تحتوي على مفاتيح الخزنة سليمة لم تمسّ، وكذلك الأمر في المكتب المختوم.

إنّ أيادي أمر الله التسعة الموقعين أدناه والذين عيّنهم أوّل وليّ لأمر الله حضرة شوقي أفندي، كلّ في محضر الآخرين، يشهدون بشكل فردي وجماعي على ما يلي:

جرى فتح الخزنة والمكتب وتفتيشهما وتأكّدت حقيقة عدم وجود وصيّة لحضرة شوقي أفندي.(3)

عاش الدكتور ورقاء في إيران، ولكنّه كان يقضي أشهر الصيف في حيفا، بوصفه بديلاً لأيّ من الأمناء الرئيسين، لإعطاء الأيادي المقيمين في الأرض الأقدس فرصة للقيام بمهامّ أخرى.

في عام 1958 شارك الدكتور ورقاء في المؤتمر البيقارّي الذي عقد في جاكرتا-سنغافورة وفي عام 1962 مثّل المركز العالمي في الانتخابات الافتتاحية للمحافل الروحانية المركزية في بلجيكا ولوكسمبورغ، وزار الجامعات البهائية في فرنسا عام 1961 وفي بريطانيا عام 1962.

في عام 1960 صدم العالم البهائي عندما علم أنّ أيادي أمر الله تشارلز مايسون ريمي ادّعى أنّه وليّ أمر الله الثاني. رغم سخف مزاعمه، إلاّ أنّه تمكّن من جذب شرذمة من الأتباع له من بين البهائيين، بمن فيهم ثمانية من أعضاء المحفل الروحاني المركزي في فرنسا. وقد ندم ثلاثة أعضاء منهم بعد ذلك على فعلهم هذا وبقي خمسة مقتنعين بمطالب ريمي. وهكذا حُلّ المحفل الروحاني المركزي بقرار من أيادي أمر الله وجرى انتخاب محفل روحاني مركزي جديد. في عام 1962 أرسل الأمناء الرئيسون الدكتور ورقاء إلى فرنسا لمدّة خمسة عشر يومًا ‘للمساعدة في تعزيز تلك الجامعة البهائية والتشاور مع المحفل الروحاني المركزي’.(4)

في عام 1963 توجّه الدكتور ورقاء إلى الأرض الأقدس لحضور عملية انتخاب بيت العدل الأعظم الأوّل. بعد ذلك، شارك في المؤتمر العالمي البهائي الأوّل في لندن وبعدها زار جامعة الأحبّاء البريطانيين.

وبصفته ممثّلاً لبيت العدل الأعظم في السنوات التي أعقبت عام 1963، حضر الانتخابات الافتتاحية للعديد من المحافل الروحانية المركزية: الكونغو-برازافيل وجمهورية أفريقيا الوسطى في عام 1971؛ الأردن 1975؛ جزر الأنتيل الفرنسية 1977؛ موريتانيا 1978؛ جزر ويندوارد 1981؛ مارتينيك وغيانا الفرنسية 1984؛ تشيكوسلوفاكيا 1991؛ غرينلاند والمحفل الروحاني الإقليمي لأوكرانيا ومولدوفا وروسيا البيضاء 1992؛ المحفل الروحاني الإقليمي لسلوفينيا وكرواتيا 1994؛ وصقلية 1995. في عام 1968 حضر تأسيس أوّل هيئة مشاورين في شمال غرب أفريقيا.

لمّا كان الدكتور ورقاء يتكلّم الفرنسية، كثيرًا ما طلب منه بيت العدل الأعظم زيارة البلدان الناطقة بالفرنسية. وهكذا على مرّ السنين زار الجامعات البهائية في شمال أفريقيا، زائير، الكاميرون، تشاد، جمهورية أفريقيا الوسطى، السنغال، موريتانيا، فرنسا، غيانا الفرنسية، مارتينيك، غواديلوب وغيرها من البلدان الفرانكوفونية.

سافر الدكتور ورقاء أيضًا في جولات إلى أمريكا اللاتينية، الولايات المتّحدة، أمريكا الجنوبية، الهند، كندا، أوروبا، جنوب شرق آسيا ومنطقة البحر الكاريبي. حضر العديد من المؤتمرات، بما فيها مؤتمرات باللغة الفارسية، مؤتمرات شبابية عالمية، مؤتمرات تبليغية عالمية ومدارس صيفية بهائية. كما التقى مع العديد من المحافل الروحانية المركزية.

في سبعينيات القرن أوكل بيت العدل الأعظم إلى الدكتور ورقاء مهمّة خاصّة وهي تجميع روايات موثّقة عن الأيّام الأولى لتطوّر أمر الله في أجزاء مختلفة من العالم. كان عليه الحصول على حكايات ووثائق وأشرطة تسجيل وغيرها من المواد من المؤمنين والمهاجرين الأوائل.

أثناء زيارة الدكتور ورقاء للجامعات البهائية في أوروبا في عام 1978، تلقّى رسالة من المحفل الروحاني المركزي في إيران يوصيه بتأخير عودته إلى الوطن، حيث كانت الحكومة مصممة على فرض رسوم باهظة على الممتلكات والأوقاف البهائية التي سُجّلت باسم حضرة شوقي أفندي. كان المحفل الروحاني المركزي يعتقد أنّه إذا كان الدكتور ورقاء، وهو ممثّل أصحاب الممتلكات البهائية وأمين حقوق الله، غير موجود في البلاد، فقد يفاوض المحفل الروحاني المركزي بشكل أفضل مع الحكومة لخفض الضرائب. وهكذا، وبموافقة بيت العدل الأعظم، بقي في أوروبا لأداء خدمات أخرى. وعندما اندلعت الثورة الإيرانية في عام 1979، زاد الوضع سوءًا بالنسبة للبهائيين ولم يعد الدكتور ورقاء إلى إيران أبدًا وقُبل به كلاجئ في كندا حيث عاش فيها عدّة سنوات قبل استدعائه للخدمة في الأرض الأقدس من قبل بيت العدل الأعظم.

منذ تعيين الدكتور ورقاء أمينًا لحقوق الله في عام 1955، توسّعت قاعدة المؤسّسة التي كانت محصورة في المؤمنين الإيرانيين فقط، لتشمل كلّ بهائي في العالم عندما أصبح حكم الحقوق مطبّقًا عالميًا في عام 1992.

في البداية كان تدفّق المهاجرين الإيرانيين إلى جميع أنحاء العالم استجابة لخطط التبليغ المختلفة هو الذي اقتضى تعيين وكلاء [لحقوق الله] لكلّ قارّة. منذ عام 1987 تمّ تأسيس هيئات الأمناء في الولايات المتّحدة، كندا، أوروبا وآسيا، ولكلّ منها وكلاء وممثّلون. وقد نظّم الدكتور ورقاء عددًا من المؤتمرات للوكلاء والممثّلين، عُقد أوّلها في حيفا في عام 1987.

تحدّث الدكتور ورقاء عن أهمّية حكم حقوق الله وتطبيقه في مؤتمر الوكلاء العالمي السادس، الذي عقد في عام 1988:

… لا يمكننا أن نتوقّع أن نفهم الجوهر والحكمة المكنونة في هذا الحكم المقدّس. فهي محفوظة في خزينة معرفة الله وترتبط بتطوّر وتقدّم الروح البشرية في عالم الله. ما يمكننا أن نتصوّره من خلال فهمنا الإنساني هو أنّ أداء الحقوق علامة على محبّتنا وإطاعتنا، ودليل على ثباتنا واستقامتنا ورمز لجدارتنا بالثقة بعهد حضرة بهاءالله وميثاقه. إنّه يخلق ويطوّر صفتنا الروحانية التي تقودنا نحو الكمال؛ ويبعث على الانسجام والتوازن في مساعينا المادّية، ويحمينا من الرغبة المفرطة التي ولدت في طبيعتنا البشرية، التي عندما تُطلق [الرغبة] تتحوّل إلى عنصر يمنع نموّنا الروحاني. عندما يدرك المرء أنّ جزءًا من دخله سيتشرّف بقبول الله، فإنّه سيشعر بوجوده سبحانه في كلّ مساعيه، وسوف يسعى جاهدًا دون شكّ ليعيش حياته بطريقة عادلة وشرعية من أجل أن يكون ما قدّمه يستحقّ الإنفاق في سبيل الله.(5)

في عام 1997 كان الدكتور ورقاء ضيف الشرف في سلسلة من المؤتمرات في نيويورك، دالاس، شيكاغو ولوس أنجلوس حيث تمكّن خمسة آلاف من الأحبّاء على الأقلّ من اكتساب المزيد من المعرفة عن حقوق الله. ومع أنّه رغب في أخذ قسط من الراحة في فانكوفر بكولومبيا البريطانية، فقد انتهى الأمر بالدكتور ورقاء، بدل ذلك، إلى مخاطبة ألف ومائة من المؤمنين المتلهّفين الذين تجمّعوا للاستماع إليه. بعد ذلك، توجّه الدكتور ورقاء إلى إيطاليا، حيث التقى الأحبّاء في ثلاث مناسبات للحديث عن حقوق الله وخطّة الأربع سنوات. في عام 1998 حضر مؤتمر الوكلاء المركزي الأوّل للبهائيين في سلوفاكيا، وفي عام 1999 حضر مؤتمرات في برشلونة في إسبانيا وهوفهايم في ألمانيا بناء على طلب الهيئة العليا.

في أماكن أخرى تحدّث الدكتور ورقاء عن الانتصارات التي تأتي عن طريق الانضباط الذاتي، وتحدّث مع الشباب مشيرًا إلى الدور الهامّ الذي يمكن أن يؤدّوه في أعمال الهجرة والتبليغ وتعليم الأطفال. ولكن بصفته أمين حقوق الله الخامس، ركّز عمله على إلهام العالم البهائي بهذه الكلمات من حضرة بهاءالله:

اسألوا الله أن يؤيّد الكلّ بأداء حقوق الله إذ إنّ بالأسباب يرتفع الأمر ويظهر. إذا عرف العباد مقام الأعمال في هذه الأيّام لعمل الكلّ بما ينبغي، الأمر بيده يحكم كيف يشاء وهو الحاكم الباذل العادل المبيّن الحكيم.(6)

1.
Bahá’í World, vol. 13, p. 831.
2.
المصدر السابق، الصفحة 297.
3.
Ministry of the Custodians, pp. 27–8.
4.
المصدر السابق، الصفحة 371.
5.
Dr ‘Alí Muḥammad Varqá, a talk given by the Hand of the Cause and Trustee of Ḥuqúqu’lláh at the Sixth International Convention, pp. 4–5.
6.
نشرة «حقوق الله»، الصفحة 5.

1875 – 1971 أغنس بولدوين ألكساندر

Hand of the Cause of God Agnes Baldwin Alexander (1875-1971)

من بين الصفات البارزة لأغنس ألكساندر اعتمادها على ما وصفته بـ «الهداية» التي كانت تتلقّاها وخضوعها التامّ لإرادة الله. لم يخذلها حدسها أبدًا، ولا شجاعتها من اتّباع تلك الهداية. غالبًا ما كانت تشعر بقوّة بأنّ عليها اتّباع مسار عمل ما بحيث تشرع فورًا في تنفيذ خططها، ثم سرعان ما تتلقّى توجيهات من الأرض الأقدس للقيام بذلك بالضبط. بل إنّ قصّة تعرّفها على الدين البهائي، وكيف أصبحت مؤمنة، هي قصّة القوى الروحانية الغامضة في حيّز عملها.

ولدت أغنس في هونولولو في 21 تمّوز عام 1875 حيث تحدّرت من عائلة من المبشّرين المسيحيين الذين واجهوا المصاعب بشجاعة وقدّموا التضحيات في سبيل تنصير جزر ساندويتش. كان جدّاها من طرف الأمّ القسّ والسيّدة دوايت بالدوين، اللذين أبحرا من نيو بدفورد، ماساتشوستس، برفقة المجموعة الرابعة من المبشّرين المرسلة من قبل المجلس الأمريكي للإرساليّات في عام 1831. وصلوا الى هاوائي بعد رحلة دامت (161) يومًا. كان القس بالدوين، لبعض الوقت، الطبيب الوحيد في جزر مولوكائي وماوي ولاناي. وفي سبيل الرعاية الجسمانية فضلاً عن الاحتياجات الروحانية للسكّان الأصليين، ظلّ يعمل بجدّ وإخلاص مدّة ستّ وثلاثين سنة إلى أن تدهورت صحّته.

أمّا جدّا أغنس من طرف الأب، القسّ وليام والسيّدة باترسون ألكساندر، فقد وصلا في العام التالي. استمرّت رحلتهما على متن سفينة صيد حيتان، (186) يومًا. ولدى وصوله إلى هاوائي، أصبح القسّ ألكساندر معروفًا على نطاق واسع كواعظ بليغ. كان الشباب في الإرسالية معجبين به ويحبّونه. وعندما وافته المنيّة، أُرسلت مرثية بلغة هاوائي إلى جدّة أغنس:

وا أسفاه وا أسفاه، مات الأب وليام!

مات المبشّر والصديق؛

صديقنا الذي وقف راسخًا لأجل
الحقّ؛

صديقنا في المطر والرياح؛

صديقنا في حرارة الشمس؛

صديقنا في برد الجبل؛

صديقنا على “البحار الثمانية”.

وا أسفاه وا أسفاه، قد غادر صديقنا!

ذهب إلى سماء المسيح المجيدة،

لن يعود ثانية.(1) 

Alas, alas, Father William is dead!

Dead is the missionary and friend;

Our friend who stood fast for the right;

Our friend in the rain and the wind;

Our friend in the heat of the sun;

Our friend in the cold of the mountain;

Our friend on the Eight Seas;

Alas, alas, our friend has departed!

Gone to the glorious heaven of Christ,

He will return no more.

 

التحقت أغنس بكلّيّة أواهو، حيث تخرّجت في عام 1895. وبعد ذلك درست التربية في جامعة كاليفورنيا في بيركلي وفي كلّيّة أوبرلين، ولكنّها لم تكمل دراستها للحصول على شهادة. عادت إلى هاوائي، حيث درّست في مدرسة ابتدائية.

عندما كانت أغنس في سنّ الخامسة والعشرين، دفع اعتلالُ صحّتها المزمن والدَها لأن يقترح سفرها مع مجموعة من أهل هاوائي للقيام بجولة في الولايات المتّحدة وأوروبا. ولمّا كانت أغنس لطيفة وخجولة بطبيعتها، اضطرّها هذا إلى السفر عبر المحيط الأطلسي لوحدها. في الطريق إلى روما شعرت فجأة أنّها كانت على وشك الوصول إلى هدفها.

استقرّت في بنسيون [فندق صغير] في روما، وانجذبت بشكل لا يقاوم إلى السيّدة شارلوت ديكسون وابنتيها، اللواتي بَدَين في سعادة غامرة. تغلّبت أغنس على خجلها واستجمعت شجاعتها لتسأل السيّدة ديكسون عمّا كان مصدر سعادتها.

لا يُعرف بالضبط ما قالته السيّدة ديكسون لأغنس إلاّ أنّ كلماتها جعلت أغنس تبكي. أعطت السيّدة ديكسون أغنس نسخة مكتوبة بخطّ اليد من مناجاة بهائية، التي، كما قالت أغنس لاحقًا، ‘حقّقت كلّ الأشواق’ المعتملة في قلبها.(2) وإذ آوت إلى فراشها ذات ليلة بعد ثلاثة أيّام، وجدت أغنس نفسها غير قادرة على النوم. أثناء الليل ‘غمرها إدراك’ بأنّ المسيح قد عاد. في صباح اليوم التالي قابلت السيّدة ديكسون وهتفت على الفور، ‘إنّ المسيح موجود على هذه الأرض!’ ‘نعم، أستطيع أن أرى من وجهك أنّكِ تعرفين ذلك.’(3)

أعلنت أغنس إيمانها بحضرة بهاءالله في 26 تشرين الثاني 1900، وكما كان المعتاد في ذلك الوقت، كتبت رسالة قبول إلى حضرة عبدالبهاء. قالت في وقت لاحق، ‘إلى أن توقظه نفحات الروح القدس يبقى المرء نائمًا، لأنّ الحقيقة الوحيدة هي حقيقة الروح. كنت نائمة مدّة خمس وعشرين سنة.’(4)

ظلت أغنس في إيطاليا نحو ثلاثة أشهر، تفكر في دينها الجديد وتدرس الكتاب المقدّس من جديد، والمناجاة البهائية التي أعطتها إيّاها السيّدة ديكسون ونسخة من «الكلمات المكنونة».وكانت السيّدة ديكسون قد أعطتها أيضًا عناوين بعض المؤمنين. وجدت أنّ الأقرب إليها كانت ماي إليس بولز، فكتبت أغنس إليها تطلب مزيدًا من المعلومات حول أمر الله. كانت في ميلانو عندما تلقّت ردًا من ماي بتاريخ 28 كانون الثاني عام 1901:

أختي الغالية!

الحمد لله الذي أنار قلبكِ في هذه الأيّام الرائعة لمجيء ملكوته، وبواسع رحمته هداكِ إلى الحقيقة. عسى الله أن نرحّب بكِ قريبًا بيننا في باريس وأن تتلقّي حينها الظهور الكامل، والكثير من المساعدة والتعليمات. في هذه الأثناء أبعث لكِ الكتيّبات المرفقة وألواحًا ومناجاة، التي سوف تنوّر فهمكِ بفضل الله وتملأكِ بروح الحياة. كما أرفقُ صورة مولانا العظيم المجيد، والتي أعطيت لي عندما كنتُ أقوم بالحجّ إلى عكّاء…

ظهر لي مولاي في الرؤيا مرّتين، قبل سنتين من سماعي عن الرسالة العظيمة، وعندما سُمح لي، بالفضل العظيم الإلهي، ودون اعتبار لعدم استحقاقي، أن أكون من بين أوائل الأمريكيين الزائرين لعكّاء – رأيتُ مولاي العزيز، عرفته من خلال ما رأيته في الرؤيا… شيء واحد، يا أعزّ أخت روحانية، أودّ أن أقوله لكِ. فرغم أنّ نار محبّة الله تشتعل في قلبكِ، وأنّكِ تتوقين لنشر البشرى، كوني في منتهى الحذر – فليست كلّ نفس مستعدّة – وإنّ مولانا العزيز أخبرنا ألاّ نعطي أبدًا من ماء الحياة النقي هذا، إلاّ للعطشى…(5)

في ربيع عام 1901 بدأت أغنس رحلتها إلى باريس. هناك التقت العديد من أوائل المؤمنين الفرنسيين والإنجليز والأمريكيين، بمن فيهم ماي بولز، المونسنيور هنري، إيموجين هوغ، لورا بارني، لوا وإدوارد غتسنغر، إثيل روزنبرغ وتشارلز مايسون ريمي، وكذلك ميرزا أبو الفضل وعلي قلي خان. أصبحت ماي بولز الأم الروحانية لأغنس ونجمها الهادي.

مكثت أغنس في باريس مدّة ثلاثة أشهر ونصف ثم شعرت أنّ الوقت قد حان للعودة إلى الوطن لتعلن عن دينها الذي اعتنقته حديثًا لأهالي جزر هاوائي. وكانت قد حزمت حقائبها وعلى وشك التوجّه إلى لندن عندما وصل مراسل يحمل لوحًا من حضرة عبدالبهاء يخبرها ‘أن تكون مثل طائر سماوي، والعودة إلى هاوائي، ونشر أجنحة التقديس فوق الجزيرة، وأن تصدح بألحان ثناء الله، وبذلك تسعد أهل الملأ الأعلى، وتجعل نفوس الباحثين منجذبة كالفراشات إلى مصباح مضاء، وأن تكون وسيلة لجعل هاوائي مضيئة بنور الله.’(6) بعد قضاء الصيف في غرين إيكر في ولاية ماين، وصلت أغنس إلى الوطن يوم 26 كانون الأوّل عام 1901، لتكون أوّل بهائية تطأ قدماها أرض هاوائي. يا ترى ماذا كانت الأفكار التي لابد أنّها رافقت سليلة المبشّرين المسيحيين هذه وهي تسعى للوفاء بوعد المسيح، ‘ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك؟’ ومع أنّ كثيرين أخذوا يتهامسون بأنّ أغنس قد انضمّت إلى نحلة غريبة، إلاّ أنّ والدها قال إنّ الرحلة كانت بمثابة خلاص لأغنس، وقالت شقيقتها ببساطة بأنّه إذا كان دينها الجديد قد جعلها سعيدة، فلا بدّ أنّه يتمتّع ببعض المزايا. ومع ذلك لم يتحرّك أحد في عائلتها لتحرّي الدين الجديد وعلى مدى ثماني سنوات بلّغت أغنس الدين البهائي سرًّا.

كان أوّل من اعتنق الدين البهائي من سكّان هاوائي الأصليين كلارنس هوبرون سميث، الذي بلّغته أغنس أمر الله أثناء وجوده في باريس. أمّا أوّل من أصبح بهائيًا في هاوائي هي إليزابيث مّذَر، التي اعتنقت أمر الله في عام 1902. وبحلول عام 1909 كان هناك أحد عشر بهائيًا في هاوائي، وفي 6 كانون الثاني عام 1911 انتُخبت أغنس رئيسًا للمحفل الروحاني في هونولولو.

في عام 1905 سافرت أغنس إلى ألاسكا، لتكون أوّل بهائية تقوم بزيارة الإقليم. في عام 1913 توفّي والداها الحبيبان. وأبحرت شقيقتها إلى كاليفورنيا فتُركت أغنس وحدها. شعرت الآن أنّ الوقت قد حان للسفر إلى أجزاء أخرى من العالم وتبليغ أمر الله. ومع ذلك، رغبت أوّلاً بزيارة أمّها الروحانية، ماي بولز ماكسويل. وأمضت في منزل ماكسويل في مونترِيال شهرًا غمرها بمنتهى السعادة قبل مواصلة سفرها إلى نيويورك. خلال هذه الفترة تلقّت لوحًا من المولى مؤرّخ في 13 تشرين الأوّل عام 1913 يشجّعها فيه على السفر إلى اليابان.

وإذ أملت بزيارة أقاربها في إيطاليا والمولى في الأرض الأقدس في طريقها إلى اليابان، تأخّرت أغنس في سويسرا بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى. في آب عام 1914 تلقّت لوحًا آخر من حضرة عبدالبهاء يحثّها فيه على الذهاب مباشرة إلى اليابان وأن تكون ‘مثل جيش فاتح للعالم ومثل مُزارع’(7) ولكنّه يقول بأنّها لا تزال حرّة في أن تختار القدوم إلى الأرض الأقدس. وفي استسلامها التامّ لإرادة الله، أبحرت أغنس إلى اليابان. استقلّت الباخرة «ميازاكي مارو» في مرسيليا، وفي 1 تشرين الثاني عام 1914 نزلت في كوبي باليابان، لتكون ثاني بهائية تستقرّ في البلاد بعد أن وصل إليها جورج أوغر في شهر حزيران. عاشت أغنس في اليابان الثلاث وعشرين سنة القادمة، ولكنّها قامت بالعديد من الرحلات إلى موطنها في هاوائي؛ ولم تجتمع بحضرة عبدالبهاء أبدًا.

كتب حضرة عبدالبهاء في عام 1916 في واحد من ألواح الخطّة الإلهية:

لاحظوا ابنة الملكوت أجنس ألكساندر أمة الجمال المبارك كيف سافرت لوحدها إلى جزيرة هونولولو إحدى جزر الهاواي وهي الآن مشغولة بالفتوحات الروحانية في اليابان، وانظروا مدى نجاح هذه البنت في جزر الهاواي، فقد أصبحت سببًا في هداية جمهور من الناس.

… والآن في جزر الهاواي وردت جماعة من النفوس إلى شواطئ بحر الإيمان بهمّة أمة الله ألكساندر، فانظروا ما أعظم هذا السرور وما أشدّ هذا الابتهاج، قسمًا بربّ الجنود لو أنّ هذه البنت المحترمة أسّست سلطنة لما كانت عظمة تلك السلطنة بمثل هذه العظمة، فهذه السلطنة سلطنة أبدية وهذه العزّة عزّة سرمدية.(8)

أوّل شخص أصبح بهائيًا في اليابان طالب يبلغ من العمر ثماني عشرة سنة، واسمه كيكوتارو فوكوتا، والذي آمن بأمر الله في ربيع عام 1915. إلاّ أنّ أعظم نجاحات أغنس جاء من خلال اتّصالاتها بالمكفوفين والإسبرانتيين. فمن خلال اهتمامها بالإسبرانتو التقت فاسيلي إيروشينكو، وهو روسي ضرير علمّها لغة بريل بالإنجليزية والإسبرانتو. كتبت أغنس «رسالة إلى النساء المكفوفات في اليابان» بطريقة بريل، والتي ترجمت إلى بريل اليابانية. وكانت هذه أوّل ما نُشر من الكتابات البهائية للمكفوفين وأوّل عمل بهائي يُترجم إلى اليابانية.

في عام 1918 زارت أغنس الولايات المتّحدة وأمضت بعض الوقت مع مارثا روت، التي التقتها في اليابان في عام 1915. كانت مارثا توّاقة إلى تحسين معرفتها بالإسبرانتو بحيث تكون مستعدّة لمؤتمر الإسبرانتو الذي سيُعقد في غرين إيكر في شهر تمّوز. وإذ تجاهلت إشارات من أغنس برغبتها في البقاء نائمة، كانت مارثا تقوم كلّ صباح في الساعة السادسة والنصف بإيقاظ أغنس من نومها حتى تتمكّن زائرتها من تعليمها الإسبرانتو.(9)

بعد ثلاث سنوات، سافرت أغنس إلى كوريا لتصبح أوّل بهائية تبلّغ أمر الله في تلك البلاد. كتبت في وقت لاحق:

خلال الشهر الذي قضيته في سيول كانت القوّة الإلهية غالبة. فجميع الأبواب قد فُتحت. سمع اليابانيون والكوريون، البوذي منهم والمسيحي، الرسالة البهائية وأصبحوا الآن أحرارًا للبحث بأنفسهم. فلا يمكن القول إنّهم منسيّون في خطّة الله العظيمة لليوم الجديد.(10)

عندما عادت إلى طوكيو أرسلت إلى المولى عبارات وجيزة كتبها بعض الكوريين حول إعلان إيمانهم. وصل ردّ المولى إلى الكوريين الخمسة عشر ‘الأبناء السماويين’ في شهر شباط عام 1922، بعد عدّة أشهر من صعود حضرته:

الحمد لله أنّ النور الإلهي أرشدكم وهداكم إلى شمس الحقيقة، ووهب الحياة الأبدية ومنح الضياء السماوي. أنتم مثل النبتات التي زرعتها يد العناية في حديقة أوراده الروحانية. آمل أنّه من خلال دفء شمس الحقيقة، وهطول شآبيب الرحمة وهبوب نسائم العطاء، أن تتقدّموا يومًا بعد يوم بحيث يصبح كلّ واحد منكم شجرة مباركة زاخرة بالأوراق والأزهار، وتلقون بظلّكم على جموع عظيمة.(11)

في 1 أيلول عام 1923 هزّ اليابان زلزال كبير. احترق ثلثا طوكيو وفقد الآلاف حياتهم وتُرك أكثر من مليون شخص بلا مأوى. كانت أغنس تتحدّث إلى آيدا فينش، وهي بهائية أمريكية عاشت في اليابان مدّة أربع سنوات، عندما ضربها الزلزال:

هربت الآنسة ألكساندر إلى الشارع… تلونا مناجاة الحفظ وبقينا في الشارع معظم فترة ما بعد الظهر حيث استمرّت الارتجاجات والهزّات على فترات طوال اليوم ولعدّة أيّام بعد ذلك.(12)

استذكرت أغنس في وقت لاحق:

… بعد الزلزال والحريق الكبيرين مرّت جماهير غفيرة من البشر على طول الطريق الواسع بالقرب من المنزل قادمة، أفواجًا أفواجًا من المقاطعة المحترقة في المنطقة السفلى… كان من العسير العثور على أيّ شيء يمكن أكله… أحضروا الطعام من الأقاليم الخارجية… لم تكن هناك مياه جارية ولم يتمكّنوا من إطفاء الحرائق؛ القطارات والترام والغاز والمصابيح الكهربائية والهواتف توقّفت جميعًا عن العمل… بمساعدة طالب لطيف من الأصدقاء وجدت طريقي إلى ما كان يومًا السفارة الأمريكية؛ لكن لم يتبقَّ سوى بضعة أعمدة قائمة. وكان المركز الوحيد المتبقّي في طوكيو «الفندق الإمبراطوري الجديد».(13)

على الرغم من عدم تعرّض أيّ بهائي للإصابة، كان منزل أغنس غير آمن وأقنعتها مارثا روت بقضاء بعض الوقت معها في الصين. هناك اتّصلتا بصن يات سين، وقدّمتا رسالة سلام إلى مدرسة لأطفال ضبّاط الجيش، ووزعتا عدّة مئات من كتيّبات روي ويلهلم الزرقاء حول الدين البهائي، وزارتا أربع مدن صينية، وتحدّثتا في عدد لا يحصى من المدارس ووصلتا إلى العديد من الشخصيّات البارزة. وفي وقت لاحق من ذلك العام، عادت أغنس إلى هاوائي، لتصبح أوّل بهائية تبلّغ الدين البهائي في جزيرة كاوائي وأوّل مبلّغة جوّالة بهائية تزور الجزيرة الكبيرة.

على مدى سنوات زارت أغنس تايوان، هونغ كونغ، الفلبين، الولايات المتّحدة، كندا وأوروبا. واستخدمت معرفتها بالإسبرانتو لكسب أصدقاء يهتمّون بأمر الله، وبذلك تمكّنت من الظفر بالمزيد من الإعلان العام.

في أواخر عشرينيات القرن كتب إليها حضرة شوقي أفندي قائلاً:

أتوق لأن أسمع عن تصميمكِ على العودة إلى اليابان لمواصلة جهودك وأنشطتك الوافرة لأجل ترويج أمر الله. أشعر أنّ مصيرك يكمن في تلك البلاد البعيدة الواعدة، حيث ستمجّد أجيال المستقبل خدماتك وهجرتك النبيلة بما يليق، وتتذكّرها بما يليق بكلّ امتنان. عسى أن يزيل المحبوب كلّ عقبة من طريقك ويمكّنك من استئناف عملك الفاعل في تلك البلاد.(14)

بعد أربع سنوات في هاوائي، عادت أغنس إلى اليابان، حيث ركّزت جهودها على الوصول إلى أناس في الأوساط المهنية والفكرية. في تشرين الأوّل عام 1930 انضمّت مارثا روت إلى أغنس في طوكيو، وتحدّثتا في الجامعات والمدارس الثانوية والنوادي والمجموعات الدينية. نظّمت واحدة من الصحف اليابانية العظيمة مؤتمرًا حول أمر الله عُقد في 20 كانون الأوّل بحضور مارثا وثلاثة متحدّثين بارزين آخرين. حضر المؤتمر أكثر من ألفي شخص. اعتبرت أغنس أنّ أبرز معالم زيارة مارثا تمثّل في بثّ حديث عبر «محطّة طوكيو المركزية الإذاعية». فقد سُمع تقديم مارثا لأمر الله في جميع أنحاء اليابان ونُشر نص الحديث على الصفحة الأولى من صحيفة «اليابان تايمز». إلاّ أنّ مصدر قلق أغنس كان الهدف النهائي لمارثا المتمثّل بالاتّصال بالعائلة الامبراطورية. بعد عدّة ردود بالرفض، نجحت مارثا في لقاء وزير البلاط الامبراطوري الذي قدّمت إليه الهدايا لصاحب الجلالة الإمبراطور.

في عام 1931 زارت كيث رانسوم-كيلر اليابان لمدّة ستّة أسابيع، وهي باحثة ومتحدّثة بهائية. كانت هي ومارثا روت قادرتين على التحرّك في الأوساط الفكرية التي رعتها أغنس بعناية في وقت سابق.

في عام 1932 أشرفت أغنس على ترجمة كتاب إسلمنت «بهاءالله والعصر الجديد» إلى اللغة اليابانية. وفي 21 آذار 1932 شاركت في تشكيل أوّل محفل روحاني محلّي في طوكيو. ولكن للأسف، انحلّت تلك الهيئة بعد سنتين بسبب الوضع في اليابان.

في آذار عام 1937 أبحرت أغنس إلى حيفا والتقت أخيرًا بحضرة وليّ أمر الله الذي منحته المحبّة نفسها والإخلاص عينه الذي وهبته لجدّه. ومن جانبه، أعرب حضرة شوقي أفندي عن تقديره لخدمات أغنس لدين حضرة بهاءالله وعاملها كضيفة شرف. وبناء على طلب حضرة شوقي أفندي كتبت أغنس تاريخًا عن الدين البهائي في كلّ من هاوائي واليابان.

حالت مشاركة اليابان في الحرب العالمية الثانية دون عودة أغنس لتلك البلاد حتى عام 1950. بعد فترة وجيزة من عودتها إلى طوكيو انتقلت إلى غرفة صغيرة في كيوتو، لتعيش ببساطة وتنفق مواردها على أمر الله بدلاً من نفسها. على الرغم من أنّ هاوائي كانت دائمًا «الوطن» بالنسبة إليها، إلاّ أنّها أحبّت اليابان والشعب الياباني. وبعد زيارة إلى هيروشيما كتبت إلى صديق [أو صديقة]:

أشعر بمحبّة خاصّة لهؤلاء الناس… فقد كتب محبوبنا حضرة وليّ أمر الله إنّ أهل هذه المدينة الذين عانوا بقسوة، لهم الحقّ في سماع تعاليم حضرة بهاءالله من أجل السلام والأخوّة، لذلك يمكنك أن تتخيل [تتخيلي] أنّني ألمس هنا اهتمامًا كبيرًا ومحبّة عميقة.(15)

كانت أغنس تعتزّ بكلمات حضرة وليّ أمر الله في رسالته الأولى إلى البهائيين اليابانيين، التي كُتبت في 26 كانون الثاني عام 1922:

أي وعود قطعها [حضرة عبدالبهاء] لنا جميعًا فيما يتعلّق بمستقبل أمر الله في تلك البلاد… ‘سوف تتحوّل اليابان إلى شعلة ملتهبة! لقد وُهبت اليابان بأروع قدرة لأجل انتشار أمر الله! اليابان… سوف تأخذ زمام المبادرة في الصحوة الروحانية لشعوب العالم وأممه التي سيشهدها العالم قريبًا!… إنّ يد الغيب تعمل في كلّ وقت ومظفّرة في البلاد، حتى البعيدة منها كاليابان!’(16)

سأل أحدهم أغنس ذات مرّة متى ستترك اليابان. فأجابت ‘لماذا يا عزيزي؟ لقد أخبرني حضرة عبدالبهاء أن أذهب إلى اليابان. ولم يقل لي أن أتركها!’(17)

في عام 1954 كانت أغنس ضمن أوّل مجموعة في هيئة المعاونين لآسيا. بعد ثلاث سنوات، في 27 آذار 1957، رقّيت إلى رتبة أيادي أمر الله، بدل جورج تاونزند، الذي وافته المنيّة يوم 25 آذار:

جرت ترقية أغنس ألكساندر المهاجرة المميّزة في أمر الله إلى رتبة أيادي أمر الله. إنّي واثق أنّ هذا التعيين سوف يعزّز حملة التبليغ روحانيًا في شمال المحيط الهادئ وجنوبه وقلبه.(18)

انتُخبت أغنس عضوًا في المحفل الروحاني المركزي لشمال شرق آسيا في عام 1957 وخدمت فيه حتى عام 1963. عندما صعد حضرة وليّ أمر الله في تشرين الثاني عام 1957، توجّهت إلى لندن لتشييع جنازته ومن ثم إلى حيفا لحضور الاجتماع الرسمي الأوّل لأيادي أمر الله. حضرت المؤتمرَين البيقارّيين في سيدني وجاكرتا-سنغافورة في عام 1958 وسافرت بعد ذلك عبر الولايات المتّحدة وأوروبا في أيلول وتشرين الأوّل. كما زارت كوريا مرّة أخرى في تمّوز عام 1961. وفي عام 1963 حضرت مؤتمر الوكلاء العالمي في حيفا الذي انتخب بيت العدل الأعظم الأوّل، وبعد ذلك انضمّت إلى الآلاف من البهائيين في لندن في أوّل مؤتمر بهائي عالمي. في أوائل الستّينيات من القرن ساعدت في عملية الدخول في دين الله أفواجًا في الفلبين، وفي عام 1964 مثّلت بيت العدل الأعظم في تشكيل المحفل الروحاني المركزي لجزر هاوائي.

خطّطت أغنس لحضور المؤتمر العالمي للإسبرانتو في طوكيو في عام 1965، ولكنّها أصيبت بكسر في وركها إثر سقوطها على الأرض، واضطرّت إلى ملازمة الفراش في المستشفى بطوكيو لمدّة سنتين دون أن تتفوّه بكلمة شكوى، بل كانت تقول لصديقتها، ‘يا عزيزتي، لا شيء يحدث بالصدفة.’(19)

في عام 1967، وهي في الثانية والتسعين من عمرها وغير قادرة على المشي أو الكتابة، قرّرت أغنس أنّ الوقت قد حان للعودة إلى موطنها هاوائي. فعادت إلى كيوتو حتى تقوم على توزيع كتبها ومتعلّقاتها التذكارية قبل مغادرتها. أمضت الأعوام الأخيرة من حياتها في هونولولو. في 1 كانون الثاني 1971 صعدت روحها بهدوء إلى الملكوت الأبهى، ودفنت في قطعة أرض تخصّ العائلة خلف كنيسة كاواياهاو في هونولولو.

هناك عضو في المحفل الروحاني المركزي لجزر هاوائي كان مرتبطًا بشكل وثيق مع أغنس لمدّة عشر سنوات. يتذكّر أنّ ‘استقامتها، وإيمانها، ويقينها المطلق في أمر الله، وإطاعتها وولاءها الكامل للعهد والميثاق، كانت كلّها معيارًا ساميًا جديرًا بالمحاكاة…. من الصعب إدراك ذلك التوازن بين انبهارها الطفولي المستمرّّ، طهارتها وبراءتها من جهة، وصفاتها التبليغية الهائلة الجريئة المثابِرة من جهة أخرى.’(20)

في 4 كانون الثاني 1971، أبرق بيت العدل الأعظم إلى العالم البهائي:

حزننا عميق لوفاة أغنس ألكساندر، تلك النفس المستنيرة، أيادي أمر الله، العماد الصامد طويلاً لأمر الله في الشرق الأقصى، أوّل من حمل أمر الله إلى جزر هاوائي. كانت حياتها الطويلة المثالية مكرّسة لخدمة أمر الله بإخلاص كما توقّع مركز العهد فاختارها لتشارك ماي ماكسويل في شرف ذكر اسميهما في ألواح الخطّة الإلهية. كان سعيها الجامح المتواصل في التبليغ إطاعة لحكم حضرة بهاءالله ونصائح المولى وهداية وليّ أمر الله المحبوب، جديرًا بأن يكون مثالاً مشرقًا لكافّة أتباع أمر الله. تقطع وفاتها حلقة إضافية أخرى تربطنا بالعصر البطولي. نؤكّد لعائلتها وأصدقائها دعاءنا الحارّ في الحرم الأقدس طلبًا لتقدّم روحها، ونطلب من كافّة المحافل الروحانية المركزية عقد مجالس تذكّرية، ومن أولئك المسؤولين عقد مجالس مماثلة في أمّهات مشارق الأذكار.(21)

1.
Honnold, Why They Became Bahá’ís, p. 5.
2.
Bahá’í World, vol. 15, p. 424.
3.
المصدر السابق، الصفحتان 424–425.
4.
المصدر السابق.
5.
Honnold, Why They Became Bahá’ís, pp. 8–9.
6.
Bahá’í World, pp. 425–6.
7.
Morrison, Hand of the Cause, Agnes Alexander: A Eulogy, p. 7.
8.
حضرة عبدالبهاء، «ألواح الخطة الإلهية»، الصفحتان 17–18. (نسخة المكتبة الإلكترونية)
9.
Garis, Martha Root, pp. 82–3.
10.
Bahá’í World, vol. 15, p. 427.
11.
Japan Will Turn Ablaze, p. 41.
12.
Garis, Martha Root, p. 174.
13.
المصدر السابق، الصفحتان 174–175.
14.
Bahá’í World, vol. 15, p. 427.
15.
المصدر السابق، الصفحة 428.
16.
Japan Will Turn Ablaze, p. 73.
17.
Bahá’í World, vol. 15, p. 428.
18.
المصدر السابق.
19.
المصدر السابق، الصفحة 429.
20.
Morrison, Hand of the Cause, Agnes Alexander: A Eulogy, p. 7.
21.
Bahá’í World, vol. 15, p. 430.

أيادي أمر الله الذين عيّنهم حضرة شوقي أفندي في 2 تشرين الأوّل 1957

تشرين الأوّل 1957

تقدّم مدهش كهذا، في ميدان شاسع كهذا، تحرزه مجموعة صغيرة من الأبطال الأشاوس في مدّة قصيرة كهذه، يستحقّ تمامًا، في هذه المرحلة من تطوّر مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني، أن يُميّز، بل يتطلّب حقًّا الإعلان عن خطوة أخرى، في التكشّف التدريجي عن واحدة من المؤسّسات الرئيسة الجوهرية المحورية التي شرّعها حضرة بهاءالله، وأكّد عليها حضرة عبدالبهاء في ألواح وصاياه، تقضي بتعيين كوكبة أخرى من أيادي أمر الله، ليرتفع بذلك العددُ الإجمالي للأمناء الرئيسين لكومونولث حضرة بهاءالله الجنيني العالمي إلى ثلاثة أضعاف العدد تسعة، وهم الذين ألقى على كواهلهم مركز العهد والميثاق بقلمه المعصوم، الوظيفتين المزدوجتين المتمثّلتين في حماية أمن دين والده وضمان نشر نفحاته.

