‎⁨خطب عبدالبهاء في أوروبا وأمريكا⁩
‎⁨خطب عبدالبهاء في أوروبا وأمريكا⁩

‎⁨خطب عبدالبهاء في أوروبا وأمريكا⁩

مقدّمة النّاشر

صعد حضرة بهاء الله – مؤسّس الدّين البهائيّ – إلى الرّفيق الأعلى في أواخر أيّار (مايو) سنة 1892، فتولّى تبيين أمره وترويجه من بعده ابنه عبّاس أفندي الّذي يعرف جيّدًا باسم: “المولى” و”حضرة عبد البهاء”.
وفي فاتحة هذا القرن بلغ انتشار الدّين البهائيّ في الغرب درجة استلزمت سفره إلى أحبّائه الّذين تعهّدهم بعناية فائقة، غير أنّه لم يستطع أن يغادر شواطئ الأرض المقدّسة إلاّ بعد أن أطاح انقلاب “تركيّا الفتاة” بالحكومة العثمانيّة سنة 1909، وأطلقت حكومة الانقلاب سراح كافّة المسجونين السّياسيّين والدّينيّين، وما كاد عبد البهاء يستردّ حرّيّته بعد اعتقال وسجن وتضييق دام أربعين سنة حتّى نهض في ثقة وعزم وشجاعة ليكرِّس- وهو على أبواب السّبعين من العمر- ما بقي من قوّته، ليقوم بهذه الأسفار الطّويلة الّتي دامت ما لا يقلّ عن ثلاثة أعوام.
الرّحلة الأولى
ففي شهر أيلول (سبتمبر) 1910 أبحر من الأرض المقدّسة وأقام في بور سعيد ما يقرب من شهر واحد، وركب السّفينة من هناك ليبحر إلى أوروبّا، إلاَّ أنّ توعّك صحّته اضطرّه إلى تأجيل رحلته فتوقّف بالإسكندريّة نحو عام واحد حيث أقام مستشفيًا وزار أثناء إقامته تلك: القاهرة، وضاحية الزّيتون.
وفي أغسطس سنة 1911 أبحر من الإسكندريّة عن طريق مارسيليا إلى مدينة تونون لي بان السّويسريّة، ومكث فيها أيّامًا معدودة وألقى هناك خطبته الجامعة الّتي نقلها أحد المراسلين إلى جريدة الأهرام المصريّة.( )
وفي اليوم الرّابع من شهر أيلول (سبتمبر) 1911 وصل عبد البهاء مدينة لندن، فمكث فيها شهرًا واحدًا ليغادرها إلى باريس حيث بقي مدّة تسعة أسابيع غادر بعدها العاصمة الفرنسيّة ليعود إلى مصر في شهر كانون الأوّل (ديسمبر) من العام نفسه، وقضى فصل الشّتاء في مدينة الإسكندريّة. وهذه هي ما نطلق عليها اسم “الرّحلة الأولى”، وقد دامت أربعة أشهر أو نحوها.
الرّحلة الثّانية
بدأ حضرة عبد البهاء رحلته الثّانية إلى الغرب في اليوم الخامس والعشرين من شهر آذار (مارس) 1912 فقد أبحر إلى نيويورك عن طريق نابولي، فوصلها بعد 18 يومًا وفي أمريكا قام بجولة واسعة طويلة استغرقت 8 أشهر جاب فيها الولايات المتّحدة من المحيط إلى المحيط وبعض المدن في كندا ثمّ عاد إلى نيويورك وغادرها في اليوم الخامس من كانون الأوّل (ديسمبر) إلى ليفربول، ومنها إلى لندن فزار أكسفورد وأدنبره وبريستول وعاد إلى لندن ومنها سافر إلى باريس في أواخر كانون الثّاني (يناير) 1913 حيث أمضى فيها إلى أواخر آذار (مارس) ثمّ سافر إلى اشتتغارت فبودابست وﭬﻴﻴﻨﺎ وفي 13 حزيران أبحر إلى بور سعيد وزار الإسماعيليّة وأبا قير زيارة قصيرة وأقام في رمل الإسكندريّة مدّة أطول عاد بعدها إلى الأراضي المقدّسة منهيًا أسفاره التّاريخيّة في 5 كانون الأوّل 1913 قبل إعلان الحرب العالميّة الأولى بزمن قصير.
***
وتشير هذه الأسفار الطّويلة إلى نقطة بالغة الأهميّة في تاريخ الدّين البهائيّ، كما أنّها تقف فذّة فريدة لا شبيه لها ولا مثيل في القرن البهائيّ الأوّل، ذلك لأنّه لا “الباب” المبشّر بهذا الدّين ولا “بهاء الله” – مؤسّس هذا الدّين– استطاعا أن يتّصلا بالغرب أو بالشّرق اتّصالاً مباشرًا أو شخصيًّا، فما كاد حضرة الباب يعلن رسالته حتّى اعتقل وسجن ونفي في قلاع الحدود الإيرانيّة الرّوسيّة التّركيّة ثمّ ما لبث أن شرب كأس الشّهادة رميًا بالرّصاص في ميدان تبريز العام في صيف 1850.
أمّا حضرة بهاء الله فقد قضى معظم حياته سجينًا منفيًّا ابتداءً من طهران فبغداد، ثمّ إسطنبول فأدرنة حتّى استقرّ به منفاه في سجن عكّا، وظلّ سجينًا محرومًا من الحرّيّة إلى آخر نسمة من حياته ثمّ صعد إلى الرّفيق الأعلى بجوار تلك المدينة في صيف عام 1892 ميلاديّة.
وعلى ذلك فهذه هي المرّة الأولى الّتي استطاعت فيها شخصيّة رئيسيّة لهذا الدّين وهي مثله الأعلى ومركز عهده وميثاقه ومبيّن كتاباته المقدّسة أن تتخطّى شواطئ الشّرق وتتمتّع بحرّيّة العمل إلى آخر أيّام حياتها الّتي انتهت في خريف عام 1921.
وينبغي ألاّ يغيب عن بالنا أنّ حضرة عبد البهاء دخل السّجن صبيًّا ثمّ غادره شيخًا فلم يجلس إلى معلّم، ولم يتلقَّ العلم في مدرسة، كما أنّه لم يختلط بالوسط الغربيّ حتّى يعرف عادات أهل الغرب أو لغتهم، ومع ذلك قام ليعلن من المنبر ومن المنصّة في عواصم أوروبّا المهمّة وفي أمّهات مدن أمريكا الشّماليّة الحقائق المميزة للدّين البهائيّ، وليوضح الأصول الإلهيّة لأنبياء الله ورسله جميعًا، ويبيّن الصّلة الّتي تربط رسالاتهم بهذا الدّين، ويشرح عناصر النّظام الإلهيّ العالميّ، ويعزّز عرض هذه الحقائق الحيويّة الّتي وصفها بأنّها “روح العصر” بتحذيراته وإنذاراته باندلاع نار حرب طاحنة داهمة تلتهم أوروبّا، وينبّه على الانحلال الّذي يدبّ في القوى السّياسيّة، ويؤكّد تأكيدًا قاطعًا بأنّ “راية اتّحاد الجنس البشريّ سوف ترتفع ويصبح العالم عالمًا آخر”.
وفي أثناء تلك الأسفار أظهر حضرة عبد البهاء من الحيويّة والإقدام والإخلاص للواجب الّذي فرضه على نفسه ما أثار العجب والإعجاب، فقد قضى ثلاثة أعوام يصرّح بالحقائق الإلهيّة، غير مهتمّ براحته أو صحّته، باذلاً كلّ ذرّة من قوّته، عاملاً على رعاية المريض والتّفريج عن البائس والمحروم، ومواساة المحزون والمهموم، وكان راسخًا لا يقبل المساومة في دفاعه عن العناصر المظلومة والطّبقات المحرومة، وكان لا يكترث بالهجمات الّتي كان يشنّها عليه أقطاب الأديان المتعصّبين، وكان عجيبًا في صراحته وهو يبيّن لأتباع موسى عليه السّلام نبوّة السّيّد المسيح له المجد، ويوضح لأتباع عيسى في كنائسهم أصل الإسلام الإلهيّ وصحّة نبوّة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ويقنع الطّبيعييّن بصدق النّبوّة والرّسالة ولزوم الدّين وضرورته للجنس البشريّ.
لقد قام حضرة عبد البهاء بهذه الأسفار لكي يحقّق ثلاثة أهداف أساسيّة؛ أوّلها: أن يشدّ من عزم أحبّائه ويساعدهم على إنجاز مشروعاتهم، وثانيها: أن يسهم بنصيبه في شرح حقائق الدّين البهائيّ إلى الجموع المتعطّشة، وثالثها أن يحذّر قادة العالم المتحضّر من اقتراب اندلاع نيران الحرب العالميّة الأولى.
وقد حقّقت هذه الأسفار تلك الأهداف تحقيقًا كاملاً، بل إنَّ نتائجها فاقت كلّ ما علّق عليها من آمال، فقد وضع بيده الحجر الأساسيّ لمشرق الأذكار –أي المعبد البهائيّ في شيكاغو، الولايات المتّحدة الأمريكيّة– وأكّد تأكيدًا خاصًّا على الميثاق الّذي أبرمه حضرة بهاء الله، وذلك في اجتماع عام عقده أحبّاؤه في نيويورك في 26 تشرين الثّاني (نوﭬمبر) 1912، فسميت لذلك ﺑ”مدينة الميثاق”، وأولم وليمة رمزيّة لعدد كبير من تلاميذه في الهواء الطّلق، وقام بعمل رمزيّ آخر وهو عقد قران اثنين من البهائيّين أحدهما من البيض، وثانيهما من السّود.
على أنّنا نقلّل من شأن هذه الأسفار إذا نحن تجاوزنا عن آلاف العظماء من الفلاسفة والعلماء ورجال الدّين والسّياسة والثّقافة والاجتماع والاقتصاد والصّحافة ممّن التقوا به وفازوا بالاستماع إليه ومناقشته والاستفادة من علمه ونصائحه. كما أنّنا لا يمكننا أن نغضّ الطّرف عن آلاف اللّفتات الإنسانيّة النّبيلة الّتي التفت بها إلى البائسين والمحرومين حتّى لقد لقب – بحقّ– ﺑ “أبي المساكين”.
***
يقتصر هذا الكتاب كما هو واضح من عنوانه على زاوية واحدة من هذه الأسفار والرّحلات المتعدّدة النّواحي، ونقصد بها “حضرة عبد البهاء” و”الجماهير المستمعة في لهفة وشغف وتقدير”. والخطب المجموعة هنا تشكّل نزرًا يسيرًا من كلّ ما ألقاه في أوروبّا وأمريكا، فهناك خطب عدّة ألقاها في دور العبادة المختلفة والمعاهد العلميّة والجامعات في المدن الّتي زارها إبّان رحلته لم تدرج في هذه المجموعة، وهي موجودة في شكل مخطوطات أو في المجلات البهائيّة وغير البهائيّة الّتي عاصرت أسفاره لأوروبّا وأمريكا.
وبالرّغم من الشّمول الّذي تتّسم به هذه المجموعة، فإنّها لا تحتوي على كلّ ما تحدّث عنه حضرة عبد البهاء، ولا تتضمّن مثلاً ملاحظاته الدّقيقة الّتي كان يبديها صباحًا ومساءً وفي كلّ مناسبة، والّتي تشكّل في حدّ ذاتها تراثًا غنيًّا في أفق المبادئ الدّينيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة، وتتضمّن منهجًا فريدًا في توجيه البشر نحو كلّ ما هو سامٍ وكلّ ما يعود بالخير والإصلاح على الإنسانيّة جمعاء.
وممّا يجدر ذكره هنا أنّ القائمين على ترجمة المجموعة ونشرها لم يحاولوا تغيير مقوّمات الأسلوب الخطابيّ الّذي ألقيت به حتّى لا تتحوّل الخطب إلى رسائل أو مقالات أو فصول من كتاب، وكلّ ما ينبغي أن يعلمه القارئ هو أنّ هذه الخطب ألقيت ارتجالاً وأنّ حضرة عبد البهاء لم يكتبها أو يعدّها قبل إلقائها، فإنّ أسلوب عبد البهاء كما هو ظاهر من آثاره الّتي دوَّنها بنفسه، أسلوب فريد في نوعه يتميّز ببساطة وسهولة في اللّفظ، ممّا يجعله “سهلاً وممتنعًا” وكلّ ما يلاحظه القارئ من تقصير إنّما هو تقصير المترجم أو النّاقل وليس تقصير صاحب الكلمة الّذي شهدت له ولبلاغته أساطين عصره بأنّه صاحب بيان ساحر ولسان فصيح بليغ.
***
يجمع هذا الكتاب بين دفّتيه الخطب المجموعة في كتابين:
الكتاب الأوّل وهو مجموعة من الخطب الّتي ألقيت في أوروبّا إبّان الرّحلة الأولى وهو مطبوع في مصر في سنة 1921 أمّا الكتاب الثّاني فيحتوي على مجموعة من ألواح حضرة عبد البهاء وبعض الخطب الّتي ألقيت خلال الأعوام الثّلاثة من أسفاره والمطبوعة في طهران سنة 1942.
ويلاحظ القارئ أنّ هذه الخطب قد أعطيت لها عناوين ليست أصليّة إلاّ أنّ القائمين على نشر الكتاب استخرجوها من فحوى الخطب فأعطوا كلّ واحدة منها عنوانًا ينمّ عن فحواها كما أورد هؤلاء لفظة “هو الله” عند بدء كلّ خطبة، أسوة بما كان من عادة حضرة عبد البهاء في بدء كتاباته وألواحه بكلمة “هو الله”، وبالرّغم من أنّ بعض هذه الخطب قد سبقت ترجمته عن الفرنسيّة أو الإنكليزيّة، إلاّ أنّ ما يجده القارئ هنا ليس إلاّ ترجمة جديدة عن الأصل الّذي ألقيت به وهي الفارسيّة، غير أنّ هناك خطبًا ثلاثًا منشورة في الصّفحات 56- 72- 74 منقولة عن الإنكليزيّة كما أنّ الخطبتين المنشورتين في الصّفحة 52 والصفحة 68 قد ألقيتا باللّغة العربيّة.
ولقد أوردنا ترجمة تسعة ألواح ممّا خطّها حضرة عبد البهاء بيده أو أملاها على كتّابه، ومن ثمّ زيّنها بتوقيعه وذلك من أوّل الكتاب حتّى الصّفحة 52، وإنّنا إذ ننشر هذه المجموعة الفريدة الثّمينة نودّ أن نعبّر عن شكرنا وامتنانا للمجهود الّذي بُذل في جمع مواد هذا الكتاب وترجمتها وإعدادها للنّشر.
المحفل الرّوحانيّ المركزي للبهائيّين
في شمال شرق أفريقيا

صوت السّلام العامّ

إنّ هذا المسجون بعد أن قضى أربعين عامًا في السّجن قام مدّة ثلاث سنين بعد إطلاقه –أي منذ (1910) إلى نهاية سنة (1913) – بالسّفر والتّجوال في أوروبّا وفي قارّة أمريكا الواسعة.
ومع ضعفه وعجزه نادى في المحافل العظمى والكنائس الكبرى وألقى خطبًا مفصَّلة، ونشر كلّ ما جاء في ألواح حضرة بهاء الله وتعاليمه حول مسألة الحرب والصّلح.
ولقد نشر حضرة بهاء الله قبل ما يقارب الخمسين سنة تعاليمه، ونادى بنغمة الصّلح العموميّ في جميع ألواحه ورسائله، وأخبر بصريح العبارة بهذه الوقائع الحاليّة، وبأنّ العالم الإنسانيّ في خطر عظيم وعلى أبواب حرب عامّة محتومة فالمواد الملتهبة في خزائن أوروبّا الجهنّميّة سوف تنفجّر بشرارة واحدة، ومنها سيكون انفجار بركان البلقان وتغيير خريطة أوروبّا، ولهذا دعا العالم الإنسانيّ إلى الصّلح العموميّ.
وكتب إلى الملوك والسّلاطين ألواحًا بيَّن فيها أضرار الحرب الجسيمة وأوضح فوائد الصّلح العموميّ ومنافعه، وبأنّ الحرب هادمة للبنيان الإنسانيّ، وأنّ الإنسان بنيان إلهيّ وأنّ الصّلح حياة مجسّمة والحرب ممات مصوَّر، وأنّ الصّلح روح إلهيّة وأنّ الحرب نفثات شيطانيّة، وأنّ الصّلح نور الآفاق وأنّ الحرب ظلمة على الإطلاق، وأنّ الأنبياء العظام والفلاسفة القدماء والكتب الإلهيّة كلّها كانت بشيرة الصّلح والوفاء ونذيرة الحرب والجفاء، وأنّ هذا هو الأساس الإلهيّ والفيض السّماويّ وأساس الشّرائع الإلهيّة.
وخلاصة القول إنّني ناديت في جميع المجامع بأعلى صوتي قائلاً: يا عقلاء العالم، ويا فلاسفة الغرب، ويا علماء الأرض إنّ وراءكم سحابًا مظلمًا يحيط بالأفق الإنسانيّ ويلحقكم طوفان شديد يعصف بسفن حياة البشر وعن قريب سيحيط بمدن أوروبّا وديارها سيل شديد فانتبهوا انتبهوا واستيقظوا استيقظوا لنقوم جميعنا بمنتهى الألفة ونرفع بعون الله وعنايته علم وحدة العالم الإنسانيّ ونروّج الصّلح العمومي حتّى ننجي العالم الإنسانيّ من هذا الخطر العظيم.
ولقد قابلت في أمريكا وأوروبّا نفوسًا مقدّسة كانت متعاونة ومتجاوبة معنا في قضيّة الصّلح العموميّ وكانت متّفقة متوافقة اللّحن في عقيدة وحدة العالم الإنسانيّ إلا أنّها ويا للأسف كانت قليلة العدد وكان أعاظم الرّجال يظنّون بأنّ تجهيز الجيوش ومضاعفة القوى الحربيّة سبب لحفظ الصّلح والسّلام ولقد صرَّحت لهم ببيان صريح أنّ الأمر ليس كذلك، فهذه الجيوش الجرّارة لا بدّ أن تتقدّم يومًا من الأيّام إلى الميدان، وهذه المواد الملتهبة لا بدّ أن تنفجر وأنَّ انفجارها يتوقّف على شرارة واحدة تشعل العالم بغتة ولكنّهم لم يذعنوا لهذا البيان لعدم اتّساع الأفكار ولعمى الأبصار إلى أن آلت شرارة البلقان إلى بركان.
وفي بداية حرب البلقان سألتنا نفوس مهمّة قائلة: “هل حرب البلقان هذه حرب عالميّة؟” فقلنا في الجواب: إنّها تنتهي إلى حرب عالميّة.
وخلاصة القول: إنّ حضرة بهاء الله تفضّل قبل خمسين سنة وحذّر من هذا الخطر العظيم.
ومع أنّ أضرار الحروب كانت واضحة لدى أهل العرفان ولكنّها الآن اتّضحت لعموم النّاس وعلم أنّ الحروب هي آفة العالم الإنسانيّ وهادمة للبنيان الإلهيّ وسبب الموت الأبديّ وهادمة للمدن المعمورة، ونار تحيط بالعالمين، ومصيبة كبرى ولهذا يتعالى الصّراخ إلى الأوج من جميع الأطراف، وزلزلت الدّنيا من الويل والحنين وانطمرت أقاليم معمورة.
لقد سالت العيون بالعبرات من ضجيج الأيتام من الأطفال واحترقت القلوب وذابت من صراخ الأيامى من النّساء البائسات وارتفعت صرخة: واويلاه، وواأسفاه من قلوب الأمّهات، وارتفع إلى الأوج أنين وتأوّه الآباء الطّاعنين في السّنّ. فعالم الخليقة محروم اليوم من الرّاحة والأمان وتصل أصوات المدافع والبنادق كأصوات الرّعد وقد حوّلت المواد الملتهبة ساحات الحرب إلى مقابر للشّبان اليافعين والوضع أسوأ مما أسرده لكم.
فيا دول العالم ارحموا العالم الإنسانيّ ويا مِلَلَ العالم توجّهوا بنظرة عطف على ساحات الحرب، ويا علماء البشر تفقّدوا حال المظلومين، ويا فلاسفة الغرب تعمّقوا في هذه البليّة العظمى، ويا رؤساء العالم تفكّروا في دفع هذه الآفة الكبرى، ويا أيّها الجنس البشريّ تدبّر في منع هذه البربريّة والافتراس فلقد حان الوقت أن ترفعوا عَلَم الصّلح العموميّ وأن تقاوموا هذا السّيل العظيم الّذي هو الآفة الكبرى.
ومع أنّ هذا المسجون كان مدّة أربعين سنة في سجن الاستبداد ولكنّه لم يتأثّر، ولم ينحسر، كما تأثّر في هذه الأيّام، فالرّوح في احتراق وذوبان، القلب في نهاية الأسف والالتهاب والعين دامعة والقلب محترق فابكوا ونوحوا وأسرعوا حتّى تلقوا ماء على هذه النّارالملتهبة لعلّ بهمّتكم تخمد هذه النّار المحرقة للعالمين.
ويا إلهي أغث هؤلاء البؤساء، ويا موجدي ارحم هؤلاء الأطفال، ويا إلهي الرّؤوف اقطع هذا السّيل الشّديد، ويا خالق العالم أخمد هذه النّار المشتعلة، ويا مغيثنا أغث صراخ هؤلاء الأيتام، ويا أيّها الحاكم الحقيقيّ سلّ الأمّهات جريحات الأكباد، ويا رحمن يا رحيم ارحم أعين الآباء الدّامعة وقلوبهم المحترقة وسكّن هذا الطّوفان وبدّل هذه الحرب العالميّة إلى صلح وسلام وإخاء. إنّك أنت المقتدر القدير وإنّك أنت السّميع البصير.
عبد البهاء عبّاس
هو الله
يا أهل العالم،
إذا سرتم في الأرض ومشيتم في مناكبها وجدتم أنّ كلّ ما هو معمور سببه الألفة والمحبّة، وأنّ كلّ ما هو مطمور ناتج عن العداوة والبغضاء. ومع ذلك لم ينتبه الجنس البشريّ إلى ذلك ولم يفق من سبات الغفلة، وما زال البشر يفكّرون في الخلاف والنّزاع والجدال وحشد الجيوش لتصول وتجول في ميادين النّزال والقتال.
وإذا نظرتم إلى الكون والفساد والوجود والعدم وجدتم أنّ كلّ كائن مركّب من أجزاء متنوّعة متعدّدة، وأنّ وجود الشّيء ناتج عن التّركيب بمعنى أنّ الإيجاد الإلهيّ إذا أحدث تركيبًا معيّنًا بين العناصر البسيطة تشكّل من هذا التّركيب كائن معيّن. وجميع الموجودات على هذا المنوال. فإذا حدث في هذا التّركيب خلاف أو تحلّلت أجزاؤه وتفرّقت انعدم هذا الكائن. ومعنى ذلك أنّ انعدام الشّيء ناتج عن تحليل عناصره وتفرّقها. وعلى هذا فكلّ تركيب وتآلف يتمّ بين العناصر هو سبب الحياة، وكلّ اختلاف وتحلّل وتفرّق يدبّ بينها هو علّة الممات. وبالاختصار إنّ تجاذب الأشياء وتوافقها سبب لحصول النّتائج المفيدة والثّمار الطّيّبة، وإنّ تنافر الأشياء واختلافها سبب للاضمحلال والاضطراب.
فمن التّآلف والتّجاذب تتحقّق جميع الكائنات ذات الحياة مثل النّبات والحيوان والإنسان، ومن التّنافر والخلاف يحصل الانحلال ويدبّ الاضمحلال. ولهذا فإنّ كلّ ما ينتج عنه الائتلاف والتّجاذب والاتّحاد بين عامّة البشر هو علّة حياة العالم الإنسانيّ، وكلّ ما ينتج عنه التّنافر والاختلاف والتّباعد هو علّة ممات النّوع البشريّ.
وكلّما مررتم بإحدى المزارع ولاحظتم الزّرع والنّبات والورد والرّيحان ينمو منسجمًا متآلفًا كان ذلك دليلاً على أنّ هذه الحديقة نمت على يد بستانيّ كامل تعهّدها بالتّهذيب والإنبات، أمّا إذا شاهدتم الحديقة مشعّثة مضطربة بلا ترتيب ولا نظام استنتجتم أنّها حرمت من عناية البستانيّ الماهر فنمت فيها الأعشاب الضّارّة فأتلفتها.
من ذلك يتّضح أنّ الألفة والالتئام دليل على تربية المربّي الحقيقيّ، وأنّ الفرقة والتّشتت برهان على الحرمان من التّربية الإلهيّة والبعد عنها.
ولعلّ معترضًا يقول: إنّ لأمم العالم وشعوبه وملله آدابًا ورسومًا مختلفة، وأذواقًا متباينة، وطبائع وأخلاقًا متعدّدة، وإنّ العقول والأفكار والآراء متفاوتة فكيف تتجلّى الوحدة الحقيقيّة ويتمّ الاتّحاد التّام بين البشر؟ فنقول: إنّ الاختلاف نوعان: أحدهما: الاختلاف المسبّب للانعدام والهلاك، كالاختلاف بين الشّعوب المتنازعة والملل المتقاتلة تمحو إحداها الأخرى وتخرّب وطنها وتسلبها الأمن والرّاحة وتعمل فيها القتل وسفك الدّماء. فهذا النّوع من الاختلاف مذموم. أمّا النّوع الآخر من الاختلاف فهو التّنوّع. وهذا هو عين الكمال وموهبة ذي الجلال.
لاحظوا أزهار الحدائق: فمهما اختلف نوعها وتفاوتت ألوانها وتباينت صورها وتعدّدت أشكالها إنّها لمّا كانت تُسقى من ماء واحد، وتنمو من هواء واحد، وتترعرع من حرارة وضياء شمس واحدة فإنّ تنوّعها واختلافها يكون سببًا في ازدياد رونقها وجمالها. وكذلك الحال إذا برز إلى حيّز الوجود أمر جامع – وهو نفوذ كلمة الله – أصبح اختلاف البشر في الآداب والرّسوم والعادات والأفكار والآراء والطّبائع سببًا لزينة العالم الإنسانيّ.
أضف إلى هذا أنّ هذا التّنوّع والاختلاف سبب لظهور الجمال والكمال، مثله في ذلك مثل التّفاوت الفطريّ والتّنوّع الخلقيّ بين أعضاء الإنسان الواقعة تحت نفوذ الرّوح وسلطانها. فإذا كانت الرّوح مسيطرة على جميع الأعضاء والأجزاء، وكان حكمها نافذًا في العروق والشّرايين كان اختلاف الأعضاء وتنوّع الأجزاء مؤيّدا للائتلاف والمحبّة وكانت هذه الكثرة أعظم قوى للوحدة.
ولو كانت أزهار الحديقة ورياحينها وبراعمها وأثمارها وأوراقها وأغصانها وأشجارها من نوع واحد ولون واحد وتركيب واحد وترتيب واحد لما توفر لمثل تلك الحديقة أيّ رونق ولا جمال بأيّ وجه من الوجوه. أمّا إذا تعدّدت ألوانها واختلفت أوراقها وتباينت أزهارها وتنوّعت أثمارها تسبّب كلّ لون في زينة سائر الألوان وإبراز جمالها وبرزت الحديقة في غاية الأناقة والرّونق والحلاوة والجمال. كذلك الحال في تفاوت الأفكار، وتنوّع الآراء والطّبائع والأخلاق في عالم الإنسان. فإنّها إذا استظلّت بظلّ قوّة واحدة، ونفذت فيها كلمة الوحدانيّة تجلّت وهي في نهاية العظمة والجمال والعلويّة والكمال.
ولا شيء اليوم يستطيع أن يجمع عقول بني الإنسان وأفكارهم وقلوبهم وأرواحهم تحت ظلّ شجرة واحدة غير قوّة كلمة الله المحيطة بحقائق الأشياء. فكلمة الله هي النّافذّة في كلّ الأشياء. وكلمة الله هي المحرّكة للنّفوس. وكلمة الله هي الضّابطة لروابط عالم الإنسان.
والحمد لله أن قد أشرقت اليوم نورانيّة كلمة الله على جميع الآفاق، وأن استظلّ بظلّ كلمة الوحدانيّة قبيل من كلّ الفرق والطّوائف والملل والشّعوب والقبائل والأديان، وهم مجتمعون ومتّحدون ومتّفقون وفي غاية الائتلاف.
يا أهل العالم،
إنّ طلوع شمس الحقيقة نورانيّة خالصة للعالم، وظهور للرّحمانيّة في مجمع بني آدم. ولهذه الشّمس نتيجة طيّبة وثمرة مشكورة. وبها تتوفّر السّنوحات لكلّ فيض. وهذه الشّمس رحمة خالصة وموهبة بحتة. ونورانيّة العالم وأهله هي الائتلاف والوئام والمحبّة والارتباط والتّراحم والاتّحاد وإزالة التّباعد وتحقيق الوحدة بين جميع من على الأرض بنهاية الحرّيّة وغاية الشّهامة. وقد تفضّل الجمال المبارك فقال: “كلّكم أثمار شجرة واحدة وأوراق غضن واحد”. فشبّهَ عالم الوجود بشجرة واحدة، وجميع النّاس بالأوراق والأزهار والأثمار. ولهذا وجب أن يكون الجميع – من الغصن إلى الورق إلى البراعم إلى الثّمر- في غاية الطّراوة واللّطف. وحصول هذه الطّراوة وهذا اللّطف منوط بالألفة والارتباط. لهذا يجب أن يحافظ بعضكم على بعض بغاية القوّة، ويدعو بعضكم لبعض بالحياة الأبديّة.
ومن ثَمَّ وجب على أحبّاء الله أن يكونوا في عالم الوجود مثالاً لرحمة الرّبّ الودود، وموهبة مليك الغيب والشّهود، وينبغي لهم أن لا يلتفتوا إلى العصيان ولا الطّغيان، ولا ينظروا إلى الظّلم ولا العدوان،
وأن ينزّهوا أبصارهم ليروا الجنس البشريّ أوراقًا وبراعم وثمارًا لشجر الوجود، وأن يحصروا فكرهم دائمًا في تقديم الخير وإبداء المحبّة والرّعاية والمودّة والعون لغيرهم. لا يرون في أحد عدوًّا، ولا يفترضون في أحد سوءًا بل يعتقدون أنّ جميع من على الأرض أصدقاء، ويعتبرون الغرباء أحبّاء، ويعدّون المجهولين معروفين. ويجب عليهم ألاّ يقيّدهم قيد، بل عليهم أن يتخلّصوا من كلّ رباط.
إنّ المقرّب اليوم لدى باب الله ذي الكبرياء لهو الشّخص الّذي يقدّم للأعداء كأس الوفاء، ويبذل لهم العطاء، ويعين العاجز المظلوم، ويحوّل الخصم اللّدود إلى وليّ ودود.
تلك هي وصايا جمال المبارك، تلك هي نصائح الاسم الأعظم!
أيّها الأحبّاء الأعزّاء!
إنّ العالم في حرب وجدال. والنّوع الإنسانيّ في غاية الخصومة والوبال. أحاطت ظلمة الجفاء، واستترت نورانيّة الوفاء. إذ أنشبت جميع ملل العالم مخالبها الحادّة في رقاب بعضها البعض، وما زالت تتنازع وتتقاتل، بحيث تزعزع بنيان البشريّة وتزلزل. فكم من نفوس باتت شريدة بلا مأوى ولا وطن. وآلاف مؤلّفة من الرّجال يسقطون- كلّ عام- على الغبراء صرعى في ميادين الحرب والقتال مضرّجين بدمائهم، حتّى لقد طويت خيمة السّعادة والحياة وما زال القادة يتزعّمون ويقودون ويفتخرون بسفك الدّماء ويتباهون بإثارة الفتن. يقول قائل منهم: لقد حكّمت السّيف في رقاب هذه الأمة. ويقول ثانٍ: لقد سوّيت بالتّراب هذه المملكة. ويقول ثالث: لقد اقتطعت تلك الدّولة من أساسها. ذلك مدار فخرهم ومباهاتهم بين الجنس البشريّ. لقد أصبح الصّدق والصّداقة –في جميع الجهات- مذمومين، وأصبح الأمن وعبادة الحقّ مقدوحين. وإنّ منادي الصّلح والصّلاح والمحبّة والسّلام لهو دين الجمال المبارك الّذي ضرب في قطب الوجود خيمته، ويدعو إلى نفسه الأقوام.
فيا أحبّاء الله! اعرفوا قدر هذا الدّين المتين، واعملوا في الحياة بموجبه، وأظهروه للخلائق أجمعين. وأنشدوا بألحان الملكوت، وانشروا تعاليم الرّب الودود ووصاياه، حتّى تصبح الدّنيا غير الدّنيا، ويستنير العالم الظّلماني، وتسري في جسد الخلق الميت روح حياة جديدة وتلتمس كلّ نفس لأختها الحياة الأبديّة وتتحوّل إلى نفس رحمانيّة.
إنّ الحياة في هذا العالم الفاني تنتهي في مدّة قصيرة، وتفنى العزّة والثّروة، وتزول الرّاحة والسّرور التّرابيّان. فنادوا الخلق إلى الخالق، وادعوا النّاس إلى سلوك الملأ الأعلى. كونوا للأيتام أبًا عطوفًا، وللمساكين ملجأً وملاذًا، وللفقراء كنز الغنى وللمرضى الدّواء والشّفاء. كونوا معين كلّ مظلوم، ومجير كلّ محروم. واحصروا فكركم في تقديم الخدمة لكلّ إنسان. ولا تلقوا بالاً إلى الإعراض ولا الإنكار ولا الاستكبار؛ ولا تأبهوا للظّلم ولا العدوان. بل على النّقيض! عاملوا النّاس وكونوا عطوفين عطفًا حقيقيًّا لا صوريًّا ولا ظاهريًّا. ويجب على كلّ فرد من أحبّاء الله أن يحصر فكره في أن يكون رحمة الرّﺤﻤن وموهبة المنّان، فما اتّصل بأحد إلاّ قدّم له الخير والمنفعة، وكان سببًا لتحسين الأخلاق وتعديل الأفكار حتّى يشعّ نور الهداية وتحيط بالعالم موهبة الرّحمن.
المحبّة نور يضيء في كلّ منزل، والعداوة ظلمة تأوي إلى كلّ كهف!
فيا أحبّاء الله ابذلوا الهمّة عسى أن تزول هذه الظّلمة تمامًا فينكشف السّرّ المستور وتبدو حقائق الأشياء وتتجلّى للعيان.

جناب البروفسور المحترم الدّكتور فورال المعظّم عليه بهاء الله الأبهى

هو الله

أيّها الشّخص المحترم المفتون بالحقيقة.
وصلت رسالتك المؤرّخة في الثّامن والعشرين من تمّوز 1921 وكانت مضامينها الطّيّبة دليلاً على أنّك ما زلت شابًّا تتحرّى الحقيقة وأنّ قواك الفكريّة شديدة واكتشافاتك العقليّة ظاهرة. إنّ الرّسالة الّتي كتبتها للدّكتور فيشر قد انتشرت ويعرف الجميع أنّها كتبت سنة 1910 وفضلاً عن هذه الرّسالة فقد كتبت رسائل متعدّدة بهذا المضمون قبل الحرب وقد أشير إلى هذه المسائل كذلك في جريدة جامعة سان فرانسيسكو وتاريخ تلك الجريدة يعرفه الجميع وكذلك الخطابة الّتي ألقيتها في الجامعة فيها الثّناء على الفلاسفة بعيدي النّظر في منتهى البلاغة وإنّا لنرسل إليكم نسخة من تلك الجريدة مع هذه الرّسالة.
هذا وإنّ مؤلفاتكم لا شكّ مفيدة لهذا نرجو إذا ما طبعت أن ترسلوا لنا نسخة من كلّ واحد منها.
إنَّ المقصود بالطّبيعيّين الّذين ذكرت عقائدهم حول مسألة الألوهيّة هم فئة من الطّبيعيّين ضيّقي النّظر عبدة المحسوسات المقيّدون بالحواس الخمس والّذين عندهم ميزان الإدراك هو ميزان الحسّ فقد اعتبروا المحسوس محتومًا وغير المحسوس معدومًا أو مشبوهًا حتّى إنّهم يعتبرون وجود الألوهيّة أمرًا مشكوكًا فيه بصورة كلّيّة وليس هذا رأي جميع الفلاسفة بصورة عامّة كما ذكرتم بل المقصود هم قصيرو النّظر من الطّبيعيّين أمّا الفلاسفة الإلهيّون أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو فإنّهم جديرون بالاحترام ويستحقّون أقصى الثّناء لأنّهم قدّموا خدمات فائقة إلى العالم الإنسانيّ وكذلك الفلاسفة الطّبيعيّون المعتدلون الجهابذة ونحن نعتبر العلم والحكمة أساس ترقّي العالم الإنسانيّ ونثني على الفلاسفة ذوي النّظر البعيد فأمعنوا النّظر في جريدة سان فرانسيسكو حتّى تتجلّى لكم الحقيقة.
أمّا القوى العقليّة فهي من خصائص الرّوح كالشّعاع الّذي هو من خصائص الشّمس فأشعّة الشّمس هي في تجدّد مستمرّ ولكنّ نفس الشّمس باقية دون تغيير لاحظوا أنّ العقل الإنسانيّ في تزايد وتناقص ولربّما يزول العقل تمامًا ولكنّ الرّوح على حالة واحدة وأنّ ظهور العقل منوط بسلامة الجسم فالجسم السّليم فيه عقل سليم لكنّ الرّوح غير مشروطة بهذا الشّرط فالعقل يدرك ويتصوّر بقوّة الرّوح ولكنّ الرّوح قوّة طليقة والعقل يدرك المعقولات بواسطة المحسوسات لكنّ الرّوح لها انكشافات غير محدودة فالعقل محدود في دائرة والرّوح غير محدودة والعقل له إدراكات بواسطة قوى الحسّ مثل قوّة البصر وقوّة السّمع وقوّة الذّوق وقوّة الشّم وقوّة اللّمس لكنّ الرّوح حرّة طليقة كما تلاحظون أنّها تسير في حالتي اليقظة والنّوم ولربّما حلّت في عالم الرّؤيا مسألة من المسائل الغامضة الّتي كانت عند اليقظة مسألة مجهولة ويتعطّل العقل عن الإدراك بتعطّل الحواس الخمس والعقل مفقود تمامًا في حالة الجنين وحالة الطّفولة ولكنّ الرّوح في نهاية القوّة.
وخلاصة القول إنّ هناك أدلّة كثيرة على بقاء قوّة الرّوح بفقدان العقل. ولكنّ الرّوح لها مراتب ومقامات فهناك روح جماديّة ومن المسلّم به أنّ الجماد له روح وله حياة ولكنّه في حدود عالم الجماد كما اتّضح هذا السّرّ المجهول للطّبيعيّين وهو أنّ جميع الكائنات لها حياة كما قال تعالى في القرآن الكريم “وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ” وكذلك في عالم النّبات هناك قوّة النّمو وقوّة النّمو هي الرّوح وفي عالم الحيوان هناك قوّة الحسّ ولكن عالم الإنسان فيه قوّة محيطة وفي جميع هذه المراتب المذكورة ترى العقل مفقودًا لكنّك ترى ظهور الرّوح وبروزها وأنّ قوى الحسّ لا تدرك الرّوح لكنّ القوّة العاقلة تستدلّ على وجودها وكذلك يستدلّ العقل على وجود حقيقة غير مرئيّة ومحيطة بالكائنات ولها ظهور وبروز في كلّ مرتبة من المراتب لكنّ حقيقتها فوق إدراك العقول. فرتبة الجماد لا تدرك حقيقة النّبات والكمال النّباتيّ وكذلك النّبات لا يستطيع إدراك حقيقة الحيوان. والحيوان لا يستطيع إدراك حقيقة الإنسان الكاشفة الّتي تحيط بسائر الأشياء. والحيوان أسير للطّبيعة ولا يتجاوز عن قوانين الطّبيعة ونواميسها لكن ثمّة قوّة كاشفة في الإنسان محيطة بالطّبيعة تحطّم قوانينها. فمثلاً إنّ جميع الجمادات والنّباتات والحيوانات أسيرة للطّبيعة، وهذه الشّمس على عظمتها أسيرة للطّبيعة إلى درجة لا إرادة لها مطلقًا ولا تستطيع أن تتجاوز عن قوانين الطّبيعة قيد شعرة. وكذلك سائر الكائنات من الجماد والنّبات والحيوان لا يستطيع أيّ واحد منها أن يتجاوز عن قوانين الطّبيعة بل إنّها جميعها أسيرة للطّبيعة ولكنّ الإنسان ولو أنّ جسمه أسير للطّبيعة ولكنّ روحه وعقله طليقان وحاكمان على الطّبيعة. لاحظوا الإنسان تروه مخلوقًا ترابيًّا متحرّكًا ذا روح لكنّ روح الإنسان وعقله يكسران قانون الطّبيعة فيصبح طيرًا ويطير في الهواء أو يشقّ صفحات البحار بكمال السّرعة ويسير في أعماق البحار كالأسماك ويقوم باكتشافات بحرّيّة. وهذا كسر عظيم لقوانين الطّبيعة. وكذلك القوّة الكهربائيّة فهذه القوّة العاتية العاصية الّتي تشقّ الجبل شقًّا قد حبسها الإنسان داخل زجاجة وفي هذا خرق لقانون الطّبيعة. وكذلك أسرار الطّبيعة المكنونة الّتي ينبغي أن تبقى مخفيّة بحكم الطّبيعة قد كشفها الإنسان وجاء بها من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود. وهذا كذلك خرق لقانون الطّبيعة وكذلك خواص الأشياء هي من أسرار الطّبيعة الّتي يكشفها الإنسان، وكذلك الحوادث الماضية الّتي فقدت من عالم الطّبيعة صار يكشفها الإنسان، وكذلك الحوادث المقبلة الّتي صار يكشفها الإنسان عن طريق الاستدلال في حين أنّها لا تزال مفقودة في عالم الطّبيعة، وأنّ المخابرة والمراسلة تنحصر بالمسافات القريبة وفقًا لقانون الطّبيعة ولكنّ الإنسان صار بتلك القوّة المعنويّة الكاشفة لحقائق الأشياء يتخابر من الشّرق إلى الغرب فهذا أيضًا خرق لقانون الطّبيعة، وكذلك الظّلّ شيء زائل وفقًا لقانون الطّبيعة ولكنّ الإنسان صار يثبت هذا الظّلّ في الزّجاج وهذا خرق لقانون الطّبيعة، فأمعنوا النّظر تروا أنّ جميع العلوم والفنون والصّناعات والاختراعات والاكتشافات كانت من أسرار الطّبيعة ويجب أن تبقى مستورة وفقًا لقانون الطّبيعة ولكنّ الإنسان بقوّته الكاشفة يخرق قانون الطّبيعة ويأتي بهذه الأسرار المكنونة من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود وهذا خرق لقانون الطّبيعة، وخلاصة القول إنّ تلك القوّة المعنويّة غير المرئيّة في الإنسان تأخذ السّيف من يد الطّبيعة وتضرب به هامة الطّبيعة، وإنّ سائر الكائنات على ما هي عليه من العظمة محرومة من هذه الكمالات، وللإنسان قوّة إرادة وشعور ولكنّ الطّبيعة محرومة من ذلك والطّبيعة مجبرة والإنسان مختار والطّبيعة تجهل الحوادث الماضيّة ولكنّ الإنسان عليم بها والطّبيعة تجهل الحوادث المستقبلة ولكنّ الإنسان بقوّته الكاشفة لعالم الطّبيعة يعلم بكلّ شيء. ولو يخطر على بال شخص سؤال بأنّ الإنسان جزء من عالم الطّبيعة وهو جامع لهذه الكمالات الّتي هي صور لعالم الطّبيعة. إذًا فالطّبيعة مالكة لهذه الكمالات لا فاقدة لها فنقول له في الجواب: “إنّ الجزء تابع للكلّ وليس من الممكن أن تكون في الجزء كمالات محروم منها الكلّ والطّبيعة هي عبارة عن الخواص والرّوابط الضّروريّة المنبعثة من حقائق الأشياء، وهذه الحقائق مهما كانت في نهاية الاختلاف ولكنّها على غاية الارتباط، وهذه الحقائق المختلفة تلزمها جهة جامعة لها تربطها جميعها ببعضها فمثلاً أركان الإنسان وأعضاؤه وأجزاؤه وعناصره في نهاية الاختلاف، ولكنّ الجهة الجامعة المعبّر عنها بالرّوح الإنسانيّ تربطها بعضها ببعض جميعًا ليتمّ التّعاون والتّعاضد بينها بصورة منتظمة وتتمّ جميع الأعضاء تحت قوانين منتظمة هي سبب بقاء الوجود لكنّ جسم الإنسان لا علم له بهذه الجهة الجامعة أبدًا في حين أنّه يقوم بإرادتها على إيفاء وظيفته.
أمّا الفلاسفة فهم قسمان، ومنهم سقراط الحكيم الّذي كان يؤمن بالوحدانيّة الإلهيّة وببقاء الرّوح بعد الموت. ولمّا كانت عقيدته تخالف آراء العوام ضيّقي النّظر لذا فقد أشربوه السّمّ. وعندما نَظَرَ جميع الفلاسفة الإلهيّين والعقلاء والعلماء إلى هذه الكائنات الّتي لا نهاية لها لاحظوا أنّ نهاية هذا الكون الأعظم تنتهي إلى عالم الجماد وتنتهي نهاية عالم الجماد إلى عالم النّبات وتنتهي نهاية عالم النّبات إلى عالم الحيوان وتنتهي نهاية عالم الحيوان إلى عالم الإنسان، وأنّ هذا الكون الوسيع الّذي لا نهاية له تنتهي نهايته إلى الإنسان، وهذا الإنسان بعد أيّام المحن والآلام الّتي تتناهى في النّشأة الإنسانيّة يتلاشى ويزول دون أثر أو ثمر. وإذا كان الأمر كذلك فإنّ هذا الكون الّذي لا يتناهى مع جميع كمالاته ينتهي إلى اللّغو والهذيان دون أيّة نتيجة. إذن أيقنوا على أنّ الأمر ليس كذلك ولن ينتهي هذا المصنع على ما هو عليه من العظمة والشّوكة المحيّرة للعقول وعلى ما هو عليه من هذه الكمالات إلى الهذيان. ومن المؤكّد أنّ هناك نشاة أخرى، فكما أنّ عالم النّبات ليس له خبر عن نشاة عالم الإنسان فكذلك نحن لا خبر لنا عن تلك النّشأة الكبرى بعد النّشأة الإنسانيّة، ولكن عدم الاطّلاع ليس بدليل على عدم الوجود، وكما أنّ عالم الجماد لا خبر له تمامًا عن عالم الإنسان ويستحيل عليه إدراكه فإنّ عدم إدراكه ليس بدليل على عدم الوجود. وهناك دلائل قاطعة متعدّدة على أنّ هذا العالم غير المتناهي لا ينتهي إلى الحياة الإنسانيّة. أمّا حقيقة الألوهيّة فهي في الواقع حقيقة مجرّدة تجرّدًا حقيقيًّا فهذا يعني أنّ إدراكها مستحيل لأنّ كلّ ما يقع تحت التّصوّر إنّما هو حقيقة محدودة لا حقيقة غير متناهية ومحاط وليس بمحيط ويكون إدراك الإنسان فائقًا عليه ومحيطًا به. ومن المؤكّد كذلك أنّ التّصوّرات الإنسانيّة حادثة لا قديمة ولها وجود ذهنيّ لا وجود عينيّ وفضلاً عن هذا فإنّ تفاوت المراتب في حيّز الحدوث مانع للإدراك إذن فكيف يدرك الحادث الحقيقة القديمة؟ وكما قلنا إنّ تفاوت المراتب في حيّز الحدوث مانع للإدراك فالجماد والنّبات والحيوان لا خَبَرَ لها عن قوى الإنسان العقليّة الكاشفة لحقائق الأشياء ولكنّ الإنسان مطّلع على هذه المراتب جميعها فكلّ مرتبة عالية محيطة بالمرتبة الدّانية وكاشفة لحقيقتها ولكنّ المرتبة الدّانية لا خَبَرَ لها بالمرتبة العالية ومستحيل عليها الاطّلاع عليها.
لهذا فالإنسان لا يستطيع أن يتصوّر حقيقة الألوهيّة ولكنّه يعتقد بحقيقة حضرة الألوهيّة عن طريق القواعد العقليّة والنّظريّة والمنطقيّة والاستنتاجات الفكريّة والاكتشافات الوجدانيّة ويكشف الفيوضات الإلهيّة ويوقن بأنّ حقيقة الألوهيّة مهما كانت غير مرئيّة ومهما كان وجود الألوهيّة غير محسوس فإنّ هناك أدلّة قاطعة إلهيّة تحكم بوجود تلك الحقيقة غير المرئيّة. لكن تلك الحقيقة كما هي، مجهولة النّعت فمثلاً المادّة الأثيريّة موجودة ولكنّ حقيقتها مجهولة وهي محتومة بآثارها والحرارة والضوء والكهرباء هي تموّجاتها، ومن هذه التّموّجات يثبت وجود المادّة الأثيريّة. ونحن عندما ننظر إلى الفيوضات الإلهيّة نوقن بوجود الألوهيّة، فمثلاً نلاحظ أنّ وجود الكائنات عبارة عن تركيب العناصر الفرديّة وأنّ فناء الكائنات عبارة عن تحليل عناصرها لأنّ التّحليل سبب تفريق العناصر الفرديّة. إذن فنحن عندما ننظر إلى تركيب العناصر نشاهد أنّ كائنًا من الكائنات جاء للوجود من كلّ تركيب وأنّ الكائنات غير متناهية وأنّ المعلولات غير متناهية إذن فكيف تصبح العلّة فانية؟

إنّ التّركيب ينحصر في ثلاثة أقسام لا رابع لها: تركيب تصادفيّ وتركيب إلزاميّ وتركيب إراديّ. أمّا تركيب عناصر الكائنات فليس تركيبًا تصادفيًّا لأنّ المعلول لا يأتي للوجود بدون علّة، ثمّ إنّ تركيب عناصر الكائنات ليس تركيبًا إلزاميًّا لأنّ التّركيب الإلزاميّ هو ذاك التّركيب الّذي ينتج من اللّوازم الضّروريّة للأجزاء المركّبة واللّزوم الذّاتيّ لأيّ شيء لا ينفكّ عنه النّور الّذي يظهر الأشياء وكذلك الحرارة الّتي تمدّد العناصر وشعاع الشّمس هما من لوازم الشّمس الذّاتيّة. وعلى هذه الصّورة يكون تحليل كلّ تركيب مستحيلاً لأنّ اللّزوم الذّاتيّ لا ينفكّ عن كلّ كائن. والآن بقي النّوع الثّالث من التّركيب وهو التّركيب الإراديّ وهو أن تكون فيه قوّة غير مرئيّة يسمّونها القدرة القديمة هي السّبب في تركيب هذه العناصر ويحصل من كلّ تركيب كائن من الكائنات. وأمّا الإرادة والعلم والقدرة والصّفات القديمة الّتي نعتبرها من كمالات تلك الحقيقة اللاّهوتيّة هي من مقتضيات آثار وجوده في حيّز الشّهود وليست الكمالات الحقيقيّة للألوهيّة المطلقة الّتي لا يمكن إدراك كنهها. فمثلاً عندما نلاحظ في الكائنات كمالات غير متناهية وندرك أنّ الكائنات على شأن كبير من الانتظام والكمال نقول إنّ تلك القدرة القديمة الّتي نسب إليها وجود هذه الكائنات قوّة ليست جاهلة إذن فهي عالمة وهي لا شكّ غير عاجزة إذن فهي قديرة وهي لا شكّ غير فقيرة إذن فهي غنيّة وهي لا شكّ غير معدومة إذن فهي موجودة.
وخلاصة القول إنّ هذه النّعوت الّتي نحسبها لتلك الحقيقة الكلّيّة هي مجرد سلب النّقائص عنها لا ثبوت للكمالات الّتي يتصوّرها الإنسان في حيّز إدراكه ولهذا نقول إنّها مجهولة النّعت. والخلاصة أنّ تلك الحقيقة الكلّيّة مع جميع نعوتها وأوصافها الّتي نحصيها مقدّسة ومنزّهة عن العقول والإدراكات، ولكنّنا عندما ننظر في هذا الكون غير المتناهي نظرة شاملة دقيقة نلاحظ أنّ الحركة والمتحرّك أشياء مستحيلة بدون المحرّك وأنّ المعلول ممتنع ومحال بدون العلّة وأنّ كلّ كائن من الكائنات قد يكون تحت تأثير مؤثّرات عديدة متفاعلة بعضها مع بعض دائمًا، وتلك المؤثّرات حصلت كذلك بتأثير مؤثّرات أخرى فمثلاً النّبات حصل بفيض سحابة الرّبيع وتمّ إنباته ولكن السّحابة نفسها حصلت من تدابير مؤثّرات أخرى وتلك المؤثّرات كذلك من تأثير مؤثّرات أخرى فمثلاً النّباتات والحيوانات نشأت ونمت من عنصري النّار والماء اللّذين يسمّيهما فلاسفة هذه الأيّام باسمي الأوكسيجين والهيدروجين، أي أنّها وجدت من تربية وتأثير هذين المؤثّرين ونفس هذين العنصرين هما تحت تأثير مؤثّرات أخرى، وكذلك سائر الكائنات لها هذا التّسلسل من المؤثّرات والمتاثّرات. ومن الثّابت بالبراهين بطلان التّسلسل إذن فلا بدّ أن تنتهي هذه المؤثّرات والمتاثّرات إلى الحيّ القدير الّذي هو الغنيّ المطلق والمقدّس عن المؤثّرات. وتلك الحقيقة الكلّيّة غير محسوسة وغير مرئيّة ويجب أن تكون كذلك لأنّها محيطة لا محاطة. ومثل هذه الأوصاف صفات للمعلول لا للعلّة وعندما ندقّق النّظر نلاحظ أنّ الإنسان كالميكروب الصّغير الموجود في الفاكهة، فتلك الفاكهة وجدت من برعم والبرعم نبت من الشّجرة والشّجرة نشأت ونمت من مادّة سائلة وتلك المادّة السّائلة حصلت من التّراب والماء. ولكن كيف يستطيع هذا الجرثوم الصّغير أن يدرك حقائق ذلك البستان ويفهم البستانيّ ويدرك حقيقة ذلك البستانيّ ومن الواضح أنّ هذا مستحيل. ولكنّ ذلك الميكروب لو كان ذكيًّا لفهم أنّ هذا البستان وهذه الشّجرة وهذا البرعم وهذه الثّمرة لم تحصل بهذا الانتظام والكمال من نفسها لنفسها. وبمثل هذا يوقن الإنسان العاقل الذّكيّ أنّ هذا الكون الّذي لا نهاية له لم يحصل بهذه العظمة والانتظام من نفسه لنفسه، وكذلك وجدت القوى غير المرئيّة في حيّز الإمكان ومنها القوّة الأثيريّة وهي كما مرَّ ذكره غير محسوسة وغير مرئيّة ولكنّها ظاهرة ثابتة من آثارها أي من تموّجات ومن اهتزازات الضّوء والحرارة والكهرباء، وكذلك قوّة النّمو وقوّة الإحساس وقوّة العقل وقوّة التّفكير وقوّة الحفظ وقوّة التّخيّل وقوّة الكشف. فهذه القوى المعنويّة كلّها غير مرئيّة وغير محسوسة ولكنّها ظاهرة ثابتة بآثارها.
وأمّا القوّة غير المحدودة فإنّ نفس المحدود دليل على وجود غير المحدود لأنّ المحدود ولا شكّ يعرف بغير المحدود، كما أنّ نفس العجز دليل على وجود القدرة ونفس الجهل دليل على وجود العلم ونفس الفقر دليل على وجود الغنى فلو لم يكن الغنى لما كان الفقر أيضًا ولو لم يكن العلم لما كان الجهل ولو لم يكن النّور لما كانت الظّلمة فنفس الظّلمة دليل على النّور لأنّ الظّلمة هي عدم النّور. أمّا الطّبيعة فهي عبارة عن الخواص والرّوابط الضّروريّة المنبعثة من حقائق الأشياء وهذه الحقائق غير متناهيّة ومهما كانت في منتهى الاختلاف في ما بينها لكنّها في غاية الائتلاف وفي أقصى الارتباط من جهة أخرى. وعندما توسّع نظرتك وتلاحظ ملاحظة دقيقة توقن أنّ كلّ حقيقة هي من اللّوازم الضّروريّة لسائر الحقائق. إذًا فيستلزم هذا وجود جهة جامعة لارتباط هذه الحقائق المختلفة وائتلافها حتّى يوفي كلّ جزء من أجزاء الكائنات وظيفته بمنتهى الانتظام. فمثلاً لاحظوا الإنسان واستدلّوا من الجزء على الكلّ لاحظوا هذه الأعضاء والأجزاء المختلفة في الهيكل الإنسانيّ تروا ما أعظم ارتباطها وائتلافها بعضها ببعض وكلّ جزء هو من اللّوازم الضّروريّة لسائر الأجزاء وله وظيفة مستقلّة، ولكنّ الجهة الجامعة وهي العقل يربطها جميعًا ربطًا بدرجة تفي بوظائفها وفاءً منتظمًا ويحصل التّعاون والتّعاضد والتّفاعل بينها، وأنّ حركتها جميعًا تحت قوانين هي من اللّوازم الوجوديّة لها. فإذا حصل في تلك الجهة الجامعة الّتي هي مدبّرة لهذه الأجزاء خلل وفتور فلا شكّ أن تحرم الأعضاء والأجزاء من إيفاء وظائفها إيفاءً منتظمًا ومع أنّ تلك القوّة الجامعة في الهيكل الإنسانيّ غير محسوسة وغير منظورة وحقيقتها مجهولة ولكنّها من حيث الآثار ظاهرة باهرة بكلّ قوّة. إذن ثبت واتّضح أنّ هذه الكائنات غير المتناهية في العالم العظيم كلّ واحد منها يتوفّق في أداء وظيفته عندما يكون تحت إدارة حقيقيّة كلّيّة حتّى ينتظم هذا العالم. وخذ مثلاً التّفاعل والتّعاضد والتّعاون بين الأجزاء المكوّنة للوجود الإنسانيّ فإنّ هذا شيء مشهود لا يقبل النّكران لكنّ هذا التّفاعل والتّعاضد والتّعاون غير كافٍ بل يحتاج جهة جامعة تدير هذه الأجزاء وتدبّرها حتّى تقوم هذه الأجزاء المركّبة بإيفاء وظائفها اللاّزمة بالتّعاون والتّفاعل والتّعاضد إيفاءً منتظمًا. وأنتم ولله الحمد مطّلعون على أنّ بين جميع الكائنات تفاعلاً وتعاضدًا كلّيًّا وجزئيًّا ولكنّ التّفاعل بين الكائنات العظيمة واضح وضوح الشّمس ولو أنّ التّفاعل مجهول بين الكائنات الجزئيّة ولكنّ الجزء قياس للكلّ إذن فجميع هذه التّفاعلات مرتبطة بقوّة محيطة هي المحور والمركز والمحرّك لهذه التّفاعلات. وكما قلنا إنّ التّعاون والتّعاضد بين أجزاء الهيكل الإنسانيّ شيء ثابت وإنّ هذه الأعضاء والأجزاء تخدم جميع الأعضاء والأجزاء الأخرى فمثلاً اليد والقدم والعين والأذن والفكر والتّصوّر تساعد جميع الأعضاء والأجزاء لكنّ جميع هذه التّفاعلات ترتبط بقوّة واحدة غير مرئيّة محيطة بها تحصل هذه التّفاعلات بصورة منتظمة وتلك هي القوّة المعنويّة في الإنسان وهي عبارة عن الرّوح والعقل وهي غير مرئيّة. وكذلك لاحظوا المعامل والمصانع تروا تفاعل جميع الآلات والأدوات وارتباطها بعضها ببعض ولكنّ جميع هذه الرّوابط والتّفاعلات مرتبطة بقوّة عموميّة هي المحرّك والمحور والمصدر لهذه التّفاعلات وتلك القوّة هي قوّة البخار أو مهارة العامل. إذن اتضح وتحقّق أنّ التّفاعل والتّعاضد والارتباط بين الكائنات هو تحت إدارة وإرادة قويّة محرّكة واحدة هي المصدر والمحرّك والمحور للتّفاعل بين الكائنات وكذلك كلّ تركيب وترتيب لا نراه مرتّبًا ومنظّمًا نسمّيه تركيبًا تصادفيًّا ونسمي كلّ تركيب وترتيب منظّم ومرتّب وفي منتهى الكمال في الارتباط أي يقع كلّ جزء منه في موقع ضروريّ لسائر الأشياء نسمّيه تركيبًا تركّب وترتّب بإرادة وبشعور. ولا شكّ أنّ هذه الكائنات غير متناهية وأنّ تركيب هذه العناصر الفرديّة الّتي انحلّت في صور غير متناهية صدر عن حقيقة ليست فاقدة الشّعور ولا مسلوبة الإرادة. وهذا شيء ثابت وواضح لدى العقل وليس هناك مجال للإنكار ولكنّ مقصودنا هو أنّنا أدركنا تلك الحقيقة الكلّيّة عن طريق الصّفات ولكنّنا لم ندرك الحقيقة ذاتها ولا صفاتها الحقيقيّة ومع هذا نقول إنّ هذه الكائنات غير متناهية وهي روابط ضروريّة وإنّ هذا التّركيب التّام الكامل غير صادر عن مصدر فاقد للإرادة والشّعور وإنّ هذا التّركيب غير المتناهي الّذي انحلّ في صور غير متناهية مبنيّ على حكمة كلّيّة وهذه قضيّة غير قابلة للنّكران اللّهم إلا أنّ يقوم الإنسان على إنكار المعاني الواضحة الباهرة بالعناد واللّجاج ويكون مصداق الآية الكريمة “صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون”.
أمّا القول بأنّ القوى العقليّة والرّوح الإنسانيّ شيء واحد فإنّ القوى العقليّة من خصائص الرّوح مثل قوّة التّخيّل ومثل قوّة التّفكير ومثل القوّة المدركة فهي من خصائص الحقيقة الإنسانيّة كما أنّ شعاع الشّمس من خصائص الشّمس والهيكل الإنسانيّ بمثابة مرآة والرّوح بمثابة الشّمس والقوى العقليّة بمثابة الأشعّة الّتي هي فيض من فيوضات الشّمس ولربما تنقطع الأشعّة عن المرآة وتنفكّ عنها لكنّ أشعّة الشّمس لا تنفكّ عن الشّمس. وخلاصة القول إنّ مقصودنا هو أنّ العالم الإنسانيّ بالنّسبة لعالم النّبات كنسبة عالم ما وراء الطّبيعة إلى عالمنا وفي الحقيقة لا نسبة له بما وراء الطّبيعة ولكنّ حقيقة الإنسان وقوّة سمعه وبصره بالنّسبة للنّبات هي بمثابة ما وراء الطّبيعة ومن المستحيل على النّبات أن يدرك حقيقة الإنسان وماهيّة القوّة العاقلة وكذلك يستحيل على البشر إدراك حقيقة الألوهيّة وحقيقة نشأة الحياة بعد الموت. لكنّ فيوضات الحقيقة الرّحمانيّة تشمل جميع الكائنات ويجب على الإنسان أن يفكّر ويتأمّل في الفيوضات الإلهيّة الّتي منها الرّوح لا في حقيقة الألوهيّة فإنّ هذا منتهى إدراكات العالم الإنسانيّ وكما سبق أن ذكرنا أنّ هذه الأوصاف والكمالات الّتي نحصيها لحقيقة الألوهيّة إنّما نقتبسها من وجود الكائنات وشهودها لا أنَّنا أدركنا الحقيقة الإلهيّة. فإذا قلنا إنّ حقيقة الألوهيّة مدركة ومختارة فليس ذلك يعني أنّنا اكتشفنا إرادة الألوهيّة واختيارها بل اقتبسنا ذلك من فيوضات الألوهيّة الظّاهرة في حقائق الأشياء. أمّا مسائلنا الاجتماعيّة أي تعاليم حضرة بهاء الله الّتي انتشرت قبل خمسين سنة فإنّها جامعة لجميع المبادئ ومن الواضح أنّ نجاح العالم الإنسانيّ وفلاحه مستحيل بدون هذه التّعاليم كلّ الاستحالة وكلّ فرقة من الفرق في العالم الإنسانيّ ترى نهاية آمالها موجودة في هذه التّعاليم السّماويّة وهذه التّعاليم بمثابة شجرة تحمل جميع الأثمار بصورة أكمل وأتمّ، فمثلاً يشاهد الفلاسفة المسائل الاجتماعيّة بصورة أكمل وأتمّ في هذه التّعاليم السّماويّة وكذلك يشاهدون فيها المسائل الفلسفيّة بصورة أسمى وأشرف وبصورة مطابقة للحقيقة، وكذلك يشاهد أهل الأديان حقيقة الدّين في هذه التّعاليم السّماويّة مشاهدة العيان وتثبت لهم بالأدلّة القاطعة والحجج الواضحة أنّها العلاج الحقيقيّ لعلل وأمراض الهيئة الاجتماعيّة في العالم الإنسانيّ وعند انتشار هذه التّعاليم العظيمة تنجو الهيئة الاجتماعيّة بأسرها من جميع الأخطار والعلل والأمراض المزمنة.
وكذلك مسألة الاقتصاد البهائيّ فهي منتهى آمال العمّال ومنتهى مقصود الأحزاب الاقتصاديّة والخلاصة أنّ جميع الأحزاب تنال نصيبها من تعاليم حضرة بهاء الله وعندما تعلن هذه التّعاليم في الكنائس والمساجد وسائر معابد الملل الأخرى حتّى البوذيّين والكونفوشيوسيّين ونوادي الأحزاب المختلفة حتّى المادّيّين ترى الكلّ يعترفون بأنّ هذه التّعاليم سبب الحياة الجديدة للعالم الإنسانيّ وهي العلاج الفوريّ لجميع أمراض الهيئة الاجتماعيّة ولا ينتقدها أيّ إنسان بل بمجرّد الاستماع إليها تطرب النّفوس وتذعن بأهميّة هذه التّعاليم وتقول: “هذا هو الحقّ وما بعد الحقّ إلاّ الضّلال المبين”.
وفي ختام الكلام أكتب إليكم الكلمات التّالية وهي الحجّة والبرهان القاطع على الجميع فأمعنوا النّظر فيها: إنّ قوّة إرادة كلّ ملك مستقلّ تنفذ في أيّام حياته وكذلك قوّة إرادة كلّ فيلسوف تؤثّر في أيّام حياته في نفر قليل من تلامذته أمّا قوّة الرّوح القدس الظّاهرة الباهرة في حقائق الأنبياء وقوّة إرادة الأنبياء هي على شأن من النّفوذ بحيث تراها نافذة الآف السّنين في ملّة عظيمة وتراها تؤسّس خلقًا جديدًا وتنقل العالم الإنسانيّ من عالم قديم إلى عالم آخر جديد فلاحظوا أيّة قوّة هذه القوّة الخارقة للعادة فإنّه برهان وافٍ على حقيقة الأنبياء وحجّة بالغة على قوّة الوحي وعليكم البهاء الأبهى.
حيفا 21 أيلول 1921
عبد البهاء عبّاس

هولندا جناب السّيّد أ.أ. دان زيدكز عليه التّحيّة والثّناء

هو الله

أيّها الشّخص المحترم المتحرّي عن الحقيقة إنّ الرّسالة المؤرّخة بتاريخ الرّابع من نيسان 1921 قد وصلت وتلوتها بكمال المحبّة.
أمّا وجود الألوهيّة فثابت بالدّلائل العقليّة ولكن حقيقة الألوهيّة ممتنعة الإدراك لأنّكم حينما تنظرون بنظر دقيق تجدون أنّ كلّ رتبة دانية لا تدرك الرّتبة العالية فمثلاً عالم الجماد، الّذي هو في المرتبة الدّانية، يستحيل عليه إدراك عالم النّبات، ومثل هذا الإدراك ممتنع ومحال لديه وكذا عالم النّبات مهما ارتقى فلن يكون له خبر عن عالم الحيوان بل إنّ الإدراك له مستحيل عليه لأنّ الرّتبة الحيوانيّة فوق الرّتبة النّباتيّة وهذا الشّجر لا يستطيع تصوّر السّمع والبصر وإنّ عالم الحيوان مهما ارتقى لن يستطيع تصوّر حقيقة العقل الكاشف للأشياء والمدرك للحقائق غير المرئيّة لأنّ مرتبة الإنسان عالية بالنّسبة لمرتبة الحيوان ومع أنّ جميع هذه الكائنات هي في حيّز الحدوث إلا أنّ التّفاوت في المراتب مانع للإدراك فكلّ مرتبة أدنى من غيرها لا تستطيع إدراك المرتبة الأعلى منها بل إنّ ذلك مستحيل ولكن كلّ مرتبة أعلى تستطيع إدراك المرتبة الأدنى مثال ذلك الحيوان فإنّه يدرك مرتبة النّبات والجماد وكذا الإنسان يدرك مرتبة الحيوان والنّبات والجماد ولكن الجماد مستحيل عليه إدراك عوالم الإنسان وهذه الحقائق هي في حيّز الحدوث ومع ذلك لا تستطيع أيّة مرتبة أدنى من غيرها إدراك مرتبة أعلى منها ومن المستحيل ذلك إذًا فكيف يمكن أن تدرك الحقيقة الحادثة (أي الإنسان) حقيقة الألوهيّة الّتي هي حقيقة قديمة؟ وتفاوت المراتب بين الإنسان وبين حقيقة الألوهيّة هو مائة ألف مرّة أعظم من التّفاوت بين النّبات والحيوان وكلّ ما يتصوّره الإنسان هو صورة موهومة توهّمها الإنسان وهي محاطة لا محيطة أي أنّ الإنسان محيط بتلك الصّور الموهومة في حين أنّ حقيقة الألوهيّة لا يمكن الإحاطة بها بل إنّها محيطة بجميع الكائنات وإنّ الكائنات محاطة وحقيقة الألوهيّة الّتي يتصوّرها الإنسان لها وجود ذهني لا وجود حقيقيّ في حين أنّ الإنسان له وجود ذهني ووجود حقيقيّ في نفس الوقت. إذًا فالإنسان أعظم من تلك الحقيقة الموهومة الّتي يمكن تصوّرها، وكلّ ما في الأمر هو أنّ الطّير التّرابي يستطيع أن يطير ويقطع في طيرانه قليلاً من هذا البعد الّذي لا يتناهى، ولكنّ الوصول إلى أوج الشّمس مستحيل عليه. ولكن يجب إقامة أدلّة عقليّة أو أدلّة إلهاميّة على وجود الألوهيّة أي على قدر الإدراك الإنسانيّ.
من الواضح أنّ جميع الكائنات مرتبط بعضها بالبعض الآخر ارتباطًا تامًّا مثل ارتباط أعضاء الهيكل الإنسانيّ فكما أنّ أعضاء وأجزاء الهيكل الإنسانيّ مرتبط بعضها بالبعض الآخر فكذلك يكون ارتباط أجزاء هذا الكون اللاّمتناهي ببعضها على هذا النّحو فمثلاً القدم والرّجل مرتبطتان بالسّمع والبصر ويجب أن ترى العين حتّى تستطيع القدم أن تخطو خطوة ويجب أن تسمع الأذن حتّى ينظر البصر نظرة دقيقة وكلّ جزء من الأجزاء الإنسانيّة إذا نقص حصل النّقص والفتور في سائر الأجزاء والدّماغ مرتبط بالقلب وبالمعدة، والرّئة مرتبطة بجميع الأعضاء. وكذا بقيّة الأعضاء لكلّ منها وظيفته فالقوّة العاقلة سواء أقلنا إنّها قديمة أو قلنا إنّها حادثة إنّما هي مديرة ومدبّرة لجميع أعضاء الإنسان ليقوم كلّ عضو بوظيفته بنهاية الانتظام ولكن لو حدث خلل في تلك القوّة العقليّة فإنّ جميع الأعضاء تتوقّف عن إجراء وظائفها الأصليّة وتظهر أعراض الخلل في هيكل الإنسان وفي تصرّفات أعضائه ولا تظهر الفائدة المطلوبة.
وكذلك لاحظوا هذا الكون الّذي لا يتناهى فلا بدّ من وجود قوّة كلّيّة فيه تكون محيطة ومديرة ومدبّرة لجميع أجزاء هذا الكون الّذي لا نهاية له ولو لم يكن هذا المدير والمدبّر موجودًا لاختلّ عالم الكون ولأصبح كالمجنون وحيث إنّكم تلاحظون أنّ هذا الكون الّذي لا يتناهى في غاية الانتظام وكلّ جزء من أجزائه يقوم بوظائفه بكلّ إتقان وليس هناك أيّ خلل فمن الواضح المشهود أنّ هناك قوّة كلّيّة موجودة هي المدبّرة والمديرة لهذا الكون الّذي لا يتناهى وأنّ كلّ عاقل يدرك هذا ثمّ إنّ جميع الكائنات ولو أنّها تنمو وتتكامل تدريجيًّا إلاّ أنّها تحت مؤثّرات خارجيّة، مثال ذلك الشّمس تهب الحرارة وتسقط مطرًا وتهب نسيمًا منعشًا للأرواح حتّى ينمو الإنسان ويتكامل. إذًا فقد اتّضح أنّ الهيكل الإنسانيّ هو تحت مؤثّرات خارجيّة ولا ينمو ولا يتكامل بدونها وتلك المؤثّرات الخارجيّة هي أيضًا تحت مؤثّرات أخرى مثال ذلك نموّ وتكامل الوجود الإنسانيّ منوط بوجود الماء، والماء منوط بوجود المطر، والمطر منوط بوجود السّحاب، والسّحاب منوط بوجود الشّمس حتّى يتبخّر البرّ والبحر ويحصل السّحاب من التّبخّر وكلّ واحد من هذه العوامل مؤثّر ومتاثّر في نفس الوقت إذًا فلا بد وأنها تتنهي إلى وجود مؤثّر لا يتأثّر بكائن آخر وعنده ينقطع التّسلسل. إلا أنّ حقيقة ذلك الكائن مجهولة ولكنّ آثاره واضحة مشهودة. وفضلاً عن هذا فإنّ جميع الكائنات محدودة ونفس محدوديّة هذه الكائنات دليل على حقيقة غير المحدودة لأنّ وجود المحدود يدلّ على وجود غير المحدود والخلاصة أنّ هناك أدلّة كثيرة من هذا القبيل كلّها تدلّ على أنّ تلك الحقيقة الكلّيّة لمّا كانت حقيقة قديمة فإنّها منزّهة ومقدّسة عن شؤون الحادثات وأحوالها لأنّ كلّ حقيقة تتعرّض للحادثات والشّؤون هي ليست قديمة بل حادثة. إذًا فاعلم أنّ الألوهيّة الّتي تتصوّرها سائر الطّوائف والملل هي ألوهيّة تحت التّصوّر لا فوقه والحال أنّ حقيقة الألوهيّة فوق التّصوّر. أمّا المظاهر المقدّسة الإلهيّة فإنّها مظهر تجلّي كمالات تلك الحقيقة المقدّسة وهذا الفيض الأبديّ والتّجلّي اللاّهوتي هو الحياة الأبديّة للعالم الإنسانيّ فمثلاً شمس الحقيقة هي في أفق عال لا يمكن أن يصله أيّ شخص وإنّ جميع العقول والأفكار قاصرة وهي مقدّسة ومنزّهة عن إدراكها ولكنّ المظاهر المقدّسة الإلهيّة هي بمنزلة المرايا الصّافية النّورانيّة الّتي تستفيض من شمس الحقيقة وتفيض على سائر الخلق والشّمس بكلّ كمالها وجلالها ظاهرة باهرة في هذه المرآة النّورانيّة فلو قالت الشّمس الموجودة في المرآة إنّي شمس فهي صادقة ولو قالت إنّني لست الشّمس فهي صادقة ولو ظهرت الشّمس وبهرت بكلّ جلالها وجمالها وكمالها في المرآة الصّافية فإنّها لا تتنزل من عالمها الأعلى ومن سموّ مقامها ولا تحلّ في هذه المرآة بل إنّها لم تزل في علوّ تنزيهها وتقديسها. وجميع الكائنات الأرضيّة ينبغي أن تستفيض من الشّمس لأنّ وجودها منوط ومشروط بحوادث الشّمس وبضيائها ولو بقيت محرومة من الشّمس فإنّها تفنى وتزول وهذه هي المعيّة الإلهيّة المذكورة في الكتب المقدّسة في أنّ الإنسان يجب أن يكون دائمًا مع الله. إذًا صار معلومًا أنّ ظهور الحقيقة الألوهيّة يتمّ بالكمالات، والشّمس وكمالاتها مرئيّة في المرايا ووجودها يصرّح عن الفيوضات الإلهيّة.
هذا وأرجو لك عينًا باصرة وأذنًا سامعة وارتفاع الحجب عن عينيك والرّسم الّذي أردته تجده في طيّ هذه الرّسالة وعليك التّحيّة والثّناء.
مارس 1921
عبد البهاء عبّاس

اللّوح المبارك: إلى قراء جريدة واهان – لندن

هو الله

إنّ هذه الشّمس في فلك الأثير تشرق على الآفاق وجميع الكائنات الأرضيّة تنمو وترتقي من فيوضاتها ولو لم تكن حرارة الشّمس وإشراقها لما تكوّنت طبقات الكرة الأرضيّة ولما وجدت المعادن الكريمة ولما حاز هذا التّراب الأسود على قوّة النّموّ ولما ترعرع النّبات ولما نشأ عالم الحيوان ونما ولما تحقّق وجود عالم الإنسان على سطح الغبراء فكلّ هذه المواهب هي من فيض الشّمس الّتي هي آية من آيات قدرة الله سبحانه وتعالى. وعندما تشرق من نقطة الاعتدال يصير العالم عالمًا آخر وترتدي الأقاليم حلّة خضراء وتورق جميع الأزهار وتزدهر وتعطي ثمرًا نضرًا ريّانًا ويسري الدّم في عروق كلّ ذي روح وأعصابه فينال حياة جديدة ويكتسب قوّة جديدة، وكذلك الأمر في شمس الحقيقة الّتي هي الكوكب اللاّمع في عالم العقول والأرواح والنّفوس وهي النّيّر الأعظم لعالم الأفكار والقلوب وهي المربّية للنّوع الإنسانيّ وسبب نموّ وانتعاش الأرواح والعقول والنّفوس وهذا الكوكب الإلهيّ له كذلك طلوع وغروب ونقطة اعتدال وخطّ استواء وبروج متعدّدة.
ولقد مضى الآن عهد طويل على أفول ذلك النّيّر الأعظم وأظلم عالم العقول والنّفوس وفقدت قوّة النّموّ والانتعاش فقدانًا كلّيًّا وانتهت الاكتشافات العقليّة، ولكن لله الحمد تنفّس صبح الحقيقة وسطعت الأنوار من الشّمس وترى أنّ جميع الكائنات تتحرّك وتبدو في كلّ لحظة حياة جديدة وتبهر في كلّ يوم آثار عجيبة فيجب أن يستيقظ النّائمون وأن ينتبّه الغافلون، فحان الوقت للعميان أن يروا وللصّمّ أن يسمعوا وللبكم أن ينطقوا وللأموات أن يبعثوا حتّى تتجلّى للعالم آثار مواهب هذا القرن العظيم ويحيط سرور اليوم العظيم جميع القلوب وتنير أنوار المحبّة الأفئدة والأرواح كي تزول ظلمات الأفكار والقلوب زوالاً كلّيًّا وطابت أرواحكم.
عبد البهاء عبّاس

اللّوح المبارك: إلى مدير وقراء المجلة الشّرقيّة – لندن

هو الله

صديقي المحترم،
وصلتني رقيمتكم وأصابني منتهى السّرور من تلك الرّوابط الرّوحانيّة المنبعثة من ذاتكم وروحكم.
ومع أنّه قد اتّضح لي جليًّا في سفري هذا أنّ عالم الغرب قد ارتقى في المدنيّة رقيًّا كبيرًا لم يسبق له مثيل إلا أنّ المدنيّة الإلهيّة أوشكت أن تصبح نسيًا منسيًّا لأنّ جميع الأفكار غرقت في عالم الطّبيعة وكلّ ما في العالم اليوم هو صورة للطّبيعة وليس له صبغة إلهيّة.
وحيث إنّ النّقائض كثيرة في عالم الطّبيعة ولهذا فقد حجبت أنوار المدنيّة الإلهيّة وأصبحت الطّبيعة حاكمًا مسيطرًا. وأعظم قوّة في عالم الطّبيعة هي قوّة التّنازع على البقاء وهذا التّنازع هو مبدأ ومنشأ جميع المشاكل وسبب الحرب والجدال والعداوة والبغضاء بين جميع البشر لأنّ الظّلم والأنانيّة وحبّ السّيطرة والاعتداء على حقوق الآخرين الموجودة في عالم الطّبيعة إنّما هي صفات ذميمة ومن رذائل العالم الحيواني ولهذا فما دامت مقتضيات عالم الطّبيعة هي الحاكمة بين البشر، فالفلاح والنّجاح محال لأنّ فلاح العالم الإنسانيّ ونجاحه إنّما هما بالفضائل والخصائل الّتي تزيّن حقيقة الإنسان وهذا أمر مخالف لمقتضيات الطّبيعة.
فالطّبيعة محبّة للحرب والنّزاع والطّبيعة محبّة للدّماء والطّبيعة ظالمة عاتية والطّبيعة غافلة عن الله.
وعليه تلاحظون حضراتكم أنّ صفات الافتراس هذه طبيعيّة في العالم الحيوانيّ، ولهذا بعث الرّحمن الرّسل بلطفه وعنايته وأنزل الكتب حتّى ينجو العالم الإنسانيّ عن طريق التّربية الإلهيّة من فساد الطّبيعة وظلمة الجهل ويصل إلى الكمالات المعنويّة والإحساسات الوجدانيّة والفضائل الرّوحانيّة ويصبح مصدر السّنوحات الرّحمانيّة وهذه هي المدنيّة الإلهيّة.
والمدنيّة المادّيّة في العالم الإنسانيّ اليوم مثل زجاجة في منتهى الصّفاء إلا أنّها ويا ألف أسف زجاجة محرومة من السّراج، والسّراج هو المدنيّة الإلهيّة الّتي تؤسّسها المظاهر الإلهيّة.
وخلاصة القول لمّا كان هذا القرن قرن الأنوار وقرن ظهور الحقيقة وقرن التّرقّيات فوا ألف أسف على البشريّة الّتي لا تزال في التّعصّبات الجاهليّة والمنازعات الطّبيعيّة، وفيها الخصومات والعداوات في منتهى العنف.
وجميع هذه الأضرار ناتج عن زوال المدنيّة الإلهيّة بالكلّيّة ونسيان تعاليم الأنبياء. فمثلاً ورد في نصّ التّوراة أنّ جميع البشر هم خلق الرّحمن وفي ظلّ ألطاف الرّبّ العطوف وليسوا من خلق الشّيطان وكذلك نصّ الأنجيل على أن الشّمس الإلهيّة أشرقت على العاصي والمطيع على السّواء كما وأنّ القرآن يتفضّل:- “لا ترى في خلق الرّحمن من تفاوت”. هذا هو أساس المظاهر المقدّسة الإلهيّة. إلاّ أنّه ويا ألف أسف قد هدم سوء التّفاهم ما بناه الأنبياء، والدّين الّذي كان ينبغي أن يكون سبب المحبّة والألفة ومؤسّس وحدة العالم الإنسانيّ، أصبح سبب البغضاء والعداوة.
ولقد مرّت ستة آلاف سنة استمرّ خلالها بنو البشر في سفك الدّماء والافتراس وهما من خصائص عالم الحيوان، ولكنّ البشر أطلقوا على ذلك الاسم التّعصّب الدّينيّ والتّعصّب الجنسيّ والتّعصّب الوطنيّ ويضربون بمعاولهم على جذور شجرة العالم الإنسانيّ، فوا ألف أسف لذلك.
والخلاصة فقد تجوّلتُ في جميع ممالك الغرب وأعلنتُ في جميع المجامع والكنائس العظمى، بموجب تعاليم حضرة بهاء الله، وحدة العالم الإنسانيّ، وروّجت الصّلح العموميّ، ودعوت بأعلى صوتي الجميع إلى الملكوت الإلهيّ قائلاً: الحمد لله على ما أشرقت شمس الحقيقة من أفق الشّرق في منتهى اللّمعان وأشرقت بأنوارها على جميع الآفاق وأنّ أنوارها هي التّعاليم السّماويّة، وهي إعلان وحدة العالم الإنسانيّ وترويج الصّلح العمومي وتحرّي الحقيقة وتأسيس الألفة والمحبّة بقوّة الدّين وتطابق العلم والعقل مع الدّين ونبذ التّعصّب الدينيّ والجنسيّ والوطنيّ والسّياسيّ وتعميم المعارف العامّة وتحكيم المحكمة الدّوليّة الكبرى الّتي تحلّ معضلات المشاكل المتنوّعة بين الدّول والملل وتربية جميع الإناث كتربية الرّجال على جميع الفضائل الإنسانيّة وحل المسائل الاقتصاديّة وتأسيس اللّغة العالميّة وأمثال ذلك، حتّى ينجو العالم الإنسانيّ من ظلمة الضّلالة ويصل إلى مطلع أنوار الهداية، وينهدم هذا النّزاع والجدال والخصومة والعداوة من بين البشر، ويزول سوء التّفاهم الموجود بين أهل الأديان، لأنّ أساس الأديان الإلهيّة واحد، وهو وحدة العالم الإنسانيّ.
ولله الحمد وجدنا في أمريكا آذانًا صاغية وشاهدنا نفوسًا متوافقة متآلفة، ومقاصد تلك النّفوس إيجاد الألفة بين جميع البشر، وغاية آمالهم رقيّ العالم الإنسانيّ رقيًّا لم يسبق له مثيل.
وكذلك قابلنا في لندن نفوسًا مباركة يجهدون بقلوبهم وأرواحهم لإلقاء المحبّة والألفة بين البشر.
وأملي أن تنتشر هذه الأفكار العالية يومًا فيومًا وتتجلّى هذه المقاصد الخيريّة حتّى تصبح جميع ملل العالم مظاهر السّنوحات الرّحمانيّة ولا يبقى بين الأديان والأقوام نزاع وجدال. هذه هي العزّة الأبديّة وهذه هي السّعادة السّرمديّة وهذه هي جنّة العالم الإنسانيّ.
ع.ع

اللّوح المبارك: إلى أعضاء مجمع الصّلح العموميّ في هولندا بواسطة سكرتيرة اللّجنة التّنفيذيّة أمة الله الآنسة أ.ج. دايزرنك

هو الله

أيّها المجمع المحترم في العالم الإنسانيّ، من أجل نواياكم الخيّرة ومقاصدكم السّامية يجب على جميع البشر أن يتقدّموا بشكرهم إليكم ويكونوا ممتنّين راضين منكم لأنّكم قمتم ببذل مثل هذه الهمّة الّتي أصبحت سبب راحة عموم البشر.
إنّ راحة عالم الخليقة ورخاءه يتمّان عن طريق تحسين الأخلاق العامّة للعالم الإنسانيّ وإنّ أعظم وسيلة لتربية الأخلاق هي علوّ الهمّة وتوسّع الأفكار ويجب دعوة العالم الإنسانيّ إلى هذه المنقبة العظيمة.
لاحظوا أنّ المبادئ الأصليّة المرعيّة من قبل كلّ فرد من أفراد البشر هي جلب المنفعة لنفسه ودفع الضّرر عنها فهو يفكّر في راحته وسروره ويتمنّى الانفراد في معيشته ويبذل الجهد حتّى يتفوّق على جميع الأفراد الآخرين في الرّاحة والثّروة والعزّة. هذا أمل كلّ فرد من أفراد البشر وهذا منتهى الدّناءة والبؤس وإسفاف الرّأي.
إنّ الإنسان حينما يرتقي أقلّ رقيّ فكريّ وتسمو همّته يجب أن يكون في صدد جلب المنفعة لعموم عائلته ودفع الضّرر عنها، لأنّه يرى في راحة عموم عائلته ورخائها سعادة نفسه وعندما يتّسع فكره أكثر وتسمو همّته سموًّا أكثر يفكّر في جلب المنفعة إلى أبناء جنسه ووطنه وفي دفع الضّرر عنهم ولكنّ هذه الهمّة وهذا الرّأي مهما كانا مفيدين للفرد ولعائلته أو حتّى لعموم أبناء أمّته ووطنه فإنّهما يؤدّيان إلى الضّرر بسائر الأمم، لأنّ الفرد يسعى بكلّ جوارحه إلى قصر جميع منافع العالم الإنسانيّ على ملّته وحصر جميع ما على الأرض من فوائد في عائلته وتخصيص سعادة جميع العالم الإنسانيّ لنفسه، ويعتقد أنّه كلّما تدنّت سائر الدّول المجاورة ارتقت أمّته ووطنه حتّى يصبح بهذه الطّريقة متفوّقًا على جميع ما سواه في القوّة والثّروة والاقتدار.
أمّا الإنسان الإلهيّ والشّخص السّماويّ فهو براء من هذه القيود وإنّ سعة أفكاره وسموّ همّته في منتهى الدّرجات وتتّسع دائرة أفكاره اتّساعًا بحيث يرى منفعة عموم البشر أساسًا لسعادة كلّ فرد من أفراد البشر، ويرى ضرر كلّ الملل والدّول عين ضرر دولته وأمّته، بل ضرر عائلته، بل ضرر نفسه بالذّات، ولهذا فهو يجهد بجسمه وبروحه ليجلب السّعادة والمنفعة لعموم البشر ويدفع الضّرر عن عموم الملل ويسعى في ترقية عموم البشر ونورانيّتهم وسعادتهم ولا يفرّق في المعاملة لأنّه يرى العالم الإنسانيّ عائلة واحدة وعموم الملل أفراد تلك العائلة بل إنّه يرى الهيئة الاجتماعيّة البشريّة كشخص واحد، ويعتبر كلّ ملّة من الملل عضوًا من أعضاء ذلك الجسم. ينبغي للإنسان أن يبلغ بسموّ همّته إلى درجة يخدم الأخلاق العامّة، ويكون سبب عزّة العالم الإنسانيّ. في حين أنّ الأمر في هذا اليوم على العكس من هذا. فجميع ملل العالم تفكّر في ترقية نفسها وانحطاط الآخرين بل إنّها فوق ذلك تفكّر في جلب النّفع لنفسها والضّرر للآخرين وتحسب هذا تنازعًا على البقاء وتقول إنّ هذا أساس فطريّ في العالم الإنسانيّ ولكنّ هذا خطأ كبير، بل لا يوجد خطأ أعظم من هذا.
سبحان الله إنّ التّعاون والتّعاضد لدى بعض الحيوانات يؤدّي إلى بقائها. لاحظوا أنّها تتسابق في موارد الخطر في إبداء المعونة لبعضها. ففي ذات يوم كنت واقفًا على شاطئ نهر صغير، وكانت أسراب من الجراد تريد عبوره لتحصل على رزقها ولم تكن لها أجنحة لتطير بها ولهذا هجم ذلك الجراد عديم الجناح وتسابق فألقى بنفسه في الماء ليشكّل ما يشبه الجسر من هذا الجانب من النّهر إلى ذلك الجانب، فعبر الجراد الآخر فوقه ووصل من جانب النّهر إلى الجانب الآخر، ولكنّ ذلك الجراد الّذي شكل جسرًا فوق سطح الماء هلك. لاحظوا هذا هو التّعاون على البقاء لا التّنازع على البقاء.
وإذا كانت للحيوانات مثل هذه الإحساسات الشّريفة فكيف يجب أن يكون عليه الإنسان وهو أشرف الكائنات؟ وماذا يليق به أن يعمله ولا سيّما أنّ التّعاليم الإلهيّة والشّرائع السّماويّة تجبر الإنسان على هذه الفضيلة.
إنّ جميع الامتيازات القوميّة والتّقسيمات الوطنيّة والانفراديّة العائليّة والقيود الشّخصيّة مذمومة مردودة عند الله، وقد بُعث جميع أنبياء الله ونزّلت جميع الكتب السّماويّة من أجل هذه المزيّة والفضيلة، وانحصرت جميع تعاليمهم الإلهيّة في إزالة هذه الأفكار النّفعيّة الانفراديّة، وتحسين الأخلاق في العالم الإنسانيّ وتأسيس المساواة والمواساة بين عموم البشر حتّى يفدي كلّ فرد من الأفراد بروحه الآخرين. هذا هو الأساس الإلهيّ وهذه هي الشّريعة السّماويّة.
ولا يمكن تأسيس مثل هذا الأساس المتين إلا بقوّة كلّيّة قاهرة للإحساسات البشريّة لأنّ كلّ قوّة تعجز دون ذلك إلاّ قوّة الرّوح القدس، ونفثات الرّوح القدس، فإنّها تغيّر الإنسان تغييرًا إلى درجة تبدّل أخلاقه فينال الولادة الثّانية ويتعمّد بنار محبّة الله الّتي هي محبّة عموم الخلق ويتعمّد بماء الحياة الأبديّة وبالرّوح القدس.
إنّ الفلاسفة الأوّلين الّذين بذلوا أقصى الهمّة في تحسين الأخلاق وجاهدوا بأرواحهم وقلوبهم قد تمكّنوا فقط من تربية أخلاق أنفسهم لا أخلاق العموم. راجعوا التّاريخ يتّضح لكم ذلك.
أمّا قوّة الرّوح القدس فإنّها تحسّن الأخلاق العامّة وتنير العالم الإنسانيّ وتمنح السّمو الحقيقيّ وتربّي عموم البشر. إذ يجب أن يبذل محبّو الخير للعالم جهودهم حتّى يجذبوا تأييدات الرّوح القدس بالقوّة الجاذبة.
وأملي أن يقتبس ذلك المجمع المحترم الخيريّ في العالم الإنسانيّ الأنوار من شمس الحقيقة ويصبح سببًا في تربية أخلاق عموم البشر.
وأملي أن يقع احترامي لتلك الهيئة العالية القدر موقع القبول.
ع.ع

اللّوح المبارك بافتخار جناب سلام في الصين

هو الله

يا مفتونًا بالحقيقة وظمآنًا إليها، لقد وصلتني رسالتكم وكانت دليلاً على طلوع صبح منير من أفق وجدانكم، وإنّي لأرجو بعد طلوع الصّبح أن تشرق الشّمس المنيرة إشراقًا تفيض أشعته على الآفاق.
لا يخفى على حضرتكم أنّ عالم الوجود يحتاج إلى معلّم ومربّ والمربّون على نوعين: المربّي في عالم الطّبيعة والمربّي في عالم الحقيقة.
إنّكم لو تركتم الأرض على حالتها الطّبيعيّة فإنّها تصبح غابة ومنبتًا للأشواك، ولكن عندما تدخل يد البستانيّ الرّؤوف ورعايته تصبح الغابة بستانًا والأرض الشّائكة حديقة ورود. إذن اتّضح أنّ التّربية ضروريّة في عالم الطّبيعة.
وكذلك لاحظ النّوع البشريّ إذا حُرم من التّربية والتّعليم أصبح جسمًا مسمومًا لأنّ الأقوام المتوحّشة لا تمتاز عن الحيوانات بأيّ وجه من الوجوه فمثلاً ما هو الفرق بين السّود الأفريقيّين والسّود الأمريكيّين. فأولئك ينطبق عليهم القول: “خلق الله البقر على صورة البشر” وهؤلاء متمدّنون أذكياء علماء. حتّى إنّني خلال سفري هذا تحدّثت بصورة مسهبة في واشنطن في مجامع السّود وكنائسهم ومدارسهم، وشاهدتهم مثل فضلاء أوروبّا يدركون جميع الدّقائق من الأمور. إذن فما هو الفرق الّذي جعل هذين النّوعين من السّود أحدهما في أسفل دركات الجهل والآخر في أوج المدنيّة؟
هل الفرق إلاّ بالتّربية؟ ومن المؤكّد أن التّعليم والتّربية أدّيا إلى عزّة هؤلاء وأنّ عدم التّربية أصبح بذلك سبب ذلّة أولئك.
إذن اتّضح أنّ التّربية ضرورة من ضروريّات عالم المدنيّة.
إنّ المدنيّة على قسمين: أحدهما المدنيّة في عالم الطّبيعة والآخر المدنيّة في عالم الحقيقة الّذي يتعلّق بعالم الأخلاق وما لم تجتمع المدنيّتان في الهيئة الاجتماعيّة فلن يتحقّق فلاحها ونجاحها.
لاحظوا أوروبّا تروا أنّ خيمة المدنيّة الطّبيعيّة قد ضربت أطنابها في جميع الأرجاء ولكن ما أشد الظّلام في أوروبّا! فإنّ جميع الأفكار فيها متّجهة نحو التّنازع على البقاء وفي كلّ يوم سلاح جديد وزيادة في المواد المتفجّرة، فلا استقرار فيها للنّاس والنّاس فيها تحت كابوس الذّلّة والذّهول لأنّ المدنيّة الأخلاقيّة والرّوحانيّة والانجذاب بنفحات الله مفقودة فيها بصورة تامّة.

وخلاصة القول كما أنّ المربّي والمعلّم ضروريّان في عالم الطّبيعة فكذلك وجود المربّي ضروريّ ولازم في عالم الحقيقة أي في عالم الرّوح والوجدان والشّيم والأخلاق والفضائل الّتي لا منتهى لها والكمالات الحقيقيّة في عالم الإنسان، وسعادة الدّارين.
إنّ مؤسّسي المدنيّة الطّبيعيّة هم فلاسفة الأرض، أمّا معلّمو المدنيّة الحقيقيّة فهم المظاهر المقدّسة الإلهيّة. لذا لو حُرم العالم الإنسانيّ من المربّي الطّبيعي ومن المربّي الحقيقيّ فلا شكّ أنه يتدهور إلى أسفل دركات العالم الحيواني.
إنّ المدنيّة الطّبيعيّة بمثابة الزّجاج، والمدنيّة الإلهيّة بماثبة السّراج، وإنّ المدنيّة الجسمانيّة بمثابة الجسد، والمدنيّة الإلهيّة بمثابة الرّوح، وكما يحتاج الزّجاج سراجًا، يحتاج الجسد روحًا.
طالعوا رسالة جالينوس الحكيم المسمّاة (مائة رسالة) والّتي دارت حول رقيّ مدنيّة العالم الإنسانيّ تجدوا أنّه يقول فيها: “إنّ العقائد الدّينيّة من أعظم وسائل عالم المدنيّة والإنسانيّة. ففي وقتنا الحاضر هناك جماعة تسمّى بالمسيحيّين، وبما أنّها ثابتة مستقيمة على عقائدها الدّينيّة فإنّ عوام هذه الجماعة فلاسفة حقيقيّون لأنّهم يتحلّون بأخلاق وآداب لا يستطيع أن يتوصّل إليها أعظم فيلسوف إلاّ بعد مشقّة سنين طويلة في الزّهد والرّياضة الأخلاقيّة. أمّا عوام هذه الجماعة فإنّهم متحلّون بهذه الفضائل بمنتهى درجة الكمال”.
إذن اتّضح أنّ العالم الإنسانيّ يحتاج إلى مربّ حقيقيّ عمومي ليجمع الأحزاب المتفرّقة في ظلّ كلمة واحدة ويسقي الملل المتخاصمة من عين واحدة وليبدّل العداوة والبغضاء بالمحبّة والولاء، والحرب والجدال بالصّلح والسّلام، كما ألّف الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بين القبائل العربيّة المتحاربة المتخاصمة المتوحّشة وربطها برابطة الوئام وجمعها في ظلّ خيمة الوحدة ولهذا السّبب ارتقت أعراب البادية ورفعت الرّاية في عالم الكمالات المعنويّة والمادّيّة ونالت العزّة الأبديّة.
وكذلك جمع السّيّد المسيح الملل المتنافرة المتباغضة المتخاصمة من اليونان والرّومان والسّريان والكلدان والآشوريّين والمصريّين على معين واحد بعد أن كانت في منتهى البغضاء والعداوة وربطها برباط الوئام المتين.
إذن اتّضح أنّ العالم الإنسانيّ محتاج إلى مربّين ومعلّمين عموميّين وأولئك هم المظاهر المقدّسة الإلهيّة.
وقد يقول البعض : “إنّنا من الخواص ولا نحتاج إلى معلّم عموميّ” فمثل هؤلاء كمثل خواص الجيش وقوّاده إذا قالوا: “إنّنا ماهرون في فنون الحرب ولا نحتاج إلى القائد العام ولا إلى أمير اللّواء”. فمن الواضح أنّ هذا القول لا أساس له فالجميع في الجيش من خواصٍ وعوام محتاجون كلّهم إلى أمير اللّواء الّذي هو المربّي العموميّ.
وهذا كافٍ وافٍ لمن ألقى السّمع وهو الشّهيد.
وعليك البهاء الأبهى.
عبد البهاء عبّاس

اللّوح المبارك بافتخار أمة الله السّيّدة بارسنز

دوبلن: أمة الله السّيّدة بارسنز عليها بهاء الله الأبهى
هو الله

يا ابنة الملكوت إنّني في القطار متوجّه نحو سان فرانسيسكو وقد تذكّرت خصالك وتذكّرت وجه مستر “جفري” الصّغير فشرعت في الحال بكتابة هذه الرّسالة إليك.
واعلمي أنّ نهاية سروري هي أن أرى تلك الابنة العزيزة مفتونة بالجمال الإلهيّ مشهورة بولهها ومنجذبة بنفحات الجنّة الأبهى ومشتعلة بنار محبّة الله تشتعل كالشّمع وتذوب ولكنّها تمنح الجميع نورًا. وأملي أن تكوني كذلك.
أمّا بخصوص المسألة الاقتصاديّة الواردة في التّعاليم الجديدة والّتي سبّبت لك مشكلة فكريّة فإنّ بيانها لم يكن كما نقل إليك بل إنّ ما نقل إليك رواية لا تطابق الواقع، ولهذا فإنّني أبيّن لك أساس المسألة حتّى يتّضح ويتبرهن لك أن المسألة الاقتصاديّة لا يمكن بل يستحيل حلّها بغير هذه التّعاليم.
وحلّ المسألة الاقتصاديّة يجب أن يبدأ بالفلاّح ثمّ ينتهي الأمر إلى المِهن الأخرى لأنّ عدد الفلاّحين يزيد أضعافًا على عدد المشتغلين بالحرف الأخرى، ولهذا ينبغي البدء بقضيّة الفلاّح الّذي هو العامل الأوّل في الهيئة الاجتماعيّة.
فعلى عقلاء كلّ قرية أن يؤسّسوا جمعيّة تكون بيدها إدارة تلك القرية وأن يؤسّسوا كذلك مخزنًا عامًّا يعيّنون له كاتبًا وفي موسم الحصاد يؤخذ قسم معيّن من المحصولات العموميّة ويوضع في المخزن بإشراف الجمعيّة.
وواردات هذا المخزن سبعة وهي: واردات العُشر ورسوم على الحيوانات والمال الّذي لا وارث له، واللّقائط الّتي لا يعرف أصحابها، وثلث الكنوز الّتي يتمّ العثور عليها وثلث المعادن والتّبرعات.
ومصروفاته سبعة أيضًا: أوّلها: المصروفات المعتدلة العموميّة كمصاريف المخزن وإدارة مراكز الصحّة العامّة، وثانيها: أداء العشر للحكومة، وثالثها: أداء رسوم الحيوانات للحكومة، ورابعها: إدارة دور الأيتام، وخامسها: مساعدة العجزة، وسادسها: إدارة التّعليم وسابعها: إكمال المعيشة الضّروريّة للفقراء.
فأوّلاً واردات العشر وهذه يجب تحصيلها بالأسلوب التّالي: مثلاً الّذي تبلغ وارداته العموميّة خمسماية دولار ومصروفاته خمسمائة دولار لا يستحصل منه العشر والّذي مصروفاته خمسمائة دولار ووارداته ألف دولار يستحصل منه العشر لأنه يملك أكثر من حاجته، فإذا أعطى العشر لا تختلّ معيشته أبدًا. وإنسان آخر مصروفاته ألف دولار ووارداته خمسة آلاف يستحصل منه العشر ونصف العشر لأنّه يملك زيادة إضافيّة. وإنسان مصروفاته الضّروريّة ألف دولار ووارداته عشرة آلاف دولار يستحصل منه عُشران لأنّه يملك زيادة إضافيّة. وغيره مصروفاته الضّروريّة أربعة آلاف أو خمسة آلاف دولار، أمّا وارداته فمائة ألف دولار، يستحصل منه الرّبع. ومن ناحية أخرى إذا وجد إنسان حاصلاته مائتا دولار واحتياجاته الضّروريّة الّتي هي أدنى حدود القوت والطّعام الضّروريّ له تساوي خمسمائة دولار ولم يقصّر في سعيه وجهده لكن زراعته لم تجد بركة تجب إعانته من المخزن العموميّ كي لا يبقى محتاجًا بل يعيش مرتاحًا.
وجميع أيتام القرية يجب تأمين ما يحتاجونه من هذا المخزن كما يجب أن يخصّص قسم في هذا المخزن للمحتاجين الّذين لا يستطيعون العمل وقسم لإدارة التّعليم وقسم للأمور الصّحّيّة أمّا إذا بقي شيء من المال فيجب نقله إلى المخزن العموميّ لينفق في المصروفات العموميّة.
وعندما يوضع مثل هذا النّظام يعيش كلّ فرد من أفراد الهيئة الاجتماعيّة بكمال الرّاحة والسّعادة.
كذلك يجب الإبقاء على الرّتب فلا ينالها خلل أبدًا لأنّ تفاوت المراتب من مستلزمات الهيئة الاجتماعيّة الضّروريّة فالهيئة الاجتماعيّة أشبه بفرقة من فرق الجيش ففي فرقة الجيش لا بدّ من وجود القائد الأعلى ووجود الزّعيم ووجود العقيد ووجود الضّابط ووجود الجندي ولا يمكن أن يكون الجميع في رتبة واحدة فالرّتب إذًا ضروريّة ولكن يجب أن يعيش كلّ فرد من أفراد الجيش في تمام الرّاحة والهناء كذلك يجب أن يكون هناك والٍ وقاضٍ وتاجر وغنيّ وزراعيّ ومهنيّون ولا شكّ في أنّه يجب المحافظة على هذه المراتب وإبقاؤها وإلاّ اختلّ النّظام العموميّ.
وأرجو إبلاغ منتهى أشواقي ومحبّتي للمستر بارسنز الّذي لن أنساه أبدًا وإذا استطعت أن تنشري هذه الرّسالة في إحدى الجرائد فافعلي لأنّ أشخاصًا آخرين سيعلنون هذا القانون باسمهم.
وبلّغي تكبيري الأبدع الأبهى إلى قدسيّة وعليك البهاء الأبهى.
ع.ع

الخطبة المباركة باللّغة العربيّة في تونون – سويسرة

يوم الإثنين 27 آب 1911
هو الله

أيّها الحاضرون إلى متى هذا الهجوع والسّبات، وإلى متى هذا الرّجوع القهقرى، وإلى متى هذا الجهل والعمى، وإلى متى هذه الغفلة والشّقاء، وإلى متى هذا الظّلم والاعتساف، وإلى متى هذا البغض والاختلاف، وإلى متى الحميّة الجاهليّة، وإلى متى التّمسّك بالأوهام الواهية، وإلى متى النّزاع والجدال، وإلى متى الكفاح والنّزال، وإلى متى التّعصّب الجنسيّ، وإلى متى التّعصّب الوطنيّ، وإلى متى التّعصّب السّياسيّ، وإلى متى التّعصّب المذهبيّ. “ألم يأن للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله”، هل ختم الله على القلوب أم غشت الأبصار غشاوة الاعتساف أولم تنتبه النّفوس إلى أنّ الله قد فاضت فيوضاته على العموم خلق الخلق بقدرته ورزق الكلّ برحمته وربّى الكلّ بربوبيّته، “لا ترى في خلق الرّحمن من تفاوت فأرجع البصر هل ترى من فطور”، فلنتّبع الرّبّ الجليل في حسن السّياسة وحسن المعاملة والفضل والجود ولنترك الجور والطّغيان ولنلتئم التئام ذوي القربى بالعدل والإحسان ولنمتزج امتزاج الماء والرّاح ولنتّحد اتّحاد الأرواح، ولا نكاد نؤسّس سياسة أعظم من سياسة الله ولا نقدر أن نجد شيئًا يوافق عالم الإنسان أعظم من فيوضات الله ولكم أسوة حسنة في الرّبّ الجليل فلا تبدّلوا نعمة الله، وهي الألفة التّامّة في هذا السّبيل. عليكم يا عباد الله بترك الاختلاف وتأسيس الائتلاف والحبّ والإنصاف والعدل وعدم الاعتساف.
أيّها الحاضرون قد مضت القرون الأولى وطُويَ بساط البغضاء والشّحناء حيث أشرق هذا القرن بأنوار ساطعة وفيوضات لامعة وآثار ظاهرة وآيات باهرة والأنوار كاشفة للظّلام دافعة للآلام داعية للائتلاف قامعة للاختلاف، إلاّ أنّ الأبصار قد قرّت وأنّ الآذان قد وعت وأنّ العقول قد أدركت أنّ الأديان الإلهيّة مبنيّة على الفضائل الإنسانيّة، ومنها الألفة والوداد بين العموم والوحدة والاتّفاق بين الجمهور. يا قوم ألستم من سلالة واحدة ألستم أفنانًا وأوراقًا من دوحة واحدة ألستم مشمولين بلحظات أعين الرّحمانيّة مستغرقين في بحار الرّحمة من الحضرة الوحدانيّة ألستم عبيدًا للعتبة الرّبّانيّة، هل أنتم في ريب أنّ الأنبياء كلّهم من عند الله وأنّ الشّرائع كلّها قد تحقّقت بكلمة الله، وما بعثهم الله إلا لتعليم وتربية الإنسان وتثقيف عقول البشر والتّدرّج إلى المعارج العالية من الفلاح والنّجاح وقد ثبت بالبرهان السّاطع أنّ الأنبياء اختارهم الله رحمة للعالمين وليسوا نقمة للسّائرين وكلّهم دعوا إلى الهدى وتمسّكوا بالعروة الوثقى حتّى أنقذوا الأمم السّافلة من حضيض الجهل والعمى إلى أوج الفضل والنّهى، فمن أمعن النّظر في حقيقة التّاريخ المنبئة الكاشفة لحقائق الأسرار من القرون الأولى يتحقّق عنده بأنّ موسى عليه السّلام أنقذ بني إسرائيل من الذّلّ والهوان والأسروالخذلان وربّاهم بتأييد من شديد القوى حتّى أوصلهم إلى أوج العزّة والعلى، ومهّد لهم السّعادة الكبرى ومَنَّ الله عليهم بعدما استضعفوا في الأرض وجعلهم أئمّة من ورثة الكتاب وحملة لفصل الخطاب حتّى كان منهم عظماء الرّجال وأنبياء أسّسوا لهم السّعادة والإقبال، وهذا برهان ساطع واضح على نبوّته عليه السّلام. وأمّا المسيح الجليل كلمة الله وروح الله المؤيّد بالإنجيل فقد بعثه الله بين قوم ذلّت رقابهم وخضعت أعناقهم وخشعت أصواتهم لسلطة الرّومان فنفخ فيهم روح الحياة وأحياهم بعد الممات وجعلهم أئمّة في الأرض خضعت لهم الرّومان وخشعت لهم اليونان وطبّق الأرض صيتهم إلى هذا الأوان. وأمّا الرّسول الكريم محمّد المصطفى عليه الصلاة والتّسليم فقد بعثه الله في واد غير ذي زرع لا نبات فيه بين قبائل متنافرة وشعوب متحاربة وأقوام ساقطة في حضيض الجهل والعمى لا يعلمون من دحاها ولا يعرفون حرفًا من الكتاب ولا يدركون فصلاً من الخطاب، أقوام متشتّتة في بادية العرب يعيشون في صحراء من الرّمال بلبن النّياق وقليل من النّخيل والأعناب فما كانت بعثته عليه السّلام إلاّ كنفخ الرّوح في الأجساد أو كإيقاد سراج منير في حالك من الظّلام فتنوّرت تلك البادية الشّاسعة القاحلة الخاوية بتلك الأنوار السّاطعة على الأرجاء فانتهض القوم من رقد الضّلال وتنوّرت أبصارهم بنور الهدى في تلك الأيّام فاتّسعت عقولهم وانتعشت نفوسهم وانشرحت صدورهم بآيات التّوحيد فرتّلت عليهم بأبدع الألحان، وبهذا الفيض الجليل قد نجحوا ووصلوا إلى الأوج العظيم حتّى شاعت وذاعت فضائلهم في الآفاق، فأصبحوا نجومًا ساطعة الإشراق فانظروا إلى الآثار الكاشفة للأسرار حتّى تنصفوا بأنّ ذلك الرّجل الجليل كان مبدأ الفيض لذلك القوم الضّئيل وسراج الهدى لقبائل خاضت في ظلام الهوى وأوصلهم إلى أوج العزّة والإقبال ومكّنهم من حياة طيّبة في الآخرة والأولى، أمّا كانت هذه القوّة الباهرة الخارقة للعادة برهانًا كافيًا على تلك النّبوّة السّاطعة؟
لعمر الله إنّ كلّ منصف من البشر يشهد بملء اليقين أنّ هؤلاء الرّجال كانوا أعلام الهدى بين الورى ورايات الآيات الخافقة على صروح المجد في كلّ الجهات، وتلك العصبة الجليلة استشرقت فأشرقت واستضاءت فأضاءت واستفاضت فأفاضت واقتبست الأنوار من حيّز ملكوت الأسرار وسطعت بأنوار الوحي على عالم الأفكار، ثمّ إنّ هذه النّجوم السّاطعة من أفق الحقيقة ائتلفت واتّحدت واتّفقت وبشّر كلّ سلف عن كلّ خلف، وصدّق كلّ خلف نبوّة كلّ سلف، فما بالكم أنتم يا قوم تختلفون وتتجادلون وتتنازعون ولكم أسوة حسنة في هذه المظاهر النّورانيّة والمطالع الرّحمانيّة ومهابط الوحي العصبة الرّبّانيّة وهل بعد هذا البرهان يجوز الارتياب والتّمسّك بأوهام أوهن من بيت العنكبوت وما أنزل الله بها من سلطان؟
يا قوم البدار البدار إلى الألفة، عليكم بترك البغضاء والشّحناء، عليكم بترك الجدال، عليكم بدفع الضّلال، عليكم بكشف الظّلام، عليكم بتحرّي الحقيقة في ما مضى من الأيّام، فإذا ائتلفتم اغتنمتم وإذا اختلفتم اعتسفتم عن سبيل الهدى، وغضضتم النّظر عن الحقيقة والنّهى وخضتم في بحور الوهم والهوى إنّ هذا لضلالة مهلكة للورى، وأمّا إذا اتّحدتم وامتزجتم وائتلفتم فيؤيّدكم شديد القوى بصلح وصلاح وحبّ وسلام وحياة طيّبة وعزّة أبديّة وسعادة سرمديّة والسّلام على من اتّبع الهدى
الحقّ فهمه سهل
في يوم الإثنين الموافق 4 أيلول 1911 وصل حضرة عبد البهاء إلى لندن وفي مساء ذلك اليوم ألقى في الأحبّاء الّذين حضروا للتّرحيب به الخطبة التّالية:
لقد بارك الله هذا اليوم. فقد قيل إنّ لندن ستكون مركزًا لنشر الأمر على نطاق واسع وعندما ركبت في السّفينة كنت أشعر بالتّعب إلاّ أنّني عندما بلغت لندن ورأيت وجوه الأحبّاء زال عني كلّ عناء وانعشتني محبّتكم العظيمة. وإنّني لراضٍ عنكم.
لقد أخذ الإحساس الموجود بين الشّرق والغرب يتغيّر في ضوء تعاليم حضرة بهاء الله. فلقد كان من المعتاد في الشّرق أنّ الغربي إذا شرب من آنية الشّرقيّ كسرها الشّرقيّ ظنًّا منه أنّها قد تنجّست. وأمّا الآن فإنّ البهائيّ الغربيّ إذا تناول الغداء عند البهائيّ الشّرقيّ فإنّ هذا يحفظ الأواني تذكارًا وعلامة للمحبّة والاحترام.
ولقد بلغت درجة تفاني الأحبّاء في الإخلاص بعضهم لبعض أنّ بعض الجند ذهبوا إلى منزل أحد البهائيّين في طلب أحد ضيوفه لتنفيذ الأمر بالقتل فيه. فخرج لهم صاحب المنزل وبيّن لهم أنّه هو المطلوب فأخذوه وقتلوه. وبذلك افتدى ضيفه بنفسه. فهذا هو عنوان المحبّة الخالصة.
إنّ مغناطيس محبّتكم هو الّذي جذبني إلى هذه البلاد. فأملي أن يشرق فيها النّور الإلهيّ، وأن يؤيّدكم الجمال الأبهى حتّى تكونوا سببًا في وحدة الإنسانيّة، وزوال التّقاليد والبدع والخرافات. وبذلك تتّحد جميع العقائد والملل. فهذا العصر عصر نورانيّ تفتّحت فيه العيون إلى وحدة الإنسانيّة وإلى المحبّة والإخاء. وسوف تزول ظلمات الاختلاف والاعتساف وتشرق أنوار الوفاق والاتّحاد. نعم، إنّه لا يمكننا أن نؤسّس هذه الوحدة ونجلب هذه المحبّة بمجرّد القول. والعلم بها وحده لا يكفي. ونحن نعلم أنّ الثّروة والعلم والتّربية أمور حسنة، ولكن لا بدّ لنا من أن نعمل وندرس حتّى تنضج ثمرة العلم.
فالعلم هو الخطوة الأولى، والعزم والتّصميم هما الخطوة الثّانية، والعمل وإنجازه هما الخطوة الثّالثة. فإذا أردنا إقامة بناء وجب علينا أوّلاً أن نرسم خطة له، ثمّ أن تكون لدينا القدرة على إقامته، عندئذ نستطيع أن نباشر البناء. وقد تتأسّس جمعيّة للاتّحاد، وهذا حسن إذا تمّ إلاّ أنّ الاجتماع والمناقشة لا يكفيان. ومثل هذه الاجتماعات تتمّ في مصر ولكن ليس هناك سوى الأقوال دون نتائج تعقبها. والاجتماعات الّتي تجري هنا في لندن حسنة؛ والمعرفة والنّوايا حسنة أيضًا، ولكن كيف يمكن أن تتأتّى النّتائج دون عمل؟ وقوّة الاتّحاد اليوم هي روح قدس بهاء الله. فهو قد أظهر روح الاتّحاد وهو الّذي يجمع الشّرق والغرب معًا. عودوا إلى التّاريخ ودقّقوا فيه فلن تجدوا لذلك مثيلاً.
خلق الله العالم عالمًا واحدًا. أمّا الحدود فمن عمل الإنسان ذلك لأنّ الله لم يقسّم الأرض بل خلق العالم وطنًا واحدًا، ولذلك قال حضرة بهاء الله: “ليس الفخر لمن يحبّ الوطن بل لمن يحبّ العالم” فالجميع عائلة واحدة وجنس واحد. والجميع بنو آدم. وتقسيم الأرض لا يستلزم الاختلاف ولا التّفرقة.
ومن أعظم الاختلافات اختلاف الألوان والتّعصب لها كما هي الحال في أمريكا. فهناك يبغض بعضهم بعضًا بسبب اللّون. مع أنّ الحيوانات لا تتنازع مع بعضها البعض بسبب اللّون. فكيف يتدنّى الإنسان عن درجة الحيوان بهذه الجهالة، مع أنّ الإنسان أشرف منها خلقًا. فنحن نرى الحيوانات المختلفة الألوان تعيش مع بعضها البعض متآلفة، ولا تتنازع بسبب اختلاف اللّون. فما بال الرّجل الأبيض يقاتل الأسود؟ حقًّا إنّ هذا لأسوأ ألوان التّعصّب. ففي التّوراة ورد أنّ الله خلق آدم على صورته. وفي القرآن الحكيم ورد: “ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوت فأرجع البصر هل ترى من فطور؟” خلق الله الخلق وحفظهم وربّاهم بشديد القوى. فالسّياسة الإلهيّة أعلى وأجلّ من السّياسة البشريّة، وإنّه لأحكم الحاكمين. ولا نكاد نصل إلى حكمته البالغة. وأكثر الّذين لم يسمعوا عن هذه التّعاليم يظنّون أنّ الدّين نظام واجب الاحترام فقط. ومن القسس من يمارس مهنته كسبًا للعيش ولا يعتقد في ما يعلمه للنّاس. فهل يضحّي أمثال هؤلاء بحياتهم من أجل الدّين؟ سل واحدًا من هذا النّوع أن ينكر السّيّد المسيح إبقاءً على حياته، فسوف تراه لا يتردّد في ذلك! وسل بهائيًّا أن ينكر أحدًا من الرّسل العظام، أو أن ينكر دينه أو ينكر موسى أو محمّدًا أو المسيح فسوف يجيبك: إنّني أفضّل الموت على ذلك. ومن ثمّ كان البهائيّ من أصل إسلامي، مسيحيًّا أفضل من كثير ممّن يدَّعون أنّهم مسيحيّون.
إنّ البهائيّ لا ينكر أيّ دين. وإنّما هو يؤمن بالحقيقة الكامنة فيها جميعًا، وهو يضحّي بنفسه من أجل التّمسك بها. وهو يحبّ النّاس جميعًا كأخوته مهما كانت طبقتهم أو جنسهم أو تبعيّتهم، ومهما كانت عقائدهم وألوانهم، وسواء كانوا فقراء أم أغنياء، صالحين أم طالحين. وهو لا يغلظ ولا يعنّف، فإذا ضُرِب لا يضرب. وهو لا يرى شيئًا قبيحًا مقتديًا في ذلك ببهاء الله. ولا يشرب البهائيّ الخمر ولا المشروبات الرّوحيّة حتّى لا يخرج عن الاعتدال. ولقد قال حضرة بهاء الله “ليس للعاقل أن يشرب ما يذهب به العقل”.
إنّ دين الله في هذا العالم ذو وجهين: الوجه الرّوحانيّ الحقيقيّ والوجه الصّوريّ الظّاهري. فالوجه الصّوريّ يتغيّر كما يتغيّر الإنسان في أدوار عمره ويتشكّل بصور مختلفة. ولكنّ الوجه الرّوحانيّ الحقيقيّ لا يقبل التّغيير: فجميع الأنبياء والرّسل أتوا بتعاليم واحدة. وفي البداية يتعلّق النّاس بالحقيقة، ثمّ ما يلبث أن يتغيّر شكل الحقيقة، فتضمحلّ بسبب ما يدخل عليها من البدع والقوانين الوضعيّة فتحتجب بحجب المادّة والأمور الدّنيويّة.
وكما جاء موسى وعيسى برسالتهما للنّاس كذلك جاء بهاء الله بالرّسالة نفسها. وفي كلّ مرّة نتلقّى فيها رسالة جديدة على يد رسول عظيم نُعطى حياة جديدة إلاّ أنّ الحقيقة الّتي يأتي بها كلّ رسول واحدة. إذ إنّ الحقيقة لا تتغيّر قط، ولكنّ أنظار النّاس هي الّتي تتغير. فيظلم نور الحقيقة وتختلط بما يتسرّب إليها من الأمور الدّنيويّة الوضعيّة.
إنّ فهم الحقّ أمر سهل، ولكنّ الصّور الظّاهريّة المختلفة الّتي تمتزج بالحقّ هي الّتي يشكل أمرها على العقل. وكلّما ارتقى الإنسان رأى تفاهة الصّورة الوضعيّة واحتقرها. ومن ثمّ نجد كثيرًا من النّاس يهجرون الكنيسة لأنّها غالبًا ما تهتمّ بالأمور الصّوريّة الظّاهريّة.
السّرور الأبديّ
في يوم السّبت الموافق 8 أيلول 1911 اجتمع في منزل مسز بكنام في لندن جمع غفير من النّاس حتّى غصّ المنزل بالحاضرين، فتقدّم بعضهم بالاعتذار إلى حضرة عبد البهاء أنّ المنزل صغير لا يتّسع لجميع الأحبّاء، فقال:
ليس المنزل ضيقًا، وإنّما ينبغي أن تكون الصّدور واسعة.
عندما بلغنا عكّا، نزل ثلاثة عشر شخصًا منّا في غرفة واحدة أوّل الأمر. أسأل الله أن يمنّ على القلوب بالانشراح، وأن يوسّع على أحبّائه، ولا يمكن أن يتأتّى انشراح القلوب إلا بمحبّة الله. وبالرّغم من أنّ الانشراح قد يحصل من أمور أخرى إلاّ أنّه انشراح عرضيّ مؤقّت سرعان ما يتبدّل بالضّيق. وأمّا السّرور والانشراح اللّذان يتأتّيان من محبّة الله فأبديّان. على أنّ لجميع المسرّات والملذّات الدّنيويّة بريقًا خلاّبًا عن بعد، فإذا اقتربت منها وجدتها سرابًا خداعًا لا حقيقة فيه.
ولا شكّ أنّكم قرأتم في حكمة سليمان أنّه قال: عندما كنت طفلاً كنت أظنّ أنّ اللّذّة في الرّكوب والتّرحال. فلما بلغت الشّباب ورأيت أنّه لا لذّة في النّزهة والرّكوب والتّرحال قلت لنفسي بل اللّذّة في السّلطة والاقتدار والحكم. فلما بلغت السّلطة وجدتها هي الأخرى لا لذّة فيها. وكذلك كان شأن كلّ شيء يبدو لنظري برّاقًا. فإذا ما بلغته لا أجد له لذّة. ففهمت أنّ السّرور هو في محبّة الله.

