نضع هذا الكتاب المترجم عن الإنكليزية لمؤلّفه John E. Kolstoe في المكتبة العربيّة ضمن الآثار البهائيّة ليضيف ذخرًا إلى ما لدى الأفراد والمؤسّسات من هَدْيٍ وإرشاد في الإدارة البهائيّة. فهو لا شكّ كتاب يوسّع مداركنا في المشورة البهائيّة فهمًا عميقًا وأسلوبًا سديدًا وثمارًا يانعة.
قامت على ترجمته مشكورة لجنة مكوّنة لهذا الغرض بإشراف لجنة الدراسات الأمريّة في الأردن، وتمَّت مراجعته بما وُهبنا من دقّة وإتقان. ومع ذلك، فإنَّ المجال سيبقى مفتوحًا مستقبلاً أمام أي تغيير أو تصحيح يقتضيه الالتزام بالمعنى المطلوب وما أراده المؤلّف.
لم نستطع العثور على أصول كافّة النصوص المباركة المنقولة في متن الكتاب عن حضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء بالرغم من سعينا جاهدين نحو ذلك. فما وجدناه بنصّه العربيّ الأصليّ ميّزناه بالحرف الداكن. أمّا ما وجدنا أصله بالفارسيّة، فمنه ما اعتمدنا ترجمته الواردة في الكتب العربيّة المتداولة، ومنه ما قمنا بترجمته. وما لم نجد أصله بالعربيّة أو الفارسيّة ترجمناه عن الإنكليزيّة. أمَّا البيانات الصادرة عن يراع حضرة شوقي أفندي وساحة بيت العدل الأعظم، فما وجدناه مترجمًا في الكتب العربيّة المتوفرة لدينا اعتمدنا معظمه، وترجمنا ما لم نجده عن الإنكليزيّة. وفي جميع الحالات أشرنا إلى المصدر المستقى منه ذلك النصّ.
لجنة الدراسات الأمرية
شهر العلاء 156 ب
آذار 2000م
إنَّها محاولة لمناقشة مبادئ المشورة وعناصرها أكثر منها تعليقاً على الإجراءات الإداريَّة. ويُعتبر كل ما لم يذكر تحديدًا في آثار الشخصيات الرئيسة للدّين البهائي أو كتابات حضرة وليّ أمرنا المحبوب أو رسائل بيت العدل الأعظم أمرًا ثانويًا. ويقوم كل محفل روحاني مركزي بوضع الإجراءات المتعلِّقة بمثل هذه الأمور الثانويّة طبقًا لاحتياجاته وظروفه إلاّ في ما يقرره بيت العدل الأعظم خلاف ذلك. ويمكن لهذه الإجراءات الموضوعة أنْ تتباين من منطقة لأخرى. فإذا ما وُجد اختلاف بين ما هو معمول به في جامعة مركزية وما جاء في هذا الكتاب، يكون مردّه خاصيّة المرونة في هذه الأمور، ولا يعني التباين أنَّ أحد الأطراف صائب والثاني مخطئ، فهذا أمر خاضع للاختيار. ومن الطبيعي أنْ تأخذ إجراءات المحفل الروحاني المركزي الأفضليّة في منطقته على الاقتراحات الواردة هنا.
هناك العديد ممن كانت مساعدتهم حيويّة في إعداد هذا الكتاب. أولّهم المئات من الذين شاورتهم من مختلف المحافل الروحانيّة واللجان والهيئات الأخرى طيلة ثلاثين عامًا. فمن هذه النفوس النفيسة تطوَّر لدينا ذلك التقدير الذي نكنّه لنعمة المشورة في الناحية العمليّة لحياتنا اليوميّة.
لقد قدَّم أيادي أمر الله ذكر الله خادم وحرمه كل التشجيع على مثل هذا العمل قبل أنْ تتولد لدي فكرة جديّة بتأليف هذا الكتاب. وكنت أعمل في مشروع تطوير المحفل الروحاني منذ بداية السبعينات. ولدى تشاور المستشارة فلما شيريل (Velma Sherrill) مع المحفل الروحاني
المركزي في ألاسكا عام 1979 اتُفق أنْ يُعد هذا العمل على شكل كتاب ورفع طلب بذلك، وبدونه ما كان لهذه العملية الطويلة أن تبدأ ويصدر هذا الكتاب. وكان للأحباء: جانيت سميث (Janet Smith) وبلين ريد (Blaine Reed) وتيم ريد ((Tim Reed وجانيت ستاوت (Janet Stout) دور هام خلال إعداد سلسلة من ستة عشر مقالاً لمجلة “Alaska Baha’I News” حيث شكلت بمجملها مقدمة هذا الكتاب الموسّع ونواته. كما قدم الدكتور جليل محمودي والسيد جليو هويك (Gleo Huyck) عدَّة اقتراحات مفيدة وساعدا في التدقيق الأولي. وأوجه شكري الخاص للسيد مايك فيلدهاوس (Mike Fieldhouse) على أفكاره الخاصة بالتصميم. كما قام الدكتور خليل خاوري بمراجعة المسودة الأولى لمخطوطة هذا الكتاب وقدَّم اقتراحاته الواسعة الكثيرة الشاملة والتي أخذت نصيبًا كبيرًا من المسودة النهائيّة للكتاب. وقدم طاقم جورج رونالد (George Ronald) مساعدة قيمة ليس أقلها شأناً اقتراحاته حول إخراج الكتاب في حلّة أكثر حداثة ودقّة ووضوحاً. وهناك زوجتي الوفية بيفرلي (Beverly)، فبتشجيعها الحبي اللطيف –حيث لم تتركني أقع فريسة للإحباط والتراجع أمام عقبة غير متوقعة– وتفهمها وتسامحها ومساعدتها المباشرة في العديد من التفاصيل، كانت لي المؤازر الذي لا يكلّ.
إلى كل هؤلاء وإلى العديدين ممن يصعب ذكرهم لكثرتهم، أقدم جزيل الشكر وخالصه، وبعد كل ذلك، إليك أنت أيَّها القارئ العزيز طبعًا. إنَّه عمل أنجز لأجلك، فإن وجدت ذا قيمة في هذه الصفحات، يكن هذا العمل المطعّم بالمحبة قد حقق هدفه.
بينما كان حضرة بهاءالله – المظهر الكلي الإلٰهي- وحيدًا في منفاه دون أي مظهر من مظاهر السلطة الدنيوية، أعاد تنظيم ركائز الحضارة بأكملها. وأعلن للملأ أنَّه “سوف يُطوى النظام الحاضر ويقوم نظام جديد إنَّ ربك لهو الحق علاّم الغيوب”([1]). ومنذ تلك اللحظة أخذت الأمور في التغيير. كانت بطيئة في بدايتها، إلاّ أنَّها أخذت تزداد زخمًا وقوة بتقدمها. فلنتأمل معًا ما يلي:
كل ذلك تنبأ به الجمال المبارك قبل أكثر من مائة عام بقوله: “قبضت العزّة من طائفتين: العلماء والأمراء”([2]). والآن وقد غارت تلك الأنماط القديمة، فإنَّنا بحاجة إلى نمط جديد من القيادة لتنجز ما كان موكلاً بالدولة والكنيسة.
في كتاب شرائعه وأحكامه – الأقدس المستطاب – وضع جمال القدم المؤسسات التي تكفل تنظيم الحياة الاجتماعية للإنسان بقوله:
“قد كتب الله على كل مدينة أنْ يجعلوا فيها بيت العدل ويجتمع فيه النفوس على عدد البهاء وإنْ ازداد لا بأس ويرون كأنَّهم يدخلون محضر الله العلي الأعلى ويرون من لا يُرى وينبغي لهم أن يكونوا أمناء الرحمٰن بين الإمكان ووكلاء الله لمن على الأرض كلها ويشاوروا في مصالح العباد لوجه الله كما يشاورون في أمورهم ويختاروا ما هو المختار كذلك حكم ربكم العزيز الغفَّار. إيَّاكم أنْ تدعوا ما هو المنصوص في اللوح اتقوا الله يا أولي الأنظار”([3]) .
فالحاجة تتطلب هيكلاً جديدًا وقيام بناء جديد، وسوف يُناط بالمؤسسات الإداريّة تحقيق النظام والاستقرار في العالم. وإصدار الأمر الإلٰهي بأنْ “يشاوروا في مصالح العباد لوجه الله… ويختاروا ما هو المختار” يوفّر للإنسانية حماية تخلّصها من وباء الفساد الذي فتك بالمؤسسات التي ائتمنها الشعب في الماضي.
إنَّ العملية الدقيقة بتبني هذه المبادئ السامية ووضْعها قيد التنفيذ تخطّ لنا قصة رائعة. فحضرة الباب وعد باليوم الجديد، وأسّس حضرة بهاء الله الشرائع والأحكام وأطلق الروح الخلاّقة من عقالها، ووضّح حضرة عبدالبهاء – مركز العهد والميثاق – وبيّن بالتفصيل المؤسسات الضرورية لتطبيق النظام الجديد، وذلك في رسائله العديدة وخطاباته العامّة وأحاديثه الخاصّة مع الزائرين وفي وثيقة عهده وميثاقه. عندما صعد حضرة عبد البهاء وتولى زمام الأمر حضرة شوقي أفندي لم تكن مؤسسات الأمر اللازمة قد تأسست على نطاق واسع أو كانت تعمل بطريقة بدائيّة. فكان أنْ وقعت على كاهل هذا الشاب الفتيّ، وهو ما زال في بدائيّة العقد الثالث من عمره، مسؤولية تطبيق المبادئ السماوية والإشراف على تشييد الصرح الشامخ كما وصفه حضرة عبد البهاء بمنتهى الوضوح.
لقد أيقن حضرته بأنَّ المؤسسات الإداريّة التي سوف تدعم بيت العدل الأعظم يلزمها أن تتطور قبل مولد ذلك المرجع الأعلى. وفي رسالة مؤرخة 23 شباط 1924 وضّح بأنَّ هناك حاجة لفترة انتقالية تتطور خلالها المحافل الروحانية المحليَّة والمركزيَّة وتغدو قويّة. “ليس قبل أنْ تعمل هذه المؤسسات بكل قوّة وتناغم وانسجام يمكن أنْ يتحقق الأمل بانتهاء هذه المرحلة الانتقالية”([4]).
اتخذ حضرة وليّ أمر الله الجديد خطوات عدّة حازمة وهامّة لها آثارها البعيدة. فكان أولّها وضع تعليمات واضحة محددة في كيفيّة الاستفادة من المشورة وتطوير المحافل الروحانية المحليَّة في رسالة مؤرخة في 5 آذار 1922 مخاطبًا فيها “الزملاء الأعزاء العاملين في خدمة أمر حضرة بهاء الله”. وسنأتي على دراسة أجزاء من هذه الرسالة في الفصلين الثاني والثالث من هذا الكتاب.
بَدَأَ حضرة شوقي أفندي فورًا في العمل على تطوير مؤسسات الأمر المحليّة والمركزيّة. إلاّ أنَّ هذا الموضوع يبقى خارج نطاق بحثنا في الكتاب، ويكفينا القول أنَّه عندما انتُخِبَ بيت العدل الأعظم لأوَّل مرّة عام 1963 ارتفع بنيانه على (56) محفلاً روحانيًا مركزيًا نتيجة جهود حضرته المتواصلة. والآن ونحن في عام 1984 فإنَّ العالم البهائي يحتضن (143) محفلاً روحانيًا مركزيًا – وهي أعمدة بيت العدل الأعظم – يدعمها ما يقرب من (30000) محفل روحاني محلي. ويقطن البهائيون في أكثر من (100000) مركز في حوالي (350) دولة وقطرًا في العالم.
خلال أكثر من ستين عامًا تلت صدور رسالة حضرة ولي أمر الله عام 1922 عكف البهائيون في مختلف أقطار العالم على تطوير مؤسساتهم الأمريّة وتعلم فن المشورة ومبادئها في آن معًا. فتعلموا بعض دروسها بسهولة وإتقان، والبعض الآخر يبدو أنَّه بحاجة إلى الممارسة مرّة بعد أخرى. وفي سعينا نحو تطوير المؤسسات نلاحظ ممارسات للمشورة خاطئة أحيانًا وغير لائقة أحيانًا أخرى. ومع ذلك فإنَّ الأمر المبارك ينمو ومؤسساته الإلٰهية تتطور وعملية المشورة تنضج بمزيد من القوّة والكفاءة. وجيل بعد جيل من المؤمنين الجدد، بعضهم متردد وغير مستقر، وكثير منهم واثقون متحمسون، يقومون بدورهم في هذه المسيرة المستمرة المتواصلة.
تقف أحداث قرن وثلث مضيا شاهدًا بارزًا على حقيقتين تبعثان على الارتياح. أولاهما أنَّ الحفظ الإلٰهي يدثر مصير هذا الأمر المجيد. وقد أعلن حضرة عبد البهاء هذا المبدأ السامي بقوله:
“إنَّ في الأمر الإلٰهي قوَّة غيبيَّة تعلو بعيدًا عن إدراك البشر والملائكة، وتلك القوَّة الخفيّة تقف وراء كل هذه الأفعال والإقدامات. فهي تحرك القلوب وتشق الجبال وتدير مصالح الأمر المتشابكة وتلهم الأحباء وتحطم قوى الاعتراض وتبعثرها وتخلق عوالم روحانية جديدة. هذا هو سر مملكة البهاء”([5]).
ونرى وعدًا رائعًا آخر يتحقق، ذلك الذي ضربه حضرة الباب لحروف الحي عندما أخبرهم قائلاً: “أيقنوا بالنصر والفوز في النهاية”([6]). وقد برهنت الأحداث المتعاقبة بكل وضوح تقدّم الأمر الإلٰهي نحو ذلك النصر المؤزر.
فانتقال السلطة من الملوك ورجال الدين إلى المؤسسات الإلٰهية مستمر بكل قوّة. وبالمشورة تدفع هذه العملية الجنس البشري، أقرب من أيّ وقت مضى، نحو تحقيق وعد حضرة المسيح عندما قال: “ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”([7]).
[2](1) The Promised Day Is Come,p. 19.
[3](2) “الكتاب الأقدس”، فقرة 30.
[4](1) Baha’i Administration, P. 63
[5](1) The Covenant of Bahá’u’llah, p.70
[6](2) “مطالع الأنوار”، صفحة 74.
[7](3) إنجيل متى، إصحاح 6، آية 10.
المشورة من أعظم المواهب الإلٰهية لبني الإنسان. إنَّها بحد ذاتها فن، وهي مفتاح للكشف عن أسرار الحياة، وفيها نُجيب عن أكثر الأسئلة تعقيدًا، خاصّة كانت أمْ عامّة. إنَّها أداة هامّة للجنس البشري نحو نضجه، وعنصر رئيس في صنع حضارة عالميَّة جديدة.
غالبًا ما نُشبّه نمو نظام حضرة بهاء الله العالمي وتطوّره بإقامة بناء عظيم. فحضرة بهاء الله هو مهندسه الذي أعدَّ له الخطَّّّّّّة المحكمة، وأصدر مركز الميثاق، حضرة عبد البهاء، تفاصيل تشييده، وشرَّع حضرة شوقي أفندي – وليُّ أمرنا المحبوب – في الخطوات الأولى نحو التنفيذ، ويتواصل التقدم الآن بهداية بيت العدل الأعظم وتوجيهاته.
عمّال هذا البناء هم أهل البهاء في أنحاء المعمورة، وأمام هذا العبء الهام الخطير، فإنَّهم يفتقرون إلى الخبرة والموهبة والمهارة، إلاّ أنَّهم يملكون التعاليم، ومشتعلون بالعشق، وحائزون على الروح اللازمة لعصرنا الجديد، وفي قلوبهم قوَّة الميثاق. ولكن، كيف سيرفعون صرح هذا النظام العالمي الجديد، ومن أين يبدأون؟
إنَّهم يبدأون بتجهيز ما يلزم للبناء من مواد، وما المشورة إلاّ جزء من هذه المواد. ويتفضل حضرة عبد البهاء: “إنَّ مبدأ المشورة هو أحد أهمّ العناصر الأساسيّة للبنيان الإلٰهي”([1]).
ارتقى البهائيون إلى مستوى معين في ممارستهم المشورة، إلاّ أنَّ المشورة التي يمارسونها غالبًا ما تكون مجرد انعكاس لثقافة من يمارسها وخلفيّته، واعتاد البهائيون على نمط معين لها وظنّوا أنَّها المشورة البهائيَّة السليمة، وغاب عنهم وجوب تطور مفهومنا لهذه الأداة النبيلة القيّمة بتطور أمرنا المبارك وتقدمه.
“تمسّكوا بالمشورة في جميع الأمور فهي سراج الهداية إنَّها تهدي السبيل وتهب المعرفة”([2]). بهذه الكلمات المباركة لحضرة بهاء الله – المظهر الكلي الإلٰهي لهذا العصر- وهب الإنسانية تلك الأداة الرائعة القويَّة لمعالجة قضايا العالم الإنساني في جميع شؤونه، الكبيرة منها والصغيرة، الخاصّة والعامّة، البسيطة والمعقّدة، لأنَّ لديها القدرة على معالجتها بشكل فاعل. إنَّها أداة صممت لتلائم احتياجات عصرنا الحاضر.
عندما نفكر في مقام هذه الموهبة العظمى والعطيَّة الكبرى، التي منحنا إيّاها جمال القدم، يسحر لبّنا مجرد التأمل في أوصافها التي اكتنزتها الآثار المباركة. إنَّها أحد “النيّرين” و”سماء الحكمة الإلٰهية” و”سراج الهداية” و”واهبة المعرفة” والوسيلة الوحيدة لتحقيق “الرخاء” و”الخير والصلاح” والواهبة “إدراكاً أعظم” ومحوّلة “الظن إلى يقين” و”النور المضيء الذي يهدي إلى سواء السبيل في عالم مظلم” والتي بها تظهر “موهبة الإدراك في أوجها” و”سبب الوعي والإحاطة بالأشياء” و”مصدر الخير والسعادة”([3]).
ويوضح حضرة عبد البهاء بعض ميّزات المشورة متفضلاً بأنَّها “أحد أهم العناصر الأساسيّة للبنيان الإلٰهي”. و”منها ينبثق النور” وهي جاذبة “بركات الروح القدس” وسبب في “هطول التأييدات الغيبيّة”. “تأثيرها سيعمّ العالم بأسره” و”ستقود العالم إلى السعادة الأبديّة”. ويبشّر أصحاب الشورى بأنَّ “جنود الملأ الأعلى ستنصرهم” وهي التي ستحوّل “تصادم الآراء” إلى “نور ساطع” يبزغ منه “نور الحقيقة” و”من أعظم الوسائل لراحة النفوس وسعادتها” وواهبة “البصيرة” لتعين الإنسان على “استشراف آفاق جديدة” وتدع “نور الحقيقة يشرق من كل وجه” وتقود إلى “الأعماق في كل موضوع” وتجعل الوصول إلى “الحل الأمثل” أمراً ممكنًا([4]).
إنَّ الحوار الذي يتناول جانبًا من الكلمة الإلٰهية الخلاّقة لهو أمر مثير دائمًا. فلو أخذنا عبارات مثل: “واهبة المعرفة” و”إدراك أعظم” و”أحد النيّرين” فإنّها تأخذ عند مناقشتها أبعادًا جديدة تزخر بمعانٍ أكثر كمالاً وغنىً.
فالمشورة وسيلة مضمونة يمكن الاعتماد عليها في التوصّل إلى الهداية، والفهم السليم، واستنارة البصيرة، والخير والصلاح كما ورد في البيانات المباركة السابقة، وهل من غيرها يستطيع تحقيق ذلك؟
وللمشورة وجهان، أحدهما ثوري والآخر تطوري. فهي ثوريّة لأنَّها مغايرة لكل ما هو مألوف في السابق ومقدّر لها أنْ تغيِّر شؤون العالم الإنساني بلا هوادة، وهي تطوريَّة لأنَّها تمثل المرحلة الأخيرة من مراحل تطور نظام إدارة المجتمع الإنساني.
وعلى مرّ العصور كانت البشرية في حاجة إلى نظام يدير شؤونها ويوجِّه نشاطاتها ويسوّي خلافاتها، وإلى أداة تحافظ على هذا النظام وتصونه. وأكثر هذه الأنظمة بدائية هو صراع القوى: قوّة وحشية تجابه قوّة وحشية أخرى.
وانتقلت البشريّة إلى المرحلة التالية، مرحلة تصادم الرغبات والمصالح المكتسبة. هذا التقدم أدى إلى تنحية اللجوء إلى القوة واستعمال الأسلحة التقليدية إلى أسلوب المجابهة بين أطماع فئة أمام أطماع الفئة الأخرى. وطفا على السطح مصطلح “المصالح المشتركة” ليصف في أغلب الحالات مجالات من الاهتمامات المحدودة إلاّ أنَّها مشتركة. إنَّ تصادم الاتجاهات والرغبات فاعل بشكل خاص إذا حصل ضمن مجموعة من المصالح المشتركة، فتصطدم مصالح فئة باهتمامات فئة أخرى ومصالحها أملاً بفوز الأفضل. ففي الميدان السياسي يتطلّب الأمر حريّة التعبير والنقاش حيثُّ تتم المداولات بين المُعارض والمؤيد إلى أن يفلح الطرفان في الاختيار. وفي عالم التجارة يتطلب هذا المبدأ قيام سوق حرّة تتنافس فيها البضائع والخدمات. أمَّا في مجال البحث العلمي فإنَّ الحرية الأكاديميّة أمر أساسي في استعراض النظريات ومناقشتها ودعمها بالأبحاث المناسبة. وفي المخاصمات الاجتماعية والمدنيَّة فإنَّ المحاكم توفر للطرفين المتخاصمين الالتقاء معًا مباشرةً بمساعدة من يمثلهما من المحامين الذين يقدّمون كل طرف من أطراف النزاع بأفضل وسيلة ممكنة. وعين هذا المبدأ ينطبق على المصالح المشتركة الأخرى.
وعندما تسوّى القضايا وسط تصادم الرغبات وتضارب المصالح المكتسبة، فإنَّ القرارات غالبًا ما يتعدى تأثيرها نطاق الطرفين المتحاورين مباشرة. وهنا تكمن المشكلة. ففي هذا العالم الذي يزداد تعقيدًا وتداخلاً في مصالحه، فإنَّ قليلاً من القضايا يمكن اعتبارها سياسيّة أو اقتصاديّة أو علميّة أو قانونيّة بحتّة. وعليه، فإنَّ نظام حضرة بهاءالله في المشورة هو الوحيد الذي يمكنه أن يخدم بجدارة في ما يتعدى تلك الحدود. فالمشورة لا تعيقها القيود التي تفرضها المصالح المكتسبة أو التي تثيرها الرغبات المتضاربة، بل هي القادرة على وضع كافة القضايا في إطار أكثر شموليّة وأوسع رؤية أمام الفرقاء المهتمين وغيرهم، وتقدّم حلولاً متعددة الجوانب وقابلة للتطبيق أفضل بكثير مما هو ممكن باستخدام مجالات المصالح المحدودة.
والمشورة البهائية تعد ثوريَّة من جانب آخر. ذلك لأنَّ التاريخ المعاصر يعتبر التعدديّة والسياسة الحزبيّة أفضل أمر يصون القيادة ويحميها من الفساد. إنَّه أسلوب خَدمَ البشرية على نحو جيد في مرحلة المراهقة والتمرد من مراحل تطورها العضوي، وهي المرحلة التي نودِّعها الآن. فهذا الأسلوب أصبح عاجزًا عن تلبية احتياجات بشريَّة تقف على أعتاب مرحلة النضوج والبلوغ وفيها تحلُّ الوحدة محل التعدديّة، والمشورة محل السياسات الحزبيّة. ففي نظام التعدديَّة يدّعي كل فريق أو مجموعة أنَّه قادر على حل المشاكل بأسلوبٍ أفضل ممَّا يقدّمه الطرف الآخر، أمَّا بالمشورة فإنَّهم يتوصلون إلى الحل الأمثل دون الاهتمام بمن كان صاحب الفضل في طرحه. فالمشورة البهائيَّة تتيح المجال أمام تضارب الآراء لا تصارع القوى أو تصادم الاتجاهات والميول. إنَّها أكثر الوسائل تطورًا وبعدًا عن المصالح والفساد، إنَّها ميدان لعبقريّة الإنسان بأقصى مداها.
وتعتبر المشورة تطوريّة في بعض جوانبها ذلك لأنَّ الطاقات الكامنة فيها ومرونتها في التكيّف، ومجالات ممارستها، والقوى المنطلقة منها، كلّها عملية تتكشّف لنا عناصرها بالتدريج وتبقى ترقى سلم التطور تباعًا. وكما هو الأمر في إقامة البناء، فإنَّ العناصر المختلفة للبنيان الإلٰهي يتم تشييدها بطرق مختلفة. ففي حالات تغدو المداولات ثقيل عبؤها على النفس تتناول مسائل صعبة نشبِّهُهَا بعامود أو دعامة مهمّة وكبيرة تحتاج إلى جهد كبير لوضعها في مكانها من البناء. ويسود المشورة في بعض الأوقات جو من المرح وهو أشبه باللمسات التي تضفي عليها رونقًا وجمالاً. وأحيانًا يتحوَّل النقاش فيها إلى نزاع وجدال في جو من التنافس يخلق النفور، تمامًا كما قد نضطر أحيانًا إلى هدم جزء من البناء وإعادة إنشائه حتى يقام بالشكل الصحيح. إلاّ أنَّ عمليّة البناء تبقى مستمرة ومحصِّلة جميع الأعمال والنشاطات في النهايّة تكون شاهدًا على أنَّ المشورة “من أهم العناصر الأساسيّة للبنيان الإلٰهي”.
وهكذا فإنَّ عمليّة المشورة هذه ستصبح “سراج الهدايّة” لتحل محل هداية للإنسانيّة كان مصدرها سلطة الحكومة وسلطة الكنيسة. إنَّها تتعدى حدود المصالح المحدودة، وتحل محل القوى الوحشيّة وصراع المصالح الذاتيّة. وبذلك تحرر الإنسان من قيود التنافر والانشقاق الناتجة عن السياسة التحزبيّة. وبينما يأخذ تأثير هذه الأنظمة التقليديّة نحو الاضمحلال فإنَّ بديلها يأخذ طريقه نحو النضوج شيئًا فشيئًا.
تعتبر المشورة البهائيّة وسيلة لدراسة جماعيّة لقضيّة ما، وطريقًا لفكرة ما نحو نموها وتطورها. إنَّها مزيج فريد من التجارب والمعرفة والأفكار وخلجات القلب والمشاعر والآمال والمخاوف. وفي بحث قضية معلَّق حكمها تتجمع هذه العوامل معًا لتفسح المجال أمام تطوّر فكرة ما، وهو تحوّل يحدث عندما يتم تبادل هذه التجارب والأفكار بنيّة خالصة. وغالبًا ما تكون النتيجة مغايرة تمامًا للفكرة الأصليّة أو أيّة أفكار أخرى تمَّ طرحها، فليست هي حلاً وسطًا للترضيّة ولا نتيجة تركيب فكرة على أخرى بكل بساطة، بل هي الخلق الجديد.
تتميّز المشورة البهائيّة بخصائص أربع:
وبالاختصار، فإنَّ المشورة البهائيّة يمكن تعريفها بأنَّها تلك العمليّة التي تحمل ثمار التغيير للوصول إلى هدف معيّن، وهذا يستدعي مشاركة وتفاعلاً مع الأفكار المطروحة والمشاعر السائدة في جو من المحبة والتناغم والانسجام.
ويمكن مقارنة التحوّل هذا بما يحدث في الطبيعة من تغيير. ففي عالم الجماد يمكن لعدّة عناصر أنْ تتحد لتنتج شيئًا مختلفًا عنها بل وأعظم منها وهي مجتمعة. فعلى سبيل المثال، فإنَّ عنصري الصوديوم والكلور منفردين يعتبران سامّيْن في ظروف معينة، وعند اتحادهما كيماويًا يتحولان إلى مُركّب جديد يختلف تمامًا بصفاته عن أيّ منهما، وهو ملح الطعام الذي يعتبر ضروريًا لحياة الإنسان.
ويمكن مقارنة المشورة بعمليّة النمو. فالفكرة أشبه ما تكون بالبذرة التي تحتاج إلى الحرارة والرطوبة لنموها (ويقابلهما توفر الجو الروحاني في بحث الفكرة). كما يجب توفر عدّة عناصر في التربة لهذا النمو. إنَّ الثمرة الناتجة لا تحمل بالضرورة خصائص البذرة ولا عناصر التربة مع أنَّها جميعها ضروريَّة لنموّ البذرة ونضوج الثمر. وبالمثل فإنَّ أفكارًا مختلفة تُطرَّح للمشورة تشكّل جميعها جزءًا مهمًا في التوصّل إلى رأي جديد سديد.
وللوصول بعملية المشورة إلى التطوّر المطلوب فإنَّه يلزمنا قدر كبير من الصبر، والتضحية، وضبط النفس، والممارسة، والحرص والرغبة في تطويرها، وفوق هذا كله حبّنا للعهد والميثاق وتشبثنا به والاتكال على قوّته.
ولقد أشار بيت العدل الأعظم إلى أنَّ “المشورة ليست مهارة سهلة التعلم، إذ تتطلب إخضاع جميع بواعث الغرور والأنانيّة والأهواء الجامحة، ثمَّ سلوك درب الصراحة وحريّة الفكر بغاية اللطف والكياسة والعقل المفتوح والإذعان لقرار الأغلبية بملء القلب والروح”([5]).
فالمشورة بحق عمليَّة مدهشة. ومع اكتسابنا للمهارة في استعمالها فإنَّ فوائدها العديدة تتجلى لنا. كما أنَّ استعمالها لا يقتصر على المؤسسات فهي أيضًا أداة قيِّمة للعائلات، ورجال الأعمال والمهنيين. ويمكن ممارستها في الأمور الشخصيّة والشؤون الاجتماعيّة والترفيهيّة.
فكل بهائي، صغيرًا كان أم كبيرًا، متعلمًا أم جاهلاً، محنّكًا أم بسيطًا، مؤمنًا قديمًا أم حديثًا في التسجيل، لديه المقدرة على المساهمة في تطوير لبنة البناء الأساسيَّة هذه والاستفادة من ثمار ذلك شخصيًا.
ولحسن الحظ، زوَّدنا بيت العدل الأعظم بمجموعة كبيرة من البيانات حول المشورة وميادين ممارستها، منها ما هو خاص بالمحفل الروحاني المحلي والضيافات التسع عشريّة والاجتماعات البهائيّة ومواضيع أخرى. وخلال مشروع السنوات الخمس أعدَّت مجموعة أخرى إضافيّة حول المشورة، والتي صدرت في الولايات المتّحدة بعنوان “المشورة – مجموعة بيانات مباركة”. ونفسها صدرت في المملكة المتّحدة بعنوان: “سماء الحكمة الإلٰهية”.
لقد منحت البشرية هذا المبدأ على نحو كامل واف بليغ. وما علينا الآن سوى تطوير القدرة على استخدامه.
إذا ما أردنا أن نشبِّه الأمر الإلٰهي بالبناء، فإنَّنا غالبًا ما نورد عبارات مثل: الأعمدة، أسّ الأساس، القباب، والأساسات. وقبل البدء في وضع الأساسات في البناء، فإنَّ الاهتمام ينصبّ على الأرض التي سيقام عليها ذلك الأساس. حدَّثنا السيد المسيح عن مصير البناء القائم في أساسه على الرمال لا الصخور([6]). ولقد وجَّه حضرة بهاء الله اهتمامه الأكبر إلى التأكد من بناء أساس صرحه الإلٰهي على صخر صلب متين.
وكلمة (Bedrock) وردت لها في قاموس (Webster) العالمي الحديث عدة معانٍ نذكرها بالعربية: الصخر الصلب الواقع تحت التربة والصخر السطحي، الأساس الآمن، المبدأ الأساس أو الحقيقة. واستعمل حضرة وليّ أمر الله، بلغته المجازيَّة الفذَّة، هذه الكلمة في الإدارة البهائيَّة وبناء صرحها الشامخ، وأشار إلى عدد من العناصر على أنَّها أجزاء تشكل أسّ الأساس هذا لذلك النظام الفريد. إنَّ الاطلاع على هذه العناصر لهو أمر ممتع حقًا إلى جانب إثرائنا بالثقافة والمعرفة. إنَّها تمتزج معًا وتتصل مع بعضها البعض بأسلوب في غاية الروعة بقوله: “أسُّ أساس النظام الإداري البهائي المبدأ القائل: الوحدة والاتحاد في التنوع والتعدد”([7])؛ “إنَّ أسّ الأساس الذي بُني عليه هذا النظام الإداري هو غاية الله المبرمة في هذا اليوم لبني الإنسان”([8])؛ “… وهي المبادئ التي تؤلّف مع الشريعة والأحكام النازلة في الكتاب الأقدس أسّ أساس أحدث ظهور إلٰهي للجنس البشري”([9])؛ “أسّ الأساس الذي بُنيت عليه الإدارة هو المحافل الروحانية وليس الأفراد”([10])؛ “الصندوق المالي المركزي يمثل أسّ الأساس الذي تستند إليه بالضّرورة كافة المؤسسات الأخرى”([11])؛ “نمط حياة الجامعة البهائيَّة المحليَّة هو أسّ أساس نمو الجامعة المركزيَّة وتطوّرها”([12])؛ “المشورة الصريحة الحرَّة هي أسّ أساس هذا النظام الإلٰهي الفريد”([13]).
ولدى التمعن في هذه العناصر السبعة ﻠ”أسّ الأساس” دراسة وتحليلاً، نجد أنَّ لإثنين منها علاقة بالأهداف أو الغايات التّالية:
– مبدأ الوحدة والاتحاد في التنوّع والتعدد.
– غاية الله المبرمة في هذا اليوم لبني الإنسان.
وثلاثة أخرى تتعلق ببناء المجتمع البهائي وهي:
– المبادئ والشريعة والأحكام.
– المحافل الروحانيّة.
– الصناديق الأمريّة.
وواحد يتعلق بالحياة الاجتماعيّة وهو:
– نمط الحياة في الجامعة المحليَّة.
والأخير يمثل تلك العملية التي بواسطتها سوف تنضج كافة هذه العناصر لتبلغ غايتها من البلوغ. وتلك هي: “المشورة”.
يخبرنا الفكر المعاصر أنَّ علينا أنْ نحل خلافاتنا أولاً حتى نتمكن من تحقيق الوحدة، بينما حضرة بهاء الله يدعونا إلى وجوب تحقيق الوحدة حتى نتمكن من تحقيق التآلف والتجانس بين الاختلافات والفوارق التي بيننا. ويخبرنا الفكر المعاصر أنَّ الوحدة هدف سام وأمر مثالي لا يمكن تحقيقه، بينما يؤكّد لنا العهد والميثاق بأنَّ الوحدة هي نقطة البداية والانطلاق وهي أسّ الأساس الضروري. إنَّه مفهوم على طرف النقيض من الفكر المعاصر تمامًا، وربما يكون أحد أكثر الأفكار إبداعًا وتجديدًا في عصرنا الحاضر.
فلو كنا متحدين فلن تقف أمامنا مشكلة كبرى دون حلّها أو تقبلها. وبعبارة أخرى، ليست هناك مشكلة هامّة يمكن أنْ يتوفر لها الحل الدائم والمجدي دون اتحاد. فلو نظرنا إلى أيَّة قضيّة من القضايا الأساسيَّة المعاصرة لوجدنا أنَّ المشاكل التي يحاول القادة الحاليون إيجاد الحلول المناسبة لها ليست سوى مشاكل معقّدة بغضّ النظر عن كونها عالميّة أو قطريّة أو محليّة. فالوصول إلى الحل الأمثل لها إنَّما هو أمر صعب نظرًا لتضارب المصالح والحقوق وتصارع الأحزاب في تحقيق أهدافها الخاصة. فلو كانت لدى كل هذه الأطراف وحدة في الهدف، لكان باستطاعتها التوصل إلى حلول يقطف ثمارها كافّة البشر.
فالمشورة المستنيرة بأنوار الميثاق هي التي ستجعل من الوحدة أمرًا ممكنًَا، وتلقي الضّوء على المشاكل الحقيقيّة، وتنير الدرب نحو الحلول المناسبة.
يبدو لنا لأوَّل وهلة أنَّ هذا الموضوع واسع جدًا وواضح جليّ وأسمى من أنْ يكون موضوعًا لمشورة فاعلة. ومع هذا كله، فإنَّه موضوع يجب على الأحباء بحثه بتكرار وبشكل مباشر. فهل حقًا ما نقوم به من نشاطات ومشاريع وما نقدِّمه من مجهودات كبيرة تخدم هذا الهدف وتلك الغاية؟
فبالمشورة يمكننا الفصل بين مجرد القيام بعمل ما والقيام به بشكل فاعل. وبها يمكننا إعادة تحديد الأهداف الصحيحة واستغلال الطاقات بكل حكمة. كما أنَّ اللجوء إلى تقييم مجهوداتنا بشكل مستمر يحمي بناة صرح النظام العالمي الجديد من الوقوع في حبائل الحيرة والارتباك أو الإحساس بضياع المرمى والهدف.
إنَّ ترسيخ المبادئ الإلٰهية والشريعة والأحكام السماوية، وتغلغلها في النفوس والأرواح، لهو أمر لا يقلّ أهمية عن العنصر السابق، وهي أيضًا تشكل جزءًا من أسّ الأساس للصرح الإلٰهي. ويمكن رعايتها بالمشورة الحبيّة الدافئة. ولهذا الموضوع جانبان: أحدهما كيف يعكس كل مؤمن تعاليم عقيدته الشافيّة على حياته الخاصة، والآخر يتعلق بتطبيق هذه التعاليم بشكل جماعي من خلال المشورة.
وفي بعض الأحكام المتعلِّقة بالحدود، غالبًا ما نحتاج إلى مشورة أكبر مما هي عليه في بعض الأحكام الإرشاديّة القائمة على الهدايّة والتوجيه. ومنذ وقت مبكّر، وتحديدًا في عام 1922، حذّرنا حضرة وليّ أمر الله المحبوب من المبالغة في التأكيد على ما دعاه ﺒ”الأحكام المتعلّقة بالممنوعات”. فمثلاً، هناك بعض الأحباء الذين يعملون في مناطق التبليغ الجماعي تؤرّقهم مشكلة تعاطي الكحول. وغالبًا ما يقضون الوقت الطويل في التشاور فيما يجب أنْ يفعلوه تجاه البهائيين الذين يتعاطون الكحول. إنَّها عمليَّة محبطة للآمال وغير مجديّة. إنَّ الابتعاد كليًا عن الكحول ما هو إلاّ أحد أحكام أمر الله، فربما كان من الأجدى أنْ يبحثوا مطولاً في الأحكام المفروضة مثل: الصلاة المفروضة وتلاوة الآيات، تربية الأطفال، وحدة العائلة، والتبليغ. فالمشورة في مثل هذه الموضوعات قد يكون لها تأثير رائع وقد يتبين لنا بأنَّ مشكلة تعاطي الكحول ليست بالمشكلة الكبيرة إذا ما عكفنا على التشاور في الأحكام المفروضة.
إنَّ اعتبار الصناديق الماليّة مؤسسة قائمة بحد ذاتها، وأنَّه لا يجوز لغير البهائيين التبرع لها، لهما ظاهرتان تستحقان التأمل والتفكير. فالمشورة وسيلة لدراسة طبيعة الصندوق وزيادة دعمه والإنفاق منه بالشكل الأفضل. إنَّها ميدان ليس من السهل ارتياده في بعض الأحيان، إلا أنَّه زاخر بالإمكانات والطاقات.
تعتبر المشورة أمرًا لا بد منه للمحافل الروحانيّة في تصريف أعمالها اليوميّة، تلك الهيئات التي تمَّ تعيينها من قبل الله. وهو موضوع سنتعرّض إليّه بنحو أكثر تفصيلاً في الفصل الخامس.
إنَّ النشاطات الاجتماعية ليست مجرد ترجمة لأفكار البهجة والسرور التي تتبع مجهوداتنا الجديّة في بناء نظام عالمي جديد. فحياة الجامعة المفعّمة بالنشاط والحيوية والصحّة لهي جزء مكمّل لذلك الهدف. ومشاعر الفرح والاستقرار والأمان الناجمة عنها هي جزء رئيس من أسّ الأساس هذا. فنمو الأمر المبارك يتطلب القيام على خدمته في جو من السعادة الشاملة وروح الجماعة في الجالية. والمشورة تجعل من كلّ ذلك أمرًا ممكنًا. فالمشورة، سواء في الجلسات الرسميّة أو غير الرسميّة، تستطيع أنْ تجعل من كافّة النشاطات تجارب عمليّة للمشاركة لتخلق بالتالي إحساسًا طبيعيًا بالجو العائلي لدى المشاركين.
المشورة هي أداة الحفر وهي آلة الخلط والإسمنت. وهي “من أهم العناصر الأساسيّة للبنيان الإلٰهي” لأنّها تفتح الآفاق نحو النضج والتطور أمام سائر العناصر الأخرى والتي بدورها تسهم في تطوّر المشورة نفسها.
* * * * * * * * *
إنَّه أساس متين معجز ذلك الذي وضعه جمال القدم لعالمه الجديد. فالذين يقفون منّا على أعتاب هذا العهد الجديد قد منحتهم أيادي الألطاف دورًا يأخذون فيه هذه المواد الخام ليصنعوا منها بالمشورة أعظم الأساسات قوى وصلابة وأمانًا للجنس البشري قاطبة.
[1](1) Consultation: A Compilation, no, 15
[2](1) “مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله”، صفحة 149.
[3](2) Consultation: A Compilation, p.3.
[4](1) .Consultation: A Compilation, pp.5-11
[5](1) Wellspring of Guidance, p. 96.
[6](1) إنجيل متّى، إصحاح 7، الآيات 24-27.
27
[7]() Dawn of a New Day, p.48
[8](2) The World Order of Baha’u’llah, p.156.
[9](3) God Passes By, p. 281.
[10](4) . Baha’i News, no. 80, Jan. 1934, p.6
[11](5) Life Blood of the Cause, p. 9
[12](6) Centers of Baha’i Learning, no.4
[13]() Consultation: A Compilation, no. 32
28
بعد صعود حضرة عبد البهاء بثلاثة أشهر فقط كتب حضرة وليّ أمرنا المحبوب رسالة مفصّلة للأحباء في الغرب مؤرّخة 5 آذار1922 – وتعتبر وثيقة فريدة من نوعها- يصف فيها عمليّة المشورة البهائية محددًا تعليماتها ومؤكدًا على أهميّة المحافل الروحانيّة وسلطتها. هذه الرسالة التي وردت في كتاب “الإدارة البهائيّة” (Baha’i Administration) ص 17-25 وكتاب “الكشف عن المصير” (Unfolding Destiny) ص 3-9 يجب أنْ يدرسها بكل عناية أولئك الذين يتوقون إلى خدمة الأمر المبارك في هذه الأيام.
اقتبست الرسالة كثيرًا من بيانات حضرة عبد البهاء، كان أهمّها ما ورد في ص 21 من كتاب “الإدارة البهائيّة” وآخر في ص 22-23. تفيض علينا هذه البيانات المباركة والمألوفة إلينا بتعليمات مفصّلة عن المشورة، من أبرزها ما يلي:
وعليه فإنَّ هذا الفصل والذي يليه مخصصان للتعليمات الواردة في البيانات المباركة المشار إليها أعلاه.
إنَّ ما يجعل المشورة البهائيّة أمرًا فريدًا بشكل رئيس هي تلك الروح التي تؤلّف بين قلوب المتشاورين معًا، وهي التي تميّزها عن تلك التي تدور بين المحامين والأطباء وهيئات مديري المجموعات المدنيّة ونقابات العمّال والشركات التجاريّة وأندية الخدمات الاجتماعيّة والمنظمات المهنيّة.
وقد أوصى حضرة عبد البهاء “أصحاب الشورى” أنْ يتحلوا بصفات معيّنة. ولكن من هم “أصحاب الشورى” هؤلاء؟ عادة هم أعضاء المحافل الروحانيّة، ولكن الأمر يتعدى ذلك إلى كل فرد يحضر الضيافة التسع عشريّة، أو يذهب إلى المدرسة، أو أحد أفراد الأسرة، وبعبارة أخرى هم كل فرد.
ما هي فرائضها الأوليّة؟ الفرائض لغويًا تعني كل ما هو أساسي وضروري، والأولي يعني المُقَدَّم والأهم. ولهذا فإنَّها ليست مجرد مثاليات رفيعة المستوى يستحيل تحقيقها. بل إنَّها مزايا وصفات أساسيّة وضروريّة يجب على كل فرد أنْ يصقلها داخل نفسه حتى يرتقي إلى مستوى المشورة السليمة.
ودعونا نقرأ البيان المبارك التالي:
“إنَّ أول فريضة لأصحاب الشورى هي اتصافهم بخلوص النيَّة وبهاء الروح والانقطاع عما سوى الله والانجذاب بنفحات الله والخضوع والخشوع بين أحباء الله والصبر والجَلَد في تحمّل البلايا وعبوديَّة العتبة الإلٰهية السامية. فإنْ نالوا هذه الصفات أحاطهم نصر الملكوت الإلٰهي الغيبي”([1]).
إنَّها كلمات تأسر الألباب بجمالها ومدلولها. فهي ليست مجرد كلمات تنطق، بل دستور يحدّد لنا معالم طريق تستحق منّا كل اهتمام والتزام. فعندما تتلألأ فضائل الروح هذه وتتطور لدى الأفراد المتشاورين تنمو براعم المشورة وتتفتح بأبهى قدراتها الإلٰهية الكامنة. أمّا إذا تجاهلنا هذه الفضائل فستغدو المناقشات الروحانيّة مجرد حلم كبير.
وكلما قطع الإنسان شوطًا في اكتساب هذه الفضائل زادت قدرته على التشاور الأمثل، علاوة عن أنَّ الجامعة البهائيَّة كلما اتسعت مع مرور الزمن كلما ازداد عدد الحائزين من أفرادها على هذه الفضائل. وسنرى هذا جليًا كلما سمت الجامعة بأسلوب حياتها. ومـع تعاقب الأجيال، فإنَّ على أولئك الذين يمارسون المشورة أنْ يعكسوا تلك الفضائل بدرجة أكبر. وفي الوقت الحاضر، إنَّها مسؤوليّة كل بهائي أنْ يتطوّر بحياته في عالم الفضائل هذه بقدر ما يستطيع. ليس من المنطق ولا من الحكمة أنْ ننتظر الأكفأ حتى ينهض ويعمل، بل على كل فرد أنْ يجهد للوصول إلى هذه المرتبة فورًا.
ولأجل ارتقاء الدرجات نحو فرائض المشورة هذه، دعونا نقترب منها ونتفحصها؛ فنحاول أولاً فهمها. ولدى التفكير فيها يبدو لنا أنَّ لكل واحدة منها عدَّة جوانب. أحدى هذه الجوانب الجانب السلبي الذي يجب أنْ نتركه جانبًا ولا نلتفت إليه إطلاقًا. ومتى تعديناه سنتعرف على الجوانب الإيجابيّة التي يجب أنْ نطوّرها. وفي الخطوة الثانية علينا أنْ نجعل من هذه الجوانب الإيجابيّة جزءًا عاديًا من تفكيرنا، وفي الخطوة الأخيرة علينا أنْ نجعل هذه الفرائض والفضائل جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليوميّة.
وفي هذا السياق نرجو أنْ نضع بعض الأفكار المقترحة لكل فرض ومطلب:
* * *
لا يُخفى علينا أنَّ أحدًا لم يصل إلى درجة الكمال في أي من هذه الخصال السّبع. ونرجع لنؤكد على البيان المبارك القائل: “فإنْ نالوا هذه الصفات أحاطهم نصر الملكوت الإلٰهي الغيبي”. فطالما يكون الجهد الجهيد مستمر في السعي لاكتساب هذه الفضائل، فإنَّ الفوائد الجمّة ستطال الفرد مثلما تطال عمليّة المشورة نفسها.
وبالإمكان جعل هذه الفرائض الأساسيَّة للمشورة جزءًا طبيعيًا من حياتنا. فالعادات يمكن تغييرها لتعكس تلك الصفات بشكل أفضل، وسيأتينا العون لاكتساب هذه الفضائل من مصادر عديدة منها: التحديّات والمصاعب، وتشجيع المحبّين لنا ودعمهم، والتعمّق في الأمر المبارك والقيام على خدمته. كل ذلك مصدر للعون في متناول اليد دائمًا، ويمكن الاستفادة منه فقط إذا كنا توّاقين له وراضين به. إنَّه إحساس بالتوَّجه وعمليَّة من النموّ تتولد نتيجة الجهود الواعيّة وتطوير ملكة المحبة، ثمَّ الوحدة والرغبة الصادقة في الخدمة. وحتى تساعد نفسك في جعل هذه الفرائض السّبع جزءًا من تفكيرك الطبيعي اكتبها واجعلها أمام عينيك في مكان تراه كل يوم. ركّز على واحدة منها في كلِّ مرَّة، وفكر فيها بتمعن، وناقشها مع الآخرين، واستنبط طرقًا يمكن فيها لكل واحدة من هذه
الفرائض أن تطبَّق عمليًا في حالات معيّنة. استمر في ذلك كل يوم بفرض واحد لمدة أسبوع أو شهر أو لأيّة فترة تحتاجها حتى يصبح جزءًا منك، ثمَّ انتقل إلى الآخر وهَلُمَّ جَرًّا.
قد يلجأ الفرد إلى أساليب أخرى توصله إلى المشورة، إلاّ أنَّ المساعي ستبقى ناقصة ما لم تتوفر المحاولات المدروسة لتحسين أدائه في كل هذه الخصال التي أشار إليها حضرة عبد البهاء على أنَّها الفرائض الأوليَّة.
في جانب من رسالة لحضرة وليّ أمر الله مؤرّخة 5 آذار 1922 أورد فقرة اقتبسها من بيان لحضرة عبد البهاء يضع فيه شروط المشورة ويصف خطوات هذه العمليَّة ونتائجها. وفي فقرة واحدة أكَّد تأكيدًا مطلقًا على ستّ قواعد روحانيّة، وأتى إلى وصف جميل لبعض دوافع العلاقات وتأثيراتها. وفي هذا الفصل سنورد الجزء الأول من هذه الفقرة التي تتحدث عن هذين الشرطين بشيء من التفصيل.
في استعراضه لما يترتب على أصحاب الشورى من التزامات، تفضل حضرة عبد البهاء بقوله:
“إنَّ أوَّل شرط لأعضاء ذلك الاجتماع هو وجود المحبة والألفة المطلقة بينهم، واجتناب التّجافي والنفور، وإظهار الوحدة الإلٰهية. وعلامة ذلك أنْ يكونوا أمواج بحر واحد، وقطرات نهر واحد، ونجوم أفق واحد، وأشعة شمس واحدة، وأشجار بستان واحد، وأزهار حديقة واحدة. وإذا لم تكتمل لهم الوحدة المطلقة يتشتت ذلك الجمع ويُمسي ذلك المحفل معدومًا. أمَّا الشرط الثاني فهو أنَّه يجب عليهم أن التّوجّه إلى الملكوت الإلٰهي حين حضورهم إلى مكان الاجتماع وأنْ يسألوا العون من الأفق الأبهى.”([3])
إنَّه مقتطف من بيان معروف لدى معظم البهائيين، إلاّ أنَّهم لا يعيرونه الانتباه الذي يستحقه. فكلمة “شرط” تعرّف على أنَّها: لزوم توفر مطلب ما لتحقيق إنجاز أمر آخر. فمن الضروري إذن أن نأخذ هذين الشرطين بعين الاعتبار بكل اهتمام، لأنَّهما أمران مطلوبان إذا أردنا مشورة فاعلة.
فلو أخذنا مقاطع من هذه الفقرة على انفراد، علَّنا نرى العلاقة القائمة بينها، ستبدو أمامنا صورة أوضح لذينك الشرطين.
واجتناب التجافي والنفور
وإظهار الوحدة الإٰلهية”
أمواج بحر واحد | قطرات نهر واحد |
نجوم أفق واحد | أشعة شمس واحدة |
أشجار بستان واحد | وأزهار حديقة واحدة” |
إنَّه شرط يبعث في النفس الرهبة. يحاول البهائيون من وقت لآخر شرح هذه المتطلبات وتفسيرها، وكثيرًا ما نسمع، من هنا وهناك، تفسيرات مثل: عليكم أنْ تحبّوا بعضكم، ولستم مجبرين أنْ تربطكم أواصر الود. أو أن إظهار الوحدة الإلٰهية تعني اتحادكم في خدمة حضرة بهاء الله بغض النظر عن التقارب والانسجام، إذ أنَّ الإنسان غير قادر على حب الجميع.
إنها آراء تعبّر عن قصر النظر. إنَّ أقصى ما يمكن أن نشاهده، إذا صحّت هذه التفسيرات، وحدة ظاهريَّة هشّة، وهي نوع من الهدنة أكثر منها وحدة واتحاد. إنَّ تخلُّصك من مشاعر النفور يذهب إلى أبعد من مجرد تحمُّلك شخصًا ما. إنَّ كراهيتك لمن تتشاور معهم ليست لها موقع في المشورة البهائيَّة مهما كانت مغلَّفة بالمنطق والأسباب المقنِّعة. يجب أن تنعكس الوحدة الإلٰهية على أفراد الأحباء في علاقاتهم مع بعضهم البعض داخل مجلس الشورى أو خارجه. فالمحبة الخالصة والانسجام الكامل يعني اهتمام الفرد شخصيًا بالآخرين.
ويؤكد حضرة عبد البهاء على أهميّة ذلك في القانون الأول من القوانين الروحانيّة الستة الواردة في هذا المقتطف بقوله:
“وإذا لم تكتمل لهم الوحدة المطلّقة
يتشتت ذلك الجمع
ويُمسي ذلك المحفل معدومًا”
إنَّه وعد، ولكن هل يعني ذلك أنَّ المحفل الروحاني سينحل تلقائيًا؟ لا، ليس بالضرورة إذ أنَّ هنالك عدَّة أمور يجب أخذها بعين الاعتبار في هذا السياق. أحدها يتعلق بالفرق بين وجود المحبة الخالصة والانسجام التام بين المتشاورين أو فقدانهما، وآخر بالّذي يعنيه لنا الانسجام التام، وثالث يتعلق بتعزيز الوحدة الموجودة بغض النظر عن درجتها.
وعندما تتوفر الشروط المُثلى، تأخذ المشورة مجراها بكل حريَّة، ويكون هناك توجّه سليم سلس نحو أعماق كل مسألة، وترتقي المناقشات أعلى الدرجات. ويمكن تشبيه ذلك بما يحدث عند استعمال مادة الهايدروفويل (Hydrofoil) في صنع القوارب. وبواسطتها يرتفع الزورق عن كل عائق معتاد أو احتكاك بسطح الماء، فيتقدم بسهولة وفعاليَّة لا تجد مثلها في أسلوب آخر. وهكذا الأمر في المشورة، فعندما تقترب الشروط إلى المثاليَّة في تحقيقها، تصبح المناقشة مختلفة نوعًا، فتنساب بسلاسة إلى مستوى رفيع متخطيَّة أمورًا صغيرة كان من الممكن أن تشكل عوائق تعترض سبيل التقدم. وعندها نستمتع بفرحة الانتعاش والبهجة، وتولَّد لدى كثير من الناس رغبة تشدّهم إلى البقاء في أماكنهم بعد انتهاء الجلسة ويتطلَّعون للجلسة القادمة بكل لهفة.
ومن جهة أخرى، عندما يتمكن النّفور من النفوس تطفو الحساسيّة ويسود جو من التوتر يعيق عمليّة المشورة وينتصب أمامها جدارًا خفيًّا يصعب اختراقه، وتغدو المداولات سطحيَّة عاجزة عن التقدم، فتتخبط في بحر من الإحباط وخيبة الأمل، وتأتي القرارات سطحيَّة لا تصيب جوهر الموضوع، ويمسي “المحفل الروحاني”([4])، الذي تفضل عنه حضرة عبد البهاء، معدومًا. يغفلون عن كثير من التفاصيل ويغرقون في جو من عدم الارتياح. وفي غياب المحبة والانسجام يجد الكثير عناءً في المشورة لأنَّ قوى الروح لديهم تُستنزف ومتانة الأعصاب تُستهلك. بعضهم يشعر برغبة شديدة في الابتعاد حتى عن مكان الاجتماع ويتردد في حضور الاجتماع القادم، وهذا ما يدعو الشخص غالبًا إلى اختلاق الأعذار للتغيّب عن الاجتماعات.
وحتى في ظل الوحدة الجزئيّة تقوم المحافل الروحانيّة بواجباتها وتصل إلى قرارات. إلاّ أنَّه، عندما تضعف أواصر الوحدة، تسير النشاطات بشكل آلي وتصدر قرارات خاطئة، وتفتقر الجلسات إلى روح البهجة وجوَّها. لا زال أمامنا بعض الأمل؛ فلو كان لدى اثنين من أعضاء المحفل الروحاني إدراك كامل لمقام المشورة، و كانا توّاقين جدًا لخدمة المحبوب، فذلك يعني وجود درجة من الوحدة ولو بسيطة يمكن أنْ تكون أساسًا تُبنى عليه المشورة وتزداد قاعدتها اتساعًا. حتى ولو كان كل واحد محرومًا من إدراك المقام الإلٰهي لهيئة المحفل الروحاني، فإنَّ مقامه كائن في القوى الكامنة في العالم الروحاني. وإذا انعدم التقدّم نحو “الوحدة المطلقة” فإنَّ “المحفل الروحاني يُمسي معدومًا”. وهذا يعني، من جانب آخر، أنَّ الجهود المبذولة سوف لا تؤتي أُكلَها. وعندها ستتبدد المجهودات وتهدر الطاقات بلا أدنى نفع. وفي فصلنا الثالث عشر سنتناول معالجة استمرار النفور.
التوّجه إلى الملكوت الإٰلهي
وأن يسألوا العون من الأفق الأبهى”
عندما يؤم أصحاب الشورى مكان الاجتماع يأتون وفي ذهن كل منهم أمر ما، بعضهم يفكّر بأعماله، وآخرون يفكّرون بعائلاتهم، أو فيما يعملون في أوقات فراغهم، أو بخططهم بعد الاجتماع، في آمالهم الشخصيَّة وأحلامهم وطموحاتهم أو في مشاكلهم. وعلى كل حال، فإنَّ حضرة عبد البهاء يطلب منهم، في الشرط الثاني، أن يُقبلوا بوجوههم واهتمامهم وأفكارهم نحو هدف واحد هو الملكوت الأبهى.
ويمكن تحقيق ذلك بعدة طرق؛ إحداها، إعطاء بعض الوقت لدردشة قصيرة وتبادل أطراف الحديث قبل بدء الجلسة، أو إفساح المجال أمام فترة كافيَّة للدراسة والتأمل و/أو الدعاء قبل بدء المشورة. فالوقت الذي يمضيه المجتمعون في دراسة الكلمة الإلٰهية الخلاَّقة ومناقشتها له تأثيره العجيب في التخفيف من حدِّة الاحتكاك أثناء التشاور (ونعني بالكلمة الإلٰهية كلمات حضرة بهاء الله على وجه التحديد). أمَّا أيَّة موضوعات أخرى، فمهما كانت ملائمة لجدول الأعمال فلن تؤثر بنفس الدرجة، حتى لو كانت إرشادات إداريّة.
ويمكن استخدام مواد تتعلق بموضوع معين كمقتطفات من الآثار المباركة حول التبليغ والمشورة والتربية والتعليم…الخ. كما أنَّ المقتطفات المتعلّقة بالحياة الروحانيّة وقوّة الدعاء هي أيضًا ملائمة. وتعتبر الكلمات المكنونة وكلمات الحكمة ملائمة تمامًا لهذا الغرض، ومثلها أيضًا العديد من مجموعات النصوص المتوفرة حاليًّا.
ويمكن مقارنة ذلك بدندنات الموسيقى التي يطلقها العازفون من آلاتهم قبل عزف المقطوعة. إنَّها مدخل إلى التناغم الموسيقي وليس مجرد إطلاق نغمات عشوائيَّة. فإذا أهملت فترة الانتقال والإعداد هذه ستكون المشورة أقل تأثيرًا أو تتعثر عملية التوافق والانسجام. ومهما استغرقت عمليّة تحوّل الفكر من الشؤون الدنيويّة إلى الملكوت الإلٰهي من وقت، فإنَّها جديرة بالاهتمام بكل حرص.
والوجه الآخر للشرط الثاني يتعلق ﺒ “طلب العون”. وهذا إقرار منا بعجزنا عن القيام بعمل ضروري دون عون. والأفق الأبهى هو المخزن الوحيد لذلك العون. إنَّه ليس أمرًا مرغوبًا فيه فحسب، بل شرط ضروري قبل المشورة. والطريق إلى ذلك يكون في الدعاء الحار الصادق طلبًا للعون. وعندما يتوفر هذان الشرطان ويلتقيان معًا يمكن للمشورة البهائيّة أن تأخذ مجراها.
بعد شرح هذين الشرطين مباشرة يذكر حضرة عبد البهاء القواعد الخمس التي يجب إتّباعها بعد ذلك بقوله: “عليهم أنْ يباشروا أعمالهم معبّرين عن آرائهم بمنتهى الإخلاص والأدب والوقار والاهتمام والاعتدال”([5]).
يبدأ حضرة عبد البهاء في وصف ما يجب أن نكون عليه تجاه الحق وتجاه حضرة بهاء الله. وبمعنى آخر يجب أنْ تكون المشورة تعبيرًا عن التفاني والإخلاص.
يجب أن تُتوّج مواقفنا وسلوكنا مع الآخرين سجية الأدب. فهو في المقام الأوَّل – كما يتفضل حضرة بهاء الله – “سيد الأخلاق” و”الحكم المحكم”([6])، وعليه، يجب أن يكون زينة المشورة. إنَّ اختلاف الآراء ضروري، إلاَّ أنَّ الجنوح إلى قسوة الكلام وخشونة النقاش هو ما يجب أن نقاومه بشدة حتى تبقى فضيلة الأدب الساميَّة هي السائدة.
إنَّ سلوك النهج الخلقي القويم تجاه الله ومع بعضنا بعضًا هو ما يعرف بالوقار. إنَّه انعكاس لما يشعره الإنسان تجاه نفسه. وكونه أحد أبناء الله فإنَّ هذا الشعور يجب أن يتسم بالاحترام لنفسه وبالوقار في سلوكه ومظهره بعيدًا عن مظاهر تجهّم الوجه والغضب. فكل إنسان هو من مخلوقات الله النبيلة الرفيعة، وعلى المشورة أن تعكس فيه ذلك النُّبل الذي أنعم الله به علينا.
يريدنا مركز العهد والميثاق، حضرة عبد البهاء، أن نعرض كافة الأمور بكل دقَّة وعناية. إنَّها عبارة لها مدلولاتها البعيدة. فالعشوائيّة والافتقار إلى التحضير المتقن ليس لهما وجود في المشورة البهائيَّة. يجب توجيه عناية فائقة إلى تفاصيل ما يقدم لبحثه. إنَّ درجة الشموليَّة والعنايَّة التي يبديها العضو في بحث أمر ما يجب أن يعادل على الأقل درجة حرصه على مصلحته الخاصة.
بينما تمثل السجايا الآنفة الذكر وتحكي عن مواقفنا تجاه الله ومع الآخرين ومع أنفسنا أمام الأمور والقضايا المطروحة، فإنَّ الاعتدال يتعلق بكيفيَّة عرض الموضوع. ومع هذا، يجب ألاّ يختلط الاعتدال مع التّردّد أو عدم الاقتناع.
يجب أن تُطرح الآراء بشكل محكم ومقنع دون محاولة إجبار أحد على تبنيها، بل هي على الأصح مساهمات خاصَّة من الأعضاء تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار. وغالبًا ما يعتبر البيان التالي، الصادر من يراع حضرة بهاء الله، ذا علاقة بالتبليغ، إلاَّ أنَّه يلخص لنا ماهيّة عرض فكرة باعتدال أثناء المشورة وهو قوله: “لو كانت لديكم كلمة أو جوهرة ودونكم محروم منها، ألقوها بلسان المحبة والشفقة… إنَّ لسان الشفقة جذاب للقلوب ومائدة للروح، وهو بمثابة المعاني للألفاظ وكالأفق لإشراق شمس الحكمة والعرفان.”([7])
في ظل هذه القواعد الخمسة في إجراء المشورة يجد الفرد نفسه مدعوًا للتعبير عن وجهة نظره. وعليه، فإنَّه ليس مسموحًا له أنْ يلتزم الصمت أمام فكرة يحملها لم يتم عرضها بعد، أو أن ينيب عنه من يتكلم باسمه. إنَّ تأييد فكرة ما لا يعتبر جزءًا من المشورة. فإذا عرض شخص فكرة أنت تحملها أيضًا فلا داعي لك أن تكررها. إلاّ أنَّه يجب على كل فرد أن يتأكد من أنَّ أفكاره قد عرضت بوضوح وفُهمت، وهي مسؤولية تقع على عاتقه.
من السهل أن ننسى بعض هذه القواعد، فلو تصرَّف كل عضو كما لو كان حضرة عبد البهاء يشاركهم الاجتماع في الغرفة، لكانوا أكثر حرصًا في التشاور طبقًا لهذه المعايير. فأحد المحافل الروحانية يخصص كرسيًا لحضرة عبد البهاء ويضع عليه شمائله حتى تذكّر كل عضو بما يجب أن يكون عليه سلوكه.
[1](1) كتيّب “المحفل الروحاني المحلي”، صفحة 17.
[2](1) كتيّب “المحفل الروحاني المحلي”، صفحة 18.
[3](1) كتيّب “المحفل الروحاني المحلي”، صفحة 19.
[4](1) Consultation: A Compilation, p.10.
[5](1) Baha’I Administration, p. 22.
[6](1) “مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله”، صفحة 105.
[7](1) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 185.
لقد هيَّأ لنا الفصل السابق تلك الأجواء والقاعدة لعمليَّة صُنع القرار، وهي عمليَّة يمكن لها أنْ تبدأ بعد المرور بهذه الإجراءات وتنفيذ التعليمات.
إنَّ الإجراءات البرلمانية، مثل التي وردت في نظام روبرت، لا تتفق والمشورة البهائيَّة. ولا نحاول بذلك أن نوَّجه النقد إليها بل نقول بكل بساطة أنَّها غير موضوعة لتخدم نعمة المشورة بالطريقة التي وَضَعَ قواعدها حضرة بهاء الله، ولذلك لا تصلح نهجًا لمشورتنا. فالاقتراحات، على سبيل المثال، ليست جانبًا ضروريًا في المشورة البهائيَّة مع أنَّها يمكن استخدامها إذا رغبتها الأكثريَّة. وإذا كان لا بد من طرح اقتراح فإنَّ ذلك لن يكون مناسبًا إلاَّ بعد مناقشة الموضوع. وفي أنظمة أخرى غير بهائيَّة يقتضي الأمر طرح الاقتراح قبل فتح باب النقاش.
من الآثار المباركة لحضرة عبد البهاء يمكننا استخلاص خطوات ثلاث تقودنا إلى اتخاذ القرار:
.2 تقرير ما يجب عمله.
.3 إخراج القرار ووضعه حيّز التنفيذ.
إنَّها خطوات اقترحها حضرة ولي أمر الله في رسالته المؤرخة 5 آذار 1922. كما أفاض حضرة عبد البهاء علينا بخمس قواعد روحانيَّةأخرى تتعلق بالمشورة، ويلفت أنظارنا إلى ما يجب إتّباعه وما يجب تجنبه بقوله:
“… عليهم أنْ يتحروا الحقيقة في كل مسألة دون أنْ يتشبثوا بآرائهم، ذلك لأنَّ التشبث بالرأي يؤدي إلى النزاع والخصام فتبقى الحقيقة مستورة. على الأعضاء أنْ يعبِّروا عن آرائهم بتمام الحريَّة ولا يجوز أبدًا أنْ يحقّر أحد رأي الآخر، بل ينبغي له أنْ يوضِّح حقيقة رأيه بمنتهى اللطف. وفي حال وجود أيّ خلاف في الرأي يكون القرار للأغلبيَّة حيث يجب على الجميع إطاعة أغلبيَّة الآراء والانقياد لقراراتها، ولا يجوز لأحد أنْ يعترض أبدًا أو ينتقد قرار الأغلبيَّة أكان ذلك خارج المحفل أو داخله، حتى لو كان القرار غير صائب. فإنَّ مثل هذا الانتقاد سيكون سببًا لعدم تنفيذ أي قرار. ومجمل القول، إنَّ كل عمل يتم بالألفة والمحبة وصفاء النيَّة نتيجته النور، أمَّا إذا حدث أدنى اغبرار فستكون نتيجته ظلامًا ليس دونه ظلام… وهكذا، يكون ذلك المحفل محفلاً إلٰهيًا، وما عدا ذلك فإنَّه سبب للبرودة والنفور المنبعثين من العالم الشيطاني”([1]).
مواضيع ضخمة ازدحم بها هذا البيان المبارك، وهي من الكثرة حقًا بحيث يسهل على المرء أنْ تتعثر خطاه في ذلك المسار الدقيق والمباشر للمشورة كما وصفه لنا مولانا المحبوب.
هناك طرق عدَّة لتحليل هذا البيان المبارك وفهمه. إنَّها تجربة تثقيفيَّة مثيرة أنْ نكوّن من تلك الكلمات رسمًا بيانيًا يرينا كيف تتطور بعض الأفكار والآراء.
هناك طريق مثير للاهتمام على نحو خاص نستطيع بواسطته أنْ نتفحص كلمة الحقيقة التي وردت في ثلاثة مواضع. فبينما كان استعمالها الثاني تحذيريًا، كان الأوَّل والثالث وكأنَّهما وصف لخطوتين مختلفتين تمامًا في عمليَّة واحدة بدلاً من أنْ يكون تكرارًا في اللفظ.
دعاهم حضرة عبد البهاء إلى “تحري الحقيقة”. قد يظن البعض أنَّها البحث عن حقيقة الموضوع أو المشكلة، ومن جهة أخرى، قد يفهم من عبارة “يوضّح حقيقة” على أنَّها وضع الحل المناسب أو خطَّة العمل.