والثمانية الذين رُقّوا الآن إلى هذه المرتبة الرفيعة هم: إينوك أولنغا، وليام سيرز، وجون روبارتس في غرب وجنوب أفريقيا؛ حسن باليوزي وجون فيرابي في الجزر البريطانية. كوليس فيذرستون ورحمت الله مهاجر، في منطقة المحيط الهادئ؛ وأبو القاسم فيضي في شبه الجزيرة العربية – مجموعة مختارة من أربع قارّات في العالم، ويمثّلون الأفنان، فضلاً عن العرقين الأبيض والأسود، وينتمي أعضاؤها إلى خلفيّات مسيحية ومسلمة ويهودية ووثنية.

1908 – 1980 حسن موقّر باليوزي

Hand of the Cause of God Hasan Muvaqqar Balyúzí (1908-1980)

كان حسن باليوزي، وهو من الأفنان، أيادي أمر الله الوحيد من أقرباء حضرة وليّ أمر الله لتشاركهما بالجدّ الكبير، الحاج ميرزا أبو القاسم. كان هذا السلف أحد أخوي خديجة بَگُم، حرم حضرة الباب. وتزوّجت ابنته فاطمة سلطان بَگُم من محمّد حسن، وهو تاجر قَبِلَهُ حضرة بهاءالله كعضو في عائلة حضرة الباب. ابنهما ميرزا علي محمّد آقا موقّر الدولة، هو والد حسن الذي كان واسع المعرفة، ويقدّر قيمة التعليم حيث تلقّى جزءًا من تعليمه في إنجلترا. أمّا والدة حسن، منوّر خانم، فيمكن تتبّع نسبها من شقيقَي خديجة بَگُم. وبذلك كان حسن موقّر باليوزي نبيل النسب وعلى اتّصال وثيق بالدين البابي والبهائي.

ولد حسن في شيراز في 7 أيلول 1908 وكانت طفولته زاخرة بالأحداث. قضى معظم سنواته الأولى في بوشهر، حيث كان والده حاكمًا لموانئ الخليج الفارسي وجُزُره. خلال الحرب العالمية الأولى نُهب منزل العائلة، وعندما احتلّ البريطانيون بوشهر في عام 1915 اضطرّت العائلة إلى الاستقرار في الهند، لتمضي السنوات الأربع التالية في بومباي وبونا. ورغم أنّ ظروفهم المالية أصبحت صعبة، إلاّ أنّهم كانوا يحظون باحترام كبير، وتشدّ من أزرهم تلك الألواح والأخبار التي كانت تصلهم من حضرة عبدالبهاء بواسطة الحجّاج البهائيين. وأصبح منزلهم مكانًا لاجتماع أهل العلم.

في سنّ الرابعة، بدأ حسن دراسة اللغة الإنجليزية. وفي وقت لاحق في الهند، درس اللغة الفارسية والعربية والتاريخ قبل دخول المدرسة الثانوية الانجليزية المعروفة باسم «كلّيّة الأسقف»، حيث استمرّ في صقل لغته الإنجليزية. وفي المستقبل وظّف إتقانه لهذه اللغة في الأعمال العلمية، والتراجم من الفارسية، والمهامّ الإدارية والخطابة العامّة.

بعد الحرب، عادت العائلة إلى إيران واستقرّت في طهران. أصبح موقّر الدولة عضوًا في مجلس الوزراء بمنصب وزير الداخلية. التحق حسن بمدرسة سايروس وأكمل تعليمه المتوسّط [الإعدادي]. إلاّ أنّه قبل أربعة أشهر من عيد ميلاده الثالث عشر، في عام 1921، توفّي والده المحبوب. في غضون سنة تقريبًا على هذا الحدث المؤلم، انتقل حسن مع والدته إلى شيراز.

ولمّا لم تكن هناك مدارس ثانوية في شيراز، اتّصل أحد أعمام حسن بالبروفسور إ. غ. براون في عام 1925 وسأل إذا كان بإمكان البروفسور تولّي تعليم ابن أخيه. لم يستطع براون تلبية الطلب، حيث كان قد أصيب مؤخّرًا بنوبة قلبية حادّة، ومات في الأسبوع الأوّل من عام 1926. قرّر حسن متابعة دراسته في المدرسة التحضيرية التابعة للجامعة الأمريكية في بيروت. وكان لهذا القرار أن يغيّر مجرى حياته تمامًا.

في ذلك الوقت لم يعتبر حسن باليوزي نفسه بهائيًا. كان يعلم عن أمر الله فقط من خلال العلاقات الأسرية مع حضرة عبدالبهاء وحضرة شوقي أفندي، ومن زيارات البهائيين المرموقين، ومن المناسبات الاجتماعية البهائية في شيراز. ورغم أنّ والديه كانا مؤمنَين، إلاّ أنّ حسن تعلّم القليل عن أمر الله منهما، وذلك بسبب القيود المفروضة التي منعت مناقشة أمر الله في المنزل. ومع افتقاره إلى المعرفة بأمر الله، لم يستطع تقبّل وجود نبي آخر بعد محمّد.

في رحلته إلى بيروت سافر حسن عبر البحر الأحمر وبورسعيد وحيفا حيث أمضى ليلة واحدة على جبل الكرمل. كانت هذه الليلة نفسها التي بقي فيها حضرة وليّ أمر الله بجانب سرير جون إسلمنت في دار ضيافة الحجّاج القديمة بينما كان الأخير يقضي ساعاته الأخيرة على وجه الأرض. أثناء هذه الأزمة جلس حسن في غرفة استقبال في منزل حضرة عبدالبهاء وعلى غير المتوقّع زاره حضرة شوقي أفندي. أمضى معه حضرة وليّ الأمر أكثر من ساعة يحدّثه بغاية اللطف والصبر إلى أن ثبت وترسّخ الشاب باليوزي البالغ من العمر سبعة عشر سنة، في أمر الله. وبعد عدّة سنوات كتب السيّد باليوزي عن هذا الحدث:

لقد كانت تلك العناية الكبرى التي جمعتني بحضرة شوقي أفندي وكلّ ما رأيته فيه، هو الذي رسّخني في دين حضرة بهاءالله. لقد تغيّر مسار حياتي.(1)

عقب هذا الحدث الهامّ من اجتماعه في حيفا، أصبح حسن بهائيًا مرموقًا وطالبًا بارزًا. بدأ بمراسلة مؤمنين في أوروبا وأمريكا، متبادلاً معهم الأخبار عن أنشطة بهائية. في ذلك الوقت كان حضرة شوقي أفندي يشجع الطلاّب البهائيين الإيرانيين على الدراسة في بيروت قبل الذهاب إلى أوروبا. وباعتباره واحدًا من أوائل الطلبة البهائيين في الجامعة، أبدى حسن مهارات في القيادة عن طريق جمع الطلبة البهائيين معًا، وترتيب برامج أسبوعية لهم وتشجيعهم على إعداد خطابات، طالبًا إذن حضرة وليّ أمر الله لهؤلاء الطلاّب لزيارة حيفا وكتابة مقالات عن أمر الله. عندما قُدّم إلى حضرة وليّ أمر الله كتيّب ألّفه حسن بعنوان «بهاءالله» صرّح حضرة شوقي أفندي أنّه ينبغي للسيّد باليوزي أن يكتب ثلاثة مجلّدات، عن حياة كلّ من حضرة بهاءالله، حضرة الباب وحضرة عبدالبهاء.(2) قال صديق حسن وزميله الطالب أبو القاسم فيضي، وهو يستذكر تلك الأيّام، ‘كانت تلك أسعد فترة من حياتنا عندما وضَعَ العزيز حسن كلٌ واحد منّا في طريق يفضي إلى رضاء حضرة وليّ أمر الله المحبوب وتقديره.’(3)

كان حسن أحد الطلبة المتفوّقين في الجامعة الأمريكية، ويلعب كرة القدم وكرة المضرب وشارك في جمعيّات الدراما والمناظرة، فضلاً عن «الجمعية البهائية». كانت دراسته الأولى في الكيمياء، ولكنّه اختار التاريخ لدراساته العليا، وتلقّى في عام 1932 درجة الماجستير في التاريخ الدبلوماسي.

في شباط عام 1932، وبرفقة السيّد فيضي، قام بحجّ أخير إلى حيفا، والتي شملت زيارة للقصر المرمّم حديثًا في البهجة. وكانت هذه آخر مرّة يشاهد فيها حضرة شوقي أفندي. غادر بيروت بعد سبعة أشهر إلى إنجلترا، حيث لعب دورًا محوريًا في تاريخ أمر الله على مدى الثمان وأربعين سنة التالية.

واصل حسن تعليمه في التاريخ الدبلوماسي في كلّيّة لندن للاقتصاد، ليدرس التاريخ والعلوم السياسية والدبلوماسية، مُركّزًا على علاقات القوى الأوروبية بدول الخليج الفارسي. حصل على درجة الماجستير (الاقتصاد) في عام 1935. ثم بدأ العمل لنيل شهادة الدكتوراة، فدرس تأثير ‘الرأي العامّ البريطاني على العلاقات الفرنسية-الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى’. لكنّ مسيرته الجامعية توقّفت بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية.

في رضوان عام 1933، بعد وصوله الى لندن بوقت قصير، انتُخب حسن عضوًا في المحفل الروحاني المركزي للجزر البريطانية، فضلاً عن المحفل الروحاني المحلّي في لندن. وفي الوقت نفسه أصبح مساعدًا قديرًا لليدي بلومفيلد ومصدرًا لراحة الإيرانيين الذين يعيشون في لندن وتشجيعهم. ولمّا لم يكن هناك مركز بهائي في المدينة، فقد استأجر مكانًا سرعان ما أصبح محورًا لاستقطاب الأنشطة البهائية.

لم تمرّ على إقامة حسن في إنجلترا ثمانية عشر شهرًا حتى نشر في صحيفة إيرانية مقالاً عن الوضع السياسي الراهن في أوروبا. في 8 شباط عام 1934 أبدى حضرة وليّ أمر الله، في رسالة كتبت بالنيابة عنه، استغرابه من السيّد باليوزي بعد كلّ ما أصدره حضرته من ‘التحذيرات المتكررة والتأكيد على الأحبّاء بالامتناع عن المشاركة في أيّ نشاط سياسي سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة’.(4)

ومع وقوفه على عتبة مستقبل مهني باهر محتمل في السلك الدبلوماسي، إلاّ أنّ السيّد باليوزي استجاب لنداء حضرة وليّ أمر الله على الفور. وفي رسالة مؤرّخة في 2 آذار عام 1934 من خلال سكرتيره، أجابه حضرة شوقي أفندي معلّقًا على قراره الصعب ولكن المتّسم بالشجاعة:

لقد أُعجب حضرته جدًّا باستجابتك الفورية… وقدّر عاليًا قرارك الحاسم بعدم الانخراط بأيّ عمل سياسي أو دبلوماسي. يعي حضرته تمامًا تلك التضحيات التي رضيتَ بها من أجل الحفاظ على نزاهة التعاليم وكمالها. لأنّ ميدان العمل الذي أراده والداك لك ميدان يتيح لك فرصًا كبيرة للتقدّم فيه، بل ربّما كانت لك فرصة لتولّي المنصب الذي احتلّه والدك في الوزارة. كن واثقًا أنّ المثال الذي ضربته للأحبّاء برفضك التدخّل في أيّ نوع من النشاط السياسي هو مثال سوف ينال تقدير كلّ واحد منهم، وبه سيتشجّعون لتحمّل تضحيات أكبر. في الواقع، لا يمكن لأمر الله أن يتطوّر إلاّ بالتضحيات المستمرّّة الصادرة عن صميم قلوب المؤمنين. فعلى الشباب البهائيين الأذكياء المتعلّمين أمثالك تقع المسؤولية الرئيسة في أن يبرهنوا للأحبّاء ولغير المؤمنين على السواء، أنّ روح البطولة والولاء والتفاني المطلق لأمر الله تعمل على إلهام المؤمنين أكثر من أيّ وقت مضى وتعيد تشكيل نمط حياتهم.(5)

أشاد حضرة وليّ أمر الله في العام التالي بحسن باليوزي كونه ساهم بالفعل مساهمة قيّمة في تطوير أمر الله في بريطانيا. فقام إلى جانب ديفيد هوفمان، وهو بهائي إنجليزي عاد إلى بريطانيا من أمريكا في عام 1936، على إحياء الجامعة البهائية البريطانية. خلال السنوات الأربع التالية ساعد في إطلاق حملة تبليغية مركزية في كافّة أنحاء البلاد، وفي تنظيم أوّل مدرسة صيفية بريطانية، وشارك في مؤتمرات تبليغ سنوية تُعقد في منتصف الشتاء، وساهم في المجلّة الشهرية «النظام العالمي الجديد»، وساعد المحفل الروحاني المركزي في تحقيق التسجيل القانوني. كان أيضًا عضوًا في «مجموعة شباب لندن البهائيين» ومتحدّثًا نشطًا عن أمر الله.

عندما قرّر حسن العودة إلى إيران قبل الحرب العالمية الثانية، بعثت إحدى المؤمنات إلى حضرة وليّ أمر الله تناشده التدخّل لأنها كانت تقدّر عاليًا إسهاماته [حسن] في سبيل أمر الله في إنجلترا، وشعرت بقوّة أنّ رحيله سيضرّ مؤسّسات دين الله وأنشطته. فأجاب حضرة شوقي أفندي أنّ السيّد باليوزي سيحصل على المزيد من فضل الله وعونه في خدمة أمر الله إذا بقي في إنجلترا، لكنّه لم يوجّه حسن للبقاء. ومع ذلك، لدى قراءة تعليقات حضرة وليّ أمر الله، قرّر السيّد باليوزي البقاء في لندن.

مع اقتراب الحرب، تشجّعت الجامعة البهائية البريطانية عن طريق رسالة لحضرة وليّ أمر الله، الذي كان ‘مسرورًا من العمل الذي يدار بتلك الحيوية… ولا سيّما من خلال ممثّليهم المنتخبين على المستوى المركزي، الذين تستحقّ جهودهم الرائعة وشجاعتهم ومثابرتهم أسمى الثناء’.(6) خلال الحرب، أعرب حضرة شوقي أفندي عن محبّته واهتمامه بالبهائيين البريطانيين في أكثر من ستّين رسالة. استجاب المؤمنون لحضرته بزيادة النشاط في متابعة أعمال التبليغ، رغم ‘النكبات غير المسبوقة والفوضى التي تسود بلادهم الآن’.(7)

في عام 1940 وافق السيّد باليوزي على تعيينه في دائرة البثّ بالفارسية التي شُكّلت حديثًا في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي). وهذا التعيين ضمن له استمرار إقامته في إنجلترا عندما بدأت الحرب. تضمّنت فقرات بثّه محادثات حول الثقافة الإيرانية، التاريخ والثقافة الغربية، تراجم إلى الفارسية للعديد من كلاسيكيّات النثر والشعر الإنجليزي،(8) مقالات حول الأحداث الجارية ومقابلات مع شخصيّات إيرانية. لقيت محادثاته إعجابًا كبيرًا لدى المستمعين الإيرانيين طيلة أكثر من عشرين سنة. كما كتب أيضًا مقالات خاصّة، وألّف مسرحيّات وشارك في التمثيل فيها وساعد في إنتاج أعمال شكسبير.

في رضوان عام 1940 انتُخب حسن نائبًا لرئيس المحفل الروحاني المركزي. في العام التالي كتب «دليل النظام الإداري» وقدّم مساعدة لا تقدّر بثمن إلى ديفيد هوفمان، الذي قام بتحرير كتاب الليدي بلومفيلد «الطريق المختار»، وكتب حَسن مقدّمة الكتاب.(9)

في حزيران عام 1941 تزوجّ حسن من مولي (ماري) براون في المركز البهائي في توركي. كانت راقصة باليه وابنة كاثلين براون (الليدي هورنيل في وقت لاحق)، وهي واحدة من أكبر بهائيي إنجلترا رسوخًا ونشاطًا. كان حسن ومولي قد حضرا معًا عدّة جلسات «فايرسايد» واجتماعات بهائية أخرى. عاش الزوجان في إفيشام مؤقّتًا، حيث انتقلت هيئة الاذاعة البريطانية طيلة فترة الحرب. رزقا بخمسة أبناء، وربّما يفسر ذلك تعليق حسن بعد سنوات أنه ‘لم تولد بنت في عائلتنا منذ مائتي سنة’.(10)

في عام 1942 انتُخب حسن رئيسًا للمحفل الروحاني المركزي، وهي وظيفة شغلها مدّة سبع عشرة سنة. وقد وُصف بأنّه جلب إلى الاجتماعات صبرًا محبّبًا، وتعاطفًا كبيرًا، وحكمة عميقة ومرحًا لطيفًا. يتذكّر أحد الأعضاء ذلك الجوّ من الفرح والشوق والإثارة في الاجتماعات، ويتذكّره عضو آخر بأنّه لطيف ومؤثّر، وعضو ثالث يتذكّر حكاياته وقصصه المبهجة ورئاسته المثالية [للمحفل الروحاني].

كان لحسن باليوزي في الواقع سلوك بسيط لكنّه وقور، وتقدير لكلّ جهد يبذله الآخرون في خدمة أمر الله، وتعاطف تجاه الضعف الظاهري في السلوك البشري، وفهم لأشواق النفوس البشرية، ومثابرة هادئة في أداء مسؤوليّاته الخاصّة، وثبات لا تشوبه شائبة في ولائه للعهد والميثاق، وإطاعة كاملة وقلبية للشخصيّات الرئيسة في أمر الله، ودعم متين لجميع مؤسّسات أمر الله الإدارية.

قدّم أيادي أمر الله أوغو جياكري، وهو أرستقراطي أيضًا، صورة بقلمه عن السيّد باليوزي في أوّل لقاء بينهما عام 1953:

كان شابًّا أنيقًا معسول الكلام، لطيفًا رشيقًا. شعره الأسود الكثيف يعزّز وسامة طلعته؛ بدا لي تجسيدًا للأرستقراطية الفارسية المثالية. كانت قدرته اللغوية رائعة حقًّا. (11)

قال أيادي أمر الله السيّد فروتن لماريون هوفمان إنه لم يلتق قطّ برجل متواضع مثل السيّد باليوزي.(12) وقال فرهنگ أفنان، وهو شابّ تربطه صلة قرابة بالسيّد باليوزي الذي اعتنى به ما يقرب من سبع عشرة سنة، ‘كنت مسحورًا بلطفه ووداعته وتفهّمه. مع مرور الوقت، بدأت أدرك أكثر وأكثر أيَّ شخص فريد من نوعه كان… كان مثل جوهرة ثمينة ذات أوجه عديدة.’(13)

نظرًا لهذا الوصف الرائع لحسن باليوزي، فلا عجب أنّ الذين تجمّعوا حوله قد استلهموا من شخصه وانجذبوا إليه.

بالإضافة إلى عمله في المحفل الروحاني المركزي، كان حسن باليوزي في الغالب رئيسًا لمؤتمر الوكلاء السنوي والمحفل الروحاني في لندن، وكان عضوًا أو أمين سرّ في لجان عديدة، بما فيها تلك الخاصّة بمجلّة «النظام العالمي الجديد»، وبالأدبيّات، ومراجعة الكتابات البهائية، والمحفوظات، وتطوير المحفل، والفارسيين، والتمكين، وإدارة المدارس الصيفية وبرامجها، واحتفالات الذكرى المئوية الوطنية، والعلاقات العامّة، والوسائل البصرية، والتبليغ الأوروبي والآسيوي وعدد من اللجان المرتبطة بحظيرة قدس لندن. ومن ضمن عمله في اللجان، بين أمور أخرى كثيرة؛ المساعدة في صياغة سياسات نشر المطبوعات، التخطيط للدعاية الصحفية لاستكمال الزخارف الخارجية لمشرق أذكار ويلمت، وإعداد تاريخ أمر الله في الجزر البريطانية في الذكرى المئوية عام 1944، وتعزيز خطّة الستّ سنوات البريطانية الأولى.

في الوقت نفسه كان يرسل «المجلّة الدورية البهائية» إلى البهائيين البريطانيين، ويتحدّث في المدارس الصيفية والمؤتمرات التبليغية السنوية والاجتماعات العامّة وجلسات «فايرسايد».

لمّا سُئل كيف يمكنه إنجاز ذلك الكمّ الكبير من المهامّ الشاقّة، أجاب حسن باليوزي، ‘كلّما أفكر في ما يفعله لنا وليّ أمرنا المحبوب أشعر بالخجل من قلّة ما نفعله بالمقابل، ويهرب النوم من عينَيْ.’(14) في العديد من الأمسيات كان يجلس طوال الليل في مكتبه، منهمكًا في عمله.

كانت مولي باليوزي نفسها موهوبة للغاية. ساعدت زوجها في إنتاج النصوص الدرامية المميزة عن أمر الله. كان وجودها مع حسن في المدرسة الصيفية يخلق جوًّا من البهجة والسرور. ولأنّها كانت تفضّل دورًا بعيدًا عن الأضواء، وكرّست نفسها لتنشئة أبنائهما، فقد تمكّن حسن من التركيز على مهامّه التي تتطلّب جهودًا جبّارة. عندما زارهم أ. ز. وايتهيد في عام 1979 ‘تأثّر كثيرًا من المحبّة والتقدير اللذين أبدياهما لبعضهما البعض’. وقال إنّه أدرك أنّ حسن ‘لم يستطع أن ينجز عمله بالغ الأهمّية دون رعايتها المخلصة’.(15)

يرجع الفضل جزئيًا إلى جهد السيّد باليوزي الإداري المكثّف في نجاح الجامعة البهائية البريطانية نجاحًا كبيرًا في تحقيق أهداف خطّة الستّ سنوات (1944–1950). في بداية الخطّة، كان جورج تاونزند، الذي عاش في إيرلندا، العضو الوحيد في الجامعة البهائية للجزر البريطانية المقيم خارج إنجلترا. دعت الخطّة إلى تشكيل تسعة عشر محفلاً روحانيًا [محلّيًا] جديدًا في إنجلترا وويلز واسكتلندا وإيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا. نهضت الجامعة البهائية البريطانية إلى مستوى التحدّي، وكونها رحّبت بالمساعدة التي قدّمها جون روبارتس في الأسابيع الختامية من الخطّة، كان المحفل الروحاني المركزي قادرًا على إرسال برقية إلى حضرة وليّ أمر الله في 17 نيسان 1950 تفيد بأنّ النصر الكامل بات مؤكّدًا. في مؤتمر الوكلاء السنوي في عام 1950، قرأ حسن باليوزي برقية حضرة وليّ أمر الله أمام حشد يحتفل بنصره:

قلبي دافق بالمحبّة من الأدلة الباهرة على عنايات حضرة بهاءالله الوفيرة التي مكّنت الجامعة البهائية البريطانية الشجاعة الحبيبة الغالية من الانتهاء المظفر لأوّل خطّة تاريخية في نصف قرن من التاريخ البهائي البريطاني.(16)

في الرسالة نفسها دعا حضرة شوقي أفندي الجامعة البهائية البريطانية أن تعدّ نفسها، بعد فترة راحة لمدّة سنة، لمهمّة تاريخية أخرى. هذه المهمّة المفعمة بالتحدّي المشار إليها بحملة أفريقيا،(17) عبارة عن مشروع شاقّ يتطلّب من المحفل الروحاني المركزي البريطاني أن يكون بمثابة هيئة استشارية لجميع الأقاليم الأفريقية، حيث عملت مختلف الهيئات البهائية المركزية بانسجام لتوسع أمر الله في تلك القارّة.

في بداية الحملة، لم تكن تعاليم حضرة بهاءالله قد دخلت بعد إلى أجزاء كبيرة من القارّة الأفريقية، أمّا في نهايتها فقد احتفلت بتسجيل أكثر من (600) بهائي يعيشون في أكثر من (190) موقعًا محلّيًا ويمثّلون أكثر من (60) قبيلة. ترأّس حسن باليوزي مؤتمر كمبالا في عام 1953، الذي حضره عدد من أيادي أمر الله وكذلك (123) ممثّلاً عن (30) قبيلة أفريقية تقريبًا. ففي أوّل مهمّة له عبر البحار في الخارج، افتتح السيّد باليوزي الاجتماع، وترأّس كلّ جلساته، كما تحدّث في الاجتماع العامّ في كلّيّة جامعة ماكيريري وشارك في المشاورات بين ممثّلي المحفل الروحاني المركزي وأيادي أمر الله الحاضرين.

لدى استماعهم إلى رسالة حضرة شوقي أفندي الموجّهة إلى مؤتمر الوكلاء المركزي البريطاني بعد بضعة أشهر، أمكن للوكلاء التنعّم بوهج إشادات حضرة وليّ أمر الله ومديحه لهم والتأمّل في الأهمّية التاريخية للانتصارات المحرزة مؤخّرًا، والتفكّر في تحدّيات مشروع الجهاد الروحاني العالمي الذي يوشكون على الشروع فيه:

أهنئ بحرارة وكلاء الجامعة البهائية في الجزر البريطانية المجتمعين للاحتفال بأعظم المناسبات في السنة المقدّسة، على الانتصارات الرائعة التي تحقّقت في القارّة الأفريقية والتي تجاوزت أسمى آمال الخطّة التي وُضعت قبل سنتين واعتُبرت في الأصل مجرّد مقدّمة الحملة الأفريقية، لكنّها اتّخذت بُعدًا كبيرًا بحيث أينعت بهذه الثمار التي تستحقّ أن تُعتبر مرحلة متميّزة في الحملة التي أطلقتها الجامعة البهائية إلى خارج حدود الوطن، خطّة ستّ سنوات، وهي أوّل تعهّد جماعي في التاريخ البهائي البريطاني وضع أسسًا واسعة الآفاق للمؤسّسات الإدارية المقدّر لها إدارة المشاريع المستقبلية في الخارج للجامعة البهائية البريطانية في خطّة لمدّة سنتين تُدشّن داخل القارّة الأفريقية، وقد دعيت لإنجاز هذه المهمّة المجيدة الجامعةُ نفسها في جميع أنحاء الأقاليم التابعة لبريطانيا في نصفي الكرة الأرضية الغربي والشرقي. إنّ الساعة مواتية ليقوم المحفل الروحاني المركزي البريطاني المظفّر المبارك جدًّا، بمشاركة أحد عشر من المحافل الروحانية المركزية الشقيقة في الشرق والغرب في جهاد روحاني عالمي وشيك من خلال إطلاق خطّة عشر سنوات تحتضن ثلاث قارّات من الكرة الأرضية صُمّمت لتنفيذ مرحلة إضافية من جهاد روحاني خاصّ بها في جميع الأنحاء العديدة المنتشرة على نطاق واسع في المستعمرات والمحميّات المتنوّعة كثيرًا من الإمبراطورية البريطانية، لتسريع مجيء اليوم الذي تكون فيه قادرة على المساهمة بالنصيب الأكبر من مشروع واسع النطاق وجدير بالتقدير للغاية.(18)

في مواجهة أهداف واسعة النطاق كهذه، ازداد عمل حسن باليوزي. فخلال السنوات السبع الأولى من الجهاد الروحاني العالمي خدم في خمس لجان مركزية وترأّس اللجنة الأوروبية والآسيوية للتبليغ. كانت اهتمامات هذه اللجنة الفتح الروحاني لسبع دول أوروبية مستهدفة واستحكام أمر الله في جمهورية إيرلندا وهونغ كونغ.

في كانون الثاني عام 1955 تحدّث السيّد باليوزي وأيادي أمر الله الدكتور غروسمان والسيّد آيواس في حفل تدشين حظيرة القدس المركزية في لندن. في العام التالي، وبعد خمس سنوات فقط من إطلاق الحملة الأفريقية، كان السيّد باليوزي في كمبالا لعقد مؤتمر الوكلاء الأوّل للبهائيين في وسط وشرق أفريقيا المدعو لانتخاب أوّل محفل روحاني إقليمي للمنطقة.

في تشرين الأوّل عام 1957 عيّن حضرة وليّ أمر الله اثنين من البهائيين البريطانيين، حسن باليوزي وجون فيرابي، برتبة أيادي أمر الله. أرسل المحفل الروحاني المركزي البريطاني برقية إلى حضرة شوقي أفندي معربًا عن امتنانه لهذه التعيينات، وجاء الردّ في آخر رسالة بعثها حضرة وليّ أمر الله إلى البهائيين البريطانيين، بتاريخ 11 تشرين الأوّل عام 1957: ‘إنّي واثق أنّ الجامعة البريطانية تستحقّ هذا الشرف الجديد عن جدارة. شوقي.’(19)

عندما توفّي حضرة شوقي أفندي بعد أقلّ من شهر، كان حسن باليوزي، وهو من أبناء العمومة الأفنان لحضرة وليّ أمر الله، أوّل من توجّهت إليه روحية خانم. بحلول مساء 4 تشرين الثاني كان أيادي أمر الله جون فيرابي وأوغو جياكري إلى جانبها أيضًا. تولّى هؤلاء الأيادي معًا المسائل الملحّة التي طرأت فجأة بصعود حضرة وليّ أمر الله. اختارت روحية خانم وحسن باليوزي وأوغو جياكري موقع مرقد ملائم وتابوت مناسب. في مراسم الجنازة يوم 9 تشرين الثاني اصطفّ المؤمنون الحزانى للمرور قرب النعش مدّة ساعتين لتقديم تعازيهم. رُتّلت مناجاة بالفارسية بجانب القبر، وبعدها قرأ حسن باليوزي مناجاة أخيرة باللغة الإنجليزية.

بعد تسعة أيّام على تشييع الجنازة، تجمّع ستّ وعشرون من أيادي أمر الله في الأرض الأقدس للتشاور حول الأوضاع التي تواجه الجامعة البهائية في جميع أنحاء العالم. خلال مداولاتهم في هذا الاجتماع الرسمي الأوّل، انتخب الأيادي المتجمّعون هيئة من تسعة أفراد من مجموعهم، وفقًا لِما جاء في ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء، للخدمة المستمرّّة في المركز البهائي العالمي. وانتُخب السيّد باليوزي من بين التسعة الأصليين، وعندما أصبح في وقت لاحق غير قادر على الخدمة بتلك الصفة، عُيّن أياديًا بديلاً في الأرض الأقدس.

في وظيفة أيادي بديل، أمضى السيّد باليوزي أسابيع أو حتى شهورًا في حيفا. وهناك قدّم خدمات لا تقدّر بثمن في إعداد المحفوظات لنقلها إلى مبنى محفظة الآثار العالمية حيث أتاحت له معرفته الواسعة التعرّف على ألواح مباركة وغيرها من المواد. وفي نهاية أيّام عمل طويلة، رفّه عن الأيادي بما كان يتحلّى به من روح الدعابة التي كانوا في أمسّ الحاجة إليها أثناء وجودهم في دار ضيافة الحجّاج الشرقيين. وحضر كلّ الاجتماعات الرسمية للأيادي من 1957–1963، وقام بترجمة المداولات في تلك الجلسات.

وصف الدكتور جياكري السيّد باليوزي بأنه لم يتعافَ أبدًا من صدمة صعود حضرة شوقي أفندي.(20) ومع ذلك، بالإضافة إلى عمله في المركز العالمي، كرّس كلّ ما تبقى من طاقاته لإنجاح مشروع حضرة وليّ أمر الله للجهاد الروحاني العالمي. ففي غضون أسبوع من استلام بريطانيا «إعلان الأيادي»، كان يجتمع مع ممثّلي المحافل الروحانية المحلّية واللجان المركزية في حظيرة القدس لشرح وضع أمر الله. وقام بالخدمة نفسها في مؤتمر تبليغي في مدينة ليدز في وقت مبكر من عام 1958، حيث حرّك كلامه جمهور مستمعيه بشكل مؤثّر.

حضر حسن المؤتمرات التبليغية البريطانية في الأعوام 1959، 1960، 1962 وعشرة من مؤتمرات الأيادي الأوروبيين بين عامَي 1958 و1964. كان حاضرًا في مؤتمر فرانكفورت التبليغي العالمي في عام 1958، وفي مناسبة وضع حجر الأساس لمشرق الأذكار الأوروبي في عام 1960. كما زار مختلف الجامعات البهائية في بريطانيا، بما فيها بانجور، إدنبرا ومانشستر. وقدّم عرضًا مؤثّرًا عن التاريخ البهائي البريطاني في مؤتمر الوكلاء لعام 1960، وأعطى دورة عن العهد والميثاق في العام نفسه في المدرسة الصيفية في هارليخ. في عام 1961 سافر إلى الإكوادور وبيرو ممثّلاً المركز العالمي في مؤتمرات الوكلاء المركزية الأولى لهاتين الدولتين. في العام نفسه اتّجه شمالاً إلى كندا، فزار المحميّات الهندية وجرى تكريمه في اجتماع «باو-واو». في الاحتفال المركزي بذكرى رحلات حضرة عبدالبهاء في بريطانيا، شارك حسن المنصّة مع ليروي آيواس وهما يعيدان إلى الأذهان زيارة المولى إلى إنجلترا، وفي كانون الثاني عام 1963 خاطب مع الدكتور ميولشليغل المؤمنين في إدنبرا في الذكرى الخمسين لزيارة حضرة عبدالبهاء إلى اسكتلندا. في عام 1962 حضر السيّد باليوزي أوّل مؤتمر وكلاء مركزي في كلّ من هولندا والدنمارك، ممثّلاً المركز العالمي.

نظرًا لازدياد عمله كأيادي أمر الله، استقال السيّد باليوزي من المحفل الروحاني المركزي في شباط عام 1960. وشعر كثير من المؤمنين أنّ الجامعة البهائية البريطانية منيت بخسارة كبيرة. إلاّ أنّ حسن واصل التشاور مع المحفل الروحاني المركزي بصفة أيادي أمر الله كلّما كان في إنجلترا وكلّما سمحت له حالته الصحّية. في مثل هذه اللقاءات كان من الممكن أن يتباحث في عشرات المواضيع. وعندما لم يتمكّن من الحضور، كان يرسل اقتراحاته، ويقدّم نصحه لأعضاء الهيئة الإدارية بين الجلسات.

كان المؤتمر العالمي الأوّل في عام 1963 آخر مناسبة للعديد من البهائيين يشاهدون فيها السيّد باليوزي. إنّ خطابه الختامي المؤثّر في الجلسة الأولى، حيث استذكر تاريخ أمر الله والذي قدّم رؤية للمستقبل، سوف يبقى في الأذهان لفترة طويلة. وإذ أنهكته سنوات من العمل المضني، وجد أنّ عليه أن يكرّس طاقته المتضائلة من الآن فصاعدًا للأعمال الأدبية واستكمال المهمّة التي أوكلها إليه حضرة شوقي أفندي قبل عدّة سنوات، وهي كتابة ثلاثة مجلّدات حول الشخصيّات الرئيسة في أمر الله.

وفقًا لموجان مؤمن، كانت هناك في ستّينيات القرن ثلاثة أمور يفتقر إليها ما كُتب عن أمر الله: لم يظهر تقريبًا أيّ شيء ذو طبيعة أكاديمية منذ أكثر من خمسين سنة، واقتصر تاريخ أمر الله على بضعة كتب، وقلّة من مادّة جيّدة نُشرت منذ وفاة جورج تاونزند في عام 1957. وهكذا بدأ عمل السيّد باليوزي في تلافي هذا النقص.

في عام 1963 نُشرت نسخة موسّعة لمقالته السابقة عن حضرة بهاءالله بعنوان «بهاءالله: الكلمة صار جسدًا». ثم شرع السيّد باليوزي بكتابة أوّل مجلّد من ثلاثيّته. فعاد إلى العمل ثانية في كتاب عن حضرة عبدالبهاء كان قد بدأه في أربعينيات القرن، ولكنّه سرعان ما اكتشف أنّه بحاجة إلى كتاب منفصل حول العلاقة بين إ. غ. براون والدين البهائي. وبالتالي نشر كتابه «إدوارد غرانفيل براون والدين البهائي» في عام 1970، وأخّر نشر كتابه «عبدالبهاء: مركز عهد حضرة بهاءالله» حتى عام 1971. وفي تأليفه لكتاب «الباب: المبشر بيوم الأيّام»، الذي نُشر في عام 1973، فقد تلقّى كثيرًا من مساعدة موجان مؤمن من خلال العمل الذي قام به نيابة عنه في مكتب السجلاّت العامّة البريطاني، وكان أوّل كتاب بهائي يستفيد من وثائق رسمية من أرشيف الحكومة. بعد ثلاث سنوات، في عام 1976، أكمل كتاب «محمّد ومسار الإسلام»، الذي كتبه لأنّه شعر أنّه لم يكن هناك تاريخ متاح عن الإسلام يجمع الدقّة والمعرفة مع نهج متعاطف مع دين محمّد عليه السلام.

ثم بعد أن شعر أنّ عمله القصير عن حضرة بهاءالله كان مختصرًا جدًّا بالمقارنة مع كتبه الأخرى، حوّل السيّد باليوزي انتباهه ثانية إلى حياة حضرة بهاءالله. وإذ توقّع عملاً يحتاج إلى أكثر من مجلّد واحد، أخذ يجري أبحاثًا شاقّة في كلّ مصدر، ليصادف المزيد والمزيد من المواد كلّما كتب. أكمل مجلّدًا واحدًا، «بهاءالله، ملك المجد»، وكاد ينتهي تقريبًا من الثاني عندما وافته المنيّة فجأة. نُشر كتاب «بهاءالله» بعد فترة قصيرة على وفاته في عام 1980. أمّا مجلّده الثاني عن حضرة بهاءالله، «بهائيون بارزون في زمن حضرة بهاءالله»، فقد أكملته ناشرته، ماريون هوفمان ومساعده في أبحاثه الدكتور مؤمن، ونُشر في نهاية الأمر في عام 1985.

اتّجهت نيّة السيّد باليوزي إلى نشر سلسلة من الكتيّبات عن حياة أعضاء بارزين في عائلة الأفنان، ولكنّ مجلّدًا واحدًا بحجم صغير اكتمل فقط، «خديجة بگم: حرم حضرة الباب» والذي نُشر بعد سنة على وفاته.(21)

في وصف أدبي له عن السيّد باليوزي في «دراسات تكريمًا للمرحوم حسن م. باليوزي»، علّق الدكتور مؤمن على مهارات السيّد باليوزي في البحث العلمي:

جرت معظم كتاباته على عكس أساليب النثر العلمي الدارجة في الوقت الحاضر. لكنّ عمله مشبع بصفتين سوف تؤدّيان به إلى البقاء في الذاكرة لفترة طويلة بعد أن يكون كثير من المواد الأخرى المكتوبة بتلك المعايير قد طواها النسيان. أوّلاً، سعيه الدؤوب وراء الحقيقة. فقد كان مستعدًّا أن يتكبّد متاعب لا نهاية لها لتعقّب حقيقة أو تاريخ على أصغر قدر من الأهمّية. كان يكتب عدّة رسائل سعيًا وراء معلومة واحدة فقط قد تأخذ مجرّد سطر واحد في كتابه. ولم يتردّد في إلغاء أجزاء كبيرة من مخطوطته إذا شعر أنّ أبحاثه ستترك أيّ أثر من شكّ في حقيقة ما كتب… ثانيًا، نزاهته… فلم يكتب شيئًا من أجل الشهرة أو المنفعة الذاتية. بل كتب فقط ما كان يعتقد أنّه صحيح بعد إيلائه التفكير الذي يستحقّه… وأكّد دائمًا أنّه من الأفضل أن نقولها ‘بكلّ عيوبها’. (22)

عمد السيّد باليوزي إلى العمل في أكثر من كتاب في وقت واحد، ممّا ساعده على التخفيف من الإجهاد في التركيز على مخطوطة واحدة. وقد علّقت ماريون هوفمان قائلة:

غالبًا ما اعتاد الاستمرار في عمله حتى وقت متأخّر من الليل، ولأجل الراحة من الكتابة، كان يتحوّل إلى البحث العلمي وإلى القراءة لخزن المعلومات في الذاكرة. ومن المحتمل أنّ عقله قد سكن في داخل عمله الذي يقوم به على الدوام تقريبًا. كان دقيقًا في تجميع مواده… وجميع كتبه يكتبها بخطّ يده، وحتى الاقتباسات كانت تنسخ بخطّ يده لضمان تنفيذ ما يختار حذفه منها.(23)

كانت ثمار مجهودات السيّد باليوزي التي لم تكلّ، أعمالاً وصفها الدكتور جياكري بأنّها ‘أشبه بجوهرة’ سوف ‘تبقى من بين أبرز الكتابات لتنوير دروب الطالبين والباحثين لقرون قادمة’.(24)

في تشرين الأوّل عام 1979 أصيب السيّد باليوزي بنوبة قلبية. ومع ذلك بدا أنّه قد تعافى منها تمامًا وزار مرقد حضرة وليّ أمر الله في 4 تشرين الثاني، وهي أوّل زيارة له منذ فترة طويلة. في 26 تشرين الثاني تحدّث الى البهائيين في حظيرة القدس بلندن حول موضوع مفضّل لديه، «قوّة العهد والميثاق» قائلاً للأحبّاء بأنّه يأمل أن يكون معهم في مناسبات أكثر.

كان يتوق أن يحمل معه إلى عكّاء نسخة من كتابه «بهاءالله، ملك المجد» ويضعها على عتبة ضريح حضرة بهاءالله. وصلت النسخة الأولى من كتابه إلى إنجلترا في شباط عام 1980، ولكن بدل أن يراها طلب أن تُرسَل لتجليدها بغلاف من جلد خاصّ. وقبل أن يتمكّن من تحقيق رغبته، توفّي حسن باليوزي بهدوء أثناء نومه في ساعات الصباح الباكرة من 12 شباط عام 1980. والآن تُحفظ تلك النسخة من كتابه في المكتبة البهائية العالمية.