وإذا كان سرور الإنسان في الصّحّة فإنّ الصّحّة قد تزول في يوم من الأيّام. فممّا لا شكّ فيه إذن أنّ الصّحّة ليست سببًا للسّرور. وإذا كان سرور الإنسان كامنًا في الثّروة فإنّ الثّروة قد تزول. وإذا كان سروره في المنصب فإنّ المنصب قد يضيع من يده. وطالما كان السّبب قابلاً للزّوال كان المسبِّب كذلك زائلاً. ولكن عندما يكون سبب السّرور هو الفيض الإلهيّ، يكون ذلك السّرور أبديًّا، ذلك لأنّ الفيوضات الإلهيّة أبديّة. ولمّا كانت محبّة الله أبديّة، فإنّ الإنسان إذا تعلّق قلبه بالفيض الإلهيّ استقرّت في قلبه المحبّة الإلهيّة وكان سروره أبديًّا. وما تعلّق القلب بالأمور الفانية إلاّ ارتدّ يائسًا آخر الأمور، إلاّ محبّة الله ومحبّة العالم الإنسانيّ.
وإنّكم ينبغي لكم أن تشكروا الله لأنّه فتح أمام وجوهكم أبواب الملكوت، ولأنّه دعاكم إلى محبّة الله وخدمة العالم الإنسانيّ، وإنّ لكم أبًا مثل بهاء الله الّذي أحاط فيضه بالعالم. إذًا ينبغي لكم أن تشكروا الله آناء اللّيل وأطراف النّهار على أنّكم فزتم بهذا الفيض المحيط.
خطبة كنيسة سيتي تمبل
في يوم الأحد الموافق 9 أيلول 1911 دعا الأب المبجّل ر.ج. كامبل راعي كنيسة سيتي تمبل حضرة عبد البهاء إلى إلقاء خطبة على رعيّة الكنيسة. وبالرّغم من أنّ أمر الدّعوة لم يعلن إلاّ أنّ الكنيسة لم يكن فيها موضع لقدم. وقد ألقى حضرته الكلمة التّالية:
أيّها الجمع المحترم وملتمس طريق الله.
الحمد لله، قد أشرق نور الحقيقة، وهبّ نسيم الرّوض الإلهيّ، وارتفع نداء الملكوت في جميع الأقاليم، ونفخت نفثات الرّوح القدس في هويّة القلوب، فوهبت لها الحياة الأبديّة. ففي هذا القرن البديع تنوّر الشّرق وتعطّر الغرب وتعنبرت مشام الرّوحانيّين، وماج بحر وحدة العالم الإنسانيّ، وارتفع علم الرّوح القدس. وإنّ كلّ إنسان منصف ليشهد بأنّ هذا اليوم لهو يوم بديع، وأنّ هذا العصر لهو عصر الله العزيز. وعمّا قريب يصبح العالم جنّة عليا.
إنّ هذا اليوم هو يوم وحدة العالم البشريّ واتّحاد جميع الملل. في الماضي كانت التّعصّبات سببًا للجهالة وأساسًا لتنازع البشر. ثمّ جاء هذا اليوم الظّافر بعناية الله القادر. وعمّا قريب تتموّج وحدة العالم الإنسانيّ في قطب الآفاق، وينقطع الجدال ويزول النّزاع، ويتنفّس صبح الصّلح الأكبر، ويتحوّل العالم إلى عالم جديد، ويصبح جميع البشر إخوانًا، وتصير كافّة الملل رايات لله الأكبر الجليل.
إنّ النّزاع وسفك الدّماء من خواص عالم الحيوان. أمّا الصّلح والصّلاح فمن مواهب عالم الإنسان. ولقد قال حضرة بهاء الله: العدل والإنصاف حياة العالم. فالحمد لله إنّ علم العدل مرتفع في هذه الرّبوع، والمساواة بين البشر منتشرة، وكذلك الحرّيّة والرّاحة والأمن والسّعادة.
إنّ الله واحد، والجنس البشريّ واحد، وأساس أديان الله واحد، وحقيقة الرّبوبيّة محبّة.
فيا أيّها الأحبّاء! ابذلوا قصارى الجهد حتّى يتعانق الشّرق والغرب كما يتعانق العاشقان.
أي ربّ! نوّر هذا الجمع، وأيّد هذه النّفوس، واجعل الوجوه نورانيّة والطّباع رياضًا رحمانيّة، وأحيي الأرواح بنفثات الرّوح القدس، وأعزّ النّاس بالهداية الكبرى، وابذل لهم من العطايا السّماويّة والمواهب الرّحمانيّة ما أنت به جدير، واحفظهم بحفظك، وصنهم بحمايتك ورعايتك، واشملهم بألطافك الّتي لا تتناهى، وخصّهم بعنايتك الكاملة، إنّك أنت المعطي الوهّاب العليم.
صورة الملأ الأعلى
في يوم الأربعاء الموافق 13 أيلول 1911 اجتمع في منزل مسز كروبر في لندن جمع كبير من الأحبّاء فألقى فيهم حضرة عبد البهاء الكلمة التّالية:
هو الله
الحمد لله أن ائتلف جمع طيّب نورانيّ، سماويّ، روحانيّ:
تم للفلك الدّوّار من هذا الصّفاء والسّرور والجمال
صورة في العالم السّفلي تحكي عمّا في العالم العلويّ( )
ومعنى ذلك أنّ للعالم العلويّ انعكاسًا في عالم الوجود. فالحمد لله على أنّ مجلسنا هذا صورة الملأ الأعلى، وأنّه كالشّمس نور وإشراق.
ومن المعروف أنّ العالم الأعلى عالم محبّة، وأنّ في الملأ الأعلى اتّحادا واتّفاقا، وأنّ المقصد في الملأ الأعلى مقصد رحمانيّ. فالحمد لله إنّ هذا الأمر متوفّر هنا أيضًا. ولذلك فإنّنا إذ قلنا إنّ هذا مجمع سماويّ فقد صدقنا لأنّه ليس لكم من هدف سوى مرضاة الله.
إنّ جميع من على الأرض يجرون وراء شهواتهم وأهوائهم. فمنتهى الأمل لدى فريق، هو الثّروة والمال، وغاية المنى لدى قوم، هي الغلبة على الأعداء، وقصارى رجاء فريق ثالث، هو إيثار الرّاحة والعافية، ومحطّ أنظار فريق رابع، هو التّوصل إلى الرّياسة، على حين أنّ غاية الغايات لدى فريق غير هؤلاء وأولئك هي بلوغ الشّهرة.
ونحمد الله على أنّ مطلبنا نحن هو الرّضى الإلهيّ والوحدة الرّبانيّة. فليس لنا من مقصد في مجلسنا الّذي جمعنا الآن سوى ترويج اتّحاد العالم ونشر النّور الإلهيّ، وجذب القلوب الإنسانيّة. ولهذا فنحن نشكر الله على أنّه وفّقنا إلى خدمة أمره العظيم. وإنّي لأدعو لكم جميعًا، عسى أن تكونوا جميعًا جنود السّماء، وترفعوا علم الوحدة السّماويّة، وتنيروا الشّرق والغرب وتملأوا القلوب من محبّة الله. فهذا هو منتهى أملي. وهذا هو ما أرجوه لكم من الله. ولا شكّ أنّ هذا هو ما ترجونه أنتم أيضًا. إنّني لراضٍ عنكم… ويجب عليكم أن تحمدوا الله على أنّكم أحرار. فأنتم لا تدرون ما يجري في الشّرق ومقدار ما يشعر به القادم إلى هنا من رضا.
حفظكم الله وصانكم.

تجديد تعاليم الأنبياء

في ليلة 14 أيلول 1911 ألقى حضرة عبد البهاء
هذه الكلمة الموجزة أمام رئيس جمعيّة الثّيوسوفيّين
هو الله

بلّغ تحيّتي واحترامي للجمعيّة الثّيوسوفيّة. وقل لهم إنّكم في الحقيقة خدمتم وحدة الجنس البشريّ لأنّه ليس لديكم تعصّب الجاهليّة، ولأنّكم تريدون توحيد البشر. وكلّ من يخدم قضيّة وحدة البشر اليوم مقبول عند الله. ذلك لأنّ جميع أنبياء الله سعوا في سبيل وحدة الجنس البشريّ وقدّموا خدماتهم للعالم. ولأنّ أساس التّعاليم الإلهيّة هو وحدة العالم الإنسانيّ.
فسيّدنا موسى سعى من أجل وحدة العالم الإنسانيّ، والسّيّد المسيح أسّس وحدة العالم الإنسانيّ، وسيّدنا محمّد أعلن الوحدة الإنسانيّة. فالإنجيل والتّوراة والقرآن كتب إلهيّة وضعت أساس الوحدة الإنسانيّة. وما شريعة الله إلاّ شريعة واحدة، وما دين الله إلاّ دين واحد، وهو الألفة والمحبّة.
ولقد جدّد حضرة بهاء الله تعاليم الأنبياء، وأعلن أساس دين الله وألّف بين الأمم المختلفة، وجمع الأديان المتباينة. ونفَذَت تعاليمه في عروق البشر وأعصابهم نفاذًا أوجد الاتّحاد بين القبائل المختلفة والشّعوب المتباينة. ولمّا كنتم أنتم عاملين على تحقيق هذا المقصد الجليل فإنّني أدعو من أجلكم وألتمس لكم التّأييد الإلهيّ.
تجديد النّواميس الإلهيّة
في يوم الخميس الموافق 14 أيلول 1911 ألقى حضرة
عبد البهاء في منزل مسز روزنبرج الخطبة التّالية:
هو الله
الحمد لله أن انعقد هذا المجلس في غاية اللّطف والكمال. وإنّني لآمل أن يتجلّى فيكم مقصد الكتب السّماويّة والرّسل.
إنّ المظاهر الإلهيّة هم أوّل المعلّمين للحقيقة والمروّجين لها، فكلّما انتشرت الظّلمة في العالم وساد الجهل والغفلة أرسل الله رجلاً إلهيًّا. فقد جاء موسى حينما كانت مصر مظلمة يحيط بها الجهل وانعدام المعرفة ويعيش أهلها في منتهى التّوحّش. وكان موسى معلّمًا إلهيًّا فعلّم الآيات الرّبانيّة. وربّى بني إسرائيل، ونجّاهم من الجهل والمذلّة، وبلغ بهم أقصى غايات العزّة فبرعوا في العلوم والفنون، وهيّأ لهم مدنيّة تامّة ونشر بينهم خزائن العالم ثمّ محيت الآثار الإلهيّة رويدًا رويدًا، وغلب على بني إسرائيل الهوى والفكر الشّيطانيّ وأحاطت بهم الظّلمة. فارتفع صوت الأحديّة مرّة أخرى. وأشرقت شمس الحقيقة، وسرت نفثات الرّوح القدس، وهطل غمام الرّحمة، وأضاءت العالم أنوار الهداية فلبس الكون لباسًا جديدًا، وأصبح الخلق خلقًا جديدًا، ونودي بوحدة البشر، وأصبح هذا العالم جنّة عليا. واتّحدت القبائل المختلفة والشّعوب المتنوّعة. وبعد مدّة نسي النّاس هذه النّواميس الإلهيّة، ومحيت هذه النّصائح الرّبّانيّة من صفحة القلوب. ولم تعد هناك تعاليم حقيقيّة. وأحاطت ظلمة الجهل وعدم المعرفة.
والآن جاء حضرة بهاء الله وجدّد الأساس الأصليّ للدّين، وأظهر من جديد تعاليم المسيح الإلهيّة وفضائل العالم الإنسانيّ، فسقى العطشى وأيقظ الغافلين وجعل المحرومين مخازن الأسرار ونشر وحدة العالم الإنسانيّ وأعلام المساواة بين البشر.
فعليكم إذن أن تسعوا بقلوبكم وأرواحكم، وأن تعيشوا بين جميع البشر بالمحبّة، كي يتمّ الاتّحاد الكلّيّ، وتزول التّعصّبات الغاشمة، ويتّحد الجميع.
هو الله
في يوم الأحد الموافق 17 أيلول سنة 1911 لبّى حضرة عبد البهاء دعوة
الأرشديكون ولبرفورس راعي كنيسة سان جورج بوستمنستر. وبعد
أن قدّم الأرشديكون ضيفه العزيز وتحدّث عن سجنه أربعين عامًا
قام عبد البهاء عن الكرسيّ الّذي وضع خصيصًا له في
مقابلة المحراب وألقى الخطبة التّالية:

أيّها المحترمون اعلموا أنّ النّبوّة مرآة تنبئ عن الفيض الإلهيّ والتّجلّي الرّحمانيّ، وانطبعت فيها أشعّة ساطعة من شمس الحقيقة وارتسمت فيها الصّور العالية ممثّلة لها تجلّيات أسماء الله الحسنى “ما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى”، فالأنبياء معادن الرّحمة ومهابط الوحي ومشارق الأنوار ومصادر الآثار “وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين”.
وأمّا الحقيقة الألوهيّة فهي مقدّسة عن الإدراك ومنزّهة عن أن تنسج عناكب الأفكار بلعابها حول حماها فكلّ ما يتصوّره الإنسان من أدقّ المعاني إنّما هو صور للخيال وأوهام ما أنزل الله بها من سلطان. وتلك المعاني إنّما لها وجود ذهنيّ وليس لها وجود عينيّ، فما هي إلاّ محاط لا محيط ومحدود ليس ببسيط حقيقيّ والله بكلّ شيء محيط. والحقيقة الإنسانيّة أعظم من ذلك حيث لها الوجود الذّهنيّ والوجود العينيّ ومحيطة بتلك التّصوّرات الذّهنيّة، ومدركة لها والإدراك فرع الإحاطة فالألوهيّة الّتي تحت الإدراكات الإنسانيّة إنّما هي تصوّرات خياليّة وليست بحقيقة الألوهيّة، لأنّ حقيقة الرّبوبيّة محيطة بكلّ الأشياء لا محاطة بشيء ومقدّسة عن الحدود والإشارات، بل هي وجود حقيقيّ منزّه عن الوجود الذّهنيّ، ولا تكاد العقول تحيط به حتّى تسعه الأذهان “لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللّطيف الخبير”، وإذا أمعنّا النّظر بعين الحقيقة نرى أنّ تفاوت المراتب في الوجود مانع عن الإدراك حيث إنّ كلّ مرتبة دانية لا تكاد أن تدرك ما فوقها مع أنّ كلتيهما في حيّز الإمكان دون الوجوب فالمرتبة الجماديّة ليس لها خبر عن عالم الحيوان، ولا يكاد النّبات أن يتصوّر السّمع والبصر والحركة الإراديّة ولو كانت في أعلى درجة من النّبات والحيوان لا يستطيع تصوّر العقل والنّفس النّاطقة الكاشفة لحقائق الأشياء لأنّه فاقد الوجدان وأسير المحسوسات وذاهل عن كلّ حقيقة معقولة فكلّ حيوان لا يكاد أن يدرك حركة الأرض وكرويّتها، ولا تكاد تنكشف له القوّة الجاذبة والمادّة الأثيريّة الغائبة عن الحواس، وهو حال كونه أسير الأثير ذاهل عنه فاقد الإدراك، فإذا كانت حقيقة الجماد والنّبات والحيوان والإنسان حال كونها كلّها من حيّز الإمكان ولكن تفاوت المراتب مانع أن يدرك الجماد كمال النّبات والنّبات قوى الحيوان والحيوان فضائل الإنسان فهل من الممكن أن يدرك الحادث حقيقة القديم ويعرف الصّنع هوية الصّانع العظيم، أستغفر الله من ذلك ضعف الطّالب وجلّ المطلوب، نهاية إقدام العقول عقال، فما بقي أدنى شبهة أنّ الحدوث عاجز عن إدراك القديم كما قال عليه السّلام “ما عرفناك حقّ معرفتك” ولكنّ الإمكان من حيث الوجود والشّؤون يحتاج الفيض من حضرة الوجوب، وعلى ذلك إنّ الغيب المنيع المنقطع الوجدانيّ تجلّى على حقائق الأشياء من حيث الأسماء والصّفات وما من شيء إلاّ وله نصيب من ذلك الفيض الإلهيّ والتّجلّي الرّحمانيّ و”إن من شيء إلاّ يسبّح بحمده”.
وأمّا الإنسان فهو جامع للكمال الإمكانيّ وهو الجسم الجماديّ واللّطف النّباتيّ والحسّ الحيوانيّ. وفضلاً عن ذلك فهو حائز لكمال الفيض الإلهيّ فلا شكّ أنّه أشرف الكائنات، وله قوّة محيطة بحقائق الممكنات، كاشفة لأسرارها وآخذة بنواصي خواصها والأسرار المكنونة في مكامنها وتخرجها من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود وتعرّضها للعقول والأفهام، هذا هو سلطان الإنسان وبرهان الشّرف الأسمى، فكلّ الصّنائع والبدائع والعلوم والفنون كانت يومًا ما في حيّز الغيب السّرّ المكنون، فهذه القوّة الكاشفة المؤيّد بها الإنسان قد اطّلع بها وأخرجها من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود وعرضها على البصائر والأبصار، فثبت أنّ الحقيقة الإنسانيّة ممتازة عن سائر الكائنات، وكاشفة لحقائق الأشياء لا سيّما الفرد الكامل، والفيض الشّامل والنّور الباهر، كلّ نبي كريم ورسول عظيم فهو عبارة عن مرآة صافية لطيفة منطبعة فيها الصّور العالية تنبئ عن شمس الحقيقة المتجلّية عليها بالفيض الأبديّ، ولا يرى فيها إلا الضّياء السّاطع من شمس الحقيقة وتفيض به على سائر الأمم “وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم”.
وإذا قلنا إنّ شمس الحقيقة أشرقت بأنوارها على المرايا الصّافية فليس مرادنا أنّ شمس الحقيقة المقدّسة عن الإدراك تنزّلت من علوّ تقديسها وسموّ تنزيهها ودخلت وحلّت في المرايا الصّافية، أستغفر الله من ذلك وما قدّروا الله حقّ قدره بل نقصد بذلك أنّ شمس الحقيقة إذا فاضت أنوارها على المرايا لا يرى فيها إلا ضياؤها، “ما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى”، إنّ النّزول والصّعود والدّخول والخروج والحلول من لوازم الأجسام دون الأرواح فكيف الحقيقة الرّبّانيّة والذّاتيّة الصّمدانيّة إنّها جلّت عن تلك الأوصاف فلا يكاد أن ينقلب القديم حادثًا ولا الحادث قديمًا فقلب الماهيّة ممتنع ومحال، هذا هو الحقّ وما بعد الحقّ إلا الضّلال المبين فغاية ما يكون الحادث أن يستفيض الفيض التّام من حضرة القديم، فلننظر إلى آثار رحمة الله في المظهر الموسويّ، وإلى الأنوار الّتي سطعت بأشدّ الإشراق من الأفق العيسويّ وإلى السّراج الوهّاج السّاطع اللاّمع في الزّجاج المحمّديّ عليهم الصّلاة والسّلام وعلى الّذين بهم أشرقت الأنوار وظهرت الأسرار وشاعت وذاعت الآثار على ممرّ العصور والدّهور.

نور الرّوحانيّة

في يوم الجمعة الموافق 22 أيلول 1911 نظمت مسز جاك ومسز هريك
للأحبّاء والأصدقاء اجتماعًا فألقى فيهم حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية:
هو الله

إنّ هذا اليوم بارد وكئيب. ولكنّني حضرت لأنّني مشتاق للقياكم ورؤيتكم. فالتّعب بالنّسبة إلى المحبّ راحة. والمحبّ على استعداد لأن يسافر إلى أي مكان ليزور أصدقاءه.
الحمد لله. إنّني أجدكم روحانيّين موقنين. وإنّني أبلغكم الرّسالة الإلهيّة وهي أنّه يجب عليكم أن تتوجّهوا إليه. والحمد لله إنّكم منه قريبون ولم تمنعكم شؤون الدّنيا عن البحث عن العالم الرّوحانيّ. فإذا كنتم على وفاق مع ذلك العالم الباقي لم تلهكم شؤون هذا العالم الفاني. إنّكم لترغبون في ما لا يموت ولا يفنى ومن ثمّ فأبواب الملكوت مفتوحة بين أيديكم. وإنّني لآمل أن تنتشر التّعاليم الإلهيّة في جميع الأنحاء وتكون سببًا في أن يتّحد جميع أهل العالم.
في أيّام المسيح تدفّق النّور من الشّرق إلى الغرب تدفّقًا جعل النّاس ينضوون تحت الرّاية الإلهيّة، فاستضاءت بصائرهم واستنارت الأقاليم الغربيّة بنور المسيح. وإنّني لأبتهل إلى الله أن يجعل النّور في هذا القرن المجيد يضيء العالم على نحو يجعل الجميع ينضوون تحت علم الوحدة ويفوزون بالتّربية الرّوحانيّة، عندئذٍ تختفي تلك المشكلات الّتي تسبّب الخلافات بين أمم الأرض، لأنّها في الحقيقة غير موجودة، فأنتم جميعًا أمواج محيط واحد ومرايا تعكس صورة شيء واحد.
حقًّا إنّنا نرى دول أوروبّا اليوم تعيش في راحة، لأنّ التّربية والتّعليم انتشرا وعمّا فيها. وإنّ نور الحرّيّة هو نور الغرب، ونيّة الحكومات في الغرب منعقدة على العمل من أجل الحقّ والعدل. إلاّ أنّ نور الرّوحانيّة كان دائمًا ينبثق من الشّرق. وفي هذا اليوم أظلم ذلك النّور وأصبح الدّين مجرد صور وأشكال وطقوس ورسوم، وانعدمت الرّغبة في محبّة الله.
وفي كلّ عصر من عصور الظّلام الشّديد ينبثق النّور من الشّرق. وهكذا جاءكم نور التّعاليم الإلهيّة مرّة أخرى. وكما تنتقل التّربية والتّعليم من الغرب إلى الشّرق تنتقل النّار الرّوحانيّة من الشّرق إلى الغرب.
فأملي هو أن تستضيء أمم الغرب من نور الله، وأن يأتيهم الملكوت وأن يفوزوا بالحياة الأبديّة، وأن تنتشر بينهم روح الله كانتشار النّار وأن يتعمّدوا بماء الحياة ويفوزوا بميلاد جديد.
هذه هي رغبتي. وأملي إن شاء الله أن تتلقّوا النّور الإلهيّ فتسعدوا. وكما توفرت لكم التّربية والتّعليم والرّقيّ المادّيّ آمل أن يكون النّور الإلهيّ من نصيبكم أيضًا.

نسيان التّعاليم الإلهيّة

قضى حضرة عبد البهاء نهاية الأسبوع 23-25 سبتمبر 1911
في بريستول ونزل في دار الضّيافة بكليفتون، وفي المساء عُقد
مجلس استقبال لحضرته ضمّ تسعين شخصًا ممّن جاؤوا من
أماكن بعيدة لتحيّته فألقى فيهم الكلمة التّالية:
هو الله

مرحبًا بكم!
لقد جئت من بعيد لأراكم. وإنّني لأحمد الله على أنّني استطعت من بعد أربعين سنة من الانتظار أن أحضر إليكم آخر الأمر حاملاً رسالتي. وإنّ هذا حقًا لمجلس مليء بالرّوحانيّة. فالمشتركون فيه قد وجّهوا قلوبهم إلى الله، وإنّهم ليتلهّفون شوقًا إلى البشارات الإلهيّة.
ولقد اجتمعنا هنا بقوّة الرّوح القدس. ولذلك امتلأت قلوبنا بالشّكر والامتنان. فأنزل يا إلهي علينا نورك وحقك حتّى يرشدنا إلى جبلك المقدّس، وتنعشنا ينابيعك الإلهيّة الّتي تجدّد الحياة في العالم.
ولمّا كان يعقب كلّ نهار ليل، وكلّ غروب فجر لذلك أشرق المسيح من أفق هذا العالم كشمس الحقيقة. وكذلك الحال عندما نسي النّاس تعاليم المسيح ومثله في محبّة جميع البشر، وتعبوا مرّة أخرى من الشّؤون المادّيّة أشرق كوكب سماويّ من أفق إيران وتجلّى النّورمن جديد. والآن ينتشر الضوء العظيم في كلّ البلاد.
كلّما حرص النّاس على متعهم الدّنيويّة، وكّلما قلّت مشاركتهم لبعضهم البعض في مواهب الله تحوّل الرّبيع إلى شتاء الأثرة والأنانيّة. ولقد قال المسيح لا بدّ أن تولدوا من جديد كي تتدفّق في أوصالكم روح حياة إلهيّة. فارحموا كلّ من حولكم واخدموا بعضكم بعضًا وأحبّوا العدل والحقّ والصّدق في جميع أعمالكم. صلّوا دائمًا وعيشوا بحيث لا يمسّكم الحزن أبدًا. اعتبروا النّاس من جنسكم ومن العناصر الأخرى كأعضاء في هيكل واحد، وأبناء لأب واحد، وأعلنوا بسلوككم أنّكم حرب الله حقًا.
عندئذٍ تنتهي الحروب والمنازعات ويرفرف السّلام العام بجناحيه على الأرض جميعًا.

نداء الملكوت

في يوم الجمعة الموافق 29 أيلول 1911 دعت مسز كروبر ما يقرب من
أربعمائة وستين شخصيّة من شخصيّات لندن وأحبّائها لحضور حفل
الوداع الّذي أقامته لحضرة عبد البهاء في لندن. وبعد عدة خطب ألقاها
أحباؤه تكريمًا له ألقى حضرته الخطبة التّالية:
هو الله

أيّها الأحبّاء الأعزّاء طالبو ملكوت الله!
منذ ستّين عامًا، حيث اضطرمت نيران الحروب بين الأمم، وحين كان سفك الدّماء يعتبر شرفًا للعالم الإنسانيّ، وحين لطّخت وجه البسيطة دماء الآلاف، وحين تيتّم الأطفال وثكل الآباء وامتلأت نفوس الأمّهات بالحسرات، وحين أحاطت ظلمة التّعصب العنصريّ والعداوة بالبشر وحرمت النّفوس من النّور الإلهيّ، وحين بدا أن نسائم الرّحمن قد انقطعت – عند ذاك أشرق بهاء الله من أفق إيران كالنّجم السّاطع حاملاً رسالة السّلام والأخوّة بين البشر.
فقد جاء بهاء الله بنور الهداية إلى العالم، وأشعل نار المحبّة، وكشف عن حقيقة المحبوب الحقّ، وجاهد كي يحطّم أسس التّعصّبات الدّينيّة والعنصريّة والمنافسات السّياسيّة وشبّه العالم الإنسانيّ بشجرة، وشبّه الأمم بأغصانها، وشبّه النّاس بأوراقها وبراعمها وثمارها. وكان هدفه أن يحوّل تعصب الجاهليّة إلى محبّة شاملة عالية، وأن يضع في نفوس أتباعه أساس وحدة الجنس البشريّ، وأن يطبّق المساواة بين الأمم والملل تطبيقًا عمليًّا، وأعلن أنّ جميع النّاس سواسية أمام رحمة الله وعنايته، وبذلك فتح باب الملكوت على مصراعيه، وتجلّت أنوار السّماء الجديدة على الأرض لكلّ ذي عينين.
ومع ذلك فقد قضى بهاء الله كلّ حياته يقاسي من البلايا والمحن والاضطهاد، ففي إيران ألقي في غياهب السّجن وقُيّد بالسّلاسل والأغلال وعاش وحدّ السّيف المصلت( ) على عنقه، وأهين وضرب بالسّوط وعندما ناهز الثّلاثين من عمره نفي إلى بغداد، ومن بغداد إلى الآستانة، ومنها إلى أدرنة، وأخيرًا إلى سجن عكّا.
إلا أنّه نجح –وهو أسير القيد سجين الزّنزانة- في أن ينشر أمره ويرفع راية وحدة الجنس البشريّ. ونحمد الله الآن على أنّنا نرى نور المحبّة ساطعًا في الشّرق وفي الغرب، وخيمة الأخوّة قد ضربت بين الشّعوب والأمم لتأليف القلوب والنّفوس والأرواح.
لقد ارتفع نداء الملكوت وأيقظ ضمائر النّاس فأدركوا حاجتهم إلى السّلام العام.
وإنّني لآمل أن تجتهد القلوب الطّاهرة المخلصة في إزالة ظلام البغضاء والاختلاف والشّحناء إزالة كاملة. فإنّ هذا العالم سوف يصبح عالمًا آخر، ويصبح العالم الأدنى مرآة للعالم الأعلى، وتجتمع قلوب البشر وتتعانق، وتصبح الأرض كلّها وطنًا واحدًا، والعناصر المختلفة جنسًا واحدًا، وتنتهي المنازعات والخلافات، ويتجلّى المحبوب الإلهيّ على هذه الأرض. وكما استضاء الشّرق والغرب بنور شمس واحدة كذلك ستصبح كلّ العناصر والأمم والملل عبيدًا لإله واحد.
إنّ العالم كلّه وطن واحد، وكلّ الأمم تسبح في بحر رحمانيّة الله الواحد لو كانوا يعلمون. وإنّ الله خلق الكلّ ورزق الكلّ وربّى الكلّ في كنف عنايته. ويجب علينا أن نقتدي بالرّبّ الجليل ونقضي على كلّ المنازعات والخلافات.
الحمد لله أن قد تجلّت آثار الأخوّة: والدّليل على ذلك هو أنّني –أنا القادم من الشّرق- قد قوبلت في لندن هذه بالتّكريم والاحترام والمحبّة. وإنّني لشاكر لكم ذلك جدًّا وممتنّ وسعيد. ولن أنسى قط الوقت الجميل الّذي قضيته بينكم.
لقد تحمّلت أربعين عامًا من العذاب في سجن الأتراك، وفي سنة 1908 حطّمت تركيا الفتاة –”لجنة الاتّحاد والتّرقي”- أسوار الظّلم والطّغيان وأطلقت سراح المسجونين وأنا معهم، وأسأل الله أن يبارك كلّ من يعمل من أجل الاتّحاد والتّرقي.
وعمّا قريب ستنشر التّقارير الكاذبة عن بهاء الله لتعوق انتشار الحقّ، وأنا أقول لكم ذلك كي تنتبهوا وتستعدّوا.
والآن أودّعكم سائلاً الله أن تكون كلّ مواهب الملكوت من نصيبكم وأنا جدّ آسف لفراقكم.

نبذة عن تعاليم بهاء الله

في يوم السّبت الموافق 30 أيلول سنة 1911 دعت رئيسة جمعية
الثّيوسوفيّين حضرة عبد البهاء فألقى حضرته هذه الخطبة
أمام الجمع المحتشد الّذي حضر لوداعه( )
هو الله

أيّها الجمع المحترم،
إنّ النّار لها لزوم ذاتيّ وهو الاحتراق، وقوّة البرق لها لزوم ذاتيّ وهو الإنارة والإبراق، والشّمس لها لزوم ذاتيّ وهو الإشراق، والتّربة لها لزوم ذاتيّ وهو الإنبات. ولا يجوز أن ينفكّ الشّيء عن لزومه الذّاتيّ. ولمّا كان التّغيّر والتّبدّل والتّحوّل والانتقال من حال إلى حال من اللّوازم الذّاتيّة لعالم الوجود – بمعنى أنّ تتابع فصول الرّبيع والصيف والخريف والشّتاء وتعاقب اللّيل والنّهار من اللّوازم الذّاتيّة لعالم الأرض- لزم أن يكون بعد كلّ ربيع خريف وبعد كلّ صيف شتاء وبعد كلّ نهار ليل؛ وبعد كلّ صباح مساء.
وحينما انهدم أساس الأديان الإلهيّة، وفسدت أخلاق العالم الإنسانيّ وانعدم كلّ أثر للنّورانيّة السّماويّة، واختلّت المحبّة بين البشر وسيطرت ظلمة العناد والجدال والقتال، وطغى برد الجمود والخمود، وأحاطت الظّلمة كلّ الجهات طلع حضرة بهاء الله من مشرق إيران مثل كوكب الآفاق فسطعت أنوار الهداية الكبرى، وفاضت النّورانيّة السّماويّة، وأقام التّعاليم البديعة وأسّس فضائل العالم الإنسانيّ، وأظهر الفيوضات السّماويّة، وجلى القوّة الرّحمانيّة، وروّج في عالم الوجود المبادئ التّالية:
الأساس الأوّل هو تحرّي الحقيقة: فلقد تشبّثت جميع الأقوام بتقاليد العوام، ولذلك اختلف بعضهم عن بعض اختلافًا شديدًا وما زالوا في نزاع وجدال. غير أنّ ظهور الحقيقة يكشف هذه الظّلمات ويؤسّس وحدة الاعتقاد. ذلك لأنّ الحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد.
والأساس الثّاني هو وحدة العالم الإنسانيّ. فجميع البشر مشمولون بألطاف الرّبّ الجليل الأكبر وهم عباد الله الواحد ويترعرعون في ظلّ ربوبيّته وهي الّتي شملتهم جميعًا بالرّحمة. وإنّ التّاج الإنسانيّ لزينة لرأس كلّ عبد من عبيد الله. لهذا يجب أن نرى جميع الطّوائف والملل أنّ بعضها أخوة لبعض، وأنّهم أغصان وأوراق وبراعم وأثمار لشجرة واحدة. ذلك لأنّ الجميع أبناء لأب واحد هو آدم، ولآلئ مكنونة في صدف واحد. وكلّ ما في الأمر أنّهم بحاجة إلى التّربية، بعضهم غافلون جاهلون وهؤلاء تجب هدايتهم، وبعضهم مرضى وينبغي علاجهم، وبعضهم أطفال وتجب تنشئتهم بين أحضان العطف وأكتاف الحنان حين يبلغوا أشدّهم، ولا بدّ من صقل قلوبهم حتّى تشرق هذه القلوب وتنير.
والأساس الثّالث هو أنّ الدّين أساس الألفة والمحبّة وبنيان الارتباط والوحدة، فلو كان الدّين سبب العداوة لما وهب للنّاس الألفة بل لكان أورثهم العداوة، ولكان عدمه أفضل من وجوده ولرجحت كفّة تركه على التّشبث به.
والأساس الرّابع هو أن الدّين والعلم توأمان لا انفكاك لأحدههما عن الآخر، فهما للإنسان بمثابة الجناحين للطّائر يطير بهما، ومن الواضح أنّ جناحًا واحدًا لا يكفي للطّيران، وكلّ دين يتجرّد من العلم فهو تقليد لا اعتقاد، ومجاز لا حقيقة، ولذلك كان التّعليم فريضة من فرائض الدّين.
والخامس وهو أنّ التّعصّب الدينيّ والتّعصّب العنصريّ والتّعصّب الوطنيّ والتّعصّب السّياسيّ هادمة للبنيان الإنسانيّ. وحقيقة الأديان الإلهيّة واحدة، لأنّ الحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد، وجميع الأنبياء في غاية الائتلاف والاتّحاد. فحكم النّبوّة كحكم الشّمس، تطلع في كلّ فصل من مطلع. ولهذا السّبب بشّر كلّ سلف بخلفه وصدّق كلّ خلف سلفه: “لا نفرّق بين أحد من رسله”.
والسّادس هو المساواة والأخوّة التامّة بين البشر وأنّ العدل ليقتضي أن تُحفظ جميع حقوق النّوع الإنسانيّ وتُصان، وأن تتعادل الحقوق العامّة. وهذه القاعدة من اللّوازم الذّاتيّة للهيئة الاجتماعيّة.
والسّابع تعديل معيشة الجنس البشريّ حتّى ينجو الجميع من العوز والحاجة، ويستقرّ حال كلّ فرد بقدر الإمكان وبقدر اقتضاء رتبته ومكانته. فكما يتدلّل الأمير ويتقلّب في بحبوحة النّعمة كذلك يجب أن يجد الفقير قوت يومه، ويتحرّر من الذّلّة الكبرى ولا يحرم إثر شدّة الجوع من نعمة الحياة.
والثّامن هو الصّلح الأكبر فجميع الملل والدّول يجب أن يجدوا الرّاحة والطّمأنينة في ظلال سرادق الصّلح الأكبر. وهذا يستلزم أن تقوم جميع الدّول والملل بتأسيس محكمة كبرى عن طريق الانتخاب العام، لتفصل في نزاع الدّول وخلاف الملل وذلك حتّى لا تنتهي هذه الخلافات بالحروب.
والأساس التّاسع هو أنّ الدّين منفصل عن السّياسة لا صلة له بها ولا دخل له فيها. بل إنّ الدّين مختص بعالم الأخلاق، وهو أمر روحانيّ ووجداني متعلق بالقلوب لا الأجسام. ويجب على رجال الدّين أن ينصرفوا إلى تربية النّاس وتعليمهم وترويج الأخلاق الحميدة، وألاّ يتدخّلوا في الأمور السّياسيّة.
والأساس العاشر هو تربية النّساء وتعليمهنّ ورفعهنّ ورعاية حرمتهنّ لأنّهنّ شريكات الرّجال وسهيماتهم في الحياة، وهنّ من حيث الإنسانيّة متساويات معهم.
الأساس الحادي عشر هو الاستفاضة من فيوضات الرّوح القدس حتّى تتأسّس المدنيّة الرّوحانيّة. لأنّ المدنيّة المادّيّة وحدها لا تكفي ولا تكفل سعادة الإنسان. وإذا كانت المدنيّة المادّيّة بمثابة الجسم فالمدنيّة الرّوحانيّة بمثابة الرّوح. والجسم لا يمكن أن يحيا بلا روح.
هذه نبذة عن تعاليم حضرة بهاء الله، وفي سبيل تأسيسها وترويجها تحمَّل كلّ مشقّة وعناء، فقد كان مسجونًا دائمًا ومعذّبًا أبدًا، وكان في غاية التّعب والإرهاق. إلاّ أنّه في السّجن رفع قواعد هذا الإيوان الرّفيع. وفي ظلمات الحبس ألقى على الآفاق بهذا النّور السّاطع البرّاق.
وإنّ أقصى آمال البهائيّين هو تنفيذ هذه التّعاليم وإجراؤها، وإنّهم ليبذلون جهدهم الأقصى لكي يضحّوا بذواتهم فداء لهذا المقصد حتّى تضيء الآفاق الإنسانيّة بالأنوار السّماويّة.
هذا وإنّني لمسرور غاية السّرور، لأنّني اتّحدث إليكم في هذا المحفل المحترم، ولي كبير الأمل في أن تكون إحساساتي الوجدانيّة مقبولة لديكم وإنّني لأدعو لكم بالتّأييد والتّوفيق إلى أعظم مواهب العالم الإنسانيّ.

عالم الوجود محتاج إلى الرّوح

وروحه هو الدّين الإلهيّ
في ليلة الخميس الموافق 5 تشرين الأوّل سنة 1911
ألقى حضرة عبد البهاء هذه الخطابة لدى وروده باريس
في من اجتمعوا لحضرته في منزل مس ساندرسن
هو الله

إنّ عالم الوجود كهيكل الإنسان، وإنّ هذه القوى المادّيّة لهي بمثابة أعضاء ذلك الهيكل وأجزائه. إلاّ أنّ جسد الإنسان لا بدّ له من روح بها يتحرّك وبها يحيا ويعيش، وبواسطتها تبرز لديه القوّة الباصرة والقوّة السّامعة والقوّة الحافظة والقوّة المدركة، ويسطع فيه نور العقل الّذي يتمكّن به من أن يكشف عن حقائق الأشياء ويحقّق التّقدّم والتّرقّي في العالم الإنسانيّ. فإذا فقد الجسد الرّوح فإنّه لا يمكن أن يصل إلى هذه النّتائج مهما كانت صباحته وملاحته. إنّه عندئذٍ يكون رسمًا محرومًا من الرّوح والإدراك والعقل والكمال.
وكذلك شأن جسد الوجود، فإنّه مهما بلغ في النّاحية المادّيّة من الطّراوة واللّطافة إلاّ أنّه لا روح له. وروحه هو الدّين الإلهيّ. فالدّين الإلهيّ روح عالم الوجود، وبه يصبح الوجود نورانيّا، وتتزيّن الأكوان وتبلغ درجة الكمال.
ولهذا فكما تتّجه أفكاركم إلى التّرقّيات المادّيّة يجب أن تتّجه إلى التّرقّيات الرّوحانيّة أيضًا. لا، بل يجب أن تسعوا في سبيل التّرقّيات الرّوحانيّة سعيًا أبلغ من سعيكم في المدنيّة المادّيّة. وكما تهتمّون بالجسد ينبغي لكم أن تهتمّوا بالرّوح. فإنّ جسد الإنسان إذا انعدمت منه الرّوح أصبح ميتًا. ولعمري ما الفائدة الّتي ترجى منه؟ وكذلك الحال في جسد الإمكان: إذا حرم من التّرقّيات المعنويّة أصبح جسدًا بلا روح.
والإنسان يتّفق مع الحيوان في الصّورة إلاّ أنّ الفارق بين الإنسان والحيوان هو أنّ للإنسان قوى روحانيّة لا تتوفّر لدى الحيوان. من ذلك أنّ الإنسان على علم بالله، والحيوان لا علم له به. ومنها أنّ الإنسان يدرك حقائق الأشياء على حين أنّ الحيوان غافل عنها وجاهل بها. ومنها أنّ الإنسان يكشف حقائق الموجودات المكنونة بقوّة إرادته على حين أنّ الحيوان عاجز عن ذلك ولا نصيب له منها. ومنها أنّ الكمالات تظهر من الحقيقة الإنسانيّة ظهور الأنوار السّاطعة من السّراج. وكما أنّ النّور سبب ظهور كمال السّراج فإنّ الدّين سبب ظهور كمالات الإنسان. وهذه هي الفضائل الّتي يمتاز بها الإنسان على الحيوان، وهذه هي نفحات القدس الّتي تهب له الحياة الأبديّة.
وعلى هذا فالعالم الإنسانيّ إذا حُرم من روح الدّين عاد جسدًا بلا روح، فظلّ محرومًا من نفثات الرّوح القدس، ولا نصيب له من التّعاليم الإلهيّة. وقد بلغ من صدق حكم الموت على الإنسان المحروم من التّعاليم الإلهيّة أنّ السّيّد المسيح قال: “دع الموتى يدفنون موتاهم”. ذلك لأنّ المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الرّوح هو روح. والمقصود من الرّوح حقيقة الدّين.
وعلى ذلك أصبح من الواضح أنّه إذا حرمت نفس من فيوضات الرّوح القدس ماتت، ولو توفّرت لها كلّ الكمالات الصّورية وكلّ الصّنائع والعلوم.
لهذا فإنّني أدعو الله وأتضرع إليه أن يحيا أهل هذا الإقليم من نفثات الرّوح القدس، وأن يتوجّهوا إلى الله، ويصبحوا مركزًا للسّنوحات الرّحمانيّة وأن يعلموا بالتّعاليم الإلهيّة، حتّى يضيء كلّ فرد كالسّراج وينير العالم.

الاعتماد على الملكوت السّماويّ

في يوم السّبت الموافق 14 تشرين الأوّل 1911 ألقى حضرة
عبد البهاء الخطبة التّالية في منزل مسيو دريفوس في باريس:
هو الله

هذه هي المرّة الثّانية الّتي أحضر فيها مجمع الأحبّاء في باريس. والحمد لله إنّني أرى وجوهًا منيرة وآذانًا صاغية وقلوبًا منجذبة بنار محبّة الله. ولهذا فإنّ قلبي مسرور لأنّنا- والحمد لله- قد عقدنا في هذه المدينة هذا الاجتماع لمحبّة الله. والواقع أنّ مدينة باريس قد بلغت في المدنيّة نهاية الرّقيّ، وأصابت في جميع الشّؤون المادّيّة النّجاح والفلاح. وبلغت من ذلك منزلة جعلتها أشبه بالمرآة الّتي تنعكس على صفحتها صور المدنيّة الّتي لا تتناهى، ولقد كان من المؤسف أن تظلّ هذه المرآة محرومة من نور الشّمس الحقيقيّة، ولكن نحمد الله إنّ نور شمس الحقيقة انعكس على هذه المرآة فكانت كبلّور في نهاية الصّفاء، ومع ذلك فإنّه من المؤسف ألاّ يشتعل بداخله سراج المحبّة، وكانت كبستان في غاية الجمال ولكنّه ظلّ محرومًا من رشحات أمطار العناية. فالحمد لله على أنّ غمام الملكوت يسقيه اليوم. وآمل أن يصبح في نهاية اللّطف والطّراوة. ولقد أضاء شمع محبّة الله في هذا البلّور بحيث بلغ الأطراف شعاعه. وعمّا قريب ستلاحظون أنّ الغرب سيصير شرقًا من أنوار حضرة بهاء الله، وسوف يهطل غمام رحمة الرّحمن وتهتزّ به جميع القلوب وتنمو وتزدهر، وسوف تحرّك البشارات الإلهيّة جميع الأفئدة. لقد كانت هذه الأجسام تلتمس القوّة الرّوحانيّة والحمد لله أن قد أشرقت بارقة الصّبح السّماويّ. ولقد كانت هذه الأقطار مثل إنسان في نهاية الجمال إلا أنّه دون روح. والحمد لله أن دبّت فيه الرّوح الأبديّة. سوف يزداد رقيّه يومًا بعد يوم حتّى يأتي يوم يرتفع فيه نداء يا بهاء الأبهى من جميع هذه الصّحارى والقرى والوديان. أمّا الآن فإنّ ما حدث لا يتجاوز بارقة صبح جديد قد تنفسّت. على أنّ هذا الصّبح يعقبه طلوع الشّمس، وعند ذاك تستنير جميع الآفاق.
ولمّا كانت باريس مركزًا عظيمًا فأملي أن تصبح مركزًا للسّنوحات الرّحمانيّة وتستنير جميع بلاد الفرنجة من نورها.
وكان مقدّرًا منذ بداية العالم أن يسري النّور الإلهيّ دائمًا من الشّرق إلى الغرب إلاّ أنّه كان في الغرب يسطع سطوعًا شديدًا. تأمّلوا مثلاً دعوة السّيّد المسيح – روحي فداه- فقد ظهر في الشّرق ولمّا وجه ضوءه النّورانيّ إلى الغرب انتشر نور الملكوت في الغرب انتشارًا أعظم. وأملي أن تسطع اليوم أنوار حضرة بهاء الله في الغرب سطوعًا شديدًا، وأن يكون كلّ فرد منكم شمعًا منيرًا ونجمًا بازغًا، وأن يكون كالشّجرة المثمرة. ذلك أنّ مواهب ملكوت حضرة بهاء الله عظيمة، وبحر رحمة الرّحمن زاخر موّاج، والألطاف الإلهيّة الّتي لا نهاية لها أحاطت الشّرق والغرب جميعًا.
فلا تنظروا إلى ضعف استعداداتكم بل اعتمدوا عى الملكوت الأبهى، فإنّ الملكوت الأبهى يجعل من الذّرّة شمسًا ومن القطرة محيطًا، ومن الضّعيف قويًّا، ومن الجاهل عالمًا، ومن الأعمى بصيرًا، ومن الأبكم ناطقًا ومن الأصمّ سميعًا. ذلك هو شأن فيوضات الملكوت الأبهى. لهذا فليكن اعتمادكم على الملكوت الأبهى ولا تلقوا بالاً للياقتكم الشّخصيّة تأمّلوا في ما حدث من قبل، فبطرس كان صيّادًا، وكذلك كان سائر الحواريّين، كان أحدهم نجّارًا، وكان الآخر صبّاغًا إلا أنّهم –بفضل الفيض الإلهيّ وعناية السّيّد المسيح- جلسوا على سرير السّلطنة الأبديّة وفازوا بالحياة الأبديّة، وسطعوا من الملكوت الأبهى، ووجدوا فيوضات لا تتناهى وذلك لأنّهم لم ينظروا إلى استعداداتهم الخاصّة. وكانت مريم المجدليّة امرأة قرويّة فلمّا شملتها الألطاف الإلهيّة أصبحت مريم المجدليّة المجيدة فأشرقت من أفق العزّة الأبديّة إلى أبد الآباد، إنّ فضل الله لواسع، وعناياته لكثيرة، وخزائن قدرته لمليئة. وإنّ الله الّذي أنعم عليهم هو الّذي ينعم عليكم أيضًا، فلا تنقص خزائنه. لذلك يجب أن تطمئنّوا جميعًا إلى العنايات الإلهيّة حتّى تصبحوا أنتم أيضًا من الفائزين بها.
اللّهم يا ربي ورجائي ومعيني ومنائي. أسألك بفضلك الّذي أحاط الموجودات وبرحمتك الّتي سبقت الممكنات أن تُنزل علينا في هذه اللّيلة النّوراء جزيل مواهبك، واجعلنا يا إلهي مشمولين بلحظات عين رحمانيّتك ومستغرقين في بحار نور فردانيتك ومبتهلين إلى ملكوت صمدانيّتك ومتضرّعين إلى أفق ألطافك. ربّي إنّ هؤلاء عباد وإماء قد اجتمعوا في هذا المحفل الرّوحانيّ مبتهلين إلى ملكوتك، مشتعلين بنار محبّتك، منجذبين بنور معرفتك، ومتموّجين كالبحور بأرياح موهبتك، متذلّلين إلى ملكوت رحمانيّتك. ربّي أيّدهم بشديد القوى وأنزل عليهم الرّحمة من السّماء. واجعلهم آيات توحيدك ورايات تقديسك بين الورى وسرجًا لامعة بنور العرفان ساطعة بأنوار الهدى بين أهل الوفاء. إنك أنت الكريم. إنك أنت الرّحيم إنك أنت العزيز القديم.

دورة الفصول الرّوحانيّة

في يوم الأحد الموافق 15 تشرين الأوّل 1911 ألقى حضرة
عبد البهاء الخطبة التّالية في منزله المبارك في باريس:
هو الله

لو نظرتم بعين البصيرة لرأيتم الرّوحانيّات تطابق الجسمانيّات. فكما أنكم تلاحظون في عالم الأجسام فصل الرّبيع وموسم الصّيف وأوقات الخريف وأيّام الشّتاء كذلك تجدون هذه الفصول في عالم الرّوح.
فأيّام موسى كانت مثل الرّبيع، وبيان ذلك أنّ بني إسرائيل لمّا أسرهم الخريف وأصبحوا في نهاية الذّلّة والهوان، وهاموا في ظلمات الجهل بعثت فيهم يد موسى البيضاء الإحساسات الرّوحانيّة، وربّاهم بالآداب السّماويّة وبذل لهم من فيض أمطار الرّبيع. إلاّ أنّ ذلك الرّبيع الرّوحانيّ تغيّر وتبدّل بالشّتاء فزال رونق الرّبيع وعادوا إلى حالتهم الأولى، وتجمّدوا وأحاطت بهم الظّلمات.
وكان السّيّد المسيح ربيعًا روحانيًّا ضرب خيمته في الآفاق. وأظهر تلك الإحساسات الرّوحانيّة إظهارًا أعظم من السّابق. وتمتّع العالم برونق بهيج وانتعش عالم الإنسان وازدهر. إلاّ أنّ موسم الخريف عاد ثانية، إذ تحالف الأمراء والرّؤساء فتغيّر أساس دين المسيح تغييرًا كلّيًّا وأصبح النّاس أسرى للتّقاليد. وهكذا أصبحت أمّة المسيح أسيرة إذ تسلّط الأمراء والرّؤساء عليها كالكابوس. وضاعت التّعاليم الإلهيّة ضياعًا كلّيًّا وراجت التّقاليد رواجًا شديدًا، حتّى بات كلّ ذنب يغفر بنفس الرّؤساء الطّاهر، وكلّ ظلم واعتساف يعفى عنه بمجرّد الإقرار والاعتراف.
وظلّ العالم يتخبّط في هذه الظّلمات، واستوحش الغرب، وحرم من الرّقي المادّيّ والرّوحانيّ حرمانًا تامًّا حتّى أشرق النّور المحمّدي بغتة، وأقام أساس العدل الإلهيّ. فأضاءت بادية العرب ورفعت شريعة الله رايتها في الصحراء، فتربّت الأقوام المتوحّشة، وارتقت شريعة الله.
وبعد مدّة تبدّلت الأمور بحيث لم يعد لأنوار الدّين المبين أيّ أثر، واستولى الجهل وانعدمت المعرفة. ذلك لأنّ التّغيير والتّبديل من لوازم الوجود الذّاتيّة، بحيث إنّه من المستحيل ألاّ يظهر التّغيير. فبعد كلّ عمران لا بدّ من خراب ودمار، وبعد كلّ شمس لا بدّ من ليل بهيم.
فلمّا غمرت الظّلمات كلّ الآفاق وانهدم أساس الدّين الإلهيّ لم تعد هناك أيّة إحساسات روحانيّة على الإطلاق. بل إنّ الأديان لم تعد تتجاوز الألفاظ وأصبحت –لسوء استعمالها- سببًا للمتاعب. فبعد أن كانت سببًا للاتّحاد والاتّفاق أصبحت وسيلة للرّياء والنّفاق، ولهذا تفضّل الله البرّ الرّحيم بمحض رحمته الكبرى فأخرج من جديد كوكبًا ساطعًا. وهكذا طلع من مشرق إيران صبح الهداية الكبرى ألاّ وهو حضرة الباب. ثمّ ما لبث نور حضرة بهاء الله أن أضاء، وراجت تعاليمه معلنة أنّ الدّين الإلهيّ نورانيّة وحسن أخلاق وأنّه روح العالم. وأساس ذلك الدّين الإلهيّ هو ذلك البيان الّذي ألقيته في لندن فطالعوه كي تعلموا.
إنّ أهل العالم لا يعلمون قط ما هو أساس أمر الله. وهذا هو الّذي حدا بجمع من أهل المعارف والعلوم إلى أن يتبرّأوا من الدّين. وإنّ حضرة بهاء الله ليقول: إذا لم يكن الدّين سببًا للاتّحاد فإنّ عدمه أولى من وجوده. ولهذا فإنّ الدّين يجب أن يكون سببًا للمحبّة. مثله مثل الدّواء. فالدّواء يوصف للشّفاء، فإذا كان الدّواء سببًا للإصابة بالمرض فإنّ الامتناع عن تناوله أفضل وأولى.
وإنّ الفقرات الإحدى عشرة الّتي ذكرتها في بياني قبل مغادرتي للندن( ) هي من بين أسس دين الله، فارجعوا إليها كي تقفوا على أساس أوامر بهاء الله وأحكامه

بيان معنى الأب في الابن والابن في الأب

في ليلة الخميس الموافق 20 تشرين الأوّل ألقيت
هذه الخطبة في منزل مسيو دريفوس في باريس
هو الله

الحمد لله على أنّ هذا المجمع نورانيّ، كم تتشكّل جمعيّات وتتألّف محافل في باريس، إمّا لنشر المعارف وإمّا للتّباحث في توسيع التّجارة وإمّا لأجل التّقدّم الصّناعيّ، وإمّا لتبادل الرّأي في شؤون السّياسة. وجميع هذه المجامع والمحافل مفيدة ومقبولة لأنّها سبب الرّقي المادّيّ في عالم الوجود. وأمّا مجمعنا هذا فمجمع رحمانيّ غايته التّوجّه إلى الملكوت الرّبّانيّ، وحصول الإحساسات الرّوحانيّة وترويج وحدة العالم الإنسانيّ، والسّعي لإزالة التّعصّب من بين الملل والمذاهب، وإحلال المحبّة في جميع القلوب. لهذا نأمل أن يمتاز هذا المجمع عن سائر المجامع وأن يكون مقبولاً لدى الله.
ورد في التّوراة أنّ الله خلق الإنسان على صورته ومثاله، وورد في الإنجيل قوله “الأب في الابن والابن في الأب”، وذكر محمّد رسول الله أنّ الله تعالى قال: “الإنسان سرّي وأنا سرّه”، وقال حضرة بهاء الله على لسان الله تعالى: “فؤادك منزلي قدّسه لنزولي، وروحك منظري طهّرها لظهوري”. وهذه الكلمات جميعًا تدلّ على أنّ الإنسان مثال إلهيّ، وصورة ربّانيّة. إلاّ أنّ حقيقة الألوهيّة بذاتها خارجة عن نطاق إدراك البشر. ذلك لأنّ الإدراك فرع من فروع الإحاطة. فالإنسان لا يحيط بشيء إلاّ إذا أدركه. ولمّا كان الله سبحانه وتعالى محيطًا ولا يمكن أن يحاط به لذلك فإنّ إدراك الإنسان له مستحيل وممتنع ومحال، لأنّ المحيط أعظم من المحاط. وعلى ذلك فإدراكات الإنسان الّتي هي محاطة بالإنسان والإنسان بها محيط لا يمكن أن تكون هي حقيقة الألوهيّة لأنّ عقل البشر ليس في طاقته ولا بمقدوره أن يدرك حقيقة الذّات الإلهيّة، ولهذا فكلّ ما يخطر بتصوّر الإنسان مخلوق مثله وليس خالقًا، بل هو صورة فكريّة من صنع الإنسان.
ولو أنّنا دقّقنا النّظر في الكائنات لوجدنا أنّ تفاوت مراتبها يحول دون إدراكها بعضها البعض مع أنّ جميعها مخلوقة. فهذا الجماد مخلوق وهذا النّبات وهذا الحيوان كلاهما من المخلوقات أيضًا. ومع ذلك فلا يمكن للجماد أن يدرك القوّة النّامية في النّبات. وكذلك الحال في النّبات، فإنّه مهما ارتقى وتقدّم فإنّه لا يستطيع أن يدرك عالم الحيوان، ولا يمكن للنّبات أن يتصوّر قوّة السّمع والبصر، وذلك بالرّغم من أنّ الجماد والنّبات كليهما مخلوقان وكذلك شأن الحيوان فإنّه لا يستطيع أن يتصوّر قوّة الإنسان الفكريّة. وفي الإنسان قوّة عاقلة. وهذه القوّة العاقلة الكاشفة تكشف عن حقائق الأشياء. وإذا قيل إنّ الحيوان يدرك المحسوس هو الآخر، لأجبنا أنّه لا يدرك الشّيء غير المحسوس. إذ لا يمكنه أن يتصوّر مركزيّة الشّمس وحركة الأرض، ولا يستطيع أن يتصوّر الصّور المرئيّة في المرآة، ولا يستطيع أن يكشف القوّة الكهربائيّة ولا آلة التّصوير أو آلة البرق أو الحاكي أو التّلفون أو السّينما. فهذه المكتشفات يختصّ بها الإنسان. كلّ ذلك بالرّغم من أنّ الحيوان والإنسان كليهما مخلوقان حادثان.

ثبت إذن أنّ تفاوت مراتب المخلوقات يحول دون إدراكها بعضها لبعض بمعنى أنّ الرّتبة الأدنى لا تستطيع أن تدرك الرّتبة الأعلى. فإذا كان تفاوت المراتب في عالم الخلق يحول دون إدراك بعض الخلق للبعض الآخر فكيف يمكن للحادث أن يدرك القديم، فمن المؤكّد إذًا أنّه لا يدركه. فإذا كان الأمر كذلك فإنّ كلّ ما يخطر بتصوّر الإنسان لا يمكن أن يكون هو الله. تعالت حقيقة الألوهيّة عن ذلك تعاليًا كبيرًا.
ولكن لما كانت جميع الكائنات وجميع الموجودات محتاجة إلى فيض الوجود كان لا بدّ أن يصدر عن الحضرة الإلهيّة فيض يكون سببًا لحياة الكائنات. لهذا أشرقت على الكائنات فيوضات أسمائها وصفاتها. وهذا الفيض الإلهيّ شامل لجميع الكائنات مثله في ذلك مثل شعاع الشّمس الفائض على جميع الأشياء، إذ تنمو جميع الأشياء بفيض الشّمس وتعيش جميع الكائنات الأرضيّة على حرارة الشّمس. ولكن سائر الكائنات في الحقيقة هي في منزلة الحجر والمدر لا حياة فيها والإنسان هو الكائن الّذي له نفس وروح وعقل. ولا ريب في أنّ نصيب الإنسان من الفيض الإلهيّ أعظم لأنّه ممتاز على جميع الكائنات. فالجماد له وجود جماديّ لأنّه جسم إلاّ أنّه ليس له كمال النّبات، والنّبات له وجود نباتيّ، ولكن ليست لديه قوّة الحسّ، بمعنى أنّه لا يبصر ولا يسمع. وللحيوان قوّة الحسّ، ولكن ليست لديه القوّة العاقلة. أمّا الإنسان فجامع لجميع الكمالات جامع للوجود الجسمانيّ وجامع للقوّة النّباتية وجامع للقوّة الحيوانيّة وجامع للحواس. وفضلاً عن ذلك فإنّ لديه القوّة العاقلة. ولذلك فالإنسان ممتاز على جميع الكائنات. ولمّا كان ممتازًا على جميع الكائنات فإنّ نصيبه من فيض شمس الحقيقة أعظم ولا سيّما نصيب الفرد الكامل في العالم الإنسانيّ. وهو الفرد الكامل الّذي يعدّ سائر الأفراد بالقياس إليه في أدنى درجات الإدراك. وهذا الفرد الكامل هو المظهر الإلهيّ. وهو بمنزلة المرآة الصّافية الّتي يتلألأ فيها نور الحقيقة أعظم التّلألؤ وأسنى اللّمعان. بل إنّ شمس الحقيقة لتتجلّى فيها بصورتها ومثالها وحرارتها وضيائها وتمامها وكمالها. حتّى إنّنا لنشاهد الشّمس في تلك المرآة. ولهذا قال السّيّد المسيح: الأب في الابن. وهو يعني أنّ الشّمس ظاهرة في هذه المرآة. ولم يكن يعني بهذه العبارة أنّ الشّمس تنزّلت من علوّ تقديسها ودخلت في المرآة. ذلك لأنّ الدّخول والحلول من خصائص الأجسام وحقيقة الألوهيّة منزّهة ومقدّسة عن الإدراك. إلاّ أنّ أنوار شمس الحقيقة الّتي تنطلق إلى مظاهر الظهور تكون في غاية الظّهور والبروز.
هذه هي حقيقة مسألة الألوهيّة، يقبلها كلّ عقل ويذعن لها كلّ إدراك وإنّ الله البرّ العطوف لم يكلّف عباده بأن يبحثوا في أمور خارجة عن دائرة العقل وإذا كنّا نحن العباد لا نكلّف نفسًا أمرًا غير معقول فكيف يكلّفنا الله الرّحمن الرّحيم الاعتقاد بأمور غير معقولة.
وإذا نحن أخذنا هذه المسألة بموجب التّقاليد المتوارثة بين المسيحيّين وجدنا أنّها غير معقولة. أمّا إذا تحرّينا الحقيقة وجدناها محقّقة ومعقولة. وإذا أنتم دقّقتم النّظر في ما بيّنته لكم وجدتم المسألة واضحة مشروعة بحيث لا يمكن أن ينكرها أحد.
إنّني هذه اللّيلة في مجمعكم. وإنّني لمسرور من ملاقاتكم. إلاّ أنّني أرجو أن يصير كلّ فرد منكم –بإذن اللّه- شمعًا نورانيًّا ومركزًا للمحبّة الرّحمانيّة وأن تلهم قلوبكم بالإلهامات الإلهيّة، وتكتحل عيونكم بمشاهدة الآثار.
إنّ مدينة باريس هذه في غاية الجمال. إلاّ أنّه أتى عليها حين طويل من الدّهر لم تسطع فيه الأنوار الرّوحانيّة. ولهذا تخلّفت من النّاحية الرّوحيّة. ولا بدّ لها من قوّة عظيمة حتّى تهبّ عليها نسمة من نفثات الرّوح القدس. إنّ المرض العارض يمكن علاجه بالوسائل العاديّة. وأمّا المرض المزمن فلا بدّ له من ترياق فاروق وأدوية قويّة ناجعة. ولنأخذ مثلاً هذه الفواكه الّتي هي أمامنا الآن، إنّ بعضها ينضج بحرارة قليلة تعادل عشر درجات، وبعضها الآخر ينضج بعشرين درجة، وغيرها بخمسين. ولكنّ باريس تحتاج إلى ألف درجة من الحرارة كي تبعث فيها الحركة. ولنأخذ مثلاً آخر الفتيل يشعل بمجرد أن تمسّه النّار، وأمّا الحطب فلا يشتعل بهذه السّرعة. فباريس بحاجة إلى قوّة روحانيّة عظيمة حتّى تؤثّر فيها. فلو أنّنا عملنا بموجب التّعاليم الإلهيّة الّتي نزلت على جميع الأنبياء لأحدث ذلك تأثيرًا شديدًا. وهذه التّعاليم هي أن نتخلّى عن جميع التّعصّبات المذهبيّة والعنصريّة والوطنيّة والسّياسيّة، ونترك التّقاليد ونظهر المحبّة والمودّة لجميع البشر وجميع الطّوائف ونخدم وحدة العالم الإنسانيّ، ونعترف بأنّ جميع الخلق هم عباد الله ومظاهر ألطاف الرّبّ الجليل. وكلّ ما في الأمر أنّ بعضهم بمنزلة الأطفال الرّضّع فينبغي علينا أن نسعى في سبيل تعليمهم، وبعضهم مريض علينا أن نداويهم ونعالجهم، وبعضهم عميان وعلينا أن نجعلهم يبصرون ولا ريب أنّ العالم الإنسانيّ يفوز عندئذٍ بالإشراق والاتّحاد والاتّفاق.
وإنّني لأدعو الله من أجلكم. وقد سررت اللّيلة غاية السّرور من ملاقاتكم فإنّني أرى أقوامًا مختلفين قد اجتمعوا هنا وهم في منتهى الألفة والمحبّة. والواقع أنّ مثل هذه المجالس باعث على السّرور، ولا يمكن لإنسان ألاّ يكون مسرورًا. انظروا كيف اجتمعت الأقوام المختلفة في مكان واحد وبهذه المحبّة والصّداقة وبهذا الوئام والاتّفاق. إنّ هذا سبب سرور كلّ إنسان إلاّ من فقد الإنصاف وإنّكم لتلاحظون أنّ الإنسان يسرّ إذا وجد بعض الحيوان قد اجتمع وتآلف. فما بالكم بمقدار سروره وابتهاجه إذا رأى نفوسًا مختلفة الجنس مختلفة الأوطان مختلفة العادات قد اجتمعت مع بعضها البعض على الألفة والمحبّة والوداد. وإنّني لأتوجه إلى أعتاب الأحديّة بكمال العجز والافتقار ضارعًا أن يأتلف البشر كألفتكم حتّى يصبح الجنس البشريّ كلّه أسرة واحدة، وأن يجتمع جميع الخلق في محفل واحد يلهجون –وهم في كمال الألفة وفي كمال الصّفاء وفي كمال الصّدق- بشكر الله الفرد الأحد ولهذا فإنّني أدعو لكم فأقول:
إلهي إلهي. ترى هؤلاء العباد وهؤلاء الإماء قد انجذبوا بنفحات القدس في هذا الأوان، ولبّوا لندائك بين الأنام. ربِّ إنّ هؤلاء عباد أودعت في قلوبهم آية الهدى، وهديتهم إلى ملكوتك الأبهى ونزّلت عليهم من سحاب رحمتك الفيض الشّامل والغيث الهاطل. ربِّ قد غشت الأبصار حجبات الاعتساف وغفلوا عن ذكرك يا خفيّ الألطاف. وأمّا هؤلاء قرّت أعينهم بمشاهدة آيات توحيدك وطابت نفوسهم بالاستفاضة من غمام تقديسك، وصفت ضمائرهم بتجلّيات جمالك، ونوّرت سرائرهم بظهور ألطافك. ربِّ قدّر لهم كلّ خير في ملكوتك. وصوّرهم بصور الملأ الأعلى بين الورى، حتّى يكونوا آيات توحيدك الباهرة على الأشياء ورايات تقديسك الخافقة في كلّ البلاد. ربِّ اجعلهم كلمات كتابك وارزقهم من نعمائك، واسبغ عليهم نعمتك واجعلهم ينادون بالملكوت في صقع الإمكان وسُرُجًا منيرة في زجاج النّاسوت بنور الإيمان والإيقان . إنّك أنت المقتدر العزيز الغفور العطوف الرّحمن.

الدّين سبب اتّحاد العالم

في عصر يوم الإثنين الموافق 23 تشرين الأوّل سنة 1911 ألقى حضرة عبد البهاء
في منزل المسيو اسكات بحضور مائتين من الأحبّاء وغيرهم الخطبة التّالية:
هو الله

إنّ جميع الكتب الإلهيّة تبشّر جميع الملل بيوم موعود يجد فيه جميع البشر راحة الأمن والاطمئنان، ويتّحد العالم الإنسانيّ ويتم الاتّفاق ويزول النّزاع والجدال وتبطل الحرب، وترتبط جميع الملل بعضها ببعض وتتجلّى وحدة العالم الإنسانيّ.
وإنّنا لنلاحظ الآن أنّ صبح ذلك اليوم قد أسفر، وانتشرت بوارقه في الآفاق فأحدثت في عالم البشر نشاطًا عظيمًا. وأنّ جميع ملل العالم لتشهد بأنّه ما لم تتحقّق وحدة العالم الإنسانيّ فلن تتحقّق للبشر راحة ولا سعادة. فالمحبّة هي سبب حياة العالم، والاتّحاد هو سبب سعادة البشر وحصول الشّيء مرتبط بعلل وأسباب وما لم تتهيّأ تلك الأسباب لا يتحقّق وجوده. فمثلاً لا بدّ للسّراج من بلّور وفتيلة وزيت لكي يعطي نورًا فنحن نريد أن تحصل المحبّة ما بين البشر فلا بدّ للمحبّة من روابط. ولقد كانت هذه الرّوابط روابط العائلة حينًا، وكانت أسباب المحبّة الرّوابط الوطنيّة حينًا آخر، وتارة كانت أسباب المحبّة هي وحدة اللّغة وتارة كانت روابط المحبّة هي الوحدة العنصريّة وتارة أخرى كانت روابط المحبّة هي وحدة المنافع. وفي أحيان أخرى أسباب المحبّة التّعليم والتّعلم. وفي وقت آخر كان سبب المحبّة الوحدة السّياسيّة وهذه الأسباب جميعًا أسباب خصوصيّة. ولا تحصل المحبّة العامّة بهذه الأسباب لأنّها إذا سادت بين أهل الوطن الواحد فإنّ أهل الأوطان الأخرى يظلّون محرومين منها، ذلك لأنّ الرّوابط العنصريّة سبب للمحبّة بين أبناء جنس واحد. ولا يمكن أن تكون الرّوابط العنصريّة أو التّجاريّة أو السّياسيّة أو الوطنيّة أسبابًا للمحبّة العامّة لأنّها روابط جسمانيّة ومادّيّة. والرّوابط المادّيّة محدودة، ولمّا كانت المادّة محدودة فإنّ روابطها محدودة أيضًا.
يتّضح من ذلك أن أعظم الرّوابط وأكبر وسائل الاتّحاد بين البشر هي القوّة الرّوحانيّة لأنّها ليست محدودة بأيّة حدود.
والدّين هو سبب اتّحاد العالم، والتّوجه إلى الله هو سبب اتّحاد العالم، والدّخول في الملكوت هو سبب اتّحاد أهل الأرض. وإذا تمّ الاتّحاد حصلت المحبّة والألفة. ولكن ليس المقصود من الدّين تلك التّقاليد الموجودة بين أيدي النّاس، لأنّها سبب العداوة والنّفور، وعلّة الجدال والحرب وسفك الدّماء. راجعوا التّاريخ وتأمّلوا في وقائعه تروا أنّ التّقاليد الباقية في أيدي ملل العالم هي سبب القتال والحرب والجدال في العالم.
وإنّما مقصدي من الدّين أنوار شمس الحقيقة. وأساس الأديان الإلهيّة واحد، فهي حقيقة واحدة وروح واحدة ونور واحد لا تعدّد له.
ومن أسس الدّين الإلهيّ تحرّي الحقيقة، ومعنى ذلك أن يقوم جميع البشر بالبحث عن الحقيقة، ولمّا كانت الحقيقة واحدة فإنّ البحث عنها يوحّد جميع شيع العالم. والحقيقة علم، والعلم أساس الأديان الإلهيّة، ولذلك فالعلم سبب اتّحاد القلوب، والحقيقة ألفة بين البشر، والحقيقة ترك التّعصّب. والحقيقة هي أن تنظروا إلى جميع البشر على أنّهم عبيد الله. والحقيقة هي أن تعلموا بأنّ جميع ملل العالم عبيد لإله واحد. والحقيقة هي أن تروا جميع الكائنات الحيّة فائضة من فيض واحد. وكلّ ما في الأمر أنّ الوجود في هذا العالم ذات مرتبتين: مرتبة النّقص ومرتبة الكمال. ويجب علينا أن نسعى ليل نهار كي نبدّل النّقص بالكمال، فالأطفال مثلاً –في عالم طفولتهم- لا يدركون ولا يعرفون إلاّ أنّهم لا يستحقّون الذّمّ بسبب ذلك. وإنّما يجب علينا أن نربّي هؤلاء الأطفال حتّى يصلوا إلى مرتبة البلوغ. ويجب أن نتعهّد هذا الغرس الجديد بالإنماء والتّنشئة حتّى يثمر. وهذه الأرض يجب علينا أن نطهّرها حتّى تؤتي بذور البركة أكلها. والمريض يجب علاجه حتّى يشفى. ولا ينبغي لنا أن نبغض إنسانًا، بل يجب أن نحبّ جميع البشر. فإذا استحكم هذا الأساس حصلت المحبّة. وكذلك ينبغي علينا أن نناجي الله دائمًا وندعوه حتّى يوجد المحبّة في القلوب، وأن نتضرّع ونبتهل كي تشرق شمس الحقيقة على الجميع، وكي يغرق الجميع في بحر رحمة الرّب الرّحمن ينبغي علينا أن نتضرّع ونبتهل إلى الله كي يكمل كلّ ناقص. وكي يصل جميع الأطفال إلى رتبة البلوغ وتشرق شمس المحبّة على الشّرق والغرب، وتستضيء جميع القلوب من نور محبّة الله، وتصبح الآذان صاغية وتنجذب القلوب بنفحات القدس وتستبشر الأرواح ببشارات الله، لهذا فإنّي أدعو قائلاً: إلهي إلهي لك الحمد بما أشرقت الأنوار من ملكوت الأسرار، واستضاء جميع الأرض بشعاعها، فانتعشت النّفوس وانشرحت القلوب بسطوعها، لك الشّكر يا إلهي بما هبّت نسائم العناية من مطلع الرّحمة والجود، وخرّت النّفوس سجودًا للرّبّ المعبود. وانشرحت الصّدور بآيات تقديسك في كلّ الجهات، ونادت الألسن بملكوتك وظهور آيات بيّنات. ربّنا إنّنا نتضرّع إلى مركز الجلال ونتذلّل لعزّتك بين الأنام وندعوك بالقلوب والألسن والأرواح. ونستفيض من سحاب رحمتك في كلّ الأيّام. ربِّ أجبر هذا الكسر، وأكمل هذا النّقص، وارحم عبادك، وأيّدهم إلى صراطك. ربِّ قد تشعشع أنوار الهدى بين الورى ولكنّ النّفوس غفلوا عن ذكرك وابتلوا بالصّمم والعمى. ربِّ أنر أبصارهم بمشاهدة آياتك الكبرى، وأسمعهم نداءك البديع من ملكوتك الأبهى. إنّك أنت الكريم. إنّك أنت العظيم. إنّك أنت الرّحمن الرّحيم.

العلم يحطّم أغلال الطّبيعة

في يوم الأربعاء الموافق 25 تشرين الأوّل 1911 ألقى حضرة
عبد البهاء في منزله المبارك في باريس الخطبة التّالية:
هو الله

العلم أعظم فضائل العالم الإنسانيّ وهو سبب ظهور الفيض الإلهيّ. والعلم كاشف الأسرار وهو كالمرآة الّتي ترتسم فيها صور الأشياء. العلم يعطي كلّ إنسان معلومات عن جميع الأشياء، ويجعل كلّ فرد من البشر كأنّه جميع البشر. ذلك لأنّ العلم يعلم الإنسان جميع ما اكتشفه البشر أي جميع المعلومات الّتي يمتلكها البشر. والعلم هو الّذي يمكّن الإنسان من الاطّلاع على جميع وقائع الأزمنة السّابقة. وهو الّذي يمكّنه من أن يكشف أسرار المستقبل.
وإنّكم لتلاحظون أنّ جميع الكائنات –كبيرة كانت أم صغيرة- أسيرة للطّبيعة. فالشّمس مثلاً أسيرة للطّبيعة وكذلك جميع السّيّارات وجميع النّجوم أسيرة للطّبيعة. والعناصر أسيرة للطّبيعة والجماد والنّبات والحيوان أسرى للطّبيعة ولا يمكنها أن تتجاوز عن مقتضيات الطّبيعة. فالشّمس بكل عظمتها لا يمكنها أن تتجاوز مدارها ولا إرادة لها فهي أسيرة للطّبيعة. والوحوش والطّيور أسيرة الطّبيعة. والمحيط بكلّ عظمته أسير للطّبيعة. والكرة الأرضيّة أسيرة الطّبيعة فلا يمكنها أن تتجاوز قانون الطّبيعة أدنى تجاوز.
أمّا الإنسان فحاكم على الطّبيعة بحيث إنّه يستطيع أن يحطّم قواعدها وأحكامها ويتحكّم فيها. فالإنسان -بمقتضى الطّبيعة- مخلوق ترابيّ مثل سائر الحيوانات، ومقامه ومقرّه التّراب. وبالرّغم من أنّه ليس بذي روح هوائيّ ولا مائيّ إلاّ أنّه يتخطّى قانون الطّبيعة فهو يجول على سطح البحر ويقطع المحيط الأكبر. وهو يطير في الهواء ويسير تحت الماء. وقوّة الكهرباء هذه الّتي تشاهدونها -بالرّغم من أنّه لا قوّة أشد عصيانًا وتمرّدًا منها بحيث لو أصابت جبلاً لاخترقته حتّى الأساس- إلاّ أنّ الإنسان يأتي بها ويحبسها، وفي دقيقة يتفاهم بها الشّرق والغرب. والإنسان يستطيع أن يحبس الصّوت الطّليق في آلة، وأن يثبّت صورة الإنسان رغم أنّها ظلّ زائل. وجميع هذه الأمور خارقة للطّبيعة. وهذا هو معنى قولنا: إنّ الإنسان حاكم على الطّبيعة. فمن أين استحصل الإنسان على هذه الفضيلة؟ لقد تأتّت له من العلم.
اتّضح إذن أنّ العلم هو أعظم الفضائل الإنسانيّة. وأنّ خرق العادات وهتك قوانين الطّبيعة منوط بالعلم. أمّا وقد وهب الله للإنسان هذه القوّة وهذا الاستعداد اللّذين يخرق بهما قوانين عالم الطّبيعة فإنّه لمن المؤسف أن يضيّع الإنسان هذه الموهبة في الأمور الضّارّة. من المؤسف أن يجريها في قنوات البغض والعداوة. من المؤسف أن يسخّرها للظّلم والتّعدّي. إذ يجب على الإنسان أن يبذل هذه القوّة في سبيل إحياء النّفوس، وأن يسخّرها للخير العام، ويستخدمها في الصّلح والصّلاح، ويحصرها في تعمير العالم وراحة النّفوس، وترويج الألفة والمحبّة بين البشر. وهذه هي الموهبة الّتي تتزيّن بها حقيقة الإنسان.
وإنني لآمل أن يوفّق الجميع إلى هذه الموهبة الكاملة، وأن تحصروا همكم في أن يتلقّى النّاس العلم، وأن يحصّلوا العلوم والفنون. وتحصيل العلم لا يرتبط بزمان، فهو يبدأ مع بداية الحياة وينتهي بنهايتها. وبواسطة العلم يصبح المتعلّمون سببًا لمحبّة من على الأرض وعلّة للصّلح الأكبر إلى أن يتداعى بنيان الحرب بعون الله وعنايته، ويوضع أساس الصّلح والمحبّة وتفوزوا بالنّجاة في الدّارين.
وإنّني لأدعو الله أن يوفّقكم في هذا السّبيل.

الرّوح القدس سبب المحبّة الجامعة

في يوم الخميس الموافق 26 تشرين الأوّل سنة 1911
ألقى حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية أمام الأحبّاء الّذين
اجتمعوا في بيته المبارك في باريس
هو الله

بالرّغم من أنّ المحبّة قائمة في عالم المادّيّات إلا أنّها فيه محدودة. فوسائط المحبّة وروابطها موجودة في العالم الجسمانيّ، إلا أنّ الوسائط المادّيّة محدودة في حين أنّ حقيقة المحبّة غير محدودة. فكيف يمكن، بالوسائل المحدودة، أن تتمّ الحقيقة غير المحدودة؟
ومن بين وسائط المحبّة في العالم المادّيّ الرّباط العائليّ. ولكن من المعلوم أن هذا الرّباط محدود إذ كثيرًا ما نجد في العائلة الواحدة نهاية البغض والعداوة. ومن المعلوم أيضًا أنّ المحبّة لا تتمّ بصورة كاملة بروابط قابلة للانفصال. إذن أصبح واضحًا أنّ الرّباط العائلي ليس كاملاً ومن جملة الرّوابط أيضًا الرّباط الوطنيّ. فالمحبّة والألفة قد تنشآن بين بعض النّاس على أساس أنّهم أهل وطن واحد. لكن هذا الرّباط لا يكفي لأنّه أوّلاً محدود بالوطن، وثانيًا لأنّه قد يحدث بين أهل الوطن الواحد أشدّ أنواع البغض والعداوة. والرّوابط العنصريّة – من ناحية ثالثة محدودة، إذ من المحتمل أن تقع العداوة بين أبناء الجنس الواحد. ومن الرّوابط الاتّحاد رابعًا وحدة المصالح: وهذه تزول عندما تختلف المصلحة. والسّبب الخامس للألفة والمحبّة الوحدة السّياسيّة. وقد يأتي وقت تندثر فيه هذه الوحدة السّياسيّة.
إذن أصبح من المعلوم والمحقّق أن الرّوابط المادّيّة ليست كافية لإحداث الألفة بين البشر، وأنّ الأمر محتاج إلى قوّة من نوع آخر تجعل جميع البشر يتآلفون وتورثهم منتهى المحبّة، كما ينبغي أن تكون هذه القوّة غير محدودة.
ولا شكّ أنّ هذه القوّة هي قوّة الرّوح القدس. إذ إنّها هي سبب الوحدة الّتي تجمع جميع البشر تحت ظلّ كلمة واحدة، ولا قوّة غير هذه القوّة الملكوتيّة تستطيع أن تجعل جميع البشر مجتمعًا واحدًا وتقيم روابط المحبّة على أساس متين.
لهذا ينبغي علينا جميعًا أن نسعى ونجتهد كي تشعّ النّوراية الإلهيّة بين البشر. فالنّورانيّة السّماويّة تبعث ضوءًا يربط بين قلوب جميع البشر ربطًا كاملاً قويًّا. وهذا هو أساس المحبّة الحقيقيّة، إذ لا تحصل المحبّة بلا سبب.
وإنّني أنصحكم وأوصيكم فأنا الآن بينكم أيّامًا معدودة أترككم بعدها بألاّ تكونوا أسرى المادّيّات. وأن تتحرّروا من القيود المادّيّة. فالحيوان أسير للمادّة أمّا الإنسان فليس أسير المادّيّات لأنّ الله تعالى حرّره منها.
وإذا أمعنتم النّظر وجدتم أنّ جميع الكائنات أسيرة لعالم الطّبيعة فلا يمكنها التّجاوز عنه أبدًا. أمّا الإنسان فطليق من الأسر، وهو يخرق الطّبيعة. فأنتم تلاحظون مثلاً أنّ الإنسان –بمقتضى الطّبيعة- مخلوق ترابيّ إلاّ أنّه يطير في الهواء وهذا مخالف للطّبيعة. وهو يجول على سطح البحر، ويسير تحت الماء وهذا خارق لقانون الطّبيعة العام. وحقائق الأشياء –بمقتضى الطّبيعة- سرّ مكنون ورمز مصون، إلاّ أنّ الإنسان يدركها بقوّته الكاشفة، وبهذه القوّة يبرزها من حيّزالغيب إلى حيّز الوجود. وكل هذه أدلّة على أنّ الإنسان ليس أسيرًا للطّبيعة بل هو خارق لها.
لهذا ينبغي لكم أن تتوسّلوا القوّة الإلهيّة كي تبرزوا وحدة العالم الإنسانيّ إلى حيّز الوجود. ولا تلقوا المحبّة في قلوب النّاس بالقوى المادّيّة ولكن بالوسائط والرّوابط المعنويّة. ولا تجعلوا سبب محبّتكم لإنسان ما وحدة العائلة أو وحدة الوطن أو وحدة الجنس. بل يجب أن تحبّوا النّاس لوجه الله. أحبّوا كلّ إنسان كامل ولو لم يكن من أبناء وطنكم أو من أفراد عائلتكم، وبهذه الوسيلة تستطيعون أن تخدموا العالم الإنسانيّ وتجعلوه نورانيًّا، وأن تهدموا بنيان ظلمات العداوة والبغضاء، فيجتمع جميع البشر تحت ظلّ علم الوحدة الإنسانيّة وتصل إليكم التّأييدات السّماويّة، وتفيض عليكم الفيوضات الرّبّانيّة إلى أن تصبحوا ملكوتيّين رحمانيّين. فابذلوا جهودكم من أجل أن يتحقّق هذا الأمر.
لا تقولوا قط هذا إنجليزيّ وذاك ألمانيّ وذاك فرنسيّ أو إيطاليّ لا تجروا هذا القول على ألسّنتكم قط. بل أنتم جميعًا عبيد الله وإماء الرّحمن هذا هو ميزان الكلّ. وفي محفل الألفة لا يعرف الفرنسيّ من التّركيّ ولا الألمانيّ من الإنجليزيّ أو الإيرانيّ أبدًا.
فإذا ركّزتم فكركم في هذا فلا شكّ أنّ الله يرضى عنكم وتصل إليكم التّأييدات السّماويّة، لا تنظروا إلى استعداداتكم فإنّ تأييدات الله ستصل إليكم. وأنا نفسي كنت رجلاً ضعيفًا مسجونًا إلاّ أنّ التّأييد الإلهيّ وصل إليّ بحيث الآن أعاشركم بالرّوح والرّيحان في باريس آملاً نشر نفحات الله.
فلنتوجّه إلى الله، وإن نظرنا لأنفسنا نخجل لأنّنا لا نملك الاستعداد واللّياقة. وأمّا إذا نظرنا إلى قوّة الملكوت جاءنا الأمل والرّجاء، ولم ترهقنا أية مشقّة مهما عظمت والسّلام.

مجيء المسيح على متن السّحاب

في يوم الخميس الموافق 26 تشرين الأوّل سنة 1911
ألقى حضرة عبد البهاء هذه الخطبة على الأحبّاء الّذين
اجتمعوا في البيت المبارك في باريس
هو الله

ورد في الإنجيل أنّ المسيح يأتي راكبًا على السّحاب، ويتفضّل الجمال المبارك في تفسير هذه الآية بقوله إنّ السّيّد المسيح جاء في المرّة الأولى ممتطيًا السّحاب أيضًا. ذلك لأنّه تفضّل بقوله: أنا جئت من السّماء مع أنّه ظاهريًّا ولد من رحم السّيّدة مريم. كما ورد في الإنجيل أنّ الّذي أتى من السّماء يصعد إلى السّماء وأنّ الّذي لم يأتِ من السّماء لا يصعد إلى السّماء، وأنا أتيت من السّماء، مع أنّ المسيح ولد من رحم مريم.
يتّضح إذن أنّ المقصود بالسّماء ليس ذلك الفضاء اللاّنهائيّ بل السّماء هي الملكوت والمسيح جاء من هناك وكان حين جاء ممتطيًا السّحاب. والسّحاب يعني الجسم البشريّ. فكما أنّ السّحاب يحول دون مشاهدة الشّمس كذلك حالت طبيعة السّيّد المسيح البشريّة دون مشاهدته كشمس الحقيقة.
وقد ورد في الإنجيل قولهم إنّ هذا الشّخص ناصريّ وهو يزعم أنّه أتى من السّماء ونحن نعرفه ونعرف جميع ذوي قرباه ونعرف موطنه فأيّ معنى لقوله إنّه أتى من السّماء
فالمقصود إذن أنّه بالرّغم من أن جسد السّيّد المسيح من النّاصرة إلاّ أنّ روحه لاهوتيّة. وبالرّغم من أنّ قواه الجسمانيّة كانت محدودة إلاّ أنّ قواه الرّوحانيّة كانت غير محدودة. غير أنّ الخلق نظروا إلى الجانب البشريّ في السّيّد المسيح وقالوا إنّ هذا الشّخص من النّاصرة، وإنّه جاء من رحم مريم وليس من السّماء. ذلك لأنّ نظرهم كان متعلّقًا ببشريّة السّيّد المسيح. في حين أنّهم لو اطّلعوا على حقيقة المسيح لعرفوا أنّه جاء من السّماء حقًّا.
ويقول حضرة بهاء الله، وهكذا منعتهم بشريّة السّيّد المسيح من أن يدركوا حقيقته.
وإنّنا لنأمل ألاّ تنظروا إلى البشريّة بل إلى الحقيقة، وألاّ تحتجبوا بالمادّيّات كي تفوزوا بنصيب من الرّوحانيّات. لا تكونوا أرضيّين بل سماويّين، لا تكونوا جسمانيّين بل روحانيّين. لا تكونوا ظلمانيّين بل كونوا نورانيّين. ولتتعلّق أبصاركم بشمس الحقيقة الّتي سطعت أنوارها من جميع الآفاق. فلا يكون السّحاب حجابًا ولا تكون هذه التّقاليد مانعة إيّانا من مشاهدة الحقيقة، أبصروا الشّمس ولا تبصروا السّحاب انظروا السّماء في غاية الصّفاء، وشاهدوا شمس الحقيقة الّتي تجلّت الآن بلا سحاب يحجبها وفي منتهى القوّة، كي تستضيئوا جميعًا وتفوزوا بالحياة الأبديّة، وتصبحوا مظاهر الفيض السّرمديّ.
انتقلوا من عالم المادّيّات إلى عالم المعنويّات. ذلك لأنّ المادّيّات محدودة والمعنويّات غير محدودة. فلا يكون المحدود مانعًا لنا من بلوغ غير المحدود ولا يحرمنا عالم النّاسوت من بلوغ عالم اللاّهوت. ولا يدفع بنا الجسد إلى اليأس من الرّوح. هذا هو رجاؤنا. وهذا هو أملنا. وأسأل الله أن تفوزوا جميعًا بذلك.

الخلاف الدينيّ وإثبات نبوّة

سيّدنا محمّد عليه الصلاة والسّلام
في يوم الجمعة الموافق 27 تشرين الأوّل 1911
ألقى حضرة عبد البهاء هذه الخطبة أمام الّذين معه
في منزل مسيو دريفوس في باريس
هو الله

لمّا كانت تعاليم حضرة بهاء الله تدعو إلى توحيد جميع البشر وإيجاد منتهى الألفة والاتّحاد في ما بينهم لذلك يجب أن نبذل كلّ ما في وسعنا كي يزول سوء التّفاهم القائم بين الملل. كما يجب أن نبحث قليلاً في سوء التّفاهم الواقع بين الأديان حتّى إذا زال سوء التّفاهم هذا تمّ الاتّحاد الكلّيّ وحصل منتهى الألفة بين جميع الملل.
إنّ السّبب الأصلي لهذا الاختلاف والجدال هو علماء الملل. ذلك لأنّ كلّ فريق من هؤلاء قد أفهم رعيّته أنّ الله غضب على سائر الملل فحرمها من رحمة الرّحمن.
لقد اتفق لي وأنا بطبريّة أن كنت أسكن بجوار معبد لليهود إذ كان المنزل الّذي أنزل فيه مشرفًا عليه. ورأيت حاخام اليهود يعظ ويقول: يا أمّة اليهود! أنتم شعب الله وبقية الأمم شعب غيره. خلقكم الله من سلالة إبراهيم ووهب لكم الفيض والبركة، وفضّلكم على سائر العالمين. اختار منكم إسحاق وبعث يعقوب واصطفى يوسف وأرسل موسى وهارون وسليمان وداود وإشعيا وإيليا. وجميع هؤلاء الأنبياء من شعبكم. ومن أجلكم أغرق آل فرعون وشقّ البحر وأنزل لكم مائدة من السّماء، وأجرى لكم من الصّخر ماء. فأنتم عند الله مقرّبون. إنّكم أبناء إسرائيل أي أبناء الله الممتازون على جميع الملل وسوف يأتي المسيح الموعود وعندئذٍ تعتزّون وتحكمون جميع ملل العالم. وأمّا سائر الملل فيرتدّون مخذولين مرذولين، وقد فرح اليهود من قوله هذا وسرّوا سرورًا لا يمكن وصفه.
وكذلك الحال بالنّسبة لجميع الملل. فسبب اختلافهم ونزاعهم وجدالهم هو علماؤهم. ولكن لو تحرّى هؤلاء عن الحقيقة لحدث الاتّفاق والاتّحاد بلا شكّ. ذلك لأنّ الحقيقة واحدة ولا تقبل التّعدّد.
فيا طالبي الحقيقة
إنّ كلّ ما سمعتوه حتّى الآن من الرّوايات في حقّ سيّد الكائنات سيّدنا محمّد عليه السّلام كان منبعثًا عن الغرض والتّعصب الجاهل. ولم يكن مطابقًا للحقيقة قط. وها أنا اليوم أبيّن لكم الحقيقة الواقعة. ولن نروي لكم الرّوايات ولكنّنا سنتحدّث بميزان العقل. ذلك لأنّ وقائع الأزمنة السّابقة لا بدّ من وزنها بميزان العقل. فإن طابقته قُبلت وإلاّ كانت غير أهل لأن تُعتمد.
أوّلاً إنّ ما تقرأونه من طعن بسيّدنا الرّسول عليه السّلام في كتب الكهنة يشبه الكلام الّذي يقال في السّيّد المسيح في كتب اليهود. لاحظوا ماذا قيل في السّيّد المسيح وهو برغم ما هو عليه من العظمة والجلال وفي الوقت الّذي بعث فيه بوجه صبيح ونطق فصيح.
يلاحظ اليوم أنّ نصف أهل العالم من عبدة الأصنام والنّصف الآخر قسمان: القسم الأعظم من المسيحيّين والقسم الثّاني من المسلمين أمّا بقية الملل الأخرى فقليلة. ولذلك فهذان القسمان هما المهمّان. ولقد استمر النّزاع والجدال ألفًا وثلاثمائة سنة بين المسلمين والمسيحيّين في حين أنّ سوء التّفاهم هذا يمكن أن يزول بأمر يسير وتحلّ محلّه الألفة فلا يبقى جدال ولا نزاع ولا قتال. وهذا ما نريد أن نبيّنه.
عندما بعث سيّدنا محمّد عليه السّلام اعترض أوّل ما اعترض على عشيرته الأقربون إذ لم يؤمنوا بالتّوراة والإنجيل. وهذا منصوص في القرآن وليس من الرّوايات التّاريخيّة. قال لِمَ لَمْ تؤمنوا بجميع النّبيّين ولماذا لم تؤمنوا بالنّبيّين الثّمانية والعشرين الّذين ورد ذكرهم في القرآن. والقرآن ينصّ على أنّ التّوراة والإنجيل من كتب الله، وأنّ سيّدنا موسى كان نبيًّا عظيمًا، وأنّ السّيّد المسيح ولد من الرّوح القدس، وأنّه كلمة الله، وأنّ السّيّدة مريم مقدّسة. لا بل إنّ القرآن ينصّ على أن السّيّدة مريم لم تكن مخطوبة لأحد، وأنّها كانت معتكفة منزوية في قدس الأقداس بأورشليم، وأنّها كانت منقطعة للعبادة ليل نهار، وأنّ مائدة من السّماء كانت تأتي إليها. وكان كلّما دخل عليها زكريا أبو يحيى المحراب ووجد عندها رزقًا فيسألها من أين لك هذا يا مريم فتجيب مريم هو من عند الله من السّماء. ونصّ القرآن أيضًا على أن السّيّد المسيح تكلّم في المهد وأنّ الله اصطفى مريم وفضّلها على نساء العالمين.
هذه هي نصوص القرآن حول السّيّد المسيح.
وقد لام سيّدنا محمّد عليه السّلام قومه ووبّخهم إذ لم يؤمنوا بالمسيح وموسى. فقالوا إذا آمنا بالمسيح وموسى والتّوراة والإنجيل فماذا نفعل بآبائنا وأجدادنا الّذين نفتخر بهم؟ فقال سيّدنا محمّد من لم يؤمن بالمسيح وموسى فهو من أهل النّار. هذا نصّ القرآن وليس من روايات التّاريخ. بل إنّه قال لا تستغفروا لآبائكم ودعوا أمرهم لله فإنّهم لم يؤمنوا بالسّيّد المسيح ولا بالإنجيل، هكذا لام محمّد قومه.
وقد بُعث سيّدنا محمّد في وقت لم يكن فيه لدى هذه الأقوام مدنيّة ولا تربية ولا إنسانيّة وبلغ توحّشهم درجة أنّهم كانوا يدفنون بناتهم أحياء، وكانت النّساء لديهم أحطّ من الحيوان وكانوا يتعطّرون ببول الأبل ويشربونه. بين هؤلاء النّاس بعث سيّدنا محمّد. فربّى هذه الأقوام الجاهلة بحيث تفوّقوا على سائر الطّوائف في زمن قصير. فأصبحوا علماء من أهل المعرفة والدّراية والصّناعة. ونصّ القرآن يقول بأنّ النّصارى أودّاؤكم، ولكن عليكم أن تمنعوا بشدة عبدة الأصنام من العرب عن عبادة الأصنام والهمجيّة. هذه هي حقيقة الإسلام. فلا تنظروا إلى أفعال بعض أمراء الإسلام. ذلك لأنّ أعمالهم لا صلة لها بسيّدنا محمّد. اقرأوا التّوراة لتجدوا كيف كانت الأحكام. ثمّ انظروا ماذا فعل ملوك اليهود. واقرأوا الإنجيل تروا أنّه رحمة بحتة. فقد منع السّيّد المسيح النّاس جميعًا من الحرب والقتال. وحين سلّ بطرس سيفه أمره السّيّد المسيح بأن يعيد السّيف إلى غمده. أمّا الأمراء المسيحيّون كم سفكوا من الدّماء وكم ظلموا النّاس كذلك حكم الكثير من القساوسة بما يخالف تعاليم السّيّد المسيح.
مقصدي من هذا هو أن المسلمين يعترفون بأنّ السّيّد المسيح هو روح الله وكلمة الله وأنّه مقدّس واجب التّعظيم، وأنّ موسى كان نبيًّا عظيم الشّأن وصاحب آيات باهرات، وأنّ التّوراة كتاب الله.
وخلاصة القول إنّ المسلمين يكنّون للمسيح ولموسى أقصى التّمجيد والتّقديس. فلو قابل المسيحيّون نبيّ الإسلام بالمثل فقدّسوه ومجّدوه إذن لزال هذا النّزاع. فهل ينتكس إيمان المسلمين؟ أستغفر الله ماذا لحق بالمسلمين من أذى أو ضرر لتمجيدهم السّيّد المسيح؟ وأيّ ذنب اقترفوا؟ إنّهم على العكس أصبحوا مقرّبين إلى الله لأنّهم إذ أنصفوا وقالوا إنّ السّيّد المسيح روح الله وكلمة الله. ثمّ أليست نبوّة محمّد ثابتة بالدّلائل الباهرة؟
من بين البراهين على نبوّة سيّدنا محمّد القرآن الّذي أوحى الله به إلى شخص أمّيّ وإحدى معجزات القرآن أنّه حكمة بالغة، وأنّه يقيم شريعة في غاية الإتقان كانت بمثابة روح لذلك العصر. وفضلاً عن ذلك فقد بيَّن من المسائل التّاريخيّة والمسائل الرّياضيّة ما خالف القواعد الفلكيّة الّتي سادت في ذلك الزمان. ثمّ ثبت أنّ منطوقه كان حقًّا.
في زمان محمّد كانت قواعد بطليموس الفلكيّة مسلّمًا بها في الآفاق وكان كتاب المجسطي هو أساس القواعد الرّياضيّة عند جميع الفلاسفة إلا أنّ منطوقات القرآن جاءت مخالفة لتلك القواعد الرّياضيّة المسلّم بها. ولهذا عمَّ الاعتراض بأنّ آيات القرآن هذه دليل على عدم الاطّلاع. إلا أنّه بعد مرور ألف سنة اتّضح من تحقيق الرّياضيّين وتدقيقهم أنّ كلام القرآن مطابق للواقع، وأنّ قواعد بطليموس الّتي كانت أساسًا لأفكار آلاف الرّياضيّين والفلاسفة في اليونان والرّومان وإيران باطلة.
فمثلاً من بين مسائل القرآن الرّياضيّة تصريحه بحركة الأرض وقد كانت قواعد بطليموس تقرّر أنّ الأرض ساكنة. وكان الرّياضيّون القدامى يقولون بأنّ الشّمس تتحرّك حركة فلكيّة. فجاء القرآن وبيّن أن حركة الشّمس محوريّة، وقال بأنّ جميع الأجسام الفلكيّة والأرضيّة متحرّكة. ولهذا فإنّه حين قام الرّياضيّون المحدثون بالتّحقيق والتّدقيق في المسائل الفلكيّة واخترعوا الآلات والأدوات لهذه الغاية، وكشفوا الأسرار ثبت وتحقّق أنّ منطوق القرآن الصّريح صحيح، وأنّ جميع الفلاسفة والرّياضيّين القدامى كانوا على خطأ.
والآن لا بدّ من الإنصاف، ماذا يعني أن يخطئ آلاف الحكماء والفلاسفة والرّياضيّين من الأمم المتمدّنة رغم الدّرس والتّحصيل في المسائل الفلكيّة، وأن يتوصّل شخص أمّيّ من قبائل بادية العرب الجاهليّة -لم يسمع باسم الرّياضيّات- إلى حقيقة المسائل الفلكيّة الغامضة ويحلّ مثل هذه المشكلات الرّياضيّة رغم أنّه نشأ وترعرع في الصّحراء بواد غير ذي زرع! لا شكّ أنّ هذه القضيّة خارقة للعادة. وأنّها حصلت بقوّة الوحي.
ولا يمكن الإتيان ببرهان أشفى من هذا ولا أكفى. وهذا غير قابل للإنكار.

الاتّحاد مقصد عظيم

دونه مشكلات جمّة
في يوم السّبت الموافق 28 تشرين الأوّل 1911 ألقى حضرة عبد البهاء
هذه الخطبة أمام الأحبّاء الّذين اجتمعوا في منزله المبارك في باريس
هو الله

اليوم قرأت عن حوادث إيطاليا وتركيّا. ولقد قامت حرب جديدة يراق فيها دم النّاس البائسين من أجل أتفه الأسباب. فمن أجل هذه الأرض السّوداء يقتل النّاس بعضهم بعضًا مع أنّها ليست ملكًا لأحد منهم. ما أكثر الأمم والدّول الّتي كسبت الأرض ثمّ ضاعت هذه الأرض من أيديهم بعد زمن قصير. ما أكثر الممالك الّتي فتحت في زمان شارلمان وأيّام نابليون الأوّل. ولكن ماذا كانت النّتيجة آخر الأمر؟ لقد ضاعت هذه الممالك في زمن قصير.
إنّ الأرض ملك لله. وجميع الملل والدّول بمثابة مستأجري هذه الأرض وستفلت من يد الجميع. “ولله ميراث السّموات والأرض” أمن أجل هذه المدّة القصيرة الّتي تشبه الاستئجار يتنازعون ويتجادلون ويسفك بعضهم دماء بعض كالسّباع الضّارية ويفتك بعضهم ببعض كالذّئاب الكاسرة؟ والمعلوم أنّ الله خلق الإنسان مظهرًا لفضائل العالم الإنسانيّ وكي يكون سببًا لراحة العالم وطمأنينته، ويكون سببًا للمحبّة والألفة، ويكون نورانيًّا عادلاً منصفًا، فلا يعتدي على غيره بل يعاونه حتّى تسود الرّأفة بين البشر. هذا ما يريده الله. وهذا هو سبب سعادة العالم الإنسانيّ وعزّة البشر. ولكنّ البشر – واأسفاه! – يقومون بما يخالف رضا الله، ويسعون في أمور تسبّب ذلّة العالم الإنسانيّ وفضيحته.
إنّكم اليوم –بالنّسبة إلى سائر الطّوائف الموجودة هنا- جمع قليل عقدتم نيّتكم على الخير، وتوجّهتم إلى الله، تبتغون خير العالم الإنسانيّ، وتلتمسون الصّلح والصّلاح، وتنزعون إلى المحبّة والألفة، وغاية مسعاكم هو أن يتّحد البشر ويتّفقوا وقصارى أملنا هو أن يزول القتال والجدال، وأن يحلّ الصّلح مكان الحرب والمحبّة محلّ البغضاء ويسود الاتّحاد بدل الاختلاف.
وهذا الهدف هدف عظيم حقًا. ولكنّه ليس سهلاً ولا يسيرًا. إذ دونه مشكلات جمّة. إلاّ أنّكم يجب أن تستسيغوا كلّ مشقّة وكل عناء في سبيله. ومعنى ذلك أنّه يجب عليكم أن تقفوا في وجه جميع البشر. لأنّ جميع الملل ركّزت فكرها في الحرب، وعقدت عزمها على أن يغيّر بعضها على بعض ليفتحوا الممالك.
فلا شكّ أنّ عملكم هذا عسير جدًّا. ولكن إذا بذلتم أقصى الجهد بلا كلل ولا ملل تبلغون النّتائج المفيدة.
إذن تضرّعوا دائمًا وابتهلوا أبدًا إلى الله واطلبوا إليه أن يخلق أسباب الألفة، وأن يمدّكم بمدد من عنده وتأييد من لدنه حتّى تستطيعوا إنجاز هذه المهمّة، وحتّى يمكّنكم من حمل هذا العبء الثّقيل، وتحمّل كلّ مشقّة وتعب وعناء في هذا السّبيل. وربّما بلغ بكم الأمر إلى الحدّ الّذي يتوجّب معه عليكم أن تضحّوا بأنفسكم. وكلّ إنسان جليل الهدف يستعذب مشقّة تواجهه في سبيل تحقيق هدفه وخاصّة إذا كان الهدف عظيمًا كالّذي أمامكم، فهذا الهدف هو علّة حياة العالم ونورانيّة عالم البشر وراحة واطمئنان الخلق جميعًا وظهور موهبة العالم الإنسانيّ وتجلّي تأييدات الملكوت الإلهيّ.
وآمل ألا تثبط عزمكم أيّة مشقّة ولا أيّ تعب وأن تزداد همّتكم سموًّا يومًا بعد يوم، ويتضاعف سعيكم واجتهادكم حتّى تشتهروا بين البشر بنورانيّة محبّة الله.

الرّوح القدس واسطة الفيض

في يوم الأحد الموافق 29 تشرين الأوّل سنة 1911 ألقى حضرة عبد البهاء
هذه الخطبة بمنزل شقيقة مسيو دريفوس في باريس
هو الله

إنّ حقيقة الذّات الإلهيّة في نهاية التّنزيه والتّقديس. وليس لها نزول ولا صعود وتنزّل الحقّ إلى عالم الخلق مستحيل، ذلك لأّنه لا صلة قطّ بين الغنى المطلق والفقر المحض. وحقيقة الألوهيّة غنى محض وقديمة، وأمّا الإنسان فحادث وفقر صرف. وحقيقة الألوهيّة قدرة محضة والإنسان عجز صرف. لهذا فإنّه لا صلة بين الغنى المطلق والفقر البحت، وبين القديم والحادث، وبين القدرة الخالصة والعجز الصّرف.
ومن ثمّ كان لا بدّ من واسطة فيض بين حقيقة الألوهيّة وعالم الخلق، تكون بمنزلة الشّعاع السّاطع من الشّمس. وبعبارة أخرى إنّ الحقيقة مثل الشّمس وعالم الخلق مثل الأرض وبين الشّمس والأرض لا بدّ من واسطة للفيض. والشّمس لا تتنزّل كما أنّ الأرض لا تصعد إلى السّماء. إذن فما هي الواسطة؟ نور الشّمس وحرارة الشّمس هما الواسطة بين الأرض والشّمس.
والرّوح القدس هو بمنزلة شعاع الشّمس وتجلّي الشّمس وحرارة الشّمس وكمالات الشّمس. وبواسطة الرّوح القدس تفوز حقيقة الإنسان بفيض من حقيقة الألوهيّة، ولا يمكن أن يتسنّى ذلك بلا واسطة. وجميع الفيوضات الّتي تصل من عالم الحقّ إلى عالم الخلق تتمّ بواسطة الرّوح القدس. فالرّوح القدس سبب حياة الإنسان الأبديّة وعلّة قوّته الكاشفة ونفوذه الرّوحانيّ وحكمته البالغة وحركته العلويّة. كلّ هذه من فيوضات الرّوح القدس الّذي هو واسطة الفيض بين الحقّ والخلق.
تأمّلوا كيف أنّ البرهان واضح. إلاّ أنّ بعض الأمم لم تدرك الحقيقة فتصوّرت أنّ شمس الحقيقة نزلت وحلّت. وهذا مستحيل وغير ممكن. فالرّوح القدس هو الواسطة وهو بمنزلة شعاع الشّمس حرارتها وبهما تتربّى الكائنات. فشعاع الشّمس سبب حياة الجماد والنّبات والإنسان. وشعاع الشّمس هو سبب حياة الأرض. وشعاع الشّمس هو سبب الحركة والحياة. وهذا هو الرّوح القدس فهو بمنزلة الرّوح.
تأمّلوا أمر حواريّي السّيّد المسيح. فقد كانوا في بادئ الأمر رجالاً عاديّين، كان أحدهم صيّاد سمك، وكان الثّاني نجّارًا، والثّالث صبّاغًا. إلا أنّ تأييدات الرّوح القدس جعلت بطرس بطرس الأكبر ويوحنّا يوحنّا الإنجيليّ. وكلّ من اقتبس منهم من نور الرّوح القدس استنار وأصبح سببًا لهداية جمع غفير من النّاس. وفي هذا المقام يتّضح التّأييد وتتجلّى القوّة الّتي هي فيض من الرّوح القدس.

