هبت بهدوء عاصفة صغيرة من التراب متجهة إلى نهاية شارع مقفر فأطاحت بقرطاس التف حول هرة تغط في هجوعها فأخافتها فهربت مذعورة ودخلت على التو من باب البيت على داخل المنزل. عندئذ خيم الهدوء، مرة أخرى، على كل شيء. وفجأة ظهر طفل صغير عند المنعطف واندفع مسرعا نحو نهاية الطريق الخالي. فضرب بأقدامه العارية كومة صغيرة من التراب الساخن. صاح ذلك الطفل قائلا:
” إنه آتي … انهم يدفعوا به إلى هذه الناصية”.
انسابت الناس من مساكنها كنمل مزعر استضم بتله قدم غير آبهة. وفجأة دبت الحياة في الدرب بظهور أناس يبدوا على محياهم الغبطة والشوق. وكلما طرق مسامعهم صيحات غضب الغوغاء المقتربين نحوهم كلما ازداد حماسهم اشتعالا. تدفق، عند منعطف الطريق، نهر صاخب من الرجال والنساء والأطفال. أغمروا ذلك الشاب الذي كانوا يلاحقونه بالإهانات. صاح الغوغاء بفرح. إنهم يدركون أنه لا يستطيع الفرار من قبضتهم فهو أسير بين يديهم وحراسه يسحبونه أمام جماهير الناس بحبل موثق بقبة حديدية أحكمت حول عنقه لإحصاره أمام السلطات كي يمهروا فرمان موته. وفي كل مرة تعثر فيها ذلك الشاب أثناء سيره عالجه الحراس بجذبة شرسة للحبل المعصوب في عنقه أو بركله مسددة بإحكام إليه. وبين الفينة والأخرى …ينطلق من الجمهور شقي يكيل له الضربات واللعنات وسط صيحات النشوة والتشجيع. وكلما رشق أحد الرعاع وجهه بحجر أو بقطعة من قمامة انفجر كلا من الحرس والجماهير المحتشدة بالضحك واستهزاؤه.
“أنقذ نفسك أيها الصنديد!”.
ناداه أحد المطاردين ساخرا:
” حطم قيودك … آتنا بمعجزة!“
وينهي أهانته بتسديد بزقة على ذلك الهيكل الصامت. كان ذلك الفتي في طريق عودته إلى ميدان المعسكر وبعد فترة وجيزة سيق إلى مكان استشهاده.
كان الوقت في ميدان العام، آن ذاك، منتصف الظهيرة، في بلدة تتلظي من حرارة الشمس حيث عكست مواسير البنادق الشاهرة أشعة شمس الصيف اللاسعة. فوهات البنادق مصوبة نحو صدر ذلك الغلام والجنود في حالة تأبه كاملة في انتظار صدور الأمر لإ ردائه قتيلا.
ما زالت جماهير غفيرة تتدفق كالسيل إلى الساحة العامة كما اعتلي الآلاف منهم أسطح المنازل المجاورة المشرفة على موقع الإعدام. جميعهم متعطشون لإلقاء النظرة الأخيرة على ذلك الفتى العجيب الذي أقلق مضجع قطرهم. فهم ما زالوا غير واثقين إذا ما كان هذا الشاب خيرا أم رديئا، ولكنه يبدوا يافعا نيف الثلاثين كي يقتل.
الآن وقد أتت النهاية لم يبدوا ذلك الشاب فريسة كراهيتهم خطيرا على الإطلاق. إنه يتراءى للجميع مهذبا، بلا حيلة، ولكنه، في نفس الوقت، متيقنا ومهندما. ظهر على محياه الوضاء وهو يتأمل تلك السبعمائة وخمسين فوهم بنادق معادية المصوبة إليه، علامات الرضا والشوق.
الكاتب
هذه قصة بحث جديد عن الكأس المقدس Holy Grail -كأس الحياة الأبدية. ابتدأت في الأرض التي جاء منها الملوك الثلاثة[1] إلى بيت لحم مهتدين بضياء نجم لامع. نحن الآن في القن التاسع عشر وقد واكب هذا البحث ظهرت علامة أخرى في السماء-فقد سطع نجم مذنب عظيم ملتهب يشير إلى تلاحم كل من الشرق والغرب معا في حماس العصر الألفي السعيد[2] ففرح لظهوره جموم كثيرة من الناس، وأفزع، من ناحية أخرى، فئات أحرى، وأوجست جماعات عديدة خيفة منه.
أما في أرض فارس كان الكثير من الناس اشد فعالية في بحثهم عنه لاعتقادهم بأن الموعود موجود بينهم. من بين هؤلاء الباحثين المنقطعين رجل ورع يدعى الشيخ احمد. ترك الشيخ وهو في الأربعين من عمره وطنه وعشيرته في إحدى الجزر الواقعة جنوب الخليج الفارسي، ومضي يضرب بعصاه الأرض عساه أن يكشف الغموض الذي يكتنف ذلك الرسول الموعود المزعم أن يأتي سريعا. كان هناك هاتف داخلي يحثه على المضي قدما. فقرأ بنهم كل ما كتب في هذا الموضوع وظل يوجه الأسئلة إلى أكابر الحوزات الدينية والعلمية حتى شعر أخيرا أنه قد وصل إلى الحقيقة.
الآن، تملك الشيخ رغبة في أن يخفف الحمل الذي يثقل كاهله. فباشر البحث عمن يستطيع أن يشاركه سره هذا، العظيم، وعلمه أليقين بساعة ومكان ظهور ذلك الموعود الإلهي الذي به تتحقق جميع الوعود المذكورة في الكتب المقدسة. وأخيرا، عزم الشيخ احمد على الرحيل إلى شيراز -جنوب إيران-فشق طريقه سيرا على الأقدام. كثيرا ما تكلم الشيخ احمد في خطاباته العامة بتعطش مادحا تلك المدينة ومغدفا عليها الثناء بدرجة جعلت مستمعيه الذين كانوا على علم بساطة تلك البلد يندهشون من لهجة حديثه. إلى هؤلاء خاطبهم الشيخ أحمد قائلا:
“لا تعجبوا فلن يمضي وقت طويل حتى يتجلى لكم سر كلماتي.”
وأكد إلى بعض منهم قائلا:
“وان عددا منكم سوف يعيش ليشاهد عظمة ذلك اليوم الذي تنبأ به الأنبياء في السابق واشتاقوا لرؤيته”.
لم يعثر الشيخ أحمد على أحد يستطيع أن يفيض عليه ويأتمنه على علومه بأكملها، فقد كان يخشى مما قد يفعله القوم بذلك الشخص الذي أشعل مجيئه النار في قلبه. أدرك الشيخ أن يجب عليه التحلي بالصبر إلى ذلك اليوم الذي سوف أن يظهر فيه ذلك الشخص ذو روحانية مماثلة له فيشاركه سره”[4].
خلال تلك الأيام تطلع شاب يدعى السيد كاظم يقطن في أردبيل[5] بجوار ضريح مشهور الى زيارة الشيخ أحمد الإحسائي، فقد سمع عن عظمته واعتقد أنه ربما كان ذلك الموعود المنتظر.
وفي ذات ليلة رأى في منامه من يأمره بأن ينهض ويتوجه على الفور إلى يزد ويضع نفسه تحت أمرت الشيخ أحمد الروحية. رأسا، شرع السيد كاظم في رحلته إلى يزد وعندما وصل إلى نهاية مطافه حياه الشيخ احمد بكل محبة قائلا:
” أهلا بك يا عزيزي، كم كنت مشتاقا لحضورك منذ أمد بعيد”
أودع الشيخ أحمد لدى السيد كاظم كل ما يعرفه وحثه أن يُشعل كل قلب مستجيب بالنار الموقدة في قلبه وحذره قائلا:” لا تهدر الوقت، استفد من كل ساعة تمر استفادة تامة وحكيمة. اجتهد ليل نهار في إزالة غشاوة التعصبات والتقاليد التي أعمت عيون الناس. فالحق أقول أن الساعة تقترب”
كرس الشيخ احمد اهتمامه الخاص نحو أتباعه آملا أن يجعل منهم أعوانا عاملين لدعوة الموعود عند ظهوره. وعندما علم الشيخ احمد بدنو ساعته جمع أتباعه وقال لهم:
” ابحثوا من بعدي عن الحقيقة بواسطة السيد كاظم فهو وحده الذي يفهم مقصدي”
وبعد مضي وقت قليل توفي الشيخ أحمد وأصبح السيد كاظم رائدا لأتباعه. ومرة أخرى، لم يجد السيد كاظم أنسانا مخلصا حقا أو مستأهلا لسماع كل ما تعلمه من سيده. فما زال إتباع الشيخ أحمد متعلقين ببيوتهم وذويهم وبأموالهم وأعمالهم وعقائدهم السابقة.
قالوا للسيد كاظم:
“إذا كان الموعود المنتظر يرفع من شأننا ويبقى كل ما هو عزيز لدينا نحن إذا مستعدون بل متشوقون لقبوله. ولكن إذا كان مجيئه يعني ترك كل ما نعتز به وربما يعني أيضا مواجهة الموت فآذاننا حينئذ صماء عن سماع عذب لحنه.”
وبعد أمد طويل وجد السيد كاظم شابا كفؤا لحمل تلك الأمانة العظمى. اسم ذلك الشاب الملا حسين بشروئي. أغدق السيد كاظم الكثير من الحب والتبجيل على الملا حسين بدرجة جعلت البعض من تلاميذه يرتابون بأن الملا حسين هو ذلك الموعود المنتظر الذي كان معلمهم يشير إليه باطراد فكثيرا ما أعلن انه يعيش الآن بينهم ولكنهم لا يعرفونه. قال لهم السيد كاظم: (ترونه بأعينكم ولكنكم لا تعرفوه).
بادل الملا حسين حبه واحترامه العظيمين نحو السيد كاظم. سأل الملا حسين نفسه أحيانا عما إذا كان السيد كاظم هو ذلك الشخص الذي ينتظرونه أم لا. على آيا حال فأن لدي الملا حسين مقياسا عزم أن يختبر به كل من يدعي مثل هذا الادعاء الهائل، فسوف يطلب منه كتابة تفسير لقصة يوسف المذكورة في القرآن بأسلوب ولغة مغايرة تماما للأصول المتداولة. وفي أحد الأيام طلب الملا حسين على انفراد من السيد كاظم أن يكتب له ذلك التفسير. فـأمتنع السيد كاظم وأخبره قائلا:
” إن هذا فوق مقدرتي. وعلى إي حال فـأن ذلك الشخص العظيم الذي سوف يأتي من بعدي سيظهره لك دون سؤال. وهذا التفسير سوف يكون واحدا من أظهر الشواهد على مصداقيته.”
سأل الملا حسين السيد كاظم لماذا سميت سورة يوسف في القرآن بأحسن القصص فأجابه: إن الوقت غير مناسب لتوضيح ذلك السبب. كانت كلمات السيد كاظم هذه توحي بأنه في المستقبل سوف يُكشف النقاب عن هذه الحقيقة.[6]
شعر تلميذ أخر من بين أتباع السيد كاظم بان معلمه هو الموعود بالرغم من نفيه، وتمادي ذلك التلميذ في ادعائه حتى أخذا يصرح به علانية. استاء السيد كاظم كثيرا من تصرفات هذا التلميذ وكاد أن يطرده من بين زمرة أتباعه المختارين لو لم يلتمس الصفح. فأكد السيد كاظم قائلا: إن علمي هو إلا كقطرة بالنسبة لغزارة علمه وما أحرزته ليس إلا كذرة من التراب مقابل بدائع قدرته”[7]
حينما نفى السيد كاظم ذلك الدعاء نفيا صريحا حزن تلميذ آخر حزنا شديدا إذ كان هو الآخر يعتقد أن السيد كاظم هو ذلك الشخص العظيم الذي أعلن عنه. فتضرع إلى الله بكل تعطش أن يؤكد له ما يشعر به في قلبه، أو يخلصه من هذا التوهم. دوّن ذلك التلميذ بكلماته التالية الكيفية التي بها جاءه العون فكتب قائلا.
“في فجر يوم ذهبت إلى منزل السيد كاظم، حيث كان السيد على وشك الخروج مرتديا أحسن لباسه سألني السيد كاظم أن أرافقه قائلا:” حضر شخص فاضل عظيم القدر أرى أن على نا كلانا زيارته”. وعندما وصلنا إلى الجهة التي نقصدها كانت الشمس قد بزغت وكان هناك شابا وقفا على مدخل الباب يوحي وجهه بإمارات الخشوع واللطف ما لا يمكنني وصفهما أبدا. تقدم نحونا بهدوء ثم مد ذراعيه نحو السيد كاظم وعانقه بمحبة. كان هناك بون شاسع بين مودته للسيد وبين الاحترام العميق الذي أسداه السيد نحوه. اصطحبنا مضيفنا إلى غرفة على ا وضع في وسطها كأس من الفضة وبعد أن جلسنا ملأ مضيفنا الكأس وناوله إلى السيد كاظم وتلا هذه آية من القرآن:” وسقاهم ربهم شرابا طهورا”. وكم كانت دهشتي عظيمة عندما شاهدت أستاذي السيد كاظم ينهل من هذا الشراب الطهور من كأس فضي دون أدنى تردد إذ أن استعمال هذا المعدن محرم على المؤمنين. وبعد مضي ثلاثة أيام رأيت ذلك الشاب نفسه يحضر ويأخذ مجلسه وسط أتباع السيد كاظم المجتمعين. جلس ذلك الشاب بالقرب من مدخل الباب وأخذ يستمع إلى خطاب السيد كاظم بأدب عظيم ووقار جليل. وما أن رآه السيد حتى كف عن الكلام. توسل إليه أحد أتباعه أن يستمر في الحديث عن مجيء الموعود. فأجابه السيد وهو يلتفت نحو ذلك الشاب: “ماذا أقول أكثر من ذلك؟ هو ذا الحق أوضح من شعاع النور الساقط على هذا الذيل”. فلاحظت على الفور أن شعاع الشمس الذي أشار إليه السيد كاظم ساقط على حجر ذلك الشاب الذي كنا قد زرناه حديثا. سأل أحد أتباع السيد قائلا: ” لماذا لا تفصح لنا عن اسمه أو تكشف لنا عن شخصه؟ لماذا؟ فأجاب السيد بأنه لو أباح باسمه لقتل كلاهما في الحال، المحبوب الإلهي، وهو نفسه. لقد رأيت فعلا السيد كاظم يشير بأصبعه إلى شعاع الشمس الواقع على ذلك الحجر ومع هذا لم يدرك أحد من الحاضرين معناها وأيقنت أنه في ذلك الشاب الغريب الجذاب سرا يصعب علينا جميعا فهمه.
كثيرا ما كنت أشعر بدافع للسعي إلى محضره ولكن في كل مرة تجاسرت على الاقتراب منه منعتني قوة لا أستطيع تفسيرها أو مقاومتها. وبتحرياتي عنه علمت أنه من أهالي شيراز ويشتغل في التجارة وقد أشعل قلبي منذ ذلك اليوم ولازمتني ذكراه”.
ازداد أيقان السيد كاظم باقتراب ساعة ظهور الموعود. يوجد دليل قاطع على أنه أشار إلى هذا الحاث مرار وتكرارا، فقد كان مولعا بقول:” أراه كالشمس الساطعة”. أدرك السيد كاظم مقدار كثافة الحاجبات التي تحول دون معرفة الحق حتى عن تلاميذه، فظل ينذرهم كما أنذر يوحنا المعمدان أولئك الذين كانوا ينتظرون المسيح بقوله: ” اقترب ملكوت الله”. وشرع السيد كاظم يرفع تدريجيا وبكل حرص وحكمة العوائق التي قد تعترض طريق فهم تلاميذه لذلك الكنز المخفي عند ظهوره.
نبههم قائلا: ” حذار أن تخدعكم زخارف الدنيا الزائلة بعد فراقي. اتركوا الراحة كلها، وجميع المتعلقات الدنيوية والأهل في بحثكم عنه. انقطعوا عن كل الشؤون الدنيوية وتضرعوا إلى الله بخضوع لكي يهديكم. لا تتقاعسوا قط في عزمكم للبحث والعثور عليه. كونوا ثابتين حتى اليوم الذي فيه سوف يختاركم أصحابا له. وهنيئا لكل من يشرب منكم كأس الشهادة في سبيله”.
وعد السيد كاظم بعضا من تلاميذه بأنه سوف لا تقر أعينهم برؤية الرسول الآتي
وجها لوجه فحسب، بل برؤية الذي سوف يأتي من بعده أيضا. قال: “ما أن ينفخ في الصور
النفخة الأولى حتى يرتفع نداء آخر تنتعش به الأشياء وتحيا”.
أحيانا كثيرة أخبرهم السيد كاظم بأنهم سوف يشاهدون لا رسولا واحدا فحسب بل رسولين هما الظهوران التوأمان اللذان وعدت بهما الكتب السماوية لهذا اليوم الأخير. هذان الظهوران المتعاقبان سيكونان تحقيقا للنبوءة المذكورة في رؤيا يوحنا ب “الويل الثاني والثالث” والتي تنبئ بأن الويل الثالث يتبع الويل الثاني[8] سريعا. وهما سيكونان أيضا تحقيقا للنفخ في الصور مرتين المذكورين في القرآن. اللذان يتبع بسرعة كل منهما الآخر سريعا في آخر الزمان.”[9] أكد السيد كاظم لأتباعه أنه بعد الفجر المنتظر تظهر الشمس الموعودة وقال: ” انه بعد غروب نجم الأول تشرق شمس الثاني وتنير كل العالم”.
أشار السيد كاظم لأتباعه أنهم يعيشون في يوم النبوءة التي قد تمت بهذه الكلمات:” في سنة الستين (1844م – 1260هـ) سوف تشرق الأرض بنور ربها… وإذا عشت إلى سنة السبعين ( 1270هـ – 1853م) فسوف تشاهد كيف تتجدد الأمم والحكام والشعوب ودين الله”.
وفي أخر سنه من حياته ترك السيد كاظم كربلاء لزيارة المقامات المقدسة القريبة منها. توقف أثناء سفره عند مسجد على جانب الطريق لتأدية فريضة الظهر. كان السيد واقفا تحت ظل نخلة عندما ظهر أعرابي فجأة. اقترب الأعرابي من السيد كاظم وخاطبه قائلا:
(كنت أرعي غنمي قبل ثلاثة أيام في مرعي مجاور. وبغتة غلبني النوم وظهر لي الرسول في النوم وقال: أصغ إلى كلامي أيها الراعي. أمكث بجوار هذا المسجد. ففي غضون ثلاثة أيام سيحضر رجل اسمه السيد كاظم يصاحبه أتباعه. قل له عن لساني “أفرح لان ساعة رحيلك قد اقتربت وسوف تعرج إلى بعد رجوعك إلى كربلاء بثلاثة أيام. وما يلبث أن يظهر الحق عندئذ يستضئ العالم من أنوار وجهه”)
حزن أصحاب السيد لاقتراب وفاته. فواساهم بهذه الكلمات:
“ألست محبتكم لي هي حقا لآجل ذلك الحق الذي نحن جميعا في انتظار مجيئه؟
ألا ترغبون أن أموت لكي يظهر الموعود؟
وإلى آخر نفس كان السيد كاظم يحث أتباعه على مواصلة البحث. عاد السيد كاظم إلى كربلاء وفي يوم وصوله مرض وبعد ثلاثة أيام توفي طبقا لما سبق وأخبر به في منام الراعي.
[1] العلماء الثلاثة الزرد شتيون الذين حضروا من فارس إلى بيت لاحم بحثا عن المسيح والذين أطلق عليهم علماء العهد الجديد\ المجوس
[2] James Henry Foreman: Story of the Prophesy pp. 310-311
[3] انظر حاشية الصفحات رقم 0- 10-17-18
[4] النبيل ص 4- 9 10-16 -النسخة الإنجليزية
[6] المصدر السابق ص 59
[7] المصدر السابق ص 25-30،40-46
[8] رؤيا القديس يوجنا 11: 4
[9] القرآن سورة الزمر الآية 68
كان الملا حسين في ذلك الوقت يؤدي مهمة خاصة للسيد كاظم في في مدينة أصفهان، فقد أرسله السيد كاظم للحصول على تعضيد أحد الزعماء الدينيين المرموقين، كللت مهمته بالنجاح بحيث جعلت ذلك الزعيم يغير من وجهة نظره، وأصبح شغوفا بالملا حسين بدرجة جعلته يندم على عدم الاعتناء به في بادئ الآمر. أرسل ذلك الرحل أحد خدمه ليعرف أين يقيم الملا حسين. تبعه الخادم حتى رآه يدخل حجرة خاوية من الأثاث اللهم إلا حصيرة واحدة على الأرض وأخذ يراقب الملا حسين وهو يؤدي الصلاة ثم رآه يرقد على الحصيرة لا يقيه من البرد شيء غير عباءته. عندئذ عاد وأخبر سيدة بما رأي فزاد إعجاب ذلك الشيخ بالملا حسين زيادة عظيمة جعلته يعيد خادمه إليه ومعه مائة تومان كهدية. رد الملا حسين النقود وقال للخادم:
“أخبر سيدك إن هديته الحقيقية لي هي أنصافه وسعة أفقه في استماعه إلى رسالتي بالرغم من علو مقامه وحقارة شأني. أعد هذه النقود فأنا لا أريد جزاء ولا شكورا، أنما نطعمكم لوجه الله. ودعائي لسيدك ألا تمنعه الرئاسة الدنيوية عن الشهادة والاعتراف بالحق عند ظهوره.”[1]
وعندما عاد الملا حسين إلى كربلاء كان السيد كاظم قد انتقل من هذه الحياة. وبالرغم من أن الملا حسين كان قلبه مكلوما إلا أنه أخذ في إنعاش قلوب أتباع رئيسه المحبوب المحزونين وتقويتهم، دعاهم جميعاً للاجتماع به لتجديد حماسهم. سأل الملا حسين التلاميذ قائلاً: “
ماذا كانت أعز مرامات رئيسنا الراحل وما هي آخر وصاياه؟”
فاستخرج من بين شفاهم المتمنعة عن الكلام الاعترافات الآتية:
أولاً: أمرهم السيد كاظم، مرارا وتكرارا، مؤكداً بأنه يجب عليهم ترك منازلهم والتشتت في جميع الأرجاء بحثاً عن الموعود الذي كثيراً ما أشار إلى مجيئه.
ثانياً: أن ذلك الموعود الذين ما فتئوا يبحثون عنه يعيش الآن بينهم وأن حقيقته لا تنكشف إلا للباحث الذي يثابر في بحثه إلى النهاية.
ثالثاً: أنه لا شيء مطلقاً يقودهم إليه غير الإقدام والتضرع، وخلوص النية، ووحدة الهدف والسعي المتواصل.
ثم عقبوا قائلين: “نحن نعترف بفشلنا”.
سألهم الملا حسين:
عند هذا! المنعطف أجابوا على اسأله الملا حسين واستفساراته بإجابات واهنة تنم عن تهربهم وعدم استعدادهم للتضحية. قال أحدهم:
“أعداؤنا كثيرون وأقوياء. فعلى إن أبقى في هذا البلد لأحمي شرف السيد كاظم”.
وصرح آخر:
“يجب على أن أبقى لأرعى أولاد السيد كاظم وعائلته الذين تركهم خلفه”.
ولكنهم وافقوا جميعاً على رئاسة الملا حسين قائلين: ” إن ثقتنا فيك بدرجة أذا ادعيت أنك الموعود فنحن جميعاً على استعداد أن نذعن لك وبدون سؤال”.
فصعق الملا حسين وصاح:
” معاذ الله ان أقارن به ما أنا إلا غبار بالنسبة إليه “.
أدرك الملا حسين عدم جدوى جهوده فكف عن الحديث معهم. تركهم ووضع خطة له للشروع فورا في البحث عن المحبوب الإلهي.[2]
استعد الملا حسين لبحثه بالاعتزال وقضاء أربعين يوماً في خلوة للتعبد. قطعت خلوته وصول الملا على بصورة غير منتظرة ومعه اثني عشر آخرين من أتباع السيد كاظم الرشتي فقد تأثروا من كلمات الملا حسين فعزموا نهج منواله في شروعهم عن البحث. حاول الملا على في عدة مناسبات التواصل مع الملا حسين ليسأله عن الجهة التي يجب أن يقصدها عند نهاية العزلة. وفي كل مرة اقترب منه وجده مستغرقاً استغراقاً عميقاً في العبادة وشعر إذ ذاك انه ليس من اللائق أن يتجاسر على السؤال. فعزم أن يحذو حذوه بالاعتزال عن الناس وإعداد قلبه للبحث وقد تبعه في ذلك بقية رفاقه.
وبمجرد انقضاء الأربعين يوماً، ترك الملا حسين كربلاء عازماً ألا يتوقف عن بحثه حتى يحظى بمحضر من يبحث عنه. تواردت وعود السيد كاظم في خاطره وأعادت على ذاكرته نبوءات عديدة الواحة بعد أخرى.
“إن في سنة الستين (1260ه-1844م) يظهر أمره ويعلو ذكره”.
“في اسمه يسبق اسم الولي (على) اسم النبي (محمد)”.
“في سنة 1260هـ تغرس شجرة الهداية الإلهية”.
“سوف يكون وزراء وأنصار دينه من العجم”.
الآن وقد حلت سنة الستين، توجه الملا حسين فوراً إلى ارض فارس حيث شعر بان يتحتم عليه الشروع في البحث منها. قاده حافز داخلي التوجه إلى بوشهر الواقعة على الخليج الفارسي. وبينما كان يسير في شوارعها شعر بهاتف يخبره بان هذه المدينة قد وطأتها إقدام محبوبه. قال الملا حسين انه استطاع أن يشعر بحلاوة روائح قداسته من بوشهر. لم يمكث الملا حسين في بوشهر فقد شعر بشيء كإبرة البوصلة يجذبه نحو الشمال، فشرع فورا بالمشي على إقدامه شطر مدينة شيراز. وعندما وصل إلى باب المدينة أمر أخاه وابن أخته اللذين رافقاه أن ينتظرا عودته في المسجد. وأخبرهما قائلا: “أن شيئاً ما يجذب قلبي إلى داخل المدينة، ولكن سوف ألقاكما لنصلي المغرب سويا.
وقبل الغروب ببضع ساعات، لمح الملا حسين فتّى وضّاح المحيي. تقدم ذلك الشاب نحو الملا حسين فحياه بابتسامة ودية وعانقه بمحبة وعطف كما لو كان صديقاً حميماً مدى العمر. ظن الملا حسين في، بادئ الأمر، إن ذلك الشاب أحد أتباع السيد كاظم سمع باقترابه من شيراز فخرج للترحيب به. يستعيد الملا حسين ذكرى تلك الليلة الخالدة التي لا تنسى قائلا:
“دعاني ذلك الشاب بحرارة لزيارة منزله كي أستريح من وعثاء رحلتي. فسألته المعذرة قائلاً إن رفيقي ينتظران عودتي. فكانت إجابته:
“اتركهما لحراسة الله. فهو لا شك سيحفظهما ويرعاهما”.
وبعد أن نطق بهذه الكلمات، التفت وأمرني أن اتبعه. تأثرت تأثراً عميقاً من الأسلوب اللطيف والمهيمن الذي خاطبني به ذلك الشاب. فان مشيته وسحر حديثه ووقار هيئته كل هذا ضاعف في تقدير أول انطباع لي عنه”.
تابع الملا حسين قائلا:
“وما هي إلا فترة وجيزة حتى كنا واقفين أمام باب منزل متواضع، وكانت كلماته عندما اجتاز عتبة الباب وأشار إلى بإتباعه: “ادخلوها بسلام آمنين”. نفذت دعوته هذه التي وجهها بقوة وجلال إلى روحي وحسبته فألا حسناً أن أخاطب بمثل هذه الكلمات وأنا واقف على عتبة أول منزل ادخله في شيراز. قلت في نفسي هلا مكنتني زيارتي لهذا البيت من الاقتراب إلى مقصود بحثي؟”.
“اجتاح كياني شعور لا يوصف، وفي ساعة الصلاة أرحت قلبي من ثقل حمله حيث توجهت على الله وناشدته قائلا: “يا إلهي لقد كدحت بكل روحي وإلى الآن لم أوفق إلى رسولك الموعود. أشهد بأن وعدك الحق وأنك لا تخلف الميعاد”.
“”كان ذلك بعد الغروب بساعة عندما بدأ مضيفي الشاب يحدثني، سألني قائلا:
“من ذا الذي تعتبرونه رئيساً لكم بعد السيد كاظم؟”.
أجبته:
” حينما عاجلت المنية شيخنا السيد كاظم نصح كلاً منا بهجر بيوتنا والتشتت في
أقاصي الأرض بحثاً عن الموعود المحبوب. ولهذا حضرت إلى بلاد فارس وما زلت
منكبا في بحثي عنه “.
سألني: “هل أعطاكم سيدكم علامات مسهبة لأوصاف الموعود المميزة؟”.
“أعددت له جميع الأشياء التي أمرنا السيد كاظم بأن نبحث عنها في الموعود الإلهي المحبوب.”
سكت مضيفي برهة ثم فأجاني بهذه الكلمات التي رددها بصوت جهوري:
” انظر. هذه العلامات كلها ظاهرة فيّ!”.
“ثم أخذ يبين بدقة كل واحدة من هذه العلامات على حدة وبرهن بالدليل القاطع على أن كل واحدة منها وجميعها فعلاً تنطبق على شخصه. فاندهشت اندهاشاً عظيماً وتأثرت تأثرا عميقاً. وأبديت ملاحظتي بأدب قائلاً بأن الذي ننتظر مجيئه رجل ذو قدسية لا تفوقها قداسة أخرى، والأمر الذي سيظهره هو أمر ذو قوة هائلة”.
“وما أن خرجت هذه الكلمات من بين شفتي حتى وجدت نفسي وقد استحوذ عليه الخوف والشعور بالندم بدرجة لم أتمكن من إخفائهما أو التسامي بهما. وبّخت نفسي بشدة وعزمت على تغيير موقفي وتليين لهجتي. وعاهدت الله بانه أذا أشار مضيفي مرة أخرى إلى ذلك موضوع فسوف أجيب بكل خضوع وأقول: “ذا كنت راغباً في أثبات صحة ادعائك فسوف تخلصني بكل تأكيد من القلق والحيرة اللذين يثقلان روحي، وسأكون مديناً لك حقاً بهذا الخلاص”.
كان اسم مضيف الملا حسين على محمد، قضى هذا الشاب عدة سنوات يعمل كتاجر لحساب خاله في مدينة بوشهر قبل حضوره للسكن مع خاله في شيراز. أية أفكار تلك التي لابد وأن تكون قد خطرت في رأس الملا حسين وهو ينظر إلى وجه مضيفه الجميل إذ في اسمه يسبق اسم الولي (على) اسم النبي (محمد). أتى من فارس وها هو يعلن نفسه الآن في سنة الستين (1844م). أليست هذه الأشياء كلها هي التي تنبأ بها السيد كاظم؟
كان لدى الملا حسين مقياسين أمل أن يحكم بهما على مصداقية كل من يدعّي أنه ذلك الرسول العظيم المنتظر. المقياس الأول عبارة عن رسالة صنفها بنفسه تشمل أصعب تعاليم الشيخ أحمد والسيد كاظم الباطنية، فكل من استطاع كشف غامضها فعندئذ يختبره بالمقياس الثاني وهو تنزيل تفسير لسورة يوسف. يعيد الملا حسين إلى ذاكرته ذلك القلق الذي خالجه أثناء تلك اللحظات الرهيبة بهذه الكلمات:
” وبينما كنت أفكر في هذه الأمور أشار مضيفي المتميز مرة أخرى قائلاً:
“أنعم النظر… هل يمكن أن يكون الشخص الذي قصده السيد كاظم أحداً غيري؟”.
حينئذ وجدت نفسي مضطراً أن أقدم إليه رسالتي، وسألته:
“هل تتفضل بأن تقرأ كتابي هذا وتلقي بعين الرضا نظرة إلى صفحاته”.
فتح مضيفي الكتاب وألقى نظرة عابرة على بعض فقراته ثم أغلقه وابتدأ يخاطبني. وفي خلال دقائق معدودات كشف لي عن جميع أسراره وحلّ جميع معضلاته بقوة وجاذبية، كما أطلعني أيضاً على بعض الحقائق التي لا يمكن الحصول عليها في كتابات الشيخ أحمد والسيد كاظم. كنت تلك التعاليم التي لم أسمعها قط من قبل مفعمة بقوة وحياة ومنعشة للأرواح. ثم أقسم مضيفي قائلاً:
“قسماً بالله العظيم، ينبغي في هذا اليوم على جميع شعوب الأرض وأممها في الشرق والغرب أن يسرعوا إلى هذه العتبة. ينبغي لهم أن يقوموا بشوق ومن تلقاء أنفسهم كما قمت آنت ويبحثوا بعزم ومثابرة عن محبوبهم الموعود.”
ثم نظر إلى وابتسم وقال:
“الآن حان وقت إنزال تفسير سورة يوسف”.
حدث ذلك تماماً كما سبق وأخبر به السيد كاظم الملا حسين حيث وعده بأن “المحبوب في تلك الساعة سوف ينزل تفسيراً لقصة يوسف دون أن يُسأل”. وبسرعة لا تكاد تصدق أنزل المضيف الفصل الأول بأكمله من تفسيره لسورة يوسف. وتنبأ في هذا الكتاب عن استشهاده. زادت رخامة صوته الذي صاحبة الوحي النازل من تأثير أسلوبه المهيمن الذي كان يكتب به ولم ينقطع لحظة واحدة تدفق الآيات الجارية من قلمه. أو يتوقف ولو مرة واحدة حتى أتمه.
كتب المؤرخ الكونت دي جويبنو (Comte de Gobineau) معلقا:
” بأن الشيء الذي لا يكّل المرء عن الإعجاب به هو الأسلوب العربي البليغ الجميل الذي استعمل في تلك الكتابات الذي سرعان ما استحوذت على معجبين متحمسين لم يخشوا تفصيله عن أدق آيات القرآن”[3].
وتابع الملا حسين قائلا: “جلست مأخوذاً بسحر صوته وقوة بيانه الجارفة. وأخيراً نهضت دون رغبة مني واستأذنته بالانصراف فأمرني مبتسماً بالجلوس وقال:
“إذا انصرفت على هذه الحال فان كل من يراك لا بد أن يقول إن هذا الشاب المسكين فقد حجيته”.
وتابع الملا حسين قائلا:
كانت الساعة آنذاك تشير إلى الثانية والدقيقة الحادية عشرة بعد الغروب عشية يوم 23 مايو عام 1844م. (5 جمادى الأول عام1260 هـ). أعلن (حضرة)الباب للملا حسين قائلا:
“أن هذه الليلة هذه الساعة عينها سوف يحتفل بها في الأيام الأتية كعيد من أعظم الأعياد وأهمها”.
تكلم يسوع عن رسالته في أول الأمر إلى صيادين سمك بسطاء، والآن أعلن موعود هذا العصر رسالته، لأول مرة، إلى طالب فارسي متواضع هو الملا حسين.
لم يحدث في تاريخ أي دين سابق أن حفظ شاهد عيان، بمثل هذه الدقة، ما دار من حوار في الليلة الأولى التي أعلن فيها مبعوث إلهي دعواه مثل ما فعل الملا حسين في ذلك الاجتماع التاريخي الذي لا ينسى. فقد ترك لنا الملا حسين، بلغة خالدة، ذكري ذلك الإعلان الأول مع على محمد (حضرة) الباب.
لم ستطيع الملا حسين أن ينسى ابدأ ما شعر به من اطمئنان وهدوء داخلي في محضر الباب المحيي للأرواح. وكثيراً ما تحدث إلى رفاقه عن تلك الليلة البديعة قائلاً:
“جلست مأخوذاً من سحر بيانه. وكأني كنت أتذوق في تلك الليلة جميع مباهج الفردوس. شعرت حينذاك أنني كنت في مكان أستطيع أن أقول عنه حقاً “لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب” و “لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً ألا قيلا سلاما سلاما”.
” فارق النوم الملا حسين وهو يستمع لموسيقى صوت محبوبه يخاطبه:
“يا أول من آمن بي. أنى أنا الباب، باب الله”
الآن، انتهى، في آخر المطاف، بحث الملا حسين المسهب. ولعل خير ما يصف عمق تلك التجربة الفريدة هي كلمات الملا حسين نفسه إذ قال:
“أبهرني بهاء هذه الرسالة الجديدة. وشعرت بان قوتها الساحقة قد غمرتني من
أخمس رأسي إلى إصبع قدمي. غلب على مشاعري إحساس بالغبطة والقوة اللتين بدتا وكأنهما قد بدلتا كياني. فكم كنت أشعر سابقاً بالضعف والعجز والكآبة والجبن لدرجة لم أقوى على الكتابة أو حتى المشي لشدة ارتجاف يدي وقدمي، ولكن بعد معرفتي أمره الموعود الإلهي تكهرب وجودي وأحسست بأني أملك قوة وشجاعة بحيث لو قام على العالم بجميع شعوبه وحكامه لقاومت هجومهم وحدي دون وجل.
وتابع ساردا:
“بدا الكون لي وكأنه حفنة من التراب في قبضتي. وكأن صوت جبرائيل قد تجسد فيّ وهو ينادي العالم أجمع قائلاً: “استيقظوا. هودا نور الصبح قد انبلج. انهضوا فقد ظهر أمره وانفتح باب فضله على مصراعيه فادخلوه يا شعوب الأرض فقد جاء موعودكم المنتظر”.
وعلى هذا الحال تركت منزله والتحقت بأخي وابن أختي. وكانت كلمات (حضرة)الباب هذه ما زالت تتردد بلحنها البهيج في قلبي:
“اشكر الله الذي أعانك بفضله في الوصول
الى مرغوب قلبك”.
[1] النبيل ص 22-23
[2] النبيل ص 47- 61
[3] الكونت دي جوبينو المذاهب والفلسفات في آسيا ص120
كان الملا حسين أميناً على تعليمات (حضرة) الباب. فلم يخبر أحداً باكتشافه، حتى إلى ذلك العدد الكبير من أتباع الشيخ احمد الذين سرعان ما التفوا حوله وشاهدوا روحاً جديدة في حديثه وتعجبوا منها غير مدركين أن مصدر علمه وقوته كان يفيض من (حضرة)الباب الذي كانوا جميعاً ينتظرون مجيئه بشغف زائد.
صرّح الملا حسين قائلاً:
” خلال تلك الأيام استدعاني (حضرة)الباب في عدة مناسبات لزيارته. وفي كل مرة زرته فيها بقية مستيقظاً في محضره حتى الفجر، جالساً عند قدميه، منجذبا من سحر بيانه، غافلا عن الدنيا وما قدر فيها وكيف مضت تلك السويعات الثمينة مسرعة! وعند بزوغ كل فجر أنسحب من محضره رغما عني، وكم كنت، خلال تلك الأيام أتطلع بحنين إلى اقتراب ساعات المساء، وبأي مشاعر حزن وأسف أشاهد انبلاج الفجر! وفي إحدى تلك الأمسيات خاطبني (حضرة) الباب بهذه الكلمات:
“سوف يحضر غداً ثلاثة عشر من رفقائك، أغدق على كل واحد منهم منتهى العطف والمودة. وادعُ الله أن يمكنهم بفضله من السير بأمان على ذلك الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحّد من السيف”[1]
أخبر (حضرة)الباب الملا حسين، بأن بعض من هؤلاء الرفاق سوف يصبحون من حواريه المختارين، وآخرون سيسلكون طريقاً لا حماس فيها ولا فتور، وسوف يظل آخرون دون الإعلان عن أنفسهم حتّى ذلك اليوم الذي يظهر فيه ذلك الذي لم يكن (حضرة)الباب إلاّ مبشراً له. وفي صباح اليوم التالي وصل إلى شيراز الملاّ على (البسطامي) صديق الملا حسين الحميم، وبصحبته أثني عشر مرافقاً. على الفو، لاحظ الملا على التغيير العظيم الذي حدث للملا حسين وأدهشه ذلك الاطمئنان المشع من وجهه، فشكّ في الأمر. سأله الملا على: “ما لنا نراك تعلّم الناس بكل هدوء وعرجت عن البحث وقد اختفى من وجهك علامات تعليمات والترقّب؟ أرجوك أن تهبني نصيباً مما وجدت، فهو وحده الذي يطفئ ظمأى ويسكن لوعة الشوق في قلبي.”
أبي الملا حسين ان يفتح فاه ويشارك صديقه سره، وتضرع إليه قائلاً:
“لا تتوسل أن أهبك هذا الفضل، ضع ثقتك في الله فهو لا شكّ سيسدد خطاك.”
كان الفرح المشرق من وجه الملا حسين عظيما بدرجة لم يعد معها الملا على قادراً أن يحرم نفسه من هذا السر. وجاهد بكل قواه في رفع ذلك الحجاب الذي يحول بينه وبين المحبوب، فتمسك بالصلاة والصوم. وفي الليلة الثالثة من خلوته، بينما كان الملا على مستغرقاً بعمق في ترتيل الدعاء والابتهال، شاهد في رؤياه نورا، ويا للعجب! كان النور يسير أمامه، فتبعه وهو مشدوه من جماله العديم المثال حتى قاده أخيرا إلى باب بيت معيّن. عرف فوراّ أن الكنز الذي يبحث عنه موجود في داخله. أستيقظ الملا على وهو في حالة عظيمة من الغبطة. ومع أن الليل قد بلغ نصفه اندفع سريعا إلى منزل الملا حسين وألقى بنفسه بين ذراعي صديقه ووجهه يشّع فرحا. فأدرك الملا حسين على الفور أن الملا على قد علم أخيراً بالحقيقة وعرف أين يجد محبوبه. عانق الملا حسين صديقه بكل بمحبة وقال له: الحمد لله الذي هدانا …”. وعند طلوع النهار أسرع الملا حسين برفقة الملا على إلى منزل (حضرة)الباب فقاباهما عند باب المنزل الخادم الحبشي، الذي كان (حضرة)الباب يحبه كثيراً، فعرفهما، وعلى الفور، حيّاهما بهذه الكلمات: “استدعيت قبل تنفس الصبح إلى محضر سيدي الذي أمرني أن أفتح باب المنزل وأقف منتظراً عند عتبته. وأخبرني: سيحضر في بكرة هذا الصباح ضيفان رحبّ بهما ترحيباً حارا باسمي وقل لهم نيابة عني: “أدخلا باسم الله “.
أختلف اللقاء الأول للملا على مع (حضرة)الباب عن اللقاء الأول للملا حسين اختلافا بينا. ففي الاجتماع السابق قدّم (حضرة)الباب براهين دعوته للملا حسين ليزنها ويدرسها، أمّا في هذا الاجتماع فقد طرحت كل هذه المسائل جانبا وسادت روح المحبة القوية المفعمة بالأخوة الحارة. قال الملا على بأن الحجرة ذاتها بدت وكأنها قد أحييت من بيان (حضرة) الباب، وكأن كل شيء فيها ينطق بهذه الشهادة:
“حقاً! إن فجر يوم جديد قد طلع وأن الموعود قد تربع على عرش قلوب العالمين، وبيده كأس البقاء، طوبى للشاربين،”.[2]
حدث بعد ذلك إن سبعة عشر نفساً قام، الواحد منهما بعد الآخر، بالبحث عن (حضرة) الباب، فقابله وآمن به وبتعاليمه. كان بين هؤلاء الحواريين امرأة تدعى الطاهرة آمنت ب(حضرة)الباب دون المثول في محضره إذ أبصرته في عالم الرؤيا وأضحت مؤمنة ثابتة ومبلّغة جريئة وفي النهاية شهيدة.
في ذات ليلة وبينما كان (حضرة)الباب يتحدث مع الملا حسين قال له: “أنخرط حتى الآن سبعة عشر حرفا، تحت لواء دين الله… وفي مساء الغد سوف يأتي الحرف الباقي وبذلك يكمل عدد تلاميذي المختارين”.
وفي مساء اليوم التالي، بينما كان (حضرة)الباب عائداً إلى منزله يتبعه الملا حسين ظهر شاب عليه غبار السفر ويبدو كليلا من وعثاء السفر وطول رحلته. تقدّم هذا الشاب، وأسمه القدوس، من الملا حسين فعانقه وسأله إذا كان قد وصل إلى مقصود قلبه. حاول الملا حسين تهدئته ونصحه بالاستراحة قليلا وقال بأنه سيتحدث إليه فيما بعد. إلاّ أن ذلك الشاب أبي أن يستريح، ونظر على الأمام متجاوزا الملا حسين إلى شخص (حضرة)الباب الذي كان يبتعد في سيره ثم التفت إلى الملا حسين وقال له: “لماذا تحاول أن تخفيه عني، إنني أستطيع معرفته من مشيته وأشهد بأنه لا يستطيع أحد غيره، سواءً في الشرق أو الغرب، الادعاء بأنه هو الحق، ولا يوجد غيره من يقدر على إظهار القدرة والجلال اللذين يشعّان من شخصه المقدّس”.
ذهل الملا حسين من هذه الكلمات والتمس منه أن يضبط مشاعره، ووعده بأن الحقيقة ستنكشف له بعد وقت قصير. ترك الملا حسين القدوس وأسرع ليلتحق ب(حضرة)الباب فيخبره بحديثه مع ذلك الشاب. فقال له (حضرة) الباب:
“لا تستعجب من مثل هذا التصرف فإننا كنا نتخاطب مع هذا الشاب في عالم الأرواح، فنحن نعرفه من قبل. وكنّا بالفعل في انتظاره. أذهب إليه وأدعُوهُ إلى حضورنا فوراً”.
تذكر الملا حسين على الفور النبوءة الخاصة بآخر الزمان التي تقول:
” في اليوم الأخير يطوي رجال الغيب بأجنحة الروح فضاء العالم الوسيع ويحضرون أمام الموعود يبتغون منه السر الذي يحّل لهم معضلاتهم ويزيل متاعبهم”. [3]
والآن، وبعد أن آمن به التلميذ الثامن عشر المعروف بالقدوس، دعاهم (حضرة)الباب إلى محضره وخاطبهم قائلاً:
” أرفعوا النداء قائلين: أفيقوا! أفيقوا، فيا لله! قد فتح باب الله وتنفس الصبح وغطّى ضياؤه العالمين! لقد جاء الموعود. مهدّوا له الطريق يا أهل الأرض”.[4]
وجه (حضرة)الباب خطابا خاصا للملا على وطمئنه قائلا:
” ليكن إيمانك راسخاً كالصخرة يقاوم كل عاصفة ويقوى على كل مصيبة. لا تدع استنكار الجهاّل يثنيك عن مقصدك. فأنت أول من يغادر بيت الله ويُقاسي لأجله. وإذا قتلت في سبيله تذكّر إن آجرك سيكون وافرا وجزائك طيباً”.
وما أن سمع الملا علي هذه الكلمات التامات نهض وخرج لتبليغ دعوة (حضرة)الباب وتنفيذ أوامره. وبجرد أن خرج الملا علي من بوابة شيراز حتّى لحق الأعداء به فضربوه ضريا مبرحا. فكان الملا على أول من تعذبّ في سبيل الدعوة جديدة وهو أيضاً أول من أتى بأخبار (حضرة)الباب إلى الطاهرة. وفي النجف قبض عليه بسبب إعلانه دعوة (حضرة)الباب بلا خوف، ثمّ قيد بالسلاسل وأخذ إلى بغداد محكوما عليه بالإعدام. وهناك ألقي في السجن، وحوكم مرة ثانية، ثم سيق إلى القسطنطينية مقيدا بالسلاسل والأغلال. يقول البعض أنه توفى في الطريق. ويقول آخرون إنه استشهد بعد ذلك ولا يعرف أحد ما حلّ بهذا البطل الإلهي في آخر الأمر. [5]
استدعى (حضرة)الباب جميع تلاميذه الآخرين إلى محضره. كلف كل واحد منهم بمهمة شخصية خاصة. ثم ودعهم بهذه الكلمات:
“يا أصحابي الأعزاء. أنتم حملة اسم الله في هذا اليوم… لتشهد أعضاء جسدكم على سمو مقصدكم وطهارة حياتكم، وحقيقة إيمانكم ورفعة إخلاصكم… تأملوا في كلمات المسيح التي وجهها إلى تلاميذه حين أرسلهم لنشر أمر الله حيث قال:” أنتم كالنار الموقدة على قمة جبل وسط ظلام الليل الحالك، لتكن طهارة أخلاقكم وشأن انقطاعكم على شأن يتقرّب أهل الأرض بواسطتكم إلى الأب السماوي مصدر الطهارة والفضل”.
وفي رسالة توديعه لتلاميذه وجه (حضرة)الباب أنظارهم، مرة أخرى إلى الذي سوف يأتي من بعده سريعاً، والذي لم يكن هو إلا مبشراً له، ثم أعاد كل واحد منهم إلى إقليمه للتبليغ قائلاً لهم:
” إني أعدكم لمقدم يوم عظيم. ابذلوا غاية الفعالية حتى افرح أنا الذي أعلمكم الآن، بأعمالكم وأتفاخر بما تمّ على أيديكم أمام كرسي رحمة الله. انتشروا في طول هذه الأرض وعرضها وأعدوا، بأقدام ثابتة وقلوب طاهرة الطريق لمجيئه”.
وتابع قائلا:
“لا تنظروا إلى ضعفكم وعجزكم بل ثبتّوا أنظاركم إلى قوة الله القاهرة القادرة”…قوموا باسمه وتوكلوا عليه وأيقنوا بالنصر النهائي”.
بمثل هذه الكلمات أنعش (حضرة)الباب إيمان تلاميذه ودفع بهم للشروع بمهمتهم. [6]
[1] النبيل ص 65-66
[2] النبيل ص 67-69
[3] النبيل ص 70
[4] النبيل ص 80
[5] النبيل ص 87-91
[6] النبيل ص 92-94
في صباح ذات يوم، بعد أن غادر بقليل معظم تلاميذ (حضرة)الباب شيراز إبان ساعة الفجر للقيام بمهام التبليغ التي أوكلها (حضرة)الباب إليهم ظل كلا من الملا حسين-أول تلاميذه – والقدوس آخرهم –في شيراز. كشف لهما (حضرة)الباب عن عزمه الذهاب إلى مكة. وكما سافر عيسى إلى أورشليم، معقل اليهود للإعلان عن رسالته، كذلك خطط (حضرة)الباب الذهاب إلى مكة قلب العالم الإسلامي. وعندما حانت ساعة رحيله دعا إليه الملا حسين وأخيره بأنه سوف يزور مكة والمدينة وهناك يتّم الرسالة التي عهده الله بها وقد اختار القدوس للذهاب معه وترك الملا حسين لمواجهة هجوم عدو شرس قاس. وأكد له، انه لا توجد قوة على الأرض تستطيع أن تؤذيه حتى ينتهي من إتمام مهمته. وطمأنه قائلا: “من أحبك، أحب الله ومن صادقك، صادق الله. ومن أنكرك فقد أنكر الله وسوف تحيط بك يد القدرة الإلهية وتسدد خطاك”[1]
غادر (حضرة)الباب بصحبة القدوس إلى بوشهر الواقعة على الخليج الفارسي وهناك ركبا سفينة شراعية. وبعد شهرين من الإقلاع في بحر هائج رست بهما السفينة على ساحل البلاد العربية. دوّن أحد المسافرين في هذه الرحلة ملاحظاته فيما يلي:
“كلما وقعت عيني على (حضرة)الباب أو على القدوس، منذ يوم إقلاعنا من بوشهر إلى إن نزلنا إلى البر، أجدهما منهمكين معا في عملهما: (حضرة)الباب يُملي والقدوس يدوِّن كلَ ما يخرج من شفتيه. ّ فلا العواصف الهائجة من حولهما، ولا دوار البحر الذي أصاب المسافرين الآخرين استطاعا أن يشوشا على وقارهما، أو يعوقا عملهما “[2]
دخل (حضرة)الباب بلدة مكة راكبا جملاً، مثل ما دخل المسيح أورشليم راكباً حماراً. رفض القدوس أن يركب بجواره خلال رحلتهما البرية، وقال، انه فضل مرافقته مشياً على الأقدام ممسكاً بمقود الجمل. وفي كل ليلة كان القدوس يقيم نفسه حارساً على محبوبة من الغروب إلى الفجر. وفي ذات يوم أثناء زيارته إلى مكة اقترب (حضرة)الباب من رجل يُدعى محيط عرف (حضرة)الباب بأنه أحد أتباع الشيخ أحمد المرموقين، وعلم بأنه لو كان محيط وفياً لإرشادات سيده، فلابد وأن يكون مشغولا الآن بالبحث عن الموعود بحماس. خاطبه (حضرة)الباب قائلاً:
“يا محيط! انظر أننا الآن واقفان بجوار هذا الحرم الأقدس… فمن تسكن روحه في هذا المكان يستطيع أن يفصل الحق عن الباطل؟ … إني أعلن، انه لا يوجد غيري في هذا اليوم، سواء في الشرق أو الغرب، يقدر أن يدعي أنه الباب الذي يوصل الناس إلى معرفة الله؟ … اسألني ما تشاء، وأنا الآن وفي هذه اللحظة أتعهد أن انزل من الآيات ما يدلّل على صدق رسالتي”
خارت قوى محيط من صدمة هذا التحدي المفاجئ والمباشر غير المتوقع، فاشتدت رغبته في الرحيل ودون أن يتطلع إلى (حضرة)الباب قال: “… ينتظرون وصولي في المدينة فوراً”. لم يقو محيط المكوث في محضر (حضرة) الباب، ففر مذعورا من أمام وجه (حضرة) الباب، وهرع إلى خارج الحرم.[3]
لم يجد (حضرة)الباب من يعيره أذنا. فقد كان القوم غير مكترثين، معادين أو خائفين. وكمحاولة أخيرة لإيقاظ الناس في هذه المدينة الإسلامية المقدسة، كتب إلى شريف مكة رسالة آملاً أن يصل عن طريقه إلى قلوب الحجاج الطائفين حول الكعبة. شرح (حضرة)الباب في هذه الرسالة بكل وضوح ودون لبس، المعالم المميزة لرسالته ودعاه لاعتناق دعوته. ولكن الشريف لم يكلف نفسه عناء تلاوة الرسالة، أو مشاركة أصحابه لمحتوياتها، فقد كانوا جميعاً منشغلين في شؤونهم الخاصة بدرجة لم يقدروا معها على الاستجابة إلى نداء (حضرة) الباب. أعترف الشريف فيما بعد بإهماله وبعدم اكتراثه قائلاً:
“أتذكر أن شاباً حضر لرؤيتي في عام 1844م، وسلمني كتاباً، ولكنني كنت مشغولاً للغاية في ذلك الوقت فلم أطالعه. وبعد بضعة أيام التقيت به مرة أخرى. وسألني إذا كان لديّ أي ردّ على رسالته. ولما كان ضغط العمل قد حال بيني وبين تلاوة محتويات ذلك الكتاب، فقد أخبرته بعدم وجود جواب لدي أعطيه”.[4]
وهكذا عومل (حضرة)الباب كما عومل المسيح، بنفس السخرية والازدراء. وحدث تماماً كما وقع في تلك الأيام عندما اتهم المسيح زعماء عصره قائلاً: “ويل لكم… انتم ما دخلتم و الداخلون منعتموهم”.[5]
لم يفهم الكثير من الناس كلام (حضرة) الباب، سواء تكلّم بصراحة أو بأمثال. كتب المؤرخ نيقولاس قائلا:
” كان على (حضرة)الباب طوال مدة دعوته أن يتصرف “كما يتصرف الطبيب مع الأطفال، اذ عليه أن يخفي الدواء المرّ داخل غلاف حلو المذاق كي يكسب مودة مرضاه الصغار. فالقوم الذي ظهر (حضرة)الباب في وسطهم كانوا، وما زالوا، يا للأسف، أشدّ تعصباً مما كان عليه اليهود في زمان المسيح…. لهذا، أذا رأى السيد المسيح أنه من اللازم استعمال الأمثال بالرغم من الهدوء النسبي للمحيط الذي كان يبّشر فيه، فان (حضرة)الباب كان مضطراً أن يسكب تعاليمه، قطرة فقطرة، من مصفاة حقائقه الإلهية. فهو يربي ابنه، البشر، يرشده، ويسعى في عدم إخافته، ويوجّه أولى خطاه في طريق يقوده ببطء، ولكن بثبات، فإذا ما استطاع السير بمفرده وصل إلى الهدف المقدر له منذ الأزل”.[6]
وقبل أن يغادر (حضرة)الباب مكة والمدينة تضرع إلى الله بأن يعجل بساعة استشهاده، لعلّ الناس، بهذا القربان يدركون الحقيقة. وأعلن قائلا:
“ستكون قطرات هذا الدم المكّرس بذراً تنبت منه الشجرة الإلهية العظيمة، الشجرة التي سوف تجمع تحت ظلها الظليل شعوب الأرض وأهلها… إذا، لا تحزنوا إذا رحلت عن هذه الأرض لأنّي مُسرع لإتمام ما كتب لي”.[7]
[1] النبيل ص 97
[2] النبيل ص 129-130
[3] النبيل ص 136-137
[4] النبيل ص 139
[5] النبيل ص 138
[6] لوقا 11:52
[7] النبيل ص 140-141
عاد (حضرة)الباب بصحبة القدوس إلى بوشهر. وبعد مضي وقت قصير أرسل (حضرة)الباب القدوس إلى شيراز لينقل تحياته وتعليماته إلى عائلته والمؤمنين في تلك البلد، كما أرسل معه بعضاً من كتبه وآثاره ليشاركهم بها. وبمنتهى اللطف ودّع القدوس قائلاً:
” أوشكت أيام مرافقتك لي على الانتهاء… لم يكن نصيبك في عالم التراب هذا سوي أشهر معدودات انقضت مسرعة. كنت خلالها مصاحباً لي… ولن يمضي وقت طويل حتى تغمسك يد القضاء في بحر من البلاء… ففي شوارع شيراز ستنهال عليك الإهانات ويصيب جسدك أشد أنواع الأذى. ولكنك سوف تعيش… وستمثل بين يدي من هو مقصود محبتنا… ذلك الشخص العظيم الذي سوف يأتي من بعدي”.[1]
وصل القدوس بعد وقت قصير إلى شيراز. شرع القدوس بالتحدث في كل مكان عن تلك الأيام الخالدة التي قضاها بصحبة (حضرة)الباب فأججت كلماته الحماسية المدينة بأجمعها. تصادق القدوس مع رجل طاعن في السن يدعى الملا صادق. أعطاه القدوس نسخة من إحدى كتابات (حضرة) الباب. لمح (حضرة) الباب، مرة أخرى، في هذا الكتاب، تماماً كما وعد من قبل الشيخ أحمد والسيد كاظم، بأنه سوف يظهر في ذلك اليوم رسولان إلهيان بينهما فترة وجيزة من الزمن. وما (حضرة)الباب إلا مبشراً وعبداً لذلك الظهور الأعظم الذي سوف يليه. أفزع الحماس الذي أثاره كل من القدوس والملا صادق في حديثهما عن (حضرة)الباب المدينة بأسرها. فتدفقت ألوف الاحتجاجات على مكتب الحاكم حسين خان، تقول بأن القدوس يدعي بأن (حضرة)الباب صاحب شريعة جديدة وأنه أنزل كتاباً بوحي إلهي، والآن قد اعتنق الملا صادق هذا الدين الجديد، وهو يدعوا الناس بلا وجل للدخول في هذا الدين أيضا.
أمر الحاكم بإلقاء القبض على كل من القدوس والملا صادق. فأمسكوا بهما وصادروا
التفسير الذي كتبه (حضرة)الباب للملا حسين في الليلة الأولى التي أعلن فيها (حضرة)الباب رسالته الذي كان بحوزة الملا صادق، وساقوهما مكبلين بالحديد إلى مكتب الحاكم حسين خان. تجاهل حسين خان القدوس لصغر سنه ووجه أسئلة إلى الملا صادق الذي كان أكبر عمرا، وبغضب ضرب بيده على تفسير (حضرة)الباب الذي كان ممسكا به: معبرا عن عدم رضائه، وقال للملا صادق: “أخبرني:
اشتد تفاعل حسين خان وصاح في وجه الملا صادق بغضب قائلا:
وبدون تردد أجابه الملا الصادق قائلاً-بأنه إذا كانت هذه الكلمات التي نطق بها (حضرة)الباب حقاً، وثبت انه فعلا رسول من عند الله، إذا، كل شيء أخر يحدث في هذا العالم لا أهمية له فالممالك والعصور تمضي إلى التراب ولكن كلمة الله تظل باقية إلى ألأبد.