في 15 شباط عام 1980، دفن حسن موقّر باليوزي في مقبرة ساوثجيت الجديدة بالقرب من مرقد محبوبه حضرة وليّ أمر الله في محضر الأسرة والعديد من الأصدقاء. في يوم وفاته، أبرق بيت العدل الأعظم إلى العالم البهائي بإجلال وتقدير يناسب أيادي أمر الله البارز المرموق بين العلماء والأمراء على حدّ سواء:

بقلوب منفطرة نعلن وفاة أيادي أمر الله المحبوب الغالي حسن باليوزي. لقد حُرم العالم البهائي بأسره من واحد من أقوى المدافعين عنه، وأكثر مؤرّخيه براعة ومعرفة. فنسبه اللامع، وجهوده المكرّسة في الكرم الإلهي، وأعماله الأدبية المتميّزة تجتمع معًا في تخليد اسمه المشرّف في سجلاّت أمر الله المحبوب. ندعو الأحبّاء في كلّ مكان إلى عقد جلسات التذكّر. نرفع الدعاء في المقامات المقدّسة أن تلهم إنجازاته المثالية واستقامته واصطباره وتواضعه ومساعيه العلمية المتميّزة، العديد من العاملين المخلصين بين الأجيال الصاعدة في السير على خطاه المجيدة.(25)

1.
Bahá’í World, vol. 18, p. 637.
2.
هذا علّق حضرة وليّ أمر اللّه أنّه ينبغي لحسن أن يكتب ثلاثة مجلّدات عن حياة كلّ من حضرة بهاءالله، وحضرة الباب وحضرة عبدالبهاء. وقد كتب الدكتور موجان مؤمن، المساعد البحّاثة للسيّد باليوزي، أنّ ذلك العمل الأدبي نُشر في عام 1938، عندما كان السيّد باليوزي في لندن. صرّح مؤمن أنّ حضرة شوقي أفندي شجّع السيّد باليوزي على ‘مواصلة هذا العمل عن طريق إضافة مقالات عن حياة حضرة الباب وحضرة عبدالبهاء.’ (مؤمن، «دراسات في تكريم المرحوم حسن م. باليوزي») (Studies in Honor of the Late Hasan M. Balyuzi, p. xiv).
3.
Bahá’í World, vol. 18, p. 638.
4.
Bahá’í World, vol. 18, p. 639.
5.
المصدر السابق.
6.
Shoghi Effendi, Unfolding Destiny, p. 125.
7.
المصدر السابق، الصفحة
8.
أُنجزت تراجمه للأعمال الأدبية إلى اللغة الفارسية بنحو من الإتقان أذهل معاصريه المثقّفين. وقد بلغت درجة إعجاب أحد البحّاثة الفرس العظام بتراجم السيّد باليوزي بحيث أنّه ‘شعر أنّ الكُتّاب الأصليين كانوا من المتحدّثين بالفارسية... ودون أدنى شك، أنّ أحد أفضل الطرق لتحديد جودة أيّ ترجمة هو أن يشعر القارئ أنّ المادّة كانت مكتوبة أصلاً في تلك اللغة نفسها’ («حسن م. باليوزي: الباحث والمؤلّف والمؤرّخ، الخادم المخلص لأمر اللّه»، «الأخبار البهائية» عدد حزيران 1980، الصفحتان 7–8).
9.
طلبت الليدي بلومفيلد من السيّد باليوزي كتابة مقدّمة كتابها. في تلك المقدّمة يشيد بالمؤلّفة وكتابها باعتباره مستودعًا يزخر بمواد أساسية لدراسة التاريخ البهائي.
10.
Bahá’í World, vol. 18, p. 641.
11.
المصدر السابق، الصفحة 643.
12.
المصدر السابق، الصفحة 645.
13.
المصدر السابق، الصفحة 644.
14.
المصدر السابق، الصفحة 642.
15.
المصدر السابق، الصفحة 640.
16.
Shoghi Effendi, Unfolding Destiny, p. 245.
17.
انظر الفصل الخاصّ بموسى بناني للمزيد من التفاصيل عن «حملة أفريقيا».
18.
Shoghi Effendi, Unfolding Destiny, p. 297.
19.
المصدر السابق، الصفحة 387.
20.
Bahá’í World, vol. 18, p. 645.
21.
تشمل أعمال السيّد باليوزي الأخرى ثلاثة كتب باللغة الفارسية بعنوان «قصّة ثلاث أخوات» (the Brontës)، «الإخوة غير الأشقّاء» ((Half-Brothers، و«الكلمات باللغة الإنجليزية المشتقّة من اللغة الفارسية» (Words in English Derived from Persian) (الذي تتبّع فيه جذور أكثر من 700 كلمة إنجليزية).
22.
Momen, ed., Studies in Honor of the Late Hasan M. Balyuzi, p. xvii.
23.
Bahá’í world, vol. 18, pp. 649–50.
24.
المصدر السابق، الصفحة 651.
25.
المصدر السابق، الصفحة 635.

حدود 1906 – 1980 أبو القاسم فيضي

Hand of the Cause of God Abu’l-Qásim Faizi (1906-1980)

أبو القاسم فيضي. اسم يجري على اللسان مجرى السحر، اسم جاذب لكلّ من يعرف أيادي أمر الله المحبوب أو لا يعرفه. قال ذات مرّة لحاج إلى الأرض الأقدس إنّ كلّ واحد من الأيادي يملك بعض خصال حضرة وليّ أمر الله، وشرع يعدّدها ليخلص في النهاية إلى أنّه كان وحده يفتقر إلى هذه النعمة. فأجابه الحاج: ‘لديك خصلة المحبّة.’(1)

أجرى السيّد فيضي مراسلات مذهلة مع البهائيين في جميع أنحاء العالم. يحكي أولئك الذين تشرّفوا بتلقّي رسائله عن تشجيعه ومحبّته وكلماته المنعشة للروح. عندما سُئل ذات مرّة لماذا أجرى ذلك الكمّ من المراسلات ساهرًا لأجلها حتى وقت متأخّر جدًّا من الليل في كثير من الأحيان، أجاب بأنّه طالما أنّ حضرة وليّ أمر الله قد فعل هذا، فلا يمكنه محاولة القيام بأقلّ من ذلك.

ولد فيضي، كما كان يحبّ أن يسمّى، في مدينة قم بإيران، ربّما في عام 1906. لم يكن يحبّ الاحتفال بأعياد الميلاد عدا تلك الخاصّة بمظاهر أمر الله، ولم يعرف على وجه الدقّة تاريخ ميلاده.(2)

كان والدا فيضي أولاد عمومة من الدرجة الأولى، وسليلَي العلاّمة الشيعي البارز الملاّ محسن فيض. كان والده بهائيًا في الصميم، ووالدته إنسانة ورعة من أتباع محمّد عليه السلام. تلقّى فيضي تعليمه الابتدائي في قم حيث نشأ بين المسلمين المتعصّبين. ونتيجة لذلك، غالبًا ما كان يتحدّث عن مدينة قم بنبرة حزينة. كان يمتّع نفسه بالذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية المحلّية هناك، «زور-خانه»، وهي منشأة فارسية تقليدية توفّر ممارسة الرياضة البدنية والتدريب الروحاني. كان فيضي ينتهز كلّ فرصة لينسلّ من المنزل لمشاهدة الرياضيين وهم يمارسون تدريبهم.

انتقلت العائلة إلى طهران عندما كان فيضي في الرابعة عشر أو الخامسة عشر من عمره، وهناك خضعت حياته لتغيير جذري نحو الأفضل. فقد ألحقه والده بالمدرسة البهائية «تربيت». وهنا برع في الرياضة والدراسات الأكاديمية على السواء؛ وفي سنوات لاحقة تحدّث عن معلّميه بكلّ احترام وتقدير.

وذات مرّة، اصطحبه زملاؤه البهائيون إلى صفوف صقل المواهب الشخصية التي تعقد كلّ يوم جمعة. ومع أنّه لم يدرك في البداية العلاقة بين تلك الدروس وأمر الله، فقد انجذب في النهاية إلى التعاليم البهائية وأصبح مؤمنًا. عندما أدركت والدته أنه غير عقيدته، أخذت تشجّعه على مراعاة الأحكام البهائية، بل كانت تنهض فجرًا خلال شهر الصيام البهائي لإعداد وجبة السحور له.

بعد الانتهاء من دراسته في مدرسة «تربيت»، قضى فيضي فترة من الوقت في الكلّيّة الأمريكية بطهران قبل أن يتوجّه في سنّ التاسعة عشرة إلى الجامعة الأمريكية في بيروت. كان يُسمح للطلبة البهائيين الذين يدرسون في تلك الجامعة القيام برحلات الحجّ ومقابلة حضرة وليّ أمر الله في الأرض الأقدس خلال عطلاتهم، فكان فيضي يسافر، برفقة زميله الطالب حسن باليوزي إلى حيفا في كلّ فرصة متاحة.

منذ اللحظة التي التقى فيها فيضي بحضرة شوقي أفندي حتى نهاية حياته، تملّكته رغبة واحدة لا غير: خدمة حضرة وليّ أمر الله. لأنّه منذ ذلك اللقاء الأوّل، وضع قلبه كلّه عند قدمَي محبوبه على الفور، وعلى نحو تامّ وإلى الأبد.

كان أبو القاسم فيضي وحسن باليوزي نفسين من طبيعة واحدة أمطر عليهما حضرة شوقي أفندي بعناياته وأفضاله. أرسلهما حضرته ذات مرة لزيارة قصر حضرة بهاءالله في البهجة عندما كان لا يزال محتلاًّ من قبل ناقضي العهد والميثاق. كان القصر والغرف التي شغلها حضرة بهاءالله في الماضي، في حالة رهيبة في ذلك الوقت. وكان الصديقان أول مؤمنَين يُسمح لهما بالنوم في القصر بعد ترميمه. وفي مناسبة أخرى، قبل عودة فيضي إلى إيران، أعطاه حضرة شوقي أفندي باقة صغيرة من الزهور لتوضع على قبر كيث رانسوم-كيلر نيابة عن حضرته. كان فيضي أيضًا قد تشرّف بمحضر الورقة المباركة العليا، التي كانت حينها في مغرب حياتها، وكانت مصدر إلهام كبير له.

وإذ أكمل دراساته في بيروت، وحصل على شهادة في الأدب الإنجليزي والتعليم، خطّط فيضي للعودة إلى طهران. كانت نيّته العمل في مدرسة تربيت، وبالتالي تحقيق رغبة حضرة وليّ أمر الله بأن يكرس الشباب البهائي حياتهم لخدمة أمر الله. عندما سأله حضرة وليّ أمر الله عمّا إذا كانت المدارس البهائية في إيران تغلق أبوابها في الأيّام البهائية المحرّمة التسعة، أجاب فيضي أنّه لا يعتقد ذلك. فعلّق حضرة شوقي أفندي أنّه ينبغي للمدارس أن تكون مغلقة في الأيّام المحرّمة حتى لو أغلقتها الحكومة بشكل دائم جرّاء قيامها بذلك.

لدى عودته إلى إيران أمضى فيضي فترة في الخدمة العسكرية الإلزامية. وقبل ثلاثة أسابيع من انتهائها في عام 1934، أغلقت الحكومة الإيرانية بشكل دائم كلّ المدارس البهائية بعد أن رفضت فتح أبوابها في الأيّام البهائية المحرّمة.

قبل فيضي مضطرًّا تعيينه في شركة النفط البريطانية - الإيرانية في طهران. وكان يتمتّع براتب جيّد، وأمامه العديد من الفرص للتفوّق في مسيرته المهنية، إلاّ أنّه لم يكن راضيًا. وعندما استعاد في ذاكرته ما نصحه به حضرة شوقي أفندي بألاّ يلوّث نفسه بأشياء هذا العالم، وبثقته بدعاء حضرة وليّ أمر الله لأجله، انتهز فيضي فرصة لتعليم الأطفال البهائيين في قرية نجف آباد قرب إصفهان حيث كانت المدرسة البهائية قد أغلقت هناك أيضًا. وهكذا، فاجأ أصدقاءه وزملاءه عندما تخلّى عن وظيفته في شركة النفط وذهب برفقة أمّه الأرملة إلى نجف آباد، حيث أمضى السنوات الخمس التالية في تدريس نحو (400) طفل بهائي. عندما تلقّى حضرة شوقي أفندي تقريرًا من المحفل الروحاني المركزي حول خطوة فيضي، كتب ما يلي:

سوف يجذب هذا القرار التلقائي التأييدات الإلهية، وهو دليل واضح على الإقدام السامي، والدافع النقي، والتضحية بالنفس من قبل ذلك العبد المقرّب لدى العتبة المقدّسة. إنّي مسرور منه وممتنّ له للغاية، وأدعو من أعماق قلبي لنجاح ذلك الشابّ الفاعل المتألّق.(3)

نظّم فيضي في نجف آباد صفوفًا دراسية في منازل البهائيين، متنقّلاً من بيت إلى بيت من الفجر إلى فترة ما بعد الظهر. ساعدته والدته في نواح كثيرة. فقد أحبّت الأطفال ودعمت ابنها ماليًا من القليل الذي تركه لها زوجها. في هذا الوقت تقريبًا حلمت بحضرة الباب وأصبحت بهائية.

في عام 1939 تزوّج فيضي من غلوريا علائي من طهران، وهي التي كان يعرفها منذ عدّة سنوات. رزقا بطفلين ماي ونَيسان.

دأب فيضي على حضور الاجتماعات البهائية في نجف آباد بانتظام وزيارة الأحبّاء منعشًا أرواحهم بالقصص. كان يحبّ الاستماع إلى الجيل الأكبر سنًا في حديثهم عن أيّام حضرة بهاءالله وعن شجاعة المؤمنين. ربّما كان هذا بداية ولعه مدى حياته في جمع القصص، والتي كان يشارك بها البهائيين في أنحاء العالم.

ذهب فيضي من نجف آباد إلى قزوين، حيث نظّم صفوفًا بهائية لجميع الأعمار، وخاصّة اليافعين منهم.

في عام 1941 دعا حضرة شوقي أفندي البهائيين الإيرانيين للهجرة إلى البلدان المجاورة. فاستجاب فيضي فورًا وانطلق مع زوجته إلى بغداد، حيث أمِلا في الحصول على تأشيرة دخول لواحدة من دول شبه الجزيرة العربية. وإذ أُجبر على البقاء في العاصمة العراقية لمدّة سنة قبل منح التأشيرة، جلب فيضي روحًا جديدة إلى الجامعة البهائية. فبدأ بفصول دراسية منتظمة لشبابهم، وشجّع المؤمنين الجدد، ومدّ جسور الصداقة مع العائلات البهائية.

عند اقتراب سنتهم من نهايتها في بغداد، وكانت أموالهما على وشك النفاد، عُرضت على السيّد فيضي وظيفة مدرّس في مدرسة ثانوية بالبحرين. وعندما وصل إلى الجزيرة في كانون الأوّل عام 1942 لاستلام وظيفته، علمت السلطات أنّه بهائي فسحبت عرضها للعمل. إلاّ أنّه لحسن الحظ لم يتمّ ترحيل الزوجين فيضي. ورغم هذه النكسة، وحرارة الجوّ الرهيبة، وقلّة المياه، وسوء التغذية، وعدم الراحة والعداوة، ولعلمهما بأنّ حضرة شوقي أفندي طلب من المهاجرين البقاء في مواقع هجرتهم، بقي الزوجان فيضي في البحرين.

لم يُسمح لهما بذكر أيّ شيء عن أمر الله، لذلك سرت شائعات غريبة حول معتقدهما. فبدأ فيضي ببطء وبشقّ الأنفس، وبأسلوبه العذب اللطيف، في كسب قلوب الناس. بعد نحو سبع سنوات وصل مهاجرون آخرون إلى البلدان الواقعة على سواحل الجزيرة العربية. ولدى مواجهتهم للصعوبات كان بمقدور السيّد فيضي أن يشدّ من أزرهم ودعمهم من خلال رسائله الرائعة، مشجّعًا إيّاهم على البقاء في مواقعهم.

أحبّ المهاجرون في شبه الجزيرة العربية السيّد فيضي، فكان بالنسبة لهم أبًا وصديقًا حميمًا، واعتبروه قدوة لهم. دعاه حضرة وليّ أمر الله «الفاتح الروحاني لشبه الجزيرة العربية»، وكتب بأنّ ‘الخدمات الجليلة المتواصلة من ذلك الشابّ البهيّ في هذه السنوات الماضية تنير سجلاّت أمر الله وتوفّر مثالاً يقتدي به الجميع.’(4)

امتلك فيضي موهبة طبيعية لمعالجة العلل التي تصيب النفوس. على سبيل المثال، تصادق مع لصّ سيّئ السمعة في البحرين كان قد أمضى الكثير من وقته في السجن. وكلّما التقى بالرجل في الشارع، كان فيضي يرسل مشترياته مع الرجل إلى البيت ويعطيه بدل أتعابه. وذات مرّة كانت المشتريات التي عهد بها إلى اللصّ غالية الثمن، مع ذلك، ودون استثناء، كان الرجل يوصلها دائمًا ولم يسرق منها أبدًا قطعة واحدة.

حضر السيّد فيضي المؤتمر البيقارّي في نيودلهي في عام 1953 وبعد ذلك سافر إلى أستراليا ونيوزيلندا مع أيادي أمر الله السيّد فروتن كمترجم له. كان في أوروبا في تشرين الأوّل عام 1957 عندما سمع خبر تعيينه أياديًا لأمر الله من قبل حضرة وليّ أمر الله. وبعد أسابيع قليلة فقط، توفّي حضرة وليّ أمر الله في إنجلترا. وبقلب منفطر بالحزن، سافر السيّد فيضي إلى لندن لحضور الجنازة، حيث قام بتلاوة صلاة الميّت.

ثم حضر الاجتماع الرسمي الأوّل لأيادي أمر الله، قائمًا بالكثير من مهامّ الترجمة بين اللغتين الإنجليزية والفارسية. وقد انتُخب واحدًا من الأمناء الرئيسين التسعة – أيادي أمر الله المقيمين في الأرض الأقدس. ثم انتقل مع عائلته إلى حيفا، حيث عمل السيّد فيضي كحلقة وصل بين الأيادي من الشرق وزملائهم من الغرب، نظرًا لمعرفته بكلّ من الفارسية والإنجليزية.

منذ ذلك الوقت، بدأ السيّد فيضي السفر على نطاق واسع، حيث مكّنته معرفته بالفارسية والعربية والفرنسية والإنجليزية وشخصيته الدافئة وروح الفكاهة وقدرته على إلقاء الخطابات العمومية الجذّابة، من خدمة الجامعات البهائية في جميع أنحاء العالم. كان يقوم بزيارات متكرّرة إلى المدارس الصيفية والشتوية البهائية في أوروبا وأماكن أخرى، حيث يعقد صفوفًا دراسية حول مواضيع مثل «كتاب الإيقان».

في عام 1960 ادّعى تشارلز مايسون ريمي أنّه وليّ أمر الله الثاني، وهو ادّعاء باطل، ومع ذلك أيّده بعض أعضاء المحفل الروحاني المركزي في فرنسا. وقد بعث الأمناء بالسيّد فيضي إلى فرنسا لمعالجة الوضع. نتيجة لجهوده، تاب ثلاثة أعضاء وندموا على أفعالهم وبقي خمسة آخرون على موقفهم ممّا تسبّب في حلّ المحفل الروحاني المركزي من قبل الأمناء. بفضل توجيهاته استطاع المحفل الروحاني المحلّي في باريس تصريف الأمور كمحفل روحاني مركزي لفرنسا إلى أن تسنّى انتخاب المحفل الروحاني المركزي الجديد.(5)

كان هناك تعبير يكشف عن روح السيّد فيضي وهو إعجابه ببيت العدل الأعظم، الذي انتخب للمرّة الأولى في نيسان عام 1963. فبعد ستّة أشهر على تشكيله كتب ما يلي:

الخبر الأوّل والأهم الذي ينبغي أن أشارككم به هو سلامة واتّحاد وحماس أعضاء بيت العدل الأعظم. إنّه ببساطة أمر معجز أنّ مجموعة من الناس لا يعرفون بعضهم بعضًا من قبل، ولم يعملوا معًا، وكلّ واحد له نوعه الخاصّ من العمل والاهتمام، ثم يندمجون معًا على شأن هم اليوم جسد واحد وروح واحدة. فاتّحاد كهذا يجذب نور الهداية، وهذا هو السبب الأوحد لِما نشهده من نور التأييد والقوّة وما يريده الله ويرغبه حتى في كلّ كلمة ينطقون بها. هذا ما يجعل كلّ بهائي سعيدًا ومصمّمًا على بذل المزيد من الجهد.(6)

سافر السيّد فيضي في جولات على نطاق واسع، وغالبًا ما كان يمثّل بيت العدل الأعظم في المؤتمرات والفعاليّات البهائية. كان يقدّم النصح للمحافل الروحانية المركزية، ويلتقي رؤساء الدول وكبار الشخصيّات العالمية، ويلقي المحاضرات العامّة والمحادثات الخاصّة، ويدير صفوفًا دراسية للبهائيين، ويزور المهاجرين في مواقعهم، ويشجّع الشباب على خدمة أمر الله، ويُنعش الأحبّاء بكتاباته وتراجمه ويواصل مراسلاته الضخمة. في عام 1968 زار ماليزيا، تايلاند، فيتنام، إندونيسيا، الفلبين، تايوان، كوريا، اليابان، هاوائي، البرّ الرئيس للولايات المتّحدة الأمريكية، كندا والجزر البريطانية، وحضر المؤتمر الأوقيانوسي في صقلية، والاحتفال في حيفا بمرور مائة سنة على وصول حضرة بهاءالله إلى الأرض الأقدس. في عام 1969 زار الهند، سريلانكا، ماليزيا، لاوس، هونغ كونغ، الفلبين، أستراليا ونيوزيلندا، وحضر مؤتمر الشباب الأوّل لجنوب المحيط الهادئ، في ساموا الغربية. في عام 1970 سافر إلى هاوائي، غوام، الفلبين، سنغافورة، الهند، غانا والكاميرون. في عام 1972 زار معظم بلدان أوروبا الغربية، حيث حضر مؤتمرَي الشباب البهائي في بادوا وبلون. في عام 1974 سافر في أنحاء الأمريكتين وإلى أوروبا. في عام 1977 سافر إلى ماليزيا، سنغافورة، أستراليا، نيوزيلندا، تونغا، بابوا غينيا الجديدة، فيجي، نيو هبريديز وساموا.

في سنواته الأخيرة عانى السيّد فيضي من مرض السكّري ومشاكل في القلب. وعندما تدهورت صحّته تدريجًا، لزم الفراش أكثر من مرّة خلال أسفاره. وذات مرّة تطلّب نقله بسرعة الى المستشفى أثناء إلقائه محاضرة. وفي النهاية لم يعد قادرًا على السفر، لكنّه استمرّ في مراسلاته واستقبال الحجّاج في منزله.

بالإضافة إلى الكتابة إلى العديد من أصدقائه، نشر السيّد فيضي عددًا من الكتب والمقالات. بعض أفضل أعماله المعروفة باللغتين الفارسية والإنجليزية هي: «پيام دوست و بهار صد و بيست» (1963–1964)؛ «داستان دوستان» (1964–1965)؛ ترجمته إلى الفارسية لكلّ من الكتب التالية: «الجوهرة الفريدة» (1969)؛ «ثلاثة تأمّلات عشية الرابع من تشرين الثاني» (1970)؛ «شرح رمز الاسم الأعظم» (1970–1971)؛ «ودائعنا الثمينة» (1973)؛ «المصباح العجيب» (1975)؛ وترجمته إلى الإنجليزية لكتاب «قصص من بهجة الصدور» (1980).

قرب نهاية حياته، وُصف السيّد فيضي بأنّه يملك هالة من النور الصافي حوله. عندما وافته المنيّة في يوم 19 تشرين الثاني عام 1980 ترك وراءه على مكتبه بعض الهدايا للحجّاج – مقتطفات من الكتابات المقدّسة بخطّ يده المنمّق. لدى وفاته أبرق بيت العدل الأعظم إلى العالم البهائي ما يلي:

القلوب مفعمة بالحزن لوفاة أيادي أمر الله الذي لم يكلّ، المضحّي بالنفس، المحبوب الغالي أبو القاسم فيضي. ينعى العالم البهائي بأكمله خسارته. كانت إنجازاته البارزة الأولى في مهد أمر الله، من خلال تعليم الأطفال والشباب وتحفيز الأحبّاء على ترويج العمل التبليغي، قد دفعت حضرة وليّ أمر الله المحبوب لوصفه بالشابّ النشط البهيّ المتميّز. وقد أكسبه عمله في مجال الهجرة الأمرية لاحقًا في الأراضي المتاخمة لإيران تسميته بالفاتح الروحاني لتلك الأراضي. بعد تعيينه أياديًا لأمر الله لعب دورًا لا يقدّر بثمن في أعمال أيادي أمر الله المقيمين في الأرض الأقدس، وسافر على نطاق واسع، وسطّر أعماله الأدبية، وتابع مراسلاته المُلهِمة الواسعة مع الشريف والوضيع والصغير والكبير إلى أن تحرّرت روحه وعرجت إلى الملكوت الأبهى بعد مرض طويل. ندعو الأحبّاء في كلّ مكان إلى عقد جلسات تذكّرية لائقة تكريمًا له، بما في ذلك جلسات تذكّرية خاصّة باسمه في مشارق الأذكار في كافّة القارّات. عسى أن يستمرّ مثاله الساطع في تكريس النفس بإلهام معجبيه في كلّ أرض. نرفع الدعاء لدى المقامات المقدّسة بأن تنغمس روحه النبيلة المتألّقة في بحر الرحمة الإلهية لتواصل التقدّم دون انقطاع في العوالم الأخرى اللامتناهية.(7)

1.
Letter to author from Shirley Macias, Bahá’í World Centre, 1988.
2.
صرّحت غلوريا فيضي: ‘ورد عام 1906 في جواز سفر السيّد فيضي. لم يختره بنفسه. ليس من المعروف اليوم الذي ولد فيه، فضلاً عن الشهر ولم يحاول فيضي تحديد أيّ تاريخ.’ رسالة إلى المؤلّف من غلوريا فيضي.
3.
Bahá’í World, vol. 18, p. 661.
4.
المصدر السابق، الصفحة 664.
5.
Ministry of the Custodians, pp. 203–4.
6.
Quoted in letter to author from Shirley Macias.
7.
Bahá’í World, vol. 18, p. 659.

1913 – 1990 هارولد كوليس فيذرستون

Hand of the Cause of God Harold Collis Featherstone (1913-1990)

حَدَثٌ في باكورة حياة كوليس فيذرستون قُدّر له أن يؤثّر في مصيره الروحاني. ذات يوم كان مسافرًا بالقطار عائدًا إلى المنزل. وإذ كان منهمكًا في القراءة، لم يلحظ أنّ القطار قد وصل محطّة نزوله. وبينما شرع القطار بالتحرّك ثانية، قفز على الرمال بين خطّين من خطوط السكّة الحديدية. مع أنّه قفز على عجل، فقد كان هناك شيء ما حذّره وجعله يخرج من باب القطار في الجهة الثانية. في تلك اللحظة بالضبط مرّ قطار سريع من الجانب الذي تجنّبه. بعد ذلك أخذ يتساءل أحيانًا مستغربًا ما الذي جعله يغيّر رأيه بحيث نجا بحياته.

ولد كوليس بتاريخ 5 أيّار عام 1913 في بلدة كورن التاريخية في ولاية جنوب أستراليا، أي قبل خمسة عشر شهرًا من بداية الحرب العالمية الأولى. في وقت ولادته، كان حضرة عبدالبهاء يختتم أسفاره الغربية بزيارة ثالثة إلى باريس. أمّا حضرة شوقي أفندي، الذي سيخدم كوليس في ظلّ هدايته عندما يصبح بهائيًا، فكان يذهب إلى المدرسة في بيروت.

كان والده مديرًا لإحدى محطّات السكّة الحديد التابعة لشركة «السكك الحديد لجنوب أستراليا». سمّي الصبيّ هارولد كوليس، ولكنّه كان يعرف باسم كول أو كوليس. عاشت الأسرة في عدّة بلدات بحكم طبيعة عمل والده، إلاّ أنّ كوليس قضى أمتع سنواته في سميثفيلد. بين عامَي 1925 و 1928 كان يسافر يوميًا مسافة (28) كيلومترًا إلى أديلايد، حيث يدرس في «مدرسة أديلايد الثانوية». يفيد تقريره المدرسي بأنه كان ‘مجتهدًا، حسن السلوك ومهذّبًا، ويمكن الاعتماد عليه بشكل كامل، وصريح’.(1) كان خطّ يده جميلاً ومرتّبًا، وهي مهارة جذبت إليه التعليقات طوال حياته. كان يستمتع بركوب الدراجات الهوائية ويلعب الكريكيت بيده اليسرى، والتنس بيده اليمنى. في جميع النواحي الأخرى كان يستعمل يده اليمنى.

بدأ كوليس بحثه في المسائل الروحانية بشكل جدّي خلال شبابه في سميثفيلد. منحته الكنيسة الأنكليكانية التثبيت الديني وعمره خمسة عشر سنة. وحيث إنّه لم يُعمّد في الكنيسة قبل التثبيت الكنسي، فظلّت الكنيسة تذكّره بهذا الخطأ. هذا الموقف من عدم المغفرة سبّب له قليلاً من القلق، في حين أكّد له حدث واحد شكوكه في تعاليم الكنيسة بخصوص قيامة الجسد: عاصفة عنيفة كشفت البقايا المتحلّلة لكلبه المدلّل. هذه الحوادث أثّرت في بحث كوليس الروحاني.

انتقل كوليس إلى أديلايد في ثلاثينيات القرن، حيث حضر ما يصل الى ثلاث جلسات كنسية لمختلف الطوائف كلّ يوم أحد تقريبًا. كان معجبًا بالقسّ جي. إي هيل، الكاهن الموحِّد الذي كان يضمّن خطبه اقتباسات من الكتابات المقدّسة للديانات الكبرى الأخرى. وهذا ما ألهمه زيارة المكتبة العامّة للتحقيق في تلك الأديان.

في تلك الأثناء كان كوليس يعمل على تطوير مسيرته المهنية من خلال دراسة المحاسبة في المدارس المسائية والعمل في أحد المكاتب. منذ عام 1932 ولأربع سنوات عمل في شركة هندسية كبيرة حيث تعلّم حرفة التركيب والتحويل وصناعة الصباغة، متخصّصًا في تركيب الأصباغ المعدنية، وانتاج كمّيّات كبيرة من مكوّناتها. في عام 1938 مكّنته هذه الخبرة من تأسيس شراكة ومصنع للهندسة الدقيقة لإنتاج أجزاء معدنية مضغوطة، وهي مهنة ملكها لأكثر من خمس وثلاثين سنة. شهدت له الأوساط الصناعية لحرفيّته الممتازة وإنصافه ونزاهته في تسيير أعماله. وفي خمسينيات القرن اشترى حصة شريكه [ليصبح المالك الوحيد].

أسّس كوليس شراكة من نوع آخر في عام 1938: فقد تزوّج من مادج غرين في 5 آذار. عاشا في ألبرت بارك في منطقة بورت أديلايد. خلال الفترة بين عامَي 1939 و 1954 رزقا بخمسة أطفال – أربع بنات وصبيّ واحد.

ذات يوم مرّت عليهما اثنتان من البهائيّات المتحمّسات. كانت بيرثا دوبينز وكاثرين هاركوس قد غادرتا أديلايد بروح مطالع الأنوار سيرًا على الأقدام من أجل تبليغ أمر الله في منطقة بورت أديليد، ولمسافة تقدّر بنحو (14) كيلومترًا. في رحلة العودة، توقّفت السيّدتان المرهقتان للاستراحة عند حاجز قرب تقاطع خطّ السكّة الحديد مع الطريق العامّ في ألبرت بارك في منطقة ودفيل. وهناك قامتا بالدعاء متوسّلتين إلى الاسم الأعظم أن يُفتح لأمر الله منزل ما. كان منزل فيذرستون أقرب واحد إليهما.

بعد مضيّ وقت قصير قامت صديقة لمادج بدعوتها لسماع شيء مهمّ من معلّمة مدرسة سابقة. تطلّعت مادج بشوق لهذه النزهة مع الأطفال ولما ستقوله معلّمة صديقتها. وبالتالي كان في عام 1944 أن سمعت مادج عن رسالة حضرة بهاءالله لأوّل مرّة، من بيرثا
دوبينز.

بدأت مادج حضور الجلسات المسائية البهائية مع أطفالها الثلاثة الصغار. وعندما أخبرت كوليس عنها وأرته الكتابات البهائية التي تلقّتها، انجذب على الفور. ولدى علمه بأنّ أمر الله قد جاء لجميع شعوب الأرض، سأل عن كتاب جيّد عن الدين البهائي ليقرأه. فاستجابت بيرثا بإقراض مادج نسخة من «مطالع الأنوار». شرع كوليس في دراسة الكتاب في تلك الليلة نفسها. وعندما وصل الى الصفحة 92، قرأ نصّ خطاب حضرة الباب إلى «حروف حيّ»:

يا أصحابي الأعزّاء أنتم حاملون للواء الله في هذا اليوم وإنّكم مختارون أمناء على سرّه، فعلى كلّ منكم أن تظهر منه صفات الله وأن تتجلّى في أقوالكم وأفعالكم علائم الصدق والقوّة والعظمة حتى إنّ أعضاء جسمكم تشهد بنبالة مقصدكم وطهارة حياتكم وصدق إيمانكم وعلوّ منزلتكم…. فيا حروفي! الحقّ أقول لكم إنّ هذا اليوم هو أرفع وأجلّ من أيّام الرسل السابقين بل البون والفرق شاسع بينهما فأنتم شهود فجر يوم الله الموعود الشاربون من كأس وحيه المختوم، فشمّروا عن ذيل الجدّ… فاغسلوا قلوبكم عن أدران الشهوات في هذه الدنيا واجعلوا زينتكم فضائل الملأ الأعلى… والآن قد أتى الوقت الذي لا تصعد فيه الأعمال إلى عرشه الأعلى إلاّ إذا كانت طاهرة نقيّة ولا تكون مقبولة لديه إلاّ إذا كانت خالية من أثر الدنس… فتضرّعوا إلى الله أن لا تعوّقكم الشؤون الأرضية ولا الشهوات الدنيوية

وأن لا تعكّر شؤون الخلق صفو ذلك الفضل الذي يجري فيكم أو تقلب حلاوته بمرارة… فانتشروا في جميع الجهات وأعدّوا الطريق لمجيئه بأقدام ثابتة وقلوب طاهرة ولا تنظروا إلى ضعفكم واستكانتكم بل اجعلوا أنظاركم دائمًا متوجّهة إلى القوّة القاهرة من ربّكم وإلهكم القدير… إذًا قوموا على اسم الله وضعوا ثقتكم فيه وتوكّلوا عليه وأيقنوا بالنصر والفوز في النهاية.(2)

أدرك كوليس أنّ هذه الرسالة من الله. فقد أسفر بحثه عن أشهى الثمار. في الأثناء فتح الزوجان فيذرستون منزلهما للاجتماعات البهائية المسائية، محقّقين دعاء بيرثا دوبينز وكاثرين هاركوس عندما توسّلتا الاسم الأعظم على الجانب الآخر من منزل عائلة فيذرستون. استمرّت جلسات «فايرسايد» عدّة أشهر، حيث درس كوليس الكتب التي تضمّ كتابات حضرة بهاءالله. في كانون الأوّل 1944 أصبح هو ومادج بهائيين من بين أوائل «الشباب» في المنطقة.

استمرّت جلسات «الفايرسايد». ومع إنّ جامعة أحبّاء أديلايد الكبرى كانت تتألّف من (30) إلى (40) فقط من المؤمنين، إلاّ أنّ وجبات العشاء السخيّّة ودلائل التفاني الصادق كانت ترافق تلك الاجتماعات. جرت العادة أن يلقي متحدّث كلمة قصيرة في بعض جوانب أمر الله. وهكذا نفث الزوجان فيذرستون في أنشطة الجامعة حماسهما المتّقد، ونمت أعداد المؤمنين.

عندما أصبح كوليس ومادج بهائيَين، كانت الجامعة البهائية في البلاد آنذاك تتكوّن من ثلاثة محافل روحانية محلّية؛ وكان المحفل الروحاني المركزي لأستراليا ونيوزيلندا قد تأسّس قبل عشر سنوات فقط. ومع ذلك كان لدى الزوجين فيذرستون انطباع بأنّ هناك العديد من المؤمنين في جميع أنحاء أستراليا بسبب الطاقة الإيجابية التي ولّدها الأحبّاء بلا شكّ. في السنوات اللاحقة، كلّما تفكّر كوليس في أيّامه الأولى كبهائي، كان يتذكّر الفرح والإثارة التي سادت بين البهائيين.

في عام 1945 التقى كوليس ومادج بكلارا «الأمّ» دنّ، التي وصلت إلى أديلايد في أيّار في زيارة نظّمتها بيرثا دوبينز. في تمّوز من ذلك العام بقيت لمدّة أسبوع في منزل فيذرستون. وكانت الأم دنّ مع زوجها قد أسّسا معًا أمر الله في أستراليا في عام 1920. وقد توفّي هايد دنّ في عام 1941، وهو ما أسف له كوليس كثيرًا.(3)

في كثير من الأحيان، عندما لم يكن راضيًا عن الإجابات التي يتلقّاها من الأفراد أو المؤسّسات عن أسئلة حول أمر الله، كان كوليس يكتب إلى حضرة شوقي أفندي طالبًا النصح. عندما كتب في عام 1945 قائمة بالمسائل التي لم يتمكّن من حلّها، كُتبت الرسالة التالية بخطّ يد حضرة شوقي أفندي نفسه في الرد: ‘فلتبارك روح حضرة بهاءالله جهودك وتؤيّدها، وعسى أن يعينك حضرته في الحصول على فهم أوضح لأساسيّات دينه، ولتعزيز مصالح أمره، وللمساهمة في توطيد مؤسّساته الممنوحة من الله.’(4)

وفي الرسالة نفسها، قدّم سكرتير حضرة وليّ أمر الله، نيابة عنه، خطوط الهداية هذه إلى كوليس: ‘يأمل حضرة وليّ أمر الله منك، ومن زوجتك، ومن الشباب الآخرين الفاعلين للغاية في خدمة أمر الله في منطقتكم، أن تقدّموا العديد من الخدمات، وتروّجوا الاتّحاد والمحبّة في جامعة الأحبّاء، وتعزّزوا الأسس الإدارية لأمر الله، وتجذبوا نفوسًا عديدة إليه.’(5)

فضلاً عن تلقّي هذه الرسائل الملهمة من «آية الله على الأرض»، تشجّع كوليس ومادج من نصيحة بيرثا وجو دوبينز أن يكونا جريئَين في خدمتهما لأمر الله – يؤسّسا محفلاً روحانيًا في منطقتهما، ويبلّغا بفعالية، ويسافرا لأجل أمر الله، ويحضرا المدارس الصيفية البهائية. وقد تقبّل الزوجان فيذرستون كافّة هذه التحدّيات. فحضرا أوّل مدرسة صيفية بهائية في عام 1947. وفي السنوات اللاحقة أصطحبا جميع أفراد الأسرة، للسفر (3000) كيلومتر في سيّارة تجرّ مقطورة بدافع الاقتصاد. خاطت مادج تقريبًا جميع ملابسها وملابس الأطفال حتى تتمكّن الأسرة من تحمّل تكاليف مثل هذه المشاركة في الأنشطة البهائية.

في عام 1947 أُطلقت خطّة الستّ سنوات للبهائيين في أستراليا ونيوزيلندا. وفّرت هذه الخطّة حافزًا لأنشطة تبليغية مستدامة وانتشارًا لأمر الله. في عام 1948 تأسّس المحفل الروحاني في ودفيل، والذي شمل ألبرت بارك. وقد دعت الجامعة المحلّية أعضاء المحفل الروحاني المركزي وكذلك الأمّ دنّ لحضور اجتماع عامّ يعلن فيه تشكيل المحفل الروحاني. حضر الحدث مائة شخص تقريبًا، وحظي بالكثير من الدعاية.

في عام 1946 بدأ كوليس وهارولد فيتزنر رحلات تبليغية شهرية إلى كينغستون وهي جامعة محلّية من الأحبّاء في جنوب أديلايد، الأمر الذي تطلّب منهم السفر عدّة ساعات بالحافلة. وفي نهاية المطاف تمكّن كوليس من شراء سيّارة، ممّا ساعده على اصطحاب بهائيين آخرين إلى كينغستون، من بينهم الأمّ دنّ. واصل الزوجان فيذرستون التبليغ في كينغستون حتى عام 1953، ولكنّهما ركّزا على تعزيز وتقوية جامعة الأحبّاء في ودفيل وعلى تأسيس محفل روحاني محلّي في بورت أديلايد. خلال هذه الفترة خدم كوليس لعدّة سنوات في لجنة التبليغ الإقليمية في جنوب أستراليا.

رغم حضور كوليس مؤتمر الوكلاء المركزي بصفة مراقب مرّتين في السابق، إلاّ أنّه لم يحضر كوكيل حتى عام 1949 عندما انتُخب عضوًا في المحفل الروحاني المركزي، والذي خدم فيه حتى عام 1962 وغالبًا كرئيس.

في تلك الأثناء كان للزوجين فيذرستون تأثير مفيد يتّسع نطاقه باستمرار على المؤمنين في جنوب أستراليا. فقد أعطيا دروسًا تعمّقية، واستضافا جلسات «فايرسايد»، ودعما الأنشطة التبليغية، وحضرا اجتماعات اللجان ونظّما اجتماعات عامّة. في عام 1953، عند نهاية خطّة الستّ سنوات، ساعدا في تشكيل المحفل الروحاني المحلّي في بورت أديلايد بأن باعا منزلهما في ألبرت بارك وهاجرا داخليًا. وهكذا أُنجزت خطّة الستّ سنوات بجهود في اللحظة الأخيرة.