دعونا نقترب من العناصر المختلفة التالية علَّها تساعدنا:
البحث عن الحقيقة
أنْ يعبروا عن آرائهم بتمام الحريَّة
أنْ يوَّضح حقيقة رأيه بمنتهى اللطف
وفي حال وجود أي خلاف في الرأي
يكون الرأي للأغلبيَّة
يجب على الجميع إطاعة أغلبيَّة الآراء والانقياد لقراراتها
إنَّ بساطة الإجراء أمر لطيف. فهو في الحقيقة إجراء سهل للغاية، ومع ذلك فهو متكامل إلى أبعد الحدود بحيث يمكن أنْ يفوتنا إدراك تأثيره ومردوده ما لم نتفحص تلك الخطوات وندقق فيها.
يبدأ حضرة عبد البهاء تعليماته الواضحة إلى أصحاب الشورى بأنَّ “عليهم أنْ يتحروا الحقيقة في كل مسألة…”، وهذا يعني ضمنًا الإحاطة بالمسألة لمعرفة حقيقة الوضع. ففي حل أي إشكال فإنَّ هذا يعني أنْ نعرف: متى حدث وأين وكيف ولماذا، وليس مجرد حدث؟ عندما نلجأ إلى المشورة في وضع الخطط، فإنَّه يعني أنْ نعرف ما يجب تحقيقه ثمَّ لماذا سننجزه وكيف؟ مع الأخذ بعين الاعتبار جميع المتطلبات.
أحد الأخطاء الشائعة، ليس في المشورة البهائيَّة فحسب بل في أي نوع من النشاطات الجماعية، هي أنَّ الناس يتسرعون في الوصول إلى القرار قبل فهم المشكلة. إنَّها على العكس من ذلك، فالمشورة البهائيَّة تستدعي تعليق اتخاذ القرارات أو تأجيلها لإفساح المجال أمام مشورة صريحة وكاملة. علينا أنْ لا نخلط هذا الأمر بمواقف الحيرة والتردد، بل هي فترة ديناميكيَّة تعمل على تطوير الأفكار والآراء وإنضاجها، ويبدو للبعض أنَّ هذا من أكثر عناصر المشورة صعوبة، مع أنَّ تعليق القرار يساعد على تركيز الانتباه على المسائل المطروحة التي سيتولّد منها القرار.
يبدو لنا أنَّ حضرة عبد البهاء يوجّهنا إلى إيلاء عناية فائقة في تفهّم تلك الموضوعات الأساسيَّة والمطروحة للبحث، بدل بحثنا عن حلول سريعة لها. وهناك عدَّة أمور يجب مراعاتها مثل:
تجميع الحقائق والاتفاق عليها: وهذا يقتضي تمحيص الحقائق المتعلِّقة بالموضوع وتقييمها، بما في ذلك معلومات مُجْتَزأة ومعلومات مضللة وروايات متضاربة واستبعاد الحقائق التي ليس لها صِلة بالموضوع.
الكشف عن خلفيَّة الموضوع كاملة: وهذا يقتضي تقرير ما إذا كان الموضوع المطروح يمثِّل حقيقة المشكلة، أم أنَّ هناك أمر أساسي آخر يجب أنْ يؤخذ بعين الاعتبار.
النظر إلى القضيَّة من زوايا متعددة: قد تظهر الحقائق مختلفة باختلاف وجهات النظر. ما هي إدراكاتنا الحسيَّة المختلفة للحقائق؟ كيف يشعر المعنيون تجاهها؟ وكيف يرونها؟
الرجوع إلى الآثار الكتابيَّة المباركة: يجب أنْ تراجع جميع المعلومات وتُحدد علاقتها بالآثار المباركة. هل صدر توجيه بهذا الخصوص في السابق؟ ما هي الآثار الروحانيَّة المترتبة عليها؟ كيف يمكن تطبيق المبادئ الروحانيَّة؟ (من الشائع الوقوع في فخ الاعتماد على أحد البهائيين من ذوي الخبرة والمعرفة، أو محاولة تطبيق ما هو خارج عن النص. فإذا كان هناك أي شك حول ما جاء في البيانات المباركة، فارجع إليها.)
الربط بين المعلومات: يجب وزن الأمور وجمعها معًا حتى يتحقق الفهم الشامل الدقيق.
إنَّ مصدر المعلومات لحقيقة الوضع مختلفة جوانبه، بعضها يأتي من أحد أصحاب الشورى أنفسهم أو من أحد الأفراد أو الهيئات غير المشتركة بالمشورة، وقد يكون من الضروري إعادة طرح الموضوع على طاولة البحث لمزيد من التحري والتمحيص.
وفي توضيحه “لتحري الحقيقة” يؤكد حضرة عبد البهاء على وجوب توفّر مشورة حرَّة وصريحة وواضحة، ونصيحته لأصحابها أن “لا يتشبثوا بآرائهم” تحْمل كل بلاغة في التعبير عن هذا المفهوم. وحالما تبرز حقيقة الوضع أمام الجميع، وقد تكون مختلفة عما طُرح بشأنها من آراء سابقة، عندها يجب إعادة تقييم تلك الأفكار والآراء الأخرى.
بعد فهم الموضوع بكل وضوح، يمكن التوجّه نحو الحل. وهنا تبرز ثانية أهميّة مراعاة القواعد الخمس في الإجراءات أثناء طرح الحلول المختلفة أو رفضها أو تعديلها. وعندما تتضح المشورة وتصل إلى نقطة اتخاذ القرار يصبح لزامًا وضع صيغة للقرار الذي اتفق عليه حلاً للمشكلة.
وفي تلك المرحلة بالذات، هنالك خطران يحومان دومًا في أجوائها. الأوَّل محاولة الوصول إلى قرار في عجالة قبل إعطاء المشورة حقَّها، والثاني الاستمرار في الحديث إلى ما بعد لحظة التوصّل إلى قرار. ففي الأوَّل قد يثبت لاحقًا عدم جدوى القرار، وفي الثاني يخشى من أنْ يُصبح القرار ضعيفًا مميعًا إذا استمر النقاش بعد وصول المجموعة إلى ذروة اتخاذ القرار. إنَّ أكثر القرارات وضوحًا وإحكامًا بشكل عام هي تلك التي تصيغها المشاورات في بوتقة إجماع الآراء، وهذا ما يحتاج إلى فن وموهبة خاصة لإدراك وصولنا لهذه النقطة. ومن حسن الحظ أنَّ الخبرة ستجعل تمييزنا لتلك اللحظة أمرًا أكثر سهولة.
وعندما يبدو أنَّ أصحاب الشورى قد توصَّلوا إلى حل للمسألة المطروحة، يتوجب على الرئيس، أو من يدير الجلسة، أن يبسط أمامهم ما توصَّلوا إليه بكل وضوح وبساطة. فإذا رغبوا في صياغة اقتراح ما، فبإمكان أحدهم تقديم اقتراحه. والمهم في الأمر أنْ تصل المشورة إلى قمّة نضجها، حتى يمكن صياغة قرار يحمل طابع الوضوح والإيجاز يمكّن المجموعة من التصويت على الشيء نفسه.
إنَّ لحظة اتخاذ القرار لهي مناسبة خاصة، وعادة ما يكون الهدف من المشورة، وقد منحها حضرة وليّ أمر الله وصفًا جميلاً بقوله: “فعندما يدعى هؤلاء (أعضاء المحافل الروحانيَّة) لاتخاذ قرار ما، عليهم التوجّه إلى الله عن طريق الدعاء بعد إجراء المشاورة الوديَّة الخالصة الجديّة، وأنْ يسجّلوا تصويتهم بكل جد وإيمان وشجاعة.”([2])
من الممكن أنْ تكون المشورة بأكملها قد تمَّت وكأنَّها ضرب من العبادة أو نوع من الدعاء والابتهال، وهنا قد ترى المجموعة أنَّ لا ضرورة لتلاوة مناجاة خاصّة قبل التوصّل إلى قرار في كل مسألة. ومن ناحيّة أخرى، هناك حالات كثيرة تستدعي فيها طبيعة الموضوع أو المشورة فيه تلاوة دعاء خاص قبل التصويت على قرار، وفي كلتا الحالتين من المهم أنْ يُتّخذ القرار بروح من التوجّه القلبي الخالص بالدعاء.
وعندما تتلى على الجميع صياغة القرار المبدئي، وتبدو من الجميع موافقتهم التامّة عليه، يُسجّل على أنَّه قرار نهائي؛ أمَّا إذا بدا في الجو أي شك بعدم وجود إجماع فيتم التصويت عليه.
إذا لم يكن هناك إجماع، ولو باعتراض واحد فقط، يمكن السير في الموضوع باتجاهين: أوَّلهما إعادة طرح المسألة لمزيد من البحث إذ ربما لم تكن المشورة وافيّة. وعندما يعاد بحثها كثيرًا ما تبرز فكرة جديدة أو وجهة نظر مختلفة لتؤدي بالنتيجة إلى قرار أفضل وأقوى. إنَّ على المجموعة أن تتلمس الوصول إلى القرار الأمثل لا مجرد اتخاذ قرار.
وثانيهما اللجوء إلى التصويت والالتزام بقرار الأغلبيّة ثمَّ الانتقال إلى الموضوع التالي. ومع أنَّ إجماع الآراء أمر مفضّل إلاّ أنَّه ليس مطلبًا أساسيًا. فليس من الأجدى قضاء وقت طويل لإقناع كل مخالف للرأي لنصل في النهاية إلى إجماع الآراء. فإذا ما استوعب الكل جوهر القضيّة وبقي اختلاف في الرأي، فليس أمامنا سوى اللجوء إلى التصويت ثمَّ تسجيل القرار والانتقال إلى الموضوع التالي. وقد سمح مركز العهد والميثاق بذلك عندما تفضل: “ونعم المراد هو أن يكون الإجماع على رأي واحد في نهاية البحث. وفي حالة وجود خلاف –لا سمح الله- يرجع الأمر إلى أغلبية الآراء.”3
وتجـدر الإشارة إلى أن المشورة البهائية تختلف عمليا عن أي نوع آخر من المداولات، فهي لا تحتسب فيها إلا الأصوات المؤيدة للاقتراح وليس فيها أصوات معارضة أو ممتنعة، فإما أن يصوت الفرد مع الاقتراح أو لا يصوت. فإذا كانت الأغلبية معه نجح وإلا سقط.
* * * * * * * * *
أثناء ممارستنا للمشورة قد لا يكون هناك فرق واضح بين فهم المسألة من جهة وتقرير ما يجب فعله من جهة أخرى، وكثيرا ما يتداخلان معا. فبينما يأخذ فهمنا للمسألة ينمو ويكبر يكون القرار في مراحله الابتدائية قد أخذ في التشكل. وفوق كل ذلك فإن مفتاح الحل غالبا ما يكمن في جوهر المسألة نفسها، فعندما يتوفر إدراك تام لأبعادها كثيرا ما يصبح الحل بيّناً واضحاً.
وفي سبيل فهمنا للمشكلة وتقرير ما يجب فعله علينا إجراء مشورة صريحة وكاملة. فالأفكار يجب طرحها في جو من الحرية التامة وبموجب القواعد الخمسة. هذا هو لب المشورة وجوهرها، وهذا هو مكمن انطلاق بارقة الحقيقة: “إن صواب الرأي لا ينبلج إلا عند بحث الأمور، وتسطع بارقة الحقيقة عند احتكاك الآراء.”4 فبدون احتكاك الآراء لن تسطع بارقة الحقيقة. ويجب أن نتذكر هنا أن الاحتكاك يجب أن يصيب الآراء لا الأفراد أو الشخصيات أنفسهم، وأن ننظر إلى بارقة النور وليس إلى الاحتكاك نفسه. ويجب أن تطرح الآراء بقوة وإحكام، ولكن بلطافة ولباقة، تمكنها من الاحتكاك بالآراء الأخرى.
إن الحفاظ على تجردنا من كل عاطفة تشدنا لما يطرح من آراء لهو مفتاح لهذه العملية. فعندما يطرح الرأي يصبح ملكا للجماعة، فيحق لها أن تمحصه وتتفحصه وتشرّحه وتعيد تشكيله كيفما تريد إلى أن تصل فيه إلى فهم حقيقته وعندها تسطع بارقة الحقيقة. فإذا تمسك الشخص برأي قدّمه وكأنه ملك له، وأخذ يعتدّ بنفسه باعتباره صاحبه، فإن احتكاك الآراء هنا سوف يؤذي المشاعر، لأن تضاربها في هذه الحالة لن يشعل بارقة الحقيقة بل سيفقدها تأثيرها. ابحثوا عن النور الساطع وتجنبوا الاحتكاك الذي تفوق حرارته نوره. فإذا ما حدث ذلك تفقد الجماعة شواخص المشورة وتضل سبيلها وتبقى الحقيقة مستورة.
وعندما تستنفذ المشورة إجراءاتها وخطواتها دون ظهور إجماع واضح أمام الجميع، فقد ترغب الجماعة إما في إجراء التصويت لاتخاذ قرار ما والانتقال إلى موضوع آخر أو في تأجيل بحث المسألة إلى وقت لاحق.
مع أنه يمكن التوصل إلى قرار بأغلبية الآراء، إلا أنه وبمجرد اتخاذ القرار فإن هذا القرار لم يعد يمثل قرار الأغلبية وإنما يعتبر قرار الجماعة كلها. وبعد ذلك مباشرة تواجهنا متطلبات غاية في الأهمية هي:
لقد تفضل حضرة عبد البهاء: “إن أعظم شاهد على المشورة الروحانية قد تجلى في اجتماع حواريي السيد المسيح على الجبل بعد صعوده”. ثم شرح حضرته كيف أنهم استعرضوا الوضع ووضعوا أمامهم ما ينتظرهم من مهام، وبعد ذلك اتفقوا على ما يجب فعله ثم” هبطوا من أعلى الجبل وتفرق الجميع في جهات مختلفة ليقوم كل واحد بمهمته المقدسة”5. فبعملهم هذا أتت مشورتهم ثمارها.
على كل فرد واجب يحتم عليه بذل كل وسعه في جعل القرارات تؤتي أكلها مهما كان موقفه أثناء التصويت.
وقد أشير إلى عدة ممارسات قد تنسلّ داخل هذه الخطوات وهي غير مرغوب فيها ويجب تجنبها. فيذكّر حضرة عبد البهاء أصحاب الشورى:
أن لا يتشبثوا بآرائهم
لا يجوز أبدا أن يحقر أحد رأي الآخر
لا يجوز لأحد أن يعترض أبدا أو ينتقد قرار الأغلبية أكان ذلك خارج المحفل أو في داخله حتى لو كان ذلك القرار غير صائب.
كما يضع حضرته قانونا روحانيا آخر للمشورة فيتفضل:
التشبث بالرأي يؤدي إلى النزاع والخصام وتبقى الحقيقة مستورة شأنه شأن أي قانون مادي. فالتشبث بالرأي يقود إلى النزاع والخصام. وليس هذا نهاية المطاف لسوء الحظ، فنتيجةً لذلك، كما أكده لنا حضرة عبد البهاء، “ستبقى الحقيقة مستورة”، وليس هو بتهديد أجوف بل نتيجة حتمية للنزاع والخصام لأن اكتشاف الحقيقة أمـر يستحيل تحقيقه مع استمرارهما.
وهناك أربعة قوانين روحانية أخرى وردت في نهاية هذه الفقرة: أولها يشير إلى أن “الانتقاد سيكون سببا لعدم تنفيذ أي قرار”، وهو أمر له تأثيره بعيد المدى على مستقبل الإنسانية. ففي عصرنا الحاضر الذي ترتفع فيه أصوات السخرية والاعتراض على كل ما يتعلق بالنظام العام، ليس سهلا على الإنسان أن يسلك هذا المسلك، إلا أن ثماره وفيرة وبركاته سخية أن يعمل الفرد في محيط يحرم الانتقاد بتشريع ديني.
وقانون آخر فيه إنعاش للروح ومكافأة للنفس ذلك هو: “كل عمل يتم بالألفة والمحبة وصفاء النية نتيجته النور”. لم يتطرق أبدا إلى صواب القرار ولا إلى روعة وقوة الأفكار المطروحة بل ذهب إلى أبعد من ذلك وأكثر أهمية وهو تلك الروح التي سيطرت على جو القرار. ويضيف إليه حضرة عبد البهاء وعدا آخر بتأكيده أنه “هكذا يكون ذلك المحفل محفلا إلهيا”.
وبعكس ذلك “إذا حـدث أدنـى اغبـرار فستكـون نتيجتـه “ظلامـا ليـس دونه ظلام.…”. وفي وعد حتمي آخر يطلق مركز العهد والميثاق تحذيره مؤكدا بأنه في ظل هذه الأحـوال سيكـون الأمـر “سببـا للبرودة والنفور المنبعثين من العالم الشيطاني”. فالقرار السيئ أو حتى البعيد عن الحكمة لا يثير مشاكل مستعصية أما الاغبرار فيؤدي إلى ذلك.
والقانون الروحاني الأخير أكثرهم مبعثا للتفاؤل:
“فإذا ما سعوا لتحقيق هذه المطالب ستهبط عليهم نعمة الروح القدس، ويصبح ذلك المحفل محط العنايات الإلهية وتتضافر التأييدات الإلهية لمساعدتهم، وتتجدد لديهم الفيوضات الروحية يوما بعد يوم.”6
وقد يسهل علينا إدراك معناها وما ترمي إليه لو رتبناها بطريقة مختلفة:
فإذا ما سعوا لتحقيق هذه المطالب ستهبط عليهم نعمة الروح القدس ويصبح المحفل محط العنايات الإلهية وتتضافر التأييدات الإلهية لمساعدتهم وتتجدد لديهم الفيوضات الروحية يوما بعد يوم وحتى نحظى بهذه العنايات ليس بالضرورة أن نصل إلى أفضل القرارات الممكنة، أو أن تكون مناقشاتنا مثالية، كل ما هو مطلوب هو السعي للوصول إلى تلك المطالب وتحقيقها. وهذا معناه أن العنايات الإلهية ستنهمر على جميع الأعضاء بالتساوي -الجديد منهم والقديم المتمرس- طالما شملتهم تلك الروح اللائقة وسعوا لتحقيق المطالب. إنه وعد أكيد آخر.
من يتخذ القرار النهائي؟
ليس بالضرورة أن تتوج جميع المشاورات بقرار من المجموعة. وهناك حالات ثلاث للمشورة تختلف عن بعضها باختلاف الجهة المكلفة باتخاذ القرار النهائي:
في حالات كثيرة شائعة لدى البهائيين يطبق مبدأ فوز رأي الأغلبية، ومنها المحافل الروحانيـة (ولجانها المنبثقة عنها عادة)، مؤسسة الضيافة التسع عشرية، ومؤسسة مؤتمر الوكلاء المركزي. وقد أوردنا في القسم السابق أسلوبا عاما في اتخاذ القرار الجماعي.
غالبا ما نلجأ إلى المشورة حتى لو كنا في غنى عن رأي الأغلبية. وأفضل مثال على ذلك مؤسسة ولاية أمر الله. فقد أجرى حضرة ولي أمر الله مشاوراته مع عدد من الأفراد في مواضيع مختلفة، إلا أن القرار النهائي كان يرجع إليه وحده دائما.
وفي مؤسسات أيادي أمر الله، والمستشارين، وهيئة المعاونين تجري مشاورات عدة. وقد تتخذ بعض القرارات الجماعية إلا أن الكثير من القرارات التي يتخذها أعضاء هذه المؤسسات هي قرارات فردية، علاوة عن أنها تأخذ طابع النصائح والتوصيات في طبيعتها لا إملاء القرارات.
وفي حالات أخرى مثل مؤسسة المدرسة الصيفية، والمعاهد، والبرامج التبليغية وغيرها، تعين المؤسسة مسؤولا فردا أو لجنة وتزوده بالتعليمات والإرشادات اللازمة. وفي سبيـل تنفيذهــا يجـب أن تكون لديه سلطة فوريـة في اتخاذ القرار، وهذا يستدعي منحها للأفراد اكثر مـن اللجــوء إلــى قـرار الأغلبيــة، وهـي وسيلة لتنفيذ تعليمات المؤسسة المشرفة ولا تعارض فيها مع مبادئ الأمر المبارك. وهنا تأخذ المشورة طريقها في مستويين: الأول مشورة مطلوبة للعمل على تحسين وتطوير تلك التعليمات والإرشادات الممنوحة للأعضاء المسؤولين، والثاني مشورة العضو أو الأعضاء المسؤولين مع الأفراد المشاركين في التنفيذ، وهنا تقع مسؤولية اتخاذ القرار النهائي على العضو المسؤول. وإذا ما سمحنا بإرجاع القرار إلى أغلبية المشاركين فقد يحرفنا ذلك عن هدف المؤسسة المشرفة ويوقعنا في البلبلة ويقوض سلطة المحفل الروحاني المحلي أو لجنة التبليغ أو أيا كانت الهيئة المسؤولة.
وعلى سبيل المثال، قد يعهد المحفل الروحاني المحلي إلى شخص ما بمهمة شرح مفهوم الضيافة التسـع عشرية لأحد صفوف الأطفال، إلا أن الأطفال قد يفضلون البحث في القيـام برحلة، وهنا يرجع الأمر للمعلم نفسه في تقرير ما يجب بحثه. وبغير ذلك قد يتسبب الأطفال عن غير قصد في الخروج عن أهداف المحفل الروحاني، وهنا تكمن الخطورة. فلو تم كل ذلك وفق قانون الأغلبية لكان إجراء خاطئاً.
يمكن استخدام المشورة في نواح عدة ليس بقصد الوصول إلى قرار، ومنها القسم الاجتماعي من الضيافة التسع عشرية، والمؤتمرات، وورشات العمل، وجلسات الدراسة والتعمق والمدارس البهائية. وفيها جميعها تكون المشورة وسيلة لاستنارة العقل، والفهم الأعمق وتنمية ملكة الإيمان والإيقان لدى الأفراد.
إن هذا الأسلوب من المشورة يشبه في جوانب عدة المناقشات الأخرى إلا في اختلاف جوهـري واحد. فعندما يكون القصد من المناقشات تنوير العقل وإدراك الحقيقة أو الحصول على رؤية أفضل وتجري بروح المشاركة الفعالة وفي جو من المحبة والانسجام تأخذ المباحثات طابع المشورة الحقة، وإلا تبقى مجرد محادثة كلامية.
ويعتبر القسم الاجتماعي من الضيافة التسع عشرية، أو الفترات غير الرسمية في مدرسة صيفية أمثلة جيدة على ذلك. قد يبدأ شخص في التحدث إلى اثنين أو ثلاثة من الأحباء في موضوع يتعلق بالآثار الكتابية البهائية. وبينما هم يتناقشون، غالبا ما تنكشف أمامهم رؤية جديـدة وقد يغدو المفهوم الغامض واضحا، أو يلهمون بالتوصل إلى معالم حلول لمشكلة صعبة. هذا الإجراء البسيط نراه قد أصبح وسيلة لإنضاج فكرة معينة، ويندرج بالكامل على المشورة التي وصفها حضرة بهاء الله بقلمه الأعلى.
إن الهدف الأسمى للمشورة البهائية بجميع أشكالها زيادة أواصر الوحدة والمحبة والاتفاق والانسجام. فيتفضل حضرة عبد البهاء: “إن المشورة الحقيقية لهي جمع روحاني في محيط المحبة. على الأعضاء أن يحبوا بعضهم بعضا بروح الأخوة حتى يجنوا الثمار الجيدة. فالمحبة والأخوة هما الأساس.”7
[1](1) كتيب “المحفل الروحاني المحلّي”، الصفحتان 20،19.
[2](1) كتيّب “المحفل الروحاني المحلي”، صفحة 24.
إن المبـادئ والأسس الروحانية وروح الالتزام تعطي المشورة البهائية خاصيتها المميزة. ومع كل ذلك فإن هناك أمورا عملية أخرى تيسّر للمناقشات سيرها مما يساعد على بناء وصيانة إطار يمكن للمبادئ الروحانية هذه أن تعمل فيه بأفضل ما يمكن.
إن موضوع هذا الفصل واسع ولن نحاول هنا الخوض فيه بالتفصيل. فالحديث (ونعني به هنا جميع أنواع التعبير عما يجول بخاطرنا، اللفظي منها وغير اللفظي، ومنها: توقف قصير عن الكلام، وحركات الجسم، ونبرة الصوت، وتعابير الوجه ثم الإيحاءات والإشارات)، والإصغاء (ويشمل كافة جوانب الاستقبال والمشاهدة)، والاتصال ( والذي يجب أن يكون هدف المهارتين الأوليتين ويتضمن كافة جوانب مشاركة الآخرين بالمعلومات والأفكار والأحاسيس والانطباعات أو نقل خبر ما)، هي الوسائل والأدوات الرئيسة لجميع أنواع السلوك الاجتماعي، وتعتبر هذه المهارات أيضا تلك الأدوات الأساسية للمشورة إلا أنها ليست بحد ذاتها مشورة. فمثلا نستعمل مهارة الاتصال في حديثنا العادي، ولكنها ليست بالضرورة مشورة. فاختلافها يكمن في الهدف. دعونا نلقي نظرة عابرة على هذه الأدوات الرئيسة وارتباطها بالمشورة.
إلـى جانب تعبيرك بالكلام بشكل واضح مفهوم وبصوت مسموع من الجميع دون عناء، فإن هناك أمورا أخرى تدعونا إلى التطرق إليها لعلاقتها بالمشورة:
.3خلفية الرأي: في بعض الحالات، وليس في جميعها، تكون خلفية الرأي ومسبباته مساوية للرأي نفسه في الأهمية، ومع أن إعطاء معلومات إضافية قـد يكون مضنيا وغير ضروري ويأخذ من وقت المشورة، إلا أنه في بعض الأحيان حيوي لعمليـة المشورة. فإذا اقتضت الضرورة أعط الآخرين معلومات إضافية حتى يتمكنوا من فهــم مقصدك ووجهة نظرك. قد لا يوافقونك الرأي، وليس هدفك أن تقنعهم بصواب رأيك، إلا أن عليهم أن يفهموك، وإعطاؤك الأمثلة يسهّل عليهم ذلك.
.4اشمل كل واحد بحديثك: وجّه حديثك للمجموعة بكاملها، وإذا كان أحدهم يجهل خلفية الموضوع فأعطه المعلومات اللازمة. ولا مكان هنا للمعاني الغامضة الخفية لأن القصد توفير المعرفة للجميع ليرتقوا إلى مستوى من الفهم يساعدهم على اتخاذ قـرار سديد. وعندما يحصل واحد أو أكثر يغذي سبل تدفق الحكمة الثمينة الدفينة. وهناك قول مأثور يفيد بأن “الاستماع الجيد يثير قريحة المتكلم”.
.5تنبه إلى المشاعر المرافقة للأفكار بينما تستمع إليها. أصغ كما لو أنك ستنقل لحضرة عبدالبهاء ما شعر به المتكلم وما أراد قوله تماما.
.6فكر في الهدف من المشورة. وعندما تقوم بالتشاور فإن كل ما يقال يجب أن يرتبط بذلك الهدف.
.7لا تهدر كثيرا من الطاقة والجهد في البحث عن معان غامضة أو حوافز خفية، ولا تحاول اللجوء إلى الحذلقة في تحليل فروق لا تكاد تدرك في معنى تعبير معين. فإن محاولة تفحص المشاعر الكامنة خلف الكلمات أو أي تغيير في المزاج قد تتعارض وحريـة المشورة، وتفضي إلى الانهماك في أمور ثانوية على حساب الهدف المنشود. لا تزغ أفكارك عن الهدف من إجراء المشورة، وتجاهل ما قد يشدك عنه.
إن جوهر الاتصال بين المتشاورين يكمن في المشاركة بالمعلومات والمفاهيم والمشاعر والانطباعات. وكلما ارتفعت وتيرة الاتحاد ووحدة الهدف العام فيما بينهم، زادت سهولة الاتصال الفعال بينهم. واليكم بعض النقاط التي سوف تساعدنا في ذلك:
وهناك تفاصيل عدة قد تسهم إيجابيا في الاتصال ومنها: إذا كان أصحاب الشورى يجلسون حول المائدة، أو على مقاعد مريحة في جلسة عرضية غير رسمية. ومجمل القول، ابذلوا ما في وسعكم في تحسين سبل الاتصال وتبادل الأفكار لأن ذلك يؤثر على المشورة.
* * * * * * * * *
تستدعي المشورة استعمال مهارات الاتصال وتبادل الأفكار بكل أدب وانضباط. إن نواة فكرة في حاجة ماسة إلى مساهمات المتشاورين في إحداث التغيير عليها وتطويرها. والمثالية تعني استخلاص أفضل النتائج الممكنة من أفكار المشاركين وخلفياتهم وأحاسيسهم وقلوبهم. وللمشورة هدفها، وما الحديث والإصغاء وتبادل الأفكار سوى مهارات يمكن أن تدفع بالفكرة نحو ذلك الهدف. ومع ذلك فمهما كانت عليه تلك المهارات من كفاءة فإنها لن تؤدي إلى مشورة ما لم تساهم في تحقيق ذلك الهدف.
إن الثمار التي نجنيها من تطور فن المشورة لهي عظيمة ووفيرة حقا. يتفضل حضرة عبد البهاء بقوله المبارك:
“إذا اجتمعـت نفــوس معدودة فــي محفل المحبوب باحساسات ملكوتية وانجذابات رحمانية وقلوب صافية وتنزيه وتقديس بحت، وتآلفت بغاية الروح والريحان، فإن ذلك الجمع سينفذ تأثيره إلى العالم بأسره، ويغدو بأحواله وأقواله وأعماله نموذجاً للسعادة الأبدية ومثالاً للمواهب الملكوتية، فيؤيده الروح القدس وتنصره جنـود الملأ الأعلى وملائكة ملكوت الأبهى تترى.”1
فالمؤسسات ، كالأفراد، تُطَوِّر عادات متبعة. وإن تغيير بعض ما اعتدنا عليه من إجراءات قد يمنح المؤسسة حماساً متجددا. وإليكم بعض الأساليب البسيطة التي من شأنها أن تحدث تغييراً كبيراً في إضفاء الحيوية على المشورة.
تشاوروا في المشكلة نفسها. فبالمناقشة الهادفة الفعّالة ستبرز أفكار إضافية جديدة تمنح المشورة حياة جديدة. وقد يكون بالإمكان إحداث تغييرات بسيطة تؤدي إلى حدوث فروقات أساسية.
بعض الناس قد يؤدون نفس العمل بغاية الإتقان سنة بعد أخرى، ومع كل ذلك، قد يكون من المفيد تغيير بعض الأعضاء في مختلف اللجان، لمجرد التعرف على وجهات نظر جديدة. إلا أنه يجب أن نحرص تماما على عدم التدخل في مشروع ناجح فعال سعيا وراء التغيير فقط.
إن الأفكار الجديدة ثم النشاطات والإقدامات يمكنها أن تنبعث من جلسات الأفكار المبتكرة المفاجئة، وقد يقوم المحفل الروحاني بمثل هذه الجلسات بنفسه، أو يدعو إليها آخرين. والرأي الأمثل هو أن تدعى الجامعة بأكملها أو أفراد مختارين منها لتبادل الأفكار في موضوع معين. ولهذا الإجراء فائدتان: تمنح الأولى المحفل الروحاني وجهة نظرجديدة وتعطيه الثانية من أفراد جامعته دعما وحماسا فائقين لكونه شاركهم بهمومه واهتماماته.
إنَّ المحافل، كالأفراد، قد تغرق في الرّتابة، وقد تطوِّر عادات تقضي على الخلاقيّة. ولعل تجربة بعض الأساليب البسيطة المذكورة آنفاً قد تمنح المؤسسة نشاطاً جديداً. والفكرة تكمن في استخدام آلية المشورة لتعزيز الخلاقيّة وليس لإعاقتها.
* * * * * * * * *
يمكن اعتبار الاقتراحات التالية من جانبها ملخصا لما ناقشناه حتى الآن، ونجد فيها بعض الأمور السهلة المحددة التي يمكن أن تؤثر إيجابيا على المشورة.
ماذا لو تضاءلت روحانية الاجتماع أو تلاشت؟
ذكّر نفسك والآخرين بالفرائض السبعة، الشرطين الاثنين والقواعد الخمسة لإجراء المشورة التي خطّها لنا حضرة عبدالبهاء.
خلاصة الفصل الثاني والثالث والرابع هذه تستند إلى مقتطفات لحضرة عبدالبهاء وردت في كتاب “الإدارة البهائية” (Baha’i Administration) صفحة 21- 23، وفيها وضعت العناصر الأساسية التي تجعل المشورة البهائية مختلفة عن الأساليب الأخرى في اتخاذ القرار الجماعي. نوصي بمناقشة هذه المقتطفات.
هـ- الاعتدال.
تقوم مؤسسة المحفل الروحاني على مبادئ أبدعها المظهر الكلّي الإلٰهي الكلي نفسه. فهي مؤسسة سامية جليلة لا مثيل لها في أنظمة الحكم القائمة، هيكلها صلب متين وسبل الاتصال بها ميّسرة سهلة. ومع كل ذلك، ليس بإمكانها العمل بفاعليّة إلاّ إذا سادها الجو الروحاني وروح التفاني والاهتمام. وكما تفضل حضرة وليّ أمر الله “فإنَّها ليست سوى قناة تمر منها روح تعاليم الأمر المبارك للبشرية”[1].
إنَّ الخاصيّة الفريدة التي تجلل المحفل الروحاني تدعونا إلى إلقاء نظرة خاصة على الأسس الروحانية التي يقوم عليها ذلك الصرح الشامخ المهيب. ولا أجلّ ما قيل في وصفه مما ورد في الدعاء الذي أنزَّله حضرة عبد البهاء بحق “بيت الروحانيّة” –المحفل الروحاني- للبهائيين في شيكاغو. وقد ترجمه حضرة ولي أمر الله وضمّنه رسالته المطوّلة المؤرّخة 5 آذار 1922، وبالتالي جرى تضمين هذا الدعاء في واحدة من أولى توجيهاته الإداريّة للعالم الغربي.
إنَّ دراسة هذا الدعاء تنقلك إلى عوالم الروح والإلهام. إنَّه أكثر من كلمات يُنطق بها في بدء الاجتماع. فهو يرسم للمحفل الروحاني طابعه وتناغمه وأسلوب عمله وهدفه وثمار مجهوداته المرجوّة، ويهب الأعضاء بصيرة مستنيرة في القيام بواجباتهم المقدّسة.
إنَّ الكلمات الأربع لها وقعها الخاص في النفوس: “إلٰهي، إلٰهي! نحن عباد…”([2]). فكلمة “إلٰهي” التي وردت مرتين هي للتوسل والابتهال، وفي طابعها الألوهيّ وتعبّر عن علاقة كل عضو بخالقه. إنَّها مسألة واضحة ليس فيها إبهام، وهي محدّدة وتعتبر شخصية.
أمّا الكلمة الثالثة “نحن” فنرى فيها علاقة جديدة تلوح في الأفق؛ فقد حصل الانتقال من المتكلم المفرد إلى الجمع، وكأنَّ كل عضو قد تخطى علاقته الخاصّة مع خالقه ليدخل الجميع في حالة من الوحدة والاتحاد، لتتحقق بذلك كينونة جديدة يميّزها عقل واحد تختلف تمامًا عن أجزائها التسعة التي شكّلتها، وتفوقها قدرة واستجلاء. والكلمة الرابعة “عباد” تُفصح عن العبودية، وهي أعلى مقام للإنسان، وفيها العبودية الصرفة لله الحق.
وفي مقام آخر في الدعاء نفسه يذكر السبب الذي من أجله اجتمع الأعضاء بقوله: “… واجتمعنا في هذا المحفل الجليل متفقين الآراء والنوايا متَّحدين الأفكار في إعلاء كلمتك بين الورى”. ففي كل اجتماع للمحفل الروحاني يُتلى فيه الدعاء يأتيه التذكير بأنَّ الهدف الرئيس من اجتماعه هو “إعلاء كلمة الله بين الورى”. وهو ما يمكن تحقيقه إذا ما تحقّق الاتفاق والانسجام بين كلّ عضو والعضو الآخر بهدف خلق التوافق والتوازن في هذا المجمع الروحاني.
وفي نهاية الدعاء نتلو رجاء بأنْ تُصبح الأفكار والآراء والإحساسات حقيقة واحدة “تنبعث منها روح الاتفاق في الآفاق”([3]).
إنَّ السير في النهج الذي يُرشدنا إليه الدعاء، من الممكن تحقيقه بأفضل ما يمكن إذا ما راعينا بكل حرص نصيحة حضرة وليّ أمر الله بقوله:
“فلنتذكر أنَّ محور أمر الله ليس السلطة الدكتاتورية بل الألفة المتواضعة، وليس استخدام القوّة الغاشمة بل تطبيق روح المشورة الصريحة الوديّة. فما من شيء سوى روح البهائي الحقيقي يمكنها أنْ تأمل في التوفيق بين مبادئ الرحمة والعدالة، وبين الحريّة والطاعة، وبين قدسيّة حق الفرد كفرد وقدسيّة التفاني، وبين اليقظة والحكمة والرزانة من جهة والتآلف والنزاهة والشجاعة من جهة أخرى.
إنَّ واجبات أولئك الذين انتخبهم الأحباء بحريّة وتحكيم للضمير ليكونوا ممثلين لهم، لا تقل حيويّة أو إلزامًا عن واجبات أولئك الذين قاموا بانتخابهم. فوظيفتهم ليست في إملاء إرادتهم بل في إجراء المشورة، وإجراؤها بقدر الإمكان ليس فيما بينهم فقط بل ومع الأحباء الذين يمثلونهم. عليهم أنْ ينظروا لأنفسهم من زاوية واحدة فقط وهي أنَّهم أدوات اختيرت حتى يتم بواسطتها تمثيل أمر الله تمثيلاً أكثر كفاءة ووقارًا، وعليهم ألاّ ينقادوا للافتراض بأنَّهم الزينة الرئيسة لهيكل الأمور، أو بأنَّهم في ذواتهم أسمى من الآخرين مقدرة وإستحقاقًا، أو بأنَّهم المروّجون الوحيدون لتعاليم الأمر ومبادئه. عليهم أنْ يباشروا مهامهم بمنتهى التواضع، وأنْ يحاولوا ليس فقط اكتساب ثقّة الذين يقومون هم بخدمتهم واحترامهم ومؤازرتهم الصادقة، بل واكتساب تقديرهم ومحبتهم الحقيقيّة أيضًا. وأنْ يحققوا ذلك بواسطة ما يتحلّون به من سعة الصدر وما يمتكلون من شعور سام بمبادئ العدالة والواجب، وما عندهم من نزاهة وتواضع وإخلاص كامل لتقدم مصالح الأحباء وخيرهم، ولمصالح الأمر وخيره، ولمصالح الإنسانيّة وخيرها. ففي كل وقت من الأوقات عليهم أنْ يتجنبوا روح السؤدد الخصوصيّة وجو الغموض والسريّة، وأنْ يحرروا أنفسهم من اتجاهات التحكم، وأنْ يبتعدوا عن كل أنواع التعصب والانفعال في مداولاتهم. عليهم، في حدود الحكمة الرشيدة، أنْ يضعوا الأحباء موضع الثقة؛ فيحيطونهم علمًا بما عندهم من مشروعات، ويستشيرونهم فيما لديهم من مشاكل وهموم ويسألونهم النصح والإرشاد. وعندما يُدعى هؤلاء –أعضاء المحافل الروحانية- لاتخاذ قرار ما، عليهم التوجه إلى الله عن طريق الدعاء بعد إجراء المشاورة الوديّة الخالصة الجديّة، وأنْ يصوّتوا بكل جد وإيمان وشجاعة، وأنْ يخضعوا لقرار الأغلبيّة الذي أنبأنا المولى بأنَّه صوت الحق الذي يجب ألاّ يعارض أبدًا. وعلى الأحباء أنْ يستجيبوا لهذا الصوت بكل قلوبهم، وأنْ يعتبروه الوسيلة الوحيدة التي عن طريقها يمكن صيانة الأمر وضمان تقدمه.”)[4](
قد تخدعنا بساطة شكل المحفل الروحاني الظاهريّة. فهنالك تسعة أعضاء يُنتخبون سنويًا –في هذه المرحلة من تطور الأمر الإلٰهي- ويتساوى الجميع بالسلطات والحقوق الممنوحة لهم بمجرد انتخابهم، فليس بينهم من له امتياز خاص تبعًا لعدد الأصوات التي حصل عليها، أو الوظيفة الإدارية التي يضطلع بها، أو طول مدّة خدمته في الهيئة. ولا وجود لنفوذ أو سلطة فرديّة. وعليه، فإنَّه لا إغراء لطامع في السيطرة.
ما هي مؤهّلات عضو المحفل الروحاني؟ إنَّها طبعًا مؤهّلات ساميّة ليس بإمكان أحد تحقيقها بالكامل. فقد وصفها حضرة وليّ أمر الله بكل وضوح حينما تفضل قائلاً: “… أولئك الذين تندمج فيهم على أتمّ وجه الصفات الضرورية الآتية: ولاء لا شك فيه، إخلاص يتصف بالتفاني، عقل راجح، مقدرة معترف بها وخبرة ناضجة”([5]).
ومع ذلك، فإنَّ السؤال الحقيقي الذي تتناوله العديد من الجاليات هو :”ما هي الكفاءات المتوفرة لدينا؟” فبينما يأخذ الأمر الإلٰهي طريقه إلى النمو ويزداد عدد الذين ستختار من بينهم من تنعكس فيهم أفضل الصفات المطلوبة، فإنَّ المحافل الروحانية سترقى سلم التطوّر نحو الأفضل تبعًا لذلك. ويبقى في وقتنا الراهن بيت العدل الأعظم والمحافل الروحانية تلك الأدوات الوحيدة المختارة للهداية الموعودة، وعلى الجميع واجب التوجه إليها.
ويبقى التحدّي في هذه المرحلة قائمًا في تطوير المؤسسة، ضمن الإطار المتوفّر، مستخدمين المصادر البشريّة المتاحة في ظلّ مشاكل العصر. هناك حاجة للفعاليّة والتفاعل واستخدام أساليب إداريّة ناجحة، إلاّ أنَّ هذا لا يشكّل بحد ذاته نهاية المطاف؛ إذ جاء في رسالة كتبت بالنيابة عن حضرة شوقي أفندي قوله:
“إنَّ النظام والكفاءة الإدارية يجب أنْ يصاحبهما على الدوام قدر مساو من المحبة والتفاني والتطوّر الروحاني، وكلاهما هام وحيوي. وإنَّ محاولة فصل أحدهما عن الآخر تضعف هيكل الأمر المبارك وتفقده حيويته. في الوقت الحاضر، وبينما لا يزال الأمر الإلٰهي في مرحلة الطفولة، يجب توخي منتهى الحيطة والحذر خوفًا من أنْ تُؤدّي الروتين الرّتابة الإدارية إلى إخماد جذوة الروح التي يجب أنْ تُغذّي هيكله الإداري. فتلك الروح هي القوّة الدافعة والطاقة المحرّكة لحياة ذلك النظام البديع.
ولكن، وكما تمَّ تأكيده، فإنَّ روح الإدارة وهيكلها ضروريان لضمان سلامة النظام الإداري وسرعة تطوره، وإنَّ تحقيق التوازن التام بينهما هو المهمة الرئيسة والفريدة للعاملين في الهيئات الإداريّة للأمر المبارك.”([6])
من داخل أسوار مدينة السجن –عكاء- أفاض جمال القدم على العالم بنمط جديد من القيادة في كتابه الأقدس المستطاب. فلقد لقَّب حضرته هؤلاء القادة ﺒ”أمناء الرحمٰن“ ودعاهم لأنْ “يشاوروا في مصالح العباد… ويختاروا ما هو المختار”([7]).
هذا النمط من القيادة غير المألوف قد أزاح عن وجوه عامّة الناس برقع الصمت، وأصبح بالإمكان سماع أصواتهم فيما يؤثّر بمصالحهم. لقد حرّرهم من ربق الغلاة الذين أساءوا استخدام السلطة، وفكّ إزار العزلة للروح الإنساني بخلق قنوات جديدة للتعبير.
ولجعل هذا التحرر سهل المنال استدعت الضرورة إجراء بعض التغييرات الجذريّة. فالنظام الذي وضعه ملك المجد قد سحب رداء القيادة عن أولئك الذين يسعون إليها، وألبسه آخرين لا يتمناه كثير منهم في حقيقة الأمر. ولو تواجد هؤلاء في وضع آخر لأمكنهم تجنب وزر المسؤولية التي تتطلبها القيادة.
هناك أمور كثيرة تتميّز بها الإدارة البهائية عن الأنماط الإداريّة الأخرى التقليدية. في أوّلها أنَّ النظام الإداري البهائي يستوجب خلق حالة مناسبة من الروحانية والحفاظ عليها. أضف إلى ذلك أنَّ في معظم الأنظمة الإداريّة يسعى الناس إلى المناصب إشباعًا لدوافع شخصية كاللهاث وراء المجد والأبّهة والقوّة والمكافأة المالية وامتيازات خاصة أخرى… الخ. بينما على العكس من ذلك يحدث في النظام البهائي الذي يجعل من العسير جدًا على طالب المنصب أنْ يفوز به، وذلك لأنَّ المنصب هو الذي يسعى وراء صاحبه.
وهناك موقف مثير للاهتمام قد يخلقه اختيار بعض الأحباء للخدمة في مؤسستي العلماء أو الأمراء. فبعضهم، رغم عدم سعيهم وراء المنصب، يجدون هذا النوع من الخدمة مصدر رضاء وسرور تامَيّن، لأنَّه على ما يبدو قد طابق استعدادهم وميولهم الفطرية، ولا شك أنَّه سيشكل تجربة مثيرة ومجزيّة لهم. فهم محظوظون ويقومون بواجبهم طالما هم يتوخون جانب السداد والصلاح. وآخرون يقومون بواجبهم بحس من المسؤولية دون أنْ يترك في نفسهم أي تأثير؛ فلا هو مصدر سرور لهم ولا هو بالواجب غير المستحب. وهناك من أعضاء المحافل الروحانية من ينظر إلى وظيفته على أنَّها تضحية وامتحان عظيم، ويفضّلون أنْ يبقوا بعيدًا عن الشؤون الإدارية ومشاكلها لأنَّهم يعتبرونها عملاً شاقًا غير محبب للنفس وفيه المعاناة.
فالخدمة –بالرغم من الرغبة الشخصيّة في عدم ارتيادها- هي نوع خاص من البطولة الخفيّة، وهي الثمن الذي تدفعه تلك النفوس لتحرير المؤسسات الإلٰهيّة –وهي هبة الله الثمينة للبشرية- مما علق بها من تلك المؤثرات الفاسدة التي ابتلي بها الناس فيما مضى. فعندما يحظى الساعون إلى السلطة الإدارية بامتلاكها، تغدو أطياف الفساد وما تزجره النفس في متناول اليد. أمَّا عندما تُتوّج رؤوس الأفراد بتاج المسؤولية دون سعي منهم، فإنَّ مجال التأثيرات الفاسدة يبقى ضئيلاً.
وبغض النظر عن الخدمة في المؤسسات، سواء جلبت السرور أم لم تؤثّر في صاحبها، أو عدّها امتحانًا على درب التضحيات، فإنَّها واجب يضطرنا أنْ نقوم به. فليس لمجتمع إنساني أنْ تقوم له قائمة إلاّ تحت ظل السلطة أو شكل من أشكال القيادة.
إنَّ القيادة المنوطة بالمحفل الروحاني لها ميّزاتها التي تثير الاهتمام. ومع أنَّ واجب المحفل الروحاني رعاية مصالح الأمر المبارك في واقع الحال، فلا يعني بكل بساطة أنْ يقعد ليُملي على الآخرين ما يجب فعله، أو أنْ يضع نظامًا إداريًا يتعدى احتياجات الجامعة. وفي هذه المرحلة من التطوّر، يخبرنا بيت العدل الأعظم أنَّ “الهدف الأساسي الذي شُكّلت المحافل الروحانية من أجله هو إعلاء كلمة الله ونشرها“([8]).
لو نظرنا إلى العديد من نشاطات المحفل الروحاني ومجهوداته فإنَّ جميعها تعكس وجهًا من أوجه القيادة. وفي هذا الفصل سنناقش ستة منها:
الرؤية – الإلهام – القدوة – المبادرة – سهولة الوصول إليه – المصداقية.
إنَّ الأمر لعظيمٍ عظيم! وحيث أنَّ المحافل الروحانية هي القادة في جامعة الاسم الأعظم، فإنَّ عليها أنْ تدرك ما هو مقدّر لها بدرجة لا مثيل لها. ويوضّح بيت العدل الأعظم أنَّه “عندما يقوم أعضاء المحافل الروحانية بتعميق أنفسهم بحقائق الأمر الأساسية وتطبيقهم الأمثل للمبادئ التي تحكم عمل هيئتهم الجليلة، عندها فقط ستتمكن هذه المؤسسة من النمو والتطور صعودًا نحو قدرتها الكاملة”([9]).
وعليه، فإنَّ على أعضاء المحافل الروحانية أنْ يجاهدوا في سبيل الحصول على فهمٍ أفضل للواجبات التي يضطلعون بها. عليهم أنْ يحيطوا تمامًا بما قُدِّر للأمر الإلٰهي من سموّ ورفعة، وعليهم أنْ ينظروا لما يمكن أنْ تصبح عليه المؤسسات الإلٰهيّة، وكيف يمكن أنْ تتطور الجامعة. هذه الرؤية يجب أنْ تلازم كافة الأعضاء في كل الأوقات. فكل خطّة وكل هدف وكل مهمة يتمّ تنفيذها يجب أنْ تكون بإدراكٍ تامّ، ووعي بالمنزلة السامية للمؤسسة ورفعة مكانة الجامعة التي تقوم على خدمتها.
وعند وضعه خططًا أو أهدافًا، فإنَّ المحفل الروحاني يطبّق رؤيته المستقبليّة على ما يمكن لجامعته أنْ تحققه الآن، وفي ذلك يتمّ ربط الحاضر بتطلّعه نحو السمو والرفعة والجوهر. والخطوات الخمس التالية قد تكون عونًا في القيام بذلك:
وفي سبيل نجاح المحفل الروحاني في خططه عليه ألاَّ يكتفي بتحديد الأهداف، بل بوضع أسلوب تحقيقها أيضًا. ثمَّ بعد ذلك عليه أنْ يتجنب بالكليَّة تلك المغالاة بحديّها، فلا يذهب إلى التمسّك الشديد بالإدارة أو التغاضي الزائد عنها. فالأحباء لا يستطيعون أنْ يؤدوا خدمة ناجحة إذا شعروا أنَّ المحفل الروحاني يراقبهم في كل صغيرة وكبيرة. ومن جهة أخرى، فإنَّ ترك اللجان أو أفراد الأحباء يعملون كما يتراءى لهم لتحقيق الأهداف ليس من القيادة الحسنة في شيء، ذلك لأنَّهم سيشعرون أنَّ القيادة قد تخلّت عنهم. إنَّ وجود جوٌّ من الدعم والمؤازرة وإظهار الاهتمام الودّي أمر ضروري حقًا. والمشورة هي ذلك العنصر الذي يحافظ على التوازن الحسّاس بين التشدد في الإدارة والتغاضي الزائد عنها.
من أهمِّ عناصر القيادة الناجحة على جميع المستويات إبقاء جذوة الأمل مشتعلة. وهو ما يمكن تحقيقه بالاهتمام المتواصل من قبل المحفل الروحاني. فعليه أن يًشرك جاليته برؤيته، ويجعلها تُدرك أنَّ الأهداف الموضوعة يمكن تحقيقها. وفي مطالعتنا لقصص أبطال التاريخ، مثل القدوس والحجّة الزنجاني ووحيد والطاهرة والمُلاّ حسين، سنجد أنَّ إحدى أعظم الملامح المميِّزة لحياتهم تلك الكلمات والنصائح الصادرة عنهم لجموع المؤمنين لإبقاء جذوة الإيمان مشتعلة في صدورهم حين مواجهتهم الرزايا والبليات العاصفة. كما أنَّ رسائل حضرة وليّ أمر الله إلى أفراد الأحباء كانت تشترك في أمر واحد: التشجيع وتجديد الأمل، إلى جانب الإجابة عن أسئلة محددة.
على أعضاء المحفل الروحاني أنْ يُشركوا الأحباء بكل سخاءٍ بما يشعرون به من محبة وانسجام ووحدة.
إنَّ استغلال كل طاقة وموهبة لدى أفراد الأحباء هو تحدٍ رئيس آخر يواجه المحفل الروحاني:
“فأولى سمات القيادة سواء بين الأفراد أو المحافل هي القدرة على الإستفادة من الطاقات والكفاءات المتوفّرة بين جموع الأتباع، وبغير ذلك سيتنحى جانبًا أكثر الكفاءات قدرة لتبحث عن متنفس آخر لطاقاتها. ويأمل حضرة شوقي أفندي أنْ تبذل المحافل الروحانية كل ما في وسعها في التخطيط لنشاطات تبليغيّة ينخرط فيها كافة الأحباء بمختلف طاقاتهم.”([10]).
وفي فقرة أخرى يتفضل حضرته أيضًا بقوله: “أفضل محفل روحاني هو الذي يستفيد من طاقات جميع أفراد جاليته ويُبقيهم منخرطين في أنشطة معيّنة مساهمين في خدمة أمر الله ونشر الرسالة الإلهية”([11]).
ولا شكَّ أنَّ إشراك الأحباء بقصص الآخرين وتجاربهم في معاناتهم وانتصاراتهم لهو أسلوبٌ ناجع في إلهاب حماسهم وحفز هممهم، وإنَّ تشاور المحفل الروحاني سيكشف أمامه طرقًا عدّة للوصول إلى هذا الهدف الحيوي الهام.
إنَّه لأمرٍ بالغ الأهميّة أنْ يشترك أعضاء المحفل الروحاني مع الأحباء في نشاطاتهم بفاعليّة بدل أنْ يأخذوا موقف المتفرجين. وباعتبار أنفسهم هم القدوّة فإنَّهم يُظهرون للجميع معنى القيادة الحقيقية. أمَّا إذا بدأوا في إخبار الآخرين بما يجب عمله من موقع المتفرجين دون مشاركتهم، فإنَّ جهدهم يتحوَّل إلى نوع من الضغط على الجامعة بدل القيادة. عليهم أنْ يكونوا في الطليعة في طريق الخدمة وأداء الواجب. انظروا إلى قيادة حضرة عبد البهاء، فإنَّ أحد ألقابه “المثل الأعلى”.
يقال أحيانًا: إنَّ أعضاء المحفل الروحاني هم أعضاء فقط أثناء انعقاد الجلسة. إنَّه أمر صحيح في أحد جوانبه، ويمكن اعتباره سليمًا في حالتين خاصّتين: الأولى عند تناولهم قضايا شخصيَّة، والثانية عند اتخاذ قرارات لها صبغة تشريعيّة؛ ذلك لأنَّ مناقشة مثل هذه الأمور محصورة بمشاورات المحفل الروحاني ومداولاته.
إلاّ أنَّ هناك أمورًا أخرى تستدعي من العضو أنْ يعتبر نفسه عضوًا في المحفل الروحاني في جميع الأوقات. وميادين ذلك –وهي من الأهميّة بمكان– إحلال الوفاق والوئام، والحرص على سيادة المحبة والوحدة والانسجام بين أفراد الجامعة في كل حين وآن. على الأعضاء أنْ يتأكَّدوا من أنَّ قرارات المحفل الروحاني تأخذ طريقها إلى التنفيذ بين الأحباء في مواعيدها وبأسلوبٍ سليم وفعَّال. ولا يعني هذا تدخّلهم في المهام المعطاة للآخرين. عليهم أنْ يكتبوا لمحفلهم الروحاني إذا لاحظوا أنَّ بعض الأمور لا تسير حسب التوجيهات الموضوعة، أو أنْ يبذلوا كلّ طاقتهم للمساعدة في إنجاز الأهداف دون تطفّل.
وعلى الأعضاء أنْ يتنبّهوا أيضًا لأيّة معلومات أو أفكار قد تفيدهم في نقاشهم في جلستهم التالية، وبذلك يكون المحفل الروحاني قد وضع إصبعه على نبض الجامعة البهائية في جميع الأوقات.
وعندما يرى الأحباء درجة عالية من الالتزام سيندفعون إلى الأمام بكل شجاعة، وسيدركون عندها أنَّ ما يُطلب منهم القيام به ليس أمرًا لا يرغب أعضاء محفلهم الروحاني القيام به بأنفسهم. وسيكونون على يقين عند مواجهتهم الصعاب بأنَّهم سيجدون أعضاء المحفل الروحاني معهم بالدعم والمؤازرة التاميّن. عندها تكتسب القيادة المصداقية والوثوق بها.
إنَّ المبادرة والابتكار لا يُخلقان عند الطلب. فهما مواهب تبرز كالشرارة. على المحفل الروحاني أنْ يُهيئ جوًا من المحبة والتشجيع تستطيع فيه شرارة المبادرة أنْ تُشعل نارًا. وتستطيع المشورة أنْ تزيد هذه الشعلة وهجًا أو أنْ تُخمدها بكل بساطة. والمحافل الروحانية الخلاّقة هي التي تتجنب الوقوع في حبائل البحث دومًا عن الأسباب التي قد تحول دون إمكانية تنفيذ أمر ما بدل التركيز على ترجمة الأفكار المبتكرة إلى أفعال ممكنة.
يجب أنْ يشعر الأحباء في أيّة جامعة بهائيّة أنَّ المحفل الروحاني موجود لمساعدتهم. وينبغي أنْ يكون المحفل في نظر الجميع ذلك الأب المُحب الحنون والمستعد دومًا لمدِّ يد العون والتشجيع، وتقديم عبارات اللطف والنصيحة الوديّة، لا أنْ يكون مجرد مرجع نلجأ إليه عند الحاجة. حذار حذار أنْ تفوح من مواقف المحفل الروحاني رائحة التعالي أو الانعزال الذي سينفّر الأحباء منه، بل يجب أنْ يتوَّلد لديهم شعور بأنَّ محفلهم الروحاني هو مؤسسة يتوق الأحباء إلى مشاركتها بأفراحهم وانتصاراتهم إلى جانب مشاكلهم ومحنهم. كلُّ ذلك سيمد جسور الثقة ويدعمها وستكون ثمارها رائعة وستهبهم الثبات في مواجهة أوقات الشدّة. إلاَّ أنَّه محظور على الأحباء إساءة استعمال هذه القناة بزيادة العبء على كاهل المحفل الروحاني بمسائل تافهة أو غير ضرورية.
إنَّ العلاقة القائمة بين المؤسسة الروحانية والأحباء يجب أنْ تبقى أبوابها مشرّعة وتتصف بالصراحة والمودّة. ولمّا كان من الضروري إطاعة قرارات المحفل الروحاني، فلا يجدر بهذه الهيئة أنْ تُرهَق الجامعة البهائيّة بأعباءٍ ثقيلة.
“فلْيَحذر محفلكم الروحاني من إرهاق البهائيين بالأنظمة والتعليمات والرسائل الدوريّة والتوجيهات. فالهدف من الإدارة في وقتنا الحاضر هو زيادة اشتعال قلوب الأحباء الذين استضاءت أفئدتهم بنور الإيمان حديثًا، وخلْق الرغبة في نفوسهم والقُدرة على التبليغ، والعمل على تذليل العقبات أمام أعمال الهجرة والتبليغ، والمساعدة في تعميق الأحباء معرفًة وفهمًا وإدراكًا.”([12])
هناك أمور محدّدة عدَّة يمكن القيام بها من شأنها تعزيز مصداقية المحفل الروحاني وتقويتها؛ ولعلَّ من أهمّها: الوضوح في المعلومات المنقولة، وإيصالها بالوقت المحدد، والاعتدال فيما نقدِّمه من مطالب. إنَّ التركيز على مستلزمات القيادة هذه وإعارتها الاهتمام اللازم سيقوّي نسيج الجامعة ويشحن أفرادها بالقوَّة والحيويَّة والتجاوب الإيجابي.
لم يرد في الآثار البهائيَّة سوى القليل عن وظائف أعضاء الهيئة الإداريّة للمحفل الروحاني المحلي. فالنظام الداخلي للمحافل الروحانيَّة المسجَّلة رسميًّا يوصي بأنْ تتألف “الهيئة الإداريَّة للمحفل الروحاني من الرئيس، ونائب الرئيس، والسكرتير، وأمين الصندوق، بالإضافة إلى أيَّة وظائف أخرى قد تستدعينا الضرورة إلى استحداثها لتصريف أمور المحفل الروحاني بالشكل المطلوب…”. وما عدا ذلك فإنَّ ما ذُكر حول وظائف أعضاء الهيئة الإداريَّة لهو نذر يسير.
تتبادر للذهن ملاحظات ثلاث عن أسباب قلّةَ ما ذكر بهذا الخصوص:
لقد وضعت مختلف المحافل الروحانية المركزيّة شرحًا لواجبات أعضاء الهيئة الإداريّة في كُتيِّبات عدّة. ولا تتناول الملاحظات التالية سردًا لها وإنَّما تُعطي أفكارًا حول مساهمة أعضاء الهيئة الإداريّة في تسهيل عمليّة المشورة.
إنَّ الرئيس، وكما السكرتير أيضًا، هو كالمضيف. وعليه، يجب أنْ يسعى إلى توفير جوّ الارتياح عند الآخرين، وأنْ تسير الأمور بسلاسة. وهذا بالطبع يعني التأكّد من أنَّ كلَّ عضو قد أخذ حقَّه في المشاركة بأقل قدر ممكن من المقاطعة. ولتحقيق ذلك، على الرئيس أنْ يتأكد من ملاءمة الترتيبات التي وُضعت لتوفير الراحة الجسديّة للأعضاء. وأيّ عضو يتطلب اهتمامًا خاصًا يجب مراعاته (كالمُقعد مثلاً). يجب أنْ يكون سلوك الرئيس سلوكًا يتّصف بالخدمة. وعليه تقع مسؤوليّة بدء الجلسة وانتهائها في الوقت المحدّد، وتنظيمه داخل الجلسة أمر هام بحيث يأخذ كل موضوع حقّه من الوقت والاهتمام.
فالواجب الأساسي للرئيس يدعوه إلى تنظيم سير المناقشات، والتوفيق بين الآراء المطروحة على اختلافها، واستخلاص جوهر ما اتفقت عليه الآراء عندما يبدو له هذا الجوهر واضحًا، ثمَّ إعلان القرار بصورته المبدئية، وبعدها يحدّد لحظة الوصول إلى إجماع الآراء ويعلن صيغة القرار.
وأثناء المشاورات تقع على الرئيس مسؤوليات تتعدى حرصه على سيرها بأسلوب يجمع بين النظام والفاعليَّة. فهو، أكثر من أي شخص آخر، عليه أنْ يتحلى باللباقة والأدب، وأنْ يتأكد أنَّ كلّ عضو أخذ حقّه في المناقشة، حريصًا كلّ الحرص أنْ لا يحتكر أحدهم النقاش، بمن فيهم الرئيس نفسه، أو يخلق جوًا من التخويف والتهديد، مصداقًا للقول المأثور: “إغواء الصامت ولجم الثرثار”.
وعلى عكس ما هو معمول في معظم المنظّمات الأخرى، ففي المؤسسات الأمريّة يقع على الرئيس واجب الإدلاء برأيه، ويملك نفس الحق والمسؤولية في التصويت كما للآخرين.
على الرئيس أنْ يحدّد أنَّ الموضوع قد أخذ حقّه من النقاش، فلا يُبخسه حقّه أو يعطيه أكثر مما يستحق، ثمَّ يقوم هو أو غيره –بتعيين مسبق- بتلخيص الموضوع في جوهره وعرضه بشكل واضح قبل التصويت عليه حتى يكون الجميع مدركين تمامًا للقرارات المتَّخذة. فإذا بدا واضحًا اتفاق الجميع على رأي واحد فلا داعي للتصويت. وعلى كل حال يبقى على الرئيس واجب التأكد من أنَّ الجميع قد توصّلوا فعلاً إلى إجماع الرأي.
وعمومًا، فإنَّ على الرئيس أنْ يكون ملمًّا بما يضطلع به المحفل الروحاني من واجبات حتى يكون بمقدوره عرض اهتمامات الهيئة وهمومها بالشكل السليم. عليه أنْ يلّم بالأولويّات بكل وضوح ويستوعب الخطط ويعيش في آمال الهيئة وأهدافها. وهو غالبًا ما يكون الشخص المسؤول عن تحليل الأمور وربط المعلومات وتلخيصها ووضع هموم المحفل الروحاني أمام باقي الأعضاء ثمَّ الجامعة البهائيّة عمومًا. وعليه تقع مسؤوليّة ربط القرارات والإجراءات المتّخذة بالهدف الأساسي الواجب تحقيقه.
غالبًا ما يكون الرئيس هو الناطق الرسمي للمحفل الروحاني، فيغدو واجبه قيادة عمليَّة إدراك الجامعة بأسرها لهموم الهيئة الروحانية لتلقى منهم الدعم اللازم.
يقوم نائب الرئيس بمهام الرئيس كاملة في حال غيابه، وهي المهمّة الوحيدة المناطة به. أمّا إذا توفي الرئيس أو انتقل أو استقال، فلا يصبح نائب الرئيس رئيسًا تلقائيًّا، وإنَّما يُجرى انتخاب جديد لملء المكان الشاغر.
إنَّ مهام السكرتاريا عديدة ومتنوِّعة، وفي أغلب الأحيان تقع على السكرتير مسؤولية تدوين محاضر الجلسات وتنفيذ قرارات المحفل الروحاني وتعليماته. وقد تقسّم في بعض الأحيان تلك المهام بين مدوّن خاص للمحاضر وآخر للمراسلات، أو مساعد للسكرتير أو هيئة سكرتارين. ويمكن تكليف شخص آخر بمهام خاصَّة محدَّدة. وعلى كل حال فإنَّ مهام السكرتير عمومًا قد أُدرجت في كتيّبات عديدة خاصّة بالإدارة وهي متوفّرة.
فالسكرتير، كباقي الأعضاء، يأخذ نصيبه من النقاش والتصويت، وغالبًا ما يكون أكثر الجميع دراية بالموضوع قيد البحث، ولذلك يعتمد عليه الأعضاء الآخرون في أغلب الأحيان في توضيح خلفيّة الموضوع. ولذلك فإنَّه من المهم أنْ يُشرك السكرتير جميع الأعضاء بالمعلومات المتوفِّرة لديه في بداية المناقشة.
ومن وظائف السكرتاريا أيضًا مسؤولية حفظ سجلّات المحفل الروحاني ووثائقه. فحفظ السجلات شيء هام، أمّا كيف يحافظ المحفل الروحاني على سجلاّته ومدى حجمها فهو أمر ثانوي. وهناك طرق كثيرة متنوّعة، إلاّ أنَّه لا بد من إيجاد التوازن والمحافظة عليه بحيث يتمّ الاحتفاظ بالسجلات الضروريّة لتلبيّة حاجات الجامعة مع مراعاة عدم إرهاق شخص واحد بأعباء ثقيلة، أو اتبّاع نظام معقّد يفوق ما تتطلَّبه احتياجات الجامعة. وفوق هذا كله، حذار أنْ نفقد قدرتنا على رؤية الأشياء وفقًا لأهميتها النسبيَّة، فلا تطغى أنظمة الإدارة وحفظ الملفات وتنظيم السجلاَّت على أهداف التبليغ وإقامة دعائم الوحدة.
إنَّ عمل السكرتير عمل دؤوب في القيام بتلك الواجبات التي لا بد منها لمساعدة الجامعة على القيام بنشاطاتها بكل يسر وبشكل يحافظ على وحدتها واتحادها. عليه أنْ يكون صبورًا ذا رؤية سليمة، ويعكس محبة المحفل الروحاني لأفراد الجامعة، مؤكّدًا لهم أنَّ تجاربهم مع هيئتهم الروحانيَّة ستكون مصدر السرور والحبور. فالسكرتير هو القناة الرئيسة للمحفل الروحاني في اتصالاته، وعليه في ذلك أنْ يعكس روح تلك الهيئة وعلوّ مقامها.
والسكرتير كالرئيس، إذ عليه أنْ يُكوّن فهمًا واضحًا راسخًا لهموم المحفل الروحاني وتطلعاته ومدى تشابك هذه الأمور ببعضها البعض.
بالإضافة إلى واجباته الواضحة، فإنَّ على أمين الصندوق توعية الأحباء في الضيافات التسع عشريَّة والمناسبات الأخرى بدور الصندوق في تلبية احتياجات الأمر المبارك بطريقة مشوِّقة تجعلهم توَّاقين إلى التبرَّع لدعمه من منظور إدراكهم أنَّه دم الحياة للأمر الإلٰهي، ولا شك أنَّ اللباقة ضروريّة حتى تُقَدَّم التبرعات بكل حريَّة ودون أي ضغط أو إكراه. ولا شكَّ في أنَّ اطّلاع الجميع باستمرار على الوضع المالي للصندوق، وتحفيزهم للمشورة والمشاركة في التبرّعات بكلّ لهفة وحماس هو التحدّي الذي يواجه أمين الصندوق.
عادة ما يكون أعضاء الهيئة الإداريّة أربعة أو أكثر على اختلاف وظائفهم، وقد يكون من المناسب أحيانًا الجمع بين وظيفتين أو أكثر، إلاّ أنَّه من غير الملائم الجمع بين وظيفة الرئيس ونائب الرئيس أو السكرتير. أمَّا الجمع بين وظائف إداريّة أخرى فيمكن إجراؤه طبقًا للظروف المحليّة، كما يمكن تعيين أو انتخاب أعضاء آخرين للهيئة الإداريّة تبعًا للحاجة.
لقد كشفت الآثار الكتابيّة البهائيّة عن كثير من أهداف المشورة ومبادئها وأصلها وطبيعتها وأهميّتها. أمّا عن تفاصيلها فلم يُكشف إلاّ القليل. وهذا لا يعني عدم أهميّة التفاصيل، بل يدلّ على أنَّها يجب أنْ تكون قابلة للتكيّف وأنْ تخضع للتغيير اللازم لمجريات الأمور والظروف. أمّا المبادئ الأساسيّة فلا تقبل التغيير، وهي تتناول حالات متنوّعة لحقبة طويلة من الزمن.