استاء حسين خان من هذه الإجابة المفعمة، فلعن الملا صادق والقدوس، وأمر خدمه بتجريد الملا صادق من ملابسه وجلده ألف جلدة. ثم أمر بحرق لحيتهما وخزم أنفيهما وتمرير حبل في هذه الفتحة. وأعلن قائلا:
” فليساقا في شوارع المدينة بهذا الرسن، وسيكون هذا عبرة لجميع أهل شيراز، وليعلم كل فرد قد يخالجه فكّره اعتناق هذا الدين بأن عقابه سوف يكون مثل هذا العم العجوز-الذي من المتوقع ألا يتحمل مثل هذا العذاب.”
كان الملا صادق طاعنا في السن بدرجة شعر بانه لا يمكنه البقاء حيّاً بعد هذا التعذيب، ومع ذلك، تمالكاً نفسه واحتفظ بهدوئه. رفع عينيه إلى السماء وتلي دعائه الأخير إلى الله مرتلا هذه الآية من القرآن:
“ربنا إنا سمعنا منادياًّ ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنّا. ربنا فاغفر
لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيئتنا وتوفنا مع الأبرار”
أدلى شاهد عيان حضر تعذيب الملا صادق بالشهادة الآتية:
“”كنت حاضراً عندما كان الملا صادق يجلد، وشاهدتهم يضربونه بالسوط على كتفيه الداميتين حتّى خارت قواه”. لم يكن بين المشاهدين أحد يعتقد أن الملا صادق يستطيع تحمّل أكثر من خمسين جلدة من تلك الضربات الوحشية دون أن يموت، فقد كان طاعناً في السن. ولكن أدهشتنا شجاعته، وعندما تجاوزت الضربات التسعمائة جلدة كان وجهه لا يزال محتفظا بوقاره الأصلي وبهدوئه. وعند طرده بعد ذلك من المدينة اقتربت منه وانا معجباً به إعجاباً عظيماً وسألته كيف استطاع تحمّل هذا العقاب القاسي. فأجابني قائلاً: “
كانت الجلدات السبع الأولى مؤلمة للغاية أمّا بقية الجلدات، بعد ذلك، فلم أبالي بها وكنت أتساءل عمّا إذا كانت الجلدات التي تنهال تنزل على جسدي حقاً؟ فقد استحوذ على شعور من الفرح، وكنت أحاول إخفاء مشاعري وضبط نفسي من الضحك”
نظر الملا صادق إلى شاهد عيان هذا وكأنه يحاول أن ينقل إليه حقيقة هامّة كان يرى إنه يجب على الناس أجمعين معرفتها. وهي، أن العذاب والألم والاضطهاد لا يمكن أن يحتملها أولئك الذين يعيشون بلا هدف في حياتهم ولا أمل في مستقبلهم. ولكن إذا تمسك بحب الله فعندئذ يصبح الألم، في هذا العالم، متعة، والعذاب يصير وسيلة لتقرّبنا إلى الله في العالم الآخر. فقال له: ” إني أدرك الآن كيف أن الله القادر على شيء يستطيع أن يغيّر في أقٌل من لمح البصر الألم بالراحة، والحزن بالفرح. تعالت قدرته فوق تصورات خلقه الفانيين.
احتملا كل من الملا صادق والقدوس عذاباهما بكل جلد. كان هذا بالنسبة للقدوس مقدمة لعذاب أشّد آتِ. وأخيرا، سيقا كل من الملا صادق والقدوس إلى خارج شيراز وهما مجهدين منهوكي القوى ينزفان دماً. وعند باب المدينة أنذرا بأنهما إن عادا سوف يكون مصيرهما الصلب. كان الملا صادق والقدوس بين أوائل أتباع (حضرة)الباب الذين قاسوا
الاضطهاد على أرض فارس.[2]
[1] النبيل ص 142-143
[2] النبيل ص 144-148
لم يشبع حسين خان غضبه بالعقاب القاسي الذي انزله على القدوس والملا صادق. فوجه هجومه، الآن، نحو شخص (حضرة) الباب. أرسل حسين خان حراسّه من الخيّالة إلى بوشهر وأمرهم بالقبض على (حضرة)الباب وبإحضاره مكبلا بالحديد إلى شيراز. ظن الحاكم أن مجرد مشاهدة (حضرة)الباب على هذه الصورة سوف يخمد حماس الجماهير لدعوته.
غادر الحراس، على الفور، شيراز لإلقاء القبض على (حضرة) الباب. وبينما كانوا يعبرون البرية نحو بوشهر التقوا بشخص على صهوة حصانه. فقد غادر (حضرة)الباب بوشهر متجها نحو شيراز للقاء حرس حسين خان لكي يجنبهم وعثاء السفر. روى قائد الحرس بنفسه لقاءه مع (حضرة)الباب قائلا:
“عندما اقتربنا منه حيّانا وسألنا عن وجهتنا فأجبته بأن الحاكم حسين خان أمرنا بالذهاب إلى بوشهر للقيام بتحرٍي ما. فأبدى ملاحظته وهو يبتسم قائلا:” لقد أرسلكم الحاكم للقبض على، ها أنا ذا، افعلوا بي ما شاء لكم”.
“دهشتُ لملاحظته وصراحته وتحيّرت من استعداده لإخضاع نفسه إلى حسين خان معرضاً بذلك حياته وسلامته للخطر”. أُعجب قائد الحرس كثيراً ب(حضرة)الباب ولرغبته في ألا يقع حضرته في قبضة الحاكم تظاهر بعدم معرفته له وأمر رجاله بمتابعة السير. وأستطرد قائد الحرس حديثه عن (حضرة)الباب قائلاً:
” حاولت تجاهله وتأهبت للسير ولكنه اقترب مني، مرة أخرى، وقال لي:
“إني اعرف بأنكم تبحثون عني إني أفضّل أن أسلمكم نفسي بدلاً من أن أعرضك أنت وزملائك إلى مضيّقة لا ضرورة لها من أجلى”. عندئذ، توسل قائد الحرس إلى (حضرة)الباب طالبا إليه أن يفر من وجه حسين خان وأخبره بالألم والعذاب الذي سببهما الحاكم لكل من الملا صادق والقدوس وقال: “انه رجل غليظ القلب ولا أريد أن أكون أداة له لتعذيبك. أنك الإنسان البريء، أنصحك بالهرب إلى مشهد”. فقال له (حضرة) الباب:
“سلمنّي إلى يدي سيّدك ولا تخف فلن يلومك أحد. وإلى أن تحين ساعتي الأخيرة لن يجرؤ أحد على مهاجمتي ولن يستطيع أي فرد إحباط خطة الله القدير. وعندما تحين ساعتي فكم يكون سروري عظيماً لشرب كأس الشهادة باسمه “.[1]
أحنى رئيس الحرس رأسه تلبية لرغبة (حضرة)الباب وتحقيقا لها فأمر رجاله السماح ل(حضرة)الباب بأن يتقدمهم على حصانه، وسارت الخيالة على هذا النحو، وكأنهم حرس شرف له، لا فرقة مكلفة بالقبض عليه، إلى أن وصلوا إلى شيراز.
تملك المارون في الشوارع الدهشة من هذا المنظر العجيب. فهؤلاء الحرس الذين أمروا بإحضار (حضرة)الباب مكبلاً بالحديد عادوا به، بدلاً عن ذلك، بكل مظاهر الجلال والاحترام الذي لا يُسدى إلاّ للملوك. قتل حسين خان مقتا. فوبخ ً (حضرة)الباب علانيةً بلغة بذيئة واستهجن تصرفه. سأله بكل وقاحة قائلاً: “أتدري أي سوء أحدثت؟ ألست أنت الرجل الذي يدّعي بأنه صاحب شريعة جديدة؟”. لم تزد دماثة أخلاق (حضرة)الباب ورقتّه الحاكم إلا غضباً. كتب المؤرخ نيقولاس ما يلي:
“نعلم أن (حضرة)الباب أوصى، بصفة خاصة، اتباعه التمسك بالآداب واللطافة المتناهية في جميع العلاقات الاجتماعية. وأمر قائلاً: “لا تُحزنوا أحدا أياً كان ولأي سببٍ”. وهو نفسه يقول: لقد علّمت المؤمنين في ديني أن لا يفرحوا لحزن أحد”.[2]
ذكّر (حضرة)الباب حسين خان بلطف وحزم بان واجبه كحاكم لإقليم فارس هو أن يتمسك بالحقيقة فيما يتعلق بشؤون مقاطعته وألا يتخذ آية قرارات غير عادلة قبل أن يتبيّن بنفسه حقيقة الأمر. أشعلت هذه الكلمات غضب الحاكم فالتفت إلى خادمه وأمره بصفع (حضرة)الباب على وجهه. كانت اللطمة عنيفة بدرجة أطاحت بعمامة (حضرة)الباب من على رأسه. ثمّ أمر الحاكم (حضرة)الباب أن يبقى معتقلاً في منزل خاله الحاج ميرزا سيّد علي حتّى يقرر ماذا سيفعل به. كما أمر الحاكم الخال بان يكون مستعداً لتسليم (حضرة)الباب فوراً إلى مكتب الحاكم لإنزال العقاب به حالما يطلب منه ذلك.
عاش (حضرة)الباب فترة من الزمان في هدوء نسبي. استطاع (حضرة) الباب، خلال فترة أقامته في منزل خاله مقابلة أتباعه سراً. كان أحد هؤلاء الزائرين عالماً معروفاً وواعظاً من أهالي قزوين يدعى عبد الكريم. بدأ عبد الكريم حياته كتاجر ولكن دفعه شغفه العظيم لمعرفة الله إلى ترك تجارته وتكريس حياته لتحصيل العلوم. ولشدة ظمأه للمعرفة تفوق سريعاً على بقية أقرانه ورقيّ إلى رتبة (مجتهد). أخبره أساتذته بأنه لم يعد في حاجة لحضور حلقات دراساتهم إذ أصبح الآن بجدارة من أذكى العلماء الدينيين وفي استطاعته الآن تعليم الآخرين. قلق عبد الكريم من هذا التصريح قلقاً كبيراً لإدراكه بأنه لا يعلم شيء. فإذا اعتبره أساتذته انه من زمرة احكم الناس، فمن ذا الذي يعرف حقاً أي شيء عن المولى القدير؟
رفض عبد الكريم تعليم الآخرين إذ شعر في نفسه بعدم الاستحقاق. وكان ينزوي في حجرته ليلة بعد أخرى يلتمس من الله الهداية. يخبرنا عبد الكريم عما حدث له في أحج تلك الليالي:
“كنت أظلُ مستغرقا في أفكاري كل ليلة حتى الفجر دون طعام أو نوم. ومن حين إلى آخر كنت أناجي الله قائلا:
“تراني يا الهي وتشاهد بلائي وعمق اضطرابي عندما أرى التفرق الذي مزق دينك. من منهم على الحق؟ إلا تهديني يا إلهي وتخلصني من شكوكي؟ إلى من أتوجه للمواساة والهداية سواك؟ ثمّ انخرطت في البكاء بحرقة حتى فقدت وعيي. وفجأة رأيت أمامي منظر حشد كبير من الناس يتحدث إليهم شخص جليل فيقول لهم:” إن الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”0 سحرني وجهه فنهضت وتقدمت نحوه وكنت على وشك أن ألقى بنفسي عند قدميه فإذا بالرؤية تختفي. شعرت وان قلبي يفيض بالنور وتملكني سرور لا يوصف “.
انطلق عبد الكريم فورا متوجهاً إلى كربلاء وهناك شاهد السيّد كاظمً قائما يخاطب حشداً من الناس تماماً كما رآه في منامه هو وينطق بنفس الكلمات. قضى عبد الكريم فصل الشتاء بأكمله في صحبة وثيقة مع السيّد كاظم الذي كان يتكلم بدون انقطاع عن الرسول القادم. وفي يوم صرح قائلاً: “الموعود يعيش في وسط هؤلاء القوم، وساعة ظهوره تدنو مسرعة. طهروا أنفسكم لعلكم تحظون بجماله. قوموا بعد وفاتي ابحثوا ولا تستريحوا لحظة واحدة حتى تجدوه”.
وفي اليوم الذي فارق عبد الكريم السيد كاظم الرشتي، خاطبه السيد قائلا: “أيقن يا عبد الكريم أنك أحد هؤلاء الذين سوف يقومون على نصرة أمره في يوم ظهوره أمل أن تذكرني في ذلك اليوم المبارك”. رجع عبد الكريم إلى منزله في قزوين وعاد إلى عمله كتاجر بانتظار ذلك اليوم الرائع.
مضت بضع سنين دون ظهور علامة الموعود المنتظر لكن قلب عبد الكريم كان في غاية الاطمئنان وفي كل مساء يعود إلى منزله فينزوي في هدوء في غرفته يتضرع بكل قلبه إلى الله يسأله قائلا: “أنك يا إلهي قد وعدتني على لسان عبدك الملهم بأني سأبلغ محضر رسولك وأستمع إلى كلماتك…إلى متى تحرمني من وعدك؟” وفي كل ليلة كان يعيد دعائه هذا ويستمر مستغرقاً في تضرعه حتى طلوع النهار. تابع عبد الكريم روايته قائلاً:
“في أحد الليالي كنت مستغرقاً مرة أخرى في الصلاة حتى أخذتني سنة من النوم، فظهر أمامي طائر كالثلج في بياضه حام حول رأسي ثم حطّ على غصن شجرة، بجانبي وبنبرات عذبة لا توصف تلفظ الطائر بهذه الكلمات: “هل تبحث عن الموعود يا عبد الكريم؟ تطلع إلى سنة الستين. فطار فوراً واختفى. أقلقني سر هذه الكلمات كثيراً وعاشت في ذاكرتي ذكرى ذلك الصوت في اليقظة والمنام وعندما سمعت في سنة الستين عن شخصية بديعة في شيراز أسرعت إلى تلك المدينة. “وأخيراً تشرفت بحضور (حضرة)الباب فنظر إلى وبنفس صوت الطائر الأبيض الرخيم الحلو سألني: هل تبحث عن الموعود يا عبد الكريم؟ انفجر عبد الكريم في البكاء ورمى بنفسه عند قدمي (حضرة)الباب وهو في حالة من الانجذاب الروحي ممّا أدهش رفقائه فأخذه (حضرة)الباب بمحبة بين ذراعيه وقبّل جبينه ثم دعاه إلى الجلوس بجواره. وبنغمة حنونة رقيقة نجح في تهدئة اضطراب قلبه.[3]
بالرغم من مراقبة حسين خان للباب عن كثب فأن عدداً كبيراً مثل هذه الشخصيات البارزة حضرت لزيارة (حضرة) الباب. أحدثت قصص إيمان تلك النفوس، مثل قصة عبد الكريم، هيجاناً عظيماً في شيراز. قبل كل من علية القوم والوضعاء من الناس تحمل كل المخاطر عن طيب خاطر للفوز بمحضر (حضرة)الباب وأصبح الحديث عن الرسول الجديد موضوع مناقشة الناس في الشارع، البعض كان لائماً بينما البعض الآخر كان مستحسناً. اشتعل حسين خان غضباً لعجزه وعدم مقدرته صدّ تيّار شعبية (حضرة)الباب المتزايدة.
[1] النبيل ص 149-150
[2] مسيو نيقولا السيد على محمد الباب ص 203-204- 229-230
[3] النبيل ص 162-168
حضر الملا حسين إلى شيراز لزيارة (حضرة) الباب، وعلى الفور ارتفعت ضده أصوات احتجاجات شديدة. صاح القوم لدى المسئولين قائلين: “لقد عاد الملا حسين إلى شيراز، وهو يدبر الآن مع سيده (حضرة)الباب هجوماً عنيفاً ضد مؤسساتنا قديمة العهد”. كان الموقف خطيرا منذرا ومهدداً بالخطر إلى درجة أن (حضرة)الباب أمر الملا حسين بالعودة إلى موطنه في مقاطعة خراسان، كما صرف باقي أصحابه عدا عبد الكريم الذي استبقاه لاستنساخ كتاباته.
انتشر تلاميذ (حضرة)الباب في طول البلاد وعرضها يعلنون، بلا خوف، عن القوة الخلاّقة للشريعة الحديثة المولد. وسرعان ما انتشرت شهرة (حضرة)الباب خارج نطاق تلاميذه ووصلت إلى أُولي الأمر، فاستشعروا بالخطر إزاء دخول الناس في كل مكان، بكل حماس، دعوة (حضرة)الباب أفواجا أفواحا. صرحت إحدى المصادر التاريخ بإن أتباع (حضرة)الباب كانوا غيورين، شجعان مجذوبين، ومستعدين لكل شيء … كل واحد من أفرادها يرى نفسه غير ذي أهمية، وممتلأ رغبة في التضحية بحياته وممتلكاته في سبيل دعوة الحق”.[1]
وأخيرا اقتنعت الجهات المسؤولية بأن الأمر لم يعد شيئاً محلياً، ورويدا رويدا اخذ طوفان الاضطهاد الذي أحاق بعيسى يحيط الآن ب(حضرة) الباب. فالمقاومة المجتمعة من رجال الدين ورجال الدولة فجرّت ما دعاه المؤرخون بأفظع موجة من البغض والكراهية يمكن تصورها. وسرعان ما اصطبغت رمال بلاد فارس بنهر قرمزي من دماء الشهداء قدموه طوعاً وبسخاء.
نظم الرسميون ندوات عامة كبيرة في شيراز دعوا إليها الحاكم ورجال الدين ورؤساء الجيش وكذلك الشعب، آملين ان يشوّهوا بهذه الطريقة سمعة هذا النبي الشاب. وبالرغم من ذلك، تكلم (حضرة)الباب في تلك المناسبات بحقائق ثاقبة بدرجة زادت من جموع تابعيه، يوما بعد يوم، زيادة عظيمة في العدد. فقد أثّرت طهارة سلوكه، وهو في سن تطغى فيه الأهواء، في كل من قابله من الناس. فقد كان (حضرة)الباب يمتلك فصاحة وجرأة خارقة للعادة. كتب أحد مؤرخي تلك الأيام، الكونت دي جوبينو قائلاً:
” منذ لقاءاته الأولى مع الجمهور أرسلوا إليه أقدر ملا واتهم (علماء دينهم) لمحاجّته و إرباكه… و بدلاً من أن يستفيد العلماء من ذلك، ساهموا قليلاً جداً في انتشار و أعلاء شهرة هذا المعلم المتحمس على حسابهم الخاص”.[2]
كشف (حضرة) الباب، دون هوادة، عن فجور هؤلاء القوم وفسادهم، ودلّل، كما فعل عيسى ابن مريم من قبل، على عدم إخلاصهم لعقيدتهم الخاصة، وخجّلهم من فحشاء معيشتهم، وهزمهم بكتابهم المقدس الذي كان في متناوله. أضاف جوبينو قائلاً:
” بأن (حضرة)الباب كان ذا بساطة متناهية وأدب ولطافة أخاذّة، أضف إلى ذلك رونق عزّ شبابه وسحره العجيب. جذب حوله عدداّ من الأفراد المهذبين تهذيباّ عميقاً. ولم يكن يفتح شفتيه “حسبما أكد من عرفوه” إلا بما كان يحرك القلوب من أعماقها”[3].
يقول السير فرانسيس يانج هزبند (Sir Francis Younghusband) في كتابه “الوميض (the gleam) عن (حضرة)الباب بأنه
” كان ذو طلعة بديعة رائعة. وكان الناس يتأثرون من علمه وفصاحته… فمجرد اعتلائه المنبر كان الصمت يخيم على الجميع”.[4]
وتصرح وثيقة تاريخية أخري فتقول:
“بأن السيد الشاب “(حضرة) الباب” كان باستقامة أخلاقه مثالا لمن حوله. وكان الناس يتطلعون بشوق الاستماع إلى حديثه… عندما كان يستنكر المساوئ في جميع طبقات المجتمع. كانت كلماته تعاد وتشرح وكان الناس يقولون عنه انه المعلم الحقيقي فينقادون إليه دون تحفظ “.[5]
لم تصدر مثل هذه الانطباعات عن (حضرة)الباب من أتباعه والمتعاطفين معه فحسب، فقد صرح الكونت دي جوبينو في كتابه (تاريخ الأزمنة) فيقول:
” حتى المحمديون المتعصبون الذين حضروا الاجتماعات التي تحدث فيها (حضرة) الباب، احتفظوا بذكرى لا تمحى لهذه اللقاءات، ويتذكرونها بشيء من الرعب. وقد أكدوا جميعا على إن فصاحته لا مثيل لها ولا يقدر أن يتصورها احد ما لم يكن شاهد عيان”[6].
سرعان ما انتشرت في أرض فارس بأجمعها الروايات عن (حضرة) الباب. رغب الناس بشغف إلى معرفة المزيد من أخباره. فساد البلاد موجة من الحماس. حضر هذه اللقاءات شخصيات بارزة من رجال الدولة بأنفسهم، أو أنابوا عنهم أقدر ممثليهم ليتحروا بأنفسهم حقيقة أمر (حضرة) الباب.
تقول” الجريدة الأسيوية” إن دين (حضرة)الباب جذب إليه عددا كبيرا من الإتباع من جميع شرائح المجتمع بينهم الكثير من ذوي الحيثيات وأكابر النبلاء، ورجال الدين، ورجال الجيش، والتجار”.[7]
شرع أصحاب السلطة بطرح أسئلة فاحصة لتحري امر (حضرة) الباب. وأخيراً أصبح الملك نفسه مهتماً بدعوة ذلك الشاب الشيرازي، فقد شعر بأنه يجب عليه معرفة ما إذا كانت تلك التقارير الواردة إليه عن ذلك الشاب المرموق صحيحة أو باطلة، فقرر محمد شاه الملك تحري حقيقة الأمر بنفس. استدعى رئيس وزرائه وسأله: “من يمكن الاعتماد عليه للقيام بهذا التحري؟”
وبعد مشاورات عديدة وقع اختار كل من الملك ورئيس الوزراء على شخص يثقان به أعظم ثقة لقب بوحيد.[8] عرف وحيد بأنه أفصح رجال الملك وأكثرهم علماً وأبلغهم نفوذاً. فإذا كان هناك في المملكة باسرها من يستطيع إسكات (حضرة)الباب فهو وحيد، الذي شهد لعلمه ورجاحة عقله أعظم علماء فارس. لقد كان والد حيد من أشهر العلماء الدينيين في ذلك الزمان، فشب الابن على نمط والده، بل فاق عليه، وطبق صيته وشهرته الآفاق بحيث اعتبروه أبرز الزعماء الروحيين في إيران. أضف إلى ذلك كان وحيد على الدوام المتحدث الرئيسي في أي اجتماع يحضره وكانت الحكومة كثيراً ما تستشيره في الملمات لما لديه من حكمة[9].
كان الملك مضطرباً كثيراً ويرغب في معرفة ما ينطوي عليه قيام هذا الدين الجديد من مغزى سياسي ففكر في إرسال شخص أمين في هذه المأمورية الهامة. كان وحيد في ذلك الوقت يعيش في طهران ضيف شرف على الملك لذلك اتجهت الأنظار فوراً إليه. أحضره الملك وأطلعه على المهمة التي يريده أن يقوم بها وأعطاه تعليميات دقيقة-قائلا:
” توجه فوراً إلى شيراز وتقابل مع (حضرة) الباب. ابحث بنفسك عن صحة هذه الأساطير العجيبة التي نسمعها. وبعدئذ اطلعنا شخصياً وبالتفصيل على ما اكتشفته”. ولم يترفع رئيس الوزراء عن إغراء وحيد قبل سفره بقوله: “إذا استطعت فضح أمره وكشف القناع عنه زاد ذلك كثيراً في عظمة مركزك”.
امتطى وحيد الجواد الذي أعطاه الملك وتوجه فوراً إلى شيراز. وفي أثناء سفره استقّر رأيه على الأسئلة التي سوف يوجهها إلى (حضرة) الباب، واعتقد انه بذلك سوف يختبر، إلى أبعد مدى، معرفة (حضرة) الباب، وسوف يتبين من الأجوبة التي سيدلي بها (حضرة)الباب لوحيد صحة آو بطلان ادعائه بأنه رسول من عند الله. عندما وصل وحيد إلى شيراز قابل صديقاً حميماً له يدعى عظيم. سأله وحيد قائلاً:” أنت قابلت (حضرة) الباب. ما رأيك فيه؟ هل أنت مرتاح إليه؟ أ دجّال هو؟”
فأجابه عظيم: “قابله أنت واتخذ قرارك بنفسك. ولكن، كصديق لك، أنصحك بأن تكون فطننا، وإلا، سوف تأسف لأية فظاظة تبدوها نحوه”.
رتب وحيد أفكاره استعادا لقائه مع (حضرة) الباب. رحب (حضرة)الباب بكل محبة بوحيد. استمر وحيد زهاء ساعتين في توجيه السؤال تلو السؤال إلى (حضرة)الباب بلطف، مشيراً إلى أشّد آيات القرآن الكريم غموضاً ثم عرج في حديثه وتكل بإسهاب عن النبوءات ومعضلاتها، وعن تلك الأحاديث التي يجب أن تتحقق بمجيء الموعود. كما تحدث طويلاً في موضوعات عويصة وغامضة تتعلق بفلسفات ما وراء الطبيعة أصغى (حضرة)الباب بصبر إلى إشارات وحيد العلمية المفصلة ملتفتاً بهدوء إلى أسئلته. وفجأة شعر وحيد بالخجل من طول استعراضه وتباهيه بمعرفته. ذكر وحيد فيما بعد عن لقائه الأول مع (حضرة)الباب فقال:
“شرع (حضرة)الباب في الحديث بهدوء، وأعطى أجوبة مختصرة ولكنها مقنعة لكل سؤال من أسئلتي. ومما أثار إعجابي وأدهشني حقا، أجوبته الموجزة الواضحة. وفي محضره تلاشي شعوري بعظمتي الشخصية وخجلت من غطرستي وتفاخري أحسست بالحقارة بحيث أسرعت في الاستئذان للانصراف من محضره قائلاً: “في مقابلتي التالية سأعرض أسئلتي وأنهي تحقيقاتي أن شاء الله”.
انسحب وحيد من محضر (حضرة)الباب فأسرع إلى منزل صديقه عظيم، وأخبره بما حدث خلال مقابلته الأولى التي سببت له مذلة عميقاً. أيقن وحيد بأن تحرياته لدعوة (حضرة)الباب سوف تنتهي في المقابلة الثانية. فلديه في هذه المقابلة أسئلة واضحة ومباشرة في ذهنه وفي الصميم. ووعد نفسه بان يكون في هذه المرة مهذباً ولكن حازماً، كما أشار عليه عظيم. بيد انه حينما دخل محضر (حضرة)الباب وبدأ يتكلم معه، وجد وحيد نفسه يناقش أموراً لا علاقة لها البتة ببحثه. فقد اختفت من ذاكرته جميع الأسئلة التي كان ينوي عرضها على (حضرة) الباب. وما زاد في تذهله بان (حضرة)الباب أخذ يجيب عن تلك الأسئلة المنسية الواحد بعد الآخر. تحدث (حضرة)الباب بنفس الإيجاز والوضوح اللذين أثارا إعجابه في اللقاء الأول.
شرح وحيد فيما بعد ما حدث في ذلك اللقاء بقوله:
“خلال القسم الأول من المقابلة شعرت وكأني في حالة ذهول، وعندما أدركت بأن (حضرة)الباب كان يجيب عن أسئلتي التي لم أسألها بعد، أفقت وانا في حالة خوف ودهشة. وبالرغم من انجذابي إليه، ظل صوت هاجس داخلي يقول: “ألا يكون كل هذا مجرد صدفة عابرة؟”. لم أستطع جمع شتات أفكاري. فأبيت البقاء، وللمرة الثانية التمست الأذن بالانصراف”.
عاد وحيد مرة ثانية إلى منزل صديقه عظيم وأخبره بما حدث. فخاطب عظيم بصراحة اعلم علماء إيران، قائلاً: “ليت كانت المدارس ملغاة بالكلية وليت لم ندخلها أنا أو أنت. إذا كانت هذه العلوم المكتسبة، تسبب ضيق عقولنا وغرورنا وتحول بيننا وبين رحمة الله المنقذة، وتسبب ألماً لحامل رسالته”.
اعترف وحيد بأن غروره بعلمه كان بمثابة حجاب غليظ يحول بينه وبين، (حضرة)الباب فتوسل إليه عظيم قائلاً:
“اذهب هذه المرة بخضوع وانقطاع عن كل ما تعلمته في الماضي، لعله يريحك من شكوكك وحيرتك”.
دوّن وحيد هذه المقابلة الثالثة والأخيرة، بالتفصيل، لا للملك ورئيس الوزراء فحسب، بل إلى الأجيال المقبلة أيضاً. يقول وحيد فيها:
“صممت على أن لا اجهر في مقابلتي الثالثة هذه طلب برهانا على دعوته، وبدلاً عن ذلك اطلب إليه، في قراره نفسي، أن يكتب تفسيراً لسورة خاصة من القرآن الكريم كانت موضوع اهتمامي دائماً. وقلت في نفسي: “إذا فعل هذا وإذا كان أسلوب التفسير وصحته يميزانه عن المقاييس الدارجة بين الناس، عندئذ أسلم بصدقه، بل اعتنق دعوته، ولكنه إذا فشل استنكره. وبمجرد أن دخلت في محضره تملكني شعور من الخوف لم أستطع تعليله. وحين نظرت إلى وجهه ارتجفت جميع أطرافي. كم من مناسبات كنت في حضور الملك دون الشعور بأدنى رهبة، لكنني، الآن، آخذتني الرهبة والرجفة بدرجة لم أتمالك أن أظل واقفاً على قدمي. شاهد (حضرة)الباب سوء حالي فقام من مقعده وتقدّم إلى، فاخذ بيدي وأجلسني بجانبه. خاطبني قائلاً:
“اطلب مني كل ما يرغبه قلبك فاني أظهره لك وفي الحال”.
شعرت بعجزي وعدم المقدرة على الكلام. نظر إلى مبتسماً وقال:
” لو أنزلت لك تفسيرا لسورة الكوثر، هل تقرّ إن ما أنطق به وحياً من عند الله؟ وهل تشهد إن ما أتفوه به لا يمكن ربطه قط بالسحر والشعوذة؟”.
“وعندما سمعته يتكلم بهذه الكلمات انفجرت الدموع من عيني، وكل ما استطعت أن أتفوه به حينذاك هو “ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين”.
طلب (حضرة)الباب إحضار مقلمته وبعض من الورق وشرع في إنزال التفسير الذي تمنّاه وحيد في سره. أنزل (حضرة)الباب في هذه المناسبة ما لا يقلّ عن ألفي آية. فاقت روعة الآيات الفريدة من نوعها ومعانيها العميقة، والسرعة المدهشة التي كتبت بها.[10] ومما زاد في دهشة وحيد هو أن هذا الشرح الذي قدّمه (حضرة)الباب كان في الواقع ما توصل إليه هو بعد تأملات طويلة واعتقد بأنه هو وحده الذي توصل إلى هذا المعنى المستور ولم يُطلع عليه أحدا.[11]
وصف وحيد شعوره بالدهشة خلال هذه المقابلة الأخيرة قائلا:
“”كيف أصف هذا المنظر من الإجلال الذي فاق حدّ التعبير. كانت الآيات تتدفق من قلمه بسرعة مذهلة حقاً. لقد حيرتني وأذهلتني سرعة كتابته التي لا تصدق ونعومة وعذوبة صوته، وقوة أسلوبه المدهشة. استمر على هذ الحال إلى ما قبل الغروب ولم يتوقف حتى أتم التفسير بأكمله. عندئذ وضع قلمه وطلب إحضار الشاي وبعدها شرع في تلاوة التفسير بصوت جهوري. أخذ قلبي يخفق بشدة عندما سمعته يفيض، بنغمات حلوة تفوق الوصف، لهذه الكنوز المستورة في تلك السورة المقدسة “.
تابع وحيد قائلا: “ذهلت ً من جمال هذه الآيات بحيث أشرفت على الإغماء ثلاث مرات. وفي كل مرة أنعش (حضرة)الباب قواي المنهارة برش ماء الورد على وجهي. وعندما أتم تلاوة التفسير نهض وانصرف”.
كرّس وحيد ثلاثة أيام وثلاث ليالي مع عبد الكريم لاستنساخ هذا التفسير الذي أنزل
حديثاً. ودققّا صحة النبوءات والأحاديث الواردة فيه فوجداها صحيحة تماماً. أجمل وحيد تقريره عن تحقيقاته مع (حضرة)الباب فكتب قائلا:
“كانت درجة الإيقان التي بلغتها على شأن لا يستطيع أي شيء زعزعة ثقتي بعظمة أمره”.
أنهى وحيد مهمته التي كلفه بها الملك بكتابة تقرير شخصي مفصلاً عن تحرياته لدعوة (حضرة) الباب. لم يعد وحيد إلى العاصمة، وبدأ يدعو الناس إلى قبول دعوة الرسول الإلهي الجديد. كانت حماسته وغيرته إلى درجة جعلت سائر العلماء يجزمون بأنه لابدّ وان يكون قد فقد صوابه فجأة.
جاء في تاريخ ذلك الزمن أن وحيداً “كتب دون خوف أو مبالاة تقريراً مفصلاً عن مشاهداته إلى… كبير الأمناء في القصر لكي يرفعه إلى الملك الراحل، في حين كان وحيد يتنقل في أسفاره إلى جميع أنحاء فارس يدعو الناس في كل بلدة ونقطة توقف فيها من فوق المنابر بأسلوب جعل بقية العلماء يجزمون بجنونه. واعتبروا وضعه احدى حالات السحر الأكيدة”[12].
انزعج الملك انزعاجا عظيماً عندما علم بأن، وحيداً، مبعوثه الخاص، بعد أن أجرى تحقيقه عن (حضرة)الباب ووجد أن دعوته هي الحق آمن بها. تحدث الملك إلى رئيس وزرائه حديثاً سرياً قائلاً:
“بلغنا أن وحيداً قد أصبح بابياً. إنّ صحّ هذا فمن الحكمة أن نكف عن الاستخفاف بأمر هذا الشاب الشيرازي”.
على الفور، شرع رئيس الوزراء في العدوان على وحيد واتهمه بالوقوع تحت تأثير مشعوذ. ولكن الملك أصرّ على رفضه بأن لا يريد أن يسمع أية كلمة سوء عن هذه الشخصية العظيمة ووبخ رئيس الوزراء قائلاً:
“وحيد من سلالة شريفة وهو أيضاً رجل ذو علم واسع وفضيلة عظيمة”.
استضاف حسين خان حاكم شيراز وحيداً في منزله خلال مقابلاته مع (حضرة) الباب. هاجم حسين خان وحيدا علانية فأرسل الملك إليه أيضاً أمراً ملكياً يقول:
” يمنع منعاً باتاً كل شخص من رعيتنا عن التفوه بأي كلام من شأنه الحط من مقام وحيد العالي. فهو لا يصغي لأي أمر ما لم يوقن بأنه يؤول إلى تقدم أفضل مصالح مملكتنا”.
وهكذا انتهت قصة تحري الملك أمر (حضرة) الباب. فوحيد المعروف عنه بانه أبرز زعماء فارس، والذي اختاره الملك بنفسه رسولاً شخصياً له اعتنق دعوة (حضرة)الباب وقام على نشرها. خاطب حسين خان وحيد مستهزئا: “هل وقعت في فتنة (حضرة)الباب وتأثير سحره؟”.
أجابه وحيد قائلاً:
“لا يستطيع أحد أن يأسر قلب وحيد، سوى الله، فهو وحده قادر على تبديل قلوب البشر. فمن استطاع أن يأسر قلبي فهو من عند الله وكلماته هي بلا شك صوت الحق”.[13]
لم يكن وحيد إلا واحداً لكثير من الشخصيات الشهيرة الذين انجذبوا إلى دعوة (حضرة) الباب. حاول رئيس الوزراء ورجال القصر أن يبخسوا شأن هؤلاء المؤمنين الجدد في نظر الملك. وفي ذات يوم بينما كان الشاه ممتطى صهوة جواده، إذا برجل مسن يعبر الطريق أمامه دون أن يبدو عليه أدنى ارتباك لوجود الملك، اقترب الرجل منه وحياه ببشاشة. فسر الملك لأدب ذلك المسّن ووفاره وسلوكه. فردّ له التحية ودعاه لزيارته في القصر. وقبل أن يعود الملك إلى مقره شرع المقربون منه في الهمس إليه بقولهم:
“ألم تدرك جلالتك إن هذا الرجل الهرم ليس إلا واحداً من أتباع (حضرة)الباب المشهورين والمؤمنين حديثاً؟ انه أذاع ذلك بنفسه وأعلن ولاءه الدائم لأمر ذلك الشاب”.
أدرك الملك أنهم يحسدون حتى ذلك العجوز على ما أولاه من اهتمام. فاستاء منهم
وفي الوقت نفسه تشوشت أفكاره من نميمتهم المتواصلة وصاح قائلاً:
“يا للعجب! كل من امتاز بعلمه واستقامته وأدبه، وحسن سلوكه استنكره فوراً رجال حاشيتي على انه بابي؟ لماذا؟ ولم هذا؟”.[14]
لم يعد حسين خان في استطاعته أن يعبّر عن كراهيته لوحيد علناً بسبب أوامر الملك، ولكنه شرع في هدوء بتقوّيض صداقة وحيد مع الملك بحيث أدّى هذا الغدر فما بعد الى استشهاد وحيد في نيريز مسقط رأسه.
[1] الكونت دي جوبينو المذاهب والفلسفات في أسيا الوسطى ص122
[2] المصدر السابق 120
[3] المصدر السابق 118
[4] Sir Francis Young husband the Glem pp 194
[5] المجلة الأسيوية 1866 المجلد السابع ص 341
[6] الكونت دي جبينو ر المذاهب والفلسفات في اسيا الوسطى ص120-122
[7] المجلة الأسيوية 1866 لمجلد الثامن ص 215
[8] السيد يحي الدارابي الملقب بوحيد
[9] مسيو نيقولا النبيل ص 171
[10] البيان الفارسي الترجمة الفرنسة ص 43
[11] مسيو السيد محمد على الباب ص 234
[12] مقالة سائح ص 8
[13] النبيل ص172-177
[14] النبيل ص 188- 189
كانت الأشهر القليلة التي قضاها (حضرة)الباب سجيناً في دار خاله، الحاج ميرزا سيد على، آخر أيامه التي أمضاها في هدوء ومودة. وها هي الآن تمضي مسرعة إلى نهايتها. أيّة ذكريات تلك التي دارت في ذهنه وهو يشارك عائلته وأحباءه تلك الساعات الأخيرة. لقد أظهر له هذا الخال الحنون محبة عظيمة طوال أيام حياته. فـقد (حضرة)الباب والده منذ طفولته المبكرة، وكفله هذا الخال نفسه الذي حرص على إعطائه كل المميزات. فوضعه منذ صباه تحت رعاية معلم.
حفظ التاريخ كلمات ذلك المعلم إذ قال لنا”
“ما زالت حلاوة نطقه عالقة في مخيلتي، وجدت نفسي مضطراً لإعادته إلى خاله … وأخبرته بأني أشعر بعدم الاستحقاق تعليم مثل هذا الصبي النابغة”.
وأعلن ذلك المعلم لخال (حضرة)الباب الحاج ميرزا سيد علي قائلا:
” إنني أعده إليك، وأعهد به تحت حمايتك. يجب عليك ألا تعامله على انه مجرد صبي عادي، فاني أستطيع أن أُميز فيه شواهد قوة خفية”
انتهر الخال الصبي وقال له:
“أنسيت أوامري؟ عد إلى الكتّاب (المدرسة الأولية) وأحذو حذو بقية زملائك التلاميذ. لا تتكلم بل التزم السكوت واستمع إلى كل كلمة يقولها معلمك”.
وعد الصبي الصغير أن يطيع مخلصاً خاله العزيز، ولكن كان من المستحيل عليه أن يكبح جماح روحه. وبصراحة أعلن ذلك المعلم قائلا:
“واستمر ذلك الصبي يظهر يوماً بعد يوم آيات الحكمة ما جعلني أشعر بأنني عاجز عن تعليمه”.[1]
وفي تلك الأيام ذهب عالم معروف إلى منزل خال (حضرة)الباب وترك لنا ذكرياته عن تلك الزيارة قائلا:
“في فجر ذات يوم، أثناء وجودي في أحد حجرات المسجد للصلاة تطرق إلى سمعي من حجرة مجاورة لحجرتي صوتاً عذباً رقيقاً يرتفع بالصلاة لصبي صغير. سلب لبي حلاوة تلك المناجاة والصوت، والتعبد. انتظرت بصبر حتى طلع النهار، عندئذ شاهدت صبياً في حوالي السابعة من العمر، وعندما تفرست في وجهه ذلك الصبي رأيت طلعة غاية في الجمال، أيقنت انه من المستحيل أن أجد شبيهاً لهذا الصبيّ في الجنس البشري قاطبة”.
تبع العالم الصبي إلى الكتّاب الذي يذهب إليه، وهو لا يستطيع نسيان ذلك المحي. استفسر العالم من مدرسه عن ذلك الصبي قائلاً:
“ما رأيك في هذا الصبي؟”
وبشعور وإعجاب عميق أجابه المعلم:
“ماذا أقول عن هذا الطفل! فهو يحضر إلى كتّابي كتلميذ، وفي الحقيقة هو المعلم وأنا التلميذ. ليتك تستمع إلى بديع بيانه أثناء الدراسة، وتلك المسائل الهامة العميقة التي يتناولها في حديثه… ماذا أقول عن هذا الصبي؟ انه في نظري يبدو متهيئاً لإعلان رسالة إلى العالم باسره”.
زاد اهتمام المعلم بهذا الصبي من دهشت ذلك العالم. فعاد إلى منزل خاله وأطلعه على ما قاله العلم. عندئذ أسر الخال إلى العالم بالرؤية التي رآها عن ابن أخته عندما كان ((حضرة) الباب) في الخامسة من عمره فقال:
“رأيت في المنام كفتي ميزان متدليتين من السماء. كان في إحدى الكفتين أحد الأنبياء، بينما وضعت يد الغيب في الكفة الأخرى هذا الصبي. فإذا بكفة الصبي ترجح ببطء على الكفة الأخرى”.[2]
وأخيراً اقتنع الخال بسحب الصبي من الكتّاب وقام هو بنفسه بتربيته بغاية المحبة والعناية، وعندما بلغ (حضرة)الباب السابعة عشرة من عمره غادر شيراز إلى بوشهر حيث عمل تاجراً لحساب خاله، اكتسب (حضرة)الباب خلال تلك الفترة احترام جميع التجار لأمانته ودماثة أخلاقه. قال شاهد عيان قابل (حضرة)الباب في تلك الأيام:
“”كثيراً ما سمعت من الذين كانوا على صلة وثيقة به يشهدون بطهارة أخلاقه وجمال تصرفاته وسمو نزاهته. فعلى سبيل المثال، أودع أحد الناس عنده أمانة لبيعها بسعر معين، وعندما أرسل (حضرة)الباب ثمنها كان المبلغ أكثر بكثير مما حدد لها. كتب صاحب الأمانة يستفسر من (حضرة)الباب عن السبب. فأجابه:
“إن المبلغ الذي أرسلته أليك هو ما تستحقه كاملاً، وليس فيه أية إضافة عن حقك. فقد مرت فترة بلغت فيها أمانتك لدّي هذه القيمة ولعدم تمكني من بيعها بذلك السعر، فأنني اشعر الآن، إنه من واجبي تقديم ذلك المبلغ كله إليك “.[3]
تزوج (حضرة)الباب وهو في الثانية والعشرين من عمره وأنجب طفلاً سماه احمد. توفي الطفل في السنة التي سبقت إعلان دعوته. رثى (حضرة)الباب ابنه الذي أحبه حباً كبيراً رثاءً مؤثراً قال فيه:
“إلهي إلهي لو كان لإبراهيميك هذا ألف إسماعيل لفديتهم جميعاً في سبيل محبتك. فاجعل اللهم فداء ابني الوحيد مقبولا عندك ومقدمة لفداء نفسي وكينونتي في سبيل مرضاتك. وبارك دمي الذي أحنّ لسفكه في سبيلك وأجعله يروي ويغذي بذرة دينك وامنحه قوتك السماوية لتنبت هذه البذرة الإلهية الوليدة في قلوب الناس وتنجح وتفلح وتصبح شجرة عظيمة يجتمع تحت ظلها جميع شعوب الأرض”[4]
أمنت زوجة (حضرة)الباب برسالته زوجها منذ البداية. أطلعها (حضرة)الباب عن آلامه المقبلة وكشف لها عن مغزى الأحداث التي ستقع قريباً وحذرها بأن لا تبوح بهذا السر لأحد، كما نصحها بأن تتحلى بالصبر وتمتثل لإرادة الله. ولكي يخفف من عبء ويلاتها القادمة في الأيام المقبلة عهد إليها بدعاء خاص وأكد بأن تلاوة هذا الدعاء سوف يفرج عنها الشدائد وأوصاها قائلاً: “في ساعة حيرتك اقرئي هذا الدعاء قبل أن تنامي. فسأظهر لك بنفسي وأزيل همومك”[5]
الآن، أوشكت هذه الأيام الهادئة التي قضاها (حضرة)الباب في وسط أسرته على الختام، فسرعان ما ستتلقفه عاصفة البلايا ولن تتركه إلا بعد أن تحمله سريعاً إلى ميدان الشهادة.
بذل الحاكم حسين خان كل جهده لتوريط (حضرة)الباب في مشاكل جديدة، فقد كان حانقاً بسبب اعتناق وحيد دعوة (حضرة)الباب الذي غلّ يديه بعض الوقت، كان يخاف أن يغضب الملك منه ، ولكنه، في نفس الوقت، لا يستطع أن يتحمل مشاهدة (حضرة)الباب يتجول حراً دون إزعاج كما أغضبه أيضا منظر السيل المتواصل من أتباع (حضرة)الباب والأصحاب المتدفق على منزله. كان (حضرة)الباب صنديدا جداً في إعلان دعوته، فقد أرسل رسالة إلى أحد الزعماء البارزين في مدينة زنجان يقول فيها: ” إن من أشاد السيد كاظم بفضله على الدوام وأشار باستمرار إلى قرب ظهوره قد ظهر الآن. إني أنا ذلك الموعود[6]”
قرر حسين خان توظيف جواسيس جدد لمراقبة (حضرة)الباب سراً وملاحظة ارتكابه أدنى خطاً يرتكبه. كما أرسل عدة رسائل إلى رئيس الوزراء الحاج ميرزا أقاسي معبراً عن قلقه الشديد من ضخامة عدد الذين يعتنقون دينه يوما بعد يوم. وعلى الفر استجاب رئيس الوزراء سريعاً لتوسلات الحاكم وأخبره بأنه سأم مما يحدث في شيراز وأمره قائلاً:
“اقضِ على المصلح. دبّر لقتله فوراً وسراً”.[7]
أخبر أحد الجواسيس الحاكم حسين خان بأن عدد الناس المجتمعين حول (حضرة)الباب صار يشكل الآن تهديداً عاماً. وأكد ذلك الجاسوس قائلا:
” بأن الجمهور المتلهف الذي يتزاحم لرؤية (حضرة)الباب كل ليلة يفوق عدد أولئك الذين يجتمعون كل يوم في مقر حكومتك من بينهم رجال عرفوا بعلو مقامهم، وغزارة علمهم. وقد أصبحت محبتهم للباب عظيمة بدرجة لا يرغب أحد غيري في اطلاعك على تلك حقيقة “.
صب الآن حسين خان جام غضبه، ليس على (حضرة)الباب وأصحابه فحسب، بل على أعوانه غير الجديرين بالثقة. اقترح الجاسوس على الحاكم الخطة الآتية على حسن خان فقال له:
” إذا أذنت لي فإني سوف أفاجئ (حضرة) الباب عند منتصف الليل، وأحضره مكبل اليدين وسوف أقبص على بعض من أصحابه لكي يؤيدون صحة أقوالي.”
رفض الحاكم خطة ذلك الجاسوس وقال له:
” إنني أكثر دراية منك بما يجب عمله أنتظر فسأريك كيف أتصرف مع ذلك الرجل “.
استدعى حسين خان على التو رئيس الشرطة وأصدر إليه الأوامر التاليةً:”
“
توجه إلى منزل خال (حضرة) الباب، تسلق بهدوء وبدون أن يلمحك أحد الحائط الخلفي واصعد إلى السطح ومن هناك اقتحم فجأة منزله واقبض على (حضرة) الباب واحضره وكل من في معيّته وصادر كل ما تعثر عليه من الكتب وأتي بهم إلى هنا ”
ثم ضمّ حسين خان أصابعه ببطء إلى راحة يده وكأنه يحطّم بقبضته شيئاً ممقوتاً وقال بغضب:
“أقسم بأني سأدبر قتل (حضرة) الباب في هذه الليلة أمام عيني. سأقتله مع جميع أصحابه، وبذلك أخمد النار التي أشعلوها في منطقتي. وسوف يكون هذا إنذارا أخيراً لكل من تسول له نفسه تعكير هدوء هذه الأرض. و بعملي هذا سوف سأمحو في هذه
الليلة هذا الخطر العظيم محواً إلى الأبد”.[8]
وفي ساعة متأخرة من تلك الليلة، داهم رئيس الشرطة المنزل حسبما أمره الحاكم وقبض على (حضرة)الباب وصادر جميع الوثائق وأمر بإحضار الباب وأصحابه إلى بيت الحاكم. كان (حضرة)الباب هادئاً غير مضطرب لعلمه بأن ساعة الفراق قد أذنت. استشهد (حضرة)الباب بآية من القرآن الكريم قوله تعالى: “إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب؟” لم يدرك رئيس الشرطة إن (حضرة) الباب، بهذه الآية الكريمة، تنبأ ببداية الآلام لكلا الطرفين. اقتاد رئيس الشرطة (حضرة)الباب وأصحابه إلى الشارع لوضعهم تحت الحراسة في بيت الحاكم، وعندما اقتربوا من مكان السوق سمعوا صرخات هياج وفزع من جميع الأطراف وكان الناس يندفعون إلى خارج المدينة اندفاعاً جنونياً كأنهم يفروّن من مصيبة داهمه تلحق بهم في أعقابهم. شعر رئيس الشرطة بخوف شديد من منظر مفزع كان يمر من أمامه. فقد رأى قافلة طويلة من النعوش تمضي مسرعة في الشارع وخلف كل نعش موكب من الرجال والنساء ينوحون بأعلى أصواتهم. أوقف رئيس الشرطة أحد المشيعين وصاح بفزع قائلاً: “ماذا حدث؟ أقسمك بالله أجب على! أي داهمه تلك التي حات بمدينتنا؟”. انبرى احد المشيعين وأنذره قائلا:
“اهرب لتنجو بحياتك. لقد تفشى وباء الكوليرا فجأة ودمّر المدينة، فمنذ منتصف الليل قضي الوباء على أكثر من مائة نفس. لقد هجرنا جميعاً بيوتنا داعين إلى الله بأن يعيننا”!
هرع رئيس الشرطة بمساجينه نحو بيت الحاكم، فوجد البيت مهجوراً والحاكم هارباً. فسأل: “أين ذهب؟”. فقيل له:
” لقد هرب الحاكم من المدينة بعد أن فتك الوباء بثلاثة من خدمه وإن بعض أفراد أسرته في حالة خطرة من المرض. وقد تخلى الحاكم عنهم والتجأ إلى حديقة خارج المدينة حفظا لحياته”.
قرر رئيس الشرطة إن يأخذ (حضرة)الباب إلى منزله، ويحتفظ به هناك مع أ صحابه إلى إن تصله أوامر أخرى من الحاكم. وحين اقترب من منزله طالعه صوت بكاء ونحيب فأخذه الفزع. وبينما كان مندفعا نحو بيته ليستطلع الخبر تذكر تلك الآية القرآنية التي تفه بها (حضرة)الباب قبل وقت قصير: “إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب؟”.
قيل لرئيس الشرطة إن ابنه أصيب بوباء الكوليرا وهو في رمقه الأخير. فصدمه هذا الخبر صدمة شديدة. قال ذلك الرجل في نفسه، لعل سبب كل هذه الآلام التي لحقت بالقوم تعود إلى الطريقة الفظة التي عامل بها هو والحاكم سجينهم هذا. فاقترب بخضوع نحو (حضرة)الباب وألقى بنفسه على قدميه وتضرع إليه أن ينقذ حياة ابنه الذي يعاني من سكرات الموت، وتوسل إليه قائلاً:
“يا سيدي! لا تعاقب ابني على جرم ارتكبه والده، إني تبت عما فعلته واقسم، في هذه اللحظة، أني سوف أقدم استقالتي من وظيفتي هذه تحت أمرة حسين خان”.
هدأ (حضرة)الباب من روعة رئيس الشرطة، وأخبره بأن يأخذ بعضاً من الماء الذي سكبه للوضوء وطلب منه أن يعطيه لابنه ليشرب منه ووعده بأن ذلك سوف ينقذ حياته. نفذ رئيس الشرطة ما أمره به (حضرة)الباب وعندما شاهد رئيس الشرطة علامات الشفاء على ابنه، جلس وكتب خطاباً مطولاً إلى حسين خان روى له فيه القصة بأكملها وأخبره بكل ما حدث في تلك الليلة الرهيبة، ورجاه أن يكف عن هجماته على (حضرة) الباب، ونصحه قائلا:
“ارحم نفسك وارحم من هم تحت إمرتك “.
فأجابه الحاكم:
“أطلق سراح (حضرة)الباب”.
بيد أن الحاكم أصّر على أن يغادر(حضرة)الباب شيراز على الفور.[9] فإذا لم يستطع حسين خان، شخصياً، الانتصار على (حضرة) الباب، فلا أقل من أن يبعده عن دائرة أصحابه.
عزل، بعد بفترة قصيرة، الحاكم حسين خان عن منصبه. ومنذ يوم عزله وقع فريسة مصائب عديدة. لم يرغب أحد من أصدقائه في مد يد المساعدة له، وفي النهاية أصبح في حالة محزنة بدرجة لم يعد قادراً على كسب قوته اليومي. وبقي معذباً وغريقاً في البؤس والعار حتى الموت. فقد تنبأ (حضرة)الباب بسقوط الحاكم ففي خطاب وجهه إلى الشاه، قال عن حسين خان: “إن قسوته جلبت عليه القصاص السماوي”.[10]
أطاع (حضرة)الباب أمر حسين خان وأعد لنفسه خطة لمغادرة شيراز في الحال، فودع (حضرة)الباب عائلته وأصحابه وغادر شيراز في صيف عام 1846م، وترك عائلته في رعاية خاله الحاج ميرزا سيد على. عانق (حضرة)الباب خاله بكل محبة وقت رحيله ووعده قائلاً: “سأقابلك مرة أخرى وسط جبال أذربيجان، ومن هناك سأرسلك لتنال تاج الشهادة وسوف أتبعك بنفسي… وسألحق بك في عالم الخلود”[11]
[1] النبيل ص 75-76
[2] مجلة نجمة الغرب ص 75-76
[3] النبيل ص 78-80
[4] النبيل ص 77
[5] النبيل ص 192
[6] النبيل 235
[7] مسيو نيقولا السيد محمد على ص 255
[8] النبيل ص 194=-197
[9] مقالة سائح ص 11
[10] مسيو نيقولا السيد محمد على الباب ص 367- 373
[11] النبيل ص 197
رحل (حضرة)الباب إلى أصفهان المدينة التي اشتهرت بعلم مشايخها. وفي تلك البلد كان أول من اعتنق دعوة (حضرة)الباب رجلا متواضعا يعمل مغربلا للقمح. فبمجرد أن سمع برسالة (حضرة)الباب قبلها وكرس حياته لتبلغها للأخرين. وعندما سمع، بعد ببضع سنين، أن زمرة من زملائه المؤمنين يستشهدون، ترك عمله وأخذ غرباله في يده وانطلق مسرعا في أسواق أصفهان. سأله أصدقاؤه قائلين:
فأجابهم:
” إنني ذاهب لأنضم إلى تلك الزمرة المجيدة الذين يبذلون أرواحهم عن طيب خاطر في سبيل أيمانهم. وفي كل قرية أمر بها سوف أغربل الناس
بغربالي هذا الذي احمله معي وسأطلب من كل من أجده مستعدا اعتناق هذا الدين أن يلحق بي ويسرع إلى حظيرة الاستشهاد.”
كان إخلاص هذا الشاب على شأن أن أشار إليه (حضرة) الباب بمحبه قائلا:
“” بالرغم من أن أصفهان، تلك المدينة التي تميزت بغيرة سكانها الدينية وبعلم مشايخها والتي يتضافر فيها، على حد سواء، الكبير والصغير في لهفة ترقب ظهور الموعود، فعندما ظهر الرسول الإلهي رفضه العلماء والحكماء ورجال الدين، واعترف بالحق، من بين جميع سكان مركز العلم هذا، رجلا واحدا فقط وهو مغربل للقمح”.
وبين(حضرة) الباب، قائلا بأن هذا هو تحقيق للنبوءة الخاصة بالموعود التي تقول:
“يجعل عاليهم سافلهم وسافلهم عاليهم”[1]. وعندما اقترب (حضرة)الباب من مدينة أصفهان كتب خطابا إلى منوجهر خان حاكم تلك المقاطعة مدبجا بعبارات اللطف والود ومكتوبا بخط جميل إلى درجة لفتت، على الفور، نظر الحاكم.
على العكس من حسين خان، لم يكن منوجهر خان مناهضا لكسب المزيد من المعرفة عن هذا الشاب، وقرر أن يضع (حضرة)الباب تحت حمايته حتى يتمكن من تحري مصداقية دعواه. وعلى الفور، أمر منوجهر خان رئيس علماء المقاطعة (إمام الجمعة) بمقابلة الباب وأخذه إلى بيته، وطلب منه أن يعامله بكل لطف واحترام.
استاء رئيس العلماء استياء شديدا لتكليفه بهذه المهمة بيد انه كان يخشى الإساء إلى منوجهر خان الذي عرف بشدته، لهذا امتثل للأمر على مضض، ومع ذلك اعترف بأنه، بالرغم من غضبه، وقع، منذ الليلة الأولى، تحت جاذبية (حضرة)الباب.
أشعل وجود (حضرة)الباب في أصفهان هياجا أشد مما أحدثه في شيراز. فقد تدفق سيل لا ينقطع من الزوار والأصحاب من جميع أطراف المقاطعة نحو منزل رئيس العلماء. جاء البعض حبا للاستطلاع، وآخرون جاؤوا للحصول على تفهم أعمق لرسالة (حضرة) الباب، بينما البعض الأخر جاء لطلب الشفاء من أمراضهم وأسقامهم، كما جاؤوا من قبل إلى عيسى[2]. رحب الباب بهم جميعا
وساعدهم كلا حسب حاجته.
في ذات ليلة حضر منوجهر خان بنفسه لزيارة (حضرة)الباب وطلب منه ان يكتب تفسيرا لنبوة محمد (صلعم) الخاصة. فتناول (حضرة)الباب قلمه وشرع فورا في الكتابة. وفي أقل من ساعتين ملأ زهاء خمسين صفحة. تأثر الحاكم تأثيرا عميقا من أصالة ذلك التفسير وصحته وقوته. ومرة أخرى، بين (حضرة)الباب بنظره الثاقب الفكرة الأساسية في تعاليمه وهي أن الناس كانوا يتطلعون إلى مجيء اليوم الموعود، والأن قد أتي ذلك اليوم. وكان الباب يناقشه بقوة وشجاعة أدهشتا كل من كان يستمع إليه[3].
أخذ الحماس الحاكم فنادي الحاضرين في ذلك الاجتماع معلنا إيمانه بحضرة الباب:
” أيها الناس! اسمعوا إلى واشهدوا على ما أقول. إني بكل مقدساتي أشهد إيماني بالقوة الخارقة لطاقة البشر التي أنعم بها الله على هذا الشاب، إنها قوة لا يقدر أي قدر من العلم أن يمنحها لبشر.” وبهذه الكلمات فض الحاكم الاجتماع.