المدنيّة الرّوحانيّة

في يوم الثّلاثاء الموافق 31 تشرين الأوّل 1911
ألقيت هذه الخطبة في المنزل المبارك في باريس
هو الله

في الجوّ الجميل ينتعش جسم الإنسان، وتتجدّد حياته، ويسرّ قلبه وتزداد إحساساته البدنيّة، فيشفى إن كان مريضًا، وينشط وينشرح إذا كان عليلاً. فإذا كان خامدًا اهتزّ وبدت عليه علائم السّرور. وهذه سعادة الإنسان الجسمانيّة الّتي تنمو من لطف الهواء وعذوبة الماء وحلاوة الغذاء. وكذلك إذا توفرت للإنسان ثروة أو عزّة أو تجارة أو كسب أو صنعة تمّت سعادته الجسمانيّة واكتملت.
وإنّكم لتلاحظون أنّ الحياة الطّيبة ووسائل السّعادة الجسمانيّة وأسبابها متوفّرة على أحسن الوجوه للأمم المادّيّة. فالأطعمة اللّذيذة متوفّرة لها، والمنازل منسّقة والتّجارة متّسعة، والصّنائع في نهاية الإتقان، والأصول السّياسيّة في غاية الاعتدال فيها. وهذه الأمور جميعها كفيلة بتوفير السّعادة الجسمانيّة لعالم الإنسان. إلاّ أنّه لا صلة لها بالرّوح. ومن الممكن أن يكون الإنسان –من حيث الجسمانيّات- في نهاية الرّقيّ، وأن تكون جميع النّعم البدنيّة مهيّأة له بحيث تتمّ له سعادة المعيشة النّاسوتية وأن يكون مع ذلك محرومًا تمامًا من الحياة الرّوحانيّة، ولا نصيب له من المدنيّة السّماويّة، ولا من الفضائل، فيبقى بعيدًا كلّ البعد عن نورانيّة الملكوت.
ولذلك فكما نسعى ونجتهد لتحقيق المدنيّة الجسمانيّة ونجاهد في سبيل تحصيل الفوائد المادّيّة، وتوفير أسباب الرّاحة والاطمئنان النّاسوتيّ كذلك يجب علينا أن نولي الحياة الرّوحانيّة أهميّة أعظم، ونلتمس السّعادة الأبديّة بهمّة أكبر، ونطلب النّورانيّة السّماويّة والسّنوحات الرّحمانيّة بجدّ أكثر، ويزداد إقبالنا على ترقيّات العالم الإلهيّ حتّى تكمل حياتنا الرّوحانيّة كما كملت حياتنا الجسمانيّة وتتمّ لنا السّعادة الملكوتيّة.
إنّ السّعادة الّتي أرادها السّيّد المسيح لأهل العالم هي النّورانيّة الّتي أعطاها للحواريّين وتمّت لهم منها التّرقّيات الحقيقيّة. لهذا أسّس حضرة بهاء الله في هذا العالم الفاني ملكوتًا وأضاء شمعًا سماويًّا وفتح أبواب الملكوت فسطعت شمس الحقيقة كي تتأسّس المدنيّة الرّوحانيّة، وتشرق النّورانيّة السّماويّة، وتتمّ الحياة الأبديّة وتهبّ نفثات الرّوح القدس في القلوب. فيصبح الإنسان عظيمًا من النّاحيتين المادّيّة والرّوحية ويحقّق الحضارتين المادّيّة والرّوحية معًا. ذلك أنّه عندما تترقّى روح الإنسان وجسمه معًا تتوفّر السّعادة للعالم الإنسانيّ، ولا يتحقّق هذا الهدف بالمدنيّة المادّيّة وحدها.
ولذلك تلاحظون أنّه بالرّغم من أنّ عالم المدنيّة المادّيّة بلغ كمال الرّقيّ في هذا العصر إلاّ أنّه يشهد الكثير من القتال والجدال والحرب والنّزاع وسفك الدّماء وهدم البنيان الإنسانيّ.
وفي الأزمنة السّابقة الّتي نطلق عليها اسم عصور التّوحش كانت الحرب تقع ولكنّها كانت لا تكاد تقضي على حياة ألف شخص في خلال سنة كاملة. أمّا اليوم فإنّ حرب الرّوس واليابان قضت على حياة خمسمائة ألف شخص في غضون ستّة أشهر. فقد اخترعت آلات فتّاكة لم تكن موجودة من قبل، فمدافع كروب مثلاً لم تكن موجودة من قبل، وكذلك الدّيناميت والغوّاصات وهذه جميعًا من نتائج المدنيّة الحاليّة.
ثبت إذن أنّ ازدهار المدنيّة المادّيّة لا يجلب إلى العالم السّعادة الصّحيحة فإذا ما تحقّقت المدنيّة الرّوحانيّة بجانب المدنيّة الجسمانيّة تمّ الوصول إلى السّعادة الحقيقيّة. فكما أنّ أسباب الرّقيّ المادّيّ توفّر راحة الأجسام كذلك يتحقّق رقيّ عالم الأخلاق بالنّورانيّة السّماويّة، وتتحقّق فضائل العالم الإنسانيّ بفيض نفثات الرّوح القدس.
إنّ الشّفاء الأبديّ لعالم الوجود هو الوحي السّماويّ. والرّقيّ الحقيقيّ منوط بالفيض الإلهيّ. ولذلك فإنّني أريد لكم أن تهبط عليكم تلك الفيوضات، وألتمس لكم نفثات الرّوح القدس، وأطلب لكم السّعادة الّتي طلبها السّيّد المسيح للحواريّين، كي تبلغوا درجة الكمال في جميع المراتب المادّيّة والرّوحانيّة، وكي يتحقّق لكم التّرقّي في هاتين النّاحيتين فيصبح ظاهركم وباطنكم معمورين وتستظلّ أرواحكم وأجسامكم جميعًا بظلّ رحمة الرّحمن وتنجذب قلوبكم وتستبشر أرواحكم، وتفوزوا باللّسان النّاطق والعين المبصرة والأذن السّامعة، وتظفروا بالقوّة المعنويّة وبالتّأييد الملكوتيّ. هذه نصيحتي إليكم –فمرحبًا بكم.

معنى التّنزيه والتّقديس

في يوم الأربعاء الموافق أوّل تشرين الثّاني
1911 ألقى حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية:
هو الله

سمعت أنّ اليوم عيد في باريس، وأنّ العيد هو عيد جميع القدّيسين فلماذ سمّيتم هؤلاء بالقدّيسين؟ ومامعنى المقدّس؟ معناه المنزّه الطّاهر، ومعناه المترفّع عن أوساخ عالم البشريّة، ذلك أنّ للإنسان مقامين: أحدهما مقام الإنسانيّة الّذي له اتّصال بالعالم العلويّ وبفيض الرّبوبيّة. وثانيهما مقام الحيوانيّة الّذي له اتّصال بعالم النّاسوت، وأعني بها الجانب الحيوانيّ، كالغضب والشّهوة والبخل والظّلم والجفاء فكلّ هذه من الخصائص الحيوانيّة، كما أنّ العلم والحلم والوفاء والجود والسّخاء والعدل من فضائل العالم الإنسانيّ.
فإذا تغلّب الجانب الإنسانيّ وقهر الأخلاق الحيوانيّة كان ذلك سببًا لرفعة الفطرة الإنسانيّة. فهذه النّفوس المقدّسة تبرّأت من العالم الحيوانيّ واتّصفت بالخلق الرّحمانيّ، فأصبح أصحابها مظهر العدل ومظهر الحبّ ومظهر الإنصاف ومظهر الألطاف، وأصبحوا نورانيّين وسماويّين وروحانيّين. ولهذا تقدّسوا.
والحواريّون الّذين آمنوا بالسّيّد المسيح كانوا في بادئ الأمر متّصفين بصفات سائر البشر متمسّكين بالأمور الدّنيويّة، يلتمسون منافعهم الشخصيّة ويرغبون في الاستمتاع بجميع ملذّات العالم. ولم تكن لديهم فكرة عن التّنزيه والتّقديس، ولم يكن لهم نصيب من فضائل العالم الإنسانيّ. ولكن حين آمنوا بالسّيّد المسيح تبدّل جهلهم بالعلم وظلمهم بالعدل وغضبهم بالرّحمة، وظلمتهم بالنّور. كانوا ناسوتيّين فأصبحوا لاهوتيّين وكانوا شيطانيّين فأصبحوا رحمانيّين ولهذا سمّوا بالمقدّسين.
ينبغي لكم إذن أن تقتدوا بهم كي تتخلّصوا من أوساخ العالم البشريّ وأدرانه وتصبحوا لاهوتيّين من بعد أن كنتم ناسوتيّين، وسماويّين من بعد أن كنتم أرضيّين، واسألوا الله أن تظهر فيكم فضائل العالم الإنسانيّ لتصبحوا ملائكة الله ومصادر الأنوار وكاشفي الأسرار ومدركي حقائق الأشياء.
وكما تقدّمتم في عالم المادّيّات وبلغتم هذه الدّرجة العالية من الرّقيّ تقدّموا أيضًا في العالم الرّوحانيّ. لقد جاء الأنبياء العظام لتربية البشر وتعليمهم وليجعلوهم مظاهر الأنوار ويطلعوهم على حقائق الأسرار ويجعلوهم سبب الرّقي المادّيّ والرّقي المعنويّ للعالم الإنسانيّ، ومن أجل هذا الأمر نزلت الكتب الإلهيّة، فالتّوراة والإنجيل والقرآن والألواح المباركة تدلّ على الفضائل الإنسانيّة وتهدي إلى المحبّة والألفة والوحدة والصّلح والصّلاح، وترشد إلى العدل والإنصاف.
فينبغي لكم أن تّتبعوا ما جاء في الكتب الإلهيّة، وتعملوا بموجبها ومقتضاها.
وإنّني اليوم أشكو من انحراف صحتي. ولذلك أكتفي بهذا القدر، ومرحبًا بكم.

بحث في الرّوح

في يوم الخميس الموافق 2 تشرين الثّاني
1911 ألقى حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية:
هو الله

لقد جئت إلى أوروبّا وباريس، فلاحظت أنّ أوروبّا بلغت في الأمور المادّيّة نهاية الرّقيّ. إلاّ أنّني لم أجد تأثير الأمور الرّوحانيّة ونفوذها متوفّرًا كما يليق وينبغي. لهذا وجدت من الضّروريّ أن نبحث اللّيلة في شأن الرّوح.
الرّوح فيض إلهيّ أشرق على جميع الكائنات. فللكائنات جميعًا منها فيض ونصيب. مثلها مثل الشّمس الّتي تشرق على جميع الكائنات الأرضيّة. ذلك لأنّ جميع الأشياء الموجودة على كرة الأرض تنمو وتتربّى بفيض الشّمس، وتتلقّى النّور والضّياء منها. إلاّ أنّ هذا الفيض يظهر في كلّ رتبة على مقتضاها، فلشعاع الشّمس تأثير في الأجسام الصّخريّة إلاّ أنّ له في الأجسام الشّفافة ظهورًا وتجلّيًا آخر. وعلى الرّغم من أنّ الشّمس واحدة إلاّ أنّ ظهورها في الأجسام متنوّع.
كذلك شأن الرّوح ، فظهورها في مراتب الوجود يتحقّق بمقتضى هذه المراتب. فهي في عالم الجماد قوّة جاذبة تحدث اجتماع الأجزاء الفرديّة. وهذه الحال هي حياة الجماد ذلك لأنّ الجماد في مرتبته حيّ أيضًا وليس ميتًا، وهي في عالم النّبات قوّة نامية وهي الرّوح النّباتية.
وأمّا القوّة الحسّاسة في عالم الحيوان فهي الرّوح الحيوانيّة، وهذه القوّة الحسّاسة تتأتّى من تركيب العناصر وامتزاجها، وهي من مقتضيات الامتزاج والتّركيب.
وأمّا في عالم الإنسان فالرّوح كيفية تنبعث أيضًا من تركيب العناصر إلاّ أنّه تنضمّ إليها النّفس النّاطقة والقوّة العاقلة. وهذه الرّوح الإنسانيّة أي النّفس النّاطقة محيطة بالأشياء ومدركة وكاشفة لها، فهي تنقل أسرار الكائنات من حير الغيب إلى حيّز الشّهود. وهذه هي القوّة الّتي تأتي بجميع الصّنائع والعلوم والفنون المادّيّة من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود، وبالرّغم من أن هذه القوّة غير محسوسة لا ترى بالحواس الظّاهرة إلاّ أنّها تدرك بالحواس الباطنة.
غير أنّ هذه الرّوح ليست هي المقصودة بالرّوح في عرف الرّوحانيّين وإنّما المقصود هو الرّوح الأبديّة أي الحياة الإيمانيّة، تلك هي الرّوح الّتي يشير إليها السّيّد المسيح قائلاً يجب أن يتعمّد بها الإنسان، وما لم يتعمّد بها فلن يدخل في الملكوت الإلهيّ، كذلك يتفضّل في الإنجيل بقوله: “إنّ المولود من الجسد هو جسد والمولود من الرّوح هو الرّوح”، وكذلك يتفضّل بقوله: “دع الموتى يدفنون موتاهم” ذلك لأنّ الّذين لا يؤمنون بالله محرومون من الرّوح الإيمانيّة الحقيقة وإن توفّرت لهم الرّوح الإنسانيّة، ولهذا فهم في حكم الأموات، إذ على الرّغم من أنّهم يحيون حياتهم النّاسوتية إلاّ أنّهم محرومون من الحياة الملكوتيّة.
وقد بُعث الأنبياء كي يحيوا الرّوح الإنسانيّة بالرّوح الملكوتيّة فهذه الرّوح هي سبب سعادة العالم الإنسانيّ وهذه الرّوح هي سبب الحياة الأبديّة. وهذه الرّوح هي سبب السّعادة السّرمديّة، وهذه الرّوح هي سبب الدّخول إلى ملكوت الله. وهذه الرّوح هي الّتي تجعل الإنسان النّاسوتي لاهوتيًّا. وهذه الرّوح هي الّتي تحوّل الظّلمانيّ إلى النّورانيّ. فإذا تأيّدت هذه الرّوح بنفثات الرّوح القدس صار لها نفوذ وأحيت العالم، وحوّلت العالم الإنسانيّ إلى عالم سماويّ، وجعلت الجاهل عالمًا، وبدّلت الظّلمات نورًا، وعمّمت التّعاليم الإلهيّة ونشرت شريعة الله، وروّجت أوامر أورشليم الإلهيّة النّازلة من السّماء. وهذه الرّوح هي الّتي تجعل الإنسان الأرضيّ إنسانًا سماويًّا.
ولمّا كانت جميع المظاهر الإلهيّة مؤيّدة بهذه الرّوح فهي إذًا واحدة وحقيقة تعاليمها واحدة بفضل هذه الرّوح. ذلك لأنّ الرّوح القدس واحدة. فالإنسان مهما ارتقى في الأمور المادّيّة وظلّ محرومًا من الفيض الأبديّ أي من الرّوح الإيمانيّة فإنّه لا يعدو أن يكون قد ارتقى في الرّتبة الحيوانيّة، ولا يمكن أن يسمّى إنسانًا. ذلك لأنّ الإنسان مثال إلهيّ، كما ورد في التّوراة قوله نخلق إنسانًا على صورتنا ومثالنا.
ثبت إذن وتحقّق أنّ الإنسان الحقيقيّ صورة ومثال إلهيّ، بمعنى أنّه يستفيض من جميع الكمالات الإلهيّة. وهذا الإنسان مثله مثل المرآة، والفيوضات الإلهيّة مثلها مثل أشعّة الشّمس، فالكمالات الإلهيّة أي جميع الأسماء والصّفات الكماليّة تتجلّى في هذه المرآة. وهذا الإنسان هو مركز الرّوحانيّة كما أنّ الشّمس مركز نور العالم المادّيّ وهذه النّفس المباركة تنفخ الحياة في القلوب أيضًا أي أنّها تجعل النّاس روحانيّين فتتجلّى فيوضات الرّوح في القلوب. وهذه النّفس المباركة هي المعلّم الأوّل للعالم الإنسانيّ، والمتجلّي الأوّل على الممكنات.
وأنتم تلاحظون أنّ هذه النّفس المباركة ظهرت منذ ألفي سنة وما زالت آثارها ظاهرة إلى اليوم وموجودة، وظهرت منذ ثلاثة آلاف سنة وما زالت آثارها باهرة. وبالرّغم من أنّ هذ الآثار لا تشاهد في عالم الأجسام إلا أنّها موجودة في حيّز الملكوت. ولهذا فآثارها باهرة وأنوارها ساطعة. والشّيء المنعدم لا أثر له. ومن المحقّق أنّ هذه الآثار الباهرة المأثورة هي من نتائج الوجود. إذ لا تأثير للشّيء المعدوم. إنّ هذه الآثار الباهرة الّتي بقيت بفضل هذه النّفوس الكاملة دليل على وجود تلك النّفوس، وعلى أنّ لها حياة ملكوتيّة وكمالات إلهيّة.
فيجب علينا إذن أن نصبح جميعًا روحانيّين، سماويّين، ربّانيّين. إذ مهما ارتقينا في عالم الطّبيعة والمادّيّات إلاّ أنّنا ما نزال ناقصين حتّى ينضمّ هذا الرّقيّ إلى التّرقّيات الرّوحانيّة. والجسد مهما بلغ من الجمال غاية فإنّه لا يزال بلا ثمر إذا حرم من الرّوح. والإنسان مهما توفر له من الرّقي المادّيّ فإنّه يظلّ بلا نتيجة إذا حرم من الرّوح الملكوتيّة. وكما أنّ البلّور مهما بلغ من اللّطف والشّفافية فإنّه يبقى عديم الفائدة إذا فقد النّور والشّجرة إن توفّرت لها الطّراوة والخضرة وعدمت الثّمر لم تصلح إلاّ للنّار. والآدميّ إن توفّرت له صورة الإنسان وحرم من نفس الرّحمن لا يعدّ إنسانًا وغاية أمره أنه بلغ مرتبة الحيوان الكامل، وانطبق عليه ما قاله داروين الفيلسوف الإنجليزي من أنّ الإنسان من سلالة القرود.
إنّني مسرور بكم. ذلك لأنّني أرى فيكم إحساسات، فأنتم أحياء متحرّكون ولستم خاملين، وأنتم متوجّهون إلى الله ولستم قانطين من رحمته ومنتظرون للفيوضات الإلهيّة. وآمل أن يكون كلّ فرد منكم مستنيرًا بالنّور الملكوتيّ حتّى تنيروا الآفاق جميعًا كهذا المصباح بإذن الله.

دين الله هو الأعمال

في مساء الجمعة الموافق 3 تشرين الثّاني 1911 ألقى
حضرة عبد البهاء في منزل مسيو دريفوس هذه الخطبة
هو الله

إنّ دين الله –في الحقيقة- هو الأعمال، وليس الألفاظ. ذلك لأنّ دين الله هو العلاج. فمعرفة الدّواء وحدها ولا تُغْنِي بل إنّ الّذي يجدي هو استعمال الدّواء. فإذا عرف أحد الأطبّاء جميع الأدوية ولم يستعملها فما الفائدة من معرفته لها؟
إنّ التّعاليم الإلهيّة كخريطة البناء وهندسته. فإذا رسمت الخريطة وتمّت الهندسة ولكنّها لم تنفّذ فما فائدتها؟ فلا بدّ إذن من إجراء التّعاليم الإلهيّة ووضعها موضع التّنفيذ. وإلاّ فقراءتها والوقوف عليها لا جدوى منه.
ففي تعاليم السّيّد المسيح مثلاً: من ضربك على خدّك الأيمن أدر له الأيسر. وصلّوا للاعنيكم، والتمسوا الخير لأعدائكم. هذه هي تعاليم السّيّد المسيح الّتي كانت سبب النّورانيّة وعلّة حياة العالم وأساس الصّلح والصّلاح. ولكن ما الفائدة؟ إنّك لا تتمالك نفسك عن التّأسّف والتّحسّر وأنت ترى سفك الدّماء، وآلاف النّفوس الّتي قتلت –طوال هذه المدّة- من أمّة المسيح. ويحدّثنا التّاريخ أنّه في النّزاع بين البروتستانت والكاثوليك قتل تسعمائة ألف شخص. فأيّ صلة لهذا النّزاع بتعاليم المسيح الّذي أتى بتعاليم تناقض هذا التّصرّف مناقضة تامّة؟ يقرأ المسيحيّون جميعًا هذا البيان للسّيّد المسيح في الإنجيل ولا يعملون به. فماذا استفادوا من هذه القراءة؟ غير أنّهم لوعملوا بموجب ما قرأوا لظهرت عندئذٍ نتيجة. ففي الإنجيل يتفضّل بقوله: من ثمارهم تعرفونهم. أي من الثّمر يفهم إذا كانت هذه الشّجرة شجرة مباركة أم شجرة خبيثة.
يتّضح إذن أنَّ الدّين ليس هو القول بل العمل. وفي القرآن يقول الله سبحانه وتعالى: “والكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس والله يحبّ المحسنين”. ومعنى ذلك أنّ نفسًا إذا تعدّت على غيرها وجب على المعتدى عليها أن تحلم وأن تعفو وتحسن وتصفح. فانظروا اليوم كم تخالف الأعمال الأقوال، وكم جاروا وظلموا حتّى أراقوا دم سيّد الشّهداء.
ويتفضّل الجمال المبارك بقوله: لو لم يكن ذلك مخالفًا لشريعة الله لقبّلت يد قاتلي وورّثته من مالي. ولكن كيف السّبيل وحكم الكتاب المحكم لم يجز ذلك، ولم يكن لهذا العبد من حطام الدّنيا شيء.
والمقصود هو أنَّه يجب العمل بموجب التّعاليم الإلهيّة. ولقد بدأت جميع الأديان الإلهيّة بالعمل لا القول. ففي أيّام السّيّد المسيح مثلاً عمل الحواريّون بموجب التّعاليم الإلهيّة. وكان هذا هو السّبب في رقيّهم فارتفعوا من حضيض الذّلّة إلى أوج العزّة، واهتدوا من ظلمات الأوهام بنور الهداية. وكان الأمر كذلك دائمًا. ولكن بمرور الأيّام يتغيّر الأمر تدريجيًّا ويقلّ العمل شيئًا فشيئًا ويزيد القول يومًا فيومًا حتّى لو لم يعد أحد يعمل شيئًا، ويصبح كلّ شيء محض أقوال دون عمل. وهذا هو السّبب الّذي من أجله لم يعد لتعليم المسيح من أثر في القرون الوسطى. وتقاتل الأمراء والملوك المسيحيّون بعضهم مع البعض واستعرت نار الحرب الدّائمة.
وإنّكم لتلاحظون المجلس الّذي انعقد في لاهاي من أجل الصّلح العام، وكم دارت فيه من مناقشات حول الصّلح، وكم قيل من الأقوال المقبولة. وأرسلت جميع الدّول ممثليها. ودارت مناقشاتهم جميعًا حول تعايش الدّول والملل في صلح وأمان، كي تزول الحرب والخلافات وينزع السّلاح.

دين الله قسمان

وفي مساء الجمعة الموافق 3 تشرين الثّاني
1911 ألقى أيضًا الخطبة التّالية:
هو الله

كنت اتحدّث اليوم مع أحدى السّيّدات في أنَّ أساس الدّين الإلهيّ واحد وأريد الآن أن أشرح لكم هذه المسألة:
كلّ دين من الأديان الإلهيّة المقدّسة الّتي نزلت حتّى اليوم منقسم إلى قسمين: أحدهما الرّوحانيّات وهي معرفة الله وموهبة الله وفضائل العالم الإنسانيّ والكمالات السّماويّة، وهذا القسم يتعلّق بعالم الأخلاق وهو الحقيقة والأصل.
وجميع أنبياء الله دعوا النّاس إلى الحقيقة، فالحقيقة هي محبّة الله ومعرفة الله وهي الولادة الثّانية، والحقيقة هي الاستفاضة من الرّوح القدس، وهي وحدة العالم الإنسانيّ، وهي الألفة بين البشر وهي المحبّة والصداقة وهي العدل، وهي المساواة بين البشر. وقد روّجها وأسّسها أنبياء الله جميعًا. ومن ثمّ فالأديان الإلهيّة واحدة.
والقسم الثّاني من الدّين متعلّق بالجسمانيّات وهو فرعيّ وليس أساسيًّا ويحدث فيه التّغيير والتّبديل بحسب مقتضيات الزّمان. فالطّلاق مثلاً جائز في شريعة التّوراة. وليس جائزًا في شريعة السّيّد المسيح. وفي شريعة موسى كان السّبت، وفي شريعة المسيح نسخ ذلك الأمر.
فجميع هذه الأمور تتعلّق بالجسمانيات ولا أهميّة لها. وهي تتغيّر وتتبدّل حسب مقتضيات الزّمان.
وعالم الوجود مثل هيكل الإنسان يصحّ حينًا ويعتل ويمرض حينًا آخر. ولهذا فأنواع العلاج تختلف باختلاف الأمراض فقد تنشأ العلّة يومًا من الحرارة فلا يبقى بدّ من تبريدها، وقد ينشأ المرض يومًا من الرّطوبة فلا يكون بدّ من علاج من نوع آخر.
وخلاصة القول إنّ هذا القسم الّذي يتعلّق بالعالم الجسمانيّ يحدث فيه التّغيير والتّبديل تبعًا لمقتضيات الزّمان. فزمان موسى كان يقتضي أمورًا لم يقتضها الزّمان في عهد المسيح. ففيه كان الإنسان طفلاً رضيعًا، وكان الحليب لازمًا له. وفي زمان المسيح صار الإنسان يتناول الطّعام. وإنّكم لتلاحظون أنَّ الإنسان في جميع أطوار حياته من بدايتها إلى نهايتها هو شخص واحد. كذلك الحال في دين الله فهو في جميع الأدوار دين واحد. والإنسان يكون في بادئ أمره جنينًا، ثمّ يصير طفلاً رضيعًا، فصبيًّا فمراهقًا فبالغًا فشابًّا فرجلاً في كمال رجولته فشيخًا. وبالرّغم من أنّ أحواله وأطواره تبدو مختلفة إلاَّ أنَّه في الحقيقة واحد. وكذلك الحال في دين الله فهو دين واحد، ذلك لأنَّه حقيقة، والحقيقة لا تقبل التّعدّد. وهذا الاختلاف الّذي تلاحظونه في الأديان الإلهيّة مثله مثل اختلاف الإنسان في أحواله وأطواره منذ بداية حياته حتّى نهايتها. فهذا الّذي ترونه اليوم شيخًا مثلاً هو نفسه الإنسان الّذي كان جنينًا. وبالرّغم من تفاوت أمره واختلاف شأنه حسب الظّاهر إلاَّ أنّه إنسان واحد. كذلك الحال في دين الله فمهما اختلفت ظواهره في أيّام الأنبياء المختلفين إلاّ أنّه حقيقة واحدة.
وهكذا يجب علينا أن نتمسّك بهذه الحقيقة حتّى تتفّق كلّ ملل العالم، ويزول النّزاع والجدال كلّيّة، ويتّحد جميع البشر ويتّفقوا.
أسأل الله أن تكونوا سبب وحدة العالم الإنسانيّ حتّى يعانق جميع البشر بعضهم بعضًا وتتجلّى عزّة العالم الإنسانيّ الأبديّة.
مرحبًا بكم.

مجلس يتفوّق على مجالس العالم

في يوم السّبت الموافق 4 تشرين الثّاني 1911 ألقى
حضرة عبد البهاء في مجمع الأحبّاء الكلمة التّالية:
هو الله

تتشكّل في أوروبّا مجامع كثيرة كمجالس التّجارة والزّراعة والمعارف والسّياسة والجغرافيا. وكلّ هذه المجامع مؤلّفة لخدمة العالم المادّيّ، ومن أجل الرّقي المادّيّ. وليس لأحدها نصيب من عالم الرّوحانيّات، فهي ناسوتيّة وليست لاهوتيّة وهي جسمانيّة وليست روحانيّة، وهي أرضيّة وليست سماويّة.
أمّا المجلس الّذي يتشكّل الآن في باريس –أعني مجلسكم هذا- فله نصيب من الفيض الإلهيّ، ففيه الإحساسات الرّوحانيّة، وتنيره الأنوار الملكوتيّة، ويتعالى فيه النّداء السّماويّ، وتتضوّع فيه المحبّة الإلهيّة، وترتبط فيه القلوب بعضها ببعض، وتستبشر فيه الأرواح بالبشارات الإلهيّة وتتوجّهون فيه إلى الملكوت الإلهيّ، ونهاية الآمال فيه وحدة العالم الإنسانيّ. هذا مجلس منوّر معطّر. وهو سبب هبوب المحبّة في القلوب لأنّه مؤيّد بالقوى الإلهيّة. وهذا المجلس حيّ بنفثات الرّوح القدس. وهو يتّسع يومًا فيومًا وسيصل عما قريب إلى درجة تجعله يتفوّق على جميع مجالس العالم.
إذن فاعلموا أنّكم مشمولون بالألطاف الإلهيّة. فقد اختاركم الله لمحبّته، ولتوحيد عالم البشر ولمحبّة القلوب وللإحساسات الرّوحانيّة، وللتقرّب إلى الأعتاب الإلهيّة. إذن فاشكروا الله لأنَّه شملكم بمثل هذا الفضل وبذل لكم مثل هذه العناية ولو أنّكم أنفقتم حياتكم في شكر الله لما وفيتم حقّ هذه المهمّة.
لا تنظروا إلى ما أنتم عليه اليوم. فهذا أشبه بالبذرة الّتي غرست في بطن الأرض والّتي لا تبدو لها أهميّة في البداية. إلاّ أنّ كلّ بذرة تصبح شجرة تؤتي أُكلها. عند ذاك يعرف قدرها وأهميّتها.
إذن فاعلموا أن الله قد توّج رؤوسكم بتاج الموهبة، وأطلع من أفق قلوبكم كوكبًا نورانيًّا سوف يحيط بهذا الإقليم في النّهاية.
سعدت أرواحكم.

النّور الإلهيّ

في يوم الأحد 5 تشرين الثّاني سنة 1911 ألقى
حضرة عبد البهاء هذه الخطبة في منزله في باريس
هو الله

أهلاً بكم ومرحبًا. اليوم معتم ففي السّماء غيوم. أمّا الشّرق فأفضل لأنَّه دائمًا مشمس ومنير والسّحاب فيه قليل. ظاهره طبق باطنه ولفظه موافق لمعناه. وللشّرق نوران: روحانيّ وجسمانيّ. والأنوار الإلهيّة أشرقت دائمًا من الشّرق وأضاءت عالم الغرب.
أمّا النّور فعلى نوعين: النّور الظّاهر وهو مؤلف من الأجرام الفلكيّة لأنّ جميع الأشياء ترى بالنّور. وبدون النّور لا يمكن أن يرى أيّ شيء. ولكنّ هذا النّور الظّاهر ليس له إدراك حتّى لنفسه. فهو لا يدرك أنّه يظهر الأشياء. أمّا نور البصر فمظهر الأشياء وكاشف لها أي أنّه يكشف الأشياء ويحسّها. إلاَّ أنّه لا يدرك حقيقة الأشياء هو الآخر.
وأمّا نور العقل فهو يظهر الأشياء ويكشفها ويدركها في آن معًا. ومن ثمّ فنور العقل أعظم الأنوار.
وأمّا النّور الإلهيّ فيفوق نور العقل. ذلك لأنّ نور العقل يدرك الأشياء الموجودة أمّا النّور الإلهيّ فيدرك الأشياء الغائبة ويدرك من الحقائق ما سيظهر بعد ألف عام. وبواسطة هذا النّور الإلهيّ أخبر الأنبياء منذ ألف عام عن أمور تظهر الآن.
من هذا يتّضح أن النّور الإلهيّ قد أظهر هذه الأشياء منذ ألف سنة مضت، وأدركها أيضًا.
فيجب علينا إذن أن نتحرّى النّور الإلهيّ لأنّه أعظم من جميع الأنوار والنّور الّذي أشار إليه السّيّد المسيح هو هذا النّور. والنّور الّذي تحدّث عنه سيّدنا موسى هو هذا النّور، ذلك لأنّه شاهد تجلّي الألوهيّة في هذا النّور. ومن هذا النّور ومن هذه النّار سمع نداء الحق. وهو النّور الّذي أشار إليه سيّدنا محمّد في القرآن بقوله تعالى: “الله نور اﻟسّموات والأرض”.
فتحرّوا هذا النّور حتّى تدركوا حقائق الأشياء وتطّلعوا على الأسرار الإلهيّة، وتروا ما هو مستور، وتقفوا على جميع الحوادث الغيبيّة.
فهذا النّور مثل المرآة. فكما أنّ صور جميع الأشياء تنطبع في المرآة كذلك يحيط هذا النّور بجميع الصّور ويحيط بجميع الأشياء. وهذا هو السّرّ في أنّ حقائق الأشياء تنكشف بهذا النّور، ويجعل أسرار الكتاب المقدّس تتّضح به وأسرار الملكوت تشاهد واسطته، كذلك تدرك بهذا النّور العوالم الإلهيّة، وتعلم حقائق الأسماء والصّفات الإلهيّة، وتتجلّى بهذا النّور الرّوابط بين الحقّ والخلق.
لهذا آمل أن تستنيروا بهذا النّور.

الإنسان مرآة ممثّلة للحقّ

في يوم الإثنين الموافق 6 تشرين الثّاني ألقى حضرة
عبد البهاء الخطبة التّالية في منزله المبارك:
هو الله

لقد جئت قادمًا من الشّرق إلى الغرب. وكنّا نسمع ونحن في الشّرق أنّ أهل الغرب ليست لديهم إحساسات روحانيّة. إلاّ أنّني ألاحظ الآن أنَّ لديهم –والحمد لله- مثل هذه الإحساسات، بل إنّ إحساساتهم الرّوحانيّة تفوق إحساسات أهل الشّرق، إلاّ أنّه لم يتيسّر لهم مربّ روحانيّ حتّى الآن. فلو ظهر في الغرب مربّون روحانيّون كما ظهر في الشّرق لاتّضح ما للغرب من تفوّق روحيّ. ولو أنّ التّعاليم الّتي اشتهرت في الشّرق اشتهرت في الغرب لعرف اليوم مدى الرّوحانيّة الّتي كانت تظهر في الغرب.
وإنّني لعلى يقين أنّ استعداد أهل الغرب للرّوحانيّات عظيم وإن وجد فيه بعض من حرموا من الرّوحانيّات على الإطلاق، فكانوا مثل الحجارة الّتي لا تدرك شيئًا من الرّوحانيّات. ويريد هؤلاء أن يكون الإنسان شبيهًا بالحيوان فكما أنّ الحيوان محروم من الرّوحانيّات كذلك يحرم الإنسان. يجب أن تكون همّة الإنسان عالية، وأن يتّجه نحو العلاء حتّى يبلغ عالم الرّحمن. ولكن هؤلاء النّاس يجتهدون في أن يرتقي الإنسان ارتقاءً معكوسًا، ويريدون أن يصلوا نسب الإنسان بالقرد بالرّغم من أنَّ الإنسان من سلالة إلهيّة مقدّسة، وهذا هو غاية همّتهم.
وما أبعد أفكارهم عن الصّواب! فالواقع أنّه ليس بين الإنسان والحيوان أيّ تشابه برغم اشتراكهما في بعض الأمور الجسمانيّة. فللإنسان عقل وأفكاره وعلومه ومعارفه ترتقي يومًا بعد يوم وإنّكم لتلاحظون مدى الرّقيّ الّذي حقّقه الإنسان منذ القرون الوسطى حتّى اليوم، ومقدار الاكتشافات والبدائع الّتي ظهرت على يديه. ولو أنّنا قارنّا بين جميع الصّناعات والعلوم والاكتشافات الّتي تمّت في خمسين قرنًا وبين صناعات هذا القرن واكتشافاته لوجدنا أنّها لا تكاد تعادل ما تمّ منها في سنة واحدة لهذا العصر. فما تحقّق منذ أيّام موسى وحتّى القرن الحالي من العلوم والصّناعات والاكتشافات لا يعادل ما ظهر منها في القرن الأخير وحده.
أصبح من الواضح إذًا أنّ الإنسان في رقيّ دائم، وسبب هذا الرّقي تلك القوّة العاقلة، وقوّة الفيوضات الإلهيّة. أمّا الحيوان فإنّه لا يملك هاتين القوّتين بمعنى أنّ حيوان اليوم هو نفسه حيوان خمسة آلاف سنة مضت. وليس هناك امتياز للإنسان أعظم من هذا الامتياز. وواضح أنّ الإنسان أشرف المخلوقات وأنّه مرآة ممثّلة للحقّ.
ولمّا كنت قد لاحظت وجود الإحساسات الرّوحانيّة في هذه البقاع لذلك فإنّني مسرور جدًّا. وأملي أن يصبح الغرب شرقًا، وأن تعمّ الإحساسات الرّوحانيّة فيه وتحيط بأرجائه، وأن يصل إلى النّفوس –بواسطة تعاليم حضرة بهاء الله- من القوّة ما يضيء الغرب كالشّرق.
اللّهم يا واهب العطاء، ويا غافر الخطأ، ويا راحم الضّعفاء من عبادك الأصفياء، تراني واقفًا بين يديك مبتهلاً إليك ناظرًا إليك. أسألك برحمتك الّتي سبقت الممكنات بأن تؤيّد هؤلاء على ما تحبّ وترضى. ونوّر قلوبهم بنور الهدى وأسمعهم نداء ملكوتك الأبهى، واجعل لهم نصيبًا من بحر العطاء ثمّ استقمهم على أمرك بين الورى لئلاّ تزعزعهم أرياح الاختلاف من أولي الاعتساف.
ربّ اجعلنا آيات رحمتك بين خلقك. ورايات معرفتك بين عبادك. ونفوسنا منقطعة إليك، وقلوبنا منجذبة بآيات تقديسك، وأيّد هؤلاء الضّعفاء برحمتك الكبرى، وهؤلاء الفقراء بموهبتك العظمى. ربِّ إنّك حنّان على كلّ فقير، ومنّان لكلّ أسير، ومعين لكلّ ضعيف، ومغيث لكلّ ذليل. ترانا أذلاّء ببابك، فقراء إلى ملكوت غنائك. فارحمنا بفضلك وجودك. واعفُ عنّا خطايانا بفضلك وعنايتك. إنّك أنت الكريم. إنّك أنت المقتدر القدير.

مصائب الجمال المبارك

في يوم الثّلاثاء الموافق 7 تشرين الثّاني 1911 ألقى
حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية في منزله المبارك:
هو الله

أريد اليوم أن أبيّن لكم قدرًا من مصائب الجمال المبارك:
في يوم من أيّام السّنة الثّالثة لظهور الباب حبس الجمال المبارك في طهران. وفي اليوم التّالي اعترض جمع من الأمراء ووزراء الدّولة وتوسّطوا، أفرج عن الجمال المبارك وأطلق سراحه، وبينما كان حضرته في سفر إلى مازندران ميمّمًا وجهه شطر قلعة الشّيخ طبرسي هجمت جماعة من الفرسان ليلاً واقتادت الجمال المبارك مع أحد عشر شخصًا وساقتهم جميعًا إلى مدينة آمُل، وفي أحد الأيّام اجتمع جميع العلماء في المسجد وأحضروا الجمال المبارك إليه، كما اجتمع أهل مدينة آمُل أيضًا وقد تسلح كلّ صنف منهم بسلاح: النّجار بقدّومه، والقصّاب بساطوره، والزّارع بفأسه وبلطته، وكان هدفهم أن يقتلوا الجمال المبارك بالإجماع.
وشرع العلماء في إلقاء الأسئلة العلميّة على حضرته. وكانوا يتلقّون على كلّ سؤال جوابًا كافيًا شافيًا، وأثبت الجمال المبارك حقيقة الظّهور بالأدلّة والبراهين الثّابتة. وعجز العلماء، فاتّجهوا إلى الحصول على شيء من كتاباته. فاستخرجوا لوحًا من ألواح النّقطة الأولى من جيب أحد خدم الجمال المبارك، وهو المدعو ملاّ باقر. وكان بهذا اللّوح فقرة من بيانات أمير المؤمنين علي عليه السّلام يقول فيها: “محو الموهوم وصحو المعلوم”. فتضاحك ملاّ علي جان أحد العلماء آمُل وقال لقد اتّضحت فضيلة الباب وميزته، إنّ الإنسان الّذي يكتب كلمة الصّحو بالصّاد تفهم مرتبة علمه لأنّ الصّحو تكتب بالسّين وقد كتبها الباب خطأ. فقال الجمال المبارك: بل إنّ السّيّد الفقيه هو الّذي أخطأ ولم يفهم. إنَّ هذه العبارة مأخوذة من كلام أمير المؤمنين وهو يجيب كميل بن زياد النّخعيّ عندما سأله عن الحقيقة. فقد أجابه أمير المؤمنين بعدّة فقرات. فكان كميل يقول لأمير المؤمنين بعد كلّ فقرة زدني بيانًا إلى أن تفضّل بقوله: “محو الموهوم وصحو المعلوم” أيّ أنّ من يطلب فهم الحقيقة ويريد الوصول إلى الحقّ يجب عليه أن يطهّر قلبه ويقدّسه عن أوهام التّقاليد وشائعاتها، وأن ينظر إلى ما يقوله صاحب الدّعوة، بمعنى أنّه يتخلّى عن الموهوم وينظر إلى المعلوم. وعندما ظهر رسول الله كان اليهود والنّصارى كلّما تخلّوا عن أوهامهم واستمعوا إليه اهتدوا إلى الحقيقة. وكلمة الصّحو بالصّاد معناها التّفطّن، والسّهو بالسّين معناها النّسيان والغفلة. وشتّان بين الكلمتين. فأنت قد سهوت وغفلت عن أنّ هذه العبارة كتبت صحيحة.
فلمّا جرت هذه البيانات من اللّسان المبارك بمحضر الخواصّ والعوام ذهلوا جميعًا وبهتوا، ووضح لهم جهل ذلك المجتهد وعلموا أنَّ ذلك الفقيه عار عن العلم وبريء منه. فثقل على العلماء هذا الموقف وأدركوا أنّه لو ألقى الجمال المبارك ببياناته على الملأ في عدّة مجالس عامّة لآمن به أكثر الخلق ولهذا اتّفقوا على إصدار حكم الإعدام عليه. وقد خاف ميرزا تقي خان حاكم آمُل من هذا الأمر واضطرب اضطرابًا عظيمًا. وأدرك أنّه لو حدث ذلك لشبّت بين قبيلتي نوري ولاريجاني- أكبر طائفتي مازندران- نار الحرب والقتال إلى الأبد. فخطر له أن يكتفي بأذيّة الجمال المبارك تطييبًا لنفوس العلماء وتسكينًا لخواطرهم. فأمر أن يضرب الجمال المبارك بالعصا. فضرب حتّى سالت الدّماء من قدميه.
بعد ذلك أحضروه إلى مسجد قريب من بيت الحاكم، وأوقفوه بجوار الحائط وأمر ميرزا تقي خان بعضًا من رجاله سرًّا أن يهدموا هذا الحائط من الخلف، ويحملوا الجمال المبارك إلى منزل الحاكم ، ففعل رجال الحاكم ذلك واختطفوا الجمال المبارك بسرعة من بين الجمع المحتشد وحملوه إلى منزل ميرزا تقي خان. وقبل أن يتحوّل النّاس إلى النّاحية الأخرى من الحائظ كان الرّجال قد وصلوا بالجمال المبارك إلى المنزل وأغلقوا الباب وراءهم، وصعد خدم الحاكم فوق السّطح ومنعوا النّاس وصدّوهم، وفرّقوهم بكلّ وسيلة. وقد حال هذا التّدبير بين العلماء وبين أن يقتلوا الجمال المبارك في ذلك اليوم.
وبعد عدة أيّام توجّه الجمال المبارك إلى طهران، وفي السّنة الثّامنة لظهور النّقطة الأولى حبس في طهران، وألقي به في غياهب سجن لا ينفذ إليه نور النّهار قطّ، وضيّقوا عليه تضييقًا شديدًا لا يمكن وصفه، فقيّدوا قدميه، ووضعوا في عنقه سلاسل بلغ من ثقلها أنّها كانت تحني قامة الجمال المبارك، بحيث كان لا بدّ من وضع عصا ذات شعبتين بأسفلها كما سلبوا ملابسه، ووضعوا على رأسه لبدة عتيقة ممزّقة، وظلّ الجمال المبارك على هذه الحال في هذا السّجن مدّة أربعة أشهر.
ثمّ أخرج من الحبس ونفي إلى بغداد، وفي بغداد أقام إحدى عشرة سنة سافر خلالها إلى كردستان حيث أقام فيها عامين، أمّا باقي المدّة فقضاها في بغداد، وفي هذه السّنوات الإحدى عشرة اشتعلت نار العداوة والبغضاء في صدور أعدائه، في حين ظلّ الجمال المبارك في غاية البشاشة والسّرور، وقد جد المعاندون في إلحاق الضّرر بالجمال المبارك بحيث إنّه كان في الصّباح يفقد الأمل في البقاء حتّى المساء، وفي المساء يفقد الأمل حتّى الصباح، وفي هذه السّنوات كان العلماء يقبلون عليه من جميع الجهات ويفوزون بمحضره ويطرحون عليه أسئلتهم العلميّة ويسمعون الأجوبة الشّافية الكافية عليها، وكان ذلك سبب اشتهار صيت الجمال المبارك في جميع الأرجاء، وقد كتب علماء إيران المقيمون في بغداد إلى ناصر الدّين شاه يعلمونه بذلك فالتمس هذا من السّلطان العثمانيّ أن ينفي الجمال المبارك من بغداد إلى إسطنبول، فنقل إلى إسطنبول بأمر السّلطان العثمانيّ، وبعد أن قضى فيها أربعة أشهر نفي إلى الرّوميلي (أدرنة)، ومرّة أخرى التمس ناصر الدّين شاه أن ينفى من الرّوميلي إلى عكّا، فأُنزل الجمال المبارك في السّجن المعروف بالقشلة العسكريّة وقضى بقية حياته في عكّا سجينًا أمّا البلايا الّتي أصابت الجمال المبارك في سجن عكّا فلا يمكن أن توصف.
وبعد أن نزل في سجن عكّا أرسل ألواحه إلى جميع سلاطين الأرض ما عدا اللّوح المرسل إلى ناصر الدّين شاه فقد حمله ميرزا بديع خراساني، وقال له الجمال المبارك: إن قبلت الاستشهاد فاحمله، فقبل ميرزا بديع الشّهادة وحمل اللّوح ويمّم شطر إيران إلى أن بلغ طهران، ولم يكن يلتقي بالأحبّاء أثناء الطّريق، وفي ذلك الوقت كان ناصر الدّين شاه يصطاف في نياوران بشميران فذهب ميرزا بديع وصعد إلى هضبة تواجه قصر الشّاه. وفي ذات يوم كان ناصر الدّين شاه يتأمّل المناظر من حوله بمنظاره المقرّب، فرأى شخصًا يجلس على قمّة الهضبة، وقد ارتدى الملابس البيضاء. وفي اليوم التّالي رأى الشّخص نفسه وهو يتأمّل المناظر بمنظاره المقرّب. وفي اليوم الثّالث أيضًا رآه في الوضع نفسه فعرف أنّ له حاجة. فأرسل في طلبه وسُئِل من أنت؟ ولماذا تجلس هنا؟ فقال: إنّي أحمل رسالة من شخص عظيم إلى السّلطان. فأراد رجال السّلطان أخذ الرّسالة منه إلاَّ أنَّه قال: لا بدّ أن أسلّمها إلى السّلطان يدًا بيد. فحمله هؤلاء إلى محضر الشّاه. فسأله الشّاه: من أنت؟ وماذا بيدك؟ فقال: هذه رسالة من بهاء الله أحضرتها إلى الشّاه. فتناول الشّاه الرّسالة وأمر بالتّحفّظ عليه. فحملوه وحبسوه. فطلب الشّاه أن يسألوه عن رفاقه. فلما سئل قال: أنا لا أعرف أحدًا وليس لي رفيق. فعذّبوه ثلاثة أيّام بشتّى ألوان التّعذيب والضّرب والكيّ فلم يصرّح باسم أحد قطّ. والتقطوا له صورة وهم يعذّبونه ثمّ قتلوه في اليوم الثّالث.
ثمّ إنّ الشّاه أرسل هذه الرّسالة إلى العلماء كي يردّوا عليها. وبعد عدة أيّام قال العلماء: “إنّ هذا الشّخص عدوّك” فقال الشّاه: أنا أعرف أنَّه عدوّي. وإنّما طلبت إليكم أن تجيبوا على مطالبها. فلم يكتبوا جوابًا. فغضب الشّاه وقال: إنّني أحترم العلماء كلّ هذا الاحترام وأنعم عليهم كلّ هذا الإنعام كي يكتبوا في مثل هذا اليوم ردًّا على مثل هذه الرّسالة. فإذا بهم اليوم يجيبون بمثل هذا الجواب.
ولقد تفضّل الجمال المبارك في ذلك اللّوح بقوله: إنّ الأمر لا يخرج عن إحدى اثنتين: إمّا أنه حق وإمّا أنه باطل، فأحضر العلماء وأحضرني كي أناقشهم. فإن كان حقًّا آمنت به، وإن كان باطلاً فافعل بي ما شئت.
وفي هذا اللّوح أيضًا يقدّم النّصائح لناصر الدّين شاه ويقول له: لا تغترّ بسلطنة فانية فكم من السّلاطين جاءوا وذهبوا جميعًا لم يبقَ لهم من أثر. وهذا الأمر أمر الله، وإنّك لا تستطيع مقاومته ولا تقدر على منعه. فإنّ أمر الله لا يقدر على مقاومته أحد، وأنت أيضًا لا تستطيع ذلك. وعمّا قريب سيرتفع أمر الله ويحيط الشّرق والغرب، فلم يقبل النّصائح الإلهيّة، وظلّ على غروره حتّى مات تاركًا هذا العالم.
ثمّ إنّ الجمال المبارك بقي في هذا السّجن إلاّ أنّه كان في منتهى العزّة، ولم يكن سجنه كسجن الآخرين لأنّه لم يأبه لأيّ شخص قطّ. وكم من مرّة جاء رجال الدّولة والتمسوا أن يتشرّفوا بمحضره فلم يكن يأذن لهم، بل إنّ متصرف عكّا ظلّ خمس سنوات يرجو ويلتمس أن يتشرّف بمحضره فلم يأذن له، ولم يمضِ وقت طويل حتّى صار يخرج من السّجن كلّما أراد الخروج، وجاء المتصرّف وجميع الموظفين من عكّا إلى القصر الّذي نزله والّذي يبعد عن المدينة مسافة نصف فرسخ وذلك بمناسبة عقد قران آقا سيّد علي، ومع ذلك لم يلتفت إليهم الجمال المبارك بالسّؤال عن أحوالهم.
وبعد، هذه خلاصة البلايا الّتي تحملها الجمال المبارك والمشقّات الّتي عاناها، والسّجون الّتي ألقي فيها والسّلام.

إنما هي الأعمال لا الأقوال

في يوم الأربعاء الموافق 8 تشرين الثّاني 1911 ألقى
حضرة عبد البهاء هذه الخطبة في منزله المبارك:
هو الله

جميع الملل كاملة من حيث الأقوال فالجميع يذكرون أنّهم محبّون للخير، والجميع يقولون الصّدق مقبول والكذب مذموم، والأمانة فضيلة العالم الإنسانيّ، والخيانة ذلّة العالم الإنسانيّ، وتطييب القلوب أحسن من كسرها، والرّأفة أفضل من البغض والعداوة والعدل جميل لا الظّلم، والرّحمة حسنة لا القسوة، وحسن الأخلاق أفضل من سوئها، والنّور مقبول لا الظّلام، والعلم عزّة الإنسان لا الجهل، والكرم محمود لا البخل، والتّوجّه إلى الله حسن لا الغفلة عنه، والهداية حسنة لا الضّلالة وأمثال ذلك كثير.
إلاّ أنّ كلّ ذلك يظلّ في عالم القول ولا ينتقل إلى حيّز العمل بل إنّ كلّ نفس مشغولة بميلها وهواها. وكل إنسان منهمك بالتّفكير في منفعته ولو جلبت على الآخرين الضّرر، وكلّ فرد يحصر فكره في ثروة نفسه دون الآخرين، وكلّ امرئ يفكّر في راحته واطمئنانه دون غيره، هذا هو منتهى مطلب النّاس، وهذا هو مسلكهم.
إلاَّ أن البهائيّين لا ينبغي لهم أن يكونوا على هذه الشّاكلة. بل ينبغي أن يكون البهائيّون ممتازين، فتزيد أعمالهم على أقوالهم، ويكونون رحمة للعالمين بالعمل لا بالقول، ويثبتون بمسلكهم وأعمالهم وأفعالهم صداقتهم وأمانتهم، ويظهرون فضائل العالم الإنسانيّ، ويبيّنون النّورانيّة السّماويّة. وتنادي أعمالهم بأنّهم بهائيّون وذلك كي يكون البهائيّون سببا ًلرقي العالم الإنسانيّ.
ولو أنّ إنسانًا قام بالأعمال البهائيّة وسلك المسلك البهائيّ لما احتاج إلى أيّ قول يقوله. إنّما هي الأعمال الّتي ارتقت بالعالم، فالأعمال هي الّتي نشرت هذه المدنيّة، والأعمال هي الّتي أظهرت هذه الصّنائع والأعمال هي الّتي أبرزت هذه الاكتشافات، والأعمال هي الّتي بلغت بالعالم المادّيّ إلى هذه الدّرجة. فلو لم تكن هناك أعمال واقتصر الأمر على الأقوال فهل كان من الممكن أن تتحقّق هذه المدنيّة المادّيّة؟
بهذا البرهان نستطيع إذن أن نستدلّ على أن الرّوحانيّات مناظرة للمادّيّات. فأعمال أهل الملكوت سبب حياة القلوب لا الأقوال، والأعمال الخيريّة سبب مسرّة الوجدان، والفضائل الإنسانيّة سبب نورانيّة البشر.
وعلى ذلك فيجب عليكم أن تتضرّعوا وتبتهلوا آناء اللّيل وأطراف النّهار وتسألوا الله أن يوفّقكم إلى الأعمال لا الأقوال. توجّهوا إلى الله وصلّوا له وناجوه واسعوا عسى أن توفّقوا إلى عمل الخير، وأن تكونوا سببًا لغنى كلّ فقير، وعونًا لكل بائس وسرورًا لكل محزون، وسببًا لصحّة كلّ مريض، وسببًا لأمن كلّ خائف، وسيلة لكلّ من لا وسيلة له، وملجأ وملاذًا لكلّ غريب، ومنزلاً ومأوىً لكلّ من لا مأوى له ولا وطن.
تلك هي صفة البهائيّ. فإذا وفّقنا إليها فنحن بهائيّون وإذا لم نوفّق إليها –لا قدر الله- فلسنا بهائيّين.

محبّة اللّه

في يوم الأربعاء الموافق 8 تشرين الثّاني 1911 أيضًا
ألقى حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية في منزله المبارك:
هو الله

يحيا الإنسان والحيوان والنّبات جميعًا –بل والجماد- بالماء. ولقد ثبت أنّ الجماد يحيا بالماء الشّفّاف المتجمّد. فمن الاكتشافات الحديثة أنّ للجماد حياة أيضًا، وأنّ حياته بالماء المتجمّد الشّفّاف.
إذن فالماء هو سبب الحياة. ولهذا يقول السّيّد المسيح إنّه لا بدّ من التّعميد بالماء والرّوح، أي بذلك الشّيء الّذي هو سبب الحياة الأبديّة. وهذ الماء هو عين النّار أي محبّة الله. فمحبّة الله –لأنّها تحرق الحجب والأستار- يقال لها النّار، ولأنّها سبب الحياة يقال لها الماء. والواقع أنّ محبّة الله هي حقيقة فضائل العالم الإنسانيّ بها تتطهّر طينة البشر، وبمحبّة الله ينجو الإنسان من نقائص العالم الإنسانيّ. وبمحبّة الله أيضًا يرتقي في عالم الفضائل، فتصبح هي سببًا لنورانيّة العالم، ولوحدة جميع البشر. إنَّ محبّة الله دواء لكلّ داء، ومرهم لكلّ جرح. ومحبّة الله سبب سعادة عالم البشر. وبها يفوز الإنسان بالحياة الأبديّة والسّعادة السّرمديّة.
فيجب علينا إذن أن نحصر سعينا وجهدنا في أن نكون تجسيدًا لمحبّة الله. ذلك لأنَّ محبّة الله هي حقيقة جميع الأديان. وهي أساس تعاليم عالم الإنسان.
فبمحبّة الله حطّم إبراهيم الأصنام. وبمحبّة الله فاز إﺴﺤﻕ بالبركة. وبمحبّة الله أصبح يعقوب إسرائيل. وبمحبّة الله أصبح يوسف عزيز مصر. وبمحبّة الله نجّى موسى بني إسرائيل. وبمحبّة الله وهب السّيّد المسيح الحياة الأبديّة. وبمحبّة الله رفع محمّد العرب من أسفل دركات الجهل إلى أعلى درجات العلم. وبمحبّة الله ضحّى حضرة الباب بنفسه وبشّر بظهور حضرة بهاء الله وعرَّض صدره لألف رصاصة. وبمحبّة الله أشرق حضرة بهاء الله على الشّرق والغرب.
فيجب عليكم إذن أن تحصروا فكركم وذكركم وتقضوا كلّ وقتكم في أمر واحد، ألا وهو أن تصبحوا مظاهر محبّة الله.

في مجمع الرّوحانيّين

في يوم الخميس الموافق 9 تشرين الثّاني سنة 1911 دعي
حضرة عبد البهاء إلى مجمع الرّوحانيّين بقاعة سان جرمان
21 شارع ريو كلمبيد في باريس وقد أثنى رئيس المجلس
على البهائيّين ثناءً عاطرًا فألقى حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية:
هو الله

إنّني ممتنّ من أقوال الرّئيس ومشاعره القلبيّة غاية الامتنان. وأشكر الله إنّني حضرت في مثل هذا المجمع الرّوحانيّ في باريس.
فلو نظرنا الآن إلى جوّ هذا المجلس بمنظار الحقيقة لوجدناه مملوءًا بالرّوح ولوجدنا الفيوضات السّماويّة شاملة له محيطة به، ولشاهدنا تأييدات الرّوح القدس. فالحمد لله على أنّ هذه القلوب فيّاضة بالإحساسات الرّوحانيّة، تتردّد فيها اهتزازات الرّوح. فالرّوح بمنزلة المحيط وهذا المجمع بمنزلة الأمواج. وبالرّغم من أنّ الأمواج متعدّدة إلا أنّها منبعثة من محيط واحد. وبالرّغم من أنّها في ظاهرها مختلفة الصّور والأشكال إلاّ أن وحدة الرّوح تتجلّى فيها. لقد أتى جميع الأنبياء وجميع المظاهر الإلهيّة المقدّسة لتربية البشر كي تتجلّى وحدة العالم الإنسانيّ وتبرز، فلا يبقى للأمواج أيّ أثر، وإنما الشّأن يكون شأن المحيط. ذلك لأنّ الرّوح كالمحيط والأجسام كالأمواج.

ولقد ورد في الإنجيل –كما ذكر رئيس المجمع- أنّ أورشليم تنزل من السّماء. ولا شكّ أنّ أورشليم السّماويّة هذه ليست حجرًا وجصًّا وطينًا بل هي التّعاليم الإلهيّة الّتي تتجلّى بين البشر بقوّة الرّوح. ولمّا كانت قد انقضت مدّة طويلة نسيت فيها التّعاليم الإلهيّة ولم يعد هناك أيّ أثر لنورانيّة أورشليم السّماويّة لذلك ظهر بهاء الله من الشّرق، وأورشليم السّماويّة الّتي هي التّعاليم الإلهيّة تجلّت في إيران وسائر الأقطار.
ومن المعلوم أنّ أورشليم السّماويّة هي التّعاليم السّماويّة النّازلة من السّماء وبالرّغم من أنّ أورشليم هذه انهدمت من أساسها فقد تأسّست مرّة أخرى. وقد تغلّبت القوى الجسمانيّة والقوى المادّيّة في الغرب بينما الغلبة في الشّرق للقوى الرّوحانيّة. والحمد لله فإنّني أرى في باريس جمعًا محترمًا يعيش بنفحات الرّوح. فالإنسان لا يكون إنسانًا بجسمه، إنّما الإنسان إنسان بروحه، ذلك لأنّ الجسمانيات يشترك فيها الإنسان مع الحيوان، أم الرّوح فيمتاز بها الإنسان على الحيوان. تأمّلوا كيف يضيء شعاع الشّمس الأرض كذلك تضيء الرّوح الأجسام. إنّها الرّوح الّتي تجعل الإنسان سماويًّا، هي الرّوح الّتي تجعله يستفيض من نفثات الرّوح القدس، هي الرّوح الّتي تكشف حقائق الأشياء، هي الرّوح الّتي أظهرت كلّ هذه الآثار، وهي الرّوح الّتي أسّست كلّ هذه العلوم، هي الرّوح الّتي وهبت الحياة الأبديّة، هي الرّوح الّتي توحّد الملل المختلفة. هي الرّوح الّتي تجمع الشّرق والغرب، هي الرّوح الّتي تجعل العالم الإنسانيّ عالمًا ربّانيًّا. ولهذا فالمستفيضون من قوّة الرّوح هم سبب حياة العالم. فالحمد لله على أنّكم مستفيضون من عالم الرّوح، ولا شكّ أنّكم مسرورن ومبتهجون من تعاليم بهاء الله الّذي هو مؤسّس الرّوحانيّات ذلك لأنّ تعاليم بهاء الله روحانيّة محضة.
وأوّل هذه التّعاليم تحرّي الحقيقة. وتحرّي الحقيقة سبب ظهور الرّوح. ذلك لأنّ الرّوح لا تحسّ بالقوّة المحسوسة. وإنّما تظهر وتتجلّى بالقوى الباطنيّة. وبالرّغم من أنّ جسم الإنسان محسوس إلاّ أنّ روحه مخفيّة وهي متحكّمة في الجسد. وللرّوح تصرّفان: أحدهما بواسطة الآلات والأدوات بمعنى أنّها ترى بالعين وتسمع بالأذن وتتكلّم باللّسان. وبالرّغم من أنّ هذه الآلات تعمل، إلا أنّ المحرّك هو الرّوح. وبالرّغم من أنّ هذه الأدوات تتعلّق بالجسد إلاّ أنّها تعمل بقوّة الرّوح. وأمّا التّصرّف الثّاني فيتمّ دون الآلات، ففي عالم الرّؤيا ترى الرّوح بلا عين، وتسمع بلا أذن، وتنطق بلا لسان، وتمشي بلا قدم. وجميع القوى الرّوحانيّة تظهر وتتجلّى في عالم الرّؤيا دون وساطة الجسم.
إذن صار معلومًا أنّ الرّوح لها تصرّفان، أحدهما بواسطة آلات الأجسام كالعين والأذن وغيرها، وثانيهما بدون الآلات. والدّليل على ذلك أن الجسم قد يكون في الغرب إلاّ أنّ الرّوح تكشف حالات الشّرق وتدير فيه الأمور وتسيّرها.
من ذلك يثبت ويتحقّق أنّ الرّوح عظيمة وأنّ الجسد إذا ما قيس بها فهو حقير. فالجسم بمثابة البلّور والرّوح النّور. ومهما بلغ البلّور من الصّفاء إلاّ أنّ ظهور جماله وتجلّيه لا يتحقّق إلاّ بالضّياء والنّور. والنّور ليس محتاجًا إلى البلّور لأنّه مشعّ ومضيء. إلاّ أنّ البلّور محتاج إلى النّور كي يضيء ويظهر جماله. وكذلك فالرّوح ليست محتاجة إلى الجسم، بل إنّ الجسم هو المحتاج إلى الرّوح. والرّوح لا تحيا بالجسم أمّا الجسم فلا يحيا إلا بالرّوح. لاحظوا كيف يتناقص الجسم في حين تبقى الرّوح على عظمتها وقوّتها. إذا بترت يد الإنسان مثلاً فإنّ الرّوح تظلّ على ما هي عليه من قدرة وسلطة. وإذا عميت عين الإنسان بالعمى فإنّ بصيرته تظلّ على ما هي عليه. أمّا إذا انقطعت فيوضات الرّوح عن الجسد فإنّ الجسد ينعدم على الفور.
ثبت إذن أنّ الإنسان بروحه لا بجسده، وهذه الرّوح فيض من الفيوضات الإلهيّة، وإشراق من إشراقات شمس الحقيقة. ولكنّ هذه الرّوح الإنسانيّة إذا ما تأيّدت بالرّوح القدس – ونفثات الرّوح القدس هي التّعاليم الإلهيّة- أصبحت روحًا حقيقيّة، وعندئذٍ تفوز بالحياة الأبديّة، وتظفر بالنّورانيّة السّماويّة. ويتنوّر العالم الإنسانيّ بالفضائل الرّحمانيّة.
فيجب علينا أن نجتهد في العمل بموجب تعاليم بهاء الله، وأن نسعى في أن نزداد روحانيّة يومًا بعد يوم، ونزداد نورانيّة ونزداد خدمة لوحدة العالم الإنسانيّ، وأن نجري المساواة بين البشر وننشر الرّحمة الإلهيّة ونقدّم محبّة الله إلى جميع من على الأرض حتّى تتجلّى القوّة الرّوحانيّة غاية التّجلّي ولا يعود هناك للأجسام شأن. وإنّما يكون الشّأن شأن الأرواح. عند ذاك يصير عالم البشر في حكم النّفس الواحدة، وتتجلّى وحدة العالم الإنسانيّ ولا يبقى نزاع ولا اختلاف. وتتأسّس أورشليم الإلهيّة على أساس متين. ويصبح جميع البشر من أهل الملكوت، ويفوزون بنصيب من الفيوضات الإلهيّة.
وبعد – فإنّي أشكر الله على أنّني حضرت مجمعكم، وإنّني أعبّر لكم عن امتناني لإحساساتكم الرّوحانيّة، وأدعو لكم أن تزداد هذه الإحساسات يومًا بعد يوم، وأن يزداد هذا الاتّحاد والاتّفاق حتّى يظهر ويتّضح ما أخبر به الأنبياء في الكتب. ذلك لأنّ هذا العصر عصر عظيم، وهذا القرن قرن ربّاني. وجميع ما ذكر في الكتب ظهرت آثاره. فما تفضّل به السّيّد المسيح بانت علاماته، فاليوم هو يوم الرّبّ الجليل. وسوف يتجلّى العدل الإلهيّ في نهاية الأمر، وهذا العصر هو عصر الصّلح والصّلاح، وهذا العصر هو عصر الاتّحاد والنّجاح، والمأمول في هذا العصر أن يصبح العالم النّاسوتي انعكاسًا للعالم اللاّهوتيّ، هذا هو أملنا. والحمد لله إنّنا في هذا الأمل متّفقون. نسأل الله أن يحيا الجميع بنفثات الرّوح القدس، وأن نتّفق، وتمتلئ قلوبنا من محبّة الله، وتشتغل ألسنتنا بذكر الله، وتصبح أعمالنا أعمال الرّوحانيّين، وإحساساتنا إحساسات الملكوتيّين حتّى يلوح ويسطع النّور الإنسانيّ الّذي هو المثال الإلهيّ.
اللّهم يا رؤوف يا كريم يا رحيم. نوّر هذا الجمع بشمع المحبّة. وأحيي هذه النّفوس بنفثات الرّوح القدس. وهب لهم أنوار السّماء. وابذل لهم الموهبة الكبرى، وابعث لهم بالتّأييدات الغيبيّة، ويسّر لهم المكاشفات الرّوحانيّة. نوّر الأبصار بنور الهدى، واشرح الصّدور بالفيوضات اللاّنهائيّة. وبشّر الأرواح الكبرى وتوّج النّفوس بالموهبة العظمى. أيربِّ نحن فقراء فيسّر لنا كنز الملكوت. وأَذلاّء فأعزّنا في ملكوتك، مشرّدون فآوِنا في ملجئك وملاذك. جاهدون فاهدنا بألطافك الّتي لا تتناهى. ساكتون فهب لنا النّطق الفصيح. عاجزون فأحسن إلينا بالقدرة الملكوتيّة، اللّهم يا غفّار اغفر لنا خطايانا، وهب لنا العطاء، وكفّر عنا سيّئاتنا. وعلّمنا من الآداب الرّحمانيّة. إنّك أنت المعطي الباذل الرّحيم.

تحرّي الحقيقة

في يوم الجمعة الموافق 10 تشرين الثّاني 1911 ألقى
حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية في منزله المبارك:
هو الله

بالأمس ذهبنا إلى جمعية الرّوحانيّين ولمّا كانوا روحانيّين فقد تحدّثنا عن الرّوح وخلودها وعن فناء الجسد. وأثبتنا بالبراهين القاطعة أنّ بقاء الجسد مشروط بفيض الرّوح القدس. فإذا انفكّ هذا الفيض عن الجسد انعدم الجسد. وبقاء الرّوح ليس مشروطًا ببقاء الجسد. ذلك لأنّنا نلاحظ أنّ اليد إذا قطعت من جسم الإنسان لم تنقص الرّوح وأنّ عين الإنسان إذا أصيبت بالعمى لم تنقص روح الإنسان. وإذا نام جسم الإنسان فإنّ روحه تظلّ يقظة. وفي أثناء النّوم تُصاب جميع أعضاء الإنسان الجسمانيّة بالخلل، فالعين لا ترى والأذن لا تسمع واليدان والقدمان لا تتحرّك. ولكنّ الرّوح تستمرّ في عملها. فهي في عالم الرّؤيا ترى وتسمع وتطير. إذن فالرّوح ليست محتاجة إلى الجسم، وإن كان الجسم محتاجًا إلى الرّوح. ولهذا فالرّوح خالدة لا تعتريها العوارض ولا الخلل ولا الفتور.
كتب أحدهم في إحدى الصحف قائلاً: كنّا نتوقع أن يحدّثنا فلان عن أساس دعوة بهاء الله إلا أنّه تحدّث عن الرّوح. ولهذا فإنّنا لم نستفد، كما يليق وينبغي. وحدث أنّني ذكرت أساس دين حضرة بهاء الله في جمعيّة أخرى، وفصّلت فيه القول فلم أجد ضرورة للتّكرار. ولا يليق بي أن أكرّر بيانًا واحدًا في كلّ المجالس. فمن العجز أن يقتصر الإنسان على مسألة واحدة يبيّنها في كلّ مجلس يخطب فيه. ولهذا فإنّي اتّحدث في كلّ مجلس بحديث مختلف، ولا أكرّر أيّ حديث أو بيان، لأنّ الفائدة تتحقّق في أن اتحدّث في كلّ مجلس بحديث مخصوص، والإنسان العاقل لا يقدّم للناس طعامًا واحدًا في جميع الأوقات. بل لا بدّ له من أن يقدّم في كلّ يوم طعامًا جديدًا، ولو أنّه قدّم طعامًا واحدًا لحصل الملل، ولعاف النّاس الطّعام وزهدوا فيه. إذن فلا بدّ من أن يقدّم في كلّ يوم فاكهة جديدة. والطّبيب يصف في كلّ يوم دواء جديدًا، ولا يليق به أن يصف دواءً واحدًا في كلّ حين، والأمر الّذي أحبّ أن أوضّحه هو أنّني عملاً بهذه الحكمة لم اتّحدث بالأمس عن مبادئ حضرة بهاء الله، ولهذا رأيت من الضّروري أن أبيّن لكم في كلّ يوم مبدأ من مبادئ حضرة بهاء الله لكي تدركوها حق الإدراك (أرجو أن تترجم لي أيّ سؤال يسأله أحد الحاضرين حتّى يكونوا جميعًا على علم كامل بمبادئ حضرة بهاء الله).
أوّل مبدأ من مبادئ حضرة بهاء الله تحرّي الحقيقة، ومعنى ذلك أنّه ينبغي أن ينزّه النّاس نفوسهم ويقدّسوها عن تلك التّقاليد الّتي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، فللموسويّين تقاليدهم، وللزرادشتيّين تقاليدهم، وللمسيحيّين تقاليدهم وللبوذيّين تقاليدهم، ولكل ملّة تقاليدها، وكل ملّة تحسب أنّ تقاليدها هي الحقّ وأنّ تقاليد الآخرين باطلة، فالموسويّون مثلاً يتصوّرون أنّ تقاليدهم هي الحقّ وتقاليد الآخرين باطلة، ونحن نريد أن نعرف أيّها هو الصّحيح، والواقع أنّ جميع التّقاليد ليست صحيحة، فلو أنّنا تمسكنا بتقليد معيّن لمنعنا ذلك عن التّدقيق في تحرّي تقاليد الآخرين، فاليهوديّ المؤمن والمتمسّك بتقاليد الموسويّين لا يمكنه قطّ أن يدرك أنّ الآخرين على حقّ، إذن فلا بدّ من التّخلي عن التّقاليد، ولا بدّ من تحرّي الحقيقة عسى أن يكون الحقّ مع الآخرين. وعلى ذلك فإنّه ما لم نترك ونهجر التّقاليد فإنّ الحقيقة لا تبدو ولا تتجلّى. فعبدة الأوثان مثلاً يقولون إنّ الأوثان حقّ، وما لم يتركوا هذه التّقاليد فلن يتمكّنوا من أن يفوزوا بالهداية ولن يدركوا وحدانيّة الله وعند تحرّي الحقيقة يتوجّب على الإنسان أن يتخلّى عن التّقاليد، فعلى جميع الملل إذًا أن تهجر التّقاليد، ثمّ تتحرّى الحقيقة. وبهذا لا بدّ أن تظهر الحقيقة.
ولو افترضنا أنّ هناك خمسة أشخاص، وأنّ كلّ واحد من هؤلاء الخمسة يدّعي أنّه أعلم من الآخر فلا بدّ من وضعهم موضع الامتحان. وما لم نترك التّعصّب فكيف نستطيع أن نظهر الحقيقة؟ فالمجوسيّ يقول أنا على حقّ، واليهوديّ يقول أنا على حقّ، والمسيحيّ يقول أنا على حقّ، والبوذيّ يقول أنا على حقّ. فكيف يمكن أن يظهر الحقّ؟ إذن لا بدّ أن يترك الموسويّ التّعصّب، ويترك المسيحيّ التّعصّب، ويترك البوذيّ التّعصّب، وما لم يتمّ هذا فلا يمكن للحقّ أن يظهر.
إنّ غاية طالب العلم العاقل الكامل هي تحصيل العلم بغض النّظر عن الّذي بينه له، والنّور محبوبه في أيّ زجاج أضاء، والورد مطلوبه في أيّة أرض نبت، والنّيِّر الأعظم يهب الفيض الإلهيّ من أيّ مشرق طلع. ولا يجوز أن يتعصّب، بل ينبغي أن يكون عاشقًا للشّمس سواء طلعت من المشرق الموسوي أم المحمّدي أم العيسوي. فالشّمس هي الشّمس.
وعلى هذا فالحقيقة يجب أن تكون هدف الإنسان بغض الطّرف عمّن سمعها منه. هذه هي مسألة تحرّي الحقيقة.
فما هي نتيجة هذا البحث؟
نتيجته أنّ على جميع ملل العالم أن تتخلّى عن كلّ ما سمعت من قبل، وألاّ تتمسّك بملّة ما أو تنفر من غيرها من الملل. فلعلّ الملّة الّتي نفرت منها على حقّ، ولعلّ تلك الّتي تمسّكت بها على باطل، فإذا ما تخلّت عمّا سمعت ولم تتمسّك بملّة معيّنة ولم تنفر من غيرها عندئذ يبدأ تحرّي الحقيقة وسوف تلاحظ في النّهاية أنّ حقيقة الأديان الإلهيّة واحدة، وأنّ الاختلاف منحصر في التّقاليد، وهكذا يكون تحرّي الحقيقة سببًا في اتّفاق جميع البشر.
هذا مبدأ من مبادئ حضرة بهاء الله. وغدًا نحدثكم عن مبادئ دينه واحدًا بعد الآخر حتّى يمكنكم الوقوف عليها جيّدًا. ففكّروا وتعمّقوا في هذا المبدأ كي أحدّثكم غدًا عن مبدأ آخر.

رقي الرّوح وبقاؤها

في مساء يوم الجمعة الموافق 10 تشرين الثّاني 1911 ألقى حضرة
عبد البهاء هذه الخطبة أيضًا في منزل مسيو دريفوس في باريس

هو الله
لا بدّ لي من أن أحدّثكم اللّيلة عن رقيّ الرّوح وخلودها.

كلّ موجود لا بدّ له من أن يكون إمّا في حالة ارتقاء أو في حالة تدنّي. فليس هناك في الكائنات توقّف. ذلك لأنّ جميع الكائنات لها حركة جوهريّة. فهي إمّا أن تنتقل من العدم إلى الوجود، أو من الوجود إلى العدم.
والإنسان في ارتقاء منذ بداية وجوده، ويظلّ كذلك إلى أن يبلغ درجة يتوقّف عندها. ثمّ يأتي التّدنّي بعد التّوقّف. وهذا الشّجر منذ بداية وجوده في نشوء ونمو حتّى يبلغ غاية النّمو، ثمّ لا بدّ له أن يتدنى بعد الرّقي. والطّائر مثلاً يظلّ يصعد في طيرانه إلى أن يبلغ أوج التّرقّي. فإذا ما توقّف بدأ يتدنّى.
إذن أصبح من المعلوم أنّ جميع الكائنات لها حركة جوهريّة. وكذلك الحال في عالم الأرواح. فإذا لم يتحقّق للرّوح الرّقيّ فهو توقّف. ولكنّ التّوقّف ممتنع. لأنّ الحركة من لوازم الوجود الذّاتيّة الّتي لا انفكاك لها. وهي تكون إمّا ذاتيّة أو كيفيّة أو كمّيّة أو روحيّة أو جوهريّة. ومن الواضح أنّ الرّوح لا توقّف لها ولا تدنّي. ولما لم يكن للرّوح تدنٍّ فلا بدّ لها من التّرقّي. وبالرّغم من أنّ المراتب محدودة إلاّ أنّ الفيوضات الرّبانيّة غير محدودة والكمالات الإلهيّة غير متناهية. ولهذا فالرّوح في رقيّ دائم لأنّ اكتسابها للفيض مستمرّ.
لاحظوا كيف أنّ روح الإنسان وعقله في رقيّ منذ بداية حياته، وكيف أنّ علمه في ازدياد. ولهذا فمعلوماته لا تتناقص بل تتزايد. وكذلك حال الرّوح الإنسانيّة بعد انقطاعها عن هذا الجسد. فهي تظلّ في رقيّ دائم، لأنّ الكمالات غير متناهية. وهذا هو السّرّ في أنّ الأديان الإلهيّة تأمر بالخيرات والمبرّات من أجل الأموات. ذلك لأنّ الخيرات والمبرّات سبب في علوّ الدّرجات والعفو والمغفرة. فلو كان رقيّ الرّوح بعد الوفاة مستحيلاً لكانت أمثال هذه الأمور عبثًا، فلماذا إذن ندعو، ونبذل الخيرات والمبرّات، ولماذا نطلب علوّ الدّرجات؟
لقد نصّت جميع الكتب الإلهيّة على وجوب بذل الخيرات والمبرّات للأموات وحثّتنا على أن ندعو ونصلّي ونبتهل طالبين المغفرة. وهذا برهان كافٍ على أنّ رقيّ الرّوح ممكن بعد صعودها. وإذا كانت المراتب محدودة متناهية إلاّ أنّ الكمالات غير متناهية. وفي عالم النّاسوت يحدث التّزايد والتّناقص، وليس كذلك في الملكوت. فليس في عالم الأرواح تناقص ولا تدنٍّ. مثلها في ذلك مثل عقل الإنسان وعلمه، فهما دائمًا في ازدياد.
وإنّني لآمل من فضل الحقّ أن تكونوا في رقيّ دائم سواء في عالم النّاسوت أو عالم اللاّهوت، وأن تكون روحكم في انشراح في هذا العالم وفي العالم الآخر، وأن يكون عقلكم وفكركم وإدراككم في تزايد، وأن ترتقوا في جميع مراتب الوجود، وألاّ يكون التّوقّف من نصيبكم ذلك لأنّه لا يعقب التّوقّف إلا التّدنّي.
وفضلا ًعن ذلك إذا نظرنا إلى سائر الكائنات اتّضح لنا أنّها ناتجة عن تركيب العناصر المختلفة. وهذا التّركيب يتبدّل بالتّحليل. فجسم الإنسان مثلاً مركّب من عناصر متعدّدة. إلاّ أنّ هذا التّركيب ليس باقيًا إذ لا بدّ له من أن يتحلّل. فإذا تطرّق إليه التّحليل كان معنى ذلك انعدام ذلك الجسم. وبما أنّ لكلّ تركيب تحليل، إذن فلا بدّ لهذا التّركيب من العناصر المتعدّدة المختلفة من أن يرتدّ إلى التّحليل. أمّا الرّوح الإنسانيّة فليست مركّبة وليست مكوّنة من عناصر مختلفة بل إنّها مجرّدة من العناصر ومنزّهة عن عناصر الطّبيعة. ولمّا كانت غير مركّبة من العناصر فهي حيّة وباقية في النّشأة الأبديّة.
وإنّه لمن الثّابت في الفلسفة الطّبيعيّة أنّ العنصر البسيط لا ينعدم، لأنّه ليس مركّبًا من العناصر بل هو مجرّد عنها ومنزّه عن الطّبائع. ولمّا لم يكن مركّبًا من العناصر فهو إذًا لا يتحلّل. أمّا الكائنات المركّبة من العناصر فعرضة للانعدام. وهو يقولون مثلاً إنّ الذّهب لا ينعدم لأنّه بسيط وليس مركّبًا، ولمّا كان عنصرًا واحدًا وليس مركّبًا فإنّه لا يتحلّل ولا ينعدم. إلاّ أنّ أهل الحقيقة متّفقون على أنّ كافّة الموجودات المادّيّة لو دقّقت وحقّقت لتبيّن أنّها مركّبة حتّى ولو أفتى فلاسفة الزّمان بأنّها بسيطة.
ولمّا كانت الرّوح الإنسانيّة غير مركّبة من العناصر المتعدّدة وليست داخلة في نطاق المركّبات فإنّها لا تنعدم ولا تتحلّل. وكذلك إذا نظرنا في الآثار المترتّبة على الوجود: فالشّيء الموجود له أثر، وأمّا المعدوم فلا أثر له على الإطلاق. واستنادًا إلى هذا المبدأ لاحظوا النّفوس المقدّسة وكيف أنّ آثارها ما زالت باقية في جميع العوالم. وكيف أنّ تأثيرها في عالم العقول والنّفوس ما زال باقيًا وثابتًا. ومن أمثلة ذلك آثار السّيّد المسيح. فهي ما زالت ظاهرة وباهرة ممّا يدل على أنّ روح المسيح موجودة وتترتّب على وجودها هذه الآثار. إذ لا يمكن أن يترتّب على المعدوم أيّ أثر. إذن فالرّوح الّتي لها كلّ هذه التّأثيرات موجودة فعلاً ولا يمكن أن تكون معدومة. وجميع الكتب السّماويّة تنطق بهذا.
تأمّلوا في الكائنات الموجودة تجدوا أنّ الجماد ينتهي بالنّبات والنّبات ينتهي بالحيوان، والحيوان ينتهي بالإنسان، والإنسان أيضًا له حياة عنصريّة قصيرة الأمد. فلو كان الإنسان يحيا هذه الأيّام القصيرة ثمّ يموت وينتهي لكان هذا العالم عبثًا باطلاً
أكرّر هذه النّقطة مرّة أخرى حتّى تلتفتوا إليها جيدًا:
جميع الكائنات اللاّمتناهية صادرة عن الجماد. والنّبات أخصّ من الجماد، والحيوان أخصّ من النّبات، والإنسان أخصّ من الحيوان. فالكائنات إذن تنتهي بالإنسان. والإنسان أشرف الكائنات. فلو كان هذا الإنسان هو الآخر يحيا في هذا العالم حياته القصيرة هذه في منتهى التّعب والمشقّة ثمّ يمضي وينعدم لكان عالم الوجود هذا محض أوهام وسراب لا نهاية لهما. فهل من الممكن أو المعقول أن يكون هذا الكون اللاّمتناهي على هذا النّحو من العبث وعدم الجدوى؟ لا والله! إنّ كلّ طفل يدرك أن لهذا العالم اللاّمتناهي حكمة، وأنّ لهذه الكائنات العظيمة سرًّا وثمرًا، وأنّ لمصنع القدر هذا فائدة ومنفعة، وأنّ لهذه المبادئ نتيجة. وإلاّ فهي خسران في خسران. إذًا تبيّن أنّ بعد الحياة النّاسوتيّة حياة ملكوتيّة وأنّ روح الإنسان باقية والفيوضات الإلهيّة غير متناهية.
أمّا المادّيّون فيسألون أين هذه الرّوح؟ فنحن لا نرى شيئًا ولا نرى روحًا ولا نسمع صوتًا ولا نشمّ رائحة. إذن فالرّوح لا وجود لها. بل إنّها معدومة. هكذا يقول المادّيّون أمّا نحن فنقول: إنّ هذا الجماد دخل إلى عالم النّبات فنشأ ونما وفاز بالقوّة النّامية وارتقى ودخل في عالم آخر وأصبح شجرة. وإنّ جهل عالم الجماد بذلك لا يقوم دليلاً على أنّ عالم النّبات غير موجود، إذ لا يمكن الحكم على انعدام عالم النّبات بأنّ الجماد لا يحسّ به، أو بأنّه ليس لديه استعداد لإدراك عالم النّبات.
وهذا النّبات يدخل العالم الحيواني ويرتقي. غير أنّ الأشجار لا تحسّ بذلك. لأنّ النّبات لا علم له بعالم الحيوان. وكأنّما لسان حاله يقول: أين عالم الحيوان فأنا لا أحسّ به. في حين أنّ عالم الحيوان موجود فعلاً.
وكذلك فإنّ الحيوان لا علم له بعالم عقل الإنسان، وقد يقول وهو في عالمه الخاصّ، أين العقل؟ أين روح الإنسان؟ ولا يقوم قوله هذا دليلاً على أنّ روح الإنسان لا وجود لها.
إذن فالمرتبة الأدنى لا تدرك المرتبة الأعلى منها. مثل ذلك مثل هذا الورد الّذي ليس لديه إدراك بعالمنا، ولا يعرف أنّ هناك عالمًا إنسانيًّا أيضًا. وقد يقول في رتبته الخاصّة: أين العالم الإنسانيّ فإنّني لا أرى ذلك العالم. ولا يمكن أن يتّخذ ذلك دليلاً على عدم وجود الإنسان.
فإذا كان المادّيّون غير مدركين للوجود الملكوتيّ فإنّ عدم إدراكهم له لا يقوم دليلاً على انعدام الوجود الملكوتيّ. بل إنّ الوجود النّاسوتيّ في حدّ ذاته دليل على الوجود الملكوتيّ. ذلك لأنّ الفناء في حدّ ذاته دليل على البقاء. فلو لم يكن هناك بقاء لما كان هناك فناء. والظّلمة في حدّ ذاتها دليل على النّور، والفقر في حدّ ذاته دليل على الغنى. فلو لم يكن هناك فقر لما كان هناك غنى. والجهل في حدّ ذاته دليل على العلم. ولو لم يكن هناك علم لما كان هناك جهل. ذلك لأنّ الجهل هو فقدان العلم، والفقر هو فقدان الغنى، والظّلمة هي انعدام النّور، والعجز هو عدم القدرة، والضّعف هو عدم الاستطاعة.
وهكذا فالفناء نفسه دليل على البقاء. ولو لم يكن الفناء لما كان البقاء، ولو لم يكن الغنى لما كان الفقر. ولو لم يكن العلم لما كان الجهل. ولو كان جميع النّاس فقراء لما كان هناك فقر. وإنّما يُظهر الفقر الغنى. إذن فالفناء نفسه دليل على البقاء.
وإذا لم يكن الرّوح بقاء فلماذا تحمّل أنبياء الله ومظاهره المقدّسة ما تحمّلوا من عناء ومشقّة؟ وفيمَ قبل السّيّد المسيح هذه الصّدمات والبلايا على نفسه؟ لماذا تحمّل سيّدنا محمّد كلّ هذه المصائب؟ وكيف ارتضى حضرة الباب الرّصاص يطلق على صدره المبارك؟ ولأيّ شيء تقبّل الجمال المبارك على نفسه كلّ هذا الزّجر والبلاء والحبس والعذاب؟ فما الدّاعي إلى تحمّل كلّ هذه المشقّات طالما أنّ الرّوح لا بقاء لها؟! أمّا كان من الأفضل إذن للسّيّد المسيح أن يقضي أيّامه في فرح وسرور؟ لأنّ الرّوح باقية تقبّل السّيّد المسيح كلّ هذه الآلام والمحن.
ولو كان للإنسان أدنى مستوى من إدراك فإنّه لفكّر وقال لنفسه إنّ هذا العالم عالم وجود لا عالم عدم. وإنّ الكائنات ترتقي على الدّوام من رتبة أدنى إلى رتبة أعلى من رتبتها. فكيف إذًا يتوقّف التّرقّي؟ ومع ذلك نرى من يقول بأنّ الرّقيّ من لوازم الوجود يقول أيضًا بانقطاع هذا الرّقي!! ذلك لأنّه لا علم له بشيء على الإطلاق مثله مثل الجماد الّذي يقول إنّ عالم الإنسان لا عين له ولا أذن ولا شمّ يتذوّق به رائحة هذا الورد. والسّرّ في ذلك أنّ في عالم الجماد لا يحتوي وجود غير الوجود الجماديّ. وهذا من نقص الجماد ولا يقوم دليلاً على أنّه ليس هناك وجود غير الوجود الجماديّ.
فعن الجهل يتساءل هؤلاء المادّيّون: أين عالم الأرواح؟ أين الحياة الأبديّة؟ أين الألطاف الإلهيّة الخفية؟ إننا لا نرى من ذلك شيئًا. فمثل هؤلاء مثل الجماد إذ يقول أين الكمالات الإنسانيّة؟ أين العين؟ أين الأذن؟ وهذا من نقص الجماد.
إنّني لآمل أن تزداد إحساساتكم الرّوحانيّة يومًا بعد يوم إن شاء الله. واعلموا علم اليقين أنّ هذه الحواس الجسمانيّة ليس لديها الاستعداد لكي تدرك العوالم الرّوحانيّة. غير أنّ قوّة الإدراك تعقل هذه العوالم، والعقل الكلّيّ الرّبانيّ يفهمها، والبصيرة الإنسانيّة تشاهدها، وأذن الرّوح تستمع إليها.
أمّا هؤلاء المادّيّون فهم الّذين أشار إليهم السّيّد المسيح بقوله: “لهم عيون ولكن لا يبصرون بها، ولهم آذان ولكن لا يسمعون بها، ولهم قلوب ولكن لا يدركون بها”. كما قال إشعياء في الأصحاح السّادس: “أنتم تسمعون ولكنّكم لا تفقهون وأنتم تبصرون ولكنّكم لا تدركون”. ويقول الله تعالى في القرآن: “صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون”.
وكيف يتسنّى للعين العمياء أن تشاهد الشّمس، أو للأذن الصمّاء أن تستمع إلى اللّحن الجميل؟! مصداقًا لقول سنائي الحكيم:

موقع الرّمز والسّرّ الإلهيّ عند الجاهلين

كعزف العود عند الأصمّ والمرآة عند الأعمى([1])

[1](1)      ترجمة تقريبيّة لهذا البيت الفارسيّ:

وحدة الإنسانيّة

في يوم السّبت الموافق 11 تشرين الثّاني 1911 ألقى حضرة
عبد البهاء الخطبة التّالية في منزله المبارك في باريس:

هو الله


بالأمس ذكرنا أوّل ما يجب على الإنسان فعله هو تحرّي الحقيقة. وفي سبيل هذا الأمر يتوجّب على الإنسان أن ينسى ما سمعه وما ورثه من الآباء والأجداد، أو اقتبسه من الأفكار، وأن يساوي بين أديان الأرض ولا ينحاز إلى دين معيّن ولا ينفر من غيره كي يتمكّن من أن يميّز الدّين الّذي مقرون بالحقيقة. فإذا تحرّى الحقيقة على هذا النّحو فلا بدّ أن يدركها في النّهاية.
والأساس الإلهيّ الثّاني هو الوحدة الإنسانيّة، بمعنى أنّ جميع البشر هم عباد الله الأكبر، وأنّ الله خالق الكلّ ورازق الكلّ ومحيي الكلّ، كما أنّه رؤوف بالكلّ. وجميع النّاس يكوّنون الجنس البشريّ. فالتّاج الإنسانيّ زينة لكلّ رأس وخلعة الموهبة الإلهيّة جمال لكلّ هندام والكلّ عباد الله. وهو بهم جميعًا رؤوف رحيم، وعنايته تشمل الكلّ. لا يفرّق بين مؤمن وكافر، بل يرحم الكلّ ويرزقهم. هذه هي الصّفة الرّحمانيّة الإلهيّة. لهذا لا يمكننا أن نفضّل إنسانًا على آخر لأنّ الخاتمة مجهولة. وكلّ ما في الأمر أنّ بعض النّاس ما زالوا كالأطفال لم يصلوا إلى مرحلة البلوغ. وهؤلاء يجب علينا أن نربّيهم حتّى يبلغوا أشدّهم أو أن بعضهم مرضى يجب علينا أن نعالجهم حتّى يظفروا بالشّفاء. أو أنّ بعضهم جاهل يجب تعليمهم حتّى يعلموا ويدركوا. ولا ينبغي أن نعتبر هؤلاء أشرارًا وننفر منهم بل يجب علينا أن نكون أشدّ رأفة بهم لأنّهم أطفال أو مرضى أو جهلاء.

دقّقوا النّظر في عالم الوجود تجدوا أنّ الألفة هي سبب الوجود وأنّ المحبّة هي سبب الحياة، وأنّ الانفصال سبب الممات.
دقّقوا النّظر في جميع الكائنات، فهذا الخشب مثلاً أو هذا الحجر تركّبا من العناصر، أيّ أنّ الذّرّات تآلفت وامتزجت حتّى برز هذا الخشب وهذا الحجر إلى حيّز الوجود، ولو لم تتحقّق هذه الألفة لكانا في العدم. فالعناصر أو الأجزاء الفرديّة تتم بينها الألفة وتتركّب وبذلك توجد الكائنات، فإذا اضطرب أمر هذه الألفة تحلّل التّركيب وتلاشى.
وكذلك تآلفت الذّرّات وامتزجت، وارتبطت واجتمعت لتحقّق ظهور الإنسان، وعندما يتطرّق إلى هذه العناصر التّحليل والتّفريق يتلاشى جسد الإنسان.
من هذا يتّضح أنّ الألفة والمحبّة سبب الحياة، وأنّ النّفور والاختلاف والفرقة سبب الممات. هذه هي الحال في جميع الكائنات.
فالجنس البشريّ إذن عباد الله، ويجب أن تتحقّق بينهم الألفة والمحبّة، وأن ينفروا من البغض والعداوة.
ولو لاحظتم الحيوانات الأليفة لوجدتم أنّها في غاية الألفة. أمّا الحيوانات الكاسرة كالذّئب والضبع والنّمر فتعيش منفردة منعزلة وفي غاية التّوحّش، وهكذا لا يعيش ذئبان ذكران في غار واحد، في حين يجتمع ألف رأس من الغنم في مكان واحد، ولا ينزل صقران في عشّ واحد، في حين تأوي ألف حمامة إلى وكر واحد. فالحيوانات الأليفة هي حيوانات مباركة، لأنّ الألفة والمحبّة دليل على البركة. في حين أنّ النّفور دليل على الهمجية.
وقصارى القول إنّ حضرة بهاء الله أعلن وحدة العالم الإنسانيّ كي يعيش البشر مع بعضهم البعض كما يعيش الأخ والأخت والأم والابن والابنة والأب معًا. وإنّني لآمل أن تضعوا تعاليم حضرة بهاء الله بشأن وحدة العالم الإنسانيّ موضع التّنفيذ. يقول حضرة بهاء الله: إذا كان لكم –لا قدّر الله- عدوّ فلا تعتبروه عدوًّا بل عدّوه صديقًا، وعاملوه كما تعاملون الصّديق. وهو يؤكّد على ذلك كي تتحقّق الألفة بين جميع البشر.

أيّدكم الله.

 

الدّين توأم العلم

في يوم الأحد الموافق 12 تشرين الثّاني 1911 ألقى
حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية في منزله المبارك: 

هو الله

بالأمس بيّنّا المبدأ الثّاني من مبادئ البهائيّة وهو وحدة العالم الإنسانيّ. أمّا المبدأ الثّالث فهو أنّ الدّين توأم العلم. فإذا وُجدت مسألة من مسائل الدّين لا تطابق العقل والعلم كانت هذه المسألة وهمًا. لأنّ الجهل ضدّ العلم. فإذا كان الدّين ضدّ العلم فهو الجهل. وإذا كانت هناك مسألة تخرج عن طور العقل الكلّيّ الإلهيّ فكيف نتوقّع أن يقنع بها الإنسان، إذ إنّه لو فعل ذلك لسمّينا ذلك اعتقاد العوام.
أمّا الأساس الّذي وضعه جميع الأنبياء فهو الحقيقة، وهي واحدة ومطابقة بأكملها للعلم. فوحدانيّة الله مثلاً، أليست مطابقة للعقل؟ والرّوحانيّة الإنسانيّة أليست مطابقة للعقل؟ والنّية الصّادقة والصّدق والأمانة والوفاء أليست مطابقة للعقل؟ والثّبات والاستقامة والأخلاق الحميدة أليست مطابقة للعقل؟ إذًا فجميع أحكام الشّريعة الإلهيّة مطابقة للعقل. وتفصيل ذلك أنّ الدّين منقسم إلى قسمين: أحدهما يتعلّق بالرّوحانيّات وهو الأصل. والقسم الثّاني يتعلّق بالجسمانيّات أي المعاملات.
أمّا القسم المتعلّق بالرّوحانيّات والإلهيّات فإنّه لم يتغيّر ولم يتبدّل، وبه بعث جميع الأنبياء الّذين أسّسوا فضائل العالم الإنسانيّ، بمعنى أنّ قبسًا من شمس الحقيقة سطع على عالم الأخلاق فأضاءها وهطل غمام العناية. ازدهرت حديقة الحقيقة وأينعت. وهذا أساس رسالة جميع الأنبياء وهو يتعلذق بعالم الأخلاق والمعرفة، وهو واحد لا يتغيّر، إذ الحقيقة لا تتعدّد ولا تقبل التّعدّد.
أمّا القسم الثّاني من الدّين الإلهيّ -وهو المتعلّق بالأجسام والأحكام فإنّه يتغيّر ويتبدّل بمقتضى الزّمان والمكان. ففي زمان موسى نصّت التّوراة على عشرة أحكام بالقتل. وكان ذلك بمقتضى ذلك الزّمان. أمّا في عهد المسيح فإنّ الزّمان لم يكن يقتضي ذلك. هذا هو سبب التّغيير الّذي حصل، فالقصاص في التّوراة مثلاً يقوم على أساس العين بالعين، ومعنى ذلك أنّه إذا كسر إنسان سنّ إنسان آخر كسرت سنّه. وإذا سرق إنسان قُطعت يده، فهل يمكن الآن القيام بهذا العمل؟ أو هل يمكن قتل مَنْ يكسر السّبت، أو قتل مَنْ يسبّ أباه؟ إنّ ذلك مستحيل اليوم وممتنع. ذلك لأنّ الزمان لا يقتضيه.
اتّضح إذن أنّ لشريعة الله وجهين، أحدهما روحانيّ يتعلّق بعالم الأخلاق والمعرفة وفضائل العالم الإنسانيّ، وهذا لا تغيير فيه ولا تبديل، فهو واحد دائمًا أبدًا، والثّاني لا يتعلّق بالأخلاق، وهذا يتغيّر حسب مقتضيات الزمان.
أمّا أساس دين الله فهو الأخلاق وإشراق نور المعرفة والفضائل الإنسانيّة. وكل ملّة ترتقي إذا تحسّنت أخلاقها، كما أنّ تهذيب الأخلاق مطابق للعقل، ولا خلاف في ذلك أبدًا.
لذلك إذا كان الدّين مخالفًا للعقل فهو أوهام، وهذه أيضًا مسألة من مسائل وتعاليم بهاء الله. فطابقوا إذن جميع عقائدكم على العلم حتّى يتّفق العلم والدّين. ذلك لأنّ الدّين هو أحد
جناحي الإنسان والعلم هو الجناح الآخر والإنسان يطير بجناحين ولا يستطيع أن يطير بجناح واحد.
أمّا جميع تقاليد الأديان فهي مخالفة للعقل والعلم ولحقيقة الأديان، ومن هذه التّقاليد نشأت المفاسد الّتي أصبحت سببًا للعداوة والبغضاء بين البشر، ولو طابق النّاس بين الدّين والعلم لظهرت الحقيقة، ولأصبح ظهور الحقيقة سببًا لإزالة الخلاف ولزال البغض الدّينيّ بل لاختلط جميع البشر مع بعضهم البعض بنهاية الألفة والمحبّة. فركّزوا أفكاركم إذن على تطبيق العلم على الدّين، وتطبيق الدّين على العلم.

 

ترك التّعصّب

في يوم الإثنين الموافق 13 تشرين الثّاني سنة 1911 ألقى
حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية في منزله المبارك في باريس:

هو الله 

من بين مبادئ بهاء الله ترك التّعصّب الوطنيّ والتّعصّب المذهبيّ والتّعصّب العنصريّ والتّعصّب السّياسيّ. ذلك لأنّ عالم البشر ابتلي بمرض التّعصّب. وهذا المرض مزمن وهو سبب الهلاك. إذ إنّ جميع الاختلافات والحروب والمنازعات وسفك الدّماء سببها هذا التّعصّب. وكلّ حرب تقع تكون ناتجة إمّا من التّعصّب الدّينيّ وإمّا من التّعصّب العنصريّ، أو من التّعصّب الوطنيّ أو من التّعصّب السّياسيّ، وطالما أنّ هذه التّعصّبات قائمة فلن يقرّ للعالم الإنسانيّ قرار.
لهذا يقول حضرة بهاء الله إنّ هذه التّعصّبات هادمة لبنيان العالم الإنسانيّ.
انظروا أوّلاً إلى أصحاب الأديان. فلو كان هؤلاء مؤمنين بالله حقًا، ومطيعين للتّعاليم الإلهيّة لما تعصّبوا لأنّ التّعاليم الإلهيّة تأمر بألاّ يكون هناك تعصّب قطّ. وهي تنصّ صراحة على وجوب معاملة البشر بعضهم البعض بالمحبّة، وعلى أنّ الإنسان يجب أن يرى القصور في نفسه لا في غيره، وأنّه لا ينبغي له أن يفضّل نفسه على غيره. ذلك لأنّ العاقبة الحسنة مجهولة له ولا يمكنه الوقوف عليها. وكم من إنسان بدأ بداية النّفس الزّكيّة ثمّ انصرف عن ذلك فيما بعد. ومن أمثال هؤلاء يهوذا الأسخريوطي الّذي كان طيّبًا في البداية، ثمّ انقلب خبيثًا في النّهاية. وكم من إنسان بدأ بداية سيّئة جدًّا ثمّ أصبح في النّهاية حسنًا جدًّا. ومن هؤلاء بولس الحواريّ الّذي كان في البداية عدوًّا للمسيح، ثمّ أصبح في النّهاية أعظم عبيد المسيح. فعاقبة الإنسان مجهولة إذن. فكيف يمكن –والحال هذه- أن يفضّل أحد نفسه على غيره، ولهذا ينبغي ألاّ يكون بين البشر أيّ تعصّب فلا يقولنّ أحد أنا مؤمن وفلان كافر ولا يقولنّ أنا مقرّب إلى الله وذاك مردود. فحسن الخاتمة مجهول.
ثانيًا: لا بدّ للمرء أن يسعى كي يعلّم الجاهلين، ويبلغ بالأطفال الجهلاء درجة الرّشد والبلوغ، ويحسّن أخلاق الشّرير ويهديه بكمال المحبّة ولا يعاديه.
ثالثًا: وأمّا التّعصّب العنصريّ فوهم محض. ذلك لأنّ الله خلقنا جميعًا بشرًا، ونحن جميعًا جنس واحد، ولا اختلاف بيننا من حيث الخلقة، وليس بيننا أي تمايز قوميّ. فكلّنا بشر وجميعنا من سلالة آدم. فكيف نختلف مع وجود وحدة البشر هذه، فنقول هذا ألمانيّ وذاك
إنجليزيّ وذلك فرنسيّ، وهذا روميّ وهذا تركيّ وهذا إيرانيّ، ألا إنّ هذا لوهم محض. أفمن أجل وهم من الأوهام يجوز النّزاع والجدال؟ وهل يمكن أن نجعل هذه التّفرّقة الّتي لم يصنعها الله أساسًا للعقيدة؟ إنّ جميع الأجناس، أبيضهم وأسودهم وأصفرهم وأحمرهم وجميع الملل والطّوائف والقبائل عند الله سواء، لا امتياز لأحد منهم على أحد اللّهم إلا الّذين يعملون بموجب التّعاليم الإلهيّة، والّذين هم صادقون رحماء محبّون للعالم ويمثلون رحمة الرّحمن. فهؤلاء ممتازون حقًّا سواء كانوا سودًا أم صفرًا أم بيضًا ، أم أيًّا كانوا وهم مقرّبون عند الله. هؤلاء هم مصابيح عالم البشر المضيئة وأشجار جنّة الأبهى المثمرة. ولهذا فالامتياز بين البشر قائم على أساس الأخلاق والفضائل والمحبّة والمعرفة وليس على أساس نسبته إلى الشّرق والغرب.
والرّابع هو التّعصّب السّياسيّ، إذ إنّ في العالم أشخاصًا يبتغون التّفرّد، ويحصر هؤلاء جهودهم في أن يرتقوا بمملكتهم ولو على حساب خراب سائر الممالك. ولهذا يلجأون إلى شتّى الوسائل لتحقيق غايتهم، فيحشدون الجيوش، ويخرّبون الممالك، ويسوقون الآلاف إلى موارد الهلاك حتّى يخلقوا لأنفسهم اسمًا وشهرة، ولأن يُقال هذا مدبّر وفاتح المملكة الفلانيّة. في حين أنّه كان السّبب في هلاك آلاف من البؤساء، وتفكّك آلاف من الأسر وتيتّم آلاف من الأطفال. ثمّ إنّ هذه الفتوحات لا تدوم، فلعلّ الغالب يصبح مغلوبًا في يوم من الأيّام، ولعلّ المغلوب يواتيه يوم يصبح فيه غالبًا. فارجعوا إلى التّاريخ، كم من مرّة غلبت فرنسا ألمانيا ثمّ عادت فغُلبت على يدها. وكم من مرّة غلب الإنجليز الفرنسيّين ثمّ عادت فرنسا فغلبتهم بعد مدّة. إذن فالظّفر لا يدوم، بل إنّه ينقلب على صاحبه، فلماذا يتعلّق به الإنسان طالما أنّه لا يبقى؟ طالما أنّه سبب لسفك الدّماء وهدم كيان الإنسان الّذي هو بنيان إلهيّ؟
إنّنا لنأمل في هذا العصر النّورانيّ ألاّ تدوم هذه التّعصّبات، وأن تضيء العالم نورانيّة المحبّة، وأن يحيط بالكون فيض ملكوت الله، وأن تشمل الجميع رحمة الرّحيم المنّان، وأن يظفر العالم الإنسانيّ بالانطلاق والتّحرّر من هذه القيود الأرضيّة، ويتّبع الخطط الإلهيّة. ذلك لأنّ خطط البشر ناقصة، أمّا السّياسة الإلهيّة فكاملة، دقّقوا النّظر تجدوا أنّ الله خلق جميع البشر، وهو رؤوف بهم جميعًا، يشملهم برعايته وعنايته. فنحن إذًا عبيد الله وينبغي للعبد أن يتابع مولاه بالرّوح والفؤاد.
فتضرّعوا وابتهلوا وتوجّهوا إلى الملكوت الإلهيّ كي تزول هذه الظّلمات وتتجلّى النّورانيّة الحقيقيّة.

 

المساواة بين الجنسين

في يوم الثّلاثاء الموافق 14 تشرين الثّاني 1911 ألقى حضرة

 عبد البهاء الخطبة التّالية في منزله المبارك في باريس:

هو الله

جميع الكائنات الموجودة على الأرض تتألف من ذكور وإناث، ولا فرق بين ذكورها وإناثها. فإذا نظرنا إلى عالم النّبات وجدنا ذكورًا وإناثًا، ووجدنا أنّ بينها مساواة، وأنّه لا امتياز لفريق على فريق بل إنّها جميعًا متساوية في جميع الكمالات النّباتيّة. وكذلك إذا نظرنا إلى عالم الحيوان فنجد ذكورًا وإناثًا لا تمايز بينها، ونرى أنّها متساوية في جميع المراتب ومتشاركة في جميع الوظائف الحيوانيّة. ولكن عندما ننظر إلى عالم الإنسان فإنّنا نرى تفاوتًا،
فنعجب لهذا التّفاوت، أهو خلقيّ أم بسبب التّربية، ونتساءل: هل جنس الذّكور ممتاز عن جنس الإناث والله خلقهما دون تفاوت؟ ولماذا وُجد هذا التّفاوت؟ لا ريب أنّه ناتج عن التّربية. فلو تربّت النّساء مثل تربية الرّجال لأصبحن مثل الرّجال، بل لفقنهم في الإحساسات والمشاعر. فقلوب النّساء أرقّ من قلوب الرّجال، ولكنّ النّساء تخلّفن لأنهن حتّى الآن لم يفزن بالتّربية، فيجب أن تتربّى النّساء كما يتربّى الرّجال، ولا شكّ أنّهن يصلن إلى درجة الرّجال.
ولما كانت المرأة عضوًا عاملاً في الهيئة الاجتماعيّة فإنّ الله لا يرضى بألاّ يصل هذا العضو المهمّ إلى منتهى الكمال، كما أنّ العدل أيضًا يقتضي أن يتساوى النّساء والرّجال، وأن يظفر الفريقان بتربية واحدة، ويقوم كلّ فريق بوظيفته على الوجه الأكمل.
إنّ الله لا يفرّق بين الرّجل والمرأة. بل إنّ أقربهما إليه من كان قلبه أشدّ استنارة ومن كان إيمانه به أعظم.
فيجب عليكنّ إذن أن تجتهدن –آناء اللّيل وأطراف النّهار- في اكتساب الكمال، حتّى تساوين الرّجال في فضائل العالم الإنسانيّ، وحتّى تبلغن من الرّقيّ في جميع شؤون العالم الإنسانيّ ما يجعل الرّجال يشهدون بأنكنّ مساويات لهم. إّن النّساء في أوروبّا قد بلغن درجة عالية من الرّقي إلاّ أنهنّ لم يبلغن بعد درجة الرّجال. وإنّني لآمل أن يبلغنها، عند ذاك يكمل العالم الإنسانيّ. لذلك لا بدّ من بذل الهمّة الكبيرة، والسّعي من أجل تحصيل العلوم، والاجتهاد في إدراك حقائق الأشياء، كما ينبغي عليكنّ أن تبذلن أقصى الجهد في سبيل اكتساب فضائل العالم الإنسانيّ، وأن تعلمن أن الفضل الإلهيّ شامل لَكُنَّ ومحيط بكنّ.
وعندما ترتقي النّساء إلى الدّرجة الّتي تجعل الرّجال يعترفون بأنّ النّساء مساويات لهم ينتهي الجدال ويبطل النّزاع كما أنّ أطفال المدرسة إن اجتهدوا وحصّلوا العلوم وبلغوا منتهى درجة الكمال فبعد ذلك يشهد كلّ إنسان بأنّهم كاملون. وأعمالهم في حدّ ذاتها تشهد بكمالهم.
هذا، ومن بين أسس وتعاليم حضرة بهاء الله المساواة بين الرّجال والنّساء، ولهذا يجب على النّساء أن يسعين سعيًا حثيثًا في سبيل تحصيل فضائل العالم الإنسانيّ، وأن يجتهدن في سبيل تحقيق وحدة هذا العالم، ونشر النّفحات الإلهيّة، وأن يكنَّ سببًا في إيمان النّاس ودخولهم في ملكوت الله. وذلك كي تشمل المواهب الإلهيّة الكلّ وتحيط بالجميع.

 

نصيحتي إليكم اليوم

في يوم الأربعاء الموافق 15 تشرين الثّاني سنة 1911
ألقى حضرة عبد البهاء الكلمة التّالية في بيته المبارك:

هو الله 

من فرط محبّتي لكم أتضرّع وأبتهل إلى الملكوت الإلهيّ أن يؤيدكم حتّى تفوزوا من فيض بهاء الله بنصيب عظيم، وتدخلوا جميعًا في ملكوت بهاء الله، وتصبحوا جميعًا خلقًا جديدًا، ويصير كلّ فرد منكم كالشّمع المنير فتضيئوا آفاق أوروبّا، وتطيروا في سماء الفضائل كالطّيور إلى أن يعمّ الفرح الإلهيّ الّذي لا يعقبه حزن أبدًا.
فأقبلوا إذن من العالم المحدود إلى العالم اللاّمحدود. فتصفو قلوبكم صفاء المرآة، وتستنير من أنوار شمس الحقيقة، وتشاهد أعينكم آيات الملكوت الإلهيّ، وتصغي آذانكم للنّداء الإلهيّ، وتلهم أرواحكم بالإلهامات الغيبيّة.
فاعملوا إذن بموجب تعاليم بهاء الله حتّى تكونوا بهائيّين حقيقيّين. فإذا فعلتم ذلك أصبح كلّ واحد منكم كالمشعل المنير لا بل كالنّجم الوضّاء الّذي يضيء إلى الأبد. ادرسوا تعاليم بهاء الله واعملوا بموجبها كي تفوزوا بالتّأييدات الإلهيّة.
تلك هي نصيحتي إليكم اليوم.

فمرحبًا بكم.

 

النّفس واسطة بين الرّوح والجسد

في يوم الخميس الموافق 16 تشرين الثّاني 1911 ألقى
حضرة عبد البهاء أيضًا الخطبة التّالية في منزله المبارك:

هو الله

في العالم الإنسانيّ مقامات ثلاثة: مقام الجسم وهو المقام الحيوانيّ للإنسان، الّذي يشترك فيه مع جميع الحيوانات في كلّ القوى وجميع الشّؤون، فجسم الحيوان مركّب من العناصر وجسم الإنسان أيضًا مركّب من العناصر، وللحيوان حواس مثل السّمع والبصر والذّوق والشّم واللّمس. وكذلك الإنسان يمتلك هذه القوى، إلاّ أنّ الحيوان تنقصه النّفس النّاطقة، وهذه النّفس النّاطقة هي الواسطة بين الرّوح الإنسانيّ والجسم، وهذه النّفس النّاطقة كاشفة لأسرار الكائنات بشرط أن تستمدّ من الرّوح وتستفيض منها لأنّه إذا لم يصل المدد من الرّوح إلى النّفس أصبح حكمها حكم سائر الحيوانات، وتغلّبت عليها الشّهوات، وهذا هو سبب ما نلاحظه منه أنّ بعض البشر على صفة البقر، ومحض حيوان ولا يمتازون عنها بأيّ شيء.

أمّا إذا استفاضت هذه النّفس من عالم الرّوح فإنّ إنسانيّتها تتجلّى عندئذٍ.

اتّضح إذن أنّ للنّفس جانبين: جانب جسمانيّ وجانب روحانيّ فإن تغلّب الجانب الحيوانيّ على النّفس أصبح الإنسان أكثر شرًّا من الحيوان وهذا هو السّبب في أنّنا نرى في عالم البشر أناسًا أشدّ فتكًا وافتراسًا من الحيوان، وأشدّ ظلمًا من الحيوان، وأشدّ ضراوة من الحيوان، وأخسّ من الحيوان. فهم سبب لأذيّة البشر، وعلّة لنكبة العالم الإنسانيّ، ومركز الظّلمات.
وإذا تغلّب الجانب الرّوحانيّ على النّفس أصبحت النّفس قدسيّة وأصبحت ملكوتيّة، وأصبحت سماويّة، وأصبحت ربّانيّة، وأشرقت فيها جميع فضائل الملأ الأعلى، وكانت رحمة من الله الّتي أصبحت سببًا لاطمئنان العالم الإنسانيّ وراحته، وهذا هو الفرق بين النّفس الأمّارة بالسّوء والنّفس المطمئنّة.
اتّضح إذن أنّ النّفس واسطة بين الرّوح والجسد، مثلها مثل ساق هذه الشّجرة فهي واسطة بين هذه التّربة والثّمر. فإذا ظهر هذا الثّمر من هذا الشّجر كان مظهرًا للكمالات. وكذلك حال النّفس إذا تأيّدت بالرّوح فإنّها تكون نفسًا مباركة. أمّا إذا لم تعطِ الشّجرة أيّة ثمرة، وظلّت على ما هي عليه نابتة من التّربة كانت لا تصلح إلا للنّار، وهذا مثل ضربته لكم لتفهموا.
وإنّني لآمل من ألطاف الله اللاّنهائيّة أن تتغلّب أرواحكم حتّى تصبح نفوسكم نفوسًا قدسيّة، وتتجلّى الكمالات السّماويّة فيكم جميعًا، وتشرق عليكم أنوار شمس الحقيقة، وتقوموا في هذا العالم بأعمال وتنطقوا بأقوال تجعل منكم شموعًا للبشريّة جمعاء.
ألا ترون جميع البشر وقد شغلهم عالم النّاسوت، فلا يفكّرون قطّ في تهذيب الأخلاق أو بفيض اللاّهوت، ولا يفكّرون قطّ في اكتساب كمالات العالم الإنسانيّ. بل إنّهم قد انهمكوا كالحيوانات في عالم الشّهوات، يأكلون ويشربون ويتوسّعون في معيشتهم كالحيوان سواء بسواء. نعم إنّ الإنسان لا بدّ أن يفكّر في معيشته، ولكنّه لا ينبغي أن يحصر تفكيره في المعيشة وحدها. بل ينبغي أن يكون فكره رفيعًا، وأن يسعى إلى أن يكون مظهر الموهبة الإلهيّة، وأن يكسب الكمالات المعنويّة ويتحلّى بين الخَلق بالأخلاق السّماويّة، حتّى يصبح شخصًا ملكوتيًّا. وإلاّ كان ناسوتيًّا يقضي على وجه الأرض أيّامًا معدودات يحياها كالحيوان ثمّ يمضي. وأنا أريد لكم عالمًا من نوع آخر وأريد أن تكونوا أرواحًا مجسّمة كي تصبحوا سبب حياة العالم الإنسانيّ.