وفي رسالة موجَّهة للمحفل الروحاني المركزي في إيران يتفضّل حضرة شوقي أفندي بأنَّ إعلان تشكيل الهيئة الروحانية ونظامها الداخلي “… هما القاعدة والأساس الذي تقوم عليه الجامعة البهائية”. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ رسائل حضرته التي جُمعت في كتاب “الإدارة البهائيَّة” لها أهميّتها “كمصدر رئيس” لذلك الإعلان عن تشكيل الهيئة و “كملحق بشروطه… فما ورد في الرسائل يعتبر مبادئ أساسية، وما لم يرد يعدّ ثانويًّا. والاختلاف في المسائل الثانويّة في أيّ وقت من الأوقات لا يسبب للإدارة البهائيّة إرباكًا واضطرابًا”([13]). “لا بأس إذا ظهر تباين في الأمور الثانويّة لأنَّها ليست من الأساس والجوهر. وفي واقع الحال فإنَّ ظهور مثل هذا التباين أمر مفضَّل ومقبول.”([14])
وفي رسالة موجّهة إلى الهند نجد التوجيه التالي: “… ينصح حضرة وليّ أمر الله بعدم اللجوء إلى كثرة الأنظمة والتعليمات وإصدار إيضاحات جديدة حول إجراءات معيّنة. علينا أنْ نتشبث بالأساسيات ونتّصف بالمرونة في الجزئيات.”([15])
قمنا فيما سبق بإجراء المقارنة بعمليّة بناء مشروع ما. ففي بناء الصرح الإلٰهي للنظام الإداري لا بدّ من استخدام مواد محليّة تمّ تكييفها لتلائم البيئة، ويتطلّب الأمر عمّالاً محليين وأساليب محليّة. أمّا المسائل الثانوية، فبالرغم من أهميّتها، فإنَّها يجب أنْ تخضع لعوامل الوقت والمكان والظروف التي يتم فيها تشييد النظام الإداري. فالمرونة والتنوّع في هذه المسائل الثانويّة هو الأسلوب المنطقي الوحيد لتطبيق الأساسيات في الحالات غير المنتظمة والخاضعة للمتغيّرات.
وفي سبيل مشورة يسيرة يجب الاتفاق على بعض المسائل الثانويّة لأنَّها تختلف طبعًا طبقًا للزمان والمكان. وإليكم بعض الموضوعات التي يجب أخذها بعين الاعتبار.
من المسلّم به ضرورة معرفة زمان المشورة ومكانها وموضوعها. ولا يقلّ عنه أهميّة إيجاد مكان هادئ ومريح نسبيًا، ومعرفة ما قد تستغرقه المشاورات من وقت. يجب أنْ يتمّ اختيار المكان وتحديد الوقت بكل عناية، ومتى تمَّ تحديدهما من الأفضل عدم تغييرهما. كما يجب إعلام الأعضاء بموعد الجلسة قبل وقت كاف ليتسنى لهم ترتيب شؤونهم الخاصة. إنَّ الدقّة في الموعد أمر هام، لأنَّنا يجب أنْ ننظر إليه على أنَّه موعد حدده حضرة بهاء الله فنحترمه كما يليق وينبغي.
إنَّ مكان انعقاد الجلسة وترتيب الأعضاء في الجلوس (وإبداء الآراء) يمكن أنْ يتكرر عدَّة مرات. فإذا اعتاد كل واحد منهم الجلوس على مقاعد وثيرة مريحة، فليحاولوا الجلوس حول طاولة لمجرد التغيير أو بالعكس. كما أنَّ تغيير ترتيب أماكن الجلوس له تأثيره على المشورة ولو بالقدر الضئيل. فلو اعتاد السكرتير أنْ يكون أوّل المتحدثين ثمَّ تبعه فلان وفلان وفلان… ثمَّ الرئيس، قد يكون مفيدًا تغيير نقطة البدء وترتيب المتحدثين.
إنَّ معرفة موضوع المشورة أمر على درجة عاليّة من الأهمية، سواء أكان ذلك في المحفل الروحاني أو اللجنة أو ضمن العائلة أو حتى بين مجموعة من الأشخاص في محاولتهم لحل إشكال ما. لذا فإنَّ أفضّل ما يمكن إجراؤه هو تحضير جدول الأعمال مسبقًا، ولا يقلّ عنه أهميّة تزويد العضو بنسخة عنه. إنَّ تحديد وقت كاف لكلّ موضوع سيتمّ بحثه وتحضير معلومات عنه لهو أمر هام ومساعد. أمّا إذا لم يعد جدول الأعمال، فمن المناسب استعراض الموضوعات الواجب بحثها، ثمَّ يتقرر ترتيبها والمدَّة الزمنيَّة لكل موضوع.
على المحافل الروحانيَّة، خاصة صاحبة الجامعة الكبيرة، مناقشة جدول أعمالها من وقت لآخر، وأنْ يسأل الأعضاء أنفسهم: هل هم الموجّهون حقًّا لجدول الأعمال أم هو الذي يوجههم؟ وهل لدى المحفل الروحاني ذلك الوقت الكافي لدراسة ما يعتقده الأهمّ من بين المواضيع وإنجازه، أمْ أنَّ الوقت يمضي في دراسة الموضوعات التي يثيرها الآخرون؟
إنَّ جدول الأعمال يتضمّن القضايا التي يجب على المحفل الروحاني دراستها. وعليه، فإنَّه لا بدّ من وجود متّسع فيه للأفكار التي تدور في خلد الأعضاء أنفسهم. فهل يوفّر جدول الأعمال متّسعًا من الوقت كاف للأفكار الخلاّقة والآراء البارعة التي تلمع فجأة؟ هل فيه الوقت لوضع خطط تبليغيّة، أو للدراسة، أو لإتاحة الفرصة أمام الأعضاء للتعرّف على بعضهم البعض حتى تتحقق المحبة والانسجام؟ ماذا عن المسؤوليات التي ستحقق للمحفل الروحاني دوره القيادي في التبليغ (دون دفع الأحباء لذلك دفعًا أو أخذ موضع المتفرّج ليدع الآخرين يعملون)، وفي إشاعة المحبة والانسجام، وفي التركيز على نضج الفرد في الجامعة؟
فإذا تبيّن أنَّ جدول الأعمال قد أخذت بنوده تتحكم بالهيئة الروحانية، فإنَّ على الأعضاء أنْ يتشاوروا في الموضوع. وقد يتطلّب الأمر تشكيل لجان خاصة أو فرق عمل، أو توزيع الواجبات على هيئات عاملة مساعدة، أو تكليف أفراد بمهام خاصة أو غير ذلك من الوسائل الكفيلة بسير الأعمال كما يجب. وإذا كان المحفل الروحاني ينتظر الانتهاء من بعض الأمور المدرجة على جدول أعماله قبل التشاور حول هذا الجدول، فقد ينتظر طويلاً.
فالواجبات تكبر مع نموّ الأمر المبارك وتتعاظم أعباؤها. فكيف سيواجه المحفل الروحاني مضاعفة عدد الجامعة والمشاكل، أو إذا أصبحت ثلاثة أمثالها أو عشرة أو وصلت إلى مائة ضعف؟
إنَّ التنوّع والتغيير في جدول الأعمال من شأنه أنْ يُكسب جوّ المشورة حيويّة ونشاطًا. فإذا اعتاد المحفل الروحاني أنْ يبدأ بتنفيذ جدول الأعمال، فليجرب البدء بصف دراسي بسيط وقصير، ويمكن تغيير توقيته في جلسات أخرى إلى وسط الجلسة أو في آخرها، كما يمكن تغيير الترتيب المُعتاد الذي يتمّ فيه بحث الموضوعات من وقت لآخر، أو قد تكرّس جلسة بكاملها لبحث موضوع واحد مثل التبليغ، كما أنَّ البدء الشروع بتلاوة بيان مبارك حول موضوع سيجري بحثه سيكون عاملاً مساعدًا في البدء بمشورة بنّاءة.
ليس في الآثار الكتابيّة البهائيّة ما يشير إلى أفضليّة الأسلوب الرسمي أو غير الرسمي في المناقشات. لأنَّ ذلك يُعدّ من التفاصيل التي يحتّم على الأحباء الاتصاف بالمرونة حيالها. ففي بعض المواقف والحالات تكون المشاورات الرسميّة غير محبّذة وفي أخرى مرغوبة جدًا. فدرجة اللارسميّة في المناقشات تحدّدها طبيعة المتشاورين والموضوعات المراد بحثها.
إنَّ جوًّا هادئًا بعيدًا عن الرسميّة، غالبًا ما يساعد في فتح المجال أمام حريّة تدفّق الأفكار والخلاقيّة في الآراء، إلاَّ أنَّ ذلك قد يقودنا إلى نوع من الأفكار العرضيَّة المتقطِّعة وغير المتّزنة فتهبط بمستوى المشورة إلى مداولة مفكّكة. فاللارسميّة تعمل بأفضل صورها عندما تتصف بالاعتدال في جو من الانضباط الذاتي وعدم فقدان الإحساس العام بالهدف.
قد يكون الجلوس في بعض الحالات على كراسي حول الطاولة أمرًا مناسبًا، وفي أوقات أخرى مستحيلاً. فالرسميّة في المشورة غالبًا ما تخفّف من بروز الاختلافات الشخصيّة المحتملة. وطريقنا السليم إلى ذلك أنْ نعي تلك الظروف التي من شأنها تحسين روح المشورة البهائية في كل حالة، وأنْ نتصرف تباعًا لذلك. والتغيير من وضع لآخر قد يكون عاملاً مساعدًا أيضًّا.
على الرئيس أنْ يتأكد أنَّ كلّ عضو أخذ فرصته في التعبير عن رأيه، وأنَّ أيًّا من الأعضاء لم يأخذ حق الآخرين من المشورة، وأنْ يحرص على أنْ يتمّ ذلك بنظام لا يسمح لأكثر من واحد التكلّم في آن معًا. ومن الأساليب الجيّدة إعطاء فرصة الحديث بالتناوب. فعلى سبيل المثال قد يبدأ السكرتير بالحديث أولاً ثمَّ الذي يليه في الجلوس وهكذا إلى آخر الأعضاء دون أنْ يشعر العضو أنَّه مجبر على التكلّم. وبعد أنْ يأخذ الجميع فرصتهم هذه يفسح المجال ثانية لإبداء ملاحظات أخرى. ويمكن اتّباع نظام معيّن لتخفيف المقاطعة في الحديث من قبل الأعضاء، كأن يُتّفق على استخدام إشارة مثل رفع بطاقة باسم العضو إشعارًا منه بطلب الإذن في الحديث.
سواء أعقد المحفل الروحاني جلساته الدوريّة مرة أو اثنتين في الأسبوع أو في الشهر، أو كانت اجتماعاته غير منتظمة، فإنَّه أمر ثانوي آخر. فتواتر الجلسات وتكرارها ليس في الأهميّة مثل الحرص على روحانيّة الجلسة والقيام بالإنجازات المطلوبة. والسؤال الهام هنا: هل يجتمع المحفل الروحاني بالقدر الذي يضمن إنجاز واجباته المقدّسة أم لا؟ فالمعايير في ذلك عديدة نذكر بعضها: هل يتمّ تنظيم الضيافات التسع عشرية والمناسبات الأمريّة بشكل لائق، والتشجيع على حضورها؟ هل هناك تقدّم كبير في أعمال التبليغ؟ هل تجمع الأحباء أواصر المحبة والمودّة وينعمون بالوحدة والاتحاد؟ هل يتمّ إثراء حياة الجامعة؟ هل يحظى تعليم الطفل والشاب والبالغ بالعناية اللازمة؟ هل تحظى المتطلبات الماديّة والروحانيّة لأفراد الجامعة بالعناية والاهتمام؟ هل من برنامج فعّال لتشجيع المشاركة العالميّة؟
إنَّها أمور تعدّ من واجبات المحفل الروحاني، وتواتر اجتماعاته يجب أنْ يكون على نحو تلقى فيها هذه الموضوعات حقَّها من الاهتمام، مع الحرص التام على الحفاظ على التوازن حتى لا يتجاوز تكرار الاجتماعات الحد المطلوب. فبالرغم من أنَّ التضحية فضيلة نبيلة، فيجب ألاَّ نضع عضوًا من الأعضاء (أو الهيئة بكاملها) على حافة الإرهاق. إنَّ أقوى الأقواس مهما بلغت متانته علينا ألاّ نحاول ثنيه.
وإذا كانت الجلسات تُعقد في المكان نفسه والزمان نفسه بانتظام، وبدأنا نشعر بالملل، فقد يكون مفيدًا إذا جرّبنا تغيير المكان والزمان أو حتى مدّة انعقاد الجلسة. فمثلا قد يبدأ المحفل الروحاني جلسته في الساعة الخامسة من صباح يوم الجمعة طلبًا للتغيير.
إنَّ اللجوء إلى طرح الاقتراحات ضمن الأسلوب البهائي في صنع القرار يعتبر أمرًا ثانويًّا بالكليّة. فبعض المحافل الروحانيّة المركزيّة توصي بإتّباع هذا الأسلوب في مناطقها، ناهيك عن أنَّ المحفل الروحاني المحلي إذا شعر، لسبب ما، بأنَّ طرح الاقتراحات يخدم أهدافه بشكل أفضل من طريقة أخرى أقل رسميّة في صنع القرار بشكله النهائي، فإنَّ له مطلَّق الحرية في استخدامه. وبصورة شخصيَّة فإنَّ المؤلّف لا يشجّع على مثل هذا الأسلوب لأنَّه بنظره يعيق انسياب روح المشورة البهائية وتدفّقها.
إنَّ تكليف جهات أخرى للقيام بمهام محدَّدة يعتبر من الأساليب الهامة التي يلجأ إليها المحفل الروحاني في تنفيذ الواجبات المتنوّعة. ويشمل ذلك المهام التي قد توكل إلى الأفراد والدوائر واللجان وفرق العمل ومستشاري الهيئة ومشاريع خاصة …الخ. واستعمال كلمة “لجنة” هنا تعني أيَّة وحدة أوكلت إليها مهمة ما. فكلّهم أيادي مساعدة للمحفل الروحاني، وامتداد لتلك المؤسسة للقيام بمهام محدّدة، وعليه فإنَّهم مسؤولون أمام تلك المؤسسة التي أوجدتهم. والهدف من كل ذلك خدمة الصالح العام للمحفل الروحاني.
وكلَّما اتسمت الواجبات بالوضوح والتحديد كلَّما سهل على اللجنة إنجازها. فالتعليمات المبهمة والصلاحيات غير الواضحة ستخلق بالتأكيد شعورًا بالإحباط والفشل، وتلقي بمجموعة من الأحباء العاملين في دوّامة الارتباك. فالرؤية الواضحة للأمور يجب أنْ تصدر عن المحفل الروحاني.
إنَّ كون اللجان المشكَّلة لجانًا دائمة أو مؤقتة، وكون هيئتها الإداريّة –إنْ وجدت- قد اختيرت بالتعيين أو الانتخاب، والعدد المطلوب للقيام بواجب ما، كلّ ذلك يعدّ من الأمور الثانويّة التي يتولاّها المحفل الروحاني ويضعها بأفضل شكل يلائم الهدف الذي يسعى إليه.
إنَّ مسؤولية تشكيل اللجان وقيامها بواجباتها تقع على عاتق المحفل الروحاني، والذي عليه البحث فيها بعد انتخابات الرضوان مباشرة.
وهناك مجال رئيس واحد تتشابه فيه اللجان مع المحفل الروحاني، ذلك هو المشورة. فالمشورة التي تمارسها اللجنة يجب أنْ تتسم بالروح نفسها التي شرحت في الفصلين الثاني والثالث. وبغضّ النظر عن وظائفها، فإنَّ اللجان تشترك مع المحفل الروحاني في مسؤولية إشاعة جوّ المحبة والانسجام والوحدة في كلّ ما تقوم به.
قد يطرح أحيانًا سؤال حول هذه المحافل الروحانيّة. إنَّها تعني بشكل عام وجود محفل روحاني لا يؤدّي وظيفته؛ أيْ أنَّ البهائيين هناك لا يعقدون جلسات له ولا يجرون الانتخاب ولا يقيمون الضيافات التسع عشريّة أو أيّة واجبات أخرى ترتبط بتلك الهيئة الروحانيّة. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا الاهتمام بمحافل روحانية كهذه لا تستطيع القيام حتى بواجباتها الأساسية؟
وُجِّه سؤال لأيادي أمر الله أوغو جياكري حول المدى الذي يجب أنْ تذهب إليه مساعدتنا في المحافظة على كيان محفل روحاني غير فعّال، أو أنَّه مشكَّل اسميًّا. فأجاب على الفور ودون تردد: “لقد تفضّل حضرة شوقي أفندي بأنَّه يجب الحفاظ على المحافل الروحانية مهما كان الثمن؛ أي القيام بأيّ شيء عدا النهب أو السرقة أو القتل”. ثمَّ استطرد موضِّحًا كيف أنَّه غالبًا ما كان يتوجّه في الرضوان أثناء إقامته في إيطاليا بالقطار إلى الجاليات حيث المحافل الروحانيّة التي لا تقوم بوظائفها، أو المشكَّلة اسميًّا، ليتأكد من إعادة تشكيلها، وزوجته تذهب بالقطار في اتجاه معاكس للغرض نفسه، بغضّ النظر عن قدرة الأحباء في تلك المناطق في تصريف أمورهم. فمن المهم الحفاظ على تلك المحافل الروحانية قائمة. أمّا مستوى قيامها بواجباتها فليس مركز الاهتمام.
فالطفل يجب تنشئته وتربيته، وكذا الأمر مع المحافل الروحانيّة. فلا اعتبار للأشهر والسنوات وحتى عمر الأجيال للوصول للهدف، ذلك لأنَّها عمليّة مستمرة مهما تطلّبت من وقت. إلاّ أنَّ كلّ محفل روحاني يجب أنْ يبدأ من نقطة في أولى خطواته، وأيّ انقطاع في الاستمراريّة يغدو من الصعب جدًا عليه استعادة مسيرته.
بعض أفراد البهائيين، بحكم ثقافتهم و/أو طبعهم ومزاجهم، ملائمون لأنْ يكونوا جزءًا من جامعة منظّمة لها محفلها الروحاني النشيط والفعّال، وبعضهم ليسوا كذلك.
وهناك نوع آخر من المحافل الروحانيّة المشكَّلة اسميًّا، وهي التي تعقد جلساتها بانتظام، ولا يتعدى نشاطها التعامل مع الأوراق. فيحتفظ المحفل الروحاني بمحاضر جلساته كاملة، وقد يعقد جلساته بانتظام ويجيب على الرسائل بسرعة ودون إبطاء. فهذه الهيئات الروحانيّة إذا ما اقتصر عملها على التفاعل مع الأوراق بإصدار أوراق أخرى قد تكون محافل روحانيّة آليّة وشكليّة. إنَّ الاحتفاظ بالسجلاّت والاتصال بالمراسلات أمر هام، إلاّ أنَّه لا جدوى من الاجتماعات إذا اقتصرت على التعامل بالأوراق. والمشاورات في هذا المجال قد تكون حادّة أو عقيمة تفتقر إلى الروحانيّة.
إنَّ المحافل الروحانيّة المشكَّلة اسميًّا، سواء منها التي تعقد اجتماعاتها أو التي لا تعقدها، يمكن أنْ تكون في مستوى واحد من التطوّر الروحاني، والفرق بين النوعين أنَّ أحدهما يعقد اجتماعاته والآخر لا يقيمها، فالأوَّل يستعمل الأوراق والثاني لا يستعملها.
فأي محفل روحاني لا يحقق أهدافه هو محفل مشكَّل اسميًّا، ولا يمكن أنْ يصبح روحانيًا إلاَّ إذا حقق إنجازات من قبيل:
* * *
في عوالم الكمال الملكوتيّة، تعتبر المحافل الروحانية المشكَّلة اسميًّا بنوعيها كاملة النمو. وما نشاهده في عالمنا ما هو إلاّ المرحلة الابتدائية من مراحل تطوّرها في الوقت الحاضر. فلا يجوز توجيه اللوم أو النقد لأي من النوعين على تخلّفه عن مواكبة النموّ والتطوّر. فهي كالطفل تمامًا لا يمكن توبيخه لعدم نموّه على نحو أسرع. فكل واحد منهما لا يزال حيًّا وأمامه فرصة للنمو.
إنَّ الفرق بين ما نشاهده في عالم المُلك وما هو قائم في عالم الملكوت هو تلك القدرات الكامنة في المحافل الروحانيّة. والتحدي الذي يواجهنا هو كيف نستجلب تلك القدرات من عالم الملكوت إلى عالم الخلق. فتحقيق ذلك يتطلّب التحلّي بالصبر والتعامل مع كلا النوعين من المحافل الروحانيّة بالمحبة والمودّة. وعلى مؤسسات النظام الإداري، أي أعضاء هيئة المعاونين ومساعديهم، والمحافل الروحانيّة المركزية ولجانهم المعيّنة أو المحافل الروحانيّة المحليّة التي أُعطيت مسؤوليّة التعامل مع مثل هذه الحالات، تحريك عجلة النموّ الروحاني في أيّ مستوى كانت عليه تلك المؤسسات.
المشورة “سراج الهداية” وتقود إلى “أعماق كل مشكلة” وتجعل من الممكن إيجاد “الحل الأمثل لها”. إلاّ أنَّها ليست ضمانًا لعدم الوقوع في حبائل الخطأ، لأنَّ ذلك مختص ببيت العدل الأعظم. وما دام الأمر كذلك، فمن البديهي أنْ نتوقّع خطأ، في بعض الحالات، فيما توصّلت إليه المشورة.
على رأس ما يجب على البهائيين تعلّمه وإدراكه بالنسبة للنظام الإداري للأمر الإلٰهي هو وجوب طاعة قرارات المحفل الروحاني حتى لو كانت على خطأ.
“إنَّ اتفاقهم على أمر ما، حتى لو كان خاطئًا، أفضل من اختلافهم عليه لو كان صائبًا؛ لأنَّ في الاختلاف هذا هدم للأساس السماوي. فلو كان أحد الأطراف على صواب ولم يتّفقوا على رأي فإنّه سيقودهم إلى ألف خطأ. أمّا إذا اتفق الطرفان، ولو كان كلاهما على خطأ، فستظهر الحقيقة وينقلب الخطأ إلى صواب لأنَّ الأمر تمَّ بالاتحاد.”([16])
يشير هذا البيان المبارك ضمنًا إلى ارتكاب المحافل الروحانية بعض الأخطاء أحيانًا. ومع ذلك فإنَّ بعض الأحباء قد لا يستغرب ذلك فحسب، وإنَّما سيجد فيه أيضًا امتحانًا صعبًا لهم، خاصة عندما يتعلّق الموضوع بهم.
عادة ما تكون أمامنا عدّة خيارات من الإجراءات لمواجهة قضايا وظروف معيّنة، ومعظم تلك الإجراءات لها أوجه حسنة وأوجه أخرى ليست كذلك. وهدف المشاورة في هذه الحالات هو الوصول إلى أفضل قرار ممكن مستفيدين من قلوب المتشاورين وعقولهم وأفكارهم ومعلوماتهم وخبرتهم، وسيكون القرار أقرب الآراء إلى الصواب وأقلّها عرضة للخطأ. وحتى لو أخذت المشورة طريقها بشكل جيد، فلا ضمان في ذلك لاتخاذ القرار الوحيد الصائب، ذلك لأنَّ مجموعة أخرى من المتشاورين قد تتخذ قرارًا مختلفًا ولديها نفس المعطيات والظروف المماثلة. ولا يعني هذا أنَّ أحد القرارين أفضل من الآخر. إنَّها مسألة ذوق وإحساس أو من قبيل التفضيل.
نجد في المجتمع غير البهائي أنَّ كثيرًا من الناس يبحثون عن القرارات التي لا تتفق وميولهم فيمطرونها بالنقد والاعتراض. وقد أصبح شائعًا توجيه النقد إلى المسؤولين المنتخبين وقراراتهم، وقد يتبعه أحيانًا تجاهل لقرار أو الاحتجاج عليه، ويمكن أنْ يتطوّر الاحتجاج إلى أعمال عنف تؤدي في النهاية إلى الثورة أو ممارسة الضغط والاستبداد.
إنَّ نزعة للنقد والاحتجاج كهذه قد تصيب الجامعات البهائية أيضًا بعدواها؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى بروز نوع من استغابة المؤسسات نفسها. فمهما كان شكل هذه الاستغابة ودوافعها فإنَّها ضارّة لأنَّها تحمل في طيّاتها الحكم على القرارات ومقاضاتها. إنَّ مقارنة محفل روحاني محلّي أو مركزي بآخر انتهاك لروح الأمر المبارك ومساس بقدسيته وصفائه. كأن نقول: المحفل الروحاني في منطقة كذا صارم وقاس بينما في منطقة كذا روحاني وناضج، أو أنْ نتطرّق إلى الأعضاء أنفسهم.
“على الأحباء أنْ يثقوا في توجيهات محفلهم وأحكامه حتى ولو كانوا غير مقتنعين بصوابها أو عدالتها. وحالما يتّخذ المحفل قرارًا بأغلبيّة آراء أعضائه فعلى الأحباء إطاعة ذلك القرار فورًا وبكل استعداد.
وبوجه خاص على أعضاء المحفل الذين كانوا يعارضون رأي الأغلبيّة من زملائهم الأعضاء أنْ يكونوا المثل الحسن للجامعة، وذلك بأنْ يضحّوا بآرائهم الشخصيّة من أجل إطاعة مبدأ (رجاحة) أغلبيّة الآراء وهو المبدأ الذي يشكّل الأساس الذي تسير عليه المحافل البهائيّة كلّها.”([17])
إنَّ ذلك يضع ولاء الفرد للأمر المبارك في المدار الصحيح. إنَّه ليس امتحانًا لك أنْ تتبنى قرارًا تتفق معه، لأنّه أمر سهل. فالولاء يزداد بروزًا عندما تدعم قرارًا لا تتفق معه. وكلَّما تعاظم اختلافه عن رأيك كانت حاجتك إلى إظهار الدعم أكبر، وكان الامتحان أمامك أصعب.
بعض الناس لا يتمالكون أنفسهم في الحديث بقوّة وأمام العامّة عن قرار لا يتّفقون معه. وقد يلجأ بعضهم إلى الجدال العلني باعتبار السكوت عنه نفاقًا. إنَّه أمر عار عن الصحة. فالنفاق هو إظهار الطاعة المزيّفة بدوافع خفيّة. وإطاعتك لقرار لا يروق لك يخلق جوًّا سليمًا شافيًا، ويسمح للقوّة الكامنة في المشورة أنْ تتجلى بكامل قدرتها الإلٰهيّة.
من السهل عليك أنْ تقول: “لو قرروا صوابًا لدعمتهم”. أمّا أسلوب عملنا في هذا اليوم الجديد فعلى العكس من ذلك: “أكرّس دعمي لهم حتى يقرروا الصواب في النهاية”. فالنضج في الإيمان معناه أنْ ندرك، على المدى البعيد، إنَّ دعمنا لجميع القرارات هو الأفضل قاطبة، لأنَّ نظام حضرة بهاء الله سيتألق بأبهى صوره حقًّا عندما يضحي الفرد، الذي يعارض بشدّة قرارًا ما، برأيه الشخصي ويدعم قرار المحفل الروحاني.
وبتضحيته هذه قد يمر الفرد البهائي بواحدة من أروع التجارب، إذ قد يكلِّف أحيانًا بتنفيذ قرار المحفل الروحاني وهو يحمل رأيًّا مخالفًا لرأي الأغلبية. وقد يكون من الصعب عليه إظهار الحماس وتنفيذ ما يطلب منه عندما يكون ذلك مخالفًا لرأيه الراسخ. إلاّ أنَّه عندما يقوم بتنفيذ التعليمات بالروح اللازمة تكون تجربته في غاية الروعة، ويفوز بطفرة جبّارة في سلَّم تطوّره الروحاني، وتتسارع عجلة تقدّم النظام الإداري إلى ما قدِّر له من مجد وسؤدد.
وعلى العكس من ذلك، فإنَّ مواقف النقد وأصوات الانتقاد ستنخر في أسِّ أساس روح الأمر الإلٰهي وتبدأ في تفتيتها. وبهذا الخصوص تفضّل حضرة وليّ أمر الله بقوله:
“النقد الجارح كارثة حقًّا، ومردّه افتقار الفرد للإيمان بنظام حضرة بهاء الله –النظام الإداري- وافتقاره إلى إطاعة حضرة بهاء الله الذي حرّم علينا ذلك. فإذا ما طبّق البهائيون التعليمات البهائيّة الخاصة بالتّصويت والانتخاب والخدمة وإطاعة قرارات المحفل الروحاني، يمكن عندها أنْ تتحوّل مجهوداتهم الضائعة في نقد الآخرين إلى تعاون بنّاء يحقق الأهداف.”([18])
إذا اعتقد فرد أنَّ قرار المحفل الروحاني كان غير صائب، فلديه كل الحق في طلب إعادة النظر فيه. وإذا ما استمر لديه الشعور بعد إعادة النظر فيه بأنَّ شيئًا ما في القرار ما زال بحاجة إلى تصحيح، فيمكنه الاستئناف لدى المحفل الروحاني المركزي بواسطة المحفل الروحاني المحلي المعني، مع حرصه التام على أنْ يكون ذلك بطريقة حبيّة مدعمة بالحجج المحدَّدة المنطقيَّة. فالكلام المبهم والعام لا يجدي نفعًا، لأنَّ القصد هو إعادة دراسة الموضوع لا التحدِّي والمجابهة. وبمجرد تقديمه طلب الاستئناف يصبح لزامًا عليه أنْ يتخلى عن رأيه ويدعم القرار الصادر سواء أكان مقتنعًا بصحته أم لا.
وإلى هذه النقطة أشار حضرة وليّ أمر الله بواسطة سكرتيره بقوله: “كان المولى –حضرة عبد البهاء- يرغب في أنْ يدرأ عن الأحباء مغبة التنازع والتعصّب في الرأي. في استطاعة المؤمن أنْ يسأل المحفل عن السبب الذي من أجله تمَّ اتخاذ أي قرار معيّن، وأنْ يطلب بكل كياسة من ذلك المحفل إعادة النظر في قراره. عندئذ عليه أنْ يترك المسألة عند ذلك الحد، وأنْ لا يستمر في مطلبه مضعضعًا الشؤون المحليّة بإصراره على رأيه. وهذا الأمر ينطبق على أي عضو من أعضاء المحفل أيضًا.”([19])
لقد وعدنا حضرة عبد البهاء أنَّ الأخطاء سوف تتضح أمامنا كلّما دعمنا قرار المحفل الروحاني، وعندها ستعمل المؤسسة على تصحيحها. فإذا ما تسلّحنا بالنقد فقط فكيف لنا أنْ نعرف عقم القرار، أهو نتيجة الرأي الخاطئ أم من قلّة دعمنا له؟ إنَّ جوّ النقد والانتقاد ينزع بالأفكار المتباينة إلى مزيد من التصلّب والتمسّك ممّا يثير نزعة الدفاع الهجومي، فيميل الأحباء عندها إلى التحيّز، ويزداد الحال سوءًا وتقهقرًا بدل التحسّن والتطوّر.
إنَّه امتحان قاس أمام الجميع إذا كانت قرارات المحفل الروحاني على الدوام غير صائبة ويغلب على الهيئة التواني والتردد في تغييرها. فهو وضع يغري الأحباء بفعل أشياء أخرى، أو أنْ يتراجعوا عن الدعم المطلوب. ولكن علينا أنْ نعلم بأنَّ الحاجة إلى الدعم المطلوب هنا تعلو فوق كلّ أهميّة. فالنظام الذي وضعه حضرة بهاء الله يكفل لنفسه التصحيح الذاتي إذا ما سادت أجواءه روح الدعم والمؤازرة حيث ستظهر أفكار
أفضل وتأخذ مكانها السليم. أمّا الانتقاد والعزوف عن الدعم المطلوب فسيضع المعوقات أمام النموّ السليم للمؤسسات وتطوّرها، ويغدو الحال أكثر سوءًا.
بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ عنصرًا روحانيًّا دقيقًا وخطيرًا آخر سينسلّ داخل موضوعنا هذا. فبعزوفنا عن تنفيذ ما يطلبه منا المحفل الروحاني، أو في تقصيرنا في الدعم المطلوب، والأسوأ من هذا وذاك، بانتقادنا لقراراته، فكأن البهائي يقول: سأطيع مؤسسات حضرة بهاء الله وأشارك فيها في حالة واحدة فقط؛ وهي حالة قيامها بأداء واجبها طبقًا لمعاييري وتوقعاتي الشخصيّة.
إنَّ موقفًا كهذا يضعنا أمام إشكالين: الأوّل خلل روحاني داخل الفرد، والثاني خلق جو مسموم سينخر في نسيج الجامعة البهائية. فالقيم الروحيّة ستتردى لتعود المعايير البالية إلى الظهور. وقد كتب سكرتير حضرة وليّ أمر الله بالنيابة عنه يقول:
“قد يخطئ المحفل ولكن -كما بيّن المولى (حضرة عبد البهاء)- إذا لم يتقيّد الفرد البهائي أو الجامعة بقراراته تكون النتيجة أكثر سوءًا، لأنَّ ذلك سيضعف من شأن تلك المؤسسة التي يجب أنْ تزداد قوّة حتى يمكنها صيانة مبادئ الأمر وأحكامه. ويقول لنا حضرة عبد البهاء: إنَّ الله سيصلّح الأخطاء التي ترتكب. علينا أنْ نثق بهذا، وأنْ نطيع محافلنا. وبناء عليه، فإنَّ حضرة وليّ أمر الله يحثّ مشددًا أنَّ عليك العمل تحت الرعاية المباشرة لمحفلك البهائي، وأنْ تتقبل مسؤولياتك كعضو له حق التصويت، وأنْ تبذل قصارى الجهد في خلق الانسجام داخل الجامعة.”([20])
لم يمنحنا حضرة بهاء الله نظامًا يضمن لنا كشف الحقيقة والعدالة والحَسَن في كل حين، لأنَّ ذلك ينكر علينا الإرادة ويبعدنا عن عواقب أخطائنا، بل منحنا نظامًا يكفل لنفسه التصحيح الذاتي، فوهب كشف الحقيقة والعدالة والحسن والجمال فرصة أفضل للتطوّر.
وبالاختصار فإنَّ اتباع سلوك يتّسم بالدعم والمؤازرة، بدلاً من سلوك النقد والانتقاد، أمر ضروري وذلك للأسباب التالية:
وما رغبات حضرة وليّ أمر الله بهذا الخصوص إلاّ أمنيات واضحة حيث يتفضّل:
“أمّا الآن، وأنا أنظر إلى المستقبل، فأملي أنْ أرى الأحباء في جميع الأحيان، وفي كل بلد من البلدان والمنتمين إلى كل لون من ألوان الفكر والشخصيّة –أملي أنْ أراهم ملتفّين حول نقاط النشاط المحليّة وعلى الخصوص المركزيّة منها بملء إرادتهم، تغمرهم الغبطة، قائمين على تعزيز مصالحهم ودعمها بتمام الرضا وبإجماع الآراء وبتفاهم كامل، وحماس خالص، وحيويّة لا تنضب. إنَّ هذا لهو حقًّا ما أصبو إليه وسبب سروري الوحيد في هذه الحياة، لأنَّه بمثابة المنبع الذي ستتدفق منه كافَّة البركات في المستقبل، وهو الأساس العريض الذي ستقوم عليه حتمًّا سلامة الصرح الإلٰهي في النهاية.”[21]
[1](1) Principles of Baha’i Administration, p. 14.
[2](1) كتيب “المحفل الروحاني المحلي”، صفحة 18.
[3](2) المصدر السابق، صفحة 19.
[4](1) كتيب “المحفل الروحاني المحلي”، الصفحات 33، 34، 24.
[5](1) كتيب “المحفل الروحاني المحلي”، صفحة 12.
[6](1) The National Spiritual Assembly, pp. 57-8.
[7](2) “الكتاب الأقدس”، فقرة 30.
[8](1) The Individual and Teaching, VIII.
[9]
(1) The Local Spiritual Assembly, opening letter.
[10](1) The Local Spiritual Assembly, p. 23.
[11](2) Baha’I News, 11, 32, p. 3.
[12](1) Japan Will Turn Ablaze, p. 67.
[13](1) من رسالة لحضرة وليّ أمر الله، مؤرّخة 2/6/1934م، موجّهة للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في إيران.
[14](2) مقتطف مؤرّخ 13/12/1932م تضمنته رسالة بيت العدل الأعظم موجّهة إلى مؤلّف الكتاب، مؤرّخة 24/5/1982م.
[15](3) Dawn of a New Day, p. 123.
[16](1) Baha’I World Faith, p. 411.
[17](1) كتيب “المحفل الروحاني المحلي”، صفحة 41.
[18](1) Directives from the Guardian, no. 48.
[19](1) كتيب “المحفل الروحاني المحلي”، صفحة 42.
[20](1) كتب “المحفل الروحاني المحلي”، الصفحتان 41 – 43.
[21](1) كتيب “المحفل الروحاني المحلي”، صفحة 46.
هناك مؤسسات أخرى عدَّة في الأمر الإلٰهي عرَّفها لنا حضرة وليّ أمر الله، وليس لمعظمها علاقة مباشرة بالمشورة. ولا بدَّ لنا في هذا السياق من التطرُّق لعددٍ منها في بعض الملاحظات.
تفضَّل حضرة بهاء الله في كتاب عهدي بقوله: “طوبى للعلماء والأمراء في البهاء”. وكتب حضرة وليُّ أمر الله في 4 تشرين الثاني سنة 1931، مشيرًا إلى تلك الآية بالذات، بقوله:
“العلماء في هذا الدور المقدَّس هم أيادي أمر الله، ومن وجهة أخرى هم المبلغون ومروجو الأمر المبارك الذين لا يتساوون بأيادي أمر الله في مقامهم ورتبتهم، إلاَّ أنَّهم اكتسبوا مكانة بارزة في أعمال التبليغ. أمَّا الأمراء فيُقصد بهم أعضاء بيوت العدل المحليَّة والمركزيَّة والعالميَّة. وسَتُحدد واجبات كل منها مستقبلاً.”
“إنَّ أيادي أمر الله والمستشارين وأعضاء هيئات المعاونين تندرج عليهم كلمة العلماء كما عرّفها حضرة وليُّ أمر الله، وهم في ذلك تجمعهم علاقة وثيقة متبادلة. ولا نكون بعيدين عن الصواب إذا أشرنا إلى هذه المراتب الثلاث على أنَّها مؤسسة واحدة. ومع كل ذلك فإنَّ كلاًّ منها يُعتبر أيضًا مؤسسة خاصة بحد ذاته.” ([1]) وبعد نشر الرسالة المذكورة أعلاه طرأ تطوّر على هيئة المعاونين ممَّا أستدعى تعيين مساعدين لهم، ويُعتبرون أيضًا جزءًا من مؤسسة العلماء.
سنشاهد في المستقبل المزيد مما كُتب عن مؤسستي الأمراء والعلماء([2]). فليس هدفي هنا تقديم تحليل أو وصف لأيٍّ منهما بل إبداء بعض الملاحظات عن العلاقة بينهما، وعَرْض بعض الميِّزات الخاصّة بكلٍ منهما، وعلاقتهما بالمشورة.
كتب بيت العدل الأعظم رسالة مطوَّلة مؤرَّخة 24 نيسان سنة 1972 في ذكر العديد من خصائص هذه المؤسسات –والتي اقُتبست منها الفقرة أعلاه- مُضيفًا ضرورة الانتباه إلى الفرق الواضح الجليّ بين المؤسستين، وهو أنَّه “بينما تؤدي مؤسسة الأمراء دورها كهيئات متَّحدة، فإنَّ مؤسسة العلماء تؤديه بشكل فردي أساسًا”([3]).
وهذا ما يميّز وجه الخلاف بالمشورة في كل من المؤسستين. فلقد ناقش الفصل الثالث من هذا الكتاب عمليّة اتخاذ القرارات الجماعيّة في المحافل الروحانية. فهذه القرارات ملزمة، وإطاعة المحافل الروحانيّة واجبة. كما أنَّ كمًّا هائلاً من المشورة يأخذ مجراه أيضًا عند اجتماع أعضاء مؤسسة العلماء. ومع ذلك، فإنَّ التصريف الفعليّ للأعمال عادة ما يتم عندما لا يتواجد الأعضاء مع بعضهم البعض، وبالتالي فإنَّ معظم الأمور يتم تنفيذها ومتابعتها بشكل فردي.
هناك فرق هام آخر، وهو أنَّ في مؤسسة العلماء تكون القيادة الفرديّة وإدراك مقام العلماء أمرًا مرغوبًا ويشجع عليه. ويجب أنْ يسدى احترام خاص لأيادي أمر الله والمستشارين وأعضاء هيئة المعاونين ومساعديهم.
أمّا أعضاء مؤسسة الأمراء فلا يميّزون بشكل فردي لمساهمتهم في أعمال محفلهم الروحاني، وفي هذه الحالة يذوب شكل مساهمة العضو في عمليّة المشورة.
وهناك العديد من الفروق الأخرى، ولنأخذ مثلاً الدور الذي يلعبه كل جناح من النظام الإداري في حياة الجامعة البهائية. فالأمراء يُظهرون إلى مدى بعيد محبة الحامي والمخطط والقائد وضابط النظام ومانح الأمان لأفراد الأحباء، بينما محبة مؤسسة العلماء هي محبة المربّي والمعين ومانح الدفء والاطمئنان ومن نلجأ إليه في الصعوبات. وليس الهدف هنا الخوض في تفاصيل هذه الفروق، ويكفينا القول بأنَّ دور كلّ من هاتين المؤسستين مكمّل للآخر على اختلافهما.
في شهر كانون الثاني عام 1982 أصدر بيت العدل الأعظم مجموعة رائعة من النصوص المباركة بعنوان “الحياة العائليَّة”. وفي الرسالة التي قدَّمت هذه المجموعة أُشير إلى العائلة ﮐ”مؤسسة تشكّل أسّ أساس المجتمع البهائي”. لقد وضع حضرة بهاء الله العائلة في أرفع مقام. ودعونا نتأمّل التعاليم المباركة التالية التي تدعم وتقوّي تلك المؤسسة الأساسية:
إنَّ الحفاظ على المكانة الرفيعة للعائلة يبدأ من مفهوم الفرد البهائي عن الزواج نفسه. وفي الرسالة التالية لحضرة وليّ أمر الله وصٌف لما يجب أنْ يكون عليه مفهومنا للزواج:
“إنَّ مؤسسة الزواج، كما أسسَّ دعائمها حضرة بهاء لله، لا تُغفل النواحي الجسديّة في الزواج وأهميتها، ولكنها تعتبرها ثانويّة أمام الأهداف الخُلقيّة والروحانيّة التي زيّنها الله بها. وعندما تُمنح تلك القيم كل أهميّة تستحقها، وعندما تخضع الأمور الجسمانية للأخلاقيات، والدنيويّة للروحانيات، عندها فقط يمكن تجنّب مثل هذه التجاوزات والانحلال في العلاقات الزوجيّة التي يشهدها عصرنا الحاضر المتدهور بكل أسف، وتستعيد الحياة العائلية نقاءها الأصيل، وتؤدي وظيفتها التي أرادها الله لها”([4]).
وأيّ أمر أو نشاط، مهما كان هامًا، يجب ألاّ يحوْل دون خير العائلة وصلاحها. فلا التبليغ ولا الأعمال الإداريّة أو أيّ شيء آخر يمكن أنْ يبرر إهمال العائلة. وقد أخبرنا حضرة وليّ أمر الله بنفسه عن هذا المبدأ العظيم. عندما كتب سكرتيره بالنيابة عنه قائلاً:
“مِنَ المؤكد أنَّ حضرة شوقي أفندي يرغب أنْ يراك وباقي الأحباء تقدّمون كامل وقتكم وطاقاتكم للأمر المبارك، إذ أنَّنا في حاجة ماسة لعاملين أكفّاء. إلاَّ أنَّ العائلة مؤسسة جاء حضرة بهاء الله لتقويتها لا لإضعافها. وبسبب إغفال هذه النقطة حدثت أمور مؤسفة كثيرة في عائلات بهائيَّة. قوموا على خدمة أمر الله ولتتذكروا دومًا أيضًا واجباتكم تجاه عائلاتكم. والأمر متروك لكم في إيجاد التوازن المطلوب كي لا يطغى أحدهما على الآخر…”([5])
فالمشورة إحدى الوسائل الناجحة فعلاً في تقويّة دعائم العائلة. وفي رسالة كُتبت لأحد الأفراد مؤرّخة 1 آب 1978، أورد بيت العدل الأعظم المقتطف التالي من رسالة لحضرة وليّ أمر الله: “فالمشورة العائليّة، في جو من المناقشات الصريحة التامّة والإدراك بضرورة التحلي بالتوازن والاعتدال، قد تكون الدواء الناجع للتغلب على المشاحنات العائلية.”)[6]( وعندما تتم مشاركة الجميع بالخطط والآمال والمخاوف والاهتمامات والإحباطات والأخبار السارة ثم مناقشتها وإستيعابها، يمكن تجنب الخلافات والمشاكل المتوقع حدوثها.
وحتى الأطفال الصغار يمكن إشراكهم في المشورة في بعض الأمور، إلا أن القرار في النهاية راجع للوالدين. ويشرح لنا عالِم النفس البهائي الدكتور خليل أ. خاوري الموضوع على النحو التالي:
“يجب أن يمنح الأطفال عضوية كاملة في العائلة بما لها من امتيازات وعليها من مسؤوليات. يجب أن يكونوا على علم بالأمور التي تؤثر عليهم، وبالتدريج يدخلون مجلس العائلة أعضاء يافعين بحقوق كاملة. أضف إلى ذلك، فإن على الوالدين أن يتحليا بالحكمة اللازمة في إعداد المواضيع التي ستتشاور فيها العائلة والتي تتناسب مع نمو الأطفال وتطوير قدرات جديدة لديهم..
يجب أن يشترك الأطفال في المشورة خاصة فيما يتعلق بقرار يخصهم مباشرة. إلا أن مشاركتهم هذه يجب ألا تكون رمزية أو صورية وألاّ تأخذ كامل وقت المشورة، بل هي نشاط حقيقي يهدف إلى إفساح المجال أمام كل فرد في العائلة لأخذ رأيه بعين الاعتبار والوصول إلى القرار السديد. فالقرارات المتخذة بمشاركة الجميع تحول دون تفرق العائلة، وتتمتع بقدر أوفر من فرص التطبيق والتنفيذ، وتتفق والمُثل العُليا في المحبة والاحترام وتقدير الجميع.([7])
ومع كل ذلك، هناك مواضيع يتوجّب على الزوجين بحثها فيما بينهما، ومن الأفضل عدم إشراك غيرهما بها. مثال ذلك: ميزانية العائلة، وضع نظام للأطفال، مشاكل خاصة مع واحد من الأطفال أو أكثر، مكان العمل، مكان الإقامة، وفضّ خلافات الزوجين الشخصية… الخ. فبعض هذه الأمور يمكن بحثها في المجموعات العائلية، إلاَّ أنَّه يجب على الزوجين بشكل عام أنْ يُبقيا هذه الأمور ضمن خصوصياتهما.
ويشير لنا بيت العدل الأعظم بما يلي:
“ضمن أيَّة مجموعة –مهما كانت المشاورات وديّة- فلا بد أنْ تُظهر من وقت لآخر نقاط لا تصل فيها إلى اتفاق. وتجد هذه المشكلة حلّها في المحفل الروحاني في مبدأ أكثريّة الأصوات، الأمر الذي لا يمكن الأخذ به بين اثنين كما هو الحال بين الزوجين. لذا، فإنَّ هناك ظروفًا يجب فيها على الزوجة أنْ تتنازل لزوجها، وللزوج أنْ يتنازل لزوجته دون محاولة فرض سيطرة أحدهما على الآخر من غير حق. وبالاختصار يجب أنْ تعكس العلاقة بين الزوجين منطوق المناجاة المنزّلة من قلم حضرة عبد البهاء وتُتلى عادة في عقد القران البهائي: حقًا لقد اقترنا إطاعة لأمرك وإرادتك، فاكتب لهما ما يجعلهما آية المحبة والوداد أمد الدهر.([8])
يتفق معظم مستشاري الزواج على أنَّ أغلب مشاكل الزواج ترجع لأساليب الاتصال بين الزوجين. ففي العلاقة الوطيدة بين الزوجين لا بد من حصول حالات من سوء الفهم. ومع تبادل الاتصال فيما بينهما في ملايين المواضيع –اتصالاً كلاميًّا كان أم غيره- يتعرضان عادة إلى أمور حسّاسة، فيكتشف كل واحد منهما مكمن الحساسيّة عند الآخر. فمن الضروري والحالة هذه تطوير قوَّة الإحساس لتجنّب مثل تلك المواقف. ونعود ثانية إلى ما يقوله الدكتور خاوري:
“من الضروري للشريكين أنْ يصبح كل منهما نبعًا لا ينضب من الاستحسان والثقة والتقبّل، وهذا ما يدور حوله الزواج –عِشْرة من الإعجاب الخاص المتبادل- فلا يهوي بهما الأمر ليصبح عش الزوجية زنزانة تعذيب، يحاول كلّ جلاّد أنْ تكون يده هي العليا في إخضاع الآخر. فالعائلة التي تحظى بجو من الثقة والرضى لديها مقوّمات غاية في الحيوية لاحتضان أفرادها وتنشئتهم. فينمون ويتطورون ويغدون كائنات إنسانية حقيقية. وهكذا نراهم والإنسانية جمعاء يقطفون ثمار ما زرعوا.”([9])
وكغيرها من أنماط المشورة الأخرى، فإنَّ المشورة التي تتم بين الزوج والزوجة، ثمَّ مع العائلة بكاملها، هي مهارة وفن ووسيلة للفهم والتفاهم يمكن تطويرها لتصبح؛ إمّا تعبيرًا جميلاً عن الحب أو وسيلة للدمار وازدياد الكراهية. فالمشورة تتطلّب جهدًا متصّلاً وواعيًّا لتتفتح كامل قدرتها الكامنة. أمَّا إذا سلّمنا بها جدلاً فستذوي وتموت كالزهرة المحرومة من الماء.
عندما تكون المشورة صريحة منفتحة وحبيّة ستولّد الأمان والثقة والاتحاد. ويصف لنا حضرة عبد البهاء النتائج المبهجة لعائلة حققت الوحدة الحقيقية بقوله:
“عندما يحلّ الاتحاد في العائلة لاحظوا كيف تصرّف أمورها بكل يسر، وأيّ تقدّم يُحرزه أفرادها، وكيف ينجحون في دنياهم! فتنتظم شؤونهم ويتمتعون بالراحة والطمأنينة والأمان، وتكون لهم مكانتهم ويصبحون موضع حسد الجميع. فعائلة كهذه يتعاظم شأنها ومكانتها يومًا بعد يوم.”([10])
يجب توظيف المشورة لبحث الأمور بانفتاح وصراحة في جو آمن يتولى فيه الوالدان توجيه الأمور. وتتطور هذه العملية تلقائيًا وفي أوقات مخصّصة للمشورة. ومن الجميل حقًّا أنْ تكون هناك أوقات محددة لاجتماعات العائلة، ولا يعني ذلك أنَّها أوقات لإلقاء محاضرة على الأطفال، بل للمشاركة والتخطيط والتعبئة الروحية والمعنوية. يجب أنْ يسودها الفرح والشعور بالترابط الأسري. وبهذه الطريقة يتعلم الأطفال المزيد عن المشورة أكثر مما قد يتلقونه بالدراسة عنها.
وتعتبر النشاطات غير الرسمية أيضًا أوقاتًا للمشورة. فكل ما تقوم به سواء أكان إصلاح لعبة أو اختيار برنامج تلفزيوني أو المساعدة في أعمال منزليّة هو بحق تجربة نتعلم منها. فإذا ما تمَّ ذلك في جو من الاحترام المتبادل والمحبة والاهتمام قطفنا من المشورة تجارب إيجابية سننعم بفوائدها بشكل طبيعي. وإليكم تاليًا بعض هذه الفوائد:
“أسَّس حضرة الباب الضيافة التسع عشرية وأقرَّها حضرة بهاء الله في الكتاب الأقدس حتى تجتمع النفوس ويُظهروا لبعضهم البعض المحبة والمودّة، فتنكشف لهم أسرار الملكوت. والقصد منه ظهور الوحدة والاتفاق. فتتحد القلوب اتحادًا كاملاً ويحصل التعاون والتعاضد المتبادل، لأنَّ أبناء الجنس البشري لا يستطيعون البقاء دون اتحادهم واتفاقهم. فالتعاون والتعاضد المتبادل هما أساس الجامعة الإنسانيَّة، وبدون تحقق هذين المبدأين العظيمين لن تتقدم وتزدهر أيَّة حركة ونهضة…
وبالاختصار، أملي أنْ تصبح الضيافة التسع عشريَّة سببًا في استحكام روابط روحانية عظيمة بين الأحباء فتجمعهم تحت لواء الوحدة، وعندها سنتحد معًا اتحادًا تنبعث منه نفحات المحبة والحكمة في كل الأرجاء. هذه الضيافة ضيافة إلٰهيّة وهذا العشاء عشاء ربّاني يجلب التأييد الإلٰهي كالمغناطيس ويكون سببًا لنورانية القلوب.”([11])
إنَّ الدور الذي تؤديه المشورة في الضيافة التسع عشريَّة مثير للاهتمام. فالمشورة هي إحدى الطرق الرئيسة التي تحقق لنا ما وعدنا به حضرة عبد البهاء، وبها تتحقق الوحدة. وتتحد أقسامها الثلاثة معًا، بالرغم من الأهميّة الخاصة لكل منها، لتحدث تأثيرًا رائعًا. وتأكيدًا على ذلك كتب سكرتير حضرة وليّ أمر الله بالنيابة عنه ما يلي:
“بخصوص استفسارك حول الضيافات التسع عشريّة، فإنَّ حضرة شوقي أفندي يشعر بقوَّة أنَّه يجب على الأحباء في تلك الضيافات أنْ يركّزوا على العناصر الروحانية والإداريّة لأنَّها على القدر نفسه من الأهمية لنجاح أيّة ضيافة بهائية. وعليه فإنَّ إيجاد التوازن السليم بين هذه العناصر يعتبر من مسؤولية وواجب كل فرد أو مجموعة بهائية. وإلى أنْ يتقن الأحباء عمليَّة الربط والتوافق بين هذه العناصر، فلا أمل في كسب حقيقي ودائم من تلك الاحتفالات الدينية. وبالطبع يجب تخصيص قسم وافر من الضيافة لتلاوة الكلمات المقدَّسة، إذ من خلالها يتمكّن الأحباء من الفوز بالإلهام والرؤية اللازمين لتحقيق النجاح في عملهم في سبيل الأمر المبارك.”([12])
وتفضّل حضرة عبد البهاء بالكثير عن الضيافة التسع عشريّة، فوصفها بأنَّها “جالبة الفرح والسرور”، “أساس الاتحاد والاتفاق”، “واسطة الألفة والمؤانسة”، و”العشاء الربّاني”. كما تفضّل أيضًا: “أملي أنْ تُعقد مجالس الضيافات على شأن تضع فيه الحقائق المقدَّسة، المتجليّة في ذلك المجمع، جميع التعصّبات والاختلافات خلفها، وتجعل قلوبها منبع المحبة الإلٰهيّة ومخزنها، وينمحي أي أثر بين النفوس منشؤه الافتقار إلى الوحدة والاتحاد. ففي هذه الجلسات يجب أنْ تتجلى منتهى النورانية وخلوص النيّة وطهارة المقصد.”([13])
وحَدَثْ هام كهذا من المُناسب التحضير له بالدعاء لإنجاحه والتطلّع طوال اليوم لحضوره. وعند دخولنا الضيافة التسع عشريّة علينا أنْ نتذكّر نصائح حضرة عبد البهاء لنا بقوله:
“احرصوا على عقد الضيافة التسع عشريّة باستمرار. فهي على قدر كبير من الأهميّة والنفع. وعند حضوركم مجلس الضيافة، وقبل دخولها، حرّروا أنفسكم ممّا علق في قلوبكم، نزّهوا أفكاركم وعقولكم عما سوى الله وتحدثوا من صميم قلوبكم، واجعلوها كلكم جمعًا للمحبة وسببًا للنورانيّة ومغناطيسًا لجذب القلوب. أحيطوا هذا الجمع بأنوار الملأ الأعلى حتى تتنعموا فيه بغاية المحبة.
بدّد يا إلٰهي مِن حولنا أسباب الخلاف وهيئ لنا أسباب الاتحاد والاتفاق وعطّرنا يا إلٰهي بنفحاتك السماوية واجعل مجلسنا هذا مجمعًا ملكوتيًا، وأنعم علينا بالخير الوفير وهيئ لنا مائدة المحبة وأطعمنا غذاء العرفان ونوّر بصائرنا بنورك الأبهى.
بقلوبكم تذكّروا هذه الأمور ثمَّ أدخلوا مجمع الوحدة والاتحاد. وليحصر كل واحد منكم فكره في كيفيّة إسعاد الأحباء المجتمعين، وأنْ يعدّهم أفضل منه وأعظم منه وأنَّه أقلَّهم مقامًا. ولتؤمنوا حقّ
الإيمان بأنَّه إذا ما طبّقتم هذه الوصايا في حياتكم فإنَّ الضيافة ستكون مأدبة سماوية، وأنَّ العشاء سيكون عشاء ربانيًّا. حقًا إنَّني خادم ذلك الجمع.”([14])
لا ندرك في الوقت الحاضر سوى النذر اليسير عن حقيقة وطبيعة هذا الاحتفال. والقسم الثاني من الضيافة المعروف عمومًا بالقسم الإداري أو العملي أو التشاوري سيكتسب دون شك أهميّة متزايدة في حياة الأفراد والجامعات البهائية على مر السنين.
إنَّ ما يجري في الحكم الدكتاتوري أنَّ فردًا واحدًا أو قلّة تقرر في شؤون البلاد. وفي الحكم الديمقراطي من الصعب غالبًا جعل الناس يهتمّون بالشؤون المدنيّة، ونادرًا ما يؤخذ برأي غالبيّة الشعب لأنّ القرارات تتخذّها غالبية مَنْ هم مسؤولون عن الشؤون العامة. وبكل بساطة يجرف الباقين تيّار اللامبالاة.
أمَّا في الدين البهائي فيساهم جميع البهائيين في الشؤون الخاصة بجامعتهم بواسطة الضيافة التسع عشريّة. وقد أشار أيادي أمر الله السيد فروتن إلى هذه الضيافة على أنَّها “برلمان المستقبل”. فهي وسيلة الاتصال المباشر بين الفرد وجميع المؤسسات الإداريّة في الأمر الإلٰهي وحتى مع بيت العدل الأعظم. ويجب تشجيع جميع البهائيين، بمن فيهم الأطفال أيضًا، على الاشتراك في المشورة التي تأخذ دورها في الضيافة. وهكذا ينخرط كل فرد في شؤون الجامعة كجزء من احتفال ديني.
قد يكون من أسباب وضع القسم الروحاني في بداية الضيافة التسع عشريّة هو لتهيئة الأحباء روحيًا للقسم الإداري الذي يليه. وكتب حضرة وليّ أمر الله رسالة بواسطة سكرتيره فتفضل: “إنَّ الهدف الرئيس للضيافة التسع عشريّة هو تمكين أفراد الأحباء من تقديم أيّة اقتراحات للمحفل الروحاني المحلي والذي بدوره سيرفعها للمحفل الروحاني المركزي”([15]).
“بالإشارة إلى رسالتك الأخيرة التي سألت فيها ما إذا كان من حق الأحباء التعبير بصراحة عن نقدهم لأيّ تصرّف أو سياسة انتهجها المحفل الروحاني. الجواب أنَّه ليس من حقّهم فقط بل من أهمّ المسؤوليات الحيويّة لكل عضو مخلص ذكي في الجامعة أنْ يقدّم بكل حريّة وصراحة -ولكن بالاحترام اللازم والتقدير لسلطة المحفل الروحاني- أي اقتراح أو توصيّة أو نقد يشعر بضميره أنّ عليه تقديمه من أجل تحسين وعلاج حالات أو نزعات معيّنة موجودة في جامعته المحليّة. ومن واجب المحفل الروحاني أيضًا الاهتمام التام بوجهة النظر المقدّمة من أيّ فرد من الأحباء. وأفضل مناسبة لذلك هي الضيافات التسع عشريّة لأنَّها، بالإضافة إلى برامجها الاجتماعية والروحية، تفي بحاجات ومتطلّبات إداريّة متنوّعة للجامعة. من أبرزها الحاجة إلى مشاورات ونقد صريح بنّاء يتعلق بأوضاع الجامعة البهائيّة المحليّة وشؤونها.
ويجب التأكيد مرّة أخرى على وجوب تجنّب جميع الانتقادات والمناقشات ذات الصبغة السلبية التي ستؤدي إلى تقويض سلطة المحفل الروحاني كهيئة، وبكل حزم، وإلاّ فإنَّ نظام الأمر نفسه سيتعرض للخطر وتعم الفوضى ويستشري الخلاف في الجامعة.”([16])
إنَّ التوجيه المبارك بضرورة تجنّب النقد السلبي وتشجيع التوصيات الإيجابية ينير أمامنا السبيل بشكل خاص. فيبدو أمامنا أنَّ الأمور السلبيَّة التي لا يستطيع الفرد تركها جانبًا باختياره الشخصي يجب أنْ تنحصر بينه وبين المحفل الروحاني، ولا يجوز أنْ تتأثر الجامعة بكاملها بتلك الانتقادات التي، بحكم طبيعتها، سوف تمس بمكانة المحفل الروحاني. ومع كل ذلك، فإنَّ على كل فرد أنْ يشارك بكل حيويّة فيما يؤدي إلى تحسين أوضاع الجامعة. وفي واقع الحال، هناك نوعان مختلفان من المشورة التي تجري في الضيافة التسع عشريّة، أحدهما فقط يتعلق باتخاذ القرار.
إنَّ القسم الثاني من الضيافة التسع عشرية هو الذي يتم فيه تقديم التوصيات التي تُرْفع للمحفل الروحاني للبحث فيها. أمَّا إجراء التصويت على الاقتراح قبل رفعه أو عدمه، فإنَّه أمر ثانوي يرجع للمحفل الروحاني للتقرير فيه (كما ورد سابقًا في هذا الكتاب). ففي الجامعات الصغيرة قد يؤدي بنا التصويت إلى ضياع وقت لا طائل له وإلى ازدواجية المناقشات وإلى إضعاف قوّة الاندفاع الروحاني مما يثبط الهمم في الحقيقة نحو المشاركة وتقديم التوصيات. فحجم الجامعة وطبيعتها هما أمران يجب على المحفل الروحاني أخذهما بعين الاعتبار في تقريره الأفضل لجهة وجوب التصويب أو عدمه. وعند التصويت على توصيّة في الضيافة، فإنَّها تعتبر صادرة عن مؤسسة أمريّة. وإلاّ فإنَّ الضيافة تكون عبارة عن قناة أو وسيلة لإيصال التوصيات الفرديّة للمحفل الروحاني الذي يرجع إليه إقرار أي الطريقين أفضل.
وفي كلا الحالين، فإنَّ التوصيات المرفوعة من الضيافة التسع عشريّة ما هي إلاّ توصيات، وعلى المحفل الروحاني أخذها بعين الاعتبار ولكن دون أنْ يكون ملزمًا بأيّ منها. إنَّ هذه الميزّة اللطيفة تعتبر حماية للأمر المبارك، ذلك أنَّ المطالب التي يحبّذها العموم قد لا تكون دائمًا في مصلحة الأمر على المدى البعيد. فالمحفل الروحاني المحلي الذي انتخب كما ينبغي، له حريّة اتخاذ القرار النهائي دونما إكراه.
والنوع الآخر من المشورة في الضيافة التسع عشريّة يعمل على تنميّة المدارك ونفاذ البصيرة ويؤدي إلى تقويّة الثبات على العهد والميثاق بالرغم من أنّه لا يسفر عن أيّة قرارات أو توصيات في نهاية المطاف. وذلك عندما يقوم الأحباء بالتشاور معًا في مواضيع مختلفة لمزيد من الفهم والإدراك و/أو في موضوع شخصي.
وفي القسم الثالث من الضيافة التسع عشريّة تبرز فرصة رائعة لبناء النسيج الاجتماعي للجامعة البهائية، وعلى هذا القسم أنْ يحافظ على الزخم الروحاني المتولّد في القسمين الأوليين. وقد تستمر المشورة حتى هذا الوقت لتدخل في هذا القسم. إلاّ أنَّها غالبًا ما تكون ضمن مجموعات مؤلّفة من شخصين أو ثلاثة أو أربعة يناقشون موضوعًا ذا اهتمام مشترك. فإذا ما تمَّ ذلك بأسلوب روحاني لتعزيز المحبّة والوحدة وتوضيح الأمور والوصول إلى فهم أفضل لبعضها، أو لحل مشكلة خاصة، فإنَّها تكون مشورة لها طابعها المفيد والمبهج والملهم.
تجد مؤسسة الصندوق البهائي نفسها عمليًّا في كل مشروع أمري، لذا فهي موضوع هام من المناسب طرحه للمشورة من ثلاث زوايا مختلفة.
إنَّ للصندوق أهميّته التي تجعله أمرًا ملحًّا يتطلّب البحث فيه ضمن المؤسسات الأمريّة وبين أفراد الأحباء عمومًا. وقد أشار إليه حضرة شوقي أفندي على أنَّه: “… مطلب أساسي للمستقبل في التقدم وتحقيق الإنجازات”([17])، “أسّ الأساس الذي يجب أنْ ترتفع عليه بالضرورة كافّة المؤسسات الأخرى… دم الحياة لتلك المؤسسات حديثة الولادة…”[18].
هذه الملاحظات من حضرة وليّ أمر الله توحي بأنَّ المشورة وسيلة مناسبة للتأكد من إدراك كافّة الإحباء لأهميّة الدعم المالي. فما المقصود من أنَّ الصندوق مطلب أساسي؟ وأنَّه أسّ الأساس؟ وأنَّه دم الحياة؟
عدا عن الحاجة الواضحة إلى الأموال، فإنَّ المشورة أسلوب لجعل كافّة الأحباء مدركين لشرف المساهمة بالدعم المالي. فلماذا لا تُقبل التبرعات من غير البهائيين المسجلين؟ ما هي الأسس الروحانية للعطاء؟ لماذا ينص حرمان الفرد من حقوقه الإداريّة حرمانه من شرف التبرع؟ كيف تستطيع كل جامعة بهائية تحقيق مطلب حضرة شوقي أفندي في أن تكون التبرعات “… من صميم القلب، مستمرة متزايدة من جميع الأحباء في العالم…”([19])؟
وما هذه سوى بعض الجوانب المتعلّقة بالصندوق والتي تستحق الاهتمام وتتطلّب التشاور حولها للوصول إلى فهم أعمق لها. والمشورة في هذه المواضيع يجب ألاّ تقتصر على المحافل الروحانية بل هي مواضيع ذات اهتمام عام ومستمر وهي مناسبة لمناقشتها في الجلسات غير الرسميّة.
هناك أمور تشد انتباه المحافل الروحانية وتعتبرها أكثر أهميّة من تحديد كيفية الصرف من الصندوق بموارده المحدودة. لقد توقّع حضرة شوقي أفندي في بداية ولايته هذا الأمر عندما تفضّل: “حُثّوا الأحباء بقوّة، بل توسّلوا إليهم، ألاّ يبددوا جهودهم بل يسعوا دائمًا إلى الوصول إلى قرار عام حول أكثر متطلبات الساعة إلحاحًا بعد المشورة الصريحة الناضجة المتواصلة.”([20])
وقد نوّه إلى “مواردنا المحدودة”([21]). وحثَّ الأحباء على “دراسة احتياجات الأمر المبارك، والبحث عن أكثر المجالات نفعًا، ثمَّ تخصيص الأموال اللازمة لذلك. وعمل كهذا لا شك أنَّه من أكثر الأمور صعوبة وتحمّلاً للمسؤولية.” ([22])ويمكن إجراء ذلك بالمشورة الدقيقة. ويتطلَّب الأمر إعادة النظر في الأولويات على ضوء الموارد المالية المحدودة. وحتى فكرة “أكثر المجالات نفعًا” تحتاج إلى مناقشة مستفيضة على ضوء الظروف دائمة التقلّب. إنَّها ليست بالمهمة اليسيرة وهو أمر يعرفه كل من قام بمقارنة الاحتياجات مع الموارد المحدودة المتوفّرة. وفي بعض الأحيان لا توجد إجابات بسيطة. وعندما تراعى جميع الاعتبارات في دراسة الأمور، فإنَّ المحفل الروحاني في حقيقة الأمر يقوم بترتيب الأولويات. إنَّها معادلة صعبة للإبقاء على سلّمها. بَيْدَ أنَّ المشورة تقف ندًّا لهذا التحدي.
تفضّل حضرة شوقي أفندي بأنَّ المدارس الصيفية تؤدي دورًا هامًا في “التطوّر المتواصل لحياة الجامعة البهائيّة المحليّة التي… تعتبر أسّ أساس نموّ الجامعة البهائيّة المركزيّة وتطوّرها”([23])، وتُخرج هذه المدارس إلى حيّز الوجود “تلك الدرر الثمينة من منجم الإنسانية”[24].
والمشورة عنصر هام لمدرسة صيفية ناجحة من ناحيتين: الأولى تتعلق بتنظيم مدرسة تحقق “ثلاث مي~زات متناغمة هي: رفع الروحانية والحصول على المعرفة ثمَّ الجانب الترفيهي”([25]). وهذه المشورة يقوم بها المسؤولون عن إدارة المدرسة.
ويأتي العنصر الثاني من المشورة ليأخذ دوره في المدرسة نفسها. إذ لا مكان أفضل منها للفرد لتلمس ثمار المشورة التي وعد بها حضرة بهاء الله.