اهتصر شقيق رئيس العلماء حسدا من هذا التصريح ومن الاهتمام البالغ الذي أغدقه الحاكم وأخيه على (حضرة) الباب. فكانت عداوته المريرة وقسوته الوحشية لاتباع (حضرة)الباب واتباع الشخص الذي قال عنه (حضرة)الباب انه سوف يأتي من بعده سببا في أن يستأهل للقب (الرقشاء). تأمر شقيق رئيس العلماء مع العلماء الأخرين في المنطقة على تقويض سلطة (حضرة)الباب النامية. كان من السهل على الرقشاء أن يستحوذ على تعضيد بقية العلماء لأنهم كانوا يعتقدون اعتقادا راسخا بأنهم مالم يقوموا على قمع هذا الحماس الشعبي ل(حضرة)الباب فان أس معيشتهم ومستقبلهم سوف يزولان بلا محال. في أول الأمر امتنع هؤلاء العلماء عن الجهر بعدائهم، وعوضا من ذلك شرعوا في ترويج إشاعات مثيرة واتهامات سافلة حول تعاليم (حضرة) الباب. وتأكدوا من وصول هذه الإشاعات الكاذبة إلى العاصمة طهران كي يطلع رئيس الوزراء الحاج ميرزا أقاسي عليها. سبق وتخوف رئيس الوزراء من احتمال ميل الملك إلى مصادقة الباب بسبب أيمان وحيد له. وكان على يقين بان مثل هذه الصداقة بين الملك و(حضرة)الباب ربما تسفر بسهولة إلى سقوطه. وزاد خوفه كثيرا من محاولة منوجهر خان حاكم أصفهان الذي كان يتمتع بثقة الملك التامة ترتيب مقابلة بينهما. لهذا أدرك الحاج ميرزا أقاسي أنه يجب عليه منع مثل هذا الاجتماع. فكتب رسالة شديدة اللهجة إلى رئيس العلماء في أصفهان أنبه فيها على قيامه بدور المضيف ل(حضرة)الباب إليكم بعص ما جاء فيها:
“كنا نتوقع أن تقاوم هذه التعاليم الجديدة بكل طاقتك ولكن، عوضا عن ذلك، صادقت عدوا لدودا، وأويت وعظمت صاحب حركة حقيرة خطيرة.”
فبالرغم من تجاهل رئيس الوزراء في السابق إلى سائر علماء أصفهان كتب مغدفا عليهم اهتمامه وتقديره وقدم إليهم وعودا سخية. أدرك العلماء ماذا يرمي إليه رئيس الوزراء، فقد استطاع بعطاياه السخية تكتلهم جميعا ضد (حضرة) الباب.
ما زال رئيس العلماء خائفا من القيام علانية ضد حصرة الباب بسبب الحاكم منو جهر خان، ومع ذلك اتخذا بقض خطوات لتقليل عدد الزائرين المتزايد على الدوام الذين كانوا يحتشدون كل يوم عند مدخل البيت الذي كان يقيم فيه حصرة الباب. قام شقيق رئيس العلماء بتشجيع بقية العلماء على مهاجمة (حضرة)الباب مباشرة، وحثهم على شن حملات مماثلة ضده من فوق منابرهم.
وعندما علم منوجهر خان بخطة رئيس العلماء نقل، على الفور، (حضرة)الباب إلى مكان أمان في قصره. فزادت بادرة الحاكم هذه في حماية (حضرة)الباب لهيب غضب علماء أصفهان، فدعوا إلى عقد اجتماع كبير فوري يضم جميع علماء أصفهان. وبمجرد أن احتشدوا أصدروا وثيقة خطية تقضي بإعدام (حضرة)الباب وقعها وختمها جميع الرؤساء الدينيين في المدينة. بلغ عدد العلماء الذين وقعوا على تلك الوثيقة ومهروها بأختامهم زهاء سبعين زعيما دينيا. رفض اثنان من العلماء الدينيين التوقيع على تلك الوثيقة قائلين بانها وثيقة كلها إهانة وتحقير. كما لم يوقع عليها رئيس العلماء خوفا من سخط الحاكم، وبدلا من التوقيع عليها بخط يده يقال انه أشار بعدم وجود أي عيب في خلق الباب أوفي شخصه، وأضاف قائلا:” على أي حال فأن إسرافه في الادعاء وازدراءه ومقته لأمور الدنيا تجعلني أميل إلى الاعتقاد بأنه مجرد من العقل والتمييز.”
تسرب نبأ خطة العلماء لقتل (حضرة)الباب إلى علم منوجهر خان، فقام بتدبر خطة مضادة لحماية (حضرة) الباب. وعلى الفور أصدر منوجهر خان بيانا عاما يقول بأنه أمر بأرسال (حضرة)الباب إلى طهران. ثم أصدر أوامره بأن يغادر الباب أصفهان عند الغروب ويتوجه، علانية، إلى طهران بحراسة خمسمائة فارس من رجال حرسه الخاص. كما أعطي أوامر إضافية بأن يعود إلى أصفهان مائة من العسكر عند مسيرة كل ثلاثة أميال. وأصدر أوامره لقائد المائة الأخيرة، وهو رجل وضع فيه الحاكم كامل ثقته بأن يعيد إلا أصفهان بعد مسيرة كل ميل آخر عشرين من رجاله ويرسل من العشرين المتبقين عشرة رجال إلى أردستان لجمع الضرائب. وأصدر أوامره للعشرة الأخرون من رجاله المنتخبين الذين اختارهم منوجهر خان بنفسه ويثق فيهم أشد الثقة بالعودة متنكرين مع الباب إلى بيت الحاكم في أصفهان.
نفذت حرسه الخاص تعليم منوجهر خان بكل دقة، ولكي يتأكد الحاكم من سلامة الباب وراحته لدي عودته جعله يقيم في جناحه الخاص بالقصر. ولمدة أربعة أشهر قام منوجهر خان على خدمة (حضرة)الباب وتقديم الطعام إليه بنفسه.
صدر حتى ذلك الحين ثلاث فتاوي بإعدام (حضرة) الباب. الفتوة لأولى أصدرها رئيس الوزراء أقاسي، وأصدر الفتوة الثانية حسين شيراز، أما الفتوة أصدرها الثالثة علماء أصفهان، جميع هذت الفتاوي باءت بالفشل كانت محرد حبر على ورق. وهذا مصداق لما سبق وصرح به (حضرة)الباب لحرس حسين خان، أثناء لقاؤهما في طريق بوشهر عندما ذهبوا للقبض عليه. فقد صرح حضرته قائلا:
“لا يعرف أحد سر رسالتي ولا يقدر أي فرد سبر غورها وإلى أن تأتي ساعتي الأخيرة، لا يقوي أحد على إحباط خطة الله القدير.”
في ذات يوم بينما كان الباب جالسا في حديقة الحاكم الخاصة اقترب منوجهر خان منه وأسرّ إليه بالآتي:
“لقد وهبني الله القدير ثروة طائلة. والأن بعد أن اعترفت بصدق رسالتك أرغب في أن أقدم جميع ممتلكاتي لتروج مصالح هذا الدين.”
كان لدي منوجهر خان خطة سبق وأعده كي يلتقي الملك بحضرة الباب فكشف عهنا قائلا:
“في طويتي الذهاب إلى طهران فورا وبذل كل ما في وسعي لكسب إيمان الملك، فان ثقته بي بالرغم من مكائد رئيس الوزراء ثابته لا تتزعزع. وإني على يقين من انه سيعتنق هذه الدعوة ويقوم على ترويجها في جميع أراء المملكة. وسوف أحاول أيضا حمل الملك على طرد الحاج ميرزا أقاسي الفاسد الذي أوصل بلدنا بغباوته إلى حافة الهاوية.”
واختتم منوجهر خان حديثه قائلا: ” كم أرغب في أن أتمكن من جذب قلوب جميع ملوك الأرض وحكامها إلى هذا الأمر الجديد.”
تأثر (حضرة)الباب تأثرا عميقا وقال له:
“جزاك الله على نواياك النبيلة. أن مقصدا ساميا كهذا هو في نظري أثمن من العمل نفسه. بيد أن أيامك وأيامي معدودات، فهي أقصر من أن تمكنني أشاهد تحقيق أمنياتك هذه، أو أن تسمح لك بتحقيقها.”
صرح (حضرة)الباب لمنوجهر خان بان امر الله لا ينتشر على أيدي النبلاء و الأثرياء، بل انه ينتصر بمجهود الفقراء والمضطهدين والمستضعفين، فبدماء هؤلاء المضطهدين التي تسفك في سبيل مولاهم، وبتضحياتهم وعذابهم ينتشر أمر الله في جميع أرجاء العالم. وقد قطع حضرة الباب لمنوجهر خان وعدا لمكافأته على محبته وخدمته التي أسداها له قائلا:
“سوف يغدق الله عليك في العالم الاتي بركات بلا حساب، وأما ما تبقي من حياتك الأرضية فهو ثلاث أشهر وتسعة أيام فقط.”
وكلما دنت أيام حياة منوجهر خان من نهايتها قضي وقتا أكثر فأكثر مع (حضرة)الباب. وفي أحد الأيام صرح (حضرة) الباب قائلا:
“أنني أشعر بسعادة عظيمة تغمر حياتي ولكني اخشي عليك فاني أخاف أن اتركك تحت رحمة خلفي جرجين خان فهو سوف يكتشف وجودك في هذا المنزل ويسيء معاملتك إساءة بالغة.”
فطمأن (حضرة)الباب الحاكم قائلا: “دع الخوف عنك”. وردد عليه كلمات مماثلة لتلك التي نطق بها، في ظروف مشابهة كل من المسيح ومحمد قائلا: “بمحض إرادتي اخترت أن أعذب بيد أعدائي حتى يقضي الله أمرا كان مقضيا.”
طيبت هذه الكلمات خاطر منوجهر خان وأنعشت قلبه، وعرف أن أيامه لم تنقض على هذه الأرض سدي. فقد قابل الموعود وأمن به، ولم يصم علمه أذنيه، أو تغشي ثروته عينيه. وبعد انقضاء ثلاثة أشهر وتسعه أيام صعدت روح ذلك الحاكم ارؤف منوجهر خان إلى بارئها على إثر حمي خفيفة أصابته.
لم يفلت مير محمد حسين شقيق رئيس العلماء الذي عذب حصرة الباب وأتباعه عذابا مريرا في أصفهان من قبضة الانتقام الإلهي الذي تعقب هؤلاء الظالمين بلا رحمه. فقد طرد من أصفهان ومضي هائما على وجه من قرية إلى قرية يجر في أذياله الخزي والعار. وأخيرا وقع فريسة مرض مقيت ذو رائحة كريهة، إلى درجة لم تحتمل زوجته وابنته القيام بخدمته وقضي عليه.
وفورا علم جرجين خان الذي خلف منوجهر خان بوجود (حضرة)الباب في قصر الحاكم (الراحل)، وبعد ان تحقق من ذلك بعث برسالة مستعجلة إلى الملك قال فيها:
“كان من المعتقد أن جلالتكم قد استدعيتم (حضرة) الباب إلى طهران قبل أربعة أشهر وبأنه قد غادر أصفهان تحت الحراسة، والآن تبين انه كان مختفيا في مكان إقامة سلفي منوجهر خان طيلة هذه المدة. ومعروف أن الحاكم نفسه استضاف الباب سرا وآمن به. والآن يسرني القيام بكل ما يرغب جلالتكم عمله.”
كان الملك على يقين أن منوجهر خان كان ينتظر مناسبة سانحة يتمكن من خلالها ترتيب اجتماع بينه وبين (حضرة) الباب. فما زال الملك واثقا من ولاء صديقة العزيز منوجهر خان، وقد فاجأته المنية دون تنفيذ خطته هذه. عزم الملك على تحقيق ما اعتقد بأنه رغبة صديقه الحاكم الراحل، وأخيرا، وقرر أن يقابل (حضرة)الباب.
[1] النبيل 99
[2] التاريخ الجديد ص 220-221
[3] النبيل ص 203-215
نازعت الملك رغبتان متضاربتان. من ناحية، كان يرغب في مقابلة (حضرة)الباب ويشتاق لرؤية ذلك الشاب بنفسه الذي اكتسب إليه شخصا عالما موهبا كوحيد، ورجلا بنبل منوجهر خان ومكانته وثروت، وتواقا لمعرفة الكثير عن ذلك النبي الشاب الذي استطاع التأثير على هؤلاء على الأشخاص المرموقين تأثير قويا. ولكنه، من ناحية أخرى، كان متهيبا وخائفا لما عساه قد يحدث إذا ما اكتسب (حضرة)الباب شعبية واسعة جدا، فما فتئ رئيس وزرائه الحاج مرزا أقاسي يحذره دوما من (حضرة) الباب، مثلما، كان علماء الدين في البلاط الملكي يتحدثون بالكيف نفسها التي تكلم بها المسؤولون عن المسيح فنعتوه بأنه: (سياسي ثوري سوف يقوض مملكتك ويهدم نفوذك على رعيتك).
حار الملك في أمره وانقسم على نفسه، فمرة أصدر بدافع من رئيس الوزراء أوامره للتخلص من (حضرة) الباب ومرة أخرى سحب هذه الأوامر. والان حبا منه في إرضاء صديقة الراحل منوجهر خان أعرب الملك عن رغبته، مرة أخرى، في مقابلة الباب بنفسه. ولهذا الملك بإحضار (حضرة) الباب إلى العاصمة طهران. كتب المؤرخ الفرنسي نيقولاس قائلا:
“كان الشاه غريب الأطوار متقلب الرأي، ناسيا انه منذ وقت قصير أمر بقتل ذلك المصلح (الباب). والحين شعر برغبته في رؤية ذلك الشاب الذي أثار مثل هذا الاهتمام لدي عموم الناس”[1]
إليكم نص المسوم الملكي الذي أرسله إلى جرجين خان:
(أرسل الباب متخفيا وبصحبة حرس من الخيالة. أسدوا إليه أثناء سفره منتهي الاحترام. وحافظ على سرية رحيله، ولا تزور أيه بلدة أو قرية في الطريق.”
قال الملك انه يرغب بهذه الوسيلة حماية الباب من أعدائه. وفي الحقيقة كان رئيس
الوزراء قد دبر هذه الخطة لسبب أخر يختلف كل الاختلاف، فقد فضل ان يبقي الباب متخفيا ومستترا خوفا من التأثير الذي قد يحدثه في سكان تلك المدن التي يمر به. فقذ حذرا ضابط الحرس:
(احذر من ان يطلع على هويته أحد، أو يشتبه في طبيعة مهمتك. لا يسمح لأحد حتى أفراد حراسك بالتعرف عليه. وإذا سئلت عنه، قل انه تاجر أمرت بتوصيله إلى العاصمة وأنك لا تعلم عن هويته شيئا على الأطلاق.”
شرع (حضر)الباب في وقت متأخر من إحدى الليالي بالرحيل إلى طهران طبقا لأوامر الملك وفي أثناء الرحلة، بالرغم من الاحتياطات الشديدة، اكتشف حرس (حضرة)الباب شخصيته وأصبحوا أعوانا له. فقد استولي عليهم سحره الذي لا يقاوم، بجانب وقاره الموجب على الاحترام ورقته المحببة إلى لقلوب الأمر الذي بدل كيانهم. وبعد إن انضموا إليه ورغبة منهم في خدمته والحصول على رضائه قالوا له:
“نحن ممنوعين باتا، بأمر من الحكومة أن نسمح لك أثناء سفرنا بدخول أية قرية أو بيت. ومأمورين بأن نسلك طريقا غير مطروق يأخذونا رأسا إلى طهران كي لا تتصل بأي شخص، ومع ذلك، إذا رغبت فنحن مستعدون تجاهل كل هذه التعليمات، ونرافقك خلال شوارع كل بلدة نمر بها “
أجابهم (حضرة) الباب بأنه يفضل السير في طريق الريف لان المدن غير طاهرة فأهلها يقدمون الاحترام للمقامات المقدسة بأفواههم في حين يهيلون عليها العار بأعمالهم، يبجلونها في الظاهر ويهتكون شرفها في الباطن.
“اعترضت طريق المسيرة رسالة أرسلها أقاسي رئيس الوزراء وهم على مسيرة يوم واحد فقط من طهران يأمر فيها الحرس بعدم إحضار الباب إلى طهران، بل يأخذوه إلى قرية وإبقائه هناك إلى حين وصول تعليمات أخرى. كان رئيس الوزراء مصمما على ألا يسمح أبدا بوصول الباب إلى العاصمة. فما فتئ رئيس الوزراء يذكر الملك بالثورات الدينية التي اشتعلت في الماضي في كل من مازندران وخرسان، وحذره من ان (حضرة)الباب ما هو إلا مجرد خطر مماثل يهدد سلام المملكة، فقد كان تأثير رئيس الوزراء
على الملك لا حد له. كتب الكونت دي جويبنو المؤرخ الفرنسي الشهير يقول:
” كان مزاج الملك بطبيعته ضعيفا، وأصبح شديد الكأبة والانطواء اذا تشوق إلى الحب دون أن يعثر عليه لا في زوجاته ولا عند أولاده وركز كل محبته في ذلك الملا العجوز (الحاج مرزا أقاسي) معلمه، فجعله صديقه الوحيد، وموضع ثقته، ثم وزيره الأول ذو أصبح السلطة المطلقة، بل كاد ان يكون الهه المفضل.”[2]
تقول (الجريدة الأسيوية):
” سيطر رئيس الوزراء على الملك إلى درجة يستطيع الفرد القول بحق أن رئيس الوزراء كان الملك الحقيقي[3]. ويقول ب. م. سايكس في كتابه تاريخ ايران:
“كان الحاج ميزا أقاسي حاكم البلاد الفعلي لمدة ثلاث عشرة سنة. كان هذا الرحل جاهلا تماما بأمور الحكم والسياسة ….. ومع هذا كان كثير الغرور بدرجة لم يقبل معها النصح ….. كما كان وقحا في كلامه، سفيها في تصرفاته، بليدا في عاداته، بحيث أوصل الخزينة العامة إلى حافة الإفلاس، والمملكة على شفا الثورة.
أخيرا اقنع رئيس الوزراء الملك بأرسال الباب إلى قلعة نائية تدعي ماه كو. وطبقا لما ذكره أحد المؤرخين، كان الملك يقاسي من مرض فترة من الزمن وان (حضرة)الباب وعد بشفائه إذا سمح له بالحضور إلى طهران. وخشي الحاج ميرزا أقاسي من انه لو شفاه (حضرة)الباب قد يفلت الملك من قبضته[4] ولذلك حث الملك على الكتابة إلى الباب بالآتي: “مع شدة رغبتنا في مقابلتك فأننا نجد أنفسنا غير قادرين على استقبالك بما يليق في طهران. وقد أظهرنا رغبتنا في انتقالك إلى ما كوه.[5]
سبق أن كتب (حضرة)الباب إلى الملك يطلب مقابلته. والتمس أذنا بالحضور إلى العاصمة كي يترك للملك الحكم بالكلية في أحقية أو بطلان دعوته. وقال انه سوف يقبل بحكم الملك كحكم نهائي وانه مستعد للتضحية برأسه إذا فشل في ذلك.[6]
رحب في بادئ الأمر كلا من رئيس الوزراء والملك بهذا الخطاب لاقتناعهما انه بمجرد ان يواجه الباب الزعماء الدينيين المعروفين في البلاد فانهم سوف يذلونه ويجردونه من كل اعتبار. ولكن عندما وصلتهما أنباء انتصاراته الباهرة في مناظراته، خصوصا حين جاءت الأخبار باعتناق كل من وحيد و منوجهر خان لدعوته، لم يعودا متشوقين أو حتى راغبين في إحضاره إلى العاصمة.
عندما وصلت رسالة الملك إلى الباب يخبره فيها بنقله الى جهريق عرف حضرة الباب من الذي دبر هذا الأمر القاسي. كتب حضرة الباب الى رئيس الوزراء قائلا: “لقد استدعيتني للحضور من أصفهان لمقابلة العلماء والوصول الى تسوية قاطعة فماذا حدث الان؟ ولماذا تبدل ذلك العزم العالي بإرسالي إلى ماكوه وتبريز؟[7]
ألمح حضرة الباب بهذه الكلمات عن الآلام التب سوف تنصب عليه في تبريز. فمرة يستدعى من السجن ليضرب، ويستدعونه، مرة ثانية، ليقتلوه. وهكذا أخل الملك بوعده ولم يقابل حضرة الباب.
وعنما اطمأن ميرزا أقاسي أته نجح في خطته تحرك الموكب الملكي المكون من ابن المتك الصغير البرنس فرهادي، والملك ورئيس الوزراء أقاسي متوجها إلى حديقة جميلة في ضواحي طهران. وفي أثناء وجودهم داخل الحديقة اقترب البرنس فرهادي من رئيس الوزراء وسأله قائلا:
أجابه:
أصدرت الجريدة الأسيوية هذه الوثيقة التاريخية: “وما ان ذاع أمر رئيس الوزراء الحاج أقاسي وأصبح معروفا لدى الجميع … من أصفهان إلى طهران، أخذت الناس تتحدث بصوت عالي وتصيح من ظلم العلماء وطغيان الحكومة لحضرة الباب”.
أمر حضرة الباب ان يتابع السير أولا إلي تبريز. رفض حضرة الباب ان يمد يده للمال الذي قدمته الحكومة لرحلته وأنعم بكل المخصصات المالية التي أمر بها رئيس الوزراء لرحلته على الفقراء والمساكين-ولكنه استعمل نقوده الشخصية التي اكتسبها وقت أ كان يشتغل بالتجارة.
أصدر رئيس الوزراء أوامر صارمة إلى رئيس الحرس محمد بك بعدم دخول أي بلدة أثناء رحلته. وعندما أشرفت القافلة نحو أبواب مدينة تبريز تقدم رئيس الحرس نحو حضر الباب واستسمح قائلا:
“كانت الرحلة من أصفهان طويلة وشاقة وأشعر بأني قد قصرت في إيذاء واجبي نحو حضرتك وتقاعست عن القيام بخدمتك بما بليق بمقامك، وليس بوسعي إلا أن التمس صفحك وغفرانك”.
أجابه حضرة الباب:
” طمئن نفسك فإني أعتبرك واحدا من شيعتي. والذين سوف يعتنقون أمري سوف يباركونك ويعظمونك، كما أنهم سوف يباركون سلوكك ويشيدن باسمك”.
اقتدي بقية الحرس برئيسهم وبدموع تترق من مقلتهم ودعوا حضرة الباب الوداع الودي الأخير وسلموه على مضض إلى عساكر حاكم تبريز.
[1] مسيو نيقولا السيد محمد على الباب ص 242
[2] الكونت دي جوبينو المذاهب والفلسفات في اسيا الوسطى ص 131-132
[3] المجلة الأسيوية 1861 المجلد السابع ص 367- 368
[4] النبيل الهامش رقم 232
[5] النبيل لاص 230-231
[6] الكونت دي جوبينو المذاهب والفلسفات في اسيا الوسطى ص 124
الكونت دي جوبينو المذاهب والفلسفات في اسيا الوسطى ص 124
[7]
أشعلت أخبار وصول (حضرة)الباب إلى تبريز هياجا عظيما واندفعت حشود هائلة من الناس للترحيب به عند مدخل المدينة بشوق، ولكن الموظفين المكلفين بحراسة (حضرة)الباب رفضوا السماح لهم الاقتراب منه وتلقي بركته. لم يقدر أحد الشباب على ضبط نفسه، فجري وعبر بوابة المدينة بمحاذاة المسؤولين وانطلق في سيره مسافة تزيد على الميل نحو الباب. اقترب من الخيالة الذين كانوا يسيرون في الطليعة ورحب بهم وناداهم قائلا: “أنتم مرافقون محبوبي واني أعزكم كبؤبؤ عيني.”
سمحوا له الحراس بمقابلة (حضرة) الباب، وبمجرد أن وقعت عيناه عليه انطلقت من بين شفتيه صيحة فرح، وانكب على وجه يبكي بحرقة. ترجل (حضرة)الباب من على جواده ووضع ذراعيه حول ذلك الشاب وعانقه. كان ذلك الشاب هو الوحيد بين مؤمني تبريز الذي أفلح في الوصول إلى (حضرة)الباب والتبرك به. أما الباقون فقد اكتفوا بألقاء نظرة على محبوبهم عن بعد علها تشفي غليل فؤادهم. احتشد جمع غفير من الناس عند باب المدينة ليشاهدوا دخول (حضرة)الباب إليها… منهم من دفعه الفضول، والبعض الأخر جاءوا ليتبينوا ما إذا كان الباب حقا ذلك الموعود العجيب الذي أخبروا عنه، أما الباقون فقد دفعهم أيمانهم وإخلاصهم للمثول في محضره لكي يؤكدوا ولاءهم له.
وما أن هلت طلعة حضرته وهو يخترق شوارع تبريز انفجرت حناجر المستقبلين بالترحيب والتكبير هاتفين (الله أكبر…. الله أكبر). كانت الضجة التي سببها وصول الباب عظيمة لدرجة ان أرسل الحاكم مناد بين الناس يحذرهم من خطر استمرارهم في تصرفهم هذا وأنذروهم (بأن كل من يحاول الاقتراب من الباب أو يسعي لمقابلته في اي وقت سوف يحكم عيه بالسجن ويستولي على جميع ممتلكاته)[1].
وضعوا الباب في حجرة بحصن يشبه القلعة ووقفت فصيلة من الجند لحراسة المدخل. بالرغم من الأوامر المشددة التي تلقوها هؤلاء الحراس من رؤسائهم، لم يمض وقت طويل حتى تحول هؤلاء الجند إلى أصدقاء ووضعوا أنفسهم تحت إمرة (حضرة)الباب وسمحوا بدخول كل من يرغب رؤيته. أعلن (حضرة)الباب بان مهمة هؤلاء الحراس هي حمايته من الجموع المحتشدة حول البيت ولكنهم لا يستطيعون منع أولئك الذين يرغبوا مقابلته. هذه الفصيلة من الجند التي تقوم الأن بحراسته وحمايته هي بعينها التي سوف يقع الاختيار عليها في المستقبل، وبطريقة غامضة، إطلاق الرصاص عليه والتسبب في موته. ولكن هذا سوف لا يتم ألا بعد أن تعجز فصيلة أخرى عن قتله، الأمر الذي وصفه المؤرخ نيقولاس بانه (حدث فريد في سجل التاريخ البشري).[2]
وفي ذات يوم، بعد وصول الباب بمدة قصرة إلى تبريز، عزم أحد اتباع (حضرة)الباب المخلصين ويدعى “على عسكر” زيارة (حضرة) الباب، فحذره أصحابه من الذهاب قائلين:(ألا تعرف أن هذه المغامرة الطائشة من جانبك لا تنتهي بمصادرة أملاكك فحسب بل بتعريض حياتك للخطر أيضا؟)
أجابهم قائلا: “أنى ذاهب”.
رفض على عسكر الاكتراث لنصائح أصدقائه، وتوجه فورا إلى البيت الذي كان الباب مسجونا فيه. فلم تكن هناك قوة على وجه هذه البسيطة تستطيع أن تحول بينه وبين المثول بين يدي مولاه ولو أدي ذلك إلى التضحية بحياته.
قطع على عسكر، في الماضي، أميالا عدة في رفقة الملا حسين بشروئي، أول تابع ل(حضرة) الباب، وبلغا الأمر معا في مدن عديدة.
كان إخفاق على عسكر الاعتراف المبكر والتشرف بلقاء (حضرة)الباب أثناء إقامته في
شيراز مصدر حزن كبير له فكثيرا ما بث خزنه هذا إلى رفيقه الملا حسين. فطيب الملا
حسين خاطره وأعلن له قائلا:
“لا تحزن يا صديقي! فأن الله القدير سوف يعوضك في تبريز ما فاتك عنك في شيراز” وأكد له قائلا:
“لا مره واحده بل سبع مرات سيمكنك من أن تحظي بفرح المثول في محضره عوضا عن المرة الواحدة التي فاتتك.”
الآن، وقد أصبح الباب في تبريز، فلن يسمح على عسكر لأي شيء ان يحول بيته وبين محبوبه. وبمجرد أن اقترب من باب المنزل الذي كان الباب محجوزا فيه ألقي القبض عليه فورا وعلى الصديق الذي كان في صحبته. وعلى الفور أرسل (حضرة)الباب أمرا إلى الحراس قائلا: اسمحوا لهذين الزائرين بالدخول لأني أنا دعوتهما لمقابلتي.”
أسكتت هذه الرسالة، على الفور، الحراس، فدخل كلا من على عسكر وصديقه إلى محضر (حضرة) الباب. حياهما (حضرة)الباب بحرارة ورحب بقدومهما وأعطاهما تعليمات كثيرة لتنفيذها واكد لهما بأنه لن يعترض أحد طريقهما اذا هما رغبا في زيارته.
يروي على سكر ما حدث فيقول:
“تجاسرت في بعض الأحيان على زيارة (حضرة)الباب للاستفسار منه عن بعض التفصيلات الخاصة بالمهمة التي أوكلها إلى ولم أواجه في أية مرة أي اعتراض من أولئك الذين كانوا يقومون بحراسة مدخل منزله. غاب عن ذهني ما سبق وأخبرني به الملا حسين إلى أن حانت زيارتي السابعة والأخير. وكم كانت دهشتي عظيمة عندما زرت الباب في المرة السابعة وسمعته يقول لي: الحمد لله الذي مكنك من إكمال عدد مرات زياراتك وشملك بحمياته.”
واليكم رواية شاهد عيان آخر قال:
“في خلال العشرة الأيام الأولى لحبس (حضرة)الباب في تبريز لم يعلم أحد ماذا سوف يحدث له بعد ذلك. وكانت أفظع الشائعات تدور في المدينة. وفي ذات يوم سألت الباب عما إذا كان سيظل في تبريز أم انه سوف ينتقل إلى مكان أخر. فأجابني قائلا:
“سنمكث معتقلين مدة لا تقل عن تسعة أشهر في ماه كوه ثم ننتقل إلى جهريق.” وبعد مرور خمسه أيام على هذه النبوءة صدرت الأوامر بنقل (حضرة)الباب وأنا معه من قلعة ماه كوه وتسليمنا لحراسة على خان في جهريق.”
وبقلوب ملؤها الآسي شاهد أهالي تبريز (حضرة)الباب يرحل عن المدينة. أخذت الحيرة الكثير منهم لعجز(حضرة)الباب الظاهري ووداعته فأعرضوا عنه تماما كما اعرض الناس عن (حضرة) المسيح ولم يعودوا يؤمنون به. تهامسوا فيما بينهم كما تهامس الناس في أوراشليم من قبل عندما سلم السيد المسيح بدوره إلى بيلاطس وقيافا قائلين: اذا كان هذا هو الموعود حقا فلماذا تتلاعب به أهواء أهل الأرض؟
[1] النبيل ص 237-241-243
[2] النبيل ص 239
عهد بالباب إلى على خان حارس قلعة ماه كو فحبسه داخل تلك القلعة الصخرية ذات الأبراج الأربعة الشاهقة المقامة على قمة جبل، يحدّها غرباً نهر أراكس وهو الحد الفاصل بين إيران وروسيا.
إخطار رئيس الوزراء الحاج ميرزا أقاسي ماه كو لسجن الباب لسبب واحد فقط هو أن هذا الإقليم موحش لا يعرف أهله كرم الضيافة، يقطنه قوم يكنّون دائماً عداءً مريراً للإيرانيين. أبديّ رئيس الوزراء على أهالي هذا الإقليم المتمرد بكثير من الأفضال فأصبحوا الآن في قبضة يده.[1] وأيقن، رئيس الوزراء، انه بهذا الحبس يستطيع أن يعزل (حضرة)الباب بصورة دائمة عن اتباعه ويفصله عن نشاطهم. ظن ميرزا أقاسي أنه بفعلته هذه في اقتداره القضاء على دعوة (حضرة)الباب في مهدها وإخماد نيرانها سريعا فهناك عدد قليل من اتباع الباب من يستطيعون اختراق ذلك البلد المعادي، إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
فشلت خطة رئيس الوزراء فشلا ذريعا، فسرعان ما لانت عداوة أهل ماه كو، شيئاً فشيئاً، بسبب دماثة أخلاق (حضرة) الباب، كما ذابت معارضتهم أمام تعاليمه حصافة بيانه. فكانوا يحضرون في كل صباح من قريتهم ماه كو ويجتمعون في الطريق الواقع تحت السجن ينادونه ويلتمسون منه البركة في عملهم اليومي. كتب (حضرة)الباب بنفسه عن أوائل أيامه في ماه كو قائلاً: “رافقني في هذا السجن رجلين وأربعة كلاب”.
ورغما عن جميع هذه الاحتياطات وصلت تعاليم (حضرة)الباب إلى تلك الجماهير المحتشدة خارج السجن. في هذه الأثناء كان حضرة الباب يملي على السيد حسين يزدى، الذي أتى معه أسيراً من تبريز، وكان الناس الذين يعيشون تحت القلعة يسمعون، في اليوم الهادئ، صوت حضرة الباب جليا.
كتب أحد الذين شاهدوا هذه الأيام قائلاً: “… كان الجبل والوادي يرددان عظمة صوته فتهتز قلوبنا من أعماقها من جذب بيانه”.[2]
بذل على خان كل ما في وسعه لتثبيط الناس عن عادتهم هذه، ولكنه لم يقو على إخماد حماسهم. في بادئ الأمر رفض على خان السماح لأي قروي المثول في محضر (حضرة) الباب، كما لم يأذن لأحد من اتباعه الذين يأتون إلى الجبل بالمكوث ولو ليلة واحدة في قرية ماه كو فقد حذره حاجي ميرزا أقاسي من خطر الوقوع تحت تأثير سحر (حضرة) الباب. ووصفه بانه: “مثير للفتن”.
وبعد فترة وجيزة وجد على خان نفسه عاجزاً بصورة متزايدة عن مقاومة انجذابه نحو شخصية (حضرة) الباب، ففي خلال تلك الأشهر التسع التي قضاها الباب مسجوناً (من صيف 1847م إلى أبريل 1848م) في ما كوه تعرضت مشاعر على خان نحو (حضرة)الباب إلى سلسلة من التغييرات لسريعة، فمن عداوة إلى تفاني.
حاول على خان، منذ تلك اللحظة، بكل الوسائل التكفير عن بغضه السابق. وفي ذات يوم ذهب على خان إلى (حضرة)الباب وعرض عليه قائلا:
“يوجد رجل مسكين ينتظر خارج بوابة ماه كوه يحن لبلوغ محضرك فهل تأذن لي بإحضاره إلى هذا المكان للقائك؟ لعل عملي هذا يشفع لي عندك وتصفح عني، وتمحي إلى الأبد ذكري سلوكي القاسي نحوك ونحو من اتبعك؟”
فسمح (حضرة) الباب لعلى خان بإحضار ذلك الرجل العاكف عند باب القلعة منذ قت. ومنذ ذلك اليوم بذل على خان كل ما في وسعه لتخفيف وطأة الأسر على (حضرة) الباب. فقد سمح يترك بوابة القرية مفتوحة طوال النهار لكل من يريد الحضور لدى ساحة (حضرة)الباب والتحدث معه وتلقي تعليماته، لكنه كان يغلقها عند المساء. ومما كتبه المؤرخ الشهير
نيقولاس:
“يخبرنا جميع المؤرخين الموالين منهم وغير الموالين… انه بالرغم من الأوامر المشددة لمنع اتصال الباب بالعالم الخارجي، فقد كان الباب يستقبل عدداً عظيماً من التلاميذ والغرباء في سجنه”.[3]
وصرّح مؤرخ آخر قائلا:
“جاءت جموع غفيرة من جميع الأطراف لزيارة (حضرة) الباب، وكانت البيانات الصادرة من قلم وحيه خلال هذه الفترة غزيرة إلى درجة بلغ مجموعها أكثر من مائة ألف آية”.[4]
أتاحت الفترة التي قضاها (حضرة) الباب في ماه كو فرصة لوضع الثوابت الرئيسية لدعوته, ففي خلال الأشهر التسعة هذه وضع (حضرة)الباب اشمل كتبه هو البيان الفارسي الذي وصف فيه رسالته بكونها رسالة مزدوجة: ودعى الناس للرجوع إلى الله و الإعلان عن مجيء موعود جميع الأديان و العصور، وأعلن بأن هذا المبعوث الإلهي العظيم سوف يظهر سريعاً من بعده، و أن مكانة هذا المظهر الإلهي القادم عظيمة إلى درجة انه صرح لأتباعه قائلاً ما معناه: “لو يستمع أحد إلى آية واحدة من آيات من يظهره الله و يتلوها خير له من تلاوة البيان الف مرة”.[5]
وحثّ (حضرة) الباب أتباعه أن يتذكروا دائما كلماته هذه وأن يثابروا في البحث والتحري بعد وفاته عن هذا المظهر الإلهي العظيم حتى يعثروا عليه. كما أشار ضمناً بان دينه والدين الآتي من بعده هما في الحقيقة دين واحد. فما هو إلا المبشر والآتي من بعده هو المؤسس، وأن هذه الحقيقة هي الآن في مرحلة النطفة وسوف يظهر كمالها في يوم من يظهره الله.[6]
أخبر (حضرة)الباب أتباعه، مراراً وتكرارا، انه ليس إلا الممهد لمجيء يوم الله العظيم المذكور في جميع الكتب والصحف المقدسة السابقة. وكما حذر السيد المسيح تلاميذه من “اليوم الآخر” بهذه الكلمات “اسهروا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم”[7]. ردد (حضرة)الباب نفس الإنذار لأتباعه قائلاً: “انتبهوا في يوم من يظهره الله”[8]. لم يكف (حضرة) الباب خلال أشهر أسره التسع في ماه كو عن الدعاء لكي يعد قلوب البشر لمجيء هذا الراعي العالمي العظيم قائلاً ما معناه:
“يا ألهى أهلك به جميع الطغاة… وامح بعدله كل أشكال الظلم”[9]. ذكر (حضرة)الباب بانه تحدث عن اضطهاده لكي يضرب مثلاً لأتباعه “فلا يفعلوا مع من يظهره الله مثل ما فعل أهل الفرقان بهي”[10].
كما أشار(حضرة)الباب أثناء وجود في ماه كو إلى من يظهره الله قائلاً: “وقد كتبت جوهرة في ذكره وهو انه لا يشار بإشارتي ولا بما ذكر في البيان”.[11]
لم يترك (حضرة)الباب أي مجال للشك في نفوس أتباعه بالنسبة لمقامه ومقام من يظهره الله، فكتب قائلاً “انه بمنزلة الفجر، والذي سوف يأتي بعده هو الشمس”. وفي مناسبة أخرى أعلن قائلاً ما معناه: “لو يظهر في هذا الحين فانا أول العابدين وأول الساجدين”[12].
روى المؤرخ نيقولاس بأن (حضرة)الباب عندما كان يسأله أحد عن الدليل على مصداقية رسالته، كان جوابه مدهشاً لدقته ووضوحه، وبياناته جديدة وأصيلة في نوعها، وكتاباته الأدبية ذات متعة عميقة”[13].
لم يكف قلم (حضرة)الباب خلال الأشهر التسعة هذه عن الجريان. وكان اتباعه البابيون يتوافدون من جميع أقطار فارس لزيارته وبعد قضائهم ثلاثة أيام كان الباب يحثهم على العودة إلى مواطنهم ومتابعة أعمال التبليغ وتثبيت الأمر. وبالرغم من تلك العزلة التي فرضها رئيس الوزراء على (حضرة) الباب، فقد أتيحت أمامه فرصة لا للقاء اتباعه فحسب، بل، والأهم من ذلك هو انه قد تسنى له الوقت الكافي لتبيّن الحقائق الأساسية لرسالته تبيناً ثابتاً. وفي غرفته المنعزلة هذه، لم يسمح له حتى بإيقاد سراج. وكان الشتاء قارصاً بدرجة أن الماء الذي كان يغتسل به يتجمد على شكل قطرات على وجهه.
في تلك الأثناء قرر الملا حسين زيارة (حضرة)الباب في ماه كو[14]. فقد كان الملا حسين يبلغ الدعوة بجد في مدينة مشهد التي هي أعظم مركز للحج في بلاد فارس كلها.
كان نصف أهلي مشهد يتعيشون من سيل أولئك الزوار الذين يحجون إلى تلك المدينة. تكتل كل أولئك الناس ضدّ هذا المبلّغ الذي قد عساه يحرمهم من مورد رزقهم. قالوا، بان محاربة الفساد الديني قد تصحّ في أية مدينة أخرى، ولكن من المؤكد انه لا يليق محاربتها في مشهد التي يعيش كل فرد من جميع طبقات أهلها على الفساد. أعلنوا، ليظهر الموعود ما شاء له أن يظهر، فقد يحقّ له ذلك، لكن مما لا شك فيه انه سوف يكون مصدر إزعاج عام. أوضحوا للملا حسين قولا وفعلاً بأنه قد يكون شيئاً مثيراً حقاً أن يقوم هو والباب بقهر العالم وفتحه، ولكن هذا ينطوي على مجازفة عظيمة، ناهيك عن التعب والخطر، خاصة الآن حيث ينعم كل فرد بالهدوء التام في مدينة جميلة ذات تجارة رائجة ويستطيع كل فرد فيها كسب قوته بكل سهولة واطمئنان.
ترك الملا حسين مشهد مشمئزاً منها، فقد كان تواقاً لزيارة (حضرة)الباب ذلك المحضر الطاهر المقدس. وقال لأصدقائه: “لقد عقدت العزم أن اقطع المسافة التي تفصلني عن محبوبي سيراً على الأقدام. ولن أستريح حتى أصل إلى بغيتي”. وفي صباح يوم، رأى الحارس على خان عند الشروق الملا حسين يقترب من ماه كو. فأسرع، إليه مرحباً بقدومه وأحضر معه حصاناً لكي ينهي الملا حسين المرحلة الأخيرة من سفره براحة. رفض الملا حسين ركوب الحصان قائلاً: “أنى نذرت أن أقوم برحلتي هذه كلها مشياً على الأقدام وسأسير إلى قمة هذا الجبل وسأزور هناك سجينك “.
وعندما وصل الملا حسين إلى باب السجن شاهد (حضرة)الباب واقفاُ عند العتبة. مد (حضرة)الباب ذراعيه وعانقه بكل محبة. وفي ذات يوم بينما كان (حضرة)الباب والملا حسين واقفين معاً على سطح السجن ينظران إلى جبال آذربيجان، ذكر (حضرة)الباب للملا حسين النبوءة الآتية:
“لابد لنا من أذربيجان. ما لا يقوم لها شيء فإذا كان ذلك فكونوا إجلاس بيوتكم فإذا تحرك محرك فاسعوا إليه”.
التفت (حضرة)الباب إلى الملا حسين واستشهد ببيت من الشعر وكأن قائله قاله بالهام ربّاني:
“سوف تعمّ الضجة شيراز. وسوف يظهر فيها فتى حلو اللمى وأخشى أن تهيج أنفاسه بغداد”.
وأعلن(حضرة)الباب للملا حسين بان جزءاً من هذه النبوءة قد تحقق، وسرّ ما تبقى منها سوف يظهر عام 1853م. ثم ألقى (حضرة)الباب بنظرة ناحية الغرب حيث ينساب نهر أراكس أسفل سفح القلعة، و كشف أيضاً للملا حسين عن نبوءة أخرى تقول:
“إن الكنوز الإلهية مخبؤه تحت عرش الرحمن ومفاتيحها السنة الشعراء”
واستطرد قائلاً:
” ذلك هو النهر وهذا شاطئه الذي كتب عنه الشاعر حافظ الشيرازي قائلاً:
يا نسمة هابة على جانبي أراكس قبلي ثغر ذاك الوادي وعطري منه أنفاسك
ويا ديار سلمى تحية منا لك بعد أن دوى فيك صوت الحادي وجلجلة أجراسه
قال (حضرة) الباب للملا حسين: “لولا قصر مدة أقامتك لأريناك ديار سلمى كما كشفنا لك عن شواطئ أراكس”. قصد (حضرة) الباب بديار سلمى سجن جهريق الذي سوف ينقل إليه بعد وقت قصير. والذي يقع بجوار بلدة سلماس. قص الباب على الملا حسين كثيراً من الحوادث التي ستقع في المستقبل وأمره ان لا يطلع أحداً عليها. وعندما ودّع (حضرة)الباب الملا حسين الوداع الأخير قال له:
“لقد سرت على الأقدام طوال الطريق من موطنك إلى هذا المكان، وسيراً على الأقدام يجب أن تعود… فان أيام فروسيتك لم تأت بعد. لقد قدّر لك إن تظهر من الشجاعة والبطولة والمهارة ما سوف يكسف سناها كل ما قام به الأبطال في غابر الزمان”. وأمر(حضرة)الباب الملا حسين بزيارة المؤمنين في كل قرية يجتازها وقال له:” أشعل قلوبهم من جديد… ومكّن أيمانهم بهذا الظهور”. أسر اليه أيضاً:” بعد رحيلك ببضعة أيام سوف ينقلوننا إلى جبل آخر. وستصلك أخبار انتقالنا من ماه كو قبل أن تصل إلى مقرك “.
تمّ سريعاً ما تنبأ به (حضرة) الباب. فالأشخاص الذين أرسلهم رئيس الوزراء لمراقبة ما يدور في ماه كو سراً زودوه بأخبار تنذر بالخطر قائلين: “أن عداء أهل ماه كو المألوف قد تبدل الآن نحو (حضرة)الباب إلى محبة واحترام عظيمين”. واعترفوا قائلين: “بأن الناس يحضرون إلى زيارة (حضرة)الباب من كل فج. حتى على خان نفسه أصبح مفتوناً به ويعامله كضيف لا كسجين”.
وبدافع من الخوف والغضب أصدر رئيس الوزراء أمره بنقل الباب فوراً إلى سجن جهريق الذي هو أشد قسوة والذي أطلق عليه (حضرة)الباب اسم “الجبل الشديد”. كان الملا حسين في تبريز عندما وصلت إليه أنباء نقل (حضرة)الباب إلى جهريق. ودّع الباب أهالي ماه كو وكان الحزن يملأ قلوبهم من منظر فراقه المؤلم. فالشخص الذي أحبوه حباً جماً والذي عرفوا فيه خلال الأشهر التسع من الأسر التي قضاها بينهم قوة شخصيته العظيمة، وسمّو أخلاقه سوف يغيب عن أعينهم إلى الأبد.
[1] المجلة الأسيوية 1816 المجلد السابع ص 356
[2] النبيل ص 249
[3] مسيو نيقولا السيد على محمد الباب ص 365-366
[4] التاريخ الجديد ص 238
[5] مقالة سائح ص 349
[6] نطم حصرة بهاء الله العالمي ص 100
[7] متي 24″42
[8] مسيو نيقولا الدلائل السبع ص 64-65
[9] مسيو نيقولا الدلائل السبع ص 64-65
[10] مسيو نيقولا السيد على محمد الباب ص 365-367
[11] نطم حصرة بهاء الله العالمي ص 100
[12] لوح ابن الذئب ص
[13] مسيو نيقولا الدلائل السبع ص 12-13
تعرض (حضرة)الباب في جهريق إلى حبس أشد بطشا. فقد أصدر رئيس الوزراء- ذلك العجوز الشرير- أوامره المشددة والصريحة إلى يحيى خان حارس قلعة جهريق (صهر محمد شاه) طلب فيها ألاّ يسمح لأحد بمقابلة (حضرة) الباب، ولا استثناء في ذلك. وأنذره أن يتعظ بفشل على خان حارس ماه كو، ولا يتجاهل أبدا الأوامر التي تلقاها ولو لحظة واحدة، هذا إذا أراد أن يحتفظ بحياته.
رغما من هذا التهديد الواضح لسلامته، وجد يحيى خان نفسه عاجزا عن الإصغاء لهذه الأوامر. فقد شعر هو الآخر بقوة سجينه القاهرة، فنسي تماما الواجب الذي كان من المنتظر القيام تنفيذه، فقد هيمنت محبة (حضرة)الباب على جميع كيانه، حتى أصبح يفضل أن يقتل على أن يتسبب في أدنى مضايقة لسجنه. أما القرويون سكان جهريق الذين كانوا أشد تعصبا في كراهيتهم ل(حضرة)الباب من قوم ماه كو فقد وقعوا بالتدريج تحت تأثير وجود (حضرة)الباب المبدل للقلوب. فالروح التي كانت تشع من (حضرة)الباب كانت روحا خلاقة، استبدلت الكراهية بالمحبة، وجعلت من الخصمون أصحابا. يشاهد على ذلك التصريح التاريخي هذا:
“”كانت أخلاقه من حيث النبل والجمال نادرة، وشخصيته وديعة ولكنها قوية ومهيمنة، يمتزج لطف سحره الفطري بلباقة وحكمة زائدة بدرجة انه بعد إظهار دعوته سرعان ما أصبح شخصية ذائعة الصيت في جميع أرجاء يران. فقد اكتسب إليه كل من اتصلوا به، كثيرا ما حول سجانه إلى مؤمنين بدعوته، وبدل ألد الأعداء إلى أصدقاء معجبين”.[1]
تضاءل عدد الزائرين في ماه كو أمام من أقدموا على زيارته في جهريق. لم يقف يحيى
خان في وجه أي زائر يريد رؤية الباب، بذلك ضاقت جهريق لضخامة عدد الزائرين. واضطروا للبقاء في جهريق القديمة، التي هي على بعد ساعة من القلعة. ومما كتبه موشنين (M. Mochenin) في مذكراته أثناء عمله مع إحدى المنظمات الأجنبية في تلك الجهة قائلا: “كانت جموع المستمعين حول الباب عظيمة بدرجة ان ضاق الفناء بهم، وظل أغلبهم في الشارع ينصتون إليه بسرور مفرط”[2].
كانت جميع احتياجات الباب تشترى من جهريق القديمة. وفي ذات يوم اشترى له عسل بسعر بدا باهظا، فرده قائلا: “لا شك أن عسلا أكثر جودة من هذا يمكن الحصول عليه بثمن أقل، عليكم أن تتبعوا طريقتي في جميع معاملاتكم “لا تغشوا جاركم ولا تسمحوا له أن يغشكم”. وأصر على إعادة العسل وشراء عسل أخر عوضا عنه أكثر جودة وأقل ثمنا”[3].
أثناء تلك الأيام حضر درويش من الهند سيرا على الأقدام ليبحث عن (حضرة) الباب. وبمجرد أن قابله اعتنق دعوته. ترك لنا ذلك الدرويش الهندي القصة التالية:
“”كنت أحد رجال الدولة في الهند أشغل منصبا عاليا. ظهر لي في الرؤيا شاب يحدق في، وقد استطاع أن يستأثر بقلبي. فنهضت وبدأت أسير خلفه. فنظر إلى بكل إمعان وقال لي: “جرد نفسك من ملبسك الفاخر واترك بلدك وأسرع لمقابلتي مشيا على الأقدام، في أذربيجان، وفي جهريق تصل إلى محبوب قلبك” فاتبعت أوامره حتى وصلت الآن إلى بغيتي”.
هذه القصة هي مصداق للنبوءة الخاصة بأخر الزمان التي تقول: “سوف تأتي الناس من أماكن بعيدة مهتدين بالروح لملاقاة الموعود”[4]. كانت هذه الحادثة واحدة من كثير من تلك الواقعات البارزة التي تتابعت سريعا وأشعلت هياجا في جهريق فاق بكثير ما حدث في ماه كو فقد كان هناك سيل لا ينقطع من الباحثين والاتباع الذين كانوا يتدفقون ذهابا وإيابا من مدينة السجن القديمة جهريق وإليها من عظماء الرجال والعلماء البارزين حتى موظفي الحكومة كانوا يسرعون لإعلان أيمانهم علانية.
حدث ان أعلن أحد الموظفين الكبار المشهود له بالعلم وسعة الاطلاع إيمانه بدعوة (حضرة) الباب وكرس نفسه وقلمه لنشرها. فأطلق عليه الباب اسم “ديان”. كان ديان في بادئ الأمر معارضا لدعوة الباب. وفي احدى الليالي رأى حلما كتب على أثره خطابا للباب يقول فيه:
“أنى احتفظ ببعض مسائل في ذهني، أرجو منك أن تكشف لي عنها”. وبعد مضي بضعة أيام تسلم رسالة بقلم الباب يصف له حلمه ويكشف عن الكلمات نفسها التي كان يكنها في خاطره. كانت الإجابة دقيقة بدرجة انه أمن ب (حصرة) الباب فورا ومشي على قدميه إلى الجبل لملاقاته. أشعلت فيه هذه المقابلة نار الحماس الذي لم يخمد حتى أخر حياته.
علم الباب بدنو ساعة عذابه الأخير. فأمر أتباعه الملتفين حوله في جهريق بالتفرق والعودة إلى موطنهم لمباشرة أهم واجب عليهم، ألا وهو التبليغ. كما امر تلميذه الهندي بالعودة إلى بلده والعمل دون توقف لنشر الكلمة. فقام على الفور ملبيا أمر الباب مرتديا أبسط الثياب، وسار وحيدا يحمل عصاه بين الجبال، يبشر بكلمة الله كل من يلاقيه في طريقه إلى أن وصل بلده.
انتظر الباب بكل هدوء ورضا أمر الحاج ميرزا أقاسي المحتوم الذي لم يتأخر كثيرا. فما ان وصلت أخبار هذه الحوادث المثيرة إلى العاصمة حتى اشتعلت غضب رئيس الوزراء. فقد آبت جميع خططه بالفشل، المرة تلو الأخرى، وأدرك أن عليه ألا يفشل في المرة الثالثة. فأصدر على الفور أوامره بنقل (حضرة)الباب من سجنه في جهريق إلى مدينة تبريز. وشدد بعدم دخوله أي بلدة امتد إليها نفوذه، وأوعز بإحضاره إلى تبريز عن طريق يمر عبر قرية أرومية. ولكن سرا كهذا لا يمكن تكتمه. فعندما وصل (حضرة)الباب إلى قرية أرومية استقبله برنس ملك قاسم ميرزا بكل احترام وأرسل إليه حرسا من المشاة ليفسحوا له الطريق وسط الجماهير التي كانت متعطشة للتطلع إلى محياه الباه. فقد كانت جموع الشعب تتزاحم من حوله كل يريد الفوز بنظرة إلى هذا السجين العجيب.
أعدت الأمور كي يذهب (حضرة)الباب إلى الحمام العمومي ليستحم. أراد البرنس أن يختبر قوة ضيفه ومقدار شجاعته بعد أن سمع عنه تلك الروايات الغريبة فأمر سائسه أن يقدم له جوادا من أشد جياده هياجا وأصعبها مراسا. خاف السائس الذي تعلق قلبه ب(حضرة)الباب أن يناله أذى من هذا الحيوان الشرس. فاقترب من الباب سرا وأخبره بذلك محاولا إقناعه بعدم ركوب هذا الحصان قائلا: “أن هذا الحصان قد أطاح بأمهر الفرسان وأشجعهم من على ظهره”. أجابه الباب: “لا تخف، افعل كما أمرت واتركنا إلى عناية الله”.
علم أهالي أرومية بخطة البرنس فأسرعوا في صباح اليوم التالي واحتشدوا في الميدان العام بأعداد هائلة متلهفين لمشاهدة ذلك الاختبار ورؤية ما سوف يحدث ل(حضرة) الباب. أحضر السايس ذلك الجواد الشرس من الإسطبل، وسلم السائس المذعور اللجام ل(حضرة)الباب بغاية الحذر. تقدم (حضرة)الباب بكل هدوء نحو الجواد وطبطب عليه بلطف ثم أدخل قدمه ببطء في الركاب وامتطاه دون أن تصدر من الحصان أدني حركة. سار (حضرة)الباب إلى الحمام وسط الجماهير التي قدمت من كل مكان وتجمعت على طول الطريق مندهشة من هذه المعجزة ومعلنة أيمانها بدينه. امتطى (حضرة) الباب الجواد عينه عند عودته فقابلته الجماهير بالهتاف والحماس مرة أخرى. وبمجرد أن غادر (حضرة)الباب الحمام اندفع أهالي أرومية إلى الداخل، واغترفوا بأوانيهم الماء الذي استعمله الباب وعادوا به إلى منازلهم المنتشرة في جميع أنحاء القرية. عندئذ تذكر البعض الحديث المشهور للأمام على الذي أشار فيه إلى الموعود حيث قال:”ان بحيرة أرومية سوف تغلي وتطفوا على الشاطئ وتفيض على المدينة”.[5]
وعندما قيل ل(حضرة)الباب أن أعدادا كبيرا من الناس أعلنوا إيمانهم بدعوته تلقائيا بسبب الحوادث العظيمة التي اعتبروها من المعجزات. تلي بحزن هذه الآية القرآنية: “احسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون؟”.
تحققت مصداقية هذه الآية المباركة في موقف أهالي أرومية من (حضرة)الباب عندما وصلتهم أنباء المعاملة المريعة التي واجهها حضرته في تبريز، فالقليل منهم من استقام على الأمر وأعلن إيمانه بكل إخلاص. كان على اتباع (حضرة)الباب أن يدركوا بأن المعجزات ما هي إلا دليل ثانوي لصحة الرسالة الإلهية، وأنها ليست بالبرهان الخالد، بل تنحصر قيمتها فقط في أولئك الذين يشاهدونها بأعينهم. تماما مثلما حدث أيام السيد المسيح عندما ابرأ عشرا من المجذومين ولم يبق منهم إلا واحدا فقط ليشكره. فقال: “ألم يكن عدد الذين شفوا عشرة؟ أين التسعة الباقون؟”[6].
سبقت قصص ما حدث في أرومية الباب وأصحابه إلى تبريز التي كانت في اضطراب شديد، فأشعلت موجة من الحماس. فألهبت أخبار قرب وصول (حضرة)الباب مشاعر الجماهير المتلهفة لرأيت (حضرة) الباب. وأشعلت، من جهة أخرى، أشرس أنواع العداوة في قلوب علماء الدين. تجمع الناس عند مدخل المدينة عن بكرة أبيهم يتطلعون إلى مقدم (حضرة)الباب بحماس عظيم. اشتد حماس الجمهور بدرجة قررت الحكومة حجز حضرة الباب خارج أبواب المدينة. ولكن لم يفلح هذا في كبح انفعال الجماهير المتزايد. اتخذت تدابير عاجلة وأعلنت إنذارات واستعملت القوى، فلم يزد المتجمهرين إلّا اشتعالا. تأزم الموقف تماما، فقد سيطر الباب على مشاعر الجماهير ولم يتمكن العلماء ولا الحكام من تقليل إضعاف حب الشعب له.
وعندما علم رئيس الوزراء الحاج ميرزا أقاسي بما حدث في تبريز أصدر أوامره من العاصمة طلب فيها من أكابر الزعماء الدينيين ورجال الحكومة عقد اجتماع عاجل وبين لهم بوضوح خطورة الموقف وقال على الزعماء الدنيين اتخاذ إجراءات فاعلة لإخماد هذه النار التي أشعلها الباب فورا. وأمرهم بإنهاء سيطرة الباب على مشاعر الجماهير بأسرع ما يمكن، وحذرهم من ارتكاب أي خطأ. وأضاف قائلا: ” يجب مثول الباب أمام هذا الحشد من العلماء ووعليهم إنزال الإهانة به بدرجة تقوض نفوذه إلى الآبد.
كان الباب على علم تام بما يدبره له رئيس الوزراء. ففي الليلة الثانية بعد وصوله إلى تبريز أعلن لأتباعه: “غدا وفي حضور ولي العهد وبين الجموع المحتشدة من العلماء والأعيان سوف أعلن دعوتي”[7].