 

تعديل المعيشة

في يوم الخميس الموافق 16 تشرين الثّاني 1911 ألقى
حضرة عبد البهاء أيضًا الخطبة التّالية في منزله المبارك في باريس:

هو الله

ساتّحدث إليكم اليوم باختصار.

من بين مبادئ بهاء الله تعديل المعيشة، طبقات النّاس مختلفة، هناك من هم في نهاية الغنى، وهناك من هم في نهاية الفقر، هناك من ينزل في القصر العالي الرّفيع، وهناك من لا يجد لنفسه مأوى على الإطلاق، هناك من تمدّ على مائدته صفوف الطّعام، وهناك من لا يحصل على الخبز القفار ولا يجد قوت يومه. ولهذا فإصلاح المعيشة لازم للبشر. أقول الإصلاح لازم لا المساواة، فالمساواة غير ممكنة، وإلاّ فإنّ نظام العالم يختلّ ويضطرب.
إنّ نظام العالم يقتضي أن تكون هناك طبقات، وإلاّ يكون البشر سواسية، ذلك لأن النّاس مختلفون في الخلقة، فبعضهم في الدّرجة الأولى من العقل، وبعضهم في الدّرجة الوسطى، وبعضهم محروم من العقل على الإطلاق. فهل يمكن أن يستوي مَنْ هو في أعلى درجات العقل، ومَنْ لا عقل له قط؟
إنّ عالم البشر كالمعسكر، والمعسكر لا بدّ له من القائد كما لا بدّ له من النّفر، فهل يمكن أن يكون الجميع قادة أو أصحاب مناصب عالية؟ أو هل يمكن أن يكونوا جميعًا من الجنود؟ لا شكّ أنّه لا بدّ من وجود المراتب.
كان بين ملوك اليونان ملك يدعى ليكرجوس، وكان ملكًا وفيلسوفًا معًا، وكانت نيّته حسنة جدًّا، فخطر له أن يسوّي بين بني جنسه في المعيشة. وعلى هذا قسّم أهل مملكته إلى ثلاثة أقسام: فجعل قسمًا رؤساء، وجعل قسمًا –وهم أهل البلد الأصليّون- فلاّحين يزرعون ويؤدّون العشور. وأمّا القسم الثّالث فجعلهم تجّارًا وصنّاعًا وكان معظمهم من الغرباء. وقرّر أن يعطي القسمين الأخيرين في كلّ عام بعضًا من المال واعتبر القسم الأوّل من أبناء جنسه.
وبلغ هذا القسم تسعة آلاف نفس جعلهم رؤوس المملكة، وأعطى لكلٍّ منهم امتيازات خاصّة وهي ألاّ يزرعوا وألاّ يشتغلوا بالصّناعة ولا التّجارة. وإنّما يظلّون رؤساء، وعهد إليهم بالإدارة والسّياسة والحروب، فإذا بدرت بادرة الحرب هبّ هؤلاء لها. فلا يدخل أفراد القسمين الآخرين الحرب إلاّ إذا رغبوا من تلقاء أنفسهم. وربّى هؤلاء الألوف التّسعة منذ طفولتهم على تحمّل المشقّات ومواجهة الصّعاب حتّى سنّ السّادسة، ثمّ أخذهم بعد ذلك بأنواع الرّياضات الحربيّة يمرّنون على الأعمال الحربيّة طيلة النّهار، فإذا بلغوا العاشرة تعلّموا الفروسيّة، وإذا بلغوا العشرين عهد إليهم بالمناصب وميّزهم بالامتيازات العسكريّة، وقسّم لهم الأراضي إلى تسعة أقسام، وأعطى هؤلاء قسمًا بأن لا يغيّروا هذه القواعد فلمّا أقسم الأهلون على ذلك ترك مملكته وتخلّى عن سلطته ولم يعد إلى مملكته كي يظلّ هذا القانون ثابتًا.
ولما كان الأهلون قد أقسموا فإنّهم ظلّوا محافظين على هذه القواعد مدّة، ولكنّ التّغيّر تطرّق بعد مدّة، واختلّت هذه القوانين.
يتّضح من ذلك أن المساواة بين البشر في المعيشة أمر غير ممكن. ولم يستطع هذا الملك أن يسوّي بين بني جنسه في المعيشة. ومع ذلك فلا يجوز أن يظلّ بعض النّاس في نهاية الغنى، وبعضهم في نهاية الفقر. بل لا بدّ من إصلاح الحال، وسَنّ قانون يكفل للكلّ الوسعة والرّفاهية. لا أن يبتلي أحد بالفقر ويرتع الآخر في بحبوحة الغنى، فالشّخص الّذي لا حدّ لغناه لا يسمح لنفسه أن يترك شخصًا آخر في منتهى الفقر، بل لا بدّ أن يرعاه حتّى يرتاح أيضًا هو الآخر. ولا بدّ من تنفيذ هذا الأمر بمقتضى القوانين. فكما أنّ الأغنياء يجب عليهم أن ينفقوا فضل ما لهم من تلقاء أنفسهم على الفقراء، يجب أن تكون قوانين البلاد بموجب شريعة الله كي يضمن الأمن والرّاحة للفقراء.

 

المكافأة والمجازاة

في يوم الجمعة الموافق 17 تشرين الثّاني 1911
ألقيت هذه الخطبة في منزل مسيو دريفوس:

هو الله 

ينبغي للإنسان في هذا العالم أن يعلّق أمله بالمكافأة وأن يشعر بالخوف من المجازاة، وبخاصّة موظفو الحكومة ومن بيدهم أمور الدّولة والشّعب. فإذا لم يتعلّق أمل موظفي الحكومة بالمكافأة ولم يشعروا بالخوف من المجازاة فإنّهم لن يعدلوا أبدًا. مثل المكافأة والمجازاة كمثل العمودين ترتفع عليهما خيمة العالم. ولهذا يجب أن يكون رادع موظفي الحكومة عن الظّلم هو الخوف من المجازاة والأمل في المكافأة.
وإنّكم لترون أنّ الحكومة الاستبداديّة ينعدم فيها الخوف من المجازاة والأمل في المكافأة. ولذلك فإنّ الأمور في مثل هذه الحكومة لا تدور على محور العدل والإنصاف.
والمكافأة والمجازاة نوعان: أحدهما المكافأة والمجازاة السّياسيّة، والآخر المكافأة والمجازاة الإلهيّة، ولا شكّ أنّ الإنسان إذا جمع بين الاعتقاد في المكافأة والمجازاة الإلهيّة والاعتقاد في المكافأة والمجازاة السّياسيّة كان أكمل من غيره لأنّ خوف الله وخشية المجازاة مانع ورادع عن الظّلم، ومعنى ذلك أنّه إذا توفّر الرّادع المعنويّ والسّياسيّ كان ذلك أكمل ولا شكّ. والموظفون القلائل الّذين يخشون انتقام الدّولة والعذاب الإلهيّ يحرصون على إجراء العدالة حرصًا أكبر. ولا شكّ أنّه إذا توفّر لدى أحد النّاس الخوف من العقاب الأبديّ والأمل في المكافأة الأبديّة بذل هذا الإنسان غاية الهمّة في إجراء العدل واجتناب الظّلم. ذلك لأنّ الإنسان إذا اعتقد بأنّه إذا ظلم في هذا العالم ناله العذاب الإلهيّ في العالم الباقي تجنّب الظّلم والاعتساف وخاصّة إذا شفع هذا الاعتقاد بأنّه إذا اجرى العدل كان مقرّبًا لدى العتبة الإلهيّة، وفاز بالحياة الأبديّة ودخل الملكوت الإلهيّ واستنار وجهه بأنوار الفضل والعناية.
ومعنى ذلك أنّ موظفي الدّولة إذا كانوا متدينيّن كان حالهم أفضل لأنّهم عندئذٍ يكونون مظاهر خشية الله. وليس مقصودي من هذا الكلام أنّ للدّين دخلاً بالسّياسة. إذ ليس للدّين أيّة علاقة ولا دخل في الأمور السّياسيّة. لأنّ الدّين يتعلّق بالأرواح والوجدان، والسّياسة تتعلّق بالجسم لهذا لا ينبغي لرؤساء الأديان أن يتدخّلوا في الأمور السّياسيّة بل يجب عليهم أن يشتغلوا بتعديل أخلاق الأمة، وأن يقدّموا النّصح للنّاس ويشوّقوهم ويحيّوهم على العبودية لله، وأن يخدموا قضية الأخلاق العامّة، ويهبوا الإحساسات الرّوحانيّة للنّاس ويعلّموهم العلوم والمعارف، وينبغي عليهم ألاّ يتدخّلوا في الأمور السّياسيّة قط. هكذا يتفضّل حضرة بهاء الله.

وقد ورد في الإنجيل: أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

والخلاصة أنّ في إيران موظّفين بهائيّين متديّنين يراعون منتهى العدل لأنّهم يخافون غضب الله ويأملون في رحمة الله. ولكنّ الموظفين الآخرين لا يبالون بشيء ولا يكفّون أيديهم عن الأذى والظّلم. وهذا هو السّبب في أنّ إيران وقعت في ما هي فيه من الشّدّة.
وإنّني لآمل أن يكون جميع أحبّاء الله مظاهر العدل في جميع الأمور. فإجراء العدل ليس قاصرًا على موظّفي الحكومة وحدهم، فالتّاجر أيضًا يجب أن يكون عادلاً في التّجارة. وأهل الصّنائع يجب أن يكونوا عادلين في صناعاتهم ويجب على جميع البشر –صغارًا وكبارًا- أن يكونوا عادلين ومنصفين والعدل هو ألاّ يتجاوز الإنسان حدوده، وأن يرجو لغيره ما يرجوه لنفسه. هذا هو العدل الإلهيّ.
والحمد لله، لقد طلعت شمس العدل من أفق حضرة بهاء الله. وإنّ في ألواح حضرة بهاء الله أساسًا للعدل لم يخطر مثله على بال بشر من أوّل الإبداع إلى يومنا هذا. فقد قرّر لجميع أصناف البشر مقامًا لا ينبغي أن يتجاوزه، فهو يتفضّل مثلاً بأنّ العدل لازم لأهل كلّ صناعة بمعنى أنّه لا ينبغي لهم أن يتجاوزوا استحقاقهم. فإذا تعدّوا حدودهم في صناعتهم لم يختلف حالهم عن حال الملك الظّالم. وكلّ نفس لا تقيم العدل في معاملاتها كان مثلها مثل الرّئيس الظّالم.
من هذا يتّضح أنّه من الممكن أن يكون كلّ إنسان عادلاً وأن يكون ظالمًا. ولكنّي آمل أن تكونوا جميعًا عادلين، وأن تحصروا كلّ فكركم في أن تعاشروا جميع البشر وأن تراعوا منتهى العدل وغاية الإنصاف في معاملاتكم معهم، وأن تراعوا حقوق الآخرين قبل حقوقكم دائمًا، وأن تعرفوا أنّ منفعة الآخرين مقدّمة على منفعتكم وراجحة عليها. وذلك حتّى تكونوا مظاهر العدل الإلهيّ، وتعملوا بموجب تعاليم حضرة بهاء الله.
ولقد لاقى حضرة بهاء الله غاية المشقّة وتحمّل منتهى البلاء طوال حياته حتّى يربّي الجميع فيتّصفوا بالعدل وبفضائل العالم الإنسانيّ ويفوزوا بالنّورانيّة الأبديّة. فالتمسوا العدالة الإلهيّة وكونوا رحمة الرّحمن ومظاهر الألطاف الإلهيّة الشّاملة لكلّ البشر.

لهذا فإنّي أدعو لكم جميعًا:

(اللّهم يا واهب العطايا، وغافر الخطايا، والرّاحم على البرايا، يا ربَّ الكبرياء. إنّ عبادك الفقراء يبتهلون إلى عتبتك العليا، ويتضرّعون إلى ملكوتك الأبهى، ويستغيثون برحمتك فأغثهم، ويستفيضون من سحاب موهبتك فأمطرهم، ويتضرّعون إلى جبروت جلالك فأكرمهم، يتمنّون قربك فارزقهم لقاءك ومشاهدة طلعتك، ربِّ تراهم عطاشى ظامئين إلى معين رحمانيّتك جرّعهم من سلسال موهبتك وسلسبيل عنايتك، ربِّ إنّهم جياع أطعمهم من مائدة سمائك، ربِّ إنّهم مرضى داوهم بدوائك، ربِّ إنّهم أذلاء ببابك اجعلهم أعزّاء في ملكوتك، إنّك أنت الكريم إنّك أنت العظيم، إنّك أنت الرّحمن الرّحيم).

 

نفثات الرّوح القدس

ألقيت في يوم السّبت الموافق 18 تشرين الثّاني 1911
الخطبة التّالية في المنزل المبارك في باريس:

هو الله 

من بين تعاليم حضرة بهاء الله أنّ الإنسان مهما ترقّى فإنّه يظلّ محتاجًا إلى نفثات الرّوح القدس. ذلك لأنّ القوّة البشريّة محدودة، في حين أنّ قوّة الملكوت وقدرة الله غير محدودتين، وإذا نحن تأمّلنا في عالم البشر في جميع الأزمنة وجدنا أنّ نفوسًا كانت مؤيّدة بالرّوح القدس وفّقت إلى أمور عظيمة وتوصّلت إلى مبادئ ونتائج مهمّة برغم أنّه لم يكن لمعظم هذه النّفوس –بحسب الظّاهر- أيّ مكانة أو علم. مثال ذلك أنّه لا يمكننا أن نضع أيّ نبي من أنبياء الله المرسلين في عداد الفلاسفة إذ إنّهم لم يشتهروا بين الخلق –في أيّامهم- لا بالعلم ولا بالمعرفة بل كانوا بحسب الظّاهر أشخاصًا عاديّين، بل إنّ من بينهم من لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة، ولكن لمّا كانوا مؤيّدين بنفثات الرّوح القدس فقد كان لهم تأثير شديد في عالم الوجود.
تأمّلوا حال فلاسفة العالم العظام من أمثال أفلاطون وأرسطو وفيثاغورس وغيرهم، لقد كان تأثيرهم محدودًا، ولم يستطيعوا أن ينفذوا في عروق البشر وأعصابهم، فأفلاطون –على عظمته- لم يستطع أن يبلغ بأيّ إنسان إلى درجة الفداء. ولكنّ الرّسل المؤيّدين بالرّوح القدس نفذوا إلى عروق البشر وأعصابهم مع أنّه لم يكن لهم في الظّاهر أيّ علم أو معرفة. وبلغ من نفوذهم أنّ آلافًا قدّموا أرواحهم في سبيلهم. حتّى أنبياء بني أسرائيل مثل إشعياء وحزقيال وإيليا وإرميا كانوا من الأشخاص العاديّين أوّل الأمر، وتاريخ الكنيسة يحدّثنا بأنّ بطرس لم يكن يعرف أيّام الأسبوع، فكان إذا أراد أن يذهب لصيد السّمك وضع غذاءه في سبع لفافات، يأكل منها كلّ يوم لفافة، فإذا بلغ اللّفافة السّابعة عرف أنّ اليوم هو السّبت فيراعي حرمة السّبت، ولكن بتأثير نفحات الرّوح القدس بلغت هذه النّفوس درجة جعلت نفوذهم يسري في جميع العالم.
من هنا نفهم أنّ نفثات الرّوح القدس مؤثّرة في الوجود وأنّ من يفوز بها –سواء كان فيلسوفًا أم عالمًا أم أمّيًّا- يسري نفوذه في العروق والأعصاب. ولذلك فالإنسان محتاج إلى نفثات الرّوح القدس حتّى ولو كان من أعظم الفلاسفة، وما لم تؤيّده هذه الرّوح فإنّه لا يستطيع أن يفعل شيئًا فروحه ميّتة، وقلبه ميّت، اللّهم إلاّ إذا نفخت فيه روح الحياة الأبديّة.
لاحظوا أنّه ما من مدنيّة وما من فضل يستطيع أن يعدّل عالم الأخلاق كما يليق وينبغي. ولرُبّ شخص بلغ مقام أعظم الفلاسفة ومع ذلك أخلاقه مذمومة. ولرُبّ شخص أمّيّ
استطاع أن يحسّن أخلاقه لأنّه مؤيّد بنفثات الرّوح القدس. وقوّة الرّوح تستطيع تربية النّاس في زمن قصير، فيبلغون بها أعلى درجات العزّة الأبديّة لهذا فإنّني لا أطلب لكم هذه القوّة. وآمل أن تؤيّدكم نفثات الرّوح القدس بقوّة حضرة بهاء الله كي تفوزوا بالحياة وتنالوا من التّربية، فتصبح أخلاقكم أخلاقًا رحمانيّة، وتكونوا سببًا في تربية الآخرين، كما أرجو أن تحدث فيكم من التّأثير ما تحيا به النّفوس.
لا تنظروا إلى أنفسكم. بل انظروا إلى فيوضات الجمال الأبهى تأمّلوا أيّ تأثير أحدثته نفثات المسيح في الحواريّين، وأيّ تأثير أحدثته نفثات الحواريّين في غيرهم. ونظرًا لأنّ هؤلاء كانوا مؤيّدين من عند الله، فإنّ كلّ ما كانوا يفعلونه كان التّأييد الإلهيّ هو الّذي يفعله في الواقع. لاحظوا أنّ استعداد الإنسان محدود، ولكنّ تأييد الملكوت الأبهى غير محدود، واستعداد هذه الأرض قليل ولكنّ أمطار الرّحمة تهطل بلا حساب وحرارة الشّمس ليس لها حدود. ولا ينبغي للأرض أن تنظر إلى استعدادها بل إلى أمطار الرّحمة وحرارة الشّمس الّتي تزين هذه الغبراء بالورود المختلفة الألوان. ولهذا فلا تنظروا إلى قوّتكم ولا إلى قدرتكم، بل توجّهوا إلى الملكوت الأبهى بقلوب مطمئنّة وأرواح مستبشرة، والتمسوا الفيوضات اللاّمتناهية. فإذا فزتم بها أصبح كلّ واحد منكم شمعًا مضيئًا، ونجمًا ساطعًا وشجرة مثمرة، فاجتهدوا من أجل أن تؤثّر نفثات الرّوح القدس فيكم.

هذه نصيحتي إليكم.

مرحبًا بكم.

 

الاجتماع السّماويّ

ألقيت في مساء يوم السّبت الموافق 18 تشرين الثّاني
1911 أيضًا الخطبة التّالية في منزله المبارك في باريس:

هو الله 

الحمد لله إنّ اجتماعنا اليوم اجتماع طيّب، لأنّه اجتماع سماويّ. ذلك أنّنا اجتمعنا لأمر ملكوتيّ لا لأمر ناسوتيّ. وليس لنا من مقصد سوى محبّة العالم الإنسانيّ، ومنتهى أملنا ومطلبنا هو أن تحصل الألفة بين البشر فتصبح الأجناس المختلفة جنسًا واحدًا، والأوطان المختلفة وطنًا واحدًا، والقلوب جميعًا قلبًا واحدًا وتظلّل خيمة وحدة العالم الإنسانيّ جميع البشر.
الحمد لله فالنّيّات صادقة، والقلوب إلى الله متوجّهة وليس لنا من مقصد سوى الحقيقة، وقد جلس بعضنا مع بعض في منتهى المحبّة. وليس في مجلسنا غلّ ولا غشّ، وليست لنا أيّة أغراض شخصيّة. بل إنّ مقاصدنا جميعًا هي محبّة الله. فلا شكّ أنّ التّأييدات الإلهيّة تشملنا.
ويقيني أنّ الله سوف يوسّع دائرة هذا الجمع، وأنّ كثيرًا من البشر يتابعون خطواتكم، وأنّكم سوف تؤثّرون في الآخرين، وأنّ الأخلاق الرّحمانيّة سوف تسري منكم إلى غيركم. وإنّني لآمل أن تكونوا سببًا في إبصار العيون العمياء، وسمع الآذان الصّمّاء، وإحياء أجسام الأموات، وتحويل النّفوس النّاسوتية إلى نفوس لاهوتيّة والعالم الإنسانيّ إلى عالم ملكوتيّ. إنّ أملي فيكم لكبير. وأنتم –والحمدلله- متّحدون معي في هذا المقصد فمطلبي هو مطلبكم. ولسوف أجاهد في أمريكا من أجله، ولسوف تجاهدون أيضًا.
تلاحظون اليوم أنّ بعض الدّول والأمم تتصارع في الكرة الأرضيّة، ويسفك بعضها دم البعض الآخر من أجل أهداف أرضيّة وناسوتيّة وأنّ الأمر يزداد سوءًا يومًا بعد يوم. ففي كلّ يوم تظهر آلة جديدة للقتال، ويشرّع للحرب قانون جديد، ويزداد حشد الجنود وتعبئة العساكر وتكثر المدافع، وتتّجه القوى المدمّرة إلى الازدياد: فهذا سلاح “موزر”. وهذا سلاح “مارتن”، وهذا “المترليوز”، وهذا مدفع “كروب”. وهذه الغوّاصة، وهذه سفن الطّوربيد، وهذه الطّيارة تلقي القنابل من الجو. انظروا أيّة معركة وأيّ هيجان في طرابلس: المدافع تفرغ شحناتها من البحر، و”المترليوزات” تفرغ رصاصها من الصحراء، والطّيارات تصب قنابلها من الجو. لقد قام البشر جميعًا يقتل بعضهم بعضًا. وأنتم جماعة مقصدها الاتّحاد بين البشر. فالحمد لله، إنّكم تخدمون قضيّة وحدة العالم الإنسانيّ. وإنّ منتهى آمالكم هو أن يزول النّزاع والجدال، وترتفع العداوة والبغضاء من بين البشر وإنّكم تطلبون الرّضى الإلهيّ وتتصرّفون بموجب التّعاليم السّماويّة. ولهذا شدّوا هممكم وابذلوا كلّ ما في وسعكم من الجهد، وانصحوا النّاس، وحوّلوا هذه النّفوس الجهنّمية إلى نفوس فردوسيّة، واجتهدوا في أن تحوّلوا هؤلاء الّذين يتصرّفون إرضاءً للشّيطان إلى نفوس تسلك سبيل رضى الرّحمن. واطلبوا التّقرب من باب ذي كبرياء، واخدموا الملكوت، واتّبعوا الأب السّماويّ. وأيقنوا أنّه يؤيّدكم ويوفّقكم.
إنّ جميع الخلق يبوؤون بخسران مبين، وأنتم تفوزون بربح عظيم ذلك لأنّكم مع الله وهو يؤيّدكم.

مرحبًا بكم.

 

نداء الله ونداء الشّيطان

ألقيت في يوم الأحد الموافق 19 تشرين الثّاني سنة
1911 الخطبة التّالية في المنزل المبارك في باريس:

هو الله

منذ بداية العالم وحتّى اليوم كلّما ارتفع النّداء الإلهيّ ارتفع معه النّداء الشّيطاني. ذلك لأنّ الظّلمة تريد دائمًا أن تقاوم النّور، والظّلم يريد أن يقاوم العدل. والجهل يريد أن يقاوم العلم. وتلك هي عادة أهل العالم الدّائمة.
أنتم تعرفون أنّ فرعون كان يقاوم في أيّام موسى كي يمنع نورانيّته من الانتشار. وفي زمان السّيّد المسيح كان قيافا وحنّا رئيسين لمذهب اليهود. وقد قاوما السّيّد المسيح بمنتهى القوّة، وكتبا كثيرًا من المفتريات ونشراها حتّى حكم مجمع الفرّيسيّين بقتل المسيح بدعوى أنّه هو المسيخ، وأنّه –أستغفر الله!- ضال، وأنّه –أستغفر الله!- بلا أب شرعيّ وغير ذلك ممّا لا أودّ أن أنطق به. وكانوا ينشرون هذه المفتريات بين يهود الشّرق يريدون بها أن يمنعوا انتشار نورانيّة المسيح. وكذلك الحال في زمان محمّد فقد أراد علماء قريش أن يمنعوا نورانيّة محمّد من الانتشار. وأفتى الجميع بقتله وآذوه أذىً بالغًا وأرادوا أن يهدموا بحدّ السّيف ذلك البنيان العظيم. فهل صمد جميع هؤلاء؟ لقد غلبوا على أمرهم آخر الأمر وأحاطت نورانيّة الأمر الإلهيّ بالآفاق. وانسحبوا جميعًا من الميدان كالجنديّ المهزوم. ونفذت كلمة الله وانتشرت شريعة الله وأحاطت التّعاليم الإلهيّة بالآفاق. أمّا الأشخاص الّذين استظلّوا بظلّ الحقّ فقد أشرقوا كالنّجوم من أفق السّعادة الكبرى.
واليوم يتكرّر الشّيء نفسه، فجمع الجهّال الّذين ينسبون أنفسهم إلى الدّين يريدون أن يمنعوا نورانيّة بهاء الله من الانتشار. وهم يقاومون أمر الله كي يحرموا الآفاق من هذا الإشراق. ولمّا لم يكن لديهم أيّ برهان فقد شرعوا في الافتراء، لأنّ عادة الجهّال هي أنّهم عندما يعدمون البرهان يلجأون إلى سلاح الافتراء. ولو كان لديهم برهان لهاجموا به ولتكلّموا ولما سبّوا ولما جرى الكلام السّخيف على أقلامهم وعلى ألسنتهم، ولَبيّنوا برهانهم كما يفعل العلماء.
وليس بيننا وبين هؤلاء نزاع ولا جدال. وإنّما نحن نقدّم البراهين ونقول لهم إذا كان لديكم برهان في مقابل برهاننا فأبرزوه. ولكنّهم لا يقتربون منا أبدًا، بل يتفوّهون بالمفتريات، ويكتبون في الجرائد أنّ هؤلاء البهائيّين كذا وكذا ويقولون بحقّنا ما قاله الفرّيسيّون في حقّ الحواريّين. وهم يكتبون كلّ ما يعنّ لهم فإذا رأيتم مثل هذه الأوراق تتوزّع فلا تتكدّروا قط. بل عليكم أن تعملوا بموجب تعاليم بهاء الله بكلّ قوّة ولا تلقوا بالاً لذلك. إنّ أمثال هؤلاء النّفوس هم السّبب في انتشار كلمة الله بين الخلق. فما من شكّ في أنّ المنصفين سيفحصون ويحقّقون ويدقّقون في ما يقولون، ويكون هؤلاء سبب هدايتهم. مثلهم مثل شخصٍ قال إنّ في هذه الغرفة شمعة غير مضيئة. فتفحّص السّامع في الأمر فرأى أنّها مضيئة. أو كمثل رجل قال إنّ في البستان الفلاني أشجارًا ذات أوراق مصفرّة وأغصان مكسورة وثمر مرّ وأزهار كريهة فإيّاكم أن تقتربوا منها. إلاّ أنّ النّفوس المنصفة لا تقنع بذلك دون شكّ. بل تقول: فلنذهب لنرى ونتحرّى الحقيقة. فإذا فحصوا وتحقّقوا ورأوا أنّ أشجار البستان في نهاية الاعتدال، وسيقانها في غاية الاستقامة وأوراقها في نهاية الاخضرار وبراعمها ذات عطر، وأثمارها ذات حلاوة، وأزهارها ذات طراوة قالوا الحمد لله لقد كان هذا القادح سببًا في أن نهتدي إلى هذا البستان، وإنّه كان علّة هدايتنا. والواقع أنّ القادحين الهجائين هم السّبب الّذي يدفع النّاس إلى البحث. ففي زمان المسيح ألّف القادحون الكتب في مذمّة المسيح، ورموه بالمفتريات وقالوا في الحورايّين ما قالوا من الأكاذيب فهل كان لشيء من هذا أثر؟ وهل كان للكتب الّتي كتبها فلاسفة ذلك الزمان عن المسيح أيّ ضرر؟ بالعكس، كانت هذه الكتب سببًا للتّرويج لأن النّاس الّذين سمعوا ذكر المسيح أقبلوا يبحثون ويفحصون ففازوا في الهداية.
ونحن لا نريد أن نقول شيئًا عن هؤلاء النّاس ولن نبسط لساننا فيهم. ولكنّنا نكتفي بالقول إنّ هذه المفتريات ليس لها أيّ وزن قط. إنّ هذه المفتريات بمنزلة السّحاب الّذي يحجب الشّمس. فمهما كان السّحاب كثيفًا فإنّ أشعّة الشّمس تمحوه آخر الأمر. وما من سحاب يمكنه أن يحجب شمس الحقيقة، وما من سدّ يمكنه أن يمنع سريان نسيم البستان الإلهيّ، وما من حائل يمكنه أن يحجز أمطار السّماء. ومرادي من هذا الكلام هو ألاّ تحزنوا كلّما انتشرت كتب الافتراء أو نشرت في الجرائد المفتريات، وأن تعلموا أنّ هذا هو سبب قوّة أمر الله. ذلك لأنّ الإنسان لا يصوّب الحجر إلى شجرة بلا ثمر، ولا يتعرّض لمصباح مطفئ. وما يحدث شيء إلاّ ويكون سببًا لقوّة أمر الله مصداقًا لما حدث من قبل. فإذا تأمّلتم في زمان موسى وجدتم أنّ غرور فرعون كان مددًا وعونًا لبني إسرائيل. وبالرّغم من أن ذلك الظّالم أعلن أنّ موسى قاتل، وأنّه لا بدّ من إنزال القصاص به إلاّ أنّ هذا الإعلان لم يكن له أيّ تأثير. وقد صاح فرعون وقال إنّ موسى وهارون كليهما مفسدان يريدان أن يفسدا دينكم المبين ويلقيا المملكة بين براثن الاختلاف والفساد ولذلك يجب اهلاكهما وإعدامهما “إنّ هذين لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى” إلاّ أنّ ذلك لم يكن له أيّ تأثير قط بل لقد أضاء نور موسى وانتشرت شريعته وأحاطت النّورانيّة الّتي تجلّت في سيناء.
وكذلك صاح الفرّيسيّون أنّ المسيح هو المسيخ –أستغفر الله من ذلك- لأنّه كسر السّبت ونسخ شريعة الله وحرّم الطّلاق ومنع تعدّد الزّوجات، وأنّ مقصده هدم قدس الأقداس واقتلاع بيت الله فواويلاه! واديناه! وامذهباه! وصاحوا اصلبوه، اصلبوه! ولكنّ هذه الاعتراضات لم يكن لها أيّ أثر. إذ طلع صبح المسيح، وسرت نفثات الرّوح القدس في العالم أجمع، ووحّدت بين الأقوام المختلفة.
ومقصدي هو أنّ أمر الله لا يلحقه أيّ فتور من مفتريات القوم وأكاذيبهم ومجادلاتهم. بل إنّ ذلك سبب علو أمر الله. ولو كان هذا الأمر أمرًا عاديًّا لما تعرّض لمثل هذه الاعتراضات الّتي تدلّ على أن هذا الأمر أمر خارق للعادة. وكلّما عظم قدر الأمر كثر أعداؤه. ولذلك يجب علينا أن نعمل بموجب تعاليم حضرة بهاء الله بنهاية الثّبات والرّسوخ. 

مرحبًا بكم.

 

الرّقيّ المادّيّ والرّوحانيّ

ألقيت في يوم الإثنين الموافق 20 تشرين الثّاني
سنة 1911 في البيت المبارك في باريس

هو الله 

الافتراس أمر يليق بالحيوانات المتوحّشة. أمّا الّذي يليق بالإنسان فهو الألفة والمحبّة. ولقد أرسل الله جميع الأنبياء حتّى يلقوا الألفة والمحبّة بين القلوب. ونزلت الكتب السّماويّة للألفة بين القلوب. وقدّم الأنبياء وأولياء الله أنفسهم فداء حتّى يتحقّق الاتّحاد والاتّفاق في قلوب البشر. ولكن واأسفاه إنّ البشر ما يزالون يسفكون الدّماء. ولو أنّنا تأملنا التّاريخ- في القرون الأولى أو الوسطى أو الأخيرة- وجدنا أن أديم هذه الغبراء تلطخ بدماء البشر، وأنّ البشر كانوا كالذّئاب الكاسرة يمزق بعضهم بعضًا إربًا إربًا. وبالرّغم من أنّهم وصلوا إلى هذا العصر النّوارنيّ، عصر المدنيّة وعصر التّرقّيات المادّيّة وترقّي العقول. ولقد زاد الإحساس الإنسانيّ ومع ذلك فالدّماء تراق في كلّ يوم. لاحظوا ما يجري في طرابلس، وانظروا في أيّ بلاء وقع هؤلاء البؤساء. تركت إيطاليا مملكتها الوسيعة وهاجمت الأعراب المساكين في الصحراء الّتي لا ماء فيها ولا علف. ما أكثر الشّبان الّذين قتلوا من الطّرفين! ما أكثر البيوت الّتي خربت! ما أكثر الأمّهات اللاّئي فقدن أولادهنّ! ما أكثر الأطفال الّذين فقدوا آباءهم! إنّ أفواج اليتامى تتموّج! ما أكثر ما اقتلع من النّبت النّاشئ وهو ما زال في بداية نشوئه ونموّه! وما أكثر ما قتل من الطّيور الحسنة الصوت من قبل أن تغرّد! وليس هناك من غاية سوى الحرص والطّمع.
من هذا يتّضح أنّ التّرقي المادّيّ ليس سببًا في تحسين الأخلاق. إنّ التّرقّيات المادّيّة لا تعدّل الأخلاق. بل في الأزمنة السّابقة حين لم تتحقّق كلّ هذه التّرقّيات المادّيّة لم يكن فيها أيضًا كلّ هذا القدر من سفك الدّماء. لم يكن فيها مدافع كروب ولا بنادق موزر ولا الميتراليوز ولا الدّيناميت ولا المواد الجهنّمية. لم يكن فيها غوّاصات ولا سفن الطّوربيد. أمّا اليوم- وقد ارتقت المدنيّة المادّيّة- فإنّ هذه الآلات الهدّامة لبنيان البشر قد ارتقت أيضًا. واليوم نجد أنّ هذه المواد الجهنّمية مهيّأة للالتهاب تحت أقدام أوروبّا جميعًا. ذلك لأنّ أوروبّا مليئة بالمواد الملتهبة. لا قدّر الله أن تشتعل. فإنّها إذا اشتعلت جعلت الكرة الأرضيّة قاعًا صفصفًا. وخلاصة مقصدي أنّه من الواضح والمشهود أنّ التّرقّيات المادّيّة وحدها ليست سببًا لراحة العالم الإنسانيّ ولا علّة لارتقاء عالم الأخلاق إلاّ أنّها إذا انضمّت إلى الإحساسات الرّوحانيّة عندئذٍ
يتحقّق التّرقي. وتتحقّق الإحساسات الرّوحانيّة للنّاس إذا انتشرت التّعاليم الإلهيّة، ونفّذت وصايا الأنبياء ونوّرت النّصائح الإلهيّة القلوب. وعندما ينضمّ هذا التّرقي المادّيّ إلى التّرقي الرّوحانيّ تحصل النّتائج الطّيّبة، ذلك لأنّ التّعاليم الإلهيّة أشبه بالرّوح والتّرقّيات المادّيّة أشبه بالجسد. والجسد يحيا بالرّوح وإلاّ فهو ميّت.
وإنّنا لنأمل –بعون الله وعنايته- أن تؤثّر روحانيّات الأنبياء في النّاس حتّى يستنير عالم الأخلاق من هذه النّورانيّة. وتحصل الإحساسات الرّوحانيّة في القلوب حتّى تعلم أنّ الله عادل فلا بدّ أن يجزى كلّ عمل. والله لا يفوّت ظلم أحد لأنّه عادل ولا شكّ. ومهما سعى المادّيّون واجتهدوا فإنّهم مع ذلك في نصب وتعب ومشقّة تركبهم الغموم دائمًا. ذلك لأنّ سرور قلب الإنسان يحصل بمحبّة الله. واستبشار روح الإنسان بمعرفة الله. وإذا لم يتعلّق قلب الإنسان بالله فبأيّ شيء يفرح. وإذا لم يعقد أمله بالله فأيّ شيء يهواه قلبه في هذه الحياة الدّنيا الزّائلة وهو يعلم أنّها حياة محدودة وسوف تنتهي؟ وعلى هذا يجب على الإنسان أن يكون أمله بالله، ذلك لأنّ فضله لا نهاية له، وألطافه قديمة، ومواهبه عظيمة، وشمسه مشرقة دائمًا وأمطار رحمته هاطلة دائمًا، ونسيم عنايته يهبّ باستمرار. فهل يليق بنا أن نغفل عن مثل هذا الإله لنكون أسرى الطّبيعة وعبيد الطّبيعة؟! على حين أنّه أعطانا المواهب لنتحكّم في الطّبيعة.
جميع الكائنات أسيرة للطّبيعة ما عدا الإنسان. فالشّمس مثلاً –على ضخامتها- محكومة بالطّبيعة فلا إرادة لها قط، ولا يمكنها أن تتجاوز عن مدارها قيد شعرة فهي أسيرة لقانون الطّبيعة. وهذا البحر –على عظمته- أسير الطّبيعة. وهذه الكرة الأرضيّة أسيرة الطّبيعة، لا يمكنها أن تتجاوز عن قانون الطّبيعة أبدًا. ولكنّ الله وهب لنا الإرادة حتّى نخرق قانون الطّبيعة ونتحكّم في الطّبيعة. ونحن نحطّم قوانين الطّبيعة فعلاً. ذلك لأنّ الإنسان –بمقتضى الطّبيعة- تراب ذو روح ولكنّه يطير مع ذلك في الهواء، ويسير في البحر، وهو يسير في هذا الفضاء الواسع كالسّحاب. وهو يحبس قوّة البرق العاصية، ويقيّد الصّوت الطّليق. وكلّ هذا مخالف لقانون الطّبيعة. نعم لقد اختطف الإنسان السّيف من يد الطّبيعة وهو يهوي به على رأسها، ويخرق قوانينها. ولقد أعطى الله للإنسان هذه القوّة الهائلة.
ومع ذلك أَمِنَ الجائز أن يصبح الإنسان أسير الطّبيعة وعبدًا لها بل ويعبد الطّبيعة ويقول إنّ الطّبيعة هي الله؟ رغم أنّه يهوي بالسّيف على أمّ رأسها ويلقي الاضطراب في قواعد الطّبيعة العامّة. وعلى ذلك فاعلموا أيّة مواهب وهبها الله للإنسان وحرم الطّبيعة منها، لقد وهب الله لنا الشّعور والإرادة والطّبيعة محرومة منهما، ووهب لنا العقل والإرادة، والطّبيعة محرومة منهما، ونحن حاكمون على الطّبيعة، هكذا أراد الله.

 

السّرور والحزن

ألقيت في يوم الثّلاثاء الموافق 21 تشرين
الثّاني 1911 في البيت المبارك في باريس

هو الله

جميع البشر معرّضون دائمًا لإحساسين: أحدهما السّرور والآخر الحزن، وعندما يكون الإنسان مسرورًا تطير روحه وتزداد جميع قواه، وتكبر قوّته الفكريّة، وتشتدّ قوّة إدراكه وتترقّى قوّة عقله في جميع المراتب وتحيط بحقائق الأشياء، ولكن عندما يستولي الحزن على الإنسان ينخمد وتضعف جميع قواه ويقلّ إدراكه، ولا يفكّر، ولا يستطيع أن يدقّق في حقائق الأشياء، ولا أن يكشف عن خواص الأشياء، ويصبح كالميّت.
وهذان الإحساسان يشملان جميع البشر طرًّا.
من الرّوح لا يتأتّى للإنسان أيّ حزن، ومن العقل لا تحصل للإنسان أيّ مشقّة ولا ملال، أي أنّ القوى الرّوحانيّة لا تسبّب للإنسان كدرًا ولا تعبًا.
وإذا تأتّى للإنسان الحزن فمن المادّيّات يتأتّى هذا الحزن، وإذا خمد الإنسان وجمد فمن المادّيّات، فالتّاجر مثلاً إذا خسر حزن، والزّارع إذا لم تنجح زراعته اغتمّ، وإذا بنى الإنسان بناء وانهدم حزن واضطرب.
المقصود أنّ حزن الإنسان وكدره يأتيان من عالم المادّيّات، وأنّ اليأس والقنوط من نتائج عالم الطّبيعة وعلى هذا فمن الواضح والمشهود أنّ حزن الإنسان ونكبة الإنسان ونحس الإنسان وذلّة الإنسان كلّها من المادّيّات. وأمّا الإحساسات الرّوحانيّة فلا يتأتّى منها للإنسان أيّ ضرر ولا خسارة ولا همّ ولا غمّ. وجميع البشر عرضة للهمّ والغم والملالة، فما من إنسان إلاّ وأصابه الحزن والألم والمشقّة والنّصب والتّعب والخسارة.
ولمّا كانت هذه الأحزان من المادّيّات لم يكن أمامنا من سبيل سوى الرّجوع إلى الرّوحانيّات. فإذا ضاق صدر الإنسان من المادّيّات ضيقًا شديدًا وتوجّه إلى الرّوحانيّات زال ذلك الضّيق. وإذا وقع الإنسان فريسة لليأس والقنوط والتّعب ثمّ تذكّر الله الرّحمن الرّحيم سرّ خاطره. وإذا وقع في وهدة الفقر المادّيّ الشّديد ثمّ استروح الإحساسات الرّوحانيّة رأى نفسه غنيًّا بكنز الملكوت. وإذا مرض وفكّر في الشّفاء شفى غليل صدره. وإذا وقع أسيرًا لمصائب عالم النّاسوت تسلّى بالتّفكير باللاّهوت. وإذا ضاق ذرعًا بسجن عالم الطّبيعة ثمّ طار بفكره إلى عالم الرّوح سرّ خاطره. وإذا اختلّت حياته الجسمانيّة ثمّ فكّر في الحياة الأبديّة عاد ممنونًا شاكرًا.
ولكن ما الّذي يسلّي خاطر الّذين اقتصر اهتمامهم على عالم المادّيّات وغرقوا في بحر النّاسوت إذا ألمّت بهم البلايا والمحن؟! وبأيّ شيء يتعلّق أمل الّذي يعتقد بأنّ حياة الإنسان محصورة في الحياة المادّيّة –إذا عجز أو أصابته مصيبة أو وقع في البلاء أو نفخ في بوق الرّحيل؟ وبأيّ شيء يتسلّى؟! كيف يجد الرّوح والرّيحان من لا يؤمن بالحيّ القدير. يقيني أنّه في العذاب الأبديّ والقنوط السّرمديّ.
إذن فاشكروا الله. فأنتم لديكم الإحساسات الرّوحانيّة والانجذابات القلبيّة. وعيونكم مبصرة، وآذنكم سميعة، وأرواحكم حيّة، وقلوبكم عامرة بمحبّة الله. ولديكم ما تتسلّى به خواطركم إذا ألمّت بكم مصيبة، وإذا اختلّت المعيشة الدّنيويّة استبشرتم بالحياة السّماويّة. وإذا أحاطت بكم ظلمة الطّبيعة سررتم بنورانيّة الملكوت. وكلّ من يتوفر له الإحساس الرّوحانيّ تتوفّر له تسلية الخاطر.
فلقد قضيت في السّجن أربعين سنة مع أنّه لم يكن في الإمكان تحمّل سنة واحدة، وكلّ من زجّ به في ذلك السّجن لم يعش فيه أكثر من سنة واحدة إذ كان يهلك من الغمّ والهمّ. ولكنّني كنت –والحمد لله- في نهاية السّرور طوال هذه السّنوات الأربعين. وكنت أنهض كلّ صباح كأنّما جاءتني بشارة جديدة. وكان كلّما أظلم اللّيل ازداد في قلبي نور السّرور. فالإحساسات
الرّوحانيّة سبب تسلية الخاطر والتّوجه إلى الله سبب الرّوح والرّيحان. وإذا لم يكن هناك توجّه إلى الله لم تكن هناك إحساسات روحانيّة. وإلا فكيف كنت أحتمّل السّجن أربعين سنة؟
من هذا يتبيّن لكم أنّ الإحساسات الرّوحانيّة هي أعظم موهبة العالم الإنسانيّ، وأن التّوجه إلى الله هو حياة الإنسان الأبديّة.
وإنّني لآمل أن يزداد توجّهكم إلى الله يومًا بعد يوم وأن تزداد تسلية خاطركم، وأن يزداد تأثير نفثات الرّوح القدس، وأن يزداد ظهور القوى الملكوتيّة.

هذا هو منتهى رغائبنا وآمالنا.

وهذا هو ما أطلبه من الله.

 

المائدة السّماويّة

ألقيت في يوم الأربعاء الموافق 22 تشرين
الثّاني 1911 في البيت المبارك في باريس

هو الله

ينبغي أن تكونوا مسرورين وشاكرين لأنّه قد تأسّس بحمد الله مجمع نورانيّ ومحفل سماويّ في هذه المدينة. وبالرّغم من أنّ في باريس مجامع كثيرة إلا أنّها جميعًا تتناول المسائل المادّيّة. أمّا الحفل الّذي يذكر فيه الله فهو هذا الحفل. الحمد لله فالقلوب متوجّهة إلى الله والأرواح منجذبة إلى ملكوت الله والإحساسات الرّوحانيّة موفورة. وأفكاركم ليست منحصرة في العالم التّرابيّ بل إنّ لكم نصيبًا من العالم الطّاهر. ولستم مثل الحيوانات الّتي لا همَّ لها إلا الشّؤون المادّيّة من مأكل ومشرب ومنام. وتنحصر آمالها في أن تمرح في المروج الخضراء وأن تحصل على غابة نضرة وبستان أخضر ومأوى ومأمن لها. بل إنّكم بشر ينحصر تفكيركم في تحصيل الكمالات الرّحمانيّة، ومنتهى آمالكم تأمين الخير لعموم البشر وتأسيس وحدة العالم الإنسانيّ والتّرويج لها. وأنتم تجتهدون ليل نهار كي تسرّوا خاطرًا، وتسلّوا محزونًا، وتقوّوا ضعيفًا، وتساعدوا بائسًا. فجميع أفكاركم ملكوتيّة وجميع إحساساتكم روحانيّة. ليس لكم مع أي ملّة عداوة، ولا تريدون الخلاف مع أيّ جنس. فأنتم للكلّ محبّون، ولخير الكلّ طالبون. تلك هي إحساسات العالم الإنسانيّ، وتلك هي فضائل البشر. فإذا لم يتوفّر لإنسان ما من هذه المواهب الإلهية نصيب كان عدمه أفضل. فالزّجاج إذا حرم من السّراج كان كسره أحبّ. والشّجرة إذا عدمت الثّمر كان قطعها أولى. وكذلك الإنسان إذا حرم من فضائل العالم الإنسانيّ كان موته أفضل. جعلت العين للنّظر فإذا لم تنظر فما فائدتها؟ والأذن جعلت للسّمع فإذا لم تسمع فما جدواها؟ واللّسان جعل للنطق فإذا خرس فما فائدته. وكذلك حال الإنسان فإنّه خلق لكي ينير العالم بالمعرفة والإيمان وموهبة الرّحمن وحسن الأعمال والأخلاق ونورانيّة الأفكار. فإذا حرم من هذه الموهبة كان –بلا شك- أحطّ من الحيوان، ذلك لأنّ الحيوان محروم من العقل فهو إذًا معذور. في حين أن الله وهب للإنسان عقلاً كي يكون إنسانيًّا وكي يجتهد في تأمين الخير لعموم البشر.
فإذا تابع أيّ إنسان تعاليم بهاء الله وفّق بكلّ تأكيد إلى معرفة غاية عالم الودجود. ذلك لأنّ هذه التّعاليم هي الرّوح لجسد العالم والنّعمة لجميع البشر، والرّحمة لنوع الإنسان ولذلك
اجتهدوا بالرّوح والفؤاد أن تعملوا بموجب تعاليم بهاء الله. فإذا وفّقتم إلى هذا فاعلموا أنّها العزّة الأبديّة والحياة السّرمدية وسلطنة العالم الإنسانيّ والمائدة السّماويّة.
وإنّني لأدعو لكم أن توفّقوا إلى هذه المواهب السّماويّة وأن تختصّوا بهذه الفضائل الرّحمانيّة.

 

غفلة النّاس عن الله

ألقيت في يوم الخميس الموافق 23 تشرين
الثّاني 1911 في البيت المبارك في باريس

هو الله

يقولون إنّ قطارًا سقط في نهر السّين وغرق خمسة وعشرون شخصًا كانوا فيه. واليوم سوف يدور في برلمان فرنسا بحث مفصل حول أسباب وقوع هذا الحادث، وسوف يحاكمون وزير السّكك الحديدية وسيدور النّقاش والجدال العنيف. وقد تعجبت كثيرًا أن يحدث في البرلمان كلّ هذا الهيجان من أجل خمسة وعشرين شخصًا سقطوا في النّهر وغرقوا ثمّ لا ينطق أحد بحرف واحد من أجل طرابلس الّتي يقتل فيها في اليوم الواحد ألوف من الأشخاص بحيث إنّه قتل فيها حتّى اليوم خمسة آلاف شخص فلم يخطر ببال البرلمان قط أنّ هؤلاء بشر، وكأنّما هم حجر. فما هو السّبب في أنّ البرلمان يثور ثائره من أجل خمسة وعشرين شخصًا، ولا ينطق قط بحرف واحد من أجل ستة آلاف شخص؟ مع أنّ هؤلاء بشر وأولئك أيضًا بشر، ومع أنّهم جميعًا من نسل آدم، غير أنّ أولئك ليسوا من أصل فرنسيّ ولذلك لا يهتمّ بهم حتّى لو مزّقوا إربًا إربًا. فانظروا أيّ قدر بلغ عدم الإنصاف وأيّ قدر بلغ تبلّد الإحساس، وأيّ قدر بلغ الجهل. إنّ لهؤلاء البؤساء في طرابلس آباء وأمّهات ولهم أولاد وبنات وزوجات، وهم يمزّقون إربًا إربًا، فما هو ذنبهم؟
لقد قرأت في الصحف أنّ العويل والنّحيب يتعالى من حناجر النّاس في إيطاليا نفسها. وهكذا لم يقتصر الألم على العرب بل إنّ الحال وصلت بنساء إيطاليا إلى حدّ العويل والنّحيب، فانهمرت الدّموع من عيون الأمّهات، وأدميت قلوب الآباء، وبلغ بكاء الأطفال وصراخهم عنان السّماء. فانظروا مدى توحّش البشر. وانظروا مدى غدر الإنسان، ومدى غفلته عن الله.
ما ضرُّهم لو أنّهم استعاضوا عن السّيف والرّصاص والبنادق والمدافع بالألفة والمحبّة وحسن المعاشرة والطّرب والسّرور وسكروا بخمر الحبور في موكب السّرور واحتضن بعضهم بعضًا وتغنّوا بنشيد واحد؟ أليس هذا خير لهم؟ أما كان ينبغي لهم أن يطيروا معًا كالطّيور الشّكور ولا يصبحوا كالذّئاب الكاسرة تنشب أظافر بعضها أجسام البعض الآخر ويريق بعضهم دماء بعض؟
لماذ غفل النّاس كلّ هذه الغفلة؟ لأنّهم لا يعرفون الله. ولو عرفوا الله لأكرم بعضهم بعضًا. ولو توفّرت لديهم الإحساسات الرّوحانيّة لرفعوا علم الصّلح الأكبر، ولو استمعوا إلى وصايا الأنبياء لتوفّر لهم الإنصاف.
لهذا أرجو أن تدعوا وتتضرّعوا وتبتهلوا أن يهدي الله البشر ويرحمهم ويعطيهم العقل والإحساسات الرّوحانيّة عسى أن يستريح البؤساء من بني البشر. إنّ الإنسان العاقل يفكّر في
حال البشر ليلاً ونهارًا فيتعالى صوت تضرّعه وابتهاله عسى أن يستيقظ النّائمون ويبصر العميان، ويقوم الموتى، وينصف الظّالمون، إنّني لأدعو وأرجو أن تشاركوني الدّعاء.

نور الهداية

ألقيت في يوم الجمعة الموافق 24 تشرين
الثّاني 1911 في البيت المبارك بباريس

هو الله

عندما ظهر السّيّد المسيح في أورشليم دعا النّاس إلى الله ودلّ الخلق على ملكوت الله ودعاهم إلى الحياة الأبديّة وحثَّهم على كمالات العالم الإنسانيّ. وسطع نور الهداية من هذا الكوكب اللاّمع. وضحّى بنفسه من أجل البشر. وتحمّل منتهى الظّلم. ومع ذلك عاداه جميع البشر أنكروه وآذوه، وسبوه ولعنوه ولم يهتمّوا بأمره قط. وعلّقوه مع المجرمين على الصّليب مع أنّه كان بمثابة الرّحمة الخالصة والرّأفة التّامّة ونور الحقيقة وصبح الهداية. وكان شفوقًا شفقة تنبع من روحه وفؤاده. ولكنّهم عاملوه بجفاء، ولم يدركوا قدره، ولم يهتمّوا بتعاليمه، ولم يستمعوا لنصائحه، ولم يستنيروا بأنواره، ثمّ فعلوا آخر الأمر ما فعلوه. وبعد مدّة ثبت أنّ هذه الذّات المحترمة كانت نور العالم، فإنّ كلامه سبب الحياة الأبديّة لبني آدم، وإنّ قلبه كان بجميع الخلق رؤوفًا وألطافه لكلّ النّاس شاملة. فلمّا أخذ نوره في الإشراق ندموا على ما فعلوا، ولكن بعد أن كان الأمر قد خرج من يدهم وبعد أن ازدان الصّليب بالمسيح واستشهد الحواريّون. وهكذا بعد مرور ثلاثمائة سنة عرفوا قدر المسيح. فالنّاس الّذين آمنوا بالمسيح حينما صعد إلى السّماء كانوا قلائل. ولم يقبل تعاليم السّيّد المسيح ونصائحه إلاّ نفر قليل. وكان الجهلاء يقولون من هذا الشّخص المجهول؟ ومن هذا الفريد الوحيد المغلوب الّذي لم يتبعه سوى خمسة أشخاص. ولكنّ النّفوس العليمة كانت تعلم ما سوف يحدث فيما بعد، وكانت تعلم أنّ ذلك النّور سوف يسطع وأنّ هذه الشّمس سوف تشرق على الشّرق والغرب جميعًا. وما رآه هؤلاء في عهد المسيح رآه غيرهم بعد ثلاثمائة عام.
لهذا لا تهتمّوا بقلّة عددكم وكثرة عدد الآخرين. ولا تتكدّروا من أنّ الأقوام الجاهلة لا تقبل على دينكم، ولا تتأثّروا من أنّهم يعترضون عليه وينكرونه ويستكبرون عليكم. سيفعلون بكم ما فعلوا بالحواريّين. ففي بداية الأمر آذوهم ولاموهم وشمتوا بهم وقتلوهم وأغاروا عليهم ثمّ اتّضح في النّهاية بأنّهم باؤوا بخسران مبين، وأصبح الحواريّون مقرّبين لدى أعتاب النّور المبين. ولهذا فإذا حدثت مثل هذه الحوادث فلا تتكّدروا بل استبشروا وابتهجوا واحمدوا الله على أنّكم ترون الآن ما رأته تلك النّفوس المقدّسة من قبل. فإذا لاموكم فأظهروا السّرور. وإذا أهانوكم فلا تمنعوا عنهم مساعداتكم، وإذا آذوكم فابذلوا لهم العناية واطلبوا لهم من الله العفو والمغفرة. وثقوا بأنّ أنواركم ستسطع، وعلمكم سيخفق، وصيتكم سيعلو، ورائحتكم الطّيبة الزّكيّة ستنتشر. فإذا سطع سراج الهداية من زجاج قلوبكم فإنّه سوف يشرق على الآفاق. وبالرّغم من أنّهم الآن لا يبدون أيّ اهتمام بكم فلا شكّ أنّهم سوف يفعلون ذلك عمّا قريب –فالنّفوس الّتي تدخل الملكوت الإلهيّ سوف يسطع نورها كالنّجوم البازغة وهم بالمثل كشجرة مثمرة ستحمل فواكه وأثمارًا من كلّ نوع وكبحر تنثر منه لآلئ الأسرار.

فاطمئنّوا إلى فضل الله واستبشروا بعنايته.

 

وحدة العالم الإنسانيّ

 ألقيت في كنيسة نواي ديلام في باريس قبل ظهر
يوم السّبت الموافق 25 تشرين الثّاني سنة 1911

هو الله

جميع المظاهر المقدّسة قاموا بخدمة الحقيقة. فحضرة موسى روَّج الحقيقة. والسّيّد المسيح صرَّح بالحقيقة. وجميع الحواريّين وضّحوا الحقيقة. كذلك بشَّر حضرة الرّسول بالحقيقة، وكان أولياء الله جميعًا مؤسّسي الحقيقة. وقد قام حضرة بهاء الله بتأسيس الحقيقة، وهكذا فإنّ جميع الأنبياء كانوا مظاهر الحقيقة وكانت تعاليمهم جميعًا تدعو إلى توحيد العالم الإنسانيّ وإلى الألفة والمحبّة والاتّحاد والتّنزيه والتّقديس عن ظلمات العالم النّاسوتيّ الّتي هي الخلاف والنّزاع والجدال والقتال. فلماذا نختلف ونحن أتباع هؤلاء العظام. ولماذا نتجادل ونتنازع، ونحن عبيد إله واحد تشملنا جميعًا ألطافه الرّحمانيّة. إنّ الله هو في منتهى السّلام والصّلح مع الجميع فلماذا يحارب بعضنا بعضًا. وإنّ الله رؤوف ورحيم بالجميع. فلماذا نكون نحن قساة غلاظًا؟ وإن الله خالق الكلّ ورازق الكلّ ومربّي الكلّ وحافظ الكلّ فلماذا يبتعد بعضنا عن بعض.
السّبب هو أن أساس الأديان الإلهيّة قد ضاع ونسي. وتعلّق النّاس وتشبثوا بالتّقاليد الموهومة. ولما كانت التّقاليد مختلفة لذلك فقد أصبحت سبب البغض والعداوة بين البشر. وإذا نظرنا إلى أساس الأديان الإلهيّة لوجدنا أساسًا واحدًا لها ولو رجعنا إلى هذا الأساس لاتّحدنا جميعًا واتّفقنا ولرفرف علم وحدة العالم الإنسانيّ على جميع الآفاق.
وكلّ ما في الأمر أنّ بعض النّاس جاهلون وعلينا أن نعلّمهم، والبعض أطفال علينا أن نربّيهم حتّى يبلغوا أشدّهم، ومرضى علينا أن نعالجهم بمنتهى الرّأفة.
وفضلاً عن ذلك فإنّ اختلاف أهل الأديان ونزاعهم تسبّب في غلبة الإحساسات المادّيّة على قلوب البشر وضياع الإحساسات الإلهيّة. فغرق أكثر البشر في عالم الطّبيعة وترقّوا رقيًّا معكوسًا. ذلك لأنّ الحيوان المحروم من الإدراكات الرّوحانيّة وإدراك الحقائق والحكمة البالغة الإلهيّة أسير للطّبيعة وغريق في دوّامة المادّة. ولا علم له أبدًا بالله ولا بالعالم الإلهيّ. وكذلك حال أكثر البشر اليوم فهم محرومون كلّيّة من حقيقة الأديان الإلهيّة. ولهم العذر في ذلك. لأنّ ما بيدهم هو التّقاليد. وهي مخالفة لقوانين العقل. ولهذا أصبح أكثر الخلق مادّيّين.
إذن فيا أهل الأديان هلمّوا نتنزّه عن تقاليد الأوهام ونتشبّث بأساس الأديان الإلهيّة فنتّفق ونعبد الحقيقة، ونستريح ونستظلّ بظلّ خيمة التّوحيد بمنتهى الألفة والاتّحاد. ونصبح جميعًا نجوم سماء الحقيقة وسرج العالم الإنسانيّ المضيئة. فالحقيقة هي شريعة الله وهي هداية الله وهي محبّة الله وهي فيوضات الله وهي فضائل العالم الإنسانيّ ونفثات الرّوح القدس.
تلاحظون أنّ الوحشية وسفك الدّماء من خصائص عالم الحيوان. وأنّ المحبّة والرّأفة والاتّفاق من فضائل عالم الإنسان. وبالرّغم من ذلك نرى أنّ دماء البؤساء كانت تلطّخ وجه الأرض على الدّوام كما يتّضح من تاريخ العالم منذ بداية حياة البشر في القرون الأولى والوسطى حتّى القرون الأخيرة فما زال البشر في خطر دائم.
واليوم أشرق نور الحقيقة من أفق إيران وأخذت الغيوم الكثيفة تتلاشى تدريجيًّا. وبدأت وحدة العالم الإنسانيّ تعمّ وهي الآن في بدايتها. كما بدأت المحبّة والألفة بين الأمم ترفع علمها، وبدأت نفثات الرّوح القدس تسيطر.

فيا أهل العالم تحرّكوا وافرحوا وأظهروا الطّرب والسّرور وادخلوا في ظلّ خيمة وحدة العالم الإنسانيّ.

والسّلام

 

صبح الصّلح الأكبر

ألقيت في مساء يوم الأحد الموافق 26 تشرين
الثّاني 1911 في منزل مدام كاسته في باريس

هو الله

جميع أنبياء الله هم مظاهر الحقيقة. فقد أعلن سيّدنا موسى الحقيقة، وروَّج السّيّد المسيح الحقيقة وأسّس سيّدنا محمّد الحقيقة. وأعلن جميع أولياء الله الحقيقة، كما رفع حضرة بهاء الله علم الحقيقة وكانت جميع النّفوس المقدّسة الّتي جاءت إلى هذا العالم مصابيح الحقيقة. والحقيقة هي وحدة العالم الإنسانيّ، وهي المحبّة بين البشر، وهي إعلان العدالة. وهي هداية الله. وهي فضائل العالم الإنسانيّ.
كان أنبياء الله جميعًا منادين بالحقيقة. وكانوا جميعًا متّحدين ومتّفقين. وكان كلّ رسول يبشّر بخلفه، كما كان كلّ خلف يصدّق سلفه. فسيّدنا موسى أنبأ بمجيء المسيح. والسّيّد المسيح جاء مصدّقا ًلموسى. المسيح أخبر عن محمّد، وسيّدنا محمّد جاء مصدّقًا للمسيح ولموسى. كانوا جميعًا متّحدين. فلماذا نختلف ونحن أمة هؤلاء النّفوس المقدّسة؟ فيتوجب علينا إذًا أن نحبّ بعضنا بعضًا كما كان الأنبياء يحبّون بعضهم بعضًا. ذلك لأنّنا عبيد إله واحد تشملنا جميعًا ًألطافه، وإذا كان الله في سلام مع الجميع فلماذا يقاتل بعضنا بعضًا؟ وإذا كان رؤوفا ًبالعباد جميعًا فلماذا يظلم بعضنا بعضًا.
إنّ أساس الأديان الإلهيّة: هو المحبّة والألفة والاتّحاد. وقد ترقّت العقول بحمد الله في هذا العصر، عصر النّورانيّة، وتهيّأت أسباب الألفة والاتّحاد، واستحكمت روابط المحبّة بين البشر. وقد آن الأوان لكي يصالح بعضنا بعضًا، ونعيش بالصّدق والصداقة، فلا يبقى تعصّب مذهبيّ، ولا يبقى تعصّب جنسيّ، ولا يبقى تعصّب وطنيّ بل يعيش بعضنا مع بعض في نهاية الألفة والمحبّة، ذلك لأنّنا عبيد عتبة واحدة ونستفيض من نور شمس واحدة، ويجب علينا أن نؤمن بجميع الأنبياء، وأن نؤمن بجميع الكتب السّماويّة، وأن نتخلّص من جميع التّعصّبات، وأن نخدم الله، ونروّج وحدة العالم الإنسانيّ، ونظهر فضائل العالم الإنسانيّ. ويجب علينا ألاّ نكون كالحيوانات المفترسة، وألاّ نرضى بسفك الدّماء، وأن نعتبر دماء البشر مقدّسة، وألاّ نريق الدّماء المقدّسة من أجل أهداف أرضيّة، وأن نتّفق جميعًا على قضيّة واحدة، وهذه القضيّة هي وحدة العالم الإنسانيّ.
لاحظوا اليوم ماذا يجري في طرابلس الغرب. ما أكثر الآباء الّذين يفقدون أبناءَهم وما أكثر الأطفال الصغار الّذين يحرمون من آبائهم. وما أكثر الأمّهات الحنونات اللاّتي يبكين على
مصيبتهنّ في أبنائهنذ، وما أكثر النّساء اللاّتي يندبن على مصيبتهنّ في أزواجهنّ. الدّم الإنسانيّ يراق من أجل التّراب، مع أنّ الحيوانات المفترسة نفسها لا تتقاتل من أجل التّراب، وإنّما يقنع كلّ منها بموضعه، فالذّئب يقنع بوكره، والنّمر يكتفي بمغارته، والأسد بعرينه. ولا يفكّر أيّ حيوان في التّعدّي على حقّ الآخرين، فواأسفاه للإنسان الغاشم الّذي لو تسلط على جميع الأوكار لظلّ يفكّر في وكر آخر يستولي عليه، وعلى الرّغم من أنّ الله خلق البشر إنسانيّين إلا أنّهم أصبحوا أسوأ من الحيوانات المفترسة. ذلك لأنّ الحيوانات المفترسة لا تفترس أبناء جنسها.
فالذّئب إذا اشتد توحّشه لا يفترس في اللّيلة الواحدة أكثر من عشرة خراف، في حين أنّ الرّجل الواحد يتسبّب في قتل عشرة آلاف نفس في يوم واحد، فأنصفوا وقولوا بأيّ قانون يصحّ هذا الّذي يجري في هذا العالم؟ إذا قتل إنسان إنسانًا سمّوه قاتلاً في حين أنّه إذا سفك دماء مائة ألف نفس سّموه أشجع الأبطال وإذا سرق إنسان عشرة دراهم من شخص آخر سمّوه سارقا ًمجرمًا، في حين أنه إذا أغار على مملكة بأسرها سمّوه فاتحًا. وإذا أحرق منزلاً عدّوه مجرمًا، أمّا إذا أشعل إحدى الممالك بنيران المدافع والبنادق سمّوه فاتح العالم. هذه جميعًا دلائل آفات البشر ووحشيّتهم وعدم إيمانهم. ذلك لأنّ الإنسان لو آمن بالعدالة الإلهيّة لما رضي بأن يؤذي أيّ إنسان، ولما سمح بإراقة قطرة واحدة من الدّم. بل لراح يسعى ليل نهار كي يسرّ خواطر النّاس.
وإننا نحمد الله على أنّ آثار اليقظة قد تجلّت اليوم في بعض النّاس، فهذه بداية إشراق صبح الصّلح الأكبر. وإنّنا لنأمل أن تنتشر وحدة العالم الإنسانيّ، وأن تزول العداوة والبغضاء بين البشر، وأن يتجلّى الصّلح الأكبر وأن تتآلف جميع الأمم، وأن يتشكّل محفل الصّلح، وأن تفصل هذه المحكمة الكبرى في المشكلات الّتي تقع بين الأمم والدّول. وهذا الأمر مرتبط بازدياد أنصار الصّلح في الدّنيا، وازدياد محبّي العالم الإنسانيّ واتّجاه الأفكار العامّة نحو الصّلح بحيث تضطرّ الأمم والدّول إلى الاتّحاد نتيجة لكثرة محبّي الصّلح والصّلاح.
إنّ المحبّة نور في حين أن البغض والعداوة ظلمة. والمحبّة سبب الحياة أمّا العداوة فسبب الممات. ولا شكّ أنّ العقلاء يفضّلون الحياة على الممات والاتّحاد على الاختلاف ويسعون –بكلّ ما أوتوا من قوّة- كي تزول السّحب السّوداء وتشرق شمس الحقيقة، ويصبح العالم عالمًا آخر، وتصبح كرة الأرض جنّة في نهاية الجمال واللّطف، ويتعانق الشّرق والغرب، ويتصافح الجنوب والشّمال وتتجلّى المحبّة الحقيقيّة الإلهيّة في العالم الإنسانيّ. ذلك لأنّ إظهار المحبّة للخلق بمثابة إظهارها للخالق، والرّأفة بالخلق تعتبر خدمة لله.
فابتهلوا واسعوا بكلّ ما أوتيتم من قوّة حتّى تكونوا سبب المحبّة بين البشر وسبب العدالة، وسبب اتّحاد الشّرق والغرب، وحتّى يزول التّعصّب المذهبيّ والتّعصّب الجنسيّ، والتّعصّب السّياسيّ والتّعصّب الوطنيّ بإذن الله ويفوز العالم بالطّمأنينة والرّاحة.
إنّ لكم جميعًا أبناء، وتعرفون كم هم أعزّاء لديكم. وهؤلاء البؤساء الّذين يتمزّق أولادهم إربًا إربًا هم مثلكم أيضًا. فتأمّلوا كيف تكون حال الأب والأم إذا رأيا طفلهما العزيز ملطّخًا بالدّماء. كيف تبدو حالتهما آنذاك؟ هل يتبقّى لهما من قلب وهل يهنئا براحة بال؟ هل من مسلّ لهما؟ وهكذا هو الحال الآن في طرابلس فهنالك الكثير من الآباء والأمّهات الّذين يعيشون هذه الحالة المأساوية.
لقد خلقنا الله لنكون محبّين ومتآلفين بعضنا مع بعض، لا لنسلّ السّيف على بعضنا، خلقنا لنشكّل محفل الألفة والمحبّة، ولنؤسّس ناديًا للعدل لا لنهيّئ للحرب. لقد وهبنا الله البصر
لننظر إلى بعضنا البعض بمحبّة الله وأعطانا القلب لنتعلّق بعضنا ببعض لا لنتباغض ويعادي بعضنا بعضًا. تأمّلوا مدى فضل الله على الإنسان. لقد أعطاه العقل وأعطاه الإحساس لكي يستخدم هذه القوى الرّحمانيّة في سبيل المحبّة الصّرفة وليس لمضرّة الآخرين.
فاسألوا الله أن يؤيّدكم ويوفّقكم إلى فضائل العالم الإنسانيّ، كي لا نطفئ السّراج الّذي أضاءه الله، ولا نقطع أمطار رحمة الرّحمن، ولا نمنع البركة السّماويّة. وكي نوفّق إلى أن نزيّن العالم الإنسانيّ، وأن ننير الشّرق والغرب وأن نربط جميع الأمم بعضها ببعض وأن نهدم بنيان الحرب ونكون سببًا لألفة القلوب. هذا منتهى آمالنا، وهذا هو رجاؤنا ونسأل الله أن يوفّقنا إلى ذلك.
لقد أشرق حضرة بهاء الله من أفق إيران بنورانيّة الهداية. وكتب إلى جميع الملوك رسالات خاصّة ودعاهم جميعًا إلى الصّلح الأكبر، وأسدى النّصح لهم جميعًا. ومن بين هؤلاء نابليون الثّالث الّذي كان حاكمًا لباريس. وقد ظلّ حضرة بهاء الله مدّة خمسين عامًا حتّى يوم صعوده يبذل الجهد من أجل أن تنجذب القلوب تدريجيًّا إلى الصّلح الأكبر. فالحمد لله إنّ هذا النّور في انتشار، وإنّ علم الصّلح الأكبر سيرتفع إن شاء الله. ونحن نبذل الجهد ليل نهار كي يتنوّر عالم البشر وتشرق شمس الحقيقة على الشّرق والغرب جميعًا.

 

الحكمة الإلهيّة

الخطبة المباركة في باريس في مجمع التّياصفة
الكبير ليلة الخميس في 6 كانون الأوّل سنة 1911

هو الله 

الحكمة الإلهيّة أعظم فضائل العالم الإنسانيّ والحكمة هي الاطّلاع على حقائق الأشياء على ما هي عليه.
والعلم والإحاطة بحقائق الأشياء أمر مستحيل من دون الحكمة الإلهيّة لأنّ العلم قسمان: أحدهما تصوّري والآخر تحقّقي أو بعبارة أخرى: حصوليّ وحضوريّ.
فمثلاً يعلم كلّنا أنّ هنالك ماء ولكن علمنا هذا تصوّر محض. أمّا عندما نشربه فإنّ علمنا يصبح تحقّقيًّا. لهذا قيل إنّ العلم التّامّ هو التّحقّق من الشّيء لا التّصوّر للشّيء.
ومثلاً لو علم إنسان أنّ هنالك مائدة ونعمة موجودة فإنّه لا يحصل على اللّذة بمجرد هذا التّصوّر أمّا إذا تناول من هذه المائدة فإنّه يتلذّذ ويتغذّى وبعد هذا يحصل لديه التّحقّق العلميّ التّامّ.
ومثلاً يعلم الإنسان أنّ هناك في الدّنيا شيئًا يسمّى العسل لكنّ هذا لا يكفي ولا يجعله يتذوّق طعم الحلاوة بل يجب عليه أن يذوق العسل حتّى يحصل على علم بطعمه. إذن فالحكمة هي الاطّلاع على حقائق الأشياء على ما هي عليه ذوقًا وتحقّقًا.
لهذا خلق الله الإنسان جامعًا لجميع الحقائق. فمثلاً نجد أنّ هنالك مراتب للوجود إمّا هي جماد أو هي نبات أو هي حيوان. والإنسان نوع ممتاز جامع لجميع الكمالات الجماديّة
والكمالات النّباتيّة والكملات الحيوانيّة. فالكمالات الجماديّة مثلاً أمور جسمانيّة وتركيب للعناصر وتحقّق للصّورة والمثال. وهذا الكمال موجود في الإنسان. أمّا الكمالات النّباتية فهي القوّة النّامية وهذه موجودة أيضًا في الإنسان. والكمالات الحيوانيّة هي قوّة الحسّ وهذه القوّة موجودة أيضًا في الإنسان.
إذن ففي الإنسان شموليّة ومعنى ذلك أنّه متضمّن على جميع الكمالات الجماديّة والنّباتيّة والحيوانيّة. وفضلاً عن ذلك فإنّ هذه الشّموليّة مؤيّدة بقوّة الرّوح وبتلك الرّوح يمتاز الإنسان عن سائر الكائنات فهو أشرف الموجودات والجامع لجميع الكمالات الكونيّة ومظهر الفيوضات الرّحمانيّة والمستفيض من الكمالات الرّبانيّة.
فإنّ كلّ اسم وصفة تصف بهما الله تعالى تجد منهما آية في الإنسان فمثلاً تصف الله بأنّه بصير وآية البصر عين الإنسان وإن لم تكن لديك عين تبصر بها لما تصوّرت بصيرة الله. ومن جملة الكمالات الإلهيّة السّمع ومن جملة الكمالات الإلهيّة الجود ومن جملة الكمالات الإلهيّة الإرادة ومن جملة الكمالات الإلهيّة القدرة فهذه هي كمالات إلهيّة تنعته بها. ولكلّ واحد من هذه الكمالات آية في الإنسان. إذن فهذه الكمالات فيض إلهيّ ولهذا فالإنسان جامع للكمالات الكونيّة ومستفيض من الكمالات الإلهيّة.
ولهذا السّبب صار الإنسان قاهرًا لجميع الكائنات ومتغلّبًا عليها. لأنّ جميع الكائنات العلويّة والسّفليّة أسيرة للطّبيعة. فالشّمس على ما هي عليه من العظمة أسيرة للطّبيعة والبحر على سعته أسير للطّبيعة وجميع الأجرام السّماويّة العظيمة أسيرة للطّبيعة ولا تستطيع التّجاوز قيد شعرة عن قانون الطّبيعة. والشّمس لا تنحرف عن مركز مدارها والأرض لا تتجاوز مدارها وجميعها محكومة للطّبيعة ولكنّ الإنسان على العكس منها حاكم على الطّبيعة.
فمثلاً بمقتضى الطّبيعة وأحكامها نجد كائنًا حيًّا خلق ليعيش على اليابسة وهو ليس هوائيًّا ولا مائيًّا ومع هذا فإنّه يكسر قانون الطّبيعة فيطير في الهواء ويجول فوق سطح البحر كما يجول في الميادين ويقود سفينة تحت سطح الماء وهذه أمور مخالفة لقانون الطّبيعة العام كما أنّه يحبس في الزّجاجة القوّة الكهربائيّة العاتية الّتي تشق الجبال شقًّا ويجعلها خادمة له تحمل على كاهلها جميع الأحمال. والحال أنّ هذه القوّة بموجب قانون الطّبيعة قوّة حرّة طليقة قاهرة لجميع الأشياء ولكنّها صارت مقهورة للإنسان. إذن اتّضح أنّ الإنسان يخرق قانون الطّبيعة ولهذا فهو أشرف جميع الكائنات لأنّه ذات شموليّة كاملة.
والعجيب أنّ المادّيّين غفلوا عن هذه النّقطة ويصرّون على القول في تعاليمهم إنّ جميع الكائنات أسيرة للطّبيعة ولا يستطيع شيء أيّ كان من الأشياء أن يتجاوز قانون الطّبيعة والحقيقة أنّ الإنسان يخرق قانون الطّبيعة. فمثلاً يستكشف الأفلاك وهو على سطح الأرض كما ترى ويكشف الأمور الّتي هي بموجب قانون الطّبيعة سرّ مكنون وفي حيّز الغيب المستور ويجعلها في حيّز الشّهود. فمثلاً القوّة الكهربائية وجهاز التّصوير وجهاز الحاكي كانت كلّها في القرون الماضية سرًّا مكنونًا ورمزًا مخزونًا وكان اختفاؤها واجبًا بمقتضى الطّبيعة أمّا عقل الإنسان الّذي هو موهبة إلهيّة فقد نقل هذا السّرّ المكنون من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود. إذن برغم كون الكائنات جميعها أسيرة للطّبيعة فإنّ الحقيقة الإنسانيّة غالبة على الطّبيعة. سبحان الله كيف يحسب المادّيّون الطّبيعة فاعلة مطلقة؟ وكيف يعبدونها في الوقت الّذي فيه نراهم وقد قهروها؟ وفوق هذا يستدلّون على الطّبيعة بأدلّة فيقولون إنّ الوجود عبارة عن تركيب العناصر وإنّ الفناء عبارة عن تحليلها. فمثلاً تركّبت عناصر ومن ذلك التّركيب وجد الإنسان وعندما يتحلّل هذا التّركيب ويتفرّق يكون الموت وما دام وجود الأشياء عبارة عن تركيب العناصر وموتها عبارة عن تحليلها فما الحاجة إذًا إلى صانع قدير فريد؟
ولكنّهم لا يفكّرون أنّ التّركيب على ثلاثة أنواع: فهو إمّا تركيب بالصّدفة للعناصر أو تركيب إلزاميّ لها أو تركيب بإرادة الحيّ القدير.
فلو قلنا إنّ تركيب العناصر هو تركيب بالصّدفة لوجب أن نقول بحدوث المعلول بدون علّة وهذا واضح البطلان.
ولو قلنا إنّ تركيب العناصر ناتج عن اللّزوم الذّاتيّ لها لوجب أن نعترف أنّ اللّزوم الذّاتيّ لا يمكنه الانفكاك فمثلاً الحرارة لزوم ذاتيّ للنّار والرّطوبة لزوم ذاتيّ للماء. فالحرارة لا تنفكّ عن النّار والرّطوبة لا تنفكّ عن الماء. إذن ما دام هذا التّركيب لزومًا ذاتيًّا فلا يمكن أن يكون له تحليل أو تفريق لأنّ اللّزوم الذّاتيّ لا يناله انفكاك. إنّ هذا النّوع الثّاني ليس أيضًا السّبب في تركيب العناصر. إذن فما الّذي بقي؟ إنّه النّوع الثّالث وهو تركيب العناصر بتقدير الحيّ القدير.
إذن ينحصر تركيب العناصر بهذا النّوع الثّالث. وهكذا يثبت أنّ هناك موجدًا وخالقًا للكائنات.
وخلاصة القول لقد اتّضح بالأدلّة العقلية الواضحة وضوح الشّمس أنّ عقل الإنسان وروحه مدركان لحقائق الأشياء. لماذا؟ لأن عقل الإنسان محيط بالأشياء وروح الإنسان محيطة بالأشياء ولكنّ النّفس النّاطقة والرّوح الإنسانيّة الّتي هي الحاملة لهذه القوّة مهما كانت في منتهى النّفوذ ولكنّ نفوذها محدود. دليل ذلك أنّ تأثير عظماء الفلاسفة وحكماء السّلف والخلف محدود وقد ربّوا نفوسًا معدودة أو ربّوا أنفسهم فقط.
ولكنّ نفوذ الرّوح القدس غير محدود وفيوضاتها غير محدودة ومهما زاد اطّلاع الإنسان على الحكمة والفلسفة وحصل على القدرة والمهارة فيهما فإنّه يظلّ محتاجًا إلى نفثات الرّوح القدس.
فمثلاً أفلاطون الّذي كان الفيلسوف الأقدم لدى اليونان وكذلك أرسطو وفيثاغورس وإقليدس كلّهم كانت دائرة نفوذهم محدودة وبرغم هذه القوّة الفلسفيّة والحكمة الّتي كانت لديهم لم يستطيعوا أن يربّوا إنسانًا يضحّي بحياته من أجل العموم.
أمّا النّفوس الّتي كانت مؤيّدة بالرّوح القدس فقد كان لها نفوذ بحيث سارع جمّ غفير من النّاس من تأثير أنفاسهم إلى ميدان الفداء، من أمثال هذه النّفوس بطرس الّذي لم يكن له على حسب الظّاهر علم. فقد كان هذا الشّخص صيادًا للأسماك ولم يكن له علم وفضل وكان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب إلى درجة لم يكن يعرف حساب أيّام السّبت ومع هذا فإنه لمّا تأيّد بنفثات الرّوح القدس أثّر في عالم الوجود تأثيرًا جسيمًا وأيّ تأثير!
ومقصدي هو أنّ الإنسان مهما ارتقى في الحكمة وارتقى في الفلسفة فإنّه يبقى محتاجًا لنفثات الرّوح القدس، ومهما اكتسب الإنسان من الكمال فإنّ دائرة نفوذه تبقى محدودة. وإذا أراد أن يسيّر أفكار البشر فإنّ تحريكه لها يكون محدودًا ولا يكتسب صفة الشّمول والإحاطة.
ولكنّ أولياء الله أوجدوا في عالم الأفكار حركة عموميّة وظهرت آثار غريبة فمثلاً حضرة إبراهيم مع أنّه كان ابن نحّات للأحجار فإنّه أوجد في عالم الفكر البشريّ حركة جديدة وكذلك حضرة موسى أوجد حركة عامّة في الأفكار البشريّة وكذلك أيضًا السّيّد المسيح فمع أنّه كان من أسرة فقيرة إلاّ أنّه أوجد في عالم الأفكار حركة عموميّة غير اعتيادية وعمّت سطوته
أرجاء العالم. وكذلك حضرة محمّد فمع أنّه كان أميًّا إلا أنّه كان ذا نفوذ عجيب في مجال الأفكار العموميّة وأوصل الأمة العربية إلى أعلى درجات الكمال وكذلك حضرة الباب أوجد حركة عموميّة في عالم الأفكار.
إذن فقد اتّضح أن النّفوس المؤيّدة بالرّوح القدس لها نفوذ كامل بحيث إنّها تجدّد العالم وتهبه حياة أبديّة وتنير الشّرق والغرب وإنّ قدرتها وتأثيرها غير محدودين بل تمرّ آلاف السّنين ويبقى نفوذها. أمّا لو كان الإنسان غير مؤيّد بالرّوح القدس فإنّ حركته تظلّ محدودة مهما كان عالمًا ومؤسّسًا للفلسفة، واليوم لما انقطعت حركة الأفكار اللاّهوتية بصورة كلّيّة ونسخت الحكمة الإلهيّة وتغلّبت المادّيّات وسيطرت ظلمة الأوهام واختفت الحقيقة ظهر حضرة بهاء الله من أفق إيران وأوجد في عالم الأفكار حركة قويّة فوجد الإيرانيّون إحساسات ربّانيّة وأدركوا الحكمة الإلهيّة وتغيّرت أفكارهم وأطوارهم وأفعالهم بصورة كلّيّة.
وكان النّاس كلّهم أسرى التّقاليد فأصبحوا خلقًا جديدًا ونالوا روحًا جديدة وأشرق نور الحقيقة.
إنّ جميع الملل والأديان غارقة في بحر الأوهام ولم يبقَ من حقيقة الأديان الإلهيّة أثر ولا خبر وقبل النّاس كلّ ما سمعوه من الآباء والأجداد فاتّبعوه ولا زالوا يتّبعونه. فالطّفل اليهوديّ يصبح يهوديًّا والولد المسيحيّ يصبح مسيحيًّا والبوذيّ بوذيًّا والزرادشتيّ زرادشتيًّا. إذن فالجميع أسرى التّقاليد ويتّبعون تقاليد آبائهم وأجدادهم.
أمّا بهاء الله فقد قال إنّ التّقليد غير جائز ويجب تحرّي الحقيقة.
ثمّ إنّ بهاء الله تفضّل أنّ العلم والدّين توأمان لا ينفكّان عن بعضهما والدّين الّذي ليس متّفقًا مع العقل والعلم والفن ليس بدين بل هو تقاليد للآباء والأجداد وهو أوهام لأن العلم عبارة عن الحقيقة، إذن يجب أن يكون الدّين مطابقًا للعلم وإن لم يكن مطابقًا فهو باطل وأوهام.
وتفضّل أنّ الدّين يجب أن يكون سبب الألفة والمحبّة بين البشر وأن يؤلّف بين القلوب والأرواح فإن أصبح الدّين سبب العداوة فإنّ عدمه خير من وجوده.
وتفضّل أنّ الدّين يجب أن يكون سبب وحدة العالم الإنسانيّ لا سبب الاختلاف وكلّ دين حقّ لا بد أن يوحّد القبائل المختلفة فالدّين إن لم يكن سببًا لوحدة العالم الإنسانيّ فلا شكّ أنّ عدمه خير من وجوده.
وتفضّل أنّ الدّين يجب أن يزيل التّعصّب فإن لم يزله فليس بدين لأن الدّين هو اتباع الحقّ والله يحبّ جميع الخلق وهو في صلح وسلام مع جميع الخلق وهو رؤوف بجميع الخلق فيجب علينا اتّباع الله ويجب أن نحبّ جميع الخلق وأن نكون شفوقين بهم جميعًا إذًا يجب أن نغضّ الطّرف عن التّعصّب الجنسيّ والتّعصب الوطنيّ والسّياسيّ والمذهبيّ ونتحرّى الحقيقة لأنّ هذه التّعصّبات سبب الاختلاف بين البشر ومن أجلها سفكت الدّماء ونتيجتها هي نواح الأمّهات المسكينات بالويل والثّبور لمقتل أبنائهن. وهذا التّعصّب نتيجته فقدان الآباء أبنائهم وهذا التّعصّب هو الّذي يهدم الممالك. وكان هذا التّعصّب، ولا يزال سببًا لاضطراب العالم. أمّا لو ذهبت التّعصّبات فإنّ جميع البشر يأتلفون بمنتهى المحبّة في ما بينهم.
والمقصود أننا يجب أن نتّبع الله وننفّذ السّياسة الإلهيّة ولقد أراد الله أن نكون نحن أنوارًا فلماذا نكون ظلاّمًا؟ وأراد الله أن نكون نحن مظهر الرّحمة والرّأفة فلماذا نكون مظهر
الغضب والنّقمة؟ والله يحبّ جميع عبيده فلماذا لا نحبّهم نحن؟ وهو يرزق الجميع ويحيي الجميع ويحفظ الجميع وهوعلى شأن من الرّأفة عظيم فلماذا نكون قساة؟ فلو اتّبعنا نفثات الرّوح القدس فمن المؤكّد أن الرّحمة الإلهيّة وموهبة الرّبّ الغفور تشملنا وإن استفضنا من شمس الحقيقة كنّا نورًا للجميع ولو اقتبسنا الفيض من المركز كنّا للكلّ رحمة دون شكّ.
وإنّي هذه اللّيلة مسرور جدًّا وقد جئت إلى مجلس حضرت إليه هذه الذّوات المحترمة وتشرّفت بلقائهم فالوجوه ولله الحمد منيرة والقلوب طاهرة والأرواح مستبشرة بالبشارات الإلهيّة ومقصود الجميع هو تحرّي الحقيقة.
وإنّي أرجو الله أن يؤيّدكم ويوفّقكم جميعًا لعل تزداد الرّوحانيّة والحكمة الإلهيّة وتظهر أسرار الكائنات وتحيط الفيوضات حتّى تصبح فرنسا جنّة اللاّهوت.

 

حضرة زرادشت عليه السّلام

الخطبة المباركة ألقيت في رملة الإسكندريّة
في فندق فكتوريا في 4 آذار 1912

هو الله

من جملة المظاهر المقدّسة الإلهيّة كان حضرة زرادشت عليه السّلام نبوّته واضحة وضوح الشّمس وبرهانه ساطع ودليله لائح وحجّته قاطعة وقد ظهر زرادشت عليه السّلام في وقت كانت فيه إيران خرابًا يبابًا وكان أهلها في منتهى الخذلان وكانت الحرب الدّائمة مستعرة بين إيران وتركستان. ولقد استقرّت إيران قليلاً أيّام لهراسب لأنّه كان رجلاً تقيًّا يتحرّى الحقيقة ثمّ تربع كَشتاسب على سرير السّلطنة.
وخلاصة القول إنّه قد أحاطت بإيران ظلمات الذّلّ والهوان وفي هذا الوقت ظهر زرادشت فأنار إيران وأيقظ أهلها بعد أن تفكّكت قواها وتدنّت من جميع الجهات فتاه الإيرانيّون وسيطرت ظلمة الجهل في بلادهم ولكنّها بعثت مرّة أخرى من أثر تعاليم زرادشت ونالت روحًا جديدًا واتّجهت جهة الرّقيّ.
ومن الواضح أنّ تعاليم زرادشت عليه السّلام تعاليم سماويّة، وأنّ نصائحه ووصاياه إلهيّة، ولو لم يظهر عليه السّلام لمحيت إيران وفنيت. ولولا تعاليمه عليه السّلام لما بقي للإيرانيّين أثر ولا اسم ولحرموا من فضائل الإنسانيّة بصورة كلّيّة ولحجبوا عن الفيوضات الرّبّانيّة بصورة كلّيّة. ولكنّ ذلك الكوكب النّورانيّ أنار أفق إيران وعدل عالم الأخلاق وربّى الإيرانيّين بالتّربية الإلهيّة.
وخلاصة القول إنّ نبوّته عليه السّلام واضحة كالشّمس. ومن العجيب أن يعترف النّاس بنبوّة موسى عليه السّلام وينكروا زرادشت عليه السّلام. إذ لمّا لم يذكر اسم زرادشت عليه السّلام بصورة صريحة في القرآن فقد أنكره أهل الفرقان واعترضوا عليه. والحقيقة أنّ بعض الأنبياء فقط ذكرت أسماؤهم في الفرقان ومعظمهم ذكرت صفاتهم ولم تذكر أسماؤهم ما عدا ثمانية وعشرين نبيًّا.. أمّا الآخرون فقد ذكر أكثرهم بالتّلويح دون التّصريح بأسمائهم. وأمّا بخصوص زرادشت عليه السّلام فيذكره القرآن كنبيّ بعث على سواحل نهر (آراس) وبهذا العنوان ذكر زرادشت عليه السّلام في القرآن بأنّه نبيّ “أصحاب الرّس” ولما لم يفهم حضرات
المفسّرين كلمة “الرّس” فقد فسروها بمعنى البئر. ولمّا كان شعيب عليه السّلام قد ظهر في مدين وكان أهل مدين يشربون الماء من الآبار لذا ظنّ المفسرون أنّ النّبي الّذي بعث في الرّس كان شعيبًا عليه السّلام. وقد ذكر بعض المفسرين أنّ المقصود بالرّس هو نهر آراس وأنّه بعث عدد من الأنبياء هناك ولم تذكر أسماؤهم في القرآن وهكذا كان قولهم.
وخلاصة القول إنّ زرادشت عليه السّلام ذكر في القرآن باسم “نبيّ ضفاف الرّس” وإنّ عظمته واضحة كالشّمس وقد بقيت عظمته مستورة حتّى يوم ظهور الجمال المبارك وبعد ذلك رفع الجمال المبارك اسمه وذكر في الألواح أنّ زرادشت عليه السّلام كان أحد المظاهر المقدّسة الإلهيّة. وكما أنّ مكنونات الأرض تظهر عندما يهطل الغيث ويهب النّسيم وتشرق الشّمس كذلك حينما ظهر الجمال المبارك شمس الحقيقة وأشرقت أنواره ظهرت للعيان جميع الحقائق والأسرار، ومنها قضية زرادشت عليه السّلام. فقد ظلّ الفرس تائهين مدّة ألف سنة ونيّفًا لا مأوى لهم ولا ملجأ لهم. ولكنّ الجمال المبارك ولله الحمد احتضنهم في كنفه وبعد ألف سنة أنقذهم من هذه الذّلّة ومن هذه المشقّة وأعلن نبوّة زرادشت عليه السّلام. وصارت هذه القضيّة أيضًا سببًا في ألفة العالم الإنسانيّ ومحبّته وارتباطه ووحدته. وقد وضع الجمال المبارك جميع الأمم تحت ظلّ جناح عنايته وواسى قلوب الجميع وترأّف بالجميع.
ولهذا فإنّ أمره رحمة للعالمين وظهوره سبب نجاة من على الأرض وسرور جميع الملل. وقد رفع حكم السّيف ووضع مكانه المحبّة الحقيقيّة ومحا التّباعد والتّنافر وأسّس الألفة والتّجاذب بين العموم. وقد نجّانا ولله الحمد من كلّ قيد وصالحنا مع جميع الملل وجعلنا محبّين للعالمين واعتبرنا من البهائيّين لهذا يتوجب علينا أن نرفع له الشّكر في كلّ آن ألف مرّة وأن نقوم بواجب العبوديّة له وهذا منتهى آمالنا وأمانينا. لاحظوا أيّة موهبة تلطّف بها! فهذا الجمع المجتمع الآن جاء من أماكن مختلفة وجاءت كلّ نفس من إقليم وبلد. وما أعظم الاختلاف الّذي كان بيننا وما أشد النّزاع الّذي كان بيننا. وما أكثر ما كنّا مبتعدين عن بعضنا. فتجلّى علينا بالصّفات الرّحمانيّة وجمعنا وألَّف بيننا ووحَّدنا وجمعنا حول مائدة في مكان مثل هذا المكان في بلاد الغربة فصرنا كلّنا في كمال المحبّة والألفة والاتّحاد مجتمعين حول هذه المائدة وليس لنا هدف غير عبوديّة العتبة المباركة ولا نبتغي غير المحبّة والألفة فقلوبنا مرتبطة بعضها ببعض وأرواحنا كلّها مستبشرة بعناية الجمال المبارك وكلّ هذا واضح شديد الوضوح في هذا الجمع الّذي نحن فيه. ترى ماذا سيحدث في المستقبل؟ وكيف ستتّحد جميع الملل والمذاهب والشّعوب والقبائل المختلفة المتحاربة المتنازعة؟ فالاتّحاد الموجود الآن هو بمثابة عنوان المقالة. ترى ماذا سيكون متن هذا المقال وشرحه؟ ومجلسنا هو ديباجة الكتاب ومنها تعرف حقائق هذا الكتاب ومعانيه.
وأملي أن يكون كلّ واحد منا حين يرجع إلى وطنه أو مسكنه آية من الآيات الإلهيّة وموهبة من المواهب الرّبّانيّة ويكون سببًا في ألفة القلوب وسببًا في اتّحاد النّفوس وارتباطها. فاخدموا الوحدة الإنسانيّة وكونوا خدّامًا لجميع البشر ومحبّين لجميع من على الأرض واجتمعوا بين الغريب والقريب وانظروا إلى العدو والحبيب نظرة واحدة وعاشروا الجميع في منتهى المحبّة والرّأفة وهذا منتهى آمالنا وأمانينا وإنّي على يقين بأنّكم ستعملون هذا.

 

مولد الرّسول الكريم

الخطبة المباركة ألقيت في رملة الإسكندريّة
في فندق فكتوريا في 6 آذار 1912

هو الله 

إنّ المظاهر المقدّسة الإلهيّة كانت شموسًا نوّرت عالم الإمكان لعظيم الإشراق. وقد نور كلّ واحد منهم العالم وقت طلوعه، إلاّ أن كيفيّة طلوعهم كانت متفاوتة. فحضرة موسى أشرق كوكبه على الآفاق ولكنّه نشر شريعة الله بين بني إسرائيل بقوّة قاهرة ولم يتجاوز إلى مكان آخر بل حصرها في بني إسرائيل وحدهم.
وأعني بهذا أنّ كلمة الله وهبت بني إسرائيل روح الإيمان وأخذت بيد تلك الملّة في ظلّ شريعة حضرته نحو جميع مراتب الرّقيّ، فنموا وتوسّعوا حتّى وصلوا إلى عهد سليمان وداود. ولقد استغرق ذلك مدّة خمسمائة سنة حتّى انتشر الأمر الإلهيّ انتشارًا يليق به. ولقد كان بنو إسرائيل في زمان فرعون في نهاية الذّلّ والضّعف مستغرقين في الهوى والملذّات ومنغمسين في الرّذائل والموبقات، فارتقوا بقوّة حضرة موسى المعنويّة ونجوا من الظّلمات وصاروا سببًا في تنوير الآفاق وتربّوا وفق التّربية الإلهيّة إلى أن بلغوا منتهى درجة الرّقي. وبعد ذلك انحرفوا عن الصّراط المستقيم، وانصرفوا عن المنهج القويم، ووقعوا مرّة أخرى في الذّلّ القديم، إلى أن جاءت دورة حضرة المسيح وطلع الكوكب العيسويّ وفي أيّام حضرته اهتدت فئة بنور الهداية واشتعلت بنار محبّة الله وانجذبت وانقطعت عمّا سوى الله وانصرفت عن راحتها وعن عزّتها وعن حياتها ونسيت جميع شؤونها، إلاّ أنّها كانت فئة قليلة وفي الحقيقة كان عدد المؤمنين الحقيقيّين اثني عشر نفرًا وأعرض عن الحقّ واحد منهم واستكبر، فانحصرت عدّتهم بأحد عشر نفرًا وبضع نساء. وقد مرّت ثلاثمائة سنة لم ينتشر أمر حضرته انتشارًا كبيرًا ثمّ نفذت كلمة الله وبلغ نداء ملكوت الله جميع أطراف الأرض وأحيت روحانيّة حضرته العالم ونوّرته بنورها. ثمّ جاء زمان حضرة الرّسول عليه السّلام وطلعت شمس حضرته، ولكنّه ظهر في صحراء قاحلة لا ماء فيها ولا نبات بعيدة عن سيطرة الملوك ولا تسودها قوّة ولم تنفذ إليه قوى سائر الممالك، بل كانت القوّة محصورة في بضع قبائل كانت هي في منتهى الضّعف ولكنّها كانت ذات صولة بالنّسبة لغيرها من القبائل. وكانت قبيلة قريش أعظم تلك القبائل وكانت أعظم قوّة لها لا تزيد على الألف شخص، وكانت تحكم مكّة وكانت المعيشة في بادية العرب عارية عن النّظام والسّلطة، وكان سلاحهم عبارة عن السّيف والرّمح والعصا. لقد رفع حضرته أمر الله بقوّة قاهرة ومن المعلوم أنّ كلّ نفس ترى القوّة القاهرة تخضع وتخشع ولها يستسلم كلّ عاصٍ ويطيع. فلو أنّ إنسانًا قرأت له ألف كتاب من النّصائح ولم يتأثّر بها واستدللت له بدلائل وبيّنت له بيّنات تؤثّر حتّى في الصّخر الأصمّ ولكنّها لا تؤثّر فيه، فإنّه بأقلّ قوّة قاهرة يتأثّر إلى درجة يخضع خضوعًا تامًّا ويخشع خشوعًا ويقوم بامتثال الأمر، فحضرة الرّسول رفع أمره بالقوّة القاهرة وبها رفع رايته ونشر شريعة الله. أمّا الجمال المبارك وحضرة الأعلى فقد ظهرا في زمان زلزلت فيه قوى الدّول القاهرة أركان العالم ولم يعتكفا في مكان خالٍ من العمران بل ظهرا في قطب آسيا وأعداؤهما مسلّحون بأنواع الأسلحة. ولم تكن قصّة قريش بل إنّ كلّ دولة تجول في ميدان الحرب بخمسة آلاف مدفع ومئات الألوف من الجيوش وأقصد بهذا أنّ جميع الدّول في منتهى القدرة وجميع الملل في منتهى القوّة والعظمة. ولو رجعتم إلى التّاريخ لرأيتم أنّ دول العالم لم تكن في أيّ عصر أو قرن بهذه القوّة، ولم تكن ملل العالم على هذا الانتظام. ففي وقت كهذا طلعت شمس الحقيقة من الأفق الرّحمانيّ، إلاّ أنّها طلعت في منتهى المظلوميّة وحيدة فريدة لا معين لها ولا نصير. وكانت
قوى العالم قائمة على مقاومة الجمال المبارك على الدّوام. وقد وردت على الوجود المبارك كلّ أنواع المصائب في موارد البلاء ولم تبقَ بليّة لم ترد على الوجود المبارك في منتهى درجة من الشّدة. فقد كفَّره الجميع وحقّروه وضربوه ضربًا مبرّحًا وسجنوه ونفوه وأخيرًا أخرجوه من وطنه بمنتهى المظلوميّة ونفوه إلى العراق ثمّ نفوه مرّة أخرى إلى إسطنبول ونفوه مرّة ثالثة من إسطنبول إلى الرّوميلّي وبعد ذلك أرسلوه إلى أخرب قلاع العالم –قلعة عكّا- وسجنوه هناك. ولا يمكن تصوّر مكان للنّفي والحبس أردأ من هذا المكان ولا يمكن أن يكون هناك نفي أعظم من هذا النّفي الّذي كان أربع مرّات والّذي انتهى أخيرًا إلى قلعة مثل قلعة عكّا. ولم يحدث في التّاريخ أن ينفى إنسان أربع مرّات من محلّ إلى محلّ ويستقرّ أخيرًا في السّجن الأعظم، ومع هذا يقوم من داخل السّجن ومن تحت السّلاسل والأغلال بمقاومة من على الأرض وأعني مقاومة جميع الملوك والملل. وفي الوقت الّذي كان فيه تحت مخالبهم وزجرهم صدرت ألواحه للملوك ونزلت إنذاراته الشّديدة، ولم يهتمّ أبدًا في السّجن بأيّة دولة من الدّول. وخلاصة القول إنّ أمره أحاط العالم في السّجن وتحت السّلاسل أبلغ نغمة كلمة الله إلى الشّرق والغرب ورفع راية الملكوت وسطعت أنواره ولم تستطع جميع قوى العالم مقاومته، ولو أنّه كان على حسب الظّاهر سجينًا ولكنّه كان ممتازًا عن بقيّة المسجونين لأن كلّ مسجون يكون ذليلاً وحقيرًا في سجنه وقد سارت القاعدة العامّة على هذا المنوال ولكنّ حضرته لم يكن كذلك، فمثلاً كان جميع أولي المناصب وجميع الموظفين خاضعين خاشعين عند حضورهم في ساحته المقدّسة وكان يشهد جميع الزّائرين من الأحبّاء عيانًا أنّ بعض الأمراء المدنيّين والعسكريّين كانوا يرجون التّشرّف بنهاية الالتماس ولكنّ حضرته كان لا يقبل ذلك ولقد أراد متصرّف عكّا مصطفى ضياء باشا التّشرّف لمدّة خمس دقائق ولكنّ حضرته لم يقبل إذ كان فرمان السّلطان ينصّ على أن يكون الجمال المبارك سجينًا في إحدى الغرف وأن لا يسمح لأحد بالتّشرّف به ولو كان من عشيرته وأهله وأن يبذل أقصى الانتباه لئلا يصل إلى محضره الأقدس أحد ففي مثل هذا الوقت ارتفعت أسس دار الضّيافة وتعالت خيمته المباركة على جبل الكرمل وكان يأتي المسافرون من جهة الشّرق ومن جهة الغرب ومع أنّ فرمان السّلطان كان على هذا الشّكل ولكنّ حضرته لم يكن يعتني بفرمان السّلطان الخاصّ بتضييق السّجن عليه ومع أنّ حضرته كان في السّجن ولكنّ الجميع كانوا خاضعين أمامه وكان بحسب الظّاهر محكومًا ولكنّه في الحقيقة كان حاكمًا وكان بحسب الظّاهر سجينًا ولكنّه كان في منتهى العزّة.
وموجز القول إنّ الجمال المبارك رفع أمره تحت السّلاسل وهذا برهان لا يستطيع أحد نكرانه وكلّ شخص يبعد وينفى يصبح ذليلاً جبانًا بل يفنى ويضمحلّ ولكنّ نفي الجمال المبارك صار سببًا لإعلاء الأمر وكلّ شخص يسجن يكون سجنه سبب اضمحلاله ولكنّ سجن الجمال المبارك كان سبب استقلاله وكلّ شخص تهجم عليه الجماهير ينعدم ويفنى ولكنّ هجوم الجماهير على الجمال المبارك صار سببًا لإشراق الأنوار فسطعت أنواره ولمعت آياته وتمّت حجته ولاح برهانه.
هذا وإنّ هذه اللّيلة ليلة ميلاد حضرة الرّسول ولقد احتفل حضرات المسلمين بالمولد وإنّ احتفال حضراتهم هو عادة من عادات ألف سنة يسيرون وفق طقوسها وقواعدها وآدابها ولكنّ لهذا المولد في الحقيقة آثارًا جديدة ظهرت في العالم ونتائج مفيدة حصلت ولقد كان هذا المولد سببًا في تغيير وتبديل الوضع في قارّة آسيا من حال إلى حال أخرى وأنتج تأثيرات عجيبة في ذلك الحين ولكنّ حضراتهم لم يعرفوا ماذا يصنعون بعد حضرته فظهر في كلّ رأس من الرّؤوس ميل من الميول وارتفعت من كلّ حنجرة من الحناجر نغمة خاصّة، وخلاصة القول لم يتركوا ذلك النّور السّاطع يتألّق بل شغلوا بالنّزاع والجدال وحمل كلّ واحد
على الآخر حملة الحيوانات الكاسرة. لقد كانت ليلة المولد في الحقيقة ليلة مباركة للقارّة الآسيويّة ولكنّ القوم لم يسمحوا لها أن تبقى كذلك بل قاموا بالنّهب والسّلب والنّزاع والجدال.
أمّا نحن أرقّاء الجمال المبارك وعبيد عتبته فإنّنا غرقى بحر عنايته وساكنون في ساحل شريعته ومشمولون بلحظات عين رحمانيّته لعلنا نكون أوفياء لعتبته المباركة وننهج نهجًا نكون فيه السّبب لنورانيّة الأمر ولعلو الأمر ولروحانيّة الأمر المبارك حتّى تذوق الأرواح حلاوة تعاليم الجمال المبارك ولكنّ هذا مشروط بشرط واحد هو أن نعمل وفق الوصايا والنّصائح المباركة ويقيني سوف يتنوّر العالم ولكنّ الشّرط لحصول ذلك هو العمل بوصايا ونصائح الجمال الأبهى.

 

يوم النّيروز

الخطبة المباركة في رملة الإسكندريّة في فندق
فيكتوريا يوم النّيروز الموافق 20 آذار 1912

هو الله

من العادات القديمة أن يكون لكلّ أمّة يوم من أيّام الفرح العام وفي ذلك اليوم تبتهج جميع الأمّة وتهيَّأ وسائل البهجة والسّرور. أي أنّ النّاس ينتخبون من أيّام السّنة يومًا واحدًا وقعت فيه واقعة عظمى أو أمر جليل ويظهرون في ذلك اليوم منتهى السّرور والحبور والابتهاج فيزور بعضهم بعضًا وإذا كانت بينهم كدورة فإنّهم يجتمعون ويزيلون ذلك الكدر والاغبرار وانكسار القلوب ويقومون مرّة أخرى على الألفة والمحبّة. وحيث إنّه وقعت لإيرانيّين في يوم النّيروز أمور عظيمة لهذا اعتبرت الأمة الإيرانيّة النّيروز يومًا بهيجًا وجعلته عيدًا وطنيًّا لها.
وفي الحقيقة إنّ هذا اليوم مبارك جدًّا لأنّه بداية الاعتدال الرّبيعي وأوّل الرّبيع في النّصف الشّمالي من الكرة الأرضيّة وتجد جميع الكائنات الأرضيّة أشجارًا وحيوانات وإنسانًا روحًا جديدًا فيه، وتجد نشاطًا جديدًا من النّسيم المحيي للأرواح فتنال روحًا جديدة وحشرًا ونشرًا بديعين لأنّ الفصل فصل الرّبيع، وتظهر في الكائنات حركة عموميّة بديعة.
لقد حدث في إيران في أحد الأزمان أن اضمحلّت السّلطنة ولم يبقَ منها أثر ثمّ تجدّدت في هذا اليوم وجلس جمشيد على العرش ونالت إيران الرّاحة والاطمئنان فنشطت قوى إيران المفكّكة مرّة أخرى وتجلّى على القلوب والأرواح اهتزاز عجيب بحيث وصلت إلى أسمى ما وصلت إليه في عهد سلطنة كيومرث وهوشنك ووصلت عزّة الدّولة والأمّة الإيرانيّة إلى درجة أعلى من العزّة والعظمة وكذلك وقعت وقائع عظيمة جدًّا في يوم النّيروز كانت سبب فخر إيران وعزّتها. ولهذا تعتبر الأمّة الإيرانيّة هذا اليوم منذ ما يقارب الخمسة والسّتة آلاف سنة يومًا سعيدًا ويستفتحون به ويعتبرونه يوم سعادة الأمة وبركتها ويقدّسون هذا اليوم ويعتبرونه مباركًا إلى يومنا هذا.
وخلاصة القول إنّ لكلّ ملّة يومًا تعتبره يوم سعادتها وفيه تهيّئ وسائل سرورها. وهناك في الشّرائع المقدّسة الإلهيّة في كلّ دور وكور أيّام سرور وحبور وأعياد مباركة. وفي تلك الأيّام يكون الاشتغال بالتّجارة والصّناعة والزّراعة محرمًا بل يجب أن يشغل الجميع
بالسّرور والحبور ويحتفلوا احتفالاً عامًا لائقًا يتّسم بالوحدة حتّى تتجسد في الأنظار ألفة الأمّة واتّحادها.
وحيث إنّه يوم مبارك فيجب أن لا يقضى عبثًا وسدًى دون نتيجة بحيث تنحصر ثمرة ذلك اليوم بالسّرور والحبور. وفي يوم كهذا يجب تأسيس مشروع تبقى فوائده دائمة لتلك الأمّة حتّى يبقى مشهودًا معروفًا على الألسن ويكتب في التّاريخ أنّ المشروع الفلاني قد تأسّس في نوروز السّنة الفلانيّة، إذن يجب على العقلاء أن يتحرّوا ويحقّقوا في ذلك اليوم في ما تحتاج الأمة من الإصلاحات، وأيّ أمر خيريّ يلزمها وأيّ أساس من أسس السّعادة يجب وضعه حتّى يتأسّس ذلك الإصلاح وذلك الأمر الخيريّ وذلك الأساس في ذلك اليوم. فمثلاً لو وجدوا أنّ الأمّة تحتاج إلى تحسين الأخلاق ففي ذلك اليوم يؤسّسون مؤسّسة لتحسين الأخلاق فإذا كانت الأمّة تحتاج إلى نشر العلوم وتوسيع دائرة المعارف يتّخذون في هذا الخصوص قرارًا أي يلفتون أنظار العموم نحو ذلك المشروع الخيريّ ولو وجدوا أنّ الأمّة تحتاج إلى توسيع دائرة التّجارة أو الصّناعة أو الزّراعة فإنّهم يشرعون في ذلك اليوم بالوسائط المؤدّية إلى ذلك المقصود أو إنّهم يلاحظون أنّ الأمّة تحتاج إلى حماية الأيتام وسعادتهم وإعاشتهم فإنّهم يقرّرون إسعاد الأيتام وقس على ذلك. فتتأسّس في ذلك اليوم مؤسّسات تفيد الفقراء والضعفاء البائسين حتّى تحصل في ذلك اليوم من الألفة العموميّة والاجتماعات العظيمة نتيجة ويتجلّى يمن وبركة ذلك اليوم. وخلاصة القول إنّ يوم النّيروز يوم مبارك جدًّا في هذا الدّور البديع أيضًا ويجب على أحبّاء الله في هذا اليوم أن يتّفقوا في الخدمة والعبوديّة ويجب أن يتكاتفوا في منتهى الألفة والمحبّة والاتّحاد وينشغلوا بذكر الجمال المبارك بكمال الفرح والسّرور وأن تتّجه أفكارهم إلى إيجاد نتائج عظيمة في مثل هذا اليوم المبارك وليس هناك اليوم نتيجة أو ثمرة أعظم من هداية الخلق لأنّ البشر المساكين محرومون من جميع المواهب الإلهيّة وبصورة خاصّة إيران والإيرانيّون فيجب على أحبّاء الله ولا شكّ في هذا اليوم أن يتركوا لهم آثارًا خيريّة مادّيّة أو آثارًا خيرية معنويّة بحيث تشمل هذه الآثار الخيريّة جميع النّوع البشريّ. لأنّ كلّ عمل خيريّ في هذا الدّور البديع يجب أن يكون عموميًّا أي أن يشمل جميع البشر ولا يقتصر على البهائيّين وحدهم. ففي جميع أدوار الأنبياء كانت المشاريع الخيرية مقصورة على الملّة وحدها ما عدا المسائل الجزئيّة كالصّدقة فقد أجازوا شمولها العموم أمّا في هذا الدّور البديع فحيث إنّه دور ظهور الرّحمانيّة الإلهيّة فإنّ جميع المشاريع الخيريّة تشمل جميع البشر بدون استثناء لهذا فكلّ مشروع عموميّ يتعلّق بعموم العالم الإنسانيّ هو مشروع إلهيّ وكلّ أمر خصوصي ومشروع لا يتعلّق بالعموم فإنّه محدود. لهذا أتمنّى أن يكون كلّ واحد من أحبّاء الله رحمة إلهيّة لعموم البشر وعليكم البهاء الأبهى.