برع كوليس في إنجاز الأمور. فعندما كانت الكتب البهائية غير متوفّرة في أستراليا، قام بكلّ بساطة وحصل على ترخيص اشترى بموجبه العديد من الكتب من الولايات المتّحدة. وفي وقت لاحق، عندما صادفت الحكومة أزمة في ميزان مدفوعاتها، سمحت فقط لأولئك الذين اشتروا كتبًا في العام السابق بحصص محدّدة (كوتا) لاستيراد كتب. ولمّا كان المحفل الروحاني المركزي بحاجة إلى شراء كتب بهائية، وتعذّر حصوله على ترخيص استيراد جديد، فقد سمح له كوليس باستخدام الكوتا الخاصّة به. وعندما تعارض تدخينه للسجائر مع رغبته في الصوم، تخلّى عن عادة التدخين بالكلّيّة. وعندما رغب في تقديم التعاليم البهائية بفعالية أكبر، التحق بدورة في فنّ الخطابة. فلا عجب إذًا أن يوصف كوليس ذات مرّة بأنّه «روح تعمل».(6)

بالإضافة إلى أنشطتهما البهائية العديدة، ساعد كوليس ومادج المهاجرين الأوروبيين والإنجليز على الاستقرار في أستراليا ولمّ شملهم مع أحبابهم. كما ساعدا البهائيين في الفلبين عن طريق إرسال الكتب والملابس بعد الحرب العالمية الثانية. وعلاوة على ذلك خدم كوليس في لجنة تابعة لجمعية ديستركت وبوش للتمريض إلى حين انتقالهما إلى بورت أديلايد.

في سنتهما التاسعة كبهائيَين كانت للزوجين فيذرستون مناسبة لها أهمّيّتها الخاصّة. فبعد تحقيق العديد من الانتصارات، احتفلا بفرح غامر ببدء مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني من خلال حضور المؤتمر البيقارّي في نيودلهي والسفر للحجّ إلى الأرض الأقدس.

ركّز مؤتمر نيودلهي على أهداف مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني، حيث تداول الحضور بشأن الخطوات اللازمة لفتح المناطق الآسيوية وجنوب المحيط الهادئ فتحًا روحانيًا لأمر الله. وقد تأثّر الزوجان فيذرستون بشدّة من تجربتهما الأولى في مشاهدة تجمّع كبير كهذا يضمّ مؤمنين من مختلف الخلفيّات العرقية والدينية والثقافية.

سافر كوليس ومادج من نيودلهي إلى الأرض الأقدس في حجّهما إلى المقامات المقدّسة. وزاد من تأثّرهما الروحاني تشرّفهما بلقاء حضرة شوقي أفندي. وقد سجّلت مادج لاحقًا ما يلي:

لو كنّا بحاجة إلى أيّ مزيد من التأكيد حول نفوذ كلمات حضرة بهاءالله في عملية تحويل العالم وإحلال السلام على الأرض، فقد شاهدناه ظاهرًا من قبل حضرة وليّ أمر الله، الذي ألهم البهائيين في جميع أنحاء العالم بهدايته، وأنشأ المؤسّسات البهائية في أرجاء المعمورة. كنّا سعداء ومنتعشين روحانيًا بشكل لا يُصدّق.(7)

أثناء حجّ الزوجين فيذرستون، أشاد حضرة وليّ أمر الله بهايد وكلارا دنّّ كفاتحَين حقيقيَين لأنّهما بقيا في موقعهما. وتحدّث بتفصيل كبير إلى الحجّاج بخصوص أيادي أمر الله وعملهم في التبليغ وحماية أمر الله. كان حضرته، قبل سنتين فقط، قد عيّن الكوكبة الأولى من الأيادي الأحياء وأعلن مؤخّرًا أنّ هيئات المعاونين ستُعيّن لأوّل مرّة في رضوان 1954. طلب كوليس من حضرة وليّ أمر الله التوسّع في شرح هذا الموضوع الذي يعدّ تطوّرًا جديدًا في أمر الله. كان ‘حريصًا على فهم كيف أنّ وليّ الأمر قد رأى كلّ ذلك وهو يعمل في الواقع’.(8) فقام حينها حضرة شوقي أفندي بتوضيح مواضيع مثل دور الأيادي وهيئات معاونيهم؛ نهج الله والخطّة الإلهية؛ العلاقة بين أفراد البهائيين والحكومة؛ ضرورة أن يكون أعضاء المحفل الروحاني صريحين وحكماء لا يساومون في علاقتهم مع السلطات وأن يثبتوا أنّ البهائيين وطنيون ولكن غير سياسيين؛ دور المهاجرين ومسؤوليّاتهم؛ ودور أستراليا واليابان اللتين يمرّ عبرهما ‘محور روحاني’ سيعمل قطباه الشمالي والجنوبي كمغناطيسَين ذوي قوّة هائلة.(9) عاد مادج وكوليس من حجّهما وقد تجدّدت روحاهما ويفيضان طاقة وحماسًا.

في عام 1953 غادر أستراليا ستّة من أعضاء المحفل الروحاني المركزي كمهاجرين. ونظرًا لالتزامات عائلية وتجارية لم يكن كوليس من بينهم، لكنّه ومادج تقدّما لدعم بيرثا دوبينز في الهجرة إلى نيو هبريديز، فحظيت بتسمية «فارس حضرة بهاءالله». استمرّ الزوجان فيذرستون في دعمها ماليًا لسنوات عدّة.

في عام 1952 عيّن حضرة شوقي أفندي كلارا دنّّ أياديًا لأمر الله. وفي عام 1954 أنشأ حضرة شوقي أفندي هيئات المعاونين لمساعدة الأيادي. في مؤتمر الوكلاء المركزي الأسترالي في عام 1954 عيّنت كلارا كوليس فيذرستون وثيلما بيركس أوّل عضوين في هيئة المعاونين للقارّة الأسترالية، والتي شملت نيوزيلندا ومنطقة المحيط الهادئ. وفي غمرة شعوره بعدم استحاقه دوره الجديد في الخدمة، وجد كوليس نفسه أيضًا سكرتيرًا للجنة التبليغ في آسيا، التي تشكّلت للمساعدة في استقرار المهاجرين خاصّة في منطقة المحيط الهادئ.

وكعضو في تلك الهيئة قام كوليس بأولى رحلاته العديدة خارج القارّة فزار نيوزيلندا وفيجي في نهاية عام 1954. في هذه المناسبة كانت مهمّته إنعاش أرواح المهاجرين المنعزلين وتشجيعهم وتعميق البهائيين الجدد من سكّان الجزر. في العام التالي سافر على نطاق أوسع إلى بابوا غينيا الجديدة وجزر سولومون، في حين زار إندونيسيا في عام 1956. وبصفته عضوًا وأمينًا للسر في لجنة التبليغ لآسيا، كان كوليس يشارك بشكل مكثّف في إعداد وإنتاج نشرة إخبارية منتظمة للمهاجرين تدعى «أخبار كوالا». أصبحت النشرة شريان الحياة في دعم المهاجرين وإطّلاعهم على الأخبار، وغالبًا ما كان كوليس يعمل حتى ساعة متأخّرة من الليل لإصدارها في الوقت المناسب. عندما كانت تصل رسالة مهمّة من حضرة شوقي أفندي خلال النهار، كانت مادج تقوم بطباعتها على عدّة نسخ حتى يتسنّى لكوليس الانطلاق مسرعًا بها إلى مكتب البريد قبل منتصف الليل.

وكعضو في المحفل الروحاني المركزي، كان كوليس ضالعًا بشكل عميق خلال السنوات الأولى من الجهاد الروحاني في مسائل قانونية مختلفة، مثل تأمين النظام الداخلي للمحفل الروحاني، التسجيل الرسمي للمحافل الروحانية المحلّية والاعتراف بمراسم الزواج البهائية. وعندما أشار حضرة وليّ أمر الله إلى كوليس في عام 1955 بأنّه ‘يُعلّق أهمّية قصوى على التسجيل الرسمي للمحافل الروحانية المحلّية’،(10) تابع [كوليس] هذا الهدف بكلّ تصميم. ومهما كانت أهداف الجهاد الروحاني، كان كوليس منهجيًا في العمل لا يضعف ولا يلين في الالتزام بها.

في صباح يوم الاثنين 7 تشرين الأوّل عام 1957 تلقّى كوليس مكالمة هاتفية من سكرتير المحفل الروحاني المركزي، نويل ووكر، بخصوص برقية وصلت للتوّ من حضرة وليّ أمر الله. كلّما كانت تصل رسالة أو برقية من حضرة شوقي أفندي، كان المؤمنون يتلهّفون بفارغ الصبر لمعرفة محتوياتها. كان كوليس على وجه الخصوص ينفعل جدًّا. إلاّ أنّ البرقية قد هزّته في هذه المرّة. تستذكر مادج أنّها ‘أصابته كقنبلة’.(11) وبعد أن أخبر شريكه في العمل بتلقّيه للتوّ بعض الأخبار المزعجة، أخذ كوليس عطلة لِما تبقى من اليوم. كانت البرقية التي أقلقت كوليس تقول:

أعلن عن رفع مرتبتك إلى أيادي أمر الله. إنّي واثق أنّ هذا الشرف الجديد سوف يرتقي بك إلى مستويات أعلى في خدماتك لأمر الله المحبوب.(12)

بعد أقلّ من شهر وقع صعود حضرة وليّ أمر الله. وقد تعرّضت حياة كوليس لتغييرات جذرية. لم يكن الآن واحدًا من الأمناء الرئيسين الذين سيحملون على عواتقهم مصير العالم البهائي بأسره فحسب، بل سيسافر أيضًا على نطاق واسع في جميع أنحاء المنطقة الأسترالية وخارجها كأيادي أمر الله. لذا قام بإعادة ترتيب إدارة عمله بطريقة تمكّنه من الاهتمام بمسؤوليّاته الجديدة، والمحافظة على مراسلات متزايدة مع أعضاء هيئة معاونيه والأفراد والمؤسّسات، ورعاية أسرته.

بعد صعود حضرة شوقي أفندي، سافر كوليس مع كلارا دنّّ إلى حيفا لحضور الاجتماع الرسمي الأوّل لأيادي أمر الله. وهناك سمعوا الخبر الصاعق بأنّ حضرة وليّ أمر الله لم يكتب أيّ وصيّة، وبالتالي لم يعيّن وريثًا. وهكذا حمل أيادي أمر الله مسؤولية استكمال أهداف مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني.

في البداية استمرّت مسؤوليّات كوليس لتبقى أساسًا في المنطقة الأسترالية، حيث كان تشكيل المحفل الروحاني الإقليمي لمنطقة المحيط الهادئ هدفًا ملحًّا. بعد تشكيل المحفل في سوفا في عام 1959، تمكّن كوليس من توجيه جهوده إلى حدود أبعد. فخلال الفترة المتبقّية من الجهاد الروحاني العالمي قام بتسع وعشرين زيارة إلى أربعة عشر بلدًا في أستراليشيا وآسيا، وسافر إلى تسع دول في أوروبا وخمس دول في أمريكا الوسطى، وذهب ستّ مرّات إلى الأرض الأقدس، معظمها لحضور الاجتماع الرسمي لأيادي أمر الله. كان من حسن حظّه، وهو في طريقه إلى الاجتماع الرسمي الخامس في عام 1961، أن يمرّ بالقرب من البيت الأعظم لحضرة بهاءالله في بغداد وزيارة أقدس بقعة حيث أعلن حضرته عن رسالته قبل ثمان وتسعين سنة في حديقة الرضوان.

ومثل ما كان عليه دائمًا من تضحية بالنفس، استخدم كوليس فترة عطلته السنوية في عيد الميلاد في 1958–1959 لزيارة الماوريين بناء على طلب المحفل الروحاني المركزي في نيوزيلندا. في عام 1961 حلّ مكان أيادي أمر الله جون روبارتس، الذي أصيب بالمرض، في رحلة واسعة في أمريكا الوسطى. وقد أرهقت الرحلة كوليس واحتاج فترة ستّة أشهر للتعافي.

كان كوليس يعي تمامًا أهمّية كلّ لحظة. كان يقول للمؤمنين الذين التقى بهم بأنّهم يصنعون التاريخ الآن. وقام بجمع نسخ من أوائل المجلاّت البهائية وتجليدها: «نجمة الغرب»، «الفصلية البهائية الأسترالية» (سميت فيما بعد «النشرة البهائية الأسترالية»)، «الأخبار البهائية الأمريكية» و«بشير الجنوب». كما احتفظ بسجلاّت مفصّلة عن المراسلات والبرامج واليوميّات والتقارير المتعلّقة بجميع أسفاره، والتي قام في وقت لاحق بضمّها معًا في مجلّدات. جمع صورًا فوتوغرافية، وأصبح هو نفسه مصوّرًا ويظهّر ما يصوّره بنفسه. عندما سافر إلى الهند وإلى الأرض الأقدس، صوّر فيلمين صامتين بقياس (16) مم بالألوان بعنوان «الشرق يلاقي الغرب» و«الأماكن المقدّسة البهائية في الأرض الأقدس»، واللذين استخدمهما فيما بعد على نطاق واسع وفاعل في التبليغ. كان حضرة شوقي أفندي هو الذي وضع عنوان الفيلم الثاني. جهّز كوليس شريط تسجيل للأمّ دنّ تروي فيه تجربتها في لقائها حضرة عبدالبهاء في سان فرانسيسكو عام 1912، كما صوّر فيلمًا بالألوان بقياس (16) مم للاجتماع الرسمي للأيادي لشهر تشرين الثاني 1958 يظهر فيه (25) منهم
حضروا الاجتماع.

استقال كوليس من المحفل الروحاني المركزي لأستراليا في عام 1962 من أجل تكريس المزيد من الوقت لمهامّ عمله كأيادي أمر الله. في عام 1963 انتُخب بيت العدل الأعظم الأوّل من قبل أعضاء (56) محفلاً روحانيًا مركزيًا. وقد استذكر كوليس فيما بعد باعتزاز اجتماعات بيت العدل الأعظم المنتخب حديثًا مع أيادي أمر الله في المركز البهائي بلندن الكائن في 27 رتلاند غيت، وشعور أيادي أمر الله بالارتياح لأنّ الله استقرّ أخيرًا على عرشه من خلال هذه المؤسّسة الحيّة.

في أعقاب المؤتمر العالمي الأوّل في عام 1963، سافر كوليس على نطاق واسع خلال السنوات الخمس التالية، حيث قام بنحو (66) زيارة إلى (42) بلدًا في جميع القارّات. وعندما توسّعت عضوية هيئة معاونيه من أربعة إلى تسعة أعضاء في عام 1964 واتّسعت منطقة مسؤوليّته لتشمل شمال شرق وجنوب شرق آسيا، نهض كوليس لتأدية مهامّه الشاقّة بحيوية عالية بحيث كان يعرف كلّ البهائيين، ومواطن قوّتهم، والمشاكل والاحتياجات في هذه المنطقة الشاسعة من العالم.

كان المؤمنون يشعرون بسعادة غامرة عندما يلتقون كوليس كلّما جاء إلى بلدهم. فقد غرست فيهم محبّتُه وإشراقه ثقة ورؤية جديدتين. وقد وُصف بأنّه ‘جوهر الانقطاع’ و‘منسجم مع الجانب الروحاني من الحياة’. من ناحية أخرى، غالبًا ما توجّع وتعذّب بسبب شعوره العميق بعدم قدرته على الوفاء بالتزاماته تجاه أطفاله نتيجة أسفاره الواسعة والعمل المكتبي المتّصل بمهنته. عُرف عنه قلقه بخصوص عمله المهني وحسابات نهاية الشهر. ومع ذلك، كان يحبّ أولاده كثيرًا ولم يكن لديه سبب يدعو للقلق حول شؤونه التجارية.

بين عامَي 1968 و 1976 بلغ عدد زيارات كوليس (126) زيارة إلى (49) بلدًا في سائر قارّات الكرة الأرضية باستثناء واحدة. حضر ثلاثة من ثمانية من المؤتمرات الأوقيانوسية والمؤتمرات البيقارّية، في سنغافورة، سوفا وسابورو خلال عام 1971. وفي عام 1976 حضر مؤتمرَين عالميَين للتبليغ في أنكوريج وباريس.

في عام 1976 طلب بيت العدل الأعظم من كوليس التفرّغ التامّ من أجل السفر. كان هذا يعني بيع شركته الهندسية. في العام التالي انتقل مع مادج من أديلايد الى روكهامبتون في وسط ولاية كوينزلاند. وخلال ستّ وثلاثين سنة من أسفاره العالمية، كانت له (529) زيارة إلى (108) بلدان، وزار الكثير منها أكثر من مرّة، وبمعدّل أكثر من (14) رحلة في السنة. كما قام أيضًا بزيارات لا تحصى إلى سائر أنحاء أستراليا، معظمها بالسيّارة والمقطورة. وقد مثّل بيت العدل الأعظم رسميًا في العديد من المؤتمرات ومؤتمرات الوكلاء الافتتاحية لعدد من المحافل الروحانية المركزية.

فيما يلي مثال يوضّح الجدول المضغوط لأنشطة كوليس التي سجّلها في قائمة زياراته لعامَي 1981–1982، عندما كان يقترب من سنّ السبعين:

1981

كانون الثاني: مؤتمر في مشرق الأذكار الأسترالي حول وظائف هيئات المشاورين. مؤتمر تبليغي مركزي في ولاية نيو ساوث ويلز.

شباط - أيّار: رحلة لمدّة (72) يومًا إلى مناطق تسعة محافل روحانية مركزية والعشرات من الجزر وجامعات الأحبّاء في منطقة المحيط الهادئ.

حزيران: زيارة جميع المدن الكبرى والمناطق المجاورة في شمال كوينزلاند، قطعت ما يقرب من (3000) كم برًّا، إقامة العديد من جلسات “فايرسايد” والاجتماعات العامّة.

تمّوز: حضور مؤتمر التبليغ في جنوب ولاية كوينزلاند، ومن ثم إلى توومبا وبرسبين، وعقد جلسات “فايرسايد” والمشاركة في مقابلات صحفية وإذاعية وتلفزيونية، وزيارة المرضى البهائيين في المستشفى، وفي الخاتمة مؤتمر المشاورين.

آب: حضور جلسة معهد حول خطّة مدتها سبع سنوات في ولونغونغ، اجتماع مع المحفل الروحاني المركزي في سيدني، والمشاركة في مؤتمر لأعضاء هيئة المعاونين في أستراليا.

أيلول: زيارة (18) مدينة أسترالية تغطّي أربع ولايات.

تشرين الأوّل: حضور مؤتمر المشاورين في أديلايد، جنوب أستراليا، والتحدّث في الاجتماعات العامّة وزيارة جامعات بهائية لا يمكن حصرها.

تشرين الثاني - كانون الأوّل: السفر إلى ماليزيا وتايلاند وبورما وسريلانكا وسنغافورة وإندونيسيا.

1982

شباط: مؤتمر خاصّ لعضو هيئة المعاونين مع المساعدين في أستراليا، عقد في مدرسة يرنبول البهائية.

نيسان - آب: رحلة حول العالم لمدّة أربعة أشهر تشمل (19) دولة. نقاط رئيسة تضمّنت المؤتمرَ العالمي في مانيلا في أيّار والمؤتمر العالمي في دبلن في حزيران حيث مثّل بيت العدل الأعظم.

أيلول: المؤتمر العالمي في كانبيرا.

تشرين الأوّل: مؤتمر لأعضاء هيئة المعاونين ومساعديهم في يرنبول.

كانون الأوّل: زيارة لمدّة شهرين إلى الفلبين، اليابان، كوريا، تايوان، هونغ كونغ، تايلاند، ماليزيا، سنغافورة وأستراليا.(13)

رافقت مادج كوليس في معظم أسفاره. كانت معرفته بطرق السفر وتفرّعاتها لا تقدّر بثمن. وغالبًا ما أرشد وكلاء السفر إلى الطريقة الأكثر اقتصادًا في السفر عبر مجموعات معقّدة من الجُزر في المحيط الهادئ، وبالتالي حصل على نتائج جيّدة مقابل ما دفعه من مال.

تعرّض كوليس لنوبتين في القلب في عام 1986 وواحدة في عام 1988. ومع ذلك، ثابر على أسفاره، حيث زار البهائيين في القرى والجزر النائية حيث الوصول إليها لم يكن متيسّرًا إلاّ مشيًا على الأقدام فقط، أو على درّاجة هوائية أو في زورق مصنوع من جذع شجرة مفرغ. وقد كتب هوارد هاروود عن أسفار كوليس، وهو أحد المشاورين الذين سافروا في مناطق جزر أستراليا، فقال: ‘الشيء الذي سرعان ما اكتشفته أنّني أينما ذهبت، ومهما كان المكان بعيدًا، كان كوليس هناك قبلي. كان معروفًا جدًّا ومحترمًا في كلّ مكان.’(14)

في كلّ أسفاره شارك كوليس الناس برسالة حضرة بهاءالله كلّما سنحت الفرصة، أو أمكن ترتيبها. كما سعى جاهدًا الى حماية المؤمنين من خلال جعل السلطات الحكومية على علم تامّ بدين الله ومبادئه. كان هذا يعني مقابلته للعديد من أصحاب النفوذ، بمن فيهم رؤساء الدول ورؤساء الوزراء. كان يعتقد بأهمّية تكوين صداقات لأجل أمر الله.

كمتحدّث، كان كوليس يحبّ تسلية مستمعيه بقصص مضحكة توضّح مبادئ روحانية. وكان يحثّ المؤمنين دومًا أن يتعمّقوا في دراستهم للكتابات المباركة ودراسة كتابات ورسائل حضرة وليّ أمر الله وبيت العدل الأعظم. كانت الكتابات المباركة بالنسبة إليه منجمًا يتقاسم جواهره مع سائر الأحبّاء. كان يحمل معه ملفّه الخاصّ المحتوي على مقتطفات مختارة، ومقتطفات اقتبسها من وصيّة كلّ من حضرة بهاءالله وحضرة عبدالبهاء، وتشير إلى مواضيع بارزة فيهما، وقد أصبحت أوراق الملفّ بالية من كثرة الاستعمال.

اعتقد كوليس أنّ ما ينفع أمر الله هو الأفضل فحسب. وكان هو نفسه واعيًا ومنضبطًا بخصوص قيمة المال، فعاش ببساطة واقتصاد في المعيشة ولكنّه كان يصرف المال عن طيب خاطر في سبيل أمر الله. في الوقت نفسه، كان حسّاسًا لروح الدين وقوّة كلمات حضرة بهاءالله في تحريك نفسه وتحريك الآخرين. وكرجل عملي، بقي كوليس على اتّصال بالأحداث العالمية بواسطة مذياع ذي موجة قصيرة كان يستمع إليه في كثير من الأحيان حتى وقت متأخّر من الليل.

في 14 أيلول 1990 سافر كوليس ومادج إلى قارّة آسيا، حيث عزما على زيارة لاهور في الباكستان، لحضور مؤتمر عالمي للشباب، مرورًا بنيودلهي وروالبندي وكراتشي. في كاتمندو، نيبال، تعرّض كوليس لنوبة قلبية في 29 أيلول كانت قاتلة. وقد أخلد جثمانه للراحة في المقبرة البهائية التي تطلّ على وادي كاتمندو الجميل، أسفل القمم المغطّاة بالثلوج في جبال الهيملايا.

استذكر بيت العدل الأعظم الصفات الأصيلة والخدمات الجليلة لكوليس في برقية إلى العالم البهائي في 1 تشرين الأوّل 1990:

بحزن عميق نعلن عن وفاة أيادي أمر الله الباسل كوليس فيذرستون أثناء زيارته لكاتمندو بنيبال، خلال رحلة واسعة في آسيا. إنّ إنجازاته البارزة كمُدافع قويّ لا يعرف الخوف عن العهد والميثاق، والتزامه المتواصل بترويج أمر الله في سائر أنحاء العالم، وخاصّة منطقة المحيط الهادئ، ومثابرته الدؤوبة في تعزيز إنشاء المؤسّسات المحلّية والمركزية للنظام الإداري، وإخلاصه المثالي لكتابات أمر الله، وخصاله الشخصية البارزة، وولائه الذي لا يتزعزع، وحماسه وتكريس نفسه للخدمة، كلّها ميّزت خدماته المتنوّعة على مدار عقود عديدة. نرفع الدعاء لدى المقامات المقدّسة لنزول البركات الوفيرة جزاء لروحه المتألّقة في الملكوت الأبهى. ننصح الأحبّاء في كلّ مكان بعقد مجالس تذكّرية لائقة، خاصّة في مشارق الأذكار عرفانًا بإنجازاته الرائعة.(15)

1.
Waterman, H. Collis Featherstone, p. 2.
2.
النبيل الأعظم، «مطالع الأنوار»، الصفحات 82–84.
3.
من مذكّرات هـ. كوليس فيذرستون، مع تفاصيل أوردتها مادج ل. فيذرستون.
4.
Shoghi Effendi, Messages to the Antipodes, p. 234.
5.
المصدر السابق.
6.
Letter from the National Spiritual Assembly of the Bahá’ís of Australia, quoted in Waterman, H. Collis Featherstone, p. 13.
7.
Waterman, H. Collis Featherstone, p. 6.
8.
Letter to author from Mrs Madge Featherstone.
9.
Shoghi Effendi, Messages to the Antipodes, p. 442.
10.
المصدر السابق، الصفحة 382.
11.
Letter to author from Mrs Madge Featherstone.
12.
Shoghi Effendi, Messages to the Antipodes, p. 446.
13.
Letter to author from Mrs Madge Featherstone.
14.
Waterman, H. Collis Featherstone, p. 12.
15.
Bahá’í World, vol. 20, pp. 817–18.

1914 – 1973 جون غراهام فيرابي

Hand of the Cause of God John Graham Ferraby (1914-1973)

جون فيرابي رجل إنجليزي من عائلة يهودية ليبرالية هاجر أسلافها من هولندا إلى إنجلترا في أوائل القرن التاسع عشر، وهو ابن إيدا أوبنهايم وهاري فرايدبيرغ. كان لوالد جون ارتباط عمل بالتجهيزات البحرية في بورتسموث، إنجلترا. وبعد وصول النازيين إلى السلطة، غيّرت الأسرة اسمها الألماني من فرايدبيرغ إلى فيرابي.

ولد جون في 9 كانون الثاني عام 1914 أي قبل ثمانية أشهر فقط على بداية الحرب العالمية الأولى، وترعرع في ساوثسي بمقاطعة هامبشاير التي عاش فيها حتى وفاة والده في عام 1936، وبعد ذلك انتقلت العائلة إلى لندن. تلقّى جون تعليمه في كلّيّة مالفيرن، وهي مدرسة إنجليزية عامّة، وفاز بمنحة دراسية رئيسة في كينغز كوليدج بجامعة كامبريدج، حيث درس الرياضيّات وعلم النفس التجريبي.

بعد أن ترك الجامعة، مرض جون لفترة، وهذا ما أعفاه من التجنيد في القوّات المسلّحة الذي بدأ تطبيقه في ثلاثينيات القرن. عمل في شركة تدعى ماس أوبزرفيشن التي كانت تعنى بالبحوث في الرأي العامّ، وإلى حدّ كبير بالجانب الإحصائي منها، ثم انضمّ لاحقًا إلى «المنظّمة البريطانية للتصدير».

عندما كان في السابعة والعشرين من عمه تعرّف جون على الدين البهائي من صديق يدعى فيكتور كوفمان. ذهب إلى المكتبة ووجد كتاب جون إسلمنت، «بهاءالله والعصر الجديد» الذي أثار فضوله وحاول معرفة المزيد من الناشر، ولمّا فشل في ذلك تمكّن من تحديد عنوان بهائيين في لندن مستعينًا بدليل الهاتف. كان يرغب في التحدّث مع بعض البهائيين ولكنّه وجد صعوبة في الالتقاء بهم لأنّ المقرّ البهائي كان مغلقًا في أغلب الأحيان بسبب الغارات الجوّية. وأخيرًا نجح في الاتّصال بالبهائيين، بمن فيهم حسن باليوزي. كان يمضي مساء كلّ يوم وهو يتحدّث معهم، وبعد أسبوعين قرّر أن يعتنق الدين البهائي. منذ ذلك الوقت أصبح الدين البهائي فوق كلّ شيء في حياته:

كانت حياة جون كلّها كبهائي حياة نشاط وتفانٍ شديدَين. فمنذ لحظة إعلان إيمانه أصبح أمر الله في المقدّمة ولا شيء آخر ذا أهمّية على الإطلاق، وقد لازمه هذا بحقّ حتى نهاية حياته كيفما كانت ظروفه وحالته.(1)

في الرضوان التالي، عام 1942، انتخب جون عضوًا في كلّ من المحفل الروحاني المركزي للجزر البريطانية والمحفل الروحاني المحلّي في لندن. في عام 1943 تزوّج من دوروثي كانسديل التي آمنت في عام 1934 والتقى بها في المركز البهائي في عام 1941. كانت نشطة في مجموعة شباب لندن البهائيين في ثلاثينيات القرن، وفي عام 1941 انتُخبت عضوًا في المحفل الروحاني المركزي. في عام 1945 ولدت ابنتهما بردجيت (بريجيت).

في عام 1946 انتُخب جون سكرتيرًا للمحفل الروحاني المركزي. كان يعمل في البداية في أوقات فراغه مستخدمًا غرفة في منزله كمكتب، إلاّ أنّ مسؤوليّاته في غضون أربع سنوات تطلّبت منه كامل وقته واهتمامه. في عام 1950 قرّر المحفل الروحاني المركزي أن يدفع له مقابل خدماته. وقد وافق حضرة شوقي أفندي على هذا القرار:

يوافق حضرة وليّ أمر الله على قراركم بإبقاء السيّد فيرابي كسكرتير للمحفل مدفوع الأجر. ويقدّر حضرته بعمق الخدمات المخلصة للسيّد فيرابي.(2)

في أوائل خمسينيات القرن بدأ المحفل الروحاني المركزي للجزر البريطانية بالبحث لشراء مبنى مناسب يكون بمثابة حظيرة قدس مركزية في لندن. وفي نهاية المساعي وُجد منزل كبير ذو عدّة طوابق في حي نايتسبريدج الراقي وتمّ شراؤه في عام 1954. وقد قام جون بإجراء المفاوضات والمسح الهندسي ولوائح التخطيط، وأقنع مجلس مدينة وستمنستر بالموافقة على اعتبار «27 رتلاند غيت» مركزًا بهائيًا. انتقلت عائلة فيرابي إلى الشقّة الكائنة في الطابق العلوي من البناء في كانون الأوّل عام 1954، وعاشت فيه حتى نهاية عام 1959.

بالإضافة إلى عمله كسكرتير للمحفل الروحاني المركزي، تولّى جون إدارة هيئة الطبع والنشر البهائية البريطانية. وفي عام 1951 أُطلقت «حملة أفريقيا» لمدّة سنتين، الهادفة إلى فتح القارّة الأفريقية للدين البهائي. من عام 1951 إلى 1956 كان جون عضوًا في لجنة أفريقيا، التي أوكلت إليها مسؤولية استقرار المهاجرين البهائيين في القارّة. كان العديد من المناطق الأفريقية مستعمرات ومحميّات بريطانية، واستخدم جون مركزه باعتباره سكرتيرًا للمحفل الروحاني المركزي في إقامة علاقة جيّدة مع وزارة المستعمرات البريطانية، وبالتالي مساعدة البهائيين في الاستقرار في أجزاء عديدة من أفريقيا. تطلّبت الحملة الأفريقية أيضًا تأليف كتيّب تعريفي بسيط عن الدين البهائي وترجمته إلى اثنتي عشرة لغة أفريقية. كتب جون الكتيّب، ووجد المترجمين وأشرف على طباعة التراجم ونشرها. في عام 1953 حضر المؤتمر البيقارّي في كلّ من كمبالا وستوكهولم.

مثل العديد من البهائيين الذين ألهمتهم دعوة حضرة وليّ أمر الله في عام 1953 لإيصال أمر الله إلى كلّ ركن من أركان العالم، نهضت عائلة فيرابي للهجرة في بداية مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني. إلاّ أنّ حضرة شوقي أفندي أرسل برقية في 22 تمّوز عام 1953 قائلاً:

أنصحُ ببقاء عائلة فيرابي في إنجلترا فذلك أكثر جدارة.(3)

في حزيران 1954، وفي رسالة خطّية كتبت نيابة عن حضرته، أسهب حول هذه النصيحة:

يقدّر حضرته كثيرًا رغبة جون ودوروثي فيرابي في الهجرة، لكنّه يعتبر أنّ ذلك سيضعف كثيرًا عمل المحفل الروحاني المركزي بالإجمال. ورغم أهمّية ميدان الهجرة، فلو أنّ كلّ العاملين الأكفّاء قد هاجروا، ستصبح الحملات التي تنطلق من مختلف الجامعات البهائية المركزية غير مثمرة على الإطلاق لافتقارها لإدارة كفؤة ملائمة.(4)

في أوائل خمسينيات القرن كتب جون كتيّبَين صغيرَين عن التعاليم البهائية نشرا عام 1954 تحت عنوان «الظهور المتعاقب» و«التعاليم البهائية في الاقتصاد».

في عام 1955 سافر جون للحجّ إلى الأرض الأقدس والتقى بحضرة شوقي أفندي. عمّقت هذه التجربة إخلاصه وتفانيه لرئيس الدين البهائي. ومن جهته أشاد حضرة وليّ أمر الله بعمل جون لأجل أمر الله، وخاصّة دوره في تطوير الإدارة في الجزر البريطانية، ووصفه بأنّه «أحد أعمدة النظام الإداري». واقترح حضرته على جون الكتابة أكثر لأمر الله.

بعد حجّه بدأ جون، الذي نُفخت فيه حياة جديدة، في تأليف كتابه «كلّ الأشياء صنعت من جديد»، حيث دأب على العمل من الصباح الباكر وحتى وقت متأخّر من الليل وخلال عطلة نهاية الأسبوع إلى أن أنهى تأليف الكتاب. ينقسم الكتاب إلى مقدّمة وثلاثة أجزاء. بدأ جون كتابه بتوجيه اهتمام قرّائه إلى التغييرات الثورية في المائة والخمسين سنة السابقة وأسبابها، وتقديم لمحة عامّة عن الشخصيّات الرئيسة في الدين البهائي ونموّه. وصف في الجزء الأوّل تعاليم حضرة بهاءالله، وبحث في موضوعات مثل وحدانية الله والدين، وحدة الجنس البشري، الاقتصاد، السلوك الشخصي والعلاقة بين العلم والدين. في الجزء الثاني تناول الشخصيّات الرئيسة في أمر الله. وفي الجزء الثالث كتب عن الجامعة البهائية، بما في ذلك النظام الإداري، العهد والميثاق، والقوانين والأحكام الملزمة للبهائيين. استُخدم كتاب «كلّ الأشياء صنعت من جديد» على نطاق واسع، ونشر في الجزر البريطانية والولايات المتّحدة والهند. وعندما استلم حضرة وليّ أمر الله نسخة منه، أشاد بالكتاب أمام الحجّاج، قائلاً إنّه سيساعد أمر الله لفترة طويلة.

في عام 1957 عيّن جون أياديًا لأمر الله. كان واحدًا من خمسة من أيادي أمر الله الذين وُلدوا في الجزر البريطانية (الآخرون كانوا هايد وكلارا دنّّ، جون إسلمنت وجورج تاونزند) وواحدًا من ثلاثة من أصل يهودي (الاثنان الآخران هما موسى بناني وسيغفريد شوبفلوخر). لم يسعفه الوقت كثيرًا في التأقلم مع وضعه الجديد عندما تزعزعت أركانه بشدّة بصعود حضرة شوقي أفندي الذي يكنّ له عميق الإخلاص والتفاني في 4 تشرين الثاني عام 1957. ونظرًا لوفاة حضرة وليّ أمر الله في لندن فقد استُدعي جون لحمل الكثير من المسؤوليّات المتعلّقة بالجنازة. فطلبت روحية خانم من جون وحسن باليوزي تولّي ترتيبات الدفن. بعد ذلك سافر جون إلى حيفا لحضور الاجتماع الرسمي الأوّل لأيادي أمر الله، حيث بقي نحو ثلاثة أشهر للمساعدة في الأعمال المطلوبة إلى أن تمكّن الأيادي التسعة المختارون للإقامة في الأرض الأقدس من الاستقرار فيها. لدى عودته إلى المملكة المتّحدة، واصل جون عمله سكرتيرًا للمحفل الروحاني المركزي إلى جانب قيامه بمهامّه كأيادي أمر الله. في عام 1959 تمّ اختياره ليكون واحدًا من أيادي أمر الله المقيمين في الأرض الأقدس. فانتقل إلى حيفا وبقي هناك حتى انتخاب بيت العدل الأعظم في رضوان عام 1963.

في عام 1958 حضر جون المؤتمر البيقارّي في فرانكفورت بألمانيا، وفي عام 1962 مثّل أيادي أمر الله في تشكيل أوّل محفل روحاني مركزي في النرويج. في عام 1963 عاد إلى بريطانيا حيث حضر المؤتمر العالمي البهائي الأوّل في لندن. ثم انتقل مع عائلته إلى كامبريدج واستقرّ فيها للفترة المتبقّية من حياته.

خلال هذه الفترة عمل جون كواحد من أيادي أمر الله المقيمين في أوروبا وسكرتيرًا لهم. سافر على نطاق واسع في أنحاء أوروبا، وكان يحضر المؤتمرات، ومؤتمرات الوكلاء، ويتشاور مع المحافل الروحانية المركزية. حضر أيضًا المؤتمر المتوسّطي في باليرمو، صقلية، في عام 1968 ومدارس صيفية في بلجيكا، لوكسمبورغ، فرنسا، ألمانيا، هولندا، الدنمارك، وكذلك في الجزر البريطانية. كما كان حاضرًا أيضًا في مؤتمر الوكلاء العالمي في حيفا في عامَي 1968 و 1973.

قرب نهاية عقد الستّينيات من القرن أخذت صحّة جون بالتدهور ممّا حدّ من أنشطته. كان يعمل من حين لآخر في تأليف كتاب عن الدين المقارن ولكنّه لم يتمكّن من إتمامه. في يوم 5 أيلول 1973 توفّي أثناء نومه في كامبريدج ودُفن فيها.

كتب المحفل الروحاني المركزي في المملكة المتّحدة عند وفاة جون ما يلي:

ببالغ الأسى لا بدّ أن نعلن عن الوفاة المفاجئة للسيّد جون فيرابي، في منزله في كامبريدج. أقيمت الجنازة في «مقبرة المدينة»، بطريق نيوماركت، كامبريدج الساعة 12 ظهر يوم الثلاثاء 11 أيلول، وأقيم حفل التأبين في حظيرة القدس يوم الأحد 7 تشرين الأوّل الساعة الثالثة بعد الظهر.

نُقل هذا الخبر المحزن فورًا إلى حيفا وتلقّينا هذه البرقية [من بيت العدل الأعظم]:

نأسف للوفاة المفاجئة لأيادي أمر الله جون فيرابي، ونستذكر خدماته الطويلة لأجل أمر الله في الجزر البريطانية التي تُوّجت بارتقائه إلى رتبة أيادي أمر الله، ومساهمته القيّمة للكتابات البهائية من خلال كتابه «كلّ الأشياء صنعت من جديد». نطلب عقد اجتماعات لائقة في مشارق الأذكار وجلسات تذكّرية في سائر جامعات الأحبّاء في العالم البهائي.(5)

1.
Bahá’í World, vol. 16, p. 512.
2.
Shoghi Effendi, Unfolding Destiny, p. 250.
3.
Shoghi Effendi, Unfolding Destiny, p. 320.
4.
المصدر السابق، الصفحتان 332–333.
5.
Bahá’í Journal, October 1973, p. 2.

1923 – 1979 رحمت الله مهاجر

Hand of the Cause of God Rahmatu’lláh Muhájir (1923-1979)

ولد رحمت الله مهاجر في 4 نيسان عام 1923 في بلدة شاه عبد العظيم في إيران. كان من الجيل الرابع من أسلافه البهائيين المميّزين الذين عانوا النفي والاضطهاد الشديد على أيدي المسلمين. كان حضرة عبدالبهاء قد كتب إلى العائلة مخاطبًا إيّاهم ‘أيّها المهاجرون’ فاعتمدوه اسمًا لهم.(1)

عندما كان رحمت في التاسعة من عمره تقريبًا انتقلت العائلة إلى طهران. أصبح منزل مهاجر مركزًا للأنشطة البهائية، وعُقد فيه العديد من الاجتماعات التي تحدّث فيها بهائيون بارزون في كثير من الأحيان. حضر رحمت هذه اللقاءات بانتظام وتشرّب منها العلم والمعرفة بدين حضرة بهاءالله في سنّ مبكرة.

عندما كان رحمت في الخامسة عشر من عمره غادرت عائلة مهاجر طهران للهجرة إلى كَلاردشت [صحراء كلار]، حيث بقيت فيها لمدّة ثلاث سنوات. إلاّ أنّ العائلة عادت إلى طهران مضطرّة، فأصبح رحمت عضوًا فاعلاً في جامعة الأحبّاء وخدم عضوًا في كلّ من لجنتي الشباب المحلّية والمركزية وشارك في معظم الأنشطة التبليغية للشباب البهائي. كان رحمت بطبيعته اجتماعيًا جدًّا ويملك حسًّا رائعًا بالفكاهة، ولذلك كان محبوبًا بين أقرانه. وكان لهذه الخصائص أن تستمرّ طوال حياته، وأفادته جيّدًا في أسفاره واتّصالاته مع شعوب العالم.

في خريف عام 1944 قُبل رحمت طالبًا في كلّيّة الطبّ في جامعة طهران. ومع ذلك أجّل دراسته وذهب إلى مدينة رضائية في محافظة آذربيجان في شمال البلاد. وهناك كان يدرّس صفوف الشباب والأطفال خلال النهار وفصول محو الأمّية وتعليم الكبار في فترات ما بعد الظهر. كرّس أمسياته للاجتماعات البهائية وجلسات «فايرسايد». تُعدّ هذه الأنشطة أوّل مشروع له في مجال التنمية الاجتماعية. بعد سنتين عاد رحمت إلى طهران لمواصلة دراساته في الطبّ.

لم توقف هذه الدراسات رحمت عن المشاركة في الأنشطة البهائية. في عام 1948 عُيّن عضوًا في لجنة الهجرة المركزية، وقبل بضعة أشهر فقط من تخرّجه علّق دراساته لمدّة ثلاثة أشهر من أجل المساعدة في تحقيق أهداف خطّة الخمسة والأربعين شهرًا التبليغية، الأمر الذي أثار دهشة عائلته وأصدقائه. بعد الانتهاء الناجح للخطّة، عاد إلى دراساته وتخرّج بمرتبة الشرف في عام 1952.