وطبقا للخطة التي رسمها رئيس الوزراء قد الاجتماع في مقر الحاكم. أرسلوا أحد الضباط لإحضار الباب. وعنما تسرب عقد هذا الاجتماع إلى الجمهور أسرع الناس منذ الفجر واحتشدوا عند مدخل قصر الحاكم كي يفوزوا بنظرة إلى وجه الباب. كان ازدحامهم بدرجة اضطر العسكر إلى شق طريق أمام (حضرة)الباب وسط هذه الكتل البشرية. دخل الباب قاعة الاجتماع فوجد جميع المقاعد شاغرة عدا مقعدا واحدا أعد لولي العهد. حيا الباب المجلس بلطف وأدرك انهم يريدون أهانته بتركه واقفا أمامهم. وبدون تردد توجه إلى مقعد الشرف هذا وجلس عليه. خيم صمت طويل على الجميع، فقد خاب ظنهم، وأخذ الغضب يسري في وجوههم. وأخيرا قطع رئيس الاجتماع الصمت بتوجيه سؤال إلى (حضرة) الباب:
“ماذا تدعي أنت؟ وما هي الرسالة التي أتيت بها؟”.
أعاد التاريخ نفسه. فعندما أخذ (حضرة) المسيح إلى قاعة المحاكمة أمام العلماء الدينيين ليحكموا عليه بما سبق وقرروه من قبل، سألوه:
وبنفس النمط وبكلمات مشابهة أجاب (حضرة)الباب على الحاضرين الذين أرادوا أن يستمعوا إليه وهو يصدر الحكم على نفسه بسبب هذا الادعاء المذهل وعدم تراجعه عنه. كرر (حضرة) الباب وبصوت جهور مرات ثلاث القول:
“انا هو.
انا هو.
انا هو الموعود الذي ما زلتم ترجونه منذ ألف عام وتقومون أجلالا لذكره. وتتشوقون للقائه، وتتضرعون إلى الله أن يعجل ساعة ظهوره.”
وأعن للجميع قائلا:
“اني أقول انه ينبغي لأهل الشرق والغرب إطاعة كلمتي وتقديم الولاء لي”.
وما أن طرق مسامع القوم صيحة ذلك الصافور الصاعق مدويا بهذا الإعلان الراجف شلت حركت الجميع ولم يجرأ أحد النبث بنت شفة، وكأن على رؤوسهم الطير. قال شاهد عيان لهذا الحادث المثير.
“فور إعلان (حضرة)الباب نفسه الموعود المنتظر استولى على الحاضرين شعور بالخوف والمهابة كما دل اصفرار وجوههم على اضطراب قلوبهم”.
سجل موضع آخر ما حدث في ذلك الاجتماع قائلا:
“كانت المهابة بادية في سلوكه، وفيض الثقة متربعا على جبينه. لا سيما روح القوة المشرقة من كيانه التي سحقت أرواح الحاضرين”.
ساد الصمت القاعة، وأصبحت أعصابهم لا تتحمل توترا أكثر من هذا، فنهض أشقاهم وصرخ في وجه (حضرة) الباب قائلا:
“أيها الشقي الفج صبي شيراز، هل تريد أن تثير الشغب هنا؟”.
التفت الباب إلى رئيس الاجتماع وخاطبه قائلاً: “يا فضيلة الشيخ… لم أحضر إلى هنا من تلقاء نفسي. بل استدعيت إلى هذا المكان”.
لم يوجه إليه المسؤولون أي سؤال بين يتعلق بصميم رسالته أو تعاليمه، بل مضوا يوجهون الإهانات والأسئلة التي لا تمت بصلة إلى دعوته قصدين فقط تحقير سجينهم. وبعد أن صبر (حضرة)الباب على سفاهتهم وإهاناتهم خاطبهم بهذه الآية الكريمة:
“سبحان ربّك العزة عما يصفون وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين” “.
وعلى الفور قام وغادر الاجتماع.
شنّ العلماء على الفور حملة مضللة من الأقاويل الملفقة والتقارير الباطلة حول دور (حضرة)الباب في تلك المحاكمة، وادعوا بان إجاباته كانت صبيانية وغير مقنعة لا تصدر عن شخص عاقل فكيف بالموعود المنتظر. لحسن حظ التاريخ، حفظ لنا اثنان من المستشرقين الأوروبيين تقريراً خاليا من التعصب عن هذه الحوادث بعد أن قاموا بتحريات كثيرة، أولهما الدكتور ت.ك.شين (Dr.T.K.Cheyne) وهو قس مسيحي وطالب في دراسة تلك الفترة. فقد كتب يقول:
“ان التقارير الإسلامية عن المحاكمة المطروحة أمامنا عارية تماما عن الصحة وخاوية كليتا عن الحقيقة، ومن الواضح أنها إلا ‘ أكاذيب وافتراءات ما انزل الله لها من سلطان و. بناء على معرفتنا ب(حضرة) الباب، فمن الأرجح انه ادلى بأقوى الحجج، وان العلماء والمسؤولين الذين حضروا الاجتماع لم يرغبوا في تدوين هزيمتهم”.[9]
والثاني هو الأستاذ إدوارد براون من جامعة كمبرج، الذي وصف تلك الأسئلة التي وجهت إلى (حضرة)الباب بأنها “تافهة غير مهذبة”. وكتب عن المحاكمة قائلاً:
“ومما لا شك فيه أن المحاكمة برمتها كانت مهزلة والحكم كان متفقاً عليه من قبل وانه لم يكن عند المجتمعين آن ذاك أي غرض في التعرف على طبيعة وصحة دعوة حضر لباب وتعاليمه، وانحصرت مداولات المجلس منذ بدايته إلى نهايته في التهكم والسخرية والاستهزاء والمهاترة ويظهر هذا جلياً من التقارير الإسلامية والبابية”[10].
وحتى رئيس الجلسة حاجي ملا محمود لم يكن راضياً عن الطريقة التي سارت بها المحاكمة بدرجة لم يرغب ان يقترن اسمه بها وقال:
“يا للعار! يا لهؤلاء الناس وقلة أدبهم. فما العلاقة بين هذه الأسئلة التافهة وبين التحري النزيه عن مثل هذا الأمر الخطير كالذي يدعيه الباب؟”.
أشار أ.ل.م(A.L.M.Nicolas) نيقولاس الي استجواب سابق أجراه معه ثلة متشابه من العلماء المعادين الذين اشترطوا لإيمانهم بصحة عقيدته إظهار مقدرته في تبيين ثلاث معجزات لهم هي:
أولاً: كيف استطاع جواد الإمام إن يطوي المسافة بين بلاد العرب وفارس في غمضة عين بجسده؟
ثانياً: كيف يمكن للإمام على ان يتواجد في ستين مكاناً مختلفاً في آن واحد؟
ثالثاً: كيف كانت السماء تدور بسرعة أثناء حكم الظالم، وببطء أثناء حكم الإمام العادل؟”.
علق نيقولاس قائلاً:
” يستطيع المرء ان يحكم بسهولة على مقدار تفاهة هؤلاء العلماء الذين اجتمعوا في تبريز وغطرستهم، فقد اقترحوا على (حضرة)الباب ان يحل هذه الخزعبلات دون أن يطيل الحديث عنها “[11].
احضر الباب إلى منزل ميرزا على أصغر شيخ الإسلام وسلّموه إلى حارس الحاكم الخاص لجلده. رفض الحارس القيام بمثل هذا العمل قائلاً: “ليس هذا عملاً رسمياً أقوم به: انه من اختصاص رجال الدين”.
لم يستطع ميرزا على أصغر أن يصبر أكثر على التأخير في تنفيذ الحكم من ذلك، فعزم على تنفيذ العقوبة بنفسه لعله يبخس بهذا قدرا من انتصارات (حضرة) الباب التي اكتسبها على مشهد من الجميع. تماماً مثل ما حدث للسيد المسيح عندما وقع تحت سياط بيلاطس بعد التحقيق معه في قاعة المحاكمة حيث أعلن انه هو المخلص لبني البشر. واجه (حضرة)الباب، أيضا الإهانات نفسها عقب المحاكمة والإعلان العظيم نفسه فقد جلد (حضرة)الباب احدى عشرة جلدة بالعصي على قدميه، أصابت أحداها وجهه وأحدثت به جرحاً عميقاً.
استدعي طبيب إنجليزي يقيم في تبريز يدعى الدكتور كورمك لعلاج الباب. سجّل لنا ذلك الطبيب انطباعاته عن (حضرة)الباب خلال لقاءاته معه قائلاً: “”كان رقيقاً وسيم الطلعة … له صوت ملائكي عذب نفذ إلى أعماق قلبي… قلت له إني أريد أن اعرف شيئا عن دينه لأنني ربما اعتنقه، فدقق النظر فيّ وأجابني انه لا يشك في أن جميع الأوروبيين سوف يؤمنون به”. وأضاف الطبيب قائلاً: “كانت هيئته تجذب الأنسان نحوه”[12].
لم يفرجوا عن (حضرة) الباب بعد جلده، بل ساقوه مشياً على الأقدام إلى سجن جهريق تحت حراسة مشددة. غير انه ترك وراءه في تبريز ذكرى انتصارات باهرة. فكثير من أعدائه أصبحوا أتباعاً له؟ وأشار كثيرون بإصبع الاتهام إلى سلوك العلماء الفظ وهم يرددون تلك النبوة الخاصة بالموعود”… وفي زمانه يكون أكثر أعدائه من العلماء”.
أما أولئك اللذين شعروا بحزن عظيم لعنف المعالجة التي عومل بها شخص لطيف مثل (حضرة) الباب واستهم هذه الكلمات من (حضرة)الباب:
“اصبروا… فقد قطع الله على نفسه عهداً أن يشيد مجده في جميع أنحاء الأرض وبين
أهل العالم أجمعين”.
أتاحت المحاكمة في تبريز الفرصة أمام (حضرة)الباب كي يتمكن من تبيين المعالم الأساسية لدعوته ودحض حجج أعدائه بأسلوب مختصر مقنع. وكما قال المسيح “أن تعاليه ليست منه بل من الذي أرسله”. كذلك بين (حضرة)الباب أن رسالته هي فيض من شخص أعظم منه مقصده إعلان كلمة الله، وهو رسول من عند الله، وللناس مطلق الحرية في اختيار طريق الإيمان أو المضي في غيّهم.
وعندما عاد الباب إلى قلعة جهريق حرر خطاباً مؤثراً استنكر فيه غدر رئيس الوزراء الحاج ميرزا أقاسي وتنبأ بسقوطه العاجل كما أنذر فيه جميع الحكام الذين يعرضون عن الحق ويغلقون الباب في وجوه أولئك الذين تركوا مصائرهم في قبضتهم. سلم (حضرة)الباب هذا الخطاب إلى أحد تلاميذه وأمره أن يوصله إلى يد الحاج ميرزا أقاسي. أطلق (حضرة)الباب على هذا الخطاب اسم “الخطبة القهرية”، استهلها الباب بقوله: “يا من كفر بالله…”[13].
ومنذ تلك الساعة اخذ القصاص الإلهي ينهال على كل من اضطهد (حضرة)الباب وتلاميذه، ويتعقب تلك الشرذمة من جلاديه زعماء تبريز.[14] فشيخ الإسلام ميرزا على أصغر الذي جلد بيده (حضرة) الباب في المسجد داهمته مصائب عظيمة. كان الناس يخشونه وفي نفس الوقت يحتقرونه ويدعون الله أن يخلصهم من شره. وفجاه أصيب بالشلل ومات بعد أن قاسي آلاما مبرحة مدة طويلة، وبموته الغي منصب شيخ الإسلام نهائياً من تبريز وأصبح اسم المؤسسة التي اقترنت باسمه (المشيخة) مبغوضاً عند الناس بدرجة انهم استعملوه للتحقير.[15]
حتى الملك محمد شاه نفسه لم يفلت من العقاب. فقد كان ضعيف الشخصية بدرجة انه استجاب إلى كل ما كان يمليه عليه أقاسي رئيس الوزراء، وامتنع عن مقابلة (حضرة)الباب رغم الطلب الذي قدمه (حضرة)الباب إليه في رسالة خاصة، وعوضا عن ذلك اختار الملك نفيه إلى سجن جبلي بعيد. وما أن أصدر محمد شاه أمره هذا حتى انتابه سوء الطالع، ففجأة، أـشعلت الثورة في عدد من ولايات مملكته وتدهورت صحته تدهوراً سريعاً. وأخيراً توفي وهو في الأربعين من عمره، بعد ان وقع فريسة لمضاعفات أمراض عديدة تنبأ (حضرة)الباب بأنها سوف تقضي عليه.
أما ذلك الأقاسي رئيس المتآمرين، الذي شنّ حملته ضد (حضرة)الباب دون هوادة، أصبح الهدف الأكبر لهذا القصاص الإلهي، وما كاد أن ينصرم عام ونصف على تدخله بين (حضرة)الباب والملك وحال دون لقائهما، حتى أطيح به من الحكم. وبينما كان (حضرة)الباب مقيماً في سجنه بجهريق الذي أرسله إليه حاج ميرزا أقاسي، والذي منه أرسل (حضرة)الباب رسالته القهرية، عزل رئيس الوزراء من منصبه بعد أن لطخه الخزي والعار كما جرد من جميع أمواله وممتلكاته التي حصل عليها بطرق غير مشروعة.
كتب س. رماركهام C. R. Markham في كتابه تاريخ ايران:”ان الحاج ميرزا أقاسي رئيس الوزراء العجوز شبه المعتوه… كان أثناء وجوده في طهران يجمع لنفسه بكل جد ونشاط الثروة على حساب البلاد التعيسة. فقد كان يبيع مناصب حكام الولايات لمن يعرض أكبر قدر من المال، وكان هؤلاء الحكام بدورهم يجورون على الشعب بطرق بشعة”[16].
وعندما افتضح أمره للشعب وظهرت بشاعة أفعاله وسرقاته، لاذ بالفرار من غضب قومه. طرد حاجي ميرزا أقاسي (حضرة) الباب من موطنه ونفاه إلى مكان بعيد، والآن جاء دوره فطرد من البلاد ونفي إلى العراق، وهناك وقع فريسة للمرض والحزن. ذكرت الجريدة الأسيوية: “ان حزنه العميق قضى على ما تبقي من حياته”[17].
وقد سجل لنا التاريخ وصفاً لأواخر ايام حياة الحاج ميرزا آقاسي حيث يقول: “واجه الموت وهو في عذاب لا يوصف وفقر مدقع”[18].
[2] المجلة الأسيوية 1816 المجلد السابع ص 371
[3] النبيل ص 303
[4] النبيل صص 70
[5] النبيل ص 309-311
[6] لوقا 17:7
[7] النبيل 313-321
[8] مرقص 14:62
[9] Dr. T.K. Cheyne The reconciliation of races and religions pp 62
[10] نيقولا السيد على محمد الباب ص 239-240
[12] النبيل ص 321 322
[13] النبيل ص 323
[14] God passes by pp 81-82
[15] النبيل ص 321
[16] CR Markham A general sketchof the istory of Persia w 488-489
[17] المجلة الأسيوية 1816 المجل\ السابع ص 367- 368
[18] النبيل ص 525
توفي الملك محمد شاه وأصبح ِناصر الدين شاه الملك الجديد وكان يبلغ أنداك السابعة عشرة من عمره. كما سقط الحاج ميرزا أقاسي من سدة الحكم وجيء بميرزا تقي خان رئيسا للوزراء.
كان الملك الشاب أقل مودة من أبيه. وكان رئيس الوزراء أغلظ قلبا في حكمه وبغضه وأشد قسوة في كرهه إلى (حضرة)الباب من أقاسي. فلقد استخدم تقي خان كلا من السلطة المدنية والدينية في شن هجماته على (حضرة)الباب والبارزين من وأتباعه، وعزم ألا يتعثر في الخطأ الذي وقع فيه سلفه فلا ينتظر طويلا.
وبغاية السرعة شاعت في جميع أنحاء إيران أنباء انتصارات (حضرة)الباب على ممتحنيه من علماء تبريز، فأوقدت حماسا جديدا في قلوب أنصاره فضاعفوا جهودهم في نشر تعاليم سيدهم، ومن ناحية أخرى، أشعلت رد فعل مضاد بين أعدائه. وبتشجيع من رئيس الوزراء الجديد اكتسحت البلاد موجة من العنف لم يسبق لها نظير جرفت معها أقوى أتباع (حضرة)الباب ويمكن اعتبار هذه الفترة القصيرة والمظفرة أدمي حقبة وأكثرها عنفا منذ ظهور (حصرة)الباب.
لا تكتمل قصة حياة الباب إلا بالحديث عن تلاميذه الذين ضحوا بكل شيء في الحياة مبرهنين بذلك على حبهم وتفانيهم لدعوة صاحبهم. فالبعض منهم سبق (حضرة)الباب إلى ساحة الاستشهاد، والبعض الآخر لحقوا به بعد فترة قصيرة، ولم يفلت أحد من اتباعه البارزين من لقاء مصرعه خلال هذه الفترة القاسية من الاضطهاد.
كان القدوس مسجونا في قرية ساري فأسرع الملا حسين لإنقاذه. في هذا الحين وفد رسول من طرف (حضرة)الباب إلى الملا حسين حاملا عمامة (حضرة) الباب. أمر (حضرة)الباب الملا حسين قائلا: “زين رأسك بعمامتي الخضراء هذه… وبالراية السوداء المنشورة أمامك أسرع وقدم مساعدتك إلى حبيبي القدوس”.
غادر الملا حسين ولاية خراسان وتوجه، على الفور، إلى ساري ومعه حزبه الصغير تحت تلك الراية السوداء التي رفعها الملا حسين كي يعرف كل من يريد الانضمام إليهم أنهم من أتباع الباب. ولمدة أحد عشر شهرا ظل ذلك العلم الأسود يخفق باستمرار فوق رؤوس جماعته الصغيرة يدعوا ناظريه إلى الانقطاع عن العالم واعتناق دين الله. انه كان علم آخر الزمان الذي تنبأ الرسول محد صلعم عنه قائلا:
“إذا رأيتم الرايات السود أقبلت من خراسان فأسرعوا إليها ولو حبوا على الثلج، فأنها تبشر بظهور خليفة الله المهدي”.
وصل الملا حسين وأتباعه إلى مفترق الطريق المؤدي إلى مازندران. فنصبوا خيمهم تحت شجرة كبيرة على ضفة نهر جار. أعلن الملا حسين في أتباعه قائلا:
“نحن الآن عند مفترق الطرق. وسوف ننتظر هنا إشارة تدلنا على الطريق الذي يجب علينا أن نسلكه”.
وفي ذات يوم هبت عاصفة شديدة اقتلعت غصنا كبيرا من الشجرة التي كانوا مستظلين تحتها. وعل الفور، عقب الملا حسين قائلا: اقتلعت سلطنة محمد شاه من جذورها وألقيت على الأرض”. وفي اليوم الثالث من نبوءة الملا حسين هذه وصل رسول من طهران يعلن وفاة الملك. وفي اليوم التالي جمع الملا حسين أصحابه وأعلن لهم وهو يشير إلى جهة مازندران وساري قائلا:
“هذا هو الطريق المؤدي إلى استشهادنا فليعد الآن إلى منزله كل من لا يقوي على تقديم روحه، فأني عازم على تقدم روحي في سبيل (حضرة) الباب المحبوب مع اثنين وسبعين من أصحابي. فليرحل في الحين بعيدا عنا كل من لا يستطيع الأعراض عن هذه الدنيا. لأنه سوف لن يقدر على الفرار فيما بعد”.
اختار عشرون منهم العودة لشعورهم بالعجز عن تحمل الشدائد التي كان الملا حسين يشير إليها دائما. وتابع الأخرون السير حتى اقتربوا من بلدة بارفروش.
أزعجت أخبار تقدم الملا حسين ورفاقه نحو بارفروش “سعيد العلماء” الزعيم الديني لذلك البلد. يقول نيقولاس في تاريخه ان جميع العلماء في بارفروش كانوا ممتلئين حقدا وكراهية محو أتباع (حضرة) الباب لان القدوس كسب الكثيرين من أهالي بلدتهم إلى دعوة (حضرة)الباب فقد بلغ عددهم خلال أسبوع واحد ثلاثمئة. وعلى الفور أمر سعيد العلماء منادي ينادي أهالي تلك المدينة التجمع السريع في المسجد. وعندما اكتظ المسجد بالناس اعتلى سعيد العلماء المنبر وبحركة عصبية أطاح بعمامته على الأرض ثم مزق صدر قميصه وأخذ يحرض القوم بغضب على مقاومة الملا حسين وجماعته، وأرعد فيهم قائلا:
“انتبهوا أيها الناس! أعداؤنا متربصون لنا على أبواب مدينتنا. أن موعدنا معهم الغد. فعلى الشبان والشيوخ أن يتسلحوا ضد هؤلاء المخربين لديننا. فلينهض عند الفجر جميعكم ويخرجوا إليهم لأبادتهم واستئصال شأفتهم”.
نهضت الجموع المحتشدة لتلبية نداء سعيد العلماء وقاما بتسليح انقسم بكل آلة وجدوها أو ابتكروها استعدادا لمعركة الفجر. وفي صباح اليوم التالي بعد أن أدى الملا حسين صلاة الصبح دعا رفقاءه للاجتماع فورا وطلب منهم ان يتجردوا عن كل ما في حوزتهم وحضهم قائلا:
“اتركوا خلفكم كل متاع لكم واكتفوا بجيادكم وسيوفكم حتى يشهد الكل على انقطاعكم عن الدنيا وأسبابها. ولعلهم يدركون حينئذ أن هذه العصبة الصغيرة من أصحاب الله المختارين لا رغبة لهم في المحافظة على أموالهم، فكيف بهم التطلع إلى ما عند الآخرين؟”.
على الفور، استجاب الجميع وأفرغوا حمل جيادهم دون ان يتفوهوا بكلمة. وكان أول من ألقى بكنزه تاجر بارز انضم إلى الجماعة في نيشابور حاملا معه كيسا من الفيروز الثمين، فبكلمة واحدة من الملا حسين ألقى بخرجه في حفرة دون أن يلقي نظرة إلى الخلف كي يقتدي به غيره. وعلى مقربة من بارفروش واجه الملا حسين وأصحابه حشودا غفيرة من الناس، قطعوا عليهم الطريق المؤدي إلى ساري. فشرع بعض الأصحاب في سل سيوفهم لمواجهة ضجيج ذلك القوم الغاضب، فقال لهم الملا حسين:” لا-لم يحن الوقت بعد. فلن نستل سيوفنا حتى يرغمنا المعتدون الدفاع عن أنفسنا”.
وعند الفجر تحرك أولئك الغوغاء من أهالي بارفروش المتسلحون بالمدى والعصي والفؤوس والبنادق والسيوف، وبكل سلاح معروف عازمين على مجابهة جماعة الملا حسين وقتلهم، ونهب ما في حوزتهم بينما ظل سعيد العلماء قابعا في عقر داره بعد أن حرض الأخرين على الهجوم. لم تكن تلك المعركة إلا واحدة من سلسلة من الهجمات التي دارت رحاها في طول البلاد وعرضها بتحريض من رئيس الوزراء ميرزا تقي خان. يشير البيان التاريخي الآتي إلى خطورة الموقف بقوله:
“”كان رئيس الوزراء يصدر أوامره بكل تعسف وبدون تلقي أية تعليمات أو طلب إذن ويرسلها إلى جميع الجهات لمعاقبة البابيين وتعذيبهم. وكان الحكام والقضاة يتذرعون بحجج واهية لجمع الثروة، وكان موظفون الحكومة بدورهم يبحثون عن وسائل وسيلة للحصول على المزيد من المكاسب. قام العلماء المشهورون بتحريض الناس من فوق منابرهم للقيام بهجوم عام وتعاونت القوى الدينية والمدنية فيما بينهما على استئصال وتحطيم هؤلاء الناس”.
كانت موقعة بارفروش هذه الأولى. ففي مناسبات ثلاث انسحب فيها البابيون إلى ملاجئ اختاروها وأقاموا فيها التحصينات للدفاع عن أنفسهم وتحدي أية مطاردة أخرى لهم. كانوا يحاربون دفاعا عن النفس بكل قوة وبمهارة فائقة، دون القيام بأي هجوم من جانبهم، وحتى في معمعة الاشتباكات لم يسعوا وراء مغنم أو توجيه ضربة لا لزوم لها.
يقول البروفسور براون في كتابه “عام بين الإيرانيين
” حتى النساء اشتركن في احدى تلك المناسبات، فعندما هوجم ملجأهن قطعن شعورهن الطويلة كما فعلت نساء قرطاجة قديما واحبكن بها أسلحتهن المؤقتة لجعلها أكثر تمكينا لهن. يقول أيضا:”ان مقاومة البابيين المستميتة يجب ان لا تعزو في الكثير إلى قوة مركزهم الذي كانوا يشغلونه، بل إلى البسالة في دفاعهم عن أنفسهم”.
لم يستوعب بعد البابييون تعاليم رئيسهم السجين (حضرة)الباب الواضحة فيما يتعلق بالعنف الجسماني والقتال لأنهم كانوا مفصولين عنه الأمر الذي جعلهم يتصرفون في مثل هذه الظروف حسب معتقداتهم القديمة التي تقول: “لا تهاجم بل دافع”. وجاء في كتاب مقالة سائح الذي أعده للنشر البروفيسور برون من جامعة كمبردج انه في المدن الصغيرة التي كان فيها عدد هؤلاء البابيين قليلا راحوا جميعا طعما للسيف وهم مغلولي الأيدي، بينما في المدن التي يكثر عددهم كانوا يقاومون دفاعا عن النفس حسب معتقداتهم السابقة لأنه كان من المستحيل عليهم الاستفسار عن واجباتهم”.
لم يطالع البابييون حتى ذلك الحين كلمات الباب حيث يقول:”ان قتل النفس محرم في شريعة الله… وإذا ما أمر به شخص فلم ولن يكون من أهل البيان ولا يوجد له ذنب أعظم من هذا”.
وبينما كانت الجموع المحتشدة تتقدم نحوهم في بارفروش بصورة تهديدية توسل أصحاب الملا حسين إليه قائلين: “اسمح لنا بالدفاع عن أنفسنا”. فأجابهم: “لم تحن الساعة بعد”. تدفق سيل الغوغاء نحو تلك الفئة القليلة. وما ان اقتربوا منهم حتى أطلقوا النار عليهم، فسقط على الفور بالضربة الأولى ستة من الجماعة العزلاء عن السلاح. نفد صبر الأصحاب وناشدوا الملا حسين قائلين:
“لقد قمنا وتبعناك ولم يكن لنا قصد سوى تضحية أنفسنا في سبيل الله. ولكننا نتضرع إليك أن تسمح لنا بالدفاع عن أنفسنا حتى لا نسقط مهانين أمام هؤلاء الهمج الرعاع”.
آثر الملا حسين الصبر أملا أن يجد وسيلة ما يتفادى بها إهراق الدماء. وفجأة انطلقت رصاصة أصابت أقرب صاحب منه يدعي السيد رضا، اخترقت صدره وأردته قتيلا في الحال. كان السيد رضا رجلا متواضعا حسن الخلق ومتفانيا تفانيا عميقا ومخلصا إلى(حضرة) للباب. وكان يمشي على قدميه بجانب الملا حسين طوال الطريق من خراسان. وعندما شاهد الملا حسين رفيقه الحبيب يسقط ميتا عند قدميه لم يستطع السكوت أكثر من هذا. ناجي الملا حسين ربه قائلا: “ترى يا إلهي ما حل بأصحابي، وتشهد الترحيب الذي قابلنا به هؤلاء الناس. أنك تعلم أننا لا نقصد سوى هدايتهم إلى طريق الحق”.
وعندما انطلق الغوغاء في هجومهم بكل قواهم، استل الملا حسين سيفه وهمز جواده للسير إلى الأمام، وأمر أصحابه بالدفاع عن أنفسهم. وعلى سهل بارفروش، بدأت تتحقق كلمات (حضرة)الباب التي قالها للملا حسين في ماه كو:”أن أيام فروسيتك لم تحن بعد. فقد قدر لك أن تظهر من الشجاعة والمهارة والبطولة ما سوف يكسف سناها ما قام به الفرسان في قديم الزمان”.
أشاع الملا حسين الرعب في قلوب هؤلاء الرعاع الذين لا يخضعون للنظام. التجأ أحد القتلة خلف شجيرة ورفع بندقيته أمامه ليحتمي بها حين انقض الملا حسين عليه. عرف الملا حسين انه هو الذي قتل رضا صاحبه، فهجم عليه، وبضربة واحدة من سيفه شطر البندقية والقاتل والشجرة كلا إلى نصفين. ومما ذكره المؤرخ نيقولاس:
” ضاعف الغضب من قوة الملا حسين، فقطع بضربة واحدة من سيفه كلا من البندقية والرجل والشجرة إلى شطرين”. وأضاف قائلا: “أن هذه الرواية لم يكذب صحتها المسلمون أنفسهم”.
سجل أحد أعداء الملا حسين انطباعاته عن ذلك الهجوم الرهيب قائلا:
“… ثم رأيت الملا حسين يستل سيفه ويرفع وجهه نحو السماء ويقول: “الآن قد أجبرونا على الدفاع عن أنفسنا”. وأخذ يهاجمنا عن أليمين والشمال. أقسم بالله انه في ذلك اليوم شهر سيفه بكيفية فاقت قدرة البشر، وهرب الجميع من أمامه عدا فرسان مازندران. ولما حمي وطيس المعركة لحق بجندي هارب محاولا حماية نفسه خلف شجرة مدرعا ببندقيته، فضربه الملا حسين ضربة قطعت الجندي والبندقية والشجرة إلى ستة قطع”.
أنهت هذه الضربة المذهلة كل مقاومة. وفر الغوغاء مذعورين وهم يصيحون:” الأمان… الأمان”.
شق الملا حسين طريقه وسط هذه الجموع المنهزمة غير عابئ بالرصاص المنهمر عليه كالمطر واتجه بحصانه نحو بارفروش قاصدا بيت سعيد العلماء. دار حول المنزل ثلاث مرات وهو يدعوه إلى الخروج قائلا: “فليخرج هذا الجبان الحقير من مخبئه الذميم. هل نسي أن الذي يدعو إلى الجهاد يجب عليه أن يكون على رأس قومه ليشعل حماسهم بأعماله؟”.
وأخيرا ساد السلام. خاطب الملا حسين أهالي بارفروش قائلا:
بمثل هذه الكلمات أخجلهم الملا حسين ثم جمع أصحابه وسار بهم إلى ساري لإنقاذ القدوس. وما أن غادر الملا حسين بارفروش حتى خرج سعيد العلماء من مخبئه وأخذ في أعداد خطة أخرى لمهاجمتهم في ميدان خان سبزه حيث كانوا يقضون ليلتهم.
وفي غروب ذلك اليوم جمع الملا حسين أصحابه وسألهم قائلا:
“هل يوجد بينكم من يرغب في المخاطرة بحياته ويصعد إلى سطح الخان ويؤذن للصلاة؟”. أكد الملا حسين لهم، انهم بمثل هذا العمل يبرهنون على أنهم ليسوا أعداء بل أصدقاء، وبأنهم محبون للإسلام.
استجاب شاب بفرح إلى رغبة الملا حسين. وما كاد صدى كلمة “الله أكبر” يتردد في القرية حتى عاجلته رصاصة قضت عليه في الحال. حفزهم الملا حسين قائلا: “فلينهض شخص أخر وبنفس التضحية يكمل الأذان الذي لم يقدر ذلك الشاب على أنهائه”. صعد شاب آخر إلى السطح وأخذ ينادي: “أشهد أن محمدا رسول الله”. فقطعت شهادته رصاصة أخرى أردته قتيلا. ومع أن الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، أمر المسلمين بقوله: “أكرم الضيف ولو كان كافرا (حديث)”، فان هؤلاء الأصحاب الذين أووا هذا الخان يقضون فيه ليلتهم حكم عليهم بالقتل، على الرغم مما أبدوه من احترام ومحبة لإقامة الصلاة. لقد رجاهم الملا حسين أن يظهروا ولاءهم حتى يفضحوا بذلك عدم إخلاص المعتدين. وتلبية لرغبة الملا حسين، حاول شاب ثالث إتمام الأذان بكل قوة وما أن نادى “لا إله إلا الله” حتى سقط هو الآخر بدوره ميتا.
إزاء هذا العمل القاسي اضطر الملا حسين فتح باب الخان وامتطى صهوة جواده وأعطى الإشارة للهجوم واندفع إلى الخارج على رأس جماعته نحو المعتدين الذين كانوا متجمعين أمام الباب فهربوا من شدة بأسه وهكذا تكررت قصة بارفروش، ومرة أخرى فر الأعداء مذعورين وملتمسين الأمان، متضرعين، للمرة الثانية في طلب الرحمة.
كان ما حدث في بارفروش وسبزه ميدان هو أول اصطدام من سلسلة الاصطدامات التي دامت عاما. كان المؤمنين يقابلون كل هجمة بهجمة مضادة منزلين بأعدائهم، المرة بعد المرة، الهزيمة المنكرة والعار. وكانت صيحة الملا حسين: “امتطوا جيادكم يا أبطال الله” تجمع شمل الأصحاب وتبعث فيهم قوة عظيمة.
وأخيرا وصل الملا حسين وأصحابه إلى مزار صغير للشيخ طبرسي على مسافة أربعة عشر ميلا من بارفروش، أملين بانسحابهم هذا أن تتوقف الهجمات ضدهم، وتتاح لهم الفرصة بعد فترة من الزمن مواصلة مسيرتهم إلى ساري بسلام. فرح سعيد العلماء، وظن أن أعدائه المبغوضين قد وقعوا أخيرا في الفخ الذل نصبه لهم وأقسم أن لا يفلتوا هذه المرة من قبضة يده، وناشد الحكومة مساعدته على أبادتهم.
رأى حارس مزار الشيخ طبرسي في الليلة السابقة لوصول الملا حسين وأصحابه حلما غريبا، إذ شاهد رجلا قدسيا وفي معيته سبعون محاربا وعدد كبير من المرافقين يفدون إلى مقام الشيخ طبرسي. ورأى انهم اشتركوا في معارك غاية في البطولة وانتصروا على القوى المعادية لهم، وان رسول الله (صلعم) قد حضر بنفسه ذات ليلة للتحدث معهم.
وعندما وصل الملا حسين في اليوم التالي عرفه الحارس وأخبره بما رأى في منامه. فأجابه الملا حسين قائلا:
“كل ما شاهدته سوف يقع. والحوادث العظيمة التي رأيتها في حلمك سوف تحدث أمام عينيك قريبا”.
انضم الحارس إلى الملا حسين وزمرة الأبطال المدافعين عما أصبح يدعي ب “قلعة الشيخ طبرسي”. أدرك الملا حسين وأتباعه انهم سوف لا يتركون وشأنهم. وأن الأوامر صدرت بإبادتهم، فأخذوا في تشييد التحصينات حول المقام لحماية أنفسهم.
شعر الملا حسين بحزن شديد لفشله في عدم الوصول إلى ساري وتخليص القدوس. وإذ بخبر يقول أن القدوس سوف يصل قريبا إلى القلعة. فقد نجحت البعثة التي أرسلها الملا حسين في إطلاق سراح القدوس من سجنه حيث كان أسيرا في دار أحد الرسميين.
كان على اتباع (حضرة)الباب أن يصمدوا داخل هذه القلعة أمام الهجمات والجوع والخيانة ومستعدون للتفوق على جيش الملك بأكمله في الحرب والحيلة. وكان على تلك الحفنة الثملة بمحبة الله الوقوف أمام جيش مدرب كامل العدة، معززا بجموع الشعب، مباركا من علماء الدين، يقوده أمير يجري في عروقه الدم الملكي، معتمدا على موارد الدولة، وعاملا بموافقة وحماس الملك نفسه.
وعندما دخل القدوس القلعة طلب من الملا حسين إحصاء عدد الأصحاب المجتمعين بالضبط. اخذ الملا حسين في عدهم واحدا تلو الأخر وهو يدخلون من باب القلعة فكان عددهم ثلاثمائة وأثنا عشر صاحبا. وبينما هو ذاهب لإخبار القدوس بعددهم اندفع إلى داخل القلعة شاب جاء سائرا على الأقدام من بارفروش ويتوسل أن يسمح له بالانضمام إليهم. الآن، وبعد انضمام ذلك الشاب أصبح العدد ثلاثمائة وثلاثة عشر صاحبا. فأخبر الملا حسين القدوس بذلك. خاطبهم القدوس قائلا:”ان ما نطق به لسان محمد رسول الله بخصوص الموعود يجب أن يتم”.
عندئذ ذكر القدوس الأصحاب بالنبوة الخاصة بهذا اليوم التي تشير إلى أن “اجتماع
ثلاثمائة وثلاثة عشر[1] من الأنصار المختارين” هو دليل أخر يعلن عن ظهور
الموعود على وجه الأرض.
زاد غضب سعيد العلماء عندما وصله نبأ وصول القدوس إلى القلعة. فأرسل مدفوعا بحقد لا يلين، إلى الملك نداء حارا يقول فيه:
” لقد اندلعت الثورة، وهؤلاء التعساء المشاغبون يسددون الضربات إلى أساس ملكك. لقد بنوا لهم قلعة منيعة وكمنوا في خنادقها استعدادا لشن حملة سوف تطيح بك من على عرشك. فأي نصر أعظم تستهل به حكمك الجديد بمحو هذه الفئة البغيضة التي تجاسرت على التآمر ضدك. وان أنت تهاونت في أمرهم فلزام على أن أحذرك بأن اليوم يقترب سريعا حين تنبذ، لا هذه الولاية فحسب، بل إيران بأجمعها سلطانك وتستسلم لأمرهم”.
تنبه الملك للخطر واستجاب بإرسال جيش مكون من اثني عشر ألف جنديا لأجلاء هذه العصبة الصغيرة عن القلعة وإبادتها عن بكرة أبيها. عسكر الجيش فوق تل يشرف على القلعة، فقطعوا بذلك عن الأصحاب الطعام والشراب، وسرعان ما أصبحوا في حالة خطيرة. وقف القدوس والملا حسين يراقبان جيش الملك فقال القدوس. “أن قلة الماء قد أقلقلت الأصحاب. فسوف ينهمر المطر بمشية الله في هذا المساء، يباغت أعداءنا، يعقبه سقوط ثلج شديد وهذا مما يساعدنا على صد هجومهم المدبر”.
وبينما كانت جحافل العدو تتأهب في تلك الليلة للهجوم على القلعة، باغتهم المطر الغزير فأتلف عتادهم وفرق صفوفهم والتجأ الجند إلى مكان يعصمهم من الماء تاركين كل خطط هجومهم، كما تجمع ماء المطر بسرعة داخل القلعة لإرواء ظمأ الأصحاب. يروي السجل التاريخي التالي عن هذه الفترة قائلا: 0
“كان سقوط الثلج شديدا بدرجة لم يشاهدها من قبل أهالي تلك المنطقة حتى في صميم الشتاء، مما زاد كثيرا فيما أحدثه المطر من مضايقات”. جلبت هذه العواصف الصعوبات والدمار إلى معسكر جنود الملك، بينما أنعشت، من جهة أخرى، من في للقلعة.
وقبيل فجر أحد الأيام دار رحى موقعة من المعارك الدامية لتي لا تنسى مطلقا فقد كان الأصحاب في غاية الشدة من الهجمات المتواصلة المباشرة من أعمال القناصة. وفي صباح أحد الأيام فتحت أبواب القلعة على مصراعيها لمواجهة احدى الهجمات، وأتى الأمر من الملا حسين:
“امتطوا جيادكم يا أبطال الله”.
أنعشت هذه الصيحة المثيرة جميع القلوب. وانطلقوا في هجومهم بكل قواهم وعلى رأسهم القدوس نحو حصن الأمير قائد الجيش الملكي. وشق الملا حسين طريقه رأسا إلى الجناح الملكي. فألقى الأمير بنفسه من نافذة خلفية إلى خندق وفر هاربا حافي القدمين تاركا جيشه في حيرة وهزيمة على يد حفنة من أصحاب الملا حسين. يصرح الكونت دي جوبينو في تقريره قائلا:
“وفي خلال لحظات ساد الهرج في صفوف جيش الأمير، وتشتت على أيدي ثلاثمائة رجل من أصحاب الملا حسين. أليس هذا سيف الله وجدعون؟
عثر الأصحاب في مقر الأمير على صناديق مملوءة بالذهب والفضة. فتركوها دون أن يمسوها. واكتفوا بأخذ سيف الأمير الذي تركه خلفه وأعطوه للملا حسين الذي أصيب سيفه الخاص برصاصة.
وفي هذه الأثناء أحاطت مفرزة من الجنود بالقدوس وأطلقوا عليه صلية من النار أصابته في فمه وحنجرته. سارع الملا حسين لمساعدته ولوح بسيف القدوس بيد وبسيف الأمير الذي غنمه باليد الأخرى 11 وأخذ في مهاجمة الأعداء يعاونه في ذلك مائة وعشرة من زملائه التلامذة فولى الجنود مدبرين. وشفي القدوس من جراحه وهو غير عابئ بها. في كل مرة ينهزم فيها الأعداء، كان القدوس يذكر الأصحاب بغرضهم الحقيقي قائلا:
“لقد رددناهم على أعقابهم، ولا حاجة بنا لمتابعة العقاب عليهم. أن هدفنا هو حماية أنفسنا عسى أن يعيننا الله على متابعة عملنا في إبلاغ الناس وأحياء قلوبهم. ولا غرض لنا في أحداث ضرر لا لزوم له لأي كان”.
حاول أصحاب الملا حسين والقدوس مرارا وتكرارا أقناع العدو بالسماح لهم بالمضي في طريقهم دون إهراق مزيد من الدماء. وقد شهد بذلك أحد قواد جيش الملك يدعى عباس قلي خان عندما سأله فيما بعد الأمير احمد ميرزا عن طبرسي والملا حسين، فأدلى بالشهادة الآتية:
“في ذات يوم وقف الملا حسين في العراء متكئا على رمح في يده وبأعلى صوت نادى قائلا:
“أيها الناس. لماذا تعاملوننا بمثل هذه القسوة بدافع من أهوائكم وتعصبكم دون أن تتبينوا أمرنا، مجتهدين، دون سبب، في إهراق دماء بريئة؟ اخجلوا من أنفسكم أمام رب العالمين وافسحوا لنا الطريق على الأفل لكي نغادر هذه المكان”.
وتابع قائلا:
“وعندما لاحظت تأثر الجند، أطلقت النار، وأمرتهم بأن يصيحوا حتى يضيع صوته. ومرة أخرى رأيته متكئا على رمحه ونادي قائلا:
“إلا يوجد فيكم من يساعدني؟” رددها ثلاث مرات حتى سمعها الجميع عند ذلك خيم الصمت على الكل، وشرع البعض في البكاء، كما بدا التأثر على الكثيرين من الفرسان. وخوفا من أن ينساق الجيش لندائه ويشق عصا الطاعة، أمرتهم مرة أخرى بأطلاق النار والصياح. وعندئذ شاهدت الملا حسين يستل سيفه ويرفع وجهه إلى السماء، وسمعته ينادي قائلا:
“يا ألهى قد أتممت الحجة على هذا الجيش، ونصحتهم فلم ينفعهم نصحي “. ثم أخذ يهاجمنا ذات اليمين وذات اليسار”.
قتل الملا حسين خلال معركة الدفاع عن قلعة طبرسي. وطبقا لنبوءته سقط صريعا مع اثنين وسبعين من أصحابه بنيران العدو.
أجبرت قلة المياه الأصحاب حفر بئر داخل القلعة. وبينما كان الملا حسين يشاهد المرحلة الأخيرة من العمل أعلن مبتسما:” سنحصل اليوم على الماء اللازم لاستحمامنا، ولغسل الأدران الأرضية، والمضي إلى محضر الله فليستعد كل من يريد منكم اللحاق بي للمشاركة في نيل كأس الشهادة قبل طلوع الفجر”.
“اغتسل الملا حسين في عصر ذلك اليوم جيدا وارتدى ملابس نظيفة، وزين رأسه بعمامة (حضرة)الباب الخضراء والسعادة بادية على وجهه. قضى الملا حسين وقتا طويلا في التحدث مع القدوس. ثم التقى بكل واحد من الأصحاب مشيعا فيهم روح السرور والفرح، مشعلا في قلوبهم الحماس”. وبعد منتصف الليل بقليل بزغت نجمة الصباح في السماء فنظر إليها الملا حسين وعرف أنها النجمة التي “تبشره ببزوغ فجر لقائه مع محبوبه”. امتطى الملا حسين جواده وأمر بفتح باب القلعة على مصراعيه، وخرج راكبا يتقدم أصحابه. ويصيح مناديا: “يا صاحب الزمان”. كانت هذه الصيحة في مدح (حضرة)الباب شديدة وقوية، إلى درجة ردد صداها كل من الغابة والقلعة والمعسكر.
هجم الملا حسين على المتاريس السبعة التي كان الجيش يعدها لشن هجوم مركز من ورائها فاخترقها الملا حسين وحطمها، الواحدة تلو الأخرى، حتى أتى عليها بأكملها. لم تظهر بسالته وشجاعته الملا حسين أعظم مما بدت في ذلك اليوم غير ان أيام فروسيته وبطولته قد بلغت ذروتها. وعندما تم له النصر اشتبكت رجل جواده في حبل احدى الخيام، وقبل أن يتمكن الملا حسين من تخليص نفسه أصابته رصاصة في صدره أطلقت عليه من كمين نصب في شجرة مجاورة، فقد لجأ عباس قلي خان، أحد قادة العدو، الذي فر من المعركة إلى شجرة مجاورة واختبأ بين أغصانها بدلا من مواجهة هجوم الملا حسين، وعندما شاهد الملا حسين في محنته هذه أطلق عليه الرصاصة القاتلة.
ترجل الملا حسين من على جواده ومشى مترنحا بضعة خطوات ثم سقط على الأرض خائر القوى فاقدا وعيه. أسرع إليه اثنان من أصحابه وحملاه وعادا به إلى القلعة. قال لهما القدوس:” اتركاني بمفردي معه”. فانسحب الصاحبان من محضرهما. سمع أحدهما الذي كان واقفا بجوار الباب صوت القدوس وهو يتحدث إلى الملا حسين بكل رقة وبغاية المحبة قائلا: “لقد عجلت ساعة رحيلك وتركتني تحت رحمة أعدائي. أرجو الله أن ألتحق بك قريبا وأتذوق حلاوة السماء”.
ما أقصر الفترة التي مضت منذ تلك الليلة في شيراز عندما خاطب (حضرة)الباب الملا حسين قائلا: “يا أول من أمن بي، إني أنا الباب، باب الله”. ففي تلك الليلة التي لا تنسى دعا (حضرة)الباب جميع الناس إلى أن ينتبهوا، ويبلغوا كلمة الله، ويحيوا النفوس البشرية. وها هو الملا حسين باب الباب راقدا الآن داخل القلعة في نزعه الأخير. كانت أخر كلماته للقدوس والتي رددها بصوت منخفض يناجي بها محبوب قلبه (حضرة) الباب:
“هل أنت راض عني؟”.
فتح القدوس باب الغرفة وأعلن للأصحاب: “لقد ودعته الوداع الأخير”. فأدرك الجميع أن الملا حسين قد فارق الحياة. فدخلوا ليلقوا النظرة الأخيرة عليه، وانهمرت من عيونهم الدموع عندما شاهدوا ابتسامة السعادة ما زالت مرتسمة = على محياه. وبدي الاطمئنان على وجهه وكأنه مستغرقا في ثبات عميق.
أشرف القدوس على عملية الدفن وألبس الملا حسين قميصه. وأصدر أوامره بدفنه في بقعة بجوار مقام الشيخ طبرسي. جاء في مقالة سائح أن “روفاه الملا حسين ما زالت مدفونة في الغرفة الصغيرة داخل ضريح الشيخ طبرسي حيث وضعت بكل احترام حسب توصيات القدوس، وبأيدي رفقائه الثكلى في مستهل عام 1849م”.
وقال القدوس وهو يواري الملا حسين التراب:
“أرجو الله ألا يجعل بيني وبينك حائلا أبدا”.
تميز الملا حسين في كل معركة خاضها بالشجاعة والفروسية والبسالة. فعلمه الغزير وحبه للعدل وقوة أيمانه وتفانيه المستقيم في الله، جعله شخصية بارزة بين أولئك الذين شهدوا لقوة دين (حضرة) الباب. كتب المؤرخ جوبينو عن الملا حسين يقول:
“وأخيرا فارق الملا حسين هذا العالم الفاني. وفقد الدين الجديد الذي سقط من أجله رجلا ذو قوة خلقية عظيمة وذو نفع كبير له، لو قدر ان يعيش مدة أطول، وبطبيعة الحال شعرت قوى المعارضة بكراهية نحو ذلك القائد بقدر ما كان يكن البابييون لهم من محبة واحترام”.
وكتب القس المسيحي ت.ك.شين يقول:
” كان الملا حسين ضعيف البنية، ولكنه كان جنديا باسلا، ومحبا متحمسا لله جمع من الصفات والمميزات ما يندر وجودها مجتمعه في شخص واحد”.
سببت وفاة الملا حسين حزنا عميقا لا يوصف إلى (حضرة)الباب، حزنا جعل قلمه يجري بالثناء عليه والدعاء له… وفي إحدى هذه الأدعية صرح (حضرة) الباب بأن غبار الأرض التي دفن فيها الملا حسين له من القوة ما يجلب الفرح للحزانى والشفاء للمرضى. وكتب عنه فيما بعد صاحب الظهور الأعظم (حضرة) بهاء الله الذي كان (حضرة)الباب على الدوام يبشر بمجيئه يقول:
” لولاه ما استوى الله على عرش رحمانيته”.
استشهد الملا حسين وهو في السادسة والثلاثين من عمره. وبعد دفنه أصدر القدوس أوامره بدفن جثث الأصحاب الستة والثلاثين الذين سقطوا مع الملا حسين في تلك الليلة في قبر واحد بجوار المزار. وقال القدوس حين إنزالهم في القبر:
“ليتأسيا أحباء الله بشهداء ديننا هؤلاء.
فليكونوا متحدين في حياتهم اتحاد هؤلاء في مماتهم”.
أصبح القدوس الآن القائد الوحيد لمن في القلعة. وعندما قاربت مؤونتهم من النفاد، وزع القدوس أخر ما تبقى من الأرز على الجماعة، وحذرهم من الشدائد التي سوف يلاقونها قائلا:
فليمكث معنا في هذه القلعة كل من يشعر في نفسه بالمقدرة على مواجهة المحن التي سوف تنصب عاينا قريبا. وليرحل بعيدا عنا عن كل من لديه أدنى خوف أو تردد. فقريبا سوف يغلقون أمام وجوهنا الطريق. وسوف نكون هدفا لمحن هائلة”.
وفي تلك الليلة ذاتها التي أصدر فيها القدوس هذا التحذير، خانت نفس متخوفة أصحابها. فكتب هذا الشخص خطابا إلى عباس قلي خان، القائد التابع للملك يعلمه فيه بوفاة الملا حسين. وقال: “كان الملا حسين العماد الذي كانت ترتكز عليه القلعة في قوتها وأمنها… لقد أنهكتهم المجاعة، وحالتهم يرثى لها”. حمل هذا الخطاب ساع تسلل في جنح الظلام من القلعة حاملا معه حصته من الأرز التي أعطاه إياها القدوس.
دفع نبأ وفاة الملا حسين السار عباس قلي خان لشن هجوم جديد. وخشية ان ينشر ذلك الرسول خبر وفاة الملا حسين فيسلبه بعضا من شرف النصر، قتله في الحال وحشد جنوده للتقدم نحو القلعة، وقام هو على رأس مفرزتين من رجاله بمحاصرتها.
أدرك القدوس على الفور ما حدث، وقال: “لقد أعلن خائن وفاة الملا حسين. انبروا لهم يا فرسان الله وانزلوا بهم العقاب اللائق بهم”.
شن تسعة عشر من الأصحاب هجوما خاطفا على صفوف العدو، جابهوا ما لا يقل عن كتيبتين من المشاة والفرسان. فقاموا بهجوم مضاد بغضب وعنف إلى درجة أخذ الفزع عباس قلي خان قاتل الملا حسين فسقط من على حصانه، ومن شدة ذعره وعجلته ترك فردة من حذائه معلقة بالركاب، وفر هاربا بحذاء واحدة وهو يرتعد خوفا. توجه عباس قلي خان إلى الأمير واعترف له بالنكسة المشينة التي أصابته على أيدي هؤلاء، أصحاب الملا حسين التسعة عشر. كتب عباس فلي خان هذا نفسه بعد ذلك عن هؤلاء المدافعين عن قلعة طبرسي يقول:
“إني لا أعرف ماذا كان دافع هؤلاء الناس خوض هذه المعارك بمثل هذا الفرح والسرور، وما أعجز خيال المرء عن أن يتصور شدة شجاعتهم وبأسهم”.
كتب الكونت دي جوبينو يقول:
” شيد الجيش أبراجا كبيرة يوازي ارتفاعها مختلف مستويات القلعة أو أعلى منها، وباشر في إطلاق النار باستمرار حتى أصبح تجول البابيون داخل القلعة ينطوي على خطر عظيم… ولكن بعد أيام استطاع الأصحاب أن يرفعوا تحصيناتهم بحيث صارت أعلى من أبراج الأعداء مستفيدين من طول الليل”.
ازداد غضب الأمير من شواهد حماس الأصحاب الذي لا يخمد لهيبه فأقام برجا عظيما وضع فوقه أكبر مدافعه وأخذ يصب نيرانه في قلب القلعة.
تخبرنا إحدى الوثائق التاريخية بأنه: “عندما شاهد المؤمنون ذلك حفروا ممرات تحت الأرض يحتمون بداخلها. غير ان أرض مازندران تقع بالقرب من الماء وهي مشبعة بالرطوبة، أضف الى ذلك استمرار هطول الأمطار الأمر الذي زاد في الأضرار. وقد عاش هؤلاء المعذبون المساكين بين الأوحال والمياه حتى بليت ملابسهم ورثت من الرطوبة”.
ثار غضب كبار ضباط الجيش بإمرة الأمير وبدافع من غضبهم لفشلهم في قبر هذه العصبة الحقيرة من التلاميذ غير المدربين فجمعوا قوة ضخمة وبنوا الخنادق والمتاريس وأحضروا مزيدا من المدافع والقذائف، وأخذوا في قذف القلعة بالقنابل الملهبة، وأعطوا الأوامر للبدء بدك القلعة دكا بالمدافع. يقول جوبينو في كتابه:” وفي وقت قصير جدا تفككت التحصينات الخارجية للقلعة ولم يبق منها إلا قوائم متساقطة وأخشاب محترقة وأحجار متناثرة”.
وبينما كان القذف بالمدافع مستمرا، خرج القدوس من ملجئه وسار إلى وسط القلعة بكل هدوء وثبات. وفجأة سقطت قذيفة في القلعة انغرست أمامه في الأرض ثم تدحرجت من نفسها واستقرت أمام قدميه. فوضع القدوس قدمه عليها بهدوء وأخذ يحركها الى الأمام والخلف قائلا:
“ما أجهل هؤلاء المعتدين بقوة غضب الله المنتقم. هل يريدون أن يدخلوا الرعب في قلوب أبطال الله الذين لا يرون سلطة الملوك إلا كظل زائل”.ثم التفت القدوس إلى أصحابه وحذرهم قائلا:”
إياكم ان يسلب الخوف وحب النفس مقامكم العظيم. فلكل منكم أجله فاذا جاء الأجل لا تقدمه هجمات الأعداء ولا تؤخره شفاعة الأصدقاء. فاذا تركتم الخوف يتسرب إلى قلوبكم من قصف هذه المدافع التي سوف تمطر هذه القلعة بالقذائف بعنف متزايد، تكونوا قد طرحتم بأنفسكم خارج حصن الحماية الإلهية”.
نزل ذلك النداء بردا وسلاما على تلك القلوب المضطربة التي تراكمت عليها المتاعب. لقد غدا طعامهم في أخر الأمر لحم الخيل التي غنموها من معسكر العدو. واكتفوا بعد ذلك بالأعشاب التي اقتلعوها من الأرض، وأخيرا التجأوا إلى قلف الأشجار وجلد سروجهم وأحزمتهم وأغمده سيوفهم، ونعالهم أكلوها حتى انهم اقتاتوا عظام الخيل المطحونة التي نفقت في المعركة. وقد قضوا مدة ثمانية عشر يوما كان قوتهم الوحيد خلالها جرعة من الماء يتناولونها في كل صباح. شهد أحد الذين نجوا من هذه المحنة قائلا:
“يعلم الله وحده، أننا لم نعد نشعر قط بالجوع”.
كان القدوس يلهب حماسهم ويجدد كل يوم عند شروق الشمس وغروبها أمالهم بالتحدث إليهم عن عظمة (حضرة)الباب وجماله. لقد فقد الكثيرون أرواحهم، ولكن هذه العصبة المتضائلة بقيت غير مقهورة. وحققت أعمالهم نبوءات عدة تشير إلى ظهور الموعود الإلهي في أخر الزمان، من أهمها ما تحدث عن أولئك الذين امنوا بالله عند طبرسي واستشهادهم.
وأخيرا نفد صبر الملك الشاب فصرح قائلا:
“جيش ظننا أنه قادرا على مصارعة الأسود والحيتان يعجز عن محاربة حفنة من الرجال الضعفاء العزل”. واستطرد قائلا:” فهو لم يحقق أي انتصار”.
صب الملك ورئيس وزرائه جام غضبهما على قادة الجيش، وبلهجة قاسية اتهموهم كليتا بعدم الكفاءة، وهددوهم في بنفس العقاب الذي أعدوه للبابيين. وفي ثورة من الغضب والقلق هدد الملك بقتل كل فرد في هذه المنطقة المجاورة لقلعة طبرسي وأعلن قائلا: “سوف أبيدهم عن بكرة أبيهم”.
أدرك الأمير وعباس قلي خان عدم جدوى اطلاع الملك الغاضب على حقيقة المدافعين عن قلعة طبرسي فمع انهم ليسوا جنودا نظاميين فقد ثبت انه يستحيل إخضاعهم. عبر عباس قلي خان بنفسه عن هذه المعضلة حين أقر في حديثه عن أصحاب القدوس بكونهم “علماء ومثقفين… لم يتعودوا على قصف المدافع وقرقعة السلاح، وخوض المعارك… مع ذلك تسري في هياكلهم روح جديدة حين يشتركون في القتال. انه من الصعب على الفرد ان يتصور شدة بأسهم وبسالتهم فكانوا يعرضون أنفسهم للرصاص وقذائف المدافع دون خوف وبكل شجاعة بل بكل شوق وابتهاج كأنهم يعتبرون ساحة المعركة وليمة ممدودة أمامهم”.
علم الأمير بتهديدات الملك الأخير، فخاف بأن أي تأخير في إخضاع القدوس وأصحابه قد يؤدي إلى فقدانه شهرته وربما حياته. لذا التجأ إلى وسائل الغدر، فقد يئس من قهر الأصحاب عسكريا فأحاك لهم خططا لخيانتهم والغدر بهم. أرسل الأمير القران الكريم إلى القدوس. وأقسم به بأنه سيطلق سراح جميع المدافعين عن القلعة ويسمح لهم بالمضي أينما شاءوا، ووعد بأن لا يتعرض لهم، ونذر بتدبير رحيلهم بأمان واحترام إلى مواطنهم على نفقته الخاصة. تسلم القدوس القران الكريم وقبله بكل احترام، وتلي الآية الآتية:” ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق أنك خير الفاتحين”[2]. فجمع أصحابه وتلا على الجميع تعهد الأمير بسلامتهم وقال لاستعد الجميع لمغادرة القلعة هم: “استعدوا لمغادرة القلعة فباستجابتنا لقسهم هذا نختبر صدق نواياهم”.
استعد جميع الأصحاب لمغادرة المكان وعند باب القلعة امتطوا جيادهم ليتوجهوا بها إلى معسكر الأمير. قدم ألأٍمير طعام العشاء إلى القدوس وأصحابه المضوعين جوعا. رفض القدوس أن يمس الطعام لعلمه بدنو أجله. وكرر الأمير وعده قائلا:” أن قسمي مقدس لا مرد له”. فهمس أحد الأصحاب في ادن القدوس قائلا:” اعتقد أن ما يجري على لسان الأمير غير الذي يكنه في قلبه”. شاركه القدوس في الرأي وطلب من الأصحاب أن يتفرقوا في نفس تلك الليلة قبل فوات ألوقت. فتوسلوا إليه ألا يرسلهم بعيدا عنه. وكانت أخر كلمات القدوس لهم:
“لا تبكوا فاجتماع الشمل الذي يعقب هذا الفراق سوف يدوم أبديا. والآن فوضنا أمرنا إلى عناية الله”.