وقد أكدَّ حضرة وليّ أمر الله على الدراسة و”المناقشة المستفيضة على الصعيدين الرسمي وغير الرسمي لمختلف نواحي الأمر المبارك”([26]). إنَّها المشورة، دون غيرها، التلقائية منها والمبرمجة والتي تأخذ جانبًا من وقت الصفوف الدراسية أو خارجها وقت الاستراحة، هي التي تسمح لسيل المنافع الوفيرة للمدرسة أنْ يخترق قلوب جميع الحاضرين في الأعماق.
يجب أنْ يكون الهدف إيجاد توق شديد “يحفّز الطلاّب على متابعة الدراسة بمفردهم بمجرد عودتهم إلى بيوتهم”([27]).
إنَّ المؤتمرات التي تعقد، المركزيّة منها أو التي يتم فيها انتخاب الوكلاء، توفر لكثير من البهائيين أكثر فترات المشورة كثافة وتركيزًا. وتحكمها نفس مبادئ المشورة الروحانيّة كما في غيرها. ومع ذلك، فإنَّ هناك ما يجعل هذه التجربة شيئًا فريدًا من نوعه.
فالمشورة في مؤتمر الوكلاء المركزي لها أهداف ثلاث:
ومن الواضح أنَّ المشورة هي جزء مكمّل للمؤتمر في أعماله وإجراءاته، وتفاصيل ما يجري فيه مثل أسلوب التوصل إلى توصيات مختلفة. أمّا المبادئ الأساسية للمشورة فيجب أنْ تبرز بكل وضوح حتى تسود تلك المؤتمر الروح اللائقة.
وفي الأروقة، بين عقد الجلسات وخلال فترات تناول الطعام، يبرز أمامنا شكل آخر من المشورة على جانب كبير من الأهميّة. فالأحباء يتجمعون ليتكلّموا ويتشاوروا في أمور كثيرة. وهنا تتشكل الخطط الفرديّة. فمشاريع التبليغ وخطط الهجرة وغيرها مما يعود بالنفع على الأمر المبارك تنبثق من تبادل الأفكار بين الأفراد بشكل عفوي وتلقائي، أو من المشورة غير الرسميّة في هذه المناسبة السنويّة السعيدة.
وربما لا يشهد وقت آخر من السنة دفقًا من الأفكار الخلاّقة والطاقات الكامنة أكثر مما تشهده هذه المناسبة. ومن المؤكّد أنَّ مناسبات كهذه هي التي راودت خيال حضرة عبد البهاء عندما تفضّل: “مثل هذه المشورة تعمل على جريان معين الحياة في حقيقة الإنسان، وتشرق عليه بأنوار القدم، وبها تزدان شجرة وجوده بأبدع الثمار”([28]).
إنَّ ثمار شجرة المشورة في مؤتمرات الوكلاء قد عمَّت نتائجها اليافعة ونالت من الكوكب بأسره. والكثير من الانتصارات لأمر الله، كبيرها وصغيرها، يعزى سببها إلى تبادل عبارات قيلت صدفة بين عاشقيْن لحضرة بهاء الله في مشاورتهما الخاصّة في أحد المؤتمرات.
[1](1) Messages from the Universal House of Justice, pp. 91-92
[2](1) لمزيد من المعلومات يمكن الرجوع لكتاب The March of the Institutions للكاتب Eunice Braun للناشر جورج رونالد سنة 1984.
[3](2) Messages from the Universal House of Justice, p. 94.
[4](1) رسالة مؤرخة 8/5/1939م وردت في Baha’I Marriage and Family Life, no. 29
[5](1) رسالة مؤرخة أيّار، 1929م وردت في Baha’I Marriage and Family Life, no. 226
[6](2) Baha’I Marriage and Family Life, no. 115.
[7](1) Marriage and the Nuclear Family, pp. 78-9.
[8](2) Baha’I Marriage and Family Life, no. 183.
[9](1) Marriage and the Nuclear Family, p. 72.
[10](1) Selections from the Writings of Abdul’l-Baha, p. 279.
[11](1) Baha’I Meetings, The Nineteen Day Feast, p. 21.
[12](2) Baha’I Meetings, The Nineteen Day Feast, p. 24.
[13](1) Baha’I Meetings, The Nineteen Day Feast, p. 21.
[14](1) Baha’I Meetings, The Nineteen Day Feast, p. 20-21.
[15](1) Baha’I Meetings, The Nineteen Day Feast, p. 24.
[16](2) Baha’I Meetings, The Nineteen Day Feast, p. 27-8.
[17](1) Life Blood of the Cause, 4, May25, 1926.
[18](2) Life Blood of the Cause, 9, July 29, 1935.
[19](3) Life Blood of the Cause, 14, August 8, 1957.
[20](1) Baha’I Administration, p. 77.
[21](2) Baha’I Administration, p. 183.
[22](3) Life Blood of the Cause, p. 15.
[23](1) Centers of Baha’I Learning, no. 4.
[24](2) Centers of Baha’I Learning, no. 1.
[25](3) Centers of Baha’I Learning, no. 7.
[26](4) Centers of Baha’I Learning, no. 34.
[27](1) Centers of Baha’I Learning, no. 20.
[28](1) Consultation: a Compilation, no. 15.
تأخذ النشاطات الاجتماعيَّة أبعادًا جديدة في المدنيّة الجديدة التي أبدعها قلم حضرة بهاءالله. فالفيض الإلٰهي الدافق في الرسالة السماوية يسمو بالروح الإنسانيّة، ويمنح طاقات الإنسان الكامنة تفتّحًا أعظم. فقد أنشئت مؤسسات عظيمة، لا مثيل لها في السابق، حتى تمكِّن البشريّة من النهوض والسير قدمًا نحو مستقبلها المدهش، وتقف حصنًا منيعًا أمام مشاكل الحياة، البسيطة منها والمعقَّدة.
وهناك أيضًا خلق جديد مُبهج للحياة الاجتماعيَّة، وبه تَلْبس الإنسانيّة ثوبًا روحانيًا جديدًا رائعًا. فدعونا نتأمّل التعاليم التالية:
هذا بعض من فيض المبادئ التي وُضِعَت لرفع مستوى العلاقات الشخصيّة والحياتيّة حتى يكون الجنس البشري لائقًا ليتأزّر بهذا الرداء الرائع الجديد.
والمشورة تحيك بأناملها نسيج المجتمع البهائي هذا. والأحباء، سواء في سعيهم لفهم معاني الكلمة الإلٰهيّة الخلاّقة، أو في مناقشاتهم داخل إحدى المؤسسات الأمريّة، أو في تخطيطهم لمشروع تبليغي، أوفي مدِّ يد المساعدة لبعضهم البعض في أمورهم الخاصّة، أو في إقامة حفلة، أو في اصطحابهم الأطفال في نزهة، أو في محاولة تجميلهم بيئتهم، أو في ممارستهم نشاطات ترفيهيّة، في كل ذلك قد تحتل المشورة جزءًا منه. وحيثما تشعّ المحبة، ويسود الاتحاد والانسجام، ويحظى الجميع بمشاركة الأفكار والمشاعر وتبادل الآراء ووجهات النظر مطلقين العنان للأفكار الجديدة أنْ تبرز، تكون هناك مشورة.
وفي حياكة النسيج الاجتماعي هذه، قد نشبّه المؤسسات العظمى والتعاليم المباركة والمبادئ التي منحنا إيّاها مظهر أمر الله الكلّي بالسداة (خيوط النسيج الطوليّة). فإنَّها قائمة متماسكة ثابتة بفضل قوَّة الميثاق. وبين هذه السداة ومن خلالها تدخل اللُّحمة (خيوط النسيج العرضيّة). وهي عبارة عن شخصيات أفراد الأحباء ونقاط ضعفهم وقوَّتهم وجاذبيتهم وصفاتهم المميِّزة حبكت مع الأحكام والمبادئ والمؤسسات لتكوّن بذلك نسيج المجتمع الجديد.
والمشورة هي الأداة التي تُمسك بخيوط شخصياتنا الفرديّة وتدخلها في خيوط السداة المحكمة الثابتة. وهكذا تكون قطعة النسيج الإنساني قد حيكت بكاملها بما فيها من ألوان وإبداع إلٰهي وذوق فنّي رفيع لتعكس عبقريّة وإشراق اليوم الجديد كما صوَّره لنا المظهر الكلي الإلٰهي.
وبهذا النهج والأسلوب تندمج وتمتزج جميع خيوط الشخصيات، وحتى المتشابكة منها والمنسولة والمتصلّبة لتعلي أنموذج المجتمع البهائي. فبدون آلة المشورة يستحيل مزج العناصر المتنوِّعة للجنس البشري لتشكل قطعة موشحة بالصور والألوان تعكس القوَّة والجمال.
إنَّ معظم عمليَّة الحياكة هذه تتم من خلال الأحداث اليوميَّة والروتينيَّة للحياة. وحتى المحادثة العاديَّة يمكن أنْ ترتفع بمستواها إلى المشورة عندما تسودها المشاركة والروح اللازمة. فالمشورة التلقائيَّة
والعرضيَّة تُسْهم في التقدم الكبير في حياكة النسيج الاجتماعي. وإليكم تاليًا بعض الأمثلة:
إنَّ فوائد “الاستنارة” بالمشورة قد تكون في نشاطات التعمُّق أكثر وضوحًا من أي مكان آخر.
“المشورة تهب إدراكًا أعظم، وتُحيْل الظن إلى يقين. إنَّها سراج نوراني في عالم ظلماني، ترشد وتهدي السبيل. فهي لكلّ شيء مرتبة الكمال والنضج وستبقى كذلك. وما نضوج موهبة الإدراك إلاّ بالمشورة.”([1])
فأمور عديدة تحدث في آن معًا عند ممارسة البهائيين للمشورة في التعمّق. أوَّلها اكتساب معلومات جديدة. وثانيها رؤى جديدة ومفاهيم واضحة ممَّا يساعد على ربط أفضل للحقائق بعضها ببعض وتصبح المعلومة أكثر قيمة ونفعًا. وهذه هي الاستنارة. وثالثها تكوين شكل من الترابط. فعندما يتشاور البهائيون فيما بينهم حول التعاليم فإنّهم يطوّرون بينهم تقاربًا له قيمته الخاصّة. ورابعها اكتساب العزم والقوّة لانتهاز الفرص الجديدة أو مواجهة المشاكل الصعبة، كما أنَّه غالبًا ما يتوضّح أسلوب للتعامل مع هذه الأمور. وخامسها عندما يتحوّل “الظن” إلى “يقين” فيتطوّر لدى الفرد نوع من الثقة ستؤثّر بالتالي على حياته بكافة أوجهها، فيصبح أكثر ثقة وقدرة على التكيّف وسعيدًا في داخله. وسادسها، وهي أكثرها أهميّة، تقويّة دعائم الإيمان والعقيدة، وهذا ما يقرّبنا نحو خالقنا ويساعدنا على معرفته وعبادته. وهو بالطبع الهدف من الحياة. تلك أمور تحدث سواء كان هناك صف دراسي رسمي أم مناقشات غير رسميّة. فخلال القسم الاجتماعي من الضيافة التسع عشريّة، ومؤتمرات الوكلاء والمؤتمرات العاديّة، ثمَّ المدارس، وفي زيارتنا للجيران ومناسبات أخرى كثيرة، يمكن أنْ تأخذ المشورة دورها وتثمر تلك النتائج. وتأخذ المشورة مجراها الطبيعي عندما يكون الأسلوب والموضوع صحيحين. وبهذا النمط من المشورة تدخل الأرواح والنفوس نسيج الأمر الإلٰهي لتفيد الأفراد المعنيين والجامعة البهائيّة على السواء.
يندهش بعض البهائيين عندما يعلمون أنَّ أحد أهمّ أسباب تأسيس المحافل الروحانيّة هو تعزيز أعمال التبليغ. ففي مطلع عام 1926 كتب حضرة وليّ أمر الله المحبوب متفضّلاً:
“لمّا كانت الشؤون الإداريّة للأمر المبارك تزداد اتساعًا باطّراد وتتنامى فروعها أهميّة وعددًا، فمن الضرورة تمامًا ألاّ ننسى الحقيقة القائلة بأنَّ كل تلك النشاطات الإداريّة، مهما أُديرت بانسجام وكفاءة، ما هي إلاّ وسيلة لغاية، ويجب اعتبارها أدوات مباشرة لنشر الدين البهائي.”([2])
وفي رسالة وجّهها حضرة وليّ أمر الله إلى أستراليا ونيوزيلندا بواسطة سكرتيره تفضّل: “إنَّ أحد أسباب بذل الجهد الحثيث في تشكيل المحافل الروحانية قيامها بنشر أمر الله…”([3]). وفي السنة الأخيرة من حياته شدَّد حضرته على هذا الموضوع بتأكيد أقوى بقوله: “إنَّ أعظم الأعمال بالطبع هو التبليغ، فعلى محفلكم الروحاني وضعه على رأس اهتماماته في كلِّ جلسة واعتبار الأمور الأخرى ثانويّة في الأهميّة” ([4]).ومهما يكن من أمر، فإنَّ هذه الإرشادات لم يقصد بها أبدًا إعفاء الفرد من مسؤولياته. فالتبليغ يبقى في المقام الأوَّل التزامًا يقوم به الفرد نفسه. ففي معرض حديثه عن أهداف مشروع السنوات السبع، تفضّل حضرة وليّ أمر الله مذكَّرًا إيّانا بما يلي:
“إنَّه واجب في عنق كل مؤمن أمريكي… أنْ يبادر ويروِّج ويعزّز… أيّ نشاط يعتبره و/أو تعتبره مناسبًا لتبنيه من أجل تقدم المشروع… عليه ألاّ ينتظر أيّة تعليمات، أو يتوقع أيّ تشجيع خاص من الممثلين المنتخبين في جاليته… دع الفرد ينهض بمبادرة منه… ويأخذ على عاتقه تلبية نداء التبليغ…”([5])
وبينما يقع على المحفل الروحاني واجب السعي لإشراك كل فرد، فإنَّ الواجب الأكبر يقع على الفرد نفسه في التقدّم للخدمة، حتى لو لم تقدّم المؤسسات ذلك التشجيع الخاص.
ومهما قلنا، فلن نبالغ في أهميّة التبليغ. فجمال القدم قد ساواه بالشهادة. وهو أحد أمرين سارّين مرضيين بنظر الله([6]). إنَّه أمر مثير للاهتمام ويستحق التفكير. فبينما يندفع كثير من الشهداء بكل فرح وثقة واطمئنان للفوز بتاج النصر هذا، قد يكون هناك آخرون كثيرون يهابون الموت، أو أنَّهم لا يشعرون بأنَّهم جديرون بالشهادة، إلاَّ أنَّهم وُضِعُوا في ظروف تخرج عن سيطرتهم إلاَّ قليلاً وأجبروا على الفداء بدمائهم، وهو أسمى أنواع التضحية. ونحن اليوم تتملكنا ظروف لا حصر لها لا نملك سوى بعض السيطرة عليها، وننضم إلى قافلة الشهداء بتبليغنا أمر الله، وهو أسمى عمل في التضحية مع أنَّنا قد نهاب ارتياد هذا المضمار، أو نشعر بعدم الجدارة مفضّلين الخدمة في مجال آخر. أضف إلى ذلك، فإنَّ المولى كان أكثر تحديدًا عندما تفضّل “على كل فرد من أحباء الله اليوم أنْ يحصر أفكاره في التبليغ. فيا أحباء الله يجب على كل فرد أنْ يقوم بتبليغ نفس واحدة في السنة على الأقل. هذه هي العزّة الأبديّة والموهبة السرمديّة.”([7])
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، هناك أمران على جانب كبير من الأهميّة يجب القيام بهما بانتظام:
كثير من الأسئلة التي لا حصر لها ستبقى تبرز. كيف أبدأ؟ هل يجب أنْ أقوم به بشكل مباشر أم غير مباشر؟ والآثار البهائية تنص على وجوب التحلي “بالحكمة” في التبليغ. ما هو “التبليغ بالحكمة”؟ مَنْ الذي سأتحدث إليه؟ وكيف؟ وكيف لي أنْ أعرف أنَّني وجدت نفسًا مستعدة؟ ما أفضل الكتب لإعطائها للغير؟ ماذا لو قلت الشيء الخطأ؟ كيف لي أنْ أطرح موضوع الأمر الإلٰهي للنقاش؟ أنا خجول جدًا حقًا، أمَا من طريقة أخرى للقيام بذلك؟ معرفتي ضحلة في التبليغ، فماذا لو ارتكبت خطأ ما؟ لست بالروحانية الكافية، لماذا عليّ القيام بذلك؟ فليقم غيري به. تلك أسئلة وغيرها لا حصر لها تجول في خواطر وقلوب كثير من البهائيين. فالتبليغ أمر سهل وطبيعي لبعضهم بينما لا يجده البعض الآخر كذلك.
لقد زوَّدنا حضرة بهاء الله -في إجرائنا المشورة- بوسيلة من شأنها أنْ تزيل المخاوف والشكوك وتجيب عن الأسئلة التي تثار حول التبليغ، وتثير لدينا أيضًا تلك الحوافز والاندفاع نحو هذا الواجب الأساسي. فعندما يتحدث الأحباء عن التبليغ، فإنَّ أمورًا مثيرة تبدأ في البروز. ففي حديث الفرد مع قرينه (الزوج أو الزوجة) ومع أطفاله أو مع بهائيين آخرين، مواجهة أو بالهاتف أو عبر الرسائل، يمكنه أنْ يتشاور في موضوع التبليغ. ومع استمرار هذه العمليّة تتولّد أفكار جديدة حول هذا الموضوع. ويؤكّد لنا حضرة وليّ أمر الله أنَّه “بالمشورة السليمة لا بدّ من إيجاد بعض الوسائل والأساليب. ولا حاجة بنا للانتظار لتشكيل المحفل الروحاني حتى نُجري المشورة. فرأي فردين جادين أفضل من رأي واحد.”([8])
والآن، هو الوقت المناسب لإجراء المشورة حول التبليغ. ضع بعض الخطط. فخطط التبليغ الفردي يمكن مناقشتها مع آخرين أو حتى مع فكرك وقلبك. إنَّ وضع خطط تبليغيّة لمجموعة تمثّل العائلة أو سكان الحي أو مجموعة من الأصدقاء، أو خطّة للتبليغ الجوّال لهي تجربة رائعة. ومن الطبيعي أنَّ الخطط لا تكون جيدة إلاَّ عندما يتم تنفيذها، وعليه يجب وضع نظام للمتابعة. فالخطط الموضوعة هي للإعداد للتبليغ وليست بديلاً عن قيامنا به.
هناك العديد من القصص الممتعة لمهاجرين من إفريقيا وأمريكا الجنوبيّة والمحيط الهادي ومن كل مكان حيث وصلوا في سعيهم للتبليغ إلى طرق مسدودة. وبالرغم ممَّا بذلوه من جهد لم يُحرزوا أيّ تقدّم. ثمَّ، وبتشاورهم مع أزواجهم، أو مع مبلّغ جوّال أو مهاجرين آخرين أو بالتشاور عبر المراسلة برزت أمامهم رؤية جديدة كانت بعيدة عن الأذهان، واتضحت لديهم فكرة أو أسلوب جديد للعمل ممَّا غيّر المشروع برمَّته عندما تفتَّحت أمامهم سبل أخرى.
إنَّ من أهم النشاطات البهائيَّة المثيرة التي تُنعش الروح استعراض مجهودات التبليغ مع العائلة أو الأحباء في الضيافة التسع عشريّة أو في مناسبات أخرى. ذلك لأنَّه يحقق لنا أمورًا ثلاث:
إنَّ إحدى أكثر فوائد المشورة التي نغفلها كونها أداة للتبليغ في حد ذاتها. فالبهائيون المتمرّسون في فن المشورة قد طوّروا لديهم مهارات ليست شائعة من قبيل: مَلَكَة التحدّث والإصغاء والتعاون. وقد تفضّل حضرة عبد البهاء قائلاً:
“على أحباء الله أنْ ينسجوا مع الآخرين روابط الألفة والمودّة، ويظهروا لهم كامل المحبة والعطف. لأنَّ روابط كهذه لها تأثير عميق على الناس فتجعلهم ينصتون. وعندما يشعر الأحباء أنَّ هنالك تقبُّل للكلمة الإلٰهيّة، عليهم أنْ يقدّموا الرسالة المباركة بكل حكمة. عليهم في البداية أنْ يسعوا في إزالة مخاوف من يقومون على تبليغهم. وفي الحقيقة فإنَّ على كل مؤمن أنْ يختار شخصًا في كل سنة ويحاول إقامة روابط من الصداقة معه وبذلك تتبدد جميع المخاوف لديه. وعندئذ فقط يبدأ في تبليغه وبالتدريج. فهذا هو السبيل الأفضل.”([9])
ففي هذا البيان المبارك نجد أفكارًا مثيرة للاهتمام. كم هم الذين سمعوا بالأمر المبارك لأنَّهم وجِّهت لهم بعض الأسئلة في البداية؟ عدد من المهاجرين لا يحصى تودّدوا للناس وكسبوا أصدقاء للأمر الإلٰهي وسجّلوا مؤمنين جدد، ذلك لأنَّهم قاموا بكل تواضع بطلب النصيحة من الآخرين في جميع الأمور لجهلهم بها حين وصولهم لأماكن هجرتهم، ولم يتوانوا في الاستفسار عن أي أمر: من موقع مكتب البريد إلى متطلّبات حياتيّة أساسيّة. فالبهائيون الذين تعلّموا مهارة المشورة لديهم أنجع الوسائل في العالم لإقامة تلك الروابط المتينة من المودّة التي تفضّل عنها حضرة عبد البهاء.
فالمشورة والتبليغ صنوان مثاليان. فعند وضع الخطط وفي تنفيذها ثمَّ في مشاركة الآخرين بالخبرات يجب أنْ نمارس المشورة. كما يجب أنْ نلجأ إليها أيضًا في سبر غور قلوبنا وأرواحنا وضمائرنا، ضمن نطاق العائلة أو مع الأحباء، بين المجموعات وفي المحافل، وكأداة للتبليغ مع من نرغب في مشاركتهم هذه الرسالة النفيسة.
إنَّها سعادة لها طعمها الخاص عندما يجد البهائيون نشاطات ترويحية يمكن أنْ تجمعهم معًا. فأعمال الخياطة وممارسة الرياضة والموسيقى والفن أو الأعمال اليدويّة تستطيع كلّها أنْ تساهم في حياكة نسيج المجتمع البهائي. وكلما ازدادت نشاطات البهائيين المشتركة، كلما كان أفضل. فوضع الترتيبات الضروريّة للقيام برحلة صيد، أو تنظيم نشاط موسيقي، أو أي شيء آخر يمنح عجلة المشورة فرصة للدوران.
عندما يعمل البهائيون معًا تلوح في الأفق فرصة أخرى رائعة لبناء المدنيّة الحديثة. فمن الجميل حقًا أنْ يعمل الأحباء معًا لتقديم خدمة محدّدة للأمر المبارك. وجميل أيضًا أنْ يساعد كل منهم الآخر في أمور شخصيّة بحتة. وتحصل الفائدة المرجوّة من العمل الإضافي الذي أنجز ومن الشعور بالمتعة في العمل معًا. والمشورة تثري الخبرة، والنتائج تغدو أوفر مما لو قام كل واحد بالعمل بمفرده.
عندما لا يتشكّل محفل روحاني محلّي في جالية ما يشكّل الأحباء فيها مجموعة، ويعملون ضمنها على نحو يشبه كثيرًا عمل المحفل الروحاني. وهنا تتجلى فوائد الحكمة المتجمّعة والعمل الجماعي. ومع كلّ ذلك، فإنَّ المجموعة ليس لها صلاحيّة إجراء الزواج البهائي، أو تناول القضايا الشخصيّة وما إلى ذلك من الأمور الإداريّة التي تتطلب وجود المؤسسة. فليست للمجموعة أيّة صفة رسميّة في أعمالها.
وفي بعض الأحيان، وحتى لو كان هناك محفل روحاني محلّي، فإنَّه لا يستطيع القيام بواجبه ربما لعدم إمكانية توفر النصاب لاجتماعه. إلاَّ أنَّ الأعمال الأمريَّة المطلوبة يجب ألاَّ تتوقف لهذا السبب. فعلى الذين يمكنهم الاجتماع أنْ يعملوا كمجموعة حرصًا على استمرار أعمال التبليغ، وعقد صفوف الأطفال وجلسات التعمّق ومجالس الضيافات التسع عشريّة. وأيّة خطط يتم وضعها تكون معرّضة للتعديل أو التصديق عليها من قبل المحفل الروحاني المحلّي بمجرد اكتمال النصاب مرّة أخرى. وهكذا فإنَّ المشورة يمكن الاستمرار بها حتى لو لم تكن الظروف مثالية.
* * *
وبالاختصار، فإنَّ ثمار المشورة يمكن قطفها في كل الأحيان والمواقف. وكلَّما ازداد استعمالنا لهذه الأداة كلما قوي نسيج المجتمع البهائي. وممارستنا لها في الأوساط غير الرسميَّة تساعدنا على تطوير مهاراتنا فيها لممارستها في المؤسسات الأمريَّة، وسيولّد ذلك ارتباطًا طبيعيًا مريحًا وتوافقًا بين شؤون الحياة اليوميّة والاحتياجات الإداريّة لمجتمع أهل البهاء.
في معرض جوابه عن سؤال وجّه إليه مرّة، ألقى مركز العهد والميثاق حضرة عبد البهاء ضوءًا له أهميته في عالم التجارة والأعمال حيث تفضّل:
“فيما يتعلق بسؤالك حول المشورة التي تتم بين الوالد وابنه أو بالعكس في شؤون التجارة والصناعة، فإنَّ المشورة في شريعة الله هي من أسّ الأساس. ومشورة كهذه لا شك أنَّها مقبولة سواءٌ بين الأب وابنه أو مع الآخرين، ولا شيء أفضل منها. وعلى الفرد أنْ يتشاور في جميع الأمور لأنَّ المشورة ستقوده إلى أعماق كل مسألة وتمكّنه من إيجاد الحل المناسب لها.”([10])
وعلاوة على ذلك يقتطف لنا حضرة شوقي أفندي ما تفضّل به حضرة عبد البهاء بقوله:
“إنَّ المقصود من المشورة أنَّ آراء عدَّة أشخاص أفضل من رأي فرد واحد بالتأكيد، تمامًا كما هي قوّة المجموعة بالطبع أعظم من قوّة الفرد، وعليه فإنَّ المشورة مقبولة وممدوحة لدى الله العلي القدير. وقد أمر الأحباء بالتشاور ابتداءً من الشؤون العاديّة والشخصيّة إلى الأمور العامّة والعموميّة. وعلى سبيل المثال، إذا أراد أحد الأفراد القيام بمشروع ما فإنّه إذا ما تشاور قبل ذلك مع بعض إخوانه فسيكتشف ما هو المناسب وتتضّح أمامه حقيقة الوضع. وبالمثل، وعلى مستوى أعلى، إذا تشاور أهل قرية ما فيما بينهم في مصالحهم، فإنَّهم سيصلون إلى قرار سديد بالتأكيد. وكذلك الحال مع كلّ مجموعة من المجموعات، فالصنّاع مثلاً يتشاورون في شؤونهم والتجّار يتشاورون في الأمور التجاريّة. وبالاختصار فإنَّ المشورة ممدوحة ومقبولة في جميع الشؤون والمسائل.”([11])
في هذه البيانات المباركة للمولى نجد معاني ودلالات مذهلة تتعلق بالشؤون التجاريّة والمهنيّة لحياة أفراد البهائيين. إنَّ كون الأفراد بهائيين لا يشكّل سببًا للعمل معًا في مشاريع تجاريّة ومهنيّة، ومن ناحية أخرى ليس هناك ما يمنع ذلك. فإذا وجدت مصلحة عامّة مشتركة، فإنَّ الأحباء سيستفيدون من التشاور مع بعضهم البعض وحتى مع الذين لا يعملون في المجال نفسه.
هناك أمران مختلفان في عالم التجارة والمهن حيث تأخذ المشورة دورها الهام فيهما: الأوَّل يتعلَّق بالأفكار النظرية والثاني بالأمور العملية.
إنَّ إحدى المواهب المبهجة حقًا في الإنسان موهبة التمتّع بالحديث عن أمور مستقبليّة يمكن حدوثها. فاستشراف المستقبل وتبادل الآراء والأفكار أو البحث في المبتكر منها لهو أمر منعش لقلوب الكثيرين. وكلّما اجتمع أناس لهم اهتمامات مشتركة، فإنَّ نقاشهم سيعكس ذلك الاهتمام. وهذا أمر مدهش جميل. فإذا صادف أنْ اجتمعت ثلاث نساء وهنّ في مراحل متقدّمة من الحمل، فإنَّ حديثهنّ سيتمحور على الأرجح، سواء أكان ذلك عاجلاً أم آجلاً، حول الحياة الجديدة التي تنمو في أرحامهن. وسيتطرقن إلى خططهنّ وأحلامهنّ وآمالهنّ ويعبرنّ عن مخاوفهنّ أيضًا. وكل ذلك نابع من حالتهن المشتركة.
لقد أصابت البشرية نفعًا كبيرًا من الأفكار النظرية والملاحظات “الحالمة” لأولئك الذين تجمعهم اهتمامات مشتركة ويتحدّثون ويستشرفون آفاقًا لا صلة لها بالحاضر.
وفي مناجاة نزّلت بقلم حضرة عبد البهاء بحق الولايات الجنوبية الأمريكية تفضّل: “… وتحيطني توفيقاتك التي تجعل الذباب عقابًا والقطرة بحورًا وأنهارًا والذرَّة شموسًا وأنوارًا…”([12]). فتصوّروا أنَّ بهائيين مهتمين بعلم الفيزياء يناقشون هذه الفقرة المباركة. إنَّ القوَّة المنبعثة من الذرَّة قد قورنت بالشمس، ونحن ندرك القوَّة الهائلة التي يمكن للذرَّة أنْ تطلقها في مجالي الخير والشر. وعلى النسق نفسه تبدوعلاقة القطرة بالبحر. إذ يمكن للمرء أنْ يخمِّن مدى القوَّة الهائلة التي ستتوفر عندما يطلق علماء المستقبل القوَّة الموجودة في جزيء الماء.
إنَّها في وقتنا الحاضر مجرَّد نظرية. إلاَّ أنَّ الأحباء المهتمّين بالفيزياء وبتخيُّل المستقبل سيجدون الكثير من المتعة في مناقشة أمور كهذه، وفي النهاية قد يتفكّر أحد العلماء في ملاحظة عابرة طُرحت في المناقشة وتقوده لاكتشاف له فوائده الجمَّة للبشرية. فالبذرة كامنة في مناجاة حضرة عبد البهاء وإنماؤها يأتي بالمشورة المجرَّدة.
والمبدأ يكمن في أنَّه بالمشورة سيكون بمقدور أولئك الذين جمعتهم اهتمامات مشتركة أنْ يركّزوا أفكارهم، وستتولّد قوّة جديدة يمكن الاستفادة منها في أي اتجاه وجّهت. فالشؤون التجارية، والعلوم، والأعمال المنزليّة، والترفيه، بإمكانها جميعًا قطف ثمار تبادل الآراء هذا.
يمكن لعدّة مجالات في عالم التجارة والصناعة والمهن والأعمال أو الفنون أنْ تستفيد من المشورة أداة عمليّة. وقد تنبّأ حضرة عبد البهاء بذلك حينما تفضّل:
“إنّ مسألة المشورة في غاية الأهميّة، وهي إحدى أكثر الأدوات فعالية في بعث الطمأنينة وسعادة بني البشر. فمثلاً عندما يساور المرء قلق من شؤون عمله، أو كان يسعى إلى تأسيس مشروع أو تجارة، فإنَّ على الأحباء أنْ يجتمعوا معًا ليقدّموا له النصيحة اللازمة، وعليه أنْ يأخذ بها. وكذلك الأمر في قضايا أكبر. فعندما تقع مشكلة أو تبرز صعوبة، فإنَّ على النفوس الحكيمة أنْ تجتمع وتتشاور وتقدّم الحل المناسب. وبعد ذلك يكون اتكالهم على الله مذعنين لإرادته كيفما ظهرت، وسينعمون بلا شك بالعون والعناية الإلٰهيّة. ولذلك فإنَّ المشورة هي أحد الأوامر القطعيَّة لربّ البريَّة.” ([13]) كم من الإلهام قد حصل في عالم الفن وأينعت ثماره نتيجة المشورة بالمشاركة الواعية. وحتى تأليف هذا الكتاب لم يكن لينجز دون المشورة الحبيَّة الصادقة مع الأحباء شخصيًا وعبر الهاتف وبالمراسلة. ذلك لأنَّ المشورة هذه ساعدت على توضيح الأفكار وصقل الفكر وتنقيته ثمَّ طرح الآراء بشكل جديد مختلف. وكانت بالنسبة للكاتب مثالاً رائعًا للثمار التي وصفها لنا مركز العهد والميثاق.
ففي كل ميدان يأتي علينا وقت نجرّب فيه ما لم يجرب بعد. وقبل أنْ نخطو نحو المجهول، قد يكون أمرًا مساعدًا لنا أنْ نلجأ إلى من عُرفوا بحصافة الرأي. والوثوق بأشخاص مؤتمنين في المشورة له مردوده الكبير علينا.
فعاجلاً أم آجلاً يجد أغلب الناس أنفسهم أمام قرارات صعبة تتعلق بعملهم ويجب مواجهتها. ولا شك أنَّ وجود مرجع من الناس يعطيك الاهتمام اللازم وتثق به ويساعدك في اتخاذ القرارات إن هو إلاَّ مغنم كبير. فمن المستحسن الرجوع إلى عدّة أشخاص معًا لبحث المشكلة بقصد صقل الفكر وتنقيته. وليس من الضروري أنْ يطلب من الآخرين صنع القرار بل المساعدة في الوقوف على حقيقة المشكلة وتوضيح الأوضاع. وهذا بالطبع ينير مفهومنا، وبذلك يمكن اتخاذ القرارات الصعبة بمزيد من الحكمة والقناعة.
ويُعتبر إجراء التقييم من أهمِّ مقومات العمل. فهل حقًا يساهم العمل اليوميّ في تحقيق الأهداف المطلوبة؟ وبعبارة أخرى، هل حققنا فعلاً ما نصبو إليه؟ كثير من الأموال تُنفق على بيان الوضع المالي، وبيان الأرباح والخسائر، ونفقات المستشارين وغيرها من وسائل التقييم. فبمجرد جمع المعلومات نخطو الخطوّة التالية إلى إدراك المعطيات وفهم مضامينها. ويمكن أنْ يتيسّر لنا مصدر ضخم للمساعدة غير مطروق. فسواء أكان الأشخاص يعملون في حقل واحد أم لا، فإنَّ أولئك الذين هم من ذوي الخبرة في اتخاذ القرارات التي يوثق بها، يمكن أنْ يقدّموا بالتأكيد مساعدة جُلّى في مراجعة المعطيات والتشاور بشأنها. فالرؤيّة المستقبليّة المكوّنة ستتساوى في قيمتها مع المعطيات على أقل تقدير.
قد يُحْجم البعض عن الدخول في عمليّة كهذه لشعورهم بالضعف ولا يريد أحد منهم أنْ تتكشف نقاط ضعفه هذه، أو قد يشعرون أنَّهم يفرضون أنفسهم على بهائيين آخرين. ففي مجتمع نعيش فيه، معروف بتوجيه النقد وإصدار الأحكام، فإنَّ مجهودًا كبيرًا سيبذله الفرد في الحرص على عدم معرفة الآخرين كثيرًا بشؤونه الخاصة. فإذا ما تغلبنا على هذا الشعور بالضعف، ورغب الفرد في أنْ يُفصح عمّا لديه لأصدقائه وزملائه في جو تسوده المشورة، فإنَّ ثمارًا وفيرة سوف تجنى ويعمُّ نفعها أطراف المشورة.
ولا بد من نشوب النزاعات حيثما وجدت مجموعة من الناس. وقد نصح حضرة وليّ أمر الله الأحباء بعدم اللجوء إلى المحاكم المدنيّة لحل إشكالاتهم، إذ يمكن حلّها بعدّة طرق منها:
كلَّما سارعنا في طلب المساعدة لحل أي إشكال كلَّما كان أفضل. وعندما نسمح للعلاقات أنْ تتهاوى إلى مستنقع الضغينة وتوجيه اللوم والعتاب تغدو معالجة الموضوع أمرًا صعبًا.
هذه بعض ميادين المشورة التي تخدم عالم الأعمال والمهن والتجارة والفنون والنشاطات التجاريَّة وغيرها. وكلَّما أكثر البهائيون من ممارستهم المشورة في أعمالهم بكل إدراك كان ذلك أفضل.
عندما نكتشف ما تحدثه المشورة من معجزات، تتولّد بداخلنا رغبة طبيعية جامحة لممارستها في كل الأمور. ولسوء الحظ فإنَّها لا تؤدي مفعولها المأمول في بعض الأوساط غير البهائية. ومع ذلك، فإنَّ هناك مبادئ عامة يمكن الأخذ بها خارج نطاق الدين البهائي. وفيما يلي بعض الأسباب التي تحوْل دون تطبيق مبادئ المشورة البهائية بشكل دائم خارج نطاق الدين البهائي:
ومع كل ذلك، فإنَّ بعض الصفات قد تطوَّرت، كما تعلَّم الأفراد بعض الأنظمة والمهارات بفضل المشورة، والتي غدت ذات نفع كبير لهم في مواقف أخرى، وهم غالبًا ما يمارسونها دون أنْ يدرون. ومن ذلك:
[1](1) Consultation: A Compilation, no. 3.
[2](1) Baha’I Adminstration, p. 103.
[3](2) Letters from the Guardian to Australia and New Zealand, pp. 68-9.
[4](1) A Special Measure of Love, 19, July 28, 1957.
[5](2) The Advent of Divine Justice, p. 42.
[6](3) The Revelation of Baha’u’llah, vol. 2, p. 94.
[7](1) “رسالة دليل التبليغ”، الصفحتان 11-12.
[8](1) Consultation: A Compilation, no. 30.
[9](1) The Individual and Teaching, no. 27.
[10](1) Consultation: A Compilation, no. 18.
[11](2) مكاتيب عبد البهاء، الجزء الثالث، الصفحتان 502-503.
[12](1) “ألواح الخطة الإلٰهيّة”، صفحة 35.
[13](1) Consultation: A Compilation, no. 14.
وكما أنَّ حبّتين من الثلج المتساقط لا يمكن أنْ تتشابها، فلا يمكن أنْ يتشابه اثنان من بني البشر. وحتى التوائم المتماثلة تختلف جسديًّا وسلوكيًّا وشخصيّة. فهذا التفرّد الذي يتمتع به كل فرد يشكل جذبًا وتحديًّا وجزءًا حيويًّا من المشورة.
إنَّ الاختلافات، في جوهر طبيعتها، مفرّقة. إلاَّ أنَّها بقوّة الميثاق وبالمشورة قد أحالها جمال القدم إلى مصدر للقوّة.
مثل ذلك يحدث في الموسيقى. فالنغمات المختلفة التي تصدر عشوائيًا قد تكون مزعجة، أمّا إذا رُتبت بشكل متناغم فستعطينا ألحانًا جميلة. وبالمثل فإنَّ الفروق القائمة بين الناس تغدو نتائجها محببة إذا ما حصل التناغم بينها. أمَّا إذا سمح لها أنْ تتصادم فالنتائج وخيمة.
وبالمشورة يمكننا تفهّم المشاكل المعاصرة المعقّدة على نحو أفضل لأنَّ مناقشة وجهات النظر المختلفة على أسس روحانية تمنحنا رؤية للموضوع أكثر تكاملاً. فمن ضوء المشورة تحدث استنارة من نوع خاص. وإذا ما مورست المشورة بأقصى درجة من الانسجام والتناغم فستتقارب الفروق بين الناس وتتحد لتعطينا الحلول المنطقيّة والعمليّة حتى لو كانت المشاكل مستعصية متشابكة.
يتناول هذا الفصل بعض الفروق الفرديّة. وبينما يوجّه الاهتمام نحو الفروق القائمة بين الناس، فإنَّ التركيز منصب على تحويل الاختلاف إلى قوّة خلاّقة للوحدة.
من أكثر الأسئلة المحيِّرة في الحياة تلك المتعلّقة بالنفس. ماذا يُقصد بالنفس؟ ما هي النفس الحقيقية؟ هل هي شيء أحادي الوجود أم تداخل معقّد لأجزاء منفصلة بارزة متميّزة؟ إنَّها أسئلة مرَّت بخاطر الإنسان على مر العصور، وحظيت في العصور الحديثة ببحث مكثَّف استخدمت فيه تقنيّات متطوّرة، وتحليل في الحاسوب اكتنفه التعقيد. فَوّضِعَت النظريات العديدة المفسّرة، إلاَّ أنَّها جميعها قد تركت أسئلة لا إجابة عنها على ما يبدو.
من الممكن القول أنَّ للنفس عناصر متداخلة يعتريها التغيير باستمرار. تبدو لنا منفصلة إلاَّ أنَّها وحدة واحدة، دقيقة ولكنَّها ظاهرة، وتكون أحيانًا وحدة متماسكة جدًا وأحيانًا أخرى مجموعة من العناصر المتضاربة المضطربة. ففي حديثنا العادي نقول: “استجمع نفسك” أو نقول: “خارج عن طوره”. وعندما لا نقوى على اتخاذ قرار نقول: “جزء مني يقول “نعم” والآخر يقول “لا”. أو أنَّه “كان علي أنْ أتحدث مع نفسي بكل حزم حول ذلك”. فالشخص الذي يملك نفسه هو الإنسان السليم عقليًا وليس الإنسان المفكك. بينما قد لا تكون الأوجه المختلفة للنفس البشريّة منفصلة بوضوح، إلاَّ أنَّ البحث في بعض عناصرها المختلفة قد يكون مفيدًا. فالآثار البهائيّة كنز زاخر بالمعلومات عن هذه الخصائص.
تحدّث حضرة عبد البهاء عن خمسة أنواع للروح([1]). اثنتان منها، الروح الحيواني والروح الإنساني، لهما ارتباط بإحساس النفس.
فالروح الحيواني مختصّة بوجودنا الجسماني بما فيه “القوّة الجامعة الحسّاسة”([2]). فحاجات المخلوقات جزء من الحياة. نأكل وننام ونتنفس ونحيا ونموت طبقًا لأوامرها. فجسم الإنسان يعمل عضويًّا كما يعمل جسم الحيوان. ولهذا فقد ثبت أنَّ التجارب التي يجرونها على الحيوان مفيدة لنا في عدّة طرق.
وهناك الروح الإنساني التي “يمتاز بها الإنسان عن الحيوان”([3]). والفرق الرئيس بينهما كون “الحيوان أسير الحواس ومقيّد بها”([4])، بينما الروح الإنساني يمكنها التحرّر من بعض القيود الحيوانيّة. ومع ذلك فليس هناك من صراع أساسي بين الروح الحيواني والروح الإنساني، إذ أشار حضرة عبد البهاء إلى القوّة الحيوانية في الإنسان على أنَّها “كالشريك”([5]). وفي واقع الأمر فإنَّ للروح الإنساني قدرات هائلة نحو الخير أو نحو الشر: “إنَّ مقام الإنسان مقام سامٍ إذا تزيَّن بإنسانيته، وإلاَّ فإنَّه يشاهَد كأحقر من جميع المخلوقات” ([6]).بعض الناس عبيد لطبيعتهم الحيوانيّة. فوظائفهم العضويّة ودوافعهم وحاجاتهم تستحوذ تفكيرهم وتقود كل أعمالهم. ومن جهة أخرى فقد تحرر الكثيرون من ربقة الغرائز الجسمانية، وسيطروا على الشهوات الحيوانيّة وأصبحت أجسادهم هياكل لائقة لأرواحهم.
تحدّث حضرة عبدالبهاء عن مظهرين اثنين من مظاهر الروح الإنساني فتفضّل:
“في الإنسان طبيعتان: طبيعة روحانية عليا، وأخرى ماديّة دنيا. ففي الأولى يتقرّب إلى الله، وفي الثانية يعيش من أجل الدنيا فقط. وعلائم هاتين الطبيعتين واضحة في الإنسان. فمظهر الجانب المادي الكذب والقسوة والظلم وهي ثمار طبيعته الدنيا. أمَّا مظاهر الطبيعة الروحانية فتتجلى في الحب والرحمة والشفقة والصدق والإنصاف. وظهورها منفردة أو مجتمعة إنَّما هي من طبيعته العليا. فكل عادة حسنة وصفة نبيلة ترجع إلى طبيعة الإنسان الروحانية، بينما نقائصه جميعها وخطيئاته هي نتاج طبيعته الماديّة. فإذا تغلّبت طبيعة الإنسان الروحانية على طبيعته الإنسانية كان أمامنا قدّيسًا. فللإنسان القدرة على فعل الخير والشر. فإذا ما تغلّبت فيه نوازع الخير على نزعات الشر يمكن القول بأنَّه قدّيس حقًا. أمَّا إذا حدث العكس ونبذ تعاليم الحق، وسمح لأهوائه الشريرة أنْ تهزمه وتسيطر عليه، فإنَّه ليس بأفضل من مجرد حيوان ([7]). يقودنا هذا إلى قلب الطبيعة الإنسانية؛ إلى الصراع الدائم بين الطبيعة الدنيا والطبيعة العليا في الإنسان. فهناك قول شائع يخبرنا أنَّ في داخل كل إنسان “كلب أسود” وآخر “أبيض”. وقد كتب روبرت لويس ستيفنسون روايته الشهيرة عن الدكتور جيكل والسيد هايد، حيث كان الدكتور جيكل رجلاً طيّبًا إلاَّ أنَّه عندما يتناول مشروبًا معيّنًا يصبح السيد هايد، ذلك الإنسان شديد القسوة بشكل لا يصدق. كلاهما يعيش في الجسم نفسه. ففي داخل كل منّا بعض من صفات الدكتور جيكل والسيد هايد.
فالحرص على المصلحة الذاتيَّة الذي ينعكس في “الأنا” مكّن الإنسان من البقاء في المراحل الأولى من حياته. ومع كل ذلك فإنَّ هذه الأنانية الصريحة قد أصبحت سببًا في الآلام المبرِّحة للإنسان المعاصر. وكمصدر للشر، فإنَّها تظهر في أشكال مختلفة من نفوس مختلفة؛ فهي للبعض شعور وهمي بالأهمية، وسلوك من الكِبْرِ والغرور، التفاخر والعجرفة، الميل الشديد لحب الظهور وجلب الانتباه. وآخرون يبّخسون حقَّ أنفسهم؛ فالتواضع الزائد، والخجل المفرط، والأعمال المحبطة للنفس هي جانب أيضًا من آفة “الأنا”.
إنَّ التعبير الشائع عن “الأنا” هو بالإفراط في جعل الذات محور كل شيء، والتعبير عن ذلك بالميل نحو تركيز كل حديث عن الخبرات والاهتمامات الشخصيَّة. وشخص يبالغ في الاهتمام بنفسه سريع الإصابة باليأس، التكلّف، مشاعر الشفقة على نفسه، الإكتئاب، داء العظمة، المُدافع عن نفسه، الشعور بالمرارة أو العداوة. ومظهر آخر نراه في القسوة والحقد. فعندما تسيطر الطبيعة الدنيا في الإنسان قد تنتابه رغبة في إخضاع وحتى تدمير من قد يشكّل تهديدًا له، أو يثير غيرته، أو يكنّ له مشاعر سيئة. فيصبح المرء عندها أداة للشيطان، أي عبدًا لطبيعته الدنيا. وعندما يفقد الإنسان سيطرته على رغبات النفس الدنيا يصبح أسير عيوبه ونقائصه. فالابتلاء الشديد بالانحراف الجنسي، والطمع، والقمار، وحب الرئاسة، وتعاطي الكحول أو أيّة مواد كيماوية مخدّرة، قد تكون سببًا في الدمار الكامل، ولا شيء عمليًّا يمكن أنْ يردع الإنسان عن التمادي في مثل هذه الخطايا التي تستنفذ منه الكثير من قواه. ومن الممكن أنْ يُصبح اللهاث وراء المتعة هدفًا يزداد معه التصميم لتحقيقه. وحتى ممارسة الألعاب يمكن أنْ تُصْبح شغلاً شاغلاً للإنسان لا يجرؤ الآخرون على العبث بها. كل ما مرَّ ذكره أمثلة على الطبيعة الدنيا عندما تكون هي الآمر الناهي.
النفس العليا: إنَّها النفس الحقيقية. وإحدى أكثر أسرار الحياة غموضًا. فيتفضّل حضرة بهاء الله: “وأمّا ما سألت عن النفس إنَّها آية إلٰهيّة وجوهرة ملكوتيّة التي عجز كل ذي علم عن عرفان حقيقتها وكل ذي عرفان عن معرفتها” ([11]).لقد عُرِّفت الحياة بأنَّها رحلة الإنسان في بحثه عن روحه، وأفكارعظيمة وردت في الرموز الأدبيّة، كالبحث عن الكأس المقدَّسة، ترتبط بهذه الفكرة السائدة. وعندما ننظر إلى النفس الحقيقية من منظور الإمكانات الروحيَّة فإنَّ صورة رائعة غاية في الجمال ستتمثل أمامنا.
“يا عبادي لو اطلعتم على ما أودعت في أنفسكم من بدائع جودي وفضلي لانقطعتم عن جميع الجهات وعرفتم أنفسكم الذي هو نفس عرفان نفسي ولرأيتم أنفسكم مستغنيّة عن دوني”([12]).
وعلاوة عن هذه العبارة الصريحة التي ساوت بين المعرفة الحقيقية للنفس ومعرفة المظهر الإلٰهي، فقد تفضّل حضرة بهاء الله بأنَّه “من عرف نفسه فقد عرف ربه”([13]). كما تفضّل أيضًا: “إنَّ الهدف من خلق الإنسان كان ولا يزال معرفة خالقه ولقاءه”([14]). فمن هذه البيانات المباركة يمكننا أنْ نستنتج الكثير من الاحتمالات منها:
فالتوّجه نحو هذه الطبيعة العليا هو الهدف من مجيء رسل الله.
يتفضّل حضرة بهاء الله قائلاً:
“… حتى يتربى جميع الناس في ظل تربيّة شمس الحقيقة هذه ويتشرّفوا ويفوزوا بهذا المقام والرتبة المودعة في حقائقهم. لهذا ظَهَرَ الأنبياء والأولياء بالقوّة الربانيّة والقدرة الصمدانيّة بين الناس في جميع العهود والأزمان”([15]).
فجميع الرسل قد جاءوا بهذا الخلاص للإنسان، والذي يمكن اعتباره على أنَّه انتقال الإنسان من نفسه الدنيا إلى النفس العليا. فكل فرد له عيوبه الخاصّة ونزعاته نحو الشر كجزء من طبيعته (نفسه) الدنيا. ومع توجّهه نحو النفس العليا تسكن لديه تلك النزعات غير المرغوب فيها. وهي لا تختفي بل تفقد سيطرتها عندما تبرز فضائل النفس العليا وتتطوّر.
إنَّ جميع الكتب السماوية، ومنها الآثار الكتابيّة البهائيّة، تمنحنا الهداية بكل سخاء لتأخذ بيدنا في هذا التحوّل. ويشير جمال القدم في إحدى مناجاته إلى المواهب الإلٰهيّة السامية الكامنة في الإنسان بقوله: “وما أنا يا إلٰهي سوى ذرَّة حقيرة…”، وفي مقام آخر يتفضّل: “خلقتك عاليًا….”، “أنت نوري…”. فالمناجاة وآثار كتابيّة أخرى كالكلمات المكنونة تكشف عمّا في الإنسان من مواهب إلٰهية لا محدودة.
إنَّ المشورة أداة غاية في الفعاليّة والقوّة غير مستغلّة بالمستوى المطلوب لاكتساب الفرد معرفة بطبيعته العليا. فهي القادرة بشكل لا مثيل له على تسليط الضوء على النفس الحقيقية من خلال دراسة النصوص المقدَّسة ومناقشتها، وتقود بالتالي إلى فهم أعمق للأسرار الإلٰهيّة ممّا يُبْعِد الإنسان عن طبيعته الدنيا وينير الطريق أمامه نحو النفس الحقيقية.
عادة ما تكون الفكرة التي يأخذها الإنسان عن نفسه خليطًا من الروح الحيواني والطبيعة الروحانية وأمور أخرى كثيرة مثل: “الأوهام، الآمال، المخاوف، الحب والكراهية، وكيف يرى نفسه في مختلف الأدوار. ويعتبر مفهوم الذات هذا واحدًا من أثمن ما يملك الإنسان. فاحترام الذات والشجاعة والاستقامة والكرامة والإحساس بالشرف كلَّها تعكس شعور الإنسان نحو نفسه. فالألم الجسدي يصعب تحمّله، إلاَّ أنَّ البعض يجده سهلاً بالمقارنة مع التعذيب أو الاعتداء على مفهوم الذات. وفي الوقت الحاضر فإنَّ وسائل التعذيب تهدف في الغالب إلى تحطيم إحساس الإنسان بالاحترام بقدر إحداث الألم الجسدي.
يضع حضرة بهاء الله الغيبة والافتراء والنميمة في مرتبة أكبر الكبائر، وربما يرجع ذلك لتأثيرها السلبي على مفهوم الذات. فيتفضّل في كتاب الإيقان بقوله: “… الغيبة تطفئ سراج القلب المنير وتميت الحياة من الفؤاد”([16]). إنَّه فعلٌ ينخر في جذور مفهوم الإنسان لذاته، وهو يفعل فعله في المستغيب والمستغاب والمستمع على حدٍ سواء.
كم من جهدٍ كبير يُبْذَل في الحفاظ على مفهوم الإنسان لذاته، وقد عرف عن أناس خاطروا بأرواحهم في هذا السبيل. إنَّ أحد الأسباب المؤديّة إلى الانتحار هو الشعور باليأس نتيجة تدمير مفهوم الذات. ومثال ذلك عندما يوضع الفرد في موقف مناقض لاعتقاده ﺒ”من يكون”. فالتهديد الذي يمكن أنْ يتعرّض له مفهوم الإنسان لذاته يعتبر أشدّ الأخطار التي قد يواجهها الإنسان.
ويمكن لمفهوم الإنسان لذاته أنْ يواجه تحديًّا عندما تعصف به أزمات شداد مثل فقدانه عزيزًا عليه، أو دخوله في تجربة طلاق، أو خسارة ماليّة، أو رفض الآخرين له، أو حادث يتسبب له بالضعف والهزال، أو مرض عضال، أو داء مميت… الخ. مثل هذه المصاعب تسبّب له ضغطًا نفسيًّا قد يربكه ويجعله عاجزًا عن معرفة هويته الذاتيّة ممّا ينعكس على سلوك يصدر منه بمنتهى الغرابة. إنَّه تحد قوّي يواجه مفهومه لذاته وقد يحدث فيه تغييرًا مثيرًا.
وفي معرض اهتمامهم بمفهومهم لذواتهم، يبحث الكثيرون عن وسائل تقودهم إلى ما يدعونه بحقيقة ذاتهم. ويجب عدم الخلط بين هذه الذات والنفس الحقيقية التي مرَّ ذكرها آنفًا. إنَّها النفس الظاهرة التي يسعى الفرد أنْ يجدها. إنَّ التفكّر في بواطن النفس ثمَّ التأمل وسيلتان شائعتان في هذا الميدان. ومع ذلك فإنَّهما غير كافيتين بحد ذاتهما. لا ضير في التفكّر والتأمّل. وفي حقيقة الأمر يخبرنا الجمال المبارك: “فارجع البصر إليك لتجدني فيك قائمًا قادرًا مقتدرًا قيّومًا”([17]). والمشكلة هنا في أنَّ التأمّل غير المدعوم بالتأييد الإلٰهي قد يقود صاحبه إلى طبيعته الدنيا بنفس السهولة التي قد يقوده فيها إلى طبيعته العليا أو إلى حقيقة النفس العليا. فاللجوء إلى البيانات المباركة، والدعاء والمشورة خير رفيق في التأمل، إذ تعيْن الفرد على تكوين بصيرة أكثر اتزانًا وأفضل توجّهًا.
عادة ما يكون هناك فارق بين: كيف يرى الإنسان نفسه وما يبطن من إيمان، وكيف يتصرّف فعلاً. فالسلوك الذي يأخذ طابعًا معيّنًا يكون متأثّرًا بمؤثرات كبيرة عديدة بما فيها تداخل وتفاعل عناصر النفس المتعدّدة. قد يكون تصرف الإنسان حين يكون لوحده أو بين مجموعة لا تعرفه مختلّفًا عمّا لو كان مع من يعرفهم. فعندما ينفرد بنفسه قد يعتبر سلوكه مقياسًا عادلاً لحسن تصرفه أمام الصراع القائم بين نفسه الدنيا ونفسه العليا (الحقيقية). وكذلك الأمر فإنَّ لنا أدوارًا عدَّة في الحياة ويختلف سلوكنا فيها تبعًا لذلك. فننتقل من دور إلى آخر تجاوّبًا مع الظروف. وعندما ننشغل بعمل ما فإنَّ ما نعمله وكيفية قيامنا به أمر يتوقف على من يكون معنا وتصوّرنا للدور المتوقّع منّا. فدور الأب أو الأم يختلف عن دور الطفل، والذي بدوره يختلف عن دور أحد الزوجين. ونحن نتوقّع أنماطًا من السلوك مختلفة مع الأعداء أو الأحباء، بين الأقران أو الغرباء، مع الجيران أو الأصدقاء في المجتمع أو المدرسة أو أماكن التسلية، مع الزملاء ومدراء التوظيف أو المشرفين والموظفين أو المرؤوسين. فلدينا إزاء كل واحد من هذه المواقف مشاعرنا وسلوكنا المختلف.
غالبًا ما نبذل جهدًا مضنيًا في تكوين مفهومنا الخاص عن الأدوار التي نضطّلع بها مستخدمين في ذلك أحيانًا قدرًا هائلاً من الطاقة والأحاسيس النفسيّة. وهذا ما يفسّر لنا كيف أنَّ أحداثًا ذُكرت سابقًا مثل: وفاة عزيز أو حدوث طلاق أو الفصل من العمل أو غيره من الأمور التي ترفضها النفس، قد تكون مدمّرة لأنَّ دورًا مألوفًا قد محي من حياتنا، وهي خسارة بحدِّ ذاتها. وقد يتأثر أيضًا الشخص في صميم كرامته الشخصيّة اعتمادًا على مقدار شدّة تفاعله مع ذلك الدور. ومن الضروري أخذ فترة من الحزن حتى تساعدنا على محو آثار الخسارة الحاصلة، ذلك لأنَّ جزءًا من النفس –تحت اعتبار ما- قد تلاشى. وقد تنشأ لدى الشخص مشاكل عاطفية كبيرة إذا ما شعر بعدم الارتياح للدور الذي يحاول تأديته.
فالأدوار التي نؤديها تحدد شكل سلوكنا في نواحٍ عدّة. فمثلاً: عندما يصبح الناس بهائيين فإنَّهم ينظرون إلى أنفسهم عمومًا بطريقة مختلفة، ويأخذون بتغيير سلوكهم تبعًا للدور الجديد الذي اضطلعوا به. ولنأخذ مثالاً على ذلك: لقد حرَّم حضرة بهاء الله شرب الكحول، وقد يؤدي المنطق في الإنسان أنْ يقول: “البهائيون لا يشربون الكحول، وأنا بهائي، إذن لن أتعاطاها بعد اليوم”.
يستطيع الناس أنْ يستجمعوا قوًة وشجاعة هائلة لحماية نظرتهم لذاتهم، وصون الدور الذي يقومون به. فقد تحمَّل شهداء الأمر، كبهائيين، صنوف العذاب بشكل لا يصدق وواجهوا الموت وفضّلوه على إنكار دينهم. فجزء من هذا الدور نابع من إيمانهم الراسخ العميق المنعكس في نظرتهم لأنفسهم كأتباع الجمال المبارك.
* * *
وفي المشورة، يتأثَّر سلوك الفرد بمجرد وجود أعضاء آخرين للتشاور معًا. فليس فقط ما يُقال هو المؤثّر على سلوك الفرد في قيامه بدوره بل إنَّ حضور كل شخص بحدِّ ذاته له تأثيره أيضًا. وهذا أحد الأسباب الذي يفسّر أفضلية حضور كامل الأعضاء التسعة إلى اجتماع المحفل الروحاني.
المشورة في أفضل حالاتها تكون مزيجًا من النفوس الحقيقية وخليطًا من الفضائل الروحانيّة. وفي أسوأ حالاتها تنحدر إلى تصادم النفوس الدنيا وتضارب نزعات الغرور والأنا. وعندما تكون المداولات في مستواها العالي، يغدو المجمع الروحاني الذي صوَّره لنا حضرة عبد البهاء حقيقة واقعة.
وإذا ما أخذنا الصورة المثاليَّة، فإنَّه يتحتم على كل فرد أنْ يباشر المشورة تاركًا وراءه مشاكله الخاصّة. إلاّ أنَّ ذلك لا يحصل دائمًا. فالأنا جاهزة لأنْ تنقضَّ في أيّة فرصة تتاح لها. فمثلاً قد يكون العيب الرئيس في سلوك شخص ما نزوعه إلى الغضب بسهولة. إلاَّ أنَّ باستطاعته التغلّب على هذا النقص بمثابرته على جهوده في التركيز على دوره كبهائي وعلى حضرة بهاء الله. ومع كلِّ ذلك فإنَّ هذا العيب النابع من النفس الدنيا قد يبقى ساكنًا فقط دون استئصال، فإذا ما انحدرت المشورة إلى تصادم جوانب الأنا، فإنَّ ذلك النقص القديم سينشط بسرعة ليعود للعمل والتأثير، وستضطر الروح أنْ تكافح بقايا هذه الطبيعة الدنيا مرَّة أخرى. وإذا ما استمرت المشورة في الانحدار ستتكرر لدى الفرد عوامل تآكل جهوده في الصعود إلى الطبيعة العليا. وفي هذه الحالة يغدو البهائيون امتحانًا بارزًا لا ضرورة له لبعضهم البعض، وغضب أحدهم سيحفِّز الآخرين على الغضب فتتصاعد بالتالي وتيرة الجدال والنزاع.
من الجائز جدًا أنْ يكون هذا وراء تشديد مركز العهد والميثاق على وجود مراعاة الفرائض السبعة والشرطين الاثنين قبل إجراء المشورة، وضرورة إتباع الإجراءات الخمسة أثناءها (أنظر الفصل الثاني). إذ هي وسائل تساعد كل فرد في الحفاظ على الرؤية والتوجّه السليمين. فإذا ما أُهملت هذه القواعد برزت نزعات الأنا وحقّ التدهور والانحدار، ويغدو المتشاورون عندها صرعى مشورة في أدنى مستوياتها.
ومن المهم أنْ نتذكر أنَّ طاولة الاجتماع تضم مجموعة من النفوس لها أدوارها العديدة المتداخلة، وتشهد أمزجة وحالات نفسيَّة ومشاكل شخصيَّة وأوضاع جسمانيَّة متغيِّرة على الدوام. وفي حقيقة الأمر فإنَّ جميع مقوِّمات التفاعلات والتداخلات الشخصيِّة المعقَّدة والمحيّرة بدرجة يصعب تصديقها تكون ماثلة في الاجتماع. فلا عجب إذن إذا غارت المشورة في هوّة سحيقة أحيانًا. بل كل العجب أنْ نرى أمامنا مجمعًا روحانيًا في خضّم هذه المتاهات من النقائص والنزعات الشخصيَّة.
ولا يمكن أنْ نحقق مجمعًا روحانيًّا إلاَّ بأنْ ينغمس كياننا دومًا بالميثاق ونستلهم الخُطى من التعاليم المباركة وبالدعاء، وإلاّ سَهُل الانزلاق في مستنقع الشخصيات وتخبّط الجميع في الأمور الشخصية لبعضهم البعض.
فالمشورة، كمجمع روحاني، توفّر لنا حقًّا فائدة ثلاثية الجوانب: أوَّلها عندما تسيطر الطبائع العليا للمتشاورين فإنَّ ذلك يمثِّل ضمانًا لتوضيح المسائل التي تواجه الجنس البشري، فتدرس أمور الساعة تحت أضوائها الكاشفة المنيرة ممّا يسمح بتدفّق هائل للبركات السماوية التي ستؤسس ملكوت الله على الأرض خطوة بخطوة.
وثانيها فإنَّ المشورة في المجمع الروحاني تقدّم المساعدة اللازمة للفرد في صراعه الذي لا ينتهي بين طبيعته العليا والدنيا، وتشكّل هذه المساعدة عاملاً هامًّا للإنسان في البحث الذي يستغرق سنيّ حياته في معرفة الله وعبادته. ذلك لأنَّ المشورة تساعده في التعرّف على حقيقة ذاته.
وثالثها فإنَّ المشورة تفتح الباب أمام العلاقات الشخصية لكي تنجذب نحو مملكة الطبيعة العليا إذا ما راعينا الاحساسات الروحانية، وهو توجّه يحمي الإنسان في الوقت نفسه من الوقوع في حبائل الطباع الدنيا، وعندها لن تتصارع النفوس ولن تقتات على مشاكل غيرها ونقائصهم والذي يهوي بهم بكل سهولة إلى وهدة الاضطراب النفسي. فالمجمع الروحاني هو اللحن الرائع للتنوّع الإنساني في ذروة تناغمه.
يبدو أنَّ هناك قانونًا للطبيعة عظيمًا يقضي بالحفاظ على توازن الأشياء. فإذا ما حدث خلل في اتزان شيء ما تكفّلت الطبيعة بتصحيحه. إنَّه أمر حقيقي في الطبيعة الجسمانية وغيرها. فالحيوان مثلاً يبحث عن الطعام عند إحساسه بالجوع. فإذا كان إحساسه هذا بسيطًا كان جهده المبذول ضئيلاً. ويتعاظم الجهد بتعاظم الإحساس بالجوع إلى أنْ يُصبح هائلاً مع قرصات الجوع الحادّة.
ويندرج هذا المبدأ على شروط الحفاظ على الاستقرار الداخلي الطبيعي. فعندما يبرد الجو تتغير الدورة الدموية ويبدأ الفراء الذي يكسو جسم الحيوانات بنموٍّ أكثف، أمَّا الإنسان فينتقل إلى بيت مُدفّأ طلبًا للدفء. فالناس لهم متطلّبات لا عدّ لها من احتياجات ورغبات ودوافع ومشتهيات جسمانيّة وعاطفيّة وروحيّة.
لكلّ إنسان احتياجاته الماديّة الأساسيّة التي لا بدّ من إشباعها، وعليه لا يمكن تجاهلها. ومهما حُقق من أمور أخرى فإنَّه يبقى خاضعًا لهذه الاحتياجات. وفي سبيل تفهّم هذه الاحتياجات أجريت الأبحاث الواسعة والتفكير العميق، إلاَّ أنَّ التنقيب عن هذه المسائل الرائعة موضوع بعيد عن مجال بحثنا هذا. ويبدو عمومًا أنَّ الاحتياجات الجسمانية هي التي تستولي على مشاعر الإنسان بقوَّة أكبر. وبالمقارنة تبدو الاحتياجات العاطفيّة أكثر تعقيدًا ودقّة وغالبًا ما تصعب ملاحظتها. أمّا الاحتياجات الروحانيّة فإنَّها تتطلب قدرًا أكبر من الحساسية حتى نتمكن من ملاحظتها.
من بين الكمّ الكبير من الاحتياجات العاطفيّة للإنسان تلوح حاجته إلى: الحب، والاطمئنان والتقدير. فكل تجربة في الحياة تصيب وتؤثر على هذه الاحتياجات والتي بدورها تؤثّر على تجاربه المستقبليّة. ويختلف مدى تجاوب الإنسان مع كل واحدة من احتياجاته باختلاف عمق تجربته إلى حد بعيد. فمثلاً؛ إنَّ الشخص المتعطّش للحب والعاطفة قد يبذل جهدًا كبيرًا ليعوّض عن هذا النقص في هذه الخصال.
وعلى العموم، كلّما ازداد ارتباط الإنسان بشيء ما، كلّما ازدادت رغبته في اتخاذ إجراء معين نحو ذلك الشيء. كما أنَّه كلَّما ازداد لديه عمق التجربة السابقة ازداد شغفه نحو العمل. فمثلاً لو طرح موضوع يتعلق بقوانين السلامة في الملعب، فالإنسان العادي البالغ المسؤول سيهتم بذلك، أمَّا من كان لديه طفل سيلعب في الملعب فسيعير الموضوع اهتمامًا أكبر. وإذا كان الشخص البالغ سبق وأنْ شاهد طفلاً أصيب إصابة بالغة في الملعب، فسيكون اهتمامه أشد وأقوى. وآخر لو أصيب طفله بعجز أو قتل بأحد معدّات اللعب، فمن المحتمل أنْ يكون اهتمامه عظيمًا جدًّا وقد تصاحبه انفعالات عاطفية كثيرة.
علينا أنْ نقرّ في المشورة بأنَّ الاحتياجات والارتباطات العاطفية هي أمر حقيقي وواقعي. وتختلف من شخص لآخر ومن وقت لآخر ومن حالة لأخرى. ولا يمكن للمشورة الفعّالة أنْ تأخذ مجراها لو أنَّ شخصًا عمل على تسفيه أو تصغير أو إعطاء تفسير خاطئ لموضوع يعتبر مهمًا جدًا لشخص آخر. فالآمال والأحلام والطموحات تخلق لدى الإنسان رغبات تكون هامة جدًا لمن يمتلكها ويسعى جاهدًا إلى تحقيقها. كما أنَّ قدرًا أكبر بكثير من الجهد سيبذله الإنسان في مشروع ما عندما يصبح هذا المشروع حلمه وأمله. فالمشورة تفسح المجال أمام شيء ما ليصبح هدفًا لشخص ما ليغدو بعد ذلك جزءًا من حاجته.
والأمثلة هنا كثيرة، منها: عندما تنمو الجامعة إلى درجة تحتاج فيها إلى مكان للاجتماع أو مركز للنشاطات، فإنَّ أمورًا مدهشة يمكن أنْ تحدث. ففي البداية يمثّل امتلاك المركز حلمًا، وبالمشورة يغدو حاجة، وإذا أصبح رغبة شديدة لعدد كاف من أفراد الجامعة -بل وهاجسًا لدى بعضهم– فإنَّ فرص أنْ يصبح المركز حقيقة واقعة ستزداد أكثر فأكثر.