في تشرين الأوّل من عام 1951 تزوّج رحمت من إيران فروتن، ابنة علي أكبر فروتن، الذي عُيّن أياديًا لأمر الله في كانون الأوّل من عام 1951. انتقل الزوجان إلى إصفهان حيث عمل رحمت في مستشفى يُدار تحت البند الرابع من خطة مارشال الأمريكية. في عام 1953 سافر الدكتور مهاجر برفقة زوجته ووالدته إلى الأرض الأقدس للحجّ. كانت خطّة العشر سنوات للجهاد الروحاني قد بدأت للتوّ، وأثناء فترة الحجّ تحدّث حضرة شوقي أفندي إلى رحمت حول الخطّة، لا سيّما بخصوص منطقة المحيط الهادئ وتحديدًا منطقة الأرخبيل الإندونيسي.

بعد فترة وجيزة على هذا الحجّ، قرّر الدكتور مهاجر، الذي زادت محبّته للخدمة ألف مرّة في محضر حضرة شوقي أفندي¡ الهجرة مع زوجته إلى جزر مينتاواي قبالة إندونيسيا. ودون معرفة أيّ شيء عن الجزر، استقال رحمت من وظيفته في المستشفى، وباع جميع ممتلكاتهما تقريبًا، واشترى تذاكر سفر في اتّجاه واحد إلى جاكرتا وغادر إيران في كانون الثاني من عام 1954.

في شباط وصل الزوجان مهاجر إلى موارا سيبروت، في جزيرة سيبروت سيلاتان، إحدى جزر مينتاواي الأربعة. جرى توظيف الدكتور مهاجر من قبل وزارة الصحّة الإندونيسية بصفة طبيب للمجتمع في الجزيرة. في آذار 1954 أنعم حضرة شوقي أفندي على كلّ من الزوجين مهاجر لقب فارس حضرة بهاءالله.

كانت جزر مينتاواي قد استخدمت كمستعمرة للقصاص في عهد الاستعمار الهولندي، وكان عتاة المجرمين قد نُفوا إلى هناك وجرى نسيانهم تقريبًا. كانت الملاريا والسلّ والأمراض الجلدية متوطّنة هناك ومعدّل الوفيات مرتفع جدًّا بسبب نقص الرعاية الطبّية.

كان المنتاوائيون الأصليون يعيشون في قرى صغيرة متناثرة بعيدًا عن موارا سيبروت. ورغم عدم وجود تسهيلات ووسائل للنقل، شرع رحمت بالعمل بإصرار وحماس لا يولّدهما سوى إيمانه القوي بحضرة بهاءالله. فقد دمج تبليغ أمر الله مع برنامج للرعاية الصحّية الوقائية والتنمية الاجتماعية كان من شأنهما، خلال بضع سنوات، تحويل حياة سكّان سيبروت سيلاتان.

تعلّم رحمت اللغة المينتاوائية بسرعة وبدأ بتبليغ الشيوخ المحلّيين الدين البهائي. بحلول منتصف عام 1954، كان خمس وعشرون شيخًا قد أصبحوا بهائيين، مشكّلين نواة من الآلاف الذين تقبّلوا أمر الله في السنوات التالية.

وبينما نما عدد البهائيين، قضى رحمت المزيد من الوقت في القرى، مبلّغًا أمر الله بلغة بسيطة يفهمها الجميع. بحلول منتصف عام 1955 كان هناك أربعمائة من البهائيين في الجزيرة وفي عام 1956 أصبحوا أكثر من ألف. في نيسان عام 1957 كتب حضرة وليّ أمر الله إلى العالم البهائي حول هذا الإنجاز ما يلي:

في هذا المسح للإنجازات البهائية في جميع أنحاء العالم، أشعر بوجوب الإشادة الخاصّة بتلك العصبة البطلة من المهاجرين، وخاصّة كوكبة فرسان حضرة بهاءالله، الذين، نتيجة أراوحهم التي لا تُقهر وشجاعتهم وصمودهم، ونكرانهم للذات، قد حقّقوا خلال أربع سنوات قصار، في الكثير من المناطق البكر المفتوحة حديثًا أمام أمر حضرته، مقدارًا من النجاح تجاوز حتى أقصى التوقّعات تفاؤلاً…

وإلى أوغندا، التي فُتحت روحانيًا عشية الجهاد الروحاني العالمي، حيث تجاوز الآن عدد الأتباع المقرّين بإيمانهم رقم ألف ومائة، وعدد المراكز البهائية تجاوز المائة وثمانين، وإلى جزر غيلبرت وإليس وغامبيا حيث بلغ عدد المؤمنين خمسمائة وثلاثمائة على التوالي، يجب أن تُضاف جزر مينتاواي، حيث يبلغ عدد البهائيين البالغين فيها الآن أكثر من ألف ومائة…(2)

في نيسان عام 1957 انتخب رحمت في المحفل الروحاني الإقليمي لجنوب شرق آسيا. ممّا تطلّب منه مغادرة الجزر من وقت لآخر لحضور الاجتماعات. وبينما كان في جاكرتا في تشرين الأوّل 1957، تلقّى برقية من المحفل الروحاني المركزي في إيران تتضمّن نصّ برقية من حضرة وليّ أمر الله:

أبلغوا رحمت الله مهاجر وأبو القاسم فيضي ارتقاءهما إلى مرتبة أيادي أمر الله معبّرًا عن ثقتي بأنّ هذا الشرف الجديد سوف يعزّز سجلّ خدماتهما التاريخية.(3)

تروي زوجة رحمت أنّ ‘أوّل ردّ فعل له كان الحيرة المطلقة. وقد حبس نفسه في غرفة لعدّة ساعات وأخذ يبكي بشكل مستمرّّ. استغرق الأمر يومين من الدعاء المتواصل قبل أن يتمكّن من الخروج شاحب اللون ضعيف الجسم ليرسل برقية تحمل إطاعته لحضرة وليّ أمر الله المحبوب.’(4)

بعد سنة على صعود حضرة شوقي أفندي غادر الزوجان مهاجر جزر مينتاواي بمشاعر الحزن والأسى لتمكين رحمت من القيام بمهامّه كأيادي أمر الله بفعالية أكبر. مع كلّ ذلك، في ذلك الوقت كان هناك نحو أربعة آلاف من البهائيين في جزيرة سيبروت، وإثنتا عشرة مدرسة بهائية وثلاثة وثلاثين محفلاً روحانيًا محلّيًا. وكان الدكتور مهاجر قد أطلق حملة قويّة وناجحة للقضاء على الملاريا وكثير من الأمراض الأخرى التي أصبحت مواجهتها الآن تحدث في فترات متباعدة. وقد قام رحمت بفحص جميع أطفال مينتاواي وتلقيحهم بحيث انخفض معدّل الوفيات بشكل ملحوظ. بلغت أهمّية العمل الذي قام به رحمت في جزر مينتاواي أن كتب وفد من المسؤولين الحكوميين الإندونيسيين الذي زار الجزر في عام 1960 تقريرًا من مائة وخمس عشرة صفحة بعنوان «أخبار البحوث» جاء فيه:

يمكن تفسير تقدّم الدين البهائي في سيبروت على النحو التالي: في عام 1955 جاء طبيب فارسي إلى سيبروت. كان اسمه رحمت الله مهاجر، وهو طبيب حكومي ساعد وعمل على تحسين صحّة الناس. في الوقت نفسه كان نشطًا جدًّا في نشر الدين البهائي. وقد ذهب إلى قرى مختلفة في عمق الجزيرة، مارًّا بظروف صعبة وخطيرة للغاية. ومواجهًا الموت قام بتوزيع الأدوية وغيرها من المواد… أدّى هذا العمل إلى نتائج عظيمة…

إنّ الطريقة البهائية في التبليغ خاصّة جدًّا وفريدة ومثيرة للاهتمام… فهم يجتمعون في بيوت الناس، يأكلون ويشربون معهم، ويعيشون شهورًا وشهورًا مع الناس في وسط الغابات. باختصار لا توجد أيّ حركة يمكنها أن تقارن نفسها بالبهائيين في سيبروت، خصوصًا في ما يبدونه من الشجاعة والمثابرة ونقاء الدافع.(5)

وهكذا، فإنّ أنشطة رحمت البهائية العالمية وأسفاره في جميع أنحاء العالم في خدمة الدين البهائي قد بدأت في عام 1957 لتستمرّ مدّة اثنتين وعشرين سنة. سافر في أرجاء خمس قارّات، وزار كلّ بلد تقريبًا في العالم، وبعضها عدّة مرّات. على سبيل المثال، في السنوات الثلاث الأولى من الخطّة الخمسية زار أكثر من خمسين دولة.(6) وكان له دور فاعل في تبليغ الآلاف من الشعوب الأصلية في أفريقيا، وأمريكا الوسطى والجنوبية، وأستراليا وآسيا. ورغم أنّ هدفه الرئيس كان تبليغ الدين البهائي والقيام بواجبات أيادي أمر الله، إلاّ أنّه واصل مساعدة البهائيين في تأسيس مشاريع للتنمية الاجتماعية. وقد ساعدت مهاراتُه كطبيب ومُربٍّ في مجال الصحّة العامّة العديدَ من الجامعات البهائية في إنشاء المدارس، وتطوير البرامج التعليمية ومساعدة السكّان الأصليين والمحتاجين في العالم في حياتهم اليومية.

ربّما تكون أفضل ذكرى عن الدكتور مهاجر كونه البادئ بمشاريع التبليغ الجماعي. كانت لديه موهبة إلهاب حماس الجامعات البهائية على تبنّي توصياته بخصوص التبليغ على نطاق غير مسبوق لم يُختبر من قبل. سافر عدّة مرّات إلى الهند، حيث كان تقدّم أمر الله بطيئًا جدًّا. في عام 1961 التقى مع المحفل الروحاني المركزي هناك وشدّد على الحاجة لتبليغ الجماهير. كان تأثيره على البهائيين كبيرًا جدًّا بحيث ارتفع عدد المؤمنين من ثمانمائة وخمسين في وقت زيارته إلى خمس وستّين ألفًا في عام 1963.

قام رحمت باثنتين وعشرين رحلة إلى بلدان في آسيا، بادئًا التبليغ الجماعي ليس فقط في الهند ولكن أيضًا في الفلبين، كوريا، لاوس، ماليزيا، إندونيسيا وتايوان. ساعد أيضًا في إنشاء أساس متين للإدارة البهائية في هذه البلدان وغيرها في آسيا.

زار الدكتور مهاجر أفريقيا ثلاث عشرة مرّة، مسافرًا في كلّ بلد ومارًّا بالعديد من المدن والقرى، وفيها ساعد البهائيين في وضع خطط للتبليغ وتدريب الأطفال وتعزيز النهوض بالمرأة. ونتيجة لذلك تأسّس العديد من المعاهد والمدارس البهائية، وكثير منها حملت اسمه تخليدًا لذكراه.

قام رحمت بأكثر من عشر زيارات للبهائيين في قارّة أمريكا الشمالية، هادفًا أساسًا للوصول إلى الشعوب الهندية والأفرو- أمريكية. كما ظهر على شاشات التلفزيون، وأجريت معه مقابلات صحفية وزار شخصيّات بارزة. زار القارّة الأوروبية ثلاث عشرة مرّة، وسافر إلى كلّ قطر فيها محفّزًا الأنشطة التبليغية أينما ذهب. سافر سبع مرّات إلى جزر المحيط الهادئ وأستراليا ونيوزيلندا، وتسع مرّات إلى بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية، حيث كان له دور فاعل في بدء التبليغ الجماعي في الإكوادور وأقطار أخرى.

بمساعدته تأسّست المئات من حظائر القدس والمعاهد والمدارس البهائية في جميع أنحاء العالم، أو جرى شراؤها. شارك في عدد لا يحصى من المؤتمرات والمدارس الصيفية البهائية ومؤتمرات الوكلاء، حيث حضر بعضها كممثّل لبيت العدل الأعظم. على الرغم من التقائه بالعديد من رؤساء الدول وإجراء المقابلات الصحفية وظهوره في برامج تلفزيونية، إلاّ أنّ عشقه الرئيس كان للسكّان الأصليين في العالم. كان في أسعد حالاته عندما يزور قرية نائية في أفريقيا أو في منطقة المحيط الهادئ، أو يرتحل في جبال أمريكا الجنوبية لزيارة هنود بوليفيا أو تشيلي.

أصيب رحمت الله مهاجر بنوبة قلبية أثناء مشاركته في مؤتمر تبليغي في كيتو، الإكوادور، ووافته المنيّة يوم 29 كانون الأول 1979. أرسل بيت العدل الأعظم البرقية التالية إلى العالم البهائي بهذه المناسبة المحزنة:

ننعى بحزن عميق الوفاة المفاجئة في كيتو الإكوادور لأيادي أمر الله المحبوب رحمت الله مهاجر إثر نوبة قلبية خلال أحدث جولاته في أمريكا الجنوبية. توقّف الآن التدفّق اللامحدود وغير المقيّد للطاقات الروحانية والمادّية من جانب إنسان قدّم كلّ ما عنده على درب الخدمة. سوف تسجّل الأجيال القادمة خدماته المتفانية خلال سنوات شبابه في مهد أمر الله ومآثره الفريدة اللاحقة في ميدان الهجرة إلى جنوب شرق آسيا حيث فاز بلقب فارس حضرة بهاءالله نتيجة جهود متواصلة لأكثر من عقدين من الزمن منذ تعيينه أياديًا لأمر الله محفّزًا عملية الدخول في دين الله أفواجًا في العديد من الأقطار في الشرق والغرب. لقد حُرم فجأة أصدقاؤه في جميع القارّات الآن، ممّن يندبون هذه الخسارة المأساوية، من تعاون من كان قد حبّب نفسه إليهم من خلال لطفه وشخصيته المتألّقة وحميّته النموذجية التي لا تكلّ ونهجه الحماسي المبدع لتحقيق الأهداف المعيّنة. نحثّ الأحبّاء في كلّ مكان على عقد الجلسات التذكّرية اللائقة بمقامه السامي وإنجازاته الفريدة. عسى أن تجني روحه المتألّقة في الملكوت الأبهى الحصاد الوفير ثوابًا لخدماته المخلصة المتّسمة بالتضحية في سبيل أمر الله.(7)

 

1.
Bahá’í World, vol. 18. p. 652.
2.
Shoghi Effendi, Messages to the Bahá’í World, p. 113.
3.
Muhajir, Dr Muhajir, p. 80.
4.
المصدر السابق.
5.
المصدر السابق، الصفحتان 87–88.
6.
Bahá’í World, vol. 18, p. 655.
7.
المصدر السابق، الصفحتان 651–652.

1926 – 1979 إينوك أولنغا

Hand of the Cause of God Enoch Olinga (1926-1979)

… إنّني بكلّ التواضع أرجو أن أوكّد لوليّ أمر الله المحبوب على إخلاصي المطلق لدين حضرة بهاءالله، وخضوعي لكلّ نصيحة من وليّ الأمر في سبيل تعزيز المصالح الأساسية لديننا…(1)

إنّ صفاء الإخلاص الذي يعكسه هذا المقتطف من رسالة إلى حضرة شوقي أفندي من أيادي أمر الله الأفريقي الوحيد هو أنموذج للشغف الذي خدم به إينوك أولنغا دينه العزيز ووليّ الأمر المحبوب لأكثر من ربع قرن.

ولد إينوك في 24 حزيران عام 1926، وهو الابن الثاني في عائلة تحوّلت إلى المسيحية وكانت تقطن تيسو1 في الجزء الشمالي الشرقي من أوغندا. تلقّى إينوك تعليمه المبكر في تيلينغ1 التي انتقلت الأسرة إليها في عام 1927. وبعد ذلك التحق بمدرسة في نغورا1، وهي بلدة صغيرة بالقرب من منزله، ثم التحق بمدرسة ثانوية في منطقة مبالي. وفي عام 1941، عندما كان في الخامسة عشر من عمره، جرى تجنيد إينوك في فيلق التعليم التابع للجيش البريطاني، حيث ذهب إلى نيروبي. في وقت لاحق خدم في «فيلق بنادق الملك لشرق أفريقيا» المتمركز في جنوب شرق آسيا، الأمر الذي تطلّب سفره إلى بورما، الباكستان الشرقية، سيلان والهند. بعد الحرب، في عام 1946، عاد إينوك إلى أوغندا، حيث بدأ العمل في دائرة حكومية للعلاقات العامّة والرعاية الاجتماعية المتمركزة في سوروتي ومبالي. بعد سنوات قليلة حدث زواجه الأوّل من يونيس، وأنجب منها أوّل أبنائه الستّة، وكتب كتابين في لغته أتيسو، فضلاً عن كتاب «المشاكل الاجتماعية والاقتصادية – طريقة حلّها». ثم تلقّى التدريب في الاقتصاد وعمل مترجمًا للحكومة.

في عام 1951 سمع إينوك عن الدين البهائي من صديق. في ذلك الوقت لم يكن هناك في واقع الأمر أيّ بهائي في أفريقيا. وبناء على طلب حضرة شوقي أفندي أطلق المحفل الروحاني المركزي في بريطانيا في عام 1950 «حملة أفريقيا» لمدّة سنتين بهدف نشر التعاليم البهائية في القارّة بأكملها. في عام 1951 استقرّ في كمبالا كلّ من السيّد موسى بناني وزوجته وابنتهما فيوليت وزوجها علي نخجواني وابنتهما بهيّة. وقد جرى تعريف إينوك إلى علي نخجواني وبدأت بينهما صداقة.

كان إينوك في ذلك الوقت مدمنًا على الكحول، ممّا أدّى إلى إقالته من منصبه الحكومي لأنّه لم يكن قادرًا على أداء واجباته. وفي غمرة خيبة أمله من حياته إلى حدّ ما، بدأ بحضور الاجتماعات المسائية التي عقدت في منزل بناني، منجذبًا بدفء الأسرة الإيرانية.

ذهب السيّد والسيّدة بناني إلى الأرض الأقدس للحجّ في شباط عام 1952. في غيابهما عقد المهاجرون في كمبالا – عائلة نخجواني وفيليب هاينزوِرث – اجتماعًا لجميع الأفارقة المهتمّين بأمر الله. وتزامن الاجتماع مع الوقت الذي اعتاد فيه حضرة شوقي أفندي زيارة المقامات المقدّسة، وقد قام حضرته مع السيّد بناني بتلاوة أدعية خاصّة هناك. حضر عدد كبير من الناس اجتماع كمبالا، بمن فيهم إينوك، ولكن لم يحدث أيّ شيء، الأمر الذي سبّب قنوط المهاجرين وحيرتهم. ومع ذلك، في وقت لاحق من تلك الليلة، عاد إينوك وطرح العديد من الأسئلة وخاصّة حول مواضيع الكتاب المقدّس وعن عودة السيّد المسيح. كان سؤاله الأخير ‘كيف يصبح المرء بهائيًا؟’ في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، جاء حاملاً رسالة يطلب فيها قبوله بهائيًا. كان إينوك ثالث أوغندي يؤمن بأمر الله، والأوّل من قبيلة تيسو.

عندما أصبح بهائيًا ترك إينوك كافة أنواع الكحول على الفور. كان التغيير في سلوكه وموقفه لافتًا لدرجة أنّ زوجته اعتنقت أمر الله أيضًا. بعد فترة وجيزة، تبع العديد من الزملاء من رجال قبيلة تيسو إينوك في تقبّل أمر حضرة بهاءالله. بعد شهرين من تسجيل إينوك، شكّلت كمبالا محفلها الروحاني المحلّي الأوّل.

في شهرَي تمّوز وآب من عام 1952 عاد إينوك إلى تيلينغ لتبليغ الدين البهائي، فكان أن أصبح سبعة عشر شخصًا بهائيين. أراد الناس أن يشاهدوا علي نخجواني، «الرجل الأبيض» الذي جعل إينوك يبدّل دينه. وهكذا قضى علي نخجواني عدّة أسابيع في تبليغ التيسو وإينوك يترجم له، وفي وقت لاحق أدّى تلك المهمّة بهائي آخر. آمن بأمر الله أكثر من تسعين شخصًا نتيجة ذلك، بمن فيهم والد إينوك نفسه. في بداية كانون الثاني من عام 1953، بعد ثمانية أشهر على تشكيل المحفل الروحاني المحلّي في كمبالا، كتب حضرة شوقي أفندي إلى العالم البهائي:

بفرح بالغ نشارك الجامعات البهائية في الشرق والغرب بتقارير مثيرة عن مآثر بطولية حقّقتها عصبة من المهاجرين البهائيين يعملون في أقاليم أفريقية متنوّعة متناثرة على نطاق واسع خاصّة في أوغندا، في قلب القارّة، وتذكّرنا بأمرين في آن معًا هما: الأحداث المروية في سفر «أعمال الرسل»، والانتشار السريع الدرامي لأمر الله بواسطة مطالع الأنوار في العصر البطولي من الدورة البهائية. فطغت على الإنجازات الرائعة التي تشير إلى تأسيس النظام الإداري لأمر الله وإقامته في أمريكا اللاتينية. كما فاقت المآثر الخالدة التي وسمت تدشين الجهاد الروحاني في القارّة الأوروبية مؤخّرًا. وهدف خطة السبعة أشهر التي أُطلقت بمبادرة من المحفل الروحاني في كمبالا بهدف مضاعفة عدد الاثني عشر مؤمنًا مسجّلاً، قد تمّ تجاوزه أيضًا. إنّ عدد الأفارقة الذين آمنوا خلال الأشهر الخمسة عشر الماضية، والمقيمين في كمبالا والمناطق النائية، المنحدرين من خلفيّات بروتستانتية وكاثوليكية ووثنية، سواء متعلمين أو أمّيين، ومن كلا الجنسين، ممثّلين ما لا يقل عن ستّة عشر قبيلة، قد تجاوز المائتين.(2)

بعد ثمانية عشر شهرًا على إيمانه، استجاب إينوك لنداء حضرة وليّ أمر الله لقيام مهاجرين بفتح أراض أفريقية جديدة لأمر الله. في يوم 27 آب من عام 1953 انطلق إينوك في سيّارة بيجو «ستيشن» صغيرة مصطحبًا أصدقاءه علي وفيوليت نخجواني واثنين من البهائيين الإفارقة الجدد، في رحلة طويلة ومضنية عبر أفريقيا على طرق مجهولة رديئة الصيانة. كان هدفهم الكاميرون البريطانية، على بعد أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر. وفي عشية مغادرتهم أبرق إليهم حضرة وليّ أمر الله قائلاً: «عسى أن تصحبكم محبّتي ودعائي الحارّ.»(3)

في رحلة دامت شهرين كانت محطّة التوقّف الأولى في كامينا، في ما كان يُعرف آنذاك بالكونغو البلجيكية حيث بقي سامسون مونغونو. ثم واصل الفريق طريقه على عجل إلى برازافيل في أفريقيا الإستوائية الفرنسية حيث استقرّ ماكس كينيريزي في موقع هجرته. كان أسوأ جزء من الرحلة ذلك الذي مرّوا فيه خلال الغابون، حيث كان عليهم رفع السيارة عدّة مرّات لإخراجها من الوحل. في أحد الأيّام قطعوا مائة كيلومتر فقط في ستّ عشر ساعة؛ وفي يوم آخر خمسة وعشرين كيلومترًا فقط في أربع عشرة ساعة. وأخيرًا تعطّلت السيارة في منطقة الأفيال، وتطوّع إينوك للسير ثمانين كيلومترًا إلى بلدة للحصول على مساعدة.

ولمّا كان حضريًا مولودًا في المدينة وكونه أفريقيًا متعلّمًا، لذلك فإنّ عملاً كهذا تطلّب الكثير من الشجاعة من جانب إينوك. كانت خبرته في السفر في الأدغال قليلة، وكان يخشى القبائل الأفريقية الغريبة وحيوانات الغابة الخطيرة والثعابين القاتلة. ولكنّه واجه هذه المخاطر بشجاعة ومشى في الأوحال، ونجا من عاصفة ماطرة شديدة، وتجنّب الفيلة المندفعة وسط الغابة. وبعد قطع مسافة خمسة وخمسين كيلومترًا وهو في حالة من المرض والحمّى والإعياء يغطّيه الطين ويسيطر عليه الخوف، صرخ إينوك قائلاً: ‘أيّها الأحمق! لماذا تفعل هذا؟’(4)

أخذ يرتعد ثم انفجر بالبكاء وغطّ في النوم، وكما يستذكر إينوك في وقت لاحق، حلم بمحبوبه حضرة وليّ أمر الله. حلم بأنّ حضرة شوقي أفندي رفعه إليه وأوقفه على قدميه وواساه وطمأنه. استيقظ إينوك شخصًا مختلفًا منتعشًا هادئًا عاقدًا العزم.

ومع ذلك، لم يتمكّن من طرد القلق الذي نخر عظامه على سلامة عائلة نخجواني التي تُركت في سيّارة معطّلة على طريق غير سالك، هل تعرّضوا للسرقة أو لِما هو أسوأ، هل قُتلوا؟ وما عذّب إينوك عذابًا مؤلمًا هو كيف سيخبر عائلة بناني بما حصل. وبعد أن تمكّن الزوجان نخجواني من إصلاح السيّارة بطريقة أو بأخرى ثم اللحاق بإينوك، لم يستطع سوى التحديق بهما غير مصّدق لِما رآه كما لو كانا من الأشباح. وما إن وصلوا إلى المدينة حتى بلغ مرض إينوك حدًّا اضطرّ معه إلى دخول المستشفى لمدّة يومين، وتعذّر سفره لمدّة أسبوع.

في وقت مبكر من مساء يوم 15 تشرين الأوّل 1953، دخل البهائيون الثلاثة إلى الكاميرون البريطانية وأبرق إينوك فورًا إلى حضرة شوقي أفندي يخبره بوصوله سالمًا. كان ذلك هو اليوم الأخير من السنة المقدّسة التي حدّدها حضرة شوقي أفندي لذكرى مرور مائة عام على إعلان دعوة حضرة بهاءالله. منح حضرة شوقي أفندي إينوك لقب فارس حضرة بهاءالله، وهو لقب يُعطى لأوّل البهائيين الذين يستوطنون في الأراضي البكر المعيّنة لتفتح لأمر الله أثناء خطّة العشر سنوات للجهاد الروحاني. انتقل الزوجان نخجواني إلى الكاميرون الفرنسية المجاورة، بينما استأجر إينوك منزل ديفيد تانيي الذي أصبح أوّل شخص يعلن إيمانه في الكاميرون، وفي وقت لاحق أصبح ديفيد فارسَ حضرة بهاءالله بهجرته إلى توغو الفرنسية.

عاش إينوك في الكاميرون مدّة عشر سنوات قبل أن يعود إلى أوغندا. كان له دور فاعل في تأسيس أمر الله في غرب أفريقيا، خاصّة في الكاميرون ونيجيريا وغانا. فبالإضافة إلى بذر البذور التي أدخلت إلى أمر الله الآلاف من أبناء شعبه الذين شكّلوا الغالبية العظمى من المؤمنين في أوغندا قبل حربها الأهلية، هيّأ إينوك في غضون ستّة أشهر من وصوله إلى الكاميرون عددًا من المهاجرين الذين فتحوا أراض بكرًا أخرى لأمر الله.

تأثّر حضرة وليّ أمر الله جدًّا من تقارير إينوك حول هؤلاء المؤمنين الجدد:

إنّ الطريقة التي انتشر بها أمر الله في أفريقيا لافتة للنظر حقًّا، وتفوق طريقة انتشاره في أجزاء أخرى من العالم. وهذا يشير إلى كم سيكون مجيدًا مستقبل أمر الله في تلك القارّة العظيمة.(5)

في عام 1956 قرّر حضرة شوقي أفندي تشكيل العديد من المحافل الروحانية الإقليمية في أفريقيا، يغطّي كلّ منها عددًا من الأقاليم. كان المحفل الروحاني الذي يخدم أكبر منطقة هو محفل شمال غرب أفريقيا ويضمّ 25 إقليمًا، بما فيها الكاميرون البريطانية، ومقرّه في تونس. ورغم اتّساع المنطقة، لم يكن هناك سوى نحو ألف من البهائيين وثمانية وثلاثين محفلاً روحانيًا محلّيًا في المنطقة. انتُخب إينوك رئيسًا للمحفل الروحاني الإقليمي.

في عام 1957 تلقّى إينوك أولنغا إذنًا من حضرة وليّ أمر الله للقيام بالحجّ إلى الأرض الأقدس. عند وصوله في 3 شباط، كان أوّل أفريقي أسود يقوم بالحجّ. وقد أنزله حضرة شوقي أفندي في منزل ضيافة الحجّاج الشرقيين الواقع بالقرب من مقام حضرة الباب، وعامله كواحد من الحجّاج الشرقيين. ويعني ذلك أنّ إينوك كان قادرًا على قضاء بعض الوقت في المشي وسط الحدائق مع محبوبه وزيارة المقامات معه. خلال هذه الأيّام تحدّث حضرة وليّ أمر الله عن سموّ مرتبة أيادي أمر الله وأشاد بعظمة موسى بناني. صرّح أنّ أوغندا كانت قلب أفريقيا والسيّد بناني قلب القلب.

بعد عدّة سنوات أخبر إينوك هوبر دنبار أنّ حضرة وليّ أمر الله ‘علّمني كلّ شيء’. اعتقد السيّد دنبار جازمًا أنّه بينما كان إينوك في رحلة الحجّ، لا بدّ أنّ حضرة وليّ أمر الله قد وهبه كامل الخطوط العريضة من المعرفة الإلهية والإنسانية.(6) بعد فترة وجيزة من مغادرة إينوك الأرض الأقدس أنعم عليه حضرة شوقي أفندي بلقب «أبو الفتوح»، لعمله في أوغندا، وهجرته إلى الكاميرون البريطانية ليصبح فارس حضرة بهاءالله، وإعداده مهاجرين من بين معتنقي أمر الله الجدد وتبليغه ثلاثمائة شخص. اعتبر حضرة وليّ أمر الله هذه المفاخر ‘فريدة من نوعها في تاريخ الجهاد الروحاني’.(7)

بعد فترة وجيزة على رحلة الحجّ، عاد إينوك إلى أوغندا لإحضار زوجته وأطفاله إذ بدا الآن أنّه استقرّ بشكل دائم في غرب أفريقيا. في تشرين الأوّل عام 1957 طُلب منه الحضور إلى منزل بناني ليتسلّم برقية مرسلة من حضرة وليّ أمر الله يبلغه بترقيته إلى مرتبة أيادي أمر الله. عندما قرأ الرسالة، سجد إينوك منطرحًا على الأرض، وهي علامة في أفريقيا على إبداء المرء الخشوع التامّ لمولاه. كان قد أصبح بهائيًا قبل أربع سنوات فقط لتعيينه، ويبلغ الحادية والثلاثين من عمره، أي أصغر أيادي أمر الله سنًّا.(8) بعد يومين، في 4 تشرين الأوّل، أبرق إينوك إلى حضرة شوقي أفندي:

تلقّيت للتوّ الرسالة المباركة من المحبوب والتي خدّرت قواي. ببالغ الخشوع والخضوع أتقبّل هذا الفضل الإلهي، وأشعر في أعماقي بالامتنان للأماني المقدّسة للمحبوب من أجل تقدّمنا. ألتمس دعاء حضرته طلبًا للتأييد والهداية والترقّي الروحاني.(9)

بعد شهر صعد حضرة وليّ أمر الله إلى الملكوت الأبهى في لندن. ومع أنّه لم يتمكّن من حضور مراسم الجنازة، كان إينوك حاضرًا في كافّة الاجتماعات الرسمية لأيادي أمر الله. في ذلك الوقت كان إينوك قد أصبح متحدّثًا موهوبًا، يمتلك الصفة المحبّبة في الضحك والتي أسعدت زملاءه الأيادي. كانت ضحكته مشحونة بالفرح وتصيب من حوله بعدوى السرور والبهجة فتجلب راحة مرغوبة للجميع من جوّ العمل الجادّ الوقور الذي كان سائدًا في المركز العالمي ما بين تشرين الثاني عام 1957 ونيسان عام 1963. ولكون إينوك كان مثقلاً بمسؤوليّات مضنية، كان زملاؤه الأيادي يجمعون له قصصًا مضحكة يروونها في الاجتماع الرسمي السنوي. يكتم إينوك ضحكته في البداية ثم ينفجر بضحكات تنتشر وتبهج قلوب زملائه أيادي أمر الله.

ولكن للأسف، لم يكن لمّ شمل إينوك مع زوجته في غرب أفريقيا ناجحًا، إذ بعد حوالي ثلاث سنوات عادت يونيس إلى شرق أفريقيا، تاركة الأطفال مع إينوك. في عام 1961 وقع الطلاق بين الزوجين أولنغا، وبعد ذلك بسنتين ذهب إينوك مع زوجته الثانية، اليزابيث، إلى نيروبي. رزق إينوك وإليزابيث بطفلين. وأخيرًا عادت الأسرة إلى تيلينغ في أوغندا.

طلب حضرات أيادي أمر الله من إينوك أن يكون رئيس الجلسة الافتتاحية للمؤتمر البهائي العالمي الذي سيعقد في قاعة ألبرت في لندن في نيسان 1963. بعد ستّة أشهر كتب إينوك إلى روحية خانم طالبًا الدعاء من أجله لأنّه ‘ضعيف، واهن وعاجز’.(10)

وفي خدماته أياديًا لأمر الله، سافر إينوك أولنغا على نطاق واسع إلى جميع أنحاء أفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا وأستراليزيا وجزر المحيط الهادئ والأمريكتين وأوروبا. حضر ثلاثة من المؤتمرات البيقارّية في عام 1958: في كمبالا وفرانكفورت وسنغافورة. في عام 1960 زار العديد من المراكز البهائية في غرب وشمال أفريقيا، فضلاً عن صقلية وإيطاليا. سافر في العام التالي إلى جزر الأنتيل الكبرى وأمريكا الوسطى. في عام 1962 كان موجودًا في شرق أفريقيا والسودان وإثيوبيا والكونغو. هذا وقد مثّل حضرات أيادي أمر الله في مؤتمرات الوكلاء لانتخاب المحافل الروحانية المركزية لأوّل مرّة في كلّ من جامايكا وجمهورية الدومينيكان وكوبا، كما مثّل بيت العدل الأعظم في العديد من المؤتمرات المماثلة بما فيها منطقة المحيط الهندي؛ جنوب أفريقيا الوسطى؛ سوازيلاند وليسوتو وموزامبيق؛ بوروندي ورواندا؛ غرب أفريقيا العليا؛ تشاد؛ سييراليون؛ ليبيريا وغينيا؛ فولتا العليا؛ وآيسلندا. حضر من المؤتمرات الأوقيانوسية ذلك الذي عقد في صقلية في عام 1968، والذي عقد في سنغافورة في عام 1971. وبينما كانت المشاكل في أفريقيا تتفاقم باطّراد، قام إينوك بجولات هامّة عبر القارّة بدءًا من منتصف السبعينيات، كما خصّص وقتًا لحضور المؤتمرات التبليغية العالمية في باهيا، ميريدا ونيروبي في عامَي 1976، 1977.

خلال أسفاره الطويلة، استُقبل إينوك من قبل العديد من رؤساء الدول والأعيان، بمن فيهم الرئيس جومو كينياتا من كينيا، الرئيس أحمدو أهيدجو من جمهورية الكاميرون، الرئيس هاستينغز كاموزو باندا من مالاوي، الرئيس وليام توبمان من ليبيريا، صاحب السموّ ماليتوا تانومافيلي الثاني من ساموا الغربية، والدالاي لاما، والرئيس زلمان شازار.

دخل إينوك قلوب عدد لا يحصى من الأشخاص الذين قابلهم وألهمهم. إثر زيارة له إلى البرازيل، ذكر المحفل الروحاني المركزي هناك أنّه ‘بدا كما لو أنّ صديقًا عزيزًا انتظرناه طويلاً قد وصل’. وفي جلسة عامّة تحدّث السيّد أولنغا ‘بقدر من المحبّة وصفاء القلب بحيث غلبت العاطفة على كثير من الحاضرين الذين صفّقوا له غير قادرين على وقف دموعهم.’(11) في الأرجنتين ‘أشعل وجوده محبّة الله في قلوب البعض وألهب شعلتها في قلوب آخرين.’(12) وفي أفريقيا أشير إلى إينوك بعبارة «المبلّغ المثالي، المهاجر الذي يمكن أن يقتدي به الجميع».(13) وكانت ثمرة زيارته إلى تشيلي أن سمع ما يقرب من عُشر سكّان البلاد، البالغ عددهم عشرة ملايين نسمة، باسم حضرة بهاءالله. في حديثه عن أسفاره في أمريكا الجنوبية قال إينوك:

يا لهم من أحبّاء رائعين!… إنّه مصدر فرح وسعادة حقيقية مشاهدة حماس الأحبّاء الأعزّاء وتفانيهم وعزيمتهم، المخضرمين والجدد؛ كبارًا وصغارًا؛ المهاجرين والمؤمنين من السكّان الأصليين. إنّني معجب جدًّا بما يمكنهم إنجازه لأجل أمر الله، ويحدوني أمل صادق جدًّا أن يمكّنهم الروح السماوي الذي يحرّكهم ويؤازرهم، من الانتصار على قوى الضلالة المظلمة. إنّهم رائعون ومتفانون للغاية.(14)

أراد إينوك للأحبّاء أن يكونوا سعداء. فكان يسأل: ‘هل أنت سعيد؟’ في حديث مسجّل تكلّم عن كيف يكون المرء سعيدًا. قال إنّه ينبغي للأحبّاء أن يكونوا سعداء لأنّ حضرة بهاءالله مكّنهم من عرفانه ربًّا لهذا اليوم. كان حضرة وليّ أمر الله المحبوب قد قال لإينوك عندما كان في حيفا إنّ قليلاً جدًّا من الناس في العالم كلّه سعداء. فقط أولئك الذين يعرفون الله ويحبّونه في هذا اليوم ويحملون الاسم المبارك لمظهر أمر الله لهذا اليوم، يمكنهم أن يكونوا سعداء. عندما نحبّه، نتلقّى بركاته وفضله ونعمه. وإحدى هذه النعم السماوية هي السعادة.

قال إينوك إنّ هناك مرتبة أسمى من السعادة. وقال إنّ حضرة وليّ أمر الله صرّح بأنّ البهائيين يجب أن يكونوا مبتهجين؛ ولكي يصبحوا كذلك يجب أن يصبح الأحبّاء مدركين لإرادة الله التي تتجلّى وتظهر من خلال حضرة بهاءالله. صرّح يسوع المسيح بأنّ يومًا سيأتي عندما يتمّ الكشف عن إرادة الله للعالم. فبمجرّد أن يصبح البهائيون مطّلعين على إرادة الله يجب أن يطيعوها. إنّها الإطاعة لإرادة الله وأحكامه التي تجعلنا مبتهجين.(15) وبالتالي فإنّ الواجبين التوأم اللذين لا ينفصلان والمطلوبَين من البشر – العرفان والإطاعة(16) – هما مصدر السعادة والابتهاج.

في مناسبة أخرى تحدّث إينوك عن العون المتاح لكلّ مؤمن. وقال نقلاً عن حضرة وليّ أمر الله، إنّ الروح القدس تحوم مستعدّة لدخول القلوب. والاجتماعات محاطة دائمًا بهذه الروح، ولهذا السبب يجب أن يعقد البهائيون مؤتمرات واجتماعات للاستمتاع بالأخوّة والمحبّة والاتّحاد. وقال إنّ من شأن هذه الاجتماعات أن تجذب التأييدات الإلهية، وعندما يغادر الناس يكونون قد نالوا الهداية والعون في أعمالهم.

وقال إنّ الفرق بين أمر الله والمذاهب الأخرى هو أنّ حضرة بهاءالله أطلق دفقًا هائلاً من المحبّة الإلهية. ولهذا السبب فإنّه من الممكن توحيد العالم. هذه الوحدة سوف تؤدّي إلى السلام. هذه هي القوّة التي تساعد البهائيين في التبليغ. إنّها قدرة إلهية. إذا أمكن للمرء أن يرى عالم الباطن فسوف يرى هذه القدرة مضيئة وفاعلة. لا يمكن للبشر وقفها. لا أحد يستطيع اخمادها.(17)

بعد وفاة موسى بناني في عام 1971، اشترى إينوك منزل بناني-نخجواني في كمبالا الذي فيه آمن بأمر الله. إلاّ أنّ الوضع السياسي في أوغندا تدهور طيلة عقد السبعينيات، وبلغ ذروته في حرب أهلية رهيبة، وأمضى إينوك الكثير من الوقت في حماية الجامعة البهائية المهدّدة بالخطر وطمأنتها. في أيلول 1977 حُظر أمر الله وحُلّت هيئاته الإدارية وأُوقفت الأنشطة وأُغلق مشرق الأذكار. صُدم إينوك بهذا التطوّر قائلاً: ‘لا! لا أحد يستطيع أن يحظر أمر الله.’(18) ثم كتب الى رئيس الدولة محدّدًا طبيعة أمر الله ووضعه، ولكن دون جدوى.

بحلول آذار 1979 عصفت الحرب الأهلية بالبلاد. وقد اختطف جنود ابن إينوك بديع واختفى لمدّة أسبوع. اصطدمت سيّارة إينوك بشاحنة للجيش وسُرق منه مبلغ كبير من المال. بحلول نيسان فرّ الآلاف من الأوغنديين من كمبالا. أرسل إينوك عائلته إلى تيلينغ من أجل سلامتها. أمّا هو فقد حثّوه على اللجوء إلى ممتلكات مشرق الأذكار ولكنّه رفض مغادرة العاصمة. وذات ليلة دارت معركة شرسة بالمدفعية حول التلّ الذي يقع عليه المعبد، فقضى إينوك ليله في الدعاء. في اليوم التالي وجد أنّ المعبد لم يتعرّض لأيّ ضرر وأنّ الحكومة قد هُزمت، فذهب على الفور إلى المعبد وفتح جميع الأبواب ورفع الدعاء بالشكر والامتنان.