كان هذا هو المشهد الختامي لتلك الفاجعة الكئيبة في طبرسي. فقد نكث الأمير عهده المقدس وألقى القبض على القدوس وأصحابه وجردوا من متاعهم اليسير وبيع البعض كالعبيد، والبعض الآخر قتلوا على الفور بحراب وسيوف الضباط المتعطشين للانتقام، وجاء في احدى الروايات أن العالم بأجمعه دهش للطريقة التي ضحى بها هؤلاء… ولأعمالهم… ولجلدهم وقوة تحملهم.
قتل في هذه المأساة ما لا يقل عن تسعة من تلاميذ (حضرة)الباب الثمانية عشر الأولين المعروفين بحروف الحي. ويتحدث المؤرخ نيقولاس عن المحاولة العقيمة التي قامت بها السلطات المدنية والدينية لطمس معالم هذه البقعة المجيدة بقوله:
” أزيلت جميع التحصينات التي أقامها البابييون من على وجه الأرض وحتى الأرض سويت كي لا يبقى أي أثر يشير إلى ذلك الدفاع البطولي لأولئك الذين ماتوا في سبيل دعوتهم، وظنوا انهم بذلك يسكتون التاريخ”.
كبل القدوس بالسلاسل وأخذه الأمير سيرا على الأقدام إلى بارفروش موطن سعيد العلماء الجبان، وأيضا، مسقط رأس القدوس. لم يخش سعيد العلماء الآن من الخروج من منزله وذهب مصطحبا معه علماء بارفروش للترحيب بالأمير ليقدم تهانيه بعودته ظافرا، كما ارتفعت الأعلام في كافة أنحاء البلدة احتفالا بالنصر، وأشعلت نيران الزينة في المساء. واستمرت هذه المهرجانات مدة ثلاثة أيام.
لم يشر الأمير بأي شيء لسعيد العلماء عن مصير القدوس. كان الأمير غير راغب قط في إساءة معاملة أسيره أكثر مما فعله. فقد قبض على القدوس غدرا. الآن وبعد أن عادت إليه كرامته، فهو لا يريد أن يلتصق به مزيدا من العار بمشاركته في هذه الحادثة المقيتة. استقر رأي الأمير على اقتياد القدوس إلى طهران وتسليمه إلى يد الملك. واعتقد انه بذلك ترفع عنه مسؤولية تقرير مصير القدوس. والأهم أن هذا سوف يجلب له مزيدا من الشرف خلال مسيرته اللي العاصمة. بيد أن عداوة سعيد العلماء التي لا تخمد اعترضت خطته هذه. فعندما وجد سعيد العلماء أن القدوس على وشك أن يفلت من قبضته، استنجد مرة أخرى بالسوقة والغوغاء من الناس كما سبق وفعل في أول يوم وصل فيه الملا حسين وأصحابه إلى سهل بارفروش وحرك فيهم أحط المشاعر، وأشعل فيهم نار الغضب، فهاجت بارفروش عن أخرها مستجيبة لنداء سعيد العلماء الملح الشرير. صعد سعيد العلماء على المنبر وخطب في هذه الحشود المتهيجة قائلا: “لقد آليت على نفسي ألاّ أذوق الطعام والنوم حتى أنهي حياة القدوس بيدي هذه”.
تجمهر الناس من حوله بصورة مخيفة إلى درجة جعلت الأمير يخشى على سلامة نفسه. فاستدعى الأمير جميع علماء بارفروش للتشاور معهم في الوسائل التي تهدئ من مشاعر الجمهور الغاضب وتخفف من اندفاعه. عقد علماء بارفروش على الفور اجتماعا للبت في مصير القدوس دعوا إليه الأمير إلى حضره. وفي تلك اللحظة تبين فيها للأمير أن المدينة بأكملها متكتلة في كراهيتها ضده، فتنهد ونطق بكلمات تذكرنا بتلك التي نطق بها بيلاطس النبطي: “اغسل يدي من كل مسؤولية عن أي أذى يلحق بهذا الرجل. افعلوا به ما تشاؤون. فأنتم أحرار، وسوف تسألون عن ذلك يوم الحساب”. وما أن تفوه بتلك الكلمات حتى سلم القدوس إلى يد سعيد العلماء، ثم وصل جبنه إلى نهايته فركب جواده ولاذ بالفرار من المدينة مدبرا ظهره للقدوس. لم يبق الآن رادع أمام الجمهور. فانقضوا على القدوس بعنف جامح، جردوه من ملابسه، وساروا به في الشوارع حافي القدمين، عاري الرأس، مثقلا بالسلاسل، يعقبه في كل خطوة عواء الغوغاء الذين كانوا يلاحقونه بصيحات الاستهجان ويبصقون عليه، ويقذفونه بالقاذورات. وفي وسط أعمال تعذيبه الأخيرة هذه سأل القدوس الله أن يصفح عن مضطهديه قائلا:
“أغفر لهم يا إلهي خطاياهم وعاملهم برحمتك لأنهم لا يعرفون السر الذي قد اكتشفناه. أهدهم يا إلهي الصراط الحق وبدل جهلهم بالإيمان”.
وفي ساعة محنته هذه، مر به أحد الخونة الذين هجروا القلعة وشاهد مدى عجز القدوس في تلك اللحظة. فتشجع وتقدم منه وصفعه على وجهه، وقال متهكما: “إن كان ما تنطق به هو من عند الله، خلص نفسك؟”. نظر القدوس إليه بكل هدوء وقال: “عسى الله أن يغفر لك فعلتك بقدر ما زدت في ألآمي”.
عندما سمعت عائلة القدوس بما ينهال عليه من عذاب تذكروا ما سبق وتنبأ به القدوس في نفس هذه المدينة منذ سنوات عديدة. كانت زوجة أبيه تكن له كل حب وحنان، وكثيرا ما حثته على الزواج قائلة: “كم أنا مشتاقة لمشاهدة يوم عرسك وأخشى أن أموت قبل ان تتحقق أمنيتي هذه”. فأجابها القدوس قائلا:
“لم يحن بعد يوم عرسي. ولا يمكن وصف مجد ذلك اليوم. فلن احتفل بعرسي داخل جدران هذا المنزل، بل في العراء تحت قبة السماء أمام أنظار جم غفير من الناس وأشهد بذلك تحقق كافة أماني”.
والآن صدق ذلك الوعد. فعندما اقترب القدوس من الميدان العام تذكر تلك السنوات السريعة المنصرمة والكلمات التي نطق بها، فرفع صوته قائلا:
“ليت أمي كانت معي الآن لتشهد بهاء عرسي”.
وعند منتصف الليل، جمع صديق مخلص ما تبقى من جسد القدوس المشوه والمحروق وواراه في مكان لا يبعد كثيرا عن مكان استشهاده. يقول النبيل في كتاب تاريخه، ان قصة الملا حسين والقدوس والدفاع عن قلعة طبرسي:
“يجب أن تظل على الدوام قصة دفاع كلا من الملا حسين والقدوس عن قلعة طبرسي واحدة من أشد حوادث التاريخ الحديث تأثيرا”.
” ما أجهل هؤلاء المعتدين المتفاخرين ببطش الله وانتقامه وتلك الكلمات التي نطق بها القدوس في قلعة طبرسي والتي انكشفت حقيقتها وتمت بها نبوءته في سهل بارفروش.
لم يمض وقت طويل حتى خر سعيد العلماء صريعا بنفس المصير الذي سحق كلا من حسين خان، وميرزا على أصغر، ومحمد شاه، والحاج ميرزا أقاسي، وبذلك وقع زعيم أخر المتآمرين على الباب واتباعه في قبضة الهلاك. فقد أصيب رئيس العلماء بداء غريب لا علاج له. فبالرغم من الفراء الذي كان يرتديها وبالرغم من النار المشتعلة على الدوام في حجرته، لم يكن يشعر بالدفء. وفيما كان يرتجف بردا كانت الحمى المتقدة في جوفه مرتفعة بدرجة لم يفلح شيء في إطفاء لهيب ظمئه. أجهز المرض عليه فمات، وهجر منزله الجميل حتى انهار خرابا. وشيئا فشيئا نشأت عادة طرح القمامة في الموقع الذي كان فيه منزله يوما ما مشيدا وشامخا.
يشير نيقولاس في تاريخه قائلا: “أثرت هذه الحادثة في أهالي تلك المنطقة بدرجة انهم عندما كانوا يتشاجرون فيما بينهم، كانت أخر إهانة يمكن أن تقال هي:
“ليؤول دارك إلى ما أل إليه بيت سعيد العلماء”.
وصلت أنباء المصير المفجع الذي لحق بأبطال طبرسي إلى (حضرة)الباب أثناء وجوده في سجنه في جهريق. فجلبت حزنا عميقا إلى قلبه. فكتب رثاء بافتخار كل من القدوس والملا حسين بين فيه انه هو الآخر سوف يلحق قريبا بهاذين التوأمين الخالدين اللذين أعطي كل منهما بحياته ومماته رونقا أبديا لدين الله. أمر الباب أحد أتباعه بزيارة طبرسي ودارفروش قائلا:
“…بلباس سائح… أزر نيابة عني البقعة التي تضم جسديهما… وأحضر لي حفنة من ذلك التراب المقدس الذي يغطي بقايا حبيبي القدوس والملا حسين كتذكار لزيارتك، واجتهد في العودة قبل يوم النيروز، لتحتفل معي بهذا العيد، فقد يكون أخر عيد أقضيه معكم”.
[1] هذا العدد حسب حديث نبوي هو عدد الرسل الذين ظهروا خلال كور آدم
[2] سورة الأعراف رقم 7
من بين أشجع تلاميذ (حضرة)الباب أمرأه عرفت بالطاهرة انحدرت الطاهرة من أسرة اتسم أفرادها بالقيادة الدينية في إيران، وكان والدها أكثر أفراد الأسرة اشتهار وأوسع صيتا. كان علم الطاهرة وموهبتها عظيمين إلى درجة أن والدها كثيرا ما كان يتحسر ويقول: “ليتها كانت صبيا لأضاء بيتي وأصبح خليفتي”. أما أهل بلدتها فكانوا يعتبرونها منذ صغرها أعجوبة بين النساء.
اشتهرت الطاهرة منذ حداثتها بذكائها وجمالها وكثيرا ما قال عنها أخوها عبد الوهاب: كان علمها يرعبنا بدرجة لم يتجرأ أحد من أخوتها أو أبناء أعمامها على التكلم في و اذا ما تجاسرنا يوماً وتجادلنا حول نظرية مذهبية تضارب وجهات نظر العلماء حوله، كانت الطاهرة تشرحها لنا بوضوح ودقة و بصورة حاسمة تجعلنا نشاهد مدى بعدنا عن الحقيقة، وعلى الفور ننسح من محضرها ونحن في حيرة” من أمرها.
يخبرنا نيقولاس في روايته التاريخية أن شهرتها طبقت آفاق فارس بكلها بحيث تبنّى بعض آرائها ونظرياتها بعض من العلماء المشتهرين بالعجرفة.
وفي ذات يوم عندما كانت الطاهرة تزور ابن عمها في منزله، لفت نظرها بعض الكتب الممتعة جدًا في مكتبته من تأليف الشيخ أحمد الإحسائي وخلفه السيد كاظم الرشتي. حذّرها ابن عمها من غضب والدها اذا اكتشف أنها تطالع مثل هذه الكتب، و قال لها: ” انه يناقض أمثال هؤلاء المفكرين العصريين”. وبلباقة أقنعته برأيها وأخذت الكتب إلى منزلها لدراستها. فأثار والدها احتجاجات عنيفة، وأجري معها مناقشات حادة منتقدا ومستنكرا كتابات الشيخ أحمد.
وبشغوف، اقترأت الطاهرة كل ما وصل إلى يديها من مؤلفاتهما. أنداك، كان السيد كاظم، بعد وفاة الشيخ أحمد، لا يزال على قيد الحياة في كربلاء، فشرعت الطاهرة على الفور في مراسلته، فأشعلت أحاديث السيد كاظم في قلبها شوقاً تزايدت حدته لشعورها بقرب مجيء الموعود المنتظر واشتدت صبابتها للرحيل إلى كربلاء والدرس على يه. أدركت الطاهرة أن والدها لن يأذن لها القيام بمثل هذه الرحلة. ولكنها بمساعدة من عمها استطاعت الحصول على اذن لزيارة المقامات المقدسة في كربلاء والنجف. منحتها عائلتها هذا الأذن اعتقاداً بأنها سوف تعود بعد الزيارة إلى رشدها فتصبح أكثر تمسكاً بعقيدتها الأصلية. ولكن لم يتبادر على ذهنهم بأن الهدف الحقيقي من رحيلها هو لقاء السيد كاظم.
خلال تلك الأيام، كان شاغل الطاهرة الوحيد وعد السيد كاظم بقرب ظهور مربّ روحاني جديد في العالم. أباحت الطاهرة لعمها بأنها ترغب في أن تكون أول امرأة تقوم على خدمته حين ظهوره. وأعلنت بحروة: “آه! متي يأتي هذا اليوم الذي تظهر فيه شريعة جديدة على وجه الأرض. فسوف أكون أول من يعتنق هذه التعاليم الجديدة وأضحي بحياتي من أجل أخواتي”.
شرعت الطاهرة برحلتها إلى كربلاء عام 1843 م وهي متلهفة للتعلم على يد السيد كاظم. ولكنها حزنت حزناً عميقاً عندما وصلت إلى كربلاء فوجدت أن السيد كاظم قد توفي قبل وصولها بعشرة أيام فقط. ولكن تدنى حزنها عندما سمح لها بالبقاء في منزله والاطلاع على جميع كتاباته التي لم تنشر بعد. وبشغف، عكفت الطاهرة على دراسة جميع هذه المؤلفات القيمة فاكتشفت في كل واحد من هذه الكتب البشرى المثيرة نفسها عن قرب ظهور موعود عظيم في العالم.
قابلت الطاهرة أثناء إقامتها في كربلاء الملا حسين الذي كان على وشك المباشرة في البحث عن الموعود المنتظر. فاشعل هذا اللقاء آمالها وقررت ان تستنهج نهجه فتعتكف على الصلاة والتأمل.
وفي ذات ليلة، ظهر لها في المنام شابا رافعاً يديه نحو السماء وهو يردد بصوت مليح آيات رائعات كثيرة دونت الطاهرة أحداها. فأفاقت والفرحة تغمر كيانها. وفي يوم، قدَم إإليها أحد الأصحاب بعض كتابات ل(حضرة) الباب. وعندما وقع نظرها على صحيفة منها وجدت نفس الكلمات التي دونتها أثناء منامها فأدركت، وهي في غاية الابتهاج، أن صاحب تلك الرسالة حق من عند الله. وعلى التو كتبت الطاهرة رسالة إلى حصرة الباب تعلن فيها إيمانها وإقرارها بأنه هو الرسول المنتظر المذكور في جميع الكتب المقدسة الذي كان الناس يترقبونه بشوق منذ قديم الزمان. وأخبرت حامل رسالتها ان يتلوا عن لسانها على مسامع (حضرة)الباب هذه الأبيات الشعرية:
لمعاتُ وجهك أشرقت وشعاع طلعتك اعتلا
قالت ألست بربكم قلنا بلى قلنا بلى
جلب إيمانها ب(حضرة)الباب عليها احتجاجات فورية عنيفة من أبيها وعمها وزوجها وأخوته. حاول الجميع تهدئتها والحد من نشاطها وذلك بسبب السمعة الطيبة التي تتمتع بها أسرتها.
أشعلت رسالة (حضرة)الباب الطاهرة وكسبت في كربلاء الكثير من الناس إلى دعوته، وفيما يلي وصف مدون لأوائل أيامها في نشر دعوة (حضرة)الباب في كربلاء:
” انجذب كل من قابلها لفصاحتها الخلابة، ولم يقدر أحد على مقاومة سحر بيانها، وقليلون هم الذين نجوا من عدوى إيمانها، واعترف الجميع بأخلاقها المميزة غير العادية. وأعجبوا بشخصيتها المدهشة، واقتنعوا بصدق معتقدها”
لم تكتف الطاهرة بتقديم عطف سلبي لدعوة (حضرة)الباب بعد أن اعترفت جهرا إيمانها به وحاولت تنبيه من في حولها لمجئ يوم عظيم جديد في شؤون العالم بأسره. عندئذ بدأ أناس كثيرون يلتفون من حولها يشاركونها حماسها وفرحتها وهم يستمعون إلى سحر بيانها.
وحينما تطرق إلى مسامع علماء كربلاء بأن الطاهرة أصبحت أحد أتباع الباب الغيورين وأنها تقوم، بحماس على نشر دعوته في قلب مركزهم الديني، اشتكوها بشدة إلى الحكومة. وتعاظم غضبهم خاصة عندما علموا بأن الطاهرة تريد أن تحتفل بذكرى ميلاد (حضرة)الباب التي تصادف وقوعه خلال شهر الاحتفال بشهادة الإمام حسين وبأنها خلعت ملابس الحداد وارتدت ملابس تعبر عن فرحتها بالرسالة الجديدة.
للتو أرسل المسؤولون على عجل رجالهم للقبض عليها فورًا. وبالخطأ قبضوا على صديقة لها فكتبت الطاهرة على الفور رسالة إلى الحاكم تخبره بأنها هي التي يبحثون عنها وطلبته بإطلاق سراح صديقتها. فرض الحاكم حراسة مشددة على بيت الطاهرة وأمر بعدم خروجها من المنزل او دخول الناس لمقابلتها لمدة ثلاثة أشهر. علمت أسرتها بما حدث فحاولوا إعادتها إلى قزوين. ولما فشلوا في أقناعها بالعدوة على قزوين حثوها أن تكون أكثر هدوؤا وتحفظاً ولا تجعل مسلكها يؤثر على سمعة الحسنة للعائلة.
ووصلت أخبار إلى الطاهرة تُفيد باجتماع تلاميذ الباب في مؤتمر عظيم بخراسان، فشرعت فورًا في الرحيل. ولكي يستريح ضميرها، كتبت الطاهرة قبل مغادرتها كربلاء رسالة وجهتها إلى جميع عالم فيها، من الذين يعتبرون منزلة المرأة أعلى بقليل من رتبة الحيوانات لدرجة أنكروا وجود الروح عندهن، تشجب فيها، من ناحية، تعصبهم الأعمى وتكشف فيه عن ظلمهم وآراءها الرجعية، ومن ناحية أخرى، تدافع بمقدرة عن عقيدتها الجديدة.
رافقت الطاهرة أثناء سفرها من كربلاء كل من والدة الملا حسين وأخته اللتين أشعلت في قلبهما حبًا عظيمًا لرسالة (حضرة) الباب. كما صحبها عدد كبير من أهالي كربلاء إلى بغداد لحضور حلقات دراستها. توقفت الطاهرة أثناء سفرها في بغداد. ومنذ اليوم الأول لوصولها إلى العاصمة العراقية قامت بتبليغ الدعوة الجديدة. وكانت تتحدث بقوة وفصاحة أذهلت أولئك الذين كانوا قد رأوها واستمعوا إليها قبل أن تصبح بابية وكانوا يتساءلون”: “أليست هذه هي السيدة نفسها التي كنا نعرفها من قبل؟”
بدأت محاضراتها تجذب عددًا كبيرًا من أتباع كل دين. وكان من أبرز سماتها قدرتها على إشعال الرغبة الشديدة في نفوس مستمعيها لتحري حقيقة دعوة (حضرة)الباب بأنفسهم. وخلال فترة قصيرة اكتسبت الطاهرة بسحر بيانها أنصارًا عديدين.
طفح علماء بغداد بهم الكيل عندما وجدوا أن كلمات الطاهرة أخذت
تبعد اتباعهم عنهم. فقدا فرغت بسحر بيانها فصولهم الدراسية. قام الكثيرون ضدها فتحدتهم علانية، ودعتهم عن طريق الحاكم لمواجهتها في مناظرة عامة يناقش فيها صحة دعوة الباب أو بطلانها. رفض العلماء وتذرعوا بحجج واهية. بدلاً من مواجهتها اشتكوها للحاكم بصدد الثورة التي كانت تثيرها.
روي هذه القصة طبيب يهودي يدعي ” الحكيم مسيح “. حدث أثناء مروره ببغداد في طريقه إلى كربلاء بصحبة الملك، أن شاهد يوما جماعة كبيرة من الناس معظمهم من العلماء الدينيين ينصتون بإمعان إلى محاضرة تلقيها سيدة احتجبت عن أنظارهم خلف ستار. وبدافع من الفضول دخل الحكيم مسيح ليستمع الى حديثها. وبمجرد أن انتهت من كلمتها أخذ العلماء علق الحكيم اليهودي قائلا:
“وكان حديثها منطقيًا ومقنعًا بدرجة جذبني إليها. دهشت كثيرًا لعدم استطاعة العلماء دحض حججها، وما لبث حتى اقتنعت بأن هذه السيدة على حق و ظننت بأن هذه الخطيبة الساحرة لا بد و أن تكون الموعود الإلهي الذي كان الجميع يتحدثون عنه.”
حضر الحكيم مجالسها واطلع على رسالة الباب وآمن به. وهكذا اجتذبت الطاهرة بمنطقها وفصاحتها إلى الإيمان بدعوة الباب يهوديًا كان قد فاتته روعة رسالة كل من المسيح ومحمد وأصبح يؤمن الآن بالمسيح ومحمد وكافة رسل الله.
وفي يوم حضر إلى الطاهرة وفد من أكابر العلماء الدينيين في بغداد. فقد كبرت شعبيتها بدرجة مذهلة جعلتهم يشعرون بالذعر من الأثر الذي قد تحدثه على جماهيرهم. فتكتلوا ضدها. كان هذا الوفد يمثل طائفتين رئيسيتين من الإسلام، وأيضًا، علماء من الجالية اليهودية والجالية المسيحية. جاءوا جميعًا لإفحامها. قالوا لها:
جئنا لإقناعك بحمق تصرّفك، ولنثنيك عن غرضك”
ظن هؤلاء العلماء الدينيّون قبل الاجتماع أن الطاهرة ما هي إلاّ موهوبة تخطت بحماسها للشئ الجديد حد الاعتدال، وخالوا أن شعبيتها مبنية على التحديث أو البدع، ولكن عندما تلتقي وجهًا لوجه مع زمرة من هؤلاء الزعماء الدينيين البارزين سوف تخضع وتعود، مرة أخرى، إلى مكانها المتواضع كامرأة. ولم يتوقعوا ابدأ، بأن حكمتهم مجتمعة سوف تقابل باللامبالاة من جانبها، وأن استجابتها لدوافعهم سوف تواجه ببرود منها.
وبعد ذلك الاجتماع نظر هؤلاء العلماء إلى الطاهرة على أنها خصم خطير قوي الشكيمة. فقد تمكنت الطاهرة من إسكات أي اعتراض جاءوا به، وكما أذهلتهم بقوة حوارها وعمق معرفتها. فلم يلن جانبها أو تذعن لهم كما كانوا يتوقعون، وبدلاً عن ذلك كانت مشتعلة بنار محبة الله، وأحرقت بلهيب كلماتها تفكيرهم السخيف. قالوا: “هذه ليست مجرد امرأة “. وارتبكوا لعدم مقدرتهم إخضاعها، وانسحبوا يجرون أذيال الخيبة والفشل في أذيالهم.
زادت هذه الانتصارات شهرة الطاهرة، كما ضاعفت من غضب الزعماء الدينيين. فقد كان تأثير الطاهرة على النفوس عظيمًا، والهياج الذي أحدثته تعاليمها شديدًا، بدرجة قام المسؤولون بالقبض عليها ووضعها في منزل المفتي بأمر من حاكم بغداد. ظلت الطاهرة هناك تحت الحراسة حتي يتسلم الحاكم أوامر بشأنها من القسطنطينية، العاصمة الرئيسية للحكومة التركية. ومرة أخرى دافعت الطاهرة أثناء سجنها عن عقيدتها مسلكها أمام رئيس القضاة بكل مقدرة. وقبل أن تغادر منزله قال لها المفتي مخلصًا: ” أشاركك في اعتقادك، ولكنني أخشى عليك من سيوف آل عثمان”.
وعندما تزايدت شكاوى العلماء الدينيين ذو النفوذ ضدها، رأت الحكومة أن تبت بسرعة فيما اذا كان سيسمح لها بمواصلة نشاطها التبليغي أم لا. رفع الأمر أولاً إلى حاكم بغداد، الذي رفعه بدوره إلى السلطات التنفيذية في القسطنطينية.
ألف المفتي يعد ذلك كتابًا يتحدث فيه عن إقامة الطاهرة في منزله فكتب قائلا:
” كانت تستيقظ في الساعات الأولى عند كل صباح للصلاة والتعبد وكثيرًا ما كانت تصوم، وصرح بأنه لم يشاهد قط سيدة في فضائلها وانقطاعها، ولم يرَ رجلاً أكثر منها علمًا وشجاعة “.
وفي مساء يوم دخل والد المفتي لرؤية ابنه دون أن يحيّي الطاهرة، و بدلاً عن ذلك شرع أمام الطاهرة في تأنيب ابنه لتعاطفه معها، ثم لعن الطاهرة واتهمها بأنها عدوة للدين، ثم قال متشفيًا، إن رسالة وصلت توًا من القسطنطينية بخصوص الطاهرة منح فيها السلطان الطاهرة حياتها وحريتها، لكنه أمرها بأن تغادر الأراضي التركية على الفور. وقال والد المفتي لها بكل فظاظة: ” استعدي لمغادرة العراق غدًا “. كان هذا كل ما قاله لها ثم انصرف.
خجل المفتي من تصرفات والده واعتذر لها عما حدث. أخبر المفتي اصدقاءه بعد مغادرة الطاهرة منزله قائلاً: ” لقد رأيت فيها من العلم والمعرفة والأدب وحسن الأخلاق ما لم أجده في أي رجل عظيم في هذا القرن”.
عبرت الطاهرة الحدود التركية الإيرانية ودخلت مدينة كرمنشاه. وهنا، على العكس ما حدث في بغداد، قوبلت بترحيب حار. وخرج العلماء ورجال الدولة والشعب للترحيب بهذه الشخصية أتي طبقت شهرتها جميع البلاد. أُخذ الجميع من فصاحتها وجرأتها. ترجمت الطاهرة احدى كتابات (حضرة) الباب، وبطلب منها قرأ جهرًا في كرمنشاه. وفي أثناء وجودها في كرمنشاه اعترف الحاكم وعائلته بصدق دعوة (حضرة)الباب وأظهروا عظيم محبتهم وإعجابهم بالطاهرة. قضت الطاهرة في قرية كرند ثلاثة أيام للنشر الأمر، وهناك أعلنت ثناءها لرسالة الباب علانية، ونجحت في جذب اهتمام جميع الطبقات من الناس. قيل، أن ألفًا ومائتي شخص قبلوا دعوة الباب.
أقامت الطاهرة في قرية صحنة الصغيرة يومين. قوبلت فيها بحماس فاق ما لاقته في كرند. وعند سفرها توسل إليها سكان القرية السماح لهم ولجميع أعضاء أسرهم السير معها، لقد كانوا على استعداد لترك كل شئ وراءهم و الانضمام إليها في نشر وترويج دعوة (حضرة) الباب. ولكن الطاهرة نصحتهم بالبقاء في قريتهم لتبليغ قومهم.
توجهت الطاهرة بعد ذلك إلى مدينة همدان، وهناك انقسم أهل البلد في موقفهم نحو الطاهرة. حاول البعض تحريض الأهالي عليها، بينما رفع آخرون أصواتهم في مدحها. امتعض أحد الرؤساء امتعاضًا شديدًا من شهرتها فأراد قتلها ورغب في حث الناس علانية للهجوم عليها، ولكنه كان يخشى انتقام رفقائها. علمت الطاهرة بما يدور في خاطر هذا الرجل الشرير، فكتبت إليه خطابًا مطولاً شرحت له فيه بكل دقة تعليم (حضرة) الباب. أرسلت هذا الخطاب بيد صديق مخلص يدعى الملا إبراهيم. وصل الملا إبراهيم منزل هذا الرجل ومعه خطاب الطاهرة في الوقت الذي كان فيه عدد من هؤلاء العلماء المعادين مجتمعين ليقرروا الخطوات التي يمكن اتخاذها ضد الطاهرة لاسكاتها. أغضبهم هذا الخطاب واعتبروه وقحًا مثيرا لغضبهم فانقضوا جميعهم على الملا إبراهيم وأوسعوه ضربا حتى فقد الوعي. وعندما حمل إلى الطاهرة وهو ما زال في غيبوبته، لم تستسلم الطاهرة للبكاء حين رأته كما توقع من كان حولها. وأدهشتهم جميعًا عندما خاطبت الملا إبراهيم بقولها: ” انهض يا ملا إبراهيم وحمد لله على ما قاسيته في سبيل محبوبك. والآن انهض وتابع خدمتك له”. و عندما فتح عينيه تبسمت الطاهرة وقالت:
“يا ملا إبراهيم، أمن ضرب ابتدائي فقدت وعيك. هذا هو الحين الذي نحن فيه على استعداد لتقديم حياتنا ألم يفعل حواريو المسيح واصحابة محمد مثل هذا؟ “.
نهض الملا إبراهيم من إغماءاته واستعاد قواه، ثم غادر محضرها و قام على نشر الكلمة.
عزمت الطاهرة مغادرة همدان إلى طهران، في محاولة لمقابلة صاحب الجلالة محمد شاه كي تطلعه على هذه التعاليم الجديدة. ولكن واحدًا من العلماء الذي رفض مناظرتها علانية عندما كانت في كرمنشاه كتب إلى والدها سرا في قزوين وأخبره بأن ابنته جلبت العار على سمعة جميع العلماء، ناهيك سمعة أسرتها. فأرسل والدها على الفور ابنه مع جماعة من أقاربه إلى همدان ليعترضوا طريقها ويحثوها على العودة إلى بيتها. قالت الطاهرة لمرافقيها قبل وصول أقاربها من قزوين: ” انهم في طريقهم إلينا. قادمين من قزوين. فلنخرج لملاقاتهم قبل وصولهم هنا”.
عدلت الطاهرة عن زيارتها لطهران وعادت إلى بيتها مع حراسها. وفي الليلة الأولى التي وصلت فيها الطاهرة إلى قزوين أنّبها كل من أبيها وعمها بعنف لتصرفاتها. وتذمر والدها قائلاً: ” ماذا أفعل بك بعد ان اخترت ان تتبعي ذلك الصبي الشيرازي؟ “. وأخذ عمها تقي يلعن الباب ودعوته. وفي ثورة من غضبه سدد إليها عدة لكمات وليقينها بانتقام الله تفوهت بكلمات قاتلة تنبأت فيها بما سيحدث له، فصاحت: ” يا عماه أرى فمك يمتلئ بالدم “. أغضبته هذه الكلمات وهدّد بكيها. وانفض المجلس وهو غاضبًا عليها. في اليوم التالي حاولت العائلة أقناعها بالرجوع إلى زوجها، آملين أن يكبح هذا من حماسها. فقالت لهم: ” لقد انفصلنا عن بعضنا منذ ثلاث سنوات. انه أنكر شريعة الله ويأخذه العار مني. والآن لا يوجد شيء مشترك بيننا على الأطلاق”. أرسل زوجها الذي كان يعتبر نفسه واحدًا من أكابر العلماء في إيران خطابًا شديد اللهجة إليها يدعوها للانتقال إلى منزله. فأجابت: ” لا في هذا العالم ولا في العالم الآخر لم أكون معه. لقد طرحته خارج حياتي إلى الأبد”
وفي شدة هيجانه اتهمها بالكفر وسعى في تحطيم مكانتها وتلويث سمعتها. وبعد مضي ثلاثة أسابيع طلقها ثلاثا وهو غاضب. ما فتئ والدها وأخوتها يأملون في إضعاف نفوذها بوجودها بينهم، وأعادتها تدريجيًا إلى ما كانت عليه. ولكن ما حصل كان عكس ذلك. فقد اكتسبت بشجاعتها قدرتها على التنظيم ومهارتها وحماسها الذي لا يخمد جذوته انتصارات عديدة وجديدة لدعوت حضرت الباب.
قتل تقي {عم الطاهرة} في المسجد يوم جمعة بطعنة سددت إلى حلقه. ومع أن التحقيقات كشفت بكل وضوح عن أن القاتل ليس بابيًا مع ذلك فان تهمة القتل ألصقت بالطاهرة. تذكرت العائلة تلك الكلمات التي تنبأت بها الطاهرة ليلة وصولها: “يا عماه أرى فمك يمتلئ بالدم”.
هاجت المدينة بأكملها. وحرّض العلماء الغوغاء على الانتقام وبأن يعتقلوا ويقتلوا كل من يشتبه بانه بابي وينهبوا بيته.
وضعت الطاهرة تحت الحراسة المشددة. واحترامًا لمركز والدها كونه عالمًا بارزًا في الشريعة الإسلامية سمحت السلطات له بسجنها في قبو بمنزله لكنهم أمروا الحارسات بتشديد الرقابة عليها، وان لا يتركوها تغيب عن أنظارهم. و قالوا انه يجب ان لا تهرب. وبعد سنين عديدة، قال أحد أقارب الطاهرة، بانه أثناء صحبته لزوار أتوا ليشاهدوا القبو الذي سجنت فيه الطاهرة بأن ط “والد الطاهرة كان يحب ابنته الموهوبة، رغم اصطدامه الشديد معها بسبب العقيدة الدينية. وقد سجنها في بيته محاولة منه لحمايتها من وحشية أولئك الذين أرادوا كيها بالنار لانتمائها إلى {دعوة (حضرة) الباب}. وللأسف! حتى والدها لم يقدر على إنقاذها من يد الغوغاء، فقد حضروا وأخذوها إلى سجن البلدة “.
وإمعانا في الانتقام، حرض زوج الطاهرة الحاكم بمحاكمة الطاهرة بتهمة قتل عمها تقي بالرغم من براءتها. رفض والدها ان يسمح لها بمغادرة منزله، ولكنهم أخذوها بالقوة إلى دار الحكومة، كما قبضوا على خادمتها “كافية” بأمل أن يؤثروا عليها لتشهد ضدها.
استمروا في التحقيق مع الطاهرة وخادمتها ساعة بعد أخرى محاولين انتزاع اعتراف منها بالقتل. وعلى كل سؤال كانت الطاهرة تجيب بكل هدوء: ” لا نعلم شيئًا عن هذا الحادث، فقد ارتكب بدون علم منا”.
تميز زجها من الغضب وخشي أن يطلقوا سراحها فظل يتوسل إلى الحاكم لينزل عليها أقسى أنواع العقاب بقوله: ” شيء شديد، شيء شديد للغاية”. أخذ الحاكم بهذه المبادرة فأعطى أمره إلى الجلاد بإحضار قطع حديد الكي. ولأجل إرهاب الطاهرة والحصول حتى على اعتراف زائف عن طريق التعذيب وضعوا يدي خادمتها كافية تحت {درفة} باب ينزلق عازمين بذلك على كيها من الناحية الأخرى.
كانت الطاهرة تعلم بعجزها. ولم يكن لها ملجأ الا العزيز القدير. فرفعت الحجاب عن وجهها واتجهت ناحية الباب في سجنه في ماه كو وأخذت تصلي. احضروا قطع الحديد الملتهب واعدت يدا الخادمة للكي. وفي هذه اللحظة المخيفة سمع صوت منادي المدينة يصيح في الشارع ” عثر على القاتل، عثر على القاتل”. فقد حضر القاتل من تلقاء نفسه إلى دار الحكومة واعترف بجريمته بدلاً من ترك الأبرياء يتعذبون. فأطلق سراح كل من الطاهرة وكافية. أعيدت الطاهرة كسجينة إلى بيت أبيها. قام الزوج بمحاولة أخرى للاعتداء على حياتها بدس السم لها. وعلى الرغم من كل هذه المحاولات العقيمة، لم تتوقف الطاهرة عن تبليغ الكلمة لكثير من الناس.
بالرغم من أن الطاهرة كانت مسجونة لفترة طويلة في قزوين إلا أنها أحدثت تأثيرًا عميقًا في مدينة تبك المدينة. فعلى الرغم من ان قزوين كانت تفتخر بأنها تحوي بين أسوارها على ما لا يقلّ عن مائتين من أكابر علماء الإسلام إلا أن الانتصارات التي أحرزتها الطاهرة في قزوين كانت أكثر مما كسبته في أي مكان آخر.
سؤال صريح طرحته “المجلة الأسيوية ” خلال دراستها لهذه الحقبة هو:
“كيف …. في بلدة كقزوين حيث يتمتع فيها رجال الدين بسلطان عظيم ….
كيف إذا … استطاعت امرأة تنظيم مجموعة قوية من الكفرة؟”.
وتختّم هذه الدراسة بعبارة:
” هنا يوجد سؤال حيّر حتى المؤرخ الإيراني سبهر اذ ان هذا الحادث لم يسبق له مثيل”.
إلى تلك اللحظة، ما زال رئيس الوزراء ميرزا تقي خان متغاضيا عن الجرائم التي ارتكبها الغوغاء وفرح في قرارة نفسه بعدم اتخاذ أي أجراء ضد أولئك الذين، بدون سبب، هجموا على البابين فنهبوا أموالهم قتلوهم شر قتلة في قزوين الأمر الذي شجع كلا من علماء قزوين والأهالي على إعادة الكرة على الطاهرة. في هذه المرة عزموا على ألا تخرج الطاهرة من قزوين وهي على قيد الحياة، وبأن تقتل، اذا لزم الأمر، سرًا وبغاية.
عندما وصل إلى الطاهرة نبأ هذه المؤامرة الجديدة، لم تخف، وعلى الفور كتبت إلى مطلقها الذي أصبح رئيس العلماء في قزوين خطابًا جريئًا تتحداه فيه بان ينهي حياتها أذا كانت هذه هي أمنيته قائلة:
” إذا كان الأمر الذي أتبعه هو الحق. فسوف يخلصني الله من نير ظلمك قبل مرور تسعة أيام. وإذا لم بنقذني الله من يدك فأنت حرّ لتفعل بي ما تشاء”.
منذ اللحظة الأولى شددت الحراسة على الطاهرة أكثر من ذي قبل، وبالرغم من جميع احتياطاتهم المكثفة تمكنت الطاهرة، في عشية اليوم التاسع، وًبكل هدوء، تخليص بنفسها من الحبس في قزوين. أحدث اختفاؤها المفاجئ والغامض الذي سبق وتنبأت به الغضب والدهشة وادخل الخوف في قلوب أعدائها وسبب القلق لأصدقائها. قضى المسؤولون الليل يفتشون كل منزل في قزوين بحثًا عنها دون جدوى. في هذه الأثناء وصلت الطاهرة إلى العاصمة طهران حيث أمضت أيامًا سعيدة في التبليغ وملاقاة البابيين الذين جاءوا إلى العاصمة من سائر أنحاء إيران.
وبالرغم من تربص الأعداء لها على طول الطريق تمكنت الطاهرة الإفلات منهم ووصولها متخفية إلى طهران وبذلك انتهت هذه الأيام الخالية من المتاعب. وفي بداية صيف عام 1848 م. وصل نبأ عن اجتماع البابيين في قرية تدعى بدشت بخرسان… فغادرت الطاهرة العاصمة على الفور للالتحاق بهم.
حدث قبل موقعة طبرسي أن احتشد واحد وثمانون فردًا من كبار أتباع الباب في قرية تدعى بدشت من بينهم القدوس للتشاور في أمر اللباب الذي ما زال محبوسا. كان للاجتماع غرضان:
أولهما: تقرير الخطوات التي يجب اتخاذها لكيلا ينظر إلى دين الباب على أنه
مذهب إسلامي، بل دين جديد مستقل له رسوله وكتابه الخاص.
ثانيًا: البحث عن الوسائل التي يمكن بها إطلاق سراح الباب من سجنه القاسي في جهريق.
لقد نجح المؤتمر في غرضه الأول وفشل في الثاني. كان البابييون يتشوقون للانفصال الكلي عن الأحكام الدينية التي مضى زمنها، والتخلص عن نظام المشيخة والعادات والتقاليد القديمة. كانت الطاهرة نفسها أداة لهذا الفصل، وأصبحت الرمز الظاهر له عندما ظهرت في أحد الأيام سافرة الوجه بعد أن نبذت هذا الحجاب الذي كان يرمز إلى انحطاط مركز المرأة.
وقع هذا الحدث وقوع الصاعقة، حتى على زملائها المؤمنين الذين صدموا منه. فوقفوا مشدوهين من هذا المنظر غير المتوقع والذي لم يحدث من قبل. بدا الفرح والانتصار على وجهها معلنة بزوغ فجر يوم جديد ونهضت من مقعدها بوقار واطمئنان، غير مبالية من الضجيج الذي حدث من جراء ظهورها سافرة. لقد كان من الأمور الشائنة ان ينظر الرجال إلى وجهها السافر. بيد ان الطاهرة كانت عالمية في نظرتها، فقد أدركت أن تعاليم (حضرة)الباب قد جرفت أمامها كلّ تقاليد الماضي القديمة المحدّدة. وأن الظلم والعبودية اللذين كانا يمارسان على الرجال والنساء في طريقهما إلى الزوال. وقفت الطاهرة أمامهم يشع النور من جمالها الظاهر والباطن. ونادت بصوت عالٍ تقول:
” أنا صوت الصافور… أنا النفخة في الصور”.
تابعت الطاهرة هي تبتهج فرحًا نداءاتها فأعلنت إن أيام الخوف وإذلال خلق الله قد ولّت بلا رجعة. تذكر بعض من الحاضرين يومذاك النبوءة التي تبشر بأن فاطمة الزهراء سوف تظهر في يوم الموعود دون حجاب. وربما قد تذكر آخرون صوت “الصافور” “والنفخ في الصور”، المذكورين في القرآن الكريم عن آخر الزمان. أنهت الطاهرة نداءها بدعوة جميع الحاضرين للاحتفال بهذه المناسبة العظيمة بما يليق بها وأعلنت:
” هذا يوم الابتهاج والسرور العالمي، اليوم الذي تحطمت فيه قيود الماضي. لينهض كل من شارك في هذا الفوز العظيم ويتعانقوا”.
وبعد بضعة أيام انفض المؤتمر وتفرق حمل كل واحد منهم الأنباء المثيرة إلى منطقته الخاصة عن هذه الحوادث الخطيرة التي وقعت في بدشت وليعلنوا للعالم عن بزوغ فجر يوم جديد
حدث أثناء عودت الطاهرة إلى طهران أن اعترضتها جماعة من الذين كانوا يبحثون عنها فألقوا القبض عليها وأرسلوها تحت الحراسة إلى العاصمة حيث أحضروها أمام الملك فقال معلقًا لدى رؤيتها: ” يعجبني منظرها دعوها وشأنها”.
سجنت الطاهرة بعد ذلك في منزل رئيس بلدية طهران، محمود خان. أرسل الملك إليها خطابًا وهي في ذلك المنزل يحثها فيه على إنكار دعوة الباب وعودتها مسلمة حنيفة، ووعد بأنها إن فعلت ذلك أعطاها منصبًا عاليا، كمشرفة على حريم قصره، بل لاختارها عروسًا له. فأجابته على ظهر خطابه بأبيات من الشعر قالت فيها ما معناه:
” فليكن لك الملك والجاه والهيمنة
كفاني نهج طريق التزهد والمسكنة”.
تأثر الملك تأثرًا عميقًا حين قرأ ردها وتحدث عن شجاعتها وروحها قائلاً: ” حتى الآن لم ينجب لنا التاريخ امرأة ندا لها.
أعطيت الطاهرة أثناء سجنها في منزل المحافظ، رئيس بلدية طهران، قسطًا وافرًا من الحرية. كانت الطاهرة ما تزال منتعشة بحماس بدشت وحماوته فتابعت بحرارة نشر دعوة (حضرة)الباب وصلت شهرة الطاهرة وشعبيتها خلال هذه الفترة في طهران إلى أوجها. فقد استنكرت علانية تعدد الزوجات والحجاب، وكافة القيود التي كبلت بنات جنسها ظلمًا خلال قرون عديدة من الزمان في الشرق. وأثارت النساء بتبيينها لهن الأدوار المنحطة التي فرضتها عليهن عقيدتهن الغابرة، وجذبتهن إلى جانبها بعد أن اطلعتهنّ على ما منحته شريعة الباب للمرأة من احترام وحرية وكرامة.
كتب السير فرانسيس يونغ هزبند عن حياة الطاهرة قائلا:
” بلغ أيمانها درجة إنها مع ثروتها ونبلها تخلت عن المال والبنين والشهرة والجاه في سبيل خدمة سيدها، وكرّست نفسها لإعلان وتأسيس تعاليمه”. وفي مكان آخر أضاف قائلاً: ” كانت حلاوة بيانها على شأن جذبت إليها الضيوف من حفل عرس بدلاً من الإنصات إلى الموسيقى التي أعدها المضيف”.
و كتب الكونت دي جوبينو عن الطاهرة يقول:
” يتذكر الكثيرون ممن عرفوها أو استمعوا إليها في أوقات مختلفة أنها فضلاً على ما اشتهرت به من علم وسعة اطلاع، فان القائها كان من السهل الممتنع، فاذا تحدثت تأثر مستمعوها تأثرًا عميقًا من حديثها، وكثيرًا ما أفاضت أعينهم بالدمع من شدة أعجابهم”.
أثارت الطاهرة العاصمة بأكملها بدرجة جعلت السلطات المسؤولة تتخذ أخيرًا اجراءات نحوها. وأرسلت الحكومة وفدًا خاصا ليحاجوها في معتقداتها. عقدوا معها سبعة مؤتمرات قدمت الطاهرة خلالها الحجج والبراهين التي تثبت أن (حضرة)الباب هو الموعود الإلهي المنتظر، مستندة على ما ورد في القرآن الكريم من آيات لإقناعهم. وفي الجلسة الأخير ضاقت الطاهرة ذرعًا بعنادهم ورفضهم قبول أي شيء غير التفسير الحرفي للآيات والأحاديث وخاصة بعض النبوءات فصاحت في الجمع قائلة:
” إلى متى تتمسكون بهذه الخزعبلات والأضاليل … حتى تستطيعون النظر إلى شمس الحقيقة؟”.
صعق متهموها من موقفها هذا. فعادوا إلى منازلهم وأصدروا حكمًا بإدانة الطاهرة قائلين انها رفضت التخلي عن عقيدتها. وبناء على توصيات هذا الوفد صدر الحكم بإعدامها.
شددت الحراسة بعد ذلك على الطاهرة، ووضعت في غرفة منفردة في بيت محمود خان رئيس البلدية. تعلقت زوجة محمود خان بالطاهرة تعلقًا شديدًا مع انها لم تكن بابية. وقبل أن تؤخذ الطاهرة للقتل أصبحت هذه السيدة صديقة متفانية وتركت لنا هذه القصة:
” ذهبت ذات ليلة إلى حجرة الطاهرة فوجدتها مرتدية ثوبًا من الحرير الأبيض الناصع فعبرت عن دهشتي. فقالت: ” انني استعد للقاء محبوبي، وأريد أن أخلصك من انشغال البال والقلق الذي تلاقينه من جراء سجني”.
في بادئ الأمر ذهلت وأخذت أبكي حين فكرت في فراقها. فواستني قائلة:
” لا تبكي فالساعة التي سوف أتجرع فيها كأس الشهادة تقترب مسرعة. ورغبتي هي أن يُلقى جسدي في بئر يُملأ بعد ذلك بالتراب والأحجار. ورجائي الأخير هو أن لا تسمحي لأحد بالدخول إلى حجرتي. وإلى ان يحين الوقت الذي استدعى فيه لمغادرة هذا المنزل، لا تدعي أحدًا يقطع صلواتي. فقد عزمت على صوم لن أقطعه حتى أُلاقي محبوبي وجهًا لوجه”.
بهذه الكلمات رجتني أن أقفل باب حجرتها وألا أفتحه حتى تدق ساعة الفراق. أغلقت الباب خلفي وعدت إلى حجرتي وأنا في أشد حالات الحزن. رقدت على الفراش كئيبة بلا نوم، كان التفكير باقتراب استشهادها أقوى من أن أتحمله. ولعجزي عن تمالك نفسي نهضت عدة مرات وتسللت إلى عتبة غرفتها ففتني حلاوة صوتها وهي تتغنى بالثناء على محبوبها”.
واصلّت الطاهرة طوال الليل صلواتها وتسبيحها عسى أن تكون قابلة للقاء الله القدير الذي تمنت أن تُفدي بحياتها في خدمته.
تستعيد زوجة محمود خان المحافظ ذكرى إعدام الطاهرة بالكلمات التاليات:
” بعد الغروب بأربع ساعات سمعت طرقًاغ بالباب. فأسرعت إلى نجلي وأخبرته بآخر رغبات الطاهرة، فوعد بتنفيذها كلها. فتح نجلي الباب وأخبرني بأن أعوان عزيز خان سردار المكلف بإعدام الطاهرة واقفون عند باب المنزل الخارجي يطلبون تسليم الطاهرة إليهم.
أخذني الرعب من وقع هذا النبأ، وحين تمايلت إلى حجرتها وبيد مرتجفة فتحت الباب، فجدت الطاهرة متحجبة ومستعدة لمغادرة الحجرة. وبمجرد أن رأتني اقتربت مني وقبّلتني، ووضعت في يدي مفتاح صندوقها الذي تركت فيه بعض الأشياء الزهيدة تذكارًا لإقامتها في منزلي. وخاطبتني قائلة:
“أتعشم أن تتذكريني وتفرحي لفرحي كلما فتحت الصندوق وشاهدت ما فيه”.
بهذه الكلمات ودّعتني الوداع الأخير. يا لها من آلام شديدة تملكتني في تلك اللحظة وأنا أشاهد جمال هيكلها يتوارى عن الأنظار وهو يبتعد.
امتطت الطاهرة الجواد الذي أرسله إليها عزيز خان سردار وارتحلت برفقة نجلي وبعدد من أعوان عزيز خان يحيطون بها من كل جانب. اقتادوا الطاهرة إلى حديقة خارج أسوار طهران. كان عزيز خان سردار وضباطه غارقن في عربدة السكر، وكانت وجوههم محتنقة من فعل النبيذ وهم يقهقهون بالضحك العالي، غير ابهين بقدوم الطاهرة.
نزلت الطاهرة من على ظهر جوادها والتفتت إلى ابن المحافظ الذي كان يرافقها فطلبت منه أن يكون وسيطًا بينها وبين عزيز خان سردار وقالت:
” أنا لا أميل إلى مخاطبة جلاّدِيَّ الغارقين في سكرهم وعربدتهم، انهم سيرغبون في خنقي، وقد احتفظت بمنديل حريري منذ أمد طويل أرجو أن يستعمل لهذا الغرض. ها أنا أسلمك إياه”.
اقترب الشاب لمقابلة عزيز خان سردار، وفيما كان يتقدم نحوه أومأ السردار إليه بالابتعاد عنهم صارخًا:
“لا تقطع علينا جو مرحنا”. ثم استرسل في القهقهة الصاخبة واتجه ثانية إلى زملائه. ونادي حاشيته قائلاً:
“لتخنق تلك الشقية التعسة، وليُلقَ بجثتها في حفرة”.
أعطى الصبي المنديل للأعوان. وقدم هذا الشاب بنفسه وصف شاهد عيان لتلك اللحظة الخطيرة والمؤلمة بقوله:
“وافقوا على تلبية رغبتها. لفواّ المنديل حول عنقها وجعلوه أداة لاستشهادها. أسرعت فورًا إلى البستاني وسألته ان يدلني على مكان يصلح لإخفاء الجثة، فأرشدني إلى بثر حفرت حديثًا وترك دون إتمام. وبمساعدة بضعة أفراد أنزلت جثة الطاهرة إلى مثواها الأخير وملأت الحفرة بالتراب والحجارة تماما حسب رغبتها. وقد تأثّر أولئك الذين شاهدوها في لحظاتها الأخيرة تأثرًا عميقًا”.
يصرّح طبيب الشاه النمساوي الدكتور جاكوب بولاق {Dr. Jakob Polak} في كتابه الذي وضعه عام 1856 قائلاً إنه كان شاهد عيان للطاهرة في ساعاتها الأخيرة وأنها صبرت على إعدامها بجلد يفوق قدرة البشر.
عاد الشاب إلى المنزل وأخبر أمه بما حدث.
قالت الأم فيما بعد:
” لقد بكيت بكاءً مرًّا حين كان نجلي يروي لي هذه القصة المفجعة”. وعندما وقفت أمام الصندوق الذي أعطته لها الطاهرة، تساءلت عما دفع امرأة عظيمة كالطاهرة لنبذ جميع هذه الثروات والعزة التي كانت تحيط بها، وتقرن نفسها بدعوة شاب شيرازي مغمور، فما هو سر تلك القوة التي انتزعتها من منزلها وذوي قرابتها وشدت أزرها حتى القبر… هل كانت يد الله حقا التي كانت ترشدها؟
وهكذا انتهت حياة الطاهرة التي كانت من أعظم تلاميذ (حضرة) الباب. وأول امرأة أيضًا تجرعت كأس الشهادة في سبيل حقوق المرأة. وحين دنت ساعة موتها التفتت إلى أحد حراسها وبكل جسارة قالت:
” في استطاعتك قتلي في أي وقت تشاء لكنك لن تستطيع وقف تحرير المرأة”.
كانت حياتها باهرة، قصيرة، مأساوية، ومليئة بالأحداث. انتشرت شهرة الطاهرة بنفس السرعة التي انتشرت بها شهرة الباب الذي كان مصدر الهماها المباشر.
يقول اللورد كرزون {Lord Curzon} في كتابه عن إيران بصراحة:
” فالعقيدة التي تبعث في قلوب أتباعها مثل هذا الروح الناد الجميل من التضحية والفداء، لا بد أن تكون مبادئها ذات شأن لا يستهان”.
كما طلبت سارة برنهارت { Sarah Bernhardt } الممثلة الشهيرة إلى الكاتب المسرحي كاتول مانديز {Catulle Mendes} أن يكتب مسرحية درامية عن حياة الطاهرة أطلق عليها اسم ” جان دارك الفارسية”.
وأثنى معلق مشهور على الطاهرة وعلى حياة الباب وتلامذته بأن أطلق عليها اسم ” معجزة العلم وآية الجمال”. ويشهد لها اللورد كرزون قائلاً:
” إن بطولة الشاعرة الجميلة السيئة الحظ تعتبر من أكثر فترات التاريخ الحديث تأثيرًا”.
وقال المستشرق البريطاني البروفسور أ.ج. براون أنه ” لو لم يكن لدين الباب ادعاء آخر بالعظمة سوى أنه أنجب بطلة كالطاهرة لكفاه ذلك”.
وأضاف قائلاً:
“إن ظهور امرأة كهذه في أي بلد وأي عصر ظاهرة نادرة الوقوع، ولكن ظهورها في بلد كإيران هو أعجوبة بل يكاد يكون معجزة”.
وكتب السياسي الفرنسي كونت دي جوبينو عنها يقول: “لها كل الحق في أن تكون أعجوبة “.
أما الدكتور ت. ك. شين، القس البريطاني الشهير، فقد قال عنها:
“هذه المرأة النبيلة… لها الفخر بأنها الفاتحة لسجل الإصلاح الاجتماعي في إيران”.
وكتب السير فالانتاين شيرول {Sir Valentine Chirol} :
” لا توجد ذكرى تنال احترامًا أعمق أو تشعل حماسًا أعظم من ذكراها والتأثير الذي كانت تمارسه خلال حياتها مازال يفيد بنات جنسها إلى يومنا هذا”.
ويهتف الشاعر التركي المعروف سليمان ناظم بك قائلاً:
” أيتها الطاهرة…لعمري أنك تساوين ألف ناصر الدين شاه”.
وتقول مريانا هاينس {Marianna Hainisch} والدة أحد رؤساء حمهورية النمسا:
” إن الطاهرة كانت ومازالت أعظم مثل أعلى للمرأة”.
ومن أبلغ ما قيل عن الطاهرة من قبل المؤرخين الذين تتّبعوا حياتها ما يلي:
“يندهش المرء وهو ينظر إلى حياتها القصيرة من حماسها المتأجج، وانقطاعها التام عن الدنيا وما فيها. فقد كان العالم بالنسبة لها في الواقع مجرد حفنة من التراب”.
كانت الطاهرة وفية لرسالة الباب منذ اللحظة الأولى التي قبلت فيها دعوته حتى ساعة موتها. ولم تنثنِ أو تحد لحظة واحدة عن إيمانها الراسخ الذي عبرت عنه في رسالة بعثتها للباب في الأيام الأولى بشيراز، حيث قالت:
لم لا تقول الست بربكم حتى نلبيك ببلى بلى
عاشت الطاهرة وماتت وفيّة لما قالته في طهران بكل جرأة، منذ وقت بعيد، لأحد تلاميذ الباب العظام في إحدى الأمسيات. كانت تستمع مع جماعة من المؤمنين إلى خطبة شيقة بليغة يلقيها وحيد عن رسالة الباب ويتحدث فيها عن علامات وبراهين مجيء (حضرة) الباب. أصغت الطاهرة بعض الوقت وهي صابرة ثم قاطعته فجأة وصاحت:
” دع الأعمال لا الأقوال تشهد لإيمانك، إن كنت ذا علم رشيد. كف عن تكرار هذه الأحاديث القديمة عبثًا فقد جاء وقت الخدمة والعمل الراسخ. والآن وقت إعلاء كلمة الله وتضحية نفوسنا في سبيله. فلتكن زينتنا الأعمال لا الأقوال”.
لقد برهنت الطاهرة بموتها على صدق تلك الكلمات في حديقة تحت ظل أعظم مدن فارس.
إن العقاب نفسه الذي لا مفر منه الذي قضى على أعداء الأمر دون رحمة في شيراز وأصفهان وتبريز طبرسي، برز مرة أخرى ضد مضطهدي الطاهرة. فالملك الذي علم براءتها وكان في استطاعته إنقاذها كتب له فيما بعد أشد ضربة من العقاب. وعمها تقي الذي صفعها بوحشية، قتل على يد قاتل. ومحمود خان رئيس بلدية طهران الذي سجنها في منزله زهاء ثلاث سنوات وتعاون مع رئيس الوزراء على إعدامها، لاقى موتًا مشابهًا لذلك الذي سمح بحدوثه للطاهرة. فقد أصدر الملك أمرًا بإعدامه، وطلب من الجلاد أعداد حبال تلف حول عنقه حتى يختنق. وأمر الملك بترك جثة رئيس البلدية معلقة على المشنقة عبرة لغيره.
كانت الطاهرة في أوج جمالها وقوتها عندما قتلت في أغسطس عام 1852 وهي في السادسة والثلاثين من عمرها. لقد لقبها السيد كاظم ب”قرة العين”. وأطلق آخرون عليها اسم ” زرين تاج” أي ذات التاج الذهبي ولكن الاسم الذي سيظل في قلوب قومها هو “الطاهرة”.
Faithful .p. 291-298 Memorials of the
الآن حان وقت وحيد الذي بعثه الملك نائبًا شخصيًا عنه لتحري صدق دعوة الباب، كي تبتلعه موجة الاضطهاد الشاملة.
أسرع وحيد إلى طهران في الأيام الأولى من حصار قلعة طبرسي للقيام بالترتيبات اللازمة لانضمامه إلى الملا حسين والقدوس داخل القلعة. كان على وشك مغادرة العاصمة حين علم بفوات الأوان، فقد ألقى القبض على أصحابه أو قتلوا.
التقى وحيد خلال زيارته هذه إلى طهران بأحد أصحابه الذي دوّن في مذكراته عن ذلك اللقاء قائلاً:
“لاحظت على وجهه الجليل علامات القدرة والمجد، ما لم ألاحظه أثناء سفرتي الأولى معه إلى العاصمة أو حتى في مناسبات أخري… وردد مرات عدة أثناء حديثي معه هذه الكلمات:
“هذه هي رحلتي الأخيرة، ولن تراني بعد الآن”.
وأحيانًا عندما ينفرد بنا المقام والوقت المناسب للاسترسال في حديث ودي، يشير قائلاً:
“أقسم بذلك المحبوب الذي نفسي في قبضة قدرته أنني أعرف، وأستطيع أن أقول أين وكيف سأقتل وعلى يد من سيكون قتلي، فما أبهى وأسعد أن يسفك دمي لإعلاء كلمة الحق”.