وبالمثل، فإنَّ الرغبة الجامحة في رؤية الأمر المبارك يتقدّم من خلال: عقد جلسات التبليغ، والتبليغ الجماعي، وتنظيم صفوف دراسيَّة أفضّل للأطفال …الخ، هي ضرورية لعمل فعَّال نحو تحقيق هذه الأهداف. ففي البداية يجب خلق الشعور بالحاجة أو الرغبة، فإذا كانت من القوَّة بشكل كاف فإنَّ قطف الثمار آتٍ لا محالة.
إنَّ أحد أدق الاحتياجات، ومع ذلك أكثرها أهميَّة، هو ما يتعلّق بالحياة الروحانية. فالتعاليم المباركة تنص على أنَّ الصلاة اليوميَّة وتلاوة الآيات بانتظام أمر حيوي. قد تمر الأيام والأسابيع متجاهلين هذا الموضوع ودون أنْ نلحظ اختلافًا كبيرًا. وعندما يعود المرء إلى الصلاة اليوميَّة وتلاوة الآيات ينتابه انتعاش يهب عليه كنسيم صيفي عليل أو أمواج رقيقة تنقّي الروح. وعندها يستذكر مدى أهميّة هذه الاحتياجات الروحانيَّة. وقد يحتاج الأمر أحيانًا امتحانًا شديدًا أو مصيبة تردُّ الإنسان إلى أداء الصلاة اليوميّة وتلاوة الآيات. فتلك هي جزء من العناية الإلٰهيّة.
من المثير للاهتمام مقابلة الاحتياجات الروحانيّة والمتطلبات الجسمانيّة الأساسيّة بغية إظهار مدى التباين بينها. لقد أمر حضرة بهاء الله أتباعه أنْ يمتنعوا عن الطعام والشراب تسعة عشر يومًا خلال السنة من شروق الشمس حتى غروبها. فبينما هذا الفرض الإلٰهي صعب على بعض الناس، إلاَّ أنَّه يمكن للجميع أداؤه مع شيء من المعاناة لا أكثر. ومع ذلك، ليس هناك تحديد وقت يمكننا فيه من التوقف عن الصلاة، ممّا يدلّ على أنَّ أهمية الصلاة اليوميّة المفروضة في تقوية الحياة الروحانيّة واستقرارها أعظم من أهميّة الطعام المادي للحياة الجسمانيّة.
* * *
وفي جميع مجالات الاحتياجات هذه –الجسمانيّة والعاطفيّة والروحانيّة- هناك حدّ معيّن يتمّ ضمنه تحمّل الحرمان من الاحتياجات التي لم تلبَّ والصبر عليها. وهو يعمل عمل منظّم الحرارة. فعندما نشعر بجوع أو برد أو تنتابنا موجة غضب أو إحباط بدرجة تتجاوز ذلك الحد نتوجّه إلى فعل شيء ما يعيد إلينا التوازن.
ليس لاثنين احتياجات مماثلة، ولا نفس الطاقة من التحمّل (ومنها تحمّل المشورة) يشعران معها بالراحة. وأثناء المشورة تبرز لدى المتشاورين احتياجات مختلفة يجب تلبيتها. ومن الناحية الجسمانيّة قد يعني ذلك أخذ قسط من الراحة الدوريّة والاهتمام بالمتطلبات الفرديّة الخاصّة.
وتعتبر الاحتياجات العاطفيّة والروحانيّة المختلفة لدى الناس أساسيّة للوصول إلى مشورة ناجحة. ويمكن تشبيه الحساسية تجاه الأمور المختلفة بالمجس الذي يبحث عن المواضيع الجديرة بالبحث. فمثلاً قد يشعر شخص بالحاجة إلى رفع مستوى صفوف الأطفال نتيجة إحباطه بسبب عدم تلقي طفله تعليمًا بهائيًا مناسبًا. فهذا التحسّس بمثابة هبة للجامعة بأكملها. ففي تلك الرغبة أو الحاجة التي لم تلبَّ لذلك البهائي قد يكمن الدافع اللازم للنظر إلى الموضوع بجديّة أكبر.
عندما تشاء الإرادة الإلٰهية أنْ يرى شخص بقلبه مشكلة ما، فإنَّه إنَّما يحدد بذلك حاجة ما، وبالتالي تقع عليه مسؤولية القيام بعمل ما لتلبية ذلك الحاجة. فهو يعي تلك الحاجة وأفضل السبل لتحقيقها على الأغلب. والأهم من ذلك، فإنَّ اهتمامه وحماسه سيكونان عاليين. وستتراءى بعد ذلك عدَّة طرق لمباشرة العمل: من أفضَّلها بحث المشكلة مع آخرين إذ يمكن توضيحها بالتشاور لأنَّ شخصًا آخر قد يراها بطريقة مختلفة، وبذلك يمكن الوصول إلى فهم أفضّل لها ورسم خطّة للعمل (أو قد لا يحتاج الأمر لخطّة عمل). فالمشورة هي تلك الأداة التي بها يمكن التعامل بفاعليّة مع حاجة يدركها الفرد تحقيقًا لمنفعة الجامعة بأكملها.
والمشورة أيضًا هي الطريق الأمثل لمعرفة مدى تلبية الاحتياجات الروحانيَّة للجامعة. فهل هناك أسلوب تعمقيّ فعّال ينجذب إليه الأحباء؟ هل يبدو الدعاء جزءًا مألوفًا في حياة كل فرد من الجامعة؟ ماذا يجب فعله ضمن الجامعة لتلبية الحاجات الروحانيّة لكل قلب فيها، الظاهرة منها والباطنة؟ هل هناك رغبة طبيعية لدى الجميع في مشاركة رسالة حضرة بهاء الله مع الغير بالتبليغ؟
قيل إنَّ الإنسان هو مجموع طبيعته البيولوجيَّة بالإضافة إلى كل ما يأكله ويتنفسه ويقرؤه ويفكّر به ويختبره من أشياء. كما اتفق على أنَّ التجارب السابقة والأوضاع الحالية هي التي تشكّل الأسلوب الذي يرى فيه الإنسان هذا العالم، وهو ما يدعى ﺒ”الإطار المرجعي”، والذي يمكن تعريفه بأنَّه “مجموعة الآراء والحقائق أو الظروف التي تحيط بشيء ما”. فلا شيء يقوم بمفرده في الحياة. فالأشياء تكتسب معناها فقط من خلال علاقتها وارتباطها بأشياء أخرى، بينما “الإطار المرجعي” لكل إنسان هو الذي يحدّد كيفيّة رؤيته للأشياء.
من المهم أنْ نتذكر أنَّ كلَّ إنسان يميل إلى الاعتقاد بأنَّه يرى الأشياء على حقيقتها، وقد يتغاضى عن شخص آخر يراها مختلفة، إلاَّ أنَّه من المرجّح أنْ يعتقد جازمًا بصواب وجهة نظره وخطأ الأخرى.
ولتوضيح ذلك، تخيلوا أنَّ سوزان وروبرت دخلا غرفة مطليَّة باللون الأبيض، سوزان تضع نظّارة عدساتها صفراء وروبرت عدسات نظّارته حمراء، إلاَّ أنَّ أحدًا منهما لا يعلم أنَّ العدسات ملوَّنة. فسوزان سترى غرفة صفراء بينما روبرت سيرى غرفة حمراء.
ربما تتغاضى سوزان عن وصف روبرت للغرفة على أنَّها حمراء جميلة مع أنَّها تدرك خطأه، لأنَّ الغرفة في حقيقتها صفراء. وطبقًا ﻠ”الإطار المرجعي” لسوزان فإنَّها ستتصرف وفقًا لأيّ من الطرق العديدة المختلفة. فقد تعتقد بأنَّ روبرت قد قال فعلاً بأنَّها “صفراء”، لأنَّ هذا هو ما تراه ومطبوع في عقلها. لذلك عندما قال روبرت “حمراء” فمن المحتمل أنْ تصل إلى مسامعها “صفراء”. أمَّا إذا سمعت سوزان كلمة “حمراء” وكانت تتمتع بطبيعة لطيفة مسالمة فقد تقول: عني روبرت أنْ يقول “صفراء” حتى لو لفظ “حمراء”. أمَّا إذا كانت تميل سوزان إلى المجابهة والاتهام فمن شأنها أنْ تفكّر (أو تقول): “إنَّ روبرت هذا مصاب بعمى الألوان أو يحاول أنْ يخدعني أو أنَّه غبيّ أو كاذب”. ويمكن أنْ يكون الأمر أسوأ إذا كانت سوزان تشعر بالارتياب تجاه روبرت فقد تقول: “لماذا يقول هذا؟ يعلم بأنَّ الغرفة صفراء، هل يحاول غشي وخداعي؟ ما الذي يرمي إليه؟”. وقد تفكَّر سوزان المضطّربة بأنَّ شيئًا ما خطأ فيها. روبرت يقول عنها حمراء وتبدو لي صفراء. فيا عجبي!! لماذا أعتقد بأنَّها صفراء؟ ما الخطأ فيَّ؟
سيكون من الأجدى لسوزان لو فكَّرت أنَّ “روبرت يراها مختلفة عما أراها” وتركت الموضوع عند هذا الحد. وإذا أرادت أنْ تتيقن بدل الموقف السلبي أو بدافع الفضول فقد تفكّر بأنَّ “روبرت يرى الغرفة بصورة مختلفة. أستغرب لماذا. هذا الاختلاف في وجهات النظر مثير للاهتمام وربما يستحق التمحيص”.
إنَّه مثال بسيط ليس بعيدًا عن الواقع. وفي المشورة غالبًا ما يحدث أنَّ أشخاصًا رغم معلوماتهم المتشابهة فإنَّ أُطُر مرجعيتهم المختلفة تقودهم إلى معان مختلفة لها. فالخلفية المشكَّلة والخبرة الحديثة لهما تأثيرهما على أسلوب رؤيتنا للأشياء. فالإشارة إلى السلطة مثلاً قد تثير شعورًا بالكبرياء والأمان لدى بعض الناس بينما قد يشعر آخرون بالازدراء وحتى أنَّ بعضهم قد يتملَّكه الرعب الشديد.
بعض الناس يتأثَّرون بالمعلومات المرئيَّة وآخرون بالسمعيَّة وغيرهم باللون أو الرائحة. ربَّما يكون ﻠ”النفحات الإلٰهيَّة” معنى محددًا وواضحًا لدى البعض بينما عند الآخرين غامضًا وحالمًا. وعندما يقوم شخص بتوضيح أمر ما، فإنَّ الإطار المرجعي لذلك الشخص ينعكس في حديثه.
إنَّ هذا التفاوت في الإدراك بين الناس حقيقة واقعة يجب أخذها بالحسبان في قبول وجهات النظر المختلفة بالكليَّة بين الأفراد تجاه معلومة واحدة. فالأُطُر المرجعيَّة المتباينة هي المسبّب للشعور بالإحباط الذي ينشأ من محاولتنا فهم الثقافات والتقاليد المختلفة القائمة، إذ هي، على سبيل المثال، تحدٍ أساسي في الزواج المختلط.
ومن بين عدّة أمور، قد نفتقر إلى إدراك سبب أهمية البعض منها؛ فما يعتبر تفصيلاً عرضيًّا لشخص ما قد يكون مهمًّا جدًا لآخر. ومن الممكن أنْ يكون تعليل أهميّة شيء ما غير كافٍ، فبالرغم من إمكانية توضيح بعض الحقائق إلاَّ أنَّه قد يكون من الصعب جدًا الوقوف على مدى أهميتها.
مثل هذه المفارقات تحدث في كل مناحي الحياة، وكثير منها على درجة من الدقّة بحيث لا يعيها المتشاورون على أنَّها مصدر للإحباط. فتعدّد اللغات المستعملة يخلق مجالاً واضحًا لسوء الفهم. وهناك العديد من الأمثلة المتنوِّعة الأخرى.
إنَّ الحب الذي يُكنّه الفرد لعائلته هو عاطفة قويَّة وعموميَّة. إلاَّ أنَّ الدور الذي يُتوقع أنْ يقوم به ضمن عائلته يختلف تبعًا للثقافة والعادات وفي نواحي غاية في الدقّة. كما أنَّ هناك مواقف مختلفة تجاه كبار السن، إذ تعاملهم بعض التقاليد باحترام كبير ويُؤخذ برأيهم بكل إكرام وإعزاز، بينما غالبًا ما تعتبر نصيحتهم في أماكن أخرى لا جدوى منها.
أمَّا مفهوم اللطافة والمجاملة فهو على قدر كبير من التباين. فبينما يعتبر الاتصال بالعيون عند البعض أثناء التحدث علامة الصدق والإخلاص، يعتبر عند آخرين تعبيرًا عن الغضب والاحتقار. وبعض المجموعات من الناس لا تحبّذ تلامس الأجسام بينما يجده آخرون مظهرًا من مظاهر الاهتمام. وفي بعض التقاليد فإنَّ من حق أشرف القوم أنْ يكون أوَّل المتحدثين، بينما في تقاليد أخرى تتطلب الكياسة أنْ يكون آخرهم. وأخيرًا وليس آخرًا، فإنَّ من أكثر الاختلافات في التقاليد مدعاة للحيرة هو التباين في الأحاسيس بالفكاهة وألوان الدعابة القائمة بين الناس. فهي من أكثر السمات تحببًّا للنفس، ولكنّها أكثرها صعوبة في مشاركة الآخرين بها.
فالحل يدعونا أنْ نتقبّل ونثّمن ونحترم إطار المرجعيّة للآخرين. إنَّ اختلاف الرؤية لا تعني الفوقيّة أو الدونيّة، بل تعني شيئًا واحدًا هو أنَّ الناس يرون الأشياء بطرق مختلفة.
لكل ذلك دلالاته وتأثيره الكبير على المشورة. فيدخل كلّ واحد إلى مكان المشورة واضعًا نظّارته الملوّنة أو مصابًا بعمى الألوان، أي بوجهة نظره الخاصة. فتظهر مشاكل لا حصر لها لا بدّ من حلّها. وكلَّما كثرت الاختلافات بين أطر المرجعية المختلفة ازدادت الصعوبات في طريق إيجاد الحلول.
يمكننا القول بأنَّ كلّ مسألة تطرح على بساط المشورة، يمكن بل وسوف ينظر إليها من زوايا تبدو متضاربة. بعض هذه الاختلافات بسيطة وليست بتلك الأهميّة في حقيقة الأمر، وبعضها الآخر في غاية الأهميّة. قد يمثّل بعضها وجهات نظر مطلقة لدى الطرفين كما حدث مع سوزان وروبرت. هل الغرفة حمراء أم صفراء؟ إذ لا يمكن أنْ تكون باللونين معًا. فبعض الاختلافات التي لا تجد حلاً قد تخلق مشاعر العداء الشديد والتنافر إذا ما اعتبرت بأنَّها مُهمَّة.
إنَّ مبدأ المشورة الذي جاء به حضرة بهاء الله قادر على حل هذه الإشكالات. إنَّه الحل الذي يأخذ طريقه عندما “يتوجَّهون إلى الملكوت الإلٰهي ويسألون العون من الأفق الأبهى”. وعندها يمكن لكلِّ واحد أنْ يتحرر من قيود إطار مرجعيته إذا ما ركَّز اهتمامه بالأمور الروحانيّة.
إنَّ مقياسًا معروفًا ومقبولاً كذلك الذي ورد في الآثار البهائية يمكن أنْ يضع كلُّ شيء في المنظور السليم. فعندما نعالج أمورًا تختص بذوق الفرد وما يفضّله شخصيًا، فمن الأفضل أنْ نحاول بكل بساطة الإقرار بقيمة وجهات النظر الأخرى.
ففي الأوساط الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والسياسيَّة التي تحيط بنا يتناولون معالجة مثل هذه التناقضات والاختلافات بأسلوب آخر يتَّجه نحو إيجاد حلول وسطية لتلك الاختلافات تستطيع الأطراف المعنيَّة التعايش معها، وغالبًا ما يتّم التكيّف مع هذه الحلول لا شعوريًّا. إنَّ أسلوب المشورة البهائيَّة يدعو إلى تجنّب مواطن الاختلاف إلى هدف أسمى. وبها نفوز برؤية أفضّل، وغالبًا ما تكون طبيعة الاختلافات ليست بتلك الأهميَّة التي تبعث على القلق.
إنَّ تباين الأطر المرجعيَّة يُثري النقاش في المشورة الحقَّة لأنَّه يمنح الجميع رؤية أوسع للأمور، كما أنَّه يساعد على حياكة نسيج اجتماعي عالي الجودة. إنَّ أفضَّل ما يأمله المتشاورون في الأوساط غير البهائية حل توافقي بين الآراء الثابتة سيترك كل واحد بمشاعر من خيبة الأمل. بينما يحظى البهائيون بنتيجة أوفر حظًّا لأنَّ المساهمات المختلفة توسّع مجال رؤية كل فرد.
هناك مشكلة من نوع آخر تشكّل جانبًا من صعوبة الاتصال تتعلق بالمصداقية، أي الثقة التي يوليها شخص بما يقوله آخر.
إنَّ التباين الذي يحصل في إدراكنا لأمرٍ ما راجع لتفسيراتنا المختلفة تبعًا لنظرتنا وفهمنا للمعلومات. والمسائل المتعلِّقة بالمصداقيَّة تثير الشك والارتياب بالدوافع والنوايا، فهي تُفقد الإنسان ثقته بالشخص نفسه وليس فقط في فهمه للوضع.
من الطبيعي أنْ يعتقد المرء بأنَّ الأمور هي حقًا كما يراها ويدركها. فإذا اختلفت وجهة نظر شخص ما مع آخر اختلافًا كبيرًا، فهناك خطر أنْ يصبح اختلاف الآراء هذا أزمة مصداقيّة. وفي سبيل التوضيح دعونا نرجع إلى موقف سوزان (التي تضع نظّارات صفراء) وروبرت (الذي يضع نظّارات حمراء).
فسوزان تقول: “إنَّه جدار أصفر جميل”، وروبرت يجيب: “نعم إنَّه جدار جميل، إلاّ أنَّه أحمر”. ومع ابتسامات السرور التي يتبادلانها، فإنَّ كلاً منهما يصر على صواب رؤيته. أمَّا إذا أصبحت المصداقيَّة مهدَّدة، فقد يقترب كل منهما من الحائط ليراه عن قرب. فسوزان ستصبح أكثر قناعة بأنَّ الغرفة صفراء، وروبرت سيصبح أكثر قناعة بأنَّها حمراء. والخطوَّة التالية قد تكون أخذ عينات من الدهان ووضعها تحت المجهر ممّا سيسهم فقط في تعزيز قناعة كل منهما. وبغضّ النظر عن مدى الودّ الذي كانا يتمتعان به في البداية، فهناك فرصة مؤاتية في تلك الحالة أنْ تبدأ بعض الشكوك لدى كل منهما تجاه الآخر.
وقد لا تقف المشكلة عند هذا الحد. ففي المرة الثانية، إذا اقترح روبرت مشروعًا تبليغيًّا قد تعارض سوزان الفكرة على أنَّها طُرحت دون شعور بالمسؤوليَّة مع إصرارها على أنَّه ليس لها أي مأرب شخصي فهي تكّن لروبرت كلَّ الحب. فالحقيقة هنا أنَّ سوزان أصبحت لا تثق بصحّة رأي روبرت. وانتقلت عدوى عدم الثقة هذه إلى كافَّة المجالات. وإذا ما سمح للأمر أنْ يتفاقم فإنَّ بإمكانه أنْ يصدِّع ثقة بعضهم ببعض ممَّا يفضي إلى بروز نزاع مرير. وقد يُفرز اتهامات بالتمييز الجنسي (ذكر أو أنثى)، وإذا كان المتشاورون من أعراق مختلفة، فإنَّ الفرصة تكون مهيأة لبروز تعصَّب عرقي مقيت.
والمشكلة يمكن أنْ تجد طريقها إلى الحل إذا ما قامت جين بنظّارتها الصافيّة ورأت أنَّ سوزان وروبرت يلبسان نظّارة ملوّنة. فباستطاعة جين أنَّ تشير إلى المشكلة وتوضّح لهما سبب رؤيتهما لها بهذا الشكل. ولسوء الحظ فإنَّ جين لا تظهر دائمًا. وحتى وإنَّ ظهرت سيقف بعض أمثال سوزان وروبرت موقفًا غير ودّي ولطيف من تدخّلها. “عليها فقط أنْ تعتني بشؤونها الخاصة”. فدور صانع السلام ليس دائمًا مقبولاً.
كيف السبيل إلى حماية الاختلاف في وجهات النظر من أنْ يصبح أزمة مصداقيَّة؟ هناك عدَّة طرق، وإليكم بعض الاقتراحات:
فالتباين في وجهات النظر قائم موجود. وهو جانب من جوانب الروعة والجمال والتنوّع في عائلة الجنس البشري. كما أنَّه ضروري أيضًا لمشورة فاعلة مؤثّرة. فمن هذه الاختلافات تصطدم الأفكار لتنطّلق بارقة الحقيقة. وعندما تصبح الاختلافات أزمة مصداقيَّة تتبدل طبيعة المشورة. فتتغلب المشاعر، وتضيع شرارة الأفكار الصافيّة النقيَّة القويَّة التي ستطلق بارقة الحقيقة. وبدلاً من تصادم الآراء، فإنَّ قوى “الشخصيَّة الذاتيَّة” و”الأنا” تشمّر عن ساعد النزال والصراع، فلا ترى سوى النار بدل النور وتنحط المشورة إلى صدام بين أصحاب “الأنا”. ولهذا السبب يجب بذل كل جهد مستطاع لإبقاء الاختلافات في الرأي والمفاهيم في منأى عن الأزمة في المصداقيَّة.
[1](1) “من مفاوضات عبد البهاء”، صفحة 152.
[2](1) “من مفاوضات عبد البهاء”.
[3](2) المصدر السابق.
[4](3) المصدر السابق، صفحة 133.
[5](4) Paris Talks, p. 17.
[6](5) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، الصفحتان 134- 135.
[7](1) Paris Talks, p. 60.
[8](1) The Promulgation of Universal Peace, p. 294.
[9](2) “مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله”، صفحة 16.
[10](3) “الحياة البهائية”، الصفحتان 60-61.
[11](1) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 107.
[12](1) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 210.
[13](2) المصدر السابق، صفحة 118.
(3) المصدر السابق، صفحة 53.
[15](1) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 52.
[16](1) “كتاب الإيقان”، (الطبعة الثالثة) صفحة 154.
[17](1) “الكلمات المكنونة” العربية، رقم 13.
في ثنائه الرفيع على موهبة الإدراك يتفضَّل حضرة بهاء الله بقوله:
“للنعمة مراتب لا نهاية لها كانت كذلك وستبقى في كتاب ربِّك وربِّ العالمين. وأوَّل نعمة وهبها الله للعالم الإنساني نعمة الإدراك، والمقصود بها عرفان الحق جلَّ جلاله. فهي المدركة وهي الهاديَّة وهي المبيِّنة”([1]).
ثمَّ يسترسل في بيانه المبارك عن حاسّة البصر واصفًا إيّاها بأنَّها في مرتبة أدنى، ثمَّ يأتي إلى باقي الحواس.
إنَّ الحقيقة وراء منح جمال القدم نعمة الإدراك ذلك المقام الرفيع توحي لنا بأمور كثيرة أوَّلها: أنَّ ما يمكن أنْ يكون القوَّة “المدركة” (التي تدرك حقائق الأشياء) و”الهاديَّة” (التي تقود إلى الصواب) و”المبيِّنة” (التي تكشف أسرار الخلق)، لا بد وأنْ تكون غاية في العمق وتتعدى مجرد المعرفة أو تراكم المعلومات. والإدراك معناه لغويًّا أنْ تحصل على فكرة واضحة أو كاملة، وأنْ تكون محيطًا بها إحاطة تامّة. ويعني أيضًّا فهم معنى شيء ما ومعرفة طبيعته وأهميته أو تفسيره. هذه النعمة التي هي في المرتبة الأولى، “نعمة الإدراك”، تحمل في طيّاتها دمج المعلومات وترتيبها، وتصنيف الحقائق المختلفة في مستوياتها من حيث الأهميّة، ومعرفة ما تنطوي عليه تلك المعلومات والإحاطة بما يمكن للتفاصيل المختلفة أنْ تؤثر على بعضها البعض.
الإدراك الحقيقي بمعناه الكامل قد لا يكون شائعًا كما يعتقد، وليس بمقدور الكائن البشري الوصول إلى إدراك تام لأي شيء. فالإنسان محدود ﺒ: المعلومات المتوفّرة لديه وبتجاربه السابقة، وخبراته وتراثه الثقافي أو الاجتماعي، وحالته الصحيّة، ومدى اهتماماته وطاقاته وقدرته على الإدراك. ولقد أشار حضرة الباب إلى هذا التقييد والقصور الأساسي بقوله: “لا العقل أو البصر مهما كان حصيفًا وحادًّا قادر على إدراك طبيعة أدنى آية من آياتك”([2]).
إلاَّ أنَّ هناك أنواعًا مختلفة من الإدراك في درجات متفاوّتة من الكمال. وما يشعر المرء أنَّه على “علم به” قد يكون صحيحًا إذا قسناه فقط بمستوى محدّد من الإدراك الجزئي، وقد لا يكون كافيًّا لشيء أعظم نهدف إليه. والمهم في الأمر هنا: هل إدراك الشخص لأمر ما كاف لتلبية متطلباته أم لا؟ وعلى سبيل المثال: لكل من الطفل والشاب وفنّي الكهرباء والمهندس الكهربائي قدرات مختلفة لفهمهم الكهرباء. كيف تعمل، وكيف تستخدم. وقد يمتلك أحدهم معرفة نظريّة كبيرة، وآخر خبرة ومهارة عمليّة والثالث مجرد معرفة بسيطة بينما الطفل قد لا يعرف شيئًا عن طبيعة الكهرباء. فبالرغم من تلك المفارقات، فإنَّ لكل منهم مجالات محدّدة يستطيع فيها إثبات كفاءته، وأمامه الكثير أيضًا ممَّا يفوق إدراكه.
ومِنْ يُمْن الطالع أنَّ المعرفة الكاملة غير ضروريَّة. فكل واحد من الأربعة السابقين في مثالنا يمكنه الاستفادة ممّا لديه من معلومات محدودة. فالطفل بإمكانه أنْ يعرف أنَّه متى ضغط على مفتاح الإنارة سيضيء المصباح، ولا يحتاج في واقع الأمر إلى فهم أعمق ليتدبّر أمره كطفل، إلاَّ أنَّ الخطر يكمن في محاولة تجاوز حدود المقدرة عند العمل. فإذا وجد الطفل أنَّ مفتاح الإنارة لا يعمل وحاول إصلاحه فإنَّه سيؤذي نفسه لأنَّ ذلك يفوق إدراكه.
معظم الناس في حاجة إلى الشعور بأنَّهم يدركون ما يجري حولهم. وغالبًا ما تنتاب المرء مشاعر من الإحباط والاضطّراب والهياج المتزايد والضغط النفسي عندما لا يفهم أمرًا ما ولا يدركه. فمثلاً لو سمع صوتًا عاليًّا هزّ أركان المنزل لانزعج جدًا إذا لم يعرف مصدره وحقيقته، بينما ذهابه للنافذة ليكتشف أنَّ شاحنة كبيرة بالجوار قد أفرغت حمولتها على الأرض سيجعله يدرك ما حدث، الأمر الذي يمكّنه من الاسترخاء والتفكير بأمور أخرى.
يتفاوت الناس في قدراتهم على تحمّل ما لا يدركونه. فمنهم من يصدر أحكامًا فوريًّة أو يقفز إلى الاستنتاجات. ومنهم من لا يضيره الانتظار حتى تنجلي الأمور.
إنَّ الشعور بالإدراك قد يكون دليلاً على فهم حقيقي وقد لا يكون، ومع ذلك فإنَّنا في حاجة ماسّة إلى مثل هذا الشعور. ولعلَّ أحد أسباب ذلك ارتباطه وثيقًا باحتياجات الناس الأخرى والتي تعتبر ثلاثة منها في غاية الأهميّة للمشورة وهي: إحساس بالانضباط، شعور بوجود آذان صاغيّة، وشعور بتلقّي الشرح والتوضيح.
إذا كان المرء على علم بما يدور حوله أمكنه أنْ يعرف كيف يضبط نفسه ويتصرف في موقف معيّن. فعلمه به ضروري لانضباطه، وهذا بدوره يهبه راحة نفسية. ويمكن القول عمومًا أنَّ الإنسان كلَّما قلَّت ثقته بنفسه كلما زادت حاجته إلى الإسراع في استجلاء الأمور فيستعيد بعض انضباطه. وهذا ما يحفّز الناس على القفز نحو الاستنتاجات، فيتولّد لديهم إثر ذلك شعور بالإدراك رغم أنَّ هذا الإدراك قد يفتقر إلى الدقّة أو يتّسم بالتسرّع أو النقص، وهذا ما يعمل على تعقيد عمليَّة المشورة في نهاية الأمر.
إنَّ الإحساس بحصول الاتصال عامل هام في عمليَّة التقبّل والإدراك. ففي المشورة يمكن للمرء أنْ يتقبّل قرارًا ليس في صالحه إذا ما شعر أنَّه لاقى أذنًا صاغية في طرحه لرأيه. فالناس إذا لم يعطوا فرصة الاستماع إليهم قد لا يدركون أبدًا مغزى اتخاذ قرار معيّن، وبالتالي قد يتساءلون. إنَّ الحاجة لوجود أذن صاغية غالبًا ما تكون أكثر أهميّة من المعلومات المقدّمة، وعدم مراعاة ذلك يثير المشاكل.
وممّا له ارتباط وثيق بما مرّ ذكره ذلك الشعور بالحصول على إيضاح. إنَّ قرارًا معززًّا بالأسباب سيلقى عند الناس استعدادًا أكبر لقبوله. ومع أنَّ المحفل الروحاني غير مجبر إداريًّا على تبرير قراراته أمام أفراد جاليته، إلاَّ أنَّه من الحكمة إشراكهم بأكبر قدر ممكن من المعلومات. وإلاّ، سينتابهم شعور بالعزلة وعدم الاهتمام بقضاياهم أو حتى بالتعالي. إنَّ أسلوبًا يوضّح أسباب اتخاذ القرارات سيبني الثقة ويجعل من السهل تقبّل قرار ما عندما يكون من غير الممكن إعطاء توضيح له. عندها سيقول المرء في نفسه: “أعرف أنَّ لديهم الأسباب الوجيهة لذلك”. أمَّا إذا كان هناك حجب للمعلومات ستنقلب الصورة ليتساءل المرء: “والآن، إلى ماذا يسعون؟”.
ما الذي يجعل المرء يشعر أنَّه يدرك شيئًا؟ إنَّ الشعور نفسه يتطوّر بعدّة طرق، من بينها شعور بالارتياح لما يعرفه. فعندما تبدو المعلومات أمامه منسجمة متّفقة مع المنطق يتولّد بداخله ذلك الشعور.
إنَّه شعور بالإدراك يمدّنا بالبركات مباشرة، وهو بحق موهبة تتفرد بانبعاث أعظم الأحاسيس لدينا وهي “نشوة الاكتشاف”. ولا بدّ من توفّر مستوى معين من الإدراك حتى نستطيع أنْ نقدّر عجائب الطبيعة والعلم والموسيقى والفن والثقافات الأخرى وروح الفكاهة والأدب وغيرها. هذا هو الإحساس الذي يهبك هدوء الأعصاب ويوفّر لك الراحة والتئام جراح النفس. إنَّه الشعور الذي يمكّنك من التعامل مع قضية ما ثمَّ وضعها جانبًا دون الانزعاج بها ثانية. كما أنَّ الحل لإشكال صعب غالبًا ما تتوضّح معالمه عندما تشعر بأنَّك متفهّم للحالة. إنَّ العزم والتصميم وأساليب اتخاذ الإجراء المناسب غالبًا ما تصاحب ذلك الشعور بإدراك الحقيقة. وما ثمار ذلك سوى: ثقة متجددة، شعور بالاتجاه السليم ومشاعر الفوز بالانضباط.
وحتى تلك المشكلة التي ليس لها حل مناسب يصبح من الممكن تقبّلها إذا ما توفّر هناك إدراك للهدف ومعرفة بموقع المشكلة من مجريات الأمور. كل هذه الأمور تنبع من شعورنا بالتفهّم والإدراك، مثلها مثل شعورنا المتجدّد بالسعادة، وثقتنا بأنَّ الأمور تسير على ما يرام وأنَّ عجلة الحياة سوف تأخذ مجراها.
تبرز أمامنا دوما معلومات جديدة، وتدعونا الحاجة دائمًا أنْ نجد لها الموقع السليم في إدراكاتنا، حيث أنَّ العقل من شأنه أنْ يدمج ما استجدّ أمامه مع ما لديه، أو يبحث عن وسيلة يرفضه بها.
إنَّ ما يحصل في الواقع، عند وضع المعلومات الجديدة في قالب منطقي، أنْ يقوم العقل بعدّة عمليات خلاّقة. فإذا لم تتوافق المعطيات والحقائق مع بعضها البعض، بدأت القوّة المخيّلة بالعمل إلى أنْ يبرز توضيح ما، وهو أشبه ما يكون بأحجيّة الصورة المقطّعة التي تنقصها بعض الأجزاء. فالعقل هنا يصنع الأجزاء الناقصة، وقد يغيّر بعض القطع الأساسية حتى تتلاءم أجزاء الصورة. وفي أحسن الحالات تكون الصورة قريبة من حقيقتها، وفي أسوئها قد تكون مشوّهة وبعيدة كل البعد عن الحقيقة: فالاستنتاجات قد تكون بعيدة عن الواقع أو حتى بعكسه. ومع كل ذلك قد يشعر المرء أنَّه يعرف ويدرك كل الأمور لأنَّها تطابقت في عقله بغضّ النظر عن كون النتيجة صحيحة أم خاطئة.
يتكوَّن الإدراك ويتطوَّر بطرق عدّة. فأحيانًا تبدو عناصر الموضوع كاملة متكاملة بمنتهى السلاسة دون أنْ يكون هناك إدراك واع بمعرفتنا إيّاها أو جهلنا بها، وأحيانًا قد تتوفّر لدينا جميع الحقائق إلاّ أنّها غير متوافقة لتشكّل لنا صورة ذات معنى، وفجأة قد تلمع في الذهن فكرة سديدة تشكّل لنا الصورة، وعندها تبدو النتيجة واضحة بديهيّة. وقد يغدو من الصعب تذكّر سبب عدم إدراكنا لها من قبل أو حتى تذكّر وجود مشكلة في البداية.
إذا شعر المرء أنَّه يدرك شيئًا ما، يغدو من الصعب عليه التخلّص منه أو تغييره، خصوصًا إذا صحّت الحقائق. قد تتوفّر نفس الحقائق لدى اثنين، ولكنهما يريان الأمور مختلفة بسبب اختلافاتهما. فإذا كان لأحدهما طبيعة الوثوق بالآخرين قد يصوّر له خياله أنَّ عناصر الحقائق متفقة تمامًا وأنَّ كلّ شيء على ما يرام. وإذا كانت طبيعة الآخر الشك، فإنَّ ما يكشف له عقله سيجعل تلك الحقائق منسجمة تمامًا بصورة توحي له بأنَّ أمرًا ما ليس على ما يرام. وكل منهما قد يدَّعي الإدراك ومعرفة الحقيقة.
يميل الناس أنْ يروا الأشياء كما يريدون لها أنْ تكون. ويمكن القول بشكل عام أنَّنا نفسّر المعلومات بشكل يدعم مفهومًا لدينا كوّناه ونتمسك به بكل إصرار. إنَّ قناعتنا، بغضّ النظر عن تشبثنا بها، ليس بمقدورها سوى الاقتراب من الوضع الحقيقي، حتى في أحسن حالاتها. والمشكلة هنا تكمن في أنَّ كثيرًا من الإدراك الزائف يحلّ محلّ الإدراك الحقيقي ليسبب لنا مشاكل جمَّة لأنَّه يمنحنا المعرفة الموهومة. وأكثرها شيوعًا سوء الفهم، بسبب وجود خطأ في واحد أو أكثر من عناصر الحقيقة أو فقدان أحدها أو سوء تفسير واحد منها. هذه أخطاء قد لا تكون مقصودة إلاَّ أنَّها تسبّب لنا صعوبات كبيرة.
وإدراك زائف آخر أكثر خطورة يتمثّل في الرؤية المشوّهة، وهنا قد يلعب المكر والدهاء دورًا في بعض الأحيان. وفي مثل هذه الحالة قد لا يرغب صاحب هذه الرؤية في تصحيحها. وبالإجمال فإنَّ تصحيح مثل هذه المفاهيم أمر غاية الصعوبة.
إنَّ الاختلاق الكامل والتلفيق من أسوأ أشكال الزيف. فتصوّر الإنسان لأمر ما يغدو من الصعب جدًا تغيير قناعته فيه إذا ما تولّد لديه الإيمان بصحته، ذلك لأنَّه مبنيّ على حدس أو تخمين معزّز بتفسير مختلق لأمر غير معروف أو معلوم. ومثل تقليدي على ذلك ما كان سائدًا بأنَّ الشمس تتحرك لتشرق علينا وتغرب عن أرض منبسطة ثابتة. إنَّه افتراض ألبسوه لباس الحقيقة قرونًا عدّة وأصبح “حقيقة معروفة” من الصعب التخلّي عنها، وقد عانى البعض كثيرًا من هذا الخطأ في الإدراك. وما زال وصفنا الخاطئ لكلمة “شروق” أو “غروب” يحتلّ جزءًا من اللغة.
إنَّه من دواعي السخرية أنْ يكون الإحساس بالمعرفة صادقًا يبعث البهجة في النفوس سواء أكان إداركنا حقيقيًا أم جزئيًا أم زائفًا. فغالبًا ما يتوفّر توق عارم لقبول أي توضيح أو تفسير لأمر ما لمجرّد اكتشاف تفسير له فنجد بالتالي ما نتمسّك به ونهتف بفرح كبير ونقول: إنّها هي، إنّها هي. إنَّ التمسّك الشديد بإحساسنا بالمعرفة يثير في النفس مشاعر حسنة ويوفّر لنا الشعور بالأمان. وكثير من القناعات الراسخة وليدة مجرد شعورنا بالإدراك ولو دون توفّر الأدلّة الحقيقية، وما التعصّب الديني الأعمى على غالبيته إلاّ نتاج هذه العمليّة.
ومن المشاكل الأخرى المرتبطة بالزيف أنَّ تلك الصورة المشوَّهة غالبًا ما تحاك مع مفاهيم صحيحة ولكن جزئيّة. واستخلاص الحقيقة من بين تلك الخيوط المتشابكة ليس بالأمر الهيّن.
تتفاوت درجات القناعة لدى الأشخاص إلى مدى كبير، وتتراوح بين الشك المعتدل واليقين الجازم بأنَّ صاحبه يعرف ما هو الصواب. وفي الحالتين قد يكون المرء على ثقّة تامّة بما لديه مصيبًا كان أم مُخطئًا، ولا علاقة لذلك بالصدق والإخلاص، إذ قد يتمتع الإنسان بأنبل الدوافع ويكون بعيدًا عن الصواب في الوقت نفسه. فدرجة القناعة ليست ضمانًا للحقيقة بل تجعل من تصويب الخطأ أكثر صعوبة.
إنَّ زيف الحقيقة أمر قد يكون من الصعب كشفه في بعض الأحيان. فصدق المرء وإخلاصه يجعلانك ترى الزيف حقيقة أحيانًا. وإذا أردت التمييز بينهما فأنظر إلى النتائج. هل فهمي للموضوع يدفعني إلى إصدار الأحكام أم إلى التريّث فيها؟ هل الفهم يوفّر لنا العلاج أم يثير فينا النزاع؟ هل يعمل على جذب الآخرين أم تنفيرهم؟ وهناك ميزان آخر للتمييز يتمثّل في مدى استعداد الفرد ورغبته في بحث أفكار الآخرين. فامتناعه عن التعرّف على آراء الآخرين يوحي بتمسّكه بإدراك زائف ليس بمقدوره الصمود أمام الفحص الدقيق.
قد يبدو أنَّ الإدراك الحقيقي أمر نادر بالكليَّة. وعندما يجتمع المتشاورون، يأتي كلّ منهم وهو مزوّد بمفهومه الجزئي الخاص، ومن خلال المشورة تتمّ المشاركة فيما يقدّمه كلّ واحد منهم، فتسهم أفضل عناصر الآراء المطروحة في تكملة مفاهيم الآخرين وتطوّرها. ومع أنَّ وجهات النظر المختلفة قد تأخذ طابع المنافسة في أماكن أخرى، إلاَّ أنَّها مكمِّلة لبعضها البعض في ميدان المشورة.
لكلّ موضوع معلومات ناقصة في أغلب الأحيان، وبالمشورة يكمل النقص. فالمفاهيم المغلوطة أو المشوَّهة تستعيد صورتها الصحيحة عندما تتناولها الآراء المختلفة بحثًا وتمحيصًا. وبالمشورة المستنيرة نميّز الإدراك الحقيقي من الزائف بكلّ وضوح.
وإذا ما كان الإدراك الزائف قائمًا على الحدس والتخمين تأخذ المشورة دورها في الألق والإشراق، إذ يتم اكتشاف الخطأ لتحلّ محلّه جوهرة الحقيقة المضيئة. وهذا ما أوضحه لنا المولى المحبوب بقوله: ” المشورة تَهِبُ إدراكًا أعظم وتُحيْل الظنّ إلى يقين”([3]).
إنَّ أيّ إدراك يحرزه الفرد بالمشورة يقلُّ احتمال الخطأ فيه عمَّا يحرزه بنفسه، أمَّا العصمة فمخصوصة ببيت العدل الأعظم.
ومع أنَّ المشورة قد اختصّت بميزة فريدة على أنَّها “واهبة الإدراك” إلاَّ أنَّ الإدراك نفسه ضروري لمشورة فاعلة. وقد يبدو الأمر للوهلة الأولى يدور في حلقة مفرغة. إنَّه ليس كذلك، بل هناك توافق متبادل ونفع مشترك يعزّزان العمليتين.
إنَّ الخطوة الأولى نحو اتخاذ القرار بالمشورة هي فهم المشكلة وما يتعلَّق بها (أنظر الفصل الثالث). فإذا ما تحقّق ذلك، يصبح بمقدور المشورة أنْ تقدّم الحلول المناسبة ليحصل تقدّم وإدراك أفضّل في النهاية.
وما زالت عقبة رئيسة تقف حائلاً دون التوصّل إلى إدراك أعلى بالمشورة، تلك هي تمسّك واحد أو أكثر من المتشاورين بما لديه من مفاهيم راسخة في ذهنه، أو الدفاع بكل غيرة عن اهتماماته الشخصية. إنَّها مشكلة قد تكون مدمّرة، فهي تنمُّ عن التشبث في الرأي وعدم الرغبة في التغيير. إنَّ الآراء التي يتمسك بها أصحابها بقوة تساعد عادةً على تصادم الأفكار وهو الأمر الضروري لانطلاق شرارة الحقيقة، بينما القناعات الصلبة تكسف شمس المشورة.
عندما يظنّ الفرد أنَّه “يعرف” ما هو حقيقي، تصبح المشورة تهديدًا حقيقيًا لقوّة انضباطه. ولكي يتمكّن من وضع قناعاته أو مصالحه الخاصّة جانبًا أثناء المشورة ليزيل من أمامها كل قيد أو عقبة تحول دون تطوّرها، فإنَّه يحتاج إلى قدر كبير من النضج وضبط النفس والثقة التامّة.
قد يسهل على البعض تغيير وجهة نظرهم، بينما يجد البعض منتهى الصعوبة في ذلك. فكلّما ارتفعت وتيرة المشورة وزاد تشبّث الشخص عاطفيًّا بالموضوع قيد البحث، وزادت قناعته بصوابه، كلَّما ارتفعت درجة الصعوبة في التغيير.
إنَّ التخلّي عن الآراء الشخصية ربما يكون تجربة نفسيّة تشبه عمليّة اختراق حاجز الصوت. ومع صعوبته الفائقة إلاّ أنَّه من الضروري اختراق ذلك الحاجز حتى نجد الحقيقة. فالفوز بالإدراك جائزة قيّمة صعبة المنال. ولذلك لا غرابة لو تطلّبت هذه النعمة، التي هي في المرتبة الأولى، جهدًا مضنيًا لإحرازها. وليس غريبًا أنْ تكون نظرة الشخص لأمر ما في أفضل حالاتها، محدودة وعرضة للخطأ بغضّ النظر عن قوّة ذلك الرأي وسداده. وفي نعمة الإدراك تبرز أمامنا ملامح وحقائق عدّة منها:
يتفضّل حضرة عبد البهاء بأنَّ “هناك أربعة موازين أو مقاييس للحكم يستدلّ بها الإنسان ليصل إلى قرار”([4]). وفي مقام آخر يتفضّل: “إنَّ موازين الإدراك أربعة لا غير كما هو مسلّم به. يعني أنَّ إدراك حقائق الأشياء إنَّما يكون بهذه الموازين الأربعة”([5]). ويوضّح حضرة عبد البهاء بأنَّ هذه الموازين هي:
إنَّه أمر يستحقّ التأمّل والتفكير لما لمضامينه ودلالاته من أهميّة للمشورة. قد نلاحظ أنَّ غالبيَّة الناس يفضّلون واحدًا من هذه الموازين دون الأخرى، إلاَّ أنَّ هذا ليس بالأمر القاطع. فكلّنا يقبل الميزان الحسيّ ونستعمل الميزان العقلي ولدينا ما نقوله في الميزان النقلي ونحظى بالإلهام بدرجات متفاوتة. فهذه الموازين لا تعكس أنماط الأشخاص؛ فكثير منهم يستخدمون موازين مختلفة في أوقات متباينة أو حتى في وقت واحد. إلاَّ أنَّ هناك ميل نحو ميزان واحد من قِبَل الفرد يتَّفق وطبيعته ويشعره بالراحة.
إنَّ اعتماد شخصين على موازين مختلفة مستخدمين المعلومات نفسها قد يؤدي بهما إلى الوصول إلى نتائج مختلفة. وعليه فإنَّ مراعاتنا لهذه الموازين أمر حيويّ للغاية لعمليّة المشورة ويساعدنا على تقييم آراء الآخرين.
تشترك الموازين الأربعة هذه في عناصر عدّة منها:
إنَّ من يعتمد ميزانًا معيّنًا يميل إلى من يعتمده من الناس أيضًا. وبماإنَّ الدين البهائي قد جاء لكافّة الجنس البشري – والذي يضّم أناسًا يستخدمون كلّ ميزان من موازين الإدراك هذه – فإنَّ هذا سيجلب مشاكل وصعوبات لجامعة الاسم الأعظم لن يكون بالإمكان حلّها إلاّ بنعمة المشورة وبركاتها. فكلّ ميزان يساهم مساهمة خاصّة في المشورة ويضع المتشاورين أمام تحد من نوع خاص.
إنَّ من يعتمد أساسًا على الميزان الحسيّ مقياسًا للحقيقة يحبّ أنْ يرى الأشياء كما هي. وأوَّل ما يطرحه من سؤال لدى مناقشته الموضوع قد يكون: ما هي الحقائق؟ إحدى حسنات أسلوب التفكير هذا في المشورة إصراره على تزويده بالحقائق واعتماد الثابت والمؤكّد منها والحذر من الحدس والافتراض. أمَّا أحد سيئاته فإنَّ القرار المتّخذ قد لا يرتقي إلى أهمية تحليل الموضوع، وقد تقتصر النتيجة على صدور بيان مقتضب مقنع يشكّل نهاية البحث، كما قد تبرز جهود تسعى إلى تجنّب القرائن المبرهنة أو المثبتة بكل وضوح، وهو ما يزعج الآخرين ويدفعهم إلى الشعور بالملل والإحباط.
إنَّ من يعتمد على العقل، أو يشدّه إليه عالم التفكّر والتأمّل، يعمد إلى التفكير في الأمور بشموليّة، فيميل إلى العقلانيّة والمنطق. وقد يثير أفكارًا جديدة تتعدى بمنطقها ما هو معروف. وهو بذلك قد يقود إلى معرفة نظريّة أو خوض غمار مغامرة مجهولة لم يطرقها أحد من قبل. إنَّه أسلوب من التفكير له أهميته في المشورة في إظهار الارتباط المنطقي بين عناصر الموضوع والحقائق المتوفرة، وقد يهبنا رؤية تتعدى تلك الحقائق في ظاهرها. إلاّ أنَّ المشاكل قد تتفاقم إذا وجد الآخرون أنَّ الأمر آخذ في تخطّي الحقائق الملموسة ممّا قد يعيقهم عن تتبع الاستنتاجات التي تذهب إلى مدى بعيد تصعب رؤيته، فيفقدون اتصالهم بالموضوع وينفذ صبرهم أو ينتابهم الشك باستنتاجات تبدو غامضة.
من يأخذ بميزان النقل – الأحداث الغابرة والخبرات السابقة – مقياسًا له في تحديد ما هو صواب، قد يميل إلى التنظيم واتباع إجراءات واضحة المعالم. وقد يعتبر وجود هيكل عام للموضوع وتناغم أجزائه هو مقياسه الأمثل. وهو أسلوب له أهميته القيّمة في المشورة لأنَّه يقود إلى التنظيم واتّباع خطوات ومعالم واضحة محدّدة. إلاَّ أنَّ المشاكل قد تبرز إذا ما طبّقت الإدارة بحذافيرها، ممّا قد يتسبب، دون أي قصد، في إخماد جذوة الحماس والحد من الإبداع والابتكار. فالبهائيون المبدعون المفعمون بالنشاط والإقدام، بدل أنْ يهبُّوا لتقديم خدمات أكبر للأمر المبارك، فإنَّ إظهار التصلّب والمبالغة في التمسّك بالشكليات والروتين وإتباع سيل من التعليمات، سيوهن من عزائمهم ويبعدهم عن ميدان العمل والنشاطات البهائية.
إنَّه بحق من أعظم الموازين سحرًا وأكثرهم تعددًا في جوانبه. فالناس من مختلف الأصول والاتجاهات مرّوا بتجارب من الإلهام – الضحل منه وحتى العميق – وتمتّعوا بنعم فائضة عمّت أفضالها الجنس البشري بفضل هذه الموهبة العظمى.
قسم من الناس نادرًا ما مرّوا، إنْ لم نقل أبدًا، بما يمكن وصفه بتجارب من الإلهام، وآخرون كثيرون تنعّموا بهذا الثراء الروحي بغضّ النظر عن أسلوب تفكيرهم، وآخرون غيرهم أصبح الإلهام أو الإحساس أو الحدْس صاحب التأثير الأكبر في حياتهم ومصدرًا لإرشادهم.
إنَّ الإلهام مصدر للهداية إلاّ أنَّه محفوف بالمخاطر. ويؤكّد حضرة عبد البهاء أنَّ الإلهام هو عبارة عن “خطوات قلبيّة”. إلاَّ أنَّه حذّر من ناحية أخرى بأنَّ “الوساوس الشيطانية أيضًا عبارة عن خطورات تتتابع على القلب من واردات نفسيَّة. فإذا خطر بقلب أحد معنى من المعاني أو مسألة من المسائل فمن أين يعلم أنَّها إلهامات رحمانية فلعلّها وساوس شيطانيّة”([6]). وقد تبرز أمامنا صعوبات وعقبات كثيرة لأنَّ ما يعتقده المرء “إلهامًا” قد يكون “وساوس شيطانيّة”.
كان حضرة وليّ أمر الله أكثر توضيحًا لمخاطر الاعتماد على الإحساس الداخلي للإنسان. وفي رسالة كُتبت بالنيابة عنه يتفضّل: “حول استفسارك عن أهميّة الإحساس الداخلي مصدرًا لتوجيه الفرد، فإنَّه من غير الحكمة الأخذ بالإحساس الداخلي بشكل قاطع. إلاّ أنَّه بالدعاء اليومي والجهد الدؤوب يستطيع المرء أنْ يستجلي مشيئة الله، ولو أنَّه ليس بشكل دائم أو كلّي. ومع كل ذلك، ليس بمقدور الإنسان أنْ يجزم أنَّه اهتدى إلى مشيئة الله، تحت أي ظرف، بهدي الحدْس والأحاسيس. لأنَّه غالبًا ما تغيب الحقيقة عن الحدْس ليصبح مصدرًا للضلالة بدل الهداية”([7]).
فالإلهام أو الحدْس بحدّ ذاته يقود إمّا إلى وضوح الرؤية أو تعتيمها، إلى أفكار ساميّة أو مضللة، إلى آراء برّاقة منطقيّة أو أخرى لا معقولة. ومع ذلك، فإنَّ الإلهام له دور بالغ الأهميّة في عمليّة المشورة. فأولئك الذين يأخذون بالحدْس والإلهام هاديًّا في حياتهم يوفّرون مصدرًا من الأفكار وإحساسًا غير مألوف للآخرين. وغالبًا ما يزوّد وهج البصيرة المتشاورين بأفكار قويّة ومحفّزة تثري طاولة الاجتماع، كما أنَّ الأفكار التي تتطوّر نتيجة المشورة غالبًا ما تكون نوعًا من الإلهام.
كلّ فرد يعتاد ويشعر بالراحة لميزان الإدراك الذي أَلِفه. وبالتالي فإنَّ ميادين المعرفة الأخرى، كونها غير مألوفة لديه، قد تبدو غريبة، وقد لا تفهم المساهمات القيّمة للآخرين ولا تعطى قدرها من الأهمية بنفس السهولة التي تمنحها الطريقة التي ألفها الفرد.
فمثلاً، لو تمسّك إنسان بأسلوب واحد من التفكير سيظن في نفسه أنَّ جميع المشاكل قد تحل بسهولة إذا تمسّك الناس بالحقائق، وقد يظن آخر أنَّ الأمور ستسير على ما يرام إذا تمسَّكوا بالمنطق، وهناك من يقول: إذا ما اتبعنا إجراءات محدَّدة فستجد القضايا طريقها للعلاج بكلّ يسر. وما زال فريق يقول: لو كنّا أكثر روحانية لألهمنا للقيام بما هو صواب. كلّ في ظنّه على صواب. إنَّها بكلّ بساطة طرق وأساليب مختلفة يعكس كلّ منها نهجًا معيّنًا في تقييم المعلومات وحل الإشكالات. ومع ذلك، تبقى الحقيقة في أنَّ هذا التباين يمكنه أنْ يقودنا إلى اتصال خاطئ مشوّش فيما بين المتشاورين. فما كان واضحًا لشخص ما قد يكون مبهمًا تمامًا لشخص آخر. وعند الاستماع لموضوع يبدو غاية في الوضوح لشخص متكلّم قد يتساءل شخص آخر: عمّ يتكلم بحق السماء؟! وهذا ما قد يحدث بكل بساطة لأنَّ ميزان المتكلم في الإدراك اختلف عن موازين المستمعين.
كلّ واحد من هذه الموازين له أهميته، إلاّ أنَّه غير كامل وعرضة للخطأ. وفي تعليقه على هذه الموازين يتفضّل حضرة عبد البهاء: “إنَّ الرأي الذي تندرج فيه جميع هذه الموازين الأربعة معًا يكون صحيحا”([8]). وفي المشورة، فإنَّ استعمال جميع هذه الموازين يضمن النتائج الجيّدة. وقد أفاض علينا حضرة عبد البهاء بنصيحة ستنير أمامنا الطريق بقوله:
“هذه الأربعة… طرق للمعرفة، وجميعها عرضة للخطأ والاعتماد عليها غير مأمون. فما الذي يبقى بعدئذ؟ كيف ندرك حقيقة المعرفة؟ إنَّه بنفثات الروح القدس وإلهاماتها. فهي النور والمعرفة بحد ذاتها، وبها ينشط العقل الإنساني ويكتسب القوّة ليحيط بالاستنتاجات الصحيحة والمعرفة الكاملة”([9]).
فالكل متّفق عمومًا أنَّه من المرغوب فيه الوصول إلى “حقيقة المعرفة” كما اقترحها لنا حضرة عبد البهاء. ومع ذلك قد يكون من الصعب تحديد ماهية “نفثات الروح القدس وإلهاماتها”.
وتنفرد المشورة في الإجابة عن التساؤل حول كيفية اكتشاف تلك الإلهامات التي وُعدنا بها؟ فقد تفضّل حضرة عبد البهاء قائلاً: “إذا اجتمعت نفوس معدودة في محفل المحبوب باحساسات ملكوتيّة… فيؤيده الروح القدس وتنصره جنود الملأ الأعلى وملائكة ملكوت الأبهى تترى”([10]). بمعنى أنَّه بالمشورة ستنبثق الاستنتاجات الصحيحة وسط الأفكار المطروحة بفضل نفثات الروح القدس وإلهاماتها. إنَّ أساليب التفكير المختلفة، أو موازين الحقيقة المتباينة تكمّل بعضها البعض بما فيها من قوى التكامل المكنونة مما يقلل من ارتكاب الأخطاء الخطيرة ويزيد من فرص اتخاذ القرارات السديدة. إنَّها طريقة أمام الروح القدس لتستخلص الحقيقة من بين عمليات وموازين مختلفة تاركة وراءها مناطق الضعف فيها.
إنَّها قوّة الميثاق المحيطة بإعجاز المشورة التي تسخّر جميع الطرق والأساليب المختلفة لخدمة مساعي الإنسان وإثرائها. فوجود الطرق المختلفة يساهم في الحفاظ على اتزان المشورة، ومحبة حضرة بهاء الله تحقق الانسجام بين الآراء المختلفة وتمنع تحوّلها إلى مصدر للنزاع، وتقود المتشاورين إلى أقرب ما يمكن من الحقيقة التي ليس من السهل نيلها.
في جزء من رسالته المؤرخة 19 آذار سنة 1973 كتب بيت العدل الأعظم: “يجب أنْ نتذكر دائمًا أنَّ المشورة بمجملها تهدف إلى إيجاد الحل لمشكلة ما…”([11]).
إنَّ البهائيين حريصون على الوصول إلى الحقيقة، وهو أمر لا جدال فيه. ومع ذلك، قد يختلفون إلى حد كبير في ماهية هذه الحقيقة. يتفضّل حضرة بهاء الله بقوله: “لا يرى في الحقيقة نفسان متّحدان ظاهرًا وباطنًا”([12]). وافتقارنا إلى الوحدة هذه يجعل من المشورة أمرًا ضروريًا. غالبًا ما تفضّل حضرة بهاء الله ومركز العهد والميثاق – حضرة عبد البهاء – بأنَّ المشورة وسيلة للاستنارة وإدراك الحقيقة. فإذا ما اعتبرنا كلّ رأي شعاعًا من نور، فإنَّ الهدف تسليط أكبر حزمة من الأشعّة لتضيء المسألة قيد البحث، وبالسلوك الروحاني يتمّ تركيز الضوء عليها. فإذا ما تشابهت وجهات النظر فسنرى الضوء مسلّطًا عليها من جانب عام واحد دون الجوانب الأخرى. وهو ما قد يتسبب أيضًا في إلقاء ظلال أعمق على جوانب أخرى من المسألة. أمّا إذا اختلفت وجهات النظر وتسلّطت على المسألة من زوايا متعددة، فإنَّ الأشعة ستكشف جميع جوانبها.
بدون توفّر الأسس الروحانية للمشورة سيكون هناك تشتيت للأشعة بدل التركيز، لتتداخل مع بعضها البعض وتتضارب فتعمي بصيرة أصحابها عن الرؤية المستنيرة، وبدل أنْ يزداد الموضوع وضوحًا تكتنف جوانبه الظلمة من إساءة استعمال هذه الأشعة. ونتيجة الأمر ضوء خافت وخلاف متزايد وحقيقة مستورة.
فلنفرض مثلاً أنَّ محفلاً روحانيًّا يرغب في بحث مسألة الوحدة العرقية وكيفية تطهير الجامعة من لَوَث التعصّب. لا شك أنَّ قيودًا مؤثّرة ستعيق المشورة لو كان جميع المتشاورين فقط: سودًا أو هنودًا أمريكيين أو قوقازيين أو إيرانيين أو آسيويين أو غيرهم. فخبراتهم ووجهات نظرهم ستكون أقلّ إمكانية في المساهمة في فهم أعمّ وأشمل للموضوع ممّا لو توفّرت وجهات نظر مختلفة.
أمّا إذا كانت المجموعة من أعراق مختلفة وناقشت المسألة، فإنَّ النتائج ستختلف على الأرجح. ففي بادئ الأمر ستتعرض لمزيد من الخطر، ذلك لأنَّ مع ازدياد التنوّع تزداد فرص سوء الفهم، وإمكانيّة تعرّض أفرادها للتجريح فيما بينهم، فيقتربون أكثر نحو الصدام الشخصي.
ولتجنّب هذه المخاطر لا بدّ من توفّر الجو الروحاني. فعندها، وبقوّة الميثاق تترفّع المشورة عن تصادم الشخصيات إلى تبادل للآراء سام في طبيعته. وفي ظلّ التشبث بالروحانية جوًا أو نظامًا يغدو التوصّل إلى توضيح أشمل وأكمل للمسألة أمرًا ممكنًا. فكلّ رأي للفرد يكون كالشعاع الساقط على الموضوع من زاوية مختلفة، عند ذلك يلوح في الأفق فهم أعمق وتبرز الحقيقة ويُتّخذ أفضل إجراء للعمل بفضل المشورة وأنوارها.
ربما لا يزال في الذهن سؤال يدور حول كيفيّة استخدام تلك الحقيقة التي تمّ التوصّل إليها حديثًا. في واقع الأمر فإنَّ حقيقة أي شيء يمكن استعمالها أداة نافعة أو ضارّة. فتكون مجرفة نزيل بها أنقاض سوء الفهم أو الجهل أو التعصّب، أو هراوة نهوي بها على الرأس.
“تفضل سيّد الوجود قائلاً: إنَّ سماء الحكمة الإلٰهيّة مستضيئة ومستنيرة بنيّرين: المشورة والشفقة”([13]). وبمجرد التوصّل إلى الحقيقة بالمشورة نكون قد أتممنا نصف المهمة. وحتى تكتمل الاستنارة علينا بالشفقة. وبهما معًا نلقي الضوء على أيّة مسألة. وبذلك يشترك العقل والقلب والروح في تحقيق استنارة برَّاقة.
ومجمل القول، فإنَّ الآراء المتشابهة المطروحة في مجمع روحاني ستزيد الضوء الملقى على الموضوع وهجًا، إلاَّ أنَّه قد لا يصيب جميع جوانبه، إذ كلَّما تنوّعت الآراء ازدادت فرصة الكشف عن جوانب أخرى شريطة ألاّ ننسى دومًا علاقتنا بالعهد والميثاق، وأنْ نركز على الموضوع قيد البحث متمسكين بنظرة تتسم بالشفقة حتى نهتدي إلى قرار واسع في مداه مرتكز على تفهّم ناضج وثمرة آراء مختلفة. تلك هي المشورة المستنيرة، وذلك هو المجمع الروحاني الحقيقي.
[1](1) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 127-128.
[2](1) Baha’I Prayers, 126.
[3](1) Consultation: A Compilation, no. 3.
[4](1) The Promulgation of Universal Peace, p. 253.
[5](2) “من مفاوضات عبد البهاء”، صفحة 222.
[6](1) “من مكاتيب عبد البهاء”، الجزء الأول، صفحة 85.
[7](2) Lights of Guidance, p. 577.
[8](1) The Promulgation of Universal Peace, p. 255.
[9](2) The Promulgation of Universal Peace, p. 22.
(3) “منتخبات من مكاتيب حضرة عبد البهاء”، صفحة 78.
[11](1) Consultation: A Compilation, no. 47.
[12](2) “مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله”، صفحة 143.
[13](1) “مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله”، صفحة 149.
ومهما قيل عن الحياة فإنَّها ملأى بالامتحانات والمحن والرزايا، وتأتي هذه المعاناة جزءًا مكمًّلا للحياة اليوميّة. وحتى الأعمال اليوميّة الروتينية تعدّ مصدرًا دافقًا لهذه الامتحانات أو برهانًا عليها.
إنَّ أقصى درجات المعاناة قد أدركها المظهر الإلٰهي نفسه. فالتضحية التي قدّمها حضرة بهاء الله ثمنًا لإشراق نور الحق على البشريّة كانت كبيرة وعظيمة. وقد تفضّل قائلاً:
“قد قُيِّد جمال القدم لإطلاق العالم، وحبس في الحصن الأعظم لعتق العالمين، واختار لنفسه الأحزان لسرور من في الأكوان”([1]).
فهذا البيان المبارك شاهدٌ بَيِّنٌ على أسمى وأنبل هدف من تحمّل البلايا والمصاعب، وبهذا المقياس نقيس مقدار أي نوع آخر من الصعوبات. لقد شاركنا الجمال المبارك محنه وآلامه حتى يساعدنا على رؤية الأمور بمنظار سليم. حيث تفضّل: “كذلك ألقيناك ذِكرًا من مصائبنا لتطّلع بما ورد على نفسي وتكون فيما ورد عليك لمن الصابرين”([2]).
ومشيرًا إلى العذاب في سبيل الله لمن اختار درب الحق تفضّل بقوله الأحلى: “فاعلموا بأنَّ البلايا والمحن لم يزل كانت موكلة لأصفياء الله وأحبائه ثمَّ لعباده المنقطعين”([3]).
لقد كان حضرة الباب أكثر تحديدًا في هذا السياق. ففي إحدى مناجاته تفضّل: “يا إلٰهي إنَّك تعلم أنَّ البلاء قد نُزِّل عليَّ من كلِّ شطر وليس أحد يقدر بدفعها إلاَّ أنت وإنِّي لعلى يقين في حبي لك بأنَّك لم تُنزل على أحد بلاء إلاَّ بما أردت له بأنْ ترفع درجاته في رضوانك وتثبِّت قلبه بأركان قهَّاريتك في هذه الحياة الدنيا”([4]).
فلا نموَّ دون ألم. فولوج هذا العالم تصاحبه آلام الولادة. ويبدو أنَّ الألم جزء من كل مرحلة من مراحل الحياة. وحتى مرحلة بروز الأسنان مرحلة صعبة. وفي الجامعة البهائية نشاهد امتحانات إضافية مؤكَّدة نتيجة التوسّع والنموّ. وكلّ هذا وذاك يحمل لنا المعاناة.
ويخبرنا حضرة عبد البهاء بأنَّ هناك نوعين من الامتحانات: “نوع لامتحان الروح وآخر عقاب على خطايا”([5]). فعن الأوَّل يتفضّل: “الامتحانات مواهب إلٰهيّة تستحق الشكر. فالحزن والأسى لا يأتيان صدفة بل مُرسلان من الرحمة الإلٰهيّة من أجل ترقيتنا نحو الكمال”([6]). وفي مقام آخر يتفضّل: “وكما المحراث يَثْلُمُ الأرض بعمق فيخلِّصها من الأعشاب والأشواك، كذلك المعاناة والامتحانات تحرّر الإنسان من تُفُوه الدنيا إلى الانقطاع التام”([7]).
ومع ظهور هذه الامتحانات فإنَّها تجلب معها فرصًا هائلة للانقطاع، وإنْ لم يكن مرغوب فيها. وليس الهدف من هذا الكتاب ذكر المنافع الكبيرة للامتحانات والمصاعب، إلاَّ أنَّ هذا لا يمنعنا من ذكر بعض المخزون اللامحدود من تلك الفرص والإمكانات:
تختلف الامتحانات باختلاف الناس. فما يُعد مشكلة لشخص ما قد لا يكون كذلك لآخر. لأنَّها تصيب مكامن الضعف عند الفرد. فقد تفضّل حضرة عبد البهاء بقوله:
“الامتحانات وسائل يعرف بها مدى استعداد النفوس ولياقتها ويثبت ذلك بأفعالها. فالله عليم بلياقة النفوس واستعدادها من عدمها، أمّا الإنسان بغروره فلن يقرَّ بعجزه إلاَّ إذا ثبت له ذلك. وبالتالي فإنَّ قابليته للوقوع في الشر تثبت له عندما يقع في الامتحانات. وتظلّ تتتابع عليه الامتحانات إلى أنْ تدرك الروح عدم لياقتها، فتَنْحو إلى الأسف والندم، وبفضل ذلك تتخلص من ضعفها. ويتوالى عليها نفس الامتحان ثانية بدرجة أكبر إلى أنْ يثبت لها أنَّ ضعفها السابق قد استحال إلى قوّة وأنَّ القدرة على قهر الشر قد تأسست”([9]).
يتبيّن لنا من هذا البيان المبارك بأنَّ الامتحانات التي تصيب مكمن القوّة لدى شخص ما قد لا يراها على أنَّها امتحانات. فثقافة الشخص وعمره وخبرته وأسلوب حياته كلّها تلعب دورًا في اعتبار امتحان ما معضلة كبيرة أم أمرًا ستتم معالجته جيدًا.
وبينما يفوز البهائيون في بعض أقطار العالم بتاج الشهادة، يواجه آخرون مشاكل مختلفة. وقد تفضّل حضرة وليّ أمر الله بقوله محذّرًا: “كم نتناسى تحذيرات حضرة عبد البهاء الواضحة والمتكررة والذي أكدَّ – خاصّة في السنوات الختاميّة لحياته الدنيويّة – على “الافتتانات الفكريّة القاسية” التي ستعصف حتمًا بأحبائه في الغرب، وهي امتحانات ستوحّدهم وتنقّيهم وتعدّهم لرسالتهم النبيلة في معترك الحياة”([10]).