 

تعاليم بهاء الله

ألقى حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية على ظهر الباخرة
 سدريك هوايت ستارلاين كومباني في سفره المبارك
 إلى أمريكا ليلة الخميس 28 آذار 1912

هو الله 

أشكر الله على جمعه في هذا المحفل أجناسًا مختلفة فنحن من أهل الشّرق وأنتم من أهل الغرب. إنّ هذا الاجتماع لدليل على إمكانيّة التّآلف بين الشّرق والغرب لأنّ أوّل تجلٍّ فيه هو تجلّي المحبّة. ونشكر الله لأنّه تهيّأت لنا وسائل المحبّة والألفة.
عندما ننظر إلى الكائنات نرى أنّ لكلّ كائن كمالات. فللجماد كمالات وللنّبات كمالات ولكنّ عالم النّبات يملك كمالات الجماد فضلاً عمّا لديه من كمالات نباتيّة. وكذلك الحيوان يملك كمالات نباتيّة فضلاً عمّا لديه من كمالات حيوانيّة. ونصل أخيرًا إلى الإنسان الّذي هو اشرف جميع المخلوقات وجامع لجميع الكمالات الخاصّة بالجماد والنّبات والحيوان وحائز فوق ذلك على الكمال الإنسانيّ الخاصّ به.
وحينما ننظر إلى التّاريخ البشريّ نرى أنّ العالم الإنسانيّ منذ البداية ولا يزال حتّى الآن متوجّهًا نحو الكمال ومع أنّ كمالاته غير محدودة إلاّ أنّه لم يصل حتّى الآن إلى الرّقيّ التّامّ وإلى درجة البلوغ وهكذا شهدت القرون الأولى والقرون الوسطى والقرون الأخيرة حروبًا مستديمة إمّا بين دولتين أو بين أمّتين أو بين دينين أو بين مذهبين. وقد تهدّمت بنتيجتها آلاف البيوت وأصبح مئات الألوف من الأبناء أيتامًا وثكلت مئات الألوف من الأمّهات أبناءهنّ. لهذا فإنّ العالم الإنسانيّ لم يصل بعد إلى الكمال. فهذا الافتراس لائق بعالم الحيوان لا بعالم الإنسان. وما يليق بالإنسان هو المحبّة. ولا تليق الحروب والمشاحنات إلاّ بالحيوانات المفترسة.
إنّ الحيوانات المفترسة تفترس بقدر ما يلزمها لقوتها الضّروري أمّا الإنسان فإنّه يقوم بالقتل لا من أجل قوته الضّروري بل من أجل إبراز شهرته وإظهار قدرته وإشهار سطوته وصولته. والإنسان لا يملك آلة الافتراس أي المخالب والأنياب المعقوفة الّتي لدى الذّئاب والكلاب بل يملك الأسنان لأكل الحبوب والفواكه. ومع هذا فإنّه مفترس متعطّش للدّماء. والحيوانات لا تفترس حيوانات من جنسها بل تفترس حيوانات من جنس آخر ليكون طعامًا لها. فالأسد مثلاً لا يفترس شبله، لكنّ كثيرًا من الملوك قتلوا حتّى أولادهم. إذن فالإنسان الغافل الظّالم أشدّ افتراسًا من الحيوان.
لهذا جاء جميع الأنبياء لتعليم المحبّة وكان الدّين الإلهيّ أساس الألفة والمحبّة ولكن ويا للأسف جعل النّاس كلّ ما كان سبب الألفة والمحبّة علّة العداوة وحدثت باستمرار حروب متنوّعة سواء كانت حروبًا عرقيّة أم حروبًا دينيّة أم حروبًا سياسيّة أم حروبًا وطنيّة. مع أنّ النّوع الإنسانيّ كلّه جنس واحد وجميعهم سلالة آدم وجميعهم أهل وطن واحد فلماذا يختلفون؟ ولماذا يتحاربون؟
لقد خلق الله الجميع جنسًا واحدًا وخلق الأرض كرة واحدة وخلق الجميع سلالة واحدة، فهل يليق أن يخرّب بعضهم ممالك البعض الآخر ويهلك بعضهم البعض الآخر؟
لاحظوا الأمّ المسكينة وكم تلاقي من الغصص وتتحمّل من المشاق مدّة عشرين سنة فلا تنام ليلها ولا تستقرّ نهارها كي يكبر ولدها ويصير شابًّا لطيفًا. وفجأة يسلب الحكّام ذلك الشّاب الوسيم القامة ويضعونه أمام المدفع ويسلّمونه إلى القتل دون هدف أو نتيجة.
لاحظوا كم من دماء سفكت حين تغلّبت فرنسا على ألمانيا، ثمّ عادت ألمانيا فتغلّبت عليها. وكم أتلف من النّفوس كلّ مرّة دون نتيجة! وكيف أنّ في النّهاية يفنى الجميع.
والدّولة اليونانيّة في سالف الزمان فتحت كثيرًا من الممالك فماذا كانت العاقبة؟ وأخضع الرّومان جميع أوروبّا فماذا كانت العاقبة؟ لقد قام هؤلاء بفتوحات أفني بنتيجتها هباء أربعة ملايين من النّفوس! فماذا كانت النّتيجة؟ لقد غلبوا في النّهاية. قسمًا بالعزّة الإلهيّة إنّ مثل هذا الاقتتال لا يليق حتّى بالعالم الحيوانيّ فكيف بالإنسان!
والله الرّؤوف خلقنا جميعًا وهو يرزق الجميع ويرأف بهم. إذن يجب أن نتّبع السّياسة الإلهيّة، إنّ الإنسان مهما بذل من جهد فإنّه لن يستطيع أن يؤسّس سياسة أفضل من السّياسة الإلهيّة. إنّ الله في سلم مع الجميع فلماذا نكون في حرب في ما بيننا؟ وهو رؤوف بالكلّ فلماذا نكون قساة بعضنا نحو البعض الآخر؟
وخلاصة القول إنّ القرون الماضية كانت قرون جهل أمّا هذا القرن فللّه الحمد قرن العلم وقرن الأخلاق وقرن التّمدّن وقرن اكتشاف حقائق الأشياء ولقد ارتقت العقول فيه واتّسعت دائرة الأفكار. وكم هو رائع أن تتحقّق في هذا القرن النّورانيّ وحدة العالم الإنسانيّ فتصبح جميع الفرق فرقة واحدة ويترك النّاس التّعصّبات الدّينيّة والتّعصّبات الجنسيّة والتّعصّبات الوطنيّة والتّعصّبات السّياسيّة.
ولقد ضحّى حضرة المسيح بروحه العزيزة من أجل هذا المقصد، وأعطانا مثالاً لنقتدي به فيجب أن تفعلوا أنتم مثلما فعل. وبذل حضرة موسى جهده في هذا السّبيل أربعين عامًا. كما بذل حضرة إبراهيم الهمّة من أجل هذا المقصد ذاته كي نبذل نحن أيضًا الجهد المستمرّ في سبيل الألفة والمحبّة. لأنّ راحة البشر ونورانيّة العالم الإنسانيّ تكمنان في المحبّة والألفة.
وفي الوقت الّذي كانت تعيش الفرق والملل المختلفة في إيران وكان الفرس والعرب والمجوس واليهود والنّصارى والمسلمون والطّوائف والأديان المختلفة في منتهى المشاكسة ويعتبر بعضهم البعض الآخر نجسًا بحيث لم يكن اجتماعهم ممكنًا حول مائدة واحدة ففي مثل هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله من الشّرق ظهور الشّمس ورفع علم الوحدة الإنسانيّة وألَّف بين الأقوام المختلفة بحيث لو دخل أحد مجامع البهائيّين فإنّه لا يعرف أيّهم المسيحيّ وأيّهم المسلّم وأيّهم اليهوديّ وأيّهم الزّرادشتيّ.
والتّعليم الأوّل لحضرته هو وحدة العالم الإنسانيّ حيث تفضّل بالقول كلّكم عبيد إله واحد وفي ظلّ مربّ حقيقيّ واحد. وقد خلع الله على الجميع صفة الإنسانيّة. وغاية ما في الأمر أنّ بعضهم جاهل يجب إرشاده، وطفل تجب تربيته، مريض تجب معالجته. أفهل يليق أن لا نعتني بالمريض أو نكون قساة مع الطّفل؟
التّعليم الثّاني لحضرة بهاء الله هو تحرّي الحقيقة لأنّ الملل والأديان المختلفة لو تحرّت الحقيقة فإنّها تتّحد. ولقد روَّج حضرة موسى الحقيقة وكذا حضرة المسيح وحضرة إبراهيم وحضرة الرّسول وحضرة الباب وحضرة بهاء الله كلّهم أسّسوا الحقيقة وروّجوها.
التّعليم الثّالث لحضرة بهاء الله هو أنّ الدّين يجب أن يكون سبب الألفة والمحبّة فإن أصبح سبب الاختلاف فإنّ عدمه خير من وجوده.
التّعليم الرّابع لحضرة بهاء الله هو أنّ الدّين والعلم توأمان فإذا خالف الدّين العلم صار جهلاً. إذن يجب أن نطبّق جميع المسائل الدينيّة على العلم لأنّ ما يخالف العلم جهل. والحكمة والعقل السّليم يطابقان الدّين ويؤيّدانه ولا يخالفانه في شيء.
التّعليم الخامس لحضرة بهاء الله هو أنّ التّعصّب الدينيّ والتّعصّب السّياسيّ والتّعصّب الجنسيّ والتّعصّب الوطنيّ هادمة للبنيان الإنسانيّ وبوجود هذه التّعصّبات لا يمكن أن يرتقي العالم الإنسانيّ.
التّعليم السّادس لحضرة بهاء الله تساوي حقوق الرّجال والنّساء فيجب أن تتحقّق هذه المساواة كي يساوي النّساء الرّجال في جميع الكمالات.
التّعليم السّابع لحضرة بهاء الله هو تساوي حقوق الأفراد وتعديل نمط المعيشة ويجب أن ينال جميع البشر نصيبًا من السّعادة والرّاحة. فإذا عاش الغنيّ في قصرٍ عالٍ فيجب أن يكون للفقير كذلك عشّ حقير وإذا كان الغنيّ في منتهى الثّروة فيجب أن يكون للفقير أيضًا قوت كي لا يموت. ولكن يجب المحافظة على تفاوت الدّرجات لأنّه لا يمكن أن يكون الجميع متساوين.
التّعليم الثّامن لحضرة بهاء الله هو أنّ العالم الإنسانيّ مهما ارتقى رقيًّا مادّيًّا فإنّه يبقى محتاجًا لنفثات الرّوح القدس ولقد بذل القدماء جهدًا مخلصًا في سبيل إيجاد وسائل لتربية النّفوس بقوّة العقل لكنّ الفلاسفة استطاعوا فقط تربية أنفسهم وتربية بعض النّفوس القليلة لكنّهم لم يستطيعوا تربية العموم وكلّ قوّة تعجز عن تربية العموم ما عدا قوّة الرّوح القدس. فمثلاً حضرة المسيح قام بتربية العموم بقوّة الرّوح القدس وألّف بين الملل المختلفة بحيث تآلفت أمم الكلدان والمصريّين والرّومان واليونان والآشوريّين وغيرها بقوّة الرّوح القدس. إذن فالعالم الإنسانيّ محتاج لهذه القوّة الإلهيّة كي يرتقي من ناحية العلم والعقل ومن الوجهة الرّوحانيّة أيضًا.
إنّ العقلية المادّيّة والسّياسيّة المادّيّة هي في أكثر الأحيان سبب التّفرّقة والاختلاف ويعتقد بعض السّياسيّين أنّ فلاسفة اليونان بثّوا بذور التّفرّقة بين الإيرانيّين كي يظلّوا ضعفاء. وكان هذا سبببًا في تشتّت الإيرانيّين في ما بينهم سنين عديدة. أمّا الرّوح القدس فقد كان سبب الاتّحاد والاتّفاق في ما بينهم.
إذن يجب علينا أن نبذل الجهد كي تصبح جميع أقاليم العالم إقليمًا واحدًا. فالعالم الإنسانيّ أشبه شيء بقطيع من الغنم وراعيه هو الله. فما دام الرّاعي رؤوفًا بالكلّ فلماذا تكون الأغنام متنازعة؟ ولا يجوز نسيان نصائح الرّاعي الرّؤوف كهذا. فقد أراد لنا الألفة فلماذا نريد لأنفسنا التّفرّقة وأرسل الأنبياء والأولياء كي نتّفق جميعًا فلماذا نختلف؟
الحمد لله إنّنا مجتمعون هذه اللّيلة في هذا المجمع المحترم. فأملي أن نكون سبب نورانيّة العالم الإنسانيّ وأن لا تهمّنا قلّة عددنا. فكثيرًا ما حدث أنّ أفرادًا قلائل معدودين قاموا بأمور مهمّة وتوفّقوا في إنجازها. فقد كان أصحاب حضرة المسيح قليلين ولكن بما أنّهم كانوا ذوي نوايا حسنة لذلك تغلّبوا على العالم. والآن وإن كنّا نحن قلّة هنا إلاّ أنّني أرجو أن نكون سبب القضاء على الحروب والمشاحنات. بحيث ينبغي لنا أن نبذل أرواحنا وأموالنا من أجل هذا المقصد العزيز كي يتحقّق الصّلح العموميّ. لأن كلّ أمر عموميّ هو إلهيّ وغير محدود وكلّ أمر خصوصيّ بشريّ ومحدود. فعلينا أن نضحّي بأمورنا الخصوصيّة من أجل الأمور العموميّة وإنّي أقوم بهذه الجولة من أجل ألفة الشّرق والغرب وأتمنّى أن تؤيّدوني أنتم أيضًا في مهمّتي.
لقد قضينا ستّة آلاف سنة في الحروب والمشاحنات ورأينا نتائج ذلك والآن يتوجّب علينا أن نصرف قسطًا من وقتنا وهمّتنا في سبيل المحبّة والألفة فإن لمسنا في ذلك ضررًا عدنا إلى ما كنّا عليه.
ولا شكّ أنّ النّورانيّة السّماويّة تتغلّب فتجعل النّاسوتيّ لاهوتيًّا والظّلمانيّ نورانيًّا. وإنّي أدعو الله من أجلكم كي توفّقوا إلى خدمة العالم الإنسانيّ. وسوف يأتي يوم تصبح فيه ملل الشّرق والغرب في كمال الألفة والاتّحاد في ما بينها.

 

بهائيّون حقيقيّون

الخطبة المباركة في بيت السّيّدة فيليب في
 نيويورك – أمريكا في 12 نيسان 1912

هو الله

كان يومنا طيّبًا.
في هذا العالم النّاسوتيّ لم يبقَ لي سرور غير لقاء الأحبّاء وما عدا هذا فليس هنالك شيء يسرّني، فسروري سواء من النّاحية الجسميّة أو من النّاحية الرّوحيّة هو بلقاء الأحبّاء وبنشر نفحات الله ولهذا فقد قضيت يومي بكلّ سرور لأنّ تأييدات الملكوت الأبهى تصل تباعًا ولقاء الأحبّاء حاصل دومًا.
ولكنّ كمال سروري هو في أن أرى حضراتكم تقومون بموجب تعاليم حضرة بهاء الله وتعملون بمقتضاها وتنفّذون وصايا الجمال المبارك بقلوب منجذبة إلى محبّة الله وأرواح مهتزّة بنفحات الله وبأنفس منبعثة بالرّوح القدس.
فأوّل تعاليم حضرة بهاء الله هي المحبّة وذلك أن تسود المحبّة التّامّة بين البشر لأنّ محبّة عباد الله هي محبّة الله وخدمة للعالم الإنسانيّ لهذا فقد تضرّعت إلى الملكوت الأبهى أن تشرقوا حضراتكم إشراق النّجوم من أفق محبّة الله.
اعلموا قدر هذه الأيّام فإنّ هذا القرن قرن الجمال المبارك وهذا العصر عصر نورانيّ وهذا الدّور دور أخبر به جميع الأنبياء وهذه الأيّام أيّام بذر البذور وأيّام غرس الأشجار. فالفيوضات الإلهيّة تنزل تباعًا وكلّ من يبذر بذرًا تنبت منه شقائق الحقائق وتلك هي محبّة الله ومعرفة الله والفيوضات السّماويّة والعدل العمومي والصّلح الأكبر ووحدة العالم الإنسانيّ، ولو بذرت نفس بذرًا في هذا العالم فإنّها تنال البركة الإلهيّة في جميع العوالم الإلهيّة.
إنّ عموم أهل العالم اليوم منهمكون في الشّهوات ومشغولون بالأغراض النّفسانيّة ومبتلون بالبغضاء والعداوة وشغلهم الشّاغل هو محوهم بعضهم بعضًا فيريدون أن يمحوا بعضهم البعض الآخر محوًا تامًا.
لكنّكم أنتم جمع لا مقصد لكم غير المحبّة للعموم وليس لكم أمل غير خدمة النّوع البشريّ. إذًا فيجب أن تجهدوا بجميع قواكم وتعملوا وفق تعاليم حضرة بهاء الله فعاملوا جميع البشر بالمحبّة والوحدة حتّى ينبت هذا البذر الطّاهر وينال بركة سماويّة وتسطع أنوار الملكوت وتتمّ الفيوضات الإلهيّة واعرفوا قدر هذا الفيض واجهدوا بأرواحكم وقلوبكم حتّى تظهر أنوار بهاء الله وآثاره من أعمالكم وأقوالكم وسلوككم إلى درجة يشهد النّاس فيها على أنكم بهائيّون حقيقيّون. فإن عملتم بهذا فالسّعادة الأبديّة هي لكم والفيوضات الإلهيّة تهطل عليكم تباعًا حتّى يصير كلّ منكم شجرة مباركة تحمل أثمارًا باقية.
إنّ هذا العصر عصر الجمال المبارك والرّبيع الإلهيّ وموسم الورد والرّيحان وأوان الخضرة والنّضرة فاعرفوا قدر هذا واسعوا ليلاً ونهارًا حتّى تحصل المحبّة الكاملة بين القلوب وتصبحوا في منتهى الاتّحاد وكلّما اشتدّ اتّحادكم ازداد تأييدكم.
لاحظوا أنّني في هذا السّن وفي هذا الضّعف طويت المحيط الأطلسي الأعظم حتّى أشاهد في وجوه حضراتكم أنوار محبّة الله وأرى روح محبّة الله نافذًا في قلوبكم وحتّى ألقاكم في منتهى الاتّحاد لأنكم أزهار حديقة واحدة وأوراق شجرة واحدة وأنوار شمس واحدة ولهذا فإنّي أتضرّع بمنتهى التّبتّل والابتهال وأرجو لكم العزّة الأبديّة وألتمس لكم الموهبة السّرمديّة وأدعو في حقّكم.

اليوم يوم لا يمكنني أن أنساه. اليوم يوم سيكتب ذكره بقلم من الماس.

 

الرّبيع الإلهيّ

الخطبة المباركة في بيت السّيّد والسّيّدة ماجوري
 مورتن في نيويورك في 13 نيسان سنة 1912

هو الله

إنّ أيّام ظهور المظاهر المقدّسة هي الرّبيع الإلهيّ حين تصير أراضي القلوب خضراء نضرة وتتفتّح أزهار الحدائق وتحمل أشجار الوجود الإنسانيّ أثمارًا وافرة وتجري أنهار الأسرار ويفيض ينبوع العرفان ويتجدّد عالم الوجود من أمطار الرّبيع الإلهيّ.
ولكن بعد مرور مدّة من الزّمن تنسى الحقائق الإلهيّة شيئًا فشيئًا وتذبل القلوب وتصبح النّفوس كأنّها ميّتة فينقطع الفيض الإلهيّ وتمحى الأسرار الرّبانيّة من بين النّاس ولهذا يتجلّى جمال الرّبيع الرّبانيّ مرّة أخرى وتهطل أمطار الرّحمة وتهبّ نفحات العناية ويتجدّد عالم الوجود وتمتلئ حديقة العرفان بالأزهار والبراعم وتعطي أشجار الوجود أثمارًا يانعة.
فعندما انقطعت مرّة أخرى النّفحات الإلهيّة مدّة من الزمن وزالت الكمالات المعنويّة وغلبت الرّوحانيّات وانتصرت المادّيّات وأصبح عالم الإمكان جسمًا بلا روح ولم يبقَ أيّ أثر للرّبيع الإلهيّ إذ ذاك ظهر حضرة بهاء الله فتجدّد الرّبيع الإلهيّ وهبّت تلك النّفحات نفسها وهطلت تلك الأمطار نفسها وأحاط ذلك الفيض نفسه بالعالم فبدأ العالم الإنسانيّ يرتقي يومًا بعد يوم وهبّ نسيم جديد وأصبحت أشجار الوجود نضرة وجرت أنهار الأسرار وأحاط فيض الملكوت بالوجود وصارت تأييدات الجمال الأبهى محيطة بكلّ شيء ونفثات الرّوح القدس تهب الرّوح.
وأملي أن تبحثوا في هذا الرّبيع الإلهيّ عن الفيض الأبديّ وتنالوا الحياة السّماويّة وتصبحوا أشجارًا مثمرة في حديقة الإمكان وتنالوا من نسيم العناية اخضرارًا وطراوة وتصبحوا ممتلئين بالأوراق والبراعم.
لا تكونوا كشجرة يابسة لا تؤثّر فيها أبدًا أمطار الرّبيع مهما هطلت ولا نسائم الرّوح مهما هبّت. بل كونوا أشجار الجنّة الأبهى وأزهار الحديقة الإلهيّة وكونوا في منتهى البهجة

والنّضرة وانتعشوا بالفيض الأبديّ واكتسبوا حياة خالدة وإنّي لأدعو ربّي مرّة أخرى من أجلكم.

 

أسس المدنيّة الإلهيّة

ألقيت في يوم الأحد الموافق 14 نيسان
1912 في كنيسة إسنشن في نيويورك

هو الله

في هذا الاجتماع ذكر القسيس عبارة من عبارات القدّيس بولس الّتي يقول فيها: “إنّكم لترون من وراء زجاجات ملوّنة وسيأتي يوم تواجهون فيه النّور وجهًا لوجه”.
وفي الواقع إنّ نور الحقيقة يرى اليوم من وراء زجاجات ملوّنة ولهذا فأتمنّى الآن أن تنظروا إلى التّجلّيات الإلهيّة بواسطة مرآة القلب الصّافية وبواسطة الرّوح الطّاهرة. إنّ نور الحقيقة هذا هو التّعاليم السّماويّة والأخلاق الرّحمانيّة والمدنيّة الرّوحانيّة.
وإنّني حينما جئت هذه البلاد شاهدت المدنيّة الجسمانيّة في منتهى الرّقيّ فالتّجارة في منتهى الأزدهار وكذا الصّناعة والزّراعة. فالمدنيّة المادّيّة في منتهى درجة الكمال ولكنّ المدنيّة الرّوحانيّة تأخّرت في حين أنّ المدنيّة الجسمانيّة هي بمثابة الزّجاج والمدنيّة الرّوحانيّة هي بمثابة السّراج فإن اقترنت هذه المدنيّة الجسمانيّة بتلك المدنيّة الرّوحانيّة فإنّها حينذاك تصبح مدنيّة كاملة لأنّ المدنيّة الجسمانيّة مثل جسم لطيف والمدنيّة الرّوحانيّة مثل الرّوح فإن ظهرت تلك الرّوح العظيمة في هذا الجسم اللّطيف فحينذاك ينال الجسم كمالاً.
وقد جاء حضرة المسيح ليعلّم أهل العالم المدنيّة السّماويّة لا المدنيّة الجسمانيّة فنفخ روحًا إلهيًّا في جسم عالم الإمكان وأسّس مدنيّة نورانيّة.
ومن جملة أسس المدنيّة الإلهيّة الصّلح الأكبر.

ومن جملة أسس المدنيّة الرّوحانيّة وحدة العالم الإنسانيّ.

ومن جملة أسس المدنيّة الرّوحانيّة فضائل العالم الإنسانيّ.

ومن جملة أسس المدنيّة الإلهيّة تحسين الأخلاق.

إنّ عالم البشر اليوم محتاج إلى وحدة العالم الإنسانيّ، محتاج إلى الصّلح العمومي ويحتاج هذا الأساس العظيم إلى قوّة عظيمة لكي تروّجه.
ومن الواضح أنّ وحدة العالم الإنسانيّ والصّلح العمومي لا يمكن ترويجهما بواسطة القوى المادّيّة ولا يمكن تأسيسهما بواسطة القوّة السّياسيّة لأنّ المنافع السّياسيّة للأمم مختلفة ومنافع الدّول متفاوتة ومتضاربة وكذلك لا يمكن ترويجهما بواسطة القوّة العنصريّة والقوّة
الوطنيّة لأنّ هذه القوى قوى بشريّة وقوى ضعيفة ونفس اختلاف الأجناس وتباين الأوطان مانع دون الاتّحاد والاتّفاق.
ومن المؤكّد أنّ ترويج وحدة العالم الإنسانيّ هذه الّتي هي جوهر تعاليم المظاهر المقدّسة ممتنع بغير القوّة الرّوحانيّة وبغير نفثات الرّوح القدس. أمّا سائر القوى فهي ضعيفة لا تستطيع ترويجها.
ويحتاج الإنسان إلى جناحين: أحدهما القوّة المادّيّة والمدنيّة الجسمانيّة والآخر القوّة الرّوحانيّة والمدنيّة الإلهيّة. ولا يمكن الطّيران مطلقًا بجناح واحد بل يحتاج إلى جناحين ومهما ارتقت المدنيّة الجسمانيّة فإنّها لن تبلغ مرحلة الكمال بدون المدنيّة الرّوحانيّة. وقد جاء جميع الأنبياء من أجل ترويج الفيوضات الإلهيّة وتأسيس المدنيّة الرّوحانيّة وتعليم الأخلاق الرّحمانيّة. إذًا يجب علينا أن نجهد بجميع قوانا حتّى تتغلّب القوى الرّحمانيّة لأنّ القوّة المادّيّة قد تغلّبت وأصبح عالم البشريّة غريق المادّيّات وصارت أنوار شمس الحقيقة تُشاهد من وراء زجاجات ملوّنة ولم يعد للألطاف الإلهيّة ظهور وبروز.
وفي إيران كانت هناك اختلافات شديدة بين الأحزاب والأديان فأسّس حضرة بهاء الله المدنيّة الرّوحانيّة في إيران وألَّف بين أمم مختلفة وروّج وحدة عالم البشر ورفع راية الصّلح الأكبر وكتب بهذا الصّدد رسائل خاصّة لكلّ واحد من الملوك. وقبل ستّين سنة أبلغ أمره إلى رؤساء العالم السّياسيّين والرّوحانيّين ولهذا صارت المدنيّة الرّوحانيّة ترتقي في الشّرق وبدأت الوحدة الإنسانيّة والصّلح بين الأمم تروّج بالتّدريج وإنّي آمل أن يظهر تأسيس وحدة العالم الإنسانيّ بمنتهى القوّة ليلتئم الشّرق والغرب بعضهما مع بعض التئآمًا تامًّا ويرتبطا ارتباطًا كاملاً وتتّحد قلوب الشّرق والغرب وينجذب بعضها إلى بعض وتظهر للعيان الوحدة الحقيقيّة ويشرق نور الهداية وتبرز التّجلّيات الإلهيّة يومًا فيومًا لينال العالم الإنسانيّ راحة كاملة وتتجلّى سعادة البشر الأبديّة وتصبح قلوب البشر كالمرآة فتسطع فيها أنوار شمس الحقيقة.
ولهذا فرجائي منكم هو أن تجهدوا حتّى يشرق ذلك النّور نور الحقيقة، وحتّى تظهر السّعادة الأبديّة للعالم الإنسانيّ وإنّي لأدعو في حقّكم حتّى تنالوا هذه السّعادة الأبديّة. وإنّني عندما جئت هذه المدينة سررت كثيرًا حين وجدت أهلها مستعدّين حقًّا للمواهب الإلهيّة ولديهم قابليّة للمدنيّة السّماويّة ولهذا فإنّني أدعو لكم بالفوز بجميع الفيوضات الرّحمانيّة وأقول: يا إلهي الرّؤوف إنّ عبدك هذا قد توجّه إلى الغرب من أقصى بلاد الشّرق لعلّ نفحات عنايتك تعطّر مشام هذه النّفوس ويهبّ نسيم حديقة الهداية على هذه الممالك وتستعدّ النّفوس لقبول ألطافك وتستبشر القلوب ببشاراتك وتشاهد الأعين نور الحقيقة وتنال الآذان نصيبًا من نداء الملكوت. إلهي أنر القلوب واجعلها يا ربّي الرّؤوف غبطة حدائق الورد والرّياحين يا محبوبي الفريد هبّ نفحات عطائك وأشرق أنوار الإحسان حتّى تصبح القلوب طاهرة نقيّة وتنال نصيبًا من تأييداتك. فهذا الجمع سائرٌ في طريقك وآملٌ أسرارك ليرى وجهك ويقتبس من خصالك فابذل يا إلهي الرّؤوف ألطافك بذلاً وأبح لهم كنز الهداية لينال هؤلاء المضطرّون أملاً ورجاءً. إنّك أنت الرّؤوف وإنّك أنت المعطي العليم القدير.

 

معانقة الشّرق والغرب

ألقيت في يوم الثّلاثاء الموافق 16 نيسان 1912
في منزل السّيّد والسّيّدة داج في نيويورك

هو الله

ما أروع هذا الاجتماع! لا تستطيع القوى المادّيّة أن توجد ألفة بين هذه النّفوس وتجذبها بمثل هذه الدّرجة نحو المحبّة والاتّحاد.
لم ينعقد حتّى الآن مثل هذا المجلس الّذي يحضره أناس من الشّرق فيستقبلهم أهل الغرب بمثل هذه المحبّة والوفاق غير المتناهين ويحسنون ضيافتهم، وإنّما حصل هذا بقوّة إلهيّة.
فحينما ظهر السّيّد المسيح ألّف بين الشّعوب والفرق المختلفة فأحلّ الوئام بين اليونان والرّومان والسّريان والمصريّين لأنّ العداوة والخلاف بين تلك الأقوام كانا مستفحلين إلى درجة يستحيل معهما حصول الألفة والوئام بينها.
لكنّ حضرة المسيح بقوّة إلهيّة جعل الجميع متّحدين متّفقين.
إذن فهذه الألفة والمحبّة الّتي أحلّها بيننا حضرة بهاء الله لا يمكن أن تكون إلاّ بقوّة إلهيّة.
وسوف تلاحظون في المستقبل القريب كيف سيتعانق الشّرق والغرب وكيف ستخفق راية وحدة العالم الإنسانيّ وتجمع هذه القوّة جميع الملل تحت ظلّها فلا يبقى من يسمّي نفسه أمريكيًّا او إيرانيًّا ولا من يفتخر باسم إنكليزيّ أو ألمانيّ ولا يسمّون باسم فرنسيّ أو عربيّ بل يصبح الجميع ملّة واحدة فحينما تسأل أيّ إنسان: “من أيّة ملّة أنت؟” فإنّه يجيب: “أنا إنسان وأنا تحت ظلّ عناية حضرة بهاء الله خادم للعالم الإنسانيّ ولجيش الصّلح الأكبر” ويصبح الجميع ملّة واحدة وعائلة واحدة وأهل وطن واحد ولا يبقى هذا النّزاع والجدال.
لقد ظهر حضرة بهاء الله في نقطة كانت مركز التّعصّب ومع أنّ الملل والمذاهب المختلفة فيها كانت في منتهى البغضاء والعداوة يسفك بعضها دماء البعض الآخر فإنّه أحلّ الاتّحاد والاتّفاق إلى درجة أصبحوا معهما في منتهى الوئام والألفة وغاية آمالهم واشتياقهم هي أن يجتمعوا بكم يومًا من الأيّام وجهًا لوجه ليروا ماذا فعلت قوّة حضرة بهاء الله بكم.
إنّ العالم الإنسانيّ سقيم اليوم وعلاجه هو اتّحاد العالم، وحياته كامنة في الصّلح الأكبر وسروره في وحدة العالم الإنسانيّ. وإنّي لأرجو من فضل الله وعنايته أن تبعثوا بروح جديدة وتقوموا بقوّة تسري بها آثار وحدة العالم الإنسانيّ والصّلح الأكبر والمحبّة الإلهيّة من هذا البلد إلى سائر البلاد. بل تسري من أمريكا إلى القارّات الأخرى لأنّ هذه المملكة نالت استعدادًا عظيمًا، وأملي أن تنال قوّة روحانيّة مماثلة للرّقيّ العظيم الّذي حقّقته في مجال المادّيّات وأن تنال فيوضات إلهيّة وأن يكون توجّهها نحو الله فيصبح الجميع خدّامًا للعالم الإنسانيّ، وينشروا الفضائل الإنسانيّة حتّى تشرق أنوار المدنيّة السّماويّة من هذه الجهة على جميع الجهات فتنزل أورشليم الإلهيّة ويحيط فيض الملكوت بالعالم.
وأملي أن تظهروا قوّة شديدة في هذا الميدان لأنّ الله معينكم ونفثات الرّوح القدس مؤيّدة لكم وملائكة الملكوت حامية لكم وسوف تحيط بكم هذه الفيوضات حتمًا.

 

ليس لدى الله بيضٌ وسودٌ

ألقيت في يوم الإثنين الموافق 22 نيسان
 سنة 1912 في جامعة هارفارد الأمريكيّة:

هو الله 

إنّني اليوم في منتهى السّرور لأنّني أرى عباد الله من السّود والبيض حاضرين في هذا المجمع سويّة متآلفين. وليس لدى الله بيض وسود وكلّ الألوان لديه لون واحد وهو لون العبودية الإلهيّة، وليس للرّائحة واللّون شأن لديه بل الأهميّة هي للقلب. فإذا كان القلب طاهرًا فلن يغيّره اللّون الأسود أو الأبيض أو أيّ لون آخر. والله لا ينظر إلى الألوان بل ينظر إلى القلوب. وكلّ من كان قلبه أطهر فهو أحسن. وكلّ من كانت أخلاقه أسمى فهو أحسن. وكلّ من كان توجّهه إلى الملكوت الأبهى أكثر فهو أفضل.
وفي عالم الوجود لا شأن للألوان، لاحظوا أنّ الألوان في عالم الجماد ليست سبب الاختلاف، وفي عالم النّبات ليست الألوان المختلفة سبب الاختلاف بل الألوان المختلفة سبب جمال الحديقة. لأنّ اللّون الواحد لا جمال له ولكنّك حين ترى ألوانًا مختلفة فعند ذلك يكون لها جمال وبهاء.
وعالم البشريّة أيضًا مثل الحديقة والنّوع الإنسانيّ مثل الأزهار المختلفة في ألوانها، إذن فالألوان المختلفة زينة. وكذلك في عالم الحيوان هناك ألوان فالحمام ألوان وألوان ومع هذا فإنّه في منتهى الألفة لا ينظر بعضه إلى لون البعض الآخر بل ينظر إلى النّوع فكم من حمامات بيض تطير مع حمامات سود، وكذلك سائر الطّيور والحيوانات المختلفة في الألوان، فإنّها لا تنظر أبدًا إلى اللّون بل تنظر إلى النّوع.
إذن لاحظوا الآن أنّ الحيوانات مع أنّها لا تملك عقلاً ولا إدراكًا فإنّ اختلاف الألوان لا يكون سببًا في خصام بعضها مع البعض الآخر فلماذا يتخاصم الإنسان العاقل؟ إنّ هذا لا يليق أبدًا وخصوصًا أنّ البيض والسّود من سلالة آدم ومن عائلة واحدة وكانوا في الأصل إنسانًا واحدًا ولونًا واحدًا. فقد كان لآدم ولحواء لون واحد. وترجع سلالة جميع البشر إليهما. إذن فالأصل واحد وهذه الألوان ظهرت فيما بعد بسبب الماء والمناخ ولا أهميّة لها مطلقًا.
إنّني اليوم مسرور جدًّا لاجتماع البيض والسّود معًا في هذا الحفل، وأملي أن يصل هذا الاجتماع وهذه الألفة إلى الحدّ الّذي لا يبقى معه امتياز بين الألوان ويكون الجميع في منتهى الألفة والمحبّة في ما بينهم.
ولكنّني أريد أن أذكر أمرًا كي يمتنّ السّود من البيض ويكون البيض رؤوفين بالسّود، فلو ذهبتم إلى أفريقية وشاهدتم السّود الأفريقيّين عند ذاك تعرفون مدى رقيّكم. والحمد لله أنّكم أنتم الآن مثل البيض ليس بينكم وبينهم فرق في أيّ شأن ولكنّ السّود الأفريقيّين بمثابة الخدم. وإنّ أوّل إعلان لحرّيّة السّود كان من البيض الأميركيّين. فكم حاربوا وكم ضحّوا حتّى حرّروا السّود! ثمّ انتشر ذلك إلى جهات أخرى. وقد كان السّود الأفريقيّون في منتهى الذّلّة ولكن نجاتكم صارت سببًا لنجاتهم أيضًا، يعني أنّ الدّول الأوروبّيّة اقتدت بالأمريكيّين ولهذا أعلنت الحرّيّة العموميّة
ومن أجلكم بذل البيض الأمريكيّون مثل هذه الهمّة. ولو لم يكن هذا الجهد لما أعلنت الحرّيّة العموميّة، إذن يجب عليكم أن تكونوا ممتنّين جدًّا من البيض الأمريكيّين، ويجب على البيض أن يكونوا رؤوفين جدًّا بكم حتّى ترتقوا في المراتب الإنسانيّة وتبذلوا جهدًا بالاشتراك مع البيض حتّى ترتقوا أيضًا أنتم رقيًّا فائقًا وتمتزجوا ببعضكم امتزاجًا تامًا.
وخلاصة القول عليكم أن تبدوا امتنانًا كثيرًا نحو البيض لأنّهم كانوا سبب تحرّركم في أمريكا فلو لم تتحرّروا لما تحرر بقية السّود. والآن كلّكم ولله الحمد أحرار وفي منتهى الرّاحة والاطمئنان، وإنّي أدعو كي ترتقوا في حسن الأخلاق والأطوار إلى درجة لا يبقى معها اسم البيض أو السّود وتكون كلمة “الإنسان” اسمًا للجميع. كما تسمّى جماعة الحمام “بالحمام” ولا يقال الحمام الأسود أو الحمام الأبيض وكذلك سائر الطّيور. وأتمنّى أن تبلغوا مثل هذه الدّرجة. وهذا لا يمكن إلا بالمحبّة. فابذلوا الجهد حتّى تحلّ المحبّة بينكم. ولن تحصل هذه المحبّة بينكم إلاّ إذا كنتم ممتنّين من البيض وكان البيض رؤوفين بكم ويبذلون الجهد لترقيتكم ويسعون لعزّتكم وهذا يكون سبب المحبّة وزوال الاختلاف بين البيض والسّود زوالاً تامًا بل يزول أيضًا اختلاف الجنس واختلاف الوطن.
وإنّي مسرور جدًّا من لقائكم وأشكر الله لأنّه جمع في هذا الحفل بين البيض والسّود فكلاهما مجتمعان بكمال المحبّة والألفة وأرجو أن يعمّ هذا النّموذج من الألفة والمحبّة حتّى لا يبقى عنوان للبشر غير “الإنسان” وهذا العنوان هو كمال العالم الإنسانيّ وسبب العزّة الأبديّة وسبب السّعادة البشريّة. لهذا فإنّي أدعو من أجلكم كي تكونوا في منتهى الألفة والمحبّة بعضكم مع البعض الآخر وتجهدوا وتسعوا من أجل راحة بعضكم بعضًا.

 

الاتّحاد والأخوّة

ألقيت في يوم الثّلاثاء الموافق 22 نيسان سنة 1912
في منزل جناب علي قلي خان في واشنطن

هو الله

الحمد لله لقد انقضت القرون المظلمة وجاء قرنٌ نورانيّ.
إنّ العقول والنّفوس في ارتقاء وإنّ الإدراكات في تزايد وكلّ إنسان يتحرّى الحقيقة وكلّ إنسان يريد أن يدرك ما هو صحيح وسبب لترقّيه.
ففي عالم المرأة هناك هياج عظيم ومنتهى آمالهنّ ورغباتهنّ هو الارتقاء وخدمة العالم الإنسانيّ. ولا شكّ أنّ النّساء سوف يرتقين في هذا العصر وهنّ يجهدن حتّى يلحقن بالرّجال ويكنّ وإيّاهم في مستوى واحد، إنّ هذه النّيّة لعظيمة فلو وصلن إلى الرّقيّ والاقتدار فإنّهنّ سوف يقمن بكثير من الأمور الّتي لا يستطعن الآن النّهوض بها.
إنّ أعظم مصائب العالم هي الحرب في هذا اليوم. فلا راحة في العالم الإنسانيّ والحروب مستمرّة لأنّ جميع الدّول تتهيّأ للحرب بصورة مستمرّة وتصرف الأموال كلّها على الحرب.
إنّ الفلاح المسكين يجهد ليلاً ونهارًا بكدّ اليمين وعرق الجبين حتّى يحصل على بضع حبوب ليدّخرها ولكن ما الفائدة؟ فحاصلاته تتحوّل إلى تجهيزات حربيّة وتنفق على المدافع والبنادق والذّخائر والسّفن الحربيّة.
وبينما هذه الحروب الماليّة مستمرّة على الدّوام لاحظوا كذلك إبادة النّفوس في ساحات الحروب وكيف تطؤها الأقدام.
إنّ الحرب وإبادة النّفوس محدودة ومحصورة ولكنّ الحرب الماليّة دائمة وعامّة ويرجع ضررها إلى النّاس بل يتضرّر منها جميع العالم الإنسانيّ.
فالآن وقد تحرّكت المرأة في هذا القرن فإنّها يجب أن تضع نصب عينيها قضيّة الصّلح العموميّ كي تتجلّى وحدة العالم الإنسانيّ وتظهر الفضائل البشريّة وترتبط قلوب الملل وينبذ التّعصّب الدّينيّ والمذهبيّ ويزول التّعصّب العنصريّ ولا يبقى التّعصّب السّياسيّ ويزول التّعصّب الوطنيّ لأنّ الجامعة البشريّة عائلة واحدة وأنّ جميع أولاد آدم أبناء الله وأنّ جميع الممالك كرة واحدة ووطن واحد وأنّ جميع الأمم عبيد إله واحد وقد خلق الله الجميع وهو يحفظ الجميع ويرزقهم ويعتني بهم وأنّ ألطافه شاملة للكلّ ورحمته نازلة على الكلّ وما دام هو عادلاً ورؤوفًا فلماذا نقوم بالظّلم والطّغيان؟ أفهل نحن أعرف من الله وأعلم بالأمور منه؟ أستغفر الله بل إنّه عادل ورؤوف. ولماذا لا نكون رؤوفين؟
فأنتنّ يا جماعة النّساء اجهدن حتّى تحصل القلوب على ارتباط وطيد وليجهد الجميع متكاتفين في خير العالم حتّى يتجلّى شرف العالم الإنسانيّ.
ولاحظوا لو ائتلف أهل بيت واحد في ما بينهم فكم يكون ذلك نافعًا لهم؟ ولو اتّفق أهل مدينة في ما بينهم واتّحدوا فكم يكون ذلك سببًا في تعاونهم وتعاضدهم؟ وسببًا في نتائج كلّيّة وفي الحصول على العزّة والثّروة لعموم أفرادها؟ وكذا لو اتّحد أهل إقليم واحد فما أكثر التّرقّيات الّتي ينالونها؟ وما أكثر العزّة والسّعادة الّتي يحصلون عليها؟
فحينما اتّحدت الأمّة الأمريكيّة كم أصبح ذلك سببًا في سعادتها ورقيّها ومدنيّتها؟ ولو لم يكن هذا الاتّحاد والاتّفاق بين الولايات المتّحدة لما حصلت هذه التّرقّيات والعلوم والمخترعات والرّفعة ثمّ قيسوا على هذا لو اتّفقت جميع الملل واتّحدت فماذا ستكون الحال؟
لا شكّ أنّ هذا العالم سوف يصبح جنّة الأبهى ويحصل كمال الرّاحة والاطمئنان ويحصل الفلاح العظيم وتنال جميع المذاهب وحدة واتّفاقا وأخوّة ويتعانق الشّرق والغرب والشّمال والجنوب ويتموّج علم وحدة العالم الإنسانيّ وترتفع خيمة الصّلح العمومي ويبلغ الأسماع تهليل الملأ الأعلى وتمجيدهم.
لهذا فحضراتكنّ السّيّدات المحترمات العالمات المحبّات للخير يجب أن تجهدن ليلاً ونهارًا حتّى يرتفع علم الوحدة والاتّحاد هذا في أمريكا ويسري إلى سائر الجهات حتّى يتطوّر العالم ويتجلّى كماله.

 

الوحدة

ألقيت في يوم الجمعة الموافق 18 أيّار
 1912 في مجمع التّياصفة في نيويورك

هو الله

إنّني ممتن جدًّا من إحساسات جناب الرّئيس وكذلك مسرور جدًّا من إحساسات نائبة حضرته.
إنّ مقصودنا واحد وأملنا واحد. أملنا وحدة العالم الإنسانيّ وهدفنا الصّلح العمومي. إذن فنحن في الهدف والأمل متّحدون وليست في عالم الوجود مسائل أهمّ من هاتين المسألتين لأنّ وحدة العالم الإنسانيّ سبب عزّة النّوع البشريّ وأنّ الصّلح العمومي سبب راحة جميع من على الأرض ولهذا فنحن متّحدون في هذين الهدفين وليس هناك هدف أعظم من هذه الأهداف.
لهذا أرجو أن تحدث بين البهائيّين والتّياصفة منتهى الألفة والمحبّة لأنّ أهدافهم واحدة وآمالهم واحدة وهم مشتركون في الإحساسات الرّوحانيّة ومتّفقون في توحيد الملكوت الإلهيّ.
في هذا اليوم لا بدّ من وجود قوّة عظيمة لإجراء هذه الأهداف الجليلة وحضراتكم تعلمون أنّ قضيّة الصّلح الأكبر قضيّة عظيمة جدًّا وأنّ جميع قوى الآفاق اليوم مخالفة لاستقرار هذا الأمر وهذه الأمم تظنّ أنّ الحرب سبب السّرور وتظنّ أنّ التّفرّقة سبب العزّة لأنّها تظنّ أنّه لو هجمت أمّة على أمّة وفتحت فتحًا مبينًا وغلبت على مملكة ودولة فإنّ هذا يكون سببًا في رقيّ تلك الملّة والدّولة والحال أنّ هذا خطأ محض ونستطيع أن نقيس الملل بأفراد عائلة واحدة فالعائلة تتألّف من أفراد وكلّ أمة كذلك تتألف من أفراد وأشخاص ولو اجتمعت جميع الأمم فإنّها ستكون عائلة عظيمة واحدة.
وواضح أنّ النّزاع والجدال بين أفراد العائلة الواحدة يؤدّيان إلى فنائها. وهكذا تؤدّي الحروب إلى فناء الأمم وانهدامها.
إنّ خلاصة منطوق جميع الكتب الإلهيّة وكلام جميع أنبياء الله وجميع عقلاء البشر هي أنّهم جميعًا متّفقون على أنّ الحرب سبب الخراب وأنّ الصّلح سبب العمران وكلّهم متّفقون على أنّ الحرب تهدم البنيان الإنسانيّ إلاّ أنّه لا بدّ من وجود قوّة عظيمة لإجراء هذا الصّلح فتمنع الحرب وتعلن وحدة العالم الإنسانيّ.
إنّ مجرد العلم بالشّيء لا يكفي فالإنسان لا يصبح غنيًّا بمجرد أن يعلم أنّ الغنى شيء طيّب ولا يصبح عالمًا بمجرد أن يعلم أنّ العلم ممدوح ولا يصبح عزيزًا بمجرد أن يعلم أنّ العزّة مقبولة، وقس على هذا. فالعلم بالشّيء لا يكون سببًا في حصوله وأكرّر القول إنّ الإنسان لا يكسب الصحّة من مجرد علمه بفائدة الصحّة بل يحتاج إلى العلاج وإلى استعمال الأدوية وإلى طبيب حاذق مطّلع على جميع أسرار الأمراض ومطّلع على جميع العلاجات فيعطي العلاج بحكمة تامّة حتّى تحصل الصحّة الكاملة. فمجرّد معرفتنا أنّ الصحّة شيء مفيد لا يؤدّي إلى حصولنا على الصحّة بل لا بدّ من وجود عمل وجهد وقوّة.
ثمّ إنّ حصول كلّ شيء مشروط بثلاثة شروط أوّلها العلم وثانيها الإرادة وثالثها العمل ولأجل تحقّق أيّة مسألة يجب اجتماع هذه الأمور الثّلاثة. فأوّل شيء يقتضي لبناء بيت هو
وضع خريطة للبيت ثمّ وجود الإرادة للبناء وبعد ذلك العمل والعمل يتوقّف على الثّروة وعندئذٍ يتحقّق الأمل.
لهذا فنحن نحتاج إلى قوّة عظيمة لتحقيق هذه الآمال وواضح أنّ هذه الآمال والمقاصد لا تتحقّق بالقوى المادّيّة فلو قلنا إنّها تتحقّق بالقوّة القوميّة فالأقوام مختلفة. ولو نقول بالقوّة الوطنيّة فالأوطان مختلفة. ولو نقول إنّ إيجاد وحدة العالم الإنسانيّ والصّلح العمومي يتحقّق بالقوّة السّياسيّة فإنّ سياسات الملوك مختلفة بسبب اختلاف منافع الدّول والملل. ولو نقول إنّ وحدة العالم الإنسانيّ تتأسّس بقوّة التّقاليد الدينيّة فإنّ هذه التّقاليد مختلفة.
إذن فقد اتّضح أنّ جميع هذه القوّات مختلفة ومحدودة وأنّ هذا الأمر لا يمكن أن يتحقّق إلا بالقوّة المعنويّة وبالقوّة الرّوحانيّة وبالفتوحات الإلهيّة وبنفثات الرّوح القدس الّتي ظهرت في هذا القرن العظيم. وبغير هذا فإنّ هذا الهدف يبقى في حيّز القول ولا يخرج إلى حيّز العمل.
لاحظوا التّاريخ وشاهدوا أيّ شيء وحَّد الأمم وأيّ شيء عدَّل الأخلاق العامّة وأيّ شيء سبّب رقي جميع البشر. ولو دقّقنا وحقّقنا في جميع التّواريخ لشاهدنا أنّ أساس الاتّحاد والاتّفاق كان الدّين الإلهيّ دائمًا وأنّه كان أعظم سبب لوحدة البشر ونقصد بالدّين الإلهيّ أساس الأديان الإلهيّة لا التّقاليد الموجودة في أيدي النّاس لأنّ هذه التّقاليد الموجودة الآن بين أيدي النّاس يخالف بعضها البعض الآخر ولهذا فإنّها سبب النّزاع وسبب الحرب وسبب البغضاء وسبب العداء ولكنّنا نعني أساس الأديان الإلهيّة.
فلننظر الآن ما هي أسس الأديان الإلهيّة؟
أوّل أساس هو وحدة الخلق وثاني أساس هو وحدة الأجناس وثالث أساس هو وحدة الأوطان ورابع أساس هو الوحدة السّياسيّة فلا تبقى بعد هذا امتيازات شخصيّة ولا امتيازات عنصريّة ولا امتيازات وطنيّة ولا امتيازات سياسيّة.
لاحظوا لمّا ظهر حضرة المسيح جمع أممًا مختلفة وصالح بين أمم متحاربة وروّج وحدة العالم الإنسانيّ وجمع أمّة الرّومان الّتي كانت أمّة قاهرة وأمّة اليونان الّتي كانت أمّة ذات فلسفة وأمّة مصر الّتي كانت أمة متمدّنة وسائر الأمم من سريانيّين وآشوريّين وكلدانيّين وغيرهم وقد كانوا في منتهى الاختلاف والنّزاع والجدال فجمع حضرة المسيح هذه الأقوام المختلفة ورفع الاختلاف والنّزاع والجدال من بينها ولم يعمل هذا العمل بالقوّة القوميّة ولا بالقوّة الوطنيّة ولا بالقوّة السّياسيّة بل بالقوّة الإلهيّة وحقّقها بقوّة الرّوح القدس ولهذا فليس من الممكن تحقيق ذلك إلاّ بهذا الوسائط. وبغير ذلك يبقى هذا الاختلاف وهذا التّنازع إلى الأبد.
ولكن قد يخطر على البال هذا السّؤال: من أين نأتي بالقوّة الإلهيّة وبنفثات الرّوح القدس وبالفيوضات الرّبانيّة الّتي يتوقّف عليها تحقّق هذه الأمور العظيمة؟
في الحقيقة إنّ هذا السّؤال يخطر على البال وفي الجواب نقول فقط إنّ هذا الإله إله قديم وليس إلهًا جديدًا وإنّ سلطنة الله سلطنة قديمة وليست سلطنة جديدة وليست هذه السّلطنة سلطنة ستّة آلاف سنة. فإنّ هذا الكون لا يتناهى ولاحظوا أنّ هذا التّرتيب بهذه العظمة وهذه السّلطنة بهذه الشّوكة ليسا عمل بضعة قرون فإنّ أسماء الله وصفاته قديمة ونفس أسماء الله وصفاته تستلزم وجود الكائنات وتستلزم الخلقة وتستلزم جميع الحقائق الكونيّة. نحن نسمّي الله خالقًا. حسن جدًّا. إنّ الخالقيّة تتوقّف على وجود المخلوق فإن لم يكن هناك مخلوق فكيف
تتحقّق خالقيّة الله؟ ونقول إنّه رازق فإذا لم يعطِ رزقًا فكيف يكون رازقًا؟ ونقول إنّه ربّ فإن لم يكن هناك مربوب فكيف يكون ربًّا؟ وإذًا فالله خالق من القديم ورازق من القديم وربّ من القديم وكان له من القديم مخلوق ومن القديم مرزوق ومن القديم مربوب. إذًا فلا شبهة في أنّ السّلطنة الإلهيّة سلطنة قديمة.
والسّلطنة تريد الرّعيّة وتريد الجيش وتريد الخزائن والذّخائر وتريد وزراء وتريد منتدبين وهل يمكن تصوّر السّلطنة بدون مملكة وبدون رعيّة وبدون جيش وبدون وزراء؟ وأولئك الّذين يقولون إنّ هناك وقتًا لم يكن لله فيه خلق ولا كان له جيش ولا كان له رعيّة فإنّهم في الحقيقة يعزلون الله أي أنّه قد نصّب حديثًا وأنّه أسّس سرير سلطنته حديثًا. إنّ هذا كلام لا يقوله طفل رضيع ولهذا فإنّ الباري تعالى كان دائمًا خالقًا وكان رازقًا وكان محييًا وكان سميعًا وبصيرًا. وكما أنّ الذّات الإلهيّة قديمة فإنّ الفيض الإلهيّ قديم أيضًا وقد أحاطت فيوضاته من على الأرض إحاطة تامّة.
وحيث إنّ الله غير محدود من حيث الذّات فكذلك أسماؤه وصفاته غير محدودة وحيث إنّ حقيقة الألوهيّة غير محدودة فكذلك فيضه غير محدود. والألوهيّة قديمة لا نهاية لها وكمالاته قديمة لا نهاية لها وربوبيّته قديمة لا نهاية لها فكما أنّ نفثات الرّوح القدس وهبت عالم الوجود الفيض قديمًا فكذلك فيض الرّوح القدس مستمرّ لا انتهاء له ولا نستطيع أن نقول إنّ فيضه نفد وانتهى فلو نقول إنّ فيضه ينفد فإنّ ألوهيته تنتهي أيضًا وفيض الشّمس وحرارتها شيء أبديّ وسرمديّ ولو يأتي يوم ينقطع فيه فيض الشّمس وحرارتها فإنّ الشّمس لن تعود شمسًا بل تكون شيئًا مظلمًا لأنّ الشّمس بدون حرارة وضياء ليست بشمس بل ظلمة.

إذن فإن أردنا تحديد الفيوضات الإلهيّة فإنّنا نحدّد الله.

وخلاصة القول اطمئنّوا بفضل الحقّ وعنايته واستبشروا بالبشارات الإلهيّة. فالإله الّذي عامل الأمم السّابقة بفضله ورحمته، والإله الّذي وهب قديمًا الرّوح الإلهيّة، والإله الّذي أعطى فيضًا أبديًّا هو مقتدر في كلّ وقت وفي كلّ زمان أن يجعل العالم الإنسانيّ مهبط أنوار الملكوت.
لهذا فثقوا أنّ ذلك الإله الّذي أعطى قديمًا يستطيع الآن أن يعطي أيضًا وأن يظهر في هيكل الإنسان الّذي هو “صورته ومثاله”.
وذلك الإله الّذي نفث نفحة الرّوح القدس يستطيع الآن أيضًا أن ينفثها وسوف ينفثها فليس لفضله انقطاع. فهذه الرّوح سارية دائمًا وهذا فيض إلهيّ ولا يجوز أن يكون للفيض الإلهيّ من انقطاع.
لاحظوا هل يمكن تحديد الذّرّات الجزئيّة؟ فلا يجوز في الحقيقة تحديد أيّ نوع من أنواع الكائنات وهل تستطيون أن تقولوا إنّ هذه الطّبقة الأرضيّة انتهت وليس بعدها طبقة أرضيّة أخرى وإنّ البحر قد انتهى بهذا البحر وليس هناك بعده بحر آخر؟ أو إنّ المطر انتهى بهذا المطر وليس بعد هذا مطر آخر؟ أو إنّ إشراق الشّمس انتهى وبعد هذا الإشراق لا يمكن أن تكون شمس؟ فهل يمكن هذا؟ أستغفر الله منه.
فحينما نرى الفيض الإلهيّ مستمرًّا في الكائنات الجماديّة كيف نستطيع أن نقول إنّ ذلك الفيض الرّباني وقوّة الرّوح القدس وتلك الفيوضات الأبديّة قد انقطعت؟
وواضح أنّ حقائق الفيوضات الإلهيّة أعظم من الجماد فبعد أن يكون جسد الإنسان مستمرًّا باستمرار النّوع الإنسانيّ فلا شكّ أن يكون روح الحقيقة مستمرًّا أيضًا لأنّه لا يمكن أبدًا أن يكون جسد النّوع مستمرًّا ولا تكون الحقيقة والرّوح مستمرّين.
وإني لأشكر الله لوجودي في وسط جمع محترم مثل هذا، لهم إحساسات روحانيّة ويتحرّون الحقيقة، وغاية أملهم الصّلح العمومي وهدفهم خدمة العالم الإنسانيّ.
وعندما ننظر إلى الكائنات نشاهد أنّ كلّ شيء من الأشياء له دورة في جميع المراتب فمثلاً المادّة الأثيريّة لها دورة في جميع الكائنات وفي كلّ مكان يحصل تموّج فإنّ البصر يتأثّر بذلك التّموّج ويرى نورًا وكذلك الأمر مع الفيوضات الإلهيّة فإنّ لها دورة في جميع الكائنات وهي دورة ليس لها أوّل ولا يكون لها آخر وفي كلّ زمان يحصل فيه استعداد بشريّ فإنّ ذلك الفيض الّذي لا يتناهى يظهر مرّة أخرى.
ولهذا نرجو بعون الله وعنايته أن تجري روح الحياة هذه في جميع الكائنات وتحيي جميع البشر حتّى يصبح العالم الإنسانيّ عالمًا إلهيًّا ويصبح عالم النّاسوت مرآة عالم اللاّهوت وتتجلّى فضائل العالم الإنسانيّ وخصائله ويكشف “مثال الله وصورته” النّقاب في هذا الهيكل.
وإنّي لأشكر حضرة الرّئيس منتهى الشّكر والرّضاء وأرجو إبلاغه عنّي احتراماتي الفائقة وأرجو أن يوفّق الكلّ إلى الرّضاء الإلهيّ وإنّي مسرور جدًّا من إحساساتكم وإحساسات النّفوس الحاضرة وإنّي أرجو دائمًا للكلّ التّأييد والتّوفيق.

 

وحدانيّة الله

ألقيت في كنيسة الموحّدين في مونتكلر بتاريخ 12 أيّار 1912

هو الله 

أريد في هذا المجمع المحترم أن أتكلّم عن الألوهيّة.
من الواضح أنّ الحقيقة الحادثة لا تستطيع إدراك الحقيقة القديمة. حينما نمعن النّظر في الكائنات نرى أنّ تفاوت المراتب مانع يحول دون إدراك المقامات.
مثال ذلك عالم الجماد مهما ارتقى فإنّه لن يطّلع على عالم النّبات وعالم النّبات مهما نشأ ونما فإنّه لن يعلم شيئًا عن عالم الحيوان. وعالم الحيوان مهما ارتقى فإنّه لا يستطيع إدراك السّمع والبصر لأنّ هذا خارج عن نطاق إدراكه ومع أنّه في حيّز الوجود ولكنّه لا علم له عن عالم الإنسان لأنّ عالم الإنسان فوق مقامه ولهذا فإنّه مهما يرتقِ فلن يستطيع إدراك الحقيقة الإنسانيّة.
إنّ تفاوت المراتب مانع عن الإدراك إذن فإنّ كلّ رتبة دانية لا تستطيع إدراك ما فوقها مع أنّ الجميع كلّهم في حيّز الخلقة سواء أكان منها الجماد أم النّبات أم الحيوان أم الإنسان مع هذا فإنّ تفاوت المراتب مانع يحول دون هذا الإدراك.
ومثلاً هذا النّبات موجود ونحن على اطّلاع من ذلك فما السّبب في اطلاعنا هذا؟ السّبب هو أننا في مقام فوق مقامه لكنّ هذا النّبات لا علم له حولنا ومهما يرتقِ فإنّه لن يحيط بالسّمع والبصر وما دام تفاوت المراتب يحول في عالم الحدوث دون الإدراك إذن فكيف تستطيع الحقيقة الإنسانيّة المخلوقة والحادثة أن تدرك حقيقة الألوهيّة؟
إنّ هذا غير ممكن، لماذا؟ لأن حقيقة الألوهيّة مقدّسة عن الإدراك. وفضلاً عن هذا إنّ كلّ ما يتصوّره الإنسان إنّما هو محاط وحقيقة الألوهيّة محيطة. فهل يمكن أن يدرك المحاط المحيط؟ فمن المستحيل أن تصبح الحقيقة الإنسانيّة محيطة وتصبح حقيقة الألوهيّة محاطة في حين أنّ الإنسان محاط وحقيقة الألوهيّة محيطة.
إذن فما يتصوّره الإنسان عن الألوهيّة ليس من الألوهيّة في شيء لأنّ حقيقة الألوهيّة لا يمكن تصوّرها لهذا تبعث الرّحمة الكلّيّة الإلهيّة مظاهر مقدّسة وتشرق على تلك المظاهر الإلهيّة بتجلّيات غير متناهية وتجعل تلك المظاهر واسطة للفيض.
والمظاهر المقدّسة الّتي هي الأنبياء إنّما هي بمثابة المرآة وحقيقة الألوهيّة بمثابة الشّمس تسطع في تلك المرايا بأشدّ إشراق وتستفيض المرايا من تلك الشّمس –شمس الحقيقة- لكنّ الشّمس لم تنزل من علوّها ولم تدخل في المرايا وغاية ما في الأمر أنّ المرايا في منتهى الصّفاء والقابليّة والاستعداد، والمرايا من العالم الأرضيّ، وحقيقة الألوهيّة من أفق التّقديس، ومهما أشرقت حرارة الشّمس واستفاضت منها المرايا وصارت ممثّلة لها ومتفرّعة عنها لكنّ الشّمس لم تنزل من علوّ تقديسها ولم تحلّ فيها.
هذا وإنّ شمس الحقيقة تشرق على مرايا متعدّدة ومهما تعدّدت المرايا لكنّ الشّمس شمس واحدة والفيوضات الإلهيّة واحدة والحقيقة واحدة والنّور واحد مشرق على جميع المرايا فبعض النّاس عاشق للشّمس يرى تجلّياتها في كلّ مرآة ولا يتقيّد بالمرايا بل هو متقيد بالشّمس وهو يعبد الشّمس في أيّة مرآة كانت.
أمّا الّذين ينظرون إلى المرآة وحدها فإنّهم يحرمون من مشاهدة الشّمس في مرآة أخرى فمثلاً أولئك الّذين رأوا المرآة الموسوية وآمنوا بها قد تقيّدوا بالمرآة الموسوية حين أشرقت الشّمس في المرآة المسيحيّة، لذا حرموا وخسروا في حين أنّ شمس الحقيقة كانت على أشدّ إشراقها في المرآة العيسويّة وكانت أنوارها أظهر وأبين واليهود لا يزالون حتّى الآن متمسّكين بالمرآة الموسويّة ومحرومين من مشاهدة شمس الحقيقة.
وخلاصة القول إنّ الشّمس شمس واحدة والنّور نور واحد وهي تشرق على جميع الكائنات على السّواء ولكلّ كائن نصيب منها. إذن فعلينا نحن أن نعبد الأنوار من أيّة مرآة كانت وأن لا نكون متعصّبين لأن التّعصّب يحول دون الوصول إلى الحقيقة. وحيث إنّ الإشراق واحد لذا يجب أن تستفيض الحقائق الإنسانيّة من نور واحد وذلك الإشراق الواحد هو قوّة جامعة تجمع الجميع.
لقد أنارت في هذا القرن النّورانيّ شمس الحقيقة جميع البشر فجعلت العيون بصيرة وجعلت الآذان سميعة وأحيت النّفوس ونحن كذلك يجب أن نكون على جانب عظيم من الألفة لأنّ الكلّ مستفيضون من شمس واحدة وأشرقت أنوار شمس واحدة على الجميع لعلّ يزول هذا النّزاع الّذي دام ستة آلاف سنة لعلّ تزول هذه المذابح ولعلّ تزول هذه التّعديات والعداوات من بيننا فيشرق نور محبّة الله ويرتبط بعضنا ببعض ليستريح كلّنا في ظلّ وحدة العالم الإنسانيّ ونأوي إلى ظلّ راية الصّلح الأكبر ونكون رحماء رؤوفين بجميع البشر.
يا إلهنا الرّؤوف الكريم الرّحيم إنّا عبيد عتبتك وكلّنا في ظلّ وحدانيّتك وإنّ شمس رحمتك مشرقة على الكلّ وسحاب عنايتك يمطر على الكلّ وألطافك شاملة للكلّ وفضلك رازق لكلّ وإنّك حافظ للكلّ وناظر إلى الكلّ بنظرة المكرمة يا ربّنا اشملنا ألطافك الّتي لا تتناهى وأشعل نور الهداية وأنر العيون وامنح القلوب سرورًا أبديًّا وهبها روحًا جديدًا وحياةً أبديّةً وافتح أبواب العرفان وليسطع نور الإيمان ووحّد الكلّ في ظلّ عنايتك واجعل الجميع متّفقين ليكونوا أنوارًا لشمس واحدة وأمواجًا لبحر واحد وأثمارًا لشجرة واحدة يشربون من عين واحدة ويهتزّون بنسيم واحد ويقتبسون أنوار واحدة إنّك أنت المعطي المقتدر الوهّاب.

 

نداء وحدة العالم الإنسانيّ

ألقيت في كنيسة كربث متوديث في نيويورك بتاريخ 13 أيّار 1912

هو الله 

عندما ننظر إلى التّاريخ نشاهد أنّ البشر منذ بداية العالم الإنسانيّ إلى زماننا هذا كانوا في حرب وجدال فإمّا كانت الحرب بين الأديان وإمّا كانت بين الأجناس وإمّا كان النّزاع بين الدّول وإمّا بين إقليمين وكانت جميع تلك الحروب ناشئة من جهل البشر ومن سوء التّفاهم أو من عدم التّربية.
إنّ أعظم نزاع وقتال كان بين الأديان في حين أنّ أنبياء الله جاؤوا بين البشر من أجل الألفة والاتّحاد لأنّهم كانوا رعاة لا ذئاب والرّاعي يأتي من أجل جمع الخراف لا من أجل تفريقها. فكلّ راعٍ إلهيّ من أولئك الرّعاة جمع جماعة من الأغنام المفرّقة فكان أحدهم حضرة موسى الّذي جمع أغنام أسباط إسرائيل المتفرّقة وألَّف بينها وذهب بها إلى الأرض المقدّسة فبعد تفرّقهم جمعهم ولمَّ شعثهم وصار سببًا لرقيّهم فتبدّلت بهذا ذلّتهم إلى عزّة وفقرهم إلى غنى ورذائل أخلاقهم إلى فضائل إلى درجة تأسّست سلطنة سليمان وبلغ صيت عزّتهم الشّرق والغرب.
إذن اتّضح أنّ موسى كان راعيًا حقيقيًّا لأنّه جمع أغنام إسرائيل المتفرّقة وألَّف بينها. وعندما ظهر حضرة المسيح صار سببًا في جمع الأغنام المتفرّقة وفي ألفتها فجمع أغنام إسرائيل المتفرّقة مع أغنام اليونان والرّومان والكلدانيّين والسّوريّين والمصريّين وقد كانت هذه الأقوام في منتهى الجدال والقتال في ما بينها يسفك بعضها دم البعض الآخر ويمزّق بعضها البعض الآخر شان الحيوانات المفترسة. ولكنّ حضرة المسيح جمع هذه الملل ووحَّدها وألَّف بينها وهدم بناء النّزاع والجدال هدمًا تامًّا.
إذن اتّضح أنّ الأديان الإلهيّة كانت سبب الألفة والمحبّة. وليس دين الله سبب النّزاع والجدال. فإن صار الدّين سبب الجدال والقتال فإنّ عدمه خير من وجوده لأنّ الدّين يجب أن يكون سبب الحياة فإن صار الدّين سبب الممات فلا شكّ أنّ عدمه خير من وجوده ولأصبحت اللاّدينيّة خيرًا منه لأنّ التّعاليم الدّينيّة بمثابة العلاج فإن أصبح العلاج سبب المرض فلا شكّ أنّ عدم الدّواء خير وأولى.
وكذلك حينما كانت القبائل العربيّة في منتهى العداوة والجدال يسفك بعضها دم البعض الآخر وتنهب الأموال وتؤسر النّساء والأطفال وحينما كانت الحروب بينها مستمرّة ودائمة في صحراء الجزيرة العربيّة حيث لم تجد نفس راحة ولم يقرّ لقبيلة قرار ففي مثل هذا الوقت ظهر
حضرة محمّد فجمع هؤلاء وألَّف بين القبائل المتفرّقة ووحَّدها فلم يبقَ بين العرب قتال مطلقًا وبلغوا في الرّقيّ درجة تأسّست فيها الخلافة الكبرى وتأسّست سلطنة في الأندلس.
أمّا هذه الخلافات فقد نشأت من التّقاليد الّتي ظهرت فيما بعد فأصل الدّين واحد وهو الحقيقة وأساس الأديان إنّما هو أساس إلهيّ لا اختلاف فيه وإنّ الاختلاف ينشأ من التّقاليد. ولمّا كانت التّقاليد مختلفة لهذا صارت سببًا في الاختلاف والجدال، فلو تركت جميع أديان العالم تقاليدها واتّبعت أساس الدّين فإنّها تتّفق في ما بينها ولن يبقى نزاع ولا جدال لأنّ الدّين حقيقة والحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد.
أمّا الامتيازات العنصريّة والاختلافات القوميّة فإنّها وهمٌ محض لأنّ النّوع البشريّ نوع واحد وكلّه جنس واحد وجميعه سلالة شخص واحد وجميعه سكّان الكرة الأرضيّة.
ولم يكن الاختلاف العنصري في أصل الخلقة الإلهيّة فقد خلق الله خلقة بشريّة واحدة فلم يخلق واحدًا إنكليزيًّا والآخر فرنسيًّا والآخر إيرانيًّا والآخر أمريكيًّا لهذا فليس هناك اختلاف في الجنس البشريّ والكلّ أوراق شجرة واحدة وأمواج بحر واحد وأثمار شجرة واحدة ورياحين حديقة واحدة.
لاحظوا عالم الحيوانات ليس بينها تمييز في النّوع فأغنام الشّرق ترعى مع أغنام الغرب لا ينظر بعضها البعض الآخر بعين الغرباء ولا يعتبره أجنبيًّا بل يرعى بعضها مع البعض الآخر في منتهى الألفة والوئام وليس بينها نزاع عنصريّ ولا نزاع قوميّ وكذلك الأمر في طيور الشّرق والغرب حيث نجد الحمام في منتهى الألفة والارتباط لا امتيازات قوميّة بينهم أبدًا. إنّ هذه الأمور لا تكون سببًا لوجود هذه الأوهام بين الحيوانات المجردة من الشّعور فهل يليق بالإنسان أن يتّبع مثل هذه الأوهام؟ في حين أنّه عاقل ومظهر الوداعة الإلهيّة وله قوّة مدركة وقوّة مفكّرة. ومع وجود هذه المواهب كيف يتّبع أمثال هذه الأوهام؟ فيقول أحدهم إنّني ألمانيّ ويقول الآخر إنّني إنكليزيّ ويقول الآخر إنّني إيطالي وبهذه الأوهام يتنازعون في ما بينهم ويتحاربون. فهل هذا لائق؟ لا والله. لأنّ الحيوانات لا ترضى بهذه الأوهام فكيف يرضى الإنسان بها؟ مع أنّها أوهام وخيالات محضة.
أتجوز هذه الحروب وهذه الاختلافات الوطنيّة أو يقال هذا شرق وذاك غرب وهذا جنوب وذاك شمال؟ لا والله. إنّ هذه الأقوال أوهام محضة وخيالات صرفة فجميع الأرض قطعة واحدة ووطن واحد لهذا يجب أن لا يتمسّك البشر بهذه الأوهام.
والآن جئت ولله الحمد من الشّرق وأرى هذ البلاد في منتهى العمران وهواءها في منتهى البداعة والنّقاء والنّاس في أسمى درجة من الآداب والحكومة عادلة منصفة. فهل يجوز لي أن أقول إنّ هذا ليس وطني وليس أهلاً لرعايتي واحترامي؟ كلاّ إنّ في ذلك منتهى التّعصّب.
يجب على الإنسان أن لا يكون متعصّبًا بل يجب أن يتحرّى الحقيقة ومن المؤكّد أنّ البشر كلّهم نوع واحد وأنّ الأرض وطن واحد وقد ثبت أنّ الباعث لكلّ حرب وقتال هو وهم محض لا أساس له أبدًا.
لاحظوا بلاد طرابلس وشاهدوا ماذا يحدث فيها نتيجة الهجوم الإيطاليّ غير المشروع وكم من مساكين يتمرّغون في دمائهم وتهلك كلّ يوم آلاف النّفوس من كلا الجانبين. وكم من أطفال باتوا بدون آباء وكم من آباء فقدوا أبناءهم وكم من أمّهات يولولن بالعويل لموت
أبنائهنّ. لعمركم ما الثّمرة الّتي تُجنى من هذا؟ لا ثمرة ولا نتيجة وليس من الإنصاف أن يكون الإنسان غافلاً إلى هذه الدّرجة من الغفلة.
لاحظوا الحيوانات الوديعة تجدوا أنّه لا حرب بينها ولا جدال فترعى آلاف الأغنام معًا وتطير آلاف الأسراب من الحمام ولا تتنازع أبدًا لكنّ الذّئاب والكلاب المفترسة في نزاع وجدال مستديم. فهي مضطرّة من أجل طعامها إلى الصّيد أمّا الإنسان فليس محتاجًا لذلك فلديه من الأطعمة والأقوات ما يكفيه ولكنّه لمجرّد الطّمع وحبّ الشّهرة والصّيت يسفك هذه الدّماء.
وعظماء البشر في منتهى الرّاحة في قصورهم العالية مستقرّون ويدفعون البؤساء إلى ساحات الحروب ويخترعون كلّ يوم آلة جديدة يهدمون بها البنيان البشريّ ولا يرحمون أبدًا حال هؤلاء المساكين ولا يرثون لحال الأمّهات اللّواتي ربّين أطفالهن بكمال المحبّة وكم من ليال سهرن فيها على راحة أبنائهنّ وكم من أيّام عانين فيها المشاق من أجل تربيتهم إلى أن أوصلنهم إلى البلوغ. فهل يجوز أن ترى الأمّهات والآباء الألوف من أبنائهم تتمزّق إربًا إربًا يوم واحد؟ فأيّة وحشية هذه الوحشيّة وأيّة غفلة وجهالة هذه! وأيّة بغضاء وعداوة هذه!
فالحيوانات المفترسة تفترس مدفوعة بطلب قوتها الضّروريّ، والذّئب يفترس في اليوم حملاً واحدًا. أمّا الإنسان عديم الإنصاف فإنّه في يوم واحد يمرّغ مائة ألف نفس في الدّماء والتّراب ويفتخر قائلاً: إنّني أصبحت بطلاً وبلغت من الشّجاعة والبأس حدًّا أهلكت فيه في يوم واحد مائة ألف ودمّرت مملكة كاملة.
لاحظوا أنّ جهل الإنسان وغفلته بلغت إلى درجة لو يقتل إنسان شخصًا واحدًا فإنّهم يسمّونه قاتلاً ويعاقبونه بعقاب الموت أو الحبس الأبديّ ولكنّهم إذا شاهدوا إنسانًا يقتل في يوم واحد مائة ألف شخص فإنّهم يسمّونه القائد الأعظم وأشجع أهل زمانه. ولو سرق إنسان ريالاً واحدًا من أموال الآخرين فإنّهم يسمّونه خائنًا ظالمًا ولكنّه إذا أغار على مملكة كاملة ونهبها فإنّهم يسمّونه الفاتح العظيم. فما أعظم هذه الجهالة وما أشدّ هذه الغفلة!
وخلاصة القول لقد كانت العداوات والمشاحنات في إيران بين المذاهب والأديان المختلفة في أوجها وكذلك كانت الأديان في منتهى العداوة في سائر ممالك آسيا وكان أتباع المذاهب المختلفة يسفك بعضهم دم البعض الآخر وكانت القبائل والأجناس المختلفة في حرب وجدال ونزاع وقتال مستديم وكانوا يفاخرون في قتل أبناء نوعهم. وإذا تغلّب دين على آخر نهب القوم بعضهم بعضًا وفخروا بهذا منتهى الفخر. ففي وقتٍ مثل هذا ظهر حضرة بهاء الله في إيران وأسّس وحدة العالم الإنسانيّ ووضع أساس الصّلح الأكبر ودعا الجميع عبادًا للرّﺤﻤﻥ والّذي هو خالق الكلّ ورازق الكلّ وهو رؤوف بالكلّ فلماذا لا نرأف ببعضنا؟ وهو رؤوف رحيم بعباده. ولماذا يكون بعضنا أعداء البعض الآخر ما دام الله يحبّ الجميع ولماذا تكون بيننا عداوة وبغضاء؟ ما دام الخالق رؤوفًا بالجميع ويرزق الجميع ويربّيهم لهذا يجب علينا نحن أيضًا أن نحبّ الجميع ونرأف بالجميع، هذه هي السّياسة الإلهيّة وعلينا نحن أن نتّبع السّياسة الإلهيّة.
فهل يمكن أن يؤسّس البشر سياسة أحسن من السّياسة الإلهيّة؟ إنّ هذا غير ممكن أبدًا.
إذن يجب أن نتّبع السّياسة الإلهيّة وكما أنّ الله رؤوف يعامل الجميع بالمحبّة والرّأفة فكذلك نحن يجب أن نكون رؤوفين بالجميع.
وخلاصة القول إنّ حضرة بهاء الله وضع أساس الصّلح العام ورفع نداء وحدة العالم الإنسانيّ ونشر تعاليم الصّلح والسّلام في الشّرق وكتب في هذا الخصوص ألواحًا إلى جميع الملوك وحثَّ الكلّ على الصّلح والسّلام وأعلن للجميع أنّ عزّة العالم الإنسانيّ في الصّلح والسّلام وذلك قبل ستّين سنة.وبما أنّ أمره تضمّن تعاليم السّلام فقد قام ملوك الشّرق على مخالفته لأنّهم زعموا أنّ نداءه منافٍ لمصالحهم وأهوائهم وآذوه بكلّ نوع من الأذى فضربوه ضربًا مبرّحًا وحبسوه حبسًا شديدًا ونفوه إلى بلاد بعيدة ثمّ حبسوه أخيرًا في قلعة وقاموا على مقاومة أحبّائه.
ومن أجل هذه المسألة أي مسألة ترك التّقاليد الوهميّة وتأسيس الوحدة الإنسانيّة والصّلح والاتّحاد سفكوا دم عشرين ألف نفر. فكم من أسر بدّدوها وكم من نفوس سلبوها وقتلوها.
لكنّ أحبّاء حضرة بهاء الله لم يهنوا أبدًا وما زالوا يسعون حتّى الآن بقلوبهم منتهى السّعي ويرجون الصّلح والاتّفاق وهم قائمون على هذا الأمر الخطير اليوم قيامًا فعليًّا.
إنّ جميع الطّوائف الّتي قبلت تعاليم حضرة بهاء الله أصبحت حماة الصّلح العام ومروّجة لوحدة العالم الإنسانيّ ولها منتهى المحبّة نحو النّوع البشريّ لأنّها تعرف أنّ الجميع كلّهم عبيد إله واحد وكلّهم من جنس واحد وسلالة واحدة وغاية ما في الأمر أنّ البعض جاهل تجب تربيته ومريض تجب معالجته وأطفال يجب تعليمهم وتلقينهم الآداب فلن يجوز اعتبار الطّفل عدوًّا ولن تجوز عداوة المريض بل تجب معالجته. وكذلك الجاهل يجب تعليمه وتربيته.
إنّ أسّ أساس الأديان الإلهيّة هو الألفة ومحبّة البشر ولو كان الدّين الإلهيّ سبب البغضاء والعداوة فإنّه ليس دينًا إلهيًّا لأنّ الدّين يجب أن يكون الاتّحاد وسبب ترويج الألفة والوفاق.
لكنّ مجرد معرفة الشّيء لا يكفي. فكلّنا يعرف أنّ العدل خير لكن لزم لذلك قوّة تنفيذيّة. فمثلاً لو علمنا أنّ بناء المعبد خير فإنّ مجرد العلم بهذا لا يحقّق المعبد أو يجلبه إلى حيّز الوجود بل ينبغي أن تكون هناك إرادة وعزم على البناء ثمّ تلزم الثّروة بعد ذلك. ومجرد العلم لا يكفي. وكلّنا يعلم أنّ الصّلح خير وسبب للحياة لكنّنا في حاجة إلى العمل والتّرويج له.
وحيث إنّ هذا العصر عصر نورانيّ والاستعداد للصّلح موجود فلا بدّ أن تنتشر هذه الأفكار وتبلغ مرحلة العمل والتّنفيذ ومن المؤكّد أنّ الزمان ينشئ حماة الصّلح ويربّيهم. وهناك في جميع أقاليم العالم حماة للصّلح.
وخلاصة القول إنّ أعظم سبب للصّلح هو أساس الأديان الإلهيّة ولو زال سوء التّفاهم من بين الأديان فإنّكم ستلاحظون أنّ الجميع يصبحون حماة للصّلح ومروّجين لوحدة العالم الإنسانيّ لأنّ أساس كلّ الأديان واحد وهو الحقيقة. والحقيقة لا تقبل التّعدّد والانقسام. فمثلاً إنّ حضرة موسى روَّج الحقيقة وحضرة المسيح أسّس الحقيقة وكان حضرة محمّد حاميًا للحقيقة وكان جميع الأنبياء نورًا للحقيقة وقد رفع حضرة بهاء الله راية الحقيقة وروّج الصّلح العام وتفضّل بوحدة العالم الإنسانيّ ولم يجد الرّاحة آنًا واحدًا في سجنه حتّى رفع علم الصّلح في الشّرق وإنّ جميع النّفوس الّتي قبلت تعاليمه أصبحت حامية للصّلح تنفق أرواحها وأموالها في سبيله وكما أنّ النّاس في أمريكا أصبحوا مضرب المثل في الآفاق في رقيّهم المادّيّ واشتهروا في نشر العلوم ورقيّ الصّنائع بالهمّة العالية فكذلك ينبغي أن يكونوا في غاية الغيرة في نشر
الصّلح العام حتّى يؤيّدوا ويسري هذا الأمر الخطير من هذا المكان إلى سائر الجهات وإنّي لأدعو في حقّكم حتّى تتوفّقوا وتؤيّدوا في هذا.

 

التّطور والتّجدّد

الخطبة المباركة ألقيت في مؤتمر الموحّدين بمعبد ترامونت
في بوسطن – أمريكا في 22 أيّار سنة  1912

هو الله 

وصلت من السّفر توًّا في هذه اللّيلة وأنا متعب ومع هذا فسوف أتكلّم قليلاً لأنّني أرى جمعًا محترمًا قد حضر إلى هذا المكان وأرى لزامًا عليّ أن أتكلّم.
لاحظوا أنّ جميع الكائنات في حركة لأنّ الحركة دليل على الوجود والسّكون دليل على الموت وكلّ كائن ترونه متحرّكًا فهو حيّ وكلّ كائن ترونه غيرمتحرّك فهو ميّت.
إنذ جميع الكائنات في تطوّر ونموّ وليس لها سكون أبدًا ومن بين الكائنات المعقولة الدّين. فيجب إذًا أن يكون الدّين متحرّكًا، وأن ينمو يومًا فيومًا وإنّه لم يتحرك بقي خامدًا وصار ذابلاً لأنّ الفيوضات الإلهيّة مستمرّة.
وما دامت الفيوضات الإلهيّة مستمرّة فالدّين إذًا يجب أن ينمو ويترعرع.
وإذا دقّقتم النّظر ترون أنّ جميع الأمور قد تجدّدت لأنّ هذا القرن النّورانيّ هو قرن تجديد جميع الأشياء، فقد تجدّدت العلوم والفنون وتجدّدت المخترعات والمكتشفات وتجدّدت الأنظمة والقوانين وتجدّدت التّقاليد والعادات وتجدّدت الأفكار ولم يعد لعلوم القرون الماضية وقوانينها وعاداتها فائدة لأنّ هذا القرن قرن المعجزات وقرن ظهور الحقيقة وهو كالشّمس السّاطعة بين القرون الماضية.
تأمّلوا قليلاً في العلوم فهل هناك فائدة من علوم القرون الماضية؟ أو هل هناك فائدة للقوانين الطّبية القديمة؟ أو هل للنّظم الاستبدادية القديمة من فائدة؟ فواضح أنّ كلّ واحد منها لا فائدة منه فكيف تكون هناك فائدة اليوم من تقاليد الأديان الماضية؟ تلك التّقاليد الّتي نشأت من الأوهام لا من أساس رسالات أنبياء الله. وهل يمكن اليوم أن تنتج فائدة وخاصّة لدى أولي العقل والعلم؟
فهؤلاء يرون أنّ هذه التّقاليد ليست مطابقة للحقيقة والعلم بل هي مجرّد أوهام لهذا فقد تمسّك المادّيّون اليوم بهذه الذّريعة وصاروا يقاومون الأديان.
ولكنّ أنبياء الله أسّسوا الدّين الحقيقيّ وهم براء من هذه التّقاليد. فهم نشروا معرفة الله وأظهروا الأدلّة العقليّة وشيّدوا صرح الأخلاق الإنسانيّة وروَّجوا فضائل العالم الإنسانيّ. وقد كانت هذه الأسس الّتي وضعها الأنبياء سبب حياة البشر وسبب نورانيّة العالم الإنسانيّ.
ولكن وللأسف تبدّلت تلك الحقائق الّتي نشرها الأنبياء تبدّلاً كلّيًّا. ومحت تعاليمهم الّتي تحمّلوا البلايا والمحن العظيمة من أجل تنفيذها نتيجة تفشّي التّقاليد. فقد تحمّل وكابد كلّ واحد من الأنبياء محنًا وعذابًا يفوق طاقة البشر ونفي بعضهم حتّى أسّسوا الأساس الإلهيّ ولكن لم
تمضِ مدّة حتّى ذهب أساس الحقيقة وحلَّت محلّه التّقاليد. وحيث إنّ التّقاليد كانت مختلفة لذا فقد صارت سبب الاختلاف والنّزاع بين البشر فانتشرت الحروب في ما بينهم.
ولكنّ الأنبياء لا يعلمون شيئًا عن هذه التّقاليد بل هم براء منها لأنّهم واضعو أسس الحقيقة. فإذا تركت أمم العالم هذه التّقاليد اليوم وتحرّت الحقيقة فإنّها لا شكّ تتّحد وتتّفق.
والحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد. والحقيقة هي نور التّوحيد وأساس وحدة العالم الإنسانيّ أمّا التّقاليد فإنّها سبب فرقة البشر ومنشأ الحرب والجدال.
إنّ جميع الأديان الّتي تعرفونها اليوم ناشئة عن تقليد الآباء والأجداد. فالشّخص اليهوديّ أبوه يهوديّ ولذلك فهو يهوديّ أيضًا ولو كان أبوه مسيحيًّا لكان هو مسيحيًّا أيضًا. وذاك أبوه بوذيّ فأصبح هو بوذيًّا أيضًا ولو كان والده زرادشتيًّا لكان هو زرادشتيًّا أيضًا فهؤلاء الأولاد كلّهم يقلّدون آباءهم ولا يتحرّون الحقيقة أبدًا وقد بقوا تحت وطأة التّقاليد وصارت هذه التّقاليد سبب اضطراب العالم الإنسانيّ وما لم تمحَ هذه التّقاليد لا يحصل اتّحاد واتّفاق وما لم تزل هذه التّقاليد فلن تكون راحة وطمأنينة في العالم الإنسانيّ.
إذن يجب أن تتجدّد حقيقة الأديان الإلهيّة مرّة أخرى لأنّ كلّ دين هو بمثابة حبّة نبتت ونشأت منها أغصان وأزهار وظهرت ثمارها لكنّ هذه الشّجرة أصبحت اليوم قديمة وتساقطت أوراقها وتوقّف إثمارها بل اهترأت فما الفائدة بعد هذا من التّشبّث بها. إذن يجب أن نزرع البذرة من جديد.
وبالنّظر إلى أنّ أساس الأديان الإلهيّة واحد فإذا ترك البشر التّقاليد جانبًا اتّحدت جميع الأمم والأديان وأصبح الجميع رحماء ولم يبقَ نزاع في ما بينهم قطّ لأنّ الكلّ عبيد إله واحد والله رؤوف بالكلّ ورازق للكلّ ومحيي للكلّ ومعطي للكلّ كما يتفضّل حضرة المسيح: “إنّ الشّمس الإلهيّة تشرق على العاصي والمطيع” وهذا يعني أنّ رحمة الله عامّة وأنّ كلّ البشر في ظلّ عناية الحقّ غارقون في بحر النّعمة الإلهيّة وأنّ الفيض والموهبة الإلهيّة شاملة للكلّ.
وقد تهيّأ للجميع طريق التّرقي اليوم. والتّرقي قسمان: جسمانيّ وروحانيّ. فالتّرقي الجسمانيّ سبب الرّاحة في الحياة الدّنيا أمّا التّرقي الرّوحانيّ فسبب عزّة العالم الإنسانيّ لأنّه يخدم العالم الإنسانيّ وعالم الأخلاق. وهكذا فالمدنيّة الجسمانيّة سبب السّعادة الدّنيويّة أمّا المدنيّة الإلهيّة فسبب العزّة الأبديّة لعموم البشر.
وقد أسّس أنبياء الله المدنيّة الرّوحانيّة وخدموا عالم الأخلاق وبنوا الأخوّة الرّوحانيّة، والأخوّة على أنواع فهناك أخوّة عائليّة وأخوّة وطنيّة وأخوّة جنسيّة وأخوّة أدبيّة وأخوّة لغويّة ولكنّ هذه الأنواع من الأخوّة لا تؤدّي إلى إزالة التّنازع والتّقاتل بين البشر. أمّا الأخوّة الرّوحانيّة المنبعثة من الرّوح القدس فإنّها تؤدّي إلى حصول الارتباط التّام بين البشر وتقتلع جذور الحرب اقتلاعًا تامًّا وتجعل الأمم المختلفة أمّة واحدة والأوطان المتعدّدة وطنًا واحدًا لأنّها تؤسّس الوحدة وتخدم الصّلح العموميّ.
لهذا يجب أن نعرف أساس الأديان الإلهيّة وأن ننسى هذه التّقاليد وأن ننشر حقيقة التّعاليم الإلهيّة ونعمل بموجبها حتّى تنتشر الأخوّة الرّوحانيّة العموميّة بين البشر. وإنّ هذا لن يتحقّق بغير قوّة الرّوح القدس، فالسّعادة النّاسوتيّة تتحقّق بها، والعزّة اللاّهوتيّة تتحقّق بها، والاستفاضة من الفيض الأبديّ في جميع المراتب تتحقّق بها، وإعلان الصّلح العموميّ يتحقّق بها، ووحدة العالم الإنسانيّ تتحقّق بها، وبقوّة الرّوح القدس هذه يصبح هذا القرن نورانيًّا
ويتحقّق النّجاح والفلاح ويتّحد عموم البشر وتصبح جميع الأوطان وطنًا واحدًا وجميع الملل ملّة واحدة وليست هناك منقبة أرفع من هذه في العالم الإنسانيّ.ولله الحمد لقد ترقّت العلوم والفنون في هذا القرن وفاز النّاس بحرّيّة أكثر من ذي قبل وارتقت العدالة وأصبح هذا القرن جديرًا بالعنايات الرّبّانيّة. لقد حلّ قرن تأسيس الصّلح العموميّ ووحدة العالم الإنسانيّ.

 

العلمُ نورٌ

الخطبة المباركة ألقيت في جامعة كلارك في 23 أيّار 1912

هو الله

أيّها الحفل المحترم!
إنّي في غاية السّرور لحضوري في حفل هذه الكلّيّة ولقد كنت أشتاق مشاهدة هذه الكلّيّة والحمد لله إذ تحقّق هذا الأمل.
 إنّ الكلّيّات منبع لمنافع عظيمة وإنّ العلم أعظم منقبة للعالم الإنسانيّ. يمتاز الإنسان عن الحيوان بالعقل والعلم. وبالعلم يكشف الإنسان أسرار الكائنات، وبالعلم يطّلع الإنسان على أسرار القرون الماضية وبالعلم يكشف الإنسان كوامن الأرض وبالعلم يكشف الإنسان حركات الأجرام السّماويّة العظيمة. العلم سبب العزّة الأبديّة للإنسان والعلم سبب شرف العالم الإنسانيّ، العلم سبب السّمعة والشّهرة الحسنة للإنسان والعلم يكشف أسرار الكتب السّماويّة والعلم يكشف أسرار الحقيقة والعلم يخدم عالم الحقيقة. العلم ينجّي الأديان السّابقة من التّقاليد والعلم يكشف حقيقة الأديان الإلهيّة. العلم أعظم منقبة للعالم الإنسانيّ. العلم ينجّي الإنسان من أسر عالم الطّبيعة والعلم يكسر شوكة النّواميس الطّبيعيّة.
إنّ جميع الكائنات أسيرة للطّبيعة، فهذه الأجرام العظيمة أسيرة للطّبيعة وكرة الأرض بعظمتها أسيرة للطّبيعة وعوالم النّبات والأشجار والحيوان أسيرة للطّبيعة ولا يستطيع أحدها أن يتجاوز قيد شعرة عن قانون الطّبيعة. وهذه الشّمس على ما هي عليه من العظمة لا تخرج مقدار ذرّة واحدة عن قانون الطّبيعة. أمّا الإنسان فبالعلم يخرق قانون الطّبيعة وبقوّة العلم يكسر نظام الطّبيعة ومع أنّه مخلوق ترابيّ فإنّه يطير في الهواء ويمرح فوق سطح البحر ويجول ويصول تحت البحر فيأخذ السّيف من يد الطّبيعة ويغمده في كبد الطّبيعة ويقوم بكلّ هذا بقوّة العلم. فمثلاً نلاحظ الإنسان يحبس هذه القوّة الكهربائيّة العاصية الطّاغية في زجاجة ويحصر الصوت الطّليق كذلك ويهزّ المحيط الجوّي بالمخابرة ويقود سفينة فوق صحراء ويحوّل اليابسة بحرًا ويخترق الجبال ويؤلّف بين الغرب والشّرق ويعانق الجنوب مع الشّمال ويكشف أسرار الطّبيعة المكنونة وهذا أمر خارج على قانون الطّبيعة ويأتي بجميع الصّنائع والبدائع والاختراعات بقوّة العلم من حيّز الغيب إلى عالم الشّهود وكلّ هذه الأعمال أمور خارجة على قانون الطّبيعة ولكنّها تتحقّق وتتمّ بقوّة العلم.
والخلاصة أنّ جميع الكائنات أسيرة للطّبيعة أمّا الإنسان فإنّه طليق. وهذه الحرّيّة إنّما نالها بواسطة العلم، فالعلم يضرب قواعد الطّبيعة وأحكامها بعضها ببعض ويقلّب نظام الطّبيعة
ويقوم بكلّ هذا بقوّة العلم، إذن اتّضح أنّ العلم أعظم مناقب العالم الإنسانيّ وأنّ العلم عزّة أبديّة وأنّ العلم حياة سرمديّة.
لاحظوا حياة مشاهير العلماء فإنّهم وإن فنوا وتلاشوا إلاّ أن علمهم باقٍ. إنّ سلطنة ملوك العالم سلطنة مؤقّتة ولكنّ سلطنة الشّخص العالم أبديّة وصيته وشهرته سرمديّان والإنسان العالم يصبح بقوّة العلم شهير الآفاق وكاشفًا لأسرار الكائنات.
إنّ الشّخص الذّليل يصبح بالعلم عزيزًا والمجهول يصبح شهيرًا ويشرق كالشّمع المنير بين الملل لأنّ العلم أنوار والشّخص العالم مثل السّراج الوهّاج.
جميع الخلق أموات والعلماء أحياء وجميع الخلق بلا صيت والعلماء مشاهير. لاحظوا مشاهير العلماء السّالفين الّذين تلمع نجمة عزّتهم من الأفق الأبديّ وهم باقون إلى أبد الآباد.
لهذا فإنّني في غاية السّرور لحضوري في هذه الكلّيّة كلّيّة العلوم والفنون وأملي أن يصبح هذا المركز عظيمًا وينوّر جميع الآفاق بأنوار العلوم فيبصر العمي ويسمع الصّمّ ويحيي الموتى ويبدّل ظلمة الأرض إلى نور. فالعلم نور والجهل ظلمة كما ورد في الإنجيل عن حضرة إشعيا أنّه تفضّل: “إنّ هؤلاء النّاس لهم عيون ولكنّهم لا يبصرون ولهم آذان ولكنّهم لا يسمعون ولهم عقول ولكنّهم لا يفقهون”. وتفضّل حضرة المسيح في الكتاب المقدّس” “إنّني أشفي هؤلاء”.
إذن ثبت أنّ الجاهل ميّت والعالم حيّ والجاهل أعمى والعالم بصير والجاهل أصمّ والعالم سميع وأنّ أشرف مناقب العالم الإنسانيّ هو العلم.
الحمد لله إنّ العلم في هذا الإقليم في ارتقاء مستمرّ ولقد تأسّست مدارس وكلّيّات للعلوم والفنون ويجهد التّلاميذ في هذه المدارس بمنتهى جهدهم ويكشفون حقائق العالم الإنسانيّ وأملي أن تقتدي سائر الممالك بهذه المملكة وتشيد مدارس عديدة لتربية أولادهم وترفع راية العلم حتّى يتنوّر العالم الإنسانيّ وتظهر حقائق وأسرار الكائنات فلا تبقى هذه التّعصّبات الجاهليّة وتزول هذ التّقاليد الموهومة الّتي هي السّبب في الاختلاف بين الأمم. وأملي أن يتبدّل الاختلاف بالائتلاف ويرتفع علم وحدة العالم الإنسانيّ وتظلّل خيمة الصّلح العمومي جميع الأقطار في العالم.
إنّ العلم يوحّد جميع البشر والعلم يجعل كلّ الممالك مملكة واحدة ويجعل جميع الأوطان وطنًا واحدًا. والعلم يوحّد جميع الأديان في دين واحد لأنّ العلم يكشف الحقيقة. والأديان كلّها حقيقة واحدة ولكنّ العالم البشريّ الآن غريق بحر التّقاليد. وهذه التّقاليد أوهام محضة. إنّ العلم يستأصل هذه التّقاليد من جذورها ويشتّت هذه السّحب المظلمة الّتي تحجب شمس الحقيقة وتظهر حقيقة الأديان الإلهيّة وحيث إنّ الحقيقة واحدة فإنّ جميع الأديان الإلهيّة تتّحد وتتّفق ولا يبقى اختلاف وينهدم النّزاع والجدال وتتجلّى وحدة العالم الإنسانيّ.
إنّ العلم هو الّذي يزيل الأوهام وإنّ العلم هو الّذي يظهر نورانيّة الملكوت ولهذا فإنّني أرجو الله أن ترتفع راية العلم يومًا فيومًا ويسطع كوكب العلم سطوعًا أشدّ حتّى يستنير جميع البشر من نور العلم وترتقي العقول وتزداد المشاعر الإنسانيّة وتتزايد الاكتشافات ويرتقي الإنسان في جميع مراتب الكمالات وتتحقّق منتهى السّعادة في ظلّ الإله الأكبر ولا يمكن تحقّق هذه المسائل تحقّقا واقعيًّا بغير العلم الحقيقيّ.
لقد جئت من بلاد بعيدة حتّى أحضر في هذه المجامع المحترمة العلميّة وأشاهد هذه الأنظمة وهذه التّشكيلات وأنال منتهى السّرور ولعل هذه النّظم العلميّة والفنيّة تجري في ممالك الشّرق ويروّج العلم في الشّرق وعندما أعود إلى الشّرق سأشوّق الجميع على تحصيل العلوم والفنون المفيدة.
وأملي أن تبذلوا أنتم الهمّة أيضًا وتؤسّسوا في ممالك الشّرق مدارس مهمّة.
وكذلك أبناء الشّرق من هنود وصينيّين ويابانيّين وعرب وأرمن وممّن ينهلون العلوم والفنون من مناهل هذه البلاد حينما يعودون إلى أوطانهم يقومون بنشر العلوم والصّنائع والمخترعات حتّى تصبح الأقطار الشّرقية مطابقة للأقطار الغربيّة لأنّ أهالي الشّرق ذوو استعداد كبير ولكنّ وسائل التّربية العامّة لم تكن مهيّئة حتّى الآن فليست هناك مدارس مثل هذه المدارس.
ولهذا فأملي أن ينال الشّرق في القريب العاجل نصيبًا وافرًا من أنوار العلوم والحكمة الإلهيّة والفنون العصريّة حتّى يسطع نور العلم على جميع الآفاق وينوّر جميع الأقطار ويتحقّق بين البشر ارتباط تامّ وتتجلّى سعادة العالم الإنسانيّ وتنتشر تجلّيات العلوم الإلهيّة في آفاق الشّرق والغرب انتشارًا كلّيًّا وتبقى حقوق العموم محفوظة ويرتقي أفراد النّاس يومًا فيومًا في الفضائل ويحصل منتهى الاتّحاد والاتّفاق بين الأمم. هذا منتهى أملي وهذا هو المقصود من سفري إلى أمريكا.

 

وحدة أساس الأديان

الخطبة المباركة ألقيت في مجمع الأحرار الأميركيّين
في مدينة بوسطن بقاعة فرد في مساء 24 أيّار 1912

هو الله 

أيّها الطّالبون للحقيقة! لقد نزلت الأديان الإلهيّة من أجل المحبّة بين البشر ومن أجل الألفة ومن أجل وحدة العالم الإنسانيّ لكن وللأسف بدّل أصحاب الأديان النّور بالظّلمة وصار كلّ واحد يعتبر كلّ نبيّ عدوًا للنّبي الآخر.
فمثلاً يعتبر اليهود حضرة المسيح عدوًّا لحضرة موسى، ويعتبر المسيحيّون حضرة زرادشت عدوًّا لحضرة المسيح ويعتبر البوذيّون حضرة زرادشت عدوًّا لحضرة بوذا والجميع يعتبرون حضرة محمّد مخالفًا لجميع الأنبياء وجميعهم ينكرون حضرة الباب وحضرة بهاء الله في حين أنّ مبدأ هؤلاء العظماء واحد وحقيقة شريعتهم واحدة ومقصدهم واحد وأساس تعاليمهم واحد وجميعهم متّحدون ومتّفقون وجميعهم يرشدون إلى إله واحد مروّجين شريعة إله واحد.
فمثلاً كان حضرة زرادشت نبيًّا متّفقا تمامًا في رأيه مع رأي حضرة المسيح بحيث لم يوجد تفاوت بين تعاليمهما. وكذلك فإنّ تعاليم بوذا ليست مخالفة لتعاليم حضرة المسيح وكذا سائر الأنبياء. فالأنبياء جميعًا مبدؤهم واحد ومقصدهم واحد وشريعتهم واحدة وتعاليمهم واحدة ولكن وللأسف حلّت فيما بعد التّقاليد بين النّاس وصارت تلك التّقاليد سبب الاختلاف لأنّ هذه التّقاليد لم تكن حقيقة بل كانت أوهامًا، وهي مخالفة تمامًا لشريعة المسيح ومعاكسة للتّعاليم
والنّواميس الإلهيّة ولذلك فقد أضحت سبب النّزاع والجدال في حين أنّ الأديان يجب أن تكون في منتهى الألفة في ما بينها لكنّها أوجدت منتهى الاختلاف. وبدل أن يتقرّب بعضها من بعض قامت على القتال وبدل أن يتعاون ويتعاضد بعضها مع البعض الآخر راحت تحارب بعضها للبعض الآخر ولهذا لم يرَ العالم الإنسانيّ منذ بدايته حتّى الآن راحة بال وكانت هناك دومًا حروب ومشاحنات بين الأديان ولو نظرتم إلى حقيقتها لبكيتم ليلاً ونهارًا لأنّها جعلت أمر الله الّذي هو أساس المحبّة سببًا للخلاف لأنّ شريعة الله هي بمثابة العلاج فإنّ أُخذ العلاج بطريقة صحيحة صار سبب الشّفاء ولكن وللأسف كانت هذه العلاجات في يد طبيب غير حاذق فصار العلاج الّذي هو سبب الشّفاء سببًا للمرض وبدل أن يكون سبب الحياة صار سبب الممات ولا يمنح الطّبيب غير الحاذق شفاء ولا يجدي علاجه نفعًا بل يكون سبب الممات لأنّ العلاج وقع بيده وهو غير الحاذق.
لقد ظهر حضرة بهاء الله في إيران منذ ستّين سنة وكانت إيران عند ظهوره مسرحًا لعداوات بين الأديان والمذاهب والأجناس المختلفة بحيث كان الرّؤساء يسبّون بعضهم بعضًا ويلعن بعضهم بعضًا وشرب بعضهم دماء البعض الآخر. وقد أعلن حضرة بهاء الله وحدة العالم الإنسانيّ وأعلن أنّ الدّين يجب أن يكون سبب المحبّة والألفة وسبب الحياة، فإن أصبح الدّين سبب العداواة كان عدمه خيرًا من وجوده. لأنّ المقصد من الدّين هو إيجاد المحبّة بين البشر، وعندما تحصل العداواة بين البشر بسببه فلا شكّ أنّ عدمه أحسن من وجوده.
وكذلك أعلن حضرة بهاء الله أنّ الدّين يجب أن يطابق العلم لأنّ العلم حقيقة والدّين حقيقة ويستحيل ظهور الاختلافات في الحقيقة الواحدة. فإن كانت مسألة من المسائل الدّينيّة مخالفة للعقل والعلم فإنّه وهمٌ محض ولا أساس لها أبدًا، لأنّ كلّ ما هو ضدّ العلم والعقل فهو جهل وهذا أمر واضح وضوح الشّمس.
إنّ عالم البشر مستظلّ في ظلّ الإله الأكبر والجميع عبيد الله وهم مرتاحون في ظلّ الشّجرة الإلهيّة. وقد خلق الله الجميع وهو يرزق الجميع ويربّي الجميع ويحفظ الجميع وما دام هو رؤوفًا بالجميع فلماذا نكون نحن قساة؟ وما دام الله يحبّ عباده فلماذا نبغض ونعادي؟ وما دام الله في صلح مع الجميع فلماذا نشغل أنفسنا بالحروب والمشاحنات؟ ولقد خلقنا الله من أجل المحبّة والأخوّة لا للعداوة. وخلقنا الله للصّلح والسّلام لا للحرب والنّزال. فلماذا نبدّل هذه الصّفات الرّحمانيّة بالصّفات الشّيطانيّة؟ ولماذا نقاوم هذه النّورانيّة بالظّلمة؟ ولماذا نقابل هذه المحبّة الإلهيّة بالعداوة؟ فلقد تخاصمنا وتنازعنا مدّة ستة آلاف سنة والآن في هذا القرن النّورانيّ يجب أن نتحابّ ونتآلف. وهناك اليوم عداوة وبغضاء عظيمة بين الأديان فأيّة ثمرة حصلت من ذلك؟ وأيّة فائدة ترتّبت على ذلك البشر؟ ألا يكفي هذا؟
إنّ هذا العصر عصر نورانيّ. هذا عصر يتوجّب علينا فيه أن نتحرّر من هذه الأوهام، هذا عصر يجب أن تمحى فيه الخصومة والبغضاء. وهذا عصر يجب أن تصبح فيه الأديان دينًا واحدًا. وهذا عصر يجب فيه أن تتّحد المذاهب وتتآلف في ما بينها بالمحبّة واللّطف. لأنّنا جميعنا عبيد إله واحد. وقد جئنا إلى الوجود برحمة عظمى واحدة وكلّنا استنرنا من شمس واحدة ووجدنا الحياة من روح واحدة وغاية ما في الأمر أنّ بعضنا مريض تجب معالجته بمنتهى الرّأفة وبعضنا جاهل يجب تعليمه وبعضنا طفل تجب تربيته كي تبدّد شمس الأخوّة السّماويّة هذه السّحب المظلمة. يجب أن لا نبغض أحدًا ويجب أن لا نعادي أحدًا. فالجميع آباء والجميع أمّهات والجميع إخوان والجميع أخوات. والاتّحاد الّذي أوجده الله يجب أن لا نكون سببًا في زواله وأن لا نخرّب البنيان الّذي أسّسه الله من أجل محبّته وأن لا نقاوم الإرادة الإلهيّة بل نتّبع السّياسة الإلهيّة ونسلك سبيلها ولا شكّ أنّ السّياسة الإلهيّة فوق سياسة
الإنسان لأنّ الإنسان مهما ارتقى فإنّه يبقى ناقصًا غير كامل أمّا السّياسة الإلهيّة فكاملة لذلك يجب علينا أن نقتبس من السّياسة الإلهيّة ونسلك مع الآخرين بنفس السّلوك الّذي يسلكه الله مع عباده ونقتدي بالله. فنحن نشاهد آثار الله الباهرة ونشاهد حكمته ورحمته وقوّته وقدرته لذلك يجب أن نترك الأوهام والتّقاليد جانبًا ونتمسّك بالحقّ ونتجنّب الاختلاف والتّباعد ومعاذ الله أن يكون أنبياء الله راضين بهذا فأنبياء الله جميعهم روح واحدة وكلّهم علّموا البشريّة تعليمًا واحدًا. وتعاليم أنبياء الله روح محضة وحقيقة محضة ومحبّة محضة وألفة محضة. لذا يجب أن نتّبع أنبياء الله.

 

التّقرّب إلى الله

الخطبة المباركة ألقيت في كنيسة المعمدانيّين في
 نيويورك – أمريكا مساء 26 أيّار سنة 1912

هو الله 

لقد جاء هذه اللّيلة في أثناء النّشيد شيء من ذكر التّقرب إلى الله. إنّ التّقرب إلى الله هو أعظم موهبة في العالم الإنسانيّ، وكلّ شرف وكلّ فضيلة وكلّ موهبة يتيسّر حصولها للإنسان إنّما تتيسّر بالتّقرّب إلى الله.
إنّ جميع الأنبياء والرّسل كانوا يريدون التّقرّب إلى الله وكم من ليالٍ بكوا وكم من أيّام تضرّعوا وابتهلوا فيها طلبًا للتقرّب إلى الله ولكنّ الحصول عليه ليس بأمر يسير فقد كان جميع البشر طالبين التّقرّب إلى الله في اليوم الّذي ظهر فيه حضرة المسيح ولم يفز أحد بهذا المقام إلاّ الحواريّون فقد فازت تلك النّفوس المباركة بالتّقرّب إلى الله لأن التّقرّب إلى الله مشروط بشرط محبّة الله والتّقرب إلى الله مشروط باكتساب معرفة الله وبالانقطاع عمّا سوى الله.
ويتمّ التّقرب إلى الله بالتّضحية بالرّوح ويتمّ بالفداء بالنّفس وبالرّوح وبالمال وبجميع الشّؤون. ويتمّ التّقرب إلى الله بالتّعميد بالرّوح وبالنّار وبالماء لأنّه يتفضّل في الإنجيل بأنّ كلّ نفسٍ يجب أن تتعمّد بالماء والرّوح ويتفضّل في مكان آخر بأنّه يجب التّعميد بالنّار والرّوح، في حين يجب أن نعلم أنّ المقصود بالماء ماء الحياة والمقصود بالرّوح الرّوح القدس والمقصود بالنّار نار محبّة الله والمقصود من كلّ ذلك هو أنّ الإنسان يجب أن يتعمّد بماء الحياة وبالرّوح القدس وبنار محبّة الله حتّى يحصل على التّقرب إلى الله بعد حصوله على المقامات الثّلاثة.
هذا هو التّقرب إلى الله ولا يمكن الحصول عليه بالسّهولة ويتمّ الحصول عليه كما حصل عليه عشرون ألف بهائيّ بفدائهم أرواحهم. فالبهائيّون فدوا أموالهم وفدوا عزّتهم وفدوا راحتهم وفدوا أنفسهم العزيزة وتوجّهوا بمنتهى السّرور إلى مشهد الفداء فقطّعت أجسادهم إربًا إربًا وخرّبت بيوتهم ونهبت أموالهم وأسر أطفالهم وقد قبلوا جميع هذه البلايا بمنتهى السّرور والابتهاج بلى بمثل هذه التّضحيات يتحقّق التّقرب إلى الله.
ومن المعلوم أنّ التّقرب إلى الله لا يحدّد حدود الزّمان والمكان. فالتّقرب يتمّ بصفاء القلب ويتحقّق ببشارات الرّوح. لاحظوا المرآة تروها، حينما تكون صافية ومجرّدة من الصّدأ قريبة من الشّمس رغم وجود مسافة مائة ألف مليون ميل بينهما وبمجرّد الصّفاء واللّطافة تسطع الشّمس في تلك المرآة وكذا القلوب حينما تكون صافية لطيفة تقترب من الله وتسطع فيها
شمس الحقيقة وتشتعل فيها نار محبّة الله وتنفتح عليها أبواب الفتوحات المعنويّة ويطّلع الإنسان على الرّموز والأسرار الإلهيّة ويقوم باكتشافات روحانيّة ويشاهد عالم الملكوت.
ولقد حصل جميع الأنبياء على التّقرّب إلى الله بهذه الواسطة إذن فنحن كذلك يجب أن نتّبع أثر تلك النّفوس المقدّسة ونترك أهواءنا وننجو من لوث العالم البشريّ حتّى تصبح القلوب مثل المرايا وتشرق منها أنوار الهداية الكبرى. ويتفضّل حضرة بهاء الله في الكلمات المكنونة بأنّ الله يخاطب البشر بواسطة أوليائه وأنبيائه ويقول: “فؤادك منزلي قدّسه لنزولي وروحك منظري طهرّها لظهوري”.
إذن فقد فهمنا من هذا أنّ التّقرب إلى الله يتمّ بالتّوجّه إلى الله والتّقرّب إلى الله يتمّ بالدّخول في ملكوت الله والتّقرّب إلى الله يتمّ بخدمة العالم الإنسانيّ والتّقرّب إلى الله يتمّ بمحبّة البشر والتّقرب إلى الله يتحقّق بالعطف على جميع البشر والتّقرّب إلى الله يتحقّق باتّحاد واتّفاق جميع الأمم والأديان والتّقرّب إلى الله يتحقّق بتحرّي الحقيقة ويتحقّق بتحصيل العلوم والفضائل ويتحقّق بخدمة الصّلح العموميّ ويتحقّق بالتّنزيه والتّقديس ويتحقّق بإنفاق الرّوح والمال والعزّة والمنصب.
لاحظوا أنّ الشّمس تشرق على جميع الكائنات لكنّ أنوار الشّمس تسطع في الصّفحة الطّاهرة المقدّسة سطوعًا قويًّا أمّا الحجر الأسود فلا نصيب له منها. والأرض الجرداء لا تنال شعاعًا من ذلك الإشراق والشّجرة اليابسة لا تنمو من حرارتها والعين العمياء لا تشاهد الأنوار في حين أنّ النّفوس ذوات الأعين الطّاهرة تشاهد الشّمس وتنال الأشجار النّضرة نصيبًا من إشراقها. إذًا يجب على الإنسان أن يعدّ نفسه وأن تكون له قابليّة. وما لم يكن لدى الإنسان استعداد وقابليّة فإنّ الفيوضات الإلهيّة لا تظهر فيه ولا تتجلّى.
ولو أمطرت سحب الرّحمة الإلهيّة ألف سنة على أرض سبخة فإنّها لا تنبت الورود والرّياحين. إذن يجب أن نجعل مزرعة القلب طيّبة طاهرة حتّى يمطر عليها مطر الرّحمة الإلهيّة وتنبت منها الورود والرّياحين ويجب أن نحصل على عيون مبصرة لكي نشاهد أنوار الشّمس ويجب أن نطهّر المشامّ حتّى نستنشق رائحة حديقة الأزهار ونعدّ المسامع حتّى نستمع نداء ملكوت الله.
أمّا إذا كانت الآذان صمّاء فإنّها لن تسمع أيّة نغمة تأتي من الملأ الأعلى ولن يبلغ سمعها نداء الملكوت. والمشامّ المزكوم لا يستشمّ الرّائحة العطرة. إذًا يجب اكتساب القابليّة والاستعداد وما لم تحصل القابليّة والاستعداد فلن تؤثّر الفيوضات الإلهيّة، ويتفضّل حضرة المسيح في الإنجيل بأنّ البيانات الّتي أقولها لكم إنّما هي كالبذور الّتي يبذره الزّارع فبعض تلك البذور يقع على الصّخر والبعض يقع على أرض بور والبعض يقع بين الحشائش والبعض الآخر يقع في أرض طيّبة مباركة، فالبذر الّذي وقع في الأرض السّبخة يفسد ولا ينبت بأيّ وجه من الوجوه والبذرة الّتي تقع على صخرة تنمو نموًّا قليلاً ولكنّها بسبب قصر جذورها تجفّ والبذرة الّتي تقع بين الحشائش تختنق ولا تنبت. أمّا تلك البذرة الّتي تقع على الأرض الطّيبة فإنها تنبت إنباتًا وتخضرّ اخضرارًا وتصبح سنبلاً ثمّ بيدرًا. كما أنّ ما اتّحدث بها فإنّها لا تؤثّر أبدًا في بعض القلوب وتؤثّر في البعض الآخر تأثيرًا قليلاً تنساه بعد قليل. والبعض الآخر يغرق وصاياي ونصائحي في بحر أوهامهم الكثيرة. أمّا النّفوس المباركة فحينما يسمعون الوصايا والنّصائح تنبت تلك البذرة الطّاهرة في قلوبهم وتخضرّ وتزدهر فيرتقون يومًا بعد يوم رقيًّا لا نهاية ويلمعون لمعان النّجوم في أفق الهداية فلاحظوا أنّه ما لم تحصل اللّياقة والاستعداد لن يصل نداء الملكوت إلى السّمع.
إذن يجب علينا أن نبذل الجهد حتّى نحصل على الاستعداد واللّياقة وحتّى نسمع نداء الملكوت الأبهى وحتّى نسمع البشارات الإلهيّة فنحيا بنفثات الرّوح القدس ونصير سببًا لاتّحاد جميع الملل والأمم ونرفع علم وحدة العالم الإنسانيّ وننشر الأخوّة الرّوحانيّة بين البشر ونفوز بالرّضى الإلهيّ وبالحياة الأبديّة.
“يا إلهي الغفور إنّ هؤلاء العباد متوجّهون إلى ملكوتك ويطلبون الفيض والعناية. فيا إلهي اجعل القلوب طيّبة طاهرة حتّى تحصل على قابلية محبتك وطهّر الأرواح حتّى تتجلّى فيها أنوار شمس الحقيقة وطهّر العيون حتّى تشاهد أنوارك وطهّر الآذان وقدّسها حتّى تسمع نداء ملكوتك. يا إلهي نحن ضعفاء وأنت القدير ونحن فقراء وأنت الغنيّ ونحن سائلون وأنت المقصود. إلهي ارحم واعفُ وأنعم علينا بالقابليّة والاستعداد حتّى نستحقّ ألطافك وننجذب إلى ملكوتك ونرتوي من ماء الحياة ونشتعل بنار محبّتك ونحيا بنفثات الرّوح القدس في هذا القرن النّورانيّ. إلهي إلهي تلطّف على هذا الجمع بنظرة عنايتك واحفظ الجميع وصنهم في حفظك وحمايتك وأنزل البركة السّماويّة لهؤلاء النّفوس واجعلهم مستغرقين في بحور رحمتك وأحيهم بنفثات الرّوح القدس. إلهي أيّد هذه الحكومة العادلة ووفّقها فهذا الإقليم هو في ظلّ حمايتك وهذه الملّة أرقّاؤك. إلهي فابذل عنايتك وامنحنا فضلك وموهبتك وعزّز هذه الملّة المحترمة واقبلها في ملكوتك. إنّك أنت المقتدر وإنّك أنت القدير وإنّك أنت الرّحمن وإنّك أنت المنعم العطوف وإنّك أنت كثير الإحسان”. 