سافر وحيد بعد زيارته الأخيرة لطهران إلى قزوين مسقط رأس الطاهرة، ومنها إلى قم وكاشان وأصفهان، وأردستان وأردكان. قابل في كل من هذه المدن زملاءه المؤمنين، وعمل على إنعاش حماسهم وتعزيز مجهوداتهم وشرح لهم تعاليم الباب الأساسية بكل شجاعة وحماسة، ونجح في كسب عدد لا بأس به من أكابر القوم وأشهرهم إلى دعوة (حضرة) الباب. وهكذا أصبح وحيد هدفًا مهمًا لرئيس الوزراء وسائر أعداء الباب.
كانت قصة تحري وحيد لدعوة الباب نيابة عن الملك السابق ورئيس وزرائه معروفة لدى الناس كما أن موافقتهما على الالتزام بما يتمخض عن بحثه كانت مشهورة كما كان نكثهما للعهد معروفًا أيضًا عندما سمعا أن وحيدًا قد أصبح بابيًا.
كان وحيد رجل نفوذ عظيم، ورجل مال وشهرة. وبالإضافة إلى منزله الجميل في يزد الذي تسكنه زوجته وأولاده الأربعة كان له منزل آخر في داربا وثالث في نيريز اشتهرت جميعًا بأناقتها ورياشها الفاخرة.
زار وحيد عيد رأس السنة الإيرانية الذي صادف يوم الاحتفال بإعلان بعثة الباب منزله في يزد فخرج للقائه والترحيب به أكابر القوم والزعماء الدينيون من بينهم نوّاب رضوى، ألد أعدائه خصومة. استاء نواب رضوى من روعة استقبال وحيد وبخبث أشار بأن وحيد لا يحتفل في الحقيقة بعيد رأس السنة قائلاً: ” إن ولائم الشاه الملكية لا تكاد تضارع هذه الوليمة المتسمة بالإسراف، وأخشى أنكم تحتفلون بعيد آخر بالإضافة إلى العيد القومي الذي نحتفل به”.
وبجسارة رد عليه وحيد بتهكم، مما أثار ضحك الحاضرين، وصفقوا لهذا الرد اللاذع. لأنهم كانوا يعرفون خسّة وشناعة نواب رضوى. فاشتعلت نار الغضب في قلبه، ووعد نفسه أنه لو كان بوسعه لقتل وحيد شر قتلة على فعلته هذه.
انتهز وحيد هذه المناسبة وأعلن دون تحفظ للحاضرين مبادئ دعوة الباب. انجذب البعض بصورة لا يمكن مقاومتها. وعارضها البعض في قلوبهم لعدم مقدرتهم على تحدي دفاع وحيد الناجح عن دينه الجديد. فانضموا إلى نواب رضوى في إعداد خطة سريعة للإطاحة بوحيد.
كتب نيقولاس في تاريخه عن هذه الفترة يقول:
” قال الشاعر الحب والكتمان أمران لا يجتمعان”، لذا شرع وحيد بالتبليغ جهرًا في المساجد والشوارع والأسواق وفي الميادين العامة وباختصار حيثما وجد أذنًا صاغية. أثمر هذا الحماس عن دخول الناس في دين الله أفواجًا، الأمر الذي سبب اضطرابًا عظيمًا بين رجال الدين فأعلنوا بغضب استنكارهم إلى الحاكم مدعين أن وحيد قد هتك حرمة الدين”.
اتفق جميع رجال الدين على نقطة حيوية واحدة هي أنه يجب القضاء على حياة وحيد. وأذاعوا أخبار الوليمة التي أقيمت في عيد رأس السنة قائلين:
“ومع أن مستمعيه كانوا من أكابر المجتهدين في يزد فلم يحتج أحد منهم ولو بكلمة على إعلانه لدعوة الباب. وقد تسبب هذا الصمت في زيادة موجة الحماس التي اجتاحت المدينة وانضم تحت لوائه نصف سكان المدينة بينما النصف الآخر ينجذبون إليه بخطى سريعة”.
انتشر هذا الإعلان في جميع المقاطعات المحيطة بيزد انتشار النار في الهشيم، فأشعل نار الحقد، ولكنه، في نفس الوقت، جلب أناسًا كثيرين من القرى والمدن البعيدة تقاطرون زرافات إلى بيت وحيد للاستماع إلى رسالة الباب. واعتنق عدد كبير منهم الدعوة.
سألوا وحيد قائلين: “ماذا تفعل بعد ذلك؟ وكيف نبرهن على عمق وصدق إيماننا لدعوتنا؟”. كان وحيد يقضي يومه منذ الصباح الباكر إلى ساعة متأخرة من الليل في تعليمهم والإجابة على أسئلتهم وحثهم على العودة إلى ديارهم وتبليغ أهل قراهم.
استمر هذا النشاط التبليغي الحارّ مدة أربعين يومًا. أصبح منزل وحيد خلالها مركزًا لتجمع المؤمنين والمؤمنات. وأخيرًا تمكن نواب رضوى من إقناع الحاكم في يزد بأنه إن لم يعتقل وحيد، فسرعان ما تنقلب المدينة وتثور على حكومة الملك، وسوف يكون الحاكم نفسه موضع اللوم. كان الحاكم جديدًا في منصبه وصغيرًا في سنه وضنينا في لخبرته. أخذ نواب رضوى يتوسل إليه يومًا بعد يوم لإرسال قوة مسلحة تحاصر منزل وحيد وتضع حدًا لنشاطه. وأخيرًا قال نواب للحاكم: “ألم يشجع رئيس الوزراء نفسه كل شخص على استعمال القوة والعنف ضد البابيين؟ و هل يكون وحيد عالي القدر من الشهرة والمكانة و النبل بحيث لا يدخل في هذا الصنف؟ أليس هو في الحقيقة شر المسيئين جميعًا؟
وأخيرا رضخ الحاكم لتوسلاته وأمر بخروج مفرزة من الجند لحصار منزل وحيد. ومن ناحية أخرى أسرع نواب فأصدر أوامره وتعليماته الشخصية إلى الغوغاء من الناس الذين قد سبق وأعدهم لمثل هذه الفرصة وأخبرهم بكل فرح بأن الحاكم قد وقع في شباكه، وبأن وحيدًا هو الآن هدف للهجوم الواقع عليه، وحث هؤلاء الناس على التوجه إلى منزل وحيد والعمل بكل ما في وسعهم، وإمعانًا في مزلته قائلاً لهم: “لا داعي بعد الآن لكبح سخطكم وشعوركم الحق بالغضب”. وكان يقصد بذلك أن قتل وحيد أمر ممدوح في نظر الله.
وصلت كتيبة من الجيش مصحوبة بجموع غفيرة من الناس وحاصرت المنزل حين كان وحيد واقفًا عند نافذة الطابق العلوي يخطب في جمع كبير من الأصحاب الذين تجمعوا في فناء منزله. جزع أصحاب وحيد من رؤية الجند وجمهور الغوغاء المتهيج. فالتفتوا حول وحيد في انتظار أوامره. قام حسن الخادم بتسريج جواد وحيد سريعًا وأحضره إلى ساحة الدار تحت النافذة لكي يهرب وحيد وينجو بنفسه. ناشد وحيد أصحابه أن يلزموا الهدوء والسكينة قائلاً: ” لا تخافوا فبعد قليل سيشتت جمع هؤلاء الذين أحاطوا بنا ويولون الأديار”.
أشار وحيد إلى جواده الواقف في فناء منزله وقال: “هذا هو الجواد نفسه الذي أعطاني إياه الملك الراحل لأمتطيه للقيام بمهمتي وهي تحري طبيعة أمر الباب تحريًا نزيهًا. وطلب الملك أن أوافيه شخصيًا بنتيجة تحرياتي لأنني حسب قوله كنت الوحيد بين العلماء الدينيين في طهران الذي يعتمد عليه اعتمادًا تامًا”.
وتابع قائلا:
“قمت بالمهمة ممتطيًا هذا الجواد بعينه وعازمًا على دحض حجج الباب وبراهينه وإثبات تفوقي عليه. كنت مصممًا على سحقه بعلمي الفائق وإجباره على الاعتراف بزعامتي، ثم أخذه معي إلى طهران كشاهد عيان للنصر الكامل الذي أحرزته. ففي مقابلتي الأولى معه انكسرت شوكتي. وفي نهاية المقابلة الثانية أحسست بعجزي وجهلي، وفي الثالثة وجدت نفسي أحط من التراب تحت قدميه. وقد تجلى لي على حقيقته، الموعود المنتظر، المجسم الحي للروح الأمين”.
لم يكترث وحيد من الأعداء الذين كانوا يحاصرون منزله. فما قيمة أي حدث من حوادث العالم في نظره سواء أكان مفرحًا أم محزنًا. وقال لأصحابه:
“منذ ذلك اليوم وأنا أشتاق أن أفدي حياتي من أجله. أنا سعيد جدًا لأن ذلك اليوم الذي طالما كنت أنتظره يقترب سريعًا”.
اضطرب الأصحاب وخافوا لاعتقادهم أنه كان يشير إلى ذلك اليوم وتلك الساعة التي كان فيها الجند والسوقة يستعدون لمهاجمتهم. ولما شاهد وحيد فزعهم، حثهم على التزام الهدوء والصبر قائلاً: “أيقنوا بأن الله المنتقم سوف ينزل قريبًا بيده الغيبية هزيمة ساحقة بهذا الجيش المحتشد ضدّنا”.
بعد قليل من تفوه وحيد بهذه الكلمات، وصلت الأنباء تقول إن عددًا كبيرًا من الأصحاب الموالين لوحيد يقتربون من منزل وحيد لتخليصه. انقض رجال فرقة الإنقاذ هذه على المهاجمين. وكانت شجاعة المهاجمين وعدم اكتراثهم للموت إلى درجة أفزعت مفرزة الجند والناس بأكمله وتشتت جمعهم. ترك الجند سلاحهم وفروا باحثين عن مأوى، كما تفرق الغوغاء في كل الأنحاء وهم يصيحون طلبًا للعون. أرسل وحيد مناديًا ينادي في الناس ويحذرهم بأنه لا يرغب في مهاجمة أحد منهم، بل يريد الدفاع عن نفسه وبيته. حدثت بعد ذلك مناوشات أخرى بين جنود الحاكم وأصحاب وحيد انتهت بهزيمة جنود الحاكم. أمر وحيد أصحابه بأن يتفرقوا إلى حيث سلامتهم. علم وحيد أن ساعة رحيله من يزد قد أزفت فأحضر زوجته وطلب منها أن تأخذ الأولاد وجميع ممتلكاتهم وتذهب إلى منزل والدها لسلامتهم. أمرها بترك كافة ممتلكاته الشخصية في المنزل قائلاً لها:
“لقد شيدت هذا المنزل الفخم لغرض واحد هو أن يهدم في النهاية في سبيل أمر الله. واخترت له أفخر الأثاث آملاً في تقديمها جميعًا يومًا ما قربانًا لمحبوبي”.
حاول وحيد إفهام زوجته قائلاً، في ذلك اليوم سيعلم الصديق و العدو أنّ الذي يملك هذا البيت يملك كنزًا آخر ثمينًا على شأن لا يعادله في نظره قصر أرضي مهما كان فخمًا، فما هذا البيت إلاّ كومة من العظام تتهافت عليها فقط كلاب الأرض.”
ودع وحيد زوجته العزيزة وأطفاله وداعًا لطيفا. وفي منتصف تلك الليلة جمع وحيد كتابات الباب التي كانت بحوزته وأعطاها لخادمه حسن، وأمره أن يأخذها وينتظر وصوله خارج باب المدينة. طلب منه أن يسلك طريقًا معينة لأجل سلامته، وحذره قائلاً: “لا تهمل تعليماتي وإلا لن نلتقي مرة أخرى”.
ركب حسن حصانه واستعد للرحيل. سمع حسن صيحات دورية الحراس الذين كانوا يحرسون المدينة أثناء الليل، خاف أن يقبضوا عليه ويستولوا على ما معه من المخطوطات فسلك طريقًا آخر ظنه أكثر سلامة إلى باب المدينة. وعندما كان مارًا بأحد أحياء المدينة عرفه الحراس فصاحوا: “ها هو خادم وحيد”. فأطلقوا النار عليه وقتلوا حصانه وألقوا القبض عليه حيًا.
سلك وحيد في هذه الأثناء الطريق الذي رسمه لخادمه ووصل وحيد سالمًا إلى خارج المدينة. اندفع الأعداء بقيادة نواب إلى منزل وحيد في الوقت الذي غادر فيه يزد فسلبوا ممتلكاته، وحملوا معهم جميع أثاث المنزل ثم دمروه تدميرًا. انطلق وحيد على الفور باتجاه منزله في نيريز. قطع في الليلة الأولى هذه عشرين ميلاً سيرًا على الأقدام حتى وصل أخيرًا إلى قرية يسكنها أخوه. لم يدخل وحيد بيت أخيه، بل نصب خيمته على جبل مجاور. وما أن علم أخوه بوجوده حتى أرسل إليه كل ما يحتاجه من خيل وطعام في سفره إلى نيريز.
أرسلت قوة من جنود الحاكم لمطاردة وحيد. اقتفوا أثره إلى قرية أخيه وفتشوا المنزل الذي اشتبهوا باختباء وحيد فيه وعندما لم يعثروا عليه هدّدوا من غيظهم وفشلهم بالاستيلاء على كل ما استطاعوا حمله من ممتلكات أخيه. وقاموا بمزيد من البحث حول القرية ولكنهم لم يعثروا على خيمة وحيد في الجبل. وعادوا إلى يزد يجرون وراءهم أذيال الخيبة.
لم يخمد غضب نواب رضوى بعد. نعم إن نشاط وحيد في التبليغ قد توقف، ولكن وحيد قد نجا بنفسه. لم يكلف نواب نفسه مشقة تعقبه، بل ترك ذلك إلى الحاكم، وبدلاً عن ذلك قام هو بالتعاون مع كبار علماء يزد باتخاذ خطوات أكثر نفعًا له.
دوّن نيقولاس تلك الخطوات التي قام بها رضوى بعد مغادرة وحيد قائلاً:
“تنفس رضوى الصعداء. وإلى جانب ذلك رأى أن تتبع الهارب قد ينطوي على بعض المخاطر وأنه من الأوفق والأسلم والأكثر نفعًا والأقل خطرًا إلى حد بعيد هو تعذيب البابيين أو من يفترض كونهم بابيين شريطة أن يكونوا من الأغنياء ممن بقوا في المدينة. وأخذ في البحث عن أكثرهم غناءً وازدهارًا وأمر بقتلهم ومصادرة أموالهم بذلك انتقم لدينه الذي انتهكت حرمته، الأمر الذي قد لا يعنيه كثيرًا وملأ خزانته بالأموال التي هي شاغله الوحيد”.
وبعد أن فشل رجال السلطة في خططهم للقبض على وحيد و قتله، اضطروا للاكتفاء بتعذيب خادمه حسن. فاقتادوه إلى فوهة مدفع محشو ظنًا منهم أنهم بذلك يدخلون الرعب في قلبه فيلتمس منهم الرحمة فيجبرونه على إنكار عقيدته. على أي حال لم يكن حسن سوى خادمًا، أما وحيد فهو ذو نبل وعلم عظيمين ولا شك أنه يدرك لما يفعله، لكن هذا الخادم الجاهل فمن اليقين أنه سينقذ نفسه خاصة بعد ذهاب سيده. فإذا تمكنوا من أن يجعلوه يلتمس الرحمة، استطاعوا أن يطبلوا ويزمّروا لإنكاره دينه ويكون هذا على الأقل وسيلة لتحقير وحيد.
أعطى الضابط أوامره التي زعم أنها ستجعل حسنًا يخضع، وصاح قائلاً: “أوثقوه وظهره إلى فوهة المدفع”. فقال حسن متوسلاً: “لا … لا تفعلوا بي هكذا”.
ابتسم الضابط فرحًاً فقد حدث ما كان يتوقعه. ولكن الابتسامة ماتت على وجهه وانقلبت غضبًا حين تابع حسن توسلاته قائلاً: “لا تربطوني وظهري إلى المدفع بل اربطوني إليه وجهًا لوجه، حتى أشاهده وهو ينطلق”.
اندهش المدفعون والمتفرجون الحاضرون من رباطة جأش حسن وفرحته. وقالوا في أنفسهم: “إن المرء الذي يستطيع أن يكون مبتهجًا في ظرف كهذا، لا بد وأن يكون ذو إيمان وجلد عظيمين”.
تابع وحيد نشر الكلمة على طول الطريق إلى نيريز. وحيثما حط رحاله كان أول عمل يقوم به هو التوجه فورًا إلى أقرب بلدة أو قرية حيث يجمع كافة الناس حوله ليعلن لهم بشارة ظهور صاحب الزمان (حضرة) الباب. وفي القرية الحبلية بوانات اعتنق شيخها العالم حاجي سيد إسماعيل الدعوة. لم يعرف وحيد التعب. ففي المكان الذي كان ينجح فيه في جذب نفوس إلى دعوة الباب كان يمكث بينهم ليلة لتنمية معلوماتهم وإعدادهم لمتابعة التبليغ بعد رحيله. فإن لم يقم أحد لقبول الدعوة أو لطلب المزيد من المعلومات كان وحيد يترك القرية على الفور.
قال وحيد لأحد أصحابه: “كل قرية أمر بها لم استنشق من أهلها عبير الإيمان، لا يحلو لي فيها طعام و لا شراب”.
خرجت نيريز بأسرها لتحية وحيد عندما وصلتها أخبار اقتراب وحيد منها. منعهم الحاكم من الخروج وحذرهم من تعريض أرواحهم وممتلكاتهم للخطر. ولهذا بدأ معظمهم الرحيل في ظلام الليل لمقابلته.
علم الحاكم بأمر خروجهم سرًا فأرسل رسولاً خاصًا للحاق بهم وحذرهم قائلاً: “سيكون الموت من نصيبكم إذا أبديتم ولاءكم لوحيد. فإنني لن أسمح لانتصاراته التي نالها في يزد أن تتكرر في نيريز”.
لم يعبأ أحد منهم بهذا التحذير، واستمروا في سيرهم. عاد الرسول وأخبر الحاكم بازدرائهم لإنذاره، شعر الحاكم بالخيبة اذ ذاك وقرر اتخاذ بعض الخطوات المشددة حفظًا لكرامته.
كان أول عمل قام به وحيد فور وصوله إلى نيريز قبل الذهاب إلى بيته، هو التوجه إلى المسجد وإلقاء خطبة في جموع أصدقائه الذين كانوا مجتمعين هناك، ودعاهم إلى اعتناق دعوة الباب معلنًا أن الموعود الإلهي قد ظهر. صعد وهو ما زال بملابس السفر المغبرة على المنبر وتكلم بفصاحة مقنعة بحيث تكهرب جميع الحاضرين من ندائه. وعندما هدأت شعلة حماسهم، تابع قائلاً:
“إن هدفي الوحيد من الحضور إلى نيريز هو إعلان أمر الله. فأشكر الله وأحمده الذي مكنني من إشعال قلوبكم بنار محبته”.
لبّى نداءه تلقائيًا ما لا يقل عن ألف شخص من أهالي منطقته الخاصة وقبل خمسمائة من سائر أحياء نيريز الرسالة الجديدة. خاطب وحيد جمهور المجتمعين قائلاً:
“لا حاجة لي أن أبقى بينكم أكثر من ذلك، فقد انتهت مهمتي، وأخشى إن أطلت إقامتي بينكم أن يسئ الحاكم معاملتكم بسببي”.
أكد الجميع إيمانهم له قائلين:
“لقد فوضنا أمرنا إلى الله عسى أن يشدد أزرنا لمواجهة البلايا الآتيات التي سوف قد تنزل علينا، ولكننا لا نستطيع تحمل فراقك السريع عنا”.
اذعن وحيد لرغبتهم، ووافق أن يبقى بضعة أيام أخرى في نيريز. وما أن أعلن هذا حتى اجتمع حوله الرجال والنساء وهم يهتفون ويكبرون وساروا معه يحرسونه إلى عتبة منزله.
فزع الحاكم عندما سمع أن وحيدًا قد حقق هذه الموجة العارمة من الانتصارات
المدهشة إبان هذه المدة القصيرة فقد كان يعتنق دعوة الباب أكابر القوم من مختلف الطبقات
بينهم ابن أخ الحاكم.
رأى الحاكم أن عليه تحطيم نفوذ وحيد قبل أن يقوض مركزه عند الملك و رئيس الوزراء فدعا ألف جندي من الفرسان و المشاة و أمدهم بالذخيرة و أمرهم بالقيام بهجوم مباغت على وحيد قائلاً: “ألقوا القبض عليه و أحضروه إلى هنا مكبلاً بالحديد”.
تسرب نبأ هذا الهجوم السري إلى وحيد، فسلك هو وأصحابه نفس المسلك الذي قام به الأصحاب في قلعة طبرسي وبحثوا عن مأوى لهم. انضم الأمير الذي كان حاكمًا في شيراز إلى القوات المعادية لوحيد وأصحابه وأعطى التعليمات نفسها التي سبق وأصدرها في طبرسي وهي:
“أبيدهم عن بكرة أبيهم”.
التجأ وحيد أصحابه إلى قلعة “خواجة”، فحوصروا بنفس الطريقة التي حوصر بها الملا حسين والقدوس في طبرسي، قطعوا عنهم الماء والغذاء، وفي النهاية أخرجوا من أماكنهم المحصنة بنفس الخيانة التي ارتكبت في طبرسي.
فشل حاكم نيريز، المرة تلو الأخرى، في الفوز بالقوة على وحيد واتباعه فالتجأ إلى الكذب والخداع الذين يتنافيا وروح الإسلام السمحة. أرسلوا نسخة من القرآن الكريم إلى وحيد ومعها الوعد المقدس التالي:
“هذا القرآن الكريم شاهد على نزاهة مقصدنا. فليحكم هذا الكتاب المقدس فيما إذا كان ما تدّعونه لدينكم حقًا أم باطلاً. أخرجوا من القلعة وقابلونا في المعسكر. فاذا استطعتم أن تبرهنوا لنا على صحة دينكم، فنحن أيضًا على استعداد لاعتناقه ولعنة الله علينا إن حاولنا خادعكم”.
تسلم وحيد الكتاب بكل احترام وقال:
“لقد دقت ساعتنا المعينة، وعلى الرغم من أنني على علم تام بنواياهم، أرى من واجبي قبول دعوتهم، وانتهز الفرصَة، مرة أخرى، لأخبرهم عن ديننا الحبيب”.
غادر وحيد القلعة برفقة خمسة من الأصحاب ودخلوا معسكر الحاكم. ولمدة ثلاثة أيام متتالية ظل وحيد يحدثهم عن (حضرة) الباب. وبالرغم من تظاهرهم بالاستماع، إلا أنهم كانوا، في حقيقة الأمر، يتآمرون سرًا في الكيفية التي يخرجون بها بقية الأصحاب من القلعة واستئصال شأفتهم. وأخيرا، نجحت الخطة التي وضعوها لإقناع أحباء وحيد مغادرة القلعة والانضمام إلى وحيد في معسكر الجيش.
كانت هذه بداية المذبحة. فبمجرد خروج أصحاب وحيد من القلعة ألقى القبض عليهم. وعندما وصلت أخبار اعتقالهم إلى الحاكم وأركانه، شرعوا على الفور في الانتقام من وحيد. تشاوروا في أفضل وسيلة يتخلصون بها من تنفيذ قسمهم الذي أرسلوه مع القرآن الكريم إلى داخل القلعة.
كانت خطتهم التي اعتمدوها بسيطة. تطوع رجل عرف بشراسته وقسوته للشروع في قتل وحيد دون تعذيب من ضميره، لأنه لم يشترك معهم في القسم. وأكد للحاكم وأركانه قائلاً:
“إذا كنتم قلقين من هذا القسم، اطرحوا همومكم عن أنفسكم فإنني على استعداد للقيام بما ترغبون في عمله وأنا مستعد للإجهاز على أولئك الذين ترونهم انتهكوا قوانين البلاد”.
استدعى ذلك الرجل كافة أقارب الذين هلكوا أثناء المعارك الطويلة التي دارت لإخضاع القلعة التي كان يحتمي فيها وحيد وأصحابه، وجعلهم يصدرون حكم القتل على وحيد حسبانا أنه بمثل هذا العمل الدنيء يخلي نفسه والحاكم من مسؤولية قتلهم. عرضوا على ثلاثة رجال منهم عرفوا، بصفة خاصة، بفظاظة القلب شرف إنزال الضربات الأولى بشخص وحيد قبل تسليمه إلى الغوغاء.
أحضروا وحيد أمام الناس وسط دق الطبول وضرب الصنوج. كانت الجموع تتدفق على الميدان بينما كان الرجال الثلاثة يتناوبون أدوارهم في قتل وحيد. انتزع الأول، ويدعى ملا رضا العمامة من على رأس وحيد، وفتحها ثم لفها حول رقبة وحيد، ثم سحبه بها إلى الأرض. شدّ وحيد بعد ذلك إلى سرج حصان وضرب الحصان بالسوط لكي يسحل وحيدًا في شوارع المدينة. بعد ذلك، انهال كل من الثاني، ويدعى صفر والثالث ويدعى آقا خان بضرب وحيد ولكمه كما شاء وبوحشية حتى خشي المتفرجون ألا يبقي لهم ما يعبثون به. وفي غمرة محنته نادى وحيد محبوبه قائلاً:
” يا محبوبي! أنت تعلم بأني تركت العالم من أجلك، وتوكلت عليك وحدك، وإنني الآن متلهف للقائك”.
صرخ الغوغاء بغضب لما كان يشع من وحيد من أنوار القبول والرضا بما كتب الله له وعزموا على أن يجعلوه يبدي بعض أمارات الخوف ويجبر على طلب الرحمة. انقضوا عليه انقضاضًا وحشيا وأخذوا يدقونه بأيديهم وأسلحتهم حتى فقد الوعي. ثم قاموا بسلخ جلده. قام الخيالة بتفريق الجمهور حتى يأخذوا هم أيضًا بنصيبه في المثلة بجثة وحيد. أم النسوة فقد التفوا حول جثته، على تزايد ضجيج دق الطبول وضرب الصنوج أخذ يرقصن ويهللن.
كتب نيقولاس في تاريخه يصف تلك الجموع المتعطشة لدم وحيد قائلاً:
“هاجت الجماهير من هذا المشهد فانهالت ضربًا بالحجارة والعصي حتى أردوا، ذلك الرجل سيئ الحظ، قتيلاً ثم قطعوا رأسه وسلخوا جلده وحشوه بالتبن وأرسلوها إلى شيراز تخليدا لانتصاراتهم.”
فعل الجمهور المتهيج المسعور برؤوس الأصحاب، مثل ما فعلوه برأس الوحيد وأرسلوها هدايا إلى الأمير في شيراز الذي كان قد طالب باستئصال وحيد وأصحابه ليبرهنوا له عن مدى إخلاصهم في تنفيذ أوامره.
وصلت القافلة المحملة بذكريات النصر البشعة هذه في الوقت الذي كانت تحتفل به شيراز بالعيد حيث كانت الأسواق مزدانة بالأعلام الفرحة تغمر القلوب.
وفجأة ساد الصمت التام فقد شاهدوا اقتراب اثنين و ثلاثين جملاً يحمل كل منها سجينًا بائسًا، امرأة كانت أم طفلاً، شدوا كالحزمة ووضع على عرض السرج، تحفّ بهذه الجمال الجند من كلا الجانبين يحملون رماحًا طويلة نصب على كل منها رأس أحد البابيين الذين قتلوا في نيريز… أثرت بشاعة هذا المنظر في أهالي شيراز المبتهجين بفرحة العيد تأثيرًا عميقًا. فعادوا إلى بيوتهم والحزن يملأ قلبهم.
اجتاز هذا الموكب المفزع السوق قاصدا قصر الحاكم الذي كان يحتفل بالغيد مع رفقائه من الأعيان والشخصيات البارزة في شيراز. وفجأة توقف رجال الموسيقى عن العزف وكف المحتفلون عن الرقص.
تقدم مهر علي خان إلى الأمير حاملاً آيات نصره وسرد للأمير عن أعماله الباسلة في الهجوم على وحيد وأصحابه والفتك بهم. ثم أعطى أسماء كافة المساجين الذين أحضرهم معه من رجال ونساء وأطفال. فهنّأه الأمير على فوزه العظيم وأنعم عليه وعلى زملائه القادة الآخرين بنعامات خاصة لهذه الهدية من الرؤوس المفصولة.
حققت هذه الأحداث النبوءة الشهيرة الخاصة بمجيء الموعود التي تقول: “عليه كمال موسى، وبهاء عيسى، وصبر أيوب، فيذل أولياؤه في زمانه وتتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس الترك والديلم. فيقتلون ويحرقون وتصبغ الأرض بدمائهم ويفشوا الويل والرنة في نسائهم. أولئك أوليائي حقًا”.
لم يكتف حاكم نيريز بعد. فكان يتلهف لانتقام أشد من أولئك الذين نجوا من غدره. فدبر خطة لإبادتهم جميعًا حتى لا يبقي من يروي قصة خيانته. كتب نيقولاس يقول:
“لازمه حقده الذي لا يعرف الحد طوال أيام حياته. في الحقيقة لم يرسل الحاكم إلى شيراز إلا الفقراء، واحتفظ بالأغنياء الذين كان الحاكم قد وكل أمرهم إلى حارس خاص أمره أن يسير بهم في البلدة مع ضربهم أثناء السير ووجد أهالي نيريز في هذا العمل متعة عظيمة”.
كانت نهاية حياة وحيد النبيلة إشارة إلى انطلاق موجة شرسة من العنف في نيري بعد عملية الغدر التي لحقت به في ذلك اليوم
سوف تمتد إلى حقبة طويلة من الزمن. أحرقوا القلعة التي احتمي فيها وحيد وأصحابه حتى أصبحت قاعًا صفصفًا. ففي خلال تلك الحقبة السوداء سلبوا ممتلكات الكثيرين من المعتقلين الأثرياء ودمروا منازلهم، وألقي الكثيرون في غياهب السجون قبل إنزال التعذيب الجهنمي الأخير بهم. وتأكد الموظفون الشرهون من أن المسجونين لم يتبقى معهم أي شيء ذي قيمة قبل الفتك بهم.
وعلى الفور لحق بواحد من أغدر قادة واقعة نيريز نفس المصير الذي حلّ بخونة طبرسي. فمهر علي خان الذي رافق تذكارات النصر المكونة من رؤوس مفصولة إلى الأمير في شيراز، والذي أشادت شفتاه عاليًا بشجاعته، أصيب فجأة بالبكم لم يعد قادرًا على التباهي بمسيرته الظافرة ومعه هديته المرعبة المقيتة إلى قصر الأمير. لقد أصيب مهر علي خان بالمرض بعد تلك المسيرة بقليل. كانت شفتاه تستطيع رسم الكلمات لكن دون إخراج أي صوت. وظل مهر على أبكمًا عديم النطق إلى يوم موته، وفي يومه الأخير، وهو في النزعات الأخيرة شاهد الذين كانوا حوله حركة على شفتيه وكأنه يهمس بشيء، فانحنوا ليلتقطوا آخر كلماته، فسمعوا الأصوات الأخيرة التي خرجت من شفتيه منذ ابتلائه بالمرض فوجدوه يهمس همسًا خافتًا مرات ثلاث بكلمة “البابييون-البابييون-البابييون” ثم ارتد إلى الوراء وسقط ميتًا.
جاء في كتاب مقالة سائح أنه “لم يفلت أحد من أولئك الذين كانوا بالدرجة الأولى مسؤولين عن هذه الأحداث المأساوية إلا وكانت نهايته سيئة وماتوا جميعًا في غمرة من البلايا”.
وهكذا سقط رجل عظيم آخر من رجال (حضرة) الباب، الرجل الذي سمي ب “وحيد عصره” وهو وحيدًا الشهير الذي وصفه الملك ورئيس الوزراء بأنه “أعلم العلماء الإيرانيين” تخلى عن كل ما يعتز به الإنسان ليحظى بفداء روحه في سبيل الله.
وقع استشهاد وحيد قبل استشهاد محبوبه الباب بعشرة أيام فقط.
جاء مقتل وحيد ضربة أخرى قوية سددت بإحكام إلى قلب (حضرة) الباب. كان (حضرة)الباب ما يزال يعاني من حزنً عظيم بسبب مأساة طبرسي وذلك عندما علم عن خيانة أخرى في نيريز. ورغما عن هذا لم تكن حتى هذه آخر الفواجع والمحن التي ظللت الأيام الأخيرة المتبقية من حياته التي كانت تمضي سريعا إلى نهايتها. فخاله الحبيب، الحاج ميرزا سيد علي الذي احتضنه منذ طفولته وقام على خدمة أمره بكل إخلاص كتب له أن تبتلعه، عن قريب، موجة الاضطهاد نفسها.
كان الخال قد عاد لتوّه من زيارته (حضرة) الباب في قلعة جهريق. شيع ضرة الباب خاله من مدينة السجن لكي ينال تاج الشهادة بهذه الكلمات:
“سوف ألحق بك بنفسي ومعي أحد تلاميذي المخلصين، وسوف نلتقي بك في العالم الأبدي”.
عندما دخل خال الباب مدينة طهران حذره أصدقاؤه من خطر وجوده فيها. فأجابهم بكل اطمئنان “لماذا تخافون على سلامتي؟ فأنا أيضًا متله سوف اشترك في تلك المأدبة التي تهيئها اليد الإلهية للمختارين في طول البلاد وعرضها”.
لم يمض قتا طويلا حتى اندس بين صفوف التلاميذ خائن أظهر اهتمامه بدين (حضرة)الباب بذلك تمكن من الحصول على قائمة بأسماء خمسين شخصًا كانوا يحضرون الدروس قدمها إلى محمود خان محافظ طهران. وعلى الفور أصدر المحافظ الأمر بالقبض على هؤلاء الخمسين. قبضوا على أربعة عشر منهم وأحضروهم أمام السلطات لمحاكمتهم. كان الخال واحدًا من بين هؤلاء الأربعة عشر فاحبسوه في سجن بمنزل المحافظ في الطابق العلي، هو نفس الطابق الذي سجنت فيه الطاهرة من قبل. ابتلي هؤلاء الأسرى الأربعة عشر بألوان من البلايا وذلك لكي يدلوا بكشف عن أسماء وعناوين مؤمنين آخرين في المدينة. وعلى الفور أبلغ المحافظ رئيس الوزراء تقي خان بأمر القبض على الأربعة عشر بابليا.
وطبقًا للمصادر التاريخية، أن هذا العدو اللدود للباب، تقي خان، كان ابن رئيس الطهاة لدى رئيس الوزراء سابق، ارتقى في غضون سنوات قليلة من المطبخ حتى أصبح المستشار الأول للملك، وذلك عن طريق حب الذات والقسوة. وتوا أصدر تقي خان أمرًا يهدد بقتل كل من يرفض منهم إنكار دينه.
وتحت الضغط الشديد الذي مورس عليهم اضطر سبعة من البابيين أنكار عقيدتهم فأطلق سراحهم في الحال، أما السبعة الباقون الذين ظلوا ثابتين عرفوا ب “شهداء طهران السبعة” كان خال الباب أحدهم.
حثه أصدقاؤه من التجار على إنكار عقيدته لإنقاذ حياته وقالوا له، أن الله يغض الطرف عن أمور كهذه، كما عرض عدد من التجار الأثرياء دفع مبلغ من المال فدية لخلاصه، ولكن الخال رفض عرضهم هذا. وأخيرًا أحضروه أمام رئيس الوزراء. فقال له رئيس الوزراء:
“لقد تشفع لك عدد من الرجال البارزين، منهم تجار أثرياء من شيراز وطهران راغبون بل متحمسون لدفع فدية عنك، وبكلمة إنكار واحدة منك يطلق سراحك وسوف نعيدك إلى مسقط رأسك معززًا مكرمًا”.
رفض الخال عرض رئيس الوزراء وأجابه بكل جرأة قائلا:
“يا صاحب السعادة. إن إنكاري للحق في هذا الظهور هو بعينه إنكار لجميع الديانات التي سبقته. فاذا رفضتً الاعتراف برسالة الباب، فإنه يتحتم عليّ أيضًا إنكار الرسالة الإلهية التي أتى بها محمد، وغيسى، وموسى، وجميع الأنبياء السابقين”.
لم يحاول رئيس الوزراء إخفاء نفاذ صبره عندما استمر خال الباب قائلاً: “يعلم الله أن
كل ما سمعته وقرأته عن سير الأنبياء العظماء السابقين، كان لي شرف مشاهدة ذلك في هذا الشاب، قريبي المحبوب منذ نعومة أظافره الذي بلغ الآن الثلاثين من عمره. وكل ما أرجوه من سيادتكم أن تسمح لي بأن أكون أول من يفدي حياته في سبيله”.
صعق رئيس الوزراء من جواب كهذا، وبدون أن ينبس بكلمة أشار إلى من حوله بأن يأخذوه ويجزوا رأسه بالسيف. وبينما كان الخال يمضي في طريقه إلى موقع استشهاده نادى في جميع الجموع المحتشدة من حوله قائلاً:
“لمدة ألف عام وأنتم، أيها الناس! تصلّون وتضرعون ليلا نهارا كي يظهر الله لكم الموعود-صاحب الزمان. وعندما ظهر بينكم الموعود، صاحب الزمان أقصيتموه، أيها القوم! إلى منفى لا أمل فيه في ناحية معزولة من البلاد. ادعوا الله، وأنا في آخر نفس في حياتي، أن يقظكم من رقاد غفلتكم”.
هزت هذه الكلمات مشاعر الجلاد، فتظاهر بأن السيف الذي كان يمسك به استعدادا لضرب عنق الخال يحتاج إلى شحذ، وعلى الفور انطلق مسرعًا، ولم يعد قط لإتمام مهمته. روى ذلك الجلاد، مرات عديدة، قصة ذلك الحدث المؤثر معربًا عن ندمه للجرم الذي أجبر على ارتكابه. وعندما كانـت تأتي سيرة خال (حضرة)الباب في حديثه لا يقو على حبس دموعه التي كانت تشهد على عمق تأثره.
ثاني من سقط تحت سيف الجلاد، هو ميرزا قربان علي، الذي كان صديقًا حميمًا للعديد من الشخصيات الهامة في المدينة. كان ميرزا قربان علي ذو مكانة عظيمة في البلاد بدرجة أنه عندما زار كربلاء احتشد جم غفير من الناس على طول الطريق لتأدية التحية له. كانت والدة الملك من أعظم المعجبين به، ولصداقتها الوثيقة لقربان علي وإعجابها بعلمه وشخصيته قالت لابنها الملك أن تهمًا كاذبة قد ألصقت بقربان علي، وأصرت قائلة، أنه ليس من أتباع الباب و لكنه اتهم كاذباً.
أحدث اعتقال قربان علي ضجة نادرًا لم تشاهد العاصمة مثيلا لها في السابق. فقد رافقته جماهير غفيرة أثناء اقتياده في شوارع المدينة وملأت مداخل مقر الحكومة متلهفين لسماع شيء عن مصيره. هتف له البعض مشجعًا كما تساءل البعض الآخر في حيرة: ” أيجرم ارتكبه هذا العالم الكبير أي ضرر يمكن أن يحثه مثل هذا الرجل العظيم؟”
استدعى قربان على للحضور الى القصر الملكي، فاصطحبه رئيس الوزراء بنفسه تحت الحراسة. في بادئ الأمر عومل قربان علي بكل احترام وأكدت له السلطات ثقتها به وأبدت اهتمامها لوقوع مثل هذا الظلم الخطير عليه. أكدوا له قائلين:
“نحن على علم أنك لا تنتمي إلى هؤلاء البابيين الضالين وبأنك اتهمت كذبًا، ونحن على اطلاع بأنك لم تقبل الباب كرسول من عند الله”.
وبكل بساطة أجابهم قربان علي قائلا:
“إنني لا أعرف إذا كان هو قد قبلني، أما أنا فبكل يقين قبلته وأعتبر نفسي من أتباع الباب وأحد خدامه”.
حاول رجال السلطة إقناعه بالتخلي عن هذه الحماقات قائلين بأنه أذكى بكثير من أن يكون خادمًا لأحد، وأرفع شأنًا بكثير من أن يصغّر نفسه في نظر أصدقائه، كما وعدوه بمرتب دائم وتقاعد سخي إن هو خرج معهم إلى الشارع وأعلن للناس أنه أنكر هذه الدعوة الباطلة.
صبر قربان على مضض حتى ألقوا بكل ما في جعبتهم، وبكل قناعة وهدوء خاطبهم قائلاً:
“ما حياتي هذه وقطرات دمي هذه ليست إلاّ أقلّ القليل، فلو كانت الدنيا بأجمعها ملكًا
لي، ولو كان لي ألف حياة لطرحتهم جميعًا تحت أقدام أصغر أحباء الباب”.
حاول رئيس الوزراء بنفسه أن يبين له حماقة موقفه هذا العنيد قائلاً:
“منذ الليلة الماضية وأنا محاط بموظفي الدولة من جميع الطبقات وكلهم يتكلمون بحماس دفاعًا عنك. وممّا علمته عن مركزك ونفوذ كلمتك، فإنني لا أستطيع فهم موقفك المتعنت هذا. فلو أنك ادعيت هذا المقام لنفسك لكان ذلك أفضل لك، بكثير من أن تعلن ولاءك لشخص من الواضح أنه أقل منك علمًا”.
أرجح قربان علي رأسه وأجاب على رئيس الوزراء قائلا:
“ليس الأمر كذلك يا صاحب السعادة. لقد هدتني كافة العلوم التي حصلتها إلى الاعتراف ب(حضرة)الباب والخضوع لدي عتبته. لقد تجسست في أمره بغاية العدل والإنصاف. فلو كان الباب باطلاً كما تطنون لكان كل نبي من أزل الآزال إلى يومنا هذا أيضا باطلاً”.
حاول كل من الملك ووالدته التأثير على قربان بالعدول عن اعتقاده. ولكن لم تأت الوعود المعسولة، ولا التهديدات بالموت باي فائدة ترتجي. وأطلعهم قائلا بأن الكنز الذي وهبه (حضرة)الباب إياه لا نظير ولا عديل له. عندما شاهد قربان علي اندهاشهم واستغرابهم لرفضه قبول مثل هذه العروض السخية من المال والجاه والغنى و تفضيله الموت، حاول أن يشرح لهم ما يدور براسه:
“لي أكثر من ألف من المعجبين يخضعون لنفوذ كلامي، ومع ذلك فإنني عاجز عن تبديل قلب أقل واحد فيهم. غير أن الباب أثبت أنه قادر على رفع شأن احطّ الناس من أهل بلده وتبديلهم. فلقد أثر الباب على قلوبنا بشكل أصبحنا نرى أن فداء أرواحنا في سبيله أقل ضروب التضحية”.
وبتردد أجابه رئيس الوزراء: “لست أدري إن كانت كلماتك هي من عند الله أم لا؟ غير أنني لست راغبًا في إصدار الحكم بإعدام رجل له مثل هذا المقام الرفيع الذي لك”.
فصاح قربان على قائلاً:
“لم التردد يا صاحب السعاة؟ إنني خلقت لمثل اليوم وبموتي أبرهن على جدارتي بالمعرفة التي وهبني الله إياها. فهذا هو اليوم الذي فيه أختم بدمي إيماني بدعة صاحب الزمان”.
ولما شاهد حيرة رئيس الوزراء أضاف قائلاً:
“لا تتوان يا جناب الرئيس. تأكد أنني لن ألومك على فعلتك. بل كلما أسرعت في قطع رأسي، كلما ازداد امتناني لك”.
وبحيرة وغضب صاح رئيس الوزراء قائلا:
“خذوه بعيدًا عن هذا المكان. فقد لا تمضي دقيقة واحدة حتى أقع أسير سحره”.
ابتسم قربان علي ابتسامة لطيفة وخاطبه قائلا:
“كلا يا سيد الرئيس! فأمثالك لا يؤثر فيك مثل هذا السحر. إنه سحر لا يؤسر ألّا على ذوي القلوب الصافية”
اصفر لون رئيس الوزراء وارتجف بدنه فنهض من مقعده وبغضب صاح قائلا:
” لا يسكت مثل هؤلاء القوم المخدوعين إلا حد السيف”
والتفت رئيس الوزراء إلى الجلاد وخاطبه قائلا:
“كفى… لا حاجة في إحضار المزيد من هؤلاء القوم المبغوضين أمامي، فأنا لا ارغب في مقابلة المزيد منهم. فالكلام عاجز عن أن يثنيهم عن التمسك الشديد بعنادهم المستميت أطلقوا سراح كل من تمكنتم من إقناعه بإنكار عقيدته. أما الباقون فطيحوا برؤوسهم “
فيما كان الجلاد يقتاد قربان علي إلى مشهد إعدامه، خاطب الجلاد بصوب مرتفع وبفرح عظيم قائلاً:
“أعجل بقتلي، لأنك بذلك تكون قد قدمت إليّ كأس الحياة الأبدية. فسوف يكافئني محبوبي مقابل هذا النَفَس الذابل الذي تخمده الآن، بحياة لا يتصورها قلب بشر ما”.
وعندما تدافع نحوه جمهور غفير من الغوغاء، يصرخون في وجهه أعلن فيهم قائلاً:
“لقد ظهر الموعود من شيراز في شخص (حضرة) الباب”.
وأسفاه! ضاعت كلماته في غمرة صيحاتهم الساخرة، وصم صريخهم آذانهم عن استماع ندائه. انسحب أصدقاؤه بعيدًا لعدم احتمالهم رؤية هذا المنظر المفجع. وعندما شاهد الأوباش سقوط رجل عظيم مثل قربان علي، تهافتوا لمشاهدة القضاء عليه فصاحوا: “اضربه…اقتل عدو الله ….”.
تأوه قربان بحزن وكان أخر ما نطق به مخاطبا الحثالة من القوم:
“يا لعمى هذا الجيل. إن روحي مفعم بالفرح العظيم ولكنني، وأسفاه! لا أجد قلبًا يشاركني سحر هذا الفرح، أو عقلاً يدرك بهاءه “.
اقترب قربان علي من البقعة التي قتل فيها خال الباب، وعندما شاهد ذلك الجسد المبتور، جمعه برفق وضمه بين ذراعيه ثم نظر إلى ذلك البحر من الحقد المائج حوله ثم نادى الجلاد قائلاً:
“عجل … واضرب ضربتك القاضية، فإن رفيقي الوفي يأبى أن ينفك عن عناقي. ويدعوني أن أسرع معه إلى ملكوت الله”.
أنزل الجلاد ضربته القاضية فارتفعت أصوات الحزن والأسى حتى بين ذلك الجمهور المعادي، حين اتحدت الجثتان معا إلى الأبد.
ثم جاء دور الحاجّ ملا إسماعيل الشهيد لثالث من شهداء طهران السبع. كان الحاجّ ملا إسماعيل، مثل قربان علي، عزم على الذهاب إلى قلعة الشيخ طبرسي للانضمام إلى الملا حسين والقدوس ولكنه أصيب بالمرض. وعندما شفي، قيل له أن الحصار قد انتهى، وأن الأصحاب قتلوا في مذبحة بشعة. شرع الحاجّ ملا إسماعيل في تبليغ الأمر بحماس جديد كي يعوض الخسارة المفجعة التي أصابت دعوة الباب في طبرسي. قبض عليه في طهران مع باقي الأصحاب الأربع عشر. أخبرته السلطات إن هو أنكر دعوة الباب ولعن صاحبها أُطلق سراحه وإلا لقى حتفه. فصاح الملا إسماعيل فيهم قائلاً:
” أأنكر ديني؟ لا -أبدًا لا …إنني عازم على الجهر بإيماني ب(حضرة) الباب، وتقديم روحي فداء في سبيله “.
خاطب الحاجّ ملا إسماعيل ما تبقي من زملائه السجناء شارحا أحاسيسه قائلا:
“إن نحن أخفقنا في إعلان مجيء الموعود المنتظر، فمن يعلنه غيرنا؟ و إذا فشلنا في هداية الناس إلى الطريق المستقيم وإيقاظهم من رقدة الموت، فمن غيرنا سيفعل هذا؟ نحن عُدّة الله، فليتقدم ويصحبني كل من يقوى منكم على الثبات”.
وعندما اقتادوا الملا إسماعيل إلى المكان المعين لقتله، صاح أحد المتجمهرين بقوله هو ذا بابيي أنه واحد منهم. فالتفت نحوه الملا إسماعيل وابتسم وقال له ضاحكًا: “نعم…أنا بابي. ذاهب لأموت من أجلكم.”
وفيما كان يمر في وسط الجمهور لعنوه ورشقوه بالحجارة وسخروا منه وصاحوا في وجه فائلين قائلين:
“أتباع الباب… المجانين!
أجابهم الملا إسماعيل:
” أيها الناس! نعم، نحن أتباع الباب، ولكن لسنا بمجانين. أقسم بالله، إننا إنما ضحينا بالمال والأزواج والبنين والحياة لإيقاظ أمثالكم. لقد أغمضنا أعيننا عن الدنيا وكل ما فيها، آملين أن يدفعكم هذا إلى البحث في هذا الأمر. نحن نرغب في الموت، عسى أن ترفع الغشاوة عن أعينكم وتدركوا أن رسولاً من عند الله قد أتى”.
شق بعض أصدقائه الشخصيين طريقهم إليه حيث كان واقفا منصة الجلاد، وحاولوا للمرة الأخيرة إقناعه بإنكار الباب توسلوا إليه قائلين:
“إنها مسألة بسيطة. ما عليك إلا أن تقول فقط، أنا لا أؤمن”.
فأجابهم الملا إسماعيل قائلاً:
“منذ ثلاثين عامًا وأنا أحن حنين الثلة لمشاهدة هذا اليوم المبارك. وكنت أخشى أن آخُذَ أمنيتي هذه معي إلى القبر دون أن تتحقق”.
أدار الملا إسماعيل ظهره إليهم ونظر نحو هذين الشهيدين اللذين سبقاه وكانا لا يزالان متعانقين وصاح:
” يا رفيقيّ المحبوبين! نعم ما فعلتماه. لقد قلبتما طهران إلى جنة. ليتني كنت قد سبقتكما”. ثم رفع عمامته عن رأسه والتفت إلى الجلاد، ثم رفع عينيه إلى السماء ونادي ربه قائلا:
“اقبلني يا إلهي…مع عدم استحقاقي”
فقطع الجلاد دعاءه وقطف رأسه بسيفه الحاد.
سارعت السلطات في ذبح الأربعة المتبقين من شهداء طهران السبع.
احتشدت ألوف من الجماهير الغاضبة من الناس حول جثث هؤلاء الشهداء السبع، يركلونها بأرجلهم، يبصقون على وجههم، ويرجمونهم بالحجارة، ويصبوا عليهم اللعنات ويستهزؤوا بهمُ ثم أهالوا عليهم أكواما من القاذورات.
ورغما عن كل هذه المآسي لم ترتفع يد واحدة لتوقف هذه مثل هذه الفظائع، بل، على العكس، فقد تحول ذلك التعصب الوحشي إلى تمثيل همجي بما تبقي من أجساد هؤلاء الذين “قد استقرت أرواحهم في منأى بعيدا عن أمواج كراهية وحقد هؤلاء الأوباش”
. رفضت السلطات السماح بمواراة جثث هؤلاء الأبطال السبع في المقابر الإسلامية وألقوا بهم على قارعة الطريق في الساحة العامة المجاورة للقصر الملكي مدة ثلاثة أيام وثلاثة ليالي ثم القوا بهم في حفرة واحدة خارج أسوار المدينة. وهكذا ظلوا متحدين جسديا كما كانوا متحدين روحيا عندما سجدوا أمام أقدام قاطع الرقاب.
أشار البروفسور براون إلى أحد أهم الأمور المتعلقة بشهداء طهران السبعة هؤلاء قائلاً:
“كانوا رجالاً يمثلون أهم الطبقات في إيران، فمنهم العلماء الدينيون، والدراويش، والتجار، وأصحاب الحوانيت، وموظفو الدولة ممن حازوا على احترام وثقة الجميع، قابلوا جميعهم الموت دون خوف، بل برغبة وبشوق”.
ويضيف البروفسور براون قائلا:
” جلب هذا اليوم الحافل بالأحداث أنصارًا مستترين أكثر مما كانت ستكسبه الخطب و المواعظ. لقد ذكرت توًا، أن الانطباع الذي تركه هؤلاء الشهداء بقوة احتمالهم العظيمة كان بالغ الأثر وسرمديًا. إنني سمعت مرارًا قصة ذلك اليوم من شهود عيان ومن رجال مقربين من الحكومة، وحتى من بعض أصحاب المناصب الهامّة. ومن رواياتهم يكاد المرء أن يعتقد بأنهم جميعًا كانوا بابييون. فقد كان إعجابهم عظيمًا للغاية… وكان تقديرهم الذي أبدوه لازدهار العقيدة الجديدة وفرص نجاحها في غاية السمو والعظمة”.
وهكذا اختتمت قصة مفجعة عن حياة أبرز تلاميذ (حضرة) الباب، عدا واحدا أو اثنين منهم. فقد صرع عدو غاشم بالتتابع وسريعا كلا من الملا حسين والقدوس، ووحيد، وخال (حضرة) الباب، الواحدً بعد الآخر. وابتلعت موجة الحقد هذه الطاهرة، وقربان علي، والملا إسماعيل، فدمرتهم جميعًا.
والآن غيرت رياح الموت مسيرتها واتجهت نحو القلعة التي سجن فيها (حضرة)الباب في جهريق.
أرسل رئيس الوزراء ميرزا تقي خان أمرًا إلى جهريق بإحضار الباب من سجنه وإرساله إلى تبريز، وعاهدً نفسه بأن تكون هذه آخر رحلة للباب يقوم بها على وجه الأرض هذه.
جمع الباب جميع ما في حوزته من وثائق وآثار مكتوبة قبل وصول الضابط {الذي كان يحمل أمر انتقال الباب إلى تبريز} وجنوده إلى جهريق بأربعين يومًا، ووضعها مع مقلمته وأختامه وخواتمه في صندوق خاص عهد به إلى الملا باقر أحد تلاميذه. كتب الباب أيضًا خطابًا عنونه إلى الميرزا أحمد الذي عمل كاتبًا للوحي بإخلاص فترة طويلة. وضع الباب مفتاح الصندوق داخل هذا الخطاب وأمر الملا باقر بأن يحافظ على الصندوق والخطاب بكل عناية. وأكد له على قدسية ذلك الصندوق وطلب منه أن يكتم أمر محتوياته عن أي شخص سوى الميرزا أحمد.
عثر الملا باقر على الميرزا أحمد في قم فسلمه الخطاب والصندوق. تأثر الميرزا أحمد عند مطالعته ذلك الخطاب تأثرًا عميقًا. وكل ما استطاع أن يخبر به أصحابه أنه يتحتم عليه التوجه إلى طهران فورًا لتسليم تلك الأمانة. وجث جميع الأصحاب خيفة من قرب انتهاء حياة الباب الأرضية، ورغبوا بلهفة في معرفة محتويات الصندوق القيّمة. توسلوا إلى الميرزا أحمد وألحوا عليه إلحاحًا شديدًا أن يطلعهم على محتويات ذلك الصندوق. أخيرًا وافق الميرزا أحمد على طلبهم والكشف عن القليل من محتويات الصندوق. كان نبيل المؤرخ موجودًا في قم حين وصل إليها الملا باقر وشاهد نبيل بنفسه عملية فتح ذلك الصندوق الجميل، وصرح قائلا:
“تعجبنا كثيرًا عندما شاهدنا من جملة محتويات الصندوق لفافة من الطف أنواع الورق الأزرق دبّج عليها الباب بخطه البديع شكلا مخمسا يشمل على نحوًا خمسمائة آية كلها مشتقات من كلمة بهاء”.
أججت هذه الوثيقة الجميلة هياجًا عظيمًا بين أتباع حضرة الباب، فقد سبق وأخبرهم حضرة الباب مرارًا بأن عليهم أن ينتظروا شخصًا أعظم منه بكثير سوف يأتي سريعًا عقب وفاته.
فتساءلوا فيما بينهم، ترى هل يكون مدح هذا الاسم، “بهاء” من طرف حضرة الباب إشارة أخرى ترشدهم إلى الوجهة التي يجب أن يتوجهوا إليها. كان الجميع يدركون أن كلمة “بهاء” هي إحدى ألقاب السيد حسين علي، أحد نبلاء طهران البارزين، وهو الآن أحد أتباع الباب والذي عرف فيما بعد ب “بهاء الله”.
استمر النبيل في سرد روايته قائلاً “لقد أخذنا الانجذاب ونحن نتأمل هذا المخطوط النادر الذي يعجز، حسب اعتقادنا، أن ينافسه أي خط. أعيدت هذه اللفافة إلى الصندوق وسلم الصندوق إلى ميرزا أحمد الذي توجه إلى طهران في نفس اليوم الذي وصله الصندوق. وقبل رحيله أخبرنا بأن كل ما يمكن أن يبوح به عن ذلك الخطاب هو أنه مأمور بإيصال الأمانة إلى يدي {بهاء الله} في طهران”.
أما وقد أخذ الآن شبح الموت يحلق حول الباب. أدرك الباب أن عليه أن يوضح للمرة الأخيرة الحلقة التي تربطه بمن سوف يخلفه. وحيث أن المحن ما فتئت تهطل من كل جانب أراد حضرة الباب إبقاء الآمال المتضائلة حية في نفوس الذين سوف يتركهم خلفه قريبًا.
فمنذ تلك الليلة الأولى التي كشف فيها حضرة الباب عن رسالته للملا حسين، ظل دائما يشير إلى الذي سوف يظهر من بعده. ألمح إلى هذا الحادث العظيم في كتاباته كلها تقريبًا و كان كثيرًا ما يقول لأتباعه، أنه مجرد “واسطة الفيض من شخص عظيم ما يزال مستورًا خلف حجاب العظمة”.
حذر الباب أتباعه من الخطأ الذي ارتكبه اليهود برفضهم السيد المسيح بسبب التوراة، والمسيحيون برفضهم محمدًا بسبب الإنجيل، والمسلمون بإنكارهم اياه بسبب القرآن. و نبههم قائلاً
“…إياكم إياكم أن تحتجبوا بما نزل في البيان”
وأكد لهم في مناسبة أخرى قائلاً:
“إن غايتي الوحيدة هي أن أنبهكم لمجيء يومه”. “و اني أنا خاتم في يدي من يظهره الله…انه لو يظهر الحين لكنت أول الساجدين له”.
وصرح حضرة الباب:
“إن البيان يستمد جلاله ممن يظهره الله، والبيان والذين يؤمنون به يحنون إليه بحراره أشد من حنين العاشق إلى معشوقه”.
وبالرغم من أن هذا الشخص العظيم كان ما يزال محجوبًا عن الأنظار، فقد وعد حضرة الباب أتباعه بأن من يظهره الله سوف ينمو من البذرة إلى أن يصير شجرة عظيمة جدًا. وقال أن العالم الإنساني كله سوف يستظل بظلها. قال لهم
“إن القوى الكامنة في نطفة الظهور الآتي تفوق مجموعة القوى الكامنة لمن اتبعوني”.
في هذه الأيام دوّن حضرة الباب بخط يده على لفافة خاصة آخر آيات حبه واحترامه العظيمين لحضرة بهاء الله، ولم يكن ذلك إلا إشارة غامضة أو تلميح خفي. فقد علم الباب أن ساعة استشهاده قد حانت.
أشار الدكتور ت.ك.شين في كتابه، كيف كان الترابط بين حياة كل من حضرة الباب و حضرة بهاء الله في تلك الأيام واضحًا لكل من له “عين يرى” بها. وكتب يقول:
“إن نهاية ظهور حضرة الباب على الأرض قد دنت. ولقد كان على علم مسبق بها ولم يحزنه هذا الشعور. فقد رتّب أموره المتعلقة بالشؤون الروحية لطائفته التي يعهد بها-إن لم يكن خاطئًا-إلى حكمة حضرة بهاء الله الفطرية”.