يقوم أعداء الأمر من الخارج على إيذاء البهائيين بكلّ ما أوتوا من قوّة، وتمتد أيديهم إلى قتل قادتهم. وما ذلك إلاَّ من عدم توفّر حماية رسمية كافية للأبرياء. وفي أماكن أخرى يواجه البهائيون ضغوطًا متعاظمة من المجتمع الفاسد الذي يعيشون فيه. فبدلاً من وقوعهم ضحية للعناصر المتطرّفة المتعطّشة للدماء فإنَّهم يغرقون في دوامة الجشع و نقائص الطبيعة البشريّة والمغريات الأخرى لعالم يمجّد حبّ الذات والجري وراء المتعة والقيم الزائفة. وصورة أخرى أقلّ وضوحًا ولكنها مؤلمة بالدرجة نفسها، تلك الضغوط الهائلة التي تدفع البهائيين نحو تحقيق إنجاز ما والنجاح أو مجرّد البقاء في عالم يزداد تعلّقًا بالمادة. وداخل الأمر الإلٰهي يمكن أنْ نقع تحت امتحان صعب وذلك بأنْ نعمل مع أناس مختلفة عاداتهم وثقافاتهم وسلوكهم وأولوياتهم كليًّا عمّا نحن عليه. كما أنَّ المؤسسات الأمريّة يمكن أنْ تطالبنا بما يُعدّ امتحانًا شديدًا لنا. ويمكن استخلاص ذلك كلّه من “لوح أحمد”، حيث ورد فيه ترجّي الاستقامة حتى ولو “يمنعك كل من في السموات والأرضين”([11]).
إنَّ الطاقة العاطفيَّة والجسمانيَّة والعصبيَّة المطلوبة لمواجهة تلك الإحباطات المتنامية التي نشعر بها من إفرازات المدنيَّة الغربيَّة ستخفف على نحو مطّرد ذلك التوجّه الروحاني. فبعض الأفراد يعتريهم التعب والإرهاق أو يصابون باللامبالاة تجاه خدمة الأمر. وهو أمر يعتبر هجومًا ضاريًا مميتًا على جامعة الاسم الأعظم مع أنَّه قد يبدو في الظاهر غير ذلك. ومن الصعب مقاومة مثل هذا الهجوم لأنَّ صاحبه غير محدد أو معلوم. إنَّه حقًا “امتحانٌ فكريٌ قاسٍ”.
فالهجمات التي تشنّ من خارج حصن الأمر الإلٰهي، الضارية منها والضعيفة، إلى جانب المشاكل الداخلية الناجمة عن ضعف التمسّك بالعهد والميثاق الإلٰهي أو ضعف الشخصية أو تضارب الشخصيات، كلّها مقدّر لها أنْ تتصاعد بازدياد نشاط أمر الله وحيويته وعلوّ مقامه وسموّ مكانته في رحلته المليئة بالأشواك للقاء قدرِهِ الإلٰهي الموعود.
في كل جوانب الحياة نشعر بالضغط النفسي. وفي الواقع، فإنَّ انعدام الضغط النفسي لا يكون إلاّ في حالة الموت. والضغط هو حالة من الإعداد والتحضير للاندفاع نحو فعلٍ ما، ووضع مشحون بالتوتر كحبل المطاط الذي يشدّ لأداء عمل ما.
إنَّ الضغط النفسي المعتدل أمر ليس مفيدًا فحسب بل ضروري للفرد وللجماعة المتشاورة على حد سواء. وعندما ترتفع درجة الضغط أو نفقد وسائل تخفيفه، يصبح ضيقًا مزعجًا وتنتج عنه المشكلات. أمَّا في الضغط النفسي المعتدل فسنجد الطاقة المتنامية والحواس الحادّة والتيقُّظ الأشد. وعند ازدياد الضغط بدرجة كبيرة يمكن جني فائدة من ذلك أيضًا. فالقدرة على الابتكار والإبداع ترتفع معه، ويزداد التفكير قوّة وحدَّة، ومعروف عن الضغط قدرته على العلاج والبُرْؤ. فجميع أنواع الشفاء ابتداءً من علاج الإصابة بالفُواق إلى الشلل وفقدان الذاكرة يرجع الفضل فيها إلى الضغط. وعقبات كثيرة أمام الناس تغلّبوا عليها إمّا بفضل التشجيع أو بإثارة غضبهم إلى درجة تغلّبوا فيها على خمولهم وقلّة نشاطهم. ومن المعروف أنَّ تصادم الشخصيات عادة ما يتلاشى عندما تجمع الأفراد أزمة مشتركة.
ومن ناحية أخرى، فإنَّ التصرفات الشاذّة المتهورة، المتّصفة بالهياج الشديد، والسلوك الغريب اللاعقلاني قد يتولّد نتيجة للضغط الشديد أو المتواصل. وهذا هو الضيق، حيث يُقذف العقل بدفعة من الأفكار الناقصة المتناقضة، ويحيط الضباب بآلية التفكير ويصبح الحكم على الأمور فاسدًا ضعيفًا، ويتآكل عنصر الثقة بالنفس وبقدراتها وإنجازاتها. وقد نرى أمامنا سلوكًا غريبًا طويل الأمد.
إنَّ ردّ الفعل تجاه الضغط النفسي يختلف كثيرًا من شخص لآخر، وبين حالة وأخرى. ولا يمكن التنبؤ بالنتائج دائمًا. وحقيقة الأمر، فإنَّ الضغط الناتج عن أزمة حادّة يمكنه أنْ يشل نشاط البعض فيجعلهم عاجزين عن القيام بالعمل المناسب أو البحث عن إجراء منطقي معقول.
وفي المقابل نجد أشخاصًا كمن أطلقهم الضغط إلى آفاق جديدة لم تكن معروفة لهم قبلاً، فيظهرون قدرة فائقة في إدارة الأزمة والقيادة، وتتكون لديهم رؤية أوضح للأمور، وبأسلوب تلقائي يسلكون الطريق المناسب. وبعد زوال الأزمة وآثارها تجدهم في بعض الأحيان مذهولين من الأسلوب الرائع الذي تعاملوا به مع الوضع والقضية.
وبازدياد الضغوط في عالمنا المعاصر تنمو بداخلنا قدرة خفيّة ستصبح قوّة هدَّامة إذا لم نُوفَّق إلى توجيهها بالشكل السليم. إنَّه بالتعاليم المباركة وبالمشورة البهائية الرائعة يمكننا توجيه هذه القوى المنبعثة من الضغط والاستفادة منها بالشكل الأمثل.
ويحدث هذا عندما يعتاد الناس على إجراء المشورة في الشؤون العادية. فعندها، وحتى عند حدوث الضغط، يلجأون إلى المشورة بشكل طبيعي، ويكون النقاش فيها أكثر تركيزًا وعمقًا بسببه. فيدخل المتشاورون سريعًا إلى قلب المشكلة ويتوصلون إلى خطوات التنفيذ بأقلّ قدر ممكن من الأخطاء. وهنا تتضاءل فرص الانحراف عن صلب الموضوع. وبذلك نضمن استغلال الطاقة الأعظم المتولِّدة والرؤية الأوضح الحاصلة من الشعور القوي بأنَّ الموضوع ملّح وهام. وفي الوقت نفسه نُجنِّب أنفسنا اتخاذ إجراءات لامنطقية أو تغييرات غير مدروسة وننقذ أنفسنا من وهدة الخوف والوجل والاضطراب. وكلّ ذلك من ثمار المشورة الملائمة.
فالامتحانات والمصاعب والضغوط النفسية قائمة وستبقى تلازمنا. والتحدّي الذي يَمْثُل أمامنا يكمن في: كيف نتعامل معها بأسلوب فعَّال ناجح؟ وعلاوة على ذلك فإنَّ وجود البشر يعني وجود المشاكل والمصاعب. ولا تذكر الآثار البهائية في أيّ جزء منها على الإطلاق وجود زمان خالٍ من الامتحانات، بل على العكس من ذلك، فإنَّها تشير إلى أهميتها وضرورتها في عملية النضج والنموّ. فهي جزء من الحياة نفسها، تؤثّر على الفرد وعلى المقرَّبين إليه وعلى مجتمعه بأكمله.
وحيث أنَّه لا مفر من المشاكل في الحياة، فإنَّه لمن حسن الطالع أنَّ الإنسان قد منح وسائل خاصة تعينه على مجابهة المحن والبلايا والتعامل معها. وفي عصرنا الحاضر ازدادت إمكانات التعامل مع الامتحانات بشكل كبير بفضل المشورة.
“عندما يجابه المؤمن مشكلة تتطلب منه قرارًا فإنَّه يجد أمامه عدّة أبواب للحل مفتوحة. فإذا كان موضوعًا يؤثّر على مصالح الأمر المبارك، عليه أنْ يتشاور مع المحفل الروحاني المعني أو اللجنة المختصّة. إلاّ أنَّ الأفراد لديهم من المشاكل ما تعتبر شخصية بحتة، وليس هناك ما يوجب التوجّه بها إلى مؤسسات الأمر. وفي الواقع فإنَّه من الأفضل للأفراد عدم الرجوع إلى محافلهم وإشغالها بمشاكل خاصّة يمكنهم حلَّها بأنفسهم عندما تشكّل أعمال التبليغ مطلبًا مُلحًّا.
والفرد البهائي الذي يواجه مشكلة شخصية قد يرغب في اتخاذ القرار بنفسه بعد التوجّه بالدعاء ودراسة مختلف جوانب الموضوع في ذهنه. وقد يفضّل الاستفادة من نصيحة أصدقائه أو استشارة أخصائيين معنيين مثل طبيبه أو محاميه للاستئناس برأيهم عند اتخاذ القرار. وإذا كانت المشكلة تخص مجموعة من الأفراد كالقضايا العائلية، فيمكن للفرد أنْ يلجأ إلى جمع الأشخاص المعنيين للتباحث معهم والوصول إلى قرار مشترك. ولا ضَيْرَ أبدًا من لجوء الفرد إلى مجموعة من الأفراد للتشاور في مشكلته الخاصة”([12]).
وبغضّ النظر عن سبب المشكلة وكيفية حدوثها، فقد نَفِيدُ منها أو نعاني بسببها أكثر من اللازم. وحتى المشاكل التي تحدث نتيجة الخطأ أو سوء التقدير تحمل لنا الإمكانات لنتائج جيدة.
إنَّ أيّ موضوع هام يرقى إلى مستوى المشكلة يجب أنْ يلقى الحل بطريقة ما. وقد تكون المشكلة عابرة يتكفّل الوقت بحلّها، ومشاكل أخرى تتلاشى أمامنا إذا نظرنا إليها بمنظار أفضل. إلاَّ أنَّ ابتلاع المشكلة وكبتها بداخلنا سيتسبب في نتائج أسوأ من المشكلة ذاتها. فالمشكلة المكبوتة ستُظْهِرُ نفسها في وقت ما بشكل معيّن بمشكلة أخرى أكثر خطورة. فالتعامل مع المواضيع المعلّقة المُقْلِقَة أمر لا سبيل إلى تجنبه، وكلَّما كان التعامل أسرع كان الحل أسهل.
هذا المبدأ يندرج على المجموعة المتشاورة أيضًا. فتجاهل مشكلة في الجامعة كونها كريهة على النفس عادة ما يزيد الأمر سوءًا. فمواجهة المشكلة مباشرة وبسرعة – مهما كان ذلك صعبًا – هو الأفضل عمومًا. وكما الأمر مع الأفراد، فإنَّ حلّ المشكلة قد يستغرق وقتًا ويتطلّب خطوات متعددة منفصلة.
لقد منحنا حضرة بهاء الله معادلة بسيطة يمكن للفرد والمجموعة المتشاورة أنْ يجنوا بها الفائدة من أيّة مشكلة: “وبذكري يَطَّهَرُ كلّ شيء إنْ أنتم من العارفين”([13]). إنَّه وعد مدهش رائع: “كلّ شيء” يعني “كلّ شيء”. وهو تطهير يُخرج حقيقة الفضائل المتألقة حتى من أكثر المشاكل صعوبة. فلا امتحانًا ولا مشكلة أو عذابًا واضطرابًا – مهما كان صعبًا وسيئًا – إلاّ ويخرج من رماده بعض الطيب والخير كالعنقاء([14]). و”ذكر الله” هو الذي يجعل من ذلك التحوّل أمرًا ممكنًا.
وجانب مدهش متعلق ﺒ “ذكر الله”، ذلك أنَّ الإنسان يعجز عن ذكر حضرة بهاء الله بينما هو متعلّق بعناصر طبيعته الدنيا. وقد منحنا حضرة عبد البهاء مثالاً على ذلك حينما تفضّل: “عندما يمتلئ قلبك بمحبة الله، فلا مكان فيه للحزن، فهناك مكان للمحبة والسعادة فقط”([15]). فذكر الله ينقلك تلقائياً من طبيعتك الدنيا إلى نفسك العليا. ليس بمقدورك أنْ تكون شاكراً ومكتئباً معاً. وبدون ذكر الله تبقى المشاكل بكل بساطة مصدر إزعاج واضطراب دون ضمان النتائج المفيدة. فبالتأمل والمشورة نستطيع أنْ نكشف عددًا لا محدودًا من سبل التوفيق بالذكر الإلٰهي وتطبيقها عمليًّا.
إنَّ دلالات ذلك واضحة للفرد، وهي بنفس الدرجة من الأهميَّة في المشورة رغم ظهورها هناك بشكل أقلّ وضوحًا.
إذا ما انهمكت المجموعة المتشاورة في البحث عن الطرف الملام في المشكلة، فإنَّ الثمار الجنية على الغالب ستكون ضعيفة، أمّا إذا كرّست مشورتها بذكر حضرة بهاء الله محاولة وضع العلاج أو استخلاص الخير من وضع سيئ، فإنَّ كل شيء يُمسي طاهرًا.
وكما أشار بيت العدل الأعظم فإنَّه يمكن استشارة أخصائيين لحل المشكلة أو أصدقاء موثوق بهم أو آخرين لهم علاقة بالموضوع. وقد تفضّل حضرة عبد البهاء: “ضعوا أمامكم على بساط المشورة جميع الأمور – كبيرها وصغيرها – فلا تتخذوا أيّة خطوة هامة في شؤونكم الخاصة قبل المشاورة. فكِّروا في شؤون بعضكم بعضًا، آزروا الآخرين في خططهم ومشاريعهم وأعينوهم، ولْيُواسِ بعضكم بعضًا. لا تتركوا في الديار أحدًا محتاجًا. فليساعد بعضكم بعضًا حتى تصبحوا جسدًا واحدًا متّفقين متّحدين”([16]).
وينبهنا بيت العدل الأعظم إلى أنَّه “يجب أن نتذكر دائمًا أنَّ جميع المشاورات تسعى للوصول إلى حلٍ لمشكلة ما، وتختلف تمامًا عن أسلوب “الكشف عن أسرار النفس” الذي أصبح شائعًا في بعض الأوساط في هذه الأيام والذي يشبه أسلوب “الاعتراف” المحرَّم في الدين البهائي”([17]).
فالفرد البهائي يستطيع أنْ يلجأ لأصحابه وقت الحاجة، فيطلب من واحد أو أكثر التباحث معهم في موضوع يهمه. ولا يجيزه ذلك إثقال كاهلهم في كل مشكلة بسيطة، بل يجب استخدام المشورة وسيلة للبحث الجدِّي عن الحلول.
وتعتبر المشورة بهائية إذا كان القصد منها إيجاد الحل. ولن تكون بهائيّة إذا كان الحديث مع الآخرين يهدف إلى استدرار العطف أو إيجاد مستمعين بآذان صاغية. ولن تكون كذلك إذا ما تَدَنَّى مستوى الحديث إلى جلسة من الشكوى والتذمر والغيبة. فأمور كهذه تقف على النقيض من المشورة البهائية فتزيد المشكلة تعقيدًا وترفع من حدَّة الأذى في آن معًا. فبدلاً من أنْ تنفّس عن مشاعر الغضب، فإنَّها تصبح استعراضًا للمشكلة وإعادة سردها وتركيزًا على الجوانب غير السارة من الحياة. فتسبب التأخير ويكبر الأذى وتحول دون أيّة إمكانية بعيدة المدى لتحسين الوضع.
والمشورة البهائية، من ناحية أخرى، تبحث عن الحلول وتعمل عاملاً مسكّنًا أيضًا. فبينما تأخذ معالم الحل في الظهور تبدأ شدّة الألم في الزوال – كمن يصب ماء الحياة على الجراح – ويعود ذلك إلى بذل الاهتمام بالمشكلة والخطوات الفعَّالة نحو الحل. ولا يتأتى ذلك بمجرد التكلّم عن الموضوع وحيثياته.
إنَّ التواجد بين أصدقاء محبين توّاقين إلى مد يد المساعدة يزيل التوتر. فمشاركة الفرد بالمشورة بما يعانيه بداخله تزيل الكرب والألم أو الخوف الذي يمكن أن يسيطر عليه. والشخص الذي يعاني من مشاكل أكبر من طاقته سيجد القوّة والرؤية والسكينة والاطمئنان والإرادة التي تمكّنه من التعامل معها، وستكون له كنسمة الحياة. أضف إلى ذلك، فإنَّ المشورة بهذا الأسلوب يمكن أنْ تكشف عن آمال جديدة ومخرج للأزمة القائمة.
فالمشورة حول أيّ موضوع تضيء لنا ثلاث جوانب منه تتعلق بفهمنا ثمَّ تَقبُّلنا ﻠ: 1. المشكلة 2. الحل 3. النتائج المترتبة على الحل.
وبالمشورة نستطيع أنْ نكتشف طبيعة المشكلة بسهولة فنضعها بالتالي في منظورها السليم. وفي بعض الأحيان ينتابنا الإحباط الشديد نتيجة عدم فهمنا الواضح لطبيعة المشكلة الحقيقية. والمساعدة على توضيح تلك الصورة تمنحنا خطوة كبيرة نحو تَقَبُّلِها. وقد وجد علماء النفس أنَّ تفهّم المشكلة هو أكثر الخطوات أهميّة نحو التخفيف من حدَّة الغضب.
يمكن دراسة وتفحص عدّة إجراءات لحل المشكلة من ضمنها عدم اتخاذ أي إجراء. وبعد ذلك يمكن اختيار أنسبها. وغالبًا ما يكون الإجراء واضحًا إنَّما الصعوبة تكمن في تقبُّله. فالمشورة تُعين الشخص على تقبُّل ما يجب فعله. وقد يكون الإجراء الأمثل أنْ نتعلّم كيف نتعايش مع المشكلة. إنَّ الوصول إلى حل عادل لمشكلة ما يمكن أنْ يضعنا أمام إشكال جديد أصعب. فكلّنا لديه مفاهيم محدودة ومتحيّزة لما هو حق وعادل، وإصرارنا على فهمنا الشخصي للعدالة يمكن أنْ يسبب آلامًا أشد من قبول الظلم. وقد تأتي المساعدة الحقيقية في كيفية التكيف مع المشكلة وتقبُّلِها بدلاً من بذل مجهود مُضنٍ للحصول على شعور بالرضى يتأتى من تحقيق تفسيرنا الخاص للعدل.
وفي إحدى الحالات قدَّم إلينا حضرة وليّ أمر الله النصيحة التالية التي كتبها سكرتيره بالنيابة عنه: “ربما يكون أكبر امتحان يواجهه البهائيون ما يعانونه من بعضهم البعض. ولكن عليهم لأجل حضرة عبد البهاء أنْ يكونوا على الدوام مستعدين للتغاضي عن أخطاء الآخرين، والاعتذار عمّا تلفظوه من كلمات قاسية، ثمَّ يصفحوا وينسوا. إنَّه يوصيكم بهذا النهج ويؤكد عليه”([18]). ومن الجدير بالملاحظة أنَّ الرسالة لم تُشر إلى من كان “على صواب” أو أين “العدالة” أو إلى “تصحيح الخطأ”.
وفي النهاية ستتوفر أمامنا الوسائل والشجاعة لتنفيذ القرار. فالنصيحة الواردة في البيان المبارك السابق يمكن ألاّ يكون سهلاً على البعض تنفيذها. والمشورة الحبيّة مع الأحباء يمكن أنْ تكون خطوة رئيسة نحو التسامح والنسيان فتبدأ عندها مرحلة البُرْؤ والشفاء.
وفي المدى البعيد، وبفضل المشورة، ستظهر من الضغط النفسي من المشكلة رُؤًى جديدة رائعة وتجارب وخبرات سنقدرها حق قدرها بعد أنْ تكون المشكلة نفسها قد طواها النسيان.
إنَّ المشورة بين الأحباء ليست إلزامية. ومع ذلك، يجب أنْ نأخذ نتائجها بعين الاعتبار بكل جديّة لأنَّ هناك وعدًا صريحًا بأنَّ العناية الإلٰهيّة ستشملنا إذا ما مارسنا المشورة بالروح اللائقة.
ومصدر آخر هام للمساعدة في المشورة ذلك هو مؤسسة العلماء. فأيّ فرد له مطلق الحرية في التوجّه إلى عضو هيئة المعاونين أو مساعده في مشكلة ما. ففي تلك المؤسسة المميزة في هذا العصر قوّة وحماية، وغالبًا ما يمكن الحصول على مساعدة مباشرة بهذه الطريقة. وفي بعض الأحيان تبرز مصادر أخرى للمساعدة في حل المعضلة أثناء المشورة مع أحد أعضاء هذه المؤسسة الرائعة.
من الطبيعي والواضح أنَّ القضايا المتعلّقة بمصالح الأمر المبارك يجب أنْ ترفع للمؤسسات المعنية. ومن المناسب أيضًا توجّه الفرد بمشاكله الشخصية لمحفله الروحاني. ففي تلك المؤسسة الإلٰهيّة سنجد الهداية الخاصة؛ قوّة تخترق القلب وتمسّ الفؤاد لا نظير لها في العالم غير البهائي. وببلسم الرعاية الحبيّة للمحافل الروحانية الشفوقة يمكن لأشدّ الجراح أنْ تبرأ.
وقد وجّه حضرة وليّ أمر الله نصيحته التالية لأحد الأحباء:
“… إنَّه يشعر بأنَّ عليك أنْ تتوجّه إلى محفلك المحلي بالسريّة التامّة وتسأله النصح والعون. إنَّ مثل هذه المؤسسات (المحفليّة) تقع عليها المسؤوليّة المقدّسة لمعونة المؤمنين وإسداء النصح إليهم وإرشادهم وحمايتهم بكل وسيلة في متناول يدها عندما يُطلب منها ذلك. وبالفعل، فقد تأسست هذه الهيئات فقط لغرض المحافظة على النظام والاتحاد والطاعة لأحكام الله بين أفراد المؤمنين … عليك باللجوء إليها كما يلجأ الطفل إلى والديه…”([19]).
وأمر هام آخر يجب أنْ نأخذه بعين الاعتبار، ذلك بأنَّ المحفل الروحاني تلزمه مثل تلك القضايا والمشاكل من أجل نضجه وتطوّره. وقد كتب سكرتير حضرة وليّ أمر الله بالنيابة عنه ما يلي:
“يرغب حضرة وليّ أمر الله في التأكيد على أهميّة تجنّب “اللجوء إلى المحاكم المدنيّة” في قضايا الخلاف بين الأفراد، وحتى في القضايا غير البهائيّة. إنَّها وظيفة المحافل الروحانيّة السعي إلى حلّ الخلافات بطريقة وديّة للحفاظ على سمعة الأمر المبارك ومكانته، ولاكتساب الخبرة الضرورية له في التوسّع بواجباتها وأعمالها مستقبلاً”([20]).
وما أنْ دعا بيت العدل الأعظم إلى مزيد من تطوّر المحافل الروحانيّة المحليّة حتى غرقت بعض الجامعات بمشاكل شخصيّة. فكان هذا جزءًا من عمليّة تطوّرها، وعناية إلٰهيّة أيضًا.
فعندما يحمل الفرد البهائي مشكلته إلى المحفل الروحاني يبرز هناك التزام قوي ذو حدين. فمن جهة يُطالبُ أعضاء الهيئة بأنْ “… يشاوروا في مصالح العباد لوجه الله كما يشاورون في أمورهم ويختاروا ما هو المختار…” وهي مسؤوليّة أمام الله. ومن جهة أخرى، فإنَّ الفرد الذي ينشد النصح من مؤسسة إلٰهيّة عليه أنْ يكون مستعدًا لقبوله وإنْ اختلف كليًّا عمّا كان يتوقع أو يريد.
في بعض الجامعات الكبيرة جدًا قد يجد المحفل الروحاني أمامه عددًا كبيرًا من القضايا الشخصيّة يتوجّب عليه معالجتها. وفي بعض الأحيان يكون من الضروري وجود طرق ووسائل خاصة من المساعدة في هذا العمل. فإذا اقتضى الأمر انتداب لجنة خاصة أو هيئة أو فرد من الأحباء لمقابلة الأفراد المعنيين بالقضيّة بالنيابة عن المحفل، فإنَّ الحماية الإلٰهيّة والبركات السماويّة المختصّة بالمؤسسة ستكون موجودة أيضًا.
وفي الجامعات الصغيرة أو الجديدة قد يشعر بعض الأفراد أنَّ المؤسسة غير قادرة على معالجة القضية التي يرغبون في عرضها. وهنا علينا أنْ نعلم أنَّ الوعد بشمول المحافل الروحانية بالهداية الإلٰهيّة مؤكّد، جديدة كانت أم عريقة وذات خبرة واسعة.
على أعضاء المحفل الروحاني أنْ يضعوا في ذهنهم ونصب أعينهم أنَّهم يتعاملون مع قلوب جريحة تحتاج إلى الشفاء. فهم لا يحاولون بكل بساطة إقامة العدل والكشف عن المخطئ وإعادة الحق إلى صاحبه أو التعامل في النواحي الإداريّة فقط. إنَّما الهدف يكمن في تحقيق التفاهم والشفاء.
هناك حالة معيَّنة قد يجد فيها المرء نفسه مضطرًا إلى معالجة المشكلة بنفسه ولا خيار آخر أمامه. قد تكون من أتعس ساعات عمر البهائي وأشدّها حزنًا عندما يواجه محنة شخصيّة شديدة ولا يجد أمامه شخصًا أو هيئة يمكنه الرجوع إليها. فتسيطر عليه مشاعر الوحدة والعزلة والغربة، الأمر الذي يزيد من تعاسته. وهي مصيبة رهيبة عندما لا تتوفر المساعدة والمؤازرة عند الحاجة. ومع ذلك، فإنَّ هذا ما يحدث عادة وسيتكرر حدوثه.
إنَّ الأمر المبارك لا يزال في مرحلة الطفولة، والمؤسسات الأمريّة لا تعمل دائمًا بالمستوى المرتجى، بالإضافة إلى أنَّ عدد البهائيين قليل، وينشغلون بشؤونهم الخاصة أحيانًا فلا تجدهم عند الحاجة. وكوننا بشر، فلكلّ منّا نقاط ضعفه. وعدم الخبرة بالمشاكل الإنسانية قد تعني أنَّ أفراد البهائيين الموجودين ليسوا حساسين كما ينبغي لهم أن يكونوا.
في مثل تلك الحالات قد يبدي بعض الأفراد غضبهم على الأمر المبارك أو على أحباء آخرين أو على المؤسسات لأنَّها لم تستجب لاحتياجاتهم، حتى أنَّ بعضهم قد يغضب على نفسه مع شعوره بأنَّه اتِّكاليّ. وفي كثير من الأحيان يزيد الفرد محنته صعوبة بعدم صبره مع نفسه ومع الآخرين.
ليس في البيانات المباركة ضمان بأنَّنا سنتلقى المساعدة من الآخرين عند الحاجة الماسّة. فتاريخ الإنسان وتاريخ الأمر المبارك مليء بالأحداث التي اضطر فيها الأفراد إلى استمداد كامل قواهم بعلاقتهم الخاصة بالله. “إنْ وجدت نفسك وحيدًا لا تحزن فاكفِ بربك ثمَّ استأنِسْ به وكن من الشاكرين”([21]). إنَّنا نعمل من أجل عالم أكثر محبة واستجابة لحاجات الآخرين. وهذا العالم غير موجود بعد.
وفي رسالة مؤرّخة في 22 تشرين الأول 1949 كتبت بالنيابة عن حضرة وليَّ أمر الله موجَّهة لأحد الأحباء نجد ما يلي:
“علينا أنْ نتحلى بالصبر مع الآخرين إلى أبعد الحدود، ومع أنفسنا الضعيفة أيضًا، متذكّرين أنَّه حتى الأنبياء تعبوا وصاحوا يائسين! …فيحثُّك على المثابرة وزيادة إنجازاتك بدل التركيز على الجوانب المظلمة للأمور. فلحياة كل فرد جانبان: مظلم ومضيء. وقد تفضّل حضرة عبد البهاء: أعرض عن الظلمة ووجّه بوجهك إلى وجهي”([22]).
هناك أمر واحد فقط لا يعرف الفشل ولا يمكن أن يُسْلب أبدًا: “لكلّ نفس ينبغي أنْ يختار لنفسه ما لا يتصرف فيه غيره ويكون معه في كل الأحوال. تالله إنَّه لحبُّ الله إنْ أنتم من العارفين”([23]). وإذا كان هذا الحب قويًّا يغدو بالإمكان تحمّل ما يحدث مهما كان. وفي بعض الأحيان عندما يجد الإنسان نفسه وحيدًا تتفجر بداخله أعظم قوى غير متوقعة وتأخذ بعدها في التطوّر.
من الممكن دائمًا أنْ يخلد الإنسان إلى نفسه مخاطبًا قواه الداخليّة سائلاً الهداية والنصيحة. ويمكن حصول ذلك بعدّة طرق: إحداها، وبكل بساطة، أنْ تفكّر مليًّا بالمشكلة، وأخرى أنْ تفكّر بالمسألة وأنت تمارس الدعاء.
ووجه آخر لحل مشكلة شخصيّة هو أنْ تتخيل أنَّك تتحدث مع صديق موثوق تستطيع التشاور معه لو كان موجودًا. حلل القضية إلى عناصرها الأبسط بحيث تستطيع شرحها للصديق. وقد يكون من المفيد أحيانًا تدوين ذلك التحليل كتابة. فأثناء هذه العملية قد يخطر ببالك الحل المناسب لأنَّ فهمًا أوسع للمشكلة قد تحقق. وليس من الخطأ في شيء بطبيعة الحال أنْ تكتب لصديق تشاوره فيها. وهذا ما نصح به حضرة وليّ أمر الله كثيرًا، إذ كان يمارس المشورة بالمراسلة باستمرار.
وهناك نوع آخر من المشورة يتمثل في تشاور الإنسان مع نفسه وروحه. وفي رسالة حضرة عبد البهاء الشهيرة إلى عالم النفس السويسري البروفيسور فوريل نقرأ ما يلي:
“فالعقل محدود في دائرة والروح غير محدودة. والعقل له إدراكات بواسطة قوى الحس مثل قوّة البصر وقوّة السمع وقوّة الذوق وقوّة الشم وقوّة اللمس، لكن الروح حرّة طليقة كما تلاحظون. إنَّها تسير في حالتي اليقظة والنوم. ولربما حلَّت في عالم الرؤيا مسألة من المسائل الغامضة التي كانت عند اليقظة مسألة مجهولة، ويتعطل العقل عن الإدراك بتعطّل الحواس الخمس… ولكن الروح في نهاية القوّة”([24]).
فهذا النوع من المشورة ينقل القضية من العقل الواعي إلى الروح حيث الحلول والإجابات الرائعة. وبطريقة ما تشبه عمليّة اتخاذ القرار الواردة في الفصل الثالث من الكتاب.
ومع ذلك، هناك بعض الاختلافات الهامّة. فبعد الوصول إلى صورة واضحة للمشكلة قدر الإمكان، توقف عن التفكير بها. والهدف من ذلك نقل لبّ الموضوع للروح باستخدام قوى البصيرة بعيدًا عن التركيز على المشكلة بالعقل الواعي. وقد يتطلّب تعطيل العقل بعض التمرين، إلاّ أنَّه أمر يمكن تحقيقه، وإحدى السبل الناجعة إلى ذلك القيام بالتفكير في شيء محدد آخر أو في عمل أو مشكلة لا علاقة لها بالموضوع. ويصف علماء النفس هذه المرحلة “فترة الحضانة”، وهي فترة من الوقت ليس فيها أي جهدٍ واعٍ لإيجاد الحل المناسب. فالروح لديها القدرة على العمل لإيجاد الحل أثناء النوم أو خلال انشغالك بعمل آخر.
فالحل آت لا محالة، إمّا في منتصف الليل، أو أثناء الدعاء، أو قيادة السيارة، أو المشي، أو ركوب الباص، أو غسل الصحون. وغالبًا ما يأتي في لحظة هدوء أو انعزال نسبيّة. كما يمكن أنْ يقفز الحل إلى المخيلة في منتصف محادثة ما، أو عن طريق ملاحظة عابرة، أو أثناء مشاهدة برنامج تلفزيوني. وقد يلمع الحل في الذهن فجأة، أو تتشكّل ملامحه الواضحة بالتدريج.
وكثيرًا ما استُخدم هذا الأسلوب في إعداد هذا الكتاب. فالعديد من المفاهيم التي كانت تُربك العقل وتحيِّره قد اتّضحت بفضل هذه العمليّة، وتكشفت أيضًا أفكار مختلفة في ربط العبارات.
وبينما تُقدِّم هذه الطريقة حلولاً رائعة للأفراد، إلاّ أنَّها ليست بديلاً عن المشورة مع الآخرين. إذ أنَّ هناك عدّة حالات تُفَضَّل فيها الاستنارة برأي الآخرين وتفاعلهم واستخدام تلك الآراء عندما تكون ملائمة. ويجب ألاّ يغيب عن بالنا أيضًا أنَّ الحلول الناتجة بهذا الأسلوب لا تخلو من أخطاء. إذ في الواقع يمكن أنْ نرى الحل واضحًا جدًا ولكنه بعيد عن الصواب لنقص في الحقائق أو خطأ فيها أو سوء فهم لها. فقوّة البصيرة لا يمكن أنْ تزودنا بمعلومات ناقصة بالرغم من أنَّها كثيرًا ما تستخدِم معلومات غابت عن الذهن. فالمُدْرَكات الحسيّة المشوّهة أو المحرَّفة أو المفاهيم المكوّنة أصلاً قد تبقى مطبوعة في الذهن.
إنَّ النتائج التي نتوصّل إليها بهذا الأسلوب علينا ألاَّ نفرضها على الآخرين بأيّ حال من الأحوال. فهي للهداية الفرديّة والشخصيّة فقط. وقد تفضل حضرة وليّ أمر الله وكتب بواسطة سكرتيره حول موضوع مشابه ما يلي:
“يمكن القول بأنَّ الأسئلة التي أثرتها في رسالتك حول الهداية الفرديّة لها جانبان: فمن الجيد بمكان أنْ يتوجه الناس إلى الله طالبين عونه في حل مشاكلهم والتوفيق في أعمالهم في كل يوم من حياتهم إذا ما رغبوا في ذلك، إلاَّ أنَّ ما يشعرون به أنَّه هداية لهم لا يمكنهم فرضه على الآخرين أو على المحافل الروحانية أو اللجان لأنَّ حضرة بهاء الله شرّع حكم المشورة بوضوح ولم يُشِرْ أبدًا إلى بديل عنها”([25]).
قيِّم الحلول التي تحصل عليها بهذه الطريقة ضمن إطار سؤالين: هل الحل يتفق وتعاليم الأمر المبارك؟ وهل سيتسبب في شيء من الألم والإيذاء؟ فإذا كان الجواب (نعم) في الأولى و(لا) في الثانية، طبّق الحل بكلّ قناعة ولكن الزم جانب الحذر. فالحذر ضروري لإفساح المجال أمام مراجعة الحل والتأكد من صلاحيته في التطبيق العملي. ذلك لأنَّ الحل في بعض الأحيان يبدو لنا قاطعًا، وقد نكتشف لاحقًا بأنَّه كان خاطئًا، أو أنَّه كان حلاًّ مؤقتًا. وقد يكون هذا الحل خطوة ضروريّة إلاَّ أنَّها ليست كاملة إلى أنْ يتم إيجاد حل أفضل أو ظهور معلومات إضافية.
وباتباعنا هذا النهج تبرز أمامنا عدّة حلول رائعة لقضايا محيِّرة مُربكة.
إنَّ إحدى العلائم الحقيقية للنضج الروحاني تتمثل في موقف الفرد تجاه شخص آخر يخوض جهادًا روحانيًا. وبشكل عام فإنَّ ردود الفعل لدى أفراد المجتمع مختلفة، وتتراوح بين الازدراء والترفُّع مرورًا باللامبالاة إلى التعاطف مع مَنْ يواجهون المصاعب.
وغالبًا ما نشاهد موقفين متناقضين تجاه الوضع: الأوَّل في مدّ يد المساعدة وإبداء مشاعر العطف والتفهُّم، والثاني –خاصة إذا كانت المشكلة نتيجة واضحة لارتكاب خطأ أو مخالفة لحكم، بهائي أو مدني، أو سوء تقدير بكل بساطة– في التفكير إمّا في نطاق العقوبة أو أنَّ الشخص نفسه كان السبب فيما حصل له.
ولحسن الحظ ليس في المجتمع البهائي ما يدعو إلى مثل هذا التناقض في المواقف. فهناك ترتيب مثالي يعمل على حماية المجتمع من المتجاوزين والمخالفين. فالعقوبة المناسبة تُفْرض، ويبقى الفرد يتعامل مع المخالفين بالحب والعطف والتسامح.
وستسمى المحافل الروحانية في يوم ما بيوت العدل وليس بيوت الرحمة. فهي مسؤولة أمام الحق عن العدل بين الناس. أمّا الأفراد فإنَّ عليهم أنْ يظهروا مشاعر الشفقة والعطف للتخفيف من آلام القلوب المضطربة ومعاناتها، كما أنَّ واجبهم يقضي بأنْ يُعلموا المؤسسات المعنيَّة بأيّة مخالفة تُرتكب. إلاّ أنَّه يجب عدم الخلط بين واجبهم كأفراد ومسؤولياتهم الإداريّة. على أفراد البهائيين ألاّ يتصرفوا أبدًا كمحافل روحانية مع بعضهم البعض. وكثيرًا ما يحدث أنْ يوجّه أحد الأفراد، بصفته مندوبًا عن مؤسسة أمريّة، تأنيبًا رسميًّا قاسيًا لبهائي آخر، وفي وقت لاحق يُظهر له أكبر قدر من التعاطف الشخصي والتفهّم بصفته فردًا عاديًّا. فهذان الموقفان ليسا متناقضين، بل يعكسان حقيقة أنَّ هذا العصر هو عصر النضج والبلوغ. فالمؤسسات الأمريَّة يجب أنْ تعمل بالعدل والأفراد بالمحبة والأناة.
وفي التعامل مع أناس يعانون من مصاعب شخصيّة عسيرة، غالبًا ما نلاحظ القلق والاضطراب، وهي ظاهرة لا تُسِر. ويمكن أنْ يتمثل ذلك في إمارات الخوف من شر مرتقب، والاضطراب الفكري الشديد أو الخوف المصحوب بالاكتئاب: القلق.
يمكن للقلق أنْ يعقِّد عمليّة المشورة ويزيدها صعوبة ويعرقل مساعي الآخرين في تقديم المساعدة وذلك في أسلوبين خطيرين: الشعور بالعَجَلة والإلحاح إلى أقصى مدى ثمَّ اللاعقلانية.
العَجَلة والإلحاح: غالبًا ما يكون هناك شعور غير صحيح بأهميّة المشكلة. فالشخص الذي يواجه معضلة ما، قد يعتبر كافّة التفاصيل على جانب كبير من الأهميّة مهما بلغت في صغرها وتفاهتها. ومن السهل على الآخرين فلسفة الأمور والقول بأنَّ الامتحانات تدفعنا إلى النضج، وتجعلنا نرى كلّ أزمة من منظورها الصحيح. إلاّ أنَّ الأمر ليس كذلك للشخص الذي وقع فريسة الألم والكرب والضغط النفسي الذي يسببه القلق والاضطراب. ففي الجانب العاطفي لا يمكن مقارنة أي شيء أو مجاراته بالمعاناة الفكريّة التي تسحق الإنسان وتنهكه وتَشل حركته أحيانًا. فمعه ترتفع درجة التوتر وتزداد. ممّا يتحتم على مَنْ يريد مد يد المساعدة أنْ يعتبر عامل الوقت وإظهار اللطف أمران أساسيان وجوهريان حتى عند إظهار الحزم. فالتأخير في المساعدة لأيّ سبب كان يزيد الألم حدّة بدرجات متفاوتة، وتزداد لدى الفرد مشاعر الاستخفاف والإهمال بقضيته ويتعاظم الألم. فالحاجة القصوى هي التخفيف من حدّة التوتر وبعدها يمكن التركيز على الأمور الأساسيّة الأكثر أهميّة.
اللاعقلانية: يفقد العقل قدرته على التفكير ويغيب المنطق عندما تصبح المشكلة مثيرة للعواطف. فالسلوك غير المنطقي والأفكار المفككة حالة شائعة تصاحب القلق، وقد يشعر بالإحباط أولئك الذين يحاولون مساعدة الشخص المعني بالمشكلة لأنَّه قد يقوم بأفعال طائشة على النقيض من كافّة النصائح السديدة الموجّهة إليه، الأمر الذي يمكن اعتباره بكل بساطة من علائم القلق والتوتر. فلا يدعونا إلى الإحباط أو الكف عن تقديم المساعدة. فحالة التوتر وتبعاتها ستخفّ لديه عندما يلقى منا الدعم الحبي والمساندة التي ستخفف عنده الشعور بالضغط النفسي وتقدّم له المساعدة اللازمة.
إنَّ البيانات المباركة مَلأى بالحثّ على التعاطف وتشجيع أولئك الذين هم في حاجة إلى ذلك. وفي الوقت نفسه، حذار من التدخّل في شؤون الآخرين والتطفّل عليهم. وأفضل مساعدة أحيانًا عدم الإتيان بأيّ شيء مباشرة. فاللجوء إلى الدعاء وتقديم الدعم والمساعدة حينما يُطلب ذلك فقط تبقى خطوة إيجابية، وقد تكون أفضل عون يمكن تقديمه في ذلك الوقت.
هناك مشاكل من نوع خاص تثير لدى البعض تعاطفهم، وأخرى تثير لديهم نفورهم. وفي كلتا الحالتين قد يحتاج صاحب المشكلة إلى المساعدة. والأمر يحتاج إلى مستوى خاص من الأخلاق البهائية الحقَّة للاستمرار في مساندة ودعم من يواجهون مشاكل منفِّرة في طبيعتها.
عندما تتعلق المشاكل بمخالفةٌ للأحكام البهائية والتعاليم المباركة، فإنَّ تعقيدًا آخر يبرز أمامنا. فبالرغم من أنَّه لا وجود لبهائيين كاملين، إلاّ أنَّ الكثيرين يصدمون من ارتكاب بهائي معروف خطأ واضحًا.
قد يجد الفرد البهائي نفسه في وضع غير طبيعي محاط بأشخاص لا يراعون التعاليم البهائية، وقد يكون ذلك امتحانًا قاسيًا لمن يسعى إلى الالتزام بها ويرى لامبالاة الآخرين تجاهها. وكلَّما كان عدم الطاعة أكبر وأوضح كلّما كان الامتحان أقسى للذين ينشدون الطاعة. فماذا عسى البهائي أنْ يفعل في تلك الحالة؟
يفيض علينا حضرة بهاء الله بالهداية اللازمة لتطوير موقف مناسب تجاه من يخالفون تعاليم الأمر المبارك وأحكامه، فيتفضّل:
“وإنْ وجدتم من ذليل لا تستكبروا عليه لأنَّ سلطان العزّ يمر عليه في هذه الأيام ولا يعلم كيف ذلك أحد إلاّ من كان مشيّته مشيّة ربكم العزيز الحكيم… فيا طوبى لعالم لن يفتخر على دونه بعلمه فيا حبذا لِمُحْسِنٍ لن يستهزئ بمن عصى ويستر ما شهد منه ليستر الله عليه جريراته…”([26]).
وتاليًّا، لا تضعف حتى لو كنت الوحيد في منطقتك الذي يحاول السلوك وفق رسالة الطبيب الإلٰهي الشافيّة. ولا تسمح للآخرين أنْ يُثْنوا عزيمتك. فهناك الألوف من أصحاب الضمائر الحيّة في أقطار العالم. وكثير من الشهداء لبسوا تاج الشهادة بفضل سموّ أخلاقهم الرفيعة. أمّا عند الخطأ الذي يتطاول إلى سمعة الأمر المبارك فبادر إلى نقله لمؤسسة مسؤولة مثل المحفل الروحاني أو عضو هيئة المعاونين أو مساعده. إنَّه إجراء ليس فيه غيبة أو تشهير، بل يمكِّن الشخص من التخلّص من المشكلة بالتعامل معها بالأسلوب المناسب.
وإذا كان لديك شك في كيفيّة التعامل مع المشاكل الشخصيّة، فلا مناص من المشورة. إذ بها ستجد طريقك إلى الحلول المعقولة على الأغلب.
فالامتحانات ليست جزءًا طبيعيًّا من الحياة فحسب، بل أمر ضروري لها. فقد تفضّل حضرة عبد البهاء: “إنَّ الحياة عبء ثقيل يجب حمله”([27]). وهذا يعني مزيدًا من الامتحانات القادمة. وعند قدومها يجب مواجهتها والتعامل معها. إنَّ بعض الطرق وأساليب التعامل مع الامتحان يمكن تطبيقها سواء أكان الامتحان يواجه فردًا أو يؤثّر على الجامعة البهائية بأكملها، وسواء أكان تطبيق هذه الطرق والأساليب يجري من قبل الفرد أو من قبل مجموعة استشارية أو مؤسسة أمريّة. وإليكم بعض الاقتراحات المحددة المساعدة:
ربما يكون أفضل مثال فريد على كيفيّة تحويل سيل المعارضة إلى ميّزة يستفاد منها ما صدر عن قلم حضرة وليّ أمر الله. فعندما تصاعد الهجوم على ألواح وصايا حضرة عبد البهاء انتهز حضرته الفرصة وكتب إلى الأحباء في الغرب. وعن المعارضة تفضّل في رسالته موضّحًا:
“علينا أنْ نكون شاكرين حقًّا لمثل هذه المحاولات الخاسرة لإضعاف أركان أمرنا المحبوب. هذه المحاولات التي تكشف عن وجهها البشع من وقت لآخر، وتبدو لبعض الوقت قادرة على إحداث الشروخ في صفوف الأحباء، ستتقهقر أخيرًا وتغيب في عالم الظلام والنسيان. يجب اعتبار هذه الأحداث قبسات من العناية الإلٰهيّة تقوِّي إيماننا وتوضّح رؤيتنا وتعمِّق إدراكنا للحقائق الأساسيّة لرسالة حضرة بهاء الله السماوية”([28]).
وقد تابع حضرة وليّ أمر الله لسنوات عدّة بعد ذلك “تقويّة إيماننا” و”توضيح رؤيتنا” و”تعميق إدراكنا” بمجموعة من الرسائل المتتابعة التي جمعت الآن في كتاب بعنوان “نظام بهاء الله العالمي”. وكم هو مدعاة للسخريّة في أنْ تصبح تلك المحاولات اليائسة لمعارضة أمر الله والنيل منه فرصة للبدء بأوّل مرحلة من تزويد العالم البهائي برمته بتوضيح كهذا للحقائق الأساسيّة للأمر المبارك إلى جانب فهم أعمق لهدفه الإلٰهي!!
يكشف لنا هذا المثال كيف يمكن توظيف التحدّي بخطوة نحو التقدّم. والامتحان الحقيقي أمامنا هو أنْ نستغل كل وضع وحالة بالأسلوب الذي من شأنه تعزيز مصالح أمر الله. وعمل كهذا يعد ترجمة صادقة لما يعنيه كونك خادمًا للمحبوب في هذا اليوم المجيد.
[1](1) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 71.
[2](2) المصدر السابق، صفحة 189.
[3](1) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 89.
[4](2) “منتخبات من آثار حضرة النقطة الأولى”، صفحة 153.
[5](3) The Divine Art of Living, p. 89, no. 1.
[6](4) The Divine Art of Living, p. 89, no. 2.
[7](5) The Divine Art of Living, p. 90, no. 3.
[8](1) Star of the West, IV no. 5, p. 89.
[9](2) Star of the West, VI no. 6, p. 45.
[10](1) Baha’I Administration, p. 50.
[11](2) “أدعية حضرة محبوب”، صفحة 196.
[12](1) Consultation: A Compilation, no. 47.
[13](1) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 189.
[14](2) طائر خرافي زعم قدماء المصريين أنَّه يعمّر خمسة قرون أو ستة. وبعد أن يحرق نفسه ينبعث من رماده وهو أتم ما يكون شبابًا وجمالاً. (قاموس المورد”
[15](3) Vignettes from the life of Abdu’l-Baha, p. 110.
[16](1) Consultation: A Compilation, no. 20.
[17](2) Consultation: A Compilation, no. 47.
[18](1) Dec, 18, 1945, Living the Life, p. 24.
[19](1) كتيب “المحفل الروحاني المحلي”، صفحة 23.
[20](2) Directives form the Guardian, no. 36.
[21](1) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 179.
[22](1) Unfolding Destiny, pp. 456-7
[23](2) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 168.
[24](1) “خطب عبد البهاء”، صفحة 12.
[25](1) Consultation: A Compilation, no. 37.
[26](1) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 202.
[27](2) Paris Talks, p. 99.
[28](1) The World Order of Baha’u’llah, p. 3.
“اليوم، ليس من ضرٍّ على الأمر أعظم من الفساد والنزاع والجدال والنفور والفتور بين أحباء الله. اجتنبوا بقدرة الله وسلطانه ثمَّ ألِّفوا بين القلوب باسمه المؤلِّف العليم الحكيم”([1]).
ولهذا السبب الوجيه يخشى الفرد البهائي ذو الضمير الحيّ، أكثر ما يخشاه، وجود الفُرْقة بين جماعة الاسم الأعظم. فلا شيء يشلّ أعمال التبليغ ويخمد الروح أو يخلق المشاكل العديدة مثل الخلافات والمشاحنات بين الأحباء.
فعندما تتوجّه أنظار كل فرد نحو سموّ الرفعة والعظمة للجمال المبارك، والبركات السماويّة الحاميّة لميثاق، والمهام النبيلة التي تنتظرنا، فلا مكان للخلاف والشقاق بعد ذلك. إلاّ أنَّه في بعض الأحيان تغيب عنّا تلك الرؤية، فيواجه أحدنا الآخر مجرَّدين من طبيعتنا الإنسانيّة. وعندها تبدأ المشاكل في الظهور والبروز.
لكلّ فرد شخصيته المميّزة وطاقاته الروحانيّة. وحتى نطوِّر تلك المواهب الإلٰهيّة الكامنة فينا، يتوجب القضاء على نتوءات حادّة مؤذية في شخصيتنا، ويتمّ ذلك من خلال التعامل مع بعضنا البعض. وبذلك تصقل الروح وتُهذَّب. وللوصول إلى هذا الهدف أوجد الخالق لنا عالمًا يحتاج إلى التطوّر والتقدّم. والأفضل من ذلك أنَّ لدينا جامعة بهائيّة نمارس حياتنا بداخلها، ونجد فيها جميع التحدّيات التي تحتاجها الروح. إنَّ الفُرقة حالة للروحانية في درجاتها المتدنيّة. فعمليّة رفع مستوى الرؤيّة، والأخذ بيد الجامعة نحو نقطة التجاذب والاتحاد يُعدُّ تحديًّا أمامنا وفيه مكافأة لنا ويُسهم في تحقيق الهدف من الحياة. وللتطلّع إلى فهم أفضل لذلك، علينا التطرّق إلى بعض تلك الخصائص الإنسانيّة التي تقود إلى الخلاف والنزاع والمشاكل الصعبة عندما تفقد صلتها بالحقائق الروحانيّة.
“هناك نوعان من البهائيين يشكّلان امتحانًا كبيرًا كلّ منهما للآخر: “السريعون والبطيئون”. هذا ما قاله أحد المبلّغين الجوّالين المعروفين وهو ينتظر العضوين الآخرين في مجموعته للحاق به. فسواء أكان الأمر يتعلّق بالمشي في الشارع أم في تناول وجبة من الطعام سويّة أو في محاولة تفحّص آلية العمل في شيء ما، فإنَّ السريع والبطيء يمكن أنْ يشكل كلّ منهما للآخر مشاكل صعبة. فسريع الخاطر قد يدرك فورًا النقطة الرئيسة في الموضوع مع الكثير من مضامينها وتطبيقاتها وكأنَّ ذلك شيء بديهي. أمّا بطيء التفكير فقد يعجز عن إدراك الموضوع لأوّل وهلة، إذ يحتاج إلى وقت حتى لإدراك الجزء الأوّل منه. وقد يفرغ صبر سريع التفكير فيقلّل من شأن بطيئه في تفهّم أيّ شيء. أمّا البطيء فقد ينتابه الشك والارتياب تجاه من يتقدّم عليه في الاستيعاب، وبسبب مشاعر القلق التي تنتابه لعجزه عن استيعاب كلّ ما يجري من حوله قد يشعر أنَّ الشخص سريع التفكير يحاول أنْ يمرِّر شيئًا ما على حين غرَّة. فأحدهما ليس بالضرورة يفوق الآخر إبداعًا أو معرفة، بل بكل بساطة إنَّهما مختلفان، ويختلفان في سرعة التفكير. ولا يُعَدُّ أحدهما أرفع مقامًا وأعلى مرتبة من الآخر، إلاّ أنَّهما يشكّلان اختبارًا قاسيًّا لبعضهما البعض.
وهناك شكل آخر من التباين بين الشخصيات قد يسبب الإشكال وهو يتمثّل في الشخص العمليّ المتيقّظ أمام المتهوّر والمندفع. فالأوَّل قد يرى أنَّ الثاني يتقدّم بأسلوب فجّ غير مدروس، وقد يعتبر الثاني أنَّ الأوَّل يعمل بالعقل دون اعتبار للعواطف والمشاعر، وهذا ما سيسبب له القلق.
ونوعان آخران يتسببان في المشاكل لبعضهما البعض. شخص نشيط حيوي يريد القيام بالعمل فورًا، وآخر لا مبالٍ لا يعرف الإلحاح في أيّ أمر. وآخران أحدهما يملك قدرة عاليّة على التركيز ويحاول التشاور مع آخر ضعيف التركيز وسهل التشتت بفكره. إنَّ حقيقة أنْ يبدو الشخص وكأنَّه سيستمر في حديثه لفترة طويلة دون توقف قد تشكِّل للآخرين عنصرًا غير مريح إلى درجة كبيرة. ومن ناحية أخرى، فإنَّ الأشخاص القلقين العصبيين قد يجعلون من الفرد الذي يميل إلى الهدوء والتأمل إنسانًا قلقًا عصبيًّا.
يجلس أحيانًا على طاولة المؤتمر شخص له إنجازاته الكبيرة وآخر يجد صعوبة في التغلّب على مشاكل الحياة. فالأوَّل قد يكون قادرًا على تصريف شؤونه وأعماله الخاصة بأسلوب جيد ويجد في كل مشكلة فرصة وفائدة، أمَّا الآخر فلا يجد شيئًا يبدو له ناجحًا، فيخلص من أزمَّة ليقع بأخرى. والبقاء على قيد الحياة يُعدّه إنجازًا بحدّ ذاته. وعدا عن حبهما لحضرة بهاء الله، فإنَّ الشيء الوحيد المشترك بينهما، أنَّ كل واحد منهما يجد في الآخر نمطًا من الحياة مبهمًا وغير معقول.
يبرز التحدّي الكبير عندما يتشاور شخص له رؤيته الشاملة ونظرته الثاقبة للفرص المتاحة، مع أُناس لهم رؤيتهم المحدودة نسبيًا. فهناك منهم من يحمل أهدافًا نبيلة ونيَّة صافية ولكن مع قسط بسيط من الفهم والإدراك، فيعملون على تقويض الإقدامات البارزة وإعاقتها، ويصدرون أحكامهم على كل ما يجهلونه أو يدركون القليل منه.
إنَّ إطلاق الوعود السهلة رغم عدم الكفاءة، من الصعب أنْ يقبله شخص ملتزم بكلمته وينفّذ ما يقوله. ومع ذلك قد يجلس معه شخص آخر يتطوّع للقيام بكلّ شيء ولا ينجز إلاّ القليل، أو سكرتير لا يتقن كتابة الرسائل، أو أمين صندوق لا يجمع التبرعات المقدّمة.
وهناك الشخص المتأرجح في رأيه والمتردد الذي يتساءل عن مدى صواب القرار المتّخذ حتى بعد صدوره. أمَّا الشخص المتكيّف الواثق من نفسه والذي يتّخذ قرارًا ثمَّ ينتقل إلى الموضوع الآخر، فقد يشعر بالضيق بسهولة عندما يرغب شخص متردد في إثارة مواضيع قديمة انتهى بحثها. وهناك من يواجهون صعوبة في إيجاد الحل للقضايا المطروحة، فيجدون دائمًا مواضيع عامّة قديمة لم يُتّخذ بشأنها قرار، وغالبًا ما يعمدون إلى إثارتها من جديد ووضعها على جدول الأعمال. وعلى النقيض منهم نرى البعض يريدون حسم الموضوع بالمشورة الكاملة الصريحة والتمحيص الدقيق لكل الحقائق أو بدون ذلك كله، ويصبح بالتالي اتخاذ القرار أهمّ من كونه صائبًا أم لا. بعض الناس مرنون ويستطيعون التكيف مع أيّ وضع، بينما آخرون ذوو طبيعة جامدة ولا يقبلون تغيير أيّ خطّة عمل بمجرد أنْ تمَّ الاتفاق عليها. وهناك الذين يشعرون بالأمان تجاه ما اعتادوا عليه في تصريف الأمور ويترددون في تجربة الجديد، ويحاولون التشاور أحيانًا مع أناس على استعداد لنبذ كل ما تمَّت تجربته في السابق ويثير اهتمامهم شيء ما لمجرد كونه جديدًا ومختلفًا ولم يُجرّب.
وهناك أيضًا البهائي القديم الذي اعتاد طُرُقه الخاصة. فقد تكون له معرفة بالآثار المباركة، وربما كان مميزًّا في خدماته في بعض الظروف بالغة الصعوبة وقدَّم خدمات جُلَّى لأمر الله. ومع كل ذلك فقد يعارض كل فكرة جديدة، وينظر إلى الخطط الجريئة بكثير من الشك والريبة.
وماذا بشأن الذين يتمتعون بمستوى عالٍ من القوة والاندفاع، ويتملكهم شعور قوي تجاه شيء ما حتى يصبح هاجسهم؟ فبداخلهم يتموج إخلاص شديد، فلا يتطلّعون إلى قيمة المشروع ولا إلى حوافزه. إلاّ أنَّ قوّة المشاعر هذه واندفاعها قد تجعل من العسير رؤية الأمور من الزاوية الملائمة. الأمر الذي قد يؤذي مشاعر الآخرين.
وهناك العنيد الذي لا يتزعزع عن رأيه، أو سهل الإقتناع الذي يوافق على كل شيء ولا يتمسّك بأيّ شيء. وهناك المتذمر باستمرار وهو المتشائم الذي لا يرى إلاّ المشاكل والجانب المظلم من الأمور. وهناك الحالم غير العملي والمتفائل بغاية السذاجة والذي لا يملك الحلول ولا يقوم بأيّة خطوة، إلاّ أنَّه متأكد من أنَّ كل شيء سيسير على ما يرام.
وهناك من يرغب في وقف كلّ شيء لتقييم مدى فاعليّة ما تمَّ إنجازه، وهو على النقيض من ذلك الشخص الذي يشعر أنَّ ما يحدث بتفاصيله إنّما هو إرادة الله و”ما يجب أنْ تكون عليه الأمور”. وهناك الذين يرون الصورة كاملة ويجلسون إلى جانب الذين لا يستطيعون إلاّ التركيز على جزء معين منها في كل مرّة. وهناك أيضًا القادر على إعطاء الحلول بشكل سلس تلقائي ولديه الحل السريع لمعضلة كل شخص، أو ذاك الذي يعرف كل جوانب الموضوع مهما كان ويمتلك إمكانيّة التعليق عليه بكل براعة. ويمكن أنْ يطول بنا السرد ويمتد أكثر فأكثر.
فالجامعة البهائيّة تتكون من نسيج متكامل. وكل صفة إنسانيّة يمكن تصورها من مواطن القوّة أو الضعف نراها في أتباع حضرة بهاء الله. أضف إلى ذلك، أنّه لا نهاية لقائمة الصفات الإنسانيّة التي يمكن أن تشكل مصدرًا للإثارة عند الآخرين. فكل له نمط سلوكي معين قد يعتبره غيره عيبًا. وبعض الناس يملكون قدرة كبيرة على تحمّل الآخرين بمزاجهم الشخصي، وآخرون لا يستطيعون ذلك. ويمكنا أنْ نجد في الجامعة البهائيّة أيًّا من هذه العادات المزعجة أو جميعها مجتمعة.
وفي هذا السياق نجد مفارقة جديرة بالاهتمام:
ليس في المجتمع البهائي طريقة لإبعاد بعض المشاكل التي تبرز نتيجة التباين بين الشخصيات. إلاّ أنّه لا يمكن السماح لأيّ خلاف أنْ يطول. وإذا ما حدث ذلك، تكون الجامعة قد جنحت عن مهمتها الساميّة.
إنَّ نبذ التعصبات الخاصة باللون والعرق والقوميّة أو الدين أمر صعب، ومع ذلك فقد يبدو سهلاً إذا ما قورن بنبذ التعصبات تجاه مَنْ نختلف معهم بالفكر والقيم والعادات والتقاليد وأسلوب الحياة والثقافة وفي تحديد الأولويات الشخصيّة. وهنا يكمن التحدّي الذي بدأت تعيه الجامعة البهائيّة بأجمعها. وبالمشورة يمكن التعامل مع هذه الأمور بتأثير وفاعليّة.
عندما يعجز المحفل الروحاني عن تصريف أموره بسلاسة يبرز أمامه نوع خاص من الامتحان. فأحد المؤمنين البارزين ممن لهم خدمة طويلة وخبرة مع بهائيين في مختلف أقطار العالم، أدرك مدى محبة الأحباء وقدراتهم، وهو يعرف أيضًا أنَّ تصريف شؤون الأمر بات أحيانًا أكثر صعوبة من اللازم لأنَّ التعليمات لا تنفذ دائمًا بشكل جيد. وفي أحد الأيّام رحَّب بجمع كبير من الأحباء قائلاً: “محيطات و محيطات من المحبة الغامرة، وسلسة جبال من عدم الكفاءة”.
قليلة هي المحافل الروحانيّة التي وصلت إلى درجة عالية من الكفاءة في أيامنا هذه، أكان ذلك في المشورة أم في تنفيذ الخطط. وهذا يمثّل إحباطًا كبيرًا وخطيرًا لأولئك البهائيين الذين اعتادوا مستوى عالٍ من الإنجازات الشخصيّة. وبالنسبة لهم قد تبدو لهم لمشورة في بعض الأحيان هدرًا كبيرًا للوقت. وأولئك الذين اعتادوا التركيز ووضوح الأهداف في أعمالهم، قد يجدون صعوبة بالغة في حضور اجتماعات محفل روحاني أو لجنة تصرِّف أمورها ببطء أو بأسلوب مشتت غير فعّال. والأسوأ من ذلك عندما تطرح أثناء المشورة ملاحظات بعيدة عن المنطق بكل وضوح أو لا ترابط بينها، ومضحكة في بعض الأحيان. وستتفاقم المشكلات مع قلّة كفاءة ومقدرة الرئيس أو السكرتير أو أمين الصندوق أو أيّ شخص رئيسي آخر في الهيئة. فالتشوش الذهني الحاصل من أخطاء الآخرين وسخافاتهم يمكنه أنْ يسلب المتعة والسرور من أيّة مهمة. فالملل والجمود والعصبيّة أو التململ، وحتى الاشمئزاز والغضب، كلّها أعراض متوقّعة. بالإضافة إلى أنَّ الإحباط الناتج عن عدم تنفيذ القرارت في الوقت المناسب قد يصل إلى حد لا يطاق. وقد يكون طريق الشهادة أفضل على المرء من حالة التردد والارتباك والاضطراب الذي يحدث في بعض الأحيان. فماذا أنا فاعل هنا؟ ومن هو في حاجة إلى هذا كله؟ هي أسئلة تجول بخاطر أولئك الذين لا يهمهم سوى الإنجاز. “بإمكاني الاستفادة من وقتي في القيام بأمور أهمّ”، أو “هناك طرق أفضّل لخدمة الأمر المبارك”. إنَّها استنتاجات قد تطلق عند الغضب.
وبكل سهولة قد تكون النتيجة اختلاق الأعذار للتغيّب عن الاجتماعات فيتذرع المرء قائلاً “كنت مشغولاً جدًا”، في حين أنَّ السبب الحقيقي هو كون الاجتماعات غير مثمرة. وتشتد هنا مغريات القيام بنشاطات أكثر مسرَّة وإرضاءً للنفس، وتبدو أعظم إنتاجًا. وحتى برامج الخدمة الأمريّة البارزة يمكن إيجادها بديلاً عن تحمّل اجتماع للمحفل الروحاني أو اللجنة وقد أصبح مملاً. إنَّ الارتقاء فوق مصادر الإحباط هذه يتطلّب درجة عالية من القوَّة والإيمان وضبط النفس.
يجب ألاّ يثير دهشتنا تصريف شؤون الأمر المبارك إنْ لم يكن مثاليًّا في بعض الأحيان. فبعض من يكلّفون بخدمة ما يفتقرون إلى خلفيّة ذلك العمل، أو إلى التدريب والخبرة في تنفيذ واجباتهم المقدَّسة، وتنقص بعضهم الثِّقة أو المهارات الضروريّة. وكثير من المؤمنين الذين تنقصهم الثقة والرؤيّة الواضحة نراهم من أكثر المشاركين ويؤدون دورًا بارزًا في الدراما الإلٰهيّة.
هذا الأمر الإلٰهي – سفينة النجاة للبشرية – يجب أنْ يمرّ بهذه الأوقات العصيبة في بدايته، مظهِّرًا نموًّا متباينًا في مراحل مسيرته. وقد أوضح ذلك حضرة وليّ أمر الله بقوله لأحد الأحباء: “يجب أنْ ننظر إلى الأمر المبارك على أنَّه نظام كامل، ولكنه يعمل بأدوات غير كاملة على الإطلاق. وبالتدريج، من خلال زيادة الوعي الروحي للفرد، والتغيير الشامل الذي يجب أنْ يصيب العالم نفسه، سيظهر كمال هذا النظام ويعمل بفاعلية تامّة”([2]).
فلو أمعنا في النظر وتأملنا مليًّا في هذه الفكرة سيبدو واضحًا لنا أنَّ الانهماك في التفكير المخلص لإيجاد أناس أكثر كفاءة، والوقوف على أخطاء بعضنا البعض، والحُلم بخدمة الأمر المبارك بأساليب أخرى، أو بكيفيّة الهروب من ظروف هذه المرحلة غير الملائمة، لا يخدم أي هدف مفيد.
على الفرد أنْ يخدم المحفل الروحاني أو اللجنة التي هو جزء منها، لا تلك الهالة لهيئة غير موجودة مبنيّة على خيال لما “يجب أنْ تكون عليه”. فحيثما وجدت المشاكل يجب دراستها من معطيات الظروف المحيطة بها، وبالمشورة المفتوحة الصريحة سنصل إلى الهدف المنشود.
فالصعوبات الداخليّة يجب التغلّب عليها ضمن المجموعة المتشاورة نفسها إذا أمكن، وإلاّ، فلتطلب المساعدة من الغير. فاللجان بإمكانها الرجوع إلى محافلها الروحانيّة، والمحافل الروحانية المحليّة قد تلجأ إلى عضو هيئة المعاونين أو المحفل الروحاني المركزي طلبًا للمساعدة، والذي بدروه يستطيع الاستفادة من المشورة مع الهيئة الاستشارية القاريّة أو بيت العدل الأعظم. وبالرجوع إلى الفصل الثالث عشر يمكنكم إيجاد المزيد.
إذا كانت المشكلة تتعلّق بواحد من الهئية الإداريّة – أو أكثر – في كيفيّة أداء واجبه، فيجب اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان تنفيذ الواجبات الضروريّة بأسلوب ما. وسوف تختلف التفاصيل تبعًا للظروف. إذ من الضروري التغلّب على المصاعب أو الالتفاف عليها.
وحقيقة الأمر أنَّه على الرغم من أنَّ عددًا كبيرًا من الناس ليسوا على مستوى الواجبات الموكولة إليهم، إلاّ أنَّ الواجبات يجب القيام بها. فإذا انعدم الأشخاص الأكفاء للقيام بذلك، فإنَّ الواجب يدعو الآخرين لبذل أقصى ما عندهم. ويعني ذلك أنَّه على الفرد أنْ يقوم بما يجب عليه القيام به بدل أنْ يقوم بما يفضّله هو أو يتقنه. ومن السهل أنْ تقول: “يا إلٰهي! لا أستطيع القيام بذلك” ونتركه جانبًا. إنَّه أمر غير لائق. لقد أوضح حضرة وليّ أمر الله في بداية ولايته هذا التباين حين تفضّل: “لقد حان الوقت للأحباء… أنْ لا يفكروا في كيفيّة خدمتهم للأمر المبارك بل كيف يجب أن يُخدم”([3]) . وكثيرًا ما اكتشفت مواهب جديدة مدهشة ومنابع من القوّة لدى الفرد عندما يقوم بكل بساطة على تقديم ما هو المطلوب.
لقد تلقينا وعدًا بأنَّه “… إذا ما نهضنا لنقوم بدورنا بكلّ نُبل، فإنَّ كلّ نقص في حياتنا سيُعوّض تعويضًا عظيمًا عن طريق تلك الروح القاهرة الشاملة لفضله وقوَّته”([4]). ولا يعني هذا أنَّ الشخص بطيء الفهم سيُمسي ذكيًّا فجأة، أو أنَّ كثير النسيان سيحظى فجأة بذاكرة قويّة، أو أنَّ قلَّة الكفاءة ستتحوّل بطريقة سحرية إلى كفاءة تامّة، أو أنَّ شخصيّة صعبة المراس ستصبح فجأة سهلة التعامل. بل معنى ذلك أنَّ نوعًا من المكافأة سوف تُجزى، وشيئًا ما ذا نفع سوف يحدث. وقد لا تكون للمكافأة علاقة بالمهمة قيد التنفيذ. فالله يجعل من الوسائل المتاحة فائدة عظمى مدهشة. فكل ما علينا فعله “أنْ نقوم بدورنا بكل نُبل” وستذهلنا المكافآت الإلٰهيّة.