على الرغم من الإطاحة بالحكومة إلاّ أنّ حالة من الفوضى كانت لا تزال سائدة في المدينة، فالجنود وسكّان المدينة كلّهم منهمكون بالنهب والقتال. عاد إينوك إلى منزله في كمبالا ليعثر عليه مجرّدًا من محتوياته على أيدي اللصوص. ولمّا كانت أسرته حريصة وراغبة في الانضمام إليه، قرّر إينوك صيانة المنزل وإعادة تأثيثه.

لم يُرفع الحظر على أمر الله لعدّة أشهر بعد سقوط الحكومة، ولكنّ الوضع تغيّر بشكل كبير بحيث قرّر بيت العدل الأعظم تعيين لجنة مؤقّتة للإشراف على الأنشطة البهائية في أوغندا وإدارة الممتلكات البهائية. اجتمعت اللجنة للمرّة الأولى يومَي 25 و 26 آب 1979، وترأّس إينوك الاجتماع.

ولمّا كانت هناك مسائل أخرى توجّب على إينوك الاهتمام بها، لم يحضر الاجتماع الثاني للجنة يوم 15 أيلول. كانت زوجته وثلاثة من أطفاله موجودين في المنزل منتظرين جمع شمل العائلة. في يوم 16 أيلول توجّهت العائلة إلى موقع المعبد، وهناك قام إينوك بإطلاع البهائيين على حقيقة وضع الأحبّاء في إيران. في وقت لاحق من ذلك اليوم عزف بعض الشباب الموسيقى، في حين انضمّ إينوك وإليزابيث إلى حلقة الرقص.

في مساء ذلك اليوم، في الساعة الثامنة والنصف تقريبًا، سمع الصبيّ الذي يخدم عائلة أولنغا شخصًا يهزّ بوابة مجمع منزل العائلة. نظر من النافذة فرأى خمسة رجال مسلّحين يسيرون باتّجاه الباب الخلفي المؤدّي إلى مطبخ منزل أولنغا. هتف الرجال، ‘افتح!’ وطرقوا الباب بقوّة. قام ليني، الابن الأصغر لإينوك، بفتح الباب ليُسمع بعدها صوت طلقات نارية. فرّ الصبيّ الخادم في ذعر وخوف.

في صباح اليوم التالي وجد الصبيّ الخادم جثمان إينوك ملقى في فناء المنزل وسيل من الدم يمتدّ من المطبخ إلى غرفة النوم. عثر هناك أيضًا على بقايا أجساد زوجة إينوك وأطفاله الثلاثة على الأرض مختلطة ببعضها على نحو يدعو للرثاء.

يُعتقد أنّ إينوك كان في غرفة الجلوس عندما سمع صراخًا وإطلاق نار. ذهب على الفور إلى المجمّع من الخلف. من هناك، إمّا أنّه أُخذ لرؤية الأسرة وهي تُقتل أو رآهم مقتولين. وقد سُمع وهو يبكي وينوح بصوت عال ثم أطلقوا النار عليه من الخلف في الصدر والوركين وسقط أمام المرآب.

صدمت المأساة العالم البهائي. هل كان ذلك هجومًا على زعيم معروف لأمر الله أو واحدًا من العديد من الأعمال الإرهابية التي تحدث في هذه الأرض المضطربة؟ ربّما لن يعرف أحد حقيقة ما جرى.

دُفن إينوك وعائلته في 24 أيلول على تلّة كيكايا، بجانب أيادي أمر الله موسى بناني. إلى أتباع حضرة بهاءالله الذين لفّهم الذهول في جميع أنحاء العالم، أبرق بيت العدل الأعظم ما يلي:

بقلوب طافحة بالحزن نعلن عن الخبر المأساوي حول القتل الوحشي للمحبوب الغالي أيادي أمر الله المحترم إينوك أولنغا على أيدي مسلّحين مجهولين في فناء منزله بكمبالا. كما سقط كلّ من زوجته إليزابيث وأطفاله الثلاثة بديع وليني وطاهرة ضحايا أبرياء في هذا العمل الوحشي. لم يتأكّد بعد الدافع وراء الهجوم. إنّ روحه المتألّقة وإيمانه الذي لا يتزعزع ومحبّته الشاملة وبسالته المقدامة في مجال التبليغ وألقابه كفارس حضرة بهاءالله وأبو الفتوح التي أنعم بها عليه حضرة وليّ أمر الله المحبوب، تجتمع كلّها لتميّزه كعضو بارز بين أبناء عرقه في سجلّ أمر الله في القارّة الأفريقية. نحثّ الأحبّاء في كلّ مكان على عقد الجلسات التذكّرية تكريمًا يليق بذكراه الخالدة. نرفع الدعاء بحرارة في العتبات المقدّسة لتقدّم روحه النبيلة وأرواح أربعة من أفراد أسرته الغالية.(19)

 

1.
Bahá’í World, vol. 18, p. 623.
2.
Shoghi Effendi, Messages to the Bahá’í World, pp. 133–4.
3.
Bahá’í World, vol. 18, p. 621.
4.
Notes of Florence Mayberry, 2 June 1981.
5.
Bahá’í World, vol. 18, p. 623.
6.
Dunbar, Forces of Light and Darkness.
7.
Bahá’í World, vol. 18, p. 625.
8.
كان ميرزا على محمّد ورقاء في الثامنة والثلاثين من عمره عند استشهاده وسمّي بأيادي أمر الله من قبل حضرة عبدالبهاء؛ ورحمت الله مهاجر في الرابعة والثلاثين عند تعيينه، بينما كان ذكر الله خادم في الثالثة والثلاثين.
9.
Bahá’í World, vol. 18, p. 626.
10.
المصدر السابق، الصفحة 627.
11.
Bahá’í International News Service, circa 1970, p. 4.
12.
المصدر السابق.
13.
Bahá’í News, May 1984, p. 6.
14.
Bahá’í International News Service, circa 1970, p. 6.
15.
Olinga, Are You Happy?
16.
انظر «الكتاب الأقدس»، الفقرة 1.
17.
Dunbar, Forces of Light and Darkness.
18.
Bahá’í World, vol. 18, p. 630.
19.
المصدر السابق، الصفحة 634.

1901 – 1991 جون أولدهام روبارتس

Hand of the Cause of God John Aldham Robarts (1901-1991)

عندما يُلقى بالرداء الدنيوي جانبًا وتصعد الروح إلى العالم الروحاني، يتمّ تذكّر حياة المتوفّى في كلا العالمَين. ففي العالم الروحاني يُحكم على أعماله، ويستنير فكره ويزداد وعيه. وفي العالم الترابي قد نتذكّره لألقابه وثرائه وهيبته. يمكن أن نتذكّره لفطنته، أو لمواهبه القيادية أو لقدرته على حلّ المشاكل. أو نتذكّره لقوّة نفوذه، أو للقيم التي اتّبعها أو الثمار التي أنتجها.

إنّ أولئك الذين عرفوا جون أولدهام روبارتس وأحبّوه، يعتزّون في ذاكرتهم وقلوبهم بذكرى حياة شخص متميّز. فيتذكّر أولاده تشجيعه لهم، وطبيعته المُحبّة للمرح، ونصائحه الحكيمة واهتمامه بالآخرين المتأصّل في طبيعته. وزملاؤه في العمل يقدّرون قيادته ويحترمون عقيدته ويسعون إلى رفقته. وزملاؤه البهائيون يثمّنون خدماته المخلصة، وفطنته الحادّة، وتحدّياته الملهِمة، وروح فكاهته الغلاّبة، وتوكّله على الصلاة والدعاء، ودفء شخصيّته الأصيل، وتفانيه الذي لا يعرف الكلل. وطالبو الحقيقة ينجذبون لروحه المُحبّة وصوته الملهب للحماس ووضوح رؤيته. أمّا أودري، زوجته العزيزة لمدّة (63) سنة، فقد استذكرت العديد من التفاصيل المشوّقة عن حياته الرائعة، تفاصيل تزيد ذكرى حياته نبلاً وتدلّ على الحبّ الخالد لشريك حياتها في كافّة العوالم الإلهية.

ولتواضعه الأصيل، عاش جون روبارتس، رغم إنجازاته المتعدّدة، بشكل طبيعي ودون تكلّف، وهو نوع الحياة التي أرادها حضرة عبدالبهاء للبهائيين في قوله:

أنا أريد لكم الامتياز… وأن تتميّزوا عن سائر النّاس في محبّة الله. عليكم أن تكونوا ممتازين بحبّكم للإنسانية، وبالاتّحاد والوفاق، وبالمحبّة والإنصاف. وبالاختصار عليكم أن تكونوا ممتازين في كافّة فضائل العالم الإنساني – أي ممتازين بالوفاء والصفاء، بالإنصاف والإخلاص، بالثبات والاستقامة، بالأعمال الخيرية وخدمة عالم البشر، بالمحبّة لكلّ إنسان، بالاتّحاد والوفاق مع كافّة الناس، وبإزالة التعصّبات وترويج السلام العالمي. وفي النهاية يجب أن تكونوا ممتازين بالاستنارة الملكوتية، وبنيل الفضائل الربّانية. وهذا هو الامتياز الذي أرجوه لكم.(1)

تميّز أسلاف جون روبارتس أيضًا في أزمانهم بمحبّتهم لله وبخدمتهم للإنسانية. في القرن التاسع عشر، خلال إعصار في بربادوس، أنجبت الجدّة الكبرى لجون ابنها في مخبز قديم يقع نصفه تحت الأرض – وهي تجربة مروّعة. لذلك نذرت أن تكرّس طفلها، الذي أسمته تمبست (عاصفة)، لله، لو بقي على قيد الحياة. ترعرع الطفل ليصبح لاحقًا القسّ توماس تمبست روبارتس، الكاهن المُرتّل في الكنيسة الأنجليكانية.

رزق توماس تمبست بخمسة أطفال. انضمّ إرنست، الابن البكر، إلى طائفة أصولية معروفة باسم «أخوّة بليموث». وانضمّ هنري إلى «فرسان بيثياس»، وهي منظّمة ربّما تعود جذورها إلى أيّام الحروب الصليبية. أمّا الطفل الثالث، أولدهام، والد جون، فقد بقي أنجليكانيًا وأصبح مديرًا لبنك إمبيرِيال الكندي للتجارة في بورت آرثر (تدعى الآن «خليج الرعد») على الشاطئ الشمالي لبحيرة سوبيريور. وقد نعى وفاته في سنّ التاسعة والأربعين جمع كبير من الناس الذين اجتمعوا في مراسم جنازته. أصبحت إيلا، الطفل الرابع لتوماس، مبلّغة بهائية مخلصة. كان منزلها الصيفي الواقع في نهاية الطريق المؤدّي إلى «غرين إيكر»، المدرسة البهائية، مركزًا لاستضافة البهائيين. أمّا أصغر أطفال توماس، غريس روبارتس أوبر، فقد كُرّست لخدمة الله من قبل والديها. فخدمت أمر الله لمدّة اثنين وثلاثين سنة وعند وفاتها وصفها حضرة وليّ أمر الله بالعاملة المتميّزة في مجال التبليغ. هذا وكان حفيد شقيق توماس رئيسًا لوزراء مقاطعة أونتاريو لمدّة عشر سنوات. وعند الإعلان عن وفاته، أثني عليه في المجلس التشريعي لأونتاريو لِما عُرف عنه من مصداقية ونزاهة.

ولد جون روبارتس في 2 تشرين الثاني عام 1901 في واترلو، بمقاطعة أونتاريو. كان والداه، أولدهام ويلسون روبارتس وراشيل ماري مونتغمري كامبل، من أصل إنجليزي واسكتلندي ومحترمَين لِما يتّصفون به من وفاء وإخلاص. عندما كان جون في السادسة من عمره بدأ العمل في توزيع الصحف في الحيّ، ومثل أختيه الأكبر سنًا، التحق بالمدرسة الابتدائية في بورت آرثر. في هذا الوقت تقريبًا أصبحت عمّته غريس بهائية.

منذ أيّام طفولته عُرف جون بالكفاءة والموثوقية والنزاهة والحماس، ونتيجة لذلك لم يكن عليه أن يتقدّم لأيّ وظيفة شغلها على الإطلاق؛ فبينما كان يدرس في كلّيّة المطران ريدلي الشهيرة في سانت كاثرين بمقاطعة أونتاريو أيّام شبابه، عُرض عليه منصب سكرتير للمشرف على السكّة الحديد الوطنية. في عام 1918 كانت الحرب العالمية [الأولى] قد انتهت لتوّها وغدت الوظائف شحيحة. ومع اقتراب تعليمه المدرسي من نهايته، تشاور جون مع والده حول العرض الذي قُدّم له فقرّر ترك المدرسة وقبول الوظيفة. ولمّا كان جادًّا ومجتهدًا في العمل، فقد اكتسب مهارات السكرتارية بسرعة، بما في ذلك الاختزال والطباعة.

وفي وقت لاحق، ما إن أُلغيت وظيفته في السكرتارية حتى دُعي جون للعمل في مجال تجارة الحبوب في وينيبيغ. تطلّبت وظيفته رفش الحبوب ووضعها في عربات النقل. كان عليه السفر في الصيف ممّا اضطرّه أن يعيش أغلب الوقت في نُزُلٍ صغيرة في الأرياف والتنقّل من وإلى وينيبيغ في طرق غير معبّدة، طينية أو ترابية وفقًا لأحوال الطقس. بعد هذه الوظيفة الشاقّة عمل في بيع المستلزمات الزراعية، مواصلاً السفر على الطرق الريفية. سبّب غبار عربات النقل تلك والطرق التي سافر فيها، فضلاً عن قابليته بالوراثة، معاناة جون من الربو والتهاب الشعب الهوائية وانتفاخ الرئة لفترات طويلة من حياته.

في منتصف عقد العشرينيات التقى جون بأودري فيتزجيرالد. كانت قد ولدت في 20 كانون الأوّل 1904، وهي ابنة إدوارد فيتزجيرالد وكيت بولمر. كان بإمكان والدها أن يتباهى بانتسابه إلى الأصول القديمة الإيرلندية والويلزية والإنجليزية والإسبانية. أمّا والدتها فكانت من أصل إنجليزي فرنسي ومن شعب «كري». فقد كان أحد أجدادها العظام في زمن المستعمرات الأمريكية البريطانية يعمل في تجارة الفراء في كندا، في حين كانت جدّة أودري من طرف والدتها تنتمي إلى شعب «كري». أمّا اسم أودري قبل الزواج، فيتزجيرالد، فقد انبثق من اسم أسرة في وادي نهر أرنو في فلورنسا خلال زمن الإقطاع [في العصور الوسطى].

كان جون وأودري يخرجان معًا لفترة من الوقت رغم صعوبة أوضاع الطريق. أغوى عقدُ العشرينيات الصاخب العديدَ من الشباب في ذلك الجيل، ولكن ليس بالنسبة إلى جون أو أودري – اللذين استمتعا، رغم ذلك، بالرقص والاستماع إلى الموسيقى. في عام 1926 أقام جون شراكة مع جيمس غراهام حيث بدأ الرجلان مشروعًا في أعمال التدفئة المنزلية، والذي أثبت أنّه عمل مزعج للغاية. في العام التالي أسّسا «شركة أبواب المرآب الكندية» في تورونتو. كان جون رئيسها والمدير العامّ لشرق كندا. وفي الوقت نفسه، ذهبت أودري إلى فرنسا لدراسة الموسيقى في أكاديمية فونتينبلو. خلال خطبتهما التي امتدّت ثلاث سنوات، غالبًا ما كان جون وأودري متباعدَين وكان عليهما أن يتحمّلا ليس المحيط الذي يفصلهما فحسب بل ومراسلات مملّة عبر البحار، وذلك قبل أن يتمكّنا من الاحتفال بزواجهما في 3 آذار 1928 في كنيسة سانت جورج الانجليكانية في وينيبيغ.

قبل نحو ستّة أشهر من زواجه التقى جون أخيرًا بعمّته غريس روبارتس أوبر. في رسالة كتبها جون بعد عدّة سنوات، أشار إلى هذا الاجتماع وتعرّفه على الدين البهائي في ذلك الوقت المبكر:

في عام 1927 كنت أعيش في تورنتو وعائلة أوبر تعيش في بوفالو التي تبعد نحو (125) ميلاً. ذات يوم في الخريف اتّصلت [عمّتي غريس] بي هاتفيًا. كانت قد أتت إلى تورنتو في زيارة وطلبت منّي تناول طعام الغداء معها. سررتُ بذلك وجلسنا إلى طاولة الغداء طيلة فترة ما بعد الظهر، حتى موعد طعام العشاء. بعد ذلك فكّرتُ أنّ الوقت قد أصبح متأخّرًا جدًّا لأن تقود سيّارتها لوحدها إلى البيت، فعرضتُ مرافقتها على أن أستقلّ في اليوم التالي حافلة عائدًا الى تورونتو. ولكنّنا في اليوم التالي عندما وصلنا إلى محطّة الحافلات في بوفالو، اقترحتْ عليّ أن تأخذني [بسيّارتها] إلى تورنتو طالما أنّنا قضينا معًا وقتًا جميلاً كهذا، وهو ما فعلَته. لقد ساعدتني في اختيار خاتم ألماس لخطيبتي أودري فيتزجيرالد. وفي العام التالي تزوّجنا. بعد بضعة أشهر زرنا عائلة أوبر والتقينا بالسيّد هارلان، وبناء على طلبنا سمعنا شيئًا عن الدين البهائي للمرّة الأولى.(2)

كان هارلان وغريس أوبر قد اعتنقا الدين البهائي كلّ على حدة في عام 1906. بعد ستّ سنوات قدّمت غريس خدماتها لحضرة عبدالبهاء بتأمين شقق لإقامة حضرته وتجهيزها ثم العمل كمدبّرة ومضيفة له خلال أسفاره في منطقة الساحل الشرقي لأمريكا.

حافظت على المنزل نظيفًا مرتّبًا، ودائمًا جاهزًا لاستقبال أفواج الضيوف المستمرّّة من الصباح إلى المساء، بهائيين ومستفسرين وأناس يشكون من صعوبات كان لهم حضرة عبدالبهاء أبًا مُحبًّا على الدوام. وكان، خلال واحدة من زيارات حضرة عبدالبهاء لمدينة نيويورك، أن اقترح حضرته زواجها [غريس] من هارلان أوبر. لدى الحصول على موافقة هذين المؤمنَين المخلصَين، اللذين جمعهما معًا بكمال حكمته، قام حضرته في اليوم التالي الموافق 17 تمّوز عام 1912 بعقد قرانهما في الصباح وفقًا لأحكام الزواج البهائي. كانت هذه العناية اللامتناهية باختيارهما لبعضهما البعض، وتزويجهما من قبل مركز العهد والميثاق نفسه، فضلاً فريدًا أسبغه على هذين النفسين من بين كلّ الأمّة الأمريكية.(3)

على مدى السنوات العشر التالية ظلّ جون وأودري على تواصل بالدين البهائي. كان هارلان وغريس يأتيان إلى تورنتو في كثير من الأحيان لزيارة أحد البهائيين وتعزيز النشاط التبليغي. كان الزوجان روبارتس يلتقيان بالزوجين أوبر ويقلاّنهما بالسيّارة إلى جلسات «فايرسايد»، ثم يعودان بهما لتناول العشاء في منزلهما. بعد فترة من الوقت استأجرت غريس مكانًا في تورونتو لرغبتها في تأسيس محفل روحاني محلّي هناك. كان جون وأودري يحضران أحيانًا اجتماعات غريس، ولا شك أنّهما كانا يتأثّران بما يسمعاه. لكنّهما بقيا غير ملتزمَين لأنّهما، كما قالت أودري، كانا يشكّلان فريقًا وأرادا أن يتأكّدا أنّهما سيعتنقان أمر الله معًا.

في السنوات الأولى من زواجهما كان جون وأودري منهمكين في تنشئة أولادهما. فقد وُلد أولدهام إدوارد في عام 1929، ولحقه جون فيتزجيرالد (جيرالد) بعد 14 شهرًا في عام 1930. وفي عام 1934 وُلد باتريك تمبست. في تلك الأثناء كان جون مشغولاً بعمله. كانت والدته، وهي أرملة آنذاك، تأتي لزيارته في عطلة نهاية كلّ أسبوع. أمّا أودري فقد تخلّت عن نشاطها الموسيقي بسبب ضغوط الحياة.

كانت «شركة أبواب المرآب» تنتج عدّة مئات من الأبواب سنويًا، وتستلم العديد من الطلبات الكبيرة. ومع ذلك، بحلول عام 1934، تسبّب «الكساد العظيم» في انخفاض الطلب على الأبواب وقرّر الشركاء بيع المصلحة التجارية. اشترى الشركةَ منافسٌ لهم وأوقف مُنْتَج جراهام-روبارتس لأجل غير مسمّى لينتج بابًا بمواصفات أدنى. وعلى الرغم من الظروف الاقتصادية غير المستقرّة، وجد جون عملاً لكلّ من الموظّفين العشرين في المصنع.

بعد أن أمّن جون استقرار موظّفيه السابقين في وظائفهم الجديدة، عندها فقط قبل دعوة تحثّه على الانضمام إلى «شركة التأمين على حياة الصناعيين». وعليه، فقد أكمل «دورات ألكساندر هاملتون للأعمال التجارية» ليتأهّل كخبير في مجال التأمين على الحياة. في عمله بقطاع التأمين هذا، كان جون مخطّطًا مخلصًا ومسئولاً عن عقارات الأزواج وأمنهم المالي. في عام 1938 انضمّ إلى شركة لندن للتأمين على الحياة كمدير لفرعها في تورنتو «وكالة شارع الملك». في وظيفته كمدير، أولى جون موظّفيه اهتمامًا شخصيًا مدركًا ذلك التوازن بين الدعم الباني للثقة والضغوط التي يمكن أن تدمّرها.

في عام 1937 قَدِم هاوارد كولبي آيفز وزوجته مابيل إلى تورونتو للمساعدة في تأسيس المحفل الروحاني المحلّي. جرى نقاش بين جون وهوارد حول أمر الله أثناء وجبات الغداء وتمكّن هوارد من الإجابة عن بعض أسئلة جون. وأمام حالة عدم اليقين لدى جون، شجّعه هوارد أن يسأل الله إظهار علامة. قرّر جون من جهته إرسال إشارة إلى الله بإقلاعه عن التدخين. وقد فعل ذلك على الفور وإلى غير رجعة رغم أنّه في ذلك الوقت كان يدخّن علبتين من السجائر كلّ يوم تقريبًا. في وقت لاحق، عندما جرى تركيب هاتف جديد له، دُهش جون عندما وجد أنّ رقمه كان «ويفرلي» 1844.

في نهاية المطاف أصبح جون بهائيًا. وعودًا بذاكرته إلى الوراء يقول: ‘في إحدى ليالي تشرين الثاني عام 1937، بعد أن أنهيت وأودري طعام العشاء مع الزوجين أوبر، وبينما كنّا نقوم بالدعاء معًا، أدركت أنّني قد قبلت مقام حضرة بهاءالله.’(4) بعد شهور قليلة أعلن هو وأودري عن إيمانهما معًا في محضر هارلان، وأنّهما أصبحا بهائيين. ولكن للأسف، فإنّ غريس، عمّة جون المحبوبة التي كانت أوّل من أبلغه بأمر الله، والتي ألهبت قلبه بمحبّتها الشديدة لذلك الدين، كانت قد توفّيت مؤخّرًا في ظروف دراماتيكية أثناء مؤتمر الوكلاء السنوي البهائي عام 1938، بعد وقت قصير من تقديمها تقريرًا عن أنشطتها التبليغية أمام الوكلاء المجتمعين.

بعد أن أصبح جون وأودري بهائيين، قطع أبناءُ إرنست روبارتس وعائلاتهم كلَّ العلاقات معهما. وكان إرنست قبل سنوات قد نأى بنفسه عن غريس وإيلاّ، لاقتناعه بأنّ حضرة بهاءالله هو المسيح الدجّال. ورغم أنّ قرارهم بفصل أنفسهم عن جون وأودري لا بدّ كان مؤلمًا لها، إلاّ أنّ أودري، بطريقتها المفعمة بالمحبّة، كتبت في وقت لاحق ببساطة: ‘بطريقتهم الخاصّة كانوا أوفياء لعهد الله حسبما تصوّروه.’(5)

في عقدَي العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين ساد في كندا عنصر قويّ من الأصولية المسيحية. هذا الموقف، باختلاطه مع القناعة بأنّ عصبة الأمم معنية بإنهاء كلّ الحروب، قد تسبّب بجعل عموم الناس، بمن فيهم البهائيين، ينحدرون تدريجًا إلى حالة من الجمود واللامبالاة يدعمها وهْم السلام. فتلك الحفنة من المؤمنين المتناثرين هنا وهناك لم تمتلك الشجاعة دائمًا للنأي بنفسها عمّا يصيب المجتمع الذي تعيش فيه. حتى المناشدات المتكرّرة من حضرة وليّ أمر الله لم تفعل شيئًا يُذكر لتحفيز المؤمنين على القيام للعمل. في عام 1936 كان في كندا محفلان فقط، واحد في مونترِيال وآخر في فانكوفر، وكان هناك أقلّ من خمسين بهائيًا منتشرين في أنحاء البلدات والمدن الأخرى.(6) كان المؤمنون الكنديون بحاجة إلى مُنظّم عملي وفاعل وباعث للهمم. كان جون قادرًا على القيام بهذا الدور. وفقًا لأودري:

كان جون ذلك الشخص المناسب في الوقت المناسب وفي المكان المناسب. كانت قدرته على التحدّث بكلمات تبعث الدفء في القلوب مجبولة بروح الدعابة فضلاً عن موهبته في تنظيم وإدارة المتابعة لكافة الأنشطة التبليغية، قد أحرزت نتائج ممتازة.(7)

انهمك جون وأودري معًا في النشاط التبليغي. كانت السنة الثانية من خطّة السبع سنوات الأولى التي أطلقها حضرة شوقي أفندي تسير على قدم وساق. فساعدا في تشكيل أوّل محفل روحاني في تورونتو في نيسان 1938، وبعد ذلك تابعا مساعدتهما في إحراز الأهداف الأخرى للخطّة، التي دعت إلى تأسيس محافل روحانية محلّية في كلّ مقاطعة كندية بحلول عام 1944. وهكذا قام جون بالعديد من الرحلات التبليغية إلى هاليفاكس، تشارلوت تاون، مونكتون ومراكز أخرى في المقاطعات البحرية.

استمرّ تفاني جون في تقوية الجامعات البهائية وتأسيس المحافل الروحانية في هاملتون وأوتاوا خلال عقد الأربعينيات. ولمدّة سنة كان يسافر إلى هاملتون بالقطار ليقضي فيها ليلة واحدة من كلّ أسبوع. وهناك كان يتناول طعام العشاء مع أحد الأشخاص، ثم يحضر جلسة «فايرسايد»، ويجتمع بعد ذلك في أحد المطاعم مع عشرة أو عشرين شخصًا لتناول القهوة أثناء الحديث إليهم، وبعد الاجتماع كان يقضي ليلته في فندق ليعود الى تورونتو في وقت مبكر من صباح اليوم التالي في الوقت المناسب لبدء عمله. بعد أن تأسسّ المحفل الروحاني في هاملتون، ركّز جون جهده على أوتاوا. كان يسافر إلى هناك ليلة الجمعة ويمضي يومَي السبت والأحد في مختلف جلسات «الفايرسايد» والاجتماعات، ويعود إلى منزله ليلة الأحد. في عام 1948 انتخب الأحبّاء في أوتاوا أوّل محفل روحاني محلّي لهم. في عام 1950 ساعد جون وأودري في تأسيس محفل روحاني في قرية فورست هيل، وهي إحدى ضواحي تورونتو حيث كانا يعيشان آنذاك.

وإذ كان واعيًا دائمًا لقيمة الوقت، فقد قدّر جون هذه الكلمات من حضرة شوقي أفندي وعمل بموجبها واقتبسها غالبًا في حديثه:

إنّ الميدان فسيح حقًّا بشكل هائل، والفترة حرجة للغاية، وأمر الله عظيم عظيم، والعاملون قليلون جدًّا، والوقت قصير، وشرف الخدمة لا يقدّر بثمن، بحيث لا يسع أيّ تابع لدين حضرة بهاءالله وجدير بحمل اسم حضرته، أن يتردّد للحظة واحدة.(8)

في استجابته لتلك الكلمات، ابتكر جون فرصًا للتبليغ، فاستأجر غرفة قرب مكتبه خصّصت لتناول الطعام، وبدأ بعقد جلسات «فايرسايد» أسبوعية وقت وجبة الغداء في تورونتو. كان أقرانه من رجال الأعمال التجارية يجتمعون ويدعون أصدقاءهم ويستمعون إلى العديد من المتحدّثين. كان باستمرار يرتّب اجتماعات أخرى، ويجمع الناس معًا، ويُشرِك الأفراد في أنشطة التبليغ، ويوسّع مجال الصداقات، وينتج الأخبار المثيرة ويشجّع الناس على إلقاء المحاضرات.

في الوقت نفسه بدأ جون وأودري باستضافة جلسات «الفايرسايد» في منزلهما. في البداية لم يحضرها أحد، ولكنّ أعداد الحاضرين نمت تدريجًا بقدوم الكثير من الشباب والمبلّغين الزائرين. وقد كتبت نينا غريس روبارتس تينيون، الطفلة الرابعة للزوجين روبارتس عن هذه الجلسات ما يلي:

كان دفء محبّة أودري وجون في استضافتهما الخالية من التكلّف في حدّ ذاته مُبلّغًا بليغًا. في مساء كلّ يوم أربعاء ولعدّة سنوات كانا يعقدان جلسات «فايرسايد» مفعمة بالحيوة والمرح في منزلهما. عندما لم يكن هناك متحدّث مدعوّ كان جون نفسه هو المتحدّث، وغالبًا ما كان يحبك كلماته ويوجّهها، بنفاذ بصيرة خارق ومحبّة قصوى، نحو أحد الحاضرين، لا على التحديد، وأحيانًا لواحد محدّد. لم يكن أحد يعرف من سيكون محور تركيزه التالي. وبعيدًا عن الحطّ من شأن أيّ شخص، كان تأثيره قادرًا على تحريك الناس هناك عن طريق جذب كلّ فرد إلى شكل من أشكال المشاركة الودّية التي يمكن أن تتحوّل في أيّ لحظة إلى موجات من الضحك أو إيماءات من الإدراك والتنوّر.(9)

حول تبليغ الآخرين، قال مُبلّغ روحاني مخضرم آخر هو جورج سبندلوف ما يلي: ‘أيقظْ اهتمامهم قبل إثارة تعصّباتهم.’(10) بطبيعة الحال لا بدّ أنّ جون وأودري، اللذَين كان زواجهما مثالاً جيّدًا للتبليغ، قد اتّبعا هذه النصيحة الحكيمة. كتبت نينا عن نوعية «فايرسايد والديها ما يلي:

إنّ «فايرسايد» الزوجين روبارتس وأنشطتهما التبليغية هي قصّة أسطورية. إليهما يمكن تتبّع النسب الروحاني لبهائيين لا عدّ لهم، بعضهم مهاجرون، والعديد أصبحوا من فرسان حضرة بهاءالله، وآخرون قاموا على خدمة أمر الله بتفوّق في ميادين الأنشطة البهائية بدءًا من المنزل الخاصّ إلى بيت العدل الأعظم. لا بد أنّه حصاد سرمدي لا ينضب لأجل حضرة بهاءالله جناه هذا الثبات في التبليغ.(11)

في عام 1940 عيّن المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في الولايات المتّحدة وكندا جون في أوّل لجنة إقليمية للتبليغ في أونتاريو، وشغل وظيفة سكرتير لها وهي الوظيفة الإدارية الوحيدة فيه، من عام 1941 حتى 1944، ثم رئيسًا للسنتين التاليتين. كانت أودري أيضًا عضوًا فيها في عامَي 1943، 1944. قام جون ولويد غاردنر بتنظيم أوّل مدرسة صيفية لأونتاريو في رايس ليك في عام 1941 وكان جون رئيسًا للجنة المدرسة الصيفية لأونتاريو لعدّة سنوات.

لا شكّ أنّ رئاسة جون لهذه وغيرها من الهيئات الإدارية قد أتت نتيجة قدرته على خلق الوحدة بين الأعضاء المتشاورين وغرسه في نفوسهم الثقة والتركيز في مداولاتهم على المبدأ الأساسي لكلّ حالة قيد البحث. كان حضرة شوقي أفندي قد صرّح أنّه ينبغي للمرء أن ينشد المبدأ ويتصرّف بموجبه. تحت قيادة جون ونظرًا لِما لديه من ثقة في قدرة المشورة، أمكن التوصّل إلى قرارات وتنفيذها بكفاءة. كان أعضاء تلك الهيئات مرتاحين لطريقته المتواضعة، وجوّ الدفء الذي خلقه وقدرته على قلب وضع صعب بروح فكاهته.

في عام 1946، بعد فترة راحة لمدّة سنتين، تمّ إطلاق خطّة السبع سنوات الثانية. كتب حضرة شوقي أفندي في رسالة الى الوكلاء في المؤتمر البهائي الأمريكي، بأنّ الهدف الثالث للخطّة الجديدة تضمّن تأسيس محفل روحاني مركزي في كندا منفصل عن نظيره في الولايات المتّحدة. في العام نفسه شُكّلت اللجنة المركزية للتبليغ في كندا، وكان جون رئيسًا لها. كان لهذه اللجنة دور أساسي في تحقيق الهدف: تمّ تشكيل أوّل محفل روحاني مركزي في كندا في عام 1948، وقد جرت الانتخابات في منزل ماكسويل في مونترِيال. انتُخب جون رئيسًا، وهو منصب شغله حتى عام 1953 عندما هاجر مع أودري وباتريك ونينا إلى أفريقيا.

كان الهدف الرابع من خطّة السبع سنوات الثانية يقضي بتنفيذ الخطّة عبر المحيط إلى شواطئ العالم القديم: لبدء نشاط تبليغي منهجي في القارّة الأوروبية، يهدف لتأسيس محافل روحانية في البلدان المنخفضة والدول الاسكندنافية، وشبه الجزيرة الآيبيرية وإيطاليا. (12) ولكندا تحديدًا لدى تشكيل محفلها الروحاني المركزي في عام 1948، عيّن حضرة شوقي أفندي الهدف الصعب في فتح غرينلاند.(13) في عام 1949 سافر جون إلى أوروبا، حيث حضر مؤتمر بروكسل ثم زار سبعة من عشرة بلدان أوروبية عُيّنت أهدافًا لأمريكا الشمالية، بما فيها هولندا، بلجيكا، لوكسمبورغ، السويد، النرويج والدنمارك. خلال هذه الرحلة التقى مع مسؤولين حكوميين في غرينلاند وترك لديهم انطباعًا طيّبًا. بعد ذلك بعامين تمكّن مهاجر بهائي من دخول غرينلاند وفتحها لأمر الله.

في عام 1950 كان البهائيون البريطانيون قد وصلوا إلى الأسابيع الأخيرة من خطّة الستّ سنوات الخاصّة بهم، وكانوا متأخّرين في تحقيق الأهداف النهائية. خيّم اليأس ثقيلاً على قلوب الأحبّاء. تطوّع جون فورًا لتقديم خدماته وعرض المحفل الروحاني المركزي في كندا تغطية نفقاته. قامت اللجنة المركزية للتبليغ في الجزر البريطانية بسعادة غامرة بإرسال جون عبر عشر مدن، حيث نجح في أن يشهد ثمانية عشر اعترافًا بأمر الله في ثلاثة عشر يومًا. وفي تضحيته بعطلة كان يستحقّ أن يتمتّع بها ليقوم بهذه الرحلة التاريخية، كتب إلى أودري أنّه ‘لم يفعل ذلك – بل حدث عندما كنتُ هناك’.(14) ومع ذلك كتبت اللجنة، من ضمن ما كتبت:

إن امتناننا لكندا لا يفوقه سوى شعورنا العميق بالدَين لجون نفسه. فقد كانت جولته رائعة، وعمله لا يُنسى، ومساهمته في الخطّة لا تُقدّر بثمن.(15)

رغم انشغال جون بأنشطة أمر الله وعمله المهني، إلاّ أنّه كان لأولاده الكثير من الأوقات الخاصّة مع «بابا». كان في كثير من الأحيان يدعو ابنًا أو ابنة إلى مكتبه ويصطحبه أو يصطحبها لتناول وجبة. وعندما لم يكن الأولاد يريدون حضور حفلات أعياد الميلاد خشية أن يكون هناك رقص، كان جون يجمعهم معًا بعد العشاء، ويشغّل إسطوانة موسيقية مألوفة ذات إيقاع جميل ويعلّمهم كيفية الرقص. كان يحب أنغام الفرق الموسيقية الكبيرة، ويستمتع بالعزف على الهارمونيكا في شبابه، ويحبّ أن يغنّي حول البيانو مع العائلة والأصدقاء. ولدى تتّبعهم خطى والدهم، سرعان ما التقط الأولاد إيقاع الموسيقى. كما ساعد جون أبناءه وأصدقاءهم في تعلّم كيفية التحدّث في الأماكن العامّة. وكان يمكن مشاهدته خارج المنزل بين الصغار (من أولاده وأولاد الجيران) في لعبة القفز عن الحبل، أو اللعب بالكرة أو ركوب الدرّاجة.

في عام 1953 كان من المقرّر أن يقوم أيادي أمر الله سيغفريد شوبفلوخر بتمثيل كندا في مؤتمر نيودلهي البيقارّي، وهو أحد المؤتمرات الأربعة المخطّط لها إطلاق خطّة العشر سنوات للجهاد الروحاني. ولكن للأسف، فقد وافته المنيّة قبل المؤتمر. فعرض جون الذهاب بدلاً عنه. قبل حضرة شوقي أفندي عرضه مع التقدير الحبّي.

في المؤتمر المنعقد في تشرين الأوّل، تحدّث جون في جلسة عامّة حول موضوع «نحو اتّحاد عالمي»، وقدّم تأبينًا في اجتماع تذكّري تكريمًا لأيادي أمر الله وليام س. ماكسويل. وقد تحمّس للقيام على الهجرة. فأرسل برقية إلى أودري لتقابله في نيويورك، وعرض جون على حضرة شوقي أفندي خدماتهما للهجرة. في غضون أربعة أيّام بعد مؤتمر نيودلهي، كان جون قد بعث برسالة إلى المركز العالمي قائلاً إنّه وأودري مستعدّان للهجرة إلى أيّ مكان في العالم. بعد ذلك بوقت قصير أجاب حضرة شوقي أفندي برقيًا: ‘بتشوانالاند مفضّلة جدًّا. مع محبّتي، شوقي.’(16)

وصلت البرقية إلى مكتب جون. ولمّا لم يكن هو ولا أودري يعرفان موقع هجرتهما الجديد، فقد رجعت أودري إلى موسوعة لتجد أنّ بتشوانالاند (بوتسوانا الآن وسابقًا بوفوثاتسوانا) تقع إلى الشمال من جنوب أفريقيا وإلى الجنوب من روديسيا الجنوبية. وهي بلد غير ساحلي تعادل مساحتها مساحة فرنسا وتضمّ سبع قبائل. تتألّف معظم البلاد من صحراء كالاهاري، وليس فيها طرق معبّدة، كانت البلاد محمية بريطانية وعاصمتها تقع خارج أراضيها على مسافة (14) ميلاً من حدودها الجنوبية، في جنوب أفريقيا. هناك، في مدينة مايفكنغ، استقرّ أربعة أفراد من عائلة روبارتس للسنوات الثلاث التالية. وبسبب فتحهم بتشوانالاند روحانيًا لأمر الله أطلقت تسمية فارس حضرة بهاءالله على كلّ من جون وأودري وباتريك. أمّا نينا، كونها لا تزال طفلة في الثالثة عشر من عمرها، فلم تنل هذا الشرف.

لقد دُهش العاملون في «وكالة شارع الملك» فرع تورونتو من شركة «حياة لندن» جرّاء قرار جون وأودري بتخلّيه عن مهنة ناجحة للغاية وحياة مريحة للذهاب كمهاجرين بدعم ذاتي مع طفليهما الأصغر سنًّا إلى مثل هذه المنطقة النائية غير الجذّابة من أجزاء العالم. وكانت الوكالة قد أصبحت تحت إشراف جون وعلى مدى السنوات الخمس عشرة الماضية معروفة على نطاق واسع في جميع أنحاء كندا وأجزاء من الولايات المتّحدة. وعلى الرغم من كونها وكالة صغيرة، تضمّ تسعة وكلاء فقط، فمن الأرجح جدًّا أن تكون إنتاجية هؤلاء الرجال هي الأعلى في البلاد. علاوة على ذلك، كان كلّ وكيل ينتمي إلى منظّمة «مائدة المليون دولار المستديرة» المرموقة. كانت وكالة «تورنتو كينغ» أنموذجًا متميّزًا ومتماسكة جدًّا، ولها العديد من الأنشطة المرتبطة بالوكلاء وزوجاتهم. كان بعض أولئك الرجال قد أصبحوا بهائيين، ولدى استضافتهم اجتماعًا وداعيًا خاصًّا لجون، قدّموا له ساعة يد أوميغا نُقش عليها التالي:

إلى جون أ. روبارتس C.L.U.

الذي يأتي دينه في المرتبة الأولى

من رجال «تورونتو كينغ»

21 كانون الأوّل 1953(17)

بعد ما يقرب من أربعين سنة، في ختام حياة جون الدنيوية، كان أولئك الرجال لا يزالون على اتّصال مع مديرهم الذي يجلّونه للغاية.