تحكي الصفحات التالية عن إدراك حضرة الباب العميق لمجئ حضرة الله، وكيف أن حضرته
أعد بعناية نفوسًا معينة لمعرفة بهاء الله، والاعتراف به، ولحبه وقبوله، بعد استشهاده هو كي يسير أمر الله قدمًا لتحقيق مصيره.
خلال تلك الأيام الأولى التي كان فيها علماء الكتاب المقدس في أمريكا وأوروبا وآسيا وأفريقيا يستنظرون عودة موعودهم المنتظر السيد المسيح، كان كلا من الشيخ أحمد والسيد كاظم يخبران أتباعهما، مرارًا وتكرارًا، بأن ساعة مجيء الموعود هي قاب قوسين أو أدنى. أن هذا اليوم سوف يشهد ظهورين توأمين يظهران أولها بعد الآخر في تتابع سريع في بلاد فارس. وذلك وفقا لما هو مدون في الكتب السماوية. انهما النفختان في الصور المتعقبتان المذكورتان في القرآن عن “اليوم الآخر”. وهما اللذان ورد ذكرهما في التوراة ب “رجعة النبي اليأس ” يتبعه سريعا مجيء “رب الجنود”. واللذان جاء ذكرهما في سفر الرؤيا (في الإنجيل) ب “الويل الثاني” و “الويل الثالث” اللذان يتعاقبان سريعا عندما يأتي الرب {إلى هيكله}.
و أكد الباب نفسه على قصر الفترة التي تفصل رسالته عن رسالة من سيأتي بعده فقد كتب بقوله: “سبحانك اللهم فاشهد بأني بذلك الكتاب قد أخذت عهد ولاية من تظهرنّه عن كل شئ قبل عهد ولايتي…”.
وعد كلا من الشيخ أحمد و السيد كاظم أتباعهما بأن البعض منهم سوف يعيش ليرى كلا من الظهورين الإلهيين، و قالا أنه بعد الفجر {حضرة الباب}، سوف يرون الشمس الموعود { حضرة بهاء الله}.
كان الشيخ أحمد في طهران عندما ولد بهاء الله. وقد حُفظت هذه القصة التاريخية التالية عن زيارته:
“كان الشيخ أحمد مدركًا تمامًا مغزى هذا الحادث السعيد “ولادة بهاء الله”. فكان يحن لقضاء بقية أيام حياته في رحاب ساحة هذا الملك السماوي المولود حديثا ولكن لم يتيسر له ذلك… وغادر دون تحقيق أمنيته، مستسلما لقضاء الله الذي لا مرد له، و رحل بعيدًا عن المدينة”.
قبل أن يغادر طهران تضرع إلى الله في مناجاته عسى أن يحفظ مواطنين هذا الكنز الإلهي المكنون فقد ولد الآن بينهم، ويعززوه ويعرفوا قدر قدسيته وبهائه، ويتمكنوا من إعلان عظمته إلى سائر الأمم والأقوام”.
اعتبر الشيخ أحمد أن لحظة ولادة بهاء الله، هي تلك الساعة التي أشار إليها الحديث الشريف: “سوف ترون ربكم كما ترون البدر ليلة أربعة عشر، وستنكرونه”. واعتقد الشيخ أحمد أيضًا أن هذه هي الساعة التي تحققت بها كلمات النبوة القائلة “بأن من أعظم العلامات التي تشير إلى مجيء الساعة هي أن تلد الأمة ربها”.
جاء في سفر أشعيا كلمات مشابهة لذلك عن ظهور المخلص المنتظر في وقت المنتهى: “لأن بعلكِ هو صانعكِ الذي رب الجنود اسمه”.
فكثيرا ما أعاد الشيخ أحمد على أذهان أتباعه حتمية ظهور رسولين توأمين. يعود الميرزا محمود، أحد تلاميذ الشيخ أحمد، بذاكرته إلى بعض حالات الهياج التي شاهدها بنفسه خلال أيام الانتظار تلك قائلاً:
“وجدت الشيخ أحمد في ساعة الفجر ساجدًا على الأرض…مستغرقًا في الصلاة… و لفرط دهشتي رأيته يلتفت إليّ و يقول بشئ من الغموض: “إن ما كنت أنبئك عنه ظهر الآن…يا محمود، الحق أقول، انك سوف تعيش لتشاهد ذلك اليوم يوم الأيام”.
يتابع ميرزا محمود حديثه فيقول:
“وبينما كنت أتحدث مع أحد البابيين فيما بعد، أكد لي أن ميلاد حضرة لباب حدث في 20 أكتوبر عام 1819م فوجدت أن التاريخ الذي أشار إليه {صديقي} الشيخ أحمد لا يتفق وهذا التاريخ، و أن هناك فعلاً فرق سنتين بينهما…الأمر الذي أوقعني في حيرة مؤلمة”.
حدث بعد فترة طويلة أن قابل ميرزا محمود صديقًا له أطلعه على دعوة حضرة بهاء الله، وأعطاه بعض كتاباته التي تركت في نفسه تأثيرا كبيرا. قال ميرزا محمود: “سألته عن تاريخ ميلاد بهاء الله فأجابني: “ولد عند الفجر في 12 نوفمبر عام 1817 م “، كان هذا عين اليوم والساعة التي أشار إليها الشيخ أحمد، فخرت، بدون وعي، ساجدًا على الأرض وهتفت قائلا: “سبحانك اللهم يا إلهي لما جعلتني أشاهد هذا اليوم الموعود”.
كما حققت ساعة ميلاد بهاء الله نبوءة أخرى تشير إلى رسولين توأمين يظهران في آخر الزمان، جاء فيها أن البشير في ذلك اليوم يقول عن الذي يأتي بعده: “أنا أصغر من ربي بسنتين”.
تابع السيد كاظم الذي خلف الشيخ أحمد في إعداد أتباعه لذلك اليوم المقترب وقال لهم:
“إني أقول لكم، بعد القائم {حضرة الباب}، يظهر القيوم {حضرة بهاء الله}، فبعد أن يغرب كوكب الأول { حضرة الباب} يشرق جمال الحسين { حضرة بهاء الله} و يضئ العالم”.
وهناك دليل آخر يشهد على هذه الوحدة الفريدة التي تربط رسالة حضرة الباب برسالة حضرة بهاء الله. فطبقًا للتقويم الشمسي المتبع في الغرب، ولد الباب في العشرين من أكتوبر عام 1819م ، وولد بهاء الله في الثاني عشر من نوفمبر عام 1817م. أما حسب التقويم القمري المتبع في الشرق {في إيران بلد مولدهما}. فان حضرة الباب ولد في اليوم الأول من شهر محرم {عام 1235 هـ } وولد حضرة بهاء الله في اليوم الثاني من محرم {عام 1233 هـ} ويحتفل بهذين اليومين المقدسين كعيد واحد عظيم حافل بالسرور و الفرح.
أعلن السيد كاظم لأتباعه: “كم كان الشيخ أحمد يؤكد على تلك الآيات المنبّئة عن مجئ ظهورين توأمين يتتابعان سريعًا، وقدر لكل منهما أن يغمر العالم بالعظمة. وكم من مرة صاح الشيخ أحمد قائلاً: “طوبى لمن أدركهما وشاهد بهائهما”. واختتم السيد كاظم حديثه قائلاً: “كم من مرة خاطبني الشيخ قائلاً وأسفاه! نحن لن نعيش لنشهد مجدهما. وعزاؤنا الوحيد أن الكثيرون من تلاميذك المخلصين سوف يشاهدون اليوم الذي وا أسفاه لا أمل لنا مطلقًا في رؤيته”.
وعندما كان حضرة الباب ماضيا في طريقه إلى طهران لمقابلة الملك، أصدر رئيس الوزراء أوامره الذهاب به إلى الحبس في ماه كو. وهكذا حرم رئيس الوزراء حضرة الباب، وهو على بعد ثلاثين ميلا من العاصمة، من فرصة لقاء للملك وتحقيق نصر عظيم. وفي خلال ساعة خيبة الأمل الشديدة هذه، تسلم حضرة الباب وهو في قرية كلين رسالة جاءته من حضرة بهاء الله. كتب المؤرخ نبيل عن هذه الواقعة قائلاً:
“كلف حضرة بهاء الله الملا محمد بتسليم رسالة مختومة مع بعض الهدايا إلى حضرة الباب. وما أن تسلمها حضرة الباب بيده حتى أشعلت في روحه أحاسيس من البهجة غير العادية، فأشرق وجهه فرحًا وأغدق على الرسول عبارات شكره وامتنانه”.
وأضاف نبيل قائلاً:
“وصلت هذه الرسالة في ساعة من الحيرة والقلق، فجلبت إلى حضرة لباب القوة والسلوى، وملأت روحه بالنصر الأكيد. فاستبدلت صرخة “يا محبوبي و يا مقصودي” التي كان حضرة الباب كثيرًا ما يرددها أثناء حزنه ووحدته المريرة، بعبارات الشكر والثناء والأمل والظفر. وظلت هذه الفرحة تشع من محياه الجميل حتى اليوم الذي وردت فيه أخبار الفاجعة العظيمة التي حلت بأبطال الشيخ طبرسي”.
يروي لنا تلميذ آخر لحضرة الباب يدعى عبد الكريم الحادثة التي شاهدها بنفسه والتي وقعت ذات ليلة أثناء إقامة حضرة الباب في قرية كلين قائلاً:
“كنت مستغرقًا ورفقائي في نوم عميق بجوار خيمة حضرة الباب عندما استيقظنا فجأة على صوت أقدام خيالة. فأخبرونا بأن خيمة حضرة الباب خالية، وأن الذين ذهبوا للبحث عنه فشلوا في العثور عليه. ثم سمعنا محمد بك رئيس الخيالة يهدئ من روع الحراس بقوله ” لماذا الاضطراب؟ ألم تكن شيم حضرة الباب و نبله جديرة لجلب ثقتكم و قناعتكم بأنه لن يسبب إحراجًا لكم من أجل سلامة نفسه؟ لا بد و أنه قد انزوى في سكون هذه الليلة المقمرة إلى مكان هادئ يناجي فيه الله. ثقوا بأنه لا شك سوف يعود إلى خيمته ولن يهجرنا أبدًا”.
ورغبة منه في طمأنة زملائه، سار محمد بك ماشيًا في الطريق المؤدي إلى طهران. و سرت أنا و رفقائي أيضًا خلفه ثم لحق بنا بعد قليل بقية الحراس على ظهور خيولهم… و ما كدنا نقطع ميلاً واحدًا حتى شاهدنا بعيدا على نور الفجر الضئيل هيكل حضرة الباب يقترب وحيدًا نحونا آتيًا من اتجاه طهران. قال حضرة الباب لمحمّد بك عندما اقترب منه: هل اعتقدت انني فررت؟
أكّد له محمد بك قائلا: “حاشاي أن يخالجني مثل هذا التفكير“، ثم انحنى محمد بك عند أقدام حضرة الباب، إذ أخذته الرهبة من جلال وهدوء ذلك الوجه في ذلك الصباح ولم يستطع أن ينطق بكلمة أخرى.
تربعت على وجه حضرة الباب أمارات الاطمئنان، وكانت كلماته مفعمة بقوة خارقة بحيث سيطر علينا شعور بالاحترام العميق. لم يتجاسر أحد على الاستفسار منه عن سبب هذا التغير الملحوظ في كلامه وسلوكه. و لم يشأ هو أن يخفف من حيرتنا و فضولنا.
دون النبيل في تاريخه، مرة أخرى، حين أن كتب حضرة بهاء الله من طهران رسالة أخرى إلى حضرة الباب أثناء سجنه في جهريق. يقول النبيل: “و بعد ذلك بقليل وصل رد حضرة الباب مدبجًا بخط يده”.
أعطى حضرة الباب نفرًا من تلاميذه وعودًا محدّدة، بأنهم سوف يلاقون الموعود الذي بشر بمجيئه. وأعد بعضًا منهم بكل عناية لذلك اللقاء. تسلّم الملا باقر، أحد حروف الحي، خطابًا من الباب، تنبأ له فيه بلقاء الموعود وجهًا لوجه. و بشر سيّاح بالوعد نفسه، كما كتب حضرة الباب إلى عظيم لوحًا خاصًا يمنحه هذا اللقب، تنبأ فيه بقرب مجيء هذا الموعود الذي كان ينتظره الجميع. وقد تحققت جميع وعوده هذه.
كان الشيخ سلطان أحد الأتباع الذين حظوا بمثل هذا الوعد. سافر الشيخ سلطان إلى شيراز مع صديق له يدعى الشيخ حسن. وكان كلاهما يشتاقان للقاء حضرة الباب، وللأسف مرض الشيخ سلطان قبل تحقق أمنيته. وفي ذات ليلة تلقى الشيخ سلطان رسالة تقول أن حضرة الباب سمع بمرضه وسوف يحضر لزيارته بعد حلول الظلام. يصف لنا الشيخ سلطان هذه الزيارة بأسلوبه الخاص قائلا:
“حضر حضرة الباب لزيارتي، وقد كان قد أمرني من قبل طفاء سراج حجرتي قبل وصوله. تقدم حضرته رأسًا إلى جانب سريري. وفي وسط الظلام، تعلقت بذيله وتوسلت إليه أن يمنحني فخر التضحية بنفسي في سبيله. فأجابني: “يا شيخ ينبغي لكل منا نحن الاثنين أن نتمسك برداء المحبوب ونلتمس منه غبطة الشهادة وفخرها في سبيله. وأيقن بأنني نيابة عنك سوف أطلب من الله القدير أن يعينك حتى تفوز بلقاء المحبوب. واذكرني في ذلك اليوم، الذي لم ينظر العالم شبيها له”. أثارت إشارة حضرة الباب إلى “محبوبه” دهشتي وفضولي. كنت محتارًا وعاجزًا عن حل هذا الغموض. و لكن عندما وصلت إلى كربلاء، و تشرفت بحضور حضرة الله أيقنت بأنه هو وحده دون غيره جدير بمثل هذه المحبة. وهو وحده حري بمثل هذه العبادة”.
حظي الشيخ حسن، رفيق الشيخ سلطان، في رحلته هذه إلى شيراز بوعد مماثل من حضرة الباب بلقاء أيضًا حضرة بهاء الله. يحكي لما الشيخ حسن عن تلك الواقعة قائلا:
“في ذات يوم خاطبني حضرة الباب قائلاً: (عليك أن تسافر إلى كربلاء وتمكث في تلك المدينة المقدسة لأنه مقدر لك مشاهدة جمال وجه الموعود بأم عينيك. اذكرني عندما تنظر إلى ذلك الوجه المنير، واحمل إليه آيات حبي وولائي). ومرة أخرى أضاف مؤكدًا: “إنني قد عهدت إليك بمهمة عظيمة، فاحذر أن يتطرق الوهن إلى قلبك واحذر أن تنسى ما أسبغته عليك من الفخر”.
يتابع الشيخ حسن حديثه فيقول:
“سافرت بعد ذلك بقليل إلى كربلاء، ومكثت في تلك المدينة المقدسة كما أمرت. وكم من المصائب حلت بي من أتباع الشيخ أحمد الذين ما زالوا لم يعترفوا بحضرة الباب عشت في هذه المدينة مدة عامين تحملت خلالهما بصبر الكثير من إهاناتهم. وفي ذات يوم بينما كنت مارًا بباب أحد المزارات، وقع نظري لأول مرة على حضرة بهاء الله. ماذا أذكر عن المحيا الذي شاهدته؟ فجمال ذلك الوجه ولطافة تلك الملامح التي يعجز عن وصفها أي قلم أو رسمها أي ريشة. وماذا عن نظراته النافذة، وطلعته البشوشة، وجلال قيافته، وعذوبة ابتسامته، كل ذلك ترك في نفسي انطباعًا لا ينمحي، فبأي محبة تقدم مني وأمسك بيدي فخاطبني بلحن ملؤه القدرة والجمال. سار معي طوال شارع السوق، في النهاية خاطبني قائلا: “احمد لله أنك بقيت في كربلاء ورأيت بعينيك وجه الموعود”. فتذكرت على الفور وعد حضرة الباب وهو سر لم أشرك فيه أحدا. حركت كلمات حضرة بهاء الله هذه وجداني في الصميم وشعرت بقوة تدفعني لأعلن في تلك اللحظة بكل روحي وقوتي على هذا الشعب الغافل ظهور من وعد به حضرة الباب. ولكن أمرني حضرة بهاء الله بكبح مشاعري وإخفاء انفعالاتي. وحذرني قائلاً: “لم يحن الوقت بعد. إن الساعة المعينة تقترب، ولكن لم تدق بعد. فاطمئن وكن من الصابرين”.
يتابع الشيخ حسن قائلا:
“منذ تلك اللحظة اختفت أحزاني وطفح قلبي بالسرور. كنت في تلك الأيام فقيرًا أتضور جوعًا أكثر الأحيان، ولكنني شعرت آنذاك بغنى تلاشت أمامه كنوز الأرض كلها اذا ما قورنت بما ملكته”.
أصبح الشيخ حسن منذ ذلك اليوم {أغسطس 1851 م} ممغنطًا بسحر مولاه الجديد، و لولا كبح حضرة بهاء الله له لأعلن للناس أجمعين أن موعود حضرة الباب قد ظهر و أنه يتحتم عليهم التخلي عن الحزن الشديد بسبب رحيل حضرة الباب.
و في مدينة بغداد التي لا تبعد كثيرًا عن كربلاء، كان لزاما على حضرة بهاء الله أن يعلن قريبًا لأتباعه نفس الإعلان الذي أعلنه حضرة الباب لتلاميذه في شيراز. هذا هو المعنى المخزون في النبوءة التي أخبر حضرة الباب بها الملا حسين عندما كانا واقفين على سطح سجن القلعة في ماه كو: “سوف تقع شيراز في اضطراب عظيم، يظهر فيها فتى حلو اللمى، أخشى أن تهيج أنفاسه بغداد”.
كانت هناك حلقة ارتباط مستمرة بين حضرة الباب وحضرة بهاء الله عن طريق تلاميذ الباب وعلى الأخص أولئك الذين سبق و ذكرنا قصة فاجعتهم في الفصول السابقة. فلقد قام حضرة بهاء الله بدور حيوي ومؤاثر في حوادث، طبرسي، نيريز، وبدشت، كذلك في حياة كلا من الملا حسين والقدوس ووحيد والطاهرة.
حدث عندما ودع الباب ملا حسين في شيراز قبل سفره إلى مكة لإعلان دعوته، خاطبه بهذه الكلمات: ” أنحي بمسار رحلتك اتجاه الشمال وزر…طهران. وتضرع إلى العناية الإلهية عسى أن تعينك بكرمها على أن تبلغ في تلك العاصمة، مقر السلطة الحقيقية، وتدخل قصر المحبوب، فهناك سر مخزون في تلك المدينة. فاذا ظهر بدل الأرض وجعلها فردوس. وأملي أن يكون لك نصيب فيه وتشاهد بهاءه”.
ولكي يخفف حضرة الباب على الملا حسين من ألم خيبة الأمل لعدم اصطحابه، أكد له مرة أخرى أهمية طهران وزيارته إليها وبذلك أشار إلى مكان ولادة بهاء الله قائلاً:
“لا تحزن لعدم اختيارك لمرافقتي… فسوف أوجه خطواتك عوضًا عن ذلك إلى تلك المدينة التي تضم سرًا ذا قداسة فائقة… بحيث لا تأمل شيراز أن تنافسها فيه”.
وصل الملا حسين إلى طهران. كان يقضي ساعات نهاره في نشر دعوة حضرة الباب، ولكنه كان يظل من الغروب حتى الفجر قابعا وحيدًا في حجرته عاكفا في التأمل والصلاة مستغرقا في التضرعً إلى الله عسى أن يكشف له عن هذا السر المقدس الذي أخبره به حضرة الباب، ويرشده إلى قصر محبوب حضرة الباب.
قابل الملا حسين خلال هذه الفترة شخصا يدعى الملا محمد من أهالي نور. سأله الملا حسين اذا كان يعرف شخصًا يمتاز على الجميع ومشهودً له بسمو الأخلاق.
أجابه الملا محمد. نعم يوجد مثل هذا الشخص.
سأله الملا حسين “ما هو عمله؟”
“انه يواسي المحزون ويطعم الجائع”.
“ما هي رتبته؟ وما هو مقامه؟”
“ليس له شيء من ذلك سوى أنه يصاحب المسكين والغريب”.
سأله الملا حسين: “ما اسمه؟”
“حسين علي”.
“ثمانية وعشرون عامًا”.
أدهشتني كثيرًا اللهفة التي كان الملا حسين يسألني بها وشعور الفرح الذي كان يقابل به كل وصف أقدمه له.
التفت الملا حسين إلي وبوجه يشع بالفرح والرضا سألني مرة أخرى.
“أظنك غالبًا ما تقابله؟”.
أجبته “نعم. كثيرًا ما أتردد على منزله”.
“هل لك أن تسلمه أمانة مني؟”.
ثم أعطاني الملا حسين لفافة من كتابات حضرة الباب وقال لي:
“إذا تفضل بالإجابة لي، فهل تتلطف بأن تطلعني عليها”.
أخذ الملا محمد اللفافة وتوجه على الفور إلى محضر حضرة بهاء الله. قبلها بهاء الله و أمر الملا محمد بالجلوس. فتح بهاء الله اللفافة وألقى نظرة على محتوياتها ثم أخذ يتلوها بصوت مسموع على مسامع الحاضرين. وفجأة توقف عن التلاوة وخاطب أصحابه قائلاً:
“حقًا أقول، ان كل من آمن بالقرآن وتردد ولو لحظة واحدة في أن هذه الكلمات المحركة للأرواح ليست لها نفس القوة المحيية، فانه بكل تأكيد أخطأ في حكمه وضلّ عن سبل العدل”.
أعطى بهاء الله الملا محمد هدية صغيرة من الشاي والسكر ليقدمها إلى الملا حسين، مع إبلاغه تقديره ومحبته. أضاف الملا محمد قائلاً:
“بأي فرحة وغبطة تقبل الملا حسين هذه الهدية. إن كلماتي تعجز عن وصف عمق شعوره. نهض الملا حسين على قدميه وتسلم الهدية من يدي برأس منحنية ثم قبلها بحرارة”.
عانق الملا حسين الملا محمد وقبّل عينيه اللتين نظرتا إلى حضرة بهاء الله منذ وقت قصير. و قال له أفاض الله على قلبك بالفرح مثل ما دخلت البهجة على قلبي.
أخذت الحيرة احتار الملا محمد. قال في نفسه، ماذا عساها أن تكون طبيعة هذه العلاقة التي تربط بين هذين الروحين؟ وما الذي أشعل مثل هذه الصداقة بين شخصين غريبين لم يلتقيا؟ و لماذا أظهر الملا حسين الذي يعتبر الغنى والشهرة متاعًا رخيصًا كل هذا السرور لهدية بسيطة من يد حضرة بهاء الله؟.
رحل الملا حسين بعد ذلك ببضعة أيام إلى خراسان. وفيما كان يودّع الملا محمد حذره قائلاً: “لا تبح لأحد بما رأيت وسمعت. اكتم هذا السر في صدرك ولا تبح باسمه {بهاء الله} كي لا يقوم على ايذائه الذين يحسدونه على مقامه. ودع الله أن يحفظه لليوم الذي يمجّد فيه المستضعفين، ويغني المساكين ويخلص الساقطين. فسر هذا الأمر ما زال محجوبًا عن أنظارنا. وإن واجبنا الآن هو أن نرفع نداء اليوم الجديد، ونعد قلوب البشر، ونعلن هذه الرسالة السماوية للناس أجمعين”. أنهى الملا حسين كلامه قائلاً:
“سوف تروى تلك الدماء الشجرة الإلهية وتجعلها تزدهر وتنمو حتى تظلل العالمين”.
بكلمات الوداع هذه غادر الملا حسين طهران. وكتب تقريرًا إلى حضرة الباب يخبره فيه عن أعماله التبليغية، كما وصف له ما حدث بينه وبين حضرة بهاء الله في طهران. كان القدوس وخال الباب كلاهما في محضر حضرة الباب عندما وصله خطاب الملا حسين. ترك خال الباب وصفًا لتلك اللحظة حيث قال:
“شاهدت في تلك الليلة من علامات الفرح والسرور مرتسمة على وجه كل من حضرة الباب والقدوس ما أعجزني عن وصفه. وكثيرًا ما سمعت حضرة الباب في تلك الأيام يردد هذه الكلمات بسرور قائلاً: “العجب ثم العجب ما حدث بين جمادي ورجب”.
التفت حضرة الباب إلى القدوس وهو يقرأ خطاب الملا حسين وأراه بعض عباراته وأوضح له سبب فرحته.
أخبر خال حضرة الباب زملاءه الأصحاب بما رأى في تلك الليلة، وذكر لهم أيضًا إشارة حضرة الباب إلى روعة تلك الأيام التي وقعت بين جمادى ورجب. أثر ذلك في الملا أحمد فانتظر حتى عاد الملا حسين إلى شيراز فسأله عما حدث في ذلك الوقت بالذات. ابتسم الملا حسين وقال “بين شهري جمادى ورجب صادف وجودي في طهران.”
لم يكشف الملا حسين عن تفاصيل أكثر من ذلك واكتفى بقوله: “كان هذا كافيا لإقناعي بأن في مدينة طهران سرًا مخزونًا اذا انكشف للعالم، أدخل سرورًا لا يوصف على قلب حضرة الباب.
تشرف الملا حسين مرة ثانية بلقاء حضرة بهاء الله قبل بدئه في رحلته مشيًا على الأقدام إلى سجن حضرة الباب في ماه كو. أدخل الملا حسين سرًا إلى محضر حضرة بهاء الله، وبعد هذه المقابلة بقليل توجه للقيام بزيارته الأخيرة إلى حضرة الباب. ثم عاد الملا حسين من ماه كو إلى طهران حيث تشرف ببهاء الله مرة أخرى. وكان لقائهما الأخير في قلعة طبرسي.
حظي القدوس أيضًا بلقاء حضرة بهاء الله. فعندما عاد حضرة الباب والقدوس من المدينة المنورة إلى بوشهر، أرسل حضرة الباب القدوس إلى شيراز وودعه قائلا: “سوف تنهال عليك الإهانات في شوارع شيراز…وستعيش بعدها وتتشرف بحضور مقصود محبتنا وعبادتنا. وستنسى في محضره كل ما أصابك من أذى وإهانة”.
قاسى القدوس الكثير من الآلام في شيراز، ومنها رحل إلى طهران حيث تشرف بحضور حضرة بهاء الله، وبذلك تحققت جميع وعود حضرة الباب.
تقابل القدوس وحضرة بهاء الله مرة ثانية في مؤتمر بدشت. وبعد انتهاء المؤتمر بقليل كان القدوس مع جماعة من أتباع الباب هدفًا لهجوم وحشي. فسارع بهاء الله إلى إنقاذهم وأقدم بهاء الله على الفور لحمايته للقدوس، فألبسه ملابسه الخاصة لإخفاء هويته فلم يعرفه أحد ثم صحبه إلى مكان آمن.
وعندما كان القدوس مسجونًا في ساري بأمر من محمد تقي فإن حضرة بهاء الله هو الذي أمّن إطلاق سراحه ليتسنى للقدوس الانضمام إلى الملا حسين في قلعة طبرسي. و قام حضرة بهاء الله بزيارتهما بنفسه هناك.
حدث في الليلة التي سبقت وصول الملا حسين وجماعته إلى ضريح الشيخ طبرسي رأى حارس الضريح في حلمه أن رجلاً مقدسًا وجماعة كبيرة من أحبائه حضروا إلى القلعة وحاربوا ببسالة وظفر. كما رأى في حلمه أيضًا أن رسول الله نفسه جاء ذات ليلة وزار تلك الجماعة المباركة.
وصل حضرة بهاء الله بعد هذا بقليل إلى قرية مجاورة وأرسل يخبر الملا جسين بأنه وأصحابه سيكونون جميعًا ضيوفًا عليه في تلك الليلة، وأنه سوف ينضم إليهم في قلعة طبرسي عند عصر ذلك اليوم. فيما يلي ما رواه أحد الذين شاهدوا هذه المقابلة.
“أورثت هذه البشارات قلب الملا حسين فرحًا لا يوصف. فأمر أصحابه بتهيئة أنفسهم لاستقبال حضرة بهاء الله. كما شاركهم بنفسه في كنس الأتربة من مدخل القلعة وتنظيفه ورشه بالماء استعدادًا لقدوم الضيف المحبوب.”
وتبيع قائلا:
“وبمجرد أن لمح الملا حسين حضرة بهاء الله مقبلا نحو القلعة أسرع إليه وعانقه بلطف ثم رافقه إلى مقعد الشرف الذي اعد له.”
وشرح قائلا:
“كنا في تلك الأيام في غاية من الغفلة فلم ندرك جلال ذلك الشخص الذي عرّفنا إيّاه رئيسنا بكل محبة واحترام. ولم يكن نظرنا غير الحاد يستطيع أن يدرك ما أدركه الملا حسين ببصيرته. وما لبثنا حتى شعرنا نحن أيضًا بسحر بيانه. وكان الملا حسين ممتلئًا بالغبطة وغارقًا في الإعجاب لدرجة أنه نسانا جميعًا بالمرة واقفين، وكان حضرة بهاء الله هو الذي أمرنا، في آخر الأمر، بالجلوس”.
فحص بهاء الله القلعة وأشار عليهم بشأن كيفية تعزيز دفاعهم حماية أرواحهم، وبدد مخاوفهم ورفع من عزمهم على التضحية بكل شيء في سبيل الله. وبين قائلا: “إن الشيء الوحيد الذي تحتاجه القلعة والأصحاب لتصبح كاملة هو حضور القدوس”. وأمر الملا حسين أن يرسل ستة من الأصحاب إلى ساري لمطالبة محمد تقي بتسليم القدوس إليهم. أخذت الدهشة الملا حسين وأصحابه لعلمهم بسجن القدوس. ولكن حضرة بهاء الله طمأنهم قائلاً: “إن خشية الله والخوف من عقابه سوف يدفعانه إلى تسليم سجينه دون تردد”. وقبل أن يغادر حضرة بهاء الله قلعة طبرسي نصح الأصحاب بالصبر والتسليم لإرادة الله، قائلاً: “إن شاء الله سوف نزوركم في هذه البقعة نفسها ونمد إليكم مساعدتنا”.
وعلى لفور أرسل الملا حسين ستة من أصحابه إلى ساري ومعهم رسالة حضرة بهاء الله. فأطلق محمد تقي سراح القدوس على الفور الأمر الذي أدهش الجميع.
خلفت زيارة حضرة بهاء الله في نفوس الأصحاب تأثيرًا عميقًا. وترك أحدهم ذكرياته التالية عما أحدثته هذه الزيارة من تأثير في الملا حسين بقوله:
“إني ما زلت أتذكر عندما اقترب الملا حسين مني في سكون تلك الساعات المظلمة المُوحشة التي خصصتها للصلاة والتعبد وقال لي: “أطرد عن فكرك هذه الأمور المحيرة. انهض واطلب معي تجرع كأس الشهادة. فعندما تشرق سنة “1863”-السنة التي أعلن فيها حضرة بهاء الله دعوته على العالم-تستطيع حينئذ أن تدرك سر الأشياء التي هي محجوبة عنك الآن”.
كان حضرة بهاء الله أيضًا الشخصية المحركة وراء مؤتمر بدشت، الذي حضره عدد غفير من أبرز أتباع الباب. يروي النبيل في تاريخه قائلاً:
“وصل حضرة بهاء الله إلى بدشت في بداية الصيف واستأجر ثلاثة أماكن خصص أحدها للقدوس والأخرى للطاهرة والثالثة لنفسه. كان كل المجتمعين في بدشت ضيوفًا على بهاء الله منذ وصولهم إلى يوم رحيلهم. أنعم حضرة بهاء الله على كل واحد من أتباع الباب لقبا جديدًا. فهو الذي أطلق على آخر حروف الحي لقب القدوس. وأطلق أيضًا على تلك الامرأة العظيمة لقب الطاهرة. وعرف هو نفسه منذ ذلك الوقت باسم “البهاء”.
وتابع النبيل قائلا:
“كان ما جري في مؤتمر بدشت أكبر دليل على صدق العلاقة الروحية الوثيقة بين كلا من حضرة الباب وحضرة بهاء الله. لم يكن أحد من أولئك الأصحاب على علم بمصدر ما من أحداث في بدشت أو بالتغيرات الجريئة والتحديات بعيدة المدى للأحكام والتقاليد القديمة التي كانت تحدث أثناء المؤتمر. فلم يشتبه أحد من الحاضرين بأن يد حضرة بهاء الله هي التي كانت توجّه ذلك المؤتمر توجيهًا ثابتًا وحكيما لا يتطرق إليه الخطأ.”
واستطرد نبيل يقول:
“إلى كل واحد من أولئك الذين اجتمعوا في بدشت كتب حضرة الباب رسالة خاصة، وخاطب كلاً منهم بالقب الجديد الذي أنعم به عليه حضرة بهاء الله ومنذ ذلك الوقت صار كل واحد منهم يعرف بهذا الاسم الجديد. وعندما اشتكى بعض الأتباع من جسارة الطاهرة قائلين إنها أساءت التصرف برفعها الحجاب، أجاب حضرة الباب بهذه الكلمات المثيرة: “ماذا أقول فيمن أسماها لسان العظمة {حضرة بهاء الله} ب”الطاهرة”. وفي ذلك المؤتمر نفسه اختتمت الطاهرة إحدى خطبها البليغة بإلقاء نظرة إلى حضرة بهاء الله، وتلت الآية القرآنية الكريمة:
“إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر”.
كما أعلنت الطاهرة أنها صوت الصافور الذي نسخ العصور الماضية.
كتب الدكتور ت.ك.شين عن ذلك مصرّحًا:
“وقيل أيضًا، أنه بعد أن أنهت هذه المرأة الشجاعة خطابها القصيرـ تلا حضرة بهاء الله سورة القيامة… التي يدل معناها الباطن على أن العالم على وشك الدخول في دورة كونية جديدة تستلزم أحكامًا وعادات جديدة”.
أهيئ حضرة بهاء الله الترتيبات اللازمة لمغادرة الأصحاب بدشت، كما سبق ونسق لحضورهم. وفي أثناء عودتهم كانت الطاهرة تنظم في كل يوم قصيدة شعرية تشارك فيها إخوانها وتتحدث في هذه الأبيات عن التقاليد والطقوس والعادات التي بطل استعمالها، والتي كبلت ضمائر الرجال والنساء في الماضي، وكيف أنهم تحدوا هذه القيود بكل شجاعة وبسالة وحطّموها في اجتماع بدشت.
حفظ الأصحاب هذه القصائد عن ظهر قلب، وأخذوا بصوت واحد ينشدونها أثناء سيرهم تردد الجبال والوديان صيحة تلك الثلة المتحمسة من المؤمنين وهم يشيعون انقراض القديم ويحيون مولد يوم جديد.
كانت يد حضرة بهاء الله هي المرشدة، تمتد على الدوام لمساعدة البابيين. فقد كانت الطاهرة مدينة له بحمايتها وعطفه عليها أكثر من باقي التلاميذ. فقد حدث عندما كانت الطاهرة مسجونة في قزوين ومهدّدة بالكيّ، أعلنت لسجانها بكل جسارة “إذا كان ديني هو الحق، وإذا كان الرب الذي أعبده ليس إلا الحق، فانه سوف يخلصني من نير استبدادكم قبل مضي تسعة أيام”.
كان حضرة بهاء الله هو الذي خلص الطاهرة من سجنها في قزوين. فحين سمع بسجنها، أرسل امرأة في زي سائلة إلى المنزل الذي كانت الطاهرة محبوسة فيه، وأمرها بتسليم رسالة منه. عندئذ استطاعة الطاهرة أن تغادر سجنها طوع إرادتها دون أن يعترضها سجانها بالأذى. كما أمر حضرته هذه الامرأة السائلة بأن تنتظر خروج الطاهرة عند مدخل المنزل. وأخبرها قائلاً: “وبمجرد أن تلتحق بك، أسرعا فورًا إلى طهران وسوف أرسل هذه الليلة إلى جوار باب قزوين خادمًا ومعه ثلاثة جياد لتأخذاها معكما وتربطانها في موقع خارج السور فانت تصحبين الطاهرة إلى ذلك المكان حيث تركبون الجياد وتسيرون في طريق غير مطروق، واجتهدوا في الوصول إلى ضواحي العاصمة قبل مطلع النهار. وبمجرد أن تفتح أبواب المدينة ادخلوا واحضروها إلى منزلي فورًا. عليكما بالتزام جانب الحذر الشديد لئلا تنكشف هويتها”.
طمأن حضرة بهاء الله الساعية المضطربة التي كانت ترى أن إتمام مهمة كهذه تحتاج إلى معجزة، قائلاً: “من المؤكد أن يسدّد الله خطاكما، ويصونكما في كهف حفظه وكلإ حمايته”.
كتب النبيل عن هذه الحادثة يقول:
“وفي الساعة التي عينّها الطاهرة لخلاصها كانت الطاهرة في كنف حماية حضرة بهاء الله وكانت على علم تام بالذي أذن لها بالدخول إلى محضره. وكانت عارفة جيدًا بقداسة الضيافة التي قوبلت بها بكل كرم. وأدركت بفراستها الفطرية مجد بهاء الله المقبل”.
يؤكد النبيل قائلاً:
“لقد رأيت بنفسي تلك الأبيات التي كتبتها بخط يدها، والتي كان كل حرف منها شاهدًا بليغًا على إيمانها وإيقانها بعلو الرسالتين اللتين جاء بهما حضرة الباب وحضرة بهاء الله”.
وللمرة ثانية أنقذ حضرة بهاء الله الطاهرة عقب مغادرتها مؤتمر بدشت مباشرة. ففي أثناء عودة جماعة من الأصحاب إلى مناطقهم عرجوا إلى قرية نيالا للاستراحة تحت سفح جبل فاذا بهم يستيقظون فجأة عند الفجر على وابل من الحجارة رشقهم بها أهل القرية من على قمة الجبل. كان الهجوم مفاجئًا وشرسًا، فخاف الأصحاب من صريخ الغوغاء، وصوت الصخور المتدحرجة والحجارة المنهمرة عليهم كالمطر ففروا إلى مكان آمن. وجد حضرة بهاء الله الطاهرة في خطر عظيم، اذ لم تتمكن من الهرب هي وأحد الأحباء من شيراز. حطّم الأعداء المخيم وأخذوا ينهبون الأمتعة. ووقف هذا الحبيب الشيرازي يدافع عما تبقى من ممتلكات الأصحاب، وقد أصيب بجروح بالغة.
اخترق حضرة بهاء الله وسط جمهور المهاجمين، متسلحًا فقط بسيف بيانه، وأقنعهم بصرامة تصرفاتهم المخجلة وحثّهم على رد الأشياء التي لم يهربوا بها بعد، ثم أنقذ الطاهرة وأصحابها من بين أيديهم واصطحابهم إلى مكان آمن. كتب النبيل عن هذه الانتصارات الكثيرة التي أحرزها حضرة بهاء الله بقوة بيانه وحدها قائلاً:
“كان الناس بجميع طبقاتهم يندهشون لنجاح بهاء الله نجاحًا يشبه المعجزة في الخروج من أخطر المصادمات دون أن يمس بأذى. وعلّلوا هذه الظاهرة بأن العناية الإلهية هي وحدها التي كانت تكفل حفظه وسلامته في مثل هذه المواقف”.
مدّ حضرة بهاء الله، كذلك، يد العون والمساعدة إلى وحيد. إليكم قصة تاريخية عن صداقتهما.
سارع وحيد إلى العاصمة لإعداد ما يلزم لسفره إلى قلعة طبرسي وبينما كان يستعد للرحيل، وصل حضرة بهاء الله من مازندران وأخبره بعدم إمكان انضمامه إلى اخوانه. أحزنته هذه الأخبار جدًا، وكانت سلوته الوحيدة في تلك الأيام هي الإكثار من زيارته لحضرة بهاء الله والاستفادة من حكمته ومشورته الثمينة.
كتب ميرزا جاني صديق وحيد بعد هذه الزيارات لحضرة بهاء الله قائلاً: “لاحظت على وجه وحيد الجليل علامات من العظمة والقوة ما لم أشاهدها فيه أثناء سفري الأول معه إلى العاصمة و لا حتى في مناسبات أخرى اجتمعنا فيها”.
زار سياح حضرة بهاء الله قبل أن يعود إلى سجن حضرة الباب في جهريق، وبعد أن أتمّ المهمة التي كلفه بها حضرة الباب بالذهاب إلى طبرسي وبارفروش نيابة عنه وإحضار شئ من التراب المقدس الذي يغطي بقايا الملا حسين والقدوس. كان وحيد ضيفًا مكرمًا عند حضرة بهاء الله وقت أن حضر سياح. وصل سياح إلى منزل حضرة بهاء الله في زمهرير الشتاء، حافي القدمين، رث الثياب، أشعث الشعر. أخبر حضرة بهاء الله وحيد بوصول سياح من طبرسي، فنسى بالكلية عظمته وشرفه الذي يتمتع به رجل مرموق مثله، واندفع لمقابلته ملقيًا بنفسه على قدمي السياح، ثم احتضنً تلك الساقين اللتين كانتا مكسوتين إلى الركبتين بالوحل من تراب طبرسي.
كان سياح هو نفس الشخص الذي سلمه حضرة بهاء الله، رسالة ليحملها معه إلى حضرة الباب في جهريق. وبعدها بقليل جاء الرد من السجن بخط يد الباب.
غمر حضرة بهاء الله سياح بمحبته أثناء زيارته هذه، كما أغدق نفس المحبة على وحيد. ومما رواه شقيق حضرة بهاء الله: “
“دهشت من اللطف والمحبة التي أغدقها حضرة بهاء الله على وحيد، فقد أولاه من العنايات ما لم يمنحه لأحد من قبل. ولم يترك أسلوب محادثة حضرة بهاء الله شكا عندي في أن وحيدًا سوف يتميز عن قريب بأعمال لا تقل روعة عما خلدها مدافعون طبرسي”.
وعقب هذه الزيارة الأخيرة إلى منزل حضرة بهاء الله توجه وحيد إلى يزد ومنها إلى نيريز حيث فدى بحياته في سبيل الأمر.
أنعم حضرة بهاء الله أيضًا على الحجة الزنجاني نفس المحبة والتشجيع اللّذين أنعم بهما على الوحيد، و الزنجاني الذي كان بطل أعنف الاضطرابات جميعًا فقد أفدى ما يقرب من ألفي بابي، في قرية زنجان، حياتهم في سبيل الأمر من ضمنهم الحجة. حدث أثناء مرور حضرة الباب بزنجان في طريقه إلى السجن تنبأ بالمصيبة التي سوف تحدث فيها بقوله: “هذه المدينة سوف تقع في اضطراب عظيم، وستسيل شوارعها دمًا”.
تحققت نبوءة حضرة الباب، فقد حاصر حشد من الجنود حبيبه الحجة مع عدد كثير من أصحابه. أرسل حاكم زنجان مناديًا ينادي في الشوارع بأن كل من ينضم إلى الحجة سوف يقتل وتتعرض زوجته وأولاده إلى البؤس والعار.
شطر هذا النداء المدينة إلى معسكرين، وخلق مناظر مؤثرة للغاية، فقد انقسمت العائلات بسبب إيمانها بحضرة الباب إلى عائلات بابية وغير بابية فتخلّى الآباء عن أبنائهم، والزوجات عن أزواجهن والأطفال عن أمهاتهم.
بدا، في ذلك اليوم، وكأن جميع الروابط العاطفية والمادية قد تفسخت. أمست زنجان بلدة الرّعب، الرجال يتراكضون بذعر جيئة وذهابًا محاولين إقناع زوجاتهم وأبناءهم بالانضمام إليهم. تقاسمت العائلات متاعها وأولادها. وبكى الكثيرون على ما اضطروا إلى تركه خلفهم جميع ما يملكون. فقد هجر القوم منازلهم بما تحتويه من متاع الدنيا. وعندما يقطع رجل أو امرأة، أو صبي، علاقته مع عائلته أو صحبه، و يفر لمساندة الحجة، تتعالى صيحات الفرح من معسكر الحجة، بينما يتصاعد أنين اليأس والحزن من المعسكر الآخر. إنه حقا ذلك اليوم الذي أشار إليه السيد لمسيح عن وقت المنتهى الذي فيه: “يسلّم الأخ أخاه إلى الموت والأب ولده. ويقوم الأولاد على أبويهما ويتسببون في إعدامهما”. وهو أيضا ذلك اليوم الذي تنبأ عنه القرآن بقوله “يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه”.
وفي إحدى تلك الليالي أثناء المعركة، نفذ البابييون تعليمات حضرة الباب بترديد العبارات التالية:
“”الله أكبر…الله أعظم…الله أجمل…الله أبهى…الله أطهر.
وبصوت واحد رددوا الأصحاب الموجودون داخل القلعة هذا النداء مرارًا وتكرارًا. أشار أحد التقارير التاريخية إلى هذه العملية قائلا:
“كان الترديد عالي والصوت جبارًا إلى درجة أن الأعداء انفضّوا من نومهم، وهجروا المعسكر في فزع وأسرعوا إلى جوار منزل الحاكم طلبًا للمأوى، كما انصعق البعض منهم فسقطوا فاقدي الحياة”.
خلال تلك الصيحات كان المعسكر الآخر غارقًا في مرح وصخاب. وفجأةً توقف حفلهم الماجن إثر صيحات أولئك الأصحاب الذين رفعوا أصواتهم بالشكر لله. فالضباط الذين كانوا يحملون بأيديهم كؤوس الخمر ألقوا بها على التو وانقلبت موائد القمار من الفوضى التي أعقبت ذلك، واندفع الرجال والنساء بكل بسرعة بعيدًا عن المبنى وكأن الصيحة أخذتهم وجرى البعض شبه عار إلى الفلاة. وفرّ آخرون إلى بيوت الزعماء الدينيين.
و حالما اكتشف أهل المعسكر أنه لم يكن ذلك هجومًا مخيفًا موجهًا اليهم، بل هي مجرد تسبيحات وتهليلات لله تعالى عادوا مطمئنين إلى أماكنهم ولهوهم، بعد أن أخذت الذلة منهم مأخذها أثر هذه التجربة.
شهد الحجة بكل جرأة في محضر الملك ورئيس الوزراء وفي حشد من العلماء والزعماء الدينيين بأن حضرة الباب هو “الموعود” المنتظر. وقال لهم:
“أنى أعتقد اعتقادًا ثابتًا راسخًا بأن حضرة الباب هو الموعود نفسه الذي تنتظرونه أنتم وجميع أمم الأرض بشوق عظيم. فهو مولانا، ومخلصنا الموعود. فلو أنه عهد إليّ القيام بأحط خدمة في بيته لاعتبرته شرفًا لا يضارعه أسمى الإنعامات من ملكي”.
عاد الحجة إلى منطقته وأخذ يحث كل فرد على قبول دعوة الباب قائلاً:
“إن الغاية التي من أجلها يكدح العالم هي الآن بين ظهرانينا…لقد ارتفعت شمس الحق.لا تنظروا إليّ، بل شخصوا أبصاركم نحو حضرة الباب، فأنا أقل عبد من عبيده، وعلمي بالنسبة إلى علمه كضياء شمعة غير مشتعلة أمام سطوع الشمس في رابعة النهار”.
أصيب الحجة قبل موته بجرح خطير. قتلت زوجته وابنه أمام عينيه. ومع ما أحاط به من حزن عظيم، فقد أبى أن يرضخ تمامًا للأسى، أو يسمح لنفسه بأن يكون كمن يستجدي متاع الدنيا. نادى ربه ساعة آلامه قائلاً:
“يا إلهي منذ اليوم الذي وجدت فيه محبوبك رأيت الويلات التي لا بد لي أن أعانيها في سبيلك ومع شدة ما قاسيته من آلام فهي لا تقاس بالعذاب الأليم الذي أنا مشتاق لقبوله من أجل اسمك… وكيف يمكن أن تقارن حياتي البائسة هذه، وحتى فقدان زوجتي وولدي العزيزين، وتضحيات أصحابي وقاربي بالبركات والنعم التي أغدقها الاعتراف بمظهرك علي في هذه الدنيا وفي الآخرة. وكم أرغب أن يكون لي آلاف الأرواح، وأمتلك كنوز الأرض كلها، كي أنفقها جميعًها بكل سخاء وسرور في سبيلك”.
يقول جوبينو في تقريره “لقد شاهدت في زنجان أتلال تلك المعركة القاسية. وإن أحياء بكاملها من المدينة تركت مهدّمة كما هي، ولم يعد بناؤها، وربما لن يعاد قط”.
ويشهد نيقولاس بأن القضية بكاملها حسمت بنفس الغدر الذي التجأوا اليه في طبرسي، و نيريز”. يصور نيقولاس موقف أعداء الحجة كالآتي: “لماذا لا نلجأ إلى الخدعة؟ و لماذا لا نقطع أقدس الوعود، وحتى لو اضطررنا فيما بعد إلى إقامة مذبحة لهؤلاء البسطاء الذين اطمأنوا إلى هذه الوعود؟”.
فلا عجب إذا أن لقّب حضرة الباب زنجان ب”أرض أعلى”.
وعندما انتهى حضرة الباب من إعداد رسالته ” الخطبة القهرية” في صيف عام 1848 م، التي تنبأ فيها بسقوط رئيس الوزراء الحاجّ ميرزا أقاسي، سلم هذه الرسالة إلى الحجة وأمره أن يسلمها بنفسه إلى يد ذلك المسؤول {ميرزا أقاسي}.
وبمجرد أن سلم الحجة الرسالة إلى الحاجّ ميرزا أقاسي توجه إلى منزل حضرة بهاء الله و كشف له عما جاء في الخطبة القهرية و تلاها بكاملها عن ظهر قلب على حضرة بهاء الله و بعض المؤمنين الآخرين. كانت السلوى الوحيدة للحجة في تلك الأيام هي مصاحبته الوثيقة لحضرة بهاء الله، الذي استمد منه قوة الاحتمال التي جعلته يتميز بأعمال باهرة فيما بعد.
غادر الحجة منزل حضرة بهاء الله وتوجه رأسا إلى زنجان، حيث فدى بروحه في سبيل محبوبه. كما سبقه إلى ذلك أصحابه الممتازون الوحيد، الطاهرة، الملا حسين، والقدوس.
ربط حضرة الباب منذ اللحظة عشية 23 مايو 1844 م التي أنزل فيها التفسير للملا حسين، رسالته برسالة حضرة بهاء الله.
يبين النبيل في تاريخه قائلا:
“ألم يشر الباب منذ أوائل أيام دعوته، في الفقرات الأولى من تفسيره لسورة يوسف، إلى عظمة وأهمية ظهور بهاء الله؟ ألم تكن غايته من شرحه المطول لنكران الجميل والخبث اللذين لقيهما يوسف من أخوته التنبؤ بما سوف يلاقيه بهاء الله من أخيه وأقاربه؟”
صرح حضرة الباب لتلاميذه في خطبته الوداعية، أنه ليس إلا المبشر بمجئ ظهور أعظم قائلاً: “اني أعدكم لمجئ يوم عظيم…انتشروا في طول البلاد و عرضها، وأعدوا الطريق لمجيئه بأقدام راسخة وقلوب مقدسة”.
كما أمر الباب تلاميذه بتسجيل أسماء كافة المؤمنين الذين قبلوا الدعوة قائلاً: “وسوف أذكر جميع هؤلاء في لوح الله وسوف ينعم محبوب قلوبنا على كل واحد منهم بركته الثمينة يوم اعتلائه عرش العظمة…”.
ومن بين تلك الأسماء جاء أتباع حضرة بهاء الله الأولون من الذين خصهم بفضله وحبه.
بذل حضرة الباب كل ما في طاقته لمساعدة أتباعه التعرف على الوجهة الصحيحة التي يتحتم عليهم التوجه نحوها بعد استشهاده. كما أعلن حضرة الباب بكل وضوح أنه هو الموعود، ولكنه بالنسبة إلى الظهور الأعظم الذي سوف يأتي من بعده، مثل يحيى المعمدان بالنسبة إلى حضرة المسيح. وأنه المبشّر بمن هو أعظم منه، أنه سوف يتضاءل، ويتزايد ذلك العظيم. وكما كان يحيي المعمدان بشيرًا وبابًا لحضرة المسيح، كذلك يكون هو المنادي وبابًا إلى حضرة بهاء الله.
كتب حضرة الباب عن حضرة بهاء الله قائلاً:
“اجعل اللهم تلك الشجرة كلها له…. أنا وعزتك ما أردت أن يكون على تلك الشجرة من غصن ولا ورق ولا ثمر يسجد له يوم ظهوره… وإني شهدت يا إلهي عليّ من غصن أو ورق أو ثمر لم يسجد له يوم ظهوره فاقطعه اللهّم عن تلك الشجرة فانه لم يكن منّي ولا يرجع إليّ”.
وفي مقام آخر كتب محددًا ساعة ظهور حضرة بهاء الله بكل دقة قائلاً “من أول ذلك الأمر إلى قبل أن يكمل تسعة كينونات الخلق لم تظهر… ثم اصبر حتى تشهد خلق الآخر.” وأيضًا “في سنة التسع أنتم كل خير تدركون”. وأيضًا “في سنة التسع أنتم بلقاء الله ترزقون”.
و قبل أن تنقضي تسع سنوات وفي الواقع ابتدأت دعوة حضرة بهاء الله في السنة التاسعة {عام 1853م} ، بذلك لم يحقق وعد الباب ووعد الشيخ أحمد و السيد كاظم فحسب، بل أيضًا نبوءة الحديث الشريف الخاص بتلك الأرض، التي تقول، في سنة 1844 م تشرق الأرض بنور ربها… فاذا بلغت إلى عام 1853 م تشاهد كيف تتجدد الأمم والحكام والشعوب وشريعة الله.
وفي ماه كو ختم حضرة الباب حديثه بكلمات متحديات لا يتطرق إليها الشك فأحكم رباط الوحدة بينه وبين حضرة بهاء الله قائلاً:
“طوبى لمن ينظر إلى نظم بهاء الله ويشكر ربه
فإنه يظهر ولا مرد له”.
وأعلن حضرة الباب للعالم: “أنى مؤمن به وبدينه وكتابه”.
كان قدر الحب الذي أكنه حضرة بهاء الله من جانبه نحو حضرة للباب على شأن أنه لم يدعه يقاسي ألمًا، أو ذلة، أو إهانة إلا وشاركه فيها.
حددت إقامة حضرة الباب أول ما حددت في منزل رئيس الشرطة بشيراز. وبعدها بقليل حددت إقامة حضرة بهاء الله في منزل أحد الزعماء الدينيين بطهران. كان السجن الثاني لحضرة لباب في قلعة ماكو، وتبع ذلك سجن حضرة بهاء الله، حين حبس في مسكن حاكم آمل. جلد حضرة الباب في مسجد بتبريز، وأنزل نفس العقاب، بعد ذلك بقليل، على حضرة بهاء الله في مسجد آمل. كان الحبس الثالث لحضرة الباب في قلعة جهريق، تبعه حبس حضرة بهاء الله، في سجن سياه جال بطهران. ضرب وجه الباب بالمقذوفات في شوارع تبريز، ورجم حضرة بهاء الله بالحجارة في شوارع آمل، كما أصيب بحجر في وجهه وهو في طريقه إلى السجن في طهران. وأخيرا، قتل حضرة الباب في الميدان العام بتبريز. قضى حضرة بهاء الله ما يقرب من نصف قرن شهيدًا حيًا. فقد نفي وسجن مدة أربعين عامًا ودسّ له السم في سياه جال وهاجمه القتلة وسفاكو الدماء في بغداد. كما دس له السم مرة أخرى في أدرنة. وحاول قاتل آخر اغتياله في سجن عكاء. وأخيرًا، حمل بهاء الله معه إلى مثواه الأخير آثار سلاسل السجن العظيمة التي مزّقت لحم كتفه.
يسجل النبيل في تاريخه:
“قدم حضرة الباب، الذي سبقت بلاياه، تقريبً، في كل مرة، محن حضرة بهاء الله وآلامه، نفسه فداء لمحبوبه ليفتديه من الأخطار التي كانت تحيط طول حياته الغالية. في حين أن حضرة بهاء الله، من جانبه، لم يكن راغبًا في أن يكون الذي أحبه هذا الحب العظيم المعذب الوحيد، فشاركه في كل مرة الكأس الذي لمس شفتيه.”
تابع النبيل ساردا:
“هذا الحب لم ترى عين بشر مثيلا له مثله. وهذا الإخلاص المتبادل لم يخطر على بال بشر. فلو تحولت أغصان جميع الأشجار أقلامًا، وأصبحت البحار مدادًا، وبسطت الأرض والسماء رقًّا منشورا، لنفدت جميعها، قبل أن يكشف عن عظم هذا الحب، أو يسبر غور هذا الإخلاص”.
لقد اندمجت شريعتيهما إلى الأبد.
وهكذا استطاع حضرة الباب أن يغادر السجن في جهريق بسلام وشوق، يشرع في الرحلة التي عرف أنها ستكون رحلته الأخيرة على وجه هذه الأرض. انه قد أكمل رسالته ولقد كان هو الفجر وبكل إخلاص أعد أتباعه لمجيء الشمس نفسها. فكتب يقول:
“و اني ما قصرت عن نصحي ذلك الخلق و تدبيري لإقبالهم إلى ربهم و إيمانهم بالله بارئهم. وأن يؤمنن به يوم ظهوره كل ما على الأرض، فاذا يسر كينونتي حيث كل قد بلغوا إلى ذروة وجودهم. ووصلوا إلى طلعة محبوبهم… واني قد ربيت كل شئ لذلك. فكيف يحتجب أحد على هذا”.
“ولقد ربيت جميع البشر ليعرفوا هذا الظهور “.
اتجه حضرة الباب بقلبه نحو طهرن حيث، يوجد حضرة بهاء الله، وهو يكتب هذه الكلمات المؤثرة التي ظلّلت ساعاته الأخيرة التي كانت تقترب مسرعة:
“يا بقية الله قد فديت بكلّي لك، ورضيت السبّ في سبيلك وما تمنيت إلا
القتل في محبّتك”.
وصل إلى باب سجن قلعة جهريق الجنود الحاملين فرمان الشؤم الذي أصدره رئيس الوزراء بقتل حضرة الباب. أيقن حضرة الباب أنه قد بذل كل ما في وسعه في سبيل الله. بعث حضرة الباب بجميع كتاباته ومقلمته وأختامه وخاتمه إلى حضرة بهاء الله مع لفافة مليئة بالمدح والثناء لاسمه الأبهى.
والآن جلس حضرة الباب بكل هدوء ينتظر قدوم جنود التي سوف تنفذ حكم إعدامه.
اجتاح إيران بكلها موجة من العنف لم يسبق لقسوتها، ولجاجتها أو رحابتها نظير. فقد غشي البلاد ظلمة امتدت من خراسان شرقًا إلى تبريز غربًا ومن زنجان وطهران شمالاً، إلى نيريز جنوبًا. عندئذ تذكر الكثيرون ما سبق وتنبأ به الشيخ أحمد. تحدث الشيخ أحمد بكل حرارة عن مجيء ظهورين توأمين متاخمين يفصلهما زمن قصير. وأنذر أتباعه أن يترقبوا أيام شدة مقبلة قائلاً:
“أتضرع إلى الله أن لا تكونوا موجودين في يوم مجيء الرسول، أو في يوم رجعته، لأنه سوف تقع حينئذ حروب أهلية كثيرة، وإذا عاش أحدكم ليرى ذلك الزمان فسيشاهد أمورًا عجيبة بين عامي 1844-1851 م”[1].
تحدث نيقولاس عن الفتنة التي سرت بين الناس خلال تلك الأيام قائلاً:
“ضاعف العلماء القلقون من افتراءاتهم حين شعروا بتململ أتباعهم ونفاد صبرهم وتهيّؤهم للإفلات من قبضتهم… وسرت بين الجماهير المنذهلة أفظع الأكاذيب والروايات الدمويّة الخياليّة، فتمزّقوا بين الرعب والإعجاب”[2].
عصر الحزن قلب حضرة الباب حين بلغته أنباء مقتل خاله المحبوب وسمع القصة المثيرة للنهاية المفجعة التي حلّت بشهداء طهران السبع.