وفي تلك الأثناء، من الضروري أحيانًا التجمّل بالصبر في ظروف تبرز فيها قلَّة الكفاءة واللياقة. فبينما يأمل كل واحد في التطوّر والتقدّم داعيًا مجاهدًا من أجل ذلك، فإنَّ التغيير لا يأتي سريعًا دومًا. إذ من اللازم أنْ يركّز الفرد رؤيته على القدرة الرائعة الكامنة في المؤسسات. فالمشاكل الظاهرة التي تبرز حاليًّا يجب ألاّ يسمح لها أنْ تُغَشّي تلك الرؤية. وتتجدّد نظرتنا عندما نعيد للأذهان أنَّ تلك المؤسسات هي في طور النضج والتطوّر، وأنَّ الحفظ الإلٰهي يأتيها من عالم الملكوت لينقلها في النهاية إلى آفاق تتجاوز حدودات البشر بدرجات ودرجات. إنَّه الأمر الإلٰهي، ورحلة الأمان والاطمئنان فيه مسيّرة ومقدّرة إلٰهيًا.
إنَّ حضرة بهاء الله يؤسس حضارة جديدة. وحتى أفضل جوانب الأنظمة القائمة وأكثرها كفاءة غير قادر على القيام بمهمة إنشاء عالم جديد، وإلاّ لما كان هناك داع لنظام جديد. فالمحافل الروحانية ذات الكفاءة العالية، والتي تقوم على تصريف أعمالها بسلاسة، هي بالتأكيد جديرة بتلك المهمة. إلاّ أنَّه، حتى تلك التي تتخذ القرارات السديدة بسرعة وسهولة، وتقوم على “تنفيذ المهام”، فإنَّها لا تعدّ قائمة بواجبها ما لم تكلل أعمالها بنشاط تبليغي فاعل، ويسودها جو من المحبة والانسجام.
ومن أجل الوصول إلى كمال هذا النظام الإلٰهي، يتحتّم على الفرد أحيانًا أنْ يضحّي بمواهبه وصفاته ورغباته العزيزة عليه ليقوم بكل بساطة بما يتوجّب فعله. فالضيق والكآبة التي يفرزها عالم يجتاز مرحلته الانتقاليّة يجب تحمُّله، لأنَّه وضع مؤقت زائل.
عندما ينحو الأحباء ذو الكفاءة والمواهب إلى نشاطات أخرى تروق لهم، فذلك يعدّ حقًا خسارة كبيرة وشيئًا مؤلمًا سيتسبب في تراجع لا ضرورة له. إنَّه شكل من أشكال التخلّي عن المؤسسات الأمريّة وقت الحاجة وهو يعيق مسيرة التطوّر الطبيعي. كما أنَّ الفرد يتخذ بذلك لنفسه خطوة خطيرة في مجال تطوّره الروحاني، حتى لو فكّر بكل صدق وقال: “ليسوا بحاجة لي” أو “ليس من شيء إضافي أستطيع فعله” أو “إنّه مَضْيَعَة لوقتي”. فتلك أفكار تدل على قصر النظر وتخطئ لب الحقيقة.
إنَّ جمود الفرد البهائي لأيّ سبب كان، يحرم الأمر الإلٰهي من إحدى وحداته المحرّكة ومن القوّة الدافعة الضروريّة نحو قدرها المحتوم. إذ إنَّ ذلك يسلب المؤسسات أكثر المقوّمات ضرورة – الموهبة ذات التوجّه الروحاني والانضباط – والمطلوبة لتسريع خطواتها نحو الوصول إلى القدرة الإلٰهيّة الكامنة فيها.
وما يحدث في واقع الأمر، أنَّ تعامل الأحباء مع المشاكل المتعددة التي تعالجها اللجان والمحافل الروحانيّة التي يخدمون فيها، يُعدّ عمليَّة من التحوّل والانقلاب؛ التغيير التدريجي من الأساليب القديمة إلى النهج الذي اختطّه الجمال المبارك. فالفرد الذي يثابر ويتحلى بالصبر، ويتحمل عن طيب خاطر مشورة لم ترقَ إلى المثاليّة بعد، يغدو الأداة التي تجعل من ذاك التحوّل أمرًا ممكنًا. إنَّه شكل من أشكال الخدمة والتضحية سام ونبيل وغير عادي. فالتغيير الحاصل يأتي بطيئًا وضئيلاً، وغالبًا ما يتكرر ويكون مؤلمًا أحيانًا. إنَّه الثمن المدفوع لقاء العيش في هذا العصر الانتقالي.
بهذه العمليّة تجد المؤسسات الأمريّة طريقها إلى النضج ببطء، وعلى نحو يكتنفه الغموض لتجني الثمار الرائعة لأنَّها تحت الحماية الخاصة والموهبة الكبرى للجمال المبارك نفسه، ولأنَّ نفوسًا كفؤة تحلَّت بالإرادة قد صمدت وثابرت حتى في الأوقات التي كانت تفضّل فيها القيام بأعمال أخرى.
ومن المفارقات أنَّ أحد المجالات الشائعة التي تبرز فيها المشاكل نجد له ارتباطًا بالنجاح، نجاح الفرد نفسه ونجاح الآخرين على حد سواء. فالآثار المباركة تضع مقياسًا رفيعًا جدًا في إدارة الشؤون والمصالح، مصالح الفرد وشؤون الأمر الإلٰهي معًا. فهناك الحثّ الشديد على التميّز في جميع المساعي والمجهودات، وإحراز التفوّق في كلّ الأمور.
يظن بعض الأحباء أنَّ فكرة التميّز تتعارض مع كون الفرد بهائيًا جيدًا. ويبدو أنَّهم يميلون إلى الاعتقاد أنَّ التعاليم الخاصّة بالعدالة الاجتماعيّة تقتضي نوعًا من المساواة التي تعتبر الجميع في كفّة واحدة.
ومع كوننا مختلفين إلاّ أنَّ لكلّ نفس قيمتها ولكلّ منّا مساهماته الفريدة ليقدّمها. فنختلف كثيرًا في خصائصنا الفطريّة كالذكاء والمواهب والقدرات الجسمانيّة. وقد أكدَّ حضرة عبد البهاء على ذلك حينما تفضّل: “إنَّ اختلاف القدرات بين البشر أمر جوهري، فمن المستحيل أنْ يتشابه الجميع، وأنْ يكونوا متساوين وجميعهم عقلاء”([5]). كما تفضّل بوجود الاختلاف في المراتب بين بني البشر([6]). بعض الأحباء يجدون صعوبة في تقبُّل هذا المفهوم لأنَّه يبدو متناقضًا مع الأفكار الداعيّة إلى الأخوّة والمساواة.
وهناك مجال آخر أمام خلط وارتباك يمكن حدوثه. فالتعاليم البهائيّة تحض على التواضع، ونكران الذات، وألاّ يعتبر الفرد نفسه أفضّل من الآخرين، بل يعتقد بأنَّهم أعلى منه مرتبة. فلو أخذناها بحسب الظاهر فإنَّها تبدو متعارضة مع السعي وراء الإنجاز والنجاح والتفوّق.
وقد يقنع بعض الأحباء بالإنجاز ذي المستوى المتوسط انطلاقًا من المفهوم الخاطئ بأنَّ الكفاح من أجل التفوّق هو رغبة تفوح منها رائحة الأنانيّة وتضعهم في مرتبة أعلى من غيرهم. حتى أنَّ بعضهم يشعر بالذنب من الإنجازات الشخصيّة معتقدين بأنَّهم لا يظهرون التواضع اللازم.
لقد تمَّ توضيح معالم هذه المسألة عندما سُئِلَ حضرة عبد البهاء في نيويورك: “إذا تحلّى الشخص بمقدرة عقليّة فائقة، فهل عليه أنْ ينزل إلى رتبة من هم أقلّه مقدرة؟” فكان ردّ حضرته ملفتًا للنظر إلى حدٍّ كبير:
“القدرة والامتياز أمران جوهريان في هذا الأمر الإلٰهي. فكل من يتمتع بقدرة كلاميّة أعلى وموهبة أعظم في جذب الآخرين وإخلاص أكبرسوف يأخذ مكانه في التقدّم مهما حصل… فالنفوس في حقيقة الأمر غير متساويّة. فبعضها يتبوأ مكانة رفيعة في طليعة الجيش، وآخرون في المرتبة الثانيّة. إنّه أمر فطريّ. وعلى أحباء الله أنْ يراعوا إلى أقصى حدّ ممكن تلك النفوس المخلصة التي تسعى جاهدة في خدمة الأمر المبارك.
فمثلاً علينا أنَّ نقدِّر شخصًا يؤدّي خدمة عامة، ونمدح من يلقي خطابًا جيدًا ونبدي تقديرنا الكبير لمن يقدّم اقتراحًا حكيمًا ويبدي نوايا حسنة. فأولئك المميّزون بين الأحباء من حقهم أنْ ينالوا التقدير الذي يستحقونه. فالتميّز أمر جيد وكل الأشياء المميّزة جيدة: التميّز في الذكاء، والتميّز في الإخلاص وغيره، وذلك لأنَّ التميّز يعني التقدّم والتطوّر”([7]).
ثمَّ سُئل حضرته بعد ذلك: ألا يعد التميّز خطرًا على الفرد؟ فأجاب ضاحكًا: “كلّ الناس في خطر. والإنسان مهما كانت درجته فهو في خطر. هل يمكنك أنْ تجد شخصًا واحدًا في مأمن من الخطر؟”([8])
وفي مجموعة من البيانات المباركة التي نشرها بيت العدل الأعظم بعنوان “التميّز في كلّ الأمور”، اقتطفت الكلمات التالية من يراع حضرة عبد البهاء: “اختاروا لأنفسكم هدفًا ساميًّا نبيلاً”([9]). “ابذلوا بعد ذلك جهدًا كبيرًا… حتى يكون أحباء الله متفوّقين على أبناء جنسهم في كل أنواع التميّز”([10]). وهناك دعاء لاستمطار “النجاح والفلاح في كل الأمور”. “أتمنى لكم التمّيز” هي نصيحة خاصة من حضرة عبد البهاء. وأيضًا أنْ نكون “مثالاً يُحتذى”. وفي عبارات لا يشوبها الشك، أمر حضرة بهاء اللله أتباعه بأنْ “تنافسوا فيما بينكم في خدمة الحق وأمره. هذا ما ينفعكم في الآخرة والأولى”([11]).
فمن الواضح أنَّ التنافس مع الآخرين والتفوّق عليهم ليس بالأمر السيء، إنَّما السوء في ازدراء الآخرين. وهنا يكمن الفرق الرقيق الدقيق، إلاَّ أنَّه فرق مهم.
هنا مبدءان أساسيان من الممكن وضعهما نصب أعيننا لإحراز النجاح دون السماح للإنجازات نفسها بأنْ تصبح مشكلة. أوّلهما: “منح الفضل في الإنجاز لمن يستحقه. وثانيهما: القدرة على رؤية الأمور بشكل يتناسب وحجمها الصحيح.
الفضل في الإنجاز: وفي الحقيقة بإمكان البهائيين أنْ يقولوا دائمًا: “إنَّه بفضل حضرة بهاء الله” عند التعليق على أيّ مشروع ناجح. فبالإضافة إلى الفكرة العامة بأنَّ كلّ شيء راجع لحضرته ولأجله، فإنَّ هنالك سببين آخرين وراء هذه الحقيقة:
القدرة على رؤية الأمور بشكل يتناسب وحجمها الصحيح: وقف أحد أيادي أمر الله مع مجموعة من الأحباء في مواجهة الشمس لالتقاط صورة تذكاريّة. فأخذ أحد الأحباء في مدحه. فما كان منه إلاَّ أنْ تقدّم خطوة إلى الأمام وقال: “هل أستطيع أنْ أقول الآن أنَّني أقربكم إلى الشمس؟”. لقد وضع المسألة بكاملها فورًا في المنظور الصحيح دون إنكار لإنجازاته أو مقامه. فالنجاح بكل بساطة يشكّل امتحانًا يجب أنْ نجتازه. ومفتاح ذلك ألاّ نفقد القدرة على رؤية الأمور في منظورها السليم. لقد تمَّ تعيين (36) شخصًا على الأقل في مؤسسة أيادي أمر الله أثناء حياتهم، وكان ذلك تمجيدًا كبيرًا لهذه النفوس الزكيّة. ومع ذلك فإنَّ واحدًا منهم فقط، وهو ميسون ريمي، أخذته العزَّة بالإثم فنقض العهد والميثاق وأبعد نفسه عن ظلّ حفظه وحمايته. أمّا الآخرون فقد احتفظوا برؤياهم وبنظرتهم إلى الأمور بشكل يتناسب وحجمها الصحيح.
إنَّه أمر لا بأس به أنْ تتفوّق، وشيء جميل أنْ تجرّب فتفعل جيدًا، ولا ضير في مدح الآخرين وتهنئتهم على إنجاز جيّد، ولا بأس من شعورك بالرضى على ما تحققه، ولا ضرر من إبداء تقديرك على تهنئة الآخرين لك على فعل جيّد قمت به. إنّما من غير المستحسن التفاخر بذلك المديح والثناء أو السماح له أنْ يتملكنا.
على البهائيين أنْ ينشدوا النجاح والإنجازات العاليّة في كل ما يعملون. فلا تعارض بين النجاح والتواضع، ذلك لأنَّ النجاح ثمرة الاتجاه السليم، وهو يضعنا في جهاد روحاني آخر. وفي هذا السياق يتفضّل حضرة وليّ أمر الله:
“إذا استطعنا إدراك واقع الأشياء على حقيقته لرأينا أنَّ أعظم المعارك القائمة في عالم اليوم هي المعركة الروحانيّة. فإذا كان الأحباء مثلك؛ فتيانًا شغوفين متقدّي الحماس والحيويّة، توّاقين إلى أكاليل الغار والمجد في البطولة الحقيقية السرمديّة، دعهم ينضمون إلى المعركة الروحانيّة التي تمس جوهر الروح الإنساني مهما كان انشغالهم المادي. ومن أصعب المهام وأنبلها في العالم في عصرنا الحاضر أنْ تكون بهائيًّا حقيقيًا. وهذا الأمر، لا يتطلّب قهر الشرور التي تعمُّ أنحاء العالم فحسب، بل التغلّب على مواطن الضعف، وعلى التشبث بالماضي، والتعصّبات والأنانيّة التي يمكن أنْ نكون قد ورثناها ودخلت في تكوين شخصيتنا، وأنْ نقدّم لإخواننا في الإنسانيّة مثالاً مشرِّفًا لا يأتيه الباطل من خلفه”([12]).
عندما يوفّق الفرد إلى إنجاز مميّز شخصي أو خاص بالأمر المبارك، أو عندما يعمل بكل جد واجتهاد، فهناك خطر دائم يكمن في وجود شخص ما يحاول التقليل من أهميّة عمله. وكلَّما كَبُر الإنجاز وتعاظمت الجهود المبذولة كلَّما تعالت أصوات المنكرين لها وازدادت وضوحًا. وعن هؤلاء الذين يستخفّون بمجهود الغير يتفضّل حضرة عبد البهاء بقوله الأحلى:
“… إنَّهم يعجزون عن الصمود أمام أوَّل امتحان لهم وهو ابتهاجهم بما حققه جارهم من نجاح، والذي يفرح له المولى القدير. إذ بهذه السعادة والابتهاج الحقيقي فقط تتنزَّل الموهبة الإلٰهيّة على القلب الصافي”([13]).
قد تُحجب أحيانًا عبارات التقدير والتهنئة خوفًا من إعلاء شأن شخص ما. وفي بعض الحالات توضع العراقيل في طريق شخص ما بسبب مشاعر خوف مخلص –في غير محله – من وقوعه في حبائل تعظيم الذات. وفي بعض الأحيان هناك نزعة نحو التقليل من شأن ما ينجزه الغير.
يمكن تشبيه الروح الإنسانيّة بفراشة جميلة. فعندما تصيبها حرارة أشعة شمس التشجيع تأخذ بالطيران صعودًا وهبوطًا يُسّرُّ له الجميع. ولكونها رقيقة ناعمة فمن السهل دوسها تحت الأقدام وسحقها لتستقر في التراب بلا حياة فاقدة القوى والجمال. وقد استشهد حضرة عبد البهاء بالأبيات التالية محذِّرًا من التسبب في إيذاء أبناء جنسنا:
ما لم تكن مجبرًا
لا تؤذ حيّة على التراب
فكيف بجرح إنسان!
وإنْ استطعت
لا تزعج نملة
فكيف بإيذاء الإخوان([14]).
فإذا كان المولى قد دافع عن الحيَّة والنملة بهذه الرقَّة، ألا يتوجب علينا أنْ نكون أكثر رقَّة وإحساسًا بفراشات أرواح الآخرين من بني البشر؟ فاعتنوا لطفًا بفراشات الآخرين.
من بين ما يتميّز به الموهوبون والأكفّاء هو مستوى عالٍ من النشاط، ورؤية واضحة للهدف. وهذا ما يساء فهمه في بعض الأحيان من قبل الآخرين على أنَّه هاجس للوصول إلى الأهداف بأيّ ثمن.
فالشخص التقليدي في رؤيته سيواجه إحباطًا شديدًا عندما يعمل مع آخر يتحلّى بموهبة وكفاءة عاليّة. فإذا فشل في فهم الطرف الآخر نضبت بينهما الثقة وقام بمحاولة للحيلولة دون الإنجاز السريع. ويمكن أنْ تبذل مجهودات أكبر في محاولة لإبطاء التقدّم في مشروع ما فقط لأنَّ الأمور تسير بشكل أسرع ممّا يستطيع الشخص التقليدي أنْ يستوعبه بسهولة.
أحد الامتحانات الحقيقية التي يواجهها الشخص الموهوب وصاحب التخيّل الواسع أنْ يبقى قويًّا أمام تساؤل الآخرين عن نواياه ودوافعه وتكامل خطواته. ونتيجة الانحراف عن جادّة الطريق، يمكن للنفوس الأقلّ موهبة أنْ تقوِّض الجهود وتسمح للأمور الثانويّة أنْ تحظى بأهميّة مبالغ فيها لتعيق بدورها عمليّة التقدّم. يتفضّل حضرة عبد البهاء بقوله:
“عندما يدعو الله نفسًا إلى مرتبة عليا من الخدمة، فذلك لأنَّها قادرة على نيل هذا المقام مكافأة منه، ولأنَّها دعت وتضرَّعت أنْ تفوز بالقيام على خدمته. فلا الحسد، ولا الغيرة، أو تشويه السمعة والمفتريات والمؤامرات أو تدبير المكائد ستجعل الله يبدِّل مقامًا قُدِّر لنفس إنسانيّة. لأنَّ أعمالاًَ من الناس كهذه تعتبر امتحانًا للفرد بفضل العناية الإلٰهيّة. امتحانًا لقدرته وصبره وجلده وثباته وإخلاصه وقت الشدّة”([15]).
إنَّ مضامين هذا البيان المبارك ذات قيمة عظيمة للمشورة. فكم من مشروع قد قضي عليه، ليس لخلل في التخطيط أو لسوء في الإدارة، بل بسبب أولئك الذين أخمدوا شرارة الإبداع برؤيتهم المحدودة. فتقدّم الأمر نفسه يمكن أنْ يتباطأ وتذوي روح التوق نحو الخدمة والعمل. وكثير من الأحباء الموهوبين أصيبوا بالإحباط فانصرفوا عن النشاطات البهائيّة ووجهوا طاقاتهم نحو ميادين أخرى وجدوها تشبع رغباتهم. ومن ناحية أخرى، فإنَّ الكثيرين ممن لا يعون ما يدور حولهم يستسلمون للإحباط لأنَّه قد يتراءى لهم وكأنَّ شخصًا ما يحاول التحكّم بكل شيء، أو لمجرد أنَّهم لا يدرون ما عليهم أنْ يفعلوا. فمجلس للشورى يتَّصف بالحكمة والقيادة الرشيدة، عليه أنْ يستفيد من مواهب أصحاب الكفاءات العاليّة، ومن ذوي الرؤيّة المحدودة، وذلك بالمشورة الفاعلة. فمواهب كل فرد لازمة. إنَّه تحدٍّ بمقدور المشورة أنْ تواجهه بكلِّ سهولة ويسر.
وفي “ألواح الخطّة الإلٰهيّة” وصف لنا حضرة عبد البهاء حدثًا جللاً. ففي حديثه عن تلك النفوس التي تشكّل “الجيوش الإلٰهيّة” تفضّل قائلاً:
“وإذا ما توَّجه أحدهم إلى قطر من الأقطار ودع الناس إلى ملكوت الله، ساندته جميع القوى المعنويّة والتأييدات الربانيّة وكانت ظهيرًا له، ووجد الأبواب مفتوحة ورأى القلاع والحصون مهدمة، ويهاجم وحده جيوش العالم، ويهزم أجنحة اليمين واليسار لدى جميع الأمم. ويتغلغل إلى قلب القوى الأرضيّة. هؤلاء هم جند الله”([16]).
هذا الوصف الذي يأسر الألباب يفترض قيادة حيويّة جاذبة محرِّكة وفاعلة داخل كل فرد، كما ينطوي في البيان أيضًا إشارة إلى عدد من المشاكل ستظهر بالتأكيد؛ فعدد هائل من الأحباء سيصابون بالفزع إذا ما بدأ مثل هذا الأمر يحدث في الجامعة. ولرؤيتهم أنفسهم أكثر الجميع صوابًا، قد يلجأون إلى المشورة بقصد الحدّ من تجاوب المؤسسات نظرًا لكونها غير مهيّأة لدعم وقبول هذه النشاطات المذهلة، وهذا ما سوف يعيق تقدّم الأمر الإلٰهي. فما ورد في البيان المبارك من أحداث متوقّعة يجب ألاّ نستخف بأهميّته. فمركز العهد والميثاق قد كتبه ولا شك أنَّه سوف يحدث، وقد لا ندركه على أنَّه عناية إلٰهيّة عند وقوعه.إنَّ التصميم الفعَّال على تحقيق هدف واضح لخدمة أمر الله قد يغدو مقلقًا. فكيف يمكن لبعض المحافل الروحانيّة المعاصرة أنْ تتعامل مع ذلك النوع من الحماس والإقدام الذي انبعث من مطالع الأنوار؟! هل يمكن للطاهرة والملاّ حسين والقدوس أو الحُجَّة الزنجاني أنْ يحصلوا على دعم إخوانهم المؤمنين، أم سيُطلب منهم تخفيف الحماس والتريث وتناول الأمور ببساطة واعتدال؟
عندما تتوقف رؤية الفرد للأمر المبارك عن النمو، يغرق في شعور من الرضا، ويميل إلى تحديد نشاطه ضمن المستوى المريح. ومن يشعر بالرضا الذاتي سينزعج من الآخرين عندما يريدون عمل المزيد. وقد تكون النتيجة حصول الإحباط أو بروز المحاولات لإبطاء الآخرين.
لا أحد يستطيع أنْ يدرك تمامًا مجد هذا الأمر الجليل ومقدار عظمته وما يرمي إليه. وعندما تتسع رؤيتنا، عندها فقط، يمكن للطاقات الخلاّقة الكامنة في أفراد المؤمنين أنْ تتفجّر وتصب في قنوات الخدمة. إنَّه تحدٍ لا حدود له، غير أنَّه جوهري في أنْ تستمر رؤية الفرد في الاتساع. وكما تفضّل حضرة شوقي أفندي: “لذلك يجب أنْ يظل أوَّل واجب علينا – وهو يقيني الثابت – العمل على الوصول إلى إدراك جدير بأهميّة أمر بهاء الله العجيب، وأنْ يستمر أساس الجهد المتواصل لكل فرد من أتباعه المخلصين”([17]). فالرؤية المحدودة وما شابهها يمكن لها أنْ تقضي على الإبداع، وتحبط المبادرة الفرديّة، وتوقف الإنجازات الشخصيّة إذا لم تُقوَّم بالمشورة البنّاءة.
فالمشورة تمكّننا من تحليل الأوضاع والأمور والنظر إلى المواضيع من منظورها الحقيقي. فهي تساعد الجميع على التسامي فوق الأحزان والهموم الثانويّة. وعندها ستقوم القوى المعنويّة والرؤى الأكثر استنارة وجهود الدعم والتشجيع، بدفع عجلة الأمر الإلٰهي إلى الأمام مع بقاء “فراشة” كل منا سليمة.
من بين الفرائض السبعة لأولئك الذين يتشاورون معًا “خلوص النيّة”. لقد حثّ حضرة عبد البهاء المؤمنين مرارًا وتكرارًا على تنقيّة قلوبهم. وربما يكون أحد الأسباب وراء التأكيد على ذلك عدم وجود من يتّصف بالخلوص الكامل.
والبهائيون عمومًا هم أكثر الناس تحررًا من النوايا الخفيّة. ومع ذلك، فإنَّ الأهداف والرغبات الخفيّة يمكن أنْ تتسلل إلى عمليّة المشورة. وكثير من هذه الرغبات ليست شريرة على الإطلاق.
إنَّ بعض هذه النوايا الخفيّة قد تكون –بكل بساطة- الرغبة في التأكد من أنَّ الاجتماع سينتهي في الساعة العاشرة حتى يعود صاحب تلك النوايا إلى منزله ليحظى بنوم مريح قبل ذهابه إلى العمل في اليوم التالي، أو لمشاهدة برنامج تلفزيوني هام له في وقت محدد، أو حتى القيام بنشاط تبليغي أعدّ له سابقًا.
عندما تجدّ أمور على جدول الأعمال يبدو بحثها طويلاً بينما يدنو وقت المغادرة سريعًا، قد تبرز محاولة لاختصار المشورة للخروج من الجلسة في الوقت المحدد. فتصبح النوايا مختلطة وتغدو النتيجة إجابات تتّسم بالتردد أو العشوائيّة بعيدًا عن التفكير الهادئ العميق.
وللتعامل مع مثل هذا الوضع، هناك طريقة أكثر صدقًا. ناقشه، وقل ببساطة أنَّك تتمنى لو انتهى الموضوع خلال مدّة كذا، وفي الساعة كذا. وبعد ذلك قرّر لنفسك أيّهما أفضل: الاستمرار بالمشورة، طلب تأجيلها، الانسحاب منها وعدم المتابعة أو التغاضي عن نشاطك الآخر، أو معالجة الموضوع بأسلوب آخر. وبعبارة أخرى، فبدل التعامل مع النوايا المختلّطة والتردد، من الأفضل أنْ تُفصح عن المشكلة الحقيقية وهي تضارب الاهتمامات. فهي تشبه إلى حدٍّ ما محاولة القراءة مع صوت قطرات الماء النازلة من الحنفيّة. فكلّما حاول الإنسان جهده في التركيز كلّما تعالى في أذنه صوت القطرات. فإصلاح الحنفيّة قبل العودة ثانية إلى القراءة يوفّر علينا الكثير من الوقت والانزعاج. وينطبق المبدأ هذا نفسه على المشاعر المختلّطة. تعاملْ معها، فهي لن تحل نفسها بنفسها، وعند ذلك تصبح المشورة في منأى عن التأثّر بالنوايا التي لم يتشارك بها الآخرون.
وتتأثر المشورة سلبًا حيثما وجدت النوايا المختلّطة والمشاعر المتضاربة. فيتولّد شعور بأنَّه قد تمَّ الإسراع في إنهاء النقاش أو تمَّ اختصاره. ويتولّد قلق واضح وخشيّة من أنَّ الأمور لم تأخذ حقّها الكامل كما يجب.
ليس بالإمكان التخلّص من النوايا المختلّطة جميعها. وحقيقة الأمر، ليس بمقدورنا أنْ نتعرّف على جميع المشاعر المتضاربة لدى كل فرد، وحتى أنَّها لا تستحق العناء في محاولة لاكتشافها. ومع كلّ ذلك، يجب أنْ ندرك درجة تأثير ما يُشغل بال الآخرين على المشورة وسيرها فنقوم على بحثها ومعالجتها ثمَّ وضعها جانبًا.
عندما يكون هناك شعور بوجود ما يشغل بال أحد الأفراد، أو أنَّ لديه نوايا مختلّطة، فمن المحبّذ الإشارة إلى ذلك. فعبارة بسيطة مثل: “هناك شيء ما يدور من حولي ولا أفهمه” يمكن أنْ تدعو المجموعة إلى التوقّف وإعادة التفحّص وربما تصل إلى حلّ الإشكال.
والعواطف المختلطة هي أيضًا من العوامل الشائعة. فالكائنات البشريَّة معقَّدة التركيب إلى حدٍّ بعيد. فالفرح والحزن كثيرًا ما يلتقيا في حدثٍ واحد. فربما يُتَّخذ قرار بتبني نشاطات جديدة يرافقه فرح ودرجة من الحماس نحو ذلك، وفي الوقت نفسه قد تنتاب البعض خشيّة من المغامرة في المجهول ممّا سيدفع إلى المزيد من التردد.
فالعواطف المختلَّطة المصاحبة لكل جانب من جوانب المشورة تقريبًا يجب تقبُّلها كما هي عليه. ولا داعي للشعور بالذنب حيالها، لأنّها طبيعيّة وجزء من ذخر الحياة وتوازنها.
وفي حياتنا اليوميّة نستقبل أمورًا كثيرة بمشاعر مختلّطة، فلماذا يجب أنْ تخلو المشورة منها؟ وإذا ما أدركنا هذه الحقيقة البسيطة سَهُلَ علينا التعامل مع إفرازات المشاعر المتضاربة ونتائجها دون أنْ تؤثّر فينا. لدى العديد من الناس مشاعر متضاربة مشروعة تجاه مواضيع عدّة، ولكنهم غافلون عن إداركها أو قبول هذا التضارب على أنَّه شيء لا ضير فيه. فالمشورة قادرة على المساعدة في إلقاء الضوء على تلك الهموم وتنحيتها جانبًا. فالمخاوف الموهومة يمكن تبديدها، كما يمكن إدراك الآمال والأهداف غير الواقعيّة على حقيقتها. وعندما يتعانق الفرح والحزن معًا، تمدّ المشورة يدها لتساعد الناس على قبول تلك الحقيقة.
وخلاصة القول، فإنَّ كلاًّ من العواطف المختلَّطة والنوايا المتشابكة هي جوانب حقيقيّة وحيويّة للحياة وتتسبب أيضًا في التضارب. فبدلاً من تجاهل وجودها، يجب بحث تأثير كلّ منها بالمشورة وبكل صراحة وانفتاح كلّما اقتضى الأمر. وبهذا الأسلوب والنهج فإنَّ جانبًا طبيعيًا من الحياة لن يعيق المشورة، بل سيعمل على إثرائها وتقليل مشاعر الحيرة والتردد قدر الإمكان.
[1](1) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 14.
[2](1) World Order, July 1943, p. 115.
[3](1) The Priceless Pearl, p. 74.
[4](1) كتيب “المحفل الروحاني المحلي”، صفحة 12.
[5](1) The Promulgation of Universal Peace, p. 217.
[6](2) “من مفاوضات عبد البهاء”، صفحة 85.
[7](1)Star of the West, III no. 10, p. 8.
[8](2) Star of the West, III no. 10, p. 8.
[9](3) Selections from the Writings of Abdu’l-Baha, p. 35
[10](4) Selections from the writings of Abdu’l-Baha. p. 150.
[11](1) The Advent of Divine Justice, p. 70.
[12](1) من رسالة موجهة لأحد الأحباء، مؤرخة 5/4/1942م.
[13](2) Star of the West, VI, 44.
[14](1) Selections from the Writings of Abdu’l-Baha, p. 256
[15](1) Star of the west, VI, 44.
[16]() “ألواح الخطّة الإلهية”/ الصفحتان 21-22.
[17]() “دورة بهاء الله”، صفحة 8.
بالإضافة إلى جوانب الحياة المقلقة شائعة الحدوث، هناك بعض المشاكل التي لو حدثت في الجامعة البهائية لضغطت بنيّرها على أواصر الألفة والمحبة. وغالبًا ما تكون معالجتها أكثر صعوبة لأنَّها تتضمن حالات نجد فيها شخصًا أو أكثر عاجزين عن، أو غير راغبين في، تعزيز الوحدة أو لا يدخل ذلك في اهتمامهم. فمعالجة مثل هذه المشاكل لا نجدها -بكل بساطة- في إعادة تركيز كل فرد لرؤياه الشخصيّة، والترفّع عن الشكاوى التافهة.
قد يجد المحفل الروحاني نفسه أحيانًا أمام وضع تستحيل فيه المشورة بسبب مشكلة عاطفيّة. وقد يكون للمشكلة وقعها الخاص إذا تعلّقت بعضوين في المحفل الروحاني يطلبان الطلاق أو يعانيان من خلافات شخصيّة تكثر فيها المشاحنات. وقد تكون المشكلة أكبر وأوسع في مداها. فقد يواجه الفرد في حياته أزمة أو سلسلة من المصاعب لها تأثيرها السلبي الكبير على قواه العاطفيّة، أو يكون في وضع من الاضطراب العقلي الشديد أو الخَرَف والشيخوخة بحيث يعجز عن التعامل مع أمور عديدة بالمنطق والفاعليّة لأنَّها تفوق طاقته.
مثل هذه المشاكل العاطفيّة قد تدفع صاحبها أحيانًا إلى الانفعال والثورة ورفع الصوت، وإلى مقاطعة الآخرين في حديثهم في بعض الأحيان بأسلوب غير مهذّب، أو أنْ ينفجر غاضبًا في الضيافة التسع
عشريّة أو ربَّما في جلسة للمحفل الروحاني. يجب عدم السماح باستمرار الهياج. فإذا حدث ذلك في جلسة للمحفل الروحاني، فلتوقف المناقشة لوقت آخر أكثر ملاءمة. وإذا حدث في ضيافة تسع عشريّة أو اجتماع آخر، وجب وقف من يسبب الإزعاج بكل حزم ولكن بمحبة، أو إبعاده عن المكان. وبعدها حاولوا إعادة الأمور إلى مجاريها ونسيان ما حدث تمامًا. وإذا ما فشلت هذه الأساليب وغيرها، قد يصبح من الضروري إنهاء الاجتماع على أمل عقد جلسة أخرى أكثر روحانيّة في وقت لاحق. ومن الطبيعي أنْ يعالج المحفل الروحاني هذا الموضوع في اجتماعه التالي.
أمّا إذا فشلت جميع محاولات المحفل الروحاني في معالجة الموضوع، فيجب إرجاع المشكلة إلى أحد أعضاء هيئة المعاونين أو أحد المساعدين أو للمحفل الروحاني المركزي أو إلى لجنة مناسبة، لأنَّ هناك عدَّة إجراءات يمكن للمؤسسات الأمريّة الأخرى أنْ تتخذها. إلاّ أنَّه: كيف يمكن للجامعة أثناء ذلك أنْ تتعامل مع مثل هذه المشاكل العاطفيّة؟
إحدى الطرق أنْ تتعلّم كيف تتعايش مع المشكلة. إنَّه أمر ليس بالسهل تحقيقه، وقد يكون بالفعل أكبر تحدٍ يجابه البهائيين المعنيين خلال تجارب حياتهم قاطبة. يجب أنْ يتّصف تصرفهم بالمحبة والصبر مهما حصل. إذ أنَّ مثل هذه المواقف قد تؤدي في بعض الأحيان إلى ظهور مشاعر الكراهية ونفاذ الصبر. إنَّه امتحان صعب وقاس يجب مواجهته. وقد يساعدنا في ذلك أنْ نفكر بمدى معاناة مسبب المشكلة، وأنَّ تلك الروح المسكينة عليها أنْ تعيش مع نفس صاحبها كل الوقت وهي تعيسة على الأرجح. فإدراكنا لكلّ ذلك قد يسهّل علينا تحمّل بضع ساعات مزعجة.
وقد يساعدنا أيضًا التفكير بأنَّ مسببي الإزعاج هم كالأطفال أو من الأقارب الذين يعانون من إعاقة شديدة. فتلك هي المشكلة في واقع الأمر. فالإعاقة تعني عدم القدرة على التعامل بفاعليّة وتأثير. ومع ذلك لا يمكن للفرد أنْ يتخلى عن طفل أو عن قريب له حميم بمجرد أنَّه يعاني من مشكلة قاسيّة، وأنَّه في الواقع من الصعب عليه التكيّف مع وضع كهذا.
إنَّ الفائدة التي يجنيها الفرد من تحمّله هذا النوع من التجربة تفوق حدود تلك المشكلة الآنية. فتعلُّم الصبر وممارسته في ظلّ المعاناة الطويلة في وضع لا تبدو فيه ملامح حلٍّ ممكن، سيُعِدُّ أصحابه جيدًا لخدمة قادمة، فتغدو فيها تلك الميّزة التي تطوّرت لديهم مفتاحًا لمعالجة موضوع هام وحسّاس له تأثيره على الأمر المبارك.
قد يلجأ شخص في بعض الحالات إلى مواجهة محفل روحاني بأسلوب فيه شكل من أشكال الإنذار كأن يسأل: “هل أنا مخطئ أم مصيب؟”. فالسؤال بحدّ ذاته ليس بهذه السهولة التي يبدو فيها. ومع هذا، فإنَّ الشخص الذي يختار المواجهة لا يبدو قادرًا على استيعاب فكرة المشورة أو الإقرار بالحقيقة بأنَّ بعض الخيارات الأخرى قد تكون أكثر ملاءمة.
قد يرجع سبب ذلك إلى عدم النضج الروحاني، وفقدان الشعور بالأمان أو عدم الإخلاص، وقد يُعزى ميل الشخص إلى مواجهة المحفل الروحاني مع توقّعه لجواب فوري بسيط إمّا “خطأ” أو “صواب” إلى شخصيته المتشدّدة، أو التصلّب في الرأي أو الطبع الحاد. مثل هؤلاء الأشخاص قد تكون قدرتهم على الصبر والتحمّل ضعيفة تجاه قرارات معلّقة لا بدّ منها في المشورة حتى يتبلور الحل.
وقد تنشأ حالة كهذه لأنَّ المشورة شيء حديث وغير مألوف في عمليّة اتخاذ القرار. وقد تبرز المواجهة نتيجة المشورة في حالة أو موضوع مشحون بالعواطف على وجه الخصوص، أو أنَّ الوضع يمثّل حالة مَرَضيَّة يرفض الفرد فيها قبول النصيحة من الآخرين، أو أنْ يكون في وضع لا يقبل فكرة احتمال كونه مخطئًا. وقد تكون المواجهة ذلك الحصن الذي يلجأ إليه الفرد ليحمي شخصيته الهشّة. فأفضل وسيلة للتعامل مع تلك الحالة هي إظهار المحبة والتحلّي بالصبر. وعليه، حاول احتضان الفرد والأخذ بيده نحو تفهّم أفضل يمكّنه من تقبّل المشورة بأسلوب أيسر.
وبالنسبة للشخص العادي المخلص فإنَّ قدرته على تحمّل القرارات المعلّقة سوف تزداد عندما يعتاد على أسلوب الوصول إلى قرار من خلال المشورة ويشعر بالارتياح نحوه. وإذا ما كان رد الفعل هذا نابعًا من مشاعره العاطفيّة، ستزول لديه الحاجة إلى رد سريع لأنَّ اضطرابه وقلقه يأخذان في الاضمحلال. وهو الأمر الذي يتطلّب منّا درجة عاليّة من الحكمة والصبر لنسمح لهذه القدرات أنْ تعمل وتخرج إلى حيّز الوجود بمحض ذاتها.
ويزداد الوضع صعوبة إذا ما نوى الشخص فعلاً تصعيد وتيرة الأزمة، فهو يريده نزالاً وهذا ما يشكل اختبارًا ومحكًّا للإرادات. كلّ هذا يشير إلى عدم الإخلاص ومن الصعب التعامل معه، إلاّ أنَّه ليس مستحيلاً. هناك أمر يجب تجنّبه تمامًا وهو اتخاذ موقف ينمُّ عن التحدّي، إذ به لن يفوز أحد. لأنَّ الشخص الذي يرفع عصا المواجهة قد يشعر بالارتياح والرضا لما يسببه للمؤسسة من إحباط إذا ما دفع المحفل الروحاني نحو رد فعل سريع بشأنه. وفي هذه الحالة لن تجني الهيئة الروحانيّة أيّة مكاسب.
إنَّ أسلوبًا أفضل لمعالجة الموضوع يتمثّل في تجاهُلنا للتحدّي الماثل في عبارة “صح أم خطأ” والتعامل معه دون التورط في جدل عقيم. فإذا كان هدف الشخص من إثارة المشكلة معارضة المحفل الروحاني ودفعه إلى اختلال في توازنه، فسيصاب بخيبة أمل في تلك الحالة، وغالبًا ما يمضي في طريقه دون إزعاج المحفل مرّة أخرى.
ومن ناحية أخرى، إذا كان الشخص متحليًّا بشيء من الإخلاص، وكان رد فعله الصبياني النزق نتيجة أذًى مؤقت أصابه، فسيكون موقف المحفل الروحاني آنف الذكر بلسمًا شافيًا له. وسيكون اندمال الجراح ممكنًا بالفعل إذا كان الشخص مخلصًا.
هناك حالات حاول فيها شخص عامدًا متعمدًا أنْ يتغلغل بين الجامعة للعمل على تقويضها. فإذا ما ساورنا شك بمثل هذه الحالة، علينا إعلام عضو هيئة المعاونين فورًا أو المحفل الروحاني المركزي ثمَّ اتِّباع إرشاداتهم بكل حرص ودقّة.
وإذا ما رغب آخر في استغلال البهائيين لأغراضه الخاصة، فلا أفضل من معاملته بمحبة وانفتاح وكأنَّه شخص مخلص، ولا يعني هذا مجاراته في مخططاته، فسوف تتكفّل المشورة بكل ذلك. ولدى التعامل معه كأنَّه بهائي مخلص، فإمّا أنْ يثبط عزمه ويترك الأمر المبارك، أو تشتعل في روحه شرارة الإيمان فتبدأ الروح في الترقّي والنموّ وتعمل على تغيير دوافعه.
نوع آخر من المشاكل التي تخلق صعوبة كبيرة عندما يلجأ الشخص إلى الكذب. وغالبًا ما يحدث ذلك في المواقف الخاصة بتنفيذ الأحكام البهائية، أو بتنفيذ تعليمات خاصة صدرت عن المحفل الروحاني، حيث يلجأ الفرد إلى الكذب عادة للتغطية على خطأ أو تقصير في المتابعة والتنفيذ، وقد يكون بدافع الخوف، وعدم الإخلاص، أو –وبكل بساطة– عدم التعمّق جيّدًا بالعهد والميثاق.
إنَّ جوهر المشورة هو الأمانة والصدق الخالص. ويتفضّل حضرة عبد البهاء: “إنَّ الصدق هو أساس جميع الفضائل الإنسانيّة، وبدون الصدق يكون الفلاح والنجاح مستحيلاً لأيّ إنسان في جميع العوالم”([1]). فعدم الصدق يضعف من فعاليَّة المؤسسة الأمريّة في أدائها لواجباتها كما يجب.
فإذا ما كذب الشخص على المحفل الروحاني وأدركت ذلك الهيئة، فإنَّ عليها بطبيعة الحال أنْ تفاتحه به. وقد أعطانا حضرة عبد البهاء تعليمات واضحة بهذا الخصوص:
“يرتفع بنيان ملكوت الله على الأرض على دعائم العدل والإنصاف وعلى الرحمة والشفقة واللطافة نحو جميع الكائنات الحيّة. فابذلوا كل وُسْعِكُم في معاملة أهل العالم طُرًا بالشفقة، عدا الذين غلبت عليهم الأنانيّة والدوافع الذاتيّة أو الأمراض الروحانيّة. فلا يمكن إظهار الرحمة مع الطغاة أو المخادعين أو السارقين. فبدل أنْ توقظ فيهم وازعًا ينتبهوا به لتصحيح خطئهم، ستجعلهم يتمادون فيما هم عليه من غِيٍّ وفساد.
فمهما كنتم رحماء مع الكاذب، فسيُمْعِن في كذبه لظنه بأنَّه خدعكم بينما أنتم تعرفونه حقَّ المعرفة وتُؤثرون الصمت من باب الشفقة”([2]).
إذا لم يكن الفرد صريحًا مع المحفل الروحاني بدرجة كافية، وليس من دليل دامغ على ذلك، فهناك عدّة طرق يمكن اللجوء إليها: فمن الصواب أنْ يذكر أحد الأعضاء بأنَّه يشعر أنَّ الحقيقة قد أخفيت. وهذا ما يفتح مجالاً جديدًا للمشورة.
وخيار آخر هو التحلّي بالصبر والأناة. وما يحدث هنا أنَّ أفعال الكاذب ستكشف عن ريائه إنْ عاجلاً أم آجلاً. فلا فائدة للمحفل الروحاني من بذل جهود مضنية في الكشف عن كذبه سعيًّا وراء دفعه للبَوْح بالحقيقة.
إذا كان هناك خلاف بين اثنين من أفراد الأحباء، فعلى المحفل الروحاني –في الغالب– أنْ يصل إلى مفهوم: أين تكمن الحقيقة. وحتى ساعتئذٍ، فإنَّ الاختلافات في بعض الأحيان لا تعني أنَّ أحدهما يكذب، إذ قد تعني اختلافًا في وجهات النظر.
وحتى الشخص المخلص قد يؤخذ عليه أحيانًا موقف مثير للشبهة. وقد يلجأ هنا إلى الكذب في محاولة مضلِّلة لحماية نفسه. وغالبًا ما تجده يزل ويتعثر في وقت لاحق دون أيّ جهد من الآخرين. حتى الشخص الماكر الذي يستمر في هذا المسلك، سوف ينكشف أمره إنْ عاجلاً أم آجلاً حتى لو بدا له لفترة أنَّه استطاع أنْ يخدع المؤسسات. وعندما يُفْتَضَحُ أمره يمكن أنْ يشكّل ذلك خطوة حاسمة في رحلة الشخص الروحانية. وبعضهم سيصبح أقوى إيمانًا نتيجة لذلك حتى لو أصابهم الاضطراب في البداية، والبعض الآخر وقعوا في شِرك أعمالهم فتركوا الأمر أو حُرموا من حقوقهم الإداريّة، وقد يكون ذلك أحيانًا لأسباب أخرى غير الكذب. فلا بدّ للعدالة أنْ تتحقق.
يحدث أحيانًا أنَّ شخصًا في المحفل الروحاني أو اللجنة قد يثير نوعًا من النزاع والجدال أو غضبًا لا مبرر له ولا تفسير. إنَّه موقف سلبي يغاير محاولات خلق المحبة والانسجام، وقد يكون موجّهًا نحو عضو آخر أو عامًّا يطال الجميع دون تحديد. وقد يكون متعمدًا يحمل الخبث أو أنَّه خارج عن نطاق سيطرة الشخص المتجني.
فلا عجب أنْ تحدث مثل هذه الأمور في هذه المرحلة الانتقاليّة. فقد طلب مظهر أمر الله الكلّي من البشريّة أنْ تمضي قدمًا في انتهاج أساليب قد تبدو غريبة وغير طبيعية في إنجاز الأعمال. فإذا لاحظنا الطبيعة وحياة الحيوان وتاريخ الإنسان، لبدا لنا أنَّ الصراع والشجار أمران طبيعيان. ويمكننا أنْ نجد بين معظم جماعات الحيوانات نوعًا من نظام الهيمنة. فتتفجر صراعات دوريّة على السلطة في محاولة لزعزعة أدوار القيادة القائمة. وبنظرتنا على مختلف المشاريع الإنسانيّة يتبين لنا نفس المبدأ بين الناس. ومع ذلك فإنَّ حضرة بهاء الله توقّع من الإنسان المعاصر أنْ يحافظ على علاقة من المحبة والتجانس بين البشر من مختلف الطباع. ويبدو هذا منافيًا للطبيعة. فقانون الطبيعة يقضي بالسيطرة والهيمنة. أمّا الآثار البهائية فقد قضت أنْ يكون مفهوم الإجماع داخل الهيئات الروحانيّة المشكّلة هو الأسلوب الجديد. إنَّ قانون “الحق مع القوي” هو القانون الذي يبرز عادة عندما تغور قيود الأعراف المدنيّة، فعندها يغرق الناس في الصراع على السلطة تأكيدًا على الهيمنة. ومن هذا المنظار، تبدو المدنية نفسها ضربًا من الإعجاز وطفرة غير طبيعيّة إلى حدّ ما.
وقد يكون النزاع وسيلة أخرى من وسائل صراع البقاء الذي لعب دورًا هامًا في تطوّر حياة الإنسان في ظلّ ظروف أكثر بدائيّة. وهي نزعة طبيعيّة وجدت طريقها إلى معقل الطبيعة الدنيا للإنسان.
أو قد يكون أحد دوافعه شكل من أشكال نزعة الشك أو جنون الارتياب حيث لا يثق الشخص بالآخرين إلاّ بقدر قليل، ويواجه صعوبة في تقبّل تعليق إصدار الحكم الذي تتطلّبه المشورة، ويكون صارمًا خاصة إذا كان واقعًا تحت ضغط نفسي معين، ولا يستطيع تفهّم الدوافع حق فهمها –دوافعه الشخصيّة أو دوافع الآخرين– وسرعان ما يسيء فهم الآخرين بأفعالهم وأقوالهم، وعن غير قصد منه يخلق جوًا من التوتر حول نفسه، ويعجز عن إدراك تلك النغمة العدائيّة في تصرفاته.
وقد يتفاقم الصراع حِدَّةً مع مشاعر الغيرة أو نتيجة لها، أو بسبب ألم شخصي عميق، أو صراع نفسي مبالغ فيه، أو الرجوع إلى أحد أنماط السلوك السابقة المستحكمة، أو بعض اضطرابات نفسيّة أخرى. ومهما كانت الأسباب والدوافع، فستقود إلى النتيجة نفسها: الهدم والدمار!
قد جرى تذكيرنا بأنَّه “قد اضطرب النظم من هذا النظم الأعظم، واختلف الترتيب بهذا البديع الذي ما شهدت عين الإبداع شبهه”([3]). فالنزاع والجدال من بين عناصر “النظم” و”الترتيب” التي يجب أنْ تختلف وتتغيّر بفضل تأثير نظام حضرة بهاء الله الجديد. فقد وجّه الجمال المبارك الاختلافات بين البشر نحو وجهة جديدة، محوّلاً إيّاها إلى تصادم الأفكار والآراء بدل تصارع القوى والشخصيات. وفي ظلّ المشورة السليمة ستقودنا الاختلافات إلى الإجماع المستنير.
إلاّ أنَّ الانتقال من عالم يدور حول محور النزاع لن يكون سلسًا على الدوام. فالرجوع دوريًّا إلى أنماط أكثر بدائيّة في التعامل مع الآخرين يجب توقعه. وأمل البشريّة معقود على حقيقة أنَّ أفكار الناس ستتغيّر بالتأكيد عندما ينضمون للجامعة البهائيّة. والجانب الحرج في الموضوع هو أنَّ الشخص المتجاوز الذي قد لا يكون مدركًا لديناميكيّة الصراع القائم بين القوى، هو نفسه الذي عليه أنْ يعيد توجيه طاقاته وقدراته. وإذا ما كان الشخص بطيئًا في مثل هذا التغيير أحدث هياجًا لدى الطرف الآخر ممّا سيعرِّض مشاعر بعض البهائيين العاملين المثابرين إلى الأذى الجائر. وفي أسوأ الحالات قد تصبح الأوضاع مثبطة للعزائم.
ربما يُساء استخدام المشورة نفسها عندما يكون الشخص مشاكسًا. فمن السهولة عندها توجيه الانتباه نحو مواضيع ثانويّة، وفي ذلك هدر لطاقات المحفل الروحاني وتحويل مساره عن اهتماماته. فتوضع العراقيل دون داعٍ أمام المشاريع الإبداعيّة، وتثبط العزائم، وتخمد شعلة الحماس، ويُقضى على المبادرة، وتُسلب المتعة والسعادة، وتُستنزف الطاقات الخلاّقة وتغور القدرات الإبداعيّة وتُحرم من التطوّر، وتُهمل المشاريع الجديدة دون أنْ تتم تجربتها، وتَفْتُر هِمم الأحباء المخلصين الغيورين ويتوجهون إلى فعاليات أخرى ليس لها ارتباط بالأمر المبارك، وينقلب جوّ المحبة والرضا إلى جو مشحون بالتوتر وقوى الصد والاعتراض. فنُبْتلى بخسارة جسيمة لا يمكن تقديرها لأنَّها تقودنا إلى إخفاق ضالعٍ في تقدم للأمر المبارك لم يتحقق، وفي إهدار فرص ثمينة متاحة لم تُستغل. وهناك بعض المحافل الروحانيّة التي حُرمت من التطوّر والنموّ بسبب النزاع والجدال. وفي مثل هذا الوضع تتحقق نبوءة حضرة عبد البهاء حينما تفضّل: “ويُمسي ذلك المحفل معدومًا”([4]). يعني أنَّ جهود الأحباء تذهب هدرًا بلا ثمر أو نتيجة. وتجف مياه المحبة والمودّة ليعيشوا في قفار القلق والتوتر والكلمات القاسيّة الجارحة. وتخرج الهيئة مؤقتًا عن مسارها في رحلتها نحو ما قُدِّر لها من سموّ ورفعة.
لقد حدثنا حضرة عبد البهاء عن أنواع ثلاث من الاضطهاد والتعذيب. فأحدها يتعلّق بحبسه وتقييده بالسلاسل والأغلال، وقد وجده من السهل تحمّله. والآخر افتراء الأعداء ومكائدهم وعن هذا النوع تفضّل قائلاً:
“هذا الشكل من الاضطهاد كان سهلاً تحمّله أيضًا. إلاّ أنَّ هناك نوعًا ثالثًا من الاضطهاد قد سبب الأسى والحزن لعبد البهاء، وكان من الصعب تحمّله، ذلك هو الألفاظ اللاذعة وانتقادات الأحباء. فأينما كان يأمل في المحبة كان يجد الغيرة والبغضاء، وبدل الصداقة والشفقة كان يرى الحسد والاختلاف، وبدل الألفة والمحبة يظهر الشقاق والحقد، وبدل المساعدة والتقدير يحل الافتراء والكذب والبهتان. فتحمُّل هذه الأمور كان صعبًا”([5]).
يمكن للنزاع والجدال الذي يقتحم الجامعة البهائية ويطول أمده أنْ يصبح شكلاً من أشكال الاضطهاد. ويتفضّل حضرة عبد البهاء بقوله:
“ألدّ أعداء الأمر في داخله ويذكرون اسم الله. علينا ألاّ نخاف من الأعداء الخارجيين لأنَّه من السهل التعامل معهم. إلاّ أنَّ الأعداء الذين يطلقون على أنفسهم لقب الأحباء، ويصرّون على خرق جميع الأحكام الأساسيّة للمحبة والاتحاد، يصعب التعامل معهم في هذه الأيام لأنَّ رحمة الله واسعة. ولن يطول الوقت حتى يغلق باب الرحمة هذا في وجوههم ويهاجمون بكل ضراوة”([6]).
وفي ظلّ ظروف كهذه، يجب تجنّب نوعين من مغريات النفس. أوّلهما: التصدّي للهجوم، أي “مواجهة النار بالنار” الذي سيؤدي فقط إلى توجيه الاتهامات الخاطئة فيزيد المشكلة تعقيدًا وضخامة. وثانيهما: الرغبة في الوئام مهما كان ثمنه بما فيه الابتعاد عن النشاطات البهائيّة. وهذا أمر محفوف أيضًا بالمخاطر، إذ أنَّه يُلحق الأذى بمصالح الأمر المبارك وبالمعنيين في المدى البعيد. وعندما يصبح المحفل الروحاني أو اللجنة مؤقتًا ساحة للاقتتال وتصارع القوى، فإنَّ ذلك قد يُعد ارتدادًا إلى طريقة كانت مقبولة لدى الأسلاف، على بدائيتها، كأسلوب لاختبار قوى الهيمنة والتسلّط. وقد يكون التصارع ناتجًا عن “جنون العظمة”، أو مرض آخر يتعدّى سيطرة المعتدي. وقد يكون صيغة أخرى غير مرغوبة للتمسّك بأهداب نظام عالمي بالٍ. فلم يحقق الجميع بَعْد ذلك التحوّل الفكري الكامل القادر على استيعاب نظام حضرة بهاء الله الجديد الرائع.
يجب القيام بكل ما هو ضمن المنطق والمعقول لإعادة روابط الألفة والانسجام. وتجدون في الفصل التالي بعض الاقتراحات والآراء. أمّا إذا لم تنجح المحاولات المبذولة، فانصرف عن المشكلة وتعلّم كيف تتعايش معها. فلكلّ منّا معركته الروحانيّة، والشخص المعتدي له معركته، وإحدى معاركك أنْ تتعلّم كيف تعيش مع معركته. ضعها في منظورها المحدد وادعُ من أجله، وانتهز كل فرصة لإعادة الانسجام والتوافق وإيّاك أنْ تُفرط في القلق. ضع همّك في التبليغ، وقد يكون من الأفضل –وبكل بساطة– تركه وشأنه.
وإلى أنْ يتمكّن الشخص نفسه من التغلّب على وضعه المتردّي غير الصحي، أو أنْ يتحوّل من شخص مشاكس إلى ساعٍ وراء الوحدة، فإنَّ بذل المزيد من المجهودات من أجل تحسين الوضع قد يزيد الحالة سوءًا. فالمشكلة بطبيعتها غير منطقيّة، ويغدو العلاج المنطقي غير ذي نفع، والمحاولات الجديدة لإحداث الوئام قد يُساء فهمها أو تُحرّف مقاصدها بخبث.
قد تتباطأ عجلة التقدّم، وقد يحدث تراجع مؤقت. فما عليك في تلك الأثناء إلاّ بالصبر. وضع نصب عينيك أنَّ هذه المحنة ستمضي وتُطوى، والنصر سيبقى حليف الأحباء المخلصين طالما بقوا ثابتين. فالأمر أمر إلٰهي، والنصر في النهاية لخطّته السماويّة.
إنَّ الحسد والشغف بالرئاسة شكلان من أشكال الأنا ويتجاوزان حدود النزاع والجدال. إذ ينبعثان من فرط الانشغال بالنفس، أي سيطرة الطبيعة الدنيا للإنسان.
إنَّ اللهاث وراء السلطة والقيادة أو حبًّا في تعظيم النفس وتضخيمها يلحق الضرر عمليًّا بكافة النشاطات، إذ يصبح كل شيء مسخّرًا لهذه الغايات. فمثلاً يخبرنا حضرة عبد البهاء بأنَّ “التمسّك بحرفيّة القانون غالبًا ما يكون دليلاً على الرغبة في الرئاسة… فعندما يشدد بعض الأشخاص على حرفيّة القانون بكل إصرار، فإنَّهم بذلك يحرمون الأمر المبارك من ميزة المرونة –الروح– ويسعون في تحويله إلى أداة صلبة قاسية ذات ميّزات عاجزة عن التكيّف”([7]).
وقد يكون الساعي إلى الرئاسة متكتمًا ولا يرغب في مشاركة الآخرين بالأخبار السارة أو الأفكار إلاّ إذا اكتسبت صبغة دعائيّة. كما أنَّ الإشارة إلى الأسماء والعلاقات الحميمة مع الشخصيات المرموقة من البهائيين، ثمَّ الرغبة في إبراز الشخصية، هي سمات أخرى لهذه الحالة.
وقد يلجأ الشخص إلى اتخاذ موقف يزعم أنَّه نابع من المبدأ لا يتناسب مع الموضوع المطروح، وغالبًا ما تتكرر عبارات من قبيل: “والآن، وبدون غرض شخصي…” أو “يجب ألاّ نأخذ الموضوع شخصيًّا ولكن…”.
فالمشروع الذي يعمل به الشخص نفسه سيُضخّمه عن حجمه الطبيعي. وعلى المنوال نفسه، فإنَّ المشاريع التي لا يعمل فيها ستتعرض إلى التقليل من شأنها والتغاضي عنها ثمَّ نسيانها بكل سهولة. فهناك شكل من أشكال التبخيس من مجهود الآخرين بأسلوب لبق أحيانًا ومباشر أحيانًا أخرى. فتصبح المشكلة عندها عامة ومستفحلة.
إنَّ الرقّة واللطف جزء من المراوغة الملازمة لهذه المشكلة. وقد لا يعي الشخص تمامًا ما هو فاعله. ويستطيع أنْ يخدع نفسه بأنَّه يعمل لصالح الأمر المبارك، وأنَّ ما يستعرضه لهو أمر هام بالفعل. وقد يكون خالص النيّة. كما أنَّ الشخص الذي يجذبه بريق السلطة والرئاسة قد لا يكن السوء تجاه أولئك الذين يقلل من شأن مساعيهم عن قصد أو غير قصد.
ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بهذا الموضوع ذلك الشخص الذي تأكله الغيرة من الذين يقدّمون للأمر المبارك خدمات جُلَّى. ويمكن لهذا الشخص أنْ يتستر تحت غطاء قلقه من أنَّ هناك شخصًا ما يسعى نحو الرئاسة.
هناك حالات لا حصر لها نجد فيها الغيرة تطل برأسها. ومنها: الإنجازات المهنيّة، والنجاح على الصعيد المالي، والإنجازات العامة أو النجاح في ميدان التبليغ. فإذا ما تمتّع شخص بموهبة جذب طلاّب الحقيقة للأمر المبارك، فإنَّنا غالبًا ما نجد آخر ينتقد طرق التبليغ المتَّبعة، أو عمليّة التبليغ برمّتها، أو هل تمّت بشكل يحافظ على سموّ الأمر ومكانته أم لا.
ومقولة أخرى شائعة، إلاَّ أنَّها خاطئة، تقول بأنَّ الأمر المبارك أعظم باعث على التساوي. فرؤية شخص يقوم بعمل مميّز قد يؤدي إلى إثارة مشاعر الإحباط والغضب والغيرة. فبعض البهائيين، ومن منطلق مفهوم مخلص عن المساواة، ولكنه خاطئ، قد يحاولون التقليل ممّا يقدّمه شخص آخر أو صرف الأنظار عن شخص فعّال.
إلاّ أنَّ حضرة عبد البهاء له وجهة نظر أخرى حول الموضوع حيث يتفضّل:
“الحسد يغلق أبواب الفضل والعناية، والغيرة تحرم صاحبها من الفوز بالملكوت الأبهى قطعًا… وكم هو مؤسف أنَّ البعض يبلغ بهم الأمر إلى استغلال شؤون الأمر المبارك وفعالياته وسيلةً للثأر استجابة للحقد الشخصي أو الإيذاء الموهوم، فيتدخّلون بأعمال الآخرين أو يسعون وراء إفشالها. ولا يدركون حقيقة أنَّهم بذلك يدمّرون ما حققوه من نجاح شخصي”([8]).
وعندما يسعى الإنسان وراء الرئاسة أو تتملّكه الغيرة، يخلق في نفسه شهية للقيام بمثل هذه الأعمال لا يمكن إشباعها. فكلّ انتصار بسيط يُغذّي رغبته في المزيد. فعليه، إنْ عاجلاً أم آجلاً، إمَّا أنْ ينصرف إلى تنقيّة قلبه حتى ينتصر على طبيعته الدنيا، أو أنَّ أعماله المؤذية سترتد عليه. وفي أقصى الحالات شدّة كانت هذه الظروف هي التي أدّت إلى نقض العهد والميثاق.
فما العمل إذا بدا لنا أنَّ شخصًا قد ابتلي بهذا الداء ضمن الجامعة؟ إنَّه في الواقع لا يمكن عمل الكثير.
لقد منحنا حضرة عبد البهاء أسلوبًا مثاليًّا في مواجهة مثل هذه المشكلات والتعامل معها. أنظروا إلى كيفيّة معالجته قضية الناقضين قبل أنْ ترتفع وتيرة نشاطاتهم لدرجة توجّب معها طردهم من حظيرة الأمرالمبارك. فقد عاملهم بالمحبة اللامتناهية والصبر ولكن بتحفظ. وذهب بعيدًا جدًا في التغاضي عن أعمالهم المشينة، ولا يمكن معرفة عدد الذين أنقذتهم معاملته السمحة اللطيفة هذه. وقد يكون من بينهم العديد ممن عصفت بهم الغيرة أو تملّكهم عطش للرياسة والسلطة في وقت ما، إلاّ أنَّهم شُفُوا من علّتهم وبقوا مخلصين لأمر الله بفضّل حكمة وحنكة حضرة عبد البهاء وأساليبه التي شعّت منها المحبة الخالصة.
والمشورة هي أداة رائعة لتبديد آثار الظلمة الناتجة عن الغيرة أو حب الرياسة، ومنها يمكن أنْ ينبلج نور الحقيقة والرؤية الصافية في القلب. وبها يمكن نبذ المشاحنات والخصومات قبل أنْ تستشري وتستفحل فتسبب الأذى البالغ، كما يمكن تحرير الحقيقة من براثن الغيرة وظلمات اللهاث الأعمى وراء السلطة والرئاسة.
والمشورة في ظروف كهذه تشكّل لنا درعًا للحماية وتوترًا شديدًا في آن معًا. فالمناقشات قد تغدو طويلة ومُجهدة، وحادّة أحيانًا ولا تُفضي إلى نتائج جيدة. وغالبًا ما يضطر المتشاورون إلى بحث تفاصيل أمور تافهة مرّة تلو الأخرى وإضاعة الوقت الطويل لمجرد التأكّد من أنَّ نقطة ما قد فُهمت.
ومع أنَّ هذه العمليّة بحدّ ذاتها شائكة وصعبة، إلاّ أنَّها في حقيقة الأمر جزء من الحماية. إنَّها القوّة الإلٰهية تقوم بعملها. ومع أنَّه في تلك الأثناء قد تُهدر حقًّا فرص ثمينة أو تترك جانبًا، وقد تغيب عن البال أو يؤجل بحث مواضيع مهمة، إلاّ أنَّ هناك أمرًا ذا بُعد أكثر أهميّة يعمل على حفظ وحدة الأمر المبارك مهما حصل من توتر، وهذا يحتاج إلى وقت. إنَّها عمليّة من الشفاء والنضج معًا، وهي أهم بكثير من أمور أهملت، وتحتاج منّا الاهتمام الحقيقي الكبير.
إنَّها عمليّة إنضباط وإلتزام صعبة بالقانون، ولكنها ضروريّة. وتأخذ مجراها نحو بلوغ النضج والرشد لتلك المؤسسات التي عليها أنْ تتعامل مع طاقات وقدرات أفراد المجتمع الإنساني من مختلف طبقاته وشرائحه بسلبياتهم وإيجابياتهم، ومن أعلى مستوى للطبيعة البشريّة إلى أدناها. ومن المؤكّد أنْ يحصل الإحباط. فصفات الصبر أمام المعاناة الطويلة، التي بيَّنها حضرة عبد البهاء على أنَّها من “الفرائض الأوليّة” للمتشاورين معًا، سوف تتعرض للامتحان في أقسى درجاته. ومع أنّه سيكون ضغطه شديدًا، إلاّ أنَّه يستحق العناء. وبهذا النهج الصعب يمكن حصول الشفاء. فيحلّ التفاهم، ويُفتح الباب مرّة أخرى أمام المحفل الروحاني لإنجاز مهماته وواجباته النبيلة بكل عزم ونشاط.
وفي هذا السياق علينا أنْ نتذكّر أمورًا ثلاثة:
إنَّه داء روحاني خبيث ليس بمثله أيّة مشكلة قد تبرز داخل حصن أمرالله. ولست بصدد بحث هذه العلّة البغيضة، إلاّ أنَّ هناك ملاحظات ثلاث لا بدّ من إبدائها:
[1] (1) “بهاء الله والعصر الجديد”، صفحة 94.
[2](2) Selections from the Writings of Abdu’l – Baha, p. 158.
[3](1) “متخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 93.
[4](1) كتيب “المحفل الروحاني المحلي”، صفحة 19.
[5](1) Star of the West, IV, no. 5, p. 89.
[6](2) Star of the West, VI, no, 6, p. 45.
[7](1) Star of the West, VI, no. 6. pp. 43-5.
[8](1) Star of the West,VI, p. 44.
عندما ارتفع نداء الحق للبشريّة في هذا العصر إهتزّ العالم بقوة بيانه، وكانت الرسالة الإلٰهيّة بسيطة ومباشرة في جوهرها.
“يا أهل العالم إنَّ فضل هذا الظهور الأعظم هو أنَّنا محونا من الكتاب كل ما هو سبب الإختلاف والفساد والنفاق وأبقينا كل ما هو علَّة الألفة والإتحاد نعيمًا للعاملين”([1]).
إنَّ الهدف الأسمى للأمر الإلٰهي هو تحقيق الوحدة ثمَّ انعكاسها على قلب كل فرد بهائي وفي حياة الجامعة. وعليه، فإنَّه يجب بذل كل جهد من أجل إقصاء النزاع والحقد والأذى بعيدًا عن جامعة الإسم الأعظم. فالوحدة يجب أنْ تكون مطلبنا في كل حين وآن. ومن عظائم الفواجع أنْ يُبتلى أهل البهاء بشرور الفرقة والشقاق.
فما العمل إذا حصل ذلك؟ في البداية يجب إطلاق بعض التحذيرات. فمن الخطأ محاولة حلّ الإشكال بالتخلّص من مسببه من بين الأفراد. فإيّ جهد ينصّب على تحديد أساس الإشكال وصاحبه سيترك لنا آثارًا عكسيّة. وستقع هذه العمليّة في مزالق وأخطاء عدَّة نذكر منها:
أحدهما صالح يبحث عن الطالح للتخلّص منه، وطالح يعتبر مصدرًا للشرور. وهذا مخالف تمامًا للتعاليم المباركة.
هنالك بعض الإرشادات العامة التي يمكن أنْ تقود خطانا في التعامل مع مثل تلك المشاكل التي ورد ذكرها في الفصلين السابقين، ولنتأكد تمامًا أنَّه بمعالجتنا لها سنحرز تقدمًا في ثلاث مجالات في آن معًا:
وفي مواجهته للمشاكل ومعالجتها، فإنَّ المحفل الروحاني سيصبح في وضع أفضل للتعامل مع الحالات الطارئة والإشكالات في المستقبل.