 

حوار في المصيف

البيانات المباركة في بيت السّيّد بن شو في
 مصيف ميلفرد في أمريكا في 3 حزيران سنة 1912

هو الله 

نرجو أن نتذوّق في مجلسكم هذا من المائدة السّماويّة فإنّ ذلك يوافق تمامًا مذاقنا لأنّ هذه الجماعة الّتي اجتمعت هنا إنّما اجتمعت بالمحبّة وكلّ جماعة تجتمع بالمحبّة فهناك لا شكّ تكون المائدة السّماويّة.
وأصل المائدة السّماويّة هو المحبّة. وفي الإنجيل مذكور أنّ المائدة السّماويّة نزلت على بطرس. ومشهور لدى أهل الشّرق أنّها نزلت على حضرة المسيح. وكذلك مشهور أنّ المائدة الإلهيّة كانت تنزل على حضرة مريم. ولا شكّ أنّ هذا صحيح. فالمائدة السّماويّة نزلت على حضرة المسيح وعلى حضرة مريم كليهما. إنّ المائدة السّماويّة تكون وفقًا لمقتضى السّماء وإنّ مائدة الرّوح تكون بمقتضى الرّوح ومائدة العقل تكون بمقتضى العقل وتلك المائدة الّتي كانت تنزل على حضرة المسيح وعلى حضرة مريم كانت محبّة الله وبها كانت تحيا الرّوح الإنسانيّة وكانت غذاء القلوب. إنّ تأثيرات هذا الغذاء الجسماني مؤقّتة أمّا تأثيرات ذلك الغذاء السّماويّ فأبديّة. وفي هذا الغذاء حياة الجسم أمّا في ذاك فحياة الرّوح.
فعرض أحدهم: إنّ في الجرائد خبرًا يشير إلى أنّكم اشتريتم بيتًا في مونت كلير وتفكّرون في التّوطّن فيه.
فتفضّل: إنّهم صادقون في قولهم ولكنّهم لم يفهموا أي نوع من المساكن. فجميع العالم وطني وأنا متوطّن في كلّ مكان وفي أيّ مكان أجد فيه نفوسًا مثلكم فهناك وطني والأصل في
الوطن وطن القلوب. ويجب على الإنسان أن يستوطن في القلوب لا في التّراب وهذا التّراب ليس ملكًا لأحد وهو يخرج من يد الجميع. وهو أوهام لكنّ الوطن الحقيقيّ هو القلوب.
وسأل آخر عن الحياة بعد الموت وماذا يحدث لروح الإنسان؟
فتفضّل: إنّ الجسد يذهب تحت التّراب من حيث أتى. فمنه جاء وإليه يذهب. وكلّ ما تشاهدونه يعود إلى حيث جاء منه. جسم الإنسان لمّا كان من التّراب فإنّه يعود إلى التّراب. أمّا الرّوح الإنسانيّة فإنّها جاءت من الله وتعود إلى الله فأنتم مسرورون وفي منتهى البهجة وهذا المكان جنّة وهو مكان بهج جدًّا وفيه روحانيّة كثيرة لذا فالرّوح الإنسانيّة تهتزّ هنا وتجد بهجة عظمى ولقد اخترتم مكانًا طيبًا.
وسألت امرأة: هل هذا المكان الهادئ مناسب للأطفال أيضًا أم إنّهم يحتاجون إلى مؤانسين من سنّهم؟
فتفضّل: إنّه مناسب جدًّا للأطفال وهو مناسب لعيونهم ولفكرهم ولعقلهم ولكلّ شيء. وإذا كان الأطفال مؤدّبين فيجب أن يجتمعوا سويّة في بعض الأوقات. لاحظوا أنّه عندما يبلغ الطّفل سن الثّانية يميل إلى اللّعب مع الأطفال ولاحظوا الطّيور كيف أنّها تطير مع بعضها وكيف تجتمع ببعضها؟ وهل تتذكّرون طفولتكم وكم كنتم تأنسون بالأطفال من سنّكم وكم كنتم تفرحون بهم؟
كان حضرة بهاء الله يفرح كثيرًا بمثل هذه المناظر الطّبيعية وقال إنّ المدينة عالم الأجسام أمّا الجبال والسّهول فعالم الأرواح ومع ذلك فقد كان حضرته طوال أيّام حياته سجينًا مبتليًا ببلايا شديدة.
يجب أن تكونوا ممتنّين شاكرين لكولمبس على اكتشافه هذه القارّة العظيمة لكم ومن أغرب الغرائب أنّه اكتشفها ولكنّها اشتهرت باسم “أمريك” ويجب أن يكون اسمها في الحقيقة “كولمبيا”. هذا هو الحقّ والعدل.
كلّ كائن من الكائنات النّاسوتيّة مهما كانت له فوائد فلا بدّ أن تكون له أضرار أيضًا ولكنّنا يجب أن ننظر هل فائدته أكثر أم أضراره؟ والآن نرى العالم حسب الظّاهر قد ابتلي بمتاعب ومشقّات نتيجة اكتشاف كولمبس. فمثلاً لو لم يكتشف كولمبس أمريكا لما بنيت باخرة مثل تيتانيكا ولما غرقت كلّ هذه النّفوس ولكنّ هذه الأضرار ليست شيئًا بالنّسبة للمنافع. ولهذا يجب أن ننظر إلى الفوائد الأخرى. والشّيء الّذي هو خير محض في هذا اليوم هو الأمور الرّوحية الّتي هي خير محض وخير بحت وليس لها أبدًا ضرر من أيّة ناحية لأنّها نور ولا ضرر من النّور.
وتفضّل: وأمّا نيويورك فإنّ بيوتها مخنقة وتشبه الأقفاص وتشبه خلية النّحل. أمّا هنا فالبيوت طيّبة وحينما ركبنا السّيارة ووصلنا هذا المصيف دخلناه وكأنّنا دخلنا من الجحيم إلى الجنّة. واليوم بعد وصولنا ذهبنا إلى الشّلال وعند عودتنا أمطرت السّماء فتبلّلنا قليلاً فلجأنا إلى أحد البيوت القريبة. لقد ورد في ألواح حضرة بهاء الله أنّ حضرة المسيح كان ذات يوم في الصّحراء وكان الوقت ليلاً والظّلام حالكًا وكان يهطل مطر شديد على حضرته فتوجّه إلى مغارة فلاحظ أنّ فيها حيوانات ضارية فوقف خارجًا تحت المطر وكانت السّماء تمطر مطرًا غزيرًا على رأس حضرته فتفضّل: “يا إلهي خلقت للطّيور أوكارًا وللحيوانات الضّارية كهوفًا وللأغنام مكانًا أمّا ابن الإنسان فلم يجد له مكانًا يحفظ فيه نفسه من المطر. يا إلهي ترى أنّ
فراشي التّراب وغذائي علف الصحراء وسراجي في اللّيالي النّجوم! ثمّ تفضّل: “أيّ إنسان أغنى منّي؟ لأنّ تلك الموهبة الّتي لم تعطها للملوك ولم تعطها للفلاسفة ولم تعطها للأغنياء أنعمت عليّ بها فمن هو أغنى مني؟ وفي آثار حضرة بهاء الله نجد بعض القضايا الّتي ليست مذكورة في الإنجيل وهي روايات عن حضرة المسيح وهي تدور حول سموّ المسيح وعظمة المسيح. وأقصّ لكم قصّة أخرى: “يقال إنّ حضرة المسيح دخل ذات يوم قرية وكانت الحكومة قد منعت الأهلين أن يستضيفوا غريبًا لأنّه وجد في تلك الأطراف كثير من اللّصوص. ووصل حضرة المسيح إلى بيت امرأة عجوز فاستحت من منعه وحينما وقعت عينها على جمال حضرته ولاحظت وقار حضرته لم تحبّ أن تقول: “إنّني لا أستطيع أن أنزلك ضيفًا عندي.” ولهذا استقبلته بكمال الاحترام ثمّ التفتت هذه المرأة العجوز إلى هيئة حضرته فشاهدت أنّ آثار العظمة بادية على أطواره وسيماه فتقدّمت وقبّلت يد حضرته وعرضت: “إنّ لي ولدًا وليس لي غيره. وكان هذا الولد عاقلاً كاملاً. كان يشتغل وكنّا نعيش بمنتهى السّعادة. وقد حدث في الآونة الأخيرة أن اضطربت أفكاره وكأنّه في مأتم وعزاء. وقد ملأ بيتنا همًّا وحزنًا فهو يشتغل نهارًا ولكنّه يأتي ليلاً مضطرب الأحوال ولا ينام وكلّما أسأله لا يجيبني”. فتفضّل حضرته: “ادعيه إليّ”. وحلّ المساء وجاء الولد فقالت له أمّه: “يا ولدي إنّ هذا شخص عظيم فإن كان لديك همّ فأخبره به”. ثمّ جاء الولد وجلس في حضور حضرته. فتفضّل مخاطبًا إيّاه: “أخبرني هل فيك مرض أو داء؟” فعرض: “ليست بي علّة” فتفضّل: “لا تكذب بك داء لا دواء له. فقل وأنا أمين لا أكشف سرّ أحد بل أستره. وكن مطمئنًّا. فقل وأنا لا أكشف سرّك.” فعرض: “إنّ لي داء لا دواء له.” فتفضّل: “قل وأنا أعالجك”. فعرض: “بما أنّه ليس له دواء فلا تمكن معالجته” فتفضّل:
“قل وأنا عندي العلاج” فعرض: “لأيّ مرض كان؟” فتفضّل: “لأيّ مرض كان”. فعرض: “إنّني أخجل وأستحي أن أقول”. فتفضّل: قل إنّك ولدي”. ففكّر الولد قليلاً وقال: “لا أستطيع أن أنطق به بلساني وهذا من سوء الأدب”. فتفضّل: “أنا أعفو عنك” فعرض: “إنّ في المدينة المجاورة ملكًا وقعت في حبّ ابنته وأنا مهنتي بيع الأشواك اليابسة وماذا أقول بعد هذا؟” فتفضّل: “اطمئن فإنّني إن شاء الله أوصلك إلى مرادك”. وخلاصة القول فقد هيّأ حضرته الأسباب له وذهب الولد وتزوّج تلك البنت وفي ليلة دخوله غرفة الزّفاف خطر بباله أمر وهو يدخل الغرفة ويرى الجمال والجلال فقال في نفسه: إنّ هذا الشّخص قد حقّق لي أمرًا عظيمًا كهذا فلماذا لم يحقّق لنفسه؟ وما دام أنّه هيّأ لي فهو يستطيع أن يهيّء هذا أيضًا لنفسه وبرغم امتلاكه هذه القوى المعنويّة إنّه يقطع الصحارى ويأكل الأعشاب وينام على التّراب ويجلس في الظّلام ويعيش في منتهى الفقر. وبمجرّد خطور هذه الفكرة بباله قال للبنت: “ابقي هنا وأنا لي شغل سأذهب إليه وأعود” وخرج وذهب إلى الصّحراء يفتش عن حضرته. فوجده وقال له: “يا مولاي إنّك لم تعاملني بالعدل” فتفضّل: “لماذا؟” فعرض: “إنّك حقّقت لي خيرًا لا تريده لنفسك ولا شكّ في أنّ لديك أمرًا أعظم من هذا ولو كان هذا مقبولاً لاخترته لنفسك. لهذا صار معلومًا أنّ لديك شيئًا أعظم من هذا فأنت لم تنصفني. فقد أعطيتني شيئًا غير مرغوب لديك”. فتفضّل حضرته: “إنّ ما تقوله صحيح ولكن هل لديك استعداد وقابليّة لما عندي؟” فعرض: “أرجو أن يكون لي” فتفضّل: “هل تستطيع أن تغمض عينيك عن كلّ هذا؟” فعرض: “نعم” فتفضّل: “إنّ لدي هداية الله وهي أعظم من كلّ هذه الأشياء وإن تستطع ذلك فتعال” فسار وراء حضرته حتّى ورد إلى الحورايّين وتفضّل: “كان عندي كنز مخفيّ في هذه القرية فأخرجته الآن وها هو كنزي الّذي أخرجته من باطن الأرض وأقدّمه لكم.”
وأبدى أحد الحاضرين أسفه لأنّه لا يستطيع التّحدث باللّغة الفارسيّة.
فتفضّل: الحمد لله ليس حجاب اللّغة موجودًا في عالم القلوب. فالقلوب تحادث القلوب الأخرى وفي ذات وقت تشكّلت في إيران جمعيّة أساسها التّحدث بدون استعمال اللّغة وبأقلّ إشارة كانوا يحلّون قضية مهمّة كلّيّة وقد ارتقت هذه الجمعية كثيرًا بحيث وصلت إلى درجة أنّها صارت توضّح بإشارة إصبع واحد قضيّة كلّيّة فخافت الحكومة من تشكيلهم جمعيّة لا يستطيع أحد فهم مقاصدها وتكون لها أضرار بالغة على الحكومة لهذا منعتهم باستعمالها القوّة ضدّهم. وأقصّ لكم حادثة حدثت في تلك الجمعيّة فقد كان كلّ من يريد الدّخول فيها يأتي إلى الباب فيقف وكانوا يشاورون في ما بينهم بالإشارات ويبدون آراءهم بدون كلام، فجاء ذات يوم رجل عجيب الخلقة ووقف لدى الباب فنظر الرّئيس إليه ورأى أنّه عجيب الخلقة وكان أمامه قدح ماء فصب الماء فيه حتّى امتلأ القدح إلى حافته وكانت هذه إشارة إلى رفضه دخول الرّجل وهذا يعني أنّ مجلسنا لا مجال فيه لهذا الرّجل. ولكنّ ذلك الرّجل كان ذكيًّا فأخذ ورقة زهرة رقيقة جدًّا ودخل الغرفة وبكمال الاحترام وضعها بكلّ لطف فوق سطح الماء في القدح بحيث لم يتحرّك ماء القدح. ففرح الجميع حين فهموا أنّ هذا يعني أنّني لا أحتاج إلى مكان كبير وأنا لطيف مثل ورقة هذه الزّهرة هذه ولا أحتاج إلى مكان. فصفّقوا له وقبلوه. وكانت جميع محادثاتهم بالإشارات وقد ارتقوا كثيرًا واكتسبوا توقّد ذهن وذكاء وزادت فراستهم وكانوا غالبًا يتّحدثون بالأعين ويتكلّمون بنهاية الإتقان بتحريك العين في اتّجاهات مختلفة.
ثمّ تفضّل في المناسبة: “بمرور الزّمن سوف تدخل جميع ممالك أمريكا مثل المكسيك وكندا وأمريكا الجنوبية والوسطى في اتّحاد عام.”
وبخصوص الحرب العظمى الّتي كان يتوقّع البعض انفجارها بين دول العالم تفضّل حين سأله أحدهم: “لا بدّ أن تحدث وسوف لا تدخلها أمريكا لأنّ هذه الحرب تحدث في أوروبّا وأنتم في زاويتكم لا شأن لكم بالآخرين ولا تفكّرون في امتلاك أوروبّا ولا أحد يطمع في اغتصاب أرضكم وأنتم مرتاحون لأنّ لديكم المحيط الأطلسي قلعة طبيعيّة محكمة”.
وبخصوص وضع الحكومات الجمهوريّة والدّستورية تفضّل: “ستضطرّ أوروبّا وسائر البلاد إلى تطبيق أنظمتكم وستحدث في جميع أوروبّا تغييرات عظيمة وستنتهي المركزيّة في الحكم إلى الاستقلال الدّاخلي للولايات وفي الحقيقة ليس من الإنصاف أن يحكم مركز واحد على مملكة واحدة لأنّه مهما كانت كياسة أعضاء الحكومة المركزيّة وعقولهم كبيرة فإنّها لا علم لها بالاحتياجات المحليّة علمًا تامًّا، ولا ينصفون أعضاءها في بذل الجهد لرقيّ جميع أنحاء المملكة فمثلاً جميع ألمانيا تخدم اليوم برلين وجميع فرنسا تخدم باريس وجميع الممالك والمستعمرات تخدم لندن وتسعى في تجميلها ولكنّ حكومتكم فيها أنظمة طيّبة”.
وعرض شخص من الحاضرين حول المشاكل السّياسيّة والاقتصاديّة فتفضّل: “إنّ أمريكا لا يمكن قياسها بأوروبّا فمشاكل أمريكا لا شيء بالنّسبة لمشاكل أوروبّا. فإحدى المشاكل في أوروبّا كثرة الجيوش. ففي فرنسا وألمانيا عامّة الشّعب جنود ولكنّكم أنتم مرتاحون من هذه المصيبة الكبرى. فاشكروا الله على أنّه نجّاكم من هذا البلاء. وفي داخل أمريكا أمن وأمان وهنا ترتفع أوّل راية للصّلح العموميّ فأيقنوا بحدوث ذلك لأنّ الإنسان يتوصّل إلى نتيجة كلّيّة من الأوّليات وهي أنّ الصّلح قد استقرّ هنا أوّلاً بين جميع الأمّة وسوف يسري من هنا إلى بقيّة الأطراف.
وسأل أحد الحاضرين: “هل يجب أن يكون حكم الأمّة بيد الأمّة بصورة مطلقة أم بيد العقلاء؟ فتفضّل: “من المعلوم أنّ عموم الأمّة لو انتخبت أفضل رجالها وهؤلاء انتخبوا رؤساء الجمهورية فإنّ هذا أحسن. أي أنّ الرّئيس يكون منتخب المنتخبين لأن عموم الأمّة عوام وليسوا مثقّفين في المسائل السّياسيّة كما ينبغي ويليق بل يجرون وراء حبّ الشّهرة. وفي
الحقيقة إنّ كلّ موضوع هامّ يروّجه العقلاء فالعوامّ يلتفون حولهم وإنّ العمل يجب أن يكون في أساسه بيد العقلاء لا بيد العوام ولكنّ العقلاء ينبغي أن يكونوا في منتهى الصّدق والإخلاص ونيّتهم خدمة عموم الأمة وحفظ مصالحها وصيانتها. لاحظوا الأمور الكلّيّة عندما تسلمون مقاليد هذه الأمور إلى يد العوامّ فإنها تنهدم. فإذا تركتم العمل بيد العمّال فإنّ البيت لن يبنى ولا بدّ أن يكون هناك مهندس عاقل. فالعمل يعمله العقلاء والعوامّ يتحملون العناء. والقائد يرسم الخطّة الحربية ولكنّ العوام يحاربون ولا يمكن تسليمهم خريطة المعركة. وهل يمكن أن يكون أفراد الجيش مسؤولين عن إدارة فرقتهم؟ فإذا أردنا الفتح والظّفر وجب علينا تعيين رجل مجرّب عاقل قائدًا”.
وسأل سائل حول العلاقات الاقتصاديّة بين الرّأسماليّين والعمّال فتفضّل: “إنّ هذه إحدى المبادئ الأساسيّة لحضرة بهاء الله ولكنّها يجب أن تعالج بالاعتدال لا بالتّهور وإن لم يفصل في هذه المسألة بطريق المحبّة فإنّ الأمر سيؤول أخيرًا إلى الحرب. وإنّ الاشتراك والتّساوي التّام غير ممكنين لأنّ أمور العالم ونظامه يختلاّن. ولكن هناك طريق واحد معتدل وهو أن لا يبقى الفقراء على هذه الحال من الاحتياج ولا يبقى الأغنياء على هذه الحال من الغنى بل يعيش الفقراء ويعيش الأغنياء حسب درجاتهم براحة واطمئنان وسعادة. وقد فكّر بهذا الموضوع قديمًا شخص واحد كان ملكًا لمملكة أسبارطة وضحّى بعرشه من أجل هذا الأمر وكان قد عاش قبل ولادة الإسكندر اليوناني وفكّر في أن يقوم بخدمة لا تفوقها خدمة ويصبح سببًا في سعادة فئة في هذا العالم. لهذا قسم أهالي أسبارطة إلى ثلاثة أقسام أوّلها أهالي المدينة الأصليّون الّذين كانوا زرّاعًا، وثانيها أهل الصّناعة والتّجارة، وثالثها الطّبقة الحاكمة وهم يونانيون من أصل فينيقي. وأراد هذا الملك المدعو ليكارغوس أن يوجد المساواة الحقيقيّة بين هذه الأقسام الثّلاثة وبهذه الطّريقة يؤسّس حكومة عادلة فقال إنّ الأهالي الأصليّين وهم الزّرّاع ليسوا مكلّفين بشيء ما عدا إعطاء عشر حاصلاتهم وليسوا مكلّفين بشيء آخر. وأهل الصّناعة والتّجارة كذلك يقدّمون سنويًّا الخراج وليسوا مكلّفين بشيء آخر. أمّا الطّبقة الثّالثة أي النّجباء والسّلالة الحاكمة الّذين كانت وظيفتهم إشغال المناصب والدّفاع عن الوطن وقت الحرب وإدارة المملكة. فقد مسح جميع أراضي أسبارطة وقسمها بالتّساوي بين أفرادها. فمثلاً كانوا تسعة آلاف شخص فقسّم الأراضي إلى تسعة آلاف قسم وأعطى كلّ شخص من هذه الطّبقة سهمه وقال إنّ عشر الحاصلات في كلّ أرض يعود إلى صاحبها. وكذلك وضع للأهلين بعض القوانين والأنظمة الأخرى وبعد أن وضع أحكام هذه القوانين حسب ما كان يحبّ دعا الأمّة للحضور إلى المعبد وقال لهم إنّي أريد السّفر إلى سوريّة ولكنّني أخاف بعد ذهابي أن تلغوا هذه القوانين ولهذا يجب أن تقسموا اليمين وأن لا تلغوا هذه القوانين أبدًا قبل رجوعي. فأقسموا في المعبد قسمًا غليظًا أن لا يغيّروها وأن يبقوا متمسّكين بها دائمًا حتّى يرجع الملك ولكنّه خرج من المعبد وسافر توًّا وما رجع وترك الملك لكي تبقى هذه القوانين محفوظة. ولم يمضِ زمن طويل على هذه المسألة الاشتراكيّة حتّى دبّت أسباب الخلاف، فقد ولد لأحدهم خمسة أولاد وللآخر ثلاثة أولاد وللثّالث ولدان وحدث التّفاوت بينهم واضطربت الأمور.
لهذا فمسألة المساواة مستحيلة وبقي أن يرحم الأغنياء الفقراء طوعًا لا كرهًا ولو فعلوا ذلك كرهًا لما كانت له فائدة. فلا يكون ذلك جبرًا بل بالقانون حتّى يعرف كلّ واحد واجبه حسب القانون العموميّ. فمثلاً شخص غنيّ عنده حاصلات كثيرة وشخص فقير حاصلاته قليلة أو نقول بصورة أوضح إنّ شخصًا غنيًّا له حاصلات تعادل عشرة آلاف كيلو وشخصًا فقيرًا حاصلاته عشرة كيلوات فليس من الإنصاف أن تؤخذ ضرائب متساوية من الاثنين بل يجب إعفاء هذا الفقير في هذه الحال من الضرائب. فلو أعطى الفقير ضريبة العشر وأعطى الغني ضريبة العشر فليس هذا إنصافًا. إذن يجب وضع قانون لإعفاء هذا الفقير الّذي عنده عشرة
كيلوات فقط يحتاجها لمعيشته الضّروريّة ولكنّ الغني الّذي عنده عشرة آلاف كيلو لو أعطى عشرًا أو عُشْرَيْن لن يصيبه ضرر. فلو أعطى الغنيّ لبقيت عنده ثمانية آلاف أخرى. وإنسان آخر عنده خمسون ألف كيلو فإنه لو أعطى عشرة آلاف كيلو لبقي لديه بعد ذلك أربعون ألف كيلو. لهذا يجب وضع القوانين على هذا المنوال.
أمّا قوانين الأجور الموجودة فيجب إلغاؤها تمامًا. فلو زاد أصحاب المعامل أجور العمال اليوم فإنّهم بعد شهر أو سنة أخرى يتظاهرون أيضًا ويضربون ويطلبون المزيد. وليست لهذا نهاية.
والآن أخبركم بشريعة الله في هذا الباب. فبموجب شريعة الله لا تُعطى أجور فقط لهؤلاء بل يكونون في الحقيقة شركاء في كلّ عمل. فمثلاً زارع في قرية يزرع ويجمع حاصلات زراعيّة فتؤخذ ضريبة العشر من الزّرّاع أغنياء وفقراء حسب حاصلاتهم ويؤسّس في تلك القرية مخزن عموميّ فيه تجمع جميع الضّرائب والحاصلات ثمّ ينظر أيّ النّاس فقير وأيّهم غني. فالزّرّاع الّذين يحصلون على حاصلات تساوي طعامهم ومصروفاتهم لا يؤخذ منهم شيء. وخلاصة القول فإنّ جميع الضّرائب من الحاصلات تجمع في مخزن عموميّ وإن وجد في القرية عاجز يعطى له بقدر معيشته الضّروريّة. وإذا وجد غنيّ يحتاج إلى خمسين ألف كيلو فقط ولكنّ حاصلاته تزيد على مصروفاته بمقدار خمسمائة ألف كيلو يؤخذ منه عُشران وكلّ ما يبقى في المخزن آخر السّنة ينفق على المصروفات العموميّة.
إنّ مسألة الاشتراكيّة مهمّة جدًّا ولا تحلّ بإضراب العمّال ويجب أن تتّفق جميع الدّول وفي مجلس ينتخب أعضاؤه من برلمانات الأمم وأعيانها ويقرّر هؤلاء الأعضاء في منتهى العقل والكفاءة قرارًا لا يتضرّر بموجبه الرّأسماليون كثيرًا ولا يبقى العمال محتاجين، ويضعون قانونًا بمنتهى الاعتدال ثمّ يعلنون أنّ حقوق العمال مضمونة بضمان قويّ وكذلك تحفظ حقوق أصحاب رؤوس الأموال. وإذا تمّ تطبيق هذا القرار برضى الطّرفين فإنّ أيّ إضراب ينشأ فيما بعد يكون عرضة لمقاومة جميع الدّول له. وإلاّ انتهى الأمر إلى خراب أكثر وأكثر وخاصّة في أوروبّا حيث يحدث فيها اضطراب عظيم. ومن بين أسباب الحرب العامّة في أوروبّا هذه المسألة نفسها. فمثلاً يملك أحد الرّأسماليّين منجمًا ويملك الآخر مصنعًا فإذا أمكن أن يشرك صاحب المنجم وصاحب المصنع عمّالهم في الأرباح وبصورة معتدلة بأن يعطوا العمّال نسبة مئويّة من الأرباح فإنّ العمال سيكون لهم بالإضافة إلى أجورهم قسط من الأرباح العامّة ويبذلون الجهد بأرواحهم، فسوف لا يبقى في المستقبل احتكار وسوف تلغى الاحتكارات بالكلّيّة وكذلك يخصّص كلّ مصنع يملك عشرة آلاف سهم ألفي سهم من هذه الآلاف العشرة للعمّال وباسمهم حتّى تكون ملكًا لهم وما يبقى آخر الشّهر أو السّنة من الأرباح يقسّمه أصحاب الأموال بعد دفع الأجور والمصروفات تقسيمًا متناسبًا مع الأسهم بين الطّرفين. وفي الحقيقة قد جرى حتّى الآن ظلم كبير بحقّ العامّ فيجب وضع قوانين لأنّه لا يمكن أن يرضى العمال بالأوضاع الحاضرة فهم يضربون في كلّ شهر وفي كلّ سنة ويكون الضّرر آخر الأمر على الرّأسماليّين. وقد حدث قديمًا إضراب في معسكر عثمانيّ فقال الجيش للحكومة: إنّ رواتبنا قليلة تجب زيادتها فزادت الدّولة رواتبهم مجبرة. ثمّ بعد مرّة أضربوا أيضًا وأخيرًا ذهبت كلّ الضّرائب في جيب الجيش ووصل الأمر إلى درجة أنّ الجنود قتلوا السّلطان قائلين لماذا لم تزد الضّرائب حتّى تزداد رواتبنا؟ فلا يمكن أن تجد مملكة راحة بدون القانون ويجب وضع قانون قويّ في هذه القضيّة بحيث تحمي جميع الدّول هذا القانون. وخلاصة القول إنّ الإضراب سبب الدّمار أمّا القانون فسبب الحياة ويجب وضع قانون وتتمّ المطالبات بالحقوق وفق القانون لا بالإضراب وبالقوّة وبالعنف. وأنتم في هذه اللّيلة تحدّثتم في السّياسة وليست عادتنا أن نتكلّم في السّياسة بل نحن نتكلّم عن عالم الرّوح ونتكلّم عن الثّروة
الملكوتيّة لا عن الثّروة النّاسوتيّة. فمقتضى السّياسة هو العنف وأمّا السّعادة لا تتحقّق بالعنف ولا تجتمع السّعادة والقوّة الجبريّة. ما هي السّعادة؟ والمراد من السّعادة أن تعيش الأمّة في منتهى فضائل العالم الإنسانيّ وبقوّة الملكوت الإلهيّ فتلك قصّة وهذه قصّة أخرى غيرها.

 

تعاليم بهاء الله

الخطبة المباركة في كنيسة الموحّدين في مدينة
 فيلادلفيا – أمريكا صباح الأحد في 8 حزيران 1912

هو الله

لقد جئت من الشّرق من مملكة بعيدة، من مملكة طلع فيها دائمًا نور السّماء وهي مملكة ظهرت منها المظاهر المقدّسة وكانت محلّ ظهور القدرة الإلهيّة.
ومرادي ومقصودي هو أن يحصل إن شاء الله ارتباط بين الشّرق والغرب وتحيط محبّة الله بكلا الطّرفين وتنير النّورانيّة الإلهيّة كلا الإقليمين وتحيي الجميع نفحات الرّوح القدس. لهذا أتضرّع إلى العتبة الإلهيّة أن يجعل الشّرق والغرب إقليمًا واحدًا ويجعل هذه الأديان دينًا واحدًا ويجعل هذه النّفوس نفسًا واحدة ويصبح الجميع بمثابة أنوار شمس واحدة وأمواج بحر واحد ويصبح الجميع أشجارًا في بستان واحد ويصبح الكلّ أوراقًا وأزهارًا في حديقة واحدة.
إنّ حقيقة الألوهيّة وحدانيّة محضة ومقدّسة ومنزّهة عن إدراك الكائنات، لأنّ إدراك الكائنات محدود وحقيقة الألوهيّة غير محدودة وكيف يستطيع المحدود أن يحيط بغير المحدود؟ فنحن فقر محض وحقيقة الألوهيّة غنى صرف. وكيف يحيط الفقر البحت بالغنى المطلق؟ ونحن عجز صرف. وحقيقة الألوهيّة قدرة محضة وكيف يستطيع العجز الصّرف أن يدرك القدرة المحضة؟ إنّ الكائنات المركّبة من عناصر والّتي هي على الدّوام في انتقال وانقلاب كيف تستطيع أن تتصوّر الحقيقة الّتي هي الحيّ القيّوم القديم! فمن المؤكّد أنّها عاجزة عن ذلك. لأنّنا حينما ننظر إلى الكائنات نشاهد أنّ تفاوت المراتب مانع للإدراك وكلّ رتبة دانية لا تستطيع إدراك ما فوقها. مثلاً الجماد مهما ارتقى فإنّه لن يدرك عالم النّبات. والنّبات مهما ارتقى فإنّه لن يدرك حقيقة الحيوان ولن يعرف عن السّمع والبصر شيئًا، كذلك مهما ارتقت الحقيقة الحيوانيّة لن تطّلع على حقيقة الإنسان ولا تدرك القوّة العاقلة له. إذن اتّضح أن تفاوت المراتب مانع للإدراك ولا تستطيع كلّ رتبة دانية إدراك ما فوقها.
لاحظوا بصورة دقيقة تروا أنّ هذه الزّهرة على ما هي عليه من الظّرافة واللّطف والعطر وهي في درجة الكمال في عالم النّبات إلا أنّها لا تدرك حقيقة الإنسان ولن تستطيع تصوّر السّمع والبصر في عالم الإنسان ولن يتحقّق لها عقل الإنسان وإدراكه وليس لها خبر عن عالم الإنسان. ومع أنّ كلاًّ من الزّهرة والإنسان حادث إلا أنّ تفاوت المراتب هو السّبب في عدم الإدراك لأنّ رتبة الإنسان عالية ورتبة النّبات دانية. إذن فكيف تستطيع الحقيقة البشريّة إدراك حقيقة الألوهيّة؟ وكيف يستطيع الإنسان المحدود إدراك الرّبّ غير المحدود؟ لا شكّ أنّه لن يستطيع ذلك ولن يصل ذلك إلى تصوّر الإنسان لأنّ كلّ ما يأتي ضمن تصوّر الإنسان إنّما هو محدود بينما حقيقة الألوهيّة غير محدودة.
ولكنّ تلك الحقيقة الإلهيّة قد أفاضت الوجود على جميع الكائنات ومواهبها ظاهرة في العالم الإنسانيّ وأنوارها منتشرة في عالم الوجود مثل انتشار أنوار الشّمس فعندما تلاحظون الشّمس ترون أنّ نورها وحرارتها ساطعة على الأشياء وكذلك تشرق أنوار شمس الحقيقة على الكلّ. فنورها واحد وحرارتها واحدة وفيضها واحد وهي ساطعة على جميع الكائنات. لكنّ مراتب الكائنات متعدّدة واستعدادها متفاوت وكلّ واحد يستفيض من الشّمس بقدر استعداده. فالحجر الأسود لديه شعاع من الشّمس والأشجار لها شعاع من الشّمس والحيوانات لديها شعاع من الشّمس وقد تربّت بحرارة الشّمس والشّمس واحدة والفيض واحد.
ولكنّ النّفوس الكاملة من البشر مثل المرآة الّتي تشرق الشّمس فيها بتمام قوّتها وتظهر فيها كمالات الشّمس وتتجلّى وتتّضح فيها حرارة الشّمس وضياؤها بتمامها وهي تحكي عن الشّمس. إنّ هذه المرايا هي المظاهر المقدّسة الّتي تمثل حقيقة الألوهيّة تمامًا كالشّمس الظّاهرة في المرآة. وفي المرايا تظهر صورة الشّمس السّماويّة ومثالها. وكذلك تظهر صورة الشّمس الحقيقة ومثالها وتتجلّى في مرآة الحقيقة الّتي هي المظهر المقدّس ولهذا يتفضّل حضرة المسيح: “الأب في الابن” والمراد هو أن تلك الشّمس –شمس الحقيقة- ظاهرة في هذه المرآة وليس المراد هو أنّ الشّمس تنزّلت عن مكانها وجاءت واستقرّت في هذه المرآة. لأنّه ليس لحقيقة الألوهيّة صعود ونزول وليس لها دخول وخروج. وهي مقدّسة ومنزّهة عن الزّمان والمكان وهي دومًا في مركز التّقديس لأنّه ليس هناك لحقيقة الألوهيّة تغيير وتبديل إذ إنّ التّغيير والتّبديل والانتقال من حال إلى حال من خصائص الحقيقة الحادثة.
وفي الوقت الّذي اشتدّ فيه الخلاف والنّزاع والخصام شدّة عظيمة في بلاد الشّرق وكانت المذاهب والملل يحارب بعضها بعضًا وكانت الأجناس المختلفة يخاصم بعضها بعضًا – في هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله من أفق الشّرق وتفضّل بإعلان وحدة الفيوضات الإلهيّة ووحدة الإنسانيّة وأنّ جميع البشر عبيد إله واحد وجميعهم نالوا الوجود من فيض الخلق الإلهيّ. وأنّ الله رؤوف بالجميع وهو يربّي الجميع وهو رؤوف بكلّ جنس وبكلّ ملّة ويرزق الجميع ويربّيهم ويحفظهم ويشملهم جميعًا بالألطاف، وما دام الله رؤوفًا بالكلّ فلماذا نكون نحن غير رؤوفين؟ وما دام الله وفيًّا مع الكلّ فلماذا نكون نحن عديمي الوفاء؟ وما دام الله يعامل الكلّ بالرّحمة فلماذا نعامل بعضنا بعضًا بالعنف والغضب؟
وهذه هي السّياسة الإلهيّة ولا شكّ أنّها من السّياسة البشريّة لأنّ البشر مهما كانوا عاقلين ليس من الممكن أن تكون سياستهم أعظم من السّياسة الإلهيّة. إذن يجب علينا نحن أن نتابع السّياسة الإلهيّة وأن نحبّ جميع الملل والخلق وأن نكون رؤوفين بالجميع ونعتبر الجميع أوراقًا وبراعم وأثمارًا لشجرة واحدة لأنّ الجميع من سلالة عائلة واحدة ومن أولاد آدم واحد والكلّ أمواج بحر واحد وأعشاب حقل واحد ويعيشون في حماية إله واحد. وغاية ما في الأمر أنّ أحدهم عليل تجب معالجته وجاهل يجب تعليمه ونائم يجب إيقاظه وغافل يجب تنبيهه.
وقد أعلن حضرة بهاء الله وحدة العالم الإنسانيّ وكذلك وحدة الأديان. لأنّ جميع الأديان الإلهيّة أساسها الحقيقة والحقيقة لا تقبل التّعدّد والحقيقة واحدة وأساس جميع أنبياء الله واحد وهو الحقيقة ولو لم يكن الحقيقة لكان باطلاً. وحيث إنّ الأساس هو الحقيقة لهذا فإنّ بناء الأديان الإلهيّة واحد. وغاية ما في الأمر أنّ التّقاليد حلّت في وسطها وظهرت آداب وتقاليد زائدة وهذه التّقاليد ليست من الأنبياء إنّما هي حادثة وبدعة. وحيث إنّ هذه التّقاليد مختلفة لذلك صارت سبب اختلاف الأديان، أمّا إذا نبذنا هذه التّقاليد وتحرّينا حقيقة أساس الأديان الإلهيّة فلا شكّ أنّنا نتّحد.
وكذلك أعلن وحدة النّوع الإنسانيّ وأنّ النّساء والرّجال كلّهم متساوون في الحقوق وليس بينهم تمايز بأيّ وجه من الوجوه لأنّهم جميعًا بشر ويحتاجون فقط إلى التّربية فإذا تربّت النّساء مثل الرّجال فلا شكّ مطلقًا في أنّه سوف لا يبقى أيّ امتياز لأنّ العالم الإنسانيّ كالطّير يحتاج إلى جناحين أحدهما الإناث والآخر الذّكور ولا يستطيع الطّير أن يطير بجناح واحد وأيّ نقص في أحد الجناحين يكون وبالاً على الجناح الآخر. وعالم البشريّة مثل يدين فإذا بقيت يد ناقصة تتعطّل اليد الأخرى الكاملة عن أداء وظيفتها. وقد خلق الله جميع البشر ووهب الجميع عقلاً ودراية ووهب الجميع عينين وأذنين ويدين ورجلين ولم يميّز بعضًا عن بعض. فلماذا تكون النّساء أحطّ من الرّجال؟ إنّ العدالة الإلهيّة لا تقبل بهذا. والعدل الإلهيّ خلق الجميع متساوين، وليس لدى الله ذكور وإناث وكلّ من كان قلبه أطهر وعمله أحسن فهو مقبول أكثر لدى الله سواء كان امرأة أم رجلاً. وكم من نساء ظهرن وكنّ فخر الرّجال مثل حضرة مريم الّتي كانت فخر الرّجال ومريم المجدليّة الّتي كان الرّجال يغبطونها ومريم أمّ يعقوب الّتي صارت قدوة للرّجال وآسيا بنت فرعون وسارة زوجة إبراهيم اللّتين كانتا فخر الرّجال وأمثالهنّ كثيرات. فقد كانت حضرة فاطمة سراج جميع النّساء وكانت حضرة قرّة العين كوكبًا نورانيًّا ساطعًا وفي هذا العصر توجد في إيران نساء هنّ فخر الرّجال عالمات شاعرات مثقّفات في منتهى الشّجاعة. ثمّ إنّ تربية النّساء أعظم من تربية الرّجال بل وأهم لأنّ هؤلاء البنات سيصبحن ذات يوم أمّهات والأمّ هي الّتي تربّي الأطفال، والأمّهات هنّ المعلّمات للأطفال لهذا يجب أن يكنّ في منتهى الكمال والعلم والفضل حتّى يستطعن تربية الأولاد وإن كانت الأمّهات ناقصات ظلّ الأطفال جهلاء بلهاء.
كذلك دعا حضرة بهاء الله لوحدة التّربية وأعلن أنّها لازمة من أجل اتّحاد العالم الإنسانيّ كي ينال جميع البشر رجالاً ونساء وبنات وأولادًا تربية واحدة. وحينما تصبح التّربية على نمط واحد في جميع المدارس يحصل بين البشر ارتباط تام، وعندما ينال جميع الجنس البشريّ نوعًا واحدًا من التّعليم تتمّ وحدة الرّجال والنّساء وينهدم بنيان الحروب ولا يمكن أن تنتهي الحروب إلاّ بعد تحقّق هذه المسائل ذلك لأنّ اختلاف التّربية يورث الحروب بينما المساواة في الحقوق بين الذّكور والإناث تمنع الحروب. فالنّساء لا يرضين بالحروب. فهؤلاء الشّبّان أعزّاء جدًّا عند أمّهاتهم ولا ترضى الأمّهات أبدًا بإرسال أبنائهنّ إلى ميدان القتال لتسفك دماؤهم، فالشّابّ الّذي أمضت أمّه عشرين سنة في تربيته بمنتهى المشقّة والصّعوبة هل ترضى أمّه أن يقطع إربًا إربًا في ميدان الحرب؟ ومهما حاولوا أن يدخلوا في عقولهنّ الأوهام باسم محبّة الوطن والوحدة السّياسيّة ووحدة الجنس ووحدة العرق ووحدة المملكة وقالوا لهنّ بأنّ هؤلاء الشّبّان يجب أن يذهبوا ويقتلوا من أجل هذه الأوهام فلا ترضى أيّة أمّ بذلك.
ولهذا فحينما تعلن المساواة بين المرأة والرّجل فلا شكّ أنّ الحرب سوف تزول ولا يعود يضحّى بأطفال البشريّة فداء للأوهام.
ومن جملة التّعاليم الّتي أعلنها حضرة بهاء الله هو أنّ الدّين يجب أن يكون مطابقًا للعقل ومطابقًا للعلم وأنّ العلم يصدّق الدّين والدّين يصدّق العلم وكلاهما يرتبطان ببعضهما ارتباطًا تامًا. هذا هو أصل الحقيقة وإذا ما خالفت مسألة من المسائل الدّينيّة العقل وخالفت العلم فإنّها وهم محض. فكم تموّجت من أمثال هذ البحور الوهميّة في القرون الماضية! لاحظوا أوهام ملّة الرّومان واليونان الّتي كانت أساس دينهم ولاحظوا أوهام المصريّين الّتي كانت أساس دينهم أيضًا وجميع هذه الأوهام مخالفة للعقل ومخالفة للعلم واتّضح الآن وتجلّى أنّها كانت أوهامًا ولكنّها في زمانها كانت عقائد تمسّكوا بها أشد التّمسك. فالمصريّون القدماء مثلاً حينما كان يذكر أمامهم اسم صنم من أصنامهم كانوا يزعمون أنّ ذلك معجزة من معجزات ذلك الصّنم في حين أنّه في الحقيقة قطعة من الصّخر.
إذن يجب علينا نحن أن نتخلّى عن هذه الأوهام ونتحرّى الحقيقة. فكلّ ما نراه مطابقًا للحقيقة نقبله وكلّ ما لا يصدّقه العلم ولا يقبله العقل فهو ليس بحقيقة بل تقاليد وهذه التّقاليد يجب نبذها ويجب التّمسك بالحقيقة فلا نقبل الدّين الّذي لا يطابق العقل والعلم. وحينما يتمّ هذا لا يبقى اختلاف بين البشر إطلاقًا وتصبح جميعًا ملّة واحدة وجنسًا واحدًا ووطنًا واحدًا وسياسة واحدة وإحساسات واحدة وتربية واحدة.
يا إلهي الغفور أنت مأوى لهؤلاء العبيد وأنت مطّلع على الأسرار وأنت الخبير. كلّنا عاجزون وأنت المقتدر القدير وكلّنا خطاة وأنت غافر الذّنوب الرّحمن الرّحيم. يا إلهنا لا تنظر إلى تقصيرنا بل عاملنا بفضلك وموهبتك. ذنوبنا كثيرة ولكنّ بحر رحمتك لا منتهى له، ونحن في أشدّ العجز ولكنّ تأييدك وتوفيقك ظاهران، إذن أيّدنا ووفّقنا إلى ما يليق بعتبتك وأنر القلوب واجعل العيون تبصر والآذان تسمع وأحيي الموتى واشفِ المرضى وأغنِ الفقراء وهب للخائفين أمنًا واطمئنانًا واقبلنا في ملكوتك ونوّرنا بنور الهداية إنّك أنت المقتدر وإنّك أنت الكريم الرّحمن وإنّك أنت الرّؤوف.

 

تعاليم بهاء الله

الخطبة المباركة في معبد المعمدانيّين في
فيلادلفيا – أمريكا مساء يوم الأحد 8 حزيران سنة 1912

هو الله 

إنّني مسرور جدًّا في هذه اللّيلة لحضوري هذا الجمع المحترم. وفي الحقيقة إنّه جمع في منتهى الرّوحانيّة، والإحساسات الملكوتيّة موجودة في قلوبكم بمنتهى القوّة، ووجوهكم متّجهة إلى الله ونواياكم خالصة وتشاهد في الوجوه بشارات روحانيّة. لهذا أرى من المناسب أن اتّحدث إليكم قليلاً.
منذ خلقة آدم حتّى يومنا هذا كان في العالم الإنسانيّ طريقان أحدهما طريق الطّبيعة والآخر طريق الدّين.
فطريق الطّبيعة طريق حيوانيّ لأنّ الحيوان يتحرّك حسب مقتضيات الطّبيعة ويقوم بكلّ ما تستلزمه الشّهوات الحيوانيّة. لهذا فالحيوان أسير الطّبيعة. ولا يستطيع أبدًا أن يتجاوز قانون الطّبيعة وليس له اطّلاع على الإحساسات الرّوحانيّة، وليس له اطّلاع على الدّين الإلهيّ، وليس له اطّلاع على الملكوت الإلهيّ، وليس له اطّلاع على القوّة العاقلة. إنّما هو أسير المحسوسات، وليس له اطّلاع على ما هو خارج عن عالم المحسوسات بل يعرف كلّ ما تراه عينه وتسمعه أذنه وتستنشقه شامّته وتذوقه ذائقته وتلمسه لامسته. والحيوان أسير هذه القوى الخمس ويقبل كلّ ما تحسّه هذه القوى وليس للحيوان اطّلاع على ما هو خارج عن محسوساته أي أنّه لا اطّلاع له على عالم المعقولات ولا على الملكوت الإلهيّ ولا على الإحساسات الرّوحانيّة ولا على الدّين لأنّه أسير الطّبيعة.
ومن الغريب أن يفتخر المادّيّون بهذا ويقولون إنّ كلّ ما هو محسوس مقبول، وهم أسرى المحسوسات ولا اطّلاع لهم أبدًا على العالم الرّوحانيّ، ولا اطّلاع لهم على الملكوت الإلهيّ، ولا اطّلاع لهم على الفيوضات الرّحمانيّة. فإن كان هذا هو الكمال إذًا فالحيوان قد وصل إلى أعظم درجات الكمال. فهو لا يعلم شيئًا أبدًا عن الملكوت والرّوحانيّات وهو منكر
للرّوحانيّات. فإن قلنا إنّ كوننا أسرى للمحسوسات هو كمال إذن فالحيوان أكمل الكائنات لأنّه لا يملك أبدًا إحساسات روحانيّة ولا أعلم له أبدًا بالملكوت الإلهيّ، مع أنّ الله قد أودع في حقيقة الإنسان قوّة عظيمة وبهذه القوّة العظيمة يحكم على عالم الطّبيعة.
لاحظوا أنّ جميع الكائنات أسيرة للطّبيعة. فهذه الشّمس على ما هي عليه من العظمة أسيرة للطّبيعة، وهذه النّجوم العظيمة أسيرة للطّبيعة، وهذه الجبال بعظمتها أسيرة للطّبيعة، وهذه الكرة الأرضيّة بعظمتها أسيرة للطّبيعة، وجميع الجمادات والنّباتات والحيوانات أسيرة للطّبيعة، وجميع هذه الكائنات لا تستطيع الخروج على حكم الطّبيعة. فمثلاً، الشّمس بعظمتها وهي أكبر من الكرة الأرضيّة بمليون ونصف مرّة لا تخرج على قانون الطّبيعة قيد شعرة ولا تتجاوز مركزها لأنّها أسيرة للطّبيعة. أمّا الإنسان فإنّه حاكم على الطّبيعة.
لاحظوا أنّ الإنسان بمقتضى قانون الطّبيعة ذو روح أرضيّ، ولكنّه يكسر هذا القانون ويطير في الهواء ويسير تحت البحار ويتسابق فوق المحيطات. والإنسان يحبس هذه القوّة الكهربائية العاتية في داخل زجاجة ويتخابر مع الشّرق والغرب في دقيقة واحدة ويأخذ الأصوات فيحبسها ويكشف حقائق السّموات وهو في الأرض ويكشف أسرار الكرة الأرضيّة، ويظهر جميع الكنوز المستورة في الطّبيعة ويظهر جميع أسرار الكائنات وهي بمقتضى قانون الطّبيعة أسرار مكنونة ورموز مصونة ويجب أن تبقى مستورة بموجب قانون الطّبيعة ولكنّ الإنسان بهذه القوّة المعنويّة الّتي يملكها يكشف أسرار الطّبيعة وهذا مخالف لقانون الطّبيعة ويظهر الحقائق الطّبيعية المكنونة وهذا مخالف لقانون الطّبيعة.
إذن اتّضح أنّ الإنسان حاكم على الطّبيعة، وفضلاً عن هذا فإنّ الطّبيعة لا ارتقاء لها والإنسان في ارتقاء والطّبيعة لا شعور لها والإنسان ذو شعور. والطّبيعة لا إرادة لها والإنسان له إرادة، والطّبيعة لا تكتشف الحقائق والإنسان يكتشف الحقائق. والطّبيعة لا علم لها بالعالم الإلهيّ والإنسان له اطّلاع، والطّبيعة لا علم لها بالله والإنسان له معرفة عن الله. والإنسان يكتسب الفضائل والطّبيعة محرومة منها، والإنسان يدفع الرّذائل والطّبيعة لا تستطيع دفع الرّذائل.
إذن اتّضح أنّ الإنسان أشرف من المادّة وأنّ لديه قوّة معنويّة فوق عالم الطّبيعة والإنسان لديه قوّة الحافظة والطّبيعة ليست لديها هذه القوّة. والإنسان لديه قوّة معنويّة والطّبيعة ليست لديها هذه القوّة، والإنسان لديه قوى روحانيّة والطّبيعة ليست لديها هذه القوى. إذن فالإنسان أشرف من الطّبيعة لأنّ القوّة المعنويّة قد خلقت في حقيقة الإنسان والطّبيعة محرومة منها.
سبحان الله، إنّ موطن العجب هو أنّ الإنسان مع امتلاكه لمثل هذه القوى المعنويّة المودعة فيه يعبد الطّبيعة الّتي هي أحطّ منه ولقد خلق الله فيه روحًا قدسيّة وبهذه الرّوح المقدّسة صار أشرف الكائنات، ومع وجود هذه الكمالات فيه يصير أسير المادّة ويعتبر المادّة إلهًا وينكر كلّ ما هو خارج عن عالم المادّة. فإن كان هذا كمالاً فالحيوان حائز على بدرجة أعظم لأن الحيوان لا علم له بالعالم الإلهيّ وبما وراء الطّبيعة. إذن فالحيوان أعظم فيلسوف لأنه لا علم له بالله ولا علم له بملكوت الله، وخلاصة القول إنّ هذا هو طريق الطّبيعة.
أمّا الطّريق الثّاني فهو طريق الدّين وهو الآداب الإلهيّة واكتساب الفضائل الإنسانيّة وتربية عموم البشر والنّورانيّة السّماويّة والأعمال الممدوحة. إنّ طريق الدّيانة هذا هو سبب نورانيّة العالم البشريّ. وطريق الدّيانة هذا هو سبب تربية النّوع الإنسانيّ. وطرق الدّيانة هذا هو سبب تهذيب الأخلاق. وطريق الدّيانة هذا هو سبب محبّة الله. وطريق الدّيانة هذا هو سبب
معرفة الله، وهو أساس المظاهر المقدّسة الإلهيّة وهو الحقيقة. وإنّ أساس الأديان الإلهيّة واحد لا يقبل التعدّد والانقسام وهو يخدم عالم الأخلاق ويصفّي القلوب والأرواح. وهو سبب اكتساب الفضائل وسبب نورانيّة العالم الإنسانيّ، ولكن ويا للأسف إنّ هذا العالم الإنسانيّ صار غريق بحر التّقاليد وبالرّغم من أنّ حقيقة الأديان الإلهيّة واحدة ولكنّ سحب الأوهام ويا للأسف قد سترت أنوار الحقائق. وقد أظلمت سحب التّقاليد العالم. لهذا لم تعد نورانيّة الدّين ظاهرة، وصارت الظّلمة سببًا للاختلاف لأنّ التّقاليد مختلفة واختلافها قد أدّى إلى الخصام والنّزاع بين الأديان في حين أنّ الأديان الإلهيّة تؤسّس الوحدة الإنسانيّة وهي سبب المحبّة بين البشر وسبب الارتباط العموميّ وسبب اكتساب الفضائل. لكنّ النّاس غرقوا في بحر التّقاليد وبسبب اكتساب هذه التّقاليد ابتعدوا تمامًا عن طريق الاتّحاد وحرموا من نورانيّة الدّيانة وتشبّثوا بالأوهام الّتي ورثوها عن الآباء والأجداد.
ولمّا أصبحت هذه التّقاليد سبب الظّلمة محيت نورانيّة الدّين وصار كلّ ما كان سبب الحياة سببًا للممات وكلّ ما كان برهان العرفان صار دليل الجهل وكلّ ما كان سبب العلوّ والرّقيّ في العالم الإنسانيّ صار سبب الدّناءة والسّفاهة له، ولهذا تدنّى عالم الدّين يومًا فيومًا وغلب عالم المادّيّات تدريجيًّا وبقيت تلك الحقيقة القدسيّة في الأديان مستورة. وحينما تغرب الشّمس تطير الخفافيش لأنّها طيور اللّيل وحينما تغرب نورانيّة الدّين يطير هؤلاء المادّيّون أشباه الخفافيش لأنّهم طيور اللّيل وحينما يختفي النّور الحقيقيّ يشرع هؤلاء بالطّيران.
وخلاصة القول حينما أحاطت الظّلمة بالعالم طلع حضرة بهاء الله من أفق إيران كالشّمس المشرقة ونوّر جميع الآفاق بأنوار الحقيقة وأظهر حقيقة الأديان الإلهيّة وأزال ظلمة التّقاليد ووضع تعاليم جديدة وأحيى الشّرق بتلك التّعاليم:
فأوّل تعاليم حضرة بهاء الله هو تحرّي الحقيقة. فيجب أن يتحرّى الإنسان الحقيقة وأن يترك التّقاليد لأنّ كلّ ملّة من ملل العالم لها تقاليدها والتّقاليد مختلفة واختلافها سبب الحروب وما دامت هذه التّقاليد باقية فإنّ وحدة العالم الإنسانيّ مستحيلة إذن يجب تحرّي الحقيقة حتّى تزول هذه الظّلمات بنور الحقيقة. لأنّ الحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد والانقسام. وما دامت لا تقبل التّعدّد والانقسام فإنّ جميع الملل لو تتحرّى الحقيقة فإنّها لا شكّ تتّحد وتتّفق. وعندما قامت جماعة في إيران بتحرّي الحقيقة اتّحدت واتّفقت في نهاية الأمر والآن تعيش هذه الجماعة في منتهى الألفة والمحبّة في ما بينها وليست هناك أبدًا بين أفرادها رائحة الاختلاف، لاحظوا أنّ اليهود كانوا ينتظرون ظهور السّيّد المسيح وكانوا يتمنّون ظهوره ليفدوه بأرواحهم وقلوبهم ولكنّهم لمّا كانوا غرقى التّقاليد لم يؤمنوا به عند ظهوره وأخيرًا قاموا بصلبه فيتّضح من هذا أنّهم اتّبعوا التّقاليد لأنّهم لو تحرّوا الحقيقة لآمنوا بحضرة المسيح. فهذه التّقاليد جعلت العالم الإنسانيّ ظلمانيًّا وهذه التّقاليد صارت سبب الحروب وهذه التّقاليد صارت سبب العداوة والبغضاء. إذن يجب أن نتحرّى الحقيقة حتّى ننجو من جميع المشاق وتتنوّر بصائرنا ونصل إلى سبيل الملكوت الإلهيّ.
وثاني تعاليم حضرة بهاء الله هو وحدة العالم الإنسانيّ فجميع البشر هم من النّوع الإنسانيّ وجميعهم عباد الله وقد خلق الله الجميع والجميع أبناء الله والله يرزقهم جميعًا ويربّيهم جميعًا وهو رؤوف بالجميع. فلماذا نكون قساة؟ هذه هي السّياسة الإلهيّة الّتي سطعت أنوارها على جميع الخلق وأشرقت شمسها على الجميع وأمطر سحاب مكرمتها على الجميع وهبّ نسيم عنايتها على الجميع. إذن يتّضح أنّ النّوع البشريّ جميعه في ظلّ رحمة الله. وغاية ما في الأمر أنّ بعضهم ناقص يجب إكماله وجاهل يجب تربيته ومريض يجب معالجته ونيام يجب إيقاظهم ويجب أن لا نبغض الطّفل أو نقول له لماذا أنت طفل؟ بل يجب تربيته، ويجب
ن لا نبغض المريض أو نقول له لماذا أنت مريض؟ بل يجب إظهار منتهى الرّحمة والمحبّة له، إذن يتّضح من هذا أنّ العداوة بين الأديان يجب أن تمحى كلّيّة ويزول الظّلم والاعتساف لتسود الألفة والمحبّة سؤددًا تامًّا.
وثالث تعاليم حضرة بهاء الله هو أنّ الدّين يجب أن يكون سبب الألفة وأن يكون سبب الارتباط بين البشر وأن يكون رحمة إلهيّة. فإن أصبح الدّين سبب العداوة وسبب الحرب فإنّ عدمه أحسن من وجوده وعدم التّديّن أحسن من هذا التّديّن. بل على العكس من ذلك يجب أن يكون الدّين سبب الألفة وأن يكون المحبّة وأن يكون سبب الارتباط بين عموم البشر.
ورابع تعاليم حضرة بهاء الله هو أنّ الدّين يجب أن يطابق العلم لأنّ الله وهب الإنسان عقلاً حتّى يحقّق في حقائق الأشياء. فإن كانت المسائل الدّينيّة مخالفة للعقل والعلم فإنّها وهم من الأوهام. لأنّ ما يناقض العلم هو الجهل، ولو قلنا إنّ الدّين ضدّ العقل فذاك يعني أنّ الدّين جهل، ولهذا لا بدّ أن يكون الدّين مطابقًا للعقل حتّى يطمئنّ الإنسان إليه فإن كانت هناك مسألة تخالف العقل فإنّ الإنسان لا يطمئنّ إليها أبدًا ويكون متردّدًا دائمًا.
وخامس تعاليم حضرة بهاء الله هو أنّ التّعصّب الجنسيّ والتّعصّب الدّينيّ والتّعصّب المذهبيّ والتّعصّب الوطنيّ والتّعصّب السّياسيّ هادمة للبنيان الإنسانيّ والتّعصّب من أيّ نوع كان يخرّب أساس النّوع البشريّ وما لم تمحَ التّعصّبات لا يمكن أن يرتاح العالم الإنسانيّ والبرهان على ذلك هو أنّ كلّ حرب وقتال وكلّ عداوة وبغضاء تحدث بين البشر إمّا أن تكون ناشئة عن تعصّب وطنيّ أو ناشئة عن تعصّب سياسيّ. ولقد مرّت ستّة آلاف سنة لم يذق العالم الإنسانيّ فيها طعم الرّاحة وكان السّبب في عدم ارتياحه هو هذه التّعصّبات. وما دام التّعصّب باقيًا فالحرب باقية والبغضاء باقية والعداوة باقية والأذى باقٍ وإن أردنا الرّاحة للعالم الإنسانيّ وجب أن ننبذ جميع هذه التّعصّبات وإلاّ فمن المستحيل أن نجد الرّاحة.
وسادس تعاليم حضرة بهاء الله هو تعديل أسباب المعيشة. يعني أنّه يجب وضع أنظمة وقوانين يعيش بموجبها جميع البشر عيشة هنيئة. فكما أنّ الغنيّ مرتاح في قصره وتتزيّن مائدته بأنواع الأطعمة كذلك يجب أن يكون للفقير عشّ وملجأ وأن لا يبقى جائعًا حتّى يرتاح جميع البشر. وإنّ أمر تعديل المعيشة مهمّ جدًّا وما لم تتحقّق هذه المسألة يستحيل حصول السّعادة للعالم البشريّ.
وسابع تعاليم حضرة بهاء الله هو المساواة في الحقوق. فإنّ جميع البشر متساوون لدى الله وحقوقهم واحدة ولا امتياز لإنسان على آخر والكلّ خاضعون لقانون إلهيّ لا استثناء فيه والفقير والأمير متساويان لدى الله والعزيز والحقير متساويان.
وثامن تعاليم حضرة بهاء الله هو أنّ تربية العموم واجبة وأنّ وحدة الأصول والقوانين التّربوية من ألزم الأمور حتّى يتربّى جميع البشر تربية واحدة. يعني أنّ التّعليم والتّربية يجب أن يكونا موحّدين في جميع مدارس العالم وأن تكون الأصول والآداب واحدة حتّى يؤدّي هذا إلى غرس وحدة العالم البشريّ في القلوب منذ عهد الصّغر.
وتاسع تعاليم حضرة بهاء الله هو وحدة اللّغة وأن توجد لغة واحدة تقبلها جميع الأكاديميات في العالم وأن ينعقد مؤتمر دوليّ ويحضر من كلّ ملّة ممثلون ووكلاء مثقّفون ويتّحدثوا فيه ويتشاوروا ويقبلوا تلك اللّغة قبولاً رسميًّا وبعد ذلك يدرّسوها للأطفال في جميع مدارس العالم حتّى يكون لكلّ إنسان لغتان إحداهما اللّغة العموميّة والأخرى اللّغة الوطنيّة
فيصبح جميع العالم وطنًا واحدًا ولغة واحدة لأنّ هذه اللّغة العموميّة هي من جملة أسباب اتّحاد العالم الإنسانيّ.
وعاشر تعاليم حضرة بهاء الله هو وحدة الرّجال والنّساء وأنّ الرّجال والنّساء متساوون أمام الله وكلّهم من سلالة آدم وليس وجود الذّكور والإناث مقتصرًا على البشر بل هناك في عالم النّبات ذكور وإناث وفي عالم الحيوان هناك ذكور وإناث ولكنّهم في أيّ وجه من الوجوه ليس لبعضهم امتياز على البعض الآخر. لاحظوا عالم النّبات، فهل هناك تمايز بين الذّكور من النّبات وبين الإناث من النّبات؟ بل هناك مساواة تامّة. وكذلك الأمر في عالم الحيوان فليس هناك أيّ تمايز بين الذّكور والإناث والجميع في ظلّ رحمة إله واحد. إذًا فالإنسان الّذي هو أشرف الكائنات هل يجوز أن يكون لديه مثل هذه الاختلافات؟ ولقد كان تأخر النّساء حتّى الآن ناشئًا عن عدم تربيتهنّ مثل الرّجال فلو ربّين مثل الرّجال فلا شكّ أنهنّ يصبحن مثل الرّجال وعندما يكتسبن كمالات الرّجال فإنهنّ يبلغن درجة المساواة ولا يمكن أن تكتمل سعادة العالم الإنسانيّ إلاّ بمساواة النّساء بالرّجال مساواة تامّة.
والتّعليم الحادي عشر لحضرة بهاء الله هو الصّلح العمومي وما لم ترتفع راية الصّلح العموميّ وما لم تتشكّل المحكمة الكبرى للعالم الإنسانيّ وتحكم في جميع الأمور المختلف عليها بين الدّول والملل حكمًا قطعيًّا إلزاميًّا فإنّ عالم الخليقة لن يجد الرّاحة بل يتدهور البنيان البشريّ في كلّ يوم رأسًا على عقب وتمتدّ ألسنة لهيب الفتنة وتصير الممالك القريبة والبعيدة رمادًا ويصير الشّبان اليانعون هدفًا لسهام الاعتساف ويمسي الأطفال المعصومون أيتامًا لا مربّي لهم وتنوح الأمّهات الثّكالى في مآتم أبنائهنّ الشّبان وتتهدم مدن وتتخرّب ممالك. والحلّ الوحيد لهذا الظّلم والاعتساف هو الصّلح العمومي.
والتّعليم الثّاني عشر لحضرة بهاء الله هو أنّ العالم الإنسانيّ لا يرتقي بمجرّد قواه العقليّة والمادّيّة بل يحتاج من أجل ترقّيه الظّاهري والمعنويّ وسعادته الفائقة التامّة إلى نفثات الرّوح القدس ويجب أن تؤيّده القوّة الإلهيّة أي الرّوح القدس وتوفّقه حتّى ترتقي الهيئة البشريّة رقيًّا فائقًا وتصل إلى درجة الكمال. لأنّ الجسم الإنسانيّ يحتاج إلى القوى المادّيّة ولكنّ الرّوح الإنسانيّ يحتاج إلى نفثات الرّوح القدس ولو لم تكن تأييدات الرّوح القدس موجودة لبقي العالم الإنسانيّ مظلمًا ولظلّت النّفوس البشريّة ميّتة كما يتفضّل حضرة المسيح: “دع الموتى يدفنون موتاهم”. ويتفضّل: “المولود من الجسد جسد هو والمولود من الرّوح هو روح” ومعلوم أنّ الرّوح الّتي ليس لها نصيب من الرّوح القدس إنّما هي ميّتة. لهذا فقد اتّضح أنّ الرّوح الإنسانيّة محتاجة إلى تأييدات الرّوح القدس لأنّ الإنسان لا يرتقي بالقوى المادّيّة وحدها بل يبقى ناقصًا.

 

التّربية الرّوحانيّة

الخطبة المباركة ألقيت في نيويورك في 16 حزيران 1912

هو الله 

إنّ العالم المادّيّ مهما يرتقِ فإنّه يبقى محتاجًا لإرشادات الرّوح القدس وذلك لأنّ كمالات العالم المادّيّ محدودة والكمالات الإلهيّة غير محدودة وبما أنّ الكمالات المادّيّة محدودة فالإنسان يحتاج إلى الكمالات الإلهيّة لأنّها غير محدودة. لاحظوا التّاريخ البشريّ تروا أنّ الكمالات المادّيّة مهما بلغت من المنزلة العليا فإنّها كانت أيضًا محدودة أمّا الكمالات الإلهيّة فإنّها غير محدودة لا انتهاء لها. ولهذا فإنّ المحدود يفتقر دومًا إلى غير المحدود والمادّيّات تفتقر دومًا إلى الرّوح والعالم الجسمانيّ يفتقر إلى نفثات الرّوح القدس، فالجسد بدون روح لا ثمرة له ومهما يكن الجسد في نهاية اللّطافة فإنّه يفتقر إلى الرّوح وإنّ القنديل مهما يكن لطيفًا فإنّه يحتاج إلى سراج والجسد لا يثمر بدون وجود الرّوح، إنّ تعليم المعلّم الجسمانيّ محدود وتربيته محدودة فقد قال الفلاسفة بأنّهم مربّون للبشر ولكنّكم إذا نظرتم إلى التّاريخ البشريّ ترون أنّهم استطاعوا فقط تربية أنفسهم ونفر قليل ولكنّهم ما استطاعوا تربية المجموع أمّا الرّوح القدس فيقوم بتربية الجميع، مثال ذلك حضرة المسيح الّذي ربّى الجميع ونجّى أممًا كثيرة من أسرعبادة الأوثان وهدى الجميع إلى الوحدانيّة الإلهيّة وجعل المظلمين نورانيّين والجسمانيّين روحانيّين وأنار عالم الأخلاق وجعل النّفوس الأرضيّة سماويّة وهذا لا يتمّ بقوّة الفلاسفة بل يتمّ بقوّة الرّوح القدس. ولهذا فمهما يرتقِ العالم الإنسانيّ فليس من الممكن أن يصل درجة الكمال إلا بتربية الرّوح القدس ولهذا أوصيكم أن تفكّروا في أمر التّربية الرّوحانيّة فكما بلغتم في المادّيّات هذه الدّرجة فكذلك اجهدوا حتّى ترتقوا في المدنيّة الرّوحانيّة وتنالوا إحساسات روحانيّة وتتوجّهوا إلى الملكوت وتستفيضوا من الرّوح القدس وتكسبوا القوّة المعنويّة حتّى تتجلّى رفعة العالم الإنسانيّ وتحصل السّعادة الكلّيّة وتنالوا الحياة الأبديّة وتلتمسوا العزّة السّرمديّة وتولدوا ولادة ثانية وتصبحوا مظاهر الألطاف الرّبانيّة وناشرين للنّفحات الرّحمانيّة.

 

تحقّق البشارات ورسائل بهاء الله إلى الملوك

الخطبة المباركة في مدينة نيويورك بأمريكا
في الخامس من تموز سنة 1912

هو الله

أهلاً بكم ومرحبًا بقدومكم.

في جميع الكتب المقدّسة الإلهيّة بشارات تشير إلى أنّه سيأتي يوم يظهر فيه موعود جميع الكتب ويتأسّس قرن نورانيّ ويرتفع علم الصّلح والسّلام وتعلن وحدة العالم الإنسانيّ ولا تبقى بين الأمم والأقوام عداوة وبغضاء وترتبط جميع القلوب ببعضها وهذا مذكور في التّوراة ومذكور في الإنجيل ومذكور في القرآن ومذكور في زند آفستا ومذكور في كتاب بوذا.
والخلاصة فقد ذكر في جميع هذه الكتب أنّه بعد أن تحيط الظّلمة العالم يطلع ذلك النّور كما أنّ ظلام اللّيل إذا اشتدّ كان ذلك دليلاً على ظهور النّهار. وهكذا فكلّما أحاطت ظلمة الضّلالة بالعالم وغفلت النّفوس البشريّة عن الله بصورة كلّيّة وغلبت المادّيّات على الرّوحانيّات وأصبحت جميع الملل كالحيوانات غرقى في عالم الطّبيعة ولا خبر لها عن عالم الحقّ ونسيت الله- ذلك فإنّ الحيوانات لا تعرف شيئًا غير المحسوسات ولا تعتقد بالقوى الرّوحانيّة ولا علم لها أبدًا بالله والأنبياء وتتبرّم من ذكرها وهي فلاسفة مادّيّون وطبيعيّون بالفعل وأمّا الإنسان فيجب أن يبذل الجهد سنين وأعوامًا ويحصّل العلوم في المدارس كي يصبح مادّيًّا وطبيعيًّا ولكنّ البقرة فهي دون أن تتحمّل هذه المشاق هي رئيسة الفلاسفة المادّيّين – ففي ظلمة كهذه تطلع تلك الشّمس ويظهر ذلك الصّبح النّورانيّ.
انظروا اليوم تروا أنّ المادّيّات قد تغلّبت بصورة تامّة على الرّوحانيّات ولم تبقَ بين البشر أبدًا إحساسات روحانيّة ولم تبقَ مدنيّة إلهيّة ولم تبقَ هداية الله ولم تبقَ معرفة الله وترى الجميع غرقى في بحر المادّة. وإذا ذهبت جماعة إلى الكنائس والمعابد للعبادة فإنّما تفعل ذلك تقليدًا للآباء والأجداد لا بحثًا وتحرّيًا عن الحقيقة لتعثر عليها وتعبدها فلقد ورث النّاس عن الآباء والأجداد ميراثًا من التّقاليد فهم يتشبّثون بتلك التّقاليد الّتي اعتادوا عليها فصاروا يذهبون أحيانًا إلى المعابد ويقومون بتلك التّقاليد. والبرهان على ذلك هو أنّ ابن كلّ يهوديّ يهوديّ وابن كلّ مسيحيّ مسيحيّ وابن كلّ مسلّم مسلّم وابن كلّ زرادشتيّ زرادشتيّ إذًا فهذا المذهب قد جاء ميراثًا له من الآباء والأجداد وهو يقلّد الآباء والأجداد ولأنّ والده كان يهوديًّا صار هو يهوديًّا لا لأنّه تحرّى الحقيقة وتوصّل نتيجة التّحقيق إلى أنّ الدّين اليهوديّ حقّ فتبعه ، بل إنّه رأى أنّ والده وآباءه وأجداده كانوا على ذلك المسلك وسار هو عليه أيضًا.
وأقصد بذلك أنّ ظلمة التّقاليد أحاطت بالعالم وضاع الطّريق الإلهيّ بمتابعة التّقاليد فاختفى نور الحقيقة. ولو تحرّت هذه الأمم المختلفة عن الحقيقة لتوصّلت إليها حتمًا وحينما يكشفون الحقيقة فإنّهم يصبحون ملّة واحدة لكنّهم ما داموا متمسّكين بالتّقاليد ومحرومين من الحقيقة وما دامت تقاليدهم مختلفة لذا فالنّزاع والجدال مستمرّان والعداوة والبغضاء بين الملل شديدتان أمّا إذا تحرّوا الحقيقة فإنّ العداوة تزول تمامًا ولا تبقى بغضاء ولا يبقى حرب وجدال ويحصل منتهى الوئام بين النّاس.
وحينما كانت ظلمة الضّلالة في الشّرق في أشدّ حلكتها وكان الشّرق غريق التّقاليد إلى درجة كانت معها الملل المختلفة متعطّش بعضها إلى دماء البعض الآخر ويعتبر بعضها البعض الآخر نجسًا فلا اتّفاق إطلاقًا في ما بينها – في هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله في الشّرق وهدم بنيان التّقاليد فسطع نور الحقيقة واتّحدت الملل المختلفة الّتي اتّبعته لأنّهم كانوا يعشقون الحقيقة ويعبدونها لهذا فقد اتّحدوا واتفقوا.
إنّ جميع البشر عبيد لله وكلّهم من سلالة آدم وكلّهم من بيت واحد وجميعهم من أصل واحد وأساس واحد وحيث إنّ تعاليم الأنبياء هي الحقيقة لهذا فإنها واحدة والنّزاع والجدال بين الملل إنّما هما بسبب التّقاليد.
ولكنّ القلوب اليوم في إيران اتّحدت مع بعضها والتأمت الأرواح ببعضها وانقلبت العداوة والبغضاء الشّديدتين إلى المحبّة والمودّة وقام الجميع بمحبّة عظيمة فالمسيحيّون واليهود والزرادشتيّون والمسلمون والبوذيّون –كلّ هؤلاء وصلوا إلى الحقيقة عن طريق تعاليم بهاء الله وامتزجوا ببعضهم بمنتهى الألفة والمحبّة.
إنّ أنبياء الله يحبّ بعضهم بعضًا وكلّ سلفٍ منهم بشّر بخلفه وكلّ خلفٍ صدّق سلفه وهؤلاء الأنبياء في منتهى الاتّحاد في ما بينهم ولكنّ أممهم في منتهى الاختلاف فمثلاً أخبر موسى عن المسيح وبشّر بظهوره ثمّ ظهر المسيح فصدّق نبوّة موسى إذن فليس هناك اختلاف بين موسى والمسيح بل هناك منتهى الارتباط في ما بينهما في حين أنّنا نرى نزاعًا قائمًا بين اليهود والمسيحيّين ولكنّهم لو تحرّوا الحقيقة الّتي هي واحدة ولا تتعدّد لكانوا تآلفوا تمامًا في ما بينهم بمنتهى المحبّة والودّ وجميعهم يصدّقون جميع الأنبياء وجميع الكتب ولما بقي هذا النّزاع والجدال فكلّنا نتّحد ونعيش في ما بيننا في منتهى المحبّة والألفة ونصبح كلّنا كالأب وابنه ونصبح كلّنا إخوانًا وأخوات ويعاشر بعضنا البعض الآخر بمنتهى الألفة.
إنّ هذا القرن نورانيّ لا نسبة بينه وبين القرون السّالفة فقد كانت الظّلمة شديدة في تلك القرون والآن ارتقت العقول وازدادت الإدراكات وتحرّك العالم البشريّ وصار كلّ إنسان
يتحرّى الحقيقة فلم يبقَ ذلك الزمان الّذي فيه ينازع بعضنا بعضًا ولم يبقَ ذلك الوقت الّذي فيه يكره بعضنا الآخر بل إنّنا في زمان يجب علينا فيه أن نكون في منتهى المحبّة والألفة.
ولقد أرسل حضرة بهاء الله رسائل إلى جميع أقاليم العالم وأرسل ألواحًا إلى جميع الملوك حتّى رئيس جمهورية أمريكا قبل خمسين سنة في وقت لم يكن فيه ذكر للسّلام العام، ودعا حضرته في تلك الرّسائل الجميع إلى السّلام العام ودعا الجميع إلى وحدة العالم الإنسانيّ ودعا الكلّ إلى المبادئ الإلهيّة.
واستكبر بعض ملوك أوروبّا ومنهم نابليون الثّالث فكتب له حضرة بهاء الله رسالة ثانية صدرت في سنة تسع وستين وطبعت وهذا مضمونها:- “إنّك يا نابليون صرت مغرورًا جدًّا وصرت متكبّرًا ونسيت الله. فهل تظنّ أنّ هذا العزّة ستبقى لك؟ وأنّ هذه العظمة تدوم لك؟ ولقد أرسلت إليك رسالة وكان عليك أن تتقبّلها بكمال المحبّة لكنّك استكبرت كلّ الاستكبار لهذا فسوف ينتقم منك ربّك انتقامًا شديدًا وسوف يطيح بسلطنتك وتذهب مملكتك من يدك وتقع في ذلّة لا متناهية لأنّك لم تقم بكلّ ما كلّفت به مع أن ما كلّفت به كان سبب الحياة للعالم فانتظر النّقمة الإلهيّة” وقد صدرت هذه الرّسالة سنة 1869 وبعد سنة واحدة من كتابة هذه الرّسالة زال بنيان سلطنته زوالاً كلّيًّا.
ومن جملة الرّسائل رسالة مفصّلة جدًّا كتبها حضرته إلى شاه إيران وهي الآن مطبوعة ومنتشرة في جميع ممالك العالم وهذه الرّسالة أرسلت كذلك في سنة 1869. وفي هذه الرّسالة ينصح بهاء الله شاه إيران ويأمره بالعدل وبأن يكون رؤوفًا بجميع الرّعية ولا يفرّق بين الأديان فيعامل المسيحيّ والمسلّم واليهوديّ والزرادشتيّ معاملة واحدة ويمحو هذه الاعتداءات القائمة في المملكة لأنّ جميع هؤلاء الخلق عباد الله ويجب أن يكونوا متساوين في نظر الحكومة ويجب أن تكون الحكومة رؤوفة بهم جميعًا ويخاطبه قائلاً: “وإذا لم تعدل ولم تمحُ هذه المظالم ولم تسر وفق رضى الله فإنّ بناء سلطنتك سوف يتزلزل”. ويضيف: “بأنّه يجب عليك أن تجمع العلماء وتدعوني لأحضر وأقيم الحجّة والبرهان وأظهر حجّتي للجميع”.
فلم يهتمّ السّلطان برسالة الجمال المبارك ولم يردّ عليها وبعد ذلك قوّض الله بنيان سلطنته واغتيل.
وممّن كتب إليهم حضرة بهاء الله السّلطان العثمانيّ عبد العزيز الّذي بعث إليه برسالة هدّده فيها قائلاً: “إنّك أرسلتني إلى هذا السّجن وسجنتني وتظنّ أنّ السّجن يضرّني أو أنّ السّجن ذلّة لي، بل إنّ هذا السّجن عزّة لي لأنّه في سبيل الله وإنّني لم أرتكب جرمًا حتّى استحقّ السّجن ولقد وردت هذه البلايا والرّزايا عليّ في سبيل الله ولهذا فإنّني في منتهى السّرور وفي منتهى الابتهاج ولكنّك أنت فانتظر الانتقام الإلهيّ وعن قريب سترى أنّ البلايا تهطل عليك هطول الأمطار وسوف تفنى” وقد حدث ذلك فعلاً.
وبمثل هذه العظمة أرسل حضرة بهاء الله رسائل شتّى إلى جميع سلاطين العالم ودعاهم جميعًا إلى المحبّة والألفة ودعاهم جميعًا إلى الصّلح العموميّ ودعا الجميع إلى وحدة العالم الإنسانيّ كما دعاهم إلى الاتّحاد والاتّفاق حتّى يتّحد الجميع ويتّفقوا فلا تبقى هذه الحروب والمشاحنات ولا يبقى هذه القتال والجدال وتنتهي العداوة والبغضاء حتّى نتّحد ونتّفق جميعًا ونقوم على عبودية الله تعالى ونضحّي في سبيله.
وخلاصة القول لقد قام سلطانان على مقاومة حضرة بهاء الله أحدهما ناصر الدّين شاه والآخر السّلطان عبد الحميد وحبسا حضرة بهاء الله في قلعة عكّاء، حتّى ينطفئ سراجه وينعدم أمره.
ولكنّ حضرة بهاء الله كتب من السّجن رسائل شديدة اللّهجة قال فيها: إنّ هذا السّجن سيكون سببًا في ارتفاع أمري وإنّ هذا سيكون سببًا في انتشار تعاليمي وسوف لن ينالني ضرر منه لأنّني ضحَّيت بروحي وضحَّيت بعزّتي وضحَّيت بأموالي وضحَّيت بجميع ما ملكته وليس في هذا السّجن ضرر عليَّ.
ولقد تحقّق ما قاله تمامًا فارتفع علمه في السّجن وانتشرت رسالته في الشّرق والغرب حتّى وصل أمره أمريكا.
والآن قد انتشر أمر حضرة بهاء الله في جميع أقطار العالم. فلو سافرتم إلى آسيا لوجدتم أمره ينتشر في كلّ مكان وينتشر في أفريقيا وينتشر في أوروبّا لكنّها البداية في أمريكا وقد انتشر في جميع الآفاق ولم يستطع هذان السّلطانان أبدًا أن يقاوماه.
ولكنّ الله سبحانه وتعالى محى هذين السّلطانين محوًا تامًّا فقتل ناصر الدّين شاه وسجن عبد الحميد وأنا عبد البهاء قضيت في السّجن أربعين عامًا وقد رفع الله السّلاسل من عنقي ووضعها في عنق عبد الحميد وهذا حدث فجأة حينما قامت جمعية الاتّحاد والتّرقي بإعلان الحرّيّة فأطلقوا سراحي ورفعوا السّلاسل من عنقي ووضعوها في عنق عبد الحميد وعملوا به نفس العمل الّذي عمله هو بي وهو الآن في السّجن في منتهى الذّلّة مثلما كنت أنا في السّجن ولكنّني كنت في نهاية الحبور والسّرور القلبيّ لأنني لم أكن مجرمًا ولقد رضيت بالسّجن في سبيل الله وكلّما كان يخطر بخاطري أنّني مسجون في سبيل الله كان يعتريني منتهى السّرور لكنّ عبد الحميد ابتلي بالنّكبات نتيجة أعماله وبسبب جرائمه وقع في السّجن وهو في كلّ ساعة يموت ويحيا وهو في منتهى الحزن واليأس أمّا أنا فقد كنت في منتهى الأمل وكنت في منتهى السّرور لأنّني ولله الحمد كنت مسجونًا في سبيل الله ولن تذهب حياتي هدرًا وكلّ من كان يراني لم يكن يظنّ بأنّني مسجون لأنّني كنت في منتهى السّرور وفي منتهى الشّكر وفي منتهى الصّحّة ولم أعتنِ أبدًا بذلك السّجن.

 

هذ نصيحتي إليكم

ألقيت هذه الخطبة في نيويورك في 6 تموز 1912

هو الله 

لقد طوى الإنسان في عالم الوجود مراتب حتّى وصل إلى العالم الإنسانيّ وفي كلّ مرتبة نال استعدادًا للصّعود إلى المرتبة الّتي فوقها.
فقد كان في عالم الجماد ونال الاستعداد للارتقاء إلى مرتبة النّبات. ولهذا جاء إلى عالم النّبات. وفي عالم النّبات حصل الاستعداد للارتقاء إلى عالم الحيوان ولهذا انتقل إلى عالم الحيوان. ومن عالم الحيوان انتقل إلى عالم الإنسان.
والإنسان في بدء حياته كان في عالم الرّحم وفي عالم الرّحم حصل على الاستعداد والقابليّة للارتقاء إلى هذا العالم. أي أنّه حصل في ذلك العالم على القوى الّتي يحتاج إليها في هذا العالم. ففي ذلك العالم حصل على العين الّتي يحتاج إليها في هذا العالم. وفي عالم الرّحم حصل على الأذن الّتي يحتاج إليها في هذا العالم. وفي عالم الرّحم حصل على جميع القوى الّتي يحتاج إليها في هذا العالم. وفي عالم الرّحم تهيّأ لهذا العالم فلما جاء إلى هذا العالم رأى أنّ جميع القوى الّتي يحتاج إليها مهيّأة له ورأى أنّ جميع الأعضاء والأجزاء الّتي يحتاج إليها للحياة في هذا العالم قد حصّلها في ذلك العالم. إذًا فكذلك يجب عليه أن يهيّئ لنفسه في هذا العالم ما يحتاج إليه في العالم الآخر. وكلّ ما يحتاج إليه في عالم الملكوت يجب أن يهيّئه في هذا العالم. فكما أنّه حصل في عالم الرّحم على القوى الّتي يحتاج إليها في هذا العالم فكذلك يجب عليه أن يحصل في هذا العالم على كلّ ما يحتاجه إليه في عالم الملكوت أي جميع القوى الملكوتيّة.
ففي عالم الملكوت بعد الارتقاء من هذا العالم إلى العالم الآخر ترى إلى أيّ شيء يحتاج وإلى أيّ قوى يفتقر؟ إنّ ذلك العالم هو عالم التّقديس وعالم النّورانيّة ولهذا يجب أن نحصل على التّقديس والنّورانيّة في هذا العالم. وفي ذلك العالم نحتاج إلى الرّوحانيّة وتلك الرّوحانيّة يجب أن نحصل عليها في هذا العالم. وفي ذلك العالم نحتاج إلى الإيمان والإيقان ومعرفة الله ومحبّة الله ويجب أن نحصل عليها جميعًا في هذا العالم حتّى يرى الإنسان في ذلك العالم الباقي أنّه حصل على جميع ما يحتاج إليه في تلك الحياة الأبديّة. وواضح أنّ ذلك العالم عالم الأنوار ولهذا فالمطلوب هو النّورانيّة. وذلك العالم هو عالم محبّة الله فالمطلوب هو محبّة الله وذلك العالم هو عالم الكمالات فالواجب تحصيله هو الكمالات في هذا العالم. وذلك العالم هو عالم نفثات الرّوح القدس ويجب في هذا العالم إدراك نفثات الرّوح القدس. وذلك العالم هو عالم الحياة الأبديّة ويجب في هذا العالم الحصول على الحياة الأبديّة. ويجب على الإنسان أن يبذل كلّ الجهود للحصول على هذه المواهب. ويجب عليه أن يكتسب هذه القوى الرّحمانيّة بأعلى درجاتها من الكمال وهي:-
أوّلاً: معرفة الله وثانيًا محبّة الله وثالثًا الإيمان ورابعًا الأعمال الخيرية وخامسًا التّضحية وسادسًا الانقطاع وسابعًا العفّة والتّقديس وما لم يحصل على هذه القوى وهذه الأمور فلا شكّ أنّه سيحرم من الحياة الأبديّة أمّا إذا وفّق إلى معرفة الله واشتعل بنار محبّة الله وشاهد الآيات الكبرى وأوجد المحبّة بين البشر وكان في غاية العفّة والتّقديس فلا شكّ أنّه يولد ولادة ثانية ويتعمّد بالرّوح القدس ويشاهد الحياة الأبديّة.
سبحان الله! إنّ الأمر الغريب هو أنّ الله خلق جميع البشر من أجل معرفته ومن أجل محبّته ومن أجل كمالات العالم الإنسانيّ ومن أجل الحياة الأبديّة ومن أجل الرّوحانيّة الإلهيّة ومن أجل النّورانيّة السّماويّة ومع هذا فإنّ هؤلاء البشر غفلوا عن كلّ شيء وقد تحرّوا في جميع الأشياء ما عدا معرفة الله ويريدون أن يفهموا ماذا يوجد في أسفل طبقات الأرض وغاية آمالهم أن يبذلوا الجهود ليلاً ونهارًا لفهم ما يحتويه جوف الأرض وما يوجد تحت هذه الصّخرة وما يوجد تحت التّراب ويبذلوا جميع قواهم ويسعوا بكلّ تعب ومشقّة لكشف سرّ من أسرار التّراب. ولكنّهم لا يفكّرون أبدًا في الاطّلاع على أسرار الملكوت أو السّير في عالم الملكوت ليطّلعوا على حقائق الملكوت وليكشفوا الأسرار الإلهيّة وليصلوا إلى معرفة الله وليشاهدوا أنوار الحقيقة وليتوصّلوا إلى الحقائق الملكوتيّة وهم لا يفكّرون أبدًا في هذه الأمور. وما أشدّ انجذابهم إلى أسرار النّاسوت ولكن لا علم لهم أبدًا بأسرار الملكوت بل إنّهم يتحاشون البحث في أسرار الملكوت فما أعظم هذا الجهل وما أشدّ هذه البلاهة وما أدعاها للذّلّة. ومثلهم كمثل إنسان له أب حنون يهيّئ من أجله الكتب النّفيسة ليطَّلع على أسرار الكون ويهيّئ له كلّ
وسائل الرّاحة والرّفاه ولكنّ الطّفل بمقتضى طفولته وقلة إدراكه يغضّ الطّرف عنه جميعًا وينصرف إلى ساحل البحر ليلعب بالحصى وليقضي وقته باللّهو هناك ويبتعد عن جميع هذه المواهب الّتي هيّأها له والده. فما أشدّ جهل هذا الطّفل وما أشدّ بلاهته. فالأب يريد له العزّة الأبديّة وهو راضٍ بالذّلّة الكبرى والأب يريد له قصرًا ملكوتيًّا ولكنّه مشغول باللّعب بالتّراب والأب قد خاط له بدلة من الحرير وهو يمشي عاريًا والأب قد هيّأ له أعظم الموائد وألذّ النّعم ولكنّه يركض وراء الأعشاب الضّارّة.
وخلاصة القول: إنّكم ولله الحمد قد سمعتم نداء الملكوت وفتحتم أعينكم وتوجّهتم إلى الله فمقصودكم رضاء الله وآمالكم معرفة الله ومرادكم الاطّلاع على أسرار الملكوت وأفكاركم محصورة في كشف حقائق الحكمة الإلهيّة ففكّروا ليلاً ونهارًا واجتهدوا وتحرّوا حتّى توفّقوا إلى معرفة أسرار الخلقة الإلهيّة وتطّلعوا على دلائل الألوهيّة وتتيقّنوا أنّ لهذا العالم موجد وله خالق وله محيي وله رازق وله مدبّر ولكن يجب أن يكون ذلك عن طريق الدّلائل والبراهين لا عن طريق العواطف. أي أن تتوفّقوا إلى معرفة ذلك عن طريق البراهين القاطعة والدّلائل الواضحة والكشف الحقيقيّ أي بالمشاهدة الحقيقيّة فكما تشاهددون الشّمس فكذلك يجب أن تشاهدوا الآيات الإلهيّة مشاهدة عيانيّة وتتوصّلوا كذلك إلى معرفة المظاهر المقدّسة الإلهيّة بالدّلائل والبراهين. وكذلك يجب عليكم الاطّلاع على تعاليم المظاهر المقدّسة الإلهيّة ويجب أن تطّلعوا على أسرار الملكوت الإلهيّ ويجب أن تكشفوا حقائق الأشياء حتّى تصبحوا مظهر الألطاف الإلهيّة وتكونوا مؤمنين حقيقيّين وثابتين وراسخين في أمر الله.
الحمد لله فقد فتح حضرة بهاء الله أبواب معرفة الله ووضع لكم جميعًا أساسًا لتطّلعوا على جميع أسرار الملك والملكوت وقد أمدّنا بأقصى التّأييدات فهو معلّمنا وهو ناصحنا وهو قائدنا وهو راعينا وقد هيّأ لنا جميع ألطافه وبذل لنا عنايته وقدّم لنا كلّ نصيحة وبيّن كلّ تعليم وهيّأ لنا أسباب العزّة الأبديّة وأعدّ لنا نفثات الرّوح القدس وفتح على وجوهنا أبواب المحبّة الإلهيّة وأشرق علينا بأنوار شمس الحقيقة وأمطرنا سحاب رحمته ووهبنا أمواج بحر ألطافه فجاء الرّبيع الرّوحانيّ وظهرت الفيوضات الّتي لا منتهى لها. فأيّة هبة أعظم من هذه الموهبة وأيّة ألطاف أعظم من هذه الألطاف. فيجب أن نعرف قدرها وأن نعمل وفق تعاليم حضرته حتّى يحصل لنا كلّ خير ونكون أعزّاء في الدّارين وننال النّعمة الأبديّة ونتذوّق لذّة محبّة الله وندرك أسرار معرفة الله ونرى الموهبة السّماويّة ونشاهد قوّة الرّوح القدس. هذه نصيحتي إليكم … هذه نصيحتي إليكم.

 

للإنسان حياتان

الخطبة المباركة في نيويورك مساء يوم الأحد 7 تموز 1912

هو الله 

مرحبًا بقدومكم وأهلاً بكم. إنّ الإنسان له حياتان: إحداهما جسمانيّة والأخرى حياة روحانيّة. فالحياة الجسمانيّة للإنسان إنّما هي حياة حيوانيّة. لاحظوا الحياة الجسمانيّة للإنسان تروها عبارة عن الأكل والنّوم واللّبس والرّاحة والفسحة ومشاهدة الأشياء المحسوسة كالنّجوم والشّمس والقمر والجبال والوديان والبحار والعيون والغابات فهذا النّوع من الحياة حياة حيوانيّة.
ومن الواضح المشهود أنّ الحيوان يشترك مع الإنسان في المعيشة الجسمانيّة وهناك شيء آخر وهو أنّ الحيوان في معيشته الجسمانيّة مرتاح ولكنّ الإنسان في معيشته الجسمانيّة متعب. لاحظوا جميع الحيوانات الموجودة في هذه السّهول وفي الجبال وفي البحار إنّها تعيش بغاية السّهولة بمعيشتها الجسمانيّة وتحصل على قوتها بدون مشقّة أو عناء وهذه الطّيور في هذه السّهول ليست لها مهنة ولا صناعة ولا تجارة ولا فلاحة ولا تعاني بأيّ وجه من الوجوه أيّة مشقّة، فهي تستنشق هواء في منتهى النّقاء وتستقرّ في أوكارها على أعلى أغصان الأشجار الخضراء النّضرة وتتناول من هذا الحبّ المنثور في هذه السّهول وجميع هذه البيادر ثروتها وبمحض إحساسها بالجوع تجد الحبّ حاضرًا فتتناوله وبعد تناوله ترقى إلى أعلى الغصون في الأشجار في نهاية الرّاحة والاطمئنان وهي مستقرّة بدون مشقّة وعناء. وهذا ينطبق على سائر الحيوانات أمّا الإنسان فإنّه من أجل معيشته الجسمانيّة يجب أن يتحمّل المشاق العظيمة فلا يستقرّ ليلاً ولا نهارًا فهو إمّا أن يفلح أو يصنع أو يتاجر أو يقضي ليله ونهاره في المناجم أو يسافر إلى الأطراف بغاية المشقّة والعناء من جهة إلى أخرى ويشتغل تحت الأرض وفوق سطح الأرض لكي تتيسّر معيشته الجسمانيّة ولكنّ الحيوان لا يتحمّل هذه المشاق وهو مع ذلك يشارك الإنسان في معيشته الجسمانيّة ومع وجود هذه الرّاحة فليست هناك أيّة نتيجة من المعيشة الجسمانيّة ولو عاش مائة سنة فلن تحصل أيّة نتيجة من الحياة الجسمانيّة في النّهاية. فكّروا وانظروا هل هناك نتيجة في الحياة الجسمانيّة وكلّ هذه الملايين من البشر الّذين ذهبوا من هذا العالم ترى هل حصلوا على أيّة نتيجة من هذه الحياة الجسمانيّة؟ لقد ذهبت جميع حياتهم هدرًا وذهبت جميع مشقّاتهم هدرًا وذهبت جميع أتعابهم هدرًا وذهبت صناعتهم هدرًا وذهبت تجارتهم هدرًا وحين ذهابهم من هذا العالم لم يكن في أكفّهم شيء فلم يحصلوا على نتيجة.
أمّا الحياة الرّوحانيّة فإنّها حياة يستنير بها العالم الأعلى وهي حياة بها يمتاز الإنسان عن الحيوان وهي حياة أبديّة سرمديّة وهي شعاع من الفيض الإلهيّ.
إنّ حياة الإنسان الرّوحانيّة هي سبب حصوله على العزّة الأبديّة. وحياة الإنسان الرّوحانيّة هي السّبب في تقرّبه إلى الله. وحياة الإنسان الرّوحانيّة هي السّبب في دخوله إلى ملكوت الله. وحياة الإنسان الرّوحانيّة هي حصول الفضائل الكلّيّة. وحياة الإنسان الرّوحانيّة هي سبب النّور في العالم البشريّ.
لاحظوا النّفوس الّتي لها حياة روحانيّة كاملة ليس لها فناء ولا اضمحلال وقد كسبت من حياتها نتائج ونالت أثمارًا. فما هي تلك الثّمرة؟ إنّها التّقرب إلى الله وإنّها الحياة الأبديّة والنّورانيّة السّرمديّة وتلك الحياة هي البقاء وتلك الحياة هي الثّبات وتلك الحياة هي النّور وسائر الكمالات الإنسانيّة.
وكذلك لمّا ننظر إلى عالم التّراب نلاحظ نفوسًا كانت حياتها جسمانيّة ولم تنل نصيبًا من الحياة الرّوحانيّة وانمحت آثارها بالكلّيّة فلا ذكر لها ولا أثر ولا ثمر لها ولا صيت وحتّى في العالم التّرابي لا قبور لها ولا أثر وكلّ ما في الأمر أنّ قبورها كانت لمدّة قصيرة معمورة ثمّ أمست مطمورة وزالت، في حين أنّ النّفوس الّتي كانت لها حياة روحانيّة فإنّها في الملكوت الإلهيّ مشرقة كالنّجوم إلى الأبد ولها عزّة أبديّة وهي مستقرّة في محفل التّجلّي الإلهيّ وترزق من المائدة السّماويّة وهي مستفيضة من مشاهد الجمال الإلهيّ ولها العزّة الأبديّة في جميع المراتب الإلهيّة حتّى في عالم النّاسوت. لاحظوا تروا آثارها باقية وذكرها باقيًا وأخلاقها باقية. مثال ذلك أن نفوسًا كانت قبل ثلاثة آلاف سنة أو قبل ألفي سنة منسوبة إلى العتبة الإلهيّة
وكانت مؤمنة ومستقيمة على أمر الله فبقيت آثارها إلى الآن وباسمها تجري خيرات ومبرّات إلى الآن وباسمها تتأسّس مدارس وتتأسّس معابد وباسمها تتأسّس مستشفيات إلى الآن.
مثال ذلك حواريّو حضرة المسيح. فقد كانت الحياة الجسمانيّة لبطرس حياة صيّاد أسماك ومعلوم بعد هذا كيف هي حياة صياد الأسماك. أمّا حياته الرّوحانيّة فقد كانت بنفثات المسيح في نهاية الإشراق بحيث إنّ آثاره باقية حتّى في عالم التّراب في حين أنّ إمبراطور روما “نيرون” بكلّ تلك العظمة لم يبقَ له أثر ولا ثمر ولا ذكر ولا ظهور ولا بروز.
إذن اتّضح أنّ أصل حياة الإنسان هو الحياة الرّوحانيّة، فهذه الحياة الرّوحانيّة الإنسانيّة لها نتيجة وهذه الحياة الرّوحانيّة الإنسانيّة لها بقاء وهذه الحياة الرّوحانيّة الإنسانيّة أبديّة وهذه الحياة الرّوحانيّة الإنسانيّة عزّة سرمديّة.
الحمد لله قد تيسّرت لكم هذه الحياة الرّوحانيّة بعناية حضرة بهاء الله وتجلّت هذه الموهبة الكبرى وتوهّج هذا الشّمع المنير فجميع النّفوس الّتي تلاحظونها على سطح الكرة الأرضيّة من الملوك حتّى المملوك لا نتيجة لحياتها ولا ثمر ولا أثر وعن قريب سترون بأنّها زالت بالكلّيّة ومحيت وذهبت من هذا العالم. وغاية ما في الأمر أنّها تعيش خمسين سنة ولكنّ هذه الحياة الّتي تحياها لا أثر لها ولا ثمر ولا نتيجة تترتّب عليها أمّا أنتم فللّه الحمد بعناية حضرة بهاء الله وجدتم حياة روحانيّة وتنوّرتم بنورانيّة الملكوت وتستفيضون من الفيض الأبديّ لهذا فأنتم أبديّون سرمديّون باقون منيرون وستحصل من حياتكم نتائج عظيمة وحتّى في عالم التّراب لكم آثار باقية دائمة وسوف لا تنسون وأنتم مضيئون كالشّمس ونورانيّتكم واضحة مشهودة وأنتم حاضرون في محفل التّجلّي الإلهيّ إلى الأبد وسوف تستغرقون في أنوار الكمال والجمال فاشكروه.

 

لماذا ينكر النّاس المظاهر المقدّسة

ألقيت هذ الخطبة في البيت المبارك في نيويورك في 11 تموز 1912

هو الله 

أريد في هذه اللّيلة أن أبيّن لحضراتكم سبب احتجاب النّاس عن المظاهر المقدّسة الإلهيّة.

من البديهيّ أنّ النّاس كانوا في جميع العهود ينتظرون موعودًا. فاليهود مثلاً في زمان المسيح كانوا ينتظرون ظهور المسيح وكانوا في معابدهم يتضرّعون ليل نهار قائلين: “يا إلهنا قرِّب ظهور المسيح حتّى نستفيض من أنواره وننال كلّ ما فيه سعادتنا الأبديّة”. وكم من ليالٍ بكوا في قدس الأقداس وناحوا وندبوا حتّى الصباح قائلين: “يا إلهنا أرسل لنا المسيح!”
ولكنّهم حين ظهر المسيح أعرضوا كلّهم عنه وأنكروه جميعًا. بل كفّروه وأخيرًا صلبوه. فماذا كان السّبب في ذلك؟
لقد كانت الأسباب كثيرة ولكنّ أهمّ الأسباب سببان وهذان السّببان هما دائمًا سبب احتجاب النّاس عن المظاهر المقدّسة وسبب حرمانهم جميعًا منها:
السّبب الأوّل: هو أنّ الشّخص الموعود قد اشترط ظهوره في الكتاب المقدّس بشروط هي كلمات مرموزة ولم يكن المقصود منها مجرّد مفهومها اللّفظي.. وعندما أخذ النّاس بمفهومها اللّفظي أعرضوا واستكبروا وقالوا إنّ هذا الموعود ليس ذلك الموعود كما تمسّك اليهود حين ظهور حضرة المسيح بالألفاظ فقال علماؤهم إنّ هذا المسيح ليس بذلك المسيح وإنّ هذا ليس ذلك الموعود. بل نسبوا نسبة أخرى لحضرته يخجل اللّسان عن ذكرها وتمسّكوا بشروط ظهور المسيح المدوّنة في كتاب التّوراة المقدّس وهي:
الشّرط الأوّل: أنّه قد نص في الكتاب المقدّس على أنّ المسيح يأتي من مكان غير معلوم وهذا الشّخص جاء من النّاصرة ونحن نعرفه.
الشّرط الثّاني: أنّ عصاه من حديد أي أنّه يرعى بالسّيف وهذا المسيح ليست لديه عصا من خشب ناهيك عن السّيف.
الشّرط الثّالث: أنّه وفقًا للكتاب المقدّس يجب أن يجلس الموعود على سرير داود ويؤسّس سلطنة وهذا المسيح لا سلطنة له ولا جيش ولا مملكة ولا وزراء ولا وكلاء بل هو فريد وحيد لهذا فإنّ هذا المسيح ليس بذلك المسيح الموعود.
الشّرط الرّابع: أنّ المسيح يروّج شريعة التّوراة وهذا المسيح كسر السّبت ونسخ شريعة التّوراة فكيف يكون هذا المسيح ذاك المسيح الموعود؟
الشّرط الخامس: أنّه يجب أن يفتح الشّرق والغرب وهذا المسيح لا ملجأ له ولا مأوى فكيف يكون هذا هو المسيح الموعود؟
الشّرط السّادس: في زمان المسيح الموعود حتّى الحيوانات يجب أن تعيش في منتهى الرّاحة ويجب أن تصل العدالة درجة لا يستطيع معها حيوان أن يعتدي على حيوان. ويشرب الذّئب والحمل من عين واحدة ويعيش النّسر والحجل في عشّ واحد ويرعى الأسد والظّبي في مرعى واحد لكنّ الظّلم في زمان هذا المسيح استفحل إلى درجة أنّ حكومة الرّومان سيطرت على فلسطين وهي تذبح اليهود وتضربهم وتنفيهم وتسجنهم ووصل الظّلم والعدوان إلى ما لا نهاية له حتّى إنّهم صلبوا المسيح نفسه بفتوى علماء اليهود فكيف يكون هذا المسيح هو المسيح الموعود؟
وهكذا أصبحت هذه الشّروط سبب احتجاب ملّة اليهود عن الإيمان بالمسيح في حين أنّ جميع هذه الشّروط قد ظهرت وجميع هذه الآثار قد بهرت لكنّها كانت كلمات رمزيّة لم يفهمها علماء اليهود وظنّوا أنّها شروط لفظيّة في ظاهرها ومفهومها في حين أنّها كانت جميعها رموزًا.
فأوّلاً: أمّا أنّه يأتي من مقام غير معلوم فإنّ روح المسيح جاءت من مقام غير معلوم لا جسمه. ومع أنّ جسمه كان من النّاصرة إلاّ أنّ روحه لم تأتِ من النّاصرة ولا من حيفا ولا من الشّرق ولا من الغرب بل جاءت روح المسيح من عالم إلهيّ ومن مقام غير معلوم. لكنّ علماء اليهود لم يفهموا ذلك.
وثانيًا: أمّا أنّ عصاه من حديد فالعصا أداة الرّعي وكانت أداة رعي حضرة المسيح لسانه المبارك وقد كان لسانه المبارك سيفًا قاطعًا يفصل بين الحقّ والباطل.
ثالثًا: أمّا أنّه يجلس على عرش داود ويكون سلطانًا فالحقيقة هي أنّ سلطة حضرة المسيح كانت سلطة أبديّة وليست كسلطة نابليون ولا كسلطة جنكيز خان ولا كسلطة هانيبال. فلقد كانت سلطة المسيح سلطة روحانيّة وكانت سلطة أبديّة وكانت سلطة وجدانيّة وكانت ممالكه القلوب وكان سلطانه على القلوب وليس على التّراب وسلطته باقية إلى الأبد ولا نهاية لها.
ورابعًا: أمّا أنّه يروّج التّوراة فإنّ هذا يعني أنّه يخلّص الأساس الّذي وضعه حضرة موسى من ربقة التّقاليد ويروّج تلك الحقيقة. ولا شكّ في أنّ المسيح روّج الأساس الّذي وضعه حضرة موسى فقد روّج الوصايا العشر وروّج حقيقة شريعة موسى أمّا بعض الأمور الّتي كانت تتّفق مع عصر موسى ولا تتّفق مع عصر المسيح وكانت زائدة أو كانت تقاليد تلمودية فإنّه نسخها ولكنّه نفّذ الأساس الأصلي وروّجه.
خامسًا: أمّا أنّه يفتح الشّرق والغرب فحيث إنّ حضرة المسيح كان كلمة الله فقد فتح الشّرق والغرب بالقوّة الإلهيّة وفتوحاته باقية حتّى الآن ثابتة لا نهاية لها.
وسادسًا: أمّا أنّه في أيّام ظهوره يشرب الذّئب والحمل من معينٍ واحد فالمقصود بذلك هو أنّ النّفوس الّتي تشبه الذّئب والحمل تؤمن بحضرة المسيح وتشرب جميعها من عين الإنجيل. ومثال ذلك رجل شرقيّ وآخر غربيّ ليست بينهما علاقة ولا مؤانسة بل هما مختلفان من جميع الوجوه وكانا بمثابة الذّئب والحمل وما كان اجتماعهما ممكنًا فلمّا آمنا بحضرة المسيح اجتمعا على عين واحدة.
إنّ هذه الكلمات كلمات رمزيّة لكن بما أنّ علماء اليهود لم يفهمومها ولم يتوصّلوا إلى حقيقة معانيها ونظروا إلى ظاهرها فلم يروها منطبقة لهذا أنكروا واعترضوا.
والسّبب الثّاني: لاحتجاب النّاس هو أنّ للمظاهر المقدّسة الإلهيّة مقامين أحدهما المقام البشريّ والآخر المقام الرّحمانيّ النّورانيّ المستور وهو مقام الظّهور والتّجلّي الرّبّاني.
فالمقام البشريّ ظاهر لكنّ الخلق عاجزون عن رؤية الحقيقة المقدّسة الظّاهرة في الهيكل ولا يرون قوّة الرّوح القدس بل ينظرون إلى النّاحية البشريّة فيه.
وعندما يرون مقام البشريّة مشتركًا مع سائر البشر يأكلون مثل سائر البشر وينامون ويمرضون ويضعفون لهذا يقيسونهم بمقياس أنفسهم ويقولون إنّ هؤلاء مثلنا ولا امتياز لهم عنّا فلماذا يكونون مظاهر مقدّسة ولا نكون نحن كذلك؟ ولماذا هم ممتازون عنّا؟ ولماذا هم سماويّون ونحن أرضيّون؟ ولماذا هم نورانيّون ونحن ظلمانيّون؟ مع أنّنا مثلهم في جميع الشّؤون البشريّة ولا فرق أبدًا بيننا وبينهم وليس لهم امتياز خاصّ عنا فنحن لا نرى فرقًا في ما بيننا وبينهم وهم مثلنا. ولهذا ينكرون ويستكبرون.
ومثلهم كمثل إبليس لمّا نظر إلى جسم آدم قال إنّني أشرف من آدم ولكنّه لم ينظر إلى روح آدم ولم يشاهد روح آدم. ولمّا كان جسم آدم من التّراب فإنّه شاهد ذلك ولم يرَ روحه فاستكبر. ولولا ذلك لسجد له.
وكذلك الأمر يوم ظهور المظاهر الإلهيّة. فبما أنّ النّاس ينظرون إلى الجانب البشريّ فيهم ويرونهم مثل أنفسهم لهذا فإنّهم يستكبرون عليهم ويعترضون عليهم ويعتدون عليهم ويظلمونهم ويخالفونهم ويحاولون قتلهم.
إذن يجب عليكم أن لا تنظروا إلى الجانب البشريّ في المظاهر المقدّسة الإلهيّة بل يجب أن تنظروا إلى حقيقتهم فتلك الحقيقة السّاطعة الّتي تنير الآفاق وإنّ تلك الحقيقة السّاطعة الّتي تنير العالم البشريّ وإنّ تلك الحقيقة السّاطعة الّتي تخلّص النّفوس من النّقائص وإنّ تلك الحقيقة السّاطعة الّتي توصل الجامعة البشريّة إلى أعلى درجات الكمال هي فوق التصوّر البشريّ.
إذًا يجب أن لا ننظر إلى الزّجاج لأنّنا إذا نظرنا إلى الزّجاج هو مادّة من البلّور نحرم من الأنوار وعلينا أن ننظر إلى السّراج أي إلى النّور الّذي يشرق من هذا الزّجاج وهو فيض حضرة الألوهيّة وتجلّيها الظّاهر في الزّجاج البشريّ فإذا نظرنا بهذه النّظرة فإنّنا لا نحتجب.

 

رقيّ العصر الحاضر

الخطبة المباركة في المنزل المبارك في نيويورك في 12 تموز 1912

هو الله 

إنّ عالم الإمكان شبيه بالإنسان فللإنسان عهد نطفة وعهد رضاعة وزمان نموّ وزمان رشد وإدراك ووقت للبلوغ. وكذلك لعالم الإمكان درجات فالإنسان في سنّ الرّضاعة يكون حسّاسًا ويكون في سنّ المراهقة في بداية الإدراك والتّمييز ولكنّ إدراكاته ضعيفة فلمّا يبلغ سنّ الرّشد تظهر جميع قواه المعنويّة والصّورية بأقصى درجة من القوّة وتصل قوّة إدراكه إلى حدّ يكشف فيه حقائق الأشياء، ولكنّ هذا الأمر غير ممكن في سنّ الطّفولة والرّضاعة فهذه الكمالات تتجلّى في سنّ البلوغ لا في سنّ الطّفولة وكذلك كان عالم الإمكان في وقت من الأوقات رضيعًا ثمّ أصبح طفلاً ثمّ مراهقًا ثمّ نما ونشأ يومًا فيومًا والآن بلغ سنّ الرّشد.
إنّ هذا القرن سيّد القرون وإنّ هذا العصر مرآة جميع العصور، وصور جميع ما كان في القرون الأولى تتجلّى اليوم في هذه المرآة. وعلاوة على هذا فإنّ هذا القرن نفسه له كمالات خاصّة به فله اكتشافات عظيمة واختراعات بديعة ومؤسّسات عجيبة وعلوم غريبة ما زالت تتجلّى في نهاية الكمال، أي أنّ لهذا القرن فضائل القرون السّابقة وله صناعات القرون السّابقة والخصال الحميدة في القرون السّابقة واكتشافات القرون السّابقة. ومع وجود هذه الفضيلة فيه فإنّ له اختراعاته الخاصّة به واكتشافاته الخاصّة به والّتي لم تكن موجودة أبدًا في القرون السّابقة، فمثلاً الفنّ المعماريّ كان موجودًا في القرون السّابقة ووصل في هذا القرن إلى درجة البلوغ ولكنّ هذه القوّة الكهربائيّة المولّدة لم تكن وهذا البرق (التّلغراف) الّذي به تتمّ المخابرة مع الشّرق والغرب خلال دقيقة واحدة لم يكن وهذا الحاكي لم يكن وهذا التّلفون لم يكن إنّ هذه كلّها من خصائص هذا القرن. ففي هذا القرن فضائل القرون القديمة وفضائل القرون الجديدة ولهذا فإنّ هذا القرن جامع للقرون وممتاز على جميعها وسيّد القرون وشمس جميع العصور. وبما أنّنا موجودون في هذا القرن فعلينا في سبيل الشّكر لهذه المواهب أن نقوم بأعمال تليق بهذا القرن فمثلاً حينما يبلغ الإنسان سنّ البلوغ يجب أن يكون على أحوال وأطوار تليق بسنّ البلوغ وكذلك الأمر في عالم الإمكان، فبما أنّه قد ترقّى إلى هذه الدّرجة الّتي أصبح فيها قرن الأنوار وقرن ظهور الأسرار وقرن فضائل العالم الإنسانيّ وقرن يوم الله وقرن الملكوت الأبهى يجب علينا أن نسلك السّلوك الّذي يليق بهذا القرن لأنّ العالم وصل إلى درجة البلوغ إن لم يصل إلى درجة البلوغ فسوف يصلها عن قريب.
لاحظوا كم اتّسعت دائرة العقول والأفكار وكم زادت الاكتشافات الجديدة وكم من مؤسّسات عظيمة ظهرت وكم من مخترعات بديعة تجلّت وإلى أيّ مدى انتشرت العلوم النّافعة. فمع وجود هذه المواهب الإلهيّة هل يليق بالبشر أن يكونوا غرقى في بحر المادّيّات وأسرى عالم الطّبيعة؟ إنّ هذا القرن قرن تجلّت فيه قوى الإنسان المعنويّة وظهرت كمالات الإنسان الرّوحانيّة وبهرت نورانيّة العالم الإنسانيّ وتجلّت الفيوضات الإلهيّة غير المتناهية. وبما أنّ الكمالات الجسمانيّة قد بلغت أعلى درجة فكذلك الكمالات الرّوحانيّة ينبغي أن تصل إلى أعلى درجة لكي يتنوّر ظاهر الإنسان وباطنه وتتحقّق السّعادة الدّنيويّة والملكوتيّة كلتاهما وتظهر الفضائل الطّبيعية الإلهيّة كلّها.
وكما أنّ العقل البشريّ مرآة لحقائق الأشياء أعني أنّ في الإنسان قوّة تكشف الحقائق كذلك حقيقة الإنسان مرآة لأنوار الملكوت ولها استعداد لتتجلّى فيها الحقائق الملكوتيّة وتظهر فيها الأسرار الإلهيّة وتنطبع فيها صور الملأ الأعلى ولهذا فإذا ارتقى الجانبان- الجانب الجسمانيّ والجانب الرّوحانيّ- فعند ذلك تظهر الحقيقة الإنسانيّة في منتهى الجمال والكمال.
إنّ الله له الحمد قد فتح لنا في هذا القرن كلّ باب وأنار لنا كلّ شمع وأحاط غيث رحمته الجميع وهبّ نسيم عنايته وهيّأ لنا من كلّ جهة وسائل الكمال فلا يجوز لنا أن نهدر كلّ هذه المواهب الإلهيّة ونهدر هذه الفيوضات الرّوحانيّة ونهدر هذه الأنوار اللاّهوتية بل ينبغي لنا أن نسعى روحًا وقلبًا حتّى تظهر هذه المواهب الإلهيّة في الحقيقة الإنسانيّة بمنتهى درجة الكمال حتّى تكون البشريّة مرآة ملكوت الرّبّ الجليل ويصبح عالم النّاسوت مرآة الملكوت، وعند ذلك ينال البشر السّعادة الدّنيويّة والسّعادة الأخرويّة والمواهب الإلهيّة والرّوحانيّة العظيمة والنّورانيّة الملكوتيّة.
إذن فاجتهدوا لكي تفوا حق الشّكر لهذه الألطاف وتتلقّوا نفثات الرّوح القدس وتنالوا هذه النّورانيّة وتشكروا هذا الفضل والموهبة وإذا بذلتم مثل هذه الهمّة فسيتعانق الشّرق والغرب وينهدم بناء العداوة والبغضاء انهدامًا كلّيًّا وتنتشر المحبّة الملكوتيّة وتحصل الألفة الرّوحانيّة وتتجلّى وحدة العالم الإنسانيّ ويتحقّق الصّلح الأكبر ويتعاشر البشر في ما بينهم بنهاية الألفة وتحصل السّعادة الأرضيّة والسّعادة الملكوتيّة كلتاهما وأرجو أن يفوز الكلّ بهذا المقام وهذه وصيّة منّي.