في يوم عيد الميلاد من عام 1953 كانت عائلة روبارتس في اجتماع وداعي جمعهم مع شقيقة جون وزوجها في بورت هوب، أونتاريو، وكانت والدة جون قد وافتها المنيّة في شهر تمّوز. كانت الحجوزات قد أجريت للإبحار على متن أوّل سفينة متّجهة إلى جنوب أفريقيا. تبيّن أنّها كانت سفينة شحن نرويجية صغيرة تدعى ثورشال. بعد عشاء عيد الميلاد، انطلق جون وباتريك ونينا وأودري إلى مونترِيال في المرحلة الأولى من مغامرتهم الأفريقية. أمّا أولدهام وجيرالد فقد انطلقا في الاتّجاه المعاكس، إلى تورونتو. قام أولدهام لاحقًا بالهجرة إلى نيجيريا، في حين هاجر جيرالد لاحقًا إلى موقع داخل كندا. كان ذلك الرحيل يمثّل آخر مناسبة يجتمع فيها أولئك الستّة من عائلة روبارتس معًا كأسرة لمدّة ستّ وثلاثين سنة ونصف.

بعد رحلة عبر المحيط دامت ثلاثة أسابيع على متن السفينة ثورشال، وصل أفراد عائلة روبارتس الأربعة إلى كيب تاون. اتّصل بجون ممثلون عن شركتين من شركات التأمين على الحياة في جنوب أفريقيا مع عروض للعمل حتى قبل أن يتمكّن هو وأسرته من مغادرة السفينة!

كم كان فرحهم عظيمًا حيال موافقة حضرة وليّ أمر الله على انتقالهم إلى بتشوانالاند، بحيث وصلت عائلة روبارتس إلى مايفكنغ بعد(16) أسبوعًا فقط من تلقّي برقية حضرة شوقي أفندي. وما كادوا يستقرّون في منزلهم في مايفكنغ حتى بدأوا في استقبال الزائرين، من بينهم بيل، مارغريت وبيلي سيرز، الذين مكثوا هناك عدّة أيّام. في السنوات التالية كان لبيل وجون أن يخدما معًا كأعضاء في هيئة المعاونين، وأعضاء في المحفل الروحاني الإقليمي وأيادي أمر الله.

في عام 1954 عُيّن جون في هيئة المعاونين المشكّلة حديثًا من قبل أيادي أمر الله موسى بناني. كان هناك تسعة أعضاء في تلك الهيئة ممّن خدموا في القارّة الأفريقية.

 

في العام نفسه جذب جون طبيبًا بارزًا إلى أمر الله، الدكتور مُديري موليما الذي كان أوّل بهائي في بوتشوانالاند. ولمّا كانت السلطات تداهم مكتبه ومنزله في بعض الأحيان بسبب مشاركته سابقًا في حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» المحظور آنذاك، لذلك لم يسجّل الدكتور موليما عضويته في أمر الله. كما كان بعض أصدقائه الأفارقة الذين عرّفهم إلى جون وأودري تحت المراقبة أيضًا. عندما طلب الدكتور موليما أن يشارك في جلسات «فايرسايد» أسبوعية، قامت أودري بصنع ستائر تطلّبت مائة وخمسة وعشرين ياردة من القماش لتغطية النوافذ حتى لا يُرى مَن في الداخل.

يسلّط مجلّد «العالم البهائي» للأعوام 1954–1963 الضوء على الصعوبات التي واجهها المهاجرون الأوائل إلى جنوب القارّة الأفريقية:

كان المهاجرون الذين فتحوا هذه المنطقة لأمر الله، كما شهد حضرة وليّ أمر الله، ‘مجموعة من المهاجرين كلّ فرد فيه متميّز ومخلص’ وأكثر من معظم الآخرين، كانوا بحاجة إلى الصفات البطولية والحكمة للتعامل مع المشاكل المتعدّدة التي واجهتهم في هذا الجزء من العالم. سوف تُروى قصّتهم ذات يوم بِحُرّية، وستعتزّ بأعمالهم المجيدة أجيالُ المستقبل.(18)

زوّد الدكتور موليما عائلة روبارتس برسائل تُقدّمهم إلى ستّة من رؤساء القبائل في المحمية. ونتيجة لهذه اللفتة الكريمة، جرى استقبال عائلة روبارتس من قبل الرؤساء الذين طلبوا منهم أن يأتوا ثانية. فمن خلال تقديم الدكتور موليما أصدقاءه وأفرادًا محدّدين من بعض العائلات إلى جون وأودري ونينا، فتح بوتشوانالاند أمام الدين البهائي.

بعد مرور سنة على وصولهم إلى مايفكنغ تلقّى أفراد عائلة روبارتس الأربعة نعمة القيام بالحجّ لمدّة تسعة أيّام. في أوّل أمسية لهم في حيفا دخلوا غرفة الطعام في دار ضيافة الحجّاج والتقوا حضرة شوقي أفندي. قام حضرته بترتيب جلوسهم هكذا: أودري على رأس المائدة وجون مقابل حضرة شوقي أفندي، حيث أمكنه النظر مباشرة إلى وجه حضرة وليّ أمر الله. ولمّا كانت روحية خانم تجلس إلى يمين حضرة شوقي أفندي، فقد شغلوا هذه المقاعد نفسها لمدّة سبعة أيّام، وهكذا حصل جون على فرصة رائعة لرؤية كليهما.

عندما سُئل جون بعد سنوات في فيلم بعنوان «التطلّع إلى الوراء»، عن الانطباع الذي أحدثه حضرة وليّ أمر الله فيه، أجاب: ‘لقد ترك انطباعًا في نفسي مَلَك عليّ قلبي. لقد أحببته للغاية.’(19) وكثيرًا ما قال جون أنّه لكي تعرف حضرة شوقي أفندي، يتطلّب الأمر أن تجعله سعيدًا، وأن تخدمه بأيّ وسيلة ممكنة، وأن تسارع بكلّ إخلاص إلى تلبية رغباته. كان توقير جون لحضرة وليّ أمر الله يحرّك مشاعر القلب، وخدمته لحضرته قد وضع معيارًا يُحتذى. قُدّر لجون أن ينهض لاحقًا لتنفيذ توجيهات حضرات أيادي أمر الله وبيت العدل الأعظم بمثل ذلك الولاء والحماس.

سُمح لجون بتدوين ملاحظات عن كلمات حضرة شوقي أفندي خلال الحجّ، وهو ما فعله بسرعة جيّدة. كشف حضرة شوقي أفندي النقاب عن مستقبل كندا، وأوصى بضرورة الدعاء، وأعطى تعليماته لعائلة روبارتس بخصوص عملهم في أفريقيا، وتحدّث عن مراحل تطوّر أمر الله، وحذّر من قيام البهائيين بأعمال تلطّخ سمعة أمر الله، وأطلعهم على مخطّط لمبنى محفظة الآثار الجديد، وأشار إلى خصائص البريطانيين، وكشف عن معاناة الولايات المتّحدة في المستقبل، وأطلع جون وأودري على لفافة تشمل أسماء فرسان حضرة بهاءالله، وأوضح الموقف البهائي من النظام الشيوعي، وأسهب في الحديث عن العصر التكويني والعصر الذهبي لأمر الله، وقارن بين النظام الإداري والنظام العالمي، وشاركهم بخططه لمواقع مباني القوس [على جبل الكرمل]، ومواقع الأبنية الإدارية في المستقبل بما فيها مقرّ بيت العدل الأعظم.

طلب حضرة شوقي أفندي من جون عدم قطع روابطه بكندا وقال إنّه يأمل أن يكون عضوًا في المحفل الروحاني الإقليمي الذي سيشكّل في جنوب قارّة أفريقيا في عام 1956. أدرك جون في تلك اللحظة أنّه سيكون عضوًا في ذلك المحفل! ربّما ليس من المستغرب أن قال حضرة شوقي أفندي لأودري: ‘عليكِ أن تنافسيه روحانيًا.’(20) وأخيرًا، قال حضرة شوقي أفندي بأنّه يريد:

‘… عددًا كبيرًا من الأفارقة السود البهائيين في تلك القارّة. قال إنّنا هناك من أجل تبليغ السود، ومعاشرة الِبيض على قدر الحاجة فقط. سوف نبلّغ الِبيض في وقت آخر. وقال حضرته بأنّه ينبغي اختيار شخص أفريقي واحد [سواء كان رجلاً أم امرأة]، وتبليغه بشكل جيّد وتشجيعه على تبليغ شعبه أو شعبها. إنّ مبلّغًا أفريقيًا جيّدًا واحدًا سيكون أكثر فعالية من مائة مهاجر. يجب أن نبقى في الأطراف ونشجّع الأفارقة؛ ونحرص على ألاّ يفقدوا الثقة فينا مطلقًا، لأنّه من الصعب جدًّا استعادة الثقة المفقودة، هذا إن لم يكن مستحيلاً. وقال إنّ الِبيض في الماضي كانوا يذهبون ليأخذوا شيئًا من أفريقيا، أمّا نحن فلدينا شيء نعطيه.’(21)

في عام 1956 جرى انتخاب ثلاثة محافل روحانية إقليمية في أفريقيا للمرّة الأولى. وقد انتُخب جون عضوًا في المحفل الروحاني الإقليمي للبهائيين في جنوب وغرب أفريقيا، وكان مقرّه في جوهانسبرغ. في شباط من العام التالي، وبعد تشكيل المحفل الروحاني الأوّل في مايفكنغ (كان أعضاء المحفل من الأفارقة السود؛ حيث أوعز حضرة وليّ أمر الله إلى البهائيين بتشكيل محافل كافّة أعضائها من السود لتجنّب إثارة الشكوك لدى السلطات)، انتقلت عائلة روبارتس إلى روديسيا الجنوبية (زمبابوي حاليًا)، ومن هناك واصلت نشاطها في بوتشوانالاند. ثم، في صبيحة يوم إطلاق مركبة سبوتنيك الأولى إلى الفضاء في 5 تشرين الأوّل عام 1957، تلقّت عائلة روبارتس البرقية التالية:

نقدّم التهنئة الحبّية لرفع مرتبتك إلى أيادي أمر الله. نرفع الدعاء الحارّ لدوام شمولك بالهداية الإلهية.(22)

اعتقد جون أنّ البرقية كانت موجّهة إلى أودري. فحملها لها وقال صائحًا: ‘أودري، إنّك أيادي أمر الله!’ فردّت على الفور: ‘بالتأكيد ليس أنا!’(23) بعد ساعتين وصلت برقية من أيادي أمر الله السيّد بناني يطلب فيها من جون الحضور إلى كمبالا للاجتماع الأوّل للأيادي المقيمين في أفريقيا في 15 تشرين الأوّل، وهكذا وضحت المسألة. كان أيادي أمر الله المتواجدون في أفريقيا في ذلك الوقت هم: موسى بناني، إينوك أولنغا، وليام سيرز وجون روبارتس.

في عمله كأيادي أمر الله، واصل جون السفر على نطاق عالمي. في هذه المناسبات قامت أودري بواجب الهجرة لوحدها رغم أعمال الشغب في بعض الأحيان وغيرها من المشاكل في منطقتهم. وكثيرًا ما كانت تقطع مئات الأميال لوحدها على الطرق الوعرة في روديسيا الجنوبية وبوتشوانالاند من أجل أن تجمع الناس معًا لعقد اجتماعات رغم الأخطار الكثيرة. مع ذلك شعرت أنّها لم تكن وحيدة في الواقع لأنّ حضرة شوقي أفندي كان يعرف أماكن وجود المهاجرين ويدعو دائمًا لأجلهم. علاوة على ذلك، شعرت أنّها نجت من مرض هدّد حياتها في عام 1941 من أجل هدفٍ ما: ‘لقد منحني شعورًا غير عادي بالأمان وإدراكًا بأنّنا جميعًا سوف نتلقّى العون الموعود.’(24)

عندما صعد حضرة وليّ أمر الله إلى الملكوت الأبهى في تشرين الثاني 1957 شعر جون وأودري بأنّهما قد دُمِّرا. لم يتمكّن جون من الوصول الى لندن في الوقت المناسب لحضور الجنازة، ولكنّه كان حاضرًا في الاجتماع الرسمي التاريخي الأوّل (والاجتماعات اللاحقة) لأيادي أمر الله في حيفا. أثناء غيابه انطلقت أودري في رحلة برّية إلى سالزبوري، على بعد (300) ميلاً، حيث تقرّر عقد اجتماع تذكّري لحضرة وليّ أمر الله. لم تجد أحدًا تتوجّه إليه في حزنها. وفي طريقها إلى سالزبوري، ظلّت تشغّل ماسحات الزجاج الأمامي للسيّارة كلّما وجدت صعوبة في رؤية الطريق بسبب دموعها.

خلال السنوات التاريخية ولكن المؤلمة لولاية الأمناء، غالبًا ما كان جون يشارك إينوك أولنغا في غرفة النوم أثناء الاجتماعات الرسمية السنوية. وكان كلاهما يضحكان أحيانًا لفترة طويلة من الليل، ويُبقون الأيادي الآخرين مستيقظين. كان إينوك يبهج زملاءه الأيادي كلّما سقط أرضًا بالمعنى الحرفي، من الضحك عندما يدغدغه أحد. وكان جون يحتفظ في ذاكرته بقصص مضحكة خلال العام لأجل إينوك فقط. كانت الفكاهة تجلب الارتياح لأيادي أمر الله.

مثال على تلقائية روح الدعابة لدى جون حدث عندما كان حاضرًا في مأدبة وإلى يساره جلست عضو جديد في هيئة المعاونين وجلس إلى يسارها وليام سيرز. كانت تشعر بارتباك شديد إذ وجدت نفسها تجلس بين اثنين من أيادي أمر الله، فهمست بانفعال إلى جون بأنّها تخشى أن تدلق صحن عشائها. فأجابها جون على الفور: ‘ادلقيه إلى اليسار!’(25)

بين عامَي 1958 و 1966 شارك جون في ثلاثة مؤتمرات بيقارّية بهائية، وقام بزيارتين مطوّلتين إلى مراكز بهائية في كندا، وسافر على نطاق واسع في جميع أنحاء القارّة الأفريقية. رافقت أودري زوجها في أسفاره الأفريقية والمناطق الناطقة باللغة الفرنسية، حيث ترجمت له. خاطب جون المؤتمر البهائي العالمي في لندن حول موضوع «واجبنا المقدس، تحدّينا المجيد». كما زار وشجّع البهائيين المسجونين في المغرب بسبب معتقدهم. مثّل بيت العدل الأعظم في مؤتمرات الوكلاء الافتتاحية لانتخاب المحافل الروحانية الإقليمية في غرب أفريقيا وغرب وسط أفريقيا. في الفترة ما بين عامَي 1961–1966 كان أمينًا للصندوق القارّي لأفريقيا.

بعد رحلته الكندية الثانية، التي دامت ما يقرب من سبعة أشهر في عام 1960، كتب جون رسالة إلى البهائيين في كندا من منزله في روديسيا الجنوبية. شملت هذه الرسالة مقتطفات من خطابات كتبها الأحبّاء إليه بخصوص النتائج المذهلة التي حقّقوها بعد سماع صوته وهو يتحدّث عن أهمّية الدعاء وقوّته. وفيها سجّل جون قناعة أساسية لإيمانه: يمكن الحصول على الإلهام الإلهي والعون السماوي من خلال ‘تطوير قدر أكبر من الإخلاص والتكريس لله، وعزمٍ على القيام على خدمته’. كتب إنّنا نحقّق هذا ‘من خلال دعاء حبّي مكثّف، ومن خلال قراءة بعض التعاليم في الصباح والمساء، ومن خلال القيام على التبليغ.’(26) وعلاوة على ذلك، أكّد مرارًا وتكرارًا على ما للصلاة الكبرى المفروضة من تأثير وقوّة، وكذلك «لوح أحمد»، ودعاء «هل من مفرّج»، والمناجاة الخاصّة بالتبليغ، وذكر الاسم الأعظم «الله أبهى» (95) مرّة في اليوم. وقال إنّ العديد من الأفراد وجامعات الأحبّاء شهدوا نتائج خارقة عندما قرأوا هذه الصلوات والأدعية في كثير من الأحيان، وطلبوا من الله أن يهديهم في خدمات أعظم لأمر الله.

قال مؤكّدًا: ‘هناك شيء واحد، فحيثما يتواجد البهائيون هناك أشخاص ينتظرون، وعلى استعداد لتقبّل حضرة بهاءالله، ولمنحه محبّتهم وحياتهم. نحن محاطون بهؤلاء الطالبين المخلصين. سوف يرشدنا الله إليهم، أو يرشدهم إلينا، إذا نحن لجأنا إليه بذلك القدر الأكبر من التفاني والإخلاص.’(27)

في عام 1966 جرى تعيين جون للعمل في كندا حتى يتمكّن من خدمة أمريكا الشمالية كأيادي أمر الله. غادر أفراد عائلة روبارتس أفريقيا بعد أن أسّسوا محفلاً روحانيًا في بولاوايو وفتحوا العديد من المراكز لأمر الله خلال سنوات هجرتهم. ومنذ ذلك الوقت ظلّوا على اتّصال وثيق مع أفريقيا والعودة إليها لزيارة الأحبّاء وتشجيعهم.

في عام 1992، قامت أودري، وهي في سنّ الثامنة والثمانين، برحلة تبليغية لمدّة تسعة أسابيع في جنوب القارّة الأفريقية قبل أن تسافر إلى حيفا للاحتفال التاريخي بمرور مائة سنة على صعود حضرة بهاءالله. وبينما كانت في بوفوثاتسوانا لإلقاء كلمة في مؤتمر كبير في ماباثو (مايفكنغ)، خاطبها المحفل الروحاني المركزي باسم ‘الأم الحبيبة لبلادنا’. بعد أربع سنوات استذكرت السنين في أفريقيا قائلة: ‘لن أفهم أبدًا كيف يمكن لأيّ شخص أن لا يحبّ هؤلاء الناس الأعزّاء. كان أعظم شيء لديّ أن قضيتُ ثلاث عشرة سنة بينهم. كم اشتقت لرؤية الوجوه السوداء عندما [عدنا إلى كندا]’.(28) بحلول عام 1995 أثمر الأساس المتين الذي أقامه جون وأودري، في ما كان بتشوانالاند سابقًا، عن سبعة وستّين محفلاً روحانيًا محلّيًا، وواحد وثمانين مركزًا  وأكثر من سبعة آلاف بهائي.

تنقل رسالة اثنين من المؤمنين الأفارقة الأوائل شيئًا من التأثير الذي أحدثته عائلة روبارتس في المنطقة:

أتذكّر في خمسينيات القرن عندما جاء ذِكر الرسول بهاءالله أوّل مرّة في مايفكنغ على أرض بوتسوانا في منزل المرحوم الدكتور موليما من قِبلكما، أودري وجون. لم يُذكر ذلك بجرأة كما هو اليوم بل كان يُهمَس به لأسباب أمنيّة.

أتذكّر الوصول إلى منزلكما زاحفًا في الظلام حتى تقوما بتبليغي تعاليم حضرة بهاءالله. أتذكّر تلك اللحظات الروحانية التي استمتعنا بها – المحبّة الروحانية، ذلك التآلف ونحن نستمع لبشارات حضرة بهاءالله التي رويت لنا. كنّا قد فقدنا الأمل – كنتُ يائسًا جدًّا، ولم يكن لديّ مستقبل ولكنّ هجرتكما غيّرت مواقفنا تجاه الرجل الأبيض والإنسانية جمعاء. نحن اليوم شعب متوافق متوازن بسبب تعاليم حضرة بهاءالله.(29)

امتلك جون قدرة رائعة على التواصل. فلم يلهم جماهير مستمعيه بمحبّته للتعاليم من خلال القصص الرائعة فحسب، لكنّه كتب مباشرة من القلب، كما لو كان المتلقّي حاضرًا. كان قبل إعداد بعض رسائله يستشير أودري التي بمقدوره الاعتماد تمامًا على حصافتها وحكمتها ومعرفتها بالتعاليم.

في سنواته الأولى كثيرًا ما كان يُطلب من جون التحدّث في مؤتمرات التأمين على الحياة والكشّافة. ولمّا كان قادرًا على التركيز لفترات طويلة دون انقطاع، فقد تطوّر لديه ذكاء متوقّد أتاح له تحقيق إنجازات استثنائية. لم يكن من السهل تشويشه وصرف انتباهه، وقد عُرف عنه أنّه أملى في يوم واحد ما يصل إلى اثنتين وخمسين رسالة جميلة.

من منطلق مهنته كمدير مبيعات سابق، كان جون مولعًا بأن يقول للبهائيين إنّ ‘لدينا المُنتَج الأكثر صعوبة لتسويقه في العالم. ولكن لدينا ما لا يملكه أيّ «مندوب مبيعات» أو مُنتَج آخر: العون الموعود من الله!’(30) كان يشجّع الأحبّاء باستمرار لجذب التأييدات من خلال التبليغ. بهذه الطريقة، وكان يقول، سوف ينضمّ آخرون، حتى الساخطين. كما قال أيضًا إنّ العلاج الوحيد لكافّة عللنا هو التبليغ.

نصح جون إحدى جامعات الأحبّاء بالدعاء إلى الله من أجل الهداية بشأن ما يجب قوله لمواساة الناس وإراحتهم. وقال لهم بأن يدقّقوا في الوقت الذي يُقضى في اجتماعات المحفل الروحاني المحلّي وكيف يقضونه لإنّ كلّ عضو يقوم بالتضحية من أجل أن يحضرها. واقترح أن يجعلوا مجالس الضيافات التسع عشرية مناسبات سعيدة جدًّا بحيث لا يرغب أحد في أن يفوته حضورها. وأوصى بأن يعدّ البهائيون كلمات حول حياة حضرة بهاءالله لأنّ  من شأنها أن تزيد محبّتهم لحضرته، فتلهمهم وتعدّهم للتبليغ.

خلال ربع القرن الأخير من حياته استمرّ جون حتى سنّ متقدّمة بحمل بشارة ظهور حضرة بهاءالله حول العالم. فكان يواصل عمله وخدماته دون انقطاع أكان ذلك في تدشين ممتلكات بهائية، أو أثناء زيارة لأستراليزيا لمدّة ستّة أشهر، أو حضوره في المؤتمرات التبليغية العالمية، أو في مؤتمرات الوكلاء العالمية كلّ خمس سنوات في حيفا، أو في تمثيله بيت العدل الأعظم في المؤتمرات البهائية، أو في عقد الاجتماع الأوّل لهيئة المشاورين القارّية لمنطقة شمال شرق آسيا.

وهو في الثالثة والثمانين من عمره اختاره شعب تلينغيت (انظر الصفحة 189) من يوكون شيخًا فخريًا وأكرموه بتسميته «أسنان الذئب». وبالإضافة إلى ذلك خدم عضوًا في المحفل الروحاني المحلّي في راودون، كويبك تفاديًا لحلّه، – وهو محفل مسجّل رسميًا لدى السلطات. بعد سنتين قام بآخر رحلة عالمية له للتبليغ حيث زار إحدى عشرة مدينة في إيرلندا، بينما في عام 1990 كان لا بدّ من ثنيه عن المشاركة في مشروع تبليغ جوّال في الاتّحاد السوفييتي بسبب ضعف صحّته.

وفي استذكار أكثر الصفات المحبوبة فيه كتبت ابنته ما يلي:

من بين أكثر الصفات المحبوبة في جون حسّه السريع بالدعابة والفكاهة وإضحاك الآخرين. كان رائعًا في روايته للقصص. وكثيرًا ما روى قصصًا من واقع الحياة تتخلّلها اقتباسات ذات صلة من الكتب البهائية. نقلت هذه القصص رسالة روحانية قويّة يمكنها تحريك مستمعيه من الدموع أو الضحك غير الإرادي إلى تجديد التفاني والإخلاص لأمر الله، والإسراع للعمل، الهدف المقصود من تلك القصص. كانت دعواته لقيام المهاجرين، ونداءاته لدعم الصناديق الأمرية، ونصائحه لتلاوة الدعاء من القلب، و‘التخطيط لعملنا، والعمل في تنفيذ خططنا’، قد رفعت عددًا لا يُحصى من الأفراد والأسر وجامعات الأحبّاء إلى مستويات روحانية جديدة من الحياة اليومية والخدمة والسعادة.

كان يعمل بشكل مستمرّّ على دعوة البهائيين وحثّهم وتوجيههم للتواصل مع ذلك المصدر الكلّي للنور الذي هداه، والذي كان موجودًا دائمًا لإرشاده، وشاهده بوضوح يحيط بنا جميعًا بكلّ محبّة، وعلى استعداد للتوجّه الى مساعدتنا فورًا لو اتّخذنا الخطوة الأولى. لم يشكّ مطلقًا في قدرة الاحبّاء على تحقيق كلّ هدف. بدا جون وكأنّه يسير على طريق الروحانية بقدمين واقعيّتين وبصر نافذ. بدا كما لو امتدّت رؤيته وراء هذا العالم المادّي إلى العالم الروحاني، لتمكّنه من النظر مباشرة إلى بواطن الأمور، ومن الإجابة عن سؤال لم يُسأل، ومن التلبية بسرعة وبشكل مناسب لحاجة ملحّة لم يبح بها صاحبها.(31)

عندما رفّت روح جون أولدهام روبارتس الوضّاءة من هذا العالم في يوم 18 حزيران عام 1991، تذكّره أحبّاؤه المذهولون حول العالم في مئات من الإشادات، في تأمّلات هادئة، وفي تجديد لتفانيهم وتكريسهم للخدمة. حضر نحو أربعمائة شخص صلاة جنازته الجميلة، حيث استطاعوا، في ذلك اليوم، وعلى مقربة من الجثمان الراقد الذي احتضن روح جون قرابة تسعين سنة، أن يقدّموا آيات التقدير والوفاء. وبينما كان جثمانه يُخلد للراحة في المقبرة المسكونية في راودون، كان يمكن لبعضهم التفكّر في الثبات والجَلَد الذي اتّسم به جهاده طوال حياته في كرم الله، وآخرين في سموّ مرتبته وأعماله وعبوديّته.

ربّما كان إرث جون أولدهام روبارتس لأولئك الذين سيسيرون على خطى هذا العزيز الغالي حامل اللواء، هو أنّ الاستقامة والثبات يولّدان التميّز:

كلّ الفضائل الإنسانية تتلخّص في كلمة واحدة هي «الاستقامة»، لو أنّنا عملنا وفق أحكامها فقط. فهي التي تجذب إلينا النعم والعطايا الإلهية كما المغناطيس، ولو أنّنا قمنا فقط بما تنطوي عليه هذه الكلمة من واجبات والتزامات.


الحمد لله، فإنّ منزل القلب يُضاء بنور الثبات الذي لا يتزعزع، ومسكن الروح يتزيّن بطراز الإخلاص.

الاستقامة كنز يجعل المرء غنيًا عن العالم وما فيه. الاستقامة هي متعة خاصّة تقودنا نحن البشر الفانين إلى ذرى سامكة ورُقيّ عظيم والفوز بالكمالات السماوية. الحمد كلّه لساحة المحبوب المقدّسة إذ وهب هذا الفضل الأروع لعباده المخلصين، وهذه المنحة الأفضل لأحبّائه المختارين.(32)

عندما توفّي جون أرسل بيت العدل الأعظم رسالة إلى البهائيين في العالم:

بقلوب حزينة نعلن عن وفاة الوفي المخلص المحبوب المروّج الكبير لأمر الله، فارس حضرة بهاءالله، أيادي أمر الله جون روبارتس. كانت أنشطته التبليغية والإدارية المميّزة في ميدان الهجرة سواء في موطنه كندا أو في أفريقيا وأوروبا، خلال فترة ولاية حضرة وليّ أمر الله المحبوب وبعد ذلك على نطاق العالم من خلال أسفاره العالمية، مصدرًا كبيرًا للإلهام لعدد لا يحصى من أصدقائه في كثير من البلدان. كان اعتماده وتركيزه على الصلاة والدعاء في جميع الجهود لتعزيز أمر الله وخدماته المستمرّّة في درب محبّة الجمال المبارك يتّسمان بروح الإيقان والمحوية الذاتية والحماس التي شكّلت معيارًا للخدمة أثرى سجلاّت أمر الله. لقد حصل بالتأكيد على ثواب جزيل في الملكوت الأبهى. نرفع الدعاء في العتبات المقدّسة لتقدّم روحه المتألّقة. ننصح بعقد جلسات تذكّرية لائقة تكريمًا لذكراه في جميع أنحاء العالم بما في ذلك جميع مشارق الأذكار. نقدّم تعاطفنا الودّي البالغ لأودري العزيزة، وأولاده الأحبّاء وعائلاتهم. (33)

1.
حضرة عبدالبهاء، من كتاب «ترويج السلام العالمي»، الصفحتين 215–216.
2.
Whitehead, Some Bahá’ís To Remember, pp. 137–8.
3.
Bahá’í World, vol. 8, p. 658.
4.
Whitehead, Some Bahá’ís To Remember, p. 138.
5.
Letter to author from Audrey Robarts.
6.
van den Hoonaard, Origins of the Bahá’í Community of Canada, pp. 302–5.
7.
Letter to author from Audrey Robarts.
8.
Shoghi Effendi, Advent of Divine Justice, p. 46.
9.
Bahá’í World, vol. 20, p. 402.
10.
Robarts, Audrey Robarts Speaking about John A. Robarts.
11.
Tinnion, John A. Robarts Memorial Article, p. 7.
12.
Shoghi Effendi, This Decisive Hour, p. 113.
13.
Shoghi Effendi, Messages to Canada, p. 104.
14.
Tinnion, John A. Robarts Memorial Article, p. 15.
15.
المصدر السابق، الصفحة 43.
16.
Bahá’í World, vol. 20, p. 804.
17.
Tinnion, John A. Robarts Memorial Article, p. 30.
18.
Bahá’í World, vol. 8, p. 289.
19.
Vision of Shoghi Effendi, p. 171.
20.
المصدر السابق، الصفحة 168.
21.
المصدر السابق.
22.
المصدر السابق، الصفحة 176.
23.
المصدر السابق.
24.
المصدر السابق، الصفحة 167.
25.
Tinnion, John A. Robarts Memorial Article, p. 11.
26.
Robarts, Letter to Bahá’ís.
27.
المصدر السابق.
28.
Robarts, Audrey Robarts Speaking about John A. Robarts.
29.
Tinnion, John A. Robarts Memorial Article, p. 52.
30.
Robarts, Letter to Bahá’ís.
31.
Bahá’í World, vol. 20, p. 803.
32.
Bahíyyih Khanum, The Greatest Holy Leaf, p. 148.
33.
Bahá’í World, vol. 20, p. 809.

1911 – 1992 وليام سيرز

Hand of the Cause of God William Sears (1911-1992)

وُلد وليام برنارد باتريك مايكل تيرينس سيرز السابع لوالدين كاثوليكيين في دولوث بولاية مينيسوتا في 28 آذار 1911. هناك، في يوم 20 أيلول 1912، وقد بلغ ثمانية عشر شهرًا تقريبًا، بدأ حلمه الأوّل في سلسلة متوالية من الأحلام رأى فيها هيكلاً جميلاً أبيض جلب سلامًا وبهجة لا يوصفان. وإذ لم يفهم ما ظهر له، وصف رؤاه غير العادية لأمّه بلغته الطفولية. ‘رجل الضوء دعاني بطرس. قال لي لا تمش على خطاهم.’ في مناسبة أخرى أفاد إنّ ‘الشخص المضيء الأبيض’ ‘… أشار لي بإصبعه وقال: “أنا في انتظارك. ابحث عنّي. كن مثل بطرس. اصطد الأسماك.” ’(1)

منذ سنوات عمره الأولى، أبدى وليام سيرز اهتمامًا استثنائيًا بالله. كان يسأل والديه وجدّه والواعظ والسكّان المحلّيين وحتى رئيس البلدية أسئلة مثل: ‘هل عند الله زوجة؟… أين يوجد منزله؟… هل يمكنه التحدّث بلغة هنود تشيبيوا؟… هل يحبّ الجميع حقًّا؟… لماذا صنع البعوض؟’(2)

سرعان ما وجد الشابّ وليام في جدّه مرشدًا روحانيًا وحصل منه على إجابات مُرضية وتشجيعًا ودّيًا. كان الجدّ يقول لوليام الشابّ: ‘لا تتوقّف عن طرح الأسئلة والبحث عمّا في قلبك، وإلاّ لن يتحقّق حلمك أبدًا.’(3) وقال لحفيده: ‘إذا وجدت النور فلا تتعثّر أبدًا أو تدعه يذهب.’(4)

اتّبع وليام نصيحة جدّه وبدأ بدراسة الكتاب المقدّس. درس بتمعّن تاريخ أحداث الكتاب المقدّس، ونبوءات الأيّام الأخيرة، ومجيء ابن الإنسان في مجد الآب، وعودة روح الحقّ. قال لوالديه: ‘سأذهب يومًا ما إلى جميع أنحاء العالم، وأخبر الناس عن الله.’(5) لهذا السبب، كان يتوق إلى دراسة الكتاب المقدّس وفهم ما جاء فيه.

كلّما تمكّن وليام من قضاء بعض الوقت مع جدّه، تعلّم الكثير عن طرق الناس والعالم. كان الرجل العجوز يقول: عندما تتوجّه القلوب نحو الأشياء المادّية في هذا العالم تصبح مظلمة. ولكن عندما تتوجّه الى الله وتنسى الأشياء الأرضية، تصبح مشرقة وبرّاقة في داخلها. قال إنّ الله لا يسبّب المعاناة؛ بل الناس هم الذين يفعلون ذلك. إنّ رعاة العالم هم أكثر اهتمامًا بالصوف من اهتمامهم بالخراف. الله يعلم ما الذي سيحدث، لكنّه ليس السبب في حدوثه. يولد كلّ شخص ومعه إرادة حرّة وروح ويختار بين الحقّ والباطل. أخبر حفيده: ‘لو كنّا جميعًا مشغولين أكثر بقليل من محاولة معرفة ما يريده الله بدل ما نريد، فلن يكون هناك الكثير من المتاعب هنا في هذا العالم.’ و‘إذا قضى الناس الأكثر بقليل من الوقت في التفكّر في الجوهر الداخلي الذي يستمرّ إلى الأبد، وأقلّ بقليل في الشكل الخارجي الذي يتعفّن، فسوف يكونون أفضل حالاً عندما يولدون ثانية في العالم التالي.’(6)

كان وليام مستمعًا جيّدًا. ‘عندما أكبر سأسعى لمعرفة كلّ شيء عن كلّ شيء، ثم أذهب إلى جميع أنحاء العالم، وأتحدّث إلى الناس حتى لا يؤذي بعضهم بعضًا بعد الآن.’(7) كان وليام سيرز، الفتى الناضج قبل الأوان، قد فهم بالفعل قَدَره.

عندما «كبر» وليام فعلاً، التحق بجامعة ويسكونسن، ودرس فيها مدّة سنة واحدة. إلاّ أنّ واقع الظروف الاقتصادية القاسية الناتجة عن الكساد العظيم جعلته في النهاية يكافح من أجل لقمة العيش بدلاً من الدراسة لألما ماتر. فكتب إلى جدّه رسالة بدت غير مسرّة، أغضبت لهجتها الرجل العجوز، فأجابه: ‘لا أحد يحبّ ذلك الوليام سيرز الذي لديه وظيفة ومال وملابس جميلة. لا أحد. ولا حتى أمّك أو أبوك أو أصدقاؤك – ولا حتى جدّك العجوز. إنّهم يحبّون الصفات التي تمتلكها. اللطف، الوداعة، العدل، الشجاعة، الكرم – هذا هو ما يحبّونه. وبينما تنمو هذه الأشياء فيك، فإنّ محبّتهم تزداد. ولو فقدت هذه الصفات فإنّ محبّتهم تذوي وتموت. يمكن لأيّ شخص أن يكون سعيدًا عندما يكون كلّ شيء على ما يرام، لكنّ النُبل هو ما تحتاجه كي تكون سعيدًا عندما تصبح الأمور صعبة.’(8)

بتشجيع من جدّه للحدّ من قلقه هذا ومحاولة الكتابة عن الكساد العظيم، لاقى وليام بعض النجاح في السنوات القليلة التالية، فكتب ونشر تسع مسرحيّات كلّ واحدة من فصل واحد، حصلت اثنتان منها على جوائز. خلال هذه الفترة تزوّج. ورزق الزوجان بطفلين، بيل الصغير ومايكل. بعد ولادة طفلهما الثاني أصيبت زوجته بمرض خطير ودخلت المستشفى لبضعة أشهر، ثم وافتها المنيّة. وُضع ابنهما الرضيع في مصحّة، حيث أفاد الأطباء أنّ عليه البقاء هناك عدّة سنوات.

عمل وليام في كتاباته بين (12) و (18) ساعة يوميًا علّه يسكّن من وجع قلبه. ومع ذلك، وجد نفسه ‘يُدفع كلّ يوم أبعد فأبعد عن حلمه وأكثر فأكثر إلى داخل عالم لا يهتمّ سوى بأقلّ القليل بما يتعلّق بأمور الروح’.(9) لذا ليس من المستغرب، عندما أرسل إلى جدّه نسخة من جائزة حاز عليها اعترافًا بامتياز واحدة من مسرحيّاته، أجاب الرجل العجوز في برقية: ‘انتبه! قد تُسقِط المشعل.’(10)

ودون أيّ توقّع، عُرضت على وليام وظيفة مذيع في محطّة راديو [WOMT] في مانيتووك، ويسكونسن. جرى التعاقد معه كمحرّر أخبار ومذيع، وكان يقرأ لمدّة (15) دقيقة من الأخبار كلّ ساعة ولمدّة اثنتي عشرة ساعة يوميًا. لم تدم هذه الوظيفة طويلاً، ولكنّها وسمت بداية صعود نجم السيّد سيرز المهني. أعقب هذه الوظيفة في محطّة [WOMT] وظائف في محطّات [WHBL] في شيبويغان، [WKBB] في دوبوك، [KFBK] في سكرامنتو، [KUTA] في سولت ليك سيتي، [KPO] في سان فرانسيسكو، [WPEN] و[WCAU] في فيلادلفيا، و[WCAU-Television] و[CBS].

أثناء وظيفته في محطّة [WKBB]، التقى بيل سيرز بمارغريت رايمر. كانت قد أتت إلى محطّة الإذاعة لإجراء مقابلة، وقد فُتن بها بيل. ‘كان شعرها بلون القمح الناضج، عيناها زرقاوان، أسنانها بمنتهى الكمال، قوامها لافت للنظر، وابتسامتها تمحو تمامًا أفكارك النبيلة التي تدعوك إلى غضّ النظر.’(11) في موعد لقائهما الأوّل أخبرها عن حلمه، أما هي فأخبرته عن حضرة عبدالبهاء.

لم يرغب بيل حقًّا في مناقشة الدين، ولكنّه في تلك الليلة قَبِل كتابًا من مارغريت قالت إنّه سيفاجئه. كان الكتاب سجلاًّ لخطب حضرة عبدالبهاء العامّة في أمريكا بعنوان: «ترويج السلام العالمي». لدى عودته إلى منزله انتابت بيل رعشة من التعجّب والاندهاش عندما لاحظ تاريخ واحدة من خطب حضرة عبدالبهاء: 20 أيلول 1912 عندما تحدّث حضرته في مينيابوليس بولاية مينيسوتا، على بعد مسافة قصيرة من المكان الذي عاش فيه وليام وحلم عندما كان طفلاً. في حديثه، حثّ حضرته الناس على تحرّي الحقيقة بأنفسهم وليس بتتبّع خطى أولئك الذين يقبلون الأمور كالعميان.

جفل بيل من هذا الظهور، ولكنّه ظلّ غير مقتنع. ومع ذلك، ازدهرت علاقته مع مارغريت. وعندما عرض عليها الزواج وافقت.

في عام 1940، لم يكن قد مرّ على زواجهما فترة طويلة عندما حلم بيل مرّة أخرى بذلك الهيكل الرائع الذي شاهده في أحلام طفولته. في الحلم، كان يجلس على صخرة في حين جاء الهيكل المألوف مندفعًا نحوه على زلاّجتين، ولحيته البيضاء تتطاير مع النسيم. ‘تعال معي’، قال الشخص الغامض. ثم تسابقا معًا إلى أسفل الجبل ليصلا إلى نتوء واسع، وهناك وقفا ونظرا إلى وادٍ تتلألأ فيه أضواء مدينة. أصبح الجوّ دافئًا وتخلّله عطر الورود. وإذ أشار بإصبعه نحو المدينة، ابتسم الهيكل الرائع، وقال: ‘هذه هي المدينة’، ثم اختفى.(12)

قصّ بيل على مارغريت حلمه. ‘أين هي هذه المدينة؟’، سألته بعد أن روى الحلم. فأجاب بأنّه لم يرها من قبل ولكنّه لن يفشل في التعرّف عليها إذا رآها مرّة أخرى.(13)

عاشا فترة قصيرة في سكرامنتو، قبل أن يتوجّها الى سولت ليك سيتي حيث كانت مارغريت مهاجرة فيها هجرة داخلية. سرعان ما وجدت مارغريت «منزل الأحلام» الخاصّ بهما، وطلبت من الوكيل العقاري حجز المنزل لبضعة أيّام مع أنّها وزوجها لا يملكان مالاً لدفعه مقدّمًا [عربون]. وسواء كانت قد تصرّفت بناء على إيمان قويّ أم بموجب حدس قوي، فقد توفّر لديهما المال من مصدر غير متوقّع قبل ساعة واحدة من الموعد النهائي – وثيقة تأمين مكتملة. كان بيل متردّدًا، ولكنّه تعلّم بسرعة أن يحترم هذه السيّدة الرائعة عندما تُقرّر أنّها تريد شيئًا ما.