كتب حضرة الباب بافتخار هؤلاء الأبطال ثناءّ خاصًا يشهد فيه بعلو مقامهم في نظره. وقال إن هؤلاء الأبطال السبعة هم ” الخراف السبعة” التي ورد ذكرها في النبوءات الإسلامية والتي تسير في يوم الدين أمام القائم الموعود” 3
أصدر رئيس الوزراء ميرزا تقي خان في هذه الأثناء أمره بإحضار حضرة الباب من سجنه في جهريق. فقد عزم رئيس الوزراء أخيرًا أن يوجه الضربة إلى رأس الدعوة، بعد أن تعرض جيش الملك، وعلماء البلاد للإهانة والهزيمة، المرة تلو الأخرى، في طول البلاد وعرضها. فقد ظن رئيس الوزراء أنه بتخلصه من حضرة الباب تعود البلاد إلى ما كانت عليه من الهدوء. فدعا مستشاريه إليه وكشف لهم عن خطته.
كان هذا تغيرًا بطاشا عن الخطة الأصلية التي سبق ووضعها رئيس الوزراء. فما فتئ ميرزا تقي خان يعتقد بأن أنجح وسيلة لتحطيم نفوذ حضرة الباب هي القضاء عليه معنويًا وذلك، ” بإخراجه من عزلته في جهريق، حيث أحاطته هالة من الألم والقداسة والعلم والبلاغة جعلته يضيء كالشمس، ويعرضه على الناس كونه مشعوذًا متذلّلاً وضعيفًا في أحلامه، لا يملك حتى الشجاعة الكافية لإدارة الحملات الجريئة فكيف بالإعداد لها أو حتى الاشتراك فيها كالتي وقعت في طبرسي ونيريز وزنجان”[3].
أومأ هؤلاء المستشارون أن سلوك حضرة الباب في السجن لم يدلل على أنه شخص مثل الذي تخيله رئيس الوزراء. لقد تحمل حضرة الباب جميع المصائب دون شكوى، وداوم على التعبد والعمل دون انقطاع. وإن كل من اقترب منه شعر بقوة شخصيته.
حضرة الباب كثيرًا ما تحدث عن موته خلال تلك الأيام؟ وقيل أنه أشار إلى موته لا كشيء عادي فقط، بل أمر محبب.
قال جوبينو في تاريخه:
“إن الذين اقتربوا منه شعروا رغمًا عنهم بالقوة الأخاذة لشخصيته، وبأخلاقه، وبيانه، حتى حراسه لم يقووا على مقاومة هذا التأثير”[4].
وبعد أن وزن المستشارون الأمور بكل دقة قرروا أنها مخاطرة عظيمة، فرفضوا خطة رئيس الوزراء، ولم يجرؤوا على المغامرة.
الآن، لعن رئيس الوزراء تراخي الحاج ميرزا أقاسي، رئيس الوزراء السابق، الذي سمح بنمو هذا الخطر العظيم، فصمّم على اتخاذ إجراءات أكثر عنفًا ضد حضرة الباب وعزم على إيقاف سياسة الضعف هذه فورًا. لأن السماح لحضرة الباب بالاستمرار في كسب مزيد من العظمة والشهرة أمر لا يمكن تخيله. خاطب المستشارين قائلا: “أرى أن لا شيء يعيد السلام والهدوء إلى هذا البلد الحائر إلا إعدامه علانية”.
لم يتجرأ صوت واحد على معارضة خطته، بعد أن شاهدوا سخطه وغضبه. وبعد صمت طويل ارتفع صوت واحد هادئ شجاع بالاحتجاج. كان هذا صوت وزير الحرب الذي خلفه فيما بعد، واقترح علاجًا أقل عنفًا. عندئذ استاء رئيس الوزراء جدًا، وعلى الفور أخمد صوت الاعتراض هذا قائلاً: “لا شيء يستطيع اقتلاع هذا الشر من جذوره، ويعيد إلينا السلام المنشود، غير هذا العلاج الذي أوصي به”.
لم يلتفت رئيس الوزراء إلى نصح أي معارض له، وأصدر أمره إلى حاكم تبريز بإحضار حضرة الباب من جهريق إلى تبريز. نص الأمر على أن يسجن حضرة الباب في هذه المدينة، إلى أن يخبروه فيما بعد بمصيره. خشي رئيس الوزراء إحضار حضرة الباب إلى طهران وإعدامه فيها لئلا يثير وجوده هناك اضطرابات لا يستطيع السيطرة عليها. ولذا كان على حضرة الباب أن يلاقي الموت في مدينة تبريز الواقعة في الشمال.[5]
أرسل رئيس الوزراء بعد ثلاثة أيام أمرًا ثانيًا إلى حاكم تبريز يأمره بعد انتقال حضرة الباب من سجنه إلى تبريز أوعز فيه بإعدام حضرة الباب سرا. رفض الحاكم وقال حانقًا: “هذه مهمة لا يقوم بها إلا أخس الناس. فمن أنا حتى أكلف بقتل شخص بريء من سلالة نبينا؟”
ينحدر حضرة الباب من سلالة بني هاشم، التي هي أسرة الرسول محمد عليه السلام مرورًا بسلالة إسماعيل، من ذرية إبراهيم نفسه.
كان الحاكم وغالبية الشعب على علم بالنبوءة المدونة في كتبهم القائلة بأن “يظهر شاب من بني هاشم بكتاب جديد وشرع جديد. على الكل أن يسرعوا إليه ويعتنفوا أمره”[6].
غضب رئيس الوزراء على الحاكم، ولكنه صمم على ألا يحول شيء دون حدوث هذا الإعدام. فأمر أخاه، ميرزا حسن خان بتنفيذ هذا الأمر. حاول ميرزا حسن إعلام الحاكم بالتعليمات الجديدة، ولكن الحاكم رفض مقابلته متظاهرًا بالمرض. عندئذ، تولى حسن خان بنفسه عملية الإعدام.
بنقل ميرزا حسن خان حضرة الباب على الفور إلى غرفة الإعدام في المعسكر بالمدينة وأمر بنزع عمامته وحزامه اللذين هما علامتا نسبه الشرف بانتمائه على أسرة الرسول محمد صلوات الله عليه. كما أمر سام خان قائد كتيبة الإعدام بتعيين عشرة من الحرس الخاص للمرابطة عند باب الزنزانة التي سجن فيها حضرة الباب.
حدث عندما كان حضرة الباب مقتاد في طريق الساحة إلى زنزانته في المعسكر، أن انطلق إلى الأمام نحو حضرة الباب شاب صغير تبريزي من بين الجمهور. لم يتجاوز هذا الشاب الثامنة عشرة من عمره. كان شاحب الوجه حافي القدمين، أشعث الشعر، فشقّ طريقه وسط الغوغاء وألقى بنفسه عند قدمي حضرة الباب، غير عابئ بالخطر الذي يهدد حياته من جراء فعلته هذه. تضرع ذلك الشاب إلى حضرة الباب قائلاً: “لا تبعدني عنك يا سيدي. اجعلني أتبعك أينما ذهبت”.
ابتسم له حضرة الباب وقال بلطف: “انهض يا محمد علي. أيقن بأنك سوف تكون معي. فغدًا سنشهد ما سوف يقضي به الله”[7].
كتب الدكتور ت.ك.شين قائلاً: “عجبًا لهذا المحاكاة الفريدة بين حضرة الباب وحضرة المسيح، فقد خاطب كل منهما تلميذه قائلاً ستكون اليوم معي في الفردوس”[8].
وعلى الفور قبض على ذلك الشاب ووضع في نفس الزنزانة مع حضرة الباب وحكم بإعدامه مع حضرة الباب. وبسرعة أصبحت قصة هذا الشاب معروفة لدى كل فرد. لقد عرف ذلك الشاب دعوة حضرة الباب، عندما مر حضرة الباب أول مرة بتبريز في طريقه إلى السجن في ماه كو، وأصبح على الفور مؤمنًا غيورًا وتشوّق هذا الشاب إلى زيارة حضرة الباب في سجنه وتقديم حياته في سبيل دعوته. كان زوج أم ذلك الشاب من أكابر أعيان تبريز فمنع الشاب من مغادرة البلدة وحبسه منفردا في حجرته تحت حراسة شديدة خشية أن يجلب العار إلى الأسرة بإعلانه إيمانه بحضرة الباب. اعتلّ ذلك الشاب في حبسه، فقلق عليه زوج أمه.
روى الشيخ حسن، أحد أقارب زوج الأم، الذي أوفده حضرة الباب في احدى المرّات إلى تبريز مع بعض كتاباته، عن لقائه مع ذلك الشاب قائلاً:
“كنت أزور محمد علي يوميًا، وفي كل مرة أشاهد دموع الأسى والحزن تنهمر من عينيه. ثم زرته مرة أخرى بعد أن جلد حضرة الباب في تبريز وأعيد إلى سجنه في جهريق. دهشت في هذه المرة عندما شاهدت وجهه يضيء بالسرور والفرح. تقدم محمد علي لاستقبالي بوجهه الجميل تحيطه هالة من الابتسامات وخاطبني: “لقد تشرف وجهي هذا بلحاظ المحبوب وقرت عيناي بمحياه الجميل”.
وتابع قائلاً: “دعني أكشف لك عن سر سعادتي.”
” في يوم من الأيام بينما كنت راقدًا مسجونًا في حجرتي، بعد أن أعيد حضرة الباب إلى جهريق، توجهت بقلبي إليه وناجيته بهذه الكلمات: (ترى يا محبوبي أسري وعجزي، وتعلم كم أحن إلى رؤيتك. فاقشع يا إلهي بأنوار وجهك هذه الظلمة التي تخيم على قلبي)”.
وتابع حديثه قائلا:
“فاضت بي المشاعر حتى وكأني قد فقدت وعيي. وفجأة سمعت صوت حضرة الباب. يا لفرحتي، لقد كان يناديني. أمرني قائلاً {انهض}. فشاهدت جلال محياه عندما ظهر لي. نظر إلى عيني وهو يبتسم. اندفعت إلى الأمام وألقيت بنفسي على قدميه. فقال لي:
(افرح! فالساعة التي سوف أعلق فيها أمام أعين الناس، في هذه المدينة، وأسقط ضحية لنيران العدو تقترب. ولن انتخب أحدًا غيرك لتشاركني كأس الشهادة. أيقن بأن ما أعدك به سوف يتحقّق)”.
وعبر عن فرحته قائلا:
“سحرني جمال هذه الرؤية. وعندما استيقظت وجدت نفسي مغمورًا في بحر من السرور الذي لن تكسف نورانيته أحزان العالم، وما فتئ ذلك الصوت إلى هذه الساعة يتردد في أذني، كما تلازمني هذه الرؤيا، ليلاً ونهارًا. وأروح ذكرى تلك الابتسامة عني وحشة عزلتي. وإني، بصورة قاطعة، على يقين بأن تلك الساعة التي سوف يتحقق فيها وعده هذا لا يمكن أن تتأخر أكثر من هذا”.
نصحت محمد علي بالصبر وبإخفاء انفعاله، فوعدني بأن لا يبوح بسره هذا لأي مخلوق وتعهد بأن يظهر منتهى الرفق واللطف لزوج أمه. كما أكدت لزوج أمه بأن الصبي راغب في طاعته، وبذلك نجحت في فك أسره.
استمر محمد علي يعاشر والديه وأقاربه بكل هدوء وفرح إلى يوم استشهاده. كان سلوكه نحو أصحابه وأقاربه على شأن بكاه جميع أهل تبريز وناحوا عليه في اليوم الذي فدى بحياته في سبيل محبوبه.[9]
لم تخور ثقة الشاب برؤياه، ثم جاء ذلك اليوم الموعود الذي رأى فيه حضرة الباب بعينيه في ساحة المعسكر، فرمى بنفسه على قدميه، وقرت عيناه بتلك الابتسامة البديعة التي عرفها جيدًا، واستمع إلى صوت حضرة الباب وهو يفي بوعده، حيث خاطبه قائلاً “انهض…ستكون معي”.
كان وجه حضرة الباب في تلك الليلة الأخيرة التي قضاها في زنزانته متوهجًا بسعادة لم تظهر عليه في أي وقت سابق. كتب الدكتور ت.ك.شين في تقريره عن حضرة الباب ما يلي:
“نحن نعلم بأن حضرة الباب، خلال مواقف تاريخية من حياته كان يشع من ملامحه فيض من القوة والعظمة بدرجة لم يكن في استطاعة أحد أن ينظر إلى إشراقات بهائه وجماله، كما لم يكن من الغريب لغير المؤمنين أن ينحنوا بخضوع تام عند مشاهدة قداسته”[10]
ترك لنا السيد حسين وصفًا لآخر ليلة قضاها حضرة الباب على وجه هذه الأرض:
“تحدث حضرة الباب معنا بمرح وحبور غير عابئ بتلك العاصفة الغاضبة التي تحوم حوله، وكأن الأحزان بكلها التي أثقلت كاهله قد تلاشت تمامًا. تفضل حضرة الباب معلنا: (غدًا سيكون يوم استشهادي. ليت أحدكم يقوم الآن وبيديه ينهي حياتي. فإنني أفضل أن أقتل بيد حبيب لا بيد عدو). جفلنا من إنهاء حياة ثمينة كهذه بأيدينا. امتنعنا وبقينا واجمين. وفجأة وثب ذلك الشاب الصغير على قدميه وأعلن بكل شجاعة استعداده لتلبية كل ما يرغبه حضرة الباب. فأعلن حضرة الباب: (إن هذا الشاب الذي قام لتنفيذ رغبتي سوف يحصل معي على كأس الشهادة، وهو الذي اخترته ليشاركني تاجها)”[11].
وفي التالي حضر في الصباح الباكر رئيس الأعوان إلى الثكنة لأخذ حضرة الباب إلى كبار مجتهدي تبريز، إذ عليهم الإفتاء بإعدامه وبتوقيعهم فرمان الموت. وبذلك يجرد رئيس الوزراء نفسه من المسؤولية بأكملها.
كان حضرة الباب مشغولاً بمحادثة سرية مع السيد حسين، أحد أتباعه المقربين الذي عمل كاتبًا للوحي وشاركه طوال مدة سجنه، وهو الذي أودع حضرة الباب معه آخر إرشاداته ونصائحه. خاطب حضرة الباب السيد حسين قائلا: “لا تظهر إيمانك حتى تتمكن عندما يحين الأوان من إخبار الذين قدر لهم أن يسمعوا منك الأمور التي لا يعرفها أحد سواك”.
ما زال حضرة الباب منكبا في محادثته مع كاتب وحيه السيد حسين حين باغتهم رئيس الأعوان وأصرّ على اقتياد حضرة الباب فورًا إلى الخارج. التفت حضرة الباب إلي رئيس الأعوان وأنّبه بعنف قائلاً: “إلى أن أكون قد أدليت له بكل ما أريد قوله، لا توجد أي قوة أرضية تستطيع إسكاتي. فلو اجتمع جند العالم بأسره على لا ولن يقدروا على منعي من إتمام ما أريده حتى آخر حرف منه”.
أخذت رئيس الأعوان الدهشة من مخاطبة ذلك السجين له بمثل هذه اللهجة الجرية ومع ذلك أصرّ على أن يرافقه حضرة الباب دون تأخير أكثر من هذا فترك حضرة الباب محادثة مع السيد حسين أمين وحيه دون إتمامها.
اقتاد رئيس الأعوان حضرة الباب وذلك الشاب ذو الثمانية عشر ربيعًا، الذي قدر له يستشهد معه، الواحدً بعد الآخر إلى محضر كل من المجتهدين الثلاثة للإفتاء بقيلهم. تأكد الحراس من أن السلاسل التي حول رقبتيهما ومعصميهما مقفلة بإحكام. ولكي يشاهد ذلته كل فرد ربطوا حبلاً طويلاً في السلسلة التي حول عنق حضرة الباب يجرها خادم آخر، وعلى هذا النحو المشين ساروا بحضرة الباب في شوارع المدينة واقتادوه داخل الأسواق وهم ينهالون عليه بالضرب والإهانات وسخرية الجمهور، تماما مثل ما حدث للمسيح من قبل[12].
لم يعد حضرة الباب منتصرًا في نظر أهالي تبريز. كان عليه أن يموت. لقد كانوا يعملون على إذلاله وإهانته، تمامًا كما خطط له رئيس الوزراء. اكتظت الشوارع التي مرّ بها حضرة الباب بالجماهير. تسلّق الناس بعضهم على أكتاف البعض ليروا هذا الشخص الذي كثر الكلام حوله. قالوا: يا للأسف ليس له أدنى حيلة. من الواضح تمامًا أنه ليس من رجال الله و يقينا أنه ليس بالموعود الذي نحن في انتظاره”.
انتشر البابييون الذين كانوا بين الجمهور في جميع الاتجاهات، اجتهدوا في إثارة شعور الرأفة والشفقة بين المتفرجين، علهم يستطيعون بذلك تخليص سيدهم.
دخل السيد المسيح القدس مرَحَّبًا به تحفه التهاليل من كل جانب، وقد فرش الطريق تحت أقدامه بالسعف، ما كاد أن ينقضي عليه أسبوع في القدس، حتى انهالت عليه الإهانات واللعنات. وبالمثل-انمحي من ذاكرة الناس ذلك الجلال الذي واكب دخول حضرة الباب أول مرة مظفرًا إلى مدينتهم تبريز. ولكن، في هذه المرة، صب الجمهور القلق المتهيّج عليه اللعن والمسبات. كانوا يتعقبونه وهو مساق خلال الشوارع يريدون أن يظهر لهم المعجزات والعجائب. ولكن حضرة الباب خيّب ظنهم. شق بعض السفلة طريقهم إليه وسط الحراس لكي يطيلوا له الصفعات على وجهه. وعندما كانت تصيبه مقذوفة من الجمهور ينفجر الحراس والغوغاء بالضحك والاستهزاء.
وأخيرا، أحضروا حضرة الباب أمام ذلك المجتهد الذي سبق وحرّض رجال الدين في تبريز على جلده. وبمجرد أن رآه يقترب نحوه أمسك بفرمان الموت ودفع به إلى الخادم صاح بأعلى صوته:
“لا حاجة إلى إحضاره أمامي. فمنذ ذلك اليوم الذي شاهدته، منذ زمن طويل، خلال ذلك الاجتماع هنا بتبريز. سبق ووقعت هذه الفتوى بإعدامه، حتما إنه نفس الرجل الذي رأيته هناك، والذي، منذ ذلك الوقت، امتنع التوقف عن ادعائه. خزوه بعيدًا عني”.
رفض العلماء الآخرون بدورهم مقابلة حضرة الباب وجهًا لوجه، فقد زاد بغضهم له منذ اليوم الذي انتصر فيه عليهم. أعلنوا: “نحن راضون وموافقون تمامًا على صحة الحكم بإعدامه. لا تحضروه إلينا”.
وعندما حصل رئيس الأعوان على الفتاوى اللازمة بقتله، سلم حضرة الباب إلى سام خان، رئيس الكتيبة التي أوكل إليها أمر إعدام حضرة الباب.
إزداد سام خان تأثرًا من سلوك سجينه. لقد وضع عشرة من الحراس عند مدخل زنزانة حضرة الباب، وأشرف على تلك العملية بنفسه. ولكن، في كل خطوة قام بها كان يشعر بانجذاب متزايد نحو هذا السجين غير العادي. تملكه خوف متزايد من أن إزهاقه روحًا مقدسة كهذه قد يجلب عليه غضب ربه.
وأخيرًا لم يقدر على احتمال هذا القلق الذي انتابه أكثر من ذلك. فاقترب من حضرة الباب وتكلم معه على انفراد قائلاً:
“إنني مسيحي ولا أحمل لك أي ضغينة، فاذا كان دينك دين حق، حررني من مهمة سفك دمك”. فواساه حضرة الباب بهذه الكلمات: “نفّذ ما أُمرت به. فاذا كانت نيتك خالصة، تأكد من أن القدرة الإلهية سوف تخلصك من حيرتك”.
لم يعد تأجيل ساعة الإعدام ممكنًا أكثر من ذلك. فقد احتشد الجمهور في الميدان العام قادمًا من جميع القرى المجاورة. أمر سام خان رجاله بدق مسمار في العمود القائم بين بابي المعسكر، ثم شدوا عليه حبلين لكي يعلق بهما حضرة الباب وصاحبه الشاب كلاً على انفراد. هكذا تحقق أمام أعين الناس الناظرين إلى هذا المشهد كلمات النبوءة المذكورة في كتابهم المقدس والقائلة بأنّ الموعود عند قتله سوف يعلق كما علق السيد المسيح أمام أعين الناس.
توسل محمد علي إلى سام خان أن يضعه بطريقة يكون فيها جسده درعًا لهيكل حضرة الباب. فعلق آخر الأمر بحيث استقرّ رأسه على صدر حضرة الباب.
وصفت “المجلة الآسيوية” هذا الحادث قائلة: “ظل حضرة الباب صامتًا. كان وجهه الباهت الجميل، ومظهره وسلوكه المهذب، ويده البيضاوان وثوبه البسيط البالغ في النظافة… كل شيء فيه يدعو إلى الشفقة والرحمة”[13].
تجمع حوالي عشرة آلاف شخص في الميدان العام، واحتشدوا كذلك على أسطح المنازل المجاورة. جميعهم متلهفون لمشاهدة المنظر وكل واحد منهم كان على استعداد أن يتحول من عدو إلى صديق لأقل علامة من القوة تبدو من حضرة الباب. إنهم ما زالوا متعطشين إلى تمثيلية {دراما}، وأحبط حضرة الباب ظنهم. تمامًا كما تجمهر القوم في “جلجلة” يشتمون المسيح و يهزون رؤوسهم قائلين: “خلص نفسك اذا كنت ابن الله و أنزل من على الصليب”. وهكذا أيضًا استهزاء أهالي تبريز بحضرة الباب وصاحوا ساخرين من عجزه الظاهر.
وبمجرد أن شد حضرة الباب ورفيقه إلى العمود، اصطفت الكتيبة في ثلاث صفوف، في كل صف مائتان وخمسون رجلاً. لم يعد في وسع سام خان رئيس الكتيبة تأخير الأمر أكثر من ذلك. لقد أمره حضرة الباب بتنفيذ مهمته، ويظهر أن المشيئة الإلهية قد أعدت هذه الكتيبة لإزهاق روح حضرة الباب. السيء الذي كان مصدر حزن عظيم له.
وبدون رغبة منه أصدر أمره قائلاً: “أطلقوا النار”. فصوب كل صف بدوره النار على حضرة الباب وصاحبه حتى أفرغت الكتيبة برمتها رصاص بنادقها.
احتشد في تلك الساحة أكثر من عشرة آلاف شاهد عيان لذلك المنظر المكهرب الرهيب الذي أعقب إطلاق النار. يذكر أحد التقارير التاريخية عن هذه اللحظة المدهشة قائلاً: “كان الدخان الذي تصاعد من إطلاق البنادق السبعمائة والخمسين كثيفًا إلى درجة أحال نور الظهيرة إلى ظلام. وما أن انقشع الدخان حتى وقف الجمهور المنذهل أمام منظر تكاد لا تصدقة أعينهم. فبالرغم أن السبعمائة وخمسون رصاصة مزّقت الحبال التي علقا بها أربا اربًا إلا أن جسديهما نجيا من الرصاص بمعجزة.[14] فها هو رفيق حضرة الباب أمامهم واقفا حيًا لم يصب بأدنى أذى، بينما قد اختفى حضرة الباب عن أنظارهم تماما.
وعلى الفور ارتفعت صيحات الدهشة والارتباك والخوف من حناجر الجماهير المشدوهة
لقد اختفى (حضرة) الباب!
انه طليق.
انها معجزة!
إنه ولي من أولياء الله!
انهم يقتلون أحد أولياء الله!
ارتفع الصراخ والضجيج من جميع الجهات، لقد فقد الجمهور صوابه، وانقلب الميدان العام إلى مستشفى للمجانين حين بدئ رجال الدولة بحثهم العشوائي عن حضرة الباب. كتب الباحث والعلامة الفرنسي م.ح. هوارت عن ذلك الحادث قائلا:
“لكي يهدئ الجند من انفعال الجمهور الذي وصل اضطرابه إلى ذروته، ويحولون دون تلك الحشود التي كانت على استعداد تام للإيمان بمدعيّات دين أثبتت صحته، أطلعوهم على تلك الحبال التي مزقها الرصاص وصاحوا قائلين: ” “انظروا. إن الرصاصات السبعمائة والخمسين مزّقت فقط الحبال اربأ اربًا لذلك انفك قيدهما. لا شيء أكثر من هذا…إنها ليست معجزة”[15]
تواصل الضجيج والصريخ من كل حدب اذ لم يتبين بعد للناس ما حدث بالفعل. عبّر المستر هوارت عن رأيه في هذا الحدث المدهش قائلاً: “من الغريب أن نصدق بأن الرصاص لم يصب المحكوم عليه، بل على العكس، قطع الرباط عنه فنجا، أنها في الحقيقة معجزة”.
كما كتب نيقولاس عن تلك الواقعة يقول:
“حقا! لقد حدث شيء خارق للعادة، بل فريد في تاريخ البشرية: فقد مزّق الرصاص الحبال التي كانت تشد حضرة الباب، فسقط حضرة الباب على قدميه دون أن يخدش”[16].
انتهى بحث رجال الدولة الجنوني عن حضرة الباب، فعلى بعد بضع خطوات من مكان الإعدام، وجدوه في الحجرة نفسها التي كان يشغلها في الليلة السابقة، يكمل حديثه مع كاتب وحيه السيد حسين ويتابع إعطاءه التعليمات الأخيرة التي سبق وقطعها رئيس الأعوان في ذلك الصباح وقد ارتسمت على وجهه علامات الارتياح التّام، وكان واضحًا أن جسده قد خرج من تحت ذلك الوابل من الرصاص دون أندنى خدش. نظر حضرة الباب إلى رئيس الأعوان وقال: “لقد أنهيت حديثي. يمكنك الآن المضي في إنجاز مهمتك”.
تملك الاضطراب من رئيس الأعوان إلى درجة لم يقو على استئناف مهمته عندما تذكر بكل وضوح كلمات حضرة الباب التي أنّبه بها لقطعه حديثه إذ قال له”… فلو اجتمع جند العالم بأسره على لا ولن لن يقدروا على منعي من إتمام ما أريده حتى آخر حرف منه. رفض رئيس الأعوان الاستمرار في أية مساهمة لعملية الإعدام هذه، فغادر زنزانة الثكنة وهو يرتجف من صميم وكيانه وقدم على الفور استقالته من وظيفته وابتعد بالكلية عن إعدام حضرة الباب إلى الأبد.
ذهل سام خان رئيس الكتيبة المسيحية، هو الآخر، مما حدث وتذكر بكل وضوح تلك كلمات التي وجهها حضرة الباب له: “إذا كانت نيتك خالصة، فتأكد أن القدرة الإلهية سوف
تخلصك من حيرتك”.
نعم، أعطى سام خان الأمر بإطلاق النار، ومع ذلك نجا حضرة الباب. حقًا، قد تدخلت القدرة الإلهية فخلصته من ضرورة سفك دم هذا الرجل القدسي فأبى أن يمضي بإعادة عملية الإعدام مرة أخرى. وتوا أمر سام خان كتيبته بمغادرة ساحة الثكنة على الفور وأخبر المسؤولين صراحة أن مهمته قد انتهت بالنسبة إلى هذا العمل الجائر قائلاً:
” أنى أرفض وإلى الأبد الاشتراك مع كتيبتي في أي عمل يسبب أدنى ضرر لحضرة الباب”. وبينما كانت كتيبته تغادر الميدان العام أقسم أمام الجميع قائلاً: “لن أباشر هذه المهمة مرة أخرى، ولو كلفني ذلك حياتي”.
وبعد رحيل سام خان ورجاله تطوع أحد ضباط الحرس الملكي برتبة عقيد للقيام بإعادة عملية الإعدام. فعلّق حضرة الباب وصاحبه للمرة الثانية على الحائط بالمسمار نفسه واصطفت فرقة الإعدام الجديدة أمامهما. وفيما كانت هذه الكتيبة تستعد لإطلاق قذائفها القاتلة، خاطب حضرة الباب الجمهور المحدق إليه بآخر كلماته:
“أيها الجيل الملتوي. لو أمنتم بي لحذا كل واحد منكم حذو هذا الشاب الذي يعلو أكثركم مقامًا ولفدى نفسه بملء إرادته في سبيلي. وسوف يأتي اليوم الذي سوف تعترفون بي لكني في ذلك اليوم لن أكون معكم”.
خيّم صمت رهيب على الميدان بأكمله. فلن يسمع خلال ذلك الصمت الشؤم إلا قرقعة البنادق المتأهبة لإطلاق النار نحو صدر حضرة الباب وصاحبه. أخذ الجمهور المضطرب يتحرك بجزع. أصدر ضابط الكتيبة الأمر بإطلاق النار، فزمجرت البنادق وأرعدت، فمزّق رصاصها جسد حضرة الباب وصاحبه الشاب.
وكما لفظ المسيح آخر أنفاسه وهو معلق على الصليب عسى أن يعود الناس إلى بارئهم، كذلك لفظ حضرة الباب أنفاسه الأخيرة هو معلّق على حائط الثكنة في مدينة تبريز بأرض إيران.
كتب نيقولاس في تاريخه عن تلك الساعة الأخيرة قائلاً:
“يعتقد المسيحيون بأن السيد المسيح لو رغب في النزول من على الصليب لفعل هذا بكل سهولة. ولكن مات صعدت روحه بملء إرادته لأنّه كُتب أن يحدث ذلك كي تتم النبوءات. ونفس الشيء، كما يقول أتباعه، يصدق في حضرة الباب…صعدت روح حضرة الباب بنفس الطريقة بطوع إرادته لأن موته هذا كان لإنقاذ العالم. فمن ذا الذي يحكي لنا عن تلك الكلمات التي نطق بها ضرة الباب وفي خضم ذلك الاضطراب الذي لم يسبق له مثيل… ومن يعرف تلك الذكريات التي حركت روحه الطيبة؟”[17].
ناجي المسيح ربه وهو معذّب في حديقة جلجلة: “يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس. ولكن ليس كما أريد أنا. بل كما تريد أنت”[18].
وكذلك، ناجي حضرة الباب الإنسانية جمعاء في زمهرير شتاء ماه كو المتجمد معلنا بأن مشيئة الله، لا إرادته هو، “هي التي دفعته بشدة إلى إلقاء نفسه في بحر الخرافات والبغضاء ليبتلعه”
قد نطق كلا من السيد المسيح وحضرة الباب بعبارة الإنذار نفسها:
“أيها الجيل الملتوي”.
وقع استشهاد حضرة الباب عند ظهر يوم الأحد، في التاسع من يوليو
عام 1850م بعد انقضاء واحد وثلاثين عامًا من ولادته في شيراز.
تقول وثيقة تاريخية عن إطلاق النار للمرة الثانية والأخيرة: “في تلك المرة نجحت عملية الإعدام… ولكن الجمهور الذي كان متأثرًا تأثرًا عميقا لما شاهده بأم عينيه، تفرّق بخطى ثقيلة، غير مقتنع بأن حضرة الباب كان كما صوره لهم العلماء رجلا مجرمًا”.[19]
وفي مساء يوم استشهاده، نقلت الجثتان الملتحمتان لحضرة الباب وصاحبه من الميدان العام وألقي بهما على حافة خندق خارج أبواب مدينة تبريز. وكي لا يدعي أتباع حضرة الباب فيما بعد امتلاكهما، توالت الحراسة عليهما أربع فرق يتكن كل واحدة من عشر جنود.
وفي صباح اليوم التالي للإعدام توجه موظف من إحدى القنصليات الأجنبية يصحبه رسام إلى الخندق، وأمر برسم صورة للجثتين. يقدم النبيل في تاريخه ما قاله شاهد عيان عن ذلك الحدث: “لقد كانت صورة صادقة للباب… لم تصب أية رصاصة جبهته، أو وجنتيه، أو شفتيه. ورأيت ابتسامة بدت وكأنها ما زالت عالقة بمحياه”[20].
وفي عصر اليوم الثاني وصل سليمان خان، أحد أتباع حضرة الباب إلى تبريز قادمًا من طهران. سمع سليمان خان بالخطر المحدق بحياة حضرة الباب فترك على الفور طهران وحضر إلى تبريز لمحاولة تخليصه[21]. ولسوء حظه وصل متأخرًا. فصمم على إنقاذ جثتي حضرة الباب وصاحبه بالرغم من وجود الحراس، حتى ولو كلفه ذلك حياته.
وعند منتصف تلك الليلة نجح سليمان خان بمساعدة صديق له في حمل الجثتين بعيدًا. فقد راقب الصديقان الحراس بدقة. لم يكن الحراس مخلصين في حراستهم طوال الليل، لذا وبينما كانوا مستغرقين في النوم سرق سليمان خان وصديقه الجثتين المقدستين ونقلاهما من حافة الخندق إلى مصنع للحرير يملكه أحد البابيين: وفي اليوم التالي صنعا صندوقً خصيصًا
لهذا الغرض أخفياه في مكان أمين.
وعندما استيقظ الحراس من سباتهم اكتشفوا أن أمانتهم قد اختفت، فحاولوا تبرئة أنفسهم وادعوا بأن وحوشًا مفترسة حملتها بعيدًا أثناء نومهم. وخوفًا من فقدان مراكزهم اخفى رؤساؤهم الحقيقية ولم يخبروا عنها أرباب السلطة.
ابهج هذا الادعاء أتباع حضرة الباب الذين كانوا متشوقين لمنع أية تحقيقات أخرى قد تسلبهم هذين الجثمانين المقدسين.
انبرى العلماء الدينيون من على منابرهم وبكل تبجّح علنوا للملاً أن جثة حضرة الباب قد التهمتها الحيوانات المفترسة وصاحوا قائلين: “هذا يثبت أننا على حق وأنه على باطل لأنه مكتوب في نبوءاتنا أن جسد الموعود المقدس يكون محفوظًا من الوحوش المفترسة ومن جميع الزواحف”.
قال نيقولاس في تاريخه:
“إن الشهادة الأكثر اعتمادًا التي أدلى بها شهود تلك الدراما وممثلوها لا تدعني أشك قط في أن جسد حضرة الباب قد نقلته الأيدي النقية الورعة، وأخيرًا…دفن بصورة تليق به”[22].
أخبر سليمان خان حضرة بهاء الله الذي كان في طهران بإنقاذ جسد حضرة الباب. فأرسل بهاء الله على الفور رسولاً خاصًا إلى تبريز لعمل الترتيبات اللازمة لنقل الجسدين الطاهرين إلى العاصمة.
يقول النبيل اتخذ هذا القرار بناء على رغبة حضرة الباب نفسه.
” … عبر حضرة الباب، بخط يده، عن رغبته في أن يدفن بالقرب من محبوبه (حضرة بهاء الله). يقول النبيل بأن حضرة الباب ذكر في رسالة كتبها بجوار مزار بالقرب من طهران خاطب فيها الولي المدفون هناك بقوله: “طوبى لك بما استقر مرقدك…تحت ظل محبوبي. فيا ليتني أدفن بجوار تلك التربة المقدسة”[23].
احترم حضرة بهاء الله هذه الرغبة فأمر أن يُنقل رفاة حضرة الباب إلى تلك البقعة نفسها، وظل هذا الأمر سرًا إلى أن غادر حضرة بهاء الله بلاد فارس.
وعلى الفور شرعت يد القهر الإلهي في ضرب أولئك المسؤولين، في الدرجة الأولى، عن استشهاد حضرة الباب. فانصبت عليهم نفس الوابل من القسوة التي حاقت بأولئك الذين تسببوا في إيذاء حضرته خلال فترة حياته.
فحاكم شيراز الذي كان أول من سجن حضرة الباب، أُطيح به من سلطته ونبذه كلا من الصديق والعدو على السواء. وشيخ الإسلام الذي جلد حضرة الباب أصيب بالشلل ومات أبشع ميتة. ومحمد شاه الملك الذي رفض مقابلة حضرة الباب نزل به المرض وقضت عليه مضاعفات العلل قبل أوانه بكثير. ورئيس وزرائه الحاج ميرزا أقاسي، الذي أبعد حضرة الباب إلى السجن مرتين، أقيل من منصبه، ومات معدمًا ومنفيًا.
ومحمود خان، رئيس بلدية طهران، الذي سجن الطاهرة وشهداء طهران السبع وتعاون على قتلهم، خنق ولق على المشنقة.
أما ناصر الدين شاه، الملك الجديد، الذي أباح قتل حضرة الباب فقد كان في انتظاره يوم اغتيال أكثر فظاعة وإثارة من يوم مقتل أبيه.
وماذا عن رئيس الوزراء، ميرزا تقي خان، الذي أمر بإعدام حضرة الباب وحرض على القتل العام للعديد من أتباعه، وقع في قبضة القصاص القاسي نفسه، فأعظم جريمة اقترفها هي قضائه على حياة حضرة الباب، وحدوث أكبر مذابحه، بعد استشهاد حضرة الباب، تلك التي وقعت في زنجان حيث استشهد أكثر من ألف وثمانمائة بابي في مدينة زنجان بمفردها. فبالرغم من أن الجنود أقسموا بشرفهم للإبقاء على حياة أتباع الحجة الذين يخرجون بملء إرادتهم من مخابئهم، فقد وضعوهم في صفوف، وطعنوهم بحراب بنادقهم، على دق الطبول وصياح الأبواق. ثم أجبر هذا الجيش الظافر من تبقي من ذوي الشأن على السير أمام خيولهم طوال الطريق إلى طهران، وأعناقهم مكبلة بالسلاسل وأقدامهم مصفد بالقيود. وعندما أحضروا أمام رئيس الوزراء ميرزا تقي خان، أمر بقطع أوردة ثلاثة من كبارهم، وقال إنه يريد أن يجعل منهم عبرة، كما فعل بحضرة الباب.
لم تظهر على الضحايا أي علامات خوف أو انفعال وقالوا لرئيس الوزراء أن فقدان حسن النية، الذي يقع ذنبه على رجال السلطة والجيش، وعليه هو أيضا، جريمة لن يكون عقابها يسيرًا، فقتلهم رسول اللهُ، وتعذيبهم أتباعه سوف يحاسبهم الله عليها حسابًا عسبرًا وتنبّأوا بأن رئيس الوزراء نفسه سوف يلاقي عاجلاً نفس المصير الذي يعده وينزله بهم وهو في ثورة من البغض.
ذكر جوبينو في تاريخه: “أن الشيء الوحيد الذي أستطيع إثباته…هو أنه أُكِّدَ لي أن النبوءة في الحقيقة قد تنبأ بها شهداء زنجان”.[24]
حدث تمامًا ما سبق وتنبأ به هؤلاء الضحايا. فقد سقط ميرزا تقي خان من حظوته لدى الملك، وتكتلت ضده دسائس رجال القصر وأطماعهم لإنجاز عليه. انتزع منه كافة منح الشرف التي كان ينعم بها الملك عليه، فاضطر إلى الفرار من العاصمة يجر وراءه أذيال الخزي والعار، ويتعقبه البغض الملكي أينما حل. وأخيرًا أطبقت عليه يد الانتقام. فقد قطعت أوردته، وما زال حائط حمام قصر فين ملطخًا بدمه إلى يومنا هذا شاهدا على الفظائع التي اقترفتها يداه[25].
لم تنته بعد موجة القصاص العادل. فقد نزل بميرزا حسن خان، شقيق رئيس الوزراء، الذي نفذ حكم الإعدام بحضرة الباب أبشع عقاب فقد تخلى الجميع عن إعانته، ومات بائسًا ذليلاً.
أما سام خان، قائد الكتيبة التي تطوعت لتحل محل الكتيبة الأولى، لقي حتفه إثر قصف الإنجليز بلدة المحمّرة بالقنابل المدمرة. وانتهت الكتيبة نفسها بعقاب مخيف. فبالرغم من إخفاق سام خان ورجاله في إنهاء حياة حضرة الباب لأسباب لا يمكن تعليلها فقد أرادت هذه الكتيبة فعلاً تجديد المحاولة ونجحت في تمزيق جسد حضرة الباب بالرصاص. ففي تلك السنة نفسها سحق زلزال عنيف مائتين وخمسين من أفرادها مع ضباطهم حين كانوا يرتاحون في أحد أيام الصيف الحار تحت ظل حائط بين تبريز وأردبيل. اذ سقط الجدار عليهم فجأة ولم يفلت أحد منهم[26].
أما خمسمائة الباقية من أفراد الكتيبة كان مصيرهم أكثر إثارة من زملائهم الذين سبقوهم. فقد حدث بعد مرور ثلاثة أعوام على استشهاد حضرة الباب أن تمرد أفرادها على الحكومة، فأمرت السلطات بإعدامهم جميعًا رميًا بالرصاص دون رحمة على أيدي فرقة الإعدام، فلاقوا بذلك نفس المصير الذي اقترفته أيديهم نحو حضرة الباب.
ومن الأمور التي تدعوا إلى العجب أنه لم تفرغ فيهم قذيفة واحدة من الرصاص، بل كما حدث تماما لحضرة الباب، أطلقت عليهم قذيفة ثانية من الرصاص كي يتأكدوا من موتهم جميعًا، ثم مزّقت أجسادهم بالحراب والسنان وتركت أشلاؤهم معروضة أمام أعين الناس، مثل ما جرى لجسدي حضرة الباب ورفيقه.
أثار هذا الحادث الكثير من الاهتمام والتهامس في طول تبريز وعرضها. فتساءل الناس فيما بينهم “أليست هذه هي الكتيبة التي أعدمت حضرة الباب؟ لقد أخذهم نفس المصير. هل يمكن أن يكون هذا إلا الانتقام الإلهي الذي أردي بهذه الكتيبة بأكملها إلى هذه النهاية الشائنة؟”.
وعندما ترامت إلى مسامع الزعماء الدينيين هذه الإشاعات والشكوك، أخذهم الخوف، فأصدروا تحذيرًا بإنزال العقاب الشديد على كل من يروّج مثل هذه الأقاويل. وليبرهنوا على غضبهم جعلوا من بعض الناس عبرة، فغرم البعض، وضرب آخرون. وأنذر الجميع بعقاب أشد إن لم يكفوا، على الفور، عن مثل هذا الكلام، وأعلنوا بأن: “مثل هذه الأقوال إنما تحيي ذكرى خصم مرعب”.
يسجل التاريخ لنا هذه الواقعة فيول بأنه منذ الساعة الأولى التي أطلقت فيها صلية الرصاص على حضرة الباب، “هبت على المدينة بأسرها عاصفة شديدة هوجاء لم يروا نظيرا لها من قبل وحجبت دوامة من الغبار الكثيف جدًا ضوء الشمس، وأعمت أعين الناس وظلت مدينة تبريز يلتفها ذلك الظلام المريع من الظهر إلى الليل”.
كانت هذه هي الساعة التي أشار إليها العهد القديم في سفر عاموس قائلاً: “ويكون في ذلك اليوم يقول الرب. أنى أغيب الشمس في الظهر وأعتم الأرض في يوم نور”[27].
والآن، كما هو موعود في سفر الرؤيا ليوحنا قتل “الكبش”. وتنبأ يوحنا أيضا في نفس السفر عن تلك الحوادث التي سوف تقع بعد قليل في المدينة التي ولد فيها حضرة الباب، فقال: “وفي تلك الساعة كانت زلزلة عظيمة فسقط عشر المدينة وقتل بالزلزال سبعة آلاف من الناس” {الآية 13 الفصل 11}.
وهذا وصف مكتوب للفترة التي تلت إعدام حضرة الباب: “سبب هذا الزلزال الشديد في شيراز بعد استشهاد حضرة الباب اضطراب كل المدينة، وهلك بسببه الكثيرون. كما حدث أيضًا اضطراب عظيم بسبب تفشي الأمراض الأوبئة مثل الكوليرا والضيق والقحط، والمجاعة، والمصائب، بشكل لم يعرف له مثيل من قبل”[28].
تحققت جميع نبوءات السيد المسيح ووعوده بقدوم حضرة الباب رغم نظرة الزعماء الدينيين لها بعيون عمياء وآذان صماء. وشهدت على هؤلاء القادة الروحيون مقدمة كتاب تاريخي موثوق به عن حياة حضرة الباب.
كان هؤلاء العلماء على قناعة تامة بأن الموعود المنتظر لن يستبدل الشرع القديم بشرع جديد، بل سوف يعترف ويعزز الشريعة التي يقومون هم بتأدية وظائفها. وإنه سوف يعظم من شأنهم تعظيمًا بلا حساب، وسوف يوسع سلطانهم شرقًا وغربًا بين الأمم، يكسب لهم الإنسانية المتمردة ويخضع الرقاب لنفوذهم.
وعندما أعلن حضرة الباب شريعة جديدة، وأسس إصلاحًا أدبيًا وروحيًا عميقًا بضرب المثل وسن الأحكام، اشتّم العلماء على الفور رائحة خطر هلاكهم وشعروا بتصدع احتكارهم، وتهديد أطماعهم، وتلطيخ حياتهم وسلوكهم بالعار، فقاموا ضده ساخطين عليه متظاهرين بالتقوى”.
ويمضي هذا التحليل التاريخي ساردا:
“إن السبب الذي من أجله أنكروا دعوة حضرة الباب وقاما على اضطهاده، في جوهره، نفس السبب الذي من أجله اضطهد السيد المسيح وأنكروه. فلو لم يأت السيد المسيح بكتاب وشرع جديد ولو أنه أعاد نفس المبادئ الروحية التي سبق ونشرها موسى عليه السلام وأجري التعاليم والأحكام الموسوية، لاعتبروه مصلحًا اجتماعيًا، ونجا من بطش الكتبة والفريسيين.”
أما الادعاء بتغيير أي جزء من شريعة حضرة موسى عليه السلام، حتى ولو كان هذا متعلقًا بالأمور الدنيوية كالطلاق وحفظ السبت، وزواله على يد واعظ غير مرسوم من الناصرة، فهذا مما يهدد المصالح الشخصية للكتبة والفريسيين أنفسهم.
ولما كانوا هم الممثلون الشرعيون موسى والله على هذه الأرض، فإن مثل هذا الادعاء من شال مغمور غير متكهن يعتبر تجديفًا على الله العلي. وبمجرد أن تبين للعلماء موقف السيد المسيح قاموا على اضطهاده. ولما رفض الرجوع عن ادعائه هذا، كان نصيبه الإعدام”.
“ولأسباب مشابهة تمامًا، قوبل حضرة الباب بالمقاومة منذ البداية”.[29]
لا عديل في التاريخ المدوّن كله لدورة حضرة الباب في قصرها وفورتها إلا قصة آلام السيد المسيح. فهناك تشابه مدهش في مميزات أوجه حياتهما، فحداثة سنيهما ووداعتيهما، والسرعة المذهلة التي سارت بها دورة كل منهما نحو ذروتها، والشجاعة التي تحديا بها الأنظمة المتبعة والقوانين الشعائر الدينية التي ولدا فيها، والدور الذي لعبه رجال الدين كمحرضين رئيسيين لانتهاك حرمتيهما و الإهانات التي صبت عليهما، والقبض المفاجئ عليهما، والاستجوابات التي تعرضا لها، الجلد الذي أنزل عليهما، و مرورهما أولا مظفرين ثم معذبين في شوارع المدينة التي تقرر قتلهما فيها، واستعراضيهما في الشوارع أثناء سيرهما إلى مكان استشهاديهما، وكلمات الأمل والوعد التي نطقا بهما لمرافق محكوم عليه بالموت معهما، والظلام الذي أغشي الأرض ساعة استشهاديهما، وأخيرًا تعليقهما المهين أمام أنظار جمهور معادي.
“إن حدثًا بمثل هذه الخطورة لا يمكن إلا أن تثير الاهتمام الشديد والواسع حتى خارج حدود البلد الذي وقع فيه”[30].
تشير وثيقة تاريخية مؤثرة بصفة خاصة إلى حضرة الباب فتخبرنا:
“إن هذه النفس المجيدة قامت بقوة زلزلت أركان الشريعة والأخلاق والآداب، والأحوال، والعادات، والرسوم في فارس، وأسست أحكامًا جديدة وشرعت قوانين جديدة، ودينًا جديدًا. ومع أن أرباب الدولة وأغلبية العلماء والشعب قاموا جميعًا على تحطيم هذه النفس وإفنائها، فإنها قاومتهم جميعًا بمفردها، وهزّت كل بلاد فارس”.[31]
ذكر أحد الكتاب قائلا: “قصد أناس كثيرون من جميع أنحاء العالم إلى إيران، وشرعوا في بحث هذا الأمر بحثًا صادقًا”.
شهد كاتب فرنسي مرموق متخصص في القانون الأوروبي قائلاً:
“اجتاحت أوروبا بأكملها موجة من العطف والسخط”.
وقال:
“وغدا موضوع استشهاد حضرة الباب، عام 1890م، منهلاً عذبًا لأدباء جيلي في باريس كتلك الأنباء الأولى عن مقتله فقد نظمنا القصائد عنه والتمست سارا برنهارت من كاتول مانديس أن يؤلف تمثيلية في موضوع هذه المأساة التاريخية”[32].
وفي عام 1903م، نشرت رواية درامية تحت عنوان “حضرة الباب” ومثلت في مسرح من أشهر مسارح بيطرسبورج St. Petersburg. كما نشرت هذه الدراما في لندن، وترجمت إلى الفرنسية في باريس، وترجمها إلى الألمانية الشاعر فيدلر Fiedler.[33]
اقتبس م. ج .بالتو M.J.Balteau في محاضرة له عن دعوة حضرة الباب الكلمات التي ذكرها فامبري Vembery’s في الأكاديمية الفرنسية والتي تشيد على عمق تعاليم حضرة الباب و قوتها، و قال بأن حضرة الباب “عبّر عن عقائد تليق بأكبر المفكرين”.[34]
وكتب العالم الشهير من كمبردج الأستاذ ادوارد جرافيل براون، يقول:
“من يستطيع أن يفلت من جاذبية حضرة الباب اللطيفة؟ فحياته المملوءة بالأحزان والاضطهاد، وطهارة خلقه وشبابه وشجاعته وصبره غير المتذمر في المصائب… وبالأخص وفاته المفجعة، كل هذا يجعلنا نتعاطف مع رسول شيراز الفتى”[35].
وهذا هو حكم القس الانجليزي المرموق الدكتور ت.ك.شين حيث يقول:
“مسيح العصر هذا…نبي وأكثر من نبي. فجمعه بين الحلم والقوة أمر نادر إلى درجة أنه لزام علينا أن نضعه في عداد من هم فوق البشر”.[36]
وكتب السير فرانسيس يانج هزبند Sir Francis Young Husband في مؤلفه “الوميض” قائلاً:
“إن قصة حضرة الباب هي ملحمة البطولة الروحية التي لم يتجاوزها بشر بعد… فصدق حضرة الباب العميق لا شك فيه، اذ أنه ضحى بحياته في سبيل دعوته. ولا بد أن يكون هناك سر في رسالته جذب هؤلاء الناس جميعا إليه وأرضى نفوسهم والشاهد على ذلك أن آلافًا منهم فدوا بأرواحهم عن طيب خاطر في سبيله وأن الملايين يتبعونه الآن…وتعد حياته واحدًا من تلك الأحداث التي وقعت في المائة سنة الأخيرة والتي هي جديرة حقًا بالدراسة”[37].
وكتب المؤرخ الفرنسي ا.ل.م. نيقولاس يقول:
“إن حياته أمثولة من أرفع أمثلة الشجاعة التي حظيت البشرية برؤيتها. لقد ضحى بنفسه من أجل الإنسانية، وفي سبيلها فدى بروحه وجسده، ولأجلها صبر على الحرمان والإهانات والتعذيب والاستشهاد وختم بدم حياته على ميثاق الأخوة العالمية. ومثل ما فعل السيد المسيح، دفع بحياته ثمن إعلان حكم الوفاق والمساواة والمحبة الأخوية. وكان يعرف أكثر من غيره اية أخطار فظيعة كانت تثقل كاهله… وعلى الرغم من كل هذا لم تهن عزيمته، ولم يعرف الخوف طريقًا إلى روحه، وإنه بكل هدوء وثبات وبدون أن يلتفت إلى الوراء متمالكًا لكل قواه سار إلى داخل هذا الأتون المشتعل”[38].
وأخيرًا تباهى العلماء ورجال الدولة بأنهم قضوا على الدين الذي طالما حاربوه. فقد انتهى حضرة الباب، وفتك بتلاميذه الرئيسيين وضرب الجمهور أتباعه في طول البلاد وعرضها وأنهكت قواهم تم إسكاتهم.
فرح الملك ورئيس الوزراء، فاذا صح قول مستشاريهما فلا ولن يسمعا بعد الآن عن حضرة الباب ودعوته وسريعًا سيطوي النسيان دعوته وترفرف عليها أجنحة الموت. وأخيرًا استطاعت القوى المجتمعة التي أحاطت بالدعوة في إطفاء النور الذي أوقده أمير المجد الشاب في بلده.
كان حضرة بهاء الله في تلك اللحظة يستقبل في إحدى ضواحي العاصمة زائرًا صديقًا قدر له أن يصبح بعد مدة قصيرة رئيسًا للوزراء. قال هذا الصديق لحضرة بهاء الله: “لقد قتل حضرة الباب وأعدم في تبريز وانتهى كل شيء. وأخيرًا أخمدت النار التي كنت أخشى أن تطوفك وتفتك بك”. فأجابه حضرة بهاء الله:
“إذا صح هذا فأيقن بأن النار التي أوقدت سوف يزداد أجيجها من جراء هذا العمل نفسه أكثر مما سبق وسوف تحدث لهيبًا يعجز عن إخماده قوى رجال السلطة مجتمعين”.[39]
ردّد الكونت دي جوبينو هذه العبارة فدون في موسوعته التاريخية أنه {أي إعدام حضرة الباب}: “بدلاً من إخماد النيران، قد زادها لهيبًا وسعيرًا”[40].
وفقًا لمقاييس العالم، كانت حياة السيد المسيح حياة مأساوية ومقرونة بالإخفاق. فقد خانه أحد تلاميذه المختارين وأنكره آخر، ووقفت حفنة فقط منهم عند قاعدة الصليب.
وكان لا بد من مرور قرون من الزمان قبل أن يسمع العالم باسمه. وبتطبيق مقاييس العالم نفسه، فإن حياة هذا الشاب الشيرازي، السيئ الحظ، بدت ألأفجع في التاريخ وأقلها ثمرًا. فالعمل المجيد الذي خطه والذي قام على تنفيذه بكل بطولة يبدو وكأنه قد انتهى بكارثة عملاقة.
انطلقت حياة البطولة القصيرة تلك كالنيزك الخاطف في سماء إيران. والآن طواها الموت في ظلمة اليأس. وكان استشهاده هذا الحلقة الأخيرة في سلسلة المآسي التي اعترضت سبيله منذ بدء دعوته.
ففي بدء دعوته ذهب حضرة الباب إلى مكة قلب العالم الإسلامي ليعلن دعوته جهارًا. ولكنه قوبل ببرودة وعدم مبالاة، فعزم العودة إلى مدينة كربلاء كي يؤسس دعوته. ولكن القبض عليه حال دون ذلك. والمشروع الذي رسمه لتلاميذه المختارين لم يكمل معظمه. والاعتدال الذي حثهم عليه، ضاع في غمرة أول حماس سيطر على أوائل المؤمنين بدعوته. وفرصته الوحيدة في لقائه للملك، ضرب بها رئيس الوزراء عرض الحائط. وقتل أقدر تلاميذه الواحد تلو الآخر وسحقت زهرة أتباعه في مذابح بشعة عمت البلاد بأجمعها. ثم عقب ذلك استشهاده.
بدت هذه الأحداث، المهينة في ظاهرها، وكأن دعوة حضرة الباب قد بلغت أدنى درجات الهبوط وتتوعد بإخماد آماله بالكلية. ولكن وعد حضرة الباب المستمر بأن موعود جميع الأديان سوف يظهر قبل مرور سنة التسع، كان يتوهج كالنار في ظلام هذه النكسات والمحن المتتالية. ولم يكن هناك أدنى شك في تعاليمه انه ليس إلا بشيرًا لمجيء من هو أعظم منه، فهو يدرك تمام الإدراك أن البذرة قد غرست بإحكام في حقول القلوب البشرية ومروجها. فهو الفجر، وسوف تعقبه، عما قريب، شروق اشمس.
لم تظل نفس على قيد الحياة من تلك الشخصيات العظيمة التي أحبته كل الحب إلاّ حضرة بهاء الله، الذي سيق مُعْدَمًا مع عائلته وحفنة من الأتباع المخلصين إلى المنفى ثم زجوا به خلف قضبان السجن في بلد أجنبي.[41]
ثم أبعد من مكان إلى مكان، حتى وصل إلى “جبل الرب”[42] بالأرض المقدسة. ونفي حضرة بهاء الله وهو سجين إلى قلعة بمرج عكاء، وهكذا تحققت حرفيًا الكلمات الدرية لتلك النبوءة عن “أواخر أيام”، التي مر عليها قرون عدة وظهور الرسولين التوأمين، جاء فيها: “يقتلون {أي أصحاب المبشر} جميعًا الا واحدًا منهم ينزل في مرج عكاء، ارض المأدبة الإلهية”.[43]
ومع أن الدعوة الإلهية سحقت ودفنت في الأرض منذ نعومة أظفارها، وسحقت بالأقدام بكل قسوة، إلا أن هذه العملية نفسها أدت إلى إنباتها. إن دعوته التي قد غرست في الأرض وسقتها دماء شهدائها سوف تزدهر بعظمة وجلال فيما بعد مع سطوع الشمس وتتحقق النبوءات بكل دقة.
وسوف يفسح الفجر الطريق أمام سطوع الشمس. وإن ذلك العصر الذي وعدت بيه البشرية منذ بداية الزمان، {يوم القطيع الواحد والراعي الواحد} يدشن بقريان ذلك الغلام الشيرازي النبيل، ألا وهو حضرة الباب،
باب الله
[1] الدلائل البع ترجمة نيقولا ص 54-60
[2] السيد محمد الباب نيقولا ص 387
[3] كونت دي جوبينو المذاهب والفلسفات في أسيا الوسطى ص 210-213
[4] كونت دي جوبينو المذاهب والفلسفات في أسيا الوسطى ص 210-213
[5] النبيل ص 500-504
[6] النبيل ص 321-322
[7] النبيل ص 506 507
[8] Dr, TK Cheyne The reconciliations of races and religions pp 185
[9] النبيل ص 306-308
[10] Dr, TK Cheyne The reconciliations of races and religions pp 8-9
[11] النبيل ص 507-512
[12] كونت دي جوبينو المذاهب والفلسفات في أسيا الوسطى ص 220
[13] لمجلة الأسيوية المجلد السابع ص 378
[14] النبيل ص 512-514
CMC Hurt La religion de Bab pp 3-4
[16] نيقولا السيد الباب ص 375
[17] نيقولا السيد الباب ص203-204
[18] لوقا 22:42
[19] CMC Hurt La religion de Bab pp3-4
[20] النبيل ص 518
[21] الحقيقة أن حضرة بهاء الله هو الذي رسل سليمان خان على تبريز
[22] نيقولا السيد الباب ص377
[23] النبيل ص 520-521
[24] الكونت دب جوبينو المذاهب والفلسفات في أسيا الوسطى ص207-209
[25] God Passes by pp 83
[26] God Passes by pp 83-85
[27] عاموس 8:9
[28] Some Answers questions pp 65
[29] النبيل ص 31-32
[30] God Passes by pp 55-57
[31] Some Answers questions pp 30-31
[32] [32] God Passes by pp 56
[33] God Passes by pp 56
[34] M.J.Balteau Le Babise pp 28
[35] EG Browne The Babis ofPercia pp 35
[36] God Passes by pp 55
[37] النبيل ص 516-517
[38] السيد علي محمد الباب ص 203-204
[39] النبيل ص 522
[40] المذاهب والفلسفات فسا سيا الوسطى ص 224-225
[41] النبيل ص 651-654
[42] جبل الكرمل
[43] سيد عبد الوهاب الشعراني اليواقيت والجواهر ص 144
ملحوظة
أسماء المراجع رغم كونها مدونة بالغة العربية مثل كتاب النبيل إلا انهها مسقاة من المراجع الإنجليزي أو الفرنسي الذي استخدمها الكاتب