 

خلود الرّوح

ألقيت هذه الخطبة في مدينة بوسطن في 24 تموز 1912

هو الله

لقد قرأتم في الكتب المقدّسة مسألة بقاء الرّوح وأدلّتها النّقلية فلا حاجة بأن أكرّر ما قرأتموه وسمعتموه بل أذكر لكم الآن الأدلة العقلية على ذلك حتّى ينطبق ما نقوله مع الكتاب المقدّس الّذي يقول بأنّ الرّوح الإنسانيّة باقية. والآن نقيم الأدلّة على ذلك:
الدّليل الأوّل: من الواضح لدى الجميع أنّ كافّة الكائنات الجسمانيّة مركّبة من عناصر ومن كلّ تركيب معين يحصل كائن من الكائنات فمثلاً هذا الورد وجد واكتسب شكله من تركيب العناصر وعندما يتحلّل هذا التّركيب فذاك هو الفناء. ولا بدّ أن ينتهي كلّ تركيب إلى التّحليل ولكن لو كان هذا الكائن الحي غير مركّب من العناصر الجسمانيّة فإنّه لا يتحلّل ولا يموت بل يبقى حيًّا إلى الأبد. وحيث إنّ الرّوح ليست في الأصل مركّبة من عناصر فإنّها لا تتحلّل لأن كلّ تركيب يعقبه تحليل وحيث إنّ الرّوح لا تركيب فيها فإنّها لا تتحلّل.
الدّليل الثّاني: هو أنّ لكلّ كائن من الكائنات له صورة تحقّق وجوده. فإمّا أن تكون له صورة مثلّثة أو صورة مربّعة أو صورة مخمّسة أو صورة مسدّسة وجميع هذه الصّور المتعدّدة لا يمكن اجتماعها في زمان واحد في كائن واحد ولا يمكن أن يوجد كائن في صور غير متناهية. فصورة المثلّث لكائن ما لا تتحوّل إلى صورة المربّع في آن واحد وصورة المربّع لا تصير مخمّسًا وصورة المخمّس لا تصير مسدّسًا لذلك فإنّ الكائن الواحد إمّا أن تكون صورته مثلّثًا أو مربّعًا أو مخمّسًا وبانتقاله من صورة إلى صورة أخرى يحصل التّغيير والتّبديل ويظهر الفساد والانقلاب وحينما نتأمّل نجد أنّ الرّوح الإنسانيّة تكون في آن واحد وفي صور غير متناهية فالرّوح تتحقّق في صورة المثلّث وصورة المربّع وصورة المخمّس وصورة المثمّن والرّوح مصوّر في كلّ هذه الصّور موجود في حيّز العقل وليس له انتقال من صورة إلى صورة أخرى ولهذا فالعقل والرّوح لا يتلاشيان لأنّنا لو أردنا أن نحوّل كائنًا من الكائنات في صورة المربّع إلى صورة المثلّث فإنّنا يجب أن نهدم الصّورة الأولى تمامًا حتّى يمكننا تكوين الصّورة الثّانية، أمّا الرّوح فإنّها جامعة لجميع الصّور وهي في جميع الصّور هذه روح كاملة. لهذا فليس من الممكن أن تتحوّل من صورة إلى صورة أخرى ولهذا لا يعتريها تغيير أو تبديل وهي باقية دائمة إلى الأبد. وهذا دليل عقليّ.
الدّليل الثّالث: لجميع الكائنات هناك وجودها أوّلاً ثمّ أثرها. فالمعدوم لا أثر حقيقيّ له ولكنّنا نلاحظ أنّ أناسًا عاشوا قبل ألفي سنة ولا تزال آثارهم تتوالى في الظهور وتشرق كالشّمس إشراقًا. فحضرة المسيح عاش قبل ألف وتسعمائة سنة والآن نرى سلطته باقية فهذا هو أثر والأثر لا يترتّب على شيء معدوم والأثر يستلزم وجود المؤثّر.
الدّليل الرّابع: ما هو الموت؟ الموت هو اختلال القوى الجسمانيّة للإنسان فلا تبصر عيناه ولا تسمع أذناه ولا تدرك قواه ولا يتحرّك وجوده ومع هذا نراه برغم اختلال قواه الجسمانيّة أثناء النّوم يسمع ويدرك ويرى ويحسّ وواضح أنّ الرّوح هي الّتي ترى وتملك جميع القوى في حين أنّ القوى الجسمانيّة مفقودة. إذن فبقاء قوى الرّوح غير منوط ببقاء الجسد.
الدّليل الخامس: إنّ الجسم الإنسانيّ يضعف ويسمن ويمرض ويصحّ ولكنّ الرّوح تبقى على حال واحدة. فعندما يضعف الجسم لا تضعف الرّوح وعندما يسمن الجسم لا ترتقي الرّوح فالجسم يمرض والرّوح لا تمرض والجسم يصحّ والرّوح لا تنال الصحّة.
إذن اتّضح أنّ هناك في جسد الإنسان حقيقة أخرى غير هذا الجسم لا يعتريها تغيير.
الدّليل السّادس: إنّكم تفكّرون في كلّ أمر وتشاورون أنفسكم فما هو ذلك الشّيء الّذي يعطيكم الرّأي؟ كأنّه إنسان مجسّم جالس أمامكم ويتّحدث إليكم، فحينما تفكّرون في الّذي تتحدّثون معه توقنون أنّه الرّوح.
والآن نأتي إلى ما يقوله البعض من أنّنا لا نشاهد الرّوح. إنّ قولهم هذا صحيح لأنّ الرّوح مجّرد وليست بجسم فكيف إذًا تمكن رؤيته؟ فالمرئيّات يجب أن تكون أجسامًا فإن كانت أجسامًا فهي ليست أرواحًا وحينئذٍ لا يكون هناك روح. لاحظوا الآن هذا الكائن النّباتيّ فإنه لا يرى الإنسان ولا يسمع الصّوت وليست له ذائقة ولا يحسّ وليس له علم أبدًا بالعوالم العالية ويقول لنفسه ليس هناك عالم آخر غير عالم النّبات وليس هناك جسم وراء النّبات، وبمقتضى
عالمه المحدود يظنّ أنّ عالم الحيوان وعالم الإنسان ليس لهما وجود. فالآن هل إنّ عدم إحساس هذا النّبات دليل وبرهان على عدم وجود عالم الحيوان وعالم الإنسان. إذن فعدم إحساس البشر للرّوح ليس بدليل على عدم وجود عالم الرّوح وليس بدليل على موت الرّوح لأنّ كلّ دانٍ في مرتبته لا يدرك مرتبة أعلى منه، فعالم الجماد لا يدرك عالم النّبات وعالم النّبات لا يدرك عالم الحيوان وعالم الحيوان لا يصل إلى حقيقة عالم الإنسان.
وعندما ننظر إلى العالم الإنسانيّ نراه بمقتضى هذا الدّليل ناقصًا وليس له علم بعالم الرّوح الّذي هو من المجرّدات ولا يثبت وجوده إلا بالأدلّة العقليّة. وعندما ندخل عالم الرّوح نرى أنّ له وجودًا محقّقا واضحًا وله حقيقة أبديّة، ومثل هذا كمثل الجماد حين يصل إلى عالم النّبات فإنّه يرى قوّة النّموّ موجودة وعندما يصل عالم النّبات إلى عالم الحيوان يجد حقًّا أنّ فيه قوّة الإحساس، وعندما يصل عالم الحيوان إلى عالم الإنسان يفهم أنّ له قوى عقلية، وعندما يدخل الإنسان في العالم الرّوحانيّ يدرك أنّ الرّوح كالشّمس ثابتة أبديّة باقية موجودة لا يعتريها زوال.

 

السّعادة الرّوحيّة

ألقيت هذه الخطبة المباركة في بيت السّيّدة بارسنز في دوبلن
 في 31 تموز 1912

هو الله

إنّي ممتنّ جدًّا من السّيّدة بارسنز لأنّها كانت سبب لقائي بكم وتحدّثي إليكم. إنّني إنسان شرقيّ وأنتم من أهالي هذه البلاد الغربيّة ولم يكن اجتماعنا في مكان واحد ممكنًا وقد صارت السّيّدة بارسنز سبب مجالستي ولقائي بكم لذا فإنّني ممتنّ جدًّا منها لأنّها عرّفتني بكم.
لقد جئت من الشّرق وعندما وصلت إلى هذه البلاد وزرت أمريكا رأيت أنّ الأمّة قد ارتقت في المادّيّات رقيًّا عظيمًا في التّجارة وفي الصّناعة وفي العلوم المادّيّة على حدّ سواء وأصبحت البلاد معمورة من كلّ جهة وكذا أصبحت التّرقّيات المادّيّة في أوروبّا في منتهى درجة وهي تزداد يومًا فيومًا.
ولكنّني لاحظت أنّ التّرقّيات الرّوحانيّة قد تدنّت وأنّ الإحساسات الرّوحانيّة الملكوتيّة تضاءلت وقلَّ التّوجّه إلى الله واتّجهت جميع القلوب إلى أمور الدّنيا وصار كلّ واحد يتمنّى أن ترتقي حياته الجسمانيّة وينال ثروة دنيويّة ويحصل على راحة وطمأنينة ناسوتيّة. وخلاصة القول إنّ الإحساسات المادّيّة كثيرة والإحساسات الملكوتيّة قليلة نسبيًّا وهذا هو الأمر في جميع أطراف الدّنيا.
ولكنّ سعادة العالم الإنسانيّ غير ممكنة دون حصول الإحساسات الرّوحانيّة ولن تكون للبشر راحة واطمئنان إلاّ بالتّوجه إلى ملكوت الله. فالجسد يتلذّذ من المواهب المادّيّة. أمّا الرّوح فتحيا من الفيوضات الإلهيّة ولن يكون السّرور الحقيقيّ والفرح الرّوحي ممكنين إلاّ بالإحساسات الملكوتيّة. لأنّ عالم البشر محاط بالبلايا والرّزايا والإنسان عرضة لكلّ بلاء ومصيبة. وكلّ إنسان لا بدّ أن يكون له همّ ومشكلة. فكلّ واحد مبتلىً من جهة ما. فمثلاً هناك شخص في منتهى الغنى ولكنّ صحّته عليلة ولذا فهو في همّ من هذه النّاحية. وهناك شخص في منتهى الصّحّة ولكن تصيبه مصيبة بوفاة طفل من أطفاله أو واحد من أقرب أقربائه أو
أحسن أصدقائه فيصبح حزينًا من هذه الجهة. ونرى شخصًا آخر له عدوّ وعدوّه يتعقّبه لذا فإنّه مهموم من هذه النّاحية. وإن كمل سرور الإنسان من جميع الجهات صار النّاس يحسدونه فيقع في همّ وغمّ من هذ النّاحية.
وخلاصة القول ليست هناك في هذه الدّنيا راحة لإنسان. ولا تستطيع أن تجد شخصًا فارغًا من الهمّ والغمّ.
أمّا إذا كانت للإنسان إحساسات روحانيّة وتوجّه إلى الملكوت الإلهيّ فإنّ هذا مدار تسليته. فهو حينما يتوجّه إلى الله ينال إحساسات روحانيّة وينسى كلّ همّ وغمّ فلو هجمت عليه البلايا من جميع الجهات فإنّ لديه التّسلية لأنّه حينما يتوجّه إلى الله تزول جميع هذه الهموم والغموم والأحزان ويحصل على منتهى الفرح والسّرور وتحيط به البشارات الإلهيّة ويرى العزّة وهو في منتهى الذّلّة ويرى نفسه غنيًّا وهو في منتهى الفقر.
وقد حدث في الزّمن القديم أن جاء وقت سيطرت فيه المادّيّات ولم تبقَ هناك إحساسات روحانيّة وانحصرت جميع أفكار البشر في النّاسوت ولم يبقَ إنسان يتوجّه إلى الله. فسدّت أبواب معرفة الله وخمدت نار محبّة الله خمودًا كلّيًّا وغرق جميع البشر في بحر المادّة فظهر حضرة إبراهيم فماج بحر الرّوحانيّات وطلعت أنوار الملكوت ونفثت نفحة الحياة في القلوب وظهرت الرّوحانيّات وبرزت القوّة الملكوتيّة وتغلّبت على القوّة المادّيّة واشتعلت نار الهداية إلى أن أحاطت أنوار الملكوت الإلهيّة بعالم البشريّة.
وبعد مدّة انطفأت تلك الأنوار مرّة أخرى وأحاطت بالعالم ظلمات المادّيّة وغفل الخلق عن الله ولم يبقَ هناك توجّه إلى الملكوت فظهر حضرة موسى ورفع راية الدّيانة وشرع ببيان الملكوت وأشعل سراج الهداية فسطعت أنوار الملكوت من كلّ جهة وانجذب الإسرائيليّون إلى ملكوت الله.
وبعد مدّة انطفأ ذلك السّراج مرّة أخرى وأحاطت بالعالم الظّلمات وشغل النّاس بالأمور الجسمانيّة وأصبحت إحساسات جميع البشر مادّيّة وتعلّقت القلوب جميعًا بالنّاسوت وتنزّل جميع النّاس في أعماق الأرض تنزّل الحشرات وأصبح جميع النّوع الإنسانيّ كالحيوان فلم تبقَ أبدًا إحساسات روحانيّة ولم يبقَ نور هداية قطّ وغرقت جميع الملل في المادّيّات. ففي مثل هذه الحال طلع كوكب المسيح وتنفّس صبح الهدى وسطعت أنوار الملكوت وفاضت الإحساسات الرّوحانيّة على المادّيّات وبلغ الأمر إلى درجة لم يبقَ فيها للمادّيّات حكم أبدًا وجرت الأمور على هذا المنوال مدّة من الزّمان. ثمّ بعد ذلك أظلمت الجزيرة العربيّة وظهرت الوحشيّة وظهر سفك الدّماء فحاربت الأقوام العربيّة بعضها بعضًا وسفك بعضها دم البعض الآخر ونهب بعضها أموال البعض الآخر وأسر بعضها أبناء البعض الآخر. ففي مثل هذه الحال ظهر حضرة الرّسول في الجزيرة العربيّة وربّى مثل هذه القبائل الوحشيّة وهذه النّفوس التّائهة ونوّر هؤلاء الجهلاء بأنوار المدنيّة وربّى النّفوس فنالت إحساسات روحانيّة وازداد توجّهها إلى الله.
ثمّ انقلبت الأمور مرّة أخرى وغرب كوكب نور الهداية وأحاطت ظلمة الضّلالة وظهرت القوى المادّيّة واختفت الإحساسات الدّينيّة وأظلمت القلوب وتدنّت العقول ففي هذا الوقت ظهر حضرة الباب في إيران وطلع كوكب حضرة بهاء الله وأشرقت أنوار الملكوت أشدّ إشراق وتلاشت القوى المادّيّة في الشّرق ولم تبقَ إحساسات مادّيّة وطلعت النّورانيّة السّماويّة وزالت الوحشية وظهرت التّربية الإلهيّة وبدأت القوى المعنويّة تظهر آثارها وقلّت غفلة الخلق وضلالهم وقد أحاطت نورانيّة حضرة بهاء الله بإيران اليوم إلى درجة تربّت نفوس مثل
الملائكة وظهرت أنفس توجهت بقلوبها وأرواحها إلى ملكوت الله وغرقت في بحر الرّوحانيّات فهي رحمانيّة وهي نورانيّة وهي سماويّة وهي لا تعنى أقل عناية بهذه الدّنيا فهي تشتغل في صناعتها لتحصيل معاشها بمنتهى الهمّة لكنّ قلوبها متوجّهة إلى الله وأرواحها مستبشرة ببشارات الله وارتقت أخلاقها كثيرًا فلم يبقَ لديها من الأخلاق الذّميمة شيء. وصاروا رحماء بجميع الخلق ويحبّون جميع البشر ويعتبرون الجميع أهلهم وأقرباءهم وصاروا يسمّون عالم الإنسانيّة باسم شجرة واحدة ويرون جميع أفراد البشر بمثابة أوراق وبراعم وأثمار لتلك الشّجرة وغاية أملهم الصّلح العمومي وعقيدتهم وحدة العالم الإنسانيّ وهم مشتاقون إلى الرّقيّ في العلوم والفنون وساعون وراء ما يسبّب علوّ العالم الإنسانيّ وليست لدى هؤلاء تعصّبات: فلا تعصّب مذهبي ولا تعصّب جنسيّ ولا تعصّب وطنيّ ولا تعصّب سياسيّ ولا تعصّب لغويّ، فهم متحرّرون من جميع هذه التّعصّبات ويعتبرون سطح الأرض وطنًا واحدًا ويعتبرون جميع البشر أمّة واحدة ويرون جميع النّاس عبادًا لله ويعرفون الله رؤوفًا بجميع البشر ولهذا فهم رحماء بجميع البشر وليس لهم مقصد غير رضاء الله ولا أمنية لهم غير محبّة القلوب الإنسانيّة.
وقد تحمّل هؤلاء البلايا الكثيرة من أجل الحصول على هذا المقام فهاجمتهم سائر الأحزاب وثارت عليهم بمنتهى التّعصب ونهبت أموالهم وأغارت عليهم إلى درجة أحرقت أجساد بعضهم ولكنّهم لم يهنوا أبدًا فأصبحوا كلّ يوم هدفًا لسهم وكانوا في كلّ حين يضحّون بأرواحهم وقبلوا الشّهادة بكلّ فرح وسرور إلى أن مات ناصر الدّين شاه وقلَّ التّعرض لهم ونالوا شيئًا من الأمن وهم الآن يبذلون الجهد أكثر من ذي قبل من أجل أن يصبح النّاس رؤوفين ببعضهم ويكون النّوع الإنسانيّ في حكم عائلة واحدة. وهم يبذلون منتهى التّضحية في هذا المجال كي يصبح العالم الإنسانيّ نورانيًّا وتنعكس في العالم الإنسانيّ انعكاسات لاهوتيّة وتصبح القلوب المظلمة نورانيّة وتزول رذائل البشريّة وتتجلّى الفضائل السّماويّة.
ومن أجل هذا الهدف قمت بهذا السّفر البعيد إلى أمريكا وجئت إلى هنا وذلك كي يلتئم الشّرق والغرب ويتحقّق كامل الارتباط بينهما فيعاون الواحد الآخر ويصبح سبب راحته. فإن ائتلف الشّرق والغرب رفرف علم الصّلح العموميّ وتجلّت وحدة العالم الإنسانيّ وحصل الكلّ على الرّاحة والطّمأنينة.
ولهذا أتضرّع إلى الملكوت الإلهيّ ملتمسًا أن ينير هذه الوجوه ويجعل هذه القلوب نورانيّة ويبشّر الأرواح بالبشارات السّماويّة حتّى نكون جميعنا في حمى الله وننال السّعادة تحت ظلّه وننال الرّاحة الجسمانيّة ونبتغي السّعادة الرّوحانيّة ونبلغ منتهى آمالنا وأمانينا من جميع الجهات هذه هي آمالي وهذه هي مناجاتي لله.

 

التّربية نوعان

ألقيت هذه الخطبة في كنيسة الموحّدين في دوبلن –أمريكا-
في 11 آب سنة 1912

هو الله

من المسلّم به لدى عموم العقلاء أنّ عالم الطّبيعة ناقص ومحتاج إلى التّربية. فإنّكم تلاحظون أنّ الإنسان إذا لم يُربَّ فإنّه يكون في نهاية التّوحّش. فالتّربية هي الّتي تجعل الإنسان إنسانًا وإذا ترك على الطّبيعة فإنّه يكون مثل سائر الحيوانات.
انظروا إلى الممالك المتمدّنة تروا حينما يتربّى الإنسان ويكتسب الفضائل يصبح متمدّنًا ويصير عاقلاً ويصير عالمًا ويصبح كاملاً ولكنّه في البلاد المتوحّشة مثل أواسط أفريقيا عندما لا يربّى يبقى على حالة التّوحّش.
والفرق بين بلدان أمريكا وأواسط أفريقيا هو أنّ النّاس هنا تربّوا وهناك لا توجد تربية. وأهل أفريقيا باقون على حالتهم الطّبيعية أمّا أهالي أمريكا فقد نالوا من التّربية قسطًا موفورًا.
التّربية تجعل الغصن المعوجّ مستقيمًا وتجعل الأجمة حديقة وتجعل الشّجرة عديمة الثّمر مثمرة وتجعل الأرض الشّائكة حقلاً للسّنابل. والتّربية تعمّر الدّيار المنهدمة وتجعل المتوحّش متمدّنًا والتّربية تجعل الجاهل كاملاً. التّربية تجعل الإنسان عالمًا بالملكوت الإلهيّ وتجعله ينال معرفة الله وتجعل الإنسان روحانيًّا وكاشفًا لأسرار الطّبيعة ومطّلعًا على حقائق الأشياء.
والخلاصة أنّ من المسلّم به لدى الجميع أنّ عالم الطّبيعة ناقص وأن كمال الطّبيعة منوط بالتّربية فإن لم تكن هناك تربية فإنّ الإنسان يكون مثل سائر الحيوانات مفترسًا بل أحطّ منها.
مثال ذلك أنّه تصدر في بعض الأحيان من الإنسان بعض التّصرفات الّتي لا تصدر من الحيوان. فالحيوان عديم التّربية مهما يكن مفترسًا فإنّه يفترس في اليوم حيوانًا واحدًا أمّا الإنسان عديم التّربية المفترس يفترس يوميًّا مائة ألف نفر.
لاحظوا النّفوس السّفّاحة الّتي جاءت في التّاريخ تروها كانت أشدّ افتراسًا من الذّئب وأحطّ من الحيوان.
إذن فالإنسان إن لم ينل تربية يصبح أحطّ من الحيوان.
والتّربية على قسمين: تربية مادّيّة وتربية إلهيّة. فقد كان فلاسفة العالم معلّمين مادّيّين. كانوا يربّون النّاس تربية طبيعيّة لهذا صاروا سبب التّربية والرّقيّ الطّبيعي. لكنّ المظاهر المقدّسة الإلهيّة كانوا مربّين إلهيّين ربّوا الأرواح والقلوب وعالم الأخلاق.
ولقد ربّى الفلاسفة عالم الأجسام وربّت المظاهر المقدّسة عالم الأرواح. مثال ذلك حضرة المسيح عليه السّلام كان مربّيًا روحانيًّا. وكان ملكوتيًّا وكان مربّيًا إلهيًّا ربّى الأرواح
وربّى عالم الأخلاق وروّج الحقائق المعقولة. أمّا حضرات الفلاسفة فقد خدموا المدنيّة وربّوا البشر من حيث المادّة.
وفي الحقيقة إنّ الإنسان محتاج إلى الاثنين: إلى التّربية الطّبيعيّة وإلى التّربية الإلهيّة. فهو إن لم ينل التّربية السّماويّة يكن مثل سائر الحيوانات ويكن مجرّد كاشف للحقائق المحسوسة. لكنّ الله وضع في الإنسان قوّة يصبح بها كاشفًا للحقائق المعقولة وكاشفًا للحقائق الملكوتيّة، تلك القوّة الإلهيّة كاشفة للفيوضات وهي سبب للحياة الأبديّة وتلك القوّة سبب حصول الكمالات المعنويّة وتلك القوّة تجعل الإنسان ممتازًا عن الحيوان لأنّ الحيوان كاشف للحقائق النّاسوتيّة والإنسان كاشف للحقائق اللاّهوتيّة.
إذًا فالإنسان مهما يحصل على ترقّيات مادّيّة فإنّه لا يزال محتاجًا إلى نفثات الرّوح القدس ومحتاجًا إلى التّربية الإلهيّة ومحتاجًا إلى الفيض الملكوتيّ وما لم ينل الإنسان هذه التّربية لا يصير كاملاً.
لهذا فقد ظهرت المظاهر المقدّسة في كلّ كور لتربّي النّفوس تربية إلهيّة ولتزيل نقائص الطّبيعة ولتظهر الكمالات المعنويّة.
والطّبيعة أشبه ما تكون بالغابة وحضرة المسيح بستانيّ إلهيّ حوّل هذه الغابة إلى حديقة وجعل الأشجار عديمة الثّمر مثمرة وجعل هذه الأراضي المليئة بالشّوك والعوسج بحكم الطّبيعة بستانًا مليئًا بالورود والرّياحين فقلّب التّربة وأخرج الحشائس الضّارّة عديمة النّفع فرماها خارجًا وقلع وقمع جميع الأشواك الّتي كانت قد نمت بمقتضى الطّبيعة وبعد أن كانت أرض أشواك أصبحت مزرعة وحديقة أزهار. ولو كانت تبقى على حالة الطّبيعة فلا شكّ أنّها كانت تصبح غابة أو أرضًا شائكة لكنّ الزّارع يحوّل الغابة إلى حديقة والأرض الشّائكة إلى مزرعة ويجعل هذه الأشجار عديمة الثّمر مثمرة ويجعل أرض الحشائش مزرعة.
وخلاصة القول هو إنّ الإنسان مهما يرتقِ رقيًّا طبيعيًّا ويكتسب كمالات مادّيّة فإنّه يعدّ حيوانًا ولهذا فهو محتاج لنفثات الرّوح ومحتاج للتّربية الإلهيّة لكي تظهر الحقيقة الإنسانيّة في نهاية الجمال والكمال ولتصير مصداق آية التّوراة فتكون صورة ومثالاً إلهيًّا وتستفيض من الحقائق الملكوتيّة، وبعد أن كانت أرضيّة تصبح سماويّة وبعد أن كانت ناسوتيّة تصبح لاهوتيّة وبعد أن كانت جسمانيّة تصبح روحانيّة، وبعد أن كانت ظلمانيّة تصبح نورانيّة وهذا غير ممكن إلا بنفثات الرّوح القدس فتنال حياة أبديّة وإلا فليس لها بأيّ وجه من الوجوه امتياز عن الحياة الحيوانيّة.
إنّ المظاهر المقدّسة تنفث روحًا جديدًا في الأجساد وتهب النّفوس عقلاً جديدًا وتمنحها ترقّيات عظيمة وتنير العالم، ولكن لا تمضي مدّة إلاّ ويعود مظلمًا مرّة أخرى فلا تبقى النّورانيّة السّماويّة بل تتغلّب الإحساسات الطّبيعية مثال ذلك زارع يعمّر أرضًا فبعد أن كانت أرض أشواك وحشائش يجعلها مزرعة طيّبة الخيرات والمحاصيل أمّا لو يتركها فإنّها تعود أرض أشواك وحشائش.
وهكذا كان العالم بقوّة المظاهر المقدّسة مزرعة ذات بركة وكان حقلاً وبستانًا لم تكن فيه ظلمة جهل بل كانت النّورانيّة الإلهيّة ساطعة فيه ولكنّه بعد مدّة غدا مظلمًا بالكلّيّة ولم تبقَ النّورانيّة الإلهيّة أبدًا ولم يدم الفيض الإلهيّ ولم تبقَ هناك تربية روحانيّة.
ففي مثل هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله في زمن كانت فيه ملل الشّرق في نهاية النّزاع والجدال وكان أتباع الأديان فيه يسفك بعضهم دماء بعضهم الآخر وكانت المذاهب مشغولة في الحرب والجدال في ما بينها فلم تكن هناك أبدًا آثار للمحبّة ولم تكن هناك نورانيّة سماويّة. ففي وقت كهذا ظهر حضرة بهاء الله وأعلن وحدة العالم الإنسانيّ متفضّلاً أنّ البشر كلّهم عبيد لله وجميع الأديان في ظلّ رحمة الله وكلّ ما في الأمر هو أنّ البعض جاهل وناقص وطفل يجب أن يصبح عالمًا كاملاً بالغًا والبعض غرقى ظلمة الطّبيعة يجب أن يصبحوا نورانيّين والله رؤوف بالكلّ وألطافه الإلهيّة شاملة للكلّ والجميع مستغرقون في بحر رحمته ومستفيضون من الفيوضات الإلهيّة.
وخلاصة القول فقد أزال حضرته النّزاع والجدال وأزال العداوة من ذات البين وجعل جميع الأديان تلتئم ببعضها وألّف بين المذاهب بعد أن كانت في منتهى البغضاء وحصل بينها منتهى المحبّة وهناك اليوم في إيران قوم أطاعوا أمر حضرة بهاء الله فأصبحوا في منتهى الألفة والوئام وأصبحوا جميعًا ممتزجين في منتهى المحبّة وقد تفضّل حضرة بهاء الله أنّ عالم البشريّة مثل شجرة واحدة وجميع الملل والأجناس عبارة عن أوراق تلك الشّجرة وأفنانها. والله البستانيّ لا يفرق بينها فقد ربّى الجميع وغاية ما في الأمر أنّ البعض جاهل يجب تعليمه والبعض ناقص يجب إكماله والبعض مريض تجب معالجته والبعض أطفال وتجب تربية الطّفل حتّى يصل إلى سنّ البلوغ ولكنّ الجميع عباد الله والله أب للجميع ورؤوف بالجميع والكلّ مستغرقون في بحر رحمته وما دام هو رؤوف بالكلّ فلماذا نكون نحن قساة؟ وما دام هو في صلح مع الجميع فلماذا يحارب بعضنا بعضًا؟ ولماذا نحاول تحطيم بعضنا بعضًا فنتذرّع بذريعة الأمّة ونتذرّع بذريعة المذهب ونتذرّع بذريعة الوطن ونتذرّع بذريعة السّياسة ونتذرّع بذريعة الأسماء فيحارب بعضنا بعضًا، ولأقل ذريعة وحجّة يسفك بعضنا دم البعض الآخر ونهدم البيوت، أهذا لائق بنا؟ مع أنّنا في ظلّ إله عطوف مثل هذا الإله الّذي يعفو عن خطايانا ويرحمنا ولا يبدّل لحاظ عنايته مهما كان عصياننا وطغياننا. فهل يليق بنا أن نخالف مثل هذا الإله؟ فهو رؤوف بالكلّ ونحن نكون قساة.
والخلاصة أنّ حضرة بهاء الله قد أسّس مثل هذا التّأسيس وروّج الصّلح العموميّ وكتب قبل خمسين سنة رسائل إلى جميع الملوك ودعاهم جميعًا إلى الصّدق والألفة وعبادة الحقيقة.
نعم ليست هناك آفة أعظم من الحرب المنبعثة من التّعصّبات والمخالفة للرّضاء الإلهيّ. لاحظوا أنّه منذ بداية التّاريخ إلى الوقت الحاضر كان بين البشر حرب وجدال وكانت الحروب منبعثة إمّا من التّعصّب السّياسيّ وإمّا من التّعصّب الجنسيّ وإمّا من التّعصّب الوطنيّ وإمّا من التّعصب المذهبيّ.
إنّ جميع هذه التّعصّبات هادمة للبنيان الإنسانيّ وليس عند الله تعصّب فلماذا يكون عندنا تعصّب؟ والله يعاملنا جميعًا معاملة واحدة فلماذا يعامل بعضنا بعضًا معاملة مختلفة. وجميع الأرض وطن واحد وكرة الأرض كرة واحدة وجميع البشر من وطن واحد ومن سلالة آدم ولهذا فهم عائلة واحدة وجنس واحد لا أجناس مختلفة فلماذا نحن يجب أن نختلف؟ ولِمَ هذه الحروب بيننا؟ ولماذا هذا الجدال والقتال؟
يجب أن نتابع الرّضاء الإلهيّ ولا شكّ أنّ رضاء الله هو في المحبّة والألفة لأنّ الحرب هادمة للبنيان الإنسانيّ وما دامت الحرب مستمرّة فلن يرتاح العالم الإنسانيّ.
ومبدأ آخر هو أنّ التّقاليد الموجودة بين أيدي أولي الأديان مانعة للاتّحاد والاتّفاق لأنّ التّقاليد مختلفة واختلاف التّقاليد سبب للنّزاع، والنّزاع سبب للقتال.
ولهذا يجب ترك التّقاليد وتحرّي الحقيقة لأنّ الحقيقة واحدة وإذا تحرّى الجميع الحقيقة فلا شكّ أنّ الجميع يصبحون متّحدين متّفقين لأنّ كلّ هذا النّزاع هو من التّقاليد أمّا أساس الأديان الإلهيّة فواحد وهو الفضائل الإنسانيّة فلا يختلف أحد في الفضائل بل الكلّ متّفقون على أن الفضائل نور والرّذائل ظلمة، إذن فيجب علينا الرّجوع إلى أساس الأديان الإلهيّة وترك التّقاليد ومن المؤكّد أنّنا نتّحد ولا يبقى اختلاف بأيّ وجه من الوجوه.
ومن مبادئه أيضًا هو أنّ الدّين يجب أن يطابق العقل ويطابق العلم لأنّه إن لم يطابق العقل والعلم فإنّه يكون أوهامًا ولقد أعطانا الله قوّة عاقلة حتّى نتوصّل بها إلى حقيقة الأشياء وندرك حقيقة كلّ شيء فإذا كان الدّين مخالفًا للعلم والعقل فلا شكّ أنّه أوهام وإذا كان الدّين مانعًا للألفة فعدمه خير من وجوده لأنّ الدّين هو لأجل المحبّة والألفة فإن أصبح الدّين سبب النّزاع والجدال فلا شكّ أنّ عدم الدّين أحسن لأنّه بمنزلة العلاج فإن أصبح العلاج سبب المرض فلا شكّ أنّ عدمه أحسن من وجوده.
ثمّ إنّ الله خلقنا جميعًا على حدّ سواء فأعلن حضرة بهاء الله المساواة بين الرّجال والنّساء وأنّ الرّجل والمرأة كليهما عبيد لله وجميعهم بشر متساوون في الحقوق وليس عند الله رجل أو امرأة وكلّ شخص تكون أعماله أحسن وإيمانه أحسن يكون أكثر تقرّبًا من العتبة الإلهيّة. وفي العالم الإلهيّ ليس هناك ذكور وإناث وليس في عالم الملكوت ذكور وإناث والجميع واحد ولهذا فالرّجال والنّساء يجب أن يتّحدوا ويتساووا.
وخلاصة القول لمّا كان أكثر أهل العالم جهلاء فقد أعلن حضرة بهاء الله أنّ الكلّ يجب أن يحصِّلوا العلوم والفنون ويجب عليهم أن يدخلوا جميع الأطفال المدارس سواء في المدن أم في القرى وهذا فرض محتوم فإن عجز الأب وجب على المجتمع البشريّ أن يعينه حتّى لا تبقى نفس بدون تربية.
وفي المدارس يجب أن تدرّس التّربية الجسمانيّة كما تدرس التّربية الرّوحانيّة لأنّ العلوم المادّيّة بمثابة الجسد والعلوم الإلهيّة بمثابة الرّوح ويجب أن تنفخ في الجسد روح لينال الحياة. أمّا إذا لم تكن هناك روح فالجسد يكون ميتًا مهما يكن في منتهى الجمال لأنّه حينما يكون محرومًا من فيض الرّوح فإنّه يغدو عديم الثّمرة وبدون نتيجة بل إنّ عدمه أحسن لأنّه يفسد ويتعفّن فإنّ فناءه أحسن من بقائه ويتفضّل في الإنجيل: “المولود من الجسد جسد هو والمولود من الرّوح هو روح”، أي أنّ المادّيّات هي بمنزلة الجسد أمّا نفثات الرّوح القدس فهي روح وهذا الجسد يجب أن يحيا بهذه الرّوح ولهذا السّبب جعل حضرة المسيح الولادة الثّانية لازمة والمقصود بهذا هو أن الإنسان حينما كان في عالم الرّحم كان محرومًا من جميع هذه الفيوضات وحينما جاء إلى هذا العالم انفتحت عيناه وصارت أذناه سامعتين وأصبح ذا عقل وقوى جسمانيّة وحصل على قوى روحانيّة فهذه المواهب أعطاها الله له في عالم الرّحم ولكنّها ما كانت ظاهرة في عالم الرّحم فلمّا ولد ظهرت هذه المواهب وتجلّت فشاهد أن له عينًا وأنه كان قد وهب أذنًا فأصبح يرى جميع الكائنات فيرى البحر ويشاهد هذه الصّحراء ويرى الحديقة والبستان وما كان له علم بجميع هذه الأشياء حين كان في عالم الرّحم.
وبمثل هذه الكيفية أيضًا يجب أن يولد الإنسان من عالم الطّبيعة ليدخل عالم ما وراء الطّبيعة أي ينجو من نقائص عالم الطّبيعة لينال نصيبًا من فضائل العالم الإلهيّ لأنّ الطّبيعة
ناقصة وبدون هذا لا يستطيع كشف الرّوحانيّات وكشف الملكوت ولا يكون له علم بالعالم الإلهيّ.
والطّفل في عالم الرّحم كان يستحيل عليه أن يكون له علم بهذا العالم فكان منكرًا لهذا العالم ولو قيل له بأنّ هناك عالمًا غير عالم الرّحم هو أوسع، فيه شمس وقمر وحديقة وبستان لأنكر ذلك وقال ليس هناك عالم غير عالم الرّحم ولكنّه بعد أن وُلد رأى جميع هذه المواهب في حين أنه لم يكن مطّلعًا على ذلك في عالم الرّحم.
وبنفس هذه الكيفية ما لم يولد الإنسان من عالم الطّبيعة فإنّه لن ينال خبرًا عن عالم الملكوت ولا يكون له علم بالله ولا ينال خبرًا عن الرّوحانيّات ولا يكون مطّلعًا على الفيوضات الإلهيّة ولكنّه حينما يولد من الطّبيعة يشاهد أنوار المواهب وبعدها يعرف أنّ الملكوت الإلهيّ منوط بالولادة الثّانية.
ولقد جاءت المظاهر الإلهيّة من أجل تربية البشر ليولدوا ولادة ثانية لينالوا معرفة الله وليطّلعوا على الملكوت الإلهيّ وليطّلعوا على الحقائق الإلهيّة، مثال هذا جزيرة العرب الّتي كانت في منتهى الظّلمات وكانت النّفوس الإنسانيّة مظاهر شيطانيّة وكانت الآفاق محرومة بالكلّيّة من إشراق النّور الرّحمانيّ وكانت القوانين والآداب مخلّة بسعادة العالم الإنسانيّ وكانت الفضائل منسوخة والرّذائل مقبولة ومشروعة وما كان هناك خبر عن العالم الإلهيّ وما كان هناك أثر من الفيوضات غير المتناهية وفجأة أشرق النّور المحمّديّ من مطلع الحجاز وأشرقت شمس الحقيقة من أفق البطحاء فتنوّرت جزيرة العرب وقام المعلّم الإلهيّ بالتّعليم وقام المربّي الحقيقيّ على التّربية فأفاق النّائمون وانتبه عديمو الشّعور وارتقى النّوع الإنسانيّ وتدنّت الآداب القديمة وأنشد العرب انشودة المدنيّة باللّحن الحجازيّ بصوت عالٍ ظلّ يتردّد صداه أبدًا في آذان البشريّة.
يا إلهنا الغفور إنّ هذا الجمع مرتصدون لدى بابك وعاشقون لجمالك وقد اجتمعوا في هذا المعبد طالبين رضاءك وملتمسين ألطافك وآملين عفوك وراجين غفرانك. إلهي نحن أطفال وأنت الأب الرّؤوف. ونحن أذلاّء وأنت العزيز الفريد الوحيد. إلهي نحن في منتهى العجز وأنت القدرة المحضة ونحن فقراء وأنت الغنيّ ونحن عاجزون وأنت القدير. إلهي فاعفُ عن ذنوبنا وأجرنا في جوارك ونجّنا من ظلمات النّاسوت وأنرنا بنورانيّة اللاّهوت. نجّنا من عالم الطّبيعة وأوصلنا إلى عالم الحقيقة. إلهي نحن عطاش هبنا عذب فراتك ونحن جياع أكرمنا من المائدة السّماويّة ونحن مرضى أنعم علينا بالشّفاء الأبديّ ونحن فقراء هبنا من كنز الملكوت وآونا إلى ظلّ عنايتك حتّى تتنوّر العيون بمشاهدة أنوارك وحتّى نصغي بآذان واعية إلى ندائك. إلهي افتح مشامّنا حتّى تستنشق رائحة حديقة عنايتك. إلهي هبنا قوّة حتّى نسلك في سبيلك ونحن في عالم النّاسوت اهدنا إلى عالم اللاّهوت وافتح لنا أبواب الملكوت واشملنا بألطافك وأكمل علينا فيضك. إنّك أنت الغفور إنّك أنت الرّحمن إنّك أنت الرّحيم وإنّك أنت الوهّاب الرّؤوف.

 

وصيّتي في توديعكم

الخطبة المباركة ألقيت في منزل السّيّدة بارسنز في دوبلن
 في 15 آب سنة 1912

هو الله

لقد مضت عليّ ثلاثة أسابيع وأنا في دوبلن. إنّ دوبلن في الحقيقة مكان لطيف وبديع جدًّا ومكان عليل الهواء خاصّة وأنّ النّفوس الموجودة في دوبلن نفوس محترمة: أخلاقهم طيّبة، يكرمون الضّيف ويعبدون الغريب ولقد شاهدت منهم أقصى الرّعاية ولن أنسى محبّتهم ورعايتهم هذه وهي في خاطري دائمًا ولهذا فإنّني أدعو الله أن يؤيّدهم تأييدًا كلّيًّا وأن يبارك هذه النّفوس المحترمة وأن تشمل ألطافه الجميع حتّى يرتقوا يومًا بعد يوم.
هذا وإنّني حينما جئت إلى أمريكا شاهدت آثار الرّحمة الإلهيّة من كلّ الجهات ورأيت مملكة واسعة جدًّا شملتها كمالات الطّبيعة بأجمعها، أمّة في منتهى الشّهامة ورجالها ونساؤها في ارتقاء ولهذا فإنّني ممتنّ مسرور جدًّا من ذلك.
ولكنّني حينما جئت من الشّرق جئت برسالة إلهيّة فالرّوحانيّات في هذه البلاد لم ترتقِ ولهذا جئت برسالة إلهيّة وجئت ببشارة سماويّة وبشّرت الجميع بسطوع أنوار الملكوت وبيّنت تعاليم حضرة بهاء الله وجئت ببراهين ودلائل عقليّة على وجود الألوهيّة وجئت بدلائل عقليّة على وجود الوحي. وقد أقمت الحجج العقليّة على أن رحمة الله لا انقطاع لها وأنّ أبواب الملكوت مفتوحة وأنّ الفيض الإلهيّ أبديّ وأنّ أنوار شمس الحقيقة ساطعة ولا انقطاع لسطوعها لحظة واحدة وحيث إنّ السّلطنة الإلهيّة دائمة ولهذا فإنّ الفيض الإلهيّ دائم وكلّ من يحدّد الفيوضات الإلهيّة بحدود فإنّه يحدّد الله بحدود وما دام الله غير محدود بحدود فليست للفيوضات الإلهيّة من نهاية.
وخلاصة القول لقد بيّنت كلّ برهان وأوضحت كلّ دليل على أنّ في العالم الإنسانيّ قوّة روحانيّة واحدة وروحًا فعّالة واحدة وبها يمتاز الإنسان عن غيره. فالإنسان يشترك مع جميع الكائنات في جميع المراتب ولكنّه يمتاز عنها بموهبة الرّوح. إنّ هذه الرّوح نفحة من النّفحات الإلهيّة وشعاع من شمس الحقيقة.
ولقد أقمت البراهين القاطعة على بقاء الرّوح وأوضحت جليًّا أنّ الرّوح الإنسانيّ يظلّ في ظلمة بدون هداية الله.
لهذا يجب أن تتوجّه القلوب إلى الملكوت الإلهيّ حتّى تتجلّى أنوار الفيوضات الّتي لا منتهى لها وحتّى ترقى الأمة الأميركية النّجيبة رقيًّا روحانيًّا كما سبق لها أن ارتقت تمام الرّقيّ في المادّيّات حتّى تعرف عن عالم ما وراء الطّبيعة وتشاهد ببصيرتها السّلطنة الإلهيّة وحتّى تتعمّد بالرّوح القدس وتتعمّد بماء الحياة وتتعمّد بنار محبّة الله كما يتفضّل حضرة المسيح حتّى ينالوا الحياة الأبديّة وحتّى يشاهدوا أنوار الملكوت الإلهيّ وحتّى يدخلوا ملكوت الله.
خلاصة القول إنّ هذا هو آخر يوم لمكوثي هنا وغدًا أنا عازم على السّفر ونصيحتي إليكم أن تكون هممكم عالية ومقاصدكم سامية. إنّ هذا العالم الجسمانيّ حياة مؤقّتة لا بدّ أن
تنتهي وإنّ حياة هذا العالم ولذائذه فانية. تنتهي راحته بمشقّة وتنتهي عزّته بذلّة وتنتهي حياته بالممات وينتهي بقاؤه بالفناء.
وكلّ شيء لا بقاء له لا جلوة له لدى العقلاء لأنّ الإنسان العاقل لا يتوجّه إلى العالم الفاني بل إنّه يهتمّ بالعالم الباقي ولا يقنع بالحياة المؤقّتة بل يطلب حياة أبديّة ولا يبقى في ظلمة الطّبيعة بل يتمنّى ملكوت الأنوار.
ولهذا لا تقنعوا بهذه الحياة الفانية بل اطلبوا حياة لا نهاية لها واطلبوا عزّة أبديّة سرمديّة واطلبوا راحة سماويّة واطلبوا روحانيّة ربانيّة واطلبوا كمالات معنويّة وابحثوا عن فضائل ملكوتيّة وتمنّوا القرب الإلهيّ وتوجّهوا إلى ملكوت الله وفوزوا بما هو منتهى كمالات العالم الإنسانيّ واطلبوا منتهى الفيوضات السّماويّة.
لاحظوا العقلاء السّابقين والعلماء السّابقين والأنبياء السّابقين فإنّهم أنقذوا أنفسهم من ظلمات عالم الطّبيعة ونالوا نصيبًا من أنوار عالم الملكوت ولم يأبهوا بحياة هذه الدّنيا المؤقّتة بل طلبوا الحياة الأبديّة. ولو أنّهم كانوا على الأرض لكنّهم كانوا يسيرون في الملكوت الإلهيّ. ولو أنّ أرواحهم كانت أسيرة لهذا الجسد ولكنّهم كانوا يرجون حرّيّة عالم البقاء إلى أن صعدت أرواحهم المقدّسة إلى الملكوت الأبهى ونالوا الحياة الأبديّة.
لاحظوا أنّ جميع عظماء الدّنيا انعدموا ولم يبقَ منهم أثر أمّا تلك النّفوس المقدّسة فآثارها باقية إلى الأبد. فقد انطفأت شموع جميع الملوك ولكنّ شمعهم يتّقد يومًا فيومًا.
كم من ملكات جئن إلى هذا العالم وكنّ في منتهى السّطوة وانعدمن كلّهنّ ولم يبقَ منهنّ غير الاسم في بعض الكتب التّاريخيّة ولكنّ مريم المجدليّة كانت امرأة قرويّة فلمّا تنوّرت بأنوار الملكوت أصبحت نجمة ساطعة تشرق إلى الأبد في أفق العزّة الأبديّة وقيسوا على ذلك. ما أعظم العزّة الّتي تنالها النّفوس الّتي تدخل الملكوت الأبهى! فإنّ صيتهم يبقى إلى الأبد ويسطعون كالنّجوم في أفق الملكوت. أولئك حياتهم أبديّة وأولئك أسماؤهم أبديّة وأولئك ذكرهم أبديّ وأولئك آثارهم أبديّة.
فاجهدوا إذن لتنالوا أنوار الملكوت ولتحيوا بفضل الله ولتنالوا حياة بنفثات الرّوح القدس. هذه وصيّتي وإنّي لأدعو من أجلكم حتّى ينزل الله عليكم ألطافه الّتي لا منتهى لها وإنّي لن أنسى محبّتكم أبدًا وقد ذكرت في رسائلي جميع ما قمتم به نحوي وسأذكركم.

 

تعاليم بهاء الله

الخطبة المباركة ألقيت في كنيسة الموحّدين في مونتريال – كندا
في 1 أيلول سنة 1912

هو الله 

لفد خلق الله تعالى الجميع من التّراب وخلق الكلّ من عنصر واحد ومن سلالة واحدة وعلى كرة أرضيّة واحدة، وخلق الجميع تحت ظلّ سماء واحدة وخلق الكلّ مشتركين في الإحساسات ولم يوجد بين الخليقة تفاوتًا فالكلّ متساوون وهو يرزق الجميع ويربّي الجميع ويحفظ الجميع وهو رؤوف بالجميع ولم يوجد أيّ فرق بين البشر في فضله ورحمته. وبعث الأنبياء وأرسل التّعاليم الإلهيّة للجميع وهذه التّعاليم الإلهيّة هي سبب الألفة بين البشر وسبب المحبّة بين القلوب. وأعلن وحدة العالم الإنسانيّ وهو يذمّ كلّ ما يمنع الاتّحاد ويمدح كلّ ما يسبب الاتّفاق والاتّحاد وهو يحثّ جميع البشر على اختلاف مراتبهم إلى الاتّحاد.
وقد بعث جميع أنبياء الله من أجل المحبّة بين البشر ونزّلت جميع الكتب الإلهيّة من أجل اتّحاد العالم الإنسانيّ، وكان جميع الأنبياء خادمين للحقيقة وتعاليمهم كلّها حقيقة، والحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد. لهذا فإنّ أساس الأديان الإلهيّة واحد.
ولكن برغم هذا فقد حلّت بينها التّقاليد ويا للأسف ولا صلة لها بأساس تعاليم الأنبياء. وحيث إنّ هذه التّقاليد مختلفة لهذا صارت سبب الاختلاف وحصل بين البشر نزاع وجدال وحلّ بينهم حرب وقتال حتّى صاروا يهدمون البنيان الإلهيّ ويقتل بعضهم بعضًا كالحيوانات المفترسة ويخرّب بعضهم بيوت البعض الآخر ويهدم بعضهم مملكة البعض الآخر.
وقد خلق الله الإنسان من أجل المحبّة وتجلّى بالمحبّة على العالم الإنسانيّ وكانت المحبّة سبب اتّحاد الكائنات وكان جميع الأنبياء مروّجين للمحبّة. والآن يقاوم الإنسان رضاء الله ويعمل بكلّ ما يخالف رضاء الله. لهذا لم يجد الرّاحة منذ بداية التّاريخ حتّى يومنا هذا. فكان دائمًا في حرب وقتال وكانت القلوب متنافرة بعضها من بعض وتعمل بكلّ ما يخالف الرّضاء الإلهيّ.
وكلّ الحروب الّتي وقعت وما سفك فيها من دماء كانت ناتجة إمّا من التّعصّب الدينيّ أو منبعثة من التّعصّب الجنسيّ، أو منبعثة من التّعصّب الوطنيّ أو من منبعثة من التّعصّب السّياسيّ. لهذا فالعالم الإنسانيّ في عذاب دائم وقد كان التّعصّب في الشّرق شديدًا جدًّا لأنّه لم تكن هناك حرّيّة وقد بلغ درجة تعذَّر فيها وجود الرّاحة فسيطرت ظلمة التّقاليد وعاشت جميع الطّوائف والأديان والأجناس في منتهى العداوة والنّزاع.
في هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله وتفضّل:
أوّلاً: بإعلان وحدة العالم الإنسانيّ وأنّ جميع الخلق عبيد الله وأنّ جميع الأديان في ظلّ رحمة الله، وأنَّ الله رؤوف بالجميع وهو يحبّ الجميع، وأنَّ جميع الأنبياء كانوا في منتهى الألفة في ما بينهم وأنّ الكتب السّماويّة يؤيّد بعضها بعضًا. ومع وجود هذا لماذا يجب أن يكون هناك بين البشر نزاع وجدال ما دام جميع البشر خلقًا لإله واحد وما داموا جميعًا أغنامًا في ظلّ راعٍ واحد، والرّاعي يرعى الجميع. إذن يتوجّب على الأغنام الإلهيّة أن تآلف بعضها بعضًا ولو افترقت واحدة منها فعلى الجميع أن تجلبها وتدلّها السّبيل وكلّ ما في الأمر أنّ البعض جهلاء تجب تربيتهم وناقصون يجب إكمالهم ومرضى يجب علاجهم وعمي يجب إبصارهم.
ثانيًا: أعلن حضرة بهاء الله أنّ الدّين يجب أن يكون سبب الألفة والمحبّة فإذا أصبح الدّين سبب العداوة فلا تكون نتيجة منه وفي هذه الحال يصبح عدم التّديّن أحسن لأنّ الدّين صار سبب العداوة والبغضاء، وكلّ ما يسبب العداوة مبغوض عند الله وكلّ ما يسبّب الألفة والمحبّة مقبول وممدوح لديه. وإذا صار الدّين سبب القتال والافتراس فإنّ ذلك ليس بدين وعدم التّدين خير منه لأنَّ الدّين بمثابة العلاج فإن أصبح العلاج سببًا لحدوث المرض فعدم العلاج خير منه. لهذا فإن أصبح الدّين سبب الحرب والقتال فلا شكّ أنّ عدم التّديّن أحسن.
ثالثًا: يجب أن يكون الدّين مطابقًا للعلم والعقل فإن لم يكن كذلك كان مجرد أوهام لأنَّ الله أعطى الإنسان عقلاً كي يدرك به حقائق الأشياء وكي يعبد الحقيقة فإذا أصبح الدّين مخالفًا
للعلم والعقل فمن المستحيل أن يكون سببًا لاطمئنان القلب وإذا لم يكن سببًا للاطمئنان كان مجرّد أوهام ولا يعود يسمّى دينًا. لهذا يجب توفيق المسائل الدّينيّة مع العقل والعلم كي يطمئنّ القلب ويكون الدّين سببًا لسعادة الإنسان.
رابعًا: إنّ التّعصّب الدّينيّ والتّعصّب المذهبيّ والتّعصب الوطنيّ والتّعصّب السّياسيّ كلّها هادمة للبنيان الإنسانيّ. فالأديان عبارة عن دين واحد لأنّ الأديان الإلهيّة هي الحقيقة. وقد نادى حضرة إبراهيم بالحقيقة وأعلن حضرة موسى الحقيقة وأسّس حضرة المسيح الحقيقة وروّج حضرة الرّسول الحقيقة. وكان جميع الأنبياء خدّامًا للحقيقة وكانوا كلّهم مؤسّسين للحقيقة وكانوا جميعًا مروّجين للحقيقة إذًا فالتّعصّب باطل لأنّ هذه التّعصّبات مخالفة للحقيقة. أمّا التّعصّب الجنسيّ فحيث إنّ جميع البشر من عائلة واحدة وعبيد لإله واحد وكلّهم من جنس واحد فلا تعدّد في الأجناس وما داموا جميعًا أولادا لآدم فإن تعدّد الأجناس أوهام فليس لدى الله إنكليزيّ ولا فرنسيّ ولا تركيّ ولا فارسيّ والجميع جنس واحد لدى الله. ولم يخلق الله هذه التّقسيمات بل خلقها البشر لهذا فهي مخالفة للحقيقة وباطلة. فكلّ واحد من البشر له عينان وآذنان ورأس واحد وقدمان وليس بين الحيوانات تعصّب جنسيّ وليس بين الطّيور هذا التّعصب فالحمامة الشّرقيّة تألف الحمامة الغربيّة والأغنام كلّها جنس واحد فلا يقول خروف لآخر أنت خروف شرقيّ وأنا غربيّ وأينما يكونون فإنّهم متآلفون. والحمامة الشّرقيّة إذا جاءت إلى الغرب فإنّها تتآلف تمامًا مع الحمامة الغربيّة ولا تقول للحمامة الغربيّة أنتِ غربيّة وأنا شرقيّة. إذًا فالشّيء الّذي لا يقبله الحيوان هل يليق بالإنسان أن يقبله؟
وأمّا التّعصّب الوطنيّ فإنّ وجه الأرض بأكمله كرة واحدة وأرض واحدة ووطن واحد. والله لم يقسّمها بل خلقها كلّها متساوية وليس لديه فرق فالتّقسيم الّذي لم يعمله الله كيف يجوز للإنسان أن يعمله؟ إنّ هذه جميعها أوهام. فأوروبّا قارّة واحدة وقد جئنا فعيّنّا خطوطًا وهمية وقرّرنا نهرًا واحدًا وقلنا إنّ هذه الضّفة فرنسا وتلك الضّفة ألمانيا والحال أنّ النّهر يعود للطّرفين، فأيّة أوهام هذه؟ وأيّة غفلة هذه؟ فالشّيء الّذي لم يخلقه الله نتخيّله ونجعله سبب النّزاع والقتال. إذن فجميع هذه التّعصّبات باطلة ومبغوضة لدى الله ولقد أوجد الله المحبّة والوحدة وأراد من عبيده الألفة والمحبّة وعنده العداوة مردودة والاتّحاد والألفة مقبولان.
خامسًا: ومن بين تعاليم حضرة بهاء الله أنّ جميع العالم يجب أن يكتسبوا المعارف حتّى يزول سوء التّفاهم بينهم ويتّحد جميع البشر ويزول سوء التّفاهم عن طريق نشر المعارف لهذا يجب على كلّ أب أن يربّي أولاده فإذا عجز عن ذلك في يوم من الأيّام توجّب على الهيئة الاجتماعية أن تساعده حتّى تعمّ المعارف ويزول سوء التّفاهم بين البشر.
سادسًا: إنّ النّساء كنّ أسيرات وقد أعلن حضرة بهاء الله وحدة حقوق الرّجال والنّساء وإنّ الرّجل والمرأة كليهما إنسانان وعبدان لإله واحد. وليس لدى الله ذكور وإناث بل كلّ من كان قلبه أطهر وعمله أحسن كان مقرّبًا أكثر لدى الله سواء أكان رجلاً أم امرأة وهذا التّفاوت المشهود الآن بين الرّجل والمرأة ناتج عن تفاوت التّربية لأنّ النّساء لا يربّين مثل الرّجال فإن ربّي النّساء والرّجال على حدّ سواء فإنّهم يتساوون في جميع المراتب لأنّهم كلّهم بشر ومشتركون في جميع المراتب ولم يجعل سبحانه وتعالى تفاوتًا بينهم.
سابعًا: وحدة اللّغات: يجب إيجاد لغة يتعلّمها جميع البشر ويحتاج كلّ إنسان إلى لغتين إحداهما لغة خصوصية والأخرى لغة عموميّة بها يعرف جميع البشر حديث بعضهم الآخر. وبهذا يزول سوء التّفاهم من بين الملل لأنّ الجميع يعبدون إلهًا واحدًا والكلّ عبيد لإله واحد وقد كان سوء التّفاهم سببًا لهذا الاختلاف فعندما يعرف بعضهم لغة البعض الآخر لا يبقى سوء التّفاهم ويتحابّ الجميع ويتآلفون ويتّحد الشّرق ويتّفق مع الغرب.
ثامنًا: إنّ العالم محتاج إلى الصّلح العموميّ وما لم يتمّ إعلان الصّلح العمومي لن يرتاح العالم ولا بدّ أن تشكّل الدّول والملل محكمة كبرى حتّى يرجعوا إليها في الاختلافات وتفصل تلك المحكمة في تلك الاختلافات وكما تفصل المحكمة في الاختلافات الّتي تحصل بين الأفراد وكذلك تفصل المحكمة الكبرى في اختلافات الدّول والملل حتّى لا يبقى مجال للحرب والقتال. وقد كتب حضرة بهاء الله قبل خمسين سنة إلى جميع الملوك وجميع هذه التّعاليم مدوّنة في ألواح الملوك وسائر الألواح وقد طبعت في الهند قبل أربعين سنة حتّى امّحى التّعصب من بين البشر. فالّذين اتّبعوا حضرة بهاء الله صاروا متّحدين في ما بينهم ومتآلفين. فإذا دخلت مجلسهم رأيت المسيحيّين واليهود والزرادشتيّين والمسلمين في منتهى الألفة والمحبّة وجميع نقاشهم يدور حول رفع سوء التّفاهم.
وخلاصة القول إنّني حينما جئت إلى أمريكا رأيت أهاليها محترمين جدًّا وحكومتها عادلة وشعبها نجيبًا جدًّا. وأرجو الله أن تكون هذه الدّولة العادلة وهذه الأمة المحترمة سببًا لإعلان الصّلح العموميّ ووحدة العالم الإنسانيّ وأن تصبح سببًا لألفة الملل، وأن تشعل مصباحًا ينير العالم وهو وحدة العالم الإنسانيّ والاتّحاد العمومي.
وأملي أن تصبحوا سببًا لارتفاع علم الصّلح العموميّ هنا وأعني أن تصبح الدّولة والأمة الأمريكيّة سببًا لراحة العالم الإنسانيّ ولكسب الرّضاء الإلهيّ وإحاطة الألطاف الإلهيّة بالشّرق والغرب.
يا إلهي الرّؤوف إنّ هذا الجمع متوجّه إليك ويناجيك بمنتهى التّضرّع وإنّه متبتّل إلى ملكوتك ويطلب منك العفو والغفران. فاجعل يا إلهي هذا الجمع محترمًا وقدّس هذه النّفوس واجعل أنوار الهداية ساطعة ونوّر القلوب، واجعل النّفوس مستبشرة، وأدخل الجميع في ملكوتك وأنل مرادهم في كلا العالمين. يا إلهي نحن أذلاّء فاجعلنا أعزّاء وعجزاء فأنعم علينا قدرة، ونحن فقراء اغننا من كنز الملكوت، ومرضى فأنعم علينا بالشّفاء. يا إلهي اهدنا إلى رضائك وقدّسنا عن شؤون النّفس والهوى واستقمنا يا إلهنا على محبّتك واجعلنا رؤوفين بجميع الخلق ووفّقنا على خدمة العالم الإنسانيّ حتّى نخدم جميع عبيدك ونحبّ جميع عبيدك ونحبّ جميع خلقك ونكون مشفقين بجميع البشر. إنّك أنت المقتدر الرّحيم وإنّك أنت الغفور العظيم.

 

عالم الطّبيعة ناقص

الخطبة المباركة ألقيت بمنزل السّيّد والسّيّدة
 مكسويل في مونتريال مساء 3 أيلول سنة 1912

هو الله

لقد جاءنا قبل ساعة شابّ وبحثنا معه موضوع هل أنّ الطّبيعة كاملة أم ناقصة، منيرة أم مظلمة، والآن أريد أن أكمل البحث في هذا الموضوع.
إنّ الطّبيعة من حيث المجموع هي العالم الجسمانيّ وإذا نظرنا إلى عالم الطّبيعة بالنّظر الدّقيق واطّلعنا على عمقها وأسرارها فإنّنا نلاحظ أنّ عالم الطّبيعة ناقص ومظلم. لاحظوا لو أنّنا تركنا أرضًا لتبقى على حالتها الطّبيعية فإنّها ستصبح منبتًا للأشواك والنّباتات غير النّافعة ولو تركنا المناطق الجبليّة على حالها فإنّها تنبت أشجارًا لا ثمرة فيها وتصبح غابات لا فائدة فيها ولا انتظام، إذًا فعالم الطّبيعة مظلم تجب إنارته وبماذا تتمّ إنارته؟ تتمّ إنارته بحرث تلك الأرض الّتي أنبتت بحكم الطّبيعة أشواكًا وأعشابًا غير نافعة وببذر البذور حتّى تنمو فيها أزهار معطّرة وتنبت حبوب وفيرة البركة الّتي هي رزق الإنسان. وهذه الغابات المتروكة على حالتها الطّبيعية المظلمة لا بركة فيها ولا خير فنقوم بتربيتها ونجعل الأشجار عديمة الأثمار مثمرة فتصبح بستانًا بعد أن كانت غابة وتغدو منتظمة بعد أن كانت متشابكة، ولقد كانت في البدء مظلمة فلمّا استحالت بستانًا أصبحت نورانيّة. وكذا الإنسان لو تركناه على طبيعته فإنّه يصبح أحطّ من الحيوان فيبقى جاهلاً بليدًا مثل أهالي أواسط أفريقيا. إذًا فكلّما أردنا أن نجعل هذا العالم المظلم نورانيًّا وجب علينا أن نربّيه فيكون المحروم من الأدب ذا أدب ويكون سيّئ الخلق طيّب الأخلاق، ولكنّنا لو تركناه على حالته الطّبيعية ولم نقم بتربيته فمن المؤكّد أنّه أسفل من الحيوان يقتل أبناء نوعه ويفترسهم ويأكلهم. إذًا اتّضح أنّنا لو تركنا الطّبيعة على حالها فإنّها تصبح مظلمة. ولهذا يجب أن نربّي الإنسان حتّى يصبح هذا الإنسان المظلم نورانيًّا ويصبح هذا الجاهل عالمًا ويصبح هذا المحروم من الأدب أديبًا ويصبح النّاقص كاملاً ويصبح سيّئ الأخلاق خلوقًا ويصبح هذا الحيوان إنسانًا. وممّا لا مِرية فيه أنّ الإنسان يكون بدون التّربية أحطّ من الحيوان. إذًا فقد اتّضح أنّ الطّبيعة ناقصة تلزمها التّربية لتصبح كاملة. يقول الفلاسفة اليوم جميعًا قولاً يلقونه على عواهنه وهو “إنّ عالم الطّبيعة كامل” غير ملتفتين إلى أنّه ناقص يجب بالتّربية إكماله، تُرى لماذا يربّون التّلاميذ في المدرسة ما دام عالم الطّبيعة كاملاً؟ فإن صحّ قولهم يجب أن يتركوا البشر وشأنهم حتّى يربّوا أنفسهم بأنفسهم. إنّ جميع هذه الاختراعات قد ظهرت بنتيجة التّربية لأنّ هذه الاختراعات لم تكن موجودة في عالم الطّبيعة، وهذه الاكتشافات إنّما حصلت من التّربية فالكهرباء والتّلفون والبرق والحاكي وسائر الاختراعات الحديثة إنّما ظهرت جميعها من التّربية، ولو لم ينل البشر التّربية وتركوا على حالتهم الطّبيعية لما ظهر أيّ واحد من هذه الاختراعات ولما كانت هذه المدنيّة والتّرقّيات في العالم الإنسانيّ. ترى ما الفرق بين الفيلسوف الكامل والشّخص الجاهل؟ الفرق هو أنّ الجاهل ترك ليبقى على حاله في حين أنّ الفيلسوف ربّي حتّى أصبح كاملاً وإلاّ فكلاهما بشر. من أجل هذا أرسل الله الأنبياء وأنزل الكتب السّماويّة ونفخ نفثات الرّوح القدس وفتح أبواب الملكوت وأبدع الإلهامات الغيبيّة. ولقد منح الخلق قوى عقلية حتّى تسدّ نقائص الطّبيعة فتكمّلها وحتّى تزول ظلمات رذائل الطّبيعة يزول جهل عالم الطّبيعة وتزول الأخلاق الذّميمة من عالم الطّبيعة ويزول ظلم عالم الطّبيعة. ولقد بعث الأنبياء من أجل هذا المقصد حتّى يربوا نفوس البشر تربية إلهيّة لتنجو من نواقص عالم الطّبيعة.
ومثل الأنبياء كمثل البستانيّ ومثل الخلق كمثل الأجمة أو الأرض البور فالأنبياء الّذين هم بستانيّون إلهيّون يربّون الأشجار الإنسانيّة ويقوّمون الأغصان المعوجّة ويحوّلون الأشجار عديمة الأثمار مثمرة ويقلّبون الغابة غير المنتظمة إلى بستان يبهج القلب. ولو كان عالم الطّبيعة منيرًا كاملاً لما كانت الحاجة ماسّة للتّربية ولما كانت المدارس والمعاهد ضروريّة ولما كانت هناك حاجة إلى الاختراعات لأنّ عالم الطّبيعة كامل ولما كان محتاجًا إلى الأنبياء ولا إلى معلّم ولا إلى كتب ولا إلى إله لأنّ عالم الطّبيعة كامل. وإنّ كلّ هذه الأمور وجدت لأنّ عالم الطّبيعة ناقص. فهذه القارّة الأمريكيّة ماذا كانت؟ لقد كانت غابة وكانت أرضًا خالية وذلك من مقتضيات الطّبيعة فما الّذي عمّرها؟ لقد عمّرتها العقول الإنسانيّة إذًا فالطّبيعة ناقصة وقامت العقول الإنسانيّة فأكملت هذه النّواقص فبعد أن كانت أرضًا جرداء وغابة أصبحت الآن مدنًا عامرة وقبل أن يأتي كولومبس ماذا كانت أمريكا؟ لقد كانت مثالاً لعالم الطّبيعة أمّا الآن فقد أصبحت مثالاً لعالم الإنسان ولو كان عالم الطّبيعة كاملاً لوجب أن تبقى القارّة كما كانت فانظروا الآن إنّها كانت في أوّل الأمر مظلمة وأصبحت الآن منيرة وكانت خربة فأصبحت عامرة وكانت غابة فأصبحت بستانًا وكانت منبت أشواك فأصبحت حديقة أزهار. إذًا ثبت أنّ عالم الطّبيعة ناقص ومظلم ولو ولد طفل وما قمنا بتربيته وتركناه على حالته الطّبيعية
فماذا تكون النّتيجة لا شكّ أنّه سيبقى جاهلاً لا إدراك له وسيصبح حيوانًا. لاحظوا أواسط أفريقيا تجدوا أهليها مثل الحيوانات بل وأحطّ من الحيوانات. من هذا نلاحظ ماذا عملت التّربية الإلهيّة في العالم الإنسانيّ. إنّ عالم الطّبيعة هو عالم الحيوان والحيوان باقٍ على حالته الطّبيعية والحيوانات الوحشيّة لا الأهليّة باقية في الصّحارى والغابات على حالتها الطّبيعية وكلّها في عالم الطّبيعة. وليس هناك تعليم وتربية في عالم الحيوان وليس في عالم الحيوان خبر عن عالم الرّوح والحيوان لا خبر عنده عن الله والحيوان لا خبر له مطلقًا عن العقل الإنسانيّ ولا خبر عنده عن القوّة الرّوحانيّة الإنسانيّة والحيوان يتصوّر الإنسان شبيهًا له ولا يرى امتيازًا بينهما، لماذا؟ لأنه باقٍ على حالته الطّبيعية وجميع الحيوانات طبيعيّة وجميع المادّيّين مثل الحيوانات لهم إحساسات جسمانيّة وليست لهم إحساسات روحانيّة فهم منكرون لوجود الله لا يعرفون شيئًا عن الله ولا خبر لهم عن الأنبياء ولا خبر لهم عن الجنّة الإلهيّة، وجميع الحيوانات كذلك لا خبر لها عن التّعاليم الإلهيّة وجميع الحيوانات أسرى المحسوسات. والواقع أنّ شبيه الفلاسفة في هذا اليوم هو الحيوانات فكما أنّ هؤلاء الفلاسفة لا خبر لهم عن الأنبياء ولا عن الإحساسات الرّوحانيّة ولا عن فيض الرّوح القدس ولا عمّا وراء الطّبيعة فكذلك كلّ حيوان حائز على هذه الكمالات بدون عناء. والفلاسفة بعد دراسة عشرين سنة ينكرون الله وينكرون القوى الرّوحانيّة والإلهامات الإلهيّة في حين أنّ الحيوان بدون عناء فيلسوف كامل مثل حضرة الثّور لا خبر عنده عن كلّ شيء فلا خبر عنده عن الله ولا خبر عنده عن الإحساسات الرّوحانيّة وجميع الحيوانات لا خبر لها عن الرّوح وهؤلاء الفلاسفة لا خبر عندهم عن أيّ شيء غير المحسوسات وهم كالحيوانات، ومع هذا فإنّهم يقولون إنّنا فلاسفة لأنّنا لا نعلم غير المحسوسات. والحال أنّ حضرة الثّور عنده هذه الفضيلة بجميع أوصافها بدون اكتساب للعلوم. ليس هذا فخرًا إنّما الفخر أن يطّلع الإنسان على الإحساسات الرّوحانيّة وأن يتنسّم أخبار ما وراء الطّبيعة وأن يستفيض من نفثات الرّوح القدس ويجب أن يكون فخر الإنسان في اطّلاعه على التّعاليم الإلهيّة، وما عدا هذا فعدم الاطلاع ليس بفخر إنّما هو جهل. وهل من الممكن أن تطّلع النّفوس الّتي هي أسفل درجة الجهل على الكمالات الإلهيّة وأن تطّلع على الحقيقة وأن تنال علمًا بحضرة المسيح وجميع المظاهر المقدّسة؟ وهل من الممكن أن تكون إدراكات هذه النّفوس أعظم من إدراك المظاهر المقدّسة؟ لقد كان حضرة المسيح إلهيًّا سماويًّا ملكوتيًّا روحانيًّا ولا شكّ أنّه يفهم أحسن من فهم هؤلاء الفلاسفة فقد كان عقله أكبر وإدراكه أوسع وقواه أعلى وشعوره أسمى. إذًا فكيف صرف حضرته النّظر عن كلّ شيء وعن هذه الحياة الجسمانيّة وعن الرّاحة والنّعمة وقبل جميع البلايا وتحمل جميع الرّزايا؟ لماذا؟ لأنّه كان ذا إحساسات روحانيّة وكان ذا قوّة من الرّوح القدس. كان يشاهد الملكوت وكانت له فيوضات إلهيّة وكانت له قوى معنويّة وكانت له روحانيّة محضة وكذا كان جميع المظاهر المقدّسة الإلهيّة.

 

وحدة العالم الإنسانيّ

الخطبة المباركة في جامعة ستانفورد – كاليفورنيا
 في 8 تشرين الأوّل سنة 1912

هو الله 

العلم أعظم منقبة في العالم الإنسانيّ لأنّه يكشف حقائق الأشياء وحيث إنّني أجد نفسي اليوم في مركز العلم في هذه الكلّيّة الّتي طبّقت شهرتها الآفاق لهذا فإنّني مسرور جدًّا.
إنّ أشرف مجمع ينعقد في العالم هو مجمع العلماء وأشرف مركز في العالم الإنسانيّ هو مركز العلوم والفنون.
إنّ العلم هو سبب نورانيّة العالم، والعلم سبب الرّاحة والاطمئنان، والعلم سبب عزّة العالم الإنسانيّ. ولو أمعنتم النّظر لو وجدتم أنّ دولة العلم أعظم من دولة الملوك إذ إنّ سلطنة الملوك تنهدم ويخلع القياصرة والأباطرة وتنقلب سلطنتهم رأسًا على عقب أمّا سلطنة العلم فهي أبديّة وسرمديّة ولا انقراض لها. لاحظوا الفلاسفة القدامى كيف دامت سلطنتهم في حين انقرضت سلطنة الرّومان مع عظمتها وانقرضت سلطنة اليونان مع عظمتها وانقرضت سلطنة الشّرق برغم عظمتها لكنّ سلطنة أفلاطون ظلّت باقية وسلطنة أرسطو باقية وذكرهم باقٍ حتّى الآن في جميع الكلّيّات والمجامع العلميّة في حين أنّ ذكر الملوك قد أصبح نسيًا منسيًّا بصورة تامّة. إذن فسلطنة العلم أعظم من سلطنة الملوك. فالملوك يسخِّرون الممالك بسفك الدّماء لكنّ الإنسان العالم يفتح ممالك القلوب بعلمه ويضعها تحت تصرّفه وهكذا تصير سلطنته أبديّة من هذه النّاحية. وحيث إنّ هذا المكان هو مركز العلوم والفنون فإنّني مسرور جدًّا لحضوري إلى هذا المركز وأرجو التّأييدات والتّوفيقات الإلهيّة حتّى تصلوا في العلوم والفنون إلى منتهى الدّرجات وتشرقوا كالمصابيح المنيرة في مجمع العالم الإنسانيّ.
إنّ أعظم تعاليم حضرة بهاء الله هو وحدة العالم الإنسانيّ لهذا فإنّني أريد أن اتّحدث حول وحدة الكائنات وهذه المسألة من المسائل الفلسفيّة الإلهيّة.
من الواضح أنّ جميع الموجودات شيء واحد وكلّ كائن من الكائنات عبارة عن جميع الكائنات يعني أن كلّ شيء في كلّ شيء. لاحظوا أنّ الكائنات تكونت من الجزيئات الفرديّة وهذه الجزيئات الفرديّة تسير في جميع مراتب الوجود. فمثلاً كلّ ذرّة من الذّرّات الفردية الموجودة في هيكل الإنسان كانت في وقت من الأوقات في عالم النّبات وفي وقت من الأوقات في عالم الحيوان وفي وقت من الأوقات في عالم الجماد فهي على الدّوام تنتقل من حال إلى حال ومن صورة إلى صورة ومن كائن إلى كائن آخر في صور لا تتناهى في الطّول والعرض ولها في كلّ صورة كمال. وحركة الكائنات هذه مستمرّة. لهذا فإنّ كلّ كائن عبارة عن جميع الكائنات وغاية ما في الأمر أنه يقتضي امتداد مدّة حتّى يطوي هذا الجوهر الفرد الموجود في جسم الإنسان جميع مراتب الوجود ففي وقت من الأوقات كان ترابًا وكانت له انتقالات في الصّور الجماديّة وبعد ذلك انتقل إلى عالم النّبات وكانت له انتقالات في الصّور النّباتية وبعد ذلك انتقل في الصّور الحيوانيّة والآن جاء إلى العالم الإنسانيّ ليسير في المراتب الإنسانيّة ثمّ يعود بعد ذلك إلى عالم الجماد وعلى نفس التّرتيب يسير في جميع المراتب، ويتجلّى في صور كائنات لا تتناهى ويكون له كمال في كلّ صورة من الصّور. فقد كانت له كمالات جماديّة في عالم الجماد. وفي عالم النّبات كانت له كمالات نباتيّة. وفي عالم الحيوان كانت له كمالات حيوانيّة وله في عالم الإنسان كمالات إنسانيّة. إذن فقد اتضح أن كلّ جوهر فرد من الكائنات له انتقالات في صور لا تتناهى وفي كلّ صورة لا تتناهى وفي كلّ صورة يتجلّى له كمال من الكمالات ومن هذا يتّضح أنّ الكائنات كلّها واحد وأنّ عالم الوجود واحد. فلمّا كانت في عالم الوجود وحدة كهذه يا ترى أيّة وحدة تكون في عالم الإنسان؟ فمن الواضح بالبرهان أنّ هناك وحدة في الوحدة وأنّ الوحدة هي مبدأ الوجود ومنتهاه.
وهل يجوز مع وحدة العالم الإنسانيّ ووحدة جميع الكائنات أن يكون هناك نزاع وجدال في هذا العالم؟ ومع أنّ الإنسان أشرف الكائنات لأنّ الجسم الإنسانيّ له الكمالات الجماديّة وله الكمالات النّباتية ففيه قوّة النّمو وله الكمالات الحيوانيّة ففيه قوى الإحساس وله الكمالات الإنسانيّة ففيه العقل السّليم برغم وجود هذه الوحدة العظيمة فهل يجوز أن يتنازع
ويتجادل؟ وهل يجوز أن يتحارب ويتقاتل؟ وجميع الكائنات في صلح بعضها مع البعض الآخر وجميع العناصر في صلح بعضها مع البعض الآخر والإنسان الّذي هو أشرف الكائنات هل يجوز أن يكون في نزاع وجدال؟ أستغفر الله.
لاحظوا أنّ هذه العناصر عندما تلتئم في ما بينها تكوّن الحياة واللّطافة والنّورانيّة والرّاحة والاطمئنان وأنّ هذه الكائنات الّتي ترونها تعيش كلّها في صلح مع بعضها البعض فالشّمس والأرض في صلح والماء والتّراب في صلح والعناصر في صلح مع بعضها البعض لأنّ أقلّ مصادمة تحصل تحدث زلزلة مثل زلزلة سان فرانسيسكو وأنّ أقلّ مصادمة تحصل يحدث نتيجتها حريق عموميّ وتحصل جميع هذه الأضرار. هذه هي الحال في عالم الجماد إذن بعد ذلك لاحظوا كم من البلايا تحصل نتيجة المصادمة في العالم الإنسانيّ؟ خاصّة وأنّ الله قد خصَّ الإنسان بالعقل وهذا العقل هو أشرف الكائنات وهو في الحقيقة قوّة من قوى التّجلّيات الإلهيّة وهذا شيء ظاهر مشهود.
لاحظوا مثلاً أنّ جميع الكائنات أسيرة للطّبيعة وجميعها خاضعة لقانون الطّبيعة لا تتجاوز هذا القانون قيد شعرة فمثلاً هذه الشّمس مع عظمتها أسيرة للطّبيعة لا تستطيع تجاوز قانون الطّبيعة وكذلك الأمر في الأجرام العظيمة في هذا الفضاء الّذي لا يتناهى فكلّها أسيرة للطّبيعة ولا تستطيع أن تتجاوز قانون الطّبيعة. والكرة الأرضيّة أيضًا أسيرة لقانون الطّبيعة. وجميع الأشجار والنّباتات أسيرة للطّبيعة وكذلك جميع الحيوانات. فالفيل برغم عظمته وقوّته لا يستطيع أن يتجاوز قانون الطّبيعة. لكنّ الإنسان بحجمه الصغير وجسمه الضّعيف يستطيع أن يكسر قانون الطّبيعة ويقلّبها لأنّه مؤيّد بالعقل الّذي هو من التّجلّيات الإلهيّة فبموجب قانون الطّبيعة نرى الإنسان ذا روح ترابيّ لكنّه يكسر هذا القانون ويصير طائرًا يطير في الهواء ويصير سمكة تسير تحت سطح الماء ويبني سفينة يتسابق بها فوق سطح الماء. وجميع هذه العلوم والفنون الّتي عندكم والّتي تدرسونها في الجامعات كانت كلّها أسرارًا للطّبيعة ويفترض أن تبقى أسرارًا بمقتضى قانون الطّبيعة. لكنّ عقل الإنسان كسر هذا القانون وكشف حقائق الأشياء ونقلها من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود فظهرت هذه العلوم، وهذا شيء يخالف قانون الطّبيعة. فمثلاً القوّة الكهربائيّة سرّ من أسرار الطّبيعة المكنونة يجب أن تبقى خفيّة لكنّ عقل الإنسان كشفها وكسر قانون الطّبيعة وجاء بها من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود وحبس هذه القوّة العاصية داخل زجاجة وهذا شيء خارق للعادة ومخالف للطّبيعة، وهو يخابر من الغرب إلى الشّرق بدقيقة واحدة وهذه معجزة. ويأخذ الإنسان الصّوت ويحبسه في مسجّل الصّوت مع أنّ الصّوت يجب أن يبقى حرًّا لأنّ قانون الطّبيعة يقتضي هذا، وعلى هذا النّحو سائر الاكتشافات فإنّ جميعها أسرار للطّبيعة ويجب أن تكون بمقتضى قانون الطّبيعة مستورة. لكنّ عقل الإنسان الّذي هو أعظم تجلِّ إلهيّ يكسر قانون الطّبيعة هذا ويخرج دومًا هذه الأسرار الطّبيعية من أجهزة الطّبيعة نفسها.
وإذا كنّا نمتلك قوّة إلهيّة كهذه فهل يجوز أن نكون كالحيوانات المفترسة، وكالذّئاب يمزّق بعضنا بعضًا ونصرخ وندعو إلى القتل والتّنكيل؟ فهل يليق هذا بمقام العالم الإنسانيّ؟
فلو أنّ حيوانًا يفترس فإنّه يفعل ذلك من أجل طعامه ولا عقل له ليفرّق به بين الظّلم والعدل وليست له قوّة مميزة. أمّا الإنسان فإنّه حينما يفترس فهو لا يفترس من أجل طعامه بل بسبب طمعه وجشعه. فهل يليق الآن بمثل هذا الوجود الشّريف أي الإنسان المستفيض من العقل وذي الأفكار العالية كهذه الأفكار والمحيط بهذه العلوم والفنون وبهذه الاختراعات العظيمة وبهذه الآثار العقلية وبهذه الإدراكات جميعها وبكلّ هذه الاكتشافات أن يدخل ميدان الحرب مرّة أخرى ويسفك بعضه دم البعض الآخر؟ والحقيقة أنّ الإنسان بنيان إلهيّ وليس
بنيانًا بشريًّا فلو أنّكم هدمتم بناءً بشريًّا فلا شكّ أنّ صاحب البناء يتكدّر، كيف بالإنسان الّذي هو بناء إلهيّ إذا هدم؟ فلا شكّ أنّ هذا يكون سببًا للغضب الإلهيّ.
ولقد خلق الله الإنسان شريفًا وفضّله على جميع الكائنات واختصّه بمواهب كلّيّة فأعطاه العقل وأعطاه الإدراك وأعطاه قوّة الحافظة وأعطاه قوّة التّخيل وأعطاه الحواس الخمس الظّاهريّة وأعطاه جميع هذه المواهب العظيمة وجعله مصدرًا للفضائل كي يسطع كالشّمس ويكون سببًا للحياة وسببًا للعمران ونحن الآن نغضّ الطّرف عن جميع هذه المواهب ونخرّب هذا البناء الإلهيّ ونقوّض هذا التّأسيس الإلهيّ من أساسه. والحال أنّنا لسنا أسرى الطّبيعة بل نحن الّذين نأسر أنفسنا ونتحرّك بمقتضى الطّبيعة.
ففي الطّبيعة نزاع على البقاء فإذا لم يُربَّ الإنسان فإنّ النّزاع والجدال من مقتضيات الطّبيعة. وكلّ هذه المدارس وكلّ هذه الكلّيّات لماذا تأسّست؟ لقد تأسّست من أجل أن ينجو الإنسان من مقتضى الطّبيعة وأن يتخلّص من نقائص الطّبيعة وأن ينال الكمالات المعنويّة.
لاحظوا لو أنّنا تركنا هذه الأرض على حالتها الطّبيعية فإنّها تصبح منبتًا للأشواك وتنمو فيها أعشاب غير نافعة أمّا عندما نربّيها فإنّها تصبح أرضًا طيّبة وتحصل على فيض وبركة عظيمة. وإذا تركتم هذه الجبال على حالتها الطّبيعية فإنّها تصبح غابة ولا تنمو فيها أبدًا شجرة مثمرة أمّا حين تربّى فإنّها تصير بستانًا وتعطي غلَّة وتعطي ثمرًا وتنتج منها أنواع الأزهار والرّياحين.
إذن فلا يليق بالعالم الإنسانيّ أن يصبح أسيرًا للطّبيعة ولهذا فهو محتاج إلى التّربية وبصورة خاصّة إلى التّربية الإلهيّة.
إنّ المظاهر المقدّسة الإلهيّة كانوا مربّين وكانوا بستانيّين إلهيّين حتّى يجعلوا هذه الغابات الطّبيعية بساتين مثمرة، ويحوّلوا منابت الأشواك هذه إلى حدائق أزهار. إذًا فما هو واجب الإنسان؟ واجب الإنسان هو أن ينجي نفسه من نقائص الطّبيعة تحت ظلّ المربّي الحقيقيّ وأن يتّصف بالفضائل المعنويّة.
فهل يجوز لنا أن نجعل هذه المواهب الإلهيّة وهذه الفضائل المعنويّة فداءً للطّبيعة؟ والحال أنّ الله تعالى أعطانا قوّة لنكسر بها قوانين الطّبيعة ولنأخذ السّيف من يد الطّبيعة وننهال به على هامة رأسها. فهل يجوز أن نجعل أنفسنا أسرى للطّبيعة ونسير على مقتضى التّنازع على البقاء الّذي هو من الانبعاثات الطّبيعية فيمزّق بعضنا بعضًا كالحيوانات المفترسة ونعيش حياة لا يختلف فيها الإنسان عن الحيوان؟
في الحقيقة ليست هناك حياة أسوأ من هذه الحياة وليس هناك تحقير للعالم الإنسانيّ أسوأ من هذ التّحقير. وليس للعالم الإنسانيّ وحشيّة أسوأ من وحشيّة الحرب لأنّها سبب الغضب الإلهيّ وسبب هدم البنيان الرّحمانيّ.
الحمد لله إنّني أجد نفسي اليوم في مجمع كلّهم يرجون الصّلح ومقاصد جميعهم انتشار الصّلح العموميّ وجميع أفكارهم وحدة العالم الإنسانيّ وجميعهم خادمون للنّوع البشريّ وإنّي أرجو الله أن يؤيّدكم ويوفّقكم كي يصبح كلّ واحد منكم علامة عصره وسببًا في نشر العلوم وسببًا في إعلان الصّلح العمومي وسببًا في ارتباط القلوب.
ولقد أعلن حضرة بهاء الله قبل خمسين سنة مبدأ الصّلح العموميّ بين الدّول وأعلن الصّلح العموميّ بين الملل وأعلن الصّلح العموميّ بين الأديان وأعلن الصّلح العموميّ بين الأوطان وتفضّل قائلاً إنّ أساس الأديان واحد وجميع الأديان أساسها الألفة والوئام وإنّما الاختلاف في التّقاليد ولا دخل لهذه التّقاليد في التّعاليم الإلهيّة. وحيث إنّ التّقاليد مختلفة فقد أصبحت سببًا للنّزاع والقتال. أمّا لو جرى تحرٍّ للحقيقة فإنّ جميع الأديان تتّحد وتتّفق.
ويتفضّل أنّ الدّين يجب أن يكون سبب الألفة والاتّحاد وسبب الارتباط بين قلوب البشر. فإذا أصبح الدّين سبب النّزاع والجدال فلا شكّ أنّ عدم التّدين أحسن لأنّ عدم الشّيء المضرّ أحسن من وجوده. وإنّ الدّين علاج إلهيّ وهو دواء لكلّ مرض من أمراض النّوع الإنسانيّ وهو مرهم لكلّ جرح أمّا إذا أُسيء استعماله وأصبح سببًا للحرب والجدال وعلّة لسفك الدّماء فلا شكّ أنّ عدمه خير من وجوده.
وكذلك صرّح حضرة بهاء الله بضرورة الصّلح العموميّ بين الدّول والملل وبيّن مضار الحرب لأنّ النّوع الإنسانيّ أمّة واحدة والجميع سلالة آدم وآدم واحد والجميع أبناء أب واحد وأفراد عائلة واحدة وغاية ما في الأمر أنّها عائلة كبيرة. ولو أمكن تصوّر وجود أجناس مختلفة في عائلة واحدة لأمكن القول بجواز الاختلاف والنّزاع ولكن ما دام الجميع أفراد عائلة واحدة فإنّهم لا يمكن أن يكونوا أجناسًا مختلفة. لهذا فإنّ التّمييز كقولنا هؤلاء إيطاليّون أولئك ألمان وهؤلاء إنكليز والآخرون روس وهؤلاء إيرانيّون والآخرون أمريكيّون – إنّما هو مجرد أوهام. فالجميع بشر وكلّهم خلق الله وكلّهم سلالة واحدة وكلّهم أولاد آدم واحد وهذه الاصطلاحات والتّعابير وهميّة.
أمّا بالنّسبة للتّعصّبات الوطنيّة فإنّ الكرة الأرضيّة موطن لكلّ إنسان وهي موطن واحد لا مواطن متعدّدة وهي وطن واحد للنّوع الإنسانيّ أمّا الحدود الوهميّة الّتي لا أساس لها فقد اخترعها بعض المستبدّين في القرون الماضية وبها أحلّوا الحرب والقتال بين البشر وكان هدفهم الشّهرة واغتصاب الممالك ولهذا خلقوا إحساسات حبّ الوطن لترويج مقاصدهم الشّخصيّة وكانوا هم يعيشون في القصور العالية ويصيبون نصيبًا موفورًا من كلّ نعمة فيأكلون أغذية لذيذة وينامون في فرش منضودة من الرّيش ويسيرون ويتنزّهون في الحدائق الملكيّة وعندما كان يصيبهم السّأم كانوا يرقصون في صالات الرّقص مع النّساء الجميلات كالأقمار ويصغون إلى الموسيقى السّاحرة ولكنّهم يقولون لهؤلاء الكادحين ولهؤلاء الرّعايا ولهؤلاء المساكين ولهؤلاء الفلاحين اذهبوا إلى ميدان الحرب ليسفك بعضكم دماء البعض الآخر وليهدم بعضكم بيوت البعض الآخر فأنتم الجنود ونحن أصحاب الرّتب والمناصب والرّؤساء والقادة. ويقول البعض لماذا تخرّبون مملكتنا؟ فيجيبهم البعض الآخر: لأنّكم أنتم ألمان ونحن فرنسيّون. لكنّ مؤسّسي كلّ هذه الحروب مشغولون بالأفراح في قصورهم لا ينفكّون عن سرورهم وفرحهم. أمّا دماء هؤلاء المساكين فلماذا تُسفك؟ إنّها تُسفك من أجل الأفكار الوهميّة في أنّ هذه أمّة فرنسيّة وتلك أمّة ألمانيّة في حين أنّ الاثنين بشر وأفراد عائلة واحدة وكلاهما أمّة واحدة ويجعلون اسم الوطن سببًا في هذا السّفك للدِّماء والحقيقة أنّ هذه الكرة الأرضيّة وطن واحد.
إذن يجب أن يتحقّق الصّلح في جميع الأوطان. فلقد خلق الله كرة أرضيّة واحدة وخلق نوعًا إنسانيًّا واحدًا وهذه الكرة الأرضيّة موطن للجميع. ونحن جئنا ففرضنا حدودًا وهميّة مع أنّ هذه الحدود وهم من الأوهام. فقلنا إنّ أحدهما ألمانيا والآخر فرنسا وشرعنا نحارب بعضنا البعض الاخر قائلين إنّ هذا هو الوطن الألمانيّ المقدّس وهو يستحقّ العبادة ويستحقّ الحماية ولكنّ تلك القطعة غير صالحة يجب قتل أهلها ونهب أموالها وأسر أطفالها ونسائها. فلماذا
يسفك الإنسان الدّماء من أجل هذه الخطوط الوهميّة ويقتل أبناء نوعه من أجل ماذا؟ من أجل محبّة هذا التّراب الأسود. في حين أنّ الإنسان يعيش بضعة أيّام فوق هذه الأرض وبعد ذلك تصبح هذه الأرض قبرًا أبديًّا له.
فهل يليق أن نسفك كلّ هذه الدّماء من أجل هذا القبر الأبديّ؟ سوف يخفي هذا التّراب أجسامنا في جوفه إلى الأبد وهذا التّراب قبرنا فلماذا نتحارب ونتعارك من أجل هذا القبر الأبديّ؟ أيّة جهالة هذه؟ وأيّة ضلالة هذه؟ وأيّة غباوة هذه؟
أملي أن تعيش جميع الملل في منتهى المحبّة والألفة مثل عائلة واحدة كإخوان وأخوات لأمّهات وآباء، واحدة في صلح وسعادة.

 

وصاياي لكم

الخطبة المباركة ألقيت في نيويورك في يوم 5 كانون الأوّل 1912

هو الله

هذا هو اليوم الأخير. وهذا هو اللّقاء الأخير. وبعد هذا سنركب الباخرة ونذهب. وهذه آخر وصاياي لكم.

لقد تحدّثت إليكم مرارًا ودعوتكم إلى وحدة العالم الإنسانيّ وإلى اعتبار جميع البشر عباد الله. والله رؤوف بالجميع. يرزق الكلّ ويهب الحياة للكلّ، وفي محضر الرّبوبيّة كلّ عبيد له وهو يمنح لهم فيوضاته الإلهيّة بالتّساوي ولهذا يجب أن نكون نحن في منتهى الشّفقة مع جميع ملل العالم وأن ننسى هذه التّعصّبات الدّينيّة والجنسيّة والتّعصّبات الوطنيّة والسّياسيّة. فهذه الأرض كرة واحدة وجميع الأمم سلالة واحدة والكلّ عبيد إله واحد. إذن فكلّ نفس تسبّب الكدر للآخرين تعتبر عند الله من الخطاة. والله يريد السّرور للجميع حتّى يعيش كلّ فرد من الأفراد في منتهى السّعادة وحتّى يتبرّأوا من الاختلافات والتّعصّبات الدّينيّة والمذهبيّة والتّعصّبات الجنسيّة والسّياسيّة والوطنيّة ويجتنبوها. وأنتم ولله الحمد قد أبصرت عيونكم وأصبحت آذانكم صاغية ووعت قلوبكم فيجب عليكم بعد الآن أن لا تنظروا إلى التّعصّبات والاختلافات بل تنظروا إلى الألطاف الإلهيّة فالله هو الرّاعي الحقيقيّ وهو رؤوف بجميع أغنامه. ومع أنّ الله رؤوف بالجميع فهل يجوز لنا نحن عبيده أن يكون بعضنا في حرب وخصام مع البعض الآخر؟ لا والله. بل يجب أن نشكر الألطاف الإلهيّة وأن يألف بعضنا بعضًا ويلتئم بعضنا مع بعض وأن نحبّ العموم ونرأف بهم.
وخلاصة القول إيّاكم أن تُحزنوا قلب أحد أو تغتابوا أحدًا وكونوا مع جميع الخلق متّحدين واعتبروهم أقرباءكم وليكن مقصدكم دائمًا أن تُفرحوا قلبًا وتطعموا جائعًا وتكسوا عاريًا وتعزّوا ذليلاً وتكونوا فرجًا للمساكين وملجأ ومأوى للمضطرّين. هذا هو الرّضاء الإلهيّ وهذه هي السّعادة الأبديّة وهذه هي نورانيّة العالم الإنسانيّ. وحيث إنّني أريد لكم العزّة الأبديّة لهذا أنصحكم بمثل هذه النّصيحة.
أنتم تشاهدون ما يجري في البلقان وكم من الدّماء تسفك وكم من الأطفال يتيتّمون. وكم من الأموال تنهب وكم من النّيران تشعل. ومع أنّ الله خلق هؤلاء للمحبّة فإنّهم يسفكون دماء بعضهم البعض. وقد خلق الله هؤلاء من أجل أن يتعاونوا ويتعاضدوا لكنّهم الآن ينهب
بعضهم بعضًا ويهجم بعضهم على بعض، وبدل أن يكونوا سبب راحة البشر يؤذي بعضهم بعضًا.
فأنتم إذًا يجب أن تظهروا همّة عالية وتجهدوا بقلوبكم وأرواحكم لعلّ أن تسطع نورانيّة الصّلح العموميّ وتزول ظلمة التّجانب هذه ويصبح جميع البشر عائلة واحدة ويرجو كلّ فرد الخير للعموم ويتعاون الشّرق والغرب ويساعد الغرب الشّرق لأنّ الكرة الأرضيّة وطن واحد والنّوع الإنسانيّ تحت فيض وحماية راعٍ واحد.
لاحظوا أيّة بلايا ومشاق تحمَّلها أنبياء الله من أجل أن يحبّ البشر بعضهم بعضًا وأن يتشبّثوا بحبل الألفة والاتّفاق حتّى إنّ هذه النّفوس المقدّسة فدت حياتها من أجل ذلك.
فانظروا ما أشدّ غفلة الخلق فهم مع كلّ هذه المشاق لا يزالون في حرب وخصام. ومع كلّ هذ النّصائح لا يزالون في حرب وخصام. ومع كلّ هذه النّصائح لا يزالون يسفك بعضهم دم بعضهم الآخر. فما أجهلهم! وما أشدّهم غفلة وظلمة!
فعندهم إله بمثل هذه الشّفقة يعامل الجميع بالتّساوي ومع هذا فإنّهم يسلكون خلاف الرّضاء الإلهي وهو رؤوف لطيف بالجميع وهؤلاء في منتهى العداوة الطّغيان، وهو يهب الحياة للجميع وهؤلاء يسبّبون الممات، وهو يعمّر الممالك وهؤلاء يطمر بعضهم بيوت البعض الآخر. لاحظوا ما أغفلهم!
والآن بقي واجب آخر عليكم حيث إنّكم اطّلعتم على الأسرار الإلهيّة ولكم عين بصيرة وأذن صاغية. لهذا يجب عليكم أن تعاملوا العموم بمنتهى الرّأفة وليس لكم أيّ عذر أبدًا لأنّكم عرفتم أنّ الرّضاء الإلهيّ هو في الخير والصّلاح للعموم وسمعتم نصائح الحقّ واستمعتم إلى البيانات والتّعاليم الإلهيّة. فعليكم أن تعاملوا بالمحبّة حتّى مع الأعداء وترجوا الخير لمن يريد لكم سوءًا وأن تصادقوا من يخالفكم واعملوا بموجب هذه التّعاليم آملين أن تزول ظلمات الحرب والخصام وتنجلي النّورانيّة الإلهيّة ليتنوّر الشّرق ويتعطّر الغرب ويعانق الجنوب الشّمال وتعاشر أمم العالم بعضها بعضًا بمنتهى المحبّة والألفة. وما لم يبلغوا هذا المقام لن يجد العالم الإنسانيّ الرّاحة ولن يحصل على السّعادة الأبديّة. فإن عملوا بموجب هذه التّعاليم المقدّسة فإنّ عالم النّاسوت يصبح مرآة الملكوت ويصبح سطح الغبراء الجنّة الأبهى وغبطة للفردوس الأعلى.
وأتمنّى أن تتوفّقوا إلى العمل بالتّعاليم حتّى تنيروا العالم الإنسانيّ كالسّراج وحتّى تصبحوا كالرّوح تحرّك جسد عالم الإمكان. هذه هي العزّة الأبديّة. هذه هي الصّورة والمثال الإلهيّ الّتي أوصيكم بها وأملي أن تتوفّقوا إلى ذلك

 

مجيء السّيّد المسيح

الخطبة المباركة ألقيت في منزل اللّيدي بلومفيلد في لندن
 في23 كانون الأوّل سنة 1912

هو الله 

حضرت ليلة أمس تمثيليّة ولادة حضرة المسيح وكانت التّمثيليّة في الحقيقة في منتهى الإتقان ولكنّها كانت سببًا للعبرة والموعظة بحيث ظنّ هذا الجمع جميعًا أنّهم منتظرون مجيء المسيح وأنّهم يعرفونه.
لكنّ حضرة المسيح حينما جاء بقي غريبًا ووحيدًا وفريدًا وجاء ولم ينتبه أحد لمجيئه وظلّ النّاس يتحرّون عن مجيء المسيح.
وقد ظهر المسيح واليهود الّذين كانوا ينتظرونه ويتمنّون ظهوره ظلّوا محرومين منه بل إنّهم أنكروه وقالوا إنّ هذا المسيح ليس المسيح الحقيقيّ بل أطلقوا عليه لقبًا أخجل أن أتفوّه به. ولا شكّ أنّكم قرأتم الإنجيل ورأيتم ذلك اللّقب الّذي لقّبوا به حضرة المسيح وخلاصة القول إنّهم لقّبوا حضرة المسيح بلقب بعلزبول هذا الّذي يعني الشّيطان وبهذا اللّقب أشهروا حضرة المسيح. فوا ألف أسف فوا ألف أسف على أنّهم لم يعرفوه ووا ألف أسف على ما دعوا ذلك الجمال الرّحمانيّ بلقب بعلزبول، فوا ألف أسف ووا ألف أسف على ما ستروا تلك الشّمس –شمس الحقيقة- وراء سحب الأوهام وما زال اليهود حتّى اليوم منتظرين مجيء المسيح كي يأتي مع أنّ المسيح قد جاء منذ ألفي سنة ولكنّ اليهود لا يزالون منتظرين. فلاحظوا ماذا تفعل الغفلة.
لقد كانوا يترقّبون وفقًا لنصّ إشعيا أنّ المسيح يأتي من السّماء وأنّه يأتي من مكان غير معلوم وحينما يأتي المسيح تنشقّ الجبال وتتلاشى وتحدث زلازل عظيمة وهذه حدثت في الواقع لكنّهم لم يفهموا رموزها ولم يطّلعوا على الرّمز المقصود من كلمة الجبال فإنّه لم يكن المقصود الجبال الصّخرية بل النّفوس الّتي كانت مثل الجبال ثمّ تلاشت.
وكذلك كان المقصود بالزّلازل الزّلازل في عالم الأفكار لا في عالم التّراب.
وقد حدث جميع ما أخبر بها الأنبياء ولكنّ ذلك كلّه كان رمزًا ولم يكن المقصود منه المعنى الظّاهري لأن الكلمات الإلهيّة رموز وأسرار وهي كالخزينة فالخزينة مستورة لأنّها معدن الجواهر والمعدن مستور دائمًا.
فمثلاً يتفضّل حضرة المسيح إنّني أنا الخبز السّماويّ وواضح أنّه لم يكن خبزًا، ولم يأتِ بحسب الظّاهر من السّماء بل جاء من رحم مريم. لكنّ المقصود بالخبز هو النّعمة السّماويّة والكمالات الرّحمانيّة.
ولا شكّ أنّ حقيقة المسيح كانت من السّماء وتلك الكمالات كانت من السّماء وكانت من عالم اللاّهوت. ويتفضّل قائلاً أيضًا كلّ من يتناول من هذا الخبز ينال حياة أبديّة يعني أنّ كلّ من يستفيض من هذه الكمالات الإلهيّة فإنّه يحيا دون شكّ. لكنّ النّاس لم يفهموا ذلك واعترضوا قائلين إنّ هذا يقول إنّه خبز سماويّ فهل نستطيع أن نأكله؟
وخلاصة القول إنّ المسيح ولو أنّه جاء من رحم مريم ولكنّه جاء في الحقيقة من السّماء. فما هو السّبب الّذي جعل الملل المنتظرة تنكره؟ السّبب هو أنّهم كانوا ينتظرون أن يأتي من السّماء بحسب الظّاهر ولما رأوا أنّ هذا لم يتحقّق أنكروه.
والحقيقة أنّ المقصود كان حقيقة المسيح لا جسد المسيح.
ولا شكّ في أنّ حقيقة المسيح أتت من السّماء ولمّا لم تفهم الأمم هذه الحقيقة أنكرته وبقيت محرومة منه حتّى اليوم.
إذن يجب فهم أسرار الكتاب المقدّس والتّوصل إلى فهم معنى التّوراة والإنجيل. لأنّ الجميع رموز وأسرار وما لم يدرك الإنسان هذه الأسرار فإنّه يبقى محرومًا ولا يتوصّل إلى الحقيقة وأملي أن تتوصّلوا أنتم إلى أسرار الكتب وتفهموا معناها فهمًا صحيحًا كي تتوصّلوا إلى الحقيقة.
اكتشفوا دائمًا أسرار الحقيقة ولا تحتجبوا عنها أبدًا بأيّة أستار.
انظروا إلى الله واطلبوا دائمًا منه التّأييد والتّوفيق كي لا تُحرموا من جمال الحقيقة وكي تستفيضوا من أنوار شمس الحقيقة وتقفوا على الأسرار الإلهيّة حتّى تدخلوا في الملكوت الإلهيّ وتقبلوا في العتبة الإلهيّة وتنالوا الحياة الأبديّة.
هذا هو أملي وهذا هو منتهى أمل الرّوحانيّين.

 

التّربية بالأعمال لا بالأقوال

الخطبة المباركة في منزل اللّيدي بلومفيلد
 في لندن في 24 كانون الأوّل 1912

هو الله 

على كلّ إنسان أن يفكّر قبل كلّ شيء في تربية نفسه ويفكّر في إكمال نفسه لأنّ تربية النّفس لازمة قبل كلّ شيء.
لاحظوا أنّ جميع الكائنات محتاجة إلى التّربية، ونرى أنّ كلّ نبات مهما كان ضعيفًا يزداد قوّة عند الاعتناء به. وأنّ الأزهار مهما كانت صغيرة تصبح كبيرة بفضل التّربية والشّجرة عديمة الثّمر حين تربّونها تصبح مثمرة والأرض المليئة بالعوسج والأشواك حين تربّونها تصبح حديقة الرّياحين والحيوان ينقلب بالتّربية من حال إلى حال والحيوانات الوحشيّة حين تربّونها تصبح أليفة أنيسة.
إذن اتّضح أن للتّربية تأثيرًا في جميع الأشياء ولكنّ تأثيرها أعظم في العالم الإنسانيّ. والإنسان بدون التّربية حيوان بل أحطّ من الحيوان فمثلاً لو بقي الأطفال في الصّحراء فإنّهم لن يتربّوا بل يبقون جهلاء حتمًا. ولا شكّ أنّهم يبقون ولا علم لهم بالمدنيّة. فلا صناعة ولا تجارة ولا زراعة. مثل أهالي أواسط أفريقية الّذين هم في منتهى الوحشيّة.
ما الّذي ميّز العالم الأوروبّيّ عن العالم الأفريقيّ؟ لا شكّ أنه التّربية. لأنّ أهالي أوروبّا حازوا على التّربية وأهالي أفريقيا حرموا منها وواضح ومشهود أنّ الإنسان يحتاج إلى التّربية.
والتّربية على نوعين: تربية روحانيّة وتربية جسمانيّة. تربية طبيعيّة وتربية إلهيّة. إنّ أنبياء الله مربّون روحانيّون ومعلّمون إلهيّون وهم يربّون النّاس بالتّربية الإلهيّة فيربّون قلب الإنسان وأخلاقه.
وعندما تتربّى روح الإنسان وقلب الإنسان وأخلاق الإنسان فإنّ التّربية الجسمانيّة تتحقّق حتمًا. فتحصل التّرقّيات الجسمانيّة ضمن التّرقّيات الرّوحانيّة. فأتمنّى إذن أن تبذلوا الجهد لتربية أنفسكم أوّلاً وتربية أخلاقكم وتنظيم أقوالكم حتّى تتبرّأوا من النّواقص وتتزيّنوا بفضائل العالم الإنسانيّ وعند ذلك تقومون بتربية النّاس لأنّ العالم الإنسانيّ مظلم. وإنّكم تلاحظون أنّ الحرب والقتال والنّزاع والجدال والخصام مستمرّة فالتمسوا من الله لعلّه يوفّقكم ويؤيّدكم في سبيل خدمة العالم الإنسانيّ وتصبحوا سبب نورانيّة هذا العالم.
وكذلك فإنّ قوّة التّعليم والتّربية على نوعين: نوع تتمّ فيه تربية النّاس بواسطة الأقوال ونوع تتمّ فيه تربية النّاس بواسطة الأعمال. فبإمكان الإنسان أن يربّي النّاس بالأقوال ولكنّ التّربية بالأعمال أعظم من التّربية بالأقوال لأنّ تأثير الأعمال أشدّ فمثلاً إنسان يتكلّم عن الوفاء ويدعو النّاس بلسانه إلى المحبّة والوفاء في حين لو يقوم هو بواجب المحبّة والوفاء فإنّ عمله له تأثير أكبر، أو مثلاً إنسان يدعو النّاس إلى الكرم في حين لو يكون هو نفسه كريمًا فإنّ عمله له تأثير أكبر. أو مثلاً إنسان يدعو إلى الرّأفة في حين لو يكون هو رؤوفًا فإنّ تأثيره يكون أكبر. فالإنسان الّذي يدعو إلى شيء تكون دعوته أكثر تأثيرًا لو قام هو بتطبيق ما يدعو إليه. أمّا لو أنّه دعا النّاس إلى حسن الأخلاق وكان هو سيّئ الأخلاق فلن يؤثّر فيهم أبدًا. ولو دعا النّاس إلى العدل وكان هو غير عادل فأيّة فائدة يجني من ذلك؟ ولو دعا النّاس إلى وحدة العالم الإنسانيّ وكان هو غير عامل بها فأيّة ثمرة تظهر من ذلك.
إذن يجب على الإنسان أن يربّي الآخرين بأعماله لأنّ الإنسان ما لم يكن جوهر التّقديس وما لم يكن عنده إيمان تامّ وما لم يكن مضحّيًا فاديًا وما لم تكن إحساساته إلهيّة وروحه منجذبة بالرّوح القدس وأفكاره نورانيّة وقلبه مقدّسًا وأعماله خيريّة فلا شكّ أنّ كلامه لن يؤثّر أبدًا وأفكاره لن تثمر أبدًا وكلّ ما يقوله وما يكتبه عبث وهباء.
إذن فاسألوا الله أن يوفّقنا إلى أعمال خيريّة ويوفّقنا إلى أخلاق روحانيّة فعند ذاك نستطيع أن نخدم العالم الإنسانيّ وعند ذاك نستطيع أن نكون سبب نورانيّة العالم الإنسانيّ وعند ذاك نستطيع خدمة وحدة العالم الإنسانيّ وعند ذاك نستطيع القيام بنشر الصّلح العموميّ. وأرجو أن تتوفّقوا إلى هذه الأعمال الخيريّة.

 

الدّين سبب المحبّة

الخطبة المباركة في كنيسة كينك زي هاوس- لندن
ليلة الإثنين 30 كانون الأوّل 1912

هو الله

أشكر الله على حضور هذا الجمع من النّاس المحترمين إلى هذا المكان بقلوب متّحدة ووجوه مستبشرة بالبشارات الإلهيّة وآثار المحبّة بادية على محيّاهم.
حينما ننظر إلى عالم الوجود لا نرى أمرًا أعظم من المحبّة. فالمحبّة سبب الحياة والمحبّة سبب النّجاة والمحبّة سبب ارتباط قلوب البشر والمحبّة سبب عزّة البشر ورقيّهم والمحبّة سبب الدّخول في ملكوت الله والمحبّة سبب الحياة الأبديّة. وكما يتفضّل حضرة المسيح أنّ الله هو المحبّة فأيّ شيء أعظم من الله. إذن فبموجب قول حضرة المسيح ليس في عالم الوجود شيء أعظم من المحبّة.
توجد في الدّنيا مجامع كثيرة ولكن لكلّ مجمع هدف ولكلّ محفل شأن وما يليق بالمجامع الدينيّة هو المحبّة. فالمجامع الدينيّة يجب أن تكون سبب المحبّة بين البشر وليس هناك استثناء في ذلك. ويتفضّل حضرة المسيح أنّ الشّمس الإلهيّة تسطع على الجميع وهذا يعني أنّ الله رؤوف بالجميع وأنّ جميع الخلق مستغرقون في بحور الرّحمة الإلهيّة فيجب أن تكون الأديان الإلهيّة سبب الألفة والمحبّة بين البشر لأنّ أساس الأديان الإلهيّة هو المحبّة.
طالعوا الكتب المقدّسة تروا أنّ أساس الدّين الإلهيّ هو المحبّة وقد تكون قوّة أخرى يمكن أن تكون سبب الألفة لكن لا شيء كالدّين يمكن أن يكون سبب الألفة.
لاحظوا مثلاً أنّ أساس الدّين الإلهيّ في زمن المسيح وبعده صار سبب الألفة فحينما ظهر حضرة المسيح كانت أمم الرّومان واليونان والكلدان والآشوريّين والمصريّين في منتهى العداوة والبغضاء بعضها مع البعض الآخر ومع ذلك فقد اتّحد الجميع واتّفقوا بسرعة وبلغوا منتهى الألفة والمحبّة في ما بينهم وصارت الأمم المختلفة أمّة واحدة. إذن يفهم من هذا أنّ الدّين الإلهيّ سبب المحبّة والألفة وليس سبب العداوة والبغضاء وعلى هذه الشّاكلة حصل منتهى الاتّحاد بين بني إسرائيل وقت ظهور حضرة موسى وهكذا ثبت أنّ الدّين ليس فقط سبب بالمحبّة بل إنّه أعظم قوّة يمكن تصوّرها في عالم الوجود لإيجاد الألفة والمحبّة.
فالقوّة السّياسيّة والقوى الأخرى لا تستطيع أن توجد هذا الاتّحاد أو تربط القلب. وكذلك العلم والمعارف لا تستطيع أن تؤسّس المحبّة بين القلوب كما يؤسّسها الدّين. فالقوّة الّتي تولّد المحبّة هي إذًا قوّة الدّين الّتي تهب الكرامة والعزّة. وقوّة الدّين هي الّتي تجعل العالم نورانيًّا وقوّة الدّين هي الّتي تهب الحياة الأبديّة وقوّة الدّين هي الّتي تقتلع جذور العداوة والبغضاء من بين البشر.
راجعوا التّاريخ ولاحظوا كيف أنّ الدّين كان سبب الألفة والمحبّة وهذا يعني أنّ أساس جميع الأديان هو المحبّة. أمّا التّقاليد فهي سبب العداوة والبغضاء. وعندما نتحرّى أساس الأديان الإلهيّة نراها خيرًا محضًا. وعندما ننظر إلى التّقاليد الموجودة نراها شرًّا لأنّ أساس الدّين الإلهيّ واحد ولهذا فهو سبب الألفة وأمّا التّقاليد لمّا كانت مختلفة فإنّها سبب البغضاء والعداوة. والآن لو توصّلت الأقوام المتحاربة في البلقان إلى أساس الدّين الإلهيّ فإنّها تتصالح
في ما بينها فورًا لأنّ جميع الأديان الإلهيّة تهدي إلى الوحدة والمحبّة ولكن وا ألف أسف فقد نسوا أساس الدّين الإلهيّ وتمسّكوا بالتّقاليد الّتي هي مخالفة للدّين الإلهيّ ولهذا يسفك بعضهم دماء البعض الآخر ويخرّب بعضهم بيوت البعض الآخر.
وكم من مصائب قاساها أنبياء الله وكم من بلايا تحمّلوها. فقد سجن بعضهم ونفي البعض الآخر واستشهد بعضهم فضحّوا بأرواحهم. لاحظوا كم من البلايا تحمّل السّيّد المسيح بحيث إنّه رضي أخيرًا بالصّليب من أجل أن تحدث المحبّة والألفة بين البشر وترتبط القلوب ببعضها. ولكن وا أسفاه فقد نسي أهل الأديان وغفلوا عن أساس الأديان الإلهيّة وتمسّكوا بهذه التّقاليد البالية وبما أنّ هذه التّقاليد مختلفة لهذا فإنّهم يتحاربون في ما بينهم. فوا ألف أسف إنّ كلّ ما جعله الله سبب الحياة جعله الله هؤلاء سبب الممات. والأمر الّذي جعله الله سبب النّجاة جعلوه سبب الهلاك. والدّين الّذي هو سبب نورانيّة العالم الإنسانيّ جعلوه سبب الظّلمة. فوا ألف أسف. يجب أن نبكي على الأديان وعلى أنّه كيف نسي هذا الأساس وحلّت الأوهام محلّه. وبما أنّ الأوهام مختلفة لهذا حلّ الجدال والقتال.
ومع أنّ هذا القرن قرن نورانيّ، قرن العلوم والفنون، قرن الاكتشافات، قرن كشف حقائق الأشياء، قرن العدل وقرن الحرّيّة – مع ذلك تلاحظون أنّ الحروب مستمرّة بين الأديان وبين الدّول وبين الأقاليم. وهذا مدعاة للأسف ومدعاة للنّوح والبكاء. عندما كانت الحرب قائمة في إيران ما بين الأديان والمذاهب وكانت العداوة مستمرّة في ما بينها وكانوا يتنفّرون ويتجنّسون من بعضهم البعض والحرب دائرة رحاها بين الأقوام وبين الأقاليم في مثل هذا الوقت وفي مثل هذه الظّلمة ظهر حضرة بهاء الله وأزال تلك الظّلمات وأعلن وحدة العالم الإنسانيّ وأعلن الوحدة العموميّة وأعلن وحدة جميع الأديان وأعلن وحدة جميع الأقوام والّذين تقبّلوا نصائح حضرته هم الآن في منتهى الألفة في ما بينهم وقد زال من بينهم سوء التّفاهم الّذي كان بين الأديان وصارت الآن تتشكّل في إيران وسائر بلاد الشّرق مجامع من جميع الأديان في منتهى الألفة والمحبّة في ما بينها. فمثلاً تلاحظون فيها أن المسيحيّين والمسلمين واليهود والزرادشتيّين والبوذيّين في منتهى الألفة يجتمعون في مجمع واحد وكلّهم متّحدون متّفقون لا نزاع ولا جدال ولا حرب ولا قتال بل إنّهم في منتهى الألفة في ما بينهم لأنّهم نسوا التّقاليد ونبذوا الأوهام جانبًا وتمسّكوا بأساس الأديان الإلهيّة وحيث إنّ أساس الأديان الإلهيّة واحد وهو الحقيقة والحقيقة لا تقبل التّعدّد لهذا فهم في منتهى الارتباط في ما بينهم حتّى إنّ بعضهم قد يفدي روحه في سبيل غيره. أمّا الأحزاب الأخرى الّتي لم تقبل نصائح حضرة بهاء الله فإنّها ما زالت حتّى الآن تتنازع وتتحارب.
وخلاصة القول إنّ حضرة بهاء الله أتى بتعاليم أوّلها وحدة العالم الإنسانيّ وهو يتفضّل في خطاب وجّهه لجميع البشر: “كلّكم أثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد” أي أنّ كلّ واحد منكم بمثابة ورقة وثمرة وكلّكم من شجرة آدم وكلّكم عائلة واحدة وعبيد لله وجميعكم أغنام راعٍ واحد والرّاعي الحقيقيّ هو الله وهو رؤوف بالجميع وما دام الرّاعي الحقيقيّ رؤوفًا ويرعى جميع الأغنام فلماذا يكون النّزاع في ما بيننا ونسمّي ذلك دينًا ويقاتل ويحارب بعضنا بعضًا ونسمّي ذلك قوميّة ويحارب ويقاتل بعضنا بعضًا ونسمّي ذلك وطنيّة ونبدي البغضاء والعداوة لبعضنا في حين أنّ جميع الذّرائع أوهام. لأنّ الدّين سبب الألفة والمحبّة ثمّ إنّ جميع البشر جنس واحد وجميع وجه الأرض وطن واحد فهذه الاختلافات أوهام. ولم يوجد الله هذه الأديان مختلفة بل وضع أساسًا واحدًا لها، ولم يقسّم الله الأرض بل خلقها كلّها كرة واحدة، ولم يفرّق الله بين هذه الأقوام بل خلقها جميعًا جنسًا واحدًا. لماذا نوجد التّقسيمات الفرضيّة لماذا نوجد هذا التّحايز والتّفاوت فنسمّي قطعة من الأرض ألمانيا ونسمّي غيرها مملكة فرنسا في حين أنّها كلّها واحدة وقد خلقها الله جميعًا متساوية وهو رؤوف بالجميع؟ إذن يجب أن لا
نجعل هذه الأوهام كلّها سببًا للنّزاع والجدال وبصورة خاصّة الدّين الّذي هو سبب المحبّة وسبب نورانيّة وسبب روحانيّة القلوب وسبب التّجلّي الملكوتي فنأتي ونجعل مثل هذا الشّيء العزيز سببًا للنّزاع والجدال. فأيّة ضلالة هذه. وأيّة غباوة هذه. وأيّة دناءة هذه!
ومن تعاليم حضرة بهاء الله كذلك أنّ الدّين يجب أن يكون سبب الألفة والمحبّة فإن صار سبب البغضاء والعداوة كان عدم التّديّن أولى. لأنّ الدّين علاج للأمراض البشريّة فإن أصبح العلاج سببًا للمرض فلا شكّ أنّ تركه أولى وأحسن وإذا صار الدّين سبب العداوة فهو الشّرّ بعينه ولهذا فعدمه أحسن من وجوده.
وكذلك من تعاليم حضرة بهاء الله أنّ التّعصّبات الدينيّة والتّعصّبات القومية والتّعصّبات الوطنيّة والتّعصّبات السّياسيّة كلّها هادمة للبنيان الإنسانيّ وما دامت هذه التّعصّبات موجودة فإنّ العالم الإنسانيّ لن يرتاح. إذًا يجب نسيان هذه التّعصّبات كي يرتاح العالم الإنسانيّ.
الحمد لله، كلّنا عبيد لإله واحد، وكلّنا مستغرقون في بحر رحمة الله وما دام لنا إله رؤوف مثل هذا الإله فلماذا ينازع بعضنا بعضًا ولماذا نكون قساة ونكون ظلمات فوقها ظلمات.
وخلاصة القول إنّ تعاليم حضرة بهاء الله كثيرة فإذا أردتم الاطّلاع عليها فارجعوا إلى الكتب والجرائد وعندها تعلمون أنّ هذا الدّين صار سبب الألفة والمحبّة بين البشر وأنّه أسّس الصّلح العموميّ.