قبل عيد الميلاد مباشرة ذهبا في جولة بالسيّارة إلى مكان مرتفع عن المدينة، إلى سيتي كريك كانيون. في ذلك الوقت من السنة كانت المدينة مضاءة بأنوار جميلة في معارض عيد الميلاد في الهواء الطلق. بينما كانا عائدين إلى أسفل الوادي، في اتّجاه المدينة، أوقفا السيّارة عند لوكاوت بوينت. انتاب بيل هاجس عندما اقترب من نتوء هناك. وقد كتب في وقت لاحق: ‘صعدتُ إلى النتوء، وهناك امتدّت في الأسفل المدينة السحرية التي رأيتها بوضوح في حلمي.’ التفت إلى مارغريت، وقال: ‘هذه هي المدينة.’(14)

لدى العودة إلى منزلهما سألت مارغريت بيل العديد من الأسئلة عن حلمه. وقد وصف الشخص الملتحي الذي وقف معه عند النتوء ووعده بأنّ يشاهد المدينة. بعد فترة من الوقت، جاءت مارغريت بصورة لرجل ليشاهدها بيل. رأى بيل ‘اللحية البيضاء، ناعمة كالحرير، والرداء الأبيض الفضفاض، وابتسامة المحبّة المطلقة’، فتأثّر بعمق. ثم قال: ‘هذا هو الرجل.’ فقالت مارغريت: ‘هذا هو حضرة عبدالبهاء.’(15)

لم يكن هناك مفرّ، ولم يعد ممكنًا تجاهل بيل لهذه المصادفات الاستثنائية الرائعة في حياته. كان عازمًا في يوم من الأيّام أن يعرف كلّ شيء عن الله ويخبر أهل العالم عنه. هل بزغ فجر يوم الحساب؟ وفي شروعه بالبحث والتحقيق الجادّ في الدين البهائي، اقتنع بيل بأحقّية أمر الله من خلال قراءة كتاب «مطالع الأنوار». لقد عاد المسيح بالفعل، ولكن مثل «لصّ في الليل». كان ذلك لغزًا عمره مائة سنة لم يقدر أحد على حلّه.

وذات ليلة، خلا بيل بنفسه في غرفتهما وأخذه التفكّر في «كتاب البراهين» لمدّة ثلاث ساعات ثم ركع أمام الله داعيًا مناجيًا حتى الفجر. وقد كتب في وقت لاحق: ‘إنّ ما جرى خلال تلك الساعات هو بين الله وبيني.’ وعندما نهض في صباح اليوم التالي عانق مارغريت، وقال: ‘أنا بهائي.’ فأجابت: ‘كنت أعرف ذلك دائمًا.’(16)

خلال السنوات التي تلت ذلك مباشرة، أصبح السيّد سيرز شخصية إعلامية بارزة جدًّا. كان مدير إذاعة في «وكالة جيلهام للإعلان» في سولت ليك سيتي، ومدير إذاعة في «وكالة نوكس ريفز» في سان فرانسيسكو. وكان لمدّة سنتين الراوي لمسلسل متعدّد الحلقات يبثّ خلال النهار على شبكة [NBC]. فاز بـ «جائزة مجلّة دليل التلفاز» الأولى التي تُمنح لبرنامج رياضي تلفزيوني لمدّة 15 دقيقة يكون الأكثر شعبية في محطّة [WCAU]، وكان مُقدّمًا لبرنامج فكاهي ليلي لمدّة ساعتين في فيلادلفيا حصل على أعلى تقدير. كان برنامجه الرياضي، «عرض بيل سيرز»، يبثّ لمدّة 15 دقيقة خمسة أيّام في الأسبوع، وحصل على جائزة إيمي كأفضل سلسلة من البرامج الرياضية في عام 1951. ظهر مرّتين في «عرض إد سوليفان» بحلقات بعنوان «في المتنزّه»، وهي دراما كوميدية ابتكرها مع بول ريتس. كان الشخصية الإعلامية الوحيدة التي أدرجت ضمن عمل إدوارد ر. مورو «بهذا أنا أؤمن» لحياته المثالية. كان يحصل على راتب ضخم وفي طريقه ليصبح واحدًا من عمالقة الإعلام في تلك الحقبة. لكنّه تخلّى عن كلّ شيء ليهاجر إلى أفريقيا.

في نحو أربعين صفحة من كتابه «جميع الأعلام خفّاقة»، أوضح السيّد سيرز السبب فكتب: ‘يمهّد المهاجرون البهائيون الطريق حتى يحصل كلّ إنسان على وجه الأرض، وفي كلّ جزء من هذا الكوكب، على فرصة للدخول في… ملكوت الله على الأرض…’(17)

وصلت عائلة سيرز إلى جنوب أفريقيا عام 1953، في بداية مشروع العشر سنوات للجهاد الروحاني، وذلك استجابة لنداء حضرة وليّ أمر الله من أجل مهاجرين، وبدأ ما وصفه بيل فيما بعد بالسنوات الأكثر إثارة وسعادة من حياتهما البهائية في الهجرة. لم تتمكّن حمّى القراد، ولا كسور في الأضلاع، ولا انسداد الشريان التاجي، ولا الإنفلونزا الآسيوية، ولا الملاريا، ولا التهاب الكبد، ولا أفاعي الكوبرا القاتلة من أن تحدّ من حماسه. بعد استقرارهما في مزرعة على بعد 25 كيلومترًا خارج جوهانسبرغ، قاما بتربية طيور الطاووس وزراعة مجموعة كبيرة من الخضروات وأشجار الفاكهة. من حصادهما الوافر أعدّا الطعام والكعك المخبوز. تزامن «يوم الخبز» غالبًا مع صفوف التعمّق [في الدين] وصفوف الدراسة وجلسات «الفايرسايد»، ليجذب الناس زرافات ووحدانا من المجتمعات المجاورة. ووفقًا لبيل، أدارت مارغريت منزلاً مفتوحًا بشكل دائم في مزرعتهما.

بدأت المواهب الإبداعية لدى بيل تظهر دلائلها مرّة أخرى. فقد أطلق برنامجًا إذاعيًا بعنوان «ذاك الرجل سيرز»، والذي نال شعبية واسعة بحيث كان يُسمع من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، ومن كيب تاون في جنوب أفريقيا إلى لورنسو ماركيز (مابوتو) في موزامبيق.

في نيسان عام 1954 قام وليام سيرز بأوّل حجّ إلى الأرض الأقدس. كان أعمق أشواقه ملاقاة حضرة وليّ أمر الله، ولكنّ قلبه كان يملأه الخوف. كان أيادي أمر الله أوغو جياكري قد أخبره في روما عن شعوره برعشات تنتابه في أسفل عموده الفقري في كلّ مرّة اقترب فيها من الباب المؤدّي إلى غرفة الطعام في دار ضيافة الحجّاج، مثل طفل صغير ضُبط وآثار المربّى على وجهه. وذكر بيل في وقت لاحق أنّ الدكتور جياكري لم يخبره أنّ الرعشات كانت باردة وكان هناك الكثير من المربّى!

وإذ ملأته الرهبة وهو يترقّب ملاقاة حضرة وليّ أمر الله، شعر بهواجس تقصيره إلى جانب أشواقه لإظهار إخلاصه. في ليلة بيل الأولى كان حضرة وليّ أمر الله غائبًا عن حيفا وقضى ليلته في البهجة. عندما تجمّع الحجّاج في دار ضيافة الحجّاج لتناول العشاء في الليلة الثانية، أحسّ بيل بأنّه مكشوف بكلّ ما فيه من عدم الكفاءة بينما تقدّم منه حضرة شوقي أفندي، وضمّه بذراعيه وعانقه. شعر بيل أنّ حنجرته ضاقت وعينيه قد غشيهما ضباب.

كتب في وقت لاحق: ‘كنت أكسب عيشي بالكلمات. ولكن عندما سألني حضرة وليّ أمر الله عن رحلتي… لم أتمكّن من التفكير بأيّ شيء أقوله في محضره. كانت كلماتي ضعيفة، خرقاء ومتردّدة. بدا وكأنّ لسانًا طلقًا قد أصبح خائفًا من محاولة قول شيء ظريف أو ذكي.’(18) سجّل وليام سيرز للأجيال القادمة وقائع ذلك الاجتماع الأوّل الذي لا يُنسى:

شعرت فقط بسعادة فائقة. راقبت حضرة وليّ أمر الله باهتمام شديد وإخلاص متعاظم لامحدود. كان ذلك أقصى ما يمكن أن يصله المرء إلى المصدر المباشر لقوّة الله وجلاله وعدله ورحمته ومحبّته في يومنا هذا. شعرت بهذا كلّه يتدفّق من حضرة وليّ أمر الله…

شيء واحد فقط يمكن أن يترك انطباعًا في نفس حضرة وليّ أمر الله هذا ألا وهو خدمة أمر الله. فلا شيء يمكن أن يؤثّر في حكمه على الأمور؛ لا الثروة، ولا الوظيفة، ولا النفوذ، ولا الصداقة… 

هناك شيء واحد بدا واضحًا لي في الحال. كانت حياتي في تغيُّر. مفهومي لأمر الله، التبليغ، الخدمة، لن يكون أيّ منها مثلما كان عليه من قبل…

يدعوك حضرة وليّ أمر الله إلى مستوى أعلى من الخدمة. يرفعك إلى ذرى من الحبور لا حدود لها، ثم ينزل بك بلطف إلى الأسفل. فبعد أن يكشف لك عن الكنز يطالبك بالدفع، وهو خدمة أمر الله… لا يسأل عن مشاريع كبيرة خُطط لها، بل عن مشاريع صغيرة أُكملت. لا يهمّه ما تنوي القيام به، بل بما حقّقته.(19)

وصف وليام سيرز حضرة وليّ أمر الله بأنّه قصير في قامته، ذو شعر داكن أشيب في الجانبين، وبشرة متوسّطة إلى داكنة اللون، وعيون داكنة يقلّ سوادها كلّما دبّت فيه الحيوية والنشاط، وكأنّها تشتعل بنار داخلية. كانت لحضرة شوقي أفندي يدان صغيرتان نحيلتان معبّرتان. كان حليق الوجه وله شارب داكن وذو طبيعة نشطة فاعلة، كما كان قويًا ثابتًا لا يعرف الاستسلام.

ولمّا كان بيل نفسه مهاجرًا، فقد تذكّر بطبيعة الحال ما كان حضرة شوقي أفندي يقوله بخصوص الهجرة:

قال حضرة وليّ أمر الله إنّ الأحبّاء يشعرون بأنّه من الصعب عليهم مغادرة منازلهم ليهاجروا، وحتى لينتقلوا إلى أهداف داخل بلدانهم. فإنّهم لا يدركون أنّه لا يطلب منهم التضحية، بل يحميهم من أنفسهم. إنّه لا يحميهم فقط من الكارثة التي تهرع نحوهم ظاهريًا، بل يحميهم من الكارثة التي تهرع نحوهم داخليًا.(20)

بعد خمسة أيّام على وصول السيّد سيرز للحجّ، في 1 نيسان 1954، أرسل حضرة وليّ أمر الله برقيّته التاريخية التي توجّه أيادي أمر الله لتعيين هيئات المعاونين التي سيقوم أعضاؤها بمساعدتهم في عملهم لنشر أمر الله وحمايته.(21) لا شكّ أنّ اللحظات الأخيرة لافتراقه عن محبوبه حضرة وليّ أمر الله قد آلمت قلب وليام:

اقترب حضرة وليّ أمر الله من رأس المائدة ليمسك بيدي في لحظة الوداع. تشبّثت به لأستمدّ منه الشجاعة. قال إنّه يدعو من أجل نجاح العمل في جنوب أفريقيا. ثم عانقني! قبّلني على وجنتَيْ. شددّته إلى قلبي. ابتسم لي بمودّة وقال: ‘آملُ عندما تأتي في حجّك المقبل أن تجلب بعض أبنائك الأفارقة معك.’ وبعدها غادر!(22)

قام السيّد موسى بناني، أيادي أمر الله في أفريقيا، بتعيين وليام سيرز عضوًا في هيئة معاونيه. شملت المنطقة التي كان السيّد سيرز مسؤولاً عنها أربع عشرة دولة وأربع جزر في المنطقة التي جاءت ضمن النطاق الإداري للمحفل الروحاني الإقليمي لجنوب وغرب أفريقيا عندما تمّ تشكيله بعد سنتين.

في عام 1956 انتُخب السيّد سيرز عضوًا في أوّل محفل روحاني إقليمي، وشغل وظيفة الرئيس فيه. كما انتُخبت مارغريت أيضًا عضوًا في المحفل وكانت أمين السرّ. وبعد ذلك، في تشرين الأوّل عام 1957، تلقّى السيّد سيرز رسالة من حضرة شوقي أفندي تفيد بتعيينه أياديًا لأمر الله.

في وظيفته كأيادي أمر الله، سافر السيّد سيرز ما يعادل عشرين مرّة حول العالم. ومن شأن قائمة الأماكن التي زارها أن تملأ صفحات، وهي تشمل أماكن نائية مثل لاغوس، كيوتو، كانبيرا، سان خوسيه، أديس أبابا، بورت أو برنس، جاكرتا، أدرنة، أنكوراج، طهران، برلين الغربية، نيو دلهي، جزيرة ريونيون، بوينس آيرس، بيرل هاربر، كانتون، بروكسل، قبرص، والقائمة تطول وتطول.

خلال عام 1958، ومرّة أخرى ما بين عامَي 1961–1963، كان واحدًا من أمناء أمر الله في الأرض الأقدس. في عام 1958 حضر المؤتمر البيقارّي في كمبالا بأوغندا، ومؤتمر الوكلاء المركزي الأوّل في فرنسا. بين عامَي 1959–1961 زار كافّة المحافل الروحانية المركزية في أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية.

بعد أوّل انتخاب لبيت العدل الأعظم، عاد وليام ومارغريت للاستقرار في الولايات المتّحدة. كان أوّل مشروع رئيس له هناك في 1965–1966 تحت مسمّى حملة «انتصار كاليفورنيا»، التي كانت بمثابة أنموذج للتبليغ الجماعي في أجزاء أخرى من العالم. قام مع الدكتور أمين بناني بإنتاج أربعة أشرطة كاسيت حول «قصص من مطالع الأنوار للأطفال»، ومع صديقه روبرت كويغلي ساعد في إطلاق أوّل سلسلة من البرامج التلفزيونية البهائية عالية الجودة، وشاركه في تأليف كتاب «اللهب». في عام 1984، مكّنت أعمالُه محطّةَ إذاعة [WLGI] البهائية، في معهد لويس غريغوري، من بدء البثّ على الهواء.

أكان مسافرًا في أنحاء العالم أم مُقيمًا في الوطن، جسّد وليام سيرز تعليمات حضرة عبدالبهاء إلى أيادي أمر الله:

إنّ وظيفة أيادي أمر الله هي نشر نفحات الله وتربية النفوس وتعليم العلوم وتحسين أخلاق العموم والتقديس والتنزيه في جميع الشؤون. يجب أن تظهر وتلوح تقوى الله من أطوارهم وأحوالهم وأفعالهم وأقوالهم.(23)

ولمّا كان ضليعًا في الآثار الكتابية لأمر الله، كان وليام يتحدّث إلى الأحبّاء مقتبسًا من التعاليم والبيانات المباركة بوضوح وقوّة ومحبّة، ويذكّرهم بأنّ كلماته الشخصية مجرّد «رماد». عندما كان يُدعى لإلقاء محاضرة، كان السيّد سيرز يقضي أسابيع في التحضير، بدل أن يتوقّع نزول الإلهام عليه بمجرّد الوقوف أمام مستمعيه منتظرًا. كانت مكتبته البهائية التي تضمّ أهمّ كتابات الشخصيّات الرئيسة في أمر الله، قد استُهلكت في الواقع من كثرة الاستعمال. وكثيرًا ما حرّكت قدرته في الاقتباس من الكتب المقدّسة جمهور مستمعيه، فألهم شبابًا وشيوخًا للسعي إلى تبنّي أسلوب أكثر نبلاً في الحياة، والوصول إلى مستوى أسمى في خدماتهم للعتبة
المقدّسة.

بطاقته المركّزة، وتفانيه الشديد، وإنجازاته المذهلة، أطلق السيّد سيرز العديد من الحملات التبليغية في جميع أنحاء العالم، مؤكّدًا فيها على عظمة هذا اليوم، وعلى متطلّبات الساعة الملحّة، وعلى قدرة البهائيين على الوفاء بأيّ مهمة يحدّدونها لأنفسهم. كان دائم الترقّب لاكتشاف أيّ نفس قادرة على إشعال القارّة بالتبليغ. وتاق لرؤية الأحبّاء يرتقون لمستوى مهامّهم السامية. وغالبًا ما كان يستشهد بفقرات من الكتابات المقدّسة ليؤكّد على عظمة البشر وقدراتهم الكامنة:

قل إنّ أحدًا من أهل ذلك الدين ليغلب على من في السموات والأرض وما بينهما بإذن الله…(24)

من يدعُ الناس باسمي إنّه منّي ويظهر منه ما يعجز عنه من على الأرض كلّها.(25)

حثّ السيّد سيرز الأحبّاء على الاعتماد على عون الملأ الأعلى، وقال بأنّه مورد قليل الاستخدام على شأن أصبحت القوّة المتراكمة التي تنتظر أن تهبّ لمساعدتنا، هائلة جدًّا. وعندما سُئلت مارغريت كيف استمدّ بيل نفسه من هذه القوّة، أجابت:

أوّلاً، الدعاء اليومي الجادّ. ليس في الصباح والمساء فحسب – بل غالبًا خلال النهار أيضًا.

الاعتماد الكامل على الكلمة الخلاّقة و«تأمّله وتفكّره مليًّا» للحصول على المزيد والمزيد من الإجابات حول كلّ كلمة يقرأها.

كان عمله في طليعة تفكيره وذهنه على الدوام، أيّا كان ما يفعله في أيّ وقت. واعتاد أن يحمل معه دفترًا صغيرًا جدًّا حتى لو جاءته فكرة، عندما يكون بعيدًا عن مكتبه، يكون بمقدوره تدوينها ليضعها في مكانها لاحقًا عند الحاجة.

كان تركيزه كاملاً عندما كان يعمل.

لا وجود لشيء آخر، وليس هناك من تدابير وسطية. بات كلّ هذا قويًّا عندما أصبح بهائيًا وكان مثل لهب الأسيتيلين في شدّته – وأنا متأكّدة أنّه بذلك جذب العون باستمرار من الملأ الأعلى.(26)

وكونه مُربّيًا لامعًا، كان قادرًا على ترجمة معرفته بأمر الله إلى عبارات يمكن للجميع فهمها. غالبًا ما استخدم أمثلة مادّية لشرح مفاهيم روحانية. ذات مرّة، على سبيل المثال، نصب مجموعة من المرايا لتعكس أشعّة الشمس، مُشيرًا كيف يتجلّى الله في مظاهر أمره. ومرّة أخرى قَلَبَ كوبًا رأسًا على عقب قبل أن يصبّ الماء عليه، حتى يبيّن كيف لا يمكن للناس المتوجّهين إلى الأشياء الأرضية الحصول على مياه تعاليم حضرة بهاءالله.

جرى نشر أحد عشر كتابًا للسيّد سيرز خلال أيّام حياته. وقد استخدم مجموعة متنوّعة من أساليب الكتابة لتوضيح أفكاره ومخاطبة مختلف المستمعين. ربّما كان أفضل أعماله المعروفة كتاب «لصّ في الليل»، الذي ألهم الآلاف من القرّاء في جميع أنحاء العالم منذ نشره أوّل مرّة في عام 1961. في إظهاره كيف أنّ الدين البهائي يحقّق النبوءات التوراتية، صار «لصّ في الليل» واحدًا من أكثر الكتب البهائية مبيعًا. وقد أعيدت طباعته أكثر من عشرين مرّة باللغة الإنجليزية وتُرجم إلى اثنتي عشرة لغة. تشمل أعماله المنشورة الأخرى «خمر الدهشة»، «دع الشمس تشرق»، «الله يحبّ الضحك»، «صرخة من القلب»، «السجين والملوك»، «أمير السلام»، «جميع الأعلام خفّاقة»، و«اللهب». بعد وفاته، تمّ نشر كتابين أيضًا هما «في مخزن حبوب جدّي» و«نبوءة نصف البوصة».

في مغرب حياته، رغم معاناته من مرض السكّري، وضعف البصر، والتهاب المفاصل والوهن العامّ، والاضطرار إلى أخذه بالسيّارة إلى أيّ مكان، أو حمله من السيّارة أو وضعه على كرسي متحرّك الى مكان اجتماع، وحماية زوجته من عروض المساعدة من البهائيين والأصدقاء بنيّة طيّبة، ورغم أنّه بدا مستنفدًا لقواه قبل الاجتماعات وبعدها، إلاّ أنّه كان يمتلك قدرة مذهلة على التحدّث إلى الأحبّاء بقوّة رجل أصغر سنًّا بكثير، وإلهاب حماسهم للارتقاء إلى مستويات أعلى. هكذا كانت محبّة هذا الأيادي الصامد والذي بلى جسمُه ولكنّ روحه تألّقت سناءً وقدرةً.

عندما حانت لحظات حياته الأخيرة في هذا العالم الترابي، سقط وليام سيرز على الأرض ببساطة، غير قادر على النهوض ثانية من شدّة الإعياء، ثم رفّت روحه النبيلة بعيدًا عن موئلها الأرضي.

لدى وفاته في يوم 25 آذار 1992، أبرق بيت العدل الأعظم ما يلي:

قلوبنا يغمرها حزن شديد. والعالم البهائي مُني بحرمان عظيم بوفاة أيادي أمر الله وليام سيرز، من كان نابضًا بالحياة، مكرّسًا للخدمة، شجاع القلب، حاملاً لواء دين حضرة بهاءالله. تميّزت خدماته المتواصلة لأكثر من نصف قرن بإخلاص لا يتزعزع لوليّ أمر الله المحبوب، وحماسٍ مُؤثّر في النفوس من أجل التبليغ وإحساس درامي مُحفّز، وروح دعابة آسرة، ومحبّة خاصّة للأطفال، وصمود دؤوب في وجه الصعوبات. سوف يبقى في الذاكرة على الدوام لتكريسه الكامل لقدراته الإبداعية الحيوية ككاتب ومحرّر ومُحاضر، ومدير للبرامج الإذاعية والتلفزيونية، ولخدماته المتنوّعة كمبلّغ جوّال عمل في العديد من البلدان، وخاصّة في الأمريكتين، وكمهاجر إلى أفريقيا حيث كان عضوًا في هيئة المعاونين والمحفل الروحاني المركزي لجنوب وغرب أفريقيا عندما رُقّي في عام 1957 إلى مرتبة أيادي أمر الله. عمل بعد ذلك عضوًا في هيئة أيادي أمر الله المقيمين في الأرض الأقدس. إنّ الشعور بخسارته شديد في أمريكا الشمالية حيث أنفق القدر الأخير من قواه المتلاشية في ترويج الأنشطة التبليغية. تدوم آثار أعماله الحيوية من خلال كتبه وتسجيلاته العديدة. سوف تبتهج أجيال قادمة بالإرث الغني الذي تركه لهم من خلال إنجازاته التاريخية. نرفع الدعاء بحرارة في العتبات المقدّسة لتقدّم روحه المتألّقة في الملكوت الأبهى. ننصح الأحبّاء في جميع أنحاء العالم بإحياء ذكرى وفاته. نطلب عقد جلسات تذكّرية لائقة تكريمًا له في جميع مشارق الأذكار.(27)

1.
Sears, God Loves Laughter, pp. 13 and 23.
2.
المصدر السابق، الصفحة 17.
3.
المصدر السابق، الصفحة 32.
4.
المصدر السابق، الصفحة 34.
5.
المصدر السابق، الصفحة 41.
6.
المصدر السابق، الصفحتان 65–66.
7.
المصدر السابق، الصفحة 66.
8.
المصدر السابق، الصفحة 90.
9.
المصدر السابق، الصفحة 94.
10.
المصدر السابق.
11.
المصدر السابق، الصفحة 103.
12.
المصدر السابق، الصفحة 127.
13.
المصدر السابق، الصفحتان 127–128.
14.
المصدر السابق، الصفحة 141.
15.
المصدر السابق، الصفحة 142.
16.
المصدر السابق، الصفحة 163.
17.
Sears, All Flags Flying, p. 190.
18.
Sears, Pilgrimage to Haifa, p. 3.
19.
المصدر السابق، الصفحتان 3، 5.
20.
المصدر السابق، الصفحة 5.
21.
Shoghi Effendi, Messages to the Bahá’í World, pp. 58–9.
22.
المصدر السابق، الصفحة 7.
23.
حضرة عبدالبهاء، «كتاب عهدي وألواح الوصايا»، دار البديع، الطبعة الأولى عام 2014، الصفحة 38.
24.
حضرة الباب، «منتخبات آيات از آثار حضرت نقطه اولی»، الصفحة 108.
25.
حضرة بهاءالله، «مجموعه ای از الواح جمال اقدس ابهی که بعد از کتاب اقدس نازل شده» الصفحة 6.
26.
Marguerite Sears, letter to the author, 1992.
27.
Bahá’í World, vol. 20, p. 800.

مسرد الكتب والمراجع

حضرة عبدالبهاء،

«تذكِرة الوفاء»، من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل. شهر القدرة 161ب، تشرين الثاني 2004م

‘Abdu’l-Bahá.

Memorials of the Faithful. Wilmette, Ill.:
Bahá’í Publishing Trust, 1971.


«ترويج السلام العالمي»
دار البديع للطباعة والنشر، 2017م.

The Promulgation of Universal Peace. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1982.

«منتخباتى از مكاتيب حضرت عبدالبهاء»
طبع في الولايات المتّحدة الأمريكية، 1979م.

Selections from the Writings of ‘Abdu’l-Bahá. Haifa: Bahá’í World Centre, 1978.

Tablets of Abdul Baha Abbas. New York: Bahá’í Publishing Committee, vol. 2, 1940.

«ألواح الخطة الإلهية»
(طبعة بشكل كتيّب غير مؤرّخة)

Tablets of the Divine Plan. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1993.

«ألواح وصايا حضرة عبدالبهاء» «كتاب عهدي وألواح وصايا حضرة عبدالبهاء»، دار البديع للطباعة والنشر – كانون الأوّل 2014.

The Will and Testament of ‘Abdu’l-Bahá. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1971.
— «مجموعه مناجاتها حضرت عبدالبهاء»، طبع مؤسسة المطبوعات الأمرية في إيران، المجلّد الثاني.
— «مكاتيب عبدالبهاء»، المجلّد 7.
عزيز الله سليماني «مصابيح هدايت»، طبع مؤسسة المطبوعات الأمرية في إيران، المجلّد الأوّل، 121ب (1964م).
عبد العلي علائي

مؤسسه ايادى امر الله
مؤسسه ملّى مطبوعات امرى، 130 ب

‘Alá’í, ‘Abdu’l-‘Alí.

Mu’assisiy-i-Ayádiy-i-Amru’lláh.

Ṭihrán: Bahá’í Publishing Trust,

130 BE (Baghdád 1973).

حضرة الباب،

«منتخبات آيات از آثار حضرت نقطة أولى»، مؤسسة الطبع والنشر في الولايات المتّحدة. ويلميت – إلينويز، 1978م.

The Báb.

Selections from the Writings of the Báb. Haifa: Bahá’í World Centre, 1976.

Bahá’í International News Service, 1970, July 1989, March 1990, March 1992.
Bahá’í Journal. National Spiritual Assembly of the United Kingdom. October 1973,
October 1992.
Bahá’í News. National Spiritual Assembly of the United States. February 1938, September 1968, June 1973, January 1976, February 1976, April 1976, June 1980, May 1984, December 1986, October 1990.
Bahá’í Prayers: A Selection of Prayers revealed by Bahá’u’lláh, the Bab and ‘Abdu’l-Bahá. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 2002.
Bahá’í World, The. vols. 1–12, 1925–54. Rpt. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1980.
Bahá’í World, The, vol. 13. Haifa: The Universal House of Justice, 1970.
Bahá’í World, The, vol. 14. Haifa: The Universal House of Justice, 1974.
Bahá’í World, The, vol. 15. Haifa: Bahá’í World Centre, 1976.
Bahá’í World, The, vol. 16. Haifa: Bahá’í World Centre, 1978.
Bahá’í World, The, vol. 18. Haifa: Bahá’í World Centre, 1986.
Bahá’í World, The, vol. 19. Haifa: Bahá’í World Centre, 1997.
Bahá’í World, The, vol. 20. Haifa: Bahá’í World Centre, 1998.
Bahá’í World 1999–2000, The. Haifa: Bahá’í World Centre, 2001.
Bahá’í World 2003–2004, The. Haifa: Bahá’í World Centre, 2005.
حضرة بهاءالله،

«لوح ابن الذئب»
1)
طبعة من إعداد لجنة نشر الآثار الأمرية باللغتين الفارسية والعربية، لانغنهاين – ألمانيا.

2) طبعة من مطبعة السعادة بمصر، 1920م.

Bahá’u’lláh.

Epistle to the Son of the Wolf. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1988.


«الكلمات المكنونة»،
من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل. 152ب، حزيران 1995م.

The Hidden Words. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1990.

«الكتاب الأقدس»،
الناشر: بيت العدل الأعظم، طبع في كندا
في مطابع Quebecor Jasper Printing

The Kitab-i-Aqdas. Haifa: Bahá’í
World Centre, 1992.

«كتاب الإيقان»،
معرب عن الفارسية – الطبعة الثالثة، من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل.

The KitabiIqan. Wilmette, Ill.:
Bahá’í Publishing Trust, 1989.
1)
«مجموعة من ألواح حضرة بهاءالله» نزلت بعد الكتاب الأقدس. من منشورات دار النشر البهائية في بلجيكا. 137ب، آذار 1980.

Tablets of Bahá’u’lláh revealed after the Kitab-i-Aqdas. Haifa: Bahá’í World Centre, 1978.
2)
«مجموعه‏ای از الواح جمال اقدس ابهی که بعد از کتاب اقدس نازل شده»، إعداد لجنة نشر الآثار الأمرية باللغتين الفارسية والعربية، لانغنهاين – ألمانيا. 137ب.
Bahíyyih Khánum, the Greatest Holy Leaf: A Compilation from Bahá’í Sacred Texts and Writings of the Guardian of the Faith and Bahíyyih Khánum’s Own Letters. Haifa: Bahá’í World Centre, 1982.
Balyuzi, H. M. ‘Abdu’l-Bahá. Oxford: George Ronald, 1971.

The Bab. Oxford: George Ronald, 1973.

Bahá’u’lláh, The King of Glory. Oxford: George Ronald, 1980.
Edward Granville Browne and the Bahá’í Faith. Oxford: George Ronald, 1970.

Eminent Bahá’ís in the Time of Bahá’u’lláh: with some Historical Background. Oxford: George Ronald, 1985.
Brown, Ramona Allen. Memories of ‘Abdu’l-Bahá. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1980.
Cameron, Glenn, and Momen, Wendi. A Basic Bahá’í Chronology. Oxford: George Ronald, 1996.
Canadian Bahá’í News, March 1990, June 1990, special memorial section to the July 1991 issue.
Chapman, Anita. Leroy Ioas. Oxford: George Ronald, 1998.
Collins, William. Bibliography of English-Language Works on the Babi and Bahá’í Faiths, 1844–1985. Oxford: George Ronald, 1990.
Compilation of Compilations, The. Prepared by the Universal House of Justice 1963–1990.
2 vols. [Sydney]: Bahá’í Publications Australia, 1991.
Diary of Juliet Thompson, The. Los Angeles: Kalimat Press, 1983.
Dunbar, Hooper. Forces of Light and Darkness. A deepening class presented and recorded over several days at Louhelen Bahá’í School.
Dunn, Clara. Recalls Becoming a Bahá’í and Meeting ‘Abdu’l-Bahá. A taped recording by Victor Richards in the home of H. Collis Featherstone, 1954.
Faizi, A. Q. Milly: A Tribute to Amelia E. Collins. Oxford: George Ronald, 1977.
Ferraby, John. All Things Made New. London: George Allen and Unwin, 1957.
Freeman, Dorothy. From Copper to Gold. Oxford: George Ronald, 1984.
Furútan, ‘Alí-Akbar. The Story of My Heart. Oxford: George Ronald, 1984.
Garis, M. R. Martha Root: Lioness at the Threshold. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1983.
Giachery, Ugo. Shoghi Effendi: Recollections. Oxford: George Ronald, 1973.
Green Acre on the Piscataqua. Eliot, Maine: Green Acre Bahá’í School Council, 1991.
Hassall, Graham. The Bahá’í Faith in Australia 1920–34. Yerrinbool: Bahá’í Studies Conference, April 1983.
Yerrinbool Bahá’í School 1938–1988.
Ḥaydar-‘Alí, Ḥají Mírza. Stories from the Delight of Hearts: The Memoirs of Ḥají Mírza Ḥaydar-‘Alí. Los Angeles: Kalimat Press, 1980.
Hofman, David. George Townshend. Oxford: George Ronald, 1983.
Holley, Horace. Bahai, the Spirit of the Age. London: Kegan Paul Trench Trubner, 1921.
Bahaism: The Modern Social religion. London: Sidgwick and Jackson, 1913.
A Pilgrim to Thonon. Letchworth: Garden City Press, 1911.

Present-Day Administration of the Bahá’í Faith. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Committee, 1947.
Religion for Mankind. London: George Ronald, 1956.
The Social Principle. New York: L. J. Gomme, 1915.
الكتاب المقدّس Holy Bible.

King James Authorized Version. Cleveland and New York: The World Publishing Company.

Honnold, Annamarie. Why They became Bahá’ís. New Delhi: Bahá’í Publishing Trust, 1994.
«حقوق الله»،

مجموعة أعدّتها دائرة مطالعة النصوص في المركز البهائي العالمي وترجمها السيد لبيب شهيد. من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل،
143ب، 1986م.

Ḥuqúqu’lláh, The Right of God.

Compiled by the Research

Department of the Universal House of Justice. Oakham: Bahá’í Publishing Trust, 1986.

Ioas, Leroy. In the Days of the Guardian. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1977.
Japan Will Turn Ablaze. Japan: Bahá’í Publishing Trust, 1974.
Khadem, Javidukht. Zikrullah Khadem, The Itinerant Hand of the Cause of God. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1990.
The Ministry of the Custodians, 1957–1963: An Account of the Stewardship of the Hands of the Cause. Haifa: Bahá’í World Centre, 1992.
Momen, Moojan. Dr. John E. Esslemont Hand of the Cause of God. London: Bahá’í Publishing Trust, 1975.

, ed. Studies in the Babi and Bahá’í Religions: Studies in Honor of the Late Hasan M. Balyuzi. Los Angeles: Kalimat Press, 1988.
Morrison, Gary. ‘Hand of the Cause, Agnes Alexander: A Eulogy’. Bahá’í News, 1971.
Morrison, Gayle. To Move the World. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1982.
Muhájir, Irán Furútan. Dr Muhájir, Hand of the Cause of God, Knight of Bahá’u’lláh. London: Bahá’í Publishing Trust, 1992.
النبيل الأعظم (محمّد الزرندي). «مطالع الأنوار»،

ترجمه عن الإنجليزية عبد الجليل سعد، طبع في 

دار البديع للطباعة والنشر، لبنان، آذار 2008م.

Nabil-i-A‘ẓam. The Dawn-Breakers:

Nabil’s Narrative of the Early Days of the Bahá’í Revelation. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1970.

Nakhjaváni, Violette. Amatu’l-Bahá Visits India. New Delhi: Bahá’í Publishing Trust, 1984.

The Great African Safari: The Travels of Amatu’l-Bahá Rúḥiyyih Khánum in Africa, 1969–73. Oxford: George Ronald, 2002.
Olinga, Enoch. Are You Happy? A recorded talk by Mr Olinga. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1980.
Périgord, Emily McBride. Translation of French Foot-Notes of the Dawn-Breakers. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1970.
Rabbani, Rúḥiyyih. The Guardian of the Bahá’í Faith. London: Bahá’í Publishing Trust, 1988.
Poems of the Passing. Oxford: George Ronald, 1998.

«الجوهرة الفريدة»
دار البديع للطباعة والنشر،
تشرين الأوّل 2014

The Priceless Pearl. London, Bahá’í Publishing Trust, 1969
— ‘This is Faith’. A poem written in 1953. By permission of the author.
Ransom-Kehler, Keith. Presenting Keith Ransom-Kehler. A resume, circa 1922, provided to the author by the Bahá’í World Centre.
Robarts, Audrey. A recording of Mrs Robarts speaking about John Robarts. January–February 1995. Tapes 1 and 2.
Robarts, John A. Letter to Bahá’ís. Provided to the author by Mrs Audrey Robarts, 1995.
Rutstein, Nathan. Corinne True: Faithful Handmaid of ‘Abdu’l-Bahá. Oxford: George Ronald, 1987.
He Loved and Served: The Story of Curtis Kelsey. Oxford: George Ronald, 1982.
Samandarí, Ṭarázu’lláh. In His Presence. A talk by Hand of the Cause Mr Samandarí at the Bahá’í World Congress, London, 1963.
Schoen, Janet. ‘A Love Which Does Not Wait’. Bahá’í News, no. 541, April 1976.
Sears, William. A Cry from the Heart: The Bahá’ís in Iran. Oxford: George Ronald, 1982.

All Flags Flying. Goodwood: National Spiritual Assembly of the Bahá’ís of South and West Africa, 1985.
God Loves Laughter. Oxford: George Ronald, 1984.
In Grandfather’s Barn. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1997.
The Half-Inch Prophecy. South Africa: Bahá’í Publishing Trust, 2000.
Pilgrimage to Haifa. Bahá’í National Archives of Hawaii.
Prince of Peace. India: Bahá’í Publishing Trust.
The Prisoner and the Kings. Toronto, Ont.: General Publishing Company, Ltd, 1971.
Release the Sun. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1995.
Thief in the Night. Oxford: George Ronald, 1961, 1980.
The Wine of Astonishment. Oxford: George Ronald, 1983.
— and Quigley, Robert. The Flame. Oxford: George Ronald, 1973.
شوقي أفندي،

«ظهور عدل إلهي».
ترجمه إلى الفارسية نصر الله مودت.

Shoghi Effendi.

The Advent of Divine Justice. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1990.


Citadel of Faith: Messages to America 1947–1957. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1965.

ßÊÇÈ ÇáÞÑä ÇáÈÏíÚ. من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل. آذار 2002م.

God Passes By. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, rev. edn. 1974.

The Light of Divine Guidance: The Messages from the Guardian of the Bahá’í Faith to the Bahá’ís of Germany and Austria. 2 vols. Hofheim-Langenhain: Bahá’í-Verlag, 1982.
Messages to America. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1947.
Messages to the Antipodes. Mona Vale NSW: Bahá’í Publications Australia, 1997.
Messages to the Bahá’í World. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1971.

Messages of Shoghi Effendi to the Indian Subcontinent, 1923–1957. New Delhi: Bahá’í Publishing Trust, 1995.
This Decisive Hour. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 2002.

The Unfolding Destiny of the British Bahá’í Community: The Messages of the Guardian of the Bahá’í Faith to the Bahá’ís of the British Isles. London: Bahá’í Publishing Trust, 1981.
— «توقيعات مباركه، 1927–1939»، مؤسسة المطبوعات الأمرية في إيران، 129ب.
Star of the West. Rpt. Oxford: George Ronald, 1984.
Stockman, Robert. The Bahá’í Faith In America, vol. 1. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1985.

The Bahá’í Faith in America, Early Expansion, 1900–1912, vol. 2. Oxford; George Ronald, 1995.
أديب طاهرزاده،

«ميثاق حضرة بهاءالله»، دار البديع للطباعة والنشر، 2018م

Taherzadeh, Adib. The Covenant of Bahá’u’lláh. Oxford: George Ronald, 1992.


«ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد الأوّل،
من منشورات دار النشر البهائية في البرازيل، رضوان 157ب، نيسان 2000م.


The Revelation of Bahá’u’lláh, vol. 1.
Oxford: George Ronald, 1974.

«ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد الثاني، دار البديع للطباعة والنشر، كانون الثاني 2008م.

The Revelation of Bahá’u’lláh, vol. 2.
Oxford: George Ronald, 1977.

«ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد الثالث، دار البديع للطباعة والنشر، نيسان 2009م.

The Revelation of Bahá’u’lláh, vol. 3.
Oxford: George Ronald, 1983.

«ظهور حضرة بهاءالله»، المجلّد الرابع، دار البديع للطباعة والنشر، كانون الثاني 2011م.

The Revelation of Bahá’u’lláh, vol. 4.
Oxford: George Ronald, 1987.
Tinnion, Nina Robarts. John A. Robarts Memorial Article and Endnotes, unpublished, 1995.
To Follow a Dreamtime, ‘Father’ and ‘Mother’ Dunn, The Spiritual Conquerors of a Continent. Commemorating the Fiftieth Anniversary of the Arrival of the Bahá’í Faith in Australia, 18 April 1970. Paddington, New South Wales: The National Spiritual Assembly of the Bahá’ís of Australia, Inc., 1970.
Townshend, George. The Old Churches and the New World Faith. London: National Spiritual Assembly of the British Isles, 1949.
Troxel, Duane. Talk to Bahá’ís of Santa Fe, New Mexico, circa 1989.
True, Corinne. Notes Taken at Acca. Chicago: Bahá’í Publishing Society, 1907.
The Universal House of Justice. Messages from the Universal House of Justice 1963–1986. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1996.
van den Hoonaard, Will C. The Origins of the Bahá’í Community of Canada, 1899–1948. Waterloo, Ontario: Wilfrid Laurier University Press, 1996.
Varqa, Mehdi. Varqá, ‘Alí Muḥammad, the Martyr. An article prepared for The Bahá’í Encyclopedia.
Victory Promises. A compilation by the National Spiritual Assembly of the Bahá’ís of the Hawaiian Islands, 1978.
The Vision of Shoghi Effendi. Ottawa: Bahá’í Studies Publications, 1993.
Waterman, Graham and Kaye. H. Collis Featherstone. An In Memoriam article, 1994.
Weinberg, Robert. Ethel Jenner Rosenberg. Oxford: George Ronald, 1995.
Whitehead, O. Z. Portraits of Some Bahá’í Women. Oxford: George Ronald, 1996.
Some Bahá’ís to Remember. Oxford: George Ronald, 1983.
Some Early Bahá’ís of the West. Oxford: George Ronald, 1976.
Whitmore, Bruce W. The Dawning Place. Wilmette, Ill.: Bahá’í Publishing Trust, 1984.

 

Zinky, Kay, comp. Martha Root, Herald of the Kingdom. New Delhi: Bahá’í Publishing Trust, 1983.