فالمفتاح لحل المشاكل، بالغة الصعوبة في طبيعتها والتي وردت في الفصول السابقة، لا زال هو حبّنا المشترك لحضرة بهاء الله، وتمسّكنا بالعهد والميثاق. فلا قوّة أخرى بمقدورها قهر مسببات الفرقة والشقاق. وقد كتب حضرة وليّ أمر الله بواسطة سكرتيره حول هذا المبدأ رسالة موجّهة لكندا ومؤرخة في 26 حزيران 1956 جاء فيها:
“شعر حضرته بالأسى الشديد لما سمعه عن التنافر وعدم الانسجام الذي فتك بالجامعة البهائيّة في… وطال أمده. وكما يبدو من الرسائل والتقارير فإنَّ بعض الأحباء يفتقرون إلى قاعدة متينة في مواضيع مثل ألواح الوصايا والتعاليم الروحانيّة الأكثر عمقًا في الأمر المبارك. فحيثما قلَّ إدراك الأحباء لهذه الأساسيات وضعف تمسكهم بها، فإنَّه من شبه المؤكد أنْ ينصرفوا إلى الاهتمام بأمور ثانويّة، ويجرفهم التنازع في التفاصيل، فيتوهون في عالم الأسماء ويغرقون في لجج الفرقة والإنقسام. ولا دخل لذلك بتضحياتهم وولائهم وحماسهم وشوقهم للخدمة. إنَّها مسالة تعود إلى عدم تلقيهم التعمّق الكافي المتين بالعهد والميثاق ليس إلاّ”([2]).
إنَّ خبرتنا كبهائيين ومعرفتنا بالأمر المبارك، أو حتى معرفتنا نظريًّا بالعهد والميثاق نفسه، لا تعصمنا من الوقوع في حبائل هذه المشاكل. وحتى الحائزين على معرفة عقلانيّة جيّدة بألواح الوصايا، ربما فاتهم أنَّ الهدف الأهم هو تأسيس المحبة الوحدة والتوافق والإنسجام، مفسحين المجال في الوقت نفسه أمام وجود الاختلافات. “… على أعضاء تلك المحافل الروحانية من جانبهم أنْ يتجرّدوا بالكليّة عمَّا يرغبون به شخصيًّا أو لا يرغبون، وعن اهتماماتهم الخاصة وميولهم، فيركّزون أفكارهم على كل ما من شأنه تحقيق صالح الجامعة البهائيّة وسعادتها وتقدّم الصالح العام”[3] .لا يتم التخلّص من الفرقة والإنقسام إلاّ بالشفاء الروحاني واستبدال قوى الشر الهدّامة بقوى الحب الإلٰهي والإنسجام والسلام والطمأنينة. والسبيل إلى ذلك يكون في طريقين مدروسين: أحدهما يتعلّق بالمواقف ورؤيتنا للأمور، والآخر بالأعمال والأفعال.
“يا حزب الله لا تنشغلوا بأنفسكم. فكّروا في إصلاح العالم وتهذيب الأمم”([4]). تلك هي النصيحة التي قدَّمها الجمال المبارك عندما كان يتحدّث عمّا من شانه “إصلاح العالم وتهذيب الأمم”.
تأتي الفرقة في واقع الأمر من الطبيعة الدنيا للإنسان، وعندما يقع في وهدة ظلماتها فمن الصعب رؤيّة بهاء عالم الحقيقة الإلٰهيّة الأكبر. أمّا عندما تنّصب رؤيا الإنسان على ما هو إلٰهي، وينظر بعين فاحصة باحثة ويلمح حقيقة المظهر الإلٰهي، وينظر بعين فاحصة باحثة ويلمح حقيقة المظهر الإلٰهي ورسالته الساميّة، عندها تتلاشى ظلال الفرقة وتفقد تأثيرها وتنمحي بالكليّة.
وقد تساعد الأفكار التاليّة في إبعاد الفرد المخلص عن مواطن الزلل في ظلمات النزاع والشقاق.
فلنتذكر أنَّ الحياة بأكملها عبارة عن نموّ وتطوّر. فعندما يتشاور البهائيون معًا فإنَّهم لا ينجحون في إيجاد حل لمشاكل الجامعة فحسب، بل يفوزون بتطوير أنفسهم أيضًا. إنَّهم متفاوتون في درجة تطوّرهم الشخصي، ولم يتعلّموا جميعًا كيف يخوضون معاركهم الروحانيّة. ويبدو أنَّ البعض منهم ينقل هذه المعارك مباشرة إلى الضيافات التسع عشريّة والاجتماعات الأخرى أو إلى جلسات المحفل الروحاني، فيزيدون عمليّة المشورة صعوبة.
إنَّه أمر هام وحيويّ أنْ يسمح الفرد لعمليّة التطوّر والتعلّم أنْ تأخذ مجراها في حياة الآخرين دون حصرها في نفسه. فكلّ فرد له مجالاته الخاصة التي يتفوّق بها خبرة وكفاءة. لذلك، فمن الضروري أنْ نترك فسحة للآخرين لارتكاب الأخطاء والهفوات حتى يكتسبوا منها الخبرات والتجارب.
جميعنا أبناء أب واحد هو الله. ومحبّته فائضة على الجميع بمن فيهم من يصعب الإنسجام معه. فإذا كان الله يحبك، ولديه من لمحبة نبع لا ينضب لشخص لا تنسجم معه، فإنَّ الأمر يحتاج إلى التأمّل التفكير. عليك أنْ تحبه لأنَّه يشترك معك في محبة الله لكما. أحببه إكرامًا لله وليس لأجله هو، ذلك لأنَّ حضرة بهاء الله يتفضّل: “إنْ ظهرت بينكم كدورة بينكم فانظروني أمام وجوهكم وغضّوا البصر عمّا ظهر خالصًا لوجهي وحبًّا لأمري المشرق المنير”([5]).
في تقرير لأحد البهائيين ذكر أنَّه عضو في محفل روحاني مع سيدة من الصعب عليه أنْ تجمعهما غرفة واحدة. وفي إحدى الجلسات قرّر التغلّب على هذه المعضلة، فركّز أفكاره على محبتها مردّدًا في نفسه كلمة: أحبك. في بداية الأمر كان يشعر بالضيق حتى من ترديد تلك الكلمة داخل نفسه، أمّا عندما حاول أنْ يرى منها الجانب الإلٰهي وأنَّها أخت روحانيّة، بدأت في تلك الجلسة مشاعر العداء تتلاشى. وأضاف في تقريره أنَّ ملامحها الظاهريّة بدت لي أكثر تقبّلاً، وأنَّ التوترات زالت. بهذا الطريقة نشأت بين الإثنين علاقة حميمة صمدت أمام امتحان الزمان. لقد تعلّم كيف يقبلها ويقدّرها كما هي.
سئل حضرة عبد البهاء “لماذا كلّ من تشرف بمحضرك الأنور فاز منك بطلعة بهيّة؟” فأجاب: “لا أرى في وجوه الآخرين سوى وجه أبي”([6]). ولعلّ معظم البهائيين يذكر كلمات المولى عندما أمرنا بالنظر إلى الخصال الحميدة حيث تفضّل: “إذا كانت لإنسان عشرة أعمال حميدة وعمل واحد قبيح فعلينا أنْ ننظر إلى الأعمال العشرة الحميدة وننسى العمل القبيح، وإذا كانت له عشر صفات ذميمة وصفة واحدة حميدة فعلينا أنْ ننسى الصفات العشر الذميمة وننظر إلى الصفة الواحدة الحميدة”([7]). والسؤال الآن: كيف نأخذ بهذا البيان المبارك؟
إحدى الأفكار التي قد تكون مفيدة تتمثّل في النظر إلى الأمور من زاويّة مختلفة. فعندما يذكر اسم شخص ما أمامنا، فأوَّل ما يتبادر لذهن بعضنا سيئة تلازمه أو خطأ ارتكبه. إنَّها عادة شائعة في عالم اليوم. فإذا ما حصل لك ذلك توقف قليلاً وتذكّر بأنَّه أخ أو أخت روحانيّة، واستبدل تفكيرك السلبي بآخر إيجابي مفتّشًا عن حسناته. وقد يكون مفيدًا لك إعداد قائمة بحسنات شخص تجد صعوبة في الإنسجام معه.
وهناك إجراء آخر مفيد إذا ما تلفّظ أحدهم بقول سيئ أو قام بعمل كريه مؤذٍ. تفكّر في الطبيعة العليا والدنيا في كلّ إنسان. فإذا ما تخيّلنا طبيعته الدنيا وكأنَّها كلب شرس كامن بداخله ويقوم بالحراسة، أصبح بإمكاننا التعامل مع المشاكل بأسلوب أفضل. فإذا هاجمك تذكّر أنَّه ليس هو الذي هاجمك بل كلبه، طبيعته الدنيا. إنَّ الشخص نفسه لديه صراعه الروحاني الذي يتمثّل جزء منه في إبقاء كلبه تحت سيطرته. وبإمكانك مساعدته بعدم إثارة الوحش الكائن في تلك الطبيعة الدنيا.
أشار حضرة عبد البهاء إلى عالمنا هذا على أنَّه “بيت من الطين تسوده السمات الحيوانيّة”([8]). وبالمحبة فقط، حتى لو كانت بغير استحقاق، يمكن للنورانيّة الإلٰهيّة أنْ تدخل القلوب فتحيل العالم الظلماني إلى “جنة الأبهى”. وعن هذا الحب تفضّل حضرة بهاء الله: “إنَّ نار المحبة هذه تجمع الأحزاب المختلفة على بساط واحد”([9]). ويعمل التسامح بالأسلوب نفسه. فالبتسامح تغدو الإساءة امتحانًا يمكن التعامل معه ليجعل من الشفاء أمرًا ممكنًا، ويجلب للفرد والعالم الإنساني معًا نورًا أعظم.
في وصيته المباركة-كتاب عهدي- ترك لنا الجمال المبارك طريقة تبدو في ظاهرها سهلة بسيطة نتعلّم بواسطتها كيف نقدّر الجانب الأفضل في كلّ إنسان. فتفضّل قائلاً: “الأمل أنْ يتّجه أهل البهاء إلى الكلمة المباركة- قل كلّ من عند الله- وهذه الكلمة العليا بمثابة الماء لإطفاء نار الضغينة والبغضاء المكنونة المخزونة في القلوب والصدور. وإنَّ الأحزاب المختلفة لتفوز بنور الإتحاد الحقيقي من هذه الكلمة الواحدة”([10]).
يصعب علينا، للوهلة الأولى، إدراك ما لعبارة “كل من عند الله” من تأثير كبير. ومع هذا فإنَّنا، بالتأمّل والمشورة، نستطيع أنْ نكشف عمّا تكتنزه بحور الحقائق الكامنة فيها من لآلئ ودرر.
وللسير في ركاب هذا المبدأ لا بدّ لكلّ منّا أنْ يدرك أولاً أنَّ كلّ نفس في الوجود تمثّل وجهًا لجوهرة من جواهر كنز الإنسانيّة. فهذه الرسالة المباركة موجّهة لعموم الجنس البشري وليس فقط لمن يسهل التعامل معهم أو الموهوبين، لسريعي البديهة أو بطيئي التفكير، للمنضبطين أو المندفعين، للمقتدرين أو المتسامحين، لمن تجدر محبتهم أو يتكيفون بسهولة. إنَّها الحمى التي تلوذ به كلّ نفس لتجد فيه عناصر النموّ والقوّة والتطوّر تبعًا لطاقاتها التي تميّزها.
إنَّ الجانب الدقيق في الموضوع هو إدراكنا أنَّ الاختلافات التي نراها في الآخرين، والتي هي السبب في وجود “الأحزاب المختلفة”، تمثّل جانبّا ضروريًّا من تجربة نموّنا وتطوّرنا في الحياة. وقد تفضّل حضرة عبد البهاء إلى أحد الزائرين: “كلّ شيء في الوجود يساعد في تطوّرنا، ونهجنا في الحياة أنْ ندرس ونتعلّم… والإمتحانات والتحديّات إمَّا أنْ تكون حجر عثرة أو مرقاة للترقّي تبعًا لتعاملنا معها”([11]). ويشير هذا إلى أنَّ فينا فضائل فطريّة خاصة دفينة تبرز بتعاملنا مع شخص آخر صعب المراس. فمن يضع أمامنا الصعوبات قد يصنع لنا أعظم المعروف، وهذا ما يجب أخذه في الإعتبار عند تحديد موقفنا من ذلك الشخص. ويوضّح حضرة عبد البهاء بأنَّ “أحد تعاليم حضرة بهاء الله يتطلّب من الفرد أنْ يكون آية عفو الله في جميع الأحوال والأوضاع، وأنْ يعتبر عدوّه صديقًا والمسيء إليه محبًّا للخير”([12]). إلاّ أنَّه يحذّرنا من ناحية أخرى من النفاق، فنبدأ بمداراة وتحمّل شخص نكنّ له العداوة و الكراهيّة. إنَّه أمر يبدو في الظاهر متناقضًا، إلاّ أنَّه بالتأمّل ستتضح أمامنا أمور عدّة نأخذ واحدًا منها بعين الاعتبار. فالمحبّ الصادق يتمنى لك تطوير أحسن فضائلك، وعدوك في تعاملك معه يستدعيك أنْ تستحضر من داخلك قوّة وطاقات ما كنت تدري بوجودها، أو أنْ تطوّر لديك سلوكًا لم تعهده من قبل، وكأنَّك بذلك تكشف عمّا بداخلك من نفيس الجوهر. والنتيجة نفس المحصّلة التي يتمناها لك من يبتغي لك الخير.
وبهذا المعنى الملموس يكون العدو الذي جعلك أمام إدراك ورؤًى جديدة، وساعدك في تهذيب سلوكك، قد قام بكل ذلك عن غير قصد وكأنَّه صديق حميم. إنَّ هذا بمثابة هدية من الله ستثري عالمك في النهاية. وأسلوب من التفكير والتصرّف كهذا من شأنه أنْ يخمد “نار الضغينة والبغضاء” لدى صاحبها.
“يا ابن الوجود، كيف نسيت عيوب نفسك واشتغلت بعيوب عبادي. من كان على ذلك فعليه لعنة مني”([13]). ما من أحد يودّ أنْ تصيبه لعنة الله. فأيّ مصير أشدّ رعبًا منه؟ إنَّه مصير من يبحث عن العيوب.
وبغضّ النظر عمّا يمكن أنْ يقال أيضًا في آفة الفرقة وعدم الإتحاد، فإنَّ من أسبابها الرئيسة جنوح البشر نحو البحث عن عيوب الآخرين. إنَّه أمر يتعارض تمامًا مع الأوامر التي حددها حضرة عبد البهاء بكل جلاء. ولا شكّ أنَّ اللعنة ستحل بنا تلقائيًا لأنَّا سنجد أنفسنا وسط مستنقع النزاع والخلاف والشقاق والنفور واللامبالاة نتيجة بحثنا عن عيوب بعضنا البعض واجترار نقائص غيرنا.
إنَّ الطريق بيّن وواضح في خطوطه العريضة لمعالجة مثل هذه الحالات وذلك في رسالة كتبت بالنيابة عن حضرة شوقي أفندي تتعلّق باثنين من الأحباء وقعت بينهما خصومة حيث جاء فيها: “… يشعر حضرة وليّ أمر الله أنَّ أفضل حلّ للموضوع هو إظهار التسامح من كليهما ونسيان الموضوع برمّته”([14]). وبخصوص النتائج المترتّبة على النزاع والخصومة داخل الجامعة كتب حضرته بشكل أكثر تحديدًا:
“عندما ترتفع أصوات النقد والكلمات الجارحة بين أفراد جامعة بهائيّة، فليس من علاج سوى نسيان الماضي وإقناع كافّة المعنيين بفتح صفحة جديدة، والإمتناع تمامًا عن ذكر ما أدّى إلى سوء الفهم والنفور إكرامًا لوجه الله تعالى وعقيدته السمحاء. وكلّما لجأ الأحباء إلى الجدل متشبثين بصحّة وجهة نظرهم، كلّما تفاقمت الحالة وازدادت سوءًا.
ونحن نرى اليوم أمامنا أوضاع العالم، فإنَّ الواجب يحتّم علينا أنْ نترفع بكل تصميم عن أمور داخليّة مؤرقة تافهة، مسرعين بكل اتحاد نحو واجبنا في إنقاذ البشريّة. عليكم حثّ أحبائكم على مؤزارتكم بمجهود فعّال للقضاء على روح الإنتقاد والكلام الجارح، حتى نسمح لروح حضرة بهاء الله أنْ تتغلغل في أركان الجامعة بأكملها لتنعم بالاتحاد والاتفاق على درب محبته وخدمته”([15]).
هناك أمران حذّرنا منهما حضرة عبد البهاء، وهما وجهان لعملة واحدة: “لا تدعوا قلوبكم تغتاظ من أحد”، و”حذار حذار أنْ تحزنوا قلب أحد”([16]).
إعتادت إحدى إماء الرحمٰن أنْ تقوم بإيماءة كأنَّها تزيح عن كاهلها شيئًا وتقول: “لن تتغير معاملتي لهم سواء في مدحهم لي أو ذمّهم إيّاي، أقول لهم شكرًا وأسلّم أمرهم لحضرة بهاء الله وأردد في نفسي: يا بهاء الأبهى. لأنَّ كل ما أفعله هو لأجل حضرته، فماذا يهمني لو لم يعجبهم. أرتك اللوم أو المدح لحضرة بهاء الله لأنَّه هو صاحب الأمر”. هذه الروح النفيسة لن يمسّها حزن.
هناك قانون أساسي للبحر يندرج على العلاقات بين الأشخاص ويحافظ على جو الصفاء في الجامعة البهائيّة. فبغضّ النظر عمن له حق المرور، فإنَّ السفينة الأقدر على المناورة هي المسؤولة عن تفادي الصدام. بعض الناس من السهل إغضابهم ويبدون ميالين نحو نوع من النزاع والخصام. فصانعو السلام في العالم البهائي هم الذين يحولون دون حدوث شرارة الصدام، ويمتّصون النزاعات، ويبدّلون الخصام بالإنسجام، ويعالجون التنافر والفرقة. إنَّهم كالسفن ذات القدرة العاليّة على المناورة، فلا يتجنبون فقط من هم متّجهون نحو الصدام، بل يقودون الآخرين في عباب اليم إلى شاطئ الأمان. ولا مِرْيَة أنَّ جمال القدم يكنّ محبة خاصة لصانعي السلام هؤلاء. وفي البيان الفارسي مجّدهم حضرة الباب عاليًا وبكل وضوح: “كم هم قريبون من الله من كانوا سببًا في فرح قلوب الآخرين”. وبمشيئة الله سيزداد عددهم.
إنَّها أفكار ساميّة ونبيلة، فكيف السبيل إلى تطبيقها في مواقف معيّنة والجامعة صريعة الفرقة؟ بادئ ذي بدء هناك أمران يجب تجنبهما في معالجتنا للنزاع والخلاف:
“إنَّ دواء الإنسجام في المحفل الروحاني لا يمكن أنْ يكون إستقالة أحد الأعضاء أو تغيّبه عن حضور الجلسات. إذ أنَّ على المحفل الروحاني أنْ يتعلّم كيف يستمر في تأديّة وظائفه كوحدة تامّة رغم العناصر التي تعكّر جوه، وإلاّ قلّلنا من شأن النظام بأسره وذلك بإدخالنا الاستثناءات على القاعدة.
على الأحباء، واضعين محبة الأمر فوق كلّ شيء ومقدّمين مصالحه على كلّ أمر، أنْ يكونوا مستعدّين لتحمّل الصعاب التي ستأتي مهما كانت طبيعتها. إذ فقط من خلال مثل هذه المثابرة والتضحيّة نستطيع أنْ نأمل في الحفاظ على مؤسساتنا الإلٰهيّة سليمة من جهة، ومن جهة أخرى نجعل من أنفسنا نفوسًا أكثر نبلاً، وأدوات أفضل لخدمة هذا الأمر المجيد”([17]).
وفي الخطوات المحدّدة التاليّة يمكننا أنْ نجد المساعدة في التغلّب على الوجه المقيت للنزاع:
“على الأعضاء الذين تشرّفوا بعضويّة المحفل الروحاني أنْ يسعوا جهدهم لتجنّب أيّة اختلافات قد تظهر. أمّا إذا حصل ذلك، فليحرصوا ألاّ يصل بهم الأمر إلى النزاع والكراهيّة والعداء الذي قد يؤدي إلى التهديدات. فإذا ما لاحظتم بوادر ذلك، ارفعوا النقاش فورًا لوقت آخر أكثر ملاءمة تختفي فيه آثار المشاحنات والمنازعات والنقاش الحاد”([19]).
بعض الناس يترددون في إظهار الصداقة إذا لم تكن نابعة من مشاعر حقيقية، لأنَّها في نظرهم ستكون ضربًا من النفاق. فهم لا يستطيعون التصرّف بما يغاير إحساسهم. إنَّه أمر غير سوي. قد يكون مجرد ذريعة أو شعور المرء بتفوّقه، وغالبًا ما يكون رفضًا مقنّعًا بالنبل أمام مسؤوليّة تدعوك إلى تصحيح الوضع. إنَّ تصرفك اللطيف اللبق مع الأخرين يساهم في تحسين السلوك والتصرّف، أمَّا النفاق فهو إظهارك عن قصد ما لا تبطن، وإدعاؤك الزائف بالفضيلة لأسباب خفيّة، ولا علاقة له بمحاولتك تحسين الوضع، أو تبديد مشاعر الاستياء، وإرجاع الأمور إلى مجاريها. إنَّ لطف المعشر وعبارات المدح والثناء، تعمل على تغيير المشاعر.
عندما تعمل النفوس الطيبة من أجل الصلاح والإصلاح في هذا العصر، فإنَّ تأثيرها الخيّر سيتعدى شؤون الساعة وقضاياها. فالمجتمع الإنساني في تطوّر مستمر، وبإضافة “الإكسير” الذي “به انقلب نحاس الوجود بالذهب والإبريز”([20])، فإنَّ مبدأ “الوحدة والإتحاد في التنوّع والتعدد” سيتحوّل من مثل أعلى، إلى مبدأ يسيّر حياتنا اليوميّة على وجه الأرض.
وحيثما تُشاهَد الوحدة واضحة بين البهائيين، فمن الطبيعي أنْ نقول بأنَّ تلك الجامعة قد بلغت شأنًا عاليًّا من النضج والوحدة الروحيّة، وهذا أمر قد يجسده الواقع. ومع ذلك فإنَّ الواقع قد يكون مجرّد مصادفة وجود نوع من الإنسجام في مجموعة جمعت أفرادها الوحدة في التماثل، لا ذلك المبدأ الذي سبق ذكره، ممّا قد يشكّل خطوة نحو الرضاء الذاتي واللامبالاة وفتور المشاعر الذي سيؤدي بدوره إلى نفور الأفراد المختلفين عن المجموعة بدل انجذابهم لها. إنَّه من السهل التغني بالوحدة في التنوّع متشبثين، في الوقت نفسه، بوحدة إرتحنا لها دون عناء أو ضغوط.
إنَّ الاختلاف يولّد نوعًا من الضغط، وهذا أمر طبيعي جدًا. وما التوترات الناتجة عن ذلك الضغط سوى تلك الوسائل التي من شأنها إزالة ركام التعصبات والعقائد البائدة، لنصل بالتالي إلى أساس الوجود الروحاني للإنسان، وهي عمليّة لا شكّ مؤلمة.
إنَّ تفاوت الصفات الشخصيّة في الجامعة البهائيّة نجده في المجتمع الإنساني ككل. وعندما تبتلى الجماعات الأخرى بالنزاعات، فهذا نذير الخطر بتدميرها. فحروب طاحنة قد شُنّت، وحكومات سقطت، وجهود عمليّة باهرة ونشاطات إنسانيّة عظيمة قد قُيّدت، ومصالح هامة ومشاريع فنيّة واجتماعيّة دُمّرت بسبب هذه النزاعات المرتبطة بالاختلافات الشخصيّة التي لم تجد لها حلاً.
ومع هذا، فإنَّه عندما تبرز الاختلافات في الجامعة البهائيّة، تعمل قوّة الميثاق على تطويقها واحتواء نتائجها، وتؤدي المشورة أهم دور في هذا المجال. وبفضل قوّة الميثاق والمشيئة الإلٰهيّة، تغدو هذا النزاعات مجرد صدى يحمل معه الأمل. وقد ثبت لنا مرارًا وتكرارًا أنَّ عجلة الحياة مستمرة في الدوران، وأنَّ الأمر الإلٰهي يواصل نموّه ويكتسب قوّته، وهو الآن أقرب إلى “يوم الإتفاق والتفاهم وتحقق الوحدة الكاملة الدائمة”. فهذه الأحداث، لا تبعث فينا الأمل بالنصر المؤزّر فحسب، بل تمدّنا بالثقة، وتولّد فينا القوّة حتى نستمر في اكتساب الخبرة والمعرفة.
وبينما يلجأ البهائيون إلى المشورة لحل قضاياهم الآنيّة، فإنَّهم في الوقت نفسه، يخطون خطوة جبّارة في تطوير مهرة دمج العناصر المتباينة للجنس البشري، وأحيانًا المتعاديّة منها، في وحدة متكاملة واحدة. إنَّ التحدّي الذي يواجهنا اليوم، ليس في نقل رسالة حضرة بهاء الله الشافيّة لعموم الجنس البشري فحسب، بل أنْ يقترن مجهودنا بمحبتنا وتقديرنا لشركائنا في الإيمان، لنسمو فوق الخلافات، ونترفّع عن الأخطاء والعيوب، ونرتاح لبعضنا البعض، متقبّلين ومقدّرين بل ومستفيدين من الاختلافات القائمة.
إنَّه تحدٍ يتطلّب القبول بغير المألوف، ودرس ليس من السهل تعلّمه. فعندما ظهرت الطاهرة سافرة الوجه أمام الجميع في مؤتمر بدشت، كان ذلك تحديًّا كبيرًا لما كان قائمًا في العقائد السالفة، لدرجة أنَّه أحدث ضغطًا هائلاً للملاّ عبد الخالق الذي قطع حنجرته بيده عندما لم يقوَ على تحمّل ذلك التحدّي. إنَّه أمر يبدو مضحكًا في وقتنا الحاضر لأنَّه لا يتناسب وأسلوب حلّنا لمشاكل العصر. إلاّ أنَّ مشاكل عصرنا وحلولنا لها، ستبدو أيضًا مضحكة لأجيال المستقبل قياسًا على عصرهم، وهم سيواجهون أيضًا صعوبة في التكيّف مع التحدّيات الخاصة بهم.
فالبهائيون مدعوون لإجراء ما هو سليم وصحيح، وليس فقط ما هو مريح ومألوف أو سهل. فلو كانت الوحدة في التنوّع سهلة لما كانت الحاجة إلى رسول من عند الله ليأمر بها. فالتنفس أمر طبيعي وسهل وليس بحاجة لأنْ يأمر به الله. والمشورة المثيرة للإعجاب، والتي تربط المبدأ بتطبيقاته، تساهم مساهمة كبرى في ترويج مبدأ الوحدة في التنوّع، وتجعله أمرًا طبيعيًّا سهلاً كالتنفس.
إنَّ كون البهائيين يشكل كل منهم إمتحانًا للآخر أمر لا يلفت النظر. فلو نظرنا إلى تنوّع خلفياتهم ومشاربهم، لوجدنا أنَّ ما هو ملفت للنظر فعلاً هو إمكانيّة استفادة كل منهم من خبرة وتجارب الآخرين. ولا شك أنَّ الثبات على العهد والميثاق سيجعل ذلك ممكنًا عندما تأخذ عمليّة التحوّل المؤلمة مجراها في الخلق الجديد للجنس البشري، وعندما نشاهد التنوّع في مجالس الضيافة التسع عشريّة وفي الاجتماعات والمؤتمرات، ثمّ في مؤتمرات الوكلاء والمدارس، وعندما يظهر للعيان
نسيج الأمر المبارك بألوانه المختلفة وأنماطه المتعددة، عند ذلك ندرك أنَّ القوى الشافيّة لحضرة بهاء الله تفعل فعلها.
وفي عمليّة تأسيس “الوحدة الكاملة الدائمة” التي تدعو إليها الآثار البهائيّة، هناك أمر آخر بالغ الأهميّة يجب أنْ يؤخذ بعين الاعتبار؛ وهو أنْ نضع الهدف نصب أعيننا في جميع الأوقات، ونرى النهاية له ونحن في البداية.
لقد منحنا حضرة عبد البهاء مثالاً عظيمًا يحتذى به. ففي الأوّل من شهر أيّار سنة 1912 أرسى حضرته حجر الأساس لبناء مشرق الأذكار في ويلمت / إلينوي، ووضع حضرته هذا الحجر بالنيابة عن سكان الأرض قاطبة، وتفضّل قائلاً: “لقد بُني المعبد”([21]). أمَّا افتتاح ذلك المعبد فقد تمَّ بعد انتهاء العمل به في سنة 1953 أي بعد مرور واحد وأربعين عامًا على إرساء حجر أساسه. ومع ذلك فقد رأى مثلنا الأعلى الإلٰهي، تلك النتيجة بكل وضوح في ذلك الاحتفال.
من الضروري أنْ نأخذ هذا المثال نبراسًا لنا، فنرى النهاية في بداية كل مشاريعنا. وعلى المحافل الروحانيّة أنْ ترى جامعاتها كما تريدها أنْ تكون عليه. عليها أنْ ترى مجهوداتها وكأنَّها قد حركت المجتمع بأسره في منطقتها نحو قبول حضرة بهاء الله، وأنْ تدرك بأنَّ هذا ما قد تمَّ بالفعل في العالم الروحاني، فتعمل بعد ذلك على توجيه كافة النشاطات والفعاليات لتحويل ونقل تلك القوّة الروحانيّة إلى هذا العالم الفاني. فإذا ما عملت المحافل الروحانيّة هكذا، وكأنَّ إنجاز كل خطوة أصبح أمرًا واقعًا، فمن المرجّح أنْ يتحقق الهدف.
إنَّ الحاجة الآن تقضي بتطوير المؤسسات الأمريّة والإرتقاء بفن المشورة، تلك الموهبة العظمى التي منحنا إيّاها قلم جمال القدم، والتي تحل وديًّا كل الخلافات الناجمة عن تضارب المُثُل والعواطف والرغبات، والعادات والتقاليد، والسلوكيات والأمزجة، والشخصيات التي من شأنها في العادة أنْ تشيع الفرقة بين الناس. إنَّها وسيلة مضمونة لتحقيق الخير والسعادة، ووضوح الرؤية والإدراك، والمعرفة واليقين. إنَّها قادرة على إحلال الوئام الحقيقي والإنسجام بين عائلة النوع الإنساني، ذلك النسيج الرائع متعدد الألوان لمجتمع المستقبل. فالوصول إلى تلك النتيجة هو تحدّي وهدف هذا العصر.
صحيح أنَّ المشورة يعتريها البطء أحيانًا لدرجة تبدو فيها وكأنَّها قد توقفت بالكليّة لإفساح المجال أمام تضارب الآراء واختلاف الشخصيات أنْ تتقارب وتتكيّف، إلاّ أنّنا جميعًا نعيش في هذا العالم، وليس أمامنا من وسيلة أنجع نعمل بها معًا. وصحيح أنَّ وقتًا طويلاً قد يضيع في سرد مواضيع لا صلة لها بموضوع النقاش لأنَّ واحدًا من المتشاورين أو أكثر قد فقد اتصاله بالموضوع على ما يبدو، إلاّ أنَّه لا وسيلة أفضل لتحقيق الإنسجام وتعزيزه. وصحيح أنَّه من السهل علينا الإهتمام بشؤوننا الخاصة دون الإلتفات إلى من يخالفوننا، إلاّ أنَّ الإنعزال والإنزواء لا يفيدان في هذا العالم المترابط والمعقّد. فتجاهلنا للمشاكل لن يصرفها عنا. وصحيح أنَّ هناك طرقًا أخرى أكثر نجاعة لاتباعها، إلاّ أنَّه لا وجود لأسلوب أكثر ديمومة من المشورة، بغضّ النظر عمّا تحتاجه من وقت، وبغضّ النظر عن عدد المرات التي نحتاج فيها أنْ نتعلّم الدرس نفسه مرارًا وتكرارًا.
بعض الخلافات قابلة للحل –فيجب حلّها- والبعض الآخر يستعصي علينا حله- وهذا ما يجب تحمّله، وسيطويه الزمن. إنَّ محبة حضرة بهاء الله هي التي تعمل في تماسك عناصر البشر المختلفة إلى حين مجيء أوقات الفرج. إنَّ الوحدة والإتحاد في التنوّع والتعدد لهو التحدّي الذي يواجهنا في هذا العصر، وستنمو هذه الوحدة وتترعرع بفضل المشورة، وستتقدم ببطء نحو النضج، وكما هو الحال مع طائر العنقاء، فإنَّ عالمًا جديدًا سينبثق بعد أنْ ينفض عنه رماد الخصومة والنزاع.
[1](1) “مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله”، صفحة 211.
[2](1) Messages to Canada, pp. 58-9
[3](2) Principles of Baha’I Administration, p. 40.
[4](1) “متخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 67.
[5](1) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله” صفحة 202.
[6](1) The Oriental Rose, p. 6.
[7](2) “بهاء الله والعصر الجديد”، الصفحنان 113-114.
[8](1) Selections from the Writings of Abdu’l-Baha, p. 72.
[9](2) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 69.
[10](3) “مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله”، الصفحتان 200-201.
[11](1) The Days in the Light of Akka, p. 10.
[12](2) “بهاء الله والعصر الجديد”، صفحة 112.
[13](1) الكلمات المكنونة” العربيّة، رقم 26.
[14](1) Living the life, p. 18.
[15]2)) Directive from the Guardian, no. 47.
[16](3) Portals to Freedom, p. 169.
[17](1) Consultation: A Compilation, no. 36.
[18](2) كتيب “المحفل الروحاني المحلي”، صفحة 28.
[19](1) Consultation: A Compilation, no. 19.
[20](1) مجموعة “مناجاة”، صفحة 41.
[21](1) The Spell of the Temple, p. 16.
إنَّ نعمة المشورة زاخرة بإمكانات رائعة لدرجة يستحيل معها دراستها جميعها. ومع ذلك، يبدو من المناسب أنْ نأخذ وقفة تأمّل في بعض جوانبها العامّة في طبيعتها.
يحتمل أنْ يكون التغيير أكثر ما يمكن التنبؤ به في الحياة. فلا شيء يبقى على حاله، ولا شيء يظلّ ساكنًا. ويتحدث حضرة بهاء الله في الصلاة الوسطى المفروضة عن “التغييرات والفرص في الحياة”. وينصحنا في الكلمات المكنونة بأنَّه “في الفقر لا يجمل بك الإضطراب وفي الغنى لا ينبغي لك الإطمئنان فإنَّ لكل فقر غنى يعقبه، وإنَّ بعد كل غنى زوالاً يليه”([1]). ويتفضّل أيضًا بأنَّ “كلتيهما تزولان في حين وتبيدان في وقت”([2]). وكيفما ارتأى المرء تعريف “الغنى” أو “الفقر”، سيجد التذكير بتغيّر الأحداث. وفي هذا السياق أيضًا يتفضّل “أنفقوا إذا وجدتم واصبروا إذا فقدتم، إنَّ بعد كل شدّة رخاء، ومع كل كدر صفاء”([3]).
ولقد أخبرنا حضرة وليّ أمر الله بأنَّ تاريخ دين حضرة بهاء الله “يمكن أنْ يقال عنه أنَّه يتألّف من حلقات متعاقبة يتلو بعضها بعضًا؛ حلقات من أزمات تعقبها على الدوام حلقات أخرى من الإنتصارات المتساجلة”([4]).
ويمكن أيضًا رؤية التغيير والدورات المتعاقبة من الأحداث في أمواج البحر أثناء المد والجزر. ولعلّ أكثر التجارب إنعاشًا للنفس في الحياة هي عندما نراقب شاطئ بحر هائج موّاج. فالمتعة الحسّية من تناغم دفقات الأمواج المتعاقبة ممّا تراه العين وتسمعه الأذن ويستنشقه الأنف وتدغدغ المشاعر، وهي قادرة على جلب السكينة والهدوء لقلب مضطرب. إنَّها تبدو تجسيدًا لجوهر إيقاع الحياة بكل جوانبها وأشكالها. فموجة المدّ، المشحونة بالطاقة والقوّة، والتي يتبعها تراجع للماء بكل استرخاء عند الجزر، لها أثر رائع. فالأولى تظهر لنا قوّة تكون أحيانًا معتدلة وأخرى شديدة، والثانية تكشف عن حالة الهدوء والسكينة. ولا يمكن أنْ تكتمل الصورة بأحدهما دون الآخر. فكلاهما جزء من تلك الوحدة الحيويّة التي تمكّن الخليقة بأكملها من العمل في موجات متناغمة متعاقبة متكاملة.
وأثناء عمليّة الجزر التي تبدو هادئة في الظاهر، فإنَّ هناك الكثير من النشاط والفاعليّة التي تحدث تحت السطح. فقد تكون هناك تيارات متعاكسة بالغة الشدّة تحمل معها أخطارًا جسيمة. وهذا جزء من الإيقاع الطبيعي للحياة، وجانب من عمليّة الشفاء والتطهير فيها.
إنَّ الأمثلة على الدورات المتعاقبة لا حصر لها: تعاقب الليل والنهار، المد والجزر، الفصول الأربعة وأوجه القمر. ومنذ اللحظة التي يحدث فيها الحمل تبدأ عمليّة النموّ في حياة كل إنسان. ولا يكون النموّ رتيبًا منتظمًا، وإنَّما يتخلله التسارع والتباطؤ بدرجات متفاوتة. فنجد لدى البالغين أنماطًا من التغييرات الخاصة بالمزاج والنشاط والأداء العالي. فالضغط النفسي، كذلك الضغط الناتج عن حدث طارئ أو ظهور فرصة مثيرة، يمكنه أنْ يغيّر نغمة الإيقاع، إلاّ أنَّه لا يقضي عليها أو يوقفها. هذا هو نمط الحياة، وهو منهاج التطوّر ودربه.
وفي المشورة أيضًا مدّ وجزر، ونجده في كل جلسة للتشاور، وعلى مدار العام وحتى على مدى سنوات. وهناك أوقات للمجموعة المتشاورة تنساب فيها المشورة بسلاسة رائعة فتصل بالمجموعة إلى قمّة الأداء، وأوقات أخرى تعجز فيها المشورة عن التقدّم. وهي حالة لا تدعو إلى الاضطراب واليأس، فقد يكون ذلك انحسارًا طبيعيًا في حياة المجموعة المتشاورة. وحتى عندما يُلاحظ تدهور كبير في أداء المشورة، فلا بد للجزر أنْ ينتهي.
من الضروري أنْ نستوعب تمامًا عمليّة المد والجزر حتى لا نصاب بالافتخار بإنجازات حققناها، أو بالإحباط أمام ثمار ضئيلة. فالآثار البهائيّة تحثّنا على التعامل مع اللوم والمديح بنفس الطريقة. وأحد المفاهيم الممكنة لذلك أنَّ ما يجلب المدح أو اللوم قد يكون مجرد نقاط قصوى للحلقة ذاتها. فهي مرتبطة ببعضها البعض، وليس من إمكانيّة لتحقيق أحداها دون الأخرى.
وبينما تتقدم مؤسسات هذا الأمر الجليل في مسيرة تطوّرها، علينا أنْ لا ننسى أنَّ النموّ سيكون في دورات متعاقبة أكثر منه نموًّا منتظمًا. ومع ذلك، فلا مجال فيه للارتياح أو الشعور بالرضا الذاتي. فهناك فرق رئيس بين المد والجزر لبحر متلاطم الأمواج، وبين التغييرات الحاصلة في مقدرات الإنسان. فالجزر في البحر يحمل معه تجمّع وتشكّل القوّة الدافعة للمد الذي سيليه.
إنَّ نقطة متدنّية في مستوى تطوّر المشورة أو في نموّ الأمر المبارك، تعتبر نقطة انطلاق نحو الأمام في المستقبل، ولكن فقط بالقدر الذي تكون عليه قلوب المؤمنين قنوات يتحقق بها النصر. فالاندفاع للأمام لن يتحقق بنفسه، بل بفضل عشّاق حضرة بهاء الله الذين تحوّلوا إلى آلة طيّعة للرغبة والمشيئة تسمح للقوى المكنونة في هذا الأمر العظيم أنْ تنساب من خلالها. وعند ذلك ستتفجر قدرات جديدة لتشكّل القوّة الكامنة في الجزر وتقود أمر الله “وتقرّبه”، كما تفضّل حضرة وليّ أمر الله، “من مصيره إلٰهي التقدير”([5]).
قسّم حضرة وليّ أمر الله دورة حضرة بهاء الله إلى ثلاثة عصور بارزة. فسمي الأوّل: العصر البطولي (كما سُميّ أيضًا العصر الرسولي الحديدي)، ابتدأ بإعلان حضرة الباب دعوته في 23 أيار سنة 1844، وانتهى بصعود حضرة عبد البهاء في 28 تشرين الثاني سنة 1921، حيث ابتدأ العصر الثاني –عصر التكوين- وسيليه العصر الذهبي الذي سيبدأ في وقت ما في المستقبل. ولكلّ عصر مساهمته الخاصة في تطوّر الأمر المبارك، ولكلّ منها خصائصه المميّزة.
إنَّنا في عصر التكوين، ومن تسميته نفهم أنَّه العصر الذي تتطوَّر فيه الملامح المميّزة للعالم الجديد وتأخذ شكلها المناسب. عصر لا بدّ وأنَّ تشيَّد فيه المؤسسات العظيمة للأمر المبارك وتبدأ عملها بفاعليّة. وتُرسى فيه قواعد بنيان المجتمع البهائي. إنَّه الوقت الذي يشهد بشائر ولادة الحضارة العالميّة الجديدة. وقت يشهد النبضات ويتخلله عدم التيقّن وضغط النفس. عصر الأزمات والإنتصارات، فترة من خيبة الأمل والنصر، وقت الإبحار في محيطات لم يلجها أحد، ووقت بروز تحديّات جديدة دائمة التغيّر.
وقد وُصف أيضًا بعصر الإحباط. وهناك قبسات من الوعود باليوم الجديد الذي سيأتي، إلاّ أنَّه لا بدّ من إنجاز معظم العمل وسط حطام وأنقاض مدنيّة بالية تتداعى على حافة الإنهيار النهائي.
وقد وصف حضرة وليّ أمر الله حالة العالم في هذا العصر بكل وضوح حيث تفضّل:
“إنَّ ما نشهده اليوم… هو مرحلة المراهقة من مراحل التطوّر البطيء للبشريّة والحافل بالآلام… وما الإضطراب المرافق لهذه المرحلة الإنتقاليّة إلاَّ خاصيّة من خصائص غرائز الشباب الطائشة اللاعقلانية بمهازله وإسرافه وغروره واعتداده بنفسه وتمرده وازدرائه للنظام”([6]).
إنَّ البهائيين الذين يعملون في خضمّ هذا الوضع المضطرب يواجهون إحباطات لا حدود لها. إحباط لأنَّه من الواضح تمامًا أنَّ الأحكام والمبادئ والتعاليم التي أطلقها قلم حضرة بهاء الله، قادرة على حل إشكالات عالم اليوم –كبيرها وصغيرها- بكل يسر وسهولة. ومع كلّ ذلك يتابع العالم سيره بخطى متعثّرة متجاهلاً هذه الحلول. إنّه عصر الإحباط، لأنَّ العطيّة العظمى الفريدة لهذه الرسالة الجديدة قد وضعت أمام مجتمع غافل محتجب لا مبالٍ. وقد أنيطت بالبهائيين مسؤولية رعاية هذه العطيّة الجديدة واحتضانها، وهم الذين لا يملك معظمهم المهارات الضرورية لهذا العمل العظيم. هذا هو عصر الإحباط الذي فيه يستخدم البهائيون أدوات ووسائل ذات قدرة فائقة، ويستعمل أفراد الأحباء في تلك الظروف الحرجة المحفوفة بالمخاطر تلك العطايا رغم عدم إدراكهم بوضوح تلك الطبيعة السامية للمهمة التي أنيطت بهم، وعدم درايتهم بكيفيّة استخدام تلك الأدوات الفعّالة. إنَّّه عصر الإحباط لأنَّ المتطلّبات ضخمة وهائلة والموارد المتوفّرة محدودة للغاية.
في ظروف كهذه تُستجمع القوى والطاقات لتوجّه نحو إرساء قواعد الحضارة العالميّة الجديدة. وأحد المظاهر المثيرة لهذه العمليَّة نجده في أنَّ عدَّة مستويات من التطوّر تعمل معًا في وقت واحد. ولكلِّ مستوى نمطه الخاص من المد والجزر، ومن قمّة الأداء وضعفه الظاهري.
إنَّ هدف كلّ كائن بشري على وجه الأرض هو معرفة الحق وعبادته، والمسؤوليّة المشتركة التي تجمع الخلائق أجمعين السير قدمًا بمدنيّة دائمة التقدّم والتطوّر. والتحدّي الماثل أمام عصر التكوين هو إعداد الأدوات اللازمة لبناء هذه الحضارة الجديدة. وقد منحنا الجمال المبارك الوسائل التي تجعل بالإمكان تحقيق هذه الأمور الثلاثة في آن معًا.
عندما يكرّس الأفراد طاقاتهم وقدراتهم لتقدّم أمر الله، تتحقق لديهم السعادة الروحيّة. وإنَّ أقل ما يتطلّبه إنقاذ الفرد وخلاصه، كما أتى به حضرة بهاء الله، هو الانتشار الحيويّ الفعّال للأمر المبارك، وتطوّر تلك المؤسسات التي سترعى الجنس البشري قاطبة. ومن سخريات هذا العصر أنَّ خلاص النفس لا يأتي إلاّ بنكران الذات وذوبانها في عمل يسعى إلى الخلاص الجماعي.
إنَّ المشورة هي الأداة الرئيسة للقيام بهذا العمل، وهي أحد العناصر الأساسيّة في بناء الصرح الإلٰهي للمستقبل. وفي هذه المرحلة من التطوّر، لا تزال المشورة في مراحلها الأولى، وغير ناضجة. ومع ذلك فهي أفضل وسيلة لإنجاز المهمة. هذه الأداة الضروريّة واللازمة لوقتنا الحاضر وللمستقبل معًا، يتم صقلها وتهذيبها وتطويرها بممارستها وتطبيقها عمليًّا. وحالما تبرز مشكلة ما، ينبري لها وجه من أوجه الخطّة الإلٰهية ويتطوّر لمعالجتها. والمتطلّبات الملحّة أمامنا هي التي تحدث التطوّر المنشود، وسنجد جميع الحلول داخل الإطار الذي أُنجز بناؤه.
إنَّ جيلنا الحاضر يقف قريبًا جدًا من العمل الذي يتم إنجازه، ولذلك لا يمكنه تقدير ذلك الإنجاز المعجزة حقّ قدره. وستنظر أجيال المستقبل إلى الوراء، وتشاهد باندهاش ما أُنجز وتحقق في هذه الأوقات الصعبة، وسيدركون أنَّ هبة الله للبشريّة في بناء حضارة إنسانيّة جديدة، قد شُيّدت بالدم والعرق والدموع، والإحباطات، وكدّ وكدح أولئك المؤمنين العاديين، خلال فترة من التاريخ شهدت العنف والاضطراب والتمرّد.
إنَّها أوقات مجلبة لسعادة فريدة لا مثيل لها، سعادة لم تكن نتيجة خطط نقوم على إنجازها بيسر وسهولة، بل هي بهجة الإنتصارات التي انتُزعت انتزاعًا، والتي تحققت بعد جهد مضن. إنَّه حُبُور مصدره القناعة والإيمان بأنَّه مهما بلغت المحن، ومهما بلغ الثمن، فإنَّه عمل إلٰهي يواصل تقدّمه رغم النكسات الجانبيّة. وفوق هذا كله، إنَّه العمل الوحيد الذي يضمن الأمن والأمان لأجيال المستقبل، والقضاء على شبح الحرب وتهديده، ويمهّد الطريق أمام العصر الذهبي الذي وعدت به الرسالات السابقة.
إنَّ المشورة سواء أكانت في محيط الجامعات المحليَّة، أو المحافل الروحانيَّة، أو بين أفراد العائلات أو الأصدقاء، هي مفتاح انطلاق تلك السعادة والبهجة وتحقق وعود حضرة الباب بأنَّ هذا الدين “سيكون عالميًّا ويحتضن شعوب العالم قاطبة”([7]).
يُشبّه حضرة عبد البهاء في كتاب المفاوضات مراحل تطوّر البشريّة بتطوّر الجنين. ويتفضّل بأنَّ المراحل المختلفة التي يمرّ بها الجنين لا تختلف عن المراحل التي يمر بها الجنس البشري([8]).
إنَّه تشبيه غاية في الروعة، وحري بنا أنْ نأخذ به مقياسًا للمرحلة الراهنة من عصر التكوين لنظام حضرة بهاء الله العالمي. وكثيرًا ما أشار حضرة وليّ أمر الله إلى المرحلة الجنينية للنظام العالمي. وكما أنَّه يستحيل التنبؤ بما سيكون عليه الفرد في مظهره بمجرد النظر إليه وهو طفل –ناهيك عن الجنين- فمن المستحيل أيضًا أنْ نتنبأ وبالتفصيل بطبيعة المؤسسات وشكل المشورة في المستقبل.
إلاّ أنَّ الجنين تجب حمايته، لأنَّ ما يصيبه من ضرر قد يؤثر عليه عندما يصبح بالغًا. وبعض الأمثلة على ذلك ما يجري في الطبيعة. فهناك تجارب أُجريت على الفراشات. فقد جُرحت يرقة الفراشة وتُركت حتى اندملت جراحها، ولم تُلاحَظ ندبة واضحة على الفراشة عندما دخلت مرحلة الشرنقة. أمّا عندما خرجت من هذه المرحلة استطعنا ملاحظة ندبات راجعة إلى تلك الجروح التي حدثت لها في السابق. وهذا يوضّح ما يحصل عند حدوث ضرر في إحدى مراحل التطوّر.
وما يحصل في حياة الفرد له ما يماثله فيما يحدث في حياة الجنس البشري. فمدنيّة المستقبل سوف تعمل وتؤدي دورها بآلية المشورة الرائعة التي وُهبت لنا لمواجهة المتطلبات والحاجات المتغيّرة لجيلنا الحاضر والأجيال القادمة.
لقد وُضعت هذه الأمانة في أعناق البهائيين في عصر التكوين لدورة الأمر المبارك؛ أمانة تطوير هذه الآلة التي سترجع إليها الإنسانيّة في كلّ مشاريعها وأعمالها في المستقبل. ومن الأهميّة بمكان، في هذه الفترة الحرجة، ألاّ يصيب جذور المشورة هذه أيّ عطب أو فساد. ولا يضمن لنا ذلك سوى الكلمة الإلٰهيّة في كلّ العصور والدهور. فأيّ انحراف عن هذا، وأيّ استحداث لأنظمة من صنع البشر، سيصنع فيها ما صنع الجرح في اليرقة. ففي الاستخدام المستمر للكلمة الإلٰهيّة، ورجوعنا الدائم إليها، حفاظ على نقاء العمليّة الإلٰهيّة.
وأمانة أخرى وُضعت في أعناقنا؛ إنََّها نقل هبة المشورة القيّمة هذه إلى الجيل القادم. وكلَّما اتسع تغلغل المشورة بقوّة في مختلف أوجه حياتنا وتطوّرت، كلّما كانت عمليّة نقلها أيسر وانسابت بشكل طبيعي. ويبدأ هذا التدريب في البيت ثمَّ يتطوّر داخل حياة الجامعة البهائيّة.
إنَّ نجاحنا في الإبقاء على المشورة، وتوفير سبل حمايتها، وتسهيل انتقالها للأجيال القادمة، أمور يمكن الفوز بها بقوّة الميثاق. فليس من قوّة سواها على وجه الأرض يمكنها أنْ تنجز هذا العمل البطولي الغامر. هذه العلاقة بالعهد والميثاق هي مصدر حياة أرواح المؤمنين، وهي سبب قوّة الجامعة ومنعتها، والوعد الذي ينتظره المستقبل، وهي وحدها التي ستمكّن البهائيين في عصرنا الحاضر من نقل إرث المشورة إلى الأجيال القادمة من غير ما شائبة.
في الثاني عشر من كانون الثاني عام 1922، كتب حضرة وليّ أمر الله شوقي أفندي إحدى أولى رسائله للبهائيين في أمريكا الشماليّة، وقد مضت ستة أسابيع فقط على صعود حضرة عبد البهاء، وأسبوعان على الخبر الذي وقع على روعِهِ وقع الصاعقة لمفاجأته كونه أصبح وليًّا لأمر إلٰهي ما زال بعد في طور الطفولة. فجاءت رسالته بأسلوب مؤثر لطيف:
“في هذه الساعة المبكّرة وأنوار الصباح قد أشرقت للتو على البقعة المقدسة، ولا تزال الأحزان تنوء على القلوب بفقدان مولانا العزيز، أشعر بروحي تتوجه، بما فيها من حب عابق بالحنين والأمل والرجاء، إلى تلك الثلّة العظيمة من عشّاق الجمال الأبهى في ما وراء البحار الذين يشاركوننا الآن ألم الفراق ورُزْءَه”([9]).
لقد أعلنت هذه الرسالة الرقيقة بداية عصر التكوين لأمر الله المجيد. وخلال فترة ولايته أخذ حضرة وليّ أمر الله يفتح عيون الأحباء بتدرج وتأنٍ وثبات على الطاقات الهائلة المذهلة الكامنة في الأمر المبارك. وفي عام 1934 أعاد حضرته إلى أذهان الجميع أنَّه “وبينما هذا النظام لا يزال بعد في طور الطفولة، فليس لأحد أنْ يسيء فهم خاصيته أو يقلل من أهميته أو أنْ يسئ تمثيل غايته”([10]).
وفي رسالته الصادرة بعنوان “الكشف عن المدنيّة الإلٰهيّة” أعلن حضرته:
“إنَّ توحيد الجنس البشري كان الهدف الذي تقترب منه الهيئة الاجتماعيّة. ولقد نجحت التجربة واستقرت في تحقيق الوحدة في العائلة وفي القبيلة وفي الولاية وفي الوطن، وصارت الوحدة العالميّة غاية تناضل من أجلها إنسانيّة معذّبة. فبناء الوطن قد بلغ نهايته، والفوضى الكامنة في الأداة الحكوميّة وصلت إلى أقصاها، وصار لزامًا على عالم يسير في طريق البلوغ أنْ يطرح عنه هذه المظاهر، ويدرك وحدة وتكامل العلاقات الإنسانيّة، ويؤسس تلك الآليّة التي تقدّم له القاعدة الأساسيّة للحياة مجسّمة”([11]).
ثمَّ يتابع حضرته مسجّلاً ما يربو على الثلاثين مبدأ لتقوم عليها الحضارة العالميّة الجديدة. وتحدَّث في الرسالة نفسها عن القوّتين اللتين تعملان في العالم متفضّلاً:
“الأولى عامل إنشائي يعمل إلى جانب دين بهاء الله الناشئ وهو بشير النظام العالمي الجديد وشيك التأسيس بقوّة هذا الدين. وأمّا قوى الهدم المقترنة بالعامل الثاني فهي تعني مدنيّة رفضت تلبية نداء عصر جديد، وتتدهور في هوة الإضطراب والفناء بما رفضت”([12]).
ونحن إذ ترنو أبصارنا إلى رؤية مدنيّة المستقبل التي وصفها حضرة بهاء الله للعالم، تبدو أمام أعيننا الصورة مشرقة حقًا. وعندما نركّز انتباهنا بالمحن والآلام التي تعصف في الوقت الحاضر بعموم الجنس البشري من كلّ الجهات، يتراءى لنا المستقبل كئيبًا غامضًا. إلاّ أنَّ بمقدورنا الإحاطة بالصورة الواضحة لمجريات الأمور عندما ندرك موقفنا من التاريخ، وأنَّ هناك دورات متعاقبة من المد والجزر، والتحدّي والإنتصار، وأنَّ جامعة الإسم الأعظم هي حاملة إرث لا عدل له سيمكّنها من معالجة مشاكل العصر وتحقيق حلم البشرية في تأسيس المدنيّة العالميّة القادمة.
ومن حسن طالع البهائيين للغاية، أنَّ ثلاث عنايات إلٰهيّة تشملهم وتشدّ من أزرهم في هذا العصر المجبول بالمخاطر:
وحفظت تلك النفوس المقدّسة هذا اليقين في قلوبها، وكان يمدّهم بالقوّة في كلّ محنهم وكروبهم. وفي كلّ العقود من مسيرة هذا الأمر العظيم، كان اليقين بالفوز في النهاية يشتعل في قلوب أحبائه فيحرّك مرجل الشجاعة في مجابهة الصعاب والامتحانات. وإنَّ يقيننا بأنَّ هذا النصر سوف يتحقق سيمدّنا بالتأكيد بالقوّة في هذا اليوم كما كان في عهد الشيخ طبرسي، وسيبقى كذلك في مَقبل الأيام.
وكلمة مباغت تعني مباغت. إذ بينما تنتظرنا بالتأكيد أوقات أشد بلاءً، فإنَّ طبيعتها مجهولة. ولا يمكن تحضير أنفسنا بشكل مناسب لأحداث مستقبليّة طارئة نجهل تمامًا طبيعتها. إلاّ أنّ حضرة بهاء الله قد زوّدنا، بفضل عناياته اللامتناهية، بأداة المشورة العظيمة. إذ بها نستطيع إنجاز الأفضل في جميع الحالات مهما بدت باعثة على اليأس أو غيرمألوفة. وبالمشورة نحقق أفضل ما يمكن بمواردنا المحدودة. فالجامعة البهائيّة التي تتعلّم بالمشورة كيف تواجه المشاكل الروتينية لحياتها –صغيرها وكبيرها– تستطيع أنْ تطوِّر تلك الأداة الأساسيّة للحياة، والمطلوبة في مواجهة أيام الضيق والضنك القادمة. ويمكن للأحباء الذين تسلّحوا بهذه الأداة، أنْ يستثمروا بأفضل ما يمكن تلك الظروف المؤسفة التي لا يمكن التنبؤ بها، والتي تجابههم لأنَّهم أتقنوا مواجهة المسائل العسيرة، واتخاذ القرارات الصعبة، مع الحفاظ على الوحدة ووعي بالهدف. إنَّه أفضل إعداد نقوم به أمام مستقبل لا يمكن التنبؤ بأحداثه.
والآن، ونحن نتأمل المستقبل، ونرصد ما بعد الظلال المعتمة في موطئ قدمنا، تصنع لنا بعض المعالم البارزة للنظام العالمي القادم صورة مذهلة تشع إشراقًا وحيويّة. ومع أنَّ كثيرًا من المعالم الأساسيّة لتلك الصورة لا تزال في طورها الجنيني، فإنَّ بعضها قد تعداه وبرزت للوجود في طور نموّه المبكّر.
فبيت العدل الأعظم قد تأسّس وارتفع بنيانه، والأحكام والشرائع الإلٰهيّة قد أُعلنت، وعلت أركان مؤسسات الأمر الرئيسة، ووُضعت المعالم الأساسيّة للجامعة البهائيّة، وولّدت الأزمات والانتصارات شعورًا بالتآخي والترابط بين أفراد الجامعة، وتواصل الأحداث اليوميّة عملها في حياكة النسيج الدقيق لمجتمع بهائي رفيع المستوى، وازداد تطبيق مبادئ الأمر الإلٰهي في الحياة اليوميّة العمليّة.
ومن بين أنقاض عالم قديم عفن، تبرز دلائل يانعة على نموّ وحيويّة وقوّة الحضارة الجديدة الآخذة في الإنتشار مكان تلك القديمة. فالقوّة المتناميّة للجامعات البهائيّة، والاعتراف المتزايد بكيان الأمر المبارك وتأثيره من قبل الأوساط العامة –الصديق منها والعدو- وانتشار الأمر الإلٰهي في كل البقاع والأصقاع، وولاء الأتباع الموقنين المخلصين المؤازرين من مختلف الشعوب والقبائل وأطياف المجتمع الإنساني، وارتفاع عدد المؤمنين والمحافل الروحانيّة والمراكز الأمريّة، والتوسّع في أعداد المحافل الروحانيّة القويّة المتعاونة، وارتفاع مكانة الأمر المبارك وسموّها، والتوسّع في الأوقاف والممتلكات الأمريّة، كلّها تقف شاهدًا على النموّ المتسارع للأمر المبارك وثباته واستقراره في هذه الأوقات.
ونظرة خاطفة على ثمار القرن والنصف الذي انقضى، أو على النصف قرن الذي مضى، أو على عقده الأخير، أو بالأحرى على السنة الماضية، ستهبنا أملاً متجددًا بالتطوّر القادم لهذا الأمر العظيم. وبثقة متجددة، ولّدتها مظاهر التقدّم الواضحة، يمكننا استشراف المستقبل المشرق من خلف تلك الظلال المتراكمة المعتمة. وكما كان الأبطال والقديسون والشهداء والأحباء القدوة، والعشاق العاديون للجمال المبارك في العهود الماضية، بإمكاننا أيضًا أنْ نكون على “يقين بالنصر والفوز في النهاية”.
وكما تفضّل حضرة وليّ أمر الله بكلماته البليغة:
“لذلك، فهو واجبنا المقدّس –أيها الشركاء الأعزاء- أنْ نواصل السعي برؤًى صافيّة جليّة وبهمّة لا تفتر ولا تقهر، ونمد السواعد لإتمام بناء هذا الصرح الشامخ الذي وضع بهاء الله أساسه في صميم قلوبنا، وأنْ نستمدّ رجاءً وقوّة إضافيين من الاتجاهات العامة للحوادث الأخيرة مهما تكن ظلمة نتائجها وأثرها المباشر، وأنْ نصلّي بحرارة دائمة حتى يعجّل الله تحقيق تلك الرؤيا الرائعة التي تمثِّل أبهى وأسطع فيض للعقل الإلٰهي، وأحلى ثمرة لأروع مدنيّة ما رأت مثلها العيون”([16]).
[1](1) “الكلمات المكنونة” الفارسيّة، رقم 51.
[2](2) “الكلمات المكنونة” العربيّة، رقم 52.
[3](3) مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله”، صفحة 118.
[4](1) “كتاب القرن البديع”، صفحة 510.
[5](1) “كتاب القرن البديع”.
[6](1) The Promised Day Is Come, p. 121.
[7](1) living the life, p. 11.
[8](2) “من مفاوضات عبد البهاء”، الصفحتان 128-129.
[9](1) Baha’I Administration, p. 15.
[10](2) “دورة بهاء الله”، صفحة 75.
[11](1) The World Order of Baha’u’llah, p. 202.
[12](2) The World Order of Baha’u’llah, p. 170.
[13](1) “مطالع الأنوار”، صفحة 74.
[14](1) مجموعة “مناجاة”، صفحة 140.
[15](2) “منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، صفحة 136.
[16](1) “هدف الأمر الإلٰهي”، صفحة 32.
“ظهور العدل الإلٰهي”، ترجمه إلى الفارسيّة: نصر الله مودت.
“بهاء الله والعصر الجديد”، جون إسلمنت. طبع مؤسسة دار الريحاني، بيروت 1972.
“مطالع الأنوار” نبيل الزرندي، ترجمه عن الإنجليزيّة عبد الجليل سعد. طبع بمعرفة المحفل الروحاني المركزي للبهائيين في مصر والسودان سنة 1940م.
“منتخبات من آثار حضرة بهاء الله”، إعداد لجنة نشر الآثار الأمريّة باللغتين الفارسيّة والعربيّة في لانجنهاين-ألمانيا. الطبعة الأولى 141 ب (1984م).
“كتاب القرن البديع”، من منشورات دار النشر البهائيّة في البرازيل، نيسان 1986م.
“الكلمات المكنونة”، من منشورات دار النشر البهائيّة في البرازيل، 152 ب، 1995م.
“رسالة دليل التبليغ”، تعريب لبيب شهيد، نوروز 130 ب.
“كتاب الإيقان”، معرّب عن الفارسيّة- الطبعة الثالثة، من منشورات دار النشر البهائيّة في البرازيل.
“كتيب المحفل الروحاني المحلي”، تعريب د. سهيل بديع بشروئي. مؤسسة دار الريحاني، 1971م.
مجموعة “مناجاة”، من منشورات دار النشر البهائيّة في البرازيل، 138ب، 1981م. “من مفاوضات عبد البهاء”، من منشورات دار النشر البهائيّة في بلجيكا، 1980م.
“الكتاب الأقدس”.
“منتخبات من مكاتيب حضرة عبد البهاء”، من منشورات دار النشر البهائيّة في ويلمت- إلينوي، 1979م.
“منتخبات من آثار حضرة النقطة الأولى”، مؤسسة المطبوعات الأمريّة ويلمت-إلينوي 1978م.
“مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله” النازلة بعد “الكتاب الأقدس”، من منشورات دار الطبع البهائيّة في بلجيكا، 137ب، 1980م.
“ألواح الخطّة الإلٰهيّة”، حضرة عبد البهاء، معرّبة عن الفارسيّة. من منشورات دار النشر البهائيّة في البرازيل، الطبعة الثانيّة، تشرين الثاني 1981م.
“مكاتيب عبد البهاء” الجزء الثالث، طبع في مصر بمعرفة فرج الله زكي الكردي، 1921م، الطبعة الأولى.
“من مكاتيب عبد البهاء” الجزء الأوّل، من منشورات دار النشر البهائيّة في البرازيل، 1982م.
“خطب عبد البهاء في أوروبا وأمريكا”، طبعت بمعرفة المحفل الروحاني المركزي للبهائيين بشمال أفريقيا، أديس أبابا- الحبشة.
“الحياة البهائيّة”، مقتطفات من الآثار المباركة، طبع بمعرفة المحفل الروحاني المركزي للبهائيين بالحبشة.
“دورة بهاء الله”، بقلم وليّ أمر الله شوقي ربّاني. عرّب وطبع بمعرفة لجنة الطبع والنشر للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين بالقطر المصري والسودان.
“هدف الأمر الإلٰهي”، ترجم وطبع بمعرفة لجنة الطبع والنشر للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين بالقطر المصري والسودان.
“أدعيّة حضرة محبوب”، إعداد لجنة نشر الآثار الأمريّة باللغتين الفارسيّة والعربيّة في لانجنهاين –ألمانيا، 1987م.
The Advent of Divine Justice, Shogi Effendi. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1956.
Baha’I Administration, Letters from Shogi Effendi. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1960.
Baha’I Marriage and Family life, a compilation, National Spiritual Assembly of the Baha’I of Canada. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1983.
Baha’I Meetings, the Ninteen Day Feast, a compilation. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1976.
Baha’I World Faith, , a compilation. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1956.
The Covenant of Baha’u’llah, , a compilation. London, Baha’I Publishing Trust, 1963.
Centers of Baha’I Learning, a compilation. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1980.
Consultation, A compilation, The Universal House of Justice. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1980.
The Divine Art of Living, , a compilation, Mabel Hyde Paine. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1944.
Directives from the Guardian, New Delhi, Baha’I Publishing Trust, 1973.
Dawn of a New Day, Messages to India 1923- 1957, Shogi Effendi. New Delhi, Baha’I Publishing Trust, 1973.
God Passes By, Shogi Effendi. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1950.
The Individual and Teaching, a compilation. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1977.
Japan Will Turn Ablaze, Letters from Abdu’l-Baha and Shogi Effendi. Japan, Baha’I Publishing Trust, 1974.
Life Blood of the Cause, a compilation, The Universal House of Justice. London, Baha’I Publishing Trust, 1971.
Lights of Guidance: A Baha’a Reference File, Helen Hornby. New Delhi, Baha’I Publishing Trust, 1983.
Letters from the Guardian to Australia and New Zealand, 1923-1957. National Spiritual Assembly of the Baha’is of Australia, 1970.
Living the Life, a compilation. London, Baha’I Publishing Trust, 1974.
The local Spiritual Assembly, a compilation. The Universal House of Justice. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1970.
Messages to Canada, Shogi Effendi. National Spiritual Assembly of the Baha’is of Canada, 1965.
Marrige and the Nuclear Family: A Baha’I Perspective, Khalil A. Khavari, Baha’I Studies Notebook, Vol. III, Nos, 1&2, March 1983. Association for Baha’I Studies, Ottawa, 1983.
Messages from the Universal House of Justice, 1968-1973. Willmette, Baha’I Publishing Trust, 1976.
The National Spiritual Assembly, a compilation, The Universal House of Justice. Wilmette, Illinois, 1972.
The Oriental Rose or the Teachings of Abdu’l-Baha, Mary Hanford Ford. New York, Broadway Publishing Co., 1910.
Principles of Baha’I Administration, a compilation. London, Baha’I Publishing Trust, 1950.
The Promised Day Is Come, Shogi Effendi. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1961.
Portals to Freedom, Howard Colby Ives. Oxford, George Ronald, 1976.
The Pricless Pearl, Ruhiyyih Rabbani. London, Baha’I Publishing Trust, 1969.
Paris Talks, Abdu’l-Baha. London, Baha’I Publishing Trust, 1951.
The Promulgation of Universal Peace, Abdu’l-Baha. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 2nd edn., 1982.
The Revelation of Baha’u’llah, Adrianople 1863-1868. Adib Taherzadeh. Oxford, George Ronald, 1977.
A Special Measure of Love, a compilation. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1974.
The Spell of the Temple, Allen Boyer McDaniel. New York, Vantage Press, 1953.
Star of the West, (the Baha’I Magazine), published from 1910 to 1933 from Chicago and Washington, De by official Baha’I agencies. Rp. Oxford, George Ronald, 1978.
Selections from the Writings of Abdu’l-Baha, Haifa, Baha’I World Center, 1978.
Ten Days in the Light of Akka, Julia M. Grundy. Rp Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1979.
Unfolding Destiny, The Message from the Guardian of the Baha’I Faith to the Baha’I Community of the British Isles. London, Baha’I Publishing Trust, 1981.
Baha’I News. A publication of the National Spiritual Assembly of the Baha’is of the United States.
Baha’I Prayrs. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1982.
Vignettes from the life of Abdu’l-baha, Annamarie Honnold. Oxford, George Ronald, 1982.
Wellspring of Guidance, messages from yhe Universal House of Justice 1963-1968. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1969.
World Order, magazine. Published by the National Spiritual Assembly of the baha’Is of the united stsee.
The World Order Of Baha’u’llah, letters from Shoghi Effendi. Wilmette, Baha’I Publishing Trust, 1944.