 

تحرّي الحقيقة وخلود الأرواح وحدة المظاهر المقدّسة

الخطبة المباركة في مجمع التّياصفة في إسكتلنده
 في 9 كانون الثّاني 1913

هو الله 

يسرّني جدًّا وجودي في مجلسكم لأنّكم ولله الحمد تتحرّون الحقيقة ونجوتم من تقاليد الآباء والأجداد ومقصودكم عرفان الحقيقة في أيّ مكان ظهرت.
إنّ الأديان الموجودة حاليًّا أسيرة التّقاليد وقد ولّت حقيقة الأديان وحلّت محلها تقاليد لا تتعلّق بأساس الأديان الإلهيّة. فالأديان جاءت من أجل نورانيّة البشر ومن أجل النّوع الإنسانيّ ومن أجل الألفة بين القلوب ومن أجل ظهور وحدة العالم الإنسانيّ ولكنّهم مع ألف أسف جعلوا الأديان سبب النّزاع وصار يجادل بعضهم بعضًا ويسفك بعضهم دم البعض الآخر ويهدم بعضهم بيوت البعض الآخر لأنّهم أسرى التّقاليد.
فمثلاً إذا سألت شخصًا يهوديًّا لماذا أنت يهوديّ؟ لأجابك قائلاً: بما أن والدي كان يهوديًّا فإنّني أنا يهوديّ. آخر مسيحيًّا لأجابك لأنّ والده مسيحيّ وثالث مسلمًا لأنّ والده مسلمًا. وأيّة ملّة سألتها أجابتك بهذا الجواب ولذا فعندما تفحصون تجدون الجميع أسرى التّقاليد وليس بينهم من يتحرّى الحقيقة لأنّه لو تحرّى الجميع الحقيقة فإنّهم يتّحدون، لأنّ الحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد وهي أساس جميع الأديان وحيث إنّ هذا الجمع مجرّد عن التّقاليد ومتحرّر من هذه القيود ويتحرّى الحقيقة لذا فإنّني مسرور جدًّا.
عندما ننظر إلى الكائنات نرى أنّ كلّ كائن مكون من ذرّات لا تتناهى وجاء إلى الوجود من اجتماع هذه الذّرّات الفرديّة وهذا بديهيّ علميًّا وغير قابل للإنكار ولهذا فإنّ كلّ ذرّة من الذّرّات الفرديّة تسير في صور غير متناهية وله كمال في كلّ صورة. مثال ذلك هذه الزّهرة، فممّا لا شكّ فيه أنّها مكوّنة من ذرّات فرديّة وقد مرّ زمن كانت فيه كلّ ذرّة منها موجودة في عالم الجماد وكان لها سير في صور غير متناهية في عالم الجماد وفي كلّ صورة كان لها كمال والآن قد جاء إلى عالم النّبات وهو يسير في الصّور النّباتية فهي يومًا بصورة هذه الزّهرة ويومًا بصورة زهرة وشجرة أخرى. وخلاصة القول تسير في عالم النّبات في صور غير متناهية وهذا ثابت علميًّا وفقًا للعلوم الطّبيعية ثمّ تسير في عالم الحيوان وتظهر في صور ذلك العالم غير المتناهية ثمّ تنتقل إلى عالم الإنسان وتسير فيه في صور غير متناهية.
وخلاصة القول تسير هذه الذّرّة في صور جميع الكائنات ولها في كلّ صورة كمال. ولهذا فإنّ كلّ شيء موجود في كلّ شيء.
إذن فلكلّ ذرّة انتقالات غير متناهية ولها في كلّ انتقال كمال حتّى تصبح جامعة لجميع الكمالات. وهذا طبقًا لقواعد الفلسفة الإلهيّة الّتي تقول إنّ الإنسان لا يفنى بل هو خالد لأنّ بقاء الرّوح أمر مسلّم به فالرّوح أبديّة لا فناء لها ولا نهاية لها. والبرهان العقليّ على ذلك هو أنّ الإنسان له حقيقتان، حقيقة جسمانيّة وحقيقة معنويّة. فالحقيقة الجسمانيّة فانية أمّا الحقيقة المعنويّة فباقية لأنّ الفناء عبارة عن انتقال من صورة إلى أخرى. مثال ذلك هذه الزّهرة لها انعدام صوريّ لأنّها تنتقل من هذه الصّورة إلى الصّورة الجماديّة ولكنّها لا تفنى فمادّتها لم تزل باقية وكلّ ما في الأمر أنّها تنتقل من الصّورة النّباتية إلى الصّورة الجماديّة.
والحيوان كذلك يأكل هذا العشب فالعشب لا يفنى إنّما فناؤه عبارة عن انتقاله من صورة نباتيّة إلى صورة حيوانيّة ولكنّه لا ينعدم انعدامًا صرفًا، وانعدامه مجرّد انتقاله من صورة إلى صورة أخرى أمّا عنصره فباقٍ وهذا هو معنى الفناء والانعدام.
وكذلك أيضًا جسم الإنسان يصير ترابًا وينتقل إلى عالم الجماد وأنّ التّراب له وجود. إذن فمعنى الانعدام والفناء هو الانتقال من صورة إلى صورة أخرى وليس لكائن في عالم الصّور صورتان بل له صورة واحدة فالجسم المثلّث لا يكون مربّعًا أو مخمّسًا فإن أصبح مربّعًا أو مخمّسًا فإنّه لا يعود مثلّثًا. ولكنّ روح الإنسان لها جميع الصّور في آن واحد ففي عقلكم الآن مسدّس موجود ومخمّس ومربّع ومثلّث أي أنّ جميع الصّور موجودة في الرّوح في آن واحد ولم تفقد منها صورة لتنتقل من أجلها من صورة إلى صورة أخرى لذا فالرّوح أبديّة لا تغيير لها، تملك دائمًا جميع الصّور وهذا برهان واضح.
وبرهان آخر هو أنّ جسم الإنسان يكون مرّة عليلاً وأخرى صحيحًا ومرّة ضعيفًا وأخرى سمينًا فله حالات مختلفة. أمّا الرّوح فباقية في حالة واحدة فعندما يصبح الجسم ضعيفًا لا تصير الرّوح ضعيفة. إذن فحقيقة الإنسان المعنويّة لا تتبدّل. فلو قطعت يد أو جرحت رجل فلن يحدث في الرّوح تبديل. إذن فالانعدام عبارة عن تبديل الجسم وليس للرّوح تبديل لذا فالرّوح باقية خالدة.
وبرهان ثالث هو أنّ الموت عبارة عن فقدان الإحساس. والجسد في النّوم لا إحساس له، فالعين لا ترى والأذن لا تسمع والمشام لا تشمّ والذّائقة واللاّمسة تتعطّلان وتتعطّل جميع القوى ويكون الإنسان كجسد ميّت لا إحساس له. أمّا الرّوح فإنّها متنقلة فهي في النّوم ترى وتسمع وتقول وتتحرّك جميع قواها ولو كان الإنسان مجرّد جسد إذن لتوجّب أن يفقد في النّوم كلّ حركة ويكون ميتًا.
إذًا ففي هذا الجسد حقيقة ثانية تحيط بحقائق الأشياء وتكشف أسرار الكائنات فترى بدون عين وتسمع بدون أذن وتتناول الأشياء بدون يد وتدرك بدون قلب وهي حقيقة غير محدودة في حين أنّ الجسم محدود.
إذن ثبت أنّ في الإنسان حقيقة ثانويّة مصونة من كلّ آفة وباقية دون تغيير.
ثمّ إنّك تقول في كلامك إنّني قلت وإنّني مشيت فمن ذا الّذي يقول قلت؟ هناك حقيقة ثانويّة تستشار في هل إنّ هذا العمل نافع أم مضرّ وهل أعمل هذا العمل أم لا؟ وماذا ستكون النّتائج؟ فالرّوح الّتي تستشيرها فهي إن قالت لك اعمل هذا العمل فأنت تعمله وإلاّ فلا. وواضح أنّ الحقيقة الثّانويّة هي المسيطرة وأنّ الحقيقة الجسمانيّة مسيطر عليها. والأولى هي السّراج والثّانية هي الزّجاج ولو كسر الزّجاج فلن يحصل للسّراج ضرر بل هو باقٍ.
والإنسان يسير في مراتب ودرجات حتّى يصل إلى رتبة هي فوق رتبة هذا العالم الجسمانيّ حتّى يصل إلى عالم الكمال فيترك جميع الزّجاجات ويتوجّه إلى عالم الأنوار فلقد كان السّراج حينًا في زجاج نباتيّ وحينًا في زجاج حيوانيّ وصار الآن في زجاج إنسانيّ. لذا فإن كُسر الزّجاج فإنّ السّراج لن يفنى وهذه براهين عقليّة لا نقليّة ولا يمكن إنكارها.
وخلاصة القول لقد وصلنا الآن إلى موضوعنا الأصليّ وهو أنّ عالم الوجود ليس له وجود بذاته لذاته أي إنّه يستفيض الوجود من حقيقة مركزيّة صدر منها هذا الوجود كما أنّ الكرة الأرضيّة مظلمة لكنّ أشعّة تصدر من الشّمس فتنيرها، لأنّ الشّمس مركز الأنوار وأشعتها تنير الكائنات. والكائنات مظلمة ولكنّ الشّعاع الصّادر من مركز الأنوار يفيض على جميع الكائنات.
إنّ ذلك الشّعاع هو الفيوضات الإلهيّة وإنّ أعظم الفيوضات هي المظاهر المقدّسة الإلهيّة وتلك الحقائق هي حقيقة واحدة ولكنّ مظاهرها مختلفة. فالنّور نور واحد ولكنّ الزّجاجات متعدّدة ففي كلّ وقت يظهر ذلك النّور في زجاجة من الزّجاجات. والنّور لا يقبل الانقسام ولكنّ الزّجاجات مختلفة متنوّعة ولو أنّها متعدّدة من حيث الجسم لكنّها واحدة من حيث الحقيقة وتلك الحقيقة هي تجلّي شمس واحدة تسطع وتبهر من مرايا متعدّدة فالمرايا متعدّدة ولكنّ الشّمس واحدة. فهذه البروج الاثني عشر متعدّدة ولكنّ الشّعاع صادر من مركز واحد. وعندما ننظر إلى المركز نرى الجميع واحدًا ولكنّها تنقسم إلى اثني عشر. وهناك شمس واحدة في هذه البروج الاثني عشر لكنّها تطلع حينًا من برج الحمل وحينًا من برج الأسد وحينًا من الجدي وحينًا من نقطة الاعتدال الرّبيعي وحينًا من نقطة الاعتدال الصّيفي وحينًا من نقطة الانقلاب الشّتوي. فمهما كانت البروج متعدّدة ولكنّ الشّمس شمس واحدة. فعندما تطلع من برج السّرطان لا شكّ أنّها تكون قويّة. وعندما تطلع من الجدي لا تكون حرارتها على تلك الشّدة ومن هذه الجهة يكون الفرق بين المظاهر الإلهيّة وهو في الحقيقة حقيقة واحدة.
إذن يجب على الإنسان أن لا ينظر إلى البروج بل يعبد الشّمس من أيّة نقطة طلعت ويعبد النّور من أيّ زجاج لمع، لأنّ الزجاج محدود أمّا النّور فغير محدود. ويجب أن يكون
نظر الإنسان غير محدود لأنّه لو نظر إلى الزّجاج وحده فلربّما انتقل النّور من هذه الزّجاجة إلى زجاجة أخرى وحينئذٍ يبقى هو محرومًا من النّور محتجبًا عنه ولكنّه عندما يعبد النّور فإنّه يتوجّه إليه من أيّة زجاجة ظهر.

إثبات الألوهيّة

الخطبة المباركة في باريس في 9 شباط 1913

هو الله

لقد سألني اليوم شخص عن وجود الألوهيّة قائلاً: ما برهانكم على وجود الألوهيّة؟
إنّ النّاس قسمان قسم معترف بالألوهيّة وقسم منكر لها ولهذا نريد اليوم إثبات وجود الألوهيّة بدليل من الأدلّة العقليّة لأنّكم تعرفون الدّلائل النّقلية وهي معلومة لدى الجميع.
لو نظرنا إلى جميع الكائنات الموجودة لرأينا أنّ كلّ كائن من الكائنات خلق نتيجة تركيب العناصر المنفردة فمثلاً تركّبت عناصر وأجزاء فرديّة فظهر منها الإنسان وتركّبت عناصر بسيطة وظهرت منها هذه الوردة، وكذلك هذا الحجر ظهر من تركيب الأجزاء الفرديّة.
وخلاصة القول إنّ وجود جميع الكائنات يعود إلى التّركيب وعندما يتحلّل هذا التّركيب، فَهُنا لكم الموت والانعدام. أمّا العناصر البسيطة فهي باقية دون تغيير في حين أنّ المركبات تتلاشى إذًا صار معلومًا ومسلّمًا أنّ تركيب العناصر البسيطة هو سبب الحياة وتحليلها هو الموت والانعدام ولكنّ العناصر البسيطة باقية دون تغيير ذلك لأنّها بسيطة. ولا ينعدم الشّيء البسيط أمّا التّركيب فإنّه ينحلّ انحلالاً وهذا يعني أنّ وجود الكائنات هو من التّركيب وانعدامها من التّحليل. وهذه مسألة علميّة لا عقائديّة وهناك فرق بين المسائل العقائديّة والمسائل العلميّة فالمسائل العقائديّة مسموعات تقليديّة أمّا المسائل العقليّة فإنّها مشفوعة بالبراهين القطعيّة إذ ثبت علميًّا أنّ وجود الكائنات عبارة عن التّركيب وفناءها عبارة عن التّحليل. ويقول المادّيّون إنّه ما دام وجود الكائنات نتيجة للتّركيب وانعدامها نتيجة للتّحليل فما هي الحاجة بعد هذا إلى الخالق الحي القدير لأنّ الكائنات غير المتناهية تتركّب في أشكال غير متناهية وبنتيجة كلّ تركيب يظهر للوجود كائن من الكائنات. أمّا الإلهيّون فيجيبونهم على قولهم بأنّ التّركيب على أقسام ثلاثة إمّا تركيب تصادفي وإمّا تركيب إلزامي وإمّا تركيب إراديّ ولا رابع لها لأنّ التّركيب ينحصر في هذه الأقسام الثّلاثة. فلو نقول إنّ تركيب الكائنات تركيب تصادفي فهذا القول واضح البطلان لأنّه لا يمكن حصول معلول بدون علّة ولا بدّ من وجود علّة فهذا التّركيب التّصادفيّ واضح البطلان وهذا أمر يدركه الجميع. أمّا التّركيب الثّاني وهو الإلزاميّ فيعني أنّ هذا التّركيب هو المقتضى الذّاتيّ لكل كائن وهو اللّزوم الذّاتيّ لهذه العناصر مثال ذلك فالنّار لزومها الذّاتيّ الحرارة والماء لزومه الذّاتيّ الرّطوبة فإن كان تركيب الكائنات هذا لزومًا ذاتيًّا فلن يعقبه انفكاك كما لا تنفكّ الحرارة عن النّار ولا الرّطوبة عن الماء وما دام هذا التّركيب لزومًا ذاتيًّا فليس من الممكن أن يكون له انفكاك. إذن فهذا باطل أيضًا لأنّ تركيب الكائنات لو كان لزومًا ذاتيًّا لما أعقبه تحليل ولهذا فتركيب الكائنات ليس إلزاميًّا. فما بقي؟ بقي التّركيب الإراديّ أي أنّ تركيب الكائنات ووجود الأشياء يكون بإرادة الحيّ القدير. هذا واحد من الأدلّة وحيث إنّ هذ المسألة مهمّة جدًّا فيجب أن تمعنوا الفكر
فيها وتتباحثوا حولها في ما بينكم لأنّكم كلّما ازددتم تفكيرًا فيها ازددتم اطّلاعًا على التّفاصيل. فاحمدوا الله على ما أنعم عليكم بقوّة تستطيعون بها إدراك مثل هذه المسائل.

 

لا نهاية للفضل الإلهيّ

الخطبة المباركة في مجلس التّياصفة في باريس ليلة شباط 1913

هو الله

لو نظرنا إلى الكائنات جميعها بنظر الحقيقة لرأينا أنّ لكلّ كائن في الواقع حياة وكان الفلاسفة يقولون في سالف الأيّام إنّ الجماد ليست له حياة. ولكن اتّضح أخيرًا من التّحقيقات العميقة أنّ الجماد له أيضًا حياة وقد أقيمت الأدلّة العلميّة على ذلك في الفلسفة الجديدة.
ونحن نقول على سبيل الاختصار إنّ للكائنات حياة لكنّ حياة كلّ كائن على قدر استعداده. فمثلاً هناك في عالم الجماد حياة لكنّها ضعيفة جدًّا كالنّطفة في رحم الأمّ فهي لها حياة ولكنّها حياة ضعيفة. وإذا نظرتم إلى عالم النّبات لرأيتم أنّ له روحًا أيضًا. ولكنّها روح أقوى من روح عالم الجماد وكذلك تظهر الرّوح بمظهر أوضح في عالم الحيوان إذا ما قيست بظهورها في عالم النّبات. وإذا نظرنا إلى عالم الإنسان رأينا أنّ حياة الإنسان في منتهى القوّة.
ولهذا فكلّما بذل الإنسان جهدًا ظهرت فيه قوّة الرّوح ظهورًا أوضح.. فالمولود الجديد مهما كان ضعيف الرّوح وضعيف الإدراك ولكنّه حينما يصل مرحلة البلوغ تظهر الرّوح فيه في منتهى القوّة وتتجلّى قوّة الإنسان المعنويّة فيه كمال التّجلّي وليس هناك في العالم الحيواني مثل هذه الحياة والقوّة لأنّ الرّوح الإنسانيّة كاشفة لحقائق الأشياء. إنّها تخترع هذه المخترعات وتكتشف كلّ هذه العلوم وتميط اللّثام عن أسرار الطّبيعة وتسير الأمور في الغرب وهي في مكانها في الشّرق وتكتشفها في السّماء وهي في مكانها على الأرض. ولهذا فإنّها على قسط عظيم من القوّة خاصّة إذا ارتبطت بالله واستفاضت من النّور الأبديّ فإنّها تصبح تجلّيًا من تجلّيات شمس الحقيقة وتصل إلى أعظم المقامات في العالم الإنسانيّ وتصبح الرّوح الإنسانيّة في هذا المقام كمرآة تتجلّى فيها شمس الحقيقة. فمثل هذه الرّوح ولا شكّ أبديّة وباقية وثابتة ليس لها فناء وجامعة لجميع كمالات بل إنّها فيض من الفيوضات الإلهيّة ونور من الأنوار غير المتناهية وهذا المقام مقام النّفوس الّتي تستفيض من الفياض الحقيقيّ والّتي تظهر فيه الكمالات غير المتناهية وهذه الرّتبة هي أعلى رتبة في الوجود.
وإذا ألقينا نظرة أخرى على الكائنات رأينا أنّ ذرات فرديّة تركّبت وجاء إلى الوجود من كلّ تركيب كائن من الكائنات وعندما يتحلّل ذلك التّركيب ينعدم ذلك الكائن ويفنى. إذن فوجود الكائنات وانعدامها إنّما هو عبارة عن تركيبها وتحليلها. وعندما تنحلّ العناصر الفرديّة في جسم ما تمتزج كلّ ذرّة من ذرّاته مع العناصر الأخرى ويظهر إلى الوجود كائن آخر ولهذا فإنّ كلّ ذرّة من هذه الذّرّات لها سير في جميع المراتب وهذا بديهيّ ومحسوس وليس مجرّد عقيدة من العقائد.
فيثبت من هذا أنّ كلّ ذرّة لها سيرها في جميع الكائنات فمثلاً الذّرّات الفرديّة الموجودة الآن في الإنسان كانت ذات يوم موجودة في الجماد وسارت في مراتب الجماد في صور غير متناهية وكان لها في كلّ صورة كمال.
وكذلك الأمر في الصّور غير المتناهية لعالم الحيوان ولعالم الإنسان وحيث إنّ صور الكائنات غير متناهية لهذا فإنّ كلّ ذرة فرديّة تنتقل في صور غير متناهية وتحصل في كلّ صورة على كمال.
إذن فجميع الكائنات سارت في جميع الكائنات، فلاحظوا أيّة وحدة هي هذه الوحدة! بحيث إنّ كلّ ذرة من الكائنات هي بمثابة الكلّ وهذا ثابت علميًّا. فأيّة وحدة هذه الوحدة الموجودة في عالم الوجود وأيّة انتقالات وأيّة كمالات! ولا يمكن أن تكون هناك انتقالات وكمالات أعظم من هذه الانتقالات والكمالات. أي أنّ كلّ كائن فيض من الفيوضات الإلهيّة.
إذن فقد اتّضح أنّ الفيوضات الإلهيّة لا نهاية لها وليس لها حدّ وحصر. لاحظوا هذا الفضاء الوسيع الّذي لا يتناهى كم فيه من أجسام عظيمة نورانيّة! وهذه الأجسام لا منتهى لها أيضًا لأنّ وراء هذه النّجوم نجوم أخرى ووراء تلك النّجوم أيضًا نجوم أخرى.
وخلاصة القول إنّه ثبت علميًّا أنّ العوالم لا نهاية لها. لاحظوا أنّ الفيض الإلهيّ غير محدود مع أنّ هذا الفيض فيض جسمانيّ فانظروا كيف يكون الأمر في الفيض الرّوحانيّ. ففي الوقت الّذي يكون فيه الفيض الجسمانيّ غير محدود كيف يصحّ أن يكون الفيض الرّوحانيّ محدودًا؟ مع أنّه هو الأصل والأساس لأنّ ذلك الفيض هو أعظم من الفيض الجسمانيّ.
ولا مجال للمقارنة بين هذا الفيض الجسمانيّ وذاك الفيض الرّوحانيّ. فالجسم الإنسانيّ له آثار إلى درجة محدودة، أمّا الرّوح الإنسانيّة فآثارها غير متناهية وحتّى إنّ لها وهي على الأرض اكتشافات فلكيّة ولها إحساسات سماويّة. لاحظوا كيف أنّ القوّة الرّوحانيّة في الإنسان أعظم من جسده مع أنّ الفيض الجسمانيّ والرّوحانيّ إلهيّان وغير محدودين. وبعض الأغبياء يزعم أنّ هذا الفيض محدود ويقول إنّ هذا العالم عمره عشرة آلاف سنة وإنّ بداية الفيض الإلهيّ معلومة ومحدودة في حين أنّ الفيض الإلهيّ قديم وغير محدود وكان ولا يزال موجودًا وسيبقى كذلك لا بداية له ولن تكون له نهاية. لأنّ عالم الوجود محلّ الكمالات الإلهيّة، فهل نستطيع أن نحدّد الله تعالى؟ وكما أنّ الحقيقة الإلهيّة غير محدودة فكذلك الفيوضات الإلهيّة غير محدودة ولا نهاية لها.
ومن جملة الفيوضات الإلهيّة هي المظاهر المقدّسة، فكيف يكون ظهورها محدودًا مع أنّها أعظم الفيوضات الإلهيّة؟ وبعد أن ثبت أنّ الفيض الجسمانيّ غير محدود كيف يكون الفيض الرّوحانيّ محدودًا؟ وبعد أن ثبت أنّ القطرة غير محدودة كيف يمكن أن يكون البحر محدودًا وبعد أن ثبت أن الذّرّة غير محدودة كيف يمكن أن تكون الشّمس محدودة؟ وبعد أن ثبت أنّ العالم الجسمانيّ غير متناهٍ كيف يمكن أن يكون العالم الرّوحانيّ محدودًا ومتناهيًا؟
ولهذا فالمظاهر المقدّسة الّتي هي أعظم الفيوضات الإلهيّة كانت موجودة في الماضي وستكون إلى الأبد. فكيف نستطيع إذًا أن نحدّد الفيض الإلهيّ؟ فإن استطعنا أن نحدّد الله استطعنا أن نحدّد فيضه.
وخلاصة القول بالرّغم من أنّ كلّ ملّة لها موعود وكلّ أمة كانت لها ذات مقدّسة تنتظرها فوا أسفًا عندما كان يظهر ذلك الموعود كانوا يحتجبون عنه وكانوا ينتظرون طلوع شمس الحقيقة وعندما كانت تطلع كانوا يقتنعون بالظّلمة بدلاً عنها.
مثال ذلك الملّة الموسوية الّتي كانت تنتظر ظهور المسيح وتتضرّع ليلاً ونهارًا قائلة: “يا إلهنا أظهر لنا المسيح!” ولكن عندما ظهر السّيّد المسيح احتجبوا عنه وما عرفوه لأنّ
حجاب التّقليد غطّى بصائرهم فما شاهدوه وما سمعوا النّداء الإلهيّ ومنذ حوالي ألفي سنة وحتّى الآن وهم لا يزالون منتظرين.
إذن يجب أن تكون أعيننا مفتوحة وعقولنا طليقة متحرّرة كي لا تحتجب في وقت الظّهور الإلهيّ وكي نسمع النّداء الإلهيّ عندما يرتفع. وكي لا تكون مشامّنا مزكومة عندما تنتشر نفحات الجنّة الإلهيّة فنستنشق نفحة القدس تلك ونشاهد تلك الأنوار الإلهيّة ونتعرّف إلى ذلك اللّحن ونحصل على تلك الرّوح فنجدّد حياتنا ونحيا من نفحات الرّوح القدس حتّى نتوصّل إلى أسرار الكائنات ونرفع علم وحدة العالم الإنسانيّ وننال جميعًا نصيبًا من الفيض الإلهيّ ويصبح كلّ فرد منّا كالموج وعندما ننظر إلى بحر الوجود نشاهد بحرًا من الصّنع الإلهيّ وعندما ننظر إلى بحر الأمواج نراها كلّها صادرة من ذلك البحر ومهما كانت الأمواج مختلفة ولكنّ البحر بحر واحد وهناك شمس واحدة تسطع على جميع الكائنات ونورها نور واحد ولكنّ الكائنات مختلفة.
وخلاصة القول إنّ هذا القرن قرن الوحدة، قرن المحبّة، قرن الصّلح العموميّ، قرن طلوع شمس الحقيقة، قرن ظهور ملكوت الله لذا يجب أن نتشبّث بجميع الوسائل كي ننال من هذه الفيوضات غير المتناهية نصيبًا وافرًا.
وها إنّنا نرى اليوم وسائل وحدة العالم الإنسانيّ مهيّأة من كلّ الجهات وهذا دليل على التّأييدات الإلهيّة. ومن بين التّأييدات الإلهيّة في هذا القرن اللّغة العموميّة الّتي نراها تنتشر. ولا شكّ أنّ اللّغة العموميّة سبب لزوال سوء التّفاهم لأنّ بواسطتها يطّلع كلّ فرد على أفكار سائر البشر وهذا سبب من أسباب وحدة العالم الإنسانيّ. لهذا يجب أن نبذل الجهد في ترويجها، ومع أنّ صحّتي لم تكن جيّدة هذه اللّيلة فقد جئت إليكم وتحدّثنا على قدر الإمكان.

 

سؤال وجواب

البيانات المباركة في بيت الاسقف مينا في حضور جمع من الأساقفة
 والأساتذة المشهورين في باريس ليلة 17 شباط 1913

هو الله

تفضّل: أستفسر عن صحّة حضرات السّادة.
فعرض الأسقف: سالمون ولله الحمد ومسرورون من تشريفكم.
تفضّل: وأنا أيضًا مسرور جدًّا من لقائكم.
فعرضوا: إنّنا مسرورون لأنّ شخصًا من قِبَل الله جاءنا برسالة من الله وشرَّفنا في هذا المنزل.
فتفضّل: إنّ كلّ إنسان له قوّة سامعة يسمع من جميع الأشياء الأسرار الإلهيّة وتبلغه جميع الكائنات بالرّسالة الإلهيّة.
فعرضوا: إن تسمح فإنّنا سنعرض سؤالاً.
تفضّل: حسنًا جدًّا.
فعرضوا: بما أنّنا في مدرسة ومن زمرة القساوسة نريد أن نعرف من هو حضرة المسيح؟ وكيف كان؟
فتفضّل: كان كما هو مذكور في الإنجيل ولكنّنا نشرح ذلك غير آبهين بظاهر العبارات والمعتقدات. فمثلاً ورد في إنجيل يوحنّا: “في البدء كانت الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله”. والمسيحيّون بمجرّد سماعهم لهذه العبارات يعتقدون بها لكنّنا نشرحها ونعطيها تفسيرًا يقبله العقل فلا يبقى لنفس مجال للاعتراض.
لقد جعل المسيحيّون هذ المسألة أساسًا للتّثليث ولكنّ الفلاسفة يعترضون عليهم قائلين إنّ التّثليث أمر مستحيل. أمّا المسيحيّون فإنّهم لا يقدّمون بيانًا لذلك ولا يفسّرونه تفسيرًا يقبله كلّ فيلسوف. والفلاسفة لا يقبلون بالتّثليث لأنّه مجرّد لفظ وعقيدة، ويقولون كيف يمكن أن تصبح ثلاثة واحدًا ويصبح واحد ثلاثة؟ فنقول لهم إنّ هذه البداية ليس لها زمان لأنّه لو كان لها زمان لكانت الكلمة إذن شيئًا حادثًا لا قديمًا. ولكنّ المقصود بالكلمة هو أنّ عالم الكائنات بمثابة الحروف وأنّ جميع البشر أيضًا بمثابة الحروف والحرف المفرد لا معنى له ولا يمكن أن يكون له معنى مستقلاًّ أمّا مقام المسيح أي مقام الكلمة فله معنى تامّ ومستقلّ ولهذا يعبّر عنه بالكلمة والمقصود بالمعنى التّامّ هو فيوضات الكمالات الإلهيّة لأنّ كمالات سائر النّفوس كمالات جزئيّة وليست صادرة منها بل مستقاة من الغير أمّا الحقيقة المسيحيّة فذات كمالات تامّة ومستقلّة.
ومثلاً هذا المصباح منير ومثلاً هذا القمر ولكنّ نورهما ليس صادرًا عنهما بل مقتبس من غيرهما. أمّا حضرة المسيح فإنّه كالشّمس نوره صادر عنه لا مقتبس من شخص آخر ولهذا عبّر عنه بالكلمة، أي إنّه حقيقة جامعة ذات كمالات تامّة.
وكلمة “البدء” لها أوّلويّة شرف وليس لها أوّلويّة زمان كقولنا: “هذا الشّخص مقدّم على الكلّ” أي من حيث الشّرف والمقام لا من حيث الزّمان. وليس المقصود أنّ الكلمة كانت لها البداية بل إنّ الكلمة لا بداية لها ولا نهاية. أعني أنّ تلك الكلمات ليست جسد المسيح بل هي الكمالات المتجلّية في المسيح وقد كانت تلك الكمالات من الله مثل أنوار الشّمس في المرآة. فنور الشّمس وشعاعها وحرارتها هي كمالات الشّمس تجلّت في هذه المرآة. إذن فكمالات المسيح كانت تجلّيًا وفيضًا إلهيًّا ومعلوم أنّها كانت عند الله. وهذه الكمالات هي الآن أيضًا عند الله وليست منفصلة عنه لأنّ الألوهيّة لا انقسام لها إذ الانقسام نقص يستوجب تعدّد القدماء وهذا باطل. ومن المؤكد أنّ الكمالات لم تكن منقسمة لدى حضرة الألوهيّة بل المقام مقام الوحدة.
وخلاصة القول، نحن نشرح المسألة بهذا الأسلوب ولا نقول بالأقانيم الثّلاثة وبأنّ المسيح “كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله” بل نشرح ذلك.
فعرضوا: ما هي العلاقة بين أمر حضرة المسيح وأمر حضرة بهاء الله؟ وما هو التّشابه بينهما؟
فتفضّل: إنّ أساس الدّين الإلهيّ واحد وهو نفس ذاك الأساس الّذي وضعه المسيح ثمّ نسي فجاء حضرة بهاء الله فجدّده لأنّ أساس الأديان الإلهيّة واحد بمعنى أنّ كلّ دين ينقسم إلى قسمين قسم هو الأصل ويتعلّق بالأخلاق ويتعلّق بالحقائق ويتعلّق بالمعاني ويتعلّق بمعرفة الله
وذلك القسم قسم واحد لا يتغيّر لأنّه حقيقة والحقيقة لا تغيير فيها ولا تبديل. والقسم الآخر هو الفرع ويتعلّق بالمعاملات وهذا الفرع يتغيّر في كلّ زمان بمقتضى ذلك الزمان. ومثالاً على ذلك أنّ أساس وأصل الدّين الإلهيّ المتعلّق بالأخلاق في ديانة حضرة موسى لم يتغيّر في زمان المسيح ولكنّ التّغيير حصل في القسم الثّاني المتعلّق بالمعاملات.
ففي زمان موسى كانت اليد تُقطع لسرقة مبلغ جزئيّ وبحكم الكتاب كان كلّ من فقأ عين إنسان تُفقأ عينه أو كسر سنّ إنسان تُكسر سنّه. ولقد كان هذا حسب مقتضى زمان موسى ولكنّ ذلك لم يكن مقتضيًا وضروريًّا في زمن حضرة المسيح فنسخها حضرته. وكذلك الطّلاق وصل في كثرته إلى درجة منعه حضرة المسيح وكانت في التّوراة عشرة أحكام للإعدام بمقتضى زمان حضرة موسى إذ لم يكن في الإمكان حفظ الأمن بغير ذلك لأنّ بني إسرائيل كانوا في صحراء التّيه، ولم يكن الانضباط ممكنًا دون هذه الأحكام الشّديدة إلاّ أنّ ذلك لم يكن مقتضيًا في زمان حضرة المسيح فتغيّر والتّغيير في هذا القسم الفرعيّ غير مهمّ ويختصّ بالمعاملات.
أمّا أساس الدّين الإلهيّ فهو واحد. ولهذا فقد جدّد حضرة بهاء الله ذلك الأساس نفسه. ولكنّ أساس حضرة المسيح كان كلّه روحانيًّا وكان كلّه جوهريًّا ولم يغيّر في الفروع غير أمثال الطّلاق والسّبت وكانت جميع بيانات المسيح تتعلّق بمعرفة الله وبوحدة العالم الإنسانيّ وبالرّوابط بين القلوب وبالإحساسات الرّوحانيّة وقد جاء حضرة بهاء الله فأسّس السّنوحات الرّوحانيّة بأكمل وجوهها.
فالدّين لا يتغيّر أبدًا لأنّه حقيقة والحقيقة لا تتغيّر ولا تتبدّل. فهل يمكن القول بأنّ التّوحيد الإلهيّ يتغيّر؟ وهل يمكن القول بأنّ معرفة الله ووحدة العالم الإنسانيّ والمحبّة والوفاق تتغيّر؟ لا والله إنّ هذه كلّها لا تتغيّر. لماذا؟ لأنّها حقيقة.
فعرضوا: كيف كان ارتباط المسيح وبهاء الله بالله؟
فتفضّل: إنّ حضرة المسيح يتفضّل: “الأب في الابن”، ولكنّنا يجب أن نوفّق بين هذا القول وبين القوانين العلميّة لأنّه إذا لم يتّفقا لما حصل لنا الاطمئنان التّام واليقين الكامل. ففي ذات يوم كان يوحنّا فم الذّهب وهو غير يوحنّا المعمدان يسير على شاطئ البحر ويفكّر في الأقانيم الثّلاثة كيف يكون الثّلاثة واحدًا وكيف يكون الواحد ثلاثة ويريد أن يفهمها وفقًا للعقل فرأى طفلاً على الشّاطئ يملأ كأسًا من ماء البحر فقال له ماذا تعمل؟ فأجابه: “أريد أن أضع البحر كلّه في هذا الكأس”. فقال له: “ما أجهلك! كيف يمكن وضع البحر في كأس؟”، فقال الطّفل: “إنّ أمرك أغرب من أمري تريد أن تدخل الأقانيم الثّلاثة كلّها في عقلك” ففهم يوحنّا أنّه من المستحيل التّوفيق بين هذه المسألة وبين العقل. ولكن يجب التّوفيق بين الأشياء من جهة وبين العقل والعلم من جهة أخرى وإلاّ فكيف يمكن قبولها والأخذ بها؟ فلو قلت أمرًا لا يقبله عقلكم فكيف تقبلونه مني.
إذن يجب أن نوفّق بين كلّ مسألة وبين العلم والعقل ونحقّق فيها تحقيقًا تامًا بأنّه كيف يكون الأب في الابن؟ إنّ لهذه الأبوّة والبنوّة تفسيرًا خاصًّا. فحقيقة المسيح مثل مرآة تجلّت فيها شمس الألوهيّة فإن قالت هذه المرآة: “إنّ النّور فيّ” فهي صادقة حقًّا. إذن فحضرة المسيح كان صادقًا أيضًا ولا يستوجب هذا القول تعدّدًا فشمس السّماء وشمس المرآة واحدة لا تعدّد فيها ونحن نشرح المسألة على هذا الأسلوب ويجب علينا تحرّي الحقيقة ولا التّقليد لأنّ اليهود كانوا يتنظرون حضرة المسيح وكم من ليالٍ بكوا وناحوا قائلين: “يا إلهنا عجّل بإرسال
المسيح منقذنا!” ولكنّهم لمّا كانوا مقلّدين أنكروه عند ظهوره ولو كانوا تحرّوا الحقيقة لما كانوا علّقوه على الصّليب بل لكانوا عبدوه.
فعرضوا: هل اتّحاد الأديان ممكن؟ وإذا كان ممكنًا فكيف يحصل؟ ومتى يحصل؟
فتفضّل: يحصل ذلك حينما توضع التّقاليد جانبًا وحينما توضع حقائق الكتب المقدّسة نصب العين ولكنّ سوء التّفاهم موجود الآن فعندما يزول سوء التّفاهم وتزول التّقاليد يحصل الاتّحاد ولقد تكلّمت في كنيس لليهود في سان فرانسيسكو أمام ألفي شخص وقلت: “أريد أن أقول لكم أمرًا وأرجوكم أن تصغوا إليّ حتّى أكمل بياني وبعد ذلك اعترضوا إن كان لديكم اعتراض. لقد مضت ألفا سنة كنتم فيها على معارضة واختلاف شديدين مع المسيحيّين في حين أنّه له لو تحرّيتم الحقيقة لما بقيت الحال كذلك وقد حصل ذلك من سوء التّفاهم فأنتم تظنّون أنّ حضرة المسيح كان عدوًّا لحضرة موسى وأنّه كان هادمًا لشريعة التّوراة وأنّه قضى على التّوراة ولكنّنا الآن يجب أن نتحرّى الحقيقة هل إنّ هذا القول يطابق الحقيقة أم لا؟ فعندما نتحرّى الحقيقة نرى أنّ المسيح ظهر عندما لم يكن النّاس يعملون بأحكام التّوراة كما أنتم تعتقدون ذلك وظهر عندما انهدم أساس الشّريعة وكان بختنصّر قد جاء وأحرق جميع التّوراة وأسر اليهود وفي المرّة الثّانية جاء الإسكندر اليوناني وفي المرّة الثّالثة جاء طيطوس القائد الرّوماني فقتل اليهود ونهب أموالهم وأسر أطفالهم ففي مثل هذا الوقت ظهر حضرة المسيح وكان أوّل ما قاله: “إنّ التّوراة وإنّ موسى رسول الله وإنّ هارون وسليمان وداود وإشعيا وزكريّا وجميع أنبياء بني إسرائيل كانوا على حقّ. ثمّ نشر حضرته التّوراة في آفاق العالم وقد مرّت على التّوراة ألف وخمسمائة سنة لم تتجاوز فيها حدود فلسطين لكنّ حضرة المسيح نشر التّوراة في آفاق العالم ولو لم يكن المسيح موجودًا لما وصل اسم موسى والتّوراة إلى أمريكا. وقد ترجم اليهود التّوراة مرّة واحدة خلال ألف وخمسمائة سنة أمّا المسيح فقد ترجمها ستّمائة مرّة فأنصفوا الآن هل كان المسيح صديقًا حميمًا لموسى أم كان عدوًّا لدودًا؟ تقولون إنّه نسخ التّوراة وأقول أنا إنّه روّج التّوراة والوصايا العشر والمسائل الّتي كانت تتعلّق بعالم الأخلاق ولكنّه غيّر بعض الأحكام وهو أنّه لا يجوز قطع اليد لسرقة دينار واحد ولو يفقأ إنسان عين إنسان لا يجوز أن تُفقأ عينه وإن كسر إنسان سنّ إنسان فيجب أن لا تُكسر سنّه. فهل يمكن الآن قطع يد إنسان من أجل مليون؟ أو هل يمكن فقء عين بدل عين أخرى أو كسر سنّ بدل سنّ أخرى؟ فأجابني الحاضرون: “كلاّ” فقلت لهم: “إذن فحضرة المسيح قد ألغى من الشّريعة كلّ ما لم يكن مقتضيًا للزّمان ولم يرغب حضرته في هدم التّوراة وأنت تعترفون أيضًا أنّ هذه الأحكام لا تناسب الزّمن الحاضر. ثمّ إنّ المسيحيّين يقولون إنّ موسى كان نبيّ الله وإنّ هارون وأنبياء بني إسرائيل كانوا أنبياء الله وإنّ التّوراة كانت كتابًا إلهيًّا فهل في قولهم هذا ضرر يصيب دينهم؟ فأجابني الحاضرون: “كلاّ” فقلت إذن أنتم أيضًا قولوا مثل هذا: إنّ المسيح كان كلمة الله وعندئذٍ لا يبقى اختلاف بينكم وبين المسيحيّين فلقد تحمّلتم الذّلّة ألفي سنة من أجل هذه الكلمة مع أنّ حضرة موسى لم يكن لديه صديق كحضرة المسيح”؟
وخلاصة القول إنّ سوء التّفاهم بين الأديان هو السّبب في الاختلاف وعندما يرتفع سوء التّفاهم هذا وتزول التّقاليد يحصل الاتّحاد وإنّ النّزاع القائم بين الأديان اليوم إنّما هو حول الألفاظ وجميع الأديان تعتقد بحقيقة فائضة واحدة هي الواسطة بين الخلق والخالق ويسمّي اليهود هذه الحقيقة موسى ويسمّيها المسيحيّون المسيح ويسمّيها المسلمون محمّدا ويسمّيها البوذيّون بوذا ويسميها الزّرادشتيّون زرادشت ولم يرَ كلّ واحد منهم نبيّه بل سمع باسمه إنّما الكلّ يعتقدون أنّ من الواجب وجود حقيقة كاملة تتوسّط بين الخلق والخالق ولكنّ نزاعهم فيدور حول الألفاظ وإلاّ فالحقيقة واحدة فلو وصفنا لليهود تلك الواسطة وتلك الحقيقة لقالوا إنّ الوصف صحيح وإنّ الاسم الموصوف هو موسى ولو وصفنا هذه الحقيقة لكلّ إنسان
لتمسّك بها باسم نبيّه ولذلك فهم يتنازعون حول الاسم مع أنّهم كلّهم متّحدون ومؤمنون حول المعنى وحول الحقيقة. فاليهود مؤمنون بالمسيح وهم لا يعلمون أنّهم مؤمنون بالمسيح وأنّ نزاعهم هو حول الاسم.
وخلاصة القول إنّه مضت عدة آلاف من السّنين والنّزاع والجدال مستمرّان بين البشر وسفك الدّم وشرب الدّماء مستمرّان والآن يكفي كل هذا فيجب أن يكون الدّين سبب الألفة والمحبّة وسبب الوحدة والوفاق. وإذا أصبح الدّين سبب العداوة فاللاّدينيّة خير وأولى. لماذا؟ لأنّه ليست له نتيجة بل ينتج نتيجة معكوسة.
ولقد أرسل الله الأديان كي تكون سبب الألفة والمحبّة بين الخلق ولم يفدِ حضرة المسيح روحه من أجل أن يقول النّاس إنّه كلمة الله بل فدى نفسه من أجل أن ينال العالم الحياة الأبديّة ولهذا تفضّل: “إنّ ابن الإنسان جاء ليهب الحياة للعالم” لكنّ هذا الأساس نسي وسادت التّقاليد واشتهرت ألفاظ الابن والأب والرّوح القدس ونسي الأساس الأصليّ. وتفضّل المسيح: “من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا” فأيّة مناسبة بين هذا البيان المبارك وبين وقائع البلقان؟ وأيّة علاقة بينه وبين نزاع الكاتوليك والبروتستانت الّذي قتل فيه تسعمائة ألف شخص؟ راجعوا التّاريخ لتروا ماذا حدث. وأيّة علاقة بين هذه الحوادث وبين بيان حضرة المسيح إلى بطرس. “ردّ سيفك إلى مكانه”؟ إذن فيجب علينا أن نتمسّك بأساس الدّين الإلهيّ حتّى لا يبقى أيّ اختلاف بيننا.
فعرضوا: أتريد أن تنشر دينًا جديدًا؟
فتفضّل: إنّ هدفنا هو إنقاذ أساس الأديان الإلهيّة من التّقاليد لأن سحبًا كثيفة جدًّا قد أحاطت بشمس الحقيقة ونحن نريد أن تخرج من وراء هذه السّحب وتُنير آفاق العالم وأن تتلاشى هذه السّحب الكثيفة وأن يسطع نور شمس الحقيقة على الجميع لأنّ هذه الشّمس لا أوّل لها ولا آخر. (ثمّ نهض حضرته).
فعرضوا: إنّ أملنا هو أيضًا حدوث مثل هذا الاتّفاق والصّلح والاتّحاد ونرجو أن نتّحد ونتّفق معكم.
فتفضّل: أملي كذلك أن يحصل بيننا منتهى الاتّحاد – اتّحاد لا يعقبه انفصال. (وكان في الغرفة المجاورة عدد من الأساقفة والأساتذة. وقبل خروج الهيكل المبارك تشرّفوا بمصافحته واحدًا تلو الآخر وتعرّفوا عليه).
وعرضوا: إنّنا نعبّر عن جزيل شكرنا لبياناتكم المباركة وقد كانت مؤثّرة في الحقيقة وسببًا لسرور الجميع وأملنا أيضًا أن يسود الصّلح والاتّحاد العام.
فتفضّل: لله الحمد إنّ أملنا وهدفنا واحد ولكن يجب أن نبذل الجهد حتّى تتحقّق هذه المقاصد.
فعرضوا: سوف يعقد في باريس في شهر تمّوز مجمع للأديان ورجاؤنا أن تتفضّلوا بقبول دعوته وتشرّفوا المجمع.
فتفضّل: لقد خرجنا من حيفا من سنتين ويجب أن نعود إليها وبعد سجن دام أربعين سنة قمنا بسفرة دامت سنتين أمضيناهما في سفر وترحال مستمرّين فخارت نتيجة ذلك قواي الجسديّة بحيث لم أعد أستطيع التّحدث.
فعرضوا: سوف يقدّم مجمع الأديان لحضرتكم رسالة دعوة حتّى تتفضّلوا بكتابة رسالة إلى المجمع تتلى فيه.
فتفضّل: حسنًا جدًّا.

 

تعاليم بهاء الله

الخطبة المباركة في قاعة المتحف الوطني في بوادبست
 ليلة 15 نيسان سنة 1913

هو الله

ما أشد ما يدعو إلى فخر العالم الإنسانيّ أن تتأسّس في مدينة غربيّة كبوادبست جمعيّة لتحسين أحوال الشّرقيّين وترقّيهم! كأنّ طيور حدائق الغرب تفكّر في تأسيس أوكار لطيور الشّرق.
لهذا فإنّني أشكر الله على حضوري في جمع كهذا، فقد كانت بلاد توران حينًا من الدّهر أعظم ممالك الدّنيا عمرانًا والآن قسم كبير منها تحت حكم روسيا وتقطع السّكة الحديديّة الروسيّة تلك الصحراء في يومين وليلتين.
لاحظوا ما أكبر هذه الصّحراء. وقد كانت أرضها في غاية الخصب وهواؤها في منتهى اللّطف وكانت فيها أنهار كثيرة وكان في تلك الصحراء قديمًا أربع عشرة مدينة كلّ واحدة منها مثل بوادبست وباريس منها مدينة نسف، وترمد، وتسا، وأبيورد، وجرجان، ومرو، وكانت جميع صحرائها معمورة وجميع قراها ومزارعها مأهولة وكانت المدنيّة والعلوم والصّناعة والتّجارة فيها في منتهى الرّقيّ خلال القرنين الثّاني عشر والثّالث عشر الميلاديّين وقد ظهر فيها مؤلّفون شرقيّون كثيرون ولكنّها الآن أمست قاعًا صفصفًا لا مدن ولا عمران ولا خضرة ولا طراوة صحراء تسكنها الحيوانات الضّارّية، وقد حدثت جميع هذه الكوارث من جرّاء العصبيّات المذهبيّة والحروب بين السّنّة والشّيعة.
فالآن ما أجدر بنا أن نشكر الله تعالى على تأسيس جمعية في هذه المدينة لترقية النّورانيّين. ولم يسبق مثل هذا الأمر وهو تأسيس جمعية في أوروبّا لإصلاح الأحوال في آسيا. إنّ هذه معجزة من معجزات هذا العصر النّورانيّ. ولهذا أتمنّى أن يحصل نجاح تام وأن تظهر آثار عظيمة من همّة هذه الجمعيّة حتّى يبقى ذكر بودابست إلى الأبد.
منذ بداية تاريخ العالم حتّى الآن كانت المحبّة والألفة سبب العمران والرّقيّ بين البشر وقد ظهر جميع الأنبياء من أجل الألفة والاتّحاد ونزلت جميع الكتب السّماويّة من أجل المودّة والوفاق وقد خدم جميع الفلاسفة العالم الإنسانيّ وكانت الأديان الإلهيّة سبب الألفة والاتّحاد لأنّ أساس جميع الأديان واحد ومبادئ موسى وعيسى ومحمّد واحدة.
إنّ كلّ دين من الأديان ينقسم إلى قسمين: قسم أصليّ يخدم العالم البشريّ وهو فضائل العالم الإنسانيّ، معرفة الله، الفلسفة الرّبّانيّة، وحدة النّوع البشريّ، التّرقّيات الرّوحانيّة، كشف حقائق الأشياء وإسعاد النّوع الإنسانيّ ومحبّته. وليس بينها أيّ اختلاف في هذا القسم. وهذا هو منطوق الدّين الموسويّ وأساس التّعاليم المسيحيّة وأصل الدّين المحمّدي.
أمّا القسم الثّاني الّذي هو فرعيّ ويتعلّق بالمعاملات فإنّه يتغير حسب مقتضى الزّمان والمكان. فمثلاً في زمان موسى لم يكن لبني إسرائيل في الصّحراء سجون فإن وقعت جريمة فإنّها تستلزم عقابًا. وحسب مقتضى المكان كانت اليد تُقطع من أجل سرقة خمسة فرنكات وكذلك من أحكام التّوراة أنّ إنسانًا لو فقأ عين إنسان تُفقأ عينه وإن كسر سنًّا كسرت سنّه. فالآن هل يمكن في أوروبّا أن تُقطع يد من أجل مليون فرنك؟ ولمّا لم تكن أمثال هذه الأمور مقتضية في زمن حضرة المسيح لهذا فإنّه غيّر القسم الثّاني. وفي التّوراة عشرة أحكام بالقتل. فهل يمكن الآن تطبيق هذه الأحكام؟ ولهذا نسخ حضرة المسيح مثل هذه الأحكام، وكان الطّلاق أمرًا مناسبًا في زمن موسى ولكنّه لم يكن مناسبًا في زمن المسيح لهذا فقد غيّره. وهذا النّوع من الحكم كان مقتضيًا.
وخلاصة القول إنّ الاختلاف بين الأديان إنّما هو في الفروع. أمّا أصل الأديان الإلهيّة وأساسها فواحد. لهذا أخبر كلّ نبيّ بخلفه. وكل نبيّ لاحق صدّق سلفه. وقد كان جميع الأنبياء في صلح في ما بينهم وكان بعضهم يحبّ بعضًا فلماذا يجب أن يختلف أتباعهم؟
ولقد خطبت في سان فرانسيسكو في معبد اليهود وقلت لهم: “إنّ هناك سوء تفاهم بينكم وبين المسيحيّين ولهذا السّبب عشتم مدّة ألفي سنة في عناء. وأنتم تتصوّرون أنّ المسيح عدوّ لموسى مع أنّ موسى لم يكن عنده صديق أعظم من المسيح. وقد رفع حضرة المسيح اسم موسى ونشر التّوراة في جميع العالم وأشهر ذكر أنبياء بني إسرائيل. ولو لم يكن المسيح فكيف كانت تنتشر التّوراة في أوروبّا؟ وكيف كانت تنتشر في أمريكا؟ إذن فحضرة المسيح كان صديقًا لموسى والآن يقول المسيحيّون إنّ موسى كان نبيّ الله فأيّ ضرر في أن تقولوا أنتم أيضًا أنّ المسيح كان كلمة الله حتّى ينتهي هذا النّزاع الّذي دام ألفي سنة؟ وقد تحمّلتم هذه المشاقّ ألفي سنة من أجل هذه الكلمة الواحدة. فلو قلتم فقط إنّ المسيح كان كلمة الله لكنتم في ما بينكم في منتهى الألفة والرّاحة”.
وكذلك الأمر في القرآن فإنّه يذكر اسم المسيح بمنتهى التّقديس وإنّني لا أقول شيئًا من التّاريخ بل أذكر شيئًا مدوّنًا في القرآن بالصّراحة وهو أنّ المسيح كلمة الله وأنّ المسيح روح الله وأنّ المسيح كان من الرّوح القدس. وفي القرآن سورة مخصوصة باسم مريم يتفضّل فيها أنّ مريم كانت دائمًا في قدس الأقداس وكانت مشغولة بالعبادة وكانت تنزل لها من السّماء مائدة، وأنّ عيسى بمجرّد ولادته تكلّم. وفي الحقيقة إنّ هناك في القرآن محامد للمسيح ليست موجودة في الإنجيل أبدًا.
إذن اتّضح أنّ أنبياء الله كانوا في منتهى الصّلح في ما بينهم وأن أساس الأديان الإلهية واحد. وقد قدّس الأنبياء بعضهم بعضًا وما داموا كذلك فلماذا نختلف نحن في ما بيننا؟ مع أنّنا لو تحرّينا الحقيقة لرأينا أنّ مبادئ حضرة موسى وحضرة زرادشت وحضرة المسيح وحضرة محمّد أساسها واحد وأنّ هذه الاختلافات هي من التّقاليد وهذه التّقاليد سبب النّزاع والجدال وعلّة سفك الدّماء والقتال.
إذن يجب أن ننبذ هذه التّقاليد ونتحرّى أساس الأديان الإلهية حتّى نتّحد ويتبدّل سفك الدّماء هذا بالألفة والمحبّة وتتبدّل هذه الظّلمات بالنّور وتتبدّل أسباب الممات بوسائل الحياة وتتبدّل هذه الضّراوة والافتراس بالإنسانيّة والصّفاء.
وعندما تنظرون إلى التّاريخ تعرفون كم من دماء سفكت في العالم الإنسانيّ! وقد احمرّ كلّ شبر من الأرض بدم الإنسان. وقد حدثت في العالم الإنسانيّ ضراوة وافتراس لم تحدث في العالم الحيوانيّ لأنّ كلّ حيوان يفترس كلّ يوم حيوانًا واحدًا لطعامه لكنّ جماعة من الحيوانات لا تقتل مرّة واحدة جماعة من الحيوانات الأخرى ولا تنهب الأموال ولا تخرّب المساكن والملاجئ ولا تأسر أطفال الآخرين وعيالهم. لكنّ إنسانًا واحدًا قاسيًا يقتل في يوم واحد مائة ألف نفس وينهب ويأسر ويذلّ. وقد كانت الحروب دائمًا منذ بداية التّاريخ حتّى الآن إمّا ناشئة من التّعصّب الدّينيّ أو ناشئة من التّعصّب الجنسيّ أو ناشئة من التّعصّب الوطنيّ أو ناشئة من التّعصّب السّياسيّ والحقيقة أنّ جميع هذه التّعصّبات أوهام لأنّ الأديان هي أساس الألفة والمحبّة وأنّ جميع البشر نوع واحد وعائلة واحدة ووجه الأرض وطن واحد وهذه الحروب وهذا السّفك للدّماء جميعه من التّعصّب.
وخلاصة القول إنّه في الوقت الّذي كان فيه أفق الشّرق مظلمًا وظلمة التّعصب والجدال كانت محيطة بجميع الأديان والمذاهب والأقوام وكانت الأحزاب يعتبر بعضها بعضًا نجسًا وما كانت تختلط ببعضها ففي وقت كهذا طلع حضرة بهاء الله من أفق الشّرق طلوع الشّمس.
أوّلاً: أعلن وحدة العالم الإنسانيّ وأنّ جميع البشر أغنام الله والله هو الرّاعي الحقيقيّ وهو رؤوف بالجميع. وما دام هو رؤوفًا بالجميع فلماذا نكون أشدّاء.
ثانيًا: روّج الصّلح العمومي وكتب إلى جميع العالم أنّ الحرب هادمة للبنيان الإلهيّ فإن هدم إنسان بناءً إلهيًّا فلا شكّ أنّه يكون مسؤولاً عند الله.
ثالثًا: أنّ الدّين يجب أن يكون سبب المحبّة والألفة فإن أصبح الدّين سبب الجدال والعداوة فلا شكّ أنّ عدمه أحسن.
رابعًا: أنّ الدّين يطابق العلم والعقل السّليم. لأنّه لو كان مخالفًا لهما لكان أوهامًا، لأنّ العلم حقيقة. ولو كانت مسألة من المسائل الدينيّة تخالف العلم والعقل فإنّها وهم. والعلم الحقيقيّ نور ولا بدّ أن يكون ما يخالفه ظلمة إذن يجب أن يكون الدّين مطابقًا للعلم والعقل. ولهذا فإنّه لمّا كانت جميع هذه التّقاليد الموجودة بين أيدي الأمم مخالفة للعلم والعقل لذلك صارت سبب الاختلاف والأوهام. إذن يجب علينا أن نتحرّى الحقيقة وأن نصل إلى حقيقة كلّ أمر عن طريق تطبيق المسائل الرّوحانيّة مع العلم والعقل فإن تمّ هذا تصبح جميع الأديان دينًا واحدًا. لأنّ أساس الكلّ هو الحقيقة والحقيقة واحدة.
خامسًا: تفضّل أنّ التّعصب الدّينيّ والمذهبيّ والتّعصّب الوطنيّ والتّعصّب الجنسيّ والتّعصّب السّياسيّ هادمة للبنيان الإنسانيّ وقد خاطب أهل العالم متفضّلاً: “يا أهل العالم كلّكم أثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد”.
سادسًا: تفضّل ببيان المساواة بين الرّجال والنّساء. وفي التّوراة قال تعالى: “وخلق الله الإنسان على صورته” وجاء في الحديث النّبويّ: “خلق الله آدم على صورته” والمقصود بهذه الصّورة الصّورة الرّحمانيّة يعني أنّ الإنسان صورة الرّحمن ومظهر صفات الله، والله حيّ
والإنسان حيّ أيضًا. والله بصير والإنسان بصير. والله سميع والإنسان سميع أيضًا. والله مقتدر والإنسان مقتدر أيضًا. إذن فالإنسان آية الرّحمن وهو صورة الله ومثاله وهذا تعميم لا تخصيص بالرّجال دون النّساء. لأنّه ليس عند الله ذكور وإناث. وكلّ من هو أكمل فإنّه أقرب إلى الله سواء كان رجلاً أم امرأة. لكنّ النّساء لم يربّين حتّى الآن تربية الرّجال ولو ربّين كذلك لأصبحن مثل الرّجال. وعندما ننظر إلى التّاريخ نرى كم من الشّهيرات النّساء وجدن في عالم الأديان وفي عالم السّياسة. وفي دين موسى كانت امرأة سبب نجاة بني إسرائيل وسبب فتوحاتهم. وفي العالم المسيحيّ كانت مريم المجدليّة سبب ثبوت الحواريّين، وقد اضطرب جميع الحواريّين بعد المسيح ولكنّ مريم المجدليّة استقامت كالأسد. وفي زمان حضرة محمّد كانت امرأتان أعلم النّساء وروّجتا شريعة الإسلام. إذن صار معلومًا أنّ النّساء ظهرت بينهنّ أيضًا شهيرات. ولا شكّ أنّكم سمعتم في عالم السّياسة بأحوال زنوبيا في تدمر بحيث زلزلت إمبراطورية الرّومان حينما سارت وفوق رأسها تاج في حلّة أرجوانيّة وشعر منثور وفي يدها سيف. وقد قادت جيوشها بحيث أوقعت الخسائر العظيمة بجيش عدوّها وأخيرًا اضطرّ الإمبراطور إلى أن يحضر بنفسه إلى الحرب وحاصر تدمر عامين وأخيرًا لم يستطع أن يتغلّب عليها بشجاعته. ولكنّ المؤونة نفدت منها فسلّمت. فلاحظوا كم كانت شجاعة بحيث لم يستطع إمبراطور مدّة سنتين أن يتغلّب عليها وكذلك سمعتم حكاية كليوبترا وأمثالها.
وفي هذا الأمر البهائيّ كانت قرّة العين في منتهى الفصاحة والبلاغة وأشعارها وآثار قلمها موجودة. وقد مدحها جميع فصحاء الشّرق وكانت لها سطوة ونفوذ بحيث كانت في المباحثات العلميّة تتغلّب دائمًا على مناظريها ولم يجرؤ أحد على مناظرتها. ولما كانت مروّجة لهذا الأمر حبستها الحكومة وآذتها. ولكنّها لم تسكت أبدًا ونادت في السّجن فهدت نفوسًا وفي الأخير حكموا عليها بالإعدام لكنّها كانت في منتهى الشّجاعة لم تهن أبدًا وكانت مسجونة في دار والي المدينة. ومن الصّدف أنه كان هناك عرس وأنس وطرب وغناء وطعام وشراب وكانت كلّ هذه مهيّأة لكنّ قرّة العين أطلقت للسانها العنان بحيث ترك الجميع وسائل الطّرب والسّرور واجتمعوا حولها ولم يعتنوا بالفرح وكانت هي المتكلّمة الوحيدة. مع أنّ الشّاه كان قد أصدر حكمه بقتلها. ومع أنها لم تتجمّل بزينة طول عمرها لكنّها في ذلك اليوم تزيّنت فدهش الجميع وقالوا لها: “ماذا تعملين؟” فأجابت “إنّ هذا يوم عرسي”. ثمّ ذهبت إلى تلك الحديقة في منتهى السّكون والوقار وكان الكلّ يقولون إنّهم سيقتلونها ولكنّها كانت تصيح قائلة: “إنّني أنا صوت السّافور المذكور في الإنجيل” وعلى هذه الحال استشهدت في الحديقة وألقوها في جبّ.
وخلاصة القول إنّ هذه التّعاليم كثيرة والمقصد والأساس الإلهيّ واحد وهو المحبّة والاتّحاد بين النّوع الإنسانيّ وكذلك كان جميع الفلاسفة وجميع المحبّين لخير البشريّة مروّجين لوحدة العالم الإنسانيّ والصّلح العموميّ. لهذا يجب علينا أن نبذل الجهد حتّى تنتشر الوحدة والصّلح بين عموم البشر.

 

إعلان دعوة حضرة الباب

الخطبة المباركة ألقيت في منزل السّيّد والسّيّدة دريفوس بباريس
 مساء 13 أيّار سنة 1913

هو الله 

حيث إنّ اليوم يوم بعثة حضرة الأعلى لذا أهنّئكم جميعًا. لقد كان اليوم يومًا أظهر حضرة الباب في ليلته أمره المبارك إلى حضرة باب الباب في شيراز. إنّ ظهور حضرة الباب عبارة عن طلوع الصّبح، فكما أنّ طلوع الصبح يبشّر بشروق الشّمس فكذلك كان ظهور حضرة الباب علامة لطلوع شمس البهاء، أي أنّه كان صبحًا نورانيًّا بحيث نوّر الآفاق وظهرت تلك الأنوار شيئًا فشيئًا إلى أن تجلّت شمس طلعته المنيرة.
لقد كان حضرة الباب مبشّرا بطلوع شمس بهاء الله، وبشّر بظهوره في جميع كتبه حتّى إنّه يتفضّل في أوّل كتابه المسمّى ﺒ”أحسن القصص”، “يا سيّدي الأكبر قد فديت بكلّي لك ورضيت السّبّ في سبيلك وما تمنّيت إلا القتل في محبّتك”. لقد كانت نهاية آمال حضرة الباب الاستشهاد في هذا السّبيل، وقد وضع تاج السّلطنة الأبديّة على هامته المباركة بحيث ستنير جواهره الزّواهر جميع القرون والعصور. إنّ حضرة الأعلى، روحي له الفداء، تحمّل صدمات شديدة، فقد كان في بداية الأمر سجينًا في بيته في شيراز ثمّ بعد ذلك توجّه إلى إصفهان وأصدر العلماء فيها حكم القتل عليه وأظهروا بذلك منتهى الظّلم والاعتساف، فأرسلت الحكومة حضرته إلى تبريز وحبسته في ماكو ومنها أرسلوه إلى قلعة جهريق ليبقى فيها سجينًا. ولقي حضرته الضرب الشّديد وتحمّل أذى لا يعد ولا يحصى وأخيرًا أعيد إلى تبريز ورموا على صدره المبارك آلافًا من الرّصاص لكنّ هذا الاستشهاد زاد سراجه نورًا وزاد رايته ارتفاعًا وزاد ظهوره قوّة فانتشر اسمه المبارك في الشّرق والغرب إلى يومنا هذا.وخلاصة القول لقد ظنّ البعض أنّ المظاهر المقدّسة لا تعلم عن حقيقة نفسها حتّى يوم ظهورها كالزّجاج المحروم من النّور وعندما يشتعل سراج الأمر يتنوّر ذلك الزجاج الرّوحانيّ، هذا خطأ لأنّ المظاهر المقدّسة ممتازة منذ البداية ولهذا يتفضّل حضرة المسيح “في البدء كان الكلمة”. إذن فالمسيح كان مسيحًا منذ البدء وكان الكلمة “وكان الكلمة عند الله”. وظنّ البعض أن حضرة المسيح حينما عمّده يحيى في نهر الأردن نزل الرّوح القدس عليه وبعث بالرّسالة في حين أنّ حضرة المسيح تفضّل بصريح الإنجيل إنّه كان منذ البدء مسيحًا وكذلك يتفضّل حضرة الرّسول (ص) “كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطّين” ويتفضّل الجمال المبارك “كنت في أزليّة كينونتي عرفت حبّي فيك فخلقتك” فالشّمس شمس دائمًا وإذا أظلمت زمنًا فإنّها ليست بشمس فالشّمس شمس بحرارتها وهكذا كانت المظاهر المقدّسة وستبقى على ما هي عليه من النّورانيّة، وإنّهم ما زالوا نورانيّين وحقائق سماويّة ومؤيّدين بالرّوح القدس وكانوا مظاهر الكمالات الإلهيّة. وما يوم البعثة إلاّ عبارة عن إعلان الدّعوة.
ومثله مثل هذه الشّمس فمع أنّ نقاط طلوعها متعدّدة وتطلع كلّ يوم من برج من الأبراج ومن مطلع من المطالع ولكن لا يجوز القول بأنّ شمس اليوم شمس حادثة بل إنّها نفس تلك الشّمس القديمة لكنّ المطالع والمشارق حادثة وجديدة. وخلاصة القول إنّ حضرة الأعلى، روحي له الفداء، بشّر في جميع كتبه بظهور حضرة بهاء الله وبأنّ ظهورًا عجيبًا سيظهر في “سنة التّسع” ويحصل كلّ خير فيها ويفوز الجميع بلقاء الله أي سيحصل ظهور ربّ الجنود وستطلع شمس الحقيقة وستنفخ روح أبديّة. وهناك بيانات كثيرة كلّها تبشر بظهور حضرة بهاء الله،
ولهذا عندما أظهر حضرة بهاء الله أمره في بغداد في يوم الرّضوان اعترف به جميع البابيّين إلاّ قليلاً منهم. وقد كانت قوّة حضرة بهاء الله وقدرته ظاهرة قبل إظهار أمره وكان جميع النّاس حيارى من شخصيّته الجليلة وكمالاته وعلمه وفضله وقدرته، ولهذا فقد انتبه النّاس –بمجرّد إظهار أمره وفي أيّام قليلة- إلى حقيقة أمره.
ومع أن حضرة بهاء الله كان في السّجن لكنّ أمره أحاط الشّرق والغرب وأراد ملكان مستبدّان أن يمحوا أمره ويطفئا سراجه لكنّه ازداد نورًا، وقد رفع رايته وهو تحت السّلاسل وسطع نوره وهو في غياهب السّجن ولم يستطع جميع أهل الشّرق ملوكهم ومملوكهم أن يقاوموه، وكلّما ازدادوا منعًا وقتلوا أصحابه ازداد الإقبال فأقبل مائة شخص بدل شخص واحد مقتول وغلب أمره. وكانت قدرة حضرة بهاء الله واضحة قبل ظهوره ولم يتشرّف شخص بمحضره الأنور إلاّ وأصابته الدّهشة وقد اعترف جميع علماء آسيا وفضلائها قائلين “إنّ هذا الشّخص عظيم لكنّنا نحن لا نستطيع أن نتخلّى عن تقاليدنا أو نترك ميراث آبائنا وأجدادنا” ولو أنّهم لم يكونوا مؤمنين بحضرته فإنّهم كانوا يعلمون أنّه شخص عظيم. هذا وإنّ حضرة بهاء الله لم يكن قد دخل مدرسة، ولم يكن له معلّم، وكانت كمالاته كمالات ذاتيّة، وكان الّذين يعرفونه جميعًا يعلمون جيدًا بهذه المسألة. ومع كلّ هذا فقد شاهدتم آثاره وسمعتم علومه وكمالاته وشاهدتم حكمته وفلسفته الّتي اشتهرت في الآفاق، وأنّ تعاليمه روح هذا العصر ويشهد جميع الفلاسفة بذلك ويقولون إنّ هذه التّعاليم نور للآفاق.
وخلاصة القول إنّ المظهر الإلهيّ يجب أن يكون نورًا إلهيًّا وتكون نورانيّته من ذاته لا من غيره كالشّمس نورها منها أمّا نور القمر وبعض النّجوم فمن نور الشّمس وهكذا نورانيّة المظاهر المقدّسة فهي نورانيّة صادرة منهم ولا يمكن أن يقتبسوها من غيرهم فغيرهم يجب أن يكتسب العلوم منهم ويقتبس الأنوار منهم لا أنّهم يقتبسون من غيرهم.
إنّ جميع المظاهر الإلهية كانت على هذا العنوان: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد والباب وبهاء الله لم يدخل أيّ واحد منهم مدرسة إلاّ أنّهم كتبوا كتبًا شهد الكلّ على أنّه لا مثيل لها. وقضيّة عدم دخول الباب وبهاء الله المدارس دليل وبرهان تستدلّ به بعض النّفوس في إيران اليوم وفي الشّرق يستدلّون بكتب بهاء الله على صحّة دعوته قائلين إنّه لا يستطيع أحد أن تصدر عنه مثل هذه الآيات، ولم يظهر شخص يستطيع أن يكتب شبهها لأنّ هذه الكتب والآثار صدرت من شخص لم يدخل مدرسة وهي برهان على حقّانيته.
وخلاصة القول إنّ هذه الكمالات كانت كمالات ذاتيّة ولا يمكن أن يكون الأمر بغير ذلك، فالنّفوس المحتاجة إلى التّعلم من الآخرين كيف يمكن أن تصبح مظاهر إلهيّة؟ فالسّراج المحتاج إلى النّور كيف يهب النّور؟ إذًا يجب أن يكون المظهر الإلهيّ نفسه جامعًا للكمالات بالفطرة لا بالاكتساب وأن يكون شجرة مثمرة بذاتها لا ثمرة اصطناعيّة، هذه هي الشّجرة المباركة الّتي تظلّل الآفاق وتعطي الثّمار الطّيّبة.
إذن فانظروا في الآثار والعلوم والكمالات الّتي ظهرت من حضرة بهاء الله والّتي كانت بقوّة إلهيّة وبتجلّيات رحمانيّة. ولقد بشّر حضرة الباب في جميع كتبه بظهور تلك الفيوضات والكمالات الإلهيّة. لذا فأهنئكم بيوم بعثة حضرة الأعلى، روحي له الفداء، وأرجو أن يكون هذا العيد السّعيد واليوم الجديد مباركًا عليكم جميعًا وسببًا لسرور القلوب.

 

عظمة أمر الله

الخطبة المباركة ليلة 19 حزيران 1913 في خيمة
 المسافرين في بور سعيد بعد العودة من أمريكا وأوروبّا

هو الله 

عجيب جدًّا أن يُعقد في بور سعيد مثل هذا المجلس العظيم.
حبّذا لو يرفع الملوك رؤوسهم من تحت التّراب ويرون كيف ارتفعت رايات آيات الحقّ وكيف نكّست أعلام الظّالمين.
ففي بغداد كان الشّيخ عبد الحسين المجتهد يدسّ الشّبهات بصورة خفيّة كلّما وجد فرصة مناسبة ولكنّ الجمال المبارك كان يردّ بالجواب على هذه الشّبهات.
فمن إحدى الشّبهات الّتي كان يدسّها هو أنّه قال ذات ليلة لأصحابه الّذين كان يخصّهم بأسراره: “لقد شاهدت في عالم الرّؤيا شاه إيران جالسًا تحت قبّته وخاطبني قائلاً يا جناب الشّيخ اطمئن فإنّ سيفي سيقتلع البهائيّين ويمحيهم وقد كتبت حول هذه القبّة آية الكرسيّ باللّغة الإنكليزيّة”.
فتفضّل الجمال المبارك بالجواب على قوله برسالة شفهيّة أرسلها بواسطة زين العابدين خان فخر الدّولة فقال: “إنّ هذا الحلم رؤيا صادقة لأنّ آية الكرسيّ هي نفس آية الكرسيّ تلك ولو أنّ الخطّ خطّ إنكليزيّ وهذا يعني أنّ الأمر البهائيّ هو نفس الأمر الإلهيّ الإسلاميّ ولكنّ الخطّ قد تبدّل وهذا يعني أنّ اللّفظ قد تغيّر ولكنّ حقيقته هي نفس تلك الحقيقة ونفس ذلك الفحوى. وأمّا تلك القبّة فهي أمر الله وهو غالب على الشّاه ومحيط بالشّاه والشّاه في ظلّها ولا شكّ أنّها هي الغالبة”.
فالآن أين الشّاه وأين الشّيخ ليريا في بور سعيد في مملكة مصر هذا الجمع الّذي اجتمع تحت هذه الخيمة وليشاهدا روعة هذه الخيمة وما بها من الجمال الكمال!
لقد أراد المخالفون محو أمر الله ولكنّ أمر الله زاد صيته ارتفاعًا. “يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره” لأنّ الله يجعل أمره ظاهرًا ونوره باهرًا وفيضه كاملاً.
وخلاصة القول إنّه لم ينقضِ وقت طويل إلاّ وتزلزت بغداد فاجتمع بعض العلماء منهم الميرزا علي نقي والسّيّد محمّد والشّيخ عبد الحسين والشّيخ محمّد حسين. وانتخب هؤلاء المجتهدون شخصًا شهيرًا من العلماء اسمه الميرزا حسن عمو وأرسلوه إلى الحضور المبارك، فتشرّف بلقائه بواسطة زين العابدين خان فخر الدّولة وقام أوّلاً بطرح بعض الأسئلة العلميّة على حضرة بهاء الله وسمع أجوبة كافية شافية. ثمّ عرض: أمّا من ناحية علمكم فهذا شيء مسلّم به ومحقّق وليس لأحد شكّ فيه وجميع العلماء عارفون ومقتنعون بذلك لكنّ حضرات العلماء أرسلوني كي تظهروا لهم المعجزات والخوارق ليصير ذلك سببًا في اطمئنان قلوبهم. فأجاب حضرة بهاء الله، حسن جدًّا لكنّ أمر الله ليس ملعبة للصّبيان كما تفضّل في القرآن على لسان المعترضين: “وقالوا لن نؤمن لك حتّى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا… أو يكون لك بيت من زخرف” وقال بعضهم: “أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً” وقال بعضهم: “أو
ترقى في السّماء ولن نؤمن لرقيك حتّى تنزل علينا كتابًا” فيردّ الله في جواب هؤلاء جميعًا بقوله تعالى: “قل سبحان ربّي هل كنت إلاّ بشرًا رسولاً”. أمّا أنا فأقول حسن جدًّا عليكم أن تتّفقوا في تعيين أمر وتكتبوا ذلك وتضعوا تواقيعكم عليه بأنّه إذا ظهر فلا تبقى لنا أيّة شبهة ثمّ سلموه لي، حينذاك أرسل لكم شخصًا كي يظهر لكم تلك المعجزة”.
فاقتنع الميرزا حسن عمو وقال لم يبقَ لي قول لأقوله وأخذ يده المباركة بقوّة وقبّلها وانصرف وأخبر العلماء بما سمعه. لكنّ العلماء لم يقبلوا وقالوا ربّما يكون هذا الشّخص ساحرًا.
  وكلّما قال لهم: “يا أيّها المجتهدون أنتم الّذين أرسلتموني وأنتم الّذين أردتم مني هذا ولقد فضحتموني” لكنّ ذلك لم يجد معهم وجميع النّاس يعرفون هذه القضيّة. وبعد مدّة ذهب الميرزا إلى كرمنشاه وقصّ القصّة بتمامها في مجلس عماد الدّولة الّذي كان حاكمًا على كرمنشاه وحيث إنّ عماد الدّولة كان مريدًا للميرزا غوغاء الدّرويش وكان هذا الأخير مؤمنًا يكتم إيمانه لذلك لمّا سمع تفاصيل القضيّة كتب إلى بغداد ما سمعه وكذلك كتب إلى سائر الجهات.
كذلك حمل الميرزا حسن عمو المشار إليه هذه القصّة بتمامها إلى طهران وقصّها في مجلس الميرزا سعيد خان وزير خارجية الدّولة وحيث إنّ المرحوم الميرزا رضا قلي كان حاضرًا فقد كتب لنا تفصيل ذلك.
مقصدي أنّه برغم هذه الشّبهات والإلقاءات وبرغم مقاومة الشّاه لم تحصل أيّة ثمرة فغلب أمر الله وتنوّر الشّرق لله الحمد كما تعطّر الغرب.
وحينما كنّا نسير من طهران إلى بغداد لم يكن يوجد مؤمن واحد في طريقنا أمّا في هذا السّفر، وجدنا في كلّ بلد نعبره في بلاد الغرب أحبّاء في أماكن لم يسمع بها مثل دنور ودوبلن وبفالو وبوسطن وبروكلين ومونتكلر ومونتريال وأمثالها أماكن ارتفع فيها النّداء الإلهيّ. وكما يقول الشّاعر (ما معناه): “ليس في البلد صخب وضجيج غير تموّج ذوائب الحبيب وليس في الآفاق فتنة غير قوس حاجب المحبوب”().
فلقد ارتفع نداء الله بشكل تلذذت منه جميع الآذان واهتزّت له جميع الأرواح وتحيرت منه جميع العقول قائلة: “أي نداء هذا النّداء! وأي كوكب هذا الكوكب السّاطع.” فهذا حيران وذاك مشغول بالتّحقيق وثالث يبرهن بالأدلة والجميع يقولون إنّ تعاليم حضرة بهاء الله لا مثيل لها وهي في الحقيقة روح هذا العصر ونور هذا القرن.
وكل ما هنالك أنه كان يعترض بعضُهم قائلاً: إنّ مثل هذ التّعاليم موجودة في الإنجيل كنا نقول له: “إنّ أحد هذه التّعاليم وحدة العالم الإنسانيّ” ففي أي سفر يوجد هذا التّعليم؟ تعال دلنا. وأحد هذه التّعاليم “الصّلح العمومي” ففي أي سفر هو موجود؟ وأحد هذه التّعاليم “إنّ الدّين يجب أن يكون سب المحبّة والألفة فإن لم يكن كذلك فانعدام الدّين خير من وجوده” ففي أي سفر تجد هذا؟ وأحد هذه التّعاليم “أنّ الدّين يجب أن يكون مطابقًا للعلم الصحيح والعقل السّليم” ففي أي سفر هذا؟ و”المساواة بين الرّجال والنّساء” ففي أيّ سفر موجودة وترك
التّعصّب المذهبيّ والدّينيّ والوطنيّ والسّياسيّ والجنسيّ في أيّ سفر موجود وقس على ذلك والسّلام.

 

أسباب فخر الإيرانيّين

الخطبة المباركة في بور سعيد في 21 حزيران 1913

هو الله

الحمد لله بعدما طال أمد انتظاركم قد تهيّأت وسائل لقائنا أخيرًا وأنا أيضًا كنت أتمنّى لقاءكم ولله الحمد جئتم إلى الرّوضة المباركة في البقعة المقدّسة وعطّرتم المشام بزيارة تلك العتبة.
إنّ زيارة العتبة المباركة في هذه الأيّام كأنّها التّشرّف بالحضور المبارك لا فرق في ذلك أبدًا فجميع الأرواح طائفة حولها وأرواح الملأ الأعلى طائفة حول الرّوضة المباركة والمقام الأعلى والحمد لله على فوزكم بذلك.
والآن استيقظ أهل إيران وصاروا يعرفون من أين جاءت مثل هذه الموهبة الّتي اختصهم بها الله – تلك الموهبة الّتي لا مثيل لها ولا نظير ومثل هذه العناية الّتي قدّرت في حقّهم ومثل هذا التّاج الّذي وضعه الله على رؤوسهم. وفي الوقت الحاضر لا تزال المواهب الّتي اختص الله بها إيران والإيرانيّين مجهولة ولكنّها ستظهر فيما بعد ولو عرف الإيرانيّون لافتخروا بذلك إلى الأبد ولطاروا من شدة الفرح والسّرور.
فقد ظهر حضرة المسيح من بين السّبطيّين فابتعدوا عنه في بادئ الأمر وسخروا منه وشتموه وبعد ذلك فهموا أيّة نعمة خسروها فحينما آمن أهالي أوروبّا انتبهوا إلى الموهبة العظيمة الّتي منحت لهم ولكنّهم نبذوها دون أيّ سبب!
وكذلك حال الإيرانيّين اليوم فهم لا يعرفون أيّة عناية اختصّهم بها الله!
إنّ جميع الخلق كانوا يتمنّون أن يتشرّفوا بحضور نفس مباركة وأنتم ولله الحمد عشتم في أيّام الجمال المبارك حين كانت أنوار النّير الأعظم ساطعة وغيث الرّحمة هاطلاً ونسيم العناية هابًّا.
فاشكروا الله وابذلوا الجهد وبلّغوا وأيقظوا هؤلاء الإيرانيّين وقولوا لهم: “أيّها الإيرانيّون! هل تعلمون أيّ كوكب طلع من أفق إيران؟ ويا أيّها الإيرانيّون! هل تعلمون أيّة شجرة مباركة غرست في ظهرانيكم؟ ويا أيّها الإيرانيّون! هل تعلمون في أمواج أي بحر انغمرتم؟ استيقظوا استيقظوا! إلى متى تبقون في هذه الغفلة؟ وإلى متى تبقون خامدين؟ وإلى متى تبقون جاهلين لهذه الموهبة؟ فالآن قد جاء وقت اليقظة ووقت الانتباه”.

 

مجلس بديع

الخطبة المباركة في بور سعيد ليلة 27 حزيران 1913

هو الله

في الحقيقة إنّ هذا مجلس بديع ولا يمكن أن يكون أبدع منه. فالحاضرون من أحبّاء الله مجتمعون في كمال التّوجّه إلى الله والقلوب في منتهى المحبّة والألفة والصّدور منشرحة ومضيفنا جناب آقا ميرزا جعفر أيضًا في غاية المحبّة ومثل هذا المجلس يسمّى مجمع البحرين وقد ذكر في القرآن “مرج البحرين” أي المكان الّذي فيه التقى حضرة موسى ويوشع بشخص عظيم “علّمناه من لدنّا علمًا” حينما صارت السّمكة الميتة حيّة ولهذا معنى بديع.
وخلاصة القول أتمنّى إن شاء الله أن تصل التّأييدات الإلهيّة تباعًا وتتهيّأ الأسباب لتكرار أمثال هذه المجالس. إنّ لهذه المجالس تأثيرات عظيمة في عالم الوجود وتدرك النّفوس البصيرة الآثار والنّتائج الّتي ستحصل منها.
ففي كور حضرة المسيح اجتمع الحواريّون في أعلى الجبل اجتماعًا لو دقّقنا النّظر مليًّا فيه لرأينا أنّ جميع ما حدث بعده من الحوادث كان من نتائج ذلك الاجتماع.
وتفصيل ذلك هو أنّ الحواريّين بعد حضرة المسيح تشتّتوا واضطربوا وكانت مريم المجدليّة السّبب في جمع حضراتهم ثانية، فرسخوا وثبتوا في أمر حضرة المسيح. فقالت لهم: “لم أنتم مضطربون تائهون؟ فلم يحدث أمر جديد لأنّ حضرة المسيح تفضّل مرارًا إنّ هذا الأمر سيقع وكلّ ما وقع هو أنّ جسم حضرة المسيح غاب عن الأنظار ولكنّ حقيقته ساطعة لامعة لن تنالها المصائب بل إنّ الإهانة وقعت على جسد حضرة المسيح لا على روحه الحقيقيّ. فلم أنتم مضطربون؟ وفضلاً عن هذا فإنّ حضرة المسيح عاش في مصائب لا يستطيع أحد تحمّل يوم واحد منها فقد كان طيلة سنوات ثلاث يعيش في الصّحراء فحينًا كان يقتات على الحشائش وحينًا كان يفترش الغبراء وفي لياليه كانت النّجوم مصباحه الوحيد ومع كلّ هذه الصّعاب والمشاق فقد ربّاكم لمثل هذا اليوم. فإن كانت في مشامّكم رائحة وفاء فإنّكم لن تنسوا ذلك ولن تختاروا الرّاحة ولن تطلبوا الرّخاء وإن كنتم أهل وفاء فاشتغلوا بذكره. فهل يليق بنا أن ننسى ذلك الوجه المشرق؟ أو هل يليق بنا أن نمحو من ذاكرتنا تلك العنايات؟ أو هل يليق بنا أن نغضّ الطّرف عن تضحيات حضرته ونكون مثل بقيّة النّاس منهمكين في الأكل والنّوم ونشغل بالنا في رخائنا وبذخنا وراحتنا؟ أفي هذا وفاء منا أن يتوراى الهيكل المكرّم وتلهينا نحن أهواؤنا؟”.
والخلاصة أنّها جمعت الحواريّين ودعتهم إلى ضيافة فوق الجبل وبعدما تذكّر البعض منهم ألطاف السّيّد المسيح الّتي لا نهاية لها قالوا إنّه يجب علينا أن ننظر ما يقتضي الوفاء عمله فنعمل ولا شكّ أنّ الوفاء لا يقتضي أن نرتاح وننشغل بالملذّات الدّنيويّة وننهمك في أهوائنا بل يجب أن نفدي كلّ ما نملكه وأكثر فعلينا قبل كلّ شيء الانقطاع عن كلّ شيء. والنّفوس الّذين لهم علاقات ولا يستطيعون الانقطاع فليعتذروا ولينصرفوا. وأمّا الّذين لا علاقات لهم فليبقوا هكذا ولا يتعلّقوا ولا يفكّر أحد قطّ في شيء غير حضرة المسيح ولنحصر جميع أفكارنا في عبوديّته ولننشغل بنشر نفحاته ولنجهد في نشر كلمته”.
فتعاهدوا وأقرّوا ميثاقًا في ما بينهم ثمّ نزلوا من الجبل وتوجّه كلّ واحد منهم إلى جهة من الجهات وهو يهتف ويصيح. وقاموا بكلّيّتهم على خدمة الملكوت.
وكلّ ما وقع في كور حضرة المسيح وقع من نتائج ذلك المجلس وإلى الآن أثاره باقية.
فالآن نحن كذلك الجالسين في هذا المكان بكمال الرّوحانيّة والألفة نتمنّى أن تحصل نتائج عظيمة من هذه الألفة.

 

ما أقل البشر إنصافًا

الخطبة المباركة في عكّاء بتاريخ 17 كانون الأوّل 1913

هو الله 

حقًّا ما أقلّ البشر إنصافًا فمنذ يوم ظهور المسيح حتّى يومنا هذا لم يستطع أحد أن يذكر المسيح في معابد اليهود في حين أنّ البهائيّين يثبتون في معابد اليهود أنّ المسيح كلمة الله وأنّ المسيح روح الله. كما يثبتون في كنائس النّصارى أنّ حضرة محمّد رسول إلهيّ. ومع هذا فالنّاس غير راضين عنا.
في ذات يوم كنّا في نيويورك في طريقنا إلى كنيسة للتّحدث فيها فصادفنا شخص هنديّ من عظماء ذلك البلد ودهش حين رآنا متوجّهين إلى الكنيسة فقال في نفسه: “دعني أرى ما الخبر”. فجاء إلى الكنيسة ورآنيّ واقفًا على المنصّة أثبت صحّة نبوّة الرّسول الأكرم فتحيَّر وحينما خرجنا كان وجهه يطفح بالبشر والسّرور بشكل لا يوصف وقال: “والله ما أروع ما شاهدت، إنسان في كنيسة مسيحيّة وفي حضور المسيحيّين والقسّ يقف ليثبت نبوّة الرّسول الكريم” وقد انجذب هذا الشّخص إلى أمر الله انجذابًا كلّيًّا.
وفي الحقيقة كانت الكنيسة تغصّ بالحاضرين وقد أبدى القسّ شكره وامتنانه وسروره.
ومع أنّنا كنّا في سفرنا ذلك في منتهى العجز والضّعف إلا أنّ تأييدات الجمال المبارك كانت تتموّج تموّج البحر حولنا وكنّا في كلّ مكان نردّه نرى جميع الأبواب تنفتح حين نشرع بالحديث وتؤيّدنا أنوار شمس الحقيقة بشكل لا يمكن وصفه وحصره.
وفي كلّ مكان دخلته سواء كان كنيسة أم معبدًا أم مجمعًا كنت أتوجّه أوّلاً إلى الملكوت الأبهى مدّة بضع دقائق وكنت أطلب التّأييد منه فألاحظ تأييدات الجمال المبارك تتموّج في ذلك المحفل وبعد ذلك كنت أشرع بالحديث.
الحمد لله إنّ أمر الجمال المبارك قد اشتهر في أيّام حياته المباركة وظهرت جميع آثاره وحتّى آثار أحبّائه.
وكان الإيرانيّون يقولون كيف سيكون مستقبل إيران، فكنت أقول لهم إنّ هذه الأمور الّتي ترونها الآن في إيران إنّما هي أسباب دمار إيران وهذه الاختلافات وهذه الأحزاب المختلفة من ديمقراطيّة ومعتدلة إنّما تخرّب إيران يومًا بعد يوم.
قيسوا حالة إيران الحاضرة بحالتها قبل عشر سنوات تروا أنّ هذه الاختلافات خرّبت إيران تخريبًا وهي تزاد يومًا فيومًا. وكانوا يسألون: “كيف سيكون المستقبل؟” فقلت لهم سأضرب لكم مثلاً يوضح مستقبل إيران وقيسوا عليه بأنفسكم فهو دليل كافٍ ووافٍ، فهذه مكّة المكرّمة قطعة من بلاد صخرّية وتقوم في وادٍ غير ذي زرعٍ لا ينمو فيها عشب أبدًا وصحراؤها صحراء رملية وهي في منتهى الحرارة وليست قابلة للعمران، وماذا ينبت في أرض صخريّة رمليّة لا ماء فيها؟ إلاّ أنّها لمّا كانت موطن حضرة الرّسول الأكرم فقد أصبحت هذه البلاد الصّخرية البلقع قبلة الآفاق يتوجّه إليها الخلق عند السّجود فافهموا من هذا ماذا سيكون عليه مستقبل إيران.
فتلك البلاد الصّخرية بما أنّها كانت موطن حضرة الرّسول الأكرم أصبحت قبلة الآفاق أمّا إيران الخضراء البديعة ذات الأزهار الطّيبة والهواء اللّطيف والماء العذب ماذا سيكون مستقبلها؟ قيسوا على هذا فهو ميزان كافٍ.

 

آفة الأنانيّة

الخطبة المباركة ألقيت في حيفا في المقام الأعلى

 يوم 28 آب 1914

هو الله

ما أروع هذا المجلس إنّه في غاية الرّوحانيّة وهو مرتّب ومنظّم.
في هذا العالم تتشكّل مجامع كثيرة ولكن لا نظم لها ولا ترتيب وهناك اختلاف بين أعضائها في الآراء. أمّا في هذا المجمع ولله الحمد فإنّ قلوب جميع الأعضاء متّحدة مع بعضها، ونوايا الجميع ومقاصدهم واحدة وليس بينهم أي أثر لأفكار مختلفة وأتمنّى أن يحصل لهذا المجمع يومًا فيومًا تقدّم باهر ويرتقي في جميع مراتب الوجود سواء في التّوجّه إلى الله أو في الفضائل المعنويّة أو في العلوم والفنون المكتسبة ويرتقي في جميع الأحوال ولا تحلّ بين أعضائه أفكار مختلفة وآراء متنوّعة لأنّ جميع المشاكل الّتي تحدث إنّما هي من الأفكار المختلفة ومن الأنانيّة وحبّ الذّات.
وهذه الأنانيّة وحبّ الذّات سبب جميع هذه الاختلافات. وليس في عالم الوجود آفة كحبّ الذّات الّذي يعني أن لا يرضى الإنسان على الآخرين بل يرضى على نفسه فقط. وحبّ الذّات يؤدّي إلى التّكبّر وإلى العجرفة وإلى الغفلة. ولو تحرّينا بصورة دقيقة لوجدنا أنّ كلّ بلاء في عالم الوجود ينتج من حبّ الذّات فيجب أن لا نعجب بأنفسنا بل نعتبر سائر النّاس خيرًا منا حتّى النّفوس غير المؤمنة. لأنّ حسن الخاتمة مجهول. فكم من نفوس ليست مؤمنة بل يأتي يوم تؤمن فيه وتكون مصدرًا لخدمات عظيمة وكم من نفوس مؤمنة الآن ولكنّها تغفل في آخر حياتها عن اللّحق. فيجب علينا أن نفضّل كلّ إنسان على أنفسنا ونراه أعظم وأشرف وأكمل منّا لأنّنا بمجرّد اعتبارنا أنفسنا ممتازين عن الآخرين نبتعد عن طريق النّجاة والفلاح. إنّ هذا يأتي من النّفس الأمّارة الّتي تجعل الإنسان يرى كلّ شيء سيئًّا ما عدا نفسه وهكذا ترمي الإنسان في بئر عميقة ظلماء لا قعر لها فهي تجعل الظّلم في نظر الإنسان في كلّ ساعة عدلاً وتصوّر له الذّلّة المحضة شرفًا أكبر وتبدي له المصيبة العظيمة راحة تامّة. وعندما نحقّق جيّدًا نرى أنّ هذه البئر الظّلماء هي بئر حبّ الذّات لأنّ الإنسان لا يعجب بأطوار الآخرين وسلوكهم وأقوالهم بل يعجب بأطواره وسلوكه وشؤونه.
معاذ الله أن يخطر ببال أحدنا حبّ الذّات. لا سمح الله، لا سمح الله، لا سمح الله، فنحن حين ننظر إلى أنفسنا يجب أن نرى أنّه ليس في الدّنيا نفس أذلّ منها وأوضع منها وأحقر منها. وحين ننظر إلى الآخرين نرى أنّه ليس في الدّنيا أعزّ وأكمل وأعلم منهم. لأنّنا يجب أن ننظر إلى الجميع بنظر الحقّ ويجب أن نعتبرهم أعزّاء ونعتبر أنفسنا أذلاّء. وكلّ تقصير نشاهده في إنسان نعتبره تقصيرًا في أنفسنا لأنّنا لو لم نكن مقصّرين لمّا شاهدنا هذا التّقصير. ويجب على الإنسان دائمًا أن يرى نفسه مقصرًا وغيره كاملاً. وإنّي على سبيل الذّكرى أقول إنّ حضرة المسيح روحي له الفداء مرّ ذات يوم بجيفة وهو بصحبة الحواريّين. فقال أحدهم: “ما أشدّ تعفّن هذا الحيوان!” وقال آخر: “ما أقبح صورته!” وعبّر ثالث عن كراهيّته له فتفضّل حضرة المسيح: “لاحظوا أسنانه ما أشدّها بياضًا!”. فمن هذا تلاحظون أنّ حضرة المسيح لم يرَ أيّ عيب من عيوب ذلك الحيوان بل فتّش حتّى شاهد أنّ أسنانه بيضاء فشاهد بياض الأسنان وغضّ الطّرف بعد ذلك عن تفسّخه وتعفّنه وقبح منظره.
واعلموا يقينًا أنّ كلّ قلب فيه بصيص من نورانيّة الجمال المبارك لن تجري على لسانه كلمة “أنا” أعني الكلمة الّتي تدلّ على الأنانيّة بقوله أنا كذا وأنا عملت كذا وأنا أحسنت وفلان أساء. فكلمة الأنانيّة هذه ظلمة تغشى نور الإيمان. وكلمة حبّ الذّات هذه تجعل الإنسان غافلاً عن الله تمامًا.
هو الأبهى يا إلهنا القدير حرّر عبيدك العجزة هؤلاء من قيود الذّاتيّة وأطلقهم من شراك الأنانيّة وآونا جميعًا في ظلّ عنايتك ونجّنا جميعًا في كهف الحفظ والحراسة والانقطاع والتّحرّر من شؤون النّفس والهوى حتّى نتّفق ونتّحد جميعًا في ظلّ خيمة الوحدة وحتّى نعبر الصّراط وندخل في جنّة الأبهى جنّة الوحدة الحقيقيّة. إنّك أنت الكريم وإنّك أنت الرّحيم لا إله إلاّ أنت القويّ القدير.

 

الحرب هادمة للبنيان الإنسانيّ

الخطبة المباركة ألقيت غداة نشوب الحرب العالميّة الأولى (1914)

هو الله

لقد تأزّمت الأمور واضطربت الدّنيا والقوم مشغولون ينحر بعضهم بعضًا.
لقد قلت في أمريكا وأوروبّا في المجامع والكنائس والمحافل: “إنّ عاقبة الحالة الحاضرة وخيمة جدًّا فأوروبّا أشبه بمخزن متفجّرات وانفجاره ينتظر شرارة واحدة فتعالوا وأخمدوا هذه النّار ما دام ذلك ممكنًا حتّى لا تحدث هذه الحرب” ولكنّهم لم يسمعوا النّصح.
والآن حدثت هذه النّتيجة مع أنّكم ترون أنّ الحرب هادمة للبنيان الإنسانيّ وسبب خراب العالم ولا نتيجة منها أبدًا وكلا الغالب والمغلوب يتضرّر منها ضررًا بالغًا ومثلهما مثل سفينتين اصطدمتا بعضهما ببعض فإن أغرقت إحداهما فالسّفينة الباقية لا بدّ أن يصيبها ضرر وتبقى معطوبة. وغاية ما في الأمر أنّ دولة تتغلّب غلبة مؤقّتة على دولة أخرى ولن تمضي أيّام إلاّ ويصبح المغلوب غالبًا والمقهور منتصرًا. وكم من مرّة حدث أن غلبت فرنسا ألمانيا ثمّ تغلّب الألمان بعد ذلك على الفرنسيّين.
يا للعجب ما أشد تأثير الأوهام في القلوب في حين أنّ الحقائق لا تأثير لها. إنّ هذا شيء غريب جدًّا. فالاختلاف الجنسيّ مثلاً أمر وهميّ ولكن ما أعظم تأثيره! مع أنّ الجميع كلّهم بشر وكلّ ما في الأمر أنّ جماعة تسمّى بجنس الصقالبة وجماعة تسمى بجنس الألمان وجماعة تسمى بجنس الفرنسيّين وجماعة تسمى بجنس الإنجليز. لاحظوا أنّ اختلاف الأجناس هذا أمر وهميّ ولكن ما أشدّ تأثيره ونفوذه! والحال أنّ الجميع بشر وهذه حقيقة واضحة وهي أنّ جميع البشر نوع واحد.
لكنّ هذه الحقيقة لا تأثير لها في حين أنّ هذا الاختلاف الجنسيّ الّذي هو أمر موهوم ومجازيّ له كلّ التّأثير.
ومع كلّ هذه الحروب الّتي وقعت والدّماء الّتي سفكت وكلّ هذه البيوت الّتي هدمت وكلّ هذه المدن الّتي دمّرت فالقوم لم يشبعوا من الحروب والقلوب لا تزال قاسية ولم ينتبه النّاس بعد إلى أنَّ هذه البغضاء والعداوة هادمة للبنيان الإنسانيّ وأنّ الحبّ والألفة سبب راحة البشر ورخائهم.
فما أشدّ اضطراب النّاس في هذه الأيّام!
وكم من آباء يئنّون ويستغيثون ولا يقرّ لهم قرارًا وكم من أمّهات يبكين في حال من الاضطراب لا توصف! فما الّذي أجبر هؤلاء على الحرب؟
إنّ مسبّبي الحرب جالسون في منتهى العزّة في مساكنهم وألقوا بهؤلاء الفقراء المساكين في ساحة الحرب يمزّق بعضهم بعضًا، فما أشدّ هذا التّعسف!
وبينما لا يرضون أن تقطع شعرة واحدة من رؤوسهم تراهم يقتلون آلاف النّفوس في ميدان الوغى والقتال. دون جدوى.
فالآن قد حصلت مشاكل بين النّمسا والصّرب فلو أحيلت هذه المشاكل إلى محكمة عموميّة لتحلّها فإنّ تلك المحكمة الكبرى تقوم بالتّحقيق فإن كان الذّنب ذنب النّمسا فإنّها تصدر الحكم وإن كان الذّنب ذنب الأخرى فإنّها تحكم عليها أيضًا. فما الحاجة لهذه الحرب؟
فالمحكمة الكبرى تحلّ المسألة وإن حصلت بين الأفراد مشاكل فإنّ المحكمة الفضائيّة تحلّها. وعلى هذا النّحو تتشكّل محكمة كبرى تفصل في المشاكل بين الدّول والملل. فما أحسن هذا التّرتيب! وأيّ ضرر في ذلك؟ فالدّول والملوك أنفسهم يرتاحون وينالون كلّ الاطمئنان.
وفي الحقيقة منذ بداية العالم وكتابة التّاريخ حتّى الآن لم يحصل ضرر من التّآلف والمحبّة والصّلح مطلقًا لأيّ إنسان بل كان في ذلك سرور للكلّ وراحة للكلّ وحصلت الأضرار من الحرب للجميع. ومع هذا فالبشر مصرّون على الحرب ويجدّون دائمًا في البحث وراء الحرب.
والعجيب في أمر هذه الملل أنّها ظنّت أنّ أساس الدّين الإلهيّ مبنيّ على الحرب فما أشدّ هذه الغفلة وما أحطّ هذا العقل! كأنّ القلوب ليست فيها ذرّة من المحبّة.
لاحظوا إنّ الإنسان لديه صفة الوحشيّة والافتراس ولكنّه يتّهم الحيوان بتهمة الافتراس. فالحيوان المفترس يصيد من غير نوعه صيدًا واحدًا يضطرّ إليه لطعامه. ومثلاً
يقولون عن الذّئب إنّه مفترس. مسكين هذ الذّئب يفترس حملاً لطعامه لأنّه إن لم يفترس يمت من الجوع لأنّه من آكلات اللّحوم ولكنّ إنسانًا يسبّب تمزيق مليون نسمة ثمّ يتّهم الحيوان المسكين بهذه التّهمة. أيّها الرّجل إنّك قتلت مليون نفس وتقول إنّك فاتح، مظفّر، شجاع، مقدام، وتفخر بهذا القتل ومع هذا تتّهم الذّئب والدّبّ بالافتراس! عجيب أمرك!

 

أقوى قوّة هي المحبّة

الخطبة المباركة ألقيت قبيل الحرب العالميّة
الأولى في الأرض المقدّسة 1914

هو الله 

عجيب أنّ جميع الخلق مضطربون.

قبل ما يقارب العشرة أو الخمسة عشر يومًا تحدّثنا إلى القنصل الألمانيّ حول الحرب وقد أصرّ هو على وجوب زيادة القوّة الحربيّة وإكمالها وكان يقول إنّ القوّة الحربيّة كلّما كانت أكمل فإنّها تكون سببًا للرّقيّ. وكان بعض الألمان وبعض الأشخاص حاضرين وصدّقوه في ما ذهب إليه واتّفقوا معه في هذه المسألة. فقلت لهم: “لو أنّ قوّة المحبّة تتغلّب فإنّ تأثيراتها تكون أعظم من القوّة الحربيّة وليس في عالم الوجود قوّة نافذة كنفوذ قوّة المحبّة فبالقوّة الحربيّة يسكت النّاس ويصمتون عن طريق الإكراه ولكنّهم بقوّة المحبّة يطيعون الأمر محض رغبتهم. فاليوم تجهد جميع الدّول جهدًا متواصلاً في تهيئة وسائل الحرب ولو أنّ الحرب غير موجودة على حسب الظّاهر ولكنّ الحرب الاقتصاديّة قائمة مستمرّة لأنّ هؤلاء الفقراء المساكين يجمعون بضع حبوب بكدّ اليمين وعرق الجبين ثمّ يصرف جميع ذلك على الحرب ولهذا فالحرب مستمرّة قائمة. والآن لو أنّ هذا الإصرار والحرص الّذي لدى الدّول في التّجهيزات الحربيّة وهذه الأفكار الّتي تصرفها لتوسيع العلوم الحربية وهذ السّعي والجهد والهمّة والفكر –لو بذل في سبيل المحبّة بين البشر وارتباط الدّول والملل وألفة الأقوام أفلا يكون ذلك أفضل وأحسن؟ وبدلاً عن استلال السّيوف وسفك بعضهم دماء البعض الآخر ألا يكون الأفضل أن يفكّروا براحة بعضهم بعضًا واطمئنانه ورقيّه؟”.
لكنّ حضرات الحاضرين لم يقبلوا هذه الأقوال وكانوا يجادلون فيها فقلت لهم: “ترى ما ثمرة هذا السّفك للدّماء؟ وما نتيجة هذا الظّلم؟ وأيّة منفعة جنتها البشريّة من العدوان والهجوم من أوّل العالم حتّى الوقت الحاضر كما يخبرنا تاريخ البشريّة؟ بل لاحظوا على العكس أيّة أثمار لذيذة ظهرت بقوّة المحبّة وأيّة فتوحات معنويّة تجلّت وأيّة آثار روحانيّة ظهرت! فحريّ بعقلاء الأرض أن تنصرف أفكارهم إلى نشر قوّة المحبّة فهي سبب الألفة والوئام وسبب العزّة الأبديّة وسبب راحة العالم الإنسانيّ”.
ولكن حضرات الحاضرين لم يرضوا أن يرضخوا لهذا الرّأي بل سكتوا ولم يعترفوا بل صمتوا.
واليوم نشاهد جميع الألمان في هذا البلد محزونين مهمومين لسماعهم خبر إعلان الحرب وهم على درجة من الحزن لا توصف لأنّهم يرون أنّهم في خطر لئلا ينكسر الألمان. ترى لماذا يرمون النّاس في الخطر؟ مع أنّ هؤلاء في الحقيقة أهل دين واحد وهو دين حضرة المسيح ومن جنس واحد هو الجنس الآريّ الّذي جاء في قديم الزّمان من آسيا إلى أوروبّا
واستقرّ في بقاع مختلفة منها واتّخذ كلّ جمع بعد فترة من الزّمن لموطنه اسمًا مختلفًا مثل فرنسا، ألمانيا، إنكلترا وإيطاليا.
ثمّ حدثت أسباب الاختلاف بينها تدريجيًّا ولكنّها كانت كلّها في الأصل جنسًا واحدًا. ثمّ حلّت بينها أوهام واشتدّ الاختلاف يومًا فيومًا. وكذلك حينما نفكّر مليًّا نلاحظ أنّهم ساكنون في قطعة واحدة من الأرض هي القارّة الأوروبّيّة فإن قالوا إنّ الاختلاف حدث بسبب اختلاف الدّين فجميعهم أهل دين واحد وإن قالوا إنّ الاختلاف حدث بسبب الجنس فكلّهم جنس واحد وإن قالوا إنّ الاختلاف حدث بسبب الوطن فكلّهم يسكنون قطعة أرض واحدة.
وعلاوة على كلّ هذا فإنّ جميع هؤلاء من النّوع البشريّ ومن دوحة واحدة ونموا من شجرة واحدة.
وحينما كنت في أوروبّا كانت كلّ ملّة فيها تنادي: “الوطن! الوطن! الوطن!” فكنت أقول يا أعزّائي ما الخبر في كلّ هذا الضجيج؟ ومن أين كلّ هذا العجيج؟ فإنّ الوطن الّذي تصرخون من أجله وتنادون به هو سطح الأرض وهو وطن الإنسان وكلّ شخص سكن مكانًا كان ذلك المكان وطنه فإنّ الله تعالى لم يقسّم الأرض تقسيمًا. فالأرض كلّها كرة واحدة وهذه الحدود الّتي عينتموها وهميّة لا حقيقيّة كأنّنا نرسم في هذه الغرفة خطوط حدود وهميّة ونقول إنّ نصفها ألمانيا والنّصف الآخر إنكلترا وفرنسا. فالخطوط الوهميّة لا وجود لها أبدًا وهذه الحدود الوهميّة هي بمثابة الحدود بين الممالك لأنّ عددًا من السّكان يسكنون ميدانًا ولكنّهم قسّموا الميدان بينهم بخطوط وحدود وهميّة ولو أراد أحدهم التّجاوز عن حدوده هجم عليه الآخرون والحال أنّ هذه الخطوط ليس لها وجود حقيقيّ.
وفضلاً عن هذا نلاحظ أنّ هذا الوطن الّذي تتكلّمون عنه قائلين: “يا وطن! يا وطن!” ما هو؟ فإن كان أرضًا فإنّ الإنسان لا شكّ يعيش فوق هذه الأرض بضعة أيّام وبعد ذلك يستقرّ إلى الأبد تحت أطباقها وتكون قبرًا أبديًّا له. أفهل يليق بالإنسان أن يتحارب على هذه المقبرة الأبديّة فيسفك دم إخوانه ويهدم البناء الإلهيّ؟ فالإنسان بناء إلهيّ أيجدر به ذلك العمل؟
وخلاصة القول إنّ بحثي هذا كان في ذلك اليوم ثقيلاً على الألمان ولكنّني اليوم رأيتهم محزونين جدًّا ومضطربين ومرتبكين. ولكنّهم من النّاحية الأخرى ما أشدّهم حماسًا وغيرة! فقد ترك الشّبان أشغالهم وتحرّكوا مسافرين واستعدّ خمسون شخصًا من تلقاء أنفسهم للسّفر ويذهب من هذه القرية الصّغيرة حوالي مائة شخص من الشّبان بكمال السّرور ولا يشكون من شيء أبدًا ولكنّهم حزنوا جدًّا من أخبار اليوم المنبثّة باتّحاد الرّوس والفرنسيّين والإنكليز ضدّهم.
ما اشدّ هذا التّعسف الّذي فيه يمزّق الإنسان أخاه الإنسان قطعة قطعة لمجرد أنّك ألمانيّ وأنا فرنسيّ وذاك إنكليزيّ والحال أنّهم جميعًا بشر يعيشون في ظلّ إله واحد وتشمل الفيوضات والعنايات الإﻠﻬيّة جميعهم وكلّهم أغنام الله وهذا الرّاعي الحقيقيّ رؤوف بالجميع.
ثمّ إنّ هذا الهياج هياج الطّبيعة وهؤلاء البؤساء مثل الحيوانات أسرى الطّبيعة مغلوبون ومحكومون بها. فالحيوانات يتجاوز بعضها على البعض الآخر بحكم الطّبيعة ويجهد البعض في هلاك البعض الآخر وهذا مطابق لحكم الطّبيعة ومقتضاها. ففي عالم الطّبيعة الافتراس وفيه الظّلم وفيه التّنازع على البقاء. وكلّ هذه الشّؤون من لوازم الطّبيعة وكما أنّ الحيوانات أسيرة للطّبيعة فكذلك الإنسان ذليل للطّبيعة الّتي قهرته وأسير لها. فمثلاً يتغلّب الغضب على الإنسان ويستولي عليه الافتراس ويكون حينًا أسير شهواته النّفسانيّة فما هذه
جميعها؟ إنّها جميعًا من مقتضيات عالم الطّبيعة إلاّ النّفوس المؤمنة حقًّا بالله والمؤمنة بآيات الله والمنجذبة إلى ملكوت الله والمتوجّهة حقًّا إلى الله فإنّها نجت من أسر مخالب الطّبيعة وبعد أن كانت محكومة من قبل الطّبيعة صارت حاكمة عليها وبعد أن كانت مغلوبة للطّبيعة أصبحت غالبة على الطّبيعة. فالطّبيعة تدعو الإنسان إلى الهوى والمجون في حين أنّ محبّة الله تجذبه إلى عوالم التّنزيه والتّقديس.